كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

فهات لي عنه جواباً كما ... عوّدتني يا عالي القدر
فحللته في كتاب وكتبت الجواب:
أروضةٌ تبسم عن زهر ... أم أكؤسٌ دارت من الخمر
أم نظم مولانا فإني الذي ... أعدّه من جُملة السِّحر
إذ كلُ حرف منك شمسٌ وإن ... سامَحتَ قلت الكوكبُ الدرّي
يا فاضلاً ما مُشتهى نظمه ... في الناس إلا قطعُ الزهر
وكاتباً أصبح من خطهِ ... يغني عن الخطيّة السُمر
حلَلْتُ ما ألغزته في الذي ... تجلوه لي في حبر الحِبْر
ما فاه بالنطق ولكنه ... له فنون النظم والنثر
يُخبرنا عما مضى وانقضى ... وما جرى في سالف الدهر
لا يكذب القول إذا ما ورى ... فقد حكى صدق أبي ذرّ
وعنده للحسن ديباجة ... سبيهة بالليل والفجر
ذُرَّتْ على كافوره مِسكةٌ ... ليس لها نشرٌ مع النشر
كم أقسم الباري به مرةً ... مرّت لنا في محكم الذكر
يا حسن ما قد قلت يقري وهل ... تعرف في الأيام من يقري
وما قراه غير سمع الذي ... يبُثُّه باللبّ والفكر
هذا جوابٌ إن تكن راضياً ... به فيا عزي ويا فخري
وإن أكن أخطأت في حله ... فابسط على ما اعتدته عُذري
لا زلتَ ترقى صاعداً في العُلا ... الى محلّ الأنجم الزهر
وكتبت أنا إليه عقيب ذلك:
بلّغك الله الأماني فقد ... أطربني لغزك لمّا أتى
يحلو إذا كرّرت إنشاده ... وكيف لا يحلو وفيه كتا
وكتب إليّ أيضاً ونحن بالمخيم على المنوفية:
طرُق الصواب بك استبان سبيلها ... وبك استقام على السواء دليلها
كم خلّةٍ محمودة أوتيتَها ... في المكرمات وأنت أنت خليلها
ما مُلغَزٌ الفاءُ منه كلامه ... وحروفه ما شانهن قليلها
لا شيء تحجبه وكم من دونه ... من حاجب فعُلاه ثم أثيلُها
إن طال مُلّ وخيره يا صاح ما ... قد طال والنعماء طاب طويلها
وإذا أهلَّ الوفد من ميقاتهم ... طُويت غمامته وزال طليلها
كم أوضحوا مزقاً فأخفاه ومع ... هذا إبانته دنا تعجيلها
ومحلّه كمحلّ مولانا غَدا ... يسمو فرفعته رسا تأصيلها
فاحلله لا برحت يراعك كالظبى ... فصريرها منه يمدّ صليلها
فحللته في شاش وكتبت الجواب:
جاءت تُدار على النفوس شمولها ... وتُجرُّ من فوق الرياض ذيولها
أبياتك الغُرّ التي أبدعتها ... تُطوى على جُمل الجمال فُصولها
ويسير في الآفاق ذكرك لي بها ... وتهبّ بالإقبال منك قبولها
قد ألغزت لي في مسمى واحد ... وله مقادير تفاوتَ طولها
كغمامة ترخى على ليل الشبا ... ب الغضّ أو صبح المشيب فضولها
لا يستحيل إذا قلَبْتَ حروفه ... بالعكس بل يبقى لها مدلولها
وحروفه بيتٌ وباقي لفظه ... آس على التصحيف رُحت أقولها
هذا الجواب وغاية الفضل التي ... قد نلتها في النظم لست أطولها
فلك النجوم تسير في فلك العلا ... ما شانها بعد الطلوع أفولها
وكتب هو إليّ عقيب ذلك:
المسك منك ختام ... وراحتاك غمام
الخطّ روض نديم ... واللفظ حلو مدام
والسحرُ قولك لكنْ ... السحر أمرٌ حرام
أجبتني عن معمّىً ... بسرعة لا تُرام
في القلب حُبُّك ثاو ... له أقام غرام
فأنت حقاً خليلٌ ... على الخليل السلام
فكتبت أنا الجواب إليه:
أجوهرٌ أم كلام ... وقهوة أم نظام
أم البدورُ تجلّت ... فانجاب عنها الظلام

أم الحدائق وشّى ... منها البرود غمام
غُصونُها ألفاتٌ ... والهمز فيها حمام
أشبّه السطر كاساً ... فيها المعالي مُدام
أو أعيناً فاتنات ... يصبو لها المستهام
وحشوها السحر بادٍ ... ولا أقول السقام
أقلامك الحمر فيها ... للنائبات سهام
كم قد أصابت لمرمى ... ولم يفُتْها مرام
أثنت عليك المعاني ... والكاتبون الكرام
وقلّدتك المعالي ... إذ أنت فينا إمام
فأنت أشرف تاج ... في فضله لا يرام
له على كل رأسٍ ... فاءٌ وصادٌ ولام
فكتب هو الجواب أيضاً:
ألفاظك الغرّ أضحت ... بُروقهنّ تشام
لأجل ذلك سحّت ... من سحبهن ركام
فاحبس سيولك إن ال ... بيوت هذي الخيام
مصرٌ بها قد تحلّت ... كما تحلى الشآم
عنها يقصر قسٌ ... والسالفون الكرام
أمثالها سائرات ... وما لهن مقام
بدورها طالعاتٌ ... لها التمام لزام
وفي العشيّ أتتني ... منها وجوه وسام
تُعزى الى العُرْب لما ... يُرعى لديها الذمام
لها العيون عيونٌ ... والنون فيها لثام
فكنّ خير سمير ... حتى تجلّى الظلام
وكلما دار دورٌ ... من خمرها حاء جام
هذا جواب جوابٍ ... قد كلّ منه الكلام
فاستر له كل عاب ... إذ أنت فينا إمام
محمد بن محمد بن عبد الله بن صغيرناصر الدين، الطبيب المصري.
قرأ الطب والحكمة على والده، والأدب على الشيخ علاء الدين القونوي.
كان فيه ظرف الأدباء، ولطف الحكماء، وخلاعة أهل مصر، وبضاعة تنفق عند أهل كل عصر، لا يطبّ إلا أصحابه، أو بيتَ السلطان وأربابه. وهو من بيت كلهم أطباء، وفضلاء ألبّاء.
وكان ظريف العشرة، دمث الأخلاق، ولا ينصبُّ إلا الى المجون وفيه يَشره، وكان يلعب بالعود لأناس يختص بهم، ويتوفر على قربهم.
ولم يزل على حاله الى أن لم تجد حيلة البرء فيه خيلة، وراح والأبصار على فقده كليلة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
وسألته عن مولده فقال لي: في سنة إحدى وتسعين وست مئة.
وكان من أطباء السلطان، وتوجه معه الى الحجاز في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
وحضر من القاهرة الى دمشق متوجهاً على البريد لمداواة الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني نائب حلب فما لحقه إلا وقد تمكّن منه المرض، فعاد ناصر الدين المذكور الى دمشق وقد تغيّر مزاجه من حماة. فأقام في دمشق يمرّض في مدرسة الدنيسري قريباً من خمسين يوماً.
وكان رحمه الله تعالى رزقه قليل، لمتُه يوماً وقلت له: يا مولى ناصر الدين، لو جلست في دكان عطار وعالجت الناس لدخلك كل يوم أربعون خمسون درهماً. فقال: يا مولانا هؤلاء نساء القاهرة إن لم يكن الطبيب يهودياً شيخاً مائل الرقبة، سائل اللعاب وإلا فما لهنّ إقبال عليه.
قلت: يريد بذلك السديد الدمياطي لأنه بهذه الصفة.
أخبرني من لفظه القاضي الفاضل فخر الدين عبد الوهاب كاتبُ الدرج، قال: دخل يوماً ناصر الدين بن صغير الى الطهارة، فعلم برجله شيء من القاذورات، فكتبت إليه والشيء بالشيء يذكر: توجه سيدي بالأمس مخضّب القدم من هَيولاه، ذا مّا من محله المعمور لما منه يولاه، وما كان في حقه في أمسه تكدير نفسه، ولكل شيء آفة من جنسه، هذه مسألة علكها أكبر لحيين، واشتغل بها اشتغال ذات النحيين، وأظنه قبل قدمه، فخرج على تلك الصورة أو بعض أجزائه، خلع صورة ولبس صورة:
فتى غير محجوب الندى عن صديقه ... ولا يُظهر الشكوى إذا النّعل زلّت
على أنه أكثر منه محافظة ووداً، وأرعى ذمة وعهداً. كم أحرقته نار وجد من أوطانه وأزعجته من مكانه، وهو لا يضمر إلا حباً، ولا يطلب منك إلا قرباً:
لا شك إذ لونكما واحد ... أنكما من طينةٍ واحده
وأخبرني قال: كتبت إليه ونحن بسرياقوس في أيام الطاعون بمصر:

أظن الناس بالآثام باؤوا ... وكان جزاؤهم هذا الوباء
أسيّد من له قانون علم ... بحيلة برئه يرجى الشفاء
أآجال الورى متقاربات ... بهذا الفضل أم فسد الهواء
أم الأفلاك أوجبت اتصالاً ... به في الناس قد عاث الفناء
أم استعداد أمزجه جفاها ... جميل الطب واختلف الغذاء
أم اقتربت على ما تقتضيه ... عقيدتنا فللزمن انتهاء
أفِدنا ما حقيقة ما تراه ... فما الأذهان أحرفها سواء
وقلْ ما صحّ عندك من يقين ... بحقٍ لا يعارضُه رياء
فإني غير مفش سرَّ حَبْرٍ ... من المُتشرّعين به حياء
ولا تخلى الأحبة من دعاء ... فمنك اليوم يلتمسُ الدعاء
محمد بن محمد بن علي بن أبي طاهرالقاضي شمس الدين بن جلال الدين الموسوي الحسيني المعروف بقاضي ملطية.
كان خطيباً بملطية مدة، ثم جمع له بين القضاء والخطابة بملطيّة مدة أخرى. ولما حضر الى دمشق بعد فتح ملطية ولي تدريس الخاتونية ظاهر دمشق. واستمر بها الى أن مات في حادي عشري جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة، وعمره ستون سنة.
وحجّ من دمشق، وكان قاضي الركب.
وكان عنده حظّ من الأدب، وفيه مشاركة وله شعرٌ، وتولى مكانه القاضي بدر الدين محمد بن الفويرة.
محمد بن محمد بن عثمانابن عبد الخالق بن حسن، القاضي الفقيه الإمام العالم المقرئ المحدّث الأديب، فخر الدين أبو عبد الله القرشي المصري الشافعي المعروف بابن المعلم.
سمع من ابن علان، وابن عبد الهادي القيسي، وجماعة.
وحدّث، وقرأ القراءات، وحفظ المقامات.
وكان فاضلاً، له نظمٌ ونثر. كان يشهر بمصر على باب الجامع، ثم تولى قضاء بلد الخليل عليه السلام. ولي قضاء أذرعات، ثم صرف عنها.
وولي إعادة الباذرائية الى أن توفي رحمه الله تعالى في تاسع عشري جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ستين وست مئة.
وفيه سخاء وكرم، وله مصنفات.
محمد بن محمد بن عيسى بن نجّام
ابن نجدة بن معتوق الشيباني النصيبي ثم القوصي، الأديب الشاعر الفاضل المحدّث.
سمع العز الحرّاني، ومحمد بن الحسين الخليلي، وإسماعيل بن علي بن هبة الله بن علي بن المليجي وغيرهم.
وحدث بالبخاري بقص.
وكان له مشاركة في النحو واللغة والتاريخ والبديع والعروض والقوافي. كثير المروّة، ظاهر الفتوة، طريفاً لطيفاً خفيفاً، له قدرة على ارتجال الحكاية المطوّلة والشعر، سريع النادرة، قال كمال الدين جعفر الأدفوي: شعره في ثلاثة مجلدات، وكان رزق منه، يمدح القضاة والأمراء والأكابر والتجار. قال: لما جئت الى قوص وجدت بها الشيخ تقي الدين والشيخ جلال الدين الدشناوي فترددت إليهما، فقال لي كل منهما كلاماً انتفعت به، فأما الشيخ تقي الدين فقال لي: أنت رجلٌ فاضل، والسعيد من تموت سيئاته بموته، فلا تهج أحداً. وأما الشيخ جلال الدين فقال لي: أنت رجل فاضل، ومن أهل الحديث، ومع ذلك فأشاهد عليك شيئاً، ما هو ببعيد أن يكون في عقيدتك شيء. وكنتُ متشيّعاً، فتبتُ من ذلك.
وقال: كنتُ مرة عند ابن البصراوي الحاجب بقوص، فحضر الشيخ علي الحريري، وحكى أنه رأى درّة تقرأ سورة يس فقلت: وكان غرابٌ يقرأ سورة السجدة، فإذا جاء عند آية السجدة سجد، وقال: سجد لك سوادي واطمأن بك فؤادي.
وتوفي رحمه الله بقوص سنة سبع وسبع مئة. ومن شعره:
إذا ابتسمت من الغَور البروقُ ... تأوّه مغرم وبكى مشوقُ
تذكّرني العقيق وأي صبٍ ... له صبرٌ إذا ذكر العقيق
قلت: في هذا الثاني نظرٌ لا يخفى على مَن له ذوق.
ومنه:
تذكّر بالسّفح باناً وظلا ... فأجرى المدامع وبْلاً وطلا
يرجّي زماناً تولى يعود ... وليس يعود زمانٌ تولى
كئيبٌ تحمّل ما لا يطيقُ ... له الصخر من ألم البين حملا
يبيت يكابد آلامهُ ... وأسقامه وكما بات ظلا
وضيّع أوقاته في عسى ... وماذا تفيد عسى أو لعلا
ويشرب من ماء أجفانه ... على الظمأ البرْح نهلا وعلا
ومنه:

نعم هي دار من نهوى يقينا ... وما نخشاه ساكنها يقينا
أنيخوا في معالمها المطايا ... فديتكم لنشكو ما لقينا
ذكرنا حُلوَ عيشٍ مرّ فيها ... وما كنا له يوماً نسينا
وكاسات المسرّة دائرات ... تحيينا شمالاً أو يمينا
محمد بن محمد بن أحمدجلال الدين الكندي بن تاج الخطباء القوصي.
قال كمال الدين الأدفوّي: سمع من الشيخ تقي الدين القشيري. وكان فقيهاً فاضلاً أديباً، له نظمٌ ونثرٌ وخطبٌ، وكان أمين الحُكم بقوص، وعاقد الأنكحة وفارضاً بين الزوجين، وكان يكتب خطاً حسناً لا يماثله أحدٌ بقوص.
اجتمعت به كثيراً بقوص، ثم إنه أقام بغرب قُمولا، وتوفي بها سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
وأورد له من شعره:
يا غاية منيتي ويا مقصودي ... قد صرتُ من السقام كالمفقود
إنْ كان بدَتْ مني ذنوبٌ سلفت ... هبها لكريم عفوك المعهود
وأورد له أيضاً:
هل الى وصل عزّة من سبيل ... والى رشف ريقها السلسبيل
غادةٌ جرّدت حسام المنايا ... مُصْلتاً من جفون طرف كحيل
قد أصابت مقاتلي بسهام ... فوّقتها من جفنها المسبول
أبرزت مبدعاً من الحسن يفدى ... بنفوس الورى بوجهٍ جميل
وأورد له أيضاً:
دعوى سلامة قلبي في الهوى عجبٌ ... وكيف يسلم من أودى به الوصَبُ
أضحت سلامته منكم على خطر ... لا تسلموه ففي إسلامه نصَبُ
شربت حبّكم صرفاً على ظمأ ... وكنت غرّاً بما تأتي به النوبُ
لا يمنعنّكُم ما قال حاسدُنا ... عن الدنوّ فأقوال العِدا كذبُ
محمد بن محمدالمعروف بابن الجبَلي الفَرجوطي.
كان له مشاركة في الفقه والفرائض، وله معرفة بالقراءات، وله أدبٌ وشعرٌ ومعرفة. يحل الألغاز والأحاجي.
وكان ذكياً، جيّد الإدراك خفيف الروح، حسن الأخلاق، كفّ بصره في آخر عمره.
قال كمال الدين الأدفوي: اجتمعت به كثيراً، وأنشدني من شعره وألغازه.
وتوفي رحمه الله تعالى بفرجوط في المحرم سنة سبع وثلاثين وسبع مئة.
وأورد له:
وشاعر يزعم من غرةٍ ... وفرْط جهل أنه يشعر
يصنف الشعر ولكنه ... يحدّث من فيه ولا يشعر
وأورد له في النبق:
انظر الى النبق في الأغصان منتظماً ... والشمس قد أخذت تجلوه في القُضُب
كأن صفرته للناظرين غَدَت ... تحكي خلاخل قد صيغت من الذهب
محمد بن محمدالصدر الأصيل العَدل الرضي شرف الدين أبو عبد الله ابن العدل الرضي شرف الدين أبي عبد الله بن أبي الفتح نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي ابن القلانسي.
سمع صحيح مسلم من الرضي بن البرهان، وروى منه أربعين حديثاً، وله إجازة من عثمان ابن خطيب القرافة وعبد الله بن الخشوعي وجماعة.
وكان من أعيان دمشق وأكابرها، وباشر وكالة السلطان مدة. وكانت حرمته وافرة وأخلاقه حسنة، وشهد في القيم مدة مع الأكابر، ثم إنه تركها مدة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت ثاني عشر صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده سابع عشري صفر سنة ست وأربعين وست مئة بدمشق.
وكتب شيخنا العلامة شهاب الدين محمود الى أولاده القاضي جمال الدين والقاضي علاء الدين ومحيي الدين يعزيهم بما أنشدنيه لنفسه إجازة:
لو سالم الدهر ذا مجدٍ لسؤدده ... ثنى عن الشرف العالي سُطا يده
ولو تحامى الردى ذا مفخر وتقى ... ونائل كفّ كفّاً عن محمّده
لكنه طالبٌ لا حصن منه فمن ... أرجاه في يومه فاجاه في غده
ومنهل ما لحيٍ في الورى صدرٌ ... إلا عن الريّ من إثناء مَورده
كم فضّ جمعاً وكم أخلى حمى شرف ... برغم أهليه من اثار سيّده
فلا علوّ أخي فضل بعاصمه ... منه ولا مجد ذي مجد بمخلده
فحقُّ من كان هذا الموت غايته ... بدء العزاء به من يوم مولده

لله طودُ حجىً زانت خلائقه ... نجاده وأبانت طيب محتده
حرٌ تقيٌ نقي طاهر ورع ... قد آمن الناس من فيه ومن يده
عفّ السريرة لا يطوي على ذحل ... مَغيب من غاب عنه مثل مشهده
سيّان ظاهره صفوٌ وباطنه ... بل ودّه المحض أجلى من تودّده
مُغضٍ عن الناس لا يعنيه عيبهم ... مغرىً بمنزله فيهم ومسجده
لله عهد مضى أيام تجمعنا ... عصر الصبا نَسقاً في سلك معهده
وكلنا حافظٌ عهد الصفاء له ... شاء الوفاء يراعي حفظ موعده
ففرقّ الدهر سهم البُعد ثم بَدا ... بخَيرنا فرماه عن تعمّده
قضى ولم أقضِ من توديعه وطراً ... ولم أكن حاضراً ما بين عُوَّده
فبات يخذلني صبري وينجدني ... دمعي وما خاذلٌ صبّاً كمنجده
أخشى على ناظري دمعي فيكحلني ... تسهّدي من دجى ليلي بأثمده
مضى وها أنا أقْفو إثْره والى ... كم يبطئ المرء أمسى دون مقصده
وما مضى من رقَتْ أبناؤه رتَباً ... لم يرقَها وعلوا عن أفقِ مصعده
وساد منها عليّ ما وهى وعلا ... محمود في كل مجد فوقَ فرقده
ثلاثة نظموا عقد العُلا فغَدا ... يختال في مجدهم لا في زبرجده
أوصيتهم باصطبار لم أجده ففي ... حسن التبصّر تمهيد لمرقده
فجاده صَوب رِضوان يَسحُّ إذا ... سحّ العِهاد عليه في تغمّده
ولا خلا أفْقُ هذا البيت من شرفٍ ... تثني مفاخِره أبصارَ حُسّده
يقبّل اليد العالية المولوية القضائية الجمالية، لا زالت جزيلة الثواب، جميلة المآب، غنيّة بما منحها الله من العلم عن الدلالة على الصواب، آمنة بحلاوة التلقّي لأمر الله بالعدول عن مراجعة التجرّع لصاب المصاب، وينهي أنه اتصل به ما قدّره الله من وفاة المولى السيد الوالد تعمّده الله برضوانه وبوّأه فسيح جنانه، فأجرى دموعه، ونفى هجوعه، وصدع قلبه، وأطار لبّه، وأطال ألَمه، وأطابَ عدمَه، وألزم الحصر لسانه، وألقى قلمه، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، امتثالاً لأمره، وصبراً على حلو القضاء ومرّه، مات والله الصاحب الذي كان للمملوك يعقد على محبته الخناصر، ويستند من أخوّته الى نسبة صفاءٍ ثابتة الأواصر، ويأنس ببقائه، ويعلل نفسه بلقائه، فاجْتُثّ بوفاته أصلُ الوفا، وتكدّر بذهابه وِرد الصّفا، وذهب الودّ إلا باللسان، وتنكّرت بين المعارف وجوه الإحسان الحِسان، وعدمت الرّياسةُ راسَها وفي الرياسة أكثرها، وفقدت المعالي عينها فلم يبقَ إلا أثرُها، فلله تلك النفس ما كان لتقاها، وتلك الشيم ما كان أطهرها وأنقاها، وذلك اللسان ما كان أقدره على ملكه نطقه، وألهجه في المقال بحق صدقه، وذلك النظر ما كان أغضّه عن المحارم وأبصره بالمكارم، وأغضاه عن النقائص والمعايب، وأشبهه بسمعه عن الإصغاء الى المذامّ والمثالب، نضّر الله ذلك الوجه الكريم ولقّاه نُضرة النعيم وتقبّل أعماله، وبلّغه عند القدوم عليه من عَفوه سولَه، ومن رضاه آماله. والمملوك فقد تأهّب المحاب بإخوانه، ولم يخادع نفسه الحداد عند أوانه، وإذا تقدّم الرّفاق لم يبق إلا الرحيل على آثارهم، والاستقرار للنزول معهم في دارهم. فالله يجمعنا في مستقرّ رحمته، ويجعلنا ممّن جعل الثبات عند الممات من فواتح فضله عليه ونعمته، على أنه ما فُقد من جمال بيته باق ببنيه في الوجود، ولا عدم من علاوة راقٍ بأولاده الى رتب القعود، ولا ذهب مَن لم تخل معاليه من ذي مقام محمود، فعمله الصالح ببقائهم متصل المواد، وثناؤه السائر بدوام ارتقائهم آخذ في الازدياد، والمملوك يقبّل اليد العلائية واليد المحيوية، ويكتفي بهذه الخدمة عن تجديد تعزيتهما بما يهيج الأسى والأسف ويعتذر للدهر ببقاء الموالي، فعفا الله عما سلف، وعمّن سلف بمنّه وكرمه.
محمد بن محمدالشيخ الإمام والعالم الفاضل شمس الدين السفاقسي.
تقدّم ذكر أخيه ابراهيم في الأباره، وكانا فقيهين مالكيين.

حضر شمس الدين هذا الى دمشق وأنا بها رأيته، وكان شكلاً حسناً مليح الوجه أظنه لم يبلغ الأربعين. وأقام بدمشق بعض سنة أو أكثر، وأقرأ الناس بالجامع الأموي، ثم توجه الى حلب فحظي هناك، وتصدر وأفاد، وولي وظائف.
ولم تطل مدّته حتى توفي رحمه الله في حلب ليلة الإثنين ثاني شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
سألت شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فأثنى عليه ثناء كثيراً، وقال: له على مختصر ابن الحاجب بعض شرح، وشرح قصيدة ابن الحاجب في العروض.
محمد بن محمد بن الحسنابن أبي الحسين بن صالح بن علي بن يحيى بن طاهر بن محمد بن الخطيب أبي يحيى عبد الرحيم بن نباته. الشيخ شمس الدين الفارقي الأصل، المصري المولد، والد الشاعر جمال الدين محمد بن نباته.
كان الشيخ شمس الدين هذا من أشياخ الحديث بدمشق، وكان ساكناً خيراً قليل الكلام، منجمعاً عن الناس. وكان يباشر شهادة الخاص بداريا ودومة. وكان كل ما يحصّله ينفقه على أحفاده أولاد ولده.
وتولى دار الحديث النورية بدمشق بعد الشيخ زين الدين بن المزي، وكان في الديار المصرية شاهداً بديوان الجاشنكير.
وسمع من العزّ الحرّاني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وأبي بكر بن إسماعيل الأنماطي وغيرهم، وكان له بدمشق سكن بالظاهرية، سمعت عليه بعض أجزاء بدمشق، وأجاز لي بخطه سنة ثلاثين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني صفر سنة خمسين وسبع مئة.
ومولده بمصر سنة ست وستين وست مئة.
محمد بن محمد بن مينابميم مكسورة وياء آخر الحروف ساكنة وبعدها نونٌ وألف ممدودة، الشيخ الإمام الفاضل العالم شمس الدين البعلبكي الشافعي.
سمع من القاسم بن عساكر، ومن عيسى المطعّم وغيرهما.
وكان فقيهاً فاضلاً، عارفاً بالجدال مناضلاً، قرأ الفقه وبرع، وبلغ غايةً قصّر عنها من شرد حظه لما شرع، وكان على ذهنه إشكالات في المذهب، وإيرادات من ناظره فيها سبقه ولو كان أشهب. وعنده شكوك في غير الفقه عَقِدة، ومؤاخذات يتعب بها منتقيه ومنتقده، إلا أنه ينحرف كثيراً، ويهدم بذلك له مجداً أثيراً.
ولم يزل على حاله الى أن حلّت المنايا بابن مينا، ولم ينفعه طبّ ابن سينا.
وتوفي رحمه الله في شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق وهو في حدود الخمسين.
اجتمعت به غير مرة، وكتب عني شيئاً، وكان يعجبني ذهنه وحديثه، وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني يثني على ذهنه، وكان قد توجّه الى بغداد بعدما أفتى وناظر وأعاد بالنظامية وعاد الى دمشق، وسكن الرواحيّة. وما كان يخلو من تعبّد، وتولى قضاء الإقليم بدمشق، وخلّف لما مات دنيا صالحة، ووصّى بأن يصرف ثلث ماله على فقراء الفقهاء، كل إنسان عشرة دراهم.
محمد بن محمد بن يعقوبالقاضي عماد الدين الأنصاري المصري المعروف بابن النويري، بالنون والواو والياء آخر الحروف والراء.
كان من أجود الناس طباعاً، ويحفظ الكتاب العزيز ويتلوه كثيراً، ويصوم الخميس دائماً، وله عقيدة في الفقراء وخدم في الأنظام الكبار بمصر والشام. تولى نظر المرج والغوطة والإقليم، ونقل من ذلك الى صحابة الديوان بدمشق والى نظر صفد، باشره غير مرة، والى نظر الكرك مدة طويلة، وأعيد بعده الى صفد، وآخر وقت ولي ديوان طرابلس.
وتوفي رحمه الله تعالى في عشر الثمانين، ورأيته بصفد غير مرة، وكانت وفاته في طرابلس في حادي عشر شعبان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
محمد بن محمد بن عطاياالوزير سعد الدين.
كان أولاً ناظر البيوت بالقاهرة، ورسم له بالوزارة في ثاني عشر شهر رمضان سنة أربع وسبع مئة، وأقام في الوزارة الى أن عُزل عنها بضياء الدين النشائي في أوائل سنة ست وسبع مئة.
محمد بن محمد بن إبراهيمابن أبي القاسم، الشيخ الإمام المعمّر المسند صدر الدين أبو الفتح المَيْدومي، بفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف والدال المهملة والواو الساكنة وبعدها ميم، خاتم أصحاب النجيب عبد اللطيف.
توفي عن تسعين سنة في سنة أربع وخمسين وسبع مئة. انتخب عليه خلق من عواليه.
محمد بن محمد بن الحارثابن مسكين، القاضي الإمام فخر الدين القُرشي الزّهري نائب الحاكم بمصر والقاهرة.

حدّث عن الشهاب القرافي ببعض تصانيفه، وعن عبد السلام الدميري وغيرهما، وأجاز له جماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة إحدى وستين وسبع مئة.
وكان قد أجاز لي رحمه الله تعالى بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
محمد بن محمد بن محمد بن هبة اللهابن محمد بن هبة الله بن محمد بن يحيى بن بندار بن مميل الفارسي الشيرازي الأصل، الدمشقي ثم المزّي، الرئيس شمس الدين أبو نصر بن عماد الدين الكاتب ابن أقضى القضاة شمس الدين أبي نصر.
سمع من جده حضوراً، ثم سماعاً، ومن عمّه تاج الدين، ومن علم الدين السّخاوي، والعَلم ابن الصابوني، والمؤتمن بن قميرة، وأبي إسحاق بن الخشوعي، وبهاء الدين بن الجُميزي، وجماعة. وأجاز له الشيخ شهاب الدين السهروردي، وبهاء الدين بن شداد، وإسماعيل بن باتكين، وابن روزبة، وخلق كثير. وتفرّد بأجزاء وعوالي، وازدحم الطلبة عليه، وألحق الصغار بالكبار. وانتقى له الشيخ صلاح الدين العلائي والبرزالي وشمس الدين الذهبي.
وكان ساكناً وقوراً متواضعاً، نزر الحديث منجمعاً عن الحديث الناس، له ملك يعيش منه. وكان بارعاً في تذهيب المصاحف، وظهرت فيه مبادئ اختلاط في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
محمد بن محمد بن محمد بن أحمدالقاضي زين الدين أبو حامد بن تقي الدين العثماني الشريشي القنائي الشافعي.
اشتغل بالفقه على الشيخ جلال الدين أحمد الدشناوي وأجازه بالفتوى، وسمع منه.
وكانت له مشاركة في الأصول والنحو والأدب. وخطّه حسن، وله يد في الوراقة.
وتولى القضاء بأدفو وأسوان وتولى قفط، وقنا، وهُوْ، وعيذاب، وكان حسن السيرة، مرضيّ الطريقة، قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة خمس وسبع مئة بقنا.
وأورد له كمال الدين الأدفوي أبياتاً من جملة صداق كتبه وهي:
أطِل نظراً فيه فلستَ بناظر ... نظيراً له كلاً ولست بواجِدِ
وفُزْ من مُحيّاه بلمحة ناظر ... تنَلْ ما تَرجي من سنيّ المقاصد
فكلُ سديد منهم ومُسدّدٍ ... وكل تقي عندهم ثم ماجدِ
إذا ما اغتدى سمعي بذكرِ صفاتهم ... تُخامر قلبي سَكرةُ المتواجد
محمد بن محمد بن محمدابن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلّد، الشيخ الإمام المفتي بركة والده بدر الدين أبو اليسر ابن قاضي القضاة عز الدين أبي المفاخر الدمشقي الشافعي المعروف ابن الصايغ مدرس الدماغية وأخو القاضي نور الدين قاضي قضاة حلب.
سمع كثيراً من أبيه، وابن شيبان، والفخر علي، وبنت مكّي، وعدة. وحضر ابن علان. وحدث بصحيح البخاري عن اليونيني، وسمع حضوراً من فاطمة بنت عساكر، وحفظ التنبيه، ولازم حلقة الشيخ برهان الدين.
وكان دينه متيناً، وتصوّنه مبيناً. طُلب لقضاء القضاة بدمشق فامتنع، وظهرت عليه أمارات الزَّمع، فعظم قدره، ولزم الناس حمده وشكره.
وكان مقتصداً في لباسه وفي أموره بين ناسه، ودرّس وهو أمرد، ولم يبال بمن يناظره أنقضّ عليه أم ردّ، وحجّ غير مرة، وفعل في طريقه كل مبرّة:
وكان غريباً في جميع أموره ... له بركاتٌ في الورى وصلاحُ
إذا ما ادْلهمّ الليل قام لربّه ... وناجى الى أن يستنير صباحُ
ولم يزل على حاله الى أن أصبح أبو اليسر من الحياة مُعسراً، ومكّن الحِمامُ منه مخلباً ومَنسِراً.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة، جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، ودفن عند قبر والده بسفح قاسيون، وشيعه الخلائق وحملوه على أكتافهم، وكانت وفاته بعد قاضي القضاة جلال الدين القزويني بليالٍ يسيرة.
ومولده سنة ست وسبعين وست مئة.

وكان تنكز قد عظّمه واعتقد فيه لما امتنع من ولاية قضاء القضاة، فإنه حُمِل إليه تقليده وتشريفه بالقضاء بعد القاضي جلال الدين القزويني في نصف شهر شوال سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وحضر إليه الأمراء والناس، فامتنع وتغيّر مزاجه. ثم إن أرباب الدولة عادوا إليه ثانياً، وأدّيت إليه رسالة الأمير تنكز، فأصرّ على الامتناع، فأعيد التقليد الى مصر، وزادت عظمته عند نائب الشام، فولاه خطابة القدس مُديدة، ثم إنه تركها، ولما كان بالقدس طلبه المَقادسة، ودخلوا عليه بسماع الحديث وخرجوا من هذا الى طلب الشفاعات عند ناظر الحرمين، فشفع لهم وأكثر من ذلك، فثقل أمره على الناظر، وشكا في الباطن الى تنكز وقال: هذا يُدخل روحه في غير الخطابة، ويتكلم في الولاية والعزل، فنقص بذلك قدره عند تنكز ثم إنه فيما بعد زار القدس فتعلل هناك، ونُقل الى دمشق ضعيفاً، فأقام أياماً يسيرة، وتوفي رحمه الله في التاريخ المذكور.
محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادرقاضي القضاة نور الدين بن الصائغ، تقدّم تمام نسبه في ترجمة ابن عم أبي اليسر آنفاً.
كان خيّراً ساكناً وقوراً، سمع من أحمد بن هبة الله بن عساكر.
ولاه الفخري في نوبة الناصر أحمد قضاء العساكر بدمشق، وتوجه مع العسكر الى القاهرة، ثم إنه عُزل بعد ذلك، وبقي على تدريس الدماغية الى أن تولى قضاء القضاة بحلب بعد القاضي بدر الدين بن الخشّاب سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ولم يزل بحلب الى أن توفي رحمه الله في شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب.
ومولده سنة ست وسبعين وست مئة.
وباشر القضاء بحلب جيداً وأحبه أهلها لحسن سيرته.
محمد بن محمد بن محمدالإمام المحدّث صدر الدين الورّاق البغدادي المصري.
قدم دمشق طالباً حديث سنة أربع عشرة وسبع مئة، وسمع من القاضي والصّدر ابن مكتوم وطائفة.
وكان ذا حظ حُلو وخُلُق حسن.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ومولده بعد التسعين وست مئة.
محمد بن محمد بن محمد بن محمودالمحدّث تقي الدين البخاري الدمشقي الحنفي ابن خطيب الزنجيلية جلال الدين.
حفظ القرآن واشتغل في النافع، وسمع كثيراً ونسخ أجزاءً وكتاب الكاشف. وكتب الطباق وسمع ابن سعد والبهاء بن عساكر وعدة، وأخذ عن شيخنا الذهبي.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبع مئة.
محمد بن محمد بن محمد بن أحمدابن عبد الله بن محمد بن يحيى، الشيخ سعد الدين أبو سعد، ابن الفقيه أبي عمرو بن الحافظ أبي بكر بن سيد الناس اليعمري أخو الحافظ فتح الدين.
سمع من ابن الأنماطي، ومن العزّ الحرّاني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وشامية بنت البكري، وجماعة.
وحدّث. وكان له نظم. وجلس مع الشهود.
توفي رحمه الله تعالى في مستهل شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة سبعين وست مئة.
محمد بن محمد بن محمدابن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس، الشيخ الإمام، العالم، العلامة، الحافظ، البارع، الأوحد، مجموع الفضائل، الكاتب، الناظم، الناثر، الأديب فتح الدين أبو الفتح ابن الإمام الفقيه أبي عمرو وابن الإمام الحافظ الخطيب أبي بكر اليعمري الأندلسي الإشبيلي ثم المصري.
أجاز له في سنة مولده النجيب عبد اللطيف الحراني، وحضر على الشيخ شمس الدين بن العماد الحنبلي، وطلب بنفسه في سنة خمس وثمانين، وقرأ على الشيوخ، فسمع من قطب الدين بن القسطلاني، وغازي الحلاوي، وابن الأنماطي، وابن خطيب المزة، وابن ترجم، وابن الخيمي، وابن الفارض، والعزّ الحراني، وشامية بنت البكري، والفخر المَليجي وغيرهم.
ورحل الى الاسكندرية وسمع من شيوخها، ورحل الى دمشق سنة تسعين وست مئة وسمع من بعض أصحاب الكندي وابن الحرستاني وابن ملاعب.

نقلت من خط شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: وتنزّل في الأخذ الى أصحاب سبط السلفي، ثم أصحاب الرشيد العطار قال: وكاد يدرك الفخر بن البخاري ففاته بليلتين، ولعل مشيخته يقاربون الألف ونسخ بخطه، واختار وانتقى شيئاً كثيراً، ولازم الشهادة مدة، قال: جالسته مرات وبت معه ليلة، وسمعت بقراءته على الرضى النحوي. وكان طيب الأخلاق بسّاماً، صاحب دعابة ولعب، وكان صدوقاً في الحديث، حجةً فيما ينقله، له بصرٌ نافذٌ في الفن، وخبرة بالرجال وطبقاتهم، ومعرفة في الاختلاف، ويدٌ طولى في علم اللسان ومحاسنة جمة. انتهى.
ونقلت من خط شيخنا البرزالي قال: كان أحد الأعيان معرفة وإتقاناً وحفظاً وضبطاً للحديث وتفهّماً في علله وأسانيده، عالماً بصحيحه وسقيمه، مستحضراً للسيرة النبوية، له حظ من العربية، جيّد الضبط حسن التصنيف، صحيح العقيدة، صحيح القراءة، مع الشُّرعة التامة، حسن الأخلاق، جميل الهيئة، كثير التواضع، طارحاً للتكلّف، طيب المجالسة، حلو المعاشرة، خفيف الروح، ظريفاً كيّساً متودداً الى الناس، له الشعر الرائق والنثر الفائق والترسّل البديع. وكان محباً لطلبة الحديث، وصنّف سيرة نبوية لخص فيها سيرة ابن هشام وشرع في شرح الترمذي، عمل منه الى الصلاة، جمع فيه فأوعى، وله القصائد النبوية الفائقة، ولم يخلف في مجموعه مثله، انتهى.
وقال كمال الدين الأدفوي في تاريخه البدر السّافر: ولازم الإمام أبا الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري، وتخرّج به، وقرأ عليه في أصول الفقه وحفظ التنبيه في مذهب الشافعي، وقرأ المفصّل في النحو على الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وبرع في الحديث والأدب، وكتب الخط الحسن بالمغربي والمصري، وحدّث، وسمع منه جمع كثير من الشاميين والمصريين وغيرهم، وصنّف في السير كتابه المسمّى عيون الأثر وهو كتاب جيد في بابه، وشرع بشرح الترمذي ولو اقتصر فيه على فن الحديث من الكلام على الأسانيد لكمُل تصنيفه وتمّ ترصيفه وكان يفيد، ولكنهقصد أن يتّبع شيخه الإمام ابن دقيق العيد، فوقف دون ما يريد. انتهى.
قلت:
وعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
كان شيخنا المذكور حافظاً بارعاً، متوقّلاً هضبات الأدب فارعاً، متفنناً بليغاً في إنشائه، ناظماً ناثراً مترسّلاً، لم يضمّ الزمان مثله في أحشائه، خطه أبهج من حدائق الأزهار، وآنقُ من صفحات الخدود المطرّز وردها بآس العذار، حسن المحاورة مأمون المجاورة، لطيف العبارة، طريف الشارة والإشارة، فصيح الألفاظ، نسي الناس ذكر قسّ سوق عكاظ، كامل الأدوات، جيّد الفكرة في الغوص على درر المعاني والأدبيات، صحيح الذهن، يشرق نوره، مليح الفهم، كأنه الصبح إذا ملأ الأفق سفورُه، لا تُملُّ محاضرته، ولا تُذام معاشرته، أدبه غض، والإمتاع بأنسه نضّ، كريم الأخلاق، زكي الأعراق، كثير الحياء والاحتمال، قلما جُرح من إنسان إلا وكان سريع الاندمال.
إن كتب فما ابن مقلة عنده إنسان، ولا ابن البوّاب إلا واقف على بابه بعصا القلم يسأله الإحسان، ولا ابن العديم إلا له وزير، ولا الوليّ العجمي إلا وليّ له ونصير.
وإن نثر فالعماد مائل عن طريق، وابن الأثير لا يضرب المثل إلا في تحقيقه وتحريره.
وإن نظم فابنُ النبيه خامل، وابن الذّروي في الحضيض هامل، والجزار ما حلَت قيمه حلا قيمه، ولا جوّد تعاطي تقاطيفه، والسّراج ما نوّر بل نوّص في شعره وسوّد حائط تواليفه.
صحبته مدة فلم أرَ معه من الزمان شدة ونمت معه ليالي، وخالطته أياماً، ورعيت من حسن ودّه أراكاً وبريراً وبشاماً:
له هزّة من أريحيّة نفسه ... تكاد لها الأرض الجديبة تُعشِبُ
تجاوزَ غايات العقول مواهبا ... تكاد لها لولا العيان تكذّب
خلائق لو يلقى زيادٌ مثالَها ... إذاً لم يقل: أي الرجال المهذّب
عجبت له لم يزهُ تيهاً بنفسه ... ونحن به نختال تيهاً ونعجب
ولم يزل على حاله الى أن انضم على فتح الدين قبره وعُدم من كل أحد عليه صبره.

