كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

أخبرني القاضي شهاب الدين بن القيسراني. قال: كنت يوماً أقرأ البريد على الأمير سيف الدين تنكز، فتحرك على دائر المكان طائر، فالتفت إليه يسيراً ورجع إلي، وقال: كنت يوماً بالمروج، وشرف الدين بن فضل الله يقرأ علي بريداً جاء من السلطان، والصبيان قد رموا جلمة على عصفور، فاشتغلت بالنظر إليها، فبطل القراءة وقال: يا خوند، إذا قرأت عليك كتاب السلطان اجعل بالك كله مني، ويكون كلك عندي، ولا تشتغل بغيري أبداً، وافهمه لفظة لفظة، أو كما قال.
وما رأى أحد ما رآه هو من تعظيم الناس له، رآه الملك الأشرف مرة، وقد قام ومشى، وتلقى أميراً، فلما حضر عنده قال: رأيتك وقد قمت من مكانك وخطوت خطوات! فقال: يا خوند، كان الأمير سيف الدين بيدار النائب قد جاء وسلم علي. فقال: لا تعد تقوم لأحد أبداً. أنت تكون عندي قاعداً وذاك واقف.
ولما توفي القاضي فتح الدين محمد بن عبد الظاهر بمصر، وقام بعده عماد الدين بن الأثير مدة يسرة طلب السلطان الملك الأشرف القاضي شرف الدين من دمشق، ورتبه بعد عماد الدين بن الأثير في صحابة ديوان الإنشاء بالديار المصرية، فأقام بها إلى أن جاء السلطان الملك الناصر من الكرك في سنة تسع وسبع مئة. وكان قد وعد بالوظيفة للقاضي علاء الدين بن الأثير، فأخرج القاضي شرف الدين إلى صحابة ديوان الإنشاء بدمشق عوضاً عن أخيه محيي الدين، فوصل إلى دمشق يوم السبت تاسع عشر شهر الله المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ولم يزل بها إلى أن توفي في التاريخ المذكور، وهو ينفذ بريداً إلى بعض النواحي.
ومتعه الله بجوارحه، لم يتغير سمعه ولا بصره، ولا تغيرت كتابته، وخلف نعمة طائلة من الأموال.
ولما مات بدمشق حضر شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود مكانه في صحابه ديوان الإنشاء بدمشق، ورثاه بقصيدة طنانة، وهي:
لتبك المعالي والنهى الشرف الأعلى ... وتبك الورى الإحسان والحلم والفضلا
وتنتحب الدنيا لمن لم تجد له ... وإن جهدت في حسن أوصافه مثلاً
ومن أتعب الناس اتباع طريقه ... فكفوا وأعيتهم طريقته المثلى
لقد أثكل الأيام حتى تجهمت ... وإن كانت الأيام لا تعرف الثكلا
وفارق منه الدست صدراً معظماً ... رحيباً يرد الحزن تدبيره سهلا
فكم حاط بالرأي الممالك فاكتفت ... به أن تعد الخيل للصون والرجلا
وكم جردت أيدي العدى نصل كيدهم ... فرد إلى أعناقهم ذلك النصلا
وكم جل خطب لا يحل انعقاده ... فأعمل فيه صائب الرأي فانحلا
وكم جاء أمر لا يطاق هجومه ... فلما تولى أمر تدبيره ولى
وكم كف محذوراً وكم فك عانياً ... وكم رد مكروهاً وكم قد جلا جلى
ومنها:
وقد كان للاجين ظلاً فقلصت ... يد الموت عدواً عنهم ذلك الظلا
وعف عن الأغراض مغض عن القذى ... صبور عليه في الورى يحمل الكلا
سأندبه دهري وأرثيه جاهداً ... وأكثر فيه من بكاي وإن قلا
ولم لا وقد صاحبته جل مدتي ... أراه أباً براً ويعتدني نجلا
ولم يرنا في طول مدتنا امرؤ ... فيحسبنا إلا الأقارب والأهلا
وكم أرشدتني في الكتابة كتبه ... ولو زل عن إرشادها خاطري ضلا
وكم مشكلات لم تبن لمحدق ... إليها جلاها فانجلت عندما أملى
فمن هذه حالي وحالته معي ... أيحسن أن أبكي على فقده أم لا
وعهدي به لا أبعد الله عهده ... وأقلامه أني جرت نشرت عدلا
وتجري بما تجري الملوك من الندى ... بها فتزيل الجدب والمحل والأزلا
لقد كان ي أنس به وهو نازح ... كأن التنائي لم يفرق لنا شملا
وقد زال ذاك الأنس واعتضت بعده ... دموعاً إذا أنشأتها أنست ألوبلا
فلا مدمعي الهامي يجف ولا الأسى ... يخف جواه إن أقل لهما مهلا

ولا حرقي تخبو وإن يطف وقدها ... بماء دموعي صار فيها غضاً جزلا
إلى الله أشكو فقد صحب رزئتهم ... وفقد ابن فضل الله قد عدل الكلا
ولم يترك الموت الذي حم منهم ... حمماً ولا خلى الردى منهم حلاً
وعمهم داعي الحمام فأسرعوا ... جميعاً وألفى قولنا منه إلا
وكم يرجئ الساري الونى عن رفاقه ... بإبطائه عمن تقدمه كلا
أيطمع من قد جاز معترك الردى ... إذا ركبهم يوماً بدارهم حلا
ولا سيما من عاهد الداء جسمه ... يعاوده بدءاً إذا ظنه ولى
عزاؤك محيي الدين في الذاهب الذي ... قضى إذا قضى فرض المناقب والنفلا
فمثلك من يلقى الدروس بكاهل ... يقل الذي تعيا الجبال به حملا
وفي الصبر أجر أنت تعرف قدره ... وآثاره الحسنى فلا تدع الفضلا
وسلم لأمر الله وارض بحكمه ... تحز منه فضلاً ما برحت له أهلا
ولا زال صواب المزن والعفو دائماً ... يؤمانه حتى إذا وصلا انهلا
ورثاه الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن غانم، أنشدنيها لنفسه إجازة:
ما كنت من حزني عليك بلاه ... لما فقدتك يا بن فضل الله
أصبحت ذا جلد لفقدك واهن ... حزناً عليك وذا اصطباري واه
كم صنت سر الملك منك بهمة ... وكفاية ما صانها إلا هي
ولكم مهم مشكل أمضيته ... إذ أنت منه امرأو ناه
من للمصالح والمهمات التي ... ما كنت عنها ساعة بالساهي
كم حاجة حصلت تجاهك وانقضت ... وكريهة فرجتها لله
من ذا يقوم مقام فضلك في العلا ... من سائر الأنظار والأشباه
ما زلت عمرك محسناً حتى انتهى ... ولكل عمر في الزمان تناه
كم قائل ما زلت أنت ملاذه ... قد كنت عزي في الأنام وجاهي
ولكم سعيد مات بعدك خاملاً ... بل كان يفخر دائماً ويباهي
ما فرد داهية برزئك قد دهت ... بل قد دهت لما فقدت دواه
قسماً لقد خمل الزمان وكنت لم؟ ... ا كنت فيه هو الزمان الزاهي
لله در معارف قد حزتها ... من ذا يجاري فضلها ويباهي
أنطلقت أفواه الزمان بمدحك ال؟ ... عالي لفضل دام منك وفاهي
أسفي على ما فات منك وأنت لم ... تبرح بقربي منعماً وتجاهي
أبكيك ما بقي البكاء بكاء مح؟ ... زون على طول المدى أواه
فسقت ضريحك رحمة فياضة ... ترويه بالأنواء والأمواه
ولما طلب في الأيام الأشرفية إلى مصر، كتب إليه علاء الدين الوداعي، ومن خطه نقلت:
وافقت ربي في ثلاث بأن ... تبقى وترقى وتنال العلى
وقد رأت عيناي أمنيتي ... والحمد لله تعالى على
والآن في مصر فلا بد من ... أن تخلف الفاضل والأفضلا
وكتب إليه، ونقلت من خطه:
لئن كان أصلي من ذؤابة كندة ... أولي الحكم الغراء والمنطق الفصل
فما زلت طول الدهر أشكر فضلكم ... إلى أن دعوني في القبائل بالفضل
ومن إنشاء القاضي شرف الدين بن فضل الله كتاب بشرى بالنيل، وهو: لا زالت البشائر تستمتع بمحاورته، وتغتبط بمجاورته، وتود لو استقر بذراه قرارها، وطال معه سرارها، وهذه البشرى تبشره بنعمة عظمت مواهبها، وعذبت مشاربها، وانتشرت في البسيطة مذاهبها، وردت الآمال الظماء، وضاهت الأرض بها السماء، وأغنت عن منة الغمام، وعمت مصر بالهناء حتى فاض إلى الشام، وهي وفاء النيل الذي وفى، وفي وفائه حياة البلاد والعباد، وشكر النعمة به متعين على الحاضر والباد.
ومنه أيضاً:

ورد كتابه فتمتع منه بعرائس أبكار الأفكار، وتملى منه بنفائس من أنفاس الأزهار، وشاهد كل سطر منه أحسن من سطري، وكان ناظره صائماً عن النظر لبعده فأوجب عليه عيد قدومه فطراً، وردد فكره في بدائعه الرائقة الرائعة، ورأى التشريف بإرساله من جملة صنائعه المتتابعة، ووقف عليه وسر بدونه وإيابه. وشكر الأيام التي خولته من اقترابه ما لم تطمعه الأيام في تمثيله ولم يدر في حسابه، والله تعالى يقرن اليمن بهذه الحركة، ويجعلها مشمولة على السعادة مخصوصة بالبركة.
ومنه نسخة كتاب كتبه عن نائب السلطان بالشام لما قدم المبارك الذي ادعى أنه ابن المستنصر: " سلام عليك طبتم فادخلوها خالدين " .
ليهنك النعمة المخضر جانبها ... من بعدما اصفر في أرجائها العشب
ضاعف الله جلال الجناب الكريم الشريف العالي المولوي السيدي النبوي، وجعل قدومه كاسمه المبارك على الإسلام.
واسم شققت له من اسمك فاكتس ... شرف العلو به وفضل العنصر
وأورد ركابه الأرض الشامية ورود الغمام، وبين أنوار الخلافة على جبين مجده فلا تضام النواظر في رؤيتها ولا الأفهام، وأضاء بوجوده بيت الإمامة حتى يعود إلى عوائده الحسنى في سالف الأيام، وسخر له العزائم والشكائم، وجعل من شيمته السيوف والأقلام. ورد الكتاب الكريم تبدو البكرات من صفحاته، وتسري نسمات السعد من أنفاس كلمه الطيب ونفحاته، وكان كالسحاب إذا سح وابله، وكالذكر المحفوظ إذا عمت ميامنه للإسلام وفواضله.
وكالبدر وافته لوقت سعوده ... وتم سناه واستقلت منازله
فتلقاه حين ألقي إليه من سماء الشرف بالإعظام، وحل الواردون به من مواطن القبول محل ملائكة الوحي الكرام، وتلا على ما قبله: يا بشراي هذا سيد ولم يقل: هذا غلام. فأي قلب لم يسر بمقدمه، وأي طرف لم يستطع أنوار مطلعه على الدنيا ومنجمه.
ومن شعره يمدح الملك المنصور قلاوون الألفي:
تهب الألوف ولا تهاب لهم ... ألفاً إذا لاقيت في الصف
ألف وألف في ندى ووغى ... فلأجل ذا سموك بالألفي
ومنه لما ختن الملك الناصر محمد:
لم يروع له الختان جناناً ... قد أصاب الحديد منه حديداً
مثلما تنقص المصابيح بالقط ... ط فتزداد في الضياء وقودا
ومنه:
كتبت والشوق يدنيني إلى أمل ... من اللقاء ويقصيني من الدار
والشوق يضرم فيما بين ذاك وذا ... بين الجوانح أجزاء من النار
ومنه:
في ذمة الله ذاك الركب إنهم ... ساروا وفيهم حياة المغرم الدنف
فإن أعش بعدهم فرداً فيا عجباً ... وإن أمت هكذا وجداً فيا أسفي
ومنه يهنئ القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر ببنت:
أمولاي فتح الدين هنئ خدركم ... بقرة عين للصيانة والمجد
ومتعتم منها بأيمن غرة ... مباركة في الصالحات من الولد
وصين بني سعد حماكم وعشتم ... ميامين فرسان اليراعة والحمد
وعوذ تم من عين حاسد فضلكم ... ومجدكم في المجد يوماً وفي المهد
فأولادكم إما بدور فضيلة ... وإما شموس هن أخبية السعد
فبورك فيها طلعة فلربما ... أفاد بني سعد فخاراً بنو نهد
؟

عبد الوهاب بن فضل الله
القاضي الكبير الأثير المهيب شرف الدين النشو ناظر الخاص.

كان كالغصن قده. أو السيف حده، أو البدر محياه البهي، أو الدر كلامه الشهي. طويل القامة ممتدها، ظريف الخطرة يحسبها الناظر خطرة كاعب ويعتدا. باشر نظر الخاص فعم به إقبال الدولة، وانتشرت له السمعة والصولة، وسد مهمات لو جرى النيل ذهباً لأفناه الإنفاق، ولو نثرت النجوم دراهم لما ساعدها الإرفاد ولا الإرفاق، وبزت أموال جماعة وأرواحهم، وركدت بعدما هبت بالسعادة أرواحهم، وتمكن من السلطان فوصل وقطع، ولمع بارق سعوده وسطع، وخلاله العصر، وجلا السعد له القصر، وانفرد بالتدبير، وما خلا ذلك التثمير من التدمير، وغره ميل السلطان إليه وتقريبه، وفاته منه ما يجري به تجريبه، فعاند الناس جميعاً، ولم يكن لأحد من الخاصكية سمعياً، وأراد يتعشى بأناس فتغدوا به قبل، وفوقوا إليه من المصائب صائبات النبيل، فافترسته ليوث خوادر، وساعدت عليه المقادر، وعجز السلطان عن خلاصه، وغنموا الغفلة في افتراسه وافتراصه.
وجاءه شؤبوب الشيوب، واستخرج منه ومن أهله خبايا البيوت قبل الجيوب، فقضى تحت العقاب نحبه، ولقي بما قدم ربه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني صفر سنة أربعين وسبع مئة.
وفي ذلك قال القاضي علاء الدين بن فضل الله صاحب دواوين الإنشاء:
في يوم الاثنين ثاني الشهر من صفر ... نادى البشير إلى أن أسمع الفلكا
يا أهل مصر نجا موسى، ونيلكم ... وفى وفروعون وهو النشو قد هلكا
وكان النشو أولاً هو ووالده وإخوته يخدمون عند الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، فلما انفصلوا من عنده أقاموا بطالين مدة في بيتهم، ثم إن النشو خدم عند الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور، فأقام في خدمته تقدير ستة أشهر، ثم إن السلطان طلب كتاب الأمراء، فحضروا، فرآه وهو واقف وراء الجميع، وهو شاب طويل نصراني، حلو الوجه، فاستدعاه وقال له: إيش اسمك؟ فقال: النشو. قال: أنا أجعلك نشوي. ثم إنه رتبه مستوفياً في الجيزية، وأقبلت سعادته فأرضاه فيما يندبه إليه، وملأ عينه بالنهضة والكفاءة، فنقله إلى استيفاء الدولة، فباشر ذلك مدة، وخدم الناس، وأحسن معاملتهم فأحبوه.
ثم إن السلطان استسلمه على يد بكتمر الساقي وسماه عبد الوهاب، وسلم إليه ديوان ابنه آنوك، فلاحظته السعادة، ونام عنه طرف الزمان. ولما توفي القاضي فخر الدين ناظر الجيش نقل السلطان القاضي شمس الدين موسى من نظر الخاص إلى نظر الجيش، وولى النشو ناظر الخاص مع كتابة ابنه، وحج مع السلطان في تلك السنة، وهي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.

ولما كان مستوفياً وهو نصراني كانت أخلاقه حسنة، وفيه بشر وطلاقة ورجه وتسرع إلى قضاء حوائج الناس، ولما تولى الخاص وكثر الطلب عليه من السلطان، وزاد السلطان في الإنعامات والعمائر وبالغ في أثمان المماليك وزوج بناته وتوجه إلى الحج واحتاج إلى الكلف العظيمة المفرطة الخارجة عن الحد ساءت أخلاق النشو، ولبس للناس جلد النمر، وأنكر من يعرفه، وفتحت أبواب المصادرات للكتاب ولمن معه مال، وكان الناس يقعون معه ويقومون إلى أن جرح، فازداد الشر أضعافه، وهلك أناس كثيرون، وسلب جماعة نعمهم وذهبت أرواح، وزاد الأمر إلى أن دخل الأمير سيف الدين بشتاك والأمير سيف الدين قوصون وجماعة من الخاصكية ومعهم عبد المؤمن الذي تقدم ذكره إلى السلطان، فقال عبد المؤمن: أنا الساعة أخرج إلى النشو وأضربه بهذه السكينة، وأنت تشنقني وأريح الناس من هذا الظالم، فقال السلطان: يا أمراء متى قتل هذا بغتة راح مالي، ولكن اصبروا حتى نبرم أمراً، فلما كان ليلة الاثنين ثاني صفر الشهر المذكور اجتمع السلطان به، وقال له: غداً أريد فلاناً، فاطلع أنت من سحر لتروح وتحتاط عليه، وأحضر جماعتك ليتوجه كل واحد إلى جهة أعينها له. فلما كن من بكرة النهار طلع القلعة ودخل إليه واجتمع به وقرر الأمر معه، وقال له: اخرج حتى أخرج أنا وأعمل على إمساكه مع الأمراء، فخرج وقعد على باب الخزانة، وقال السلطان لبشتاك: اخرج إلي النشو وأمسكه، فخرج إليه وأمسكه وأمسك أخاه مجد الدين رزق الله المذكور في حرف الراء، وصهره ولي الدولة، وأخاه الأكرم، وجماعتهم، وعبيدهم، ولم يفت في ذلك الوقت إلا المخلص أخوه الكبير، فإنه كان في بعض الديرة، فجهز إليه من أمسكه وأحضره، وسمل بشتاك النشو إلى الأمير سيف الدين برسبغا الحاجب، وعوقب هو وأخوه المخلص ووالدتهما وعبيدهم. وماتت والدتهما وأخوه المخلص تحت العقوبة في المعاصير والمقارع. ثم إن السلطان رق على النشو ورفع عنه العقوبة، ورتب له الجريحية والفراريج والشراب فاستشعروا رضا السلطان عنه، فأعيدت عليه العقوبة ومات تحتها رحمه الله تعالى.
وقيل: إن الذي تحصل من النشو ومن إخوته ومن أمه ومن عبيدهم وأخيه وصهره مبلغ ثلاث مئة ألف دينار مصرية.
وأراني النشو قبل خروجي من الديار المصرية في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، قال: هذه أوراق فيها ثمن المماليك الذين اشتراهم السلطان من أول مباشرتي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة إلى الآن، وجملة ذلك أربعة آلاف ألف دينار وسبع مئة ألف دينار. وأما جراحته، فإنه كان من عادته متى أذن الصبح ركب من بيته في الزربية وتوجه إلى القلعة فيجلس على باب القلعة إلى أن يفتح ويدخل، فلما كان في ثاني عشر شهر رمضان سنة سبع أو ثمان وثلاثين وسبع مئة ركب على عادته، فلا كان خلف الميدان عند أوله إلى جهة البحر، لحقه فارس يطرد الفرس وبيده سيف مشهور، فقال له عبده من ورائه: يا سيدي جاءك، فالتفت فرأى السيف مسلولاً، قال لي: فرفست البغلة لأحيد عنه، فأخذتني إليه، فضربه على عضده اليسار وعلى جنبه إلى مربط لباسه، ثم تقدمه وضربه ضربة أخرى إلى خلف، فوقع شاشة إلى الأرض، ولما ضربه هذه الثانية رفعت البغلة رأسها، فجاء السيف في حجاج عينها وبعض أذنها، فلما وقع شاشه توهمه رأسه وساق وتركه، فرجع النشو إلى البيت، فقطب الجرايحي يده بست إبر وقطب جنبه باثنتي عشرة إبرة، ولو لم أر ذلك بعيني ما صدقت، فإن الناس أجمعوا على أنه ادعى ذلك ليؤذي الناس عند السلطان.
وحكى لي القاضي شرف الدين النشو من لفظه غير مرة لما تولى نظر الخاص قال: كنت أطلع مع والدي إلى القلعة بالحساب، فيتقدمني هو بحماره القوي وأنقطع أنا على الحمار الضعيف، والحساب عليه، فلا أزال أضربه بالعصا إلى أن تتكسر ثم أضربه بفردة السرموزة إلى أن تنقطع، وأطلع القلعة في أنحس حال.
وحكى لي أيضاً غير مرة قال: لما بطلنا من عند الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب أقمنا نبيع من أطرافنا وننفق علينا، إلى أن لم يبق لنا شيء، فاحتجنا يوماً ولم نجد ما نبيعه، فجمعنا السراميز العتق وسيرنا أبعناها بما أنفقناه علينا، فقال لي والدين: هذا آخر الخمول، وما بقي بعد هذا قطوع، وقد قرب الفرج.

قال: وكان لي قميص إذا خرجت أنا لبسته، وإذا خرج أخي المخلص لبسه، فلما كان ثاني يوم نزل عبدنا إلى البحر، فاصطاد لنا سمكة مليحة سمينة، فقلوناها بما فيها من الدهن، ولم يكن عندنا ما نشتري به سيرجاً، فلما كان ثاني يوم لذاك اليوم جاءني من طلبني لأخدم عند أيدغمش أمير آخور، فتوجهت وقدر الله باتصال القسمة وخلع علي، فتوجهت بالتشريف إلى الشرابشيين وأبعته واشتريت قماشاً من الشراب كثيراً وفصلناه قمصانا لما وجدناه من حرقة عدم القمصان.
عبد الوهاب بن محمدابن عبد الوهاب بن ذؤيب الأسدي، الشيخ الإمام العالم النحوي الفقيه كمال الدين ابن قاضي شهبة الشافعي.
سمع من ابن أبي الخير سباعيات الصيدلاني ورواها عنه. سمع الكتب الكبار ومسند الإمام أحمد، وله ثبت بخط الوجيه السبتي.
ومن شيوخه الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن علان، وابن البخاري، والمجد بن الخليلي، وإسماعيل بن العسقلاني، والبرهان بن الدرجي، والشرف بن القواس.
كان فقيهاً فاضلاً، عارفاً بالمذهب ناقلاً، له حلقة بالجامع الأموي خلف محراب الحنابلة، قرأ عليه جماعة من الطلبة أولاد الأكابر، ومن أرباب السيوف وذوي المحابر. وكان حريصاً على التعليم، مجتهداً على التفهيم، يعيد الدرس للطالب مرات، ويطالبه بإعادته كرات، ويسمع على المشتغلين الماضي الذي تقدم، ويقيم بالمذاكرة من ربوع العلم ما تهدم، لو أمكنه صور الدرس للطالب في الخارج، ورقاه في فهمه على المعارج، وانتفع عليه بذلك جماعة، وأرخى على وجهه قناع القناعة، وكان يعتكف في الجامع الأموي شهر رمضان بكماله، ويستجلي من الخير بدور جماله.
ولم يزل على حاله إلى أن لم يكن في عدم ابن قاضي شهبة شبهة، ودس في التراب ذاك الوجه والجبهة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده في ثاني عشر شوال سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
وكان من أعيان أصحاب الشيخ تاج الدين في الفقه والأصول، ومن أعيان أصحاب أخيه شرف الدين في العربية. لازمهما وسلك طريقهما في الإشغال.
عبد الوهاب بن أحمدابن يحيى بن فضل الله، القاضي الرئيس شرف الدين ابن القاضي شهاب الدين ابن القاضي محيي الدين، موقع الدست بدمشق.
كان شكلاً ظريفاً، أبي النفس شريفاً، فيه شجاعة وإقدام، وفروسية ثابتة الأقدام، يلعب الكرة بالصوالج، ويصيد بالطير والحوامي ما هو في وكره والج، ويسوق في البريد فيكاد يسبق الرياح، ويثبت على ظهور الخيل من الليل إلى الليل إلى الصباح. وكتب الرقاع جيداً، ووقع على القصص متأيداً.
وكان فيه مروءة وكرم، وحدة في أخلاقه تتوقد بالضرم.
ولم يزل على حاله إلى أن ذوى غصنه الناعم، وأصبح وأعضاؤه للبلى مطاعم.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشري شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة، ودفن في تربتهم بجبل قاسيون.
استخدمه السلطان بمصر بعد دخولهم إليها، في سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين وسبع مئة، وكتب في ديوان الإنشاء مع الواده رحمه الله تعالى، ومع عمه القاضي علاء الدين. وسمع بقراءتي على الشيخ فتح الدين بن سيد الناس وغيره.
ولما رسم لوالده بكتابة سر دمشق حضر معه، وكان يدخل بالعلامة إلى الأمير علاء الدين ألطنبغا ويخرج، ويقرأ البريد عليه، وكان يؤثره ويحبه، وكان يكتب عن والده أوراق البريد وأسماء الموقعين على القصص. ولما توفي والده رحمه الله تعالى تحدث له مع القاضي ناصر الدين كاتب السر وأدخله إلى الدست موقعاً في أوائل سنة خمسين وسبع مئة أواخر أيام أرغون شاه.
الألقاب والنسبابن عبود: جمال الدين الحسين بن محمد.
عبيد الله بن محمدالإمام العابد شيخ الحنفية ركن الدين أبو محمد البارساه، بالباء الموحدة وبعدها ألف وراء وسين مهملة وبعدها ألف وهاء، السمرقندي، نزيل دمشق، ومدرس الظاهرية، ومدرس النورية.
كان من كبار المذهب، تقمص منه درعه المذهب، وأصبح وحواصل علومه بيد التعليم تنهب، مكباً على التعليم والمطالعة والتفهم والمراجعة، له ورد في اليوم والليلة مئة ركعة، يحرم جفنة في الليل لذاذة الهجعة، وله حلقة في الجامع للإفادة، وللطلبة إلى حرمها في كل يوم وفاده.

ولم يزل البارساره إلى أن بار وجوده، وطفي في الماء وقوده، فأصبح في بكرة الظاهرية ملقى غريقاً، أصيلاً في الأموات عريقاً، قتل لشيء كان معه من الحطام، وقيد إلى المنية بخطام.
وذلك في ليلة الاثنين ثاني عشر صفر سنة إحدى وسبع مئة.
وكن قد أعطي تدريس النورية قبل وفاته بستة أيام، وألقى فيها ستة دروس لا غير، وأمسك طي الحوراني قيم دار الحديث بالظاهرية، وضرب، فأقر بقتله، فشنق على باب المدرسة.
عبيد الله بن علم الدينابن شراقي، بفتح الشين المعجمة وبعدها راء وألف وقاف وياء آخر الحروف، الكاتب.
أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين، قال: رأيته بالقاهرة، وكتب إلي بأبيات.
ومن شعره ما كتب به إلى الخطيب مجد الدين بمدينة الفيوم من أبيات:
خلائقك الحسنى أبر وألطف ... وأنت بأنواع المكارم أعرف
وتلك السجايا الغر فهي كروضة ... مفوفة الأزهار تجني وتقطف
طبعت على فعل الجميل خلائقا ... فأنت بما تأتيه لا تتكلف
فأجابه مجد الدين:
يميناً لأنت البحر للدر تقذف ... وذا عجب إذ أنت بالعذب توصف
وما الدر في البحر الفرات وإنما ... خصائص فضل حزتها بك تعرف
فلا جيد إلا وهو منها مطوق ... ولا سمع إلا وهو منها مشنف
منها:
لقد نالنا من طيب نشرك نشوة ... فقلنا: أهذا الشعر أم هو قرقف
فذاك هو السحر الحلال حقيقة ... كمر نسيم الروض بل هو ألطف
وكتب علم الدين بن شراقي إلى زين الدين الأرمنتي:
بحق ما حزت من خصال ... عطرت الأكوان بالأريج
شنف بنظم كنظم در ... ورونق اليانع البهيج
فمذ قطعت القريض عني ... أمري في مقلق مريج
فأجاب زين الدين المذكور:
سألت أمراً وبي احتياج ... لنظمك الباهر البيهج
تطلب مني وأنت أولى ... ما البحر يحتاج للخليج
نظمك في حسنه أراه ... كالزهر في يانع المروج
بلاغة فيه لم ينلها ... حبيب أوس ولا السروجي
ومن شعر علم الدين شراقي:
ولقد هممت بأن أفوز بنظرة ... من مالك تهوى المعالي وصفه
لم يستطع نظري يراه شاكيا ... فبعثتها عني تقبل كفه
الألقاب والنسبابن عبيد الله الموقع: شهاب الدين أحمد بن عبيد الله.
صلاح الدين يوسف بن محمد.
عتيق بن عبد الرحمن.ابن أبي الفتح، المحدث المتقن الزاهد تقي الدين أبو بكر القرشي العمري المصري الصوفي المالكي، شيخ خانقاه ابن الخليلي.
سمع بمصر والشام والحجاز، وحدث عن النجيب عبد اللطيف، وعبد الله بن علاق، وكتب عنه الطلبة.
وجاور بمكة مدة، وكان فيه تعبد، وعنده فقر وتزهد، وتحر وتجرد، وله فضيله، يخرج بها من السمة الردية الرذيلة.
مرض مدة بالفالج وعالج من آلامه ما كان يعالج.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
عتيق بن محمدابن سلميان المخزومي، تاج الدين الدماميني، بالدال المهملة والميم والألف والميم الثانية والياء آخر الحروف وبعدها نون.
قرأ الفقه بقوص، وحفظ التنبيه، واستوطن الإسكندرية، وانتهت إليه رئاستها.
وكان ذكياً كثير العطاء، وله مشاركة في التاريخ والأدب، وبنى مدرسة بالمرجانيين بالثغر ووقف عليها أوقافاً كثيرة.
وحضر إلى مصر فتوفي بها في أواخر جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
عثمان بن إبراهيمابن أبي علي الحمصي المقرئ الصالح أبو عمرو الصالحي النساج، إمام مسجد القرشيين.
سمع حضوراً نصف البخاري الأخير من ابن الزبيدي، وسمع من ابن اللتي، لكنه كان يحرف كتابة الأسماء، يكتب الحمصي المصري، فذهب سماعه. وكان قد سمع كثيراً من الحافظ الضياء.
وسمع منه الواني، والمقاتلي، والعلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والمحب، وجماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة.
وكان خيراً يتودد إلى الناس ويتواضع ويحسن بشره.
عثمان بن إبراهيم

ابن مصطفى، الشيخ الإمام العالم فخر الدين المارديني المصري، مفتي الحنفية المعروف بابن التركماني.
كان فاضلاً في مذهبه، عارفاً بدقائقه وتقلبه، شرح الجامع الكبير وألقاه دروساً، وجلاه للنواظر والبصائر عروساً.
كان جميل المحاضرة، جليل المذاكرة، أخلاقه لطيفة، وتناديبه ظريفة، طلق المحيا، فصيح العبارة، حسن العمة، كامل الشارة، وكان له ولدان، كأنهما في سماء الفضل فرقدان.
ولم يزل على حاله إلى أن حم يومه العصيب، فأخذ من الموت بنصيب.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت حادي عشر شهر رجل الفرد سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في عاشر جمادى الأولى سنة ستين وست مئة، يوم توفي الشيخ عز الدين بن عبد السلام المنصوري.
وسمع من الأبرقوهي، والدمياطي، وغيرهما. وشرح الجامع الكبير في مئة كراس، وألقاه في المدرسة المنصورية. وله نظم. وتفقه به ولداه الشيخ علاء الدين والشيخ تاج الدين.
عثمان بن أحمدابن محمد، المحدث، فخر الدين أبو عمرو الحلبي، ثم المصري، ابن الظاهري.
حضر النجيب، وابن علاق، وسمع من عامر القلعي والعز الحراني، ونسخ بعض الأجزاء وكتب الطباق.
قال شيخنا الذهبي، رحمه الله تعالى: وله إلمام ببعض هذا الشأن وكثرة مطالعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رجب سنة ثلاثين وسبع مئة.
وولده سنة إحدى وسبعين وست مئة.
وكان له قبول، وعنده مروءة، وقرأ القرآن بروايات، وحفظ ألفية ابن مالك، وتعب عليه والده وأسمعه الكثير. قال شيخنا علم الدين البرزالي: شيوخه ست مئة شيخ، وذلك في سنة خمس وثمانين وست مئة، وازداد بعد هذا التاريخ خلقاً كثيراً.
وسمع منه الطلبة والرحالون.
عثمان بن أحمد بن عمرابن أحمد بن هرماس بن نجا بن مشرف بن محمد بن ورقة، القاضي الفقيه الإمام العالم فخر الدين أبو عمرو قاضي نابلس.
ولي القضاء بعدة أماكن بالشام. وكان حسن السيرة في القضاء عفيفاً، يقال إنه أباع ملكاً بثلاثين ألفاً، وأنفقه عليه مدة الولاية. وكان كثير الأستحضار لمسائل المحاكمات.
قال البرزالي: كتبنا عنه من شعره بنابلس.
وتوفي رحمه الله تعالى تاسع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبع مئة، ومولده سنة ثلاثين وست مئة بزرع.
عثمان بن أحمد بن عثمانابن هبة الله بن أحمد بن عقيل القيسي الشافعي، المعروف بابن أبي الحوافر، الطبيب بالقارة.
له إجازة من ابن اللتي، وابن المقير، وإبراهيم الخشوعي، وغيرهم. وكان ينعت بجمال الدين.
توفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة غرة صفر سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
عثمان بن إدريسابن عبد الله بن السلطان عبد الحق بن مجبو، البطل الضرغام، فارس الإسلام، مقدم الجيوش أبو سعيد بن أبي العلاء المريني.
قائد جيش غرناطة، وهو الذي أبلى يوم الكائنة العظمى سنة تسع عشرة وسبع مئة، ونصر الله فيها الإسلام، و أباد جيوش الفرنج.
وكان ذا دين متين، وعقل صحيح مبين، فيه شرف وعند سيادة، وله كبرياء في الرئاسة، وافرة الزيادة، أبلى في الحروب، وأملى دروساً في الجراح والضروب، يلقى الهجير بنحره ويقدم على الهول وهو قد جاء وطم ببحره، لا يبالي بالكتائب إن قلت أو كثرت، ولا يهمه أمر جياده، إن كلت أو عثرت، أين ما بأسه عنترة أو عامر بن الطفيل؟! وأين من كره على الفارس زيد الخيل؟ كاد يرد الموت من الظما، أو يخال سمرة الرماح لمى، أو يتخيل أن السيوف جداول فهو يخوضها، أو يتوهم أن المنايا ذات دلال فهو يروضها.
ولم يزل على حاله إلى أن صالت عليه المنايا، وجاءته بما في زواياها من الجنايا.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة.

