كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب. الحمد لله الذي حكم على أهل الوجود بالعدم، وقدره عليهم بالقدم، وقضى به على الخلق فما أفاد معه محاذاة حذر ولا مناداة ندم، وأورد الموت على فناء أعمارهم فانهد وبناء أبشارهم فانهدم. نحمده على نعمه التي فسحت مدة الأجل، ومنحت تراخي المهلة ولم تؤثر العجل، ونزحت القلوب إلا من الأمن، ودفعت ما عظم وجل من الوجل.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة هي الذخر يوم الفاقة، والحق أن لا ترد يوم المحاقة، والفارط الذي قدمناه ونحن نرجو لحاقه.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي حذر معاطب الغرور، وبصر عواقب السرور التي تليها الشرور، وأظهر كواكب الحق فهي في فلك البدور تدور، فهو الذي.
لم أجر غاية فكري منه في وصفة ... إلا وجدت مداها غاية الأبد
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا شجى في لهوات من كفر، وكان الباطل بهم دجى حتى جلوا الحق فلاح صباح الفالح بهم وسفر، وراضوا الزمان فاستقاد لهم من بعد ما تقاعس ونفر، ورآهم الزمان جمال هذه الأرض في الحياة، وبعد الممات جمال الكتب والسير، فهم الذين سجع الحمام بمدحهم وصدح، وشرح الخاطر وصفهم لما جال في سرد مناقبهم وسرح، وإياهم أراد ابن الرومي لا من خاطبه ومد المدى لما مدح، إذ يقول:
آراؤكم ووجوهكم وحلومكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم
صلاة لا يمل الزمان دوامها، ولا يرى الدهر انصرافها وانصرامها، ما نبت في رياض الدياجي نرجس نجوم، وراحت أطيار الدراري على نهر المجرة وهي تحوم، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد: فإن الوقوف على أخبار من تقدم، وخرب ربع عمره بالموت وتهدم، ووصف في حياته أو غادر للشعراء في رثائه لما تردى ما تردم مما تتشوق النفوس إلى الوقوف عليه، وتتشوف بجملتها إليه، فإنه: في الذاهبين الأولين لنا بصائر. وفي آثار من درج وأخباره أدلة للتأسي وأمائر، وفي التفكر في مصارعهم ما يصلح الظواهر والضمائر، وقد حض القرآن على مثل هذ وحث، ورم بوعظه ما رق من القسوة ورث. والتاريخ فن لا يمله طرف مطالع، ولا يسأمه سمع مصغ ولا مراجع، ولا يخلو من يقف على التواريخ من فائدة، ولا يطوي صحفها إلا وقد حصل منها على صلة وعائدة، ولا تمر به كائنة إلا تنبه لها وأجراها على ما في ذهنه من القاعدة، وما كان التراجم في التواريخ إلا كتاب ورد من غايب، أو خبر جاء به نجاب إما بالمحاسن أو بالمعايب:
فلا تبخلوا مع بعدكم بوجوهكم ... علينا ألا إن الوجوه هي الكتب
فكم قد سمعنا بموجود ولم نتبين حاله، ولا عرفنا حقه ولا محاله، ولا علمنا ما تصف به من ذم أو مدح، ولا ما لاتحف به من موجب شكر أو قدح، وربما كان للإنسان قريب وقد درج، أو لزم وقد دخل هذه الدار وخرج، ولا علم له بما عامله به زمانه، ولا ما أحدث له حدثانه:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كل طبيب
فإذا راجع التواريخ كان كمن شاهد من مضى، وعاين ما جرى به عليه القدر وقضى، وأنا أرى التأريخ والترجمة معاداً ثانياً في المعنى لا في الوجود، ونشراً أول قبل نشر الرفات إلا أنها لم يفض عنها ختم اللحود.
وكنت قد أنفقت مدة من العمر ما وجدت لها عوضاً، ولا حسبتها إلا لمعة برق أومض لي ومضى، في جمع تاريخي الكبير الذي سميته الوافي بالوفيات، وسقت فيه ذكر جمل من الأعيان من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى زماني، ونصبت فيه نفسي دريئة لمن طعن في أو رماني، إلا أنه جاء مطولاً، وأصبح وجه مضمونه عن الاقتصار والاختصار مخولاً، فأردت بعد فراغي منه أن أقتصد وأقتصر، وأختار مما أمتار وأختص وأختصر، وأجمع تاريخاً لمن أدركه عصري وجنى ثمر غصنه هصري، وضمتني وإياه دائرة وجودي أو نقطة مصري، و كان في زماني ولم أره، أو نقل الرواة الأثبات خبره:
أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك لنا تداني
وتنظر للهلال كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني
وما أحسن قول الآخر:
قال لي قائل لأية حال ... ترقب البدر ثم تهوى سواه

قلت إما لشبه من حجبوه ... أو لأني أراه وهو يراه
وابتدأت ذلك من سنة ست وتسعين وست مئة، وهي سنة مولدي، ونهلة موردي، وجذوة موقدي، وبدأة موعدي.
ورتبت أسماء من فيه على حروف المعجم، وأدمت غيث فوائده الذي انسجم وجعجعت بفارس الإطناب فيه، فكر وما فكر، وحج وما أحجم. وهو شيء جمعته لنفسي لا لأحد من أبناء جنسي، وجعلته لي رأس مال، وبضاعة ضمت الحلل المرقومة والبرود الأسمال، فمن رآه كثيراً وما حل من قبله محلاً أثيراً، أو قابل صفحات وجهه بالإعراض، أو أرسل سهام نظره فما أصابت منه الأغراض؛ فذاك أمر به علي قضى الباري، وشيء جرى به القلم وما هو إلا كالجبانة أزور فيها قبور أصحابي، وأتردد منها إلى أجداث أترابي وحبابي، وألتف في أكفان شيبي الذي نزل بي وأقسم أنه ما يرحل إلا بي، فقد ذكرت فيه جماعة رأيتهم وما راءيتهم، ودانيتهم حق الصحبة وما داينتهم، ورثت حبال صبري التي ورثتها لما رثيتهم، ممن انتفعت بعلومهم، ورفعت بين نجومهم، وشركت بعضهم في ماله، وتركت النظر إلى البدر لأنه ما فاز بمثل جماله، ولا حاز مثل كماله:
ومعاذ الغله أن أتعزى ... عنه طول الزمان أو أتسلى
فكم فيمن ذكرته من جرعني ما غصص، وجرعني رداء الصبر وقلص، وتقدم أمامي وهو يقودني إلى حفرتي بزمامي، وغادرني بعده وحيداً، وأخذ حظي معه وراح. وأهل هذا العصر يريدون شيئاً جديداً، ولله أبو عبادة البحتري حيث يقول في رثاء المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان:
أأطلب أنصاراً على الدهر بعدما ... ثوى منهما في الترب أوسي وخزرجي
مضوا أمماً قبلي وخلفت بعدهم ... أخاطب بالتأمير والي منبج
والله أسأل أن يجمعنا في دار كرامته، ويمد علينا ظل لطفه ورحمته، ويجرينا على ما ألفناه وألفناه من نعمته:
وإن استطع في الحشر جئتك زائداً ... وهيهات لي يوم القيامة أشغال
اعترضت بهذه الجملة، وزدت هم القلب هذه الحملة، فإنها من المصدور نفثة، واستراحة في نصف الطريق ممن أعيا ولبثة.
وأعود إلى ما كنت فيه، وأفي له بحقه وأوفيه، فأقول: وقد كنت رأيت فيما وقفت عليه من أخبار الوزير أبي الوليد أحمد بن زيدون المغربي أنه لما كان بقرطبة وزيراً توفيت ابنته، ولما فرغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم، فقيل: إنه ما أعاد في ذلك الموقف عبارة قالها لأحد.
قلت: وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنن في أساليب الكلام، وهو أمر صعب إلى الغاية، وأراه أنه أشق مما يحكى عن واصل بن عطاء وأنه ما سمع منه كلمة فيها حرف راء، لأنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة، والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهويله؛ أن واصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة في معناها وليس فيها راء، وهو كثير في كلام العرب، فإذا أراد العدول عن لفظ: فرس قال: جواد أو سابح أو صافن، أو العدول عن لفظ: رمح قال: قناة أو صعدة أو يزني أو غير ذلك، أو العدول عن لفظ: صارم، قال: حسام أو لهذم أو غير ذلك، وأما ابن زيدون فأقول في حقه: إنه أقل ما كان في تلك الجنازة، وهو وزير، ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له، ويضطر إلى ذلك فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها التشكر، وهذا كثير إلى الغاية، لا سيما من محزون فقد قطعة من كبده:
ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب

وقد استعمل الحريري رحمه الله هذا في مقاماته، فهو في كل مرة يجتمع فيها الحارث بن همام بأبي زيد ويحتاج إلى أن يقول: فلما أصبح الصبح، تراه يعبر بعبارة عن هذا المعنى بغير عبارته الأولى، فتارة قال: فلما لاح ابن ذكاء، وألحف الجو الضياء، وتارة قال: إلى أن أطل التنوير، وحسر الصبح المنير، وتارة قال: حتى إذا لألأ الأفق ذنب السرحان، وآن انبلاج الفجر وحان، وتارة قال: إلى أن عطس أنف الصباح، ولاح داعي الفلاح، وتارة قال: فلما بلغ الليل غايته، ورفع الصبح رايته، وهذا كثير في مقاماته، وهو من القدرة على الكلام، وأرى الخطيب ابن نباتة رحمه الله تعالى ممن لا يلحق في هذا الباب، فإنه أملى مجلدةً معناها من أولها إلى آخرها: يا أيها الناس اتقوا الله واحذروه، فإنكم إليه راجعون، وهذا أمر بارع معجز، والناس يذهلون عنه هذه النكتة فيه، وقد خطر لي أنا مثل ذلك عند ذكر وفاة كل من الأعيان الذين أذكرهم في هذا التأريخ، فإن اتفق لي مثل هذا فهو بحول الله وقوته، وإنقاذ الجبان من دحض هوته، وإلا فعذر المزلة في هذا المقام واضح، والإقالة من عثرته أمر راجح، وأعوذ بالله من إعجاب المرء بنفسه، وجره رداء الخيلاء وهو حقير في نوعه وجنسه.
وقد سميت الكتاب عندما أردت وضعه، وقصدت تأليفه وجمعه أعيان العصر وأعوان النصر، وبالله الاستغاثة والاستعانة، وطلب الإنابة إليه في الإعانة على الإبانة والعياذة مما نحن به في هذا الزمان من الزمانة، إنه ولي الخيرات في الدنيا والآخرة سبحانه، عليه توكلت وإليه أنيب.
بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الأول
حرف الهمزة
أباجي
الأمير سيف الدين، النائب بقلعة دمشق.
أول ما عرفته من شأنه وألفته من ترفع مكانه أنه كان في أعداد أمراء حلب، وصاب بعد ذلك مآله إلى دمشق والمنقلب. أظنه جاء إلى قلعة دمشق بعد موت الأمير علاء الدين مغلطاي المرتيني نائبها، وذلك في سنة تسع وأربعين وسبع مئة، وضبط أمر القلعة طبطاً تاماً، وحفظ أمرها حفظاً عاماً، خصوصاً في وقعة بيبغاروس ومن بغى معه من تلك الروس، لأنه حصنها، جمّلها بآلات الحصار وحسّنها، وصابر أولئك الغاوين، ولم يتحيز إلى فئة الباغين، فشكر لذلك مقامُه، وزاد في القلوب احترامه. وهو زوج أخت الأمير سيف الدين طشبغا الدوادارِ، وكان شيخاً طُوالاً ذا رواء، وقوامٍ يحاكي القناةَ في الاعتدال والاستواء. وقد قربَ منه الأجل وتدلّى، ووصل إلى النقا ولم يبق إلا المصلى، ولم يزل على حاله إلى أن نزل من القلعة على ظهره، وانحطّ بعد الرفعة إلى قعر قبره.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت عاشر شعبان سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
إبراهيم بن أحمد بن هلالالقاضي برهانُ الدين الزرعي الحنبلي، ناب في الحكم لقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا الحنبلي بدمشق.
مولده سنة ثمانٍ وست مئة، ووفاته في نصف شهر رجب الفرد يوم الجمعة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
لم يحصد الموت من زرعٍ له نظيراً، ولا اجتلى الناس من حوران مثله قمراً منيراً، أتقن الفروع، وبهر فيها من الشروع، وجوّد أصول الفقه وشغل فيها الناس، وأوضح لهم فيه ما حصل من الإلباس، وبرع في النحو وظهر، ومارس غوامضه ومهر، وقرأ الفرائض، وأتى فيها وحده بما لم يأتِ به ألف رائض، اشتغل في الحساب، وغني بذهنه الوقاد عن الاكتساب، وكتب المنسوب الفائق، وسلك فيه أحسن الطرائق، وكان الناس يأتون إليه بالمجلدات ليكتب عليها أسماءها، ويُزينَ بكواكب حروفه سماءها، رغبةً في حسنِ خطه ليقوم مقامَ الفواتح المذهبة، والأعمال التي هي لأهل الصنائع متعبة. ولقد كان قادراً على حكاية الخطوط المنسوبة، والطرائق التي هي عند أرباب هذا الفن محسوبة، فكم قد كمّل من مجلد انخرم، وأخمد من نار صاحبه الضرم، فإذا رآه العارف لم يُنكر شيئاً من أمره، ولا علم فاسده ولو بحث فيه مدة عمره، والمكاتيبُ الشرعية إلى الآن تشهد له بحسن العلائم، وتمد لعيونِ الكتاب منها موائد وتعمل لهم فيها ولائم.

وكان حسن الشكل والعمة، وافر العقل عالي الهمة، ندب في أيام الصاحب شمس الدين غبريال لنظر بيت المال، فأتبى وفكر في العقبى والمال، وكان بصيراً بالفتوى، جيد الأحكام لا يقع منها في بلوى، يتوقد ذهنه من الذكاء والفطنة، ويدرك الغوامض التي مضى الأوائل وفي قلوبهم منها إحنةً، وكان يميل إلى التسري بالأتراك، ويقع معهن في الحبائل والأشراك، فكنت أراه جمعةً في سوق الجواري، وجمعة في سوق الكتب ليجمع بذلك بني الدر والدراري. وتعلم اللغة التركية من جواريه، وتكلم بها فقل من يؤاخذه فيها لما يجاريه. هذا مع براعة في عبارته، وفصاحة في كلامه، وبلاغة في إشارته.
أخذ الأصول عن العلامة كمال الدين بن الزملكاني، قاضي القضاة، وجلال الدين القزويني لما كان خطيباً، وغصن برهان الدين المذكور من الشباب رطيباً. ورأيته يحضر دروس العلامة ابن تيمية كثيراً، ويأخذ من فوائده ما شادَ به مجداً أثيلاً أثيراً، يجلس منصتاً لا يتكلف لبحث ولا يتكلم، ويرى أنه يتعلقُ بأهدافه ويتعلم، إلى أن قضى نحبه وسكن تُربه، ولقي ربه، رحمه الله تعالى.
وكان قد درس في الوقف الجديد الذي أوقفه الأمير سيف الدين بكتمر والي الولاة بمدرسة الشيخ أبي عمر بالصالحية، وكان درساً حافلاً حضره الأعيان في خامس عشري شوال سنة تسع عشرة وسبع مئة، ودرس بالحنبليّة داخل باب الفراديس عاشر ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة، وحضره القضاة والفضلاء، وأولي نيابة الحكم في مستهل جُمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وأعاد بالمدرسة الصدرية وبالجوزية والمسمارية.
إبراهيم بن أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاءالقاضي صدر الدين بن الشيخ محيي الدين البصروي الحنفي.
درس وأفتى وأعاد وأعان الطلبة وأفاد، ولي قضاء حلب، وأقام بها مدةً يسيرة، فما بلغ ما طلب، ثم توجه إلى مصر وسعى سعياً شديداً وحصل بقضاء حلب تقليداً، وعاد فأدركه الأجل بدمشق، وبطل قلم حياته من الحظ والمشق، وتعجّب الناس من حرضه الذي بلغ النهاية مع ما كان له بدمشق من الكفاية.
وولد بصرى سنة تسع وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبعٍ وتسعين وست مئة، في حادي عشر رمضان.
إبراهيم بن أحمد بن حاتم بن عليالفقيه أبو إسحاق البعلبكي الحنبلي، شيخ بعلبك.
أجاز له نصر بن عبد الرزاق، وابن روزبة، وابن اللتي، وابن الأواني وابن القبيطي، وعدة.
وسمع من سليمان الإسعردي، وأبي سليمان بن الحافظ، خطيب مردا. واشتغل على الفقيه اليونيني، وصحبهُ.
كانت له وظائف، ونسخ من العلم صحائف، كتب المغني بقلمه، وأدخله بنسخه تحت علمه، وتفقه لابن حنبل، وكان يرى أنه في مذهبه من غيره أنبل، مع تواضع، لا يترفع، ولا يتعرف إلى الكبر ولا يتفرع، يبدأ من يلقاه بالكلام، ويعامل الناس بالانقياد لهم والاستسلام، إلى أن وافاه حمامه وانمحق من بدره تمامه.
وكانت ولادته في سنة إحدى وثلاثين وست مئة، ووفاته - رحمه الله تعالى - في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
إبراهيم بن أحمد بن عيسى بن يعقوبالعلامة، شيخ القراء والنحاة، أبو إسحاق الإشبيلي الفافقي.
شيخ سبتة، حمل صغيراً إلى سبتة، وسمع التيسير من محمد بن جوبر الراوي عن ابن أبي جمرة، وسمع الموطأ والشفا وأشياء. وأكثر عن أبي عبد الله الأزدي سنة ستين، وقرأ بالروايات على أبي بكر بن مشليون، وقرأ كتاب سيبويه على أبي الحسين بن أبي الربيع.
ساد أهل المغرب في لسان العرب، وبلغ من النحو غاية الأمل وأقصى الأرب، وألف كتاباً في شرح الجمل، وانتهى فيه إلى ما رامه من الأمل، ووضع مصنفاً في قراءة نافع، ونفع بذلك كل كهل ويافع، واصبح قلبُ أهل الشرق وهو خافق من التطلع إلى شيخ غافق، وسكن لما ظعن من بلده في مدينة سبتة، وقطع بها جمعه عمره وسبته، حتى قضى نحبه، وكدّر الموت من الحياة شربه.
وولد سنة إحدى وأربعين وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة عشرة وسبع مئة.
إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن بن أحمدالشيخ الفقيه، الإمام الصالح، الخير المعمر، عز الدين العلويّ الحسيني الغرافي، ثم الإسكندري، الشافعي الناسخ.
سمع بدمشق سنة اثنتين وخمسين من حليمة حفيدةِ جمال الإسلام، ومن الباذرائي ومن الزين خالد.

وسمع بحلب من نقيب الشرفاء، وأجاز له الموفق بن يعيش النحوي، وابن رواج، والجميزي، وجماعة.
وحدث وهو ابن بضعٍ وعشرين سنة، وأخذ عنه الوجيه السبتي.
كان يرترق بالنسخ، وعنده في ذلك ثبوتٌ ورسخٌ، مع زهد ونزاهة، وتقدم عند أهل الخير ووجاهة. وكان أصغر من أخيه الشيخ تاج الدين الغرّافي بعشر سنين. ولما توفي أخُوه صار هو في المشيخة مكانه، وأسمع الحديث وشيد أركانه، وولي مشيخة دار الحديث النبهيّة مكان أخيه، وسلك طريقه في تأنّيه وتراخيه.
قيل: إنه حفظ وجيز الغزالي، وأحرز ما فيه من اللآلي، وحفظ إيضاح أبي علي، وأصبح يسردُ ما فيه وهو مليّ، وكان معين الدين المصغوني يقوم بمصالحه، ويعينه بقضاء حوائجه ودفع حوائجه، إلى أن فرغ مدى عمره ووصل نهاية أمره.
ولد بالثغر سنة ثمانٍ وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشر المحرّم سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة. وهو من ذريّة موسى الكاظم رضي الله عنه.
إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي.الشيخ الإمام القدوة المذكر القانت، أبو إسحاق الرقي الحنبلي، نزيل دمشق.
تلا بالروايات على الشيخ إبراهيم القفصي، وصحب الشيخ عبد الصمد ابن أبي الجيش، وعني بالتفسير والفقه والتذكير، وبرع في الطب، وشارك في المعارف، وله بالوعظ إلى القلوب أيادٍ وعوارف، وكان يشير في كلامه إلى لطائف مُحركة، ويُهدي بعبادته إلى السامعين فوائد بين النفوس والتقوى مشركة، طالما أجرى دمعاً، وخرق بالموعظة سمعاً، وجر لمن انتصب له رفعاً، يهز الأعطاف إذا لفظ، ويحرك القلوب الغافلة إذا وعظ، على رأسه طاقية وخرقة صغيرة، ونفسه غنية عن الملوك وإن كانت حالته فقيرة، صُنع له منزلٌ تحت المئذنة الشرقية بالجامع الأموي من دمشق، فلازمه إلى أن شالت نعامتُه، وسكنت بعد ذلك التذكار نامته.
وله نظمٌ يترقرق، ونثرٌ بالبلاغة يتدفق، وربما كان يحضر السماع، ويجد الناسُ به مزيد انتفاع، وحضوره بأدب ووقار، وسكون لا تحرّكه نشوة العقار. وألف تفسيراً للفاتحة، وأتى فيه بكل فائدةٍ سانحة، وله تواليفُ ومختصرات، وتصانيف على المحاسن مُقتدرات.
ولد سنة نيفٍ وأربعين وست مئة، وتُوفي، رحمه الله تعالى، سنة ثلاثٍ وسبع مئة في خامس عشر المحرم، ومن نظمه:
يزورُ فتنجلي عني هُمُومي ... لأنّ جلاءَ همِّي في يَديهِ
ويمضي بالمسرةِ حين يمضي ... لأنّ حِوالتي فيها عليهِ
ولولا أنّه يعدُ التلاقي ... لكنتُ أموتُ من شوقي إليه
ومنه أيضاً:
لولا رجاءُ نعيمي في دياركمُ ... بالوصلِ ما كنتُ أهوى الدارَ والوطنا
إن المساكن لا تحلو لساكنها ... حتى يشاهدَ في أثنائها السكنا
إبراهيم بن أحمد بن ظافرالقاضي برهان الدين البرلسي، بضم الباء الموحدة والراء وتشديد اللام وبعدها سينٌ مهملة.
كان فقيهاً وبينَ أهلِ العلم وجيهاً، يُعين في قضاء القُضاة، ويُحبه كلّ من أهلَ مذهبه ويرضاه، وتجمّل به مذهب مالك، وتكمل به نور القمر في الليل الحالك.
وكان ناظرَ بيت المال بالقاهرة، ونجوم أموال النجوم به زاهرة، ولم يزل على حاله إلى أن لقي ربّه، ونوله ما أحبه.
ووفاته في شهر رمضان صفر سنة ثمانٍ وسبع مئة، وولي مكانه في نظر بيت المال القاضي نور الدين الزواوي نائب المالكي.
إبراهيم بن أحمد بن أبي الفتح بن محمودالقاضي الصدر شرف الدين ابن الشيخ العالم الكاتب كمال الدين ابن العطار.
كان قد باشر جهاتِ أخيه عندَ موته، وهي نظر الأشراف، ونظر البيمارستان الصغير، ونظر المدرسة الظاهرية، وبقي على ذلك إلى أن مات رحمه الله تعالى في تاسع الحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولده بالكرك في الجفل سنة سبع مئة، وكان شكلاً حسناً.
إبراهيم بن أحمدالقاضي الرئيس الكبير جمال الدين، رئيس الأطباء بالديار المصريّة، المعروف بابن المغربي، وسيأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى في مكانه.

لم يكن لأحدٍ مكانه عند السلطان الملك الناصر، ولا عُقدت على مثل سعادته الخناصر، يدخل إلى السلطان في كل يومٍ على الشمع، فيشتمل عليه بالبصر، ويصغي إليه بالسمع، ويحكي له ما جرى في بارحته عند الحريم، وما اتفق له مع آرامِ وجرة وغزلان الصريم، ويُفضي إليه بأسرارٍ لا يُودعُها سواه، ويقضي له كل ما وافق آفاق غرضه ولاءم ولائم هواه.
وكان فخر الدين ناظرُ الجيش يضيق منه ذرعُه، ويذوي من سُموم تعديه عليه زرعه.
وكانت إشاراته عند سائر أهل الدولة مقبولة، وطباعُهم على ما يراه من العزل والولاية مقبولة، وقل أن يكونَ يومُ خدمة وما عليه تشريف، ولا لهُ فيه أمرٌ في تجدد السعد ولا تصريف.
وحاول جماعة ممن هو قريب من السلطان إبعاده، وتعبَ كلّ منهم فما بلغه الله قصده ولا أتم له مراده:
إذا أنت أعُطيت السعادةَ لم تُبَل ... ولو نظرت شزراً إليك القبائلَ
ولم يزل على حالهِ إلى أن حشرج، ولم يكن له من ذلك الضّيق مخرج، ووصل الخبرُ إلى دمشق بوفاته في أواخرِ ذي القعدةِ سنة ست وخمسين وسبع مئة.
وكان مليحَ الوجهِ ظريف اللباس، متمكناً من السلطان، أراد القاضي شرف الدين النشو أن يُنزله من عين السلطان بكل طريق فلم يتجه له فيه عمل، فعمل أوراقاً بما على الخاصَ من الدّيون من زمان من تقدمه وذكر فيه جملاً كثيرة باسم القاضي جمال الدين ابن المغربي، من ثمن رصاصٍ وبرّ وحرير وغيره، ودخل وقرأ الأوراق على السلطان، ليعلم أنّ له أموالاً متّسعة يتكسّب فيها ويتّجرُ على السلطان، وأعاد ذكر جمال الدين مرّات، فما زاد السلطانُ على أن قال: هذا القاضي جمالُ الدين، لا تؤخر له شيئاً أطلع الساعة وادفع له جميع مالهِ.
وكان قد توجه مع السلطان إلى الكرك، وأقام عنده يخدم حريمه، وحظاياه وخواصّه من مماليكه وجواريه في أمراضهم.
وكان يدخل إليه كلّ يوم على الشمع قبل كل ذي وظيفة راتبة من أرباب الأقلام، ويسأل عن مزاج السلطان وأحواله وأعراضه في ليلته، ثم في بقية أمراض الدور والحريم والأولاد، ويسأله عن أحوال المدينة وما تجدد فيها وما لعله لوالٍ أو أمير أو قاض أو مُحتسب إلى غيرهم من الرعايا، فيُطلعه على ما عنده ويسمعه السلطانُ منه قبل الناس كلهم، وصار لذلك يُخشى ويرجى، ولا يقدرُ أحد يردُّ له شفاعة، وقل أن يمرَ يومَ خدمةٍ وما رأيته قد لبس فيه تشريفاً إمّا من جهة السلطان، أو من جهة الدّور الدولة الكبار، أو من جهة السلطان، أو من جهة بنات السلطان، أو من جهة أمراء الدولة الكبار، أو من جهة خاصكية السلطان، وهذا أمر زائد عن الحد، هذا إلى ماله من المعلوم الوافر، وأنواع الرواتب، وكل من يُزكى في الطب بالشام ومصر، وما له من الأملاك والمتاجر، ولعل هذا لم يتفق لغيره، ولا في المدة، ولا في المادة، ومع ذلك فكان مُقتصداً في نفقته على نفسه وعلى عياله، فما كان في مصر إلا قارون هذا القرن: " ورحمة ربك خيرٌ مما يجمعون " .
إبراهيم بن أحمد بن محمد بن سليمانالقاضي أمين الدين ابن القاضي شهاب الدين بن غانم كانت الإنشاء بدمشق، وهو من بيت رياسة وكتابة إنشاء، وسيأتي ذكر جماعةٍ من أهل بيته في هذا التاريخ، كل واحد منهم في مكانه.
كان هذا أمين الدين ينظم البيتين والثلاثة، ويُجيد في بعضها لما لهُ في البلاغة من الوراثة، ويندرُ له النصف والبيت، ويُطربُ به الحي والميت، لأنه كان قريحته نظامة، وموادّه من العلم ما خالطت لحمه ولا عظامه، وكانت تقع له في أثناء المحاورات ألفاظ على طريقِ الاتباع، يخلصُ من خصومه فيها بالباع والذراع، وكان خفيفَ الروح لدى المجالس، يخلط جدّ الملائك بمجون الأبالس، وله على بلوغ مآربه قدرةٌ وتمكنٌ، وفي التوصل إلى مقاصده ذلة وتمسكن، قد جبل الله على ذلك طباعه، وألف الناسُ في ذلك لطفه وانطباعه..
ولم يزل على حاله إلى أن خانت الأمينَ منيتُه، ووارت قامتهُ حنيتُه.
وتوفي، رحمه الله تعالى، في بكرةِ الاثنين ثالث جُمادى الآخرة سنة إحدى وستين وسبع مئة، جوا باب الفرج بدمشق، ودفن بالصالحية من يومه.
ومولدُه تقريباً في سنة سبع وتسعين وست مئة.
دخل إلى ديوان الإنشاء بدمشق سنة تسعٍ وعشرين وسبع مئة.

وكان والده في مدةِ مقامهِ بالديار المصرية عند القاضي فخر الدين ناظر الجيش يطلبه فيتوجه في كل سنة إلى زيارةِ والده، ويعُود على البريد بعناية القاضي فخر الدين، وكان فيه كيس ودُعابة، وعنده عشرة ولطف، وإذا كان له أربُ في شيء توصل إليه بكل طريق وناله، وإذا فرغ أربُه شرد وقطع الرسن، وما يعود يلوي على إلفٍ ولا وطن، فكنا - جماعة الديوان - نعرف ذلك منه، وأنه متلونٌ ذو استحالة.
وكنتُ في وقت عزمي على الحج في سنة خمس وخمسين وسبع ومئة قد اتفق معي ومع القاضي ناصر الدين كاتب السر بالشام على أنه يحُجّ معنا، وأعطانا على ذلك مواثيق وعهوداً، فلما حقت النهضة غاب عنا، ولم نظفر به، فلما عدت من الحج كتبتُ إليه من الطريق:
أفدي الذين غدتْ محافظتي على ... ميثاقهم دونَ الورى تغيريني
قالوا استحلتَ وخنتَ عهدكَ قلتَ ما ... أنا في محبتكم أمينَ الدين
ذاك ابنُ غانم يَستحيلَ ويستحي ... أن لا يراه الدهرُ غير خؤون
إلا أنه كان فيه كرمٌ وجود وتواضع واعرافٌ بالتقصير في فنه، وكان في وقتٍ قد كتب إلى القاضي ناصر الدين كاتبِ السرّ الشريف ونحن بمرج الغسولة أبياتاً فكتب جوابهُ القاضي ناصرُ الدين في وزنه ورويه، ومن جُملة الجواب:
أيا من غدا يستوعبُ الوقتَ مدحهُ ... لنقص فعالٍ وهو قولٌ مُلفقُ
إذا ما شكرتَ الله زاداكَ رفعةً ... فشكرك إياهُ شعارٌ موفق
تسود أوراقاً وتكتبُ مأثما ... ويظهرُ منك القولُ وهو مُزَوّق
ونظمُك عندي جوهرٌ ونظامُهُ ... بليغٌ وهذا النظمُ بالصدق أليقُ
فتأذى أمينُ الدين وقال: قد تبتُ عن نظم الشعر، فكتبُ أنا إليه ارتجالاً:
تاب أمينُ الدين من نظمه ... وخلصَ الأقوام من ذمهِ
فقال لا عُدتُ إلى مثلها ... فقلتُ لم تهربُ من سهمهِ
فقال لي والله لو أنه ... مسك لما ملتُ إلى شمهِ
فقد كفى ما نلته من أذىٍ ... وما التقى قلبي من همهِ
وكتب إليه القاضي ناصرُ الدين أيضاً في ذلك:
إن كان قد تاب بلا مرية ... وأحسنَ التوبة من جرمه
وقدمَ الإخلاص في فعلهِ ... وقوله دل على حزمه
منها:
وإن أعاد القولَ فيما بدا ... منهُ ولاح الزيف في نظمه
فإنني مستأنفٌ همةً ... في منعه القولَ وفي ذمهِ
وكتبت أنا إيه أيضاً:
إنّ أمينَ الدّين مذ تابا ... أغلق للأبواب أبواباً
وكانت الأعطافُ من نظمهِ ... ونثره تهتزُ إعجاباً
وكيف ينسى لذةً طالما ... دار لها بالكعبِ دولاباً
ما زال مذ شبّ على نظمهِ ... حتى رأينا رأسهُ شاباً
وذهنُهُ في كل معنى إذا ... حاولهُ يسبق نشاباً
فإن يكن أمسى غشيماً كما ... يزعُم أعطيناهُ ركاباً
وكتب أمين الدين إلي، وقد تخلفتُ عنهم في بعض السفرات إلى مرج الغسولة:
خليلي ما المرجُ الخصيب بطيبٍ ... إذا لم ير إبراهيمُ وجهَ خليله
وما هو إلا مارجٌ بعد بعده ... ولو زارهُ جال الندى بنخيله
وكتب إلي وقد حصل لي يرقان:
حاشاك من ألمٍ ألمّ بمهجة ... قد مسها ألم من اليرقان
وكفيت كل ملمةٍ ومخافةٍ ... ولبستَ ثوبَ سلامةٍ وأمان
متمتعاً متنعماً في جلقِ ال ... فيحاء ذاتِ جنى وجنان
وترى بها أترابها وكواعباً ... بخدُودهنّ شقائقُ النعمان
يا أوحداً في جيله بجميلهِ ... كم في فنون فناك من أفنان
منذا يضارع بحر شعرك في الورى ... يا خبرَ علم مالهُ من ثانِ
وكنت قد كتبتُ أنا إليه جواباً من رحبة مالك بن طوق في سنة ثلاثين وسبع مئة:
كتابك نورٌ صُنته بجفوني ... وتاجُ علاً أعددتهُ لجبيني

أتاني فلا والله ما احتجتُ بعده ... إلى أن تُقر الحادثاتُ عُيوني
ونفسَ من ضيقٍ برحبة مالك ... أكابدُه من لوعةٍ وحنين
فما الطرف إذا أبصرتهُ بمسهد ... ولا القلبُ إذ عاينته بحزين
تغازلين ألفاظهُ في سطوره ... بسحر معانٍ من لواحظ عينِ
أنظر في منثوره مُتنزهاً ... فأشهدَ سجع الورق فوق غُصونِ
غدوت أمين الدين بالفضل باديا ... وفزتَ بسبق في العلاء مُبين
بعثتَ مثالاً ما ظفرتُ بمثله ... وحسبك من حسنٍ بغير قرين
فما كل حسن مثله بمكمل ... ولا كل در مثله بثمين
بضائعه تجلو علينا محاسناً ... ولستَ على هذا أشتاتَ الفضائل دوني
أضعتُ أنا فضلي واصبحَ حافظاً ... وكيفَ يضيع الفضل عند أمين
إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيمبن أبي اليُسر شاكر بن عبد الله
الشيخ الأصيل تقي الدين التنوخي. كان من جُملة الشهود، وهو كثير السكون، قليل اللام.
سمعَ من السخاوي، وابن قُميرة، وعز الدين بن عساكر، وتاج الدين القرطبي، وغيرهم.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه مشيخة ابن شادان الكبيرة وغيرها.
وتوفي رحمه الله تعالى سابع جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون.
إبراهيم بن منيرالشيخ الصالح الزاهد العابد البقاعي، المعروف بابن الصياح.
كان من كبار الصُلحاء الأخيار، وممن يتفتت المسك حسداً إذا ذكرت عنه الأخبار، له سيماء الولاية، وعليه طلاوة القُرب والعناية، انعزل عن الناس، ووجد في الوحشة الإيناس، انجمع فامتدت له المعارف، وانخزل فأجزلت له العوارف، وكان متوحشاً من نوعه، نافراً عن الذي لا يراه في طوعه، يمشي في الجامع كأنه مُريب، وينفر حتى تقول: هذا غريب، لا يأنس بإنسان ولا يتألف بإحسان، من رآه قال: هذا طافح السكرة، لافح الجمرة، سافح العبرة، جامح الخطرة إلى الحضرة، جانح الفكرة إلى الخلاص من العثرة.
ولم يزل على حاله إلى أن دعاه مولاه فأسرع، واخضر له القبر فأمرى وأمرع. وتوفي رحمه الله تعالى في أول ليلة الأربعاء مستهل المحرم، سنة خمس وعشرين وسبع مئة. وحمله الناس على الأعناق والرؤوس والأصابع، ودفن بمقابر باب الصغير، وسبب موته أنه استدفأ بمجمرةٍ فاحترق، ودخل حجاب المنون واخترق، وكان له بيت في المئذنة الشرقية يأوي إليه، وكان كثيراً ما يقول: يا دائم المعروف، يا دائم المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يحصى عدداً، يا الله.
ورثاه الأديب جمال الدين محمد بن نباتة بقوله:
على مثلها فلتهم أعيُننا العبرى ... وتطلق في ميدانها الشهبَ والجمرا
فقدنا بني الدنيا فلما تلفتت ... وجوهُ أمانينا فقدنا بني الأخرى
لفقدك إبراهيم أمست قلوبنا ... مؤججة لا برد في نارها الحرى
وأنت بجنات النعيم مُهنأ ... بما كنت تُبلي في تطلبه العُمرا
عريتَ وجوعتَ الفؤاد فحبذا ... مساكنُ فيها لا تجوعُ ولا تعرى
بكى الجامعُ المعمورُ فقدك بعدما ... لبثت على رغم الديار به عُمرا
وفارقتهُ بعد التوطن سارياً ... إلى جنة المأوى فسبحانَ من أسرى
كأن مصابيحَ الظلام بأفقه ... لفقدك نيرانُ الصبابةِ والذكرى
كانَ المحاريبَ القيام بصدره ... لفرقة ذاك الصدرِ قد قوست ظهراً
مضيتَ وخلفت الدّيار وأهلها ... بمضيعةٍ تشكو الشدائد والوزرا
فمن لسهامِ الليل بعدك إنها ... معطلة ليست تراشُ ولا تبرى
ومن لعفافٍ عن ثراءٍ ثنى الورى ... عبيدَ الأماني وانثنيت به حراً
سيعلم كل من ذوي المال في غدٍ ... إذا نصبَ الميزانُ من يشتكي الفقرا
عليك سلامُ الله من متيقظٍ ... صبورٍ إذا لم يستطع بشرٌ صبرا

ومن ضامر الكشحين يسبق في غدٍ ... إلى غايةٍ من أجلها تُحمد الضمرا
أيعلم ذو التسليك أنّ جفوننا ... على شخصهِ النائي قد انتثرت درا
وأن الأسى والحزنَ قد جال جولةً ... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى
ألا ربّ ليل قد حمى فيه من وغى ... حمى الشام والأجفانُ غافلةٌ تكرى
إذا ضحك السمار حجب ثغره ... كذلك يحمي العابدُ الثغر والثغرا
إلى الله قلباً بعده في تغابنٍ ... إلى أن أرى صف القيامة والحشرا
لقد كنتُ ألقاهُ وصدري محرج ... فيفتحُ لي يسرا ويشرحُ لي صدراً
والثمُ يُمناه وفكري ظامئ ... كأني منها ألثمُ الوابل الغمرا
أمولاي إني كنت أرجوك للدعا ... فلا تنسني في الخلد للدعوة الكبرى
سقى القطرُ أرضاً قد حللت بتربها ... وإن كنت أستسقي بتربتك القطرا
إبراهيم شاه بن بارنبايهو إبراهيم شاه، وجده سوتاي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف السين.
لما فتل طغاي بن سوتاي، على ما يأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، قام ابنُ أخيه إبراهيم شاه هذا مقامهُ في الحكم على ديار بكر من جعة المُغل، فتزوج ابنة الملك الصالح شمس الدين صاحب ماردين، ومقامهُ بالموصل، وكان يُظهر المودة لصاحب مصر ويبوء بخلاف ذلك بالإثم والإصر مكراً منه ودهاءً، وفخراً بذلك على غيره وبهاءً. وكانت رسله تفد على الأبواب الشريفة، وتعود إليه بالهدايا والتحف الظريفة، وهو يدعي أنه من جملة من وادها، وقام على من عاداها في وقتٍ أو حادها، فتصل إليه التشاريف الثمينة، والكتب التي تتنزل منها على قلب مثله السكينة.
وكان قد قتل عمه طغاي في بعض حُروبه التي اتفقت، وسألت سيول وقعتها واندفقت، ولما وقف عليه قتيلاً نزل إليه وبكى، وحط رأسه على حجره واتكا، واعتذر إليه، وذلك يجود بنفسه إلى مكان رمسه. لا جرم أن إبراهيم شاه ما تهنا بعده، وزار عن قريب لحده، لأنه مرض بالفالج وما نجع فيه مداواة طبيبٍ ولا مُعالج، وبقي قريباً من سنتين على جنبه مُلقى، لا يترفع على عافيةٍ ولا يترقى. وقيل: إن الشيخ حسن بن هندو حاكم سنجار دسّ عليه من سمّه، وأعدمه نسيم الحياة وشمّه.
وكانت وفاته في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
إبراهيم بن بركات بن أبي الفضلالشيخ الصالح أبو إسحاق الصوفي البعلبكي الحنبلي المعروف بابن قربشة.
أحد الإخوة، شيخ الخانقاه الأسدية بدمشق، وإمام تربة بني صصرى. سمع من ابن عبد الدائم، وعلي بن الأوحد، وابن أبي اليسر، وأبي زكريا بن الصيرفي وغيرهم.
وروى الكثير، واشتُهر، وسمع منه جماعة، وأجاز لي بخطّه في سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة بدمشق.
كان شيخاً ذا شيبة منورة، وشكالة بالمهابة مسورة، حسن المُلتقى لمن يعرفه، كثير الإنصاف لمن اجتمع به وإن كان ما يُنصفه، حلو المذاكرة، ظريفَ المحاضرة، قد صحب المشايخ ورآها، ودخل غاب أسدهم وعراها، عليه أنسُ الفقراء، وحشمة الأمراء.
روى عنه علمُ الدين البرزالي في حياته، وغيره. وعاش هو من بعد ذلك وما انقطع سيره، ولم يزل على حاله إلى أن لبس كفنه، ولحدهُ اللاحدُ ودفنهُ.
ولد سنة ثمانٍ وأربعين وست مئة، وتُوفي، رحمه الله تعالى، سنة أربعين وسبع مئة بجبل الصالحية.
إبراهيم بن أبي بكر بن عبد العزيزشمس الدين الكتبي الجزري، المعروف بالفاشوشة، ويُعرف بابن شمعون. كان يّذكر أنّه سمع من فخر الدين بن تيمية.
كان يتجر بالكتب باللبادين، ويدخر منها كل ما يطلبه من عاج إلى ملة أو مال إلى دين.
وكان يتشيع، ويرى أن عرفه بذاك يتضوع وهو يتضيع.
احترقت كتبه في حريق اللبادين المشهور، وذهب له في ذلك خمسة آلاف مجلدة على ما هو مذكور، ولم يبق له إلا ما هو في العرض، أو في العارية التي رمق منها عيشه على برض.
توجه في أيام الكامل بن العادل إلى مصر في تجارة، واتفق أن حضرت بنت بوري المغنية مجلس الكامل وغنت:
يا طلعة القمرِ المنيرِ ... من جورِ هجرك من مُجيري
فأعجبَ السلطانَ ذلك، وطلب الزيادةَ عليه، فتوجهت إلى شمس الدين المذكور، وسألتهُ الزيادةَ على ذلك، فنظم لها:

قسماً بديجُور الشعور ... وبصُبُح أسفارِ الثُّغورِ
وبأسمرٍ حُلوِ المعا ... طفِ واللمى أمسى سميري
ما للصوارم والقنا ... فعلُ اللواحظِ في الصدور
فحضرت عند السلطان وغنّته بالأبيات فأعجبه ذلك، وأطلق لها كل ما في المجلس، ثم إنّ شمس الدين عرض له مرض، فنقلته ابنة بُوري إلى دارها وخدمته إلى أن عوفي، فقالت له: كل ما في هذا البيت هو من إحسانك، وحكت له ما جرى، ومن شعره:
قالوا به يبسٌ وفرط قساوةٍ ... وكأنّه في الحالتين حديدُ
فأجبتهم: كذباً وميناً قُلتُم ... من أين يشبه طبعه الجُلمود
ومياهُ جلقَ كلَّها مُنحازةٌ ... في بعضه فهو الفتى المحمود
ألفاظه بردى وصُورة جسمه ... ثورا وأمّا كذبه فيزيد
ولد سنة اثنتين وست مئة، وتوفي سنة سبع مئة.
إبراهيم بن أبي بكر بن أحمد

بن يحيى بن هبة الله بن الحسين بن يحيى بن محمد بن علي
القاضي شمس الدين أبو إسحاق ابن قاضي القضاة نجم الدين ابن قاضي القضاة صدر الدين، ابن قاضي القضاة شمس الدين بن سنا الدولة.
كان مدرس الركنية بدمشق، وعنده انقطاعٌ ومحبةٌ للفقراء.
روى عن خطيب مردا، وسمع من الفقير محمد اليونيني.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن شهر ربيع الأول سنة عشر وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة ثمان وأربعين وست مئة.
إبراهيم بن حباسةالقاضي سعد الدين، مستوفي دمشق وحلب وصفد.
كان مليحَ الشكالة، سديد المقالة، درب صناعة الديوان وخبرها، وتمم نقصها وجبرها، وكان - كما كان يُقال - يداً وفكاً، ونحريراً لا يرى النقاد فيه شكاً.
ولي استيفاء صفد مدةً، ورأى فيها من السعادة ضُروباً عدة. وتوجه إلى باب السلطان في واقعة سنجر الساقي، وانتصر عليه، وجعل رُوحه في التراقي.
ثم إنه نُقل إلى استيفاء حلب، فامترى فيها ضُروع السعادة وحلب، ثم نُقل إلى استيفاء النظر بدمشق، وهو على سعده مقيم، وحظه الزائد يستغني عن التقويم، إلى أن فوز، وحصل على ما تحوز.
وتوفي رحمه الله تعالى، في ثلاث عشر المحرم سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
كان أولاً نصرانياً، وباشر عمالة خان سلار لما عمره الجاولي. قال لي: حصلت فيه خمسين ألف درهم. ثم إنه أسلم وعلم استيفاء صفد، ورأى فيه خيراً كثيراً، ولما وقعت فتنة علم الدين سنجر الساقي بينه وبين الأمير سيف الدين أرقطاي نائب صفد، جهزه إلى مصر، فانتصر الساقي عليه قدام السلطان، وجهز الجميع إلى عند تنكز نائب الشام، فتأخر بعده ولحقه، ودخل إلى تنكز وحاققه، فنصره الله عليه. وعاد إلى صفد وأقام مدّة، ثم إنه رُسم له بحلب فتوجه إليها وأقام مدّة، ثم جهز إلى دمشق مستوفي النظر، فأقام بها مدّة إلى أن مات.
إبراهيم بن الحسين بن صدقة بن إبراهيمشرف الدين أبو إسحاق البغدادي المخرمي الدمشقي.
سمع من ابن اللتي، وأبي نصر بن عساكر، وأبي الحسن بن مقير، ومُكرم بن أبي الصقر، وجعفر الهمداني.
وأجاز له ابن صباح والناصح وأبو الوفاء محمود بن منده.
تفرد وروى الكثير وعُمر دهراً، وأصفت له الحياة الشهية نهراً، وكان حسن الأخلاق، تزكو محاسنه على الإنفاق، يؤم في مسجد، ويغير في التسميع وينجد، إلى أن نزل ضريحهُ، وسكن الموتُ ريحه.
ولد سنة أربع وعشرين وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسعٍ وسبع مئة.
إبراهيم بن الحسن بن عليبن عبد الرفيع الرَّبَعي المالكي
قاضي تونس.
سمع من محمد بن عبد الجبار الرعيني سنة خمس وخمسين كتاب البخاري عن أبي محمد بن حوط الله، وذكر أنه سمع الموطأ عن ابن حوط الله عن أبي عبد الله بن زرقون، قال: وسمعت أربعين السلفي على الفقيه عُثمان بن سفيان التميمي سنة ثمانٍ وخمسين عن الحافظ ابن المفضل، وسمعت مقامات الحريري عليه أنا وابن جبير عن الخشوعي.
كان بمدينة تونس قاضياً، وبما قُسم له في العلم راضياً، ينتقي وينتخب، ويدخر أجره عند الله ويحتسب.
اختصر كتاب التفريغ، وسماه السهل البديع، والكتاب المذكور لابن الجلاب في مذهب مالك.
وعمر زمناً طويلاً، ووجدت مدةُ حياته إلى الطول سبيلاً، إلى أن اجتحفه سيل المنية، وقطع من السير لذته الهنية.

