كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

اشتغل بدمشق على الشيخ برهان الدين، وولي القضاء في عدة أماكن، وكان قبل موته بقليل عين لقضاء الكرك، فأدركه أجله.
سمع كمال الدين من الأبرقوهي، وحدث عنه بدمشق، وسمع بدمشق من ابن القواس.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر المحرم بغزة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
عمر بن محمد بن عمرابن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة العقيلي الحلبي الحنفي، قاضي القضاة، نجم الدين أبو القاسم الحاكم بحماة، ابن الصاحب جمال الدين أبي غانم ابن الصاحب الكبير كمال الدين أبي القاسم.
سمع من الأبرقوهي، وحدث عنه، وحج سنة سبع عشرة وسبع مئة.
كان حسن الشكالة، كأن وجهه تحت عمته بدر في هالة، دائم البشر، عطر النشر، كريم الملقى لمن يحضر إليه، لين الجانب للخصم إذا وقف بين يديه، لم يشتم أحداً مدة ولايته، ولا خاطب أحداً بما لا يليق لكرم أصالته، مجموع الفضائل، مطبوع الكرم والشمائل، يعرف من العقليات جمله، وعنده من الأدب علماً وعملاً ما هو على الشرعيات فضله، قد فض له فضله ختام كل فن، وبل له وبله رياض ما شرد من النكت وعن، وخطه عقود العقول وفصوص الفصول، يحكي البرد إذا حبك، والذهب إذا سبك. ونظمه أرق من شكوى المحب إلى الحبيب، وألذ عند المتيم من غفلة الرقيب القريب.
وكان الملك المؤيد يعظمه ويثني على فضائله ويتعجب لذهنه إذا تصرف في مسائله.
اجتمعت به فخلبتني عبارته، وسلبتني حركته وإشارته. ورأيت منه سيادة تعرب عن كمال ذاته، ورئاسة تفضي بغريب صفاته:
ويفتر منه عن خصال كأنها ... ثنايا حبيب لا يمل لها رشف
وفارقته والتلفت إليه يثني دائماً عنقي، والشوق تضرمه لواعد قلقي.
ولم يزل بحماة والناس به مغتبطون، وعلى إحسانه وبره مرتبطون، إلى أن بغته أجله في أشده، وحل أنسه من الوجود بعد شده.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة الخامس والعشرين من صفر سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بعد صلاة الجمعة بمقبرة أقاربه قبلي البلد.
ومولده يوم الثلاثاء سابع عشري شهر رمضان سنة تسع وثمانين وست مئة.
وتولى الحكم بحماة من سنة إحدى وعشرين وسبع مئة إلى أن مات رحمه الله تعالى.
وكان لين الجانب، كثير المروءة، ما قصده أحد في شيء وخيبه. ولم يحفظ أهل حماة عنه أنه سب أحداً بحماة مدة ولايته. وهو قاضي القضاة الحنفية، ومدرس بها، وكان صاحب حماة يثني عليه وعلى فضائله، وحصل لأهل حماة على فراقه ألم شديد وحزن عظيم، وجنازته حافلة إلى الغاية.
وعند مروري بحماة عائداً من حلب سنة أربع وعشرين وسبع مئة، دخلت إليه في تحمل شهادة عليه، فرأيت منه رئاسة وحشمة وسيادة ولطفاً زائداً.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
كأن وجه النهر إذ حفت به ... أشجاره فصافحته الأغصن
مرآة غيد قد وقفن حولها ... ينظرن فيها أيهن أحسن
ومن نظمه:
ما لليالي بسهم البعد قد رشقت ... وصارم البين للأحباب قد مشقت
وخالفت في الذي يهوى وما ونيت ... كأنها لخلاف القصد قد عشقت
وأضرمت نار حرب من عداوتها ... ضراً فأعلامها بالهم قد خفقت
وفرقت جمع شمل كان ملتئماً ... وجمعت حادثات كانت افترقت
هي الليالي فلا تستكثرن لها ... هذا العناد إذا أنصارها اتفقت
منها:
أشكو إليك غراماً فيك أقلقني ... فدتك نفسي على طول المدى ووقت
وفرط شوق ووجد ناره اتقدت ... بين الأضالع والأحشاء فاحترقت
ولوعة منك لولا النفس واثقة ... بأن تعود لكانت للنوى زهقت
من بعد ما غبت يا من كان يؤنسني ... ما أبصرت حسناً عيني ولا رمقت
سواك ما مر في بالي ولا شفتي ... بغير ذكرك يا أقصى المنى نطقت
عمر بن محمد بن ماوشهاب الدين الحميدي.
أنشدني شيخنا العلامة أثير الدين، قال: أنشدني المذكور لنفسه:
أفديه عطاراً شهي اللمى ... أحور فتاناً كحور الجنان
بي غمرة منه فيا ليته ... لو جاد لي يوماً بماء اللسان
قلت: ذكرت هنا ما قلته في عطار:

كلفت بعطار حكى البدر في السنا ... وظبي الفلا في جيده ونفاره
دوا ألمي الورد المربى بخده ... يذر عليه آنسون عذاره
وقلت أيضاً فيه:
فديت عطاراً غدا حسنه ... يقول: سبحان بديع الصفات
نهدي في صدري أبلوجة ... والريق قطر وعذاري نبات
وأنشدني الشيخ أثير الدين قال: أنشدني المذكور لنفسه أيضاً:
فديت نشاراً غدا نشره ... أذكى من المسك إذا فاحا
قد راح من سكرة خمر الصبا ... كأنما قد شرب الراحا
بسيف جفنيه ومنشاره ... كم شق أرواحاً وألواحا
قلت: ذكرت أنا ما قلته في نجار:
قد عشقت النجار لما بدا لي ... بمحيا قد فاق في الحسن بدرا
أصله طيب ونكهة فيه ... فلهذا قد فاق نجرا ونشرا
وقلت أيضاً في مليح نجار:
أحببت نجاراً بديع جماله ... منه الشموس تغار والأقمار
فخري به بين البرية أنهم ... قالوا غدا وحبيبه النجار
عمر بن محمد بن عبد الحاكمابن عبد الرزاق، الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة زين الدين أبو حفص البلفيائي، بالباء الموحدة وبعدها لام وفاء وياء آخر الحروف وألف ممدودة، وبلفيا بلدة من أعمال البهنساوية.
تفقه بالقاهرة على الشيخ علم الدين العراقي، وسمع يسيراً من الحديث على الأبرقوهي، وعلى ابن سليمان بن القيم، والإمام علاء الدين الباجي. وخرج له قاضي القضاة تاج الدين السبكي أحاديث حدث بها أيام تفقه عليه.
كان في الفقه إماماً، وعلماً لا يسام رفعة ولا يسامى، قد تضلع من الفروع، وكاد يتقدم على غيره من الشروع. قل نظيره، وعلا على الأطلس أثيره. اعترف له بذلك فقهاء مصره، وفضلاء عصره، لو أنه لم يكن عقله المعيشي طائلاً، ولا سيل علمه في سياسة الناس سائلاً. لا جرم أنه عزل واخترم من منصبه واختزل.
وما زال يتقلب في حاليه مع الأيام، ويتصرف بنفسيه مع النقض والإبرام، إلى أن درج بعدما مشت حاله، وراح إلى الله وقدامه علمه وأعماله.
وتوفي رحمه الله تعالى بصفد في أول شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة إحدى وثمانين وست مئة.
كان شيخنا الإمام العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي يثني عليه ويعظمه في الفقه، ويقول: ما رأيت أفقه نفساً منه. وكان المصريون يقولون: لو حلف الحالف أنه يستفتي أعلم من في القاهرة، واستفتاه، لم يحنث.
وكان قد تولى قضاء القضاة بحلب، فحضر إليها في أيام الأمير سيف الدين طرغاي، فلم تطل مدته، ولم تحسن سياسته الناس، فتعصب عليه جماعة مع كاتب سرها القاضي شهاب الدين بن القطب، فعزل منها بعد شهرين ثلاثة، إلا أنه باشرها بصلف وأمانة وعفة حتى قال فيه القاضي زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى:
كان والله عفيفاً نزهاً ... وله عرض عريض ما اتهم
وهو لا يدري مداراة الورى ... ومداراة الورى أمر مهم
فحضر إلى دمشق في أواخر أيام الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى ففاوضه قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فيه وعرفه مقداره، فقال له: لا تقطع به، فولاه تدريس المدرسة النورية بحمص، فأقام بها مدة إلى أن ورد الأمير سيف الدين آقبغا عبد الواحد، فتعصب عليه عنده حاكمها القاضي شهاب الدين البارزي، فتركها وتوجه إلى القاهرة، فولاه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة قضاء المنوفية، فأقام بها مدة، وأتى إلى القاهرة، فولاه قاضي القضاة نيابة الحكم في باب الفتوح، ثم إن السلطان ولاه قضاء القضاة بحلب في أوائل سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ثم أبطل ذلك وولاه قضاء صفد في أواخر صفر فيما أظن، فأقام بها تقدير خمسين يوماً، وتوفي في طاعون صفد رحمه الله تعالى.
وكان قاضي القضاة عز الدين قد ولاه قبل قضاء حلب الأول قضاء البهنساوية، وذلك في أوائل ولاية ابن جماعة.
عمر بن محمد بن عثمان بن عبد اللهالإمام البارع المفتن كمال الدين أبو حفص بن شهاب الدين بن العجمي الحلبي الشافعي.
سمع بحلب ومصر ودمشق، وقرأ على شيخنا الذهبي أجزاء.

كان فاضلاً قد تفنن، وعالماً قد تميز وتعين. شارك في العلوم، ورقى إلى أن استفلت عنه النجوم. بذهنه الوقاد، وخاطره المنقاد:
تعرف في عينه حقائقه ... كأنه بالذكاء مكتحل
إلا أنه كان فيه رهج وطيش، وعدم قرار على حالة من العيش. يسعى ليله ونهاره، ويخلب بحسن توصله الحجارة.
وما زال إلى أن اعترضت المنايا أمانيه، وخانت آماله أيامه ولياليه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
تخرج بالشيخ فخر الدين بن خطيب جبرين. وكنت أنا وهو نقرأ عليه بحلب سنة أربع وعشرين وسبع مئة في المعقول والمنقول. وتخرج أيضاً بالشيخ كمال الدين بن الزملكاني لما كن بحلب.
وتصدر بحلب للإفادة وتميز سنة نيف وسبع مئة.
أخبرني القاضي ناصر الدين صاحب ديوان الإنشاء بالشام قال: كان القاضي زين الدين عمر بن الوردي يقول له: والله عمرك ما تفلح، وإن أفلحت تموت. فكان الأمر كما قال، لأنه مات والده وورثه وتبلبل حاله ومات.
عمر بن محمد بن سلمانابن حمائل، جمال الدين بن غانم، أحد الإخوة.
قال شيخنا البرزالي: سمع معنا مسند الإمام حمد على بن علان وغير ذلك. وكان رجلاً جيداً قليل الاختلاط بالناس متقنعاً.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشر جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة.
تقدم ذكر إخوته أحمد وعلي وأبي بكر.
عمر بن محمد بن عثمانالشيخ الإمام المجود المحرر المتقن شيخ الكتابة في عصره، جمال الدين الدمشقي.
شيخ التجويد، وفريد الكتابة لا ابن البصيص ولا ابن الوحيد. كتب الناس عليه بمصر والشام، وتخرج به جماعة من أولاد الأعيان والأعلام. ورزق في مصر الحظوة، ولم يتقدم لأحد معه خطوة. وعاد إلى دمشق وأقام بها إلى أن مات، وكتب عليه الجماعة وقد عمر دهراً صالحاً ولم يفرح بخزيه الشمات.
وحصل من التجويد آلافاً من الذهب المصري، ولو شاء كانت دنانيره على حروفها تجري. وكتب مجلدات بخطه الفائق، ووقف الأحداق على ما فيها من الحدائق.
ولم يزل يكتب إلى أن قط عمره، ومحاه من صحيفة الوجود دهره.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق في العشر الأول من صفر سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
رأيته يكتب بالديار المصرية في المدرسة الظاهرية بين القصرين. وكان يكتب أحمد بن بكتمر الساقي كل شهر بمئتي درهم، وكل مسودة يأخذ عليها جملة.
وقال في وقت: أخذت من الكتابة خمسة آلاف دينار مصرية.
وقلت: أنا فيه لما سمعت هذا الكلام عنه:
احرص على الخط فلا بد من ... حظ يفوق المكثر المثري
هذا الدمشقي بأقلامه ... أصاب كنز الذهب المصري
عمر بن محمودشرف الدين بن الطفال.
سمع من الشيخ جلال الدين أحمد الدشناوي، ومن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ودخل في خدمته إلى دمشق. وسمع معه من أشياخها.
وله نظم قريض وبلاليق.
توفي رحمه الله تعالى بقوص سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومن بلاليقه المطبوعة:
في ذي المدرسا ... جماعة نسا
إذا أمسى المسا ... ترى فرقعه
نسا ذا الزمان ... عجب يا فلان
يكونوا ثمان ... يصيروا أربعه
عمر بن مسعود بن عمرالأديب سراج الدين بن سعد الدين المحار، المعروف بالكتاني الحلبي.
استوطن حماة وأقام بها منتمياً إلى بيت ملوكها: الملك المنصور وولده الملك المظفر وولده الملك الأفضل نور الدين علي، فأحسنوا إليه، وأسنوا له الجوائز.
كان شعره في حماة قد غلا سعره، وخلب قلوب ملوكها سحره. وكان سراجه فيها منيراً، وكتانيه فيها حريرا، وراح أو به فيها كالراح وراج، وأذكى فيها لهب السراج. وله موشحات شعرية موشعات، وقطعه فيها كأنها من بقايا النيل مقطعات. لهج الناس بها في زمانه، ومالوا إلى ترجيح أوزانه. وغنى المغنون بها فأطربوا الأسماع، وجودوا فيها الضروب والإيقاع.
ولم يزل على حاله إلى أن انطفأ السراج، وبطل ما على حياته من الخراج.
وتوفي رحمه الله تعالى بحماة في سنة إحدى عشرة أو سنة اثنتي عشرة وسبع مئة ظناً.
أخبرني يحيى العامري الخباز الأديب، وكانت له به خصوصية، قال: كان كثيراً ما ينشد:
رب لحد قد صار لحداً مراراً ... ضاحك من تزاحم الأضداد

قال: ولما أن توفي رحمه الله تعالى حفرنا له قبراً، ظهر فيه من عظام الأموات فوق اثني عشر جمجمة. قال فتعجبت من ذلك.
وقد روى لي شعره وموشحاته إجازة عنه القاضي الصاحب جمال الدين سليمان بن أبي الحسن بن ريان، المقدم ذكره.
وديوان شعره لطيف، يكون في دون الثلاثة عشر كراساً، خارجاً عن موشحاته. وهو شعر متوسط، ومنه:
رأيته في المنام معتنقي ... يا ليت ما في المنام لو كانا
ثم انثنى معرضاً فواعجبي ... يهجرني نائماً ويقظانا
ومنه في مليح أحدب:
وأحدب أنكروا عليه وقد ... سمي حساماً وغير منكور
ما لقبوه الحسام عن سفه ... لو لم يروا قده القلاجوري
ومنه:
بعثت نحوي المشط يا مالكي ... فكدت أن تسلبني روحي
وكيف لا تسلب روحي وقد ... بعثت منشوراً بتسريحي
ومنه:
أرى لابن سعد لحية قد تكاملت ... على وجهه واستقبلت غير مقبل
ودارت على أنف عظيم كأنه ... كبير أناس في بجاد مزمل
ومنه:
يا حبذا وادي حماة وطيبه ... وطلاوة العاصي به والجوسق
فاتت منازه جلق فلأجل ذا ال؟ ... شقراء تكبو خلفه والأبلق
ومنه:
أنظر إلى النهر في تطرده ... وصفوه قد وشى على السمك
توهم الريح صيدها فغدا ... ينسج متن الغدير كالشبك
ومنه:
لنا مغن حسن وجهه ... يطرب منه لحنه المعرب
يرقص من يسمعه طيبة ... وهكذا المرقص والمطرب
ومنه:
قالوا: هوى بابن الأمير جواده ... فقلوبنا كادت عليه تفطر
فأجبتهم لا تعجبوا لوقوعه ... إن السحاب إذا سرى يتقطر
ومنه في إبريق فخار:
؟يا حبذا شكل إبريق تميل له ... منا القلوب وتصبو نحوه الحدق
يروق لي حين أجلوه ويعجبني ... منه طلاوة ذاك الجسم والعنق
كم قد شربت له ماء الحياة ولن ... ينالني منه لا غص ولا شرق
حتى غدا خجلاً مما أقبله ... وظل يرشح من أعطافه العرق
ومنه في قنديل:
يا حسن بهجة قنديل خلوت به ... والليل قد أسبلت منه ستائره
أضاء كالكوكب الدري متقداً ... فراق باطنه نوراً وظاهره
تزيده ظلمة الليل البهيم سناً ... كأنما الليل طرف وهو ناظره
ومنه في معالج مقيره:
بروحي أفدي في الأنام معالجاً ... معاطفه أزهى من الغصن الغض
يكلف عطفيه العلاج فيبسط ال؟ ... قلوب إلى حبيه في ساعة القبض
إذا ما امتطى لطفاً مقيرة له ... وأقعدها واحمر سالفه الفضي
رأيت محياه وما في يمينه ... كشمس تجلت دونها كرة الأرض
ومنه في امرأة حدباء وخلفها جارية عرجاء:
فديت من في ظهرها حدبة ... وهي بأخرى مثلها ناهده
يحسبها الإنسان مع أنها ... قائمة في مشيها قاعده
وخلفها جارية رجلها ... عن أختها فاضلة زائدة
توقف في خدمتها وقفة ال؟ ... وز وتطوي رجلها الواحده
ومنه في زامرة سوداء، وأجاد:
ولرب زامرة يهيج بزمرها ... ريح البطون فليتها لم تزمر
شبهت أنملها عن صرنايها ... وقبيح مبسمها الشنيع الأبخر
بخنافس قصدت كنيفاً واغتدت ... تسعى إليه على خيار الشنبر
ومنه في تشبيه لوح رخام شحم ولحم:
ويوم قال لي ملك البرايا ... وبين يديه لوح من رخام
أهل لك أن تشبهه بشيء ... يروق بني الترسل والنظام
فقلت رقيق ثلج في مدام ... فقال ومثل برق في غمام
وذاك أتم في التشبيه معنى ... فقلت صدقت يا بدر التمام
وكتب إليه شهاب الدين أحمد بن العزازي من القاهرة:
من ضل عن طرق المكارم والعلا ... فليهتدي أنى سرى بسراجها
عمر الذي بلغ البلاغة وارتقى ... درجاتها وسرى على منهاجها

أما الفضائل فهو بيت قصيدها ... وطراز حلتها ودرة تاجها
فكتب المحار الجواب:
سارت فعطرت البلاد بنشرها ... أخبار مرسلها وسبل فجاجها
عذراء قلدها الشهاب جواهراً ... من فكره غنيت به عن تاجها
راقت معانيها برقة لفظها ... كالراح أشرق نورها بزجاجها
وقال في جفانه أبنوس:
ذات لحن شجي ... بتدي بما في الصدور
كأنها جنح ليل ... من تحت صبح منير
تشدو بشعر فصيح ... على لسان الحرير
ومن موشحاته:
جسمي ذوى بالكمد والسهر ... والوصب من جان
ذي شنب كالبرد كالدرر كالحبب جمان
بي غصن بان نضر ... يسبيك منه الهيف
يرتع فيه النظر ... فزهره يقتطف
الخد منه خفر ... والجسم منه ترف
قد جاءنا يعتذر ... عذاره المنعطف
ثم التوى كالزرد معبقري ... معقربي ريحاني
في مذهب مورد مدنر مكتب سوسان
؟ظبي له مرتشف ... كالسلسبيل البارد
بدر علاه سدف ... من ليل شعر وارد
مقرطق مشنف ... يختال في القلائد
غصن نقا ينعطف ... من لين قد مائد
بين اللوى وثهمد كجؤذر في ربرب غزلان
من كثب ذي جيد ذي حور ذي هدب وسنان
أما وحلي جيده ... ورنة الخلاخل
والضم من بروده ... قد قضيب مائل
والورد من خدوده ... إذ نم في الغلائل
لا كنت من صدوده ... متصلاً بعاذل
نار الجوى لا تخمدي واستعري ... وكذبي سلواني
وانسكبي واطردي وانهمري ... كالسحب أجفاني
مولاي جفني ساهر ... مؤرق كما ترى
فلا خيال زائر ... يطرقني ولا كرى
إني عليك صابر ... فما جزا من صبرا
إن سح دمعي الهامر ... فلا تلمه إن جرى
جال الهوى في خلدي ومضمري ... أضر بي كتماني
مؤنبي فاتئد لا تفتر ... وجنب عن عان
إن زاد في الهجر وصد ... رحت بصبري مرتدي
عنه وإن طال الأمد ... إلى ذرى محمد
وكيف يخشى من قصد ... ملكاً عظيم المحتد
فالملك المنصور قد ... سما سماء الفرقد
ثم استوى بأجرد مضمر ... ومقضب يماني
ذي شطب مهند وسمهري ... مضطرب مران
ملك علت هماته ... من فوق هام المشتري
وبخلت راحاته ... سح السحاب الممطر
وعوذت راياته ... بمحكمات السور
بدر بدت هالاته ... مثل الصباح المسفر
تحت لوى منعقد بالظفر في موكب فرسان
كالشهب في الأسعد والأقمر ... في عذب تيجان
يا ملكاً دون الورى ... تخبطه الممالك
ومالكاً إذا سرى ... تحجبه الملائك
بعض عطاك هل ترى ... جادت به البرامك
فاستجلها من عمرا ... ثغر ثناها ضاحك
لا تحتوى كالشهد كالسكر ... كالضرب معاني
كالسحب كالعسجد كالجوهر من حلبي كتاني
قلت: وقد عارضه الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى في كثير من موشحاته، ومما عارضه هذا الموشح، وقد سقته في ترجمة الأمير شمس الدين سنقر الأعسر مشد الدواوين. إلا أنه غير بعض قوافيه.
ومن موشحات السراج، وألطفها وأحسنها قوله:

ما ناحت الورق في الغصون إلا ... هاجت على تغريدها لوعة الحزين
هل ما مضى لي مع الحبايب آيب ... بعد الصدود
أم هل لأيامنا الذواهب واهب ... بأن تعود
مع كل مصقولة الترائب كاعب ... هيفاء رود
تفتر عن جوهر ثمين جلا أن ... يجتلى يحمى بقضب من الجفون
أحببته ناعم الشمائل مائل في ... برده
في أنفس العاشقين عامل عامل من قده
يرنو بطرف إلى المقاتل قاتل في غمده
أسطى من الأسد في العرين فعلاً وأقتلا لعاشقيه من المنون
علقته كامل المعاني عاني قلبي به
مبلبل الحال مذ جفاني فاني في حبه
كم بت من حيث لا يراني راني لقربه
وبات من صدغه يريني نملا يسعى ... إلى رضابه العاطر المصون
قاسوه بالبدر وهو أحلى شكلاً من القمر
فراش هدب الجفون نبلا أبلى ... بها البشر
وقال لي وهو قد تجلى جل باري الصور
ينتصف البدر من جبيني أصلاً فقلت ... لا قال ولا السحر من عيوني
بتنا وما نال ما تمنى منها ... طيب الوسن
نفض من فرحة لدنا دنا تنفي الحزن
وكلما مال أو تثنى غنى ... صوتاً حسن
لا تستمع في هوى المجون عذلاً واسع إلى راح تقي سورة الشجون قلت: قد رأيت أيها الواقف على هذا وفقك الله ما فاته من الالتزام في بعض الحشوات، وما بعض الحشوات خال منه، وما أعتقد أنه أتى به وفاته، ولا يخفى ذلك على من يعرف علم البديع وشروط الجناس المزدوج.
وكلفني بعض الأصحاب الأعزة أن أنظم شيئاً في هذه المادة، فنظمت مع علمي ما ينبغي للعاقل أن يعارض ما رزق السعد، وبالله التوفيق، وهو:
ما تنقضي لوعة الحزين أصلا ... ولو سلا إلا لضرب من الجنون
قمت ولم تحظ بالوصال صالي ... نار الجوى
معذب البال في خبال بالي ... من الهوى
ولا توافق على انتقال قالي ... يوم النوى
وكن على مذهبي وديني ذلاإذتبتلى واصبر على ذلة وهون
معذبي نازح المزار زاريعلىالقمر
خلى فؤادي من الإسار ساريعلىخطر
يقول والقلب في استعار عاريمنمصطبر
من أرسل السحر من جفوني نبلاتقضيعلى حشا المحبين بالمنون
في ريقه لذة السلافلا فيكأس المدام
رأيت لي منه في ارتشافشافيمن السقام
أقول والصمت في اعتكافكافيعند الملام
يأتي تسليه عن يقينقل لاتغري البلاعلي فالوجد في الكمين
جبينه الصبح في انبلاجلاجلشعره
وقلب مضناه في ابتهاجهاجلهجره
يرقب منه يوم انفراجراجلصبره
ظبي به الليث في العرينولىلو اجتلى عيونه بات في غبون
وغادة في الهوى عدانيدانيوصالها
لو أن دهري لها انتقانيقانيجمالها
ما كان في الوجد قد شجانيجانيدلالها
ولا جرت بالدما عيونيوبلاقد أخجلاسواكب العارض الهتون
مقلتها صيرت رشاديشاديبذكرها
وسحرها صار في العبادباديبنصرها
وصار في الغور والوهادهاديلأسرها
فانظر تجدها دون العيونكحلالا يصطلىلها بنار السحر المبين
تبدو بوجه مثل المرايارايىفيه الهلال
ألا ابن يحيى خير البراياراياإذا استحال
طبع الليالي وللرعاياعايىصرف الليال
يرد خطب الردى الحرونسهلاقد انجلىوانبلجت سدفة الدجون
يا سعد ملك قد استجلاجلاًعنه العنا
لأنه عندما تولىولىعنه الخنا
فمي بذكراه مذ تحلىحلىفيه الثنا
وجاء بالجوهر الثمينجزلاًحتىاغتلى على عقود المدح الرصين
فطرسه جامع الفرائدرائدإلى الصواب
ولفظه زينة القصائدصائدفصل الخطاب
وكله نخبة العقائدقائدالى العجاب
وذكره صار في القرونيتلىحتى علامنابر الأيك والغصون
أقول للغيث في سحابهحابهفي وبله
فجوده للورى وشى بهشابهفي طله
ولم يقم قط في منابهنابهمن شكله

أفاض من فضله المعينسجلا ًملا الملاوسار في بحره سفيني
نظمي على رتبة الأفاضلفاضلديباجه
كأنه فيك بالأصائلصائلنواجه
فانظر لمن صار في المحافلآفلسراجه
ومن على ذروة الفنونحلاواستفلاسواه في حمأة وطين
موشحي رائق الطرائقرائقفي فنه
ما مثله قط في الخلائقلائقفي وزنه
إن عد يوماً من النوافقوافقلوزنه
فأنت فرد بلا قرين أملى ... سرح العلا حتى انجلت ظلمة الظنون
ومن موشحات السراج المحار رحمه الله تعالى:
أرقت لبرق لاح من أرض حاجري ... فأجرى دموعي من شؤون محاجري
وهيج لي التذكار ... فأضرمت الأفكار
في قلب الكئيب ... أو كادت تذيب
نيران الوجيب ... حشاشة الأشواق
كتمت الهوى جهدي ... وهل أنا كاتم
وقد جد بي وجدي ... وشوقي لازم
ونمت بما عندي ... دموع سواجم
فما حيلتي والدمع يبدي سرائري ... ويظهر ما جنت عليه ضمائري
ولم يبق لي أنصار ... سوى جلدي إن صار
لقلبي جلد، وإلا فقد ... براه الكمد وضاقت به الآفاق
؟أعرت حمام البان ... بعض توجعي
فناحت على أفنان ... وجدي ولم تعي
ولو سقت الأغصان ... فائض أدمعي
لأورق منها كل ذاو وناضر ... بما رويت من ماء جفني وناظري
ولو كانت الأطيار ... إذا نحت في الأسحار
قبيل الصباح مثلي في النواح ... ما راشت جناح ولا لبست أطواق
فؤادي الذي أصماه ... سهم من النوى
فكابد ما يلقاه ... من ألم الجوى
وبي رشا لولاه ... لم أدر ما الهوى
ولا حل في قلبي سواه وناظري ... فيا نفس جدي في هواه وخاطري
ولا ترهبي الأخطار ... عسى تدركي الأوطار
فكم من هوى في نار الجوى ... وحكم الهوى تذل له الأعناق
دعاني إلى حبيه ... خد مورد
عليه لمن يجنيه ... صدغ مزرد
ومن جفنه يحميه ... سيف مجرد
فويلاه من تلك الجفون الفواتر ... تصول على عشاقه ببواتر
نضتها يد الأقدار ... لمن يجتني الأزهار
فيا من نظر سيوف الحور ... بأيدي القدر تسل من الأحداق
أسلت من البلوى ... سيول مدامعي
تنم يما تطوى ... عليه أضالعي
ولي كبد تكوى ... بنار مطامعي
فكن ناصري إن قل يا دمع ناصري ... عسى عاذلي في الحب يصبح عاذري
ومن يعشق الأقمار ... ولم يكتم الأسرار
يقاسي الولوع وفيض الدموع ... ونار الضلوع كذا صفة العشاق
فكلفت أنا معارضته، فقلت، وبالله التوفيق:
تغيبت يا بدري فطالت دياجري ... ولم أرج أنصاري وأنت مهاجري
وما تنفع الأنصار ... إذا زاغت الأبصار
وبات الغمام، يبكي المستهام ... وانجر الحمام إلى النوح بالأطواق
خلائقك الحسنى ... فتنت بها الورى

ومقلتك الوسنى ... سبت مني الكرى
ومبسمك الأسنى ... تنضد جوهراً
وجفنك يحمي الريق منك بباتر ... فيا بارداً قد راح يحمى بفاتر
ولو كانت الأزهار ... وقد راقت الأسحار
تروي عن شذاك وتحكي سناك ... لكانت هناك، حدائقها الأحداق
حبيبي قد أضحى ... هواك منيتي
ولي كبد قرحى ... لعظم بليتي
وجاء الذي يلحى ... تمام مصيبتي
فإن قلت إني في الهوى غير جائر ... فما ضر لو أصبحت بالوصل جابري
؟وإلا فكم من جار ... على ذي غرام جار
ولا يختصر ولا يقتصر حتى ينتصر ... على الصب بالأشواق
يقرر في هجري ... دليل دلاله
ويمنع مع فقري ... جميل جماله
وينكر مع ضري ... وصول وصاله
ويقدم في سفك الدما غير قاصر ... بقسوة فتاك اللواحظ قاسر
وقد أصبح الخطار ... إذا ماس في أخطار
يشكو ما دهي إلى ملده ... ومن قده يشكو الغصن في الأوراق
له مبسم ألمى ... حلا وهو بارد
؟به اتسقت نظماً لآلي فرائد
إلى رشفه نظمأ ... وما ثم وارد
وقد دار في خد من الورد ناضر ... له عارض قد راق في كل ناظر
له خبر قد طار ... وقد ملا الأقطار
فما ينكر لما يشكر ... ولا يذكر إلا فاق في الآفاق
تجنى وما أبقى ... وسر معاندي
ورق لما ألقى ... من السقم عائدي
وجفناه قد شقا ... حبالة صائد
؟وهل يكتفي صب نوافث سامر ... بقلب سليب فاقد الصبر حاسر
ومن ذا الذي قد ثار ... وحاول أخذ الثار
من سهم مرق بطرف رمق ... وسحر الحدق لوا نصره خفاق
؟

عمر بن مظفر
ابن عمر بن محمد بن أبي الفوارس، الشيخ الإمام الفقيه النحوي الأديب الشاعر الناثر زين الدين أبو حفص بن الوردي المعري الشافعي.
أحد فضلاء العصر وفقهائه وأدبائه وشعرائه. تفنن في علومه، وأجاد في منثوره ومنظومه. شعره أسحر من عيون الغيد، وأبهى من الوجنات ذات التوريد. قام بفن التورية فجاءت معه قاعدة، وخطها في الطروس وهي فوق النجوم صاعدة، يطرب اللبيب لسماعها ولا طرب الصوفي للشبابه، ويعجب الأديب لانطباعها ولا عجب الغواني بما التحف شبابه، ويرغب الأريب لارتجاعها ولا رغبة الروض الذي صوح في صوب السحابة. ويدأب النجيب في اقتطاعها ولا دأب المحب في التمسك بأذيال محبوبه السحابة:
لفظ كأن معاني السكر تسكنه ... فمن تحفظ بيتاً منه لم يفق
كأنه الروض يبدي منظراً عجباً ... وإن غدا وهو مبذول على الطرق
وفقهه للطالب روضه، وللأصحاب الفتاوى قد شرع حوضه. نظم الحاوي وزاده مسائل، وجعله بعد وحشة الأذهان منه خمائل، وعربيته تلافيها ما أنس غريبها بتلافيها وقربها إلى التعقل بعد تجانفها وتجافيها، وسهل عويصها فلو سمعته الأعرابية ما قالت: " يا أبت أدرك فاهاً غلبني فوها لا طاقة لي بفيها " ، إلا أنه مع هذه القدرة وهذا التمكن من فن الأدب، وكونه إذا تصدى للنظم تنسل إليه المعاني من كل حدب، لا يسلم من الإغارة على من سواه، واغتصاب ما سبقته إليه غيره وما حواه، ولا يعف عما هو لمن تقدمه أو عاصر أو استسلم له أو حاصره. وبهذه الخلة نقص، ولولاها صفق له الزمان ورقص.

ولم يزل في حلب يتولى القضاء في تلك النواحي، وتبكي الغمائم لفراقه وتبتسم لقدومه ثغور الأقاحي، إلى أن ترك الولايات ورفضها، وعاد على أحكامها ونقضها، وأرصد نفسه للإفادة، وتلفع برداء الزهادة، واختص بسيادة العلم وهي السيادة. و تخرج به جماعة وتنبهوا، وحاكوا طريقه وتشبهوا، إلى أن افترس الوردي ورد المنية، وأصبح في حفرة القبر من وراء الثنية.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب.
وتوفي أخوه القاضي جمال الدين يوسف قبله بقليل.
وكان الشيخ زين الدين رحمه الله تعالى قد رأى عجائب الطاعون في حلب، فعمل فيه رسالة أنشأها وأبدعها وسماها: النبا في الوبا، ولكنه ختم به الوبا، وفجع الناس فيه.
وقلت أنا فيه لما بلغتني وفاته:
لئن ذوى الوردي في هذه ال؟ ... دنيا لقد أينع في الخلد
إنما أوحش ربع النهى ... والفضل في نقص وفي رد
والعلم روض ماله رونق ... لأنه خال من الوردي
وكنت قد كتبت إليه من دمشق في جمادى الآخرة سنة أربعين وسبع مئة:
سلام على الحضرة العالية ... سلام امرئ نفسه عانيه
لأن لها رتبة في العلا ... ذوائبها في السما ساميه
ويؤنس من غدا يجتني ... قطوف مسراتها دانيه
أيا عمر الوقت أنت الذي ... كراماته في الورى ساريه
ويا بحر علم طمى لجه ... فكم جاءنا عنه من راويه
ويا بحر علم طمى لجه ... فكم جاءنا عنه من راويه
ويا فاضلاً أصبحت روضة ال؟ ... علوم بتحقيقه زاهيه
لك الخط كم فيه من نقطة ... لها الحظ بالقلب في زاويه
تقدمت في النظم من قد مضى ... لأنك في الذروة العاليه
ورخصت أسعار أشعارهم ... كأن مدادك من غاليه
وكم من قصيد إذا حكتها ... تكون القلوب لها قافيه
ونظمت في مذهب الشافعي ... كتاباً غدا حاوياً حاويه
وزدت مسائله جملة ... بتحقيق مذهبه وافيه
فما لك من مشبه في الورى ... ويا حسن ما ههنا نافيه
لئن كنت أرسلت هذا القريض ... فللبحر قد سقته ساقيه
وإلا فأهديت نحو الريا ... ض وقد أينعت زهرة ذاويه
وسترك إن لم أكن حاضراً ... يغطي مساوئه الباديه
فلا زلت في نعمة وفرها ... تساق له جملة باقيه
يقبل الأرض ويسأل الله أن يمن عليه بجمع شمله، ويقرب اللقاء، فإن التمني قد أطال المدة في وضع حمله، وأن يريه ذلك الشخص الذي يروق البدور السيارة، ويروع الأسود الزأارة، وأن يرزقه اجتلاء ذلك الروض الذي نجني بسمعه أزهاره التي تسلب النظارة بالنضارة، وأن يورده على ظمئه البرح تلك الفضائل التي أبحرها زخاره، وأمواجها هدارة، وأن ينزله المحل الذي يخرج منه ومعه بكارة المعاني التي تبرز منها بكارة بعد كاره، وأن يمتع طرفه بذلك البدر الذي يأخذ الناس من فوائده الكواكب السيارة، وأن يطلع عليه شمس فوائده التي تشرق من الطلبة في الهالة والدارة:
لعل الله يجعله اجتماعاً ... يعين على الإقامة في ذراكا
وينهي أنه لما كان في الديار المصرية حضر من حلب المحروسة المولى شمس الدين محمد بن علي بن أيبك السروجي، وأنشد المملوك تضمين أعجاز ملحة الإعراب لمولانا أدام الله فوائده فأخذ من المملوك بجامع قلبه، ودخل على لبه بهمزة سلبه، وعلم به القدرة على التصرف في الكلام، وتحقق أن نظم غيره إذا سمع قوبل بالملال والملام. وقال في ذلك الوقت عندما حصل له في كلام مولانا المقة وفي كلام غيره المقت:
يا سائلاً عمن غدا فضله ... مشتهراً في القرب والبعد
الناس زهر في الثرى نابت ... وما ترى أذكى من الوردي
وكان المملوك قد علقها، وأدخلها أبواب حاصله وأغلقها، فاغتالتها أيدي الضياع، وعدم أنس حسنها المحقق من بين الرقاع.
ثم إني سألته أن يجيزني رواية ما يجوز له تسميعه، فكتب الجواب، ومن خطه نقلت:

كتب إلي فلان أمد الله تعالى في جاهه، وجمل النوع الإنساني بحياة أشباهه، يستجيز مني رواية مصنفاتي ومروياتي ومؤلفاتي، ففديته سائلاً، وأجبته قائلاً: أما بعد حمد الله جابر الكسير، والصلاة على نبيه محمد البشير النذير، وعلى آله الذين أعريت أفعالهم فسكن حب أسمائهم في مستكن الضمير.
فإني ألقي إلي كتاب كريم، يشتمل بعد بسم الله الرحمن الرحيم، على نظم فائق بهي، ونثر رائق شهي، غرس لي أصوله بفضله خليل جليل، فامتد علي من فروعه ظل ظليل، فرأيته فانتصبت له قائماً على الحال، وتميزت به على غيري، فطبت نفساً بعد الاعتلال، وابتهلت بالدعاء لمهديه مخلصاً، ولكن أسأت الأدب إذ وازنت جوهر نظمه بالحصى حيث قلت:
سلام على نفسك الزاكية ... وشكراً لهمتك العالية
أزهراً أم الزهر أهديتها ... لعبد مدامعه جارية
كتاب يفوح شذى نشره ... فلي منه رائحة جائيه
وسعد معاديه عن مركز ال؟ ... سعادة يلجا إلى زاويه
إذا حمل الجدي في نطحه ... ففاس إلى رأسه دانيه
وقابلني حين قبلته ... من الطيب ما أرخص الغاليه
وفكهني في جنى غرسه ... ولا سيما بيت ما النافيه
تردد عيني به لا سدى ... ولكنها تطلب العافيه
فمهديه أفديه من سيد ... أياديه رائقة راقيه
لعل الخليل بداني به ... ليجعلها كلمة باقيه
فيا جابراً دم معاذاً فكم ... بعثت لمحلي من ساريه
لأقلامك الرفع تبنى بها ... على الفتح أفعالها الماضيه
ولو لم يكن قد سبا نورها ... لما حمل الخادم الغاشيه
فإن أهلك الناس جهل بهم ... فأنت من الفرقة الناجيه
فكم باب نصر تبوأته ... فأذهاننا منه كالجابيه
رضي بك عن دهره ساخط ... فلا زلت في عيشة راضيه
وإني لفي خجل منك إذ ... أجبتك في الوزن والقافيه
فعفوا وصفحاً ولا تنتقد ... ويا بحر مالك والساقيه
ليهنك أنك عين الزما ... ن فليت على عينه الواقيه
ولما انتهيت إلى استجازته التي انتظمت في سلوك الحسن بحسن السلوك، واستعظمت، فلولا حسن الظن لأوهمت تهكم المالك بالمملوك، أحجمت عن إجازة من شمر في العقل والنقل لتحقيق القديم والحديث، وتبحر في إغراب الإعراب حتى كأن النحاة إياه عنوا بمسألة سيرك السير الحثيث، وقلت: ماذا أصف، وبأي عباة أنتصف. في إجازة من إذا كتب طرز بالليل رداء نهاره، وإذا نثر فالأنجم الزهر بعض نثاره، وإذا نظم لم يقنع من الدر إلا بكباره، ولم يرض من المعاني إلا بدقيق من بين حجريه الثمينين بل أحجاره، إن أعرب ف؟ ويه على سيبويه، وإن نحا فهو الخليل غير مكذوب عليه، يأتي بما يفتر عنه المبرد، ويشق له الكسائي كساه ويجرد، ويقول الزجاجي: أيها الشاب لقد أخجلت جواهرك صرحي الممرد، وينادي ابن أبي الحديد: سطا علي لسانك المبرد، ويستخدم ملك النحاة في جنده، ويرفرف ابن عصفور عليه بجناحيه ويحلف أنه الخليفة من بعده، بتعمق يرهف حروف الحروف، وينصف حتى لا يعدو ثعلب ولا أكبر منه على ابن خروف، ويصدق حتى لا يقال ضرب زيد عمراً، ويعدل حتى لا يشتم خالد بكراً، مع بساتين فنون أخر تهتز بنسمات السحر عذبات أفنانها، ويقول حاسدها: آه، فتشبه ألفه في العظم قدود نخلها، وهاؤه ثمر رمانها.

