كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

قلت: أغناه فكره الصائب وذهنه الثاقب عن ذلك، لأن المنطق علم عقل لا نقل، على أنه كان يعرف منه ما يحتاج إليه في أصول الدين وأصول الفقه، فالمنطق نحو المعاني، كما أن النحو منطق الألفاظ، وابن الزملكاني كان يعرف المنطق على وجه كلي، كما أن امرأ القيس وغيره من فصحاء قريش يعرفون النحو على وجه كلي، وقال ابن سينا: واضع النحو والعروض في اللغة العربية يشبه واضع المنطق والموسيقا في اللغة اليونانية.
قلت: لعمري هذا تشبيه من عرف حقيقة هذه العلوم الأربعة، ولقد أورد بعض الأفاضل على تعلق المنطق: إن كانت هذه الآلات من الفطريات فليستغن عن تعلمها، وإلا افتقرت إلى آلة أخرى، ودار وتسلسل، وأجابه المنتصرون بأن بعضها فطري وبعضها كسبي، فاندفع الإشكال.
قلت: بل الإشكال باق على حاله، فنقول فيما هو فطري ما قلناه أولاً، وفيما هو كسبي ما قلناه أولاً، وما كان الشيخ في ذلك بحيث إنه يجهل معرفة التصور والتصديق، ودلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام، والضرب من الشكل المنتج والكاذب، ومواد البرهان، والمقدم والتالي، وقياس الخلف، وغير ذلك مما يدخل في الأصولين، بل كان يعرف ذلك معرفةً جيدة تامة يتسلط بها على باقي الفن، أما أنه كان يطلب منه أن يشغل في مختلطات كشف الأسرار للخونجي فلا، وقلت أنا في مقتضى حال الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى:
أغناه ثاقب ذهنه وذكاؤه ... عن أن يقلد في الأنام سواه
من كان كالشمس المنيرة ذهنه ... فجميع ما تحوي العلوم يراه
وقال: وكان الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى علامة الزمان وثلامة البهتان، قائماً بالفقه ودقائقه وغوامضه وحقائقه، لو رآه الروياني لأغرقه في بحره، أو المتولي لعزل عما أكسبه نهاية فخره، أو القفال لفتح له أبواب نصره، أو الرافعي لانحط إلى حفضه وجره. قاعداً بالأصول فقهاً وديناً، ناهداً كالأسد وقد جعلت له الأقلام عرينا، فلو رآه الحليمي لسفه رأيه، أو الباقلاني لكان باقلاً في الرواية والدراية، كأنما عناه الغزي بقوله، واقتصر به على طوله، حيث قال:
لم يبرح الفقه روضاً فاق فيك له ... سحابة ورده منها وعبهره
ذو الدرس سهل المعاني في عبارته ... يكاد يحفظه من لا يكرره
أما الجدال فميدان فوارسه ... تقر أنك دون الناس عنتره
لا يرى الناس أفصح من عبارته، ولا أملح من إشارته، لو سمعه الأصمعي لم ينقل عربيه عن أعرابه، أو يونس بن حبيب لما قلده سيبويه في إعرابه، كأن عبارته السكر المذاب، أو رشف الثنايا العذاب، تدخل الأذن بلا إذن لفصاحتها، ويرشفها الذهن لصناعتها ونصاعتها.
وكان شكله يرى وهو من أحسن الأشكال، ومثله لا يرى وليه معه إلا أن يذل له الأنذال، وعدوه سوى إن كال له الأنكال، بعمة لا يحسن أحد أن يديرها ولا يصدق تصويرها، وطلعة يستحيي القمر أن يقابلها، والشمس أن تشاكلها، وشيبة عليها نور الإيمان، ورفق الإيقان، وكرم نفس لا يذكر معه صوب الغوادي، ولا النيل ذو الأصابع ولا البحر ذو الأيادي.
وأما خطه فلم يكتب أحد في زمانه مثل تعليقه، ولا يصل معه كاتب إلى تغليقه، كأن طروسه رياض دبجها الغمام، سطوره حدائق ألفاتها غصون، والهمزات عليها حمام، كأنما:
تناول من لطافته نهاراً ... وفرق فوقه ليلاً بهيما
هذا إلى معارف حواها من سائر الفنون. وأخذ من كل منها محاسن النكت وفوائد العيون، فما باشر شيئاً إلا وزانه، ونفى عنه ما شابه وشانه، تنقل في مباشرات الدوله، ونال فيها الوجاهة والعز والصون والصوله، وولي في آخر عمره قضاء قضاة حلب غصبا، ولقي فيها نصبا، وإن كان قد وجد فيها رفعا ونصبا، ثم إنه عزل منها وطلب إلى باب السلطان فما وصل، ونزع خضاب سعده ونصل، ومرض في طريق الرمل. وانبت من حياته الشمل، فعدم الوجود كماله، وما وصل جرح حياته اندماله.
وأدركه أجله في بلبيس سادس عشر شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وله من العمر ستون سنة.
كان مولده في شوال سنة سبع وستين وست مئة.
وحمله ولده عبد الرحمن إلى القاهرة ودفنه بالقرافة عند الشافعي رضي الله عنه.

وكان قد حفظ " التنبيه " فيما أظن و " المنتخب " في أصول الفقه، و " المحصل " في أصول الدين. وكتب المنسوب الفائق، كان يقال إنه ما كتب على نجم الدين بن البصيص أحسن منه ومن الشيخ بدر الدين حسن بن المحدث، وخطه هو أحسن، وقيل: إنه كان يكتب الكوفي طبقة.
وذكره شيخنا الذهبي في " معجمه " المختص فقال فيه: شيخنا عالم العصر، انتهى.
وكان الشيخ من بقايا المجتهدين ومن أذكياء أهل زمانه، تخرج به الأصحاب، وانتفع به الأئمة. لم ير مثل كرم نفسه وعلو همته وتجمله في ملبسه ومأكله، لم تزل تلاميذه الخواص على مائدته، يحب الطالب الذكي ويجذب بضبعه من ورطة الخمول ويكبره. ويعظمه ويزهزه له، ويسير إليه في البحوث ويصوب ما يقول ويحسنه ويعجب الحاضرين منه. فعل ذلك بجماعة، ونزل للقاضي فخر الدين المصري من تدريس العادلية الصغيرة، وما رأى أحد أسعد منه في علمه وقوله، كان إذا دوغ أحداً بكلمة سوء لبسته من فرقه إلى قدمه، وكذا في الخير غضب مرة على فخر الدين المصري فقال: من أرادني وأحبني فلا يكلمه، وكان المسكين يراه الناس في الجامع فما يجسر أحد يسلم عليه، وعمل خطبة افتتحها بقوله: الحمد لله الذي جعل " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " ، وكان لا يتعب التلميذ، بل إذا رأى الطالب في دروسه وذهنه جيد وقد تعب على نفسه اجتذبه إليه ونوه به وعرف بقدره، فيعرف به وينسب إليه، وإذا جاءه مبتدئ ليقرأ عليه يقل له: رح الآن إلى الشيخ كمال الدين بن قاضي شهبة وإلى الشيخ شمس الدين بن النقيب وإلى مجد الدين التونسي وإلى نجم الدين القحفازي، فإذا تنبهت عد إلي.
واشتهر في زمن أشياخه وتقدم عليهم إلى أن سادهم ورأس وساد في الدولة، وطار ذكره.
وصنف رسالة في الرد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في الطلاق، ورسالة في الرد عليه في مسألة الزيارة، وصنف مصنفين في تفضيل البشر، أحدهما سماه " تحقيق الأولى في الرفيق الأعلى " ، وجوده ما شاء، وشرح من " منهاج " النووي قطعاً مفرقه، وكان يلقي الدروس من " نهاية المطلب " . وله رسالة سماها " رابع أربعة " نظماً ونثراً، وشرح في " عمدة الأحكام " قطعة.
ودرس بالشامية البرانية. والظاهرية الجوانية والرواحية، وباشر في وقت دار الحديث الأشرفية تحت القلعة عوضاً عن الشيخ صدر الدين بن الوكيل، تقدير نصف شهر، ثم أخذها منه كمال الدين بن الشريشي في شعبان سنة عشر وسبع مئة.
وولي نظر ديوان الأفرم، ثم بطله، وولي نظر الخزانة ووكالة بيت المال، وكتب في ديوان الإنشاء مدة ووقع في الدست قدام الأفرم وغيره، فكان لا يدع أحداً يتكلم لا من وزير ولا من قاض ولا من ناظر جيش ولا من حاجب ولا من كاتب سر، ولا من مشد أوقاف ولا من والي المدينة ولا أحد له وظيفة، وكلامه في جميع ذلك ساد واف بالمقاصد، وكل ذلك لمعارفه وسعة علمه وخبرته ودربته ومعرفته بتراجم أهل العصر.
وله الإنشاء الجيد، ونثره خير من نظمه. وله التواقيع الجيدة المليحة، وكتب عن الأفرم في فتح جبل كسروان بعد البسملة: " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا " .
ولما كان في شهر شعبان سنة أربع وعشرين وسبع مئة رسم له السلطان بقضاء حلب، فامتنع، ودخل على الأمير سيف الدين تنكز وسأله الإعفاء، فكتب له إلى السلطان، فجاء الجواب بالتشديد في أمره وتجهيزه قولاً واحداً، فتوجه بعد ما قضى أشغاله من دمشق في رابع عشر شوال من السنة المذكورة، وتأسف الناس على فراقه.
ولما دخل إلى حلب يوم الثلاثاء سادس عشري شعبان قال له نائب حلب كانت قلوبنا قد انكسرت فجبرتها، وقال: يا حلبيين لقد سعدتم وأراد الله بكم الخير، والآن عظمت حلب بهذا الرجل. ولما وصل إلى حلب نزل بمكان يعرف بالفردوس، وكان قد توجه معه شمس الدين محمد الخياط الشاعر، فأنشده وأنشدنيه من لفظه غير مرة:
يا حاكم الحكام يا من به ... قد شرفت رتبته الفاخره
ومن سقى الشهباء إذ حلها ... بحار علم وندىً زاخره
نزلت في الفردوس فابشر به ... دارك في الدنيا وفي الآخره

وتألم أهل دمشق لفراقه وتأسفوا على بعده، لأنه كان للشافعية واسطة قلادتهم وشمس سيادتهم، وأقام في حلب مدةً وما رزق فيها سعادة، وتعكس في أيام الأمير سيف الدين أرغون الدوادار وكان أصحب الناس إليه، وذلك لأنه عبث باليهود عبثاً عظيما وأخذ منهم كنيسة كانت لهم وفتحها مدرسةً، فتسلطوا عليه وبرطلوا وبذلوا، فنودي عليه في الجامع بعد صلاة الجمعة على رؤوس الأشهاد، وقاسى من ذلك شدة وتألم.
وطلبه السلطان بعد ذلك إلى الديار المصرية بعد ما وصل من حلب إلى دمشق في عشري شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فأقام بدمشق أربعة أيام، وتوجه على البريد إلى القاهرة ليوليه قضاء الشام أو كتابة السر بمصر، فقيل: إنه مات وهو مسموم، وعند الله تجتمع الخصوم.
على أن القاضي شهاب الدين بن فضل الله حكى لي عن ولده تقي الدين أن والده الشيخ كمال الدين قال له وقد بدا في المرض في الرمل: والله يا ولدي أنا ميت ولا أتولى لا مصر ولا دمشق وما بقي بعد حلب ولاية أخرى، لأنه في الوقت الفلاني حضر إلى الجامع الأموي فلان الصالح فترددت إليه وخدمته وطلبت منه التسليك، فأمرني بالصوم مدة، ثم أمرني بصيام ثلاثة أيام، أظنه، قال لي: أفطر فيها على الماء واللبان الذكر، وكان آخر ليلة في الثلاث ليلة النصف من شعبان، فقال لي: الليلة تجيء إلى الجامع تتفرج أو تخلو بنفسك فقلت: بل أخلو بنفسي، فقال: جيد، ولا تزال تصلي حتى أجيء إليك، قال: فخلوت بنفسي أصلي كما وقفني ساعة جيدة، فلما كنت في الصلاة إذا به قد أقبل، فلم أبطل، ثم إنني خيل لي قبة عظيمة بين السماء والأرض، وظاهرها معارج ومراقي، والناس يصعدون فيها من الأرض إلى السماء، فصعدت معهم، فكنت أرى على كل مرقاة مكتوباً: نظر الخزانة، وكالة بيت المال، نظر المارستان النووي، التوقيع، المدرسة الفلانية، المدرسة العلانية، قضاء حلب، هذا أعلى المراقي المفرقة، ولما وصلت إلى هذه المرقاة أشفقت من هذه الحالة ورجعت إلى حسي وبت ليلتي. فلما اجتمعت بالشيخ قال لي: كيف كانت ليلتك؟ جئت إليك وما قصرت، لأنك ما اشتغلت بي، والقبة التي رأيتها هي الدنيا، والمراقي هي المراتب والوظائف والأرزاق، وهذا الذي رأيته تناله كله. والله يا عبد الرحمن وكل شيء رأيته قد نلته، وكان آخر الكل قضاء حلب، وقد قرب الأجل. أو كما قال.
وكان الشيخ كمال الدين - رحمه الله تعالى - كثير التخيل، شديد الاحتراز، يتوهم أشياء بعيدة ويبني عليها، وتعب بذلك، وعادى أصحابه، وحسد، وعمل عليه مرات، ونجاه الله ببركات العلم. وطار ذكره، ورماه الناس أنه يؤذي أصحابه، حتى قال فيه صدر الدين بن الوكيل ما أنشدنيه من لفظه القاضي علم الدين إبراهيم بن سليمان المستوفي، قال: أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ صدر الدين بن الوكيل:
طباع الزملكي لها مثال ... كعقرب أخفيت في البيت معنا
فما مرت بشيء قط إلا ... وتضربيه سريعاً لا لمعنى
ولقد رأيته مرةً في الظاهرية وفي يده قائمة الحساب وهو يساوق المباشرين على المصروف فيسبقهم إلى الجمع وعقد الجملة، ويبقى ساعةً ينتظرهم إلى أن يفرغوا، فيقول: كم جاء معكم؟ فيقولون: كذ وكذا، فيقول: لا، فيعيدون الجمع، إلى أن يصح.
ومرض مرة بالماشرا، وكان يعوده لعلاجه من جملة الأطباء أمين الدين رئيس الأطباء، فخرج يوماً من عنده وقال: الله لا يعافي هذا الشيخ كمال الدين، قالوا له: لأي شيء؟ قال: حتى يطول علاجنا له واجتماعنا به، لأننا نسمع منه أسماء أعضاء ما كنا نحققها وأمراض ما نصححها، فاستفدنا منه تصحيح ألفاظ ذلك كله.
وخرج له الشيخ صلاح الدين العلائي عوالي وأربعين، وقرأها شيخنا الذهبي عليه.
ومن نظمه ما كتبه إلى قاضي القضاة شرف الدين بن البارزي يطلب منه " تيسير الفتاوي في توضيح الحاوي " :
يا واحد العصر ثاني البدر في شرف ... وثالث العمرين السالفين هدى
تيسيرك الشامل الحاوي الوجيز له ... نهاية لم تنلها غاية أبدا
محرر خص بالفتح العزيز ففي ... تهذيبه المقصد الأسنى لمن قصدا
وقد سمت همتي أن أصطفيه بها ... وأن أعلمه الأهلين والولدا
فانعم به نسخةً مقابلةً ... ولاح نورك في أثنائها أبدا

لا زلت بحر علوم طاب مورده ... وكل ظمآن علم منه قد وردا
ومن نظمه رحمه الله تعالى:
أهواك يا ربة الأستار أهواك ... وإن تباعد عن مغناي مغناك
وأعمل العيس والأشواق ترشدني ... عسى يشاهد معناك معناك
تهوي بها البيد لا تخشى الضلال وقد ... هدت ببرق الثنايا الغر مضناك
تشوقها نسمات الصبح ساريةً ... تسوقها نحو رؤياك برياك
يا ربة الحرم العالي الأمين لمن ... وافاه من أين هذا الأمن لولاك
إن شبهوا الخال بالمسك الذكي فه ... ذا الخال من رؤية المحكي والحاكي
أفدي بأسود قلبي نور أسوده ... من لي بتقبيله من بعد يمناك
إني قصدتك لا ألوي على بشر ... ترمي النوى لي سريعاً نحو مرماك
وقد حططت رحالي في حماك عسى ... تحط أثقال أوزاري بلقياك
كما حططت بباب المصطفى أملي ... وقلت للنفس بالمأمول بشراك
محمد خير خلق الله كلهم ... وفاتح الخير ماحي كل إشراك
سما بأخمصه فوق السماء فكم ... أوطا أسافلها من علو أفلاك
ونال مرتبةً ما نالها أحد ... من أنبياء ذوي فضل وأملاك
يا صاحب الجاه عند الله خالقه ... ما ود جاهك إلا كل أفاك
أنت الوجيه على رغم العدا أبدا ... أنت الشفيع لفتاك ونساك
يا فرقة الزيغ لا لقيت صالحةً ... ولا شفى الله يوماً قلب مرضاك
ولا حظيت بجاه المصطفى أبداً ... ومن أعانك في الدنيا ووالاك
يا أفضل الرسل يا مولى الأنام ويا ... خير الخلائق من إنس وأملاك
ها قد قصدتك أشكو بعض ما صنعت ... في الذنوب وهذا ملجأ الشاكي
قد قيدتني ذنوبي عن بلوغ مدى ... قصدي إلى الفوز منها فهي أشراكي
فاستغفر الله لي واسأله عصمته ... فيما بقي وغنى من غير إمساك
عليك من ربك الله الصلاة كما ... منا عليك السلام الطيب الزاكي
قلت: ولم أقف للشيخ رحمه الله تعالى على نظم هو خير من هذه القصيدة لقصدها الصالح، وقد أشبع فيها الكاف كسرة في خطاب المؤنث في ثلاثة أماكن حتى نشأت ياءً، لكنه جائز. وعمل على هذه القصيدة، أو على قصيدة ميمية مديح في النبي صلى الله عليه وسلم أو عليهما، كراريس سماها " عجالة الراكب " .
ومن شعره:
يا سائق الظعن قف بي هذه الكثب ... عساي أقضي بها ما للهوى يجب
وارفق قليلاً لكي تروي الثرى سحب ... من ناظري بمزن منه تنسكب
فثم حي حياتي في خيامهم ... فالموت إن بعدوا والعيش إن قربوا
لي فيهم قمر والقلب منزله ... لكن طرفي له بالبعد يرتقب
لدن القوام رشيق القد ذو هيف ... تغار من لينه الأعطاف والقضب
حلو المقبل معسول مراشفه ... يجول فيها رضاب طعمه الضرب
لا غرو إن راح نشواناً ففي فمه ... خمر ودر ثناياه لها حبب
ولائم لا مني في البعد عنه وفي ... قلبي من الشوق نيران لها لهب
فقلت: إن صروف الدهر تصرفني ... عما أروم فما لي في النوى سبب
ومذ رماني زماني بالبعاد ولم ... يرحم خضوعي ولم يبق لي نشب
ولما توفي رحمه الله تعالى نظم فيه المولى جمال الدين محمد بن نباته قصيدة مليحة يرثيه بها، أولها:
بلغا القاصدين أن الليالي ... قبضت جملة العلا بالكمال
وقفا في مدارس العقل والنق ... ل ونوحا معي على الأطلال
سائلاها عسى يجيب صداها ... أين ولى مجيب أهل السؤال
أين ولى بحر العلوم وأبقى ... بين أجفاننا الدموع لآلي

أين ذاك الذهن الذي قد ورثنا ... عنه ما في الحشا من الاشتعال
أين تلك الأقلام يوم انتصار ... كعوالي الرماح يوم النزال
ينقل الناس عن طريق هداها ... طرق العلم عن متون العوالي
وتفيد الجنا من اللفظ حلوا ... حين كانت نوعاً من العسال
وكنت قد اختلفت أنا والمولى شرف الدين حسين بن ريان في وقت بصفد في قول الحريري في بعض " مقاماته " :
فلم يزل يبتزه دهره ... ما فيه من بطش وعود صليب
فذهب هو في إعراب قوله: " ما فيه " إلى أن هذا في موضع نصب على أنه مفعول ثان، وذهبت أنا إلى أنه بدل اشتمال من الهاء في قوله: " يبتزه " ، فكتب شرف الدين فتوى من صفد وجهزها إلى الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى، ونقلتها من خطه وهي: ما تقول السادة علماء الدهر، وفضلاء هذا العصر، لا برحوا لطالبي هذا العلم الشريف قبلة، وموطن السؤال ومحله، في رجلين تجادلا في مسألة نحوية، وهي في بيت من " المقامات الحريرية " وهو:
فلم يزل يبتزه دهره ... ما فيه من بطش وعود صليب
وذهبا إلى أن معنى " يبتزه " يسلبه، وكل منهما وافق في هذا مذهب خصمه مذهبه، وأصل سؤالهما الغريب إعراب قوله: " ما فيه من بطش وعود صليب " . لم يختلفا في نصبه، بل خلفهما فيما انتصبت به، فذهب أحدهما إلى أنه بدل اشتمال من الهاء المنصوبة في " يبتزه " ، وله على ذلك استدلال، وذهب الآخر إلى أنه مفعول ثان " ليبتزه " وجعل المفعول الهاء، واختلفا في ذلك وقاصديكم جاءا وقد سألا الإجابة عن هذه المسألة.
فكتب الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى الجواب، ونقلته من خطه وهو: الله يهدي للحق، كل من المختلفين المذكورين قد نهج نهج الصواب، وأتى بحكمة وفصل خطاب، ولكل من القولين مساغ في النظر الصحيح، ولكن النظر إنما هو الترجيح، وجعل ذلك مفعولاً أقوى توجيها في الإعراب، وأدق بحثا عند ذوي الأدب. أما من جهة المعنى فإن المقام مقام تشك وأخذ بالقلوب، وتمكين، هذا المعنى أقوى إذا ذكر ما سلب، منه مع بيان المسلوب، فذكر المسلوب مقصود كذكر ما سلب، وفي ذلك من تمكين المعنى ما لا يخفى على ذوي الألباب، ووراء هذا بسط لا تحتمله هذه العجالة، والله أعلم. كتبه محمد بن علي.
قلت: لا أعلم في ذلك العصر أحداً يأتي بهذا الجواب غيره، لمعرفته بدقائق النحو وبغوامض علمي المعاني والبيان ودربته بصناعة الإنشاء.
وأما صورة الخط الذي نقلت منه هذه الفتوى فما كانت إلا قطعة روض تدبجت، أو هوامش عذار على طرس الخد تخرجت، رحمه الله وأكرم مثواه، وجعل الجنة منقلبه وعقباه.
ونقلت من كلامه تعليقاً على قوله تعالى: " التائبون العابدون " الآية: فإن قيل: كيف ترك العطف في جميع الصفات وعطف " النهي عن المنكر " على " الأمر بالمعروف " بالواو؟ قلت: للمفسرين والعلماء في الجواب عن هذا السؤال أقول، فمنها قولهم لأنها الصفة الثامنة، فهي واو الثمانية، وهذا في غاية السخافة، منها أن هذا من التفنن في الكلام، وهو جواب إقناعي، ومنها أن المراد التنبيه على أن الموصوفين بالصفات المتقدمة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهذا بعيد في الإعراب ومقصود الكلام، ومنها أن هاتين الصفتين متعلقتان بالغير فاحتاجت إلى مزية، وهو كالأجوبة التي قبله.

قال: وعندي في هذا وجه حسن، وهو أن الصفات تارة تنسق بحرف العطف وتارة تذكر بغيره، لكل مقام معنى يناسبه، فإذا كان المقام مقام تعداد صفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف، فإن أريد الجمع بين الصفتين أو التنبيه على تغايرهما عطف بالحرف أيضاً، وفي القرآن أمثلة تبين ذلك، قال الله تعالى: " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن " الآية، فأتى بالواو بين الوصفين لأن المقصود بالصفات الأول ذكرها مجتمعة، والواو قد توهم التنويع، فحذف، وأما الأبكار فلا يكن ثيبات والثيبات لا يكن أبكارا، فأتي بالواو لتضاد النوعين، وقال تعالى: " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول " ، فأتى بالواو في الوصفين الأولين، وحذفهما في الوصفين الآخرين، لأن غفران الذنب قبل التوبة، وقبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الواحد لتلازمهما، فمن غفر الذنب قبل التوب، فبين الله تعالى بعطف أحدهما على الآخر أنهما مفهومان متغايران ووصفان مختلفان يجب أن يعطى كل واحد حكمه، وذلك مع العطف أبين وأرجح وأوضح، وأما شديد العقاب، وذو الطول فهما كالمتضادين، فإن شدة العقاب تقتضي اتصال الضرر، والاتصاف بالطول يقتضي اتصال النفع، فحذف ليعرف أنهما مجتمعان في ذاته المقدسة موصوفاً بهما على الاجتماع. فهو في حال اتصافه بشديد العقاب ذو الطول، فحسن ترك العطف لهذا المعنى. وفي هذه الآية التي نحن فيها يتضح معنى العطف وتركه مما ذكرناه، لأن كل صفة مما لم ينسق بالواو مغايرة للأخرى، والغرض أنهما في اجتماعهما كالوصف الواحد لموصوف واحد، فلم يحتج إلى عطف، فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما متلازمان أو كالمتلازمين مستمدان من مادة واحدة كغفران الذنب وقبول التوب، حسن العطف ليبين أن كل واحد معتد به على حدة، فإنه بذاته لا يكفي منه ما يحصل في ضمن الآخر، بل لا بد من أن يظهر أمره بالمعروف بصريح الأمر، ونهيه عن المنكر بصريح النهي، فاحتاج إلى العطف، وأيضاً فلما كان الأمر والنهي ضدين أحدهما طلب الاتحاد والآخر طلب الإعدام كالنوعين المتغايرين في قوله تعالى: " ثيبات وأبكاراً " فحسن العطف بالواو، فهذا ما ظهر من الجواب. والله أعلم.
قلت: وكنت أنا في زمن الصبا والإشغال قد جمعت في هذه الواو كراسة وفيها فوائد.
محمد بن علي بن أبي بكر الرقيالشيخ الصالح الواعظ المحدث شهاب الدين بن تاج الدين المعروف ب ابن العديسة.
كان شيخ الخانقاه المجاهدية ظاهر دمشق، وله مواعيد حديث يقرأ فيها في الجامع الأموي والجامع السيفي وأماكن أخر، وكان يعاني شيئاً من المواعظ في كلامه، وكان فيه تعبد وانقطاع وكرم وسخاء، وحج مرات وجاور، سمع على عمر بن القواس، ويوسف الغسولي وغيرهما، وسمع ببعلبك من الشيخ تاج الدين عبد الخالق، وحدث.
وتوفي رحمه الله تعالى بوادي الأخضر في يوم الخميس عاشر ذي القعدة سنة ست وثلاثين.
ومولده...
وأظن المجير الخياط فيه يقول:
في الدهر شيء عجيب ... مرآه يقذي اللواحظ
ابن الرزير خطيب ... وابن العديسة واعظ
محمد بن علي بن سعيد الأنصاريالشيخ الإمام الفاضل المفنن بهاء الدين أبو محمد المعروف بابن إمام المشهد.
قرأ القرآن العظيم وأتقنه بالروايات السبع على الكفري، واشتغل بالعربية على الشيخ محمد التونسي ولازم الشيخ نجم الدين القحفازي كثيراً، وقرأ الفقه على الشيخ برهان الدين بن تاج الدين. وسمع بمصر والإسكندرية وحلب، وبدمشق من أشياخ عصره.
وكان حسناً شكله بيناً فضله، كثير التبسم، غزير الارتياح للسيادة والتسنم. جاب البلاد وما هاب الجدال والجلاد، وقطع المفاوز بحظ هابط وعزم صاعد. وشام كل بارق، وانتجع كل راعد، إلى أن أقمر ليل حظه الدجوجي بعدما تطور في أطوار أبي زيد السروجي.
وكان قد جود الفقه والعربيه، وعلق التعاليق الأدبيه، وبلغ ما أراد من الوصول إلى الأصول، واستنفد الحاصل واستغرق المحصول. وكتب المنسوب الفائق، وقطع في حسنه الدرج والدقائق، ونظم جيداً ونثر. ورقا درج منبره، وكان كأنه في أعلاه حمام هدر:
ينمنم الخط لا يجتاب أحرفه ... والوشي مهما حكاها منه يجتاب

إلى تصانيف في أكمامها ثمر ... تجنيه بالفهم دون الكف ألباب
ولم يزل على حاله إلى أن نزلت به دؤلول بنة الرقم، وأصبح كف الموت من شخصه ينتقم.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق في بكرة الأربعاء ثامن عشري شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
ومولده في ذي الحجة سنة ست وتسعين وست مئة.
وجمع كتاب " الأحكام " في ست مجلدات وجوده، وتناولته منه، وأجازني رواية ماله تسميعه بديوان الإنشاء في المحرم سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة بدمشق.
وكان قد أم بدار الحديث ثم بمسجد الكنيسة، ودرس بالقوصية، وأقام بحلب مدة، وتردد إليها مرات، ثم أقام بطرابلس مدة، وتوجه إلى صفد وأهلها على عطش، ومعه أشياء بخطه فأباعها بأوفر الأثمان، وتوجه إلى مصر مرات، وحضر سنة ست وثلاثين بين يدي السلطان الملك الناصر، وساعده القاضي شهاب الدين بن فضل الله، فولاه المدرسة الأمينية بدمشق عوضاً عن القاضي علاء الدين بن القلانسي، وحضر إلى دمشق على البريد، وذكر الدرس بها في رابع شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وحضره الأعيان. ثم إنه سعى وأخذ نظرها أيضاً من الخطيب بدر الدين، ومشت بذلك حاله قليلاً، وهو من وراء السعي والطلب.
ثم إنه سعى وتولى الحسبة بدمشق بعد موت القاضي عماد الدين الشيرازي في أيام سيف الدين أرغون شاه. وكتبت أنا توقيعاً له بذلك وهو " الحمد لله الذي زاد الدين بهاء بمحمده، وزان العلم الشريف بكل حبر جمل مغيبه حسن مشهده، وكمل الفضل بكل عالم يشهد من يومه مخائل الزيادة في غده.
فحمده على نعمه التي أعلت الرتب، ونفت الشبه وكشفت الريب، وكفت المؤونة في رفعة قدر من توكل على الله واحتسب.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً لا يدخل الشك إقرارها، ولا يمحو الإفك أنوارها، ولا يبهرج الحك دينارها.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ذو الخلق العظيم، والجود الذي اختص به وهو للخلق عميم، والفضل الذي أوتيه " من لدن حكيم عليم " صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اتبعوا أوامره، وسمعوا زواجره، ووضعوا على هامة الثريا مناقبه، ورفعوا على فرق الفرقد مفاخره. صلاة تشرف بحفظها كل جمع، وتشنف بلؤلؤ لفظها كل سمع، ما عم نظر في المصالح فأنعم، وملأ إناء الأنى قطر الإحسان فأفعم، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين وبعد: فإن النظر في مصالح الجمهور، والفكر في المنافع العامة الوافية الأجور من الأمور التي تتجمل بها الدول، وتفخر بها الأيام المختصة بمحاسنها على الليالي الأول، والنظر في أمر الحسبة الشريفة سلك ينخرط فيه هذا الجوهر الفاخر القيم، وملك تتنافس في ادخاره الأخلاق الطاهرة الشيم. كم باطل أقام به الحق منه الأود، وقوم الميل، وكم نجس أزاله به من الذراع والميزان والكيل، وكم غش أخرب الله به عشه في معايش النهار والليل، وكم زغل طهر به الكم فولى وقد شمر الذيل.
وكان الجناب العالي الشيخي البهائي ممن اشتهر فضله، ونزع في قوس الإحسان فأصاب الصواب نبله الذي أرسله نبله، وخدم العلم الشريف حتى عز في عصره أن يوجد في فنونه مثله، وتفرع عن أصل زكا فكان والده رحمه الله تعالى ليثاً وقد شب له منه شبله.
أما القراءات فباع صاحب القصيدة معه فيها قصير، ومسلك مصنف " التيسير " أصبح وهو عسير.
وأما العربية فأين صاحب " الجمل " من هذا التفصيل. وأين صاحب " الحجة " من هذا التعليل.
وأما الفقه فلو رآه الروياني علم أن بحره في حوضه قطره، ولو سمعه النووي لأطلع من كلامه بروضته في كل شطر سطر زهره.
وأما الأصول فالإمام يتأخر عن محراب فخره، والسيف لا يثبت له عند هزه.
وأما الخطابة فهو من فرسان منابرها، وأبطال محاربيها ومحابرها. كم أذاب حصاة قلب تحت منبره، وأذرى بها دمعاً إذا جرى تعثر في محجره.
وأما الكتابة فما فتح ابن البواب لغيره فيها بابا، ولا رفع ابن مقلة فيها لغيره أهدابا، فشهدة شهدت له بالحلاوة نصاً. وياقوت أصبح في خاتمه فصا، هذا إلى سياسة حلب بها أشطر الأمور، وعلم بها مصالح الجمهور، وملك بعرفانها أزمةً تسقط على حبها طير المصالح. ويصبح راجي العدل بها وميزانه راجح، وتصدق بتوخيها المنى والمناجح.

فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني أن يرتب في الحسبة الشريفة بالشام المحروس، لأن هذا العقد بجيده لائق، وهذا التاج لا يعوقه عن مفرقه عائق، وهذا الميدان لا يجري معه فيه سابق ولا سائق.
فليباشر ذلك مباشرة من هذبته العلوم، وتدرب بالقواعد الشرعية فاستدل بالمنطوق على المفهوم، وساد بنفسه العصامية، فكان له من الرياسة سرب معلوم، وملك من السياسة ما يعرف به وجه الظالم من المظلوم، فقد وليناك هذه الوظيفة وأنت ملء قالبها، وعذقنا أمرها بك، وأنت أولى من قالبها وقال بها. فتمم نقصها بكمالك، ومش الناس فيها على أقوام المسالك. وأقم المهابة فإنها ترعى هؤلاء الرعاع، ومالك فيها إلا مذهب مالك، وافعل ما تقتضيه معرفتك من احتكار ومنع، وانخفاض سعر ورفع، وتحرير ما يخرج من دار الضرب من النقود وتصحيح العيار، فكم درهم ودينار هو في المعدوم معدوم، وقد يتغطى الزين بالرين ويشتبه الشيء الحسن بالشين، وضبط ما يمتد فيه باع الذراع، ويتحرك به لسان الميزان ويبتلعه فم الصاع، ومنع العطارين من بيع العقاقير الغريبة لمن هو مجهول، والأصناف التي لا يلتئم اجتماعها وريعها بالهلاك مأهول، وأهم ما عندك خبر الخبز فأمتع العيون ببدور رغفانه ووجوه لجين عجينه الذي تتلون في النار خدود عقيانه، وانظر في جليل أمره ودقيقه، وقف على مبتدأ حبه وخبز دقيقه. وانته إلى غاية أمره إذا خرج من النار المسعره، واقصد العدل كمن عمل معدلة وسعره، وغش البواطن فاستعن بالله على إزالته، وصلاح فساده وإحالته، لأن ما أمره مغيب يتوقف في أمره ويستراب، والداء القاتل أكثر ما يكون من الطعام والشراب. إلى غير ذلك مما يطول شرحه، ويضيق هذا المقام فلا يتوسع فيه سرحه. وأنت بتفصيل الوصايا جد بصير ولو قيل لك قليل كان عندك منه علم كثير.
وتقوى الله تعالى حلية لكل راع، وزينة لكل فاضل انعقد عليه الإجماع. فلتكن عين جمالك وحاجب جلالك، والله يوفق مسعاك. ويحفظك ويرعاك.
والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه حجة في ثبوت العمل بمقتضاه. والله الموفق بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
ثم إنه أقام في الحسبة إلى أن وصل القاضي عماد الدين بن الفرفور على الوظيفة في أوائل سنة إحدى وخمسين، فتوجه ابن إمام المشهد إلى الديار المصرية، ومعه زوجته الحموية، وكان قد غرم عليها جملةً إلى أن مات ما يقارب المئتي ألف درهم.
وأنشد بدر الدين حسن بن علي الغزي فيه، واشتهر بذلك عنه في الشام ومصر:
قلت لما سار البهاء لمصر ... وسرى نحوها بعرس ظريفه
أنت لا شك أن تعود ولكن ... لا بها يا بها ولا بالوظيفه
فتوصل هناك إلى أن وصل للأمير سيف الدين شيخو، وسعى، وتولى الوظيفة ثانياً، ثم أخذت منه للقاضي جمال الدين الفاقوسي في أيام الأمير سيف الدين أيتمش، ثم إنه سعى وأخذها، ولما حضر الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى دمشق أخذها منه وأعطاها للقاضي بدر الدين ابن وهيبة قاضي بعلبك، فأقام بها قليلاً، ولم تمض الولاية من مصر وأعيدت إليه.
ولم يزل فيها إلى أن مرض مرضة طويلة قريباً من سنة إلى أن مات في التاريخ. وكان بيده أيضاً خطابة جامع العقيبة.
وأنشدني له إجازة:
ولولا ما أخاف من الأعادي ... وأن حديثنا فيهم يسير
جننت بكم كما مجنون ليلى ... وإن طال المدى فكذا نصير
وأنشدني له في ناعورة:
كنت في دوحة الرياض مهنا ... أنهل الطل بين تلك الغصون
فلنوح الحمام فوقي طويلاً ... غرقتني كما تراني عيوني
قلت: تقدم لي في ترجمة القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وله عدة مقاطيع في الناعورة، ومما قلته أنا فيما يشبه هذا...
وأنشدني ابن إمام المشهد له إجازة:
أنتم بلائي وأصل بلبالي ... وغيركم ما يمر في بالي
يا جيرة في الغوير قد نزلوا ... لله من جيرة ونزال
ما عطل الطرف بعد بعدكم ... عن دمعه واسألوا عن الحال
فلو زعمتم أني سلوتكم ... ويعلم الله أينا السالي
لا تتلفوا مهجة لكم خلقت ... فقد نهي عن إضاعة المال
قلت: أحسن ما رأيت في هذه المادة، أعني البيت الرابع قول السراج الوراق رحمه الله تعالى، ومن خطه نقلت:

قال صديقي ولم يعدني ... وعارض السقم في أثر
لقد تغيرت يا صديقي ... ويعلم الله من تغير
محمد بن علي بن أيبكالشيخ المحدث الإمام شمس الدين أبو عبد الله السروجي.
عرض القرآن وهو ابن تسع سنين، وارتحل إلى حلب ودمشق وغيرهما من البلاد الشامية مرات، وأخذ عن الشيخ فتح الدين بن سيد الناس ومن عاصره من أشياخ العلم، وصار من الحفاظ، أتقن المتون وأسماء الرجال وطبقات الناس والوقائع والحوادث، وضبط الوفيات والمواليد.
ومال إلى فن الأدب، وحفظ من الشعر القديم والمحدث جملة، وكتب الطباق والأجزاء، وحصل ما يرويه عن أهل عصره في البلاد التي ارتحل إليها. ولم أر بعد شيخنا الحافظ أبي الفتح من يقرأ أسرع منه ولا أفصح، وسألته عن أشياء من تراجم الناس ووفياتهم وأعصارهم وتصانيفهم، فوجدته حفظة لا يغيب عنه ما حصله، وهذا الذي رأيته منه في هذه السن القريبة كبير على من غلب سنه من كبار العلماء، ومع ذلك فله ذوق الأدباء وفهم الشعراء، وخفة روح الظرفاء. وكان قد خرج لنفسه تسعين حديثاً متباينة الإسناد. قال شيخنا الذهبي: سمعناها منه، ثم إنه كملها مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى بحلب ثامن شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وسبع ومئة، ودفن ثاني يوم الجمعة بكرة.
وسألته عن مولده فقال: في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة.
محمد بن علي بن محمدابن علي بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن محمد بن قطرال الأنصاري الخزرجي الحارثي، القرطبي الأصل، ثم المراكشي.
كان رجلاً فاضلاً صالحاً له نظم ونثر، وعنده صلاح وانقطاع وديانة. سمع كثيراً بالمغرب، ودخل مصر والشام، وسمع، وحج غير مرة، وجاور.
وتوفي رحمه الله تعالى بمكة برباط الجزري عند باب إبراهيم عليه السلام في رابع جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، غسل ثوبه وطلع إلى سطح الرباط لينشره فوقع من أعلاه فمات، ودفن بباب المعلى.
ومولده سنة خمس وخمسين وست مئة.
محمد بن علي بن أبي طالبابن أبي عبد الله، الشريف شمس الدين بن الشريف علاء الدين الحسيني الموسوي العطار المعروف بالشريف عطوف.
كان يروي صحيح مسلم عن المشايخ الاثني عشر. وسمع من جده لأمه محمد بن أبي بكر النيسابوري، وسمع من ابن مسلمة، وسمع جزء الأنصاري من المشايخ الأربعة والأربعين مجتمعين، وحدث.
وله إجازات من بغداد سنة إحدى وثلاثين وست مئة. أجازه ابن القطيعي، ونصر بن عبد الرزاق، وابن اللتي، وابن روزبة، وزهره بنت حاضر وجماعة. وأجازه بمصر أبو الخطاب بن دحية، ومرتضى، وابن الصفراوي. ومن دمشق ابن الشيرازي، وابن ماسويه، والفخر الإربلي، وابن صباح، ومكرم.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في خامس جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة.
محمد بن علي بن عبد الكريمالشيخ الإمام العلامة ذو الفنون أقضى القضاة، فخر الدين، أبو الفضائل وأبو عبد الله المصري الشافعي الأشعري المعروف بابن كاتب قطلوبك. تقدم ذكر والده في مكانه.
قرأ القرآن على جماعة منهم الشيخ موسى العجمي. وقرأ العربية والفقه أولاً على الشيخ كمال الدين بن قاضي شبهه، ثم قرأ الفقه على الشيخ برهان الدين ابن الشيخ تاج الدين، وقرأ بقية العلوم على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وهو أكثرهم إفادة له، وكان معجباً به وبذهنه وبحافظته، يشير إليه في المحافل والدروس وينوه بقدره ويثني عليه، ونزل له عن تدريس العادلية الصغيرة. وقرأ على الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وبحث على الشيخ مجد الدين التونسي، وعلى الشيخ نجم الدين القحفازي. كتاب " المقرب " في النحو، وحفظ " الجزولية " ، وبحث منها جانباً على شيخنا نجم الدين الخطيب وقرأ الجست على النعمان، والمنطق على جماعة أشهرهم الشيخ رضي الدين المنطقي، وعلى الشيخ علاء الدين القونوي بمصر. وحفظ " التنبيه " و " المنتخب " في أصول الفقه، وحفظ " مختصر " ابن الحاجب في مدة تسعة عشر يوماً، وهذا أمر عجيب باهر إلى الغاية، فإن ألفاظ " المختصر " غلقة عقدة ما يرتسم معناها في الذهن ليساعد على الحفظ، وحفظ " المحصل " في أصول الدين وهو قريب من ألفاظ " المختصر " وحفظ " المنتقى " في الأحكام، وقال: أحفظ منه في كل يوم خمس مئة سطر. وشرع في حفظ أشياء لم تكمل مثل " مطلع النيرين " و " المنهاج " للنووي، و " تصريف " ابن الحاجب.