ولد سنة ست وثلاثين وست مئة، وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
إبراهيم بن خالد بن عباس الأنصاري

الدمشقي
الأمير جمال الدين بن النحاس.
كان رجلاً عارفاً بالسعي والتقدّم، والتعمير والتهدمِ، قفز من سوق النّحاس إلى أن صار تُفدى كفه وتُباس.
وتولى بدمشق ولاية الحرب، وتحدّث في الوصل والقطع والضرب، ولم يزل إلى أن ضعف باصُره، وقل في ذلك ناصُره، وناب عنه ولدُه مدة إلى أن عمي، وجاش صدره بالحقد وحمي، فعزل عن الولاية، وذهبت تلك العناية، ثم إنه لبث مدّة إلى أن ما حمل النحاسُ التطريق، وغص وهي في حلقومه بالريق.
وتوفي رحمه الله تعالى عاشر ذي العقدة سنة ثلاثة عشرة وسبع مئة.
كان أولاً هو وأبوه من سُوق النحاس بدمشق. وكان يخدم الأمراء، وبالغ في خدمة الأفرم قبل النيابة، فلما تولى النيابة تولى مدينة دمشق في ولاية الحرب، وكان له ثروة وأملاك وسعادة، ولم يزل إلى أن ضعف بصره وناب عنه ولده إلى أن عمي فعزل، ولزم بيته إلى أن مات.
إبراهيم بن صابرمقدم الدولة، عهدي به مقدمُ الدولة في سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وأظنه كان فيها من قبل ذلك.
وكان السلطان الملك لناصر مُحمد بن قلاوون يُعظمه ويطلبه وهو في دستة دار العدل، ويقول: يا إبراهيم تعال، فيجيء إليه ويدينه حتى يضع فمه في أذنه، ويُسر إليه ما يأمره به، ومثلُ الأمير سيف الدين الأكوز الآتي ذكره إن شاء الله واقف، حتى صارت أرفع من الحجاب ومن غيرهم.
وكان ضخماً طويلاً عارفاً بما يعانيه من التقدم نبيلاً، ابتز الناسَ أموالهمُ في المصادرات، وتناولها في الأوائل والمبادرات. فحصل أموالاً جمة، وأملاكاً ما حصلها قبله ذو هّمة ورتبه السلطان وعشرةً من رجاله يمشُون في ركاب شرف الدين النشو ناظر الخاص لما جُرح تلك الجراحة، وكان لا يُؤذن الفجر إلا وهو في رجاله على الباب، فإذا ركبَ كانوا معه إلى أن يدخل القلعة، وإذا نزل منها مشوا في ركابه إلى أن يدخل بيته، هكذا أبداً في السفر والحضر، وكلنه بعد ذلك تسلمه عند غضب السّلطان عليه، فكان يُعاقبه ويضربه، فيقولك يا مُقدّم إبراهيم، فيتعذر إليه بأنّه مأمور.
ومات هو وجماعة من أهله وجماعةٌ من المصادرين تحت مقارعه، إلا أنه مع ضخامته وطوله لم يكن فظاً غليظ القلب، بل كان فيه رحمةٌ ورفق بالضعيف، واصطناعٌ للمسكين، وإيثارٌ للفقير، ولم يزل على حاله في الوجاهة مدّة حياة السلطان الملك الناصر، وأقام بعده، لكنه ليس في تلك العظمة إلى أن توفي في سنة أربع وأربعين وسبع مئة، والظاهر أنّه نُكبَ قبلَ موته وصُودر، والله أعلم.
إبراهيم بن سليمانابن الشيخ الإمام العالم رضي الدين الحموي الآب كرمي.
نسبة إلى آب كرم، بليدة صغيرة قريبة من قونيه كثيرةُ الفواكه - الرومي الحنفي المعروف بالمنطقي.
كان شيخاً عليه وقار، ومهابةٌ لا يعتريها احتقار، أبيضَ الشيبة طويلها، حسن الطلعة أسيلها، يعرف المنطق جيداً، ويدعى فيه سيداً، وتفرد بهذا الفنّ في زمانه، وكأنه فيه أرسطو أوانه، وكان لينَ العريكة، كأنه من سهولته تريكة، محسنَ إلى الطلبة والتلاميذ والأصحاب، باذل البشر لمن أمه يتلقاه بالترحاب. وكان ديناً، خيراً أميناً، حج سبع مرات، ونال ما قدره الله له فيها من المبرات، ولم يزل على حاله إلى أن خرس المنطقي، وأتاه ما كان يرتقب ويتقي.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة سادس عشري شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وحضر جنازته جماعة.
وقرأ عليه جماعة من الأعيان والأفاضل، وكان مدرس القايمازية التي تحت القلعة، وتولاها بعده قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي.
إبراهيم بن سليمان بن أبي الحسن بن ريانالقاضي كمال الدين ابن القاضي جمال الدين الطائي، وسيأتي ذكر والده في مكانه إن شاء الله تعالى.

كان من جملة موقعي حلب، ووقع في الدست قبل موته بقليل. وكان يكتب المنسوب الرائق، ويراعي فيه الأصل الفائق، فتخالُ طروسه حدائق ونباتاً في خدي غلام مراهق، وتظن أنها برود يمانية وليست مهارق، وكان يُعرب جيداً ويُغرب، ويأتي بما هو أغرب من عنقاء مغرب، إلا أن الأجل تحيف كماله، وأدخل على ألف قدةِ من المنون الإمالة. وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الثلاثاء، ثالث عشري ذي القعدة سنة ست وخمسين وسبع مئة. ومولده بصفد في حُدود العشرين وسبع مئة فيما أظن.
وكتبت إلى أخيه القاضي شرف الدين حُسين أعزّيه فيه، وأوّل الكتاب قصيدة، وهي:
تعزَّ يا باهر السناء ... وطيّبَ الأصل والثّناء
واصبر لتحظى بخير حظّ ... من غير حضًّ يومَ اللقاء
واثبت لفقدِ الكمال يا منْ ... كماله خافق اللواء
أكرم به من أخٍ كريم ... قد فاق في الفهم والذكاء
مكمل الذات قد تجلّى ... بالحلم والعلم والوفاء
يُمناه كم قد برت يَراعاً ... كأنّه السيف في المضاء
ووشعت طرسها ووشت ... بالزهر من أحرف الهجاء
غلطت فيما أراه حقاً ... إذ ليس والزهرُ بالسواء
لأن زهر الرياض يذوي ... وذا يُرى دائَم الرِّواء
فما له ابن الوحيد ثانٍ ... في صحّه الوضع والصفاء
إعرابه ساد في البرايا ... إذا شاد محكم البناء
طار ابن عصفورَ منه خوفاً ... لما تعرى منه الكسائي
وكان غصناً رطباً ثناه ال ... ردى إلى روضة البقاء
وراح غضاً خفيف حملٍ ... من الخطايا يوم الجزاء
وليس مثل الذي رثاه ... عنيت نفسي ذاتَ الشقاء
ستون عاماً كانت أمامي ... لم أدرِ حتى غدت ورائي
وأثقلت بالذنوب ظهري ... وأسمعتني داعي الفناء
دع ذا فخطبي به جسيم ... جلّ وعد بي إلى الرثاء
كان جميلَ الصفات فرداً ... في الجهر منه وفي الخفاء
وجملةً الأمر فيه أني ... أقولُ قولاً بلا رياء
إن فراق الكمالِ صعبٌ ... حتى على البدر في السماء
وكان هو قد كتب إلي من حلب في أوائل سنة خمس وخمسين وسبع مئة: يُقبلُ الأرض التي هي من براعته ويراعته مجمعُ البحرين، ومن لفظ وخطه مغاصُ النفيسين من الدرين، فأضحت بذلك في الشام شامة، وغدا برقُ فضلها لامعاً لمن شامه. وينهي بعد أشواق تفيء سطور الطروس في غضونها وأثنيةٍ تستنزل الورق بأطواقها من غصونها.
إنه ما برح يتذكر مولانا وفوائده ويشاهدها، ويتعاطى نشوة فضّ الختام وبتعاهدها، ولم يزل له من أمثلة مولانا الواردة إلى أخبي الملوك كؤوسُ مدام، ولها من ميم مسك قصيدته الميميّة ختام، ومن مخبآت شرح اللامية عرائسُ تجلى على الأفهام، وإنما أماكنُ تحتاج إلى مُقابلةٍ على النسخة الأصلية، ومواطنُ لم تكن مرآتها في قراءتها جلية، وتتّمات تركت فعسلت مطالعها إذ كانت من الكتابة خليّة، فاختار المملوك حيث اسمه إبراهيم أن يطرب بنوبته في نُسخته الخليلية، فإن اقتضى رأيُ مولانا أن يُنعم بتجهيز النسخةِ الصحيحة الكاملة ليقابل عليها نسخته التي حرمها الكاتب ما يجب من المقابلة، ومنعها من جبرها بالتصحيح فاستحقّ المقابلة، ليُحكم المملوك جوهري معانيها الصّحاح، ويُزيل تعجبه من فساد هذه النسخة المنسوبة إلى الصلاح، وإن تعذر تجهيزها جملةً فليكن مجلداً بعد مجلد ليقابلَ عليها ويعيدها إلى خليله، والعودُ أحمد إن شاء الله تعالى.
فكتبت أنا إليه الجواب ارتجالاً من رأس القلم:
لا يُنكر الناسُ قطُّ شوقي ... إلى كمالٍ حوى المعالي
فالبدر أفنى الظلام سيراً ... ليرزق الفوز بالكمال

يقبلُ الأرض حيثُ ابن مقلة لتلك الكتابة شاخص، والفاضل لذلك الترسل ناقص، والميداني لتلك البلاغة على عقبيه ناكص، تقبيل من زكا ودّة، وتأكّد في المحبة عهدُه، وتجّدد في الثناء على مرّ الزمان وردُه، وعذُب في الدعاء وردُه، فما نبع إلاّ وأينع بالإجابة وردُه، ورود المشرب الذي حلا، وغلا قدرهُ في البلاغة وعلا، وشاع ذكره لما ملأت محاسنه الملأ، واتضح معناه في ليل سطوره التي أسدفت فقال أنا ابن جلا، وضمه إلى صدره فشفى به عليل مهجته، ورفعه على ناظره فقضى له بتجديد بهجته، وفضه عن طروس فضة، أو الدراري الثابتة في أوجها لا المنقضة، فسرهُ إذ فسره، وصدق بمعجز آياته لما تصوره، وشنفه وقلّه وسوره، وورد منهل فضله المصفى، ورأى ما لو رآه الخياط لمزق حلل الرفّا، وعلم أنّ الكتاب من قبله في نقص وإبراهيم الذي وفى، وقال: هذا الفن الفذ الذي مات، وما رآه أبو حيان في جيانا، وهذه الفضائل التي ضوع رياها بنو ريان، وهذا النثر الذي شكا الفقر إليه صاحب القلائد، وهذا السجع الذي لا يتطاول إلى قصوره أصحاب البيوت ولا أرباب القصائد، وهذا البيان الذي حملقت إليه عين الجاحظ، وهذا البديع الذي لاق بالأسماع وراق في اللواحظ، وهذا وهذا وهذا، إلى أن لم نجد للوصف ملجأ ولا للعطف ملاذاً.
وانتهى إلي ما أشار إليه مولانا من شرح اللامية التي في خدمته، والنسخة التي أسقمها الناسخ وساقها إلى حوزته، وما تحتاج إليه مع جبر مولانا من المقابلة التي يصحّ ما بها من السقم، ويسلك بها من الصواب أرشد نعم، وقابل المملوك ذلك بالامتثال، وتحقق أنّ ذلك من جملة الإحسان والشفقة على المملوك حتى لا يُنسبُ إليه جهل ولا نقصان، والمملوكُ مُعتقد في فضائل مولانا ما يغنيه عن ذلك، ولو أمعن النظر في أغلاطها، وأنعم بجوده التأمل لضوا ليلها الحالك، وجعلها في الصحة مناراً يهتدي به السالك، فهو لا يأتي على لحن إلا أعربه، ولا خطأ إلا صوبه، ولا نقص إلى أتمه، ولا مشكل إلا ونوّر ليلته المدلهمّة، على أنّ المملوك ما يفرح بأن يرى الأصل عنده كاملاً، ولا يرى السعد لضم أجزائه شاملاً، ولا تزال الأجزاء مفرّقة في العاريّة جزءاً بعد جزء، إمّا لجدّ من الطالب وإمّا لهزء، فإن اقتضى الرأي العالي تجهيزَ النسخة التي في خدمته ليتولى المملوك مقابلتها بنفسه، ويتشرف بخدمة مولانا بين أبناء جنسه فلمولانا علو الرأي وشرفه، وفردوسُ الأمر وغُرفُه، إن شاء الله تعالى.
إبراهيم بن صالح بن هاشمالشيخ عز الدين أبو إسحاق بن العجمي الحلبي الشافعي.
سمع بدمشق من خطيب مردا، ولم يكن بالمكثر، وكان آخر من روى بالسماع، عن الحافظ ابن خليل.
كان من بيت علم ورياسة، وحلمٍ وسياسة، وحدث بدمشق وحلب، وقصده الناس بالسعي والطلب.
وأخذ عنه الشيخ شمس الدين الذهبي وغيره، ولم يزل إلى أن نعب غُراب بينه، ونام في القبر ملء عينه.
توفي، رحمه الله تعالى، سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وكان من أبناء التسعين، كان عنده عن الحافظ ابن خليل ثلاثةُ أجزاء رواها غير مرة، وقدمَ دمشق غير مرّة، فحدّث بها، ورحل الناس إيه.
إبراهيم بن عبد اللهالشيخ الصالح الكردي المشرقي المعروف بالهدمة، كان عابداً زاهداً، صابراً لفقره مجاهداً، منجمعاً عن الناس، منقطعاً عن مخالطة الأدناس، ماله مطمعُ في مطعم، ولا مطمح إلى قوتٍ وإن عم به من أنعم.
انقطع بقريةٍ بين القدسِ، والخليل، ورضي بذلته بين يدي الملك الجليل، فأصلح لنفسه مكاناً وزرعه، وغرس به شجراً أطعمه من رغبه في ذاك وأطمعه وتأهل بعد ثمانين وست مئة، وجاءته الأولاد على كبر، وكان أمرهُ في ذلك من العبر، وقصد بالزيارة، وظهرت علامة كرامته والأمارة، وحكيت عنه كراماتُ عدّة، وجليت من بركاته ليالٍ مسودة. ولم يزل إلى أن طفي مصباحُه، وطغى من الموت اجتياحه.
وتوفي رحمه الله سنة ثلاثين وسبع مئة.
إبراهيم بن عبد الرحمن

بن أحمد بن محمد
زين الدين أبو إسحاق بن نجم الدين بن تاج الدين بن الشيرازي الدمشقي.
كان شيخاً جليلاً، مسنداً نبيلاً، يشهد مع العُدول، وما له عن الخير عُدول، له في مسجدٍ إمامة، والبهاء وراءه وأمامه.
وكان قد سمع من السخاوي، وكريمة، وتاج الدين بن حمويه وجده وعدة.
وخرج له الشيخ الإمام صلاح الدين العلائي مشيخة وتفرد بعدّة أجزاء.

ولم يزل يُسمع الطلبة، وما به من ذلك قلبة، إلى أن سكن الثرى، وعدم من الحياة القرى.
ولد سنة أربع وثلاثين وست مئة، وتوفي رحمه الله سنة أربع عشرة وسبع مئة.
إبراهيم صارم العوّاد
كان في صناعة الطرب كاملاً، وعلمُه بدقائقها شاملاً، لعب بالكمنجا إلى أن لم يجد الأستاذ فيها له منه منجا، وفاق في فنها، فلم يكن كمن راحَ ولا كمن جا، وأمّا الطار فكل قلب طارَ إليه، وتخيل أن الشمس والبدر في يديه، ولم ير الناس مثله من يُطرب، ولا ألطفَ من حركاته كلما صرخ في يديه يضرب، وما يرى أحد أنه ملكٌ فيه غيره ما ملك، ولا أنه سلك في إتقانه ما سلك، وأمّا العواد فكان إبراهيمُ فيه إبراهيم الموصلي، بل لو عاصره لتحقق أنه مثلُ بطن عوده فارغٌ غير ممتلي، يكاد لخفة يده يجري الماء في عوده، ويرى البرق من يده في العفاقات يلمع في حدوره وصعوده، كأنما هو حمامة تسجع على عودها، وتغدو وتروح، وإذا غنى هو جاوبه عُوده، ولم يكن شجر الأراك مع الحمام ينوح:
يلعبُ بالعقل شدوه لعبَ المزج ... بمنثور لؤلؤ الحببِ
لو تسمع الورقُ شدوه خلعت ... عليه أطواقها من الطرب
وجرت له مع الناصر أحمد أمور، ولو صحّ أمره لكان أميراً كبيراً وغيره المأمور، ولكن فات ما ذبحَ، وما خسر إلا من ربح، ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى البلى بغصته، ولم يقدر على شرح قصته.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
كان قد قربه الأمير سيف الدين تنكز ولازمه في سفره وحضره، وكان يعلّم عنده جواري، وأعطاه إقطاعاً جيداً في حلقة دمشق، وألبسه الكلفتا، ولما أمسك تنكز طلبه طاجار الدوادار ودخل به إلى السلطان الملك الناصر، وأقام بمصر تلك المدّة، ثم إنّ السلطان الناصر أحمد أخذه معه إلى الكرك وأقام عنده تلك المدّة، ووعده بأمورٍ منها أن يعطيه إمرة طبلخاناه، وهذا أقلُ ما أعتقده في حقه، وإلا من الناس من قال: إن وعده بنيابة دمشق، ثم إنه بعد ذلك كله أخذ منه الإقطاع، واستمر بيده راتبٌ كان لها أولاً على دار الطعم بدمشق فارتفق به، وبطل الخدم إلى أن مات رحمه الله تعالى.
إبراهيم بن عبد الرحيم

بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد ابن نصر
القاضي الرئيس، الكاتب البليغ شمس الدين ابن القاضي جمال الدين ابن الصاحب فتح الدين ابن القيسراني المخزومي الخالدي، كانت الإنشاء بالديار المصريّة، كان شكلاً، تاماً في خلقه ساداً لما يسند إليه من الإنشاء من سعة خرقه، العقود، ويباهي به الروضَ المجود، وتزدهي الكواكب بضيائه إذ كانت في منازل السعود إن أنشئ وشى المهارق وأخمل زهر الخمائل والحدائق وحسد العذار الجديدُ سطوره، وتمنى الروضُ اليانع لو حوى منثوره، وودّ الأفق لو استعار من طرسه صبحه، ومن مداده ديجُوره، يُرشفُ السمع كلامُهُ مُداماً، ويتعاطى كؤوس فقراته الندامى، ومن بيت كتابةٍ ووزارة ورياسة قديمة وصدارة.
رافقتُه في ديوان الإنشاء في قلعة الجبل مدة، وحللتُ برؤيته من الهم شدة الشدة، ثم إنه رسم له السلطان الملك الناصر بتوقيع الدّست قبل موته بقليل بسفارة الأمير سيف الدين تنكز فيما أظن.
قال قاضي القضاة بهاء الدين أبو حامد السبكي: تولى كتابة الدست في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
ولم يزل على حاله في توقيع الدّست إلى أن دعاه الله للقياه، وأوحشت الدنيا من بُقياه.
وتوفي رحمه الله تعالى في أحد شهري ربيع من سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
وكان عنده مماليك تُرك، وله تجملٌ في ملبسه، وورث نعمة طائلة، وحصلت له وجاهةٌ عند النواب، ولو دام له الأمير سيف الدين بهادُر التمرتاشي لرقى.
وكان قد استعار من القاضي جمال الدين ابن العلامة شهاب الدين محمود جزءاً من قلائد العقيان، وأبطأ رده، قال جمال الدين، فكتبتُ إليه:
قل لربّ العلا فتى القيسراني ... حين يأتي منشية المهراني
حل جيدي بالفضل منك فإني ... عاطلٌ من قلائد العقيان
فلما وقف عليها القاضي الشريف شهاب الدين الحسيني قال:
يا ابن غيثِ الندى وبحر المعاني ... درهُ في النحور والتيجان
أنت للملكِ زينةٌ وجمال ... غنيت عن قلائد العقيان

وكتب لي شمس الدين المذكور توقيعاً بزيادةٍ عن السلطان الملك الناصر محمد، وهو: رسم بالأمر الشريف العالي - لازالت أوامره تزين المناصب بأكفائها، وتزيد المراتب وجاهة بمن تريد صلاحه في علائها، ومراسيمه تمُن بعوارف آلائها لمن جعله عرفانُه من أوليائها - أن يزاد المجلسُ السامي القضائي فلان الدين على معلومه الذي بيده المستقر باسمه في الشهر دراهم كذا غلة كذا، وفي اليوم خبز كذا، لحم كذا، شعير كذا، وفي السنة كذا زيادة على الجوخة قرطية مغشاه لتفرده في البلاغة عن مناضل أو مناظر، وتفننه في الكتابة التي تثلج الصدور، وتبهج النواظر، وإتيانه بالمعنى البسيط في اللفظ الوجيز، واعتراف أمثاله بالقصور عّما ينتجه فكره السليم من التعجيز، طالما دبج المهارق بأبوابنا الشريفة برائقِ خطّه وفائق لفظه، ونظم في تقاليد الوزارة المنيفة من دررِ معانيه ما تتسارعُ الهمم إلى التقاطه وحفظه، فيتناول ذلك شاكراً لأنعمنا الشريفة على هذا المزيد، وليعلم أن إحساننا إليه ثابت ويزيد، والله يُبلغه من النعم ما يريد بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى، فكتبت إليه أتشكر إحسانه ارتجالاً:
كلماتُ القيسراني ... لطفُ معناها براني
فهي في الحُسن كليلى ... وإليها قيسُ راني
إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم

بن سباع بن ضياء
الشيخ الإمام الورع العلامة شيخ الشافعية، برهان الدين أبو إسحاق الفزاري، الصعيدي الأصل، الدمشقي الشافعي، مدرس الباذرائية وابن مدرسها الشيخ تاج الدين.
سمَّعه والده الكثير في صغره من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر والموجودين في ذلك العصر.
قرأ العربية على عمه شرف الدين الفزاري، وتفقه على والده، وقرأ الأصول وبعض المنطق، وكان يخالف الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسائل، وما تهاجرا قط، وكل منهما يحترم صاحبه إذا اجتمعا، ولما بلغته وفاته استرجع وشيع جنازته.
وكان رحمه الله تعالى قد نشأ في صيانه ورقى في ديانه، وإكبابٍ على العلم والإفادة طول عمره، وتواضع وخيرِ من أول حاله إلى خاتمة أمره، وزاد اشتغاله بعد أبيه، وطالع ونظر، وما اقتصر على التنبيه، يكاد يستحضر غالب الرافعي في مسائله، ويورد لفظه بتقاريره ودلائله، حتى يقول: هذه المسألة في الصفحة الفلانية من المجلد الفلاني، ويكشف عليه فما يخطئ الصواب بل يقارب ويداني، اشتهر بذاك، وعلم جميع الكتاب حتى كأنه باب السواك، وعلق على التنبيه شرحاً حافلاً، وأتى به لغوامض المذهب كافلاً، لو أنصفه الناس لم ترفع لغير الرافعي راية، وتحققوا أنّ بداية هذا الكتاب مثل النهاية، ولا بد لهذا الشرح من وقت يوفى فيه حقه، ويعطيه الطاعة كل فاضل، فما يعوقه عن التقديم على غيره ولا يعقّه، مع ما في فضله من فضولٍ في بعض الفصول، وزيادات بيان لا تعلق لها بالفروع ولا الأصول. وعلق على منهاج النووي جزءاً لطيفاً فيه نتف، وكلامه فيه أطرب من حمام الأيك إذا هتف.

وكان صادق اللهجة فيما ينقله، حاذق المهجة فيما يتروى فيه أو يتعلقه، طويل الروح على الدرس والإشغال، كثير التوغل في الإيضاح والإيغال، حريصاً على تفهيم الطالب، يودّ لو بذلك كنوز العلم وما فيه من المطالب، لا يعجبه من يورد عليه تشكيكاً، ولا من يطلب منه تنزيل ألفاظ ولا تفكيكاً، لأنه هو فيما بعد ذلك يتبرع، فما يحب من غيره أن يسابقه ولا يتسرع، وذلك ليبسٍ في مزاجه، وحدّة تلحقه عند انزعاجه، وحاجة إلى استعمال خيار الشمبر لعلاجه، فقد كان ذلك نقله على الدوام، ولا يُخل باستعماله في يوم من الأيام، وكان رقيق البشرة، ظاهرة الوضاءة، كأن وجهه حبره، وله حظّ وافرٌ من صدقة وصيام وتهجّد في الليل وقيام، قل أن يخرج الشهر وما يعمل فيه لأهل مدرسته طعاماً، ويدخلهم إلى منزله فراداً وتُوأماً، ويقف لهم عند الباب ويدعو لهم ويشكرهم، ويعرفه بالميعاد الثاني وينذرهم. وفتاويه كلها مسددة، واحترازاته وقيوده فيها مشددة. قد كفّ لسانه وسمعه عن الغيبة ومنعها من مجلسه دفعه، منجمعاً عن الناس يجد في الوحشة منهم غاية الإيناس، وتنجز من السلطان مرسوماً أن لا يحضر مجلساً إذا عقد، ولا يُطلب لذلك إذا فقط. وطلب للقضاء بعد ابن صصرى فاستعفى لذلك وصمم، وألح عليه الأمر سيف الدين تنكز فخصص الامتناع وعمم، وحج غيرة مرة، وتجرع من التكلف لذلك كل مرة.
وحدث بالصحيحين، وفاز من الرواية والدراية بالقدحين الربيحين. وخرج له الشيخ صلاح الدين العلائي مشيخة قرئت عليه، وسردها الناس لديه.
وولي الخطابة بالجامع الأموي بعد عمه الشيخ شرف الدين، ثم عزل نفسه، وقلع منها ضرسه.
ولم يزل على تلك الطريقة التي أخذها عن السلف، وتفرد بارتكابها في الخلف، إلى أن جاء المحاق لبدره، وانطبقت على درّته الثمينة صدفتا قبره، ففجع الناس فيه، وعدموا اللؤلؤ الذي كان يقذفه بحر علمه من فيه، وراح إلى الله على أتم سداد، وأكمل اعتداد ليوم المعاد. وكانت جنازته مشهودة، وآلاف من حضرها غير معدودة، فرحم الله روحه، ونور بالمغفرة ضريحه.
مولده في شهر ربيع الأول سنة ستين وست مئة، ووفاته في يوم الجمعة سابع جمادى الأولى في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وله نظمٌ ونثرٌ متع، لا ينحطّ في ذلك ولا يرتفع، ومنه قوله، وقد ترك الخطابة:
وإني لأستحيي من الله كُلما ... وقفتُ خطيباً واعظاً فوق منبر
ولست بريئاً بينهم فأفيدهم ... ألا إنما تشفي مواعظُ من بري
قلت: كذا أنشدنيهما الشيخ أمين الدين محمد بن علي الأنفي عن مصنفهما، وكذا رأيتهما في البدر السافر للفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي رحمه الله تعالى، ولو قال رحمه الله تعالى: ألا إنما تشفي المواعظ من بري لكان ذلك أحسن وأمتن وأتم في الجناس. ورأيتهما بعد هذا في ديوان الخطيب يحيى بن سلامة الحصفكي، وهو بهما أحق.
إبراهيم بن عبد الرحمن بن نوح

بن محمد
الشيخ الأمين العدل بهاء الدين أبو إسحاق ابن الإمام العالم مفتي المسلمين شمس الدين أبي محمد المقدسي الشافعي.
سمع الحديث من ابن مسلمة، وابن علان، وشرف الدين المرسي، والمجد الإسفراييني، وإسماعيل العراقي، واليلداني، والكفرطابي، وابن طلحة، والشريف بهاء الدين النقيب، وخطيب مردا، وابن عبد الدائم، وغيرهم، وخرجتُ له مشيخة سنة حجّ، وحدث بها بالمدينة في سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، قرأها عليه الشيخ علي الختني، ثم رواها بدمشق غير مرة.
أجاز له ابن الجميزي، والشاوي، وأحمد بن الحباب، وجماعة في سنة سبعٍ وأربعين وست مئة. وأجاز له من بغداد محمد بن المني، والأعز بن العليق، والمؤتمن بن قميرة، وجماعة في سنة ثمان وأربعين.
وتفرد في دمشق برواية كتاب الآداب للبيهقي عن المرسي سماعاً، وتفرد بغير ذلك.
وكان من المباشرات مشكوراً، وبالأمانة والعفة مذكوراً، وفيه خيرٌ وبر، وتعهدٌ للأصحاب في العلن والسر، وعنده كفاية ونهضة، ومروة يؤدي بها في الإحسان فرضه، ووقفَ على جهات البرّ أوقافاً، جعلت له في أغوار الذكر الجميل أحقافاً، ولم يزل على حاله إلى أن برز للرحيل نوقه، وأقام الموتُ سوقه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سلخ جمادى الآخرة سنة عشرين وسبع مئة.

ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة بالشامية الجوانية بدمشق، وكان ناظر المدرسة الرواحية بعد أخيه أكثر من ثلاثين سنة، وباشر وقف الحرمين ووقف جامع العقيبة، وغير ذلك.
إبراهيم بن عرفات بن صالحالقاضي زين الدين بن أبي المنى القنائي الشافعي.
تولى الحكم بقنا، والتقى الإعدام بالبيض والقنا، لأنه كان يتصدق في كل يومِ عاشوراء بألف دينار على من هو محتاج ويلحقُ الفقير المسكين من جوده بربّ التاج، مع حسن وجهٍ ساعة البذل، لا كما يتكلف الخير وفعله الساقطُ النذل.
قالت امرأة: جئت إليه يوم عاشوراء فأعطاني، وعدت إلى منزلي وأعطاني، ثم صرت إليه ثانياً فأنالني وخولني، ثم رددت إليه ثالثاً فحباني وما حولني، ثم فعلتُ ذلك مراتٍ وهو يجودُ علي ببره، ولا يطوي عني حسن بشره، إلى أن تكمل لي منه ذلك اليوم ست مئة درهم، فاشتريت بذلك مسكناً، وأراحني من الهم.
وكانت له عقيدةً حسنة في أهل الصلاح، ويأخذ من أدعيتهم ما هو أوقى له من السلاح.
ولم يزل على خيرٍ إلى أن فات وعد من الرفات. ووفاته، رحمه الله تعالى، في بلده سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
إبراهيم بن علي الأجل أبي هاشمابن الصدر الأديب المعمر أبي طالب محمد بن محمد بن محمد بن التامغار، مجد الدين أبو الفتح بن الخيمي الحلي.
سمع من والده بسماعه من بنت سعد الخير، وسمع من الرشيد العطار مجلس البطاقة، ومن ابن البرهان صحيح مسلم.
وأجاز له الحافظ المنذري، ولاحق الأرتاحي، والبهاءُ زهير، وأبو علي البكري.
وخرج له التقي عبيد مشيخة، وحدث قديماً، وسلك طريقاً قويماً.
وأخذ عنه المصريون وسمعوه، وارتضوه وما دفعوه، وزان بالرواية زمانه، ورصع دره في تاجها وجمانه، إلى أن أدركته الوفاة، وختم الموتُ نطقه وفاه. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمانٍ وثلاثين وسبع مئة. وولد سنة تسعٍ وأربعين وست مئة.
إبراهيم بن علي بن خليل الحرانيالمعروف بعين بصل.
كان على ما اشتهر من أمره عامياً حائكاً أمياً، وله الشعر المقبول، والطبعُ الذي هو على القريض مجبول.
أناف على الثمانين من عمره، ولم يخمد توقد جمره. نظر يوماً بعض أصحابه إلى امرأة برزت بصفحة بدر في حندس، وغرست فوق خدها زهرة نرجس، فسأله أن ينظم في ذلك شعراً، وينفسَ به كرب قلبه المغرى، فقال بديهاً، وأنشد الحاضرين فيها:
غرست في الخد نرجسة ... فحكت في أحسن الصور
كوكباً في الجو متقداً ... قد بدا في جانب القمر
وذكر لي غير واحدٍ أن القاضي شمس الدين بن خلكان رحمه الله تعالى قصده واستنشده شيئاً من شعره، فقال: أما القديم فلا يليق، وأما الوقتُ الحاضر فنعم، وأنشده:
وما كل وقتٍ يسمح خاطري ... بنظم قريضٍ فائقٍ اللفظ والمعنى
وهل يقتضي الشرعُ الشريف تيمماً ... بتربٍ وهذا البحر يا صاحبي معنا
وبعض الناس يحكي أن ذلك اتفق له مع الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى.
قلت: وليس ذلك بصحيح، فقد ذكر المؤرخون أن شميماً الحلي لما قدم إسعرد، قصده شعراؤها وأنشدوه أشعارهم، وكان فيهم من أنشده شعراً استكثره عليه وقال: انظم الآن لي شيئاً فأنشده ذلك الرجل في الحال، وهذا هو الصحيح، لأن شميماً الحلي توفي بالموصل سنة إحدى وست مئة، ولم يكن عين بصل قد خلق.
وكان عين بصل فقيراً يهبه الناسُ قماشاً، وما يكلفونه معاشاً، وكان يلبس القطعة مدة، وإذا أفلس باعها، ومد إليها كف نفقته وباعها، فلامه بعضُ الناس على هذا الاعتماد، وقال: هذا موجب لأن يسوء منهم فيك الاعتقاد، فأنشده ارتجالاً وقال له لا تمتلي مني ملالاً:
وقائل قال إبراهيمُ عينُ بصل ... أضحى يبيعُ قباً للناس بعد قبا
فقلت مه يا عذولي كم تعنفني ... لو جعت قدتُ ولو أفلست بعت قبا
ومما ينسب إليه قوله في الشبكة والسّمك: كم كبسنا بيتاً كي نمسك السكانَ منه في سائر الأوقاتِ فمسكنا السكانَ وانهزم البيتُ لدينا خوفاً من الطاقات قلت: وقد رأيتهما أيضاً لغيره.
ولم يزل في اكتسابه، وتعاطيه للشعر وانتسابه، وتوكله على بر الناس له واحتسابه، يخبط بين الحكياة والحكاية، وينقلب من الشكر إلى الشكاية، إلى أن رقد فما انتبه، وعتب صاحبه الموتَ فيه فما أعتبه.

وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة.
ومن شعره الذي نسب إليه قوله:
جسمي بسقمِ جُفونه قد أسقما ... ريم بسهم لحاظه قلبي رمى
كالرمح معتدلُ القوام مهفهفٌ ... مر الجفا الكنّه حلو اللمى
رشأ أحل دمي الحرامَ وقد رأى ... في شرعهِ الوصل الحلالَ محرما
رب الجمال بوصله وبهجره ... ألقى وأصلى جنةً وجهنما
عن ورد وجنته بآس عذاره ... وبسيف نرجسِ طرفه الساجي حمى
عاتبته فقسا، وفيتُ فخانني ... قربُته فنأى، بكيت تبسماً
حكمته في مهجتي وحشاشتي ... فجنى وجار علي حين تحكما
يا ذا الذي فاق الغصون بقده ... وسما بطلعته على قمر السما
رفقاً بمن لولا جمالك لم يكن ... حلفُ الصبابة والغرامِ متيماً
أنسيت أياماً مضت وليالياً ... سلفت وعيشاً بالصريم تصرما
إذ نحن لا نخشى الرقيب ولم نخف ... صرف الزمان ولا نخاف اللوما
والعيش غض والحواسدُ نومٌ ... عنا وعينُ البين قد كحلت عما
في روضةٍ أبدت ثغور زهورها ... لما بكى وبها الغمامُ تبسّما
مدّ الربيعُ على الخمائل نوره ... فيها فأصبح كالخيام مخيما
تبدو الأقاحي مثل ثغر مهفهف ... أضحى المحبُّ به كئيباً مغرما
وعيونُ نرجسها كأعيان غادةٍ ... ترنو فترمي باللواحظ أسهما
وكذلك المنثورُ منثورّ بها ... لما رأى ورد الغصون منظما
والطيرُ تصدح في فروع غصونها ... سحراً فتوقظ بالهديل النوما
والراح في راح الحبيب يديرها ... في فتية نظروا المسرة مغنما
فسقاتُنا تحكي البدور، وراحنا ... تحكي الشموسَ، ونحن نحكي الأنجُما
قلت: وشعره كله من هذه النسبة - كما تراه - غيرُ متلاحم النسج، ولا مستقيمُ النهج.
إبراهيم بن عليالقاضي جمال الدين بن شمس الدين ابن شيخ السلامية الكاتب.
تصرف في المباشرات الديوانية، والوظائف السلطانية، تارة بجبل صيدا ناظرا وتارة ببرّ دمشق، وإن في المدينة حاضراً، وتارة بحمص في نظر ديوانها، والتقدم على أعيانها. ثم انتقل إلى الخزانة العالية بالقلعة، ونفق فيها من العمر سلعه، إلى أن سكن فما تحرك، واطمأن في قبره وتورّك.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وسبع مئة.
إبراهيم بن علي بن أحمد بن حمزة

بن علي
الشيخ المسند جمال الدين ابن الجنوبي - نسبة إلى الجنوب - التغلبي الدمشقي.
كان من بيت عدالة ورواية، وكلف بالحديث وعني به، وكان مع ذلك فراشاً معتبراً في هذه الحرفة، والصناعة الصرفة، وسكن مصر وروى بها، ومشى في طرق الرواية وروى بها، وأسمع بدمشق أيضاً، فسمع منه الذهبي ومن عداه، ولبوا نداءه وأجابوا صداه.
وكان يروي عن ابن اللتي، وبالإجازة عن محمود بن منده ومحمد بن عبد الواحد المديني. ولم يزل على حاله إلى أن ضربت خيمة كفنه، ولم يغن عنه صحة رأيه ولا أفنه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة.
إبراهيم بن علي بن أحمد بن يوسف
بن علي بن إبراهيم
قاضي القضاة الحنفي، برهان الدين ابن القاضي كمال الدين بن القاضي شهاب الدين الدمشقي، وهو سبط الشيخ ضياء الدين أبي المحاسن عبد الحق بن خلف بن عبد الحق الواسطي.
قرأ على والده القرآن وتفقه على الشيخ ظهير الدين الرومي، والشيخ شرف الدين الفزاري والشيخ زين الدين بن المنجا.
وقرأ العربية على الشيخ مجد الدين التونسي والشيخ نجم الدين بن ملي.
وقرأ الأصول على الشيخ صفي الدين الهندي.
ونشأ بدمشق، ودرس بها، وأذن بالإفتاء في رحلة رحلها إلى مصر سنة ست وتسعين الشيخُ تقي الدين بن دقيق العيد، وقاضي القضاة شمس الدين السروجي، وكان قد اشتهر بمعرفة كتاب الهداية وإتقانه، وتحلى منه بقلائده عقيانه، وعُرف بقيام أدلته وبرهانه.

