كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

وسمع من ابن عبد الدائم، وروى عنه، وسمع من ابن أبي الخير، وابن علان، وجماعة. وحج غيره مرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة.
أحمد بن عبد المحسن بن الرفعةابن أبي المجد الشيخ الصالح المسند شرف الدين أبو العباس.
سمع من النجيب الحرَّاني، وابن عَزّون، والمعين أحمد بن القاضي زين الدين الدمشقي، وابن ملكويه المشرف البروجردي، وتاج الدين القسطلاني، وسمع مشيخة الرازي، والجمعة للنسائي على الشيخين المقدم ذكرهما.
وتوفي في ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة، ودفن بالقرافة.
ونقلتُ من خطّ السَّراج الورّاق، ما كتبه إلى الشيخ، لما قدم من الحجاز:
لم لا أراك من الحِجَا ... ز وقد وصلتَ ولا أراكَا
طيِّب سواك فمي فلم ... يُعجِبهُ ذكرُ فتىً سواكا
أحمد بن عبد الواحدابن عبد الكريم بن خلف، الشيخ الأمين الفقيه العَدل الفاضل فتح الدين أبو العباس ابن الشيخ الأمام العلامة كمال الدين الأنصاري الزملكاني.
حدَّث عن خطيب مردا، والبكري، وابن عبد الدائم الزملكاني.
توفي رحمه الله تعالى ظهر يوم الاثنين ثالث عشر صفر سنة تسع وتسعين وست مئة، ودفن بمقابر الصوفية عند والده وأخيه الشيخ علاء الدين.
وفَتحُ الدين هذا هو عم الشيخ العلامة كمال الدين ابن الزملكاني قاضي حلب.
وكان مولد فتح الدين في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وست مئة.
قال شيخنا البرزالي: سمعت عليه خمسة عشر جزءاً.
أحمد بن عبد الوهابابن خلف بن محمود بن بدر القاضي علاء الدين المعروف بابن بنت الأعز الشافعي.
حج ودخل اليمن، وعاد وقدم دمشق، وولي تدريس الظاهرية والقَيمَريَّة، وكان يركب البغلة ويتحنَّك على عادة المصريين، وهو أخو الأخوين قاضي القضاة محمد صدر الدين وقاضي القضاة عبد الرحمن تقي الدين.
وعاد من دمشق إلى مصر ودَرَّس بالكُهاريّه والقطبية، وتولى الحسبة باخرَة.
وكان مليح الشارة، فصيح العبارة، مليح النضارة، فيه كرم وإحسان وجود، ومحاسنٌ يتضوع من نشرها الوجود، مع لطف مزاج، واعتدالٍ لا يُؤديّه إلى انزعاج، كثيرَ التبسم، شديد الاسترواح إلى المكارم والتَنَسُّم، وكان فيه شهامة، وعنده بالأمور العظام كفالة وزعامة.
ولم يزل بمصر على حاله إلى أن أجاب الداعي، وقام به الناعي.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة.
أخبرني من لفظه شيخُنا العلامة أثيرُ الدين، قال: حَضَرنَا مع المذكور في الروضة فكتب إليّ، وَوَجَّهَهُ مع بعض غلمانه:
حَيَّيتُ أثيرَ الدين شيخ الأدبا ... أفضي حقاً له كما قد وَجَبَا
حَيَّيتُ فتىً بطاقِ آسٍ نَضِر ... كالقدِّ بدا مُلِئتُ منه طَرَبَا
قال: فأنشدته:
أهدى لنا غُصُناً من ناضر الآسِ ... أقضى القضاةِ حليفُ الجود والباسِ
لمّا رأى سقمي أهداه مع رشأٍ ... حُلوِ التثني فكان الشافي الآسي
وأنشدني قال: أنشدني من لفظه لنفسه:
تعطلتُ فابيضّت دَوَاتي لحُزنها ... ومُذقلَّ مالي قلَّ منها مِدادها
وللناس مُسوَدُّ اللباس حدادهم ... ولكنَّ مُبيضَ الدواةِ حِدادها
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه:
في السُمر معانٍ لا تُرى في البيضِ ... تالله لقد نصحتُ في تعريضي
ما الشهد إذا طعمته كاللبنِ ... يكفي فَطِنا محاسنُ التعريضِ
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه:
قالوا بالعذارِ تسلَّ عنه ... وما أنا عن غزال الحسن سالِ
وإن أبدَت لنا خدّاه مسكاً ... فإن المسك بَعضُ دم الغزالِ
أحمد بن عبد الوهاب

بن عبد الكريم
شهابُ الدّين، النويريّ المحْتد، القُوصيّ المولد.
سمع على الشريف موسى بن علي بن أبي طالب، وعلى يعقوب بن أحمد، وأحمد الحجّار، وزينب بنت مُنجّا، وقاضي القضاة ابن جماعة، وغيرهم.

وكتب كثيراً، كتب البخاري مرَّات، كتبه ثماني مرات، وكان يكتب النسخة ويقابلها، وينقل الطباق عليها ويجلّدها ويبيعها بسبع مئة درهم وبألف، وباعَ تاريخه مرة للقاضي جمال الكفاة بألفي درهم، وكان يكتب في النهار الطويل ثلاث كراريس، وحَصل له قربٌ من الدولة في وقت، وجمع تاريخاً كبيراً في ثلاثين مجلدة رأيته بخطّه.
كان المذكور قد تقدَّم عند السلطان الملك الناصر، وعُقِدت عليه الخناصر، ووكَّلهُ في بعض أموره، وجعله في موضع سرَّه، وعمل عليه ولعب بعقله حتى رافَع ابن عُبادة، وهو الذي قربه إليه ورفع عندَه عِمَادَه، غضُربَ بالمقارع نكالاً وتخلّى السلطان عنه وأضحك منه الثكالى، ولكنَّ ابن عبادة عَفَا عنهُ وما انتقم منه.
وتقلَّب في خِدم الديوان، وباشر نظرَ الجيش بطرابلس في وقت، ونظر الديوان بالدقهلية والمرتاحيّة.
وكان حسن الشكل فيه مكارم وأريحيّة، يتودَّدُ لأصحابه، ويتردد لمن يتمسَّكُ بأسبابه، مع ذكاءٍ في فطرته واحتشام في عشرته. صام شهر رمضان وهو في كل يوم بعد العصر يستفتح قراءة القرآن إلى قريب المغرب، ثم حصل له وجع في أطراف يديه زار منه منازل البلى وترك الدمع عليه مُسبَلاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومن شعره:....
أحمد بن عبد الله بن جبريلكاتب الإنشاء من الأيام المُعِزيّة إلى آخر وقت القاضي شهاب الدين.
كان كاتباً مأموناً، مباركاً على الدولة ميموناً، تردد إلى الديوان زماناً، وأخذ من السعد فيه أماناً، إلى أن أضرَّ ولزم الجلوس في داره وأصرَّ. ولم يزل على ذلك إلى أن ودع أهله بالحزن بعد مسرَّة وهنا، وأصبح بعمله في القبر مرتهناً.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة تسع وسبع مئة.
وهو والد القاضي صلاح الدين بن عبد الله، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ودارهم بالقاهرة في حارة وزيلة.
أحمد بن عثمان بن قايمازابن أبي محمد عبد الله الفارقي التركماني الدمشقي شهاب الدين، والد شيخنا الشيخ شمس الدين الذهبي.
سمع صحيح البخاري سنة ست وستين على المقداد القيسي، عن سعيد بن الرزاز، عن أبي الوقت.
وأجاز له تقي الدين بن أبي اليُسر، وجمال الدين بن مالك، وجماعة.
وسمع مع والده ببعلبك من التاج عبد الخالق وزينب بنت كِندي، وجماعة. كان فيه دين وخبير ودفع الضرر عن غيره والضير، افتكَّ من عكا أسيرين، وأعتق جارية وغلامين، وبرع في صناعة الذهب، وكان في يده مثل اللهب. ولم يزل على حاله إلى أن انتهى شوطه، وفرغ من سَوْق الحياة سَوْطه، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة.
أحمد بن عثمان بن أبي الرجاءشهاب الدين بن السَّلعُوس التنوخي الدمشقي، أخو الصاحب شمس الدين.
سمع من ابن عبد الدائم، وسمع بالإسكندرية في تجارته من عثمان بن عوف. وسمع منه البرزالي.
كان في سمعه ثِقل، وهو لأجل التجارة لا يزال في نُقَل، وفيه برّ وصدقة، وله تطلُّع إلى الإحسان لا يُطرق معه حدقَه، ونال الجاهَ العريض أيام وزارة أخيه، وولي نظر الجامع الأموي، إلا أنه ثبتت أواخيه، ولما قُتل أخوه عاد إلى حاله الأولى وانكفَّت يده الطولى.
ولم يزل كذلك إلى أن وقع ما لابُدَّ منه، ونفرت أوانس الحياة عنه، وتوفّي رحمه الله تعالى كهلاً سنة سبع وتسعين وست مئة.
أحمد بن عثمان بن إبراهيمابن مصطفى بن سليمان، الشيخ الإمام الفقيه تاج الدين أبو العباس المارديني الحنفي، المعروف بابن التركماني، وسيأتي ذكره والده وأخيه في مكانهما إن شاء الله تعالى.

كان فقيهاً مُجيداً، وأدبياً مفيداً، ومُبدياً للفوائد في الفنون ومُعيداً، صنف في غير ما فن وأظهر ما بطنَ من الغوامض وما استَجَنَّ. له تعليقه على المُحَصَّل للإمام فخر الدين وشرحٌ على منتخب الباخي في أصول الفقه للحنيفة، وثلاث تعاليق على خلاصة الدلائل في تفتيح المسائل للحنيفة؛ الأولى: في حل المشكلات، وتبين المعضلات، وشرح الألفاظ وتفسير المعاني للحُفَّاظ. والثاني: في ذكر ما أهمله من مسائل الهداية. الثالثة: في ذكر أحاديثه والكلام عليها وعلى متونها وعلى تصحيحها وتخريجها. شرحُ الجامع الكبير لمحمد بن الحسن، وشرح الهداية، أظنه لم يكمل، وكتابان في علم الفرائض مبسوط ومتوسط، وتعليق على مقدمتيَّ ابن الحاجب، وشرح المثّرب لابن عصفور أظنه لم يكمل، وشرح عرُوض ابن الحاجب، كتاب في أحكام الرماية والسبق والمحلل، وكتاب الأبحاث الحليّة على مسألة ابن تيميّة، وشرح الشمسية في المنطق، أظنه لم يكمل، وشرح التبصرة للخرقي، في الهيئة أظنه لم يكمل.
وله نظم جيّدُ المقَاصد ونثر يُعَدُّ في الفرائد، وخطّه أبهى من الحلل الموشاة والرياض التي بالأزهار مُغشاة.
لم يزل في خدمة العلم إلى أن سكن التراب، وفارق لداته والأتراب، وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وأربعين وسبع مئة بالقاهرة في أول جُمَادى الأولى.
ومولده بالقاهرة سنة إحدى وثمانين وست مئة.
نقلتُ من خطه له:
غرامي بكم بين البريَّة قد فشا ... فلستُ أبالي بالرقيب ومن وشى
ولا غَروَ أن غرّت صفاتك من حكى ... فما قدر ما حالكَ الربيع وما وشى
وإن قستُها بالدُرِّقال بي السُها ... أفق إن ذاك الدُر في بحره انتشا
فقُمت بها أشدو على كل مَشهدٍ ... فكلٌّ به عُجباً تواجَدَ وانتشى
مغارسُه طابت وطاب أبَّوةً ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا
وما أنبت الخَطيَّ إلاّ وشيجُه ... ولا بات إلا في مُطهَّره الحشا
فجاء فريد الدهر أوحَدَ عصره ... وكم بين ذي نورٍ ومن كان ذا غِشا
ونقلت منه أيضاً:
ملكتَ عذَارى الجامحات وعُونَها ... وفجَّرتَ مِن عُقم المعاني عيُونها
رددت وجوه الشاردات أوتنساً ... وذلَّلت باللفظ البليغ متونها
فلا غَروَ أن هزَّ الصَّبا ... وقبَّل من بان العُذيب غُصُونَها
وأسكر صبّاً مُغرماً بحديثكم ... وفرَّعَ من حُسن الحديث شجونها
أحمد بن عثمان بن مفرّج بن حامد
الشيخ الصالح أبو العباس البعلبكي القيّم بلغ من العمر سبعاً وثمانين سنة، وكان شيخاً صالحاً، خدم المشايخ وسافر إلى العراق.
قال شيخنا البرزالي: وروى لنا عن ابن المقير الأربعين للحاكم قرأتها ببعلبك، وسمع أيضاً من ابن رواحة في أول سنة إحدى وعشرين وست مئة وسمع من الشرف المرسي، وغيرهم، ولزم المسجد في آخر عمره والعبادة.
وكان حسن السمت كثير المروءة، ديِّناً عفيفاً.
توفي رحمه الله تعالى في ثالث شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة.
أحمد بن عثمان
الأديب النظّام شهاب الدين الأمشاطي.
كان ينظم الشعر القريض، وهو فيه ذو طرفٍ غضيض، ولكنه في الأزجال والموشحات وما يحتاج الأدباء فيه إلى رأي العوام من الزيلجات قيّم في وقته بالشام، يعظمه أرباب هذا الفن بشهادة الحكام، أخذ على ذلك دراهم، واستعمل بها لحراجاتهم مراهم، لعب مراتٍ وغَلَب، ونُودي له بقيّم الشام من دمشق إلى حلب، وكان له قدره لنظمه الشعر، فإنه به غَلالة الشعر.
ولم يزل على حاله إلى أن سُرحَ الأمشاطي إلى البرزخ، وأقام به إلى يوم القيامة مرسىً ومرشح.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأول من شهر رمضان سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ومات في عشر الستين.
وكتب عنه ابن طغريل.
ومن شعره:
وفتَّاكِ اللواحظ بعد هَجرٍ ... حنا كرماً وأنعم بالمزار
وظل نهاره يرمي بقلبي ... سهاماً من جفونٍ كالشفار
وعند النوم قلت لمقلتيه ... وحكم النوم في الأجفان جار
تعالى من توفاكم بليلٍ ... ويعلم ما جرحتم بالنَهارِ

وكان الأمشاكي قد نظم هو وابن مقاتل زجلين، فقطع أرباب فنّهما للأمشاطي بأنه الغالب، وابن مقاتل يدعي أنه سافر إلى مصر وأخذ خطَّ الشيخ صدر الدين بن الوكيل وخط شخنا أثير الدين وغيرهما من المصريين بأنه هو الغالب والأمشاطي رحمه الله تعالى.
لك خَدْيا أح مذ حاز مُلح ... روضو اصطبح فيه واغتبق
خال من سبح أسبى المهج ... زهرٌ خرج وأظهرُ فَرج
من هام بيه ليسَ يُلاَمْ
مُعَيشِقي النادر ... ليس في الملاح ندُّو
وجهو المضي الزاهر ... يدر الكمال عبدو
ولو قوام ناضر ... في اللين أخذ حَدُّو
قام في الرياض خاطر ... رأى الغُصِين قدّو
عليه رَجَح مات وانطرح ... لما افتضح وفي الورق
صار مندرج ومُندمج ... وراح همج من العِوَج
حين قام ذاك القوام
جيت في الملامح نَدرة ... مطبوع حلو سُكّر
لك جفن بالكسرَة ... على الملاح يُنصَر
والريق لنا سَكرّة ... آه لو نطيق نسكرِ
وخد فيه خُضرَة ... أبيض شريق أحمر
نُورو اتضح لِمن لُمح ... كِنّو قَدَح رَاقَ للحدَق
صَفَا نتج لمّا ابتهج ... نار دون وهج أو امتزج
والتام ماء والمدَام
صادفت من عزَّر ... هجري في وَحد اليوم
دَنَا رقيق أصفر بحال هلال الصوم
شكيت لو كم نسهر ... قال لي: اكتحل بالنوم
فناديت وقد أبحر ... دمعي ولي فيه عوم
يا من قداح رق وجرح ... وما صفح ولي شُقَق
سُقمي نسج من صار نهج ... وَك مُتَّهج وفي لُجَج
قد عام كيف لو مُنام
ظهرَ وكان يخفي ... عني وصال حُبّي
وارتدَّ عن خُلفي ... ومال إلى قُربي
نحمد ونشكر ونشكر في ... كل الأمور ربّي
فقرَّ يا طرفي ... والتَذّ يا قلبي
وابدي الفرح واخفي الترح ... أمرك نجح كم بالقلق
تعمل حجج وتنزعج ... جاد بالفرج بعد الحرج
قسَّام رزق الأنام
معك قوَّام أرشق ... من الغصن وأنضرُ
بليل شعرو أورق ... وبالقمر أثمر
وخذ رُزضُوا عبق ... جنّانُو خال عبر
وكل من حقق ... في طلعتك يبصَر
لك خديا أح مذ حاز مُلح ... روضوا اصطبح فيه واغتبق
خال من سَبَح أسبى المهج ... زهرُ وخرج وأظهر فَرج
من هام بيه ليس يلام
والذي نظمه علاء الدين بن مقاتل:
طرفي لمح بدر اتضح ... لي فيه مُلَح ماعو حَدق
إذا اختلج فيها الدعج ... يسبي المهج ولو نسج
رَقام عذارو لام
جل الإله منشيه ... من بعض اياتُو
خَدّو المضرج فيه ... نارُو وجَنَّاتُو
والورد كاد يبديه ... في غير أوقاتو
ومن جنا عينيه ... لمى في وجناتو
وردُو اتّفح نشرُو انفضح ... وفيه نضح طلَّ العرق
وامتزج ذاك الوهج ... من الضَرَج فاح لو أرَج
نّمام على الخزام
واعظ هويت وعظوُ ... والخطبة والإنشاد
والختمة من حفظو ... والدرس والإسناد
ومزدوج لفظو ... قد أفرد العُبّاد
شبّهو من حَظوّ ... في ليلة الميعاد
حين قال صح في ما شرح ... وقد فَضَح لما نطق
بالمزدوج وابتهج ... وقد عَرَج على الدرج
وانقام بدر التمام
محبوبو لما احرَف ... عنُّو لشومِ قسمُو

سَقمو عليه أسرف ... حتّي محا رسمُو
وما بقي يُعرف ... مِنّو سوى إسمو
وعلى الممات أشرف ... ومن نحول جِسمُو
قد صار سَبَح ولا برح ... ولا انتزح عَّمن عشق
ولا انحرج ولا انزعج ... لو اندرج واندمج
لا لام ولا يُلام
سمع بأوصافي ... وما رويت عنّو
عمل على إنصافي ... ووصلي صار فنُّو
وعيشنا الصافي ... زال الكدَر عنّو
مع حظي الوافي ... وما احلا ما إنّو
معي مَزَح ولي فتح ... باب الفرح وقد غلق
باب الحرج وللفرج ... معي درج وجا الفر
والتام حفظ الذمام
ما ذي الملاّح إلا ... فتنة لمن يعشق
الله لهم حلَّى ... بالبهجة والرونق
بحالهم أصلاً ... في الجنة ليس يخلق
فكيف نطيق نسلا ... عنهم وفي جلَّق
طرفي لمح بَدرَ اتضح ... في فيه مُلح ما عُو حَدَق
إذا اختلج فيها الدعج ... يسبي المهج ولو نَسجَ
رقّام عذارو لاَم
قلت: أنا أحاشي الشيخ صدر الدين والشيخ أثير الدين رحمهما الله تعالى أن يكونا حكماً لابن مقاتل على الأمشاطي، وابن مقاتل قد جاء معه عدة عيوب منها قوله " جنا عينيه " مع قوله " منشية ومبدية " ، وهذا لا يجوز قريضاً ولا زجلاً، ومنها قطع همزة الوصل وهو غير جائز عند الزجّالة، ويسمون مثل هذا: " ركبة " ، ومنها أنه ذكر الواعظ وما لذكره هنا بمعنى، لأنهما ما تفقا على أن ينظما في واعظ، هذا إلى غير هذه الأشياء من العيوب.
أحمد بن عسكر بن شدّاد
الفقيه الفاضل كمال الدين.
كان رجلاً صالحاً فقيهاً نبيهاً متقشفاً مقلاً من الدنيا.
سمع كثيراً مع شيخه ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، وغيرهما.
وحدَّث وحجَّ غير مرة، وكان يسافر إلى القدس ماشياً كلَّ سنة.
توفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة اثنتين وسبع مئة. وحضر جنازته القضاةُ والعلماء.
أحمد بن علي بن عبد الوهابابن يوسف بن منجا، شهاب الدين الأدفوي.
كان من الأذكياء العقلا، والدَّينةِ النبلا، صدوق اللهجة، ظاهرَ الوضاءة من الخير والبهجة، تفقه للشافعي، وقرأ النحو، وكان فهماً ذكياً ذا همة، وقريحة تخلو له الليالي المدلهمة، وفيه صدقه وبِرّ، وإخلاصُ باطنٍ وسِرّ، وإكرامٌ للفقراء والصالحين والضيوف الواردين.
حضر إلى القاهرة، وشرع في حفظ التسهيل، فقرأ منه القليل، ونزل به حادث المنايا، ووارث الرزايا.
وتوفي بالمدرسة الصالحية في صفر سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
أحمد بن علي بن عبد اللهابن أبي البدر. المحدث جمال الدين أبو بكر البغدادي القلانسي.
كان مفيد بغداد، عُني بالرواية وهو ابن عشرين سنة، وسمع الكثير من عبد الصمد، ومحمد بن أبي الدينَّة وابن بلدخي وعدَّه. وخرّج وأفاد، وكتب وروى قليلاً.
وحدّث عنه التقي محمد بن محمود الكرخي وابنه أحمد، وأحمد بن عبد الغني الوفاياتي، وعبد الله بن سليمان الغراد، ومحمد بن يوسف بن منكلي.
وكان صدوقاً فما يدَّعيه وما يقوله ويعيه.
لم يزل يفيد ويطلب، ويزيد ويكتب عن المشايخ في الإجازات، ويكتب ما في الجزازات، إلى أن باخ جمره، وأناخ عليه بكلكله دهره.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وسبع مئة.
ومولده في جمادى الآخرة سنة أربعين وست مئة
أحمد بن علي بن هبة اللهشمس الدين بن السّديد الإسنائي الشافعي.
قرأ الفقه على الشيخ بهاء الدين هبة الله القفطي، وتولى الخطابو بإسنا، وناب بها في الحكم وبأدفُو بقوص، ودرس بها، وبنى بها مدرسة، ووقف عليها أملاكاً جيَّدة، ووقف على الفقراء.

وكان قويَّ النّفس يبذل الألوف ليقهر أعداءه ويذيقهم الحتوف، محافظاً على الرياسة ملازماً لطريق الخدمة للأكابر والسياسة، واقفاً مع هواه لا يحذر من مَهوَاه، مُمدَّحاً معطاءً مَهيباً، واجداً بالتقدم في الدنيا وجد المتيَّم إذا رأى حبيباً، انصرف منه عل نيابة الحكم بقوص ثمانون ألف درهم، وما دخل منه القلب ولا الصدر همّ وصادره الأمير سيف الدين كراي المنصوري في آخر عمره وأخذ منه مئة وستين ألف درهم.
وتوجه إلى القاهرة وتمارض فمرض، ونزل به الأمرُ المحتوم وأصبح وهو تحت الأرض في حرز مختوم.
وكانت وفاته في شهر رجب الفرد سنة أربع وسبع مئة.
أحمد بن عليابن الشيخ الزاهد يوسف بن علي بن إبراهيم سبط الشيخ ضياء الدين أبي المحاسن عبد الحق الواسط الحنفي، القاضي شهاب الدين أخو قاضي القضاة برهان الدين ابن عبد الحق بن خلف بن عبد الحق، تقدم ذكره في الأباره.
توفي رحمه الله تعالى في سنة ثمانٍ وثلاثين وسبع مئة ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة.
أحمد بن علي بن أحمدالشيخ فخر الدين أبو طالب الهمداني الكوفي الحنفي المعروف بابن الفصيح، والفصيح جده لأمه.
نظم " الفرائض السراجية " و " كنز الدقائق " و " المنازل في أصول الفقه " و " نظم شاطبيةً " أظهر رموزها وجاءت أصغر من الشاطبية.
وسمع على الصغاني وروى عنه.
وكان له في البلاد العراقية ذكر وسمعة، وهناك له ضوء ونور يتوقد في شمعه.
حضر إلى دمشق في أيام الأمير علاء الدين الطّنبغا نائب الشام، وحصل له منه إقبال تام، وكان مدّرس المدرسة التي بالقصّاعين يُظهر فيها فوائده، وينظم في أجياد الدروس فرائده، وعاد بالريحانية إلى أن مات بها، وعمَّر بالإفادة زوايا جوانبها.
وكان مشكورَ الوداد، حَسَن الاعتقاد، أكبَّ على الاشتغال ليلاً ونهاراً، لا يردّ طالباً، ولا يَصُدّ مغالباً، إلى أن خرس ابن الفصيح وتبوأ بطن الضريح.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد سادس عشري شعبان سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمانين وست مئة. أنشدني من لفظه الإمام شمس الدين محمد بن سند اللخميَّ قال: أنشدني الشيخ فخر الدين لنفسه:
لا تجزعنَّ فليسَ ذاك بنافعٍ ... وَقَعَ الذي قد كنتَ منه تحذرُ
فتلقَّهُ بالصبر أو متبصراً ... والصبرُ بالنفسِ الكريمةِ أجدرُ
أحمد بن علي بن عُبَادة
القاضي الرئيس شهابُ الدين الأنصاري الحلبيّ.
نش بالدّيار المصرية، وكتب واشتغل، وولي شهادة الخِزانة، واتصل بخدمة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وحظي عنده، وأورى السعدُ زندهُ، واشتهر في مصر بالوجاهة، وعاملهُ مخدومه بالدعابة والفكاهة، وكان معه في وقعة التتار سنة تسع وتسعين وست مئة، وتأخر بَعدَهُ بدمشق، وولي أمر التربة المنصورية بالقاهرة، والأوقاف والأملاك السلطانية، ولازمه، واتحد به، وشدَّ للموت حيازمه. وتوجه معه إلى الكرك وأقام بالقدس شهوراً، وجانب جدّاً كان في ذلك الوقت عثوراً، ولمّا عاد السلطان إلى مصر عاد معه إليها، وقدم بالسعد والإقبال عليها.
وعرض عليه الوزارة فما وافق، والظاهر أنه خادع في ذلك ونافق، وأطلق له في حلب ضيعَة، وجل مَغُلَها له وريعَة، وضيعةً أخرى بالسواد من دمشق.
وكان جيّد الطباع سهل الانقياد إلى الانتفاع، تعرَّف به أقوام فأفلحوا، وعاملوه بالوفاء فربحوا. ولما كان في خدمة السلطان لم يكن ذكرٌ لغيره، ولا لأحد قدره على سَيره.
ولم يزل على حاله إلى أن فقدته أوطانه، ولم ينفعه فيما نزل به سلطانه.
توفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة في سادس عشر جمادى الأولى.
أحمد بن علي بن وهبالعدل المعمِّر الدين أبو العباس بن محمد بن دقيق العيد، أخو الشيخ الآتي ذكره في المحمّدين إن شاء الله تعالى، القشيري، المنفلوطي.
سمع " الثقفيّات العشرة " وثاني " المَحَامِلِيّات " ، وثاني سعدان، وأربعين السلفي من ابن الجُميّزي، وسمع " جزء " الصولي من ابن رواج، وسمع من الزكي المنذري وغير واحد، وحدّث قديماً.
سمع منه البرزالي، وقطب الدين عبد الكريم وجماعة.

واشتغل بمذهبي الشافعي ومالك على أبيه، ودرّس بالنجيبية بقُوص مكان والده، وكان يُلقي الدروس في المذهبين، وتولى الحكم بغرب قمولا وبقوص عن قاضي القضاة الحنفي، ولكنه اختلط بآخرة، وكان يتساهل في الشهادة وما يجري في ذلك على العادة، إلا أنه كان كثير العبادة، يسرد الصوم إرادَه، مع أورّادَهُ، ويكفل الأيتام ويزين خنصر البر بخَيتَام، وطال عمره، وتفرد برواية أشياء، وألحق بالأموات الأحُيَاء.
ولم يزل على حاله إلى أن " أخنى عليه الذي أخنى على لُبَد " وعَدم الرواة عنده من الزّبَد.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده في أحد الربيعين ست وثلاثين وست مئة.
أحمد بن علي بن الزبيرابن سليمان بن مظفر: القاضي الفقيه شمس الدين أبو العباس الجيلي أبُوه، الدمشقي الشافعي الشاهد من صوفة الطواويس.
سمع مجلدين من " سنن البيهقي " من ابن الصلاح.
وروى عنه سائر من طلب ورحل الناس إليه حتى من حلب.
وكان ديّناً منطبعاً، نازلاً بأكناف التلاوة متربعاً، حسن المنادمة حتى حص الإقلاق خوافيه وقوادمه، ولم يزل على ذلك إلى أن غُصَّ بالحِمام وما وفي له الأمل بالذمام.
وتوفي رحمه تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة.
أحمد بن علي بن نصر بن عمرفخر الدين السوسي المصري الشافعي، نزيل القاهرة.
كان فقيهاً بارعاً في الأدب، حَسَن الخلق، مليح المحاضرة، محبوباً إلى الناس، له النظم والنثر.
توفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة ودفن بالقاهرة وله ثلاثون سنة.
ومن شعره:
شكت دارها فعل الهوى بقطينها ... وما استبدلته العَينُ من بعد عينِها
وكثرة أنصار النوى وانفرادها ... فأنجدتُها مِن غبرتي بكمينها
وما ادّخرت عيني مياهَ شؤونها ... لشيء سوى إنفاقه في شؤونها
جزاءً وفاقاً لو قنعت بنظرةٍ ... من الشمس لم يُرمِدكَ ضوءُ جبينها
أعد نظراً فالحسن في الكون كله ... مُعَارٌ له من كاف ليلى ونونها
يعانِقُك الغصن الرطيب بقدّها ... وتَسبيك غزلان النقا بعيونها
وقد حاق فيك السحر من ظبَياتها ... وقد ملت سكراً عند مَيل غصونها
فهل غيرُ ليلى فاعلٌ فيك فِعلَها ... إذن لست في دعوى الهوى بأمينها
وما شهد العشاق غيرَ جمالها ... ولا دانَ من دين الهوى غير دينها
ولا خَرِسُوا إلاّ لهيبة حسنها ... ولا نطقوا إلا بفضل فنونها
ولا دارَ في أفهامهم وعقولهم ... من السحر شيء غير سحر جفونها
ومن شرطها أن لا ينال محبُّها ... مُنى وصلها ما عاف طعم منُونها
ولا تكتفي من نُدَّعٍ فرط حُبّها ... بدعوى ولا أن أكِّدت بيمينها
لها شاهد منها تميَّزَ عندها ... صدوقُ الدعاوى في الهوى من ظَنينُها
فقم صادقاً أو نم فللحب أهله ... وبه زلفاً بيضَ الليالي بجونها
وها كلمات في النصيحة من فتىً ... فصيح بألفاظ العِظات مُبينها
خذ العفو ممن تصطفيه ولا تسل ... عن الغيب واعرف خلة بقرينها
وأخرى أضاء الحق في جنباتها ... وخرَّقَ ليلَ الشك صبحُ جبينها
إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن ... على حاله إلا رضيت بدونها
أحمد بن علي بن محمد

بن سلمان بن حمائل
القاضي الفاضل الكاتب البليغ الناظم الناثر، نجم الدين أبو العباس ابن الشيخ علاء الدين بن غانم.
أحد كتاب الإنشاء بدمشق، وسيأتي ذكر جماعة من أهل بيته كل منهم في مكانه.

كان القاضي نجم الدين هذا أكبر من أخيه القاضي جمال الدين عبد الله الآتي ذكره في حرف العين إن شاء الله تعالى، ولكنه لم يتفق له الدخول إلى ديوان الإنشاء إلا بعد أخيه جمال الدين عبد الله بمدة، وكان نجم الدين ينظم القريض غيدَّعي سامعُهُ أنه أنقُ من الروض الأريض، وأنه للطافته يأسو به القلب المريض، وتنظر الزهر الثواقب إلى زهرة الغض بطرفٍ غضيض، ويكتب فيوشِّي برود المهارق بقلمه ويرصع تيجان الطروس بجواهر كلمه، كأنما طروسُه وجتات طرّز وردها أسُ العذرار أو قطعٌ من الليل الداجي جرت فيها أنهارٌ من النهار:
زهراء أحلى في النفوس من المنى ... وألذّ من ريق الأحبّة في الفمِ
وكان دخوله في الديوان بعد موت والده رحمهما الله تعالى في سنة ثمانٍ وثلاثين وسبع مئة.
جاء إلى مصر وتوصّل بالأمير بدر الدين بن الخطير وتنجَّز له توقيعاً من السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وأقام إلى أن حضر القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء بدمشق بعد إمساك الأمير سيف الدين تنكز، فجرت له معه كائنة خرج بسببها من الديوان، ثم إنه توجه إلى مصر وعاد بتوقيع ثان في زمن الملك الصالح إسماعيل.
وقد خرج القاضي شهاب الدين بن فضل الله وعزل، ولم يزل نجم الدين المذكور يكتب في ديوان الإنشاء إلى أن توجه في شهر رمضان سنة ثمانٍ وخمسين وسبع مئة إلى ثغر بيروت لضبط متحصل الموقَّعين من الميناء. فأقام بها تارة يمرض إلى أن مات بعِلَّة الذَّربِ في أوائل ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، ولم يخلف ابناً غير ابنةٍ صغيرة عمرها تقدير سبعة أشهر.
وكنت قد كتبتُ إليه وأنا بمرج الغسُّوبلة:
مولاي نجم الدين يا من فضله ... قد عمَّني بخصائص الإحسانِ
أوحشتني في سفرة قضَّيتُها ... بالمرجِ منفرداً عن الخلان
فبكيتُ لما أن ذكرتك بالدِّمَا ... حتى مَلأتُ المَرجَ بالمرجان
فكتب هو الجواب إليَّ عن ذلك:
شوقي صلاحَ الدين نحوك لم يزل ... مع فرط وجدي آخذاً بعناني
أوحشت عيني منذ سِرت ولم تزل ... والله يا مولاي نصب عياني
راسلتني بلطائف يا حُسنها ... هي في الضمير رسائلُ الإخوانِ
لا كان هذا المرجُ أجرى عبرتي ... في الخد كالبحرين يلتقيان
لما بكيتُ الخلّ صار الدمع في ... عنق المحب " قلائد العقيان "
وكتبتُ أنا إليه وقد انقطع من الديوان:
أمولاي نجم الدين أوحشت خاطراً ... لبعدك بعد القرب والأنسُ دائبُ
فنار الجوى لم يطفِها من مدامعي ... لفقدك لما غبت عني السحائبُ
وقد أظلم الديوان بعدك وحشةً ... وما حال أفقٍ نجمُه عنه غائبُ
فكتب هو الجواب إليَّ عن ذلك:
أيا مالكاً لي من علاه رغائب ... وفي كل وقت من نداه غرائبُ
أتتني أبيات حسانٌ لطائفٌ ... فقلبي عليها دائم الوجد ذائبُ
وأنت الذي مازلت كالبحر للورى ... لنا من أياديكِ الكرامِ عجائبُ
وكتبت أنا إليه وقد وعدني أن يربط لي بغله على حشيشٍ عنده:
بغلتي هذه تريد حشيشاً ... ما أنا وزنه بعقلي المعيشي
فكتب هو الجواب عن ذلك:
يا إماماً قد حاز كل المعاني ... طول دهري إليه كُلّ هشيشي
إنّ ذاك الحشيش صار يبيساً ... فرغاه يا مالكي إكديشي
وكتبت أنا إليه ملغزاً في " تميم " :
مولاي نجم الدين يا من له ... خليلُ ودِّ وهو أزكى حميمٍ
ما اسمٌ رباعيٌّ له أوّلٌ ... إن زال عنه لم نجد غير ميم
فكتب هو الجواب عن ذلك:
مولاي قد قلدت جيدي حُليً ... من جوهر اللفظ بعقد نظيمٍ
أدَيته من مجر علم له ... ذخائر والقلب منها يهيم
موَّهتَ معناه فتم العنا ... والبدر يسبي منه تاء وميم
وكتب إليَّ وقد انقطعتُ عن الديوان، وهو ضعيفُ:
أصبحتُ في الديوان وحدي في عنا ... وأذى أراه بخاطري وبعيني
كُنَّا به مستأمنين ولفظنا ... من لطفه يدعى بذي السجعين

وبه صلاح لم يزل مع علمه ... تروى معاليه على السمعين
فنأى فصراُ على البلى مستوقفاً ... أبكي على ما فات بالدمعين
وبلوت أقواماً لبستُ لأجل ما ... أخشاه من تنكيدهم درعين
فكتبتُ أنا الجواب إليه:
حاشاك تصبح في عنىً أو في ضنىً ... نفسي فداؤك في الردى من ذين
والقصد أن تمسي وتصبح دائماً ... في صحةٍ ثبتت قرير العين
فإذا سلمت ودُمت لي ما ضرني ... من رحت أفقدُه من الحيين
أدري محبتك التي صحت وما ... رُمينُ بشيء في الوفا من شين
من صدق ودِّك تشتهي وتودُّ لو ... أصلحتَ ما بين الزمان وبيني
ما هذه الفتن التي إن أُخمِدت ... نار أجدَّت بعدها نارين
فكأنها الفتنُ التي يُحكى لنا فيما مضى من فتنة الحكمين
ألقى العدى وحدي وما درعي سوى ... صبرٍ تتناهَبَه ظُبى الجمعين
يا دهر كفّ فقد كفيتُ فما أنا ... كابن الزبير ولا أبي السبطين
ومن الذي لم يهتضمه زمانه ... أر ما رماه عدوه بالمين
دع ذا فإقبالي على شأني غدا ... أولى لتبرأ ساحتي من دَيْني
ما بعد هذا الشيب والسنّ الذي ... أربت على الستين غير الحَيْن
والله أعدل حاكمٍ بين الورى ... وقضاؤه فَضْلٌ على الخَصْمين
أحمد بن عمر بن زهيرابن عمر بن زهير بن حسين بن زهير بن عقبة الزرعي، الشيخ الأصيل الفاضل شهاب الدين أبو العباس الزُّرْعي الحنبلي.
كان جيّداً في قومه، معروفاً بالعدالة والأمانة، وله معرفة بالقسمة والمساحة، وفيه تودُّدٌ وكرم.
سمع من جده.
وروى عنه بدمشق وزُرّع وبصرى. وكتب عنه شيخنا البرزالي من نظمه، كان بينهما مودّة قديمة، وكان التتار قد أسَرُوا له ولداً نوبة " غازان " ، فتوجه إليهم في طلبه، وله قصائد في التشوق إلى زُرع، وله مراثٍ في ولده عمر، كان كثير التلاوة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
أحمد بن عمر بن عبد اللهابن عمر بن يوسف بن يحيى بن عامر بن كامل بن يوسف بن يحيى بن قابس، الشيخ الصالح أبو العباس بن الخطيب نجيب الدين ابن خطيب بيت الآبار.
كان رجلاً جيداً فقيراً مقيماً بالجامع ينوب عن أخيه في الأذان، ويذكّر يوم الجمعة.
سمع من جده لأمه الخطيب عماد الدين داود بن عمر، وهو عم والده، ومن إخوته الضياء يوسف، والموفق محمد، وغيرهم.
كان صائماً يوم الاثنين، وصلى المغرب في الجماعة وصعد إلى الجامع بالقرية فزلت رجله، فوقع فمات في رابع عشري ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
أحمد بن عُمر بن داود الصفدي
شهاب الدين كاتب الإنشاء بالديار المصرية.
توجّه مع والده زين الدين إلى القاهرة في سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ولما توفي والده رحمه الله تعالى أقام هناك فقرّبه القاضي علاء الدين كاتب السر للعقل الذي كان رآه منه والسكون الذي كان فيه، وكان قد حفظ التسهيل لابن مالك وكتب المنسوب، ومرض مدة طويلة.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة إحدى وستين وسبع مئة.
وكان مولده بدمشق في سنة ثلاثين وسبع مئة.
وكنت أنا إذ ذاك بالرحبة، فكتبت إلى والده أهنيه بذلك، وأجابني والده عن ذلك، والابتداء والجواب سقتهما في كتابي ألحان السواجع وسيأتيان في ترجمة والده إن شاء الله تعالى، وبلغني أنه تَرَكَ موجوداً مبلغه مئة ألف درهم وأزْيَد.
أحمد بن عمر بن عبد اللهقاضي القضاة تقي الدين ابن قاضي القضاة بالديار المصرية، وكان وجهه جميلاً ومجده أثيلاً، بياض شيبه على خدّه كأنه الياسمين على ورده، له مُرَوَّةٌ زائدة، وكفٍّ بالنوال جائدة، وكان معه أيضاً نظر الخزانة الكبرى، وهو بالطلوع إلى القلعة مُغْزى.
وما زال قاضياً إلى أن عَزَل السلطان محمد بن قلاوون القضاة الثلاثة دون المالكي. فلزم بيته إلى أن تعذّرت وقاية التقي من الممات ودخل في باب مضى وقضى وفاتْ، وتوفي رحمه الله تعالى سنة..........

وأجاز لي بخطه سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة بمصر.
أحمد بن عيسىصدر الدين بن الشيخ مجد الدين بن الخشّاب، وكيل بيت المال بالديار المصرية، وسيأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى في مكانه.
نال الوجاهة والصدارة وأصبح والناملُ تُومي إليه بالإشارة.
لم يزل على حاله إلى أن نزلت به الداهية الصمّا وأنزلته من عزته الشمّا، وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة.
أحمد بن فَرْح
بالحاء المهملة، ابن أحمد بن محمد: الإمام الحافظ الزاهد، بقية السلف، شهاب الدين أبو العباس اللخمي الإشبيلي الشافعي.
أسره الفرنج سنة ست وأربعين وست مئة، وخُلّص وقَدِمَ مصر سنة بضع وخمسين.
وتفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام. وسمع من شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري الحموي، والمعين أحمد بن زين الدين، وإسماعيل بن عزون والنجيب بن الصقيل، وابن عِلاّن، بدمشق عن ابن عبد الدائم وخَلْق.
وعُني بالحديث وأتقن ألفاظه وعرف رواته وحفاظه، وفهم معانيه، وانتقد لآليه، وكان من كبار أئمة هذا الشأن وممن يجري فيه وهو طلق اللسان، هذا إلى ما فيه من ديانة، وورع وصيانة، وكانت له حلقة أشغال بُكرةً بالجامع الأموي يلازمها ويحوم عليه من الطلبة حوائمها.
سمع عليه الشيخ شمس الدين الذهبي واستفاد منه، وروى منه في تصانيفه عنه، وعُرضت عليه مشيخة دار الحديث النورية فأباها ولم يقبل حبَاها، وكان بزيّ الصوفية، ومعه فقاهة بالشامية.
ولم يزل على حاله حتى أحزن الناسَ ابنُ فرح، وتقدم إلى الله وسَرَح، وشيّع الخلق جنازته، وتولّوا وضْعَه في القبر وحيازته.
وتوفي رحمه الله تعالى تاسع جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة.
وله قصيدة غزلية في صفات الحديث، سمعها منه الدمياطي واليونيني، وسمع منه البرزالي والمقاتلي والنابلسي وأبو محمد بن الوليد. ومات بتربة أم الصالح بالإسهال. والقصيدة المذكورة:
غرامي صحيحٌ والرَّجا فيك مُعْضَلُ ... وحُزني ودَمعي مُطْلَق ومسَلسَلُ
وصَبري عنكم يشهَد العقلُ أنه ... ضعيفٌ ومتروك وذُلّي أجملُ
ولا حَسَنٌ إلا سَماعُ حديثكم ... مُشافهةً تُملى عليّ فأنقُلُ
وأمري موقوف عليك وليس لي ... على أحدٍ إلاّ عليك المُعوَّلُ
ولو كان مرفوعاً إليك لكنت لي ... على رغم عُذّالي ترق وتُعذَلُ
وعَذْل عَذولي منكرٌ لا أسيغه ... وزُورٌ وتدليسٌ يُرَدُّ ويُهمَلُ
أقضّي زماني فيك متّصل الأسى ... ومنقطعاً عمّا به أتوصّلُ
وها أنا في أكفان هَجرك مُدرج ... تكلّفني ما لا أطيق فأحملُ
وأجريتَ دمعي بالدماء مدبَّجاً ... وما هو إلا مُهْجَتي تتحلَّلُ
فمتفقٌ جفني وسهدي وعبرتي ... ومفترَقٌ صَبْري وقلبي المبلبل
ومؤتلِفٌ شجوي ووجدي ولوعتي ... ومختلفٌ حظي وما منك آمُلُ
خذ الوجد عني مسنداً ومعنعَنا ... فغيري موضوع الهوى يتحيّل
وذي نبذٌ من مبهم الحب فاعتبر ... وغامضه إن رمت شرحاً أحول
عزيزٌ بكم صبّ ذليلٌ لغيركم ... ومشهور أوصاف المحب التذلّل
غريبٌ يُقاسي البُعد عنكِ وما له ... وحقِّ الهوى عن داره متحوَّلُ
فرفقاً بمقطوع الوسائل ما له ... إليك سبيلٌ لا ولا عنك نعدلُ
فلا زلت في عز منيع ورفعةٍ ... وما ولت تعلو بالتجني فأنزل
أُورّي بسُعدى والرباب وزينبٍ ... وأنت الذي تُعنى وأنت المؤمَّل
فخذ أوّلاً من آخرٍ ثم أولاً ... من النصف منه فهو فيه مكمّلُ
أبرّ إذا أقسمت أني بحبّه ... أهيم وقلبي بالصبابة يُشغَل
وقد ذكرت شرحها في الجزء الثلاثين من تذكرتي.
أحمد بن محسِّن
بتشديد السين، ابن مَلِيّ بن حسن بن عتق أو عتيق بن مليّ: العالم الفاضل نجم الدين المعروف بابن ملّي الأنصاري البعلبكي الشافعي المتكلّم.