وتوفي رحمه الله تعالى في يوم السبت حادي عشر شهر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن يوم الأحد بالقرافة جوار ابن أبي جمرة وابن عطا قبالة خانقاه بكتمر الساقي، وشيّعه خلقٌ كثير من القضاة والأمراء والفقهاء والجند والعوام، وتقدّم للصلاة عليه قاضي القضاة جلال الدين القزويني. وتعجّب السلطان الملك الناصر محمد من جنازته الحفلة، وسأل عنه فعُرِّف بحاله، فقال: هذا رجل جليل القدر ما نعطي وظائفه إلا لمن يكون مثله.
ومولده في العشر الأول من ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وست مئة.
وكان من بيت رئاسة وعلم، كان ابن عمه أخيراً في زمانه قائداً حاجباً بإشبيلية. وكان عند الشيخ فتح الدين رحمه الله تعالى كتبٌ كثيرة وأصول جيدة كمصنّف ابن أبي شيبة، ومسنده، وجامع عبد الرزاق، والمحلى، والتمهيد، والاستيعاب، والاستذكار، وتاريخ الخطيب، والتاريخ المظفّري، وتاريخ ابن أبي خيثمة ومسند البزار ومعاجم الطبراني. وكان قد تفرّد في وقته بالحديث في الديار المصرية.
أخبرني من لفظه القاضي الرئيس عماد الدين بن القيسَراني قال: كان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد إذا حضرنا درسه وجاء ذكر أحد من الصحابة أو أحد من رجال الحديث قال: أيش ترجمة هذا يا أبا الفتح، فيأخذ فتح الدين في الكلام ويسرد والناس سكوت، والشيخ مُصغ الى ما يقوله. انتهى.
وكان صحيح القراءة سريعها، لم أسمع أفصحَ منه ولا أسرع. وأما خطّه فكان يكتب المصحف في جمعة واحدة، ويكتب سيرته وهي مجلدان كبيران في عشرين يوماً، وأظنه قال لي: لم أكتب على أحد، ولم يرَ أحدٌ أحلى من خطه ولا أظرف. وقال لي: لم يكن لي في العروض شيخ، ونظرت فيه جمعة فوضعت فيه مصنّفاً، ورأيت أنا هذا المصنّف.
وصنّف عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير سمعت بعضه من لفظه، واختصر ذلك وسمّاه نور العيون وهو عندي بخطه، وسمعته من لفظه، وتحصيل الإصابة في تفضيل الصحابة وسمعته من لفظه وملكته بخطه، والنفح الشذي في شرح الترمذي، ولم يكمل، وكان قد سمّاه العَرف الشذي، فلما اجتمعت به قلت له: سمّه النفح الشذي ليقابل الشرح بالنفح، فسمّاه بذلك، وكتاب بشرى اللبيب بذكرى الحبيب وقرأته عليه بلفظه مشروحاً، ومنح المِدَح. وسمعته من لفظه الى ترجمة عبد الله بن الزّبعرى، والمقامات العلية في كرامات الصحابة، وسمعت قصيدتها الميمية من لفظه.
وكان بيده من الوظائف مشيخة الظاهرية ومدرسة أبي حليقة على بركة الفيل، ومسجد الرصد، وخطابة جامع الخندق، وكانت له رزق في الديار المصرية، وراتبه في صفد، وما رأيت أحداً محظوظاً مثله، ما رآه أحد إلا أحبه وعظّمه. كان الأمير علم الدين الدواداري يحبّه ويلازمه كثيراً ويقضي أشغال الناس عنده، ودخل به الى السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين وقد امتدحه بقصيدة، وقال: أحضرت لك هذا وهو كبير من أهل العلم، فلم يدعه السلطان يبوس الأرض، وأجلسه معه على الطراحة، وهل قام له أو لا، أنا في شك من ذلك، ولما رأى خطه وسمع لفظه قال: هذا ينبغي أن يكون في ديوان الإنشاء، فرتّبه في ديوان الموقّعين، فرأى الشيخ فتح الدين الملازمة ولُبس الخف والمهماز صعباً عليه، فسأل الإعفاء من ذلك، فقال السلطان: إذا كان لابد من ذلك فيكون هذا المعلوم يتناوله على سبيل الراتب، فرتّب له الى أن مات رحمه الله تعالى.
وكان الكمالي ينام معه في قرظيّة النوم، وكان كريم الدين الكبير يميل إليه كثيراً ويودّه، ويقضي أشغال الناس عنده، وهو الذي ساعده على عمل المحضر وإثباته بعداوة قاضي القضاة بدر الدين بن جَماعة.
سمع صحيح البخاري بقراءته على الحجّار، وتعصّب له الأمير سيف الدين أرغون النائب وخلّص له مشيخة الحديث بالظاهرية، ولم أعرف أحداً من أمراء الدولة إلا وهو يحبه ويصحبه ويميل إليه ويجتمع به، وإنما كان الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار والقاضي فخر الدين ناظر الجيش منحرفين عنه قليلاً، وكذلك القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله كان منحرفاً عنه.

وأقمت عنده بالظاهرية قريباً من سنتين فكنت أراه في كثير من الأوقات يصلي في كل صلاة مرات كثيرة، وسألته يوماً عن ذلك فقال لي: إنه خطر لي يوماً أن أصلّي كل صلاة مرتين ففعلت ذلك زماناً فخف عليّ، فخطر لي أن أصلي كل صلاة ثلاث مرات ففعلت ذلك زماناً وخفّ عليّ، فخطر لي أن أصلي كل صلاة أربع مرات ففعلت ذلك زماناً وخفّ علي، وأنسيت هل قال لي: خمس مرات أو لا.
وكان صحيح العقيدة، جيّد الذهن، يفهم به النكت العقلية ويسارع إليها، ولكنه جمّد ذهنه لاقتصاره به على النّقل، ولو كان اشتغاله على قدر ذهنه بلغ الغاية القصوى، ولكن كان عنده لعب، على أنه ما خلّف مثله. وكان النّظم عليه بلا كلفة، يكاد لا يتكلم إلا بالوزن. وفيه قلت أنا:
لي صاحب يتمنى لي الرضا أبداً ... كأنما يختشي صدّي وهجراني
ويغلب النّظم ألفاظاً يَفوه بها ... فما يُكلّمني إلا بميزان
وكتبت له استدعاء بإجازته لي، ونسخته بعد الحمدلة والصلاة.
المسؤول من إحسان سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة المتقن الحافظ رحلة المحدثين، قبلة المتأدبين، جامع أشتات الفضائل، حاوي محاسن الأوائل والأواخر:
حافظ السنّة حفظاً لا ترى ... معه أن يُعمل الناس الأسنّه
مركزُ الدائر من أهل النُهى ... فإلى ما قد حوى تُثنى الأعنّه
بديع زمانه، نادرُة أوانه، ضابط الأنساب على اختلافها، فهو السيل المتحدّر لا ابنُ نقطة، ناقل العلم الشريف عن سلفه الذي وافق على المراد شرطه، ساحب ذيل الفخر الذي لو بلغ السمعاني جعله في الحُلية قِرطه، صاحب النقل الذي إذا أتى رأيت البحر بأمواجه منه يلتط، والعبارة تستبق في مضمار لهواته فتزداد وتزدحم، الذي إذا ترسّل نقصت عنده ألفاظ الفاضل، وعجز عن مفاوضته ومعارضته كل مناظر ومناضل، أو نظم ثبت الجوهر الفرد خلافاً للنّظام فيما زعم، وتخطى بما بيديه فرق الفرقدين، وترضى النجوم بما حكم، أو أورد مما قد سمع واقعة مات التاريخ في جلده، ووقف سيف حاكٍ عند حده، أو استمد قلماً كف بصره عنه ابن مقْله، ووقف ابن البواب بخدمته يطلب من فضله فُضلهُ، فهو الذي تطير أقلامه الى اقتناص شوارد المغاني فتكون من أنامله " أولي أجنحة مَثنى وثلاثٍ " ، وتنبعث فكرته في طلب السنة النبوية وما يكره الله هذا الانبعاث، وتبرز مخبّات المعاني بنظمه ومن السحر إظهار الخبايا، ويعقِد الألسنة عن معارضته، وعقْدُ اللسان لا يكون بغير السحر في البرايا، ويستنزل كواكب الفصاحة من سمائها بغير رصد، ويأتي بألفاظه العذبة، ونورها المشمس وفُحولتها للأسد، ويحل من بيت سيادته بيتاً عموده الصّبح وطُنُبه المجرّة، ويتوقّل هضبات المنابر، ويستجنّ حشا المحاريب ويطأ بطون الأسرّة، فتح الدين محمد بن سيد الناس:
لا زال روضُ العلم من فضله ... أنفاسُه طيّبةُ النفحِ
وكابدا نظما الى نظمه ... أبدى سحابا دائم السحِّ
وكيفما حاوله طالبٌ ... في العلم لا ينفكّ ذا نُجْحِ
وإن غدا النُهى مُقفلاً ... في الناس نادَوا يا أبا الفتْحِ
إجازة كاتب هذه الأحرف جميع ما رواه من أنواع العلوم، وما حمله من تفسير لكتاب الله أو سُنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أثر عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ومَن بعدهم الى عصرنا هذا بسماع من شيوخه أو بقراءة من لفظه، أو سماع بقراءة غيره، أو بطريق الإجازة خاصة كانت أو عامة أو بإذن أو مُناوَلة أو وصية كيفما تأدّى ذلك إليه، الى غير ذلك من كتب الأدب وغيرها، وإجازةُ ما له من مقولٍ نظماً ونثراً وتأليفاً وجمعاً في سائر العلوم، وإثبات ذلك بأجمعه الى هذا التاريخ بخطّه إجازة خاصة، وإجازة ما لعلّه يتّفق له بعد ذلك من هذه الأنواع، فإن الرياض لا ينقطعُ زهرُها والبحارَ لا تنفد دررها إجازة عامة على أحد الرأيين عند من يجوّزه.
وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
فكتب هو الجواب رحمه الله تعالى:

بعد حمد الله المجيب مَن دعاه، القريب ممن نادى نَداه، الذي ابْتعثَ محمّداً بأنواره الساطعة وهداه، وأيّده بصحبه الذين حمَوْا حماه، ونصروه على مَن عاداه، وحزبه الذين روَوْ سنّته وروّوْا أسنتهم من عِداه، وشفَوا بإيراد مناهله مَن كان يشكو صداه، وأجابوه لما دعاهم لما يُحييهم إجابة الصارخ صداه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تُبلّغهم من الشرف الرفيع غاية مَداه، وسلّم عليه وعليهم تسليماً يسوّغهم مشرع الرضوان عذباً ريّه، سهلاً منتداه.
فلما كتبت أيها الصدر الذي يشرح الصدور شفاء، والبدر الذي يبهر العقول سناً وسناءً، والحبر الذي غدا في التماس أزهار الأدب راغباً، ولاقتباس أنوار العلم طالباً، فحصل على اقتناء فرائدها واقتناص شواردها، وأُلفي عقله عقال أوابدها، ومجال مصائدها، ومطار مطاردها، بما أودَعت الألمعية من المعاني المُبْتدعة ذهنه، واستعادته على لسان قلمه وقد ألبسته الفصاحة من حسن تلك الفطنة:
زهَرُ الآداب منه يُجْتَنى ... حسنُ الإبداع ما أبدعَ حُسْنه
بارعٌ في كل فنّ فمتى ... قال: قال الناس: ما أبدع فنّه
ومتى ما فاهَ فاض السحرُ عن ... غامضِ الأفكار منه المرجَحنّه
فالآداب، حرسه الله تعالى، رياضٌ هو مجتني غروسها وسماءً هو مجتلي أقمارها وشموسها، وبحر استقرت لديه جواهره وسحر حلال لم تنفث في عصره إلا عن قلمه سواحرُه، فله في فنّي النظم والنثر حمْلُ الرايتين وسبقُ الغابتين، وحوز البراعتين، وسرّ الصناعتين، وهو مجمع البحرين، فما طلُّ الغمامة؟، وله النظر الثاقب في دقائقهما، فمَن زرقاء اليمامة، إن سام نظماً فمَن شاعر تِهامَه؟، وإن شاء إنشاء فله التقدم على قُدامه، فإن وشّى طِرساً فما ابن هلال إلا كالقُلامة، أن أجيز لك ما عندي فكأنما أن أتجاوز حدّي، لولا أن الإقرار بأن الرواية عن الأقران نهج مَهْيَع، والاعتراف بأن للكبير من بحر الصغير الاغتراف وإن لم يكن مَشْرَعه ذلك المَشرع. فنعم قد أجزت لك ما رويتُه من أنواع العلوم وما حملته على الشرط المعروف والعُرف المَعلوم، وما تضمّنه الاستدعاء الرقيم بخطك الكريم مما اقتدحه زندي الشّحاح وجادت به لي السجايا الشحاح من فنون الأدب التي باعُك فيها من باعي أمدّ، وسهمك في مراميها من سهمي أسدّ. وأذنت لك في إصلاح ما تعثُر عليه من الزلل والوهم والخلل الصادر عن غفلة اعترت النقل، أو وَهلة اعترضت الفهم، فيما صدر عن قريحتي القريحة من النثر والنّظم، وفيما تراه من استبدال لفظ بغيره مما لعله أنجى من المرهوب، أو أنجع في نيل المطلوب، أو أجرى في سنن الفصاحة على الأسلوب، وقد أجزتُ لك إجازة خاصة، يرى جوازها بعضُ مَن لا يرى جواز الإجازة العامة، أن تروي عني ما لي من تصنيف أبقيته في أي معنىً انتقيته فمن ذلك... وذكر رحمه الله تعالى ههنا ما له من التصانيف، وقد ذكرتها آنفاً. وقد أجزت لك أيّدك الله جميع ذلك بشرط التحري فيما هنالك، تبركاً بالدخول في هذه الحلبة، وتمسّكاً باقتفاء السّلف في ارتقاء هذه الرُتبة، وإقبالاً من نشر السنّة على ما هو أمنية المتمني، وامتثالاً لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: " بلّغوا عني " فقد أخبرنا أبو العزّ عبد العزيز بن عبد المنعم بن علي الحراني رحمه الله تعالى بقراءة والدي عليه وأنا أسمع سنة ست وسبعين وست مئة، قال: أخبرنا أبو علي بن أبي القاسم البغدادي قراءةً عليه وأنا أسمع منه سنة ست مئة، وقبل ذلك سنة تسع وتسعين وخمس مئة، وأنا محضر في الخامسة، قال: أخبرنا القاضي أبو بكر الأنصاري قاضي المارستان سماعاً عليه سنة أربع وعشرين وخمس مئة: قال: أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في سنة ست وأربعين وأربع مئة، أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن أحمد بن يسار السابوري بالبصرة، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري حدثنا محمد بن ابراهيم بن كثير الصوري، حدثنا الفريابي، عن ابن ثوبان، عن حسّان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلّغوا عني ولو آية وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومَن كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار " .
أبو كبشة تابعي ثقة، والصحيح أنه لا يُعرف اسمه.

ومولدي في رابع عشر ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وست مئة بالقاهرة، وفي هذه السنة أجاز لي الشيخ المُسند نجيب الدين أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرّاني، وكان أبي رحمه الله يخبرني أنه كَناني، وأجلسني في حجره، وكان يسأله عني بعد ذلك. وأجاز لي بعده جماعة.
ثم في سنة خمس وسبعين حضرت مجلس سماع الحديث عند جماعة من الأعيان، منهم الحبر الإمام شيخ الإسلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي ابن أخي الحافظ عبد الغني المقدسي، وأثبت اسمي في الطباق حاضراً في الرابعة.
ثم في سنة خمس وثمانين كتبت الحديث عن شيخنا الإمام قطب الدين أبي بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني رحمه الله بخطي، وقرأت عليه بلفظي، وعلى الشيوخ من أصحاب المسند أبي حفص بن طبرزد والعلامة أبي اليُمن الكندي والقاضي أبي القاسم الحرستاني والصوفي أبي عبد الله بن البنّا وأبي الحسن بن البنا، وغيرهم بمصر والاسكندرية والشام والحجاز وغير ذلك.
وأجاز لي جماعة من الرواة بالحجاز والعراق والشام وإفريقية والأندلس وغيرهم يطول ذكرهم.
وحبّذا، أيدك الله، اختيارك من طلب الحديث الدرجة العالية، وإيثارك أن تكون مع الفرقة الناجية، لا الفرقة التاوية، فقد أخبرنا الشيخان أبو محمد عبد اللطيف وعبد العزيز ابنا الشيخ أبي محمد عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن الصّيْقل الحراني، الأول إجازة، والثاني سماعاً قالا: أخبرنا ضياء بن الخُرَيف، محمد بن عبد الباقي، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو نعيم الحافظ، أخبرنا أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد بن أيوف بن مُطير اللّخمي، حدّثنا محمد بن أحمد بن هاشم البعلبكي، حدثنا عبد الملك بن الإصبع البعلبكي: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كُلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة " .
وبالإسناد الى الخطيب: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن علي السوذرجاني بأصبهان قال: سمعت عبد الله بن القاسم يقول: سمعت أحمد بن محمد بن رُوّه يقول حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن قال: حُدّثت عن أحمد بن حنبل، وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم " تفترق الأمة على نيّف وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة " فقال: إن لم يكونوا أصحابَ الحديث فلا أدري مَن هم.
وبه الى أبي بكر الخطيب قال: حدثني محمد بن أبي الحسن قال: أخبرني أبو القاسم بن سختويه قال: سمعت أبا العباس أحمد بن منصور الحافظ بصور يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن عبد الله بن بشر نفسا يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله: مَن الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة؟ قال: أنتم يا أصحاب الحديث.
وبه الى الخطيب قال: أخبرني محمد بن علي الأصبهاني حدّثنا الحسين بن محمد بن الوليد التستري بها. حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف بن مسعدة إملاءً، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن سلاّم يقول: أنشدني عبدة بن زياد الأصبهاني من قوله:
دينُ النبي محمد أخبارُ ... نِعمَ المطيّةُ للفتى الآثارُ
لا تُخدعنّ عن الحديث وأهله ... فالرأي ليلٌ والحديث نهارُ
ولربّما غلط الفتى سُبُل الهدى ... والشمس بازغةٌ لها أنوارُ
وأنشدني والدي أبو عمرو محمد، قال: أنشدني والدي أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس رحمهما الله تعالى قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج النباتي قال: أنشدني أبو الوليد سعد السعود بن أحمد بن هشام قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد بن عبد الملك قال: أنشدنا أبو أسامة يعقوب، قال: أنشدني والدي الفقيه الحافظ أبو محمد بن حزم لنفسه:
مَن عذيري من أناس جهلوا ... ثم ظنّوا أنهم أهلُ النظرْ
ركبوا الرأي عناداً فسروا ... في ظلام تاه فيه من غبَرْ
وطريقُ الرشد نهجٌ مهْيعٌ ... مثلما أبصرتُ في الأفق القمرْ
وهو الإجماع والنّص الذي ... ليس إلا في كتابٍ أو أثرْ

والله المسؤول أن يلهمنا رشداً يدلّنا عليه، ودلالة تهدينا الى ما يُزلِفنا لديه، وهداية يسعى نورها بين أيدينا إذا وقفنا يوم العرض بين يديه بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وكنت بصفد لما بلغتني وفاته رحمه الله تعالى:
فلقد ألمْتُ فما الحِمامُ بصادحٍ ... أسفاً ولا أغصانها بموائسِ
قلت أرثيه رحمه الله تعالى:
ما بعدَ فقدك لي أُنس أرجّيه ... ولا سرورٌ من الدنيا أقضيهِ
إن متُّ بعدَك من وجدٍ ومن حزَن ... فحقُّ فضلك عند من يوفيه
ومن يعلّم فيك الوُرق إن جهلت ... نُواحها أو تناسته فتُمليه
أما لَطافةُ أنفاس النّسيم فقدْ ... نسيتُها غيرَ لُطفٍ كنتَ تُبديه
وإن ترشّفتُ عذْب الماء أذْكرني ... زُلالُه خُلُقاً قد كنتَ تحويه
يا راحلاً فوقَ أعناقِ الرجال وأج ... فانُ الملائكِ تحت العَرشِ تبْكيهِ
وذاهباً سارَ لا يلوي على أحد ... والذّكْرُ ينشرهُ واللحْدُ يطويه
وماضياً غفر الله الكريم له ... باللُّطفِ حاضرهُ منه وباديه
وباتَ بالحُور والولدان مُشتغلاً ... إذا أقبلتْ تتهادى في تلقّيه
حتى غدا في جنان الخُلدِ مُبتهجاً ... والقلب بالحُزن يَفنى في تلظّيه
لهفي على ذلك الشخص الكريم وقد ... دعاه نحو البلى في التَّرب داعيه
وحيرتي فيه لا تقضي عليّ ولا ... تُقضى لواعِجُها حتى أوفّيه
أُجزى الأسى عبَراتي كالعَقيقِ وقد ... أصمّ سمعي وأصْمى القلبَ ناعيْه
يا وحشة الدّهر في عين الأنام فقد ... خلَتْ وجوهُ الليالي من معانيه
ووحشة الدرس إن تُنشر مُلاءتُهُ ... ولم تطرّز حواشيها أماليه
يا حافظاً ضاع نشرُ العِلم منه الى ... أن كاد يعرفْهُ مَن لا يسمّيه
صان الرّواية بالإسْنادِ فامْتنعَتْ ... ثُغورها حين خاطَتْها عواليه
واستضْعَفت بارقاتُ الجوّ أنفُسَها ... في فَهمِ مشكلةٍ عن أن تُجاريهِ
حفظْتَ سنّة خيرِ المرسلين فما ... أراكَ تُمسي مُضاعاً عند باريه
للهِ درّك من حَبر تبحّر في ... علمِ الحديث فما خابتْ مساعيه
وهل يخيبُ معاذَ الله سعيُ فتىً ... في سُنّة المصطفى أفنى لياليه
يكفيه ما خطّه في الصحف من مدح الن ... بي يكفيه هذا القدرُ يكفيه
عزّ البُخاري فيما قد أُصيب به ... مات الذي كان بين الناس يدريه
كأنه ما تحلّى سمعُ حاضره ... بلفظه عندما يروي لآليْهِ
رواية زانها منه بمعرفةٍ ... ما كلّ مَن قام بين الناس يرويه
يا رحمتاهُ لشرح التّرمذي فمَنْ ... يضمّ غُربتَهُ فينا ويُؤويهِ
لو كان أمهلهُ داعي المنون الى ... أن تنتهي في أماليه أمانيه
لكان أهداه روضاً كله زهرٌ ... أناملُ الفكر في معناهُ تَجنيه
مَن للقريض فلم أعرفْ له أحداً ... سواهُ رقّت به فينا حواشيه
ما كان ذاك الذي تلقاه يَنظمه ... شعراً ولكنه سحرٌ يعانيه
يهزّ سامعه حتى يخيّل لي ... كأس الحُميّا أدارتها قوافيه
ومَن يمرُّ على القِرطاس راحتهُ ... فينبتُ الزهرَ غضاً في نواحيه
ما كل من خطّ في طرس وسوّده ... بالحبر تغدو به بيضاً لياليه
ولا تخلْ كلّ من في كفّه قلمٌ ... إذا دعاه الى معنى يلبّيه
هيهات ما كان فتح الدين حين مضى ... والله إلا فريداً في معانيه

كم حاز فضلاً يقول القائلون له ... لو جازك الليلُ لابيضّت لياليه
لا تسأل الناس سلني عن خلائقه ... لتأخذ الماء عني من مجاريه
ماذا أقول وما للناس من صفةٍ ... محمودة قطُّ إلا رُكّبتْ فيه
كالشمس كل الورى تدري محاسنها ... والكافُ زائدةٌ لا كافُ تشبيه
سقى الغمامُ ضريحاً قد تضمّنه ... صوْباً إذا انهلّ لا ترْقا غواديه
وباكرتْه تحياتٌ نوافِحُها ... من الجنان تحيّيه فتُحييه
وكتبت إليه لما قدمت الى دمشق من القاهرة:
كان سمعي في مصر بالشيخ فت ... ح الدين يَجني الآداب وهي شهيّهْ
يا لها غُربةً بأرض دمشقٍ ... أعوَزَتْني الفواكهَ الفتحيّهْ
وكتبت إليه:
يا حافظاً كم لرواياته ... من جنةٍ في بطنِ قِرطاسِ
كم شذىً من سُنّة المصطفى ... قد ضاع من حفظكِ للناس
وكتبت على كتابه بشرى اللبيب:
بُشرى اللبيب لباب النظم للبشر ... في مدح سيدنا المختار من مضَرِ
لما بدا الشيخُ فتح الدين ينظمه ... تأرّجتْ نسمةُ الآصال والبُكر
بحرٌ ولكنه أهدى الدراري وال ... بحور من شأنها الإتيان بالدُرر
تجلو عليكَ معانيه العرائسَ في ... بيتٍ من الشعر لا بيتٍ من الشَعَرِ
وبيني وبينه رحمه الله تعالى مكاتبات كثيرة. كتبت إليه من الرحبة وهو:
سلوا نسمة الوادي إذا هي هبّت ... سُحَيراً وهزّت في الربا كلَّ أيكةِ
فكم لي في أثنائها من رسالة ... أضمّنها شوقي إليكم ووحشتي
وما طابَ رياها الى أن تضمّنتْ ... ثنائي على عليائكم وتحيتي
إذا عانقتْ في الروض أغصان بانه ... حكت خطراتِ الغيد لما تثنّتِ
وإن نبهتْ ورقَ الحمائم أعلنت ... وأغنتْ عن الأوتار لما تغنّتِ
وإن سحبتْ ذيلاً بمنعرج اللوى ... تحلّ عُرى أزهاره حيث حلّتِ
وإن صافحتْ وجه الرياض فإنما ... تقبّل من أوطانكم كل تُربةِ
فمنّوا بإهداءِ السلام على فتىً ... تردّد منه الروحُ في جسم ميّت
يُقبّل من فرطِ الجوى عتباتِكُم ... وذلك فرضٌ عنده غيرُ سنّةِ
وينشر من طيب الثّناء عليكم ... محاسن ينسى نشرُها كل روضة
ويبكي إذا ما استخبرَ البرق عنكمُ ... وقد بسمتْ منه ثُغورُ الدجُنّةِ
وإن رتّل الذكرى تداعتْ صبابةً ... له الوُرقُ فارتاحت وناحتْ وحنّتِ
ولما رأت ريحُ الصّبا ما تكنّه ... أضالعه اعتلّت لذاك وأنّتِ
رعى الله أياماً تقضتْ بقُربكمْ ... وحيّا محلاً كنتم فيه جيرتي
ولا شكَرَ الرّحمنُ أيام بيننا ... فليستْ سواءً والتي قبلُ ولّتِ
ولو أنصفَ الدهرَ الخؤونُ الذي قضت ... صُروفُ لياليه ببيْني وفرقتي
لما سِرْتُ عن ذاكَ الجِناب الذي حوى ... من الفضلِ والعلياء كل عظيمةِ
ولو كان يُشرى القُربُ بالنفس ما غلا ... ومَن لي لو نِلتُ المُنى بالمنية
عسى الدهرُ أن يدني الى ظلّ قُربكم ... مُحباً رأى في البُعد كل مشقّة
ووالله ما حالتْ عن العهد مُهجتي ... وكم مُرهفاتٍ لو تسلّت لسُلّتِ
وما ضرّكم لو زار طيفُ خيالكم ... فخفّفَ من وجدي ونفّس كُربتي
وكيف يخوضُ الطّيفُ لُجَّ مدامعي ... ومن بعدكم تعرف النومَ مُقلتي
فكتب هو الجواب عن ذلك:
مننتَ بنُعمى بلّغت كل منيةٍ ... ونلتُ بها المأمولَ قبل منيّتي
وأهدتْ الى قلبي الجريح قرارَهُ ... وجادتْ على طرفي القريح بقُرّةِ

مُشرَّفةٌ لم يأت عصرٌ بمثلها ... سقَتْ دارَ مُهديها سوافجُ عبرتي
وصلتَ بها عهدَ المسرّة مُحسناً ... وأنعمتَ لي منها بأحسن وُصلتي
وشرّفتَ من ذكري وشنّفتَ مَسمعي ... وأعليتَ من قدري وأغْليت قيمتي
فها أنا منها في صُعودٍ كأنما ... أحاول ما بين الكواكب ثُورَتي
وأهديتها عذراء بالحسن أفردتْ ... وما بينَ أغصانِ اليراع تثنّتِ
جلَتْ كل معنىً من بديعك باهرٍ ... وأبدت فُنوناً من علومكَ جلّتِ
ونادت فلبّتها المعاني مُجيبةً ... ولو غيرُها نادى المَعافي لندّتِ
حوتْ قصباتث السّبقِ كل غايةٍ ... فلم تكُ فيها كالتي قبلُ كلّتِ
فمن دُرّ نَظْمٍ لا يُسامُ لمفلسٍ ... ومن نَثر دُر لا يُسامى بنثرةِ
ومن وَشي خَطٍ فيه نُزّهت ناظري ... ومن سحر معنىً فيه أنشأتُ نشأتي
إليكَ صلاح الدين أشكو صبابتي ... وأرفع فيما رابني منك قصّتي
أقول بأن القلب مثواك دائماً ... وأشكو إليكَ الشوقَ في كل لحظةِ
وأشكر أياماً تقضّتْ بقربكم ... وقلّ لها شُكري وإن هي حلّتِ
وأشكر لكَ الأيام تلك بعينها ... فأعجبُ من شكري لها وشكيتي
تصدّت لنا بالوصلُ تُطعمُنا به ... فلما أجبناها تجنّت وصدّتِ
ولو أنها منّت بطول بقائها ... جنينا ثمارَ الوصل من حيثُ منّتِ
لعَمري أشواقي إليك شديدةٌ ... فهل تُفرج الأيام بالقُرب كُربتي
وإني لما سِرتَ عني ولم أكن ... بداري لبُعدي عنك في دار غُربتي
تناءَيتَ عن طرفي وأنت بمهجتي ... فها بصري يشكو إليك بصيرتي
يقبّل كذا وينهي ورود المشرف فأكرِم به وارداً، وأَعزز علي به وافداً، يجلو على الأبصار ما شاء من زَيْن، ويَجلي عن البصائر ما شاء من رين، حائزاً من نظمه ونثره ربح الصناعتين، فائزاً من سحر بيانه ودرّ بنانه بأمدِّ الشرفين، والسّبق في الطرفين، والاستيلاء على الأمدين، والاستعلاء على الصّدفين، فمدّ الملوك إليه راحته، واستمدّ منه راحته، وأدار منه راحه، وألفى لديه انشراحه، ونال به على الدهر اقتراحه، بعدما وجد من فراق من به وجد، وقد أضرم بقلبه من نار الخليل لفقد الخليل ما وقَد، فراح كليم اشتياق في أليم احتراق، ينادي بلسان الأشواق:
قد لسعت حيّة النّوى كبدي ... ولا طبيب لها ولا راقِ
فوافته وقد شطت الدار، وتنادى عنه المزار، تحية باهى بلطفه الصبا وباهر في حسنها شمس الضحى، وبعرفها زهر الرُبا، فقال يا بشراي بعهدها الوفيّ وجمالها اليوسفي، أصدرت عن بشر أم ملَكْ، أم عن ملك البلاغة الذي ملك من درّ القول ما ملك، وترك لغيره من مخشلبه ما ترك، وأما فقده، حرسه الله تعالى، وهو بدمشق الفواكه الفتحية، فقد وقف المملوك على ما تضمنته تلك التحية، وهزّت منه عطفاً لتلك الأريحية، وإنما يجتني كما قال المقرّ الشهابي حرسه الله تعالى من غرس بدا صلاحه، ورُوِّضُ فلاحُه، وتفتح زهره فراق اختتامه بالمسك وافتتاحه، المملوك يلتمس التشريف بخدمه ومراسيمه ومهمّاته، والله يحرسه في حركاته وسكناته، إن شاء الله تعالى.
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
أهلاً بها من تحية صدرتْ ... عن راحةٍ بالفضائل اشْتهرَتْ
يا حُسن ما سطرتْ أناملها ... ولطف ما نظمَتْ وما نثرَتْ
فضضْنَ عنها ختامَها فإذا ... بالشمس في حضرتي وقد سفرَتْ
فشرّفتْني وشنّفت أذني ... بدرّ ألفاظها التي بهرَتْ
أستغفر الله لو تُقابلها الن ... جومُ خرّت الأرض وانكدرَتْ
ولو درتْ نسمةٌ برقّتها ... جفّت غصون الرّبا إذا خطرَتْ
فليس للمُقلة الكحلية ما ... تفعلُ ألفاظُها التي سحرَتْ
ولا لكأس المُدام نشوتُها ... في أنفسٍ من سُلافها سكرَتْ
للأدب الغضّ في حديقتها ... أزاهر من نداك قد مُطرتْ

بالغتَ في سحرك الحلال فكم ... نظمت زهرَ الدجى وما شعرتْ
وزدتُ لطفاً فهل بعثت بها ... نفحة روضٍ مع الصباح سَرتْ
سبحان مُعطيكَ فطرة غلبتْ ... على بديع الكلام واقتدرَتْ
وراحة ما انطوتْ على قلمٍ ... إلا ووشّتْ مطارِفاً نُشرتْ
من ذا الذي في العُلا يُطاولها ... وهي على ذي المحاسن اقتصرَتْ
لا مُتّعَتْ مُقلتي برؤيتها ... إن نظرت مثلها أو انتظرتْ
مذ برّدتْ حُرقتي تحيتُها ... تلتْ شفاهي الدُعا وما فترتْ
وأصبحت أدمعٌ أكفكِفُها ... يا جيرة الفرات جرتْ
والنفس لم تستعر محبّتكم ... لكنها بالصّبابة استعرتْ
يا سيّد الناس وابنَ سيدهم ... ديارُ مصرَ بفضلكَ افتخرتْ
إذ أنت في ربعها تقوم بحف ... ظ سنّة المُصطفى إذا ذُكرت
هُنّيتَها رتبة ظفرتَ بها ... خُطا بني العلم دونَها قصُرَتْ
يقبّل الأرض التي مجالس العلم بها مشهودة، وبركاتها مشهورة، وكتب السنّة الشريفة منصوصة، وكتائبها منصورة، ونفائس الآداب بها مسرودة، ونفوس أهلها مسرورة:
فهي أرضٌ تُطاول الأفقَ فخراً ... إذ عليها مَسعاك دون البِقاعِ
والقدم الذي إذا خطت يكاد يسعى إليها المنبر، ويوطئها قدرُها العلي خدّ من فسد ومن برّ، ويمسح أخمصها إذا سعت في المعالي عن برّ عنبر:
قدمٌ تستقلّ نعلَ الثريا ... مذ ترقّت في سامياتِ المساعي
واليد التي لو أرادت لنالت الكواكب، وأخجلت بجودها الغيوث الهوامع والسحب السواكب، وحملت رايات فخارها التي تزدحم تحت ظلها في السيادة مناكب الكواكب:
راحةٌ تشرف الشِّفاهُ إذا ما ... قبّلتْها للفضلِ بالإجماعِ
تقبيل محب ظفر بوصل حبيبه، وأمكنته الفرصة بغفلة كاشحهِ وغيبة رقيبه، فهو يصل القبلة بالقبلة، ويشفع النهلة بالعلة: ويستمر على ولائه الذي:
يراه على طول المدى خير صاحبِ
ويحافظ على دعائه الذي:
به تُعرف العشّاقُ عند الحبائبِ
ويبثّ من ثنائه الذي:
يضوع شَذاه في الصَّبا والجنائبِ
ويصف أشواقه التي لا يعلم قرارها إلا الذي أوجبَها وقررها، ولا يدري قدرها إلا الذي حكم بها وقدّرها، ولا يعرف ألمها إلا القلب الذي لمّها، ولا يجبر ضيمها إلا الفؤاد الذي ضمّها، فهي الأشواق التي استعارت الجحيمُ استعارَها، ونفتْ عن الجفون قرّتها وعن الجوانح قرارها، وأعدمت النفس في الصباح صلاحها وفي المساء مسارّها.
وحنيني إذا تصدّى لنفسي ... صدّ لهوي عن ارتياد ارتياحي
علّم الوُرقَ حُزنها في الأو ... راقِ تتلوهُ في نواحي النواحي
لا يردّ الجوى اغتباطُ الغتباقٍ ... من حنيني ولا اصطبارُ اصطباحي
يا لها هفوةً مسيري عنكمُ ... قذفَتْ بي الى اطّرادِ اطّراحي
ودرتْ أنني لي الذنبُ في البُع ... دِ فجارَت على اجتراءِ اجتراحي
فآهاً على الديار المصرية وأوقاتها، وسقياً لمعاهد أُنسها لنفسها ولذاتها لذاتها، ورعياً لتلك المنازل التي لا تخرج الأقمار عن هالاتها، وحفظاً لتلك الوجوه التي:
للشمس أضواءٌ على جبهاتها
وشكراً لتلك النفوس التي:
المجد يغلبُها على علاتها
ذُكر الأنام لنا فكن قصيدة ... أنت البديع الفرد من أبياتها
وما أقول بل ما أنتظر إلا نظرة شهابية، ولا أترقب إلا همة عدوية عمرية، تُنقذني من نار هذه الغربه، وتعيدني الى خير عالم وألطف تربه، وتتعطّف على من غدرت به أيامه ولياليه، وأتى كما حكمت عليه الأقدار بذنب عقابه فيه:
وكأنني بها كما عوّدَتْني ... عطفتْها عليّ تلك المعاطفْ
ثم قالت دعوهُ يحظى بوصلٍ ... إذ له مدةً على الباب واقفْ
فلله عزماتها التي لو شاءت جمعت بين الضبّ والنون، وأبدلت بالمنى موارد المنون، وما ذلك عليها بمشيئة الله تعالى بعزير ولا عتيد، وما هي إلا كلمة تدخل بالمملوك الى دار السعادة كما عوّدت من باب البريد.

وأما المثال العالي أعلاه الله تعالى وجعل القلوب في عليّ قدره تتوالى، فأعود الى وصفه نثراً وأستعير من كلماته في تقريظه درّا، فأقول: إنه اشتمل على المحاسن وغدا أنموذج الجنة التي خمرها مغتال وماؤها غير آسن، تقطر البلاغة من كلمه، وتشفّ الفصاحة من وراء ما سطّر بقلمه، وتغني رياضه الناضرة عن أراك الحمى وعن سلمه، ويهز الواقف على معانيه بالطرف من قرنه الى قدمه، يتحيّر الناظر فيه لتردده بين روض وأفق، ويتخيّر الماهر من لفظه تاجاً لفرقٍ أو قلادة لعنق:
قُل فكمْ من جواهرٍ بنظامِ ... وُدُّها أنها بفيكَ كلامُ
وأما عبودية المملوك التي تقدّمت فوالله ما توهم المملوك أن سيدي، حرسه الله تعالى، يتكلّف لها جواباً، ولا يفتح من بيوت نظمه المَصون لهذه الطارقة باباً. ولو تحقق هذا الأمر لأعطاها حِيلَهُ وحَيلَه وشدّ على شنّ الإغارة على المعاني الجامحة خَيله، وأعمل فكرة في تهذيب ما يهديه حتى يقال: هذا كتاب ليلة وألف ليلة.
ولما كان هذا مقام افتراص، واقتناء لجواهر كلِمِ سيدي واقتناص بعث هذه العبودية طمعاً في الجواب الثاني، وعوّذها من الشآم بعطف مولانا الذي لا يثنيه عن الخير ولا الجبر ثانِ، ولله المعرّي حيث قال:
قد أجبْنا قولَ الشّريف بقولٍ ... فأنبْنا الحصى على المُرجانِ
والله يمتّع الأنام بحياته التي هي جملة الأماني، ويديم فضائله التي لا توجد إلا في العقد ولا تؤخذ إلا من الأغاني، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
فكتب هو الجواب عن ذلك:
حيّت فأحيتْ عندما حسرتْ ... خِمارَها كلَّ مهجٍ سحرَتْ
يا خجلةَ الشمس عندما سفرَتْ ... وغصّةَ الغُصنِ عندما خطرت
وفتنة الظبي عند لفتتها ... وحيرة الظبي كلما نظرت
ما كنت أسلو جمالَها أبداً ... لولا التي بالجَمال قد بهرَتْ
عقيلةٌ تسلب العقول فها ... ألبابُنا من بديعها سكِرت
جاءت فجادت بكل مطربةٍ ... يُطوى لها البيدُ كلما نشرت
سماء مجدٍ سمت ببهجتها ... عن صدر أهل الزمان قد صدرت
محمرة الحُسنِ في حُلى شفقٍ ... تخضرّ في حُسنها وقد خضرَتْ
أبياتها من عقودها نُظمت ... ونثرها للكواكب انتثرتْ
لابنِ جلا ما جَلتْهُ من دُرر ... وابن هلال بديعُ ما سطرتْ
يا حبّذا للصلاح نسبتُها ... خليلُها من به العُلا افتخرت
يا روض فضْل غُصونه زهرت ... وحبر علمٍ بحاره زخرَتْ
سرتْ فعين السرور ما نظرتْ ... في دوحها الأُنس أغصُناً نضرت
ولا نسيم الصبا سرت سِحراً ... إلا كدأب الهجير إذا هجرت
ولا تغنّت في الأيك ساجعةً ... فأطلقت مونعاً ولا أسرت
ولا تثنّى للراح غانية ... أوتارها واللحاظ كم وترت
ولا سمت مُقلةُ المَشوق الى ... لقياك نحو المقام مذ سمرت
يا عجباً من بحار عبرته ... ما أُخمدت ناره التي استعرت
كدّرتْ مذ غبت عنه عشيته ... فيا لأنس نجومه انكدرت
على هواك القلوب قد فُطرت ... لولا تمني لقائك انفطرت
يا مُقلةً مذ غبتم سخنتْ ... هل عشية إن حضرتمُ حضرت
ويا حياةً صفت بقربكم ... هل يُرتجي عودُها وما كدرتْ
يقبّل اليد العالية الصلاحية، لا زالت صالحة الشيم، سافحة الديم بل الباسطة الكريمة، لا برحت واسطة عقد الكرم، بل الأرض المنيفة بحلوله لا فتئت مواطن النعم، ومواطئ أولي الهمم:
تقبيل ملآن الجنا ... ن بحبه دون الأممْ
متندّم لفراقه ... لو كان ينفعه النّدمْ
لو كان يطرقُهُ الكرى ... لكنه لمّا ينمْ
لهفي على عصر به ... ولّى حميداً لم يُذَمْ
شوقي له شوق العلي ... ل لما شفاه من السّقمْ
شُكري له شُكرُ الريا ... ض السحبَ جادت بالدّيم

ذكري لأيام به ... مرت كما مر الحلم
وحلتْ كما مرّت ليا ... لي الشريف بذي سلَمْ
وينهي ورود المشرّفة العالية قدراً، الحالية من البدائع الروائع دراً، المؤتقة في رياض الفصاحة زهراً، المطلعة في سماء البلاغة زهراً، وكلف بها كلف عمرو بعراره، والفرزدق بنواره، وأقسم من طرسها بحمرة الشّفق، ومن نِقْسها بالليل وما وسق، ومن غرر معانيها السامية على غير مُعانيها بالقمر إذا اتّسق لتليت أهل البلاغة، فظلت أعناقهم لها خاضعين، وجليت على أرباب اليراعة وألباب البراعة فقالتا: أتينا طائعين، انقياداً لطفيل أعنيتها، وبترياً من مطاعنة أبي براءٍ ملاعب أسنتها، كل يلمحها بطرف كليل وشخص ضئيل، ويرجع عن مجاراتها بأمل حسير وقلب كسير، فلا يُجري في ميدانها خيل طراده ولو قام مقام قسٍ في إياده، وأين حميمه من حمياها أم أين سهيله من ثرياها، لشد ما ارتفعت منها المطالع وانقطعت دونها المطامع، فما الظن بوحيد يحتاج الى الذمام وربيط في الرّغاب لا عهد له في السرايا ولا أنس له بالدخول في القتام أن يجول في حلبة الرهان أو يَطول الى مقاتل الفرسان أو يُسابق بسكّيته مجلي الميدان، أو يناطق بباقل من سحب ذيلاً على سحبان، وهل تستفاد تلك المواد من غير ذلك المواد، وهل استولى على أمد تلك الجواد غير ذلك الجواد، وأن يكاثر البحار الزواخر من ورده الثماد، وأن يطاول الأنجم الزواهر من قرارته الوهاد، فما تفوه السليم الصدق إلا بالتسليم لذلك السبق والتعظيم لذلك الحق اعترافاً بما قد حواه رافع ذلك المنار وجامع تلك المبار.
وأما أمره بالمسارعة الى المراجعة والمعاجلة الى المساجلة وما غادره لغيره من متردّم، ولو شنّ على الآداب إغارة ربيعة بن مكدم، فلم يرجع المملوك الى جواب ينجده وخطاب يسعفه بالمراد ويسعده إلا التمثل بقول القائل:
وأخذْتَ أطرافَ الكلام فلم تدعْ ... قولاً يُقالُ ولا بديعاً يُدّعى
وأما تمثيله ببيت أبي العلاء ما هو فيه من علو المكان لإنابته ابن عمه الحصى عن المرجان فما مكاثره بالأدب، وعيونه تنسل إليه من كل حدب إلا المكاثر بياءَي أنيسيان بل لعله حرسه الله تعالى عنّ له المرور ببلاد ابن عنين بلاد بها الحصباء درّ أو ثنى عنانه الى منزل ابن اللبّانة:
نزلنا بكافورٍ وتبرٍ وجوهرٍ ... يُقال له الحَصباءُ والرملُ والترْبُ
أو أجتاز بنهر أخي مناز وحصاهُ تروع حالية العذارى، فورده وأمواجه تطرد، إما يرد أو يبترد، لكنه عاكسهم في التشبيه، ونافسهم في التمويه، فاستعبد كلامهم كلامه الحُرّ، وكان ما جاء به من الحصى أنفس مما جاؤوا به من الدرّ، فتأخّروا وإن تقدّموا، وتقدّم وإن تأخر، وكانت بدائهه لبدائه سواه تسحر، وبدائعه من بديع سواه تسخر.
وأما تشبهه بالهمة الشهابية وتشوّفه الى الهمة العدوية فلابد بمشيئة الله تعالى أن تعدّى العدوية قربه على بعاده، وتعمر العُمرية أرجاء رجائه بعوده الى معاده، والقطر يسبق الدين السواجم، والزهر يعبق وما انشقّت عنه الكمائم:
وإن رجاءً كاملاً في جميلةٍ ... لكَالمالِ في الأكياس تحت الخواتمِ
والله يعمر ببقائه أنداءَه، ويسرّ بلقائه أوداءَه بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وكتبت أنا إليه من دمشق في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة:
يا عذولاً في لومه قد تفصّح ... ويرى أنه بذاك تنصّحْ
ليس عندي من الجوى بي جوابٌ ... هذه أدمعي تقول وتشرح
قف على غير مسمعي واسأل الصّب ... رَ فما عنده سوى الله يفتحْ
كم ينادي السلو بالحرب أولى ... وينادي الغرام بالصلح أصلحْ
قِستُ بين السلو والوجد حتى ... صحّ أن الغرام أرجى وأرجح
كيف صبري عن أرض مصرٍ وفيها ... لي قوم أسمى الأنام وأسمح
لو تعاطي الجبالُ كأس حديث ... عنهم مال عطفُها وترنّح
هات قل لي من أين تلقى لفتح الد ... ين مثلاً إن كنت للحقّ تجنح
خادمٌ سنّة النبي وهذا ال ... فضل أنجى يوم الحساب وأنجحْ