طلب إلى مصر فولاه الملك الناصر محمد بن قلاوون قضاء القضاة الحنفية بعد شمس الدين بن الحريري سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، فأقام بمصر حاكماً عشر سنين متوالية، ونجوم سعوده في أفق الكمال متلالية، تنفذ أحكامه في كل أمير ومأمور، وتسري أوامره في العاطل والمعمور.
وكان يكلم السلطان في دسته كلاماً خشناً، وهو يُظهر له احتمالاً حسناً، وصمم عليهم أول ما دخل في الجلوس وما تم له ما أراد، ولم يكن المالكي ممن يعد معه في طراد، ثم إنه خرج هو وقاضي القضاة جلال الدين القزويني إلى الشام معاً، وأصابتهما عين الحسود فانصرعا، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وأقام هو بدمشق على حاله من غير حكم، ولا مداناة لفصحاء، ولا بكم إلى أن نزل إلى حفرته، وانهال التراب على وفرته.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء تاسع عشري ذي الحجة سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
مولده سنة ثمان وستين وست مئة.
إبراهيم بن علي بن أحمد بن عبد الواحدقاضي القضاة، نجم الدين أبو إسحاق ابن قاضي القضاة عماد الدين أبي الحسن بن محيي الدين أبي العباس الطرسوسي الحنفي قاضي القضاة بدمشق، وسيأتي ذكر والده رحمه الله تعالى في مكانه من حرف العين.
مولده في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ووفاته رحمه الله تعالى يوم السبت بعد الظهر، وصلي عليه بالجامع الأموي بعد العصر، ودفن آخر النهار المذكور رابع شعبان سنة ثمان وخمسين وسبع مئة بالمزة. وكانت جنازة حافلة، بها الحكام والعلماء والأمراء، وصلى عليه ملك الأمراء الأمير علاء الدين أمير علي المارديني إماماً برّا باب النصر، وعاده في يوم سبت، وهو بالمزة ضعيف في هذه المرضة.
وكان قاضي القضاة نجم الدين رحمه الله تعالى ملء منصبه، بالغاً بحسن سعيه نهاية أمله وغاية مطلبه، نافذ الأحكام والقضايا، عارفاً باستخراج النكت في الوقائع من خبايا الحنايا، عليه تؤدة وحسن سمت، وله مهابة وطول صمت، ولم تعد له في مدة ولايته هفوة تتعلق بأحكامه، أو زلة يؤاخذ بها في نقضه وإبرامه وكان النواب يعظمونه، ويجلّونه ويحترمونه لسعادة نطقه في المحافل، وترفّعه في ذرا المعالي عن الأسافل.
تلفّت فوقَ القائمين فطالهم ... تشوف بسّام إلى المجد قاعد
ولم أرَ أمثالَ الرجال تفاوتوا ... إلى الفضلِ حتى عد ألفٌ بواحد
وكان قد ناب لوالده قاضي القضاة عماد الدين قريباً من سنتين، ثم إنه في ذي الحجة سنة ستَّ وأربعين وسبع مئة نزل له والده عن منصب القضاء، وسأل له في ذلك الأمير سيف الدين يلبغا، فكتب له إلى السلطان، وحضر تقليده الشريف بذلك.
وكان قد كتب له قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي السبكي الشافعي رحمه الله تعالى بأهليته لذلك وصلاحيته، وجهّز خطه بذلك وباشر المنصب والتداريس على أتم ما يكون من العفة والأمانة، ونازعه قاضي القضاة شرف الدين المالكي في الجلوس، فأجلس المالكي فوقه لكبر سنّه، وقدمِ هجرته، ولما توفي المالكي جلس قاضي القضاة نجم الدين إلى جانب قاضي القضاة الشافعي، ولم يزل على ذلك إلى أن مات رحمه الله تعالى.
وكان قد حج في صغره، ثم إنه حج في سنة خمس وخمسين، وعزم على المجاورة، فلم يتفق له ذلك، ثم إنه حج في سنة ست وخمسين وسبع مئة، ثم إنه عزم في سنة ثمان وخمسين وسبع مئة على الحج مع الركب الذي يتوجه في شهر رجب، فحصل له هذا الضعف الذي مات فيه، رحمه الله تعالى.
وكان رئيساً نبيلاً فيه مكارمُ وحشمة ورياسة وقعدد وتؤدة، ولازم الاشتغال وطالع واجتهد، ودأب وتعب، ونظم أبياتاً ذكر فيها الخلاف الذي وقع بين الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وبين الشيخ أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه، وقرأتها عليه، فسمعها ولدي أبو عبد الله محمد وفتاي طغاي بن عبد الله في ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وسبع مئة بمنزلة في باب البريد قبالة المدرسة المسرورية، وهي:
الحمد لله الولي المنعم ... الملكِ الحق الجواد المكرمِ
جل عن الشبيه والأضداد ... والأهل والأنداد والأولاد
سبحانه من ملكٍ قدير ... أتقن ما أبدع بالتدبير
ثم الصلاة بالدوام السرمدي ... على النبي المصطفى محمد

وأله ما غردت قمرية ... على غصونِ الأيك في البرية
وبعد قد قال الإمام الأعظمُ ... أبو حنيفة الرضى المُقدّم
في هذه المسائل المهمه ... قولاً به جلا وجوه الغمة
والأشعري خالفهُ فيها وقد ... أساء في خلافه فيما اعتقد
والحق ما قال أبو حنيفه ... أعطاه ربي الرتبة المُنيفة
أولها معرفة الإلهِ ... واجبةٌ حقاً بلا اشتباهِ
بالعقل لا بعد الخطاب فاعرف ... وعذرهُ عند الإمام منتفِ
معرفة الله على الكمالِ ... تحصل بالعقل مع استدلالِ
ثالثها قال بأن العصمه ... ثابتة لأنبياء الأمه
عن الكبير وعن الصغير ... والأشعري خالفَ في الأخير
ويمكن السعيدُ أن يُنظم في ... أهل الشقاء والضلال فاعرف
ولا يرى الشكوك في الإيمان ... ويقطع القول بلا نكران
وكل ما قد كتبوا في المصحف ... فهو كلام الله حقا فاكتف
وأثبت الرسالة المُكرمه ... من بعد ما مات النبي فاعلمه
وهو إلى الآن رسولٌ مثلما ... قد كان في الحياة حقاً فافهما
والله يجزي العبد في الأعمالِ ... من خير ما يرجوه في المآل
والله عادل فلا يُعذبُ ... من لم يكن أذنب وهو المذهبُ
ولا يجوزُ القولُ بالتكليفِ ... في حكمةِ الله بال توقيفِ
والله لا يختار للعبادِ ... إتيانهم بالكفر والفسادِ
ونعمة الله على الكفارِ ... كسمعهم ونظرِ الأبصار
وتمت المسائل المهمه ... وتم ما قال سراجُ الأمه
إبراهيم بن عمر بن إبراهيمالشيخ الإمام، العلامة، ذو الفنون، شيخ القراء برهان الدين الرَّبَعي الجعبري الشافعي، ابن مؤذن جعبر، شيخ حرم سيدنا الخليل صلوات الله عليه وسلامه.
سمع في صباه ابن خليل، وتلا بالسبع على أبي الحسن الوجوهي صاحب الفخر الموصلي ببغداد، وتلا بالعشر على المنتخب صاحب ابن كدي. وأسند القراءات بالإجازة عن الشريف أبي البرد الداعي، وقرأ التعجيز حفظاً على مؤلفه تاج الدين بن يونس، وسمع من جماعة، وقدم دمشق بفضائل، ونزل بالسميساطية، وأعاد بالغزالية، وباحث وناظر، ثم إنه ولي مشيخة حرم الخليل عليه السلام، فأقام به بضعاً وأربعين سنة.
ومن تصانيفه كتاب نزهة البررة في القراءات العشرة، وشرح الشاطبية كبير، وشرح الرائية، ونظم في الرسم روضة اللطائف، وكمل شرح المصنف للتعجيز، كتاب الإفهام والإصابة في مصطلح الكتابة نظم، وكتاب يواقيت المواقيت نظم، والسبيل الأحمد إلى علم الخليل بن أحمد، وتذكرة الحفاظ في مشتبه الألفاظ، ورسم التحديث في علم الحديث، وموعد الكرام لمولد النبي عليه الصلاة والسلام، وكتاب المناسك، ومناقب الشافعي، والشرعة في القراءات السبعة، وعقود الجمان في تجويد القرآن، والترصيع في علم البديع، وحدود الإتقان في تجويد القرآن، وكتاب الاهتدا في الوقف والابتدا، والإيجاز في الألغاز، واختصار مختصر ابن الحاجب، واختصر مقدمته في النحو. وتصانيفه تقارب المئة مصنف، وكلها جيد محرر.
رأيته غير مرة، وفاتني من الإجازة عنه ألف ذرة، كان جالسته وسمعت كلامه، ورأيته في منزلةٍ يكون الهلال عندها قلامه.
وكان ذا وجهٍ نير، وخلق خير، وشيبة نورها الإسلام، وحبرها خدمة العلم الشريف بالأقلام.
ولعبارته رونق وحلاوة، وعلى إشارته وحركاته طلاوة.
حكى لي عن شيخ كان قبله بالحرم حكاية تضحك الثاكلة، وتصيب من التعجب الشاكلة.
ولم يزل على حاله حتى صوح روضه، وهُدم من الحياة حوضُه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في حدود الأربعين وست مئة، فعاش تسعين سنة.
ومن شعره:
لما أعان الله جل بلطفه ... لم تسبني بجمالها البيضاء
ووقعت في شرك الردى متحبلاً ... وتحكمت في مهجتي السوداء
ومنه

لما بدا يوسف الحسنِ الذي تلفت ... في حبه مهجتي استحيت لواحيه
فقلت للنسوة اللاتي شغفن به ... فذ لكن، الذي لمتنني فيه
ومنه:
أضاء لها دُجى الليل البهيمِ ... وجدد وجدها مرّ النسيم
فراحت تقطع الفلواتِ شوقاً ... مكلفة بكل فتى كريم
فقارٌ لا ترى فيها أنيساً ... سوى نجم وغصنِ نقي وريمِ
نياقٌ كالحنايا ضامراتٌ ... يُحاكي ليلُها ليلَ السليم
كأن لها قوائم من حديد ... وأكباداً من الصلد الصميم
لها بقبا وسفح منى غرامٌ ... يلازمها ملازمة الغريم
إبراهيم بن عيسىالأمير ناصر الدين ابن الملك المعظم ابن المالك الزاهر داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شادي.
كان جندياً من مقدمي الحلقة بدمشق.
توفي رحمه الله تعالى في مستهل شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ودفن بجبل قاسيون، وقد جاوز الخمسين.
إبراهيم بن أبي الغيثالشيخ جمال الدين ابن الحسام البخاري الفقيه الشيعي كان المذكور مقيماً بنواحي الشقيف من بلاد صفد بقربة مجدل سليم.
أخذ عن ابن العواد، وابن مقبل الحمصي. ورحل إلى العراق، وأخذ عن ابن المطهر.
وكان قد اتخذ في القرية المذكورة مجلسين، أحدهما للوفود، والأضياف، والآخر للطلبة وأهل العلم. رأيته أنا في قريته في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، ودار بيني وبينه بحثّ في الرؤية وعدمها. وطال الوقوف على جبلها، والطواف بحرمها، وهو في ناحية الاعتزال واقف، وأنا عن السنة مجادل أثاقف، وهو للحنظل ناقف، وأنا للعسل مشتارٌ ولاقف. وطال النزاع وامتد، واحتدم كل منا الوغى واحتد.
وكان شكلاً حسناً، وذا منطق لسناً، قد أدمن مباحث المعتزلة والشيعة. وجعل التأويل له في حلة البحث وشيعة، وكان يزور الشيخ تقي الدين بن تيمية، ويحمله في مباحثه على ما عنده من الحمية، ويطير بينهما شررُ تلك النيران، وتمل من وخدهما في قفار الجدل الأزمة والكيران، ولم يزل في تلك الناحية قائماً بنصرة مذاهب الشيعة والاعتزال، دائماً على جذب من يستضعفه من أهل السنة بالاقتطاع والاختزال، إلى أن سكت فما نبس، وبطل من حركاته واحتبس.
قال لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله: عهدي به في سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ومن شعره:
هل عاينت عيناك أعجوبة ... كمثل ما قد عاينت عيني
مصباح ليل مشرقٌ نورُه ... والشمس منه قابَ قوسين
ومنه:
قامت تودعني فقلت لها امهلي ... حتى أودع قبل ذاك حياتي
فإذا عزمت على الرحيل تركتني ... رهن البلى ومجاور الأمواتِ
وقال، وقد عمل مصيدة من رحى عملها لنمسٍ كان قد أفسد عليه خلايا نحل:
ومقشعر الجلد مزورَ الحدق ... لا يرهب الليل إذا الليلُ غسق
مستتر حتى إذا النجم بسق ... عدا على النحل فأذى وفسق
وفتح الأبواب منها وخرق ... وكسر الأصنام فيها ومحق
سقطتهُ بمستديرِ كالطبق ... كضغطةِ القبر إذا القبرُ انطبق
فما استقرت فوقه حتى اختنق ... من صخر حوران شديدِ المتسق
من لج في البحر تغشاه الغرق ... أو سارع الدهرَ إلى الحتف التحق
وقال وقد كبس بيته، وأخذت كتبه:
لئن كان حمل الفقه ذنباً فإنني ... سأقع خوفَ الحبس عن ذلك الذنبِ
وإلا فما ذنبُ الفقيه إليكم ... فيرمى بأنواعِ المذمةِ والسبّ
وإذا كنتُ في بيتي فريداً عن الورى ... فما ضر أهل الأرض رفضي ولا نصبي
أوالي رسول الله حقاً وصنوه ... وسبطيه والزهراء سيدة العرب
على أنهُ قد يعلمُ الله أنني ... على حب أصحاب النبي انطوى قلبي
أليس عتيق مؤنس الطهر إذا غدا ... إلى الغار لم يصحب سواهُ من الصحب
وهاجر قبلَ الناس لا ينكرونها ... بها جاءت الآيات بالنصّ في الكتب

وبالثاني الفاروق أظهر دينه ... بمكة لما قام بالمرهف العضب
وأجهر من أمر الصلاة ولم تكن ... لتجهر في فرضٍ هناكَ ولا ندب
وقد فتح الأمصار مارد جيشه ... وجالت خيول الله في الشرق والغرب
وجهز جيش العسرة الثالث الذي ... تسمى بذي النورين في طاعة الرب
وإن شئت قدم حيدراً وجهاده ... وإطفاؤه نارَ الشرك بالطعن والضرب
أخو المصطفى يوم المؤاخاة والذي ... بصارمه جلى العظيم من الكرب
كذاك بقايا آله وصحابه ... وأكرم بهم من خير ألٍ ومن صحب
أولئك ساداتي من الناس كلهم ... فسلمهم سلمي وحربهم حربي
وفي بيعة الرضوان عندي كفاية ... فحسبي بها من رتبة لهم حسبي
إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتمالشيخ الإمام العالم المقرئ الزاهد الورع برهان الدين أبو إسحاق.
روى عن ابن عبد الدايم، وسمع من فرج الحبشي مولى ابن القرطبي، وعماد الدين بن الحرستاني، وابن أبي اليسر، وجماعة من أصحاب الخشوعي وابن طبرزد.
كان حسن الهيئة، متواضعاً، عديم الشر وادعاً، كثير التودد لأصحابه، غزير التقرب بالإحسان لمن يتعلق بأهدابه، متين الديانة، مبين الصيانة، خطيباً أديباً، فصيحاً أريباً، يهتف على المنبر كأنه حمامه، ويسجع فيشبه السحر كلامه، إذا درس أحيا أطلال العلوم الدوارس، وجدل بجداله أطبال المناظر والفوارس، ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن فلاح بالفلا وظفرُ المنية للمته قد فلا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشري شوال سنة اثنتين وسبع مئة.
وكان شيخاً مباركاً معروفاً بالعلم والصلاح، وأقرأ القراءات السبع، وله تلاميذ وأصحاب.
وباشر نيابة الخطابة عن جماعة مدة طويلة، واستنابه قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة لما توجه إلى مصر للقضاء والخطابة. وكان مدرساً ومعيداً.
ودفن بمقابر الباب الصغير، وعمل عزاؤه تحت النسر بالجامع الأموي.
إبراهيم بن محمد بن إبراهيمابن أبي بكر بن محمد، الإمام المحدث، رضي الدين، أبو إسحاق الطبري الأصل، المكي الشافعي، إمام مقام إبراهيم عليه السلام بمكة.
سمع من ابن الجميزي كثيراً، ومع شعيب الزعفراني، وعبد الرحمن بن أبي حرمي، وفاطمة بنت نعمة، والشرف المرسي وجماعة. وقرأ كتباً كثيرة، وأتقن المذهب.
حدث بالبخاري عن عمر أبيه يعقوب بن أبي بكر، والعماد، وعبد الرحيم بن عبد الرحيم العجمي، ومحمد بن أبي البركات بن أبي الخير الراوي بالإجازة العامة عن أبي الوقت، وروى صحيح مسلم عن أبي اليمن بن عساكر.
كان يقول: عمري ما رأيت يهودياً ولا نصرانياً، لأنه لم يخرج من الحجاز. ونسخ مسموعاته، وخرج لنفسه سباعيات.
وكان متواضعاً وقوراً، محباً للرواية صبوراً، متألهاً ذا دين متين، وعزم ثابت. تأيد باليقين. لم يكن بين عينيه وبين الكعبة حاجب، يقوم للصلاة مندوباً وقلبه من الخشوع واجب، قل أن ترى العينُ مثله، أو تمل النظر إذا رأت شكله، لازم إمامة ذلك المقام، وأمن بذلك الحرم الشريف حلول الانتقام، تزدحم الصفوف خلفه إذا أم، وتحسب أنه القمرُ في الدجا إذا تم، ولم يزل على ذلك إلى أن نزل إلى البرزخ، وأعماله ترقى عليين وتشمخ.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة.
إبراهيم بن قروينةبالقاف والراء والواو والياء آخر الحروف، وبعدها نون وهاء. القاضي الكبير، مكين الدين.

أول ما عرفت من حاله أنه كان مستوفي الصحبة مع الجمالي، وكان عنده مكيناً إلى الغاية، لا ينفرد بأمر دونه، وأظنه توجه معه لكشف البلاد الحلبية، ثم إن السلطان ولاه نظر الجيش بالديار المصرية لما أمسك القاضي شمس الدين موسى بن التاج إسحاق، وتوجه معه إلى الحجاز، ولم يزل في نظر الجيش إلى أن تولى نظر الخاص القاضي جمال الدين الكفاة فجمع له له بين نظر الجيش ونظر الخاص وبقي القاضي مكين الدين بطالاً فيما أظن إلى أن حضر إلى دمشق ناظر النظار في زمن الأمير سيف الدين طقز تمر، فأقام بها يسيراً، ولم تطب له وحضر عوضه القاضي بهاء الدين بن سكرة، وتوجه مكين الدين إلى مصر عائداً في أوائل شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وأقام بمصر إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
وكان خيراً لا شر فيه. كثير الاحتمال، وهو من رؤساء الكتاب.
إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمودالشيخ جلال الدين بن القلانسي.
ورد الديار المصرية، فقال له العلامة شيخنا أبو الثناء محمود، والشيخ تقي الدين بن تمام: أقعد أنت في هذه الزاوية، ونحن نذكرك للناس، فاتخذ زاوية على بركة الفيل في حكر الخازن مجاورةً لدار الأمير بدر الدين جنكلي.
وكان قد نشأ في صناعة الكتابة أولاً، ثم إنه ترك ذلك، وتزهد بدمشق مدة قبل غازان بقليل، ولما انجفل الناس توجه إلى مصر، وقامت له في الصلاح سوق، وحملت إليه الصلات في وسوق، وتردد إليه الناس، وزاد اشتهاره حتى خرج عن الحد، وتعدى القياس، واعتقد فيه أمراء الدولة، وأمسك هو ناموس الصول والصولة، ومال إليه جماعة خواص السلطان وأحبوه محبة من أدرك الأوطار في الأوطان، وكلن في أثناء ذلك البخت، ومدة ذلك الدست والرخت، رمي عند الملك الناصر بحجر خدش منه غرضاً، وجعل سماءه أرضاً، فأخرجه إلى القدس خروجاً جميلاً، ووجد لفراق ما ألفه في مصر عذاباً وبيلاً، ولم يتغير لمماليك السلطان فيه عقيدة، وجزموا بأن ذلك من أعاديه مكيدة، وكانوا يمدونه بالذهب، ويلزمونه أخذ ذلك وقبوله بالرغب والرهب، وكانت نفسه كريمة، وهمته عند الثريا مقيمة، ولم يزل على تلك الحال إلى أن خلا في القبر بعمله، وانقطعت من الحياة مواد أمله.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
وكان قد قدم إلى دمشق في شهر رجب سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة من القدس، ونزل بمغارة العزيز بالجبل، وقصده الناس بالزيارة من الأمراء والقضاة والعلماء والصدور، وحدث بجزء ابن عرفة، ثم عاد إلى القدس، وتوفي ثالث القعدة من السنة المذكورة.
ومن شعره، من قصيدة:
قد كنتُ تبتُ عن الهوى ... لكن حُبك لم يدعني
ولما مات الشيخ جلال الدين رحمه الله تعالى، رثاه شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود رحمه الله تعالى بقصيدة أولها:
أيا مقلتي جُودي بدمعك لي جودي ... فما مثلُ من قدر بان عنك بموجودِ
وإن غاض ماء الدمع فابكِ دماً فما ... يعد البكا إلا لأكرمِ مفقودِ
فما أنتِ إن قصرتِ مني ولا أنا ... إذا لم تسل روحي دموعاً بمحمودِ
بروحي أحبابٌ مضوا وجلالهم ... يلوحُ لعيني منه أكملُ مشهودِ
تولوا وما عوضتُ من قربهم سوى ... تذكر عيشٍ مر لي غير مردودِ
هم وردوا قبلي من الموت منهلاً ... وها أنا صادِ وهو أقربُ مورودِ
أعددهم حزناً وأبكي معدداً ... عليهم فحالي بين عد وتعديد
أولئك إخواني الذين فقدتهم ... كما يفقد الظامي المناهلَ في البيدِ
كأن رداهم واحداً بعد واحدٍ ... على نسق الأحزان أسماءُ توكيد
أقول لأيام تقضت وشملنا ... كعقدٍ على جيد المسرة معقودِ
أأيامنا عودي بهم وضلالةٌ ... معالي لصم غير سامعةٍ عودي
ولكنها زورٌ المنى وخداعها ... تخيل أمراً في الورى غير معهود
كفى حزناً أن الأسى مبعث الأسى ... فآتيه في ماضيه علهُ تجديد
أسميهم حُزنا ليعلم أنه ... رثاءٌ أتى موجع القلب معمود

فيا أدمعي سحي ويا صبري انتقص ... ويالوعتي دومي ويا حرمتي زيدي
تولى ابن تمامٍ أخي ومصاحبي ... وأكرمُ محبوب إلي ومودود
وقد كان أحلى في فؤادي من المنى ... وأشهى لعيني من كرى بعد تسهيد
وقد كان لي في مصر أنسٌ مواصل ... فولى وقد وافى نعي ابن عبودِ
كريمٌ نمته دوحة الدين والتقى ... فطابَ وسر الأصل يظهر في العودِ
وأنكار ما راعَ الفوادَ رزيّةٌ ... أتت عن جلال الدين أكرمِ ملحود
تقي نقي طالما طرق الدجا ... بكف قنوتٍ كف من هدبه السودِ
ومن كان يحيى الليل لا مد دمعه ... براق وليس الجنب منه بممدود
ويشرق بالأسرار أهل قلبه ... فيصبح بالعرفان موطن توحيد
وأكرمٌ من غيثٍ وليه ... وأرأفُ من أم بأضعفِ مولود
عزوف عن الأسباب جذ حبالها ... فجذت بسيف من تقى غير مغمود
تخلى عن الدنيا وفارق أنسها ... وما طرفه يوماً إليها بمردود
ومثرٍ من التقوى فقير بدانة ... إلى الله مجذوب بأكمل تجريد
أخي وحبيبي مؤنسي ومصاحبي ... ومن كان عندي يومُ رؤيته عيدي
ومن كنت أتيه فيفرجُ أنسه ... إسارَ فؤادٍ في يد الحظ مصفودِ
بكيت وما يُجدي البكاءُ وخطبُه ... أشد ولكن ذاك غايةُ مجهودي
وذاك لأجلي لا له إذ مدامعي ... شفاءٌ لما في أضلعي من جوى مودي
وإلا فما أغنى عن الدمع إذ سرى ... عن المنزل الغاني إلى دار تخليد
وإني لأرجو اللطف بي في لحاقة ... فلم يبق إلا أن أنادي كما نودي
أمن بعد قربي من ثمانين حجةً ... يخادعني إخلاء نفسي وتفنيدي
وقد سار قبلي من تقدمتُ عصره ... ونمتُ كأني بالردى غيرُ مقصود
سقى جَدثاً قد حله صوبُ رحمةٍ ... يسح بتكريرٍ عليه وترديد
ولو لم أسل القلبَ عنه برؤيتي ... أخاه لأودى بي بكائي وتسهيدي
ولكن لي في أنسه بعد وحشةٍ، ... لها حرقٌ في مهجتي أي تبريد
وقد كانت الأيام تبسط لي المنى ... بصحبته قدماً فأنجزت موعودي
ولي في ابنه ظن جميل وإنه ... سيخلفه في الزهد والنسك والجود
فأحسن رب الناس فيه عزاءهُ ... وأجره فالأجرُ أفضلُ موجود
وجاد ثرى ذا نوء عفوٍ ورحمة ... وزان ذرى ذا نوءُ عز وتأييد
إبراهيم بن محمد بن سعيدالصدر جمال الدين الطيبي السفار، رئيس العراق، والمعروف بابن السواملي كان في أول أمره له مالٌ يسير، وسافر وأبعد في الصين، وفتح الله عليه، فاكتسب أموالاً جمةً، وبلغ الغاية، وتعدى في المال مدى النهاية، واستقبلَ من حاكم العراق بلاداً كباراً، وأماكن لا تلحق الريح لها غباراً.
وكان يؤدي المقرر، ويخصه باللؤلؤ المدور مع رفقة بالرعية، وتخفيف الوطأة عنهم في كل بلية، حتى أحبه الناس طراً، وصار غالبُ أهل تلك البلاد بإحسانه، عبداً، وإن كان حراً وصار بنوه ملوكاً مطاعين، ومطاعيم في النادي وفي الهيجا مطاعين.
ولي ابنه سراج الدين عمر نيابة الملك بالمعبر، وابنه محمد مالك شيراز، وابنه عز الدين كافل جميع الممالك التي لفارس.
وكان جمال الدين المذكور يعتقد في أهل الصلاح والخير، ويمدهم بالمؤونة والمير، يبعث في كل عام إلى الشيخ عز الدين الفاروثي ألف مثقال، ثم إن التتار مالوا عليه بالأخذ لماله حتى ضعضعُوه، وأكلوه بعدما احتلبوه وارتضعوه. وقلت أمواله، فانتقل إلى واسط لما دبرت الطيب، ولم يكن العيش يصفو بها ولا يطيب.
قال ابن منتاب: قال لي السواملي: ما بقي لي سوى هذا الحب، وفيه ثمانون ألف دينار، وبعث به إلى الصين، فكسب الدرهم تسعة، ولم يزل إلى أن نزل الضريح، وعلم أنه ما يوجد عليها مستريح.

وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة في ثاني عشري جمادى الأولى بشيراز.
والسواميل: هي الطاسات عند أهل السواد بواسط.
إبراهيم بن محمد بن قلاوونهو الأمير جمال الدين، ابن السلطان الملك الناصر، محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي.
زوجهُ والده بابنة الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا.
كان أكبر من أخيه الملك المنصور سيف الدين أبي بكر كان والدهما قد جهزهما إلى الكرك، لّما كان أخوهما أحمد في الكرك، فأقاما هناك مدة إلى أن ترعرعا، وأقدمهما القاهرة، فأمر كلاً منهما طبلخانة، ولم يلقب أحداً منهما بملك ولا غيره، بل كان الأمراء ومن دونهم يقولون: سيدي إبراهيم، سيدي أبو بكر.
وكان إبراهيم هذا قد انتشا، وقارب أن يكون ليثاً بعد أن كان رشاً، طر شاربه، وبقل عارضه، وكاد يفترس من يدانيه أو يعارضه، لكنه جدر، وجاءه الأجل الذي قدر، فما رآه والده في ضعفه الذي اعتراه، ولا مكن أحداً من إخوانه أن يراه. ولما تكامل جدريه نجوماً، وصار ذلك لشياطين ناظريه رجوماً، قصف غصنه، وخسف حصنه، فأمر السلطان القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص بأن يدفنه عند عمه الأشرف خليل، وألا يعلم ذلك حقير ولا جليل، وذلك سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
إبراهيم بن محمدالإمام الفاضل برهان الدين السفاقسي المالكي كان هو وأخوه شمس الدين محمد من كبار المالكية، كان هذا برهانُ الدين قائماً بالعربية، شائماً بروق غوامضها اللامعة بما عنده من الألمعية. أعرب القرآن العظيم في أربعة أسفار كبار، أعاد بها لهذا الفن ما كان قد خمُل وبار، تكلم فيها على كل غامض، وحسده عليها غيره ممن لم يصل إلى ذلك وقال: عنقودها حامض، وشرح كتاب ابن الحاجب في الفروع، وأتى فيه بفوائد من حسنها تروق، ومن جزالتها تروع، إلا أنه لم يكمله، فنقص يسيراً، وجعل طرف التطلع لتمامه حسيراً.
ولم يزل يشتغل ويدأب، ويشعبُ صدعَ العلم ويرأب: إلى أن وافاه حينه، وقضي من الأجل دينه.
توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثٍ وأربعين وسبع مئة، أو في أواخر سنة اثنتين وأربعين.
إبراهيم بن محمدالإمام الزاهد المحدث شيخ خراسان، صدر الدين أبو المجامع ابن الشيخ سعد الدين بن المؤيد بن حمويه الجويني الشافعي الصوفي.
سمع من الموفق الأركاني صاحب المؤيد الطوسي، ومن جماعة بالشام والعراق والحجاز، وعني بهذا الشأن جداً، وكتب وحصل.
قدم الشام سنة خمس وتسعين وست مئة، وحج سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، ولقيه الشيخ صلاح الدين العلائي، وخرجَ لنفسه سباعيات بإجازات.
وسمع مسلماً من عثمان بن موفق وسمع ببغداد من الشيخ عبد الصمد، ومن ابن أبي الدينة، وبان الساغوجي، وابن بلدجي، ويوسف بن محمد بن سرور الوكيل.
وكانت له صورة إلى تلك البلاد الكبيرة، ومنازلهُ في صدور التتار أثيرة، تتضاءل النجوم لعلو قدره، وتنكشف الشموسُ الضاحية لطلوع بدره، لا يصل أحد إلى لمس كمه، ولا يطمع القان الأعظم في اعتناقه وضمه. ومما يؤيد هذه الدعوة، ويحقق هذه الرجوى أن القان غازان أسلم يده، وبترك بملاقاة جسده.
وأخبرني الشيخ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى، قال: أنبأني الظهير ابن الكازروني، قال في سنة إحدى وسبعين وست مئة: اتصلت ابنة علاء الدين صاحب الديوان بالشيخ صدر الدين أبي المجامع، إبراهيم بن الجويني، وكان الصداق خمسة آلاف دينار ذهباً أحمر.
وللشيخ صدرُ الدين مجاميعُ وتواليفُ، وله إجازة من نجم الدين عبد الغفار صاحب الحاوي.
ولم يزل في تيار عظمته الطافح، وسيل وجاهته السافح، إلى أن سكن في الرّمس، وذهب كأمس.
وتوفي رحمه الله تعالى خامس سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنةُ بضعٍ وأربعين وست مئة.
إبراهيم بن محمد بن أحمد

بن محمد بن أحمد
الشيخ برهان الدين، أبو إسحاق الواني.
بواو بعدا ألف ونون، رئيس المؤذنين بجامع بني أمية.
سمع من إبراهيم بن عمر بن مضر الواسطي، وأيوب بن أبي بكر بن الفقاعي، وابن عبد الدائم.

كان شيخاً حسن الشيبة، ظاهر الوقار، والهيبة، مطاعاً في قومه، مراعى في التقديم عليهم في ليله ويومه. أضر قبل موته بسنوات، وفقد لفقد نظره من المرئيات الشهوات، وكان يطلع المئذنة ويؤذن بعد الجماعة وحده، ويؤدي الأذان بصوتٍ لا تذكر نغمةُ الأوتار عنده، والناس يقولون: هو يودع الأذان، ويودع الدر صدف الأذان.
ولم يزل على هذه الحال إلى أن رأى الواني من الموت ألوناً، وجاءه بعدما توانى.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الخميس سادس صفر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، وصلي عليه ظهر الخميس بالجامع الأموي، ودفن بمقبرة باب الصغير، وأجاز لي سنة ثلاثين وسبع مئة.
إبراهيم بن محمد بن أبي بكر الخزرجي

البناني الدمشقي
الشيخ الصالح العالم برهان الدين.
روى الحديث عن ابن عبد الدايم، وسمع من ابن النشبي، وابن أبي اليسر وجماعة، وكان من طلبة الشيخ يحيى المنبجي المقرئ.
انتقل إلى القدس، وكان إمام قبة الصخرة بالمسجد الأقصى. وتقدم له اشتغال كثير في الفقه. وكان يبحث ويناظر الفقهاء، ثم إنه تزهد، وصحب ابن هود مدة، وسافر معه إلى اليمن، وحج وعاد وأقام بدمشق مدة، ثم إنه عاد إلى القدس، وأقام به سنين إلى أن مات، رحمه الله تعالى، في يوم الأحد خامس شعبان سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
إبراهيم بن محمدالفقيه الفاضل برهان الدين المصري كان شاباً، لم يكمل الثلاثين. توفي في نصف شهر رمضان سنة خمس عشرة وسبع مئة، ودفن بمقابر الباب الصغير.
وذكر أنه حفظ الوسيط، وعرض منه نحو النصف، وحفظ أربعين الإمام فخر الدين الرازي.
أقام بالمدرسة الظاهرية مدة، وكان يلازم النسخ والاستنساخ.
إبراهيم بن محمد بن عيسى الأمير شمس الدين بن الأمير الكبير بدر الدين بن التركماني.
سمع الحديث، وحج وتوفي بالقاهرة بداره جوا باب البحر في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وكان فيه مروءة ومكارم أخلاق، وصلي عليه بجامع دمشق صلاة الغائب.
إبراهيم بن محمد بن يوسفالقاضي جمال الدين الحسباني يضم الحاء المهملة، وسكون السين المهملة، وباء ثانية الحروف، وألف ونون.
نائب الحكم العزيز بدمشق لقاضي القضاة تقي الدين السبكي.
لما توفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وخمسين وسبع مئة عن نيف وثمانين سنة، صلى نائبُ الشام الأمير علاء الدين المارداني عليه.
كان شديداً في أحكامه، سديداً في نقضه وإبرامه، ولا يراعي ولا يداهن مخلوقاً، ولا يعرف من كان مرموقاً بالأبصار أو موموقاً، قد تلبس بالصلابة، وتأنس بالتصميم دون اللين، فلا يجيب من دعا به إلى دعابة، وكان قاضي القضاة يعتمد في الأحكام المعضلة على حكمه المسدد، وتحقق أنه تفرد في عصره بهذا الخلق، وتفرد، إلى أن جاء الحسباني، ما لم يكن في حسابه، وانفرد بعمله تحت الأرض وخلا به ولم يخلف مثله، ولا من استظل بأنه وأثله، رحمه الله تعالى.
إبراهيم بن محمد بن ناهضالشيخ الإمام الأديب تقي الدين أبو إسحاق المعروف بابن الضرير - تصغير ضرير - الحلبي.
كان إمام الفردوس بحلب، ومعه أيضاً وظيفة في البيمارستان الذي أنشأه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي بحلب. وهذا تقي الدين كان أديبَ حلب، وأحد من امترى أخلاف الأدب وحلب. وأهدى إلى بني الزمان نفائس القريض وجلب، وسلب الذهن بعبارته الفصحى وخلب. وجد في جمع الدواوين وكتبها، وذهبها بخطه وهذبها. كتب ما لا يحصى، ونقب عن مصنفات أهل عصره واستقصى.
ولم يزل يكتب ويجمع، ويسمو بهمته إلى تحصيل ما يسمع، إلى أن فتح الموت لابن الضرير عينيه، وخر صريعاً لليد والفم بين يديه.
وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وسبع مئة. ومولده أول سنة 695ه.
كان هذا تقي الدين أديب حلب، ومأوى من يرد إليها من الشعراء والأدباء الغرباء.
كبت بخطه شيئاً كثيراً من كتب الأدب ومصنفات أهل عصره، وكان له ذوق في الأدب، ويحفظ شعراً كثيراً للمقدمين والمتأخرين. ولم أسمع له نظماً.
ولما وردتُ إلى حلب في سنة ست وخمسين وسبع مئة كتب بخطه من تصانيف توشيع التوشيح، وكتاب نصرة الثائر على المثل السائر، وغير ذلك، وسمع كتابي الروض الباسم وغيره. وعلى الجملة كان فريد زمانه في بابه.
ورثاه علي بن الحسين الموصلي بقوله:

يا ابن الضرير كم عينٍ أضر بها ... مرآك فوق سرير الموت محمولا
قضيتَ عمرك في الفردوس مشتغلاً ... ومذ قضيت إليه كنت منقولا
إبراهيم بن محمود بن سلمان

بن فهد الحلبي
القاضي الرئيس الكاتب البليغ جمال الدين أبو إسحاق كاتب السر الشريف بحلب، أحد من كتب المنسوب الفائق، وأبرزه وهو أتقى من الأحداق، وأنقُ من الحدائق، كأنه طروسه خمائل، وسطوره أعطافُ غيد موائل، لا يشبع الناظر من تأملها، ولا تشكو القلوب من تحملها وتجملها، وإلى أخلاقٍ يتعلم منها نسيم الصبا، وتثني عليها النفحاتُ من زهر الربا، ومفاكهةٍ ألذ من مسامرةً الحبيبِ، وأشهى من التشفي بأذى الحسود والرقيب.
وكان يستحضر كثيراً من شعر المتأخرين، وتراجم أهل الآداب والصلاح من المعاصرين، وله نظم يروق ونثر يفوق.
ولم يزل يتولى ويعزل من كتابة السر، ويفعل ما تصل إليه مقدرته من البر، إلى أن حل به الحين، واتخذ له من باطن الأرض أين.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم عرفة سنة ستين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبعين وست مئة في شعبان.
وكان قد توجه مع والده إلى الديار المصرية، وباشر هناك كتابة الإنشاء، وسمع من الأبرقوهي وغيره في ذلك العصر، وكان القاضي علاء الدين بن الأثير يألف به ويأنس ويركن إليه، ولما عزل القاضي عمادُ الدين بن القيسراني من كتابة سر حلب: جهز القاضي جمال الدين إليها، فأقام بحلبَ قريباً من ست عشرة سنة، وعزله الملك الناصر محمد بن قلاوون بتاج الدين ابن زين.
حضر في واقعة لؤلؤ مع الحلبيين سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وطلب إلى القاهرة، ورسم عليه في دار الوزارة مُدة مديدة، ثم أفرج عنه.
ولما توجه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى إلى مصر في بعض سفراته، طلبه من السلطان، فرتب في جملة كتاب الإنشاء بدمشق، وصاحب الديوان إذ ذاك ابن أخيه القاضي شرف الدين أبو بكر، فأقام بها إلى أن عزل ابن أخيه، وعزل هو بعزله، فأقام في بيته بطالاً إلى أن طلبه السلطان الملك الناصر محمد إلى مصر، فتوجه إليها، فأقام هناك بطالاً في سنة ثمان وثلاثين وما بعدها إلى أن توفي صلاح الدين يوسف بن عبيد الله فرتب عوضه في كتاب الإنشاء بمصر، وسلم إليه القاضي علاء الدين بن فضل الله ديوان الإنشاء بمصر، فكان ينوبه في ذلك، ثم إنه رتب في توقيع الدستِ قُدام السلطان، وقدام النائب.
ولما تلوى القاضي ناصر الدين بن يعقوب كتابة السر بدمشق في سنة سبع وأربعين وسبع مئة، رسم للقاضي جمال الدين بعوده إلى كتابة سر حلب، فتوجه إليها مرة ثانية، ولم يزل بها إلى أن عزل بالقاضي زين الدين عمر بن أبي السفاح في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ورتبَ له ما يكفيه، ثم عزل ابن السفاح بالقاضي شهاب الدين الشريف، فأقام قليلاً، وعزل في جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأعيد القاضي جمال الدين إلى كتابة سر حلب ثالث مرة، ولم يزل بها وابنه القاضي كمال الدين محمد يسد الوظيفة إلى أن عزل القاضي بدر الدين محمد ناظرُ الجيش بحلب، وهو ابن القاضي جمال الدين. وطلب هو ابنه وابن أخيه إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وسبع مئة، فرسم بعزله عن كتابة السر، ورتب له في كل شهر مبلغ خمس مئة درهم، ورسم لي أنا بالتوجه إلى كتابة سر حلب مكانه، وأقام هو في بيته على راتبه إلى أن توفي رحمه الله تعالى فكتبت أنا إلى ولده القاضي كمال الدين محمد إعزيه فيه:
مضى من كان للدنيا جمالاً ... فعزوا في مصيبته الكمالا
كمال الدين لا تجزع وسلم ... لأمر شاءهُ الباري تعالى
أبوكَ مضى ولم نعرف نظيراً ... لهُ فيما حواهُ ولا مثالا
تعالى في مناصبه ولكن ... تواضع عند ذاك وما تعالى
وكان له إلى الفقراء ميلٌ ... أنا لهم به جاهاً ومالاً
فما عرفوا سؤالاً منه إذ لم ... يكن من غيره لهمُ سوى لا
فما يوماً نوى لا في نداهم ... وبرهم وأولاهم نوالا
وما مالاً على أحد رآه ... عليه الدهرُ قد أخنى ومالا
وكم والى أخا ضعف وفقر ... وأولاه المبرة ثم والى

بود ما تغير قط يوماً ... على من يصطفيه ولا استحالا
ولطفٍ كالنسيم أتى رياضاً ... فهب على أزاهرها شمالاً
وعمر مدة يروي حديث ال ... رسول وكأن ذاك له اشتغالا
وكم من سيرة للمصطفى قد ... تأنق في كتابتها وطالا
أبرزها كخودٍ في حلي ... تهاوت في تثنيها دلالا
وما بالي بصربٍ أو بعزل ... ولم يشغل له في ذاك بالاً
توكل في الأمورِ على إله ... يدبر شأنه حالاً فحالا
تولى السر في حلبٍ زماناً ... فما احتاجت جلاداً أو جدالاً
وأغني الجيش عن حركات غزو ... لما ركبوا السهولة والجبالا
ووفرهم فما هزوا رماحاً ... ورفعهم فما سلوا نصالا
وكم قد ساس في سيس أموراً ... رأى تكفورها فيها الخبالا
فينظر يقظة خيلاً ورجلاً ... وتغروه مهابتهم خيالاً
برأي كالحسام الغضب ماض ... أفادته تجاربه صقالاً
وخط لو رآه الزهر غضاً ... لجود تحت أحرفه مثالا
ونثر تكرعُ الأسماع فيه ... على ظمأ فترشفه زلالا
وكم نظم ترقرق في انسجام ... فلولا الطرس يمسكه لسالا
فل نر مثل هاتيك السجايا ... ولا أزهى ولا أزكى خلالا
أفاض الله من كرم عليه ... مدى الأيام رحمه سجالاً
وكتبتُ مع هذه الأبيات نثراً ذكرته في الجزء السادس والأربعين من التذكرة لي.
وكتب هو إلي لغزاً، وأنا وهو في القاهرة سنة خمس وأربعين وسبع مئة:
إن اسم من أهواه تصحيفه ... وصفٌ لقلب المدنف العاني
وشطره من قبل تصحيفه ... يقاد فيه المذنب الجاني
وإن أزلت الربع منه غدا ... مصحفاً لي منه ثلثانِ
وهو إذا صحفته ثانياً ... اسم المحبوب لنا ثاني
فكتبتُ أنا الجواب إليه عن ذلك وهو في غلبك:
لعزك يا من رؤيتي وجهه ... تكحل بالأنوار أجفاني
هذي ضميري لحمي حله ... وأيد القول ببرهاني
إن زال منه الربع مع قلبه ... فإنه للمذنب الجاني
عليك تصحيفُ الذي رمته ... فالقلب في تصحيفه الثاني
ويبني وبينه محاورات ومكاتبات ذكرتها في كتابي ألحان السواجع
إبراهيم بن هبة الله بن عليالقاضي نور الدين الحميري الإسنائي الشافعي.
كان فقيهاً فاضلاً أصولياً ذكي الفطرة.
أخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين هبة الله بن عبد الله القفطي، والأصول عن الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني، والنحو عن الشيخ بهاء الدين بن النحاس وصنف في الفقه والأصول والنحو.
ولي القضاء بأقاليم منها قوص، وأسيوط، وإخميم، وولي منية زفتا ومنية ابن خصيب في أوائل عمره. وابتداء أمره.
وكان حسن السيرة في حكمه، مرضي السيرة في طيشه وحلمه. طلب منه كريم الدين الكبير مالاً من زكاة حاصل الأيتام، ودفع شيء من ذلك ليستعين به على تلك المهام، فلم يعطه شيئاً، وقال: العادة جرت بأن نصرف ذلك إلى الفقراء دون غيرهم، ومتى عدلنا به عنهم قصصنا جناح طيرهم. ولما عاد كريم الدين إلى القاهرة بالغ في أمره مع قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وبذل في صرفه جهد الاستطاعة، فما وافق على عزله، ولا نقض برم غزله، إلا أنه صُرف بعد ذلك بمدة وحضره إلى القاهرة، وأقام بها لأمرٍ ما أطاق رده.
وكان قد قرأ على الشيخ نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف الأصفوني الجبر والمقابلة، ومن هذا النوع وما عادله، وقرأ الطب على شهاب الدين أحمد المغربي، واختصر الوسيط للغزالي، وصحح ما صححه الرافعي على التوالي، وشرح المنتخب في الأصول، وقرب المدخل إليه والوصول. ونثر ألفية ابن مالك وشرحها، وجعل فيها إطلاق الأذهان ومرحها.