وأذن له بالإفتاء وعمره ست وعشرون سنة، وولي تدريس العادلية الصغيرة في سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وفيها أذن له بالإفتاء، ولما توفي شيخنا الشيخ برهان الدين ابن الشيخ تاج الدين جلس بعده بالجامع الأموي وحلقة الإشغال في المذهب عند الرخامة، وتأدب مع شيخه، فأخلى مكانه وجلس إلى جانب منها.
وأنشدني شيخنا العلامة مفتي الإسلام وشيخهم قاضي القضاء تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يذكر أول من جلس إلى هذه الرخامة إلى آخر وقت من المصدرين. للإشغال، ومن خطه نقلت وهو:
الجامع المعمور فيه رخامة ... يأوي لها من للفضائل يطلب
الشيخ فخر الدين ابن عساكر ... والشيخ عز الدين عنه ينسب
والشيخ تاج الدين نجل فزارة ... عنه تلقاها يفيد ويدأب
ثم ابنه أكرم به من سيد ... ورع له كل المنابر تخطب
وتلاه فخر الدين واحد مصره ... بذكائه كالنار حين تلهب
وابني يليهم زادهم رب السما ... علماً وفهماً ليس فيه ينصب
وأقدم من سمع عليه الحديث هدبة بنت عسكر، وأحمد بن مشرف.
وحج إلى أن مات تسع حجات فيما أظن أو ثمانية، وجاور في بعضها مرات بمكة والمدينة.
وكان رحمه الله تعالى في الذكاء والحفظ أعجوبه، لم يكن في زمانه من يلحق أسلوبه، قد صار الفقه والأصول له طباعا، ونقل فروع المذهب هوى مطاعا، متى دعاه لباه وجاءه مسرعاً ولا يأباه، فلو رآه أبو ثور لزم التسلسل في التعجب أو الدور، وما قال بتقديم الوصية على الدين، وهو في المذهب أغرب من بياض غراب البين، أو الزعفراني لخلق ثيابه بها فرحا، وفتح دربه ببغداد مرحا، أو عاصره المزني لغرق في قطره وتحقق أن الفخر لمصره، أو ابن سريج لعلم أنه لم يكن من خيل هذه الحلبة، ووصى للماوردي أن يكون صاحب الثناء عليه ونبه. وما أحقه بقول الأرجاني:
غبرت في غرر الذين تقدموا ... في الدهر من أهل الفضائل والعلا
وسبقتهم ولرب آخر حلبة ... بسط العنان له فصار الأولا
وكان يتجر ويقتني الأصناف ويدخر إلى أن ثور نعمة طائله، وحصل جملة هائله، إلا أنه كان يخرج الزكاه. أخبرني بذلك من صدقته لما حكاه.
ولم يزل على حاله إلى أن نزلت بشهاب حياته شعوب، ولبست الدنيا من الأصيل عليه ثوب شحوب.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وصلي عليه الظهر بالجامع الأموي، ودفن في مقابر الباب الصغير، وكانت جنازته حافلة. وتوفي بدمشق بداره بالعادلية الصغيرة بعد مرضة طويلة عوفي منها ثم انتكس.
وسألته عن مولده فقال: في سنة إحدى وتسعين وست مئة.
واجتمعت به غير مرة. وكان ظريفاً ولطيفا، وكان قد حج بعض حجاته وجاور، ولما حضر كتبت له توقيعاً بإعادة نظر الدولعية وتدريسها إليه، وهو: " رسم بالأمر العالي أعلاه تعالى، لا زال يرتفع به العلم الشريف إلى فخره، ويعيده إلى خير حبر تقبس الفوائد من نوره وتغترف من بحره ويجمل الزمان بمن هو علم عصره وفخر مصره أن يعاد المجلس العالي القضائي الشيخي الفخري إلى كذا وكذا، وضعاً للشيء في محله، ورفعاً للوبل على طله، ودفعاً لسيف النظر إلى يد هي مألف هزه وسله، ومنعاً لشعب مكة أن ينزله غير أهله، إذ هو لأصحاب الشافعي رضي الله عنه حجه، ولبحر مذهبه الزاخر لجه، ولأهل فضله الذين يقطعون مفاوزه بالسرى صبح وبالمسير محجه، طالما ناظر الأقران فعدلهم، وجادل الخصوم في حومة البحث فجد لهم وجدلهم. كم قطع الشبهات بحجج لا يعرفها السيف، وأتى بوجه ما رأى الروياني أحلى منه في أحلام الطيف، ودخل باب علم فتحه القفال لطالب " نهاية المطلب " التبري، وارتوى من معين ورد عين حياته الخضري. وتمسك بفروع صح سبكها فقال ابن الحداد: هذا هو الذهب المصري، وأوضح المغالط بما نسف به جبال النسفي، وروى أقوال أصحاب المذهب بحافظة يتمناها الحافظ السلفي.

كما جاور بين زمزم والمقام، وألقى عصا سفره لما رحل الحجيج وأقام، وكم طاب له القرار بطيبه. وعطر بالإذخر والجليل ردنه وجيبه. وكم استروح بظل نخلها والسمرات. وتملى بمشاهد الحجرة الشريفة، وغيره يسفح على قرب تربها العبرات، وكم كتب له بالوصول وصول، وبث شكواه فلم يكن بينه وبين الرسول رسول، لا جرم إنه عاد وقد زاد وقارا، وآب بعد ما غاب ليلاً فتوضح شيبه نهارا.
فليباشر ما فوض إليه جرياً على ما ألف من إفادته، وعهد من رياسته لهذا العصابة وسيادته، وعرف من زيادة يومه على أمسه، فكانت كنيل بلاده، لا يتعجب من زيادته، حتى يحيي بدرسه ما درس، ويثمر عود الفروع، فهو الذي أنبته بهذه المدرسة وغرس، مجتهداً في نظر وقفها، معتمداً على تتبع ورقات حسابها وصحفها، عاملاً بشروط الواقف فيما شرط، قابضاً ما قبضه باسطاً ما بسط، وتقوى الله جنة يرتع فيها خاطره، ويسرح في رياضها الناضرة ناظره. ومثله لا ينبه عليها. ولا يومأ له بالإشارات إليها، فلا ينزع ما لبس من حلاها، ولا يسر في مهمه فهمإلا بسناها. والله يديم فوائده لأهل العلم الشريف، ويجدد له سعداً يشكر منه التالد والطريف.
والخط الكريم أعلاه حجة بثبوت مقتضاه، إن شاء الله تعالى " .
وكان قاضي القضاة جلال الدين القزويني قد استنابه واستناب جمال الدين يوسف بن جملة، واستمرا على ذلك، ولما جاء القاضي علاء الدين القونوي باشر النيابة في أيامه، ثم إن القاضي فخر الدين استعفى في شهر شوال سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وكان يعتكف في بعض السنين في شهر رمضان بمقصورة الخطابة رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن محمودابن الدقوقي البغدادي المعمر.
توفي رحمه الله تعالى ببغداد في سنة أربعين وسبع مئة عن خمس وسبعين سنة.
سمع من ابن أبي الدينة " مسند " الإمام أحمد، وحدث عن أبي محمد بن ورخز.
محمد بن علي بن حرمي
الشيخ الإمام الفاضل الفرضي المحدث عماد الدين أبو عبد الله الدمياطي.
سمع من الدمياطي، والأبرقوهي، وبنت الإسعردي وطائفة بمصر، وبدمشق من الموازيني، وابن مشرف. وسمع بقراءتي " المقامات الحريرية " وغيرها على شيخنا العلامة أثير الدين، وعلق عني أشياء.
وكان حلو المحادثة، كثير التودد، غزير المحاسن، وله خصوصية زائدة عن الحد بقاضي القضاة عز الدين بن جماعة، ولي مشيخة الكاملية.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة بطاعون مصر.
محمد بن علي بن أحمدابن عبد الواحد بن أحمد، الشيخ شمس الدين أبو عبد الله، ابن الشيخ الإمام المسند فخر الدين أبي الحسن الصالحي الحنبلي، المعروف بابن البخاري.
سمع من إبراهيم بن خليل، وعبد الله الخشوعي، وعلي بن إسماعيل بن إبراهيم بن طلحة المقدسي، وابن عبد الدائم، وغيرهم.
وأجاز له جماعة من بغداد منهم إبراهيم الرعيني، ومحمد بن الحصري وهما من أصحاب ابن شاتيل. وسافر إلى العراق بسبب الأسرى، وحدث بدمشق والقاهرة، وكان شيخ الحديث بالمدرسة الضيائية، وليها بعد موت سعد الدين سعد، وخرج له ابن المحب جزءاً من عواليه فيه خمسة عشر شيخاً بالسماع.
وكان فيه همة وشجاعة وقوة نفس وكرم، وعنده عبادة وقيام ليل.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
محمد بن علي بن أبي القاسمالمقرئ الإمام الكبير، بقية السلف، أبو عبد الله الموصلي الحنبلي ابن خروف، ويعرف بابن الوراق.
ارتحل إلى بغداد في طلب العلم سنة اثنتين وستين وست مئة، وتلا بعدة كتب على الشيخ عبد الصمد، وسمع من جماعة، وقرأ كتباً كباراً، وقرأ " تفسير الكواشي " على المصنف و " جامع أبي عيسى " على ابن العجمي.
قال شيخنا الذهبي: قدم علينا وسمعنا منه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالموصل في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة أربعين وست مئة.
محمد بن علي بن مخلوف بن ناهضقاضي القضاء محيي الدين ابن قاضي القضاة زين الدين المالكي.
كان مشكور السيرة عاقلاً ديناً كثير السكون، يفضله الناس على والده، وناب عن والده مدة في الحكم.
وتوفي رحمه الله تعالى حادي عشر ذي الحجة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وكان من أبناء الأربعين. وقد تقدم ذكر والده.
محمد بن علي

الكاتب المجود البارع أمين الدين ابن المهتار الصفدي، كان يعرف عند بعض الناس بدرويش، بفتح الدال المهملة وسكون الراء وكسر الواو وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة، وشين معجمة.
كتب المنسوب الفائق، وأبرزه للعيون في المنظر اللائق الرائق، ووضع سطوره في طروسه فحكى نظرات الأحداث ونضارة الحدائق، وفاق كتاب العصر، إلا أن خطه كان لحظه من أكبر العوائق، لم أر ولا غيري مثل الصفاء الذي كان في خطه في سائر الأقلام، والقوة التي يشهد بها أرباب العلوم والأعلام، والتحرير الذي لم تشاهد العيون مثله في اليقظة والأحلام، فيا لها من كتابة:
ذهبت كما ذهبت بساطع نورها ... شمس النهار وأعقب الإظلام
مولده تقريباً في سنة سبع وسبع مئة.
وأظن وفاته كانت بالقاهرة في طاعون مصر، سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكان والده ركابياً عند الأمير علاء الدين أقطوان أمير حاجب بصفد، ونشأ هو بصفد ويده قابلة يكتب خطاً قوياً إلى الغاية، لكن خطه غير منسوب، فنزل إلى دمشق، ونزل عند الشيخ العلامة كمال الدين بن الزملكاني بواباً في المدرسة الرواحية، فحنا عليه لحسن كتابته.
وكتب على الأشياخ المجودين، ومهر، ثم عاد إلى صفد، وأقام قليلاً، ثم توجه إلى بغداد، وكتب هناك على طريقة ياقوت المستعصي، وجود النسخ الفضاح، ثم إنه دخل إلى الهند ولبس زي الفقراء، وجاء إلى اليمن، ثم قدم إلى القاهرة، فرأيته بها في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ثم عدت رأيته بها في سنة ست وثلاثين إلى سنة تسع وثلاثين. وقد اتصل بالقاضي الرئيس ضياء الدين بن الخطيب، وقد أحبه وحنا عليه وجعله نائبه في الفروع من الحسبة، ثم إني رأيته بدمشق سنة ست وأربعين وسبع مئة، وعاد منها إلى الديار المصرية، وكان ذلك آخر عهدي به.
وكان ينظم متوسطاً، إلا أنه كان منحرف المزاج، في أخلاقه زعارة، وعنده طيش، وفيه سلس، فكان ذلك سبب تأخيره وعدم تقدمه.
كتب إلي في أول شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبع مئة وأنا بالقاهرة:
تصوم بخير في سرور وغبطة ... وضدك في عكس القضية خامل
وحكمك ماض في البرية نافذ ... وأمرك في أقصى الأقاليم واصل
لأنت صلاح الدين أفضل من وشى ... وأنشا إذا التفت عليه المحافل
وكنت قد كتبت إلى القاضي علاء الدين بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء الشريف قصيدة على وزن قصيدة ابن بابك التي أولها:
علقته أسود العينين والشعره
ولهج بها المصريون، ونظم جماعة كثيرة على وزنها، فكتب هو إلي في ذلك الوزن، والجميع هو في الجزء الرابع والعشرين من " التذكرة " :
سرت نسيم الصبار في روضة حبره ... فرنحتنا بأنفاس لها عطره
وغنت الورق في الأغصان من طرب ... على رياض ببانات الحمى عطره
وزمجر الرعد في أكناف سارية ... وأومض البرق عاينا إذاً مطره
وصفق الماء في الغدران من فرح ... والغصن أهدى لنا يا صاحبي ثمره
ونحن في مجلس اللذات نكرعها ... من كل صافية صفراء معتصره
ونغمة الشيزفي راحات غانية ... أغنت بمبسمها عن أن ترى قمره
وحسن ساق سقى صرفاً فأسكرني ... فما رأيت له عيناً ولا أثره
دع عنك ذلك وانظر في فضائله ... وافت وحقك في المنظوم منتثره
صلاح ديوان إنشاء الشام به ... فما على الحق ما محمود من غبره
قدمته وفق أبيات نظرت لها ... فما تلعثمت أن وافيت بالعشره
وكتب إلي كثيراً، وهذا القدر يكفي من أنموذجه.
محمد بن علي بن حسنالأمير ناصر الدين ابن الأمير علاء الدين بن المرواني.
كان هذا الأمير ناصر الدين أحد أمراء العشرات، ولما كان والده والي القاهرة كان هو والي مصر، ولما توفي والده توفي السلطان الملك الناصر محمد حضر هو إلى الشام، وتعكس، وتوجه إلى حلب، ثم إنه عاد مع الأمير يلبغا اليحيوي لما حضر إلى دمشق نائباً، فولاه بر دمشق، وأقام به مدة، ثم انفصل وبقي بطالاً مدة.
ثم إنه تولى بيروت وأقام به مدة، ثم إنه حضر إلى دمشق وأقام مديدة.

وتوفي رحمه الله تعالى، وكان فيه حشمة وخدمة للناس ورعاية وتودد، وتولى ولاية المدينة بدمشق أيضاً وكانت وفاته في ...
محمد بن علي بن محمدالفاضل الأديب المنجم شمس الدين أبو عبد الله، المصري مولداً الغزي منشأ، المعروف بابن أبي طرطور.
أقام بغزة مدة، وكابد فيها من الإقلال شدة. وورد إلى دمشق وسكنها، وأزاح بآدابه لكنها. وكان يجتمع بالصاحب شمس الدين وبناصر الدين الدوادار. وكلف به ناصر الدين، لأنه على مثله طوف وسعى ودار. وامتزج برؤساء الشام، حصل على مراده لما انتجع برقهم وشام، ثم توجه إلى حماة أيام الملك الأفضل، فصانه وحماه.
وأنزله من جوده الغامر في ربعه العامر وحماه، فأجرى عليه راتباً يكفيه، ولم يدع نوعاً من البر إلا ويجزل قسمه منه ويوفيه. فتخيرها مقاما، وشفى من داء فقره سقاما. وغرد بمدائحه لما أصبح بإحسانه وهو مطوق، وناضل الفقر بسهامه فأصاب مقاتله لما سددها إليه وفوق. ولما مات الأفضل رحمه الله تعالى لم يتخذ غير حماة سكنا، وألفه أهلها وألفهم، فصرح بشكرهم وكنى.
وكان يعرف النجامة، ويقول لمن سأله منها النجامه؟ ويعرف ما يتعلق بالإسطرلاب، ويتكلم على ما فيه من بروج الاستواء والانقلاب، وكتب الخط الفائق ورقا فيه درجاً، يعز على غيره أن ينال ما فيها من الدقائق. ونظم فنوناً من الشعر وغيره. وأمال الأعطاف بأسجاع طيره.
ولم يزل على حاله بحماة إلى أن أصابه الحمام بسهم رماه، فأصبح الغزي مغزوا، ووجوده إلى العدم معزوا.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من ذي القعدة في سابع عشر سنة إحدى وستين وسبع مئة.
ومولده في سنة خمس وثمانين وست مئة.
ووجد في بيته بخان الخطيب بحماة، وهو سكنه، ميتاً بعد ثلاثة أيام وهو جالس، ووجد له خمسة وسبعون ديناراً مصرية هرجة، وثلاث مئة درهم، وقماش بدنه بيع بخمس مئة درهم، وكتبه مجلدات بيعت بست مئة درهم.
واجتمعت به غير مرة بالقاهرة ودمشق وصفد وحماة، وكان خفيفاً على القلوب حسن العشرة، كثير النادرة، حلو التنديب، قد برته الأيام في صحبة الناس ومخالطة الأكياس. وكان حسن الشكل ظريف الملبس يتأنق في مأكله ومشاربه، ولكنه ما كان يجلس في بيته إلا وحوله عفاش كثير من الزبادي والأواني، وكان يطبخ قدامه، فلهذا كان كثير العفاش. وأما محاضرته فلا تمل، وكانت له بديهة عظيمة وعنده جرأة وقوة عين زائدة، مع النظم الحلو والكتابة الحسنة. وما أحقه بقول الشريف الرضي في ابن حجاج رحمهم الله تعالى أجمعين وهي:
وما كنت أحسب أن الزما ... ن يغل مضارب ذاك اللسان
ليبك الزمان طويلاً علي ... ك فقد كنت خفة روح الزمان
أنشدته لنفسي بصفد سنة أربع وثلاثين وسبع مئة:
يا حسنه رشأ تخلى الليث عن ... وثباته وثباته في حربه
تروي السقام جفونه عن خصره ... عن عهده وعن الصبا عن صبه
فأنشدني هو رحمه الله تعالى لنفسه:
بأبي غزال غزل هدب جفونه ... يكسو الضنا صباً أذيب بصده
يروى حديث السقم جسم محبه ... عن جفنه عن خصره عن عهده
وأنشدني هو لنفسه رحمه الله تعالى في التاريخ:
مر في الفستقي يجلو علينا ... طلعة حلوة الرضاب شهيه
قلت: من للفقير لو ذاق في السط ... لة من ذي الحلاوة الفستقيه
فأنشدت أنا لنفسي:
في فستقي اللون لما بدا ... يميس مثل الغصن المورق
من وقد مر على صبه ... وما ألذ المن بالفستق
وأنشدته أيضاً لنفسي:
لما بدا في الفستقي معذبي ... ناديت من وجدي وفرط تحرقي
كانت لوجهك في الفؤاد حلاوة ... كملت لذتها بهذا الفستقي
وأنشدته أنا لنفسي أيضاً:
لا تقيسوا إلى الحمامة حزني ... إن فضلي تدري به العشاق
أنا أملي الغرام عن ظهر قلب ... وهي تملي وحولها الأوراق
فأنشدني هو لنفسه رحمه الله تعالى:
أتشكى مع البعاد إليكم ... برقيق العتاب فرط اشتياقي
وكأني الورقاء من فرقة الإل ... ف تلهت بالسجع في الأوراق
وكتب هو إلي وقد قدمت إلى حماة لتلقي النائب الجديد لحلب في المحرم سنة ستين وسبع مئة:

مملكة الشهبا على الشهب علت ... فاستبشرت بالخير والفلاح
لما شكت سراً فساد حالها ... أعانها السلطان بالصلاح
يقبل الأرض التي ابتهلت أول أمرها بعلو قدرها، وابتهجت في سرها بمقدم كاتب سرها، فلله درها دولة اقتضت آراؤها الشريفة لمملكتها الحلبية بمن صانها وزانها، وارتضت آلاؤها المنيفة من أصلح شانها الذي شانها، فجانست أوامرها العالية بين مقام أعلم خليل، وبين مقام أكرم خليل، وآنسته رشدا بتقدم فاضل زمانه، وإن كان اللائق بالتقديم والتفضيل، فأقرت عيناً بآيات الفضائل السجية الصلاحية، وأقرت وألقت في ساحتها من ساعتها عصاها واستقرت، ومدت وارف ظلها عليها الرياسة والسيادة فما ساءت حين سرت. وينهي أن المملوك ممن سرته هذه البشرى التي ردت شوارد الأدب بعد مفرها إلى مقرها، وأسبغت ظلالها على سر الصناعتين بعد هجير هجرها، فلقد دلت على الهدى، وجلت صدأ الصدا بأنوارها وأنوائها، وجلت في حلبة المعالي على أبلقها وشقرائها بشهبائها، فلله الحمد على منة لا ترد إلا منه، وله الشكر على نعمة لا تصد إلا عنه.
زنتم رغم الحسود محلها ... كنتم أحق بها وكنتم أهلها
والقصد أن مولانا يعفي خطأها وخطلها، ويسامح بحلمه جهلها، ويسبل عليها ستر معروفه لأنه مالك الحل والعقد، وإليه مرجع النقل والنقد، لا زال جابراً بقبوله وإقباله، ساتراً بخلاله الكريمة ما خفي عن المملوك من إخلاله بمحمد وآله إن شاء الله تعالى.
محمد بن علي بن عبد الواحدابن يحيى بن عبد الرحيم، الشيخ الإمام العالم الفاضل المفسر المحدث شمس الدين أبو أمامة الدكالي، بالدال المهملة المضمومة وكاف بعدها ألف ولام وياء النسبة، ودكال: قلعة بالمغرب، المعروف بابن النقاش.
كان شكلاً حسنا، راق سناء وسنا، حلو الصورة والشكالة، يريح بمحاضرته ألم من شكا له، يستحضر من التفسير كثيراً، ويحل من غرائبه محلاً أثيراً. وكانت طريقه في التفسير غريبة، يأتي فيها بكل عجيبة، ما رأيت له في ذلك نظيراً، ولا توهمت أن غيره من أبناء جنسه يكون على ما يأتي به قديرا. حصل من الدنيا جانبا، وأكب على السعي فيها فما كل اجتهاده ولا نبا. وكان يدخل إلى الملك الناصر حسن، وقاده الله إليه بغير رسن، وعمل على شيخه قطب الدين الهرماس، فأبعده عنه حتى كأنه ما خطر بين يديه ولا ماس. وكان يصحب أمراء الدولة، حتى صار له في كل جو جولة. فنال مرامه وتعدى أقرانه، وتجاوز الغاية في علو المكانة.
يكاد من صحة العزيمة ما ... يفعل قبل الفعال ينفعل
ولم يزل على حاله إلى أن محيت من الحياة سكة ابن النقاش، وتلقاها الدهر بعد البشر بالتقطيب والإيحاش.
وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في القاهرة في أواخر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
وكنت سألته عن مولده فقال: في نصف شهر رجب سنة عشرين وسبع مئة.
أخبرني أنه قرأ القرآن على الشيخ برهان الدين الرشيدي كاملاً، وقرأ العربية عليه وعلى الشيخ محب الدين أبي عبد الله بن الصائع الأندلسي، وعلى العلامة أثير الدين، قال: وقرأت " ألفية ابن مالك " على ابن معاوية، وسمعت في شرح " التسهيل " وغيره على أثير الدين، قال: وحفظت " الحاوي " في الفقه، وأنا أول من حفظه بالقاهرة، و " منهاج الأصول " للبيضاوي على العلامة قاضي القضاء تقي الدين السبكي وعلى الشيخ شهاب الدين الأنصاري وعلى غيرهما، قال: وعلقت مثلاً على " التسهيل " ، وقرأت " العمدة في الأحكام " وألفت " شرحاً " لها يجيء في ثماني مجلدات، قال: وألفت كتاباً سميته " كاشف الغمة عن شافعية الأمة في أحاديث الرافعي " قال: وسميته " توضح الألفية وإلحاقها بالجرجانية " ، وكتاب " النظائر وفروق المذهب " و " تفسير آيات وسور " .

وكان قد قدم إلى دمشق، واجتمعت به في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وسبع مئة، ونزل لما جاء إلى دمشق عند العلامة قاضي القضاء تقي الدين السبكي، وكانت بينه وبين النائب علاء الدين أمير علي المادريني نائب الشام معرفة من مصر، فأكرمه وأقبل عليه وأحسن رعايته، وتوجه إلى حماة لمعرفة بينه وبين الأمير سيف الدين طازيرق نائب حماة، وقامت له سوق بدمشق، ورزق منها الحظ والحظوة، وعمل مجلساً بالجامع الأموي في التفسير، وتكلم فيها كلاماً كثيراً، واستحضر أحكاماً وأقوالاً ومذاهب ورقائق وتصوفاً بجنان ثابت ولسان فصيح من غير توقف، ووسع فيه المجال، وأبدع فيه الجمال، ولما فرغ منه كتبت أنا إليه:
أتينا المجلس حبر الورى ... فسر القلوب بما فسرا
وحرك أعطافنا نشوة ... ولا تسأل عما جرى
فشبهتها بغصون سمت ... وشبهته بنسيم سرى
وأنشدني من لفظه لنفسه يمدح قاضي القضاة تقي الدين السبكي لما كان بالقاهرة:
طرقت وقد نامت عيون الحسد ... وتوارت الرقباء غير الغرقد
والعسكر الزنجي رمح سماكه ... قان وعضب الفجر لم يتجرد
والليل قد نشرت غلائل مسكه ... لما طوى الإمساء حلة عسجد
وسرى يجر على المجرة ذيله ... إذ طوقت من شهبها بمقلد
ربعية حلت بأكناف الحشا ... ودموعها بين النقا والأنجد
غراء يفضح خدها ولحاظها ... مرأى الغرالة والغزال الأغيد
خلصت إلي ودون ربعي حاجز ... من سيل أجفاني ونار توقدي
وأتت ولم تضرب لوصل موعدا ... أحلى المنى ما لم يكن عن موعد
تهفو بمعطفها الشمول كما هفت ... أيدي الشمائل بالقضيب الأملد
أرجت بقاع الرقمتين وشعبها ... وتشرفت أعلام ذاك المعهد
شرف المجالس شيخنا علم الفخا ... ر الأوحدي الألمعي الأمجدي
ياقوت سلك البحر أحكم نظمه ... فالدر بين مرصع ومنضد
عين السيادة حل منها رتبة ... كيوان يرصدها بعين الأرمد
وهي طويلة وقد أوردتها في ترجمته في " تاريخي الكبير " .
وكتبت أنا إليه ملغزاً في فيل، وهو:
يا إمام الأنام في كل علم ... وإليه الورى ترى منتهاه
وهو شمس التحقيق في كل فن ... وسواه يكون فيه سهاه
أيما اسم تركيبه من ثلاث ... وهو ذو أربع تعالى الإله
حيوان والقلب منه نبات ... لم يكن عند جوعه يرعاه
فيك تصحيفه ولكن إذا ما ... رمت عكساً يكون لي ثلثاه
فأبنه لا زلت في ظل سعد ... ما تملى طرف بطيب كراه
فكت هو الجواب عن ذلك:
يا إماماً قد حاز علماً وفضلاً ... وسمواً على الورى بنداه
وهو للدين والعلوم صلاح ... جل رب بكل حسن حباه
إن لغزاً أبدعت فيه لعمري ... يقصر الفهم عن بلوغ مداه
قلبه بالعراق في النخل باد ... وهو بالهند كل عين تراه
ما أحب الشطرنج إلا بدا لي ... منه خصم داع لحربي أخاه
هو عني باد فإنه راح منه ... آخر عدت جهراً أراه
دمت لي مهديا جواهر علم ... لك كل الورى ترى منتهاه
محمد بن علي بن عبد الرحيمالشيخ علم الدين بن بهاء الدين بن الإمام محيي الدين، عرف بابن الدميري.
أجاز لي رحمه الله تعالى في سنة...
ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة بدار الزعفران بزقاق القناديل بمصر.
وتوفي رحمه الله تعالى...
محمد بن عليالأمير ناصر الدين بن الأمير علاء الدين بن الفراء.
كان والده علاء الدين بن الفراء أمير طبلخاناه، وهو مقدم البريدية، وكان هذا ناصر الدين ولده أمير عشرة بدمشق، وكان صورة جميلة ظريفاً لطيفاً، فيه حياء وحشمة، وفيه كرم وهمة.
ولم يزل حاله يقوم في ديونه ويقع إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وسبع مئة، وقد تقدم ذكر والده في حرف العين مكانه.
محمد بن عمر بن أبي بكر البانياسي

كان شاباً ذكياً متيقظاً، قرأ القراءات وبرع فيها، وقرأ الفقه والعربية والأصول، وأفاء في القراءات، وله نظم.
ومات سنة تسع وتسعين وست مئة.
محمد بن عمر بن عبد الله بن عمرالخطيب الأمين الصالح الفاضل موفق الدين عبد الله ابن الخطيب الزاهد نجيب الدين الخطيب بقرية بيت الآبار وابن خطبائها، وهو أخو علاء الدين علي بن عمر المقدم ذكره في حرف العين مكانه، بينهما في الوفاة أربعة أيام.
سمع الخطيب موفق الدين من الضياء يوسف، والموفق محمد. وحدث وحج غير مرة. وروى بالعلا وبدر من منازل الحجيج. وأقام خطيباً بالقرية نحو أربعين سنة، وليها بعد والده.
كان اشتغل على تاج الدين، وكتب بخطه الحسن جملة من المجلدات، وكان له خلق حسن، وفيه تواضع.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء عاشر شعبان سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وست مئة.
محمد بن عمر بن محمدابن عمر بن إدريس بن سعيد بن مسعود بن حسن بن محمد بن محمد بن رشيد، أبو عبد الله الفهري السبتي.
أخذ العربي عن ابن أبي الربيع ونظرائه، واحتفل في صغره بالأدبيات وبرع فيها، وروى " البخاري " عن عبد العزيز الغافقي قراءة من لفظه.
وارتحل إلى فاس، واشتغل بالمذهب، ورحل إلى سبتة، وتصدر لإقراء الفقه خاصة، وتأدب مع أشياخه، فما أقرأ غير الفقه، وارتحل إلى تونس واشتغل بالأصلين على ابن زيتون، ثم رجل إلى الإسكندرية، وحج سنة ثمان وثمانين وست مئة، وجاور بمكة والمدينة ونزل بمصر.
وكان رحمه الله تعالى صاحب همة، وله عز في الطلب وعزمة، صنف تصانيف مفيدة، وألف تواليف في الإفادة عتيدة، وباشر الخطابة فصدحت على غصن المنبر حمامته، واستجن في حشا المحراب فجملته إمامته، وبث في غرناطة علومه وسفحت بها غمامته. ثم إنه أخرج منها وزحزح عنها، أحسن إليه ملك العدوة، ونوله إحسانه مساء وغدوة.
ولم يزل إلى أن توسد بطن اللحد واستوى منه الاعتراف والجحد.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
أخبرني من لفظه شيخنا العلامة أبو حيان قال: قدم المذكور علينا القاهرة حاجاً وسمع معنا الحديث، وعني به، وكان قد بحث " سيبويه " على أبي الحسين بن أبي الربيع، ولما توجه من الحج صحبة أبي عبد الله بن الحكيم اتفق أن السلطان أبا عبد الله ابن السلطان أبي عبد الله بن الأحمر، استوزر ابن الحكيم، فولى ابن رشيد الإمامة والخطابة بجامع غرناطة، ولما قتل الوزير أخرج أهل غرناطة ابن رشيد إلى العدوة، فأحسن إليه ملك العدوة أبو سعيد عثمان بن السلطان أبي يوسف بن عبد الحق المريني، وبقي في إيالته إلى أن توفي رحمه الله تعالى، وكان فاضلاً. انتهى.
قلت: وله من التصانيف " الرحلة المشرقية " أربع مجلدات، " فهرست مشايخه " ، " المقدمة المعرفة في علو المسافة والصفة " ، " الصراط السوي في اتصال سماع جامع الترمذي " ، " إفادة النصيح في مشهور رواه الصحيح " ، " جزء فيه مسألة العنعنة " ، و " المحاكمة بين الإمامين " ، " إيضاح المذاهب في تعيين من ينطلق عليه اسم الصاحب " ، " جزء فيه حكم رؤية هلال شهر رمضان وشوال " ، " تلخيص كتاب القوانين في النحو " ، " شرح جزء التجنيس " لحازم بن حازم الإشبيلي، و " حكم الاستعارة " ، وغير ذلك.
وله خطب وقصائد نبوية مطولة، ومقطعات بديعة.
قال شيخنا أثير الدين: كان سرياً حسن الأخلاق.
وسألته أن يكتب لي شيئاً من شعره، وكان ممن ينظم بالعروض إذ لم يكن الوزن في طبعه، فكتب لي بخطه:
يا من يفوق النجم موطنه ... كلفتني ما ليس أحسنه
ولتغض عما فيه من خلل ... خلدت في عز تزينه
وله أبيت كتبها على حذو نعل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الحديث الأشرفية:
هنيئاً لعيني أن رأت نعل أحمد ... فيا سعد جدي قد ظفرت بمقصدي
وقبلته أشفي الغليل فزادني ... فيا عجباً زاد الظما عند موردي
ولله ذاك اليوم عيداً ومعلماً ... بمطلعه أرخت مولد أسعد
عليه صلاة نشرها طيب كما ... يحب ويرض ربنا لمحمد
محمد بن عمر بن محمودالشيخ الإمام بدر الدين البابي الحلبي، المعروف بابن جحفل الشافعي معيد الباذرائية.

وكان رجلاً جيداً فاضلاً، عنده معرفة بالنحو، وفيه سكون كثير، وانقطاع وملازمة لبيته.
توفي بالباذرائية رحمه الله تعالى في حادي عشري جمادة الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة، وكان قد بلغ السبعين أو قاربها.
محمد بن عمر بن أحمد بن المثنىبدر الدين المنبجي الشافعي.
سمع من ابن عبد الدائم بدمشق، ومن النجيب بمصر، وتخرج في الأدب بمجد الدين بن الظهير الإربلي رحمه الله.
توفي رحمه الله تعالى بمصر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده بمنبج قبل الخمسين وست مئة.
أنشدني شيخنا العلامة أثير الدين إجازة، قال: أنشدني المنبجي لنفسه:
ومهفهف ناديته ومحاجري ... تذري دموعاً كالجمان مبددا
يا من أراه على الملاح مؤمراً ... بالله قل لي هل أراك مجردا
ومنه أيضاً:
وبدر دجى وافى إلي بوردة ... وما حان من ورد الربيع أوانه
فقال وقد أبديت منه تعجباًرويدك لا تعجب وعندي بيانه
هو الورد من روض بخدي جنيته ... وورد خدودي كل وقت أوانه
ومنه أيضاً:
ومن عجب سيف بلحظك ينتضى ... فيفتك في العشاق وهو كليل
وأعجب من ذا لحظ طرفك في الورى ... يداوي من الأسقام وهو عليل
ومنه أيضاً:
وكأن زهر اللوز صب عاشق ... قد هزه شوق إلى أحبابه
وأظنه من هول يوم فراقهم ... وبعادهم قد شاب قبل شبابه
وذكرت أنا هاهنا ما قلته في زهر اللوز:
عجباً لزهر اللوز حين يلوح في ال ... أوراق إذا تجلى على نظاره
عكس القضية في الورى، فمشيته ... يبيض من قبل اخضرار عذاره
وأورد له كمال الدين الأدفوي في " البدر السافر " قوله:
وبدر دجى زارنا موهناً ... فأمسى به الهم في معزل
الأبيات المشهورة: وأورد له أيضاً:
صل الراح بالراحات واقدح مسرة ... بأقداحها واعكف على لذة الشرب
ولا تخش أوزاراً فأوراق كرمها ... أكف غدت تستغفر الله للذنب
قلت: وهذان البيتان مشهوراً موجودان في المجاميع الأدبية، ورأيت بعضهم نسبها إلى ديك الجن، وهما من أنفاس المتأخرين. وقد ذكرت أنا لي هاهنا أبياتاً جاء فيها ذكر أوراق الكرم، وهي:
وكم روضة يحكي الزواهر زهرها ... فلا عجب إن قلت أفق مكوكب
تخال خيال النجم في زهرها إذا ... تموج إن الدر يطفو ويرسب
وتحسب أن النرجس الغض أعين ... لتدبير هذا الكون تسهو وتسهب
وطل على ورد حكى خد غادة ... به عرق من خجلة يتصبب
وأوراق كرم قد حكت كف سائل ... لمن كان في نعمائه يتقلب
محمد بن عمر بن أبي بكرابن قوام البالسي، الشيخ الإمام العالم الزاهد القدوة.
روى للجماعة من أصحاب ابن طبرزد. وكان يحب الحديث ويسمع أولاده.
كان فيه تواضع وعليه وقار، وعنده تمسك بأرباب السنة والآثار، وعليه مهابة، وعنده تفرس وإصابة، وفيه صدق وإخلاص وقبول عظيم من العامة والخاص، تحبه القلوب وتميل إليه، وتترامى بالتودد والموالاة عليه.
وكان فيه جود وكرم، وسماح له التهاب وضرم، وله تهجد في الليل وعبادة، ومعاملة وجد بها عند الله الحسنى وزيادة، قل أن ترى العيون مثله في بابه، أو تشاهد له عديلاً في أنواعه وأضرابه.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح في كفنه مدرجاً، ووجد له من ضيق الدنيا مخرجاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في ... سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وله من العمر ثمان وثمانون سنة، ودفن بزاويته بسفح قاسيون.
وعرض عليه أرباب الدولة راتباً يكون على زاويته، فامتنع ووقف عليها بعض التجار بعض قرية، وكان قد جمع " سيره " لجده رحمه الله تعالى.
محمد بن عمر بن الفضلالفضلي، قاضي القضاة، قطب الدين البريزي الشافعي، قاضي بغداد، الملقب بأخوين، كان صاحب مشاركة في فنون، وقد أتقن علمي المعاني والبيان، ونسخ كتباً كثيراً، ولم يكن من قضاة العدل.
توفي ببغداد في سادس عشري شهر الله المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.

وكان فيه تؤدة وحلم ومروءة وكرم، رحمه الله تعالى، وكان يكتب خطاً حسناً، وفيه شفقة وحنو على الفقراء والضعفاء وتواضع وحسن خلق. وقال الشيخ سراج الدين القزويني: كان فقيهاً أصولياً مفسراً نحوياً كاتباً بارعاً وحيداً فريداً من أعيان أفاضل الزمان.
محمد بن عمر بن حمادشمس الدين الظفاري اليمني الواعظ المعروف بالأبلوج، لأنه كان يعتم بعمامة كأنه أبلوج السكر، فاشتهر بذلك.
وتوفي بالقاهرة في تاسع عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، ودفن في يومه خارج باب النصر.
وكان قد أقام بدمشق مدة، ووعظ بمسجد أبي اليمن.
محمد بن عمر بن أبي بكرابن ظافر بن أبي سعيد، ناصر الدين أبو الفضل البصري الأصل، الحنبلي.
روى عن ابن الجميزي، وابن الجباب، وسبط السلفي، والساوي، والمرجى بن شقيرة.
وكان إمام مسجد، ويلقن القرآن ويحضر الختم، وهو فقيه بالمدرسة الصالحية. وحدث " بصحيح مسلم " عن ابن الحباب، سنة سبع وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى سابع صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وست مئة.
قال شيخنا البرزالي: قرأت عليه المجلس الرابع من " أمالي أبي مطيع " بسماعه من ابن الجباب.
محمد بن عمر بن أبي القاسمالقاضي الصدر الرئيس نجم الدين ابن الشيخ نجم الدين بن أبي الطيب وكيل بيت المال بدمشق وابن وكيل بيت المال بها.
كان صدراً رئيساً وماجداً جعل الخلق الطلق عليه حبيساً، له معرفة تامة بتراجم أهل عصره ووقائعهم وما جرياتهم في وظائفهم وصنائعهم، إذا فتح له هذا الباب دخل عليه وحده، وسرد ما عنده.
وباشر وظائف كباراً جاداً له الدهر فيها بأمانه، وتقدم في آخر زمانه. وكان مع ذلك عديم الشر وادعاً، قائلاً بالحق صادعاً.
ولم يزل على حاله إلى أن غاب نجمه في الثرى، وسلك الطريق التي ما يتخلف عنها أحد من الورى.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع شعبان سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، توفي من جمرة ظهرت في وجهه، أقام معها يومين، ومات - رحمه الله تعالى - .
وكان شافعي المذهب. حسن الشكل، تام الخلق له تودد وملقى وملق.
وكان قد تزوج ابنة القاضي محيي الدين بن فضل الله، ولم يزل على حاله الناقص إلى أن توجه محيي الدين إلى مصر كاتب سر، فتولى بواسطته نظر الخزانة، ووكالة بيت المال، وكان بيده أولاً نظر الرباع وتدريس المدرسة الكروسية، وتولى الوكالة بعد القاضي شهاب الدين بن المجد لما صار قاضي القضاة في يوم عرفة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وكان ابن المجد قد وليها بعد القاضي علاء الدين بن القلانسي، وكان علاء الدين قد وليها بعد أخيه القاضي جمال الدين أحمد بن القلانسي، وكان قد وليها بعد كمال الدين بن الشريشي، وكان ابن الشريشي قد وليها بعد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وكان قد وليها بعد نجم الدين بن أبي الطيب والد صاحب هذه الترجمة. وقد تقدم الكلام في ترجمة والده لأي شيء سمي هذا البيت بابن أبي الطيب.
الجزء الخامس

بسم الله الرحمن الرحيم
بقية حرف الميم
محمد بن عمر بن مكي
ابن عبد الصمد بن عطية بن أحمد، القرشي الأموي العثماني، الشيخ الإمام المفسر المحدث الأصولي النحوي الأديب الفاضل المفتن:
علامة العلماء واللّج الذي ... لا ينتهي ولكل بحر ساحلُ
صدر الدين أبو عبد الله الشافعي الأشعري المعروف بابن الوكيل وبابن المرحّل وبابن الخطيب.
أفتى وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، وتفقه بوالده وبالشيخ شرف الدين المقدسي، وبالشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري، وقرأ الأصولين على الشيخ صفي الدين الهندي، والنحو على بدر الدين بن مالك.
وكان له عدّة محافيظ، وحفظ المُفصّل في مئة يوم، وكتب له عليه الشيخ شرف الدين: قرأه في مئةٍ لا أراني الله له يوماً، وحفظ ديوان المتنبي في جمعة، والمقامات في خمسين يوماً، وكان لا يمر بشاهد من كلام العرب إلا حفظ القصيدة التي ذلك البيت منها.
وسمع الحديث من القاسم الإربلي، والمسلّم بن علان. وسمع الكتب الستة على أشياخ عصره.
ولما باشر مشيخة دار الحديث روى قطعة كبيرة من صحيح مسلم عن الأمين الإربلي والعامري والمزي.