ثم فكرت أن كتابه الشريف آمنني النوب، وخصني بالنوبة الخليلية من بين النوب، وكفاني مواثبة العكس والطرد، وأولاني مناسبة الغرس للورد، فترددت هل أفعل أو لا، ثم ظهر لي أن امتثال المرسوم أولى، وجسرني على ذلك مرسوم شيخ الأدب ورحلته، وركنه الأعظم وقبلته، شيخنا الفذ جمال الدين بن نباتة، فسح الله في مدته وأبقى حياته، الذي إن نثر جعل اللجين إبريزاً بحسن السبك، وإن نظم قال نظمه: لقرينتيه الحسن والقبول: قفا نضحك من قفا نبك. لا جرم أنا من بحره الحلو نغترف، وبالتقاط جوهره التي زان بها مفارق طرق البلاغة نعترف، فأطلعت إذن أمره طالباً صفحه وستره، وقلت: لقد بدأتني أعزك الله بما كنت أنا به أحرى، وكلفتني شططاً فتلوت: " ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً " ، وها قد أجزت لك متطفلاً عليك، وأذنت لك متوسلاً إليك، أن تروي عني ما يجوز لي روايته وإسماعه، و ليتصل بك فيما اتصل بك ما أمن انقطاعه، من منقول ومقول، وفروع وأصول، ونثر ونظم وأدب وعلم وشرح وتأليف وبسط وتصنيف بشرط المضبوط، وضبطه المشروط.
أما مصنفاتي الشاهدة علي بقصور الباع، ومؤلفاتي المشيرة إلي بقلة الإطلاع، فمنها في الفقه: البهجة الوردية في نظم الحاوي، وفوائد فقهية منظومة.
ومنها في النحو: شرح ألفية ابن مالك، وضوء الدرة على ألفية ابن معط، وقصيدة اللباب في علم الإعراب، وشرحها، واختصار ملحة الإعراب نظماً، وتذكرة الغريب نظماً وشرحها.
ومنها في الفرائض: الرسائل المهذبة في المسائل الملقبة.
ومنها في الشعر والأدبيات: أبكار الأفكار.
ومنها في غير ذلك: تتمة المختصر في أخبار البشر، اختصار تاريخ حماة، والذيل عليه، والتتمات في أثنائه.
وأرجوزة ي تعبير المنامات، خمس مئة بيت.
وأرجوزة في خواص الأحجار والجواهر، ومنطق الطير، نظماً ونثراً، فيه نوع أدب تصوفي، وما لا يحضرني الآن ذكره، وكان الأولى ستره.
أجزت لك أيدك الله رواية الجميع عني بأفضالك، ورواية ما أدونه وأجمعه من ذلك حسبما اقترحه خاطرك العزيز واستوجبت به مدحي، فأنا المادح أنا المجيز.
قاله وكتبه عمر بن مظفر في العشر الأول من شعبان سنة أربعين وسبع مئة.
وكتب بخطه تضمين أنصاف أبيات ملحة الإعراب، وهي في غاية الحسن، وهي ستة وستون بيتاً، وقد أثبتها بكمالها في ترجمته في تاريخي الكبير.
وكتب بخطه تضمين:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر
لأبي العلاء المعري في مديح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي في إجازته في الجزء الثامن عشر من التذكرة التي لي.
وكتب أيضاً بخطه مفاخرة له نثراً بين السيف والقلم وجودها، وكتب بخطه أيضاً مقاطيع كثيرة وهي في الجزء الثامن عشر من التذكرة لي، وأثبت له شيئاً كثيراً من نظمه في التذكرة التي لي وهو مفرق في أجزائها.
ومن مصنفاته الكلام على مئة غلام كتبته جميعه بخطي، وهو في الجزء الثاني والثلاثين من التذكرة، والكواكب السارية في مئة جارية، كتبته جميعه بخطي أيضاً، وهو في الجزء الثالث والثلاثين من التذكرة، وله أحاجي نحوية على حروف المعجم وهي قال:
يا من حاجى ... في الأسماء
اطرح حرفاً ... بعد التاء
القِثا وقال:
؟يا من أحاجيه تغني ... عن فطنة المتنبي
إن كان عندك فهم ... مثل لنا طول جب
مدابير وقال:
يا فاضلاً قد صلحت ... للعالمين نيته
اطرح رتاجاً ما ترى ... يا سيدي أحجيته
القباب وقال:
يا من يفوق البرايا ... في بحثه حين يبحث
مثل ولا تتوقف ... قولي تلا متلبث
قراقِف وقال:
قوالوا لرب الحجى ... والواضح المنهج
مثل لنا مسرعاً ... في القول رزقي نجي
قسميات وقال:
أتت يا كامل الحجى ... والكلام المصحح
قولي: الطرف ملكه ... هات لي مثله اشرح
الإنالة وقال:
يا فاضلاً في الأحاجي ... ما إن له من مؤاخي
نور لآية حرث ... مثل بغير تراخ
سنانير وقال:
يا إماماً توقى ... ولي كل معاد
ما نظير لقولي ... باع أرض سواد
شراريف وقال:

يا من حاجى ... وقيت أذى
مثل قولي ... تعب جبذا
عناقيد وقال:
يا من أحاجيه أعيت ... ذهن الصدور الكبار
ما مثل قولي لشخص ... حاجيته رطل قار
مناقير وقال:
يا سيداً ألفاظه ... لكل معنى حائزه
مثل لنا ولا تقف ... ألف وألف جائزه
الفاصلة وقال:
يا من له بين الورى رتبة ... معروفة تومن تلبيسه
مثل لنا أمر امرئ حاضر ... بأنه يشغل نقريسه
الهداية وقال:
يا تاجراً في العلم لا ... في الملهيات ولا القماش
مثل لنا بخلاً بما ... إن شئت أو أقص عطاش
دراهيم وقال:
يا فاضلاً يرجى له ... من ربه حسن الخلاص
مثل لنا في سرعة ... تعب المسن من القلاص
عنانيب وقال:
يا من أبان ال؟ ... معنى وفضه
مثل لنا سريعاً ... أهمل فضه
أبارقه وقال:
يا من لثغر العلا ... والعلم أضحى يحوط
إن كنت ذا فطنة ... ما مثل أحبب قنوط
مقياس وقال:
يا إماماً في الأحاجي ... زانه فهم وحفظ
مثل الآن سريعا ... آلة التعريف لفظ
الكلمة وقال:
يا سيداً فيه بشر ... للبائس المتوجع
إن كنت تدري الأحاجي ... فما مثال ارجع ارجع
هدهد وقال:
يا سيداً ذكاؤه ... قد أعجز المبالغا
مثل لنا ولا تقف ... اطلب شراباً سائغاً
سلمى وقال:
يا سيداً ذكاؤه ... والفهم أعيا من يصف
كن ناهباً وواهباً ... مثل لنا ولا تقف
سلهب وقال:
يا من له فضل يمت به ... وبه يرجى الجمع للفرق
مثل لنا إن كنت ذا فطن ... ما مثل أهمل ما على العنق
الغراس وقال:
يا فاضلاً في الله ... أضحى أخذه وتركه
مثل لنا بسرعة ... مرتفعات ملكه
الزباله وقال:
يا سيداً ألفاظه ... تجل عن مماثل
مثل لنا بسرعة ... عشر مئات فاضل
الفراسخ وقال:
يا من له في المعالي ... والفضل أي كرامه
مثل لنا ولا تتوقف ... نظير علم علامه
سمسمه وقال:
؟يا شهماً ذكياً ... بالآداب ملآن
مثل لي سريعاً ... أحبب غير غضبان
مقراض وقال:
يا شارح المعميا ... ت وجهه ووجهها
ذو لحية كبيرة ... ملك له ما شبهها
الحالة وقال:
يا من حوى من فهمه ... وعلمه ما قد حوى
مثل لنا إذ كنت ما ... ذكرته ظهر هوى
مطاريح وقال:
يا سيداً بفضله ... أصبح حبراً كاملاً
مثل لما في الوقت ما ... رادف أطعم عاملا
منوال وقال:
يا سيداً في الأحاجي ... له كمال رويه
مثل فداك المعادي ... والضد رب عطيه
ذاهبة ولما وقفت له على كتابه الكلام على مئة غلام عند القاضي الرئيس بهاء الدين حسن بن ريان، وجدت غالبه من نظمي في الحسن الصريح في مئة مليح، وكان ذلك عقيب قدومي من القاهرة فقلت له: يا مولانا اكتب إليه، وقل له: قد وقع صاحب العملة بها وعرفها. فكتب إليه وعرفه المقصود، فغير فيها أشياء فلهذا ترى نسختين ثم وقفت له على أشياء في غير ما نوع قد اغتصبها واختلسها، فكتبت إليه رحمه الله تعالى:
أغرت على أبكار فكري ولم أغر ... عليها فلا تجزع فما أنا واجد
ولو غير مولاي استباح حجابها ... أتته من العتب الأليم قصائد
قواطع لا تحميه درع اعتذارها ... وألسنها عنه الخصام مبارد
ولكنه لا فرق بيني وبينه ... يبين لأنا في الحقيقة واحد
فكتب هو الجواب إلي وأجاد:
وأسرق ما أردت من المعاني ... فإن فقت القديم حمدت سيري
وإن ساويته نظماً فحسبي ... مساواة القديم فذا لخيري

وإن كان القديم أتم معنى ... فهذا مبلغي ومطار طيري
فإن الدرهم المضروب باسمي ... أحب إلي من دينار غيري
كان رحمه الله تعالى وسامحه لما سمع قولي:
أترك هوى الأتراك إن شئت أن ... لا تبتلى فيهم بهم وضير
ولا ترجي الجود من وصلهم ... ما ضاقت الأعين منهم لخير
قال هو رحمه الله مختصراً:
سل الله ربك من فضله ... إذا عرضت حاجة مقلقه
ولا تقصد الترك في حاجة ... فأعينهم أعين ضيقه
ولما سمع قولي:
ركبت في البحر يوماً مع أخي أدبٍ ... فقال دعني من قال ومن قيل
شرحت يا بحر صدري اليوم قلت له ... لا تنكر، الشرح يا نحوي للنيلي
فقال هو رحمه الله تعالى وزاد:
ديار مصر هي الدنيا وساكنها ... هم الأنام فقابلهم بتقبيل
يا من يباهي ببغداد ودجلتها ... مصر مقدمة والشرح للنيلي
ولما سمع قولي:
كؤوس المدام تحب الصفا ... فكن لتصاويرها مبطلا
ودعها سواذج من نقشها ... فأحسن ما ذهبت بالطلا
قال هو رحمه الله تعالى ونقص:
؟أحسن ما كانت كؤوس الطلا ... ساذجدة يبدو بها الخافي
فالنقش نقص ومن الرأي أن ... ترتشف الصافي من الصافي
وقال رحمه الله تعالى أيضاً مختصراً:
دع الكأس من نقشها ... فصاف بصاف أحب
إذا ذهبت بالطلا ... فقد طليت بالذهب
ولما سمع قولي:
انهض إلى الربوة مستمتعاً ... تجد من اللذات ما يكفي
فالطير قد غنى على عوده ... في الروض بين الجنك والدف
قال رحمه الله تعالى:
دمشق قل ما شئت في حسنها ... واحك عن الربوة ما تحكي
فالطير قد غنى على عوده ... وزفها بالدف والجنك
قلت: كذا وجدته قال، وفيه فساد، وهو أنه أضاف الدف إلى الربوة والمشهور بين الناس إضافة الجنك إلى الربوة، فما يقال إلا جنك الربوة، وما يقال: دف الربوة. وإن كان هناك دفوف كثيرة فإن المشهور ما قلته، وقد أخذ المعنى بكماله، ونصف البيت الأول من الثاني بلفظه، وهذه مصالتة، عفا الله عنه.
ولما سمع قولي:
تزوج الشيخ بتركية ... تضم في الغربة أطرافه
كأنها من حسنها شمعة ... وهي على العشاق طوافه
وقولي في مخيلة:
نقط خدي الدمع عشقاً وقد ... قامت إلى الرقص خياليه
فما رأت عيني لها مشبهاً ... مصرية في ضوء شاميه
جمع هو المقصدين في مقطوع واحد فقال:
جاءتك في طيف خيال حكت ... خيال طيف هز أعطافه
مصرية في ضوء شامية ... يا حين ذي الشمعة طوافه
ولما سمع قولي:
ومليح طراز كميه أضحى ... مثل خط العذار في حسن رقم
قال قلت الظباء مثلي وما عا ... زت ظباء الفلا سوى طرز كمي
وقولي أيضاً وفيه تضمين:
ضممت معذبي لما أتاني ... ورقم عذاره قد راق عيني
فيا طرزيه هل يدني زماني ... ليالي وصلنا بالرقمتين
وجمعهما وقال:
طرز قباء محنتي ... كخده ورقمه
ما أعوزت منه الظبا ... إلا طراز كمه
ولما سمع قولي:
عجباً لزهر اللوز حين يلوح وال؟ ... أوراق إذ تجلى على نظاره
عكس القضية في الورى فمشيبه ... يبيض من قبل اخضرار عذاره
قال رحمه الله تعالى:
أشجار لوز تنادي ... أمري على الخلف جاري
بعد اشتعالي مشيباً ... يخضر مني عذاري
قلت: قوله أخصر، لكنه أبتر، وقولي أنا أكمل وأجمل، وقولي عكس القضية أكثر في الاستعمال من قوله أمري على الخلق جار.
ولما سمع قولي:
أسائل عن أرض ألفت ربوعها ... وفيها حبيب نلت منه مرادي
فقالوا متى تظلم جلالها بوجهه ... فقلت أنا أدرى بشمس بلادي
قال هو مختصراً:
؟ما الشمس عندي على ما ... زعمتم يا أعادي

دعوه عنكم فإني ... أدري بشمس بلادي
ولما سمع قولي في مليح أمير:
هذا المليح المفدى ... قلب المعنى أسيره
يقول من بات ضيفي ... عشقاً فإني أميره
قال هو رحمه الله تعالى:
أقول لبدر سائر بين أنجم ... أأنت أمير المصر قال أميره
فقلت إذا مات الكرام بأسرهم ... أأنت تمير الوفد قال أميره
ولما سمع قولي في مليح فقير:
فقير غنيت به في الهوى ... إذا ما بدا عن محيا البدور
وأصبح وجدي كثيراً به ... على أنه قد غدا بالفقيري
قال هو مختصراً:
بي فقير كغني ... بسنا وجه منير
لا تلمني في افتضاحي ... فغرامي بالفقيري
ولما سمع قولي في مليح ناسخ:
بليت بناسخ كالبدر حسناً ... له خصر طفا والردف راسخ
؟برى جسمي ضنا إذ قط قلبي ... وأصبح للجفا بالوصل ناسخ
قال هو مختصراً:
ناسخ راسخ الروا ... دف والخصر قد طفا
قد برى الجسم عندما ... نسخ الوصل بالجفا
قلت: أخذ المعنى واللفظ بعينهما واختصره لكنه محقه، فإنه ما ذكر القط وهذا ظاهر.
ولما سمع قولي:
لئن سمح الدهر البخيل بقربكم ... وسكن منا أنفساً وخواطرا
جعلنا ابتذال النفس شكران وصلكم ... وقلنا لدمع العين تعمل ما جرى
نقله فقال في مليح فقير:
ولي فقير أدمعي ... تعمل فيه ما جرى
إن قلت قد سلبتني ... يقول شغل الفقرا
ولما سمع قولي:
يقول لما قلت هذا اللمى ... أسكرتني لما ترشف فاك
سواك ما ذاق لمى مبسمي ... أستغفر الله ذكرت السواك
نقله هو فقال:
قالت وناولتها سواكاً ... ساد بفيها على الأراك
سواي ما ذاق طعم ريقي ... قلت بلى ذاقه سواكي
ولما سمع قولي:
مر على حبي نسيم الصبا ... فقال لي في بعض أقواله
ما لي في زهر الربا عبرة ... مذ تمسكت بأذياله
نقله هو فقال:
ضممتها عند اللقا ضمة ... منعشة للكلف الهالك
قالت تمسكت وإلا فما ... هذا الشذا قلت بأذيالك
ولما سمع قولي في قيم حمام:
بلان حمامنا له نظر ... يحار في حسن وصفه الفكر
عيناه موسى ونبت عارضه ... له مسن وقلبه حجر
قال هو رحمه الله تعالى موالياً:
حمامكم فيه قيم منظر ويسبي ... غسلني بالدمع ثن أنشد كذا صبي
جعل مسنو وموسو والحجر نصبي ... قال ذا عذاري وذا طرفي وذا قلبي
ولما سمع قولي:
المقلة السوداء أجفانها ... ترشق في وسط فؤادي النبال
وتقطع الطرق على سلوتي ... حتى حسبنا في السويداء رجال
قال هو ولكنه حول معناه:
من قال بالمرد فإني امرؤ ... إلى النساء ميلي ذوات الجمال
ما في سويدا القلب إلا النسا ... ما حيلتي ما في السويدا رجال
ولما سمع قولي مضمناً:
مليح يخاف على حسنه ... فينتف منه عذاراً سرح
فقلت له خل هذا الخيال ... ومد الشباك وصد من سنح
قال ونقل المعنى إلى صياد:
لو جنة صيادكم نسخة ... حريرية ملحة الملح
تقول لنبت العذار اجتهد ... ومد الشباك وصد من سنح
ولما سمع قولي:
بتنا وما نقلنا سوى قبل ... وريق فيه السلاف مشروبي
نمنا وما نمت الوشاة بنا ... لولا فضول الحلي والطيب
قال هو:
زارت على ياسي لطيف خيالها ... يا دهر ما بقيت عليك ذنوب
فركبت أخطار الهوى في وصلها ... والطيب واش والحلي رقيب
ولما وقفت أنا على قوله:
أخذت عني بديلاً ... وذا دليل بأنك
تمر بي لست تلوي ... علي حتى كأنك
فلست تحسن هجري ... ولست أهجر حسنك
وليس يوزن وجدي ... وليس يوجد وزنك

قلت: الذي يسلك هذه الطريق السهلة العذبة المنسجمة التي ليس فيها غريب لغة ولا غريب إعراب، ولا تقديم ولا تأخير، ولا حذف ولا تقدير، ما يأتي بهذا الإعراب الذي نحتاج أن نقدر له نيابة المصدر المحذوف، وهو يتشبه بطريق البهاء زهير رحمه الله تعالى وذلك ليس في شعره تكلف، بل قول مطبوع غير متطبع، ولا عنده تكلف في إعراب ولا حوشي لغة. وقد قلت أنا في ذلك:
لقد أضعفني حزني ... وضاعف خالقي حسنك
فها أنا لم أزن وجدي ... لأني لم أجد وزنك
وصاحب الذوق السليم يحكم بيني وبينه في هذا رحمه الله تعالى.
وأنشدني لنفسه إجازة، وجوده مضمناً:
مليح خصره والردف منه ... كبنيان القصور على الثلوج
خذوا من خده القاني نصيباً ... فقد عزم الغريب على الخروج
وأنشدني له أيضاً:
جنبتني وأخي تكاليف الشقا ... وشفيتنا في الدهر من خطرين
يا حي عالم دهرنا أحييتنا ... فلك التحكم في دم الأخوين
وأنشدني له أيضاً:
قلت وقد عانقته ... عندي من الصبح فلق
قال وهل يحسدنا ... قلت نعم قال انفلق
وأنشدني له وجوده:
جبرت يا عائدتي بالصله ... فتممي الإحسان تنفي الوله
وهذه قد حسبت زورة ... لم أنت يا لعبة مستعجله
وأنشدني له أيضاً:
بالله يا معشر أصحابي ... اغتنموا فضلي وآدابي
فالشيب قد حل برأسي وقد ... أقسم ما يرحل إلا بي
وأنشدني له أيضاً:
لا تقصد القاضي إذا أدبرت ... دنياك واطلب من جواد كريم
كيف ترجى الجود من عند من ... يفتي بأن الفلس مال عظيم
وأنشدني له أيضاً:
رامت وصالي فقلت لي شغل ... عن كل خود تريد تلقاني
؟قالت كأن الخدود كاسدة ... قلت كثيراً لقلة القاني
وأنشدني له أيضاً:
وكنت إذا رأيت ولو عجوزاً ... يبادر بالقيام على الحراره
فأضحى لا يقوم لبدر تم ... كأن النحس قد عطي الوزاره
وأنشدني له أيضاً:
قلت لنحوي إذا عرضا ... له بأوقات الرضا أعرضا
يا حيث لو أصبح باب الرضى ... كيف لما كنت كأمس مضى
قلت: بريد يا مضموماً عني لو أصبح باب الرضى مفتوحاً لما كنت مكسوراً وأنشدني له أيضاً:
لما رأى الزهر الشقيق انثنى ... منهزماً لم يستطع لمحه
وقال: من جاء؟ فقلنا له: ... جاء شقيق عارضاً رمحه
وأنشدني له أيضاً:
دهرنا أمسى ضنيناً ... باللقا حتى ضنينا
يا ليالي الوصل عودي ... واجمعينا أجمعينا
وأنشدني له أيضاً:
إني عدمت صديقاً ... قد كان يعرف قدري
دعني لقلبي ودمعي ... عليه أحرق وأذري
وأنشدني إجازة له:
رأيت في الفقه سؤالاً حسنا ... فرعاً على أصلين قد تفرعا
قابض شيء برضا مالكه ... ويضمن القيمة والمثل معا
قلت: يتصور في صور منها المحرم يستعير صيداً من غيره فيتلف في يده فتلزمه القيمة لمالكه والمثل جزاء لله تعالى.
أنشدني إجازة، ونقلته من خطه يمدح الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة كمال الدين محمد بن المزملكاني رحمهما الله تعالى:
هنيت عاماً مقبلاً مقبلا ... عليك بالسعد وعيش حلا
مولاي يا من قلبه راحم ... وهو أحق الناس أن يعدلا
؟محبتي موجبة للثوى ... وحاجتي تقضي بأن ارحلا
حسبت في أيامكم رفعة ... وما خشيت الدهر أن أنزلا
وقلت من يرضى خمولي إذن ... فكنت أنت المحسن المجملا
فليتكم أبقيتموني كما ... قد كنت من قبلكم الأولا
أتقنت باب البيع والصرف في ال؟ ... شهبا وما دافع باب الولا
ثم متى أغفلتني بعد ذا ... شرعت في التفليس مستبدلا

ما أنس لا أنس رسولاً أتى ... بنقلتي لا أعدم المرسلا
قلت رسولي رمت جري إلى ... منبج ماذا أنت مِن أو إلى
قال آنا من قلت لا إن مِنْ ... للابتدا أنت كذا؟ قال: لا
أنا إلى قلت إلى نعمة ... واحدة الآلاء عند الملا
أين هي النعمة في قاطع ... بقربه ما حق أن يوصلا
فقال ما سميتني هات قل ... واحذر عن التعليل أن تذهلا
قلت له جئت بنفي عن ال؟ ... جنس فحق أن نسميك لا
قلت انصرف قال انصرافي على ... مذهب أهل النحو لن يجملا
فالعدل والتعريف عندي ولي ... منزلة في النحو لن تجهلا
قال أضفناك إلى منبج ... فحق أن تصرف مسترسلا
قلت بلادي ربعها عامر ... ومنبج ربعها قد خلا
قال اسمك المعدول عن عامر ... قضى عن العامر أن تعدلا
وأنشدني له إجازة ومن خطه، نقلت موشحة فائقة: مذهبي ؟
حب رشاً ذي جسد مذهبقد حبيحسناً به يستعذب القدح بي
عاذلاًما أنت فيما قلتهعادلا
سائلايخبرك دمع قد همىسائلا
آه لاتعذل فما قلبي لذاآهلا
منصبي
والعقل أذهبتهما من صبيما ربيإلا وقد ربي به ما ربي
ما نسي ... زمان طيب الوصل في ما نسي
والمسي ... رقيبي بالكف لم ألمس
جانسي ... حزني فألفي كلما جا نسي
وارق بي
يا طرف سهداً والنجوم ارقبواشن بيمن لم يهم في ثغر أشنب
رق ما ... في خده الوردي قد رقما
عندما ... رأيت دمعي للجفا عندما
ضر ما ... في مهجتي من هجره ضرما
من أبي
يأبى الرضا نلت الجفا من أبيفارع بيرضاه يا قلبي وته وارعب
من صلا ... لي فخه بل من نضالي منصلا
بلبلا ... فؤاد مضناه هوى بل بلا
أو ولا ... ملازم آخره الأولا
فانه بي
غيري ولذات الغرام انهبواله بيعن عذل بل يا حشاي الهب
وفي هذه الموشحة كرر في القافية لفظة بي في مواضع، وهو إيطاء، لكن يغتفر للحلا.
؟

عمر بن ناصر بن نصار العرضي
جمال الدين، الكاتب الشاعر، توفي في شهر رمضان سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومن شعره: ....
عمر بن يوسفالصدر الرئيس الماجد القاضي زين الدين أبو حفص بن أبي السفاح الحلبي.
كان ركن رئاسة، وطود سيادة وسياسة، تردى بالمكارم والإحسان، وكان حرياً وحقيقاً بلفظ الإنسان، يخدم الناس بماله وجاهة، ويقف مع صاحبه في معرض الدهر وتجاهه، مع دربة بمداخلة الناس، والتنوع لكل الأجناس، والسعي الذي إذا أضجره الحرمان قال العزم: " ما في وقوفك ساعة من باس " ، لم يعتب لياليه، ولا أنشد يوماً أمانيه.
فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
بل يصبر ويدأب، ويشعب صدع السعي ويرأب.
ولم يزل يعاند من يطيق عناده، ويغالب الحوادث إلى أن أصلح له الدهر فساده فساده، وبلغ ما أم له وأمله، ورأس في الزمان وجمله، وعاذ به البدر من النقص فكمله، وتخرق في العطايا والهبات، وعلم أن الدهر هبات، وتعين في إظهار الرئاسة وتجمل، وتحلم على من عاداه أو عانده وتحمل، إلا أن الأعادي كادوه، وعلوا صرح الكيد له وشادوه، فخانه من إليه ينتمي، وخر صريعاً لليدين وللفم:
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
ولم يزل يقوم ويبرك، ويجمد ويحرك، إلى أن بطلت حركة نبضه وتعين لكل وارث مقدار فرضه. توفي رحمه الله تعالى في سادس عشر شعبان سنة أربع وخمسين وسبع مئة بحلب.

كان من جملة كتاب الإنشاء بحلب، فسعى واجتهد إلى أن تولى وكالة بيت المال ونظر الخاص، و لما مات جركس نائب قلعة المسلمين وحضر الأمير سيف الدين منجك من الديار المصرية إلى حلب لضبط موجوده، خدمه القاضي زين الدين هناك وصحبه، وتوجه معه إلى قلعة المسلمين، وتأكدت الصحبة بينهما.
ولما عاد الأمير سيف الدين منجك إلى مصر وترقى، وصار وزيراً بالديار المصرية، طلب ابن السفاح وأخاه وولاه كتابة السر بحلب عوضاً عن القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود، وأقام في حلب تلك المدة على القالب الجائر، وحسده أصحابه وغيرهم، وأحسن إلى الناس كلهم، ولكن الحسود لا يرضيه إلا زوال النعمة. وكان الأمير أرقطاي نائب حلب، فمشى الأحوال وصبر ولم يسمع فيه كلام واش. ولما مات وحضر سيف الدين أرغون الكاملي زاد أعداؤه في السعي عليه وتمكنوا منه فرموا بينه وبين النائب، وتأكدت الوحشة، وتظاهر بالانحراف عليه، وكتب فيه إلى مصر حتى عزل بالسيد الشريف شهاب الدين الحسين الحسيني، وصودر، وأخذ منه مئة ألف درهم، ولم يجر على كاتب سر ما جرى عليه، ثم إنه أفرج عنه وطلب إلى مصر، فما وصل إلهيا حتى أمسك الأمير سيف الدين منجك وقام عليه الأمير سيف الدين طشبغا الداوادار، فأعيد هو وأخوه القاضي شمس الدين تحت الترسيم إلى حلب، وأخذ منهما شيء آخر بعد المئة ألف.
ثم أفرج عنه وتوجه إلى مصر، وعاد مع السلطان الملك الصالح صالح إلى دمشق في واقعة بيبغاروس، وجاء على وظائفه الأول بحلب، فتوجه إليها وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور.
وكان رحمه الله تعالى جواداً كريماً ذا مروءة زائدة وتعصب لمن ينتمي إليه وخدمة للناس ومداراة، وقل أن رأيت مثله، وكان يعتريه مرض الماشرى كل أربعين يوماً أو أقل أو أكثر، ويقاس منه شدة ثم يبرأ منه.
وجاء في بعض سفراته إلى دمشق فتوجهت إلى زيارته فوجدته يأكل سلفنداناً فعزم علي، فلم آكل منه لأنني كنت صائماً، ثم إني صنعت له في اليوم الثاني طبقاً من حلوى السلفندان، وجهزته وكتبت إليه معه:
ما حرم المملوك لما غدا ... عندك أكل السلفندان
إلا لأن يأتي به هكذا ... فصار هذا سلفاً داني
وكانت إلى جانبي دويرة في دمشق لشخص نصراني قسيس في حلب، وكنت مضروراً لإضافة تلك الدويرة إلى داري، فكتب إليه ليتحدث مع ذلك النصراني ويشتريها لي منه ويرغبه في الثمن، وكتبت من جملة ذلك:
أقول للحائر اللهفان حين غدا ... ولم ينل من أماني نفسه وطرا
إن أهمل الدهر ما تبغيه من أمل ... ونام عن نيله نبه له عمرا
فعاذ جوابه بأن الشغل ينقضي ولكن النصراني ضنين بهذا المكان وأبطأ على انقضاء الشغل في ذلك، فكتبت إليه أيضاً:
مولاي زين الدين حالي غدت ... أنت بها دون الورى داري
فدارك القسيس أو داره ... فإنني قد ضقت في داري
عمر بن سراج الدينالشيخ الفاضل سراج الدين الصوفي الصفدي.
توجه من صفد قديماً إلى القاهرة، أظن أنه قبل عشر وسبع مئة، وبلغني أنه حفظ الوجيز، ثم إنه صار صوفياً بخانقاه سعيد السعداء. ورأيته بالقاهرة غير مرة، وهو من جملة الصوفية بسرياقوس.
ثم إنه ولي مشيخة الشيوخ بسعيد السعداء فأقام على ذلك إلى أن توفي سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
وكان شكلاً حسناً وقوته الحافظة متوفرة.
الألقاب والنسب

ابن عمرون
علاء الدين علي بن الحسن.
العنبري ظهير الدينعلي بن عبد الكريم.
عوض بن نصربن عبد الرحمن بن شيركوه الفقيه المصري الحنفي الصوفي شرف الدين أبو خلف.
سمع معي على أشياخي الحفاظ أثير الدين، وفتح الدين، والمسند يونس الدبابيسي، وغيرهم.
كان جميل الود حسن الصحبة.

كان الشيخ أثير الدين يقول: استدرك على بعض المصنفين سبعة عشر موضعاً من الغلط في أسماء القراء. وكان ينقل القراءات، وينقل فروع مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وله إلمام بالحديث، لأنه سمع منه كثيراً، وسمع بقراءتي كثيراً، إلا أنه لحقته يوماً غفلة، فسأل بعض الجماعة عن قول الزمخشري في أول المفصل لأي شيء قال: " الله أحمد " وما قال: الله يوسف ولا الله عيسى أو موسى أو غير ذلك من الأسماء. فحفظوها عنه، ووضع واحد منهم سؤالات عليه من أول المفصل إلى آخره على لسانه مثل: لأي شيء قال باب الترخيم وما قال باب التبليط، ولأي شيء قال الموصول وما قال الشبابة، ولأي شيء قال العلم وما قال السنجق، وقال زيد قفة وما قال السرقانية، ثم إنه شرع في تعليل ذلك جميعه مثل قوله: الموصول، لأنه اسمي وحرفي، فهو ينقسم إلى قسمين، والموصول قطعتان موصولتان وليست الشبابة كذلك، ومن هذه النسبة.
وقال له الطلبة الذين يبعثون به أنت ما في القرآن الكريم لفظ يوازن اسمك، فانحرف من ذلك، وتأذى وجاء إلي شاكياً، فقلت له: بلى في القرآن ما يوازن اسمك فقال: ما هو؟ قلت: عنب فسر بذلك، وتوجه إليهم.
وحكى لي الحافظ فتح الدين قال: جاء إلي عوض مرات، قال أريد أقرأ أنا بنفسي جزءاً، فاستحييت يوماً منه، فأخذ جزءاً وقعد على الكرسي وحضر الناس وجلست أنا في المحراب أمامه وأخذ هو في القراءة فأول حديث قرأه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يشوص فاه السواك " ، فصحفه وقال يشوص بالشين المعجمة المفتوحة والواو المشددة والضاد المعجمة، ورقع في الضاد بلسانه، قال: فأخذت الجزء من يده منه، وقلت له: اترك، وقمنا. ومع ذلك فقد جمع جزءاً في الحناء: هل هو طيب أو لا وتتبع المعاجم، وجمع جزءاً وسماه شفاء المرض في من يسمى بعوض.
حضر إلى دمشق في سنة أربع وبعض خمس وأربعين وسبع مئة لزيارة شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فوصله وبره، ثم إنه عاد إلى القاهرة.
ولم يزل بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شوال سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
وقيل: توفي في ذي الحجة.
وكان تمتاماً رحمه الله تعالى.
ابن العوينة: الشيخ زين الدين علي بن الحسين.
عيسى بن أحمد بن مسعود بن خلفالشيخ ضياء الدين أبو الهدى المحدث الصوفي.
خرج له وحدث. ومن شيوخه ابن الصفراوي، تفرد عنه بالقاهرة، وابن الطفيل وابن المخيلي، وابن دينار، وابن الجميزي، وسبط السلفي، وابن المقير، وحمزة بن عمر الغزال، وأحمد بن يوسف، ويوسف الساوي، وعلم الدين بن الصابوني.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن هؤلاء العشرة وعن غيرهم. قال: وقرأت عليه الأربعين أبدال التساعيات تخريج تقي الدين عبيد له ومجلسي ابن البختري وأحاديث مسلسلة.
وتوفي في تاسع عشر شهر رجب سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده بسبتة سنة ثلاث عشرة وست مئة.
وكان موته فجأة رحمه الله تعالى.
عيسى بن إسماعيل بن عيسىابن محمد بن حماد بن صالح، الشيخ الفقيه الفاضل عماد الدين أبو محمد الجهني الهيتي الصالحي.
كان من أصحاب الشيخ تاج الدين، مواظباً على قراءة القرآن، ويكرر على كتاب التعجيز في الفقه، وحفظ أولاً كتاب التنبيه، ثم سافر إلى الموصل وإلى الروم، وخالط الفقراء وسمع من ابن أبي اليسر في صحيح البخاري، وسمع كتاب الترمذي على ابن علان، وسمع ثلاثيات المسند على ابن شيبان، و له إجازة من نقيب الأشراف بهاء الدين، والعماد عبد الحميد بن عبد الهادي، ومكي بن عبد الرزاق القدسي، وابن عبد الدائم، والنجيب عبد اللطيف.
وتوفي في تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولده تاسع عشر ذي القعدة سنة خمس وأربعين وست مئة.
عيسى بن ثروان بن محمدابن ثروان بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الباقي بن أبي الحسن التدمري، الشيخ الزاهد العابد العارف حفيد الشيخ الكبير ثروان.
كان شيخ البيانية وشيخ بلده، وله الصيت والسمعة والقبول والكلمة المسموعة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده في نصف شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
وكان جد والده من أصحاب الشيخ أبي البيان. ودفن الشيخ عيسى عند قبر والده برا الباب الصغير.
عيسى بن داود

الشيخ الإمام العلامة سيف الدين أبو الروح البغدادي الحنفي المنطقي.
أخذ الجدل عن البدر الطويل، والفخر بن البديع، وشارك وبرع في المنطق. تخرج به جماعة من الأعيان كشيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى وغيره.
وشرح الموجز للخونجي إملاء من حفظه، والإرشاد كذلك، وسكن القاهرة، وأقام بمدرسة الظاهر بين القصرين.
قال: كان لي وقت بناء المدرسة المستنصرية سبع سنين أو ثماني سنين، وولدت بخوارزم.
وقال قاضي القضاة تقي الدين رحمه الله تعالى: قال لي سنة خمس وسبع مئة: لي تسعون سنة. وهذا تناقض منه.
وتوفي رحمه الله سنة خمس وسبع مئة.
وكان كثير التواضع مقتصداً سمحاً لطيف الشكل حسن المجالسة. وحكى لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني حكايات عجيبة مضحكة، تدل على أنه كان ظريفاً مطرحاً، سليم الباطن رحمه الله تعالى.
عيسى بن داودالملك المعظم شرف الدين أبو البركات بن الملك الزاهر مجير الدين أبي سليمان بن الملك المجاهد أسد الدين أبي الحارث شيركوه بن الملك الناصر ناصر الدين محمد بن الأمير الكبير الملك أسد الدين شيركوه بن شادي.
كان قد توجه من دمشق إلى القاهرة يطلب الزيادة على إقطاعه، ومعه هدية جليلة، فأقبل عليه السلطان وقضى شغله، فأدركه أجله هناك.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة تسع عشرة وسبع مئة.
سمع من ابن عبد الدائم وغيره، وروى.
ومولده في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وست مئة.
عيسى بن عبد الرحمنبن معالي بن حمد الشيخ المسند المعمر الرحلة شرف الدين أبو محمد المقدسي الصالحي الحنبلي الصحراوي المطعم ثم السمسار في الأملاك.
سمع من ابن الزبيدي، والفخر الإربلي حضوراً، ومن ابن اللتي، وجعفر الهمذاني، وكريمة القرشية، والضياء الحافظ، وجماعة.
وروى الكثير وتفرد، وخرجت له العوالي والمشيخة.
وحدق عنه ابن الخباز في حياة ابن عبد الدائم. وله إجازة من ابن صباح ومكرم وابن روزبة والقطيعي، وعدة.
وسار إلى بغداد وطعم في بستان المعتصم وكان أمياً.
قال شيخنا الذهبي: بعيد من الفهم، وربما أخل بالصلاة على عادة العوام، وأقعد بأخرة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ست وعشرين وست مئة.
عيسى بن عبد الرحمن بن أحمدبن عبد الكريم المقرئ الشيخ مجد الدين أبو محمد البعلبكي.
كان من بيت معروف بالعدالة والديانة. سمع من أبي سليمان عبد الرحمن بن الحافظ عبد الغني ببعلبك.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه مجلس البطاقة بسماعه من أبي سليمان المذكور، وكان قرأه الشيخ علم الدين ببعلبك في سنة سبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع عشرة وسبع مئة.
عيسى بن علي الأندلسي الدمشقيالشيخ الإمام المحدث الفاضل شرف الدين أبو الفضل الأندلسي الدمشقي المؤذن، قارئ الحديث للناس.
عمل صنعة الحرير مدة، ثم إنه صحب الشيخ إبراهيم الرقي وتخرج به. وكان يقرأ الحديث على العامة بفصاحة ونغم طيب، واشتهر بذلك.
وأجاد علم الوقت. كان من مؤذني الجامع الأموي، وأظنه جاء إلى صفد قبل العشرين، وقرأ علينا جزءاً من مروياته، ولم أتحقق الآن ما هو، وقد كتبت اسمي واسم غيري فيه.
قال شيخنا الذهبي: سمعنا بقراءته صحيح البخاري على شيخنا المزي أيما قراءة، وقد سمع من ابن، الواسطي وأنشدنا من شعره، وكان لا تمل مجالسته، قال: وهو على هناته صويحبي، والله تعالى يسامحه.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة بضع وستين وست مئة.
عيسى بن عمر بن خالدبن عبد المحسن مجد الدين أبو الروح المعروف بابن الخشاب، الفقيه الشافعي، وكيل بيت المال بالديار المصرية.
قرأ القراءات على ابن الدهان والكمال الضرير، وسمع من أصحاب البوصيري، والحافظ المنذري وأبي الحسين القرشي وعبد الله بن علاق وغيرهم.
وسمع منه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين رحمه الله تعالى. وحدث بالقاهرة وسمع منه الجماعة، وتفقه بابن عبد السلام، وصحب الأمير بدر الدين بيلبك الخزندار الظاهري، وانتفع به.
وتولى الوكالة ونظر الأحباس والحسبة ودرس بزاوية الشافعي بالجامع العتيق بمصر وبالمدرسة الناصرية وبالقرا سنقرية، وأفتى.