ولم يزل بالقاهرة مقيماً بعد صرفه، وصبر قلبه على الأذى وغض طرفه، إلى أن حدث بعنقه طلوع، عدم معه الهجوعَ، ففارق أترابه، واستجن ترابه، ووصى للفقراء بشيء من ماله، وختم بذلك صالح أعماله، ووقف وقفاً على جهة البّر، وتقرب بذلك إلى عالم السر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
إبراهيم بن أبي الوحشابن أبي حليقة، علم الدين بن الرشيد.
رئيس الأطباء بمصر والشام.
عين، وهو نصراني قبل أن يُسلم، أن يكون بطريكاً للنصارى بمصر، فما وافق على ذلك، وأسلم.
كان المذكورُ يشارك في فنون الأدب، وينسل مع من نسل إليه من كل حدب. وهو الذي عمل شراب الورد الطري بالشام، ولم يعهد ذلك قبله على مرور الأيام.
ولما مرض الظاهر بيبرس بالخوانيق لازمه علم الدين في مرضه، وأتى إليه بما كان فوق غرضه، فاتفق نضج الألم الناتئ في حلقه، ولم يجسر أحدّ يمدّ يده غليه لشراسة خُلقه، فمدّ علم الدين يده إلى فيه، وأدخلها، وقرص الورم، فانفجر لوقته، وخرجت المواد التي حار اللبيب في وصف ألمها ونعته، فعوفي السلطان من ألمه المبرح، ووهبه الأمراء شيئاً يطول في ذكره الشرح، فما سمحت نفس السلطان له بمجموع ما وهب، وخصه ببعض ذاك الذي حصل ونهب، وشال الباقي إلى الخزانة، وقال: خروج هذا خفة وعدم رزانة.
ولم يزل علم الدين على حالته إلى أن نزلت به مصيبة ما لها علاج ولا رقى، ونزل حفرة لا يجد له منها مرتقى.
وقيل: إن تركته بلغت ثلاث مئة ألف دينار، وهذا أمر تجاوز الحد والمقدار.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة.
إبراهيم بن لاجين بن عبد اللهالشيخ الإمام العالم الفاضل البليغ برهان الدين الأغري، بفتح الغين المعجمة، الرشيدي الشافعي، خطيب الجامع الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر بك بحكر جوهر النوبي بالقاهرة.
أخذ القراءات عن الشيخ تقي الدين - الصائغ، والفقه عن الشيخ علم الدين العراقي، والأصول عن الشيخ تاج الدين الباربناري، والفرائض عن الشيخ شمس الدين الرواندي، والنحو عن الشيخ بهاء الدين بن النحاس، العلم العراقي، وأثير الدين أبي حيان، والمنطق عن سيف الدين البغدادي. وحفظ الحاوي والجزولية والشاطبية، وأقرأ الناس في أصول ابن الحاجب وتصريفه وفي التسهيل. وكان يعرف الطب والحساب وغير ذلك.
ولخطبته في النفوس تأثير، وللدموع لها على الخدود جري وتعثير، ترق له القلوب القاسية، وتتذكر النفوس الناسية. وعلى قراءته في المحراب مهابة وفصاحة، ولها إلى الجوانح جنوح وفي الجوارح جراحة. لم أرَ في عمري مثل اتضاعه على علو قدره، ولا رأيت ولا غيري مثل سلامة صدره. مطرح التكلف، راضٍ بالقعود عن الدنيا والتخلف، يحمل حاجته بنفسه، ولا يحتفل بمأكله ولبسه.
تخرج به جماعة وانتفعوا، ورد بمواعظة أهل الجرائم عن طريقهم واندفعوا.
وعرض عليه سنة خمس وأربعين وسبع مئة قضاءُ المدينة الشريفة وخطابتها فامتنع، وانخزل عن قبول ذلك وانجمع.
وله نظم إلا أنه ما أظهره، ولا كلف خاطره أن يؤلف جوهره، إما عدم رضى بما يأتيه منه، أو تورعاً عن قبوله ونفوراً عنه.
ولم يزل على حاله في أشغاله الطلبة، والإمامة والعمل على ما فيه خلاصه يوم القيامة، إلى أن سار إلى الآخرة، وصار بالساهره.
وكانت وفاته بالقاهرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
وقلت أرثيه:
ملتُ بعدَ البرهان للتقليد ... في انسكاب الدموع فوق الخدود
ما أنا واثقاً بتسفاح دمعي ... خان صبري الأمينُ بعد الرشيد
كيف لا تسفح الدموعُ على من ... كان للطالبين خير مفيد
قال لما احتواه طاعونُ مصر ... كم قتيل كما قتلتُ شهيدِ
فهو في قبره مع الحُور يلهو ... ببياض الطلى وورد الخدود
ما تملت جفونهُ ببدور ... قبلها في براقع وعقود
يا عذولي على تعذر صبري ... في مُصاب عدمتُه في الوجود
كان إن قام في الأنام خطيباً ... علم الناس كيف نثر الفريد
ثم أجرى الدموع خوفاً ولو ... أن قلوب العُصاةِ من جلمود

بكلام مثل السهام مصيبا ... تٍ تشقّ القلوبَ قبل الجلود
حزنَ مستعمل الكلام اختياراً ... وتجنبن ظلمة التعقيد
ما على زهده وفضل تقاه ... علومس قد حازها من مزيد
أيها الذاهبُ الذي نحن فيه ... في لظى وهو في جنان الخلود
لا ترع في المعاد حيث وجوه ... الناس فيه ما بين بيض وسود
لك في موقف القيامة وجهّ ... يخجل البدر في ليالي السعود
وثناءً كأنما ضُربَ العن ... بر فيه بماء وردٍ وعود
قنتعت أنفسُ البرية إذ غبت بع ... يش مُعجل التنكيد
فسقى الله تربة أنت فيها ... كل يوم مضي سحائب جُود
إبراهيم بن يونسابن موسى بن يونس بن علي الغانمي البعلبكي.
رحل وسمع وعلق وكان جيد القراءة فصيحاً، حسن الود صحيحاً.
سمع بالبلاد أشياخ عصره، وعلق الفوائد وغيرها من أهل مصره، وارتحل إلى الحجاز، وسمع هناك وفاز، وجاور بمكة، وكتب بها من الفوائد شكه.
ولم يزل على حاله إلى أن حل به غريم أجله، وقابل مهله بعجله.
توفي، رحمه الله تعالى، في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. نقلت من خطه له:
قال لي العاذلُ يوماً: ... أنت بدري حنيني
قلت: لا، قال: فمصري، ... قلت: لا، إني حُسيني
إبراهيم بن يحيىابن أحمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الشيخ الفقيه الإمام المحدث عمادُ الدين أبو إسحاق البصروي، ثم الدمشقي الحنفي.
قرأ القرآن وسمع الحديث في سنة ثلاث وسبعين وست مئة وبعدها. وقرأ على الشيوخ كثيراً من الكتب والأجزاء، وكان مشهوراً بحسن القراءة.
ومن شيوخه: ابن عبد الدايم، وابن أبي اليُسر، وأيوب الحمامي، ومظفر بن الحنبلي، وابن النشبي، ابن عبد.
قال شيخنا علم الدين: وجمعت له مشيخة عن نحو ثمانين شيخاً.
ثم إنه بعد ملازمته الطلبة والاشتغال بالعلم، ودخل في الجهات الديوانية، وخدم بديوان الحشر، ومهر في ذلك، وحصل أموالاً، ثم إنه رأى رؤيا أوجبت له التوبة والإقلاع، فحج وترك الديوان، ولازم المسجد والتلاوة، وبقي على ذلك نحو عشرين سنة، وحصل له صمم، وقوي به، فكان لا يسمح إلا بمشقة، وكان يحدث من لفظه.
ومما قرأه صحيحُ مسلم والترغيب والترهيب على ابن عبد الدايم وغير ذلك.
ومما انفرد به أنه قرأ الكافية الشافية على ابن مالك.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في شهر رجب سنة خمس وأربعين وست مئة.
إبراهيم بن يوسفالقاضي الرئيس المؤتمن أمين الدين ناظر الجيوش بالديار المصرية.
كان متصفاً بالأمانة المفرطة، ملتحفاً بالعفة التي من لم يطلع على أمره يعتقد أنها مغلطة.
حاول السلطان الملك الناصر محمد أن يأخذه من أستاذه مرات، وتحيل عليه بأنواع من وعود الإحسان والمبرات، فما وافق مخدومه، ولا هو على ذاك، وتحيد جهده، وتحيل، ولم يقع في تلك الأشراك.
وكان كاتباً خبيراً، عارفاً بأمور الديوان بصيراً، وعنده مشاركة في علوم، وممارسة لما يتصف به أهل العلوم والفهوم، وفيه سكون مفرط وعدم رهج، وانجماع سلك به في الدهر فرد نهج، وله عبارة إذا ترسل، ومقاصدُ بليغة بها يتوصل إلى مراده ويتوسل، ما خدم عند أحد إلا وسلم إليه قياده، ورأى أن بيده صلاحه وفساده.
ولي نظر الجيوش بالديار المصرية في أيام الملك الصالح إسماعيل، فباشره بقعدد وسكون، وتقرر في ذهن أولياء الأمر أنه مهما رآه هو الذي يكون. وكان محظوظاً في خدمه، والسلام والأمانة، نعم العونُ لأرباب السيوف والأقلام.
ولم يزل إلى أن بلغ نهاية أمده، وتفرد في قبر بمعتقده.
وتوفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة أربع وخمسين وسبع مئة.

وكان في أول أمره يكتب عند الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب بدمشق، ولما توجه إلى مصر أخذه معه، وهناك أسلم، وكان أولاً سامرياً، وكان يميل إلى عقله، ويعتمد إلى تصريفه، ولما أمسك الحاجب أخذه الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار الناصري، فمال إليه، واعتمد عليه، ولما مات أرسلان أخذه الأمير سيف الدين طشتمر حمصّ أخضر عنده، فدخل إليه وعلى الأمير جملة من الديوان فما كان عن قليل حتى وفى ديونه وجعل في خزانته جملة من الحاصل، فأحبه وزاد في تعظيمه وإكرامه، ولما عاد الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب إلى الديار المصرية بعد نيابة وإكرامه، ولما عاد الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب إلى الديار المصرية بعد نيابة صفد أراد عوده إليه، فتعذر ذلك، ودخل طشتمر إلى السلطان، وسأله في إبقاءه عنده، فرسم له بذلك، ولكن بقي أمين الدين. يتردد إلى باب الحاجب كل قليل، وما جسر على مقاطعته، وأراد السلطان الملك الناصر مراتٍ أن يأخذه ويستخدمه في نظر الدولة أو غير ذلك من الوظائف، فيدخل طشتمر على الخاصكية المقربين في ذلك، فيسألون له السلطان في ذلك، وكان طشتمر ما يفارقه، ولما أخرج لنيابة صفد أخذه معه. ولما توجه إلى حلب أخذه معه. ولما دخل البلاد الرومية أخذه معه إلى الروم. ولما عاد منها عاد معه إلى مصر، ولما مات طشتمر رحمه الله طلبه الأمير سيف الدين قماري أخو بكتمر الساقي، وكان في الأيام الصالحية أستاذ الدار فأقبل عليه إقبالاً زائداً، وعظمه، ولما مات جمال الكفاة، ولاه الصالح إسماعيل نظر الجيش، فأقام فيه إلى آخر أيام الصالح. ثم إنه حضر إلى القدس وأقام به، وأوقف عليه قرية تعمل في السنة بمبلغ، وحضر في أثناء ذلك إلى دمشق، ثم توجه إلى القدس. وأقام به، ولما أفرج عن الأمير سيف الدين شيخو، وأعيد إلى مكانه، طلبه إلى مصر، وجعله ناظر ديوانه، وكان عنده في الذروة من الوجاهة، واستمر عنده إلى أن مات رحمه الله في التاريخ، والله أعلم بسريرته، فإنّ الناس كانوا يتهمونه في دينه.
وكتبت إليه وأنا بالقاهرة في سنة خمس وأربعين وسبع مئة أتقاضاه نجاز منشور بإقطاع لابن أختي:
عجب الناس إذ جعلتُك قصدي ... دُون قومٍ ما فضلهم بمبين
قلت رأي الرشيد للخير هادٍ ... إذ غدا واثقاً بخير أمين
إبراهيم القاضي جمال الدين

جمال الكفاة
ناظر الدولة والجيوش والخاص، وهو ابن خالة القاضي شرف الدين النشو، والنشو هو الذي استسلمه واستخدمه مستوفياً في الدولة، ثم إنه استخدمه عند الأمير سيف الدين بشتاك الناصري، فلبث عنده مدة، ثم إن الناس رموا بينه وبني ابن خالته النشو، فوقعت بينهم المعاداة الصعبة على سوء ظن من النشو وزيادة توهم، ولم يزل الأمير بينهما إلى أن أمسك النشو، ومات هو وجماعته تحت العقوبة على ما سيأتي في ترجمته.
وتولى جمال الكفاة نظر الخاص ونظر الجيش، ولم يتفق ذلك قبله لغيره، ولم يزل في عز وجاهٍ وتمشيةِ حالِ مخدومه بشتاك إلى أن توفي السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وولي الملك ولده أبو بكر، وخلع وولي الأشرف كجك، وخلع وهو على حاله، وأحبه قوصون، وبالغ في إكرامه، ثم حضر الناصر أحمد من الكرك، واستمر به على حاله، وأخذه معه إلى الكرك، وأقام عنده، فلما تولى الملك الصالح إسماعيل وهو في الكرك بقي مدة ووظيفتاه ليس بهما أحد، فتولى مكين بن قروينه الجيش، وبقي أخو جمال الدين - الكفاة - في الخاص يسده إلى حين حضور أخيه، فلما حضر جمال الكفاه من الكرك تسلم وظيفتيه في الجيش والخاص، وبقي كذلك مدة وأضيف إليه نظر الدولة أيضاً، وصار هو عبارةً عن الدولة، ثم إنه أمسك وحمل شيئاً من الذهب تحت الليل وأفرج عنه، وخُلع عليه، وأعيد إلى وظائفه، ثم إنه أمسك، وفعل كالمرة الأولى، ثم أخرج عنه، وأعيد، وتمكن من السلطان الملك الصالح إسماعيل، وعظم عنده، وكتب له الجناب العالي، ولم يكتب ذلك إلا للوزير، ثم رسم له بإمرة مئة، وتقدمة ألف، وأن يلبس الكلوته، ويلعب الكرة مع السلطان في الميدان، فما كان إلا وهو في هذا الشأن، هل يقبل ذلك أو لا حتى عمل عليه، وأمسك هو وجماعة من مباشري الدولة، فتوهمها كالواقعة التي قبلها، فقتل هو بالمقارع وولده إلى أن مات هو تحت العقوبة، ورموه بأمورٍ الله أعلم بصحتها من فسادها.

وكان في أول أمره عند الأمير علاء الدين طيبغا القاسمي كاتباً، ومدة مباشرته الخاص وما معه ست سنين.
وكان في أول أمره عند الأمير علاء الدين طيبغا القاسمي كاتباً، ومدة مباشرته الخاص وما معه ست سنين.
وكان رحمه الله تعال حسن الشكل، مليح القامة، حلو الوجه ظريف العمامة، يتحدث بالتركي جيداً، ونم في ذلك اللسان عن فصاحته متحيداً، وما كتب أحدٌ أقوى من علامته ولا أكبر ولا أحسن، ولا أقعد من حروفها ولا أمدّ ولا أمتن، بزته مليحة، وعبارته فصيحة، وفكرته متسرعة، وخبرته عن صحة ذهنه متفرعة، وشجاعته بالإقدام متدرعة، وهمته عن الرذائل متورعة، مع لطف عشرة، وظرف تنديب يرقص إذا أبدى بشره، يحب الفضلاء ويدنيهم، ويعينهم بالجود ويغنيهم، يقضي أشغالهم، ويحمل أثقالهم، وكان يولعُ بفن التصحيف، ويأتي فيه بالرائق الظريف، قال يوماً ونحن جلوس في دار ابن خالته، وهو ما هو في عظمته وجلالته، وقد جرى تصحيف عجيب، بين مبتدي ومجيب، فقال لي: هو بحبل يشنق، فما مرت بأذن أحد إلا وأطرق، وغاص في بحرها واستغرق، وقمت أنا إلى الطهارة لقضاء ما لا بد منه، ولا غنى لكل أحد عنه، وخاطري بما قاله متعلق، وبرقُ فهمها غير متألق، وفي ذهابي ملتُ إلى قلبها وتصحيفها فظهرت لي فائدة تأليفها، فعدت إليه قبل ذهابي ملتُ إلى قلبها وتصحيفها فظهرت لي فائدة تأليفها، فعدت إليه قبل ذهابي، وأسرعت إيابي، وقلت له ما ظهر لي في حلها، وسقيته من وبلها وطلها. فقال: يا مولانا! كنت صبرت إلى أن قضيت شغلك، وأتيت بما وسع فضاك وفضلك. فقلت: حلاوة الفهم، أذهلتني عن رشق هذا السهم.
وكان جمال الكفاة رحمه الله تعالى في آخر أمره، ونفاسة قدره، قد سلك مسلك كريم الدين الكبير في اقتناء المماليك الأتراك، وأكثر من جباتها في العقود والأسلاك، قد تأنق في ملابسهم الفاخرة وتجديدها، وتحلية مناطقهم التي علائقها يطرب تغريدُها، ولما هلك تحت العقاب، وحمل فوق الجنوية على الرقاب، حزن لذلك أوداؤه وشمت بمصابه أعداؤه، وذلك في أوائل صفر سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
وقلت أنا فيه:
عجبتُ من أمر جمال الكفاه ... وكونه راحَ ثمال العفاه
في ليلة زالة سعادته ... عنه إلى أن رحمته عداه
تكلمت أجنابه وهو ما ... يقول في آلامه غير آه
وكيف لا يصرخ من جنبه ... فتحه ضربُ الغواني شفاه
إبراهيم الحايكوقيل: المعمار. وقيل الحجار، غلام النوري، عامي ظريف، وشاعر عري من حلل النحو والتصريف، لكنّ قريحته نظامة، وطباعه لبرود الشعر رقامة، له ذوق قد شب عمرهُ فيه عن الطوق، وتوريات تسير الثريا من تحتها وهي من فوق، واستخدام له إلى تحريك الأعطاف وهزها شوق، ونكتّ أدبيه ما يبلّ الفاضل منها غلة الشوق، ومقاصدُ غريبة أحسنُ من روق الشباب وما أحسنه من روق إلا أن اللحنّ الخفي يخونه في بعض الأماكن وهو قليل، وتصريف الأفعال يعرض عنه بلا دليل، أما إذا ترك وعامّيته في الأزجال والبلاليق، ونفض يده من القريض لم يكن له فيه تعاليق، فإنه أتي بالعجائب، ويركب في طريق الإعجاب، والإعجاز متون الصبا والجنائب، فما يلحقه في ذلك مجار، ولا يرهقه مُبار، ولا يطمع لاحق له في شق غبار، ولا أعلم له في ذلك نظيراً، ولا استجليت في سماء فنه مثله قمراً منيراً.
وكان فقيراً متخلياً، وأميراً في نفسه بالخمول متحلياً، يعرض عن الأكابر، ويعد أهل الدنيا عنده في أهل المقابر، قد لزم القناعة، وأرخى على وجه الصبر قناعة، فهو في باب اللوق سابق غير مسبوق، وفي ساحات المناشر سلطان من ينادم أو يعاشر، قد هذبه زمانُه، وأطلق في الراحة عنانُه، يكتفي بالبلاغ، ويجتزئ بما له في الحلق مساغ.
ولم يزل على عالم إطلاقه ووميض برقة وابتلاقه، إلى أن خرب من المعمار ربع الحياة، وعفر التراب محيّاه.
وتوفي رحمه الله تعالى في طاعون مصر سنة تسع وأربعين وسبعمئة، بعدما نظم في الطاعون قبل موته، وأنشد قبل فوته:
يا من تمنى الموتَ قم اغتنم ... هذا أوانُ الموت ما فاتا
يا من تمنى الموت قم واغتنم ... هذا أوان الموت ما فاتا
قد رخُص الموتث على أهله ... ومات من لا عمرهُ ماتا

وكان قد كتب إلي لما وردت القاهرة في خمس وأربعين وسبع مئة في زمن الملك الصالح إسماعيل قدس الله روحه:
وافى صلاح الدين مصراً فيا ... نعم خليل حلها بالفلاح
فليهنها الإقبالُ إذ أصبحت ... بالملك الصالح دارَ الصلاح
فكتبت أنا الجواب إليه:
خليلٌ في الشام هلال بدا ... وبدرُ إبراهيم في مصر لاح
ذا كامل من حيث ذا ناقص ... وذاك بُرهان وهذا صلاح
ومن شعره، وفيه لحن يسير:
وصاحب أنزلَ بي صفعةً ... فاغتظت إذ ضيع لي حرمتي
وقال في ظهرك جاءت يدي ... فقلت لا والعهد في رقبتي
ومنه:
ومُفنن يهوى الصفاعَِ ... ولم يكن إذا ذاك فني
ملكته عنقي الدقيق ... فراح ينخله بغبن
ما كان مني بالرضى ... لكنه من خلف أذني
لولا يد سبقت ... له لأمرته بالكفّ عني
ومنه:
أيري إذا ندبته ... في حاجة تنزل بي
قام لها بنفسه ... ما هو إلا عصبي
ومنه:
عاتبتُ أيري إذ جاء ملتثماً ... بالخزي من علقه فما اكترثا
بل قال لي حين لمته قسماً ... ما جزت حمام قعره عبثا
كيف وفيها طهارتي وبها ... أقلب ماء وأرفع الحدثا
وفيه:
لما جلوا لي عروساً لست أطلبها ... قالوا ليهنك هذا العرسُ والزينه
فقلت لما رأيت النهد منتفشاً ... رمانة كتبت يا ليتها تينه
ومنه:
قال لي العاذلون أنحلك الح ... ب وأصبحت في السقام فريدا
أإذا صرت من جفاهم عظاما ... أبوصلٍ تعود خلقاً جديدا
ما رأينا ولا سمعنا بهذا ... قلت كونوا حجارة أو حديداً
ومنه:
قسماً بما أوليتُ من إحسانه ... وجميله ما عشتُ طول زماني
ورأيت من يثني على عليائه ... بالجود إلا كنتُ أو ثان
ومنه، وفيه لحن وتحريف:
كلفي بطباخٍ تنوع حسنه ... ومزاجُه للعاشقين يوافق
لكن مخافي من جفاه وكم غدت ... منه قلوبٌ في الصدور خوافق
ومنه وفيه لحن ظاهر:
في خد من أحببته ... وردّ جني أجنه
وشامةٌ ذقت لها ... حلاوة في صحنه
ومنه:
لجّ العذول ولامني ... فيمن أحبُّ وعنفا
فهممت ألطمُ رأسه ... مما مُلئت تأسفا
لكنها زلقت يدي ... نزلت على أصل القفا
ومنه، وفيه عيب التضمين:
هويتُ طباخاً سلاني وقد ... قلا فُؤادي بعد مارده
محترقاً ولم يزل بالجفا ... يغرف لي أحمضَ ما عنده
ومنه:
قالوا تسبب في الجنائز واكتسب ... رزقاً تعيش به أجل حياة
فأجبتهم رداً على أقوالهم ... أرأيتم حياً من الأموات
ومنه:
شكوت للحب منتهى حرقي ... وما ألاقيه من ضنى جسدي
قال تداوي بريقتي سحراً ... فقلت يا بردها على كبدي
ومنه:
وقزاز يغازلني ... بحاشية لها رقه
أبيتُ مُسهداً منه ... أنير من جوى الحرقه
أسدي تحت طاقته ... كأني حارسُ الشقه
ومنه:
يا أغنياء الزمان هل لي ... جرائُم عندكم عظام
فضتكم لا تزال غضبي ... فلا سلامٌ ولا كلام
والذهب العينُ لا أراه ... عيني من عينه حرام
ومنه:
يا قلبُ صبراً على الفراق ولو ... روعتَ ممن بالبين
وأنت يا دمعُ إن ظهرت بما ... يخفيه قلبي سقطت من عيني
ومنه:
متى أرى المحبوبَ وافى بالهنا ... ونحن في دار ولا واش لنا
أي ثلاثُ ما لهن رابع ... مثاله الدار وزيدٌ وأنا
ومنه مواليا:
يقل لها زوجها لا تختشي من لوم ... ولا ققي كل من في الأرض وأنا الكوم
وأتسيبي وأطعميني أبقَ من ذا اليوم ... أنعس وأرقد ومثلي ما ترى في النوم

الألقاب والنعوت
الإبراهيمي: الأمير سيف الدين بلبان الإبراهيمي. توفي بحماة.
الأمير حسام الدين لاجين أمير: خازندار. توفي بالقاهرة.
الأمير علاء الدين طيبغا الإبراهيمي: توفي بصفد.
الأبلوج: الواعظ محمد بن عمر.
الأبرقوهي: الشيخ شهاب الدين المسند أحمد بن إسحاق.
ابن الأثير: عماد الدين إسماعيل بن أحمد، وشمس الدين سعيد بن محمد، وحفيده شمس الدين سعيد بن محمد، والقاضي علاء الدين علي بن أحمد، وكمال الدين محمد بن إسماعيل، وتقي الدين يحيى بن عبد الرحيم، وابن الأثير الواعظ، شمس الدين الحسين بن أسد. وابن الأثير الأرمنتي، علي بن عبد الرحيم.
أحمد بن إبراهيمابن عبد الضيف بن مصعب الصدر نور الدين أبو العباس الخزرجي الدمشقي.
قرأ القرآن على السخاوي، وروى الحديث عن التقي اليلداني، وكان نحوياً لغوياً أديباً، له فضائل وعمل اشتغال، وكان من أرباب الأموال.
كان فيه رئاسة وحشمة، وله في المكارم عزمة وهمة، وعنده قوة نفس وزعارة، وشمم سرى فيه من نفس الوزارة، وله أدب وقريض، وفضل عريض.
لم يزل في حاله، على صحته وانتحاله، إلى أن هانت من بان مصعب حياته، وتسلطت عليه من ثمرة الموت جناته.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة اثنتين وعشرين وست مئة.
ومن شعره ما كتبه في كمال الدين بن النجار وكيل بيت المال:
وكنا عهدنا أرض جلق روضة ... بها الحسن يجري مطلقاً في عنانه
خشينا بها عين الكمال تصيبها ... فما زال حتى ساءها بلسانه
أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمنالشيخ القدوة عماد الدين بن العارف الواسطي الشافعي الصوفي نزيل دمشق.
لقي المشايخ وتعبد، ترك الرئاسة وتزهد، وقطع العلائق وتجرد، وكتب المنسوب حتى أخمل الحدائق، وأتى في طرسه بكل سطر على العقد فائق.
وكان يرتزق بنسخه، ويتبلغ منه بصيد فخه، ولا يحب الخوانق، ولا الاحتجاز ولو في دانق.
وتفقه للشافعي، ونظر في الروضة والرافعي، وكان عنده أدب يتحلى بقلائده وتتجلى محاسنه في فرائده، واختصر دلائل النبوة، والسيرة لابن إسحاق مع القدرة والقوة، وتسلك به جماعة، ألف الضراعة من الرضاعة، ونابذ الاتحادية وأرباب المعقول، وقال فيهم ما أحبّ أن يقول.
عاش بضعاً وسبعين سنة، وعينه من الانقطاع عن الدنيا وسنة، ولم يزل على حاله إلى أن التقمته الأرض، وأودعته بطنها إلى يوم العرض.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى عشرة وسبع مئة بالبيمارستان الصغير.
ومولده في سنة سبع وخمسين وست مئة بواسط، ومن شعره..
أحمد بن إبراهيمابن الزبير بن محمد بن إبراهيم بن عاصم.
الإمام العلامة المقرئ المحدّث النحوي الحافظ المنشئ، عالم الأندلس.
طلب العلم في صغره، وتلا بالسبع على الشيخ علي بن محمد الشاري، صاحب ابن عبيد الله الحجري، وعلى إسماعيل بن يحيى الأزدي العطار صاحب ابن حسنون.
وسمع من سعد بن محمد الحفار، ويحيى بن أبي الغصن، وإسحاق بن إبراهيم بن عامر الطوسي - فتح الطاء - ، ومحمد بن عبد الرحمن بن جوير البلنسي، وإبراهيم بن محمد الكماد، والوزير عبد الرحيم بن عبد المنعم بن الغرس، وأحمد بن محمد السراج، المؤرخ أحمد بن يوسف بن فرتون، ومحمد بن أحمد بن خليل السكوني الكاتب، والقاضي محمد بن عبد الله الأزدي، والقاضي يحيى بن أحمد بن عبد الرحمن بن المُرابط، والحافظ أبي يعقوب المحساي، وطائفة سواهم.
قال لي العلامة شيخنا أثير الدين رحمه الله: كان يحرر اللغة، ويعلمني المنطق، يعني النطق بها. وكان أفصح عالم رأيته، وأشفعه على خلق الله تعالى.
وقال الشيخ شمس الدين الذهبي فيما أخبرني به: من مسموعاته السنن الكبير للنسائي سمعه من أبي الحسن الشاري بسماعه من أبي محمد بن عبد الله الحجري عن أبي جعفر البطروجي سماعاً متصلاً بينه وبين المصنف ستة، وعني بالحديث عناية تامة، ونظر في الرجال، وفهم وأتقن، وجمع وألف. أخذ عنه أبو حيان وأبو القاسم محمد بن سهل الوزير، وأبو عبد الله محمد بن القاسم بن رمان، والزاهد أبو عمرو ابن المرابط وأبو القاسم بن عمران السبتي انتهى.
قلت: كان المذكور علامة عصره، وفريد دهره، ووحيد قطره. هو في القراءات عالمها الدرب، وبحرها الذي يبعث درة للمغترب.

وفي الحديث حافظه، وجامعه إذا رأى غيره وهو لافظه.
وفي أسماء الرجال جهبذها الناقد والساهر في شأنها وطرف النجم راقد.
والتاريخ قيم هذا الفن، وقانص ما سنح منه وما عنّ. وجمع تاريخاً ذيل به على ابن بشكوال في الصلة، وجعل النسخة بذلك إلى زمانه متصلة.
وفي النحو فريد فنونه المتشعبة، أفانينه المتلعبة، نظر فيه ودقق، وبحث وحقق، وحذف كثيراً من الفضول ومزق، وغاظ قلوب مناظريه وحرق.
وله مشاركة في أصولي الفقه والدين، وقوة نظرية فتت في عضد الملحدين.
وكان صباراً على محنه، واقفاً على أطلال الجلد ودمنه، يضحك تبسماً، ويشارك أصحابه في الخير مقسما، وعنده ورع زائد، وله عقل إلى الصواب قائد. ارتحل الناس إليه لاتساعه في العلوم، ومدّ باعه في المعارف التي من شبههُ فيها بالبحر فهو غير ملوم.
ولم يزل على هذه الطريق المثلى، وحقيقته الفضلى، إلى أن راحِ ل كان خبراً، وشارك قوماً على البلى صبراً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة. وقيل: في شهر رمضان سنة سبع وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وعشرين وست مئة.
أنشدني من لفظه لنفسه شيخنا أبو حيان رحمه الله تعالى من قصيدة يشير إليه فيها:
جزى الله عنا شيخنا وإمامنا ... وأستاذنا البحر الذي عم فائده
لقد أطلعت جيان أوحد عصره ... فللغرب فخر أعجز الشرق خالده
مؤرخه، نحويه، وإمامه، ... محدثه جلت وصحت مسانده
إذا جاهلٌ يغشاه فهوُ مفيده ... وإن آمل يعشو إليه فرافده
أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن راجحالإمام نجم الدين ابن الشيخ عماد الدين ابن القاضي نجم الدين بن الشهاب المقدسي الحنبلي، سبط الشيخ شمس الدين بن أبي عمر.
تفقه واشتغل، ودأب ولكن ما أتم العلم، وحصل له جنون، وانخراط بلا عقل في فنون، وكان يقف في الطرق، وينشد أشياء مفيدة، ويحكي أشياء قديمة وجديدة ويخالط الجد بالهزل، ويساوي بانحرافه بين الولاية والعزل، وينبسط على المرد الذين ما تدبجت خدودهم، لا تسيجت بآس العذار ورودهم، ويشحذ في كفه ويحط في فكه، ويجوز زغل ديناره على من يجهله من غير حكه.
وكان له تلاميذه وربون، وحربه زبون، ثم إنه يثوب إليه عقله، ويجلو شيفه من صدإ به صقله، فعل ذلك مرات، واعتمده كرات.
ولم يزل على ذلك على أن خنقته يد منونه، في وسط جنونه، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة عشر وسبع مئة.
ومولده في نحو سنتين وست مئة.
وهو أخو المفتي شمس الدين الحنبلي نزيل مصر. قال الشيخ شمس الدين: كان يأكل الحشيشة.
أحمد بن إبراهيم بن صاروشهاب الدين أبو العباس البعلبكي، نزيل حماة.
طلب الحديث في الكبر، وسمع من المزي، وزينب، وأبي العباس الجزري، وعدة. وتلا بالسبع على الجعبري.
كان له ذوق في العلم، وطوق تحلى به من الحلم، وله شعر يظن أنه سحر. نزل بحماة. وجعلها بعد بعلبك حماه.
ولم يزل يتقلب مع دهره، ويتبرض بحلوه وبمره، إلى أن حل به الموت، ونزل به الفوت.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وأربعين وسبع مئة بحماة.
ومولده سنة عشر وسبع مئة.
ومن شعره:...
أحمد بن إبراهيمابن عبد الغني شمس الدين قاضي القضاة الحنفي بالديار المصرية، المعروف بالسروجي.
كان فاضلاً في المذهب، يغير ذهنه على المعضلات وينهب، والعدول يلتفعون به، ويتمسكون بسببه، عدل جماعة، وأغناهم عن المجاعة. ولم يُسمع أنه ارتشى، ولا راقب جاها ولا اختشى، ذا همة وافرة، وكلمة على الحق متضافرة، له مشاركة جيدة في النحو والتصريف، يطرز بها دروسه، ويجلي بها في المحافل عروسه.
شرح الهداية في مذهبه شرحاً كبيراً، وحشاها من الفوائد لؤلؤاً نثيراً، ولكن ما كمله، ولا غشاه بالتتمة ولا زمله، وكان فيه سماحة، وميل إلى الجود ورجاحة.

درس بالصالحية، والناصرية، والسيوفية، والأركسية، والجامع الطولوني، وعزل غير مرة بالقاضي حسام الدين وأعيد، وزان بذلك صناعة الترديد، ولم يزل حاكماً إلى أن عاد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك، فعزله لما في نفسه من القضاة، وأظهر لذلك عذراً، وإنما كان قد أسر أمراً في نفسه وقضاه، فتألم السروجي، وبات بليل من الهم دجوجي، وأظهر القناعة بتدريس الصالحية والإقامة فيها، ومنى النفس بالعودة، وتلا آيات تلافيها، فأخرجه ابن الحريري منها بالنقباء، وأشمت به قلوب الحسدة والرقباء، فزاد به الألم، ومرض فجف من حياته ريق القلم.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر بيع الآخر سنة عشر وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة.
أحمد بن إبراهيم الخطيب

شهاب الدين السنجاري
خطب بكفر مديرا.
سمع بمصر وبالثغر من أصحاب السبط، وحصل من ذلك درر السمط، وسمع بدمشق أشياء، وأدرك بذلك منزلة علياء، وله نظم جوده، وفضل تعوده.
لم يزل على حاله إلى أن ذوى عوده، وتقلصت من الحياة بروده.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة في سن الكهولة ومن شعره...
أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياءالإمام المقرئ النحوي، المفيد البارع، الخطيب شرف الدين أبو العباس الفزاري الصعيدي الدمشقي الشافعي خطيب الجامع الأموي بدمشق.
تلا القرآن بثلاث روايات على السخاوي، وسمع منه كثيراً، وتلا بالسبع على غير واحد.
وأحكم العربية على مجد الدين الإربلي، قرأ عليه المفصل.
وسمع من عتيق السلماني، والتاج القرطبي، ونجم الأمناء عبد الرحمن، وابن الصلاح، وطائفة. ثم طلب الحديث بعد سنة ستين وست مئة، وأكثر عن ابن عبد الدايم والكرماني وابن أبي اليسر، وقرأ الكتب الكبار، وقرأ المسند على شيخ الشيوخ، وحدث بالصحيح بإجازته من ابن الزبيدي.
وولي مشيخة الرباط الناصري، ومشيخة التربة العادلية مدة.
وولي خطابة الجامع بالشاغور، ثم نقل إلى خطابة الأموي، وكان قرأ على الكراسي، وحدث بالسنن الكبير للبيهقي، وسمع شرح الشاطبية من السخاوي.
وقرأ عليه العربية الشيخ برهان الدين ابن أخيه، والشيخ كمال الدين ابن شهبة، والشيخ نجم الدين القحفازي، وتلا عليه الشيخ بدر الدين بن بصخان والشيخ محمد بدر الدين البالسي.
وكان مليح القراءة، ظاهر الوضاءة، عذب العبارة، لطيف الإشارة، حسن النغمة، يعد الناس سماعه نغمة، سريع السرد، يشهد له الذوق أنه في فنه فرد، محرر الألفاظ مجودها، معلى قدر الخطابة مسودها، عديم اللحن والتحريف، بصيراً بالنحو والتصريف، تخرج به جماعة صاروا بعده أشياخاً، وكانوا وهو في فريضته فراخاً، وله في التواضع أخبار، وفي الأسماع منه أسمار، ومع التودد المفرد، والكيس والدعابة، والخشوع والزهد والإنابة، وصدق اللهجة والمروءة التي يسمح فيها ببذل المهجة، ولم يزل على هذه السبيل المرضية إلى أن انجزم فعله، وانصرم فضله.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة خمس وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاثين وست مئة.
وكان قد باشر مشيخة دار الحديث الظاهرية في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبع مئة عوضاً عن الشيخ شرف الدين الناسخ.
أحمد بن إبراهيمابن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد العزيز، الفقيه الفاضل شهاب الدين بن محمد الجزري الشافعي.
حصل تحصيلاً جيداً، ولم يكمل الثلاثين سنة. وأكثر من المحفوظات في الفقه والأصلين والنحو وغير ذلك.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمع بقراءتي كثيراً من الحديث، وكان يحفظ أسماء مسموعاته وشيوخه، ويذاكرني بها.
توفي رحمه الله تعالى في شهر المحرم سنة سبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الآخر سنة سبعين وست مئة.
أحمد بن إبراهيم بن معضاد بن شدادالشيخ شهاب الدين الجعبري.
توفي ليلة الجمعة خامس جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبع مئة. وصلي عليه بجامع الحاكم بالقاهرة، ودفن عند قبر والده ظاهر باب النصر.
أحمد بن إبراهيم بن يوسف بن شرفالقاضي الإمام العالم الفاضل جمال الدين أبو العباس العثماني الديباجي الملوي المعروف بالمنفلوطي.