وكان ذكياً نظّاراً حافظاً، يسرد في كل فن أسفاراً، لا يقوم أحد لجداله، ولا يُرى في عصره أحد من رجاله، مكثراً من جميع الفنون، يستحضر الأسانيد والمتون. ولم يكن يقوم بمناظرة العلامة تقي الدين بن تيمية سواه، ولا يعترض كالشجى في حلقه فيما أورده ورواه، ولما بلغته وفاته قال: أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين. وتناظرا يوماً بالكلاّسة خلف العزيزية، فأخذ الشيخ تقي الدين يستشهد ببعض الحاضرين، فقال الشيخ صدر الدين:
إن انتصارك بالأجفان من عجب ... وهل رأى الناس منصوراً بمنكسر
ولم يقم أحد بمناظرته، ولا قام الى منافرته.
أما التفسير: فابن عطية عنده مُبخّل، والواحدي شارك العيّ لفظه فتميّل.
وأما الحديث: فلو رآه ابن عساكر لانهزم وانضم في زوايا تاريخه وانجزم، أو ابن الجوزي لبس من الغيرة غياراً، وانكسر قلبه لمّا خرج من قشوره ولم يجد لله عياراً.
وأما الفقه: فلو أبصره المحاملي محا ما تحمل من غرائب فاض النقلُ عنه وما نضب، ورجع عما قال به من استحباب الوضوء من الغيبة وعند الغضب، أو القفّال لما فُتح له من الفقه باب، ولرجع من أول الأمر الى الاعتدال عن الاعتزال وتاب، أو الروياني لما عبر له رؤيا، ورأى أن بحره قد صار وشلا واستحيا:
كم مُقْفَلٍ ضلّ فيه العَقلُ فانفرجتْ ... أرجاؤه لحجاه عن معانيهِ
يفتي فيروي غليل الدين من حصَرٍ ... أدناه نقلاً وقد شطت مراميه
ومونقٍ قد سقاه غيث فطنته ... مُزناً أيادي رياح الفكر تَمْريه
وأما الأصول: فلو رآه ابن فُوْرك لفرك عن طريقته، وقال بعدم المجاز الى حقيقته، وإمام الحرمين لتأخر عن مقامه، ورأى الرجوع عن الإرشاد من كلامه.
وأما النحو: فلو عاصره عنبسة الفيل لكان مثل ابن عصفور، أو أبو الأسود لكان ظالماً، وذنبه غير مغفور.
وأما الأدب: فلو رآه الجاحظ لأمسى لهذا الفن وهو جاحد، أو الثعالبي لراغ عن تصانيفه، وما اعترف منها بواحد.
وأما الطب: فلو شاهده ابن سينا لما أطرب قانونه، أو ابن النفيس لعاد نفيساً قد ذهب نونه.
وأما الحكمة: فالنّصير الطوسي عنه مخذول، والكاتبي دبيران أدبر عنه وحدّه مفلول.
وأما الشعر: فلو جاراه ابن سناء الملك فنيتْ ذخيرة مجاراته وحقائقه، أو ابن الساعاتي ما وصل الى درجه، وانتهى الى دقائقه.
وأما الموشحات: فلو وصل خبره الى الموصلي لأصبح مقطوع الذّنب، أو ابن زهر لما رأى له في السماء نجماً إلا هوى، ولا برجاً إلا انقلب.
وأما البلاليق: فابن كلفة عنده يتكلّف، وابن مُدَغليس يغلس للسعي في ركابه وما يتخلّف.
هذا الى غير ذلك من معارف وفنون كان لحواصلها عنده مصارف.
وكان رحمه الله تعالى محظوظاً، وبعين المحبة ملحوظاً، قلّ أن وقع بينه وبين أحد وما عاد له ولياً، وأصبح لمسامرته نجياً. وقع بينه وبين الأعسر، وكان إذا رآه ينسر، ووقع بينه وبين الأفرم، ثم أصبح عنده وهو الأعز الأكرم، وغضب السلطان الملك الناصر محمد عليه غضباً لا يقوم له غير سفك دمه، ثم أصبح عند رؤيته وهو لا يمشي إلا على قدمه.
ولم يزل على حاله الى أن رحل ابن المرَحّل الى دار القرار، وأصبح سيف لسانه وهو مفلول الغرار.
وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة نهار الأربعاء رابع عشري ذي الحجة سنة ست عشرة وسبع مئة، ودفن بالقرب من الشيخ محمد بن أبي جمرة بتربة القاضي فخر الدين ناظر الجيش بالقرافة.
ومولده في شوال سنة خمس وستين وست مئة بدمياط، وقيل: بأشموم.
ورثاه جماعة من الأفاضل، وتأسف الناس عليه.
وأنشدني من لفظه لنفسه القاضي شمس الدين محمد بن داود ابن الحافظ ناظر جيش صفد يرثيه:
ما مات صدرُ الدين لكنه ... لما غدا جوهرةً فاخره
لم تعرفِ الدنيا له قيمةً ... فعجّل السير الى الآخره
قلت: وهو مأخوذ من قول الأول:
قد كان صاحبُ هذا القبر جوهرةً ... غرّاء قد صاغها الباري من النُطَف
عزّت فلم تعرف الأيامُ قيمتها ... فردّها غيرةً منه الى الصَّدف

ونشأ الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى بدمشق، ونبغ وظهر واشتهرت فضائله ومناظراته، ودرّس بالمدارس الكبار، واشتهر صيته. ولما دخل الناس في الجفل أيام غازان وعلماء الشام كبارهم وصغارهم، فلم يقعد صدر الدين ثلاثة أيام حتى أعطي تدريس المشهد فيما أظن.
وكانت له وجاهة وتقدّم عند الدولة، ونادم الأفرم وغيره، وركب البريد الى مصر في أيام الجاشنكير، واجتمع هو وابن عدلان وأفتوا بأن الملك الناصر محمد لا يصلح للملك، ورُمي بأنه نظم قصيدة هجا بها السلطان، ومن جملتها:
ما للصبي وما للملك يطلبه ... إن المراد من الصبيان معلوم
وعمل أعداؤه الى أن أوصلوا القصيدة الى السلطان، فكانت في سولفه يخرجها كل يوم، ويقرؤها، وأراد الصاحب فخر الدين بن الخليلي القبض عليه تقرّباً الى الملك الناصر، فلما أحسّ بذلك هرب هو الى السلطان، وجاء إليه وهو على غزة، حكى قاضي القضاة جلال الدين القزويني، قال: بينما أنا جالس عند السلطان بغزة فإذا بالأمير سيف الدين بكتمر الحاجب قد دخل، وقال: يا خوند صدر الدين بن الوكيل فقال: يحضر فلما دخل به بكتمر الحاجب قال له: بُس الأرض، فقال: مثلي ما يبوس الأرض إلا لله تعالى. فقال: فجمعت ثيابي لئلا تلحقني طراطيش دمه، لما نعلمه من أنفاس السلطان فيه، فقال له: والك، أنت فقيه تركب على البريد، وتروح من دمشق الى مصر لتدخل بين الملوك وتغير الدول وتهجوني؟ فقال: حاشى لله يا خوند، وإنما أعدائي وحسّادي نظموا ما أرادوا على لساني، ولكن هذا الذي قلته أنا، وأخرج قصيدة تجيء مئة بيت، وأنشدها في وزن تلك ورويّها، فأعجب السلطان وعفا عنه.
قال جلال الدين: ولما أصبحنا وسارت العساكر والجيوش والسلطان رايح والى جانبه صدر الدين بن الوكيل، فتعجبنا من ذلك، ولما عاد الى مصر، وطلبه من حلب، عظّمه السلطان، كان إذا رآه وعليه الخلعة يقول: الله، إن هذا صدر الدين إلا شكل مليح مُجمّل التشاريف التي يلبسها.
وقد جرى له مع السلطان في قضية البكري ما جرى، وخلصه منه بعدما أمر بقطع لسانه. وقد ذكرت ذلك في ترجمة البكري.
وباشر بدمشق مدارسها الكبار، ودار الحديث الأشرفية والشامية البرّانية والجوانية والعذراوية، والخطابة بالجامع الأموي، ولكنه لم يصلّ في المحراب إلا يومين، حتى قام الشيخ تقي الدين بن تيمية وغيره من المتعصبين عليه حتى عزل، وأثبت قاضي القضاة شمس الدين الحريري محضراً بعدم أهليته للخطابة.
وكان الشيخ صدر الدين في القاهرة لما توفي زين الدين الفارقي خطيب الجامع الأموي في تاريخ وفاته على ما يأتي في ترجمته، وكان الأفرم غائباً في الصيد، فلما عاد عيّن الشامية ودار الحديث للشيخ كمال الدين بن الشريشي، وعيّن الناصرية للشيخ كمال الدين بن الزملكاني عوضاً عن ابن الشريشي، وعيّن الخطابة للشيخ شرف الدين الفزاري، وأمره بالإمامة والخطابة، فباشر وخطب جمعتين، ولازم الإمامة عشرة أيام، فوصل البريد يوم الإثنين منتصف شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبع مئة ومعه توقيع بجميع جهات الشيخ زين الدين للشيخ صدر الدين بن الوكيل مضافاً الى ما بيده من المدرستين، فشق على الناس خروج الشيخ شرف الدين من الخطابة بعد مباشرته وكماله وصلاحه وجودة قراءته وحُسن أدائه، ووصل الشيخ صدر الدين بعد ذلك على البريد، وسلّم على الأفرم بالقصر، وحضر الى الجامع، ودخل الى دار الخطابة، وهنأه الناس على العادة، وصلى بالناس العصر، وبقي يومين يباشر الإمامة، فأظهر جماعة التألم من خطابته، واجتمعوا بالأفرم، فمنعه من الخطابة، وأقرّه على المدارس الثلاث. ثم إنه وصل توقيع بالخطابة للشيخ شرف الدين من القاهرة. ثم إن الشامية البرانية انتُزعت منه أيضاً للشيخ كمال الدين ابن الزملكاني.
وفي أيام قراسنقر ونيابته على دمشق قام على صدر الدين جماعة من الفقهاء، ونازعوه في المدارس التي بيده، وحصل له من قراسنقر أذى كثير، وخاف على نفسه منه، فتوجه الى قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي، وطلب منه الحكم بإسلامه، وحقن دمه، وإسقاط التعزيز عنه، والحكم بعدالته واستحقاقه المناصب فحكم له بذلك، ثم ورد المرسوم من مصر بعزله من سائر جهاته، وبقي بطالاً.

ولما فرغ شهر رمضان سنة عشر توجّه الى حلب، وأقبل عليه أسندمر نائب حلب إقبالاً زائداً، وطلبه يوماً قبل صلاة الجمعة، وسأله عن تفسير قوله تعالى: " والنّجم إذا هَوى " فقال: الوقت يضيق عن هذا، لأن هذه الآية يحتمل تفسيرها ثلاثة أيام، فوهبه نسخة مليحة بأسد الغاب في ذكر الصحاب لابن الأثير، وأقام بحلب عشرة أشهر فقال: الذي حصل لي من مكارمات الحلبيين في هذه المدّة أربعون ألف درهم. ولما جاء أرغون الدوادار الى حلب كان عنده ربعة مليحة الى الغاية فقدّمها له، فقال أرغون: يا شيخ هذه ما تصلح إلا للسلطان، وإذا عدتُ الى مصر ذكرتُها للسلطان الملك الناصر، وطلبتك فوفي له بما وعده، ودرّس بمصر بالمشهد الحسيني وبالزاوية المعروفة بابن الجميزي، ولما قدم مصر في الجفل أفهم أمراء الدولة أنه ليس في مصر مثله، وادّعى علماً كبيراً، وطلب المناظرة، وحضر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وكان صدر الدين قد رتب شيئاً، فلما شرع فيه قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: هذا كلامٌ معبّأ، وقال: يقرأ شخص آية فقرأ شخص آية، وذكر الشيخ سؤالاً، فشرع صدر الدين يتكلم، فانتدب له عز الدين النمراوي، فقال له الشيخ تقي الدين: التزم هذا يا غرّ، هذا جيد. وانفصل المجلس، والشيخ صدر الدين مغلوب.
ولما عاد الى القاهرة بعد مجيء الناصر من الكرك ولاه السلطان الملك الناصر تدريس الناصرية بين القصرين، وهو أول من درّس بها، وجهّزه السلطان الملك الناصر رسولاً الى مهنّا، فقال: حصل لي في هذه السفرة ثلاثون ألف درهم. وأظنه توجه إليه مرتين في سنة ثلاث عشرة، وجمع كتاب الأشباه والنظائر ومات ولم يحرره، فلذلك ربما وقعت فيه أغلاط. قال مولانا قاضي القضاة تاج الدين السبكي مثل حكايته عن بعض الأئمة وجهين فيما إذا كشف عورته في الخلاء زائداً على القدر المحتاج هل يأثم على كشف الجميع أو على القدر الزائد. وهذا لم نره في كتاب ويشبه أن تكون زلة قلم الى غير ذلك.
وكان شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي رحمه الله تعالى يثني عليه ويقول: فاضل عصره. قال: دخلت عليه في المرض الذي توفي فيه رحمه الله تعالى، فقلت له: كيف تجدك؟ وكيف حالك؟ فأنشدني:
ورجعت لا أدري الطريق من البكا ... رجعتْ عداك المبغضون كمرجعي
وكان ذلك آخر عهدي به.
وقال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: كان ابن الوكيل عارفاً بالطب علماً لا علاجاً، فاتفق أن شكا إليه الأفرم سوء هضم، فركّب له سفوفاً، وأحضره، فلما استعمله أفرط به الإسهال جداً، فأمسكه مماليك الأفرم ليقتلوه، فأُحضر أمين الدين سليمان الحكم لمعالجة الأفرم، فعالجه باستفراغ بقية المواد التي اندفعت، وحركها الشيخ صدر الدين، وأعطاه أمراق الفراريج، ثم أعطاه المُقبّضات حتى صلحت حاله. ولما عاد الأفرم الى وعيه سأل عن الشيخ صدر الدين بن الوكيل، فأخبره المماليك ما فعلوه به، فأنكر ذلك عليهم، وقال: أحضروه، فلما حضر قال: يا شيخ صدر الدين جئت أروح معك غلطاً، وهو يضحك. فقال له سليمان الحكيم: يا صدر الدين اشتغل بفقهك، ودع الطب فغلط المفتي يُستدرك، وغلط الطبيب ما يستدرك، فقال الأفرم: صدقٌ لك لا تخاطر. ثم قال لمماليكه: مثلُ صدر الدين ما يُتهم: والله الذي جرى عليه منكم أصعب من الذي جرى عليّ، وما أراد والله إلا الخير. فقبّل يده، وبعث إليه الأفرم لما انصرف جملة من القماش والدراهم.
وأخبرني أيضاً قال: كان الشيخ تقي الدين بن تيمية يقول عنه: ابن الوكيل ما يرضى لنفسه أن يكون في شيء إلا غاية، ثم يُعدد أنواعاً من الخير والشر فيقول: كان في كذا غاية، وفي كذا غاية. انتهى.
قلت: وكان فيه لعب ولهو، ومع ذلك فحكى لي عنه جماعة ممن صحبه ونادمه في خلواته أنهم إذا فرغوا من حالهم قام وتوضأ ولبس قماشاً نظيفاً وصلى وبكى ومرّغ وجهه على الأرض والتراب، وبكى حتى بلّ لحيته بدموعه، واستغفر وسأل الله التوبة والمغرفة، حتى قال بعضهم: لقد رأيته قد قام من سجوده ولصق بجدار الدار كأنه أسطوانة ملصقة. وكان إذا مرض غسل ديوانه.
وكان قادراً على النظم من القريض والموشح والزجل والبلّيق والدوبيت والمواليّا والكان وكان، لا يفوته شيء ولا يعجزه، وهو في جميع هذه الأنواع مطبوع، له غوص على المعاني، ومع ذلك فكان ينتحل أشياء ويدّعيها.

حكى لي شيخنا الحافظ ابن سيد الناس، أنشدني مرة قصيدةً عينية منها قوله:
يا ربّ جفني قد هجاه هجوعه
ومنها:
يا ربِّ بدرُ الدين غاب عن الحمى ... فمتى يكون على الخيام طلوعه
قال: ثم إني اجتمعت بالشهاب العزازي، وأنشدته إياها، فقال: هذه لي، وأنشدني إياها من أولها الى آخرها. انتهى.
قلت: ولما عمّر السلطان الملك الناصر محمد القصر الأبلق بقلعة الجبل دخل إليه الشيخ صدر الدين، وأنشده:
لولاك يا خير من يمشي على قدم ... خاب الرجاء وماتت سُنّةُ الكرم
منها:
بنيتَ قصراً قضى بالسعد طالعه ... فقامت لهيبته الدنيا على قدم
وهذه القصيدة بمجموعها لابن التعاويذي، وهي في ديوانه، وإنما ابن التعاويذي قال: بنيت داراً، فغيّره ابن الوكيل، وقال: بنيت قصراً.
وشاع عنه أنه كان ينظم الشاهد على ما يدّعيه في الوقت وينشده، من ذلك قال شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى عمّن أخبره قال: ادعى ابن الوكيل يوماً في الطائفة المنسوبة الى ابن كرّام أنهم الكرامية - بتخفيف الراء - فقال الحاضرون: المعروف فيهم بتشديد الراء، فقال: التخفيف، والدليل عليه قول الشاعر:
الفقه فقه أبي حنيفة وحده ... والدين دين محمد بن كرام
واستمرت هذه الحكاية في ذهني، وأنا لا أشك في أنه وضعه، فما كان بعد مدة ظفرت ببيتين من شعر المتقدمين وأولهما:
إن الذين بجهلهم لم يقتدوا ... في الدين بابن كرام غير كرام
فاستغفرت الله تعالى من ذلك الخاطر، وسألت الله تعالى له المغفرة والرحمة، وكان ظفري بهذين البيتين في سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وما يبعد أنه كان يجازف في النقل وأخذه.
قيل: إنه دخل الى الأفرم يوماً، وقال: يا خُوند أنا أنقل للأسد ثلاثة آلاف اسم.
قلت: وهذا مبالغة عظيمة، والذي وقفت عليه في مجموع للأسد خمس مئة اسم، ولولده الشبل ثلاث مئة اسم الجملة ثمان مئة اسم.
والجيّد من شعره طبقة عليا، على أن شعره يقع في اللحن الخفي، على أنه بلغني عن مجد الدين التونسي أنه قال يوماً: ما اجتمعت بالشيخ صدر الدين إلا واستفدت منه فائدة في العربية، ولما توجه الى حلب وجد شيخنا علم الدين طلحة مستحضراً للعربية جيداً، لكنه كان يعرف الحاجبية وشروحها، وهي دائرة ضيّقة، فأخذ الشيخ صدر الدين شرح السيرافي لكتاب سيبويه، وأخذ يطالعه وينقل منه ما طمّ طلحة، وغطاه. وسبب اللحن الخفي الذي كان يقع له إنما اشتغل بالنحو وهو كبير السن، والنحو علم صغر يحتاج الى أن يمتزج باللحم والدم، وأنشدني كثيراً من شعره الشيخ شهاب الدين العسجدي، وقال: كنت معه. وكانت ليلة عيد، فوقف له فقير، وقال: شيء لله؟ فالتفت إليّ وقال: إيش معك؟ فقلت: مئتا درهم. فقال ادفعها الى هذا الفقير. فقلت له: يا سيدي الليلة العيد، وما معنا ما ننفقه غداً. فقال لي: امض الى القاضي كريم الدين، وقل له: الشيخ يهنئك بهذا العيد. فدفع إليّ ألفي درهم، وقال: هذه للشيخ، وكأنه يعوز نفقة في هذا العيد، ولك أنت ثلاث مئة درهم، فلما حضرت بالدراهم من عند كريم الدين الى الشيخ، قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحسنة بعشرة، هذه مئتان بألفين.
وكان هذا شهاب الدين العسجدي والقاضي علم الدين سليمان بن ابراهيم المستوفي، وكانا به خصيصين، وحكيا لي عن مكارمه وعن صدقاته وبره للفقراء والصالحين أمراً عظيماً، وحكى لي عن أوائل عشرته أنها تكون في غاية اللطف والإقبال الزائد على صاحبه، ثم إذا طالت استحال، ولهذا قال فيه بعضهم:
وداد ابن الوكيل له مثال ... كلبا دين جُلّق في المسالك
فأوّله حلي ثم طيبٌ ... وآخره زجاج مع لوالك
وجميع موشحاته، وسماه طراز الدار، وهذه تسمية بديعة، قلب فيها تسمية موشحات ابن سناء الملك، لأنه سمي ديوانه دار الطراز: ومن شعره - وهي من غرر قصائده:
ليذهبوا في ملامي أيةً ذهبوا ... في الخمر لا فضةً تبقى ولا ذهب
والمال أجمل وجه فيه تصرفه ... وجهٌ جميل وراحٌ في الدجى لهب
لا تأسفن على مال تمزقه ... أيدي سقاةِ الطلا والخرَّد العرب

فما كسَوا راحتي من راحها حللاً ... إلا وعرّوا فؤادي الهمَّ واستلبوا
راح بها راحتي في راحتي حصلت ... فتمّ عُجْبي لها وازداد لي العجب
أن ينبع الدر من حلوٍ مذاقته ... والتبر منسبك في الكأس ينسكب
وليست الكيميا في غيرها وُجدت ... وكل ما قيل في أوصافها كذب
قيراط خمرٍ على القنطار من حزن ... يعود في الحال أفراحاً وينقلب
عناصر أربع في الكأس قد جُليَت ... وفوقها الفلك السيّار والشهب
ماءٌ ونار هواء أرضها قدح ... وطوفها فلك والأنجم الحبَب
ما الكأس عندي بأطراف الأنامل بل ... بالخمس تقبض لا يحلو لها الهرب
شَجَجْتُ بالماء منها الرأس موضحةً ... فحين أعقلها بالخمس لا عجب
قلت: لو لم يقل الشيخ صدر الدين من الشعر إلا هذا البيت لكان قد أتى بشيء غريب نهاية في البديع، لقد غاص فيه على المعنى، ودق تخيّله فيه، وهذا شعرُ فقيه.
وما تركت بها الخمس التي وجبت ... وإن رأوا تركها من بعض ما يجب
وإن أقطب وجهي حين تبسم لي ... فعند بسط الموالي يحفظ الأدب
قلت: وهذا البيت أيضاً بديع المعنى دقيقه، وقد اعتذر عن تقطيبه بأحسن عذر، وأوضحه، وقد أشار الى ذلك الشعراء وقبحوا فعله قال ابن أبي الحديد:
بالراح رح فهي المنى ... وعلى جماع الكاس كسْ
لا تلْقَها إلا ببش ... رِكَ، فالقطوب من الدَّنس
ما أنصف الصهباء من ... ضحكت إليه وقد عبس
وإذا سكرت فغنّ لي ... ذهب الرّقاد فما يُحَسّ
وما أحسن قول ابن رشيق:
أحب أخي وإن أعرضت عنه ... وقلّ على مسامعه كلامي
ولي في وجهه تقطيب راضٍ ... كما قطبتُ في وجه المُدام
رجع القول الى تتمة أبيات ابن الوكيل:
عاطيتها من بنات الترك عاطية ... لحاظها للأسود الغُلب قد غلبوا
هيفاء جارية للراح ساقية ... من فوق ساقيةٍ تجري وتنسكب
من وجهها وتَثنيها وقامتها ... تُخشى الأهلّة والقضبان والكثب
يا قَلب أردافها مهما مررت بها ... قف لي عليها، وقل لي هذه الكثب
تريك وجنتها ما في زجاجتها ... لكنْ مذاقته للريق تنْتسب
تحكى الثنايا الذي أبدته من حَبَبٍ ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
قلت: في هذه الأبيات تضمين أعجاز أبيات من القصيدة البائية التي لابن الخيمي، وأولهما:
يا مَطلباً لي في غيره أرب ... إليك آل التقصّي، وانتهى الطلب
وقد ذكرت القصيدة وما قيل في وزنها، وواقعتها بين ابن الخيمي وابن إسرائيل في ترجمة ابن الخيمي في تاريخي الكبير.
ومن شعره صدر الدين رحمه الله تعالى:
سرى وسُتور الهمّ بالكاس تُهتكُ ... وساكن وجدي بالغِناء يحرك
فعاطيته كاساً، فحيّا بفضلها ... ومازج ذاك الفضل ريق مُمَسّك
أرقتُ دم الراووق حِلاً لأنني ... رأيت صليباً فوقه، فهو مشرك
وسالت دموع العين منه وكلما ... بكى بالدّما مما جرى منه أضحك
وزوّجت بنت الكرم بابن غَمامة ... فصحّ على التعليق والشرط أملك
وهذه القصيدة طويلة، ولكن هذا أحسن ما فيها.
وقال أيضاً:
يا ليلة فيها الأمان والمنى ... وكلما أطلبه تهيّا
لا تقصري فالصبح قد شربته ... مدامة عنقودها الثريّا
وقال أيضاً:
غازِلْ وخُذ من نرجسٍ من لحظه ... منشور دمع كلهنّ نظامُ
واحذرْ إذا بعث السلام إليك من ... نبت العِذار فإنه نمّامُ
قلت: أخذه من قول الأول:
لافتضاحي في عوارضه ... سببٌ والناس لُوّام
كيف يخفى ما أكابده ... والذي أهواه نمّام
وقال دوبيت:
كم قال معاطفي حكتها الأسلُ ... والبيض سرقن ما حوته المقل

الآن أوامري عليها حكمت ... البيض تُحسد والقنا تُعتقل
وقال أيضاً:
عانقت وبالعناق يُشفى الوجد ... حتى شُفي الصبّ ومات الصّدُ
من أخمصه لثما الى وجنته ... حتى اشتكت القضب وضجّ الورد
وقال أيضاً:
بكفّ الثّريا وهي جَذْما تقاس لي ... شقاق دجًى مُدت من الشرق للغرب
ولو ذرعوها بالذراع لما انتهت ... فما تنقضي يا ليل أو ينقضي نحبي
قلت: أخذه من قول الأول:
كأن الثريا راحة تشبُر الدجي ... ليعلم طال الليل أم قد تعرّضا
فليلٌ تراه بين شرق ومغرب ... يُقاس بشبرٍ كيف يُرجى له انقضا
وقال:
راحٌ بها الأعمى يرى مع العمى ... وهاك بُرهاناً على هذي المنَح
الخمر للأقداح قلب دائماً ... والحدَق انظرها تجد قُلْبَ القدح
وقال:
كأنما البدر خلال السما ... من فوق غيم ليس بالكاب
طراز تِبْر في قبا أزرق ... من تحته فروة سنجاب
وقال:
وعارضٌ قد لام في عارض ... وطاعن يطعن في سنّه
وقائل قد كبرت ذقنه ... فقلت: لا أفكر في ذقنه
وقال:
شب وجدي بشائب ... من سنا البدر أوجَهُ
كلما شاب ينحني ... بيّض الله وجهه
وقال في مليح به يرقان:
رأيت في طَرفه اصفراراً ... سَبى فؤادي فقلت: مهلا
أيا مليك الملاح حسناً ... العفو من سيفك المحلا
قلت: هو مثل قول الوَداعي، وفيه زيادة:
قال قوم: قد شانه يرقان ... قلت: أخطأتم وحاشى وكلا
إنما الخدّ واللواحظ منه ... مصحف مُذهب، وسيف محلّى
ذكرت أنا هنا باليرقان ما قلته، وقد حصل لي يرقان، وطوّل في مدته في سنة خمس وخمسين وسبع مئة:
يا يرقاناً زاد في مكثه ... أمرضْتَ مني الجسم والنفسا
أبدلتني بالدال سيناً وما ... أقبح ورداً قد غدا ورسا
وقلت أيضاً:
صفّرني ذا اليرقان الذي ... بمثله الأسقام لم تظهر
ينفر من يبصرني مُقبلاً ... حتى كأني من بني الأصفر
وقلت:
تصدّق خلاني عليّ بصحة ... تسر وأعفاني زماناً وعافاني
ومرّ على غيري سقامٌ وصحة ... ولم يُر قان مثل ذا يرقاني
وقلت من أبيات:
ما ترى علّتي التي قد عرتني ... وبرتني بري المُدى القاطعات
فصفاري هذا وأبيض شيبي ... نرجس للنفوس غير موات
ثم عندي تشبيه شيبي بتمٍ ... قد غدا ناظراً بعين البُزاةِ
ومن شعر الشيخ صدر الدين - وهو عجيب:
وبي مَن قسا قلباً ولان معاطفاً ... إذا قلت أدناني يضاعف تبعيدي
أقرّ برقٍّ أقول أنا لهُ ... وكم قالها أيضاً ولكن لتهديدي
قلت: من أعجب ما مر بي أنا الباخرزي في دمية لقصر لما ذكر في ترجمة الفقير أبي نصر عبد الوهاب المالكي أورد فيها قول الشيخ أبي عامر الجرجاني:
عذيري من شادن أغضبوه ... فجرّد لي مُرهفاً فاتكا
وقال أنا لك يا بن الوكيل ... وهل لي رجاء سوى ذلكا

أيها الواقف أنعم النظر فيما أوردته، وتعجب من هذا الاتفاق، كون صدر الدين بن الوكيل أخذ هذا المعنى الذي له من قول الجرجاني، والجرجاني أتى بالقول الموجب في بيتيه خفياً، لأنه قال: غضب، وجرّد المرهف، وقال: أنا لك يا بن الوكيل، وهذا بقرينة تجريد المرهف تهديد، فقلب الجرجاني، وقال بموجبه، ونقله الى التمليك، فأخذه صدر الدين، وأتى به واضحاً جلياً صريحاً ظاهراً، ومحل التعجّب قوله: أنا لك يا بن الوكيل، كأن هذا المعنى قال: أنا لك يا بن الوكيل تنظمني فتجيء أحسن وأبين، وتكون أنت أحق بي من الجرجاني، وهذا اتفاق غريب الى الغاية، ما مر بي مثله، والظاهر أن الشيخ صدر الدين لما وقف على هذا المعنى تنبّه له فكان له، وهو به أحق، وهذا المعنى قد ابتكره الجرجاني أبو عامر، وترك فيه فضلة، فجاء الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى، وأخذه وجوّده، ولم يبق لأحد معه مطمع الى زيادة، ولا مطمح في إفادة، وما بقي إلا الاختصار فقط، فلهذا قلت أنا فيه مختصراً:
قال حبي أنا له ... ولكم قلتُ سرمدا
أنا للملك قلتها ... وهو للغيظ هدّدا
وقال الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى:
معطّف على مهجة ظاميه ... وتقذفها عَبْرة هاميه
فقد طال سقمي، فقل لي متى ... تجيء الى عبدك العافيه
وأرخصتَ دمعي يوم النوى ... لأجل سوالفك الغاليه
فصبراً على ما قضى لم أقل ... فيا ليتها كانت القاضيه
ونحن عبيدك ذُبنا أسىً ... فرفقاً على رقة الحاشيه
فقال: بعيني أقيك الردى ... فقلت: على عينك الواقيه
فشنّف سمعي بهذا الحدي ... ث فما ذكرت قرطها ماريه
فيا عاذلي لو دعاك الهوى ... لقد كنت تسمع يا ساريه
واشتهر شعر الشيخ صدر الدين في حياته كثيراً، وتناقله الناس، وتداولوه، ومما اشتهر له من الموشحات قوله يعارض السرّاج المحّار، وهو:
ما أخجل قدّه غُصون البانْبين الورقإلا سلب المها مع الغزلانسود الحدق
قاسوا غلطاً من حاز حُسن البشر
بالبدر يلوح في دياجي الشَّعر
لا كيد ولا كرامة للقمر
الحبّ جمالُه مدى الأزمانمعناه بقيوازداد سناً وخُصّ بالنقصانبدر الأفق
الصحة والسقام من مقلته
والجنة والجحيم في وجنته
مَن شاهده يقول من دهشته:
هذا وأبيك فرّ من رضوانتحت الغسقللأرض يُعيذه من الشيطانربُّ الفلق
قد أنبته الله نباتاً حسنا
وازداد على المدى سناء وسنا
من جادلَه بروحه ما غُبِنا
قد زيّن حسنه مع الإحسانحسن الخلقلو رمت لحسنه مليحاً ثانيلم يتّفق
في نرجس لحظه وزهر الثغر
روض نضر قطافه بالنظر
قد دبّج خده نبات الشعر
فالورد حماه ناعم الريحانبالطل سُقيوالقد يميل ميلة الأغصانللمُعتَنق
أحيا وأموت في هواه كمدا
من مات جوىً في حبه قد سُعدا
يا عاذلُ لا أترك وجدي أبدا
لا تعذلي فكلما تلحانيزادت حُرقييستأهل من يهمّ بالسلوانضرب العنق
القدّ وطرفه قناة وحسام
والحاجب واللحاظ قسي وسهام
والثغر مع الرضاب كاس ومُدام
والدر منظّم مع المرجانفي فيه نقيقد رُصّع فوقه عقيق قانينظم النسق
قلت: لا يخفى على الفطن ما فيه من اللحن الخفي والألفاظ النازلة، وقد تكررت من لفظة ثان. ولمّا وقف الشيخ تقي الدين بن تيمية على هذا الموشح وانتهى الى قوله: يستأهل من يهم بالسلوان ضرب العنق قال: لا يا شيخ صدر الدين، يستأهل من يقول بالصبيان.
وأما موشحة السراج المحّار فهي:
مذ شِمت سنا البروق من نعمانباتت حدقيتذكي بمسيل دمعها الهتاننار الحرق
ما أومض بارق الحمى أو خفَقا
إلا وأهاج لي البُكا والأرقا
هذا سبب لمحنتي قد خُلقا
أمسي لوميضه بقلبي العانبادي القلقلا أعرف في الظلام ما يغشانغير الأرق
أضنى جسدي فراقُ إلفٍ نزحا
أفنى جلدي ودمع عيني نزَحا
كم صِحتُ وزند لوعتي قد قدحا
لم تُبق يد السقام من جثمانيغير الرمقما أصنع والسلوّ مني فانوالصبر بقي
أهوى قمراً حلو مذاق القُبل
لا يُكحل طرفه بغير الكحل

تركيّ اللحظ بابلي المقل
زاهي الوجنات زائد الإحسانحلو الخُلقعذبُ الرشفات ساحرُ الأجفانساجي الحدق
ما حط لثامه وأرخى شعرَه
أو هز معاطفاً رشاقاً نضره
إلا ويقول كل راءٍ نظره
هذا قمر بدا بلا نقصانتحت الغَسقأو شمس ضحى في غُصنٍ فَيْنانغض الورق
ما أبدع معنىً لاحَ في صورته
إيناع عذاره على وجنته
لما سُقي الحياة من ريقته
فاعجب لبنات خدّه الرّيحانيمن حيث سُقييضحى ويبيت وهو في النيرانلم يحترق
قلت: لا يخفى على الناظم أن هذا أجزلُ ألفاظاً، وأحكم من موشحة صدر الدين.
والسرّاجُ المحّار عارض بموشحته موشحة أحمد بن حسن الموصلي صاحب الموشحات المشهورة، وهي:
مُذ غرّدت الوُرق على الأغصانبين الورقأجرت دمعي وفي فؤادي العانيأذكت حرقي
لما برزت في الدوح تشدو وتنوح
أضحى دمعي بساحة السفح سفوح
والفكر نديمي في غُبوق وصبوح
قد هيّجت الذي به أضنانيمنه قلقيوالقلب له من بعد صبري الفانيوالوجد بقي
ما لاح بريق رامةٍ أو لمعا
إلا وسحاب عبرتي قد هَمَعا
والجسم على المزمع هجري زَمَعا
بالنازح والنازح عن أوطانيضاقت طوقيما أصنع قد حملتُ من أحزانيما لم أطق
قلبي لهوى ساكنه قد خفقا
والوجد حبيسٌ واصطباري طلقا
والصامت من سري بدمعي نطقا
في عشق منعّم من الولدانأصبحت شقيمن جفوته ولم يَزُر أجفانيغيرُ الأرق
فالورد مع الشقيق من خدّيه
قد صانهما النرجس من عينيه
والآس هو السياج من صدغيه
واللفظ وريق الأغيد الروحانيعند الحدقحلوان على غصن من المرانغضٍّ رشِقِ
الصّاد من المقلة من حققه
والنون من الحاجب من عَرّقه
واللام من العارض من علقه
قد سطّره بالقلم الريحانيربّ الفلقبالمسك على الكافور كالعنوانفوق الورق
الملحة لمع الصلت بالإيضاح
والغُرّة بالتبيان كالمصباح
والمنطق نثر الدرّ بالإصلاح
والثغر هو الصحاح كالعقبانكالعقد بقيوالرّد مع الخلاف كالسلوانعنه خُلقي
ما أبدع وضع الخال في وجنته
خطّ الشكل الرفيع من نقطته
قد حيّر إقليدس في هيئته
كالعنبر في نار الأسيل الفانِللمنتشقفاعجب لعبير وهو في النيرانلم يحترق
قلت: في هذه الموشحة ألفاظ تحتاج معانيها الى مشاحّة، وموشحة الشيخ صدر الدين على كل حال خير منها، وموشحة المحّار خير من الاثنين.
وقد خطر لي أنا نظم موشحة في هذه المادة، وقد زدت الحشوات توشيحاً، وهي:
ما هزّ قضيب قدّه الريّانللمُعتَنِقإلا استترت معاطف الأغصانبين الورق
أفدي قمراً لم يُبق عندي رَمَقاً ... لما رَمَقا
قد زاد صبابتي به والحُرَقا ... شوقاً وشَقا
لو فوّق سهم جفنه أو رشقا ... في يوم لُقا
أبطال وغىً تميس في غُدْراننسج الحَلَقأبصرتهم في مَعرَك الفرسانصرعى الحدق
بدر منعتهُ قسوةُ الأتراك ... رُحمى الشاكي
من ناظره حبائل الأشراك ... والإشراك
كم ضلّ بها قبلي من النُسّاك ... والفتّاك
قاني الوجنات ينتمي للقانِصعب الخُلقإن قلت أموت في الهوى نادانيهذا يَسَقي
كم جا جبينه الدجا فاقترضا ... صُبحاً فأضا
كم جرّد جفنُه حساماً ونضى ... والصبّ قضى
كم أودع ريقه فؤاداً مَرِضاً ... من جمر غضا
فاعجب لرُضابه شفا الظمآنيذكي حرقيوالخدّ به الخال على النيرانلم يحترق
يا خجلةَ خدّ الورد في جنته ... من وجنته
يا كسرة غصن البان في حضرته ... من خطرته
يا حيرة بدر التمّ من عزّته ... في طُرّته
لا تعتقد الأقمار بالبهتانوسط الأفقأن تشبهه فليس في الإمكانما لم تُطِق
ما أسعد من أصابه بالحَوَر ... سهم النظر

ما أنعم من يصليه نار الفكر ... طول العُمرِ
أو قيّده الحب بقيد الشَّعَر ... عند السَّحَر
أو طوقه بذلك الثعبانفوق العنقأو بات بقفل صُدغه الريحانيتحت الغَلق
قلت: والشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى قد عارض المحّار في أكثر موشحاته، فيندر له المطلع أو حشوه، ثم إنه يسقط من الثريا الى الثرى كقوله:
قالوا: سلا واستردّ مضناهقلباً أخذالا والذي لا إله إلا هوما كان كذا
عشقته كوكباً من الصّغر
أأترك الوجد وهو كالقمر
ديباج ديباجته بالشعر
زيدت طرازاً كالرقم الإبر
لا والذي زانه وأعطاهحسناً وشذىعلى البرايا وإنه اللهما كان كذا
ولو تقاس الكؤوس بالثغر
وبالثنايا الحباب كالدّرر
لفضّل الثغر صحة النظر
والصّرف في مطعم وفي عطر
لو قيس ما فاق من حُميّاهأو ما نُبذاالى رُضابٍ حوته عيناهما كان كذا
كل دمّ الناس فوق وجنته
قد سفكتها سهام مُقلته
العفو من نبلها وحدّته
لو صبّ بهرامُ كل جعبته
واختار من نبلها ونقّاهسهماً نفذافي الأرض من خرقه رَماياهما كان كذا
وسُودَها يا حكيم خذ بيدي
أمضى من البيض مع بني أسد
لو قيس ما فكّ مُحكم الزَرَد
من كل ماضي الغروب غير صَد
الى حسام نضته عيناهماضٍ شحذاعلى مسَنٍّ أبدته صدغاهما كان كذا
قد سلب الظبي حسن لفتته
كما سبى الغصن حسن خطرته
والشمس خجلى من نور طلعته
والبدر في حسنه وبهجته
لو قيس أيضاً الى محيّاهفي الحسن إذاحُفت به هالة عذاراهما كان كذا
محمد بن عمر بن إلياسشمس الدين أبو العز الرّهاوي، ثم الدمشقي الكاتب.
سمع بمصر صحيح مسلم، بفَوْت من ابن البرهان، وسمع من النجيب، ومن ابن أبي اليسر، وابن الأوحد، وطائفة. ودار على الشيوخ، وكتب الطباق، وسمع الكتب وروى عنه شيخنا الذهبي في المعجم.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رجب الفرد سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وحضر جنازته قاضي القضاة جلال الدين القزويني وغيره من الأعيان.
محمد بن عمر بن سالمالعدل الفاضل ناصر الدين بن المشهدي المصري.
سمع من غازي الحلاوي، وخلق، وعُني بذلك، وكتب الطباق، وبرع في كتابة السجلات، وحصّل منها جملة، وأقام بدمشق مدة.
قال شيخنا الذهبي: وقد تكلموا في عدالته.
وتوفي رحمه الله تعالى كهلاً سنة بضع وعشرين وسبع مئة.
محمد بن عمر بن محمدالشيخ الإمام المفنن شمس الدين بن الخباز.
قرأ بدمشق قليلاً على الشيخ مجد الدين التونسي، ثم قرأ على القحفازي وعلى ابن قاضي شهبة. وعلى الشيخ برهان الدين، ثم توجه الى حلب، وقرأ على الشيخ فخر الدين قاضي القضاة بن خطيب جبرين شيخنا، وعلى شيخنا علم الدين طلحة، ثم على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وحفظ التنبيه والمختصر وألفية ابن مالك والجرجانية، وباحث وناظر، وأذن له ابن خطيب جبرين في الإفتاء.
كان جيد المناظرة، فكه المحاضرة، يستحضر كثيراً من المعقول، ويورد جملة من المنقول، وبحوثه متقنة محررة، ونقوله بالأصول رياضها مزهرة.
وكان والده بدمشق خبازاً فسمت همته، وعلت عزمته الى أن دخل في عداد الفضلاء، وحشر في زمرة النبلاء، وكانت يده شلاّء، وعن البطش زلاّء. ولم يزل مصفّراً من أفواه العروق، ووجهه كأنه الأصيل عند الغروب لا الضحى عند الشروق، وكانت له قدرة على المحاكاة وقوة على التكيف بمن خاصمه أو شاكاه.
ولم يزل على حاله الى أن جاء سيل المنيّة على أفواه عروقه، وسدّ منه مجاري خروقه.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق في ثاني عشر ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وتسعين وست مئة.
وكان يُعرف في دمشق بالحلبي، وفي حلب بالدمشقي، اجتمعت به غير مرة بدمشق وحلب، وجرت بيني وبينه مباحث عديدة، وهو رفيقي في الاشتغال رحمه الله تعالى.
محمد بن عمر بن محمد بن عمرابن الحسن، الشيخ الجليل الفاضل الصدر العدل إمام الدين أبو عبد الله ابن الشيخ شرف الدين أبي حفص بن خواجا إمام، الفارسي الأصل، الدمشقي.