سمع من البهاء عبد الرحمن، وأبي المجد ابن القزويني، وابن الزبيدي، وابن رواحة، واشتغل بدمشق، وأخذ عن ابن الحاجب العربية، وعن ابن عبد السلام الفقه، وعن الزكي المنذري الحديث، والأصول عن جماعة، الفلسفة والرفض عن جماعة.
ودرّس وأفتى زماناً وناظَرَ وأورد بياناً، وكان متبحّراً في العلوم لا يعبأ بمن يشكر أو يلوم، كثير الفضائل قادراً على أجوبة المسائل، أسداً إذا ناظر، بحراً إذا حاضر، حاضِر الحجّة، خائض اللُّجّة، حادّ القريحة، رادَّ السهام التي تصيب مقاتَلَه وهي غير صحيحة.
دخل إلى مصر غير مرة، وتوجه إلى قوص وأسوان، وامتزج فيهما بالأحباب والإخوان، وولي بأسوان تدريس مدرستها مدة، وكابد من الرَّمضاء والحر شدّة، وكان من تمكنه في العلوم يقول عند الدروس: عيّنوا آية حتى نتكلم عليها، فإذا عينوا ما أرادوا تكلم حتى يذعنوا لما يقوله وينقادوا كأنما يقرأ من كتاب أو يستسقي من بر زاخر العباب.
وسمع منه الطلبة، وقرأ عليه البرزالي موطأ القعنبي، وكان عديم المبالاة بالناس، يَشتَلق على الأنواع والأجناس، مستهتراً بمن يراه، مشتهراً بترك أدب الكبار والسراة.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن مَلِيّ بالعجر ملياً، وأمسى وعذره عن الكلام حلياً، وتوفي رحمه الله تعالى بقرية بَخْعون من جبل الظنّية سنة تسع وتسعين وست مئة في جمادى الآخرة.
ومولده سنة سبع عشرة وست مئة ببعلبك.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه الموطأ رواية القعنبي، وعدة أجزاء بسماعه من الشيخ بهاء الدين عبد الرحمن المقدسي، وجزء أبي الجهم بسماعه من ابن الزبيدي.
أحمد بن محمد بن إبراهيمابن عبد الواحد بن علي بن سرور: المسند عماد الدين أبو العباس بن قاضي القضاة شمس الدين ابن الشيخ القدوة عماد الدين المقدسي البغدادي ثم المصري الحنبلي.
سمع سنة اثنتين وأربعين من الكاشغري وابن الخازن، وسمع بمصر من عبد الوهاب بن رواح، وطائفة.
أخذ عنه الشيخ شمس الدين الذهبي، وكان يؤم بمسجد ولع مدارس، ولديه في التفرد بالرواية مغارس، وفاز بالعوالي وحاز من سندها اللآلي.
ولم يزل على حاله إلى أن مال عُمُدُهُ، واتصل بغيره سنده. وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، كذا قاله شيخنا البرزالي، وقال غيره: سنة عشر وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة.
وكانت وفاته بالقاهرة.
أحمد بن محمد بن إبراهيمابن محمد يوسف: الفقيه الأديب المحدّث أبو العباس المرادي القرطبي المعروف بالعَشّاب.
روى " مسلسل الراحمون " عن أبي محمد بن بُرْطُلُه، وكان صاحباً للبَطْرَني، يسمعان معاً، وسمع الموطأ عن ابن هارون، وروى عن أبي القاسم بن البراء التنوخي، وأبي محمد بن السفر، وسمع الشفا من أبي إسحاق بن عياش التُّجيبي بسماعه من السَّقوري عن مؤلفه إجازة، وسمع من عثمان بن سفيان التميمي سنة خمس وست وفيها مات.
وَوَزَرَ الجَيّاني صاحب تونس، وقرأ النحو.
وسمع منه يسير من عرّام، والشيخ حسن البغدادي بقراءته وتلاوته به على أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الأعلى الشُّبارقي عن أبي جعفر الحصّار تلاوة وسماعاً بسنده.
ولم يزل في شأنه مشتغلاً بإخوانه وأخدانه إلى أن نول تحت الثرى وأمّ ربّه وترك الورى وَرَا.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة.
أحمد بن محمد بن إبراهيمالفقيه المسند، صفيّ الدين أبو العباس الطبري المكي، أخو الشيخ زين الدين.
سمع صحيح البخاري من عبد الرحمن ابن أخي حَرَميّ العَطّار صاحب ابن عمار، وسمع شعيباً الزعفراني، وأبا الحسن بن الجمَّيزي.
كان ديّناً خيّراً، وذا بصر بالصلاح لا يزال نيّراً، وحدّث مدة، وسمع منه عدّه، وأضرّ دهراً، وبقي إلى أن وقع من مكان جَهْراً، فانقدحت بذلك عيناه وأبصر، وغنم النظر من الحياة واستقصر.
ولم يزل إلى أن تكدّر لصفي الدين زمانه، وأتاه من الموت حَدَثانه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
أحمد بن محمد بن إبراهيمالشيخ الإمام الفقيه المقرئ المراغي الرومي الحنفي، إمام الحنفية، بجامع دمشق، ومدرس المدرسة العتيقة، وشيخ الخانقاه الخاتونية ظاهر دمشق وغير ذلك.

كان ذا نغمةٍ يقف لها، ويتلبّث بها البرق المتسرع في السير، من يسمعه لا يعود يُعرّج على نغمات العود، ويظنّ أنه أوتي مزماراً من مزامير داود، إذا أمّ في محرابٍ صلّت وراءه سوابق الألحان وسلم إليه الفضل ابن سُريج وقال: ما أنا من خيل هذا الميدان. كان يَؤم بالأفرم، فكان يدنيه ويقربه ويكرمه كأنه والده، يرشّحه لكل خير ويدرّبه، وكان قد عمّر زاوية على الشرف الأعلى يأوي إليها الناس ويقضي المحتشمون فيها بعد صلاة الجمعة أوقات أنس وسماع، لم يخلفها الزمان، وكان ذا مروءة وحميّة وقيام مع الضعيف وعصبيّة، ونفع أناساً كثيرين بجاهة عند الأفرم، وقُربه منه الذي كان لأجله يُبجّل ويُكرَم.
ولم يزل على حاله إلى أن بطلت ألحانه وعطَل من الأنس حانهُ.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع عشرة وسبع مئة في شهر ربيع الأول.
وكان قد نزل عن وظائفه لولديه عماد الدين وشرف الدين إلاّ أن تلك السوق الأمرفيّة ذهبت، وأفلَت نجوم سعودها وغَربت، ودفن في مقابر الصوفيّة.
أحمد بن محمد بن أحمدالشيخ الإمام العالم الرئيس كمال الدين أبو العباس البكري الشافعي، وكيل بيت المال بدمشق، وشيخ دار الحديث الأشرفية، ومدرّس الناصرية.
سمع جزء ابن عرفة على النجيب، وحدّث به مرات، وسمع من جماعة من أصحاب ابن طَبَرْزَد وغيرهم بالقاهرة والقدس، وقرأ بنفسه الكتب البكار، وطلب مدة، ورحل إلى الديار المصرية والإسكندرية، وناب عن القاضي بدر الدين بن جماعة مدة، وترك النيابة بالشامية ودرّس بالشامية البَرّانية والناصرية، وولي وكالة بيت المال أكثر من اثنتي عشرة سنة، وولي دار الحديث الأشرفية ومشيخة تربة أم الصالح، وولي الرباط الناصري، وحج سنة ثلاث وسبع مئة.
كان حَسَنَ الشكل مهيباً، غزير الفضل لا يرى له فيه ضريباً، من بين علمٍ وكرم وحلم، لاقَ بقلب الأفرم، وكان لا يرى أنه في مُدّة معرفته خَرَجَ ولا أخْرم، هذا مع تشدّدٍ في دينه ومهابة كأنما استعارها من الليث في عرينه، أشعريّ الاعتقاد، جوهريّ الفَحص عن أمور مباشرته والانتقاد، وشعره عند الشعرى، صرّ منه دُرّاً، وغيره صرّ بَعْرا.
لم يزل على حاله إلى أن نقص كماله، وفارقه أهله وولده وماله، وتوفي رحمه الله تعالى بالكرك، وقيل: بمنزلة الحسا سنة ثماني عشرة وسبع مئة لأنه كان قد توجه إلى الحجاز.
ومولده بسنجار سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
ومن شعره ما اشتهر عنه أن كتب به إلى بدر الدين بن الدقاق، وقال لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله: إنما بدر الدين بن العطّار:
مولاي بدر الدين صِلْ مُدنَفاً ... صيّره حُبُّك مثل الخِلال
لا تخشَ من عيبٍ إذا زرته ... فما يُعاب البدرُ عند الكمالِ
فلما بلغ صَدر الدين بن الوكيل ذلك قال:
يا بدرُ لا تسمع كلام الكمال ... فكلّ ما نمّق وزرٌ محالُ
فالنقض يَعزو البدرَ في تمّه ... وربما يُخسَف عند الكمال
وكتب الشيخ كمال الدين إلى ابن الرقاقي ناظر النظار بدمشق يستعفيه من بيت المال وقد بلغه أنه سعى له فيها:
إلى بابك الميمون وجهت آمالي ... وفي فضلك المعهود قَصْدي وإقبالي
وأنت الذي في الشام ما زال محسِناً ... إليّ وفي مصرٍ على كل أحوالي
أتتني أيادٍ منك في طيّ بعضها ... تملّك رقّ الحُرّ بالثمن الغالي
وقمت بحق المكرُمات وإنما ... هو الرزق لا يأتي بحيلة محتال
عليّ لكم أن أعْمُر العُمُر بالثنا ... وبالمدح مهما عشتُ من غير إخلال
وأُهدي إليكم ما حييت مدائحاً ... يغنّي بها الحادي ويصبو بها السالي
وقد بقيتْ لي بعد ذلك حاجةٌ ... لها أنت مسؤول فلا تلغِ تَسْآلي
أرِحْني من واو الوكالة عاطفاً ... عليَّ بإحسانٍ بدأتَ وإفضالي
وصُنْ ماء وجهي عن مشاققة الورى ... فهذا على أرض وهذا على مالِ
ولا تتأوّلْ في سؤالي تركها ... فوالله ما لي نحوها وَجْهَ إقبال
ورزقي يأتيني وإني لقانعٌ ... لراحة قلبي من زماني بإقلالي

وحاليَ حالٍ بافتقارٍ يصونني ... ولبسي أسمالي مع العزّ أسمى لي
وتجبرُ وقتي كسرةُ الخبز وحدها ... وأرضى ببالي الثوب مع راحة البالِ
فهذي إليكم قصّتي قد رفعتُها ... لتغتنموا أجري ورأيُكم العالي
فقطّع الأبيات كلها من الورقة وأبقى البيت الأخير وكتب تحته: رأيُنا العالي أن تعود إلى شغلك وعملك.
وقال في القاضي حسام الدين لما عزل:
يا أحمد الرازي قم صاغراً ... عُزِلْتَ عن أحكامك المسرفة
ما فيك إلا الوزن والوزن وما ... يمنعك الصرف بلا معرفة
أحمد بن محمد بن أحمدابن عمر بن يوسف بن عبد المنعم الأنصاري البخاري القنائي، محيي الدين بن كمال الدين بن ضياء الدين القرطبي.
كان شيخاً ثَبتاً، يلزم عدالة وصمتاً، وله في بلده رياسة ظاهرة وأخلاق طاهرة.
سمع الحديث عن شرف الدين محمد بن عبد الله المرسي وغيره، وحدّث بقوص.
ولم يزل على حاله إلى أن غَمزت قناة القنائي يد الموت، وقام بنعيه إلى أصحابه الصوت، وتوفي رحمه الله تعالى ببلده قنا سنة تسع وسبع مئة.
أحمد بن محمد بن أحمد بن محمدعلاء الدين البيابانكي - بباء موحّدة، وياء آخر الحروا، وألف وباء موحدة، وبعدها ألف ونون وكاف - العلاّمة ركن الدين السمناني.
تفقّه وشارك في الفضائل، وبرع في العلم وأجوبة المسائل.
سمع من عز الدين الفاروثي، والرشيد بن أبي القاسم، ولبس منه عن السهروردي.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: أخذ عنه شيخنا صدر الدين إبراهيم بن حَمُّويَه، ونور الدين وطائفة.
وروى عنه سراج الدين القزويني المحدّث، وإمام علي بن مبارك البكري، وحدّث بصحيح مسلم وشرح السُّنة للبغوي وبعدّة كتب ألفها وهي كثيرة، قال البكري: لعلها ابلغ ثلاث مئة مصنف، منها كتاب الفلاح ثلاث مجلدات ومصابيح الجنان ومدارج المعارج.
كان من بيت وزارة ، وعلى وجهه من النسك والورع إنارة، مليح الشكل خاشعاً، ساكن الشر وادعاً، كثير التلاوة ، ظاهر الطلاوة ، يحط على ابن عربي ويكفره ، وعلى من تابعه ، ويعفره، ويحط على مصنفاته وينبه على محرفاته .
وكان كثير البر والإيثار ، هامي الجود على ذوي الإعسار ، يدخله من أملاكه نحو تسعين ألف درهم ينفقها في وجوه البر ويتصدق بها إما في الجهر وإما في السر.
زاره القان أبو سعيد واعتد بذلك أنه يوم عيد، وبنى خانقاه للصوفية، ووقف عليها وقوفاً مختلفة، وكان قد داخل التتار أولاً، واتصل بالقان أرغونبن أبغا، ونال من دنياه ما أمل وبغا، ثم إنه أقبل وأناب، ورجع وبات، ومرض بتبريز زماناً طويلاً، وامتد مرضه إلى أن كاد يأخذه أخذاً وبيلاً، ولما عوفي تعبد وتأله واختلى بعدما تجرد، وقدم بغداد، وصحت الشيخ عبد الرحمن وحج ثلاث مرات، ورد إلى الوطن ، وخرج عن بعض ماله لنفقة المبرات، تردد كثيراً إلى بغداد.
ولم يزل إلى أن دنا من قبره وتدلى، وأعرض عن هذا العرض الفاني وولى، وكانت وفاته ليلة الجمعة بعد أن أوتر في شهر رجب الفرد سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن بقربة بيابانك.
أحمد بن محمد بن أحمد شهاب الدين الفار الشطرنجي، ويعرف بالجُرَّافة.
كان المذكور صغير الحبة لطيفها ، كبير النفس شريفها، عليه من لقبه إشارة لا يكاد يخطئ شكل الفارة، وكان في أكله آفة، فلذلك لقب بالجرّافة.
وكان في الشطرنج عالية، والناس في عشرته متغالية، اجتمعت به غير مرة، ولقيت بمحادثه كلّ مسرّة، وكان يحفظ من المواليا شيئاً كثيراً إلى الغاية، وينظم هو أيضاً ما هو في بابه نهاية، آخر عهدي به سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، ثم توجّهت إلى الديار المصرية سنة مس وأربعين وسبع مئة، ولم أره ولا سمعت خبره، والظاهر أن الفارَ وثب عليه من الموت سنَّوْرُه، وجاء من خمر المنيّة دَوْرُه.
وكان يوماً قد اقترح عليّ نظم بيتين مواليا يكون أول نصف كل بيت قلب القافية التي قبله، وكان في المجلس أكابر ورؤساء من أهل الأقلام والمحابر، وقال: إن هذا لا يقدر على نظمه ولا يعرف ناظم الوقوف على رسمه، فقلت له: إلى أن تفرغ من دستك هذا تسمع وتطمح بطَرفك إلى ما لا تطمع، وكان الأمر كما ذكرت، ولَطَفَ الله بما أشرتُ، وقلت والقافية على ما أراده:

عَمه عذولي علي قلبي لنار ولذَع ... عَذَلَ لبَرقة بآفاق التسلي لَمَعْ
عمل على نفه قلبي لو حصل لو نفع ... عُفْنَ الحبايب وصالي كم لدمعي همعْ
وأنشدني هو من نظمه لنفسه:
حبّي الذي ما حوت مثلو دمن سنجار ... ولا ثبت لِقَوامُو غصن في الأشجار
لو خَدّ أحمر وخال أخضر حكى الزنجار ... يَجبْ عليّ احتمل جورو فديتو جار
وأنشدني له أيضاً:
حبّي الذي في مديحو يعجز المحار ... أخفى الكواكب بحسنو حق في الأسحار
لو لحظ تركي فديتو بابلي سحار ... وجفن فاتر فؤادي في غرامو حار
وأنشدني له أيضاً:
جواد صبري لبعد الحبّ مني خار ... وبحر دمعي جَرى في عشقتو زخّار
ظبي يخير الجواهر وهو من فخار ... قد ادّخرته لأيام الوغى ادّخار
وأنشدني له أيضاً:
وهبت للحِبّ مركوبي وهو غدّار ... غضب وولى بوجهو صرت في أكدار
ناديت يا منيتي يا عالي المقدار ... خدلك بِدالو ودر وجهك فديتو دار
وأنشدني له أيضاً:
حبّيت عطّار لحظو في المهج جَزّار ... يغلب بحسنو ملاح الترك في البازار
صادق إذا قال هو في الوعد لا نزّار ... قصدي رضا انقطه عني الرجا أوزار
وأنشدني له أيضاً:
سلطان حسنو قد أرسل للمُهج أفكار ... يجرد البيض من لحظو بلا إنكار
نكّسْ بقدّو عصايب ساير الأبكار ... وطُلْبْ جيش عذارو دار بالبيكار
وأنشدني له أيضاً:
غنّت فأغنت عن المسموع في الأقطار ... ودقّت الدف أجرت أدمعي أمطار
وصِرتُ في حبّها لا أختشي أخطار ... لما استمع لُبّ قلبي من يديها طار
وأنشدني له أيضاً:
ترجّلوا من على نجبٍ غدت أطوار ... وحَولها من خدمها والحشم أدوار
فخلتُ تلك المعاطف في ضيا الأكوار ... قضبان فضه من انقضّت من الأكوار
وأنشدني له أيضاً:
بسالفو خِمْل ينمو مثل خضرة غار ... في ورد جُوري على قلبي بجُورو غار
رشا وفا لي على كيد العِدا في غار ... واكمد حسودي وضدي في الثرى قد غار
وأنشدني له أيضاً:
جاني بشير أتى مقبل وأطفا نار ... وبت مسرور مفلج والدجا قد نار
وارتجي إقبال ساعة نصر من خُنّار ... مختص بالحسن كم أرسلت لو دينار
وأنشدني له أيضاً:
من أُمها في القيادة أصبحت آفة ... وأختها في ربوع الحيّ وقافة
فكيف يمكن تجي في القصف خوّافه ... وستّها الأصل شامية وطوّافة
أحمد بن محمد بن الرفعةالشيخ الإمام العلاّمة نجم الدين بن الرِّفعَةِ الشافعي.
شيخ المذهب، ونسيج وحده في طرازه المُذهَّب، لو عاصره المُزَنيّ لعُدَّ قَطْرةً من بحره، أو ابن سُريج لما عَلا في الذكر صهوة ظهره.
ولي حسبة مصر والوجه القبلي مُدّة، وناب في الحكم وعَزَل نفسه لِما عالجَهُ من الشدة.
وكان حَسَنَ الشكل بهيّاً فصيح الألفاظ ذكياً، كثير الإحسان إلى الطلبة، قائماً في قضاء حوائجهم بالتلطّف والغلبة، يجود لهم بعلمه، ومالِه ولا يبخل عليهم بجاهه وإضفاء ظِلاله.
شرح التنبيه في خمسة عشر مجلداً، وشرح الوسيط ولن يكمله، وهما شرحان يشهدان له بالرفعة في هذا الشأن وعلوّ الرتبة التي يسفل عن مكانها كيونا. ورأيت شيخنا شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي يكثر الثناء عليه ويصفه بمعرفة فروع المذهب وإتقانها وإجرائها على قواعدها الأصلية في مكانها. ويكفيك أنه في زماننا لا يُطلق اسم الفقيه إلا عليه، ولا يشيرون بذلك في الدروس إلاّ إليه.
أخذ الفقه عن الظهير التَّزْمَنْتي، والضياء جعفر بن الشيخ عبد الرحيم القنائي وغيرهما.
وسمع من محيي الدين الدَّميري ودرّس بالمُعزيّة، وحدّث بشيء من تصانيفه، وله مصنف سماه النفائس في هدم الكنائس.
ولم يزل في اشتغال وتصنيف إلى أن عَطَلَ من كفه قلمه وفقد الناس ذلك الدر الذي يخرجه فمه، وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة عشر وسبع مئة، وقد شاخ.
؟

أحمد بن محمد بن سعد

ابن عبد الله بن سعد بن نفلج الشيخ الصالح الفاضل المسند عماد الدين بن الأديب العالم شمس الدين المقدسي الصالحي الجنبلي.
روى عن المجد القزويني، وابن الزبيدي، والإربلي، وابن اللَّتي، وابن المقيّر، وأجاز له الموفق وفتح الدين بن عبد السلام، ومسمار بن العويس.
وحدّث قبل الستين، وحجّ مرات، وحدّث بالحجاز وحماة ودمشق إلى أن ناحت به النوائح، وقامت في ناديه الصوائح.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في المحرّم.
أحمد بن محمد بن سالم

بن أبي المواهب
الحافظ الشيخ الإمام العالم قاضي القضاة نجم الدين أبو العباس بن صَصْرى الرَّبَعيّ التغلبيّ الدمشقي الشافعي.
حضر على الرشيد العطار سنة تسع، والنجيب عبد اللطيف. وسمع بدمشق من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وجدّه لأمه المسلم بن علان. وتفقّه على الشيخ تاج الدين.
ودخل ديوان الإنشاء في ذي الحجة سنة ثمانٍ وسبعين وست مئة هو وشهاب الدين أحمد بن غانم، ونظَمَ ونَثَر، وكتب المنسوب وبهر فيه لمّا مَهَر، وكان قلمه أسرع من رجع الطرْف، ومن الذين يعبدون الله في الشِّرعة على حَرْف.
قيل: إنه كتب خمس كراريس في يوم، وهذا أمر قلّ أن يُعهَدَ من قوم. شارك الناس في فنون، وكان عنده من المسائل عيون، له عبارة فُصحى، وحافظة لا تقبل ردّ السرد نصحاً. يحفظ أربعة دروس لمدارسه، ويلقيها من فمه ويطلع في آفاقها بدور سطور كأنما يكتبها بقلمه، ولا يكاد أحد يسبقه بسلام، ولا يسمع في العفو وبالصفح عمّن يؤذيه كبير عذل أو صغير مَلام. اشتهر بذلك وعُرف، وسار ذكره بذاك واسمه أحمد وصُرف.
وله أموال ضخمة ومماليك وخدم وحشم وحشمة، وينطوي على تعبّد وديانة وعِفّة في الأحكام وأمانة، وكان بصيراً بالأحكام مسعوداً فيها، قل أنْ أتى إليه زور إلا وعرفه بديهاً، وعرفه بذلك فلم يسلك معه أحد هذه المسالك، وكان يخدم القادمين ويزورهم ويتردد إليهم وغيرهم، وهداياه في أقطار الأرض إلى أعيان الدولة ومن دونهم من أرباب الصون أو الصولة، ولذلك طالت مُدّته وعلى كنفه كِبار المذهب وأشياخه، ومحذلقوه وأشراره وفراخه، وعصره ملآن الجوانح بالأنداد والأضراب، وفي وقته من يقول: لو أنصف لرآه وهو على بابه بوّاب، ومع ذلك فلم يتكدر عليه شرب ولا تنفر له بما لا تشتهيه سِرْب، وله أصحاب وأتراب منحدون، وعشراء وخلطاء لبلاغه أخبار الناس مُتَصدّون، يواصلونه في كل يوم ولا يصدّون، ويجتمع الناس عنده في بستانه اجتماعاً عاماً، ويمد لهم خواناً قد نوّع فيه طعاماً يرون فضله تامّاً، إلى غير ذلك من أنواع الحلوى، والمأكل التي لا منَّ فيها ولا سَلْوى. يقصده الشعراء في المواسم، ويرون ثغور جوده وهي بواسم، لا يخشون مع ذلك بَوّابه ولا عَيْنه ولا حُجّابه، ويعتدّ هو أن تلك الجائزة واجبة.
وكان قد اشتغل بمصر على الأصبهاني في أصول الفقه، ودرّس بالعادليّة الصغرى، وبالأمينية، ثم بالغزاليّة، مع قضاء العسكر ومشيخة الشيوخ، وولي القضاء سنة اثنتين وسبع مئة، وأذن لجماعة في الإفتاء، وخرَّج له الشيخ صلاح الدين العَلائي مشيخة فأجاره عليها بجملة.
ولم يول على القضاء إلى أن نزل به القضا، وقضى نحبه، فأدّى حق العدم وقضى.
وتوفي رحمه الله تعالى فجاءة في نصف شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
وكان مولده سنة خمس وخمسين وستمئة.
ورثاه شيخنا العلامة شهاب الدين محمود وغيره.
ولشعراء زمانه فيه أمداح كثيرة. وكان العلامة شهاب الدين محمود قد كتب إلى الأمير علم الدين سنجر الدواداري يهنّيه بفتح طرابلس، ويصف جراحة أصابته بقصيدة أولها:
ما الحربُ إلا الذي تَدْمى بد اللمَمُ ... والفخر إلاّ إذا زان الوجوهَ دمُ
ولا ثبات لمن لو تلقَ جبهته ... حدّ السيوف ولا تُثنّى له قدمُ
فكتب الجواب عن ذلك قاضي القضاة نجم الدين ابن صَصْرى:
وافَى كتابك فيه الفضل والكرمُ ... فجَلّ قدراً وجَلّت عنديَ النعَمُ
وجاء من بحرٍ قد سَما وطَمى ... دُرُّ المعاني في الألفاظ تنتظمُ
وصفتَ حالي حتى خلتُ أنك قَدْ ... شاهدتها ولهيبُ الحَرَب تضطرم

وما جرى في سبيل الله محتسَبٌ ... فهو الذي لم يزل تسمو له الهِمَمُ
وجاءنا النصر والفتح المبين فلو ... شاهدت نورَ الظُّبى تُجلى به الظلمُ
غدا العَدُوُّ ذليلاً بعد عِزّته ... حُليُّ أجيادهم بَعْدَ العُقود دمُ
قد فرّق الجَمعَ منهم عَزْمُ طائفة ... لم يثنِ همتها يوم الوغى سَأمُ
تُرْكٌ إذا ما انتضوا عزماً لهم تركوا ... أمامهم كُلّ جمع وهو منْهَزمُ
لَمّا بقَتْل العِدى خاضت سيوفُهم ... صَلَّت فقبّلها يوم الوغى القمَمُ
حازوا الثوابَ الذي راموا وبعضُهم ... فازوا بما كسَبُوا منها وما غنُموا
وكنت مشتغلاً في يوم كسبهم ... عنه بما كَسْبُه عندي هو النِّعَمُ
فكيف يُطلَبُ مني الأرفغان وقد ... شَهِدْتَ لي ولهذا بيننا حكم
ألستَ أنت الذي قد قال مبتدئاً ... وذاك قولٌ بحكم الحق مُلتزم
هَجَمْتَه وسيوفُ الهند مُصْلَتةٌ ... وعُدْتَ والسَّبْيُ والأموال تقتسم
وكان همُّك في الأرواح تكسبُها ... وهمُّ غيرك فيها المالُ والنَّعَمُ
ورثاه جماعة من شعراء عصره منهم العلامة شيخنا أبو الثناء، أنشدنيها إجازة وهي قصيدة عُظمى يَرْوَى بها مَنْ يظما:
أترى دَرَى داعي المنيّة مَنْ دَعا ... أم أيّ ركن للشريعة ضُعضعا
أم أيّ طودِ حجىً ترفَع في العُلا ... عصفت به ريح الصبا فتصدّعا
أم أي نجمِ هدى هوى من بعدما ... ردّ الكواكب عن مداه طُلَّعا
أم هل درى ناعيه أن الدين وال ... تقوى ونَشْر العدل أوّلُ ما نعى
أصمى فؤادَ الحكم سهمُ فجيعةٍ ... لم يبقِ في قوس النكاية منزعا
وأعاد شرح الشرع أضيع سائم ... لمّا رماه بقصد أفضل من رعى
لله أي زريّةٍ أضحى بها ... قلب الهدي حين السكون مروّعا
طرقت جناباً بالفضائل آهلاً ... فثَنَتْه مِنْ ربّ الفضائل بَلْقَعا
وردتْ مَعين ندى ففاض وقد طمى ... ورنتْ إلى نَوْء النوال فأتلعا
ما خصَّ ما طرقت به خلصاءه ... بل عمّ فادُحها البريَّة أجمعا
قاضي القضاة ومَنْ حوى رتباً سَمَتْ ... عَنْ أن تُسامَ وبزّت مَنْ سعى
شيخ الشيوخ العارفين ومَن رقا ... رتب السلوك تعبّداً وتورُّعا
يأتمّ منه السالكون بعارفٍ ... بلغ العناء به المقام الأرفعا
وجرت له عين اليقين ففجّرت ... في حالتيه لكلّ ظام منبعا
حاوي العلوم فما تفرّق في الورى ... إلاّ الذي منها لديه تَجَمّعا
بَهَرت خلال كماله فسيادةٌ ... لا تُرْتَقى ومكارمٌ لا تُدّعى
وخلائق كالروض دبّجه الحيا ... أُصُلاً فوشّى حُلَّتَيْه ووشّعا
تواضعٌ أمسى سناه كَنَعْته ... يَدنو وقد سكن السماء تَرَفُّعا
ورياسة مُذ كان لم نعرف لها ... إلاّ إلى رتب الكمال تَطَلُّعا
ووفور حلن إن يضق عن مذنب ... عذرٌ أقام العذر عنه ووسّعا
وكتابة يكسو السجلّ جلالها ... تاجاً يزين النيّرات مُرَصَّعا
وبلاغة لا قلب إلاّ ودّ أن ... تُمْلَى وتنشَر لو تحوَّل مسمعا
وفصاحة في القول أتقن عِلْمَها ... نظماً ونثراً حين حازهما معا
وتثبّت في حكمه ومضاؤه ... تعنو له البيض القواضب خُضَّعا
وعبارة كالنيل نِيل بَيَانها ... مع أنها أروى وأعذب مشرعا
وعبادة في الليل يجزيه بها ... في الحشر مَنْ يجزي السعودَ الركّعا
مَنْ للأيامى واليتامى فارقوا ... بالرغم ذاك الكافلَ المتبرِّعا

مَنْ للجدال تضايقت طرق الهوى ... فيه يَبين به الطريق المَهْيعا
مَنْ للقضايا العقم أصبح وجهها ... إلاّ عن الذهن السليم مبرقعا
ولَكَمْ له مِن قَبْلُ غُرُّ رسائلٍ ... أبدى بها دُرَرَ البيان فأبدعا
من كل شاردةٍ ترفّعَ قَدرْها ... أن يُرتقى وسبيلها أن يُتْبَعا
الدهر أبخلُ حين جادَ بمِثله ... مِنْ أن يُديم به الوجود ممتَّعا
فأعاد وَجْهَ الأرضِ منه مُجْدِباً ... كَلْحاً وبَطنَ الأرض منه مُمْرَعا
يا مَنْ يَقِلّ له البكاء ولو غدا ... ذوبَ القلوب أسىً يَمُدّ الأدمُعا
لو سالم الدهرُ امرءاً لكماله ... لغدا لنا في خُلْد مثلك مَطعما
لكنّه الدهرُ الذي ساوى الردى ... فيه الأنامَ عصيّهم والطيِّعا
فَلأبكيّنك ما حييتُ وما البكى ... في فَقْدِ مثلكَ يا خليليَ مُقْنِعا
ولألبسنّ عليك ثوبَ كآبةٍ ... مهما تمادت مُدّتي لن يُنزعا
ولأبعثنّ من الرثاء قوافياً ... محزونةً تُبكي الحَمام السُّجعا
ولأمنَعَنْ عَيْنيَّ بعدك إن جفا ... طيفُ الخيال جُفونها أن تهجعا
ويَقِلّ ذام فإنها جهد الأخ ال ... محزون أن يُبكيك أو يتفجّعا
قلت: هذا القدر منها كافٍ، وقد بقي منها خمسة وعشرون بيتاً.
أحمد بن محمد بن سلمان بن حمايلالقاضي الكاتب الأديب شهاب الدين أبو العبّاس بن غانم، هو ابن بنت الشيخ القُدوة غانم، وكان يَذكُرُ نَسبَه إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، أملاه من فمه على الشيخ أثير الدين أبي حيّان.
سمع من ابن عبد الدائم، وقرأ على ابن مالك جمال الدين، وخرَّج له البِرزالي مشيخةً، منهم ابن أبي اليُسر وأيّوب الحمّامي، والزين خالد، وعبد الله بن يحيى البانياسي، ومحمد بن النُّشَّبي، ويحيى بن الناصح، وعرض على الشيخ جمال الدين بن مالك كتابه العُمْد، وبعده على ولده بدر الدين. وقرأ الأدب على مجد الدين بن الظهير.
وفارق أباه وهو صغير وتوجّه إلى السماوة، ونزل على الأمير حسين من خفاجة، وأقام عنده مدّة يصلّي بقي شيء من العلوم، وكان الوقت قريب العهد بخراب بغداد، وتشتَّت أهل بغداد في البلاد، فظُنَّ به أنه ابن المُستعصم الخليفة ببغداد، واشتهر ذلك عنه، واتّصل خبره بالظاهر بيبرس، فلم يزل في اجتهاد إلى أن أقدمه عليه لِما أهمّه من أمره، فلمّا بين يَدَيه قال له: ابن مَنْ أنت؟ فوفّق ذلك الوقت لمصلحته وقال: ابن شمس الدين بن غانم، فطلب والده من دمشق إلى القاهرة، وحضرا بين يديّ الظاهر فاعترف والده به، فقال له: خذه، فأخذه وتوجّه به إلى دمشق.
وكان قد كتب الإنشاء بدمشق وبمصر وبصفد وبغزة وبقلعة الروم، ثم توجّه إلى اليمن، وخرج منه هارباً، وقاسى شدائد من العُرْبان وتخطّفهم له حتى وصل إلى مكة، وكان سبب خروجه إلى اليمن أنه كان يكتب الدُّرْجَ بين يدي الصاحب شمس الدين غبْريال فاتّفق أنْ هربَ مملوكٌ للأمير شهاب الدين قرطاي نائب طرابلس، فكتب بسببه إلى الصاحب، فوَقَعَ عليه، فظفر به وجهّزه إلى مخدومه، وقال لشهاب الدين: اكتب على يده كتاباً إلى مخدومه واشفع فيه، فكتب شهاب الدين الكتاب وتأنّق فيه، وجاء من جملة ذلك: وإذا خَشُن المقرّ حَسُن المفرّ، وتوهّم شهاب الدين أن ذلك يُعجب الصاحب، فلمّا وقف عليها أنكرها دون ما في الكتاب، وقال: يا شهاب الدين غيِّر هذه فإنها وحشة، فطار عقل شهاب الدين، وضرب بالدواة الأرض، وقال: ما أنا ملزوم بالغُلْف القُلف، وخَرَجَ من عنده وتوجّه إلى الحجاز، ودَخَل من مكّة إلى اليمن، وتلقاه الملك المؤيَّد، وأحسن إليه إحساناً زائداً، وجعله كاتبَ سرّه، فلم يَطِبْ له المقام، وهربَ بعد خمسة أو ستة أشهر، وقلّما خرج من مدينة إلاّ وهو مختفٍ.

وكان كاتباً مترسِّلاً، عارفاً بمقاصد الكتابة متوسِّلاً، يَستحضر من اللغة جانباً وافراً، ويُبدي في المنادمة وجهاً بالمحاسن سافراً، ويُورِدُ من كلام المعرّي قطعة كبيرة قد حفظها غائباً، ويرمي منها سهماً في البلاغة صائباً، خصوصاً من اللُّزوميات، وما له من العِظات والزهديّات. وإذا تكلّم تَفَيْهَق، وتنطَّع في كلامه وتمنطق، ويأتي في ترسُّله بالغريب، والحوشيّ العجيب، وإذا فكّر بشيء فَكَّر، وغاص في المعاني وتذكّر، ووضع شَعْر ذقنه في فيه وقَرَضَه، وقال الشعر وقَرَضَه، ويحوم بكلامه على المعنى المقصود زماناً، وما يكسوه مع ذلك بياناً، وكان مَتِع الكلام، بريئاً من النَّقْض والملام، لا يعبأ بملبس ولا مأكل، ولا يتكلّف لشيء سِوى أنه يعقلها ويتوكّل، يلبس الجمجم القَطن الصوفي، والمُقَدَّرة الصوف، والطول المقفّص المعروف بأهل إسكندرية الموصوف، وخاتَمهُ كان سِواراً، وفصّه يعمل منه شواراً، وكان يتحدّث بالتركيّ والعجميّ والكردي، وإذا سافر خلع حُلّة الكُتّاب ولبس حلّة البدَوي أو الجندي، مع تندير وتنديب وتطاريب وتطريب.
وكان قد أحبه صاحب حَماة المنصور، وجعل ظِلّه ممدوداً غير مقصور، حضر يوماً سِماطَه وكان أكثرُهُ مَرَقاً، وقد أضرم منه الجوع حُرَقاً، فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم " نَويت رَفْعَ الحدثِ واستباحةَ الصلاة، الله أكبر. وكان المظفّر بن المنصور يكره ابن غانم، فاغتنم الوقيعة فيه وقال لأبيه: اسمع ما يقول ابنُ غانم يَعيب طعامك ويُشبّهه بالماء، فعاتبه المنصور على ذلك، فقال: هذا ما قَصَدْتُه! ولكنّ البسمَلة في كل أمر مستحبّة، والحدثُ الذي نويت رَفْعَه حَدَثُ الجوع واستباحة الصلاة في الأكل، فقال: فما معنى الله أكبر؟ قال: على كل ثقيل، فاستحسن المنصور منه ذلك. وخلع عليه.
وخرج مرّةً مع المنصور إلى شَجريّات المعرّة، وقد ضُربت الخيام وامتلأ الفضاء وما رأى الدخول إلى الخربشت، فصعِد إلى شجرة ليتحلّى والمنصور يراه، فأرسل إليه شخصاً ليرى ما يفعل، فلمّا صار تحت الشجرة وقد تهيّأ لقضاء شغله فقال له: أطْعِمني من هذه التِّينة، فقال له: خُذْ، وسلَحَ عليه سلحاً ملأت وجهه، وتركته عبرةً، فقال: ما هذا؟ قال: أطعمتك من التينة، فلمّا اطّلع المنصور على القضية خَرَّ مغشيّاً عليه من الضحك.
وكان ليلةً في سماعٍ، فرقصوا ثم جَلَسوا، فقام من بينهم شخص وطال الحال في استماعه وزاد الأمر، فظلّ شهاب الدين مُطْرقاً ساكناً، فقال له شخص آخر: ما بك مُطرِقاً كأنّما يوحى إليك؟ فقال نعم " قُلْ أُوحيَ إلَيَّ أنّه استمعَ نَفَرٌ من الجِنّ " .
واجتمع ليلة عند القاضي كريم الدين الكبير في موضع بعلاء الدين بن عبد الظاهر يتحدّث معه، فجاء إليه شخصٌ وقال له: معاوية الخادم يريد الاجتماع بك، فقال: وَاْلَك! مَنْ يفارق عليّاً ويروح إلى معاوية؟! وكتب إلى قاضي القضاة جمال الدين بن واصل، وقد أقْعَدَه بحماة في مَكتبٍ عاقداً، وفيه السيف علي بن مُغِيْزل:
مولاي قاضي القضاة يا مَنْ ... له على العَبْد ألفُ مِنَّهْ
إليكَ أشكو قَرينَ سوءٍ ... بُليتُ منه بألف مِحنهْ
شَهرْتَه بيننا اعتداءً ... أغمِدْهُ فالسيف سيفُ فِتنَهْ
وكتب إلى قلعة الروم وقد جاءه ولد سمّاه أنساً واسمُ أبيه مبارك:
تَهَنَّ يا مباركاً ... بالوَلَد المبارك
بمن سَمَوه أنساً ... لأنه ابن مالكي
ومن نظمه:
تعجّبَ الناس للبطيخ حيت أتى ... بحيْن حَيْن وإذْ وافى بطاعُونِ
وكيف لا يقطعُ الأعمار مَقْدَمُهُ ... وليس يُؤكَلُ إلاّ بالسكاكين
ومنه:
ما اعتكافُ الفقيه أخْذاً بأجْرٍ ... بَلْ بحكمٍ قضى به رمضان
هو شهر تُغَلُّ فيه الشياط ... ينُ ولا شَكَّ أنه شيطان
ومنه:
طَرفْكَ هذا به فُتورٌ ... أضحى لقلبي به فُتُون
قد كنتُ لولاه في أمانٍ ... لله ما تفعلُ العيون
ومنه:
يا نازحاً عنّي بغير بعادٍ ... لولاك ما علقَ الهوى بفؤادي
أنت الذي أفردتني مني فلي ... بكَ شاغلٌ عن مَقْصَدي ومُرادي

سَهِرَتْ بحُبّكَ مُقلتي فَحَلا لها ... فيك السُّهَادُ فلا وجَدْتُ رُقادي
ورضيتُ ما تَرْضى فلو أقصيْتَني ... أيّامَ عُمري ما نَقَضْتُ وِدادي
أنت العزيز عليّ أن أشكو لك ال ... وجد الذي أهدَيته لفؤادي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
واللهِ ما أدعو على هاجري ... إلاّ بأنْ يُمحَنَ بالعشقِ
حتّى يَرى مقدارَ ما قد جرى ... منه وما قد تمَّ في حقّي
وأنشدني له أيضاً:
يا حُسْنَها مِن رِياضٍ ... مثلِ النضَار نَضارَهْ
كالزُّهر زَهْراً وعنها ... ريح العبير عِبارَهْ
وأنشدني له أيضاً:
بأبي صائغٌ مليحُ التَّتنِّي ... بقَوامٍ يُزري بخُوطِ البان
أمسكَ الكَلْبتين يا صاحِ فاعجب ... لغزالٍ بكفّه كلبتان
ومن شعره:
أيّها اللائمي لأكلي كُروشاً ... أتقَنُوها في غاية الإتقان
لا تلُمني على الكروش فحبّي ... وَطَني من علائمِ الإيمان
قلت أخذ هذا من قول النصير الحمّامي:
رأيت شخصاً آكلاً كِرشةً ... وعنده ذوق وفيه فِطَنْ
وقال ما زلتُ محبّاً بها ... قلتُ من الإيمان حُبُّ الوَطَنْ
ومن شعره في مقصوص الشَّعَرْ:
قالوا ذوائبه مَقصوصه حَسَداً ... فقلت قاطعُها للحسنِ صوّاغُ
صُدغان كان فؤادي هائماً بهما ... فكيف أسلو وكلّ الشَّعر أصداغ
وكان القاضي فخر الدين ناظر الجيوش يؤثر قُربه ويحب كلامه، فاستخدمه في مصر في جملة كُتّاب الإنشاء، فأقام هناك، ولمّا توفي فخر الدين خرج ابن غانم وحضر إليه مع القاضي محيي الدين بن فضل الله سنة اثنين وثلاثين وسبع مئة.
ولم يزل بدمشق في جملة كتّاب الإنشاء إلى أن سكنت منه تلك الشقائق، وقُرطسَت تلك السهام الرواشق.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، وكان أكبر من أخيه الشيخ علاء الدين بأشهر، وكذلك توفي بعده بأشهر، وكان دائماً يقول: زاحمني أخي عليّ في كل شيء حتى في لَبَن أُمّي، واختلط شهاب الدين قبل وفاته بسنتين، وكان فيه تشبّعٌ من التشيُّع.
أحمد بن محمد بن عبد اللهالحافظ القُدوة الزاهد جمال الدين أبو العباس ابن الشيخ القدوة محمد الظاهري الحلبي مولى الظاهر صاحب حلب.
سمع سنة إحدى وثلاثين وبعدها من الفخر الإربلي، وابن اللَّتي، والموفق يعيش، وابن رَوَاحة، وابن خليل، وابن قُمَّيرة، وخلقٍ بحلب. وكريمة، والضياء، وابن مَسْلَمة، وخلق بدمشق. وصفيّة القرشيّة، وجماعة بحماة، وعبد الخالق بن أنجب النِّشْتَيري بماردين، وعبد الرزاق بن أحمد بن سَلامة الزّيات، وأحمد بن سَلامة النجّار بحرّان، وسمع من شُعيب الزعفراني، وابن الجُميّزي، والمُرْسي، وجماعة بمكّة. ويوسف الساوي، وأحمد بن الجَباب بمصر، وهبة الله بن روين الإسكندري.
وسمع بحمص وبعلبك والقدس وغير ذلك، وعني بهذا الشأن أتمّ عناية، وتعب وحصّل وكتبَ ما لا يوصف كثرةً. وكانت له إجازات عالية من أبي الحسين القطيعي وزكريا العلبي وابن روزَبة وأبي حفص السَّهْرَوَرْدي والحسين بن الزبيدي، وإسماعيل بن فاتكين والأنجب الحمّامي، وطبقتهم.
وخرّج لنفسه أربعين حديثاً في أربعين بلداً، وانتقى على شيوخ مصر والشام، وخرّج لأصحاب ابن كليب ثم لأصحاب ابن طبرزد والكندي، ثم لأصحاب ابن البنّ وابن الزبيدي حتى إنه خرّج لتلميذه ومريده الشيخ شعبان، وكان في حسن التخريج عَجَباً، وغي جَوْدَة الانتخاب آيةً لا يزال الطرف لها مرتقباً.
سمع على نحو سبع مئة شيخ أو ما يقارب ذاك، وأثنى عليه في هذا الفن حتى الحَمام الساجع على فروع الأراك، وتفقّه لأبي حنيفة، وحوى كل صفة في الخير مُنيفة.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: " وبه افتتحت السمَاع في الديار المصرية، وبه اختتمت، وعنده نزلت، وعلى أجزائه اتّكلت " .
وسمع منه علم الدين البِرزالي أكثر من مئة جزء.
وقرأ هو القراءات على الشيخ أبي عبد الله الفاسيّ بحلب.
ولم يزل بالديار المصرية على حاله إلى أن عُطّل تسميعه وبَطَل تأصيله وتفريعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة.