كان رجلاً مباركاً صالحاً خيراً. اشتغل وحصل، ولازم الطريقة الحميدة، وحج وجاور، ولما قدم الشيخ علاء الدين القونوي إلى دمشق قاضي القضاة، قدم معه، فولاه قضاء بعلبك، فأحسن السيرة في أهلها، فأحبوه ورأوا من عفافه وأمانته وديانته وصيانته ما لم يروه من حكم قبله، ثم إنه نقله إلى نيابة الحكم بدمشق، فباشرها إلى أن توفي، واستمر به قاضي القضاة علم الدين الإخنائي، فباشر ذلك أياماً يسيرة ومات. وباشر أيضاً إعادة الشامية البرانية، وجلس بالجامع الأموي للإشغال وسمع صحيح البخاري على الحجاز.
وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر جمادى الأولى سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وثمانين وست مئة، ودفن بالصوفية.
أحمد بن إبراهيم بن فلاح

بن محمد بن حاتم بن شداد
الشيخ الفقيه الإمام المقرئ ضياء الدين أبو الفضل ابن الشيخ الإمام الزاهد الورع شيخ القراء برهان الدين الإسكندري الشافعي إمام مشهد أبي بكر بجامع دمشق.
سمع من ابن عبد الدايم جميع صحيح مسلم حضوراً في الرابعة، سنة ست وستين وست مئة، ورواه عنه، وسمع من ابن أبي اليسر، والمجد بن عساكر، والقاضي ابن عطاء، وابن النشبي، وابن البن، والكمال ابن فارس، وطاهر الكحال، والشيخ شمس الدين ابن أبي عمر، وابن البخاري، وجماعة، وله ثبت وإجازات. كان يجلس مع الشهود.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: ورافقته في الحج، وقرأ عليه بعدة أماكن.
وتوفي رحمه الله تعالى تاسع عشري شعبان سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
مولده سنة ثلاث وستين وست مئة.
أحمد بن أحمد بن محمد بن عثمانالشيخ موفق الدين بن تاج الدين السعدي الشارعي.
سمع من جد والده جمال الدين أبي عمرو عثمان، وهو آخر من حدث عن جد أبيه بالسماع.
أخذ عنه الواني وابنه، وأقضى القضاة أبو الفتح السبكي، وشمس الدين السروجي، والشيخ تقي الدين بن رافع، وشهابُ الدين أحمد بن أيبك الدمياطي، وسعد الدين الدهلي. لحقه بآخر رمق. وله سماع من ابن البرهان أيضاً، لم يزل يسمع الطلبة عليه، ويجلس في دست المشيخة، وهو بين يديه. إلى أن وافاه أجله، وما أمهله أمله، وقد أجاز لي.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
أحمد بن أحمد بن عطاءالقاضي شهاب الدين الأذرعي الحنفي وزير الشام.
حضر والده الحاج أحمد إلى دمشق، وأقام بجبل قاسيون، ونشأ ولده هذا بدمشق، وكتب للأمير بدر الدين بيلبك الجاشنكير الحلبي في دولة الظاهر. وحنا الأمير المذكور عليه، لأنه ماهر. ثم إن الأمير قطع خبزه، لأنه ظهر عجزه، ورمي بالبرص. وقل إن العبد منه يُفترص، فلازم شهاب الدين المذكور باب الأمير بدر الدين المسعودي نائب الأمير حسام الدين طرنطاي، فرتبه لمهمات الأمير زين الدين كتبغا. فخدمه، ونال بخدمته ما أمل وابتغى، فضمن له وابتاع، وارتاع بعض الناس منه ولتاع، ولما تولى كتبغا النيابة بمصر كان شهاب الدين ناظر ديوان النيابة بالشام، وأضيفت إليه الحسبة مع ذلك النظام، فشرع في المشترى والعمائر، وأدار على الناس بذلك الدوائر، وفي ضمن ذلك اشترى كثيراً لنفسه، وتعدى بذلك طور أبناء جنسه، فلما تملك كتبغا، وحضر إلى دمشق سنة خمس وتسعين وست مئة، والصاحب فخر الدين ابن الخليلي معه، رتب شهاب الدين المذكور في الشام وزيراً، وقدم على من كان كبيراً وصغيراً، فاقترح أن يكون المشد معه فتح الدين ابن صبرة، ولم يرض بشمس الدين الأعسر رفيقاً، وقال: هذا ثبتت خيانته فما يسلك معي طريقاً، فباشر الوزارة أياماً قلائل، وظهرت لخموله دلائل. ولما خُلع كتبغا وهرب إلى دمشق وأقام بالقلعة وانفصل الحال، وجهز إلى صرخد، ولم يكن له إلى غيرها في ذلك الوقت منفد، تولى الأعسر الشد، وصار الأمر له في الإعطاء والمنع، والقبول والردّ، فلم يقابل شهاب الدين إلا بالخير، ولم يلحقه منه ضيم ولا ضير، مع زيادة الإحسان الفضل باليد واللسان.
ولما نقل كتبغا إلى حماة توجه شهاب الدين إليها، ونزل بجملته عليها. ولما مات كتبغا التحق بالأمير جمال الدين الأفرم، وأحرق نفسه في خدمته وأراه أنه من غيره أقدرُ وأصرم، وأشار عليه بعمارة الجامع الذي بالجبل، وتولى من عمارته ما لا له به قبل.

ثم إنه مرض بالفالج، وغلب في أمره الطبيب والمعالج، إلى أن خطفته عقاب المنايا، وطأطأ في القبر لتلك الحنايا، وفرق ما حصله، ولم يلتئم شمل ما أجملهُ وفضله.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة.
أحمد بن أحمد بن الحسينابن موسى بن موسك بن جكو، الشيخ المحدث شهاب الدين الهكاري.
كان شيخ الإقراء بمدرسة المنصور بالقاهرة، ونال بذلك النجوم الزاهرة، ونزل له قاضي القضاة موفق الدين الحنبلي عن مشيخة الحديث بالمنصورية فباشرها، وحاش الفوائد للطلبة وحاشرها.
أخبرني الشيخ تقي الدين بن رافع أنه كتب الكتب الستة، وطبقات ابن سعد. وكثيراً من أجزاء الحديث، وعلق منها ما هو قديم، وما هو حديث.
ولم يزل على حاله إلى أن علق به مخلب الحمام، ونقل شهابه إلى الكسوف بعد التمام.
وتوفي رحمته الله تعالى ثاني عشر جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة بالقاهرة. وتوفي عن ست وسبعين سنة.
أحمد بن إدريس بن محمد

بن مفرج بن مزيز
الشيخ الإمام الفاضل الرئيس المعمر تاج الدين أبو العباس بن تقي الدين الحموي الشافعي الكاتب.
سمعه أبوه حضوراً سنة ست وأربعين وست مئة من صفية بنت عبد الوهاب القرشية. ارتحل به وسمعه من مكي بن علان، ومحمد بن عبد الهادي، واليلداني، والشرف الإربلي، والبكري، واليونيني. وسمع ببلده من شيخ الشيوخ، وبمصر من أصحاب البوصيري.
وأجاز له من بغداد إبراهيم بن الخير، وابن العليق، ويحيى بن قميرة، وأخوه أحمد.
وقرأ عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية وعلى أبيه جزءاً في سنة ثمانين، وحدث بأشياء تفرد بها. ورحل إليه الناس بسببها.
وكان ديناً، ورئيساً وقوراً صيناً. ذكر مرة لوزارة حماة، ولو أراد لبلغ من المنصب منتهاه، وكتب أبوه الخط الفائق، وطريقه في أحسن الطرائق. مليح الوضع والترتيب، جيد الضبط للمشكل والغريب، وقد رأيت بخطه أشياء كباراً، مثل صحاح الجوهري، والروض الأنف، وربما كتبهما مراراً.
ولم يزل على حاله إلى أن ذاق مزيز من الموت طعم العلقم، وجرعه الردى سم الأرقم.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة.
أحمد بن إسحاق بن محمد بن المؤيدالشيخ الإمام المقرئ الصالح المحدث مسند العصر شهاب الدين أبو المعالي بن القاضي رفيع الدين قاضي أبرقوه الهمداني المصري القرافي الشافعي الصوفي.
حضر سنة سبع عشرة على عبد السلام السرقولي. وسمع في الخامسة سنة تسع عشرة من أبي بكر بن سابور بشيراز. وسمع ببغداد من أبي الفتح بن عبد السلام وابن صرما، ومحمد بن البيع، وأكمل بن أبي أزهر، والمبارك بن أبي الجود، وصالح بن كور، وأبي علي بن الجواليقي، وعدة. وبالموصل، من الحسين بن باز، وبحران من خطيبها فخر الدين بن تيمية، وبدمشق من ابن أبي لقمة، وابن البن، وابن صصرى، وبالقدس من الأوهي، وبمصر من أبي البركات بن الجباب، وسمع منه السيرة، وله معجم كبير، بتخريج القاضي سعد الدين الحنبلي.
حدث عنه أبو العلاء الفرضي، والمزي، والبرزالي، وابن سيد الناس، وأبو الفتح، والقاضيان القونوي والأخنائي، وخلق، أكثر عنه شمس الدين الذهبي، وخلق كثيرون.
عمر فتفرد، وتضرج خدّ الزمان به وتورّد، ألحق الأحفادَ بالأجداد، ورحل الناس إليه من أقاصي البلاد. وكان مباركاً خيراً ديناً، وصبره على الطلبة كثير وإن لم يكن ذلك هيناً، كان يزعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليهم وسلم في النوم، وأخبره أنه يموت بمكة، وكذا كان، فإنه حج، وفيها فض الله خاتم عمره وفكه، وبها فتح الموت له فاه وفكه.
وتوفي رحمه الله تعالى في عشري الحجة سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده بأبرقوه سنة خمس عشرة وست مئة.
أحمد بن إسماعيل بن منصورنجم الدين الحلبي المعروف بابن التبلي وبابن الجلال.
سمع من ابن رواحة، وابن خليل، وجماعة. ولازم السماع مع الدمياطي فأكثر، وقرأ بنفسه، وتميز بذاك على أبناء جنسه، وكتب الطباق، وبرز في حلبة السباق.
قرأ عليه علم الدين البرزالي جزء ابن حرب رواية العباداني، وأجاز الذهبي مروياته.
ولم يزل إلى أن قضى، وترك دنياه ومضى.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده بحلب سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم

ابن سليمان بن حمايل بن علي المقدسي المعروف بابن غانم، الفقيه العدل شهاب الدين بن عماد الدين.
كن أديباً فاضلاً له نظم ونثر، وله وظائف وشهادة، وكان خبيراً بالشروط، مليح الكتابة، وحج مرات، وكان مؤذناً بالجامع الأموي.
وسمع من ابن الواسطي، وحدث عنه بطريق الحجاز.
وتوفي رحمه الله تعالى خامس عشري شهر الله المحرم سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
أحمد بن أوحدشهاب الدين ابن الأمير شرف الدين.
كان شهاب الدين من أمراء العشرات بدمشق. لما حضر الأمير علاء الدين إلى دمشق نائباً كان منحرفاً عنه لأجل والده، ثم إنه سعى وتدخل إلى أن رضي عليه، وأقبل بوجهه إليه، وولاه مدينة دمشق، فأقام في الولاية مدة، قاسى الناس منه بعض شدة، ثم إنه عزله وولاه شد غزة والساحل، فتوجه إليها وجسمه من فراق دمشق ناحل، فأقام هناك إلى أن قدم الفخري وحكم بدمشق فأحضره، وعزم على إهلاكه، ولكن الله أخره، لميله إلى المصريين على ما سيأتي فيما بعد، فسعى في إزالة ما في خاطره منه، واجتهد في رضاه عنه. فتم له ما أراد، ونال المنى والمراد، فقربه وأدناه، وولاه نيابة بعلبكَ وأقام بها قليلاً، وعاد إلى دمشق ولم يجد إلى غيرها سبيلاً، فأقام بها إلى أن أجاب الداعي، وقام به الناعي، وكان في عينيه فتل شديد، وله أمل في الدنيا مديد، وكان يخبر بأشياء قبل وقوعها، فتقع وفق ما قاله أو مقارباً، ولم أدرِ من أين له علم ذلك مستقيماً موارباً. وكان القاضي شهاب الدين بن فضل الله يتعجب من تلك الأخبار، ويقول: هذا علم النجوم عنده قد بار.
وتوفي رحمه الله تعلى شاباً في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
أحمد بن أيبكابن عبد الله الحسامي المصري الدمياطي شهاب الدين بن عز الدين الشافعي الجندي، وعرف بابن الدمياطي نسبة إلى جده لأمه.
سمع من الحجار، وأحمد بن عبد الرحمن بن دراده، وأبي علي الحسن بن عمر الكردي، ومحمد بن أحمد بن الدماغ ومحمد بن الحسين بن رشيق وشهدة بنت أبي الحسن بن عبد العظيم الحصيني، ووزيرة بنت عمر بن أسعد بن المنجا في آخرين. وسمع بالإسكندرية من إبراهيم بن أحمد بن الغرافي وغيره، وبدمياط من جماعة.
وكتب غني وسمع بقراءتي بالقاهرة على الشيخ أثير الدين وفتح الدين وحدث وهو شاب، وكتب بخطه، وقرأ بنفسه، وحصل الأصول والفروع، وانتقى على الشيوخ، وجمع مجاميع، وأرخ الوفيات ذيلاً على الشريف عز الدين، وقرأ الفقه، وحفظ ألفية ابن مالك، وجمع مشيخة للقاضي ضياء الدين بن الخطيب، فيها أربعون حديثاً، وتكلم على كل حديث وما يتعلق به، وقرأها عليه، وسمعناها منه في سنة خمس وأربعين.
ولم يزل يسمع وينتقي، ويرتفع في الانتخاب ويرتقي، يمتاح من قليب الدواة ويستقي، إلى أن تحدث الناس بوفاته، وذهبت ذاته بصفاته، وذلك طاعون مصر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكنت قد كتبت له على الأربعين حديثاً التي خرجها للقاضي ضياء الدين أبي بكر بن الخطيب تقريظاً، وهو، وقفت على هذا التخريج الذي لا يرده ناظر، ولا يدفع أدلته مناظر، ولا يستغني عنه مذاكر ولا محاضر، ولا يشبه حُسنه إلا الرياض النواضر، وعلى أنه لمعةٌ من شهاب، وهمةٌ من سحاب، وجرعةٌ من شراب، ودفعةٌ من عباب، لأن مخرجه شهاب زين ليل العلم الداج، وبحرُ ألفاظه دررٌ، وفوائده أمواج، فلو عاصره ابن عساكر لم يذاكر، أو الخطيبُ لما كان يطيب، أو ابن الجوزي لانكسر قلبه، وذهب لبه، أو ابن نقطة لغرق في بحره، وبله بقطره، أو الحاكم لقضى له بالتفضيل، ولم ينظر في جرح ولا تعديل، وخرجه لمولى جمل البلدين، ورئيس يوضع تاجَ سيادته على فرق الفرقدين:
كريمٌ سادَ بالأفضال حتى ... غدا في مجده بادي السناءِ
له ذكر يطبق كل أرضٍ ... فيملأ جوها طيبُ الثناء
فما يخفى علاه على بصيرٍ ... وإن يخف فذو حسد يرائي
وهبني قلتُ هذا الصبحُ ليلٌ ... أيعمى العالمون عن الضياء
فلا أعلم تخريجاً أحسن منه، ولا جزءاً غيره كل الفوائد تؤخذُ عنه، جمع فيه بين الرواية والدّراية، وبلغ فيه إلى غاية تدل على أنه آية، فالله يشكر سعيه، ويتولى بعينه رعيه، وبمنه وكرمه إن شاء الله تعالى..
أحمد بن بدليكالأمير شهاب الدين الساقي المرعوف بمشد الشرابخاناه.

ورد هو وأخوته الأمير سيفُ الدين شادي، وسيف الدين حاجي، وركنُ الدين عمر إلى مصر من البلاد الشرقية، وخدم الأمير شهاب الدين أحمد عند الأمير سيف الدين بكتمر الساقي فجعله ساقياً، ولبث عنده مدة، ورآه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون فأعجبه، فأخذه منه، والظاهر أنه أخذه بعد موت بكتمر، وجعله مشد الشرابخاناه، ولم يزل عند السلطان في أعداد الخاصكية، ولما توفي السلطان أخرج إلى صفد، إمّا في أيام قوصون أو بعده، أو أخرج إلى حلب، ثم أعيد إلى مصر لما انقلبت الدولة، ولما جهز الحاج أرقطاي إلى نيابة حلب الأولى خرج هو معه، أقره في النيابة على العادة ويعود، فورد المرسوم وهو في حلب أن يتوجه إلى صفد، ليقيم بها أميراً، فأقام بها إلى أن قتل الكامل، فتوجه إلى مصر، ولما خلع المظفر كان هو من جملة من قام بخلعه، وقتله، وكانوا ستة تكتب المطالعة إلى السلطان، ويطيرها إليهم، وكان أحمد منهم، وكانوا إذ ذاك: بيبغاروس، والأمير منجك، والأمير سيف الدين شيخو، والأمير سيف الدين طشتمر طلليه، وسيف الدين الجييغا، والأمير شهاب الدين أحمد المذكور، ووقع بين هؤلاء المذكورين خلفٌ، فقال الأمير شهاب الدين: أيش بنا هذه المرة ما فيها أحد من أولاد السلطان إلا نجرا بالسيف، ومن صح منا جلس على التخت، فأذعن الجماعة له الطاعة، وتركوه مدة أيام، وأخرجوه إلى صفد نائباً عوضاً عن الأمير سيف الدين قطز، فوصل إليها في ثاني شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ولم يزل بها مقيماً إلى أن أمسك الأمير سيف الدين منجك الوزير، فحضر إليه الأمير قماري الحموي السلحدار في الظاهر بسبب الحوطة على موجود الوزير وحواصله، وفي الباطن بإمساكه، وكأنه فهم القضية، فجهز إليه من تلقاه من الطريق، ولم يكن أحداً من الاجتماع به، ولا بمن معه، ولما أراد قماري يتوجه، قال له يا خُوند: السلطان يطلبك، فقال: لأي شيء؟ ما قلت هذا في الأول ولا في الكتاب الذي على يدك، أن معك مشافهة ولكن اطلبوا الأمراء، فحضروا ومعهم نائب قلعة صفد، وقال يا أمراء، السلطان قد طلبني وأنا أتوجه، فقالوا له: خير، فطلب مباشري ديوانه، وقال: كم لنا في القلعة من القمح، قالوا: مئة غرارة، ففرقها جميعها على مماليكه، وقال: اطلعوا اقبضوها، فلما طلعوا، وصاروا فيها أنزلوا كل من فيها من المستخدمين، وتملك القلعة مماليكه، وقال لقماري: أنا أكتب إلى السلطان. وأسير معك شخصاً من جهتي بمطالعة مني، وجهزها.
وبلغ السلطان ذلك، فكتب في الظاهر إلى سائر نواب الشام أن أحمد الساقي قد شق العصا، فاربطوا له الطرقات، وأمسكوه، وإن حارب حاربوه، وكتب إلى جميع عربان الطاعة بذلك، وكتب إلى الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام أن يتوجه إليه بنفسه في العسكر الشامي، فلما بلغ ذلك أحمد كتب هو نائب الشام يتشفع به، ويسأله أن يكون في جملة أمراء دمشق، فكتب له إلى السلطان، فأجيب إلى ذلك، وكتب له أمان شريف، فجهز ذلك إليه، فلم يذعن، وقال: لو علمت أن ذلك صحيح حضرت، وأصر على حاله.
فحضر المرسوم بأن يجهز له أربعة آلاف فارس من دمشق، ونائب غزة الأمير فارس الدين البكي بعسكر غزة، والأمير سيف الدين بكلمش ناظر طرابلس بعسكرها. فتوجه الجميع إليه في أوائل المحرم سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، ولما وصل نائب غزة وهو والنائب الذي عيّن مكانه بصفد وهو الأمير علاء الدين الطنبغا برناق إلى قرية المجدل جهز إليهما أحمد الساقي يقول: أنا ما أنا عاص، ولكن هذه القلعة لا بد لها من نائب، وأريد أن أكون بها نائباً، فقالا له: إن كنت تريد ذلك، فأطلق الأمير عز الدين أيدمر الشمسي، والأمير عز الدين دقماق وكاتب السر وأخاه ناظر الجيش، وكان قد اعتقلهم بالقلعة، فقال هو: لا اعتقلهم أيام حكمي، والآن ما يخرجون إلى بمرسوم شريف، فطلع المذكوران بمن معهما إلى صفد، فرمي عليهم بالنشاب والبندق والرصاص والزيارات والنفط، وجرح بعض الخيل، وطلع القلعة وأغلقها، وشال الجسر.

ولما كان يوم الجمعة ثامن عشر المحرم اتفق العسكر على الزحف على القلعة وإحراق الجسر، وجهزوا إليه يعلمونه أنهم في غداة السبت يفعلون ذلك، فاتق الله واحقن دماء المسلمين. فأطلق من كان عنده في الاعتقال، وقال للعسكر: احلفوا أن لا تؤذوني وأنا أتوجه إلى باب السلطان، فحلفوا له، وأخذوا سيفه، وجهزوه صحبة الأمير سيف الدين قطلوبغا الكركي وجهز مملوكه الطنبغا إلى نائب الشام يطلب منه شفاعة، فكتب له ذلك، وجهزوا معه أميراً من الشام وأميراً من طرابلس، وأميراً من صفد، وأميراً من غزة، وساروا به إلى باب السلطان في ثالث عشري المحرم، ورجعت العساكر إلى أماكنها.
ولما وصلوا به إلى قطيا، تلقاه الأمير سيف الدين قماري، فأخذه في زنجير مقرم اليدين - على ما قيل - وتوجه به إلى ثغر الإسكندرية، ولم يزل بها معتقلاً، إلى أن خلع الملك الناصر حسن، وتولى الملك الصالح صالح، فأطلقت المعتقلين الذين في سجن الإسكندرية جميعهم، وولاه نيابة حماة، فوصل إلى دمشق في حادي عشري شعبان سنة اثنتين خمسين وسبع مئة، وصحبته الأمير سيف الدين جركتمر عبد الغني، ليقره في النيابة، ولم يزل في حماة نائباً حاكماً، إلى أن اتفق هو والأمير سيف الدين بيبغاروس نائب حلب، والأمير سيف الدين بكلمش نائب طرابلس، على الخروج على الملك الصالح، وراسلوا الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب الشام على ذلك فما وافقهم. ولما تم أمرهم وهموا بالخروج حلف نائب الشام عسكر دمشق للملك الصالح في العشر الأولى من شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وجرى ما يأتي ذكره أن شاء الله تعلى في ترجمة أرغون الكاملي.
ولما وصل بيبغاروس ومن معه إلى دمشق نزل على قبة يلبغا ظاهر دمشق، وتوجه أحمد الساقي ومعه ألف فارس، وأقام على المزيريب مدة أربعة وعشرين يوماً ولما وصل الأمير سيف الدينين طاز إلى لد هرب ابن دلغادر من دمشق، وجاء بيبغاروس إلى المزيريب، واجتمع وباتا ليلةً، ثم إنهما هربا بمن معهما من العساكر إلى حلب.
ووصل السلطان الملك الصالح إلى دمشق، وجهز الأمير سيف الدين شيخو، والأمير سيف الدين طاز، والأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى حلب، فهرب بيبغاروس ومن معه، واجتمعوا بابن دلغارين، وأقاموا هناك يعيثون في الأرض، إلى أن أمسك ابن دلغادر أحمد وبكلمش، وجهزها إلى حلب، فوصلا إليها، والأمير سيف الدين أرغون الكاملي بها نائب في ثاني عشر ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، فاعتقلا بقلعة حلب، وطلع بأمرهما، فعاد الجواب على يد سيف الدين طيدمر أخي طاز بأن يجهز رأسيهما، فحزّ رأس أحمد وبكلمش في حلب في العشر الأوسط من شهر الله المحرّم سنة أربع وخمسين وسبع مئة، وتوجّه بهما المذكور إلى مصر، وكان ذلك آخر أمر الساقي، والله الباقي.
وكان هذا أمير أحمد شاباً طويلاً رقيقاً، تراه بالإقدام والشجاعة حقيقياً، حلو الوجه خفيف اللحية، يعلوه رونق، وعليه قبول وحظّ ما فرح به السدير في أيامه ولا الخورنق، يميل إلى الصورة المليحة، ويتعبد بهواها كل بكرة وصبيحة، لا يملك نفسه إذا رأى وجهاً حسناً، ولا يرجع إلى عذل من يرده عن ذلك ولو كان لسناً، وكانت له في ذلك تراجم معروفة في أيام الشهيد، وأخباره فيها سار بها الركبان والبريد، إلا أنه كانت نفسه أبية، وعنده من ميعة الشباب نشوة السبيّة.
وكان يحدث نفسه بأمور عظيمة، وفتن لا تزال تصنع للشرور وليمة، وكان لذلك لا يقنع بغاية، ولا يرى إلا ما هو عنده نهاية، ولقد ثبت في واقعة صفد ثبوتاً دونه البال الرواسخ، وأسكن جماعة ممن خالفه البرازخ.
ويحكى عنه أنه لما نزل من القلعة ودّع صغار أولاده، وثمرات فؤاده، فقطع القلوب أسفاً، ورأى موته بعينه وهو في الحياة سلفاً، فقلت فيه:
عجبتُ من أحمد الساقي وقد برزت ... له العساكرُ في موضونةِ الزردِ
ساقٍ سقتهُ الليالي كاس حادثها ... وراحَ من صفدٍ للحتفِ في صفد
يعينُهُ ربه فيما ابتلاهُ بهِ ... فما على مثل ما لاقاه من جلد
وجاءت الأخبار بأن الأمير سيف الدين قماري لما التقاه في قطيا عامله بأنواع من الإهانة ساعة اللقيا، وأضاف زنجيراً إلى قيده، وقرم يده بشدة وأيده.

وقيل: إنه توجه به ماشياً، وكاد لذلك يصبح جسده متلاشياً، ولم يحسب له أحد في هذه المرة حساب السلامة، لأنه فعل ما يوجب العذل والملامة، ولكن " لكل أجل كتاب " ، وإذا قدر أمرٌ على المرء ما يفيده زجرٌ ولا عتاب، فأقام في سجنه تلك المدة، وفرّج الله عنه من تلك الشدة، ورسم له بنيابة حماه، فتوجه إليها، وقدم بعد الذل في عز دائم عليها، فسبحان اللطيف الخبير، ومن يرسل رياح الفرج فينشق المحزون منها نشر العبير. وقلت أنا فيه أيضاً:
تلق حوادث الدنيا بصبرٍ ... ففي صرف الزمان ترى العجائب
فهذا أحمدُ الساقي توالى ... عليه من القضا مطر المصائب
وما أعطى له أحدٌ حياةً ... وها هو في حماةَ اليومَ نائب
وكان فيها نائباً قد تمكن لا ترد له إشارة، ولا يعطل السلطان مما يرومه عشاره كل ما يكتب به يجاب فيه بالقبول، وكل ما يأباه يتلاشى غصنه إلى الذبول، ولكن نفسه تريد بلوغ ما فيها، وإدراك أمانيها، وعقله من الصواب نفور، ودمه - كما يقال - يفور، إلى أن دبر ما دبر، وأثار من الفتنة ما عاد على وجهه وغبر، وكان هو الذي حرك ذاك الساكن، وعمل على خراب ما دخله من المنازل والأماكن، إلى أن خرب بيده بيوته، وطار خلف الشر إلى الروم خوفاً من أن يفوته، ولم يزل بتلك الخنزوانه، إلى أن غدر به ابن دلغادر وخانه، وما زال عليه إلى أن أماته ونسي أمانه، وأراه الله عقبى جناية الخيانة، وجز في حلب رأسه، وخرق من الحياة قرطاسه، ولم ينفعه ياقوته ولا ماسه وتبرأ من فعله القبيح وسواسه، ولم يرض له بالخنا خناسه، فسبحان من بيده الحياة والنشور، وإليه ترجع الأمور، لا إله إلا هو.
وقلت لما جز رأسه، وجهز إلى مصر:
إياك والبغي فشهبُ الردى ... في أفق البغي غدت ثاقبه
ما أحمدُ الساقي الذي مذ بغى ... ما أحمد الله لهُ عاقبه
أحمد بن بكتمرأمير أحمد بن الأمير سيف الدين بكتمر الساقي.
كان وجهه عليه لمحة من البدر، ومهابته تملأ الجوانح والصدر، مليحاً إلى غاية، جملاً في نهاية، وكان السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في محبته متغالياً، ولم يره الناس في وقت منه خالياً، كان يوماً نائماً على فخذ السلطان وقد عزم على الركوب، وأحضرت الخيل والعساكر تنتظر قيامه والوثوب، وأبوه بكتمر واقفاً خجلاً، وقلبه يخفق وجلاً، وكلما هم بأخذه يمنعه، ويكابده في أمره ويخدعه، فقال: يا خوند، الناس في خدمتك وإلا في خدمته؟ فقال: ما أركب حتى ينتبه أحمد من نومته، وكان الناس يظنون أنه ابن السلطان يقيناً، ويقولن: ما رأينا مثله عنده مكيناً، وأمره مئة، جعل مقدم ألفٍ مع صغر سنه، وجعل بعد ذلك شخصه في قلبه في كنه، وكان هو صغير ضعيف القائمة، لا يستطيع النهوض لعلةٍ له ملازمة، فلم يزل السلطان عليه بالأدوية والعقاقير، والمعالجة بأنواع من التداوي والتدابير، إلى أن نهض غصنه قويماً، وانعطف قدّه من الميل سليماً، وزاد حسنهُ وبهاؤه، وذهب عنه داؤه واقبل دواؤه، وصح من خمر الشباب انتشاؤه، وثبت إلى القمرين انتماؤه.
وزوجه السلطان بابنة الأمير المرحوم تنكز نائب الشام، وجرى ذلك العقد على أحسن ما يكون من النظام، حسبك بهذه الدرة الثمينة، وما جُمع من هذا القرين وهذه القرينة، وكان عرسها عرساً ما فرحت به بوران، ولا كان للفك له دوران، ووقف السلطان بنفسه وفي يده العصار، ورتب السماط ترتيباً خالف فيه العادة وعصى، اختلف بذلك زايداً، وجعل هواه لنفسه قائداً، له العذر فيما توهمه في ذلك من الحسن والزين، لأنهما ولدا مملوكيه العزيزين.
وكان أمير أحمد المذكور يقضي عند السلطان أشغالاً لا يقضيها غيره، ولا يحوم في جوها إلا طيره، ولم يزل بدره في مطلع سعوده، ومعارج صعوده، إلى أن توجه مع السلطان إلى الحجاز، وقضى فرضه وفاز من الأجر بما فاز، وعاد راجعاً، وبدره يُرى في سماء الملك طالعاً، فمرض مرضاً حداً، وزاد به جداً فأذوى ريحان شبابه، ونغص بموته حياة أترابه.
وتوفي رحمه الله تعالى في طريق الحجاز عائداً في المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وعمره يقارب العشرين.
وقلت ذلك الوقت:
ورقيبٍ بليتي ... في الهوى منه ما تمر
ذاك قد طال عمره ... ويموتُ ابنه بكتمر

وكتب إلى أبيه تهنئة لما أعطي تقدمة الألف عن الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى من جملة كتاب: وأما ما شملت به الصدقات الشريفة للمقر العالي المولوي الأميري الولدي الشهابي من تقدمة الألف، وخصه به من هذا الإنعام الذي صح قياسه ولم يكن قياسَ الخلف، فإنه بحمد الله واحد كالألف إن أمر عنا، وفردٌ يبلغ به مولانا - أعز الله أنصاره به - الأمان من الزمان والمنى، وبه يُحقق المملوك قول الأول الذي لم يحجده جاحد: والناسُ ألفٌ منهم كواحدِ.
ولم أرَ أمثالَ الرجالِ تفاوتوا ... إلى المجد حتى عد ألف بواحد
والله تعالى يديم هذه الأيام الشريفة التي أرت مولانا فيه ما سره، وبلغت به رتبةً ذبالها النجوم وطريقُها المجرة، وتقر به عين مولانا الكريمة، فمثل هذا الولد من يكون للقلب قراراً، وللعيون قرة، وكان المملوك يودّ لو كان حاضراً في ذلك اليوم الذي هو تاريخ الهناء، وموسم الفرح المؤبد على مر الآناء، وإن كان المملوك قد غاب بقالبه، فقد حضره بقلبه وعرف قيمة إيجابه وسلبه، والله تعالى يديم لمولانا وله وللمملوك حياة مولانا السلطان خلد الله ملكه، وجعل أقطار الأرض ملكه بمنه وكرمه.
أحمد بن أبي بكر بن عرامبهاء الدين، الأسواني المحتد الإسكندراني المولد قرأ القراءات على الدلاصي، والفقه للشافعي على الشيخ أبي بكر بن مبادر، وعلى علم الدين العراقي وقرأ عليه الأصولين على الشيخ شمس الدين الأصبهاني، والنحو على محيي الدين حافي رأسه، وعلى الشيخ بهاء الدين بن النحاس.
وسمع على أبي عبد الله محمد بن طرخان، وأبي الحسن الخزرجي، وعلى تقي الدين بن دقيق العيد، وعلى الدمياطي وغيرهم.
وتولى نظر الأحباس بالإسكندرية، وصحب أبا العباس المرسي، وأخذ التصوف عنه، وعن والده، أمه بنت الشيخ الشاذلي.
وكان المذكور ينظم وينثر، ويجري في ميدان الأدب ولا يعثر، وكان مقداماً متديناً ، سالكاً نهج الخير صيّناً.
صنف في الفقه والعربية، وعلق على المنهاج للنووي تلعيقة أنوارها مضية، وله مناسك ما أشبه ذلك.
ولم يزل في شوطه إلى أن عثر فما قام، واتخذ بطن الأرض دار مقام.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة عشرين وسبع مئة، ومولده سنة أربع وستين وست مئة، ومن شعره:
وحقك يا مي الذي تعرفينه ... من الوجدِ والتبريح عندي باق
فبالله لا تخشي رقيباً وواصلي ... وجودي ومني وانعمي بتلاق
ومنه:
أيا طرسُ إن جئت الثغور فقبلن ... أنامل ما مدت لغير صنيع
وإياك من رشح الندى وسط كفه ... فتمحى سطور سطرت لرفيع
قتل: شعر نازل.
أحمد بن أبي بكرابن محمد بن محمود بن سلمان بن فهد، شهاب الدين، ابن القاضي شرف الدين، لبن القاضي شمس الدين، ابن القاضي شهاب الدين محمود.
كان القاضي شهابُ الدين المذكور من جملةِ موقعي الدست، وكان أولاً من جملة كتاب الإنشاء، فلما توفي والده القاضي شرف الدين بالقدس - على ما سيأتي - أعطي مكانَ والده. فباشره، فكان هشاً بشاً بمن يراه، مكرماً لمن أمه أو قصد ذراه. نفسه متسعة للجود، قائمةٌ بما يجبُ من حلق الوفود. لا يتكلم إلا وهو يضحك، ولا يفارقُ لجود طباعه نُصحك. يقضي حوائج الناس في قصصهم، ويزيحُ عنهم ما تجرعوه من غصصهم، فأحّبه الناسُ، وردّ عليهم ما كان حصل لهم في والده من الياس. ولم يزل على حاله، إلى أن عاجله حتفه، وصرف إليه من الموت صرفه.
توفي رحمه الله تعالى - يوم عاشوراء، سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة سبع عشرة وسبع مئة.
واحتفل الناس لجنازته، ودفن في تربة جده بالصالحية.
وعهدي به، وهو كما احتلم، يجري وراء الحية، ويحملها بذنبها، ويرفعها إلى فوق، ويقصعها إلى أسفل، ويرميها من يده، وقد انقطع وسطها، وأنخلعت فقرأتُ ظهرها.
وستأتي - إن شاء الله تعالى - ترجمة كل واحد من أبيه وجده في مواضعها اللائقة بها.
وقتل أرثيه من أبيات، التزمتُ فيها الفاء:
شهابُ بني محود أصبحَ أفلا ... وكان به صدرُ المجالس حافلاً
تيقظ طرفُ الدهر نحو جنابه ... وقد كان في إغفائه عنهُ غافلا
يحن إليه الجودُ من حيثُ ينتحى ... كما أنه من عزه راح جافلا

لقد كانَ في بردِ الشبيبةِ والعلا ... وبذل الندى ما زال يختالُ رافلا
سما بأصولٍ باسقاتٍ إلى العلا ... بحيث رأينا النجمَ عن ذاك سافلا
فيا ضيعةَ اللهقانِ بعد مصابه ... لقد كان في دفع الأذى عنهُ كافلا
أحمد بن أبي بكرابن محمد بن سلمان بن حمايل، القاضي شهاب الدين، ابن القاضي بهاء الدين، ابن القاضي شمس الدين بن غانم، كاتب الإنشاء بدمشق.
كان والده القاضي بهاء الدين صاحب ديوان المكاتبات بطرابلس، وسيأتي ذكره في مكانه من حرف الباء - إن شاء الله تعالى - ولما توفي والده بطرابلس، تركه صغيراً، فحضر إلى عند أقاربه بدمشق، ثم توجه إلى مصر، فرسم له بأن يكون من جملة كتاب الإنشاء بطرابلس، ثم إنه سعى وانتقل بمعلومه إلى دمشق، ورتب في جملة كتاب الإنشاء في سنة خمس وأربعين أو ما بعدها في غالب الظن، وأقام بدمشق إلى أن توجه في سنة ست وخمسين وسبع مئة إلى الديار المصرية، وسعى هناك إلى أن رتب في جملة كتاب الإنشاء في باب السلطان على معلومه الذي بدمشق، بزيادةِ في مصر.
ولم يزل هناك مريضاً متوعكاً، يقومُ ويقع، إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة ثمان وخمسين وسبع مئة.
وكان مولده بصفد تقريباً في سنة أربع وعشرين وسبع مئة أو في سنة ثلاث وعشرين.
وكان فيه سعي وحسنُ توسل ولطفُ توصل، وعلى أنفه في مارنه شامةٌ كبيرة حسناء خضراء. وكانت كتابته قوية، ولم يكن له نظم ولا نثر.
أحمد بن أبي بكرشهاب الدين أبو جلنك - بالجيم واللام والنون والكاف - الحلبي الشاعر المشهور. بالعشرة والخلطة التي تركته بروة، وجردت قشره.
كان فيه همةٌ وعنده شجاعة، ولديه من الإقدام في المعارك أجزلُ بضاعة، نزل من قلعة حلب للإغارة، والتتار يتوقدُ من شرهم كل شرارة، فوقع في فرسه سهمٌ عقره، وفتق جنبه وبقره، فبقي على ضخامته راجلاً، وأمسك به عاجلاً، وجاؤوا به مقدم التتار، فسأله عن عسكر المسلمين فرفع شأنهم، وأعلى في الفروسية مكانهم. فغاظه ذلك منه وضرب عُنقه في الحال، وشتمر للارتحال.
وأصل منادمته لصاحب ماردين أو الموصل تنديبة، بدت منه بغير قصد، وهي عجيبة. لأنه قصد الطهارة وعلى بابها خادمٌ، يناول كيلاً من الماء لكل قادم، فدخل على عادة البلاد، وما هي عليه من الأمر المعتاد، فصاح به الخادم قف خذ هذا الكيل. قال: لا، أنا أخرى جزافاً من الويل. فبلغت السلطان، فقال: هذا ظريف يصلح لأن ننادمه، ونزيد خوافي جناحه وقوادمه.
وأخبرني عنه الصاحب جمال الدين سليمان بن ريان، قال: لزمنا أبو جلنك مدة، ونام عندنا ليالي عدة، وكانت ينتبهُ نصفاً من الليل، ويكررُ علي محافيظه، ومنها مختصرُ ابن الحاجب، ثم يشببُ بشبابه يزمزم، وإذا أصبح توضأ وأتى بالواجب.
وما زال على حاله إلى أن ضربت عنقه، وخلا من كوكبه أفقه، وذلك سنة سبع مئة.
وأنشدني القاضي جمال الدين بن ريان قال: أنشدني من لفظه أو جلنك لنفسه لغزاً:
اسم الذي أهواه في حروفه ... مسألةٌ في طيها مسائل
خمساه فعل وهو في تصحيفه ... مبينٌ والعكسُ سمِّ قاتل
تضيء بعد العصر إن جئت به ... مكرراً من عكسك المنازلُ
وهو إذا صحفته مكرراً ... فاكهةٌ يلتذ منها الآكل
وهو إذا صحفته جميعه ... وصفُ امرئٍ يعجبُ منه العاقل
وفيه طيبُ مطربٌ جميعه ... هاجت على أمثاله البلابلُ
قتل: هذا لغز في مسعود وهو لغز جيد، ومقاصده جيدة، إلا أن قوله وصف امرئ يعجب منه العاقل فيه تسامح، فإنه لا يُقال: مشعوذ وإنما يقال مشعبذ بالباء مكان الواو.
وأنشدني شيخنا العلامة أثيرُ الدين، قال: أنشدنا علاءُ الدين علي بن عبد الملك بن عبد الله بن عبد الرحمن الحلبي، قال: أنشدنا أبو جلنك لنفسه، وكان قد مدح قاضي القضاة شمس الدين بان خلكان، فوقع له بثلثي رطل خبزاً، فكتب أو جلنك على بستانه:
عجنا ببستانٍ حللنا دوحه ... في جنةٍ قد فتحت أبوابها
والبانُ تحسبُها سنانير رأت ... قاضي القضاة فنفشت أذنابها

قلت: بلغني أن الشيخ بدر الدين محمد بن مالك وضع على هذين البيتين كراسة في البديع، وأنشدني بالسند المذكور أيضاً:
أتى العذارُ بماذا أنت معتذرُ ... وأنت كالوجد لا تُبقي ولا تذرُ
لا عذر يقبل إن تم العذار ولا ... ينجيك من خوفه بأسٌ ولا حذرُ
كأنني بوحوشِ الشعرِ قد أنست ... بوجنتيك وبالعشاقِ قد نفروا
ومن شعر أبو جلنك أيضاً:
جعلتك المقصد الأسنى وموطنك ال ... بيتُ المقدس من روحي وجثماني
وقلبك الصخرة الصماءُ حين قست ... قامت قيامة أشواقي وأحزاني
أما إذا كنت ترضى أن تقاطعني ... وأن يزورك، ذو زورٍ وبُهتان
فلا يغرنك نارٌ في حشاي فمن ... وادي جهنم تجري عينُ سلوان
قلت: ألطفُ من هذا وأحضرُ وأجمع، قول القال:
يا قدسُ حسنٍ قلبهُ الصخرة التي ... قست فهي لا ترثي لصب متيم
ويا سؤلي الأقصى عسى بابُ رحمة ... ففي كبد المشتاق وادي جهنمِ
وأنشدني العلامة أبو حيان، قال: أنشدنا علاء الدين علي بن سيف الدين تنكز، قال: أنشدنا أبو جلنك لنفسه:
ماذا على الغصن الميال لو عطفا ... ومال عن طريق الهجرانِ وانحرفا
وعاد لي عائدٌ منه إلى صلةٍ ... حسبي من الشوقِ ما لاقيته وكفى
صفا له القلبُ حتى لا يمازجُه ... شيء سواه وأما قلبُه فصفا
وزارني طيفه وهناً ليؤنسني ... فاستصحبَ النومَ من جفني وانصرفا
ورمتُ من خصره بُرءاً فزدتُ ضنى ... وطالبُ البرء والمطلوبُ قد ضعفا
حكى الدجا شعره طولاً فحاكمه ... فضاع بينهما عمري وما انتصفا
قلت: شعر متوسط.
أحمد بن أبي بكر بن منصورالقاضي الإمام العالم شمس الدين، قاضي طرابلس.
كان فاضلاً في أنواع من العلوم.
قال شيخنا البرزالي: اجتمع به أصحابنا المحدّثون لما توجهوا إلى هناك في صفر قبل وفاته، وأثنوا عليه. وعاش ثلاثاً وسبعين سنة. وكان ذا مال وتجارة، وفيه شجاعة، وعنده عدة للقتال، ويقاتل الفرنج، وله محاسن كثيرة، ومرض مرضة طويلة. وحصل له عقيب المرض برسام، وتولى غيره القضاء.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أول ربيع الأول، سنة سبع وسبع مئة. وكان يعرف بالإسكندري.
أحمد بن أبي بكر بن حرز اللهالقاضي الفقيه، الإمام العالم شهاب الدين أبو العباس السلمي المغربي المعروف بالأزندي.
كان فقيهاً فاضلاً، اشتغل على الشيخ محيي الدين النووي، ولازمه وصحبه مدة، وكان الشيخ يحبه ويثني عليه، وزكاه في شهادة شهدها عند بعض القضاة وشفع له عند الشيخ برهان الدين المراغي لينزله في مدرسة.
وقرأ الأصول على القاضي عز الدين بن الصايغ، والقاضي بدر الدين بن جماعة. وقرأ النحو على ابن عبد القوي.
وولي القضاء ببلد الخيل - عليه السلام - وصرخد وبصرى وغيرها.
وعاد إلى دمشق، وحضر المدارس، وجلس مع الشهود، وولي تدريس الحلقة القوصية بالجامع. وكان يخطب أيضاً تارة نائباً وتارة مستقلاً.
وسمع الحديث من الشريف يحيى الحنبلي، والنجيب المقداد، وعمر بن عصرون، وأبي حامد بن الصابوني، والأمين الإربلي راوي صحيح مسلم، والرشيد العامري، وأبي بكر المزي، والشيخ نصر بن عبيد المؤذن وجماعة، وسمع بعض الكتب الحديث الكبار وكتب في الإجازات.
وكان كريم النفس لا يدخر شيئاً، وفيه تواضع، وأخلاقه حسنة، وكان يحب الفقراء، وصحب منهم جماعة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سادس ذي الحجة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده في شوال سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن برقالأمير شهاب الدين متولي مدينة دمشق.
كان المذكور إنساناً حسن الأخلاق، يخدم الناس على حالتي الجدة والإملاق، ويحب الفضلاء ويبرهم ويلاطفهم في وقائعهم تحت يده ولا يضرهم. ساس الناس بدمشق سياسة جيدة، هرب مرات من الشر إذا وقع، وتحيده. وعلى ذهنه حكايات ووقائع، ونوادر إذا حكاها، قلت: جنى النحل ممزوجاً بماء الوقائع.