قيل: إنه شهد مئتي غزوة وأربعاً وثلاثين غزوة، أهلك الله ضده الوزير المحروق الذي أبعده من الحضرة في سنة تسع وعشرين وسبع مئة لأن ولده إبراهيم بن عثمان كان قد شارك يحيى بن عمر بن راجو في قتلة السلطان أبي الوليد، ثم عاد ابن أبي العلاء إلى منصبه فلي سنة تسع وعشرين وسبع مئة. نزل يوم الملحمة العظمى إلى الأرض، وسجد وتضرع إلى الله ثم ركب فرسه وقال لجيشه: احملوا، وكانوا دون الألفين، فحملوا على القلب وفيه ذون بطرو المقدم ذكره، وهو في بضعة عشر ملكاً من الفرنج فقتلوا كلهم، ثم لم يفلت منهم أحد، ودام القتال إلى الليل، فأقل ما قتل من الفرنج ستون ألفاً وقيل: ثمانون ألفاً، ولم يقتل من المسلمين سوى ثلاثة عشر فارساً، وغنم المسلمون غنيمة عظيمة إلى الغاية.
وتوفي رحمه الله تعالى وهو مرابط، وكان من أبناء الثمانين.
عثمان بن إسماعيلابن عثمان، الأمير صارم الدين.
كان أولاً حاجباً بصفد، ثم نقل إلى دمشق أميراً ثم أعيد إلى دمشق، ولم يزل بها مقيماً إلى أن توجه صحبة الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى إلى ملطية.
ولما عاد العسكر من ملطية توفي رحمه الله تعالى في الطريق في سابع عشري شهر ربيع الأول بالمعرة سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وكان رجلاً جيداً ساكناً وقوراً. عين لشد الدواوين بدمشق، وكان يسكن بدرب الفراش، وخلف أولاداً وذرية، وكان جده من مماليك الدوادار الرومي، كذا قاله شيخنا البرزالي. وعاش ثمانياً وخمسين سنة.
وهو أخو الأمير ناصر الدين مشد الأوقاف بدمشق، وناظر الحرمين بالقدس والخليل عليه السلام. وكان يعرف في دمشق بحاجب صفد، أعني الأمير صارم الدين.
عثمان بن أيوبابن مجاهد الفرجوطي، بالفاء والراء الساكنة والجيم والواو الساكنة الطاء المهملة.
كان ملازم التلاوة، ويستعمل الصبر على ذلك علاوة، قد التحف بالتحف من القناعة، وجعل الشكر رداءة وقناعة، يرضى بالقليل من العيش الشطف، ويتجلد لما مضى ولا يأتنف، عديم الطلب من الناس، سليم القلب في معاشرة الأخيار والأدناس.
ولم يزل على حاله إلى أن افترش تراب لحده، وألصق بالثرى ديباجة خده.
وتوفي في مستهل شوال سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وتوفي ببلده فرجوط.
ومن شعره:
ألا في سبيل الحب ما الوجد صانع ... بقلب له من وشكة البين صارع
يكابد من أجل البعاد هلوعه ... وإن قلى الأحباب للصب هالع
ويقلقه داعي الهوى ويقيمه ... فيقعده الإعجاز والعجز مانع
ويصبو فتنصب الدموع صبابة ... ولا غرو إن صبت لذاك المدامع
إذا فاح من أكناف طيبة طيبها ... تحركه شوقاً إليها المطامع
وإن ذكرت نجد وجرعاء رامة ... ولله كم من لوعة هو جارع
هل الدهر يوماً بعد تفريق شملنا ... بذاك الحمى النجدي للشمل جامع
وهل ما مضى من عيشنا في ربوعكم ... وطيب زمان بالتواصل راجع
عدوا بالتلاقي عطفة وتكرماً ... علي فإني بالمواعيد قانع
وإن تسمحوا بالوصل يوماً لعبدكم ... فهذا أوان الوصل آن فسارعوا
أهيل الحمى هل منكم لي راحم ... وهل فيكم يوماً لشكواي سامع
فهذا لسان الحال يرفع قصتي ... لديكم عسى منكم لبلواي رافع
عثمان بن أيوبابن أبي الفتح، فخر الدين أبو عمرو الأنصاري العسقلاني.
أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين، قال: مولد المذكور ببيت زينون، بالنون لا بالتاء، من عسقلان وغزة، في خامس عشر شعبان سنة تسع وثلاثين وست مئة.
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه:
أتاني كتاب خلت في طي نشره ... بريق ضياء يخجل القمرين
إلى علم أسعى به من سميه ... فنلت مني بالسعي في العلمين
فأجابه نور الدين بن سعيد:
ببيت وبيت قد سبقت مجلياً ... فلا زلت بالبيتين ذا سبقين
وأنجحت بالأمر الذي قد قصدته ... بسعيك يا ذا الفضل بالعلمين
قال: وأنشدنا المذكور لنفسه:
من يبقها وردي ومن وجناتها ... وردي وخمري لحظها والساقي

يا هند عندك منيتي ومنيتي ... بوعيد هجر أو بوعد تلاقي
عثمان بن أبي بكرابن محمد قاضي القضاة جلال الدين أبو عمرو الحاكم بصفد. كان قاضيها من الأيام الظاهرية، وكان نوابها يحبونه ويعزونه ويكرمونه، وهو والد قاضي القضاة شرف الدين محمد قاضي صفد وطرابلس الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في المحمدين.
توفي رحمه الله تعالى يوم السبت رابع عشري المحرم سنة ثمان وتسعين وست مئة.
وكان يعرف بالنهاوندي بنون مفتوحة وهاء بعدها ألف وواو ونون ساكنة ودال مهملة.
عثمان بن بلبانالمحدث فخر الدين الرومي المقاتلي الدمشقي الكفتي. سكن مصر سنوات. وداخل الرؤساء إلى أن صار معيداً في المنصورية للحديث. وكان حلو المذاكرة، يحفظ بعض القرآن.
سمع من ابن القواس، ويوسف الغسولي، وابن عساكر وبحلب من سنقر الزيني مملوك ابن الأستاذ، وبمصر من الدمياطي وطبقته، وعني بالرواية، ونسخ الأجزاء وحصل.
قال شيخنا الذهبي: كتبت عنه وكتب عني، وكان في ورعه نقص، وغيرة أدين منه، وليس له محفوظ، ولا حفظ القرآن يعني ختمه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة ثالث عشري شوال سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة.
عثمان بن عبد الصمدابن عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل، الشيخ بدر الدين أبو عمرو بن الشيخ جمال الدين الخطيب قاضي القضاة بن قاضي القضاة جمال الدين الحرستاني الدمشقي.
سمع حضوراً من جده سنة ست وخمسين وست مئة، ومن عبد الله بن الخشوعي، وشرف الدين الحسين الإربلي، وابن أبي اليسر، والمجد بن عساكر، والمجد بن النشبي، وغيرهم. واشتغل على الشيخ شمس الدين أبي عبد الله المقدسي مدرس الشامية، ورتب بالمدارس، وكان يجلس مع الشهود.
ومرض أواخر عمره بالفالج، وعجز وانقطع إلى أن مات.
وتوفي رحمه اله تعالى ثامن ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة.
عثمان بن عليالإمام العالم المفتي القاضي فخر الدين الأنصاري الشافعي المصري ابن بنت أبي سعد.
كان فقيهاً كبيراً، وحاكماً خبيراً، فاضلاً في الأصول، غزير المادة والمحصول، ويدري العربية، وعنده جزء كبير من الأنواع الأدبية، وكتب الخط البهج، وأتى به أبهى من الروض الأرج. وكان يشارك يف علم الموسيقى، ويطبق الألحان على الكلام تطبيقاً.
ولم يزل على حاله إلى أن تداول أصحابه نعيه، وتذاكروا اجتهاده وسعيه.
وتوفي رحمه الله تعالى رابع عشري جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومولده بداريا من أرض دمشق.
وحدث عن الكمال الضرير، والرضي بن البرهان، وتقلب في الخدم الديوانية، ووقع عن قاضي القضاة ابن رزين، وأفتى سنين وولي القضاء بقوص، وتوفي رحمه الله تعالى وله تسعون عاماً.
ومن شعره يصف بركة:
وجلا بياض النهر في مخضرها ... وكأنه إذ لاح للأبصار
سبك اللجين على بساط زمرد ... والشمس فيه تلوح كالدينار
عثمان بن علي بن إسماعيلابن الشيخ الإمام العلامة صاحب الفنون، قاضي القضاة. فخر الدين أبو عمرو بن زين الدين الطائي الحلبي الشافعي ابن خطيب جبرين، فقيه حلب ومقرئها وحاكمها.
كان فاضلاً إذا قلت فاضل، وعالماً يقر له كل مناظر ومناضل، قادراً على حل كلام الناس في سائر الفنون، مبادراً إلى شرح ما يقرأ عليه ويأتي من ذلك بالنكت والعيون، لم أر له في هذا الشأن نظيراً يقاربه، ولا من يجاريه فيسالمه أو يحاربه، وكان في كل فن ماهراً، وعلى كل علم ظاهرا، كأن ابن الخطيب ابن خطيب الري وكلاهما فخر، وكأن هذا ذاك إلا أن الأول فينا يقطف من زهر وذاك يقطع من صخر، يحل كلام كل مصنف بغير كلفه، ويتسرع إلى فهمه، كأن له دربة قديمة وألفه.
لقد كنت أعجب من شأنه وحق لي العجب، وأتفكر في بيانه الذي أطلع على كل غائب وما احتجب، وما كان إلا أعجوبة الزمان، ونادرة الوجود في نوع الإنسان. لكنه تولى قضاء قضاة حلب فما حمد في ذلك العقبي، وضرب بينه وبين الراحة بسد فما استطاع له نقبا، وطلب إلى مصر وأنكر السلطان ولا يته وزجره، فنزل من القلعة، وكان ذلك مِنْ مَنْ أمره نهايته:
فمالنا اليوم ولا للنهى ... من بعده إلا البكا والنحيب

وتوفي رحمه الله في القاهرة بالمنصورية سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وستين بالقاهرة، كذا رأيته بخط بعض الفضلاء.
وكان رحمه الله قد تلا بالسبع على شمس الدين الخابوري، والبدر التاذفي، وابن بهرام، والكمال الغرناطي. وتفقه بقاضي حلب شمس الدين بن بهرام، وقاضي حماة شرف الدين، وأخذ عن ابن ملي علم الكلام.
وتصدر وأقرأ، وتخرج به الناس، واشتهر اسمه، وكان عاقلاً ذكياً غزير المادة، كثير الإطلاع. قرأت أنا عليه بحلب سنة.. في الأربعين للإمام فخر الدين الرازي، وفي الشمسية مشروحة لابن المطهر في المنطق. وحضرت دروسه الجماعة الذين يقرؤون عليه، فكنت أرى منه العجب، لم يحضر إليه أحد بأي كتاب كان في أي علم كان في أي باب كان من ذلك الكتاب إلا وأقرأه فيه، وحل كلام ذلك المصنف، ولم أر مثله في هذا الباب ولا رأى غيري إلا ما حكاه لنا الأشياخ عن الشيخ كمال الدين بن يونس، فإنه كان عجباً في هذا الباب.
وكان يقرئ في الشاطبية وكتب القراءات، وفي الحاوي، وكتب الفروع، وفي المختصر لابن الحاجب، والمحصل للإمام فخر الدين، وفي الفرائض، والجبر، والمقابلة، وفي الحساب، وعلم: الصواب، وكتاب التحت والميل، وفي الحاجبية، وفي تصريف ابن الحاجب، وفي تمرين التصريف، وفي كتب الحكمة مثل الملخص لفخر الدين، وفي كتب الطب، وفي كتب الهجاء، وفي أشياء غير ذلك.
وكان يومئذ ينوب عن القاضي زين الدين الشافعي، وعن القاضي ناصر الدين بن العديم الحنفي، ومع ذك كله يحكم بين الناس، وإذا فرغ من الحكم سبح، وكذلك في التعليم إذا قرأ الطالب اشتغل بالسبحة.
وصنف شرح الشامل الصغير وشرح التعجيز وشرح مختصر ابن الحاجب وشرح البديع لابن الساعاتي. وله في الفرائض نظم، وشرحه في مجلد. ومصنف في المناسك، وفي اللغة، وشرح الحاوي في الفقه فيما أظن.
وتلا عليه بالسبع محتسب حلب نجم الدين بن السفاح الحلبي، والشيخ علي السرميني، وجمال الدين يوسف بن حسن التركماني، وأحمد بن يعقوب، ولم يكمل.
وتولى قضاء قضاة حلب الشافعية في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ثم إن السلطان طلبه وطلب ولده إلى مصر، فلما مثلا بين يديه روعهما الحضور قدامه، لكلام أغلظه لهما، فنزلا مرعوبين، ومرض بالبيمارستان المنصوري بالقاهرة، ومات ولده قبله، وتوفي هو رحمه الله بعده بيوم أو يومين، مدة المرض دون الجمعة.
وكان قد ولي حلب عوضاً عن قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب.
وكنت قلت فيه:
غدا ابن خطيب الري للناس آية ... فضائله منها البدور تمام
وفي حلب قاضي القضاة نظيره ... ففخرهما يسمو وليس يسام
كما اشتركا في ابن الخطيب إضافة ... ولكن ذا قاض وذاك إمام
ومن شعره في مقلمة:
تأمل تر حالي بعديعاً وقصتي ... وأنعم رعاك فكرك في أمري
حويت الذي رزق الخلائق كلهم ... وأحكامهم طول الزمان به تجري
ولو رمت مما في يد الناس حبه ... عجزت ولم أبلغ مرامي مدى عمري
ومنه في مروحة:
وخادم ما مثلها خادم ... بكل معنى حسن توصف
يروق من يبصرها حسنها ... أخلاقهها محبوبة تؤلف
لباسها الوشي وفي حجرها ... عود لها وهي به أعرف
يحرك الأرواح ترويحها ... ويشتفي المكروب إذ تطرف
ومنه:
وقائل ما الذي ترجوه حين ترى ... ببابك الموت قد أرسى ولم ترم
وما الذي أنت يا مسكين قائله ... إذا حللت بضيق اللحد والظلم
فقلت: توحدي رب العرش مدخري ... وحسن ظني بربي بارئ النسم
والقول فاسمع رعاك الله قول فتى ... على سوى الحق يا مولاي لم يقم
أمسيت جارك يا من لا يضام له ... جار وضيفك يا ذا الجود والكرم
ومنه في أسماء الولائم:
بوليمة سم كل دعوة مأكل ... بتقيد لكن لعرف أطلق
ولذي الختان فتك إعذار وما ... للطفل فهي عقيقة بتحقق
وسلامة الحبلى من الطلق اجعلا ... خرساً لها ولأجل غائب انطق
بنقيعة ووكيرة لعمارة ... ووضيمة لمصيبة بتصدق

وسم اليتامى ما لها سبب بمأ ... دبة وخد يا صاح قول محقق
قلت: لا بأس بتصحيح ألفاظ هذه الولائم خوفاً من التصحيف: فطعام الختان إعذار وهو بالعين المهملة والدال المعجمة والراء، لأن العرب تقول عذرت الغلام إذا ختنته. وطعام المولود في اليوم السابع عقيقة، بعين مهملة وقافين وهو مشهور.
وطعام سلامة الحبلى من الطلق خرس، بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وبعدها سين مهملة، تقول العرب فيه: خرسه.
وطعام الغائب إذا قدم من سفره نقيعة بنون مفتوحة وقاف مكسورة وياء آخر الحروف ساكنة وعين مهملة مفتوحة.
وطعام الدار إذا فرغت عمارتها وكيرة بفتح الواو بعدها كاف وياء آخر الحروف وراء بعدها هاء.
وطعام المصيبة وضيمة بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة وبعد ها ياء آخر الحروف ساكنة وبعدها ميم وهاء.
والطعام بلا سبب مأدبة بفتح الميم وسكون الهمزة وضم الدال المهملة وفتح الباء الموحدة وبعدها هاء على وزن مأربة، فإن كانت المأدبة عامة فهي الجفلى بفتح الجيم والفاء واللام وبعدها ألف مقصورة، وإن كانت المأدبة خاصة لقوم بأعيانهم النقرى بفتح النون والقاف والراء وبعدها ألف مقصورة.
ومن شعر الشيخ فخر الدين في أسماء خيل الحلبة.
أسامي خيول الحلبة أعلم أنها ... لمن عدها عشر فخد قول واصف
مجل مصل قل مسل لثالث ... ورابعها التالي وخمس بعاطف
وسدس بمرتاح حظي مؤمل ... لطيم سكيت فاره غير خائف
وخذها على الترتيب والفسكل الذي يجيء أخيراً فاستمع قول عارف
قلت: لا بأس بتقييد أسماء خيل الحلبة ليؤمن فيها التصحيف: الأول: المجلي، بضم الميم وفتح الجيم وتشديد اللام.
والثاني: المصلي مثل اسم الفاعل من الصلاة.
والثالث: المسلي، بضم الميم وفتح السين وتشديد اللام.
والرابع: التالي، اسم فاعل من تلا يتلو.
والخامس: العاطف بالعين المهملة والألف والطاء المهملة والفاء.
والسادس: المرتاح، بضم الميم وسكون الراء وبعدها تاء ثالثة الحروف وألف وحاء مهملة.
والسابع: الحظي بفتح الحاء المهملة وكسر الظاء المعجمة وتشديد الياء آخر الحروف.
والثامن: المؤمل بضم الميم وفتح الهمزة وتشديد الميم وبعدها لام.
والتاسع: اللطيم بفتح اللام وكسر الطاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها ميم.
والعاشر: السكيت تصغير ساكت، بضم السين المهملة وفتح الكاف مخففة وبعضهم يشددها، وسكون الياء آخر الحروف وبعدها تاء ثالثة الحروف، وبعض العرب تسمية الفسكل بكسر الفاء وسكون السين المهملة وكسر الكاف وبعدها لام.
وقد طول الشيخ فخر الدين رحمه الله تعالى في عد هذه العشرة، وقد نظمها بعض الأفاضل في بيتين وهما:
أتانا المجلي والمصلي بعده ... مسل وتال بعده عاطف يجري
ومرتاحها ثم الحظي ومؤمل ... وجاء اللطيم والسكيت له يبري
عثمان بن عمروابن أبي بكر بن محمد، الملك العزيز فخر الدين بن الملك المغيث فتح الدين بن الملك العادل سيف الدين بن الملك الكامل ناصر الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن محمد بن أيوب.
أجاز لي بخطه في القاهرة سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
سمع من مؤنسة بنت العادل وجماعة.
وحدث وجمع مجاميع بخطه الحسن. وكان ناظر البيمارستان القديم بالقاهرة.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء رابع عشر المحرم سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده بقلعة الكرك سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
عثمان بن محمدابن منيع بن عثمان بن شادي، شمس الدين بن البشطاري، بضم الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف راء.
سمع من ابن رواج، والمرسي، وسمع منه شيخنا الذهبي.
وكان طيب النغمة يعرف الموسيقي موصوفاً بذلك.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. وعمل المؤذنون عزاءه بدمشق. وكانت وفاته بقوص.
ومولده بعد الأربعين وست مئة.
عثمان بن محمد بن عثمانابن أبي بكر، الشيخ المقرئ الفقيه الزاهد مفيد الديار المصرية، فخر الدين أبو عمرو المغربي التوزري، بفتح التاء ثالثة الحروف وسكون الواو وفتح الزاي وبعدها راء، المصري المالكي المجاور.

سمع من ابن الجميزي، وسبط السلفي. ثم طلب بنفسه سنة نيف وخمسين وست مئة.
وتلا بالسبع على أبي إسحاق بن وثيق، والكمال بن شجاع. وقرأ صحيح مسلم على ابن البرهان. وأكثر عن المنذري، والرشيد بن عزون، وأصحاب البوصيري فمن بعدهم. قرأ مسند أحمد والمعجم الأكبر للطبراني والدواوين الكبار، وذكر أنه قرأ صحيح البخاري نحواً من ثلاثين مرة. وسمع بقراءته خلق كثير، وشيوخه نحو الألف.
ثم إنه أقبل على شانه، وعرف عواقب زمانه، فجاور بالبيت الحرام، وغني هناك بالحطيم عن الحطام، وتعبد في مثل ذاك المقام، وتهجد فيه والناس ينام، وحدث بالكثير، وكان صاحب أصول وله فهم خطير، ولديه محاضرة، وعنده مذاكرة ومسامرة، وخبرته بالقراءات متوسطه، ولكنها غير مغلطه.
ولم يزل على حاله إلى أن وصل بعد تسميعه إلى الفوت، وحسمت فوائده بمدية الموت.
وتوفي رحمه الله تعالى حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاثين وست مئة.
وكانت له إجازة من ابن المقير. وقرأ عليه شيخنا الذهبي بمنى أجزاء، وأخذ عنه الإمام عبد الله بن خليل والناس.
عثمان بن محمدابن عبد الرحيم، الإمام البارع قاضي القضاة فخر الدين أبو عمرو حفيد قاضي القضاة فخر الدين الحموي بن البارزي الشافعي.
لحق جده وأخذ عنه وعن عمه قاضي القضاة شرف الدين.
وكان ذا دين وصرامة، وسيرة مشكورة عند الخاصة والعامة، وكان يحفظ الحاوي ويفهمه، وينزل مسائله على الرافعي ويعلمه. وله إلمام كثير بنحو ابن مالك، وخوض كثير في تلك المسالك.
ولي قضاء حمص وما ساس نوابها، فما دخل معهم مدينة الحرمة ولا رأى بوابها. لا جرم أن القرماني ضربه، ولولا الإنابة قرمة، وألهب جمر غضبه عليه وضرمة. ثم إنه عاد إلى حماه، وأوى منها إلى حماه، وولي بها الخطابة، وجمع بينها وبين النيابة. ثم إنه تولى قضاء القضاة بحلب، وأماط عنها العدوان وسلب.
ولم يزل بها إلى أن مرض مدة وأفاق غير ناصح، ثم بعد مدة مات فجأة فما صح إلا أنه ما صح.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر صفر سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
وحج غير مرة، وحدث بمسند الشافعي عن ابن النصيبي، وتفقه به جماعة.
وكان قد مرض مدة وأفاق، وتوضأ بعد ذلك في ويوم وجلس في مجلس حكمه ينتظر صلاة العصر فمات فجأة.
وكان بحمص والأمير سيف الدين أرقطاي بها نائب، فجرى بينهما يوماً كلام، فأساء الأدب على النائب، فصبر له واحتمله، ولما جاء القرماني إلى حمص نائباً جرى بينهما كلام، فأساء الأدب، فبطش به وضربه، وقال الناس: إنما ضربه الحاج أرقطاي.
وكان توجهه إلى حلب قاضياً في أوائل الحجة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
عثمان بن محمد بن عليفخر الدين أبو عمرو البزاز مفتي الثغر.
عثمان بن محمد بن عبد الملكابن عيسى بن درباس، فخر الدين الماراني القاهري.
سمع من أبيه، وحدث. وكان مقبول القول عند القضاة، وإذا فتح فمه بالشعر قلت: هذا سيف قد انتضاه. وهو من بيت حشمة وقضاء، وقبول عند الناس وارتضاء.
لم يزل على حاله إلى أن سكن منه النفس، وأصبح فيما بين عم يتساءلون وعبس.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم عاشوراء سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة.
ومن شعره:
كيف المقام بدار لا أراك بها ... وأي معنى لمغنى لم تكن فيه
يفديك بالروح صب لو حصلت له ... وفاته كل شيء كان يكفيه
عثمان بن محمد لؤلؤالأمير فخر الدين بن الأمير شمس الدين لؤلؤ.
كان أحد الأمراء الطبلخانات بدمشق، جهزه الأمير سيف الدين تنكز إلى صفد مشد الدواوين ووالي الولاة عوضاً عن الأمير علاء الدين بن المرواني، فأقام بها سنتين فأكثر، وطلب الإقالة، فتوجه إلى دمشق وأقام بها أميراً إلى أن توجه ابن المرواني إلى مصر، فولاه تنكز مكانه في ولاية البر في أول شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فأقام بها مدة إلى أن مرض وطلب الإقالة فأقيل.
وتوفي رحمه الله تعالى بعد ذلك بعشرة أيام في رابع شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة.

وكان أميراً من خمس عشرة سنة. وكان خيراً ديناً عاقلاً وقوراً، فيه حشمة وعقل وأدب، وكان يقيم الثلاثة الأيام والأربعة ما يشرب فيها ماء، ويعمل بيده عدة صنائع ويزركش ويطرز ويعمل الكشاتوين.
عثمان بن يعقوبابن عبد الحق، السلطان أبو سعيد المغربي المريني، صاحب مراكش وفاس وغير ذلك.
كان ذا حلم، وركون إلى السلم، فأهمل أمور الجهاد، فامتلأت عليه بالوبال الربا والوهاد، وامتدت أفنان الفتن، وجرى وبل الوبال وهتن. وعلا في أيامه أمر الغلاء، وكادت سنوه تجري على الولاء. إلا أنه كان له نظر في العلوم، واتصاف يدخل به في ذوي الفهوم.
ولم يزل في إنكاد إلى أن كاد يفارقه الملك، ويقع في ورطات، يرمي بنفسه إلى الهلك، إلى أن جاء الأمر الذي لا يدفع، ولا يرده صاحب ولا يمنع.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. وله بضع وستون سنة.
كانت دولته اثنتين وعشرين سنة، وملك أخوه يوسف قبله خمساً وعشرين سنة، لكن بينهما الملكان عامر وسليمان، وخالف على عثمان ابنه عمرو، وملك سجلماسة، وجرت في ذلك أمور يطول شرحها.
وملك بعد عثمان ولده الفقيه العالم السلطان العادل أبو الحسن علي، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في مكانه.
عثمان بن يوسفابن أبي بكر، القاضي المحدث الفقيه الورع الصالح فخر الدين أبو محمد النويري المالكي.
صحب والده القدوة الزاهد علم الدين، وتفقه به وبجماعة، وأفتى ودرس، وكان كثير الحج والمجاورة والتأله والصدق والإخلاص.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
عثمان أبو عمروالصعيدي، الحلبوني: بفتح الحاء المهملة، وسكون اللام، وضم الباء الموحدة، وبعدها واو ساكنة، ونون، الشيخ الصالح العابد.
كان فيه صدق وتأله، وتؤثر عنه أحوال وتوجه وتأثير. أقام مدة ببعلبك، ومدة ببرزة.
وكان قانعاً متعففاً، ترك أكل الخبز مدة سنين عديدة، وقال إنه يتضرر بأكله.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري شهر المحرم سنة ثمان وسبع مئة، وطلع الأفرم والقضاة والناس إلى جنازته.
عثمان بن أبي النوقفخر الدين المغربي.
كان له قدرة على الارتجال، والبديهة التي يعجز عنها رجاء الرجال، يكاد أنه لا يتكلم في جميع محاوراته إلا بالشعر الموزون، والنظم الذي يفرح به المخزون، ولما وصف لي بذل هونت أمره، وقلت: يكون ممن يورد تمرة وجمرة، فما كان إلا أن رأيته بالجامع الأموي في ليلة نصف شعبان وهو واقف ينضض بلسانه مثل الثعبان والناس في ذلك الأمر المريج، وكأن صحن الجامع بذلك الوقيد أزاهر الروض البهيج، فقلت له: يا مولانا أنشدنا شيئاً من شعرك، واقذف لنا قليلاً من لآلئ بحرك، فأنشدني من وقته في الحالة الراهنة أبياتاً جملة، أتى بها سرداً من أول وهلة، كأنما كان قد بيتها لذلك، أو سهر فيها ليلة الحالك، ومعناها تشبيه ذلك الوقيد والاشتعال، ووصف ما للناس به من الاحتفال والاشتغال، وتشبيه القومة وحركاتهم، وترقيهم في درجاتهم، وانحطاطهم في دركاتهم، بحيث لو وصف في ذلك لما صدقت، ولا ارتمى بي الظن إلى ذلك ولا حلقت، فما كدت أقضي عجبي منه، ووددت أنني لم أنفصل عنه. ثم إنني اجتمعت به بعد ذلك في جامع حلب، وكان الأمر على ذلك الأنموذج الذي مضى وذهب.
وأخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: رآني مرة وبين يدي كتاب له فاتحة ذهب، فأنشدني كأنه يتحدث:
أراك تنظر في شيء من الكتب ... وفي أوائلة شيء من الذهب
لو شئت تصرف نقداً من فواتحه ... صرفت منه دنانيراً بلا ريب
قال: فوهبته الكتاب، وأنشدته:
خذه إليك بما يحوي من الذهب ... ففي ندي السحب لا يخشى من اللهب
واضمم يديك عليه لا تمزقه ... فإنه ذهب من معدن الأدب
قال: وكتب إلي يتقاضاني عليقاً لفرسه، وشيئاً ينفقه:
دموع كميتي على خده ... من الجوع يطلب مني العلف
وليس معي ذهب حاضر ... ولا فضة وعلي الكلف
ولي منك وعد فعجل به ... فمن أنجز الوعد حاز الشرف
ودم وتهن بشهر الصيا ... م بوجه يهل وكف تكف
فبعثت إليه الشعير والنفقة، وكتبت إليه الجواب:

مسحت بكمي دموع الكميت ... وقلت له قد أتاك العلف
ووافى إليك جديد الشعير ... لعل يداوي سقام العجف
وفي كم سائقه صرة ... تسر لتخفيف ثقل الكلف
فإياك تحسبها للوفا ... فإني بعثت بها للسلف
وكان يقص ما ينظمه في الورق قصاً مليحاً محكماً جيداً بالنقط والضبط، ولكن أوضاعه على عادة المغاربة في كتابتهم.
ونقلت من قصة قوله:
إلى الحر الحسيب إلي علي ... علاء الدين ذي الحسب العلي
إلى من جوده عم البرابا ... وفاق مكارماً لكريم طي
إلى من قدره فاق البرايا ... وزاد علاً على الأفق السمي
وكان اجتماعي به في الجامع الأموي سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، أو في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، واجتماعي به في حلب سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، وتركته وهو يعمل مجلساً يفسر فيه القرآن، وكان ذلك آخر عهدي به.
عثمانالمعروف بالدكالي

بضم الدال المهملة، وكاف بعدها ألف، ولام، الصوفي، من فقراء الشميساطية.
كان يتردد إلى الناس، ويجتمع بطائفة من العوام والأدناس، فاستخف منهم جماعة، وألقى إليهم من الكلام ما ذكره للزمان أضاعه، وسلك بهم شيئاً من الطرائق الباجربقية، فإنه كان عنده منها بقية غير نقية ولا تقيه، وقال لهم: أنا أدلكم على الطريق إلى الله عز وجل، وخالف القواعد الشرعية فضل أو أضل، وتبعه شرذمة قليلة، وطائفة أذهانهم عن قبول الصواب كليله.
ولم يزل على حاله، واستمراره على غيه وضلاله، إلى أن فصل السيف رأسه من بدنه، وأراح الناس من فتنه، وذلك في حادي عشري القعدة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ولما شاع أمره أمسك واعتقل، وأحضر في دار العدل ثلاث مرات في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وأدوا عليه شهادات عجيبة، ولم يعترف بشيء، ولما كان يوم الثلاثاء أحضر في زنجير وبلاس شعر، وحضر الشيخ جمال الدين المزي والشيخ شمس الدين الذهبي وجماعة، وشهدوا عليه بالاستفاضة عنه أنه قال ما ادعي عليه به، فحكم قاضي القضاة شرف الدين المالكي بإراقة دمه، فضربت رقبته في سوق الخيل، ولم يكن ذلك رأي النائب ألطنبغا ولا رأي قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، ولكن أمر الله تعالى نفذ فيه.
حكى لي قاضي القضاة تقي الدين، رحمه الله تعالى قال: قال لي الأمير علاء الدين ألطنبغا: لما كانت ليلة الثلاثاء فكرت في أنهم يحضرون عثمان الصوفي وأبتلش بأمره، وقصدت دفع أمره عني، فقلت: غداً ما أعمل دار عدل، وأركب بكرة وأروح، فلما أصبحت أرسل الله عليه النوم، فنمت إلى أن طلع النهار وتعالى، فدخلوا إلى وقالوا: إن القضاة والحجاب والجماعة حضروا وهم في انتظارك، فالتزمت بعمل دار العدل ذلك النهار، أو كما قال.
وحكى لي هو عن نفسه، رحمه الله تعالى قال: أردت وأنا خارج من دار السعادة أن أقول لنقيب المتعممين أن يتوجه إليهم ويقول لهم ألا يعجلوا في أمره، فأنساني الله ذلك إلى أن فرط فيه الأمر، أو كما قال.
ولم أر أنا أثبت جناناً منه ولا أملك لأمر نفسه، لأنني كنت حاضرة أمره في الثلاثة أيام.
عثمان المعروف بابن علمابن الإمام العالم القاضي فخر الدين المعروف بابن علم.
كان شيخاً فقيهاً محدثاً، له اشتغال بالقاهرة وتحصيل، وولي قضاء الخليل مدة، ثم تركه لولده وسكن الرملة، وكان له بها ميعاد وحلقة إشغال، وله معلوم على ذلك.
توفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين سلخ المحرم سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وهو والد القاضي برهان الدين قاضي الخليل.
وكانت وفاة فخر الدين بالخليل ودفن بمقبرة البلد.
عثمان المعروف بالقريريالشيخ المنيني الصالح المعروف بالقريري، بضم القاف وفتح الراء الأولى، وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة وراء ثانية مكسورة.