ومولده سنة ستٍّ وعشرين وست مئة.
وكانت وفاته بزاويته الجمّالية في المقس بمصر.
أحمد بن محمد بن جبارة.ابن عبد المولى المرداويّ الصالحيّ الحنبلي الإمام العلاّمة المقرئ النحوي شهاب الدين أبو العباس.
سمع على ابن عبد الدائم وطبقته، وقرأ القراءات على النبيه الراشدي، وأخذ عنه النحو وربّما حضر دروس الشيخ بهاء الدين بن النحّاس، وأجاد في النحو والقراءات، وسكن حلب مدة، وارتحل منها وأقام بالقُدس إلى أن مات به، وسمع السيرة حضوراً في الرابعة من خطيب مَرْدا، وسمع من الكَرماني وابن أبي عمر، وأخذ الأصول عن القَرافي، وجاور بمكّة.
وكان ذا زُهْد وقناعة وبلاغة ونصاعة، واشتهر بالقراءات، وهاجر الناس إليه، ووقع الاختيار من الطلبة عليه، وشرح الشاطبيّة شرحاً مطوّلاً، والرائيّة ونونيّة السخاوي في التجويد، وله تعاليق، وعنده من الفضائل جَمْلٌ وتفاريق، إلا أنه كان يتجارف، وينتقل بعد سَعادة علمه لأجل ذاك ويتحارف.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: في شرحه للشاطبية احتمالات واهية، قرأت بخطّه يقول في قول الشاطبي:
وفي الهَمْز أنحاءُ وعند نُحَاتِه ... يُضيء سناه كلّما اسودَّ ألْيَلا
يحتمل خمس مئة ألف وجه وثمانين ألف وجه. وقال: وسمعت منه.
ولم يزل على حاله إلى أن كُسِر ابن جُبَاره، وبطلت منه تلك الأمور والإشارة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة تقريباً.
أحمد بن محمد بن عبد الرحمنالشيخ الجليل المسند شمس الدين أبو بكر بن العجميّ الحلبي الشافعي.
سمع من جدّه لأمّه، وأبي القاسم بن رواحة وابن خليل، وحضر الموفّق بن يعيش، وروى الكثير.
وروى عنه المُقاتلي، وابن الواني، وابن الفخر، والمزيّ، والذهبيّ.
كان فيه غفلة، ولعقله عنه جَفْلة، إلا أنه ليس بقادحٍ فيه، ولا مُبْطل لما يسنده ويرويه. وقاسى من هولاكو عذاباً شديداً، وأخذ منه أموالاً كان أمره بها عنيداً.
ولم يزل على حاله إلى أن فرغ أجله، وأرهقه من الموت عَجَلُه.
وتوفي بحلب رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة.
أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عليابن محمد بن محمد الإمام الحافظ الشريف عزّ الدين أبو القاسم ابن الإمام أبي عبد الله العَلَوي الحُسيني المصري، ويعرف بابن الحلبي، نقيب الأشراف بمصر.
سمع من فخر القضاة ابن الجَبّاب، وسمع من الزكي المذنري فأكثر، ومن الرشيد العطّار، وعبد الغني بن بنين، والكمال الضرير وطبقتهم. وأجاز له ابن رَوَاج، وابن الجُمَّيزيّ، وصالح المدلجي، وخَلْقٌ كثير.
وطلب الحديث على الوجه، وكان ذا فهم وحفظ وإتقان وتخريج وكشفٍ للمعضلات وتفريج، وله ذَيْلٌ على وفيات المنذري إلى سنة أربع وستين.
ولم يزل على حاله إلى أن سكن دار العمل، وبطل منه العمل، وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ستٍّ وثلاثين وست مئة.
أحمد بن محمد بن عطاء اللهالشيخ العارف تاج الدين أبو الفضل الإسكندري.
كان رجلاً صالحاً له ذوق، وفي كلامه ترويح للنفس وسَوْق إلى الشوق، يتكلّم على كرسيّ في الجوامع، ويقيّد المارقين بأغلالٍ وجوامع، وله إلمام بآثار السلف الصالح، وكلام الصوفية، إذا هبّ نسيمه العاطر الفائح شوّق كثيراً من القلوب، ومحا بالدموع غزيراً من الذنوب، وله مشاركة في الفضائل، وعليه للصَّلاح سيماء ودلائل، وهو تلميذ الشيخ أبي العباس المُرْسي صاحب الشاذلي، وكان من كبار القائمين على الشيخ تقي الدين بن تيميّة، وله جلالة يف النفوس بنفسه القويّة.
ولم يزل على حاله إلى أن ركدت تلك العبارة، وانكدرت نجوم تلك الإشارة.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في المنصورية في حادي عشر جمادى الآخرة سنة تسع وسبع مئة.
ومن شعره:
مُرادي منك نسيانُ المراد ... إذا رُمْتَ السبيلَ إلى الرَّشادِ
وأنْ تَدَعَ الوجود فلا تَراهُ ... وتُصبح مالكاً حَبْلَ اعتمادِ
إلى كم غفلةٍ عنّي وإني ... على حِفظِ الرعاية والودادِ
وَوُدّي فيك لو تدري قديمٌ ... ويومُ السبت يشهد بانفرادي

وهل ربُّ سواي فتَرْتَجيه ... غداً يُنجيك من كَرْبٍ شداد
فوصف العَجز عمّ الكون طُرّاً ... فمفتقرٍ يُنادي
وبي قد قامت الأكوانُ طُرّاً ... وأظهرتُ المظاهرَ مِنْ مُرداي
أفي داري وفي ملكي وفُلْكي ... تُوجّه للسِّوى وَجْهَ اعتماد
وها خِلَعي عليكَ فلا تُذِلْها ... ومن وجه الرجاء عن العباد
ووصفَك فالزَمَنْهُ وكن ذليلاً ... ترى منّي المنى طَوْع القياد
وكن عبداً لنا والعبد يرضى ... بما تَقْصي الموالي من مُراد
قلت: شعرٌ نازلٌ، هو يجدُّ وكأنه هازل.
أحمد بن محمد بن علي بن جعفرالصدر الأديب الرئيس سيف الدين السامَري، نسبة إلى سُرَّ من رأى، نزيل دمشق.
صادره الصاحب بهاء الدين بن حَنّا وأخذ منه نحواً من ثلاثين ألف دينار لَمّا قدم أخوه الدولة السامريّ من اليمن، وتنكب في دولة المنصور، وطَلَبه الشجاعي إلى مصر وأخذ منه قرية حَزْرَما وغيرها وتمام مئتي ألف درهم، وكان يسكن داره المليحة التي وقفها رباطاً ومسجداً ووقف عليها باقي أملاكه.
وروى عنه الدّمياطيّ في معجمه وذكر أنه يُعرف بالمقرئ.
وكان قد سافر مرّة مع وجيه الدين بن سُويد إلى الموصل فحضر المكّاسة وعفُّوا هم جشمال الوجيه ومكّسوا جِمال السامري، وأجحفوا به، فقال:
صحِبتُ وجيه الدين في الدهر مرّةٌ ... ليحمل أثقالي ويَخْفرَ أجمالي
فَوَزَّتني عن كل حقّ وباطلٍ ... وعن فرسي والبغل والجَمَل الخالي
فبلغ ذلك صاحبَ الموصِل فأطلق القَفْل بمجموعه.
وقال يشكر الأمير سيف الدين طوغان وأسندمرُ والي بدمشق ويشكو نائبيهما الشجاع هَمّام سَنْجر:
اسمُ الوزارة وما له ... فيها سوى الوزار والآثامُ
وجناية القتلى وكلُّ جنايةٍ ... تُجنى بأجمعها إلى همّامِ
سيفان قد وَلِيا فكلٌّ منهما ... في حفظ ما وُلّيه كالضرغامِ
وإذا غَرا خطبٌ فكلٌّ منهما ... أسدٌ يَصول ببأسه ويحامي
وبباب كلٍّ منهما عَلَمٌ غدا ... في ظُلْمه عَلاّمةَ الأعلام
فمتى أرى الدنيا بغير سَناجرٍ ... والكسرَ والتنكيسَ للأعلامِ
ومن شعره:
من سُرَّ مَنْ راءٍ ومَنْ أهلها ... عند اللطيف الراحم الباري
وأيُّ شيءٍ أنا حتى إذا ... أذْنَبتُ لا تُغفَر أوزاري
يا ربِّ ما لي غيرُ سَبِّ الورى ... أرجو به الفوز من النار
ولمّا طلبه الشجاعي إلى مصر اعتقله وقام له بِما طلبَ منه وطلب الإفراج عنه وثقّلوا عليه فقال: والله ما أُفرِجُ عنه حتى يمدحني بقصيدة، فإن هذا هجّاء، فلمّا مدحه أفرج عنه.
وكان الشيخ سيف الدين ظريفاً مزّاحاً، كثير التغرُّب نزّاحاً، وهو من سَرَوات بغداد ومحاضرته يَغْنى النديم بها عن حانةِ النبّاذ. قدم إلى الشام بأمواله وحظي عند الناصر بأقواله، ولمّا نظم تلك الأرجوزة السامرية التي أولها:
يا سائقَ العيس إلى الشآم ... مُدرَّعاً مَطارفَ الظَّلامِ
حطّ فيها على مباشري حلب وأغرى الناصر بمصادرتهم، وقد اشتهر أمرها، وأسكر الأسماع خَمْرُها.
ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن رُمي لسَنُه بالبكم، وقاده رسنة إلى ما قضاه الموت عليه وحكم.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة وهو في عشر الثمانين، ودفن في داره.
أحمد بن محمد بن علي بن يوسفابن نيسّر، الصاحب عز الدين المصري، ولي النظر على النظّار بمصر والشام وغيرهما، وتولّى نظر الأوقاف بدمشق.
ولم يزل في سؤدده وتعاظمه وتمرُّده إلى أن تعسّر العيش على ابن ميسّر، وقلّ جمعه وكسّر.
وتوفي رحمه الله تعالى في أول شهر رجب سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده حادي عشري شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وست مئة.
تولّى نظر الدواوين بمصر، ونظر الإسكندرية، ونظر دمشق، ونظر طرابلس، ونظر الأوقاف بدمشق والحسبة، ومات وهو في نظر الأوقاف. وكان فيه محبّة لأهل الخير.
أحمد بن محمد بن أبي القاسم

ابن بَدْران، الشيخ الفاضل شهاب الدين أبو بكر الكردي الدَّشْتي - بالدال المهملة، والشين المعجمة الساكنة، وبعدها تاء ثالثة الحروف - الحنبلي المؤدّب.
حضر في الثانية على جعفر الهَمدذاني، وسمع من ابن رواحة وابن يعيش، وابن خليل، والنفيسي بن رواحة، وصفيّة القرشية، وابن الصلاح، والضياء.
وتفرّد وروى الكثير، حدّث بمصر بمسند الطيالسي، ورُتّب مسمِعاً بالدار الأشرفية، ومعلِّماً بمكتب الطواشي ظهير الدين، وأكثر الطلبة عنه، وخَرَّجَ له علم الدين البِرزالي مشيخةً، وكان في الرِّواية يتعزز، ويتحلّى بالطلب وتمزّز، ويطلب نسخَ عدة أجزاء لنفسه من السامع، ويرى أن ذلك له كالقامع.
ولم يزل إلى أن انقلب دست الدَّشْتي، وحار فيما نزل به الطبيب والمفتي.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده بحلب سنة أربع وثلاثين وست مئة.
أحمد بن محمد بن قُرْصة
شهاب الدين بن شمس الدين الأنصاري.
هو من بيت مشهور بالصعيد، منهم جماعة فضلاء رؤساء، تفرّد هذا شهاب الدين من بينهم بنظم القَرْقيّات وجوّدها، وأجراها على قواعد العذوبة وعوُدها، يأتي بها باكورة زَهْر أو كأسُ زُلال جُلي على الظمآن من نَهْر، خفيفةٌ على القلب لذيذة على السمع لِما لها في العقل من السَّلب، ونظم الشعر جيّداً، ودخل به في جملة الشعراء، ولم يكن متحيِّداً، وذاق منه كؤوس العلاقم، وجَرّعهم من هَجوه سُموم الأراقم، جاب الأقطار، وجلب الأوطار، ودخل الأمصار، واجتدى بالمدح والهجو أفات طَلبه أم صار، وكان شيخاً كاد الدهر يحني صَعْدَته ويُري العيون هزَته ورَعْدَته.
وكتب إليّ أشعاراً غلت عندي أسعاراً، ومنها:
ما لي أرى الشعراء تكسبُ عاراً ... بهجاتهم وتحمّلوا أوزارا
فلذاك طُفْتُ بباب كلِّ مهذَّبٍ ... وجعلتُ شعري في الكرام شعارا
مدحوا الأخساء اللئام فضيّعوا ال ... أشعار لَمّا أرخصوا الأسعارا
وجعلت في حلب الشمال إقامتي ... يا حبذا دار الكرام جِوارا
ولكم دعا مدحي نوالَ معظمٌ ... فأبَتْ عُتُوّاً عنه واستكبارا
حتى وجدت لها إماماً عالماً ... أوصافه تستغرق الأشعارا
لولا صلاح الدين لم أرَ جُلّقاً ... ولكنتُ مِمّن جانبَ الأسفارا
أسدى المكارم من أكفٍّ لم يزل ... معروفها يستعبدُ الأحرارا
وصنائعاً غرّاً أفَدْنَ منائحاً ... عُوْناً ولَدْن مدائحاً أبكارا
فوجدْتُ في إجماله وجَماله ... ما يملأ الأسماع والأبصارا
مولىً غدت يمناه يُمناً لامرئ ... يبغي نوالاً واليسار يسارا
حلّى الزمان وكان قِدْماً عاطلاً ... وأعاد ليل الآملين نهارا
وحوى معاليَ في دمشق قديمةً ... وحديثُها بين الورى قد سارا
بَلَغَتْ به رُتَباً فرُعن محلّه ... أمْسَتْ نجوم سمائها أقمارا
زانت فضائله بدائعَ نظمها ... كم مِعصَمٍ يَزين سوارا
ومظفّر الأقلام كم أردى بها ... ملكاً وخوّف جحفلاً جرّارا
عجباً لها تجري بأسودَ فاحمٍ ... يكسي الطروسَ ظلامُه أنوارا
تمضي بحيث ترى السيوف كليلةً ... وتطول حيث ترى الرِّماحَ قِصارا
تجري بواحدها ثلاثُ سحائب ... تحوي الصواعق والحيا المدرارا
وتمدّه بالفضل حين تمدّه ... ببديهةٍ لا تُتعب الأفكارا
غم رامَ نائله العفاةُ أمدّها ... كرماً وإن رام الخميسُ مُغارا
ملأ الكتاب تهدّداً فكأنما ... ملأ المتاب أسنّة وشفارا
تجني النواظرُ من محاسنِ خطّه ... رَوْضاً ومن ألفاظه أزهارا
خطٌّ رماحُ الخطّ من خُدّامه ... إن رام ذِمراً أو أعزَّ ذِمارا

وبلاغةٌ تَضحى بأدنى فقرةٍ ... تغني فقيراً أو تقُدُّ فَقارا
ويشيم روّاد الندى من بِشره ... بَرقاً ومن إحسانه أمطارا
بِشرٌ يبشّر بالجميل وعادة ال ... أزهار أن تتقدّم الأثمارا
وندىً يعمّ ولا يخصّ كأنّه ... هامي قِطار طبَّق الأقطارا
يستصغر الأمر العظيم إذا عَرا ... بعزيمةٍ تستهلُ الأوعارا
ويردّ غَرب الحادثات مغلَّلاً ... بسعادةٍ تستخدم الأقدارا
كم ذلّلت صعباً وردّتْ ذاهباً ... وحمَت أذلّ وذلّلت جبّارا
ولقد عرفت الناس من أزطارهم ... سبحان من خلق الورى أطوارا
يا من عرفتُ بجوده الغنى ... حقاً وكنتُ جهلته إنكارا
أغنيتني بمواهبٍ موصولةٍ ... لم تُبقِ لي عند الحوادث ثارا
لا زلتَ في عزٍّ يدوم ونعمةٍ ... ترقى على شُمّ الجبال وقارا
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك ارتجالاً:
يا شاعراً ملأ الطروس نهاراً ... وأسال فيه من الدجى أنهارا
لم تُهْدِ لي نظماً بديعاً إنما ... أهديتَ لي فلَكاً أراه مُدارا
في كل سطرٍ بُرج سعدٍ ثابتٌ ... تبدو معانيه به أقمارا
لا أرتضي بالروض تشبيهاً له ... إن الزواهر تفضُل الأزهارا
قلّدتني منه قلادة مِنّةٍ ... تستوقف الأسماع والأبصارا
يغنى النديم به فإن قوافياً ... فيه تُدير لمسمعيه عقارا
وترى اللبيب إذا تعاطى فهْمَه ... لم يذكر الأوطان والأوطارا
فكأن ذلك الطرسَ وجْنة أغيدٍ ... والسطرَ فيه قد أسال عذارا
فاعذر شهاب الدين من تقصيره ... أضحى يُلفّق عندك الأعذارا
أنا لا أطيق جوابَ منْ أشعاره ... تنهلّ حين تَرومها أمطارا
وإذا جرى في حَلبةٍ قصّرتُ عن ... غاياته بل لا أشقّ غُبارا
إن الغدير وإنْ تعاظمَ قاصرٌ ... عن أن يقاوم بحْرَك الزَّخارا
وكذا أخو النظم المزلزل ركنه ... لا يستكنّ مع الجبال قرارا
فخذ القليل إجابة وإجازةً ... واعذر فمثلك من أقال عثارا
واعتدَّ إنك لم تزر في جلّق ... أحداً وإنك جئت تقْبس نارا
فلأنت تعلم أنني لم أرضها ... لو أن درهمها غدا دينارا
ما قَدرُها مئة لو أني سقتها ... إبلاً يكون حمولهنّ بهارا
وكتب إليّ قصيدة الميزاب أوّلها:
كم سيفُ النظم أجرّده ... كم أُشهره كم أغمده
كم أنظم عِقد جواهره ... في مدح كريمٍ أقصده
كم أجمع من معنىً حسنٍ ... وبيان الشرح يقيّده
وقد سقتها بمجموعها في كتابي ألحان السواجع.
ولم يزل على حاله إلى أن أتى مرة من مصر ونزل بالتعديل ظاهر مدينة دمشق في بيت التحفَه جدرانه، وتأنس به جردانه، فنزل به ذباب السيف، وعمل من دمه وليمة لذباب الصيف، وأصبح ورأسه قد بان عن جسده وطاح، ودقيق ابن قُرصة تذروه الرياح، وكان مسكيناً يتحلّب أفاويق الندى، ويحتلب ببلاغته أهل زمانٍ لا يجدون على نار المكارم هدىً، إلا من يرتاح للامتياز في عدة الامتياح أو تهزّه نغمة العافين أو مدام المدّاح، وقليلٌ ما هم، وقد بعد حماهم، وكان المسكين يرمق عيشه على بَرَص، ويمسي كالفأرة في قَرض الأعراض بالقَرَض.
وكانت قتلته يوم الجمعة رابع عشر شهر الآخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
وأنشدني من لفظه لنفسه بدر الدين حسن بن علي الغزّي:
مات ابنُ قُرْصةَ بعد طول تعرُّضٍ ... للموت مِيْتةَ شرِّ كَلْب نابحِ
ما زال يشحذ مُديةَ الهَجو التي ... طلعت عليه طلوع سعد الذابحِ
حتى فَرى وَدْجَيه عبدٌ صالح ... عَقَرَ النطيحة عَقْرَ ناقةٍ صالحِ

فليحْيَ قاتله ولا شلّتْ يدٌ ... كفَتِ المؤونة كفَّ كلّ جرائحي
وقلت أنا فيه:
دع الهجو واقنع بما نلته ... من الرزق لو كان دون الطفيفِ
فقَرْضُ ابن قُرصة عمّ الورى ... وراعَ الدنيّ بهجْو الشريفِ
ومات ابنُ قَرُصة من جوعه ... وشهوته عضّة في رغيف
أحمد بن محمدفتح الدين بن البَقَقيّ - بباء موحّدة وقافين مفتوحات - .
كان مقيماً بالديار المصرية يبحث ويناظر ويذاكر بالفوائد المنتقاة ويحاضر، قلّما ناظر أحداً إلا قطعه وأتى به إلى مضيق التسليم ودفعه، إلا أنه مع ذكائه وحرصه في البحث وإعيائه كان يبدو منه من الاستخفاف ما لا يليق، ويظهرُ منه في الظاهر ما لا يحسُن أن يكون في السرّ من الجاثليق، حتى ظهر أنه زنديق، ونبيّن أنه مرتدّ عن الإسلام عن تحقيق؛ لأنه كان يستخفّ بالشرع الذي شهدَت العقول بحسن وصفه، ويستهتر بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلْفه.
ولم يزل في جنونه ودَوَران مَنْجنونه، إلى أن أطاح سيفُ الشرع رأسه، وأطفأ ريح القتل نبراسه، وأصبح الفتح قُبحاً، وأورده الذبّ عن الدين القيِّم ذبْحاً، ضرب القاضي المالكي عُنقه بين القصرين سنة إحدى وسبع مئة في شهر ربيع الأول وطيْف برأسه، وكان قد تكهّل، ولما ضرب رأسه بالسيف لم يمضِ قطع رقبته، فتمّم حزّ رقبته بالسكين.
وأخبرني جماعة بالقاهرة عن ابن المحفّدار أنه قال له يوماً: كأني بك وقد ضربت رقبتك بين القصرين، وقد بقي رأسك معلقاً بجلدة، فكان الأمر كما قال.
ومن شعره:
جُبلتُ على حُبّي لها وألفتُه ... ولا بدّ أن ألقى به الله معلِنا
ولم يخلُ من قلبي بقدْر ما ... أقول وقلبي خالياً فتمكّنا
قلت: يشير إلى قول القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى ... وصادف قلباً خالياً فتمكّنا
ومنه:
لحى الله الحَشيشَ وآكليها ... لقدْ خبُثتْ كما طاب السُّلاف
كما يصبي كذا تضني، وتُشقي ... كما يَشفي وغايتها الحُرّاف
وأصغر دائها والداء جمّ ... بغاء أو جنون أو نُشتف
ومنه:
يا منْ يخادعني بأسهم مكْره ... بسَلاسة نعُمت كلمس الأرقم
اعتدّ لي زَرَداً تضايق نسْجُه ... وعليَّ عُيونها بالأسهم
ومنه، وقد جلس عند بعض الأطباء ساعة فلم يُطعمه شيئاً، فلما قال:
لا تحسبوا أنّ الحكيم لبخله ... حمانا الغِدا ما ذاك عندي من البخل
ولكنه لمّا تيقّن أننا ... مرضنا برؤياه حَمانا من الأكل
ومنه:
أين المراتب في الدنيا ورِفعتها ... من الذي حاز عِلماً ليس عندهم
لا شكّ أن لنا قَدراً رأوه وما ... لمثلهم عندنا قَدرٌ ولا لهم
هم الوحوش ونحن الإنس حِكمتُنا ... تقودهم حيثما شِينا وهم نَعمُ
وليش شيء سوى الإهمال يقطعنا ... عنهم لأنهم وِجْدانهم عدم
لنا المريحان من علم ومن عدم ... وفيهم المتعبان الجهلُ والحشمُ
قلت: كأنه نظم هذه الأبيات لما سمع أبيات الشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى، وهي مما أنشدنيه الحافظ أبو الفتح، قال: أنشدني لنفسه:
أهل المراتب في الدنيا ورفعتها ... أهل الفضائل مَرْذولون بينهم
فما لهم من تَوَقّي ضرّنا نظرٌ ... ولا لهم في ترقّي قَدْرينا هِممُ
قد أنزلونا لأنا غير جنسهم ... منازل الوحش في الإهمال عندهم
فليتنا لو قَدِرنا أن نعرفهم ... مِقدارهم عندنا أَوْلَو دَرَوهُ هم
لهم مريحان من جاه وفضل غنى ... وعندنا المتعبان العلم والعَدَم
ومن شعر ابن البَققيّ:
الكُسّ للجُحر غدا ... مُعانداً في القِدم
فانظره يبكي حَسَداً ... في كل شهر بدمِ
وما أحسن قول الحكيم شمس الدين محمد بن دانيال:
لا تلُم البَقِّيّ في فعله ... إن زاغ تضليلاً عن الحقّ

لو هذّب الناموس أخلاقه ... ما كان منسوباً إلى البقّ
وقوله فيه لمّا سجن ليقتل:
يظنّ فتى البققي أنه ... سيخلص من قبضة المالكيْ
نعم سوف يُسلمه المالكيُّ ... قريباً ولكن إلى مالِكِ
وقيل: إنه استغاث يوم قتله بالشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد، وقال: أنا تردّدت إليك أربعة أشهر لازمتك فيها، هل رأيت مني شيئاً مما ذكر هؤلاء؟ فقال: ما رأيت منك إلا الفضيلة.
أحمد بن محمد بن محمد بن هبة اللهالشيخ الإمام العالم الكاتب المفتي، كمال الدين أبو القاسم بن الصدر الكبير عماد الدين ابن القاضي الكبير شمس الدين أبي نصر بن الشيرازي الدمشقي الشافعي.
تفقه بالشيخ تاج الدين الفزاري، والشيخ زيْن الدين الفارقي، وقرأ الأصول على الشيخ صفيّ الدين الهنديّ، وسمع من الفخر عليّ ووالده وغيرهما، وحفظ كتاب المزنيّ.
وتميّز وبرع، وأخذ في طلب التدريس وشرع، ودرّس بالباذرائية في بعض الأوقات، بالشامية الكبرى مرات، ثم استمر بتدريس الناصرية مدةً، وذُكر لقضاء الشام في عِدّه، وكان خيّراً متواضعاً، ديّناً لأفاويق الرفاق راضعاً، حَميد النشأة، جميل البدأة، خبيراً بالأمور، ذَرِباً بأحوال الجمهور، أثنى علي قاضي القضاة بدر اليد محمد بن جماعة، وقاضي القضاة ابن الحريري، وقالا للسلطان: يصلح للقضاء.
وكان فيه حياءٌ وسكون وميل إلى التخلّي ورُكون، حاقَقه مرّة ابن جَملة بحضرة الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - وأراد مناظرته فتألّم، وأضرب عنه وتحلّم، وترك السعي في الشامية لذاك.
وكان بديع الكتابة، جميع سهام أقلامه فيها للإصابة، كتب الريحان والمحقق، وزاد في ذلك على ابن البوّاب ودقّق، وكان خطّه قيد النواظر، ونزهة من يرتع في الرياض النواضر، كل سطر كأنه سُبحةَ جوهرٍ راق نظمها، وفاق على الكواكب وَسْمُها.
ولم يول على حاله إلى أن نزل بكمال الدين مُحاقه وفات إدراكه وإلحاقه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وسبع مئة في ثالث عشر صفر، ودُفن بتربتهم.
وموله سنة تسعين وست مئة.
أحمد بن محمد بن محمد بن نصر اللهالقاضي الرئيس جمال الدين التميميّ القلانسي الدمشقي، وكيل بيت المال، وقاضي العسكر ومدرّس الأمينية والظاهرية وموقّع الدّست.
روى عن ابن البخاري وبنت مكّي، وأذِن لجماعةٍ في الإفتاء.
كان جميل الشكل مليح العِمّة، بهيّ المنظر متّسع الهمة، وكتابته مثل الروض الذي عَرْفُه باسم، أو العقود التي تفترّ عنها المباسم، يخاله الناظر سُطور ريحان أو حباباً قد كلّل لؤلؤه ياقوت خدٍّ من بنت الْحان.
ولم يزل راقياً في بروج سُعوده، باقياً في اقتبال صعوده، إلى أن هتف به داعي حتفه، وفرّق بينه وبين أُلاّفه وإلفه.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عُشْريّ ذي القَعدة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وعاش نيّفاً وستين سنة.
وبلغتنا وفاتُه ونحن مع الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - على حمص، فكتبتُ إلى ولده القاضي أمين الدين نظماً ونثراً:
أيُّ خطب أصمى الحشا بنَباله ... حين راعَ الوُجودَ فقدُ جِمالهْ
يا لَدمعِ الغَمام ينهلّ حُوناً ... ولنَوْح الحِمام من فوق ضاله
أسعِداني فإنّ خَطْبيْ جليلٌ ... وأعينا مَنْ لم تكونا بحاله
منها:
كيف لا يُظلِم الوجود بمن كا ... ن الثريّا معدودةً في نِعالهْ
وإذا ما النسيمُ أهدى عبيراً ... فتِّش الطيبَ تلْقَه من خلالهْ
وإذا ما احتبى بمجلسٍ حفلٍ ... أطرق القوم هيبةً من جَلالهْ
يا جمالاً مضى فأورث وجه ال ... دهر قُبحاً لما ارتضى بزَوالهْ
ولعمري ما غاب ليثٌ تقضّى ... وحَمى غابهُ بقا أشبالهْ
أيّ شبل أبقيت إذْ غِبْت عنّا ... صَبرُهُ للخطوب من أحمالهْ
وهو عند الملوك خيرُ أمينٍ ... قد سَما في الورى بفقْد مِثالهْ
وإذا أتحف الأعادي بدَرْج ... كان قطْعُ الأعمار في أوصالهْ
أيها الفاضل المهذّب لا تج ... زع لذاك الجليل عند انتقالهْ

كلّنا في المُصاب رهْنَ التأسّي ... بالنبيِّ والغُرّ آلِهْ
أحمد بن محمد بن محمدالشيخ زين الدين بن المغَيْزِل الحموي الخطيب، أبو عبد الله بن الشيخ تاج الدين خطيب الجامع الأسفل.
سمع من شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز.
لم يزل في مَرقى درج منبره، وإلقاء العقود النفيسة من جوهره، إلى أن سكت فما نَبَسْ، ونزل من مِنبره إلى الأرض وارْتَمس.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسعٍ وتسعين وست مئة.
قال شيخنا علم الدين البِرزاليّ: أجاز لنا من حماة، وكان قد سمع من شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز جزء ابن عَرَفة.
أحمد بن محمد بن أبي الحزم مكّي
القاضي نجم الدين القَمولي - بالقاف وضم الميم وبعدها واو ساكنة ولام - .
من الفقهاء الفضلاء والقضاة النبلاء، وافر العقل، جيّد النقل، حسَنُ التصرُّف، دائم البِشر والتعرّف، له دين وتعبُّد، وانجماع عن الباطل وتفرّد.
قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: قال لي يوماً: لي قريبٌ من أربعين سنة أحكم ما وقع لي حكم خطأ، ولا أثْبَتُّ مكتوباً تُكُلِّم فيه أو ظهر فيه خلل.
سمع من قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وغيره. وقرأ الفقه بقوص وبالقاهرة، وقرأ الأصول والنحو وشرح الوسيط في مجلدات كثيرة، وفيه نُقولٌ غزيرة، ومباحث مفيدة سمّاه البحر المحيط، ثم جرّد تُقوله في مجلّدات وسمّاه جواهر البحر، وشرح مقدمة ابن الحاجب في مجلدتين، وشرح الأسماء الحسنى في مجلد، وكمّل تفسير الإمام فخر الدين.
وكان ثقة صدوقاً. تولّى قضاء قَمولاً عن قاضي قوص شرف الدين إبراهيم بن عتيق، ثم تولّى الوجه القبلي من عمل قوص في ولاية قاضي القضاة عبد الرحمن ابن بنت الأغرّ، وكان قد قسَم العمل بينه وبين الوجيه عبد الله السُّمرباوي، ثم تولّى إخميم مرتين، وولي أسيوط والمنية والشرقية والغربية، ثم ناب بالقاهرة ومصر، وتولّى الحِسبة بمصر، واستمرّ في النيابة بمصر والجيزة والحسبة إلى أن توفي.
ودرّس بالفخرية بالقاهرة، وكان الشيخ صدر الدين بن الوكيل يقول: ما في مصر أفقه منه، يقال: إن أصله من أرْمَنت.
ولم يزل يفتي ويحْكم ويدرّس ويُصنّف وهو مبجَّلٌ معظَّم إلى أن غرب نجمه ومُحيَ من الحياة رَسمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وولي نيابة الحكم بعده الشيخ نجم الدين بن عقيل البالسيّ، وولي حُسبة مصر ناصر الدين فار السقوف.
أحمد بن محمد بن أبي بكرابن عماد الدين أبي الحرم مكّي بن مسلّم بن أبي الخوف المعروف بعكوك شهاب الدين.
كانت له مطالعات، وعنده منها ابتداءات ومراجعات، ويحفظ للمتأخرين شيئاً عظيماً، ويُورِد لهم من جواهرهم عِقداً نظيماً، وكان لا اشتغال له ولا عِلم عنده من غير المطالعة وتصفُّح الدواوين الناصعة، وهو جيّد النقد في القريض، عارفٌ بما هو صحيح منه أو مريض. وجمع من شعر المتأخرين مجاميع، وقصَرها دوت القصائد على المقاطيع.
وكان له وَقفٌ يُحصّل منه في الصيف ما يكون له مؤونة في الشتاء، وكان في غالب السنين يصيّف في الشام ويُشتّي في مصر، إلا أنه كان متمزّقاً إلى الغاية، متخرّقاً في نهاية، يكابد شدائد الفقر، ويصبر من القلة على ما لها في حاله من العَقر، قد زَوَته الحشيشة في حُشّ، وروَتْه من الطيش في طشٍّ.
ولم يزل على حاله إلى أن جاء الطاعون فغسله في جملة ذلك الماعون، وذلك في سنة تسع وأربعين وسبع مئة بدمشق في مستهل شهر رجب، وكان له من العمر تقريباً أربعون سنة.
أنشدني من لفظه لنفسه:
ناظرُ الجامع الكب ... ير ظَلومٌ إذا قَدَرْ
ابْلُهُ ربِّ بالعمى ... وأرِحْه من النظرْ
وأنشدني من لفظه لنفسه:
قلتُ له إذْ بَدا وطلعتُه ... قد أشرقَت فوق قامةٍ تامّهْ
هبْ لي مناماً فقال كيف وقد ... رأيت شمس الضحى على قامهْ
قلت: هو مأخوذ من قول شمس الدين التلمساني:
بدا وجهه من فوق أسمر قَدّه ... وقد لاح من سود الذوائبِ في جُنحِ
فقلتُ عجيبٌ كيف لا يذهب الدُّجا ... وقد طلعت شمسُ النهار على رُمْحِ
وأنشدني من لفظه في العايق الطبّاخ:
قد غلب العايق في قوله ... لمّا أتى الطاعون بالحادثِ

قمحيَّتي تقتل من يومها ... وأنت في يومين والثالث
وكتب إليّ ونحن بالقاهرة:
أيا فاضلاً ساد الورى بفضائل ... تناهت فما أضحى لهنّ بديلُ
تقمّصتَ ثوبَ العلم والحلم والندى ... فأنت صلاحٌ للورى وخليلُ
ولستَ خليلاً بل خليجاً لواردٍ ... غلِظتُ فسامحني فنيْلُك نيلُ
فكتبتُ أنا الجواب إليه:
أيا ابن أبي الخوف الذي أمنتْ به ... طرائق نَظْمٍ واستبان دليلُ
لقد فُتَّ غايات الأولى سبقوا إلى ... نهايات فضلٍ ما إليه سبيلُ
فأنت على هذا الزمان كُثيِّرٌ ... ورأيُك في النظم البديع جميلُ
أحمد بن محمدشهاب الدين المعروف بالحاجبي - بحاء مهملة، وبعد الألف جيمٌ وباءٌ موحّدة - .
شابٌّ جنديّ، ذهنه أمضى من الهندي، يتخيّل المعنى الغامض، ويورد اللفظ الحُلو لا الحامض، مقاطيعه رائقة، ومعانيه بالقلوب لائقة. اجتمعت به في شوق الكتب بالقاهرة في سنة ثمانٍ وثلاثين وسبع مئة.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أقول شبه لما جيْد الرشا ترفاً ... يا معمِلَ الفكر في نظْمٍ وإنشاءِ
فظلّ يُجهد أياماً قريحته ... وشبّه الماء بعد الجهد بالماءِ
فقلت له: أطلقت الرشا ههنا، ولو قلت الرشا الذي سباني، أو جيد معذّبي لكان أقعد في التوطئة، ثم أنشدته فيما بعد لنفسي:
أقول شبّه لنا كأساً إذا مزج ال ... ساقي طلاها اهتدى في ليله الساري
فظل يُجهد أياماً قريحته ... وشبّه النار بعد الجهد بالنارِ
فقال: إلا أنني أنا أتيت بالمثل السائر، فأنشدته فيما بعد لنفسي:
أتى الحبيب بوجهٍ جلَّ خالقه ... لما براه بلطف فتنة الرائي
فلاح شخصً عذولي وَسْط وَجْنته ... فقلت شبّهه لي في فرط لألاء
فراح يُجهد أياماً قريحته ... وشبّه الماء بهد الجهد بالماء
قلت: وأصل هذا المثل أن الوجيه ابن الذروي دخل يوماً إلى الحمّام ومعه ابن وزير الشاعر، فقال ابن وزير:
لله يومي بحمّامٍ نعمتُ بها ... والماء ما بيننا من حولها جارِ
كأنه فوق شفّاف الرخام ضحىً ... ماءٌ يسيل على أثواب قصّارٍ
فقال ابن الذَّروي:
وشاعرٍ أوقدَ الطبع الذكيُّ له ... فكاد يحرقه من فرط إذكاء
أقام يُعمل أياماً قريحته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء
وكان هذا شهاب الدين الحاجبي كثيراً ما يتّبع كلامي، ويقصد إصابة مراميْ ولما سمع قولي قديماً:
قالتْ لأيْري وهو فيها ضائع ... كالحبل وسط البير إذ تلقيته
قد عشت في كسّ كبير قلت ما ... كذَبتْ لأنّ الكاف للتشبيه
قال هو واختصر وأجاد:
ربّ صغيرٍ حين ولّفتُه ... أيقنتُ لا يدخل إلا اليسيرْ
ألفيته كالبير في وُسعه ... حتى عجبنا من صغيرٍ كبير
وكذا لمّا سمع قولي:
يا طيب نشر هبّ لي من نحوكم ... فأثار كامنَ لَوعتي وتهتُّكي
أدّى تحيتكم وأشبه لطفكم ... وروى شذاكم إنّ ذا نشر ذكي
نظمه أيضاً فقال:
لا تبعثوا غير الصَّبا بتحيّة ... ما طاب في سمعي حديثُ سواها
حفظتْ أحاديث الهوى وتضوّعتْ ... نشْراَ فيالله ما أذكاها
ولما أنشدنيهما قلت له: إلا أنك نقصتها صفة عما وصفتها به، فاعترف.
ولم يزل الحاجبي على حاله إلى أن ذهبتْ عينُهُ وأثرُهُ، وأقام في لحده إلى أن يشقّه الله يوم القيامة ويبعثره.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
وأنشدني الشيخ ناصر الدين محمد بن يعقوب المكتِّب المصري من لفظه، قال: أنشدني من لفظه لنفسه شهاب الدين الحاجبي، رحمه الله تعالى:
قيل لي إذ لثمت وَرْداً على الخ ... د جنيّاً من دونه الجلّنارُ
هل لورد الخدود يا صاح شوكٌ ... مثل وِرد الرياض قلت العذار
وبه قال: أنشدني:
عودوا لصبٍّ بكى عليكم ... يا جيرةً ودّعوا وساروا

فدمْعُ عينيه عاد بَخْراً ... وقلبه ما له قَرارُ
وبه قال: أنشدني:
ودّعتهم ودموعي ... على الخدود غِرارُ
فاستكثروا دمعَ عيني ... لما استقلّوا وساروا
وبه قال: أنشدني:
إلى الله أشكو من عليَّ فإنني ... شرحتُ له شَوقي وفَرْطَ تألّمي
وأحوجني للغير بيني وبينه ... ويحتاج مَنْ يَهوى عليّاً لسُلَّمِ
وبه قال: أنشدني:
قلتُ هل لي من دواءٍ ... قد غدا جِسمي عليلاً
قال تسْلو عن عليَّ ... قلتُ أمّا عنْ عليْ لا
أحمد بن محمد بن قلاوونالسلطان الملك الناصر ابن الملك الناصر ابن الملك المنصور.
كان أحسن الأخوة شكلاً، وأرجحهم ثباتاً في أول أمره وعقلاً، شديد البأس، مفرط القوة من غير التباس، ولم ير أحدٌ ما اتفق له من السعد، ولا سمع أحدٌ بما قُدّر له من التعاسة فيما بعد، ذهبت أموال الناس وأديانهم وأرواحهم بسببه، وأجلسوه على كرسي المُلك، فما طلع في صُعد شأنه حتى انحطّ في صببة، ولم يزل في خمول وخمود، وجدود عُفّرت منه الخدود، وأنزلته بعد الثريّا إلى أخدود، إلى أن فرّق الحسام بين جسده ورأسه، ونقله بعد عزّ غابه إلى ذلّ كُناسه، وما برح في محبّة الكرك، إلى أن وقع منها في وسط المعترك، وكان في عالم الإطلاق فأوقع نفسه منها في الشَّرَك، وحطّه الناس في دَرَج الملك فما أراد إلا أن يكون في دَرَك؛ وذلك لأنّ والده أخرجه في أوّل صباه إلى الكرك، والنائب هناك الأمير سيف الدين ملكتمر - رحمه الله تعالى - السرجواني فأقام بها قليلاً، وجهّز إليه أخويه إبراهيم وأبا بكر المنصور، فأقاموا بها إلى أن ترعرعوا، وطلبهم والدهم فأقام إبراهيم وأبو بكر بالقاهرة، وعاد أحمد إلى الكرك، ثم إنه طلبه إلى القاهرة، وزوّجه بابنة الأمير سيف الدين طاير بغا خال السلطان، وأقام قليلاً، وأعاده بأهله إلى الكرك، فوقع بينه وبين الأمير سيف الدين ملكتمر السرجواني، فأحضرهما السلطان، وغضب عليه والده، وتركه مقيماً بالقاهرة مُدَيدة. ثم إنه جهّزه إلى الكرك وحده بلا نائب، فأقام بها إلى أن توفي والده، ولم يسند الأمر بعده إليه، بل أوصى بالمُلك للمنصور أبي بكر، فقام بشتاك في ناصره، وقام قوصون في ناصر أبي بكر، وغلب قوصون على إقامة أبي بكر فأقام المنصور المُلك مدة شهرين، وخلعه قوصون، وأقام الأشرف كُجك وسيّر قوصون يطلب الناصر أحمد إلى القاهرة، فلم يوافق، وكتب في الباطن إلى نواب الشام ومقدّمي الألوف يستجير ويستعفي من الرواح إلى مصر، وأظهر الذلّة والمسكنة الزائدة، فرّقوا له في الباطن وحملوا الكتب إلى قوصون خلا الأمير سيف الدين طشتمر حمّص أخضر، فإنه رقّ في الباطن والظاهر، فخرج على قوصون وتعصّب لأحمد، وكتب إلى نوّاب الشام وقام قياماً عظيماً علة ما سيأتي في ترجمته، وأمّا قوصون فإنه لما وقف على كُتُبه إلى النوّاب طلب الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري وجهّزه لحصار الكرك، وجهّز معه ألفي فارس، فتوجّه إلى الكرك وحصرها أياماً، ثم إنه رقّ لأحمد، وبلغه أن ألطنبغا نائب الشام قد توجّه بعسكر دمشق إلى حلب خلف طشتمر، فترك حصار الكرك وجاء إلى دمشق وتسلّمها، ودعا الناس إلى بَيعة أحمد، وسمّاه الناصر، وجرى له ما جرى على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة قطلوبغا الفخري، ولما عاد ألطنبغا من حلب والتقاه الفخري وانهزم ألطنبغا إلى مصر وخامر عسكره عليه ودخلوا في ركاب الفخري إلى دمشق ونزل بالقصر الأبلق وحلّف الناس جميعاً لأحمد الفخري جهّز الأمير سيف الدين قماري وسليمان بن مهنّا وغيرهما من الأمراء إلى الكرك، وقصد منه الحضور إلى دمشق، فلم يحضر وتعلّل بحضور طشتمر، وكان قد تسحّب إلى الروم، وكتب الناصر أحمد إلى الأمير سيف طقزتمر نائب حماة وإلى الأمير بهاء الدين أصلم نائب صفد وإلى صفد وإلى مُقدّمي الألوف بدمشق يقول لهم: إن الفخريّ هو نائبي، وهو يولّي النيابات من يراه.