وأول ما عرف من أمره أنه أقام في ولاية صيدا زماناً، وأخذ به من ذلك الساحل في تلك المدة أماناً، ثم إن الأمير تنكز سيف الدين - رحمه الله تعالى - نقله إلى ولاية مدينة دمشق، فأقام بها مدة مديدة، وحركاتُه فيها مدة الولاية سديدة.
ولم يزل على حاله إلى أن انطوى برق ابن برق، فكأنه لم يلمع في غرب ولا شرق وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
وتولى دمشق في صفر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وكان الأمير سيف الدين - رحمه الله تعالى - قد جعله حكم البندقِ عوضاً عن الأمير صارم الدين صاروجا، فكتبت له بذلك توقيعاً، وهو: الحمد لله الذي لم يزل حمده واجباً، وفدهُ لكل خير واهباً، وشكره للنعم جالباً، وللنقم حاجباً، وذكره للبؤس سالباً، وللنعيم كاسباً.
نحمده على نعمه التي نصرعُ بالحمد أصناف أطيارها، ونقص بالشكر أجنحتها فلا قدرة لها على مطارها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا يكون لنا بها عن الفوز بالجنة عذرُ، ولا نجد بها نفوسنا يوم البعث إلا في حواصل طيورٍ خضر.
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله. أفضلُ من قدم ذوي الرتب، وأشرفُ من حكم بالعدل العاري من الشبه والريب. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا في الحروب عُقبانها الكواسر، وفرسانها الذي أشبعوا من لحوم العدا ذوات المخالبِ والمناسر، ما أحمد الرامي في المرام عزمه، وسعت له في الرتب قدمُ قدمه، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فلما كان الرمي بالندق فناً تعاطاه الخلفاءُ والملوك. وسلك الأمراء والعظماء طريقة لطيفة المأخذ ظريفة السلوك، يرتاضون به عند الملل لا سترواح نفوسهم، ويجنون ثمران المنى في التنزه من غروس عروشهم، ويبرزون إلى ما يروق الطرف ويروعُ الطير من برزاتهم، وينالون ببنادق الطين من الطير ما لا ينالهُ سواهم بجوارح صقورهم ولا بزاتهم. وقد نبذوا في تحصيل المراتب العلية شواغل العُلق، وتدرعوا شعار الصدق بينهم وهم أصحابُ الملق، ومنعوا جفونهم من ورود حياض النوم إلا تحله، وظهروا بوجوهٍ هي البدورُ وقسي هي الأهله، وتنقلوا في صيد النسور تنقل الرخ، وصادوا الطيور في الجو لما نثروا حبات الطين من كل قوس هي كالفخ، وصرخوا على الأوتار فكانت ندامى الأطيار على سلاف المياه من جملة صرعاها، واقتطفوا زهرات كل روضة أخرجت ماءها ومرعاها، احتاجت هذه الطريقة إلى ضوابط تُراعى في شروطها، وتحسبُ على الجادة أذيال مُروطها، ليقف كل رامٍ عند طورِ طيره، ويسبر بتقدمه غور غيره، ليؤمن التنازعُ في المراتب، ويسلم أهل هذه الطريقة من العائب والعاتب.
وكان المجلسُ السامي الأميري الشهابي أحمد بن برق هو الذي جر فيها على المجرة مطرفة، وأصبح ابن بجدتها علماً ومعرفة، تطرب الأسماعُ من نغمات أوتاره، وتنشق مرائرُ الطير من لون غُباره، وتودّ المجرةُ لو كانت له طريقاً، والشمس جواده، والسماء ملقه، تتمنى قوسُ السماء الملوّنة، لو كانت قوسه والنسرُ طائره والنجوم بندقه. كم جعل حُلل الروض المرقومةِ بما صرعه مصائره، وكم خرج في زمرٍ والطير فوقهم صافات، فصاد بدر تم حين بادره، وكم ضرج في معركِ الجو من قتيلٍ ريشُه كالزرد الموضون، وكم أرسل البندق فكان سهماً ماضياً لأنه " من حمئ مسنون " .

فلذلك رسم بالأمر العالي لا زال طائره ميموناً، ودر أمره في أدراجِ الامتثال مكنوناً، أن يفوضَ إليه حكم البندقِ بالشام المحروس على عادة من تقدمه في ذلك من القاعدة المستمرة بين الرماة. فليتول ذلك ولاية يعتمد الحق في طريقها الواجب، ويظهر من سياسته التي شخصت لها لعيون وكأنما عقدت أعالي كل جفن بحاجب، وليرعَ حق هذه الطريقة في حفظ موثقه، وليجر على السنن المألوف من هذه الطائفة " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " ، بحيث إنه ينزلُ كل مستحق في منزلته التي لا يعدوها ويقبل من الرامي دعوى صيده، ويرد ما لا يعتدُ بها الرماة ولا يعدوها، ومتثبتاً فيما يحمل إليه من الرمي للحكم ولا يرخ على غيه ذيلاً، محرراً أمر المصروع الذي أصبح راميه من كلفه به مجنون ليلى، جرياً في ذلك على العادة المألوفة والقاعدة التي هي بالمنهج الواضح موصوفة، وليتلقَ هذه النعمة بشكر يستحق به كل خير، ويتلُ آيات الحمد لهذا الأمر السليماني الذي حكمه حتى في الطير. والله يتولى تدبيره، ويُصلح ظاهر حكمه والسريرة، والاعتماد على الخط الكريم أعلاه، الله الموفق بمنه وكرمه. إن شاء الله تعالى.
أحمد بن أبي بكر بن ظافر الخطيبالأمير الصدرُ الرئيس مجد الدين بن القاضي مُعين الدين الهمداني المالكي، خطيبُ الفيوم. كان أديباً لبيباً فطناً أريباً، عنده حشمة ورياسة، وصدارةً ونفاسة، وكان خطيبَ الفيوم، خاضعاً للحي القيوم، يبكي العيونَ إذا خطب، ويحذرهم البوائق والعطب، وكانت له فضائل، وفيه من الكلمة شمائل، قال شيخنا أثير الدين: كان أحد رجالات الكمال صورةً وكرماً، وعلماً وأدباً.
قلت: ولم يزل على حاله إلى أن ظفر على ابن ظافر من الموت ظافر، وأنشب فيه مخالبه والأظافر. توفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
وكان صاهر الصاحب تاج الدين بن حنا، وهو ابن بنت الشيخ مجد الدين الإخميمي، وهو أخو قاضي القضاة شرف الدين المالكي الحاكم بالشام، وسوفي يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ومن شعره: .......
أحمد بن بلبانالشيخ الإمام العالم الفاضل المفتن شهابُ الدين أبو العباس. ابن النقيب البعلبكي الشافعي، مفتي دار العدل وشيخ الإقراء بالشام.
فاضل زاد على الأفاضل، ومفتن قصر عنه من يناظرُ أو يناضل، أقرأ الجماعة للسبع، واحتفوا كأنهم أشبالٌ اجتمعوا على السبع، وكان نحوه يعذبُ في الأسماع منطقهُ، ويروقُ إلى القلوب رونقهُ، لو رآه ابن مالك كان له عبداً، أو ابن الحاجب لفداه بعينه نقداً، ولفقهه على درس منهاجه فيه روضة، وفتواه تمرعُ أرض السامع وتملأ حوضه. وأصوله باسقة، وسهامُه إلى الأغراض بالصواب راشقة، ينظم وينثر جيداً، لكنه مقل ولو شاء لم يكن عن الإكثار متحيداً. هذا كله إلى تواضُع زانه، وتضاؤلٍ رفع شأنه وما شأنه، وعلا به أقرانه، وحشا به فضله فما أسعد قرانه:
تلوح بين الدنيا فضائله ... كما تبرجت الأقمارُ في السدفِ
بادي التواضُع للأقوامِ من كرمٍ ... إن التواضع أقصى غايةِ الشرفِ
ولم يزل على حاله إلى أن نُقب القبرُ لابن النقيب، وأصابت كمالهُ عينُ الرقيب. وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري شهر رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة.
ومولده في سنة أربع وتسعين وست مئة بقلعة بلعبك. وكان والده بها نقيباً، واجتمعتُ به بالديار المصرية بالشام غير مرة، وكان يتفضلُ ويجلسُ عندي بالحائط الشمالي من الجامع الأموي بدمشق وآخذُ من فوائده وألتقط من فرائده.
قرأ على الشيخ مجد الدين التونسي، وعلى الشيخ شهاب الدين الكفري بالسبع، وحفظ الشاطبية والمنهاج للنووي - رحمه الله تعالى - ، وقرأ على الشيخ كمال الدين الزملكاني، وعلى الخابوري، وعلى قاضي حماة وأذن له بالإفتاء بعد العشرين وسبع مئة وأذن له بذلك، وقاضي القضاة جلال الدين القزويني بالقاهرة سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وحفظ مختصر ابن الحاجب والطوالع، وبحثهما على الشيخ شمس الدين الأصفهاني، وقرأ التقريب والتيسير في علوم الحديث، والعمدة على ابن العطار، وحفظ الحاجبية وألفية ابن مالك وبحثهما على قاضي القضاة ابن مسلم الحنبلي، وعلى ابن المجد البعلبكي.

وناب في القضاء بدمشق لقاضي القضاة شهاب الدين ابن المجد، وتردد إلى القاهرة مرّات على فرس بريدٍ تارة، وتارة على خيله لزيارة القاضي علاء الدين ابن فضل الله، وأخذ له في بعض سفراته تدريس العادلية الصغيرة لما شغرت من فخر الدين المصري مضافاً لما بيده من تدريس القليجية الشافعية برحيبة خالد، وأخذ حلقة الاشتغال بالجامع الأموي في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بعد الشيخ برهان الدين الفزاري، وكان بيده الإقراء بالأشرفية جوار الكلاسة، ومشيخة الإقراء بتربة أم الصالح.
وكان أولاً يقرئ أولاد القاضي محيي الدين بن فضل الله، فحصل بذلك هذه الجهات، وأخذ له القاضي بدر الدين ابن فضل الله وظيفة الإفتاء بدار العدل في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر.
وكان له ذوقٌ جيد في الأدب وينظم وينثر في الأدب جيداً، ولكنه يتخيل في نفسه لما كان عنده من الانجماع لغلبة السوداء عليه، فما يعمل شيئاً.
وبيني وبينه مكاتبات مذكورة في الجزء الخامس من التذكرة التي لي، وكتبت إنا إليه وإنا بالرحبة وهو مقيم بالقاهرة أسأله عن أخبار الأصحاب:
رحلتُ وفي مصر لي سادةٌ ... يطولُ غرامي بهم واكتئابي
جفوني وضنوا بأخبارهم ... فأصبحتُ أطلبها من صحابي
عسى خبرٌ عنهم صادقٌ ... أطالعُه من كتابِ الشهاب
وكتبت له توقيعاً فإفتاء دار العدل بدمشق ارتجالاً، وهو: رسمَ بالأمر العالي المولوي السلطاني الصالحي العمادي، لا زال شهابه لامعاً، وسحابه بالنوال هامعاً، وجنابه لأرباب العلم جامعاً، أن يرتب في كذا ركوناً إلى ما أتقنه من العلوم، وسهر له والناسُ نيام بشهادة النجوم، وسكوناً إلى ما حصله في مذهبه وحرره، وأوضح دليله بالمباحث وقرره، لأنه المقرئ الذي قتل السبع بدربته خبراً، ونزل به أضيافُ التلاميذ وكان لهم من السخاوي أقرأً، والنحوي الذي لو رآه الفارسي ترجل له إعظاماً، ولو شاهده ابنُ مالك كان له غلاماً، والفقيه الذي لو عاينه صاحبُ التنبيه غدق به هذا الأمر ونام، ولو نظر الغزالي لما كان حاك برود تصانيفه ولا رقمها بالأقلام، والأصولي الذي لو تصدى له السيفُ قطعة بالقول المصيب، ولو تقدم عصره قليلاً قال الناس: ما ابن الحاجب في العين كابن النقيب، والحبرُ الذي تتفيأ الأقلامُ إلى ظل فتأويه، وتبدو وجوهُ المذهب وقد نضرها كأنها البدرُ في دياجيه. فليباشر ذلك على العادة المألوفة، والقاعدة المعروفة، مباشرةً تكون لدار العدل طرازاً، ولذلك الحفل إذا أرشدهم قوله إلى النجاة مجازاً، بدياً من فتاويه ما يقطعُ الحجج، ويقذفُ بحره الزاخرُ درها من اللجج، ويمضي السيف قوله فيقول له الحق: لا إثم عليك ولا حرج، فرب قضايا لا يكشف قناع إشكالها غير فتواه، وأمورٍ ينجلي فيها الحق ببيانه وينظرُ جدواه، وتقوى الله أفضلُ حليةٍ زانت أفاضل الناس، وخيرُ غنيمة تعجلها أو لو الحلم والبأس، فلتجعلها قائده حلمه، وفائدة علمه، فقد أصبح نجي الملوك، وقوله عندهما نفسُ من الدر المنظم في السلوك، وألفاظه عندهم حجةُ في الأوامر والنواهي، وفتاويه عندها المال وإليها التناهي، والله يسدد أقواله، ويوطدُ ركنَ أقواله بالتقوى فإنها أقوى له. والخط الكريم أعلاه حُجةٌ في ثبوت العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى.
أحمد بن بيلبكشهابُ الدين ابن الأمير بدر الدين المحسني.
كان والده نائباً بثغر الإسكندرية، كتب طبقةً عليا، ونسخ بخطه أشياء، وعانى النظم والنثر، وأتى منها بحدائق الزهر، وجمع وصنف، وأطرب الأسماع بكلامه وشنف وراح عند الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - في آخر أمره، وكان يسمر عنده في الليل لتفريج هم صدره، ويقرأ بين يديه في مجلدات كان يحضرها، ويريه أوائلها فينظرها، ونظم بعض مسائل التنبيه أتى بذلك على غالبها، وبرز في نظمها ولطف ما قال به في قالبها، وكان يعرضها أولاً فأولاً على العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي إلى أن كملها، وختم عليه مُفصلها ومُجملها، وتوجه بعد تنكز رحمه الله تعالى - مرات إلى مصر وعاد، وألفت دمشقُ منه التداني والبعاد، وآخر ما فارقها، ونبذ عهدها وسارقها، وأنه توجه إلى مصر، وسعى في نيابة دمياط، وعمر هناك عمارة وقع منها في ألسنة العوام بين هياط ومياط.

ولم يزل بها نائباً إلى أن أساء الدهر إلى ابن المحسني، وذهب من حياته بالرائق السني، وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وتسعين وست مئة.
وهو أخو الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني، وذهب من حياته بالرائق السني، وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وتسعين وست مئة.
وهو أخو الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لله ساقٍ رشيقُ القد أهيفه ... كأنما صيغَ من در ومن ذهب
يسقي معتقةً تحكي شمائلهُ ... أنوارُها تزدري بالسبعة الشهب
حبابها ثغرُه والطعمُ ريقُته ... ولونُها لونُ ذاك الخد في اللهبِ
قلت: شعر متوسط.
وكتبت أنا إليه وقد وقفت له على قصيدة في هذا الوزن بهذا الروي يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أيا قاصداً في مدحه أشرف الورى ... وخير نبي في البرية أرسلا
جلوت علينا فيه وجه قصيدةٍ ... أجل من البدرِ المنير وأجملا
إذا نحن شبهنا به نظم شاهرٍ ... وكل قوافيها الحسانِ تقولُ: لا
أحمد بن أبي بكرالأمير شهاب الدين ابنُ الأمير الكبير سيف الدين نائب الشام، وأحدُ الولدين الذكرين اللذين خلفهما الأميرُ سيفُ الدين تنكز، كانا بمصر من جملة الأمراء، وكان هذا أحمد هو الصغير، والأمير ناصر الدين محمد هو الكبير، وكان أسمر طويلاً، وقد اثر الجدري في وجه.
توفي - رحمه الله تعالى - في طاعون مصر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
أحمد بن حامد بن عُصبة
القاضي، جمال الدين الحنبلي، قاضي بغداد.
تولى قضاء بغداد، وكان فيها بمنزلة الأستاذ إلا أن خربندا تغير عليه خاطرهُ، وتنكبَ عنه من نسيم إقباله عاطرهُ، فيقال إنه أخرق به وعزره، وكاد لولا قليلٌ أن يُرى وقد نقبَ جبنه وفزره.
ما زال في حاله إلى أن عاملته الحياة بالجفاء، وأعوزته الوقوف على ربوع الشفاء.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن عليالإمام الحاكم بأمر الله، أبو العباس بن الأمير أبي علي القبي - بالقاف والباء الموحدة - وعلي المذكور ابن الخليفة المسترشد بالله بن المستظهر الهاشمي العباسي البغدادي، قدم مصر، ونهض ببيعته الملكُ الظاهر، وبويع سنة إحدى وستين وست مئة، وخطب بالناس، وعقد بالسلطنة للملك الظاهر بيبرس.
وكان ملازماً لداره، وكان شجاعاً له إقدام، وعنده ثباتُ جنان في الحرب وإقدام، لا يفر من الحين المجتاح، ولا يرى في وسط المعركة إلا هو إلى الموت يرتاح. هذا إلى ديانة متينة وصيانة مبينة. له راتب يكفيه من غير سرف، ويُقيم أوده إذا ماد أو انخرف.

امتدت أيامه قريباً من أربعين سنة، ثم إنه عهد بالخلافة إلى ولده المستكفي بالله أبي الربيع سليمان، وكان الحاكم قد نجا في كائنة بغداد، واختفى، ثم إنه سار مع الزين صالح بن البنا والنجم بن المشا، وقصدوا أميرَ خفاجة حسين بن فلاح، وأقاموا مدّة، ثم توصلوا إلى دمشق، وأقام بالبر عند عيسى بن مهنا، فعرف به الناصر صاحب حلب، فطلبه، وجاء هولاكو، ولما جرى ما جرى، ودخل المظفر دمشق بعد واقعة عين جالوت، بعث أميراً يطلب الحاكم، فاجتمع به وبايعه، وتسامع به عربُ الشام، فساروا معه، وآل فضل خلق، فافتتح بهم عانة وهيت والأنبار، وحارب القراؤول في سنة ثمان وخمسين وست مئة، فهزمهم، وقتل منهم ثمانية مقدمين، وأزيد من ألف، وما قُتل من عسكره سوى ستة، فأقبل التتار مع قرابغا، فتحيز الحاكم، وأقام عند ابن مهنا، ثم كاتبه طيبرس نائب دمشق، فقدمها، فبعث به إلى مصر، وصحبه الثلاثة الذين رافعوه من بغداد، فاتفق وصول المستنصر قبله إلى مصر بثلاثة أيام، فخاف الحاكم منه وتنكر، ورجع ماشياً وصحبته الزين الصالحي إلى دمشق، فاختفى بالعقيبة، ثم قصدا سلمية وصحبتهما جماعة أتراك، فقاتلهم قوم، ونجا الحاكم، وقصد الأمير البرلي، فقبل البرلي، فقبل البرلي يده وبايعه هو وأهل حلب، وساروا إلى حران فبايعه بنو تيمية بها، وصار معه نحو ألف من التركمان وغيرهم، وقصدوا عانة فصادفوا المستنصر الأسود، فعمل عليه، واستمال التركمان فخضع الحاكم وبايعه، والتقوا التتار، فانكسر المسلمون، وعدم المستنصر ونجا الحاكم، فأتى الرحبة ونزل على ابن مهنا، فكتب إلى السلطان، فطلبه، فسار إلى القاهرة، وبويع بإمرة المؤمنين، وسكن في برج القلعة ليس له في الأمر شيء سوى الدعاء في الخطبة، وطلب له إلى مصر الإمام شرف الدين بن المقدسي، فأقام معه نحو سنة يفقهه ويعلمه ويُكتّبه، وأجاز له ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر، ولم يحدّث.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: وخرج له ابن الخباز بخطه الوحش وانتخابه العفش أربعين جزءاً بالإجازة، فبعث بذلك إلى الوراقة.
وكانت وفاته سنة إحدى وسبع مئة، في ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، ودفن بمشهد السيدة نفيسة.
وتقدم ذكر حفيده أحمد بن سليمان، وسيأتي ذكر ولده سليمان - إن شاء الله تعالى - في حرف السين مكانه.
أحمد بن الحسنابن عبد الله بن عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي.
قاضي القضاة، شهاب الدين أبو العباس ابن الشيخ شرف الدين ابن الحافظ جمال الدين.
كان من أعيان الحنابلة وفرسانها المُقاتلة، جيداً في ذاته، خيراً في صفاته، درّس بالصالحية وبحلقة الحنابلة، وولي الإمامة بمحرابها، وولي القضاء بالشام نحواً من ثلاثة أشهر عوضاً عن قاضي القضاة تقي الدين سليمان في سنة تسع وسبع مئة في مستهل جمادى الآخرة، ولما جاء الملك الناصر من الكرك إلى دمشق عزله، وأعاد قاضي القضاة تقي الدين سليمان.
وكان فاضلاً، فقيهاً، مناضلاً نبيهاً، حسن العبارة، إذا جرى في ميدان علمه لا يشق أحدّ غباره.
وقرا الحديث، وروى عن ابن عبد الدائم.
ولم يزل على حاله إلى أن قضى إلى سبيل ربه، وعجز المداوي عن رقاه وطبه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في تاسع عشري شهر ربيع الأولى سنة عشر وسبع مئة.
ومولده ثاني عشر صفر سنة ست وخمسين مئة بسفح قاسيون.
أحمد بن الحسن بن محمدمجير الدين الخياط الدمشقي.
كان المذكور شيخاً خياطاً، وناظماً في ليل جهالته خباطاً، وربما ندر له البيت والبيتان، ورمى بالدرة فلقفها من أقلامه الحيتان، مع ثقل في ألفاظه، ما تنوء به أذهان حُفاظه. وكان كثير الداوى في هذا الفن، غزير الإدلال على من يسمع الحمام، وينشد قصدية قد عارضها في وزنها، ويقول: هكذا تكون الدرر في خزنها.
والبارحة ضربت المتنبي بألف بابوج، وجعلت طرطوره مثل السراقوج، وينشد قصيدة يعتقد أنها نظيرُ شعر ذاك، ويقول: هكذا تكون الجواهر في الأسلاك.
وشعره في عدة مجلدات، وليس لها نظير في بابها ولا لدات. قال لبنته المسكينة قبل موته: لا تبيعي كل مجلد من هذه بأقل من مئتي دينار، وإياك أن يغرك أحد، فيأخذها بدون هذا المقدار. فكانت بعد موته تبيع كل مجلد منها بدرهمين أو ثلاث، وتتعجب من الناس كونهم ما لهم عليها إقبال ولا انبعاث.

ولم يزل على ذلك الحال إلى أن لم يجد لمجير من الموت مجيراً، وبطل ما كان له من العادة والهجيرى.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، وقد قارب السبعين أو تجاوزها.
ومن شعره، ومن خطه نقلت:
إلى كم أيها الدهر الخؤون ... أهونُ وأنت صعبٌ لا تهونُ
ثكلتك لا خليل لديك يرجى ... صفاء الود منه ولا خدينُ
ولا سكن إليه من الليالي ... إذا اضطربت حوادثها سُكونُ
لا قرنٌ من الإخوانِ دمر ... به يحمى الذمار ولا قرين
ولا تربٌ يُصابُ ولا صديقٌ ... كما لم يجتمع ضب ونونُ
فدحضا ثم تعساً ثم عثراً ... لخطوكَ أيها الصعبُ الخؤون
فيا شر الدهور إلام ظمئي ... لديك ولا معينُ ولا معينُ
أكذبُ في لئام بنيك ظني ... فتصدقني المآربُ والظنونُ
وأسمح أهلِ هذا العصرِ نفساً ... بنائلِ خيره كزضنينُ
ولست فتى على وعك الليالي ... إلى غير المهيمن أستكينُ
وإن جار الزمان فلي قناةٌ ... على غمر الحوادث لا تلينُ
لأني من بني بيتٍ رفيعٍ ... عليه تنزلُ الروحُ الأمينُ
يغر ذوي الجهالةِ في حلمّ ... إذا طاشت حلومُهم رزينُ
وما علموا بأن جبال حلمي ... لهم من خلفها مقتي كمينُ
وألفاظّ أحدُّ من المواضي ... إذا شحذت مضاربها العيونُ
ومنها:
وفي متشاعري عصري أناسٌ ... أقل صفاتِ شعرهُم الجنون
يظنون القريضَ قوامَ وزنٍ ... وقافية وما شاءت تكون
وما علموا بأنّ الشعر مرقى ... دوينَ صعوده يندى الجبينُ
وعبء لو تحمله ثبير ... لأطاله ومنه بدا الأنينُ
وبحر نهى له غورٌ بعيد ... عزيزُ فيه لؤلوه الثمين
ومضمارُ فحولُ الشعر فيه ... لهم من وعر شقتهِ صفونُ
وقافيةٌ هي الذهبُ المصفى ... إذا امُتحن بل السحُر المبينُ
معانيها الثواقبُ والقوافي ... إذا يُفزعن أبكارٌ وعين
أحمد بن حسنالأمير شهاب الدين بن المرواني.
كان أول متولي البر بالكرك، وأخوه علاء الدين بن المرواني متولي البر بدمشق، فأعرف في وقت أنه طلبه السلطان الملك الناصر محمد إلى مصر، وكتب الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - على يده مطالعةً، وكتبا إلى الأمير سيف الدين بكتُمر الساقي وغيره بالشكر منه والوصية به، فأخذ الكتبَ وتوجّه بها، ولم يفتقدها إلا وهو بين يدي السلطان، فمدّ يده ليخرجَ المُطالعة، فمل يجد لها أثراً، فسقط في يده ودهش، فتلافى أمره سيف الدين بكتمر الساقي، وكتب إلى تنكز في معناه، فاستأنف المكاتبة له ثانياً، وجهزها في البريد إليه، فاقبل السلطان عليه بعد ذلك وعاد مكرماً.
وتولى نيابة بعلبك، ولم يزل فيها إلى أن طلب أخوه الأمير علاء الدين إلى مصر، وولاه السلطان الوجه القبلي، فطلبه الأمير سيف الدين تنكز من بعلبك وولاه مكانه في ولاية البر، فأقام به إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث وسبع مئة، وكان قد توجه إلى مصر، فحضر وهو مريض.
وكان فيه دين، يتلو القرآن ويتنفل وفيه خير وعبادة.
أحمد بن زكريا بن أبي العشائرالشيخ شهاب الدين أبو العباس المارديني.
روى الجزء الثاني من مشيخة ابن سلمة عنه. وكان مقيماً بدمشق يصحب القاضي محيي الدين بن الزكي وأولاده، وينتمي إلى ابن العربي. ثم إنه سافر في الجفل إلى القاهرة واستوطنها.
قال شيخنا البرزالي: وأجاز لنا بدمشق، وتوفي - رحمه الله تعالى - بالفيوم في شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة بماردين.
أنشدني شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس قال: أنشدنا المذكور، قال: أنشدنا الزين الجوبان لنفسه:
انظر إلى الشمس وقد عممت ... رؤس الهضاب الصلعِ بالأصفر
كأنها في الجو قلاعةٌ ... وجاء فلاحٌ عليها خري
أحمد بن خليل

شهاب الدين البزاعي التاجر الشاعر، له ديوان شعر، حدث بشيء منه، سمع منه الطوفي الحنبلي، وسراج الدين عبد اللطيف بن الكويك، والسديد بن كاتب المرج، وناصر الدين محمد بن الثقة الأسنائي.
كان المذكور سفاراً، يحمل من الفضل أسفاراً، له عناية بديوان أبي الطيب، وميل إليه كما يتحدر قطر الصيب، يراجعه ويكرر على أبياته، ويعتني بإظهار عجائبه ومخبآته، ولم يزل على حاله إلى أن مرغت بالموت صفاته، وشرعت وفاته.
توفي - رحمه الله تعالى - يوم عاشوراء سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وقد قارب المئة سنة.
ومن شعره: ....
أحمد بن سعد بن محمدأبو العباس العسكري الأندرشي الصوفي.
شيخ العربية في زمانه بالشام، وبارقها الذي ينتجعُ قطره من شام، برع في النحو ودرسه، واقتطف أثمار ما علقه من الفوائد وغرسه. أقرأ التسهيل بدمشق لجماعة تخرجوا به وانتفعوا، وخرجوا من الجهالة واندفعوا. وشرح التسهيل، وجعل غامضة كثيباً هيل.
نسخ بخطه تهذيب الكمال واختصره، وشرع في تفسيرٍ كبيرٍ وفر وقته عليه وقصره، وكان ديناً، ورعاً صيناً، منقبضاً عن الناس إلى الغاية، ومنجمعاً عنهم ليس له بأمرهم عناية، لم أر في عمري ولا رأى غيري مثل انجماعه، ولا مثل اطراحه أمور الناس ودفاعه. حضرت يوماً عند العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وهو عنده بعدما أمسك الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - بخمس سنين، فذكر إمساك تنكز، فقال: وتنكز أمسك؟ قلنا: نعم، وجاء بعده أربعة نواب، الأمير علاء الدين ألطنبغا، الفخري، وأيدغمش، هذا الأمير سيف الدين طقزتمر! فقال: ما علمت بشيء من هذا، وما في ذهني أن تنكز أمسك! فتعجبنا منه ومن تخليه عن أ؛وال الناس والاشتغال بهم، ويقع في دمشق مثل واقعة تنكز، والفخري، وألطنبغا، وهو في دمشق ما يعلم بشيء من ذلك! هذا من أعجب ما يكون.
وكان له بيت في الجامع تحت المأذنة الشرقية ولم يزل مكباً على التسهيل حتى محقه الإسهال، وذكره الموت بعد الإمهال والإهمال.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي القعدة سنة خمسين وسبع مئة، ومولده بعد التسعين والست مئة، ووقف كتبه على أهل العلم، وجعل أمره لقاضي القضاة.
أحمد بن سليمان بن محمد بن هلالالصاحب تقي الدين، ابن القاضي جمال الدين، ابن القاضي أمين الدين، ابن هلال.
خرجت له شفاعة من دور السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - ونحن معه بالقاهرة في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة بأن يكون في جملة كتاب بدمشق، فوعدهن بذلك إذا عاد إلى دمشق، ثم إنه ذكر لأمره فما وافق، ثم إنه سعى بعد موت جمال الدين عبد الله بن غانم في زمن طقزتمر أن يكون عوه فما اتفق له ذلك، فتوجه إلى مصر، وسعى في أيام الملك الكامل، وبذل مبلغاً كثيراً في وكالة بيت المال والحسبة، وتوقيع الدست وبالشام، فرسم له بذلك، وبلغ مبلغاً كبيراً، ثم توقفت القضية، فلما تولى الملك المظفر، قام معه الأمير سيف الدين بن فضل والصواف تاجر الخاص فرسم له بنظر الشام عوضاً عن الصاحب علاء الدين بن الحراني، لأنه كان قد تصور من الوظيفة، وحضر إلى دمشق في زمن الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي بعد عيد رمضان سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وباشر الوظيفة مدة تقارب نصف سنة إلى أن عُزل بالصاحب شمس الدين موسى ابن التاج إسحاق، وحضر إلى دمشق في أواخر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.

وكان شاباً طويلاً حسن الصورة، مليح الشكل، حركاته على الظرف واللطف مقصورة، قد خط عذاره بقلم الريحان، وبسم عن ثغر كأنه الحُباب على بنت الحان، بعمة أنيقة اللف، دقيقة الصف، وقلُمه سريع الحركة، وحروفه أحسن في دُجى الحبر من النجوم المشتبكة، واستخف الناس به، وقالوا: هذا صغيرٌ على هذه الوظيفة، قليل الدربة بتنفيذ أمور الدولة العالية المنيفة، فلطف الله به، وجاءت الجهات من عيونها، وماتت نفوس حساده بغبونها، وكان قلمه رطباً لا يرد سائله، ولا يخيبُ من أمله وسائله، رأد معاليم جماعة، وأجرى قلمه بصلةِ الرزق ومد باعه، إلا أن الناس عبرت عيونُهم عليه، ولعبوا في التصريف بين يديه، وقلت حرمته، وحلت بذاك جرمته، ونهب المال وتمحق، ووقع في الضياع وتوهق، فكتب الأمير سيف الدين يلبغا، وطلب الصاحب شمس الدين موسى، فحضر كما ذكر أولاً، ولم يجد الصاحب تقي الدين عن دمشق متحولاً، فلازم داره، وأقام مكانه كالقمر في الدارة.
وكان قد استدان من الصواف مبلغ ثمانين ألف، واتفق في تلك المدة أن حضر الأمير سيف الدين صرغتمش إلى دمشق متوجهاً بالأمير فخر الدين إياس إلى نيابة حلب، فطالب تقي الدين المذكور مطالبةً فيها غلظة، وأراه مع مهابته أخلاقاً فظة، وجدّ له واكفهر، وجدّ له وازبأر، فشفع فيها غلظة، وأراه مع مهابته أخلاقاً فظة، وجد له عوده من حلب، وأنه ما يحوجه بعد هذا المجلس إلى طلب. فلما كان قبل وصول الأمير سيف الدين صرغتمش إلى دمشق بليلة واحدة، ثارت على تقي الدين حمى بالهلاك معترفة وللحياة جاحدة، وتبيع مع الحمى دمٌ كثير، وهيج كربٌ للتلاف مثير، أعجز الأطباء عن خلاصة أو فكاكه، وتركوا ابن هلال في دائره هلاكه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الجمعة سادس شهر رجب الفرد، سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكان عمره خمساً وعشرين سنة.
أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة ما كتبه إلى المذكور
هنيتَ ما أوتيته من دولةٍ ... حملتكَ في العينين من إجلالها
في مقلةِ الأجفان أنت فقل لنا ... أنت ابن مقلتها أو ابنُ هلالها
وانتقد الأفاضل عليه هذا المعنى، لأنه ما يستقيم له المعنى الذي أراده، فأنشدني بعد ذلك الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الخياط من لفظه لنفسه:
إن الوزارة والكتابة لم تجد ... أحداً سواك يزيدُ في إجلالها
جعلتك في العينين منها يا ترى ... أنت ابنُ مقلتها أو ابن هلالها
أحمد بن سليمان بن أحمد بن الحسن القبيبضم القاف وتشديد الباء - ابن أبي بكر بن علي، ابن الفضل بن أحمد بن عبد الله ابن إسحاق ابن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، الإمام العباسي المصري، أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، أبو القاسم ابن أمير المؤمنين المستكفي ابن أمير المؤمنين الحاكم، وجده الفضل هو المسترشد بن المستظهر بن المقتدي بن القائم بن القادر بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور.
لما توفي والده المستكفي بالله بقُوص - كما سيأتي في ترجمته في حرف السين - عهد بالأمر إلى ولده هذا أحمد، فلم يوافق الملك الناصر محمد بن قلاوون على ذلك كراهية في والده، وبويع أبو إسحاق إبراهيم ابن المستكفي بيعة خفيّة لم تظهر، ولم تبد كواكبها في أفق الخلافة ولم تُزهر، واستمر الأمر على ذلك إلى أن تولى الأشرف كجك في أيام قوصون، فطلب أبا القاسم هذا وبايعه بيعة ظاهرة، سارية في الآفاق سائرة، وكان قد لقب أولاً بالمستنصر، فلقب الآن بالحاكم، وكني أبا العباس، واشتدت أواخي خلافته والأمراس.
ولم يزل خليفة بمصر من سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة إلى أن خمدت أنفاسه، ونقضت من الحياة أحلاسه، وتوفي - تغمده الله برحمته في ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
أحمد بن عبد اللهابن أحمد بن إبراهيم بن المسلم.

بضم القاف وتشديد الباء - ابن أب بكر بن علي، ابن الفضل بن أحمد ابن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، الإمام العباسي المصري، أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، أبو القاسم ابن أمير المؤمنين المستكفي ابن أمير المؤمنين الحاكم، وجده الفضل هو المسترشد بن المستظهر بن المقتدي بن القائم بن القادر بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور.
لما توفي والده المستكفي بالله بقوص - كما سيأتي في ترجمته في حرف السين - عهد بالأمر إلى ولده هذا أحمد، فلم يوافق الملك الناصر محمد بن قلاوون على ذلك كراهية في والده، وبويع أبو إسحاق إبراهيم ابن أخي المستكفي بيعة خفيّة لم تظهر، ولم تبد كواكبها في أفق الخلافة ولم تزهر، واستمر الأمر على ذلك إلى أن تولى الأشرف كجك في أيام قوصون، فطلب أبا القاسم هذا وبايعه بيعة ظاهرة، وسارية في الآفاق سائرة، وكان قد لقب أولاً بالمستنصر، فلقب الآن بالحاكم، وكني أبا العباس، واشتدت أواخي خلافته والأمراس.
ولم يزل خليفة بمصر من سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة إلى أن خمدت أنفاسه، ونقضت من الحياة أحلاسه، وتوفي - تغمده الله برحمته في ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
أحمد بن عبد الله

ابن أحمد بن إبراهيم بن المسلم.
القاضي النبيل الماجد، شهاب الدين ابن البارزي، ناظر الأوقاف بدمشق، حدث بالغيلانيات عن غازي الحلاوي.
ورد إلى دمشق في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة من حماة، فأكرمه ورتبه في نظر الأوقاف، وكان في حماة في زمن الملك المؤيد عماد الدين صاحباً، وكان يحبه ويكرمه، وكان كثير البشر طلق الوجه، لا يعرف الرد ولا النجة، كثير التودد والتقرب إلى القلوب، ولا يعرف إلا إيجاب الحقوق على نفسه دون السلوب، يأخذ نفسه بالسيادة التي اعتادها، وأكرم الله له ولادها، وألف رضاعها فما أضاعها بختانة ولادها، يتحيل على أن يخدم الناس بما عنده، ويودّ أن كل أحد يستظل بأنه وزنده، ويختار أن المحتاج والمحتال لا يقتدي غلا به ولا يقتدحُ إلا زنده، ورد على أهل دمشق غريباً، فكان إلى كل القلوب قريباً، وإذا عاداه غر به، رده بالإحسان إليه حبيباً، بأخلاقٍ من أين للنسيمات لطفها، أو للغصون ميلها وعطفها.
ومناقبٌ بيضُ الوجوه مضيئةً ... أبداً تكاثرُ السنَ المدّاحِ
من قاس ذا شرف به فكأنما ... وزن الجبال الجبالَ القودَ بالأشباحِ
ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن برز إلى لحده، وخلف السؤدد ينوحُ عليه من بعده. وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وكان قاضي القضاة تقي الدين السبكي يعظمه ويحترمه ويبره.
أحمد بن سليمانابن مروان بن علي بن سحاب.
الشيخ العدل الفاضل، الأديب الصدر شهاب الدين أبو العباس ابن الشيخ نجم الدين البعلبكي.
كان تاجراً بالخواصين مدة، ثم ترك ذلك، وشهد على الحكام، ودخل في شهادة القيمة، وكان تقدم له اشتغال في العربية والأدب ونظم الشعر، وله قصائد.
وقرأ القرآن على علم الدين السخاوي، وعرض عليه الشاطبية قال شيخنا البرزالي: رواها لنا عنه مرات، وروى لنا أيضاً جزء سفيان، وجزء الصفار، والأربعين السلفية، وتاريخ هاشم بن مرثد، وروى لنا نسخة أبي مسهر عن المشايخ الأربعة: التاج الشيرازي، وابن علان، وابن ريش، وإبراهيم بن خليل، وغير ذلك.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سادس ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وعشرين وست مئة.
أحمد ابن سلامةابن أحمد بن سلامة. الإمام العلامة، قاضي القضاة بدمشق المالكي، القاضي فخر الدين أبو العباس ابن القاضي تاج الدين أبي الخير بن القاضي زين الدين أبي العباس الإسكندري.