كان رجلاً مباركاً صالحاً. لما اشتد الأمر بأهل بعلبك زمن غازان، وكانت بعلبك مفتوحة الأبواب، فلما نازلها بولاي غلقت أبوابها، قال القاضي محيي الدين بن فضل الله: فتوجهنا لزيارته، فوجدنا قطب الدين اليونيني خارجاً من عنده، فقال لنا: دخلت على الشيخ فلم يكلمني ووجدته مفكراً، فلم أجلس، والرأي أن ترجعوا، فإن هذا رجل له بادرة فقلنا: لا بد أن ندخل فدخلنا، قال: فالتفت إلي وقال: يا محيي الدين، لأي شيء غلقتم أبواب المدينة؟ فقلت له: يا سيدي، خوفاً من بولاي، فإنه قد جاء ونزل عليها، وربما أنه يريد أن يحاصرها، قال: فغضب الشيخ غضباً شديداً، واحمرت عيناه، وجثا على ركبتيه، وطلعت الزبدة من فيه، حتى ظنناه سبعاً يريد أن يفترسنا، وبقي على هذه الحالة هنية، ثم قال: وغزة العزيز، طرشهم رجل طرشة بدد شملهم. وفتح يديه يمنة ويسرة ثم سري عنه. وقال: قل لهم يا محيي الدين أن يفتحوا الأبواب: قال: فقمنا وفعلنا ما قال، فباكرنا الخبر في اليوم الثالث برحيل غازان عن دمشق في الساعة التي قال فيها الشيخ عثمان ما قال.
وتوفي الشيخ القريري في سنة ثمان وسبع مئة.
الألقاب والأنسابابن العجمي: الخطيب شمس الدين أحمد بن عبد الرحمن. وأخوه الشيخ عز الدين عبد المؤمن. وشمس الدين أحمد بن محمد.
شمس الدين العجمي: عبد اللطيف بن خليفة.
وكمال الدين بن العجمي: عمر بن محمد.
وابن العجمي الحنفي المدرس بالإقبالية: محمد بن عثمان. وشهاب الدين بن محمد بن عبد الرحمن. وبهاء الدين يوسف بن أحمد. وتاج الدين يوسف بن إسماعيل.
عدنان بن جعفرابن محمد بن عدنان الشريف، شرف الدين بن الشريف أمين الدين بن محيي الدين الحسيني بن أبي الجن نقيب الأشراف بدمشق.
تقدم ذكر والده وعمه، وسيأتي ذكر جده في المحمدين إن شاء الله تعالى.
لبس تشريفه عوضاً عن والده بطرحة في تاسع شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة وهو شاب، فقدم على غيره لعقله وفهمه وأهليته لذلك.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في عشية الأربعاء تاسع عشري المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقابرهم عند مسجد الذبان ظاهر دمشق وعمره اثنتان وأربعون سنة.
الأنساب والألقابابن عدلان: محمد أحمد.
ابن العديسة: محمد بن علي.
ابن العديم: عبد العزيز بن محمد. وناصر الدين محمد بن عمر بن عبد العزيز.
ابن عرام: بهاء الدين أحمد بن أبي بكر.
ابن بنت العراقي: عبد الكريم بن علي.
العزازي التاجر الشاعر: أحمد بن عبد الملك. وبدر الدين محمد بن عثمان. وولده فخر الدين عثمان بن أبي الوفاء.
ابن العز الحنفي: محمد بن محمد، وجمال الدين يوسف بن محمد.
ابن العز عمر: بهاء الدين علي بن عمر.
ابن العسال: أمين الدين فرج الله بن أسعد. وصلاح الدين يوسف بن أسعد.
بنو عساكر: جماعة منهم: شرف الدين أحمد بن هبة الله. وفخر الدين إسماعيل بن نصر الله. وبهاء الدين القاسم بن مظفر. وبدر الدين محمد بن الحسين.
ابن عسكر المالكي: عبد الرحمن بن محمد.
العسقلاني: بهاء الدين عبد الله بن محمد.
العشاب المحدث: أحمد بن محمد.
ابن عصية قاضي بغداد: أحمد بن حامد.
ابن أخت ابن عصفور: محمد بن أحمد.
أبو عصيدة صاحب تونس: محمد بن يحيى.
عضدبالعين المهملة المفتوحة، والضاد المعجمة المضمومة، والدال المهملة، الشريف الخواجكي، المعروف بابن قاضي يزدكان، أحد خواجكية القان بوسعيد.

أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: أخبرني الخواجا مجد الدين إسماعيل السلامي، أن المذكور كان فيه تسلط على الوزير ومن حول السلطان، ففكروا في إبعاده، وحسنوا لبوسعيد أن يجهزه رسولاً إلى الهند إلى السلطان محمد بن طغلق، قال: فجهزه، فلما وصل إليه أقبل عليه، وكان يقربه ويدينه ويؤثر كلامه ويسامره، وأعطاه شيئاً كثيراً إلى الغاية، ولما كان في بعض الأيام، قال له: ادخل إلى الخزائن، فدخلوا به إليها وعرضوها عليه. وقالوا: أمرنا السلطان أنك مهما أردت وأعجبك منها تأخذه، فأخذ من جميع الخزائن مصحفاً، فحكوا ذلك للسلطان، فأحضره وأنكر عليه ذلك، فقال: السلطان قد أغناني بإحسانه عن جميع ما رأيت، ولم يكن لي غنى عن كلام الله تعالى، فأعجبه ذلك منه، وأمر له بألف ألف دينار فحملت إليه. ولما عاد وقارب البلاد بلغ الوزير الخبر، فحسنوا لبوسعيد أن يجعل أحمد أمير ألكة بفتح الهمزة واللام والكاف وبعدها هاء ومعناه أن يكون له الحكم حيث حل من المملكة، وأن يفعل ما أراد، فتوجه المذكور إلى أطراف مملكة بوسعيد وتلقى الشريف عضد، وأخذ منه مبلغ مائتي ألف دينار، وضرب منها أواني، وقدم بعضها لبوسعيد أو كما قال.
عطاء الله بن عليابن زيد بن جعفر، الفقيه نور الدين بن الثقة الحميري الأسنائي.
كان فقيها فرضياً، عدلاً مرضياً، من كبار الصالحين، والأولياء الناجحين، انقطع ستين سنة في مكان، لا يخرج منه إلا للصلاة إذا سمع الأذان، ولا يملك شيئاً من الدنيا، ولا يرغب إلا فيما في المنزلة العليا.
ولم يزل على حاله إلى أن خانت الليالي لابن الثقة، وحانت من المنايا صعود العقبة الزلقة.
فتوفي رحمه الله تعالى بأسنا في سنة ثماني عشرة وسبع مئة. ووقع يوم موته مطر عظيم.
قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: أخبرت أنه قال: أنا أموت في هذا النهار، فإن والدتي أخبرتني أنني ولدت في يوم مطر عظيم.
وقال: أخبرني جماعة أنه لما قدم نجم الدين بن ملي إلى أسنا اجتمع به وتكلم معه في الفرائض والجبر والمقابلة، فقال: ما ظننت أحداً في كيمان الصعيد بهذه المثابة.
وكان رحمه الله تعالى سليم الصدر جداً، قال: قال لي صاحبنا علاء الدين الأصفوني: قلت له مرة: يا سيدنا، أبو بكر المؤذن طلق زوجته، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قلت له: لكن صارت بكراً كما كانت، فضحك وقال: فتبول من أين؟ وجمع دراهم ليحج بها، وأقام سنين يجمعها فسرقت، فقصد الوالي أن يمسك إنساناً بسببه فلم يوافق.
قال: وحكي لي عنه أنه كان يقول: الجن فلي الليل يمسكون إصبعي، ويقولون: هذا إصبع عطاء الله! وأخذ علمه من الشيخ بهاء الدين هبة الله القفطي، وأقام بالمدرسة الأفرمية التي بأسنا ستين سنة تقريباً منقطعاً لا يخرج إلا للصلاة في مسجد له أو لضرورة، وليس عنده إلا عمامة وفوقانية طاقية وفروة وشملة.
الألقابابن العطار: جماعة منهم: شرف الدين إبراهيم بن أحمد. كمال الدين كاتب الإنشاء أحمد بن محمود. والشيخ علاء الدين بن العطار علي بن إبراهيم بن داود. وبدر الدين محمد بن أحمد.
ابن عطاء السكندريتاج الدين أحمد بن محمد.
ابن عطاياسعد الدين الوزير محمد بن محمد.
الشريف عطوف محمد بن علي.

ابن عطية عطية بن إسماعيل.
عطية بن إسماعيل
ابن عبد الوهاب بن محمد بن عطية بن المسلم بن رجا اللخمي الإسكندراني المالكي، العدل الكبير جمال الدين أبو الماضي بن مكين الدين.
سمع كرامات الأولياء من مظفر بن الفوي، وتفرد بذلك. وكان والده من أصحاب الصفراوي وجده، وروى عن الحافظ ابن المفضل، وجدهم عطية أخو أحمد يروي عن أبي بكر الطرطوشي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة، وقد زاد على الثمانين أشهراً.
الألقابابن العفيف: الكاتب محمد بن محمد.
أولاد ابن عقبة: جماعة منهم: القاضي صدر الدين إبراهيم بن أحمد بن عقبة. وصدر الدين يعقوب بن إبراهيم.
العقيمي: جمال الدين عمر بن إبراهيم.
علي بن إبراهيمابن الخطيب يحيى بن عبد الرزاق بن يحيى، العدل المسند مؤيد الدين أبو الحسن الزبيدي بضم الزاي، المقدسي، ثم الدمشقي، ابن خطيب عقربا.

سمع من جده، ومن الناصح ابن الحنبلي، وابن غسان، والإربلي، وابن اللتي، والقاضي ابن الشيرازي، وسالم بن صصرى، ومحمد بن نصر القرشي، وحج فسمع بالمدينة من النجم بن سلام.
كان ديناً متواضعاً، ولي مخزن الأيتام. وناب في نظر الجامع وغير ذلك، وشهد على القضاة.
توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى وعشرين وست مئة.
علي بن إبراهيم بن داودالشيخ الإمام المفتي المحدث الصالح، بقية السلف، علاء الدين أبو الحسن بن الموفق بن الطبيب الشافعي، شيخ دار الحديث النورية، ومدرس القوصية والعلمية.
حفظ القرآن، وسمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وعبد العزيز بن عبد، والجمال ابن الصيرفي وابن أبي الخير، والمجد محمد بن إسماعيل ابن عساكر، والعماد محمد بن صصرى، وابن مالك شيخ العربية، والشمس ابن هامل، وأبي بكر محمد بن النشبي، وخطيب بيت الآبار، ومحمد بن عمر، والقطب ابن أبي عصرون، وأحمد بن هبة الله الكهفي، والكمال بن فارس المقرئ، والشيخ حسن الصقلي، والفقيه زهير الزرعي، والقاضي أبي محمد بن عطاء الأذرعي، ومدللة بنت الشيرجي، وإلياس بن علوان المقرئ وغيره.
وسمع بمكة من يوسف بن إسحاق الطبري، وأبي اليمن بن عساكر. وبالمدينة من أحمد بن محمد النصيبي. وبالقدس من قطب الدين الزهري. وبنابلس من العماد عبد الحافظ. وبالقاهرة من الأبرقوهي، وابن دقيق العيد.
وعمل له شيخنا الذهبي معجماً بلغ أشياخه فيه مئتين وسبع وعشرين شيخاً.
وسمعه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بقراءته سنة سبع وتسعين، وابن الفخر، وابن المجد، والمجد الصيرفي، والبرزالي، والمقاتلي.
وكان فقيهاً أفتى ودرس، وركب الجادة في العلم وألج وعرس، وجمع وصنف، ونسخ الأجزاء وألف، ودار مع الطلبة ووطف. وكان فيه زهد، وورع بلغ الجهد، وتعبد وأمر بالمعروف على زعارة أخلاقه، ومرارة في مذاقه. وكان قد صحب الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى، واشتعل ذهنه عليه اشتعالاً، وتفقه عليه، وحفظ التنبيه بين يديه. وكان له محبون وأتباع، وسوق نافقة فيها تطلب وتباع.
وأصيب رحمه الله تعالى بالفالج سنة إحدى وسبع مئة، وكان يحمل في محفة، ويكون فيها جالساً مرفه، ويدار به كذلك إلى الجامع والمدارس، ويمارس حامله ما يمارس.
ولم يزل على حاله إلى أن التقى عمله، وأعطاه الله من جوده أمله.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل ذي الحجة سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده يوم الفطر سنة أربع وخمسين وست مئة.
رأيته غير مرة ولم أسمع منه، لكن حصلت بركة رؤيته لا روايته.
وعقد يوماً مجلس بمشهد عثمان في أيام الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى فطلب العلماء والفقهاء، وغص المجلس بالأعيان، فما كان إلا أن جاء الشيخ علاء الدين بن العطار وقد حمله اثنان في محفته على عادته، فلما رآه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وقد دخلا به، قال: أيش هذا؟ من قال لكم تأتون بهذا، ورده تنكز إلى برا، وجلس خارج الشباك، إلا أن ابن الزملكاني لحق كلامه بأن قال: قنا لكم تحضرون العلماء، ما قلنا لكم تحضرون الصلحاء.
قلت: على كل حال كسر خاطره.
وكان يكتب بيده اليسرى. وكان قد حج غير مرة، وكان في شهر ذي القعدة سنة أربع وسبع مئة تكلم الشيخ شمس الدين بن النقيب وجماعة في بعض الفتاوي الصادرة عن الشيخ علاء الدين بن العطار، وأن فيها تخبيطاً ومخالفة لمذهب الشافعي، وأنه ينبغي للفقهاء والقضاة النظر في ذلك، وتوجهوا إلى الحكام، فحضر جماعة إلى ابن العطار وقالوا: إنهم قد هيؤوا شهادات يشهدون بها عليك، فبادر هو إلى القاضي الحنفي، وصورت عليه دعوى، فحكم بإسلامه وحقن دمه وبقاء جهاته عليه، ونفذ حكم ذلك، فلامه أصحابه على عجلته، فأحال الأمر على من نقل ذلك فأنكروا، ووصلت القضية إلى الأفرم فأنكر ذلك، وغضب لحصول الفتن بين الفقهاء، وأحضر ابن النقيب وجماعة، ورسم عليهم بالقصر أربع ليال، وأحضروا بدار العدل وسوعدوا، فأطلقوا بعد ذلك.
علي بن إبراهيم التجاني البجليأخبرني العلامة أثير الدين قال: المذكور أستاذ بتونس يقرأ عليه النحو والأدب، قدم علينا حاجاً، وأنشدنا بالقاهرة لنفسه:
إن الذي يروي ولكنه ... يجهل ما يروي وما يكتب

كصخرة تنبع أمواهها ... تسقي الأرض وهي لا تشرب
قال: وأنشدنا وكان الممدوح قد وهبه مالاً عوناً على الحج:
يا سيداً قامت لدهري به ... على الذي تعتبه الحجة
جودك للناس ربيع ولي ... منه ربيعان وذو الحجة
علي بن إبراهيم بن عبد المحسنابن قرناص علاء الدين الخزاعي الحموي الشافعي، ابن قرناص.
أخذ عن جماعة، ونسخ، وقرأ على الشيوخ ولم يكثر. سمع بمصر من ابن خطيب المزة، وبدمشق من شرف الدين بن عساكر.
وكان فصيح القراءة، قيل الدربة بالرجال، وله نظم.
توفي رحمه الله تعالى ثالث عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة بدمشق.
ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة.
ومن شعره...
علي بن إبراهيم بن عليابن معتوق بن عبد المجيد بن وفا، علاء الدين أبو الحسن الواسطي الأصل البغدادي المنشأ، الواعظ المعروف بابن الثردة، بالثاء المثلثة والراء والدال.
قدم إلى دمشق مرات ووعظ بها، وأخذ من فضتها وذهبها، ولكنه في المرة الأخيرة تغيرت حاله، وتغبت سماء عقله وغزاله، فالتحق بعقلاء المجانين، وسلك من الهذر في أفانين، وكان يثوب إليه عقله في بعض الأوقات، وتكون منادمته ألذ من الأقوات، فينشد الأشعار الرائقة له ولغيره، ويبذر الحب لسقوط طيره، ثم يعاود الاختلال والاختلاط، وينخل، إذ ينخل من الرباط. رأيته في هذه الحالة وهو يجاري القاضي شهاب الدين بن فضل الله بيتاً فبيتاً، ويسبق إلى نظم البيت حتى إخاله كميتاً.
وابتدأ بعمل كارة صغيرة يحملها تحت إبطه، ويجتهد عليها بكل جهده وضبطه. وهو يزيدها في كل يوم مما يراه مطرحاً في الطرق، إما خيطاً أو حبلاً ويديره عليها كالنطق، وتلك في كل يوم تنمو وتزيد، وهو يقاسي من حملها العذاب الشديد، حتى إنه يكون في الطهارة وهو يكابد حملها، وما ينكر حملها. ولما كان آخر وقت ضعف عن حملها فألقاها، وعجز عن ضمها ومعالجة شقاها.
وأصبح ابن الثردة طعام الدود، وشخصه المنتصب وهو تحت الأرض ممدود.
وتوفي رحمه الله تعالى بالبيمارستان النوري في أول شهر ربيع الآخر سنة خمسين وسبع مئة.
وسألته عن مولده، فقال: في ثاني عشري شعبان سنة سبع وتسعين وست مئة.
وكان في هذا الاختلاط يدعي أنه كانت له ببغداد كتب تقدير الألفي مجلد، وأن جماعة من التجار الذين قدموا إلى دمشق اغتصبوها وأخذوها منه، ولم يلق من يساعده على ذلك.
وكان ذلك من مخيلة السوداء، فساءت حاله وأضرت به، وأخذه الولع الزائد في هذه الكارة، ويطلبها الناس منه فيقول: لو دفع لي فيها ألف دينار ما أبعتها. وكان قد أتى إلى بعض الحكام وادعى عنده، وهو في هذه الحالة، على التجار الذين أخذوا كتبه، فقال له القاضي: يا شيخ علاء الدين، قولك دعوى، ألك بينة تشهد بذلك؟ فقال له: كيف يكون لي بينة، وقد صفعوك منها بمئتي مجلد، يعني دفعوها برطيلاً، فضحك القاضي والحاضرون منه.
وعلق عني أشياء من نظمي، وعلقت عنه. وقال لي يوماً: أنشدني هذين البيتين اللذين لك في الجناس، وأنا قد حفظتهما، ولكن أشتهي أسمعهما منك لأرويهما بالسماع. فأنشدته لنفسي:
أتاني كتاب فيه أن محبتي ... تلاشت كما قيل أي تلاشي
فيا قبح ما قد ضم جانب طرسه ... فضائح واش في فضاء حواشي
وكان إذا دفع إليه أحد شيئاً من دراهم أو غيرها يقول: من أنت؟ أظن عندك شيء من كتبي، فأنت تبرطلني على ذلك. ولا يقبل لأحد شيئاً.
وكنت أراه فأتألم لحاله، وأتوجع لما أصابه. وكنت أخضع له وأتذلل وأعطيه شيئاً قليلاً من الدراهم، فيقول: يا مولانا، والله لا أريد شيئاً من مالك. فأقسم عليه وأقول: لا بد من ذلك، فأنا محبك وراوية شعرك. فيأخذ من عرض ذلك درهماً واحداً، ولا يزيد على ذلك. فعله مرات.
وكتب، وهو في هذه الحالة، قصة للأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نظماً، نقلت ذلك من خطه، وهي:
يا نائب السلطان لا تك غافلاً ... عن قتل قوم للظواهر زوقوا
قوم لهم وقع وذكر في الورى ... ويرى عليهم في المهابة رونق
وإذا رأوا شيئاً عليه تحيلوا ... في أخذه وتأولوا وتملقوا
ما هم تجار بل لصوص كلهم ... فأمر بهم أن يقتلوا أو يشنقوا

المين دأبهم إذا ما حدثوا ... ما فيهم من في كلام يصدق
مرقوا من الدين الحنيف بأسرهم ... كالسهم ظل من الرمية يمرق
كم أستغيث وكم أضج وأشتكي ... منهم إليك وكم لقلبي أحرقوا
سدوا علي الطرق بغياً منهم ... أني اتجهت وللأعادي أذلقوا
وأتوا بمالي من لآمة طبعهم ... نحو الشآم وبينهم قد مزقوا
وأراك لا تجدي إليك شكاية ... إلا كأنك حائط لا ينطق
ماذا جوابك حين تسأل في غد ... عنهم ورأسيك من حيائك مطرق
ما أنت راع والأنام رعية ... وإذا ركبت، لك الملوك تطرق؟
كن منصف المظلوم من غرمائه ... فالبغي مصرعة وفعل موبق
واكشف ظلامة من شكا من خصمه ... فالحق حق واضح هو مشرق
لا تعف عن قوم سعوا لفسادهم ... في الأرض بغيا منهم وتجوقوا
وانصب لهم شرك الردى إن أنجدوا ... أو أتهموا أو أشأموا أو أعرقوا
لا تنبرق منهم وإن هم أسرجوا ... أو ألجموا أو أرعدوا أو أبرقوا
ومتى ظفرت بمفسد لا تبقه ... فبقاؤه للناس ضر مقلق
واكفف أكف الظالمين عن الورى ... ليكف عنك الله شراً يطرق
لا زلت سيفاً للأعادي قاطعاً ... ورؤوسهم مهما حييت تحلق
وبقيت في مجد رفيع لا يهي ... وبنود نصرك عاليات تخفق
علي بن إبراهيم بن عبد الكريمتاج الدين الكاتب المصري.
كان رجلاً عاقلاً، كثير السكون، فيه لطف وتودد إلى الناس. يعرف بكاتب قطلوبك، لأنه كان كاتب الأمير سيف الدين قطلوبك الكبير.
ولم يزل في الخدم الديوانية. وهو والد الشيخ الإمام العالم القاضي فخر الدين المصري الشافعي، الآتي ذكره في المحمدين إن شاء الله تعالى.
توفي في العشرين من شعبان سنة خمس وثلاثين وسبع مئة بالعادلية عند ولده المذكور، ودفن بمقبرة الباب الصغير ظاهر دمشق.
علي بن إبراهيم بن خالدالأمير علاء الدين بن جمال الدين.
كان قد باشر ولاية دمشق هو وأبوه.
وتوفي رحمه الله تعالى بقرية من قرى حوران في سابع عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبع مئة.
قال شيخنا علم الدين: رأيت سماعه على القاضي شمس الدين بن عطا الحنفي في سنن أبي داود. ويعرف بابن النحاس.
علي بن أحمد بن عبد الدائمابن نعمة بن أحمد، الشيخ أبو الحسن المقدسي الصالحي، قيم جامع الجبل.
سمع من البهاء عبد الرحمن، وابن صباح، وابن الزبيدي، وابن غسان، ومكرم، والإربلي، وأبي موسى الحافظ، وجماعة بدمشق، ولزم جعفر الهمداني.
كان رجلاً عابداً، فقيراً لأهوال هذه الدنيا مكابداً. ابتلي فصبر، وثبت على البلاء لما اجتاز به وعبر، وانقطع لما حصل له الزمانة، وشكر الله وما ذم زمانه.
وكان لا يبرح يتلو في المصحف بين يديه، ويتلو كل يوم ختمة يقدمها بين يديه. ودخل عليه التتار لما فتحوا الباب، وحموا له سيخاً ووضعوه في فرجه فمات في العذاب.
وكانت وفاته رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة عن ثمانين سنة.
علي بن أحمد بن عبد المحسنابن أحمد، الإمام الفقيه، العالم، المحدث، المسند، بقية المشايخ، تاج الدين أبو الحسن العلوي الحسيني الغرافي، بالغين المعجمة والراء المشددة وبعد الألف فاء، الإسكندري الشافعي، المعدل.
سمع في الخامسة من ابن عماد وطائفة، وببغداد من أبي الحسن القطيعي، وابن بهروز، وابن القبيطي، وجماعة.
وسمع منه شيخنا الذهبي جماعة أجزاء، وانتقى عليه عوالي، وخرج لنفسه ولغيره، وحمل عنه المغاربة والرحالون، وحدثوا عنه في حياته.
وكان قد سمع من ظافر بن شحم، وابن حاتم، وعلي بن جبارة.
كان له بالحديث أنس وعناية، ومعرفة بقوانين الرواية، وكان فقيهاً نبيهاً، وفاضلاً في بلده وجيهاً. وكتابته حسنة سريعة، وإذا ألقى الطرس من يده تراه روضة مريعة.
ولم يزل على حاله إلى أن لبى من دعاه، وجاء إلى البلاد من نعاه.

وتوفي رحمه الله تعالى في سابع ذي الحجة سنة أربع وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة.
وكان شيخ دار الحديث التي أنشأها نبيه الدين بن الأبزاري بثغر الإسكندرية.
علي بن أحمد بن جعفرابن علي بن محمد بن عبد الظاهر بن عبد الولي بن الحسين بن عبد الوهاب بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن يوسف بن يعقوب بن محمد بن أبي هاشم بن داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، الشيخ كمال الدين الهاشمي الجعفري القوصي، نزيل إخميم، المعروف بابن عبد الظاهر.
سمع من الشيخ أبي الحسن علي بن هبة الله بن سلامة، ومن شيخه مجد الدين بن دقيق العيد، وأجازه بالتدريس على مذهب الشافعي.
وصحب الشيخ علي الكردي، وقدم عليهم قوص، فاجتمع عليه الشيخ تقي الدين بن دقيق العبد والشيخ جلال الدين الدشناوي والشيخ كمال الدين هذا، وعبد الخالق بن الفقيه نصر، ولازموا الذكر بمسجد جلال بقوص.
وكان الشيخ كمال الدين هذا قد أصبح شيخ دهره، وأوحد عصره. قد جمع بين العلم والعمل، وبلغ من الصلاح كل أمل. وظهر له من الكرامات ما أخجل الشمس إذا حلت دارة الحمل. وانتشر ذكره، وصدق خبره خبره. وحكى الناس عنه أموراً في الصلاح لم تحك عمن سواه من أهل ناحيته، ولا رواها الرواة عمن هو في دائرته. وكان يحضر السماع، ويخلع فيه على الأغاني ما عليه من المتاع، وله فيه أحوال عجيبة، وإشارات مصيبة.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن عبد الظاهر في باطن الأرض، وأقام تحتها إلى يوم العرض.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة إحدى وسبع مئة ودفن برباط إخميم، وقبره هناك يزار. ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة بقوص.
وامتدحه الشيخ تاج الدين الدشناوي بأبيات منها:
محبك هذا العارف العازف الذي ... تبدى بوجه بالضياء مكلل
حليف التقي والشكر والذكر دائماً ... فلله هذا الشاكر الذاكر الولي
عزائمه العليا تضاهي مقامه ... ومقداره والسر أن أسمه علي
ألا إن لله الكمال جميعه ... وما لسواه منه حبة خردل
ومن شعر الشيخ كمال الدين بن عبد الظاهر:
يا عين بحق من تحبي نامي ... نامي فهواه في فؤادي نام
والله ما قلت ارقدي عن ملل ... إلا لعسى تريه في الأحلام
قلت: فيهما لحنتان خفيفتان خفيتان، ولو قال: " يا عين بمن سهرت فيه نامي " " إلا لعسى أراه في الأحلام " . لخلص من ورطة اللحن.
وقال الفاضل كمال الدين الأدفوي: حكى لي القاضي نجم الدين القمولي أن الشيخ كمال الدين رأى مرحاضاً قد أخرج ما فيه، ووضع بجانب المسجد، فقال في نفسه: لا بد أن أحمل هذا، فنازعته نفسه في ذلك، لأنه من بيت رياسة وأصالة وسيادة وعدالة، فقال: لا بد من ذلك، ثم استدرجها إلى أن حمله في النهار، ومر به في حوانيت الشهود حتى تعجبوا منه ونسبوه إلى خبل في عقله. ثم إنه سافر إلى القاهرة، واجتمع بإبراهيم الجعبري ولازمه وانتفع به. ثم إنه استوطن إخميم، وظهرت بها كراماته وانتشرت بركاته.
وقال حكى لي صاحبنا الفقيه علاء الدين العدل علي بن أحمد الأصفوني رحمه الله تعالى وكان ثقة في نقله، قال: كنت بأدفو أخذت في العبادة، ولازمت الذكر مدة حتى خطر لي أني تأهلت. قال: وكان أخي جلال الدين غائباً عنا مدة وانقطع خبره، فحضر شخص وأخبرني أنه قدم من ألواح ونزل سيوط، فسافرت إلى سيوط، فلم أجده، وصحبت شاباً نصرانياً ورافقته في الطريق إلى سوهاي، وصار ينشدني طول الطريق شعراً، وكان جميلاً ففارقته من سوهاي، ووجدت ألماً كبيراً لمفارقته، فدخلت إخميم وعندي وجد بذلك النصرانين فحضرت ميعاد الشيخ كمال الدين بن عبد الظاهر، فتكلم في الميعاد، على عادته، ونظر إلي وقال: لا إله إلا الله، ثم أناس يعتقدون أنهم من الخواص، وهم من عوام العوام، قال الله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " . والنحاة يقولون: مِن للتبعيض، ومعنى التبعيض ألا ترف شيئاً من بصرك إلى شيء من المعاصي.