كلما خط باليراع حديثاً ... كبّر الله في الطّروس وسبّح
إن تقسْ خطه بروض نديّ ... صحّ هذا وجفّ ذاك وصوّح
كل عين كأنها طرفُ حبٍ ... ما توقّى الفؤاد لما توقحْ
أي قلب بالحزن والهم يصدا ... وحمام الأسجاع فيه يصدحْ
بنظامٍ كالدر لما تنقى ... ومعانٍ كالسحر لما تُنقّح
لو يجاري برقَ الدُجى ما تنحّى ... أو يباري قس النهى ما تنحنح
لا أكفر قولي إذ قلت دهري ... قد توشى من فضله وتوشح
ما رياضُ قضيبها قد تلوى ... فيه زهرٌ يُزهى بلونٍ تلوّح
جاد قطرُ الندى بها وتفتّى ... وغدا وردٌ نصبُها قد تفتّح
مثل أخلاقه التي قد حواها ... بل أراها بالحُسن أملى وأملحْ
قوبلت نسخةُ المعالي عليها ... وأجاز الجمال ذاك وصحّحْ
آه وا وحشَتا لذاك المُحيّا ... والسجايا التي أبرُّ وأوضحْ
لا أرى في الزمان أسعدَ ممّنْ ... قد تمسى بوجهه وتصبّحْ
فكتب الجواب عن ذلك:
صادحاتُ الحمام في الدوح تصدحْ ... بغرامي فالعين للبين تسفحْ
رجّعت شدوها فبرّح بي شو ... قٌ مقيم لظاعنٍ ليس يبرحْ
فرّقت بيننا صُروف الليالي ... فهل الدهرُ بالتواصلِ يسمح
فتنادي بك المنى من قريب ... بعد قفرٍ من التباعد أقبح
إن لي مطمعاً بقربك يأسو ... ما غدا الناس بالتباعد يجرح
كلما شام بارقُ الشام طرفي ... قلت شوقاً لوصلك: الله يفتحْ
ولقلبي منه خُفوقٌ ونارٌ ... ولطرفي منه سحائب سُيَّحْ
يا صلاح الدين الذي فاقَ أهل ال ... عصر حلما عنه الرواسي تزحزح
وبليغاً ما رام يأتيه عفواً ... وفصيحاً ما احتاجَ أن يتفصّح
لو رآه غيلانُ قصّر عن قص ... دِ بلالٍ وصدّ عن زجرِ صيدح
وفّر النفس عن منى كل وفر ... ورأى العِلمَ منه أرجى وأرجح
وغذاء الأرواح أشرف مما ... تغتذيه الأجسام قدراً وأصلح
سبّح الله من رآكَ إماماً ... كم له في بحار علمك مسبحْ
حائزاً من بدائع بني هلالٍ ... سحرَ نثرٍ بدُرِّ خطٍ موشّح
كعلي وضعاً ورقّة إبْرا ... هيم طبعاً بل أنت أسمى وأسمح
يا خليل الآداب ما اختلّ منها ... فالصحيح الذي عليك يصحَّح
كم على الدهر من حُلالها جمالٌ ... ما لمسرى مؤمِّلٍ فيه مسرح
سمطها فائزٌ بدُرِّ معانٍ ... سقطُها من زِناد فكركَ يقدح
كلّ عذراء تسبي كل لبٍ ... بسنا عن سناءِ علمك يُلمح
زارت الصبِّ في ليالٍ من البُع ... دِ فلما دنت رأى الصبح أصبحْ
قلدت بالعقيان سحر بيانٍ ... ليس فيه للفتح بعدك مطمحْ
ختم النّظمُ منك بحر قريضٍ ... ما أراهُ من بعدِ ختمك يُفتح
وكتب هو إلي رحمه الله تعالى وأنا بصفد في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة:
سُررتم فإني بعدكم غير مسرور ... وكم لي على الأطلال وقفة مهجورِ
ولا حسَّ إلا حس صائحة الصّدى ... ولا أُنسَ إلا أنس عيسٍ ويعفور
فيا وحدةَ الداعي صداهُ جوابهُ ... ويا وحشةَ الساعي الى غير معمورِ
إذا قلت سيري قال سيري مُحاكياً ... وإن قلتُ زُوري قال لي مثلها زُوري
وما سرّني بالقُرب أني استزرتُها ... ولا ساءني بالبُعدي قولي لها سيري
فيا ويحَ قلبي كم يعلّله المُنى ... علالةَ دُنيا استعبدت كل مغرور

تواصل وصل الطيف في سنة الكرى ... ولست إذا استيقظتَ منه بمحبور
وتدنو دنوّ الآلِ لا ينقعُ الصّدى ... وتخلبُ آمالاً بخُلّبها الزورِ
تُنيل المُنى من سالمَتْهُ خديعةً ... وتُعقب من نيل المنى كل محذور
فدعها وثق بالله فالله كافلٌ ... برزقك ما أبقاك وارضَ بمقدور
وكن شاكراً يسراً وبالعُسر راضياً ... فأجرُ الرضا والشكرِ أفضلَ مذخورِ
فكتبت أنا الجواب عن ذلك:
هل البرقُ قد وشّى مطارفَ ديجورِ ... أو الصبحُ قد غشّى دُجى الأفقِ بالنورِ
وهل نسمةُ الأسحار جُرّت ذيولُها ... على زهر روضٍ طيّب النشر ممطورِ
وهيهاتَ بل جاءتْ تحيةُ جيرةٍ ... الى مُغرمٍ في قبضة البعد مأسورِ
أتته وما فيه لعائد سُقمه ... سوى أنه تنبثّ من قلب مصدورِ
فلما تهادت في حُليّ فصاحة ... من النظم عن سحر البلاغة مأثور
أكبّ على تقبيلها بعد ضمها ... الى خاطرٍ من لوعة البين مكسور
وأجرى لها دمع المآقي ولم يكن ... يقابل منظوماً سواه بمنثور
فأرشفه كأسَ السُلاف خطابُها ... وغازله من لحظها أعينُ الحورِ
فكم حكمةٍ فيها لها الحكم في النهى ... وكم مثلٍ في غاية الحسن مشهورِ
يرى كل سطر في محاسن وضعه ... كمسكِ عذارٍ فوقَ وجنةِ كافورِ
فلا ألفٌ إلا حكت غُصنَ بانةٍ ... وهمزتُها من فوقها مثلُ شُحرور
فأصلح لا يثني الى الأرض جيدَهُ ... غراماً ولم يعدِل بها وردةَ الجوري
وقد كانت الأطماع نامت لياسها ... فلما أتت قال الغرامُ لها ثوري
وزادت جفون العين سُهداً كأنما ... حبَتْها بكحل منه في الجفن مذروري
وكان الدجى كالعام فاحتقرتْ به ... وقالت له ميعادُك النفخُ في الصور
ولا ترضَ من نار الحشا باتقادها ... فقد قذفتْ في كل عضو بتنور
وما شكرتْ عيني على سفحِ عبرتي ... على أن محصول البُكى غير محصور
وقالت أما نحيا الدموع لشدة ... فدعها تفِضْ من زاخرِ اللّج مسجور
ولو كنتُ ألقى في البُكا فرجاً لما ... مضى اليوم حتى كنتُ أولَ مغرور
ولو كنت ألقى الصبر هانت مصيبتي ... ولكنه للحظّ في غير مقدور
فإن تبعثوا لي من زكاة اصطباركم ... فإني لما تهدونه جدُّ مضرور
سلوا الليل هل آنستُ فيه برقدة ... فما هو ممن راح يشهدُ بالزورِ
فكم لي فيه صعقةٌ موسويةٌ ... وللقلب من تذكاركم دكةُ الطور
تشفعتُ للبين المشتِّ بكم عسى ... يعود هزيمُ القُرب عودةَ منصور
على أن جاه الحظّ أكرمُ شافع ... ولولاه لم يُحتج الى بنت منظور
وما هو إلا الحظ يعترضُ المُنى ... ولولاه كان الدهر أطوعَ مأمورِ
فكم في البرايا بين عانٍ ومطلَقٍ ... وسالٍ ومحزونٍ ودانٍ ومهجور
وليس سوى التسليم لله والرضا ... بقلب منيبٍ طائعٍ غير مقهور
وحاش لعلاّم الخفيات في الورى ... على ما ابتلاني أن أُرى غير مأجور
فكتب هو رحمه الله الجواب:

وردت المشرّفة السامية بحُلاها، الزاهية بعلاها، المشتملة على الأبيات الأبيّات، الصادرة عن السجيات السخيّات، التي فاقت الكنديّيْن، وطوت ذكر الطائيين، ما شئت من بدائع إيداع وروائع إبداع، تقف الفصاحةُ عندها وتقْفو البلاغة حدّها، فالله ذلك الفضل الوافي، بل السحر الحلال الشافي، بل تلك القُوى في القوافي، بل تلك المقاصد التي أقصدت المنى في المنافي، بل تلك المعاني التي حيّرت المُعاني، وفعلت في الألباب ما تفعله الثالث والمثاني، بل تلك الأوضاع التي حاك الربيع وشيَها، وامتثل القلم أمرها ونهيها، فهو يصرفها كيف يشاء مرسوماً، ثقة أنها لا تخالف له مرسوماً. لقد آل فضل الكتاب إليها وآلى فصل الخطاب لا وقف إلا بين يديها، لقد صدرت عن رياض الأدب فجنَت زهره اليانع، لقد أخذت بآفاق سماء البلاغة فلها قمراها والنجوم الطوالع، لقد أفحمت قائلة:
مَن يُساجلُني يُساجل ماجداً ... يملأ من آدابه كلَّ ذَنوبِ
لقد حسُنَت حتى كأن محاسناً ... تقسّمها هذا الأنام عيوبُ
هي الشمس تدنو وهي ناءٍ محلّها ... وما كلُ دانٍ للأنام قريبُ
تخطّت الى الحُضْر الجيادَ نباهةً ... وهيهات من ذاك الجناب جنيبُ
وحيّت فأحيت بالأماني متيّماً ... حبيبٌ إليه أن يُلمّ حبيبُ
يذكّرني ذاك الجمال جمالها ... فليلي كما شاء الغرامُ رحيبُ
وما لي إلا أنةٌ بعد أنةٍ ... وما لي إلا زفرةٌ ونحيبُ
حنيناً لعهدٍ غادر القلب رهنه ... وعلّم دمعَ العين كيف يصوبُ
وذكرى خليلٍ لم يغبْ غيرُ شخصه ... وفي كل قلبٍ من هواهُ نصيب
ولولا حديثُ النفس عنه بعودِه ... وأن المنى تدعو به فيجيب
لما استعذب الماء الزلال لأنه ... إذا مازج الماء الزلال يَطيبُ
فبادرها المملوك لبنائها متعرفاً، وبأرحبها متعرفاً، وبولائها متمسكاً وبثنائها متمسكاً، شوقاً إليها لا يبيد ولو عمّر عمر لبيد، واقفاً على آمال اللقاء وقوفَ غيلان بدار ميّة، عاكفاً على أرجاء الرجاء عكوف توبة على حب ليلى الأخيلية، والله يتولاه في حالتيه ظاعناً ومقيماً، ويجعل السّعد له حيث حلّ خديناً والنُجْحَ خَديماً، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
تنوحُ حماماتُ اللوى فأَجيبُ ... ويحضُرُ عندي عائدي فأغيبُ
وقد ملّ فرشُ السّقْم طولَ تقلّقي ... عليه بجنبي إذ تهبُّ جَنوبُ
ولما بكتْ عيني نواكَ تعلّمتْ ... دموعُ السّحاب الغرّ كيف تصوبُ
أيا برقُ إن حاكيتُ قلبي فلم يكن ... لنارِكَ مع هذا الخفوقِ لهيبُ
ويا غيثُ إن ساجلْتَ دمعي فإنه ... يفوتك مع ذا أنةٌ ونحيبُ
ويا غصنَ إن هزّت معاطفك الصّبا ... فما لك قلبٌ بالغرام يذوبُ
إذا جفّ جفني ذاب قلبي أدمُعاً ... فلله قلبٌ عاد وهو قليبُ
أبيتُ بجفنٍ ليس يعرفُ ما الكرى ... وأيُ حياةٍ بالسهاد تطيب
وقلبٍ إذا ما قرّ عادتْهُ لوعةٌ ... فيعروه من بعد القرار وجيبُ
ألا إنّ دهراً قد رماني بصَرفِهِ ... لدَهْرٌ إذا فكرت فيه عجيب
ويكفي أني بين أهلي ومعشري ... وصحبي لبُعدي عن حِماك غريبُ

يقبّل الأرض وينهي ورود المثال الذي تصدّق به مولانا منعماً، وأهده خميلةً فكم شفى زهرُها المنعّم من عمى، وبعثه قلادة فكم أزال درّها المنظّم من ظمأ وأقامه حجة، على أن مُرسله يكون في الإحسان والآداب مالكاً ومتمِّماً، فبلَلْتُ برؤيته غلة الظّمأ البَرْح، وعاينت ما شاده من بنيان البيان، فقلت لبلقيس عيني ادخلي الصّرح، وقمت من حقوقه الواجبة عليّ بما يطول فيه الشرح، وتلقّيته بالضمّ الى قلب لا يجبر منه الكسر غير الفتح، وأسمَت ناظري من طرسه في روضهِ الأُنُف، وقسمت حليّه على أعضائي فللجيد القلائد وللفرق التيجان وللأذن الشُنُف، ووردت منهله الصافي والتحفت بظله الضّافي، واجتليت من وجهه بشراً قابله الشُكر بالقلم الحافي، وعكفت منه على كعبة الفضل فلله ما نشر في استلامي وطوى في طوافي، وكلّفت قلبي الطائر جواباً فلم تقوَ القوادم وظهر الخواء في الخوافي، وقلت هذا الفنّ الذي ما له ضريب، وهذا وصل الحبيب البعيد، قد نلته برغم الرقيب القريب:
فيا عينيّ بِيتا في اعتناقٍ ... ويا نومي قدمْتَ على السّلامهْ
وأقسم أن البيان ما نكّب عما دبّجه مولانا ونكّت، ولا أجراه الله على لسانه إلا لما سكّت البلغاء وبكّت، ولا آتاه هذه النقود إلا وقد خلّصت القلوب من رقّ غيره وفكّر، ولا وهبه الله هذه الكلم الجوامع إلا أن الأوائل أحسوا بطول رسائلهم فقطّعوها من حيث رقّت، والصحيح من حيث ركّت، فما كل كاتب يده فم ولسانه فيه قلم، ولا كل متكلم حُش بيانه تأتّم الهداة به كأنه علَم، ولا كل بليغ إذا خاطب الوليّ كلاً أو كلّم العدوّ كلَمْ، لأن مولانا حرسه الله تعالى لا يتكلّف إذا أنشا، ولا يتخلّف إذا وشّى، والسّجع أهون عنده من النفس الذي يردده أو أخف، والدرّ الذي يقذفه من رأس قلمه أكبر من الدرّ الذي في قعر البحر وأشفّ، وإذا راضَ قلمه روّض الطّروس من وقته، وإذا أفاض كلمَهُ فوّض البيان أمر مقته ومِقته، وما كلمُه إلا بحر، والقوافي أمواج، وما قلمه إلا ملك البلاغة فإذا امتطى يده ركضت به من الطّروس على حلل الديباج، فلهذا أخملت رسائله الخمائل، وتعلّمت منها الصّبا لطف الشمائل، وأخذت بآفاق البلاغة فلها قمرها الطوالع ولغيرها نجومها الأوافل، وانتقت أعالي الفضائل، وتركت للناس فضالة الأسافل:
وهذا الحقّ ليس به خفاءٌ ... فدعني من بُنيّات الطريقِ
فأما درّه الذي خرطه الجناس في ذلك السلك فما أحقّه وأولاه بقول ابن سناء الملك:
فذا السّجعُ سجعٌ ليس في النثر مثله ... وهذا جناسٌ ليس يُحسنُهُ الشعر
فلو رأى الميكالي نمطه العالي وتنسّم شذى غاليته العزيز الغالي لقال عطّلت هذه المحاسن حالي الحالي وكنت من قبلها ما أظن اللآلئ إلا لي، ولو ظفر الحظيري بتلك الدّرر حلّى بها تصنيفه، ولو بلغ العماد الكاتب هذه النكت رفعها على عرشه وعوّذها بآية الكرسي، ودخل دار صمته وأغلق باب الفتح القُدسي، فعينُ الله على هذه الكلم التي نفثت في العُقَد، وأيقظت جدّ هذا الفن الذي كان قد رقد، فقد أصاب الناس بالسهام، وأصبْتَ أنت بالقرطاس، وجاؤوا في كلامهم بالذاوي الذابل وجئت أنت بالغضّ اليانع الغِراس، وأبعدت أنت في مَرمى هذا الفن فقاربوا، ولكن أين الناس من هذا الجناس، وسبقت الى الغاية، ولو وقفت ما في وقوفك ساعةً من باس، وقد قيل: بُدئ الشعر بأمير وخُتم بأمير، يريدون امرأ القيس وأبا فراس، وكذا أقول بدئ بالبُستي وخُتم بمولانا، وكلاكما أبو الفتح فصحّ القياس.
وقد أثنيت على تلك الروضة ولو وفّقت لانثنيت وما أثنيت، ووقفتُ عند قدري فما أجبت، ولكن اتّقحت وما استحيَيت، على أني لو وجدت لساناً قائلاً لقلت، فإني قد وجدت أول البيت وقد شغل وصف مثال مولانا عن شكوى حال المملوك الشاقة، وأرجو أنني أوصيها شفاها إما في الدنيا وإما في يوم الحاقة:
إن نعِشْ نلتقي وإلا فما ... أشْغل مَن مات عن جميع الأنامْ
قلت: كأن هذه الخاتمة كانت مني فألاً عليه، فإنا لم نلتق، وحالت المنية بينه وبين الجواب، والمرجو من الحلم الكريم أن يجمعنا في دار كرامته ورحمته.
وأنشدني رحمه الله تعالى من لفظه لنفسه ما كتبه الى ابن عمه:
تمنّاها وما عقدَ التّمائمْ ... وشابُ وحبُها في القلب دائمْ

وحكّم لحظها فقضى عليه ... فأين مجيره من جور حاكمْ
وطارحها الغرام به فقالتْ ... علمتُ فقال ماذا فعلُ عالم
معلله المتيّم والغواني ... حبالُ وعودها أبداً رمائم
أما لي في وصالك من نصيب ... ولا لك في عذابي من مساهم
ولا لي ملجأ في الخطب إلا ... سليلُ الملك ذو المنن الجسائم
الى ابنِ أبي الحسين الحُسنُ يُعزى ... وثغر الجود عن جدواه باسم
هُمامٌ بالحروب له اهتمامٌ ... بفتكٍ في العِدا لا في الغنائم
فيُعمل رأيه الماضي شباه ... إذا نبت الأسنّة واللهاذم
ويثبت حيث مُشتجر الغوالي ... ويمضي حيثُ لا يمضي الصوارمْ
ويأمن عنده اللاجي إليه ... ولو حفّتْ بمهجته الضّراغم
ويقصده السليم فلا يُبالي ... بما أعياه من سمّ الأراقمْ
وهي طويلة، وهذا القدر منها كاف.
وأنشدني من لفظه لنفسه غير مرة:
فقري لمعروفك المعروفِ يغنيني ... يا مَن أرجّيه والتقصيرُ يرجيني
إن أوبَقَتْني الخطايا عن مدى شرفٍ ... نجا بإدراكه الناجون من دوني
أو غضّ من أملي ما شاءَ من عملي ... فإنّ لي حسنَ ظن فيك يكفيني
وأنشدني من لفظه لنفسه:
صرفت الناس عن بالي ... فحبلُ ودادهم بالي
وحبلُ الله معتصمي ... به علّقتُ آمالي
ومَن يسلِ الورى طُرّاً ... فإني عنهمُ سالي
فلا وجهي لذي جاهٍ ... ولا ميلي لذي مالِ
وأنشدني من لفظه لنفسه:
عذيري من دهرٍ تصدّى معاتباً ... لمستمنح العُتبى فأقصدَ من قصدْ
رجوتَ به وصلَ الحبيب فعندما ... تبدّى له المعشوقُ قابله الرصَدْ
وأنشدني من لفظه لنفسه ملغزاً في قراقوش:
ظبيٌ من التُرك هضيم الحشا ... مهفهفُ القدّ رشيقُ القوامْ
للطّرفِ من تذكاره عبرةٌ ... والقلب شوقٌ أرّق المُستهامْ
وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت:
إن غضّ من فقرنا قومٌ مُنحوا ... وكل حزبٍ بما أوتوهُ قد فرحوا
إن هم أضاعوا لحفظ المال دينهمُ ... فإنهم خسروا أضعاف ما ربحوا
وأنشدني في لفظه لنفسه:
يا بديع الجمال شُكرُ جمالُكْ ... أن توافي عشّاقه بوصالكْ
لِنتَ عطفاً لهم وقلبُك قاسٍ ... فهم يأخذون من ذا لذلكْ
غير أن الجمال أولى بذا الحُس ... نِ ومَن للبدور مثل كمالك
قابلتْ وجهك السماءُ فشكل ال ... بدر ما في مرآتها من مثالكْ
مثّلتُه لكن رسوم صداها ... كلّفته فقصّرتْ عن مثالِكْ
محمد بن محمد بن يوسفابن نصر، صاحب الأندلس أمير المسلمين أبو عبد الله بن الأحمر الخزرجي.
كان ملكاً جميلاً نبيهاً نبيلاً حسن السياسة ظاهر الرياسة، عاقلاً وقوراً، فاضلاً يرسل من ذهنه على صيد المعاني صقوراً، متظاهراً بالدين متجاهراً بقمع الملحدين، له نظم أرق من هبّة نسيم سحَرْ، وأخلب من لحظ غادة إذا رمق وسحر.
وكان قد قرأ العربية على الأستاذ أبي الحسن الأُبّذي وراح وهو على طريقه يحتذي.
ولم يزل على حاله الى أن خانه زمانه، وغدر به سلطانه، فخُلع ثم غُرِّق، ووزع سعده وفُرّق، وذلك في سنة تسع وتسعين وست مئة.
وكان قد بويع السلطان أبو عبد الله بعد والده سنة إحدى وسبعين وست مئة، فتملك ثمانية أعوام، ثم إنه وثب عليه أخوه أبو الجيوش نصر، وظفر به وسجنه مدة، ثم جهّزه الى بلده شلوبينيّة، فحبسه بها الى أن تحرّك على نصر ابنُ أخته الغالب بالله وطلب نصر أخاه المخلوع الى غرناطة فجعله عنده بالحمراء في بيت أخته، ومرض أبو الجيوش نصر، فأغمي عليه ثلاثة أيام، فأحضر الكبراء أخاه ليملّكوه، فلما عوفي أبو الجيوش تعجّب من مجيئه وأخبر فغرّقه خوفاً من شهامته، وكان خلعُهُ وتغريقه في السنة المذكورة.

أخذرني من لفظه شيخنا الإمام العلامة أثير الدين قال: رأيته بغرناطة مراراً بالمصلى، وأنشدته قصيدة امتدحته بها، وحضرت عنده إنشاد الشعراء في بعض أعياده، ويُذكر أن له نظماً، وقد اشتهر عنه وهو قوله يخاطب وزيره أبا سلطان عزيز بن علي الداني:
تذكّر عزيز ليالينا ... وأُنسا نعاطي على الفرقدينْ
ونحن ندبّر في مُلكنا ... ونُعطى النُضار بكلتا اليدينْ
وقد طلب الصُلح منا اللعي ... ن فما فاز إلا بخفّي حُنين
إذا ما تُكاثر إرساله ... يكون الجوابُ شبا المرهفين
فلمْ لا تشمّر عن ساعدٍ ... وتضرب بالسيف في المغربين
وقد خدمتنا ملوك الزما ... ن وقد قصدتْنا من العدوتين
فنسأل من ربّنا عونَهُ ... على ما نوينا من الجانبين
ومما ذكر عنه قوله:
أيا ربة الحسن التذي أذهبت نُسكي ... على كل حال أنت لابدّ لي منكِ
فإما بذُلٍ وهو أليقُ بالهوى ... وإما بعزّ وهو أليقُ بالملكِ
انتهى.
قلت: وقد نظمت جوابه كأني حاضره في وزنه ورويّه:
متى لاق بالعُشاق عزٌ وسطوة ... كأنك من ذُل المحبة في شكِّ
تلقَ الهوى مع ما ملكتَ بذلّة ... لتُنظم مع أهل المحبة في سِلكِ
ولكنه ظرّف في كونه قدّم لفظ الذل على العز.
محمد بن محمد بن محمدابن محمد بن عبد القادر، الإمام المفتي المدرّس ناصر الدين بن الصايغ الدمشقي.
كان من أعيان الفقهاء وسمع كثيراً ونظر في الرجال، وعني بالمتون، وسمع من القاضي، والمطعّم، وعدة. وكتب عن شيخنا الذهبي. وقال شيخنا عنه: له عبادة وإنابة وتسنّن.
وتوفي رحمه الله تعالى في طاعون دمشق سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وسبع مئة.
كان مدرّس العمادية.
محمد بن محمد بن محمدالشيخ الفقيه القاضي فخر الدين أبو عبد الله الشافعي المعروف بابن الصقلّي.
ناب في الحكم بالحكر ظاهر القاهرة الى حين وفاته، وصنّف كتاب التنجيز في تصحيح التعجيز وولي قضاء دمياط.
توفي رحمه الله تعالى في أواخر ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وقد قارب السبعين.
محمد بن محمد بن محمدابن خليفة بن نصر الله القاضي الرئيس الفاضل الكاتب أمين الدين ابن القاضي نجيب الدين بن القاضي كمال الدين بن النحاس.
أتقن القلمين إنشاءً وحساباً، وتجاوز غاية الفنين، فإذا دعاهما أجابا، وكان فيه رئاسة تشرّبها قلبه قديماً، وصحب الناس على اختلاف حالتيه خادماً وخديماً.
ولما كان في ديوان الأمير سيف الدين تنكز رأى من العز والوجاهة والصدارة والنباهة ما فاق به أبناء جنسه، وجنى ثمر غرسه، ونفخ في ضرم الكرم، وأبقى من الثناء ما لا انصرف ذكره ولا انصرم. ثم إن الدهر قلب له المجنّ، وأسدف ليلُ خموله وجنّ، وانحرف عليه مخدومه، وغابت من إقباله نجومه، ثم إنه حنّ عليه بعض حنوّ وأسمى قدره بعض سمو.
ولم يزل في عمالة الخزانة معروفاً بالضبط والأمانة الى أن نحّى النحاس عن الحياة أجلُه، ولم ينفعه ريثه ولا عجله.
وتوفي رحمه الله تعالى فجأة يوم الخميس سابع شهر رجب الفرد سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
ومولده في غالب الظن في سنة إحدى وثمانين.
بات ليلة الخميس وأصبح بكرة نهاره، فحكى لبعض أصحابه، قال: رأيت في بارحتي كأني دخلت الحمام ومتّ، وفي البارحة الأولى رأيت مثل ذلك، ثم إنه اشترى لأهله حلوى، لأنه كان ليلة الرغائب، وجهّزها مع أهله الى تربة ولده بالمزة، وقال: أنا العصر عندكم، ثم إنه دخل الحمام وخرج منه، فمات فجأة، وما أذّن العصر إلا وهو عند أهله كما قال، ولكن على النعش.

وكان أول أمره قد توجه مع الأمير سيف الدين طقطاي الجمدار الى نيابة الكرك، ثم إنه عاد واستخدمه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى صاحب ديوانه عوضاً عن القاضي محيي الدين، فصال وجال، وكان له ذكر في دمشق وصيت وسمعة الى أن تغيّر عليه بعد مدة فعزله، وأخذ منه بعض شيء، واستمر في إحدى وظيفتيه بديوان الإنشاء، ثم إنه بعد مُدَيدة لزم بيته، وأقام على ذلك مدة. ثم إنه حنّ عليه واستخدمه في نظر دار الطراز، فباشرها مدة، ثم إنه تناقل هو وابن السابق من عمالة الخزانة الى نظر دار الطراز، فاستمر أمين الدين في عمالة الخزانة بقلعة دمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى.
ولما كان الأمير علاء الدين الطنبغا بدمشق تحدث له القاضي شهاب الدين بن فضل الله في أن يكون في جملة كتّاب الإنشاء، فرسم له بذلك، وكتب بذلك توقيعه، وعلّم عليه، وطُلب ليباشر فاستعفى من ذلك.
وكان له نظم ونثر لا بأس بهما، من ذلك ما نظمه وكتبه على حسن التوسّل وهو:
فأدركته منها بحسن التوسل
ونقلت من خطه صورة قصة كتبها على لسان قلعة الكرك تسأل أن يكون بها موقّعاً وهي: المملوكة المُملكة الكركية الشاكي على لسان حالها أكبر مصيبة وأعظم لية:
تقبل الأرض لدى مالك ... ساس الأقاليم برأي مصيب
وتشتكي جورَ الزمان الذي ... قد خصها دون الورى بالصليب
وتنهي أنها من أعز الممالك وأصعب المسالك، قلعتها منيعة، وهضبتها رفيعة، وبقعتها وسيعة، وذروتها باسقة وقُلتها شاهقة، وقد اتخذت لها الغمام لثاماً، وزرقة السماء وشاماً، يكاد ساكنها يردُ من المجرة نهرها ويجالس من النجوم زهرها، وهي دار السلطنة الشريفة، ومحلّ الأرمن من الخيفة، قد جمعت بين قرب الأرض المقدسة والشام ومجاورة الأنبياء والبلد الحرام، ومع ذلك كله لسان إنشائها أقلف، وقلم توقيعها من الحجارة أجلف، ووليّه نصراني الدين، وفي ذلك إجحاف بالإسلام والمسلمين، وكانت صابرة على البلوى ومحتسبة عند الله ما تقاسيه من هذه الشكوى، لعدم من تنهي إليه حالها وتبث مقالها، الى أن أعزها الله بعز الدين، ومنحها منه بالرأي الصائب والفتح المبين:
أمير له حزم وعزم وفطنة ... ورأي يجيد العقد والحل صائبه
تردّى بثوب العدل والباس والندى ... كما قال من قد أحكمته تجاربه:
بصير بأعقاب الأمور كأنما ... تغازله من كل أمر عواقبه
فلما حل ساحتها، وأعاد لها بعد التعب راحتها، وأزال عنها كل بوس وأضحك وجوه أملها العبوس، حضر لديه منشئ هذه القصة ومزيل - إن شاء الله - هذه الغصة عبد الأبواب الشريفة محمد بن محمد بن خليفة ممن غذي بالإسلام، ونسب الى أنصار النبي عليه السلام، وهي تسأل توليته ديوان إنشائها، وإن لم يكن لذلك أهلاً، لكنه أحق من هذا الأقلف وأولى، لتكون المملوكة في ذلك كمن اتخذ سداداً من عوز أو تقلّد لعدم الدرّ الخرز:
فإن اقتضت آراءُ مولى قد سما ... بمفاخر ومآثر وبسؤدد
أن يسعف الشاكي إليه برأفه ... تدنيه من آماله والمقصد
فليصرفن هذا اللعين ويغتنم ... إبدالَه لي بطْرُساً بمحمد
ويشرف هذا القلم الذي لا يبارى، وليعمل بقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى " ويسلك هذه الصناعة أحسن مسلك، معتمداً على قوله عز وجل: " ولَعَبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشرك " وينزهها من ذلك كأمثالها من الحصون، آخذاً بقوله حلّ اسمه: " لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّونِ " .
وقد أرسلت المملوكة هذه القصة والسيل بالغ الزبا وخفيف بلله قد عمّ أعالي الربا، فإن أُجيبت فاللوم عداكم، وإلا أنشدت: فعلى علاكم أنهت ذلك إن شاء الله تعالى.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بنظر دار الطراز ثالث عشري صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وهو:

رسم بالأمر العالي - لا زال يصطفي من كان أميناً ويكتفي بمن تتقلد الأيام من محاسنه عقداً ثميناً، ويحتفي بمن يصبح نور كفايته على مرّ الليالي مُبيناً - أن يرتب المجلس السامي القضائي في كذا.. ركوناً الى كفايته التي يزيد جمالها ويزين، ويعيد جلالها ويعين، ويبيد كل فضل سواها ويبين، ويستحق بمكانتها أن يقال له " إنك اليوم لدينا مكينٌ أمين " إذ هو الخبير الذي إذا قام في أمر سدّه، وتمنى بدرُ التمام لو نال بعض كماله ووده، والفاضل الذي مر الزمان على محاسنه وهي لا تزيد إلا جدّة وجدة، وأعيا تعدادُ فضله أنامل الحُسّاب فما أمسكوا إلا على عدة وعدة، والكاتب الذي وشّى المهارق، عوّذ قلمه وطرسه بالقضيب والبُردة، ورقم ابن مقلة تحت رقم خطه، وشهدت له بالحلاوة شهده، والبليغ الذي إذا قال قال الذي عنده، وأعجلت رويّته القلم فلم تدعه يبلغ ريقه ولا يستريح في مدة مدّه.
فليباشر ذلك مباشرة هي في كفالة معرفته وكفاية خبرته ناظراً فيما يوشي ويوشع، ويلم شمل الحسن في رقمه ويُلمع، متطلباً أعمال الصناعة بإتقانها، وإقامة الحجة في النظر على صحة رقمهم بأدلتها وبرهانها، متطلعاً الى ضبط ما يصرف، وعرفان ما يمكن أن يتوصل الى كيفية إحسانه وكمية أوزانه ويعرف، حتى تكون هذه المباشرة حقيقةً في صحة النظر دون مجازه، وينسى ابن سناء الملك لمحاسنها طراز داره ودار طرازه، فإنه من هذه الوظيفة المباركة قد تسوّغ العذب النّمير، وفُوّض إليه النظر في جمال المأمور والأمير وزينة الكبير، ولا حظّ فيها للصغير، فيقال: والصغير، ينعم نظره منها في نعيم وملك كبير، ويتفاءل منها بسعادة الآخرة فإنه بها في الدنيا في جنة وحرير.
وتقوى الله ملاكُ الأمور فليكن طراز بروده وواسطة عقوده المتحلي بها في صعود سعوده، وليقابل هذه النعمة بشكر يوجب مزيد الخير المستمر والحمد لله الذي يستقل بالأيادي الجزيلة ويستقر، والله يزيده فضلاً من عنده ويوفقه الى ما يرشده الى مظان سعده، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
محمد بن محمودابن شمس الدين بن الكويك، التاجر التكريتي.
أقام بدمشق مدة طويلة، ورحل وأقام بالإسكندرية، وصار من تجار الكارم، وكانت له في الإسكندرية صورة مشهورة ومعروف وبرّ.
توفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة.
محمد بن محمود بن محمدابن بندار، الشيخ بدر الدين التبريزي الشافعي.
كان رجلاً مباركاً معروفاً بالصلاح، ولي القضاء في أماكن متعددة، منها القدس وبعلبك، ثم إنه نُقل من القدس الى بلد الخليل عليه السلام خطيباً، فأقام أشهراً يسيرة.
ومات رحمه الله تعالى في عاشر شوال سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
محمد بن محمود بن ناصرابن ابراهيم، الشيخ الفقيه المقرئ المجوّد شمس الدين ابن الشيخ نجم الدين الزّرعي الدمشقي المعروف بابن البصال.
كان مُقرئاً جيداً عارفاً بالقراءات، حسن الصوت، مليح الأداء، أمّ بدار الحديث الأشرفية مدة، وكان الناس يقصدون الصلاة خلفه في التراويح فيمتلئ المكان ويزدحم.
وكان صيّناً ديّناً متواضعاً ظاهر الخير، وتصدّر للإقراء مدة.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة وقد تجاوز الأربعين من عمره.
محمد بن محمود بن سلمانابن فهد، القاضي شمس الدين صاحب ديوان الإنشاء بدمشق، وابن شيخنا العلامة شهاب الدين محمود صاحب ديوان الإنشاء بدمشق.
كان ساكناً وادعاً، رادّاً عن الظلم رادعاً، ليس من الشر في شيء وإن هان، ولا عنده كبرٌ ولا له في الملق وجهان. وكان خطه كالقلائد على اللباب، والأزهار إذا كان للنسيم فيها هبات. جمع من إنشاء والده مجاميع، وعلّق أشياء مطابيع:
كأنها من حسنها روضةٌ ... تسرح فيها مُقلةُ الناظر
ولم يزل على حاله الى أن صرعته المنايا، وصدعت شمل حياته الرزايا.
وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر شوال سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده ثامن شوال سنة تسع وستين وست مئة.

وكان يكتب خطاً نقشاً نغشاً مليحاً الى الغاية، وكان كثير التواضع لم يغيره المنصب، وكان الأمير سيف الذي يحبه ويعزه ويكره، ولما جاء والده رحمه الله تعالى الى دمشق صاحب ديوان الإنشاء كان هو حول والده يكتب المطالعة، هو والقاضي شرف الدين أبو بكر ولده، وقد تقدم ذكره، وكان إذا سافر الأمير سيف الدين تنكز الى الصيود يسافر القاضي شمس الدين معه، وتوجه معه الى الحجاز لعجز الشيخ شهاب الدين والده عن حركة السفر. ولما توفي والده رحمه الله في شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة كتب فيه تنكز الى السلطان فولاه صحابة ديوان الإنشاء بدمشق على عادة والده، ووصل توقيعه...
ولم يزل على حاله الى أن توفي في التاريخ المذكور، فما طالت المدة.
ولما مات رحمه الله تعالى رثاه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة بقصيدة أولها:
أطلق دموعك إن القلب معذورُ ... وإنه بيد الأحزان مأسورُ
وخلّ عينيك يهمي من مدامعها ... درٌ على كاتب الإنشاء منشورُ
يسوءني ويسوء الناس أجمع يا ... بيت البلاغة أن البيت مكسور
في كل يوم برغمي من منازلكم ... ينأى ويذهب محمود ومشكور
خبا الشهاب فقلنا الشمس فاعترضت ... أيدي الردى فزمان الأنس ديجور
آهاً لمنظر شمسٍ لا يُذمّ لها ... بالسعي في فلك العلياء تسيير
منها:
لهفي عليه لأخلاق مهذبة ... سعى الثناء بها والأجر مبرور
تواضعٌ لاسمه منه ازدياد عُلا ... وفي التكبّر للأسماء تصغير
وهمّة بين خُدّام العلا نشأت ... فاللفظ والعرض ريحان وكافور
لا عيب فيه سوى فكر عوائده ... للحمد رقّ وللألفاظ تحرير
حتى إذا لاح مرفوع مدائده ... وراح ذيلُ علاه وهو مجرور
تخيّرته أكفُّ الموت عارفةً ... بنقده وتنقّته المقادير
منها:
والمرء في الأصل فخّار ولا عجب ... أن راح وهو بكف الدهر مكسور
جادت ضريحك شمس الدين سارية ... يمسي صداك لديها وهو مسرور
محمد بن محمود بن معبدالأمير بدر الدين، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، وهو أخو الأمير علاء الدين، وقد تقدم ذكره في حرف العين، وأصلهما من بعلبك.
أخذ الأمير بدر الدين هذا العشرة، ثم الطبلخاناه، وكان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى قد تغير عليه لما تغير على ناصر الدين دواداره، ثم رضي عنه بعد ذلك وولاه الصفقة القبلية، وكانت له نعمة طائلة، وأملاك وسعادة.
وكان يحبّ الفضلاء ويكرمهم، وعلى ذهنه تواريخ الناس ووقائعهم، وعنده مجلدات في الأدب وغيره، ولم يكن يقدر أحد يحجّه ولا يخصمه إذا سارعه أو حاكمه، وكان شكلاً طويلاً بطيناً دون أخيه علاء الدين.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ودفن الى جانب بيته داخل دمشق.
محمد بن مختارالفقيه الفاضل شرف الدين الحنفي.
كان جيد الذهن، يعرف الهندسة جيداً، وله يد طولى في الهيئة والحساب، وكان في الأصل صائغاً، فتسلط بالصياغة على معرفة كتاب الحيل لبني موسى وكان يصنع بيده أشياء غريبة ويقدّمها للأمير سيف الدين قجليس الناصري، فراج عنده بذلك، وأخذ له فقاهات في المدارس الحنفية. وكانت له يد في المنطق، وكان يجب الأدب، ولم يكن له فيه يد بل ولا ذوق.
اجتمعت به بقلعة الجبل غير مرة وجرت بيني وبينه مباحث أصولية، وكان يميل الى رأي الفلاسفة، وفيه يقول الشيخ شهاب الدين أحمد العسجدي أبياتاً أنشد فيها، منها أولها:
ليس ابنُ مختار في كفر بمختار ... وإنما كُفره تقليدُ كفّار
محمد بن مسعودابن أيوب بن التوزي، بالتاء ثالثة الحروف وبعد الواو زاي، القاضي بدر الدين الحلبي، محدث حمص.
طلب الحديث واجتهد، وخرّج لنفسه أربعين حديثاً عن أربعين شيخاً.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشري شهر رمضان سنة خمس وسبع مئة.
ومولده بقلعة حلب سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.

قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت الأربعين التي له عليه، وكتبها لي بخطه، وروى لنا عن عبد الله بن النحاس، والصدر البكري، وخطيب مردا، وابراهيم بن خليل، وضياء الدين صقر، والكفرطابي وجماعة.
محمد بن مسعود، صلاح الديناجتمعت به غير مرة بالقاهرة وبقلة الجبل، وأنشدني كثيراً من شعره، ومما أنشدنيه من لفظه لنفسه في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة:
صرفُ الزبيبي لصرف همّي ... نص على نفعه طبيبي
آهٍ على سكرةٍ لعلي ... أن أخلط الهمَّ بالزبيبي
محمد بن مسعود بن أوحد بن الخطيرالأمير ناصر الدين بن الأمير بدر الدين، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، وسيأتي ذكر والده.
كان فيه شمم، وبه عن الخنا صمم، يأخذ نفسه بعظمةٍ زائدة، ويرى أنها على أبناء نوعها سائدة، لا يُذعن لأحد، ولا يذل لكبير اعترف له بالفضل أو جحد. تمتد آماله ولا تقف عند غاية، ويحدّث نفسه بأمور ما لها نهاية. يتجمل في ملبوسه ومركوبه ومسكنه، ويجعل النظافة والصلف من دأبه وديدنه. طويل الروح في المخاصمة لا يرجع عمّن حاوره ولو حزّ غلاصمه، يركب في خدم وحشم وحفدة، ويجمّل الموكب الذي أمّه وقصده.
ولم يزل راقياً في أوج شبابه، صاعداً في معارج عيشه الذي انتهى الى انتهابه، الى أن اخترق حمامُه، وانهدّ بالموت يذبله وشمامه.
وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة الجمعة سادس عشري جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده بدمشق في سنة ست وعشرين وسبع مئة.
مات والده رحمه الله تعالى وهو أمير عشرة فلم يزل يسعى ويبذل الى أن أخذ إمرة الطبلخاناة بعد توجهه الى مصر، وأخذ لأولاده إقطاعات جياداً في حلقة دمشق، وكان سعيد الحركات مجتهداً في تحصيل الأملاك وغيرها، ويغالي في الخيول والملبوس وفي رخت الإمرة، ويركب وينزل في جماعة من مماليكه وجنده وأولاده، وكان يمنّي نفسه ويعدها أموراً عالية من الولايات والمناصب، ولو عاش وأمهله الدهر لنال ما يطلب لحُسن تأتيه وجميل سلوكه.
وكان والده رحمه الله تعالى يثق بعقله ويركن إليه دون إخوته، وكان قد رغب الى الأمير سيف الدين تمر المهمندار وخطب منه قطلو ملك ابنة الأمير شرف الدين موسى ابن الأمير علاء الدين علي ابن الأمير سيف الدين منكوتمر، وكتبت أنا الصداق له من رأس القلم وهو: الحمد لله الذي أيّد هذا الدين بناصره، وشيد قواعده بشدّ أواخيه وإحكام أواصره، وخصّه بكرم أبوّته وطيب عناصره.
نحمده على نعمه التي منها الهداية الى اتباع السنة، والعناية بما يؤديه الى سلوك الطرق التي توصل الى الجنة، والرعاية لأعمال تكون النفس بها يوم الفزع الأكبر مطمئنة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تخفف بين سرادق العرش أعلامها، وتُشرق في الحنادس المظلمة أقمارها، وقد كمل نورها وتمامها، وتورق غصون الإيمان بأدلتها إذا انشقت عن زهرات اليقين أكمامها.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي حضّ على النكاح، وحث على تجنّب السفاح وحصّ قوادم الباطل، وراش جناح النجاح، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حافظوا على اقتفاء آثاره، وبلغوا الأمة ما وصل إليهم من سُننه وأخباره، وكاثروا النجوم الزاهرة بمهاجريه وأنصاره، صلاة لا تُحط البوارق من رضوانها لثاماً، ولا تشق السوابق من غفرانها غماماً ما عُقد نكاح، وفُقد سفاح، وسلم تسليماً كثيراً الى يوم الدين وبعد: فإن النكاح من مزايا هذه الأمة ومحاسنها التي تجلو بأنوارها الحنادس المدلهمّة، والسنة بذلك طافحة، وفي كل مكان منها نافجة نافحة، فمن ذلك ما هو في بيانه ووضوحه كالعلم، وهو قوله عليه السلام " تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم " .
وكان المقر الكريم العالي المولوي الأميري الناصري محمد بن الأمير المرحوم بدر الدين مسعود بن الخطير ممن طاب فرعاً وأصلاً، وحوى الفضلين حكماً وفصلاً، وحاز المنقبتين قلماً ونصلاً، وتفرّد بالمحاسن التي فضلها للعيان مشهود، وروضها بغمام الكمال مجود، وحوضها لك ناهل مورود، وحديثها في الناس مشهور، وما أصدق من روى حديث ابن مسعود، ومحله في السيادة أثيل وأثير، وباع رمحه في البأس طويل ولسان السيف من غيره قصير ومناقب بيته فعمدة كل خطيب وصفُ بني الخطير:

من النفر الغرّ في قومهم ... فطالوا أصولاً وطابوا جدودا
أناروا الليالي وهزّوا العوالي ... وشادوا المعالي وزانوا الوجودا
لفضل الخطير انتهى مجدُهم ... فلا زال في كل عصر جديدا
إذا غاب بدر بدا كوكب ... منازلهُ تستديم السعودا
وناصرهم فضلُه بيّن ... فما تلتقي لعلاه حسودا
فيا هل عناه الذي قال في ... سواه فعن وصفه لن يحيدا
أمير أمير عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يحيدا
فلذلك تمسك بالسبب المتين من السنة، وآثر الاتصال بمن حجابها بيض السيوف وحجّابها زُرق الأسنة، ورغب الى المقر الشريف العالي المولوي الأميري السيفي تمر أمير مهمندار:
غدا في الزمان كبير الأنا ... م بتدبيره تستقيم الدول
بعقلٍ رصين ودين متين ... وفضل مبين وجود كمل
وما نظرت مقلة مثله ... على من مضى في الملوك الأُول
إذا أشكل الأمر في حاله ... أبان الهدى للورى فانفصل
وخطب الجهة المصونة الخاتون قطلوملك ابنة الأمير المرحوم شرف الدين موسى لأنها في كفاية كنفه، وظل حجره وتصرفه، ومهاد بره وتلطفه، وعناية إقباله عليها وتعرفه:
لا يبعث النجم طرفاً نحو مطرفها ... وكيف يلحظ طرفاً بالعفاف عمر
ولا تجوز الصبا من دون مضربها ... ولا تمر عليها وهي عند تمر
محمد بن مسكينالإمام عز الدين القرشي الزهري.
توفي في جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة بالمصاحبة بمصر ودفن بالقرافة.
وكان من أعيان الفقهاء، متزهداً مدرّساً بالمدرسة المجاورة لقبر الشافعي رضي الله عنه. ووليها بعده القاضي مجد الدين حرمي، وكان الشيخ عز الدين بن مسكين قد عين لقضاء الشام فما اختار فراق الوطن. وروى عن الرشيد العطار.
محمد بن مسلمبتشديد اللام، ابن مالك بن مزروع الزيني ثم الدمشقي الصالحي، الشيخ الإمام العالم، بركة الإسلام، قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله الحنبلي.
سمع الكثير وله حضور على ابن عبد الدايم، وسمع من الشيخ شمس الدين وطبقته، وخرّج له ابن الفخر مشيخةً في مجلدة، وسمعها منه خلق، وخرّج له ابن سعد الأربعين المتباينة الأسانيد، وخرّج له المزّي تساعيّات، وخرج له الذهبي جزءاً، وأجاز له من مصر جماعة من أصحاب البوصيري.
كان من قضاة العدل في أحكامه، ومن أئمة الهدى في نقضه وإبرامه، مطّرح التكلّف في أحواله، متوخي الصدق والحق في أقواله، عمّر الأوقاف وضبطها، وحاسب العمال وأمسك القواعد وربطها، وحرّر الإسجالات، وتوقف في العدالات، ولازم الورع والتحري، ومنع الظلمة من التعدي والتجري، وباشر أمور الحكم بقوة وصلابة في الدين، وكف يد الظلمة والمعتدين، فهو كما قال أبو الطيب:
قاضٍ إذا اشتبه الأمران عنّ له ... رأي يفرق بين الماء واللبن
القائل الصدق فيه ما يضرّ به ... والواحد الحالتين السرّ والعلن
ولم يزل على حاله الى أن حج، وقبض عليه بالمدينة الشريفة، ونقل الى الدار الآخرة والملائكة به مطيفة.
وتوفي رحمه الله تعالى في الثالث والعشرين من ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة في صفر.
توفي والده وكان ملاحاً في سوق الخيل، وله ست سنين، وحفظ القرآن، وتعلم الخياطة، واشتغل، وتفقّه، وبرع في الفقه والعربية، وتصدر لإقرائهما وتخرج به فضلاء. ولم يطلب تدريساً ولا فُتيا، ولا زاحم على الدنيا.
وسمع شيخنا الذهبي بقراءته الأجزاء، وكان ربما يكتب الأسماء والطباق ويذاكر، وبقي مدة على الخزانة الضيائية. ولما توفي قاضي القضاة تقي الدين سليمان عين للقضاء، وأثني عليه عند السلطان بالعلم والنسك والسكينة، فولاه القضاء، فتوقف، وطلع إليه الشيخ تقي الدين بن تيمية الى بيته، وقوّى عزمه، ولامه، فأجاب بشرط أن لا يركب بغلة، ولا يأتي موكباً، فأجيب، وكانت قراءة تقليده، سادس عشر صفر سنة ست عشرة وسبع مئة.

وكان ينزل من الصالحية الى الجوزية ماشياً، وربما ركب حمار مكار، وكان مئزره سجادته، ودواة الحكم زجاجة، واتخذ فرجية مقتصدة من صوف، وكبّر العمامة قليلاً، ونهض بأعباء الحكم بعلم وقوة، وعمّر الأوقاف، وحاسب العمال، وحكم إحدى عشرة سنة، وشهد له أهل العلم والدين أنه من قضاة العدل.
وحجّ مرات، وانتصر لابن تيمية، فحصل له أذى، فتألم وكظم، وسار للحج بنيّة المجاورة فمرض من العلا، ولما وصل المدينة تحامل حتى وقف مسلّماً على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أدخل الى منزل، فلما كان في السحر توفي رحمه الله تعالى ودفن بالبقيع.
محمد بن مصطفى بن زكرياابن خواجا بن حسن، فخر الدين التركي الصُلغري، بالصاد المهملة واللام الساكنة والغين المعجمة، وبعدها راء، الدوركي، بالدال المهملة والواو الساكنة والراء والكاف، وصُلْغر: فخذٌ من الترك، ودورك: بلد من الروم.
كان شيخاً فاضلاً في الأدب، وممن ينسل إليه من كل حدب، فقيهاً في مذهب أبي حنيفة، نبيهاً وهمته في الرتب منيفة، نظم القدوري في الفقه نظماً جيداً وضبط فروعه مقيداً، ونظم قصيدة في النحو استوعب فيها أكثر الحاجبية سرداً، وأتى فيها بأحكام كثيرة، طرّزها للنحو حلة وبرداً.
وكان خطه يخجل العقود المنظمة والرياض التي برودها بالأزهار مسهّمة، يتلو القرآن غالب وقته، وله فيه نغمة طيبة أشهى من سجع الحمام في روض أينع في نبته، مع تواضع زانه وقوّم ميزانه.
ولم يزل على حاله الى أن أضر، ولازم لحين أجله وأصر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده بدورك سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: أخذنا عنه لسان الترك ولسان الفرس، وكان عالماً باللسانين يعرفهما إفراداً وتركيباً، أعانه على ذلك مشاركته في العربية. وله قصائد كثيرة منها قصيدة في قواعد لسان الترك، ونظم كثيرة في غير فن، وأنشدني كثيراً منها.
ودرّس بالحسامية الفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان قد تولى الحسبة بغزة قديماً، وقد أدّب بقلعة الجبل بعض أولاد الملوك.
قلت: هو السلطان الملك الناصر محمد، قال: وعمي في آخر عمره.
وأنشدني من قصيدة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم:
قيل اتخذ مدح النبي محمد ... فينا شعارك إن شعرك ريّقُ
وعلى بنانك لليراعة بهجةٌ ... وعلى بيانك للبراعة رونق
يا قطب دائرة الوجود بأسره ... لولاك لم يكن الوجود المطلق
مذ كنت أوله وكنت أخيره ... في الخافقين لواء مجدك يخفق
كل الوجود الى جمالك شاخص ... فإذا اجتلاك فعن جلال يطرق
كنت النبيّ وآدمٌ في طينه ... ما كان يعلم أي خلق يخلقُ
فأتيت واسطعة لعقد نبوّة ... منها أنار عقيقها والأبرق
محمد بن مظفر بن عبد الغنيالشيخ الفقيه محيي الدين القصاع.
كان ممن حصّل وقرأ القراءات والفقه والأصول، وتميز. وسمع كثيراً من ابن جعوان وغيره.
وتوفي بطرابلس رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة.
محمد بن معالي بن فضل اللهابن معالي بن بركات بن محمد بن أبي نصر بن الملاق، الشيخ زين الدين أبو عبد الله بن الملاق، بتشديد اللام، الرّقي.
كان مباشراً في ديوان السكر أقام بدمشق أربعين سنة، وولي أبوه الوزارة والقضاء بالرقة. وجدهم أبو نصر بن الملاق، نقله المعتصم من بغداد الى الرقة وولاه الخطابة بها.
قال شيخنا البرزالي: قرأت عليه جزء البانياسي بالإجازة عن جماعة من البغداديين منهم الشيخ شهاب الدين السهروردي، وعبد السلام الداهوي، وعلي بن الجوزي، وعبد اللطيف بن الطبري، وإسماعيل بن باتكين.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مئة بعد رحيل التتار عن دمشق.
ومولده بالرقة في شعبان سنة اثنتين وعشرين وست مئة.
محمد بن المفضلابن فضل الله، الرئيس الصدر الكبير، الديّن، محيي الدين المصري الكاتب.

كان صدراً في المجالس، وبدراً في الحنادس، نبيهاً نبيلاً، وجيهاً جليلاً، ديّناً خيّراً مهيباً، صيّناً وقوراً أريباً، يلازم الصلوات الخمس في الجامع الأموي، لا يخلّ بذلك ولو حال بينه وبين الجامع سنا الأسنة في عِثير السنابك.
ولم يزل على حاله الى أن توفّى الله المُحيي فمات، ونزل به من عِداه الشمات.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشري جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة، ودفن في تربة بني هلال بالصالحية وعمره ستة وأربعون سنة.
كان أولاً يعرف بكاتب قبجق، وكان صاحب ديوان الأمير سيف الدين تنكز، ومن جملة كتاب الإنشاء بدمشق، ومستوفي الأوقاف، ولم يكن عنده مخدومه في أبناء جنسه له نظير، محله عنده عظيم الى الغاية. وكان يحب الصالحين والفقراء وبودهم ويبرهم، وسار في دمشق سيرة جميلة حميدة، وكان مغرى بتحصيل المصاحف، فيقال إنه وجد في تركته أربع مئة مصحف.
وهو عم القاضي علم الدين بن قطب الدين ناظر جيش الشام، وهو الذي خرجه ودرّبه.
محمد بن مفلح بن محمد بن مفرجأقضى القضاة، الإمام العالم شمس الدين القاقوني، نسبة الى قاقون الساحل، الحنبلي نائب قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي وزوج ابنته.
كان قد برع في الفروع ونال الغاية فيها من الشروع، ومهد في الأحكام وبهر في الأحكام، يستحضر فروعاً كثيرة من مذهبه كلها غرائب، ويرسل منها في أغراضه سهاماً صوائب.
ولم يزل على حاله الى أن خاب الأمل في ابن مفلح، وانقطع الرجاء فيه من المفسد والمصلح، وكانت له جنازة حافلة، وساعة بالتعجب كافلة، وتوفي رحمه الله تعالى يوم الخميس ثاني شهر رجب الفرد سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده تقريباً بعد عشر وسبع مئة.
محمد بن مكرَّم
بتشديد الراء، ابن علي بن أحمد الأنصاري الرويفعي الأفريقي، ثم المصري، القاضي الفاضل جمال الدين أبو الفضل، من ولَدِ رُويفع بن ثابت الصحابي رضي الله عنه.
سمع من يوسف بن المخيلي، وعبد الرحيم بن الطفيل، ومرتضى بن حاتم، وابن المقيّر، وطائفة. وتفرد وعُمّر وكبر وأكثروا عنه، وكان فاضلاً وعنده تشيّع بلا رفض. خدم في ديوان الإنشاء بالقاهرة، وأتى في عمله بما يخجل النجوم الزاهرة، وله شعر غاص على معانيه وأبهج به نفسَ من يعانيه. وكان قادراً على الكتابة لا يمل من مواصلتها، ولا يولّي عن مناصلتها. لا أعرف في الأدب وغيره كتاباً مطولاً إلا وقد اختصره، وزوّق عنقوده، واعتصره، تفرد بهذه الخاصة البديعة، وكانت همته بذلك في بُرْد الزمان وشيعه.
ولم يزل على حاله الى أن خبا من عمره مصباحه ونُسخ بدجا الموت من الحياة صباحه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده في أول سنة ثلاثين وست مئة.
وكان قد ولي نظر طرابلس، وهو والد القاضي قطب الدين بن المكرم، وقد تقدم ذكره.
وكتب عنه شيخنا الذهبي.
وأخبرني من لفظه شيخنا العلامة أثير الدين قال: ولد المذكور يوم الإثنين الثاني والعشرين من المحرم من السنة المذكورة، وهو كاتب الإنشاء الشريف، واختصر كتباً، وكان كثير النسخ، ذا خط حسن، وله أدب ونظم ونثر، قال: وأنشدني لنفسه سادس ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وست مئة:
ضع كتابي إذا أتاك الى الأر ... ض وقلّبه في يديك لماما
فعلى ختمه وفي جانبيه ... قُبلٌ قد وضعتهن تؤاما
كان قصدي بها مباشرة الأر ... ض وكفيك بالتثامي إذا ما
قال: وأنشدني المذكور لأبيه:
الناس قد أثموا فينا بظنهم ... وصدّقوا بالذي أدري وتدرينا
ماذا يضرّك في تصديق قولهم ... بأن نحقّق ما فينا يظنونا
حملي وحملك ذنباً واحداً ثقةً ... بالعفو أجملُ من إثم الورى فينا
وبه الى المكرم:
توهّم فينا الناس أمراً وصمّمت ... على ذاك منهم أنفسٌ وقلوبُ
وظنوا وبعضُ الظن إثم وكلهم ... لأقواله فينا عليه رقيب
تعالي نحقق ظنهم لنريحهم ... من الإثم فينا مرة ونتوب
قلت: هذا معنى مطروق للقدماء. ومنه قول الأول:
قم بنا تفديك نفسي ... نجعل الشك يقينا
فإلى كم يا حبيب ... يأثم القائل فينا

وأخذ هذا من قول القائل:
ما أنس لا أنس قولها بمنى ... ويحَك إن الوشاةَ قد علموا
ونمّ واش بنا فقلت لها ... هل لك يا هند في الذي زعموا
قالت لماذا تُرى فقلت لها ... كي لا تضيع الظنون والتهمُ
وقلت: أنا كأني قد حضرتهما وسمعت خطابهما:
هذا محب وما يخلّصه ... في دينه أن وشاتُه أثموا
فواصليه واصغي لمغلطةٍ ... يقبلها من طباعُهُ الكرمُ
يا ويح وصلٍ أتى بمغلطة ... إن كنت لم ترع عندك الذممُ
ولكن المكرّم في معناه زيادة على من تقدمه، وقوله: ثقة بالعفو من أحسن متممات البلاغة.
وأنشدني شيخنا أثير الدين قال: أنشدنا فتح الدين أبو عبد الله البكري، قال: أنشدنا ابن المكرم لنفسه:
بالله إن جُزت بوادي الأراك ... وقبّلَتْ عيدانُه الخضرُ فاك
ابعث الى المملوك من بعضها ... فإنني والله ما لي سواك
وأنشدت له:
وفاتر الطرف ممشوق القوام له ... فعل الأسنة والهندية القضبِ
في حُسنه الفرد أوصاف مركبة ... الخَلقُ للترك والأخلاق للعرب
قلت: ما أعرف في كتب الأدب شيئاً من المطوّلات إلا وقد اختصره جمال الدين بن المكرم رحمه الله تعالى، فمما اختصره: كتاب الأغاني ورتبه على حروف المعجم، وكتاب الحيوان للجاحظ فيما أظن، واليتيمة للثعالبي، والذخيرة لابن بسام، ونشوان المحاضرة، ومفردات ابن البيطار، واختصر تاريخ ابن عساكر، وتاريخ الخطيب، وذيل ابن النجار عليه، واختصر كتاب التيفاشي وسماه سرور النفس في عشرة كبار، وجمع بين كتاب صحاح الجوهري والمحكم لابن سيده وكتاب الأزهري، فجاء في سبعة وعشرين مجلداً وسماه لسان العرب، وأراني ولده قطب الدين أول النسخة، وقد قرظه من أهل ذلك العصر جماعة يصفونه بالحسن، منهم الشيخ بهاء الدين بن النحاس، والقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، فيما أظن، وشيخنا العلامة شهاب الدين محمود، رحمهم الله أجمعين.
وأنشدني شيخنا العلامة أثير الدين تقريظاً لهذا الكتاب، ورأيته بخطه:
أجَلْتُ لحاظي في الرياض الدمايث ... ونزهت فكري في فنون المباحث
وشاهدت مجموعاً حوى العلم كله ... بأول مكتوب وثانٍ وثالث
فيا حسنه من جامع لفضائل ... جليل على نيل المعارف باعث
لحاز لسان العرب أجمع فاغْتدى ... نهاية مرتاد ومطلب باحث
به أزهرت للأزهري رياضُهُ ... فأنوارها تجلو دياجي الحوادث
وصحت به للجوهري صحاحه ... فلا كسر يعروها ولا نقد عابث
وساد به بين الأنام ابن سيده ... فمحكمُه ما فيه عيث لعايث
وبرَّ ابن بريٍّ وصحّت بنقده ال ... صحاح استقلّت في براثن ضابث
وللجزريّ ابن الأثير نهاية ... إذا قرئت أزرت بسبع المثالث
وكل محل إذ تقادم عهده ... وليس المصلّي في السباق برايث
وإن جمال الدين جمّل كتبَهم ... بإصلاح ما قد أوهنوا من رثائث
لقد فاقهم علماً وزاد عليهم ... وأني يباري الريح عرْجُ الأباعث
تجمّع فيه ما تفرق عندهم ... وأربى عليهم بالعلوم الأثائث
بنثرٍ كشبه الزهر غبّ سمائه ... ونظمٍ كمثل الزهر بالسحر نافث
له قدمٌ في ساحة الفضل راسخٌ ... ومجد قديم ليس فيه بحادث
ونسبة علم كابراً بعد كابر ... فمن خير موروث الى خير وارث
حفيظ لأسرار الملوك أمينها ... عليم بتصريف الخطوب الكوارث
به افتخرت قحطان واشتد أزرها ... وباهت به الأملاك أبناءُ يافث
سقى جدثاً قد حله ابنُ مكرّم ... ملث من الغرّ الغوادي المواكث
ولا برحت روح الجمال مقيمةً ... لعذرٍ لدى الغيد الحسان الأراعث
وأخبرني ولده القاضي قطب الدين أبو بكر رحمه الله تعالى في ديوان الإنشاء بقلعة الجبل أن والده مات وقد ترك بخطه خمس مئة مجلد.
محمد بن مكي بن....

القاضي الفاضل الشاعر بدر الدين وكيل بيت المال بطرابلس وكاتب الإنشاء بها.
كان من مشايخ الأدب والقائمين بإحياء شعار العرب، له المقاطيع الرائقة، والأبيات الفائقة، وكان يعرف فنوناً أخر، وعلوماً إذا تكلم فيها قلت بحْرٌ زخَر. وكان من رجالات الزمان دُربة ودهاء، وخبرة تباعد منها الجهل وتناءى.
ولم يزل بطرابلس على حاله، الى أن كسف الحِمامُ نورَ بدره وألحفهُ غمامةَ قبره.
ورد الخبر الى دمشق بوفاته في أواخر شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، رحمه الله تعالى.
كان يكتب خطاً حسناً، أخبرني قاضي القضاة شرف الدين محمد بن النهاوندي قاضي صفد قال: قال لي: بدر الدين بن مكي بطرابلس: فتحت بدمشق دكان كتبي، وكنت أتّجر فيها، يعني في المجلدات، وأتبلغ من عِرض المكسب فأدّخر من المجلّدات ما أحتاج إليه الى أن حصلت من ذلك ما أردت من الكتب، وفضل لي رأس المال والقوت تلك المدة. أو كما قال.
وقال بدر الدين رحمه الله: كنت أنا وشمس الدين الطيبي نمشي في وحل فقلت: المشي خلف الدواب صعبٌ فقال: في الوحل والماءِ والحجاره فقلت: لأن هذا له رشاش فقال: وربما تزلق الحماره وأخبرني المولى شرف الدين حسين بن ريان قال: كنت أنا وهو جالسين في مكان فيه شباك بيني وبينه، فلما جاءت الشمس رددته، فقال:
لا تحجب الشمس عن أمرٍ تحاوله ... فإن مقصودها أن تبلغ الشرفا
فقلت:
في الشمس حرٌ لهذا الأمر نحجبها ... وحسبنا البدرُ في أنواره وكفى
وأنشدني من لفظه قال: أنشدني ابن مكي لنفسه:
أهواه كالبدر لكنْ في تبدّله ... والغصن في ميله عن لوم لائمه
سمحٌ بمهجته ما ردّ نائله ... كأنما حاتم في فصّ خاتمه
قلت: معنىً جيدٌ مطبوع، وما أحسن قوله: رد نائله.
ومن شعره أيضاً:
كأن الشمس إذا غرُبت غريق ... هوى في البحر أو وافى مغاصا
فأتبعها الهلال على غروب ... بزورقه يريد لها خلاصا
وكتبت أنا إليه، رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة في المحرم:
أنفحةُ روضةٍ أم عَرفُ مسك ... يضوع أو الثناء على ابن مكي
إمام في الفتاوى لا يجارى ... وفردٌ في البيان بغير شك
إذا ما خطّ سطراً خلت روضاً ... تبسّم عن غمام بات يبكي
ويحكي نثره درّاً فأما ... إذا حققت ما يحتاج يحكي
له نظم يروق ألذّ وقعاً ... على الأسماع من أوتار جنك
كأن كلامه نفثات سحرٍ ... تغازلني بها لحظات تركي
وآنقُ في النواظر من رياض ... نواضر بل جواهر ذات سلك
لقد فاق الأنام بفضل جود ... وفرط زيادة زِيْنَتْ بنسك
شهدتُ بأنه في الدهر فردٌ ... وقولي فيه لم يحتج مزكي
حملت له لواء ولاء صدقٍ ... لأعرف في الأنام بحمل رنكي
فلو منّ الإله بجمع شملي ... به لعدمت ما بين من تشكّ
يقبّل الأرض لا زالت قبلة الأمل، وكعبةَ العلم والعمل، وروضة الفضل إذا همى، والجود إذ همل، لأن دارها تخجل دارة الحمل، وتربها يفوق الأفق إذ بدره لما كمل نقص، وبدرها ما نقص لما كمل، تقبيلاً يؤدي به الواجب، ويداوي به قلباً سكنه مولانا فإنه كبير وما خرج عن الواجب:
ترابكم وحقّ أبي تراب ... أعزُّ عليّ من عيني اليمين
وينهي الى العلم الكريم بعد الأدعية التي تجر الإجابة برفعها، والعبودية التي أبان المنطق شرف حملها ووضعها، والأثنية التي لا تغرّد الحمائم الصادحة إلا بسجعها:
ومالي لا أثني على وابل الحيا ... إذا الروض أثنى بالنسيم على القطر

أنه من حين بلغته هذه الفضائل البدرية، والفوائد التي نسماتها سحرية، وكلماتها سحرية، يعتلج في خاطره التطفل على خطابها، والتوصل الى عرائس إنشائها، ليكون من خُطّابها، والوقوف بذلّ التلمذة وفقر الحاجة على بابها، والدخول الى جنّات كرمها وحبّات كرمها ليجني ثمرها متشابهاً، والاعتراف يدفع في صدره ويبجل على قدره باجتلاء ليلة قدره، ويقول له القصور لا تطل فما أنت من سكان هذه القصور، ولا تزد مع نقصك، فما وشاح ألفاظك مما يدور على هذه الحضور، ولا تلح فما غابُ أقلامك مما يصم الليث الهصور:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
فأغفل المملوك مراودته مدة، وكابد من جزم حظه خفضاً لشدته مدّة وشدّة. هذا وغريم الشوق يلح، والإقدام يمرض تارة ويصح، الى أن انتهز فيها فرصة حمل فيها على جيوش الخجل فأمالها، وطعن في صفّ الممانعة برمح قلمه إما عليها وإما لها، فتهجم هذه الخدمة والضراعة، وخدم أسوة الطلبة ليكون من أهل الجماعة:
وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم
وعطفها على استدعاء جرت العادة به للأصاغر، واستمطر به الإحسان الذي ملأ كل كفّ فارغ، وأطبق كل فم فاغر. وسأل صدقات مولانا التي عمّت وما خصت، وشرّعت المكارم للمتأدبين ونصت، الكتابة فيه بالإجازة للمملوك، وإن كان صغير القدر، والإجابة الى ما سأله لعله أن يكون من أهل بدر، فإنه لم يقل إلا علماً بأنه لم يُقَل، ولم يخاطب إلا طمعاً في الجواب الذي هو ألذ من الإغفاء في ساهر المقل، وأن يتصدق فيه بذكر مولده وذكر أشياخه الذين أخذ عنهم ومن رآه واجتمع به من الأعيان الذي إذا قال السائل من هم، كان مولانا منهم، وكتابة ما يراه من مقاطيعه التي هي قطع الرياض، وزهر الغياض، وقطر الحياض، الى غير ذلك مما يقتضيه الرأي الكريم والجود الذي إذا جاد البحر بالدر النثير جاد هو بالدر النظيم، لا زال بابه حرماً وسحابه ينهل كرماً بمنه وكرمه. وجهّزت الاستدعاء. فجاء جوابه بعد مديدة يخبر بوصوله. وإنه عقيب ذلك توجه الى اللاذقية فيما يتعلق بأشغال الدولة، وإنه عقيب ذلك يجهز الجواب، ثم ما لبث أن مرض وجاء الخبر بوفاته رحمه الله تعالى.
محمد بن مكيالأمير ناصر الدين ابن الأمير مكي.
توفي والده رحمه الله تعالى في أوائل سنة خمس وسبع مئة، وهو من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق، وإقطاعه إقطاع جيد، فطلبه من الأمير سيف الدين أرغون شاه جماعة، فكتب به لابنه ناصر الدين محمد المذكور، وتقدير عمره عشرون سنة، فجاءه منشوره بذلك، وكان قبل ذلك أمير عشرة، فما متّع بشبابه ولا بالإقطاع.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شعبان سنة خمسين وسبع مئة.
محمد بن المنجاابن عثمان بن أسعد بن المنجّا، الشيخ الإمام العالم الفاضل الصدر الأصيل شرف الدين أبو عبد الله ابن الشيخ العلامة الكبير زين الدين أبي البركات التنوخي الحنبلي.
سمع من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن علان، وابن البخاري، وابن الواسطي وجماعة وحدّث.
وكانت فيه خلالٌ جميلة من العلم والدين والمروءة والشجاعة وعلوّ الهمة والتودد، وقضاء الحقوق.
توفي رحمه الله تعالى رابع شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ولم يكمل الخمسين.
محمد بن المنذرالقاضي الرئيس فخر الدين.
كان أولاً في دمشق يباشر في ديوان الجيوش ولما حضر معين الدين بن حشيش الى دمشق ناظر الجيش عوضاً عن ابن حميد، انتقل القاضي شمس الدين بن حميد الى وظيفته بدمشق، وتوجه ابن المنذر الى طرابلس ناظر الجيش، وأقام بها مدة، وقع بينه وبين نائبها، فتوجه الى مصر وعاد الى مكانه ووظيفته في ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة وأقام بها مدة.
ثم إنه نُقل الى نظر جيش حلب، وأقام هناك مدة عوضاً عن القاضي جمال الدين بن ريان.
ثم إنه توجه الى مصر ووقع منه كلام في حق القاضي فخر الدين ناظر الجيوش بالديار المصرية فجهزه الى صفد ناظر المال، وولده ناظر الجيش بها، فأقام بها مدة، ثم إنه جهز الى طرابلس.
ولم يزل بها الى أن توفي رحمه الله تعالى.
محمد بن منصور بن موسىالشيخ شمس الدين أبو عبد الله الحاضري الحلبي المقرئ النحوي.

قرأ القراءات على الكمال الضرير، والشيخ علي الدهان، والعربية على ابن مالك جمال الدين، وكان له تصدير في الجامع، وكان متوسطاً في النحو والقراءات.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر صفر سنة سبع مئة وكتب في الإجازات.
محمد بن منصور بن إبراهيمابن منصور الحلبي، الإمام العالم الصدر الصاحب بدر الدين الجوهري، نزل الديار المصرية.
سمع من إبراهيم بن خليل بحلب، ومن الكمال العباسي. وابن عزّون، وابن عبد الوارث، والنجيب، وعدة بمصر. وتلا بالروايات على الصفي خليل، وتفقه، وشارك في فضائل.
وكان ينطوي على خير وعبادة ودين، وله جلالة وصورة، ذكر في وقت الوزارة، وكان له خلق حاد، وحدث بدمشق ومصر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبع مئة.
محمد بن منصورالقاضي شمس الدين موقّع غزة، أقام بها مدة طويلة يباشر التوقيع وكتابة الجيش، ثم إنه نقل الى توقيع صفد عوضاً عن القاضي بهاء الدين بن غانم لما نقل الى طرابلس في سنة ست وعشرين وسبع مئة، وتوجه الى غزة مكانه القاضي جمال الدين بن رزق الله، ثم إن ابن منصور عمل على العود الى غزة، لأن صفد لم توافقه. وكان له في غزة متاجر من الكتّان والصابون وغير ذلك، وحصّل نعمة وافرة ودنيا صالحة. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز عزله من غزة بعلاء الدين علي بن سالم، وقد تقدم ذكره في حرف العين، وبقي ابن منصور بطّالاً. وكان الأمير سيف الدين طينال قد ناب في غزة في وقت، على ما تقدم في ترجمته، وابن منصور موقّعها، فعرفه من ذلك الوقت، فلما بطل سأل طينال من تنكز في أن يكون ابن منصور في جملة كتاب الدرج بطرابلس، فرسم له بذلك، وتوجه ابن منصور الى طرابلس.
وكان رجلاً داهية سيوساً، يكتب خطاً حسناً، وله نظم لا بأس به، غير أنه لم يكن فيه طبقة، مع ما فيه من اللحن.
وتوفي رحمه الله تعالى...
أنشدني من لفظه القاضي زين الدين الصفدي قال: أنشدني من لفظه القاضي شمس الدين محمد بن منصور وقد أعيد الصاحب تقي الدين توبة الى الوزارة:
عتبت على الزمان وقلتُ مهلاً ... أقمت على الخنا ولبست ثوبه
ففاق من التجاهل والتعامي ... وعاد الى التُقى وأتى بتوبه
قلت: صوابه: فأفاق.
محمد بن موسىالقاضي الفاضل، الأديب الكاتب البارع شرف الدين المقدسي، كاتب الإنشاء بالديار المصرية، المعروف بكاتب أمير سلاح.
كا كاتباً بارعاً، ناظماً ناثراً، يأتيه المعنى على وفق إرادته ضارعاً، إذا نظم قلت العقودُ ينظم جواهرها، أو السماء يُطلع زواهرها، أو الرياض يجلو أزاهرها. يتلعب بالعقول سحره الحلال، يترشّف السمع منه كؤوساً ليست نشوتها مما يجري في الجديال. ونثره أحسنُ من رقم البرود، وآنقُ من حلول الكواكب في منازل السعود، وخطه يسرّ النواظر، ويُزري بالرياض النواضر، تخال سطوره فوق طروسه فتيت مسك على كافور، أو طرز صبح تطلعت من تحت أذيال ديجور. كأن جيماته وجنات خيلانُها تلك النقط، أو محاريب فيها قناديل لا تخبو نور معانيه ولا يقط، وكأن ألفاته ألفت الاعتدال فهي قدودُ الخرّد الغيد، أو قضبان بانٍ تميس من مرور النسيم، والهمزات من فوقها حمائم ذات تغريد:
فلو أعيد ابن هلال لحكى ... مشياً على الرأس إليه القلما
وقال في هذا برود أحرفٍ ... كنت أراها في كتابي أنجما
ولم يزل على حاله الى أن سكنت شقاشقه، وقرطست عن عرض الحياة رواشقه.
توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
وكان قد خدم الشجاعي وأمير سلاح، وبه يعرف في القاهرة.
أخبرني من لفظه شيخنا العلامة أثير الدين قال: هو رجل حسنُ الأخلاق، كريم العشرة، محتمل، فيه كرم، وله خط حسن ونثر كثير ونظم.
وجالسته مراراً، وكتبت عنه، وقرأ علينا من نظمه ونثره كثيراً، وقد خمّس شذور الذهب. في صنعة الكيمياء تخميساً حسناً يقضي له بسبق النظم وجودة حوك الكلام، ومطابقة الفصل. وأنشدني قال: أنشدني من لفظه لنفسه:
اليوم يوم سرور لا شرور به ... فزوج ابن سماء بابنة العنب
ما أنصفَ الكأس من أبدى القطوب لها ... وثغرها باسم عن لؤلؤ الحبب
قلت: قد تقدم لهذا المعنى نظائر في ترجمة صدر الدين بن الوكيل.
وبه قال أنشدني من لفظه لنفسه:

صرّف بصرف الحميّا ما حمى طرباً ... فإن فيها لسم الهم درياقا
دنياك معشوقة والراح ريقتها ... فارشف مراشِفها إن كنت عشّاقا
وبه قال: أنشدني له يخاطب الشجاعي، وكان كاتبه:
أيا علم الدين الذي عينُ علمه ... تُريه المعالي نثرها ونظامها
قذفت لنا يا بحر أي جواهر ... وها هي فالبس فذّها وتؤامها
ومنها:
رأى الملكُ المنصورُ أنك صالحٌ ... لدولته يُلقى إليك زمامها
فولاكها إذا كنت في الرأي شيخها ... وكنت إذا نادى الصريخ غلامها
فما احتفلت إلا وكنت خطيبها ... ولا استبقت إلا وكنت إمامها
فلو غاب بدر الأفق نُبت منابه ... بل الشمس لو غابت لقُمت مقامها
نهضت بعبء الملك والأمرُ فادح ... وسُسْت الرعايا مِصرها وشآمها
ولمّا خمس شذور الذهب كتب إليه ابن الوحيد:
لقد رقّ تخميس الشذور فأصبحت ... مداماً ولكن كرمُها حضرة القدسي
هي الشمس والأشعار في جنب حُسنها ... نجوم وما قدْرُ النجوم مع الشمس
وكتب إليه شمس الدين بن دانيال:
إذا ناب في التقبيل عن شفتي طرسي ... وعن بصري في رؤيتي لكم نفسي
وواصلني منكم خيال مخصّص ... بروحي في حلم فما لي وللحسّ
ومن لي بمرآك الجميل الذي به ... لعيني غنًى عن طلعة البدر والشمس
على أنني مستأنسٌ بعد وحشتي ... بأنسِ ولي الدولة الأرخن النفس
غدوت به بعد البطالة عاملاً ... ولا مثلما أعملت في زاده ضرسي
وإن ابنه الشيخ الخطير لمسعفي ... بما شئت من رفد جزيل ومن أنس
وأقسم ما للأب والابن عندهم ... حياة بلا روح تجيء من القدس
ومن شعر شرف الدين القدسي:
يا ليلة بت أستجلي محياها ... كأنما بتّ أستجلي حميّاها
أولت يداً ثم ألوت بي فقلت إذاً ... ما كان أرخصها عندي وأغلاها
بيوسف الحسن جزء من محاسنه ... فاعجب لها وهي كثر كيف جزّاها
طال النهار انتصاراً فانطوت قصراً ... كأن في شفقيها كان فجراها
منها:
يدير من لحظه أو لفظه لُطفاً ... لو نستطيع لها شُرباً شربناها
والزير والبم والمثنى ومثلثه ... محرّكات من الأوتار أشباها
ومنه في مليح اسمه سالم:
وأهيف تهفو نحو بانةِ قدّه ... قلوب تبثّ الشجو فهي حمائم
عجبت له إذ دام توريد خدّه ... وما الورد في حالٍ على الغصن دائم
وأعجب من ذا أن حية شعره ... تجول على أعطافه وهو سالم
ومنه:
بي فرط ميل الى الغزلان والغزل ... فكيف لا يُقصر العذال عن عذلي
مالوا عليّ ولاموا في الهوى عبثاً ... من لم يمل سمعه مذ كان للملل
أضحى الغرام غريمي في هوى رشأ ... يغنيه عن كحله ما فيه من كحَل
فالبدر من حسنه قد راح ذا كلف ... والوردُ من خدّه قد راح ذا خجل
تشاغل الناس في الأسمار بي وبه ... وإنني عن حديث الناس في شغل
وأنشدني له قاضي القضاة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي، رحمه الله تعالى، قال: وأنشدني بعضها من لفظه:
ما مِلتُ عنك لجفوةٍ ومَلال ... يوماً ولا خطر السلوّ ببالي
يا مانحاً جسمي السقام ومانعاً ... جفني المنام وتاركي كالآل
عمّن أخذت جواز منعي ريقك ال ... معسول يا ذا المعطف العسّال
عن شعرك الفحام أن عن ثغرك ال ... نظام أم عن طرفك الغزالي
فأجابني أنا مالكٌ أهل الهوى ... والحسن أضحى شافعي وجمالي
وشقائق النعمان أضحى نابتاً ... في وجنتيّ حماه رشقُ نبالي
والصبر أحمد للمحب إذا ابتُلي ... في الحب من محن الهوى بسؤالي

وعلى أسارى الحب في سجن الهوى ... بين الملاح عُرفت بالقفّال
وقتلتُ معتزليّ في شرى الهوى ... وطرفت بالتنبيه عين السالي
وتفقّه العُشّاق فيّ وكل من ... نقل الصحيح أجزْتُهُ بوصال
والجوهري غدا بثغري ساكناً ... يحمي الصحاح بقدّي الميّال
وشهود جسمي لو نظرت إليهم ... بين الأنام عجبت من أفعالي
جرح البكاءُ عيونهم وقلوبهم ... وزكوا لقذف الدمع في الأطلال
والشاهد المجروح عندي صادق ... هل في قضاة العاشقين مثالي
وعلى رحيق الثغر صارمُ مقلتي ... ولّيته، ولكل ثغرٍ والي
وعلى مقامات الغرام شواهدٌ ... جسمي الحريري والبديع جمالي
ولبست من حُلل الجمال مفصّلاً ... حسن الملابس مدهش الغزالي
ولحسني الكشاف من جمل الضيا ... لمعاً لإيضاح الفصيح مقال
وأتى المطرّز نحو خدي راقماً ... طُرُز العذار وحاز في أشكالي
والواقديّ بنار هجري والجفا ... وكّلتُه فلكل سالٍ صال
وبلفظي الفراء يفري قلبَ من ... وافى بناظر ناظري بنصال
ومَصارعُ العشاق بين خيامنا ... ومقاتل الفرسان يوم نزال
ورفضْتُ نوم العاشقين فكلّ من ... ذكر الغرام فدمعه متوالي
ولديّ سلوان المطاع سفاهة ... لمتيّم أوثقتُه بحبالي
وخصصت إخوان الصفا برسائل ... ولهم صفا ودي وهم آمالي
والبيهقي بوجه كل معنّف ... في موقف التوديع والترحال
وبوجهي النقاش راح مفسّراً ... صورَ الملاحة من دليل دلال
ورقيبي الكلبي قد أخسأتُهُ ... بوقوفه في باب ذلّ سؤالي
ومجاهدٌ أضحى عليّ مقاتلاً ... خوفاً من الرقباء والعُذّال
وأبو نعيم منعم في حليتي ... إذ بات يمليها على النقّال
ومحاسني قُوت القلوب تكرّماً ... ومناقب الأبرار حُسْن فعالي
وتطلعي زاد للسير ومبسمي ال ... ضحّاك والمنثور حُسن لآلي
وبخدي الزهري جنّات المنى ... أضحى بها الثوري من عمّال
وبمنطقي قسّ الفصاحة ناطقٌ ... في فترة الأجفان للضلال
وقميص حُسني قُدّ من قُبُل الورى ... بيدي اليمين وتارة بشمالي
والثعلبي رأى الوجوه بجهده ... وحلا له في النقل وجهُ الحال
ولحسني الأنساب يرويها عن ال ... عدل الزكيّ بصحة النُقّال
فيراه للتمييز نصباً واجباً ... ورفعت عنه الهجر من أفعالي
ولي الخلافة في المِلاح بلحظي ال ... سفّاح والمنصور في أقوالي
وعلى محلّي بالجمال رواية ... في رايةٍ نُشرت ليوم جدال
ومدينة العلَم السخاوي أصبحت ... في راحتي فعُرفت بالبذّال
قال الأوائل ما رأينا مثله ... غصنٌ رطيب مثمر بهلال
قد عمّه الحسن الغريب وخاله ... ما في البرية منه قلبٌ خال
فوصلت عُشّاقي فلام معنّفي ... فأجبته هذا الذي يبقى لي
القوم أبناء السبيل وعندنا ... تعطى زكاة الحُسن كالأموال
قد طالما نقلوا حديث محاسني ... فهم عُدولي صحة ورجال
هذي القصيدة بالأئمة شرفت ... قدري وفقت بها على أمثالي
وكأنها العقد الثمين وهم بها ال ... در النظيم مكللاً بلآلي
قلت: قصيدة فريدة فائقة رائقة، إلا أنها فيها ألفاظ غير قاعدة، والتسامح يسكن قلقها.
محمد بن ناصر بن عليالقاضي الرئيس فخر الدين بن الحريري، بالحاء والرائين المهملات.