وكان فيه مروءة وله همة، وكان الشجاعي ينبسط معه كثيرا.
قال شيخنا العلامة أثير الدين: دخلت مرة معه أنا والشجاعي إلى البيمارستان المنصوري وإذا بمجنون يتطلع إلى ابن الخشاب وينشد:
محتسب قصير ... يؤسس ويسكر
تارة من محمض ... وتارة من معنبر
فقال له الشجاعي: أنا قلت لهذا المجنون يقول لك هذا.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وولي الوكالة بعده ولده صدر الدين أحمد.
عيسى بن عمر بن عيسىالأمير شرف الدين بن البرطاسي الكردي، مشد الدواوين بطرابلس.
كان مشكوراً في مباشرته، مذكوراً بالخير في معاشرته، فيه كياسة، وعنده حشمة ورياسة، وله سيادة وسياسة، ما خلا من خير قدمه، وشر هدمه. وعمر بطرابلس مدرسة للشافعية مليحة، وجعل ساحتها للطلبة فسيحة.
ولم يزل على حاله إلى أن أدبر وولى، وترك أعراض هذه الدار وخلى.
وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس خامس شهر رمضان سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وكان من أبناء الستين، وتولى مكانه الأمير بدر الدين بكتوت القرماني.
وكان ابن البرطاسي قد باشر ولاية البر بدمشق في شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الطرقجي، ولم يزل في ولاية البر إلى أن عزل بابن معيد في سادس ذي الحجة سنة أربع عشرة، ثم أعيد بعد العيد إلى طرابلس فأقام بها إلى أن توفي في التاريخ المذكور.
عيسى بن فضل بن عيسى ....الأمير شرف الدين.
توفي رحمه الله تعالى في إحدى الجمادين سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
عيسى بن المحبشرف الدين النابلسي المعروف بالناسخ في القاهرة.
كتب الخط المنسوب، وأتى به وهو في عداد الرياض محسوب، وجود النسخ وأتقنه، ونمقه وحسنه، فعرف بالناسخ لذلك، واشتهر به اشتهار النجم في الليل الحالك.
وكان ينظم الشعر، ويتعاطى فيه مغالاة السعر.
لبث في السجن بضع سنين، وكان اللطف بأذاه ضنين، ثم إنه خرج من غيابة جبه، ولكنه حصد بذر حبه، فشعشعت له النار رحيقاً، ومات فيها حريقاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وثلاثين أو ثلاثين وسبع مئة بالقاهرة.
وكان قد جود واجتهد إلى أن حاكى خط القاضي علاء الدين بن الأثير وكان يوقع على هوامش القصص بما يريد ويتوجه صاحب القصة بها إلى بعض الموقعين، فيكتب بما سأله وهو لا يشك أن ذلك خط ابن الأثير، ويأخذ صاحب القصة الكتاب ويتوجه به إلى الدوادار فيرى خطاً معروفاً فيدخل به في فوطة العلامة ويعلم له السلطان ويخرج الكتاب، والكل صحيح، وما يرى أحد خط السلطان إلا ويكتب عليه علامته والاعتماد، ومشت بذلك أحوال، وحار الناس في ذلك ولا يعلم أحد ممن أتى عليه أصل الفساد من أين، إلى أن أمسك شرف الدين هذا فأخذه القاضي علاء الدين ودخل به إلى السلطان الملك الناصر محمد وحكى له الصورة، فقال له: أنا هذا ما زور علي، فإنما زور عليك فأمره إليك، فأودعه في سجن القلعة، فلبث قريباً من سبع سنين. ولما جرى للقاضي علاء الدين ما جرى من الفالج حدث في أمره فأفرج عنه، وكان القاضي بعد إطلاعه على أمره لا يمكن أحداً من الموقعين يكتب على قصة حتى يكتب هو اسم من يوقع عليها، ومن ذلك التاريخ صار ذلك رسماً لكاتب السر يكتب على القصص اسم الموقع.
وبلغني عن هذا شرف الدين أنه كان في السجن يزور أشياء في الوصولات وغيرها ومكث بعد خلاصه من السجن مدة قريباً من أربع سنين. ثم إنه نام ليلة ونسي روحه والطوافة في يده تقد، فاحترق اللحاف الذي عليه وتعذر خلاصه فأصبح في بيته ميتاً محترقاً.
وكان قد كتب إلي من السجن وأنا بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة:
يعز على عيسى وجود خليله ... بمصر وعيسى بات في قبضة السجن
فيا نار أشواقي تلظت بها الحشا ... ولم يطفها من مقلتي واكف المزن
ويا حسرتا لو فزت يوماً برؤية ال؟ ... محيا الذي أزرى على البدر في الدجن
أمولاي إني قد سمعت فضائلاً ... ظهرت بها في مصر في غاية الحسن
فسارت بها الركبان في ساحة الفلا ... وغنى بها الملاح إذ صار في السفن
لقد فقت فرسان البلاغة كلهم ... وما أحداً عن ذاك في مصر أستثني

عسى نفثة من در شعر نظمته ... أحلي بها جيدي إذا شنفت أذني
فكتبت أنا إليه:
خليل أتى مصراً وعيسى محجب ... من الدهر في سجن فلا كان من كن
لئن كان في سجن فكل مهند ... إذا ادخروه للردى بات في جفن
فيا زهر روض حجبته كمامه ... عسى تتفرى عنه في ذروة الغصن
حنانيك إني فيك من شدة الأسى ... نقمت الرضى حتى على ضاحك المزن
فصبراً على ما قد منيت كأنما ... الزمان على الأحرار مثلك ذو ضغن
فقد يخرج الإصباح من ظلمة الدجى ... وقد تطلق الصبهاء من حرج الدن
كأني بذاك الوجه يبدي نضارة ... وقد برقعته بالحيا راحة الحسن
وقالت له الأيام وهي جديرة ... بكل قبيح أن تخون وأن تجني
أعيسى لقد شاركت في الحسن يوسفاً ... فشاركه أيضاً في الدخول إلى السجن
وأنشدته يوماً لنفسي بعدما خرج من السجن:
يا قلب إن رق خد ال؟ ... حبيب أو لان عطفه
فشعره كم تجافى ... وكم تثاقل ردفه
فأنشدني هو لنفسه:
شكوت الذي ألقى سهاداً وعبرة ... فوكل جفني أنه قط لا يغفو
فلانت لي الأعطاف والخصر رق لي ... ولكن تجافى الشعر واثاقل الردف
قلت: في البيت الأول نظر، وهو أنه لا يقال إلا أغفى يغفي، ولم يسمع في فصيح الكلام يغفو، وفي البيت الثاني نظر.
ثم إنني بعد ذلك قلت في هذه المادة:
في القلب من هاجري لوعة ... بغير تلافيه ما تندمل
فيا شعره بعض هذا الجفا ... ويا ردفه أنت ما تنحمل
والأصل في ذلك كله قول شمس الدين محمد بن التلمساني:
يا خصره كم جفا ... تبدي وأنت نحيل
يا ردفه نح عنه ... ما أنت إلا ثقيل
وقوله أيضاً:
يا ردفه جرت على خصره ... كم تعتدي ما أنت إلا ثقيل
وقوله أيضاً:
كأن الشعر يطلبني بدين ... فكم يجفو علي ويستطيل
وكنت قد قلت أنا قديماً:
يا ظالماً حل في ضميري ... وألزم القلب أن تحول
تعلم الشعر منك لما ... رأى غرامي جفا وطول
وقلت أيضاً:
وبي رشأ معاطفه رشاق ... وكم رشقت لواحظه نبالا
له شعر حكاه في التجني ... على ضعفي تجافى واستطالا
؟؟

عيسى بن محمد
بن أحمد بن إبراهيم الصدفي المعروف بابن الصابوني، مجد الدين الإشبيلي.
قال شيخنا أثير الدين: لقيته بثغر دمياط وكان يتجر في البز، ثم انتقل إلى الإسكندرية. أنشدنا لنفسه في شاب اسمه بدر بن نجم:
رأيت نجوماً في السماء كثيرة ... تقاصر عن إدراكهن أولو الفهم
فلو جمعت لم تأت بدراً مكملاً ... فيا من رأى بدراً تولد من نجم
قلت: ....
عيسى بن محمد بن محمدابن قراجا بن سليمان بن ياروق السهروردي الواعظ، شرف الدين أبو الرضا.
أخبرني الشيخ أثير الدين من لفظه قال: كان المذكور سهروردي الخرقة، له أدب كثير وشعر كثير وتوشيح، أنشدنا بالقاهرة:
مازال يهوى المقلا ... قلبي إلى أن قتلا
الحمد لله الذي ... مات وما قيل سلا
لو قيل لي واللحد قد ... صار لجسمي منزلا
ما أنت صب بهم ... متيم قلت: بلى
وأنشدني له أيضاً:
يا سيد العلماء إن موشحي ... حرم لكعبته البدائة تسجد
قلدته من بحر جودك جوهرا ... فأتاك وهو موشح ومقلد
وقال:
أنا في السر والعلن ... عبد رق بلا ثمن
يا مليحاً بحسنه ... سائر الناس قد فتن
إن تزرني فإنها ... لك عندي من المنن
لست أسلو هواك أو ... يدرج الجسم في الكفن
وينادى بأنه ... مات في العشق والشجن
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في تاسع عشري شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
عيسى الشيخ الكبيرنجم الدين أبو المحامد

ابن الشيخ أبي محمد شاه أرمن بن الشيخ صلاح الدين صالح بن عبد الله الأبلستاني الرومي المعروف بالسيوفي.
كان شيخاً كبيراً مقصوداً بالزيارة، وأطلق له السلطان قرية الفيجة، وكانت له حرمة عند الدولة.
توفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ست عشرة وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون في زاويته المعروفة به.
عيسى بن أبي محمدبن عبد الرزاق الصالحي العطار، الشيخ المسند الصالح ضياء الدين أبو محمد المعروف بابن المغازي، كان أبوه شيخ مغارة الدم.
حدث بالصحيح عن ابن الزبيدي، وسمع ابن صباح حضوراً، وسمع من الإربلي وابن اللتي، وجعفر الهمذاني، وأخذ عنه الواني، والمحب، والطلبة.
وتوفي رحمه الله تعالى.... سنة أربع وسبع مئة.
عيسى بن مسعودبن منصور بن يحيى شرف الدين الزواوي الفقيه المالكي.
انتهت إليه معرفة مذهب مالك رضي الله عنه بالديار المصرية.
تفقه بزواوه على أبي محمد عبد الصمد، ورحل إلى بجاية، وقرأ على أبي يوسف يعقوب الزواوي، وقرأ عليه في المهذب، والموطأ والبرهان في الأصول، ثم قدم القاهرة سنة سبع مئة وسمع الموطأ من الدمياطي.
وحضر إلى دمشق في أوائل شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبع مئة، وحكم نيابة عن قاضي القضاة جمال الدين عوضاً عن نائبه محيي الدين، وذكر درساً بالجامع، وأقام بدمشق سنين، ثم عاد إلى القاهرة، وسمع من قاضي القضاة جمال الدين الزواوي، واستنابه في الحكم بها مدة، وعاد إلى القاهرة وانتصب للإقراء وانتفع الناس به.
وصنف تصانيف: منها شرح مسلم في مجلدات، وكتاب ابن الحاجب في الفقه ولم يكمل، وتاريخاً في مجلدات، واختصر كتاب ابن يونس في الفقه.
وكانت له معرفة بالفرائض والحساب ومعرفة البلاد والأقاليم، ويحفظ جملة من أشعار العرب، وكان لا يقيم الوزن، ويصحف.
وكان فيه ود لأصحابه، ودارت عليه الفتيا. وولي تدريس المنكو تمرية بالقاهرة، والإعادة بالناصرية والمدرسة الصالحية، وتولى تدريس المدرسة المالكية بمصر.
وحصل له بلغم فمنعه من الحركة، وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الخميس مستهل شهر رجب سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ومولده بزواوة سنة أربع وستين وست مئة.
عيسى بن موسىالمعروف بابن الزبطر، بكسر الزاي والباء الموحدة وسكون الطاء المهملة وبعدها راء.
كان نصرانياً مستوفياً بحمص، وقع منه تعرض بكلام قبيح لا يليق ذكره في حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام الناس عليه فسعى في الباطن، وسكنت القضية. ثم إن أهل حمص قاموا عليه وأثبتوا شهادة استرعاها اثنان لآخرين عليه، فثبت ذلك على قاضي حمص، فادعى أن معه نصيحة، فحمل إلى دمشق، فكتب قاضي حمص إلى قاضي قارا بأمره، فلما وصل إلى قارا أسلم وأراد من قاضي قارا أن يحكم بإسلام فامتنع، فحضر إلى دمشق وتظاهر بالإسلام فما قبل منه، وفوض شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي الحكم فيه إلى قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي، فحكم بسفك دمه.
وضربت رقبته في سوق الخيل بعد عصر الاثنين خامس شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة بحضور القضاة الأربعة.
عيسى بن يحيىابن أحمد بن محمد بن مسعود، الشيخ الإمام المحدث الصوفي ضياء الدين أبو الهدى الأنصاري السبتي.
قدم القاهرة واستوطنها في الصبا، وسكن دمشق مدة في الدولة الناصرية الصلاحية يوسف.
وحدث عن أبي القاسم الصفراوي، ويوسف بن المخيلي وابن المقير، وابن الطفيل، وابن دينار، وابن الصابوني، وجماعة، وخرج له التقي عبيد أربعين تساعيات أبدالا.
قال شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: سمعها منه، وكان مليح القراءة للحديث حسن المعرفة، كثير الحرمة، ألبسني الخرقة وذكر أنه لبسها بمكة من الشيخ شهاب الدين الشهرزوري.
وتوفي رحمه الله تعالى في ... سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده بسبتة سنة ثلاث عشرة وست مئة.
الألقاب والأنساب

ابن أبي العيش
بدر الدين عبد الله بن الحسين.
عين بصلإبراهيم بن علي.
حرف الغين
غازان بن أرغون بن أبغا
ابن هولاكو بن تولى بن جنكزخان، السلطان الكبير والقان الجليل إيلخان، معز الدين.

كان من أجل ملوك هذا البيت وأعظم من ركب ظهر أدهم أو امتطى صهوة كميت. حزء أعظم من كلهم، وواحد في موازنة جلهم، رابط الجأش، ضابط السياسة والانتعاش، خبيراً بالحروب وتدبيرها، وهلاك أعاديه وتدميرها.
وكان أشقر ربعة خفيف العارضين واللحيه، غليظ الرقبة، كبير الوجه، عليه من المهابة حلية وأي حليه:
يمد يديه في المفاضة ضيغم ... وعينيه من تحت البرتكة أرقم
لما ملك أخذ نفسه في الملك مأخذ جنكزخان، ودوخ البلاد والأقطار وأخذ من أدى الأمانة ومن خان. وكان لا يعف عن الأموال ويعف عن الدماء، ويود لعلو همته أن يملك ما تحت السماء.
وكان يؤثر أن يظهر العدل عنه، ويود لو تمكن منه، ولذلك تسمى " محمود " ، يريد به نور الدين الشهيد. وينتمي إلى تقليد أفعاله في القريب والبعيد، فما تمسك من ذلك إلا بأقصر سبب، وحكى ولكن فاته الشنب. هذا في بلاد أذربيجان والعراق، وما ضرب فيه له خام أو امتد رواق، وأما الشام فإنه مني من مغوله بالداء العضال، ورمي من جباريهم بما يرمى به الغرض من النبال في النضال، وسلم الله منهم بعض السلامة، ولطف بأهله إلا من أسروه فما سروه أو جرعوه حمامه. ولكن لما عادوا في الواقعة الثانية أخذ الله بالثأر لنا " فهل ترى لهم من باقية " :
وإن كان أعجبكم عامكم ... فعودا إلى حمص في قابل
فإن الحسام الخضيب الذي ... قتلتم به في يد القاتل
والذي أعتقده أنه من حين ظهر جنكزخان ما جرى للمغول بعد واقعة عين جالوت ولا إلى يومنا مثل واقعة شقحب، كادت تأتي على نوعهم فناء، فإن الموت أهل بهم ورحب، وما نجا منهم إلا من حصنه الأجل، أو اختار الأسر لما وجد من الوجل.
ولم يزل غازان على حاله إلى أن... وصلت إليه يد سواء عندها البازي الأشهب والغراب الأبقع.
وتوفي في ثاني عشر شوال سنة ثلاث وسبع مئة، ببلاد قزوين، وحمل إلى تربة ب " شم " ظاهر توريز، والعوام يسمون هذا المكان: الشام، وهي تربة اشتملت على عمارة جليلة.
وظاهر توريز يشتمل على ثلاث مدارس: للشافعية وللحنفية وللحكماء، وعلى مارستان وجامع وخانقاه، ورصد للكواكب، وخزائن للكتب، ودار مضيف، وأوقاف ذلك تغل في السنة نحو مئة ألف دينار رائج، والرائج ستة دراهم، والدرهم نصف وربع كاملي. وكان النظر في ذلك للخواجا رشيد وأولاده.
واختلفت أخباره على البلاد الإسلامية، وخبط القصاد فيها تخبيطاً كبيراً. واشتهر أخيراً أنه سم في منديل تمسح به بعد الجماع، فتعلل مدة ومات.
وكان الشيخ علاء الدين الوادعي - المقدم ذكره - تلك المدة في البيرة، فكتب مطالعة عن نائبها إلى السلطان الملك الناصر محمد، وكتب فيها:
قد مات قازان بلا مريةٍ ... ولم يمت في الحجج الماضيه
بل شنعوا عن موته فانثنى ... حيا ولكن هذه القاضيه
فكتب الجواب إلى الأمير سيف الدين طوغان نائب البيرة شخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود - رحمه الله تعالى - : ووقفنا على البيتين اللذين نظما في وصف حال قازان، وتحقق موته بعد اختلاف الأخبار فيه، والجواب عنهما:
مات من الرعب وإن لم تكن ... بموته أسيافنا راضيه
وإن يفتها فأخوه إذا رأى ... ظباها كانت القاضيه
وللوادعي - رحمه الله تعالى - في موت قازان عدة مقاطيع منها ما نقلته من خطه:
لقد مات قازان فويل منافق ... يكابر فيه بالخديعة والمكر
ولم يبق إلا أن يجيء بنفسه ... ويحلف أني قد شبعت من القبر
ونقلت منه أيضاً له:
وكم يجعل القصاد حياً وميتاً ... قزاناً وأوحتهم شياطينهم وحيا
إلى أن قضى نحباً وصار إلى لظى ... وأصبح فيها لا يموت ولا يحيا
ونقلت منه أيضاً له مضمناً:
قد قال غازان يا للمسلمين لقد ... ثارت بقصادكم بين الورى الفتن
كم قد نعيت وكم قد مت عندكم ... ثم انتفضت فزال القطن والكفن
وكان جلوس غازان على تخت الملك في سنة ثلاث وتسعين وست مئة. وحسن له نائبه نوروز الإسلام، فأسلم في سنة أربع وتسعين، ونثر الفضة والذهب واللؤلؤ على رؤوس الناس، وفشا بذلك الإسلام في التتار. وكان صاحب العراقين وخراسان وفارس والجزيرة وأذربيجان والروم.

قال العز الإربلي الطبيب ما معناه: إن غازان لما ملك استضاف نساء أبيه إلى نسائه على ياسا المغول في ذلك، وكان مغرىً بحب بلغان خاتون دون نسائه، وهي أكبر نساء أبيه، فلما أسلم قيل له: إن الإسلام يفرق بينك وبينها، لأنه لا يجوز في دين الإسلام أن ينكح الرجل ما نكح آباؤه من النساء، فهم بالردة إلى أن أفتاه بعض العلماء بأن أرغون أباه كان كافراً. وكانت بلغان خاتون معه سفاحاً والحرام غير محرم، فيجوز لك أن تنكحها، فسر بذلك، وعقد عقد نكاحه عليها، وثبت على الإسلام، ولولا ذلك لارتد. قال: ولاموا من أفتاه، فقال: إنما قلت ظاهر الشرع، وإن تسهلت فالتسهل في ارتكاب غازان بمحرم واحد وأسهل من أن يرتد كافراً، وينتصب لمعاداة الإسلام وأهله. فاستحسن ذلك من قوله، وعرف فيه حسن قصده.
وكان غازان يتكلم بالتركية والمغلية والفارسية، ولكنه ما يتكلم بها إلا مع الخواجا رشيد وأمثاله من خواص حضرته، ويفهم أكثر ما يقال قدامه بالعربي، ولا يظهر أنه يفهمه تعاظماً لأجل ياسا جنكزخان الخالصة. ولما ملك أخذ نفسه بطريق جنكزخان، وأقام الياسا المغولية، ورتب الأرغوجية لعمل الأرغو وأن يلزم كل أحد قدره، ولا يتعدى طوره، وأن يكون الآغا آغا والأيني أيني، وصرف همته وعزيمته إلى إقامة العساكر وسد الثغور، وقصد الأعداء في الأطراف ونفذ البراليغ والأحكام بعمارة البلاد والكف عن سفك الدماء وتوفير أهل كل صنعة على عملها ليكثروا وتعمر البلاد كما كانت في أيام الخلفاء - رضوان الله عليهم - والملوك الخوارزمية وغيرهم. إلا أنه كان مع شجاعته وحزمه ورأيه مبخلاً بالنسبة إلى ملوك بيته.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله علي إن شيخنا شمس الدين الأصفهاني حدثني عنه أنه أجاز خواجا رشيد على كتاب صنفه باسمه ألف ألف دينار، أخذ بها عقاراً خراباً كان يساوي أضعاف ذلك، ثم عمره بجاهه، فتضاعفت قيمته.
قلت: مثل هذا لا يعد كرماً، لأن هؤلاء الملوك عطاؤهم لخواصهم ومن يقربوه ويحبونه ليس بقياس ولا على قاعدة مطردة، فإن السلطان الملك الناصر محمد كان يعطي خواصه مثل بكتمر الساقي وقوصون وبشتاك والحجازي ويلبغا أضعاف هذا العطاء، وهذا الخواجا رشيد لم يكن عند قازان أحد في محله ولا في رتبته لأنه كان لا يثق إلا به، وهو جليسه وأنيسه ونديمه وطبيبه وطباخه، فلا يأكل إلا من يده أو من أيدي أولاده، وكانوا يطبخون الطعام له في قدور الفضة، ويغرفونها في الطياسي الذهب والجفانات الذهب، ويحملونها بأنفسهم إليه، ويقطع له الخواجا رشيد ويلقمه بيده. وكان بيد خواجا رشيد على هذه الوظيفة مغل بلدين، إلى غير ذلك من الأرزاق الواسعة، وكان يطلعه من أسراره على ما لا يطلع غيره عليه.
ولما استقر غازان وثبتت قدمه قطع الراتب عن كاز خاناه السراي وجامعهم بتوزير وما كان لهم من قديم الزمان، فجاءته رسل ملك السراي وقالوا له: خرجت عن الياسا، فردهم أقبح رد، وقال: الياسا ما أقرره أنا، ويكفيكم سكوتي عنهم.
قال نظام الدين يحيى بن الحكيم: إن هلاكو لما فتح البلاد لمنكوقان نزل نفسه منزلة النائب له، لا يخرج له عن أمر، فبعث يقول له: إن بركة آغا يعني ملك السراي ليس في بلاده صناع ولا لها كبير دخل، ويحتاج هو وعسكره إلى قماش فتكون له مراغة وتوريز، فسلمها إلى نواب بركة، فعمروا بها كازخاناة لاستعمال القماش، والكازخاناة عندهم بمنزلة دار الطراز عندنا، وبنو لهم جامعاً وظف له وظائف، وكتب عليهما اسمه. ثم كانوا فيما بعد يجرون للكازخاناة والجماع بعض خراج مراغة وتوريز، فقطع غازان ذلك رأساً، والجامع والكازخاناة إلى الآن باقيان، وعليهما اسم بركة.
ثم أن قازان بعد ذلك تسمى بالقان وأفرد نفسه بالذكر في الخطبة وضرب السكة باسمه دون القان الأكبر، وطرد نائبه من بلاده، ولم يسبق قازان إلى هذا أحد من آبائه. بل كان هولاكو وجميع من جاء بعده لا ينزلون أنفسهم إلا منزلة نواب القان الأكبر، ولا يسمى أحد منهم بالقان، وإنما يقال السلطان فلان، والسكة والخطبة للقان الأكبر دونهم، وإن ذكر لأحد منهم اسم، ذكر على سبيل التبع، وإن كانوا ملاك البلاد وحكامها، ولهم جباية الخراج، وإليهم العقد والحل والولاية والعزل.

وقال قازان لما طرد نائب القان: أنا أخذت البلاد بسيفي، ما أخذتها بجنكزخان ولا بأحد. ولا يجسر أحد على مراجعته. ولهذا لا يقال ذهب هولاكي ولا أبغاوي ولا أرغوني، وما يقال إلا ذهب قازاني وذهب خربندي وذهب بوسعيدي.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: قال لي الأمير سيف الدين ظهير بغا - رحمه الله تعالى - : المغل تقول: " من رأى غازان ما فاتته رؤية جنكزخان " . ثم قال: مات ملك المغل من بعده. قال: فحكيت ما قاله للأمير سيف الدين أيتمش الناصري، وكان أعرف أهل زمانه بأحوال المغل، فقال: لا أخطأ إلا من رأى غازان ما فاتته رؤية هولاكو، ومن رأى أبغا ما فاتته رؤية جنكزخان، وما مات ملك المغل بعد غازان، وإنما ماتت ياسا المغل.
قال: وقال لي ظهير بغا: كان غازان إذا اشتد غضبه، وهو جائع أكل، أو هو بعيد العهد بالنساء جامع، وتشاغل عن غضبه بهذا وأمثاله. وكان يقول: آفة العقل الغضب، ولا يصلح للملك أن يكون في عقله آفة.
وقال: كان غازان إذا غضب خرج إلى وسيع الفضاء، ويقول: الغضب إذا خزنته ازداد، وإذا صرفته تصرف.
وقال: كان يقول: الملك بلا رجال، شجرة بلا أغصان، والملك بلا مال، شجرة بلا ثمر، والملك بلا سلاح، شجرة بلا ورق، والملك بلا إحسان، شجرة بلا فيء.
وقال: رمي بعض أولاد القانات بابنه، فقال الناس: ابن قان يكون بهذا، كيف يتفق هذا؟ فقال لهم غازان: ما العنب منه خمر وخل! وقال: ركب قازان يوماً فرساً، فلعب به، فقال له: معذور أنت، محمود غازان فوقك. فوقع عنه، فقال: لولا وقوع المطر على الأرض ما طلع النبات. انتهى.
وضرب غازان في مدة ملكه سبع مصافات، منها ما حضره بنفسه، ومنها ما لم يحضره، فأولها المصاف الذي بينه وبين نوروز بن أرغون آغا، وكان هذا نوروز قد سعى لغازان حتى ملك، ثم وقع في خاطره أنه آن خروج المهدي، وأنه هو يكون الممهد له، فاستحال على غازان، وخرج غازان لقتاله، واستعان نوروز بالأكراد اللو، فانتصر غازان، وهرب نوروز إلى أقاصي خراسان، ثم لجأ إلى قلعة، فأمسكه صاحبها وقطع رأسه، وجهزه إلى غازان، فأنكر عليه غازان، وقال: كان قتل هذا إلى ما هو إليك، ثم إنه قتله به.
والمصاف الثاني مع اللو الأكراد، لكونهم قاموا مع نوروز، فكسرهم كسرة عظيمة أبيعت فيها البقرة الفتية السمينة بخمسة دراهم، والرأس الغنم بدرهم، وأبيع الصبي البالغ الحسن الصورة باثني عشر درهماً.
قال الإربلي: وقتل في هذه الواقعة أولاً وآخراً خمسون ألفاً.
والمصاف الثالث كان مع عرب البطائح وواسط، وكانوا قد ملكوا عليهم شيخاً منهم يدعى عمران، وكان قد حاربه عز الدولة بن بويه عدة نوب، ولم ينتصف منه.
والمصاف الرابع والخامس والسادس بالشام، نوبة حمص ونوبة الأطراف ونوبة شقحب، فانتصر في الأولى، وملك الشام مدة أربعة أشهر، وفي الثانية طلع رأساً برأس، وفي الثالثة كانت الكسرة على جيشه.
والمصاف السابع كان من أهل كرمان بعد حصارها ونهب أموالها، وعف عن الدماء في الذراري والنساء.
ولم يصدع حصاة قلبه ولا فل عرش قواه مثل نوبة شقحب، فإنها أماتته بغبنه غبناً، وكانت بغير رأيه، لأنه جهز قطلوشا بالعساكر ليغير بهم على حلب والأطراف، وأمره ألا يعدي حمص، فلما جاء إلى البلاد وجد عساكرها قد تقهقرت قدامه، والبلاد خالية، وليس للجيوش ولا للسلطان في الشام خبر، فظن أن كسرتهم نوبة حمص ما بقي لها خبر، فجاء إلى دمشق، ومر على ظاهرها وجره الطمع إلى مصر، لعله يملك لغازان مملكة الإسلام. فأنجز الله وعده، ونصر حزبه. ولما رجع قطلوشا شتمه وضربه وأوقفه يوماً في الشمس وحملها غازان على نفسه، فلم تتطاول به الأيام حتى مات.
وقيل: إن بلغان خاتون سمته في منديل عقيب نكاحها.
قال القاضي شهاب الدين: ولم يصح هذا، وإنما هذا شيء ادعته يلقطو بنت أبغا، ومشت به إلى ملوك الإسلام، وكانت تكاتبهم، وادعت أنها حسنت ذلك لبلغان خاتون، لأن بلغان خاتون كان لها أرب فيه من هوى، وكانت تخافه، فقالت لها: أمرك ما بقي يخفى، فعاجليه وإلا فروحك رائحة.
قال الإربلي: وكان غازان له نظر في عواقب الأمور وخبرةً تامةً بتدبير الملك، وكان يلتحق في أفعاله بجده الأكبر هولاكو، ولم يكن فيه ما يشينه، غير أنه كان مبخلاً، لكن كانت هيبته قوية، وكان الرعايا في أيامه آمنين.

قلت: وخطب له على منبر دمشق في يوم الجمعة رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة بحضور المغل، ودعي له على السدة، وقرئ مرسوم بتولية قبجق نيابة دمشق.
وكان قد كتب غازان لأهل دمشق فرماناً بإشارة الأمير يوسف الدين قبجق ونسخته: بقوة الله تعالى، ليعلم أمراء التومانات والألوف والمئات وعموم عساكرنا من المغول والتتار والأرمن والكرج وغيرهم ممن هو داخل تحت طاعتنا أن الله سبحانه وتعالى لما نور قلوبنا بنور الإسلام، وهدانا إلى ملة النبي عليه السلام " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين " ولما سمعنا أن حكام مصر والشام خارجون عن طرائق الدين غير متمثلين بأحكام الإسلام ناقضون لعهودهم، مخالفون لمعبودهم، حالفون بالأيمان الفاجرة، ظالمون في أحكامهم المتغايرة، ليس لديهم وفاء ولا ذمام، ولا لأمورهم التئام ولا انتظام، وكان أحدهم " إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد " ، وشاع الخبر أن شعارهم الحيف على الرعية، ومد الأيدي إلى حريمهم وأموالهم بالأذية، والتخطي عن جادة العدل والإنصاف. وارتكابهم الجور والاعتساف، حملتنا الحمية الدينية والحفيظة الإسلامية على أن توجهنا إلى هذه البلاد، لإزالة العدوان والفساد، مستصحبين الجم الغفير من العساكر، ونذرنا على أنفسنا إن وفقنا الله تعالى بحوله وقوته لفتح البلاد، أن نزيل عن أهلها العدوان والفساد، ونبسط العدل في العباد، ممتثلين الأمر الإلهي المطالع " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " ، وإجابة إلى ما ندب إليه الرسول عليه السلام: المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في أحكامهم وأهليهم.
وحيث كانت طويتنا مشتملة على هذه الطويلة الجميلة والنذور الأكيدة، من الله سبحانه وتعالى علينا بتبلج تباشير النصر المبين، وأتم علينا نعمته، وأنزل علينا سكينته، فهزمنا العدة الطاغية، والجيوش الباغية، ففرقناهم أيدي سبا " ومزقناهم كل ممزق " ، حتى " جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا " . فازدادت صدورنا انشراحاً للإسلام، وقويت نفوسنا بحقيقة الأحكام، منخرطين في زمرة من حبب إليه الإيمان، فوجب علينا رعاية تلك العهود الموثقة والنذور المؤكدة، فصدرت مراسمنا العالية أن لا يتعرض أحد من العساكر المذكورة على اختلاف طبقاتهم بدمشق وأعمالها وسائر البلاد الشامية، وأن يكفوا أظفار التعدي عن أنفسهم وأموالهم وحريمهم وأطفالهم، وأن لا يحوموا حول حماهم بوجه من الوجوه حتى يشتغلوا بصدور منشرحة وآمال منفسحة لعمارة البلاد وما هم بصدده من تجارة وزراعة.
وكان في هذا الهرج العظيم وكثرة العساكر تعرض بعض نفر يسير إلى بعض الرعايا وأسرهم، فقتلنا منهم ليعتبر الباقون ويقطعوا أطماعهم عن النهب والأسر وليعلموا أنا لا نسامح بعد هذا الأمر البليغ البتة، وأن لا يتعرضوا لأحد من أهل الأديان من اليهود والنصارى والصابئة، فإنما يبذلون الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا، لأنهم من جملة الرعايا، قال عليه السلام: الإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم، فسبيل القضاة والخطباء والمشايخ والعلماء والشرفاء والأكابر وعامة الرعايا الاستبشار بهذا النصر الهني والفتح السني، وأخذ الحظ الوافر من الفرح والسرور، مقبلين على الدعاء لهذه الدولة القاهرة والمملكة الظاهرة.
وكتب بتاريخ خامس ربيع الآخر، وقرئ هذا الفرمان في الجامع، ونثر الناس عليه بعض دنانير وبعض دراهم.
ولما نزل قازان على دمشق دخلها الأمير سيف الدين قبجق، وجلس بالعزيزية، وكتب للناس أمانات من جهته، وخطب يوم الجمعة رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة بجامع دمشق لغازان، وقرئ مرسوم بولاية قبجق لدمشق. وفي رابع عشري جمادى الأولى خرج جماعة من القلعة وكسروا المجانيق التي للتتار بالجامع الأموي.
ودقت البشائر، ورحل غازان عن دمشق بعدما أخذ أموالاً كثيرة وترك قبجق نائباً عليها، وعنده قطليشاه، ومعه جماعة من المغول.

قال الشيخ وجيه الدين بن المنجا - رحمه الله تعالى - : الذي حمل من دمشق إلى خزانة غازان ثلاثة آلاف ألف أو ست مئة ألف درهم سوى ما تمحق من البراطيل والتراسيم وإن شيخ المشايخ الذي نزل بالعادلية حصل له ما قيمته ست مئة ألف والذي حصل للأصيل بن نصير الدين الطوسي مئة ألف درهم والصفي السنجاري ثمانون ألفاً.
قلت: هذا خارج عما نهبه المغل والأرمن للناس من الصالحية ومن المدينة وضواحيها، ولعله يقارب هذا المقدار.
وفي سادس عشري جمادى الأولى، نودي في دمشق بخروج الناس إلى البلاد والقرى والحواضر، وألا يغرر أحد بنفسه. وفي سابع عشري رجب أعيدت الخطبة للملك الناصر محمد قلاوون على منابر الجوامع بدمشق.
غازي بن داود بن عيسى بن محمد بن أيوبالأمير الملك المظفر بن الناصر صاحب الكرك بن المعظم بن العادل.
كان رجلاً جيداً كبير القدر محترماً مبجلاً، عنده فضيلة وفيه تواضع.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن خطيب مردا، والصدر البكري. كان قد حج وزار القدس، وقدم دمشق وأقام بها مدة ثلاثة أيام.
ثم إنه عاد إلى القاهرة فتوفي بها - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر شهر رجب سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وست مئة بقلعة الكرك.
ودفن بالقرفة، وصلي عليه بدمشق غائباً.
غازي بن خطلباشهاب الدين الصرخدي ثم الدمشقي.
أخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين قال: كان المذكور جندياً ثم تصوف ثم استغل بالقاهرة وتعدل وقعد في الدكان يسترزق مع الشهود.
وأنشدني لنفسه بباب المدرسة الفاضلية:
فلولا حظوظ النفس ما كنت في الهوى ... أسيراً وفي بحر الهوى أنت غارق
دع الكل والإخلاص إن كنت خالصاً ... وإياك والأوهام فهي العلائق
إذا ما نظرت الخلق بالحق لن ترى ... سوى الحق إن الكل بالحق ناطق
وأين السوى والغير إن كنت عارفاً ... سوى صور والسر في الكل فارق
غازي بن عبد الرحمن بن أبي محمدشهاب الدين الدمشقي الكاتب المشهور المجود.
كاتب كبت البروق وراءه وما لحقت غباره، ولا نشقت الرياض ريحانه ولا ملكت الملوك طوماره. لحق الولي التبريزي، فكان الولي وسيماً وهو وليه، وخطه تحت طبقته والولي عليه.
وكتب عليه جماعة من الكتاب وأبناء الرؤساء وأرباب الآداب، وكان يدعي أنه كتب على الولي، والصحيح أنه كتب على ابن النجار، وأتى بما يخجل الجواهر والأحجار.
ولم يزل إلى أن حقق الموت نسخه، وأوجب عقد الحياة فسخه.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء رابع عشر شوال سنة تسع وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاثين وست مئة.
وكان قد أجاد قلم الرقاع، وكان يكتب الناس على طريق الولي التبريزي ويستحسنها ويقول: ما كتب أحد مثله، وكان يجلس في المدرسة العزيزية ويكتب الناس فيها مدة خمسين سنة وقبلها مدةً زمانية تحت مئذنة فيروز، وكتب عليه عامة من أجاد الخط في زمانه كشمس الدين محمد بن أسد النجار ونجم الدين بن البصيص، وابن الأخلاطي، وغيرهم، وإن كان ابن النجار قد كتب على ابن الشيرازي فإن أكثر انتفاعه إنما كان بالشهاب غازي، وكان إماماً في التوفيق ومعرفته بالخط أكثر من كتابته باليد، ولكنه كان في لسانه سفه وبذاءة مع كل بنت شفه وغير ذلك.
وكان قد سمع شيئاً من الحديث من ابن عبد الدائم، وروى، وسمع عليه الطلبة.
غازي بن عمر بن أبي بكرابن محمد بن أبي بكر بن أيوب، الأمير شهاب الدين أخو المعظم عيسى بن المغيث بن العادل بن الكامل بن العادل الكبير.
أجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة.
غازي بن أحمدالصدر الكبير، القاضي شهاب الدين المعروف بابن الواسطي الكاتب.
كان صدراً كبيراً، ورئيساً تنقل في المباشرات حتى صار وزيراً، وعلا بكتابته وتدبيره محلاً أثيراً، إلا أنه ما كان يخلو من جور، وميل إلى تنقل من طور إلى طور، وكانت لديه فضيله، وأدب عنده منه نكت جليله.
وكتب الإنشاء بالقاهرة، وأبرز طروسه كالرياض الزاهره، وكان خطه كالوشي إذا حبك، والذهب الخالص إذا سبك.
ولم يزل إلى أن أضر، وقوبل بما أضمر وأسر، حق التحق بربه، وجره القبر إليه وضمه بتربه.