سمع من جده وعمّ والده أبي بكر بن عمر، والرضي بن البرهان التاجر الواسطي، والشيخ جمال الدين بن مالك، وابن أبي اليسر، وشمس الدين بن أبي عمر، وجماعة.
وحدث بصحيح مسلم وموطأ مالك رواية أبي مصعب عن ابن البرهان.
وكان معروفاً بالكفاءة والخبرة، وخدم في عدة جهات، وكان كثير التلاوة.
توفي رحمه الله تعالى في سابع شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مائة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة.
محمد بن عمر بن عبد العزيزابن...
الصدر النبيل الرئيس قاضي القضاة ناصر الدين ابن قاضي القضاة كمال الدين ابن قاضي القضاة عز الدين بن العديم الحنفي.
كان أولاً بحماة قاضي القضاة، ثم إنه نقل الى حلب، وتولى حماة في شعبان سنة إحدى عشرة وسبع مئة عوضاً عن جدّه.
وكان صدراً واسع الصدر، ورئيساً يجلس من سيادته في هالة البدر، قد وسع الناس بإحسانه، وملك قلوبهم بلسانه، يخدم الأكابر والأصاغر، ولا يزال فوه بالشكر لهم يُرى وهو فاغر، يكارم الزائرين بأنواع القماش والحلوى، ويغدق عليهم، فلا يرون لمنّه سلوى، وطالت مدّته في حلب، وساق إليه كل شاعر نفائس أمداحه وجلب.
ولم يزل على حاله الى أن دخل ابن العديم في العدم، وانهدّ طَوْد حياته وانهدم.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأول من شوال سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وثمانين وست مئة.
وكان قد طلب الى مصر ليجعل بها قاضي القضاة عندما أُخرج القاضي حسام الدين الغوري، فوصل الى دمشق، ثم إنه جاء المرسوم بعوده الى حلب على حاله.
وحدّث عن الأبرقوهي وغيره.
وكتب إليه شهاب الدين أحمد بن المهاجر الوادي آشي الحنفي، ومن خطه نقلت:
فذاك قاضي القضاة عبدُ ... قريضُه مثله رقيقُ
يكابدُ البرد في قماش ... أشبهه ببيته العتيقُ
له إذا ما الرياح هبّت ... عطف كغصن النقا رشيقُ
غزا ابن ماء السماء منه ... نضواً سوى السلم لا يطيق
ليس يرد الشتاء عنه ... بيتٌ مع القبح فيه ضيق
والصبر مع أنه بعيدُ ... قد سُدّ من دونه الطريق
فانظر إليه بعين مولّى ... من غُرّ أوصافه الشفيق
واعطف عليه فأنت فرع ... من دوحةِ غُصنُها وريق
لا زلت ما عشت في نعيم ... أنت بإنعامه حقيق
مجمّلاً مذهباً أتانا ... منك لنُعْمانه شقيق
محمد بن عمرالأمير ناصر الدين ابن الأمير ركن الدين البُتْخاصي الصفدي.
كان أميراً بطبلخاناه في الديار المصرية، وله مكارم ومروءة، وفي طباعه حرية. يخدم أصحابه، ويعرف حق من لازم بابه، يخدم الوُرّاد، ويكرم الرّواد، ويتجمل بين الناس، ويُرضي من يُقدم عليه، ويبسط له الإيناس. تنقل في الممالك، وصرّفه الدهر بين صُبحه النيّر، ودُجاه الحالك، وقبض وسجن وامتلأ قلب الدهر عليه وشحن، وهو صابرٌ للأقدار فيما تنوبه، عالمٌ أن الزمان لا تدوم حروبه.
ولم يزل بالديار المصرية في آخر أمره، الى أن انصرمت مدّة عمره.
وتوفي رحمه الله تعالى بالديار المصرية، وجاء الخبر بوفاته الى دمشق في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبع مئة، وعمره ما يقارب الخمسين سنة.
كان الأمير ناصر الدين قد نشأ بصفد في حياة والده وكان والده ركن الدين يتصرف في المباشرات السلطانية من الولايات والشد وغير ذلك، وكان من أعيان أهل صفد، وفي آخر عمره ولي الحجبة الصغرى بصفد بإمرة عشرة، فلما خرج الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي نائب صفد هارباً منها طالباً دمشق تبعه عسكرها وركن الدين معهم، فناوشوهم القتال، فجاءته طعنة حمل منها الى صفد، ومات بها. وتقلّبت الأيام بولده هذا الأمير ناصر الدين، وترقى الى أن تولى الحجبة بصفد، ثم إنه أُمسك واعتقل بإسكندرية، في واقعة بيبغاروس لما كان صحبة الأمير علاء الدين الطنبغا برناق نائب صفد، ثم إنه أفرج عنه، وأخرج الى طرابلس، ثم طُلب الى مصر، وجُعل حاجباً صغيراً بحلب، وفوض إليه الأمير سيف الدين شيخو نيابة ديوانه بحلب، فاجتهد في خدمته، وعمّر الخان المليح والحمّام بجبّ السقّايين بين المعرة وحماة، ثم أضيف إليه شد الخاص وشد الأوقاف بحلب.

ثم إنه رسم له بإمرة الحجبة الكبرى عوضاً عن الأمير ناصر الدين بن شهري، وأقام على ذلك الى أن طُلب الى مصر صحبة علاء الدين علي البشيري، فأعطاه السلطان بمصر إمرة طبلخاناه، وجعله مشدّاً في العمائر السلطانية بالقاهرة، ثم إنه جهّزه في سنة إحدى وستين وسبع مئة الى منفلوط لقبض مغلها، فقبضه وعاد الى القاهرة على شد العمائر.
ثم إنه مرض مرضة طويلة في ذلك الوباء العام، ووصل الخبر الى دمشق بموته رحمه الله تعالى.
وكان رحمه الله بارّاً بوالدته وإخوته وأخواته، عفيفاً أميناً في مباشراته، عارفاً درباً بما يتحدث فيه، فيه كرم ومروءة زائدة.
محمد بن عمران بن عامر القطنانيالمقرئ الحرّاني البغدادي، الشيخ الصالح الملقّن عند البرادة بالجامع الأموي بدمشق.
كان مقرئاً فاضلاً عارفاً بالتجويد، حسن الأداء، حفظ التيسير والشاطبية وبعض المقنع.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة عشر وسبع مئة.
محمد بن عنبرجيالقان المغلي بن النوين عنبرجي المذكور.
كان صبياً من أبناء العشرين، من أهل توريز، لما قتل القان بوسعيد عنبرجي زعمت سريته أنها حبلى منه. فولدت محمداً هذا، فلما أقبل النوين الشيخ حسن الكبير من البلاد، وهزم جمع الملك موسى قان، وقتل موسى، عمد الشيخ حسن الى محمد هذا وأقامه في الملك، وناب له هو وابن جوبان وزوجة جوبان ساطي بك، وهي ابنة القان خربندا، وتماسك الأمر أشهراً. ثم أقبل من الروم ولدا تمرتاش، وأوهما أن أباهما حيّ معهما، وجعلاه في خركاة، فهرب الشيخ حسن الكبير الى خراسان، ثم أهلك هذا محمد. وماج الناس واشتد البلاء والظلم والنهب ببلاد أذربيجان وافتقر من الجَوْر جماعة، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن عيسى بن مهنّا
الأمير أخو مهنّا.
كان من أعيان أمراء آل فضل. وكان حسن الشكل، له معرفة ودُرْبة.
توفي رحمه الله تعالى بسلمية في يوم السبت سابع شهر رجب سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وصلى عليه قاضيها.
ولما كان قراسُنقر قد وصل الى بيوت أخيه مهنا، كان محمد هذا غائباً، فلما جاء وبصر به قال لمهنا: أبشر يا مهنا بالإنعامات والإقطاعات من السلطان، ففهم قراسُنقر الغدر منهم، فقام الى كاملة زوج مهنا وشال ذيلها ودخل تحته، فقالت: يا أبا محمد إن الله قد أجارك وجاءت الى مهنا. فقالت له: إيش يتحدث عنك العربان؟ إن هؤلاء الملوك جاؤوا إليك ونزلوا عليك، وإنك غدرت بهم لأجل الدنيا، فقال: الله الأحد إن الله قد أجارهم فقال محمد لأخيه مهنا: الله بيننا وبينك حرمتنا هواء الشام وطيبه.
محمد بن عيسى بن عيسىابن محمد بن عبد الوهاب بن ذؤيب بن مُشرّف الأسدي الغاضري الرياني، القاضي البليغ الناظم الناثر المفوّه شمس الدين ابن القاضي شرف الدين ابن قاضي شهبة.
رجل انقاد له الكلام، ونزل على حكم نثاره والنظام، له النظم المطبوع والنثر الغزير الينبوع، كتب الإنشاء وترسّل، وتوصل الى مآربه بذلك وتوسّل، إلا أن خطّه كان مرجوفاً، ولم يُعبه ذلك لأنه كان يودعه من إنشائه قلائد وشنوفاً. كتب للسرّ بحمص وغزّة، ونال فيهما شرفاً وعزة، وتولى الخطابة في غزة، فصدح على منبرها حمامة، وأقام بمواعظة المبكيات على الناس القيامة.
ولم يزل على حاله الى أن توارت شمسه بالحجاب، ودعا الحركة بعدما سكن فسكت وما أجاب.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة عن ثلاث وخمسين سنة في طاعون غزة.

حرص عليه أهله، وشغّلوه بالعلم، فرأى أن رزق الفقهاء ضعيف، فرجع الى صناعة الكتابة، وقال لي: أخذت كتاب التنبيه والعمدة في الأحكام وكتاباً في النحو وألقيتهما في قدر والماء يغلي، وهجرت الاشتغال بالعلم، واشتغلت بصناعة الحساب، وكان موجب ذلك أني حضرت العزيزية سنةً فحصل لي منها خمسة دراهم في تلك السنة. وباشر في جهات، ثم إنه تعلّق بالإنشاء، وكان النظم والنثر فيه طباعاً، فتوجه الى مصر، وسعى في توقيع حمص، فتولاه من مصر، وباشره مع نيابة الأمير سيف الدين قلاوون في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، فأقام بها قليلاً، وانفصل منها، وعاد الى مباشرة الحساب، فتولى نظر نابلس، ولما توجه الأمير سيف الدين يلبغا نائب الشام الى القدس خدمه هناك، وبقي أمره على ذهنه، وحضر الى دمشق، وامتدحه وامتدح عز الدين طقطاي الدوادار، فقال يلبغا: ما تريد؟ فقال: يا خوند أكون كاتب إنشاء في دمشق بمعلومي الذي على نظر نابلس، وتوفر معلوم ناظر نابلس، فرسم له بذلك.
ولم يزل يكتب بديوان الإنشاء الى آخر وقت، ثم إنه جُهز في سنة إحدى وستين وسبع مئة الى غزة موقّعاً في أيام الأمير سيف الدين أسندمر الزيني، عيّنه لذلك القاضي أمين الدين بن القلانسي كاتب السر بالشام لما عزل الشريف كمال الدين موقّع غزة، ولما كتب الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في معنى أولاد رزق الله وعُزلوا من صفد، رُسم بأن يكون كاتب سر بصفد في سنة اثنتين وستين وسبع مئة، فأقام قليلاً، وأعيد الى غزة. فأقام على كتابة سرها والخطابة بها الى أن توفي رحمه الله تعالى في طاعون غزة في التاريخ المذكور.
وكان قادراً على الهجو المقذع، وبيني وبينه مكاتبات كثيرة، وهي مُودعة في التذكرة التي لي في أماكنها، ومنها شيء في كتابي ألحان السواجع.
كتب إلي وهو بدمشق قرين جبن صرخدي أهداه لي:
يا شجاع الوجود في العلم والفض ... ل وشيخ الأنام في كل فن
قد تجاسرت في الهدية فاسمح ... بالتغاضي واستر بحلمك جُبني
فكتبت أنا الجواب إليه:
حاش لله أن يُرى منك جبن ... ومعاليك قد حَوَت كل حُسن
وكريم الأقوام فهو شجاع ... والبخيل الذي تردّى لجبن
وكتبت إلي قرين ماء وردٍ أهداه:
يا سيداً تجلو ثنايا لفظه ... لظامئ الأكباد برداً من بَرَدْ
ومَنْ إذا ما لمَست يمينُه ... جمر الغضا من الندى الغمر برد
كان لكم عندي فيما قد مضى ... وعدّ بماء الورد، لكن ما ورد
والآن قد وافى فقابل كسره ... بالجبر لا يخجل إن جاء ورد
وعش مدى الدهر صلاحاً في الورى ... تصلح من حال الأنام ما فسد
في نعمة وافرة مديدة ... تكتب فيها بالبقاء من حسد
يا خير روح للعلا طاهرةٍ ... كم أنعشت للمكرمات من جسد
وكتب إلي، وقد نظمت قصيدة في مديح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا إماماً قد أتى العزَّ الى ... بابه ينقاد في أرسانه
لو رآك المصطفى في عصره ... مثبتاً فُقتِ على حسّانه
بمديحٍ فيه قد جئت به ... بعد ما جاء فتى غسّانِه
إن دهراً سُدت فيه سيدي ... ناظر أنت ضِيا إنسانه
عبدك الشاكر وافى سائلاً ... كيف مولانا على إحسانه
وكتب إليّ ملغزاً:
أيها الفاضل الذي هو في الفض ... ل إمامٌ والناس جمعاً وراء
والبليغ الذي له لطف معنًى ... عجزت عن مثاله الفصحاء
والإمام الذي له لطف خطّ ... لم تطق وصف نوره الشعراء
ما اسم ثاوٍ في الأرض بين البرايا ... وله صاحبٌ حوته السماء
وهو عارٍ ومكتسٍ ثوب حُسن ... عنده الصيف والشتاء سواء
لم تحكْ ثوبَهُ يدٌ ولم تَحْ ... وِ نَظيراً لنسجه صنعاء
قام بالعُرفِ آمراً وعلى العا ... دة يجري وليس فيه رياء
فأبنه يا ذا الرئيس المفدّى ... لا نأتْ عن مقرك النعماء

وابقَ ما غنّت الصوادح في الصب ... ح ولاح الضحى وولى المساء
فكتبت أنا الجواب عن ذلك، وهو في ديك:
يا فصيحاً عنت له البلغاء ... وبليغاً ونَت له الفصحاءُ
والبليغ الذي إذا ما بدا البَد ... رُ لديه اعتراه منه حياء
نظمك المستَلذّ في كل سمعٍ ... هو والدرّ والأغاني سواء
أنت ألغزْتَ في مسمى عجيبٍ ... طائر ما حواه قطّ الهواء
وهو يمشي مثل الملوك بتاجٍ ... وعلى رأسه يشالُ لواء
ليس تُحصى أشخاصه وهو يُحصى ... فعجيب لما يراه القضاء
وتحاشى من عِكسِهِ فهو أمر ... يتبرّا من فعله الكرماء
وإذا ما صحّفته يتبدّى ... حيواناً وقد حواه المساء
فابق واسْلم لكل لغز بديع ... فهو فنّ تحبه الأدباء
وكتب هو إلي من غزة:
ذكرتك والجوّ في حُلةٍ ... مكللةٍ بلآلي النجوم
وبرق الدجى خافقٌ ومضهُ ... كقلبٍ مُعنىً عديم الهجومِ
وعرفُ الصَّبا كزمان الصِّبا ... رقيق الحواشي نديّ النسيم
وللبحر أفواج موج حَكَت ... تزاحُمَ خيل الكفاح العقيم
ورمل الكثيب بتمويجه ... يحاكي البُرود حسان الرقوم
وكأس المدام مدام الصفا ... كودّك لو كنتَ فيها نديمي
فهاج لذكراك عندي هوًى ... رمى نار حرّ الأسى في صميمي
وأضعف من همتي قوةً ... لفقدك تُغزى بجيش الهموم
وبات حديثك لي مُؤنساً ... يعلّلني بالرحيق القديم
فجادَك صوبُ سلام امرئٍ ... مقيم على ودّه المُستقيم
سقيم إذا شافَ ريّاكم ... رجا بالعليل شفاء السقيم
يقبّل الأرض ويُنهي ما لم يَخفَ من العلوم الكريمة من مضاعفة شوقه، ومضاعفة أسفه الذي أحاط به من تحته وفوقه، وما يجده من التألم لانقطاع مراسيم مولانا التي تفُل حدّ الغربة بغَربها، وتحجب عن الأنفس المكروبة والمحزونة كرّب كربها:
وقد غضبت حتى كأني مذنب ... أروم الرضا منها ويا ليتها ترضى
أنهي ذلك إن شاء الله تعالى.
فكتبت أنا الجواب عن ذلك:
أتاني كتابُك والجو قد ... توشّع من بارقات الغُيوم
فهذا يجود بدُرّ الحيا ... وهذا يجود بدرّ العُلوم
وما الدّر كالدّر بين الورى ... ولا الزّهر فيهم كزهر النجومِ
ويا حُسنه وافداً قد غدا ... ينفّس عني خناق الهمومِ
ويوقفني اللفظ منه على ... نديم لكلّ سرور مُديم
بخطٍ ترفّع في وَضْعه ... أويْتَ الى كهفه والرقيم
وولّى الوليّ لإقباله ... كما ابنُ هلالٍ غدا في النجوم
وأنستْ حلاوتُه شُهدةً ... ورقّت حواشيه لابن العديم
أيا عربيّ القريض افتخرْ ... فكم في معانيك من ابن رومي
ومثلك ما دار في دارم ... ولا تمّ ما قلته في تميم
يهز نظامك أعطافنا ... كأن قوافيك بنت الكروم
وتحكي الرياض بأسطارها ... نسيبك فيها نسيب النسيم
وبعد فإني في وحشة ... سميري أذكاري وصبري حميم
يقبل الأرض وينهي ورود المشرّف الكريم، فوقف الملوك لوروده، وقبّل من سطره وطرسه عِذار آسِه ووجنة وروده، ومتع ناظره من جنته الناضرة بحدائق ذات بهجة، وفداه لما رآه بسواد العين وسُويداء المهجة، وتحقّق أن أبا ذر حديثه أصدق لهجة، فلم يرتب فيما ادّعاه من المحبة، وقال لا شُبهة في وداد ابن قاضي شهبة:
قلبي لديك أظنّهُ ... يُملي عليك وتكتب
فكتب هو الجواب عن ذلك:
ساق الحمامُ الى لقائك نائحاً ... صبّ تذكّر نازحاً أوطانَه

فاهتزّ قلبي باهتزاز أراكه ... طرباً، وهيّج شجوه أشجانه
ودعا وقد بلّ الندى أذياله ... صُبحاً، ورصفت الصّبا أفنانه
وشكا كما أشكو الحمام وإنما ... لم يُجْرِ مثلي بالبكا أجفانه
لكنْ أعان على الجوى وأخو الهوى ... إن عاين العاني الكئيب أعانه
ومع الإعانة أذكر العيش الذي ... ما زلت أفدي بالحياة زمانه
حتى إذا حسر الصباحُ قناعه ... وجد النهار سوره وأبانه
غنى وصفّق طائراً بقوادم ... تدنيه إن أنأتْ نوىً جيرانه
فبكيت محزوناً، وقلت تعلُّلاً ... ليت الحمام أتم لي إحسانه
يقبّل الأرض وينهي ورود الجواب الجريم عما كان تهجّم الملوك من العبودية، والأبيات التي بان بتلك المراجعة قصورها، وتضعضع بتلاوة سور تلك العوذ الصلاحية سورها وصُورها، فقابل العبد ذلك الفضل الخليلي مسلماً إليه وعليه، ووقف سيف ذهنه الكالّ عنده، فإنه ينفق مستجدياً، ومولانا ينفق مما أفاه الله وأفاض من سعة فضله عليه، يا أُلْفَ مولاي قد تجاسر العبد، ولكن والله مقتبساً من أنوار فضائلك، وتهجّم ولكن ملتبساً من مبارّ شمائلك، ومع هذا فعين الله على ميم منطقك، وحاء حمايته على راء رونقك، فإنك، فداك الأعداء، حُر غمر بالجود، ومولى بمزيّه مزيدٌ شانه الحسود، ومازال الملوك من ورود ذلك المثال العالي يتحلى بألفاظ شهدته، ويتأنّس بمعاينة الوارد عن وحيد العصر. فما يشكو ألم وحدته، يا مخدومي، من أين للقائل سواك أن يقول:
وأنست حلاوته شهدةً ... ورقت حواشيه لابن العديم
وأن يقول:
أيا عربيّ القريض افتخر ... فكم من معانيك من ابن رومي
وإنما سبحان من جعل مفاتيح كنوز الأدب بيديك، وصرّفك فيما صرفك عن قبول ما أنعم به عليك، وسؤال المملوك من الصدقات إدامة الجبر الكريم، فإن المملوك إذا رأى كتاب سيد شاهد معانيه من مثاله، وتذكر مواصلة الخيرات الحِسان بين يديه بالنشر الفائح من طي أوصاله.
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
وافى قريضك فاستمال أخال الهوى ... وثنى الى ذكرى صباه عيانه
هاجت بلابلُه بلابل صبوتي ... قدْماً وذكّرني العقيق وبانَه
فكأن رقم سطوره روضٌ غدت ... تثني نسيمات الحمى أغصانه
أخملت منه خمائل الشعراء وال ... كتّاب لما عاينوا عنوانه
أما السّراج فما لشعلة نظمه ... نور وسود في الطروس دخانه
وابن النقيب عصت عصاه فلم تسق ... جُند القريض وعطّلت ميدانه
وكذلك الجزار ليس لشعره ... شعرٌ وأغلق في الورى دكانه
والفاضل المشهور أصبح خاملاً ... في نثره ورأى الورى نقصانه
وكذلك الجزري أنبت نثره ... روضاً فلم يرض الورى بستانه
وكذلك ابن الصيرفي لم ينتقد ... شيئاً، وعطل بعدها ميزانه
يا من قطعتُ به زماناً بالحمى ... سُقي الحمى ورعى الإله زمانه
عصرٌ متى أملى النسيم حديثه ... في الروض فتّح زهرُه آذانه
سجْعُ الحمام يلذ لي لا سيّما ... إن حركت أيدي الصبا عيدانه
فيجد لي ذكراك في تغريده ... وأروح ريان الحشا نشوانه
يا حسرتا ليت الحمام أعاد لي ... إحسانه فأعارني طيرانه

يقبّل الأرض، وينهي ورود الجواب الكريم على من ورَد، الجسيم الفضل الذي دخل باب الأعجاز وردّ، العميم الإحسان الذي يروي صدى من صدر عنه أو ورَد، فتلقاه بكلتا يديه، وضمه وشمّ أنفاسه، ووضعه على رأسه لا بل أتحف بالتاج رأسه، وفضه عن فضل نظم رأى ملائكة البلاغة حرّاسه، واستجلى من طرسه ياسمينة ومن سطره آسه، وبهت لرقم طروسه، الى أن قاس بالمسك الأذفر أنفاسه، ونظره فإذا هو قد اختبا له في اختباله، وما احتمى له احتماله، وخلط جسده بجسده، وعقل لسانه بحبلٍ من مسده، وصرفني عن معارضته بالجواب، وقال: الاعتراف بالقصور أولى وأليق بالصواب، فما أنت ومكاثرة الغمائم ومكابرة هذه السمائم ومنافحة هذه الكمائم، ومناوحة هذه الحمائم، أُدخل تحت ذيل الاعتراف وقل تبختري يا ديباجة البحتري، وفُوقي النظّارة يا نضارة المشتري، واخلبي القلوب يا أقلامه التي نفثت السحر في العُقد، وصولي على كتّاب هذا الزمان فقد نبّهت من هذا الفن ما أغفى ورقَد. والمملوك فقد اعترف، ووقف على الشاطئ ولو أمكنه لاغترف، ولكنه يدعو ببقاء هذه الفضائل، ودوام هذه التحف التي أمسى بها فنّ الأقدمين وهو متضائل، إن شاء الله تعالى.
وفي التذكرة التي لي في أماكن متفرقة أشياء كثيرة مما دار بيني وبينه.
محمد بن غالب بن سعيدالشيخ الإمام الزاهد الصالح البركة المحدث شمس الدين أبو عبد الله الأندلسي الجيّاني.
ارتحل في طلب الحديث، وسمع من الرضي بن البرهان، وابن عبد الدائم، وطبقتهما.
وجاور بمكة، الى أن توفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده بعد العشرين وست مئة.
محمد بن أبي الفتحابن أبي الفضل بن بركات، الإمام المفتي المحدث المتقن النحوي البارع شمس الدين أبو عبد الله شيخ العربية البعلبكي الحنبلي.
سمع من الفقيه محمد اليونيني، وابن عبد الدائم، والعز حسن بن المُهَير، وابن أبي اليسر، ومن بعدهم. وعني بالرواية، وحصّل الأصول. وجمع وخرّج، وأتقن الفقه، وبرع في العربية، وصنف شرحاً كبيراً للجرجانية، وجوّده، وأخذ عن ابن مالك ولازمه.
وحدث بدمشق وطرابلس وبعلبك، وتخرج به جماعة، وكان إماماً متواضعاً متزهداً، ريّض الأخلاق حسن الشمائل على الإطلاق، جيّد الخبرة بألفاظ الحديث، مشاركاً في رجاله أهل القديم والحديث.
ولم يزل على حاله الى أن توجه الى القاهرة، وانتقل منها الى الآخرة.
وتوفي رحمه الله تعالى بالمنصورية ليلة السبت ثامن عشر المحرم سنة تسع وسبع مئة، ودفن بمقبرة عبد الغني.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
وكان قد توجه من دمشق الى القدس، ومن هناك توجه الى الديار المصرية، فمرض أياماً يسيرة، ومات رحمه الله تعالى.
محمد بن فضل اللهالقاضي بدر الدين الموقع، أحد الإخوة، شرف الدين عبد الوهاب ومحيي الدين بن يحيى.
كان قد أسره التتار في أيام غازان، ودخل معهم البلاد، ومنّ الله عليه بالخلاص من أسرهم، ووصل الى دمشق في يوم الأربعاء ثالث عشري جمادى الآخرة سنة أربع وسبع مئة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وروى لنا الأربعين الثقفية عن العراقي بإجازته من السِّلفي، وسمع أيضاً من فرج الحبشي والشرف الإربلي. وكان ليّن الكلمة، لطيف الجانب، من أعيان الكُتّاب المتصرّفين.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع جمادى الأولى سنة ست وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وثلاثين وست مئة بطبرية.
محمد بن فضل اللهالقاضي الكبير الرئيس الشهير فخر الدين ناظر الجيوش بالديار المصرية.
كان عند أستاذه وجيهاً الى الغاية، ومكيناً من خاطره الى النهاية، لا يمكّن السلطان في الغالب من فعل ما يريد، ولا يدع أحداً يجتمع به من أهل السّر السريد، ومن اجتمع به بغير علمه راحت روحه، وأثخنت جروحه، فكان للناس رحمة، وبه كانت كلُ بيضاء شحمة، والناس في أمان على أموالهم وأرواحهم، وسمات القبول والإقبال تهبّ عليهم في غُدوّهم ورواحهم، نصَل عنده خضاب ابن حنّا، والوزيرُ الفائزي ما فاز مثله بما تمنى، وابن السَلعوس ما بلغ وجاهته، ولا رأى طول مدته ولا حصّل تفرّجه ونزاهته:
جمال وزارة وشهاب دَسْتٍ ... وسائس دولةٍ وسعيد قال
تحمّل للممالك كلَّ عبءٍ ... فقام له قدَم الكمال

فأخصَبَتِ الممالك بعد جدبٍ ... وأُنشطت الممالك من عقال
فإن يك آخر الوزراء عصراً ... فقد خُتمت به الرتبُ العوالي
وما برح الحيا قطراً ووبلاً ... أواخرُه تنيف على الأوالي
ولم يزل في نصرة مظلوم وإنالة محروم، الى أن حوّمت عليه المنية، وعَظُمت فيه الزريّة.
وتوفي رحمه الله تعالى في نصف شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة.
وكان قد سمع من الأبرقوهي، وانتفع به خلق كثير في الدولة الناصرية من الأمراء والنوّاب والعلماء والقضاة والفقراء والأجناد وغيرهم من أهل الشام ومصر لوجاهته عند مخدومه، وإقدامه عليه، لم يكن لأحد من الترك ولا من المتعمّمين مثل إقدامه عليه.
حكى لي القاضي عماد الدين بن القيسراني أنه قال له يوم خدمة ونحن جلوس في دار العدل: يا فخر الدين تلك القضية طلعت فاشوش. فقال: ما قلت لك إنها عجوز نحس وتكذب. قال عماد الدين: يريد بذلك بنت كوكاي زوج السلطان، لأنها كانت ادّعت أنها حُبلى.
وأما أنا فسمعت السلطان الملك الناصر يقول يوماً في خانقاه سرياقوس لجندي وقف بين يدي يطلب إقطاعاً: لا تطوّل، والله لو أنك ابن قلاوون ما أعطاك القاضي فخر الدين خبزاً يعمل أكثر من ثلاثة آلاف درهم.
وكان قد غضب عليه في وقت عندما حضر من الكرك في المرة الثانية، وطلب القاضي قطب الدين ابن شيخ السلامية من الشام، وولاه مكانه، وأخذ منه أربع مئة ألف درهم، وذلك في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، فأفرج عنه، وأعيد الى نظر الجيش شريكاً لقطب الدين في جمادى الأولى من السنة المذكورة. ولما رضي بعد قليل عليه أمر بإعادتها عليه، قال: يا خوند أنا خرجت عنها لك، فابنِ بها جامعاً، فبنى بها الجامع الذي في موردة الحَلفاء.
وكان في آخر عهده يباشر بلا معلوم، وأعرض عن الجميع، وترك الكُماجة الحمراء تحضر إليه من المخابز السلطانية، ويقول: أتبرّك بها.
وحكي عنه أنه من يوم إسلامه تسمّى بمحمد، وأعرض عن النصارى جملة كافية، فلا يقربه نصراني ولا تحوي داره نصرانياً.
وحكى لي شيخنا الحافظ فتح الدين قال: قال القاضي شرف الدين بن زنبور - وكان خال القاضي فخر الدين هذا: ابنُ أختي عمره متعبّد متألّه لأننا كنا نجتمع على الشراب في ذلك الدّين، فيتركنا وينصرف ونفتقده إذا طالت غيبته، فنجده واقفاً يصلّي، ولما ألزموه بالإسلام امتنع، وهمّ بقتل نفسه بالسيف، وتغيّب أياماً، ثم إنه أسلم وحَسُن إسلامه الى الغاية.
وحجّ غير مرة، وزار القدس غير مرة، وفي بعض المرات أحرم من القدس، وتوجّه الى مكة مُحرماً من هناك، وبنى مساجد كثيرة بالديار المصرية وعمّر أحواضاً كثيرة في الطرق، وبنى بنابلس مدرسة، وبنى بالرملة بيمارستاناً، وأكثر من أفعال البر.
وقال لي القاضي شهاب الدين: إنه كان حنفي المذهب.
وكان إذا خدَمه الإنسان في العُمر مرة واحدة كفاه مؤونة أمره، وصحبه الى آخر الدهر، وقضى أشغاله، ونقله الى وظائف أكبر مما في يده، فكانت فيه عصبية شديدة لأصحابه. وقيل: إنه كان يتصدق في كل شهر بثلاثة ألف درهم.
وكان في أول أمره كاتب المماليك الى أن توفي القاضي بهاء الدين بن الحلي، فولاه السلطان مكانه في نظر الجيوش، وكان الأمير سيف الدين أرغون النائب يكرهه كثيراً، وإذا قعد للحكم أعرض عنه، وأدار كتفه إليه، ولم يزل فخر الدين يعمل عليه الى أن توجّه الى الحجاز، فقيل: إنه أتى يوماً بذكره، وقال له: يا خُوند، ما يقتل الملوكَ إلا نوابهم، هذا بيْدَرا قتل أخاك الأشرف، ولاجين قُتل بسبب نائبه منكوتمر، فتخيّل السلطان من أرغون، ولما جاء من الحجاز جهزه الى حلب نائباً. وهو الذي حسّن للسلطان أن لا يكون له وزير بعد الجمالي، ولذلك بقيت أمور المملكة ترجع إليه، وهي متعلقة به من الجيش والأموال والعزل والولاية.
وسمعت أنا من قرمان شخص كان كاتباً بصفد، أنه جاء مرة الى القدس وكتب هناك وتوجه الى قمامة، وكنتُ خلفه، وهو لا يراني، وهو يمش وينظر الى تلك الآثار والمعابد، ويقول: " ربَّنا لا اُزِغ قلوبَنا بعد إذْ هدَيْتَنا " .

وعلى الجملة فكان للزمان جمال ورونق، ولما قيل للسلطان إنه مات لعنه وسبّه، وقال: له خمس عشرة سنة ما يدعني أعمل ما أريد. ومن بعده تسلّط السلطان على الناس، وصادر وعاقب وتجرأ على كل شيء. وأوصى عند موته للسلطان بأربع مئة ألف درهم، فأخذ منه ما يزيد على الألف ألف درهم.
وكتب إليه شيخنا العلامة شهاب الدين محمود ما أنشدنيه إجازة:
في دعاء الإله في كل عام ... لك فخر تسمو به في الأنامِ
وحجيج البيت المُحرَّم أنّى ... شئته من أسنى المزايا الجسام
كل حول تعود عن كعبة الل ... ه نقياً من سائر الآثامِ
عارياً من ملابس الذنب قدما ... رافلاً في حُلى القبول الوشام
مع ما تبتنيه ثم من الطا ... عات ما بين زمزم والمقام
قد ألفْت السرى فلو رمت في اليق ... ظة مثوىً لسرت في الأحلام
هويتك المشاعر الزهر تختا ... ل بها في ملابس الإحرام
فهي تشتاقك اشتياقك إيّا ... ها فسيّان أنتما في الغَرامِ
لك وجدٌ بالبيت والعروة الوث ... قى ولا وجَد عُروة بن حزام
فجزاك الإله عن سعيك المب ... رور خيراً جمّاً عن الإسلام
فلكم قد سهرت في حرَم الها ... دي عليه السلام ليل التّمام
في حمى لو يُسعى إليه على الرا ... س لقدّمته على الأقدام
حيث تُغني عبارةُ العبرات الب ... كم في الشوق عن فصيح الكلام
وتُراح الشكوى ويستمطر البرْ ... ر ويعنى العانية ويُروى الظامي
وتجازى عن بذلك الرِّفدَ للوف ... د وإكرامهم جزاء الكرام
وإذا عدت عنه عدت خفيف ال ... حاد إلا من الأجور العظام
فلك الله حافظٌ ومثيب ... ومعين في رحلة ومقام
ومجازٍ بالعز في دار دنيا ... ك وعز الأخرى بدار السلام
محمد بن فضل الله بن أبي الخيرابن غالي، الوزير الكبير غياث الدين خواجا ابن الوزير رشيد الدولة الهمذاني.
كان من أجمل الناس صورة، وصفاتُ الخير فيه محصورة، والمحاسن على ذاته مقصورة، لم ينَلْ أحد رتبته في الممالك القانية، ولا وصل الى محلّه من قلب مخدومه في تدبير الأمور السلطانية، وكان له عقلٌ وافر، وذهنٌ في تدبير الأمور متضافر، وفكرُ صُبح عقباه الى النجاة والنجاح سافر، داهية ذا غَور، يتطور في بلوغ مقاصده طوراً بعد طور، مع حسن إسلام وكرم يخجل منه الغمام، ويسجع بوصفه الحمام، أثّر الآثار الجميلة، وخرّب كنائس بغداد، وجعلها دِمنة، والعيون من أهلها كليلة. وهو كان السبب في صلح الإسلام مع التتار، وبه صارت سُنة باقية إن شاء الله الى يوم تُكشف فيه الأستار:
هو العارض الثجّاجُ أخضل جَودُه ... وطارت حواشي برقه فتلهّبا
إذا ما تلقّى في الوغى أصعق العدى ... وإن فاض في أكرومة غمر الرُبا
ولم يزل على حاله الى أن توفي بوسعيد رحمه الله تعالى، فأخذ سعده، وما طال بعده أمره الى أن سكن لحدَه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
وكان هذا الوزير غياث الدين قد ولد في الإسلام، ولما نُكب والده وقتل سلِم هو، وقد تقدم ذكر والده في حرف الفاء مكانه، واشتغل مدّة، وصحب أهل الخير. ولما توفي الوزير علي شاه طلبه السلطان بوسعيد، وفوّض إليه الوزارة، ومكّنه وردّ الأمور إليه، وألقى إليه مقاليد الممالك، وحصل له من الارتقاء والملك ما لم يبلغه وزير غيره في هذه الأزمان، وكانت رتبته من رتبة نظام الملك.
وكان جميل الصورة، وأمه تركية، وله عقل ودهاء وغَور، وكان خيراً من والده، خرّب كنائس بغداد، ورّد أمر المواريث الى مذهب أبي حنيفة، فورّث ذوي الأرحام، وكان إليه تولية نيابة الممالك وعزلهم لا يخالفه القان في ذلك. وخدم السلطان الملك الناصر محمداً صاحب مصر كثيراً، وراعى مصالحه وحقن دماء الإسلام، وقرر الصلح، ومشّى الأمور على أجمل ما يكون.

ولما توفي القان بوسعيد رحمه الله تعالى نهض الوزير غياث الدين الى شابّ من بقايا النسل يقال له: أربكوون وقد تقدم ذكره في حرف الهمزة، فسلطنه، وأخذ له البيعة على الأمراء واستوسق له الأمر، فخرج عليهما علي باشا خال بوسعيد وابن بَيدو فانْفلّ الجمع، وقُتل أرباكوون والوزير في التاريخ المذكور.
محمد بن فضل الله بن أبي نصرابن أبي الرضا السديد المعروف بابن كاتب المرج.
قرأ النحو والأدب والأصول على نجم الدين بن الطوفي البغدادي الحنبلي بقوص، ثم قرأ التقريب على مؤلفه الشيخ العلامة أثير الدين، وتأدّب على تاج الدين أبي الفتح محمد بن الدّشناوي، والأمير مجير الدين عمر بن اللّمطي، وشرف الدين محمد النصيبي بقوص، وغيرهم.
أديب كامل، ولبيبٌ لأنواع اللطف شامل، كأنما خلق من نسمات السحر، أو تكوّن من شمائل أغيد إن نطق سلب، وإن رنا سحر. حسن الصورة، عليه ملامح الجمال مقصورة، مع فصاحة لسان وسماحة بنان، وحسن كتابة، وكثرة وقوع على الإصابة، وصدق لهجة، وسير سيرة سلك فيها أوضح محجة، ونظم ما للسراج معه إضاءة، ولا للجزار به لحاق، ولو قطع أعضاءه، ولا للبوصيري ولو صار في سكّر دانه صيرا، ولا للنصير الحمّامي ولو كان ابن النقيب له نصيراً، وهيهات، هذا في علوّ ورفعة، يضيء وأين النجم ممن يحاوله.
ولم يزل في بلاد الصعيد يتنقل، ويقرع هضبات الولايات ويتوقّل، الى أن فُتح سدّ المنايا على ابن السّديد، وأصبح في الصعيد من تحت الصعيد.
وتوفي رحمه الله تعالى في ...
وتقلب في الولايات السلطانية، وهو في كلها محمود السيرة. وتولى وكالة بيت المال بقوص، وجلس بالورّاقين بقوص.
وقال الفاضل كمال الدين الأفودي: كان والده قد أعطى في سعة العطاء ما يعزّ الآن وجوده، فجازاه الله بما أسلف من خير، إسلام أبنائه أجمعين، وهداهم الى اتّباع سيد المرسلين، وانتقلوا من شريعة عيسى الى شريعة محمد المختار " وربُّك يخلقُ ما يشاءُ ويختار " .
وله مشاركة في النحو والأصول والحكمة والطب وغير ذلك، وجرى على مذهب أهل الآداب في أنهم يستجلون محاسن الشباب، ويستحلّون التشبب في الشراب ووصف الحباب. انتهى.
أنشدني من لفظه القاضي صدر الدين سليمان بن داود بن عبد الحق قال: أنشدني من لفظه القاضي سديد الدين ابن كاتب المسرج:
تحاول عيني جهدَها أن تراكمُ ... وكيف وفيها للدموع تراكم؟
أيا جيرة الوادي ولم أدر طيبه ... أمِن شجرات فيه أم شذاكم
فبالمسك مالي حاجة إن أتيتكم ... ولا لكم إن طيبُ ذكري أتاكم
وما بي فقرٌ إن وقفت بأرضكم ... لأن ثرائي وقفة في ثراكم
أسير إليكم والسقام مسايري ... فإما حمامي دونكم أو حماكم
وإن فات تفديكم من السوء مهجتي ... وما مهجتي حتى تكون فداكم؟
هويتكم والناس طرّا فما الذي ... خُصصت به حتى ولاء هواكم
وفيم يعاديني الأنام عليكمُ ... وكلهم أحبابكم لا عداكم
كفاني إليكم أن مالي وسيلة ... ولو شئتم أن تحسنوا لكفاكم
وكان شبابي إن غضبتم تجنّباً ... شفيعاً الى ما أرتضي من رضاكم
وكنت أظن الشيب ينهى عن الهوى ... فلم ينهني عنكم، ولكن نهاكم
قلت: البيت الأول مأخوذ من قول شمس الدين محمد بن العفيف:
في دمع عيني تراكم ... لعلها أن تراكم
وبه قال: أنشدني لنفسه:
وقالوا: لم صحبت شرار قوم ... ولاموني ولومهم حماقهْ
وكيف أميّز الشرير منهم ... ولم أعرفه إلا بالصداقه
قلت: أبو الطيب كان أحكم بقوله:
أخالط نفسَ المرء من قبل جسمه ... وأعوفها من فعله والتكلم
وبه قال: أنشدني لنفسه:
ولي في الهوى العذريّ عذرٌ وإنما ... عذار الذي أهواه لي فيه أعذارُ
أيحسن أن أسلو وخدّاه جنة ... وقد كنت لا أسلوهما وهما نارُ
قلت: وقد لهج الناس بهذا المعنى كثيراً، ومن أحسن قوله وبه قال: أنشدني لنفسه:
أوصيكَ يا مُرتَحلاً ... بقَلب مَن قَد ودّعَك