ثم قال: حكى لي فقير قال: كنت في خدمة شيخ، فمررنا بدار، وإذا بامرأة جميلة ورأسها خارجة من الطاق تتطلع إلى الشارع، فوقف الشيخ زماناً يتطلع إليها ويتعجب من ذلك. ثم بعد ساعة والشيخ صاح صيحة عظيمة، وإذا بالمرأة نزلت وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فالتفت الشيخ إلى الفقير وقال: نظرت إلى هذا الجمال، فقال: أنقذني من هذا الكفر، فتوجهت إليه، فالشيخ ما نظر إلى حسن الصورة، وإنما نظر إلى صورة الحسن، فمن أراد ينظر إلى النصراني فلينظر كذا.
قال الشيخ علاء الدين: فصرخت ووقعت.
قال: وحكى لي صاحبنا محمد بن العجمي، وهو من أصحاب أبي عبد الله الأسواني قال: عمل سماع في دار ابن أمين الحكم، وحضر الشيخ ورؤساء البلد وخلق كثر، وكنت من جملة الحاضرين، فحضر القوال، وهو مظفر بالشبابات والدفوف، وقالوا شيئاً، ثم قال:
من بعد ما صد حبيبي ومار ... جا اليوم وزار
أبصرت ما كان أبركو من نهار
جاني حبيبي وبلغني المنى ... وزال عن قلبي الشقا والعنا
ودار كاس الأنس ما بيننا
يا ما أحسن الكاسات علينا تدار ... في وسط دار
أنا ومحبوبي نهاراً جهار
فقام الشيخ وقال: إي والله، أن ومحبوبي نهاراً جهار. إي والله. وطاب وخلع جميع ما عليه، وخلع الجماعة ما عليهم، ولم يبق كل أحد إلا بلباسه، ثم أرسلوا وأحضروا ثياباً، فقال: يا مظفر، قال: لبيك، قال: ثيابي وثيابك الجماعة، الجميع لك. فشدوا كارات. فقلت: يا مظفر لولا رأس هذا المنسر معك ما قشطت ثياب الجماعة، فبلغت الشيخ فضحك.
علي بن أحمد بن الحسينعلاء الدين الأصفوني.
اشتغل بالفقه على الشيخ بهاء الدين القفطي، وتأدب على الغضنفر الأصفوني والجلال بن شواق الأسنائي وغيرهما.
كان أديباً ذكياً، سري النفس زكياً. له مكارم لم تنلها الغمائم، ومحاسن تسجع بأوصافها الحمائم. وكان له شعر ألذ من نغمات الأوتار، وأطرب من تغريد القمري في الأسحار على الأشجار. وله يد طولي في صناعة الحساب، ومباشرة في الخدم السلطانية جعلها من باب الارتزاق والاكتساب. وجلس بين الشهود بقوص وبالقاهرة، وتقمص تلك الحلة الفاخرة.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه أمر ما أطاق دفعه، وأعمل الموت فيه خفضة ورفعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
أثنى عليه الفاضل كمال الدين الأدفوي، ووصفه بمكارم أخلاق.
قال: لما طلع داود الذي ادعى أنه ابن سليمان من نسل العاضد إلى الصعيد في سنة سبع وتسعين وست مئة، وتحركت الشيعة، بلغ علاء الدين هذا أنه قال لبعض أهل أصفون، إنه يتحمل عنه الصلاة. فنظم علاء الدين.
ارجع ستلقى بعدها أهوالا ... لا عشت تبلغ عندنا الآمالا
يا من تجمع فيه كل نقيصة ... فلأضربن بسيرك الأمثالا
وزعمت أنك للتكالف حامل ... وكذا الحمار يحمل الأثقالا
ولما ولى السفطي قوص سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وكان بصره ضعيفاً جداً حتى قيل إنه لا يبصر به شيئاً. وكان القاضي فخر الدين ناظر الجيش قد قام في ولايته. قال علاء الدين:
قالوا تولى الصعيد أعمى ... فقلت: لا بل بألف عين
وبلغه شعر الشيخ عبد القادر الجيلي، وهو:
ما في المناهل منهل يستعذب ... إلا ولي منه الألذ الأطيب
أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها ... طرباً وفي العلياء باز أشهب
فقال علاء الدين:
ما في الموارد مورد يستنكد ... إلا ولي فيه الأمر الأنكد
أنا قنبر الأحزان أملأ طلحها ... حزناً وفي السفلى غراب أسود
علي بن أحمد بن يوسف بن الخضرالشيخ الإمام العالم زين الدين أبو الحسن الآمدي الحنبلي العابر.
كان شيخاً مهيباً، يقظاً لبيباً، فهيماً أريباً، صالحاً صدوقاً، ثقة إذا كان نطوقاً، عابراً للرؤيا، عارفاً بأحوال الدنيا، أضر في أخر عمره، وكان إلى ذلك نهاية أمره.
وكانت تبدو منه عجائب مع عماه، وصوائب من كل سهم رماه، إلى أن فتن به القان غازان، وأنعم عليه بما زاد وبما زان. وكانت له منامات غريبة الكون، تدل على أنه له من الله نعم العون.

ولم يزل على حاله إلى أن بلغ الآمدي إلى مداه، وتجاوز عمره ببلوغ رداه.
وتوفي رحمه الله تعالى بعد سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
وكانت له حكايات عجيبة تحكى عنه، منها أنه أهدى إليه بعض أصحابه نصفية حسنة، فسرقت، فرأى في نومه شيخه الإمام مجد الدين عبد الصمد بن أحمد بن أبي الجيش المقرئ شيخ القراء ببغداد، وهو يقول له: النصفية أخذها فلان وأودعها عند فلان، اذهب وخذها منه. فلما استيقظ قال في نفسه: الشيخ مجد الدين كان صدوقاً في حياته، وكذلك هو بعد وفاته. فذهب إلى الرجل الذي ذكره، فدق عليه الباب، فخرج إليه، فقال: أعني النصفية التي أودعها فلان عندك، فقال: نعم، فدخل وأخرجها له، فأخذها وذهب، ولم يقل له شيئاً. وجاء السارق بعد ذلك إلى المودع يطلب النصفية، فقال له: جاء الشيخ زين الدين الآمدي، وطلبها على لسانك، فأعطيته إياها. فبهت السارق وبقي حائراً، ولم يعنفه الشيخ ولا واخذ.
ومنها أنه قال: رأيت في المنام كأن شخصاً أطعمني دجاجة مطبوخة، فأكلت منها ثم استيقظت وبقيتها في يدي. وهذا شيء عجيب.
وهذه الوقائع مشهورة عنه في تلك البلاد.
ولما دخل القان غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن جنكزخان بغداد في سنة .. ... وتسعين وست مئة، ذكر له الشيخ زين الدين المذكور، فقال: إذا جئت غدا المدرسة المستنصرية أجتمع به، فلما أتاها احتفل الناس له واجتمع بالمدرسة أعيان بغداد وأكابرها من القضاة والعلماء والعظماء، وفيهم الشيخ زين الدين لتلقي غازان، فأمر غازان أكابر أمرائه أن يدخلوا المدرسة قبله واحداً بعد واحد. ويسلم كل منهم على زين الدين، ويوهمه الذين معه أنه هو السلطان امتحاناً له، فجعل الناس كلما قدم أمير يزهزهون له ويعظمونه، ويأتون إلى زين الدين ليسلم عليه، والشيخ زين الدين يرد عليه السلام من غير تحرك له ولا احتفال، حتى جاء السلطان في دون من تقدمه من الأمراء في الحفل، وسلم على الشيخ وصافحه، فحين وضع يده في يديه نهض له قائماً، وقبل يده، وأعظم ملتقاه والاحتفال به، وبالغ في الدعاء له باللسان المغلي ثم بالتركي ثم بالفارس ثم بالرومي ثم بالعربي، ورفع به صوته إعلاماً للناس. فعجب غازان من فطنته وذكائه وحدثه ذهنه مع ضرره. ثم إن السلطان خلع عليه في الحال ووهبه مالاً ورسم له بمرتب في كل شهر ثلاث مئة درهم، وحظي عنده وعند أمرائه ووزرائه وخواتينه.
وكان يتجر في الكتب، وعنده كتب كثيرة جداً، وإذا طلب منه إنسان كتاباً نهض إلى كتبه، وأخرجه من بينها. وإن كان الكتاب عدة مجلدات، وطلب منه الأول مثلاً أو الثاني أو الثالث أو غيره أخرجه بعينه. وكان يمس الكتاب أولاً، ثم يقول: يشتمل هذا المجلد على كذا كذا كراسة، فيكون الأمر كما قال: وإذا مر بيده على الصفحة قال: عدد أسطرها كذا كذا سطراً، فيها بالقلم الغليظ هذا وهذا، المواضع كتبت به، وفيها بالأحمر هذا وهذا، المواضع كتبت به. وإن اتفق أنها كتبت بخطين أو ثلاثة، قال: اختلف الخط من هنا إلى هنا، من غير إخلال بشيء منها مما يمتحن به.
وكان لا يفارق الإشغال والاشتغال في غالب أوقاته، وللناس عليه إقبال عظيم لدينه وورعه.
ومن تصانيفه: جواهر التبصير في علم التعبير، وله تعاليق كثيرة في الفقه والخلاف وغير ذلك. وانتفع به جماع.
علي بن أحمد بن سعيدابن محمد ابن الأثير، القاضي الكبير الصدر علاء الدين أبو الحسن بن القاضي تاج الدين الحلبي الأصل ثم المصري، صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية أيام السلطان الملك الناصر محمد.

وكان السلطان لما توجه في المرة الأخيرة إلى الكرك توجه القاضي علاء الدين معه فأقام عنه مدة، ووعده بالمنصب، وأعاده إلى القاهرة. ولما قدم السلطان من الكرك أباع القاضي علاء الدين إكديشا كان عنده بمئة وعشرين درهماً، واشترى بذلك حلوى، وتوجه للقاء السلطان، فلما استقر له الأمر، قال السلطان للأمير الدوادار: اكتب إلى محيي الدين بن فضل الله، وقل له يكتب إلى أخيه القاضي شرف الدين ليطلب مني دستوراً في التوجه إلى الشام، وأنا أستحيي أن أبدأه بالخورج من مصر. فكتب محيي الدين إلى أخيه بذلك فلم يلتفت إليه، وقال: أنا ما أعيش بعقل يحيى. ولما علم السلطان بذلك رسم للقاضي شرف الدين بن فضل الله في أوائل المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة بأن يكون صاحب ديوان الإنشاء بدمشق عوضاً عن أخيه القاضي محيي الدين، وتولى القاضي علاء الدين بن الأثير مكانه في كتابة السر بالديار المصرية في سابع عشر ذي الحجة يوم الثلاثاء سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
وكان القاضي شرف الدين له على السلطان خدم كثيرة، وإنما لما خرج إلى الكرك جهز معه القاضي علاء الدين بن الأثر، وكان في تلك الأيام صغيراً بين الجماعة، فنقم السلطان ذلك، ونسبه إلى شرف الدين، ووعد القاضي علاء الدين بالمنصب.
ولما ولاه عظمه وقربه وكرمه وأنعم عليه ونوه بقدره، وبلغ منه في المكانة العالية ما لم يبلغه أحد. وكان يأمره السلطان بأشياء إلى نواب الشام، ويقول له: اكتب إليهم بكذا وكذا عنك، فيكتب إليهم بما أمره، حتى إلى الأمير سيف الدين تنكز، فزادت عظمته في القلوب ووجاهته، وكان يركب بستة عشر مملوكاً من الأتراك، فيهم ما هو بعشرة آلاف درهم وأكثر. وكان أخيراً يقف هؤلاء المماليك في خدمته بالديوان سماطين ولا يتكلم إلا بالتركي، ومماليكه يقربون كلامه للناس.
وكان فيه ذكاء وعنده نباهة، وحسن كتابة، فيها للنواظر نزاهة، وتدبير يعينه على التقدم والوجاهة، وإحسان إلي من يعرفه، وجود على من يحضر إليه من الشام ويصرفه. أنشأ جماعة وقدمهم في الدولة، وجعل لهم بنظره إليهم أبهة في النفوس وصوله. واقتنى المماليك والأملاك، وخضع له الأمراء والنواب والأملاك، وحصل نعماً أثيرة، وأصل في الديوان كلمات كثيرة، ودانت له الأقدار، وصفت له أيامه من الأكدار.
وعلا علاء الدين بن الأثير، إلى أن صار من دونه الفلك الأثير، ورقد في سعوده على الفرش الوثير، ورأى كل من دونه قليلاً وهو كثير، وتقدم به أولاد أخيه، وكتبوا معه في الدست، فشدت بهم قواعد الملك وثبتت أواخيه.
وأصبح ذكره في كل أرض ... يدار به الغناء على العقار
ولم تزل كواكبه في سعود ، ومراتبه في صعود، إلى أن قلب الدهر له مجنه، وأظهر له ما كان أكنه، وتيقظ له وكأنما كان في أكنه، ورمي بفالج عدم معه الانتفاع بحواسه، وبطلت حركة يده وطالما كان القلم فيها كأنما شد بأمراسه على أم رأسه، وعز أمره وما نزل به على السلطان، وطلب علاجه من النازحين والقطان، فما نجع فيه دواء من يعالج، ولا ظهر طريق مستقيم لطب ما به من الفالج، فنزل من ديوانه إلى البيت، ورآه الناس وهو حي كأنه الميت، و:
ما زال يدفع كل أمر فادح ... حتى أتى الأمر الذي لا يدفع
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء منتصف شهر الله المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن يوم الخميس بمقبرتهم بالقرافة، ومات وهو في حدود الخمسين.
أصابه مبادي فالج، فكابر هو نفسه، وصار يدخل ويخرج إلى السلطان ويفهم السلطان عنه ذلك، وما يقول له شيئاً، فلما كان في بعض الأيام أراد أن يقوم من بين يدي السلطان ويحمل الدواة بيمينه، فسقطت من يده فتألم له السلطان، وقال للأمير سيف الدين ألجاي الدوادار: اكتب إلى نائب الشام ليجهز لنا القاضي محيي الدين بن فضل الله، وسر السلطان يقول له: يا علاء الدين، أنزل واضرب لك خاماً في جزيرة الروضة، وعالج هذا الحادث، وأنا أجهز لك الأطباء، فلم يفعل، وبقي في الديوان مريضاً إلى أن جاء الخبر بوصول القاضي محيي الدين بن فضل الله إلى قطيا، فقال لألجاي: مخر ابن الأثير بالنزول إلى بيته. فجهز يقول له: قد جاء صاحب الديوان ووصل، وغداً يكون هنا، فباسم الله أنزل استريح في بيتك.
سبحان الله العظيم، هم أولا به عزلوا، وهو ثانياً بهم عزل.

فذي الدار أخدع من مومس ... وأمكر من كفة الحابل
وكان نزول ابن الأثير إلى بيته في أوائل المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وأقام في بيته، وتزايد به المرض، وجهز السلطان أحضر أمين الدين سليمان رئيس الأطباء بدمشق، وقال له لما وصل: أنزل إلى القاضي علاء الدين بن الأثير، وعالجه ووعده، فنزل إليه وعالجه فما أفاد وآل أمره إلا أنه لم يبق فيه شيء يتحرك غير جفونه فكان إذا أراد شيئاً علا صارخاً بصوته، فيحضرون إليه، ويدقون على الأرض دقات متوالية، وهو يعد الحروف من أول المعجم، فإذا وصلوا إلى أول حرف من مقصوده أطرق وأغمض جفنه، فيحفظون ذلك الحرف، ثم يفعلون ذلك، فإذا وصلوا إلى الحرف الثاني من مقصوده أغمض جفنه. ولا يزالون كذلك حتى يفهموا عنه قصده. وكان الزمان يطول عليهم وعليه حتى يفهموا عنه لفظة أو لفظتين. نسأل الله تعالى العفو والعافية من آفات هذه الدار.
وكان يكتب خطاً قوياً منسوباً، وله قدرة على إصلاح اللفظة وإبرازها من صورة إلى صورة، وما كن يخرج كتاب عن الديوان حتى يتأمله، ولا بد له أن يزيد فيه بقلمه شيئاً. وله إنشاء، وهو الذي أنشأ توقيع الشيخ مجد الدين الأقصرائي بمشيخة شيوخ الخانقاه بسرياقوس لما فرغت عمارتها.
وعلى الجملة، فإنه عمل كتابة السر جيداً، ونفذ المهمات على أحسن ما تكون.
ومدحه شعراء عصره. ومما كتب إليه به ما أنشدناه لنفسه إجازة شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود رحمه الله تعالى:
أما ومكانة لك في ضميري ... وذكرك لا يزال معي سميري
لقد سافرت بالأشواق أسعى ... إليك وإن قعدت عن المسير
ولو أدركت من زمني مرادي ... لما ناب الكتاب عن الحضور
ولم أوثر ولا لابني اختياراً ... بخطي من نوال ابن الأثير
وكيف وليس إلا بالتثامي ... بنان يديه يكمل لي سروري
كريم طاهر الأعراق تعلو ... أصالته على الفلك الأثير
له خلق يدمثه حياء ... كروض دمثته يد الغدير
وجود كلما أخفاه صوناً ... حكى شمس الظهيرة في الظهور
إذا وشى بليل النقس صبح ال؟ ... طروس أراك نوراً فوق نور
وأبدي للموالي والمعادي ... أماني أو منايا في السطور
وله فيه أمداح كثيرة.
وأنشدني من لفظه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة قصيدة، مدحه بها، أولها:
أصاب بجفنه عقل الأسير ... فيا ويل الصحيح من الكسير
غزال كالغزالة في سناها ... تجحبه الملامة بالسفور
منها:
يلذ تغزل الأشعار فيه ... لذاذة مدحها في ابن الأثير
أغر إذا احتبى وحبا العطايا ... رأيت السيل يدفع من ثبير
أخو يومين يوم ندى ضحوك ... ويوم ردى عبوس قمطرير
كأن حديثه في كل ناد ... حديث النار عن نفس العبير
له قلم سرى للنفع سار ... يبيت على الممالك كالخفير
تلثم بالمداد لثام ليل ... فأسفرت عن سنا صبح منير
علي الاسم والأوصاف يزهى ... به الدهر العلي على الدهور
من القوم الذين لهم صعود ... إلى العلياء أسرع من حدور
سما شعري وزاد على علاهم ... فلقبناه بالفل الأثير
أأندى العالمين يداً وأجدى ... على العافين في الزمن العسير
إليك سعى رجاي وطاف قصدي ... فدم يا كعبة للمستجير
ولما دخلت أنا إلى القاهرة في سنة سبع وعشرين وسبع مئة وجدت بعض الناس قد لهج بالمقامة للقاضي علاء الدين بن عبد الظاهر التي وسمها ب؟ مراتع الغزلان، وكلفت أنا في ذلك بإنشاء رسالة في تلك المادة، فأنشأت رسالتي التي وسمتها ب؟ عبرة اللبيب بعبرة الكئيب، وكتبت في أولها أبياتاً تتعلق بمديحه، وقد شذت الآن عني، وحملتها إليه، فوقف عليها. ولما جئته بذلك قال لي: الله يزيدك من فضله. وطوق علي، فقلت له: والله يزيدك سعادة.
علي بن أحمد بن عبد الواحد

قاضي القضاة أبو الحسن عماد الدين بن محيي الدين أبي العباس بن بهاء الدين أبي محمد الطرسوسي الدمشقي الحنفي.
كان قاضياً سؤوساً، عالماً في مذهبه رئيساً. كم ألقى دروساً، وأطلع من ألفاظه غروساً، حسن الشكل مديد القامة ظريف العمامة، كأن وجهه الشمس تحت الغمامة.
لم ينكد عليه في منصبه، ولا رأى فيه ما ارتاع بسببه. ماشياً فيه على السداد، سالكاً فيه سبل الرشاد. يعظمه نواب السلطنة بالشام، ويثنون على ما له من القضايا والأحكام.
وكان لا يمل من قراءة القرآن، ولا يفتر لسانه عن سرد آياته في كل زمان ومكان إلى أن سأل في النزول عن منصب القضاء لولده، وإيثاره به لما دار في خلده. فأجابه السلطان إلى ما قصده وعجل له الأمر الذي رصده. فلازم بيته آناء الليل وأطراف النهار، ويعمل على خلاصة في غد إذا وقف على شفا جرف هار.
إلى أن حان مصرعه، وآن من ورد المنية مكرعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الاثنين ثامن عشري الحجة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ودفن بالمزة.
وكان الأمير تنكز رحمه الله تعالى قد ولاه تدريس المدرسة القايمازية بعد وفاة الشيخ رضي الدين المنطيقي في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، فكتبت أنا توقيعه بذلك. ونسخته: الحمد لله الذي جعل عماد الدين علياً، وأيد شرعه المطهر بمن رقى بعلمه سموا وأصبح للوصي سميا، ورفع قدر من إذا كان في حفل همى ندى وحنى ندياً، وهدى الناس بأعلام علمه التي إذا خفقت كم هزمت كميا وقادت إلى الحق أبياً.
نحمده على نعمه التي جعلت العلماء للأنبياء ورثة، وأقامت بهم الحجة على من نكب عن الحق أو نقض الميثاق ونكثه، ونفت بهم شبه الباطل عن الدين القيم كما ينفي الكير خبثه. وجعلت كل حبر منهم إذا نطق في المحافل جاء بالسحر الحلال من فيه ونفثه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ندخرها في المعاد خير عدة، ونأمن بها يوم الفزع الأكبر إذا ضاق على الناس خناق الشدة، ونجدها في الصحائف نوراً يضيء لنا إذا كانت وجوه الذين كذبوا على الله مسودة. وتجعل أيدينا على قطاف ثمار الرحمة وجنى غصونها ممتدة.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خير من هدى الخلق ببرهانه، وأشرف من قضى بين الناس بالحق وفرقانه، وأعز مزن دفع في صدور البلغاء بنان بيانه، وأكرم من أطلق في ملكوت الله عز وجل عنان عيانه.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين رووا لأوليائهم السنة، ورووا من أعدائهم الأسنة، وأضحت طريقهم لطالب هدية الهدى مطية المظنة، وأمسوا حرباً لحزب الشيطان الذين جعل الله في آذانهم وقراً وعلى قلوبهم أكنة، صلاة تطلق جياد الألسنة في ميدانها الأعنة، وتبلغهم أمانيهم التي بايعهم عليها بأن لهم الجنة.
وبعد، فلما كان العلم الشريف هو لدين حافظ نظامه، وضابط أحكامه في حلاله وحرامه، بنشره يطيب نشر الإيمان وأرجه، ويتسع من صدر الجاهل بأحكام ربه تعالى ضيقه وحرجه. والعلماء هم الذين يرعون سوامه ويراعون، ويقدمون على منع من يتعدى حدود الله تعالى فما يهابون ولا يهانون ولا يراعون. وكفى بالعلماء فخراً أنهم للأمة أئمة الاقتداء، وأن مدادهم جعله الله بإزاء دم الشهداء.
وقد خلت في هذه الأيام المدرسة القايمازية، أثاب الله واقفها، ممن ينشر فيها أعلام العلم، ويبدي في مباحثه مع خصومه معنى الحرب في صورة السلم، وينبت في رياض دروسها دقائق النعمان، ويثبت في حياض غروسها دقائق النعمان.
تعين أن يقع الاختيار على من يحيى بدروسه ما درس من مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، رضي الله عنه، ويجدد بفضائله التي أتقن فنونها ما رث من أقواله التي لا توجد إلا فيه، ولا تؤخذ إلا منه.

وكن المجلس العالي القضائي العمادي أبو الحسن علي الطرسوسي، أدام الله أيامه، وأعز بالطاعة أحكامه، هو الذي تفرد بهذه المزايا، وجمع هذه الخلال الحميدة والسجايا، تضع الملائكة له إذا خطا في العلم الأجنحة، ويتخذ الناس إذا اضطروا لدفع الأذى عنهم من صلاح الأسلحة، قد أراد الله به خيراً لما وفقه وفقهه في الدين، وأقامه حجة قاطعة ولكن في أعناق الملحدين، تنقاد المشكلات لذهنه الوقاد في أسلس قياد، وتشيد أفكاره الدقيقة للنعمان إمامة ما لا شادته من المجد للنعمان أشعار زياد، وتبيت النجوم الزهر ناظرة إلى محاسن مباحثه من طرفها الخفي، وتنكف الألسنة الحداد من خصومه إذا جادلهم وتنكفي، ويأتي بالأدلة التي هي جبال لا تنسفها مغالط النسفي.
فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أعلاه الله تعالى أن يفوض إليه تدريس المدرسة المذكورة. فليظهر عرائس فضله المجلوه، ويبرز نفائس نقله المخبوه، وليطرز دروسه بدقائقه التي بهرت، ويزد المباحث رونقاً بعبارته التي سحرت الألباب وما شعرت، إذ هو الحاكم الذي سيف قلمه إذا أمضاه كان في الدماء محكماً، والحبر الذي لا يقاس به البحر وإن كان القياس في مذهبه مقدماً، والعالم الذي إذا نهض بالإملاء فهو به ملي، والفاضل الذي إن كان العلم مدينة فبابها علي.
وليتعهد المشتغلين بالمدرسة بمطالبة محفوظهم، والحث والحض على الأخذ بزيادة العلم، فإن ذلك أسعد حظوظهم، والحفظ والجدل جناحا العلم ويداه، وبهما يتسلط الطالب على مقاربة المدى وإن كان العلم لا نهاية لمداه. فمن استحق رقياً على غيره فليرقه، وليوفه حقه؛ فإنه إذا نظر الحاكم في أمره وصل إلى حقه.
والتقوى هي ملاك الأمور وقوامها، وصلاح الأحوال ونظامها، على أنه أدام الله أيامه هو الذي يشرع الوصايا لأربابها، ويعلم المتأدب كيف يأتي البيوت من أبوابها. وإنما أخذ القلم على العادة نصيبه، وأتى بنكت ومن علم العوان الخمرة كانت منه عجيبة.
والله يوفق أحكامه السديدة، ويمتع الأيام بمحاسنه، فإنها في الناس باب القصد وبيت القصيدة، والخط الكريم أعلاه حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفق بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وكان قد وصل تقليده من الديار المصرية بقضاء قضاة الحنفية بالشام عوضاً عن قاضي القضاة صدر الدين الحنفي البصروي في نصف شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وخلع عليه ، وقرئ تقليده يوم الجمعة بجامع دمشق، وولي الحكم مع تدريس المدرسة النورية، واستناب في الحكم عنه القاضي عماد الدين إسماعيل بن محمد بن أبي العز الحنفي.
وكان قاضي القضاة عماد الدين صاحب هذه الترجمة ينوب أولاً في الحكم عن قاضي القضاة صدر الدين، فلما توفي رحمه الله تعالى عين هو للمنصب لجودة أحكامه وحسن سيرته. وكان قد باشر النيابة بعد موت القاضي شمس الدين بن العز الحنفي في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
علي بن أحمد بن زفرابن أحمد بن مظفر الإربلي، الدنباوندي الأصل، الشيخ الفاضل عز الدين أبو الحسن الصوفي.
كان فقيراً قانعاً، خبيراً نافعاً، محفوظه كثير، وملفوظه غزير، حسن المجالسة، كثير المؤانسة. رأى بلاداً عديدة، وأنفق فيها مدة مديدة، ونظر في علوم كثيرة، وحصل منها فوائد إذا ذكرها تخجل اللآلئ النثيرة.
وكان ضبطه جيداً، ونقله مقيداً، وزكي في الطلب فلم يعالج تورعاً، وفعل ذلك تبرعاً.
ولم يزل على حاله إلى أن أربد وجه الإربلي، ومحي أثره تحت الثرى وبلي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ويم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة بإربل.
وكان قد سافر البلاد وأقام بتبريز وماردين وغيرها من المدن.
وكان قد رتب بمدرسة الطب، وزكي، وأذن له في العلاج. ولم ينتصب لذلك.
كان صوفياً بدويرة حمد، وساكناً بها، وكان قد اختار مقام دمشق إلى أن مات.
علي بن أحمد بن محمدابن أبي بكر بن عمر بن الشيخ علي الحداد، المؤذن بالجامع الأموي بدمشق.
كان له شعر ومدائح نبوية، وكان ينشد في المحافل والمجالس. وتعلم صناعة الحدادة بالعقيبة، وأذن بالمرشدية، والصاحبية، وجامع النيرب، وبيروت. وحج غير مرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده بحلب سنة خمس وخمسين تقريباً.

علي بن أحمد بن عبد الرحمن
ابن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، الإمام الخطيب فخر الدين أبو الحسن بن قاضي القضاة نجم الدين أبي العباس ابن الشيخ قاضي القضاة شمس الدين أبي محمد الخطيب بالجامع المظفري بسفح قاسيون.
توفي رحمه الله تعالى في ليلة الأحد حادي عشري شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وقد قارب الخمسين.
سمع من الشيخ فخر الدين بن البخاري وغيره.
وحدث، وفوض أمر الخطابة إلى خاله الشيخ عز الدين محمد بن الشيخ عز الدين إبراهيم بن الشيخ شرف الدين ابن الشيخ أبي عمر، وإلى ابن أخته نجم الدين أحمد بن قاضي القضاة عز الدين محمد بن قاضي القضاة تقي الدين سليمان بن حمزة، بينهما على الاشتراك.
علي بن أحمد بن محمد الأميرالسيد الشريف علاء الدين العباسي. أحد أمراء العشرات بدمشق.
أول ما عرفت من أمره أنه كان والياً بالقدس، ثم إن الأمير سيف الدين أخذه وجعله أستاذ داره الكبير في بابه. ولما أمسك هو في جملة مباشري ديوانه، ووزن شيئاً في تلك المرة، ثم إنه تولى شد الأوقاف في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وتداول هو والأمير حسام الدين بن النجيبي هذه الوظيفة مرات، ثم إنه قوي عليه بانتمائه إلى الفخري، ثم أعطي إمرة عشرة مع الوظيفة.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في مستهل ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
وكان شكلاً طويلاً، تام الخلق نبيلاً، له عبسة وطل جلسه، وصمت وإطراق وإعراض عمن يخاطبه وإخراق. إلا أنه ليس فيه شر، ولا عنده كر إلى الفتن ولا فر.
ولما كان الفخري بدمشق، ويئس من مجيء السلطان أحمد الناصر من الكرك، وبلغه أنه توجه إلى مصر، خطر له الخروج على المصريين، وقال: هذا عندنا رجل شريف عباسي، نقيمه نحن خليفة، ونبايعه، وما نحتاج إلى أحد من المصريين. وكان الفخري قد عني هذا علاء الدين مشد الأوقاف.
علي بن أحمد بن أسدالقاضي علاء الدين بن الأطروش، ابن أخي شمس الدين بن الأطروش، كان يعرف بالسكاكيني.
وسمع القاضي علاء الدين هذا الدار قطني على الحافظ شرف الدين الدمياطي. وكان شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يقول: هو رفيقي في السماع على الدمياطي.
وحدث بدمشق، وربما حدث بالديار المصرية.
ورد إلى دمشق في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر متولياً نظر الحسبة، وذلك في سنة ثلاث وأربعين، في أواخرها، وباشرها مباشرة جيدة بصلف ومهابة. ولم يزل بها، وهو يخدم الأمراء المصريين وغيرهم إلى أن سعى في طلبه مع الأمير سيف الدين أرغون العلاي والحجازي وغيرهم، فطلب إلى مصر في أواخر سنة خمس وأربعين، فتوجه إلى القاهرة، وباشر الحسبة بها ثم إنه عزل منها، وتولى حسبة دمشق مرة ثانية، فورد إليها بعد وفاة الشيخ عز الدين بن المنجا المحتسب في سنة ست وأربعين وسبع مئة فيما أظن، وتولى مع الحسبة نظر الأسرى بدمشق أيضاً، فباشر ذلك مدة لطيفة، وانفصل من الأسرى، وبقي على وظيفة الحسبة بدمشق، وهو مستمر على خدمة الأمراء المصريين، يسعى في العود إلى القاهرة. فطلب إليها ثانياً من دمشق في سنة.... .
وأقام بها، وتولى الحسبة بالقاهرة ونظر المارستان المنصوري مرات، وعزل منهما ثم أعيد إليهما، وولي قضاء العساكر بالقاهرة أيضاً، ولما تولى علم الدين بن زنبور الوزارة عزله من وظائفه، ثم إنه أعيد إليها ثم عزل أخيراً من البيمارستان.
وبقي على الحسبة وقضاء العساكر إلى أن ورد الخبر إلى دمشق بوفاته رحمه الله تعالى وصلى عليه بالجامع الأموي صلاة الغائب يوم الجمعة عشري جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. وكانت وفاته بالقاهرة يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة.
وكان رحمه الله فيه خدمة للناس، ورعاية لأصحابه، ومكارم لمن يصحبه.
أول ما عرفت من أمره أنه تعلق على صحبة الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وتمارض في وقت، وسعى مع أصحابه في أن يعوده الجاولي، فجاء إليه وعاده، فطار هذا الخبر في القاهرة، فتشبه الناس بالجاولي، وعاده الكبار من أرباب السيوف والطيالس.