ومولده بحلب، وكان من أبناء الثمانين رحمه الله تعالى وتوفي رحمه الله في ثامن عشرين شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
خدم بديوان الاستيفاء نائباً في حلب، ثم خدم كاتب الجيش بها، ثم إنه توجه إلى مصر وخدم هناك في جهات، وحضر إلى حلب مستوفياً في دولة الظاهر بيبرس وصرف، وعاد إلى مصر ورتب بديوان الإنشاء. وكان يكتب خطأ حسناً، رأيت بخطه نسخة " المثل السائر " في مجلدة واحدة في غاية الحسن.
ثم إنه ولي نظر الصحبة في الأيام المنصورية. ورافق الأمير بدر الدين بكتوت الأقرعي سنة اثنتين وثمانين وست مئة والأقرعي مشد الصحبة وصادرا الناس وعاقباهم، ووصل أذاهما إلى القضاة.
ثم إنه ولي نظر حلب في الدولة الناصرية إلى سنة اثنتين وسبع مئة، وصرف، ثم إنه ولي نظر الدواوين بدمشق، ثم إنه صرف وأعيد إلى حلب وقد ضعف نظره جداً، وتوفي بها رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور.
وكان قد وصل من مصر إلى دمشق متولي النظر بها عوضاً عن شرف الدين بن مزهر في شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبع مئة.
غازي بن قرا أرسلان بن ارتقابن غازي بن ألبي بن تمرتاش بن غازي بن أرتق، الملك المنصور نجم الدين بن الملك المظفر فخر الدين بن الملك السعيد نجم الدين بن الملك المنصور ناصر الدين صاحب ماردين.
أقام في سلطنة ماردين نحو عشرين سنة، وليها بعد أخيه السعيد داود، وولي بعده الأمير علي ولقب بالملك العادل، فبقي سبعة عشر يوماً، ومات رحمه الله تعالى وولي بعده أخوه الملك الصالح شمس الدين بن الملك المنصور، وكان المنصور رجلاً سميناً بديناً إذا ركب يكون خلفه محفه دائماً خوفاً من تعب يحصل له، فتكون المحفة مهيأة، ولما مرض أخرج أهل السجون وتصدق.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شهر ربيع الآخر في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ودفن رحمه الله تعالى بمدرستهم تحت القلعة عند أبيه وأجداده، رحمهم الله تعالى أجمعين، وكان شيخاً في عشر السبعين.
اللقب والنسبأولاد ابن غانم: جماعة، منهم القاضي شمس الدين محمد بن سلمان بن حمايل، وهو والد الرؤساء الإخوة: الشيخ علاء الدين علي، وأولاده بدر الدين محمد وجمال الدين عبد الله، ونجم الدين أحمد، والشيخ شهاب الدين أحمد وولده تاج الدين عبد الله وأمين الدين إبراهيم. والشيخ حسام الدين سلمان بن حسن. والشيخ بهاء الدين أبو بكر، وولده شهاب الدين أحمد. والشيخ أبو الحسن عبد الله. وجمال الدين عمر بن محمد بن سلمان. وفخر الدين عثمان.
والغانمي: إبراهيم بن يونس.
والغافقي: النحوي إبراهيم بن أحمد بن عيسى.
الغالب بأمر الله: صاحب الأندلس إسماعيل بن الفرج.
ابن غاليه: المسند يوسف بن أحمد.
الغتمي: نائب الرحبة، حسام الدين لاجين.
الغزي: بدر الدين حسن بن علي، أخوه الحسين بن علي، الشيخ محمد المنجم.
الغرافي: إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن، وتاج الدين علي بن أحمد بن عبد المحسن.
ابن غنوم: صدر الدين يوسف بن أحمد.
الغوري: محمد بن الحسين.
غنايم بن إسماعيل بن خليلالشيخ الصالح أبو محمد التدمري الخواص بقرية راوية بقبر الست من غوطة دمشق.
كان رجلاً مباركاً معروفاً بالصلاح والديانة من البيانية.
سمع من الشيخ تقي الدين بن الواسطي، وكان عنده فهم، وله شعر، ويحفظ جملة من اللغة. وكان حسن الأخلاق، أخبر باليوم الذي، يموت فيه وصدق.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشري شهر شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة، تجاوز الثمانين.
حرف الفاء

فارس بن أبي فراس بن عبد الله
الجعبري الحوائصي، الشيخ الصالح المعمر أبو محمد.
أجاز لي في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
النسب واللقبالفارسي: علاء الدين علي بن بلبان.
الفاروثي: نصير الدين عبد الله بن عمر.
الفاتولة: عبد الله.
الفار الشطرنجي: أحمد بن محمد.
الفارقي: جماعة منهم: سعد الدين سعد الله بن مروان.
الفارقي النحوي الكفري: سليمان بن أبي حرب.
رين الدين الخطيب: عبد الله بن مروان.
الفاشوشة الكتبي: إبراهيم بن أبي بكر.
الفارغ الحموي: أمين الدين عبد الحق بن أبي علي.
فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر

الشيخة المعمرة المسندة العابدة، أم محمد البطائحية البعلية، والدة الشيخ إبراهيم بن القريشة، وقد تقدم ذكره في الأباره.
سمعت صحيح البخاري من ابن الزبيدي، وسمعت من العلامة الحصري صحيح مسلم.
وحدثت في أيام ابن عبد الدائم، وطال عمرها، وروت الصحيح مرات.
سمع منها شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وسراج الدين بن الكويك، وتقي الدين بن أبي الحسن، وابن شيخنا الذهبي، وعدد كثير.
وتوفيت - رحمها الله تعالى - سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولدها سنة خمس وعشرين وست مئة.
1335 - ... فاطمة بنت إبراهيم بن عبد الله بن أبي عمر
المقدسية الصالحية المعمرة، خاتمة أصحاب إبراهيم بن خليل، وآخر من حدث بالإجازة في الدنيا عن محمد بن عبد الهادي، وابن السروري، وابن عوة، وخطيب مردا، وغيرهم.
توفيت رحمها الله تعالى في ذي القعدة سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
فاطمة أم عبد اللهابنة الشيخ الإمام المقرئ المحدث جمال الدين سليمان بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن سعد الله بن عبد الله بن أبي القاسم الأنصاري الدمشقي.
كانت امرأة صالحة، وقفت وبرت أهلها وأقاربها في حياتها.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روت لنا عن أكثر من مئة شيخ، منهم - بالسماع - المسلم المازني، وكريمة، وابن رواحة. وبالإجازة المجد القزويني، والحسين بن صصرى، والفتح بن عبد السلام، والداهري، وابن عفيجة، والحسن بن الجواليقي، وأحمد بن النرسي، وعبد السلام بن سكينة، والمهذب بن قنيدة، والأخوان ابنا الزبيدي وعبد اللطيف بن الطبري، ومحاسن الخزايني، وشرف النساء بنت الأنبوسي، وجماعة من البغداديين وغيرهم.
وقرأ عليها شيخنا الذهبي قبل موتها بيوم، وحضر معه جماعة، وأسمعت كثيراً.
وكان لها إجازات من العراق وأصبهان ودمشق.
وتوفيت رحمها الله تعالى ثاني عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبع مئة.
ومولدها تقريباً سنة عشرين وست مئة.
فاطمة بنت عباس بن أبي الفتحالشيخة المفتية الفقيهة العالمة الزاهدة العابدة، أم زينب البغدادية الحنبلية الواعظة.
كانت تصعد المنبر وتعظ النساء، فينيب لوعظها، ويقلع من أساء، وانتفع بوعظها جماعة من النسوه، ورقت قلوبهن للطاعة بعد القسوة، كم أذرت عبرات، وأجرت عيوناً من الحسرات كأنها أيكية على فننها، وحمامة تصدح في أعلى غصنها.
وكانت تدري الفقه وغوامضه الدقيقه، ومسائله العويصه، التي تدور مباحثها بين المجاز والحقيقه. وكان ابن تيمية رحمه الله تعالى يتعجب من عملها، ويثني على ذكائها وخشوعها وبكائها.
وبحثت مع الشيخ صدر الدين بن الوكيل في الحيض وراجت، وزخرت بحور علومها وماجت، فلو عاينتها لقربت من الشيخ تقي الدين في تفضيلها. ولن أقصيه، وقلت له: هذه التي يصح أن يقال عنها: إنها بأربع أخصية، لأنها مونثة قد تفردت بالتذكير، وعارفة لم يدخل على معرفتها تنكير.
ولم تزل على طريق سداد واعتداد من الازدياد إلى أن فطم من الحياة رضاعها، وآن من الدنيا ارتجاعها.
وتوفيت رحمها الله تعالى بالقاهرة في يوم عرفة سنة أربع عشرة وسبع مئة.
انصلح بها جماعة نساء في دمشق وبصدقها في وعظها وتذكيرها وقناعتها، تحولت بعد السبع مئة إلى مصر، وانتفع بها في مصر من النساء جماعة، وبعد صيتها وكانت قد تفقهت عند المقادسة بالشيخ شمس الدين وغيره.
حكى لي غير واحد أن الشيخ تقي الدين بن تيمية قال: بقي في نفسي منها شيء، لأنها تصعد المنبر، وأردت أن أنهاها، فنمت ليلة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عنها. فقال: امرأة صالحة، أو كما قال.
وحكى لي أيضاً أنها بحثت مع الشيخ صدر الدين بن الوكيل في الحيض، وراجت عليه. ثم قالت: أنت تدري هذا علماً، وأنا أدريه علماً وعملاً.
فاطمة بنت محمد بن جميل بن حمدابن حميد بن أحمد بن عطاف، الشيخة الصالحة المعمرة، أم محمد البغدادية المولد، الدمشقية.
سمعت من والدها، وأجاز لها السلفي أجازت لي بدمشق سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وكتب عنها بإذنها عبد الله بن المحب.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة.
فاطمة بنت القاسم بن محمد بن يوسف بن محمدأم الحسن ابنة شيخنا الإمام علم الدين البرزالي.

نقلت من خط شيخنا ولدها، رحمها الله تعالى، قال: أحضرتها سماع الحديث، ولها ثلاثة أيام، حضرت على ابن الموازيني، وفاطمة بنت سليمان، وابن مشرف، والمخرمي، وفاطمة بنت البطائحي، والفخر إسماعيل بن عساكر، وجماعة.
وسمعت من القاضي بهاء الحنبلي، وإبراهيم بن النصير، وعيسى المطعم، وأبي بكر بن عبد الدايم والبهاء بن عساكر، وابن سعد، وجماعة من الشيوخ. وسمعت صحيح البخاري على ست الوزراء بنت ابن المنجا، وحفظت من الكتاب العزيز، وتعلمت الخط، وكتبت ربعة ظريفة، وكتاب " الأحكام " لابن تيمية، و " صحيح البخاري " ، وكملته قبل موتها بأيام قليلة.
قلت: ونسختها هذه بدمشق من النسخ التي يعتمد عليها، وينقل منها.
قال: وكتبت غير ذلك، وحجت، وسمعت بطريق الحجاز، وحدثت بالحرمين الشريفين.
وكانت امرأة مباركة محافظة على الفرائض والنوافل، لها اجتهاد وحرص على فعل الخير، تجتهد يوم دخول الحمام أن لا تؤخر الفريضة عن وقتها، لا تدخل حتى تصلي الظهر، وتجتهد في الخروج، لإدراك العصر، وكذلك تسارع في قضاء أيام الحيض من شهر رمضان تصومها وتعجلها وتحتاط فيها، وكانت فيها مودة، وخير وعقل ومعرفة وخير لم يفارقها قط. وتزوجت نحو خمس سنين، ولم تخرج من البيت، وما رأيت منها إلا ما يسرني، وكنت إذا رأيتها تصلي أفرح وأقول: أرجو الله أن ينفعني بها، فإنها كانت تصلي صلاة مكملة، وتجتهد في الدعاء، ولم تسألني قط شيئاً من الدنيا، ولا شراء حاجة. وانتفعت بها في الدنيا وأرجو أن ينفعني الله بها في الآخرة.واعتبرت الشيوخ الذين سمعت منهم فوجدتهم مئة وخمس وثمانين نفساً.
وتوفيت رحمها الله تعالى في يوم الاثنين حادي عشري صفر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفنت عند تربتهم خارج الباب الشرقي.
ومولدها يوم الجمعة سادس عشر شهر ربيع الأول سنة سبع وسبع مئة.
فاطمة بنت الخشابنقلت من خط القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: بلغني عنها وقد سكنت قريباً مني أنها تجيد النظم، فكتبت إليها لأمتحنها في شهر رجب سنة تسع عشرة وسبع مئة:
هل ينفع المشتاق قرب الدار ... والوصل ممتنع على الزوار
يا نازلين بمهجتي وديارهم ... من ناظري بمطمح الأبصار
هيجتم شجني فعدت إلى الصبا ... من بعد ما وخط المشيب عذاري
أني اهتديت، وليلتي مسودة ... وضللت حين أضاء ضوء نهاري
عهدي بأني لا أخاف من الردى ... فحذار من لحظ العيون حذار
لا أرهب الليث الهزبر مجاوراً ... داري، وأرهب من جوار جوار
الصائبات بلحظهن مقاتلي ... هل للسهام لدي من أوتار
يا جيرتي الأدنين حقي واجب ... إن كنتم ترعون حق الجار
ليلي بكم أدب الزمان مقسم ... ما بين تسهيد إلى أفكار
يا جيرةً جار الزمان ببعدهم ... وهم بأقرب منزل وجوار
إني سمعت صفاتكم فسكرت من ... طربي بغير مدامة وحمار
وهويت بالأخبار حسنكم كما ... تهوى الجنان بطيب الأخبار
يا معرضين وما جنيت إليهم ... ذنباً سوى وجدي وقرب ديار
ميلوا إلي فللغصون تمايل ... حتى تقبل أوجه الأنهار
وتلفتوا نحوي التفات أوانس ... إن الأوانس غير ذات نفار
واجلوا محاسنكم لأحظى بالذي ... قد كنت أسمعه من الأخبار
لا تحسبوا أن السفور نقيصةً ... أو ما ترون مطالع الأقمار
أو تحسبوا أني أضيع سركم ... وأنا المعد لمودع الأسرار
أيجوز أن أظمأ وورد نداكم ... صفو من الأقذاء والأكدار
وأموت من دائي وفي أيديكم ... طبي من الأسقام والأخطار
ولقد عرفتم في الأنام بمنطق ... عذب المذاقة طيب المشتار
فحويتم حسن الصفات مؤيداً ... بمحاسن الأقوال والآثار
بمحاسن تهب العقول بلاغة ... وبلاغة تذر المفوه عاري
أخرستم الفصحاء إذ أنطقتم ... من لا يجيز القول بالأشعار

فبعثت من نظمي قلادة أدمع ... نثرت لآليها بلا استعبار
نفثات مصدور الفؤاد متيم ... عجزت موارده عن الإصدار
قال: فكتبت الجواب إلي:
إن كان غركم جمال إزاري ... فالقبح في تلك المحاسن واري
لا تحسبوا أني أماثل شعركم ... أنى تقاس جداول ببحار
لو عاصر الكندي عصركم رمى ... لكم عوالي راية الأشعار
أقصى اجتهادي فهم ظاهر نظمكم ... لا أنني أدعى دعاء مجار
من قصرت عنه الفحول فحقه ... أن ليس يبلغه لحاق جواري
ولربما استحسنت غير حقيقة ... فإذا سفرت أشحت بالأبصار
لست الطموح إلى الصبا من بعدما ... وضح المشيب بلمتي كنهاري
قلت: هذا الشعر كثير من امرأة في مثل هذا الزمان، ولعلها أشعر من ذكران كثيرين في عصرنا، وممن تقدمنا أيضاً، وما أحسن ما استعملت لفظ جواري هنا في القافية.
اللقب والنسبابن الفاكهاني: عمر بن علي.
ابن الفراء: مقدم البريدية، الأمير علاء الدين علي بن عبد الرحمن. ابنه ناصر الدين محمد بن علي.
ابن الفرات: عز الدين عبد الرحيم بن علي.
فخرية بنت عثمانأم يوسف البصروية، الحاجة الصوامة القوامة العابدة الزاهدة، زاهدة عصرها، وفريدة دهرها.
رفضت الدنيا، ولم ترض إلا بالمنزلة العليا، خرجت عن أهلها ومالها، وتقوتت في القوت ببعض حلالها، وانزوت بحرم القدس الشريف، وتبرأت عن التالد والطريف، وقنعت من العيش الرغيد بكوز ماء ورغيف.
واشتهر أمرها، وعرف الناس خبرها، وأعرضت عن الدنيا الفانيه، وأصبحت وهي لرابعة ثانيه. وجرب الناس لها أحوالاً، وصدقوا منها مقاماً ومقالاً. وكان لها كرامات، وعن وجوه الدنيا انصرافات وانصرامات. وكانت تتمنى أن تموت بمكة، وتدفن إلى جانب قبر خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها. فسمع الله لها هذه الأمنية واستجاب منها.
وتوفيت رحمها الله تعالى في مستهل صفر سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة عن ست وثمانين سنة.
حكى لي أخوها الأمير صفي الدين أبو القاسم البصروي، قال: حمل إليها أخي نجم الدين ستة عشر ألف درهم مما يخصها، فتصدقت بالجميع في جلسة واحدة، ولم تترك منها درهماً واحداً.
كانت تستقي ماء الوضوء بنفسها ولا تستعين بأحد. ولما حجت في سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، قالت عند منصرف الحاج للذي قد توجه يخدمها من جهة أخيها: انصرف ودعني في حالي، فأنا إذا دخل الحجاج إلى دمشق التحقت بربي، وكان الأمر كما ذكرت، وتوفيت رحمها الله تعالى مستهل صفر، ودفنت إلى جانب قبر خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وأقامت بالقدس منقطعة أربعين سنة تقف على باب الحرم تصلي إلى أن يفتح الباب فتكون أول داخل إليه، وآخر خارج منه، وتقتات بشيء يسير مما يحضر إليها من ملكها، وهو قريب من مئتي درهم، وتؤثر الفقراء والمساكين بالباقي. وطار ذكرها في الآفاق، ودخل إليها الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى مرات، ومعه الذهب، ويخرج به وما تقبل منه شيئاً.
وسيأتي ذكر أخيها صفي الدين أبو القاسم، وذكر أخيها نجم الدين محمد بن عثمان في مكانيهما، إن شاء الله تعالى.
فرج بن قراسنقرالأمير جمال الدين بن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، وأخوه الأمير علاء الدين، وقد تقدم ذكره، كان جميل الصورة حسن الشكالة.
توفي رحمه الله تعالى بدمشق في ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقبيبات. وهو والد الأمير جمال الدين فرج أيضاً.
الفرجوطي: محمد بن محمد.
فرج بن محمد بن أحمدالشيخ الإمام العالم نور الدين الأردبيلي، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الدال المهملة وكسر الباء الموحدة وياء آخر الحروف ساكنة ولام، الشافعي، مدرس المدرسة الناصرية الجوانية بدمشق، داخل باب الفراديس، والمدرسة الجاروخية.
كان عالماً ديناً، فاضلاً صيناً، منجمعاً عن الناس، مباعداً من لا يشاكله من الأجناس.
وله إلمام بالكشاف يعرفه ويقريه، ويسبغ كؤوس ما فيه من المشكل ويمريه.
وعلق على منهاج الشيخ محيي الدين النواوي في مواضع منه مفرقة في نحو ستة مجلدات.

ولم يزل على حاله إلى أن طفي نوره، وغلب على نهاره عيشه ديجوره.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ورد إلى دمشق ولازم شيخنا العلامة شمس الدين الأصفهاني مدة مقامه في دمشق ولم يفارقه.
ولما توفي الشيخ كمال الدين بن الشيرازي تولى عوضاً عنه تدريس المدرسة الناصرية في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
اللقب والأنسابابن فرج الإشبيلي: شهاب الدين أحمد بن فرج.
ابن فرحون: علي بن محمد.
أبو الفرج، ولي الدولة ابن الخطيرتقدم في الدولة لما ظهر النشو صهره، وأضاء في سماء المعالي بدره، خدم عند كبار الأمراء الناصريه، وتطفل الأمراء على خدمته لهمته السريه، وخضع الناس له ودانوا، وتطامنوا لترفعه واستكانوا.
وكان حلو الصورة لطيف الإشارة، عذب الكلام، طلق العباره، فصيحاً في نطقه، مليحاً في خلقه وخلقه، يحفظ ما راق من شعر المتأخرين، ووقائع المعاصرين النازلين والمفتخرين، ويندب ما هو أرشق من حركات القدود المشوقه، وألطف من إشارات العيون المعشوقه، ويذوق الأحجية النحوية ويضعها بلا كلفه، ويأتي بها وهي أحسن من البدر إذا تطلع في السدفه، حتى كنت أعجب منه ومن اقتداره، مع عدم اشتغاله بما يعينه في هذا الفن إذا جرى في مضماره، وأما التصحيف فكان لا يتكلف فهمه ولا يرد من الإصابة فيه سهمه، وأما التورية والاستخدام، فكانا له من أطوع الأرقاء والخدام، يذوقهما حال ما يطرقان سمعه، ويقد ذهنه لفهمهما كأنه شمعه.
ثم اشتملت عليه قافية صهره، وجرته إلى الردى، فصودر وقاسى من القلة ما رق له منه العدا، ثم أعان الله وأفرج عنه، وعادت له الدولة لتأخذ حظها منه. ثم إن الزمان استدرك عليه ما فرط، وأوقعه في أحبوله الوهم والغلط، فسمروا شخصه على جمل، وشمروا إليه ذيل الأجل، وفاز عدوه بالسرور والشمات، وقال وليه: " علو في الحياة وفي الممات " .
وكان قد أسلم فما سلم، وحكم الله فيه بما علم، وحل بمن يعرفه هجوم الوجوم، " وعند الله تجتمع الخصوم " . وكانت واقعته في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة في شهر ربيع الأول.
كان ولي الدولة هذا قد تزوج وهو نصراني، بأخت القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص قبل اتصال النشو بالسلطان، ولما تولى النشو الخاص عظم ولي الدولة، وزادت وجاهته، وتقدم على إخوة النشو. وخدم عند الأمير سيف الدين أرغون شاه، ثم إنه انفصل من عنده وخدم عند الأمير علاء الدين طيبغا المجدي، وتحدث في ديوان الأمير سيف الدين بهادر المعزي، وهو أمير مئة مقدم ألف من أمراء المشورة، وفي ديوان الأمير سيف الدين طقبغا، وزادت وجاهته، فلما أمسك القاضي شرف النشو وجماعته، أمسك هو في الجملة، ولكنه دخل إلى السلطان، وقال: والله يا خوند أنا ما أحمل عقوبة، وأنا أحمل موجودي، فإن بلغ مولانا السلطان أنه بقي لي درهم واحد، خذ روحي، فأمر السلطان بأن لا يعاقب، وسلم تلك المرة إلا من ضرب يسير.
وتوفي النشو تحت العقوبة وأهله، وبقي ولي الدولة وأخوه الشيخ الأكرم في الاعتقال بعدما استصفي موجودهما.
وكان قد عمر داراً على بركة الفيل في حكر أزدمر الشجاعي فأبيعت في جملة موجوده، وموجود أخيه، ولما مرض السلطان الملك الناصر محمد مرضه الذي مات فيه، أفرج عن ولي الدولة وعن أخيه فيمن أفرج عنه من الاعتقال بالشام ومصر.
وكان الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي يعرف ولي الدولة، لأن مجد الدين رزق الله أخا النشو، كان كاتبه، فطلب من الملك المنصور أبي بكر، فرسم به له، فأخذه وأسلم على يده وبقي عنده.
وعاد إلى تلك العظمة بزائد، ورمي بأشياء مما أوجبت خلع المنصور، وأوحى أعداؤه إلى الأمير سيف الدين قوصون ما أوحوه، فقبض عليه، وحسنوا له تسميره، فأخرج من محبسه وسمر على جمل، وهو لابس بسنجاب وشغلوا قدامه الشموع، وطافوا به بالمغاني في شوارع القاهرة، ثم قضى الله أمره فيه.
وبلغني أنه وقف قدام دكان الشهود على باب خانقاه " سعيد السعداء " . وقال: يا مسلمين اشهدوا أنني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والله لم يبد شيء مما رميت به، ولكن لي ذنوب، وخطايا تقدمت، هذا بها.
فرج الله بن علم السعداءالصدر الرئيس أمين الدين بن العسال.

دخل هذا هو وأخوه سعد الدين أسعد بن علم السعداء إلى القاهرة عقيب ما جرى للنصارى ما جرى من إلزامهم بلبس الأزرق وشد الزنار، فأنفا من ذلك وأسلما.
وكان هذا أمين الدين صدراً محتشماً، فيه مكارم ومروءة، ورأى من السعادة في دمشق ما لا رآه أمثاله، وباشر صحابة الديوان مدة، ولما غضب تنكز على ابن الحنفي ناظر ديوانه، وتوفي رحمه الله، تولى أمين الدين نظر ديوانه، فأقام به مدة، ثم إنه عزل منه، وعاد إلى صحابة الديوان، وعمر القاعات المليحة المشهورة عند " قناة صالح " داخل دمشق، واجتهد وسعى، فزوج صلاح الدين يوسف ابن أخيه، الآتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى، بابنة الصاحب شمس الدين غبريال.
ولم يزل في سعادة وصدارة إلى أن توفي رحمه الله تعالى في حادي عشر شهر رمضان سنة ثلاثين وسبع مئة.
النسب والألقابالفرسيسي: فخر الدين علي بن عثمان.
الفزاري: الخطيب شرف الدين أحمد بن إبراهيم. الشيخ برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحمن. والده تاج الدين عبد الرحمن.
ابن أبي الفصيح: فخر الدين أحمد بن علي. وجلال الدين عبد الله بن أحمد. والدمرندري عبد الرحمن بن العليم.
الفصيح: المغني عبد العزيز.
فضل الله بن عمر بن أحمد بن محمدالقاضي بدر الدين بن إمام الدين القزويني الشافعي.
قدم دمشق للحج، ونزل بتربة أم الصالح عند ابن أخيه القاضي إمام الدين والخطيب جلال الدين.
وحصل له ضعف فلم يمكنه السفر.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وتسعين وست مئة، وشيعه الخلق إكراماً لأخويه.
وكان مع شيخوخته يكرر على الوجيز، وكانت له حلقة إقراء بتبريز، ثم ولي قضاء بنسكار بلده بالروم، وكانت له معرفة بالحساب وغير ذلك.
فضل الله بن أبي بن الخير الخير عاليرشيد الدولة، فخر الوزراء، مشير الدول الهمذاني، الطبيب العطار والده.
أسلم هو، ومات والده يهودياً على دينه، وجرى القضاء بسعد ولده هذا في ميادينه، واتصل بغازان محمود، وخدمته في خدمته السعود، فقربه نجيباً، وقر به عيناً لما استقر به صفياً، وعظم شأنه، وعلا بتمكنه مكانه، ولم يكن عنده أحد في محله، وحكمه في حرمه وحله.
ثم إنه اتصل بعده بخربندا، فزاده على ذلك وعقد له لواءً من السعد وبندا، وزاد علواً، واستفاد غلوا، وكثرت أمواله، وامتدت آماله، وصار في عداد الملوك، ونظمت جواهر سعوده في السلوك.
ثم إن الدهر تيقظ، وتيقن هلاكه وما تحفظ، فنقض ما أبرم، ونفض ما أكرم، ولما طبب خربندا ومات، نزل به المكروه والشمات، وشغب عليه الوزراء، علي شاه وأمثاله، وصادره من المقدور حبائله وحباله، فدارى عن نفسه بقناطير من الذهب، ودفع جملاً من الجواهر، فما أفاد، لأن عمره ذهب.
وقتل هو وابنه قبله، وذبحوهما على غير قبله، وذلك في سنة ست عشرة وسبع مئة.
وقال الشيخ علم الدين البرزالي: في جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وعاش بضعاً وسبعين سنة، ولما قتلوه فصلوا أعضاءه، وبعث إلى كل بلد بعضو من أعضائه، وأحرقت جثته، يقال: إن جوبان أخذ منه ألف ألف مثقال.
وكان فيه حلم وتواضع وسخاء وبذل للعلماء والصلحاء، وكان ذا رأي ودهاء ومروءة، وفسر القرآن، وأدخل فيه الفلسفة.ويقال: إنه كان جيد الإسلام - رحمه الله تعالى - ولما مات خلف بنين وبنات، وعمائر فاخرة، وأموالاً لا تحصر، وأحرقت تآليفه بعده.
ثم وزر ابنه محمد بعده سنوات، وتمكن أيضاً وسيأتي ذكره في مكانه.
وكان قد نسب رشيد الدولة إلى أنه سقى خربندا السم، فطلبه جوبان على البريد السلطانية، وأحضره بين يديه، وقال له: أنت قتلت القان. فقال: كيف أفعل ذلك، وأنا كنت رجلاً طبيباً عطاراً ضعيفاً بين الناس، فصرت في أيامه وأيام أخيه متصرفاً في أمول المملكة، ولا يتصرف الأمراء والنواب إلا بأمري، وحصلت من الجواهر في أيامهما ما لا يحصى؟.
وأحضر الجلال الطبيب ابن الحزان طبيب خربندا، فسألوه عن موت خربندا، وقالوا: أنت قتلته؟ فقال: الملك أصابته هيضة قوية فانهل بسببها ثلاث مئة مجلس، وتقيأ قيئاً كثيراً، فطلبني وعرض علي هذا الحال فاجتمع الأطباء بحضور الرشيد على إعطائه أدوية قابضة مخشنة للمعدة والأمعاء.

فقال الرشيد: عنده امتلاء، وهو يحتاج إلى الاستفراغ بعد فسقيناه برأيه دواء مسهلاً، فانسهل به سبعين مجلساً، فمات، وصدقه الرشيد على ذلك. فقال الجوبان فأنت يا رشيد قتلته، فأمر بقتله. واستأصلوا جميع أمواله وأملاكه، وقتلوا قبله ولده إبراهيم، وكان عمره ست عشرة سنة.
وحمل رأس الرشيد إلى تبريز، ونودي عليه هذا رأس اليهودي الذي بدل كلام الله تعالى، وقطعت أعضاؤه وحمل كل عضو إلى بلد، وأحرقت جثته، وقام في ذلك الوزير علي شاه التبريزي، وقال بعضهم: إن الوزير كان ملحداً عدواً للإسلام.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: ولما قدم علينا الشيخ تاج الدين الأفضلي التبريزي حاجاً إلى دمشق في رمضان سنة ثماني عشرة وسبع مئة. فذكرناه، فذكر قتل الشيخ والنداء عليه. وقال: قتله أعظم من قتل مئة ألف نصراني، فإنه كان يكيد الإسلام.
قال الإربلي: الأفضلي كان قد تكلم في الرشيد مرة، وهو يهودي، وقد بدل كلام الله، فقصده الرشيد لينتقم منه، فاختفى الأفضلي منه مدة، ثم وقعت فيه شفاعة، فعفى عنه وطلبه إليه، وطيب قلبه وخلع عليه خلعة سنية، فلم يقبلها منه، وبقي في نفس الأفضلي منه إلى الآن يذمه حياً وميتاً. والرشيد ما دخل في الإسلام كرهاً، وقد كان يناصح المسلمين ويخدمهم في كل الأحوال.
قلت: وحكى لنا نجم الدين قاضي الرحبة ما رآه الرشيد من الشفاعة على أهل الرحبة، وحقن دمائهم، وكيف ساعدهم على خلاصهم من التتار، وإصلاح أمورهم مع الملك الناصر، وله في تبريز عظيمة من البر، وكان مشغولاً بسعادته عن معاداة الإسلام وكيده، ولم يكن يتبع إلا أعداه، ومن يقصد أذاه وسواء أكان مسلماً أو كافراً أو صالحاً أو فاسقاً.
فضل بن عيسىالأمير الكبير شجاع الدين أخو الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى.
كان ذا رأي وفضل، وخير عدل، وهمة بلغت السماك، وعزمة ليس لها عن الحزم انفكاك.
تولى إمرة آل فضل سنين عديده، ونزل من السعادة بروجاً مشيده، وأخذها منه موسى ابن أخيه في وقت وأعيدت إليه مع عود المقة وذهاب المقت.
وكان خبيراً بأخلاق السلطان، درباً بأحوال العربان، قد خبرهم وجربهم، وصرفهم على ما أراد، وسر بهم لما سر بهم، وكثرت إقطاعاته وأمواله، وزادت مواشيه وغلاله، ونمت عبيده وإماؤه، ومطرته بالسعادة والأمن سماؤه.
ولم يزل على حاله إلى أن فض لفضل ختم القبر وكسر كسراً ماله جبر.
وتوفي رحمه الله تعالى...
ورأيته برحبة مالك بن طوق.
وكان إذا وردت جماله الفرات يظن الإنسان أن الله تعالى قد ملأ الفضاء جمالاً، وبلغني هناك أنه دفن في بعض دفائنه في تلك الأراضي قدراً فيها ثمانون ألف دينار، وضاع المكان منه ولم يقع له على خبر.
وكان السلطان الملك الناصر محمد قد أخذ الإمرة من أخيه مهنا لما خرج عن الطاعة في واقعة قراسنقر، وأعطاها للأمير شجاع الدين فضل، وغضب عليه في وقت وأعطاها للأمير مظفر الدين بن مهنا، ثم أعادها إلى الفضل.
فضل بن عيسى بن قنديلالشيخ الزاهد العابد الصالح العجلوني. كان مقيماً بالمدرسة المسمارية.
كان مشهوراً بالخير والصلاح، وتعبير الرؤيا، اشتغل في ذلك على الشيخ شهاب الدين العابر الحنبلي. وكان لا يقبل من أحد شيئاً، وعرض عليه خزن المصحف العثماني، فامتنع. وكان لا يقبل أحد شيئاً.
وحضر إليه الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - و - وزاره وهو في بيته في المدرسة المذكورة.
مولده سنة تسع وأربعين وست مئة.
ودفن بمقبرة الصوفية قريباً من قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحضر جنازته القضاة، والأمراء والأعيان والجم الغفير.
الألقاب والأنسابابن فضل الله: جماعة منهم: شهاب الدين أحمد بن يحيى. ولده شرف الدين عبد الوهاب. القاضي محيي الدين بن فضل الله. أخوه القاضي شرف الدين عبد الوهاب. بدر الدين محمد بن يحيى.
فضيل بن عربي بن معروف بن كلاب الجرفيوالجرف: قرية ببلاد أدفو.
كان رجلاً مباركاً متورعاً متطوعاً، يحكي عنه أهل تلك الناحية حكايات عجيبة من الكرامات والصلاح.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوني: قال لي بعض الجرفية: إني زرعت أنا وهو مقثاةً، فظهر فيها بطيخة كبيرة. وكان بعض الفلاحين يشتهي أن يسرقها، ويخشى من الشيخ فضيل، فقطعها ودفعها إليه، وقال: خذها حلالاً.

وحكى لي نفيس الخولي، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، قال: رأيت في النوم ثعباناً كبيراً وقصدني ثم صار إنساناً. وقال لي: تب عن القضية الفلانية، فوقع في نفسي أنه فضيل، فلما وصلنا إلى الجرف قلت له: يا شيخ فضيل أنا من قبيل أن تعاملني بهذه المعاملة؟ فقال: ما هي؟ القضية الفلانية؟ نعم أنا هو.
قال: وحكى لي الجرفية: أنه كان يوماً بأدفو، فركبوا إلى أن وصلوا إلى قلاوة الكوم - وهي أرض كشف - فوقف في مكان، وحوق حواقة، وقال: ادفنوني هاهنا، ثم توجه إلى بيته، فأقام ثلاثة أيام أو نحوها. وتوفي - رحمه الله تعالى - ودفناه بتلك البقعة وبينها وبين مسكنه مسافة طويلة.
الألقاب والأنسابابن الفقاعي: جمال الدين إسماعيل بن محمد.
ابن الفهاد القوصي: محمد بن إبراهيم.
ابن أبي الفوارس: محمد بن مجاهد.
ابن الفوطي: كمال الدين المؤرخ، عبد الرزاق بن أحمد.
ابن الفويرة: جمال الدين يحيى بن محمد. ووالده بدر الدين محمد بن يحيى وعلاء الدين علي بن يحيى.
ابن الفوية: محمد بن أحمد.
فيروز الأمير نجم الدينأحد أمراء الطبلخانات بصفد.
كان في شكله قصيراً، إلا أنه في الحرب كان يرى بصيراً، فيه شجاعة وإقدام، وثبات عند الوثبات لا تزحزح له الأقدام.
وكان ذا تجمل وافر، واضطلاع بأمر الإمرة متظافر، كثير الرخت، وافي الحظ من ذلك والبخت، يتجمل في خروجه إلى الأيزاك، ويظهر بجماعة من الجند الذين تهول أشكالهم من الأتراك، وكان لصفد به جمال، ولبدر ذكرها في البلاد به كمال. إلى أن كتب نائبها الحاج أرقطاي في معناه إلى السلطان في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فأمر باعتقاله في قلعة صفد. فأقام بها معتقلاً نحواً من خمسن سنين. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - شفع فيه. فأفرج عنه، وحضر إلى دمشق بطالاً.
ولم تطل مدته حتى توفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وثلاثين وسبع مئة تقريباً.
وكان يرميه أهل صفد بأنه ظفر بإكسير كان مع بعض المغاربة، وأنه تزوج بامرأة المغربي، وأخذه منها.
وعمر بصفد داراً حسنة بالنسبة إلى صفد وعمل إلى جانبها تربة مليحة ومسجداً، ونقل غالب أحجار الدار من عكا. وأقام بصفد مدة - رحمه الله تعالى - .
حرف القاف

القاسم بن محمد بن يوسف
شيخنا الإمام الحافظ المحدث المؤرخ علم الدين أبو محمد ابن العدل بهاء الدين ابن الحافظ زكي الدين البرزالي - بكسر الباء الموحدة، وسكون الراء وبعدها الزاي، وألف ولام - الإشبيلي ثم الدمشقي الشافعي.
حفظ القرآن العظيم ثم التنبيه ومقدمة... في صغره، وسمع سنة ثلاث وسبعين وست مئة من أبيه، ومن القاضي عز الدين بن الصائغ.
ولما سمع " صحيح البخاري " على الإربلي بعثه والده فسمعه سنة سبع، وأحب طلب الحديث ونسخ الأجزاء، ودار على الشيوخ، وسمع من ابن أبي الخير، وابن أبي عمر، وابن علان، وابن شيبان، والمقداد، والفخر، وغيرهم. وجد في الطلب وذهب إلى بعلبك، وارتحل إلى حلب سنة خمس وثمانين، ومنها ارتحل إلى مصر، وأكثر عن العز الحراني وطبقته.
وكتب بخطه كثيراً وخرج لنفسه ولغيره كثيراً، وجلس في شبيبته مع العدول الأعيان مدة. وتقدم في معرفة الشروط. ثم إنه اقتصر على جهات تقوم به، وحصل كتباً جيدة، وأجزاء في أربع خزائن، وبلغ عدد مشايخه بالسماع أزيد من ألفين، وبالإجازة أكثر من ألف، رتب كل ذلك وترجمهم في مسودات متقنة.
وكان - رحمه الله تعالى - رأساً في صدقه، بارعاً في خدمه، أميناً صاحب سنة واتباع، ولزوم فرائض ومجانبة الابتداع، متواصعاً مع أصحابه ومن عداهم، حريصاً على نفع الطلبة وتحصيل هداهم، حسن البشر دائمه، صحيح الود حافظ السر كاتمه، ليس فيه شر، ولا له على خيانة مقر، فصيح القراءة عدم اللحن والدمج، ظاهر الوضاءه، لا يتكثر بما يعرف من العلوم، ولا يتنقص بفضائل غيره، بل يوفيه فوق حقه المعلوم.
وكان عالماً بالأسماء والألفاظ، وتراجم الرواة والحفاظ، وخطه كالوشي اليماني، أو رونق الهنداوني، لم يخلف بعده في الطلب وعمله مثله، ولا جاء من وافق شكله شكله.
ولم يزل على حاله إلى أن حج سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، فتوفي بخليص محرماً بكرة الأحد رابع ذي الحجة عن أربع وسبعين سنة ونصف، وتأسف الناس عليه.

وكان - رحمه الله تعالى - لدمشق به في الحديث جمال، بلغ ثبته أربعاً وعشرين مجلداً، وأثبت فيه من كان يسمع معه، وله " تاريخ " بدأ فيه من عام مولده الذي توفي فيه الإمام أبو شامة، فجعله صلة لتاريخ أبي شامة في ثماني مجلدات، وله مجاميع وتعاليق كثيرة، وعمل كثير في الرواية، قل من وصل إليه، وخرج أربعين بلدية، وحج سنة ثمان وثمانين وأخذ عن مشيخة الحرمين. وحج غير مرة، وكان باذلاً لكتبه لا يمنعها من سأله شيئاً منها، سمحاً في كل أموره، مؤثراً متصدقاً، وله إجازات عالية عام مولده من ابن عبد الدائم وإسماعيل بن عزون والنجيب وابن علاق، وحدث في أيام شيخه ابن البخاري.
ولي دار الحديث مقرئاً فيها، وقراءة الظاهرية سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وحضر المدارس، وتفقه بالشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري، وصحبه، وأكثر عنه، وسافر معه، وجود القراءة على رضي الدين بن دبوقا، وتفرد ببعض مروياته. ثم تولى مشيخة دار الحديث النورية، ومشيخة النفيسية، ووقف كتبه وعقاراً جيداً على الصدقات.
وقرأت أنا عليه بالرواحية قصيدة لابن إسرائيل يرويها عن المصنف سماعاً، وهي في مديح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولها:
غنها باسم من إليه سراها
وقرأت أيضاً عليه قصيدتين ميمية، أولها:
هي المنازل فانزل يمنة العلم
ودالية أولها:
قلب يقوم به الغرام ويقعد
في مديح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظم الضياء أبي الحسن علي بن محمد بن يوسف الخزرجي رواهما لي سماعاً عن المصنف بالإسكندرية.
وسمعت عليه وعلى الحافظ جمال الدين المزي " جزء الأربعين العوالي، من المصافحات والموافقات والأبدال " ، تخريج ابن جعوان للقاضي دانيال. وقرأت عليه غير ذلك، وقرأ هو علي قطعة من شعري.
وكان دائم البشر لي جميل الود، وكان من عقله الوافر وفضله السافر أنه يصحب المتعاديين، وكل منهما يعتقد صحة وده، ويبث سره إليه.
وكان العلامة تقي الدين بن تيمية يوده ويصحبه، والشيخ العلامة كمال الدين بن الزملكاني يصحبه ويوده ويثني عليه.
وقال القاضي شهاب الدين بن فضل الله يرثيه:
تراهم بالذي ألقاه قد علموا ... شط المزار، وبان البان والعلم
لهفي عليهم وقد شدوا ركائبهم ... عن الديار ولا يثني بهم ندم
قد كان يدنيهم طيف ألم بنا ... فالآن لا الطيف يدنيهم ولا الحلم
الله أكبر كم أجرى فراقهم ... دمعاً، وعاد بمن لا عاد وهو دم
أموا الحجاز فما سارت مطيتهم ... حتى استقلت دموعاً قدمت لهم
وأحرموا لطواف البيت لا حرموا ... من لذة العيش طول الدهر لا حرموا
زاروا النبي وساروا نحو موقفهم ... حتى إذا فارقوا مطلوبهم جثموا
يا سائرين إلى أرض الحجاز لقد ... خلفتم في حشاي النار تضطرم
هل منشد فيكم أو ناشد طلباً ... أضللته وادلهمت بعده الظلم
قد كان في قاسم من غيره عوض ... فاليوم لا قاسم فينا ولا قسم
من لو أتى مكةً مالت أباطحها ... به سروراً، وجادت أفقها الديم
هذا الذي يشد المختار هجرته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
أقسمت منذ زمان ما رأى هجرته ... لقاسم شبهاً في الأرض لو قسموا
هذا الذي يشد المختار هجرته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
ما كان ينكره ركن الحطيم له ... لو أخر العمر حتى جاء يستسلم
له إليه وفادات تقر بها ... جبال مكة والبطحاء والأكم
محدث الشام صدقاً بل مؤرخه ... جرى بهذا وذا فيما مضى القلم
يا طالب العلم في الفنين مجتهداً ... في ذا وهذا ينادى المفرد العلم
يروي حديث العوالي عن براعته ... وماله طاعن فيها ومتهم
قد كان يدأب في نفع الأنام ولا ... يرده ضجر منه ولا سأم
وحقق النقد حتى بان بهرجه ... وصحح النقل حتى ما به سقم

وعرف الناس كيف الطرق أجمعها ... إلى النبي فما حاروا ولا وهموا
وعرف الناس في التاريخ ما جهلوا ... وبعض ما جهلوا أضعاف ما علموا
يريك تاريخه مهما أردت به ... كأن تاريخه الآفاق والأمم
ما فاته فيه ذو ذكر أخل به ... ولو يروم لعادت عاد أو إرام
إذا نشرت له جزءاً لتقرأه ... تظل تنشر أقواماً وهم رمم
يا أيها الموت مهلاً في تفرقنا ... شتت شمل المعالي وهو منتظم
تجد فينا وتسعى في تطلبنا ... اصبر سنأتيك لا تسعى بنا قدم
قد ظفرت بفرد لا مثيل له ... وإن أردت له مثلاً فأين هم
يا ذاهباً ما لنا إلا تذكره ... آهاً عليك وآه كلها ألم
جادت عليك من الغفران بارقة ... عراء يضك فيها البارد الشيم
تروي ثراك وتسقى من جوانبه ... إلى جوانب حزوى البان والسلم
وحل أرض خليص كل ريح صبا ... بنشرها تبعث الأردان واللمم
وخيمت دون عسفان لها سحب ... تسقى بأنوائها السكان والخيم
لهفي عليك لتحرير بلغت به ... ما ليس تبلغه أو بعض الهمم
ما الحافظ السلفي الطهر إن ذكرت ... أسلافك العز والآثار والكرم
قطعت عمرك في فرض وفي سنن ... هذي الغنيمة والأعمار تغتنم
أبو القاسم بن الأجلالصاحب جلال الدين.
أول ما علمته من حاله أنه كان من جملة كتاب حلب، فلما كان في أيام الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور نائب دمشق في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، حضر على البريد من مصر على يده مرسوم شريف بأن يكون مستوفياً بدمشق، فما مكنه ورده رداً قبيحاً. ولما مات أيدغمش - رحمه الله - عاد بعد ذلك وباشر الاستيفاء بدمشق مدة.
ولم يزل على حاله إلى أن توجه إلى مصر بحساب دمشق، وذلك في سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، أو أوائل سنة تسع وأربعين.
وراح على أنه يصلح حال معاملة دمشق، فعاد منها وقد تولى نظر النظار بدمشق عوضاً عن الصاحب شمس الدين بن التاج إسحاق، فما هان ذلك على الأمير سيف الدين أرغون شاه.
واستمر به وهو منكر الوجه عليه، فضاق عطنه لذلك، ولم يقم إلا قليلاً، وطلب الإعفاء من المباشرة. فكتب أرغون شاه بذلك، وطلب عود الصاحب شمس الدين بن التاج إسحاق، فأعيد.
واستمر الصاحب جلال الدين على نظر الحرمين القدس الشريف وحرم الخليل عليه السلام، عوضاً عن الصاحب شمس الدين، وأقام على ذلك مدة ثم توجه إلى مصر وأقام مدة. وحضر صحبة ركاب الملك الصالح صالح إلى دمشق في واقعة بيبغاروس، وعاد صحبة الركاب إلى مصر، وحنا عليه الأمير عز الدين طقطاي الدوادار، وبقي يذكر به الأمير سيف الدين شيخو، وتوجه صحبة شيخو إلى الصعيد، ورأى تلك الأحوال وما بذله شيخو من السيف في أهل الصعيد، وعاد، ثم إنه ولي استيفاء الصحبة بالقاهرة، وحضر هو والأمير سيف الدين جرجي إلى دمشق، بسبب ديوان المهمات، وتذكرة على يده في حال معاملة دمشق.
ثم إنه عاد إلى مصر وأقام إلى أن انفصل من الاستيفاء، وأقام بمصر بطالاً إلى أن استخدم قبل موته بأشهر قلائل في نظر الخزانة البرانية فيما أظن إلى أن توفي رحمه الله تعالى في طاعون مصر سنة أربه وستين وسبع مئة.
أبو القاسم بن عثمانالأمير صفي الدين البصروي الحنفي، أخو الأمير نجم الدين محمد البصروي، ابن أخي قاضي القضاة صدر الدين الحنفي، وسيأتي ذكر أخيه في مكانه من المحمدين إن شاء الله تعالى.
كان فقيهاً فاضلاً في مذهبه، ناهلاً ما صفا من الفضائل في مشربه، ودرس ببصرى زماناً، وكان على ما يعانيه من ذلك معاناً.
وله إقطاع في الحلقة يأكله، ويتخذ من العلم ما يشاكله، يلبس القباء والعمة المدوره، ويبرز بذلك في صورة مركبة بين الأمراء والعلماء مصوره، ثم إنه أعطي الطبلخاناه، وانسلخ من ذلك الزي الذي عاناه.
ولم يزل على حاله إلى أن كدر بالموت صفاؤه، وحان بالوفاء وفاؤه.

وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر سنة تسع وخمسين وسبع مئة أو أوائل سنة ستين وسبع مئة، وكان من أبناء الستين تقريباً.
كان لأخيه الأمير نجم الدين على السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون خدم يرعاها له لما كان بالكرك، ولما مات نجم الدين رعى حق أخيه، وأعطاه إمرة عشرة - فيما أظن - مضافاً لما بيده من تدريس المدرسة ببصرى، فيلبس قباء وعمامة مدورة ويتوجه كل قليل إلى باب السلطان بالخيول المثمنة الجيدة العربية.
ولما كان بعد موت الأمير تنكز - رحمه الله تعالى - ألزمه السلطان بلبس الكلوتة، ثم أعطي طبلخاناه، وكانت جيدة.
ولما ورد الأمير سيف الدين أرغون شاه إلى دمشق نائباً أخذه الأفرم منه وجهزه إلى حلب على إمرة غيرها، فلما قتل أرغون شاه عاد الأمير صفي الدين إلى دمشق على حاله.
وتولى نابلس فعمل الولاية على أتم ما يكون من الأمانة والمهابة والحرمة، وأقام بها قليلاً وسأل الإقامة منها، فأجيب إلى ذلك.
وتولى نظر الحرمين القدس والخليل عليه السلام، وعمله على أتم ما يكون وذلك في آخر عمره، وفيه توفي - رحمه الله تعالى.
وكان له نظم متوسط - رحمه الله تعالى - ، وقد تقدم ذكر أخته فخرية أم يوسف في حرف الفاء مكانه.
القاسم بن مظفر بن محمودابن تاج الأمناء أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن عساكر.
الشيخ الجليل الطبيب المعمر مسند الشام بهاء الدين أبو محمد الدمشقي.
له حضور في سنة مولده على مشهور النيرباني، وحضر في الثانية على كريمة القرشية، وحضر في الثالثة على سيف الدولة بن غسان، والفخر الإربلي، ومكرم بن أبي الصقر، وعم جده أبي نصر عبد الرحيم بن محمد، وحضر سنة اثنتين وثلاثين وست مئة على ابن المقير، وسمع في سنة أربع وثلاثين من ابن اللتي والقاضي شمس الدين بن سني والعز النسابة وطائفة، وأجاز له خاصاً وعاماً، مثل أبي الوفاء بن مندة، وابن روزبه والقطيعي وخلق.
وكان يعالج المرضى مروءة، وله من ملكه ومغله ووقفه شيء وافر. وخدم في ديوان الخزانة مدة، ثم ترك ذلك وكبر وارتعش خطه.
خرج له المفيد ناصر الدين بن الصيرفي " معجماً " حافلاً في سبع مجلدات، وخرج له شيخنا البرزالي، والشيخ صلاح الدين العلائي، وعمر دهراً، وروى الكثير، وكان كثير المحاسن صبوراً على الطلبة.
قال شيخنا الذهبي: على تخليط في نحلته والله أعلم بسره، وله صدقة ووقف، وقد جعل داره دار حديث.
توفي - رحمه الله تعالى - خامس عشري شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
اللقبقاضي القضاة حسام الدين الحنفي الرومي: الحسن بن أحمد.
تقي الدين الحنبلي: سليمان بن حمزة.
وقاضي القضاة جمال الدين الزرعي: سليمان بن عمر.
قاضي بغداد الحنبلي: سليمان بن عبد الرحمن.
وقاضي القضاة شرف الدين الحافظ: عبد الله بن حسن.
زين الدين قاضي قضاة حلب الشافعي المعروف بابن قاضي الخليل: عبد الله بن محمد.
وقاضي القضاة الحنبلي: شرف الدين عبد الغني بن يحيى.
وقاضي القضاة بصفد: شرف الدين بن عثمان. ووالده: جلال الدين عثمان بن أبي بكر.
وقاضي القضاة بحلب نجم الدين خطيب جبرين: فخر الدين عثمان بن علي.
وقاضي القضاة عماد الدين الطرطوسي الحنفي: علي بن أحمد.
وقاضي القضاة الشيخ علاء الدين القونوي: علي بن إسماعيل.
وقاضي القضاة نور الدين السخاوي المالكلي: علي بن عبد النصير.
وقاضي القضاة علاء الدين بن التركماني الحنفي: علي بن عثمان.
وقاضي القضاة صدر الدين الحنفي: علي بن القاسم.
وقاضي القضاة زين الدين المالكي بن مخلوف: علي بن مخلوف.
وقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا الحنبلي: علي بن منجا.
وقاضي القضاة عز الدين الحنبلي: عمر بن عبد الله.
وقاضي القضاة إمام الدين القزويني الشافعي: عمر بن عبد الرحمن.
وقاضي القضاة نجم الدين بن العديم: عمر بن محمد.
وقاضي القضاة زين الدين البلفيائي: عمر بن محمد.
وقاضي القضاة سعد الدين الحارثي الحنبلي: مسعود بن أحمد.
وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة: محمد بن إبراهيم.
وقاضي القضاة ناصر الدين بن العديم: محمد بن عمر.
وقاضي القضاة ابن المجد: محمد بن عيسى.
وقاضي قضاة حلب ابن بهرام: محمد بن محمد.

وقاضي القضاة علم الدين الإخنائي: محمد بن أبي بكر وأخوه وقاضي القضاة المالكي: محمد بن أبي بكر.
وقاضي القضاة شرف الدين المالكي: محمد بن أبي بكر.
وقاضي القضاة شمس الدين بن النقيب: محمد بن أبي بكر.
وقاضي القضاة جمال الدين ابن واصل: محمد بن سالم.
وقاضي القضاة جمال الدين الزواوي: محمد بن سليمان.
وقاضي القضاة عز الدين الحنبلي: محمد بن سليمان.
وقاضي القضاة جلال الدين: محمد بن عبد الرحمن.
وقاضي قضاة حلب بدر الدين أبو اليسر: محمد بن محمد بن الصايغ. وأخوه قاضي القضاة بحلب أيضاً نور الدين محمد بن محمد بن محمد.
وقاضي القضاة جمال الدين: يوسف بن إبراهيم بن جملة.
قاضي نابلس فخر الدين: عثمان بن أحمد.
قاضي فوه شمس الدين: علي بن محمد.
ابن قاضي شهبة كمال الدين: عبد الوهاب.
قاضي شبهة نجم الدين: عمر بن عبد الوهاب.
قاضي غزة: عمر بن محمد.
القاضي أخوين: محمد بن محمد.
قاضي ملطية: محمد بن محمد بن علي.
قاضي تونس: إبراهيم بن الحسن.
ابن قاضي الحصن: إبراهيم بن علي.
قاضي الرحبة نجم الدين: إسحاق بن إسماعيل.
القاسم بن يوسف بن محمد بن عليالإمام المحدث الرحال علم الدين التجيبي السبتي.
قال شيخنا الذهبي: حج وقدم علينا، وسمع من ابن القواس، والشرف بن عساكر وطائفة.
قال: وانتقيت له مئة حديث من مئة شيخ. ثم إنه سمع بمصر وبالثغر من الغرافي، وبالمغرب، ونسخ وقرأ وحصل أصولاً، وله فضيلة جيدة، تأخر وحدث وروى عنه الوادي آشي.
قال: وسمعته يقول: أحاديث بقية ليست نقيه، فكن منها على تقيه.
ولد في حدود السبعين وست مئة.
قال: وأظنه بقي إلى نحو الثلاثين وسبع مئة.
اللقب والنسبابن القاهر: علي بن عبد الملك.
القبابي: نجم الدين عبد الرحمن بن الحسن.
القباري: الشيخ أحمد.
قبجقالأمير الكبير سيف الدين نائب دمشق وحماة وحلب.
وكان من فرسان الإسلام، وأبطاله الشجعان الأعلام، لا يرام ولا يرامى، ولا يسام في تدبير ولا يسامى، برز في جودة الرمي بالنشاب، واللعب بالرمح على ظهور المطمهة العراب.
وأما عقله ودهاؤه وحزمه وانتخاؤه، فانفرد بافتراع ذروته، وإحكام عروته، يظن بالشيء قبل وقوعه ما آل إليه، ويتخيل المقادير فتنثال عليه، وكان فصيحاً في اللغة المغلية، مجيداً في كتابتها كما تجيده كتاب العربية.
وكان لا يكاد الصيد يخرج من بين يديه سليما، ولا يعبأ هو به أكان ظبياً أو ظليما، لكنه اضطر في الدخول إلى بلاد التتار، والتجاهر بالخروج منها دون الاستتار. ولكنه شعب ما صدع، ودمل ما جذع. فكان في عداد التتار وهو مع الإسلام، وفي ظاهر الأمر بينهم، وهو في الباطن تحت الأعلام. وداراهم إلى أن عادوا، وبدههم بدهاء إلى أن بادوا.
ولم يزل بعد ذلك يتقلب في النيابات، ويشفي غلة سيوفه من التتار في المصافات إلى أن جاءه المصرع القاسر، واختطفه عقبان المنية الكواسر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بحلب وهو نائبها في أواخر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، ونقل إلى حماة ودفن في تربتة المشهورة بها.
لما كان في بيت المنصور قلاوون كان مؤاخياً للأمير حسام الدين لاجين لا يكاد أحدهما يصبر عن الآخر إلى أن انعكس ذلك، على ما سيأتي ذكره.
وما زال الأمير سيف الدين قبجق مقدماً في البيت المنصوري، رأساً من رؤوس مماليكه، وتأمر وأستاذه ما يثق به ولا يركن إليه، ولا يزال ينتظر منه بادرة فلا يخرجه معه إلى حروب الشام، ولا تجاريده خوفاً منه لئلا يهرب.

قال لي القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: حكى بلبان الطشلاقي مملوك الصالح علي، قال: ركب المنصور يوماً إلى قبة النصر في جماعة من خوشدا شيته الأمراء الصالحية، ونزلوا هناك في صواوين خفاف، فأكلوا وانشرحوا، وقام كل أمير إلى صيوانه، فأتى المنصور بعدة خراف رمسان بدارية، فقلبها ثم إنه تخير له منها خروفاً من أصحها أعضاءً، وفرق البقية، ثم بعث إلى كل أمير بخروف منها. وقال: ليقم كل واحد يذبح خروفه بيده ويشويه بيده مثلما نعمل في بلادنا، وأنا في الأول. ثم قام فذبح خروفه الذي اختاره وسلخه بيده، وأمر بنار فأوقدت، ثم شواه بيده، ولما انتهى طلب الأمراء ليأكلوا معه، ثم أخذ منه الكتف اليمين، فأكل لحمه، ولما فرغ لحمه جرده إلى أن أنقاه، ثم إنه تركه قليلاً إلى أن جف، ثم قام وجعل يلوحه على النار برفق، ثم نظر إليه وأطال فيه التأمل، ثم تفل عليه وسبه، فألقاه من يده، وكان يجيد معرفة النظر في الكتف فلم يجسر أحد من الأمراء على سؤاله عما رأى فيه، فدسوا عليه أميراً سماه الطشلاقي، قال القاضي شهاب الدين: أظنه بيسري، فمازحه، وقال له: يا خوند أي شيء رأيت في الكتف. فقال: والله حاشاك، قال عن هذا الصبي قبجق، وهذا الصبي عبد الله عن مملوك آخر كان عنده من المكتسبين أيضاً لا تخرجهم معك إلى الشام، فهؤلاء متى صاروا في الشام هربوا وعملوا فتنة. فأما عبد الله فتقدم موته، وأما قبجق، فلما صار نائب الشام هرب وأتى بالتتار.
وقال: قال والدي: إن الشجعاني، قال مرة، وقد جاء كتاب من قبجق: هذا قنينة دهن ورد مخبوء لكل يوم مشؤون.
ولم يزل مقدماً في بيت الملك المنصور وهو مؤخر إلى أن مات المنصور، وهو مؤخر.
ولما ملك ولده الأشرف أجلة ونوه بقدره، وكان من أقرب المقربين إليه، وربما استشاره في بعض الأمر.
ولما قتل الأشرف، وملك كتبغا لم يبق لحاشيته دأب إلا لاجين وقبجق، وتقصد قبجق قص جناح لاجين حتى اتفقا وطردا كتبغا، وملك لاجين، وخير قبجق بين نيابة الشام ونباية مصر، فاختار الشام، فجاء إليه وهو يظن أنه مالكها، ووصل إلى دمشق يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة.
وظهر من تعظيم لاجين له أن كتب إليه " بالجناب العالي " ، وكان يكتب إليه: " المملوك " ، فاستعفى، فقيل له: أنت تعرف مكانتك ونحن نعرف مكانتك.
ثم إن لا جين ولى جاغان، المقدم ذكره، أحد مماليكه شد الدواوين بالشام، وكان جاغان مدلاً على أستاذه، فعمل الوظيفة على قاعدة ضاق منها قبجق وانحصر.
وكانت مراسيم قبجق ترد عليه، فمنها ما يرده، ومنها ما يوقفه على المشاهدة، فنشأت بينهما منافسة، وبقي جاغان يكتب في حقه بما يغير بينه وبين السلطان من المودة التي أنفقوا فيها الأعمار، حتى اشتد تخيل لاجين منه، وبعث إلى آقوش الأفرم، وهو ابن خالة لاجين، يقول له: تجعل بالك من قبجق، وتعرفنا بأخباره، فطمع في النيابة، وكتب بما يزكي أخبار جاغان وأقواله.
واشتد نفار قبجق وهم بالأفرام، فجاء الأفرم البريد بطلبه إلى مصر، ورسم لجاغان بسلوك الأدب معقبجق ولا يرد له أمراً، ولا ينقل قدماً عن قدم إلا بأمره، فأظهر قبجق الرضا، وأسر ما أسر.
ثم إن الأخبار تواترت بقصد التتار أطراف الشام، فجردت العساكر المصرية والشامية، ورسم لقبجق بالخروج، وأن يكون مقدماً عليهم، فخرج إلى حمص وعرض عرضاً ما رأى قبله مثله " وخرج على قومه في زينته " وعليه قباء مزركش بالذهب مرصع بالجواهر، وكذلك سربه يبهر العيون، وعليه كلوته كذلك، وفي وسطه كاش ملبس بالذهب مرصع بالجواهر، وكذلك سرجه وكنفوشه ولجامه.
ونزل بحمص وخيم عليها، فقال منكوتمر للاجين: ما قصرت سلطنت قبجق وبعثت معه الجيوش والأمراء، وقعدت أنت وحدك برقبتك، وندمه.
وكان هذا دأب منكوتمر يوحش بين لاجين وبين الأمراء، ويتقصد إبادتهم، فشرع لاجين في العمل على إمساك من قدر عليهم منهم، واغتيال من لا يقدر على إمساكه، وندب لهذا صلغاي بن حمدان، وكان خؤوناً نماماً غربال أسرار.
ولما جاء قبجق وحدثه وكان والدي حاضراً، قال: فقال له: السلطان يسلم عليك، ويقول لك: قد حصل القصد بإلقاء السمعة والمهابة، وما بقي للتتار حركة، وأنا قد بعثني أرد العساكر المصرية من حلب والأمير يرجع إلى دمشق.

فقال له قبجق: لما قال لك السلطان هذا، كان منكوتمر حاضراً عنده؟ قال: وإلا فأين يغيب ذاك. قال والدي: تفهمت بها خيانة ابن حمدان.
ثم إن ابن حمدان قطع الكلام، وقال: يا خوند أنا جيعان وقد اشتهيت كركياً يشوى لي. فقال: هاهنا كركي مشوي هاتوه، فأتوا به وأنا قاعد، فلما أتى به، قال ابن حمدان: لا يقطع لي أحد، أنا أقطع لنفسي، ثم إنه أخرج سيخاً كان معه، وجعل يقطع برأسه، ويأكل، ثم قطع بسفل ذلك السيخ وقدمه لقبجق، وقال له: أنا قد قطعت لك وأنت إن اشتهيت تأكل، وإن اشتهيت لا تأكل، ففهم قبجق أنه قد سم له ما قطعه له، وغضب وأربد وجهه واسود وظهر عليه ما لا يخفى من الأذى، ثم قال: أما ما آكل شيئاً.
قال والدي: فقمت من عنده، وشرع قبجق فيما هم فيه، وهم بما هم به.
ثم سافر ابن حمدان إلى جهة حلب وكان من الأمراء الذين بها ما كان، وركب بكتمر السرح دار وألبكي نائب صفد، عائدين إلى حمص حتى أتيا قبجق وشكيا إليه ما كان أريد بهما بحلب، فشكا هو إليهما ما أريد به بحمص، وأجمعوا على الرأي.
وأراد قبجق تحليف الأمراء له، وطلب من شهاب الدين بن غانم ليتولى له ذلك، فعمل نسخة بالتحليف، فلما حضر ليحلف. قال له أمراء الشام: أين كاتب السر، فقالوا: هو بعث هذا.
فقال الطواشي، وكان رأس الميمنة وكبير الأمراء والملك الأوحد بن الزاهر ما نحلف إلا إن حلفنا كاتب السر، فإنه أخبر بالعادة.
قال والدي: فطلبت، وأعطيت نسخة التحليف، فوجدتها مجردة لقبجق.
فقلت: ما جرت بهذا عادة، ثم أخذت القلم وأضفت فيها اسم السلطان ولزوم طاعته، وجماعته، فحلفوا على هذا.
وتنكر لي قبجق، قال: فلما رأى قبجق أن الأمر ما يتم له، لاختلاف الأمراء عليه، أعمل الرأي في الهرب، قال: حكى لي الغرسي الحاجب، قال: جئت إلى قبجق في الليلة التي أراد الركوب فيها للهرب، وأخذت في لومه وعذله، وقلت له: يا خوند بعد الحج إلى بيت الله الحرام وقطع هذا العمر في الإسلام، وأمير علي تروح إلى بلاد العدو؟ فقال: يا حاج، أنا كنت أعتقد أن لك عقلاً، الروح ما يعدلها شيء، وأما الإسلام فأنا مسلم أينما كنت، ولو كنت في قبرس. وأما الحج فكل سنة يحج من الشرق قدر من يحج من عندكم مرات، وأما أمير علي، فأي امرأة بصقت فيها جاء منها أمير علي وأمير إبراهيم وأمير خليل.
ثم قال: هاتوا ما نأكل، فجاؤوا بزبدية خشب فيها لحم يخني، فأخذ منها قطعة وحطها على قباء كنجي زيتي عليه، وشرع يقطع منها ويأكل، ويغني بالتتري، يريني بذلك أنه قد دخل في زي التتار، وعيشهم.
ثم هرب وأمسك نائب حمص معه. فقال: يا خوند أيش هو ذنبي. فقال: مالك ذنب، وإنما معي حتى تفرق هؤلاء الحيال، يعني جند حمص ثم إنه أطلقه بعد ذلك.
وبعد هروبه بيومين ثلاثة - قلت أنا: الصحيح بعد أسبوع وأكثر - جاءت الأخبار بقتل السلطان لاجين وذبح مملوكه منكوتمر، فجهز إليه البريدي الذي وصل بهذا الخبر، وهو علاء الدين الدبيسي، فلحقه وأخبره، فما صدقه، وهم بقتله، ثم تركه ورده، واستمر قبجق حتى وصل إلى أردو القان غازان، فقبل وفادته، ولم يجد لديه طائل إكرام.
قال: وحكى لي شرف الدين راشد كاتب بكتمر السلاح دار، قال: إن غازان رتب له راتباً لا يليق بمثله، ثم إن غازان حشد للصيد وجمع حلقةً ما رئي مثلها، وضمت ما لا يحصى من الوحش.
وقال لأمرائه: حتى نبصر هؤلاء إن كانوا أقجية أو لا، فظن أنه يفضحهم.
ثم قالوا لقبجق: يا قبجق نحن قد شبعنا، وإنما عملناه ضيافة لكم، فنزل قبجق، وضرب له جوكا، ثم قال: بسعادة القان نتصيد، فعبرت بهم حمر وحشية، فأمر غازان بالرمي عليها.
فقال قبجق: أيش يشتهي القان يأكل لحمه من هذه الحمير. فقال له: هذا وهذا، وأشار إلى اثنين منهما أو ثلاثة أو أكثر، فساق قبجق وصهر له عليها، واتفقا على الرمي على مكان منهما.

ثم حاذياها ورميا عليها، فلم يخطئا المكان حتى تلاقى نشابهما وتقاصف. وهكذا في كل رماياهم، ثم إنهما حملاها حتى رمياها بين يدي غازان. فلما رأي رميهما المتوارد على مكان واحد في كل رمية زاد توقيرهم في صدره، وقال إلي قبجق بك، ثم ألبسه قبعاً كان على رأسه، وألبس صهره بكلاً كان عليه، ثم أصغى إلى كلامهم، فحدثوه في أمر الشام، واتفق أن الملك المظفر صاحب ماردين كان قد تحدث في هذه الإغارة التي شملت بلاده، فخرج بهم غازان حتى أتى بلاد حمص، وكان الملك قد آل إلى الملك الناصر، وقد خرج إلى الملتقى.
قال: فحكى لي والدي قال: قال لي قبجق بعد عوده لما تلاقينا: نحن وأنتم تتعتع جيشنا، فهم غازان بالرجوع، وطلبني ليضرب عنقي قبل أن نرجع لكون خروجه كان برأيي، ففطنت لذلك فلما صرت بين يديه قال: أيش هذا؟ فضربت له جوكا، ثم قلت له: أنا أخبر بأصحابنا، وهم لهم فرد حملة، فالقان يصبر، ويبصر كيف ما يبقى قدامه منهم أحد، وكان الأمر كما قلت، وخلصت من يده، فلما انكسر تم أراد أن يسوق عليكم، فعلمت أنه متى فعل ذلك لم يبق منكم أحد، فقلت له: القان يصبر فإن هؤلاء أصحابنا أخباث، وربما يكون لهم كمين، وقد انهزموا مكيدة حتى نسوق خلفهم فيردوا علينا، ويطلع الكمين وراءنا، فوقف حتى أبعدتم عنا، فلولا أنا ما قتل منكم أحد، ولولا أنا ما بقي منكم أحد.
ولما جاء غازان ونزل بتل راهط، جعل الحكم لقبجق بدمشق، وكان فيه مغلوباً مع التتار لا يسمعون منه، وعلى هذا، فكان يداري ويدافع عن المسلمين بجهده ويباطن أرجواش في عدم تسليم القلعة.
ولما عزم غازان على العود، جعل إليه نيابة الشام، ولبكتمر السلاح دار نيابة حلب، ولألبكي نيابة السواحل كلها.
قال: ووقفت على نسخ تقاليد كتبت لهم على مصطلح ملوكنا، كتبت بخط جمال الدين بن المكرم، وكتب لقبجق فيها " الجناب العالي " ، وجعل زكريا بن الجلال وزيراً بالشام وحلب والسواحل عامة يتحدث في الأموال، وترك بولاي من عسكر التتار، ليكون ردءاً لهؤلاء النواب إلى أن يستخدموا لهم جنداً.
ثم لما بنت ببولاي الدار، شرع يراسل المصريين، وجهز الصاحب عز الدين بن القلانسي والشريف زين الدين رسلاً منه إليهم، واستعان بكتب كتبها محمد بن عيسى، إلى الأمراء بسببه.
فأما سلار فلان له جانبه. وأما الجاشكير فخشن عليها، ثم غلب عليه رأي سلار والأمراء الكبار. وقالوا: لو لم يكن إلا لأجل محمد بن عيسى، فإنه بالغ في أمره، وقام معه هذا القيام الذي ما بقي معه يمكن أن يتخلى عنه، وإن لم يؤووه أنتم آووه هم.
وأخذوا وجهاً عند غازان، وقالوا: عملنا هذا لأجلك، فأجمعوا على صلحه، ثم جعلوا مقامه بالشوبك لخاصة مماليكه على رزق جيد عين لهم.
ودام على هذا حتى كانت الواقعة الثانية نوبةً شقحف، فحضر وشهد يومها بمماليكه، وأبلى بلاءً حسناً لم يبل أحد بلاءه.
وسبق إلى الماء ليملكه، فوجد عليها فوجاً من التتار، فما زال يقاتلهم حتى زحزحهم، وملكه. فبات المسلمون يرتوون بالماء، وبات التتار يصلون بنار العطش، وكان ذلك من أكبر أسباب النصرة فرعي له هذا العمل.
ولما خلت حماه بعث إليها قبجق نائباً، وكان مثل مالكها.
حكى الصاحب أمين الدين، قال: طلبت يوماً إلى دار النيابة وسلار جالس وبيبرس إلى جانبه، فدخلت مسرعاً لكثرة الاستعجال، وليس معي منديل للحساب.
فقال لي سلار: أين كارتك، يعني مزرة الحساب، فقلت: هي مع العبد، فأمر بها، فأحضرت.
فقال: اكشف أي شيء مضمون التذكرة التي كتبت على حماة، قال: فكشفتها، وكانت قد كتبت تذكرة على حماة، وكتب فيها إلى قبجق فالجناب العالي يتقدم بكذا، والجناب العالي يفعل كذا.
فقال لي: يا سبحان الله نسيت ما عمله قبجق أمس ها تريد تغيظه، حتى يعمل النوبة أنحس من النوبة الأولى، هو طلع رقاصاً عندكم، حتى تقولوا له: اعمل كذا، افعل كذا ما يقنعكم، أنه قنع بحماة ويسكت عنكم، ثم أخرج كتاباً جاء منه، وهو يقول فيه بين أسطره: لا إله إلا الله، يا خوند يا خوشداش صرت مشد جهة عند الكتاب والدواوين أو والي بلد، إن كان هذا بمرسومك، فحاشاك منه، والموت أهون من هذا، وإن كان بمرسوم الدواوين، فتريد تعرف أن الدنيا سائبة وأنت تعرف أيش يترتب على هذا.

قال: فقمت والله ما أبصر الطريق، فلما كنت في الدهليز لحقني نقيب فردني، فلما رآني، قال: لا تعودوا تذكرون حماة، واحسبوا أنها ما هي في الدنيا، قال: فوالله، ما عدنا مددنا فيها قلم.
ثم لم يزل فيها قبجق حتى جاء السلطان الملك الناصر من الكرك إلى دمشق آخر مرة تسلطن فيها، وجاءه قبجق من حماة وأسندمر من طرابلس معاً، وكانا قد اتعدا لمثل ذلك.
وخرج السلطان للقائهما بظاهر الميدان الصغير بدمشق، وترجل لهما وعانقهما. ولما ركب أمسك أسندمر له الركاب وعضده قبجق، ثم توجها معه إلى مصر، ولما استقر الملك بمصر بعث قبجق، وفي ظنه أنه نائب الشام. وأتى دمشق ونزل بالقصر الأبلق وهو ينتظر التقليد، فجاءه التقليد بحلب، فتوجه إلى حلب، وأقام بها نائباً إلى أن مات في التاريخ المذكور، وكان ما يحب إلا دمشق، وما يتمنى سواها، ففرقت الأيام بينها وبينه، وعكست مراده، وهذه عادتها القادرة، وشيمتها الغادرة.
قبلاي الأمير سيف الدين الناصريولي نيابة الكرك في الأيام الصالحية إسماعيل لما أخذت من أخيه الناصر أحمد، فأقام بها مدة، ثم طلب إلى مصر، وأقام إلى أن ولي الحجبة الصغرى مع الأمير سيف الدين أمير حاجب أيتمش الناصري، ثم إنه ولي الحجبة الكبرى، ولم يزل على ذلك إلى أن خلع السلطان الملك الناصر حسن، وتولى الملك الملك الصالح صالح، فولاه نيابة السلطنة بالديار المصرية عوضاً عن الأمير سيف الدين بيبغاتتر، وذلك في شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة ست وخمسين وسبع مئة.
الألقاب والأنسابالقبتوري: خلف بن عبد العزيز.
قتال السبع: اسمه آقوش.
قجا الأمير سيف الدينمشد الخاص بزرع وإربد وطفس، ومشد مراكز البريد بالقبلية والشمالية، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
كان خبيراً نحريراً، ذكياً بصيرا، يعرف ما يباشره، ويعرف الرجل قبلها يعاشره، إلا أنه كان متشدداً في أموره، متجدداً في يقظته يخاف من نسبته إلى قصوره.
وكان لا يمكن رفيقه من الحديث، ولا يدعه يستريب ولا يستريث، وكان المباشرون معه في بوتقة حصر، وأبواعهم المديدة تشكو من القصر. لا ينخدع ولا ينصدع، ولا يرتد عن الشدة ولا يرتدع. فكان الكتاب وغيرهم يبيتون معه بليلة السليم، ويصبح كل منهم وهو غير سليم:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعةً ... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
ولم يزل في جبروته يتشدد، وفي قسوته يتمرغ ويتمرد، إلى أن قصمت بالمنون عرى غروره وبات وليه في حزنه، وعدوه في سروره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة الأحد رابع شوال سنة ست وخمسين وسبع مئة، وقد تعدى الخمسين.
ومن الغريب أنه في بلاد الساحل بغزة قد توجه للقسم وأرجف بأنه مات. وكان ذلك في شعبان، وأظنه بلغه الخبر، فنجز أشغاله، وحضر إلى دمشق، ورأى الناس نفسه وما به قلبه. ثم إنه توجه لقبض مغل زرع، فأرجف بموته، فحضر في آخريات رمضان وهو متوعك، وركب وجاء لدار السعادة في ليالي العيد، وهو يتجلد، ويري أنه ممن يخلد:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
فأقام على حاله بعد ذلك، وتوفي سامحه الله...
وأول أمره كان من جملة البريدية، وكان فيه حذق ومعرفة وخبرة، فجهز الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - بمشافهة فيها قوة وغلظة، إلى الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب، فبلغه المشافهة بعبارة فجة مؤلمة، فبقيت في قلب ألطنبغا.
ولما جاء نائب الشام أراد أذاه، فقطع خبزه وتهدده، وكان قجا رجلاً فسعى في إصلاح أمره، وسكنت القضية.
ولم يزل على حاله في جملة البريدية، إلى أن جاءت واقعة بيبغاروس، فاحتاج الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى المطالعة بأمره، فكتب مطالعة، واستنجد بالمصريين في سرعة إنجاده، وندب سيف الدين قجا في التوجه بالمطالعة، فتوجه بها، وكان ذلك مهماً كبيراً، فجاء قجا وقد أعطي إمرة عشرة، ثم إنه أخذ تقدمة البريدية وأخذ في الترامي إلى الأمير سيف الدين صرغتمش، والانتماء إليه.

فلما كان السلطان الملك الصالح صالح بدمشق أعطي طبلخاناه، وتحدث في أمر شد زرع وطفس وإربد، ثم إنه توجه في أواخر سنة خمس وخمسين وسبع مئة إلى مصر وأثبت محاضر بوقفيه زرع وطفس وإربد، وأنه هو مشدها، وأبطل من كان فيها مباشراً، واستخدم غيرهم.
وزادت عظمته ووجاهته، وتسلطه إلى أن مات - رحمه الله تعالى - في وسط عزه.
وكتبت له توقيعاً بتقدمة البريدية عوضاً عن ناصر الدين محمد بن القرايلي، لما توفي إلى رحمة الله تعالى، في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، ارتجالاً من رأس القلم وهو: " أما بعد حمد الله على نعمه التي جردت من أولياء هذه الدولة القاهرة سيفا، ومنعت بجده جنفاً من الأيام التي زادت خطباً وحيفا، وجمعت بمضائه من المصالح ما كانت الأطماع لا تؤمل أن تراه طيفا، وصلاته على سيدنا محمد، وآله وصحبه الذين نصروا حزبه، وتظاهروا على قمع عداه، فحازوا من المعالي أرفع رتبه، وتضافروا على اتباع هداه، فلم يكن بين الكواكب وبينهم نسبه، صلاةً يملأ البر بريدها، ويكاثر موج البحر عديدها، ما تقعقع من البريد لجام، وزعزع من المهمات ريح تثير السحب السجام، وسلامه إلى يوم الدين.
فإن أولى من غدق به أمر البريد المنصور، وأضيفت إليه أمر التقدمة على فرسانه الذين يسابقون البروق اللامعة في الديجور، من قدمت خدمته في الدولة القاهرة، وساق في مهماته الشريفة، فشخصت لسيره، وسراه عيون النجوم الزاهره، وقطع المسافة في وقت تقصر عنه فيها الطيور الطائرة، كم تألق برق دجنة فسبقه في شق جيب الظلام، وأتى في مهم فبلغ الغاية قبل وصول خبره على أجنحة الحمام.
يكاد من السرعة يأتي، وما جف ختم كتابه، ولا ارتسم ظله على الأرض، ولا اعتقل الخيال بركابه، وتحمل من أسرار الملوك مشافهات لم يبدها من القلم لسان، وأدى فيها الأمانة التي لم تحملها الجبال وحملها الإنسان.
وكان المجلس السامي الأميري السيفي قجا الصالحي، هو الذي تضمنته هذه الإشارة، ومن ربا ذكره نفح عبير هذه العباره. وعلى شخصه دلت هذه الأدلة، وعليه وقع اختيار هذه الإماره. فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الصالحي أن يرتب مقدماً على جماعة البريدية الشاميين عوضاً عمن كان بها على عادة ابن الفراء، لما كان أمير عشرة، لأنه نصل تجرع العدو منه الغصة لما تجرد، وأصل تفرع بالمحاسن وبالمزايا تفرد، قد عرف الأيام وخبرها، ودرب الأمور ودبرها، وقطع مفاوز المباشرات وعبرها.
فليباشر ذلك مباشرة من مارس هذه الوظيفة طول عمره ولم يركن إلى زيد الزمان ولا عمره، وليرتب الجماعة نوباً يتدالون الخدمة، ويختر لكل شغل بريدياً يكون في ذلك المهم عالي الهمة، ويعامل باللطف كبيرهم، وصغيرهم، ويبذل البشر إذا رأى جليلهم ولا يعرف الناس حقيرهم. حتى يعترف الجميع بفضله الجليل الجلي، ويقولوا إن القرايلي ما يلي، وتعود أيامهم بيضاً بعدما سجا الدجا، ويقول أحدهم: ذهب ناصرنا، فجاء قجا، يعمر أرجاء الرجا، والوصايا كثيرة وتقوى الله تعالى عمدة إن ازدجر، وعمل للآخرة وادكر، وخاف من سفر ينتهي به إما إلى جنة عدن، وإما إلى سقر.
فلا يصحب غيرها خليلا، ولا يلمح من سواها وجهاً جميلا، والله يعلي درجته، ويحرس مهجته، والخط الكريم أعلاه، حجه في العمل بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
قجليسالأمير سيف الدين الناصري السلاح دار.
كان خيراً، لطيفا، حسن العشرة ظريفا، يحب العلماء ويؤثرهم، ويتعصب لهم وينصرهم، ويخلص بجاهه لهم المناصب، ويدفع عنهم كل عذاب واصب.
إلا أن أستاذه الملك الناصر يقذف به في كل هوه، ويعتمد عليه في كل واقعة مرجوه، فما أمسك في الشام أمير إلا على يده، ولا كسف قمر منبر إلا بتتبع رصده، فكان إذا سمع الناس بخروجه من مصر تزلزلت أقدامهم، تحققوا أنه متى وصل تحتم إعدامهم.
وكان من كبار الخواص عند أستاذه المقربين، وأمراء الألوف الذي أصبحوا على وفق مراده مجربين.
ولم يزل على حاله إلى أن سقي بكأس سقي به سواه وضمه قبره وحواه.
وتوفي - رحمه الله تعالى في نصف صفر ليلة الثلاثاء، سنة إحدة وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
وكان عارفاً بعلم المواقيت يضع الأسطرلابات والأرباع والرخامات المليحة، ويتقنها، ويعرف عدة صنائع، وعنده آلاتها المليحة الفائقة الظريفة.

واقتنى من المجلدات النفيسة شيئاً كثيراً إلى الغاية. وكان الفضلاء يترددون إليه خصوصاً أرباب المعقول، كان يتردد إليه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني، وله عنده مملوك بإقطاع جعله أستاذ داره. ويتردد إليه شرف الدين بن مختار الحنفي وغيرهما من الفقهاء وغيرهم.
وكان جميل المودة، حسن الصحبة لطيفاً ظريفاً، حسن العشرة، ولكنه له سمعة في الشام سيئة لما ذكرته من أن السلطان يندبه في المهمات وثوقاً بعقله.
وكانت طبلخانته في القاهرة ما لأحد مثلها، لأنه اعتنى بصناعها وانتقاهم، وأحضر بعضهم من البلاد.
وكان قد تزوج ابنة الأمير سيف الدين الملك، كان يقال: إنه في القاهرة ليس لها نظير، وكان يحبها محبة مفرطة، وينفق عليها نفقة عظيمة إلى الغاية، ولا تنقطع الأغاني من داره ليلاً ولا نهاراً من الجواري المطربات الفائقات. فكانت إذا دخلت إلى الطهارة وخرجت تلقينها وزفينها، وكذلك إذا أرادت النوم مع زوجها يعملن لها زفة.
وأخذت يوماً منه إذناً لتنزل إلى المنظرة التي له على البحر مدة ثمانية أيام، فأعطاها لكل يوم مبلغ ألفي درهم، وأباعت هي من قماشها شيئاً بعشرة آلاف درهم، وطلعت إلى القلعة قبل الميعاد بيومين، وقالت: فرغت النفقة.
ولما مات - رحمه الله تعالى - ما انتفع بها أحد بعده، لأنه حصل لها مرض سوداوي، وتوفيت - رحمها الله تعالى - .
اللقب والنسبالقحفازي: الشيخ نجم الدين، علي بن داود.
القدسي: علاء الدين الشافعي علي بن أيوب. وشرف الدين محمد بن موسى.
ابن قدس: محمد بن أحمد.
قدودار الأمير سيف الدينمتولي القاهرة، ولاه السلطان الملك الناصر محمد القاهرة، بعد الأمير علم الدين سنجر الخازن في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، فوليها وأحسن إلى الناس أول ولايته، ولم يزل فيها إلى أن توجه إلى الحجاز فحج وجاء.
توفي - رحمه الله تعالى - سادس عشرة صفر سنة ثلاثين وسبع مئة.
قرابغا، الأمير سيف الدينقرابغا دوادار الأمير سيف الدين أرغون شاه.
لم نر ولم نسمع بداودار كانت له منزلة هذا عند أستاذه، على أنه كان قد قاسى منه شدائد في أول أمره ثم سخره - الله تعالى - له أخيراً.
كان لا يخالفه فيما يراه، ولا يخفي عنه ما ألم به في باطنه أو اعتراه. وكانت آراؤه عليه مباركه، وليس له فيها مع أحد مشاركه، قد تحقق نصحه ومحبته، وتيقن خبرته بحاله ودربته، فقوله عنده، قول حذام وأمره على كل حال لزام، وثور نعمه طائله، وسعادة هائله، في مدة يسيرة جداً، ووقت كأنه زمن الورد إذا رد وتردى. هذا مع أنه كان لا يعرف باللسان العربي كلمة واحدة، ولا درى ما اللفظة الفائتة من الفائدة.
ولكن اختطف من وسط هذه السعاده، واقتطف من روض هذه السياده، وخلت منه الديار، وشط منه المزار.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الاثنين حادي عشري شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ودفن في تربة زوجه كسباي عند دار الأمير شمس الدين حمزة التركماني بالقبيبات.
أخبرني القاضي ناصر الدين كاتب السر بالشام، قال: لم أدخل على هذا أرغون شاه قط فرأيته جالساً قدامه، بل إلى جانبه، ولا رأيته يتحدث هو وأستاذه، وعنده مملوك آخر، انتهى.
وكان يرجع إلى قوله ومهما أشار به فهو الذي يكون والعمل عليه، ولم يكن مشترى ماله بل السلطان الملك الناصر وهبه له على عادة إنعاماته، وزوجه بجاريته كسباي، وهي أعز جواريه، وأحظاهن عنده.
وكان بعد ذلك لا يصبر أستاذها عنها، ولما خرج معه إلى صفد، أعطي إمرة عشرة، ولما توجه إلى مصر وأعطي نيابة حلب أعطي قرابغا إمرة طبلخاناه.
ولما حضر إلى دمشق أعطاه أستاذه من عنده زيادة على إقطاع الطبلخاناه قرية بيت جن، وهي تعمل مئة ألف درهم، وأعطاه في كل سنة مئتي ألف درهم، غير الذي ينعم به على الدوام والاستمرار من الخيل والذهب والقماش.
مرضت زوجه كسباي المذكورة في أيام الطاعون وبصقت دماً وماتت في اليوم الثالث، ودفنت في تربة أنشأها لها في جمعة، فدفنت في يوم الخميس سادس عشر شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ثم إنه مات ابنها ودايته بعدها بيومين. ثم إنه هو بصق دماً، ومات يوم الاثنين في التاريخ، فلحقهما بعد خمسة أيام وحمل من دار حمزة إلى باب النصير، وخرج أستاذه وصلى عليه مع الأمراء والقضاة، والناس ولم يتبعه أستاذه - رحمهما الله تعالى - .