كان أولاً كاتب الأمير شهاب الدين قرطاي نائب طرابلس، أقام بها مدة ثم إنه عاد إليها مع مخدومه، وعمّر بها أملاكاً، ولم يكن لأحد معه فيها حديث. ولما انتقل مخدومه الى دمشق ثانياً عاد معه، ولما مات استمر بطّالاً مدة. ثم إنه باشر استيفاء النظر بدمشق مع الصاحب أمين الدين لما قبض على علم الدين إبراهيم المستوفي في صفر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ولما عزل الصاحب أمين الدين بالصاحب علاء الدين الحرّاني نقل القاضي فخر الدين الى نظر الديوان بطرابلس فتوجه إليها وأقام بها مدة.
ثم إنه توجّه في نوبة الفخري الى الديار المصرية وخرج منها مستوفي النظر بدمشق مع الصاحب علم الدين بن القطب، فأقام بها مدة يسيرة على ذلك، وانتقل الى نظر الجيش عوضاً عن القاضي فخر الدين بن العفيف فأقام بها قليلاً، وأعيد القاضي فخر الدين بن العفيف الى نظر الجيش، فأقام بدمشق مدة بطالاً. ثم إنه توجه الى الديار المصرية في سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ثم إنه تولى كتابة السر بطرابلس بعد عزل القاضي شهاب الدين بن القطب المصري، وأقام بها من أوائل سنة ثمان وأربعين وسبع مئة الى أن توفي رحمه الله تعالى بطرابلس يوم الأربعاء مستهل جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى أبيض أشقر سميناً فيه بشاشة وكيس ولطف ودماثة أخلاق ودهاء، وكان قد مشى بالفقيري، بالطاسة والأزار العسلي في وقت، وخلف عدة أولاد كل منهم اسمه محمد.
اجتمعت به غير مرة بدمشق والقاهرة.
محمد بن نبهانالشيخ الصالح الزاهد العابد الورع القدوة شيخ البلاد الحلبية.
كان فقيراً، بالله غنياً، خلياً من الدنيا وإن كان بسعادة الآخرة ملياً، مقيماً بزاوية في بيت جبرين معروفة بهم من قديم، موصوفة بإضافتها إليهم، لا يزال فيها للفقراء منهم خديم، واشتهر هذا الشيخ محمد بتلك الناحية، وأشرقت شمس عرفانه في سمائها المصحية ولا أقول الصاحية، وتبلّجت وجوه بركاته الضاحية، وعرف بالخير وقصد من كل أرض، وإنما يسقط الطير وكان يطمع كل من يرد عليه من أمير ومأمور، وذي قلب خراب من التقوى ومعمور، ولم يُسمع أنه قبل لأحد شيئاً قلّ ولا جلّ، ولا حرم ولا حل، لأنه كانت لهم أرض قليلة يزرعونها ويتبلغون مما يستغلّونها ويستَغْلونها، وإنما كانت أخلاف البركات عليهم تدُر، واللطف الخفيّ يقر فيهم ولا يفر.
وكان الشيخ محمد كما قال الغزّي:
هو حيلة الدنيا وبقراط العلا ... وشكيمة الناجي وحرز المتّقي
أمواله لموفّرٍ ومقصّر ... ومقالهُ لمحصّل ومحقّق
ولم يزل الشيخ محمد، رحمه الله، على هذه الطريق الى أن جاء الأمير سيف الدين طشمر حِمّص أخضر الى حلب نائباً، فاشترى لزاوية الشيخ أرضاً ووقفها على الزاوية، فامتنع الشيخ من ذلك وامتعض، وارتمى الى عدم القبول وارتمض. فقال الأمير: إنما هذا للزاوية، وليس هو لك، فبعد لأي ما قبل ذلك، وهو غير راض. ثم إن الأمير سيف الدين طقزتمر لما جاء الى حلب نائباً أيضاً وقف على الزاوية أرضاً أخرى فاتّسع الرزقُ بذلك على أولاده، وفاض الخير عليهم ببركات الشيخ.
ولم يزل على حاله حتى تنبّه الأجل لابن نبهان من رقدته، وعجّل الله له بالرحمة في أول نقدته.
وجاء الخبر بوفاته رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وصلي عليه بالجامع الأموي صلاة الغائب.
ولم نسمع عن الشيخ إلا صلاحاً وخيراً، وكان نُواب حلب جميعهم يعظّمونه، ويجلّونه، ويكرمونه، ويقبلون شفاعاته ويعملون بإشاراته، وكان منقطعاً عن الناس، منجمعاً.
وأخبرني القاضي ناصر الدين كاتب السر بدمشق قال: كان الشيخ محمد كثير التلاوة، وله كل يوم ختمة، ومن يراه يحسبه أنه لا يتلو شيئاً.
كتب إليه القاضي شهاب الدين بن فضل الله في جملة كتاب:
قيل جبريلُ مُنزَل لابن نبها ... ن محوط بمحكم التنزيل
قد تبدّى محمد في رُباها ... علماً للسائرين وابن السبيل
بوقار كأنه الليل خوفاً ... وجبينٍ يُنير كالقنديل
ليس يخشى الضلال من أمّ منه ... حضرةً أشرفت على جبريل

وأما أنا فلم يتفق لي لقاؤه، ولكن اجتمعت بولده الشيخ علي وقدم الى دمشق متوجهاً الى الحج في سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
ولما مات الشيخ محمد قلت أرثيه رحمه الله تعالى:
تنبّه صرفُ الدهر من بعد غفلةٍ ... وخصّ ابن نبهان بمطعم صابه
ومات فأحيا الذكر من بعده الثنا ... عليه كنشر الروض غب سحابه
فمن لقرى الأضياف من بعد فقده ... فقد طالما راق الجنا من جنابه
أقول وبعض القول يعطي تمامه ... كأنّ بني نبهان يوم مصابه
محمد بن نجيبابن محمد بن يوسف، الشيخ شمس الدين أبو عبد الله، الكاتب المجوّد والمحرّر المعروف بالخلاطي، إمام التربة القيمرية بالقباقبيين بدمشق.
سمع من ابن أبي اليسر، وحدّث.
وكان حسن الهيئة كريم الأخلاق، يكتبُ المنسوب، وكتب الناس عليه بعد الشهاب غازي المجوّد، وعنده قطع كثيرة من الخط المنسوب. وتوجّه الى القاهرة وأقام بالخانقاه مدة وعاد.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشري ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ودفن في مقابر الشيخ أرسلان.
ومولده سنة ستين وست مئة.
محمد بن نصر اللهابن عبد الوهاب، القاضي الرئيس علاء الدين الجوجري، بجيمين بينهما واو وبعد الجيم الثانية راء المالكي الحاكم بالقاهرة.
درّس الفقه على مذهب مالك بالجامع الحاكمي، وناب في الحكم عن قاضي القضاة تقي الدين الآخنائي المالكي، وكان ناظر خزانة الخاص.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة تاسوعاء سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ولعله قد تجاوز السبعين.
وولي نظر الخزانة بعده القاضي محيي الدين بن بنت الأعز.
محمد بن نصر الله بن محمودشهاب الدين، الشيباني العطار.
سمع من ابن مسلمة في سنة ثمان وأربعين وست مئة الجزء الذي كان عنده موافقات ابن عساكر، وسمع أيضاً من العراقي، وفرج الحبشي، ولم يحدث.
وتوفي رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة.
محمد بن نصر الله بن يوسفابن أبي عبد الله، الشيخ الصالح عز الدين القرشي الأبزاري المصري رئيس المؤذنين بحرم النبي صلى الله عليه وسلم.
كان عنده ثبتٌ وإجازات تركها بمصر، وغالب مسموعاته بقراءة المكين الحصني.
توفي رحمه الله تعالى ثالث عشري شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبع مئة عند فراغه من أذان الفجر بالمنارة الجديدة، من غير مرض ولا عرض، وكان له مشهد عظيم.
محمد بن هاشمابن عبد القاهر بن عقيل بن عثمان، ينتهي الى عليّ بن عبد الله بن العباس، الشريف شمس الدين أبو عبد الله بن الشريف تاج الدين بن الكاتب بهاء الدين.
روى عن عمّ والده الفضل بن عقيل، وعن ابن الزبيدي. وحدث بصحيح البخاري مرات، وكان اسمه مضمناً في إجازة ابن عساكر، وحدث عن أبي روح الهروي بها.
وتوفي في شهر رمضان سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ست وست مئة.
محمد بن الهمامابن ابراهيم بن الخضر بن همام بن فارس، ناصر الدين القرشي.
أخبرني شيخنا العلامة أبو حيان، قال: هو صاحبنا، كان له سماع في الحديث، وقد حدّث عن النجيب الحرّاني. وكان ذا خطّ حسن وصورة حسنة كريماً محبّاً في الفقراء إماماً للأدباء، حسن النغمة بالقرآن، وإنشاء الشعر، باشاً بأصحابه، يحب من يأكل طعامه ومَن يجتمع به. وكان يعرف الحساب واشتغل بالخدم، وناب في نظر البيمارستان المنصوري، وكان الفقهاء معه في الجوامك على أحسن حال.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وسبع مئة.
محمد بن أبي الهيجاء بن محمدالأمير الفاضل عز الدين الهذباني الإبلي، متولي دمشق.
قدم الشام شاباً، واشتغل، وجالس العز الضرير. وكان جيّد المشاركة في التاريخ والأدب والكلام.
قال شيخنا الذهبي: وهو معروف بالتشيع والرفض، وكان شيخاً كردياً مهيباً، يلبس عمامة مدوّرة، ويرسل شعره على أكتافه. ولي دمشق وكان جيّد السياسة.
توفي رحمه الله تعالى بالسوّادة التي في رمل مصر سنة سبع مئة.
ومولده بإربل سنة عشرين وست مئة.
محمدالأمير الكبير بدر الدينبن الوزيري، توفي بدمشق بدار الجاولي ظاهر دمشق في يوم الأربعاء سادس عشر شعبان سنة ست عشرة وسبع مئة ودفن برأس ميدان الحصى.

كان عنده معرفة وله فضيلة، وتكلم في الديار المصرية في أمر الأوقاف والقضاة والمدرسين، وناب بدار العدل عن السلطان مدة، صاحب الميسرة وأمير مئة ومقدم ألف. وخلّف تركة عظيمة، ثم إنه صرف عن ذلك ونقل الى دمشق.
محمد بن يحيىالمنصور بالله، أبو عصيدة بن الواثق الدهَنتاتي، بفتح الهاء وسكون النون وبعدها تاء ثالثة الحروف وبعدها ألف وتاء أخرى. تملك تونس بإشارة المرجاني في آخر سنة أربع وأربعين وست مئة.
كان شريف النفس مهيباً، جيّد الرأي أديباً، صالحاً ديّناً، حميد السيرة صيّناً، ظريفاً شكله ذريعاً أكله، ينفق في جنده، ولا يرد أحدهم على رفده.
ولم يزل على حاله حتى رمي أبو عصيدة باليوم العصيب، ورماه الحمام بسهمه المصيب.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة.
ولم يعهد الى أحد، فقام بعده ابن عمه، فقُتل بعد أيام، توثّب عليه المتوكل خالد بن يحيى من بني عمه وتملك، ثم خلع بعد يومين.
ومات أبو عصيدة رحمه الله تعالى شاباً، وإنما لقب بذلك لأنه عمل في سماط عصيدة عظيمة في وعاء سعته تفوق العبارة، في وسطها بركة واسعة مملوءة سمناً، ويليها خندق عسل ثم خندق من دهن ثم خندق من دبس ثم خندق من زيت ثم خندق من رب خرنوب، سبعة خنادق، والله أعلم، وكان عسكره نحواً من سبعة آلاف.
محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن أحمدالشيخ الإمام العلامة أبو عبد الله القرطبي المالكي الأشعري، نزيل مالقة ومحدثها وفقيهها ووزيرها.
وكان أشعرياً، وكان آخر من حدث عن والده بالسماع، وسمع من الدباج والشلوبين، وابن الطيلسان. وكان من جملة محفوظاته المقامات.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومولده بقرطبة سنة ست وعشرين وست مئة.
محمد بن يحيى بن أحمدابن علي بن يَس، الشيخ شمس الدين الحِميري المعروف والده بابن المعلم.
سمع من ابن عبد الدائم وروى عنه، وسمع من عمر الكرماني. وكان له ملك يرتزق منه.
وسمع منه شيخنا علم الدين البرزالي.
توفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من صفر سنة أربع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
محمد بن يحيى بن موسىالشيخ شرف الدين بن نجم الدين بن تاج الدين أبي البركات الصائغ المعروف بابن صفّ عذاره.
وكان شيخنا أوصى بثلث ماله أن يُشترى به وقفٌ للصدقة فكان أربع مئة دينار وكسوراً، ووقف وقفاً على من يقرأ صحيح البخاري كل سنة في شهر رمضان بالإسناد.
توفي رحمه الله تعالى في أول ذي الحجة سنة تسع وسبع مئة.
محمد بن يحيى بن محمد بن عبد الرحمنالشيخ الإمام المفتي المدرس بدر الدين ابن القاضي جمال الدين بن الفُويرة الحنفي، تقدم ذكر أخيه علاء الدين علي، وسوف يأتي ذكر والده جمال الدين إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف الياء.
اشتغل كثيراً، ورقى من الحفظ محلاً أثيراً، تفنن في العلوم وتفند عما سوى ذلك من ملاذ المشارب والطعوم، وحصّل رأس مال جيد من الفقه وأصوله، وأنفق ولم يخش ذهاب محصوله.
ولم يزل على حاله الى أن فار وفاض أجل الفويرة، وسبق أقرانه، وما جدّ في سيره.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء، الثالث والعشرين من شعبان سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
وكان له حلقة إشغال في الجامع الأموي عند شباك الكاملية في الحائط الشمالي، ودرس بالخاتونية البرانية وبمجلس الرأس، وخطب بالزنجليّة وسمع عن جماعة، وحدث.
وكان قد انتشا له ولد تقدير عمره ست عشرة سنة، وحج وهو صغير مع والده سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، وحفظ الكتاب العزيز، وسمع الحديث، وحفظ شيئاً من الفقه، فمات في شهر صفر من سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، ففجع فيه والده وأهله، وحزن والده عليه حزناً عظيماً، ولم يعش والده بعده إلا هذه المدة اليسيرة، ولحقه الى الله تعالى.
وكان الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى رفيقاً للقاضي فخر الدين المصري يجاريه في الإشغال فناً بعد فن، خلا أن ذلك كان شافعياً وهذا حنفياً، وكان كثيراً ما يمشي هو وشمس الدين محمد بن زين الدين المقرئ الصفدي، فكان الناس يسمونها القط والفأر.

وحضرت يوماً عنده في حلقة إشغاله، وأوردت عليه أن لفظه طَهُور صيغة مبالغة في تكرير الفعل من الفاعل مثل صبور وقتول، وأكول وشروب، فكيف يسلب الماء الطهورية بالمرة الواحدة، على ما تقدم في ترجمة تقي الدين أبي الفتح السبكي مما نظمته وأجاب عنه نظماً، فأعجب الشيخ بدر الدين هذا الإيراد وزهزَهَ له، ولم يجب عنه، ولم يكن في طباعه مع كثرة علومه وتفننه إقامة وزن الشعر.
أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: كان بدر الدين بن الغويرة ينشد قول الشاعر:
معاوي إننا بشر فأسجحي
بإثبات الياء بعد الحاء.
محمد بن يحيى بن أحمد بن سالمالأمير بدر الدين بن الخشاب ابن العدل زين الدين القرشي الدمشقي.
دخل بدر الدين هذا في الجندية، وباشر الشدّ في ديوان سلار في بلاد صفد وقضى من السعادة في هذه المباشرة ما لا يوصف، وحصّل جملاً، وبقي فيما بعد من أعيان مقدمي حلقة صفد. ثم إنه ترامى الى الأمير سيف الدين تنكز، فأمّره عشرة، وجعله مشدّ الديوان بصفد ووالي الولاة، وحضر إليها في سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ثم إنه نقله الى دمشق على شد الدواوين بها عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الطرقجي، فوصل إليها في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة بإعانة الصاحب غبريال له. ثم إن الصاحب عُزل في أيامه وتولى هو مصادرته.
ولم يزل على وظيفة الشد الى أن عزل منها، وصودر في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وأقام في الترسيم نحواً من أربعة أشهر. ثم إنه أفرج عنه، وتولى فيما أظن بعد ذلك بيروت بواسطة سيف الدين قرمشي، لأنه كان مزوّجاً بأخت قرمشي. ثم إنه نقله الى ولاية نابلس، وتقلب في المباشرات كثيراً.
ولم يزل على حاله في دمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى في شوال سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
وكان يحب المباشرات ولو كانت، مهما كانت عالية أو سافلة.
وكان فيه كرم وخدمة لأرباب الدولة ما عليها مزيد. وكان مع اتساع دائرته لا يخرج فلساً لبقل حتى يضبطه في تاريخه عنده في تعليق وكان عجباً في هذا الباب.
محمد بن يحيى بن فضل اللهالقاضي بدر الدين بن القاضي محيي الدين.
توجه الى الديار المصرية صحبة والده، وعاد معه الى دمشق، ثم توجه معه ثانياً الى الديار المصرية، وأقام بها الى أن أخرجه أخوه القاضي علاء الدين الى كتابة السر بالشام عوضاً عن أخيه القاضي شهاب الدين بن فضل الله، فوصل الى دمشق في أوائل شهر رجب الفرد سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
وكان عاقلاً ساكناً كثير الإطراق، ملازم الصمت، لا يفوه بكلمة تودي الى الإحراق أو الإغراق، يخدم من يقصده ولا يلتفت الى من يزحمه أو يحسده، فأحبّه الناس وخضعوا، وطأطأوا رؤوسهم له واتّضعوا، وارتشفوا كؤوس محبّته وارتضعوا. وكان خطه جيداً يزين به مهارقه، ويودع الدرّجيد دَرْجه ومفارقه.
ولم يزل على حاله الى أن خسف بدره في ليلة تمامه، وأدار الغصن عذبته لنوح حمامه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر من شهر رجب الفرد سنة ست وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة عشر وسبع مئة.
وهو شقيق أخيه القاضي شهاب الدين، وخلّف نعمة طائلة، وعمر أملاكاً مليحة عند قناة صالح داخل باب توما، وكان أحب الإخوة الى والده القاضي محيي الدين.
وكان أخوه القاضي علاء الدين وهو أصغر سناً منه قد أدخله بعد موت والدهما الى دار العدل، وجلس في أيام السلطان الملك الناصر محمد ووقّع في الدست، ولما توجه القاضي علاء الدين الى الكرك صحبة الناصر أحمد، وتسلطن الملك الصالح إسماعيل، سدّ هو الوظيفة الى أن عاد أخوه، ثم إن أخاه جهزه الى دمشق صاحب ديوان الإنشاء، ولما مات رحمه الله تعالى كتبت الى أخيه القاضي علاء الدين أعزيه فيه على لسان الأمير عز الدين طقطاي الدوادار ارتجالاً من رأس القلم وهو:

يقبّل الأرض لا ساق الله إليها بعدها وفدَ عزاء، ولا أذاقها فَقْدَ أحبّةٍ ولا فراق أعزاء، ولا أعدمها جملة صبر تفتقر منه الى أقل الأجزاء وينهي ما قدره الله تعالى من وفاة المخدوم القاضي بدر الدين أخي مولانا، جعله الله وارث الأعمار، وأسكن من مضى جنّات عدن، وإن كانت القلوب بعده من الأحزان في النار، فإنا لله وإنا إليه راجعون، قول من غاب بدره وخلا من الدست صدره، وعمّ مصابه فهو يتأسى بالناس، وعدم جَلَده فقال للدمع: اجرِ فكم في وقوفك اليوم من باس، وهذا مصاب لم يكن مولانا فيه بأوحد، وعزاء لا ينتهي الناس فيه الى غايةٍ أو حدّ:
علينا لك الإسعاد إن كان نافعاً ... بشقّ قلوب لا بشق جيوب
فما كان الدست الشريف إلا صدراً نزع فيه القلب، أو نجوماً بينما بدرها يشرق نوراً إذا به في الغرب، وما يقول للملوك إلا إن كان البدر قد غاب فإن النير الأعظم واف، وبيتكم الكريم سالم الضرب، وإنما أدركه بالوهم خفي زحاف، وما بقي إلا الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر والاحتساب، وبتسليم الأمر الى صاحبه الذي كتب هذا المصرع على الرقاب: وفي بقائك ما يسلي عن الحزن، وظلّ مولانا بحمد الله تعالى باق على بيته، وما نقص عددٌ ترجع جملته الى مولانا، وكلنا ذلك الدارج، والله لا يذيقه بعدها فقد قرين ولا قريب، ويعوض ذلك الذاهب عما تركه في هذه الدار الفانية من الدار الباقية، بأوفر نصيب إن شاء الله تعالى.
وقلت أرثيه، ولم أكتب بذلك لأحد:
لفقدك بدْرَ الدين قد مسنا الضّر ... وأظلم أفقُ الشام واستوحشت مصر
وشُقّق حبيبُ الروح واستعبر الحيا ... ولُطّم خد الورد وانصدع الفجر
وكادت لنوح الوُرق في غسق الدجى ... تجف على الأغصان أوراقها الخضر
لك الله من غادٍ الى ساحة البلى ... ومن بعده تبقى الأحاديث والذكر
كأن بني الإنشاء يوم مصابه ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر
محمد بن يحيى بن محمدالشيخ الإمام الصدر الكبير شمس الدين بن قاضي حرّان الحراني الحنبلي، ناظر الأوقاف بدمشق.
كان صدراً محتشماً نبيلاً.
توفي رحمه الله تعالى في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربة ابن الصباب بالصالحية، وعمل عزاؤه بكرة الجمعة بمحراب الصحابة بجامع دمشق.
وتولى نظر الأوقاف عوضه القاضي عماد الدين بن الشيرازي مضافاً الى نظر الجامع.
محمد بن يحيىالمعمّر الصالح كمال الدين، ابن القاضي محيي الدين بن الزكي القرشي.
حدث عن ابن النحاس، ودرس بأماكن.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
محمد بن يعقوب بن بدرانالإمام المسند المقرئ أبو عبد الله بن الجرايدي - بالجيم - الأنصاري الدمشقي ثم القاهري، نزيل بيت المقدس.
أجاز له السخاوي، وسمع بمصر سنة أربع وأربعين، وبعدها من ابن الجميزي، وسبط السلفي، والمنذري، والرشيد العطار وتلا بالسبع مفردات على الكمال الضرير، وسمع منه الشاطبيّة، ومن ولد الشاطبي، وجود الخط، ودخل اليمن، وروى بأماكن.
روى عنه شيخنا البرزالي والواني، وشيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وجماعة.
واستوطن القدس ثماني سنين، وبه توفي سنة عشرين وسبع مئة.
ومولده بدمشق سنة تسع وثلاثين وست مئة.
محمد بن يعقوب بن زيدالشيخ الإمام العالم شمس الدين أبو عبد الله البلفيائي الشافعي المحدث.
كان قد رافق شيخنا العلامة تقي الدين قاضي القضاة السبكي في سنة خمس وسبع مئة، وسمع معه على ابن الصواف، وسمع بالقاهرة، وما برح يسمع الى أن مات. وكان عدلاً فاضلاً ورعاً وديّناً.
توفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبع مئة ودفن بالقرافة، وكان الجمع متوفراً.
محمد بن يعقوبالشيخ الإمام العالم الأديب بدر الدين، ابن النحوية، الأديب، نسبة الى النحو.
كان أديباً لبيباً، فاضلاً أريباً، حمى سرح النحو بحماة، وشاد ركنه وحماه، له يد في النحو طولى، وذهن بلغ به من الغوامض سولا بما أصفه وهو ابن النحوية، والفرع فيه ما في الأصل، وزيادة مَحويّة، وتصانيفه تشهد له بالتقدم وتحكم بأن مجده آمنٌ من التهدّم.

ولم يزل على حاله الى أن أصبح لقىً بين يدي المنايا، وحكمت فيه الرزايا.
وتوفي رحمه الله تعالى.
اختصر الشيخ بدر الدين المصباح الذي لبدر الدين بن مالك في المعاني والبيان والبديع، وسماه ضوء المصباح وهذه تسمية حسنة.
قلت: وهذه التسميات تحتاج ذوقاً، كما اختصر ابن سناء الملك كتاب الحيوان للجاحظ، وسمّاه روح الحيوان، البرق السامي، وسمي سنا البرق، وصنف شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي كتاباً سماه النور في مسائل الدور واختصره فسماه قطف النور. واختصرت أنا ديوان السّراج وسميته لمع السّراج. وشرح الشيخ بدر الدين ضوء المصباح في مجلدين وسماه إسفار الصباح عن ضوء المصباح. وكتبته بخطي وفي البديع مثلٌ مثّل بها، وفيها نظر، وعندي في التسمية أيضاً نظر، وشرح أيضاً ألفية ابن معط شرحاً حسناً وسماه حرز الفوائد وقيد الأوابد.
أنشدني من لفظه الشيخ الإمام العلامة نجم الدين القفحازي قال: أنشدني من لفظه لنفسه شيخنا بدر الدين محمد بن النحوية ما كتبه ارتجالاً على قصيدة أحضرها بعض شعراء العصر يمدح فيها صاحب حماة:
لا ينشدَنْ هذا القريض متيم ... خوداً يحاذر من أليم صدودها
فتملّه وتصدّه وتظنه ... أن قدْ أغار على فريد عقودها
قلت: لا يقال: إلا حاذرت كذا، ولا يقال إلا صدّ عنه، اللهم إلا أن يكون حمل ذلك على المعنى، فيكون حاذرت بمعنى خفت، وتصدّه بمعنى تجفوه، وفي هذا ما فيه. وقد بلغني من قاضي القضاة جلال الدين القزويني أنه قال: اجتمعت ببدر الدين بن النحوية في العادلية وسألته عن قول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليّ ذنباً كلّه لم أصنع
في تقديم حرف السلب وتأخيره، فما أجاب بشيء، أو كما قال. وقد تكلم ابن النحوية في هذا البيت في إسفار الصباح كلاماً جيداً، والسبب في ذلك أنه ما يلزم كل من وضع مصنفاً أن يستحضر جميع مسائله متى طُلب ذلك منه، لأنه حالة التصنيف يراجع الكتب المدونة في ذلك الفن ويطالع الشروح فيحرر الكلام ذلك الوقت، ثم إنه يشذ عنه، وهذا الشيخ علاء الدين الباجي كان إماماً علامة في فنونه، وقد وضع كتاباً في الجبر والمقابلة، قال لي عماد الدين الدمياطي: سألته مسألة في الجبر والمقابلة فما أجاب.
قلت: وهذا لا ينقص من قدر الباجي.
محمد بن يعقوب بن عبد الكريمالقاضي ناصر الدين بن الصاحب شرف الدين، كاتب السر الشريف بحلب ودمشق.
سألته عن مولده فقال: تقريباً في سنة سبع وسبع مئة بحلب.
كان من رجالات الدهر عزماً وحزماً، وسياسة ودُربة بالسعي وفهماً. ينال مقاصده ولو كانت عند النعائم، ويتناول الثريا قاعداً غير قائم، وكتب ما يصبح به طرسه، وكأنه حديقة، وينظم بسرعة لا يقف فيها قلمه يُخال البرق رفيقه.
باشر كتابة السر بحلب ودمشق مرتين، وخرج من كل منهما وهو قرير العين. وكان محظوظاً من النواب الذين يباشر بين أيديهم، وله عندهم الوجاهة التي لا تعدوه عند غضبهم وتعدّيهم، يشكرونه في المجالس، ويثنون عليه عند أرباب السيوف وأصحاب الطيالس ويقبلون شفاعته ما عسى أن تكون، ويثقون الى ما عنده من التأني والسكون:
فأمرهم رُدّ الى أمره ... وأمره ليس له ردّ
ومع هذا فكان ساكناً وادعاً، راداً على من اتصف بالشر رادعاً، أخلاقه تعلم النسمات حسن الهبوب، ويُغفر لها ما يعدّه الناس للدهر من الذنوب.
ولم يزل على حاله الى أن اعتلّ، ورماه الموت بدائه وانسلّ.
وتوفي رحمه الله تعالى بكرة الأحد سادس ذي القعدة سنة ثلاث وستين وسبع مئة، ودفن بتربته بمقابر الصوفية، وكانت جنازته حافلة.
قال لي: قرأت القرآن على الشيخ تاج الدين الرومي، وعلى الشيخ ابراهيم القبج. وقرأ الحاجبية على ابن إمام المشهد، وقرأ مختصر ابن الحاجب، وحفظ التنبيه، وأذن له الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني بالإفتاء، ودرّس في حلب بالنورية وغيرها، واشتغل على ابن خطيب جبرين قاضي حلب في الأصول، وقرأ في الهيئة على أمين الدين الأبهري، وكان يستحضر من كليّات القانون جملة، وعلى ذهنه من العلاج جملة وافرة، ويستحضر من قواعد المعاني والبيان مواضع جيدة.

وولي في حياة والده نظر الخاص المرتجع عن العربان، ثم نُقل الى كتابة الإنشاء بحلب. وكان الأمير سيف الدين أرغون نائب حلب يقرّبه ويحبه ويحضر عنده في الليل، ويقول له: يا فقيه، ودخل به الى توقيع الدست في حلب، وتولى تدريس المدرسة الأسدية بحلب سنة أربع وأربعين وسبع مئة، ثم إنه ولي كتابة السر بحلب عوضاً عن القاضي شهاب الدين بن القطب سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وتولى قضاء العسكر بحلب في أيام الأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير نائب حلب.
ولما توفي زين الدين محمد بن الخضر كاتب سرّ دمشق طلب الأمير سيف الدين يلبغا من السلطان أن يكون القاضي ناصر الدين عنده بدمشق كاتب سر، فرسم له بذلك، ووصل الى دمشق في رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فباشر كتابة سرّ دمشق وبيده تدريس الأسدية بحلب الى أن مات بدمشق، وبيده أيضاً قضاء عسكر حلب وهو بدمشق الى أن نزل عنه لمن بذل له شيئاً، ثم إنه تولى تدريس المدرسة الناصرية الجوّانية بدمشق، وتدريس المدرسة الشامية الجوانية ومشيخة الشيوخ.
وكان يزعم أنه سمع على سنقر مملوك ابن الأستاذ حضوراً في الرابعة، كذا قال لي من فمه، وعندي في ذلك شيء، فإن سنقر المذكور توفي سنة ثمان وسبع مئة، وناصر الدين فمولده على ما أخبرني في سنة سبع وسبع مئة، فهذا الحضور في الرابعة على سنقر لا يتصور.
وكان ينظم سريعاً، ويكتب خطّاً حسناً، وحصّل لأولاده الإقطاعات الجيدة من إمرة العشرة الى ما دونها، ولمماليكه ولألزامه، والرواتب الوافرة على الديوان، وعلى الجامع الأموي واقتنى من الكتب النفيسة المليحة جملةً وافرة، ومن الأصناف من القماش والجوهر واللؤلؤ وغير ذلك جملاً، واقتنى الأملاك الجيدة والبساتين المعظمة في دمشق وغالب بلادها، وفي حلب وغالب معاملاتها.
وكان رجلاً سعيداً محظوظاً الى الغاية، إلا أنه لم يكن فيه شرٌ، ولا تسرع يملك نفسه، ويكتم أذاه وغيظه ولا يواجه أحداً بسوء.
ولما كان في سنة ستين وسبع مئة رسم له بكتابة سر حلب عوضاً عني، وجُعل القاضي أمين الدين بن القلانسي عوضاً عنه بدمشق، وحضرتُ أنا على وظائف ابن القلانسي، وذلك في أوائل سنة ستين.
ولم يزل بحلب الى أن حضر السلطان الملك المنصور محمد بن حاجّي الى دمشق في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في سنة اثنتين وستين وسبع مئة، فولي القاضي ناصر الدين كتابة سر دمشق عوضاً عن القاضي أمين الدين بن القلانسي في ثاني عيد الأضحى، فباشر كتابة السر الى أن مات رحمه الله تعالى.
وباشرت معه كتابة الإنشاء بدمشق مدة ولايته الأولى وما فارقته فيها في سفر، ولا حضر، وبيني وبينه بداءات ومراجعات في عدة فنون، وكلها في أجزاء التذكرة التي لي، من ذلك ما كتبه إليّ وقد وقع مطر عظيم:
كأن البرق حين تراه ليلاً ... ظُبىً في الجوّ قد خُرطت بعنف
تخال الضوء منه نار جيشٍ ... أضاءت والرعود حسيس زحف
وكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
يحاكي البرق بشرك يوم جُود ... إذا أعطيت ألفاً بعد ألف
وصوت الرعد مثل حشا عدوّ ... يخاف سطاك في حيف وحتف
ثم كتب هو إليّ:
لئن أوسعت إحساناً وفضلاً ... وجُدتَ بنظم مدح فيك لائق
فهذا الفضل أخجل صوب سحبٍ ... وهذا البشر أخجل بشر بارق
وكتب هو إليّ أيضاً:
وكأن القطر في ساجي الدجا ... لؤلؤ رصّع ثوباً أسودا
وإذا ما قارب الأرض غدا ... فضةً تشرق من بعده المدى
فكتبت أنا الجواب إليه:
ما مُطرنا الآن في المرج سدى ... ورأينا العذر في هذا بَدا
نظر الجوّ لما تَبْذلُه ... فهو يبكي بالغوادي حسدا
وكتب هو إليّ أيضاً:
طبّق الجوّ بالسحاب صباحاً ... ومُطرنا سحّاً مغيثاً وبيلا
نسخ الريّ كل قحط ويبس ... بغمام أهدى لنا سلسَبيلا
ارتشفنا منه الرضاب فخلنا ... عن يقين مزاجه زنجبيلا
فكتبت أنا الجواب إليه بديهاً:
جلتِ الأرضُ بعد قحط ويبسٍ ... من بكاء الغمام وجهاً جميلا
وتثنى القضيب فيها رطيباً ... وتمشّى النسيم فيها عليلا

هكذا كل بلدة أنت فيها ... يجعل الغيثُ في حماها مسيلا
وكتب هو إليّ بعد ذلك:
أوضح الله للبيان سبيلا ... بك يا أقومَ المجيدين قيلا
إن تثنى القضيب في الروض عجباً ... وتبدى نضاره مستطيلا
فبأقلامك المباهاة فخراً ... كل غصن رطب وخداً صقيلا
ولئن زدْت في ثنائي فإني ... شاكر فضلك الجزيل طويلا
لم أنس بالمرج مرّ لنا ... به حللنا في غاية الشدّهْ
تقابل الرعدَ منه خيمتُنا ... بسورة الانشقاق والسجدهْ
وكتبت أنا إليه:
ما أنس لا أنس يوم المرج حين غدت ... أمطاره بدموع العين تمتزج
كم في الختام فتوق كالعيون غدت ... أجفان رفرفها بالريح تختلج
وكتبت إليه في السنة الثانية، ونحن بالمرج أصف حرّ الظهائر:
مرج دمشق عجب أمره ... في الطيب والكره غدا خارجا
كم نسج الحرّ به للندى ... وكان مرجاً فغدا مارجا
وكتب هو إليّ ملغزاً: أيها العالم الذي فاق علماء زمانه، وعلا قدراً في معانيه وبيانه، وقام بصلاحه عماد الأدب بعد هوانه: ما اسم شيء سداسي الحروف، ظرف للعشرات والألوف، لا تنفك علتاه الصورية والغائية عن عاطف ومعطوف، يمنع من القنص ويُتخذ كاتخاذ القفص، ولا يوصف جلده ببهق ولا برص، أعجمي المسمى، حرم دان لمن تأمله ورُزق حزماً، إن صُحّف نصفه كان من علل العروض، وأتى عقاباً ليعملة غير ركوض، وربما دخل تصحيفه في ألقاب الإعراب وأتى مشكوراً من ذوي السيادة والآداب، وإن اعتبر نصفه الثاني فهو مرادف قريب، واستُحب من الحبيب، وإن قُلب كان للرؤساء مكاناً، وربما أضيف الى قبيلة إذا أردت بياناً، فاكشف لنا أيها العالم عن معمّاه، فما برحت تكشف عن وجوه الإعجاز حجابها، وتكسف نور الشمس وترفع جلبابها، وتنزع عن المعميات بنور بصيرتك ثيابها.
فكتبت أنا الجواب إليه، وهو في حرمدان: يا فريداً جمع الله فيه فنون الآداب، ووحيداً علا عن الأشكال والأضراب، وخبراً بل بحراً زخرت بالعلوم أمواجه، وبل للإضراب. نزّهت بصري وبصيرتي في هذه الحدائق التي لاتزال العيون إليها محدّقة، ولا تبرح كواكبها في سماء بلاغة لا يسبح قمرها في الطريقة المحترقة، فرأيتك قد ألغزت في ظرف، حوى حُسن الشكل والظُرف، وفي الألف والنون والتركيب ولا يُمنع من الصرف، وسدساه الأولان ثلثا حرف وسدساه الآخران حرف يعبّر بألفاظه عن بابك المعمور للخائف، لأنه حرم قريب لا يوجد به حائف، حِرز لما يودع فيه، وهذا الوصف له من أجلّ الوظائف، ذو جلَد على الغربة، فبينا هو بالبلغار إذا هو بالطائف، ليس بعربي، وعهده بالعجم قد تقادم، وليس هو من بني آدم. وإذا قلبته وجدت به آدم، ولا يفوه بكلمة، ومتى عكس ثلثاه نادم، يتلون ألواناً، وما ضمّ جسده حسدا، ونصفه مرح إذا قُلب، وسدساه داء، وكله يرى ما بين جنبيه لا جفنيه رمدا، يماثل قول المحاجي الأديب، مأمن للخائف قريب. وله خواص أُخر عجيبة وصفات بعيدة إلا عن ذهنك الصافي فإنها قريبة.
هذا ما ظهر للمملوك منه، وكُشف له من الغطاء عنه. فإن وافق الصواب فهو بسعادتك وبركات خاطرك، يا شيخ الشيوخ ويُمن إرادتك، وإلا فالعذر ظاهر في القصور، وشرّ الطير يأوي الخراب وخيرها يأوي القصور. والله يمتّع الأنام بهذه الكلم اللؤلؤيات، ويمنع بفضله من تحدي لمعارضة هذه الآيات البيّنات، بمنه وكرمه.
محمد بن يوسف بن عبد اللهالحزري شمس الدين، يُعرف بابن الحشّاش، وبالخطيب.
قال شيخنا البرزالي: كان أبوه صيرفيّاً بالجزيرة.
وقال كمال الدين الأدفوي: كان ذا فنون، وكان محسناً الى الطلبة. قدمت من الصعيد في سنة ست وسبع مئة، فوجدته يدرّس بالمدرسة الشريفية، وتؤخذ عليه دروس كثيرة، فسألته أن يرتّب لي درساً، فاعتذر بضيق الوقت، ثم قال: ما لك شغل؟ فقلت: لا، فقال: تحضر بعد العصر، فإن اتفق أن تجدني اقرأ. ففعلت ذلك، فلم يخلُ يوماً من الخروج إليّ، فقرأت عليه قطعة من المنتخب في أصول الفقه، وخصّني بوقت مع كثرة أشغاله وانتصابه للإقراء الى نصف النهار.