كان جبلاً في علمه، وشعلةً في فهمه، بحراً يتموج فروعاً، وحبراً لا يرى في معرك الجدال مروعاً، هذا إلى تفسير وحديث، ومعرفة تواريخ من قديم وحديث، وأصول برز في معرفة مسائلها، وعرف مأخذ قربها من الحق ووسائلها، جلس ببلده مدة للإفادة، وكان للطلبة عليه في كل وقت قدومٌ ووفادة، وانتفع الناس بعلومه المتقنة، وفوائده المفتنة. وناب هناك في الحكم، وشرف نفسه عن قبول الهدية والشكم، فشكرت سيرته، وطهرت سريرتُه، وظهر بالوجاهة، فنقل إلى قضاء القضاة بدمشق فوردها بل وردها، وعراها من السوء إذ عراها وجردها، وأقام بها سنة ونصفاً، ثم دعاه خالقه، وقذف به في حفرة القبر حالقه.
وتوفي رحمه الله تعالى - بكرة الأربعاء مستهل ذي الحجة سنة ثمان عشرة وسبع مئة.
وكان قدومه إلى دمشق في سابع عشري جمادى الأولى سبعة عشرة وسبع مئة.
وكان محمود الطريقة، وجمع في قضائه بني العلم المتين والنزاهة والصرامة، وهو من بيتٍ كبير بالإسكندرية.
أحمد بن طيبغاالأمير شهاب الدين المعروف بابن أخي الفخري، أحد أمراء الطبلخانات بالشام، توجه لنيابة الرحبة، ثم إنه طلب الإقالة منها، وحضر إلى دمشق في سنة سبع وخمسين وسبع مئة وأقام بها قليلاً، ثم توجه لنيابة حمص، فأقام بها، فلم توافقه، وماتت زوجته وجماعةٌ من ألزامه وأهله ومماليكه، وطال مرضهُ فيها إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في بكرة الثلاثاء تاسع شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وسبع مئة.
وكانت نيابته بحمص قريباً من عشرة أشهر، وكان شكلاً حسناً فيه حشمةٌ ورئاسة، وحُمِدَت سيرتُه في النيابتين، وكان قد وليها بعد موت نائب حمص الأمير علاء الدين علي بن الملك الزاهر.
أحمد بن عباسابن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الماكسيني الأصل ثم الدمشقي، ناصر الدين أبو العباس بن ناصر الدين الماكسيني أبي الفضل.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن الأمير شرف الدين يعقوب بن محمد بن الحسن الهذباني، وحدّث والدُه عن حَنبَل، وهو من شيوخ الدمياطي. وروى جدّه عن الحافظ ابن عساكر.
روى لنا عنه ابن الصابوني. وهذا الشيخ كان جندياً في دولة الملك الصالح أيوب، وكان رجلاً جيداً ملازماً للصلوات في الجامع.
توفي " رحمه الله تعالى " في أوائل سنة إحدى وسبع مائة.
مولده سنة خمس عشرة وست مائة.
أحمد بن العباس بن جَعوان
الإمام الزاهد شهاب الدين الأنصاري الدمشقي الشافعي، أخو الحافظ شمس الدين محمد، وسيأتي ذكره في المحمدين إن شاء الله تعالى.
روى أحمد هذا " جزء ابن عرفة " عن ابن عبد الدائم، وسمع مع أخيه كثيراً، وأقبل على الفقه فبرع فيه، ولم يكن من يوفيه قدره لما يوافيه، وأفتى الناس زماناً، وانقطع عنهم ينثر من العلم جماناً، وهو من تلامذة الشيخ محيي الدين النووي.
وتوفي رحمه تعالى سنة تسع وتسعين وست مائة
أحمد بن عبد اللهالقاضي تاج الدين أبو الفضائل، ابن الصاحب أمين الدين.
كان قيماً بصنعة الحساب، إليه الانتماء والانتساب، يخدم جريدته بنفسه، ويتميز بذلك على أبناء جنسه، فلا يحتاج إلى كشف عامل، ولا يريد مع نفسه مشقة سيف ولا هِزّة عامل، يكاد يعمل محاسبة كلِّ أحد من ذهنه، ولا يحتاج إلى مساعد في ذلك، ذكاءً من فطنته وإتقاناً لفنّه، هذا إلى عفّة زانته، وأمانةٍ لا يعلم أحد أنها حابته ولا خانته. تنقّل في المباشرات العالية، وانفصل عنها وثناؤه فيها يرفض نفحات الغالية، إلا أن الأقدار لم تُصافه، ولم تعامله بما يحبُّ من إنصافه، وآخر ما مات تحت العقاب، ورأى الذل الزائد بعدما خضعت له الرقاب.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة خمس وخمسين وسبع مائة أو في أواخر شوّال.

كان أولاً قد دخل هو وأخوه القاضي كريم الدين ديوان الإنشاء في وزارة أبيهم، واستمرا في جُملة كتاب الإنشاء مدة، ولما عرض السلطان ديوان الإنشاء في سنة تسع وعشرين وسبع مائة، أخرجهما، ثم أنه ولى القاضي تاج الدين استيفاء الصُّحبة وخرج القلاع الحلبية كاشفاً هو والأمير سيف الدين جَرَكْتُمر وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مائة، وبقي في استيفاء الصحبة على أكمل ما يكون، وترامى إلى النّشّو وأحبّه، فلما كان في سنة تسع وثلاثين وتولى نظر الدولة، وولي أخوه كريم الدين استيفاء الصحبة، فلم يزل فيه إلى أن أمسك هو ووالده الصاحب أمين الدين والقاضي شرف الدين النشّو، وعوقبوا. ومات والده تحت العقوبة والنشو، وصودر تاج الدين وأقام إلى أن أفرج عنه، فحضر إلى القدس وأقام فيه مجاوراً مدة، وعمل مجلداً في مساحته، أعني المسجد الأقصى والحرم وما فيه من المعابد والقباب والأبواب، وتعب عليه، وأجازني روايته عنه في سنة خمس وأربعين وسبع مائة فطلب من القدس وتولى نظر البيوت بالقاهرة، فاتفق له مع أرغون شاه لما كان يعمل الأستاذ داريّة ما أوجب أنه طلب الإعفاء، وأظنه بعد ذلك دخل إلى ديوان الإنشاء.
ثم إنه تولى نظر النظار بالشام، فحضر في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر، وثّمر وعّمر وأرضى الناس، ووصلت إليهم حقوقهم، وكان لا يحابي أحداً ولا يحاسنه، لكنه طلب الإقالة، فأُعفي من نظر الشام، وتوجه إلى مصر وأقام مدة، ودخل ديوان الإنشاء، وأقام به إلى أن أمسك الوزير علم الدين بن زنبور، فتولى نظر الجيش بالديار المصرية فحقّق ودقّق وما أرعى أحداً. ولما عُزل القاضي بدر الدين من نظر الخاص وقال: معلوم نظر الجيش يكفيني، وباشر ذلك وهو على قِدم العدالة فيه والأمانة وعدم الخيانة إلى أن تولى السلطان الناصر حسن ثانياً، فغيّروا خواطره عليه فأمسكه، وصودر وعوقب، وتنوّعوا في عقابه، ومن ذلك أنهم حلقوا رأسه وجرحوه بالموس، ثم جعلوا في قُبعِه نبات وردان وألبسوه فوجد لذلك ألماً مُبرّحاً، نسأل الله العفو والعافية. وكان ذلك من حقد الأمراء والخاصكيّة عليه، لأنه ما راعاهم بل راعَهَم، ولم يحفظ جانبهم وأضاعهم.
وكنت قد كتبت له رحمه الله وأنا بالقاهرة توقيعاً شريفاً باستيفاء المارستان المنصوري عوضاً عن أخيه شمس الدين، وهو: " أما بعد حمد الله الذي زان أيامنا الشريفة بتاجها، ومنحَة من السيادة طريقةً لا تنكبُ السعود عن منهاجها، وخصّه بمناقب فرائدها اتساق اللآلي المنظمة في ازدواجها، وأحله من المعالي رُتبةً تحسدها الكواكب المشرقة في شرف أبراجها، وصلاته على سيدنا محمد الذي حضّ على المعروف وحث، وأذاع الجميل للناس كافةً وبث، ونشر لواء الثناء على المُحسنين ونثّ، وتّمم مكارم الأخلاق، فجدّد منها ما كان قد بلي ورمَّ مارث، وعلى آله وصحبه الّذين ما منهم إلا من له الفضلُ المستوفى، والجود الأوفى، صلاة يكون الرضوان لها حِلفاً، وتبوّئهم عند الله منازل الزُّلفى، وسلامه " .

فإنه لّما كان البيمارستان المنصوري وقف والدنا الشهيد الملك المنصور قد الله روحه ونور بالرضوان ضريحه، أجلِّ القُرُباتِ نفعاً، وأخصبَ المثُوبات مرعى، يجري نفعُ أوقافه على الخاص والعام، وينفقُ من حواصله في اليوم ما يُنفقُ من غيرها في العام. وتخفق راياتُ الآيات الكريمة في أرجائه، وتُنشرُ أعلامُ العلومِ في أثنائه، ويزول به الإعدامُ والإيلام، فكان حاتماً في حيّه، والمسيح في إحيائه، إلى غير ذلك من وجوه المعروف وأنواع البر المصروف، وكان استيفاؤه يحتاج إلى من جُرّبَ سدادُه وعُلِم رشادُه، وعُرف اعتمادُه، وكان الحساب ميداناً وهو سابقهُ وجواده. والمجلس السامي القضائي التاجي ممن زانت أيامنا خدمة، ورسخت في ولائنا قدمُه، حتى أصبح بالمحامد مُتحلياً، ولأقسام المحاسن مستوفياً، يصحبه ركابُنا الشريف في الحضر والسفر، ويتصف بسيادةٍ أخجلت الأفق، فالشفق المحمرُّ فيه علامة الخفر، وقد رأينا أن لا تنبت في الروض إلا قبضه المرموقة، ولا تطلعُ في الأفقِ إلا شبُه المشرقة، ولهذا رجع إليه حقُ الشُّفة وانتهى، وأحسن ما خلقت الدرة في السلك أختها، فلذلك رُسم بالأمر الشريف أن يُرتب في اسيفاء البيمارستان المبرور وأوقافه عوضاً عن أخيه فلان، فليباشر ذلك مباشرة تجمع شتات الحزم، وتلزم ثبات العزم، حتى لا تفوت أوراقه ثمرةً تُجنى، ولا يغيب شيء من أموره عن نصره في الصورة ولا عن بصيرته في المعنى، متطلباً كل عامل بما يلزمه في وضع الكتابة، مُنكراً عليه إذا طاش سهمُ قلمه عن الإصابة، لتمشي الأحوال فيه على النهج القوي القويم، وتُصرف أمواله على الوجه الذي قصد به العلي العظيم، والوصايا كثيرة ، ومع كفايته لا بُد لّه منها علة وصاه، ولا ننبهه عليها بطرق حصاه، وتقوى الله " عز وجل " في هذا وغيره أوثقُ العُرى، وأعزُّ حصن يُتسنم منه الذرى. فالزم شعارها واقتف أثارها، والله يتولى عونك، ويُديم ثونك. والحظُّ الشريف أعلاه الله وشرفه أعلاه، حجة بثبوته في الذي اقتضاه، والله الموفق بمنّه وكرمه، " إن شاء الله تعالى " .
وكنت قد كتبت إليه عن الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى كتاباً هنّأته فيه بنظر الدولة، وهو التذكرة التي لي. ؟
؟

أحمد بن عبد الله بن الزكي
المعروف بالقاضي شُقير، تصغير شقر، القاضي شرف الدين الدمشقي الجزري. تجرد للفقر خمسةً وستين عاماً، واجتلى الزهد في الدنيا قمراً تاماً، وأعرض عن الحطام الفاني، وتحقق أن الفراق من الدنيا داني، ثم إنه جاور بمسجد الكهف الذي هو أسفل جبل قاسيون، إلى أن أنفق جمامُه، وانمحق تمامهُ.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس عشرة وسبع مائة في تاسع جمادى الآخرة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مائة.
أحمد بن عبد الله بن عبد الله بن مهاجرشهاب الدين الأندلسي الوادي آشي الحنفي.
هو فاضل مشهور، وعدل مذكور، يعرف مع الفقه النحو والعروض، وجوادهُ في النظم الفائق مروض.
سكن طرابلس الشام مدة، واجتمع فيها مع الأكابر بعدّه، ثم إنه انتقل إلى حلب، وبها نفق من البضائع ما جلب، وكان ابن العديم قاضيها يواليه، ويطرب لأماليه، ويحثه على معاليه.
رأيته بحلب سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة، وكتب إليّ نظماً يبل كبد من يظما، وأحببته عن ذلك، وذهبا مني في ليل الضياع الحالك، ثم إنه بعد ذلك ساد وثنى الوساد.
ولم يزل إلى أن وصل ابن مهاجر حينُه، وأغمضت بالممات عينُه وتوفي رحمه الله تعالى.
أنشدني من لفظه لنفسه بحلب في التاريخ:
ما لاح في دِرُعٍ يصولُ بسيفه ... والوجُه منه يُضيءُ تحت المغفرِ
إلا حسبتُ البحرَ بجدولٍ ... والشَّمس تحت سحائب من عنبرِ
قلت: جمع في هذا بين مقطوعين، أحدهما قول أبي بكر الرصافي:
لو كنت شاهده وقد حمي الوغى ... يختالُ في دَرْعِ الحديد المُسبلِ
والثاني قول المعتمد:
ولما اقتحمت الوغى ذارِعاً ... وقنعتَ وجهكَ بالمغفرِ
حَسبنا مُحيَّاك شِمس الضُّحى ... عليها سحائبٌ من العنبر
ومن شعره:
تُسعِّرُ في الوغى نيرانَ حربٍ ... بأيديهم مُهنَّدةٌ ذُكورُ
ومن عجبِ لظىً قد سهّرتها ... جداولُ قد أقلَّتها بُدورُ
ومنه لغز في قالب اللَّبن:

ما آكلّ في فمين ... يغُوط من مخرجين
مُغرى بقبضٍ وبسطٍ ... ومالهُ من يَدين
ويقطع الأرض سهياً ... من غير ما قدمين
قلت: نظم رائق، ولفظ يُخجلُ الحدائق، ولكن ليست مقاصده في هذا اللغز مليحة، ولا معانيه صحيحة. وأحسن منه قول محمَّد بن شرف القيرواني
وما بالغٌ في يومه ألفَ لُقمةٍ ... ولُقمتُه أضعافُ أضعافِ وزنه
إذا ملأ المأكول جنبيه لم يُقم ... سوى لحظةٍ أو لحظتين ببطنه
أحمد بن عبد الحليم
ابن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم.
الشيخ الأمام العلامة المفسر المحدّث المجتهد الحافظ شيخ الإسلام، نادرة العصر، فريد الدهر، تقي الدين أبو العباس بن الشيخ شهاب الدين بن الأمام مجد الدين أبي البركات بن تيمية.
سمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، والكمال بن عبد، وابن أبي الخبر وابن الصيرفي، والشيخ شمس الدين والقاسم الإربلي، وابن علاّن، وخلقٍ كثير.
وبالغ وأكثر، وقرأ بنفسه على جماعة، وانتخب ونسخ عدة أجزاء، وسنن أبي داود، ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين والتأله، ثم أقبل على الفقه ودقائقه، وغاص على مباحثه.
تحول به أبوه من حران إلى دمشق سنة سبع وستين وست مائة. و " تيمية " لقبٌ لجده الأعلى.
تمذهب للإمام أحمد بن حنبل، فلم يكن أحد في مذهبه أنبه ولا أنبل. وجادل وجالد شجعان أقرانه، وجدّل خصومهُ في وسط ميانه، وفرّج مضائق البحث بأداةٍ قاطعة، ونصر أقوالهُ في ظلمات الشكوك بالبراهين الساطعة، كأن السُّنة على رأس لسانه، وعلوم الأثر مساقة في حواصل جنابه، وأقوال العلماء مجلوةٌ نُصب عيانه. لم أر أنا ولا غيري مثل استحضاره، ولا مثل سبقه إلى الشواهد وسرعة إحضاره، ولا مثل عزوه الحديث إلى أصله الذي فيه نقطةُ مداره.
وأما علم الأصلين فقهاً وكلاماً، وفهماً فكان عجباً لمن يسمعه، ومُعجزاً لمن يُعد ما يأتي به أو يجمعه. يُنزل الفروع منازِلها من أصولها، ويرد القياسات إلى مآخذها من محصولها.
وأما الملل والنحل، ومقالات أرباب البدع الأُول، ومعرفةُ أرباب المذاهب، وما خصوا به من الفتوحات والمواهب، فكان بحراً يتموج، وسهماً ينفذ على السواء لا يتعوج.
وأما المذاهب الأربعة فإليه في ذاك الإشارة، وعلى ما ينقله الإحاطة والإدارة. وأما نقل مذاهب السَّلف، وما حدث بعدهم من الخلف، فذاك فنُّه، وهو في وقت الحرب مجنُّه، قل أن قطعة خصُمه الذي تصدى له وانتصب، أو خلص منه مناظرهُ إلا وهو يشكو من الأين والنَّصب.
وأما التفسير فيدُه فيه طولى، وسردُه فيه يجعل العيون إليه حُولاً. إلا أنه انفرد بمسائل غريبة، ورجَّح فيها أقوالاً ضعيفة عند الجمهورُ معيبة. كاد منها يقع في هُوَّة، ويسلم منها لما عنده من النيّة المرجوة، والله يعلم قصده، وما يترجّح من الأدلة عند وما دمر عليه شيء كمسألة الزيارة، ولا شنّ عليه مثلها إغارة، دخل منها إلى القلعة مُعتقلا، وجفاه صاحبه وقلا، وما خرج منها إلا على الآلة الحدبا، ولا درج منها إلا إلى البقعة الحدبا، والتحق باللطيف الخبير، وولّى والثناء عليه كنشر العبير.
وكان ذا قلم يسابقُ البرق إذا لمع، والودق إذا همع، يُملي على المسألة الواحدة ما شاء من رأس القلم، ويكتب الكرَّاسين والثلاثة في قعدة، وجدُّ ذهنه ما كل ولا انثلم، قد تحلى بالمُحلى، وتولّى من تقليده ما تولى، فلو شاء أورده عن ظهر قلب وأتى بجملة ما فيه من الشناع والثَّلب.
وضيع الزمان في ردّه على النصارى والرافضة، ومن عائد الدين أو ناقضه؛ ولو تصدى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم.
وكان من صغره حريصاً على الطلب، مجدّاً على التحصيل والدأب، لا يؤثرُ على الاشتغال لذة، ولا يرى أن تضيع لحظةٌ منه في البطالة فذّة، يذهلُ عن نفسه ويغيب في لذّة العلم عن حسه، لا يطلب أكلاً إلا إذا أحضر لديه، ولا يرتاحُ إلى طعام ولا شراب في أبرديه.

قيل: إن أباه وأخاه وأهله وآخرين ممن يلوذون بظله سألوه أن يروح معهم يوم سبت ليتفرج، فهرب منهم وما ألوى عليهم ولا عرج، فلما عادوا آخر النهار لاموه على تخلُّفه، وتركه لاتباعهم وما انفرده من تكلُّفه، فقال: أنتم ما نزيد لكم شيئاً ولا تجدد، وأنا حفظت في غيبتكم هذا المجلد، وكان ذلك كتاب " جنة الناظر وجنّة المناظر " ، وهو مجلد صغير، وأمره شهير.
لا جرم أنه كان في أرض العلوم حارثاً وهو همام، وعلومُه كما يقول الناس تدخل معه الحّمام. هذا إلى كرم يضحك البرقُ منه على غمائمه، وجودٍ ما يصلحُ حاتمٌ أن يكون في فضِّ خاتمه، وشجاعة يفرّ منها قشورة، وإقدام يتأخر عنه عنترة. دخل على محمود غازان وكلمه كلاماً غيظاً بقوه، وأسمعه مقالاً لا تحملّه الأبوةُ من البنوّة.
وكان في ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مائة، قد قام عليه جماعة من الشافعية، وأنكروا عليه كلاماً في الصفات، وأخذوا فُتياه الحموية، وردوا عليه فيها، وعملوا له مجلساً، فدافع الأفرم عنه ولم يُبلّغهم فيه أرباً، ونودي في دمشق بإبطال العقيدة الحموية، فانتصر له جاغان المشدّ، وكان قد مُنع من الكلام، ثم إنه جلس على عادته يوم الجمعة، وتكلم ثم حضر عنده قاضي القضاة إمام الدين، وبحثوا معه، وطال الأمر بينهم، ثم رجع القاضي إمام الدين وأخوه جلال الدين وقالا: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئاً عزّرناه.
ثم إنه كُلب إلى مصر، هو والقاضي نجم الدين صَصرَى، وتوجها إلى مصر في ثاني عشر شهر رمضان سنة خمس وسبع مائة، فانتصر له الأمير سيف الدين سلاّر، وحطّ الجاشنكير عليه، وعقدوا له مجلساً انفصل على حبسه، فحُبس في خزانة البنود، ثم نقل إلى الإسكندرية في صفر سنة تسع وسبع مائة، ولم يمكن أحد من أصحابه من التوجه معه، ثم أفرج عنه وأقام بالقاهرة مُدة. ثم اعتقل أيضاً، ثم أُفرج عنه في ثامن شوال سنة تسع وسبع مائة، أخرجه الناصر لمّا ورد من الكرك، وحضر إلى دمشق، فلما كان في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبع مائة جمع الفقهاء والقضاة عند الأمير سيف الدين تنكز، وقرأ عليهم كتاب السلطان، وفيه فصل يتعلق بالشيخ تقي الدين بسبب فُتياه في مسألة الطلاق، وعُوتب على فُتياه بعد المنع، وانفصل المجلس على توكيد المنع.
ثم إنه في يوم الخميس ثاني عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبع مائة عُقد له مجلس بدار السعادة وعاودوه في فتيا الطلاق وحاققوه عليها، وعاتبوه لأجلها. ثم إنه حُبس بقلعة دمشق، فأقام بها إلى يوم الاثنين يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين وسبع مائة، فأخرج من القلعة بعد العصر بمرسوم السلطان، وتوجه إلى منزله. وكانت مدة سجنه خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً.
ولما كان في يوم الاثنين بعد العصر، سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبع مائة في أيام قاضي القضاة جلال الدين القزويني تكلموا معه في مسألة الزيارة، وكُتب في ذلك إلى مصر، فورد مرسومُ السلطان باعتقاله في القلعة، فلم يزل بها إلى أن مات رحمه الله تعالى في ليلة الاثنين عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مائة بقلعة دمشق في القاعة التي كان بها محبوساً.
ومولده بحرّان سنة إحدى وستين وست مائة.
وأول ما اجتمعت أنا به كان في سنة ثماني عشرة، وهو بمدرسته في القصاعين بدمشق المحروسة، وسألته مسألة مشكلةً في التفسير في الإعراب، ومسألة مشكلة في الممكن والواجب، وقد ذكرت ذلك في ترجمته في تاريخي الكبير. ثم اجتمعت به بعد ذلك مرّات، وحضرت دروسه في الحنبلية، فكنت أرى منه عجباً من عجائب البرّ والبحر، ونوعاً فرداً وشكلاً غريباً وكان كثيراً ما ينشد قول ابن صردر.
تموتُ النفوسُ بأوصابها ... ولم تشكُ عُوّادها ما بها
وما أنصفت مُهجةٌ تشتكي ... أذاها إلى غير أحبابها
وينشد أيضاً:
من لم يُقد ويُدسٌ في خيشومه ... رهجُ الخميس فلن يقود خميساً
رأيته في المنام بعد موته رحمه الله تعالى كأنه في جامع بني أمية، وأنا في يدي صورةُ عقيدة ابن حزم الظاهري التي ذكرها في أول كتاب المُحلَّى، وقد كتبها بخطي، وكتبت في آخرها:
وهذا نصُّ ديني واعتقادي ... وغيري ما يرى هذا يجوزُ
وقد أوقفته على ذلك، فتأملها ورآها وما تكلم بشيء.
ذكر شيء من تصانيفه
كتب التفسير

قاعدة في الاستعاذة، قاعدة في البسملة، قاعدة في قوله تعالى " إياك نعبد وإياك نستعين " ، قطعة كبيرة من أول سورة البقرة، وفي قوله تعالى " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " نحو ثلاثة كراريس، وفي قوله تعالى: " مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً " نحو كراسين، وفي قوله تعالى: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " سبع كراريس، وفي قوله تعالى: " إلا من سفه نفسه " كراس، آية الكرسي كراسان، وغير ذلك من سورة البقرة. " منه آيات محكمات " إلى آخرها نحو مجلد، " شهد الله أنه لا إله إلا هو " ستة كراريس، " ما أصابك من حَسَنة " عشر كراريس، وغير ذلك من سورة آل عمران.
تفسير المائدة مجلد كبير، " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " ثلاث كراريس، " وإذا أخذ ربُّك من بني آدم " سبع كراريس، قواعد سورة يوسف، مجلد كبير، سورة النور، مجلد لطيف، سورة تبت والمعوذتين، سورة الكافرين، سورة الإخلاص، مجلد، سورة القلم، وأنها أول سورة أنزلت، تضمنت أصول الدين مجلد، سورة " لم يكن " وغير ذلك من آيات مُفّرقة.
كتب الأصول

" الاعتراضات المصرية على الفُتيا الحموية " أربع مجلدات، أملاه في الجب، " بياتُ تَلبيس الجَهميّة في تأسيس بدَعن الكلامية " ، وربما سمّاه " تلخيص التلبيس من تأسيس التقديس " ، " شرح أول المحصّل " للرازي، بلغ ثلاث مجلدات، شرح بضعةِ عشر مسألة من الأربعين للإمام فخر الدين الرازي، " تعارض العقل والنقل " أربع مجلدات، " جواب ما أورده كمال الدين ابن الشريشي " مجلد، " الجواب الصحيح لِمّن بدّل دين المسيح " ، ثلاث مجلدات، " منهاج الاستقامة " " شرح عقيدة الأصبهاني " مجلد، " نقض الاعتراض " عليها لبعض المشارقة أربع كراريس، " شرح أول كتاب الغَزْنَوي " ، مجلد، " الرد على المنطق " مجلد، ردّ آخر لطيف، " الرد على الفلاسفة " مجلدات، " قاعدة في القضايا الوهمية " ، " قاعدة فيما يتناهى ومالا يتناهى " ، " جواب الرسالة الصفدية " ، " جواب في نقص قول الفلاسفة: إن معجزات الأنبياء قوى نفساني " ، " إثبات المعاد والرد على ابن سينا " ، " شرح رسالة ابن عبدوس " في كلام الإمام أحمد في الأصول، " ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً " ، و " المعجزات والكرامات " ، " قاعدة في الكليات " ، مجلد لطيف، " الرسالة القبرسية " ، " رسالة أهل طبرستان وجَيْلان في خلق الروح والنور والأئمة المقتدى بهم " ، " مسألة ما بين اللوحين كلامُ الله " ، " تحقيق كلام الله لموسى " ، " هل سمع جبريل كلام الله أو نقله من اللوح المحفوظ " ، " الرسالة البعلبكية " ، " الرسالة الأزهرية " ، " القادرية " ، " البغدادية " ، " أجوبة الشكل والنقط " ، " إبطال الكلام النفساني " : أبطله من نحو ثمانين وجهاً، " جواب مَن حلف بالطلاق الثلاث " أن القرآن حرف وصوت. وله في إثبات الصفات وإثبات العلو والاستواء مجلدات، " المراكشيّة " ، " صفات الكمال والضابط فيها " ، " أجوبة في مباينة الله تعالى لخلقه " ، " جواب في الاستواء، وإبطال تأويله بالاستيلاء " ، " جوابُ من قال لا يمكن الجمعُ بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه " ، " أجوبة كونِ العرش والسموات كُرَويّة " وسبب قصد القلوب جهةَ العلو، " جواب كون الشيء في جهة العلوّ مع أنه ليس بجوهر ولا عرض معقول أو مستحيل " ، " جواب هل الاستواء والنزول حقيقة، وهل لازم المذهب مذهب " ، شمَّاه " الأربلية " ، " مسألة النزول " واختلاف وقته باختلاف البلدان والمطالع، مجلد لطيف، " شرح حديث النزول " في أكثر من مجلد، " بيان حل إشكالات ابن حزم الواردة على الحديث " ، " قاعدة في قرب الرب من عابديه وداعيه " ، مجلد، " الكلام على نقض المرشدة " ، " المسائل الإسكندرانية في الرد على الاتحاد والحلولية " ، ما تضمنه فصوص الحكم من الكفر والإلحاد والاتحاد والحلول، " جواب في لقاء الله " ، " جواب رؤية النساء رَبّهُنّ في الجنة " ، " الرسالة المدنية في الصفات النقلية " ، " الهلاوونية " جواب ورد على لسان ملك التتار، مجلد، " قواعد في إثبات القدر والرد على القدرية والجبرية " ، مجلد " رد على الروافض في الإمامة " لابن مُطهّر، " جواب في حُسن إدارة الله بخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلّة أم لغير علّة " ، " شرح حديث: فخجَّ أدم موسى " ، " تنبيه الرجل الغافل على تمويه المجادل " ، " تناهي الشدائد في اختلاف العقائد " ، " كتاب الإيمان " ، " شرح حديث جبريل في الإسلام، والإيمان في عصمة الأنبياء فيما يبلغون " ، " مسألة في العقل والروح " ، " في المقرّبين: هل يسألهم منكر ونكير " ، " هل تعذيب الروح مع الجسد في القبر، وهل تفارق البدن بالموت أو لا " ، " الرد على أهل كسروان " ، " في فضل أبي بكر وعمر على غيرهما " ، " قاعدة في فضل معاوية وفي ابنه يزيد أن لا يُسب " ، " في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس " " في كفر النُّصَيريّة " " في جواز الرافضة " ، " في بقاء الجنة والنار وفنائهما " ، وهو آخر ما صنّفه في القلعة. وقد رد عليه العلاّمة قاضي القضاة تقي الدين السبكي.
كتب أصول الفقه

" قاعدة غالبُها أقوال الفقهاء " ، مجلدان، " قاعدة كل حمد وذم من المقالات لا يكون إلا من الكتاب والسنة " " شمول النصوص للأحكام " ، " قاعدة في الإجماع وأنه ثلاثة أقسام " ، " جواب في الإجماع وخبر التواتر " ، " قاعدة في أن خبر الواحد اليقين " ، " قاعدة في كيفية الاستدلال والاستدراك على الأحكام بالنص والإجْمَاع " ، " في الرد على من قال إن الأدلة اللَّفظيّة لا تفيد اليقين " ، " قاعدة فيما يُظنُ مِن تعارض النص والإجماع " ، " مؤاخذة لابن حزم في الأجماع " ، " قاعدة في تقرير القياس " ، " قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام " ، " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " ، " قاعدة في الاستحسان " ، " وصف العموم والإطلاق " ، " قواعد في أن المخطئ في الاجتهاد لا يأثم " ، " هل العاميّ يجب عليه تقليد مذهب مُعَيّن " ، " جواب في ترك التقليد فيمن يقول مذهبي مذهب النبي عليه السلام وليس أنا محتاج إلى تقليد الأربعة " ، " جواب من تَفَقَّه في مذهب ووجد حديثاً صحيحاً، هل يعمل به أو لا " ، " جواب تقليد الحنفي الشافعي في الجمع للمطر والوتر " ، " الفتح على الإمام في الصلاة " " تفضيل قواعد مذهب مالك وأهل المدينة " ، " تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم " ، " قاعدة في تفضيل الإمام أحمد " ، " جواب: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبياً " ، " جواب: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم ، متعبداً بشرع من قبله " ، " قواعد أن النهي يقتضي الفساد " .
كتاب الفقه" شرح المحرر في مذهب أحمد " ولم يُبيّض، " شرح العمدة لموفق " ، أربع مجلدات، " جواب مسائل وردت من أصبهان " ، " جواب مسائل وردت من الأندلس " ، " جواب مسائل وردت من الصلت " ، " جواب مسائل وردت من بغداد " ، " مسائل وردت من زُرع " ، " أربعون مسألة لُقّبت الدرّة المضيئة، " الماردانية " " الطرابلسية " ، " قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها " ، " المائعات وملاقاتها النجاسة " ، " طهارة بول ما يؤكل لحمه " ، " قاعدة في حديث القُلّتين وعدم رفعه " ، " قواعد في الاستجمار، وتطهير الأرض بالشمس والريح " ، " جواز الاستجمار مع وجود الماء " ، " نواقض الوضوء " ، " قواعد في عدم نقض الوضوء بلمس النساء " ، " التسمية على الوضوء " ، " خطأ القول بجواز مسح الرجلين " ، " جواز المسح الخفين المتخرّقين والجوربين واللفائف " ، " فيمن لا يعطي أجرة الحَمّام " ، " تحريم دخول الحمّام بلا مُبرر " ، " في الحمّام والاغتسال " ، " ذم الوسواس " ، " جواز طواف الحائض " ، " تيسير العبادات لأرباب الضروريات بالتيمم، والجمع بين الصلاتين للعُذر " ، " كراهية التلفّظ بالنّيّة وتحريم الجَهْر بها " ، " في البسملة هل هي من السورة " ، " فيما يعرض من الوسواس في الصلاة " ، " الكلم الطيب في الأذكار " " كراهية بسط سجادة المصلي قبل مجيئه " ، " في الركعتين اللتين تُصلّيان قبل الجمعة " ، " في الصلاة بعد أذان الجمعة " ، " القنوت في الصبح والوتر " " قتل تارك أحد المباني وكُفره " ، " الجمع بين الصلاتين في السفر " ، " فيما يختلف حكمه في السفر والحضر " ، " أهل البِدَع هل يُصلّى خلفهم " ، " صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض " ، " الثلوات المبتدعة " ، " تحريم السماع " " تحريم الشبابة " ، " تحريم الشطرنج " ، " تحريم الحشيشة ووجوب الحد فيها ونجاستها " ، " النّهيُ عن المشاركة في أعياد اليهود والنصارى وإيقاد نصف شعبان والحبوب في عاشوراء " ، " مقدار الكَفّارة في اليمين " ، " في أنّ المطلقة ثلاثاً، لا تحل إلا بنكاح زوج ثان " ، " بيان الطلاق المُباح والحرام " ، " في الحلف بالطلاق متى تجيزه ثلاثاً " ، " جواب من حلف لا يفعل شيئاً على المذاهب الأربعة " ، " الفرق المبين بين الطلاق واليمين " ، " لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف " ، " الطلاق البِدَعي لا يقع " ، " مسائل الفرق بين الحلف بالطلاق وإيقاعه والطلاق البدعي والخلع نحو ذلك " ، تقدير خمسة عشر مجلداً، " مناسك الحج عِدة " ، " في حجة النبي صلى الله عليه وسلم " ، " في العمرة المكية " ، " في شهر السلاح بتبوك وشرب السَّويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة وما يلبس المُحرم، وزيارة الخليل عُقيب الحج، وزيارة القدس مطلقاً " ، " جبل لبنان كأمثاله من الجبال، ليس فيه رجال غُيّب ولا أبدال " ، " جميع أيمان المسلمين مُكفّرة " .
كتب في أنواع شتى

جمع بعض الناس فتاويه بالديار المصرية مُدَّة سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلدة، " الكلام على بُطلان الفتّوة المُصطلح عليها بين العوام " ، وليس لها أصل يتصل بعلي عليه السلام. " كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية " ، " بطلان ما يقوله أهلُ بيت الشيخ عديّ " ، " النجوم هل لها تأثير عند الاقتران والمقابلة والخسوف والكسوف " ، " هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلّة " ، " تحريم أقسام المُعزّمين بالعزائم المُعجَمة وصرع الصحيح وصفة الخواتم " . " إبطال الكيمياء وتحريمها ولو صحت وراجت " ، " كشف حال المرازقة " ، " قاعدة العُبيديين " .
ومن نظم الشيخ تقي الدين على لسان الفقراء المُجردين وغيرهم:
والله ما فَقرُنا اختْيارُ ... وإنما فَقْرُنا اضْطْرارُ
جماعةٌ كلُّنا كَسالى ... وأكلُنا كله عيارُ
تسمعُ منّا إذا اجتمعنا ... حقيقةً كُلُّها فُشَارُ
وله قصائد مطوّلة، أجوبة عن مسائل كان يُسأل عنها نظماً، مثل مسألة اليهودي، وجوابه عن اللغز الذي نظمه الشيخ رشيد الدين الفارقي، وغير ذلك.
ومدحه جماعة من أهل مصر، منهم شهاب الدين أحمد بن محمد البغدادي المعروف بابن الأبرادي، والشيخ شمس الدين بن الصائغ، وسعد الدين أبو محمد سعد الله بن عبد الأحد الحرّاني، وأكثر من ذلك، ومنه قوله:
لئن نافَقَوه وه في السّجنِ وابتغَوا ... رِضاه وأبدوا رِقّةً وتودُّدا
فلا غَرْوَ إنْ ذلَ الخُصومُ لِنَأسِه ... ولا عَجَبٌ أن خاف سطوتَه العِدا
فمن شِيَمةِ العَضبِ المُهنَّدِ أنه ... يُخافُ ويُرجُى مُغمداً ومُجرّدا
وممن مدحه بمصر أيضاً شيخنا العلاّمة أبو حيان، لكنه انحرف عنه فيما بعد ومات وهو على انحرافه، ولذلك أسباب؛ منها أنه قال له يوماً: كذا قال سيبويه، فقال: يكذب سيبويه، فانحرف عنه، وقد كان أولاً جاء إليه والمجلس عنده غاصٌّ بالناس، فقال يمدحه ارتجالاً:
لّما أتينا تقيَّ الدِّين لاحً لنا ... داعٍ إلى الله فَردٌ ماله وِزَرُ
على مُحيّاه من سِيما الأُولى صَحِبوا ... خَيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القمرُ
خَبرٌ تَسربَلَ منه دَهرُه حِبَراً ... تَقاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ
قام ابنُ تَيْميَّةٍ في نَر شِرعَتِنا ... مُقَما سَيِّدِ تيمٍ إذ عَصَتْ مُضَرُ
فأظهرً الحقَّ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشرّ إذ طارت له الشرر
كُنّا نُحدَّث عن خبرٍ يجيءُ فها ... أنت الإمامُ الذي قد كان يُنتظرُ
وكتب الشيخ كمال الدين محمد بن علي بن الزملكاني رحمه الله تعالى على بعض تصانيفه:
ماذا يقولُ الواصفون له ... وصفاتُه جلّتْ عن الحَصرِ
هو حُجّةٌ اللهِ قاهرِرَةٌ ... هو بيننا أُعجوبةُ العَصرِ
هو آيةٌ في الخَلقِ ظاهِرَةٌ ... أنوارُها أربَت على الفَجرِ
والذي أراه أن هذه الأبيات كتبها الشيخ كمال الدين في حياة الشيخ صدر الدين بن الوكيل، لأنه كان يخالفه ويريد أن ينتصر عليه بالشيخ تقي الدين بن تيمية، والله أعلم.
ولما توفي رحمه الله تعالى رثاه جماعة منهم الشيخ قاسم بن عبد الرحمن المقرئ، وبرهان الدين إبراهيم بن الشيخه شهاب الدين العجمي، ومحمود بن علي بن محمود الدقوقي البغدادي، ومجير الدين الخياط الدمشقي، وشهاب الدين أحمد بن الكرشت، وزين الدين عمر بن الحسام، ومحمد عبد الحق البغدادي الحنبلي، وجمال الدين محمود بن الأثير الحلبي، وعبد الله بن خضر بن عبد الرحمن الرومي الحريري. المعروف بالمُنيّم، وتقي الدين محمد بن سليمان بن عبد الله بن سالم الجعبري، وجمال الدين عبد الصمد بن إبراهيم الخليل الخليلي، وحسن بن محمد النحوي المارداني، وغيرهم.
أنشدني إجازة لنفسه الشيخ علاء الدين علي بن غانم:
أيُّ خَبرٍ مضى وأيُّ إمامِ ... فُجعتُ فيه مِلَّةُ الإسلامِ
ابنُ تيميَّةَ التَّقيُّ وحيدُ الد ... هْرِ من كان شامةً في الشَّامِ