وكان لي ربيب يدعى مراد، يحمل دواتي فوصف له، فدخل إلى قاعة الإنشاء، وأخذه بيده وراح وسلمه إلى طواشي أرغون شاه. وقال: هذا مملوك ملك الأمراء، فكتبت إلى القاضي ناصر الدين صاحب ديوان الإنشاء في هذا:
يا سيداً صرت ظل جنابه ... لي جنة إن جاد دهري أو بغا
أترى الزمان معاندي ومحاربي ... حتى رماني في الورى بقرابغا
قرابغا، الأمير سيف الدينابن أخت الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام.
حضر معه إلى دمشق، وكان في مصر من جملة السلاح دارية للسلطان الملك الناصر حسن، وكان خاله، قد قال له في مصر: يا قرابغا، إن كنت تجيء معي على أنك ابن أختي تشفع وتتكلم فيما لا يعنيك، فلا تجيء، وإن كنت جئت كأنك أجنبي لا يكون لك في شيء كلام، فتعال. فحضر معه، وأقام قليلاً، ورتب له في كل يوم مبلغ خمسين درهماً، إلى أن انحلت طبلخاناه، فأخذها وكان لا يجسر أن يتحدث مع خاله في شيء، وإنما كان الناس يخدمونه لأجل الصورة الظاهرة.
وكان أسمر طوالاً غليظاً، إلا أنه أرق من نسيم، وألطف من كأس تسنيم، حسن الأخلاق، يتصف بما راق، وما لاق، ويسجع على عوده كأنه الورقاء بين الأوراق، نادم جماعة من أهل دمشق وأجمعوا على لطفه، وجنوا ثمار الإحسان من عطفه، ولما توجه خاله إلى نيابة طرابلس توجه معه، ولم يحل عن تلك الحال، ولا ذاك الصنع الذي صنعه.
ولما توفي خاله - رحمه الله تعالى - توجه إلى مصر فأقام بها، إلى أن اضمحل وتلاشى، وأصبح على نار المنية فراشا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ...
قراجا بن دلغادربدال مهملة، ولام ساكنة، وغين معجمة وبعدها ألف ودال مهملة وراء: الأمير زين الدين النائب بالأبلستين.
كان من أمراء التركمان، وارتمى إلى الأمير سيف الدين تنكز وانتمى إليه، فأقامه وأحبه وعظمه، وكان ميله إليه أحد الأمور التي نقمها السلطان على تنكز لأنه كان يراجعه في أمره كثيراً، ويقول له: اعزله عن الأبلستين، فيراجعه في أمره، لأن ابن دلغادر كان الواقع بينه وبين الأمير أرتنا حاكم البلاد الرومية.
ولما هرب الأمير سيف الدين طشتمر، حمص أخضر نائب حلب المحروسة توجه إليه، واستجار به فآواه، وأقام عنده إلى أن انتصر الناصر أحمد على قوصون، وطلب طشتمر، فحضر من البلاد الرومية وابن دلغادر معه، وتوجه معه إلى مصر، وما صدق بالخروج من القاهرة، ورأى نفسه قد عدى حلب وقويت نفسه عليه من ذلك الوقت ووقع بينه وبين الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب حلب، وتواقعا وانتصر ابن دلغادر عليه.
ولما جاء الأمير سيف الدين أرغون شاه إلى حلب نائباً دخل معه، وكان يكاتبه دائماً ويهاديه ولما قدم دمشق استمر الود بينهما، وأخذ لابنه الأمير صارم الدين طبلخاناه بدمشق، وكانت بيده، وهو عند والده.
ولما وصل الأمير سيف الدين بيبغاروس إلى حلب وأراد الخروج على السلطان الملك الصالح صالح، راسله واتفق معه، وحضر معه في تركمانه إلى دمشق، وتسيب تركمانه يفسدون في الأرض، ويعبثون فنهبوا الأموال، وافتضوا الفروج، وسبوا الحريم، وسفكوا الدماء، واعتمدوا ما لا يعتمد الكفار في الإسلام.
ثم إنه لما تحقق خروج السلطان الملك الصالح، ووصوله إلى لد خامر على بيبغاروس، وتوجه على البقاع إلى بلاده، وساق قدامه ما وجده للناس من خيول. فأخذ لأهل صفد جشاراً فيه أكثر من خمس مئة فرس.

ولما هرب بيبغاروس وأحمد وبكلمش وغيرهم، توجهوا إليه إلى الأبلستين فتقرب بإمساكهم، وجهز أولاً أحمد وبكلمش إلى حلب، ثم أمسك بيبغاروس من الأبلستين وجهزه إلى حلب، فجرى ما جرى، على ما هو مذكور في تراجمهم، ثم إن الأمير سيف الدين شيخو، والأمير سيف الدين طاز قاما في أمره قياماً عظيماً، وجهزا الأمير عز الدين طقطاي الدوادار إلى الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب حلب وصمما عليه. وقالا: لا بد من الخروج إليه بالعساكر، وخراب أبلستين، فتوجه بما معه من العساكر الحلبية وغيرهم من عساكر الثغور، ووصلوا إلى الأبلستين، وقاست العساكر شدائد عظيمة، وأهوالاً فنيت فيها خيولهم وجمالهم، ومشوا على أرجلهم في عدة أماكن، ووجدوا أهوالاً صعبة، وهرب منهم خلق فخرب الأبلستين وحرقها وخرب قراها، وتبعه بالعساكر إلى قريب قيصرية، وأحاطت به العساكر من هنا، وعساكر ابن أرتنا من هناك، فأمسكه قطلوشاه من أمراء المغول بالروم، وجهزه إلى ابن أرتنا.
وكتب نائب حلب إلى ابن أرتنا يطلبه، فدافعه من وقت إلى وقت إلى أن بعثه في الآخر مقيداً.
ودخل إلى حلب يوم السبت ثاني عشري شعبان سنة أربع وخمسين وسبع مئة. فثقل النائب قيوده وأغلاله واعتقله بقلعة حلب، وجهز سيفه إلى السلطان صحبة مملوكه علاء الدين طيبغا المقدم.
ولما كان يوم الاثنين خامس عشر شهر رمضان، وصل إلى دمشق وجهز إلى مصر صحبة عسكر يوصله إلى غزة. ووصل إلى مصر فأقام في الاعتقال مدة، ثم إنه وسط وعلق على باب زويلة قطعتين ثلاثة أيام، وذلك في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبع مئة. فسبحان مبيد الجبارين.
وكنت قد قلت لما أمسك ابن دلغادر أحمد وبكلمش وبيبغاروس وحضرهم إلى حلب، وذلك موالياً:
قد جيت في الغدر زايد با بن دلغادر ... وما تركت لفعلك في الورى عاذر
وخنت من آمنك وانقاد لك صاغر ... سودت وجهك في الأول وفي الآخر
ولما كان بيبغاروس على دمشق وتوجهنا نحن مع النائب بالشام الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى لد وأقمنا بها زائداً عن أربعين يوماً، وفي كل يوم نسمع من الأخبار ما ينكد عيشنا من جهة أهل دمشق وأهلنا وأولادنا، جاءني من القاضي شرف الدين حسين بن ريان كتاب قبل خروجي من دمشق، فلما عدت من لد كتبت جوابه، وجاء منه: " وحاول المملوك الجواب فجاءت هذه العوائق التي ما احتسبت والحوادث التي لم تكن كيوم القيامة، فإن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت، يا مولانا: هذه مصائب عمت وطمت وصرحت بالشر وما عمت، وقيدت إليها الأهوال وزمت ودعت الجفلى إلى مآدبها وأصم المسامع نعي نوادبها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قول من ضاقت به حيلته، واتسعت عليه بالهموم ليلته:
وكان ما كان مما كنت أذكره ... فظن شراً ولا تسأل عن الخبر
ونسأل الله تعالى حسن الخاتمة، وفجر هذه الليلة العاتمه، فقد بلغت القلوب الحناجر، وحزت الغلاصم بالخناجر، وكسرت براني الصبر، وحسد من امتطى ظهر الأرض من استكن في جوانح القبر، وهذه رزية شموس التثبت بها كاسفه، وليس لها من دون الله كاشفه، اللهم اكشف هذه البلية عن البريه، ولق النفوس الظالمة ووق البريه، وأجرنا على عادة وعجل فك أسرنا بأسرنا، إنك بالإجابة جدير، وعلى كشف هذه اللأواء قدير " .
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك نظماً ونثراً مطولاً، وكتبت أنا جوابه نظماً ونثراً مطولاً، وهما في الجزء الرابع والثلاثين من التذكرة التي لي.
قرا أرسلانالأمير الكبير بهاء الدين المنصوري، أحد الأمراء المقدمين الكبار بدمشق، كان مليح الصورة، تام الخلق، سميناً، شجاعاً.
لما هرب الأمير سيف الدين قبجق إلى بلاد التتار أمر هو ونهى، وحج بالناس.
توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة، ودفن بمقابر باب توما، في يوم الأربعاء مستهل جمادى الأولى من السنة المذكورة.
قرا سنقرالأمير الكبير شمس الدين أبو محمد الجوكندار المنصوري، من كبار الأمراء وأجل مماليك البيت المنصوري، اشتراه الملك المنصور في زمان الإمرة قبل أن تطير سمعته ويظهر اسمه.

وكان من رجالات العالم ودهاتهم، وممن إذا قصده عداه وقف كالشجى في لهاتهم، كثير العزم، كبير الحزم، لا يثق بمن يداهنه أو يداهيه، ولا يصبر لمن يظاهره أو يضاهيه، قد حلب الدهر أشطره، وعلم المخزية من الأمور والمأثرة:
يروعه السرار بكل شيء ... مخافة أن يكون به السرار
عاداه جماعة من الأكابر وربطوا عليه المخالص والمضائق والمعابر، ولم يظفرهم الله تعالى منه بمقصود.
ولم يزل زرعه قائماً غير محصود، ودفن من أعاديه جمله، وفرق بمكائده من حزبهم شمله، بطرق خفية المسارب، دقيقة المسالك بعيدة المرامي والمضارب.
ترك المال والوطن والولد، ونزع من عنقه مأنة الصبر والجلد، وألقى حمل الاحتمال عن الكبد، ولم يرض أن يكون ثالث الأذلين العير والوتد، وأخذ في النجا بسنة النبي عليه السلام فنجا برأس طمرة ولجام، ودخل بلاد التتار، وخلى من تطلبه كما يقال على برد الديار، فأخذ البريد بسببه في قعقعة لجمه والبر يضيق عن الجيش وحجمه، والقصاد تروح وتغدو ناكصةً على أعقابها، والفداوية تفد عليه ولكن يدوس على رقابها:
إلى كم ترد الرسل عما أتوا له ... كأنهم فيما سمعت ملام
لهم عنك بالبيض الخفاف تفرق ... وحولك بالكتب اللطاف زحام
وكادت خزائن مصر فيه يسكنها الغراب الأبقع، وبلد مصياف تعود وهي خراب بلقع، هذا والسلطان لا يني عزمه، ولا يثنى حزمه، بل البريد في أثر البريد، والقاصد في عقد القاصد فيما يريد، وغلب سعادة مثل الملك الناصر في احترازه وتوقيه ورد سهامه بتزفعة عنها وترقيه، إلى أن مات حتف أنفه من غير نجاح، أمر، وكاد يقول: بيدي لا بيد عمرو:
وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
وتوفي رحمه الله تعالى في مراغة في شوال سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
كان الأمير شمس الدين قراسنقر لما اشتراه المنصور وهو أمير جعله أوشاقياً، ثم إنه ترقى وعرف عنده من صغره بحسن التأني في الأمور والتحيل لبلوغ الغرض. وهو من أقران طرنطاي وكتبغا والشجاعي وتلك الطبقة، وكان أسعد منهم، لأنه عاصرهم وقاسمهم سعادة أيامهم، وعمر بعدها العمر الطويل متنقلاً في النيابات الكبار، فأناس كثيرون يعتقدون أنه من قارا النبك، وليس بصحيح، بل هم جهاركس استنابه الملك المنصور في حلب، وتتبعه طرنطاي ونصب له الحبائل، وسلط الحلبيين عليه فشكوا منه، وأخذ يحسن للمنصور عزله، ولم يزل يعبث به إلى أن أمره بالكشف عليه، فأتى حلب بنفسه وكشف عليه، ولم يظفر منه بمراد.
ثم إن الوزير ابن السلعوس أغرى به الأشرف وفطن له قراسنقر، فلم يزل يتلافى أمر نفسه ويرفع حاله بنفائس الأموال وكرائم الذخائر إلى أن سكن غيظ الأشرف عنه واستمر به.
ثم إن ابن السلعوس لم ينم عنه حتى عزله من حلب وولى الطباخي عوضه، ونقل قراسنقر إلى أمراء مصر وتقرب إلى الأشرف وخواصه بكل نفيس، إلى أن ندم الأشرف على عزله، فقال له: حلب الآن انفصل أمرها، ولكن سل حاجتك، فقبل الأرض وقال: نظرة من وجه السلطان أحب إلي من حلب وما فيها، ولكن أسأل أن أكون أمير جاندار، لأنني أرى وجه مولانا السلطان، وإذا جاء ذاك الرجل أقول له يتصدق مولانا ويقعد، فإن السلطان في هذا الوقت مشغول، يعني بذاك الرجل الوزير ابن السلعوس، فضحك السلطان ومزح معه في هذا، وقال له: هذا بس، قال: يا خوند يكفيني، وهذا ما هو قليل. واستمر أمير جاندار، وحجب ابن السلعوس مرات من الدخول إلى السلطان، وابن السلعوس يتلظى عليه، وقراسنقر يعمل مع الأمراء الأشرفية عليه إلى أن فعلوا تلك الفعلة.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي أينبك مملوك بيسري قال: خرجنا مع الأشرف إلى جهة تروجة، فقدم للسلطان لبن ورقاق، وهو سائر، فنزل يأكل، وكان أستاذي بيسري ولاجين قراسنقر قد نزلوا جملة على جانب الطريق، فبعث الأشرف إليهم بقصعة من ذلك اللبن وقد سمها، فقال بيسري: فؤادي يمغسني، ما أقدر آكل لبناً على الريق، فقال: لاجين: أنا صائم، فقال قراسنقر: دس الله هذا اللبن في كذا وكذا ممن بعثه، نحن نأكله؟ ثم أخذ منه، وأطعم كلباً كان هناك، فمات لوقته فقال: أبصروا أيش كان، يريد يزقمنا.

ثم قاموا على كلمة واحدة واتفاق واحد في نجاز ما كانوا بنوا عليه، إلى أن كان ما كان، ولم يباشر قراسنقر قتله، ولما قتل نزل إليه ونزع خاتمه من يده وأخذ حياصته بيده، وفعل به ما تقتضيه شماته المشتفي، ثم إنه اختفى هو ولاجين في بيت كتبغا، وكان ينادي عليهما ويتطلبهما وهما عنده. ولما تسلطن كتبغا أخرجهما وأمرهما، وعظم شأنهما.
ثم إن قراسنقر ناب للاجين لما تسلطن نيابةً عامة، وأورد الأمور وأصدرها برأيه، فعز على منكوتمر، ولم يزل به حتى أمسكه واعتقله في نصف ذي القعدة سنة ست وتسعين وست مئة، ومعه جماعة من الأمراء. وعمل منكوتمر النيابة عوض قراسنقر، وتحدث القاضي شرف الدين بن فضل الله معه في أمره، فقال له: يا شرف الدين، أنا أمسكه، ووالله ما أؤذيه، فقال له: يا خوند، أروح إليه وأعرفه هذا، فقال: روح إليه، فلما عرف قراسنقر ذلك بكى وقال: والله ما كنت أموت وأعيش إلا عليه، فعاد إلى لاجين وعرفه ذلك، فقال: يا شرف الدين هات المصحف، فحلف عليه أنه ما يؤذيه، ولا يمكن أحداً من أذيته، فعاد إليه وعرفه ذلك، فقال: يا شرف الدين، الآن طاب الحبس.
ولما قتل لاجين، وجلس السلطان الملك الناصر في المرة الثانية أطلقه وأعطاه الصبيبة، فبقي فيها مديدة، ونقل إلى نيابة حماة بعد العادل.
ولما مات الطباخي في حلب نقل قراسنقر إلى نيابة حلب، وأعطيت حماة لقبجق.
ولم يزل قراسنقر في حماة نائباً إلى أن حضر السلطان الملك الناصر محمد من الكرك إلى دمشق في شهر رمضان سنة تسع وسبع مئة، فحضر إليه، وركب السلطان وتلقاه وترجل له وعانقه وقبل صدره، والتقيا بالميدان الكبير، وبه استتم أمره واستبب له الملك.
وكان ابنه ناصر الدين محمد هو الذي استمال أباه قراسنقر، فشعر بذلك المظفر، فيقال: إنه سمه. وأخذ قراسنقر في تدبير الملك والسلطان تبع فيما يراه، ووعده بكفالة الممالك والنيابة العامة بمصر. ولما وصل إلى مصر وجلس على تخت الملك قال له: الشام بعيد عني وما يضبطه غيرك، فأخرجه لنيابة دمشق وقال له: هذا الجاشنكير خارج إلى صهيون، فأمسكه واحضر به لنتفق على المصلحة، فاجتهد على إمساكه، ولما وصل إلى الصالحية أتاه أسندمر كرجي، فأخذه منه وأعاده إلى الشام، ووصل إلى دمشق ودخلها يوم الاثنين خامس عشري القعدة سنة تسع وسبع مئة، ونزل بالقصر الأبلق وقد نفض يده من طاعة السلطان، غير أنه حمل الأمر على ظاهره ولم يفسد السلطان بكشف باطنه، وأقام بدمشق على أوفاز، فما حل بها أحمالاً، ولا خزن غلة، ولا تقيد فيها بشيء، وأخذ أمره فيها بالحزم، فجعل له مماليك بطفس، ومماليك بالصنمين، وعيناً ببيسان، وإذا وصل من مصر أحد بطقوا إليه من بيسان، وإذا وصل الواصل إلى طفس تلقاه نواب قراسنقر ومماليكه، وقدموا له ما يأكل وما يشرب، وإذا أتى إلى الصنمين فعلوا به كذلك، ويشغلونه بالأكل والشرب والتكبيس إلى أن يبلغ الخبر قراسنقر وخيله وهجنه كلها محصلة لما يريد يفعله، وإذا ركب من الصنمين ركب معه من مماليك قراسنقر من يوصله إلى قراسنقر بجميع من معه من مماليك وأتباع وسواقين حتى لا ينفرد أحد، ويكون معه ملطفات أو كتب أو مشافهات، فيتوجه بها، ثم إن قراسنقر ينزل الذي حضر من مصر هو وكل من معه عنده، ولا يدعه يجد محيصاً. فلما أتاه الأمير سيف الدين أرغون الدوادار وأنزله عنده ولم يمكنه من الخروج خطوة واحدة، وأنزل مماليكه عند مماليكه، وكان عنده كأنه تحت الترسيم، وفتح أجربتهم، وفتق نمازنيات سروجهم، فوجد فيها الملطفات بإمساكه، فأعادها إلى مكانها، وطاوله إلى أن نجز حاله، وهو لا يظهر شيئاً مما فهم منه، وغالطه بالبسط والانشراح.
قال الصاحب عز الدين بن القلانسي: أتيت إلى قراسنقر، وهو يأنس بي، وقلت له: ما هذا الذي أسمعه؟ فقال: اصبر حتى أفرجك، ثم قال لأرغون: بأي شيء غويتم أنتم؟ فإن نحن كنا في بيت المنصور غاوين بالعلاج والصراع، وحدثه في مثل هذا، فقال أرغون: ونحن هكذا، فقال: أيش تعمل؟ قال: أصارع، فأحضر قراسنقر مصارعين تصارعوا قدامه، ولم يزل به حتى قام أرغون وصارع قدامه فبقي قراسنقر يتطلع إلي ويقول: يا مولانا، أبصر من جاء يمسكني. انتهى.

وفهم بيبرس العلائي الحال من غير أن يقال له، فركب على سبيل الاحتياط على أنه يمسكه، فبعث يقول له: إن كان جاءك مرسوم خلني، وإلا أنا أركب وأقاتل، إما أنتصر، أو أقتل، أو أهرب ويكون عذري قائماً عند أستاذي، وأبعث أقول له: أنت الذي هربتني، فتخيل بيبرس العلائي وراح إلى بيته.
وكانت نيابة حلب قد خلت، وقد بعث السلطان مع أرغون تقليداً وفيه اسم النائب خالياً، وقال له: تصرف في هذه النيابة، وعينها لمن تختاره، فهي لك إن اشتهيت تأخذها، وإن أردتها لغيرك فهي له. وكان في تلك المدة كلها يبعث قراسنقر إلى السلطان ويقول: يا خوند، أنا قد ثقل جناحي، في حلب بكثرة علائقي بها وعلائقي مماليكي، ولو تصدق السلطان بها علي رحت إليها.
فلما كان من بيبرس العلائي ما كان قال لأرغون: أنا قد استخرت الله - تعالى - ، وأنا رائح إلى حلب، ثم قام وركب ملبساً تحت الثياب من وقته، وركب مماليكه معه، وخرج في يوم الأحد ثالث المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة إلى حلب، وأرغون معه إلى جانبه وما يفارقه، والمماليك حولهما لا يمكنون الأمراء من الدخول إليه ولا التسليم عليه، وخرج - كما يقال - على حمية إلى حلب في يوم الأحد ثالث المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وأقام بحلب وهو على خوف شديد. ثم إنه طلب دستوراً للحج.
فلما كان بزيزاء أتته رسل السلطان تأمره بأن يأتي الكرك ليأخذ منها ما أعده السلطان له هناك من الإقامات، فزاد تخيله، وكثر تردد الرسل عليه في هذا، فعظم توهمه، وركب لوقته وقال: أنا ما بقيت أحج، ورمى هو وجماعته ما لا يحصى من الزاد، وأخذ مشرقاً يقطع عرض السماوة حتى أتى مهنا بن عيسى ونزل عليه واستجار به. وأتى حلب فوقف بظاهرها حتى أخرجت مماليكه ما كان لهم في حلب، مما أمكنهم حمله بعدما مانعه الأمير شهاب الدين قرطاي من ذلك، فإنه ركب في الجيش، ولكنه لم يقدر على مدافعة مهنا.
ولم يزل يكاتب الأفرم والزردكاش، ومهنا يستعطف لهم خاطر السلطان على أن يعطي الأفرم الرحبة، والزردكاش بهسنى، وقراسنقر البيرة، والسلطان يقول: بل الصبيبة، وعجلون، والصلت. فهموا بالمقام مع العرب، وعملوا على هذا، وتهيؤوا لإزاحة العذر فيه، فلما طالت المدة ضاقت أعطانهم وأعطان مماليكهم أكثر؛ لأنه ما يلائم العرب صحبة الأتراك وقشف البادية وخشونة عيشها، وشرعوا في الهرب فخاف قراسنقر من الوحدة، فقال لمهنا في هذا، فقال: أنا كنت أريد الحديث معك في هذا، ولكن خشيت أن تظن بي أنني استثقلت بكم، لا والله، ولكن أنتم ما تضمكم إلا الحاضرة والمدن، وهذا قد تخبث لكم، وأنتم قد تخبثتم له، وما بقي إلا ملك الشرق - يعني خربندا - وهو كما أسمع ملك كريم محسن إلى من يجيئه ويقصده، فدعوني أكتب إليه بسببكم. فوافقوه على هذا، فكتب لهم، فعاد جواب خربندا بأن يجهزهم إليه ويعدهم بالإحسان، فتوجهوا إليه، فوجدوا منه ما أنساهم مصيبتهم، وسلاهم عن بلادهم، وكان وصولهم إلى ماردين في أواخر شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، فتلقاهم صاحبها، وحمل إليهم بأمر خربندا ستين ألف درهم وفي كل يوم مئة مكوك شعيراً وخمسين رأساً من الغنم، وأقاموا عنده في بستان مدة تسعة أيام، وتوجهوا إلى خربندا.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي شيخنا شمس الدين محمود الأصفهاني قال: لما جاؤوا أمر السلطان خربندا للوزير أن يبصر كم كان لكل واحد منهم من مبلغ الإقطاع ليعطيهم نظيره، فأعطاهم على هذا الحكم، فأعطى قراسنقر مراغة، وأعطى الأفرم همذان، وأعطى الزردكاش نهاوند، وتفقدهم بالإنعامات حتى غمرهم.
وقال: لقد كنت حاضراً يوم وصولهم، واختبرهم في الحديث، وقال عن قراسنقر: هذا أرجحهم عقلاً؛ لأنه قال لكل واحد منهم: أيش تريد، فقال شيئاً، فقال قراسنقر: ما أريد إلا امرأة كبيرة القدر أتزوجها، فقال: هذا كلام من يعرفنا أنه ما جاء إلا مستوطناً عندنا، وأنه ما بقي له عودة إلى بلاده، فعظم عنده بهذا، وأجلسه فوق الأفرم، وسنى له العطايا أكثر منه، وزوجه ابنه قطلوشاه، وسماه آقسنقر؛ لأن المغل يكرهون السواد، ويتشاءمون به.

قال القاضي شهاب الدين: وكان خربندا وابنه بوسعيد يحضران قراسنقر في الألطاع والأرغو معهما دون الأفرم، وهما من مواضع المشورة والحكم. وامتد عمر قراسنقر بعد الأفرم، ووقع الفداوية عليه مرات ولم يقدر الله - تعالى - أنهم ينالون منه شيئاً، وما قدروا عليه إلا مرة وهو بباب الكرباس منزل القان، فإنهم وثبوا عليه وهو بين أمراء المغل، فخدش في ساقه خدشاً، وتكاثر مماليكه والمغل على الواقع فقطعوه، ولم يتأثر قراسنقر لذلك. انتهى.
قلت: يقال: إن الذي هلك بسببه من الفداوية ثمانون رجلاً. حكى لي مجد الدين السلامي الخواجا قال: كنا يوم عيد بالأردو، وجوبان وولده دمشق خواجا إلى جانبه، وقراسنقر جالس إلى جانبه وهو قاعد فوق أطراف قماش دمشق خواجا، فوقع الفداوي عليه، فرأى دمشق خواجا السكين في الهواء وهي نازلة، فقام هارباً، فبسبب قيامه لما قام مسرعاً تعلق بقماشه تحت قراسنقر، فدفع قراسنقر ليخلص، فخرج قراسنقر من موضعه، وراحت الضربة في الهواء ضائعة، ووقع مماليك قراسنقر على الفداوي فقطعوه قطعاً، والتفت إلي قراسنقر وقال: هذا كله منك، وما كان هذا الفداوي إلا عندك مخبوءاً؛ وأخذ في هذا وأمثاله، ونهض إلى القان بوسعيد وشكا إليه، ودخلت أنا وجوبان خلفه، فقال للسلطان بوسعيد: يا خوند، إلى متى هذا؟ بالله اقتلني حتى أستريح، والله زاد الأمر وطال، وأنا فقد التجأت إليكم، ورميت نفسي عليكم واستجرت بكم، والعصفور يستند إلى غصن شوك يقيه الحر والبرد. فانزعج بوسعيد لهذا الكلام، وقال لي بغيظ: إلى متى هذا وأنت عندنا والفداوية تخبؤهم عندك لهذا؟ فقلت: وحياة رأس القان ما كان عندي، وإنما حضر أمس مع فلان، لكن هذا أخوك السلطان الملك الناصر قد قال غير مرة: إن هذا مملوكي ومملوك أخي ومملوك أبي، وقد قتل أخي، وما أرجع عن ثأر أخي ولو أنفقت خزائن مصر على قتل هذا وهذا دخل إليكم قبل الصلح بيننا، وهو مستثنى من الصلح، فعند ذلك قال جوبان: هذا حقه، نحن ما ندخل بينه وبين مملوكه قاتل أخيه؛ وخرج فانفصلت القضية.
وحكى لي علاء الدين بن العديل القاصد قال: توجهنا مرة ومعنا أربعة من الفداوية لقراسنقر، فلما قاربنا مراغة وبقي بيننا وبينها يوم أو يومان ونحن في قفل تجار والفداوية مستورون أحدهم جمال والآخر عكام والآخر مشاعلي والآخر رفيق، فما نشعر إلا والألجية قد وردوا علينا، فتقدموا إلى أولئك الأربعة وأمسكوهم واحداً واحداً من غير أن يتعرضوا إلى أحد غيرهم من القفل، وتوجهوا بهم إلى قراسنقر فقتلهم، وكذلك فعل بغيرهم.
قلت: والظاهر أنه كانت له عيون تطالعه بالأخبار، وتعرفه المستجدات من دمشق ومن مصر، فإنه كان في هذه البلاد نائباً، وقد جهز جماعة من الفداوية، ويعرف قواعد هذه البلاد وما هي عليه، وما كان يغفل عن أمر الفداوية، وإ،ه ما كان يؤتى عليه إلا منهم.
قال القاضي شهاب الدين: ومات في عزه وجاهه معظماً بين المغل كأنه ما ربي إلا فيهم، ويقال: إنه ملك ثماني مئة مملوك، وعندي أنه لم يبلغ هذه العدة، وإنما كان عنده مماليك كثيرة، وحصل أموالاً جمة، وكان يعطي لمماليكه الأموال الكثيرة، وجماعته من الخيول المسومة والسروج الزرخونا والحوائص الذهب والكلاوت والطرز الزركش والأطلس والسمور والقماقم وغير ذلك من كل شيء فاخر. وتأمر في حياته بنوه الأمير ناصر الدين محمد تقدمة ألف، والأمير علاء الدين على إمرة أربعين، وفرج بعشرة. وتأمر له عدة مماليك مثل بيخان ومغلطاي وبلبان جركس بطلبخاناه، وبهادر وعبدون بعشرات.
قال شهاب الدين بن الصنيعة النقيب: لما جاءت العساكر الحلبية مع قراسنقر إلى دمشق سنة تسع وسبع مئة كان ثلث الجيش يحمل رنك قراسنقر؛ لأنهم أولاده وأتباعه ومماليكهم وأتباعهم. وكان في حلب، والأمراء الحكام في مصر مثل سلار والجاشنكير وغيرهما يخافونه ويدارونه ولا يخالفون أمره، وكان مع العظمة الكبيرة يداري بماله ويصانع حواشي السلطان حتى الكتاب والغلمان، فيقال له في ذلك، فيقول: ما يعرف الإنسان كيف تدور الدوائر، وواحد من هؤلاء يجيء له وقت يلقح كلمةً تعمر ألف بيت وتخرب ألف بيت.
وكان يرى أخذ الأموال ولا يرى إهراق الدماء، فحقن الله دمه وأذهب ماله.

قال القاضي شهاب الدين: حكى الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري الصوفي قال: كان ابن عبود إذا عمل المولد الشريف النبوي حضر إليه الأمراء وسائر المماليك والناس، فعمل المولد مرة في سنة من السنين، فحضره قراسنقر، وكان في المولد رجل شريف صالح مغربي يعرف بالمراكشي، فلما مدت الأسمطة قام قراسنقر وخلع سيفه وشمر ومد السماط المختص بالفقراء وقدم بيده الطعام، وشرع يقطع المشوي لهم، ولا يدع أحداً يتولى خدمتهم سواه، فقال المراكشي: من هذا؟ فقالوا له: هذا الأمير شمس الدين قراسنقر، أمير كبير صفته نعته، ومكانته في الدولة كبيرة، فقال: لا إله إلا الله! يعيش سعيداً وينزل به في آخر عمره كائنة، ويخلص منها ويخلص بسببه غيره، ويسلم وما يموت إلا على فراشه.
وكان لا يأخذ من أحد شيئاً إلا ويقضي شغله ويفيده قدر ما أخذ منه مرات مضاعفة، وأين مثله أو من يقارب فعله؟! حكي أن شخصاً من أبناء الأمراء الكبار بحلب كان يحب صبياً اشتهر به وعرف بحبه، فاتفق أن ذلك الصبي غاب، فاتهمه أهله بدمه وشكوه إلى الوالي، فأحضره وقرره بالضرب والتعليق، فلم يصبر وقال: قتلته، فألزم به وأودع الحبس على دمه، وكان بريئاً، فتحيل في إرسال شيء. خدم به قراسنقر، فأمر أن ينظر ولا يعجل عليه، فما مضت مدة حتى جاء كتاب نائب ألبيرة يخبر بأنه قد أنكر على صبي من أبناء النعمة مع جماعة من الفقراء قصدوا الدخول إلى ماردين، وأنه رده إلى حلب ليحقق أمره، فلما جاء إذا به ذلك الصبي بعينه، وظهرت براءة المتهم وخلي سبيله، وغفل عنه قراسنقر مدة لا يذكره إلى أن مات أمير بحلب وخلف نعمة طائلة ولا وارث به، فلما أتاه وكيل بيت المال والديوان يستأذنونه في الحوطة عليه، فقال: هذا مال كثير، أريد واحداً من جهتي يكون معكم، وطلب ذلك الرجل وأمره أن يكون معهم، فحصل من تلك التركة محصولاً جيداً، وعمل به ذهباً أضعاف ما أعطي قراسنقر أولاً، وأتى بالذهب إلى قراسنقر وقال: يا خوند، هذا الذي تحصل، فقال: بارك الله لك فيه، نحن أخذنا نصيبنا منك أولاً سلفاً؛ ولم يأخذ منه شيئاً، رحمه الله وسامحه.
وكان ورد إلى بغداد في أول شهر رمضان سنة خمس عشرة وسبع مئة، ومعه زوجته الخاتون بنت أبغا، وأقام ببغداد ثلاثة أشهر ونصفاً، ثم عاد إلى خدمة خربندا، وكان عزمه الإغارة على أطراف الشام، فلم يؤذن له، ووثب عليه فداوي في ذي القعدة فلم يصل إليه وقتل الفداوي.
قرا طرنطايالأمير حسام الدين. كان أميراً بحلب، ونقل إلى دمشق على إقطاع الأمير سيف الدين ملكتمر المعروف بالدم الأسود، فوصل إلى دمشق مريضاً، ومات - رحمه الله، تعالى - بعد أيام قلائل في مستهل شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة، ووصى إلى الأمير سيف الدين بلاط.
قراقوشالأمير بهاء الدين.
كان يقال: إنه ظاهري، أتى إلى صفد أميراً على طبلخاناه، وكان عنده مماليك وخدام طواشية وأولاد ناس أتباع له ملاح. وأقام في صفد مدة مديدة. وقيل: إن القاضي فخر الدين ناظر الجيش كان يكرهه ويحط عليه؛ لأنه كان في وقت قد عمل شد الدواوين بالقاهرة، وكان فيه معرفة، وعنده مجلدات، ويستنسخ الكتب الأدبية وغيرها.
وحكي لي أنه كان بالوجه البحري مباشراً شيئاً من أمور الدولة، فلما وزر ابن السلعوس كتب إليه كتاباً، فأغلظ قراقوش في الجواب، ثم إن الوزير أحضره بعد ذلك وضربه بالمقارع.
اللقبالقرامزي: عبد الرحمن بن أبي محمد.
القرافي: صفي الدين محمود بن محمد.
قرطايالأمير شهاب الدين الأشرفي الجوكندار الحاجب، نائب طرابلس.
كان معدوداً في الأبطال، ومسروداً في عداد أبي محمد البطال، قد مارس الحروب، وعرف الأماكن والدروب، وتمرن في الحصارات، وتدرن جسمه بعد التنعم في الإغارات.
وكان كثير الاحتشام، عزيز المكارم التي تنتجع بروقها وتشام، معروفاً في الشام ومصر بالكفاءة، مشهوراً بالحمل والأناءة:
تشف على جسم الزلال صفاته ... وتلطف عن روح النسيم شمائله
أقام بطرابلس في المرة الأولى نائباً إلى أن عزل، وقطع أمره فيها وخزل، وحضر إلى دمشق وكان فيها أميراً كبيرا، نازلاً في حماها محلا أثيرا، يعظه تنكز ويرعى جانبه، ويجمل به مواكبه، إلى أن أعاده إلى طرابلس ثانياً نائباً كما كان، ووطد له عند السلطان القواعد والأركان.

ولم يزل إلى أن توفي - رحمه الله، تعالى - في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وكان - فيما أظن - بحلب حاجباً في واقعة قراسنقر لما توجه إلى الحجاز وعاد من بركة زيزاء إلى حلب وأحاط، فوقف الأمير شهاب الدين قرطاي في وجهه ومنعه من الدخول إليها، فقال: أنا ما جئت إلا لأجل مملوكي جركس، فقال: خذه، وما عسى أن تفعله أنت وهو؟! وكان قد عزل عن طرابلس في المرة الأولى في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وسبع مئة، وحضر إلى طرابلس عوضه الأمير سيف الدين طينال المقدم ذكره. وأقام الأمير شهاب الدين بدمشق على إقطاع الأمير بدر الدين بكتوت القرماني، ولم يزل بها مقيماً إلى أن أعيد إلى نيابة طرابلس في العشر الأواخر من سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة عوضاً عن الأمير سيف الدين طينال، وجهز طينال إلى غزة نائباً، ونقل السنجري من غزة إلى نيابة حمص.
قردمالأمير الكبير سيف الدين أمير آخور كان في أيام الصالح صالح، وهو في محل كبير، فعمل عليه وأخرج إلى دمشق على إقطاع الأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار الصالحي، فوصل إلى دمشق في سادس عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين، وطلب تلك الشحنة إلى مصر، فأقام الأمير سيف الدين قردم إلى أن أمسكه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي بين العشاء ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، واعتقله بقلعة دمشق، وبقي في الاعتقال إلى أن حضر السلطان الملك الصالح إلى دمشق، في واقعة بيبغاروس، ولما توجه إلى مصر أخذ معه صحبة من أمسك في تلك الواقعة إلى مصر، ثم إنه أفرج عنه وحضر إلى دمشق نائباً في عاشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وسبع مئة، ورتب له على الديوان في كل يوم خمسون درهماً، فلما مات الأمير سيف الدين ألجيبغا العادلي أنعم عليه بإقطاعه وتقدمته على الألف.
واستمر على حاله بدمشق في جملة مقدمي الألوف إلى أن مرض، وتوفي - رحمه الله، تعالى - في يوم الأحد تاسع عشر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
اللقب والنسبابن قرصة: أحمد بن محمد. عز الدين أحمد بن موسى.
ابن قرطاس: عبد الرحمن بن محمود.
القرماني: الأمير بدر الدين بكتوت.
القرمي: قاضي طرابلس الحسن بن رمضان.
قرمشي بن أقطونالأمير سيف الدين ابن الأمير علاء الدين الحاجب بمصر والشام.
كان رجلاً داهيه، وذا همة لم تكن بغير المعالي لاهيه، خاطر في أمر لو انعكس عليه لم يكن لحمزة التركماني غيره ثانيا، ولم يصبح الهلال الوخي لعنان الموت عنه ثانيا، ولكنه حصنه الأجل، واستعمل القدر فيه التأني لا العجل، على أنه ما انشق له زهر السلامة عن الكمام، ولا سقي روض نجاته بحب الغمام، حتى وقع في أحبولة القدر وكان كمن سلم من الحمام إلى الحمام.
ومن تعلق به جمة الأفاعي ... يعش، إن فاته أجل، قليلا
وكان في صباه قد تنسك، وبحبال الآخرة تمسك، وامتنع من دخول الحمام، وأعرض عن لذات هذه الدنيا ورفض ما فيها من الحطام، وأخذ في مطالعة الأحاديث النبويه، والاقتفاء بسيرة السلف المرضيه، وتتلمذ للشيخ العلامة تقي الدين بن تيميه، وكانت ترد عليه بالنهي عن التمسك بالأمور الدنيويه، هذا وأبوه أمير كبير حاجب بصفد، والدنيا مقبلة عليه بالعطاء والمنح والصفد، وهو عنها بمعزل، وإذا ضربت له سرادق الدولة لا يعرج إليها ولا ينزل. ثم إنه انسلخ من ذاك، وآثر الفكاك، ونسي أن سلامة العقبى كانت له خيرا، وتلك الطريقة الأولى كانت أحمد سيرا.
وتنقلت به الأحوال فتقدم في دمشق فكان بها من جملة الحجاب، وأولي التقدم عند تنكز والاقتراب، ثم توجه إلى مصر فكان فيها حاجبا، ونال من الحظوة عند السلطان ما كان له واجبا، ثم إنه حضر إلى صفد وولي بها نيابة القلعة، ومنها كانت القلعه، وطلب إلى دمشق واعتقل، وحل به من نوائب الزمان ما لا عرف ولا عقل.
وكان موته - رحمه الله، تعالى - في شهر شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية ظاهر باب النصر بدمشق.
كان قد نشأ بصفد على خير وديانة وتعبد، ولم نعلم له صبوة، وكان يحب الفقراء والصلحاء، ويميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وأصحابه، واختص بالأمير سيف الدين أرقطاي نائب صفد، وكان يسمر عنده ويلازمه ليلاً ونهاراً.