إن عاش أو ماتَ فلا ... تُفِض عليه أدمُعَك
وارْدُدْه ليَ مُصَبّراً ... فالقلبُ والصّبرُ معَك
ومن شعر ابن كاتب المَرج:
إذا حملتْ طيبَ الشّذا نسمةُ الصَّبا ... فذاكَ سلامي والنّسيمُ فمِنْ رُسْلي
وإن طلعت شمسُ النهار ذكرتُكم ... بصالحةٍ والشيُ يُذكرُ بالمثلِ
قلت يريد: طيب الشذا: سلامَه، والنسيم نفسه رسول، فلا يُتوهّم أن الاثنين واحد، والثاني والأول مأخوذ من قول:
إذا طلعت شمسُ النهار فسلّمي ... فآيةُ تَسليمي عليكِ طلوعُها
وقوله: والشيء يذكر بالمثل أصلُ المَثَل: والشيخ بالشيء يُذكرُ. ولو قال: والمثلُ يُذكر بالمثل لكان أحسن.
ومنه:
أقولُ لجُنح الليل لا تَحكِ شعر مَن ... هويت وهذا القولُ من جهتي نُصحُ
فقد رامَ ضوءُ الصّبحِ يَحكي جبينَه ... مِراراً فما حاكاهُ وافتضحَ الصّبحُ
ومنه:
برقٌ بَدا من دار عَلوهْ ... أو قلبُ صَبٍّ صار جذوه
فيها قلوبُ العاشقي ... نَ تضرّمتْ صدّاً وجَفوه
إني اجتهدتُ فصرتُ في العُش ... اقِ قُدوة كل قُدوه
لو أنّ قَيساً مُدركي ... لمشى على نهجي وعُروه
لا عيشَ من بعدِ الصّبا ... يَحلو سوى بجنون صَبوه
بمُهَفْهَف يسبي العقو ... لَ كأنّ في جَفْنَيه قهوه
أبداً قضيبُ القدّ من ... ه يميلُ من لينٍ ونَشوه
قد أسْكَرَتْ رشَفاتُه ... لكنها كالشّهدِ حُلوه
ومنه:
ورد الكاسَ فهي نارٌ إذا كا ... نَ ولابدّ من دخول النارِ
وتحدّ الذين لم يردوها ... بضُروبٍ من معجزاتِ الكبار
فاجْلُ في الليلِ من سَناها شموساً ... وأدِرْ في النّهارِ منها الدَّراري
وأرِ الدّرّ مَن يغوصُ عليه ... عائماً من حبابها في النّضارِ
إنما لذّةُ المُدامةِ مِلكٌ ... لكَ فاشْرَبْ وما سواها عَواري
قلت: قوله: وأدِرْ في النهار منها الدّراري استعمل هذا المعنى مجير الدين بن تميم أحسن من هذا، ومن خطه نقلت:
أمولاي أشكو إليكَ الخُمّار ... وما فعَلته كؤوسُ العُقار
وجَور السُّقاة التي لم تزل ... تريني الكواكبَ وسطَ النهار
ومن شعر ابن كاتب المَرج:
لمَن أشتكي البرغوثَ يا قومِ إنه ... أراق دمي ظُلماً وأرّق أجفاني
ومازال بي كالليث في وَثباته ... الى أن رَماني كالقتيل وعرّاني
إذا هو آذاني صبرتُ تجلّداً ... ويخرُج عقلي حين يدخلُ آذاني
قلت: ذكر أصحاب الخواص أن البرغوث إذا دخل في أذن أحد ووضع الإنسان يده على سرّته أو أصبعه في سرته وقال: سبقْتك فإن البرغوث يخرج منها.
وقال علاء الدين الوداعي في البَراغيث، ومن خطّه نقلتُ:
براغيثُنا فيهم جَراءَة ... فبالأسرِ والقتل لا يَرجِعونا
كَثيرو الأساةِ مع أنهم ... قليلاً من الليلِ ما يَهجَعونا
ونقلت من خطّه له مضمّناً:
براغيث تَسري في الظّلام كأنّها ... حراميّة من بيضها يُسفكُ الدّمُ
قوارضُ تأتيني فيحتقرونها ... وقد يملأ القَطرُ الإناءَ فيُفعَمُ
ونقلتُ منه أيضاً له:
براغيث فيها كثرة فكأنها ... علينا من الآكامِ يحتفرونها
تقولون لي صِفْها فقلتُ أُعينكم ... قوارض تأتيني فيحتقرونها
وما أحسن قول الصّاحب جمال الدين بن مطروح:
رُبّ برغوث ليلة بتُّ منه ... وفؤادي في قبضة التسعين
أمكنتْ قبضة الثّلاثين منه ... فسقتُه الحِمامَ في سبعين
وقال آخر:
للبراغيث صارَ جسمي مَقيلاً ... ففؤادي من شرّهم في عَذاب
طفَح السُّكر والشّراب عليهم ... فتقايَوا دَمي على أثوابي
ومن شعر ابن كاتب المرج:
أما وطيب عشيّات وأسحارِ ... من بعدِها أفَلَتْ شمسي وأقماري

بها أذكّرُ دهري كي يَجودَ بها ... فلا يَجودُ ولا يأتي بأعذار
لو أن تلك من الأيّام عُدْتُ بها ... أو الليالي ولم تَحْتجْ لتِذْكارِ
لله ليلاتها البيض القِصار فكم ... سطَوتُ منها على دهري ببتّار
أنكرتُ إفْشاءَ سرٍّ كنتُ أكتُمُه ... فيها ولكنني أنكرتُ إنكاري
يا للعجائب ليل ما هجَعْتُ به ... لنوره كيفَ تُخفى فيه أسراري
إن الضنى عن جميعِ الناس ميّزني ... فكان علّة إخفائي وإظهاري
فلا تقولوا إذا اسْتبطأتُم خَبَري ... أما النّسيمُ عليه سائر ساري
فلو يمرُّ نسيمٌ بي لَسارَ الى ... مغناكُم بي كما يَسْري بإخباري
ومن نظم ابن كاتب المَرج موشح كتب به الى كما الدين الأدفوي:
لي مَربعٌ قد خلامن أهله في السَّبْسَبعمران
فإنْ يكُن أمَحَلافمَدْمَعي كالسّحبهتّانُ
سَرَوا فَطابَ النّسيمْ ... وكل وادٍ عاطرُ
ولي فؤادٌ يَهيمْ ... بالعِشْقِ وهو شاعِرُ
حكَوْ ظِباءَ الصّريمْ ... لو صِيد منهم نافرُ
حذِرتُ أن لا يريمْ ... فَرامَ ما أُحاذرُ
فإن سرى في بَهيمْ ... ليل فبدرٌ سافرُ
وإن يَسْرِ عَجِلافالظّبي عند الهربعجلان
أو حلّ وسط الفلافقومه من عَربٍغزلان
يقول خلِّ انطِلاقْ ... الدّمع قَصد السُمعةِ
فما لأهلِ النِّفاقْ ... ووجنةٍ كالجنّةِ
فقلتُ دمعٌ يُراقْ ... هل ردُّهُ في الحيلةِ
كُلِّفْتُ ما لا يُطاقْ ... في شرعةِ المحبّةِ
ولا وعدتُ العناق ... وقهوة الرّيق التي
من حاسديها الطّلاوحسن نظم الحَبَبِخَجْلان
لا لَغوَ فيها ولايحرسُها من شَنبرضوان
ليست كراحٍ يُطافْ ... بها حَراماً لا حلال
تدقّ عند اختِطافْ ... عُقولَ قومٍ كالجبالِ
كم أمّنتْ من يخاف ... إما بحقٍ أو مُحال
وهوّنتْ من تَلافِ ... عرضٍ ودينٍ بعدَ مالِ
فدَعْ كؤوسَ السُلاف ... واستَجْلِ أوصافَ الكمال
فإنما يُجتلىعلى الكِرام النُجُبِإحسان
مَن عنده بالغَلايُستعبَد الحرّ الأبيإيمان
أثنَت عليه العِدا ... وعدّدت مآثرَه
مَركز بذلِ الجدى ... ومَن سِواهُ الدائره
بلا حُروف النّدا ... لبّت لَهاهُ الغامره
أسلفَ كلاً يَدا ... حتى السّحابَ الهامرَه
وقد مَلا بالنّدا ... كلَّ بقاع القاهره
حتى رأينا المَلالفَضله والأدبقد دانوا
إذ هم رعايا العُلاوجعفَر بنُ تَغلبسلطان
منه يُفادُ الكلامْ ... فما يقولُ الناظمْ
في العلم حَبْر إمام ... وفي السّخاءِ حاتِمْ
فيا أبا الفضلِ دامْ ... لي ببقاكَ العالمْ
فأنت عينُ الأنامْ ... يَقْظى وكلٌ نائم
بك الجدودُ الكِرامْ ... تسرُّ حتى آدم
أنت لمن قَد تَلاعلى صميم النسبعنوان
يا آخِراً وأولاًكأنه في الكتبِقُرآن
وغادةٌ تنجلي ... فينجلي القلب الحزينْ
بها تُحلّى الحُلي ... ويُسحَر السحر المبينْ
قلت لها والخلي ... لم يَدرِ ما الدّاءُ الدّفينْ
بالله مَنْ ينطلي ... عليك أو تألَفينْ
ابنَ علي بَعلي ... قالت نعم يا مُسلمين
لولا عليَّ انطَلاتركتُ أمي وأبيمن شانو
كفاية الله البلايَبيت سوى ذا الصبيفي أحضانو
ومن موشحاته أيضاً:
أفتِكْ بنا في السّقم ... والهمّ كل فَتكِ
بخمرة كالعنْدَمِ ... أو مَرشَف بن تُركي
فلونُها لونُ الدّمِ ... والريح ريحُ المِسْكِ

كم صيّرت ذا ألم ... من كَدَرٍ وضَنكِ
والعيش منه يَصفووالطّيش يُستخفُّوللسرور زَحْف
منه الهموم تهربُولو أتَتْفي ألْفِ
ومنه في الخرجة:
يا مَرحباً بالغائِبِ ... إذ جاء في العِذارِ
يَزري بكلِّ كاعِبِ ... تزورُ في الإزارِ
فلم أكُن بخائِبِ ... عليه في انتظارِ
ولم أقلْ كالعاتِبِ ... أبطأتَ في مَزاري
إلا التفتْ لَخَلْفووقال يُشير بكفّووحاجبُو لردفو
هذا الثقيل حقاً اعتبواعلى انقطاعوخلفي
محمد بن أبي القاسم بن جميلالشيخ الإمام العالم الفاضل المفتي شمس الدين أبو عبد الله الربعي المالكي التونسي.
سمع بدمشق سنة ثلاث وسبعين وست مئة وبعدها من ابن جعوان، والحارثي، وغيرهما، وحدّث، وكان من الفضلاء المشهورين. وولي القَضاء بالإسكندرية مدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشري صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة بالقاهرة.
ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة.
وكان فاضلاً في فنون النحو والأصول، واللغة، ودرّس وأفتى وصنّف واختصر تفسير ابن الخطيب، ودرّس بالمنكوتمرية، وناب في الحكم بالحُسينية، ولم تحمَد سيرته في الإسكندرية.
قال كمال الدين الأدفوي: ذكروا عنه أنه كان يأخذ الدراهم في قضاء الحاجات ويقول: أنا أعرف كيف آخذ. وتُكلِّم فيه وصُرِف، وكان قبل القضاء يظن به الخير، وكانت دروسه فصيحة في غاية الجودة، وكان إماماً بالمدرسة الصالحية في إيوان المالكية.
محمد بن أبي القاسم بن محمدابن يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد، بهاء الدين أبو الفضل ابن شيخنا علم الدين البرزالي.
قال شيخنا والده: ختم القرآن العظيم في السنة الثامنة، وصلى به التراويح سنتين، وجوّد قراءته، وقرأ بالسّبع، وحفظ الشاطبية والرائية وكتاب التنبيه في الفقه والجرجانية ومختصر النووي في علوم الحديث. ولازم زكيّ الدين زكريا مدة سنتين، وقرأ الفقه عليه، ولازم كمال الدين بن قاضي شهبة مدة وقرأ عليه في النحو، وجوّد الخط مدة على الشهاب غازي، ثم بعده على النجم الكاتب. وجاد خطه ونسخ الشاطبية وقطعة من أول تفسير البغوي الى قوله تعالى: " فتقبّلَها ربُّها بقَبول حسنٍ " ، وعلوم الحديث للنووي. وسمع على خلق كثير عدّتهم تسع مئة شيخ وسبع من الرِّجال والنساء. وزار بيت المقدس، وحجّ مع والده سنة عشر وسبع مئة، وسمع بالحرمَيْن، وتزوّج بعد ذلك.
وتوفي - رحمه الله تعالى " ليلة السبت ثامن شهر الله المحرم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، ودُفن بتربتهم بمقبرة الباب الشرقي.
ومولده العشرون من المحرّم سنة خمس وتسعين وست مئة، عاش ثماني عشرة سنة.
محمد بن قايماز بن عبد اللهالشيخ الصالح المسند شمسُ الدين ابن الصّارم.
شيخ مبارك قرأ القراءات السبعة على السخاوي، وسمع من ابن الزبيدي، وابن اللّتي، وابن صباح، والفخر الإربلي، وغيرهم. وتفرّد بالسّماع من ابن ماسويه المقرئ ومحمد بن نصر بن ناصر بن قوام الرصافي، وحدّث بصحيح البخاري كاملاً عن ابن الزبيدي بسنده، قال شيخنا البرزالي: قرأته عليه.
توفي - رحمه الله تعالى - في سابع عشري ذي الحجة في أوائل سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده سنة عشرين وست مئة بدمشق. وكان أبوه طحاناً بدمشق.
محمد بن قطلوبك بن قراسُنقر
الأمير الكبير بدر الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين المعروف بابن الجاشنكير.
كان شاباً ظريفاً لطيفاً، تأمّر بعد والده وتقرّب بالخدمة الى الأمير سيف الدين تنكز، فولاه ولاية البر في ثامن عشر شوال سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ولبس تشريفة، وباشر الوظيفة وكان عنده مكرَّماً معظّماً.
ثم إنه في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا حصّل تقدمة، وتوجّه الى باب السلطان وكاتب بجملة، وسعى في الحجوبية، فرسم له بها، وكان في نفسه منها أمر عظيم، وحضر الى دمشق مريضاً.
توفي - رحمه الله تعالى - يوم الأضحى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة ولم يُباشر الوظيفة، ولعله كان لم يصل الى الأربعين، وأظنه تولى نيابة جعبر في أيام الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى.
محمد بن قلاوونالسلطان الأعظم الملك الناصر ناصر الدين ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين الصالحي.

من أعظم ملوك الأتراك، ومَن دانت له الأقدار ودارت بسعوده الأفلاك، لم يرَ الناس مثل أيامه، ولا أسعد من حركاته، في رحيله ومُقامه، تجرّع في مبادئ أمره كؤوس الصّبر، وتجلّد الى أن وارى أعاديه القبر.
ولي الملك ثلاث مرات، وخرج الى الكرك وعاد الى مصر كرّات، وفي الثالثة صفا له الوقت، واختصّ بالمِقة من رعاياه كما اختصّ عِداه بالمقْت، فحصد من كان حسده، وأراح قلبه وجسده، وخلت له الأرض من المُعارض، وأكلتهم القوارع والقوارض، وضمّن بعضهم لُحودَ السجون، ووقعوا في سطواته في الحدّ وكانوا يظنون أنه مجنون، ولما استوسق له الملك وفاز أولياؤه بالنجاة، وحاز أعداؤه الهلك، صفت له الأيام من الكدر وسابق السَّعد مرادَه وبَدرْ، وضاق بعدوه السهل والجبل، وحلّ به من الخذلان ما لم يكن له به قِبَل:
وقد سار في مَسراه قبل رسوله ... فما سار إلا فوقَ هامٍ مفلّقِ
ولما دنا أخفى عليه مكانهُ ... شُعاعُ الحديدِ البارِقِ المتألّق
وأقبل يمشي في البِساط فما دَرى ... الى البحر يمشي أم الى البدر يرتقي
واقتصّ بما اغتصّ، وانفرد بالملك فيما اختلّ عليه فما اختص، وقالت السعود المخبوءة: خُذ، وقالت الأقدار: تحصّن بألطاف الله وعُذْ. ودانت له ملوك الأرض، وأصبح كلٌ من مهابته يرمق العيش على برْض. وهادنه الفرنج والتتار، وساطَه حتى زنج الليل وروم النهار، وأصبح سيفه:
على عاتق الملك الأغرّ نِجادُهُ ... وفي يد جبّار السمواتِ قائمُهْ
تقبّل أفواه الملوكِ بساطَه ... ويكبُرُ عنها كمّه وبراجمه
تحولُ رماح الخطّ دون محلّه ... وتُسبى له من كل حيٍّ كرائمه
له عَسكرا خيل وطير إذا رمى ... بها عسكراً لم يبق إلا جماجمه
تحاربه الأعداء وهي عبادهُ ... وتدّخر الأموال وهي غنائمه
ويستكبرون الدّهر والدهرُ دونه ... ويستعظمون الموتَ والموتُ خادمه
وأصبح النيل على إثر النيل، والخصب يسير على إثر الخصبْ ويسيل، ورُخاء الرخاءِ تهبُّ نسيماً، ووجه الأمن قد أسفر وسيماً، ومحيا الدَّعة والسكون عليه من الإقبال طلاوة وسيما، والغنى أصبح للناس غناءً، ولكن زيد ياء وميماً، والإنعامات تُفاض فتخجل البحار الزّخّارة، وبدرها إذا فُضَّت استحيا منها البدر، ولم يخرج عن الدارة، أغرق خواصّه بالجوائز وعمهم بالهبات التي يتحدث بشأنها على المغازل الأبكار والعجائز. لم نسمع لملك بمثل عطاياه، ولا لجواد غيره بما وهب حتى أثقل جياده وكلّت مطاياه:
تمشي خزائنهُ من جودِ راحته ... بَيداءَ لا ذهبٌ فيها ولا ورقُ
وتحسبُ الوفْزَ غيماً والعُلا أفُقاً ... إذا انجلى الغيمُ أبدى حُليهُ الأفُقُ
ولم يزل في سعادة ملكه وريحُ السعود تجري بها مواخر فُلكه، الى أن هلك عنه سلطانه، وما أغنى عنه أنصاره ولا أعوانه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الأربعاء تاسع عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ومولده في صفر أو في ربيع الأول سنة أربع وثمانين وست مئة.

كان والده المنصور إذ ذاك على المرقب محاصراً، ودفن ليلة الخميس بالمنصورية. تولى دفنه بعد عشاء الآخرة الأمير علم الدين الجاولي، وكان لما قتل أخوه الأشرف خليل في عاشر المحرم سنة ثلاث وتسعين وست مئة وقُتِل من قُتل من قاتليه وقّع الاتفاق بعد قتلة بَيدرا على أن يكون الملك الناصر محمد أخو الأشرف هو السلطان، وأن يكون زين الدين كتبغا نائباً، وعلم الدين الشجاعي وزيره استادار، واستقر ذلك ووصل الى دمشق الأمير سيف الدين ساطلمش والأمير سيف الدين بهادر التتري على البريد في رابع عشري المحرم ومعهما كتابٌ عن الأشرف أننا قد استنبْنا أخانا الملك الناصر محمداً وجعلناه وليَّ عهدنا، حتى إذا توجّهنا للقاء العدو يكون لنا من يخلفنا، فحلف الناس على ذلك وخطب الخطيب به، ودعا للأشرف ثم لولي عهده الناصر، وكان ذلك تدبير الشجاعي. وفي ثاني يوم ورد مرسوم بالحَوطة على موجود بيدَرا ولاجين وقراسنقر وطُرُنطاي الساقي وسنقرشاه وبهادر رأس نوبه، وظهر الخبر بقتل الأشرف واتفاق الكلمة على أخيه الناصر محمد، واستقلّ كتبغا نائباً والشجاعي مدبّر الدولة، وقبض على جماعة من الذين اتفقوا على قتل الأشرف وهم الأمير سيف الدين نوغاي، وسيف الدين الناق، وألطنبغا الجمدار، وآقسنقر مملوك لاجين، وطرنطاي الساقي، وآروس، وذلك في خامس صفر. فأمر السلطان الناصر بقطع أيديهم وتسميرهم أجمع، وطِيفَ بهم مع رأس بيدَرا ثم ماتوا.
ولما كان في عشري صفر بلغ كتبعا أن الشجاعي قد عاملَ جماعة في الباطن على قتله، ولما كان في خامس عشري صفر ركب كتبغا في سوق الخيل وقتل في سوق الخيل أمير يقال له البندقداري لأنه جاء الى كتبغا وقال له: أين حسام الدين لاجين أحضِرْه؟ فقال ما هو عندي، فقال: بل هو عندك، ومدّ يده الى سيفه ليسلّه فضربه الأزرق مملوك كتبغا بالسيف حلّ كتفه، ونزل مماليك كتبغا فأنزلوه وذبحوه، ومال العسكر من الأمراء والمُقدّمين والتتار والأكراد الى كتبغا ومال البرجية وبعض الخاصكية الى الشجاعي، لأنه أنفق فيهم في يوم ثمانين ألف دينار، وقرر أن كلَّ من أحضر رأس أمير فإقطاعه له، وحاصر كتبغا القلعة وقطع عنها الماء، فنزل البرجية ثاني يوم من القلعة الى كتبغا على حميّة وقاتلوه وهزموه الى بئر البيضاء، فركب الأمير بدر الدين بيسَري والأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح وبقية العسكر نصرةً لكتبغا وردّوهم وكسروهم الى أن أدخلوهم القلعة، وجدّوا في حِصارها، فطلعت الستّ والدة السلطان الملك الناصر الى أعلى السور وقالت: إيش المراد؟ قالوا: ما لنا غرض غير الشجاعي، فاتّفقت مع الأمير حسام الدين لاجين الأستادار وأغلقوا باب القلّة، وبقي الشجاعي محصوراً في داره. وتسرّب الأمراء الذين معه واحداً بعد واحد ونزلوا الى كتبغا، فطلب الشجاعي الأمان، فطلبوه الى الستّ والى لاجين استادار ليستشيروه فيما يفعلونه، فلما توجّه إليهم ضربه الآقوش المنصوري بالسيف قطع يده، ثم ضربه أخرى بَرى رأسه، ونزلوا برأسه الى كتبغا، وجرتْ أمور، وغلِّقت أبواب القاهرة خمسة أيام.
ثم طلع كتبغا الى القلعة سابع عشري صفر ودُقَّت البشائر وفُتحت الأبواب وجُدِّدت الأيمان والعهود للسلطان الملك الناصر، وأُمسك جماعة من البرجية كانوا مع الشجاعي، وجاءت الحَوطة الى دمشق على ما يتعلّق به، وخطب الخطيب في يوم الجمعة حادي عشري شهر ربيع الأول للسلطان الملك الناصر استقلالاً، وترحّم على والده المنصور وأخيه الأشرف.
وفي عشري شهر رجب ورد البريد بالحَلْفِ للناصر وولي عهد كتبغا.
وفي سلخ رجب ورد البريد أن السلطان ركب في شعار الملك وأبّهة السلطنة وشقّ القاهرة، دخل من باب النصر وخرج من باب زويلة عائداً الى القلعة، والأمراء وكتبغا يمشون في ركابه، وفرح الناس بذلك ودُقّت البشائر.

ولم يزل مستمراً في الملك الى حادي عشر المُحرّم سنة أربع وتسعين وست مئة، فتسلطن كتبغا وتسمّى بالعادل، وحلف له الأمراء بمصر والشام، ودُقت البشائر وزُينت البلاد، وجعل أتابكه الأمير حسام الدين لاجين، وتولى الوزارة الصاحب فخر الدين ابن الخليلي، وصرف تاج الدين بن حنّا، وحصل الغلاء الزائد المُفرط في أيامه حتى بلغ الإردب بمصر الى مئة وعشرين، ورطل اللحم بالدمشقي الى سبعة دراهم، ورطل اللبن بدرهمين، والبيض ستاً بدرهم، ورطل الزيت بثمانية، ولم يكن الشام مرخصاً، وتوقفت الأمطار، وفزع الناس، وذلك في سنة خمس وتسعين وست مئة. وتبع ذلك وباء عظيم، وفناء كثير، ثم إن الغلاء وقع بالشام وبلغت الغَرارة مئة وثمانين.
وقد كتبغا بالعساكر الى الشام في ذي القعدة سنة خمس وتسعين، ولما عاد الى مصر من نوبة حمص في سلخ المحرّم سنة ست وتسعين وست مئة ووصل الى اللّجون جرى له ما جرى مما تقدّم ذكره في ترجمة كتبغا، وهرب كتبغا الى دمشق، ودخل لاجين بالخزائن وتسلطن بالقاهرة وتسمّى بالمنصور، ولم يختلف عليه اثنان، كما تقدم في ترجمة لاجين.
واستناب قراسنقر بمصر مدة، ثم إنه قبض عليه واستناب منكوتمر مملوكه، على ما تقدم، وجعل قبجق نائب دمشق، وجهز الملك الناصر الى الكرك، وقال: لو علمت أنهم يخلون الملك لك والله تركته، ولكنهم ما يخلونه، وأنا مملوكك ومملوك والدك، أحفظ لك الملك، فأنت تروح الى الكرك الى أن تترعرع وترتجل وتتخرّج وتدرب الأمور وتعود الى ملكك، بشرط أنك تعطيني دمشق وأكون بها مثل صاحب حماة، فقال له السلطان: فاحلف لي إنك تبقي عليّ نفسي وأنا أروح، فحلف كلٌ منهما على ذلك، وتوجه السلطان وأقام بالكرك الى أن قُتل لاجين، على ما تقدم في ترجمته، في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مئة، فحلف للسلطان الملك الناصر جميع الأمراء وأحضروه من الكرك وملّكوه. وهذه سلطنته الثانية. وجعل سلاّر نائباً بمصر، وحسام الدين أستادار أتابكاً.
وفي جمادى الأولى من السنة المذكورة ركب السلطان بأبّهة الملك وشعار السلطنة والتقليد الحاكمي أمامه، وعمره يومئذ خمس عشرة، ورُتِّب الأفرم نائباً بدمشق.
وفي عَود السلطنة الى الملك الناصر قال علاء الدين الوداعي، ومن خطّه نقلت:
الملكُ الناصرُ قد أقبلتْ ... دولته مشرقةَ الشمسِ
عاد الى كرسيّه مثلما ... عاد سليمانُ الى الكرسي

ولم يزل بمصر الى أن حضر غازان الى الشام، فخرج بالعساكر في أوائل سنة تسع وتسعين وست مئة، ودخل دمشق في ثامن شهر ربيع الأول بعدما طوّل الإقامة على غزة، وأقام في قلعة دمشق تسعة أيام، وعدّى التتار الفرات، فخرج السلطان وساق الى حمص، وركب بكرة الأربعاء سابع عشري الشهر المذكور، وساق الى وادي الخزندار، وكانت الوقعة، والتحم الحرب، واستحرّ القتل، ولاحت أمارات النصر للمسلمين، وثبتوا الى العصر، وثبت السلطان والخاصكية ثباتاً كلياً، فانكسرت ميمنة المسلمين، وجاءهم ما لا قبل لهم به، لأن الجيش لم يكن بكامل يومئذ، وكان جيش الإسلام بضعة وعشرين ألفاً، وكان جيشُ التتار يقارب المئة ألف، فيما قيل، وشرع المسلمون في الهزيمة، وأخذ الأمراء السلطان وتحيّزوا به، وحموا ظهورهم وساروا على درب بعلبك والبقاع، وبعض العسكر المكسور دخل الى دمشق، واستشهد جماعة من الأمراء، وخُطبَ بدمشق للملك المظفر غازان محمود، ورفع في ألقابه، وتولى قبجق النيابة عن التتار، وملك غازان دمشق خلا القلعة فإن قبجق في الباطن لاحظ أميرَها مع أرجواش وأبان أرجواش عن همة عظيمة في حفظها، على ما تقدّم ترجمته، وجبى التتار الأموال من الدماشقة، وقيل: إن الذي حُمل الى خزانة غازان ثلاثة آلاف ألف ألف وست مئة ألف درهم، والذي أطلقه لمقدّمي المغل نحو آلات على الناس بوصولات وأخذوا أكثر مما كُتب لهم فهو أكثر من ذلك. وأخذ شيخ الشيوخ لنفسه مبلغ ست مئة ألف درهم. وأخذ قبجق أكثر م نذلك، وأخذ يحيى وإسماعيل أكثر من ذلك، وعزم الناس أكثر من ذلك، وجبوا على الرؤوس أكثر من ذلك، وجبوا على البيوت أكثر من ذلك، وجبوا على الأوقاف أكثر من ذلك، وأخذوا جميع ما وجدوه من الخيل والبغال والجمال والدواب. وأحرقوا جامع التوبة بالعقيبة، وجميع ما حول البلد وخيار منتزهاتها، وأجود عماراتها مثل الدهشة، وصُفّة أبقراط، العافية، وناصرية الجبل، وبيمارستان الصالحية، وترب كثيرة، وغالب الجواسق التي بالبساتين، وغالب ما حول القلعة. وأما شبابيك الصالحية وما قدروا عليه من الرخام فإنهم أخذوه وأفسدوه. وقتلوا من أهل الصالحية أربعة آلاف نفس، وأسروا ما شاء الله. وأما الذي قتلوه من الضياع البرّانية وأسروه فشيء لا يعلمه إلا الله تعالى. وكانوا إذا قرروا على الإنسان عشرة آلاف درهم ينوبه ترسيم للمُغل ألفان. ولم يزل وجيه الدين ابن المنجّا يجبي من الناس الى أن كمّل المبلغ وحمله الى غازان، وجُملته ما تقدّم ذكره.
وأقام غازان بالغوطة نازلاً الى ثاني عشر جمادى الأولى، ورحل طالباً بلادَه وخلّف نائبه خطلو شاه بالقصير في فرقة من المُغل.
وفي شهر رجب جمع قبجق الأعيان والقضاة الى داره وحلّفهم للدولة الغازانية بالنُّصح وعدم المداجاة، ثم إن قبجق توجه هو والصاحب عز الدين ابن القلانسي الى مصر في نصف رجب، وقام بحفظ المدينة وأمر الناس أرجواش.
وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة للسلطان الملك الناصر، وكان مدة إبطال ذلك مئة يوم.
وأما السلطان الملك الناصر فإنه دخل الى مصر بعد الكسرة وتلاحق به الجيش، وأنفق في العساكر، واشتُريت الخيلُ وآلات السلاح بالأثمان الغالية.
وفي يوم عاشر شعبان قدِم الأفرم نائب دمشق بعسكر دمشق، وقدم أمير سلاح بالميسرة المصرية، ثم دخلت الميمنة، ثم دخل القلب وفيه سلاّر بالجيوش الى القاهرة، وكثرت الأراجيف بمجيء التتار، وانجفل الناس الى مصر والى الحصون، وبلغ أجرة المحارة الى مصر خمس مئة درهم، ثم فترت أخبار التتار في شهر ربيع الأول سنة سبع مئة. ثم دخل التتار الى حلب وشرع الناس في قراءة البخاري، وقال الوداعي في ذلك، ومن خطّة نقلت:
بعثنا على جيش العدو كتائباً ... بُخاريةً فيها النبيّ مُقدّمُ
فرُدوا الى الأُردو وبغيظٍ وخيبةٍ ... وأُردُوا وجيشُ المسلمين مسلّمُ
فقولوا لهم: عودوا نَعُدْ، ووراءكم ... إذا ما أتيتُم أو أبيتُم جهنّمُ
ووصل السلطان الى العريش ووصل التتار الى حلب.

ودخل شهر جمادى الأولى والناس في أمر مريج، ووصل بكتمر السلاح دار بألف فارس، وعاد السلطان الى مصر، فانجفل الناس غنيُّهم وفقيرهم، ونودي في الأسواق بالرحيل، وضجّ النساء والأطفال، وغُلّقت أبواب دمشق، واقتسم الناس قلعة دمشق بالشبر، ووقع على غيّارة التتار عسكرُ حمص فكسروهم وقتلوا منهم نحو مئة، وصحّت الأخبار برجوع غازان نحو حلب، فبلغ الناس ريقهم، وأطفأ السكون حريقهم، وهلك كثير من التتار تحت الثلج بحلب، وعمّ الغلاء، وعزّ اللحم بدمشق وبيع الرطل بتسعة دراهم، ثم دخل الأفرم والأمراء من المرج بعدما أقاموا به أربعة أشهر، واستقرّ حال الناس بعد ذلك.
وفي شهر شعبان أُلبس النّصارى الأزرق واليهود الأصفر والسامرة الأحمر، وسبب ذلك أن مغربياً كان جالساً بباب القلعة عند سُلاّر والجاشنكير، فحضر بعض الكتّاب النصارى بعمامة بيضاء، فقام له المغربي يتوهّم أنه مسلم، ثم ظهر له أنه نصراني، فدخل الى السلطان وفاوضه في تغيير زي أهل الذمّة ليمتاز المُسلمون عنهم. وفي ذلك يقول علاء الدين الوَداعي، ومن خطه نقلت:
لقد أُلزم الكُفّار شاشاتِ ذلّةٍ ... تَزيدُهم من لعنةِ الله تَشويشا
فقلت لهم: ما ألبَسوكُم عَمائماً ... ولكنهم قد ألبَسوكم بَراطيشا
ونقلت منه له:
غيَّروا زيّهُم بما غيّروه ... منْ صفاتِ النبيّ ربِّ المكارِمْ
فعليهم كما ترون براطي ... شُ ولكنها تُسمى عمائمْ
ونقلت منه له:
لقد ألبسوا أهل الكِتابين ذلّةً ... ليظهر منهم كلُّ من كان كامنا
فقلت لهم ما ألبسوكم عمائماً ... ولكنهم قد ألبسوكم لَعائنا
وفي ذلك يقول شمس الدين الطيبي:
تعجّبوا للنصارى واليهود معاً ... والسامريّين لما عُمّموا الخرَقا
كأنما باتَ بالأصباغِ مُنْسَهِلاً ... نسرُ السماء فأضحى فوقهم ذَرقا
وفي جمادى الأولى سنة إحدى وسبع مئة توفي أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد ودُفن عند السيدة نفيسة، كما تقدّم في ذكره، وتولى الخلافة ولده أمير المؤمنين المستكفي بالله أو بالربيع سليمان، وقرئ تقليده بولاية العهد بعد العزاء.
وفي سنة اثنتين وسبع مئة فتحت جزيرة أرواد وهي بقرب انطرسوس وقُتل بها عدة من الفرنج، ودخل الأسرى الى دمشق وهم قريبٌ من المئة وخمسين.
وفي شعبان من السنة عدّى التتار الفرات وانجفل الناس، وخرج السلطان بجيوشه من مصر. وفي عاشر شعبان كان المصاف بين المسلمين والتتار بعُرض، كان المسلمون ألفاً وخمس مئة، وعليهم أسندمر وأغرلو العادلي وبهادر آص، وكان التتار نحواً من أربعة آلاف، فانكسر التتار، وأسر مقدّمُهُم وقُتل منهم خلق كثير. ثم دخل دمشق من جيش مصر خمس تقدام وعليهم الجانكشير، والحسام أستاذ الدار، ثم دخل بعدهم ثلاثة آلاف مقدمهم أمير سلاح وبعقوبا وأيبك الخزاندار، ثم أتى عسكر حلب وحماة متقهقراً من التتار، وتجمّعت العساكر الى الجُسورة بدمشق، واختبط الناس، واختنق في أبواب دمشق من الزحام غيرُ واحد، وهرب الناس " وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ " ، ووصل السلطان الى الغَور، وغُلّقت أبواب دمشق، وضجّ الخلق الى الله تعالى، ويئس الناس من الحياة. ودخل شهر رمضان، وتعلّقت آمال الناس ببركاته، ووصل التتار الى المرج، وساروا الى جهة الكسوة، وبعَدوا عن دمشق بكرة السبت ثاني شهر رمضان المعظّم، وصعد النساء والأطفال الى الأسطحة وكشفوا رؤوسهم وضجّوا وجأروا الى الله تعالى، ووقع مطر عظيم، ووقّعت الظهر بطاقة بوصول الدعاء وحفظ أسوار البلد، وبعد الظهر وقع المصاف والتحم الحرب، فحمل التتار على الميمنة من المسلمين فكسروها، وقُتل مقدّمُها الحُسام أستادار ومعه جماعة من الأمراء المقدمين، وثبت السلطان ذلك اليوم ثباتاً زائداً عن الحد، واستمر القتال من العصر الى الليل، ورُدّ التتار من حملتهم على الميمنة بغلَس وقد كَلَّ حدّهم فتعلّقوا بالجبل المانع.

وطلع الضوء بكرة يوم الأحد والمسلمون مُحدقون بالتتار، فلم يكن ضحوة من النهار إلا وقد ركن التتار الى الفرار وولّوا الأدبار، ونزل النصر، ودُقّت البشائر، وزُيّن البلد، وكان التتار نحواً من خمسين ألفاً وعليهم خطلوا شاه نائب غازان، ورجع غازان من حلب ضيّقَ الصدر من كسر أصحابه يوم عُرْض، وبهذه الكسرة سقطت قواه، لأنه لم يعد إليه من أصحابه غير الثلث، وتخطّفهم أهل الحصون، وساق سلار وقبجق وراء المنهزمين الى القريتين، ولم ينكسر التتار هذه المرة.
حكى لي جماعة من دير بشير أنهم كانوا يأتون إلينا عشرين عشرين وأكثر وأقل، ويطلبون أن نعدّي بهم الفرات في الزواريق الى ذلك البر، فما نعدّي بمركب إلا ونقتل كلَّ من كان فيه، حتى إن النساء كنّ يضربن بالفؤوس ونحن نذبحهم في إثر ذلك، فما تركنا أحداً منهم يعيش.
وهذه الواقعة الى الآن في قلوبهم، وكان قد جاء كتاب غازان يقول فيه: ما جئنا هذه المرة إلا للفُرجة في الشام، فقال علاء الدين الوداعي في ذلك، ومن خطه نقلت:
قولوا لغازان بأن جيوشَهُ ... جاؤوا ففرّجناهم بالشام
في سرحةِ المرجِ التي هاماتُهم ... منشورها وشقائق الأجسام
ما كان أشأمَها عليهم فُرجةً ... غمّت وأبركها على الإسلام
وقال لما انهزم:
أتى غازان عدواً في جُنودٍ ... على أخذ البلاد غَدَوا حِراصا
فما كسَبوا سِوى قتلٍ وأسرٍ ... وأعطوهُ بحصّته حُصاصا
وقد نظم الناس في هذه الواقعة كثيراً، ومن أحسن ما وقفتُ عليه قول شمس الدين الطيبي - رحمه الله تعالى - وهو يقارب المئة بيت، وهذا الذي وقع لي منها وهو:
برقُ الصوارم للأبصار يختطِفُ ... والنّقعُ يحكي سَحاباً بالدِّما يكفُ
أحلى وأعلى وأغلى قيمةً وسنا ... من ريقِ ثغر الغَواني حينَ يُرتَشَفُ
وفي قدود القنا معنىً شُغفت به ... لا بالقدود التي قد زانها الهيَفُ
ومن غدا بالخُدود الحُمر ذا كلف ... فإنني بخدود البيض لي كلَفُ
ولامةُ الحرب في عينيّ أحسن من ... لامِ العذارِ التي في الخد تنعطف
كلاهما زردٌ هذا يُفيد وذا ... يُردي فشأنهما في الفعل يختلف
والخيل في طلب الأوتار صاهلةً ... ألذُّ لحناً من الأوتار تأتلف
ما مجلس الشّرب والأرطال دائرةٌ ... كموقف الحرب والأبطال تزدلف
والرّزقُ من تحت ظل الرمحِ مقترنٌ ... بالعزّ، والذلّ يأباهُ الفتى الصَّلف
لا عيشَ إلا لفتيانٍ إذا انتُدبوا ... ثاروا وإن نهضوا في غمةٍ كشفوا
يَقي بهم ملةَ الإسلام ناصرُها ... كما يقي الدرّة المكنونة الصّدف
قاموا لقوة دين الله ما وهنوا ... لما أصابهم فيه ولا ضعُفوا
وجاهدوا في سبيل الله فانتصروا ... من بعد ظُلمٍ ومما ساءَهم أنِفوا
لما أتَتْهُم جيوشُ الكُفر يَقدُمهم ... رأسُ الضّلال الذي في عقله جنَفُ
جاؤوا وكل مقامٍ ظلّ مُضطَرباً ... منهم وكل مَقامٍ بات يرتجفُ
فشاهدوا علمَ الإسلام مرتفعاً ... بالعدلِ فاسْتَيقنوا أن ليسَ ينصرف
لاقاهُمُ الفيلقُ الجرّارُ فانكسروا ... خوفَ العوامل بالتأنيث فانصرفوا
يا مرجَ صُفّر بيّضْت الوجوه كما ... فعلت من قبلُ بالإسلام يُؤتنف
أزَهْرُ روضِكَ أزهى عند نفحته ... أم يانعاتُ رؤوس فيكَ تُقتطَف
غدرانُ أرضك قد أضحَتْ لوارِدِها ... ممزوجةً بدماءِ المغلِ تُرتشف
زلّت على كتف المصري أرجلُهم ... فليس يدرون أنّى تؤكل الكتف
أوَوْا الى جبلٍ لو كان يعصمُهم ... من موج فوج المَنايا حين يختطف
دارت عليهم من الشُجعان دائرة ... فما نجا سالمٌ منهم وقد زحفوا
ونكّسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكصوهُم على الأعقاب فانقصَفوا

ففي جماجمهم بيضُ الظّبي زُبَر ... وفي كلاكلهم سُمر القنا قِصَف
فرّوا من السيف ملعونينَ حيث سَرَوا ... وقُتّلوا في البَراري حيثما ثُقِفوا
فما استقامَ لهم في أعوجٍ نهَجٌ ... ولا أجار لهم من مانع كتف
وملّت الأرض قتلاهم بما قذَفَتْ ... منهم وقد ضاقَ منها المهمهْ القذف
والطير والوحش قد عافت لحومَهُم ... ففي مزاج الضواري منهم قرف
رُدّوا فكل طريق نحو أرضهِمُ ... تدلّ جاهلَها الأشلاءُ والجيف
وأدبَروا فتولّى قطعَ دابرهُم ... والحمد لله قومٌ للوغى ألِفوا
ساقوهم فسقَوا شطّ الفراتِ دماً ... وطمّهم بعُباب السّيل فانحرفوا
وأصبحوا بعدُ لا عينٌ ولا أثر ... غير القلاع عليها منهم شعف
يا برقُ بلّغ الى غازان قصّتهم ... وصِفْ فقصّتهم من فوق ما تصف
بشّر بهلكهم ملكَ العِراقِ لكي ... تُعطيكَ حلوانها حُلوانُ والنّجف
وإن تُسَل عنهم قُل قد تركتهم ... كالنّخل صرعى فلا تمرٌ ولا سعفُ
ما أنت كفؤ عروس الشام تخطبُها ... جهلاً وأنت إليها الهائمُ الدّنف
قد مات قبلك آباءٌ بحسرتها ... وكلهم مغرمٌ مُغزىً بها كلِفُ
إن الذي في جحيم النار مسكنهُ ... لا تُستباح له الجنات والغُرف
وإن تعودوا تُعد أسيافُنا لكم ... ضَرباً إذا قابلتَها رُضّت الحجَفُ
ذوقوا وبال تعدّيكُم وبغيكم ... في أمركم ولكأس الخُزي فارتشفوا
فالحمد لله مُعطي النّصر ناصره ... وكاشفُ الضُرّ حيث الحال ينكشفُ
وفي ذي الحجة من السنة المذكورة كانت الزلزلة العظمى، بمصر والشام، وكان تأثيرها بالإسكندرية أعظم، ذهب تحت الرّدم عدد كثير، وطلع البحر الى نصف البلد وأخذ الجمال والرجال وغرقت المراكب وسقطت بمصر دورٌ لا تحصى، وهُدمت جوامع ومآذن وانتدب سلار والجاسنكير وغيرهما من الأمراء، وأخذ كل واحد منهما جامعاً وعمّره وجدّد له وقوفاً.
وفي سنة ثلاث وسبع مئة توجّه أمير سلاح وعسكر من دمشق وقبجق في عسكر من حماة وأسندمُر في عسكر الساحل وقراسنقر في عسكر حلب، ونازلوا تل حدون وأخذوه، ودخل بعض العسكر الدربند وأغاروا ونهبوا وأسروا خلقاً، ودقت البشائر.
وفي هذه السنة توفي غازان ملك التتار، وملك بعده أخوه الملقب خربندا.
وفي سنة خمس وسبع مئة نازل الأفرم بعساكر دمشق جبل الجُرد، وكسر الكسروانيين لأنهم كانوا روافض، وكانوا قد آذوا المسلمين وقتلوا المنهزمين من العساكر المصرية في نوبة غازان الأولى الكائنة في سنة تسع وتسعين وست مئة.
وفي سة ثمان وسبع مئة في سادس عشري شهر رمضان توجّه السلطان الملك الناصر الى الحجاز وأقام بالكرك متبرّما من سلار والجاشنكير وحجرهما عليه ومنعهما له من التصرف، قيل: إنه طلب يوماً خروفاً رميساً فمنع منه، أو قيل: يجيء كريم الدين، لأنه كاتب الجاشنكير، وأمر نائب الكرك بالتحوّل الى مصر، وعند دخوله القلعة انكسر به الجسر فوقع نحو خمسين مملوكاً، ومات منهم أربعة وتهشّم منهم جماعة وأعرض السلطان عن أمر مصر، فوثب للسلطنة بعد أيام الجاشنكير وتسلطن، وخُطب له، وركب بخلعة الخلافة، وذلك عندما جاءتهم كتبُ السلطان من الكرك باجتماع الكلمة فإنه ترك لهم الملك.