ولم يزل بعد وفاة السلطان الملك الناصر يسعى مع أمراء الدولة إلى أن ولي حسبة دمشق، كما تقدم. وكان من رجالات العالم في السعي، وحفظ المودة والرعي، لا يمل من المشاكلة للأكابر، والتردد إليهم إن كانوا أرباب سيوف أو محابر، والتودد إلى من حولهم، والتعهد إلى من يسمع قولهم، ولا يزال يداخلهم بكل صنف يميلون إليه، وينازلهم في كل مربع ينزلون عليه، حتى يخلب قلوبهم بخدمه، ويثبت لديهم رسوخ قدمه، فحينئذ يقترح بعد التطفل، ويترفع بعد التسفل.
له عزمة ما استبطأ الدهر نجحها ... ولا استعتب الأيام وري زنادها
إذا شوهدت بالرأي بان اختيارها ... وإن بان ذو الرأي اكتفت بانفرادها
وكانت الدنيا تهون عليه في البذل، ويستوي عنده في المكارمة ذو الوجاهة والنذل، لا يرى إلا قضاء مآربه، وإضاءة الوجود بذكره في مشارقه ومغاربه.
ولما جاء إلى حسبة دمشق عبث بشمس الدين الشاعر الخياط المنبوز بالضفدع، وضربه واعتقله، وهم بحلق ذقنه، فقام في أمره القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وخلصه، فتسلط على عرضه، وهجاه بقصائد ومقطعات كثيرة، من ذلك قوله وقد ركب بغلة بزنار:
رقى ابن الأطروش إلى رتبة ... باغ لها الجنة بالنار
تنصرت بغلته تحته ... فقد غدت تمشي بزنار
علي بن أرقطايالأمير علاء الدين بن الأمير الكبير سيف الدين الحاج أرقطاي نائب صفد وطرابلس وحمص وحلب والقاهرة، تقدم ذكر والده في مكانه.
كان ذا وجه سبحان من أبدعه، ومحيا كأن الله تعالى خلق الجمال له وأودعه. حلو الصورة، كأن المحاسن عليها مقصورة، أو صفات الجمال البارعة فيها محصورة، أو الفتنة تقابلها العيون من صورة منصوره، أو صفات الجمال البارعة فيها محصورة، أو الفتنة تقابلها العيون من صورة منصوره، إذا رأى الناظر عينيه يخال أن الكحل في جفونها قد نفض، والسحر من الزمن القديم إلا من حركاتها قد رفض، بقوام من أين للغصون الميادة حركاته، أو للقنا الذابل تحت الأسنة فتكاته، وذؤابة أورق بها من قده الغصن الرطيب، وحكت مجنون ليلى إذا خطا، فهي تخط على كثيب:
حلو الشمائل والمعاطف أهيف ... جمعت ملاحة كل حسن فيه
يختال معتدلاً فإن عبث الصبا ... بقوامه متعرضاً يثنيه
كان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى يميل إليه ميلاً شديداً، ويجد منه غراماً جعل قلبه في هواه عميداً، إلا أنه على عادته، في هواه، وقاعدة جواه، لم ينل منه إلا لذة نظره، واستجلاء قمر وجهه في دياجي شعره. طلبه وطلب أخاه إبراهيم، وكان الآخر بارع الجمال، ولكن علي هو البدر في ليالي الكمال. وكتب إلى السلطان في معناهما، وأمرهما عنده بدمشق، لبسا تشاريفهما، وأنزلهما عنده بدار السعادة، وأقاما قريباً من شهر. وجعل علياً بطبلخاناه وإبراهيم بعشرة، وأعادهما إلى أبيهما.
وتوجه أمير علي مع والده إلى الديار المصرية، وأقام فيها مدة إلى أن هصرت يد الموت غصنه الرطب، وأعظمت على أبيه الخطب، وتوفي رحمه الله تعالى.
علي بن إسحاقالشيخ المسند علاء الدين أبو الحسن بن الملك المجاهد صاحب الجزيرة بن السلطان بدر الدين لؤلؤ الأتابكي صاحب الموصل.
سمع من الحراني جزء ابن عرفة، والمصافحات، المخرجة له والثمانيات وغير ذلك. وسمع من ابن علاق الجمعة للنسائي.
وكان من أعيان الجند بالقاهرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر ربيع الآخر، سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
ومولده ثامن عشري المحرم سنة سبع وخمسين وست مئة بجزيرة ابن عمر.
علي بن إسماعيل بن إبراهيمابن كسيرات، القاضي تاج الدين بن الصاحب مجد الدين المخزومي.
كان يخدم بطرابلس في وظائف الديوان من سنين.
وكان كاتباً ظريفاً شاباً، لين الشمائل، ظاهر الرئاسة، له اشتغال ونظم. سمع مع الشيخ علم الدين البرزالي كثيراً.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده فلي مستهل الحجة سنة تسع وستين وست مئة.
علي بن إسماعيل بن أبي العلاءابن راشد بن محسن، الشيخ الفاضل علاء الدين أبو الحسن الدمشقي القواس الوتار.
سمع من ابن أبي اليسر والزين بن الأوحد، والبدر عمر بن محمد الكرماني. وحدث.

وكان رجلاً جيداً فاضلاً أديباً، له نظم، وعنده طرف من العربية واللغة، وذهنه جيد. وكان حسن المجالسة والمحاضرة، ملازماً لسوق القواسين، يقصده الناس في دكانه، ويصحح جماعة عليه ما يقرؤونه عليه في المواعيد وعلى الكراسي.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس صفر سنت ست وثلاثين وسبع مئة.
علي بن إسماعيل بن يوسفالإمام العالم العامل العلامة القدوة العارف المسلك، ذو الفنون قاضي القضاة بدمشق الشافعي شيخ الشيوخ بالديار المصرية، القونوي التبريزي.
سمع الحديث عن إبراهيم بن عنبر المعروف بالمارداني، وأبي العباس أحمد بن عبد الله اليونيني، وأبي العباس أحمد بن عبد الواحد الزملكاني، وأبي الفضل أحمد بن هبة الله بن عساكر، وإسماعيل بن عثمان بن المعلم، وأبي الخير سلامة بن سالم الجعبري، وعبد الله بن محمد الرصافي، وأبي حفص عمر بن القواس.
وسمع بمصر من الأبرقوهي، وابن الصواف، وابن القيم، ومن الحافظ شرف الدين الدمياطي، وقاضي القضاة تقي الدين أبي الفتح بن دقيق العيد، ولازمه زمناً طويلاً، يحضر عنده بالليل، وكتب له بخطه مع تحريه وضبطه على مختصر ابن الحاجب على النسخة التي هي ملكه، باحثت صاحب هذا الكتاب، ونعته وقال: فوجدته يطلق اسم الفاضل عليه استحقاقاً. وحسبك هذا الثناء من الشيخ تقي الدين رضي الله عنه وعلى من كان يطلق هذا اللفظة، أعني الفاضل.
وكان الشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى جبل علوم، وطود حلوم، وبحر فضائل ومسل مسائل، فاضل الدهر وعالمه العلامة، ومن إذا ذكر الناس غيره لم يقل الإنصاف له إلا مه، عرف التفسير وكشف سر كشافه، وعلم ما يخاطب به منه وما يشافه، وخاض بحر الفقه فلو رآه الروياني لأغرقه في بحره، وحوى محاسن الحاوي، فلو عاصر الماوردي لعجز عن ثنائه الطيب وشكره، ومخض زبد الكلام، فلو تأمله السيف الآمدي لوقف فيه عند حده، أو الإمام فخر الدين لتحقق أن محصله من عنده، وحقق أصول الفقه فلو تقدم زمانه كان ابن الحاجب بين يديه نقيباً، أو البيضاوي لتسود وجوه طروسه ولم يكن في منهاجه مصيباً.
وذاق لب العربية فالفارسي يفتخر به ويقول أنا أبو علي، وابن مالك يقول: من شافعي في هذا الفن إلى هذا الولي. وخاض في لجة المعاني والبيان، فعبد القاهر عنده عبد مقهور، وصاحب المفتاح لا نسبة له إلى من عنده خزائن المنظوم والمنثور.
وبرع في المنطق فهو من الخونجي أفضل، ومن الكاتبي أنبه، ومن الأبهري أبهر وأنبل.
وجد للجدل حتى وافقه العميدي على الخلاف، ونسف حبال النسفي وما تلافاه أحد من التلاف.
وهذب نفسه بالمعارف في التصوف، وذاب في خلواته من التشوق إلى حضرة القدس والتشوف، فلو رآه الشبلي لقال هذا الأسد، أو معروف لأنكر نفسه وقال: هذا الذي بلغ من الأشد الأشد.
هذا إلى صورة قد حسنها الذي فطرها، وشيبة بيضها الله ونورها، وأخلاق ليس للنسيم لطفها، ولا للرياض نضرتها وظرفها.
أقمام في القاهرة فملأها علماً، وجاء إلى دمشق فسرها حكماً وحلماً.
ولم يزل فيها على حاله إلى أن غاض بحره العجاج، وطفئ سراجه الوهاج.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق رابع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
ودفن بسفح قاسيون بتربة اشتريت له.
ومات بورم الدماغ بقي مريضاً أحد عشر يوماً. وكانت جنازته حافلة، وتأسف الناس عليه.
خرجوا به ولكل باك حوله ... صعقات موسى يوم دك الطور
حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه ... في كل قلب موحد محفور
تبكي عليه وما استقر قراره ... في اللحد حتى صافحته الحور

وكان الشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى قد قدم دمشق في أول سنة ثلاث وتسعين وست مئة، فرتب صوفياً، ثم إنه درس بالإقبالية، ثم إنه توجه إلى الديار المصرية، وأقام بها، وولي مشيخة سعيد السعداء، وأقام ثلاثين سنة على قدم واحد، إذا طلع الفجر خرج من مسكنه للصلاة بسكون ووقار، وإذا فرغ منها أخذ في إشغال الطلبة في غير ما فن إلى أن يؤذن الظهر، فيصلي، ويأكل شيئاً في بيته، ثم إنه من الظهر إلى العصر يدور، إما أن يزور أصحابه الأعزة، أو يتوجه في شفاعة لأحد قصده، أو يسلم على غائب أو يهنئ أو يعزي أو يعود مريضاً، إلى أن يتوجه إلى وظيفة الخانقاه للذكر والعبادة. هكذا أبداً لا يمر له وقت في غير ذلك.
وكان قد ولي تدريس الشريفية بالقاهرة، وبها سكنه. وكان السلطان يعظمه ويثني عليه، وكذلك الأمير سيف الدين أرغون النائب.
أخبرني القاضي ناصر الدين بن الصاحب شرف الدين كاتب السر بدمشق، قال: سمعت الأمير سيف الدين أرغون النائب يقول بحلب: ما رأيت رجلاً مثل الشيخ علاء الدين القونوي ولا ملأ عيني غيره.
وكان يعرف بالتركي وبالعجمي.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني ببلبيس، وقد طلبه السلطان ليوليه قضاء دمشق، فحينئذ عين السلطان الشيخ علاء الدين لقضاء الشام، فما خرج منها إلا كارهاً. كان يقول لأصحابه الأعزة عليه: أخملني السلطان كونه لم يولني قضاء الديار المصرية، وليته كان عينني لذلك في الظاهر، وكنت أنا سألته الإعفاء من ذلك.
ولما خرج إلى الشام حمل كتبه معه على البريد، وأظنها كانت وقر خمسة عشر فرساً أو أكثر. وباشر منصب الحكم بدمشق أحسن مباشرة بصلف زائد وعفة مفرطة، ولن يكن له تهمة في الأحكام، بل رغبته وتطلعه إلى الإشغال والإفادة. وطلب الإقالة أولاً من السلطان، فما أجابه، ثم إنه لما جاء إلى الشام واستقر في دمشق، كتب إلى شيخنا العلامة تقي الدين السبكي ليناقله إلى وظائفه بالقاهرة، ويأخذ هو قضاء الشام، فما وافقه ذاك.
وكان منصفاً في بحوثه، ريضاً معظماً للآثار، ولم يغير عمته للتصوف. ولما جاء إلى دمشق، بلغني أنه أحضر القاضي فخر الدين المصري والقاضي جمال الدين ابن جملة، وحل من وسطه كيساً فيه ألف دينار، وقال: هذه جاءت معي من الديار المصرية.
وخرج له ابن طغريل والشيخ عماد الدين بن كثير مشيخة، فوصلهما بجملة. وشرح الحاوي في أربع مجلدات وجوده، واختصر منهاج الحليمي وسماه الابتهاج. وله التصرف، شرح التعرف في التصوف.
وكان قد أحكم العبية، وله يد طولى في الأدب، ويكتب خطاً قوياً إلى الغاية مليحاً تعليقاً.
وكان له حظ وافر من صلاة وصيام وخير وحياء، وكان مع مخالفته للشيخ تقي الدين بن تيمية وتخطئته له في أشياء كثيرة، يثني عليه ويعظمه ويذب عنه، إلا أنه لما توجه من مصر قال له السلطان: إذا وصلت إلى دمشق، قل لنائب الشام يفرج عن ابن تيمية. فقال: يا خوند، على ماذا حبستموه؟ قال: لأجل ما أفتى به في تلك المسألة. فقال: إنما حبس للرجوع عنها، فإن كان قد تاب ورجع أفرجنا عنه. وكان ذلك سبب تأخيره في السجن إلى أن مات.
وكان له ميل إلى محيي الدين بن عربي، إلا أن له ردوداً على أهل الاتحاد. وكان يتحدث على حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " كنت سمعه الذي يسمع به " . وشرحه شرحاً حسناً، وبينه بياناً شافياً.
ورأيته يكتب بخطه على ما يقتنيه من الكتب التي تخالف السنة من اعتزال وغيره:
عرفت الشر لا للشر ... ر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر ... ر من الخير يقع فيه
وكان يترسل جيداً من غير سجع، ويستشهد بالأبيات المناسبة والأحاديث والآيات اللائقة بذلك المقام.

وكنت أنا بصفد أكتب إليه وهو بمصر عن الأمير شرف الدين حسين بن جندر رحمه الله تعالى فتأتي أجوبته بخطه، وهي في غاية الحسن، وفيها السلام علي والثناء الكبير والتودد من غير معرفة. ولما دخلت القاهرة واجتمعت به مرات، عاملني بكل جميل وطلب مني كتابي جنان الجناس. وقف عليه، وبقي عنده مدة، ثم أعاده إلي، وبلغني الثناء الزائد منه علي. ثم لما قدمت من مصر إلى دمشق متوجهاً إلى الرحبة، و هو بالشام قاض، طلب ذاك المصنف مني، فحملته إليه، وبقي عنده مديدة، ثم أعاده، وأخذ في الفضل والشكر على عادة إحسانه، جزاه الله عني الخير، ورحمه ورضي عنه.
وكتب هو رحمه الله إلى ناصر الدين شافع، وقد طلب منه شيئاً من شعره:
غمرتني المكارم الغر منكم ... وتوالت علي منها فنون
شرط إحسانكم تحقق عندي ... ليت شعري الجزاء كيف يكون
يقبل الباسطة الشريفة، لا زالت للمكرمات مستديمة، وفي سبل الخيرات مستقيمة.
وينهي أن بضاعة المملوك فغي كل الفنون مزجاه، ولا سيما في فن الأدب، فإنه فيه في أدنى الدرجات. وقد وردت عليه إشارة مولانا حرسه الله تعالى في طلبه شيئاً من الشعر الذي ليس المملوك منه في عير ولا نفير، ولا حظي منه بنقير ولا قطمير، سوى ما شذ من الهذيان، الذي لا يصلح لغير الكتمان، ولا يحفظ إلا للنسيان. والمسؤول من فضل مولانا وكرمه المبذول أن يتم إسحانه إليه بالستر عليه، فإنه وجميع ما لديه من سقط المتاع، ولا يعار لسقاطته لا لنفاسته ولا يباع، والله يؤيد مولانا ويسعده ويحرسه بالملائكة ويعضده.
وكتبت إليه وقد وقف على كتابه الذي سماه مخالفة المرسوم في حل المنثور والمنظوم:
مخالفة المرسوم وافقت المنى ... وحازت من الإحسان خصل المناضل
أثارت على نجل الأثير إثارة ... من العلم مفتوناً بها كل فاضل
وشاعت بالشام صورة فتيا على لسان بعض اليهود، وهي:
أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأوضح حجة
إذا ما قضى بي بكفر بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
دعاني وسد الباب عني فهل إلى ال؟ ... دخول سبيل؟ بينوا لي قصتي
قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا ... فها أنا راض بالذي فيه شقوتي
فإن كنت بالمقضي يا قوم راضياً ... فربي لا يرضى لشؤم بليتي
وهل لي رضى ما ليس يرضاه سيدي ... وقد حرت دلوني على كشف حيرتي
؟إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة فها أنا راض باتباع المشيئة
وهل لي اختيار أن أخالف حكمه ... فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي
فكتب الشيخ علاء الدين رحمه الله الجواب:
حمدت إلهي قبل كل مقالة ... وصليت تعظيماً لرب البرية
وحاولت إبلاغ النصيحة منصفاً ... لمن طلب الإيضاح في كل شبهة
فأول ما يلقى إلى كل طالب ... لتحقيق حق واتباع حقيقة
نزوع الفتى من كل عقد وشبهة ... تصد عن الإمعان في نظم حجة
وإلقاء سمع واجتناب تعنت ... فلا خير في المستحمق المتعنت
إذا صح عن الجد في كشف غمة ... بليت بها فاسمع هديت لرشدتي
صدقت، قضى الرب العظيم بكل ما ... يكون وما قد كان فوق المشيئة
وهذا إذا حققته متأملاً ... فليس يسد الباب من بعد دعوة
لأن من المعلوم أن قضاءه ... بأمر على تعليقه بشريطة
يجوز ولا يأباه عقل كما ترى ... حدوث أمور بعد أخرى تأدت
كما الري بعد الشرب والشبع الذي ... يكون عقيب الأكل في كل مرة
فليس ببدع أن يكون معلقاً ... قضاء إله الخلق رب الخليقة
بكفرك مهما كنت بالبغي رافضاً ... تعاطي أسباب الهدى مع مكنة
فمن جملة الأسباب مما رفضته ... مع الأمر والإمكان لفظ الشهادة
فأنت كمن لا يأكل الدهر قائلاً ... أموت بجوع إذ قضى لي بجوعة

فلو أنتم أقبلتم بضراعة ... إلى الله والدين القويم الطريقة
ووفيتم حسن التأمل حقه ... وأحسنتم الإمعان في كل نظرة
لكان الذي قد شاءه الله من هدى ... وليس خروج من قضاء بالة
ألا نفحات الرب في الدهر جمة ... ولكن تعرض كي تفوز بنفحة
ولا تتكل واعمل فكل ميسر ... لما هو مخلوق له دون ريبة
ولو كنت أدري أن فهمك قابل ... لفهم كلام ذي غموض ودقة
لأشبعت فيه القول بسطاً محققاً ... على نمطي علمي كلام وحكمة
ولكنما المقصود إقناع مثلكم ... فهاك قصيراً من فصول طويلة
ولولا ورود النهي عن هذه التي ... سألت لصار الفلك في وسط لجة
فها أنا أطوي بسط ما قد نشرته ... وأستغفر الله العظيم لزلتي
ونظم الشيخ علاء الدين رحمه الله أبياتاً في الشجاج، أنشدنيها عنه الإمام قاضي القضاة جمال الدين محمد بن عبد الرحيم بن علي بن عبد الملك المسلاتي المالكي. قال: أنشدنا لنفسه، وسمعتها منه غير مرة:
إذا رمت إحصاء الشجاج فهاكها ... مفسرة أسماؤها متواليه
فحارصة إن شقت الجلد ثم ما ... أسال دماً وهي المسماة داميه
وباضعة ما تقطع اللحم والتي ... لها الغوص فيه للذي مر تاليه
وتلك لها وصف التلاحم ثابت ... وما بعدها السمحاق فافهمه واعيه
وقل ذاك ما أفضى إلى الجلدة التي ... تكون وراء اللحم للعظم غاشيه
ومن بعدها ما ينقل العظم واسمها ... منقلة ثم التي هي آتيه
وموضحة ما أوضح العظم باديا ... وهاشمة بالكسر للعظم باغيه
ومأمومة أمت من الرأس أمه ... وقد بقيت أخرى بها العشر وافيه
فدامية تسمى لخرق جليدة ... هي الأم كيس للدماغ وحاويه
وهذا هو المشهور في عدها وإن ... ترد ضبط حكم الكل فاسمع مقاليه
ففي الخمسة الأولى الحكومة ثم ما ... بإيضاح عمد فالقصاص وجانيه
وخصت بهذا الموضحات لضبطها ... فلا عشر في استيفائها متكافية
وإن حصلت من غير عمد أو انته ... إلى المال عفواً فاقدر الأرش ثانيه
على ذمة النفس التي أوضحت بها ... فتلك لنصف العشر منها مسايه
وذاك لأرش الهشم والنقل مفرداً ... وزد بانضمام للحساب مراعيه
ففي اثنين منها العشر ثم لثالث ... يزيد عليه نصفه بك حاسيه
ومأمومة فيها من النصف ثلثها ... ودامغة مثل لها ومكافيه
وقيل بأن الدمغ ليس جراحة ... لتدقيقه كالحرز وهي ملافيه
وقد نجز المقصود والعي واضح ... وعجمتي العجماء في النظم باديه
؟

علي بن إسماعيل بن إبراهيم
ابن قريش، المسند نور الدين أبو الحسن بن المحدث تاج الدين المخزومي المصري.
سمع الحافظين المنذري والعطار، وشيخ الشيوخ الحموي، ومحمد بن أنجب، والكمال الضرير، وابن البرهان، وابن عبد السلام. وسمع حضوراً من عبد المحسن بن مرتفع. وتفرد بأشياء، وكان صالحاً خيراً، من الشهود.
أخذ عنه شهاب الدين الدمياطي، والشيخ تقي الدين بن رافع، وشمس الدين السروجي، وجماعة.
وسمعت أنا عليه الجزء الأول والثاني من عوالي المعجم الكبير لأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، بقراءة شيخنا الحافظ أبي الفتح، في منزله بين القصرين في عدة مجالس، آخرها في سابع جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وأجاز لنا جميع ما يرويه، ورواهما لنا بسماعه من الشيخ زين الدين أبي الطاهر إسماعيل بن عبد القوي بن عزون.

قال: أخبرتنا الشيخة فاطمة بنت الإمام أبي الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري، قراءة عليها، وأنا أسمع، قالت: أخبرتنا الشيخة فاطمة بنت أحمد بن عبد الله بن عقيل الجوزدانية، قراءة عليها، وأنا حاضر، في الثالثة، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريدة الضبي، أخبرنا الطبراني.
وتوفي الشيخ نور الدين بن قريش المذكور في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
علي بن إسماعيلالشيخ الإمام نور الدين الصفدي.
ربي في حجر الشيخ زين الدين أبي بكر المقرئ إمام مسجد الشيرزي بصفد ومقرئها.
كان له قدرة على الحفظ، وشهرة بكثرة اللفظ، ذكياً إلى الغاية، زكياً في نفسه ليس لطلبه نهاية، يحرص على أن يسلك طريق الشيخ تقي الدين بن تيمية، ويأخذ نفسه بالدخول في كل بلية، ويشتهي أن يحيط بالأشياء علماً، وألا يدع علماً ولا غيره حتى يملكه فهما، فلذلك ضيع الزمان، وإن كان قد خرج عن الجهل بأمان، لكنه ذو عربية جيدة، وروية لم تكن عن الصواب متحيدة، وبرع في الحديث دراية، وشاكل فيه ببعض رواية، وشارك في الفقه فأخذ منه بنصيب، وكابد من الفقر كل يوم عصيب.
ثم إنه دخل اليمن، وتولى هناك تدريساً، ولم يكشف الله لي بعد ذلك من أمره تلبيساً.
وأظنه توفي رحمه الله تعالى بعد الست والثلاثين وسبع مئة.
كان هذا نور الدين أعجوبة لمن يفكر في أمره، كان شديد الحرص على أن يعرف كل شيء، وإذا سئل عن شيء، يريد أن يجيب عنه بالقوة، وإذا لم يوافق الصواب يتحيل على نصرة ما يقوله بكل الطرق.
وأعرف له يوماً وضعت قدامه قطع الشطرنج التي وصفها مشهرو، وهو أنها تصف صفاً مخصوصاً من القطع البيض والسود، وإذا تكامل ذلك يدعي أن مركباً كان فيه مسلمون ونصارى جالسين على هيئة مخصوصة، وكان الرائس مسلماً، فهاج البحر عليهم وهم في وسط اللجة، فاحتاجوا إلى أن يرموا بعضهم في البحر ليخف المركب فأرادوا يعملون القرعة، وكان الرائس ذكياً، فنظر إليهم وقال: ما نحتاج إلى قرعة، بل نعد من هنا، وكل من جاء تاسعاً ألقيناه إلى البحر، فارتضوا جميعاً بذلك، وأخذ الرائس يعد، وكلما جاء تاسعاً ألقيناه إلى البحر، فارتضوا جميعاً بذلك، وأخذ الرائس يعد، وكلما جاء تاسع من النصارى رمى به إلى البحر إلى أن رمى بالنصارى جميعهم، ولم يرم بأحد من المسلمين.
فلما صنعت ذلك قدامة، أعجبه ذلك وزهره ونحنح وبقي مفكراً في ذلك، واشتغل باله به عامة نهاره. ثم إني فارقته وعدت إليه، فوجدته يكرر عليها ويقول: أربعة مسلمون وخمسة نصارى، ومسلمان ونصراني وثلاثة مسلمون ونصراني ومسلم، وهو يدرس ذلك، ويكرر عليه، ويقع التخبيط عليه في سرد ذلك على الصحة، فرحمته وقلت: يما مولانا هذا أمر يتعبك ولا ينضبط لك، وقد تطلبه في وقت الحاجة، فيشذ الصواب فيه عنك. فقال لي: فكيف انضبط لك هذا؟ قلت له: هذا ضابطه في بيت واحد من الشعر. فطار عقله، وقال: هذا أعجب. ولم يصدق. قلت: نعم، بيت واحد، حروفه المهملة مسلمون، والمعجمة نصارى. فلما أنشدته ذلك، وصف القطع على حكمه وعده وصح معه، خرج من حبال عقله، فقلت: وأزيدك أخرى، إن أردت صففت لك ثمانية ثمانية وسبعة سبعة وستة ستة وخمسة وخمسة وأربعة أربعة ثلاثة ثلاثة. فقال: هذا بقاعدة أيضاً قلت: نعم. فقال: أريد تعلمني ذلك، فقلت: ما هو وقته. وقمت وتركته. وحفظ مني بيت التسعة، و هو:
ولما فتنت بلحظ له ... عذلت فما خفت من شامت
وفرح به فرحاً عظيماً، ثم إنه طالبني في آخر وقت بمعرفة القاعدة في ذلك، فما قلت له. وفرق الدهر بيننا بعد ذلك.
ونور الدين هذا في عذر مما ذهب، لأنني وجدت الفاضل الأديب الكامل صفي الدين الحلي قد جاء إلى شيء مثل هذا، فأراد ضبط صفه، وصنع له أبياتاً لتعلق بالذهن، فقال خمسة أبياتاً، أولها:
جيش من الزنج والإفرنج يقدمه ... ما كان بينهما زوج من الخدم
والضبط في هذا ببيت واحد أخصر وأحسن وأسرع في العمل. ث إنني بعد فراقي لنور الدين هذا بثلاثين سنة، أردت ضابطاً لعد ستة وإلقاء السابع، وأخذت نفسي به، تصورته، وعملت لذلك بيتاً، وهو:
فديتك إن صدقي من فخار ... أبان بناء سر في دعائي

ثم إنني فكرت في رص مهارك النرد، وهي ثلاثون مهركة، وأردت أن توضع كذا دائرة، وتعد: ستة ويلقى السابع، ففتح الله بذلك، ووضعت له هذا البيت، وهو:
قد رد شاني بكل شين ... عدمت ذا في صلاح جبري
ثم أردت أيضاً أعد قطع الشطرنج: أربعة ويحذف الخامس، ففتح الله به، ونظمت لذلك بيتاً، وهو:
عبتم فلم أندفع ومن ذا ... يدفع بالسب عنه ضرا؟
ثم إني أردت ذلك في قطع النرد، ففتح الله به، ونظمت له بيتاً، وهو:
لا تبك إن هب ريح نجد ... إنك يا بئس ما بليتا
وكان قد نزل إلى دمشق، وقرأ على الشيخ نجم الدين القحفازي نحواً وعروضعاً، ولما رآه الجماعة بهذه المخيلة عبثوا به، ونظم فيه جمال الدين يوسف الصوفي رحمه الله تعالى.
وسائل يسأل مستفهماً ... من أين ذا المولى علي ورد
قلت له: من صفد، قال لي: ... ولا رأى أولى به من صفد
وشاع البيتان في دمشق واشتهر، فحصل له خيال، وترك دمشق، وتوجه إلى صفد، وفتح له حانوت تجارة في البطاين، ثم إنه طلب في بكرة نهار فلم يوجد له خبر، وغاب سنين ولم يظهر له أثر، فعمل أهله عزاءه. ولما كان بعد مدة ظهر خبره من مصر، ثم إنه عاد إلى صفد، فرأيته قد زاد الحال به، وقد تعلق بلعب الشطرنج، فكان يستغرق نهاره وليله، ولا يأكل ولا يشرب إلا إذا لم يجد من يلعب معه، وزاد في ذلك، فقلت له: يا مولانا، هذا الشطرنج هو مثل الكتابة، متى وصل الإنسان فيهما إلى غاية لا يمكنه أن يتعداها، وأنا قد نصحتك فما بقيت تقدر تزداد على هذه الغاية التي وصلت إليها شيئاً. فقال: كيف أعمل؟ أريد أكون فيها عالية مثل غيري. قلت: هذا الذي فتح الله به عليك، فلم يرجع عن غيه، ثم إنه لازم ذلك زماناً وعاد إلى ما قلت له. ثم إنه نزل إلى دمشق ورأيته بها، ثم إنا طلبناه فلم نقع له على خبر. وبعد حين تقديره عشرة أعوام طلع خبره في اليمن، وأنه هناك شيخ حديث، وهذا آخر عهدي بخبره في سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
علي بن إسماعيل بن جعفرالقاضي علاء الدين بن الآمدي.
كتب المنسوب الفائق، وحقق ما فيه من الطرائق، وأتقن أقلامه السبعة، مع ثبوت التأنق وعدم التأني والسرعة، تسابق البروق أقلامه، وتفوق سطوره الدر إذا زانه نظامه. كأنما همزاته الحمائم على ألفاته التي هي الأغصان، وكأنما عطفات الجيمات وجنات، ونقطها خيلان. كم كتب ختمة وكأنها للعيون روضة ورد، وكم حرر ربعة فلم تحتج إلى ذهب ولا لازورد، تسودت بعده أوراق التجويد، وتحطمت أقلام الكتاب بعدما كانت أماليد:
وأكبت الكتاب تبكي بعده ... بمدامع بلت بها أوراقها
باشر جهات الديوان والأوقاف والدرج، وكان معدوداً في كتاب الحساب، متفرداً بالضبط في الدخل والخرج.
ولم يزل على حاله إلى أن قطع الآمدي مدى الحياة، وجعله الطاعون ملقى على قفاه.
وتوفي رحمه الله تعالى بعد عصر الخميس ليلة عيد رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة في طاعون دمشق، وقد ناهز الخمس وسبعين.
وكان إماماً في صناعة الحساب، ليس في كتاب المسلمين له نظير في عصره. كنت أقول له: كم جملة ما أقول لك، وهو خمس مئة عشرون ألف وخمس عشرة وثمانين وخمسة وعشرين وسبعة وثلاثون ومئة وسبعين. وأقول له من هذه التفاصيل جملة، وهو يلتقط ذلك على أصابعه، فإذا فرغت من الكلام، قال على الفور: كذا وكذا.
وكان قد باشر في ديوان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى مستوفياً فيما أظن، وأقام به مدة، ثم إنه في أيام حمزة التركماني صادره مع علاء الدين بن القلانسي وغيره، وأخذ منه مبلغ ستين ألف درهم، ثم استخدمه في ديوان خاص داريا ودومة، وخدم كاتباً عند الأمير سيف الدين قرمشي في أيام القاضي شهاب الدين بن فضل الله، دخل به ديوان الإنشاء في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وباشر في أيام طقزدمر في ديوان الأسرى.
وكان يشتري الملك بالدين، ويجعل الأجرة في وفاء الدين، فحصل من ذلك أملاكاً كثيرة من بساتين وقاعات ورباع.
وكتب ما يقارب المئة والاثنتي عشرة ختمة وربعة، وأشعار تاريخي الكبير والتذكرة التي لي جميعها، وانتخب من ذلك مجاميع عديدة.