ولما كان في سنة ست وثلاثين اختص بالأمير سيف الدين تنكز، وأقام عنده ليلاً ونهاراً بدمشق، وأقبل عليه إقبالاً كثيراً، وصار من أحظى الناس عنده، ثم إنه أعطاه عشرة أرماح بدمشق، وعلت مكانته عنده، وتردد في البريد مرات عديدة. ثم إنه توجه مع الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله، تعالى - لما توجه إلى مصر، وهي آخر مرة توجه فيها إلى مصر، فغير إقطاعه هناك بالإمرة ثلاث مرات، وولاه الحجوبية بدمشق.
ولما أمسك هو طلب سيف الدين قرمشي إلى مصر، فتوجه إليه، وأقام بها حاجباً في باب السلطان، وكان الناس يرون أنه كان له باطن في واقعة تنكز، وشنع الناس بأنه نم على تنكز ورماه بما غير خاطر السلطان عليه، والله أعلم، فنفرت قلوب مماليك السلطان منه، وأبغضه الأمراء.
ثم إنه في أول دولة الصالح إسماعيل طلب الخروج إلى دمشق، فحضر إليها أميراً، ثم رسم له بالتوجه إلى صفد أميراً، ثم إنه بقي بها حاجباً. ثم إنه رسم له بنيابة قلعة صفد، فباشرها على أحسن ما يكون، وبالغ في عمارتها، ورم ما تشعث منها، فاجتهد في ذلك. ثم إن الأمير سيف الدين الملك نائب صفد لما أمسك في أيام الكامل شعبان شنع الناس أن الأمير قرمشي هو الذي نم عليه، وكتب إلى مصر في السر يقول: إنه قد عزم على أنه يهرب، فجددت هذه المرة عليه ما كان كامناً في نفوس الأمراء.
ولما برز الأمير سيف الدين يلبغا من دمشق إلى الجسورة، واجتمع عليه العساكر طلبه ليحضر إليه، فوعده بذلك ولم يحضر، واتفق أن وردت كتب الكامل إلى قرمشي في الباطن، فجهزها هو من جهته إلى أمراء الشام وغيرهم، وأمسك قصاده بالكتب، فحرك ذلك عليه ساكناً عظيماً.
ولما استقر الملك للمظفر حاجي جهز يلبغا حاجي إلى قرمشي، وأحضره على البريد، وأودعه معتقلاً في قلعة دمشق هو وأولاده وجماعة من أهله، فأقام بها قريباً من شهر أو أكثر، ثم أفرج عن أولاده وجماعته، وخنق وأخرج في الليل في صندوق، ودفن في مقابر الصوفية؛ رحمه الله تعالى وعفا عنه.
ولما كنت بالديار المصرية سنة خمس وأربعين وسبع مئة كتبت له مرسوماً بنيابة قلعة صفد ارتجالاً من رأس القلم، وهو: " الحمد لله الذي نصر هذا الدين بسيفه الماضي الشبا، وأيده بخير ولي تقصر عن بأسه سمر القنا وبيض الظبى، وحصن معاقله بكفء تأرج عنه الثنا وطاب النبا، وحمى سرحه بفارس إذا أظلم العجاج أطلع في دجاه من سنانه اللامع كوكبا.
نحمده على نعمه التي لا يداني جودها غمام، ولا يقارب حسن مواقعها تبسم زهر من ثغر كمام، ولا يجاري سراها برق تسرع جواده في ميدان ظلام، ولا يحاكي تواخيها في نواحيها ازدواج لآلئ تألفت حباته في النظام.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً رقم الإيمان برودها، وختم البرهان وجودها، وحسم الإدمان عنودها، ونظم الإيقان عقودها.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي تثنى الخطار من بأسه طربا، وضحك البتار في يمينه الشريفة عجبا، وولى الأدبار عدو الدين ممنعاً هربا، وباد الكفار من حزبه لما ذاقوا ويلاً وحربا. صلى الله عليه وعلى آله الذين سادوا الأنام، وجادوا بما فاق الغمام، وعادوا بفضلهم على أولي الفاقة والإعدام، وحادوا عن طرق الضلال والظلام، صلاةً دائمة السنا، قائمةً بنيل المراد والمنى، ما ابتسم في الروض ثغر أقاح، وفتق غمد الظلام شفرة صباح. وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد فإن ثغر صفد المحروسة من الحصون المشيده، والمعاقل الفريده، قد طاولت النجوم شرفاته، وعلت على الغيوم غرفاته، وتلهبت ذبالة الشمس في سراجه، ونفض الأصيل زعفرانه على بياض أبراجه. كم لاثت الغمائم على هامته عمائم، وكم لبست أنامل بروجه من الأهلة خواتم. والنيابة فيه منصب شريف، وفضل على الكواكب ينيف.

وكان المجلس السامي الأمير سيف الدين قرمشي ممن جمل الدولة، وفاز بالقرب من الملوك الأول، ونصح والدنا الشهيد فأدى من حقه واجبا، واجتهد في رضاه فكان له عيناً وحاجبا، وآثر عوده إلى وطنه فنولناه مرامه، وأجبنا قصده الذي أحكم نظامه، رغبةً في العزلة والانجماع عن الناس، وطلباً للانفراد والخلوة وما في ذلك من باس، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، والمولوي، السلطاني، الملكي، الصالحي العمادي - أعلاه الله، تعالى، وشرفه - أن يستقر في النيابة بقلعة صفد المنصورة على أجمل العوائد وأكمل القواعد، فليجهد في مراعاة أحوالها، وتفقد مباشريها ورجالها، ورم ما تشعث من بنائها، وإصلاح ما تحتاج إليه في ربعها وفنائها، فإن لها منه أيام والده المرحوم إيثارا، وله في عمارتها آثارا، فليجرها على ما عهدت، وليزكها فيما له شهدت، ويبذل الجهد في تشييدها، ودوام تحصينها بالرجال وتخليدها، وتثمير حواصلها بالسلاح والعدد والغلال، وعرض رجالها النفاعة فما الحصون إلا بالرجال، ومثله لا يذكر بوصية، ولا ينبه على مصلحة دانية أو قصية، ولكن التقوى هي العمده، والكنز الذي لا يفنى في الرخاء ولا في الشده، وهي به أليق، وبشد عراه أوثق؛ والخط الشريف - أعلاه الله تعالى أعلاه - حجته في ثبوت العمل بما اقتضاه، إن شاء الله، تعالى.
قشتمرالأمير سيف الدين قشتمر زفر - بفتح الزاي والفاء وبعدها راء - .
أول ما علمته من أمره أنه حضر في سنة ستين وسبع مئة من الديار المصرية إلى نيابة الرحبة، فأقام بها إلى أن حضر إلى دمشق، وتوجه بدله الأمير سيف الدين قطلو بن صاروجا. وأقام قشتمر زفر بدمشق إلى أن خرج الأمير بيدمر، فجهزه الأمير سيف الدين تمان تمر نائب طرابلس، فأحضره إلى دمشق، فنقم عليه ذلك.
ولما حضر السلطان الملك المنصور محمد بن حاجي إلى دمشق أمر بإمساك سيف الدين قشتمر زفر فأمسك، واعتقل بقلعة دمشق.
وتوفي في محبسه في يوم الجمعة سادس عشر شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة، رحمه الله، تعالى.
الأنساب والألقابابن قريشة: الشيخ تقي الدين محمد بن بركات. أخوه محيي الدين عبد القادر. أخوهما الشيخ إبراهيم.
ابن قريش: علي بن إسماعيل.
ابن قرناص: علاء الدين علي بن إبراهيم، وهبة الله محمود.
القرندلي الكاتب: محمه بن بكتوت.
ابن القزاز: محمد بن أحمد.
ابن القسطلاني: محمد بن أحمد. وجمال الدين محمد بن محمد بن الحسن.
ابن قطرال: محمد بن علي بن محمد.
قطب الدين السنباطي: محمد بن عبد الصمد.
قطزالأمير سيف الدين أمير آخور.
لما أخرج الأمير حسام الدين لاجين آخور الكبير إلى دمشق من الديار المصرية - على ما سيأتي - جعل هذا الأمير سيف الدين مكانه، وذلك في شهر رجب سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، فبقي في الوظيفة إلى أن خلع المظفر حاجي في شهر رمضان من السنة المذكورة، وتولى الملك الناصر حسن، فأخرج الأمير سيف الدين قطز إلى نيابة صفد عند موت الأمير سيف الدين أولاجا نائبها، فأقام بصفد نائباً إلى ثاني شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وسبع مئة. فوصل الأمير شهاب الدين أحمد الساقي إلى صفد نائباً، ورسم للأمير سيف الدين قطز بالحضور إلى دمشق ليكون بها مقيماً من جملة أمرائها ما عاش، إلى أن جاءه منشوره.
بل توفي - رحمه الله، تعالى - سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
قطلقتمر قليالأمير سيف الدين الناصري، أحد الأمراء بدمشق أصحاب الطبلخاناه.
كتب في حقه أرغون شاه إلى باب السلطان وشكاه، وسأل نقله إلى حلب، فأجيب إلى ذلك. وكان قد جرد من دمشق صحبة العسكر إلى سيس سنة خمسين وسبع مئة، فكتب أرغون شاه إلى نائب حلب أنه إذا عاد العسكر الدمشقي يتقدم إليه بالإقامة في حلب حسبما رسم به، فأقام بها تقدير خمسة أشهر أو أقل.
وتوفي إلى رحمة الله - تعالى - في جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة.
قطلقتمرالأمير سيف الدين. كان يعرف بصهر الجالق.
وكان أحد الأمراء بدمشق، ثم إنه ولي نيابة غزة.
وأمسك في جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وجاء عوضه الأمير علم الدين الجاولي.
قطلوبغاالأمير الكبير الداهية الشجاع المقدام سيف الدين الساقي الناصري المعروف بالفخري.

رجل لا يهاب الموت، ولا يعبأ بالفوت، أسد يصول بمخلب من صارمه، ويربض في غاب من ذوابله التي ينصلها من عزائمه، دبر الحروب، وثبت في موقف تهرب منه الخطوب، كحل عيون النجوم بمراود الرماح، وضوأ الدجى الحالك بصباح الصفاح، ونور العجاج فكان كالإثمد والنجوم فيه مثل العيون الرمد، ومزقه بالبيض المرهفات لما نسجت ملاءته المطهمة الجرد:
ينم على فتكاته زهر القنا ... كذاك حديث الزهر يحلو إذا نما
ويحلو مع الخطي من كلف به ... ويحسبه قداً فيوسعه ضماً
وكان الناس يظنون به أنه فارس صيد، لا فارس حرب وكيد، وأنه حامل راية كاس، لا حامل راية القنا الدعاس، إلى أن قام في ناصر أحمد الناصر، وشهدت له بالفروسية والثبات الأواصر، وظهر عن تدبير ساعدته عليه المقادير، وثبت في وقت اللقاء ثبات الأنجاد المغاوير، وثبت للقاء جيش الشام بمجموعه، ورزقه الله النصر من أول طلوعه، وكان هو في دون الألفي فارس، وخصمه في أكثر من عشرين ألفاً، إلا أنهم في عداد الأطلال الدوارس، وكان يوماً عظيماً في النصر، ومشهداً تفوت عجائبه العد والحصر، وسار ألطنبغا في بيداء سملق، وسار الفخري ونزل القصر الأبلق.
ولكن قلبت هذه السعادة إلى تعاسه، فصلت عن جسده راسه، وقطعت من الحياة أمراسه، وقتل صبرا، وألقي على الأرض شلواً لا يودع قبرا، فسبحان من بيده تصاريف الأمور، وبأمره الحبور إلى الثبور.
وكانت قتلته بظاهر الكرك في أول المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
كان من أكبر مماليك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون من رفعة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، ولم يكن لأحد من الخاصكية ولا من غيرهم إدلاله على السلطان، ولا فيهم من يكلمه بكلامه ويرد عليه الأجوبة الحادة المرة وهو يحتمله.
وقد تقدم شيء من ذكره في ترجمة أخيه الأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر.
لم يزل عند السلطان أثيراً عالي المكانة إلى أن أمسكه في نوبة إخراج أرغون النائب إلى حلب في سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وكان الفخري ممن يكره الأمير سيف الدين تنكز ويحط عليه، وهو الذي ساعد الأمير حسين بن جندر عليه، يقال: إنه توجه مرة إلى بابه، وأقام - فيما قيل - من بكرة إلى الظهر حتى أذن له في الدخول، ولما أخرجه السلطان معه إلى الشام في شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وسبع مئة شد الشلو في وسطه، وكان يركب في خدمته ويترجل قبل نزوله ويمشي في ركابه بالخف من غير سرموزة، ويحصل الصيد بين يديه، ويطعم طيوره، ولم يزل يدخل في قلبه بالخدمة إلى أن أحبه ومال إليه. قال تنكز مرة: والله أشتهي أن أركب مرة، وما أخرج ألتقي الفخري واقفاً ينتظرني.
قيل: إنه كان له واحد واقفاً دائماً بدار السعادة متى قدمت فرس تنكز للركوب توجه إليه وأعلمه، ويكون هو قاعداً متأهباً للركوب، فيركب ويقف ينتظره، فأحبه محبة شديدة حتى لم يبق عنده بدمشق أعز منه.
وقال تنكز عن الفخري: والله لو خدم أستاذه عشر هذه الخدمة ما كان أحد منا نال مرتبته.
كان يوماً في ضيافة الأمير صلاح الدين بن الأوحد، وقد شربوا القمز، فدخل عليهم الأمير سيف الدين أوران الحاجب وهو عند تنكز بمحل كبير، فأخذ الفخري الهياب وقام وقال: عندك يا أمير، فلم يقبله، فألح عليه، فلم يوافقه، فقال تنكز: عندي يا أمير، أنا أحق بك، والله يا أمراء ما عند أستاذنا أكبر منه ولا أعز، ولو وطأ نفسه قليلاً ما كان عند أستاذنا فينا أحد يصل إلى ركابه، وأخذ في الثناء عليه والشكر منه، ومنها، وكان الواقع، وانتحس أوران بها إلى أن مات، وكان إذا شفع عنده ما يرده. ولم يزل إلى ترضى له السلطان. وكان بعد ذلك يحضر إليه الخيل والجوارح وغيرها من السلطان.
ولم يزل في دمشق على هذا الحال إلى أن كتب السلطان إلى الفخري في الباطن في إمساك تنكز، وقال له: يا ولدي، ما خبأتك إلا لهذا اليوم، أبصر كيف تكون، وهذا من راح معه راح بلا دنيا ولا آخرة، فاجتمع هو والأمراء بدمشق، وخرجوا إلى الأمير سيف الدين طشتمر، وأمسكوا تنكز، على ما تقدم في ترجمته، فنظر إليه تنكز والتركاش في وسطه، فقال له: يا فخري، لا إله إلا الله، وأنت الآخر بالتركاش؟! فقال: ما شد إلا في يومه. ثم إنه أقام بعده بدمشق إلى أن حضر الأمير سيف الدين بشتاك وأخذ حواصل تنكز وخزائنه، وتوجه بها.

ثم توجه الفخري إلى مصر بطلبه،وعظمه السلطان زائداً، ولم يزل في أعز مكانة إلى أن توفي السلطان الملك الناصر، فأظهر الميل إلى قوصون، وكان معه على بشتاك، وحضر إلى الشام، وحلف العساكر الشامية للمنصور أبي بكر، وذلك أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، ونزل في القصر، وخرج الناس لملتقاه، ودعوا له، وخصصوه بالدعاء دون ألطنبغا، وقدم له الأمراء بدمشق، وعاد إلى القاهرة.
ولما جرى للمنصور ما جرى وخلعوه وملكوا الأشرف علاء الدين كجك وجعلوا الأمير سيف الدين قوصون، مال الفخري إلى قوصون ميلاً عظيماً وقام بنصره، وطلب قوصون من يتوجه إلى الكرك ليحاصر أحمد، فلم يجسر أحد غير الفخري، فخرج هو والأمير سيف الدين قماري في ألفي فارس إلى الكرك، وحصر أحمد، ووسط جماعة من أهل الكرك، وبالغ وربما أفحش في خطاب الناصر أحمد، فحقدها عليه، ثم لما بلغ الفخري أن ألطنبغا نائب دمشق توجه إلى حلب لإمساك طشتمر نائبها، وخلت دمشق من العسكر، حضر الفخري إلى دمشق وترك الكرك، وخرج أهل دمشق إليه وتلقوه ودعوا له، فدخلها ونزل على خان لاجين، واقترض من مال الأيتام مبلغ أربع مئة ألف درهم ونفق فيمن معه من العسكر، ولحق الأمير بهاء الدين أصلم - وهو على قارا - بعسكر صفد ليلحق الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى حلب، فبعث إليه الفخري ورده، وطلب الأمراء الذين تخلفوا في بر دمشق، فحضروا إليه، وأقام بخان لاجين، وكتب إلى الأمير سيف الدين طقزتمر نائب حماة، فحضر إليه وتلاحق الناس به، ولما حضر طقزتمر إليه قوي جأشه وجأش من معه.
وكان لما دخل إلى دمشق أحضر الناس وحلفهم للناصر أحمد، ودعا الناس إلى بيعته، ومال الخلق إليه، واستخدم الجند البطالة ورتب أناساً في وظائف، ووعده الناس كثيراً، وحضر إليه الأمير شمس الدين آقسنقر السلاري لما كان في غزة نائباً وأمسك الطرقات وربطها من صرخد إلى بيروت على من يحضر من مصر إلى حلب أو يحضر من حلب إلى مصر، وأمسك البريدية وأخذ ما معهم، وعمى الأخبار على قوصون وعلى ألطنبغا، وظهر بعزم كبير وحزم كثير، وساعده القدر وخدمته السعود زائداً، حتى لقد كنت أعجب منه.
وصار أمره كلما جاء قوي، وأمر ألطنبغا كلما جاء انحل وضعف، وترددت الرسل بينه وبين ألطنبغا، وطال الأمر بينهما، ولم يزالا كذلك إلى أن وصل ألطنبغا من حلب ونزل القطيفة، وأقام بها ثلاثة أيام، وجبن عن لقاء الفخري ومعه عسكر دمشق وعسكر حلب وعسكر طرابلس في عدة تسعة عشر ألف فارس أو أكثر، وضعفت نفوس الذين مع الفخري؛ لأنهم دون الثلاثة آلاف بمن معهم من رجالة الجبلية من أهل البقاع وبعلبك، وترددت القضاة بينهما، ومال الفخري إلى الصلح وقال: أرجع عنك بشرط أن توفي عني مال الأيتام؛ لأنني أنفقت على من معي من العسكر، ولا تقطع من رتبته في وظيفة. فتوقف ألطنبغا، وطال التردد بينهما، والعسكران في المصاف، وهلك من مع ألطنبغا من الجوع؛ لأن عسكر الفخري حال بينهم وبين دمشق، وسيب المياه على المرج، فحال بينه وبين حريمه، وبين العسكر وبين دمشق، ولو نزل ألطنبغا ولم يقف بالقطيفة داس الفخري ومن معه دوساً، ولو وافق الفخري على ما أراد ودخل إلى دمشق دخلها وملكها وبقي على حاله نائباً، وكان الفخري يكون ضيفاً عنده تحت أوامره ونواهيه، ولكن إذا أراد الله أمراً بلغه، فلم يكن ذلك النهار إلا بمقدار الثالثة من النهار حتى مال العسكر الشامي بمجموعه إلى الفخري، وحركوا طبلخاناتهم وتحيزوا إلى الفخري، وتركوا ألطنبغا وحده على ما مر في ترجمته، فهرب فيمن هرب معه من الأمراء، ودخل الفخري بعساكره إلى دمشق، وملكها ونزل القصر الأبلق، وأخذ في تحليف العساكر للسلطان الملك الناصر أحمد، وجهز إليه ليحضر إلى دمشق، فقال: جهز لي الأمراء الكبار الذين عندك. فتوجه إليه الأمير سيف الدين طقزتمر، والأمير بهاء الدين أصلم، والأمير سيف الدين قماري، وعلم الدين سليمان بن مهنا، فتوجهوا إلى الكرك، وعادوا ولم يحضر معهم، ووعده بأنه إذا حضر طشتمر نائب حلب حضرت، فأخذ الفخري في العمل على حضور طشتمر من بلاد الروم، ولم يزل في الليل والنهار يعمل على ذلك إلى أن حضر، ووصل إلى دمشق، فخرج وتلقاه، وأنزله بالنجيبية على الميدان، وحمل إليه مالاً عظيماً.

ووردت كتب الملك الناصر أحمد إلى الأمراء الكبار بالشام تتضمن أن الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري هو كافل الشام يولي النيابات الكبار لمن يختار، فوجه الأمير علاء الدين طيبغا حاجي إلى حلب نائباً، ووجه الأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار إلى حمص نائباً، ووجه الأمير سيف الدين طينال إلى طرابلس نائباً، وشرع في عمل آلات السلطنة وشعار الملك، ويسأل من الناصر أحمد الحضور وهو يسوف به وبالأمير سيف الدين طشتمر إلى أن عزم الفخري وطشتمر على التوجه إليه بالعساكر إلى القاهرة، فلما قاربا القاهرة بعث إلى الفخري وإلى طشتمر من يتلقاهما، وأكرم نزلهما، واستتب الأمر للناصر أحمد، وحلف المصريون والشاميون له، وكان يوم البيعة الفخري واقفاً مشدود الوسط، وبيده عصاً محتفلاً بذلك الأمر احتفالاً كبيراً.
وخرج الأمير سيف الدين آقسنقر الناصري إلى غزة نائباً، وخرج الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي إلى صفد نائباً، وخرج الأمير سيف الدين الملك إلى حماة نائباً، وخرج الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور إلى حلب نائباً، وخرج الفخري بعد الجميع إلى دمشق نائباً، فلما كان قريباً من العريش لحقه الأمير علاء الدين ألطنبغا المادراني في ألفي فارس لإمساكه والقبض عليه، فأحس بذلك، ففرق ما معه من الأموال وهرب في نفر قليل من مماليكه، ولحق بالأمير علاء الدين أيدغمش وهو على عين جالوت، واستجار به. فأكرم نزله أول قدومه، ثم بدا له فيما بعد، فأمسكه وقيده وجهزه مع ولده أمير علي إلى القاهرة، فلما بلغ الناصر أحمد إمساكه خرج إلى الكرك، وأخذ معه طشتمر - وكان قد أمسكه أولاً على ما تقدم في ترجمته - وسير إلى أمير علي من تسلم الفخري منه، وسار به إلى الكرك، ودخل الناصر أحمد الكرك، واعتقل الفخري وطشتمر بالكرك مدة يسيرة، فيقال: إنهما في ليلة كسرا باب حبسهما وخرجا، ولو كان معهما سيف أو سلاح ملكا قلعة الكرك تلك الليلة، وكان الناصر أحمد في تلك الليلة قد بات خارج القلعة، ولما أصبح أحضرهما وقتلهما صبراً قدامه.
يحكى أن طشتمر خار من القتل وضعف وانحنى، وأما الفخري فلم يهب الموت، وقال للموكلين بهما: والكم قدموني قبل أخي هذا، فإن هذا ماله ذنب، لعله يحصل له بعدي شفاعة. وكان قتلهما في التاريخ المذكور.
وكان الفخري شجاعاً مقداماً أريباً داهيةً حليماً جواداً أمياً لا يحسن يكتب شيئاً، وإنما يكتب على التواقيع وعلى الكتب دواداره طغاي.
قال لي القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: ما رأيت أكرم منه، لا يستكثر على أحد شيئاً يطلبه. انتهى.
قلت: ولما جاء ونزل في القصر الأبلق بعد هروب ألطنبغا كتب كتباً على لسانه إلى الأمراء المصريين، ورمى بينهم، فاختلفوا على قوصون وأمسكوه، هذا وهم في قصر دمشق فعل هذه الفعلة، فكنت أعجب من دهائه مع غتميته وأميته وما دبره وما اعتمده حتى خبط الشام ومصر. على أنه لما أدبرت سعادته كان حتفه فيما دبره:
إن المقادير إذا أبرمت ... ألحقت الحازم بالعاجز
ولقد أقول إذا فكرت فيه:
أضاعوه وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
وقلت أنا فيه لما قتل - رحمه الله، تعالى - :
سمت همة الفخري حتى ترفعت ... على هامة الجوزاء والنسر بالنصر
وكان به للملك فخر فخانه ال ... زمان فأضحى ملك مصر بلا فخر
ولما كان بعد واقعته جلسنا يوماً بحماة في خدمة القاضي شهاب الدين بن فضل الله، فأخذ في نظم شيء من المجون مع شخص ينبسط معه، ونظم هو وغيره أشياء ما بين هجو وما بين مجون، وألزمني، فاستعفيت، فقال: لا بد، وأقسم علي، فقلت:
هل لك في أير غدا رأسه ... تعجب منه قبة النسر
لو أنه في جيش ألطنبغا ... خري له قطلوبغا الفخري
فأعجباه وزهزه لهما كثيراً، وقال: ما بقي بعد هذا شيء، وترك ما كان فيه.
قطلوبغاالأمير سيف الدين الناصري المعروف بالمغربي.
كان قد جاء في بشرى بعافية السلطان إلى دمشق لما كان قد مرض السلطان وعوفي، وحصل له شيء كثير من تنكز ومن أمراء الشام.
وكان أمير مئة مقدم ألف، وكان قد حضر مع رسول القان بوسعيد من القاهرة، فوصله إلى الفرات، وعاد إلى القاهرة، فمات عند وصوله إليها في ثامن شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة.

وكان فيه دين وخير. حج في وقت بالركب المصري، رحمه الله، تعالى.
قطلوبكالأمير سيف الدين المنصوري المعروف بقطلوبك الكبير.
كان أميراً إذا قيل: أمير، لا بل ملكاً على تحقيق قدره الكبير، لم ير الناس مثل رخته، ولا مثل جلوسه في سعادة تخته، أموال تفوق الأمواج، وخيول حصونها أعظم من الأبراج، ومماليك كأنهم الكواكب، وحفدة تتجمل بهم المواكب، وآلات، تفتخر بها البدور في الهالات، حتى كان الناس يعجبون من بذخه، وعنفوان سعده الزائد وشرخه.
وكان ذا خبرة ودهاء، ومعرفة بالأصناف واعتناء في الاقتناء، وتوجه إلى السلطان الملك الناصر وأحضره من الكرك، والتزم له بأنه لا هم يناله ولا درك، وهو الذي أتى به، وأخذ في توكيد ملكه وأسبابه، ويقال: إنه هو الذي قام له بشعار الملك من عنده، وكلما احتاج إليه في ذلك المهم عجله في نقده، حتى إن الحوائص الفضة والذهب أحضرها في أطباق الغسيل، وزاد في هذه الأشياء وأمثالها حتى عجب منه الفرات والنيل، فعظمه السلطان، ووعده بأن يكون في دمشق نائباً، وأن يكون هو حاضر الملك إذا كان هو غائبا. ثم إنه من مصر أخرجه إلى صفد نائبها، وألزمه أن يكفيها مهامها ويكف نوائبها، ثم إنه أمسكه فيها بعد قليل، وأذاقه فيها الخطب الجليل. وقبض عليه في رابع عشري جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة بصفد، وحمل منها إلى الكرك.
وفي شهر رجب سنة إحدى عشرة حمل بكتمر الجوكندار إلى الكرك، واعتقل مع كراي وقطلقتمر صهر الجالق وأسندمر نائب طرابلس وبتخاص.
كان الأمير قطلوبك الكبير - رحمه الله، تعالى - مؤاخياً لسلار، وولي الحجوبية في مصر؛ لأنه كان قد ولي الشد بدمشق عوضاً عن جاغان لما قتل حسام الدين لاجين مدة يسيرة إلى أن وصل السلطان من الكرك إلى مصر، فأعرض عن الشد، وتوجه إلى مصر في يوم الأحد سادس عشري جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وست مئة، فولاه السلطان الحجوبية عوضاً عن الأمير سيف الدين كرت لما قتل، فعملها عملاً صغرت النيابة معه فيها، وقل قدرها؛ لجمع الأمراء عليه والأويراتية والوافدين، ومد السماك لهم وإفاضة الخلع عليهم، فأهم البرجية أمره خوفاً من قوة شوكة سلار، فأخرج إلى الشام وولي نيابة طرابلس، فكرهها، واستعان بالأفرم في الإقالة منها، فأقيل. ثم كانت بينه وبين أسندمر الكرجي نائبها بعده مصاهرة، كان معين الدين بن حشيش هو الساعي فيها.
واستقر قطلوبك الكبير في دمشق من مقدمي الألوف، ولم يمش إلا مشي عظماء الملوك من فرط البذخ والتجمل وعظم الخدم والحشم والأتباع ووفور الحاشية وكثرة الغاشية مما لا يقوم مغل إقطاعه بثلث الكلفة له، وكلما طال الزمان ومر عليه ازداد في ذلك أمره، وكان لا يدري من أين مدده، ولا كيف تنفق يده، وظهر من الأفرم كراهية له؛ لأنه بان له تكبره عليه، فوقع بينهما، ودخل الحاج بهادر وبكتمر الحاجب وغيرهما من الأمراء بينهما، فاصطلحا، وأوجبوا على قطلوبك الشكران، فعمل ذلك في المرج.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: أنفق فيه ما يقارب الثلاثين ألف دينار ما بين طعام وشراب وخلع وتقادم للأفرم وحاشيته، وكانت الضيافة ثلاثة أيام لم ينقطع مددها. قال: وكنت ممن حضرها ونظرها، وهي تزيد على الوصف.
قال: والتزم مرة بدرك الرحبة سنة حملاً عن الأمراء، وجر نحو مئة جنيب من الخيل غير الهجن مجللات بالحرير ملبسات حلي الذهب والفضة، جميعها باسمه ورنكه، وأقام بالرحبة عشرة أشهر غير مسافات طرقه، وكان يقيم بأكثر الجند المضافين إليه، فأما جنده فلا يتكلف أحد منهم شيئاً في مدة بيكاره قال: فحكى لي صاحبنا الشريف ناصر الدين محمد الحسيني - رحمه الله، تعالى، وكان من مضافيه - من هذا ما تعجب منه، وقال لي: كان راتب شرابخانته في شهر رمضان في كل يوم وزن خمسة وعشرين رطلاً بالدمشقي من السكر، وبنى بالرحبة جامعاً وقصراً وميدان كرة ومنازل للجند.
قال: ولما أتى السلطان من الكرك إلى دمشق كان لا ينفق في مدة مقامه بدمشق تلك الأيام إلا من خزائنه، وسفره، إلى أن دخل إلى مصر، وهو من دمشق على وظيفة الأستاذ دارية، ثم أخرجه إلى صفد نائباً، فأقام بها إلى أن أمسكه.

وكان قطلوبك بغا يعاني زي المغل في لبس الكنبك والطرز بين كتفيه، وركوب الأكاديش غالباً، وكان أسمر شديد السمرة بطيناً حسن الصورة، يكتب خطاً جيداً قوياً، وله إلمام ببعض عربية وفقه وحديث، وعنده تندير وولع على سبيل اللعب، وله شعر منه ما عمله في مجلس الأفرم في ساق يسقيهم القمز، فقال:
أمير الحسن ساقينا ... يحيينا فيحيينا
فيالله ما أحلى ... إشارات المحبينا
فأمر الأفرم الشيخ صدر الدين بن الوكيل - رحمه الله، تعالى - بأن يزيد عليها، فذيلها بأبيات، ثم إنه أمر بها فلحنت، وغني بها عامة يومه.
قلت: إلا أنه كان يأخذ أموال الناس، وما يعطيهم شيئاً، وإذا اشترى من أحد شيئاً ما يعوضه بثمنه، فأخذ مرة من تاجر شيئاً، وحال ما بينه وبين ثمنه، ولم يجد التاجر من يخلص حقه، فشكا حاله إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية - رحمه الله، تعالى - فتوجه معه إليه، فلما دخل إليه قام له وأجلسه، وقال: شيخ، إذا رأيت الأمير بباب الفقير فنعم الأمير ونعم الفقير، وإذا رأيت الفقير بباب الأمير فبئس الأمير وبئس الفقير. فقال له الشيخ تقي الدين: اسمع قطلوبك، لا تعمل دركوانات العجم، موسى كان خيراً مني، وفرعون كان أنحس منك، وكان موسى يأتي إلى بابه كل يوم ويأمره بالإيمان، أعط هذا التاجر ماله. فقال: نعم، ووزن له الذي له.
وعمل عيد النحر في صفد، فنحر من الضحايا بقراً وغنماً ما يزيد على الوصف، وبعث بذلك إلى الزوايا والفقراء، وجافت بذلك صفد، وأنتنت بأسقاط الأبقار والأغنام، ولم يجد ذلك من يأكله.
قطلوبك بن قراسنقرالأمير سيف الدين ابن الأمير شمس الدين الجاشنكير، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
كان ظريفاً في عباراته، لطيفاً في إشاراته، عليه خفر أولاد الناس، وفيه مباينة غيره من غرائب الأجناس، يتأنق في مآكله الشهيه، ويتخرق في ملابسه البهيه، يترامى على ود أصحابه، ويخالط كل أحد بما هو أولى به، وله ندماء وعشراء، وأصحاب وخلطاء.
ولم يزل على حاله إلى أن ذابت شحمتا عينيه، ووجد ما قدم من الأعمال بين يديه.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في سابع شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
كان قد باشر الحجوبية بدمشق عوضاً عن الأمير شهاب الدين قرطاي في سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وعزل منها في... وبقي على إمرته، وندبه الأمير سيف الدين تنكز إلى عمارة القناة التي ساقها من عين عروب إلى القدس، ولما فرغ من ذلك طلبه السلطان الملك الناصر محمد، وطلب الصناع الذين كانوا معه في العمل، فتوجهوا في البريد، ولما وصلوا قال لهم السلطان: أريد أن أسوق خليجاً من النيل إلى سوق الخيل تحت القلعة، وأرميه على القاهرة. فتوجه الأمير قطلوبك بالصناع إلى حلوان، ووزنوا مجرى الماء وعادوا، وقالوا للسلطان: هذا يصير بسعادتك. قال: كم يريد؟ قالوا: ثمانين ألف دينار، قال: ما هو كثير؟ قال: وكم يريد من المدة؟ قالوا: عشر سنين، فقال: هذا كثير. وبطل ذلك العزم، وأعادهم إلى دمشق.
ولما جاء الأمير شرف الدين حسين بن جندربك إلى دمشق ليتوجه منها إلى القاهرة لما طلبه السلطان في سنة سبع وعشرين وسبع مئة اجتمعا وتحادثا، وانشرحا لما بينهما من الرومية التي تجمعهما، وذكرا قديم صحبتهما، وأحضر أمير حسين وصية كنت كتبتها له بصفد، وقرأتها عليهما. ومما وصى به فيها يقول: فإن مات بدمشق فيدفن في تربتهم بجبل قاسيون المعروفة بهم، وإن مات بالقاهرة يدفن في بيت الخطابة بجامعه الذي أنشأه ظاهر القاهرة بحكر جوهر النوبي، وإن مات في الغزاة يترك في مكانه في الفلاة ليبعثه الله - تعالى - من حواصل النسور وبطون السباع. فقال قطلوبك بن الجاشنكير: والله يا أمير شرف الدين لقد اخترت ميتة عجيبة، والله أنا ما أشتهي أن أموت إلا على فراشي، ونطوعي ومخادي المزركشة في باشخاناتي، ويخرج نعشي وعليه الريحان والياسمين، وجواري من خلفي يبكين علي ويندبنني، فعجبت من تفاوت قصديهما، رحمهما الله، تعالى.
قطلوبكالأمير سيف الدين الشيخي، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
توفي - رحمه الله، تعالى - بدمشق في خامس شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
قطلوتمرالأمير سيف الدين الخليلي الناصري.

كان من جملة الأمراء بدمشق، وولاه الأمير سيف الدين طقزتمر نائب دمشق الحجبة. وكان حاجباً صغيراً، وعمر الدار التي في العقيبة قبالة سوق الخيل والمئذنة والمسجد، وله الدار التي في القصاعين، وبقي على ذلك إلى أن حضر الأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار من القاهرة متوجهاً إلى حمص نائباً في أول دولة الكامل شعبان، ولما وصل القسطل حضر البريد من مصر برده وأن يتوجه الخليلي مكانه إلى حمص نائباً، فتوجه الأمير سيف الدين قطلوتمر، وأقام بحمص قريباً من شهر.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في أواخر جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وسبع مئة.
قطليجاالأمير سيف الدين الحموي الناصري الجمدار.
كان حسن الصورة بهيا، لطيف الحركات شهيا، أبيض تعلوه حمرة قانيه، نقي الثغر كأنه أقحوانة في الروض زاهيه، معتدل القوام، مبتسماً على الدوام، إلا أنه في حماة أساء السيره، ولم يجعل التقوى ظهيره، ونقل منها إلى حلب فما تمتع بها، ولا لحق أمره يتمسك بسببها، إلى أن ذوت زهرته اليانعه، وقامت به الناعية الرائعه.
وتوفي بحلب - رحمه الله، تعالى - في آخر نهار الخميس جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة.
لما توفي الملك الناصر أستاذه عهدي به وهو أمير عشرة بالديار المصرية، ثم إنه تأمر طبلخاناه، وحضر إلى دمشق، وأقام بها أميراً مدة في أيام الكامل شعبان، ولما تولى المظفر حاجي ونقل أسندمر العمري من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس طلب قطليجا المذكور إلى مصر، ورسم له بنيابة حماة، فحضر إليها، وأقام بها. وهو الذي أمسك الأمير يلبغا اليحيوي لما خرج على المظفر، على ما سيأتي في ترجمته.
ولم يزل قطليجا في حماة نائباً إلى أن قتل أرغون شاه نائب دمشق، ورسم للأمير سيف الدين أرقطاي بنيابة دمشق، وأن يكون قطليجا بدله في نيابة حلب، فتوجه إليها، ودخلها في العشر الأوسط من جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة، فأقام بها أياماً قلائل.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في التاريخ المذكور.
قطليجاالأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار، وأحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
كان أبيض أزهر اللون، حسن الشكل تام الكون، ظريف الحركات، لطيف السكنات، على وجهه مسحة جمال، وفيه من البدر حسنه ليلة الكمال. لم ير أزرق العين أحسن منه مقله، ولا أفتك من جفونه في كل حمله.
وكان الأفرم يعض على حبه بالنواجذ، وله في حسنه إدراكات وما عليه فيها مآخذ، وكان هو ليس في دمشق من يلعب مثله بالكره، وله في الميدان صولة بها ومقدره، إلى خصائص أخر من فروسيته، ومحاسن تذهل العقول إذا فكرت في انفراده وجمعيته.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح شخصه مع قربه أبعد من أمسه، وتخيل الناس أن النجم دفن في رمسه.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة، وكان في عشر الأربعين.
لما جاء السلطان الملك الناصر من الكرك إلى دمشق جعله في عداد السلاح دارية، وكان - على ما قيل - يسوق الفرس، ويأخذ نصف السفرجلة من غصنها، ويدع النصف مكانه وهو في أقوى مشوار الفرس، وهو أمر معجز لغيره.
وأما اللعب بالكرة فكان فيه غاية، يقال: إن برديته كانت زنة مئتي درهم وخمسين درهماً، ولقد جاء إلى صفد مرات والجوكندار الكبير في صفد نائب، وكان يلعب هو والأمير ناصر الدين محمد بن الجوكندار، وكنا نتفرج عليهما، ويقول الناس: هذا طبجي مصر وهذا طبجي دمشق. وكان الأمير ناصر الدين أرشق على ظهر الفرس وأسرع حركة، والأمير علاء الدين قطليجا إذا تناول الكرة بصولجانه ما يحتاج معه إلا ضربة واحدة وقد بلغها المدى.
ورأيته - رحمه الله، تعالى - كثيراً ما يتقيأ، ثم بعد ذلك يتغرغر بالخل والماورد، هذا دائماً، وكان يحسو من دهن اللوز المربى شيئاً كثيراً قنينة قنينة، وكان للأمير سيف الدين قطلوبك الكبير إليه ميل، ولما جاء إلى صفد نائباً أحضره من دمشق إلى صفد أميراً، ولما أمسك قطلوبك عاد قطليجا إلى دمشق على مكانه.
اللقب والنسبالقفصي: محمد بن سليمان.
ابن قطينة: شهاب الدين التاجر أحمد بن محمد، وزين الدين عمر بن أحمد.
قطنبة: شرف الدين حسن بن محمد.
ابن قليلة: عمر بن عوض.
قلاوزالأمير سيف الدين الجمدار الناصري.