وفي سنة تسع وسبع مئة في شهر رجب خرج السلطان من الكرك قاصداً دمشق، وكان قد ساق إليه من مصر مئة وسبعون فارساً فيهم أمراء وأبطال، وجاء مملوك السلطان الى الأفرم يخبره بأن السلطان وصل الى الخان، فتوجه الى السلطان بيبرس المجنون وبيبرس العلائي، ثم ذهب بهادر آص لكشف القضية، فوجد السلطان قد رُدّ الى الكرك، ثم بعد أيام ركب السلطان وقصد دمشق بعدما ذهب إليه قطلوبك الكبير والحاج بهادر، وقفز سائر الأمراء إليه، فقلق الأفرم لذلك ونزح من دمشق بمماليكه مع الأمير علاء الدين بن صُبح الى الشقيف، فبادر بيبرس العلائي وآقجبا المُشد وأمير علم في إصلاح الجتر والعصائب وأبهة الملك، ودخل السلطان قبل الظهر الى دمشق يوم الثلاثاء ثامن عشر شعبان سنة تسع وسبع مئة، وفتح له باب القلعة باب السرّ، ونزل نائبها قبّل الأرض، فلوى هناك فرسه الى القصر ونزل به. ثم إن الأفرم حضر إليه بعد أربعة أيام واستمر به في نيابه الشام، وبعد يومين وصل قبجق نائب حماة وأستدمر نائب طرابلس وتلقاهما السلطان. وفي ثامن عشري الشهر وصل قراسُنقر نائب حلب.
ثم إن السلطان خرج لمصر في تاسع شهر رمضان ومعه العساكر والنواب والقضاة، ووصل غزة، وجاءه الخبر بنزول الجاشنكير عن الملك وأنه طلب مكاناً يأوي إليه وهرب من مصر مغرّباً وهرب معه سلار مشرّقاً، فلما كان بالرّيدانية ليلة العيد اتفق الأمراء عليه وهمّوا بقتله، فجاء إليه بهاء الدين أرسَلان دوادار سلار وقال: قُم الآن واخرج من جانب الدهليز واطلع الى القلعة، فرعاها له، ولم يشعر الناس بالسلطان إلا وقد خرج راكباً فتلاحقوا به وركبوا في خدمته وصعد القلعة، وكان الاتفاق قد حصل أن قراسنقر يكون نائباً بمصر وقطلوبك الكبير نائب دمشق، فلما استقر جلوس السلطان بقلعة الجبل، وهذه المرة الثالثة من عوده الى الملك قبض في يوم واحد على اثنين وثلاثين أميراً من السِّماط، ولم ينتطح فيها عنزان، ورسّم للأفرم بصرخد ولقراسنقر بالشام، وجعل قبجق نائب حلب والحاج بهادر نائب طرابلس وقطلوبك الكبير نائب صفد، وجعل بكتمر الجوكَندار نائب مصر.
وفي سنة عشر وسبع مئة وصل أسندمر الى دمشق متوجهاً الى حماة نائباً، ومنها عزل القاضي بدر الدين ابن جماعة، وولي القضاء جمال الدين الزرعي عوضه، وصرف السروجي عن قضاء الحنفية، وطلب شمس الدين بن الحريري وولاه مكانه. وبعد أيام قلائل توفي الحاج بهادر نائب طرابلس، ومات بحلب نائبها قبجق، فرسم للأفرم بنيابة طرابلس، وأمره أن لا يدخل بدمشق، على ما تقدم في ترجمته، ورسّم لأسندمر بنيابة حلب.
وفي هذه السنة أمر لعماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي بحماة.
وفي سنة إحدى عشرة وسبع مئة نقل قراسُنقر من نيابة دمشق الى نيابة حلب بعدما أمسك أسندمر وتولّى كراي نيابة دمشق. وفي شهر ربيع الآخر أعاد ابن جماعة الى مكانه، وتقرر القاضي جمال الدين الزرعي في قضاء العسكر مع مدارس أُخَر.
وفي جمادى الأولى أُمسك كراي نائب دمشق وقيّد وجُهّز الى الباب بعدما أُمسك الجوكندار نائب مصر، وأُمسك قطلوبك الكبير بصفد وحُبس هو وكراي بالكرك وجاء الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الى دمشق نائباً.
وفي سنة اثنتي عشرة وسبع مئة تسحّب الأمير عز الدين الزردكاش والأفرم وتوجّها الى قراسُنقر، وساق الجميع الى عند مهنا فأجارهم، وعدّوا الفرات وطلبوا خربندا، على ما تقدّم في تراجمهم.
وفي شهر ربيع الأول طُلب نائب دمشق الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الى مصر، وفيها أمسك العلائي بيبرس نائب حمص، وبيبرس المجنون، وبيبرس التاجي، وكجلي، والبرواني، وحُبسوا في الكرك، وأمسك بمصر جماعة أيضاً.
وفي ربيع الأول قدم الأمير سيف الدين تنكز الى دمشق نائباً، على ما تقدم في ترجمته، وسودي الى حلب نائباً على ما تقدم. وفي أوائل شهر رمضان قويت الأراجيف بمجيء خربندا ومنازلته الرحبة، على ما تقدم، ثم إنه رحل عنها، على ما تقدم في ترجمته. وعيّد السلطان بمصر وخرج الى الشام، ووصل في ثالث عشري شوال وصلى بالجامع الأموي، وعمل دار عدل، وتوجه من دمشق الى الحجاز، وعاد الى دمشق، ثم توجه الى مصر.
وفي صفر سنة أربع عشرة توفي سودي نائب حلب وجاء عوضه نائباً الأمير علاء الدين ألطنبغا.

وفي سنة خمس عشرة وسبع مئة توجه الأمير سيف الدين تنكز بعساكر الشام وستة آلاف من الجيش المصري الى ملطية ففتحها وسبى ونهب وألقى النار في جوانبها، وقتل جماعة من النصارى.
وفي سنة ست عشرة توفي خربندا ملك التتار، وتولى بعده ولده بوسعيد على ما تقدم.
وفي سنة إحدى وعشرين وسبع مئة وقع الحريق بمصر واحترق دور كثيرة للأمراء وغيرهم، ثم ظهر أن ذلك من كيد النصارى، لأنه وجد مع بعض آلات الإحراق من النفط وغيره، وقتل منهم جماعة وأسلم عدة، ورجم العامة والحرافيش كريم الدين الكبير، فأنكر السلطان ذلك وقطع أيدي أربعة وقيّد جماعة.
وفيها جرى الصلح بين السلطان وبين بوسعيد، سعى في ذلك مجد الدين السلامي مع النوين جوبان ومع الوزير غياث الدين محمد بن الشيد.
وفي جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة أمر السلطان بحفر الخليج من رأس الخور الى أن ينتهي الى سرياقوس، تولى ذلك الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، وفرغ في أقرب مدة، ودام العمل الى آخر شعبان من السنة المذكورة، وما يعلم ما أنفق فيه من الأموال إلا الله تعالى.
وفي سنة خمس وعشرين وسبع مئة جهز السلطان من عسكر مصر ألفي فارس نجدةً لصاحب اليمن، وقدّم عليهم الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب والأمير سيف الدين طينال، فدخلوا زبيد، وألبسوا الملك المجاهد خلع السّلطنة وعادوا. وبلغ السلطان أمور نقمها، فاعتقل بيبرس الحاجب. وفي هذه السنة فتحت الخانقاه التي أنشأها بسرياقوش، وكان يوماً عظيماً، وحضر القضاة والعلماء ووجوه الدولة، وخلع على القضاة وعلى المشايخ، وفرّق قريباً من ثلاثين ألف درهم.
وفي سنة ست وعشرين حج الأمير سيف الدين أرغون النائب، ولما حضر أمسكه وجهّزه الى حلب نائباً، على ما تقدّم.
وفي سنة سبع وعشرين وسبع مئة طُلب أمير حسين بن جندر من دمشق الى مصر ليقيم بها أميراً، وطلب قاضي القضاة جلال الدين القزويني، وجعله قاضي القضاة بمصر، على ما تقدّم، وفيها كان عرس ابنة السلطان على الأمير سيف الدين قوصون، وكان عرساً عظيماً على ما تقدم، وفيها كانت الكائنة بإسكندرية، وتوجه الجمالي الوزير إليها وصادر الكارم والحاكم، وضرب القاضي، ووضع الزنجير في رقبته، وجعل قاضيها شافعياً، وكانت واقعة فظيعة.
وفي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة دخل ابن السلطان آنوك على بنت بكتمر الساقي وكان عرْساً عظيماً حضره تنكز وطينال، على ما تقدّم في ترجمته.
وفيها حجّ السلطان واحتفل بأمر الحجاز، وفي العَود مات سيف الدين بكتمر الساقي وولده أحمد قبله، على ما تقدّم. وفيها أمسك الصاحب شمس الدين غبريال وأخذ خطه بألفي ألف درهم، على ما تقدّم.
وفي سنة ثلاث وثلاثين عمّر الأمير سيف الدين تنكز ثغر جعبر وصارت من ثغور المسلمين.
وفي سنة خمس وثلاثين وسبع مئة جُهّز مهنا وداس بساط السلطان بعد عناء عظيم وتسويف كثير فأقبل عليه وأعطاه شيئاً كثيراً، على ما سيأتي في ترجمته. وفيها أخرج من السّجن ثلاثة عشر أميراً منهم تمر السّاقي وبيبرس الحاجب.
وفي سنة ست وثلاثين وسبع مئة توفي القان بوسعيد، على ما تقدم.
وفي سنة أربعين أمسك السلطان الأمير سيف الدين تنكز في ثالث عشري ذي الحجة، على ما تقدّم.
وفي سنة إحدى وأربعين وسبع مئة توفي ابن السلطان آنوك.
وفيها توفي الملك الناصر رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور. وقام في الملك بعده ولده المنصور أبو بكر على ما تقدّم في ترجمته.

وكان الملك الناصر رحمه الله تعالى ملكاً عظيماً مُطاعاً محظوظاً مهيباً ذا بطش ودهاء، وأيْد وكيْد، وحزم وحلم، قلما حاول أمراً، فانجذم عليه فيه شيء يحاوله، لأنه كان يأخذ نفسه فيه بالحزم البعيد والاحتياط، أمسك الى أن مات مئة وخمسين أميراً، وكان يلبس الناس على علاتهم، ويصبر الدهر الطويل على الإنسان وهو يكرهه. تحدّث مع أرغون النائب في إمساك كريم الدين الكبير قبل إمساكه بأربع سنين، وهمّ بإمساك تنكز في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة بعد بكتمر الساقي ثم أمهله ثماني سنين. وكان الملوك الكبار يهادونه ويراسلونه، وكانت ترد إليه رسل ملك الهند، ورسل القان أزبك، وتزوّج ابنته، وملوك الحبشة، وملوك الفرنج، وملوك الغَرْب، وبلاد الأشكري، وصاحب اليمن، وأما بوسعيد ملك التتار فكانت الرسل لا تنقطع بينهما، وكل منهما يسمي الآخر أخاً، وصارت الكلمتان واحدة، والمملكتان واحدة، ومراسيم السلطان تنفّذ في بلاد بوسعيد، ورسله تدخل البلاد بالأطلاب والطبلخانات والأعلام المنشورة، وكلما بعد الإنسان عن مملكته وجد ذكره وعظمته ومهابته أعظم، ومكانته في القلوب أوقع.
وكان سمحاً جواداً على مَن يقرّبه ويؤثره، لا يبخل عليه بشيء كائناً ما كان. سألت أنا القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص قلت: هل أطلق السلطان يوماً ألف ألف درهم؟ قال: نعم. كثير. وفي يوم واحد، أنعم على الأمير سيف الدين بشتاك بألف ألف درهم في ثمن قرية يُبنى التي بها قبر أبي هريرة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنعم على موسى بن مهنا بألف ألف درهم في ثمن القريتين، وأراني القاضي شرف الدين أوراقاً فيها ما ابتاعه فيها من الرقيق، وكان ذلك لمدة أولها شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة الى سنة سبع وثلاثين، وكان جملته أربع مئة ألف وسبعين ألف دينار. كذا قال.
وكان ينعم على الأمير سيف الدين تنكز في كل سنة يتوجه إليه بما يزيد على الألف ألف درهم، وأنعم يوماً على الأمير سيف الدين قوصون بزردخاه بكتمر الساقي، قال المهذب كاتب بكتمر: فيها شيء بمبلغ ست مئة ألف دينار، وأخذ السلطان من الجميع سرجاً واحداً، ولما تزوج قوصون بابنته حمل الأمراء إليه شيئاً كثيراً، ثم بعد ذلك زوّج ابنته الأخرى الأمير سيف الدين طغاي تمر، وقال السلطان ما نعمل له عرساً، لأن الأمراء يقولون: هذه مصادرة بحسن عبارة، ونظر الى طغاي تمر فرآه قد تغيّر، فقال للقاضي تاج الدين إسحاق ناظر الخاص: يا قاضي اعمل لي ورقة بمكارمة الأمراء في عرس قوصون، فعمل ورقة وأحضرها، فقال: كم الجُملة؟ فقال: خمسون ألف دينار، فقال: أعطِ نظيرها من الخزانة لطغاي تمر، وهذا خارجاً عمّا دخل مع الزوجة من الجهاز.
وحكي لي الحاج حسين أستادار الأمير سيف الدين يلبُغا اليحيوي قال: جرى يوماً بين يدي السلطان ذكر عشرين ألف دينار، فقال الأمير: والله يا خوند أنا عمري ما رأيت عشرين ألف دينار، فلما راح من عنده طلب النّشو وقال: احمل الساعة الى يلبغا خمسة وعشرين ألف دينار، وجهّزها مع الخزندارية، وجهّز خمسة تشاريف أطلس أحمر بكلوتات زركش، وطرز زركش، وحوائص ذهب، ليخلع ذلك عليهم.
وأما عطاؤه العُربان فأمر مشهور زائد عن الحد، وكان راتب مطبخه ورواتب الأمراء الكبار والكتاب الذين هم على مطبخه في كل يوم بالمصري ستة وثلاثين ألف رطل لحماً، وأما النفقات في العمائر فكان الرواتب لها في كل يوم شيئاً كثيراً، أظنه في كل يوم ألفي درهم، غير ما يطرأ مما يستدعي به. وبالغ في مشترى الخيول بالأثمان العظيمة، فاشترى بنت الكردا بمئتي ألف درهم، وبالغ أخيراً في مشترى الماليك فاشترى الأمير سيف الدين صرغتمش بخمسة وثمانين ألف درهم غير تشريف أستاذه، وغير ما كتب له من المسامحة. وأما العشرة والعشرون والثلاثون ألفاً فكثير، وغلا الجوهر في أيامه واللؤلؤ وما رأى الناس مثل سعادة ملكه ومسالمة الأيام له وسكون الأعادي من بعد شقحب والى أن مات لم يتحرك عليه عدو في البر ولا في البحر.

وخلّف من الأولاد جماعة، منهم البنون والبنات، فأما البنون: فمات له ولده علاء الدين علي بعد حضوره من الكرك في المرة الأخيرة، ومنهم الناصر أحمد وقتل بالكرك، وابراهيم وتوفي أميراً في حياة أبيه، والمنصور أبو بكر وقُتل في قوص بعدما خلع، والأشرف كجك وقتله أخوه الكامل شعبان والله أعلم. وآنوك وهو ابن الخوندة طغاي، مات في حياة أبيه، ولم يكن في الأتراك أحسن شكلاً منه، والصالح إسماعيل وتوفي بعد ملكه مصر والشام ثلاثة أعوام، والكامل شعبان وخلع وقُتل، والمظفر حاجي وخلع وقتل، ويوسف ورمضان، وتوفيا في حياة أخيهما الصالح إسماعيل، والناصر حسن وخُلع أولاً ثم أعيد ثانياً ثم خُلع وقُتل في سنة اثنتين وستين وسبع مئة، والصالح صالح وخُلع، وحسين.
نوابه بمصر جماعة، وهم: زين الدين كتبغا العادل، والأمير سيف الدين سلار، الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار، الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، الأمير سيف الدين أرغون الدوادار مملوكه، ولم يكن له بعده نائب.
نوابه بدمشق: الأمير عز الدين أيبك الحموي، الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، الأمير شمس الدين قراسنقر، الأمير سيف الدين كراي، الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الأشرفي، الأمير سيف الدين تنكز، الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب.
وزراؤه من أرباب السيوف والأقلام: الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، الصاحب تاج الدين بن حنا، الصاحب فخر الدين بن الخليلي مرتين، الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، الأمير سيف الدين البغدادي، الأمير ناصر الدين الشيخي، أيبك الأشقر وسمي المدبر، ابن عطايا، القاضي ضياء الدين بن النشّائي ابن التركماني وسمي مدبراً، الصاحب أمين الدين، أمين الملك ثلاث مرات، الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، ولم يكن له بعده وزير.
قضاة الشافعية بمصر: الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، القاضي بدر الدين بن جماعة ثلاث مرات، القاضي جلال الدين القزويني، القاضي عز الدين بن جماعة.
قضاة الشافعية بدمشق: القاضي إمام الدين القزويني، القاضي بدر الدين بن جماعة مرتين، القاضي ابن صصرى، القاضي جمال الدين الزرعي، القاضي جلال الدين القزويني مرتين، الشيخ علاء الدين القونوي، القاضي علم الدين الأخنائي، القاضي جمال الدين بن جملة، القاضي شهاب الدين بن المجد عبد الله، القاضي تقي الدين السّبكي.
كُتّاب سرّه بمصر: القاضي شرف الدين بن فضل الله، القاضي علاء الدين بن الأثير، القاضي محيي الدين بن فضل الله، القاضي شرف الدين بن الشهاب محمود، القاضي محيي الدين بن فضل الله، القاضي علاء الدين بن فضل الله.
كتّاب سره بدمشق: القاضي محيي الدين بن فضل الله، أخوه القاضي شرف الدين بن فضل الله، القاضي شهاب الدين محمود، ولده القاضي شمس الدين محمد، القاضي محيي الدين بن فضل الله، القاضي شرف الدين بن الشهاب محمود، القاضي جمال الدين بن الأثير، القاضي علم الدين بن القطب، القاضي شهاب الدّين يحيى بن القيسراني، القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله.
دواداريّته: الأمير عز الدين أيدمر مملوكه، الأمير بهاء الدين أرسلان، الأمير سيف الدين ألجاي مملوكه، الأمير صلاح الدين يوسف بن أسعد، الأمير سيف الدين بغا، ولم يؤمَّر طبلخاناه، الأمير سيف الدين طاجار الدوادار المارداني.
نُظّار جيشه بمصر: القاضي بهاء الدين بن الحلّي، القاضي فخر الدين، مرتين، القاضي قطب الدين بن شيخ السلاميّة، القاضي شمس الدين موسى بن التاج إسحاق، القاضي مَكين الدين بن قروينة، القاضي جمال الدين جمال الكفاة.
نظار خاصّه، هذه وظيفة أحدثها القاضي كريم الدين الكبير: القاضي تاج الدين إسحاق، القاضي شمس الدين ولده، القاضي شرف الدين النشو، القاضي جمال الدين جمال الكُفاة.
الذين درَجوا بالوفاة في أيامه من الخلفاء: الحاكم بالله أمير المؤمنين أبو العباس أحمد، ولده المستكفي بالله أبو الربيع سليمان.
ومن الملوك:

كيختو بن هولاكو، المستنصر بالله محيي الدين بن عبد الواحد صاحب إفريقية، المظفّر يوسف صاحب اليمن، السعيد إيلغازي صاحب ماردين، المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة، المنصور حسام الدين لاجين، أبو عبد الله بن الأحمر محمد بن محمد بن يوسف صاحب الأندلس، أبو نميّ صاحب مكة، العادل زين الدين كتبغا المنصوري، غازان محمود بن أرغون ملك التتار، أبو يعقوب المريني صاحب الغرب، المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، أبو عصيدة صاحب تونس، المنصور غازي صاحب ماردين، طقطاي صاحب القبجاق، دوباج صاحب جيلان، علاء الدين محمود صاحب الهند، خربندا بن أرغون ملك التتار، دون بطرو الفرنجي، حميضة صاحب مكة، المؤيّد داود صاحب اليمن، ابن الأحمر أبو الجيوش نصر بن محمد اللحياني صاحب تونس، منصور بن جمّاز صاحب المدينة، الغالب بالله إسماعيل صاحب الأندلس، أبو سعيد عثمان صاحب فاس وغيرها، المؤيَّد صاحب حماة، ابن الأحمر محمّد بن أبي الوليد صاحب الأندلس، ترْمشين صاحب بلخ وسمرقند وبخارى ومرو، بوسعيد ملك التتار، أربكوون ملك التتار، صاحب تلمسان عبد الرحمن أبو تاشفين، موسى ملك التتار، مهنا بن عيسى.
ولما كنتُ بالقاهرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة قال لي الأمير شرف الدين حسين بن جندر بك رحمه الله تعالى: لو نظمت أبياتاً مديحاً في السلطان لقدمتُها أنا من يدي، وكان يحصل لك ما تريده، فنظمت أبياتاً، وكتبتها بالذهب وزمّكتها، وتوفي الأمير شرف الدين رحمه الله تعالى وما اتفق وصولها، وهي:
بعزّ نصرك أضحى الدهرُ يبتسمُ ... وعن رعاياكَ ولّى الظلم والظُلَمُ
يا ناصر الدين والدنيا ويا ملكاً ... ذلّت لعزته في أرضها الأمم
أصبحت سلطان أهل الأرض قاطبة ... سارت بأنبائك الوخّاذة الرُسُم
تخاف بأسَك أملاك الأنام فما ... تسعى لهم في سوى طاعاتك القدم
يبادرون الى ما كُنت تأمرهم ... كأنهم عندما تختاره خدم
متى يخف ملك منهم فليس له ... إلا ظلالك في هذا الورى حرم
فالأُسدُ تخشاكَ في سرٍ وفي علن ... فليس يعصمها غابٌ ولا أجم
تغزو سراياك أملاك البلاد فما ... يحمي العِدا منهم قاعٌ ولا أكم
ويبلغون الأماني من عدوّهم ... لأنهم باسمك المنصور قد قدموا
فإن تصُل في جيوش الكُفر وغًى ... وأبحُر الحرب بالأبطال تزدحم
تفرّج الضيقَ في يوم الكريهة إذ ... أضحت سيوفكَ من أغمادها القمم
وما هباتك في يوم النّوال ندًى ... لكنها سحبٌ تهمي وتنسجم
تجود بالصدقات الوافرات فكمْ ... أحيت عطاياك من أودى به العدم
وفضل حلمك مشهورٌ لطالبه ... ونفحةُ المِسك فينا كيف تنكتم
مناقبُ شرفتْ قدراً فقد رجعت ... درّاً على جهة الأيام تنتظم
فالله يجعل هذا الملك متّصلاً ... بالسّعد ما ابتسمت عن صُبحها الظلَمُ
ولا برحْتَ على الأعداء منتصراً ... مؤيّداً ما جرى في مهرَق قلمُ
محمد بن كجكنالأمير شمس الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، تقدم ذكر والده في مكانه.
كان الأمير ناصر الدين أمير شكار السّلطنة بدمشق يربّي الغزلان وغيرها، وله حوش في بلاد حوران، وفي كل سنة يجهز من ذلك تقدمة الى باب السّلطان، ويُحضَر له من مصر تشريف يجهزه الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام الى ولاية الولاة بعد الأمير سيف الدين ساطلمش الجلالي، وذلك في أواخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة أو أوائلها، فأقام بها مدة الى أن طلب الإقالة من الأمير علاء الدين أمير علي المارديني نائب الشام، فأعفاه منها في أوائل قدومه سة أربع وخمسين وسبع مئة، ثم إنه ولاّه نيابة حمص فتوجّه إليها بعد وفاة الأمير سيف الدين تلك في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبع مئة.

ولم يزل بها مُقيماً الى أن توفي رحمه الله تعالى في العشرين من شهر رجب الفرد سنة خمس وخمسين وسبع مئة وهو من أبناء الستين، ونقل تابوته من حمص الى دمشق ودُفن بتربة والده بالصالحية.
وكان وقوراً محتشماً يخدم الناس ويرعاهم ويعرف حقوقهم.
محمد بن كشتغديالأمير ناصر الدين العزّي المصري الصّيرفي.
سمع من النجيب والمُعين الدمشقي.
أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وستين وست مئة.
محمد بن كوندكناصر الدين دوادار الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام رحمه الله تعالى.
ما رأى الناس مثله دواداراً، ولا بلغ عظمته في أيامه كسرى ولا داراً. بلغ الغاية القصوى من الوجاهة، وتفرّد مع ذلك بالعفّة عن أموال الرّعايا والنزاهة، يتطفل نواب الشام على مكاتباته، ويفرحون إذا ظفروا بما يرد عليهم من جواباته، لأنه كان قد تمكن من أستاذه، وملك أمره باشتماله عليه واستحواذه، لا يقدر أحد من القضاة ولا الحاجب ولا أرباب المباشرات من المتولي والصاحب، ولا ناظر الجيوش ولا كاتب الأسرار، ولا مَن له حديث في هذه الدولة من الأخيار والأشرار أن ينفرد بأمر في عزل ولا ولاية ولا حكم ولا عناية دون أن يكون ذلك بأمره، أو موافقاً لما في باطنه وسرّه. فمشت الأمور وأصلح الجمهور، وساس فأحسن السياسة. وبالغ في العظمة والرياسة، وكأن الأمر مردود الى أمره، وأمره ليس له ردٌ.
وكان في وقت يوقّع على القصص ويتجرّع الموقعون وغيرهم من ذلك الغُصَص، ودام على ذلك مدة مديدة. ثم بطل ذلك ولا فُلَّ حدّه ولا نقص عديده، الى أن أولع به حمزة التركماني فخرّب دياره، ونقّص عياره، ونفض غباره، وكسف بدره التّمام، ونكّس قامة غصنه حتى ناح عليه الحمام، فتغيّر عليه أستاذه تغيّراً شديداً، وحوّل عنه رأياً كان فيه رشيداً، فضربه بين يديه بالسّياط، ولم يعمل فيه بالاحتياط، وأخذ منه جُملة من الدّنانير، ورُدّ بعد تلك المنعة والقوة يتجشّأ بين التنانير. فأصبح تحت الثّرى بعد أن كان على الثّريا، وولاه الزمان قفاه بعدما كان قابله بالمحيّا. فذلّ من بعد تلك العزة، وسلبه الدهر ما قلّده وبزّه، وراح بعد علو المرتبة، وهو من ذوي المرتبة:
وكم حالم سرّه حِلمُهُ ... وأدركه الروع لمّا انتبه
ولم يزل على الحال المذكور الى أن استجنّ ضريحه، وأسمعه الفناء صريخه، وعلّم منه ضريحه.
وتوفي رحمه الله تعالى في عشري شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وسبع مئة.
وكان قد ورد مع أستاذه من مصر هو وناصر الدين الخزندار، وضبطا بابه على أحسن ما يكون. أما هذا ناصر الدين فكان أمره خارجاً عن الحدّ، وكان عنده خبرة ومعرفة وتنفيذ للمهمات وما يتعلّق بالدولة والمباشرات والوظائف وغيرها.
عرف خُلُق أستاذه ومشى عليه، فلم يكن يجتمع على أحد في بيته إلا بأناس قلائل من الصوفية وغيرهم، ولا يعرف أحد بابه ولا يقربُه، فإن كان له شغل اجتمع به في دار السعادة، ولم يُشبع أحداً منه كلاماً، وأنشأ جماعة من الأمراء والقضاة والكتّاب والدواوين والأجناد وغيرهم من سائر الطوائف، ولم يأخذ على أحد من ذلك شيئاً. ولما غضب عليه أستاذه ضربه قدّامه بالمقارع، وأخذ منه للسلطان ثمانية عشر ألف دينار، وأخذ منه لنفسه مثلها وأكثر منها، وباع موجوده وغالب أملاكه، ومع ذلك لم يشكُ أحد عليه، ولا قال أحد إنه أخذ منه درهماً فما زاد عليه.
ولما أُُفرج عنه كان يُلزمه بالركوب والنزول في أيام المواكب، وكان يقول: قصدي بذلك حتى يرى مكانه وما كان فيه من العظمة أولاً وكيف أصبح الآن، ثم إنه جهّزه الى القدس فأقام هناك مدّة، ثم إنه أحضره الى دمشق. ولم يزل غضباناً عليه من سنة أربع وثلاثين الى أواخر سنة أربعين وسبع مئة، فأحضره ورضي عليه وخلع عليه، وكان يركب معه في غير المواكب ويُسايره ويحادثه. ولم نرَ هذا الحال حصل لغيره، لأنه ما غضب على أحد قطّ ورضي عنه، وكان هذا الحال في حق الدّوادار مضرّاً له، لأن السلطان لما أمسك الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى شمل غضبه كلَّ من كان من جهته، واستخدم كل من كان بطالاً، وقد غضب عليه فناله بهذا أذًى، وأراد السلطان أن يعطيه إمرة عشرة فلم يقبل خوفاً من أستاذه.

وكان يتوجه في كل سنة مرتين أو ثلاثاً على قدر ما يتفق له الى باب السلطان في البريد، فيعامله السلطان بالإكرام الزائد والتعظيم.
وكان بيده في حلقة الشام إقطاع يعمل أربعين ألف درهم، وأربعة إقطاعات أو خمسة جياد بأيدي أولاده ومماليكه، وكان له على أستاذه مرتب خبز ولحم وعليق، ويعطيه وينعم عليه في كل قليل، فأقام على هذا الحال من سنة اثنتي عشرة وسبع مئة الى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وكل ماله في عظمة ووجاهة، وكان إذا توجّه الى مصر وعاد يتعذر على الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري وأمثاله السّلام عليه في بيته، بل يقفون له في الطريق إذا توجّه الى دار السعادة ويسلّمون عليه.
وعلى الجُملة ما رأيت أنا ولا غيري عظمةً نالها هذا ناصر الدين في دواداريته لا من قبله ولا من بعده، وبعد هذا كنت أراه يشتري اللحم ويربطه خلفه على الفرس ويتوجّه به الى بيته، فما كنت أقضّي العجب من أمره، سبحان من بيده تصاريف الأمور لا إله إلا هو، وكنتُ أرى ذلك لأنه غير بارٍ بأبيه، وكان يُؤثر إيحاش الأكابر ويشتهي إذلالَهم.
محمد بن ليث العِدى
الحاج شمس الدين ابن الحاج زين الدين التاجر بمدينة سيدنا الخليل عليه السلام.
توفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في الطاعون، ووصّى بأن يُصرف من تركته لعمارة مكة وحرم النبي صلى الله عليه وسلم وحرم القدس وحرم الخليل عليه السّلام، لكل مكان منها مبلغ ثماني مئة دينار، فقال له شهابُ الدين أبو العباس أحمد خطيب الحرم: إن هذه الوصية إنما تنفذ من الثلث. فقال: أعرف ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: الثّلث، والثلث كثير، وثلث مالي يزيد على ذلك، وكُتب محضر، وجهز الى دمشق في أيام أرغون شاه.
محمد بن مجاهد بن أبي الفوارسالقاضي الصدر الكبير بدر الدين النابلسي.
لبس خلعة نظر الدواوين شريكاً للشريف أمين الدين بن عدنان في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وأقام على ذلك الى أن تولّى الصاحب شمس الدين غبريال نظر الدواوين عوضاً عن ابن أبي الفوارس وعن الشريف أمين الدين في سادس عشر المحرّم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى ثاني عشر شوال سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ولما عزل من نظر الدواوين بدمشق بقي بطّالاً خاملاً الى أن مات رحمه الله تعالى.
محمد بن محمد بن أحمد بن عليابن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد بن الميمون.
الشيخ الإمام أمين الدين أبو المعالي ابن الشيخ قطب الدين أبي بكر بن القسطلاني المكي، شيخ الحديث بالحرم.
كان من بيت صلاح وله فضيلة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه أحاديث من الثقفيات عن ابن الجمّيزي وهو مريض بالإسهال، ولم يمكنه حضور الموقف، واستمرّ مرضه بعدما رحلنا أياماً.
ومات في مستهل المحرم سنة أربع وسبع مئة.
محمد بن محمد بن بهرامالعالم العلامة قاضي القضاة بحلب وخطيبها، شمس الدين أبو عبد الله الشافعي الدمشقي.
وليها مدة طويلة، وكان قد تفقّه بمصر على الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وبرع في المذهب وتصدّر، وتخرّج به الأصحاب.
وكان محمود الأحكام على ضيق خلقه، وكان يخالف قراسنقر نائب حلب كثيراً في أغراضه، وعُزل بالقاضي زين الدين ابن قاضي الخليل، وقد تقدم ذكره.
وتوفي القاضي شمس الدين في العشر الأول من جمادى الأولى سنة خمس وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة ظناً.
ولما عُزل عن قضاء حلب ولي الخطابة بها وبقي مدة مفتي البلد وشيخ الجماعة والناس يقرؤون عليه الفقه والأصول. وتولّى خطابة حلب بعده بدر الدين بن الحدّاد.
محمد بن محمد بن الحسينابن أحمد بن علي بن محمد الخطيب جمال الدين بن تقي الدين أبي الطاهر بن مجد الدين أبي علي ابن الشيخ تاج الدين أبي الحسن بن القسطلاني، إمام جامع مصر وخطيب القلعة.
سمع من ابن خطيب المزّة، وصحب الشيخ المرجاني وحجّ معه ولازمه وانتفع به، وخطب بجامع مصر مدة. ولما نُقل الى خطابة القلعة خطب مكانه أخوه تاج الدين بجامع مصر.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل ربيع الأول سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة تقريباً.

قال شيخنا علم الدين البرزالي: ووالد جمال الدين المذكور سبط الشيخ مجد الدين الإخميمي خطيب مصر.
محمد بن محمد بن عليابن محمد بن سليم، الصاحب تاج الدين أبو عبد الله ابن الصاحب فخر الدين ابن الوزير بهاء الدين ابن حنا.
سمع من سبط السّلفي جزء الذهلي، ومن الشرف المُرسي. وبدمشق من ابن عبد الدايم وابن أبي اليسر، وحدّث بدمشق وبمصر.
رأى من العز والوجاهة ما لا رآه جدّه، وساعده على الرئاسة حظه وجدّه.
كان ذا تصوّن ورياسة وسيادة، وتفنن في المكارم بلغ من العلياء ما أراده، وانتهت إليه رياسة مصره في عصره، وسيادة دهره في سرّه وجهره.
وكان شكله حسناً، وبزّته إذا رآها الناظر لم يذق معها وسنا، لأنه تفنن في مطعمه وملبسه، ومركوبه ومجلسه، وراحة قلبه وبدنه، وسكنه ومسكنه، مع كثرة صدقاته على الفقراء. ومبراته للأمراء، وتواضعه الذي ملك به قلوب الأصاغر والعظماء.
وزاده زينة والبدر أحسن ما تراه في طرف السّماء، وعزم تلاه الحزم، ولم يدخل عليه من العوامل إذا ذوات الجزم.
مستبدّ بهمةٍ جعلته ... في علوّ المرمي شريك النّجومِ
وخلال لو استردّت إليها ... مثلُها ما وجدْتها في الغيوم
وكان ممدّحاً معظّماً، يختار الشعراء لأمداحه الدرّ الكبار منظّماً.
وولي الوزارة مرتين، وتجمّلت به كرّتين. ثم إن الوزراء بعده كانوا له غلماناً، ولأوامره كفلاء وضمّاناً.
ولم يزل على حاله الى أن سكن ابن حنّا زوايا ضريحه، وخرج فقده من معمّاه الى صريحه.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت خامس جمادى الآخرة سنة سبع وسبع مئة.
ومولده في يوم الخميس سابع شعبان سنة أربعين وستّ مئة.
وهو الذي اشترى الآثار النبوية على ما قيل بمبلغ ستين ألف درهم، وجعلها في مكانه بالمعشوق، وهو المكان المنسوب إليه بمصر، وقد زرت هذه الآثار ورأيتها مرتين، وهي قطعة من العنزة ومِرْوَد ومِخْصَف وملقط وقطعة من القصعة، وكحّلت ناظري برؤيتها، وقلت أنا:
أكرِم بآثار النبيّ محمدٍ ... من زارها استوفى السعودَ مزارُهُ
يا عين دونَكِ فالحظي وتمتّعي ... إن لم تَريه فهذه آثارُه
وحكى لي الإمام العلامة شيخنا شهاب الدين أبو الثّناء محمود وغير واحد أن الصاحب فخر الدين بن الخليلي لما لبس تشريف الوزارة وتوجّه الى القلعة بالخلعة الى عند الصاحب تاج الدين، وجلس بين يدين وقبّل يده، فأراد الصاحب تاج الدين أن يُجبره ويعظّم قدره، فالتفت الى بعض غلمانه الواقفين أو عبيده وطلب منه توقيعاً بمرتب يختص بذلك الشخص، فأخذه وقال: مولانا يعلّم على هذا التوقيع، فأخذه وقبّله وعلّم عليه قدّامه.
وكان شيخنا الحافظ فتح الدين إذا حكى ذلك يقول: هذه الحالة من الصاحب تاج الدين بمنزلة الإجازة والإمضاء لوزارة ابن الخليلي.
ومن أحسن حركة اعتمدها ما حكاه لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: اجتزت بتربة فرأيت في داخلها مكتباً للأيتام، وهم يكتبون القرآن في ألواحهم، فإذا أرادوا مسحَها غسلوا الألواح وقلبوا الماء على قبره، فسألتُ عن ذلك فقيل لي: هذا شرطٌ في هذا الوقف، وهذا مقصدٌ حسن وعقيدة صحيحة.
وكان جدّه الصاحب بهاء الدين يؤثره على أولاده لصُلبه ويعظّمه عليهم. أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: أخبرني قاضي القضاة جلال الدين القزويني رحمه الله تعالى، قال: وقفتُ على إقرار الصاحب بهاء الدين بأنه في ذمّته للصاحب تاج الدين ولأخيه مبلغ ستين ألف دينار مصرية.
ومن وجاهته وعظمته في النفوس أنه لما نُكب على يد الشجاعي جرّده من قماشه وضربه مقرعةً واحدةً من فوق قميصه، ولم يدعه الناس يصل الى أكثر من ذلك مع جبروت الشجاعي وعتوّه وتمكّنه من السلطان.
وكنان قد رُتّب في الوزارة بعد ابن السّلعوس وقتل الأشرف في أول دولة الناصر محمد بن المنصور وقتل الشجاعي، وذلك في صفر سنة ثلاث وتسعين وست مئة الى أن عُزل بابن الخليلي فخر الدين في جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وست مئة.
وكان الصاحب يتعاطى الفروسية ويحضر الغزوات ويتصيّد بالجوارح والجوامي، ولما قدم من غزوة حمص امتدحه الحكيم شمس الدين محمد بن دانيال وذلك في سنة ثمانين وست مئة، وأول القصيدة:

تذكّرت سُعدى أم أتاك خيالُها ... أم الريحُ قد هبّت إليك شمالُها
منها:
لقد أقبل الصّدر الوزيرُ محمّد ... فأقبلَتِ الدنيا وسُرَّ وصالُها
منها:
بغى أبغا لما تصرّع أهله ... بدار هَوانٍ قد عراهُم نكالُها
وألقوا عن الأفراس حيثُ رؤوسهم ... أكاليلُها فوق التّراب نعالُها
وكان لها تلك الذوائبُ في الثّرى ... شكالاً وثيقاً حين حلّ وثالُها
فأمْسَوا فراشاً والأسنّة شُرّعٌ ... ذِبالٌ الى أن أحرقتهُم ذبالُها
وأنشدني إجازة لنفسه شيخنا العلامة أبو الثناء يمدحه بقصيدة تزيد على الثمانين بيتاً أولها:
أعليَّ في ذكر الدّيار مَلامُ ... أم هل تذكُّرُها عليَّ حرامُ
أم هل أُذَمّ إذا ذكرتُ منازلاً ... فارَقْتُها ولها عليّ ذِمامُ
دار الأحبة والهوى وشبيبة ... ذهبت وجيرانٌ عليّ كِرام
فارقتُهم فأرقْتُ من وجدي بهم ... أفَهَل لهم أو للكرى إلمام
كانوا حياتي وابتُليتُ بفقدهم ... فعلى الحياة تحيّةٌ وسلام
أشتاقُها شوقَ الغريب مزاره ... سَفهاً وإلا أين مني الشام
وتروقني خِدعُ المُنى منها وقد ... بعُدَ المدى وتمادت الأيام
وتلذّ لي سُنّة الكرى لا رغبةً ... في النوم بل لتعيدَها الأحلام
وتمثّل الأوهام لي أني بها ... ثاوٍ ولذّات الهوى أوهام
وكأن دمعَ تشوّفي وخيالَها ... دِمَنٌ ألمّ بها فقال سلام
منها:
وله بظلِّ محمد بن محمدٍ ... حرمٌ يُطاف بركنه ومقامُ
الصاحب المولى الوزيرُ ومن به ... بُعثتْ عِظام المجد وهي رمام
متفرّدٌ دون الورى بمناقبٍ ... أمسى لها بين النجوم مقامُ
خُلُق كنشر الروض حُلَّ لنوره ... بيد الصَّبا عند الصباح لثام
وبديهة أسرى وأسرعُ من سَنا ... برقٍ بَدا فكأنّها إلهامُ
من خاطر كالنار يجري ماؤه ... عذباً وهل تُجري المياهُ ضرام
من كل مغنى لو تمثّل جوهراً ... فرداً أقرّ له بها النظام
وشجاعة ما عامرٌ فيها له ... قدم ولا عمرٌو له إقدام
ثبْتَ الجِنان إذا الفوارسُ أحجمتْ ... خوفَ الرّدى لم يُثنه إحجام
وبكفّه في جحفلٍ أو محفل ... تُزجى الرِّماح السمرُ والأقلام
وهذه قصيدة غرّاء طنانة، وقد أثبتها بكمالها في الجزء التاسع عشر من التذكرة التي لي.
وحكى لي عنه سيادةً كثيرة شاهدها منه، من ذلك أنه قال: دخلت يوماً إليه، فلقيني إنسان من الشعراء - نسيت أنا اسمه - ومعه قصيدة قد امتدحه بها، فقال: يا مولانا لي مدّة ولم يتفق لي إلى الصاحب وصول، فأخذتها منه ودخلت بها إليه وقلت: بالباب شاعرٌ وقد مدح مولانا، فقال: يدخل. فأعطاه القصيدة، ولم يمتنع من إسماعها كما يفعله بعض الناس، فلما فرغت أخذها منه، ووضعها الى جانبه، ولم يتكلم ولا أشار. فحضر خادم ومعه مبلغ مئتي درهم وتفصيلة، فدفعها لذلك الشاعر.
قلت: وهذه غاية في السيادة والرئاسة من سماعها وعدم قوله: أعطوه كذا، أو إشارة الى من يحضر فيشير إليه.