ولما وصل طشتمر من بلاد الروم إلى دمشق، وكان أمراء مصر قد خرجوا على قوصون واعتقلوه في سجن الإسكندرية، بعث الفخري وطشتمر إلى الناصر أحمد وسألاه الحضور إلى دمشق ليتوّجها في خدمته بالعساكر إلى الديار المصرية، فدافعهما إلى بعد مضيّ شهر رمضان، وتوجّه إليه أكابر مقدّمي الألوف من مصر مثل الأمير بدر الدين جنكلي وأمثاله، وسألوه التوجُّه معهم إلى مصر، فلم يوافق وعادوا خائبين، وترك أهل الشام ومصر في حَيرة بعدما حلف الجميع له، ثم إنه بعد ذلك توجّه وحده إلى القاهرة، ولم يشعر المصريون إلاّ وقد جاء خبرُه بوصوله، وصعد إلى القصر الأبلق بقلعة الجبل، ولما وصل الخبر إلى دمشق توجّه الفخري وطشتمر بعساكر الشام وقضاته إلى مصر، وكانت سنة الأوحال كثيرة الثلوج والأمطار، وجُبيت الأموال من كبار الناس وصغارهم لنفقات العساكر ولعمل شعار المُلك وأبّهة السلطنة، فهلك الناس.
ولما وصلوا إلى مصر جلس الناصر أحمد على كرسيّ المُلك وإلى جانبه أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو القاسم أحمد - وقد مضى ذكره - وحضر قضاة مصر والشام الثمانية، واجتمعت عساكر مصر والشام، وعهِد الخليفة إليه بحضور العالمين، وحلف المصريون والشاميون، ولم تتفق مثل هذه البيعة لأحد من ملوك الأتراك، لاجتماع أهل الإقليمين في يوم واحد بحضور الخليفة، وكان يوماً مشهوداً عظيماً.
ثم إنه ولّى طشتمر نيابة مصر، وقطلوبغا الفخري نيابة دمشق، وإيدغمش أمير آخور نيابة حلب، والأحمدي بيبرس نيابة صفد، والحاج آل ملك نيابة حَماة، والأمير شمس الدين آقسنقر نيابة غزّة، ولما فعل ذلك بهؤلاء الأكابر خافه الناس وهابوه وأعظموا أمره، وبعد أربعين يوماً من ملكه أمسك طشتمر وأخذه معه إلى الكرك، وبعض إلى إيدغمش بأم يُمسك الفخري، فأمسكه وجهّزه إليه مع ابنه، فلما وصل به إلى الرمل جاء من عند الناصر أحمد مَنْ أخذه منه وتوجّه به إلى الكرك، وأخذ الناصر أحمد معه من مصر سائر الخيول الثمينة الجيّدة التي في إصطبل السلطنة، وجميع البقر والغنم التي بالقلعة، وأخذ الذهب والدراهم وسائر الجواهر وما في الخزائن، وتوجّه بجميع ذلك إلى الكرك، وجعل الأمير آقسنقر السلاري نائباً بمصر، وأخذ معه القاضي علاء الدين بن فضل الله كاتب السر والقاضي جمال الدين جمال الكفاة ناظر الجيش والخاص وجعلهما عنده في قلعة الكرك، واستغرق هو في لهوه ولعبه وما سوّله له الشيطان، واحتجب عن الناس مطلقاً، وسيّر من يمسك الأحمدي بصفد، فلما أحسّ بذلك هرب من صفد وجاء إلى دمشق، وجرى ما سيأتي ذكره في ترجمة الأحمدي، ثم إنه أحضر الفخري وطشتمر يوماً وضرب عنقيهما صَبراً، وأخذ حريمهما وسباهُنّ وسلّط عليهنّ نصارى الكرك، ففعلوا بهنّ كلّ قبيح، فحينئذ نفرت منه القلوب، واستوحش الناس منه، ولم يعد يحضر من الكرك كتاب ولا توقيع بخطّ موقَّع، إنما يرد ذلك بخط نصراني يُعرف بالرضي، وإذا توجّه أحد إلى الكرك لا يرى وجه السلطان، وإنما الذي يدبّر الأمور واحدٌ من أهل الكرك يعرف بابن البصّارة، فماج الناس لأجل ذلك في الشام ومصر، وجهّز المصريون إليه الأمير سيف ملكتمر الحجازي ليرى وجه السلطان، فلما بلغه وصوله جعله مقيماً بالصافية أياماً، ولم يستحضره ولا اجتمع به، فرُدّ على حاله إلى مصر، فأجمع المصريون رأيهم على خلعه وإقامة أخيه إسماعيل مكانه، فخلعوه، وحلفوا للصالح إسماعيل، وحضر الأمير سيف الدين طقتمر الصلاحي للبشارة إلى دمشق، وحلّف عساكر الشام، وكان يوم خلعه يوم الخميس ثاني عشر شهر الله المحرَّم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وكان مدّة ملكه بالقاهرة والكرك دون الأربعة أشهر.
ولما استقرّت الأحوال وثبت ملك الصالح أمر بتجهيز العساكر من مصر والشام لحصار الكرك، فتوجّه الناس، وكلما حضرت فرقة توجّهت فرقة من مضر والشام، فيُجرح من هؤلاء ومن هؤلاء ويقتل منهم جماعة، وهلك الناس أجمعون بسببه من التجاريد، وسُخّر الناس لحمل الأتيان والشعير والمؤن للعساكر، وجرّ المجانيق والأثقال والسلاح وآلات الحصار من الدبّابات وغيرها، وطال الأمر ولم يبق أمير في مصر والشام حتى تجرّد إليه مرة ومرتين.

قال لي الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا رحمه الله تعالى الذي خصني على الناصر في كلفة قدومه من التقدمة له ومن النفقة على التجاريد والتوجّه إليه ألف ألف وأربع مئة ألف، وأمسك بسببه جماعة من أمراء مصر، ثم أمسك نائب مصر السلاري، ووُسِّط الأمير سيف الدين بكا الخضري ومعه جماعة من المماليك السّلطانية، وأمسك أخوه رمضان وأخوه يوسف، وقضى الله أمره فيهما، وأخذ أمرُ الناصر أحمد في التلاشي، وهلك مَنْ عنده من الجوع، وذبح تلك الخيول الثمينة والأبقار والأغنام وقدّدها، وضرب الذهب دنانير وخلط فيها الفضة والنحاس، وكان يباع الدينار بخمسة دراهم، وهرب الناس من عنده.
ثم إن الأمير هام الدين سنجر الجاولي جدّ في حِصاره لأنه وقف يوماً من القلعة وسبّه ولعنه وشيخه، فقال له: الساعة أفرّجك كيف يكون الحصار، ونقل المنجنيق إلى مكان يعرفه، ورمى القلعة فوصل الحُجر إليها وأنكى فيها وخرّب السور، وطلع الناس إليها وأمسكوه في يوم الاثنين ثاني عشر صفر سنة خمس وأربعين وشبع مئة وجزّوا رأسه، وجهّزوه مع الأمير سيف الدين منجك إلى القاهرة.
وقلت أنا فيه:
أعوذ بالله مما راح يعكسه ال ... باري تعالى وما يُجري به الفلكا
كأحمد الناصر بن الناصر انعكست ... سعوده عنه حتى راح ما ملكا
فما تمتع بالملك المعظم في ... مصر وزال وما أبقى له الكركا
أحمد بن محمد بن عثمانالقاضي صفيّ الدين بن قاضي القضاة شمس الدين الحريري الحَنَفي، وسيأتي ذِكر والده في المحمدين إن شاء الله تعالى.
كان هذا القاضي صفيّ الدين شكِلاً ضخماً مفرطاً يخطئ العاقل إذا جاء في الاستفهام عنه ب مَنْ، له نوادر مُضحكة ما قَرِحَ بمثلها جُحا، ومتى سُمعتْ كان الثاني على الأول مرجَّحاً، أعجوبة من الأعاجيب، وأحدوثة لم يُسمع بمثلها إلا وظنّ أنها من الأكاذيب، يتداول الناس أخبارها، ويتشوَّفون إلى أن يَسمعوا علماءَها بذلك وأحْبارها، إلا أنه كان يَنطوي على ديانة، ويجعل الخوف من ربّه عِيانه.
ولم يزل على حاله إلى أن حلّت به الدُّرخمين، وصدق في عدمه الحَدْس والتخمين.
وتوفي رحمه الله تعالى في نهار السبت تاسع عشر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
كان مدرّساً بالمدرسة الصادرية بباب البريد بدمشق، وبيده، على غالب ظنّي، إمامة الظاهرية داخل دمشق الحنفية.
طلبة السلطان إلى مصر وولاّه التدريس فقال والده: هذا ابني ما يصلح، فقال السلطان: لهذا الملاك أنا أولّيه، وألبسه تشريفاً، وأعاده إلى دمشق.
وله غرائب تُحكى عنه؛ منها: انه تأذّى من بغلةٍ كانت عنده يركبها، فقال للغلام: لا تعلّق عليها شيئاً هذه الثلاثة أيام، فجاء إليه وقال: هذه البغلة إذا لم تأكل عليقها تحمَرُ، فقال له: علّق عليها ولا تقل إنك قلت شيئاً.
ولامه بعض الناس في كبرها وأن يستبدل بها، فقال: لا والله هذه أشمّ فيها روائح الوالد، يعني أنها من خَيْله.
ومناه أنه كان في يوم طينٍ راكب البغلة وهو مارّ في الطريق، فرأى قاضي القضاة نجم الدين بن صَصْرى متوجّهاً إلى الجامع الأموي ماشياً، فرجع بين يديه بالبغلة يحجُبه وهو يقول له: يا مولانا ارجع حسبنا الله، فيقول: الله الله يا مولانا قاضي القضاة، ولم يزل حتى وقع حافر البغلة في طين وفَقَس عليه، فطلع من ذلك ما جعل ثياب قاضي القضاة شهرة، فقال له: ارجع يا مولانا فقد حصل المقصود.
ومنها أن والده أحضر له شيخاً يقرئه النحو، فلازمه مُدّة، فأراد والده امتحانه يوماً، فقال له: " قنديل " اسم أو فعل أو حرف؟ فقال: فعل، فقال: لمَ قلت إنه فعل؟ قال: لأنه يحسن دخول قد عليه. فقال له: كيف يكون ذلك؟ فقال: لأنك تقول قِد قنديل يعني بكسر القاف مِنْ قِد يُريد فعل أمر من الوقيد.

ومنها أنه أراد أن يُشغّله في الحساب، فأحضر إليه من يقرئه ذلك فقال له الشيخ: أحد في أحد أحد، فقال هو: لا نُسلّم، أحدٌ في أحد اثنين. فقال الشيخ: يا سيّدي أحد مرّة واحدة، فقال: نعم، ظهر، فقال الشيخ: اثنان في أحد اثنان، فقال: نُسلّم. اثنان في أحد ثلاثة، فقال الشيخ: لا نسلم، أحد في ثلاثة أربعة، فقال الشيخ: يا سيّدي المراد أحد ثلاث مرّات، فقال: نعم ظهر، ولم يزل الشيخ إلى أن قال: اثنان في اثنين أربعة، فقال: هذا مسلَّمٌ، فقال له الشيخ: اثنان في ثلاثة سنة، فقال: لا نُسلّم، اثنان في ثلاثة خمسة، فقال الشيخ: يا سيدي المراد اثنان ثلاث مرات، فقال: نعم ظهر، فقال الشيخ: اثنان في أربعة ثمانية، فقال: لا نسلّم، اثنان في أربعة ستة، فنفر الشيخ وقال: إنْ سلّمت وإلا، الله لا يُقدّر لم تسلّم، ومضى وتركه.
ومناه أنه دخل يوماً إلى المدرسة الصادرية، فرأى الشيخ نجم الدين القحفازي خارجاً من بيت الطهارة، فقال له: يا مولانا آنستم محلّكم، فقال الشيخ نجم الدين: قبحك الله.
ومنها أنه شكا لطبيب يوماً سمنه، وما يجده من البلغم، فقال له: يا مولانا تعانَ الرياضة كل يوم بُكرةً إما أن تعالج بشيء ثقيل، فقال: ما أقدر فقال: خذ قوس كُبّاد ومُدّه كل يوم بكرة عشرين ثلاثين مرّة، فقال: هذه نعم، ومضى إلى القوّاسين وطلب قوس كبّاد، فأحضر إليه ذلك، فذاقه بلسانه وردّه، وقال: هذا ما هو الغرض، قيل له: لأي شيء، قال: ما هو حامض مثل الكبّاد.
وحكاياته كثيرة، وهذا القَدْر منها كافٍ.
أحمد بن محمد بن أحمد بن سليمانالواسطي الأصل الأُشْمُومي المولد والدار، الشيخ الإمام الفقيه جمال الدين أبو العباس المعروف بالوَجيزي لحفظه كتاب الوجيز واعتنائه به.
كان من الفقهاء القدماء والأئمة الذين هم للعلم في الليل والنهار من الندماء. تولّى قليوب والجيزية، ثم ضعُف عن الحركة لبرد الحرارة الغريزية، فلزم بيته حتى فَنيَ ذبولاً، ولقي من الله تعالى قُبولاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس شهر رجب الفرد سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وكان يَذكُر أنه أسنّ من قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بسنةٍ أو سنتين، ودفن بالقرافة.
أحمد بن عباس بن جَعْوان
الشيخ الإمام الزاهد الورع شهاب الدين بن كمال الدين الأنصاري الشافعي.
كان فقيهاً فاضلاً متقشّفاً منقطعاً عن الناس، سمع الكثير بإفادة أخيه شمس الدين وحدّث ب جزء ابن عرفة عن ابن عبد الدائم، وكان يكتب في الفتوى، ويُعتمد عليه في نقل المذهب.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة تسع وتسعين وست مئة بالمدرسة الناصرية، ودفن برّا الباب الصغير.
أحمد بن محمد بن قطّينة
الشيخ الجليل العَدْل شهاب الدين الزَّرعي التاجر.
كان تاجراً مشهوراً بدمشق، ذا أموال ومتاجر وسعادة وبضائع في كل صنف. ذكر أنه في سنة قازان بلغت زكاة ماله خمسة وعشرين ألفاً، والله أعلم يما تجدّد له بعد ذلك.
توفي رحمه الله تعالى في بستانه المعروف بالمدفع في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
وكان في شهر ربيع الأول سنة أربع عشرة وسبع مئة قد أُمسك هو وعبد الكريم الحريري لمرافعة وقعت في حقهما وأنهما يكاتبان قراسنقر، وأن لهما تجارة في السلاح إلى البلاد الشرقية، ثم ظهر كذبُ المرافع، فقطع لسانه وعُزّرَ، ثم ضرب ضرباً كثيراً ومات وأُفرج عنهما. وفي سابع عشري ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة خُلع على الصاحب عزّ الدين بن القلانسي باستمراره على نظر الخاص، وعلى الصاحب شمس الدين غبريال بتولية الأوقاف المنصورية، وعلى شهاب الدين بن قطّينة بوكالة الخواص السلطانية.
أحمد بن محمد بن محمد بن عليابن محمد بن سليم الصدر الرئيس الفاضل شهاب الدين بن قُطب الدين بن الصاحب تاج الدين بن فخر الدين بن الصاحب بهاء الدين بن حنّا الشافعي العَدْل.
كان فاضلاً رئيساً كبير الهِمّة نفيساً، مليح المحيّا من بيتٍ يتضوّع في السيادة ريّاً، حسن العبارة جميل الشارة لطيف الإشارة. لم يزل إلى أن حنّ الموتُ إلى ابن حنّا، وجعل جَسده في البلى شنّاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ودفن عند أهله بالقرافة، وكان في عُشر الأربعين.
أحمد بن محمد بن إسماعيل الإربلي

الشيخ شهاب الدين المعروف بالتعجيزي، لأنه كان يحفظ التعجيز، وحفظ شيئاً من الحديث وعلومه، ومعه خطوط الأشياخ بذلك.
كان نوعاً غريباً وشخصاً عجيباً، وعقله أعجبُ من كل عجب، وشعره كما قيل في المثل: " ترى العجَبَ في رجَب " ، ألفاظ لا يقدر الفاضل الذكيّ على أن يأتي لها بنظير، ولا يتكلّف البارع النحرير على أن يجيء بمثلها إلاّ إن كان في باشة وزنجير، شعرٌ في غير الوزن، وألفاظٌ ما تحدّث بها أهل سَهلٍ ولا حَزن، فإذا أنصف العاقل وفكّر فيه جدّ الفكرة علم أن هذا في الوجود فذّ، وهو مما ندر وجوده في العالم وشذّ، وهذا لو لم يكن طباعاً منه بلا تكلّف وسجيّة يوردها على رسله من غير تخلّف، لقدر الفضلاء على محاكاته وتكلّفوا المشابهة له في بعض حركاته، هذا مع صورة جَلّ مَنْ خلقَها، ولحيةٍ ما ظلم مَنْ أخذ الموسى وحلقها، رأيتُه مرات عديدة، ولقيته في مظاهر جديدة، فما كنت أقضي العجب من كلامه، وأتطفّل على سلامه.
ولم يزل على حاله إلى أن مرض مرضاً طويلاً وبقي مدة يُرى عليلاً، وهو مع ذلك يتحامل وينعكس ويتخامل، فأصبح وما أمسى، وبطل من كلامه ما كان جَهْراً وهَمْساً.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عُشريْ شعبان سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
أنشدني من لفظه الشيخ الإمام العالم العلاّمة صلاح الدين العلائي قال: أنشدنا التعجيزي لنفسه:
سُنّ يا شيعَ إني بينكم وسطٌ ... مذبذبٌ لا إلى هَوُلا ولا ثَمَةِ
وفي القيامة في الأعراف منقعدٌ ... وانتظرْ منكم مَنْ يدخل الجنةِ
فإنْ دخلتم فإني داخل معكم ... وإن صُفعتم فإني قاعد سَكِتِ
ومعنى هذه الأبيات أنه قال: يا أهل السنّة ويا شيعة أنا في أمري بينكم متوسط لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وفي القيامة أكون على الأعراف قاعداً، فمن دخل الجنة دخلتُ معه، ومن صُفع منكم كنت في مكاني قاعداً ساكتاً. فأنت ترى هذه الألفاظ كيف أخذها وبتَر تراكيبها وغيّر أبنيتها وجعلها من المهملات التي لا معنى تحتها " ويخلق ما لا تعلمون " النحل:16 8.
وكان يحب شخصاً فعمل فيه أبياتاً وأوقف عليا الشيخ نجم الدين القحفازي، وأول الأبيات:
أيها المعرضُ لا عَنْ سببا ... أصلحكَ الله وصالي الأربا
فكتب له الشيخ نجم الدين، ونقلت ذلك من خطّه:
يا شهاباً أهدى إليّ قريضاً ... خالياً من تعسُّف الألغاز
جاءني مؤذِناً برقّة طبعٍ ... حين رشحته بباب المجاز
إن تكن رُمتَ عنه منّي جزاءً ... فأقلْني فلست ممن يجازي
أحمد بن محمد بن محمد بن أحمدشهاب الدين ابن الشيخ الإمام أبي عمرو بن سيد الناس، أخو شيخنا الحافظ فتح الدين.
توفي رحمه الله تعالى بالمنكوتمريّة بالقاهرة في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن عند والده بالقرافة.
ومولده منتصف شعبان سنة ثمانين وست مئة.
أحمد بن محمد بن إبراهيم

بن علي الرقي
الشافعي الفقيه محيي الدين ابن الشيخ شمس الدين.
كان شابّاً فاضلاً، حفظ عدة كتب، وكتب جيّداً ونظم الشعر، وجلس بين الشهود ولم يُكمِل ثلاثين سنة.
وتوفي رحمه الله تعالى بالعذراويّة في رابع عشر شهر جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وسبع مئة.
أحمد بن محمدالزقاق
بن أحمد بن محمود بن الزقاق
المقرئ القاضي بدر الدين بن الجوخي العارض بديوان الجيش، مسند الشام.
أحمد بن محمد بن يوسفابن محمد بن عبد الله الإمام شهاب الدين بن ناصر الدين ابن الإمام المحدّث مجد الدين بن المهتار الدمشقي.
سمع من شمس الدين بن أبي عمرو، وفخر الدين بن البخاري، وابن الزين، وابن الواسطي، ومن جماعة.
وكان يكتب كتابة حسنة، وجوّد عليه الخطّ جماعة، وكان يشهد تحت الساعات، ويؤمّ بالمجاهدية المجاورة لباب الفراديس، ويحضر دار الحديث مع الجماعة، وعنده وسكون ومداراة واحتمال.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء رابع عشر المحرّم سخن خمس وثلاثين وسبع مئة، وبلغ من العمر سبعين سنة.
أحمد بن مسلم بن أحمدابن بعيثان البصروي، الشيخ الإمام الفقيه العدل شهاب الدين أبو العباس الحنفي.

كان موصوفاً بالعدالة والفضل الذي ما انثنى عن ربوعه ولا بداله، حجّ مرات وفاز بالخيرات والمبرّات، وكل يواظب على الشهادة، وله إلى القضاة بالتردّد عادَهْ، ودرّس بالدماغية في وقت، وحصَل له بها المِقَة لا المقت، وكان كثير الاشتغال والمطالعة والمبادرة إلى الأجوية والمسارعة.
ولم يزل على حاله إلى أن حان حَينه، وآن أن يكون تحت الأرض أيْنُه.
وتوفي رحمه الله تعالى سادس عشري ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة.
ومولده بالكفر من أعمال بُصرى سنة أربع وأربعين وست مئة.
وحدّث عن القاضي شمس الدين بن عطا بأحاديث من المسند والغيلانيات. قرأ عليه شيخنا البِرزالي في طريق الحجاز لابنه محمد بالزرقاء، وبوادي القُرى.
أحمد بن محمودالإمام الأديب، الكاتب البليغ، الناظم الناثر كمال الدين أبو العباس بن أبي الفتح الشيباني الدمشقي، المعروف بابن العطار.
أجاز له ابن رُوزبة، وسمع من ابن المقيّر، وأبي نصر بن الشيرازي، والسَّخاوي، وخُرِّجَت له مشيخة، وسمعها الشيخ شمس الدين الذهبي، وحدّث ب، صحيح البخاري بالكرك بالإجازة سنة سبع مئة.
وكان ديّناً وقوراً، عارفاً بفنّ الترسُّل خبيراً، هو والقاضي محيي الدين بن فضل الله يكتبان الأسرار ويحفظانها من استراق الشياطين الأشرار، يقرأان البريد، ويُدبّران الأمر في دمشق بالرأي السديد. ولم يزل كذلك إلى أن تفرّد القاضي محيي الدين بصحابة ديوان الإنشاء، وهو كبير الديوان يجلس فيه كأنّه كِسرى في الإيوان، وخطّه يُزري بالحدائق، والمطالعة تروح إلى باب السلطان بخطه كالريحان فوق الشقائق، وكان قد أتقن كتابة المطالعة، وعرف البداءة في ذاك والمراجعة، وكتب النسخ من أحسن ما يُرى، وأبرز سطوره كأنما قد رصّعه جوهراً.
له ردّ على المعاني المبتدعة لابن الأثير، وله رسالة سمّاها رصف الفريد في وصف البريد، نظماً ونثراً.
ولم يزل على حاله إلى أن ورد النقض على كماله، ورُدّ بدره إلى أسرار هلاله.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وعشرين وست مئة.
وكانت وفاته في ذي القعدة ثالث عشري الشهر المذكور من السنة المذكورة.
ومن شعره:
ولما بدا مُرخى الذوائب وانثنى ... ضحوك الثنايا مسبل الصدغ في الخدّ
بدا البدر في الظلماء والغصن في النَّقا ... وزهر الربا في الروض والآس في الوردِ
أنشده يوماً القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر:
لا تنكرنّ على الأقلام إنْ قصُرتْ ... لها مساعٍ إذا أبصرتَها وخُطَا
فعارض الطَّرْس في خد الطروس بدا ... من أبيض الرمل شيبٌ منه قدْ وخطا
فقال كمال الدين بن العطّار:
أقلام فضلك ما شابتْ ولا قصُرتْ ... لها مساعٍ إذا أنصفتها وخُطا
بل عارض الطَّرْس لما شاب عنبره ... بعشبه قيل شيبٌ فيه قدّ وخَطا
وكتب هو إلى القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر:
سقى وحيّا الله طيفاً أتى ... فقمت إجلالاً وقبّلتُه
لشدّة الشوق الذي بيننا ... قد زارني حقاً وقدْ زرتُهُ
فكتب الجواب عن ذلك:
في النوم واليقظة لي راتبٌ ... عليك في الحالين قرّرْتُه
تفضّل المولى إذا زاره ... طيفي خيالي منه أنْ زُرتُه
أحمد بن محمود بن عبد السيدالقاضي نظام الدين بن الإمام العلاّمة الشيخ جمال الدين الحَصيري الحنفي.
كان يدرّس بالنورية إلى حين وفاته.
قال شيخنا علم الدين البِرزالي: لا أعرف له رواية. وتاب مدة في الحكم بدمشق، وكان يكتب في الفتاوى، وله ذهنٌ جيّد وعبارةٌ طَلْقة.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر المحرّم سنة ثمان وتسعين وست مئة.
أحمد بن محمد بن مريالشيخ الإمام الفاضل شهاب الدين البعلبكي.

كان في مبدأ حاله منحرفاً عن الشيخ تقي الدين بن تيمية، وممن يحطّ عليه، فلم يزل من أصحابه إلى أن اجتمع به فمال إليه، وأحبّه ولازمه وترك كل ما هو فيه، وتلمذ له ولازمه مدة، وتوجّه إلى الديار المصرية، واجتمع بالأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، فأذن له في الجلوس والكلام على الناس بجامع الأمير شرف الدين حسين بن جندر بحكر جوهر النوبي، لأن الأمير بدر الدين كان الناظر في أمر الجامع المذكور، فجلس وتكلم مدة، إلى أن تكلم في مسألة الاستغاثة والوسيلة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنعه قاضي القضاة المالكي من الجلوس في سادس عشري شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ثم إنه أُحضر بيد يديّ السلطان، وأُحضر بعد ذلك عند النائب في خامس شهر ربيع الآخر وحبسه القاضي المالكي، ثم غلَّظ عليه، وقيّده، ثم إنه ضربه نحو خمسين سَوطاً في تاسع عشري جمادى الأولى، وتسلّمه والي القاهرة وأقام عنده يومين، وسفّره هو وأهله إلى بلد الخليل عليه السلام، ثم إنه حضر وحده إلى دمشق في شهر رمضان من السنة المذكورة. وكان قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة قد أثنى عليه هو والأمير بدر الدين جنكلي وغيره من الأمراء قدّام السلطان.
أحمد بن مسعود بن أحمدابن ممدود بن برشق، شهاب الدين أبو العباس الضرير السنهوري - بالسين المهملة والنون والهاء والواو والراء، على وزن منصور - المعروف بالمادح، لأنه كان يكثر من أمداح سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اجتمعت به غير مرة عند الصاحب أمين الدين في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالديار المصرية، وكان قد أضرّت عيناه، وجعلت قلبه الذكي ميناه، حفَظة لُفَظة، يتأثّر بكلامه كلّ من وعظَه، له قدرة زائدة على النظم، والنفَس الذي يذوب له اللحم، وينخر العظم من الالتزام الذي يأتي به، ويبدع في أسلوبه، فينظم قصيدة في كل بيت منها حروف المعجم، أو في كل بيت في كل كلمة منه ضاد أو حرف ظاء، أو غير ذلك من الحروف التي ما لها في دور الكلام اعتضاد.
ولم يزل على حاله إلى أن سكن جلده التراب، وفارق من يعزّ عليه من الأتراب.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
أنشدني من لفظه لنفسه:
إن أنكرتْ مقلتاكَ سفكَ دمي ... فوردُ خدّيك لي به تشهدْ
يُجرّحه ناظري ويشهد لي ... أليس ظلماً تجريحي الشاهدْ
أطاعك الخافقان تِهْ بهما ... قلبي المعنّى وقُرطك المائد
قلت: هو من قول ابن سناء الملك:
ملكتِ الخافقين فتُهتِ عُجباً ... وليس هما سوى قلبي وقرطك
وأنشدني له:
يا من له عندنا أيادٍ ... تعجز عن وصفها الأيادي
فيك رجاءٌ وفيك يأسٌ ... كالحرّ والبرد في الزِّناد
أحمد بن المسلم بن محمدابن المسلّم، الأجلّ عز الدين ابن الشيخ شمس الدين بن علاّن القيسي الدمشقي.
سمع من أبي نصر بن الشيرازي، وشيخ الشيوخ ابن حَمّوُيَه والسخاوي، وإبراهيم الخشوعي، ولم يُرَ له سماع من ابن اللتي، ولا من ابن الزبيدي. وحفظ كتاب التنبيه، وخدم في الجهات السلطانية، وولّي نظر بعلبك مرات.
ولم يزل على حاله إلى أن هبط ابن علاّن إلى حضيض قبره، ولحق بمن يعامله بلطفه وجَبره.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة أربع وعشرين وست مئة.
أحمد بن مظفر بن مزهرالقاضي فخر الدين النابلسي، الكاتب المشهور أخو الصاحب شرف الدين بن مُزهر.
رُتب أول الدولة المظفر قُطر مقابل الاستيفاء بدمشق، ولما ولي الأمير علاء الدين طَيبُرس النيابة في أول الدولة الظاهرية عزله وجعله ناظر بَعْلبك.
قال ابن الصُّقاعي: فحصل له من جهة الأمير ناصر الدين بن التبنيني النائب بها صداع وإخراق لأمر تعرّض إليه بسبب الحريم، وأرسله مُقرَّما إلى النائب بدمشق، وكان طَيبُرس يكره بني مزهر من أجل نجم الدين أخيه لملازمة علاء الدين البندقدار، وكان طيبرس راكباً فلما أقبل من الركوب ورآه أمر برمْيه في البركة وأن يدوسه المماليك بأرجلهم وأن يحمل عشرة آلاف درهم، ثم إنه عاد بعد ذلك إلى مقابلة الاستيفاء ورتّبه الأفرم صاحب الديوان بدمشق.

ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن مزهر وقد ذوى، وأمسى فخره المُشمخر وقد هوى.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وسبع مئة.
أحمد بن مظفر بن أبي محمدابن مظفّر بن بدر بن الحسن، الشيخ الإمام الحافظ الثبت المسند الحجة شهاب الدين أبو العباس النابلسي الأشعري.
كان ثبتاً، حافظاً متقناً تخاله بالدر لافظاً، متحرّياً لا متجرّياً، متحلياً بالقناعة عن الدنيا متخلياً، لا يزاحم الناس في دنياهم، ولا يسعى مسعاهم، قد قنع من العيش بالبَرْص، وتخيّل أنه قد ملك الأرض، وكان لا يحدث إلا من أصوله، ولا يتكل إلا على محصوره في محصوله، وكان جَلْداً في أشعريته، مبالغاً في الانتصار لعقيدته، قيل: إنه لم يحدّث حنبلياً، ويرى أنه لو فعل ذلك كان بالدم مليّاً، وبه تخرّج شيخنا الحافظ الذهبي، ومنه أصبح في علْم الرواية وهو غير غبي، على أن ابن مظفر ما سلم من جَرْح الذهبي ولا طعنه، وساقه في ركب مَنْ جَرّحه وظَعَنَه، وروماه بما الله به عليم، وتحمّل من إثمه ما يثقله " يوم لا ينفع مالٌ ولا بَنونَ إلاّ مَنْ أتى الله بقلبٍ سليمٍ " .
ولم يزل ابن مظفّر إلى أن علقت به أظفار شُعوب، وآذن شهابه بعد الطلوع بالغروب.
وتوفي في العشر الأوسط من شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع، وقيل: سنة خمس وسبعين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى ولم يكن عنده في بيته أحد، ففُقد بعد ثلاثة أيام وأربعة، ففُتح عليه الباب ودخلوا إليه، فوجدوه ساجداً وهو ميّت.
أخبرني نور الدين أبو بكر أحمد بن علي بن المقصوص الحنفي، وكان به خَصيصاً، قال: كان دائماً يقول: أشتهي أن أموت وأنا ساجد، فرزقه الله ذلك، وصُلّي عليه بالجامع الأموي في العشر الأواخر من شهر ربيع الأول.
وهو سِبط الزين خالد الأشعري، وكان قد سمع من خلْق كأبي الفضْل بن عساكر، وزينت بنت مكّي، وعبد الخالق القاضي، وسمعتُ عليه أنا وولدي محمد أبو عبد الله جزء ابن عرفة والمائة حديث انتزاع ابن عساكر من ثُلاثيات أحمد بن حنبل بقراءة مولانا قاضي القضاة تاج الدين بن نصر عبد الوهاب السبكي الشافعي، وأجازنا رواية ما يجوز له روايته.
وكان منجمعاً عن الناس، مجموع ماله في الشهر ما يزيد على العشرين درهماً، رحمه الله تعالى.
أحمد بن مكي قبجقالأمير شهاب الدين ابن الأمير سيف الدين، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
كان من فرسان الخيل، ومن أبطال يزدحمون على المعارك ازدحام السيل، لم يُر على ظهر الفرس أخفّ من حركاته ولا أسرع من انتقالاته، كأنما رُكّب من زئبق، أو وُجد ليباري البرق، وهو على كل حال يفوته ويَسبق، وله أعمال عجيبة على ظهر الفرس إذا جرى وانتقالات إذا رآها المحبّ تذكّر بها قول القائل:
ماذا على برق المُصلّى لو سرى
وكان أعجوبة زمانه ونادرة أوانه إلى أن عمّ السكون حركاته، وجاء الأمر الذي لا نجاء من دركاته.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
كان شهاب الدين هذا على ما ذكر غير واحد أنه يُصفّ له ثلاثة أجمال أحمالها تبن، وأنه يقف من هذا الجانب ويثبُ في الهواء فيتعدّاها إلى ذلك الجانب الآخر، وأنه كان يسوف الفرس فإذا كان في وسط جَرْيه وثب قائماً على السرج ثم يسلّ سيفه ويضرب به في الهواء يميناً وشمالاً وخلفاً وأماماً، ثم يمسكه بين أصبعيه، ويأخذ القوس ويوتره على ما قيل، ويرمي به عدة سهام، وهذا لم أره بعيني، ولكنه حكاه لي غير واحد، وهذا أمرٌ خارق باهر، سيأتي ذكر أخيه ناصر الدين محمد بن مكي قبجق في المحمدين.
أحمد بن منصور بن أسطوْراس
بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، وضمّ الطاء المهملة، وسكون الواو، وراء بعدما ألف وسين مهملة، شهاب الدين المعروف بابن الجبّاس.
اجتمعت به في ديوان الإنشاء بقلعة الجبل بالديار المصرية سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وكان به صمم، وأنشدني من لفظه لنفسه:
إنْ قلّ سمعي إنّ لي ... فهْماً توفّر منه قِسمُ
يدني إليّ مقاصدي ... ويروقك الرَّمح الأصمّ
ولربّ ذي سمع بع ... يد الفهم عييّ النطق فَدْمُ
زادوا على عيب التصا ... مُم أنهم صُمٌّ وبُكمُ
قلت: في البيت الثالث نظر.