كان من جملة أمراء الطبلخانات بدمشق، ثم إنه أعطي إمرة مئة وتقدمة ألف.
ولاه الأمير سيف الدين طقزتمر نيابة حمص، فأقام بها مدة. ثم إنه عزل منها، وكانت ولايته لحمص بعد الأمير سيف الدين بكتمر العلائي، ولما عزل من حمص حضر إلى دمشق وأقام بها، وتقدم عند الأمير سيف الدين يلبغا. ولما برز إلى الجسورة في أيام الكامل عاضده ووازره، ولما انتصر رعى ذلك له، وصار حظياً عنده يلازمه وينادمه. ولما كانت المرة الثانية برز معه إلى الجسورة في الأيام المظفرية، ولما هرب يلبغا لم يتوجه معه أحد من الأمراء غيره وغير محمد بن جمق، على أنه كان قد أودع خزائنه في داريا، وأراد أن ينهزم، فما أمكنه. ولم يزل معه في البرية إلى أن دخلا إلى حماة، والأمير سيف قلاوز ضعيف، وقد عمل قدامه مخدة على الفرس، وأقام بها مدة جمعة، وورم وازرق؛ لأنها كانت أيام شديدة الحر، وكان هو في نفسه سميناً بديناً.
فمات - رحمه الله، تعالى - في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة قبل أن يخرج يلبغا من حماة، رحمهما الله، تعالى.
قماريالأمير سيف الدين الناصري أمير شكار.
كان من الأمراء الخاصكية الكبار في أيام الملك الناصر محمد. كان عند أستاذه مكينا، ثابت الأساس ركينا، زوجه إحدى بناته، وجعل غصنه في روض ملكه من أحسن نباته، ثم قدمه على الألف، وجعله أمير مئة يكون إماماً والناس من خلف، وكان عقله وافرا، ووجهه كأنه البدر سافرا.
ولم يزل في مراقي سعوده، ومعارج صعوده، إلى أن قمر الموت قماري، وناحت عليه الحمائم والقماري.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة بالقاهرة.
جاء إلى دمشق في مهم لأستاذه إلى تنكز في سنة خمس وثلاثين - أو ست وثلاثين - وسبع مئة، وحضر إلى الجامع الأموي بدمشق، وتفرج فيه وفي الفوارة بجيرون، وفي غيرها، وكان مجيئه في الظاهر بطيور جوارح على العادة، وفي الباطن بسبب إمساك الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك.
حكى لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: لما عاد من الشام أرسل إلي وإلى الدوادار وإلى أمير جاندار، وقال: ما أدخل إلى مولانا السلطان إلا بكم، فقلنا له: يا خوند، أنت ما أنت غريب، أنت من كبار الخاصكية، وزوج ابنة مولانا السلطان، فقال: أنا الآن في حكم الغرباء الأجانب، فلما قيل ذلك للسلطان أعجبه هذا التأني، وقال: جيداً عمل.
ولما تولى الملك الصالح إسماعيل أخذ قماري هذا وجعله أمير آخور، فأقام قليلاً، وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في أوائل جمادى الأولى من السنة المذكورة.
قماريالأمير سيف الدين الناصري أخو الأمير سيف الدين بكتمر الساقي الناصري.
كان شكله مليحا، ووجهه يلوح به الجمال صريحا، عمل أستاذ دارية الملك الصالح إسماعيل، وكان يشارك في الكثير والقليل، أحد من يشار إليه، وتقوم أركان الدولة به وعليه. ورأى في أيام الصالح دهراً صالحا، وعيشاً لو شراه بالنفس كان رابحا، إلى أن أخرجه الكامل إلى طرابلس نائبا، وأتاها فكان أمله في الحياة خائبا، وقوض الخيام للرحلة الكبرى، وجعل العيون على فقده عبرى. وأمسك بطرابلس في أواخر ذي الحجة سنة ست وأربعين وسبع مئة.
كان الأمير سيف الدين قماري في أيام أخيه أميراً صغيراً لا يدرى به ولا يحس، ولما مات أخوه بكتمر الساقي في طريق الحجاز أعطاه السلطان إمرة مئة وتقدمة ألف، ولم يزل إلى أن خرج مع الفخري إلى الكرك لحصار أحمد، وحضر معه إلى دمشق ثم توجه إلى مصر وأقام بها أميراً كبيراً، ولما تولى الملك الصالح كان أستاذ داره، وكان أحد المشارين إليهم في تلك الدولة، فلما ولي الكامل شعبان أخرجه إلى طرابلس نائباً، فمرض في أول قدومه إليها مدة أشفى معها على التلف، ثم إنه انتعش منها واستقل. ولم يزل بها إلى أن حضر الأمير سيف الدين طقتمر الصلاحي في البريد، فأقام بدمشق أياماً قلائل، وتوجه إلى طرابلس في العشر الأواخر من ذي الحجة، وقبض عليه وأحضره مقيداً إلى دمشق، ثم إنه جهز منها على البريد إلى مصر مقيداً في ذي الحجة سنة ست وأربعين، وكان الناس قد أرجفوا بأنه قد عزم على أن يقفز باتفاق مع الأمير سيف الدين الملك نائب صفد.
قماريالأمير سيف الدين، كان أخا الأمير علاء الدين أمير علي المارداني نائب السلطنة بدمشق.

ورد مع أخيه من الديار المصرية في خامس ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وكان يعتمد على عصاً إذا مشى؛ لأنه كان عرج يسير، وكان بطالاً، فرسم له بعد مدة بخمسين درهماً في كل يوم مرتباً على الأموال الديوانية إلى أن ينحل إقطاع إمرة، فأخذ ذلك مدة، ولما توفي الأمير ججكتو التركماني بدمشق أعطي إقطاعه بالإمرة، وأقام على ذلك إلى أن مرض مرضة طول فيها، وأصابه فيها فالج.
ثم إنه ابتلي بالصرع، فكان يصرع في النهار عشر مرات وأكثر وأقل، وبقي على ذلك قريباً من خمسين يوماً حتى تعجب الناس من ذلك، ولم يسمع بمثل أمره، وأغمي عليه مرات، وجزموا بموته، ثم إنه يفيق بعد ذلك إلى أن توفي - رحمه الله، تعالى - في بكرة الأحد ثالث شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية برا باب النصر، ومشى أخوه ملك الأمراء في الجنازة والأمراء والحجاب والقضاة وغيرهم. وكانت جنازة حافلة. وبعد دفنه مد أخوه سماطاً على قبره أكل منه من كان حاضراً من مماليكه وغيرهم، ولم يأكل هو شيئاً، وبات على قبره، وجاء الناس إليه على طبقاتهم ثاني يوم بكره.
وكتبت أنا فيه مرئية قرأها ملك الأمراء أخوه، وهي:
إن حزني على الأمير قماري ... علم الورق شجوها القماري
باح سري فيه بمضمون وجدي ... لا أواري بين الضلوع أواري
سار فوق الأعناق للترب عزاً ... ودموع الورى عليه جواري
ونجوم الدجى لبسن حداداً ... وأرتنا تهتك الأستار
وعيون الغمام تبكي بجفن ... وتبل الثرى بدمع القطار
ولكم لطم الرعود سحاباً ... فتراه مشقق الأطمار
وجبين الصباح شق فأضحى ... شفق الصبح زائد الإحمرار
ونسيم الصبا يهب عليلاً ... بفتور في ساعة الأسحار
لو أفاد الفداء ميتاً سمحنا ... بنفوس جادت بغير اعتذار
وترامت من دونه للمنايا ... لا توان يعوقها في توار
غير أن المنون في الفتك لا تع ... با بسمر القنا وبيض الشفار
كاد لولا أخوه حي يسيل الد ... مع في الخد كالدم الموار
جرح الدمع ثم آسى ببقيا ... كافل الملك ذي الزناد الواري
ملك قد حمى دمشق بعزم ... آمن في مدى الردى من عثار
وبها العدل قد أقام وحكم الش ... رع في ربعها رفيع المنار
لا تحل الخطوب منها بربع ... فهي محروسة بعين الداراري
وندى كفه إذا جاد يلقى ... لأنسكاب الغمام فيها يباري
صبر الله قلبه في مصاب ... زاد منه الأموات أكرم جار
ترك المال والبنين وولى ... عن ديار البلى لدار القرار
هو ضيف قد بات عند كريم ... باذل العفو ساتر غفار
يا سمي الولي لا ذقت يوماً ... بعدها حادثاً من الأقدار
وحمى الله منزلاً أنت فيه ... ووقاه من دهرنا الغدار
وفدتك النفوس من كل سوء ... ما أزاح الدجى بياض النهار
اللقب والنسبابن القماج: القاضي جمال الدين أبو بكر بن إبراهيم.
ابن القماح: القاضي شمس الدين محمد بن أحمد.
القمولي: القاضي نجم الدين أحمد بن محمد. ونجم الدين محمد بن إدريس.
القمني: محمد بن الحسن.
القمي الشريف: محمد بن محمد بن أحمد.
القنائي: جماعة منهم: محيي الدين أحمد بن محمد، والشريف تقي الدين محمد بن جعفر.
القواس: المسند أحمد بن عبد الرحمن.
القواس البعلبكي: صالح بن أحمد.
القواس الوتار: علي بن إسماعيل.
ابن القواس: ناصر الدين عمر بن عبد المنعم. وناصر الدين محمد بن إسماعيل.
ابن قوام: الشيخ نجم الدين أبو بكر.
ابن قوام: الشيخ محمد بن عمر.
والقوام الكرماني: مسعود بن محمد.
ابن القوبع: ركن الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن.
القونوي: الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل.
والقونوي: الشيخ علاء الدين علي بن محمود.
قوصون

الأمير الكبير النائب سيف الدين الساقي الناصري.
كان أميراً وهو في عداد الملوك الكبار، وهو المشار إليه في أواخر الدولة الناصرية وما بسواه اعتبار، ليس فيه شر، ولا عنده ظلم ولا ضر، لطيف النفس، قليل البأس، ولما هيجوه هاج منه ذو لبدة ضرا، وسلوا منه حساماً ما لقي الضريبة إلا فرى.
نهض بخلع أبي بكر المنصور، وأعاد ذاك الشمل وهو مبتوت ومبتور، ونثر من الدولة عقداً نظيما، وفرق بعزمه جمعاً عظيما، وفرق أموالاً تكاثر البحار الزخاره، والكواكب السياره، إلا أن الزمان أخنى عليه أخيرا، ورد جبره كسيرا، وطرف سعادته حسيرا، ولو دام على ما كان عليه أيام أستاذه لما رمي بالداهيه، ولا كانت شدته متناهيه:
توقى البدور النقص وهي أهلةً ... ويدركها النقصان وهي كوامل
فإن رمت أهنأ العيش فابغ توسطاً ... فعند التناهي يقصر المتطاول
ولما خانه أصفياؤه وتمادوا، وتعاونوا على خذلانه وتغادوا، قبض عليه ونهبت أمواله، وفرق رجاله، وخرجت عمائره وأوقافه، وانهالت كثبه وأحقافه، وأصبح لعدوه رحمه، وصار بينه وبين الفرج زحمه، واعتقل بثغر الإسكندرية إلى أن خنق واشتفى منه كل قلب حنق.
وكانت واقعته التي عدم فيها في شوال سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
كان أولاً من أكبر خواص الملك الناصر، لم يكن بعد بكتمر الساقي أكبر منه، وزوجه السلطان ابنته - وهي ثانية ابنة زوجها من مماليكه - ودخل بها في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وكان عرساً حفلاً احتفل به السلطان، وحمل الأمراء التقادم إليه، وكانت جملتها خمسين ألف دينار، وكنت بالقاهرة في تلك المدة، وصنع في ليلة عرسه الأمير سيف الدين قجليس برج بارود ونفط يقال: إنه غرم عليه مقدار ثمانين ألف درهم.
وكان من قوصون قد حضر أولاً إلى الديار المصرية مع الجماعة الذين حضروا صحبة ابنة القان أزبك زوج السلطان، وهو ابن ناس ولم يكن مملوكاً، ولكنه طلع يوماً مع تجار المماليك ليرى السلطان قريباً، فوقعت عين السلطان عليه، فقال: لأي شيء ما تبيعونني هذا؟ فقالوا: هذا ما هو مملوك، فقال: لا بد أن أشتريه، فوزن فيه مبلغ ثمانية آلاف درهم وجهزت إلى أخيه صوصون إلى البلاد، ثم إنه أنشأه وقدمه وأمره ورشحه لكل شيء، وأعطاه آمرية مئة وتقدمة ألف، وصار في طبقة بكتمر الساقي، وكان يتنفس عليه ويفتخر، ويقول: أنا السلطان اشتراني بماله، وكنت من خواصه وأمرني وقدمني وزوجني ابنته، ما أنا مثل غيري تنقلت من التجار إلى الاصطبلات إلى الطباق.
وعمر جامعاً حسناً على بركة الفيل وعمر الخانقاة المليحة العظيمة بالقرافة وكان السلطان يتنوع في الإنعام عليه. قيل: إن السلطان دفع إليه مفتاح الزردخاناه التي لبكتمر الساقي وقيمتها ست مئة ألف دينار.
ولما مات السلطان الملك الناصر قام هو في صف المنصور أبي بكر، وقام في صف الناصر أحمد الأمير سيف الدين بشتاك، واختلفا، وفي الآخر كان الأمر على ما أراده قوصون حسبما تقدم ذكره في ترجمة بشتاك، وجلس الملك المنصور أبو بكر على التخت، واستقرت قواعده. ثم إن خلطاءه حسنوا له القبض على قوصون وعلى غيره من الأمراء، فبلغ ذلك قوصون، فعمل عليه وخلعه من الملك وجهزه إلى قوص، وأجلس أخاه الأشرف كجك على كرسي الملك، وحلف الناس له، وصار هو نائباً، وجهز الفخري إلى الكرك يحاصر أحمد، فجرى ما جرى في ترجمة الفخري.

وكان طشتمر نائب حلب قد تنفس أولاً على قوصون، فاستعان عليه بألطنبغا نائب دمشق، ولما خرج من دمشق خامر الفخري على قوصون، وحضر إلى دمشق، وملكها، وجرى ما تقدم، وأغرى الفخري الناس بقوصون، وصار يقول: هذا الغريب يخلع ابن أستاذنا ويقتله؟! هذا ما نصبر عليه. وظهر الشناع على قوصون لما قتل أبو بكر في قوص، وكان قد قتل جماعة من الحرافيش، وقطع أيدي جماعة وسمرهم، وسمر جماعة من الخدام، وسمر ولي الدولة الكاتب الذي تقدم ذكره، وغيره، فنفرت القلوب منه، وأخذ الفخري يكاتب أمراء مصر عليه، فتنكر أيدغمش أمير آخور عليه، وعامل الخاصكية عليه، فاجتمعوا عنده، وأقاموا ليلتهم عنده صورةً في الظاهر معه، وهم في الباطن عليه عيون، ونادى أيدغمش في الناس بنهب إصطبل قوصون، فثار العوام والحرافيش، وخربوا الإصطبل والخانقاه ونهبوهما، ونهبوا بيوت جماعته وألزامه وحاشيته، وهو يرى ذلك من الشباك ويقول: يا مسلمين، ما تحفظون هذا المال، إما أن يكون لي أو للسلطان، فيقول أيدغمش: هذا شكران للناس، والذي عندك فوق من الجواهر يكفي السلطان، وكلما هم قوصون بالركوب في مماليكه الذين لبسوا السلاح كسر الخاصكية عليه وقالوا له: يا خوند، نحن غداً نركب، ونرمي هؤلاء بالنشاب وقد تفرقوا. لوم يزالوا به إلى أن أمسكوه وقيدوه وجهزوه مع ألطنبغا نائب دمشق وغيرهما، واعتقلوهم في ثغر الإسكندرية - على ما تقدم في ترجمة ألطنبغا - .
ولم يزل معتقلاً بها إلى أن حضر الناصر أحمد من الكرك، وجلس على كرسي الملك بقلعة الجبل، ثم إنه اتفق آراء الدولة على أن جهزوا الأمير شهاب الدين أحمد بن صبح إلى الإسكندرية، فدخل إلى السجن، وخنق ألطنبغا وقوصون وغيرهما في شوال أو في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة.
ولما مات - رحمه الله، تعالى - خلف عدة بنين وبنات.
وكان خيراً يعطي العشرة آلاف درهم والألف إردب قمحاً.
وكان إذا انفرد عن السلطان وهو في الصيد وتوجه هو لنفسه يروح معه ثلث العسكر، وكان الناس يهرعون إلى بابه، ويركب قدامه في القاهرة مئة نقيب أو دون ذلك.
وكان أخوه صوصون أميراً، وابن أخته الأمير سيف الدين بلجك أميراً.
وكان قد وقع بينه أخيراً وبين تنكز، ولما أمسك تنكز وحمل إلى باب السلطان ما عامله قوصون إلا بالجميل، وخلصه من القتل وأشار بحبسه. وعمل النيابة جيداً، وأنعم على الأمراء والخاصكية، وفرق فيهم وفي عسكر مصر - على ما قيل - ست مئة ألف دينار، ولم يتم أمره مستقيماً في النيابة شهرين حتى خرج عليه طشتمر من حلب والفخري من الكرك، وكثرت البثوق عليه، وأعياه سدها، ونهب الناس والحرافيش شيئاً كثيراً إلى الغاية، حتى إن الدينار أبيع بعشرة دراهم كل مثقال وبأقل لكثرة ما نهب.
وعلى الجملة فكان أمره في أول حاله وفي وسطه وفي آخره من أعاجيب الزمان وغرائب المقدورات.
وقلت أنا في واقعته مع أيدغمش:
قوصون قد كانت له رتبةً ... تسمو على بدر السما الزاهر
فحطه في القيد أيدغمش ... من شاهق عال على الطائر
ولم يجد من ذله حاجباً ... فأين عين الملك الناصر
صار عجيباً أمره كله ... في أول الأمر وفي الآخر
الألقاب والأنسابالقلانسي جماعة، منهم: مفيد بغداد جمال الدين أحمد بن علي. ومنهم: جمال الدين وكيل بيت المال أحمد بن محمد. ومؤيد الدين أسعد ابن الصاحب عز الدين حمزة. وجلال الدين إبراهيم بن محمد. وأمين الدين بن الجلال حسن بن علي. وعلاء الدين وكيل بيت المال علي بن محمد. والصاحب عز الدين حمزة بن أسعد. عز الدين المحتسب محمد بن أحمد. وشرف الدين محمد بن علي. وشرف الدين محمد بن محمد. ومحيي الدين محمود بن محمد. ونجم الدين محمد بن أسعد. وأمين الدين كاتم السر محمد بن أحمد.
قيرانالأمير شرف الدين المنصوري.
كان في القاهرة أمير عشرة، يسكن بالحسينية، وينوب في الأستاذ دارية، وصحب ابن معضاد، ويحفظ شيئاً من كلامه.
ثم إنه نقل إلى شد الديوان بدمشق، وأقام بها مدة. ثم إنه نكب مدةً،ثم نقل إلى حلب، ثم إنه قطع خبره.
وقدم دمشق وكانت نيته أن يتوجه إلى مصر، فتوفي - رحمه الله، تعالى - بداره في درب تليد بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبع مئة.

القيراطي: شرف الدين عبد الله بن محمد.
الألقاب والأنساببنو القيسراني جماعة: عماد الدين القيسراني إسماعيل بن محمد. وولده القاضي شهاب الدين يحيى. وشمس الدين إبراهيم بن عبد الرحيم. والصاحب فتح الدين عبد الله بن محمد. وعز الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد الله. وشرف الدين محمد بن عبد الله.
قيصرالحلاوي بالقاهرية. كان مشهوراً بجودة الحلوى يضرب به المثل في ذلك، مع المواظبة على الخير والصلوات في أوقاتها.
توفي - رحمه الله، تعالى - في تاسع شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ابن قيم الجوزية: شمس الدين محمد بن أبي بكر. وولده عبد الله بن محمد.
ابن القيم: علي بن عيسى.
حرف الكاف

الألقاب والأنساب
الكامل: شعبان بن محمد.
والملك الكامل: محمد بن عبد الملك.
الكازروني: علي بن محمد.
الكاساني: محمد بن إبراهيم.
كاوزكاالأمير سيف الدين المنصوري.
كان من أكابر أمراء دمشق، ومن أكبر مماليك السلطان الملك المنصور.
ورثه السلطان الملك الناصر محمد بالولاء لما توفي في ذي القعدة سنة ست وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون.
ومما يحكى عنه أنه كان إذا استعمل الشراب وطاب وثمل وانتشى أمر مماليكه أن يخرجوا إلى مهتار الطبلخاناه ويأمروه بدقها، واشتهر ذلك عنه واستفاض، وإلى الآن بعض الناس يقول إذا سمع طبلخاناه في غير وقتها: سكر كاوزكا.
1392 - م - كبيس بن منصور بن جمازالشريف أمير المدينة الحسيني.
تولى إمرة المدينة لما قتل والده منصور في رابع عشر شهر رمضان سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ولم يزل بها إلى أن قتل أيضاً في شهر رجب سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ابن الكتاني: الشيخ زين الدين عمر بن أبي الحرم.
كتبغاالملك العادل زين الدين المنصوري المغلي.
كان فيه دين وتعبد، وخير ومزايا له بها تفرد. عديم الشر لا يناوي من ناواه، ولا يقاوي من قاواه، منقاداً لأحداث دهره، مرتاداً لما يريده من خيره وشره، ولذلك سلمت له العاقبه، وأفادته الإنابة إلى الله والمراقبه. ولكن جاء الغلاء المفرط في أيامه، ونقص النيل زائداً عما عهد في قديم أعوامه، فتشاءم الناس بطلعته، ولم ينفق القدر له رديء سلعته، وكان إذا رأى ذلك زاد بكاؤه، وعظم ابتكاؤه، وقال: هذا بحظي وخطيئتي، وهذا جاء في قسمي وقدر في عطيتي:
وغايتي أن ألوم حظي ... وحظي الحائط القصير
ثم إن أخصاءه خانوه، وشانوه بعدما زانوه، ولما فطن لما بطن، وعلم أن الشر قد خيم عنده بعدما قطن، فعل كما فعل الحارث بن هشام، ونجا برأس طمرة ولجام، وتحصن بقلعة دمشق فما أفاده، ثم إنه رجع بعد ذاك إلى الهواده، ونزل على حكم اليد الغالبه، ورضي بعد الموجبة بالسالبه، فأمسى في حالة بعين الرحمة مرموقه، وأصبح بعد أن كان ملكاً وهو في عداد السوقه، عبرة لمن تذكر، وتبصرة لمن تفكر.
واضطر إلى قلعة صرخد بعد ملك مصر والشام، وقعد على مقالي النار بعد ذلك المقام، ثم بعد لأي لوى الزمان إليه عنانه، ورفع قليلاً مكانه، وتوجه إلى حماه، وأرشفه ثغر الزمان لماه، فأقام بها إلى أن زار الموت حماه، وأصابه بسهمه لما رماه.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في يوم النحر نهار الجمعة سنة اثنتين وسبع مئة، ونقل تابوته إلى دمشق، ودفن بتربته بسفح قاسيون.
وكان - رحمه الله، تعالى - أسمر قصيراً دقيق الصوت، لحيته صغيرة في حنكه، أسر حدثاً من عسكر هولاكو نوبة حمص الأولى في آخر سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وأمره أستاذه الملك المنصور، وكان من أمراء الألوف، ثم إنه عظم في دولة الأشرف، التف الخاصكية عليه، وحمل بهم على بيدرا وقتلوه. ولما حضر السلطان الملك الناصر من الكرك عقيب ذلك جعله نائبه، واستمر الحال سنة، ثم تحول الناصر إلى الكرك، وتسلطن كتبغا ولقب العادل، ونهض بأمره لاجين وقراسنقر وطائفة كان قد اصطنعهم في نوبة الأشرف، وتمكن.
وكان جلوسه على الكرسي في يوم الأربعاء حادي عشر المحرم سنة أربع وتسعين وست مئة.
وقدم إلى دمشق يوم السبت منتصف ذي القعدة سنة خمس وتسعين، وصلى بجامعها الأموي غير مرة.

وسافر في الجيش إلى حمص، ثم رد وعاد إلى مصر، فلما كان بأرض بيسان وثب عليه حسام الدين لاجين وشد على مملوكيه بتخاص وبكتوت الأزرق، فقتلهما في الحال، وكانا عضدي كتبغا، واختبط الجيش، وفر كتبغا على فرس النوبة. يقال: إن لاجين لحقه وضربه بطومار رماه به، وقال: انج بنفسك، وتبعه أربعة من مماليكه لا غير، وذلك في صفر سنة ست وتسعين وست مئة.
وكانت دولته سنتين وبعض شهر.
وساق كتبغا إلى دمشق، فتلقاه مملوكه نائبها في الأمراء وقدم القلعة، ففتح له نائبها أرجواش الباب، ودقت له البشائر، ولم يجتمع له أمر، واجتمع كجكن والأمراء، وحلفوا لصاحب مصر، وصرحوا لكتبغا بالحال، فقال: أنا ما مني خلاف، وخرج من قصر السلطنة إلى قاعة صغيرة، وبذل الطاعة للاجين، وقال: هو خوشداشي، فرسم له أن يقيم بقلعة صرخد، وأتاه بعض نسائه وغلمانه. وانطوى ذكره إلى بعد نوبة غازان، فأعطاه السلطان الملك الناصر حماة، فأقام بها إلى أن مات في التاريخ المذكور.
وكان السلطان الملك الناصر يكرهه وما يذكره بصالحة، ويقول: ما أنسى وقد أخرجني إلى الكرك، وفك حلقة من أذني فيها لؤلؤة، وأخذها وحطها في جيبه، وقل أن كان يرى له توقيعاً فيمضيه، وفيه يقول علاء الدين الوداعي لما خلع على أهل دمشق - ومن خطه نقلت - :
أيها العادل سلطان الورى ... عندما جاد بتشريف الجميع
مثل قطر صاب قطراً ماحلاً ... فكسا أعطافه زهر الربيع
كتبغاالأمير زين الدين أمير حاجب الشام. أظنه تولى نيابة شيزر في وقت.
كان الأمير سيف الدين تنكز يعظمه، ويجلسه قدامه ويكرمه، ويرمل هو على يده، ويتوشح بما غلا من قلائده.
وكان في نفسه رئيساً، وقدر المال عنده خسيسا، وكان يحضر السماعات، ويرقص في الجماعات، ويعمل في كل سنة مولداً للنبي - عليه الصلاة والسلام - ، ويجمع فيه الخاص والعام، ويقف ويخدم بنفسه الفقراء، ويبالغ في ذلك ويعرض عن الأمراء. إلا أنه كانت فيه استحاله، وإعراض عما يثق به في الحاله.
ولم يزل على حاله إلى أن انتهت مدته، وفرغت عدته.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في آخر نهار الجمعة ثامن عشري شوال سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، ودفن بتربته في القبيبات.
وكان تنكز يعظمه ويحترمه، ويحب حديثه ويصغي إليه، ويقبل شفاعاته، ويزوره في بيته.
وأظنه في وقت مشى بالفقيري، ولبس زي الفقراء، وكان إذا دخل إليه إنسان في بيته في أمر قال: السمع والطاعة، من أحق منك بهذا الذي تطلبه؟! قف غداً لمولانا ملك الأمراء، وأنا أساعدك، وتبصر ما أقول، فإذا وقف ذلك المسكين قال: يا مولانا، أي حائك قام، وأي بيطار قام، قال يريد يبقى جندياً. فإذا سمع ذلك الأمير سيف الدين تنكز قال: نحه، فتتناول المسكين العصي من كل جانب، ولكن هذا في بعض الأحايين. ولكنه كثيراً ما يشكر الناس عند تنكز، ويثني على من يعرفه ومن لا يعرفه حتى تحقق منه ذلك. ورتبوا يوماً قصة بعلم تنكز باسم إنسان يطلب إقطاعاً، وقرئت يوم الخدمة وهو حاضر، فقال: نعم يا خوند، أعرفه وأعرف أباه، وهو مسكين بطال، وفي هذه الجمعة حضر من حلب، فقال تنكز: أبصر جيداً، فقال: سبحان الله، وجهز نقيباً إلى ذلك الشخص، وأحضره، وكان الأمر كما قال، فتعجب تنكز من ذلك، وأعطى ذلك إقطاعاً، وكانت هذه من الغرائب.
وحج - رحمه الله، تعالى - غير مرة، وفرق في الحرمين مالاً وافراً.
وكان قد ولي شد الدواوين بدمشق والأستاذ دارية عوضاً عن الأمير سيف الدين أقجبا في ثالث عشري شوال سنة تسع وسبع مئة. وولي الحجوبية بالشام عوضاً في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
كجك بن محمد بن قلاونالسلطان الملك الأشرف علاء الدين ابن الملك الناصر ابن الملك المنصور.
لما خلع قوصون الملك المنصور أبا بكر ولى هذا كجك الملك، وأجلسه على التخت، وحلف له، وحلف له العساكر بمصر والشام، وكان عمره يومئذ خمس سنين تقديراً، وذلك في أواخر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. واستقل الأمير سيف الدين قوصون بكفالة الممالك، وصار نائبه، وإذا حضرت العلامة أعطي قلماً في يده، وجاء فقيهه المغربي الذي يقرئ أولاد السلطان، ويكتب العلامة، والقلم في يد السلطان علاء الدين كجك.

ثم إن الفخري خرج لمحاصرة الكرك، وكان ما كان، وجرى ما جرى - على ما تقدم في ترجمة ألطنبغا والفخري - ولما توجه الناصر أحمد من الكرك إلى مصر في شهر رمضان جلس على كرسي الملك، وخلع الأشرف كجك، وانفصل من الملك. ثم تولى أخوه الصالح إسماعيل بعد خلع الناصر، ولما توفي الصالح تولى الكامل شعبان.
وجاء الخبر إلى الشام بوفاة كجك - رحمه الله، تعالى - في سنة ست وأربعين وسبع مئة.
كجكنالأمير سيف الدين المنصوري.
كان من أكابر مقدمي الألوف بدمشق، قديم الهجرة في الإمره، كثير المعرفة بالصيد والخبره، كثير الخدم، غزير الحشم، عمر دهراً صالحاً، وقطع عيشاً ناجحا، وهو وافر الحرمه، ظاهر النعمه، معظم عند النواب، مفخم على مر السنين والأحقاب.
ولم يزل على حاله أن ابتلعه فم القبر، وتعذر فيه على ذويه الصبر.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
وسمى أولاده الثلاثة الذكور كلا منهم محمداً، وأظنه كان قد نزل عن إقطاعه قبل وفاته بقليل، وكان السلطان الملك الناصر ينتظر موته، ويسأل عنه كل من يصل إلى دمشق.
أخبرني الأمير شرف الدين حسين بن جندر بك قال: لما حضرت قدام السلطان عند حضوري من دمشق قال لي أشياء سأل مني عنها، ومنها قال لي: أيش حس كجكن، فقلت: طيب.
وكان قد أمسك في دولة الناصر محمد في يوم الجمعة حادي عشري شهر رجب سنة ثمان وتسعين وست مئة.
كرايالأمير الكبير سيف الدين المنصوري نائب صفد ودمشق.
كان شديد المهابه، بطيء الرجوع إذا غضب والإنابة، أطيش من حبابه، وأطير من ذبابه، إذا غضب لا يقوم شيء لغضبه، ولا تهجم الأسود على سلبه، ولا تقدم الملوك على غلبه؛
يقوم مقام الجيش تقطيب وجهه ... ويستغرق الألفاظ من لفظه حرف
إلا أنه كان شديد الديانه، مديد الصيانه، عفيف الفرج مع القدره، عزوف النفس لا يتناول من مال غيره ذره. لا يقبل لأحد هدية، ولا يدع ما فيه شبهة يدخل نديه.
وكان مغرى بالنكاح لا يكاد يفارقه، ولا يشغله عنه ولا يسارقه، ومع ذلك فكفه أندى من الغمام، وأجود من النسيم بالطيب إذا مر بالزهر وشق عنه الكمام، يحب الطرب الدائم، وسماع النغم الملائم. وكان منهوماً في المآكل والمشارب، ملهوفاً في تفرقة طعامه لكل مستخف وسارب، وما رزق في نيابة دمشق سعادة، ولا وافقته المقادير على ما أراده، وأبغضه أهلها، ونفر منه حزنها وسهلها، فأمسك فيها بعد قليل، وخرج منها بعدما رشف كأس الذل ورسف في القيد الثقيل، وذلك في يوم الخميس ثاني عشري جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
أنشدني لنفسه الشيخ علاء الدين بن غانم:
أنا راض بحالتي لا مزيد ... وبأن لا أزال عند الحميد
إن في أمر كافل الملك بالشا ... م عظات للحازم المستفيد
جاه بالتقليد أرغون بالأم ... س وولى وعاد بالتقييد
كان أولاً نائباً في صفد بعد الأمير فارس الدين ألبكي، وأقام بها إلى أن توجه في واقعة غازان، وحصلت الكسرة، فحضر هو إلى صفد، وقصد القلعة لإيداع حريمه بها، وانجفل الناس، فلم يفتح له الباب، وسبه جماعة من مستخدمي القلعة، وآلموه بالكلام، فقال: أنا ما أدخل، ولكن افتحوا للحريم، فلم يسمعوا له، وبقيت هذه النكاية في خاطره.
ولما توجه إلى مصر، طلب العودة إلى نيابة صفد، فعاد إليها، وقتل أولئك الذين جاهروه بالأذى ومنعوا حريمه بالمقارع، ونفاهم منها. ثم إنه توجه إلى مصر، وحضر بدله الأمير سيف الدين بتخاص، وأقام بمصر مدة، ثم إنه رمى إقطاعه وأقام بالقدس مدة يأكل من ريع أملاكه وهو بطال. ولم يزل إلى أن حضر السلطان من الكرك إلى دمشق، فحضر إليه وقال له: أي من ملك غزة ملك مصر، فقال له السلطان: أنت لها. وجهزه إلى غزة، فملكها، وأقام بها، وكان الأمر كما قال.
وقلت أنا في ذلك:
كرائي الذي أهدى الكرى لجفوننا ... وجمع شمل الملك بعد تنائي
أشار على السلطان يحفظ غزةً ... فلم أر في عمري كرأي كرائي

ودخل معه إلى القاهرة ثم إن السلطان جهزه في عسكر مصر إلى حمص، فأقام بها قليلاً، وساق في ليلة العيد بالعساكر من حمص إلى حلب، ولم ينفجر الصبح إلا وقد أحاط بالعساكر على دار النيابة بحلب، وأمسك أسندمر، وحضر إلى دمشق نائباً في يوم الخميس حادي عشر المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ووصل تقليده إلى دمشق على يد الأمير سيف الدين أرغون الدوادار في خامس عشري المحرم من السنة المذكورة.
وحلف بالطلاق من زوجاته أنه ما يطلع على أحد سرق النصاب الشرعي إلا ويقطع يده، فضاق الناس منه، وبعث أحضر الناس المباشرين والكتاب من حمص إلى غزة لعمل الحساب في الزناجير، وضيق على الناس، وشدد واتكل في العلامة على الشيخ نجم الدين الصفدي لأنه كان يعرفه في صفد، وجعل دركها عليه، فكانت العلامة تحمل إليه، ويعتبرها شيئاً فشيئاً، فما رآه سائغاً وضعه في فوطة العلامة، ودخل به وما ارتاب فيه عزله عنها.
ولما كان في جمادى الأولى من السنة المذكورة، قرر على دمشق ألف وخمس مئة فارس، يقومون بها، لكل فارس خمس مئة درهم، وطلب الأكابر بالترسيم إلى دار الوالي، وتجمعوا لتقرير ذلك، وندب من يحضر، ويقف على الأملاك والأوقاف، وغلظ على الناس، وحلفوهم على مقدار الأجر، فضاق الناس، وتوجه الأعيان إلى الخطيب جلال الدين، فقام في ذلك، واجتمع بالحكام وقرر دفع القضية معهم ليكون الكلام في يوم الاثنين مع الأمير سيف الدين كراي. وخرج الناس بكرة النهار، ومعهم المصحف الكريم والأثر النبوي والصناجق التي على المنبر، فلما كان النائب واقفاً في سوق الخيل، ورأى ذلك السواد الأعظم من بعد والأطفال وغيرهم، فقال: ما هذا؟! فقالوا له: أرباب الأوقاف والأملاك وأرباب الرواتب على الجامع جاؤوا بسبب هذا المقرر عليهم، فقال: ردوهم، وقل لهم: الشغل انقضى، فجاء الأمير سيف الدين قطلوبك بن الجاشنكير الحاجب، وهو يعرف خلق النائب، فقال لهم: بسم الله، ارجعوا، فقد انقضى شغلكم، فقالوا له: المصحف ما يرد، فقال: ارجعوا وإلا ما هو جيد لكم، فأبوا، فشال العصا بيده، يشير إلى أنه يضرب بها، وكان المصحف الكريم - فيما أظن - على رأس الخطيب، فهرول به، فوقع المصحف الكريم إلى الأرض، فلما رآه الناس قد وقع تناولوه بالحجارة، فرده الحاجب إلى النائب والحجارة في قفاه، ووقع بعضها قدام كراي، فاشتد غضبه ورد إلى القصر، وأخرق بقاضي القضاة ابن صصرى، وقال: كل هذا عملك، فأنكر ذلك، وحلف له، فسبه، وأخرق به وبالخطيب، فقال له الشيخ نجم الدين التونسي: اسكت، كفرت. فرماه إلى الأرض، وضربه ضرباً مؤلماً كثيراً، ورسم عليهم، ثم أطلقهم بضمان وكفلاء.
ولم يكن بعد ذلك إلا دون العشرة أيام حتى حضر الأمير سيف الدين أرغون الدوادار من مصر يوم الأربعاء، وأحضر له تشريفاً عظيماً، فلبسه ثاني يوم بكرة، وعمل الموكب، وحضر دار العدل، ومد السماط، فأخرج أرغون كتاباً عظيماً مطلقاً إلى الأمراء بدمشق بإمساك كراي، فأمسك في التاريخ المذكور، وقيد في الحال، وجهز إلى الكرك صحبة الأمير سيف الدين اغرلو العادلي والأمير ركن الدين بيبرس المجنون، وكان قد أمسك الصاحب عز الدين بن القلانسي، ورسم عليه.
ولما كان في مستهل جمادى الأولى حكم القاضي نجم الدين الدمشقي نائب ابن صصرى ببطلان البيع الذي اشتراه ابن القلانسي من تركة السلطان الملك المنصور في الرمثا والسبوخة والفضالية لكونه بدون قيمة المثل، وبعزل الوكيل الذي صدر منه البيع قبل عقد البيع، ولوجود ما يوفى منه الدين غير العقار، ونفذ الحكام ذلك. ثم إن القاضي تقي الدين الحنبلي نقض ذلك في تاسع شعبان من السنة المذكورة، وادعى قبل هذا على الصاحب عز الدين واعتقل، فلما كان في يوم إمساك كراي خرج الصاحب عز الدين بن القلانسي من الاعتقال من دار السعادة، وفرح الناس بخلاصه، وبإمساك كراي.
ثم إن السلطان بعث إلى كراي وهو معتقل في الكرك من يخدمه، وجهز إليه جارية من حظاياه، وأقام كذلك إلى أن مات - رحمه الله تعالى - وكان له أربع زوجات وثلاثون سرية، وكان إذا سافر إلى الصيد استصحب نساءه معه، لأنه لا يقدر على الصبر عن النكاح، وتزوج بابنة الأمير سيف الدين قبجق وهو بدمشق.

قال لي الشيخ: نجم الدين الصفدي - رحمه الله تعالى - : لما دخل على بستان ابنة قبجق غرم عليها حتى صارت عنده أربع مئة ألف درهم، وبعث إلى الأمير سيف الدين بهادر آص يقول: يا مسلمين يكون هذا، يكون هذا خوشداشي أنا وإياه مماليك بيت واحد وهو في مدينة أنا فيها، وهو نائب سلطان، ويدخل على زوجته، وما أقدم له شيئاً، والله ما أعرف قبول هذه البقج إلا منك، قال: فدخلت عليه، وقلت له: يا خوند أنا رجل غريب في هذه المدينة، وهذا الأمير سيف الدين بهادر آص أكبر من فيها وما بعدك أكبر منه، وقد قال: كذا وكذا، فقال: أين هذا الذي أحضره؟ فأحضرته، فقبله جميعه قطعة قطعة، ثم قال: قل له: أنت تعلم أخلاقه ومحبته لنسائه وجواريه، وهو قد حلف بالطلاق منهن وبعتقهن أنه ما يقبل في هذه النيابة لأحد من خلق الله تعالى شيئاً قل ولا جل، فأنت رأيت يا خوشداش طلاق زوجاته وعتق جواريه فالأمر أمرك. قال: فأعدت ما قاله عليه، فقبل العذر في ذلك.
وكان يحب الطرب، فأحضر ابن غرة العواد، وآخر يلعب بالكمنجا، وآخر دفياً، ورتب لهم معاليم على ديوانه، وقال لهم: أقسم بالله ما يتكلم أحد منكم في فضول، أو يحضر قصة، أو غير ذلك إلا كانت يده قبالة ذلك أو لسانه، وقد أكفيتكم، وهذا الطعام أنتم فيه وفي الفاكهة وفي الحلوى وفي المشروب ليلاً ونهاراً، فكلوا واشربوا وغنوا، ليس إلا.
وكانت له قصعة تسع ثمانية أرؤس غنماً يحملها أربعة عتالين يملؤها يوماً حلوى سكرية، ويوماً طعام أرز مفلفلاً، ولا يزال ليله ونهاره في مشروب وأطعمة وفاكهة وحلوى، واعتذر للسلطان عن إمساكه، فقال: ماله عندي ذنب إلا أنه خوشداش بكتمر الجوكندار، ولما أمسكت هذا؛ خفت من ذاك لئلا يتغير فإن نفسه قوية.
وراح في وقت إلى إقطاعه بالصعيد، واستغل من قرية ست مئة ألف درهم، فخطر له أن يدخل إلى بلاد السودان، ويفتحها، وقال لي - وأنا في الكرك - : أنا أقيم لك ست مئة جندي.
كرتالأمير سيف الدين المنصوري نائب طرابلس.
كان من الفرسان المذكورة والأبطال المشهورة. له دين متين، وسلطان في التقوى مبين، وفيه بر ومعروف، وجوده على الفقراء والصالحين معروف.
حمل على التتار في الواقعه، وبين الفروسية ذلك اليوم لما ضاقت الرقعه، وأبلى بلاءً حسناً وقتل منهم جماعه، وخاض فيهم، فملأ الموت بالمصاع صاعه، وذلك في سنة تسع وتسعين وست مئة.
كان هذا الأمير سيف الدين من مماليك الأمير ضياء الدين بن الخطير، وجعله السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين حاجباً في أيامه، ثم إنه تولى نيابة طرابلس، وأبلى في واقعة غازان، وقتل من التتار جماعة، ثم إنه خاض فيهم فاستشهد، رحمه الله تعالى.
وكان فيه اعتناء بأهل الخير وأهل الحرمين، وله بالقدس رباط وعليه وقوف، وكان كثير الصدقة، متين الديانة.
كرتالأمير سيف الدين الناصري، أخو الأمير سيف الدين طغاي الكبير المقدم ذكره.
حضر إلى صفد بتبع واحد، وأقام بها مدة، ثم إنه نقل في أواخر أيام الأمير سيف الدين تنكز إلى دمشق، وبقي كذلك إلى أيام الفخري، فجهزه إلى البلاد الرومية إحضار سيف الدين طشتمر، وأنعم عليه. ثم إن الناصر أحمد أمره طبلخاناه، وأقام بدمشق مديدة، ثم إنه جهزه إلى جعبر نائباً، فأقام بها قليلاً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
كرجيالأمير سيف الدين.
كان جريئاً شجاعاً كثير التهور، شديد الإقدام ظالم النفس، هو الذي قتل السلطان حسام الدين لاجين - على ما سيأتي - .
ثم إنه قتل لما قتل طغجي، وطيف برأسه في القاهرة سنة ثمان وتسعين وست ومئة، قتله كردي من الحسينية برا القاهرة بين الكيمان.
اللقب والنسبابن الكركري: الأمير سيف الدين بهادر.
كرماسالأمير سيف الدين، أحد أمراء البلخانات بدمشق.
توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشري المحرم سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
اللقب والنسبكريم الدين الكبير: عبد الكريم بن هبة الله.
وكريم الدين الصغير: أكرم.
كستايبضم الكاف وسكون السين المهملة وبعدها تاء ثالثة الحروف وألف ممدودة وياء، الأمير سيف الدين الناصري.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16