وقيل عنه: إنه كانت أحواله كلُّها كذا لا يشير بشيء ولا يتكلم به في بيته، وكل ما تدعو الحاجة إليه يقع على وفق المراد، وحكى لي أنه أضاف جدّه يوماً ووسّع فيه، فلما عاد الى بيته أخذ الناس يعجبون منه ومن همّته وكرم نفسه، فقال الصاحب بهاء الدين: ليس ما ذكرتموه بعجيب، لأن نفسه كريمة ومُكْنتُهُ متّسعة، والعجب العجب كونه طول هذا النهار وما حضر فيه من المأكول والمشروب والطعام والفاكهة والحلوى وغير ذلك على اختلاف أنواعه، ما قام من مكانه، ولا دعا خادماً فأسرّ إليه بشيء، ولا أشار بطرفه ولا بيده، ولم يجئ إليه أحد من خدمه ولا إشار إليه. وقيل: إن الناس تعجّبوا من كثرتهم وتشربهم الماء البارد في كيزان عامّة النهار، فسُئل عن ذلك فيما بعد، فقال: اشترينا خمس مئة كوز، وبعثنا الى الجيران قليلاً، برّدوا ذلك في الباذهنجات التي لهم.
ولا شكّ في أنه كان عالي الهمّة ممجَّداً مسوّداً، ولكن لم يكن له سعادة جدّه ولا دربته في تنفيذ الوزارة، فإنه وليها مرّتين وما أنجب فيها، وكان له إنسان مرتب معه حمام كحمام البطايق مدرَّب، إذا خرج من باب القرافة أطلق ما معه من الحمام، فيروح الى الدار التي له فيعلم أهله أنه قد خرج من القلعة، فيرمون الطُّطماح والملوخية وغير ذلك من أنواع الطعام ومن المطجَّن وما شابهه، حتى إذا جاء وجد الطعام حاصلاً والسماط ممدوداً.
وله ديوان شعر لطيف سمعه منه ابن شامه وابن الصابوني.
أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: اجتمعت به وسمعت عليه شيئاً من الحديث، وأنشدني من لفظه لنفسه:
ولقد أتيت على أغرّ أدهمٍ ... عبل الشّوى كالليل إذ هو مظلمُ
وبكفي اليُمنى قَناةٌ لدْنةٌ ... كالأُفعوان سنانها منه الفمُ
متقلّداً غضباً كأن متونه ... برقٌ تلألأ أو حريقٌ مضرم
وعليّ سابغةُ الذّيول كأنها ... سلخٌ كسانيه الشجاع الأرقم
وعلى المفارق بيضة عاديّةٌ ... كالنّجم لاح وأين منها الأنجم
فالرّعد من تِصهال خيلي والسّنا ... برقُ الأسنّة والرّذاذ هو الدّمُ
وكان قد اشترى فرساً من العرب، فأقامت عنده مدة في الحاضرة، ثم إنه عبر بها على بيوت العرب، فجفلت به، فقال:
نسيتِ بيوت الشّعرِ يا فرسي وقد ... ربيتِ بها والحُر للعهد ذاكرُ
ولكن رأيتيها بنجدٍ وأهلُها ... على صفةٍ أخرى فعُذرك ظاهرُ
قلت: أثبت الياء في قوله: رأيتها وإنما هي بكسر التاء، فأشبع، فنشأت ياء.
قال شيخنا أثير الدين: ونظمتُ أنا هذا المعنى فقلت:
عجبتُ لمهري إذ رأى العُرب نُكّبا ... كأنْ لم يكن بين الأعاريب قد رَبا
أجل ليس نكراً للفريق وإنما ... تخوّف عُتباً منهم فتجنّبا
وقد سمع منه شيخنا الذهبي وجالسه، وأنشده من شعره، واعتكف مرة في مئذنة عرفات بجامع مصر ثلاثة أيام، فقال السّراج الورّاق، ونقلت ذلك من خطه:
ثلاثة أيام قطعتَ كطولها ... ثلاث شديدات من السنوات
حجبْن مُحيّا الصاحب بن محمد ... ليجمع بين الحُسن والحَسناتِ
وما كاد قلبي أن يقرَّ قراره ... لأني بمصر وهو في عرفات
ولما عمّر الصاحب تاج الدين جامع دير الطين قال السرّاج الوراق، ومن خطه نقلت:
بنيتم على تقوى من الله مسجداً ... وخيرُ مباني العابدين مساجدُ
وأعلن داعيه الأذان فبادرت ... إجابته الصمُّ الجبالُ الجلامِدُ
ونالت نواقيسَ الدّيارات وجْمةٌ ... وخوفٌ فلم يمدد إليهنّ ساعد
تبكي عليهنّ البطاريق في الدجى ... وهنّ لديهم مُلقَياتٌ كواسد
بذا قضتِ الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
قلت: البيتان الأخيران لأبي الطيب المتنبي من قصيدة مشهورة.
وأهدى إليه الصاحب تاج الدين عسلاً مسعودياً فقال، ومن خطه نقلت:
من الظّرف ردّ الطّرف ممتلئاً حمدا ... كما جاء من نعماكَ ممتلئاً رَفدا
وكنتُ لَسيعاً من زماني وصرفِه ... فبدّلني من سمّه القاتل الشُّهَدا
منها:

أتاني مسعودٌ به لون عِرضه ... بياضاً جَلا من حالِك الحال ما اسودّا
فأدْنيتُ مَن أبعدتُها لا قِلًى لها ... ولكن من الأشياء ما يوجب البُعدا
فإن رفع الدّاعي يديه فهذه ... بأربعها تدعو فتستفْرِغُ الجُهدا
وأرسل إليه الصاحب يوماً ديوكاً مخصية، فاستبقاهنّ، فأرسل إليه دجاجة كبيرة، ومن خطه نقلت ما قاله في ذلك:
فديتُ الدّيوكَ بذبحٍ عظيمٍ ... وأنقذتُها من عذاب أليمْ
فناري لهم مثلُ نار الخلي ... ل ونارُك لي مثل نار الكليمْ
وذو العرف بالله في جنة ... فكُن واثقاً بالأمان العظيم
لقد أنسَتْ لي دارٌ بهم ... ومن قبلها أصبحت كالصّريم
مشَوا كالطّواويس في ملبسٍ ... بهيِّ البرود بهيج الرّقوم
كأني أشاهدُهم كالقُضاة ... بسمتٍ عليهم كسمتِ الحليم
وإلا أزمّة دارٍ غدت ... بهم حرَماً آمناً كالحريم
ولا فرقَ بيني وبين الخَصيّ ... فلمَ لا أراهم بعين الحميمِ
ونعمَ الفِداُ لهم قد بعثت ... من الفاتنات ذوات الشّحوم
أعدتَ الشباب الى مطبخي ... وقد كان شابَ بحمل الهُموم
وعادت قُدوري زنجيةً ... فأعْجبْ بزنجية عند رومي
وطال لسانٌ لناري به ... خصمتُ خُطوباً غدت من خصومي
وأمسيتُ ضيفَك في منزلي ... ومن فيه ضيفٌ لضيف الكريمِ
قلت: قوله: زنجية عند رومي ظرّف فيه الى الغاية، لأن السّراج رحمه الله تعالى كان أشقر أزرق، ولذلك قال، ومن خطه نقلت:
ومن رآني والحمار مَركبي ... وزرقتي للروم عِرقٌ قد ضربْ
قال وقد أبصر وجهي مُقبلاً ... لا فارسَ الخيل ولا وجهَ العربْ
ونقلت من خطّ السراج الوراق قصدة مدح بها الصاحب تاج الدين أولها:
أترومُ صبري دون ذاك الرّيم ... هيهاتَ لمتُ عليه غير ملومِ
لو شاهدَت عيناكَ ما شاهدتُه ... لرجعتَ في أمري الى التّسليم
مُخضرُّ آسٍ واحْمِرارُ شقائقٍ ... أنا منهُما في جنة وجحيمِ
ومعاطفٌ من دونهنّ روادفٌ ... أنا منهما في مقعد ومُقيم
سَلْ طرفَه عن شعره الدّاجي فلن ... يُخبرك عن طول الدُجى كسقيم
يا غُصن قامته إليك تحيتي ... مع كل ماطرةٍ وكل نسيم
إن الجمال له بغير مُنازع ... والوجدُ لي فيه بغير قسيم
وكذا العُلا لمحمّد بن محمّد ب ... ن عليّ بن محمد بن سليم
نسبٌ كمطّرد الكُعوب فلا تَرى ... إلا كريماً ينتمي لكريم
منها:
وشبيبة حرس التُقى أطرافها ... فلها محلّ الشيب في التعظيمِ
وإذا تحرّمتِ المسائلُ باسْمه ... جلّى عن التحليل والتحريم
إن قال لا يخلو فما من علةٍ ... تبقى لصحةِ ذلك التقسيم
أما إذا جارى أخاهُ أحمداً ... شاهدتَ بحري نائلٍ وعُلومِ
بحرانِ إن شئتَ النّدى، نجمان إن ... شِئتَ الهُدى، غَوثانِ في الإقليم
وكتب الصاحب تاج الدين الى الورّاق يعزيه في حمار له سقط في بئر فنفق:
يَفديك جحشُك إذ مضى متردّياً ... وبتالدٍ يُفدى الأديبُ وطارفِ
عدم الشّعير فلا رآه ولا يرى ... تَبناً وراح من الظّمأ كالتّالف
ورأى البُويرةَ غير خافٍ ماؤها ... فرأى حُشاشةَ نفسه لمخاوف
فهو الشهيد لكم بوافرِ فضلُكُم ... هذي المكارم لا حمامة خاطِفِ
قومٌ يموت حمارُهُم عطشاً لقد ... أزرَوا بحاتم في الزّمان السّالف
قلت: قوله: لا حمامة خاطف يشير فيها الى أبيات ابن عنين التي مدح بها الإمام فخر الدين الرازي وهو على المنبر فجاءت إليه حمامة وراءها جارح، فقال ابن عنين أبياتاً منها:

جاءت سليمان الزّمان حمامةٌ ... والموتُ يلمع من جناحَيْ خاطفِ
مَن أعلمَ الورقاءَ أن محلّكم ... حرمُ وأنك ملجأُ للخائفِ
وأجاب الوراق للصاحب تاج الدين بقصيدة طويلة، ومن خطّه نقلت:
أذنَتْ قُطوف ثمارها للقاطف ... وثنت بأنفاس النّسيم معاطفي
منها، فيما يتعلّق بالحمار:
ولكمْ بكيتُ عليه عهدِ مرابع ... ومراتع رُشّت بدمعي الذارفِ
يُمسي على يُسري وعُسري صابراً ... بمعارفٍ تلهيه دون معالفِ
وقد استمرّ على القناعة يقتدي ... بي وهي في ذا الوقت جلّ وظائفي
ودعاهُ للبئر الصّدى فأجابه ... واعتاقَهُ صرفُ الحمام الآزِفِ
وهو المُدلُّ بألْفةٍ طالت وما ... أنسى حقوق مرابعي ومآلفي
وموافقي في كل ما حاولته ... في الدهر غير مواقفي ومخالفي
دورانُ طاحونٍ لساقية لنق ... لِ الماء في شاتٍ ويوم صائفِ
لكنْ بماء البئر راح بنقلةٍ ... فثلاثُ شاماتٍ بموتٍ جارِفِ
ونظم الصاحب يوماً بيتا وهو:
توفي الجمال الفائزيّ وإنه ... لخَيرُ صديقٍ كان في زمنِ العُسرِ
وأمر الوراق بإجازته فقال:
فيا ربّ عاملْهُ بألطافك التي ... يكونُ بها في الفائزين لدى الحشرِ
ومما ينسب الى الصاحب تاج الدين:
توهّم واشينا بليلٍ مزارنا ... فجاء ليسعى بيننا بالتّباعد
فعانقته حتى اتّحدْنا تلازُماً ... فلم يرَ واشينا سوى فرد واحدِ
قلت: هو مأخوذ من قول الأول:
كأنني عانقْتُ ريحانَة ... تنفّستْ في ليلها الباردِ
فلو تَرانا في قميص الدُجى ... حسبتَنا في جسدٍ واحد
وقلت أنا وقد كنا بمرح الغسّولة في يوم من الربيع، فورد علينا برد شديد الى الغاية:
أتانا فجأة بردٌ شديد ... أنا للمدح فيه غير جاحدْ
لأني كنتُ عن إلفي بَعيداً ... فصيّرني ومَن أهواه واحِدْ
وكتب شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود الى الصاحب تاج الدين مع رأس فانوس أهداه وفيه صورة الفلك:
أيا مولى أعوذ مجْد ... ه بالروح والمُلكِ
ومَن بِسَنا مفاخره ... تُضيء غياهبُ الحلكِ
بعثتَ بما أبَوه إذا ... يصحّف من كُنى مَلك
يُريك الشّمس في جُنح الدجا ... في قبّة الفلكِ
فكتب الصاحب تاج الدين الجواب:
أتَتني من الحبر الكريم هديةٌ ... بها من أبي فانوسَ نسبةَ ناسِبْ
وما أبعدَ الفانوس إلا لريبةٍ ... مَطالبها مرجوة في الغباهِبْ
شياطينُها ترجو انقضاضَ شِهابها ... وتأمَلُ منه أن تفوزَ بثاقِبْ
وكان شيخنا العلامة شهاب الدين محمود رحمه الله تعالى في يوم عند الصاحب تاج الدين، فقام الى الصلاة، ورمى إليه بخاتم فضة فصّه زبرجد، ولما انفتل من الصلاة أنشده الشيخ شهاب الدين محمود لنفسه:
يا سيّد الوزراء يا مَن كفُّه ... أربى نَداهُ على سماح حاتمِ
أشبهتَ في الخلق الوصيّ وفعله ... لما تصدّق في الصلاة بخاتم
ومن شعر الصاحب تاج الدين مُلغزاً في الورد:
ومعركة أبطالُها قد تخضّبت ... أكفُهم من شدة الضّرب عندما
لهم عندها ثأرٌ وللنار عنبرٌ ... تأجج حتى يترك الوردَ أدهما
ومنه يمدح الشيخ خضر المكّاري:
وجُزت بميدان العبادة غاية ... تُذكرني يومَ السّباقِ ابنَ أدهَما
ونظم يوماً بيتاً وهو:
ألا قاتل الله الحمامة إنها ... أذابت فُؤاد الصّبّ لما تغّنَت
وقال للوراق: أجزه. فقال قصيدة أولها:
أطارحُها شكوى الغرام وبثّه ... فما صدحتْ إلا أجبتُ بأنّة
ومما ينسب الى الصاحب تاج الدين هذه الموشّحة وقد التزم فيها الحاء قبل اللام وهي:
قد أنحلالجسم أسمرْ أكحلْوأوحلْالقلبُ فيه مُذ حلْ
يميلُ ... وعنه لا أميلُ

يحول ... وعنه لا أحول
أقول ... إذ زاد بين النُحولُ
أما حلّعِقدَ الصَّدود ينحلّويرحلْعن جسمي المُزَحّلْ
برَغمي ... كم يستبيحُ ظُلمي
ويرمي ... بحربه لسلمي
وجسمي ... مع التزام سُقمي
منحّلْوقد غدا مرحّلْفكم حلسفكَ دمي وما حلْ
متوّجْ ... بالحُسن هذا الأبهَجْ
مدبّجْ ... عِذاره بالبنفسجْ
مفلَّجْ ... يرنو بطَرفٍ أدعجْ
مكحّلْوريقه المنحّلْمُفحّلْبالعنبر المحَلحَل
كم أبعَدْ ... وكم أبيتُ مُكمَدْ
ويعمَد ... بهجرِهِ لا يفقَدْ
ويجهَدْ ... في ارتضاء مَن قَدْ
تمحّلْوالحاسدون وحّلْومحّلوالوعد منهُ أمْحَلْ
قَلاني ... واشتطّ هذا الجاني
رماني ... في عُشقه زماني
خلاني ... أشكو لمن يراني
قد أنحَلالجسمَ أسمرْ أكحلوأوحَلالقلب منه مُذ حَلْ
محمد بن محمد بن أحمد بن عبد اللهالقاضي نجم الدين بن جمال الدين بن محب الدين الطبري الآمُلي الشافعي، قاضي مكة.
كان فقيهاً جيداً، كريماً سيّداً، سديداً في أحكامه أيّدا. فيه لُطف أخلاق، وحُسن صحبة وود في يوميّ الفراق والتلاق. له نظمٌ يتأرجح به الروض، ويتدرج به الماء العذب في الحوض.
لم يزل على حاله الى أن غاب نجمه في الثرى وعدمته أم القرى.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة، في أول جمعة من جمادى الآخرة بمكة شرّفها الله تعالى.
ومولده سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وكان قد سمع من عمّ جده يعقوب بن أبي بكر الطبري جامع الترمذي. وسمع من جده محب الدين، ومن الفاروثي - وله إجازة من الحافظ أبي بكر بن مُسْدىً، وأخذ عنه شيخنا البرزالي وجمال الدين الغانمي، والواني، وآخرون.
وما خلف بمكة مثله، وكان بارعاً في الفقه، وولي بعده ابنه الإمام شهاب الدين أحمد.
قال لي الشيخ تاج الدين اليمني قال: أنشدته قصيدة في سنة عشر وسبع مئة امتدحته بها عند منصرفي من دمشق قاصداً اليمن، ومنها:
جادَ عِهادُ المطر ... عهدَ منًى والمشعَرِ
ولا عدا ربوعها ... سحّ السحاب الممطر
منازلٌ كم لي بها ... من ليل وصل مُقمر
والبَينُ في بينونةٍ ... بوصلنا لم يشعُرِ
قال: فلما فرغتُ من إنشادها أنشدني بديها:
أقسمتُ حقاً بالصّفا ... يا ابن الكرام الغُررِ
شعرُك هذا فائق ... أشعار أهل الحضَر
ما ناله حبيبُه ... ولا الوليد البحتري
قال: وأنشدني القاضي نجم الدين المذكور قصيدة يمدح بها الملك المظفّر عند قدومه من اليمن أوّلها:
إن لم أروّ الرَّبع من أجفاني ... بعد البعاد دماً فما أجفاني
وأنشدني من لفظه بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة الشيخ محب الدين أبو عبد الله محمد بن الصائغ المغربي الأموي، قال: أنشدني القاضي نجم الدين الطبري لنفسه:
أشبيهة البدر المنير إذا بدا ... حُسناً وليس البدرُ من أشباهك
مأسور حُسنك إن يكن متشفِّعاً ... فإليك في الحسن البديع بجاهك
أشفى أسىً أعيا الأساة رواؤه ... وشفاهُ يحصل بارتشاف شفاهك
فصليه واغتنمي بقاء حياته ... لا تقطعيه جفاً بحق إلاهك
قال: فنظمت قصيدة في هذا الوزن واللزوم والرويّ، وقد ذكرتها في ترجمة محب الدين المذكور آنفاً.
محمد بن محمد بن أبي بكرقاضي القضاة تاج الدين المالكي بالديار المصرية ابن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي، تقدّم ذكر والده علم الدين في مكانه من هذا التاريخ.
كان من بيت كلهم قضاه، وبيت كله رياحين، إذا كان غيره عِضاه. باشر القضاء بمصر بعد عمه، وطلع في منصبه كالبدر ليلة تمّه.
ولم يزل الى أن أخنى عليه الذي أخنى على لبد ولم يترك له في الحياة من سبد ولا لبد.

وتوفي رحمه الله تعالى في... ورد الخبر الى دمشق بوفاته في أواخر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده في...
وكان قد ولي القضاء بعد عمه قاضي القضاة تقي الدين الأخنائي في سنة تسع وأربعين وسبع مئة، وتولّى بعد تاج الدين المذكور قضاء المالكية بالديار المصرية أخوه قاضي القضاة بُرهان الدين ابراهيم، وسمع الحجّار ووزيرة، فيما أظن، بالديار المصرية، وأظنه حدّث بالبخاري عنه في مكة أو المدينة.
محمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الرحمنالكنجي الدمشقي.
سمع كثيراً، ونسخ وكتب الطباق، وعلّق أشياء جيدة واقتنى كتباً مليحة وأصولاً.
قال شيخنا الذهبي: وله عمل قليل في هذا الفن، وهو قانع متعفف، لا بأس به إن شاء الله تعالى. سمع من ابن القوّاس وطبقته، وسمع قبلنا من الشيخ تاج الدين، قال: وسمعنا من أبيه.
وتوفي صاحب هذه الترجمة في ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة.
ونسبَه الذهبي الى خفّة وعدم رزانة.
محمد بن محمدالقاضي الإمام العالم الفاضي أقضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله بن الشيخ شرف الدين أبي البركات بن الشيخ عز الدين أبي العزّ صالح بن أبي العز بن وهيبة بن عطاء بن حسن بن جابر بن وهب الأذرعي الحنفي.
كان فاضلاً فقيهاً بصيراً بالأحكام، حكم بدمشق نيابةً عشرين سنة، وخطب بجامع الأفرم مدة، ودرّس بالظاهرية والقليجية مدة، وأفتى وأذن في الفتيا، وقام بكثير من المناصب الدينية، وكان ديّناً يتلو القرآن كثيراً، وحج ثلاث مرات، وكانت جنازته حافلة، وأصيب به أبوه وأولاده وأقاربه وأصحابه.
وتوفي رحمه الله تعالى سلخ المحرم سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده في شهر رمضان سنة ثلاث وستين وست مئة.
وكان قد سمع الغيلانيات بقراءة ابن جعوان، وحدّث في حجاته الثلاث، وباشر الظاهرية عوضاً عنه نجم الدين القحفازي، وباشر نيابة الحكم عوضاً عنه القاضي عماد الدين الطرسوسي.
محمد بن محمد بن الحسينابن عتيق بن رشيق، القاضي الإمام المفتي زين الدين أبو القاسم ابن الإمام علم الدين المصري المالكي، قاضي الإسكندرية.
بقي في القضاء بها اثنتي عشرة سنة ثم عُزل، وقد عيّنه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة لقضاء دمشق.
وكان شيخاً وقوراً ديّناً فقيهاً معمراً، روى للجماعة عن أبي الحسن بن الجمَّيزي.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة حادي عشر المحرم سنة عشرين وسبع مئة. ومولده بمصر سنة ثمان وعشرين وست مئة.
قال كما الدين الأدفوي: نُقِلَت عنه أحكامٌ أخطأ فيها، وعزل عن القضاء، ثم لما صرف السلطان الملك الاصر محمد قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف عن القضاء استناب قاضي القضاة بدرُ الدين بن جماعة ابن رشيق هذا في القاهرة مدة الى أن أعيد ابن مخلوف الى القضاء، وكان يكتب في الإجازات، من نظمه:
أجَزْتُ لهم أبقاهم الله كل ما ... رويتُ عن الأشياخ في سالف الدهر
وما سمعت أذناي عن كل عالم ... وما جاد من نظمي وما راق من نثري
على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريء من التصحيف عار من النكر
وبالله توفيقي عليه توكّلي ... له الحمد في الحالين: في العسر واليسر
محمد بن محمد بن عليالفقيه المحدّث مجد الدين الأنصاري الدمشقي الشافعي المعروف بابن الصيرفي، سبط المحتسب ابن الحبّوبي.
كان شاباً متواضعاً ساكناً، نسخ للناس ولنفسه وعمل المعجم، وجلس مع الشهود، وحدّث عن محمد بن النشبي، والتقي بن أبي اليُسر، وأحمد بن أبي الخير، وابن مالك، وابن البخاري، وحضر المدارس، وعاش أبوه بعد موته نحواً من عشر سنين وكان لمجد الدين نظمٌ.
وتوفي رحمه الله تعالى في... سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
محمد بن محمد بن أحمد أبي القاسمالمرتضى العلوي الشريف المعروف بالقُمّي بضم القاف وتشديد الميم.

داخل التتار لما أتى غازان الى دمشق وتوجه إليهم وعاد الى دمشق ومعه أربعة من التتار، وكسر أقفال باب توما، ونزلوا بالباذرائية في يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة. وشرع يدلّ التتار على عورات المسلمين الى أن أمسك وحمل الى القلعة في يوم الأربعاء رابع عشري جمادى الأولى، وبعد ذلك كُحِّل الحاج مَنْدَوه وقطع لسانه. وفي ليلة الرابع من شوال سُمّر الشريف القُمي هو وابن العُوفي والبرددار وابن خُطليشي المزّي على الجمال، وشنق اثنان: كاتب مصطبة الوالي وآخر يهودي، وقُطع لسان ابن طاعن وقطعت يد الدّلدرمي ورجله وكُحل الشجاع همّام.
محمد بن محمد بن عليابن ابراهيم ابن حُريث القُرشي العبْدَري البلنْسي ثم السّبتي المالكي المقرئ.
حدّث بالموطأ عن أبي الحسين ابن أبي الربيع، عن ابن بقي. وتفنن في العلوم والقراءات والعربية، وولي خطابة سبتة مدة، وأقرأ الفقه مدة ثلاثين عاماً، ثم إنه تزهّد، ووقف كتباً بألف دينار، ووقف عقاره وحج وجاور بالحرمين، وحدّث بمكة.
وبها توفي رحمه الله تعالى في... سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
محمد بن محمد بن عبد القاهرابن هبة الله بن عبد القادر بن عبد الواحد بن هبة الله بن طاهر بن يوسف، الصدر ضياء الدين أبو المعالي النصيبي الحلبي.
كان رئيساً كبيراً فاضلاً، حسن الكتابة. وزر بحماة، وولي المناصب، ودرّس بعصرونية حلب، وحدّث بالكثير.
سمع من ابن شدّاد، والموفق عبد اللطيف، والكاشغري، وابن روزبة، وابن اللتي، وابن خليل، وقرأ بنفسه على المشايخ.
سمع منه شيخنا علم الدين البرزالي بحلب سبعة أجزاء منها المئة السريجيّة وثلاثيات البخاري، والأول من مسند عمار بن ياسر.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة ست وتسعين وست مئة بحلب.
ومولده بها في صفر سنة ثماني عشرة وست مئة.
محمد بن محمد بن محمود بن مكيابن عيسى بن دمرتاش، الدمشقي، العدل، شهاب الدين أبو عبد الله.
كان أديباً، فطناً، لبيباً، إذا دعا المعنى الغامض كان له مجيباً، وإذا نظمه كان عجيباً، له غوصٌ على المعاني، وألفاظه أطربُ من المثالث والمثاني، له مقاطيعُ أعذبُ من أيّام الوصال، وأشهى من حبيب كرُمت منه الخصال.
لم يزل بدمشق على حاله الى أن نعق غراب بينه، ونزل بحيّه وافد حَينه.
وتوفي رحمه الله تعالى بكرة السبت خامس صفر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده في...
كان أولاً في شبيبته جُندياً بحماة، وخدم بها صاحبها الملك المنصور، صحب بها مجير الدين محمد بن تميم الحموي الشاعر، وأقام معه بحماة، وبسببه دخل في الجندية، وكان يثني على مكارمه. وأقام بحماة مدة عشرين سنة، ولما أسنّ وكبر بطّل الجندية ودخل في زي العدول، وجلس بمركز الرواحية، ورأيته في سنة ثماني عشرة وسبع مئة وفيما بعد ذلك، وأظنه كان مخلاً بإحدى عينيه.
أنشدني من لفظه شيخنا العلامة أثير الدين قال: أنشدنا ظهير الدين البارزي قال: أنشدني المذكور لنفسه:
أقول لمسواكِ الحبيب لك الهنا ... برشْف فم ما ناله ثغرُ عاشق
فقال وفي أحشائه حُرقة الجوى ... مقالة صبّ للديار مُفارق
تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى ... أعلِّله بين العُذَيبِ وبارق
قلت: وما أحلى قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر:
وعود أراكة يجلو الثنايا ... من البيض الدُمى جلْي المرايا
يقول مُساجل الأغصان فخْرا ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
وقول محيي الدين بن قرناص:
سألتك يا عود الأراكة أن تعُدْ ... الى ثغر مَن أهوى فقبّلْه مُشفقا
ورِدْ من ثنيّات العُذيب مُنَيهلاً ... تسلسل ما بين الأبيرق والنقا
وقال: أنشدني المذكور لنفسه:
ولما التقينا بعد بين وفي الحشا ... لواعج شوقٍ في الفؤاد يُخيّمُ
أراد اختباري بالحديث فما أرى ... سوى نظرٍ فيه الجوى يتكلمُ
وأنشدني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: أنشدني لنفسه:
ومُهفهَف الأعطاف معسول اللّمى ... كالغصن يعطفه النسيم إذا سرى
قال اسقني فأتيته بزجاجة ... ملئت قراحاً وهو لاهٍ لا يرى

وتأرجحت برضابه وأمدَّها ... من نار وجنته شعاعاً أحمرا
ثم انثنى ثملاً وقد أسكرتهُ ... برضابه وبوجنتيه وما درى
قلت: هو مولَّدٌ من قول الملك الأمجد، وفيه زيادة:
طلبتُ لماءٍ في إناء فجاءني ... غلام بها صرفاً فأوسعته زجرا
فقال هي الماء القراح وإنما ... تجلّى لها خدي فأوهمك الخمرا
ومن شعره، وهو مما نقلته من خطه:
حتام لا تصل المُدام فقد أتت ... لك في النسيم من الحبيب وعودُ
والنهر من طرب يصفّق فرحة ... والغُصنُ يرقُص والرياض تميدُ
وأنشدني الشيخ الإمام العالم نجم الدين القحفاري قال: أنشدني المذكور لنفسه:
قال لي ساحر اللواحظ صف لي ... هيَفي قلت: يا مليح القوام
لك قدٌ لولا جوارح عيني ... ك لغنت عليه وُرْق الحمام
قلت: قد اشتهر هذا المعنى بين شعراء العصر وأولعوا به، ومما نظمته أنا فيه:
ذو قامة من لينها ... بيد النسيم يكاد يُعقَدْ
لولا جوارح لحظه ... غنى الحمام بها وغرد
ونقلت له من خطه:
قد سنتُ سرَّ هواكم ضناً به ... إن المتيم بالهوى لضنين
فوشت به عيني ولم أك عالماً ... من قبلها أن الوشاة عيون
ونقلت منه له:
روى دمع عيني عن غرامي فأشكلا ... ولكنه ورّى الحديث فأشكلا
وأسنده عن واقديّ أضالعي ... فأضحى صحيحاً بالغرام مُعَلّلا
ونقلت منه له:
وافى النسيم وقد تحمل منكم ... لُطفاً يقصِّرُ فهْمهُ عن عِلمه
وشكا السقام وما درى ما قد جرى ... وأنا أحقّ من الرسول بسقمه
ونقلت منه له:
إن طال ليلي بعدكم فلطوله ... عُذرٌ وذاك لما أقاسي منكم
لم تَسْرِ فيه نجومُه لكنها ... وقفَت لتسمع ما أحدِّث عنكم
ونقلت منه له:
عجباً لمشغوف يَفوه بذكركم ... ماذا يقول وما عساه يمدحُ
والكون إما صامت فمعظمٌ ... حرماتكم أو ناطق فمسبِّحُ
ونقلت منه له:
مَن لأسير أمست قرينته ... في الدوح عن حاله تسائلهُ
فهو يغني مَبْدا الحزين لها ... وهي بأوراقها تراسلهُ
قلت: ما أعرف هذا العنى في أحسن من قول البدر يوسف بن لؤلؤ الذهبي:
قامت على ساقٍ تُطارحُني الهوى ... ما بين صَحبي في الدجى ورفاقي
ورْقاءُ قد أخذت فنونَ الحزن عن ... يعقوب والألحان عن إسحاق
أنّى تباريني أسىً وكآبة ... وصبابة وجوى وفيض مآقي
وأنا الذي أملي الهوى عن خاطري ... وهي التي تملي عن الأوراق
وقلت أنا في هذه المادة مع اعترافي بالتقصير عنهما:
لا تقيسوا الى الحمامة حزني ... أنا فضلي تَدري به العشاق
أنا أملي الغرام عن ظهر قلب ... وهي تملي وحولها الأوراق
ونقلت من خط ابن دمرتاش له:
حتى إذا رقّ جلبابُ الدجى وسرتْ ... من تحت أذياله مسكيّة النفس
تبسّم الصبح إعجاباً بخلوَتِنا ... ووصْلِنا الطاهر الخالي من الدنس
ونقلت منه له:
بالروح أفدي منطقياً علا ... برتبة النحو على نَشْوِه
منطقه العذب الشهي الذي ... قد جذب القلب الى نحوه
ونقلت منه له:
جيادك يا من طبّق الأرض عدْلُه ... وحاز بأعلى الجدّ أعلى المناصب
إذا سابقتها في المهامهِ غرّةً ... رياح الصّبا عادت لها كالجنائب
ولو لم تكن في ظهرها كعبة المنى ... لما شبهت آثارها بالمحارب
ونقلت منه له:
يا سيدي أوحشْتَ قوماً ما لهم ... عن حسن منظرك الجميل بديلُ
وتعللت شمس النهار فما لها ... من بعد بُعدك بكرةٌ وأصيلُ
وبكى السحابُ مُساعداً لتفجعي ... من طول هجرك والنسيم عليلُ
ومن شعره:
انظر الى الأزهار تلق رؤوسها ... شابت وطفل ثمارها ما أدركا

وعبيرها قد ضاع من أكمامها ... وغدا بأذيال الصبا متمسكا
ومنه:
ولما أشارت بالبنانِ وودّعت ... وقد أظهرت للكاشحين تشهّدا
طفقْنا نبوسُ الأرض نوهم أننا ... نصلّي الضحى خوفاً عليها من العدا
ومما نقلته من خطه له:
يقولون شبهت الغزال بأهيفٍ ... وهذا دليل في المحبة واضحُ
ولو لم يكن لحظ الغزال كلحظه اح ... وراراً لما تاقت إليه الجوارحُ
قلت: يشبه قول ابن دانيال:
بي من أمير شكار ... وجدٌ يذيب الجوانح
لما حكى الظبي جيداً ... حنت إليه الجوارح
ونقلت منه له:
يقول لي الدولابُ راض حبيبك ال ... ملول بما يهوى من الخير والنفع
فإني من عود خُلقْتُ وها أنا ... إذا مال عني الغصن أسقيه من دمعي
ومن شعره دوبيت:
الصبُّ بك المتعوبُ والمعتوب ... والقلب بك الملسوب والمسلوب
يا من طلبت لحاظُه سَفك دمي ... مَهلاً ضعُفَ الطالب والمطلوب
قيل: إن الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى كان يقول: وددتُ لو أنه كان يأخذ مني جميع شعري ويعطيني هذين( البيتين.
محمد بن محمد بن أحمدابن عبد الواحد، عماد الدين بن شرف الدين بن الزملكاني، وهو ابن عم الشيخ كمال الدين بن الزملكاني.
كان شكلاً حسناً طوالاً، وكان خطه حسناً، وكان ينظم إلا أنه قليل.
كان قد سعى بالقاهرة على أن يكون كاتب إنشاء بدمشق، وقام بأمره الأمير سيف الدين بغا الدوادار في أيام السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، فوقف القاضي شهاب الدين بن فضل الله في طريقه وأبطل ما كان قُرّر من أمره. وكان أخيراً ناظر السُّبع الكبير وغيره.
ومولده فيما أظن سنة إحدى وتسعين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وستين وسبع مئة بدمشق.
محمد بن محمد بن سهلالوزير العالم الزاهد الأزدي الغرناطي.
سمع من ابن الرضي الطبري، وقدِم دمشق، وقرأ الصحيح على الحجّار، وصحيح مسلم على ابن العسقلاني، وقرأ بالسبع في صغره على ابن بشر وابن أبي الأحوص.
وبرع في معرفة الاسطرلاب.
وكان في بلده وافر الجلالة، غامر الإنالة، سافر الإيالة، تزهّد وحضر الى الديار المصرية، وأعرض عن المناصب العصرية، فما كاد يلحقه ابن أدهم زُهداً، ولا أشهب علماً ورفداً. وكان يبرّ الناس ويتحيّلُ على كتمان أمره، ويفرّق الذهب وهو يتقّد في جمره، والشمس لا تخفى بكل مكان والحرف لا تُعدَم ماهيّته بين التحريك والإسكان:
سروا ونجوم الليل زُهرٌ طوالعٌ ... فنمّ عليهم في الظلام التنسم
ولم يزل على حاله الى أن نزلت شدة الموت بابن سهل، وبكاه حتى الحزن والسهل.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الأربعاء ثاني عُشري المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة قافلاً من الحج.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة.
قال الشيخ تاج الدين أحمد بن مكتوم النحوي يرثيه:
مات ابن سهل فماتت ... من بعده المكرماتُ
ولم يخلّف مثيلاً ... أمثاله الصِيدُ ماتوا
وقلت: أنا فيه لما سمعتُ بموته:
مات ابن سهل ومنا قلّت الحيلُ ... وللعفاة فضاق السهل والجبلُ
مات الوزير الذي كان الملوك به ... في غبطة ولديه العلم والعمل
الزاهد العابد السامي الرفيع ذُرى ... العالم العامل المستأمن البطل
عليه مني سلام الله ما صدحت ... ورق لها في حواشي دَوْحها زجلُ
وقلت أرثيه:
موت ابن سهل قد كان صعباً ... لكل عاف وكل طالب
يحق والله أن يُرثى ... من قد حوى هذه المناقب
توفي أبوه سنة سبعين، وجده سنة سبع وثلاثين. وحج هو سنة سبع وثمانين وعاد، ثم إنه قدم مصر سنة عشرين وسبع مئة، وحجّ وجاور سنتين.
وكان في بلده يرجعون إليه والى رأيه وحُرمة عقله فيمن يولونه المملكة ويلقبونه الوزير، وكان فيه ورعٌ شديد، وتعفّف وصيانة وديانة وكرم ومروّة وحلم وعلم.

وأخذ عنه الشيخ قطب الدين عبد الكريم، وكان شيخاً وقوراً حسن الهيئة مليح الشيبة لا يتعمم ويتطيلس على طاقية.
ورأيته عند شيخنا العلامة أثير الدين، وأخبرني هو وغيره عنه أنه يتصدق سراً من ماله الذي يحمل إليه من أملاكه في الغرب، وعرفه الناس، وصاروا يقصدونه، فإذا طلب منه أحد شيئاً أنكر ذلك، وقال: ليس ما قيل لك صحيحاً، ثم إنه يتركه بعد يوم أو أكثر ويأتي إليه وهو غافل ويلقي في حجره كاغداً فيه ذهب، ويمر ولا يقف له، ويتصدّق من الستين ديناراً فما دونها، واستنسخ البحر المحيط تفسير القرآن لشيخنا أثير الدين، وشرح التسهيل له وغير ذلك وجهزه الى الغرب.
محمد بن محمد بن المفضّل
ابن عبد المنعم بن حسين بن حمزة بن حسين بن أحمد بن علي بن طاهر بن حبيش، القاضي الإمام المفتي الخطيب موفّق الدين ابن القاضي عز الدين أبي اليسر ابن القاضي نجم الدين أبي المكارم ابن القاضي مهذب الدين أبي عدي ابن القاضي تاج الدين أبي سالم ابن القاضي أمين الدين أبي القاسم حسين بن حمزة، البهراني القضاعي الحموي الشافعي، المعروف بابن حبيش.
تفقّه بحماة، وحصّل وشارك في الفضائل، وسمع من ابن رواحة، والكمال بن طلحة، وجماعة. وروى لشيخنا الذهبي وغيره بالإجازة عن جده لأمه أبي المشكور مدرك بن أحمد بن مدرك بن حسين بن حمزة القضاعي.
وكان إماماً جليل القدر، وافر الحرمة، ظاهر الحشمة، ولي خطابة حماة، ثم خرج عنها لتهديد السلطان له لما أنكر وأراق الخمور. وقدم دمشق في... وولي خطابتها سنة ثلاث وتسعين وست مئة، وقيل: سنة إحدى وتسعين عوضاً عن الشيخ عز الدين الفاروثي، وعزّ عليه وعلى الناس ذلك، وحضر السلطان الملك الأشرف، فلما رآه السلاح دارية أخذوه وأجلسوه الى جانب الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب الشام، فسأل السلطان عنه، فأخبر أنه قد عُزل، وتوهم الشيخ أن الوزير ابن السلعوس هو الذي عزله، فاعتذر السلطان إليه وقال: بلغنا أنك ضعيف. فقال: من صلى مئة ركعة بألف " قل هو الله أحد " يعجز عن صلاة الفرض؟ يعني صلاة النصف، فلم يلتفتوا إليه وانكسر قلبُه.
ثم في هذه الجمعة هرب حسام الدين لاجين فاغتمّ السلطان لذلك، وتوجه هو والأمراء والعسكر يفتشون عليه، وكانوا قد أطلعوا المنبر الى الميدان الأخضر، فصلى موفق الدين بالعوام، والسلطان والعساكر مهجّجون في طلب حسام الدين لاجين، ثم إن السلطان عاد بالعساكر بعد العصر يوم العيد، فقال بعض الشعراء في ذلك:
خطب الموفق إذ تولى خطبة ... شق العصا بين الملوك وفرّقا
وأظنه إن قال ثانية غدا ... دينُ الأنام وشملُه متفرِّقا
وقال آخر:
إن الموفق لما ... في خطبة قد ترفّق
في جمعة العيد شمل ال ... ملوك كالخطب فرّق
وكان مع ذا وهذا ... في الحال غير موفّق
وكان هذا الخطيب موفق الدين رجلاً صالحاً ديّناً خيراً، ولكن لم يرزق سعادة في هذه الحركة.
ثم إن الموفق طلب الى حماة بكتاب من صاحبها في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وست مئة من بعد وفاة قاضي القضاة جمال الدين بن واصل رحمه الله تعالى، فتوجه من دمشق الى حماة، وولى بها القضاء مدة.
ثم إنه قدم من دمشق جافلاً من التتار. فتوفي رحمه الله تعالى بدرب القاضي الفاضل فييوم السبت سادس عشري جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مئة، ودفن برّاً بباب الفراديس ظاهر دمشق.
ومولده في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وست مئة.
وكان من أهل الدين والخير والصلاح، رحمه الله تعالى.
محمد بن محمد بن هبة اللهابن يحيى بن بندار بن مميل، القاضي الرئيس الكبير الصدر تاج الدين أبو الفضل ابن القاضي شمس الدين بن نصر الشيرازي.
كان من أعيان الدماشقة، ولي وكالة بيت المال والحسبة ونظر الدواوين ونظر ديوان الخزندار، وتنقل في المناصب، وباشر الوظائف الكبار، ورأس.
قال شيخنا علم الدين البرزالي رحمه الله تعالى: روى لنا عن ابن عبد الدائم، وسمع من والده وعمه وجماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى بالمزة في بستانه في رابع شهر رجب الفرد سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ست وخمسين وست مئة، رحمه الله.