وكان حسن الصورة، مليح الشكل، حلو العبارة، عالماً بفنون من الفقه على مذهب الشافعي، والأصولين، والنحو، والمنطق، والأدب، مشاركاً في هندسة وغيرها من الرياضيات. قدم قوص مجرداً، فوجد بها الشيخ شمس الدين الأصبهاني حاكماً، فقرأ عليه فنونه، ثم إنه قدم مصر، واشتغل بها، وأعاد بالمدرسة الصاحبية، وأقام بالقاهرة، وولي تدريس الشريفية، وانتصب للإقراء، فقرأ عليه المسلمون واليهود وغيرهم. وكان يلقي دروساً، وتقرأ عليه طائفة، وصحب الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وارتفعت منزلته عنده مدة، ثم إنه وقع بينه وبين الشيخ نصر المنبجي فحطّ عند بيبرس من قدره، وشهد عليه بعض طلبته. وكان خطيباً بالقلعة، فعُزل عنها، وتولى الخطابة بالجامع الطولوني مدة، ثم لما عاد السلطان الملك الناصر سنة تسع وسبع مئة مشى حاله.
وتولى المدرسة المعروفة بالمعز بمصر.
وله تصانيف منها شرح التحصيل في ثلاث مجلدات، وشرح منهاج البيضاوي في مجلدة لطيفة ليست بطائل، صنّفه في آخر عمره، واعتذر في خطبته بالكِبَر، وله أجوبة على أسئلة المحصول، وشرح ألفية ابن مالك.
وكان فيه مروة وكرم أخلاق على الإطلاق، يسعى في حوائج الناس بنفسه، ويبذل جاهه لمن يقصده، ويسعفه بأربه. وله ديوان خُطب وشعر كثير.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بمصر في سادس ذي القعدة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وقد جاوز الثمانين.
ومن شعره:
لم أصْبُ للبرق من تيماء يأتلق ... إلا وللقلب من حُبّيكم عُلَقُ
يعتاض من حرّ أنفاسٍ تلهّبه ... ثم استقل ولي في طيّه حرَقُ
يا لامع البرق إما لُحت معترضاً ... لا تستقرّ كقلب هزّهُ القلق
إني أخال خفوقاً منك في عجَل ... يهدى وقلبيَ لا يهدا به الفرَق
ويا نسيم الصبا هل لَبْثة بربى ... نجدٍ على غفلة الواشين تتفق
وسل أُهيليه عن قلبي وما صنعوا ... به فإني بما ترويه لي أثق
وعُد إليّ بما ضُمّنت من خبر ... وفي دجا الليل من ظلمائه رمق
ومل إليّ دُوين القوم مستتراً ... كي لا ينمّ علينا نشرُك العبق
أبثكم أن لي من بعدكم كبداً ... أمست إليكم بنار الشوق تحترق
أهوى المنام لمسرى طيفكم كلفاً ... به عسى مقلتي بالطيف ترتمق
وهل يخوض الكرى جفناً تقسّمه ... كما يشاء الغرام الدمع والأرق
إن أحتكم أنا والأشواق نحوكم ... يشهد بدعواي جفن من دمي شَرِقُ
لا تسمعوا فيّ أقوال الوشاة ولا ... تُصغوا سماعاً بما قالوه واختلقوا
قالوا: نَبَتْه الليالي في تقلّبها ... عن حبكم، فتناساكم وما صدقوا
ومنه:
يعيذك من نار حوتها ضلوعه ... مشوق أحاديث البُعاد تروعه
بعدت فلما يعرف النوم جفنه ... ولم يدر هل كان السكون يريعه
وكيف يلذ العيش بعدك مَن غدا ... من العمر في محل وأنت ربيعه
وها نَبْت فوديه يلوح مصوّحا ... ويبدو كمبيّض الهشيم فروعه
أقول وقد حمّلت بثّي إليكم ... نسيماً وظني أنه لا يضيعه
لعل النسيم الحاجريّ إذا قضى ... رسائله يُقضى إليّ رجوعه
ومستخبر عن حال قلبي وما الذي ... سرى منه لما بنت، قلت: جميعه
ويسألني عن ناظري ما الذي ترى ... تأخر عندي منه، قلت: دموعه
منها:
وإني متى ما ضم شملي وشملكم ... ويدعو بنا داعي الهوى لا أطيعه
فما كل حين لي دموع أريقها ... ولا كل وقت لي فؤاد تريعه
ومن شعره:
سل عن أحاديث أشواقي إذا خطرت ... رسلَ النسيم فقد أودعتها لُمعا
واستوضح البارق النجديّ عن نفسي ... بعد النوى فسيحكيه إذا لمعا
واستحك من طير غصن البان بث جوى ... أمليته فسيُمليه إذا سجعا
ومذ رمتنا النوى والله ما هدأت ... أشجان قلبي وطرفي قطّ ما هجعا

وليس يمسك من بعد النوى رمقي ... إلا أماني قلبي أن نعود معا
محمد بن يوسفابن الحافظ زكي الدين محمد بن يوسف بن محمد بن يدّاس - بالياء آخر الحروف والدال المهملة المشددة، وبعد الألف سين مهملة - الشيخ الإمام العالم المرتضى بهاء الدين أبو الفضل بن أبي الحجاج بن البرزالي الإشبيلي الأصل، الدمشقي، الشافعي.
أحضره والده على جماعة، منهم السخاوي، وابن الصلاح، وكريمة، وعتيق السلماني، والمخلص بن هلال، والتاج ابن أبي جعفر، ومحاسن الجوبري، والمرجّى ابن شقيرة.
ثم توفي والده شاباً، وخلّفه، وله خمسة أعوام، فربي في حجر جده الإمام علم الدين القاسم بن أحمد اللورقي، وقرأ عليه القرآن وشيئاً من النحو، وكتب الخط المنسوب، وبرع فيه، ونسخ جملة من الكتب، وأجاز له طائفة من شيوخ بغداد ومصر والشام.
وقرأ عليه ولده شيخنا علم الدين البرزالي شيئاً كثيراً، منها الكتب الستة بالإجازات وحدّث بمصر وبدمشق وبالحجاز، وبرع في كتابة الشروط وكتب الحكم للقضاة، ورزق حظوة مع التصوّن والديانة والتقوى والتعبّد.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
محمد بن يوسف بن يعقوبابن أبي طاهر الإربلي ثم الدمشقي الذهبي.
أجاز له أبو محمد بن البُنّ، وجماعة. وسمع من ابن المسلّم المازني، وأبي نصر بن عساكر، وابن الزبيدي، وابن اللتي، وابن مكرّم، والزكي البرزالي، وعدة. وخُرّجت له مشيخة، وذيّل عليها شيخنا الذهبي.
وكان مكثراً. وسمع السنن الكبير للبيهقي سنة اثنتين وثلاثين على المرسي. وكان شيخاً عامياً.
سقط من السُلّم فمات لوقته في شهر رمضان سنة أربع وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وعشرين وست مئة.
وكان قد تفرّد بأشياء.
محمد بن يوسف بن محمدابن المهتار المصري، العدل الجليل ناصر الدين أبو عبد الله بن الشيخ مجد الدين المصري ثم الدمشقي الشافعي.
سمع من ابن الصلاح، والمرجّى بن شقيرة، ومكي بن علان، وجماعة. وأجاز له ظافر بن شحم، وابن المقير. وتفرّد بأجزاء.
وكان نقيب قاضي القضاة إمام الدين القزويني.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سادس عشري ذي الحجة سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه الآداب والاعتقاد للبيهقي وعلوم الحديث والطوالات للتنوخي، وقطعة من الأجزاء. وحدّث بالزهد للإمام أحمد بكماله، وانفرد برواية علوم الحديث لابن الصلاح عن مصنّفه مدة سنين، وبقطعة كبيرة من سنن البيهقي وبالطوالات للتنوخي.
وأجاز له من دمشق السخاوي، وشيخ الشيوخ ابن حمويه، وابراهيم بن الخشوعي، وعبد الحق بن خلف وجماعة من الديار المصرية فخر القضاة ابن الحباب، وظافر بن شحم، وسبط السلفي، وابن رواج، وعلي بن زيد التسارسي، وعلم الدين بن الصابوني، وابن الجمّيزي، والسراج محمد بن يحيى بن ياقوت، وهبة الله بن محمد المقدسي، وهم من أصحاب السلفي.
محمد بن يوسف...محيي الدين المقدسي المصري النحوي...
محمد بن يوسف بن عبد الغنيابن تُرشَك - بالتاء ثالثة الحروف والراء والشين المعجمة وبعدها كاف - الشيخ تاج الدين المقرئ الصوفي البغدادي.
حفظ القرآن العظيم في صباه بالروايات، وأقرأه، وسمع الكثير من ابن حصين. وإجازاته عالية. وروى وحدّث، وسمع منه خلق ببغداد وبدمشق وبغيرها من البلاد.
وكان ذا سمت حسن، وخُلق طاهر، ونفس عفيفة رضيّة، وصوت مطرب الى الغاية. وقدم دمشق مراراً، وحدث، وحجّ غير مرة، ثم عاد الى بلده، وأضرّ بآخرة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمسين وسبع مئة.
ومولده ببغداد في شهر رجب الفرد سنة ثمان وستين وست مئة.
محمد بن يوسف بن عليابن يوسف بن حيان، الشيخ الإمام العالم العلامة الفريد الكامل، حجة العرب، مالك أزمّة الأدب، أثير الدين أبو حيان الأندلسي الجبّائي الجيّاني، بالجيم والياء آخر الحروف مشددة، وبعد الألف نون.

كان أمير المؤمنين في النحو، والشمس السافرة شتاءً في يوم الصحو، والمتصرّف في هذا العلم، فإليه الإثبات والمحو، لو عاصر أئمة البصرة لبَصرهم، وأهل الكوفة لكفَّ عنهم اتّباعهم الشواذ وحذّرهم، نزل منه كتاب سيبويه في وطنه بعد أن كان طريداً، وأصبح به التسهيل بعد تعقيده مفيداً، وجعل سرحة شرحه وجْنة راقت النواظر توريدا. ملأ الزمان تصانيف، وأمال عُنق الأيام بالتواليف. تخرّج به أئمة هذا الفن، وروّق لهم في عصره منه سُلافة الدن، فلو رآه يونس بن حبيب لكان بغيضا غير محبّب، أو عيسى بن عمر لأصبح من تقعيره وهو محدّب، أو الخليل لكان بعينه قذاه، أو سيبويه لما تردّى من مسألته الزنبوريّة برداه، أو الكسائي لأعراه حُلّة جاهه عند الرشيد وأناسه، أو الفرّاء لفرّ منه ولم يقتسم ولد المأمون تقديم مداسه، أو الزيدي لأظهر نقصه من مكامنه، أو الأخفض لأخفى جملة من محاسنه، أو أبو عبيدة لما تركه ينصبّ لشعب الشعوبية، أو أبو عمرو لشغله بتحقيق اسمه دون التعلّق بعربية، أو السكّري لما راق كلامه في المعاني ولا حلا، أو المازني لما زانه قوله:
إن مصابكم رجلا
أو قطرب لما دبّ في العربية ولا درج، أو ثعلب لاستكنّ بمكره في وكره وما خرج، أو المبرّد لأصبحت قواه مفتّرة، أو الزجاج لأمست قواريره مكسّرة، أو ابن الوزان لعدم نقده، أو الثمانيني لما تجاوز حدّه، أو ابن بابشاذ لعلم أن قياسه ما اطّرد، أو ابن دريد ما بلع ريقه ولا ازدرد، أو ابن قتيبة لأضاع رَحْله، أو ابن السراج لمشّاه إذا رأى وحله، أو ابن الخشاب لأضرم فيه ناراً ولم يجد معها نورا، أو ابن الخباز لما سجر له تنورا، أو ابن القواس لما أغرق في نزعه، أو ابن يعيش لأوقعه في نزعة، أو ابن خروف لما وجد له مرعى، أو ابن إياز لما وجد لإوازّه وقعا، أو ابن الطراوة لم يكن نحوه طريّا، أو الدبّاج لكان من حلّته الرائقة عريّا.
وعلى الجملة فكان إمام النحاة في عصره شرقاً وغرباً، وفريدَ هذا الفن الفذّ بُعداً وقرباً، وفيه قلت:
سلطان علم النحو أستاذنا ... الشيخ أثير الدين حبرُ الأنام
فلا تقل زيد وعمرو فما ... في النحو معه لسواه كلام
خدم هذا العلم مدة تقارب الثمانين، وسلك من غرائبه وغوامضه طُرقاً متشعبة الأفنانين.
ولم يزل على حاله الى أن دخل في خبر كان، وتبدّلت حركاته بالإسكان.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بمنزله خارج باب البحر بالقاهرة، في يوم السبت بعد العصر، الثامن والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبع مئة، ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر، وصُلّي عليه بالجامع الأموي بدمشق صلاة الغائب في شهر ربيع الآخر.
ومولده بمدينة مطخشارش في أخريات شوال سنة أربع وخسين وست مئة.
وقلت أنا أرثيه - رحمه الله تعالى:
مات أثير الدين شيخ الورى ... فاستعر البارق واستعبرا
ورقّ من حزن نسيم الصّبا ... واعتلّ في الأسحار لما سرى
وصادحات الأيك في نوحها ... رثته في السجع على حرف را
يا عينُ جودي بالدموع التي ... يُروى بها ما ضمّه من ثرى
واجرِ دماً فالخطب في شأنه ... قد اقتضى أكثر مما جرى
مات إمامٌ كان في فنه ... يُرى أماماً والورى من ورا
أمسى منادى للبلى مفرداً ... فضمّه القبر على ما ترى
يا أسفاً كان هُدىً ظاهراً ... فعاد في تربته مضمرا
وكان جمع الفضل في عصره ... صحٌ فلما أن قضى كُسّرا
وعُرّف الفضل به بُرهة ... والآن لما أن مضى نُكّرا
وكان ممنوعاً من الصرف لا ... يطرق مَن وافاه خطب عرا
لا أفعل التفضيل ما بينه ... وبين مَن أعرفه في الورى
لا بدلٌ عن نعته بالتقى ... ففعله كان له مصدَرا
لم يدّغم في اللحد إلا وقد ... فك من الصبر وثيق العُرا
بكى له زيد وعمرو فمِن ... أمثلة النحو ومَن قد قرا
ما أعقد التسهيل من بعده ... فكم له من عُسرة يسّرا

وجسّر الناس على خوضه ... إذ كان في النحو قد استبحرا
من بعده قد حال تمييزُه ... وحظّه قد رجع القهقرى
شارك مَن قد ساد في فنه ... وكم له فن به استأثرا
دأب بني الآداب أن يغسلوا ... بدمعهم فيه بقايا الكرى
والنحو قد سار الرّدى نحوه ... والصّرف للتصريف قد غيّرا
واللغة الفصحى غدت بعده ... يُلغى الذي في ضبطها قرّرا
تفسيره البحر المحيط الذي ... يُهدي الى ورّاده الجوهرا
فوائد من فضله جمّة ... عليه فيها نعقد الخنصرا
وكان ثبتاً نُقلُه حجةٌ ... مثل ضياء الصبح إن أسفرا
ورَحْلة في سنّة المصطفى ... أصدق مَن تسمع إن أخبرا
له الأسانيد التي قد علت ... فاستغلت عنها سوامي الذُرا
ساوى بها الأحفاد أجدادهم ... فاعجب لماض فاته مَن طرا
وشاعراً في نظمه مُفلقا ... كم حرّر اللفظ وكم حبّرا
له معانٍ كلما خطّها ... تستر ما يُرق في تُستَرا
أفديه من ماض لأمر الردى ... مستقبلاً من ربّه بالقِرى
ما بات في أبيضِ أكفانه ... إلا وأضحى سندساً أخضرا
تُصافح الحورَ له راحةٌ ... كم تعبت في كل ما سطّرا
إن مات فالذكر له خالد ... يحْيا به من قبل أن يُنشرا
جاد ثرىً واراه غيث إذا ... مسّاه بالسقيا له بكّرا
وخصّه من ربّه رحمة ... تورده في حشره الكوثرا
وكان قد قرأ القرآن على الخطيب أبي محمد عبد الحق بن علي بن عبد الله نحواً من عشرين ختمة، إفراداً وجمعاً، ثم على الخطيب الحافظ أبي جعفر أحمد الغرناطي المعروف بالطبّاع بغرناطة، ثم قرأ السبعة الى آخر سورة الحجر على الخطيب الحافظ أبي علي الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص بمالقة.
ثم إنه قدم الإسكندرية، وقرأ القراءات على عبد النصير بن علي بن يحيى المريوطي.
ثم قدم مصر فقرأ بها القراءات على أبي الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليجي، وسمع الكثير على الجم الغفير بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية والإسكندرية، وبادر مصر والحجاز، وحصل الإجازات من الشام والعراق وغير ذلك، واجتهد في طلب التحصيل والتقييد والكتابة، ولم أر في أشياخي أكثر اشتغالاً منه، لأني لم أره قط إلا يُسمع أو يشتغل أو يكتب، ولم أره على غير ذلك. وله إقبال على الطلبة الأذكياء، وعنده تعظيم لهم، ونظم ونثر، وله الموشحات البديعة.
وهو ثبت فيما ينقله، محرر لما يقوله، عارف باللغة، ضابط لألفاظها.
وأما النحو والتصريف، فهو إمام الناس كلهم فيهما، لم يذكر معه في أقطار الأرض غيره في حياته.
وله اليد الطولى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وحوادثهم، خصوصاً المغاربة، وتقييد أسمائهم على ما يتلفظون به من إمالة وترقيق وتفخيم، لأنهم يجاورون بلاد الإفرنج، وأسماؤهم قريبة من لغاتهم، وألقابهم كذلك، وقيّده وحرّره، وسأله شيخنا الذهبي أسئلة فيما يتعلق بذلك، وأجابه عنها.
وله التصانيف التي سارت وطارت وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودُريت، ونُسخت وما فسخت، أخملت كتب الأقدمين، وألهمت المقيمين بمصر والقادمين، وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة وأشياخاً في حياته، وهو الذي جسّر الناس على مصنّفات ابن مالك - رحمه الله تعالى - ورغّبهم في قراءتها، وشرح لهم غامضها، وخاض بهم لججها، وفتح لهم مُقفَلها. وكان يقول عن مقدمة ابن الجاجب: هذه نحو الفقهاء.
وكان التزم أن لا يقرئ أحداً إلا إن كان في كتاب سيبوية أو في التسهيل لابن مالك أو في تصانيفه، ولما قدم من البلاد لازم الشيخ بهاء الدين - رحمه الله - كثيراً، وأخذ عنه كتب الأدب.

وكان شيخاً حسن العمّة، مليح الوجه، ظاهر اللون مشرَباً حمرة، منوّر الشيبة، كبير اللحية مسترسل الشعر فيها، لم تكن كثّة. عبارته فصيحة بلغة الأندلس، يعقد القاف قريباً من الكاف على أنه لا ينطق بها في القرآن إلا فصيحة. وسمعته يقول: ما في هذه البلاد من يعقد حرف القاف.
وكانت له خصوصية بالأمير سيف الدين أرغون كافل الممالك، ينبسط معه، ويبيت عنده في قلعة الجبل. ولما توفيت ابنته نُضار طلع الى السلطان الملك الناصر محمد، وسأل منه أن يدفنها في بيته داخل القاهرة في البرقية، فأذن له في ذلك، سيأتي ذكرها - إن شاء الله تعالى.
وكان أولاً يرى رأي الظاهرية، ثم إنه تمذهب للشافعي - رضي الله عنه - بحث على الشيخ علم الدين العراقي المحرر للرافعي، ومختصر المنهاج للنووي، وحفظ المنهاج إلا يسيراً، وقرأ أصول الفقه على أستاذه أبي جعفر بن الزبير، بحث عليه من الإشارة للباجي ومن المستصفى للغزالي، وعلى الخطيب أبي الحسن ابن فصيلة، وعلى الشيخ علم الدين العراقي، وعلى الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وعلى الشيخ علاء الدين الباجي. وقرأ أشياء من أصول الدين على شيخه ابن الزبير، وقرأ عليه شيئاً من المنطق، وقرأ شيئاً من المنطق على بدر الدين محمد بن سلطان البغدادي، وقرأ عليه شيئاً من الإرشاد للعميدي في الخلاف. ولكنه برع في النحو، وانتهت إليه الرئاسة والمشيخة فيه، وكان خالياً من الفلسفة والاعتزال والتجسيم، وكان أولاً يعتقد في الشيخ ابن تيمية، وامتدحه بقصيدة، ثم إنه انحرف عنه لمّا وقف على كتاب العرش له.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وجرى على مذهب كثير من النحويين في تعصّبه للإما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - التعصّب المتين قال: حُكي لي أنه قال لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة إن علياً - رضي الله عنه - عهد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق أتراه ما صدق في هذا؟ فقال: صدق، قال: فقلت له: فالذين سلّوا السيوف في وجهه، يبغضونه أو يحبونه؟ وغير ذلك.
قال: كان سيئ الظن بالناس كافة، فإذا نُقل له عن أحد خير لا يتكيف به وإذا كان شراً يتكيّف به ويبني عليه، حتى ممن هو عنده مجروح، فيقع في ذم مَن هو بألسنة العالم ممدوح، وبسبب ذلك وقع في نفس جمع كثير منه ألم كثير. انتهى.
قلت: أنا لم أسمع منه في حق أحد من الأحياء والأموات إلا خيراً، وما كنت أنقم عليه شيئاً إلا ما كان يبلغني عنه من الحط على الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، على أنني ما سمعت في حقه شيئاً، نعم سمعته كان لا يثق بهؤلاء الذين يدعون الصلاح، حتى قلت له يوماً: يا سيدي، فكيف نعمل في الشيخ أبي مدين؟ فقال: هو رجل مسلم ديّن، وإلا ما كان يطير في الهواء، ويصلي الصلوات في مكة كما يدّعي فيه هؤلاء الأغمار.
وكان فيه - رحمه الله تعالى - خشوع، يبكي إذا سمع القرآن، ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية. وقال كمال الدين المذكور، قال لي: إذا قرأت أشعار العشق أميل إليها، وكذلك أشعار الشجاعة تستميلني، وغيرهما، إلا أشعار الكرم ما تؤثر فيّ، انتهى.
قلت: كان يفتخر بالبخل كما يفتخر غيره بالكرم، وكان يقول لي: أوصيك احفظ دراهمك، ويقال عنك بخيل ولا تحتج الى السُفَّل.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
رجاؤك فَلْسا قد غدا في حبائلي ... قنيصا رجاء للنتاج من العقم
أأتعب في تحصيله وأضيعه ... إذاً كنت معتاضاً من البر بالسقم
قلت: والذي أراه فيه أنه طال عمره وتغرّب، وورد البلاد، ولا شيء معه، وتعب حت حصّل المناصب تعباً كثيراً، وكان قد جرّب الناس، وحلب أشطر الدهر، ومرت به حوادث، فاستعمل الحزم، وسمعته غير مرة يقول: يكفي الفقير في مصر أربعة أفلس، يشتري له طُلْمة بايتة بفلسين، ويشتري له بفلس ربيباً وبفلس كوز ماء، ويشتري ثاني يوم ليموناً بفلس يأكل به الخبز. وكان يعيب علي مُشتري الكتب، ويقول: الله يرزقك عقلاً تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف، وإذا أردت من أحد أن يعيرني دراهم ما أجد ذلك.
وأنشدني له بإجازة:
إن الدراهم والنساء كلاهما ... لا تأمننّ عليهما إنسانا
ينزعن ذا اللبّ المتين عن التقى ... فترى إساءة فعله إحسانا
وأنشدني له من أبيات:

أتى بشفيع ليس يمكن ردّه ... دراهم بيض للجروح مراهم
تصيّرُ صعبَ الأمر أهونَ ما يُرى ... وتقضي لُبانات الفتى وهو نائم
ومن حزمه قوله - رحمه الله تعالى:
عُداتي لهم فضل عليّ ومنّة ... فلا صرف الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
وقد مدحه كثير من الشعراء والكبار الفضلاء، فمنهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر:
قد قلت لما أن سمعت مباحثا ... في الذات قررها أجلُّ مفيد
هذا أبو حيان، قلت: صدقتم ... وبررتم هذا هو التوحيدي
وكان قد جاء يوماً الى بيت الشيخ صدر الدين بن الوكيل فلم يجده، فكتب بالجص على مصراع الباب، فلما رأى ابن الوكيل ذلك قال:
قالوا أبو حيان غير مدافع ... ملك النحاة، فقلت: بالإجماع
اسم الملوك على النقود وإنني ... شاهدت كُنيته على المصراع
ومدحه شرف الدين بن الوحيد بقصيدة مطوّلة، أولها:
إليك أبا حيان أعملت أينقي ... وملت الى حيث الركائب تلتقي
دعاني إليك الفضل فانقدت طائعاً ... ولبّيت أحدوها بلفظي المصدّق
ومدحه نجم الدين إسحاق بن ألمى التركي، وسأله تكملة شرح التسهيل، وأرسلها إليه من دمشق، وأولها:
تبدّى فقلنا وجهه فلق الصبح ... يلوح لنا من حالك الشعر في جنح
منها:
بدأت بأمر تمم الله قصده ... وكمّله باليمن فيه وبالنُجح
وسهلت تسهيل الفوائد محسنا ... فكُن شارحاً صدري بتكملة الشرح
ومدحه مجير الدين عمر بن اللمطي بقصيدة، أولها:
يا شيخ أهل الأدب الباهر ... من ناظم يُلفى ومن ناثر
ومدحه نجم الدين يحيى الإسكندري بقصيد، أولها:
ضيف ألمّ بنا من أبرع الناس ... لا ناقض عهد أيامي ولا ناس
عارٍ من الكِبر والأدناس ذو ترف ... لكنه من سرابيل العلا كاس
ومدحه نجم الدين الطوفي بقصيدتين، أول الأولى:
أتراه بعد هجران يصل ... ويرى في ثوب وصل مبتدِلْ
قمر جار على أحلامنا ... إذ تولاها بقدّ معتدلْ
وأول الثانية:
أعذروه فكريم مَن عذَر ... قمَرته ذات وجه كالقمَرْ
ومدحه بهاء الدين محمد بن شهاب الدين الخيمي بقصيدة، أولها:
إن الأثير أبا حيان أحيانا ... بنشره طيّ علم مات أحيانا
ومدحه القاضي ناصر الدين شافع بقصيدة، أولها:
فضضتُ عن العذب النمير ختامها ... وفتحت عن زهر الرياض كمامها
ومدحه جماعة آخرون، يطول ذكرهم.
وكتبت أنا إليه من الرحبة في سنة تسع وعشرين وسبع مئة:
لو كنت أملك من دهري جناحين ... لطرت لكنه فيكم جنى حَيني
يا سادة نلتُ في مصرٍ بهم شرفا ... أرقى به شُرُفا تنأى عن العين
وإن جرى لسما كيوان ذِكر عُلا ... أحلّني فضلهم فوق السّماكين
وليس غير أثير الدين أثّله ... فسادَ ما شاد لي حقا بلا مَيْن
حبر ولو قلت: إن الباء رُتبتُها ... من قبل، صدّقك الأقوام في ذين
أحيا علوماً أمات الدهر أكثرها ... مذ جُلّدت خُلّدت ما بين دفين
يا واحد العصر ما قولي بمتّهم ... ولا أحاشي امرأ بين الفريقين
هذي العلوم بدت من سيبويه كما ... قالوا وفيك انتهت يا ثاني اثنين
فدُم لها وبودي لو أكون فدى ... لما ينالك في الأيام من شَيْن
يا سيبويه الورى في الدهر لا عجب ... إذا الخليل غدا يفديك بالعين
يقبّل الأرض ويُنهي ما هو عليه من الأشواق التي برّحت بألمها، وأجرت الدموع دما، وهذا الطرس الأحمر يشهد بدمها، وأربت بسحّها على السحائب، وأين دوام هذه من ديمها، وفرقت الأوصال على السقم لوجود عدمها:
فيا شوق ما أبقى ويا لي من النوى ... ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبا

ويذكر ولاءه الذي تسجع به في الروض الحمائم، ويسير تحت لوائه مسير الرياح بين الغمائم، وثناؤه الذي يتضوّع كالزهر الكمائم، ويتنسم تنسّم هامات الربا إذا لبست من الربيع ملونات العمائم.
ويشهد الله على كل ما ... قد قلته والله نعم الشهيد
فكتب هو الجواب عن ذلك، ولكنه عُدم مني.
وأنشدته يوماً لنفسي:
قلت للكاتب الذي ما أراه ... قط إلا ونقّط الدمع شكله
إن تخطّ الدموع في الخد شيئاً ... ما يُسمّى؟ فقال: خط ابن مقله
وأنشدني هو من لفظه لنفسه:
سبق الدمعُ بالمسيل المطايا ... إذ نوى من أحبّ عني رحله
وأجاد الخطوط في صفحة الخد ... ولِم لا يجيد وهو ابن مقله
وأنشدني في مليح نوتي:
كلفْتُ بنوتيّ كأن قوامَه ... إذا ينثني خوط من البان ناعم
مجاذفه في كل قلب مجاذب ... وهزاته للعاشقين هزائم
وأنشدته أنا لنفسي:
إن نوتيّ مركبٍ نحن فيه ... هام فيه صبّ الفؤاد جريحه
أقلع القلب عن سلويَّ لما ... أن بدا ثغره وقد طاب ريحه
وأنشدته أنا لنفسي أيضاً:
نوتيّنا حُسنُهُ بديع ... وفيه بدر السماء مغرى
ما حكّ برّا إلا وقلنا ... يا ليت أنّا نحكّ برّا
فأعجباه - رحمه الله - وزهزه لهما.
وأنشدني هو لنفسه في مليح أحدب:
تعشّقته أحدباً كيّساً ... يحاكي نجيباً حنين البُغام
إذا كدت أسقط من فوقه ... تعلّقت من ظهره بالسنام
فأنشدته أنا في ذلك لنفسي:
وأحدب رحت به مغرما ... إذ لم تشاهد مثله عيني
لا غرو أن هام فؤادي به ... وخصره ما بين رِدفَين
وأنشدني من لفظه في مليح أعمى:
ما ضرّ حُسن الذي أهواه أن سنا ... كريمتيه بلا شين قد احتجبا
قد كانتا زهرتي روض وقد ذوتا ... لكن حسنهما الفتّان ما ذهبا
كالسيف قد زال عند صقله فغدا ... أنكى وآلم في قلب الذي ضُربا
وأنشدته أنا لنفسي في ذلك:
ورب أعمى وجهه روضة ... تنزُّهي فيها كثير الديون
في خدّه ورد غنينا به ... عن نرجس ما فتّحته للعيون
وأنشدته أيضاً لنفسي في ذلك:
أيا حُسن أعمى لم يخف حدَّ طرفه ... محبٌ غدا سكران فيه وما صحا
إذا طار خد بات يرعى خدوده ... غدا آمناً من مقلتيه الجوارحا
وكتبت إليه استدعاء، وهو: المسؤول من إحسان سيدنا الإمام العلامة لسان العرب، ترجمان الأدب، جامع الفضائل، عمدة وسائل السائل، حجة المقلّدين، زين المقلدين، قطب المولّين، أفضل الآخرين، وارث علوم الأولين، صاحب اليد الطولى في كل مكان ضيق، والتصانيف التي تأخذ بمجامع القلب، فكل ذي لب إليها شيّق، والمباحث التي أثارت الأدلة الراجحة من مكامن أماكنها، وقنصت أوابدها الجامحة من مواطئ مواطنها، كشّاف مُعضلات الأوائل، سبّاق غايات قصّر عن شأوها سحبان وائل، فارع هضبات البلاغة في اجتلاء اجتلابها وهي في مرقى مرقدها، سالب تيجان الفصاحة في اقتضاء اقتضابها من فَرْق فرقدها، حتى أبرز كلامه جنانَ فضل جنانُ من بعده عن الدخول إليها جبان، وأتى ببراهين وجوهٍ حورُها " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " وأبدع خمائل نظم ونثر، لا تصل الى أفنان فنونها يد جان، أثير الدين أبي حيان محمد:
لا زال ميت العلم يحييه وهل ... عجب لذلك من أبي حيّان
حتى ينال بنو العلوم مرامهم ... ويُحلّهم دار المُنى بأمان

إجازة كاتب هذه الأحراف ما رواه - فسح الله في مدّته - من المسانيد والمصنفات والسنن والمجاميع الحديثية والتصانيف الأدبية، نظماً ونثراً الى غير ذلك من أصناف العلوم على اختلاف أوضاعها، وتباين أجناسها وأنواعها، مما تلقّاه ببلاد الأندلس وإفريقية والإسكندرية والديار المصرية والبلاد الحجازية وغيرها من البلدان، بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة خاصة أو عامة، كيف ما تأدّى إليه، وإجازة ما له أدام الله إفادته من التصانيف في تفسير القرآن العظيم والعلوم الحديثية والأدبية وغيرها، وما له من نظم ونثر، إجازة خاصة، وأن يثبت بخطّه تصانيفه الى حين هذا التاريخ، وأن يجيزه إجازة عامة لما يتجدد له من بعد ذلك على رأي مَن يراه ويجوّزه، منعماً متفضلاً إن شاء الله تعالى.
فكتب الجواب هو - رحمه الله تعالى: أعزّك الله ظننت بالإنسان جميلاً فغاليت، وأبديت من الإحسان جزيلاً وما باليت، وصفت من هو القتام يظنه الناظر سماء، والسراب يحسبه الظمآن ماء، يا بن الكرام وأنت أبصر من يشيم، أمع الروض النضير يُرعى الهشيم، أما أغنتم فواضلك وفضائلك، ومعارفك وعوارفك، عن نغبة من دأماء، وتربة من يهماء، لقد تبلّجت المهارق من نور صفحاتك، وتأرّجت الأكوان من أريج نفحاتك، ولأنت أعرف بمن يُقصد للدراية، وأنقد بمن يعتمد عليه في الرواية، لكنك أردت أن تكسو من مطارفك، وتتفضل من تالدك وطارفك، وتجلو الخامل في منصة النباهة، وتنقذه من لَكْن الفهاهة، فتشيد له ذكرا، وتُعلي له قدرا، ولم يمكنه إلا إسعافك فيما طلبت، وإجابتك فيما إليه ندبت، فإن المالك لا يُعصى، والمتفضل المحسن لا يقصى.
وقد أجزت لك - أيّدك الله - جميع ما رويته عن أشياخي بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية وديار مصر والحجاز وغير ذلك بقراءة أو سماع ومناولة وإجازة بمشافهة وكتابة ووجادة، وجميع ما أجيز لي أن أرويه بالشام والعراق وغير ذلك، وجميع ما صنّفته واختصرته وجمعته وأنشأته نثراً ونظماً، وجميع ما سألت في هذا الاستدعاء.
فمن مروياتي: الكتاب العزيز، قرأته بقراءات السبعة على جماعة، من أعلاهم الشيخ المسند المعمر فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي بن هبة الله المصري ابن المليجي آخر من روى القرآن بالتلاوة عن أبي الجود. والكتبُ الستة، والموطّأ ومسند عبد ومسند الدارمي ومسند الشافعي ومسند الطيالسي والمعجم الكبير للطبراني، والمعجم الصغير له، وسُنن الدارقطني وغير ذلك.
وأما الأجزاء فكثير جداً.
ومن كتب النحو والآداب، فأروي بالقراءة كتاب سيبويه والإيضاح والتكملة والمفصّل وجُمل الزجاجي وغير ذلك. والأشعار الستة والحماسة وديوان حبيب وديوان المتنبي وديوان المعري.

وأما شيوخي الذين رويت عنهم بالسماع أو القراءة، فهم كثير، وأذكر الآن منهم جملة، فمنهم: القاضي أبو علي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي، والمقرئ أبو جعفر أحمد بن سعد بن أحمد بن بشير الأنصاري، وإسحاق بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الملك بن درباس، وأبو بكر بن عباس بن يحيى بن غريب البغدادي القوّاس، وصفي الدين الحسين بن أبي المنصور بن ظافر الخزرجي، وأبو الحسين محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري، ووجيه الدين محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأزدي بن الدهان، وقطب الدين محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن القسطلاني، ورضيّ الدين محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي اللغوي، ونجيب الدين محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني. ومحمد بن مكي بن أبي القاسم بن حامد الأصبهاني الصفار، ومحمد بن عمر بن محمد بن علي السعدي الضرير ابن الفارض، وزين الدين أبو بكر محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن الأنماطي، ومحمد بن إبراهيم بن ترجم بن حازم المازني، ومحمد بن الحسين بن الحسن بن إبراهيم الداري بن الخليلي، ومحمد بن عبد المنعم بن محمد بن يوسف الأنصاري بن الخيمي، ومحمد بن عبد الله بن عمر العنسي عُرف بابن النن، وعبد الله بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد العزيز الطائي القرطبي، وعبد الله بن نصر الله بن أحمد بن رسلان بن فتيان بن كامل الخرّمي، وعبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن فارس التميمي، وعبد الرحيم بن يوسف بن يحيى بن يوسف بن خطيب المزة، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي المصري السكري، وعبد العزيز بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن الصيقل الحراني، وعبد العزيز بن عبد القادر بن إسماعيل الفيالي الصالحي الكتاني، وعبد المعطي بن عبد الكريم بن أبي المكارم بن منجا الخزرجي، وعلي بن صالح بن أبي علي بن يحيى بن إسماعيل الحسيني البهنسي المجاور، وغازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الحلاوي، والفضل بن علي بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الخزرجي، ويوسف بن إسحاق بن أبي بكر الطبري المكي، واليسر بن عبد الله بن محمد بن خلف بن اليسر القشيري، ومؤنسة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شاذي، وشامية بنت الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد التيمية، وزينتب بنت عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي.
وممن كتبت عنه من مشاهير الأدباء: أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن بن علي بن أبي الفرج المالقي، وأبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأنصاري القرطاجني، وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الله الهذلي التطيلي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن زنون المالقي، وأبو عبد الله محمد بن عمر بن جبير الجلياني العكّي المالقي، وأبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى الأنصاري الجزار، وأبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الرحمن بن تولو القرشي، وأبو حفص عمر بن محمد بن أبي علي الحسن المصري الوراق، وأبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن ياتينن الكومي التلمساني، وأبو العباس أحمد بن أبي الفتح نصر الله بن باتكين القاهري، وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن حمّاد بن مُحسن الصنهاجي البوصيري، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم العزازي.
وممن أخذت عنه من النحاة: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخُشني الأُبّذي، وأبو الحسن علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتاني بن الضائع، وأبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد بن الزبير الثقفي، وأبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي بن يوسف الفهري اللبلي، وأبو عبد الله محمد بن ابراهيم بن محمد بن نصر الله الحلبي بن النحاس.
وممن لقيته من الظاهرية: أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الأنصاري الإشبيلي الزاهد، وأبو الفضل محمد بن محمد بن سعدون الفهري الشنتمري.
وجملة الذين سمعت منهم نحو من أربع مئة شخص وخمسين.
وأما الذين أجازوني فعالم كثير جداً من أهل غرناطة ومالقة وديار إفريقية وديار مصر والحجاز والعراق والشام.

وأما ما صنفته: فمن ذلك البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم، إتحاف الأريب بما في القرآن من غريب، كتاب الإسفار الملخَّص من كتاب الصفّار شرحاً لكتاب سيبويه، كتاب التجريد لكتاب سيبويه، كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل، كتاب التنخيل الملخّص من شرح التسهيل، كتاب التذكرة، كتاب المبدع في التصريف، كتاب الموفور، كتاب التقريب، كتاب التدريب، كتاب غاية الإحسان، كتاب النكت الحسان، كتاب الشذا في مسألة كذا، كتاب الفصل في أحكام الفصل، كتاب اللمحة، كتاب الشذرة، كتاب الارتضاء في الفرق بين الضاد والظاء، كتاب عقد اللآلي، كتاب نكت الأمالي، كتاب النافع في قراءة نافع، الأثير في قراءة ابن كثير، المورد الغمر في قراءة أبي عمرو، الروض الباسم في قراءة عاصم، المزن الهامر في قراءة ابن عامر، الرمزة في قراءة حمزة، تقريب النائي في قراءة الكسائي، غاية المطلوب في قراءة يعقوب، المطلوب في قراءة يعقوب، النيّر الجليّ في قراءة زيد بن علي، الوهّاج في اختصار المنهاج، الأنور الأجلى في اختصار المحلّى، الحلل الحالية في أسانيد القرآن العالية، كتاب الإعلام بأركان الإسلام، نثر الزهر ونظر الزُهر، قطر الحبي في جواب أسئلة الذهبي، فهرست مسموعاتي، نوافث السحر في دمائث الشِّعر، تحفة النّدُس في نحاة أندلس، الأبيات الوافية في علم القافية، جزء في الحديث، مشيخة ابن أبي منصور، كتاب الإدراك للسان الأتراك، زهو المُلك في نحو الترك، نفحة المسك في سيرة الترك، كتاب الأفعال في لسان الترك، مُنطق الخرس في لسان الفرس.
ومما لم يكمل تصنيفه، كتاب مسلك الرشد في تجريد مسائل نهاية ابن رشد، كتاب منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك، نهاية الإعراب في علمي التصريف والإعراب رجز، مجاني الهصر في آداب وتواريخ لأهل العصر، خلاصة التبيان في علمي البديع والبيان رجز، نور الغبش في لسان الحبش، المخبور في لسان اليخمور.
قاله وكتبه أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان.
وأنشدني الشيخ أثير الدين من لفظه لنفسه في صفات الحروف:
أنا هاوٍ لمستطيل أغنّ ... كلما اشتدّ صارت النفس رخوه
أهمس القول وهو يجهر سبّي ... وإذا ما انخفضت أظهر عُلوَه
فتح الوصل ثم أطبق هجرا ... بصفير والقلبُ قلقَلَ شجوه
لان دهراً ثم اغتدى ذا انحرافٍ ... وفشا السرّ مذ تكررت نحوه
وأنشدني أيضاً لنفسه:
يقول لي العذولُ ولم أُطعْهُ ... تسلّ فقد بدا للحب لحيَهْ
تخيّل أنها شانت حبيبي ... وعندي أنها زَيْن وحِليَه
وأنشدني لنفسه أيضاً:
شوقي لذاك المحيا الزاهر الزاهي ... شوقٌ شديدٌ وجسمي الواهن الواهي
أسهَرْت طرفي ودلّهت الفؤاد هوىً ... فالطرفُ والقلب مني الساهر الساهي
نبهتَ قلبي وتَنهى أن تبوح بما ... يلقاه وا شوقه للناهب الناهي
بهرتَ كل مليح بالبهاء فما ... في النيّرين شبيهُ الباهر الباهي
لهجتُ بالحب لما أن لهوت به ... عن كل فويحَ اللاهج اللاهي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
راض حبيبي عارض قد بدا ... يا حُسنَه من عارض رائض
وظن قوم أن قلبي سلا ... والأصل لا يُعتدّ بالعارض
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تعشّقتُه شيخاً كأن مشيبه ... على وجنتيه ياسمين على ورد
أخاد العقل يدري ما يراد من النهى ... أمنت عليه من رقيب ومن صدِ
وقالوا: الورى قسمان في شرعة الهوى ... لسود اللحى ناسٌ وناسٌ الى المرد
ألا إنني لو كنت أصبو لأمردٍ ... صبوت الى هيفاء مائسة القدّ
وسود اللحى أبصرت فيهم مشاركاً ... فأحببت أن أبقى بأبيضهم وحدي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
ألا ما لها لُخْصا بقلبي عوابثا ... أظن بها هاروتَ أصبح نافثا
إذا رام ذو وجد سلوّاً منعنه ... وكنّ على دين التصابي بواعثا
وقيدنَ من أضحى عن الحب مُطلقا ... وأسرعت للبلوى بمن كان رائثا

بروحي رشا من آل خاقان راحل ... وإن كان ما بين الجوانح لابثا
غدا واحداً في الحسن للفضل ثانيا ... وللبدر الشمس المنيرة ثالثا
وأنشدني لنفسه، ومن خطه نقلت:
أسحرٌ لتلك العين في القلب أم وخْز ... ولينٌ لذاك الجسم في اللمس أم خزّ
وأملودُ ذاك القدّ أم أسمرٌ غدا ... له أبداً في القلب عاشقه هزّ
فتاة كساها الحسن أفخر حُلّة ... فصار عليها من محاسنها طرز
وأهدى إليها الغصن لينَ قوامه ... فماس كأن الغصن خامره العز
يضوع أديم الأرض من نَشر طيّها ... ويخضرّ من آثارها تُرْبُه الجرْز
وتختال في بُرد الشباب إذا مشت ... فيُنهضها قدٌّ ويقعدها عجز
أصابت فؤاد الصبّ منها بنظرة ... فلا رُقية تُجدي المصاب ولا حرز
وأنشدني إجازة في مليح أبرص، ومن خطه نقلت:
وقالوا الذي قد صرت طوع جماله ... ونفسك لاقت في هواه نزاعَها
به وضحٌ تأباه نفس أولي النهى ... وأفظع داء ما ينافي طباعَها
فقلت لهم لا عيب فيه يشينه ... ولا علّة فيه يروم دفاعَها
ولكنها شمس الضحى حين قابلت ... محاسنه ألقت عليه شعاعها
وأنشدني من لفظه لنفسه في فحّام:
وعُلّقته مسوّد عين ووفرة ... وثوب يعاني صنعة الفحم عن قصد
كأن خطوط الفحم في وجناته ... لطاخة مسك في جنيّ من الورد
وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت:
سأل البدر هل تبدّى أخوه ... قلتُ يا بدر لن يُطيق طلوعا
كيف يبدو وأنت يا بدر باد ... أوَ بدران يطلعان جميعا؟
وأنشدني من لفظه لنفسه موشحة عارض بها شمس الدين محمد بن التلمساني:
عاذلي في الأهيف الآنسِ ... لو رآه كان قد عَذَرا
رشأ قد زانه الحَوَر ... غصنٌ من فوقه قمر
قمر من سحبه الشعر ... ثغر في فيه أم دُرَر
جال بين الدرّ واللعسِ ... خمرةٌ من ذاقها سكرا
رجّة بالردف أم كسل ... ريقة بالثغر أم عسل
وردة بالخد أم خجل ... كُحل بالعين أم كَحَل
يا لها من أعين نُعُسِ ... جلبت لناظري سهرا
مُذ نأى عن مقلتي سني ... ما أُذيقا لذّة الوسن
طال ما ألقاه من شجني ... عجباً ضدان في بدني
بفؤادي جذوة القبس ... وبعيني الماء مُنفَجرا
قد أتاني الله بالفرج ... إذ دنا مني أبو الفرج
قمرٌ قد حلّ في المهج ... كيف لا يخشى من الوهج
غيرُه لو صابهُ نفَسي ... ظنّه من حره شررا
نصب العينين لي شركا ... فانثنى والقلب قد ملكا
قمر أضحى له فلكا ... قال لي يوماً وقد ضحكا
أنت جئت من أرض أندلسي ... نحو مصر تعشق القمرا
وأما موشّحة ابن التلمساني، فهي:
قمر يجلو دجا الغلس ... بهر الأبصار مُذ ظهرا
آمنٌ من شُبهة الكلف ... ذُبت في حبّيه بالكلف
لم يزل يسعى الى تلفي ... بركاب الدلّ والصلف
آه لولا أعين الحرس ... نِلْت منه الوصل مقتدرا
يا أميراً جار مذ وليا ... كيف لا ترثي لمن بليا
فبثغر منك قد جُليا ... قد حلا طعماً وقد حلِيا
وبما أوتيتَ من كَيَس ... جُدْ فما أبقيت مُصطَبرا
بدرُ تمّ في الجمال سني ... ولهذا لقّبوه سَني
قد سباني لذة الوسن ... بمحيّا باهرٍ حسن
هو خِشفي وهو مفترسي ... فاروِ عن أعجوبتي خبرا
لك خدّ يا أبا الفرج ... زينَ بالتوريد والضّرج
وحديثٌ عاطر الأرَج ... كم سبى قلباً بلا حرج