وكان قد أودعه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله عشرة آلاف دينار، ونسيها، فلما صادره، قال له: لك عندي وداعة. فقال: لا، إن كان صحيحاً، فهاته، فأحضر الذهب بجملته، و كان الناس يلومونه على ذلك، وهو معذور لأنه لو ذكرها فيما بعد راحت روحه معه.
علي بن أسمحالعلامة الزاهد أبو الحسن البعقوبي الشافعي النحوي المعروف بالشيخ علي مثلاً، بفتح الميم والثاء المثلثة وبعدها لام ألف.
أخذه التتار من بعقوبا فأقام ببلغار عند التتار، وحفظ المصابيح للبغوي والمفصل والمقامات وغير ذلك.
وكان شديد الديانة عتيد الصيانة، يلف رأسه بمئزر صغير، ويغني بقناعته عن الأمير والوزير. وكان ممن يعبث بالشيخ تقي الدين بن تيمية ويؤذيه بلسانه، ويستعمل في الحط ما علمه من معانيه وبيانه.
ولم يزل كذلك إلى أن توجه للحج في سنة عشر وسبع مئة، فأدركه باللجون حمامه وحان من الحياة انصرافه وانصرامه.
وكان قد سكن الروم، وولي مشيخة الحديث هناك، وهو شاب، و ركب المغلة، ثم إنه بعد ذلك تزهد، وفارق الروم، وحضر إلى دمشق سنة بضع وثمانين وست مئة.
علي بن أغرلوالأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين أغرلو العادلي.
كان والده مملوك الملك العادل كتبغا، وكان والده ملك الأمراء بدمشق في أيام أستاذه، وقد تقدم ذكره في مكانه من حرف الهمزة.
وكان هذا الأمير علاء الدين من جملة أمراء الطبلخاناة بدمشق.
توفي رحمه الله تعالى في أوائل جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة. في طاعون دمشق.
علي بن ألدمرالأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين أمير جاندار، قد تقدم ذكر والده رحمه الله تعالى في مكانه.
ورد هذا الأمير علاء الدين أمير علي إلى دمشق أميراً من مصر على طبلخاناة في تاسع ذي القعدة سنة ستين وسبع مئة، وجلس تحت الأمي ناصر الدين بن ألملك.
وأقام على حاله بدمشق إلى أن توفي رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من شهر رجب الفرد سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
علي بن أيبكالأمير علاء الدين بن الأمير عز الدين أيبك الطويل، وهو أخو الأمير صلاح الدين محمد بن أيبك الطويل، وسوف يأتي ذكره في مكانه من المحمدين.
وكان الأمير علاء الدين أولاً بدمشق في جملة أمراء الطبلخانات، ثم إنه نقل إلى طرابلس على إمرة طبلخاناة، وأقام بها إلى أن عزل الأمير شهاب الدين أحمد بن القشتمري أمير حاجب من طرابلس، ونقل إلى إمرة الحجبة بدمشق عوضاً عن الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في سنة ستين أو في سنة إحدى وستين وسبع مئة. فأعطي الأمير علاء الدين بن أيبك الطويل مكانه.
وكان بطرابلس أمير حاجب إلى أن نقل منها إلى دمشق أميراً، فحضر إلى دمشق، وبقي بها أميراً، وكان وصوله إلى دمشق في العشر الأول من شعبان سنة ثلاث وستين وسبع مئة. إلى أن توفي رحمه الله تعالى في خامس عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبع مئة.
علي بن أيوب بن منصورالشيخ الإمام علاء الدين المقدسي الشافعي، معيد المدرسة الباذرائية بدمشق.
كان أولاً يعرف بعليان ويكتب ذلك بخطه في أول أمره.
سمع من الفخر بن البخاري ومن عبد الرحمن بن الزين.
وحدث بدمشق والقاهرة. وكان قد عني بالحديث، وطلب وقرأ بنفسه، وحرر الألفاظ وضبطها.
وكان يكتب خطاً فائقاً، ويبرز الصحف من يده تحكي روضاً بالأزاهر رائقاً صحيحة الألفاظ مضبوطة، سليمة من اللحن مشكولة منقوطة. ولما أبيعت كتبه في حياته، تغالى الناس في أثمانها، وبالغوا في قيمتها رغبة في صحتها وحسنها وإتقانها.
وكان قد درس بالأسدية وبحلقة صاحب حمص. ثم إنه توجه إلى القدس وسكنه فاختلط، وتلفظ بالصواب تارة، وتارات بالغلط، وأخذ في ادعاء المستحيلات، والقدرة على فعل ما هو خارج عن الممكنات. وكابد مع ذلك فقفراً شديداً، وعيشاً من الهناء بعيداً.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل قبره، وما يملك خيطاً في إبرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة بالقدس.
وكان بدء اختلاطه في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.

وكان يذكر الجن كثيراً في كلامه، ويقول: قد وعدوني بأن يسوقوا إلي نهراً من النيل، ونهراً من زيت نابلس إلى داري هذه، ويعد لذلك أماكن يكون فيها الماء وأماكن يكون فيها الزيت، وأشياء من هذه المستحيلات. وكابد فقراً مراً مع هذه الحالة. نسأل الله تعالى العافية من كل بلاء.
علي بن شاه بن أبي بكرالتوريزي، الوزير الكبير.
خدم القان بوسيعد ملك التتار، وتمكن منه عظيماً، وجعل عقد وزارته نظيماً. وهو الذي قام على الرشيد الوزير، وأهلكه، وساق إليه حتفه حتى أدركه.
وكان داهية ذا هبة، غير مفكر في أمر دنياه الذاهبة. وكان محباً لأهل تالسنة، قوي اليقين في ذاك والمنة. صافي السلطان الملك الناصر، وهاداه، وكان إلباً على من خالفه وعاداه. ولم تزل رسله ترد، وسيل هداه إلى دمشق ومصر يجري ويطرد، وكلمته مقبولة وإشارته على العين محمولة.
وكان في أول أمره سمساراً. فما زال يرقى إلى أن صار النجم له جاراً.
ولم يزل على حاله إلى أن حمل على شرجعه، وعز على ذويه أوان مرجعه.
وتوفي رحمه الله تعالى بأرجان في أواخر جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
وهو والد الأمير ناصر الدين خليفة، أحد أمراء دمشق، المقدم ذكره في مكانه.
وكان قد أهدى إلى السلطان الملك الناصر ربعة مليحة في قطع نصف البغدادي في ورق جيد، وهي مكتوبة، جميع أجزائها الثلاثين، بليقة ذهب، بقلم محقق كبير، مزمكة، في غاية الحسن. رأيتها في الخانقاه بسرياقوس. وأهدى أخرى مثلها إلى الأمير سيف الدين تنكز، أظنه جعلها في جامعة.
علي بن أبي بكر بن محمدابن محمود بن سلمان بن فهد، القاضي علاء الدين بن القاضي شرف الدين، وقد تقدم في حرف الباء، ابن القاضي شمس الدين، وسيأتي ذكره في حرف الميم، ابن العلامة شهاب الدين محمود، وسيأتي ذكره.
كان قد شدا طرفاً من الأدب، وعني بالإنشاء وكتب. ونظم ونثر، وجرى إلى الغاية فما شارفها حتى عبر.
وكان يتودد إلى الناس، ويخدمهم بما يقدر عليه من غير إلباس.
ولم يزل على حاله إلى أن كبا جوداه في وسط الميدان، وخلا منه صدر الدست وقلب الديوان. وتوفي رحمه الله تعالى في نهار الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة.
ومولده فيما أظن سنة ثلاثين وسبع مئة.
كان قد دخل إلى الديوان، وكتب الإنشاء. ولما توفي أخوه القاضي شهاب الدين أحمد وكان يوقع في الدست، دخل هو بدل أخيه، ووقع في الدست بدمشق المحروسة. وحج إلى بيت الله الحرام في سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى كثير الأسقام، ضعيف التركيب.
وكان في وقت قد أهدى إلي صحن حلوى مشبك، وتحته قطائف، فكتبت إليه:
يا سيدي إن الذي أهديته ... عطف الموائد من حلاه مائد
وافى فأذكرني عهود مكارم ... والخير منك كما يقال عوائد
صحن لأنواع الحلاوة جامع ... ذا راكع فيه وهذا ساجد
نصبت بساحته شباك مشبك ... وقطا القطائف تحتهن رواكد
وبأفقه أقراص ليمون بدت ... فكواكب قد رصعت وفراقد
والسكر المذرور فيه مجرة ... أو لا فمن فوق النحور قلائد
إن كنت قد فرغته أكلاً فقد ... ملأته مني في علاك محامد
لا زلت تهدي للموالي مثله ... في كل صوم فيه عيد عائد
علي بن أبي بكرعلاء الدين بن البرقعيدي الكحال.
ما رأيت مثله في العمل بالحديد، قطع عندي لإحدى بناتي شرانيق من عينها في دفعة واحدة، من أسرع ما يكون. فتق الجفن الأعلى، واستخرج منه شيئاً شبيهاً بالشحم الأصفر، ولم يعمل ما يعتمده غيره من تعليق الصنانير في الأجفان، وحك الشرانيق بالسكر النبات، لأن ذلك أمر مطول مؤلم.
وكانت عنده مشاركة في الطب وغيره، وكان كحالاً بالبيمارستان النوري بدمشق.
وأنشدني من لفظه لنفسه، وادعاه أنه نظمه في مشد الدواوين بدمشق:
مشدنا في الشام قد شقيت ... مما تقاسي من جوره الأمم
يذبح الناس ما يرق لهم ... كأنما الناس عنده غنم
وتوفي رحمه الله في حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
علي بن بكتمر

الأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين الأبو بكري. أحد الأمراء أخيراً بمصر.
كان هو وإخوته قد أخرجهم الملك الناصر محمد بعد موت أبيهم في حبس الإسكندرية إلى دمشق، فأقاموا بها. وقد تقدم ذكر أخيه الأمير شهاب الدين أحمد.
وطلب السلطان الملك الناصر حسن الأمير علاء الدين هذا، وأخاه الأمير سيف الدين أسنبغا إلى مصر، وأقبل عليهما.
ولم يزل الأمير علاء الدين بمصر أميراً إلى أن جرى للملك الناصر حسن ما جرى، وتصاف هو والأمير سيف الدين يلبغا، وتناوشوا القتال، فحصلت للأمير علاء الدين جراحة في وجهه، فمات منها بعد يويمات، على ما قيل، ووصل الخبر بموته إلى دمشق في أواخر جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة.
ولما كان بالشام توجه إلى الرحبة نائباً مرتين، وأنا شاك في الثالثة. وكان من أبناء الستين أو ما يزيد عليها.
كان شكلاً تاماً ذا رواء، وهمة في الأمور واعتلاء. يكتب ويقرأ، ويد لو أنشأ نظماً ونثراً، لأنه بمصر كان يجتمع بالأفاضل، ويرامي الأقران بالجدال ويناضل. وله ميل كثير إلى الألغاز، ولم يكن كغيره يهواها، وهو في العمي ضائع العكاز.
ولما كنت بالقاهرة في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، طلب مني لغزاً، فكتبت إليه:
أيا سيداً حاز العلا وهو يافع ... فراوي الندى عنه كثير ونافع
ومن حاز فضل السيف في معرك الردى ... فبارقه في ظلمة النقع ساطع
ومن إن سألنا: من أولو الفضلو والنهى ... أشارت إليه عند ذاك الأصابع
ومن نفق الآداب بعد كسادها ... وجلى دجاها من محياه لامع
ومن هو ذخر للعفاة وملجأ ... إذا صدهم حظ من الدهر صادع
أحاجيك ما اسم، أعوز الناس قطرهم ... فلما دعا انجابت عيون هوامع
كتابته في الطرس لا شك أربع ... وعدته خمس وفي العكس سابع
وإن زال منه ثالث فقبيلة ... لها في قراع الدارعين وقائع
وعدة ما يبقى لعكس ثلاثة ... ولكنه سبع، ففيم التنازع
وإن تم معكوساً وصحفت لفظه ... تجده منى من قد غدا وهو جائع
فصحفه بعد القلب من غير نقصه ... فذلك في التصحيف والقلب شائع
أبن لي معماي الذي قد سترته ... فغيرك فيه مثل أشعب طامع
ودم وارق في أوج المفاخر والعلا ... مدى الدهر ما غنت بأيك سواجع
فحله في عباس. ولم يكتب الجواب نظماً.
وطلب الزيادة مني، فكتبت إليه أيضاً ملغزاً في أبيات، منها:
تقدم لعز قبل ذا وحللته ... فمن يقتن العليا بفضلك يقتد
فما اسم رباعي الحروف وإنما ... تركب من حرفين من رامها هدي
رسول إلى قوم كريم كتابه ... به خاطب القرآن كل موحد
ويقتل عند الشافعي ومالك ... وعند الفتى النعمان والحبر أحمد
له في أعالي كل غصن تلاوة ... بلحن كأن الدوح معبد معبد
تكاد قوافي ذا القريض تذيعه ... فقد زينت منه بحرف مردد
ودم راقياً في أفق كل سعادة ... بنى لك منها الدهر أشرف مقعد
فحله في هدهد وهو صحيح.
علي بن بلبانالأمير امفتي المحدث النحوي، أبو الحسن علاء الدين الفارسي المصري الجندي الحنفي.
سمع من الحافظ شرف الدين الدمياطي جزء ابن ديزيل، وسمع من محمد بن علي بن ساعد، وبدمشق من البهاء بن عساكر وغيره.
وكان جيد الفهم، لا يرد له عن إصابة الصواب سهم، حسن المذاكرة، كثير الفوائد في المحاضرة. وله تقدم في الدولة المظفرية، ووجاهة في الدولة الناصرية. وله شعر مموه بالبديع، ويوهم أنه مفيد، وهو طعام من ضريع. إلا أنه مقبول غير مردود. وفيه دلالة على أنه برز من خاطر مكدود. وكان مليح الشكالة، وافر الجلالة.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغ الأجل كتابه، وهيل عليه ترابه.

وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شوال سنة تسع وثلاثين وسبع مئة في منزله بشاطئ النيل.
ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة.
وكان قد تفقه بقاضي القضاة أبي العباس أحمد السروجي، وبفخر الدين عثمان بن التركماني وبمحيي الدين الدمشقي وغيرهم.
وقرأ المنطق والأصول على الشيخ علاء الدين القونوي، والنحو على العلامة شيخنا أبي حيان، وصحب الأمير سيف الدين أرغون النائب، وكان قد تقدم في أيام المظفر.
وله تصانيف، منها: شرح كتاب الجامع تصنيف صدر الدين الخلاطي. ورتب صحيح ابن حبان على أبواب الفقه، وكذلك معجم الطبراني الكبير بإعانة الشيخ قطب الدين عبد الكريم.
وانتشا ولده جمال الدين، فتفقه لأبي حنيفة، ثم تحول شافعياً، فتألم والده لذلك.
وكان علاء الدين الفارسي يصلح للقضاء لسكونه وعلمه وتصونه.
ومن شعره:
سرت نسمة طابت بطيبة للذكر ... فأرجت الأرجاء من عرفها العطر
وجاءت بها البشرى فسرت بما سرت ... وأحيت بما حيت إلى مطلع الفجر
فيا حسنها بخدية زمزمية ... أضاء لها من ثغرها زاهر الدر
تبسم منها كل قلب وقالب ... فتيق نسيق الشيح والرند والزهر
تجلت فجلت بالشفا كل غلة ... وحلت فحلت بالصفا عقدة الهجر
أباحت حباء من حبائل شعرها ... تصيد به صيد الصناديد عن قسر
وغادرت الأسرى وأسري بسرها ... تسر بما لاقت وذاقت من الأسر
فأصبحت مشتاقاً إلى ساكن الحمى ... ولم أستطع من بعد شيئاً سوى الصبر
وهي طويلة. وهذا القدر منها كاف، إذ هو شعر فاضل. أتى فيه بصناعة بديع يوهم أن ذلك شعر يسمع فيطرب، وليس كذا ما كل باسمة لبنى.
علي بن بلبانالأمير علاء الدين بن الأمير الكبير سيف الدين البدري. تقدم ذكر والده في مكانه من حرف الباء الموحدة.
وكان الأمير علاء الدين أحد أمراء الطبلخاناة بدمشق. وكان حسن السياسة، كثير الرياسة، وافر الأمانة، زائد الصيانة، عفيفاً عن أموال الرعية، سالك الطريق المرضية المرعية. قل من رأينا سلك مسلكه القويم، أو تولى أمر ناحية فسقى عدله أهلها كأساً، مزاجها من تسنيم. ما باشر جهة إلا وسد خللها، وأزاح عللها، وشفى غللها وفصم جللها، ونشر حللها. لا جرم أنه وجد له ذلك مدخراً، و جعل ذكره الطيب في الناس سمرا.
وراح إلى الله معفواً عن مغفوراً له خطأه، ودخل في قوم ضرب مثلهم بزرع أخرج شطأه.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
ولاه الأمير علاء الدين ألطنبغا ولاية نابلس لما كان بدمشق، فأجمل فيها السيرة. ثم إنه تولى ولاية الولاة بالصفقة القبلية، فأجمل سياستها، وعف عن أموال الرعايا إلى الغاية، ثم ولي نيابة الرحبة فحمدت سيرته بها، ثم عزل منها وأقام في دمشق على إمرته، ثم أعيد إلى نيابة الرحبة، ثم إنه عزل منها، ثم تولى القبلية، فزداد في حسن المباشرة والعفة عن أموال الرعايا حتى إنه كان لا يعلق التبن على خيله، ولا يشرب الماء إلا بثمن من دراهمه، ثم إن استقال فأعفي من ذلك. ثم ورد مرسوم السلطان بإعادته إلى نيابة الرحبة، وكا قد حصل له مرض استرخاء، فعاقه عن ذلك، وطولع بأمره، فورد مرسوم السلطان بأن يعفى من ذلك، ويتوجه إليها الأمير ناصر الدين محمد بن الزيبق. وبقي الأمير علاء الدين بعد ذلك قريباً من شهرين أو ثلاثة، وتوفي رحمه الله تعالى في التاريخ المقدم.
علي بن بهادر آصالأمير علاء الدين أمير علي بن الأمير سيف الدين بهادر آص.
كان أمير عشرة، ولم يكن في دمشق من يلعب الكرة أحسن منه، يقال إنه هو بهذا اللعب كان السبب في خلاص والده، لأن تنكز كان يعظمه، ولكنه ضيع ماله وتضعضع حاله.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
علي بن بيبرسالأمير الفاضل الذكي النحرير، علاء الدين بن الأمير الكبير ركن الدين. تقدم ذكر والده في حرف الباء مكانه.

كان هذا علاء الدين له ألمعية، وعنده لوذعية، يتوقد ذكاء وفطنة، ويتقلب ما بين حالتي منحة ومحنة. عاشر الناس وصحب الفضلاء، واجتمع بالأكابر الرؤساء والنبلاء. وطالع كتب الأدب، وعلق لنفسه واختار ودأب، وحفظ من المنظوم والمنثور جملة وافية، وعلق بدهنه من أخبار من تقدم قطعة كافية.
نشأ بمصر وأقام بدمشق وحلب، وترسل إلى سيس، فلذلك كان إذا تحدث خلب. وجلب إلى النفوس من محاسنة ما جلب. ولما عمل الحجوبية ما كان يدع أحداً يسبقه إلى كلام، وإذا قال شيئاً كان برئياً من المؤاخذة والملام. فكأنما عناه أبو الطيب بقوله:
في رتبة حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا
ولي الحجوبية بحلب ثم نقل منها إلى دمشق، وكان وهو حاجب عينها، وأصلح منها ما فسد، وسد مينها، ثم عاد إلى حلب على الوظيفة، وزاد علواً في مراتبها المنيفة.
ولم يزل بها على حاله إلى أن أطبق الموت أجفانه، وأودعه تحت الأرض أكفانه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وخمسين وسبع مئة. وقد عدى الخمسين بقليل.
وهو أكمل الإخوة وأسعدهم وأفضلهم، سعى بنفسه إلى أن أخذ الإمرة من مصر، وكان قد كتب على يده الأمير سيف الدين يلبغا كتباً ومطالعة إلى السلطان، فاتفق تغير الدولة، فأقام هناك، وأعطي إمرة بدمشق، فجاء وأرغون شاه بدمشق نائب، سيف الدين أرغون الكاملي إليها نائباً، فخدمه، فولاه بها شد الدواوين. ولم يزل إلى أن اتفقت للكاملي تلك الكائنة مع الحلبيين، وهرب من عندهم، وجاء إلى دمشق، وتوجه منها إلى مصر، وأعيد إليها نائباً، فأحسن إلى علاء الدين بن بيبرس، لأنه ما غفل عن خدمة بيته وأهله، ولا خانة، فرعى له ذلك. ولما قدم الكاملي إلى دمشق، وطلب الأمير سيف الدين تلك الحاجب إلى مصر، خلت الوقت الوظيفة، فطلبها للأمير علاء الدين، فجاء إلى دمشق حاجباً، ولم يكن عنده غيره، لأنه عارف خبير درب، عاشر الناس ورآهم في مصر والشام، فما كان يتكلم في الدست غيره.
ثم إنه توجه إلى لد، وجاء معه إلى دمشق، وتوجه معه إلى حلب، فكان معه، فلما رسم له بالإقامة هناك، أقام عنده حاجباً، ولما طلب الكاملي إلى مصر لم يمكنه إلا الإقامة في حلب، وحضر الأمير سيف الدين طاز إلى حلب نائباً، فراج عليه ونفق عنده بعدما كان قد أعرض عنه. ولم يزل إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ.
وكان يستحضر شعراً كثيراً للأقدمين والمتأخرين وأهل العصر، وعلى ذهنه تواريخ ووقائع من قديم الإسلام وحديثه. وكان حلو العبارة، فصيح اللسان، يستحضر الواقعة في وقتها، ويتمثل بالشعر النادر في كتبه.
وكان غريباً في أبناء جنسه. كتبت إليه بعدما توجه من دمشق لما أقام بحلب ارتجالاً من رأس القلم في شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة:
لقد أوحشت أهل الشام حتى ... سلبت ربعوها ثوب البهاء
يقبل الأرض ويشكو حظه من الأيام، وما يجده لهذه الحادثة من الآلام، وما يجرعه من الغصص لفراق مولانا الذي آنس مقامه حلب، وأوحش فراقه الشام.
وإذا تأملت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
نعم يا مولانا، لقد شقيت دمشق ببعدك عنها، وسعدت حلب بقربك منها. وما يقول المملوك إلا كأن الله تعالى كان قد كمل محاسنها بحلولك، وأطلع الأمن فيها بنزولك، وكاثر أنهارها بما تجريه المكارم فيها من سيولك، وفاخر أهلة أفقها بما تؤثره في طرقها حوافر خيولك، وفاضل أزاهرها النافحة بآثار جرذيولك:
فتجملت وتكملت ... فأصابها عين الكمال
ورمى الإله صفاتها ال؟ ... حسنى بحادثة الليالي
فعيوننا من ذا بوا ... ك في منازلها البوالي
وكأنما عرصاتها ... سلك وأدمعنا لآلي
ومولانا عز نصره، فيجد أمثالنا كثيراً، وأما نحن فوالله ما نجد مثله، ولا من إذا أصابنا ظمأ أفاض علينا بالجود وبله وبله. وقد حرم المملوك على نفسه المرور على باب دار مولانا الكريمة، لا أخلاها الله تعالى من المحيا الكريم، والوجه الذي يخجل البدر إذا أنار في الليل البهيم.

يا مولانا، الله يمتعنا بحياتك، ما ينسى المملوك تلك الليلة التي مرت، ومماليك بين يديك، وكأن الأنس والسعد والفضل في قبة ضربت عليك، والمسرة والإقبال والهناء خدام وقفوا لديك. ودموع المملوك ما يملك رد عنانا، ولا يخبا عقود درها وجمانها، ولا ينقطع لها خيط مزن، ولا يعلم الباعث لها ما هو، أمن سرور أو حزن. نعم، للنفس شعور بما يقع فيما بعد، وإدراك بما سوف يتجدد من النحس أو السعد.
ولما عاد المملوك تلك الليلية من عند مولانا أعز الله أنصاره ودخل مسكنه واستجن داره، نظم المملوك:
تعجب خلي من عبرتي ... وقد هطلت كالحيا الساكب
فقلت: دموعي تحاكي ندى ... علي بن بيبرس الحاجب
وبالله يقسم المملوك أن دمشق بعد مولانا ما تسكن، والعمل على الخروج منها متعين إن أمكن. فلقد كان لها بمولانا ملك الأمراء جمال وأي جمال، ورونق لا يملكه إلا البدور إذا كانت في ليالي الكمال، وعز دائم لو أن ركابه الكريم فيها يحل ويرحل، وظل ظليل لو أن مغناها ما أقفر منه ولا محل.
ما العيش فيها طيب لبعاده ... عنها ولا روض الحمى بنضير
وعلى الجملة، فدمشق لها مدة سنين في خمول، الله يجعل هذا آخره، ويرينا وجه مولانا على ما يسر من أوقات أنسه الفاخرة:
وكنا كما نهوى فيا دهر قل لنا ... أفي الوسع يوماً أو نكون كما كنا
وألطاف الله تعالى خفية بعباده، وقد يرجع الله الغريب إلى بلاده، بمنه وكرمه. أنهى ذلك إن شاء الله تعالى.
علي بن تنكزالأمير علاء الدين أيمر علي بن الأمير الكبير المهيب سيف الدين نائب الشام.
كان يحبه والده محبة عظيمة، وأظنه من زوجه بنت الأمير سيف الدين كوكاي.
أمره السلطان الملك الناصر، ولبس التشريف والشربوش، ومشى الأمراء والحجاب ووجوه الدولة من أرباب السيوف في خدمته من مدرسة نور الدين الشهيد إلى دار السعادة في يوم الخميس ثاني شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
وكان لا يزال عليلاً كثير الأوجاع والأسقام، فتنكد عيش والده بذلك.
ولم يزل على ذلك إلى أن توفي رحمه الله في عشية الاثنين عند المغرب، العشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن في أول الليل بتربة والده التي بجوار جامعة، ظاهر دمشق.
ووجد عليه وجداً عظيماً والده، وجهز إليه السلطان أميراً كبيراً يعزيه، وجهز إليه تشريفاً عظيماً، فلبسه.
وكان قد جاء منه كتاب إلى الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، يوصي فيه بأخته، زوج أمير أحمد بن بكتمر الساقي، وكان اسمه فيه بخط يده، لأنه كان صغيراً جداً أول ما كتب. فكتبت أنا الجواب عنه وأنا بالديار المصرية في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ونسخته: " أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي الأميري العلائي، وزاد العيون بآثاره كل بهجة، وسر بأبكار معانيه كل نفس وأقر بها كل مهجة، وشد ببأسه عضد والده حتى يطفئ به حر الوغى و رهجه.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تطوى على سلام، هو أصدق القول وأطربه لجهة، وينشر عن ثناء جعل طريقه إلى الأسماع على الرياض ونهجه.
وتوضح لعلمه الكريم ورود مكاتبته التي هي حقيقة المحاسن ومجازها، وبرود الفضل التي أضحت، وخط اسمه الكريم طرازها، فوقف منها على الرياض رقمها الغمام بأبر قطره، ودبح ثراها بملونات زهره، لا بل نظل منها إلى الأفق يلمع في ليل مداده صباح طرسه، ووجد ألفاظه الدر، لا بل تعلوا على الدر، أن تكون من نوعه وجنسه، وسر من الجناب العالي بدره، أهذا أبوه وهو في الحقيقة بحر وسماً واسعاً، وتعجب له من ماجد فاق البدور هلالاً وعلا الشموس نجماً، ورأى خط يده يطير جناحه بنجاح النجابة، وعلم أنه لا بد وأن يغدو فارس الكتائب والكتابة.
فيا عز هذه الدولة الناصرية ببأسه الماضي الشبا. ويا بشرى المعالي منه بأمارة نجيب قالت له الإمارة مرحباً، والله يجمل ببدره هالات المواكب، ويعلي قدره على أقدار السعود من الكواكب، فإن الظن في الصدقات السلطانية ما رقى له غير أولي درجة، ولا تخطى الأمل الصادق منعطفه ومنعرجه.