بَحرُ علمٍ قد غاضَ من بعدما ف ... ضَ نداهُ وعم بالنعامِ
زاهدٌ عابدٌ تنّزه في دُن ... ياه عن كل ما بها من حُطامِ
كان كَنزاً لكلِّ كالبِ علمِ ... ولِمَنُ خافَ أن يُرى في حَرَامِ
ولعافٍ قد جاء يشكو من الفق ... ر لديه فنال كُلَّ مَرَامِ
حاز عِلماً فماله من مساوٍ ... فيه من عالمٍ ولا من مُسامٍ
لم يَكُنْ في الدنى له مِن نظيرٍ ... في جميعِ العُلومِ والأحكامِ
كان في علمِه وَحيداً فريداً ... لم ينالوا ما نالَ في الأحْلامِ
كل من في دمشق ناح عليه ... ببُكاءٍ من شدّة الآلامِ
فُجِعَ الناسُ في الشَّرقِ والغَر ... بِ وأضحَوا بالحُزنِ كالأيتامِ
لو يُفيدُ الفِداءُ بالرُّوحِ كُنّا ... قد فديناه من هُجومِ الحِمامِ
أوحدٌ فيه قد أصيبَ البَرايا ... فيُعزى فيه جميعُ الأنامِ
وعزيزٌ عليهم أن يَرَوْه ... غابَ بالرَّغمِ في الثّرى والرُّغامِ
ما يُرى مِثلُ يومهِ عندما سا ... رَ على النَّعشِ نحوَ دار السلامِ
حملوه على الرِّقابِ إلى القَب ... رِ وكادوا أن يَهلكوا بالزّحامِ
فهو الآن جارُ رَبِّ السماوا ... ت الرحيمِ المُهيمنِ العلاّمِ
قدّسَ الله روحَه وسقى قب ... راً حواه بَها طِلاتِ الغَمامِ
فلقد كان نادراً في بني الده ... ر وحُسناً في أوجَهِ الأيّامِ
وأنشدني أيضاً: إجازة لنفسه الشيخ زين الدين عمر بن الوردي:
قلوبُ النّاس قاسيةٌ سِلاطُ ... وليس إلى العَليا نَشاطُ
أتنشطُ قَطُّ بعدَ وفاةِ خبرٍ جَوهَره التقاطُ
تقيُّ الدين ذو وَرَعٍ وعِلمٍ ... خُروقُ المُعضِلات به تُحاطُ
تُوفي وهو محبوسٌ فريدٌ ... وليس له إلى الدّنيا انبساطُ
ولو حَضروه حين قضى لألفَوا ... مَلائِكةَ النَّعيمِ به أحاطوا
قضى نَحباً وليس له قرينٌ ... وليس يلفُّ مُشبِههُ القِماطُ
قتىً في علمه أضحى فريداً ... وحَلُّ المُشكلاتِ به يُناطُ
وكان يخافُ إبليسُ سطاه ... لوَعظِ للقلوبِ هو السِّياطُ
فيا الله ما قد ضم لَحدٌ ... ويا لله ما غطى البَلاطُ
وحَبسُ الدُّرِّ في الأصدافِ فَخرٌ ... وعِندَ الشَّيخِ بالسِّجنِ اغتباطُ
بنو تيميّةٍ كانوا فبانوا ... نجومُ العلمِ أدركها انهباطُ
ولكن يا نَدَامتَنا عليه ... فشكُّ المُلحدين به يُماطَ
إمامٌ لا ولايةٌ قطُّ عانى ... ولا وقفٌ عليه ولا رباطُ
ولا جارى الورى في كسبِ مالِ ... ولم يَشغلهُ بالناس اختلاطُ
ولولا جارى الورى في كسبِ مالٍ ... لكان به لقدرهم انحطاطُ
لقد خفيت عليّ هنا أمورٌ ... وليس يليقُ لي فيها انخراطُ
وعند الله تجتمعُ البرايا ... جميعاً وانطوى هذا البِساطُ
وقلت أنا أيضاً أرثيه:
إنّ ابنَ تيميّةَ لمّا قضى ... ضاق بأهلِ العِلمِ رَحبُ الفضا
فأيُّ بدرِ قد محاه الرَّدى ... وأيُّ بحرٍ في الثرى غُيضا
وأيّ شرِّ فتحت عينهُ ... وأيُّ خيرٍ طرفُه غُمّضا
يا وَخشَةَ السُّنَّةِ من بَعدِه ... فرَبعُها المعمورُ قد قُوِّضا
كم مَجلسٍ كان هشيماً من ال ... علم فلمّا جاءه رُوّضا
وكلُّ حَفلٍ أفقُهُ مُظَّلِمٌ ... تَراه إن وافى إليه أضا
ومُشكِلٌ لمّا دَجى ليلُه ... أعادَه يومَ هُدى أبيضا
تراه إن برهن أقواله ... فقلَّ أن تُدحَرَ أو تُدحَضا

وبحُه في مَددٍ طافحٍ ... وخصمُه في وقتِه انقضا
يودُّ لو أبلعَهُ ريقه ... وهنو بالحقِّ قد أجرضا
أغصَّه حتى غدا مُطرقاً ... مِن ندمٍ كفّيه قد عضّضا
ما كان إلا أسداً حادِراً ... أضحى له غابُ النُّهى مَربَضا
وهو يرى العِلمَ في بُردِه ... وخَصمُه قد ضمّ جَمرَ الغضا
سُبحان من سخَّر قَلبَ الورى ... لقوله طوعاً وقد قيضا
قد أجمعَ النّاسُ على حُبِّه ... ولا اعتبارَ بالذي أبغضا
كان سليمَ الصَّدرِ قد سلّم ال ... أمرَ لباريه وقد فوّضا
كم حثّ للخير وكم ذي كرى ... أيقظ من نومٍ وكم حرّضا
وأمرض الإلحادَ لمّا جلى ال ... حقّ وقلبُ الزِّيغِ قد أرمضا
وغادر الباطلَ في ظُلمَةٍ ... لمّا رأى بارقَةٌ أومضا
وهو عن الدنيا زوى نفسَه ... والله بالجنَّةِ قد عوّضا
فماله في منصبٍ رغبَةٌ ... وعزمُه في ذاك ما استنهضا
كان إذا الدّنيا له عرضت ... بزُخرفِ من نفسها أعرضا
ولو رأى ذلك ما فاته ... مناصبُ من بَعضهنَّ القضا
وبعد هذا حكُمه نافذذٌ ... في كلِّ ما قد شاءه وارتضى
بنفسه جاهدَ جهراً وكم ... سَلَّ حّساماً في الوغى وانتضى
ويوم غازان غدا عندما ... شدّدَ في القولِ ومت خفَّضا
شقَّ سواد المُغلِ زاهي الطُلا ... كالماء لما مَزقَ العَرمَضا
جاذل بل جالد مُستمسِكا ... بالحق حتى إنّه أجهَضا
ولم يكن فيه سوى أنه ... خالف أشياءَ كمن قد مضى
متبعاً فيه الدّليل الذي ... بدا ولله فيه القضا
وبعد ذا راحَ إلى ربه ... ما ادّان مِن لهوٍ ولا استقرضا
ثناؤه ما انقضَّ منه البنا ... وذِكرُه بين الورى ما انقضى
فجادَت الرَّحمةُ أرضاً ثوى ... فيها وسقَّتْها غُيوثُ الرِضى
وعلى الجملة، فكان الشيخ تقي الدين بن تيمية أحد الثلاثة الذين عاصرتهم، ولم يكن في الزمان مثلهم، بل ولا قبلهم من مئة سنة، وهم الشيخ تقيُّ الدين بن تيمية، والشيخ تقيُّ الدين بنُ دقيق العيد، وشيخنا العلاّمة تقيُّ السبكي. وقلت في ذلك:
ثلاثةٌ ليس لهم رابعُ ... فلا تكنْ من ذاك في شكِّ
وكُّلهم مُنتسبٌ للتُّقى ... يقصًر عنهم وصفٌ من يحكي
فإن تَشَا قلت ابن تيمية ... وابن دقيق العيد والسبكي
أحمد بن عبد الحميدابن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قُدامة، الشيخ المُسنِد المبارك عز الدين أبو العباس بن العماد المقدسي الصالحي.
سمع من الموفق، وموسى بن عبد القادر، وابن راجخ، وابن أبي لقمة، والبهاء، وأبي القاسم بن صَصرى، وشمس الدين أحمد البخاري، وابن عسّان، وابن الزَّبيدي.
خُرّجت له مشيخةٌ في ثلاث مجلدات، وسمعها جماعة، وظهر، له أيام التتار سماعُ مُسند أبي داود الطيالسي من الموفق.
تفرد المذكور بأشياء أسمعها، وبرواية أجزاء في سماء السماع أطلعها، وصار من أعيان أهل الإسناد، وأشياخِ الرحلة إليه من البلاد.
ولم يزل على حاله إلى أن مال من ابن العماد عموده، وحان خموده من اشتعال الشيب وجموده. توفي - رحمة الله تعالى - سنة سبع مئة.
ومولده سنة اثنتي عشرة وست مئة بالجبل.
أحمد بن عبد الدائمابن يوسف بن قاسم بن عبد الله بن عبد الخالق بن ساهل أمره شهاب الدين الكناني الشارمساحي، أبو يوسف.

كان هجاماً هجا ، وجاماً للأعراض رجا ، أبى إلى دمشق في أيام القاضي الخوئي فيما أظن، ودفع إليه ورقة فيها هجوه، فلما رآها دفعها إليه وأعادها عليه، فردها إليه ثانياً ، فقال : يا مولانا كأنك ذاهل ؟ فقال : بل عالم غير جاهل ، فقال : ما الذي حملك على هذا ؟ قال : رأيت الناس قد أجمعوا على كرهك ، ووفود الشعراء على حرمك ، ولست مجيداً في النظم فأعرف ، واسمي أحمد فما أصرف ، ولو مدحتك أعطيتني قليلاً ولم يعلم بي أحد، ولم يكن لي في الشهرة مُلتَحَد، فإذا هجوتك عَزرتني، وطوّفت بي وشهرتني، فيقال: هذا الذي هجا قاضي القضاة، وقابله بما لا ارتضاه، فأحس القاضي رحمه الله تعالى صِلَتَه وأسناها، وعلم أن هذا له طِباعٌ لا ينتهي عن الشر ولا يتناهى.
ولمّا عُزل القاضي شمس الدين محمد بن عدلان عن القضاء عند ورد الملك الناصر من الكرك، صنع قصيدة، فتح فيها من الخجو القبيح وصيدَه، فاجتمع به وقال له: يا سيّدنا.
والله ما سرَّني عزلُ ابنِ عدلان.
فقال له الشيخ شمس الدين: حاشاكم يا مولانا جزاكم الله خيراً، فقال: من غير صَفعٍ ولا والله أرضاني.
فقال: قبَحك الله يا نَجِس. وله تلك القصيدة التي أولها:
متى يسمعُ السلطانُ شكوى المدارس ... وأوقافُها ما بين عافٍ ودارس
وكان الشيخ العلاّمة أثير الدين قد توجَّه إلى الإسكندرية، فوقع الشَّناعُ أنه غرق في النيل، ودفن بقربه " بولة " وهي قرية على شاطئ النيل، فقال أبياتاً منها:
وقَد دَفنوا ذلك الخراء ببولةٍ ... وحُقً لذاك المَيتِ تلك المقابرُ
أنشدني من لفظه لنفسه شيخنا العلاّمة أبو حّيان، قال: أنشدني المذكور لنفسه بدمياط سنة أربع وتسعين من قصيدة:
فُحَجّبةً بين التَّرائب والحَشا ... فدمعي لها طلقٌ وقلبي بها رَهنُ
وحالُ الهوى ما ليس يُدرَك كُنههُ ... وهل هو وهمٌ يعتري القلب أو وهن
ومسلكُه بالطَّرفِ سَهلٌ وإنما ... له مَنهَج أعيا القُلوبَ به حُزنُ
لديه الأماني بالمنايا مَشُوَبةٌ ... وفيه الرّجا والخوفُ واليأسُ والأمنُ
وكم مَهلَكٍ فيه يقينٌ لعاشقٍ ... ومَطلبُه من دونهِ في الورى ظنٌ
وبالسند المذكور أيضاً قوله:
تَخشى الظُّبى والظَّبا من فتكِ ناظره ... وإن تثنى فلا تسأل عن الأسلِ
ولا وَاخذَ الله عينيه فقه نشطت ... إلى تلاقي وفيها غايَةُ الكَسَلِ
ترمي القلوبَ فما تدري أقامَها ... هاروتُ أم ذاك رامٍ من بني ثُعَلِ
هذا الغزالُ الذي راقت محاسنُه ... فلا عجيبٌ عليه رقَّةُ الغَزَلِ
لما تواليتُ مِن وَجدٍ ومِن شغفٍ ... تَحقَّقَ النّاسُ أني مُغرَمٌ بعَلي
وبالسند المذكور أيضاً قوله:
لا تعجبوا للمجانيقِ التي رَشقت ... عكّا بنارٍ وهدَّتها بأحجَارِ
بل اعجبوا للسانِ النار قائلة ... هدي منازلُ أهلِ النَّارِ في النَّارِ
قلت: أحسنُ منه ما أنشدنيه لنفسه شخنا العلاّمة أبو الثناء محمود:
مررتُ بعكا عِند تَعليقِ سُورها ... وزندُ أوارِ النَّارِ مِن تحتها وارِ
فعاينتها بعد التنصُّرِ قد غَدَت ... مَجوسيّة الأحجارِ تَسجُدُ للنَّارِ
قلت: وعلى الجملة فكان الشارمساحي شاعراً جيداً.
ولم يزل يمدح ويهجو ويسنح ويرجو إلى أن سكنت شقاشقُه، وركنت إلى الخَرَسِ رواشقُه، توفي رحمه الله تعالى في حدود العشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة.
أحمد بن عبد الرحمنابن عبد المؤمن بن أبي الفتح المقدسي، الشيخ الصالح المسند المقرئ تقي الدين أبو العباس الصُّوري ثم الصالحي الحنبلي.
سمع حضوراً من الموفق، وهو خاتمة أصحابه، ومن ابن أبي لقمة، وابن صصرى، والقزويني، والبهاء عبد الرحمن، وابن الزُبيدي، وخرَّج أبو عمُرو المقاتلي له مشيخةُ.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: سمعناها منه خاصّة.
وحدّث عنه ابن الخبّاز في حياة ابن عبد الدائم والبرزالي والوافي والمقاتلي وابن المحب وآخرون.
وقد روى المذكور فأكثر، وأسند عن جماعة، فأثّل في السند وأثّر.

ولم يزل على ذلك النهج، والإضاءة والرَّهج، إلى أن أصبح هامداً، ونقله حامِله إلى ضريحه عامداً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وسبع مئة، وعاش أربعاً وثمانين سنة من العمر.
أحمد بن عبد الرحمن بن ابراهيمالهكَاري الصَرخدي ثم الصالحي القواس المُسند المعمر، شهاب الدين سمع من خطيب مرادا وغيره.
وسمع الناسُ منه لمّا تحققوا من خيره.
كان فيه دين، ولم يُر منه ما يَشين.
ولم يزل يسمع، ويلين جانبه للطلبة ويطمع إلى أن أصاب القواس سهم الموت وصرخ بالصرخدي داعي الفوت.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وسبع مئة وعاش تسعين سنة.
أحمد بن عبد الرحمنابن عبد المنعم بن نعمة بن سلطان بن سرور: الشيخ الإمام العابر الأعجوبة في هذا الفن شهابُ الدين المقدسي النابلسي الحنبلي مُفسَّر المنامات.
سمع من عّمه التقي يوسف سنة ست وثلاثين، ومن الصاحب محيي الدين بن الجوزي، وسمع بمصر من ابن زواج، والساوي، وابن الخمّيري وبالإسكندرية من السَّبط، وروى الكثير بالقاهرة.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي سمعنا منه أجزاء، وكان عارفاً بالمذهب، وذكر التدريس بالجوزيّة لما قدمَ علينا ونزل بها. وقال: حدثني الشيخ تقي الدين بن تيمية أن الشهاب العابر كان له رئيِّ من الجن يخبره عن المغيّبات. ورجل كان صاحب أوراد وصلاة ومقامات.
قلت: وكان وافر الحُرقة لا تعرف له جرمة، للناس فيه عقائد، وهو إلى الخير قائد، وله عمر الطِّبرس المجنونة التي بجانب الفيل ظاهر القاهرة، وهي في مكانها ظاهرة.
أنشدني بعضهم قال: أنشدنا ابن الصَّاحب الماجن الذي كان بالقاهرة لما عمر الطِّبرسُ المجنونة:
ولقد عجبت من الطِّبرس وصحبه ... وعقولهم بعقود مفتونه
عقدوا عقوداً لا تصح لأنهم ... عقدوا لمجنونٍ على مَجنونه
وعزم الأمير الذكور عليها جُملةً، وحباه من الدراهم حملةً، وجعله بها مقيماً، وأظهر هو من فضله في كهفها رقيماً، وكان في تعبير الرؤيا آية، وفي الكلام عليها غاية، لم أسمع بمثل كلامه على المنام إذا فسَّره، ولا أدري ما الذي أدّاه إلى تلك العجائب وجسِّره، وكان غالب الناس يعدّ ذلك من باب الكرامات، لا من باب تأويل المنامات، وبعضهم يقول: نجامة أو كهانة، وبعضهم يقول: قوةٌ في النفس لا مهانة، لأنه ربما قال لصاحب الرؤيا أخباراً ماضية ومستقبله، وأحوالاً كان صاحب الرؤيا منها في غفلة أوبله، حتى يتعجب السامع ويهوله هذا الفيض الهامع، وقام له بدمشق سوق، وأما القاهرة فيكاد يركب فيها بالعَلم والبُوق، إلى أن رُسم بتحويله منها وإبعاده عنها، فأقام بدمشق على حاله مفخَّمة، ورتبةٍ في النفوس مُعظمة، إلى أن أصبح العابر غابراً، والمكاثر في تعظيمه لمصابه مكابراً.
أخبرني الحافظ أبو الفتح اليعمري قال: كنت عنده يوماً. فجاءه إنسان وقال: رأيت كأني قد صرت أترُجَّة. فقال. فقال: أترّجه، أ ت ر ج ه، وعدها على أصابعه خمسة أحرف، وقال لصاحب الرؤيا: أنت تموت بعد خمسة أيام، قال فقال لي بعض من حضر، ذكره هو وأنسيته أنا: القاعدةُ عند أرباب التعبير أنه من رأى أنه صار ثمرة تؤكل فإنه يموت، وهذه زيادة من عنده، يعني عَدّ حروف الأترجَّة.
وأخبرني الشيخ الحافظ علاءُ الدّين مغلطاي شيخ الحديث بالظاهرية بين القصرين قال: جاء إليه إنسان فقال: رأيت في منامي قائلاً يقول: إشرب شراب الهكاري، ففكر ساعة وقال: أنت فؤادك يؤلمك، قال: نعم: قال اشرب لك عسلاً تبرأ، قال: فقيل له: من أين لك ذلك؟ قال: فكرت في أنهم يقولون: شراب ديناري كذا، شراب كذا؛ شراب كذا، فلم أجد لهم شراباً يوصف بالهكاري، فرجعت إلى الحروف فوجدتها شراب الهك أري، والأري هو العسل وذكرت الحديث " كذب عليك العسل " أو كما قال وهذا ذكاءٌ مفرط وذهن يشوب التعجب بالتحيّر ويخلط.

وحكى لي عنه القاضي بهاء الدين أبو بكر ابن غانم موقع صفد وطرابلس قال: كنا عنده بدمشق وجاء إليه اثنان، فقال أحدهما: رأيت رؤيا، وقصّها، فقال: ما رأيت شيئاً وإنما تريد الامتحان، فخرجا بعدما اعترفا، فقلنا له: من أين لك هذا؟ قال لما تكلم رأيت في ذيل أحدهما نقطة دم فذكرت الآية: " وجاؤوا على قميصه بمٍ كذبٍ " . فاتفق أن رأيت أحدهما فيما بعد فسألته عن القضية، فقال: لما اجتزنا عليه ذكرنا أمره الغريب، وقلنا: نمتحنه وصنعنا رؤيا للوقت، فكان ما سمعت فقلت له: إنه قال: كذا وكذا فقال: صدق ونحن داخاون إليكم كان إنسان في الطريق يذبح فروجاً، فرمي به فلوثنا الدم.
وحكى لي عنه أيضاً قال: جاء إليه إنسان وقال: رأيت كأن في داري شجرة يقطين قد نبتت، فقال له: أعندك جارية غير الزوجة؟ قال: نعم، قال: يعني إياها، فقال: ما هذا؟ قال: الذي تسمعه، قال: إنها ملك زوجتي، قال: فقل لها تبيعني إياها، فراح وعاد يقول: إنها لم تبعها، فقال: تكسب مئتي درهم، فعاد وقال: لم تبعها، فألح عليها فقال: إنها لم تبعها، فقال: أما الآن فقد آن تعبير رؤياك، امض إلى هذه الجارية واعتبرها، فتوجه وعاد وقال: إنه كان عبداً وزوجتي تكتمني أمره وتلبسه لباس النساء.
وأخبرني غير واحد عنه أنه جاء إليه إنسان وقال له: رأيت كأني قد وضعت رجلي على رأسي، فقال له: أفسر لك هذه الرؤيا بيني وبينك أو في الظاهر؟ فقال بل في الظاهر، فقال له: أنت من ليالٍ شربت الخمر وسكرت ووطئت أمك فاستحيا ومضى.
وعندي عنه من هذا جملة وافرة، وأخبار على التعجب من أمره متضافرة، يضيق عنه الوقت ويؤدي سرده بعد المقة إلى المقت.
وأما خروجه من مصر، فأخبرني الشيخ الإمام الفاضل شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري عن علم الدين بن أبي خليفة رئيس الأطباء بمصر حكاية أخبره بها شخص من الهند، هي أغرب من سائر أمور شهاب الدين العابر وأعجب، ذِكرُها يهوّل العقل وأمرها ما يصدّقه أهل النقل.
وتوفي شهاب الدين رحمه الله تعالى في سنة سبع وتسعين وست مئة تاسع عشري ذي القعدة، وحضر جنازته ملك الأمراء وغيره من القضاة والأكابر.
وكانت واقعته في مصر وخروجه منها في ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وست مئة.
أحمد بن عبد الرحمن بن رواحةنُور الدين الأنصاري الحموي الكاتب، كتب الإنشاء بطرابلس والفتوحات لما تولّى الأمير سيف الدين أسنَدْمَرُ نيابة طرابلس عزل نور الدين هذا وجعل أمره في طرابلس جُذَاذاً، وولّى مكانه تور الدين بن المغيزل، فتوفي بعد شهور، وأعيد النور بعد النور، واستمر في مكانه إلى بعض سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، فرُتِّبَ عِوَضه ابن مقبل الحمصي، وعاد ابن رواحة إلى حماة، واستقر في أصل مخرجه ومنتماه، ولم يزل بها حتى طفِئ نوره، وبُهت لأمره حضوره.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة سادس عشر شعبان.
أحمد بن عبد الرحمنالشيخ الإمام الخطيب ابن العَجَمي خطيب جامع حلب.
اجتمعت به في حلب سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وأراني إجازة العلامة شيخنا شهاب الدين أبي الثناء لأخيه عبد المؤمن وهي بخطّه نظمّ ونثر، وقد أثنى عليه وعلى فضائله، وبرهن على شاهده، بنظم دلائله، وساقه في عداد الأدباء السّادة، والقالة القادة، وخطُّه يزري بوشي صَنْعَا، وحروفه تفوق النجوم جَمعَا، وطروسُه غادةٌ بالسطور فرعاً. وهو أخو الشيخ عز الدين بن عبد المؤمن، وسيأتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى.
لم يزل شمسُ الدين المذكور في دَرَج منبره، ويلتقط الناس درَّه من معبره، إلى أن كسف شمسه وضمه رمسه، وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
أحمد بن عبد الرحمن بن عبد اللهالشيخ الإمام المفتي القاضي شهاب الدين فارس الظاهري الشافعي، أحَد المفتين والمدّرسين بدمشق.
أخذ العلم عن الشيخ برهان الدين الفزاري وغيره.

ولي قضاء الركب الحجازي مرات، وبرَّد شوقه برمي الجمرات، وكان حَسَن المحاضرة، لَسِنَ المذاكرة، قديم الهجرة في العلم، رأى أولئك السادة القدماء أهل الحلم، وله ثروة ومعه مال جم، وليس له غير التحصيل هَم، وملكه يدخل منه في اليوم جًمْله، ولا يؤدوده عند استخراج أجر أملاكه ما يروم حَمْله، وكان مع ذلك يجلس في حانوت الشهود بالمسمارية ويقاسم، ويُعملُ في تحصيل ذلك الأنيق الرواسم.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الظاهري في باطن الأرض مقبوراً، وترك ولده بماله الموروث مجبوراً.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد حادي عشر شعبان سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة خمس وسبعين وست مئة.
أنشدني من لفظه لنفسه سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة:
رأت شيبتي قالت: عجبتُ مع الصبَا ... مشيبك هذا صِفهُ لي بحياتي
فقلت لها: ما ذاك شيبٌ وإنما ... سناكِ بقلبي لاح في وجناتي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
عجبوا اخالِك كيف منك مُقَبِّلاً ... شفةً رَقَتْ عن لؤلؤ وجمان
فأجبتهم لا تعجبوا مازال ذا ... مستلزماً كشقائق النعمان
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
رَعَفَ الحبيبُ فقيل هل قبلتَه؟ ... شوقاً إليه ودمع عينك يَسجُمُ
فأجبتُ: لا، لكنه أخفى دمي ... في سفكه وعليه قد ظهر الدمُ
وكان يقول بعد ذلك: الشعر مزبلة الفقيه، فأقول: كذا هو.
أحمد بن عبد الرزاق الخالديكان المذكور وزير الممالك القازانيّة والبلاد القانيّة، ظالماً غاشماً، سفاكاً للدماء هاشماً، استصفى أموال الرعايا، وحاجَّهم في أخذها منهم بالباطل وعايا.
ولم يزل في ظلمهِ ظُلمِهِ خابطاً، وعمله بذاك عند الله حابطاً، إلى أع عضَه السيف بريقه، واختطفَ بَصَره من بريقه.
وقُتِلَ هو وأخوه القطبُ وأخوهما زين الدين وذلك في سنة سبع وتسعين وست مئة.
أحمد بن عبد القادرابن أحمد بن مكتوم بن أحمد بن محمد بن سليم القيسي، الشيخ الإمام العالم الفريد تاج الدين المعروف بابن مكتوم النحوي.
اشتغل بالحديث وفنونه، وأخذ الحديث عن أصحاب النجيب وابن علاّق، وهذه الطبقة.
كان فاضلاً في النحو قيماً بغرائبه، متيّماً ما تشعَّب من مذاهبه، جمع فيه وعلّق وفاض وغَلّق، وكَسر سدَّه وخلّق، وطار فيه إلى غايات النجوم وحلّق، وخطه كما يقال طريقه بذاتها، متفردة بلذاتها. وله نظم لا بأس به ولا لَومَ كاسبه.
ولم يزل على حاله إلى أن باح الموت بسرّ ابن مكتوم، وحل به الأجل المحتوم، وفُضَّ له قبرُه المختوم.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين مئة في طاعونِ مصر.
ومولده في أواخر ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وست مئة.
كنت قد سمعت بأخباره وطربت لأشعاره، فازددت له شوقاً، ولم أجد لقلبي على الصبر طوقاً، فقدر الله بالاجتماع، وزادت بُرُوق فضله في الالتمام، ورأيته غير مرة.
ثم إني اجتمعت به في القاهرة في سنة خمس وأربعين وسبع مئة وسألته الإجازة بكل ما يجوز أن يرويه فأجازني مُتَلَفّظاً بذلك. وعمل تاريخاً للنحاة ولم أقف عليه إلى الآن، وملكت بخطه " الدر اللقيط من البحر المحيط " وهو في مجلدين، التقطه من تفسير شيخنا أثير الدين، وتكلم هو في بعض الأماكن وليس بكثر بعض شيء، فجاء كتاباً جيداً.
ومن شعره، ومن خطه نقلتُ:
ما على الفاضل المهذب عارٌ ... إن غدا خاملاً وذو الجهل سامِ
فاللَّباب الشهي بالقشر خافٍ ... ومَصُون الثمار تحت الكِمامِ
والمقادير لا تلام بحالٍ ... والأماني حقيقةً بالَملاَمِ
وأخو الفهم من تزوّد للم ... ت وخلَّى الدني لنهب الطغامِ
ونقلت من حطّه له:
عَرَتني هُمومٌ برَّحت وشواغل ... وأصبح دهري وهو بي متشاغِلُ
وبعّد عن قلبي المسرَّة أنني ... على فضلِ ما عندي من العلم خامِلُ
يمر بيَ الطلابُ لا يعرفونني ... ويأتون ذا الحظِ الذي هو جاهلُ
ويُقرئ عِلمَ النحو دونيَ معشرٌ ... منازلهم في المشكلات نوازلُ

إذا سُئِلوا أعياهم أن يجاوبوا ... كما عَيَّ لما سِيْلَ من قَبلُ باقلُ
قُصَارى عُلاَهم أن يقال: مشايخٌ ... وأقصى مناهم أن يُقال: أمَثشلُ
رَأوا صُحُفاً فاستقرؤوها وحاولوا ... بها مَعلماً فاستقبلتهم مجاهلُ
وأضحوا شيوخاً بالصحائف وَحدَها ... لهم رُتبٌ عند الورى ومَنَازلُ
وما لازموا شيخاً ولا حاولوا به ... وُصُولاً إلى علمِ له الشيخ واصلُ
ولم يُعَلّمه الشيوخ فرأيه ... على كثرة الأوراق والكتبِ قائلُ
وإني وإن أصبحتُ لارَبَّ رتبة ... لديهم ومنهم بي البرُّ نازلُ
ليَعرفُ حققي كلُّ ذي ألمعيَّة ... ويقدُرُ لي القَدرَ الجليلَ إلا فاضلُ
ويشهدُ لي بالفضل نظمٌ مٌهَذَبٌ ... ونَثرٌ يُحاكي الدُرَّ مِنهُ الفواصلُ
وأبكارُ أفكارٍ كَشَفتُ قناعَها ... وحَلَّيتُ منها ما غدا وهو عاطلُ
وأبرزتها في صُورة الدهر غُرَّةً ... كما حُلَّ عن وجهِ المليحةِ حائلُ
ولي في أفانين العلوم مَجَامعٌ ... بعا كل ما يهوى الحدَّقُ حاصلُ
سهرت عليها إذ أخو الجهل راقدٌ ... وفكرّت في تهذيبها وهو غافلٌ
ومن كان مثلي لم يكن هَمُّه الغِنى ... فيشغَلَهُ فيه عن العلم شاغلُ
ونقلت من خطه له:
ومُعَذِّرِ قال العذولُ عليه لي ... شَبِّههُ واحذر من قصورٍ يَعتَري
فأجبته هو بَانةً من فوقها ... بدرٌ يُحَفُّ بهالةِ مِن عَنبَرِ
ونقلت من خطه له:
نفضتُ يَدي من الدنيا ... ولم أضرع لمخلوقِ
لعِلمِي أن رزقي لا ... يجاوزني لمرزوقِ
ومَن عَظُمن جَهَالتُه ... يَرَى فِعلِي من المُرقِ
أحمد بن عبد القوي بن عبد الرحمنضياء الدين بن الخطيب الأسنائي.
اشتغل بأينا، ثم بالقاهرة، وأتى إلى دمشق وقرأ بها على النووي، وسمع الحديث، وصحب الشيخ إبراهيم بن مِعضَاد الجعبري، ثم اعتزل وأقام ببلده سنين، انقطع عن الناس، وأنف من ملاقاة الأدناس، يتعبد في مكانه، ويعتمد على الله في تحريكه وإسكانه، إلى أن انطفأ ضياؤه وخمد من الأسنائي سناؤه.
وتوفي رحمه الله سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعمابن عبد العزيز بن جامع، شهاب الدين العزَّازي التاجر بقيساريةِ جَهاركس بالقاهرة.
كان شاعراً جيد المقاصد، لطيف الاقتناص للمعاني خفيَّ المراصد، لتراكيبه حلاوة، وعلى ألفاظه طلاوة، وله شيء كثير من الموشحات، وكلها بالصناعة البديعية مُوشَّعات، وكان قد أتقن فنّي القريض والتوشيح، وغني اشتهاره في ذلك عن التلويح بالتصريح. وكان تاجراً فهو ينشر البَّزين من نظمه وقماشه، ويجعل النظم لأدبه والمتجرَ لمعاشه.
ولم يزل على حاله إلى أن طُوِيت من الحياة شُقَّتُه، وعُدِمَ ما بين معاشريه لطفه ورقته.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد تاسع عشري شهر الله المحرم سنة عشر وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
وحدَّث بشيء من نظمه، أنشدني من لفظه شيخنا الحافظ فتح الدين أبو الفتح قال: أنشدني من لفظه شهاب الدين العزَّازي يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
دمي بأطلالِ ذاتِ الخال مطلولُ ... وجَيشُ صَبريَ مَهزُومٌ ومفلولُ
ومن يُلاقِ العيون الفاتكاتِ بلا ... صَبرٍ يدافعُ عنه فهو مخذولُ
قُتلتُ في الحب حُبَّ الغانيات وما ... فارقت ذنباً وكم في الحب مقتولُ
لم يدرِ من سَلَبَ العشاقَ أنفسهم ... بأنه من دم العشاق مؤولُ
وبي أغنُّ غضيضُ الطرف مُعتدلُ ال ... قوامِ لَدْنُ مَهَرِّ العطف مَجدُولُ
كأنّه في تثنّيه وخَطرتِهِ ... غُصنٌ من البانِ مطلولٌ ومشمولُ
سُلافةٌ منه تسبيني وسالفهٌ ... وعاسِلٌ منه يُصبيني ومعسُولُ

وكل ما تدّعي أجفان مقلته ... يصحُ إلاَّ غرامي فهو منحولُ
منها:
يا برق كيف الثنايا الغرُّ من إضَمٍ ... يابَرقُ أم كيف لي مُنهنَّ تقبيلُ
ويا نسيم الصّبا كرِّر على أذُني ... حَدِيثهنَّ فما التكرارُ مملولُ
ويا حُداةَ المطايا دُون ذي سَلَمٍ ... عوجوا وشرقيَّ بانات اللِّوى مِيلُوا
منها:
منازلٌ لأكفِّ الغيثِ توشيَةٌ ... بها وللنَور توشيع وتكليلُ
كأنما طِيبُ ريَّاها ونَفحتُها ... بطيبِ تُربِ رسول الله مجبولُ
أوفَى النبيين بُرهَاناً ومُعجزةً ... وخيرُ من جاءهُ بالوحي جبريلُ
لهُ يدٌ وله باعٌ يَزِيِنُهاما ... في السِّلم طِولٌ وفي يوم الوغى طُولٌ
منها:
سَلَ الإلهُ به سيفاً لملته ... وذلك السيفُ حتى الحشرِ مسلولُ
وشاد ركناً أثيلاً من نبوَّتهِ ... والكفرُ واهٍ وعرشُ الشرك مثلولُ
ويل لمن جحدوا برهانه وثنى ... عِنان رشدهم غيٌّ وتضليلُ
أولئك الخاسئون الخاسرون ومن ... لهم من الله تعذيبٌ وتنكيلُ
نَمَتهُ من هاشم أسدٌ ضَرَاغِمة ... لها السيوفُ نُيُوبٌ والقنا غيلُ
إذا تفاخر أربابُ العلا فهم ال ... غرُّ المغاويرُ والصَّيدُ البهاليلُ
لهم على العَرَبِ العَرباء قاطبةً ... به افتخارٌ وترجيحٌ وتفضيلُ
قومٌ عَمَائمهم ذلت لعزتها ال ... قعساءِ تيجانُ كسرى والأكاليلُ
وهي قصيدة جيّدة غراء.
وبالسند المذكور له:
منذ عشقت الشارعيَّ الذي ... بالحسن يغتال ويختالُ
لم يبق في ظهري ولا راحتي ... تالله لا ماءٌ ولا مالُ
وأنشدني من لفظه شيخنا العلامة أثير الدين قال: أنشدني من لفظه لنفسه شهاب الدين العزّازي:
ما عُذرُ مثلك والركاب تُساقُ ... ألاّ تفيض بدمعك الآماقُ
فأذِل مثوناتِ الدموع فإنما ... هي سُنَّة قد سنَّها العشاقُ
ولرُبَّ دمعٍ خانَ بعد وفائهِ ... مُذ حانَ من ذاك الفريق فراقُ
ووراء ذياك العُذيبِ مُنيزلٌ ... لَعِيت بقلبك نحوه الأشواق
خُذْ أيمن الوادي فكم من عاشقٍ ... فتكت به من سِربِهِ الأحداقُ
واحفظ فؤادك إن هفا بُرق الحِمى ... أوهَبَّ منه نسيمه الخفّاقُ
وكتب شهاب الدين العزّازي إلى ناصر الدين حسن بن النقي ملغزاً في " شبّابة " :
وما صفراءُ شاحبةٌ ولكن ... تُزَيَّنها لُّنضارة والشبابُ
مُكتبةٌ وليس لها بنانٌ ... مُنقَبةٌ وليس لها نِقابُ
تُصيخُ لها إذا قبَّلتَ فاهَا ... أحاديثاً تلذُّ وتُستَكابُ
ويحلو المدح والتشبيب فيها ... وما هي لا سعادُ ولا الربابُ
قلت: ما أحسن ما جاءت " الباب " هنا.
وأجاب ابن النقيب عن ذلك:
أتت عجميَّةٌ أعربتَ عنها ... لسلمانٍ يكون لها انتسابُ
ويُفهم ما تقولُ ولا سؤالٌ ... إذا حققت ذاك ولا جوابُ
يكاد لها الجماد يهوزّ عِطفاً ... ويرقص في زُجَاجته الحُبِابُ
قلت: الأول أجود وأحسن.
وقال العزّازي ملغزاً في القوس والنُشَّاب:
ما عجوز كبيرةٌ بلغت عُم ... راً طويلاً وتَتَّقيها الرجالُ
قد علا جسمَها صفارٌ ولم تَشْ ... كُ سَقَاماً ولا عراها هُزالُ
وأراها لم يُشبهوها، ففي الأ ... مِ اعوجاج وفي البنين اعتدالُ
قلت: ما أصنع البيت الثالث وأحسنه.
ومن شعر العزَّازي:
قال لي من أحبه عند لثمي ... وجناتٍ يُحدِّثُ الورد عنها
خلَ عني أما شبعت؟ فنادي ... ت: رأيتَ الحياة يُشبَع منها؟
ومنه:
جَعَلت يوم قارةٍ كلَّ وجهٍ ... شِدّةُ البرد وهو للقار يحكي

وأسالت منا الدموعَ وما زل ... نا بها في منازلِ النبك نبكي
ومن موشحات العَزّازي:
ما على من هام وجداً بذواتِ الحلى ... مبتلى بالحِدَقِ السود وبيض الطُّلَى
باللوى مُليُّ حُسنٍ لديوني لوى
كم نوى قتلي وكم عذبني بالنوى
قد هوى في حبه قلبي بحكم الهوى
واصطلى نارَ تجنّيه ونار القِلى ... كيف لا يذُوبُ من هامَ بريم الفَلاَ
هل ترى يجمعنا الدهر ولو في الكرى
أم ترى عيني محيّا من لجسمي برى
بالسُّرى يا حاديي ركبٍ بليل سرى
عَلِلاً قلبي بتَذكار اللُّقا علِّلا ... وانزلا دون الحِمَا حُيَّ الحمى منزلا
بي رشا دمعي بِسِرِّي في هواه فشا
لو يشا بَرَّد مني جمرات الحشا
ما مشى إلا انثنى من سكره وانتشى
عطلا من الحميّا يا مُدير الطلا ... ما حلا إذا أدار الناظرَ الأكحلا
هل يلام من غَلَبَ الحبُّ عليه فهَام
مستهام بفاترِ اللحظ رشيق القوام
ذي ابتسام أحسن نظماً من حباب المام
لو مَلا من ريقه كأساً لأحيا الملا ... أوجَلاَ وجهاً رأيتَ القمر المجتلى
لو عَفَا قلبك عَّمن زلَّ أو من هفا
أو صفا ... ما كان كالجلمد أو كالصفا
بالوفا سَل فتىً عذَّبتَه بالجفا
هل خلا فؤاده من خطرات الولا ... أو سَلا أو خان ذاك الموثق الأوَّلا
وكنت أنا في وقت قد نظمت موشحاً في هذه المادة وهو:
لي إلى ظبي الحِمى شوق وقد أنحلا ... إن حلا فإنه جرَّعني الحنظلا
بي قمر سبي الحشا مني وعقلي قَمَرْ
لو خَطر أمسى به أهل الهوى في خطر
مُذ سَحَر بطرفه اعتل نسيم السَّحر
واصطلى محبة تذكار عصر خلا ... وابتلا بالوجد حتى أتعب العُذَّلا
كم ألم من طيفه لما بَجَفنيَّ ألم
في الظُلم أنصف لكن عين وُلّي ظلَم
أو نَسَمْ مبسَمُه أحيا جميع النسَم
أوجلا طلعتهُ في دامس أليلا ... لا اعتلى على بُدُور التم بين الملا
إن قضى بقتلي طرفُ غزالي انقضى
إذ مضى في كبدي جفناه فيما مضى
لو أضا برق الرضى لي ذات الإضى
لا نجلى عني العَنَا أو قلّ عني العُلا ... وانسلا قلب عدوّ قال عني سَلاَ
إن صفا لي قلبه من هجره انصفا
إن تفاءلت لقلبي برضاه انتفا
أو طغا دمعي على جفن له أو طفا
أخجَلا قطر غوادٍ قد غدت حُفَّلا ... كيف لا وهو حَيا دمعي وقد أسبلا
بئس ما عاملني الحب الذي بي سَمَا
عندما أجرى دموعي بالجفا عندنا
لأجرَما غفرتُ للواشي الذي أجرما
فاختلى به وخَلى البال رهن البلا ... أمَّ لا دون نعم في كل ما أمّلا
أحمد بن عبد المنعم بن أبي الغنائمابن أحمد بن محمد القزويني الطاوُسي.
الشيخ الكبير المقرئ المعمَّر الصوفي بالخانقاه السميساطية.
روى عن ابن الخازن، وعن ابن خليل، والسخاوي، وغيرهم، وحدَّث بالإجازة العامة عن الصيدلاني وغيره.
وكان من أعيان الصوفية، حَسَنَ الأخلاق قاضياً للحقوق، من أهل القرآن.
قال شيخنا البرزالي: ذكر أنه قدم دمشق سنة اثنتين وثلاثين وست مئة وسافر إلى بغداد سنة أربع وثلاثين مع ابن مرزق، كان يصلّي به، أرسله معه الشيخ علم الدين السخاوي ووصّاه به.
وذكر أنه سمع بقزوين " صحيح مسلم " على يد أبي بكر الشحاذي، وأنه اجتمع بالرافعي صاحب " الشرح الكبير " ، وأنه رأى السلطان علاء الدين محمد خوارزمشاه سنة خمس عشرة وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى سنة أربع وسبع مئة، وحضر جنازته خلق كثير، ودفن بمقابر الصوفية.
أحمد بن عبد المحسن

بن الحسن بن معالي
القاضي الإمام نجم الدين أبو العباس الدمشقي الشافعي.
تفقَّه على الشيخ تاج الدين عبد الرحمن ولازمه، وأعاد بحلقته وولي إعادة الظاهرية والقيمريَّة وغيرهما. وولي قضاء القدس في أيام القاضي بهاء الدين ابن الزكي وناب في الحكم سنين عن ابن صَصَرى، ودرس بالنجيبيّة وغيرها.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16