وكان مقيماً بدمياط، وهو خفيف الحركة، جمُّ النشاط لأنه كان خطيب الورّادة، يجيء إليها كل جمعة، ويخطب بها على العادة، ثم يعود إلى دمياط.
ولم يزل على حاله إلى أن صار ابن الجبّاس في الجبّان، وانتقل إلى رحمة الملك الديّان.
وتوفي رحمه الله تعالى... .
وسألته عن مولده فقال: في سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
وأجاز لي بخطه ما يجوز لي تسميعه، وأنشدني من لفظه لنفسه يصف المور:
كأنما الموز في عراجنه ... وقد بدا يانعاً على شجرهْ
فروع شعرٍ برأس غانيةٍ ... عُقصن من بعد ضمّ منتشره
وفي اعتدال الخريف أحسن ما ... تراه في وَردِه وفي صدره
كأنّ مَنْ ضمّه وعقّصه ... أرسل شُرّابةً على أثره
كأن أشجاره وقد نُشرتْ ... ظلال أوراقه على ثمره
حاملةٌ طفلها على يدها ... تظلّه بالخِمار من شَعره
كأنما ساقُه الصقيل وقد ... بدت عليه نقوش معتبره
ساقُ عروسٍ أُميط ميزرُها ... فبان وشيُ الخضاب في حبره
يصاغ من جدولٍ خِلاخلها ... فتنجلي والنشار من زهره
حدائقٌ خفقت سناجقُها ... كأنها الجيش أمّ في زُمره
زُهي فَراق العيون منظره ... فما تملُّ العيونُ من نظره
وكل آياته فباهرةٌ ... تَبين في وِرده وفي صدره
كأنما عمره الحقير حكى ... زمان وصل الحبيب في قصره
كأن عرجونه المشيب أتى ... يخبر أنْ خانه انقضى عمره
كأنه البدر في الكمال وقد ... أصيب بالخُسف في سنا قمره
كأنه بعد قطعه وقد اص ... فرّ لما نال من أذى حِجره
متيّمٌ قد أذابه كَمدٌ ... يبيت من وَجْده على خَطَره
معلّقٌ بالرجاء ظاهره ... يخبر عمّا أجنّ من خَبره
يطيب ريحاً ويُستلذّ جنىً ... على أذىً زاد فوق مُصطَبره
كأنه الحُرّ حالَ محنته ... يزيد صبراً على أذى ضرره
قلت: قد تكرر معه لفظ في وِرده وفي صدره في موضعين وهو عيب جائز، وفي بقية الأبيات لا يجوز من حيث العربية، ولكن لهذه الأبيات ديباجة لحلاوة هذه القافية.
وأنشدني من لفظه لنفسه في رمّانة:
كتمتْ هوىً قد لجَّ في أشجانها ... وحشَتْ حشاها من لظى نيرانها
فتشقّقتْ من حبّها عن حبها ... وجداً وقد أبدى خَفا كِتمانها
رُمّانةٌ ترمي لها أيدي النوى ... من بعدما رُمّا على أغصانها
فاعجبْ وقد بكت الدموع عَقائقاً ... لا مِنْ محاجرها ولا أجفانها
ومن نظمه أيضاً، والتزم الهاء الأولى.
أفنيتُ ماء الوجه من طول ما ... أسأل مَن لا ماء في وجهه
أُنهي إليه شرحَ حالي الذي ... يا ليتني متُّ ولم أُنهه
فلم يُنلني كرماً رَفْدُه ... ولم أكد أسلم من جبهه
الموت من دهرٍ جهابيذه ... ممتدّة الأيدي إلى بُلْهه
ومن نظمه أيضاً وقد اشتهر:
وقائلةٍ ما بالُ دمعك أسوداً ... وقد كان محمرّاً وأنتَ نحيلُ
فقلت دمي والدمع أفناهما البكا ... وهذا سوادُ المقلتين يَسيل
وأنشدني من لفظه قطعةً خمَّس بها قصيدة شيخنا العلاّمة أبي الثناء في مدح سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أولها:
هذا اللقاء وما شِفيتُ غليلاً ... كيف احتيالي إن عزَمتُ رحيلا
وكتب بخطّه على كتابي جنان الجناس:
أتطنّ قلباً منك يوماً قد خلا ... وهواك ما بين الضلوع تخلّلا
وكتابك البحر المحيط بفضل ما ... عَقَد الجمان معقداً ومفصّلا
بهر العقول جِناسه فجنانه ... تُدني جَناه يانعاً ومذلَّلا
روض تفتّق زهره وتكهّلا ... أفقٌ تألّق بدره فتكمّلا
يهدي المعاني من مغانيها التي ... غَنيت فأغنت كلّ فهْم أمحلا

إن قال غرٌّ مثله فيما مضى ... فلقد تأوّل باطلاً وتقوّلا
فليهني العلياء ما تجري به ... أقلامك الغرُّ الميامنة العُلا
وليهنئ القرطاس ما قلدته ... يا ابن الكرام من المآثر والحُلا
كتبتْ عليه من الأفاضل سادةٌ ... مدْحاً يروق مدبَّجاً ومسلسلا
ورأيتُ أني عن مداهم قاصرٌ ... فقعدتُ ثم أتيتهم متطفّلا
أين الثريّا والثرى أين السهى ... ممن سها أن التداني والقلا
دُم في سعودك يا خليل فلا خلا ... منك المكان ولا سلا عنكَ الملا
أحمد بن مهنا بن عيسىالأمير شهاب الدين أمير آل فضل، يأتي ذكر أبيه وإخوته في مكانهم.
لم يكن في أولاد الأمير حسام الدين مهنّا أدين منه، ولا أكثر رجوعاً إلى الحق فيما استفاض عنه، وهو شقيق موسى وسليمان، وكان يرجع في المعاملة إلى أمان وإيمان، ويستدين على ذمته بلا حجة ولا رهن ولا أيمان، ويفي لمن عاهده، ويعجب في أحواله من شاهده، وكان يُباري الغمائم بكرمه، ويجير الخائف في حَرَمه، حُمل إليه يوماً من أنعامه وهو في مشهد عثمان بالجامع الأموي بدمشق مبلغ سبعين ألف درهم، ففرّقها جميعها بعصىً في يده، ولم يلمس منها درهماً في منتقاه ولا منتقده.
حكى لي نائبه على سَلَمية قال: لما جئنا في أيام الصالح إسماعيل إلى دمشق جاءه رجل ونصحه، وقال له: إن كتاب السلطان جاء إلى طُقُرتُمر وفيه أنه يمسك كل من حضر من أولاد مهنّا، ومتى دخلت أمسكك، قال: فقلت له: يا أحمد لا تعبر دمشق، وعُد من ههنا إلى بيوتك، فقال: ما أروح، والسلطان حبسه ثلاث ليال، والباقي بعد ذلك حبسُ الله، ولا أعصي الله، ولا أعصي السلطان، وإنْ أخذ خبزي أكلتُ من أملاكي، وإن أخذ أملاكي بعت أباعري وخيلي وأكلت منها إلى أن أموت.
قال لي أيضاً: وهو لا يتداوى من مرض يكون به، ولا يأكل من أحد شيئاً فيتّهمه، ولو قيل له: هذا طعام مسموم تناوله منه، وقال: " بسم الله " وأكله، ولمّا ورد في آخر أيام الصالح سنة خمس وأربعين وسبع مئة في أحد شهري جُمادى أمسكه الأمير سيف الدين طُقزتمر واعتقله بقلعة دمشق، فبقي فيها مدّة، ثم إنه نُقل إلى قلعة صَفد وأقام بها مُعتقلاً إلى أن توفي الملك الصالح إسماعيل، وتولّى أخوه الكامل، وطلب أحمد بن مهنّا إلى مصر، وأعطاه الكامل إمرة آل فضل، ولم يزل فيها إلى أن تولّى الإمرة سيف بن فضل ابن عمّه في أيام المظفّر حاجي، ولما كان في آخر أيام المظفّر أعيدت الإمرة إلى أحمد بن مهنّا، فتولاّها بعدما طُلب إلى مصر، ولم تزل الإمرة بيده إلى أن نزل به القضاء، وضاق به الفضاء.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكان ذكر لي أن مولده سنة أربع وثمانين وست مئة.
ووفاته بمنزلة كواتل، ونقل منها إلى مشهد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند رحبة مالك بن طوق، ودفن هناك.
أحمد بن موسى بن عيسى

بن أبي الفتح
أبو العباس البَطَرْني المالكي الأنصاري، شيخ القراءات والحديث بتونس.
أخذ القراءات عن أبي محمد عبد الله بن عبد الأعلى الشُّبارتي صاحب بن عون الله، وعن أبي بكر بن مَشلْيون وطائفة. وروى عن صالح بن محمد بن وليد، ومحمد بن أحمد بن ماجه، وعلي بن محمد الكِناني.
وكان صالحاً مباركاً فاضلاً مشاركاً، له صيت وسُمعة ولخشوعه تنفس ودمعه.
ولم يزل على حاله إلى أن أتاه اليقين ودرج إلى المتّقين.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وسبع مئة، وتبرك الخلق بجنازته، وتوهموا أنهم في كنفه وحيازته.
أحمد بن موسى بن محمد بن أحمدعز الدين بن قُرصة الفيّومي المولد القوصيّ الدار.
تولّى نظر قوص والإسكندرية، وكان من تلاميذ الشيخ ابن عبد السلام، وكان قليل الكلام، بريئاً من الملام، لا يتكلم إلا بإعراب، ولا يأنس إلا بمن هو عامر الباطن غير خراب.
أمسكه الأمير علم الدين الشُّجاعي واستحضره، فقال له: المال، قال: مبتَدأ بلا خبر، فقال له: تعال إلى هنا، قال: أخاف أن تضربني بهذه العصا التي في يدك، فتبسّم منه.
وله كتاب سمّاه نتف المحاضرة، وله مسائل فقهية ونحوية ولغوية وأدبية، ودرّس بالمدرسة الأفْرميّة ظاهر قوص.

ولم يزل على حاله إلى أن أصبح تحت جندل وصفائح، وأقام فيه إلى أن تبعثر الضرائح.
وتوفي رحمه الله إحدى وسبع مئة.
ومن شعره:
إذا تزوج شيخ الدار غانيةً ... مليحة القدّ تزْهى ساعة النظر
فقد ترافع في أحواله وأتتْ ... قاف القيادة تستقصي عن الخبر
ومنه:
لا تحقرنّ من الأعداء من قصُرتْ ... يداه عنك وإن كان ابن يومينِ
فإن في قَرصة معتبراً ... فيها أذى الجسم والتسهيد للعين
ومنه:
الشيب عيبٌ ولكن عينه قُلعت ... بالشين من شدّة فيه وتعذيب
والشيب شينٌ ولكنْ نونُه حذفت ... بباءٍ بُعدٍ عن اللذّات والطيب
ومنه:
يا من يعذّب قلبه في صورة ... سوداء مظلمةٍ مفحم النار
أتعبتَ نفسك في سوادٍ مظلمٍ ... إن السواد يُضرّ بالأبصار
وإذا عدلتَ عن البياض وحُسنه ... ماذا تؤمِّل في سواد القار
ومنه:
نحن نسعى والسعيُ غيرُ مفيدٍ ... إنْ أراد الإلهُ منعَ المغانم
وإذا ما الإله قدّر شيئاً ... جاء سعياً إلى الفتى وهو نائم
قلت: شعر جيّد.
أحمد بن نصر الله بن باتكينمحيي الدين القاهري.
سمع حرز الأماني على سديد الدين عيسى بن أبي الرحم إمام جامع الحاكم.
كان شاعراً قادراً، ناظماً في فن الأدب ماهراً، كتب إلى أدباء عصره، وراجعه شعراء دهره، وكانت تدور بينهم كؤوس الأدب، لا كؤوس الجَنَب.
وأنشدني من لفظه العلاّمة أثير الدين، قال: أنشدني لنفسه:
أقسمتُ بالله وآياته ... يمينَ برٍّ صادق لا يمينْ
لو زِدْتَ قلبي فوق ذا من أذىً ... ما كنت عندي غير عيني اليمين
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه:
يا حفنَ مقلته سكرتَ فعربد ... كيف اشتهيتَ على فؤادي الكمد
ورميتَ عن قوس الفتور فأصبحت ... غَرَضاً لأسهمكَ القلوب فسدّدِ
لم تغضضِ الجفْن الكحيل تغاضياً ... إلاّ لتقتلنا بسهم مغمَدِ
من لم يَبتْ بعذاب حُبّك قلبه ... متنعّماً لا فاز منك بموعدِ
للصبّ أسوةُ خالٍ خدّك إنه ... متنعّمٌ في جَمره المتوقّد
قلت: هذا يشبه قول عفيف الدين التلمساني:
قلبي المنعّم في هواك بناره ... إنْ كان غيري في الهوى متألّم
للصبّ أسوةُ خالٍ خدّك إنه ... في جمره متوقّداً متنعِّم
وكتب أبو الحسين الجزار إليه مُلغزاً:
وما شيءٌ له نقشٌ ونفسٌ ... ويؤكل عَظْمه ويحكّ جلده
يؤدّبه الفتى إدراك سُؤْلٍ ... وقد يلقى به ما لا يؤدّه
ويأخذ منه أكثره بحقٍّ ... ولكن عند آخره يردّه
فكتب الجواب إليه محيي الدين المذكور:
أمولاي الأديب دعاء عبد ... ودود لا يحول الدهرَ ودّه
يرى محض الثناء عليك فَرضاً ... ولا يثني عِنان الشكر بُعده
لقد أهديتَ لي لغزاً بديعاً ... يضلّ عن اللبيب لديه رُشده
وقد أحكمتَه دُرّاً نَضيداً ... يُشنِّف مسمعي بالدُّرّ عقده
فشطرُ اللغز أخماسٌ ثلاث ... للغزكَ إنْ تُردْ يوماً أحدُّه
وباقيه مع التصحيف كسْبٌ ... إذا ما زدته حرفاً تعُدّه
هما ضدان يقتتلان وهْناً ... ويضطجعان في فرْش تمدُّه
هما جيشان من زنجٍ ورومٍ ... يُقابل كل قرنٍ منه ضدُّه
تقوم الحرب فيه كل حينٍ ... ولا تَدْمى من الوقعات جُندُه
ويشتدّ القتال به طويلاً ... ويحكم بالأصاغر فيه عقدُه
ويقتل ملكه في كل حينٍ ... ويبعثه النشاط فيستردُّه
وما يُنجي الهمامَ به حُسام ... وقد ينجي من الإتلاف بنده
ونصر الله في الهَيجا سجالٌ ... فمن شاء الإله به يمدُّه
وهذا كلُّه حَسْبَ اجتهادي ... وغاية فكرة الإنسان جُهْدُه

ونقلت من خطِّ الحافظ اليغموري قال: أنشدني محيي الدين أبو العبّاس الكاتب المصري لنفسه:
يا ناظراً في البيوت أعمى ... عن كل خيرٍ وكل برِّ
أسود كالفحم فهو مأوى ... كل شرار وكل شرِّ
ونفخ هذا الوزير فيه ... أحرقَ كل الورى بجمرِ
ولم يزل محيي الدين المذكور على حاله إلى أن فرّق الموت بينه وبين ذويه، وتصرّف الوارث فيما كان يحتويه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة.
وكان المذكور قد تناثرت أطرافه وحاق به تبذيره وإسرافه، فأصبح لأعدائه رحمة، وأنار الحزنُ عليه كل قلب قد قسا وصار كالفحمة. وهذا محيي الدين هو الذي نظم ذينك البيتين في ابن بنت الأعز، يكتب في الكتب اسمه وحده، وقد ذكرتهما في ترجمة قاضي القضاة تاج الدين بن بنت العز.
أحمد بن نعمة بن حسن البقاعي

الديرمقري الدمشقي
الصالحي الحجّار الخياط الرحالة المعمَّر، شهاب الدين أبو العباس المعروف بابن الشِّحْنة.
خدم حجّاراً بقلعة دمشق سنة ثلاث وأربعين وست مئة، وكان لما حاصرها جند هولاكو، ولم يظهر أمره للمحدّثين إلى أثناء سنة ست وسبع مئة، فسألوه، فقال: كنا سمعنا، فوجدنا سماعه في أجزاء على أبي المنجا ابن اللتي.
وسمع منه جماعة جزء ابن مَخلد، ومسند عمر النجّاد، ثم ظهر اسمه في كراس أسماء السامعين بالجَبَل صحيح البخاري على ابن الزبيدي سنة ثلاثين، فحدّث بالجامع بضعاً وسبعين مرة بالبلد، وبالصالحية وبالقاهرة وبحماة وبعلبك وكفر بطنا وحمص.
وطلبه الأمير سيف الدين أرغعون الناصري نائب مصر، وسمع منه. وسمع منه القاضي كريم الدين الكبير، والأمير سيف الدين رحمه الله تعالى، والقضاة والأئمة.
وروى بإجازة ابن رُوزبة وابن بهروز وابن القطيعي والأنجب الحمامي وياسمين بنت البيطار، وجعفر الهَمْداني، وخلق كثير.
وكان صحيح التركيب، دمويّ اللون أزهر، له همّة، وفيه عقل، يطيل الإصغاء بلا ضجر، ويصبر كأنّ قلبه مما لازمه حَجَر.
ألحق الأحفاد بالأجداد، وساوى بالسماع عليه بين الآباء والأولاد، رحل إليه الناس من الأطراف، وأخذهم بالسماع عليه الأشراف في الإسراف، وحصّل الذهب والدراهم والخلع، ورُتّب له معلوم فانجبر به وانتفع.
وكان فيه دينٌ وملازمة للصلوات الخمس، ومحافظةٌ في اليوم على ما كان فيه أمس، لا يمل من الإسماع وطوله ولا ينعس، وهو مشغول بإقباله على القارئ وقبوله، ويحفظ ما يصلّي به من القرآن، وربما أخّر الصلاة في السفر على رأي العوام لاستيلاء الشيطان، وصام وهو ابن مئة عام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال عملاً بسنة الإيمان.
قال الشيخ شمس الدين: حُدّثتُ أنه في هذا السنّ اغتسل بالماء البارد.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه قاطع الأعمار، والموت الذي ساوى بين أولي التجارب والأغمار، ونزل الناس بموته درجة في الرواية، وحصل للطلبة عليه من الأسف النهاية.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين خامس عشري صفر سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة نيف وعشرين وست مئة.
ولعله حصل له بركة رواية الحديث ما يقارب المئة ألف درهم. وسمع هو وأخوته الثلاثة في سنة ثلاثين وست مئة. وأجاز لي بخط شيخنا علم الدين البرزالي سنة ثلاثين وسع مئة، ولم أسمع منه فخُرِمتُه، وعنَّفتُ حظي لذلك ولمتُه.
وقلت عند موته:
عِلْم الراوية حِصنٌ للحديث وبال ... إسناد قدْ سدّ أشياخُ الورى فُرَجَهْ
وكان شاد لنا الحجّارُ منزلةً ... وحين مات تزلنا بعده دَرَجَهْ
ا بن هبد الله بن أحمد بن عساكر
بن نح بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر
الشيخ الجليل المسند شرف الدين أبو الفضل. كان شيخاً مسنداً.
سمع من زَين الأمناء ابن عساكر، والحسين ابن صصْرى، وأبي المجد القُزويني، وعز الدين بن الأثير، ومكْرم بن الصقر، وابن صبّاح، وابن الزبيدي، وابن اللتي، وفخر الدين بن الشيرجي، وأبي نصر بن الشيرازي. وأجاز له أبو رَوح اللتي، وفخر الدين بن الشيرجي، وأبي نصر بن الشيرازي. وأجاز له أبو رَوْح عبد المعزّ الهروي والمؤيّد الطوسي، وزينب الشَّغْرية، وقاسم بن الصفّار، وعبد الرحيم بن السمعاني، وجماعة.

قال شيخنا علم الدين: قرأت عليه صحيح مسلم، والزهد للبيهقي، ومسند أبي يعلى الموصلي، وموطأ أبي مصعب، ومسند السراج أربعة عشر جزءاً، ومشيخة ابن السمعاني سبعة عشر جزءاً أو أكثر من مئة وعشرين جزءاً، وسمعت عليه أكثر تفسير البغوي من قوله تعالى في سورة النساء: " لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول " إلى آخر التفسير.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة. قال: وجنازته أول جنازة خرجت على العادة من دمشق.
قلت: يعني أنه بعد رحيل التتار عن دمشق في أيام قبجق.
أحمد بن ياسين الربّاحي
قاضي القضاة المالكي بحلبشهاب الدين قاضٍ فاضَ جوده وما غاض، وغاظ النفوس بشره لمّا استراب وما استراض.
أقدم على تفسيق العدول. ولك يكن له عن ذلك خروج ولا عُدول، ثم تجرّأ بعد الإسقاط، إلى الضرب بالسياط، وحكم بفسق رفاقه الحكام، وعدل عن العَدْل إلى التعدّي في الأحكام، وكفَّر جماعة، ووفّر على الشرّ ومدّ باعه، فضاقت به أرجاء حلب، ولم يلق الناس به زبدةً لما مخضَ مَحْضَ ما حلب، فعُزل عن القضاء، وانتصف الناس منه بالقدَر والقضاء، ثم إنه توجّه إلى مصر، وسعى فأعيد قاضياً مرة ثانية، وعاد إلى ما كان من الإكباب على جمع حطام هذه الدنيا الفائتة الفانية، ولم يرجع عن عادةٍ ألفها، ومادّة استمد منها وعَرَفها، ففسّق وكفّر، وفرّق شمْل العَدْل ونفّر، إلى أن استفتى نائب السلطنة بحلب عليه، ووجّه وجه اللوم والذم إليه، وجهّز الفتاوي بذلك إلى دمشق، وتوجّهت سنّة الطعن عليه والمشَقْ، فحكم بخطابه الواضح، وتبيّن أنه من أهل الفضائح، في القبائل والقبائح، هذا مع ضيق عطن وعَيْن، وملاءة من الشين وبراءة من الدين، ولثغة قبيحة إذا بدّل راء الورد بالغَيْن، وما كان أحقه بقول سلامة الزرّاد السنجاري:
ضاق بحفظ العلوم ذَرْعاً ... ضيقة كفَيْه بالأيادي
قاضٍ ولكن على المعالي ... والدين والعقل والسَّداد
يعدل في حكمه ولكن ... إلى الرُشا أو عن الرشاد
فعُزل مرة ثانية، وتوجّه إلى القاهرة، وأقام يسعى بالعين إلى أن أصبح بالساهرة، فأكلت الأرض منه خبثاً، ورأى بالموت أن جدّه كان عبثاً.
وتوفي رحمه الله تعالى وعفى عنه في شهر رجب الفرد سنة أربع وستين وسبع مئة، توفي هو وولداه في يوم واحد في طاعون مصر.
كان في أول أمره تاجراً بسوق الرمّاحين في دمشق، ثم إنه سعى في قضاء حلب، وأظنه أول مَنْ وليها من القضاة المالكية، فأساء السيرة، وظهر أنه خبيث السريرة، ففسّق العدول وأسقطهم، وضرب بعضهم بالسياط وحكم بفسق رفاقه الحكام، وحضرتْ كُتبهم إلى شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وحضَر كتاب النائب بحلب إلى الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام، فقال قاضي القضاة للنائب: الرأي أن تجهّز واحداً له دُرْبة يتوجه إلى حلب ويُصلح بينهم، وعيّنني قاضي القضاة لذلك، ثم لم يتم ذلك، وبطّله مَنْ بطّله، فكتب النائب إلى حلب بمطالعة السلطان، فكتب، فورد المرسوم بعزله، وتولى القاضي زين الدين أبو حفص بها إلى أن مات. ثم إنّ الرباحي سعى في العَود إلى حلب فأعيد، ولم يرجع عن غيّه، وأقام في قضية الدنَيْسري وكفّره، وهمّ بقتله، وحضرت الفتاوي عليه إلى الأمير سيف الدين بَيْدَمُر الخوارزمي نائب دمشق من الأمير شهاب الدين القشتمري نائب حلب، فأحضر القضاة إلى دار العدل بدمشق، ووقفوا على ما كتب في حقّه فوجوده مُبْطلاً، وكتبوا إليه بالإنكار عليه، وتوجه غرماؤه إلى مصر، فسعى، ولم ينجح مسعاه إلى أن طُعن هو وولداه وماتوا في يوم واحد، عفى الله عنه وسامحه.
ولقد كنا يوماً في دار العدل بحلب في أوائل قودم الأمير بكتمر المومني، فقال النائب يوماً كلاماً فيه بعضُ إنكار على القضاة، فخرج هو دون رفاقه، وقال لنفرة وزعارَة: أيش بالقضاة يا أمير؟ فنفر فيه النائب، وقال له: ما تتكلم بأدب!؟ ووضع يده على السيف، وتوعّد، فشغلتُه أنا بقراءة القصص عليه، فاشتغل بذلك لحظة، وقال لنقيب النقباء: ناد في الناس، مَن له على هذا القاضي شكوى، بحضر. فحضر في الوقت الحاضر ثلاثة عشر نفراً، وشكوا عليه، فقال له: يا قاضي، مّن يكون هذه سيرته ما يكون هذا نَفَسه. ثم عقد له ولهم مجلساً، ووزّنه لهم مبلغ أربعة عشر ألف درهم.

ولما زاد شرّه في المرة الأولى بحلب، صنع فيه القاضي زين الدين عمر بن الوردي رسالة، سمّاها الحُرقة للخْرِقة، ووصّى ابنه، قال: إن رجع القاضي عن فعله، اكتمها، واستمر، فأظهرها. فلم يرجع عن غيّه، فأظهرها. وهي نظم ونثر، أبدع فيها، وأتى فيها بكل معنى بديع. منها قوله رحمه الله تعالى:
حاكمٌ يصدُر منه ... خلْفَ كل الناس حَفْرُ
يتمنّى كُفْرَ شخص ... والرضا بالكفر كُفْرُ
وقوله:
امتلأت من ذهب أكياسه ... وقلبه ممتلئٌ من دَغَلْ
ما هو إلا حيّةٌ بَزْقُها ... بالسمّ، هذا المغربي الزَّغَلْ
وقوله:
قاض عن الناش غير راضٍ ... مباهتٌ غالظٌ مخالط
يكذب عن مالك كثيراً ... ويُسقط الناس وهو ساقط
وقوله:
تلِفَت مكاتيب الأنام بفعله ... وأبان عن عكس وكَثرة مَخْرَقهْ
ورمى الأكابر والأصاغر كاذباً ... بالكفر أو بالفسق أو الزندقه
وقوله:
لا واخذ الرحمنُ مصراً ولا ... أزال عنها حُسنَ ديباجه
ولّوا علينا قاضياً ثالثاً ... ما كان للناس به حاجه
وقوله:
كثير الجنون مسيء الظنون ... عدوّ الفنون لظىً محرقُ
فيصبغُ أصبغ من بهته ... وأشهبُ في عينه أبلق
وقوله:
إن الرياحيْ على جَهْله ... وجَوْره في حلب يحكُم
إنْ لم يكن في حلب مُسْلم ... فمصر ما كان بها مسلم
وقوله:
يحبّ مِنْ كل علم ... السين والقاف والطا
حاشى الرسالة منه ... ما خُلقُه بالمَوطّا
وقوله:
بالله يا أولياء مصر ... خذوه من عندنا بستر
متى رأيتم وهل سمعتم ... بأنّ قاضي القضاة جَمْري
وقوله:
يحبس في الردّة مَن ... شاء بغير شاهد
لا كان من قاض حكى ... الفقاع حَدّ بارد
وقوله:
في حلب قاضٍ على مالك ... قد اجترا ما فيه توفيق
ومن تلكّا معه قال نعم ... قد قيل لي إنك زنديق
وقوله:
قاضٍ من السوق أتى ... معتادُ بيع الأكسيهْ
ذا الموصّى يا مايعي ... كيف يعي للأقضيه
وقوله:
يا ساكني مصر ما عهدنا ... منكم سوى رحمة وأُلفه
فكيف ولّيتم علينا ... من لا تصح الصلاة خلفه
وقوله:
الألثغ الطاغي تولّى القضا ... عدمت هذا الألثغ الطاغي
إن سبّح الباري حكى سبّه ... فقال: سبحانك يا باغي
وقوله:
ولّيتم جاهلاً جريئاً ... ألثغ بالمسلمين ضار
مقلقلاً من بني رُبَاح ... نحن له من بني خُسار
وقوله:
كم أسقط شاهداً وعدْلاً ضابِطْ ... فالعالم كلهم عليه ساخط
من كثرة ما يُسقط خافت حلب ... أن يكتب ظاء حظها بالساقط
أحمد بن يحيى السُّهْرَوَرْدي
الكاتب المشهور ببغداد، حفظ القرآن، وتفقّه للشافعي، وقرأ العربية، ونظر في اللغة والمعقول، وحفظ المقامات الحريرية.
وسمع من رشيد الدين أبي عبد الله المعرّي، وأبي البركات بن الطبّال. وأجاز له جماعة.
وكان علماً مشهوراً في الكتابة وعِلم الموسيقا، فكتب على الشيخ زكي الدين عبد الله، وفاق شيخه في الكتابة. وأخذ علم الموسيقا عن الشيخ صفي الدين عبد المؤمن، وأجمع جماعة من أرباب هذا الفن أنه ما أتى بعده مثله.
وكان الشيخ شمس الدين المذكور حسن الأخلاق، كريم النفس في حالتي الغنى والإملاق، كثير الحيا، غزير الحُبَا. شريف النفس كثير الاتضاع، ذا مروءة يخاف مدى الدهر ألاّ تُضاع، كثير البشاشة سديد المقال، شديد الحرص على الأشغال والاشتغال، صاحب رأي وعزم، ونأيٍ عن الدناءة وحَزْم، بليغاً فصيحاً، مليَّ المحيّا بالقبول مليحاً، لطيفاً في حركاته وسكناته، كثير الرحمة لا يزعج الطير في وَكُناته، إماماً في الكتابة، رأساً لهذه العصابة.

كتب المصاحف في القطع الكبير والصغير، وأتى بها كأنها قطع الروض النضير. رأيت منها أنا جملة وافية، ودلّتني على محاسنها العينُ الصافية، فشاهدت منها ما يودّ فم الثريا لو كان له لاثماً، وشهد عندي أن كاتبه يكون فوق الكواكب جاثماً، لا يُطلَق اسم الكاتب إلا عليه إجماعاً نصاً، ولا يرضى أن يكون ياقوت في خاتمه فَصّاً، فقد زعم كثير أنه كتب أحسن من ياقوت، وأنه لو كان في زمانه لعذُر عليه القوت. وقالوا إنه كتب بخطه ثمانية وسبعين مصحفاً وخَمْس ربعات، كل ربعة وَقْر بعير. وكتب بخطه أيضاً إحياء العلوم للغزالي، كتب كتاب المصابيح ثلاث نسخ، وعوارف المعارف لجد أبيه ثلاث نسخ، ومشارق الأنوار للصغاني ثلاث نسخ، كتاب الشفا لابن سينا في مجلد، والمقامات ثلاث نسخ، ومفصل الزمخشري نسختين، ونهج البلاغة أربع نسخ، وكتب من الأحاديث والأدعية والدواوين والدروج شيئاً كثيراً.
وكتب عليه جماعة، منهم القان أبو سعيد، والسلطان أتابك والوزير غياث الدين بن الرشيد، ونظام الدين بن يحيى بن الحكيم، وجماعة من أولاد الأئمة والقضاة والوزراء والفضلاء.
وقُصد من البلاد لحُسن خطّه، ولعلم الموسيقا. وطبقت مصنفاته الأرض في هذا العلم تطبيقاً. لأنه كان فيها لا يُبارى، ولا يُباده ولا يجارى. إذا وقّع أغرب، وإذا تنحنح، قيل إنه من الأوتار أطرب. قد ألطف لجسّه إبْريسَمُه، وطُبع على هذه الصناعة مِيسَمُه، إلا أنه أخيراً أنِف من نسبة هذا الفن إليه، ونفض منه يدَيْه.
وكان حظيّ الذِّكر عند الملوك، تكاد أنباؤه تنخرط مع الدرّ في السلوك. كاتبه سلطان الهند وصاحب اليمن وجماعة ليمضي إليهم فما وافق ولا رافق، ولا نافى في الظاهر ولا نافق.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل الكسوف بشمسه، وجعل الموت قُربه أبعد من أمسه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر شهر ربيع الآخر، سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وصُلّي عليه بجامع الخليفة، ودفن عند جدّه.
ومولده ببغداد سنة أربع وخمسين وست مئة. ومات وما في لحيته من الشيب إلا شعرات يسيرة.
ومن شعره:
بدا نجم السعادة في الصعود ... وبَشَّر بالميامن والسعود
وحقق فيك آمالَ البرايا ... بما أولاك من كرمٍ وجود
فلاح لنا الفلاحُ وحلّ فينا ... محلَّ الروح من جسم العميد
وأبقينا النفوسَ بظلّ أمن ... يعمّ الخلق في مُدُن وبيد
بعدلٍ شامل في كل أرضٍ ... لسلطان الزمان أبي سعيد
قد قنعنا بخمولٍ عن غنى ... وبعزّ اليأس عن ذلّ التمني
فكريم القوم لا أسأله ... فلماذا يُعرض الباخل عنّي
قلت: إلا أن هذا شعر نازل، وهو اقرب إلى التوسّط.
أحمد بن يحيى بن فضل اللهبن المجلّي بن دعجان
ينتهي إلى عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. القاضي شهاب الدين أبو العباس ابن القاضي محيي الدين القرشي العدويّ العمري الدمشقي.
الإمام الفاضل البليغ المفوّه حجة الكتّاب، غمام أهل الآداب، الناظم الناثر، أحد رجالات الزمان كتابة وترسُّلاً، وتوصلاً إلى غايات المعالي وتوسّلاً، وإقداماً على الأسود في غابها، وإرغاماً لأعاديه بمنع رغابها، يتوقد ذكاء وفطنة ويتلهّب، ويتحدّر سَيْله ذاكرةً وحفظاً ويتصبّب، ويتدفق بحره بالجواهر كلاماً، ويتألّق إنشاؤه بالبوارق المتسرعة نظاماً، ويقطر كلامه فصاحة وبلاغة، وتندى عبارته انسجاماً وصياغة، وينظر إلى عيب المعنى من سترٍ رقيق، ويغوص في لجّو البيان فيظفر بكبار الدُّرّ من البحر العميق، استوت بديهته وارتجاله، وتأخر عن فروسيّته من هذا الفن رجاله، يكتب من رأس قلمه بديهاً ما يعجز تروّي القاضي الفاضل أنْ يدانيه تشبيهاً، وينظم من المقطوع والقصيدة جَوْهراً، ما يخجل الروض الذي باكره الحيا مزهراً، جبل كتابة وأخبار، وبحر إصابة في المعاني التي لا يشق له فيها غبار.
وأما نثره فقلْ من يُجازيه، أو يقارب خطو قلمه في تنسيق دراريه. وأما نظمه ففي الثريّا، وأبياته تطول في المحاسن ريّاً، وتضَوّع ريّاً.

قرأ العربية على الشيخ كمال الدين ابن قاضي شهبة، ثم على قاضي القضاة شمس الدين بن مُسلّم، والفقه على قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد، وعلى الشيخ برهان الدين قليلاً، وقرأ الأحكام الصغرى على الشيخ تقي الدين بن تيمية، والعروض على شمس الدين الصايغ، وتأدّب على علاء الدين الوداعي. وقرأ جملة من المعاني والبيان على شيخنا العلامة شهاب الدين محمود، وقرأ عليه تصانيفه، وجملة من الدواوين وكُتب الدب، وقرأ بعض شيء من العروض على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. والأصول على الشيخ شمس الدين الأصبهاني. وقرأ بمصر على الشيخ أثير، وسمع منه. وسمع بدمشق والقاهرة والحجاز والإسكندرية وبلاد الشام، ونظم كثيراً من القصائد والأراجيز والمقطعات ودو بيت وأنشأ كثيراً من التقاليد والمناشير والتواقيع والأصدقة.
كتب الإنشاء بدمشق أيام بني محمود، ثم ولي والده كتابة السرّ بدمشق، ثم طُلب إلى مصر هو ووالده في سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، وباشر والده كتابة السر بمصر، ثم خرج مع أبيه إلى دمشق، ثم عاد إليها معه في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وأقام إلى بعض سنة ست وثلاثين، وهو في المرة الأولى والثانية يدخل يقرأ البريد على السلطان، وفي الثانية جلس في دار العدل ووالده القاضي محيي الدين كاتب السر.
وجرى له ما جرى مع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ولزم بيته. ثم حجّ وحضر، وغضب عليه السلطان واعتقله بقلعة الجبل، وأخذ منه مئة ألف درهم، ولما أُمسك الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - ولاّه السلطان كتابة السرّ بدمشق، فحضر إليها يوم عاشوراء، فيما أظن، سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وباشر ذلك إلى آخر أيام أَيْدَغْمشُ نائب الشام، وتوجّه إلى حماة ليتلّقى الأمير سيف الدين طُقْز تَمُر من حلب، فجاءه الخبر في حماة أنه قد عزل بأخيه القاضي بدر الدين محمد، فجاء إلى دمشق، وذلك سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وبقي في الترسيم بالفلكية قريباً من أربعة أشهر، وطلب إلى مصر فما وصل إلى مصر حتى شفع فيه أخوه علاء الدين كاتب السر بمصر وردّه من الطريق، فقال: لا بد من أن أرى وجه أخي، فدخل مصر، وأقام أياماً، وعاد إلى دمشق بطّالاً، ولم يزل بها مقيماً في بيته إلى أن حدث الطاعون بدمشق فقله منه، وتطاير به، وعزم على الحج، ثم أبطله، وتوجّه بأهله إلى القدس، فتوفيت هناك زوجته ابنه عمه، فدفنها هناك، وما به قلَبَة غير أنه مروع من الطاعون، فحصل له يوم وصوله حتى ربع، ودامت به إلى أن حصل له صَرْع، فمات منه، وسكن ذلك الهدير، ونضب ذلك الغدير، وكان يوم عرفة سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ودفن بتربتهم بالصالحية وكانت جنازته حافلة.
ومولده بدمشق ثالث شوال سنة سبع مئة.
وصنّف فواضل السمر في فضائل آل عُمر أربع مجلدات، وكتاب مسالك الأبصار في أكثر من عشرين مجلداً، ما أعلم لأحد مثله، تراجمه مسجوعة جميعها، ولي فيه عمل كثير في اختيار شعره، والدعوة المستجابة، وصبابة المشتاق، مجلد في مدائح النبي صلى الله عليه وسلم، وسفرة السفر، ودمعه الباكي ويقظة الساهر، وقرأتهما عليه بمصر، ونفخة الروض، وغير ذلك.
كتب إليّ ملغزاً:
أيها الفاضل الذي حاز فضلاً ... ما عليه لمثله من مزيد
قد تدانى عبد الرحيم إليه ... وتنادى إليه عبد الحميد
أي شيء سمّي به ذات خدر ... تائه بالإمام أو بالعبيد
هو وصف لذات سرٍ مصون ... وهي لم تخف في جميع الوجود
مذ مضى حينها بها ليس يأتي ... وهو يأتي مع الربيع الجديد
وهو مما يبشر الناس طراً ... منه مأتى وكثرة في العديد
وحليم إرادة لا لذات ... بل بشيء سواه في المقصود
ذاك شيء مَنْ ارتجاه سفيةٌ ... وهو شيء مخصّص بالرشيد
فكتبت أنا الجواب إليه وهو في " زبيدة " :
يا فريداً ألفاظه كالفريد ... ومجيداً قد فاق عبد المجيد
وإمام الأنام في كل علم ... وشريكاً في الفضل للتوحيد
علم العالمون فضلك بالعل ... م وقال الجهّال بالتقليد
من تمنى بأن يرى لك شبهاً ... رام نقضاً بالجهل حكم الوجود

طال قدري على المساكين لمّا ... جاءني منك عقد درّ نضيد
شابه الدر في النظام ولمّا ... شابه السحر شاب رأسُ الوليد
هو لغز في ذات خِدْر منيع ... نَزَلَتْ في العلى بقصر مشيد
هي أمّ الأمين ذاتُ المعالي ... من بني هاشم ذوي التأييد
أنت كنت الهادي لمعناه حقاً ... حين لوّحْتَ لي بذكر الرشيد
دمت تُهدي إليّ كل عجيب ... ما عليه في حسنه من فريد
وكتبت أنا إليه ملغزاً في " نجم " :
يا سيّداً أقلامُه لم تزل ... تُهدي لآلي النظم والنثر
قل لي ما اسمٌ قلبه لم يزل ... معذَّباً بالبيض والسُّمر
وكلّه في الأرض أو في السما ... وثلثه يَسبح في البحر
فكتب هو الجواب عن ذلك:
دمتَ خليلي سائر الذكر ... مثلَ الذي ألغزتَ في القَدْر
بعثتها نجميّة قد حلَتْ ... لكنها مِنْ سُكّر الشكر
تطلع بالنجم فأما الذي ... في مطمح الُّهر أو الزَّهر
عجبتُ منه كيف شقّ الدجا ... وما أتى إلا مع الفجر
من صنعة البَرِّ ولكنه ... قد جاءني في راحة البَحْر
أقسمت منه قسَماً بالغاً ... بالفجر والليل إذا يسر
لقد أغرتَ الغيد إذ لم تجدْ ... شبهه في الجيد والثغر
بعقد دُرّ ما له قيمةٌ ... يا حُسنه للكوكب الدرّي
مُسهّد تذكى له مقلةٌ ... مقلوبة كالنظر الشَّزْر
وهو إذا ما حقّقت تعريفه ... عَرَفْتَ منه منزل البدر
بواحد عَدُّوا له سبعةً ... تقيسُ ذيلَ الليل بالشَّبر
فاعر أخيَّ اليوم إن قصرت ... بديهتي واقبل لها عذري
فليس بالألغاز لي قدرة ... ولا غزا في جيشها فكري
وكتبت أنا إليه مع ضحايا أهديتها:
يا سيداً أرجو دوام ظلاله ... علينا وأن يمسي بخيرٍ كما يُضحي
وحقك ما هذي ضحايا بعثتها ... ولكنني سقت الأعادي للذبح
فكتب هو الجواب إليّ عن لك:
أتتني ضحاياك التي قد بعثتها ... لتصبح كالأعداء في بكرة الأضحى
وحقك أعدانا كلابٌ جميعهم ... وحاشاك لا تُجزي الكلاب لمن ضحّى
وكتبت إليه أتقاضاه إنجاز ما وعد به من قلع شجرة ليمون مختم وتجهزها، والتزمت الياء قبل النون:
يا سيداً فيه لي ولاء ... عند جميع الورى تَعَيّنْ
لله ليمونه أراها ... لي مونةً غُصْنُها تزيّنْ
كأعين الحاسدين بغياً ... لأجل ذا قلعها تعيّنْ
فكتب الجواب، والتزم نوناً قبل النون:
يا فاضلاً ما له عديل ... لأنه في الورى تفنّنْ
وكل شيء عاناه فينا ... على طريق الهدى تفنّنْ
أمرك حكم في كل عقلٍ ... ما عاق إلا من قد تجنّنْ
وكان قد أهدى إليّ - رحمه الله تعالى - عندما عمرت الدويرة التي لي بدمشق عشرة أحمال رخاماً، فكتبتُ إليه أشكره على ذلك، وطلبت ذلك فلم أجده وقد عرفته الآن عند تعليقي هذه الترجمة وهو:
لَعَمري لقد أهدى سماحُك والندى ... حُمول رُخام مثل روض تنمنما
فأمسيتُ منها في رخاء وفي غنى ... فيا من رأى قبلي رخاماً مرخّما
وكتب هو الجواب عن ذلك، ولكنني لم أجده تلآن.
وأنشدني لنفسه ونحن على العاصي بحماة:
لقد نَزَلْنا على العاصي بمنزلة ... زانت محاسنَ شطّيه حدائقُها
تبكي نواعيرها العَبرى بأدمعها ... لكونه بعد لقياها يفارقها
فأنشدته أنا أيضاً لنفسي:
وناعورة في جانب النهر قد غَدَتْ ... تعبّر عن شوق الشجي وتُعرب
ترقص عطف الغصن تيهاً لأنها ... تُغَنّي له طول الومان ويشرب
وأنشدني هو أيضاً لنفسه:
إنّا نقيم على حماة حجّة ... في حسنها ولها جمال يبهت
من النواعير الفصاح خصومنا ... ولها لسان ناطق لا يسكت
فأنشدته أنا أيضاً لنفسي:

ناعورة أنّت وحنّت فقد ... شوّقت الداني والقاصي
قد نبهتني للهدى والتقى ... لمّا غدت تبكي على العاصي
وأنشدته أنا لنفسي، وقد طال علينا المركز من شمسين إلى حمص:
محبوب فلبي مثل بدر السما ... أدنيه عمري وهو لي يقصي
بيني وبين الصبر في حبّه ... ما بين شمسين إلى حمص
فأنشدني هو أيضاً لنفسه:
لقد تماديت مدىً يا رستن ... كأنما قربك ما لا يمكنُ
لما جعلناك ضمير قصدنا ... غدوت ممّا لا تراك الأعين
وكتب إليّ من دمشق وأنا بالقاهرة سنة 741:
رحلتم فلا والله ما بَعْدَكم قلبي ... بقلبي ولا والله عقلي ولا لُبّي
هجرتم زماناً ثم شطّ مزاركم ... فأهاً على بُعدي وآهاً على قربي
وبدّلتم غيري ووالله ما رأت ... سوى حسنكم عيني ولا غيركم قلبي
لئن كان ذنبي أن قلبي بحبّكم ... فيا ربّ زدني منه ذنباً على ذنبي
ولا تحسبوا أني تغيّرتُ مثلكم ... فما قلبكم قلبي ولا خبّكم حبي
رحلتم وما كنتم سوى روح مغرم ... قضى بكم وجداً وما غاب في الترب
نأيتم فلا والله ما هبّت الصبا ... فنمتُ مع النّوام جنباً على جَنْبي
لئن عُدْتُم عاد السرور جميعُه ... وإلاّ فما لي بالرسائل والكتب
دَعوا عنكم التعليل باليوم أو غد ... فلست بمن يبقى إلى البعد والقرب
ولا تعجبوا إنّ متّ حين فراقكم ... إذا بان حبّي كيف لا ينقضي نحبي
أأحبابنا كيف استقلت ركابكم ... وما علقتها العين في شرك الهُدب
وطرتم سراعاً كالطيور مشقة ... فهلاّ وقعتم في القلوب على الحَبّ
ووالله ما حدّثت نفسي بمجلس ... سوى ما أفاض الدمع فيه من الجبّ
ولا كان شرق الدمع من طبع مقلتي ... إلى أن تغربتم ففاض من الغَرْب
ونغّصتم طِيبَ الحياة ببعدكم ... وهيهات أن ترجى حَيَاةُ فتىً صَبِّ
أأبغي سواكم في الهوى أو أريده ... وهجركم سقمي ووصلكم طبّي
دعوني وأطلال الديار أُنحْ بها ... وأندبها إن كان ينفعها ندبي
فكتبت أنا الجواب إليه:
دعوتم علة بعد فلبّاكم لبّي ... وناجاكم قلبي على البعد والقرب
وما لي وذكر الدار يا ساكني الحشا ... وداركم عيني وداركم قلبي
وأقسم أنّ الجفن فيكم جفا الكرى ... وأحرق قلب الصب من دَمعه الصَّبِّ
إذا قلتُ هُبّي يا نُسيمةَ دارِهم ... يقول الجوى يا نارَ أشواقه شبّي
أيا جيرة بالقلب لا الشام خيّموا ... محاسنكم تصبي القلوب فلم تسبي
لأنتم وإن أضرمتم النار في الشحا ... ألذّ إلى قلبي من البارد العذب
رفعتكم جَرّاً إلى نصب ناظري ... فيا حبّذا رفعٌ يجر إلى نَصْب
أحاشيكم أن يألفَ القلبُ غيركم ... فقلبي لا يرضى بهذا ولا ربّي
وحقكم ما راقني غيرُ حُسنكم ... وإحسانكم حسبي بما راقني حسبي
رحلت ولي قلب مقيم على الوفا ... لعهدكم حنى أوسّد في التُّرْب
أحاول عَودي نحوكم ويصدّني ... خيانة دهر راح حربي لا حزبي
أليس من الأنكاد أن لا مخبّر ... يبلغكم عني سلامي ولا كتبي
ولولا المنى أن يجمع الله شملنا ... قريباً لما فارقت نَوحي ولا نَدْبي
سأجهد في عَوْدي لمطلع حبكم ... ولو أن لي قي مصر مملكة الغرب
بُعثتم على بخل الزمان لأنكم ... كرام بنظم فاق منسجم السُّحب
غدا خارجاً في النظم عن قدرة الورى ... ولكنّه في حُسنه داخل الضرب