وجرى بينه وبين شمس الدين محمد ابن الشيخ عفيف الدين التلمساني منافسة بسبب شخص مشهور، وعمل شمس الدين مقامة بسبب ذلك. وكان هذا تاج الدين من الرؤساء الفضلاء النبلاء فلم يسمع عنه بسبب ذلك كلمة واحدة، ولا أعاد ولا أبدأ، لحشمته ورياسته وفضله ومروّته.
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن يوسفالشيخ الإمام العلامة المفنّن المحقق المدقق جامع أشتات الفضائل ركن الدين أبو عبد الله بن القَوْبع، بالقاف والواو الساكنة وبعدها باء موحدة مفتوحة وعين مهملة، الجعفري التونسي المالكي.
فاضلٌ إذا قلت فاضل، ونظّار لم يثبت له مناظر ولا مناضل، قد جمع الفضائل وأتقن ما لمفرداتها من البراهين والدلائل.
إن فسّر القرآن العظيم خضع له وأذعن ابن مُقاتل وفتح على السُّديّ باباً لا يخاتر فيه ولا يخاتل.
وإن ذُكر الحديث فنهايةُ ابن الأثير له بداية، وصاحب الغريبين معروف بأنه لا يصل الى هذه الغاية.
وإن ذكر أسماء الرجال فما يذكر مع بحره الزاخر ابن نقطة ولا ابن عبد البرّ في استيعابه مما يوافق شرطه.
وإن ذكر الفقه فدونه صاحب المدوّنة، وابن أبي زيد نقص قدره عنه وهوّنه.
وإن ذكر الأصول فالغزالي ليس من هذا البزّ، والحُليمي سفِه رأيه واغتر بما اعتز.
وإن ذكر النحو فالشلوبين شلوٌ بين ماضغيه، وابن عصفور يطير وما يقع إلا بين يديه.
وإن ذكرت اللغة فصاحب المحكم تشابهت أقواله، والقزاز سَدى وألحم وما أفادته أحواله.
وإن ذكر العروض فالخليل ضاقت معه دائرته، والجوهري غام جو جواه وما أفادته مغامرته.
وإن ذكر التاريخ فالخطيب لا يرقى درجته، وابن عساكر يبذل في اعترافه له مهجته.
وإن ذكر الطب فجالينوس ما تجالس أنسه، وابن زُهر كسف نور هذا من ذاك شمسه. هذا الى غير هذه المعارف، وسوى هذه النقود التي لا تبهرجها الصيارف:
إليه انتمت فينا الفضائل كلها ... فدعوى سواه للفضائل زور
إليه كأن الفضل في كل ليلة ... بكف الثريا في السماء يشير
يقول كذا فليسمُ للعلم من سما ... ويفخر بإدراك العلا فخور
وكان يتودد الى الناس ويتعهد الأكابر بالبشر والإيناس من غير حاجة الى رب جاه أو صاحب وظيفة يترجاه، لأنه كان في غُنيةٍ من دنياه، ورفعة من ذاته في علياه.
وولي نيابة الحكم بالقاهرة مدةً فملأ المنصب عدلاً وإنصافاً، ومال على المظالم وإن صادق وإن صافى، ثم إنه سأل الإعفاء، ورجع الى العطلة وفاء.
ولم يزل في رياسة علمه وفضائله الباهرة وسيادته الباطنة والظاهرة الى أن تولى العلم بركنه، وطال من القبر على إنسانه إغماض جفنه.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الإثنين في سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة.
ومولده بتونس سنة أربع وستين وست مئة.
وسمع الحديث من أبي إسحاق ابراهيم بن علي الواسطي، وأبي الفضل أحمد بن هبة الله بن عساكر، وأبي العسا أحمد بن محسن بن ملّي، وأبي القاسم الخضر بن عبد الرحمن الدمشقي، وأبي عبد الله محمد بن حمزة بن أبي عمر المقدسي، وجماعة كثيرة. وكتب على سورة " ق " مجلدة جيدة، وعلى آيات من القرآن تفاسير جيدة.
ولما تولى إعادة الناصرية علق على قوله تعالى: " إن أولَ بيتٍ وُضع للناس للذي ببكّة " الآية. وكتب على بعض ديوان المتنبي كلاماً جيداً، واختصر أفعال ابن الحاج. وتولى الإعادة في الفقه بالمدرسة الناصرية والجامع الطولوني. ودرس بالمدرسة المنكوتمرية، وكان طبيباً بالبيمارستان، ويلقي الدرس فيه نيابة عن رئيس الطب.
وكان قد تأدّب بابن حبيش، وقرأ المعقول على ابن الدارس.
وكان يستحضر جملة من شعر العرب والمولدين والمتأخرين، ويعرف خطوط الأشياخ، لاسيما أهل الغرب.
وكان نقده جيداً، وذهنه يتوقد ذكاءً، قد مهر في كل ذلك، إذا تحدث في شيء من هذه العلوم تكلم على دقائقه وغوامضه ونكته حتى يقول القائل: إنما أفنى عمره في هذا الفن.
وكان قد قرأ النحو على يحيى بن الفرج بن الزيتون، والأصول على محمد بن عبد الرحمن قاضي تونس، وقدم مصر عام تسعين وست مئة.
قال لي شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى وهو ما هو: أنا ما أعرف أحداً مثل الشيخ ركن الدين، وقد رأى من رآه من الفضلاء.

وأخبرني شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس قال: قدم الى الديار المصرية وهو شاب فحضر سوق الكتب والشيخ بهاء الدين بن النحاس حاضر، ومع المنادي ديوان ابن هانئ، فأخذه الشيخ ركن الدين وأخذ يترنّم بقول ابن هانئ:
فتكاتِ لحظك أم سيوفَ أبيكِ ... وكؤوسَ خمرك أم مراشفَ فيك
وكسر التاء وفتح الفاء والسين والفاء، فالتفت إليه الشيخ بهاء الدين وقال: يا مولانا ذا نصب كثير. فقال له الشيخ ركن الدين بتلك الحدة المعروفة منه والنفرة: أنا ما أعرف الذي تريده أنت من رفع هذه الأشياء على أنها أخبار لمبتدآت مُقدّرة، أي: أهذه فتكات لحظك أم كذا أم كذا، وأنا الذي أريده أغزلُ وأمدحُ، وتقديره: أأقاسي فتكات لحظك أم أقاسي سيوف أبيك، وأرشف كؤوس خمرك أم مراشف فيك. فأخجل الشيخ بهاء الدين وقال له: يا مولانا فلأي شيء ما تتصدر وتشغل الناس. فقال استخفافاً بالنحو واحتقاراً له: وأيش النحو في الدنيا، النحو علم يذكر؟ أو كمال قال.
وأخبرني أيضاً قال: كنت أنا وشمس الدين بن الأكفاني نأخذ عليه في المباحث المشرقية فأبيت ليلتي أفكّر في الدرس الذي نصبح نأخذه عليه وأجهد قريحتي وأعمل تعقُّلي وفهمي الى أن يظهر لي شيء أجزم بأن المراد به هذا، فإذا تكلم الشيخ ركن الدين كنت أنا في واد في بارحتي وهو في واد. أو كما قال.
وأخبرني الشيخ تاج الدين المراكشي قال: قال لي الشيخ ركن الدين: لما أوقفني الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس على السيرة التي عملها علّمت فيها على مئة وأربعين موضعاً أو مئة وعشرين موضعاً - السهو مني - أو كما قال.
ولقد رأيته أنا مرات يواقف الشيخ فتح الدين في أسماء رجال ويكشف عليها فيظهر الصواب مع ركن الدين.
وكنت يوماً أنا وهو عند الشيخ فتح الدين فقال: قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: عمل ابن الخطيب أصولاً في الدين أصول الدين أعوذ بالله من الشيطان الرجيم - بسم الله الرحمن الرحيم - " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " فنفر الشيخ ركن الدين وقام وقال: قل له يا عُرّة، عمل الناس وصنفوا وما أفكروا فيك، ونفر مغضباً.
وأخبرني الشيخ فتح الدين قال: جاء إليه إنسان يصحح عليه في أمالي القالي، فأخذ الشيخ ركن الدين يُسابقه الى ألفاظ الكتاب، فبهت ذلك الرجل فقال له: لي عشرون سنة، ما كررت عليها.
وكان إذا أنشده شيئاً في أي معنى كان أنشد فيه جملة للمتقدمين والمتأخرين، كأن الجميع كان يكرر عليه البارحة.
وتولى نيابة الحكم بالقاهرة لقاضي القضاة المالكي مدة، ثم إنه تركها تديّناً منه وقال يتعذر فيها براءة الذمة، وكانت سيرته فيها حميدة، ولم يُسمع عنه أنه ارتشى في حكومة ولا حابى أحداً.
وكان كثير التلاوة وكان ينام أول الليل ثم يستفيق وقد أخذ راحة، وأخذ كتاب الشفاء لابن سينا ينظر فيه لا يكاد يخل بذلك.
قال لي الشيخ فتح الدين: قلتُ له يوماً: يا شيخ ركن الدين الى متى تنظر في هذا الكتاب؟ فقال: أريد أن أهتدي.
وكان فيه سأمٌ وضجر حتى في لعب الشطرنج، يكون في وسط الدست وقد نفضه وقطع لذة صاحبه ويقول: سئمت سئمت. وكذلك في بعض الأوقات يكون في بحث وقد حرر لك المسألة وكادت تنضج وتتضح فيترك الكلام ويمضي.
وكان حسن الودّ، جميلَ الصحبة، يتردد الى الناس ويُهنّيهم بالشهور والمواسم من غير حاجة لأحد، لأنه كان معه مالٌ له صورة ما يقارب الخمسين ألف درهم، وكان يتصدق سراً على أناس مخصوصين، وكان مع هذه العلوم لثغته بالراء قبيحة يجعلها همزة، وكنت أنا وهو قد طلعنا الى القلعة فجاء في الطريق ذكر الراء واللثغة بها، فأخذ يسرد عليّ ما يمكن من اللثغة بها وعدّ أنها تغير لغالب حروف المعجم، وأخذ يذكر أمثلة ذلك.
وكان إذا رأى أحداً يضرب كلباً أو يؤذيه يخاصمه وينهره ويقول له: ليس تقفل هذا أمَا هو شريكك في الحيوانية؟ وكان خطه مغربياً وليس بجيد، وكنت كثيراً ما أجتمع به وآخذ من فوائده الغامضة، وكتبت له استدعاء في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، ونسخته: المسؤول من إحسان سيدنا الشيخ الإمام العلامة جامع شتات الفضائل، وارث علوم الأوائل، حجة المناظرين سيف المتكلمين:
سبّاق غايات الورى في بحثه ... فالبرقُ يسري في السحاب بحثّه

ويهبّ منه بالصواب صبا لها ... بردٌ على الأكباد ساعة نفثه
ويضوع من تلك المباحث ما يُرى ... أشهى من المسك السحيق وبثه
المتكلم الذي ذهلت بصائر أولي المنطق نحوه، وأنتجت مقدماته المطلوب عنوة ووقف السيف عند حدّه فما للآمدي في مداه خطوه، وحاز رتب النهاية فما لأبي المعالي بعدها خطوه، فهو الرازي على الرازي، لأن قطب علومه من مصره ومحصوله ذهب قبل دخول أوانه وعصره، والفقيه الذي رفع لصاحب الموطأ أعلام مذهبه مُذهبة، فمالكٌ عنه رضوان، وأسفر وجوه اختياره خالية من كلف التكلف حالية بالدليل والبرهان، وأبرزها في حلاوة عبارته فهو جلاّب الجُلاّب، وأظهر الأدلة من مكامن أماكنها، وطالما جمحت تلك الأوابد على الطُلاّب.
والنحوي الذي تركت لُمعهُ الخليل أخفش، وأعرت الكسائي ثوب فخره الذي بهر به سيبويه وأدهش، فأبعد ابن عصفور حتى ضار عن مُقرّبه، وأمات ابن يعيش لمّا أخلق مُذهب مَذهبه.
والأديب الذي هو روضٌ جمع زهر الآداب وحبْرٌ قلّد العقد أجياد فنّه الذي هو لبّ الألباب، وكامل أخذ عنه كتّاب الأدب أدب الكُتاب، فإذان نظم قلت: هذه الدّراري في أبراجها تتّسق، أو خِلْتَ الدُرر تتنضدّ في ازدواجها وتنتسق، أو نثر فالزهر يتطلع من كمامه غبَّ غمامه، والأَلفات غصون ترنّح معاطفها بحمائم همزه التي هي كهمز حمامه.
والطبيب الذي تحلى منه أبقراط وسقط عن درجته سُقراط، فالفارابي ألفاه رابياً، وابن مسكويه أمسك عنه مُحاشياً لا محابياً، وابن سينا انطبق قانونه على جميع جزئياته وكلياته، وطلب الشفاء والنجاة من إشاراته وتنبيهاته، فلو عالج نسيم الصبا لما اعتلّ في سحره، أو الجفن المريض لزانه وزاده من حوَره، ركن الدين أبي عبد الله محمد بن محمد عبد الرحمن الجعفري المالكي:
لا زال روض العلم من فضله ... في كل وقت طيّب النَشْر
وكل ما يبدعُه للورى ... تطويه في الأحشاء للنشر
وتزدهي الدنيا بما حازَهُ ... حتى تُرى دائمة البشر
إجازة كاتب هذه الأحرف ما له من مَقول منظوم أو منثور، وضع أو تأليف، جمع أو تصنيف، الى غير ذلك على اختلاف الأوضاع وتباين الأجناس والأنواع.
وذكرت أشياء مذكورة في الاستدعاء.
فأجاب بخطه رحمه الله تعالى: يقول العبد الفقير الى رحمه ربه وعفوه عما تعاظم من ذنبه محمد بن عبد الرحمن القُرشي الجعفري المعروف بابن القُوبع: بعد حمد الله ذي المجد والسّناء والعظمة والكبرياء، الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، خالق الأرض والسماء، وجاعل الإصباح والإمساء، والشكر له على ما مَنّ به من تضاعفِ الآلاء وترادفِ النعماء، نحمده ونذكره، ونعبده ونشكره لتفرده باستحقاق ذلك وتوفر ما يستغرق الحمد والشكر هنالك، مع ما خصّنا به من العلم وأضاء به بضيائها من نور الفهم.
ونصلي على نبيه محمد سيد العُرب والعُجم، وعلى آله وأصحابه الذين فازوا من كل فضل بعظم الحظ ووفور القُسم، أجزت لفلان وذكرني:
جمّاع أشتات الفضائل والذي ... سبق السّراع ببطئه وبمكثه
فكأنهم يتعثّرون بجدولٍ ... ويسير في سهل الطريق وبرثه
أزرى بسحب بيانهم في هطلها ... فيما يبين بطلّه وبدثّه
جميع ما يجوز لي أن أرويه مما رويته من أصناف المرويات أو قلته نظماً أو نثراً، أو اخترعته من مسألة علمية مُفتتحاً، أو اخترته من أقوال العلماء واستنبطت الدليل عليه مرجّحاً مما لم أضعه في تصنيف ولا أجمعه في تأليف على مشرط ذلك عند أهل الأثر:
وفّقه الله لما يرتضي ... في القول والفعل وما يدري
وزاده فضلاً الى فَضله ... بما به يأمن في الحشر
فهذه الدار بما تحتوي ... دارُ أذىً ملأى من الشرّ
ذلّت بينهم بغرور فهم ... في عمَهٍ عنه وفي سكر
قد خدعَتْهم بزخاريفها ... معقبة للغدر بالغدر
تريهم بشراً ويا وَيحهم ... كم تحت ذاك البشر من مَكر
بينا ترى مبتهجاً ناعماً ... ذا فرج بالنهي والأمر
آمن ما كان وأقصى مُنىً ... فاجأه قاصمة الظهر

فعدِّ عنها واشتغل بالذي ... يوليك خيراً آخر الدهر
فإنما الخير خصيصٌ بما ... تلقاه بعد الموت والنشر
هذا إذا مَنّ الذي ترتجي ... رحماه بالصفح والغفر
وزاد رضواناً فهذا الذي ... يُدعى به لأطول العمر
ويؤيد هذا ما أخبرناه الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد الورع المُسند تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن الواسطي، قراءة عليه ونحن نسمع بدمشق في شوال سنة إحدى وتسعين وست مئة، قيل لي: أخبركم أبو البركات داود بن أحمد بن ملاعب البغدادي قراءة عليه بدمشق، وأبو الفرج الفتح بن عبد الله بن عبد السلام البغدادي قراءة عليه ببغداد قالا: أخبرنا الخطيب أبو منصور أنوشتكين بن عبد الله الرضواني، قراءة عليه: أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد البُسري. ح وأخبرنا ابن ملاعب وأبو عليّ الحسن بن إسحاق ابن الجواليقي، قالا: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبيد الله بن الزاغوني، أخبرنا الشريف أبو نصر محمد بن محمد بن علي الزينبي، قالا: أخبرنا أبو الطاهر محمد بن عبد الرحمن المخلّص الذهبي، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا خلف بن هشام البزاز سنة ست وعشرين ومئتين حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نحفر الخندق، وننقل التراب على أكتافنا: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " مختصر.
وهذا الحديث من أعلى ما أرويه، نسأل الله حالاً يرضاها ونرضاها، إنه سميع الدعاء، فعّالٌ لما يشاء، وله الحمد والمنّة. كتبه محمد القوبع ليلة التاسع والعشرين من رجب سنة ذ ك ج.
وأنشدني لنفسه إجازة، ومن خطه نقلت:
جوى يتلظّى في الفؤاد استعارُهُ ... ودمعٌ هتونٌ لا يكفّ انهماره
يحاول هذا بَردَ ذاك بصوبه ... وليس بماء العين تطفأ ناره
وُلوعاً بمن حاز الجمال بأسره ... فحاز الفؤاد المستهام إسارُه
كلِفْتُ به بَدريّ ما فوق طوقه ... ودعصيّ ما يثني عليه إزاره
غزال له صدري كناسٌ ومرتع ... ومن حب قلبي شيحه وعراره
من السُمر عُدمي الصبر أحمر خده ... إذا ما بدا ياقوته ونضاره
جرى سابحاً ماء الشباب بروضه ... فأزهر فيه وردُه وبهارُه
يشبّ ضراماً في حشاي نعيمه ... فيبدو بأنفاس الصعاد شراره
وينثر دمعي منه نظم مؤشر ... كنور الأقاحي حفّه جُلّناره
يُعَلّ بعَذْبٍ من برود رضابه ... تفاوح منه مسكه وعقاره
وسهد أجفاني بوسنان أدعجٍ ... يحيّر فكري غنجه واحوراره
حكاني ضعفاً أو حكى منه موثقاً ... وخصراً نحيلاً عال صبري اختصاره
معنىً بردف لا ينوء بثقله ... فيا شدَّ ما يلقى من الجار جاره
على أنّ ذا مُثرٍ وذلك معسِرٌ ... ومن محنتي إعساره ويساره
تألّف من هذا وذا غُصنُ بانة ... توافت به أزهاره وثماره
تجمّع فيه كلُ حُسن مُفرّق ... فصار له قطباً عليه مداره
زلال ولكنْ أين مني وروده ... وكدْنٌ ولكن أين مني اهتصاره
وسَلسال راحٍ صدّعني كأسه ... وغودر عندي سكرُه وخماره
وبدر تمام مشرق الضوء باهرٌ ... لأفقي منه مَحْقُه وسراره
دنا ونأى فالدارُ غيرُ بعيدة ... ولكنّ بُعْداً صدُّه ونفاره
وحين درى إن شد أسري حبُّه ... أحلّ بي البلوى وساء اقتداره
ومنها:
حكت ليلتي من فقدي النوم يومها ... كما قد حكى ليلي ظلاماً نهاره
كتمت الهوى لكنْ بدمعي وزفرتي ... وسقمي تساوى سرُّه وجهاره
ثلاث سجلات عليّ بأنني ... أمام غرام قلّ فيك استتاره
أورّي بنظمي في العذار وتارةً ... بمن إن تفنّى القرط أصفى سواره

وجلّ الذي أهوى عن الحلي زينة ... ولما يقارب أن يدب عذاره
أراحةَ نفسي كيف صرت عذابها ... وجنة قلبي كيف منك استعاره
ونقلت منه يمدح الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
ولو غيرُ الزمان يكون قرني ... للاقى الحتف من ليثٍ جريّ
تحاماه الكماة إذا ادلهمّت ... دُجى الهبوات في ضنك حميّ
وطبّقتِ الفضاء فلا ضياء ... سوى لمعان أبيض مشرفيّ
وأرمدتِ العيون وكل طرف ... عمٍ إلا لأسمر سمهري
بحيثُ عبابُ بحر الموت يرمي ... بموج من بنات الأعوجي
عليها كل أروع هبرزيّ ... يغالب كل أغلب شمّري
تراه يرى الظُّبى ثغراً شنيباً ... من الإفرند في ظَلْم شهيّ
ويعتقد الرماح قدود هيفٍ ... فيمنحها معانقة الهديّ
هنالك ترى الفتى القرشي يحمي ... حماة المجد والحسب السنيّ
وتعلم أن أصلاً هاشمياً ... تفرع بالنضار الجعفريّ
ولو أن الجعافرة استبدّت ... به يمنى الهُمام القوبعي
منها في المديح:
الى صدر الأئمة باتّفاق ... وقدوةِ كل حَبْر ألمعيّ
ومَن بالاجتهاد غدا فريداً ... وحاز الفضل بالقدح العليّ
وما هو والقداح وذاك تخت ... وهذا نال بالسقي الرضيّ
صَبا للعلم صبّاً في صباه ... فأعْلِ بهمّة الصبّ الصبي
فأتقن والشبابُ له لباسٌ ... أدلة مالكٍ والشافعي
منها:
ونور جلالة يرتدّ عنه ... رسول الطرف بالحسن العيي
ومن كثرت صلاة الليل منه ... سيحسن وجهه قول النبي
منها:
بعدْلٍ عمّ أصناف البرايا ... تساوى فيه دان بالقصيّ
ضممتَ ندىً وجوداً حاتمياً ... الى رأي وحلم أحتفيّ
لديك دعائم المجد استقرت ... فحط بنو الرضى ملقى العصيّ
بحيث طوامح الآمال مهما ... رمت لم تُخطِ شاكلة الرميّ
أيا قمر الفهوم إذا ادْلهمّت ... دُجى الإشكال في غوص خفيّ
وسحبان المقالة حين يلفى ... بليغ القول كالفَهّ العييّ
لكم أبديت من معنىً بديع ... يروق بحلة اللفظ البهيّ
فأقسم ما الرياض حنا عليه ... ملثّ القطر هطّال الجيّ
فألبسها المزخرف والموشّى ... حيا الوسْميّ منه أو الوليّ
وأضحك نبتها ثغر الأقاحي ... فما نظم الجمان اللؤلؤي
وعطّر جوّها بشذى أريج ... من المسك الفتيق التُبتي
فلاحت كالخرائد يزدهيها ... حليّ الحسن أو حسن الحليّ
بأبهج من كلامك حين تفتي ... سؤالاً بالبديهِ أو الرويّ
وأنشدني لنفسه إجازة:
تأمّل صحيفات الوجود فإنها ... من الجانب السامي إليك رسائلُ
وقد خُط فيها إن تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ
محمد بن محمد بن عليابن وهب بن مطيع، كمال الدين بن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد القشيري، تقدّم ذكرُ والده وجماعةٌ من إخوته.
كان يحفظ القرآن ويتلوه كثيراً، وكرّر على مختصر مسلم للمنذري، وربما قيل: إنه حفظه. وسمع من المنذري، ومن النجيب عبد اللطيف والعز الحرانيين، وجماعة.
قال كمال الدين الأدفوي: أخبرت أنه كرر على الوجيز، وجلس بالوراقين بالقاهرة، ودرّس بالمدرسة النجيبية بقوص، إلا أنه خالط أهل السفه، والخلطة لها تأثير، فخرج عن حدّه، وترك طرائق أبيه وجده. ولما ولي أبوه القضاء أقامه من السوق وألحقه بأهل الفسوق، قال: هكذا أخبرني جماعة من أهله وغيرهم.

وكان قوي النفس، بلغني أن وكيل بيت المال مجد الدين عيسى بن الخشاب رسم للشهود أن يكتبوا شيئاً يتعلق ببيت المال إلا بإذنه، فجاءته ورقة فيها خط كمال الدين ابن الشيخ، فطلبه، فقال له: ما سمعت ما رسمت به؟ فقال: نعم، فقال: كيف كتبت؟ قال: جاء مرسوم أقوى من مرسومك وأشدّ. قال: السلطان؟ قال: لا. قال: فمن رسم؟ قال: جاء مرسوم الفقراء، أصبحت فقيراً ما أملك شيئاً، وجاءتني ورقة أخذت فيها خمسة عشر درهماً فتبسم. وقال: لا تَعُد.
قال: وحكى لي بعض أصحابنا قال: حضرنا وهو معنا عند الشيخ عبد الغفار بن نوح، وكان الشيخ عبد الغفار كبير الصورة بقوص، يأتي إليه الولاة والقضاة والأعيان، وكان يمد رجليه في بعض الأوقات ويدّعي احتياجاً لذلك. فمد رجله ذلك اليوم فأخذ الكمال مروحة وضربه على رجله وقال: ضمّها بلا قلة أدب.
وكان كثير الصدقة مع الفاقة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثماني عشرة وسبع مئة بالقاهرة.
محمد بن محمد بن عبد الله بن مالكالشيخ شمس الدين ابن العلامة الشيخ جمال الدين بن مالك الجيّاني.
كان شيخاً حسناً، بهيّ المنظر، أحمر الوجه، منوّر الشيبة، كثير التلاوة والتلقين، لازم الجامع الأموي أكثر من أربعين سنة، وله خزانة وبيت بالمئذنة الشرقية.
سمع جزء الأنصاري بقراءة ابن جعوان على بعض الشيوخ، ولم يحدث.
رأيته غير مرة بالجامع، وكان يسأل الطلبة، فإذا قال له أحدهم: قرأت ألفية ابن مالك، يقول: ألفية والدي، ويفرح.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبع مئة.
محمد بن محمد بن عبد الله بن مالكالشيخ جمال الدين ابن العلامة ابن مالك، أخو شمس الدين المذكور أولاً.
كان مقيماً بالقاهرة. سمع من ابن البخاري الجزء الذي كتبه له عمّه الحافظ ضياء الدين من المسند والغيلانيات ولم يحدث.
وله نظم. وكان حسن الأخلاق جميل الهيئة، باشر بعض الجهات ولما توفي خلّف جملة.
وتوفي بالقاهرة عاشر شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن محمد بن عبد الرحمنالبليغ الفصيح الصدر الرئيس بدر الدين أبو عبد الله الخطيب بالجامع الأموي بدمشق ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني.
كان وافر الحشمة، ظاهر النعمة، جميل البزة، نبيل الوجاهة والعزة، كثير التجمل، غزير التحمل، سافر الوضاءة، غامر الوجه بالإضاءة، إذا رقا منبره أو توقل صهوته وأظهر من وجهه مضمره قال الناس: أترى ضمّ خطيباً أم ترى ضمّخ طيباً، وكان يؤدي الخطبة فصيحاً، ويوردها إيراداً مليحاً.
وكان في كل عام يتوجه الى الديار المصرية يزور والده ويكيد بذلك ضده وحاسده، فيقيم هناك مدة، ويقضي له وللناس أشغالاً عدة، ويلبس هناك تشريفاً، وفي دمشق إذا عاد مثله، ويسرّ بذلك قبيلة وأهله:
وأسعدُ الناس من لاقى بلا تعبٍ ... مبدا السعادة في مبدا شبيبته
ولم يزل بدرُه في مطالع سعوده ومعارج صعوده الى أن خُسِف في تمامه، وتجرع كؤوس حِمامه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني جمادى الآخرة سنة اثنين وأربعين وسبع مئة، ودفن في مقابر الصوفية، وقد كمّل الأربعين أو تجاوزها قليلاً.
وكان قد خطب في حياة والده قبل أن يلي القضاء وفي حياة المشايخ الكبار مثل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني والشيخ برهان الدين بن تاج الدين والشيخ تقي الدين بن تيمية. ولما طُلب والده الى مصر وتولى قضاء القضاة بالشام استقل هو بالخطابة فيما أظن، ولما طُلب والده ثانياً لقضاء الديار المصرية بقي هو في الوظيفة. وكان في كل سنة يتوجه على البريد الى مصر ويحضر عند السلطان ويلبس تشريفاً ويقيم عند والده مدة ثم يعود الى دمشق على البريد، وكانت له بذلك وجاهة زائدة وصيت بعيد، وقضى سعادة وافرة.
ولما عاد والده الى قضاء الشام ناب والده في الحكم، وكان قد أتقن الخطابة وانصقلت عبارته وتلفظ بها فصيحاً، وقرأ في المحراب قراءة حسنة طيبة النغم.
ولما توفي والده توهّم أن يلي المنصب فما اتفق له ذلك وانعكست آماله ونقض حبل سعده وتعكّس، وكلما حاول أمراً أدبر ولم ينجب فيه.
وطُلب الى مصر بوساطة الفخري ونزل عنده في القلعة، وأقام تقدير أربعة أشهر وعاد وقد أكمده الحزن، فأقام أياماً قليلة، ومات رحمه الله تعالى.

ولما توجه الى مصر بعد وفاة والده رحمهما الله تعالى كتبت أنا له توقيعاً بأن يستنيب في وظائفه من يراه الى أن يعود، ونسخته: أما بعد حمد الله الذي سيّر البدر في منازل سعوده، وأثمر رجاه الذي أنجب لصدق باطنه وظاهره عند غرس عوده، ورقاه الى درجات الكمال من إنجاز وعوده، وبلّغه أمانيه التي جاءت بها الأقدار على وفق غرضه واقتراح مقصوده. وصلاته على سيدنا محمد الذي أسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، ونوّله من الكرامات ما لا يحصر لفضله ولا يحصى، وعلى آله وصحبه الذين لم يرَ عدوّ الدين في كمالهم نقصا، ولم يكن فيهم من يخالف له مفهوم أمر ولا نصّا، صلاة يتألق برقها في سماء الرحمة، ويترقرق ودقُها في نماء النعمة ما نسخت آية النور آية الظلمة، وأضرم الشفق جمرته من الغسق في فحمة، وسلامه الى يوم الدين.
فإنه لما كان الجناب الكريم العالي البدري له على الأبواب الشريفة في كل حين وفادة، وفاز من حسن النظر الشريف في كل أوان من الإنعام بإفاءة وإفادة، وخطر في برود الوقار بين أغصان السيادة، وتجمّل بملابس العلم الشريف مطرّزة برقوم السعادة، واتّصف بمكارم ارتجال معانيها لا يبادى ولا يباده، واقتفى سنن والده، وكان أفضل من سعى ومن برّ، ورقى بأهبة الخطابة درج منبره فكان بدراً بدا في سحابة عنبر، وأسال الدموع بمواعظه الصادقة الصادعة، وأذاب القلوب بحكمه النافذة النافعة، وناب في الأحكام وفصل القضايا المعضلة، وألقى الدروس، فجلا دياجي المسائل المشكلة، وجلس في المحافل فكانت تفاصيل الرياسة فيه مُجمَلة.
وتصدّر في المجالس فما شك أحدٌ في أن هذا البدر أولى بهذه المنزلة، وطُلب الآن الى الأبواب الشريفة خلّد الله سلطانها، فأعمل الى الأبواب الشريفة ركابه وأحمدَ غُدوَّه إليها وإيابه، وسيكون قدومه عليها مقروناً بالنجح المبين، ومقول سعادته " ادخُلوا مصر إن شاء الله آمنين " .وكان لابد لوظائفه المباركة من يسدّ فيها غيبته، ويقوم فيها إلى أن يقدر الله أوبته.
فلذلك رسم بالأمر العالي أن يستنيب عنه في الخطابة الشريفة وغيراها مما هو به معذوق ومنوط بمباشرته من يراه أهلاً لذلك، ويعتقد أنه في هذه الجادة خير سالك الى أن يعود بدراً منيراً وينقلب الى أهله مسروراً، والله تعالى يقدّر له السعود حيثما توجّه، ويجعل النجح قرينه في كل سبيل سلك فجّه، والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى.
محمد بن محمدالأمير الفاضل سيف الدين أبو بكر بن صلاح الدين أبي الحسن ابن الملك الأمجد مجد الدين الحسن ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين داود ابن المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
كان فقيهاً فاضلاً، وله شعر، مدح الخليفة والسلطان وقاضي القضاة ابن صصرى والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وأجابه عنها ابن الزملكاني، وأقام بحماة مدة، وحضر المدارس معيداً، ثم إنه عاد الى دمشق وأقام بها. وسمع على الفاروثي وغيره.
وتوفي رحمه الله تعالى عاشر جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبع مئة.
محمد بن محمد بن عبد المنعمالقاضي البليغ الكاتب الناظم الناثر تاج الدين أبو سعد السعدي المعروف بابن البرنباري.
كان كاتباً مطيعاً ومترسّلاً منطقياً، خطه أنهج من الروضة الغنّاء وأخلب للقلب من الحدقة الوسنا. كتب الرقاع والتوقيعات والثّلث من أحسن ما يكون، وكان لبقاً في كتابته وفي الحركات والسكون، وكان خبيراً بمصطلح الديوان وبما يكتبه الى الملوك من صاحب التخت والإيوان، وكان يكتب من رأس القلم، ويأتي في كتبه وتواقيعه بما ينسي نسمات الضال والسلم:
جرى معه الجارون حتى إذا انتهوا ... الى الغاية القصوى جرى وأقاموا
فليس لشمسٍ مذ أنار إنارة ... وليس لبدر حيث تمّ تمامُ
فهو كان أحد الكتاب الكلمة الذين رأيتهم وبعتهم في الاختيار وشريتهم، وخبرتهم وذخرتهم وقرأتهم، والى مآدب هذه الصناعة دعوتهم وقريتهم.
ولم يزل الى أن توجه الى القدس ليزور ويستنتج أم الحظ وهي مِقلاتٌ نزور. فهناك وافاه حمامه، وبكاه من الفضل غمامه، وناح عليه حمامُه.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة.

وكتب الإنشاء في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون بالقاهرة في شهر رجب الفرد سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ولم يزل من أعيان كتاب الإنشاء، وكان القاضي علاء الدين بن الأثير يستكتبه في البريد، ولم يزل في القاهرة في جملة كتاب الإنشاء الى أن توفي القاضي بهاء الدين أبو بكر بن غانم صاحب ديوان المكاتبات بطرابلس، فرسم له السلطان الملك الناصر محمد بأن يتوجه مكانه، فتوجه الى طرابلس ونائبها يومئذ الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، فرأس هناك، وعمل الوظيفة هناك على القالب الجائر، وداخل النوّاب، وصار هو عبارة عن الدولة.
وفي سنة خمس وأربعين وسبع مئة كان في الشتاء نائماً هو وأولاده، فجاء سيل عظيم، وكانت داره على النهر، وكان للسيل ضجة من الناس وضوضاء، فقام من فراشه ليعلم ما الخبر وعاد فلم يجد داراً ولا سكاناً، وراح البيت وولداه، وأحدهما موقع والآخر ناظر الجيش، وجميع ما في البيت الى البحر. وانتبه الناس لهذه المصيبة العظمى، وركب النائب وتوجهوا الى البحر الى أن طلع الضوء وقذف الموج ولديه وهما ميتان، فأخذوهما وعمّر لهما تربة عظيمة هناك. وصدعت واقعته قلوب الناس في الشام ومصر. وأما هو فإنه داخله هلعٌ عظيم واختلط عقله، وبعث الى مصر يسأل الإعفاء والإقالة، وكنت إذ ذاك بالديار المصرية، فكتبت لولده شرف الدين عبد الوهاب توقيعاً، ونسخته: رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الصالحي، لازال يجبر بفضله مَن أصيب، ويغمر بإحسانه من فقد الدار والحبيب، ويعمر برفده من مُني من خطب الأيام بأوفر نصيب أن يرتب المجلس السامي القاضي شرف الدين في كذا جبراً لأبيه المصاب في غُصنيه اليانعين، وحصنيه المانعين، وبدريه الطالعين ونسريه الطائرين بجناح حياته، فأصبحا في حبائل الردى واقعين، وسرّيه المخبوءين في سواد عينه، وإن كانا بالثناء ضائعين.
فليباشر ذلك مباشرة أُلفت من بيته، وأجرت فارسَ بلاغتهم من طرسه ونقسه على أشهبه وكميته، مقتدياً بطريق أبيه، فهي طريقة مثلى، وحقيقة تُدرس أماليها وتُملى، وحديقة غرائس بنانها تجلّى محاسنها وتجلى، وعريقة في فن الكتابة التي يُفرغ عليها كيس الثناء حين يُملى، لأنه درة تاجه، وقرّة تخلف على أبيه ماضي سروره وابتهاجه، وغرة يُزان بها الفجر عند انصداعه وانبلاجه، مجتهداً في تحرير ما يكتبه وتقرير ما يرْقمه ويهذّبه، حتى تكون روضات الطروس مدبّجة بأزهار كلماته وتسجيعه، وترى وجنات هوامش القصص مطرزة بغدار توقيعه، والوصايا كثيرة، وتقوى الله تعالى ملاك ما نأمره باتّباعه، وأسلاك الدرر التي يؤم غيثها في انتجاعه، فلا يألف إلا حماها، ولا يرشف إلا لماها، والخط الكريم أعلاه الله وشرّفه أعلاه حجةً في ثبوت العمل بما اقتضاه إن شاء الله تعالى.
وكان القاضي تاج الدين قد أقام بعد ذلك بطرابلس على حاله الى أن تولى نيابة طرابلس الأمير سيف الدين بيدمر البدري في أوائل سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فعُزل من كتابة سرِّ طرابلس، وطالبه الناس بحقوق، فأقام هناك الى أن خرج منها وحضر الى دمشق في أواخر السنة المذكورة، وأقام بدمشق مدة، ثم توجه الى القاهرة وأقام بها مدة، الى أن رُتّب موقّعاً في الدست بدمشق، فحضر إليها في شهر رجب، فيما أظن سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. ولم يزل على حاله الى أن توجه الى القدس، وتوفي في يومين في التاريخ.
وكنت أنا قد كتبت إليه بعد خروجي من مصر متوجهاً الى الرحبة كاتب الدّرج:
لما أتيت دِمشقاً بعد مصر وفي ... عطفيَّ منك بقايا الفضل للراجي
عُظِّمتُ من أجل مولانا وصحبته ... وقيل هذا بمصر صاحبُ التاج
وينهي بعد رفع الدعاء، وحمل لواء الولاء، وإشادة بناء الثناء، أن المملوك سطّرها وشوقُه قد ضاقت به الرحبة، وأغار على مثاقيل الصّبر فما ترك عند حبّة القلب حبة، وذكّره الأيام السالفة، حتى عاد نسيبه بها أعظم نسبه:
كأني لم أكن في مصرَ يوماً ... قطعْتُ به الوصال مع الأحبه
ونلتُ القرب من سادات دَسْتٍ ... محلّهم علا كيوانَ رُتبه
إذا عانيت في الإنشا حُلاهم ... تراهم بالنجوم الزهر أشبه
وإن سابقتهم علماً وفضلاً ... فأنت إذا نطقت سُكَيْتَ حلبه

فما ابن الصيرفي إذا أتاهم ... يُساوي عندهم في الفضل حبّه
خصوصاً تاجهم سقي الغوادي ... محلٌّ ضمّه واخضلّ تُربه
إذا أخذ اليراع فليس بين ال ... طروس وبين زهر الروض نسبه
وإن نطق استبان المرءُ منه ... محاسن تستبي في الحال لُبَّه
وليس الملك محتاجاً الى أن ... يُعدّ كتائباً إن عدّ كتبه
له الفضلان في نظم ونثر ... إذا ما جال في شعر وخطبه
أيا مولاي عفواً عن محبّ ... تهجّم فالبعاد أذاب قلبه
بعثتُ بها إليك عسى تراها ... على بعد من المملوك قربه
فكتب هو الجواب:
شكراً لغرس بروض الفضل قد نبتا ... وودّه في صميم القلب قد ثبتا
أهدى إليّ كتاباً كنت أرقُبُه ... أزال عني من عيث النوى العَنَتا
مباركاً جاء بالحسنى فأحْسنَ لي ... وكيف لا وهو من عند الخليل أتى
لا زالت ألفاظه حلية الممالك، وودّه في النفوس ثابتاً وللقلوب خير مالك، ومنزله من فضل الله رحيب الساحات معموراً بالسماحات في رحبة مالك، وينهي ورود مشرّف سمح ببيانه، ونفح بعرفانه، وجنح الى عوائد إحسانه ولمح أشرف المعاني بإنسانه، وربح إذا بدا بفصل خطابه وفضل بنانه، أبى الله إلا أن يكون له الفضل في ابتدائه، والفوز بسبق تحيته وإنشائه، فقبّله المملوك تقبيلاً، وفضّه فإذا البيان جاء معه كان قَبيلا، ورأى أدباً غضاً، ونظماً ونثراً فاقا مَن سلفَ عصرَه وتقضّى. ولقد ذكر مولانا بأوقات قُربه، على أن المملوك ما زال يذكرها، وأقرّ عيناً ما برحت تشهد محاسنه وتنظرها:
أبلغ أخانا أدام الله نعمته ... أني وإن كنتُ لا ألقاه ألقاه
الله يعلم أني لست أذكره ... وكيف يذكره من ليس ينساه
ولقد تجمّلت بمولانا جهة تصدّر أخبارها بأقلامه، وتصْدر مهماتها بمتين كلامه، ويبدو صلاحُها بألفاظه التي هي كالزُلال في رقته والدُرّ في نظامه، فبسط الله ظلال مَن أمتع هذه المملكة بمولانا، وسيّر ركابه إليها، وطالما أولاه الخير وأولانا، قد شمل البعيد والقريب بفضله، وعمّر مصر بسؤدده، وغمر الشام بفضله:
كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... كرماً ويبعث للبعيد سحائبا
ثم يعود المملوك الى وصف محاسن مولانا التي مكنت في القلب حُبّه، وأرضت بالود مملوكه وتِربه، وشيّدت له في الأفئدة أعظم رتبة:
أتتنا من ودادك خيرُ هبّه ... فنعّمَ طيبها عيش الأحبه
وزارتنا على نأيٍ فأهدت ... لنا أنساً به أنسي تنبّه
تذكّرني بزورتها ائتلافاً ... ووقتاً طالما مُتّعت قربه
نأى عن مصر من مولاي أُنسٌ ... فألْفى بعدها رحباً ورحْبَه
للفظك في الطروس عُقودُ معنى ... بها دُرُّ الترائب قد تشبّه
وخطك لم يزل درّاً ثميناً ... له بالجوهر الشفّاف نسبه
بنانكَ منبر يرقى عليه ... يراعٌ كم لها في الطرس خطبه
خطبت من المعاني كلَّ بكر ... فلبّت بالإجابة خير خطبه
كأنك قد رقيت الأفق عَفوا ... فأعطى طرسُك الميمون شُهبه
فدُمت معظّماً في كل أرضٍ ... تنال من السعود أجلَّ رُتْبه
وكتب هو إليّ ونحن بالمخيم السلطاني على طَنان ملغزاً:
يا مبدعاً في النظم والنثر ... وفاضلاً في علمه يُثْري
ومودعاً مُهرقه كل ما ... يُزري بحسن الدرّ والتبر
إن أُحكمت ألفاظُه أصبحت ... قواطعاً تربي على البُتْر
ما صامتٌ تنطق أفضالُه ... وكاتمٌ للسرّ في الصدر
تصلحُه الراحةُ لكنه ... يُتعب في الطيّ وفي النشر
قد أشبه البيض ولكنه ... يحتاج يا ذا الفضل للسمر
تفرّق الليل بأرجائه ... كأنه وصلٌ على هجر
يسير عن أوطانه دائماً ... للنفع في البر وفي البحر
إذا كان يوماً ضيف قومٍ غدا ... يقري وخير الناس من يقري

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16