لو رآك الغصن لم يمسِ ... أو رآك البدر لاستترا
يا مُذيباً مهجتي كمَدا ... فُقت في الحُسن البدور مدى
يا كحيلاً كحلة اعتمدا ... عجباً أن تُبرئ الرّمدا
وبسقم الناظرين كُسي ... جفنك السّحار وانكسرا
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
إنْ كان ليلٌ داجوخاننا الإصباحْفنورها الوهّاجيُغني عن المصباح
سلافة تبدو ... كالكوكب الأزهرْ
مزاجها شهدٌ ... وعَرفُها عنبر
يا حبذا الوِردُ ... منها وإن أسْكر
قلبي بها قد هاجْفما تراني صاحْعن ذلك المنهاجوعن هوى يا صاح
وبي رشا أهيفْ ... قد لجّ في بُعدي
بدر فلا يُخسَف ... منه سنا الخد
بلحظه المرهَف ... يسطو على الأُسْد
كسطوة الحجّاجفي الناس والسفّاحفما ترى من ناجمن لحظه السفاح
علّل بالمسك ... قلب رشاً أحور
منعّم المسكِ ... ذو مبسم أعطر
ريّاه كالمسك ... وريقه كوثرْ
غصنٌ على رجراجطاعت له الأرواحفحبّذا الآراجإن هبّت الأرواح
مهلاً أبا القاسم ... على أبي حيان
ما إن له عاصم ... من لحظك الفتّان
وهجرك الدائم ... قد طال بالهيمان
فدمعه أمواجوسرُه قد لاحلكنه ما عاجولا أطاع اللاح
يا رُبّ ذي بُهتان ... يعذل في الراح
وفي هوى غزلان ... دافَعْتُ بالراح
وقلت لا سلوان ... عن ذاك يا لاحي
سبع الوجوه والتاجهي منية الأفراحفاختر لي يا زجاجقمصال وزوج أقداح
وأنشدني من لفظه لنفسه القصيدة الدالية، التي نظمها في مدح النحو والخليل وسيبويه، ثم خرج منها الى مديح صاحب غرناطة وغيره من أشياخه، وأولها:
هو العِلم لا كالعلم شيء تراوده ... لقد فاز باغيه وأنجح قاصده
وهي قصيدة جيدة تزيد على المئة بيت. حُكي لي أن الشيخ أثير الدين - رحمه الله تعالى - نظمها وهو ضعيف، وتوجه إليه جماعة يعودونه، وفيهم شمس الدين بن دانيال، فأنشدهم الشيخ - رحمه الله تعالى - القصيدة المذكورة، فلما فرغت، قال ابن دانيال: يا جماعة، أخبركم أن الشيخ قد عوفي، وما بقي عليه باس، لأنه لم يبق عنده فضلة، قوموا باسم الله.
وأنشدني من لفظه لنفسه - رحمه الله تعالى - قصيدته السينية التي أولها:
أهاجك ربع حائلُ الرسم دارسه ... كوحي كتاب أضعف الخط دارسه
محمد بن يوسف بن عبد اللهشمس الدين، الشاعر الماهر الخياط الدمشقي الحنفي.
شاعر لا يُجارى، ومكثر لا يُبارى، قادر على صوغ القريض، وارتجال النظم الذي يشفى به المريض، طويل النفَس إذا نظم، مديد الباع إذا رقم، ذو قصائد قد طوّلها، ومدائح سوّرها وهمُه وسوّلها، ولم يكن له غوص على المعاني البديعة، ولا احتفال بطريق المتأخرين التي هي عليه وعلى أمثاله منيعة. ومع ذلك فكان بين فكيه مقراض للأمراض، وكنانة نبل أنفذ من السهام في الأعراض، لا يكاد يسلم أحد من هجوه، ولا ينجو طاهر الذيل من نجوه. وكان هجوه أجودَ من مدحه، وأوقع في النفوس لكدّه فيه وكدحه، ولكنه ذاق وبال هذا وأوذي أكثر مما آذى، إلا أنه كان كثير التلاوة، يلازم الصلاة في الحضارة والبداوة، وحج غير مرة، وقرن البعرة بالدرة.
وحججت أنا وهو في عام خمسة وخمسين وسبع مئة، ولما وصلنا الى مُعان مزّق الله من الخياط عمره، وأذهب شعره وشعره، وأتاه من نايات المنايا ما بطّل زمرَه، فدفنّاه على قارعة الطريق، وانكفّ ذاك اللسان الذي كأنه مبرد وما حمل التطريق، وجعلناه سراً مودعاً من البرية في صدر، ووضعنا الشمس في الأرض ليلة البدر، فلو كان الرفّاء موجوداً لرثى الخياط وأبّنه، ونقله بلبنه الطيب الى مقبره وجبّنه.
وعلى كل حال فقد راح الى الله وأراح، وحمل كارة أهاجيه وهو كاره وقلّ من حمل كارة واستراح، والله يسامحه في يوم عَرضه، ويعطّف عليه قلب من أخذ من عِرضه، حتى إنه يسامحه ويحالله، ويصادفه فيصادقه ويخالله.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في معان، ليلة الرابع عشر من المحرم سنة ست وخمسين وسبع مئة.

وسألته عن مولده، فقال: في شهر رجب سنة ثلاث وتسعين وست مئة بدمشق.
كان في مبدأ حاله يتردد الى شمس الدين الصائغ، ويقرأ عليه، ويجتمع بالمجير الجوخي، ثم إنه تردد الى شيخنا العلامة شهاب الدين محمود، وكتب عنه كثيراً، وكان يثني عليه ويميل إليه.
ونظم في سنة عشرين وسبع مئة قصيدة جيمية مديحاً في قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وأولها:
أما ولواحظ الحدق السواج ... لقد أصبحت منها غير ناجي
فقرّظها شهاب الدين محمود، وأثنى عليها، وكتب عليها فضلاء العصر، وانصقل نظمه وجاد، وشعره كثير يدخل في ست مجلدات.
وسافر الى الديار المصرية، ومدح أعيانها، واتصل بالأمير سيف الدين ألجاي الدوادار، وكان يبيت عنده. ومدح السلطان الملك الناصر بأبيات قرأها عليه قاضي القضاة جلال الدين القزويني، فرسم له براتب في كل يوم درهمين.
وأنشدني من لفظه غالب شعره لما نظم الشيخ جمال الدين بن نباتة قصيدته التائية الطنانة في الشيخ كمال الدين بن الزملكاني - رحمه الله تعالى - جعل غزلها المقدّم على المدح في وصف الخمر، وأولها:
قضى وما قُضيت منكم لُباناتُ ... متيّم عبثتْ فيه الصبابات
نظم الشيخ شمس الدين محمد بن الخياط قصيدة أخرى في وزنها ورويّها، ومدح بها الشيخ كمال الدين أيضاً، وجاء منها في الآخر ما أنشدنيه من لفظه:
ما شان مدحي لكم ذكرُ المُدام ولا ... أضحت جوامع لفظي وهي حانات
ولا طرقت حِمى خمّارة سحرا ... ولا اكتست لي بكاس الراح راحات
وإما أُسكر الجُلاس من أدب ... تدور منه على الأكياس كاسات
عن منظر الروض يُغنيني القريضُ وعن ... رقص الزجاجات تُلهيني الجزازات
عشوت منها الى نور الكمال ولم ... يدُر على خاطري دير ومشكاة
وكان الشيخ جمال الدين بن نباتة إذا جاء الى دار السعادة، يقال له: إن ملك الأمراء في القصر، فيحتاج أن يروح الى القصر الأبلق ماشياً، وقال في ذلك:
يا سائلي في وظيفتي عن ... كُنه حديثي وعن معاشي
ما حال مَن لا يزال يطوي ... مسافة القصر وهو ماشي
فقال شمس الدين جوابه، وأنشدنيه من لفظه:
يا شاعراً يخطئ المعاني ... فيما يعاني من المعاش
أنت شبيه الحمار عندي ... مركّب الجهل وهو ماش
وقد كان كتب ابن نباتة صداقاً، فخُلع عليه، فلبسه ودار به في البلد، فقال شمس الدين الخياط في ذلك، وأنشدنيه من لفظه:
ما خِلعة العقد على شاعرنا ... يوم الهنا شقاء وعَنا
رأيته فيها وقد أرخى له ... ذؤابة تُبدي عليه الحزنا
فقلت: مَن هذا الذي سواده ... سوّده بين الورى؟ قال: أنا
نباتة كان أبي، فقلت: ما ... أنبته الله نباتاً حسنا
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
ما خلعة ابن نباتة إلا كمن ... ألقى الرياض على الكنيف المنتن
ومنها:
واختصّ عمّته بفضل ذؤابة ... هي في القلوب قبيحة في الأعين
فكأنها ذنب لكلب نابح ... تحت الدجا من فرط داءٍ مُزمن
فالله يجعلها له كفن البِلى ... ويكون غاية كل سوء يقتني
حتى يقول مسيّر في هجوه ... هذا لعَمر أبيك شرّ مكفّن
ونظم ابن نباتة ما يُكتب على دواة فولاذ:
معنى الفضائل والندى والباس لي ... والسيف مُشتهر بمعنى واحد
بالنفس أضرب في نضار ذائب ... والناس تضرب في حديد بارد
فقال شمس الدين الخياط، وأنشدنيه من لفظه:
قل للذي وصف الدواة وحسنها ... ما جئتَ عن لفظي بمعنى زائد
أسخنت عينك في نضار ذائب ... وذبحت نفسك بالحديد البارد
وكان قد سلّطه الله عليه، كلما نظم شيئاً ناقضه فيه، فهما فرزدق وجرير عصرهما، ولولا خوف التطويل لأوردت كثيراً من ذلك.
وأنشدني من لفظه له:
قصدت مصراً من ربا جلّق ... بهمّة تجري بتجريب
فلم أر الطرّة حتى جرت ... دموع عيني في المزيريب
وأنشدني من لفظه له:

خلّفت بالشام حبيبي وقد ... يممت مصراً لعَنا طارق
والأرض قد طالت فلا تبعدي ... بالله يا مصرُ على العاشق
وأنشدني من لفظه له:
تركت لقوم طِلابَ الغِنى ... لحبّ الغناء ولهو الطرب
وعندي من زَهرٍ فضة ... وعندي من خندريس ذهب
قلت: أين هذا من قول النصير الحمامي:
أصبحت من أغنى الورى ... مستبشراً بالفرح
عندي خمرٌ ذهب ... أكتاله بالقدح
وقد ولّدت أنا من هذا معنى آخر، ونقلته الى أوراق الخريف، وقلت:
لمَ لا أكون غنياً بالخريف ولم ... أحتج الى غيره في اللهو والطرب
وكل دوحةِ بستان إذا عبثت ... بها الصَّبا نُثرت كوماً من الذهب
ولكن قول النصير أكتاله بالقدح غاية في الحسن.
وأنشدني شمس الدين الخياط له:
يا أهل مصر أنتم للعلا ... كواكب الإحسان والفضل
لو لم تكونوا لي سعوداً لما ... وافيتكم أضرب في الرمل
وأنشدني من لفظه له:
كم تُظهر الحسن البديع وتدّعي ... وبياضُ شكلكَ في النواظر مظلمُ
هل تَصدُق الدعوى لمن في وجهه ... بالذقن كذّبه السواد الأعظمُ
وأنشدني من لفظه له:
حتّام شخصي بين هذا الورى ... حيّ وفضلي عندهم ميْتُ
أبني بيوت الشعر في جِلّق ... وليس يُبنى لي بها بيت
وأنشدني من لفظه وقد أعطاه قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى جائزة:
لم يُجزني القاضي على قدْر شعري ... بل حباني مضاعف الأبيات
فلهذا أعدّها صدقات ... من عطاياه لا من الصدقات
وأنشدني من لفظه له:
ويلاه من ظبي له وجنةٌ ... شاماتها تلعب بالأنفس
لو لم تكن في خده جنة ... لما اكتسى بالعارض السندسي
وأنشدني من لفظه له:
يا كعبة الحُسن التي رُميتْ لها ... في كل قلب بالهوى جمراتُ
قد تم ميقات الصدود وقصدنا ... لو تمّ منك لوصلنا ميقات
وأنشدني من لفظه له:
قد طال فكري في القريض الذي ... من نفعه لست على طائِلِ
أمّرني زوراً فصرت امرأ ... صاحب ديوان بلا حاصلِ
وأنشدني من لفظه له في الفلوس:
يا ليت شعري أي خير يُرتجى ... للمعتفي من هذه الأزمان
لو لم يكن عُدمُ الدراهم قد بدا ... ما كان صار الفلس بالميزان
وأنشدني له في المشمش:
حبّذا مشمش يروق لطرفي ... منه حُسنٌ حديثه مشهور
قد بلاني بحبه وهو مثلي ... أصفر الجسم قلبه مكسور
وأنشدني له أيضاً:
يا أيها البحر الذي في وِرده ... رِيٌّ لقلب الحائم المتعطّش
أشكو إليك هوان شعر لم يقم ... لي رُخصه بغلو سعر المشمش
وأنشدني له أيضاً:
يا مَن به ادرأ عن مهجتي ... من حادث الأيام ما أختشي
قد أقبل الصيف وما في يدي ... من درهم للتوت والمشمش
وأنشدني له أيضاً:
لوزيُّ جلّق شيء ... يذوبُ قلبي عليه
كالسلسبيل ولكن ... كيف السبيل إليه
وأنشدني من لفظه له ما يكتب على باب:
نحن إلفان ما افتقرنا لبُغض ... لا ولا في اجتماعنا ما يُريب
نكتم السر بيننا في زمان ... كاتم السر في بنيه غريب
وأنشدني من لفظه له أيضاً:
مَن ذا الذي يُنكر فضلي وقد ... فزت من الحسن بمعنى غريب
عندي لمن يخذله دهره ... نصر من الله وفتح قريب
وكتب هو - رحمه الله تعالى - على كتابي جنان الجناس:
سرّ الفصاحة في كتابك ظاهرٌ ... وله ضياء الحسن عنك بديع
وكذا الثناء المحض في أثنائه ... بنوافج الذكر الجميل يضوع
فلذاك يُحفظ في الصدور لفضله ... وسواه يُنسى ذكره ويضيع
لله روض في جنان جناسه ... هو للقلوب وللعيون ربيع

كم أثمرت أغصانه بفوائدٍ ... كم طاب فيها للفؤاد ولوع
ما زال يمطره الجنان سحائباً ... يُضحي بها القرطاس وهو مَريع
في طيّه نشر العلوم تأرجت ... أرجاؤه فتعطّر المجموع
سِفرٌ عن الفضل المحقق سافرٌ ... وله على القمر المنير طلوع
بيّنتَ فيه لنا الأصول فأينعت ... لجنى العقول من الأصول فروع
وشرعتَ في حلّ الرموز وقد حلا ... للفهم في ذاك الشروع شروع
لم يبق في علم المعاني ناطق ... إلا وبان به لديك خضوع
فابن الأثير ولو تأثّل مجده ... وعصى لكان لِما بنيت يُطيع
سيّرت أمثالاً لها حكم فما ... لنجومها مثل النجوم رجوع
أعليت بُنيان البديع مشيّدا ... ما لم يشيّد للزمان بديع
وأذبت لابن أبي الحديد جوانحا ... لم تُطفَ منها للحريق دموع
وأدرت أفلاكاً على أمثاله ... أضحت تروق بحسنها وتروع
وطعنت في ابن سنان عند خفاجة ... لغة فأودت بالصدور صدوع
وأنرت ما لا نوّر المصباح في ... علم البيان وفي سناه لموع
وتخلّف المعتز إذ زلّ ابنه ... وبدا بمنطقه لديك خشوع
هذا كتاب قد كبتّ به العدى ... فجنابه عن حاسديه منيع
أتعبت مَن يسري وراءك في النهى ... ومتى تساوى ظالع وضليع
ورفعت قدر العلم حين وضعته ... فتشرّف الموضوع والمرفوع
نثر حكته من الكواكب نثرةٌ ... فيها لصفحة أوجِهِ ترصيع
ونظام شعر دونه الشعرى وإن ... أمست ومنزلها عليه رفيع
شعر يروق طباقه وجناسه ... والسبر والتقسيم والتصريع
يسمو حبيباً بالمكارم إن بدا ... ويرى الوليد لديه وهو رضيع
وهي أطول من هذا، وهذا القدر منها كاف.
وله قصيدة أخرى نظمها على كتابي نصرة الثائر على المثل السائر.
وكتبت أنا على قصائد نظمها في قاضي القضاة جلال الدين القزويني وأولاده بدر الدين وجمال الدين وتاج الدين وصدر الدين - رحمهم الله: وقفت على هذه القصائد التي تدبّجت، والمدائح التي طاب ثناؤها فتأرّجت، والقوافي التي ما لوت جيدها الى غير شاعرها ولا عرّجت. فألفيتها قيد النواظر، وتنزّهت منها في روضة أخملت الخمائل النواضر، وعلمت أنها تحفة القادم وزاد المسافر وحضرة المحاضر، لو عقل الناس تلعُّبها بالمعاني وفنونها، لعلّقوها على كعبة مجاميعهم فقد علّقت العرب دونها، قد أحكمها ناظمها رصفاً، ورقّت لفظاً، وراقت معنى وشاقت وصفاً. ومزّق بها هذا الخياط أقوال ذلك الرّفا، ونبت كل قضيب في روضها فشلّ من باعِ الشعر أكفّا:
أكرم بها من قواف ... وبدرها وجمالِه
وصدرها إن تبدّى ... في تاجه وجلاله
ما للكادّ التّعب ظفر بممنوحها، ولا للشكر مندوحة عن ممدوحها، وما أظنه إلا أُدخل الجنة بسلام، ولقي جلاله وكرمه وجه ذي الجلال والإكرام، فالله يمتّع الوجود برقيّ بدره درج منبره، ويشنّف الأسماع بما يتحفها لفظه من جوهر، ويجعل الفتاوى متفيأة ظل قلمه، ويديم عليه مواد نعمه، إن شاء الله تعالى.
محمد بن يونس بن فتيانالفاضل أبو زرعة الكناني المقدسي الشافعي.
كان شاباً فهماً ذكياً، حفظ كتباً وتفنن، وقدم الى دمشق سنة أربعين وسبع مئة. وسمع من أبي العباس الجزري والمزي والذهبي، ونسخ ومهر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وأربعين وسبع مئة في الطاعون.
ومولده في حدود سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
محمود بن أحمدابن محمد بن نصر بن أبي الرضا، الشيخ العدل نور الدين أبو القاسم البعلبكي المعروف بابن رضي.
كان إمام المدرسة النورية ظاهر بعلبك، وكاتب الحكم. كتب لجماعة من القضاة أكثر من خمسين سنة. وتردد الى دمشق مرات في شهادات.
توفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة ببعلبك.

محمود بن أوحد بن الخطير
شرف الدين أخو الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في مكانه.
طلبه السلطان الملك الناصر محمد الى مصر بعد مقام أخيه الأمير بدر الدين مدة بالقاهرة، في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وأعطاه طبلخاناه، وولاه الحجوبية بمصر تحت يد أخيه، ولما قُبض على تنكز - رحمه الله تعالى - وجهز أخاه الأمير بدر الدين مسعود نائباً الى غزة، جهز الأمير شرف الدين الى دمشق حاجباً صغيراً، فأقام بدمشق على الحجبة الى أن رُسم لأخيه الأمير بدر الدين مسعود بالحضور الى دمشق، فرسم للأمير شرف الدين بأن يتوجه الى صفد، فتوجّه إليها، كل ذلك في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ولما مات السلطان وجرى ما جرى، وولي النيابة بمصر الأمير سيف الدين قوصون، طلب الأمير بدر الدين مسعود الى مصر، وطلب أخاه أيضاً، فتوجّها إليه، وعملا الحجوبية بمصر ثانياً. ثم إن الأمير بدر الدين خرج بعد قوصون الى الشام، وأقام الأمير شرف الدين محمود على الحجبة بمصر الى أن توفي - رحمه الله تعالى - في شهر ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
ومات له ابنان وبنت وجماعة من أولاد أولاده وأولاد مماليكه في الطاعون.
وكان قد ولي شد الأوقاف بدمشق أيام تنكز في سابع صفر سنة ثلاثين وسبع مئة عوضاً عن نجم الدين بن الزيبق، ولما توجه الى مصر في التاريخ المتقدم، تولى شد الأوقاف عوضه ناصر الدين محمد بن بكتاش.
محمود بن أبي بكر بن أبي العلاءالمحدّث الفرضي شمس الدين أبو العلاء البخاري الكلاباذي الحنفي الصوفي.
تفقه ببخارى، وسمع بها، وقدم العراق، وسمع من محمد بن أبي الدنية، ومحمد بن عمر المريح، وابن بلدجي، وابن الدّباب وطائفة. وبالموصل من الموفق الكَواشي وجماعة. وبماردين ودُنيسر، وقدم دمشق، وسمع بها، ورحل الى مصر، وأكثر بها، وكتب الكثير بخطه المليح الحلو، وصنّف في الفرائض تصانيف، وكان فيها بارعاً، له أصحاب يشغلون عليه فيها. وكان ديّناً نزِهاً ورِعاً متحريّاً، سوّد معجماً لنفسه، وكان لا يمس الأجزاء إلا على وضوء وطهور.
وروى له الدمياطي، وسمع منه أشياخنا: المزي، وأبو حيان، وابن سيد الناس، والبرزالي، وقطب الدين. وسمع منه المقاتلي، والمجد الصيرفي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بماردين في أواخر شهر ربيع الأول سنة سبع مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين.
محمود بن أبي بكر بن حامدابن أبي بكر بن محمد بن يحيى بن الحسين، الشيخ الفقيه الإمام العالم المحدث اللغوي، صفيّ الدين أبو الثناء الأرموي الصوفي.
كان من أعيان طلبة الحديث، اشتغل وحصّل، وكتب الكثير ونسخ من الأجزاء والكتب الحديثية جملة. وسمع بالقاهرة جزء ابن عرفة على النجيب عبد اللطيف، وسمع بدمشق من عبد العزيز بن عبد الحارثي وجماعة من أصحاب ابن طبرزد والكندي. وقرأ مسند الإمام أحمد ببعلبك على ابن علان، وسافر الى القاهرة والإسكندرية، وسمع منه شيوخهما.
وكان يحفظ التنبيه، ورجع الى دمشق. وكان يطالع كتب اللغة، وجمع الصحاح والأزهري والمحكم وذيّل على النهاية، وكان يقرأ الحديث فصيحاً بسرعة، ثم إنه تغيّر ذهنه، وحصل له مرض بالسوداء، وكان يحاضر في بعض الأوقات، ويتكلم كلاماً حسناً، وفي بعض الأوقات يشتم من يخاطبه. وسافر الى الحجاز وحلب والقدس، وهو بهذا المرض.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، ودفن بالباب الصغير.
ومولده بالقرافة سنة سبع وأربعين وست مئة.
وسمع منه شيخنا الذهبي جزء ابن عرفة وغيره. وهو أخوه الشيخ المعمر شهاب الدين محمد القرافي - رحمهما الله تعالى.
محمود بن رمضانشرف الدين بن والي الليل.
قال كمال الدين الأدفوي: رأيته والياً بأدفو ثم أسنا. وله نظم، ومدحني بقصيدة.
وتوفي بمصر - رحمه الله تعالى - سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومن شعره:
هجرتموني بلا ذنب ولا سبب ... وحبكم منتهى الآمال والطلب
ورمت بالقرب منكم راحةً فغدا ... قلبي يبعدكم في غاية التعب
ومذ أطعت هواكم ما عصيت لكم ... أمراً ولا ملت في حبي عن الأدب

فما لطرفي لا يغشاه طيفكم ... بُخلاً عليّ وأنتم أكرم العرب
محمود بن طيالشيخ جمال الدين العجلوني المعروف بالحافي.
كان إنساناً حسناً فقير الحال ذا عيال، أقام بصفد مدة، وكان يعرف بعض عربية، وينظم شعراً لا بأس به، وصحب عفيف الدين التلمساني زماناً، وأخذ عنه ذلك المذهب. وكان مع فقره وتصوفه حادّ الأخلاق.
أنشدني كثيراً من شعره وكثيراً ما رواه لي عن عفيف الدين التلمساني، وكان لعله يحظ أكثر ديوان العفيف. وبحثت معه غير مرة. وكنت أردّ مقالته، وشعّب ذهن جماعة بصفد، وأعان الله على إنقاذهم، وكان يرتزق بشهادة القسم في خاص السلطان.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بصفد في سنة أربع وعشرين وسبع مئة. وقد قارب السبعين سنة.
وكتبت أنا إليه مرة، وقد توجه الى قرية تُسمي عَلْما من قرى صفد، ومعه شخص يعزّ علي:
ألا هل تُرى نازلين ُبا عَلْما ... أحطتم بما يلقى مشوقكم عِلما
فلو شاء حملي الريح نحو خيامكم ... أتاكم بصبّ قد براه الهوى سقما
وما ضرّكم رعي العهود التي مضت ... فكم قد رعى طرفي لبعدكم نجما
شُغلت بكم عن غيركم لا عدمتكم ... فطرفٌ يرى إلا محاسنكم أعمى
وعلّمني دمعي وجوهر ثغركم ... إذا غبتم عن مقلتي النثر والنظما
ولا عجب أن جاء صبري مُحاقُه ... وحسنكم قد أخجل القمر التمّا
منعتم جفوني لذة الغمض في الدجا ... فما ذاق طرفي بعدكم للكرى طعما
فكيف قضيتم بعدكم إن أدمعي ... لعيني غسل وهي لم تبلغ الحلما
أظنكم طهّرتم بمدامعي ... عيوني لما أن رأت غيركم قِدما
ولما شكت عيني إليكم سُهادها ... حكمتم عليها أن تدوم وأن تدمى
ومَن كنتم أحبابه يا سروره ... ويا سعده إن صح لك أو تمّا
ويا فوز قلب أصبحت خطراته ... الى حبكم تسمو، وصب لكم يسمى
وإن كان عذّالي عموا عن جمالكم ... فلي أُذن عن كل ما نقلوا صمّا
فكتب هو الجواب إليّ عن ذلك، ولكني لم أجده عند تعليقي هذه الترجمة.
وأنشدني من لفظه لنفسه تخميس قصيدة جيمية للعفيف التلمساني:
بالناظر الفاتر الوسنان ذي الدعج
وما بخدّ الذي تهوى من الضّرج
قم يا نديمُ فما في الوقت من حرج
انظر الى حسن زهر الروضة البهج ... واسمع ترنّم هذا الطائر الهزج
لي الهنا قد وفت سعدي بما وعدت
ودارها قربت من بعدما بعدت
فانظر تشاهد أنوار الجمال بدت
تُجلى الرياض وقينات الحمام شدت ... والزهر يحرق عرف المندل الأرج
نُسَيمة القرب من ذاك الجمال سرت
فكم فؤاد بها سرّت وكم أسرت
وخاطر بلبلته عندما خطرت
فعاطِني يا رشيقَ القد ما اعتصرت ... يد الملاحة لي من طرفك الغنج
عزت فعزّ علينا نيل مطلبها
لما تسامت علوّاً في تمرتبها
وفي لحاظك معنى عن تطلبها
فما المدامة في سلب العقول بها ... بالسُكر أسلبُ من عينيك للمُهج
صهباء تذهب بالتبريح والترح
وتُبدِل الهمّ والأوهام بالفرح
يا طيب في ساحتي حاناتها مرحي
وإن تُرد مزجها لا تمزجن قدحي ... دعه برقة وجدي فيك يمتزج
يا ويح روحي تمادت في مآربها
واستعذبت ما تلاقي من مُعذّبها
مسلوبة قد براها عشقُ سالبها
مرّت ليالي صدود لو جمعت بها ... دمعي جرت سفنٌ منه على لجج
أشفقت من فيض آماقي على غرقي
ولم يخلّ الضنى مني سوى رمقي
وبُدِّل النومُ بالتسهيد والأرق
كم قد فتحت لضيف الطيف من حُرَق ... باب المنى فانثنى عنه ولم يلج
عليك مُذ كنتَ لي ما زلت معتمدا
لما أجلّك بالتعظيم معتقدا
ولم أحل عن عهود بيننا أبدا
وكم بذلت جميعي مجتهداً ... وصنت سرّك في قلب عليك شج
أضحى وجودي منسوباً الى العدم
وسرُ وجودي بسقمي غير مكتتم

كم قد تبرّمت من شوقي ومن ألمي
وشمت برقاً على الجرعاء من إضم ... قلبي عليك وطرفي غير مختلج
لي البشارة أحلامي بكم صدقت
وبالرضا أحسن الأحوال قد نطقت
وكان ما صار بالحسنى التي سبقت
وهذه ليلة من لؤلؤ خُلقت ... حسناً وإن ظهرت في صبغة السبج
أكرم بها ليلةً عظّمت حرمتها
ودمت أشكر مهما عشت نعمتها
ولم أخف من صروف الدهر نقمتها
جلت ثناياك ذات الظلم ظلمتها ... ولم يكلها لضوء الشمع والسّرج
لما تجنّبت عن علمي وعن عملي
شوقاً لرؤياك يا سولي ويا أملي
أفنى فِناك فنائي وانقضى أجلي
فصار ثبتك في محوي يحقق لي ... إيجاب سلبي من ستر ومن بهج
ومذ تجلّيت في كل المظاهر لي
ولاح معناك لي في السهل والجبل
حققت رؤياك كشفاً بالعيان جُلي
فلم أقل للصّبا من بعدها احتملي ... للحيّ شخصي ولا لي في الخيام لُجي
محمود بن سلمان بن فهد
الشيخ الإمام العالم العلامة الأديب الكامل البارع الناظم الناثر القاضي الرئيس الجليل شهاب الدين أبو الثناء الحلبي الدمشقي الحنبلي، صاحب ديوان الإنشاء بدمشق.
سمع من الرضيّ بن البرهان، ويحيى بن عبد الرحمن بن الحنبلي، والشيخ جمال الدين بن مالك، وابن هامل المحدّث، وغيرهم. وكان يذكر أن له إجازة من يوسف بن خليل، وتفقه على ابن المنجا وغيره. وقرأ العربية على ابن مالك، وتأدّب بالشيخ مجد الدين بن الظهير الإربلي الحنفي، وسلك طريقه في النظم وحذا حذوه وأربى عليه، وإن كان قد تلا تلوه، لأنه كان إذا نظم أخذ الكلمات حروفاً، فإذا ركّبها صارت في الآذان شنوفاً، يرشف السمعُ منه مدامه، ويتعلم التغريدَ منها الحمامة، ويُسطرها فيرى الناس بدرها وقد استفاد تمامه، وزهرَها وقد شق الربيع كمامَه، وروضها وقد جادته الغمامه. وإذا نثر فضح الدر في السلوك، ورصّعه في تيجان الملوك، فكم من تقليد هو في يد صاحبه للسعد إقليد، وكم منشور فيه توليد، وهو بوجنة السيادة توريد، وكم من توقيع هو قنديل يضيء لمن حواه أو هو في كأس مسرّته قنديد. وخطه من أين للوشي رقمه أو للعِقْد نظمه أو للروض زهره أو لطرف الحبيب سِحره، أو للنجوم طرائقه، أو لخطوط إقليدس دقائقه، أو للفكر الصحيح حقائقه، قد نمّق أوضاعه المتأنّقة، ونسخ محاسن من تقدّمه بحروفه المحقّقة:
ينمنِمُ الخطّ لا يجتاب أحرُفَه ... والوشي مهما حكاها منه يجتابُ
لو لم يكن مستقيماً بعدما سجدت ... فيه المعاني لقلت السطرُ محرابُ
أملى تصانيف في أكمامها ثمرٌ ... تجنيه بالفهمِ دون الكف ألبابُ
وكان - رحمه الله تعالى - ممن أتقن الفنين نظماً ونثرا. وبرع في الحالين بديهة وفكرا. وكان هو يزعم أن نثره أحسنُ من نظمه، وأن بدره فيه أكمل منه في تمّه.
والذي أراه أنا، وأبرأ فيه من العناية والعنا، أن نظمه أعذب في الأسماع، وأقرب الى انعقاد الإجماع، لأنه انسجم تركيباً وازدحم تهذيباً، فسحر الألباب، ودخل بالعجب من كل باب، وإن كان نثره قد جوّده، وأجراه على قواعد البلاغة وعوّده، فإن شعره أرفع من ذلك طبقة، وأبعدُ شأواً على من رام أن يلحقَهْ، وهو يحذو فيه حذو سبط التعاويذي. وقصائده مطوّلة فائقة، ليس يرتفع فيها ولا ينحطّ، بل هي أنموذج واحد ليس فيها ما يُرمى. ولم يكن بغوّاص على المعاني ولا يقصد التورية، فإنها جاءت في كلامه قليلة، ومقاطيعه قليلة، ولكن قصائده طويلة طائلة هائلة، لعلها تجيء في ثلاثة مجلدات أو أربعة، ولم يجمعها أحد، وهي كما قال ابن الساعاتي:
ناطقاتٌ بكل معنىً يضاهي ... نُكَتَ السّحر في عيون الملاح
من نسيب يهزّ عاطفة المج ... د ومدح يلين قلب السماح
وأما نثره فيجيء في ثلاثين مجلدة. وكان أخيراً بالديار المصرية، يُنشئ هو ويكتب ولده القاضي جمال الدين إبراهيم، فيجيء المنشور أو التوقيع فائقاً في خطه ولفظه.

وعلى الجملة فلم أر مَن يصدق عليه اسم الكاتب غيره، لأنه كان ناظماً ناثراً، عارفاً بأيام الناس وتراجمهم ومعرفة خطوط الكتّاب، وله الروايات العالية بأمها كتب الأدب وغيره، ورأى الأشياخ وأخذ عنهم. وعُيّن في وقت بالديار المصرية لقضاء الحنابلة.
وهو - رحمه الله تعالى - أحد الكلمة الذين عاصرتهم وأخذت عنهم. وكان يكتب الإنشاء أولاً بدمشق، ثم إن الصاحب شمس الدين بن السلعوس نقله الى الديار المصرية لما توفي القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وتقدم ببلاغته وكتابته وإنشائه وسكونه وتواضعه.
وأقام بالديار المصرية الى أن توفي القاضي شرف الدين بن فضل الله بدمشق، فجُهز مكانه الى دمشق صاحب ديوان الإنشاء، فأقام بها الى أن توفي - رحمه الله تعالى - ليلة السبت ثاني عشري شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة بدار الفاضل بدمشق داخل باب الناطفانيين، وصُلي عليه ضحى يوم السبت بالجامع الأموي، وصلى عليه نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز والأعيان برّا باب النصر، ودفن التي عمّرها لنفسه بالقرب من مسجد ابن يغمور، وصُلي عليه بمكة والمدينة.
ومولده في شعبان سنة أربع وأربعين وست مئة.
وكان محباً لأهل الخير والصالحين، مواظباً على النوافل والتلاوة والأدعية، يستحضر ذلك، ويذكر الموت دائماً، وعنده خوف من الله - تعالى - وعليه سكينة كبيرة ووقار.
ولما مات رحمه الله تعالى كنت بالديار المصرية فقلتُ أرثيه، ولم أكتب بها الى أحد:
ما حُزن قلبي في البلوى بمحدودِ ... ولا فؤادي في السّلوى بمعدودِ
فلا تذمَّ امرأ يبكي الدماء على ... أبي الثناء شهاب الدين محمود
يا ساري الليل يبغي الفضلَ مجتهداً ... ارجع وحُطَّ عن المهريّة القُود
مات الإمام الذي كنا نؤمّ له ... فيما نؤمّله من غير تفنيد
وأقفرت ساحةُ الآداب واندرستْ ... معالم العلم منه بعد تشييد
أما ترى كيف كتّاب الأنام غدت ... أوراقُهم وهي فيه ذات تسويد
هو الإمام الذي لما سما كرماً ... ألقت إليه المعاني بالأقاليد
طوفان علم جرَت فيه السّفينة من ... آدابه واستوت منه على الجودي
فليس باغي معاليه بذي ظَفَرٍ ... وليس راجي أياديه بمردود
كأن أقلامه في الكفّ بانُ نَقىً ... حمائم السّجع منها ذات تغريد
فيرجع الطّرس من نقش عليه بدا ... كأنّه نقش كفّ الكاعب الرود
كم قلّد الدهر عقداً من قصائده ... بدُرّ لفظٍ بديع الرّصفِ منضود
وكم حبا الملكَ تيجان البلاغة من ... تلك التواقيع أو تلك التقاليد
وكم أفاد المعاني من بلاغته ... ما زانها باختراعاتٍ وتوليد
فصال إذ صان سرّ الملك منفرداً ... على الأعادي بكيدٍ غير مكدود
فلا قوامُ القَنا يهتزّ من مرح ... ولا خُدود المواضي ذات توريد
وليس يُسمَع للأبطال همهمةٌ ... رعودها خار منها كل رِعديد
تدبير مَن حلبَ الأيام أشطرها ... مهذّب الرأي في عزم وتسديد
أراه إن قام ذو فضلٍ بمنصبه ... قال البيانُ له قُم غير مَطرود
أمّا ترسُّلُه السهل البديع فقد ... أقام في شاهقٍ بالنّجم معقود
أنسى الأنام به عبد الرحيم كما ... راح العماد بقلبٍ غير معمود
تراهُ إن أعمل الأيام مُرتَجلاً ... قال البيانُ لها يا سُحبَنا جودي
يُملي ويكتبُ من رأس اليراع بلا ... فِكرٍ فيأتي بسحرٍ غير معهود
إذا سمعنا قوافيه وقد نجزَت ... تقول من طرَبٍ ألبابنا عيدي
شاعَت فضائلُهُ في الناس واشتهرت ... وبات يُنشدها الرُكبانُ في البيد
يا مَن رجعتُ به في الناس معرفةً ... من بعد ما زال تنكيري وتنكيدي

ساعدت فيكَ حمامُ الأيكِ نائحةً ... فقصّرت فيك عن تَعداد تَعديدي
لهفي عليك وهل يُجدي التلهّف أو ... يفكّ أسرَ فؤادٍ فيك مصفود
وحُرقَتي فيك لا يُطفي تلهّبها ... دمعي ولو سال في خدّي بأخدود
فلا جفَت قبركَ الأنواءُ وانسجمت ... عليه يا خير ذي صمتٍ وقد نودي
وكنتُ قد قرأت عليه المقامات الحريرية وانتهيت منها الى آخر المقامة الخامسة والعشرين في سنة ثلاثة وعشرين وسبع مئة، فكتب هو عليها: قرأ عليّ المولى الصدر فلان الدّين، نفعه الله بالعلم ونفع به، من أوّل كتاب المقامات الى آخر الخامسة والعشرين قراءة تُطرب السامع وتأخذ من أهواء القلوب بالمجامع، وسأل منها عن غوامض تدلّ على ذكاء خاطره المتّقد، وصفاء ذهنه العارف منه بما ينتفي وينتقد. ورويتها له عن الشيخ الإمام مجد الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن الظهير الإبلي، وساق سنده الى الحريري ثم إنه كتب لي على آخرها وقد كمّلت قراءتها عليه بدمشق في ثاني عشر شهر الله المحرّم سنة أربع وعشرين وسبع مئة: قرأ عليّ المولى الكبير الرئيس العالم الفاضل المُتقِن المُجيد نظماً ونثراً المحسن في كل ما يأتي به من الأنواع الأدبية بديهة وفكراً. فلانُ الدين نفعه الله بالعلم ونفع به كتاب المقامات الحريرية قراءة دلّت على تمكنه من علم البيان واقتداره على إبراز عقائل المعاني المستكنّة في خدور الخواطر مجلوّة لعيان الأعيان. وإنه استشفّ أشعة مقاصدها بفكره المتّقد، وفرّق بين قيم فرائدها بخاطره المنتقد، فما تجاوز مكاناً إلا وأحسن الكلام في حقيقته ومجازه، ولا تعدّى بياناً إلا وأجمل المقال في تردد البلاغة بين بسط القول فيه وإيجازه، ورويته له عن فلان، وذكر السند على العادة.
وكتب هو لي أيضاً على كتاب الحماسة: قرأ عليّ الصدر فلان الدين قراءة مطّلع من البلاغة على كنوزها، مميّز في الصناعة بين لُجين بديعها وإبريزها: باحثٍ عن إبراز مقاصدهم التي لا توجد في كلام مَن بعدهم، عالم بقيم فرائدهم التي إذا ساواها بغيرها نُقّاد الأدباء بسرح الامتحان والسبك نقدهم. ثم ذكر سنده فيها، على العادة.
وكتب هو أيضاً على كتابه أهنا المنائح في أسنى المدائح مما نظمه هو في مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم: قرأ عليّ المولى فلان الدين أيّده الله تعالى هذا الكتاب والزيادات الملحقة في آخره من نظمي أيضاً قراءةً دلّت على وفور علمه، وثبْت رويّته في استنباط المعاني وقوة إدراكه وسرعة فهمه، وشهدتْ بتمكّنه في هذه الصناعة، وأنبأتُ عما يُجريه فكره من مواد البراعة على لسان اليراعة، وأذنتُ له أن يرويها عني، وغيرها مما قرأه عليّ وما لم يقرأه من نظمي ونثري ومسموعاتي وإجازاتي.
وكتبتُ أنا في آخر كتابه حسن التوسل الى صناعة التّرسّل بعدما قرأته عليه في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة: قرأت هذا الكتاب على مصنّفه الشيخ الإمام:
العالمُ العلامة الحبر الذي ... بهرت عجائبه بني الآداب
ودنت لديه المشكلاتُ وطالما ... جمحت أوابدُها على الطُلاب
من كل قافيةٍ تهزّ معاطف ال ... أيّام من سُكر بغير شراب
ورسالةٍ غلبت عُقول أولي النُهى ... وتلعّبت بالسحر للألباب
الألمعي أخي الفواضل والنّدى ... الكامل الأدوات والأسباب
المفوّه، المدبّر، المشير، السفير، يمين المُلك، يمين الملوك والسلاطين، شهاب الدين أبي الثناء محمود صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالشام المحروس:
لا برِحَت أبكارُ أفكاره ... تُجلى لنا في حبر الحِبر
وروضة الآداب مفترّة ... من لفظه عن يانع الزهّر
ابن المولى الوليّ الصالح السعيد زين الدين سلمان بن فهد رحمهما الله تعالى في مجالس آخرُها التاريخ المذكور، وقد رأى أن ينظمني في سلك خدَمه ويُفيض عليّ كما أفاض عليهم ملابس نعمه، ويحشُرني في زمرة الآخذين عنه ويُقبسني أنوارَ كماله في التهذيب الذي لم تطمح النفسُ الأبية أن تقبسها إلا منه.
وكتبتُ أنا على أول هذا الكتاب:
إذا كُنتَ بالإنشاء حلْف صبابةٍ ... فقُم واتخذ حُسن التوسل واسطَهْ