فقلت لدهري زِد عليّ قساوة ... فقد ظفرت كفاي باللؤلؤ الرطب
وكتب هو إليّ وقد تواترت الثلوج والأمطار سنة 744: كيف أصبح مولاي في هذا الشتاء الذي أقبل يُرعب مَقْدَمُه، ويُرهب تقدّمه، ويريب اللبيب من برقه المومض تبسّمه، وكيف حاله مع رعوده الصارخة، ورياحه النافخة، ووجوه أيامه الكالحة، وشرر لياليه التي لا نبيت منها بليلة صالحة، وسحابه وأمواجه، وجليده والمشي فوق زجاجه، وتراكم مطره الأنيث، وتطاول ليل فرعه الأثيث، ومواقده الممقوته، وذوائب جمره، وأهون به لو أنّ كلّ حمراء ياقوته، وتحدّر نوئه المتصبب، وتحيّر نجمه المتصيّب، وكيف هو مع جيشه الذي ما أطلّ حتى مدّ مضارب غمامه، وظلّل الجو بمثل أجنحة الفواخت من أعلامه، هذا على أنه حلّ عُرى الأبنية، وحلل ما تلف في ذمّة سالف الأشتية، فلقد جاء من البرد بما رضَّ العظام وأنخرها ودقّ فخّارات الأجسام وفخّرها، وجمّد في الفم الريق، وعقد اللسان إلا أنه لسان المنطيق، ويبَّس الأصابع حتى كادت أغصانها تُوقد حطباً، وقيّد الأرجل فلا تمشي إلاّ تتوقع عَطَباً، وأتى الزمهرير بجنودٍ ما للقويّ بها قَبَل، وحمّل الأجسام من ثقل الثياب ما لا يعصم منه مَنْ " قال سآوي إلى جبلٍ " ومدّ من السيل ما استبكى العيون إذا جرى، واجتحف ما أتى عليه وأوّل ما بدا الدمع بالكرى، فكيف أنت يا سيّدي في هذه الأحوال؟، وكيف أنت في مقاساة هذه الأحوال؟، وكيف رأيت منها ما شيّب بثلجه نواصي الجبال، وجاء بالبحر فتلقف ثعبانه ما ألقته هراوات البروق من عصيّ، وخيوط السحب من حبال؟. أمّا نجن فبين أمواجٍ من السحب تزدحم، وفي رأس جبلٍ لا يُعصم فيه من الماءُ إلاّ من رُحِم، وكيف سيدنا مع مجامر كانون وشرار برقها القادح، وهمِّ ودقها الفادح، وقوس قزحها المتلوّن ردّ الله عليه صوائب سهامه، وبدّل منه بوشائع حلل الربيع ونضارة أيامه، وجعل حظّ مولانا من لوافحه ما يذكيه ذهنه من ضرامه، ومن سوافحه ما يولده فكره من توأمه، وعوّضنا وإياه بالصيف، والله يتقّل، وأراحنا من هذا الشتاء ومَشْي غَمامه المتبختر بكمّه المسبل، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
فكتب أنا الجواب: يقبّل الأرض، وينهي وُرُود هذه الرقعة التي هي طرازٌ في حلّة الدهر، وحديقة ذكّرت بزمن الربيع، وما تهديه أيامه من الزهر، فوقف منها على الروض الذي تهدّلت فروعُ غصونه بالأثمار، ونظر منها إلى الأفق الذي كلّ كواكبه شموسٌ وأقمار، فأنشأت له أطرابه، وأعلمته أن قلم مولانا يفعل بالألباب ما لا يفعله نغمة الشبآبة، وأرشفته سُلافاً كؤوسها الحروف وكل نقطة حبابَه، وشاهد أوصاف هذه الأيام المباركة القدوم المتصلة الظلام، فلا أوحش الله من طلعة الشمس وحاجب الهلال وعيون النجوم، فما لنا ولهذه السحائب السحابة، والغمائم السكّابة، والرعود الصخّابة، والبروق اللهابة، والثلوج التي أصبحت بحصبائها حصابة، والبرد الذي أمست إبَرُه لغصون الجلود قَطّابة، والزُّميتا التي لا تروي عن أبي ذرّ إلاّ وتروي الغيث عن أبي قلابة، كلّما أقبلت فحمة ظلام قدحت فيها البوارق شرار جمرتها، وكلّما جاءت سحابة كحلاء الجفون رجعت مرهاء لما أسبلته من عبرتها، فما هذا شهر طوبة إنْ هذا إلا جبل ثهلان، وما هذا كانون إنْ هذا إلا تنّور الطوفان، وإلى متى قُطْنُ هذه الثلوج يُطرَح على جباب الجبال، وإلى متى نُقاضُ دلاص الأمطار، ويرشقها قوس قزح بالنبال؟!، وإلى متى تشقق السحاب وما لها من الحلل والحبر، وإلى متى ترسل خيوط المزن من الجوّ وفي أطرافها على الغدران إبر، وإلى متى تجمد عيون الغمام وتكحّلها البروق بالنار، وإلى متى نثار هذه الفضّة وما يُرى من النجوم دينار؟، وإلى متى نحن نَحْنو على النار " حُنُوَّ المرضعات على الفطيم " ، وإلى متى تبكي الميازيب:
بكاء الأولياء بغير حزنٍ ... إذا استولوا على مال اليتيم

وإلى متى هذا البرق تتلوّى بطون حياته وتقلب حماليق العيون المحمرّة من أسود غاباته؟، وإلى متى يزمجر غيث هذه الرياح العاصفة، وإلى متى يرسل الزمهرير أعواناً تصبح حلاوة الوجوه بها تالفة، أترى هذه الأمطار تقلب بالأذيار أم هذه المواليد التي تنتهي فيها الأعمار، كم جليد يذوب به قلب الجليد، ويرى زجاجهُ الشفّاف أصلب من الحديد، ووحل لا تمشي فيه هريرة الوحى، وبردٍ لا تنتطق به نؤوم الضحى، " اللهم حوالينا ولا علينا " ، لقد أضجرنا تراكم الثياب، ومقاساة ما لهذه الرحمة من العذاب، وانجماع كلٍّ عن إلفه، وإغلاق باب القباب، وتحلّل الضباب زوايا البيوت، فالأطفال ضباب الضباب، كل ضَبّ منهم قد ألِف باطن نافقائه، وقدم بين يديه الموت بداية بدائه، قد حُسد على النار مَنْ أمسى مذنباً وأمسى عاصياً وتمنّى أن يرى من فواكه الجنات عنّاباً من النار وقراصيا، فإن كانت هذه الأمطار تكاثر مكارم مولانا فيا طول ما تسْفح، وإن كانت العواصف تتشبّه ببأسه فيا طول ما تلفح، وإن كانت البروق تحاكي ذهنه المتسرّع فيا طول ما تتألق، وإن كانت قوس قزح تتلوّن خجلاً من طروسه فيا طول ما تتألق، وإن كانت الرعود تحاكي جوانح أعدائه فيا طول ما تشهق وتفهق، وإن كانت السيول تجري وراء جوده فإنها تجري على طول المدى وما تلحق، والأوْلى بهذا النوء الباكي أن لا يحاكي، والأليق بهذا الفضل أن لا يتعرّض، فرحم الله مَنْ عرف قدْره، وتحقّق أنّ مولانا في الجود نّدْرَه، أنهي ذلك.
فكتب هو الجواب إليّ عن ذلك، وكتبت جوابه نظماً، وكتب هو الجواب عن ذلك نظماً.
وكتب إليّ وأنا بالقاهرة وهو يومئذٍ في دمشق رسالة في الثلج، وكتبت جوابه، وكتب هو إليّ رسالة يصف كثرة المطر نظماً ونثراً، وكتبت جوابه أيضاً كذلك.
وبيني وبينه مكاتباتٌ كثيرة، وقد أوردت ذلك في كتابي " ألحان السواجع " .
ولمّا توفي رحمه الله تعالى كتبت إلى أخيه القاضي علاء الدين صاحب دواوين الإنشاء أعزيه، ونسخته: يقبّل الأرض وينهي ما عنده من الألم الذي برّح، والسقم الذي جرّ ذيول الدمع على الخدود وجرّح، لما قدّره الله تعالى من وفاة القاضي شهاب الدين:
سَقَتْه بألطف أندائها ... وأغزرها ساريات الغمام
فإنا لله وإنا إليه راجعون، قَولَ من غاب شهابه، وآب التهابه، وذاب قلبه فصار للدمع قليباً، وشهاب فوده لمّا شبّ جمر فؤاده، ولا غروَ فيومه جعل الولدان شيباً، فيا أسفي على ذلك الوجه الملّي بالملاحة، واللسان الذي طالما سحر العقول ببيانه، فصاحت: يا ملك الفصاحة، واليد كم روّضت الطروس أقلامها، وأنشأت أسجاعاً لم تذكر معها بانات الحمى ولا حمامها، وكأنّ أبا الطيّب ما عنى سواه بقوله:
تعثرت بك في الأفواه ألسنها ... والبُرْد في الطُّرق والأقلام في الكتب
فرحم الله ذلك الوجه، وبلّغه ما يرجوه، وضوّاه بالمغفرة يوم تبيضّ وجوهُ وتسودّ وجوه. لقد فقد المجد المؤثل منه ركناً تتكثر به الجبال فما تقلّه ولا تستقلّه، وعدمت الآداب منه بارعاً لو عاصره الجاحظ ما كان له جاحداً، أو البديع علم أن ما فُضّ له فضله، وغاب من الإنشاء منه كاتب ليس بينه وبين الفاضل لولا أخوه مثله، أتُرى ابن المعتزّ عناه بقوله:
هذا أبو العباس في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال
وما يقول المملوك في البيت الكريم، ألاّ إنْ كان قد غاب بدره وأفل شهابه، أو غاص قطره وتقشّع سحابه فإنّ نيّره الأعظم باقٍ في أَوْجه، وبحره الزاخر متلاطمٌ في موجه، وفي بقاء مولانا خَلَفٌ عمّن سلف، وعِوَضٌ عما انهدم ركنه وانقضّ، وجبرٌ لمن عدك الجلد والصبر، والله يمتع المسلمين بحياته، ويجمع لديه بين ثوابه وثباته، لأنه قد عاش الدرّ المفدّى بالذهب وأضاءت شمس المعالي إن كان قد خمد اللهب:
علَم الله كيف أنت فأعطا ... ك المحلّ الجليل من سلطانه
جعل الدين في ضمانك والدن ... يا فعش سالماً لنا في ضمانه
وقد نظم المملوك قصيدة في رثاء المشار إليه، وجعلَ قوافيها تبكيه، وألفاظها تنوح عليه، وهي:
الله أكبرُ يا بن فَضْل الله ... شغلَتْ وفاتُك كلّ قلبٍ لاه
كلٌّ يقول وقد عرته كآبة ... واهاً لفقدك إنّ صبري واه

فقدتْ بك الأملاكُ بحرَ ترسلٍ ... متلاطمَ الأمواج بالأمواه
يا وحشة الإنشاء منكَ لكاتبٍ ... ألفاظه زهرَ النجوم تباهي
وتوجّع الأشعار فيك لناظمٍ ... من لطفه لشذى النسيم يضاهي
كم أمسكتْ يمناكَ طِرْساً أبيضاً ... فأعدْنه في الحال طرزاً باهي
كم قد أدَرْتَ من القريض قوافياً ... هي شهوة الناشي وزهو الزاهي
ورسالة أنشأتها هي حان ... ه النبّاذ حازتْ حضرة الفَكّاه
ووضعتَ في الآداب كلّ مصنّف ... قالتْ له البُلَغاء زاهٍ زاهِ
كم قد خطرْت على المجرّة رافلاً ... يوم الفخار بمعطفٍ تيّاهِ
شَخَصت لعَلْياكَ النجومُ تعجباً ... ولك السَّهى يرنو بطرفٍ ساهِ
ما كنتَ إلا واحدَ الدهر الذي ... يسمو على الأنظار والأشباهِ
من بعدك الكتّاب قد كتبوا فما ... يجدون منجاةً لهم من جاهِ
أقلامهم قد أملقت ورمى الردى ... أدواتهم ودواتهم بدواهِ
وطروسُهم لبست حداد مدادها ... أسفاً عليك مؤكداً بسفاهِ
أمّا القلوب فإنها رهنُ الأسى ... تردُ القامة وهي فيك كما هي
أبداً يخيّل لي بأنك حاضر ... تُملي الفوائد لي وأنت تجاهي
فتعزَّ فيه واصطبر لمُصابه ... يا خير مولى آمرٍ أو ناهِ
فدوام ظلك في البرية نعمةٌ ... ولشكرها حتمٌ على الأفواهِ
لا زال جدّك في المعالي صاعداً ... رتباً سعادتها بغير تناهِ
أحمد بن يعقوب بن أحمد بن يعقوبالإمام جمال الدين أبو العباس بن شرف الدين بن الصابوني. هو من ذريّة عبد المحسن بن حمّود الأديب، وقد ذكرته في تاريخي الكبير.
كان جمال هذا نزيلَ القاهرة، وبها رأيتُه. وكان بالحديث قد عني، وحصّل الأصول المليحة فغني، ودأب واجتهد، وبلغ الذروة واقتعد. وأسمعه والده من ابن البخاري وطبقته، وطلب هو بنفسه مع لِداته ورفقته، ومهر وتميّز، ومال إلى فئة الأشياخ وتحيّز.
ولم يزل على حاله إلى أن غُسل ابن الصابوني بماء الحِمام لا الحمّام، ورثاه حتى الساجعات على القضب من الحَمَام.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهلّ شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة.
أجاز لي بخطّه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة. وكان مولده بدار الحديث النورية بدمشق، ومنها كانت على وجهه أنوار، وفي روض الطروس في خطّه أنوار.
أحمد بن يوسف

بن هلال بن أبي البركات
الشيخ الطبيب شهاب الدين أبو العباس الصفدي.
مولده بالشُّغر وبَكاس، ثم إنه انتقل إلى صفد، وبها سمّي. ثم إنه انتقل إلى مصر، وخدم في جملة أطباء السلطان والبيمارستان المنصوري.
رأيته بالقاهرة غير مرّة، واجتمعت به، وأنشدني من لفظه لنفسه أشعاراً كثيرة. وكان شيخاً طوالاً، أبيض اللحية والحاجب، لا يُرى له عن الفضل حاجب، قادراً على النظم المحكم السّرد، قد أثبت على لغم النُّظّام الجوهر الفرد، وله قدرة على وضع المشجّرات فيما ينظمه، ويؤسس بنيانه ويُحكمه، ويُبرز أمداح الناس في أشكال أطيار، وعمائر وأشجار، ومآذن وعقد وأخياط، وصورة مُقاتلٌ ونَفّاط، بحيث إنه له في ذلك اليد الطولى، والقدرة على إظهار الأعاجيب التي تترك النواظر إليها حُولا.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل بالطبيب الداءُ الذي أعجزه طِبّه، وفارقه بالرُّغم خليله وحِبُّه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، فيما أظن.
ومولده سنة إحدى وأربعين وست مئة.
أنشدني من لفظه فيما يكتب على سيف:
أنا أبيضٌ كم جئتُ يوماً أسوداً ... فأعدتُه بالنصر يوماً أبيضا
ذَكَرٌ إذا ما استلّ يوم كريهة ... جعل الذكور من الأعادي حُيّضا
أختال ما بين المنايا والمنى ... وأجولٌ في وسط القضايا والقضا
ومن شعره:
حُجيتُ وقد وافيت أول قادم ... بأول شهر حلّ أول عامه

وكان خليل القلب في نار شوقه ... وكنت المنى في بَرُده وسلامه
ومنه:
وما زلتَ أنت المشتهى متولعاً ... بكثرة تردادٍ إلى الروضة الصغرى
إلى أن بلغتَ القصد في كل مشتهى ... من المصطفى المختار في الروضة
وكتب إليّ وقد وقف على شيء كتبته وزمّكته:
ومزمّكٍ باللازورد كتابةً ... ذهباً فقلت وقد أتتْ بوفاق
أأخذتَ أجزاء السماء حَلَلْتَها ... أم قدْ أذبْتَ الشمس في الأوراق
أكتبتَ بالوجنات حُمْرتها كما ... مخضَّرها بمرائر العُشّاقِ
وكتب هو إليّ أيضاً:
معانيك والألفاظُ قد سَحَر الورى ... لكلّ من الألباب قد أعطيا حظّا
فهبّك سَبَكْتَ التبرَ معنىً وصغته ... فكيف أذبْتَ الدّرَّ صيَّرته لفظا
فكتبتُ أنا إليه:
وحقِّك لم أكتبْ بتبرٍ كما ترى ... سطوراً غدا في وضْعها منية النفسِ
ولكنما هذي أشعّةُ وجهك ال ... كريم غدتْ على صفحة الطّرسِ
أحمد بن يوسف بن يعقوبالقاضي الكاتب الفاضل الناظم الناثر شمس الدين الطِيبيّ - بكسر الطاء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وبعدها باء موحدة - .
كان فاضلاً أديباً، عالماً لبيباً، سامعاً على البديهة مجيباً، ينظم الدُرَر، ويطلع في طِرسه الزُّهر، وإن تنازلنا قلنا الزَّهَر، قادر على النظم، نتزل سكين فيه إلى العظم، ويأتي منه بما يشرف الأسماع ويشنفها، ويحكم على المعاني فيتنزل على مُراده ويصرّفها، يترسّل فلا يعثر له جواد قلم في ميدان إنشائه، ويستقي المعاني الغويصة من قَليب الفكر على قِصَر رشائه، رأيت بخطّه الحاجبية، وقد علق في آذان حواشيها أقراطاً، وأتى فيها بفوائد تدلّ على أنه من أئمة هذا الفن فيما تعاطى.
أخبرني القاضي شهاب الدين فضل الله قال: أخبرني جمال الدين بن رزق الله قال: كان عندنا ليلة في مجلس أُنس، وقد أخذت السُّلاف منه مأخذها إلى أن صار في غيبةٍ عن وجوده، وذكرنا له واقعة المسلمين على شَقْحب، ونصرتهم على التتار، وقلنا له: لو نظمت في هذا شيئاً، فأخذ الدواة، ونظم قصيدة تتجاوز التسعين بيتاً فائية، ومدح فيها السلطان. قال: فأعجبتنا وقمنا آخر الليل ورحنا إلى الحمّام، فلما أفاق وصحا وأجرَيْنا له ذكر القصيدة، فأنكر وقوعها، وحلف أن هذا أمر لم يبدُ منه، فقلنا له: هذه قصيدة فائية أوّلها:
برق الصوارم للأبصار يختطف
فقال: أروني إيّاها. فأوقفناه عليها، فأعجبته، وزاد إعجابنا بها. قال ابن رزق الله: وقمت وأخذتها وأتيت بها إلى والدك القاضي محيي الدين، فلما وقف عليها أعجبته، وأوقف عليها أخاه عمّك القاضي شرف الدين بن فضل الله فأعجبته، وكانت سبباً لأن استخدمه كاتب إنشاء بطرابلس، انتهى.
قلتُ: وهذه قصيدة بديعة في بابها، وسوف أوردها إن شار الله تعالى في ترجمة السلطان الملك الأعظم الناصر محمد بن قلاوون.
ولم يزل الطيبي في طرابلس على حاله إلى أن صار الطيبي في قبره جيفة، ولم يجد الحمام من حدّ لسانه خيفة.
وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس في شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولده في عشري الحجة سنة تسع وأربعين وست مئة.
ومن شعره:
لست أنسى الأحباب ما دمتُ حيّاً ... إذا نَوَرا للنوى مكاناً قصيّاً
وتلَوا آيةَ الدموع فخرّوا ... خِيفة البينِ سُجّداً وبُكيّا
فبذكراهم تسحّ دموعي ... كلما اشتقت بُكرةً وعشيّا
وأناجي الإله من فرط حزني ... كمناجاة عَبْدِه زكريّا
واختفى نورُهم فناديت ربي ... في ظلام الدجى نداءً خفيّا
وَهَنَ العظم بالبِعاد فهَبْ لي ... ربَّ بالقرب من لِدنك وليّا
واستجب في الهوى دعائي فإني ... لم أكن بالدعاء رَبِّ شقيّا
قد فرى قلبي الفراقُ وحقاً ... كان يومُ الفراق شيئاً فرّيا
ليتني متّ قبل هذا وأني ... كنتُ نِسياً يوم النوى منسيّا
لم يك الهجر باختياري ولكن ... كان أمراً مقدّراً مقضيّا

يا خليليَّ خلّياني وعشقي ... أنا أولى بنار وَجْدي صلّيا
إن لي في الفراق دمعاً مُطيعاً ... وفؤاداً صبّاً وصبراً عَصيّا
أنا في هجرهم وَصَلْتُ سُهادي ... فصِلاني أو اهجُراني مليّا
أنا في عاذلي وقلبي وحبّي ... حائرٌ أيّهم أشد عِتيّا
أنا شيخ الغرام مَنْ يتّبعني ... أهدِهِ في الهوى صراطاً سويّا
أنا مَيْتُ الهوى ويومَ أراهم ... ذلك اليومُ يومَ أُبعث حيّا
أنا لو لم أعش بمقْدَمِ مولى ... هو مولى الوجود لم أك شيّا
الفتى الباسطُ الجميلَ جمال ال ... دين من زار من نداه النديّا
سيّد مرتضى الخلائق أضحى ... راضياً عندّ ربّه مرضيّا
صادق الوعد بالوفاء ضمين ... كالذي كان وَعْدُه مأتيّا
أوحدٌ في الصفات لم يجعل الله ل ... ه قطّ في السموّ سَميّا
لا يُرى في الصدور أرحبَ صدراً ... منه إذ تحضر الصدور جثيّا
ما جد أولياؤه في رشادٍ ... وعِداه فسوِف يَلقَون غَيّا
وفتى بالسّماح صبّ رشيد ... أوتي العلَم حين صبيّا
بلَبَان الكمال غُذّيَ طفلاً ... ونشا يافعاً غلاماً زكيّا
لم يزل منذ كان برأ تقياً ... وافياً كافياً وكان تقيّا
جعل الله في ادّخار المعالي ... لعلاه لسانَ صدْق عليّا
كم عديم الثراء أثنى عليه ... وانثنى واجداً أثاثاً وريّا
وأولو الفضل حينَ أمّوا قِراهُ ... أكلوا روقَه هنيّاً مريّا
قلت: قد اقتبس شمس الدين الطِّيبي هذه من سورة مريم، كما اقتبسَ ابن النبيه قوله:
قمت ليل الصدود إلاّ قليلاً ... ثم رتّلتُ ذكركم ترتيلا
من سورة المزمّل.
وكما اقتبس سيف الدين بن قزل المشد قوله:
شِمتُ في الكأس لؤلؤاً منثوراً ... حين أضحى مزاجها كافورا
من سورة الإنسان.
والاقتباس إذا كان من آية من آيتين لا بأس به. وأما سورة بكمالها ففي هذا من إساءة الأدب ما فيه.
ومن شعر الطيبي رحمه الله تعالى:
النهر وافى شاهراً سيفَه ... ولَمْعُه يحتبس الأعينا
فماجت البركة من خوفه ... وارتعدت وادّرعت جَوشنا
ومنه يصف ثوبَهُ:
لو أنّ عيني على غيري تُعانيه ... بكيته أحمراً أو متّ بالضحك
ومن رآني فيه قال واعجباً ... أرى على البَرِّ شيخَ البحر في الشبك
ومنه في العود:
اشربْ على العودِ من صهباء جاريةٍ ... في المُنتَشي جريان الماء في العود
ترنّم العودُ مسروراً ومن عجبٍ ... سرورُه وهْوَ في ضربٍ وتقييد
من أينَ للعودِ هذا الصوتُ تُطربنا ... ألحانُهُ بأطاريفِ الأناشيد
أظنُّ حين نشا في الدوح علّمهُ ... سجعُ الحمائمِ ترجيعَ الأغاريد
ومنه لما أُلبس الذمّة العمائم الملوّنة:
لا تعجبوا للنصارى واليهودِ معاً ... والسامريين لمّا عُمّموا الخِرقا
كأنما باتَ بالأصباغ مُنسَهلاً ... نسرُ السماء فأضحى فوقهم ذَرِقا
ومنه:
وأصفرٍ أرزق العينين لحيتُه ... حمراءُ قد سقطت من كفّ دبّاغ
ألوانه اختلفت لا تعجبوا فعسى ... قد كان في اسْت أُمّه دكانُ صباغ
أحمد بن يوسف بن عبد الدايمالشيخ الإمام العلاّمة شهاب الدين الحلبي المعروف بابن السمين.
سمع بآخرة من يونس الدبّوسي. وقرأ على ابن الصائغ، وصنع تفسيراً للقرآن في عشرين سفراً والإعراب. وله شروح على كتب.
وتوفي بالقاهرة في سنة ست وخمسين وسبع مئة كهلاً، رحمه الله تعالى.
أحمد شهاب الدين الفاضل المغربيرئيس الأطباء بالديار المصرية، وهو والد الرئيس جمال الدين رئيس الأطباء بالديار المصرية.

أسلم سنة تسعين وست مئة، وكان اسمه في اليهودية سليمان. قال الشيخ علم الدين البِرزالي: ضَبطَ ذلك عز الدين الإربلي، ونقلته من خطّه.
كان رجلاً فاضلاً، إلى الجدّ مائداً، عن اللهو مائلاً، يَعرِفُ الطب وبه رأس، وجنى به من ثمر الجاه ما غرسْ. وله يد طُولى في المنطف والهندسة، وعنده في ذلك فوائد تجلو بذورها من ظلمة الليل حُندُسه. وأما النجوم فكان في علمها إماماً، ويده تصرف من أحكامها زماماً.
ولم يزل على حاله إلى أن أعيا داؤه، وفقده أصحابه وأودّاؤه. وقيل: إنه خلّف من الذهب العين ما قيمته مئة ألف درهم.
ووفاته في أواخر صفر سنة ثمان عشرة وسبع مئة.
أحمد هو الشيخ أحمد القَبّاري
الإسكندرانيزعم أنه ابن أخت الشيخ الكبير أبي القاسم.
قدم دمشق، وتمشيخ فيها، وأظهر الصلاح، ومشّت له الأيام تمويهاً، واعتقد الناس ولايته، واغتنموا رعايته، وجمع عليه الزَّبون، ولفّ الناس له المحبون. ثم إنه ظهر بَهْرَجُه، وانفتح مَدْرجْه، فساءت عقباه الخاسرة، وضيّع دنياه قبل الآخرة، فوُسّطَ في سوق الخيل، وجُعل دَلْوين، وكان جَسَداً واحداً فأصبح شِلْوَيْن، وذلك في سنة اثنتين وسبع مئة.
وكان قد صادقه الشيخ محمد اليعفوري فقير مشهور، فاتفقا على مكرٍ حاقَ بهما، ووقع بيد الأفرم ورقة فيها نصيحة على لسان قطز مملوك قبجق لما كان بالشوبك فيها: أن ابن تيميّة وابن الحريري يكاتبان أميرنا قبجق في نيابة دمشق، ويعملان عليك، وأن ابن الزملكاني وابن العطار يطالعان أميرنا بأخبارك، وأن جماعة من الأمراء معهم، فتنمرّ الأفرم لذلك، وأسرّ إلى بعض خواصّه، وبحث عمّن اختلق ذلك، فوقع الحدس على الفقيرين، وأمسك اليعفوري، فوجدوا في حجرته مسودّة النصيحة، فضُرب بالمقارع، فأقرّ على القباري، فضرب الأخر، فاعترف، فأفتى الشيخ زين الدين الفارقي بجواز قتلهما، فطيف بهما، ثم وُسّطا بسوق وقطعت يد التاج ابن المناديلي الناسخ، لأن المسودّة كانت بخطّه، وسيأتي ذكره في موضعه من حرف العين، وهو عبد الرحمن بن موسى.
إدريس بن علي بن عبد اللهالأمير عماد الدين الحَسَني الحَمْزيّ اليمني.
كان أحد أمراء اليمن في دولة الملك المؤيد بصنعاء، وكان فاضلاً، فارساً مناضلاً، أتقن علوماً، وأنشأ منثوراً ومنظوراً، وكان زيديّ المَذهب، ناشر العلم المُذهب، همّ أهلُ مذهبه بتلك الناحية أن يقلدوه الزعامة، ويرشّحوه للإمامة، لأنه جمع بين الشجاعة والكرم، ونفخ من السيادة في ضَرَم، ونزع يده، فعظّمه لذلك الملك المؤيد وأيّده.
ولم يزل على حاله إلى أن حُمّ من الحمزي أمرُه، وضُمّ عليه قبره.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومن شعره:
عوجا على الرسم من سلمى بذي قار ... واستوقفا العيسَ لي في ساحة الدار
وسائلاها عسى تُنبيكما خبراً ... يشفي فؤادي فيقضي بعض أوطاري
منها:
يا راكباً بَلِّغَنْ عني بني حَسَن ... وخصّ حمزة قومي عصمة الجار
إن المؤيّد أسماني وقرّبني ... واختارني وَهْوَ حقاً خيرُ مختار
أعطى وأمطى وأسدى كل عارفة ... يقصّر الشكر عنها أيّ إقصار
وخصّني بولاءٍ فزَتُ منه به ... فأصبح الزندُ مني أيّما وار
قلت: شعر متوسط.
الألقاب والأنسابالأحمدي الأمير ركن الدين بيبرس. الأحمرملك الأندلس محمد بن محمد. وابن الأحمر نصر بن محمد بن القاضي. أخوين محمد بن عمر. الأدفوي شهاب الدين أحمد بن علي بن عبد الوهاب. الأدفوي كمال الدين جعفر بن تغلب الدفوي شمس الدين الحسين بن هبة الله، وعبد القادر بن مُهذّب.
أذينةشحنة بغداد، أقام بها من جهة المغل مدة، كان مشكور السيرة مسلماً يتوجّه إلى صلاة الجمعة ماشياً.
توفي بالكوفة في أوائل سنة تسع وسبع مئة.
النسب والألقابالأذْرعي الصاحب شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عطا. وضياء الدين علي بن سليم. وقاضي القضاة شمس الدين الأذرعي الحنفي محمد بن إبراهيم.
أراي الأمير سيف نائب الكرك.

هو في الأصل مملوك الأمير سيف الدين أرغون الدَّوادار نائب حلب، ثم إنه تنقّل بالديار المصرية إلى أن حصل له إمرة الطبلخانة، وهو الذي ورد على الأمير سيف الدين يَلبغا، وهو بالقصر الأبلق. وقد خرج بدمشق في المرة الثانية على الملك المظفر حاجي، والأمراء قد التفوا عليه، فلما جاء قال له: السلطان رسم بطلبك لتتوجه إلى مصر، والتفتَ إلى الأمراء وقال لهم: يا أمراء! نائبكم الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب حلب، فلما سمع الأمراء ذلك تفلَلت عزائمهم عن يلبغا، وتحللت عُقد ضمائرهم عنه، وعاد إلى مصر.
ثم إنه جُهّز لنيابة الكرك في سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها نائباً إلى أن طُلب إلى مصر في شهر رجب الفرد سنة ست وخمسين وسبع مئة، فتوجّه إليها وأقام بها، وما لبث أن جاء الخبر إلى دمشق بوفاته في صفر سنة سبع وخمسين وسبع مئة، رحمه الله تعالى.
وأظنه كان قد باشر أولاً بالديار المصرية آخوريه الصغرى، وكان عاقلاً ساكناً ديّناً، يحب العلماء، وله رغبة في العلم واقتناء المجلدات. ولما طلب من الكرك إلى مصر باشر أمير آخور كبيراً، وتوجّه عوضه نائباً بالكرك الأمير سيف الدين قشتمر الحاجب.
أَرْبَكَوون بفتح الهمزة وسكون الراء، وفتح الباء الموحّدة والكاف وبعدها واوان ونون، سلطان العراق وأذْرَبيجان والروم، من ذريّة جنكزخان.
نشأ في غمار الناس، وكان أبوه قد قتل أولاً. ولما توفي القان بوسعيد رحمه الله تعالى شاور الوزير غياث الدين محمد مُقَدّمي التتار، وقال: هذا الرجل من العظم، فبايعوه وأجلسوه على التخت.
يقال: إنه كان نصرانيّ الاعتقاد، لا يثبت إيمانه على محكّ الانتقاد، ألبس التتار السراقوجات الأولى، وجال في الفتك عرضاً وطولاً، وأنكر على كبار المغل مهادنة أهل الإسلام، ومليء قلبه من الظلم والإظلام، وقتل الخوندة بغداد رحمها الله تعالى، وجَبى الموال، وخبط الأحوال، وقاسى الناس منه أمرّ الأهوال.
وكان قد قصد دخول الشام، وانتجع برق خرابه وشام، فكفى الله أمره، وأخمد جمره.
وجرت أمور يطول شرحها، ويعظم سرحها، إلى أن قتله النوين علي باشا، وحاز من الثناء النافح ما شاء، وأعصّه السيفُ بريقه، وذلك في سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وكانت مدة ملكه شُهيرات.
أرَتْنى بفتح الهمزة وسكون التاء ثالثة الحروف، وبعدها نون وألف مقصورة.
الحاكم بالبلاد الرومية من جهة القان بوسعيد، كاتَبَ السلطان الملك الناصر بعد وفاة بوسعيد، وطلب منه أن يكون نائبه، فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه الخلع السنيّة، وكتب له تقليداً بنيابة السلطنة بالبلاد الرومية، ولم تزل رسله تتردد إلى آخر وقت، ووقع بينه وبين أولاد تمرتاش، فجمعوا العساكر وجاؤوا إليه، ومعهم القان سليمان، فكسرهم بصحراء أكرنبوك - بكافين، وبينهما راء ونون وباء ثانية الحروف وواو، قبل الكاف الأولى همزة - وأسر جماعة من أمرائهم، وغنم أموالهم وهزمهم أقبح هزيمة، ومنها خمل القان سليمان، وعظُم بذلك أرتنى في النفوس. وكانت هذه الواقعة في إحدى الجُمَادين سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
وكان خيّراً فيه ديانة، وله ميل إلى المسلمين في الظاهر والباطن من غير جناية ولا خيانة، ولا يزال أهل العلم عنده، وبهم يُوري زَنْده، وخاتونه تجلس وراءه تسمع كلامهم، وترى جدالهم، وتشاهدهم إذا راموا سهامهم، ولم يجد المسلمون منه إلاّ خيراً، ولا عَدِمَ قاصدهم منه كرماً وميراً.
ولم يزل على حاله إلى أن بَرَق منه البصر، وجزم الموتُ حياته واختصر، فعدم الإسلام منه مؤازراً، ورأوا من بَعده من العدوّ طرفاً متخازراً، وذلك في سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
وقلت أنا فيه:
بمملكة الروم حلّ الردى ... أجل النَّويْن الذي قد فَقَدْنا
فتبّاً لصرف الليالي التي ... أرَتْنا أَرَتْنى كما لا أردنا
أرسلان الأمير بهاء الدين الدَّوادار.

كان أولاً عند الأمير سيف الدين سلاّر أيام النيابة خصيصاً به، خطيّاً لديه. ولما جاء السلطان الملك الناصر من الكرك بعساكر الشام، ونزل بالرَّيْدانية ظاهر القاهرة، أطلع بهاء الدين أرسلان على أن جماعة قد اتفقوا على أن يهجموا على السلطان، ويفتكوا به يوم العيد أوّل شوّال، فجاء إليه وعرّفه الصورة، وقال له: اخرج الساعة، واطلع القلعة واملكها، ففتحوا له شرج الدهليز، وخرج من غير الباب، وصعد القلعة ونجا من أولئك القوم، وجلس على تخت الملك، فرعى له السلطان تلك المناصحة. ولما خرج الأمير عز الدين أيدمر الدوادار من الوظيفة رُتّب بهاء الدين أرسلان فيها.
وكان حسن الشكل ظريفاً، حُلْو الوجه، لا يزال به الإقبال من القلوب مُطيفاً، خطّه أبهجُ من الرياض اليانعة، وآنقُ من النجوم الساطعة، يكتب سريعاً، ويخرج الطِّرس من تحت قلمه روضاً مَريعاً، بعبارة سادّة، وإشارة في تنفيذ المهمات حادّة. رأيت له أوراقاً بخطه، قد كتبها إلى كتّاب السرّ بما يرسم به السلطان، ويفتقر إلى كتابتها تدبير المُلك لبلوغ الأوطار في الأوطان، وهي عبارة مسدّدة، وافية بالمقاصد المؤكّدة، لا يفوته فيها فخرٌّ مخِلّ، ولا يأتي فيها بقول مملّ. وكان القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر قد درّبه، وخرّجه وهذّبه، ويقال: إن الرسالة التي وسمها ب مراتع الغزلان أنشأها فيه. وكان قد استولى على السلطان في أيامه وغلب عليه في يقظته ومنامه، ولم يكن لغيره في أيامه ذِكْر، ولا يُسمع في تلك المدة ثناء على غيره ولا شكر، ولم يكن لفخر الدين وكريم الدين عظمة إلاّ بعده، واجْتهدا فما نالا طَردَه ولا بُعده.
وكان قد أنشأ خانقاه في المنشأة المنسوبة للمهراني. وكان كلّ ليلة ثلاثاء ينزل من القلعة يبيت فبها، ويحتفل الناس للحضور إليها، والمقام بنواحيها. وترسّل عن السلطان إلى مهنّا، وتعيّن لتلك الرسالة وتعنّى، ونفع الناس نفعاً عظيماً، وقلّدهم من مِننه عقداً نظيماً.
ولما مات وُجد في تركته ألف ثوب أطلس، ونفائس منى رآها غيره أفرد حيرة وأبلس، وتواقيع جملة، ومناشير حملة، مُعَلّم عليها، فأنكر السلطان معرفتها وعلمها، ونسب إليه اختلاسها وظلمها.
ولم يزل على حاله إلى أن أطفأ الموت شرارته، وأبطل من التواقيع والمراسيم رسالته وإشارته.
ونوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع عشرة وسبع مئة. وتوفي هو والقاضي علاء الدين بن عبد الظاهر والقاضي شرف الدين بن فضل الله بدمشق في شهر واحد. ووفاة أرسلان المذكور في ثالث عشري شهر رمضان من السنة المذكورة.
كتب إليه شيخنا العلامة شهاب الدين محمود ما أنشدنيه إجازة لنفسه:
بك ماسَ عطفُ الدهر في حُلل البها ... وسما مكان الفضل منه إلى السُّها
ولديك أدركَ كلُّ راجٍ مارَجا ... كرماً وأحرز كلّ عافٍ ما اشتهى
بَشَرٌ يُبشِّر آمليه بسؤلهم ... منه ويبدأ هم إذا قيل انتهى
وكما أوصاف تُعلّم من رأى ... تلك المهابة كيف تُكتسب النهى
يحمى حمى الملك الشريف برأيه ال ... عالي فيغدو للسيوف مرفّها
ويصون أطراف الثغور يراعُه ... فيشَيدها ويسدّ منها وما وهى
متيقّظ للبر والإحسان لا ... يحتاج في كَسْب الثناء منبّها
ضَلَّ الذي لنواله ولباسه ... بالليث أو بالغيث ظلَّ مشبّها
فالليث ما يُردي الجيوشَ زئيره ... والغيثُ ما يروي الممالك كلّها
يا سيّد الأمراء دعوة مخلصٍ ... أضحى بشكرك والثناء مفوّها
أنت المؤمَّلُ للمطالب حين لا ... يُدعى سوى إحسانك الوافي لها
وإذا تعقّدت الأمور فما سوى ... معروفك المعروف يُحسِنُ حلّها
لا زلتَ تَقْني الأجر في البر الذي ... تولي وترجو الله في بذل اللّهى
أرسلان الأمير بهاء الدين ابن الأمير علاء الدين مَغْلطاي أمير مجلس، سيأتي ذكر والده مغلطاي في حرف الميم.
كان بهاء الدين هذا أمير عَشَرة بدمشق، كان بها إلى أن توجّه إلى إقطاعه بنواحي نابلس.
وتوفي رحمه الله تعالى هناك في ثامن شعبان سنة ست وأربعين وسع مئة.

أرغون الأمير سيف الدين الدوادار الناصري كافل الممالك الإسلامية.
اشتراه الملك المنصور قلاوون وهو صغير لولده الملك الناصر، فربي معه، وألِفَ به، وكان معه في الكرك، ولم يفارقه، وولاه السلطان نيابة مصر بعد الأمير ركن الدين الدوادار في جمادى الأولى سنة اثنتي عشر وسبع مئة.
كان بيبرس تولاها بعد الأمير سيف الدين بكْتُمر الحاجب أمير خازن دار.
سمع البخاري من الحجار بقراءة الشيخ أثير الدين، وكتبه بخطه في مجلد في الليل على ضوء القنديل.
ولم يزل في بيت أستاذه كبيراً، موقراً أثيراً، هو رأس الحزب، وكبش ذلك الرحب، والذين يقولون بقوله، ويبطشون بقوته وحَوْله، هم أكابر الخاصكية وأعيانهم، وأمراؤهم المذكورون وشجعانهم مثل: قجليس والجمّالي ومنكلي بغا وطُرحي وطشتمر والفخري.
وكان فقيهاً حنفياً، فاضلاً في مذهبه مُفْتياً، يعرف دقائق مذهبه ويناظره، ويذاكر بغرائبه ويحاضر. لما توجه إلى حلب نائباً، ونزل بجامع تنكز وصلى العصر خلف الشيخ نجم الدين القحفازي جذبَهُ وأخرجه من المحراب، وقال: ما هو مذهبك يا فقيه؟ يعني بذلك صلاة الطاق، وهي مسألة معروفة في مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.
وكانت عنايته بالكتب إليها النتهى، وبلغ من جَمْعها ما أراد واشتهى. لمّا مات قجليس بمصر، وهو بحلب، أرسل ألفي دينار ليُشترى له بهما كتب من تركته، وجهّز إلى بغداد، واستنسخ فتاوى ابن قاضي خان، وعلم الناس رغبته في ذلك، فحملوا إليه حملاً من أطراف الممالك.
وكان له معرفة بعلم الميقات، وعنده من ذلك بناكيم وآلات. ولم يُرَ في الترك مثله سكوناً ووقاراً، وهيبة وشعاراً، ومَلَكَةً لنفسه عن الغضب واقتداراً، قلّ أن عاقب، وطالما خاف إلهه وراقب، لم يسفك دماً في حلب مدة إقامته، ولا ظلم أحداً من الرعايا في نيابته، واجتهد في حلب على سياقة نهر الساجور، وبذل فيه أموالاً يتحقق بها أنه عند الله مأجور، وما زال إلى أن أدخله حلب، وساق به إليها كل خير وجَلَب.
وكان يؤثر أهل العلم ويدنيهم ويخصهم بالذكر ويعنيهم، له حنو زائد على الشيخ أثير الدين، وعلى الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، ولم يمكن أستاذه مدة مقامه بمصر من خروجٍ عن الواجب، وأمراء الدولة والخواصّ كلهم يهابونه ويخافونه، وللملك به جمال، ولبدر الدولة بنيابته كمال، وعلى الوجود إضاءة، وللنيابة قعدد وأناءة، ولما تولاها أجراها على السداد، وقررّ قواعدها ووطد مجدها وساد، وذلك من أواخر سنة إحدى عشرة فيما أظن إلى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وهي تدجري بريح طيبّة الهبوب، سالمة من شرر الشر والألهوب.
وكان قد توجه إلى الحجاز في سنة ست وعشرين، وفي قلب القاضي فخر الدين ناظر الجيش منه قلوب، هو يؤدّ أن يرمي أسده في أقلوب، فاغتنم غيبته، وجدد في كل وقت غيبته، مع ما كان في نفس السلطان منه، لأمر ندبه إليه في الباطن لم يُر اعتماده، وخاف فيه حشره إلى الله ومعاوده، ولما عاد من الحجاز لم يدعه بكتمر الساقي يدخل إلى السلطان، ولم يساعد في أمره على ما سوله الشيطان، وبقي عنده في بيته ثلاثة أيام بلياليها، والفكرة في أمره تشتبك عواليها، إلى أن جهز السلطان الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار إلى حلب لإحضار نائبها علاء الدين ألطنبغا، وأكد عليه في سرعة التوجه والعود لما أراده في ذلك وابتغى، ثم إنه رسم لأرغون بنيابة حلب، أخرجه مع الأمير سيف الدين أيتمش إليها، وأرسل منه سحائب الرحمة عليها، فاجتمع تنكز وألطنبغا وألجاي وأرغون في دمشق في المحرم سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فغرّب ذلك وشرق هذا، ونفذ سهم القدر بما أراده الله تعالى من ذلك نفاذاً، فوصل حلب وأقام بها نائباً إلى سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وطلب الحضور إلى مصر في أواخر هذه السنة، فأذن له في ذلك، ولما رآه بكيا طويلاً، وأبدي كل منهما تأسفاً وعويلاً، وأقام أياماً، ثم أعاده إلى نيابة حلب على حاله، فعاد عود الغيث إلى الروض الذي صوح، أو البدر الذي ابتدر نُوره إلى الساري ولوّح.
فلم يزل بها على حاله إلى أن أرغم الموتُ من أرغون أنفه، وعدم السمع من ذكر حياته شنفه.

وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وكان عمره تقديراً بضعاً وأربعين سنة، ودفن بتربة اشتريت له بحلب، وكان قد طول في مرضه، وحدس الناس على سهم أصاب مرمى غرضه، وجهز السلطان إليه صلاح الدين محمد بن البرهان الطبيب من مصر، فما وصل إلى دمشق حتى مات، نزل به من عدوه الشمات.
وهو الذي كمل سياقة نهر الساجور إلى حلب بعد ما كان في ساقه الأمير سيف الدين سودي، ولم يتفق وصوله على ما سيأتي في ترجمته، ويوم دخوله خرج لتلقيه هو والأمراء وأهل البلد مشاة، وشعارهم التكبير والتهليل حمداً لله تعالى، ولم يمكن أحداً من المغاني والمطربين الخروج معهم، وكان يوماً مشهوداً، وخرج الناس بوصوله، وأحكم عمله وسياقه في الجبال والسهول واتفق في طريقه واديان وجبلان، فبنى على كل واحد من الواديين جسراً يعبر الماء عليه، وأما الجبلان فكان الأول منهما سهلاً نقب في مدة يسيرة، والآخر كان صخراً أصم، وطول الحفر في هذا الجبل ثلاث مئة ذراع وستون ذراعاً، وأغمق موضع فيه من الجباب طوله ستة عشر ذراعاً، وبعضه محفور على هيئة الخندق، وبعضه جباب مفقرة، وكان من هذا القدر نحو عشرين ذراعاً لا يمكن حفره إلا بعد حرقه بالنار مدة أيام، وانتهى عمل هذا الجبل في ثمانية أشهر، وكان بعد هذا الجبل سهل، فظهر بالحفر فيه حجارة سود مدوّرة، لا يمكن كسرها إلى بالمشقة، ولما رجع الأمير سيف الدين أرغون إلى المدينة حصل له تشويش ومرض، ومات رحمه الله تعالى. وقيل: إنه قيل له يا خوند! بالله لا تتعرض إلى هذا النهر فإنه ما تعرض له أحد إلا ومات، فقال: أنا أكون فداء المسلمين فيه، وجعل مشده شخصاً من ممالكه اسمه أرغون فاتفق ما جرى.
؟أرغون الأمير سيف الدين العلائي.
رأس نوبة الجمدارية من أيام أستاذه. أخرجه الأمير سيف الدين قوصون إلى صفد، فورد إليها جندياً - فيما أظن - وعاد من الفخري إلى مصر. وهو زوج والدة الصالح إسماعيل والكامل شعبان. فأقام بمصر إلى أن خُلع الناصر أحمد كما تقدم، وجلس الصالح إسماعيل على كرسي المُلك، فكان هو مدبّر تلك الدولة، وحوله ذاك الجو مدار الجوله. ولما قتل أحمد زاد تمكنه، وعظم تعيّنه، وظهر تبينه، وزهر تزيّنه، وكثرت إقطاعاته وأمواله. وضماناته وأملاكه وأثقاله، وأنعامه وأنفاله، فكان أكبر من النواب، وأعظم من المقيم والجوال والجواب، ودبر الأمر بسعد قد اطمأن، وركن حظه واستكن.
وتوفي الملك الصالح إسماعيل، وولي الملك أخوه الكامل شعبان، وأرغون في سعادته ريّان شبعان، إلى أن خرج أمراء مصر على الكامل وخلعوه، وضُرب أرغون العلائي في وجهه ضربة مهولة بطبر، إلا أنه ثبت لها وتجلد، واحتمل وصبر، وكانت جراحةً نجلاء واسعة، رأى الأرض منها خافضة رافعة، قيل: إن الذي جرحه أرغون شاه. وقيل: على ما ذكره النقلة والوشاة.
ثم إنه اعتقل في إسكندرية أول دولة المظفر حاجي، فأقام في الاعتقال مدة إلى أن قتل الحجازي واقسنقر، فطلب من إسكندرية، وخرج إليه الأمير سيف الدين منجك، فقيل: أنزله العلائي بطن الأرض، واستعاد العدمُ ماله عند وجوده من القرض، وكانت قتلته في سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكانت سعادته قريباً من خمس سنين.
؟أرغون شاه الأمير سيف الدين الناصري كان رأس نوبة الجمدارية أيام أستاذه الناصر، وكان هو وأرغون العلائي شريكين في هذه الوظيفة، لكنه هو المقدم، وكان في أول أمره قد جلبه الكمال الخطائي إلى القان بوسعيد من بلاد الصين وهو وسبعة من المماليك وثمان مئة ثوب وبر خطائي من أملاك بوسعيد الموروثة عن أبيه وجده من جدهم جنكز خان بتلك البلاد، فنم على الكمال الخطائي لبوسعيد فصادره، وأخذ منه مئة ألف دينار، ثم إن بوسعيد كرهه لذلك، فأخذه منه دمشق خواجا بن جوبان، فكأن ذلك لم يهن عليه، فنم إلى بوسعيد أيضاً بأمر دمشق خواجا مع الخاتون طقطاي، وجرى من أمرهما ما جرى من حزّ رأسيهما وخراب بيت جوبان، ودكه.

ثم إن بوسعيد ارتجع أرغون شاه، ثم إنه بعثه إلى الملك الناصر هو والأمير سيف الدين ملكتمر السعيدي، فحظي الأمير سيف الدين أرغون شاه عند الناصر، وأمره وجعله رأس نوبة، وزوجه بابنة الأمير سيف الدين أقبغا عبد الواحد الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، ولم يزل بمصر إلى أن خرج مع الفخري لحصار الكرك، ثم توجه مع العساكر الشامية إلى القاهرة، وجرى منه في نيابة طشتمر ما أوجب أن ضربه وأراد إخراجه إلى طرابلس، ثم إنه شفع فيه.
ولما تولى الملك الكامل حظي عنده، وجعله أستادار السلطان. ثم تولى الملك المظفر، فزادت حظوته عنده، فما كان بعد ثلاثة أشهر حتى خرج مع النائب الحاج أرقطاي من عند السلطان، وأخرج له تشريف، فلبسه، وطلب الاجتماع بالسلطان، فمنع.
وأخرج لنيابة صفد، فوصل إليها على البريد في خمسة أرؤس في أوائل شوال سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فدبرّها جيداً، وأقام الحرمة والمهابة، وآمن السبل.
لم يزل بها إلى أن طُلب إلى مصر في العشر الأواخر من صفر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ورسم له بنيابة حلب عوضاً عن الأمير سيف الدين بيدمر البدري، ودخل دمشق في سادس شهر ربيع الأول من السنة دخولاً عظيماً، جاء على البريد، وأقام على القصير المعيني إلى أن جاءه طلبه من صفد، ودخل برخت وأبهة زائدة بسروج معرقة مرصعة، وكنابيش زركش، وغير ذلك من البرك المليح الظريف، والجميع باسمه ورنكه. وتوجه إلى حلب، وأقام بها نائباً.
ولما جرى للأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي ما جرى - على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته - رسم بنيابة الشام، فحضر إليه الأمير سيف الدين أقسنقر أمي رجاندار، فدخل إلى دمشق بكرة الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ولما عاد أقسنقر المذكور أعطاه خمسة عشر فرساً، منها خمسة عربية بسُرجها ولجمها وكنابيشها، وعشرة أكاديش، وجارية بخمسة آلاف درهم، وأربعين ألف درهم ومئة قطعة قماش، والتشريف الذي لبسه للنيابة بالكلوتة والطراز والحياصة، والسيف المُحلى، وألف إردب من مصر، وكان قد أعطاه ألف وخمس مئة دينار، وغير ذلك، وشرطه له كل شفاعة يشفعها من حلب، وفي الطريق، ومدة مقامه بدمشق، واقام بها قريباً من ثلاثة اشهر ولم يسأله من عزلٍ وولاية إلا أجابه إلى ذلك. وقدم إليه يوماً وهو في سوق الخيل بدمشق نصراني من الزبداني رمى مسلماً بسهم، فمات، فأمر بقتله وتفصيله على أعضائه، قطعت يداه من كتفه، ورجلاه من فخذيه، وخر رأسه، وحملت أعضاؤه على أعواد، وطيف به، فارتعب الناس لذلك، فقلت له أنا:
لله أرغون شاه ... كم للمهابة حصل
وكم بسيف سُطاهُ ... من ذي ضلال تنصل
ومجملُ الرغب خلى ... بعضَ النصارى مفصّل
واختطف الحرافيشُ يوماً في الغلاء الخبز من الجوع، فأمسك جماعة من الحرافيش وقطع أيدي ثمانية عشر رجلاً، وأرجلهم، وسمر على الجمال سبعة عشر وهو واقف بسوق الخيل، وذلك في تاسع عشر ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، فقلت أنا في ذلك:
كان الغلا يغلو فأما إذا ... أصبح ناراً قلت ذا يغلي
وأصبح الحرفوش ذا كسرة ... عن طلب الكسرة في شعل
من يطلب الخبز ومن يشتهي ... وهو بقطع اليد والرجل

ولم ينل أحدٌ من السعادة ما ناله، ولا حصل ما حصله في المد القريبة من المماليك والجواري، والخيل والجوهر والأمتعة والقماش، ولا تمكن أحد بعد الأمير سيف الدين تنكز تمكنه، يكتب إلى مصر بكل ما يريده في حلب وطرابلس وغيرها، وحماة وصفد وسائر ممالك الشام من نقل وإضافة وإمساك، ونق لإقطاعات وغيرها، فلا يرد في شيء يكتبه، ولا يخالفُ في جليل ولا حقير إلى أن زاد الأمر، وأفرط هو في معارضة القضاة الأربع، وعاكسهم، وثقلت وطأته على الناس إلى أن حضر الأمير سيف الدين الجيبغا من طرابلس في ليلةٍ يسفر صباحها عن يوم الخميس ثلاث عشري شهر ربيع الأول سنة خمسين وسبع مئة، اتفق في الليل هو والأمير فخر الدين أياز السلحدار، وجاء إليه إلى باب القصر الأبلق، وهو به مقيم نائم في فراشه، فدقا الباب عليه الثلث الأخير من الليلة المذكور وأزعجاه، فكانا كلما خرج طواشٍ أمسكاه، وسمع هو الغلبة، فخرج وبيده سيف، فلما رآها سلم نفسه، فأخذاه على الحالة التي خرج عليها، وتوجّها به إلى دار الأمير فخر الدين أياز، وقيداه بقيد ثقيل إلى الغاية، ونقلاه إلى زاوية المنيبغ، ورسم عليه الأمير علاء الدين طيبغا القاسمي، فأقام هناك يوم الخميس إلى العشاء الآخرة، ودخل مملوكه الذي يخدمه فوجده مذبوحاً والسكين في يده، والدم قد سال ملئ مرقده، فوقف عليه في الليل بالقاضي جمال الدين الحسباني، والشهود، وكتب بذلك محضر شرعي، وجهز إلى الديار المصرية صُحبة الأمير سيف الدين تلك أمير علم، ودفن بمقابر الصوفية.
وكان شخصاً لطيف الجثة. مختصر الحبة أسمر الوجه أحمر اللثة، أبيض اللبة، ظريفاً حسن العمة، شديد العزمة عالية الهمة، ذهنه يتوقد، ونفسه تزاحم الفرقد، يقترح في الملابس أشكالاً غريبة، ويعمل بيده منها صنائع عجيبة، إلا أنه جبار سفاك، طالب لثأره دراك، يده والسيف يمتشقه، وغيظه يوديه إلى العطب وخلقه. لا يشرب الماء إلى من قليب دم، ولا يتنسمُ الهواء إلى بشم سم، ومع ذلك إذا ظهر له الحق رجع في الحال، وندم على ما فرط منه واستحال، لكنه تروح في ذلك الغضب أرواح، وتُجبّ مذاكير وتقطع أحراج.
وكان في دمشق زمن الطاعون فما طُعن على عادة الملوك، وإنما طعن بالسيف الذي يذر الدم، وهو مسفوك. وقلت أنا فيه:
تعجبتُ من أرغون وطيشه ال ... ذي كان فيه لا يفيق ولا يعي
وما زال في سكر النيابة طافحاً ... إلى حين غاضت نفسه في المنيبع
؟أرغون السلحدار الأمير سيف الدين توجه أمير الركب الشامي في سنة ست عشرة وسبع مئة، وداره عند دار الطراز داخل مدينة دمشق.
لم أعرف من حاله شيئاً فأذكره، ولا اتصل بي ما يتعلق به فأعرفه به أو أنكره، خلا أنه رحمه الله تعالى توفي في مستهل شهر رمضان سنة ثمان عشرة وسبع مئة.
أرغون الأمير سيف الدين مشد الزكاة، ومشد الدواوين بدمشق، ونائب بعلبك. مملوك الأمير سيف الدين سمز، وسيأتي ذكره أستاذه في مكانه.
كانت فيه سياسية، وعنده حشمة ورياسة، تقرّب إلى الأمير سيف الدين تنكز بالكفاية والنهضة، وساعده القدر لما أحكم إبرامه ونقضه، فولاه بعد شدّ الزكاة شدّ الدواوين، قام فيه مدّة لينقذ الهاوين، ويصدّ الغاوين، ثم إنه بعد مدة ولاه نيابة بعلبك فسدّها، وعرف رسمها وحدها. ثم إنه بعد ذلك توجه إلى طرابلس أميراً، وأقام بها.
ولم يجد لعيشه في دمشق نظيراً إلى أن نزل في رمسه، واستوحش أحبابه من أنسه، وتوفي رحمه الله تعالى في...
كان قد باشر الشدّ على الزكاة مدة، وخلا شد الدواوين في دمشق مدة زمانية، فولاه الأمير سيف الدين تنكز شد الدوواوين في آخر المحرم سنة ثمان وعشرين وسبع مئة هو وعماد الدين بن صصرى، ثم إنه ولاه نيابة بعلبك في سادس عشر صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
وكتبت له مرسوماً بنياب بعلبك، ونسخته: أما بعد حمد الله الذي نصر هذا الدين بالسيف، ورفع بولاة الأمور عن ضعيف الرعية ثقل الخيف والحيف، وأمر الحق في أهله بحسن نظرهم الذي ينتقي الزين وينتقد الزيف، وعرم البلاد بعدلهم الذي إذا طلعت شموسه النيرة، وكان الظلم معها سحائب صيف. وقمع المفسد بمهابتهم التي منعت جفونه أن تجد رجعة هجعة أو ضيف طيف، وجمع حكمة الإيمان ببأسهم الذي إذا دعاهُ مُهمّ لم يقل له متى ولا كيف.

وصلاته على سيدنا محمد خير من أطعنا نهيه وأمره، وأشرف من كحل سواد أمته طرفُ الزمان وكان أمره، وأفضل من ساد بشرفه زيد الخلق وعمره، وأكرم من كان له من الناس على العدل أفضل قوة، وعلى الإحسان إليهم تمام قدره، وعلى آله وصحبه الذين أمضوا فضله وأعزوا نصره، وأطاعوا من جعلوا له عليهم الأمر والإمرة، وجبلوا على محبته فما نهى أحدهم عن شيء فكره أن لا يكون فيه فكره، وهجروا الأهل والوطن في طاعته فكم صبروا على هجير هجره، صلاةً يرسلُ غيثها في كل قطر من الأرض قطره، وينبت روضها الأنف في السماء بين الأنجم الزهر زهره، وسلم ومجد وكرم.
فإنه لما كانت مدينة بعلبك والبقاعان أنموذج الجنة، وغاية إذا جرت جياد الأفكار في ارتياد نزهة ثنت إليه الأعنة، وبقعة إذا تمنت النفوس نفائس شيء كانت لتلك الأماني مظنة، فهي أصح البلاد لأولي الذوق والظرف، وأحسنُ مكان سرح في مدى ميدانه طرف الطرف، قد ركبت على الصحة فما خطبت بخطب، وعلى قول النحاة فقد منعت من الصرف. أهلها أطع رعية، وأكثر خيراً وألمعية، ينقادون لأميرهم، وينادون لمشيرهم، ويتأدب صغيرهم بأدب كبيرهم، وقد خلت هذه المدة من نائبٍ يستقر بها أو يستقل، ويستمد من محاسن هذه الدولة الشريفة أو يشتمل، وكان المجلس السامي الأميري السيفي أرغون الناصري هو السيف الذي حُمدت مضاربه، وشكرت على اختلاف أحواله تجاربه، وأرضت، وأين من ترضى عزائمه؟، وجرد وجرب فلا المجدُ مخفيه، ولا الربُ ثالبه، واصبح وما كل سيف على عاتق الملك الأغر نجاده، وفي يد جبار السموات قائمه، هذا إلى ما اتصف به من كرم الخلال التي قد فغم الخافقين رياها، والتحق به من علو الهمم التي ملء فؤاد الزمان إحداها، وظهر عنه من عز عزم ببعضه يجر طولى القنا وقصراها، واشتهر به من سجايا لو كفر العالمون أكثرها لما عدت نفسه سجاياها، فلذلك وقع الاختيار عليه، ورسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري لا زالت أوامره بالسيف ماضية، ويجد حجته قاضية، أن يفوض إليه نيابة بعلبك المحروسة والبقاعين على عادة من تقدمه في ذلك وقاعدته، فليتول ما فوض غليه ولاية تحمد منها العواقب، ويشخص لها طرف الشهاب الثاقب، ويتساوى في أمنها منها أهل المراقد والمراقب، وينهض بهمته في أمور الدولة المهمه، ويشمر عن ساعد كفايته في الأوقات التي حراسته في جيدها تميمة، وسياسته لحسنها تتمة، وليقم منار الشرع الشريف، ويعضد حكمه، ويعمل في تنفيذ أمره المطاع فكرهُ وعزمه، فإنه الطريقة المثلى، والحجة التي من نكب عنها لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، حتى يكون هو الذي أقام الحق، وكان على الذي أحسن تماماً، وجلا بشمس العدل الشريف من أفق الظلم ظلاماً، وأعلى المحق على المبطل، لأنّ له مقالاً ومقاماً، وليردع المفسد بنكاله، ويقمع المعتدي بجلاده، ولا يقال بجداله، وليجتنب أخذ البريء بصاحب الذنب، ويحذر الميل على الضيعف، الذي لا جنب له، ويترك صاحب الجنب، وعمارة البلاد، فهي المقدم من هذا المهمّ، والمقصود بكل لفظ تم له المعنى أو لم يتم، فليتوخ العدل فإنه أنفع للبلاد من السحب الماطرة، والذ لأهل القرى من ولوج الكرى في الأعين الساهرة، فإنه لا غيث مع العيث، ولا حلم مع الظلم، وليصل باعَ من لا له إلى الحق وصول، وليتذكر قوله عليه السالم والسلام: " كلكم راع وكل راع مسؤول " ، فإنه إذا اتصف بهذه المزايا، والتحف بهذه السجايا تحقق الملك الأمجد لو عاصره أنّ المجد للسيف، وقال تعجباً من سيرته: من أين اتفقت هذه المحاسن وكيف، وملاك هذه الوصايا تقوى الله عز وجل، فليكن ركنه الشديد، وذخره العتيد وكنزه الذي ينمى على الإنفاق ولا يبيد، والله تعالى يوفق مسعاه، ويحرس سرحه ويرعاه والاعتماد على الخط الكريم أعلاه، إن شاء الله تعالى.
أرغون الأمير سيف الدين الكاملي

نائب حلب، ونائب دمشق، ذو وجه طبعَ البدرُ على سكته، وقد لا شك أن قلب المحبّ يذوب من شكته، وعيونٍ سبحان من أبدعها، عروة ليس لها زر سوى السحر، وثغر يتمنى لو كان مثله ما يرضع في التاج أو يتحلى به النحر، ويفتن من يراه، ويعترف بالبوبية لمن براه، وحفظ لإيمانه، وخاف ربه فما نكث عهده ولا خانه، ورعى من ورعه سلطانه، وقمع بالمروءة شيطانه، لأن بيبغاروس لما خرج على السلطان وبغى، وطف ماءُ تمرده، طغى، راسله في الباطن بالباطل مراراً، وقتل في ذروته والغارب نهاراً جهاراً، ووعده بأنه لا يغير عليه في دمشق أمراً من النيابة، وأن يكون شريكه في المهانة والمهابة، وطالت الرسائل بينهما، ولم ير فيه مغمزاً يلين، وتحقق بيبغا أنه من الصابرين عليه والصائلين، فأعياه انقياداً لمرامه، وعلم أنّ بازيه لا يحوم حول حماه ولا يسف على حمامه، فنكص عنه خائباً، وكر نجمه عنه كاسفاً غائباً.
وكان كثير السكون، وراجح الميل إلى العدول والركو، ولا يدخله في أحكامه غيظ ولا حرج، ولا يبالي أدخل الحق على نفسه أو خرج، يعرف القضية من أول ما ينهى إليه أمرها، ويستشف الحقّ في فضلها إذا أشبّ الباطل جمرها، لا يغيب عن ذهنه واقعة جرت، ولا يسير عن ذهنه قضية انقضت أو سدت:
يُحدث عما بين عادٍ وبينه ... وصُدغاه في خدي علامس مراهق
وما الحسنُ في وجه الفتى شرفاً هل ... إذا لم يكن في فعلهِ والخلائقِ
ولم يزل أرغون الكاملي في محاق وكمال، وزيادة وزوال إلى أن:
قصدت نحوهُ المنية حتى ... وهبت حسنَ وجههِ للتراب
أول ما أنشأه الملك الصالح إسماعيل، وزوجه أخته من أمه بنت الأمير سيف الدين أرغون العلائي، وذلك في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وجهزه عقيب زواجه إلى الأمير بدر الدين جنكلي، وقال: انزل إلى الأمير بدر الدين، وقبل يده، فحضر إليه وكنت جالساً عنده، فلما دخل إليه أعظمه وبجله وبش له وهش، وأجلسه، وأحضر له قبا بطرز زركش وألبسه إياه ولم يكن الأمير بدر الدين ممن يهوى المرد، ولا يميل إليه، فلما خرج من عنده، قال لي: أرأيت ما أحسن وجه هذا وعيونه، فقلت له: نعم، رأيت، ونعم ما رأيت.
وكان يعرف في حياة الصالح إسماعيل بأرغون الصغير، فلما مات الصالح رحمه الله تعالى، وتولى الملك أخوه الملك الكامل شعبان أعطاه إمرة مئة وتقدمة ألف، ونهى أن يدعى أرغون الصغير، وسمي أرغون الكاملي.
ولما مات الأمير سيف الدين قطليجا الحموي في نيابة حلب، رسم الملك الناصر حسن له بنيابة حلب، فوصل إليها يوم الثلاثاء خامس عشر شهر رجب الفرد سنة خمسين وسبع مئة، وعمل النيابة بها على أحسن ما يكون من الحرمة والمهابة، وخافه التركمان والعرب، ومشت الأحوال بها، ولم يزل بها إلى أن جاءه الأمير سيف الدين كجُك الدوادار الناصري، بأن يخرج ويربط الطرقات على أحمد الساقي نائب صفد، فبرز إلى قرنبيا، فأرجف بإمساكه، فهرب منه الأمير شرف الدين موسى الحاجب بحلب وغيره، ثم إنّ جماعة من الأمراء لحقوا بالحاجب، وأوقدوا النيران بقلعة حلب، ودقوا الكوسات، ونادوا في الناس لينهبوا طلبه، وما معه، فتوجه إلى المعرة، وكتب إلى الأمير سيف الدين طاز يرق نائب حماه، فلم يجد عنده فرجاً، فرد طلبه، ونقله إلى حلب، وتوجّه على البرّية إلى حمص في عشرة مماليك، وقاصى من التركمان شدة.
ثم إنه ركب من حمص هو ونائبها الأمير ناصر الدين محمد بن بهادر آص في ثلاثة مماليك، ودخل دمشق يوم الجمعة سابع عشري الحجة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فجهز نائب الشام الأمير سيف الدين أيتمش الحاجب إليه، وابن أخته الأمير سيف الدين قرابغا بقباء أبيض فوقاني بطرز زركش ومركوب مليح، ودخل غليه، وأقام عنده بدار السعادة إلى بكرة السبت ثاني يوم، وجهزه إلى باب السلطان على يدهما مطالعة بالشفاعة فيه، ولما وصل إلى لد تلقاه الأمير سيف الدين طشبغا الدوادار، ومعه له أمان شريف مضمونه أنه ما كتبنا في حقك لأحد، ولا لنا نية في أذاك، فغن اشتهيت تستمر في نيابة حلب، وإن اشتهيت نيابة غيرها، وإن أردت أن تحضر إلينا كيفما أردت عملنا معك، فعاد معه طشبغا الدوادار إلى مصر، وأقبل السلطان عليه، وأنعم عليه، وأعاده إلى حلب.

فوصل إلى دمشق ومعه طشبغا الدوادار، واصبح يوم الاثنين جلس في دارس العدل إلى جانب قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وظهر نائب حلب إلى قاضي القضاة الحنفي وغيره، وقام من الخدمة، وتوجّه إلى الجامع الأموي، وصلى فيه ركعتين، ودخل إلى خانقاه السميساطي. ولما كان عصر الخدمة خلع نائب دمشق عليه قباء بطرز زركش، وفرساً حسناً بسرجه ولجامه، وكنفوشة الذهب.
وتوجّه بكرة الثلاثاء إلى حلب وصحبته ابن ازدمر مقيداً لأنه كان طُلب من حلب لما شكاه للسلطان، فرد معه من الطريق، ولما وصل إلى حلب تلقاه الناس بالشموع إلى قنسرين وأكثر، ودخلها دخولاً عظيماً، ووقف في سوق الخيل، وعرى زكري البريدي، وأراد توسيطه، ونادى عليه هذا جزاء من يدخل بني الملوك بما لا يعنيه، فنزل طشبغا وشفع فيه، فأطلقه، وأحضر ابن أزدمر النوري، وقال: قد رسم لي السلطان أن أسمرك وأقطع لسانك، ولكن ما أواخذك، وأطلعه إلى قلعة حلب، وأقام على ذلك إلى أن عزل الأمير سيف الدين أيتمش من نيابة دمشق في أول دولة الملك الصالح صالح، فرسم للأمير سيف الدين أرغون بنيابة الشام، فدخل الشام بطلبه في نهار الاثنين حادي عشر شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وكان قد قدم من مصر لإحضاره الأميرُ سيف الدين ملكتمر المحمدي، فأقام في نيابة دمشق، وهو منكد الخاطر، ولم يصفُ له بها عيش، وجهز دواداره الأمير سيف الدين ططق يستعفي من النيابة، وأن يكون في باب السلطان من جملة الأمراء، فما أجيب إلى ذلك.
ولم يزل بدمشق مقيماً إلى أن خرج بيبغاروس وأحمد الساقي نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس على السلطان الملك الصالح، واجتمعوا وجروا العساكر وجاؤوا إلى دمشق، فلما بلغه حركة المذكورين حلف عسكر دمشق للسلطان الملك الصالح ولنفسه في العشر الأولى من شهر رجب، وهو مقيم في القصر الأبلق، وكتم أمر نفسه وما يفعله، وأظهر أنه يتوجه بعسكر دمشق، ويقيم بهم على خان لاجين، فوصل إليه الأمير عز الدين طقطاي الدوادار ومعه ملطفات إلى أمراء دمشق وحلب وطرابلس وحماه بعزل نوابها، وأنهم إن حضروا إلى دمشق مخفين يجهزهم نائب الشام إلى باب السلطان، وإلا فليمسكوا ويقيدوا، وكان وصول الدوادار في سادس عشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
وفي حادي عشر شهر رجب نادى في العسكر بالخروج إلى خان لاجين، وأنهم في بكرة النهار يجتمعون في سوق الخيل، وليتوجهوا أمامه، وكان هذا رأياً صالحاً حميداً، ولم يعلم أحد بما في ضميره، فلما اجتمع الناس خرج لهم الأمير علاء الدين علي بن بيبرس الحاجب، وقال: بسم الله، توجهوا إلى مصر، فسُقط في أيدي الناس، وتوجهوا أمامه إلى جهة الكسوة، هو ساقه لهم، ولم يزل بهم سائراً ليلاً ونهاراً إلى أن وصل بهم إلى لُد، فخيم بها وأقام.
وقتل أنا وقد خرجت معه بغتة:
خرجنا على أنا نلاقي عسكرا ... أتى بيبغا فيها على خان لاجين
فلم ندر من تعتيرنا وقطوعنا ... فأنفسنا إلا بأرض فلسطين
وقلت أيضاً أتشوق إلى ولدي:
أيا ولدي وافاني البينُ بغتةً ... وبدد شملاً قد تنظم كالعقدِ
فسرتُ وما أعددتُ عنك تجلداً ... لقلبي ولا حدثتُ نفسي بالبعدِ
وفي رابع عشري شهر رجب نزل بيبغا بمن معه على خان لاجين، ودخل دمشق مُطلباً، ونزل على قبة يلبغا بمن معه بأحمد الساقي نائب حماة، وبكلمش نائب طرابلس، وألطنبغا برناق نائب صفد، وقراجا بن دلغادر ومن معه من التركما، وحيار بن مهنا. وبعد ثالثة أيام توجه أحمد الساقي بألف وخمس مئة فارس، وأقام على المزيرب، وجرى في دمشق ما لا جرى في أيام غازان، نُهب المرج والغوطة وبلادهما، ونهبت بلاد حوران، ونهبت البقاع، وسبيت الحريم، وافتضت الأبكار، وقطعت الآذان بحلقها، وأخذت الأموال.
ولم يزل الأمير سيف الدين مقيماً على لد بعساكر دمشق إلى أن وصل الأمير سيف الدين طاز في خمسة آلاف من عسرك مصرن وأقام على ظاهر لد، وكثرت الأراجيب بما يفعله من مع بيبغا من التركمان من الأذى في دمشق، فقلت أنا أذكر أولادي:
أخرجني المقدور من جلق ... عن طيب جنات جنيات
فإن أعد يوماً لها سالماً ... فهو بنيّات بُنياتي
وقلت وقد زاد الإرجاف بأن بيبغا تقدم بمن معه من العساكر إلى الكتيبة:

قد ضجرنا من المقامِ بلدٍ ... بلدٍ ما طباعه مثل طبعي
كلما قيل لي كتيبةُ جيش ... قد أتت للكتيبة اصطكَ سمعي
فتراني مغيراً من سقامي ... ونحولي وفي المزيريب دمعس
وقلت، وقد زاد الذباب علينا بلدّ من طول مقامِ العساكر في منزلتها:
لقد أتانا ذباب لُد ... بكل حتفٍ ولك حيف
وقل: هذا ذبابُ صيف ... فقلت: لا بل ذبابُ سيف
وفي يوم الجمعة ثاني عشري شعبان وصل السلطان الملك الصالح صالح بالعساكر المصرية إلى منزلة بدعرش، وتلقاه الأمير سيف الدين أرغون بالعساكر إلى قرية يُبنى.
وفي يوم السبت توجهت العساكر الشامية إلى دمشق في ركاب أرغون الكاملي، وخرج الأميران سيف الدين شيخو، وسيف الدين طاز على أثرهم، ودخل النائب إلى دمشق يوم الثلاثاء.
وفي يوم الخميس مستهل شهر رمضان دخل السلطان إلى دمشق، وكان بيبغا ومن معه لما تحققوا خروج السلطان من مصر انقلبوا على عقبهم ناكصين - على ما تقدم في ترجمة أحمد، وعلى ما سيأتي في ترجمة بيبغا - ثم إن شيخو وطاز وأرغون الكاملي توجهوا بالعساكر إلى حلب. وورد بعد ذلك كتاب ابن دلغادر يقول فيه: إن بيبغا وأحمد وبكلمش جاؤوا عندي على فرس فرس، ولم يكن معي مرسوم بإمساكهم، وباتوا عندي ليلة، وتوجهوا إلى البلاد الرومية، ثم إنّ العساكر أقامت على حلب، واتفق الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين طاز على إقامة الأمير سيف الدين أرغون الكاملي في حلب نائباً لسدّ هذا الثغر في هذا المهم، وكتباً إلى السلطان بذلك، فكتبت له تقليده بذلك من دمشق، وجهز إلى حلب، وأمّروا جماعة من مماليكه طبلخاناه، وجماعة عشرة، وذلك في خامس عشري شهر رمضان، وعادت العساكر إلى دمشق، ودخل شيخو وطاز إلى دمشق يوم الجمعة سلخ شهر رمضان، وأصبح العيد يوم السبت.
وفي سابع شوال توجّه السلطان بالعساكر المصرية إلى مصر، ولم يزل الأمير سيف الدين أرغون بحلب نائباً إلى أن حضر أحمد وبكلمش إلى حلب مقيدين، وحزت رؤوسهما، وجُهزت إلى باب السلطان - على ما تقدّم في ترجمة أحمد، وسيأتي في ترجمة بكلمش - ثم إنه بعد ذلك حضر بيبغاروس مقيداً إلى حلب، وخز رأسه، وجهز إلى باب السلطان على ما سيأتي في ترجمته - ثم إن الأمير سيف الدين أرغون الكاملي توجه بعسكر حلب، ومعه الأمير عز الدين طقطاي الدوادار خلف ابن دلغادر، ووصل إلى الأبلستين وحرقها، وحرق قراها، ودخل إلى قيصرية، وهرب ابن دلغادر، واتصل بمحمد بك بن أرتنا، وعاد الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى حلب، ودخلها يوم الثلاثاء خامس شهر رجب سنة أربع وخمسين وسبع مئة، وقاسى هو والعساكر شدائد وكابدوا أهوالاً، ومشى هو بنفسه في تلك المضائق، ثم إن ابن دلغادر وصل إلى حلب، وجهز منها إلى مصر مقيداً، وجرى له ما جرى، على ما يأتي ذكره في ترجمته.
ولم يزل الأمير سيف الدين أرغون على حاله نائباً بحلب إلى أن خلع الملك الصالح صالح، وأعيد الملك الناصر حسن في بكرة الاثنين ثاني عيد الفطر سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وطلب الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى باب السلطان، وحضر الأمير سيف الدين طاز عوضه نائباً بحلب، وذلك في أواخر شوال. وأقام أرغون الكاملي بالديار المصرية أمير مئة، مقدم ألف تاسع صفر سنة ست وخمسين وسبع مئة فأمسك بالقلعة، وجُهز إلى الإسكندرية، واعتقل هناك. ولم يزل هناك معتقلاً وعنده زوجُه إلى أن أفرجَ عنه، ورُسم له بالحضور إلى القدس الشريف ليكون به مقيماً، وحصل له ضعف، وأثقل في المرض، وعوفي بعد مدة. وبنى بالقدس تربة حسنة.
وكان قد عز على الحج في سنة ثمان وخمسين، فمرض أيضاً، وأفطر شهر رمضان، فبطل الحج، ولم يزل إلى أن توفي رحمه الله تعالى في يوم الخميس خامس عشري شوال، ودفن في تربته، ولم يكمل عمارتها، وخسف الموت من أرغون الكاملي بدره الكامل، وبت شمل سعده الشامل.
وأظن مولده في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وكنت قد كتبت إليه قصيدة، وهو بحلب أذكر فيها انتصاره على بيبغا وأحمد وبكلمش، وهي:
قد توالى النصر الذي قد تغالى ... في مليكٍ أرضى الإله تعالى
وحمى الملك والممالك والدي ... ن وقاد الجيوش والأبطالا

الأمير المهيب أرغون ذو البا ... س الذي عزمه يدك الجبالا
سار منجلق إلى لدّ لما ... أن بغى بيبغا ورام القتالا
لم يسر خيفةً وكيف يخاف الل ... يثُ يوماً إذا تراءى الغزالا
خاف سفكَ الدماء في رجب الفر ... د، وسفكُ الدماء كان ضلالاً
وتأتي في لدّ يرجو لقاهم ... بثبات لا يعرف الترحال
فهو فيها ليثٌ بغاب سلاحٍ ... كان بيضاً بُترا ومسرا طوالاً
وهم عاجزون لم يتنحوا ... عن مكانه فيه أقاموا كُسالى
فتخلى الشيطان عن كل غاوٍ ... وانثنى خائباً وولى القذالا
من يخون الإيمان كيف يلقى ... بدرهُ في دجى النفاق كمالاً
نكث العهد مائلاً لفجور ... هو عندي لو استحى ما استحالا
أضعفَ الرعبُ قلبهم فتولوا ... خوراً ثم زلزلوا زلزلا
ثم باتوا ما أصبحوا مثل ظلٍ ... نسختهُ أيدي الضياء فزالا
قطعوا البيد لا يُديرون وجهاً ... ليردّوا الغضنفر الرئبالا
تركوا المال مائلاً لسواهم ... وأضاعوا الحريم والأموالا
أمطرتهم قسيهُ وبل نبل ... ملأت سائر الوهاد وبالا
ما استقروا في منزل قطّ إلا ... وبهم قد نبا وضاق مجالا
شبعوا غربة وفقراً وذلا ... وهواناً وروعة وسؤالا
وأتوا خاضعين ذلاً وعجزاً ... يحملون القيود والأغلالا
بوجوه قد سودتها المعاصي ... نحو وجهٍ من نوره يتلالا
ثم حُزت رؤوسهم بسيوف ... ليس يدري المضاءُ منها كلالا
فاشتفي المسلمون منهم وقرت ... أعينٌ ما رأت زماناً خيالا
إن رباً أعطاك نصراً عزيزاً ... وكسا وجهكَ الجميل جمالاً
هو يُوليك ما تحاول منه ... في المعالي وتبلغ الآمالا
أوحشت منك جلق فهي تشكو ... فيك شوقاً تراه داء عُضالا
أنت باهيت حسنها بمحيّا ... جعل البدرَ من حياء هلالا
ثم كاثرت شهبها بالأيادي ... فلما جُودك الأكف نوالا
وكستها أخلاقُك الغر لطفاً ... منه مادَ القضيب لطفاً ومالا
وهي ذاقت من حكمك الفصل عدلاً ... صار في قامة الرماح اعتدالا
فلك الله حافظ حيثما كن ... ت لتُفني من العدا الآجالا
أرقطاي الأمير سيف الدين المعروف بالحاج أرقطاي. من مماليك الأشرف. جعله الملك الناصر جمداراً، وكان هو والأمير سيف الدين أيتمش نائب الكرك بينهما أخوة. وكانا في لسان الترك القبجاقي فصيحين، وكانا يرجع إليهما في الياسة التي هي بين الأتراك.
ولما خرج الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - خرج معه الحاج أرقطاي والأمير حسام الدين البشمقدار، فحضر الثلاثة على البريد، ولما كان بعد قليل بلغ تنكز أن الأمراء بدمشق يتوجهون بعد الخدمة إلى دار الحاج أرقطاي ويأكلون على سماطه، فما حمل ذلك تنكز، وكبت إلى السلطان فأخرجه إلى حمص نائباً في يوم الأحد سابع شهر رجب سنة ست عشرة وسبع مئة، وأعطي خبز بيبرس العلائي ومماليكه وحاشيته، فأخذهم عنده، وأقام بحمص مدة، ثم إنه رسُم له بنيابة صفد، فحضر إليها في ثمان عشرة وسبع مئة في جمادى الأولى بعد إمساك طغاي الكبير بها فيما أظن، فأقام بها، وعمر بها دوراً وأملاكاً، وتوفيت زوجته ابنةُ الأمير شمس الدين سنقرشاه المنصوري. بنى لها تربة شمالي الجامع الظاهري، وهي تربة حسناء بالنسبة إلى عمائر صفد، وصار بها للجامع رونق لم يكن له أولاً.
وأعطي ولده أمير علي طبلخاناه، وولده إبراهيم أمير عشرة بعد ما طلبهما، السلطان بسفارة الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - أمرهما عنده بدمشق، وأقاما عنده مدة، ثم إنه جهزهما إلى صفد، وكان في الآخر قد حنا عليه حنواً كثيراً.

ولما كان في سنة ست وثلاثين وسبع مئة طلب الأمير سيف الدين أرقطاي إلى مصر، وجهز الأمير سيف الدين أيتمش أخوه مكانه نائباً بصفد، وأقام الحاج أرقطاي بمصر مقدم ألف.
ولما توجه العسكر إلى أياس جهز إليها في جملة الأمراء، وحضر من هناك، وأقام بالقاهرة يعمل نيابة الغيبة إذا غاب السلطان في الصيد، فلما قدر واقعة تنكز وإمساكه، حضر مع من حضر من الأمراء صحبة الأمير سيف الدين بشتاك، ثم إنه رسم بنيابة طرابلس عوض الأمير سيف الدين طينال، فتوجه إليها، ولم يزل بها مقيماً إلى أن توجه ألطنبغا إلى طشتمر نائب حلب، وكان الحاج أرقطاي بعسكر طرابلس مع ألطنبغا، وتوجهوا إلى حلب، وعادوا، وجرى ما جرى من هروب ألطنبغا إلى مصر، وكان الحاج أرقطاي معه، فأمسكا واعتُقلا بالإسكندرية. ثم أفرج عن الحاج أرقطاي في أول دولة الصالح إسماعيل بوساطة الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، وجُعل كما كان أولاً بالقاهرة من جملة الأمراء المشايخ المقدّمين، واقام على ذلك إلى أن توفي الملك الصالح، وتولى الملك الكامل شعبان، فرسم له بنيابة حلب عوض الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، فحضر إليها في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبع مئة، فأقام بها تقدير خمسة أشهر، ثم طلب إلى مصر، وجهز إلى حلب الأمير سيف الدين طقتمر طاسه نائب حماة. فتوجه الحاج أرقطاي إلى مصر، واقام بها قليلاً إلى أن خلع الكاملي، وتولى الملك المظفر حاجي، فرسم له بنيابة مصر.
ولمن يزل في نيابة مصر إلى أن خلع المظفر، وتولى الملك الناصر حسن، فطلب الإعفاء من مصر، وأن يعود نائباً، فرسم له بذلك، فوصل إلى دمشق في رابع عشر شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ولم يزل بها مقيماً إلى أن قتل أرغون شاه، فرسم للحاج أرقطاي بنيابة دمشق، ففرح أهل دمشق به، وتوجهوا إليه إلى حلب وما دونها، فاستعد لذلك، وخرج في طلبه وحاشيته، وكان قبل ذلك قد حصل له حمى، ثم إنه حصل له إسهال، فنزل إلى منزلة عين المباركة ظاهر حلب، مرة يركب الفرس، وإذا أثقل في المرض ركب في المحفة، إلى أن حم له الأجل، وتلون له وجه الحياة تارة بالوجل وتارة بالخجل.
وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - عصر الأربعاء خامس جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة بعين المباركة. فعاد الناس خائبين، وعاجوا بعد الفرح بالترح آيبين.
وكان - رحمه الله تعالى - ذكياً فطناً، محجباً لسناً، مع عجمة في لسانه، وعقدة في بيانه. وله التنديب المطبوع، والتندير الذي فيه الظرف مجموع، مع ميل شديد إلى الصور الجملية، والقامة المديدة مع الوجنة الأسيلة، لا يكاد يملك نفسه إذا رأى العين النفاثة، والجفون الخوّانة النكاثة، والمباسم الفلج، والحواجب البلج. ونفسه زائدة الكرم في المأكول، وسماطه دائماً ممدود لمن أمره إليه موكول. وأظنه عدى السبعين.
وأنشدني بحماة من لفظه لنفسه الشيخ شمس الدين محمد بن علي الغزي بحماة تاسع جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة:
قالوا: أرقطاي مات، قلت: هل ... في الموت بعد الحياة من عجب
ما مات من فرحةٍ بنقلته ... بل مات من حزنه على حلب
اللقب والنسبالأرمنتي الحسين بن الحسين.
وكمال الدين عبد الباري وكمال الدين عبد الرحمن بن عمر وتقي الدين عبد الملك بن أحمد وجمال الدين محمد بن الحسين وشرف الدين محمد بن عبد الرحيم الأرموي محمد بن إبراهيم.
وصدر الدين محمد بن الحسن.
وصفي الدين محمود بن أبي بكر.
آروم بغا الأمير سيف الدين الناصري.
لما توفي الملك الناصر، ووفر الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي من وظيفة أمير جاندار، أقيم الأمير سيف الدين أروم بغا مكانه أمير جاندار، ولم يزل كذلك إلى أن ملك الصالح إسماعيل، فرسم له بنيابة طرابلس، فحضر إليها عوضاً عن الأحمدي المذكور، وأقام بطرابلس قليلاً، تقدير أربعة أشهر، إلى أن بات في الثرى موسداً وأصبح على رحمة ربه محسداً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
وجاء بعده الأمير سيف الدين طوغاي الجاشنكير، الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في حرف الطاء مكانه.