وأما الإشارات الكريمة إلى كريمته، فهي أين كانت كريمة، وحيث سارت وصارت سعودها مقيمة، وما الجناب العالي وأهله إلا بمنزلة الولد بل أعز قدراً، وإذا جاء أحدهم بحسنة واحدة نال بها عشراً، فهي درة أحرزها مودعها وشمس أشرق بالسعد واليمن مغربها ومطلعها.
فلتقر عينه من جهتها المصونة، ولتطب نفسه بما تناله من العناية والمعونة، إن شاء الله تعالى.
علي بن جابر بن علي بن موسىنور الدين الهاشمس اليمني.
شيخ الحديث بالمنصورية بالقاهرة. سمع باليمن من الزكي البيلقاني، وبمصر من العز الحراني وخلق، بدمشق من الفخر، وجماعة.
كان فاضلاً محدثاً أديباً، رئيساً في نفسه أريباً، أخلاقه سهلة، وحركاته تقتضي التراخي والمهلة، متواضعاً في نفسه، مقتصراً في حاله ولبسه، وكان للكتب جماعة، ونفسه إلى التزيد منها طماعة. وكان صوته جهورياً، وليس من الفصاحة عرياً، وقراءته مليحة، وكلماته صحيحة.
ولم يزل على حاله إلى أن هشم الموت عظام الهاشمي، وأتاه منه ما لم يسلم منه النوع الآدمي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشري جمادة الآخرة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده بمكة سنة سبع وأربعين وست مئة وقليل: سنة ثمان وأربعين، في يوم عاشوراء، كما ذكر.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وأصحابنا ينسبونه إلى شيء من التساهل فيما يقوله ويدعيه.
وكان الشيخ أبو عمرو بن سيد الناس يذكر عنه أنه ذكر شيئاً وكتب بخطه، ثم ادعى غيره وأصلحه.
وكانت فيه مكرمة، وكان يوصف بحسن الجوار والمخالطة، وتورع في أنه هاشمي.
وقال شيخنا الذهبي: وكان مع علمه ليس متحرياً في النقل. قال أبو محمد النويري. أخذ عنه الطلبة.
وأخبرني من لفظه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى قال: استعرت من نور الدين المذكور مجلداً، فوجدت فيه في مكان الأبيات الضادية التي للشافعي رضي الله عنه وفيها تخريجة إلى الحاشية تتصل ببيتين، الأول حفظته، وهو:
قف ثم ناد بأنني لمحمد ... ووصية وابنيه لست بباغض
ثم تأملت الخط، فإذا هو خط نور الدين، انتهى.
قلت: وقد اشتهر هذا البيت، وأثبته الفضلاء والحفاظ والناس من شعر الشافعي، وهو:
يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ولكن من له معرفة ودربة بقدر الشافعي رضي الله عنه يتحقق أن الشافعي ما يقول: باغض، اسم فاعل من أبغض.
وذكر الثقات عن الربيع أنه قال: حججنا مع الشافعي، فما ارتقى نجداً. ولا هبط وادياً، إلا وهو يبكي وينشد هذه الأبيات الثلاثة. فإذا زيد رابع أو خامس، أخرج ذلك أهل النقد.
وعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول:
شهدت بأن الله لا رب غيره ... وأشهد أن البعث حق وأخلص
وأن عرى الإيمان قول مبين ... وفعل زكي قد يزيد وينقص
وأن أبا بكر خليفة أحمد ... وكان أبو حفص على الحق يحرص
وأشهد ربي أن عثمان فاضل ... وأن علياً فضله متخصص
أئمة دين يقتدى بفعالهم ... لحى الله من إياهم يتنقص
وروى أبو سعد بن السمعاني في ذيله، وبسنده إلى جعفر بن أحمد بن الحسن السراج أنه أنشد رداً على من زعم أن في الشافعي تشيعاً:
لا در در معاشر لم يحفظوا ... غيب الأئمة عاجز أو ناهض
زعموا بأن الشافعي محمداً ... جادت ثراه بمصر مزنة عارض
مترفض إذ قال في بيت له ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ما قاله إلا بشرط واضح ... لأولي النهى والدين ليس بغامض
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
وبه يقول المسلمون فهل ترى ... عين لآل محمد من باغض
يا من رماه ببدعة في دينه ... لازال جسمك حلف حمى نافض
رجع القول إلى ذكر نور الدين الهاشمي: الله أعلم بسريرته.
ومن شعره في أصحاب الطيالس:
قوم لهم سيرة سارت ببغيهم ... قد ارتدوا برداء الكبر والحمق

خفت رؤوسهم إذ خف عقلهم ... لولا طيالسهم طارت من العنق
ومنه في أصحاب العذبات:
قوم إلى الثيران أقرب نسبة ... وحقيقة قد ألبسوا أثوابا
سترت عمائمهم شعوب قرونهم ... أو ما ترى عذباتهم أذنابا
ومنه:
يفخر زيد بحسن عمته ... يخطر بالكم إذا رأى عذبه
كمثل ثور يدور ملتهيا ... يمرح عجباً إذا رأى ذنبه
ومنه:
هو المجد لا زور الأماني الكواذب ... وليس العلا إلا ابتذال الرغائب
وما فاح نشر الروض إلا لأنه ... بذول لما أولاه قطر السحائب
وما طاب ذكر الحمد إلا لأنفس ... لها في اقتناء الحمد أسنى المكاسب
حناينك من عصر خلت منه سادة ... غياث لمستجد وغوث لراغب
ومنه:
نال من صدها الفؤاد سوا ... رب خير أتى بغير اعتماد
شيمة في الحسان بغض المحب؟ ... بين فلا ترجون صفو الوداد
قلت: شعر جيد، ومقاصد حسنة، ولكنه هو ولد بمكة، وربي باليمن، وأهل تلك البلاد المعهود عنهم اللطف ورقة الحاشية، ولا سيما وقد أقام بالديار المصرية، فكيف يقول:
نال من صدها الفؤاد سلوا ... رب خير أتى بغير اعتماد
هذا فيه جفاء وغلظة طباع. وأين هذا من قول الأول:
علمتني بهجرها الصبر عنها ... فهي مشكورة على التقبيح
قال علمتني، فنسب ذلك إليها، وقال: الصبر، وما قال: السلو. والنصف الثاني في غاية الحسن.
وكان الشيخ نور الدين المذكور يدعي أنه يحفظ الوجيز
علي بن الحسن بن أحمدالإمام الزاهد العابد، علم الأولياء، أبو الحسن الواسطي الشافعي.
صحب الشيخ عز الدجين الفاروثي، وسمع من أمين الدين بن عساكر وغيره،. وقرأ القرآن والفقه، وأكثر من مطالعة العلم، ولاذ بظل الصبر والحلم، ولازم الحج ستين عاماً، وجاور في بعض ذلك مقاماً.
وكان منجمعاً عن الناس، منعزلاً عن الأدناسن لا يقبل من كل أحد، ولا له غير الصبر ملتحد. له كشف وحال، وفضل وقال. كثير التلاوة والقيام، والذكر والصيام، منقطع القرين، متواصل الآهة والأنين.
توفي رحمه الله تعالى ببدر محرماً، وراح إلى الله مكرماً، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
علي بن الحسنالإمام الخطيب ابن الجابي، بالجيم والألف والباء الموحدة، خطيب جامع جراح.
كان طيب النغم، حسن الصوت إذا نغم، جيد الأداء، فصيح التلاوة يشوق إلى الاقتداء به والاهتداء. يورد خطباً طوالاً، يطيل فيها جواباً وسؤالاً. وله عمل كثير في الكيمياء، ويزعم أنها صحت معه. والظاهر أنه ظفر منها ببعض صبغ أطمعه.
ولم يزل في نصبه وكده إلى أن حصل في لحده.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وسبع مئة.
وخطب بعده الشيخ شرف الدين الفزاري إلى أن نقل إلى خطابة الجامع الأموي.
وكان هذا الخطيب ابن الجابي قد جمع نحو أربع مئة دينار. وجاءت التتار، فكابر وقعد في بيته في الجامع، فدخلوا عليه، فكلمهم بالتركي، فأخذوا ثيابه وفرشه ونحو ثلاثين قطرميزاً من زبيب ومخلل وعسل. ثم جاءته فرقة أخرى، وقالوا له: أين المال، فتمسكن لهم، فرأوا هناك لازورداً، فأرادوا أن يوجروه به، فصاح وخرج لهم عن ثلاث مئة دينار، فأخذوا الذهب، وعذبوه، ثم إنه هرب وتسلق من الباب الصغير، فظفر به أناس آخرون، وطالبوه مصادرة، وقاسى أهوالاً ووبالاً وفقراً إلى أن توفي رحمه الله تعالى في تاريخه.
ولما أبيعت كتبه، جاء الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى واشترى منه كتباً بألف درهم، جميعها في الكيمياء، ورمى بها في وقته في بركة، وغسلها، وقال: هذه كانت تضل الناس وتضيع أموالهم.
علي بن الحسن بن علي بن أبي نصرعلاء الدين بن عمرون.
نشأ علاء الدين هذا، وقد عدم ما كان لوالده من الدنيا الواسعة، فاشتغل بالحساب، وولي الزكاة ثم الوكالة وغيرها.
وكان من عقلاء الناس.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وسبع مئة في خامس عشر شهر رجب.
وروى سداسيات الرازي عن أحمد بن النحاس، سمعها عليه بالإسكندرية عن ابن موقا.
وكان والده من أرباب الأموال الجزيلة. أقام بالإسكندرية وتوفي بها.
علي بن حسنالأمير نور الدين بن الأمير بدر الدين حسن بن الأفضل.

كان الأمير نور الدين هذا ابن أخي الملك المؤيد صاحب حماة. جاء إلى دمشق بعد الفخري أمير طبلخاناة، وأقام بدمشق، واشترى دار أيدغدي شقير التي عند مئذنة فيروز من الأمير علاء الدين علي بن بيبرس الحاجب، وهي دار عظيمة وبها بحرة متسعة، لم يكن بداخل دمشق أكبر منها، وعمر بها الأمير نور الدين قبة مليحة إلى الغاية.
وكانت له أملاك وسعادة بحماة وإقطاع جيد، وعنده جواري جنكيات ودفيات، فانقصف، وأورث أهله الأسى والأسف.
وكان موته في عاشر صفر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وعمره تقدير أربع وعشرين سنة.
وكان يعرج قليلاً إلا أن وجهه حسن.
علي بن حسنالأمير علاء الدين بن المرواني.
كان في دمشق من خيار الناس، وأعقلهم ممن يود أن يعد أو يدخل في كيس الأكياس. ظريفاً مندباً، مخرجاً مهذباً، يخدم الناس ويتقرب بإحسانه، ويحسن بيده وبلسانه، إلى أن تولى الصعيد بمصر، فاكتسب هناك الإثم، وأصر على الإصر وسفك الدماء نهاراً جهاراً، وأجرى منه بجرأته أنهاراً.
ثم إنه نقل إلى ولاية القاهرة، فأظهر فيها من الجبروت ما تجف منه البحار الزاخرة، ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى الآخرة.
وتوفي رحمه الله تعالى ....
أول ما علمت من أمره أنه جاء إلى صفد شاد الديوان ووالي الولاة عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الساقي، جهزه الأمير سيف الدين تنكز في سنة ثماني عشرة أو تسع عشرة. ولم يزل بصفد إلى أن طلب إلى دمشق، وتولى ولاية البر بها في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة عوضاً عن سنجر الطرقجي، فأحبه تنكز والصاحب شمس الدين، وقرباه وأدنياه وبالغا في إكرامه.
ولم يزل معظماً يحبه أهل دمشق، ويحسن هو إليهم إلى أن طلبه السلطان الملك الناصر محمد إلى القاهرة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، و ولاه الصعيد، فدخل يوماً إلى ديوان الإنشاء بقلعة الجبل لإلفه بأهل دمشق، وقعد عندنا يسيراً يتحدث ويذكر دمشق، فجاء إليه إنسان من عند بعض الخاصية يقول: هذا يكون في خدمتك، يصلي بك ويؤذن ويقرأ. يشير إلى فقيه معه. فقال: سلم على الأمير، وقل له: أنا ما أروح إلى الصعيد مسلماً، فضلاً عن أني أصلي. فأخذنا منه ذلك على عادة بسطه وتنديبه. فما كان إلا أن راح إلى الصعيد، وحط يده والسيف. فوسط وسمر وشنق، وسفك الدماء، إلى أن نقل إلى ولاية القاهرة في سادس عشري جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
وكان الحال في هذه الولاية أشق. أول ولاية بالقاهرة قطع على ما قيل خمسين يداً غير الأرجل، وزاد في ذلك، ودخل مع القاضي شرف الدين النشو وأحبه وأخذا أرواح جماعة من الكتاب.
وولى السلطان ابنه الأمير ناصر الدين محمداً مصر، وأضاف الحسبة في الخبز إلى الأمير علاء الدين في أيام الغلاء، لكنه ساس ذلك سياسة جيدة. وأظنه تولى القاهرة بعد سيف الدين بلبان الحسامي، بعدما نقل إلى نيابة دمياط.
علي بن الحسن بن عليالشيخ نور الدين أبو الحسن الأرموي الشافعي، شيخ خانقاه القاضي كريم الدين.
سمع من الفخر بن البخاري وغيره.
وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده بأقصر سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين وست مئة.
علي بن حسن بن أبي الفضلابن جعفر بن محمد بن كثير الحلي.
قدم دمشق وأقام بها سنوات، ثم إنه في يوم شق الصفوف في الجمع الأموي، والناس في صلاة جنازة، وجعل يقول: لعن الله من ظلم آل محمد. ومن هذا وشبهه، فنبه الشيخ عماد الدين بن كثير عليه، وقال: أمسكوه، فإن هذا يسب الصحابة، فأمسكوه وأحضروه إلى العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فاستفهم منه عما يقول، فظهر له أنه يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فأمر باعتقاله.

ثم إن الناس قاموا في أمره، ورفعوه إلى قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي المالكي، فضربه ثلاثة أيام بالسياط، ويأمره بالتوبة، وهو مصر، ثم إن الناس حملوه إلى دار العدل بين يدي النائب، فأمره بالتوبة هو والقضاة، وهو مصر، ثم إن نائب القاضي المالكي حكم بضرب عنقه، فتوجه الناس به إلى سوق الخيل، و توجه بعض الناس يشاور عليه، فجاء بعض الجند، وضرب عنقه، وأخذ رأسه، ولعب الجند به الكرة في سوق الخيل، ثم إن العوام أحرقوا جسده بالنار، وطيف برأسه بعد ذلك في أسواق دمشق. وكان ذلك في يوم الخميس عشري جمادة الأولى سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
علي بن حسن بن صبحالأمير علاء الدين، أحد الأمراء بدمشق.
صحب الأفرم وداخله، ولما قفز الأمراء وتركوا الأفرم وحده، ولم يبق عنده أحد من الأمراء إلا من هو من خواصه، ولا من هو بعيد عنه، أخذه علاء الدين بن صبح، وتوجه به إلى الشقيف.
ولما دخل السلطان إلى دمشق كتب لهما أماناً، فحضر إليه، ثم إنه أمسكه فيما بعد، وأقام في سجن الإسكندرية إلى أن أفرج السلطان عنه، ووصل إلى دمشق يوم عيد الأضحى سنة أربع عشرة وسبع مئة.
ولم يزل بدمشق مقيماً على إمرته إلى أن توجه إلى البقاع، ومرض به.
وتوفي هناك في يوم الأربعاء سابع عشري شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة. عمره سبع وأربعون سنة.
علي بن الحسن بن محمد بن الحسينالقاضي الرئيس الشريف، شرف الدين الحسيني الأرموي ثم المصري، نقيب العلويين ووكيل بيت المال بالقاهرة، وقاضي العساكر.
حدث عن ست الوزراء، ودرس بمشهد الحسين بالقاهرة، وكان من كتاب الإنشاء. وهو ابن عم السيد الشريف شهاب الدين الحسين المقدم ذكره.
وكان السيد علاء الدين ظريف الشكل والمنظر، دائم البشر بوجه يخجل القمر إذا تم وأبدر. وله إنشاء جيد، ونثر ما عرج عن الحسن ولا حاد عنه، فإنه بالبلاغة متأيد، وبينه وبين الشيخ جمال الدين بن نباتة مكاتبات راقت صدروها وسطورها، ولاق بالقولب منظومها ومنثورها.
وكان قد حصلت له وجاهة في أيام الملك الصالح إسماعيل من جهة أم السلطان، وساد فيها، وعبث به ابن عمه الشريف شهاب الدين بما كتب على الحيطان.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح في أكفانه مدرجاً، وانقطع أمل من أم له ورجا.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع وخمسين وسبع مئة بالقاهرة.
علي بن الحسين بن قاسم بن منصور بن عليالشيخ الإمام العالم الفاضل العلامة المتبحر المفتن الأصولي الفقيه النحوي، الكامل زين الدين أبو الحسن ابن الشيخ جمال الدين ابن الشيخ شمس الدين ابن الشيخ جمال الدين ابن الشيخ زين الدين بن العوينة الموصلي الشافعي.
كان حسن الشكالة، ظاهر الجلالة، نير المحيا، يشبهه البدر لو تم له ذلك أو تهيا، أحمر الوجنة، رؤية البدر معها هجنة، نقي الشيب، بريئاً من العيب، طاهر الذيل عاطر الحبيب، فكه المحاضرة مأمون الغيب، خالياً من الشبهة والريب، حالياً بمواهب الفوائد التي ما يذكر معها للغمائم سيب.
فقيه إذا قلت فقيه، يبهر علمه وبحثه كل من يلتقف فضله أو يلتقيه، أصولي مد أطناب الإطناب في شرح المختصر، وقام بأعباء هذا العلم وجالد لما جادل وانتصر.
مفسر غير مقصر، بليغ إذا تفوه ألهي بعذوبة نطقه عن العذيب ووادي محسر.
نحوي حل ما في التسهيل من التعقيد، وأوضح غوامضه فأغمض ناظر الناظر فيه بعد ما كان يعالج التسهيد.
ورياضي أخذ جمل محاسنه بلا حسب، وقرب بعيد هذا الفن وسهل الاكتساب.
وناظم أدار قوافيه كؤوساً على الألباب وأنس المتيمين بأغزاله ذكرى المنازل والأحباب.
نبه به جماعة من الأعيان، وتخرج به طائفة من أولي الفهم والأذهان.
ولم يزل يفيد، ويبدي البدائع في البدائة ويعيد إلى أن أتى سيل المنية على ابن شيخ العونية، واستوفى أجله منه دينه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالموصل، وصلي عليه في ماردين غائباً في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
وسألته عن مولده، فقال: بالموصل ثاني عشر شهر رجب الفرد سنة إحدى وثمانين وست مئة.

اجتمعت به في دمشق بالمدرسة القليجية جوار دار الذهب في شهر شوال سنة خمسين وسبع مئة، وقد ورد للحج إلى دمشق صحبة بنت صاحب ماردين، فرأيت منه حبراً كامل الفوائد، وبحراً لا تبخل أمواجه بإلقاء الفرائد، وكتبت إليه بعد ذلك سؤالاً نظمته قديماً، وهو:
ألا إنما القرآن أكبر معجز ... لأفضل من يهدى به الثقلان
ومن جملة الإعجاز كون اختصاره ... بإيجاز ألفاظ وبسط معان
ولكنني في الكهف أبصرت آية ... بها الفكر في طول الزمان عناني
وما ذاك إلا استطعما أهلها فقد ... نرى استطعماهم مثله ببيان
فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر ... مكان ضمير إن ذاك لشان
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
سألت لماذا استطعما أهلها أتى ... عن استطعماهم إن ذاك لشان
وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف ... على سبب الرجحان منذ زمان
فهاك جواباً رافعاً لنقابه ... يصير به المعنى كرأي عيان
إذا ما استوى الحالان في الحكم رجح الضمير، وأما حين يختلفان
فإن كان في التصريح إظهار حكمة ... لرفعة شان أو حقارة جان
كمثل أمير المؤمنين يقول: ذا ... وما نحن فيه، صرحوا بأمان
وهذا على الإيجاز والفظ جاء في ... جوابي منثوراً بحسن بيان
فلا تمتحن بالنظم من بعد عالما ... فليس لكل بالقريض يدان
وقد قيل إن الشعر يزري بهم فلا ... تكاد ترى من سابق برهان
ولا تنسني عند الدعاء فإنني ... سأبدي مزاياكم بكل مكان
وأستغفر الله العظيم لما طغى ... به قلمي أو طال فيه لساني
والجواب المبسوط بالنثر، فهو: بسم الله الرحمن الرحيم سأل بعض الفضلاء عن الحكمة في ف؟ " استطعما أهلها " دون فاستطعماهم مع أنه أخصر؟ والجواب: قلت: والله الموفق: إنه لما كانت الألفاظ تابعة للمعاني، لم يتحتم الإضمار، بل قد يكون التصريح أولى، بل ربما يكاد يصل إلى حد الوجوب، كما سنبين إن شار الله تعالى، ويدل على الأولية قول أرباب علم البيان ما هذا ملخصه: لما كان للتصريح عمل ليس للكناية، كان لإعادة اللفظ من الحسن والبهجة والفخامة ما ليس لرجوع الضمير، انتهى كلامهم.
فقد يعدل إلى التصريح إما للتعظيم وإما للتحقير وإما للتشنيع والنداء بقبح الفعل، وإما لغيرهم، فمن التعظيم قوله تعالى: " قل هو الله أحد، الله الصمد " دون " هو " . وقوله تعالى: " وبالحق أنزلناه وبالحق نزل " ولم يقل وبه. وقوله: " الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " فقد كرر لفظ الحج مرتين دون أن يقال: فمن فرضه فيهن، ولا جدال فيه " ، إعلاماً بعظمة قدر الحج، وعبادته، من حيث إنها فريضة العمر، وفيها شبه عظيم بحال الموت والبعث، فناسب حال تعظيمه في القلوب التصريح باسمه ثلاث مرات.
ومه قول الخليفة أمير المؤمنين: يرسم بكذا دون أنا، إما لتعظيم ذلك الأمر أو لتقوية داعية المأمور أو نحوهما.
وقول الشاعر:
نفس عصام سودت عصاما
وقول أبي تمام:
قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والمجد والمكارم مثلاً
فإن إيقاع الطلب على المثل أوقع من إيقاعه على ضميره لو قال: طلبنا لك مثلاً فلم نجده.
وقول بعض أهل العصر:
إذا برقت يوماً أسرة وجهه ... على الناس قال الناس جل المنور
وأما ما يكاد يصل إلى حد الوجوب، فمثل قوله تعالى: " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك " إلى قوله: " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، إن أراد النبي أن يستنكحها " عدل عن الإضمار إلى التصريح، وكرر اسمه صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على أن تخصيصه صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم أعني النكاح بالهبة عن سائر الناس، لمكان النبوة، وكرر اسمه صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على عظمة شأنه وجلالة قدره، إشارة إلى علة التخصيص وهي النبوة.

ومن التحقير: " فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم " " فأنزلنا على الذين ظلموا " ، دون: " عليهم " ، " وقالوا قلوبنا غلف، بل لعنهم الله بكفرهم " أضمر هنا، ثم لما أراد المبالغة في ذمهم صرح في الآية الثانية والثالثة بكفره فقيل " لعنة الله على الكافرين " " وللكافرين عذاب مهين " .
وأمثاله كثير، فإذا تقرر هذا الأصل، فنقول: لما كان أهل هذه القرية موصوفين بالشح الغالب واللؤم اللازب بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " كانوا أهل قرية لئاماً " وقد صدر منهم بحق هذين العبدين الكريمين على الله ما صدر من المنع بعد السؤال، كانوا حقيقين بالنداء عليه بسوء الصنع، فناسب ذلك التصريح باسمهم، لما في لفظ الأهل من الدلالة على الكثرة مع حرمان هذين الفقيرين من خيرهم مع استطعمامهما إياهم، ولما دل عليه حالهم من كدر قلوبهم وعمى بصائرهم، حيث لم يتفرسوا فيهما ما تفرسه صاحب السفينة في قوله: أرى وجوه الأنبياء.
هذا ما يتعلق بالمعنى، وأما ما يتعلق باللفظ، فلما في جمع الضميرين في كلمة واحدة من استثقال، فلهذا كان قليلاً في القرآن المجيد. وأما قوله تعالى: " فسيكفيكهم الله " وقوله: " أنلزمكوها " فإنه ليس من هذا القبيل، لأنه عدول عن الانفصال إلى الاتصال الذي هو أخصر، وعند فك الضمير لا يؤدي إلى التصريح باسم ظهر، بل يقال " فسيكفيك إياهم الله " ، و " أنلزمكم إياها " ، فكان الاتصال أولى، لأنه أخصر، ومؤداهما واحد، بخلاف مسألتنا.
ثم هنا سؤالات، فالأول: ما الفرق بين الاستطعام والضيافة؟ فإن قلت: إنهما بمعنى، قلت: فلم خصصهما بالاستطعام، والأهل بالضيافة؟ والثاني: فلم قيل " فأبوا أن " ، دون فلم، مع أنه أخصر؟ والثالث: لم قيل " أتيا أهل قرية " ، دون أتيا قرية، والعرف بخلافة؟ نقول: أتيت الكوفة دون أهل الكوفة، كما قال تعالى: " ادخلوا مصر " .
والجواب عن الأول: أن الاستطعام وظيفة السائل، والضيافة وظيفة المسؤول لأن العرف يقضي بذلك، فيدعو المقيم إلى منزله القادم، يسأله ويحمله إلى منزله. وعن الثاني: أن في الإباء من قوة المنع ما ليس في فلم، لأنها تقلب المضارع إلى الماضي وتنفيه، فلا يدل على أنهم لم يضيفوهم في الاستقبال، بخلاف الإباء المقرون بأن، فإنه يدل على النفي مطلقاً، وآيته: " ويأبى الله إلا أن يتم نوره " أي حالاً واستقبالاً.
وعن الثالث: أنه مبني على أن مسمى القرية ماذا؟ أهو الجدران وأهلها معاً حال كونهم فيها؟ أم هي فقط، أم هم فقط؟ والظاهر عندي أنه لم يطلق عليها مع قطع النظر إلى وجود أهلها وعدمهم بدليل قوله تعالى: " أو كالذي مر علي قرية وهي خاوية على عروشها " سماها قرية، ولا أهل ولا جدار قائماً، ولعدم تناول لفظ القرية إياهم في البيع إذا كانت القرية وأهلها ملكاً للبائع، وهم فيها حالة البيع، ولو كان الأهل داخلين في مسماها لدخلوا في البيع، ولثبوت المغايرة بين المضاف والمضاف إليه، وإنما ذكر الأهل لأنهم المقصود من سابق الكلام، دون الجدران، لأنه بمعرض حكاية ما وقع منهم من اللؤم.
فإن قلت: فما تصنع بقوله تعال: " وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها " " وكم من قرية أهلكناها، فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون " " وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة " إلى آخره " واسأل القرية " فإن المراد في هذه الآيات وأمثالها الأهل والجدران؟ قلت: هو من باب المجاز بالقرينة، لأن الإهلاك إنما ينسب إليهم دونها، بدليل " أو هم قائلون " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف وبطرت معيشتها، ولاستحالة السؤال من غير الأهل. على أنا نقول: لو تصور وقوع الهلاك على نفس القرية بالخسف والحريق والغريق وننحوه، لم تتعين الحقيقة، لما ذكرناه.
وهذه عجالة الوقت، ونحن على جناح السفر.
هذا صورة ما كتب به إلى الشيخ زين الدين رحمه الله تعالى، وقد كنت كتبت هذا السؤال للشيخ الإمام العلامة نجم الدين علي بن داود القحفازي وأجاب عنه بجواب يأتي إن شاء الله في ترجمته.
وأجاب عنه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يجيء في ترجمته إن شاء الله تعالى.

وقرأ الشيخ زين الدين القرآن ببغداد على الشيخ عبد الله الواسطي الضرير لعاصم من طريق أبي بكر. وشرح الشاطبية على الشيخ شمس الدين بن الوراق الموصلي، وحفظ الحاوي الصغير، وشرحه على أقضى القضاة عز الدين أبي السعادات عبد العزيز بن عدي البلدي، وشرحه أيضاً على السيد ركن الدين. وقرأ مختصرات ابن الحاجب، وشرحه على السيد ركن الدين أيضاً.
وقرأ أصول الدين والمعقولات على السيد ركن الدين أيضاً، وقرأ ألفية ابن معط على الشيخ شمس الدين المعيد المعروف بابن عائشة.
وقرأ اللمع أيضاً لابن جني ببغداد على مهذب الدين النحوي، وعلى شمس الدين الحجري بفتح الحاء والجيم التبريزي مدرس العربية في المستنصرية.
وقرأ الحساب على القاضي عز الدين المذكور آنفاً، وقرأ عليه الطب أيضاً.
أجاز له جماعة، منهم الشيخ تاج الدين بن بلدجي الحنفي، وسمع عليه بعض جامع الأصول لابن الأثير، وكان يرويه عن ابن الحامض عن المصنف، وسمع أكثر شرح السنة على الشيخ تاج الدين عبد الله بن المعافي، وأجاز له الشيخ شمس الدين بن الوراق الحنبلي.
وقدم إلى دمشق سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وسمع على الشيخ جمال الدين المزر صحيح البخاري والترمذي ومسند الشافعي، وأجزاء كثيرة. وعلى الشيخ شمس الدين السلاوي صحيح مسلم، وعلى الشيخ زين الدين بن تيمية سنن النسائي، وعلى الشيخ شمس الدين الذهبي سنن ابن ماجة، وسمع على الشيخ شمس الدين بن النقيب قاضي حلب بعض سنن الدار قطني، وأجازه الباقي. وسمع على الشيخ علم الدين البرزالي كتاب علوم الحديث لابن الصلاح.
وأجازه الشيخ شمس الدين محمد بن شكاره المؤدب الموصلي المقامات الحريرية.
وروي مصنفات الشيخ موفق الدين الكواشي عن الشيخ شمس الدين بن عائشة عن السيد ركن الدين عن المصنف رحمه الله تعالى وله من المصنفات تفسير بنج الحمد، وهو خمس سور من القرآن الكريم، أول كل سورة: " الحمد " . وشرح مختصر ابن الحاجب في مجلد، وشرح البديع لابن الساعاتي الحنفي، وشرح مختصر المعالمين للسد ركن الدين، وكتاب تنفيح الأفهام في جملة الكلام اختصار مقاصد السول في علم الأصول للسد ركن الدين، ونظم الحاوي الصغير في دون الخمسة آلاف بيت، ونظم شرح المنظومة الأسعردية في الحساب وشرح التسهيل لابن مالك، ولم يكمل، وشرح قصدية في الفرائض للشيخ عبد الله الجزري. وله كتاب عرف العبير في عرف التعبير.
هذه الترجمة أملاها علي من لفظه، وسألته عن معنى هذه التسمية، أعني شيخ العوينة، فقال: الشيخ زين الدين الأعلى كان من أهل الثروة والسعادة بالموصل، فآثر الانقطاع والعزلة، فآوى إلى الجباية بباب الميدان ظاهر الموصل، ولا ماء لها هناك إلا من الآبار المحفورة، طول البير خمسون ذراعاً وستون ذراعاً وأكثر وأقل فكان الشيخ زين الدين يتوجه في كل يوم إلى الشط، ويملأ إبريقين، ويحملهما، ويجيء بهما لأجل شربه ووضوئه. فمكث على ذلك مدة، وهو يقاسي مشقة لبعد المسافة، فلما كان في ليلة، رأى النبي صلى الله عليه وسلم أو الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول له: احفر لي عندك حفيرة، يظهر لك الماء، فلما انتبه استبعد ذلك، لأن الآبار هناك بعيدة الغور، ولبث مدة، فرأى تلك الرؤيا، فاستبعد ذلك، وقال: لو حفرت بعكاز طلع لك الماء. فقص ذلك على بعض أصحابه، وحفر في ذلك المكان تقدير ثلاثة أذرع أو أكثر، فأجرى الله تعالى هناك عيناً، وهي مشهورة هناك، فمن ثم قيل له شيخ العوينة، وكان من الصلحاء الكبار. انتهى.
ولما بلغتني وفاة الشيخ زين الدين المذكور، قلت أنا في رثائه:
الشيخ لما توفي ... وقدر الله حينه
سالت دموعي عيوناً ... على ابن شيخ العوينة
وأنشدني الشيخ زين الدين رحمه الله من لفظه لنفسه. ما كتب به إلى الشيخ شمس الدين الحيالي:
سلام مثل أنفاس العبير ... على من حبه زاد المسير
ونهج سبيله حرز الأماني ... ومصباح الهداية للبصير
عوارفه لأهل الكشف قوت ... وإحياء لعلمهم الغزير
إشارته النجاة لمن وعاها ... ومنطقه شفاء للصدور
تحية من ذريعته إليه ... خلاصة نية وصفا ضمير

وفي جمل الفصول له مثير ... الى المقصور في تلك القصور
ولو واتاه تيسير وفوز ... بتكميل المقاصد والسرور
وقابل سره وجه التهاني ... ولاح طوالع السعد المنير
سعى ورمى جمار البعد عنه ... وطاف بكعبة الحرم الخطير
ولم يقنع بتحفة بنت فكر ... ولا اعتاض السطور عن الحضور
وأنشدني من لفظه لنفسه يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرم الشريف في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة:
دعاها تواصل سيرها بسراها ... ولا تردعاها فالغرام دعاها
ولا تخشيا منها كلالاً من السرى ... وحقكما إن الكلال عداها
فإن مل حاديها وحار دليلها ... هدها إلى تلك القباب سناها
عسى ينقضي في مسجد الخيف خوفها ... وتلقى مناها في نزول مناها
وتجرع من ماء الأجيرع شربة ... وتنقع من حر الذميل صداها
متى ما تخللت النخيل بيثرب ... بها عدمت تثريبها وغناها
ولم يبق من أكوارها في ظهروها ... ظهور إذا ما بطن مر حواها
إليك رسول الله سعى عصابة ... تعد خطاها فيك محو خطاها
أتت وقراها موقر بذنوبها ... فأحسن كعادات الكرام قراها
وليس لها عند الإله وسلية ... سواك إذا ما النار شب لظاها
وأنشدني من لفظه ما كتبه لصاحب ماردين، يودعه، وقد توجه للحج سنة خمسين وسبع مئة:
ودعتكم وتركت قلبي عندكم ... ورحلت بالمخلوق من صلصال
فالقلب في الفردوس يشهد حسنكم ... والجسم في نار التفرق صال
ومن شعره أيضاً يمدح صاحب ماردين:
إلهي إن الصالح المصلح الذي ... بدا غزه في آل أرتق يزهر
وألبسته من نور وجهك حلة ... تكاد لأبصار الخلائق تبهر
إذا برقت يوماً أسرة وجهه ... على الناس قال جل المنور
وقالوا كما قالت صواحب يوسف: ... أذا ملك أم آدمي مصور
يؤمل أن يدعوك ظناً بأنني ... لديك وجيه مستجاب موقر
إلهي فلا تخلف بي الظن عنده ... وإن لم أكن أهلاً فحلمك يستر
وهذي يدي مرفوعة بتضرع ... فيسر عليه كل ما يتعسر
وآمنه من خوف فقد أمن الورى ... بهيبته مما يخاف ويحذر
وأحسن له العقبى وبلغه بيتك ال؟ ... حرام على وجه يحب ويؤثر
وحط ملكه حتى يؤوب مسلماً ... وقد حطت الأوزار وهو مطهر
فما في اعتقادي في السلاطين مثله ... وأنت بما يخفى ويعلن أخبر
فإن لم يكن فاجعله حيث ظننته ... فأنت على قلب الحقائق أقدر
علي بن الحسين بن علي بن بشارةالفاضل علاء الدين أبو الحسن الشبلي، بالشين المعجمة والباء الموحدة واللام، الدمشقي الحنفي.
سمع كثيراً من اليونيني، وسمع بنفسه، وكتب، وأعاد، وتأهل للإفتاء.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة تسعين وست مئة في غالب الظن.
وولي إعادة المدرسة الشبلية. قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمع معنا كثيراً، ورافقته في الحج رحمه الله تعالى.
علي بن الحسين بن محمد بن عدنانالسيد الشريف علاء الدين بن الشريف زين الدين بن الشريف محيي الدين بن أبي الجن الحسيني.
كان أولاً خليعاًن ظريفاً خريعاً، فيه دماثة أخلاق، وسعة صدر في حالتي يسر وإملاق. قل أن يرى إلا وهو يضحك، ولسلامة صدره يعتقد ودك ونصحك. وكان الناس يتطفلون على عشرته، ويعتقدون وده لعدم شرته، ولم يكن في باطنه حقد، وخيره دون شره نقد. إلا أنه لسلامة باطنة يتظاهر بمذهب الاعتزال، وإذا أنكرنا عليه حاله في الوقت زال. ومع ذلك فكان عامياً خالياً من العلم، قد ملئ باطنه وظاهره من الحلم.
ولم يزل على حاله إلى أن طفئت شعلته، وراح إلى الله تعالى ومعه نحلته.