به ختم الآدابَ مُنشيه للورى ... ولكن غدا في ذلك العقد واسطه
إمامٌ له في العِلم والجسم بسطةٌ ... وكفٌ غدت في ساحة الفضل باسطَهْ
فطوبى لمن أضحى نزيلَ مقرّه ... وقابلَه يوماً وقبّل باسطَهْ
فلما وقف هو عليها كتب إليّ رحمه الله تعالى:
أذا الدّرّ أم ذا الزّهر لو كان حاضراً ... محاسنه حسّانُ أصبح لاقطَهْ
وذا البدر حيثُ البدر في كبدِ السّما ... على حبّه أطيار عقلي ساقطَه
تفضّلت غرسَ الدّين لما تقبّلت ... علومُك أعمالاً من النقص حابطَه
وشيّدت إذ قيّدتَ فينا ضوابطاً ... قواعدُها لولا وجودُك هابطَه
وقرأت عليه بعض ديوان أبي الطّيب. وقرأت عليه ألفية ابن مالك ورواها لي عن المصنّف.
ولما قرأت عليه قوله في كتاب حُسن التّوسل:
فلم أرَ مثلَ نشرِ الروض لما ... تلاقينا وبنت العامريّ
جرى دمعي وأومضَ برق فيها ... فقال الروضُ في ذا العام ريّي
أخذتُ في الزهزهة لما في هذين البيتين من الجناس المركب، وبالغتُ في الثناء عليهما فقال لي: خُذ نفسك بنظم شيء في هذه المادة، فامتنعتُ فقال: لابد من ذلك، فغبت عنه يومي، وجئته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي في هذه المادة:
بقول الشافعيّ اعْمَل تُحقّقْ ... مُناك فما ترى كالشّافعيّ
فكم في صحبه من بحر علمٍ ... ومن حَبْرٍ ومن كشّاف عِيّ
فقال: حسن، وعجّب بهما الحاضرين. ثم قال: إلا أن قافيتي أنا رائيّة، فغبتُ عنه يومي وأتيته في غد، وأنشدته لنفسي:
أرى في الجَودريّة ظَبي أُنس ... فيا شَغفي به من جو دريّ
لبارق فيه سحّتْ سُحبُ دمعي ... فقال الروضُ إنّ الجودَ ريّ
وأنشدته لنفسي أيضاً:
أقول لمُقلتي لما رَمَت في ... فؤادي حسرةً من عنبريّ
سلمتِ وبات قلبي في عذابٍ ... ألم يخشى فؤادك عن بريّ
فقال: حسنٌ لسنٌ، وزاد في الإعجاب بذلك، ثم قال: إلا أن قافيتي أنا مؤسّسة، يعني أن فيها الألف، فأتيته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي أيضاً:
مليكٌ كم سحاب سحّ لي من ... نداهُ الهامعيّ الهامريّ
وقال السّيف في يُمناهُ لما ... رأى الأعداء: من ذا الهام ريّي
فقال: أجدتَ، ولكن أنا بيتاي في غزل، وهذان في مديح، فغبت عنه يومي، وجئته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي:
مليحٌ جاء بعد الحجّ يُذكي ... غَرامي بالنّسيم الحاجريّ
تلظّت منهُ أشواقي بقلبي ... وقالت: عند هذا الحاج رييّ
فزاد في تقريظهما والثناء عليهما، فقلت: يا سيدي، والله ما يلحقك أحد في بيتك، ولو كان المطوّعي أو البُستي. قال: ولمَ ذاك؟ قلت: لأنك شاعرٌ مجيدٌ فحلٌ وقعتَ على المعنى بكراً فلم تدع فضلة لغيرك ليأتي به في تراكيبك العذبة الفصيحة ومعناه الحسن البليغ، فبالغ في الجبر والصدقة.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
قُل لي عن الحمّام كيف دخلتها ... يا مالكي لتسُرَّ خِلاً مُشفقا
أدخلتَها وأولئك الأقوام قد ... شدّوا المآزِر فوق كثبانِ النّقا
فاستحسنتُهما، وأنشدته لنفسي مضمّناً في اليوم الثاني:
مليحٌ أتى الحمّام كالبدر في الدُجا ... ومبسمُه يُزري بزهرِ الكواكب
وأردافُهُ من تحت مئزره حكَت ... بياض العطايا في سَواد المطالبِ
فأعجبه هذا التضمين كثيراً، وأنشدني يوماً له:
إذا كان من أهواهُ روحي وراحتي ... ولُقياهُ أرجى من حياتي وأرجحُ
وأظمأني منهُ الزّمانُ بفقدِه ... فلا شكّ أن الموت أروى وأروحُ
فاستحسنتُهما، وأنشدته لنفسي في اليوم الثاني:
لئن كان ما بي عنك في الحبّ خافياً ... فلا شكّ أن الله أعلى وأعلم
وإن كنتَ في إنسانِ عيني ممثَّلاً ... ففي خاطري ذكراكَ أغرى وأغرم
وإن كنتَ أذكيتَ الجوى بمدامعي ... فنارُ الهوى في القلب أضرى وأضرَم

وإن كنت تختارُ المنى في منيّتي ... فوالله إنّ الموت أسلى وأسلَم
فقال: نفَسٌ جيد دالّ على التمكّن والقدرة، ولكن اجتهدْ إذا عارضت أحداً أن يكون قولك في وزنه ورويّه، فأنشدته في اليوم الثاني:
لئن طلبتُ نفسي السّلوَّ عن الذي ... تلفْتُ به فالصّبرُ أنجى وأنجَحُ
فقُل للحَيا الهتانِ أمسِك ولا تَرُم ... مُساجلَتي فالدّمع أسمى وأسمحُ
فقال رحمه الله تعالى: أجدتَ بارك الله فيك.
وأنشدني يوماً لنفسه قوله:
غريبٌ سبَوا نَومي ولم تدرِ مُقلتي ... كما سلبوا قلبي ولم تشعُر الأعضا
وطلّقت نومي والجفونُ حواملٌ ... فمن أجلِ ذا في الخدّ أبقَت لها فرضا
فغبتُ عنه وأنشدني في اليوم الثاني:
سننتَ السُهادَ بمنعِ الكَرى ... فأظهرتَ في حالة بِدعتَيْن
وصيّرتَ تكرارَ دمعي على ... خُدودي من فوقها فرضُ عيْن
فأعجباه كثيراً.
وأنشدني قوله أيضاً مما كتب به الى الملك المظفّر صاحب حماة:
أمّلتُ أنك لا تزالُ بكلِّ مَنْ ... ناواكَ من كلِّ الأنام مُظفّرا
ورجَوتُ أن تطأ الكواكب رِفعةً ... من فوق أعناقِ الورى وكذا جرى
فغبتُ عنه وأنشدته في اليوم الثاني:
أمّلت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيتُ من هجرانكم ما لا يُرى
وعلِمتُ أن بعادكُم لا بدّ أن ... يَجري له دمعي دماً وكذا جرى
فأعجباه كثيراً وزهزهَ لهما.
وأنشدني من لفظه لنفسه يعارض ابن الخِيَمي:
قضى، وهذا الذي في حبّهم يجبُ ... في ذمّة الوجد تلكَ الروح تحتسِبُ
ما كان يوم رحيل الحيّ عن إضَمٍ ... لروحِهِ في بقاءٍ بعدَهُم أرَبُ
صبٌّ بكى أسفاً والشّملُ مجتمِعٌ ... كأنه كان للتفريقِ يرتقبُ
نأوْا فذابت عليهم روحُه أسفاً ... ما كان إلا النوى في حتفه سببُ
طوبى لمن لم يبدَّلْ دينَ حبِّهم ... بل ماتَ وهو الى الإخلاص منتسبُ
لو لم يمُت فيهم ما عاشَ عندَهم ... حياتُه من وفاةِ الحب تكتسبُ
بانوا وفي الحيّ ميتٌ ناح بعدَهم ... وُرْقُ الحمام وسحّت دمعَها السُّحُبُ
وشقّ غصنُ النّقا من أجله حَزَنا ... جيوبَه وأديرت حوله العُذبُ
وشاهدَ الغيثُ أنفاساً يصعّدها ... فعاد والبرقُ في أحشائه لهبُ
لو أنصفوا وقفوا حِفظاً لمهجتِه ... إن الوقوفَ على قَتلى الهوى قُرَبُ
يا بارقَ الثّغر لو لاحَت ثغورُهُم ... وشِمْت بارقها ما فاتكَ الشّنبُ
ويا قضيبَ النقا لو لم تجد خبراً ... عند الصَّبا منهم ما هزّك الطّربُ
ويا حيا جادَهم إن لم تكُن كلِفاً ... ما بالُ عينيكَ منها الماءُ ينسكبُ
بالله يا نَسمات الرّيحِ أين همُ ... وهل نأوْا أو دموعي دونَهم حُجُبُ
بالله لمّا استقلوا عن ديارهم ... أحنّت الدار من شوقٍ أم النجبُ
وهل وجدتَ فؤادي في رحالِهم ... فإنه عندَهُم من بعضِ ما سلبوا
نأوا غِضاباً وقلبي في إسارِهم ... يا لَيتَهُم غصَبوا روحي ولا غَضِبوا
عساك أن تعطفي نحوي معاطفَهم ... فالغصنُ بالريح ينأى ثم يقتربُ
وإن رجعتِ إليهم فاذكُري لهُم ... أني شرّقت بدمعِ العين مُذ غرَبوا
ثم اذكُري سفحَ دمعي في معاهدِهم ... لا يُذكَر السَّفْح إلا حن مغترب
قلت: فأعجبتني هذه القصيدة وهزّت أعطافي طرباً، لما هزأت بالروض وقد مرّت به نسمة الصبا وفارقته. وتوفي رحمه الله تعالى فأنشدتها يوماً بالقاهرة لبعض الأصحاب الأفاضل فألزمني بنظم شيء في هذه المادة، فاستعفيت، فلم يسعف بالإعفاء، فقلتُ مع اعترافي بأنه شهاب في أوجه، وأنا في حضيض من الحظ:
يا حيرةً مُذ نأوا قلبي بهم يجبُ ... ولو قضى ما قضى بعضَ الذي يجبُ

سرتُم وقلبي أسيرٌ في حُمولكُم ... فكيف يرجعُ مُضناكُم وينقلبُ
وأيُّ عيشٍ له يصفو ببعدكُم ... فالجسمُ منسبِكٌ والدّمع منسكبُ
ناحَت عليّ حَمامات اللّوى وونَت ... ولو رثَتْني ما في فِعلها عجَبُ
تملي عليّ حمامات اللّوى ورثت ... ولو رثتني ما في فعلها عجب
والغَيثُ لما رأى ما قد مُنيتُ به ... فكلّه مُقَلٌ بالدمع تنسكبُ
بالله يا صاح روّحْني بذكرِهم ... وزِدْ عسى أن يخفّ الوجدُ والوصَبُ
ويا رسولي إليهم صِفْ لهم أرَقي ... وأنّ طرْفي لضيفِ الطّيفِ يرتقبُ
واسْأل مواهبهُم للعين بعضَ كرى ... عساي أن يهبوا لي بعض ما نهبوا
ولطّفِ القولَ لا تسأم مُراجعةً ... واشْكُ الهوى والنّوى قد ينجح الطّلبُ
عرّض بذِكري فإن قالوا أتعرفهُ ... فسَل لي الوصلَ وأنكرني إذا غضبوا
ذكّرهُمُ بليالٍ قد مضت كرَماً ... وهم نُجومي بها لا السبعة الشُهُبُ
همُ الرّضا والمُنى والقصدُ من زمني ... وكل ما أرتجي والسّول والأربُ
وهم مُرادي على حالَيْ وفاً وجَفاً ... وبُغيتي إن نأوا عنّي أو اقتربوا
وهم ملاذي إذا ما الخَطبُ خاطبَني ... وهم عياذي إذا ما نابَتِ النّوَبُ
هم روحُ جسمي الذي يحيا لشقوتِه ... بهم فإن حياتي كلها تعبُ
هم نورُ عيني وإن كانت لبُعدِهم ... أيامَ عيشيَ سوداً كلها عطبُ
إن يحضُروا فالبُكا غطّى على بصري ... فهم حضورٌ وفي المَعنى همُ غُيُبُ
وإن يغيبوا وأهدَوا طيفَهم كرَماً ... فالسّهدُ من دون ما يهدونَهُ حجُبُ
فلو فرضت انقطاعَ الدّمع لم أرهمْ ... وصدّهُم عني الإجلالُ والرّهَبُ
فما تملّت به عيني بلِ امتلأت ... بأدمعٍ خجِلَت من دونها السُحُبُ
لم تُتركِ التُرك في شمسٍ ولا قمرٍ ... حُسناً لغيرهم يُعزى وينتسبُ
لكنهم لم يفوا أن عاهدوكَ على ... ودٍّ وما هكذا في فعلها العربُ
خلا الغزالُ الذي نفسي به علقت ... فكم لهُ من يدٍ في الفضلِ تُحتَسَبُ
له لطافة أخلاقٍ تعلِّمُ مَن ... لا يعرفُ الوجدَ كيف الذلّ والحرَبُ
ولحظهُ الضيّق الأجفانِ وسّعَ لي ... هُمومَ وجدٍ لها في أضلُعي لهبُ
سُيوفُ أجفانه المرضى إذا نظرت ... تغري الجوانح لا الهنديةُ القضبُ
إذا انثنى سلبُ الألباب معطفه ال ... بادي التأوّد لا الخطيّة السلُبُ
وإن بدا فبُدورُ الأفقِ في خجلٍ ... تُرخى على وجهها من سُحبها نقبُ
يا برقُ لا تبتَسِم من ثغره عجَباً ... قد فاتَ معناكَ منه الظلْمُ والشّنبُ
ويا قضيبَ النّقا لو هزّ قامتَهُ ... لكُنتَ تسجدُ إجلالاً وتقتربُ
شمعي ضِيا فرقه والوردُ وجنته ... والريقُ خمري لا ما يعصرُ العنبُ
ومذ رشفتُ لماهُ وهو مبتسمٌ ... ما راقَ لي بعده خمرٌ ولا حبَبُ
قلت: وقد سقتُ في ترجمة ابن الخيمي في تاريخي الكبير قصيدته البائية والقصيدة التي نظمها ثانياً لما تحاكم هو ونجم الدين بن إسرائيل الى شرف الدين بن الفارض، وغير ذلك مما نظمه العفيف التّلمساني وغيره.
وأنشدت يوماً أيضاً بعض الأصحاب الأغرّة بالقاهرة قولَ شيخنا شهاب الدين أبي الثّناء محمود رحمه الله تعالى، وهو:
تثنّى وأغصانُ الأراك نواضرٌ ... فنُحتُ وأسراب من الطّيرِ عكفُ
فعلّم باناتِ النّقا كيف تنثني ... وعلّمت ورقاءَ الحِمى كيف تهتِفُ

فألزمني بنظم شيء في هذا المعنى، فقلت: هذا يتعذر، لأن هذا استوفى المعنى ولم يترك فيه فضلاً، وجوّد النظم فألفاظه في غاية الفصاحة وتراكيبه في غاية الانسجام، فقال: لابد من ذلك، فقلتُ أنا مختصراً:
لم أنسهُ في روضةٍ ... والطّيرُ يصدحُ فوقَ غُصن
فأعلّم الوُرق البُكا ... ويعلم البانُ التثنّي
وأنشدته يوماً أيضاً من قصيدة:
وإن تُرِدْ عِلمَ بديعِ الهوى ... بين الورى فأتِ فعنديَ المُرادُ
الأبيات كلها، وقد تقدمت هذه القصيدة في ترجمة الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل بن علي صاحب حماة، فأعجبه ذلك، وألزمني نظم شيء في هذه المادة، فنظمت ولكن ذاك بنى وأنا هدمت:
أنا والحبيبُ ومَن يلومُ ثلاثةٌ ... لهُم بديعُ الحبِّ أصبحَ ينتمي
فلي الجِناسُ لأن دمعي عن دَمي ... يجري ألستَ تراهُ مثلَ العندمِ
وله مُطابقةُ التواصل بالجَفا ... ولعاذليه لزومُ ما لم يلزمِ
وقلت أنا أيضاً في هذه المادة:
لا تعجَبوا منه فما حُسنُه ... إلا بليغٌ حِرْتُ في وصفهِ
إن كان قد أوجزَ في خصرهِ ... فإنه أطنَبَ في رِدفهِ
وما أتى بالواوِ في صُدغِه ... إلا وقد رتّب في عِطفهِ
ولفّ في البُردةِ أعطافهُ ... حتى يطيبَ النشْرُ من لفّهِ
وأنشدني شيخنا المذكور رحمه الله لنفسه:
رأتْني وقد نالَ مني النّحولُ ... وفاضَتْ دموعي على الخدّ فَيضا
فقالت بعيني هذا السّقامُ ... فقلتُ صدقتِ وبالخَصْرِ أيضا
قلت: هو من قول الأرّجاني:
غالطَتْني إذ كسَت جسمي الضّنا ... كُسوةً أعرَت من اللّحمِ العِظاما
ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني، صدقَتْ ولكن سِقاما
وأنشدني لنفسه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة:
ومَلولة في الحبّ لما أن رأتْ ... أثرَ السّقامِ بعظْمي المُنهاضِ
قالت: تغيّرنا. فقلتُ لها: نعم ... أنا بالسّقامِ وأنتِ بالأعراضِ
قلت: لا يقال إلا عظم مهيض، وأما منهاض فما أعرفه ورد في فصيح الكلام، والسقام لا علاقة له بالعظم إنما هو باللحم والجلد معاً تبعاً لذلك.
ومن نظم شيخنا شهاب الدين ما كتب به الى القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر، رحمه الله تعالى، ومن خطه نقلت:
هل البدرُ إلا ما حواهُ لثامُها ... أو الصبحُ إلا ما جلاهُ ابتسامُها
أو النارُ إلا ما بَدا فوقَ خدّها ... سَناها وفي قلبِ المحبِّ ضِرامُها
أقامَت بقلبي إذ أقام بحُسنها ... فدارتُها قلبي وداري خِيامُها
مَهاةُ نقى لو يُستطاع اقتناصُها ... وكعبةُ حُسنٍ لو يُطاقُ استِلامها
إذا ما نضتْ عنها اللثامَ وأسفرتْ ... تقشّع عن شمسِ النهار غَمامُها
نهايةُ حظي أن أقبّل تُربَها ... وأيسَرُ حظٍّ للثامِ التِثامُها
تُريك مُحيّا الشمس في ليلِ شعرها ... على قيدِ رمحٍ وجهُها وقَوامُها
وتزهى على البَدر المُنير بأنّها ... مدى الدهر لا يخشى السرار تَمامُها
تغنّي على أعطافها وُرقُ حليها ... إذا ناح في هيفِ الغُصونِ حمامُها
تردد بين الخمر والسحر لحظُها ... وحزَهُما والدرّ أيضاً كلامُها
كِلانا نَشاوى غير أن جفونَها ... مُدامُ المعنّى والدلالُ مُدامُها
وليلة زارت والثريا كأنها ... نِظاماً وحُسناً عقدُها وابتسامُها
فحيّت فأحْيَت ما أماتَ صُدودها ... وردّت فردّ الروحُ فيّ سلامُها
فقالت بعيني ذا السَّقام الذي أرى ... فقلتُ وهل بلوايَ إلا سقامُها
وأبْدتْ ثَناياها فقُلْ في خَميلةٍ ... بَدا نورُها وانشقّ عنها كمامُها
وأبعدتَ لا بل سَمط درّ تَصونهُ ... بأصدافِ ياقوتٍ لماها خِتامُها

وقالت وما للعين عهدٌ بطيفها ... ولا النوم مُذْ صدّت وعزّ مرامُها
لقد أتعبَتْ طيفي جُفونُك في الدُجا ... فقلت سَلي جفنَيْكِ أين منامُها
وما علمت أن الرُقادَ وقد جفت ... كمثلِ حياتي في يديها زمامُها
وكم ليلة مرّت وفيها نُجومها ... كأني راعٍ ضلّ عنه سوامُها
كأن الذّراري والهلال ودارة ... حوَتْهُ وقد زان الثريا التِئامُها
حَبابٌ طفا من حولِ زورَق فضّة ... بكفّ فتاةٍ طافَ بالرّاح جامُها
كأن نُجوماً في المجرّة خُرّدٌ ... سَواقٍ رماها في غدير زحامُها
كأن رياضاً قد تسلْسَل ماؤها ... فشقّت أقاحيها وشاقَ خزامُها
كأن سَنا الجوزاء إكليلُ جوهرٍ ... أضاءت لياليه وراقَ انتظامها
كأن لدى النسرين في الجوّ غلمةً ... رُماة رمى ذا دون هذا سِهامُها
كأن سُهيلاً والنجوم وراءه ... صلاةُ صُفوفٍ قام فيها إمامها
كأن الدجى هيجاء حربٍ نُجومُه ... أسنتها والبرق فيها حُسامُها
كأن النجوم الهاديتُ فوارسٌ ... تساقط ما بين الأسنّةُ هامها
كأن سنا المريخ شعلةُ قابسٍ ... تلوحُ على بُعدٍ ويخفى ضِرامُها
كأن السُّها صبٌّ سها نحو إلفه ... يُراعي الليالي جفنه لا ينامُها
كأن خفوق القلب قلبُ متيّمٍ ... رأى بلدةً شطت وأقوى مقامُها
كأن ثريا أفقهِ في انبساطها ... يمين كريمٍ يُخافُ انضِمامُها
كأن بفتح الدين في جوده اقتدَت ... فروّى الروابي والإكامَ رِكامُها
كأن بيُمناه اقتدى يُمن نَوئِها ... فعمّت غواديها وأخصبَ عامُها
كأن به من لفظه قد تشبّهت ... ففاق عُقودَ الدرِّ حُسناً نِظامُها
كريمَ المُحيّا لو يُقابل وجهه ... سحابةُ صيفٍ لاستهل جِهامُها
به جبرَ الله البلادَ وأهلُها ... ولولاهُ ما شام السعادة شامُها
به عصم الله الأقاليم إذ غدا ... بأقلامه بعد الإله اعتصامها
بآرائه وهي السديدةُ أُحكمت ... عُراها فلا يُخشى عليها انفصامُها
به الدولة الغرّاء أشرق نورُها ... فجابَ البَرى وانجابَ عنها ظلامُها
بما نشرت من عدله في بلادها ... يزيدُ على عُمر الدهورِ دوامُها
إليه انتهى علمُ البيان وإنهُ ... لفي كل أنواع العلوم إمامُها
تميتُ العِدا قبل الكتائب كُتبُه ... فألفاظه وهي الحياةُ سِهامُها
له عزمة في الله للكُفرِ حرّها ... وللدين منها يَردُها وسلامُها
إذا الخيلُ صلّت في الحديد جيادُها ... وعبّت نهاراً في النّجيع صيامها
وأضحت وكالأمواجِ في بحر نقعها ... تدفّقها أو كالجبال اضطرامُها
تلا رأيهُ آيَ الفتوحِ على العِدا ... فولّت وقد أضحت عِظاماً عظامُها
ففي سورةِ الفتح المُبين ابتداؤها ... ومن آية النّصر العزيز اختتامُها
فردّ جيوشَ الشّركِ بعد اصطلائه ... لظاها وقد أحنى عليه اصطلامها
جوادٌ بما شاءَ العفاةُ كأنما ... لها في يديه حُكمها واحتكامُها
تقيٌّ له في الحقّ نفسٌ أبيّة ... وإن كُفَّ بالصّفحِ الجميلِ انتقامها
كريمٌ عريقٌ أصله وبنفسه ... مع الأصل دون الناس سادَ عصامُها
إذا ألِفَ الآراء ألّفَ وضعها ... فليس بمغنٍ للعِدا منه لامُها
روى زينةَ الدنيا فأضحى لزهده ... سواءٌ عليها ريّها وأوامُها

وأعرض عنها وهي في عصر حُسنها ... وقد زاد فيه وجدُها وغرامُها
ولا زُهدَ إلا وهي بيضاءَ غضّة ... يروقُ العيونَ الشّائماتِ وشامُها
يُسرّ اصطناعَ البرّ في الناس جاهِداً ... ليَخفى وهل يُخفي الشموس اكتتامُها
ويغتنم الأخرى بدنياه عالماً ... وقد حازَها إن النجاةَ اغتنامُها
تقاسمت الأوقاتُ دنياه فاغتدتْ ... وقد أحرز الأجرَ الجميلَ انقسامها
فقامت بأوقات الصلاة صلاتُها ... وصان ذمارُ الكافرين صيامُها
رأيتُ عُلاه فوق نظمي وإنني ... بليغٌ ولكن أين مني مرامُها
فعُدتُ به من خُطّة العجزِ دونها ... وما كنتُ يوماً قبل ذاك أسامُها
فلا زالت الدنيا وأيامها به ... برغم العدا عمّ الوجوه وشامها
ومن إنشائه البديع وحوكه الذي قصّر عنه الحريري وبعُد عن البديع كتاب في وصف الخيل: وينهي وصول ما أنعم به من الخيل التي وجد الخير في نواصيها واعتدّ حصنها حصوناً يعتصم في الوغى بصياصيها.
فمن أشهبَ غطاه النهار بحلّته، وأوطأه الليل على أهلّته، يتموّج أديمه ريّاً ويتأرجح رياً، ويقول من استقبله في حُلى لجامه: هذا الفجر قد أطلع الثريا، إن التقت المضائق انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مرّ مرور الغيم. كم أبصر فارسُه يوماً أبيض بطلعته، وكم عاين طرفُ السنان مقاتل العدا في ظلام النقع بنور أشعته، لا تستنّ داحس في مضماره، ولا تطلع الغبراء في شق غباره، ولا يظهر لاحق من لحاقه بسوى آثاره، تسابق يداه مرامي طَرْفه، ويدرك شوارد البروق ثانياً من عطفه.
ومن أدهم حالك الأديم، حالي التشكيم، له مقلةُ غانيةٍ وسالفةُ ريم، قد ألبسه الليل بُرده، وأطلعَ بين عينيه سعده، يظن من نظر الى سواد طرّته، وبياض حُجوله وغرّته أنه توهم النهار نهراً فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضة. ليّن الأعطاف، سريع الانعطاف، يقبل كالليل ويمرّ كجلمود صخر حطّه السيل، يكاد يسبق ظله، ومتى جارى السهمَ الى غرض سبقه قبله.
ومن أشقر وشّاه البرقُ بلهبه، وغشّاه الأصيل بذهبه، يتوجّس ما لديه برقيقتين وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذارُ لجامه من سالفتَيه على شقيقتين. له من الراح لونُها، ومن الريح لينها، إن حرى فبرق خفقْ، وإن أُسرج فهلالٌ على شفق، لو أدرك أوائل حرب ابني وائل لم يكن للوجيه وجاهه، ولا للنعامة نباهه، وكان تركُ إعارة سكابِ لوماً وتحريمُ بيعها سفاهة، يركض ما وجد أرضاً، وإذا اعترض به راكبه بحراً وثبَ عرضاً.
ومن كُميت نهد، كأنّ راكبه في مهد، عندميّ الإهاب. يزلّ الغلامُ الخف عن صهواته، وكأن نغم الغريض ومعبد في لهواته. قصير المطا، فسيح الخُطا، إن ركب لصيد قيّد الأوابد، وأعجل عن الوثوب الوحوش اللوابد، وإن جنِبَ الى حرب لم يزورّ من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علم الكلام بلسانه، ولم يُر دون بلوغ الغاية وهو في عرض راكبه ثانياً من عنانه، وإن سار في سهل اختال براكبه كالثمل، وأن أصعد في جبل طار في عقابه كالعُقاب، وانحطّ في مجاريه كالوعل، متى ما ترْقَ العين فيه تسهّل، ومتى أراد البرقُ مجاراته قال له الوقوف عند قدره ما أنت هناك فتمهّل.
ومن حبشيّ أصفر بروق العين ويشوق القلب بمشابهة العين، كأن الشمس ألقت عليه من أشعتها جلالاً، وكأنه نفر من الدُجا فاعتنق منه عُرَفاً واعتلق حجالاً، ذي كفل يزين سرجه، وذيل يسدّ إذا استدبرته منه فرجَه، قد أطلعته الرياضة على مراد راكبه وفارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع وتوشيع ملابسه، له من البرق خفة وطئه وخطفُه، ومن النسيم طروقه ولطفه، ومن الريح هزيزها إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفُه، يطيرُ بالغمز، ويدرك بالرياضة مواضعَ الرّمز، ويغدو كألف الوصل في استغناء مثلها عن الهمز.

ومن أخضر حكاه من الروض تفويفه، ومن الوشي تقسيمه وتأليفه، قد كساه الليل والنهار حلتَيْ وقار وسناً، واجتمع فيه من البياض والسواد ضدّان لما استُجمعا حَسُنا، ومنحه الباري حلة وشيه، ونحلَتْه الرياح ونسماتها قوة ركضه وخفةَ مشيه، يعطيك أفانين الجري قبل سؤاله، ولما لم يُسابقه شيء من الخيل أغراه حبُّ الظفر بمسابقة خياله، كأنه تفاريق شيب في سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدُجا فما سجى، ومازج ظلامه النهار فما انهار ولا أنار، ينحال لمشاركة بينه وبين الماء في السير كالسيل، ويدل بسبقه على المعنى المشترك بين البروق اللوامع وبين البرقية من الخيل. ويكذّب المانوية لتولد اليُمن بين إضاءة النهار وظلمة الليل.
ومن أبلق ظهره حرم وجريُه ضرمٌ، إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صُرّف في حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان وفِعله ما يريد الكفّ والقدم. قد طابق الحُسنُ البديع بين ضدّي لونه، ودلّت على اجتماع النقيضين علة كونه، وأشبه زمن الربيع باعتدال الليل فيه والنهار، وأخذ وصف حُلّتي الدُجا في حالتي الإبدار والإسرار، لا تكلّ مناكبه، ولا يضلُّ في حجرات الجيوش راكبه، ولا يحوج ليلَه المشرق لمجاورة نهاره الى أن تُسترشد فيه كواكبُه، ولا يجاريه الخيال فضلاً عن الخيل، ولا يمل السّرى إلا إذا ملّه مُشبهاه النهار والليل، ولا تتمسك البروق اللوامع من لحاقه بسوى الأثر، فإن جهدت فبالذيل، فهو الأبلق الفرد، والجواد الذي لمجاريه العكس وله الطّرد، قد أغنته شُهرة لونه في جنسه عن الأوصاف، وعدل بالرياح عن مباراته سلوكُها من الاعتراف له جادةُ الإنصاف، فترقّى المملوك الى رتب العزّ من ظهورها، وأعدّها لخطبة الجنان إذ الجهاد عليها من أنفَس مهورها، وكلِف بركوبها فكل ما أكمله عاد، وكل ما ملّه شرِه إليه، فلو أنه زَيدُ الخيل لما زاد، ورأى من آدابها ما دلّ على أنها من أكرم الأصائل، وعلم أنها ليوميَ حربه وسلمه جنة الصّايد وجُنّة الصائل. وقابل إحسان مُهديها بثنائه ودعائه، وأعدّها في الجهاد لمقارعة أعداء الله وأعدائه، والله تعالى يشكر برّه الذي أفرده في الندى بمذاهبه، وجعل الصافنات الجياد من بعض مواهبه، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
ومن إنشائه رسالة في البُندق، وذكر الأربعة عشر واجباً، وهي من بدائع أعماله وما أظن أحداً يأتي بنظيرها، وقد سُقتها بكمالها في تاريخي الكبير، وسُقت كثيراً من نثره ونظمه.
وكتب إليه ناصر الدين حسن بن شاور المعروف بابن النقيب:
يا فاضلاً وافى محلّي زائِراً ... متفضّلاً والفضلُ للمتقدّمِ
ومشرّفي ومشنّفي بسلامه ... وكلامه ومبجلي ومعظمي
أنت الشهابُ الثاقبُ الذهن الذي ... أضحت ذكاء الى ذكاهُ تنتمي
والواضح الخطّ المحقّق أصله ... والطاهر القلم الموقع والفمِ
شعر كثير الدّرّ أو تبرغدَت ... في حجلةٍ منه ذراري الأنجم
مولاي زوّدني فإني راجلٌ ... من لفظكَ العالي المحل المُعلَم
وابعثْ إليّ بفذّ شيء منهما ... وامْنُن عليّ وجُدْ بذلك وانعمِ
فأجابه بقوله:
يا سيّداً لما وطئتُ بساطَهُ ... حدّثتُ آمالي بفيضِ الأنجمِ
أنت الذي روّى المسامعَ والقَنا ... ذي من فضائله وتلك من الدّمِ
كم قد منعتَ بأخذ كلِّ مدرّع ... حامي الحقيقة معلّماً من معلّم
وفتحتَ من حصن بشدّك في الوغى ... بالرمحِ ثغرَ الفارسِ المُستلئم
وافيتَ ربعكَ ظامئاً مستمطراً ... أنواءَ شعركَ في شعارِ مسلّم
فبعثتَ لي وطفاءَ لو لم يُغضِ من ... خطفاتٍ وامِض برقها طرفَي عَمي
ميميّة لما لثمتُ سطورَها ... حسدتْ على تقبيلها عيني فمي
يا ناصر الدين الذي شرفَت به ال ... آدابُ إذ أضحت إليه تنتمي
يا مالكاً حُزني على زمن مضى ... في غير خدمته كحزن متيّمِ

سيّرتَ إنعاماً شغلتَ بشكره ... عبداً يرى إيجابَ سكرِ المُنعمِ
وكتب إليه السّراج الورّاق ملغِزاً في سجّادة:
يا إماماً ألفاظُه الغرّ في الأس ... ماعِ تُزري بالدرّ في الأسماطِ
وشهاباً تجاوز الشهبَ قدراً ... فغدتْ عن عُلاهُ ذات انحطاطِ
أي أنثى وطئَت منها حَلالاً ... مستبيحاً ما لا يُباح لواطِ
لم أحاول تقبيلها غير خمسٍ ... حالَ زُهدي فيها وحال اغتباطِ
وهي مملوكةٌ وعند أناسٍ ... وهي ستّ على اختلافِ التعاطي
وهي في صورةٍ خُماسية ما ... قهقهت ولا دَنت للبواطي
ومصيبُ الإيمان يسعى إليها ... طالبَ الله وهو عبد خاطِ
وأرى أن تحلّها بيمين ... ويسار فقد غدَت في رباطِ
فكتب إليه الجواب، ومن خطه نقلتهما:
يا سِراجاً لما سمت باسمه الشم ... س غدا البدر دونها في انحطاطِ
أنت بحرٌ نداك موجٌ وألفا ... ظك درّ وصنعُ يُمناك شاطي
لا تلمني إذا نظمت معاني ... ك فمن دُرّ فيكَ كان التعاطي
أنت ألغزتَ في اسم ذات رقاعٍ ... لم تجاهد وكم غدت في رِباطِ
حازها تابعُ المجلّي فجا ... ز السّبقَ من دونه بغير اشتراطِ
مذ علاها في أول الصفّ أضحى ... كسليمان فوقَ ظهرِ البساطِ
وأنشدني من لفظه لنفسه علاء الدين ألطنبغا الجاولي مما كتب به الى شيخنا رحمه الله تعالى:
قال النحاةُ بأن الاسمَ عندهمُ ... غيرُ المسمّى وهذا القولُ مردودُ
الاسم عينُ المسمّى والدليل على ... ما قلتُ أن شهابَ الدين محمودُ
وكتب إليه شهاب الدين العزاري مترجماً:
إذا ما شئت تلبس ثوب فخرٍ ... وتسحبُ ذيل مكرمة وحمد
فكُن في سؤددٍ وعليّ فضلٍ ... كمحمود بن سلمان بن فهدِ
فكتب هو الجواب إليه عن ذلك:
أتاني من شهاب الدين برٌّ ... أبرّ به على شكري وحمدي
فصِرتُ به ولم أكُ جاهلياً ... لأحمدَ طولَ دهري عبدَ ودِّ
وشرّفني بنظمٍ كلُ بيتٍ ... تفرّد منه واسطَة لعِقد
وأطلع في سماء الطّرسِ منهُ ... كواكبُ كلهنّ نجوم سعدِ
وأفحمني مما استمكنتُ أني ... أجاوب نقده إلا بوعد
كساني في الثّناء أجلّ مما ... كساهُ سوايَ بشارُ بن بُردِ
فلا برحَت فوائده إذا ما ... هفا بي الفكر يهدى لي فيُهدي
محمود بن شروينالأمير نجم الدين وزير الشرق والغرب.
وفد على السلطان الملك الناصر محمد في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وكان في تلك البلاد وزير بغداد، ولما سلّم على السلطان وقبّل الأرض ثم قبّل يده حطّ في يد السلطان حجر بلخش وزنه أربعون درهماً قوّم له بمئتي ألف درهم، ثم إن السلطان أمّره مئة، وأعطاه تقدمة ألف. ولما توفي وصّى بأن يكون بعده وزيراً، فرتّب وزيراً في أول دولة المنصور أبي بكر، وعامل الناس بالجميل.
ولم يزل كذلك الى أيام الملك الصالح اسماعيل، فحظي عنده، وتقدم كثيراً ولازمه ونادمه، ولما وليَ الكامل شعبان عزله عن الوزارة وأبعده، فلما تولّى الملك المظفر حاجّي أعاده الى الوزارة.
ولم يزل على ذلك الى أن أُخرج الى الشام في أوائل شهر رجب أو أواخر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة هو والأمير سيف الدين بيدمر البدري، والأمير سيف الدين طغاي تمر النجمي الدوادار بغتة على الهجن. فلما وصلوا الى غزة لحقهم الأمير سيف الدين منجم فقضى أمر الله فيهم.
محمود بن عبد الرحمن بن أحمدابن محمد بن أبي بكر بن علي، وينتمي الى علاء الدولة الهمذاني، الشيخ الإمام العالم العلامة المحقق المفتن الفريد الحجة، جامع أشتات الفضائل، وارث علوم الأولين، حجة المتكلمين، إمام الفقهاء، شمسُ الدين أبو الوفاء بن جمال الدين أبي القاسم بن مجد الدين الأصبهاني.

بحرٌ يتدفق بالعلوم أمواجه، وحبر فضله في كل فن تضيء شموسه ولا أقول يتقد سراجه، وملكٌ يجبى إليه من كل علم متّسعِ الأقطار خَراجُه، لو رآه الرازي علم أنه ما رأى زيّه، وصحّ أن المعقول هجر القطبين مصريّهُ وشيرازيّه، ولو أنصفه النصير الطوسي لما بني الرصد إلا لكواكبه، ولا سار مع الجيوش إلا خدمة لمواكبه، وما عسى أن أصفَ مَن هو إمام في كل علم، وأُثني على من بيده زمام كل حلم، تصانيفه تشهد له بأنه فريد أوانه ووحيد زمانه، برع في الشرعيات لما شرع، وبزع في العقليات شمساً نورها محا ظلام الجهل فانقشع، علامة في كل علم له علامة، وأستاذ ترى كل شيخ في فنه غلامه. اشتغل في البلاد الشرقية وورد الى الشام فأنسى الناس المحاسن الدمشقية:
ورد اللوى سحَراً فعطّر جيبَهُ ... بالجزع طُبّاق هناك وشيحُ
حتى غدَت نفحاتُه وكأنّما ... يُهدى بهنّ لكُلّ جسمٍ روحُ
وقرأ عليه الأئمة، وشهد له الأعلام أنه عالم هذه الأمة.
ثم إن السلطان طلبه الى القاهرة، وأطلع في آفاقها نجومه الزاهرة، فوردها وهي بحر بالفضلاء يتموّج، وزهرٌ بالفضائل يتأرّج، فأقام بها ينشر مُلاءات فضائله، ويعلّم الزمان بأخلاقه الزكية رقّة بُكرهِ وأصائله.
ولم يزل على حاله الى أن كحل بالأصبهاني جفن الضريح، وغادر قلب الزمان عليه وهو جريح.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
وسألته عن مولده فقال: ولدت بأصبهان في سابع عشر شعبان سنة أربع وسبعين وست مئة.
وورد الى دمشق بعد حجّه وزيارة القدس في صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وظهرت فضائله للناس وعظّمه الشيخ تقي الدين بن تيمية، وقال يوماً في حقه: اسكتوا حتى نسمع كلام هذا الفاضل الذي ما دخل البلاد مثلُه.
وكان يلازم الجامع الأموي ليلاً ونهاراً، وسكن في باب الناطفيين، وأكبّ على التلاوة والسمع والإشغال للطلبة عند قبر زكريا، وتولى تدريس الرواحية، ودرّس بها في ثاني عشر شعبان يوم الأحد من السنة المذكورة بعد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني فيما أظن، وكان درساً حافلاً حضره الأعيان والشيخ تقي الدين بن تيمية، وأثنى الأعيان على فضائله.
ولم يزل بدمشق الى أن طلبه السلطان الى الديار المصرية، فتوجه إليها على البريد في منتصف شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وكان السفير له في ذلك الشيخ مجد الدين الأقصرائي شيخ خانقاه السلطان بسرياقوس، وكان السلطان يشتهي يرى الغرباء من تلك البلاد، ولما وقعت بطاقته من بُلبيس بقي متطلعاً الى قدومه ساعة فساعة، فتوجه الشيخ شمس الدين الى سرياقوس ونزل بالخانقاه الى عند الشيخ مجد الدين فأضافه، وعمل له السماعات، ودخل به الحمام، فلما أبطأ خبره على السلطان وعلم أنه اشتغل عنه ولم يدخل الى السلطان إلا بعد ثلاثة أيام أو أربعة، نزل من عين السلطان ومجّه، ولم يلق بقلبه ولم يتجدد له شيء.
ونزل الى القاهرة، لكنه فيه رياسة العلم، وكان الشيخ ما يعرف اللغة التركية، فقعد به ذلك، إلا أنه راج باللغة العجمية عند الأمير سيف الدين قوصون، وبنى له الخانقاه العظيمة بالقرافة، وجعله شيخها، ثم إنه قرّبه عند السلطان، فكان يحضر عنده في بعض الأوقات.
وسألته في سنة خمس وأربعين وسبع مئة بمنزله بالخانقاه المذكورة لما كنت بالقاهرة عن مبتدأ حاله فقال: قرأت القرآن والفقه على والدي، والعربية أيضاً على الشيخ نصير الدين الفاروثي، وعلى الشيخ جمال الدين بن أبي الرجا شيخ في تربة علي بن سهل الصوفي، وقرأت شيئاً من المعقول على صدر الدين تُركا، والمولى جمال الدين تركا، وشيئاً من الطب والخلاف، وقرأت عليه نكت الأربعين للنّسفي، وصنّف في تلك البلاد شرح المختصر لابن الحاجب للخواجا رشيد، وشرح مطالع سراج الدين الأرموي لقاضي القضاة عبد الملك، وشرح تجريد النصير الطوسي باسم علي باشا، وصنّف أكثر من ربع العبادات على مذهب الشافعي مضافاً إليه مذهب أبي حنيفة ومالك الى الاعتكاف، وشرح قصيدة الساوي في العروض وتفسير آية الكرسي ومختصراً في المنطق سمّاه ناظر العين، كل ذلك صنفه بتبريز.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16