وكان الأمير سيف الدين أروم بغا شكلا كاملاً، إلى الخير مائلاً، محسناً إلى من يعرفه، مجتهداً على مالٍ ينفقه ويصرفه. محبوب الملتقي، قريب المستقى، باراً بأصحابه، فأراً من الأذى اقترابه. وأحمد الناسُ أمره في وظيفته بمصر لما باشرها، وخالطها بالحسنى وعاشرها، إلى أن توجه لنيابة طرابلس على ما تقدم.
أزبك بن طقطاي القان بن القان، صاحب بلاد أزبك، مملكته شمالينا بشرق، وهي من بحر قسطنطينية إلى نهر أربس مسافة ثمان فرسخ، وعرضها من باب الأبواب إلى مدينة بلغار وذلك نحو ست مئة فرسخ، ولكن أكثر ذلك مراعي وقرى. ولها في أيديهم ما ينيف على المئة سنة.
كان ذا بأس وإقدام، وعبادة في الليل في المحراب، وصف أقدام. لما أسلم أسلم بعض رعيته، وعاملهم بحُسن ألمعيته. لم يلبس سراقوجا ولا شيئاً من شعارهم، ولا رغب في درهم ولا دينارهم. يلبس حياصة فولاذ متغير ذهب، ويقول: الذهب حرام على الرجال وقد وجب. وكان يؤثر الفقراء يوحبهم، ويجانب من يُعرض عنهم ويسبهم، يتردد إلى بعض الصوفية ويقول له: أشتهي لو قُتلت، فيقول له ذلك الصوفي: لأي شيء؟ قال: لأنكم تقولون: إن جميع من في ملكي أذاه متعلق بعنقي.
كان السلطان الملك الناصر قد خطب ابنته، وقيل: أخته، وأجاب إلى ذلك، وجهزها في البحر إلى إسكندرية، وتوجه القاضي كريم الدين لملتقاها إلى الإسكندرية، وعمل لها ضيافة في الميدان تحت القلعة، وبعد ذلك طلعت إلى القلعة، وجرى في أمرها ما جرى، وتوهم السلطان أنها ليست من بنات أزبك فهجرها وزوجها بالأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار، فتوفي عنها، فزوجها بالأمير سيف الدين صوصون أخي قوصون، فتوفي عنها، فزوجها ابن الأمير سيف الدين أرغون النائب.
ولم يزل القان أزبك على حاله إلى أن خانته أم دفر، وامتلأ فمه وعينه بالعفر.
وكانت وفاته سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة.
أزدمر الأمير عز الدين العلائي.
كان أميراً كبيراً، أثيلاً في المكانة أثيراً، عديم المعرفة والفهم، فارس الخيل ما مثله شهر، شرس الأخلاق، صعب المراس على الإطلاق.
لم يزل بدمشق على حاله إلى أن ظفرت به اليد الغالبة، والداهية التي هي للنعم سالبة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي القعدة سنة ست وتسعين وست مئة. وصلي عليه بجامع بني أمية. وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء، ودفن داخل دمشق عند مسجد ابن فريدون من نواحي مئذنة فيروز.
وهو أخر الحاج علاء الدين طيبرُس.
اللقب والنسبالأزرق مملوك العادل كتبغا، اسمه بكتوت. ابن الأزكشي الأمير بدر الدين موسى بن أبي بكر. إسحاق بن ألمي التركي المصري الشاعر قال الشيخ شمس الدين الذهبي - رحمه الله تعالى - : طلب قليلاً، وارتحل إلى الغرافي وغلى سنقر الزيني والأبرقوهي، وأخذت عنه: وهو من أقراني، ودخل العراق وبلاد العجم، وأضمرته البلاد بعد العشرين وسبع مئة.
إسحاق بن إسماعيلابن أبي القاسم بن الحسن بن أبي القاسم المقدادي الكندي، الفقيه الفاضل نجم الدين أبو الفداء بن القاضي مجد الدين بن الرحبي.
كان رجلاً فاضلاً صالحاً، ولي قضاء الرحبة سبعةً وثلاثين سنة، ووليها والده وجده.
قدم إلى دمشق، ولازم الشيخ تاج الدين الفزاري، وسمع من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وغيرهما، وكان مشكور السيرة، يحبه أهل بلده من تقدم إلى الرحبة من الأجناد والفقراء. وقدم إلى دمشق قبل موته بسنة وأشره، وولي بها نيابة الخطابة، وخطب في العيدين، وسر الناس به لصلاحه وانقطاعه وعفته، وروى بدمشق وبالرحبة.
وتوفي بدمشق في ثاني شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
إسحاق بن أبي بكر بن إبراهيم

بن هبة الله بن طارق
الشيخ الفقيه الفاضل المسند المكثر كمال الدين أبو الفضل الأزدي الحلبي الحنفي النحاس.
سمع الكثير من الموفق يعيش، والعزّ بن رواحة، والمؤتمن بن قميرة، وابن خليل، وأخيه الضياء صقر الكلبي وابن أخيه شمس الدين الخضر بن قاضي الباب وأبي الفتح البارودي وهدية بنت خميس ومحمد بن أبي القاسم القزويني والكمال بن طلحة والنظام محمد بن محمد البلخي، وعدة.

وخرج له جزءاً عنهم المحدّث أمين الدين الواني، وعنده عن ابن خليل نحو من ست مئة جزء. وقد أكثر عنه المزني والبرزالي وقاضي القضاة العلامة تقي الدين السبكي والمحب والواني وشمس الدين الذهبي.
وكان له حانوت وبطله، وشغله بمعاشه وعطله. وله مدارس كان يحضرها وأوقاف يحصرها، وفيه تعسر على الطلبة وشُح، وعنده بخل بمسك الإفادة على الطلبة ولا يسمح.
وكان قد تنبه شارك، وقالب الأشياخ وعارك، ونسخ بخطه أجزاء كثيرة تركها بعده، وأولاها بعد الموت بعده.
ولم يزل على حاله إلى أن انطبق جفناه على قذى الحين، وصبر على أذى البين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة عشر وسبع مئة.
ومولده سن ثلاثين وست مئة.
وكان له دكان بسوق النحاسين، ثم إنه تركها أخيراً.
إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن إبراهيمالشيخ العالم الفاضل المسند المعمر عفيف الدين أبو محمد الآمدي ثم الدمشق الحنفي، شيخ دار الحديث الظاهرية بدمشق.
سمع من عيسى بن سلامة، ومجد الدين بن تيمية بحرّان، ومن ابن خليل بحلب، وأكثر من الضياء صقر وجماعة بحلب، وسمع بدمشق والمعرة، وحصل أصول وأجزاء، وحضر المدارس، وحج غير مرة، وشهد على القضاة.
وخرج له ابن المهندس عوالي سمعها الشيخ شمس الدين الذهبي والجماعة منه سنة ثمان وتسعين وست مئة. وأخذ عنه القاضي عز الدين بن الزبير، وابنه، وعدة.
وكان طيب الأخلاق ينطبع، ويتلطب البشاشة ويتبع. سهل القياد، واري الزناد، متسماً بالعدالة، محتشماً عن الإزالة. تفرد بأشياء عالية، وأحيا أسانيد بالية.
ولم يزل على حاله إلى أن تعفى أثر العفيف، وضمه الموت في ذلك اللفيف.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة.
إسحاق القاضي الكبير الرئيس

تاج الدين عبد الوهاب ناظر الخاص
كان من جملة نظار الدولة، ولما أمسك السلطان القاضي كريم الدين الكبر سير إليه يقول له: من يصلح لنظر الخاص؟ فنص على القاضي تاج الدين إسحاق، فأحضره السلطان، وألبسه تشريفة، وباشر الخاص من يومئذ إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - بسكون زائد، وانجماع عن أهل الفتن الذين يرمون الناس من المصابين في مصائد. وساس السلطان بعقله الراجح، وسد الوظيفة بحُسن مقصده الناجح، ولم يختل عليه نظام، وقام في تلك المدة بمهمّات عظام. وجاء بعد كريم الدين ورهجه، واتساع طريقه ونهجه، فكان لا يدير به، ولا يعدم العافي قطر سحابه، وهو على أنموذج واحد وطريق واحدة، وسنة من السكون جارية على أكمل قاعدة.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل به من الموت داؤه العضال، والأمر الذي لا يرده طعان ولا نضال.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة.
وكان قد ولي نظر الخاص سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وهو والد القاضي علم الدين إبراهيم ناظر الدولة. والصاحب شمس الدين موسى ناظر الشام. والقاضي سعد الدين ماجد.
وتولى ولده الصاحب شمس الدين موسى نظر الخاص بعده أشهراً، ثم نُقل إلى نظر الجيش لما توفي القاضي فخر الدين.
إسحاق الأمير علم الدين الحاجبكان بحلب حاجباً، فترامى إلى الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - فولاه نيابة حمص، وأحضر تقليده من مصر، وألبسه تشريفة بدمشق في ثالث جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وتوجه إليها فلم تطل مدته في هذه النيابة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - وكان قد تولى نيابة حمص بعد الأمير علاء الدين طيبغا قوين باشي، الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في مكانه.
أسدالحكيم اليهودي المعروف
بالسيدة، تصغير أسدة.
كان ذكياً، له مشاركات في المعقول، وخير ما يعرفه الإلهي والطبيعي ، ولم يكن يعرف رياضياً ولا منطقياً، وحرفته التي يتكسب بها لجراح مع مشاركة في الطب والكحل وغير ذلك من الطبيعي. ولم يُر أقدم منه على الجراحة في جبر ما يكسر من العظم ويُهاض. باشر الجراحات العظيمة للأمراء الكبار مثل الأمير بدر الدين بيدرا ناظر الأشرف على عكا، ومثل الأمير علم الدين سنجر الدواداري، وفيه يقول علاء الدين الوداعي، وقد عالج سنجر الدواداري، ونقلته من خطه:
يا قوم إن الدواداري مبتع ... في فضله أنبياءَ الله مجتهد

كأنه دانيال في كرامته ... ذلت له الأسد حتى طبّه أسدُ
وكان الملك المؤيد صاحبكم حماة يحبه ويقربه. وبلغني أنه - رحمه الله تعالى - أوصى له بشيء من كتبه، وكان يتردد إلى العلامة تقي الدين بن تيمية، ويجتمع بالشيخ صدر الدين بن الوكيل، ويبحث معهما.
وكان السلطان الملك الناصر قد طلبه إلى القاهرة ليعالج ما بالأمير عز الدين أيدمر الخطيري من الفالج. ورأيته هناك في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وهو آخر عهدي به، ولم أرّ من يعرف علم الفراسة أحسن منه بعد الشيخ شمس الدين محمد بن أبي طالب الآتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في المحمدين.
وقال لي: جبرت رجلاً وداويتها بقدوم ومنشار ومثقب.
ولم يزل على حاله إلى أن هلك، وذاق مرارة الموت وعلك.
وكأنه هلك بعد الثلاثين وسبع مئة، واجتمعت به مرات بصفد ودمشق وحلب والقاهرة.
أسعد بن حمزة أسعدالصدر الرئيس مؤيد الدين، ابن الصاحب عز الدين بن القلانسي. وسيأتي ذكر والده في حرف الحاء مكانه.
سمع في صغره من جماعة من أصحاب ابن طبرزد، منهم الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن البخاري، وغيرهما.
ولم يحدث.
وكان رئيساً، وكفه على الإحسان حبيساً.
له جماعة من أصحابه وندمائه، وعدةٌ ممن يفتخر بارتمائه إليه وانتمائه، وقطف عيشه غضاً، وتناول نقده من لذة الشبيبة نضاً.
ولم يزل إلى أن غص بكأس حتفه، وذهب من يد والده على رغم أنفه، وجرعه حسرة أكوى لقلبه من الجمرة، وتدلى بعد ظهور الأسرة إلى بطن الحفرة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سابع شهر صفر سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة.
وحصلت له قبل موته إنابة وإخبات، نفه ذلك بعد الممات. وكان ناظر ديوان الزكاة بدمشق.
الألقاب والأنسابالأسعردي زين الدين محتسب القاهرة أبو بكر بن نصر. ونبيه الدين حسن بن نصر المحتسب والموقت عبد الله بن يوسف.
أسماء بنت محمد بن الحسن

ابن هبة الله بن محفوظ بن الحسن ، الشيخة الصالحة أم بنت الشيخ عماد
الدين بن صصرى، أخت قاضي نجم الدين.
سمعت من السيد ميك بن علان، وهو عم جدها للأم، خمسة أجزاء، وهي الأول والثاني من بغية المستفيد لابن عساكر، ومجلس في فضل رمضان من أماليه، وحديث إسحاق بن راهوية، ونسخته أبي مسهر. وحدثت بها مرات، وتفردت بثلاث منها، وهي الثاني من البغية والمجلس وحديث إسحاق بن راهويه.
قال شيخنا البرزالي: ولم يقع لنا من روايتها سوى الأجزاء الخمسة المذكورة. قال: قرأت عليها مجلس شهر رمضان في رمضان سنة ثلاث وثمانين، وقرأت عليها قبل موتها بأربعة أيام. فبين التاريخين أكثر من خمسين سنة.
وكان امرأة مباركة متيقظة، كثيرة البر والصدقة والمعروف، وأصيبت بأولادها وأولاد أولادها وأقاربها. وحجت مرات، وأنفقت كثيراً من مالها في الطاعات، ووقفت وقوفاً، ولم يكن بقي من أعيان البلد ورواة الحديث أسنّ منها. وكانت تقرأ القرآن في المصحف. ولها أوراد وسُبح، تذكر الله عليها.
وتوفيت - رحمها الله تعالى - يوم الاثنين حادي عشر الحجة، سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولدها في آخر سنة ثمان وثلاثين وست مئة.
ودفنت بجبل قاسيون.
إسماعيل بن إبراهيم بن سالم
بن بركات الأنصاري
الشيخ الإمام الفاضل المحدث نجم الدين أبو الفداء الدمشق، الصالحي الحنبلي المؤدب المعروف بابن الخباز.
سمع سنة سبع وثلاثين وست مئة وبعدها من عبد الحق بن خلف والحفاظ الضياء، وعبد الله بن أبي عمر. وسمع من المرس، والبكري، وإبراهيم بن خليل، وابن أبي الجن، وابن عبد الدائم، وأصحاب الخشوعي، وأصحاب الكندي، وابن ملاعب، وابن الزبيدي، وابن اللتي، ثم أصحاب الكريمة، والسخاوي، وسمع من المزي، والبرزالي، وعلاء الدين الخراط، والقاضي شمس الدين بن النقيب، والمقاتلي، وابن المظفر، وابن المحب، وابن حبيب.

وكان يؤدب بمكتب ابن عبد داخل باب توما. وعلى الجملة فقد كتب عمن دب ودرج وما ترك أحداً يفوز منه بالفرج، وخرج وحصل الأجزاء وتعب، ومع عمله الكثير ما أنجب، وساوى من لعب، ولا أتقن شيئاً من العلوم، ولا شارك أهل الفهوم. ولا له إلمام بنحوٍ ولا لغت، ولا له مادة إلى جهة علم مفزعة، بل درب ولم يكن بين أهل هذا الشأن في غربة، مع الخطأ الكثير فيما خرجه وجمعه، وحدث به أسمعه.
وكان يؤدب في مكتب، ولم يكتب خطاً غير خطا، ولا كان له في صورة الكتابة ما يرى وسطاً، وخرج لابن عبد الدائم وغيره، وعلم سيرة لشيخنا شمس الدين الذهبي، وطولها.
ولم يزل على حاله إلى أن درج إلى البلى، وأدبر إلى مسكن الأرض مقبلاً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر صفر سنة ثلاث وسبع مئة.
إسماعيل بن إبراهيممجد الدين الشارعي المصري المحدث.
كان شاباً فاضلاً، سمعت بقراءته على الدبابيسي وغيره من أشياخ القاهرة، وسمع هو أيضاً بقراءتي كثيراً. وكانت له عناية بتحصيل الكتب النظيفة، وإكبابُ على ذلك، فهي له وظيفة. وعنده ذكاء ونباهة، وله تقدم بني أهل هذا الشأن ووجاهة.
ولم يزل على حاله إلى أن قصف، وضع المدر عليه ورصف.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة يوم عيد الفطر عشاء.
ورثاه الشيخ تاج الدين بن مكتوم بقصيدة.
وكان سمع بمكة من رضي الدين الطبري، وبالقاهرة في الواني والختني، ورحل مع قاضي القضاة عز الدين بن جماعة. وسمع من ابن الشحنة، ورحل إلى الإسكندرية، وسمع من وجية، وقرأ على تقي الدين الصائغ.
إسماعيل بن إبراهيم بن سليمان المقدسيابن الحراني، الإمام الفاضل الطبيب عماد الدين أبو الطاهر المقدسي المصري.
سمع من العز الحراني، وابن خطيب المزة، وابن الأنماطي، وقاضي القضاة تقي الدين بن رزين، وقاضي القضاة مجد الدين بن العديم، والشيخ قطب الدين بن القسطلاني.
ولم يحد.
وقرأ الطب على العماد النابلسي. وكان طبيباً فاضلاً يعالج علاجاً حسناً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقبرة باب النصر بالقاهرة.
إسماعيل بن إبراهيم

بن سعد الله بن جماعة
عماد الدين أخو قاضي القضاة
بدر الدين بن جماعة.
كان رجلاً جيداً.
سمع من ابن البرهان بالقاهرة، وجلس مدة مع الشهود بدمشق.
وتوفي بحماة في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبع مئة.
إسماعيل بن إبراهيمالقاضي عماد الدين الحلبي المعروف بابن الفرفور.
وأول ما علمت من أمره أنه كان في ديوان الأمير سيف الدين أرغون الدوادار بالشام، ولما مات أرغون في حلب انتقل هو إلى مصر، وخدم أولاده بها - فيما أظن - ثم إنه توفي سنة سبع أو أول سنة ست وثلاثين وسبع مئة، حضر إلى دمشق، وخدم في ديوان الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - عاملاً، ولما أمسك تنكز، خدم هو في ديوان الأمير علاء الدين الطنبغا نائب الشام، ثم عند الأمير علاء الدين أيدغمش نائب الشام، ثم من بعده عند الأمير سيف الدين طقزتمر، ثم من بعده عند الأمير سيف الدين يلبغا، وهو عند هؤلاء الأربعة، ناظر ديوان النيابة.
وحصل وثمر وعمر واقتنى الأملاك بدمشق وبحلب.
ثم إنه توجه إلى القاهرة، وعاد مع الأمير سيف الدين ايتمش نائب الشام، وهو على توقيع الدست، وعلى أن يكون ناظر ديوان النيابة، فما اتفق ذلك. ثم إنه باشر الحسبة بدمشق ونظر الخاص المرتجع وغير ذلك.
ثم طلب إلى مصر هو وفخر الدين بن عصفور، وغرما جملة، ثم عاد وتوسع في المباشرات.
ولما مات علاء الدين بن الفويرة، رُسم له من مصر هو وفخر الدين بن عصفور، وغرما جملة، ثم عاد وتوسع في المباشرات.
ولما مات علاء الدين بن الفويرة، رُسم له من مصر بتوقيع الدست بدمشق مكانه، فأقام فيه إلى أن توجه إلى حماة، وعاد منها مريضاً، وطالت به العلة إلى أن توفي - رحمه الله تعالى إلى حماة، وعاد منها مريضاً، وطالت به العلة إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في يوم الخميس حادي عشر صفر سنة سبع وخمسين وسبع مئة. ودفن بتربة له أنشأها في مقابر الصوفية.
وكان كاتباً جيداً في الحساب، حسن العمة، فيه خير وصدقة وملازمة للجامع الأموي إذا كان بمدينة دمشق، وهو أكبر الأخوة.

إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل
ابن بُرتق بن بزغش بن هارون بن شجاع، الشيخ جلال الدين أبو الطاهر القوصي الحنفي.
أخبرني العلامة شيخنا أبو حيان من لفظه، وقال: كان المذكور رفيقنا في المدرسة الكاملية. اشتغل بالفقه على مذهب أبي حنيفة، وأقرأ النحو والقراءات بجامع بان طولوهن. أنشدنا من لفظه لنفسه:
أقولُ له ودمعي ليس يرقا ... ولي من عبرتي إحدى الوسائل
حرمت الطيفَ منك بفيض دمعي ... فطرفي فيك محرمٌ وسائل
وأنشدنا لنفسه:
أقولُ ومدمعي قد حالَ بيني ... وبينَ أحبتي يومَ العتابِ
رددتم سائل الأجفانِ نهراً ... تعثر وهو يجري الثيابِ
وأنشدنا لنفسه:
تخطر في القباء مع القبائل ... فقام بدله عندي دلائل
غزالٌ كم غزا قلبي بعضبٍ ... يُجردهُ وليسَ له حمائل
وأبلى جدتي والبدرُ يبلي ... ومال مع الهوى والغصن مائل
وحال لم أحل عنه ولوني ... بما ألقى من الزفراتِ حائل
فيرتع ناظري برياض حسنٍ ... وأسكر بالشمول من الشمائل
وكم سمع الخيالُ له بليل ... ألم به بأصبح كالأصائل
وضاع تمسكي بالنسك فيه ... وضاع المسك من تلك الغلائل
قلت: شعر جيدٌ صنع.
وكان متصدراً بالجامع الطولوني لإقراء القراءات. وكان له حظ من العربية وإفادات، ومشاركة في الأدب الغض، وما ينفقه فيه بين أهله نض. وجمع كراسة في قوله صلى الله عليه وسلم: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " .
ولم يزل على حاله إلى أن تبدد شمله من الجامع، وفقد شخصه الناظر ولم يفقد ذكره السامع.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة سنة خمس عشرة وسبع مئة.
إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن الأثير
الحلبي الكاتب
هو القاضي الرئيس عماد الدين.
ولي كتابة الدّرج بعد والده تاج الدين بالديار المصرية مدة، ثم تركها تديناً وتورعاً وإقبالاً على الآخرة وتسرعاً، وهو الذي علق الشرح من الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد على العمدة، وهو الذي أبرز إلى الوجود عقده. وشرح قصيدة ابن عبدون الرائية التي رثى بها بني الأفطس - فيما أظن - .
وكانت له رياسة، وعنده سيادة ونفاسة، وترك كتابة السر تورعاً، ورفضها وخلاها تبرعاً، واشتغل بما هو الأولى، والتزم بالتقصير ولم يستطع طولى. وله ديوان خُطب.
ولم يزل على حالته إلى أن عُدم في الوقعة، وقتل شاه مات في وسط الرقعة.
وتوفي في شهر ربيع الأول تسع وتسعين وست مئة.
وكتب إليه سراج الدين عمر الوراق، نقلته من خطه:
مخيلة إسماعيل صادقة الوعد ... وفت بشروط المجد مذ كان في المهد
وكان لأملاك الزمان ذخيرةً ... كما ادخر السيف المهند في الغمد
فعز بزند الأشرف الملك الذي ... يُرى سيفُه يوم الوغى واري الزند
فهذا صلاح الدين كاتب دسته ال ... شريف عماد الدين وقفاً على سعد
فلا زال يوليه الخليل محّبة ... ولا زال إسماعيل يُفدى ولا يفدي
إسماعيل بن سعيد الكردي المصريتظاهر بالزندقة، وتجاهر بالمعاصي وصلابة الحدقة. وسمعت منه كلمات سيئة في حق الأنبياء والبررة الأصفياء، ورمي بأمور عظام، يذوب منها اللحم والجلد وتفتتُ العظام. ولا جرم له أطاح السيف رأسه، وجرعة من الموت الأحمر كأسه.
وكان المذكور عارفاً بالقراءات، قرأ على الشطنوفي، والصائغ. واشتغل بالفقه والنحو والتصريف، وكان يحفظ قطعة من التوراة والإنجيل، وكان طلق العبارة، سريع الجواب، حسن التلاوة. وكان لا يزال الحاوي في الفقه والعمدة في الحديث والحاجبية في كمه.
ولكن الله - تعالى - مكر به، فاجتمع له القضاة الأربعة يوم الاثنين سادس عشري صفر سنة عشرين وسبع مئة، وضربوا رقبته بين القصرين، والذي حكم بقتله قاضي القضاء تقي الدين المالكي، وكان يوماً مشهوداً.
إسماعيل بن عبد القويابن الحسن بن حيدة الحميري، فخر الدين الأسنائي المعروف بالإمام.
اشتغل بالفقه على الشيخ النجيب بن مفلح، ثم على الشيخ بهاء الدين القفطي.

كان إمام المدرسة العّزية بأسنا، وناب في الحكم بمنشية إخميم وطوخ والمراغة. واتفق له بالمراغة أن بعض أولاد الشيخ أبي القاسم المراغي وقع بينه وبين أولاد الفقراء، كان شديد البأس، فطلبه الفقير إلى القاضي، فأعطاه القاضي قلمه، فقال الفقير ما يحضرُ بهذا، فتوجه إليه، فحضر، فادعى عليه الفقير أنه ضربه ستين جمجماً بهذا الجمجم، فأخذ القاضي الجمجم، وقال للفقير: حرر دعواك من ثلاثة بهذا، ما تعرفُ كم ضُربت؟ فتبسم الفقير غريمه، واطلحا، وانفصلا على خير.
ونزل مرة في مركب بصحبة الشيخ بهاء الدين والشيخ النجيب، فزمر بها زامر، فقال الشيخ بهاء الدين: اسكت، فقال الإمام: الشيخ إمام في هذا وأنت استقبلت خارجاً، فرجع وزمر ثانياً، فقال له الشيخ بهاء الدين: اسكت، فأعاد عليه الإمام الكلام، فأخذ الزامر المزمار وقدمه للشيخ، وقال: ما يُسحن المملوك غير هذا، فعرف الشيخ أنها من الإمام.
وكان قد عمل بنو السديد عليه، فانتقل إلى قوص، وأقام بها سنين.
وكان ضريفاً له نوادر، وحكايات عجيبة أجوبة بوادر، وكف بصره أخيراً، وأظلم نهاره عليه، وقد كان منيراً.
ولم يزل على حاله إلى أن صلى الإمام على الإمام، ودعاه البلى إلى مأدبة الحمام.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حدود عشرين وسبع مئة.
إسماعيل الأمير عماد الدين بن الملك المغيث

شهاب الدين أبي الفتح عبد العزيز بن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل
أبي بكر محمد بن أيوب.
كان جندياً بجما، وسمع من خطيب مردا، وحدّث. وأجاز لشيخنا علم الدين البرزالي في سنة ثمان وسبع مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشري شهر ربيع الآخر سنة أربع عشر وسبع مئة.
إسماعيل بن عثمان بن محمدالإمام رشيد الدين أبو الفضل بن المعلم التيمائي الحنفي.
سمع من ابن الزبيدي ثلاثيات البخاري، وقرأ بالروايات على السخاوي، وسمع منه، ومن العز النسابة وابن الصلاح وابن أبي جعفر.
وكان بصيراً بالعربية، إماماً في مذهب الحنفية. حدث بدمشق والقاهرة.
وفيه زاهد وعفة وإباء، وعنده جودٌ وحياء، دينه متين، وفضله مبين، يقتصد في لباسه، ويتقيه خصمه في الجدال لباسه. ساء خلقه قبل موته، وتوحش من أنس الناس قبل فوته.
انهزم وتكر تدريس البلخية لابنه تقي الدين. وكان قد انجفل من التتار، واستوطن القاهرة. وكان قد عُرض عليه القضاء، فامتنع، وانكمش عن الولاية وانجمع، إلى أن افترش التراب أربع عشرة وسبع مئة.
إسماعيل بن علي بن أحمد بن إسماعيلالمسند عماد الدين أبو الفضل الأزجي الحنبلي ، شيخ الحديث بالمستنصرية من بعداد، المعروف بابن الطبّال.
سمع حضوراً من أبي منصور بن عفيجة سنة أربع، وسمع جامع الترمزي من عُمر بن كرم بإجازته من الكروخي، وسمع ابن أبي الحسن القطيعي وابن روزبه وجماعة.
وأخذ عنه الفرضي، وابن الفوطي، وابن سامة، وسراج الدين القزويني، ابن خلف، وأجاز لشمس الدين الذهبي، وسمع البخاري من ابن القطيعي، ولم يزل يُسمع ويُفيد، وينيل فوائده القريب والبعيد، إلى أن أسمعه داعيه بالرحيل، وأقام ناعيه بالبكاء والعويل.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة في سابع عشر شعبان.
إسماعيل بن عليالسلطان الإمام والعالم الفاضل الفريد المفنّن الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء بن الأفضل بن الملك المظفر بن الملك المنصور صاحب حماة تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي.
وكان أولاً أميراً بدمشق، وخدم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون لما كان في الكرك آخر مرة، وبالغ في ذلك، فوعده بحماة، ووفى له بذلك، وأعطاه حماة لما أمر لأسندمر بنيابة حلب بعد موت نائبها قبجق، وجماله صاحبها سلطاناً يفعل فيها ما يشاء من إقطاع وغيره، ليس لأحد معه كلام فيها، ولا يرد عليه مرسوم من مصر بأمر ولا نهي لأحد من نائب أو وزير اللهم إلاّ إن جرد عسكر من مصر والشام جرد منها.

وتوجه من دمشق إليها في جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، وأركبه في القاهرة بشعار الملك، وأبهة السلطنة، ومشى الأمراء والناس في خدمته حتى الأمير سيف الدين أرغون النائب، وقام له كريم الدين بكلّ ما يحتاج إليه في ذلك المهمّ من التشاريف والإنعامات على وجوه الدولة وغيرهم، ولقبه بالملك الصالح، ثم إنه بعد قليل لقبه بالملك المؤيد، وذلك لما حج معه في سنة تسع عشرة وسبع مئة، وعاد معه إلى القاهرة، وأذن له أن يُخطب له بحماة وأعمالها على ما كان عليه عّمه المنصور، وكان في كل سنة يتوجه إلى مصر ومعه أنواع من الرقيق والجواهر والخيول المسوّمة وسائر الأصناف الغريبة، هذا إلى ما هو مستمر في طول السنة مما يهديه من التحف والطرف.
وتقدم السلطان إلى نّوابه بالشام بان يكتبوا: يقبل الأرض، وكان الأمير سيف الدين تنكر رحمه الله تعالى يكتب إليه: يقبل الأرضَ بالمقام الشريف العالي المولي السطلاني الملكي المؤيد العمادي، وفي العنوان صاحب حماة، ويكتب السلطان إليه أخوه محمد بن قلاوون أعز الله تعالى أنصار المقام الشريف العالي السلطاني الملكي المؤيدي العمادي، بلا مولوي. وكان الملك المؤيد يقول: ما أظن أني أكمل من العمر ستين سنة فما في أهل بيتي، يعني بيت تقي الدين من كملها.
وكان الملك المؤيد رحمه الله تعالى قد نزل في مكان المكارم، وعمر في الشجاعة بيتاً في اقنا والصوارم، يتصبَّب جوداً سماحه، ويتضببُ بالبأس ذبله وصفاحُه، له حنوّ زائد على أهل الفضائل، وتطلع إلى إنشاء الفوائد وإثارة ذُبله وصفاحُه، له حنو زائد على أهل الفضائل، وتطلع إلى إنشاء الفوائد وإثارة المسائل، آوى إليه أمين الدين الأبهري فبهره جوده، وغمره نائله وعمته وفوده، وتصدر في مجلسه قاعداً، ووقفت لديه جنوده، ولوى الحظ المدبر جيده إليه، ونشرت بُروده، ومدحه شعراء عصر، وحملوا أبكار أفكارهم إلى قصره، ففازوا بالمهور الغالية، وحازوا الأجور العالية، ورتب لجماعة منهم في كل سنة شيئاً قرره، وبذلاً رتبه في ديوانه وحرره، منهم شاعره الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة، وكان رابته في السنة عيه مبلغ ست مئة درهم لا بد من وصوله ودخوله في حوزته وحصوله، غير ما يهديه إليه في أثناء السنة، وتتضاعف فيه الحسنة، ورتب لأسد اليهودي الذي تقدم ذكره راتباً كفاه، وملأ كف رجائه وسدَّ فاه.
وكان قد امتزج من العلوم بفنونها، وأخذ منها نخبة فوائدها وحاسن عيونها، فنظم الحاوي في الفقه، ولو لم يعرفه جيداً ما تصرف معه في نظمه، ولا اقتدر على تسيير نجمة. وله تاريخٌ جوده، وبيض به وجه الزمان لما سوده. وكتاب الكناش مجلدات، وفوائد العلم فيه مخلدات، وكتاب تقومي البلدان، قال الإحسان بقوله فيه ودان، وجدوله وهذبه، وجد له فأتقنه لما وضعه ورتبه، وقد أجاد فيه ما شاء، ونزل تجويده في الأفاضل في صميم الأحشاء. وله كتاب الموازين وهو صغير، وصوب إفادته غزير، وله غير ذلك.
ونظم القريض والموشح، واستخدم المعاني وأهلها ورشح. وكان يعرف علوماً جمة، وفضائل يستعير البدر منها كماله وتمه، وأجود ما يعرفه الهيئة، فإذا اشتبك الجدال عليه فره إليها وفيئه.
وكانت عنده كتب نفيسة ملوكية قد حوتها خزانته، وأمده على اقتنائها انتقاؤه وفطانته، فملك منها الجواهر اليتيمة، والزواهر التي هي في أفقه مقيمة، وعلى كل حال فكان لسوق الفضل عنده نفاق، وللعلم عنده تحقيق وصدق دون نفاق، وللزمان به جملة جمال انساقت باقيا، وبدُرٍ لا يزال في مطالع السعود راقياً، وسلف سُلافه من الجود يطوب بها إحسانه على العفاة ساقياً، وفضلات فضل طالما أنشدها مؤملوه:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنانّ كل الظن أن لا تلاقيا
ولم يزل في ملكه ومسير فلكه إلى أن أصبح المؤيد وقد تخذل، ورئي في معرك المنايا، وقد تجدل.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة، سحر يوم الخميس الثالث والعشرين من المحرم، ودفن ضحوة النهار عند تربة والده ظاهر البلد، في الكهولة، ولم يكمل الستين.
ولما مات رحمه الله تعالى فرق كتبه على أصحابه، ووقف منها، ورثاه الشعراء.
أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ جمال الدين محمد بن محمد بن نباتة:
ما للندى لا يلبي صوت داعيه ... أظن أن ابن شادٍ قامَ ناعيه

ما للرجاء قد اشتدت مذاهبه ... ما للزمان قد اسودت نواحيه
نعى المؤيد ناعيه فيا أسفا ... للغيث كيفَ غدت عنّا غواديه
ومن شعره، وقد غنى الناس به مدة:
اقرأ على طيب الحيا ... ة سلامَ ذابَ حزنا
واعلم بذاكَ أحبةً ... بخلَ الزمانُ بهم وضنّا
لو كان يُشرى قربهم ... بالمال والأرواح جُدنا
متجرّع كاسَ الفرا ... قِ يبيتُ للأشجانِ رهنا
صب قضى وجداً ولم ... يُقضى لهُ ما قد تمنى
ومنه أيضاً:
كم من دمٍ حللت وما ندمت ... تفلُ ما تشتهي وما عُدمت
لو أمكنَ الشمس عند رؤيتها ... لثم مواطي أقدامها لثمت
ومنه:
سرى مسرى الصبا فعجبتُ منه ... من الهجرانِ كيف صبا إليا
وكيفَ ألم بي من غيرِ وعدٍ ... وفارقني ولم يعطف عليا
وأنشدني من لفظه جمال الدين محمد بن نباتة، قال: أنشدني معزا لدين محمود بن حماد الحوي كاتب السر بحماة لمخدومه السلطان الملك المؤيد، ونحن بني يديه، وهو مليح غاية:
أحسن به طرفاً أفوتُ به القضا ... إن رمته في مطلبٍ أو مهرب
مثل الغزالةِ ما بدت في مشرقٍ ... إلا بدت أنوارُها في المغرب
قال: وأنشدني له هذا الموشح أيضاً له:
أوقعني العُمرُ في لعل وهل ... يا ويحَ من قد مضى بهل ولعل
والشيبُ وافى وعنده نزلا ... وفر منهُ الشباب وارتحلا
ما أوقح الشيبَ الآتي ... إذا حل لا عن رمضاتي
قد أضعفتني الستونَ لا زمني ... وخانني نقصُ قوةِ الزمن
لكن هوى القلبِ ليس ينتقصُ ... وفيه مع ذا من حرصهِ غصصُ
يهوى جميعَ اللذاتِ ... كماله من عاداتِ
يا عاذلي لا تطل ملامكَ ... لي فإن سمعي ناءٍ عن العذل
وليس يُجدي الملام والفندُ ... فيمن صبابات عشقه عددُ
دعني أنا في صبواتي ... أنتَ البري من زلاتي
كم سرني الدهرُ غير مقتصر ... بالكاسِ والغانياتِ والوترِ
يًمزج في طيبِ عيشنا الرغد ... طرفي وروحي وسائر الجسد
وكم صفت لي خطراتي ... وطاوعتني أوقاتي
مضى رسولي إلى معذبتي ... وعادَ في بهجة مجدّدة
وقال: قالت: تعالَ في عجلِ ... بمنزلي قبل أن يجي رجُلي
واصعد وجز من طاقاتي ... ولاتخف من جاراتي
قلتُ: وهذه الموشحة جيدة في بابها، ومتحيّدة عن طلاّبها، وقد عارض بوزنها موشحة لابن سناء الملك رحمه الله تعالى وأولها:
عسى ويا قلما تفيدُ عسى ... أرى لنفسي من الهوى نفسا
مذ بانَ عني من قد كُلفتُ بهِ ... قلبي قد ذاب في تقلبه
وبي أذى شوقِ عاتي ... ومدمعي يومٌ شات
لا أترك اللهو والهوى أبداً ... وإن أطلتُ الملامَ والفندا
إن شئت فاعذل فلستُ أستمعُ ... أنا الذي في الغرامِ أتبعُ
وتُحذى صباباتي ... وبدعي وعاداتي
بي ملك في الجمال لا بشرُ ... يُظلمُ إن قيل: إنه قمرُ
يحسنُ فيه الولوع والوالهُ ... وعز قلبي في أن أذل لهُ
خدي حذا لمن يأتي ... ويرتعي حشاشاتي
لست أذم الزمان معتديا ... كم قد قطعتُ الأيامَ ملتهيا
وظلتُ في نعمةٍ وفي نعمِ ... يلتذ سمعي وناظري وفمي
ولا قذى في كاساتي ... ومرتعي في الجناتِ
وغادةِ ديُنها مخالفتي ... ولا ترى في الهوى محالفتي
وتستبيني ولستُ أسمعُها ... فقلتُ قولاً عساهُ يخدعُها
ما هو كذا يا مولاتي ... اجري معي في مأواتي

وموشحة السلطان رحمه الله نقصت عن الموشحة ابن سناء الملك قافيتين، وهي الذال في كذا، والعين في معي، وخرجة ابن سناء الملك أحر من خرجة السلطان وأحلى.
وشيخا العلامة شهاب الدين محمود فيه أمداح طنانة، فمنها ما أنشدنيه إجازة:
ميعادًُ صبري وسلوي المعاد ... فالحُ امرأ يُسليه طولُ البعاد
ولا تلم من دمع أجفانه ... إن ظن صرفَ الدهر بالقربِ جاد
فبينَ جفني والكرى نفرة ... وبنيَ قلبي والغرامِ اتحاد
فلا تعد بالنومِ جفني فما ... يرجعُ يوماً برقاك الرُقاد
إن ترد علم بديع الهوى ... فأتِ لي عندي فعندي المراد
جانس رعي النجم مُستيقظاً ... لي في الدجا بين السها والسُّهاد
وطابقَ الشوقُ لهيبي فما ... دمعي فظلاً بينَ خافٍ وباد
وقسم الوجدُ غرامي كما شادَ أعضائي على ما أراد
فمقلتي للدمعِ والجسمِ للأس ... قامِ والقلبِ لحفظِ الوداد
وفرغ الحب الضنى في الحشا ... عن مقلس فيها منايا العباد
فما ظبى أرهفها فينُها ... ليومِ حربٍ من سوفٍ حداد
وقلتُ بأمضى من جفونس بدت ... من كحلٍ خالطها في حداد
فهو كما قالوا ولكنه ... يعرف ممن ودّه في ازدياد
يا راكباً يفري جوادَ الفلا ... على أمُون جسرةٍ أو جواد
يسري فتبديه ظهورُ الربا ... طوراً وتخفيه بطوف الوهاد
مدرعاً فوق الربا بالدجا ... مثلَ خطيبٍ في شعار السواد
معتسفاً ليسَ له إن خبت ... أشعةُ النجم سوى الشوق هاد
بلى ونشرٌ عاطرٌ مر من ... حماة في المسرى إلى خير ناد
قبل ثراها إذ تراها وكرّ ... ره فأحلى اللَّم لثمٌ مُعَاد
حيثُ الندا والفضل بادي السنا ... والعدل والمعروف واري الزناد
أضحت وقد شيد أرجاءها الم ... ولى عماد الدين ذات العماد
حمى حماها بأسه والندى ... فأهلها من عدله في مهاد
وإن يطل عهدُ الرّبا والحيا ... جدد بالجودِ عهودَ العُهاد
من حاتم يوم القرى والندا ... من عامرٌ يومَ الوغى والجلاد
من أحنفٌ في الحلمِ دع ذكره ... ولا تقس قساً به في إياد
عالي المدا داني الندى باسلٌ ... أروع بسامٌ طويلُ النجاد
كأنما أسيافه إن سطا ... على العدا في وقعها ريحُ عاد
رؤوسهم توقنُ إن عاينت ... سمر قناهُ بعصودِ الصّعاد
من أسرةٍ أعلوا منارَ الهدى ... وذللوا أعناقَ أهلِ العناد
واسترجعت أسيافهم عنوة ... ما استودعت أعداؤهُم من بلاد
وشيدوا دينَ الهدى فاعتلى ... بين جهادٍ منهمُ واجتهاد
وحكمت أيديهمُ وفدهم ... فيما رجوا من طارفٍ أو تلاد
قد أنشرَ اللهُ به ذكرهم ... فقيلَ عاشَ الفضلُ والعدلُ عاد
وازن أيامهُم فضله ... وجودُته الهامي فأربى وزاد
يسري على البُعد مديحي له ... فيلتقيه الفضل من كل واد
ما بين فضل وندى سائغ ... مع كرم يؤمنُه الانتِقاد
يا ملكاً أفحمني فضله ... فمال بي العجز إلى الاقتصاد
عذراً فلو أستطيعُ سطرتُها ... في أبيضِ الطرفِ بنقشِ السّواد
تهنّ عيدُ النحرِ واسعد بهِ ... وصل وانحر بالسطا كل عاد
دم ثمالاً لعفاةٍ كفوا ... ببحر نعمانَ ورودَ الثماد
مهما أتوا بابك ألفوا بهِ ... عين ندى يُروى بها كل صاد
واجتلِ غيداً من ثناً زفها ... في حلتي إنشادها كل شاد

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16