وتوفي رحمه الله تعالى في سلخ شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
وكان قد ابتلي بحمى الربع وطالت به مدة سنتين، ثم إنه راح إلى الربوة، وأكل سمكاً ولبناً، وربما أنه نزل في النهر، فمات رحمه الله تعالى.
وكان أولاً بيده شهادة المواريث الحشرية، وله فيها أخبار.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بنقابة الأشراف بدمشق في شهر رجب الفرد سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وهو: الحمد لله الذي زان أشراف هذه الأمة بعليها، وجعله من الذرية المنسوبة إلى نبيها، ورفع شأنها إلى رتب تحف الملائكة بناديها والملوك بنديها، وقمع من شأنها برفع لوائها في آفاق الفخار إلى غاية لا يترجل علوي عن علويها، نحمده على نعمه التي لا تزال تجود وليها بجود وليها، ومننه التي طاب عرف رياها، وطار عرف ريها، وأياديه التي بلغت النفوس آمالها بماليها خيراً ومليها، وعوارفها التي نأت عن لحاق الشكر فيما نجد عبارة، وفيها حق وفيها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يلمع الإيمان من محيا ألمعيها، وتميس أعطاف قائلها تحت اللواء المعقود في حلالها وحليها، وترد نفس معتقديها الحوض المورود، فتبل غلتها بشهي كوثريها.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده الذي ابتعثه من سادة لم يلو المجد عن لؤيها، ولا أقصى الله المحامد عن قصيها، ورسوله الذي انتخبه من أنجاب كم أنجاب الظلام بسنا السنان من سمهريها وخفية الذي انتفاه من أمجاد لم تستقم طرق النجابة حتى شقها سنبك أعوجيها. صلى الله عليه وآله وصحابته الذين هم خير جماعة، ركبت إلى الشرف مطامطيها، وأعز فئة لم تخط غرض الصواب سهام قسيها، وأفضل زمرة تفرق الأبطال إذا انحسر فوق كميها، وأشرف سادة عاد غنيها على فقيرها، وعاذ فقيرها بغنيها.
صلاة ترفل الأقلام من الطروس في سندسيها، وتبسم شفاه الطروس اللعس عن جوهري كلمها ولؤلؤيها، وشرف ومجد وكرم.
وبعد، فإن أولى النسب بأن ترعى له الأقلام حدوداً، وترفعه إلى غاية تعقد له على السماك ألوية تخفق عذباتها وبنوداً، وتودع في غاب متى دخله دعي داخله الخوف مما ملئ أساود وأسودا، وينتهي إلى محل إذا سرحت العيون في أفيائه لم تلق إلا نعمة وحسوداً.
نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ونم فلق الصباح عمودا
فهو بيت النبوة الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره، وأعلاه على كل ذي شرف باذخ، وأظهره، وفرعه من شجرة أصلها ثابت من أبي القاسم، كما حرره النقل والنقد، وحبره، وفرعها في السماء، تتشعب غصونه من التبول وحيدره، ولم تزل نقابة الطالبيين تساهمهم الخلافة العباسية في المناصب، وتزاحمهم في كواكب المواكب بالمناكب، وتشركهم في كل عقد وحل، وتجاذبهم سقيا رياضهم بكل وابل وطل، وقد قال الشريف الرضي للطائع، وما استحيا، مهلاً أمير المؤمنين فإننا لم نتفرق في درجة العليا.
ولما خلت الآن هذه الوظيفة السنية، والرتبة العلية العلوية، من النقيب عماد الدين موسى بن جعفر، قدس الله روحه تطاول كل عرابة لتلقي راية مجدها بيمينه، ونظر بعين صلفه، وخطر بعطف شرفه، وشمم عرنينه، واحتاجت العصبة الطاهرة، والأنجم التي كل منها نير فكلها بحمد الله تعالى زاهرة إلى من يسد مسده، ويبلغ أشده الذي لا يبلغ الوصف حده أجمعوا رأيهم على من عقدوا عليه الخناصر، وحكموا بأن الأحق لما حواه من كرم الأصول، وطيب العناصر، واتفقت كلمتهم عليه بمجلس الحكم العزيز الشافعي زاده الله علواً، وأفاد أحكامه رفعة وسمعوا، وقال لسان حاله لما ولي:
لا سيف إلا ذو الفقار ... ولا فتى إلا علي

ولما كان الجناب العلالي الأميري العلائي أدام الله عزي شرفه، ونفع ببركة سلفه هو الذي أسر القلم ضميره، وحكم الفكر فيه بصفاء السريرة، وأشارت الصفات إليه، وكادت سماته الصادقة تدل الرائد عليه. فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، ولا زال الشرف بأوامره المطاعة يزيد علاء، ويفوق على مدى الأيام سناً وسناء أن يغوص إليه نقابة الطالبيين بدمشق المحروسة على عادة من تقدمه بحكم رضى السادة الأشراف به، لما حازه من مفاخرة التي تبتلج بها الوجه الوضاء، ومآثره التي يترنم بها الركبان على ذات الأضاء، ومناقبة التي انساقت إليه من الحسين إلى زين العابدين إلى محمد الباقر إلى جعفر الصادق إلى موسى الكاظم إلى علي الرضى، إلى محمد الجواد، وهلم جرا، حتى انتهى صباح ذلك إليه فأسفر بمساعيه وأضا، ولأنه من بيت أحياه محييه، وزاده زيناً، وجعل رئاسته، أعزه الله تعالى، في ذمة الزمان إلى هذا الوقت ديناً، وسماه علياً تفاؤلاً بعلوه، ولذلك جعل أول اسمه عيناً، فليفخر بهذا النسب الذي أضحى على هامة الجوزاء مرخى الذوائب والبيت الذي علت شرفات شرفه، فكأنما تحاول ثأراً عند بعض الكواكب، والمكارم التي شرح الجود بها التباس المذاهب، وليجمع السادة الأشراف عليه بأحسانه، ويودع كبيرهم وصغيرهم من الحنو والرأفة سرادق أجفانه، وينشر عليهم ملاءة عارفته وعرفانه، ويعاملهم بالبر والتقوى حتى يروا طرف الزمان الذي عمه عمه، كيف من الله علي بإنسانه. وليحفظ عليهم أنسابهم المتصلة، ويضبط ما تفرع من أغصانه المتهدلة، حتى لا تشذ شذرة من مكانها، ولا تتركب حبة مع غير جمانها، ولينزهم عن مناكحة غيرهم من الأجانب، ومخالطة من لا يعادلهم في الدرج والمراتب، فقبيح بالجواهر أن ينخرط الجزع في أسلاكها، وغير لائق بالدراري أن لا تدور في غير أفلاكها، وليصنهم عن التبذل في اكتساب المعاش، والتظاهر بغير ما ألفوه من زينة اللباس والرياش. وليمنعهم من التحاكم إلا إليه، والوقوف في التنازع إلا بين يديه، ولا يدعهم يتبذلون فإنهم سادة من فاه أو تكلم، وأشرف من تكرم أو تحلم، وبقية قوم إذا غضبوا غضبة مضرية قطر السيف دماء وتثلم، وإذا أعاروا ذرى المنابر سيداً صلى عليهم وسلم، وليأمرهم بالاتضاع لمن دونهم في المحافل والمجامع، والانقياد في الخير، فإن الناس يدخلون معهم في النسب الواسع، وليستوق المباشرين في تحصيل ما لهم وصرفه، وإنفاقه في طبقاته حين جناه وقطفه، وليحذرهم كل الحذر من الخوض فيما شجر بين الصحابة، ومن القول إنه كان الخطأ مع هذا، ومع ذلك الإصابة، فإنه لم يخرج أحد منهم عن الكتاب والسنة، والقاتل والمقتول بين علي ومعاوية من أهل الجنة، وكل منهم اجتهد فيما ترك وأخذ، وأنعم النظر فيما تناول ونبذ، والمجتهد يخطئ تارة ويصيب، وله من الأجر على كل حال نصيب، ولكن كان الحق مع علي يدور كيف دار، ويسير مع مقاصد كيفما سار.
وأما المقالات المبتدعة، والضلالات التي خاب من شام برقها وانتجعة، فليزجرهم عن الخوض في باطلها الذي لا يعلم، ويكن عليهم في مثل ذلك قاسياً، ومن كان حازماً فليقس أحياناً على من يرحم، فقد دون أهل الباطل مقالات ابتدعوها، وزخارف لا يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم من تلك العقائد التي زرعوها.
أما أمر الخلافة فإنه ثابت الأساس، واضح القياس، مأمون الالتباس، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما نهى وأمر: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " ، وقد ماتا قبل علي، فلو تولى الخلافة قبلهما لما صح إخبار هذا الخبر، ولا كان له من المعجزات أثر، وقد بايع علي أبا بكر فيما بعد مجتهداً، ولو كانت خلافته غير صحيحة لما سوغ نكاح الحنفية حتى أولدها محمداً، والحجج في هذا الباب كثيرة، والأدلة فيها قاطعة عند أولي البصيرة، وأنت أيها السيد أعلى الله قدرك أدرى بهذه الأمور، لأنك جهينة أخبارها، وحقيبة أسرارها التي توجد عند أخيارها دون أشرارها، فبصرهم المحجة، ولقنهم الحجة، وأقل الأقسام الإمساك عما لا عاصروه، ولا عالجوا جرحه المؤلم، ولا شاهدوا فتنة التي كانت كقطع الليل المظلم.

وأما العقائد فحذرهم من الخوض في أخطار لجتها، والركوب على ظهر محجتها، كالقول بأنه الكسف الساقط، أو أنه يأتي " في ظلل من الغمام " والرعد الضاغط، ولهذا يسلمون على ما يزمجر من السحاب، ويخالون أن الأبرق سوطه المتألق بالتهاب، أو أنه اشتبه بغيره اشتباه الغراب، واعترفوا بهذا الباطل ودانوا، وغلطوا جبريل في الوحي، فمالوا عن الهدى ومالوا أو أنه الضوء من الضوء، يعنون أنه لا فرق إلا أن أحدهما أسبق، فافترى القائل بهذا وحاد عن الحق ولم يلحق، أو أن العصمة للأئمة والمعصية جائزة على الأنبياء، فإن القائل بهذا من أكبر الضلال والأشقياء، أو أن الإمام الظاهر حجته مسورة. والمستور حجته ظاهرة، فإن ذلك جهل وضعف في الأذهان الفاترة، أو أن الدين معرفة الإمام، فإن هذا وأمثاله تحكم منهم وإسلام، إلى غير ذلك من المقالات التي خبطوا خبط العشواء فيها، واستعملوا في القول بها من كان غمراً أو سفيهاً، فما الدين القيم إلا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأشار الخلفاء الراشدون إليه، ولزم السلف الصالح منهاجه، وقوى الكتاب والسنة والإجماع احتجاجه، فاجهد على أن يركبوا الصراط المستقيم من ذلك، واحرص على أن يسلكوا إلى الحق أوضح المسالك، وتقوى الله تعالى ملاك الوصايا، وأنت إن شاء الله تعالى لا تزال خير خدنها، وساكن عدنها، وساحب ردنها، وصاحب مدنها، فاجعلها نصب عينك، وهذا فراق بين الوصايا وبينك، والله تعالى يعين ولايتك، ويوضح لأهل الحق بالسنة عنايتك، والخط الكريم أعلاه حجة في العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى.
علي بن داودابن يحيى بن كامل بن يحيى بن جبارة بن عبد الملك بن يحيى بن عبد الملك بن موسى بن جبارة بن محمد بن زكري بن كليب بن جميل بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، الشيخ الإمام العلامة الفريد الكامل الفقيه الأصولي النحوي الأديب نجم الدين أبو الحسن ابن القاضي عماد الدين القرشي الأسدي الزبيري القحفازي، بالقاف والحاء المهملة، وفاء بعدها ألف وراء.
قرأ القرآن الكريم على الشيخ علاء الدين بن المطرز، وكان قد أخذ القراءات السبع عن عماد الدين بن أبي زهران الموصلي، قرأ عليه رواية أبي عمرو من طريقي الدوري والسوسي إفراداً وجمعاً.
وأخذ الفقه عن قاضي القضاة صدر الدين علي مع الفرائض قبل أن يباشر الحكم، وأصول الفقه على قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة لعنايته بمختصر ابن الحاجب، وعن الشيخ جلال الدين الخبازي الحنفي.
وقرأ في أصول الدين عقيدة الطحاوي حفظاً، واعتنى بحلها وبمطالعة كتب الأصول لأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، وغيرهم، وعلم العربية من الشيخ شرف الدين الفزاري، ثم عن الشيخ مجد الدين التونسي. وعلم البلاغة عن الشيخ بدر الدين بن النحوية الحموي حين جاء إلى دمشق سنة تسع وتسعين وست مئة مع الجفال، ونزل بالبادرائية، قرأ عليه كتابه ضوء المصباح، وشرحه إسفار الصباح.
والمنطق والجدل عن الشيخ سراج الدين الرومي مدرس الفرخشاهية والسفينية بالجامع الأموي.
وعلم المواقيت عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في مقدمته التي صنفها ثم عن الشيخ بدر الدين بن دانيال بمدينة الكرك حين جفل الأعيان إليها سنة سبع مئة في مقدمته التي صنفها في علم الإسطرلاب وهي مطولة مفيدة.
وعلم العروض فمن الكتب الموضوعة في ذلك.
وحل المترجم، وجد في الكتب الموضوعة وقد تكلم فيه كلاماً غير شاف، فأخذه بالقوة حتى كتب له فيه:
إن زرزوراً ووزه ... زودا داود زادا
فحله.
وسمع الحديث من الشيخ برهان الدين بن الدرجي فيما حول سنة ثمانين وست مئة. سمع عليه أجزاء كثيرة، وسمع موطأ مالك من قاضي القضاة جمال الدين المالكي، ومن الشيخ نجم الدين الشقراوي الحنبلي، وسمع مختصر الرعاية للمحاسبي على قاضي القضاة شرف الدين البارزي لما قدم إلى دمشق حاجاً، ومن غيرهم.

وكان الشيخ نجم الدين مجموعاً للفضائل، ممنوعاً من الرذائل، مطبوعاً على التنديب والتندير الذي يدل على لطف الشمائل، كثير الحكايات المختصرة في دروسه، والنوادر المضحكات في غصون فوائده وغروسه، لا يخل بذلك، ولا يوجد في وقت إلا وهو عليه متهالك، يضحك الثكالى، وينشط الكسالى، مع الأصول التي أحكم قواعدها، وكثر بروقها ورواعدها، والفقه الذي تهدلت فروعه، وتملأت منه أفاويقه وضروعه، والنحو الذي برز على أقرانه في إقرائه، وظهر مذهبه الصحيح من إفرائه، قرأ عليه فيه من الأعيان جماعة، واشتهر ذلك عنه في عصره، فما ينكر أحد سماعه، لو عاصره صاحب المفصل كان عليه مفصلاً، أو صاحب التكملة كان ناقصاً، وهذا مكملاً.
وكتب المنسوب القوي، وحرر أصله السوي، وكان خطه آنق من حواشي الأصداغ، وأظرف من الحلل التي رقمت في أوان الصحة والفراغ. وله النظم الذي هو وسط، لا هو الذي ارتفع، ولا هو الذي سقط.
كان من محاسن دمشق التي يفخر بها لزمان، وغرائبها التي قلدت جيد الدهر قلائد الجمان، وقل أن اتفق مجموعه في عصر لغيره من أهل مذهبه، أو قارب مداه من يجاري إلى غاية مطلبه. وخطب بالجامع التنكزي قبل بالدموع الأردان، وعلا المنبر فما ذكر معه سجع الحمائم على البان.
ولم يزل على حاله إلى أن أصاب الموت قحف القحفازي، واختطف روحه من المنية بازي.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ونقلت مولده من خطه ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثمان وستين وست مئة.
حكى لي نور الدين علي بن إسماعيل الصفدي، وقد تقدم ذكره، قال: أنشد الشيخ نجم الدين يوماً لغزاً للجماعة وهم بين يديه في الحلقة يشتغلون عليه:
يا أيها الحبر الذي ... علم العروض به امتزج
أبن لنا دائرة ... فيها بسيط وهزج
فقال واحد منهم: هذه الساقية، فقال له الشيخ: دورت فيها زماناً حتى ظهرت لك، يريد أنه ثور يدور في الساقية.
وجئت أنا إليه في سنة سبع عشرة وسبع مئة، وسألته في أن أقرأ عليه المقامات الحريرية، فقال: أنا والله قليل الأدب.
وسمعته يوماً يقول لمنصور الكتبي رحمه الله: يا منصور! هذا أوان الحجاج، اشتر لك منهم مئتي جراب، وارمها خلف ظهرك إلى وقت موسمها تكسب فيها جملة، فقال له: والله الذي يشتغل عليك في العلم يحفظ منك حرفاً قدره عشر مرات.
وقيل لي: إنه لما عمر الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى الجامع الذي له بظاهر دمشق كان قد عينوا له شخصاً من الحنفية يلقب الكشك ليكون خطيباً، فلما كان يوماً وهو يمشي في الجامع المذكور، أجري له ذكر الشيخ نجم الدين ومجموع فضله وأنه في الحنفية مثل الشيخ كمال الدين الزملكاني في الشافعية، فأحضره، واجتمع به، وتحدثا، ثم قال له وهم في الجامع يمشون: أيش تقول في هذا الجامع؟ فقال: مليح، وصحن مليح، لكن ما يليق أن يكون فيه كشك، فأعجب ذلك الأمير سيف الدين تنكز، وأمر له بخطابة الجامع، وسمعت خطبته في أول يوم خطب به، وذلك في يوم الجمعة عاشر شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، ثم إنه رسم له بعد مدة بتدريس الركنية، فوليها سابع عشري المحرم سنة تسع عشرة وسبع مئة. فباشرها مدة، ثم نزل عنها، وقال: لها شرط لا أقوم به، ومعلومها في الشهر جملة كثيرة، تركه تورعاً.
وكان إذا قال هذه التناديب يقولها سريعة رشقة من غير فكر ولا روية، ويقولها وهو يضحك وينبسط.
وكان يعرف الإسطرلاب، ويحل التقويم، ويشتغل في مختصر ابن الحاجب والحاجبية والألفية لابن مالك، والمقرب لابن عصفور، وفي ضوء المصباح وغيره في المعاني والبيان.
وكان قد تولى تدريس الركنية بجبل قاسيون عوضاً عن الشيخ محيي الدين أحمد بن عقبة الحنفي لما مات في المحرم سنة تسع عشرة وسبع مئة. وتولى الظاهرية عوضاً عن شمس الدين بن العز في أول صفر سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
وكنت قد كتبت أليه لما وضعت تاريخي الكبير أطلب منه ما أستعين به على ترجمته على العادة في مثل ذلك، ومنه:
يا مفيد الورى معاني المعالي ... وإمام الأنام في كل علم
إن لي معجماً كأفق فسيح ... اشتهى أن يزان منك بنجم
فتأخر جوابه عني، فكتبت إليه أيضاً:
ظفرت بوعد منك بلغني المنى ... وجودك نجم الدين ليس يحول

وقد طال ليلي لانتظار وروده ... وليل الذي يرعى النجوم طوي
وكتبت معه السؤال الذي تقدم ذكره في ترجمة الشيخ زين الدين بن شيخ العوينة آنفاً وأوله:
ألا إنما القرآن أكبر معجز ... لأفضل من يهدي به الثقلان
فكتب هو إلي بخطه:
يا سائلي عن نسبي ... ومولدي وأدبي
وما قرأ في العلو ... م من شريف الكتب
ومن أخذت ذاك عنه من شيوخ مذهبي
وغيرهم ممن حوى ... سر كلام العرب
وما الذي سمعته ... عن النبي العرب
وما الذي سمعته ... عن النبي العربي
صلى عليه الله ما احلو ... لك جنح غيهب
وذكر شيء صغته ... من شعري المنتخب
وما الذي صنفته ... من كتب وخطب
لولا وجوب حرمة القصد ورعي الرتب
ما قلت ذاك خشية ... من حاسد مؤنب
يقول إني قلته مفتخراً بحسبي
لكنما البخل بما ... سئلت لا يحسن بي
والمقتضى مني له ... لا يأتلي في الطلب
وهو خليل في الرخا ... وعدة في الكرب
وهمة في جمع شم؟ ... ل الفضل لا في النشب
وما صلاح الدين إلا ... في اقتناء القرب
هو الذي أوجب لي ... يا صاح كشف الحجب
عن محتدي ومولدي ... وفضلي المحتجب
فقلت غير آمن ... من عائب مندب
مختصراً مقتصداً ... معتذراً من رهبي
ما ستراه واضحاً ... مرتسماً عن كثب
ما زلت للفضل حمى ... ولبنيه كالأب
تجمع شمل ذكرهم ... مخلداً في الكتب
وذكر نثراً ما ذكرته في صدر ترجمته هذه، ثم إنه قال: وأما الرواية فإني لم أسمح لأحد بأن يروي عني مسموعاتي لصعوبة ما شرطه أصحابنا في الضبط بالحفظ من حين سمع إلى حين روى، وأن الكتب التي سمعتها لم تكن محفوظة عندي، فضلاً عن حفظ ما سمعته. وأما ما صنفه من الكتب فإني رغبت عن ذلك لمؤاخذتي للمصنفين، فكرهت أن أجعل نفسي غرضاً لمن يأخذ علي، غير أني جمعت منسكاً للحج أفردت فيه أنواع الجنايات، ومع كل نوع ما يجب من الجزاء على من وقع فيه؛ ليكون أسهل في الكشف ومعرفته، وكان ذلك بسؤال امرأة صالحة لا أعلم في زماننا أعبد منها، وانتفع بحسن القصد فيه وبركتها خلق كثير. وأما ما سمحت به القريحة الجامدة والفكرة الخامدة، فمن ذلك ما كتبت به إلى عماد الدين بن مزهر، وقد كان يجتمع معنا في ليالي الشتاء عند بعض الأصحاب، فلما مات عمه تزوج جاريته، وانقطع عنا، فقلت:
إن يكن خصك الزمان بخود ... ذات قد لدن وخد أسيل
فلقد فزت بالسعادة والرحب وفارقتنا بوجه جميل
قلت: هو مأخوذ من قول ابن الخيمي:
لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل
وقال: وقلت متذكراً لزيارة الكعبة وزيارة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام:
يا ربة الستر هل لي نحو مغناك ... من عودة أجتلي فيها محياك
أم هل سبيل إلى لقياك ثانية ... لمغرم ما مناه غير لقياك
له نوازع شوق بات يضرمها ... بين الجوانح والأحشاء ذكراك
لم ينس طيب لياليك التي سلفت ... وكيف ينساك صب بات يهواك
يا ربة الخال كم قد طل فيك دم ... فما أجل بعرض البيد قتلاك
أسرت بالحسن ألباب الأنام فما ... أعز في ذل ذاك الأسر أسراك
ماذا عساها ترى تنأى الديار بنا ... لو كنت في مسقط الشعرى لجيناك
ولو تحجبت بالسمر الذوابل عن ... زوار ربعك يا سمرا لزرناك
ذلت لعزك أعناق الملوك أعلاك يا منتهى سؤلي وأغلاك
تهتكت فيك أستار الهوى ولهاً ... لما بدا من خلال الستر معناك
يا هل ترى يسمح الدهر المشت بما ... أرجوه من قرب مغناك لمضناك

وأجتلي من محياك الجميل ضحى ... ما بات يحكيه لي من حسنك الحاكي
من بعد خط رحالي في حمى أرج الأرجاء بالمصطفى الهادي الرضى الزاكي
خير الخلائق طراً عند خالقه ... وخاتم الرسل ما حي كل إشراك
سباق غايات أقصى الفضل والشرف الأعلى وراقي العلى من غير إدراك
مهدي المعارف مبدي كل غامضة ... مسدي العوارف مردي كل فتاك
محمد ذي المقال الصادق الحسن المصدوق في القول مقتصي كل أفاك
يا نفس إن بلغتك العيس حجرته ... وصافحت يمن ذاك الربع يمناك
ونلت مأمؤلك الأقصى بلثم ثرى ... أعتابه وبلغت القصد من ذاك
وقمت بين يديه للسلام على ... أقدام ذلك تذري الدمع عيناك
وقد مددت يد الإملاق طالبة ... سؤاله لك عفواً عند مولاك
فقد بلغت المنى والسول فاجتهدي ... هناك واستنجدي لي طرفك الباكي
عساك أن ترزقي عطفاً عليك فإن رزقت ذاك فيا والله بشراك
وليهنك السعد إذ حطت رحالك في ... ربع به لم تزل تحدى مطاياك
فثم أندى الورى كفاً وأعظمهم ... جاهاً وأرحبهم صدراً لملقاك
وخيرهم لنزيل في حماه وأو ... فاهم ذماماَ وأملاهم بجدواك
آخر قلباه من شوق لرؤيته ... فقد تقادم عهد الشيق الشاكي
بالله يا نفس كوني لي مساعدة ... حاشاك أن تخذليني اليوم حاشاك
وجددي العزم في ذا العام واجتهدي ... عسى بذلك تخبو نار أحشاك
فإن حرمت لقاه تلك معذرة ... وإن ظفرت به يا حسن مسعاك
صلى عليه إله العرش ما قطعت ... كواكب الأفق ليلاً برج أفلاك
قال: وقلت عند قدوم الحج في بعض السنين أبياتاً أنشدت بدار الحديث الأشرفية:
يا نياق الحجيج لا ذقت سهداً ... بعدها ولا ولا تجشمت وخدا
لا فدينا سواك بالروح منا ... أنت أولى من بات بالروح يفدى
يا بنات الذميل كيف تركتن ... شعاب الغضا وسلعاً ونجدا
مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بوجوه زارت معالم سعدى
قال: ولم يحضرني باقيها.
ولما ظفر قازان في سنة تسع وتسعين، ثم جاء في سنة اثنتين وسبع مئة، فكسر، وقيل لي: إن قازان عندهم اسم للقدر، قلت:
لما غدا قازان فخاراً بما ... قد نال بالأمس وأغراه البطر
جاء يرجي مثلها ثانية ... فانقلب الدست عليه فانكسر
قلت أنا: هذان البيتان في غاية الحسن في بادي الرأي، ولكن إذا حكهما النظر ونقدهما تبهرجا وتزيفا وذلك لأن القدر في اللغة التركية قرن، هكذا بلا ألف، وأولها قاف، وقازان إنما هو: غازان، بالغين المعجمة، وإنما قال ذلك المتهكم به، كما قالوا في بولاي: بوليه، وفي خداي بندا خربندا، وفي قوله: فانقلب الدست عليه، فانكسر فيه أيضا، نظر، لأن المعنى الذي ورى به لا يصح له وبأدنى تأمل يظهر هذا للبيب، ولولا أن هذا شعر مثل هذا شيخ الأدب وفقيه وما وأخذته، فإنه قد مر ويمر في هذا التاريخ أشياء من هذا النوع فما أعرج على المؤاخذة.
قال الشيخ نجم الدين: ولما ذهب بدر الدين بن بصخان مع الجفال إلى مصر وأقام هناك كتبت إليه:
يا غائباً قد كنت أحسب قلبه ... بسوى دمشق وأهلها لا يعلق
إن كان صدك نيل مصر عنهم ... لا غرو فهو لنا العدو الأزرق
قلت: وقد ذكرت في ألحان السواجع ما جاء في هذه المادة.
قال الشيخ: ومن الخطب فاتحة خطبة رأس السنة: " الحمد لله الذي لا تدرك كنه عظمته ثواقب الأفهام، ولا تحيط بمعارف عوارفه خطرات الأوهام، ولا تبلغ مدى شكر نعمه محامد الأنام، الذي طرز بعسجد الشمس حواشي الأيام، ورصع بجواهر النجوم حلة الظلام، وفصل بلجين الأهلة عقود الشهور والأعوام.
أحمده على نعمه الجلائل العظام، ومنه الشوامل الجسام.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا نقص لها تمام، ولا يخفر لها ذمام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله وسوق الباطل قد هام، وطرف الرشد قد نام، وأفق الحق قد غام، فجرد سيف العزم وشام، وعنف على الغي ولام، واقتاد الخليفة إلى السعادة بكل زمام، صلى الله عليه وآله الخيرة الكرام، صلاة لا انفصال لمتتابعها ولا انفصام.
قال: وأما الجواب عن إعادة لفظ الأهل في قوله تعالى: " حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها " ، ولم يقل: استطعماهم، والمحل إضمار، وفيه الإيجاز، فقد علم أن البلاغة لا تختص بالإيجاز، وإنما هو نوع من أنواع، وأن مدار حسن الكلام وارتفاع شأنه في القبول بإيراده مطابقاً لمقتضى الحال، فإن كان مقتضى الحال خليقاً ببسط الكلام تعلقت البلاغة ببسطه، وإن كان حقيقاً بالإيجاز كانت البلاغة في إيراده كذلك، ثم قد يعرض للبليغ أمور يحسن معها إيراد الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فيتنزل غير السائل منزلة من يسأل إذا كان قد لوح له بما يقتضى السؤال، ويتنزل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهرت عليه مخايل الإنكار، ويوقع المضمر في موضع الظاهر، والظاهر في موضع المضمر إلى غير ذلك من الأمور المذكورة في علم البلاغة، والذي حسن إيقاع الظاهر موقع المضمر في الآية الكريمة أن الظاهر أدل على المعنى الذي وضع له اللفظ من المضمر؛ لأنه يدل عليه بنفسه، والمضمر يدل عليه بواسطة ما يفسره، وقصد المتكلم هنا الإخبار عن الذين طلب منهم الإطعام أنهم أهل القرية؛ لأن من غشيه الضعف في منزله ولم يعتذر بعذر عن إكرامه؛ بل قابله بالمنع مع ظهور حاجته التي أوجبت له أن يسأل منه ذلك؛ لأن المسألة آخر أسباب الكسب يعلم بذلك أن الحامل له على الامتناع من إضافته لؤم الطباع واتباع مذموم البخل ولشح المطاع، كما قال الشاعر:
حريص على الدنيا مضيع لدينه ... وليس لما في بيته بمضيع
حتى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كانوا أهل قرية لئاماً " ، ومن كانت هذه سجيته كان حرياً بالإعراض عنه، وعدم مقابلته بالإحسان إيه، فلما رأى موسى صلوات الله عليه إصلاح الخضر عليه السلام لجدار مشرف على السقوط في القرية التي هؤلاء أهلها من غير طلب أجر ذلك منهم مع الحاجة إلى ذلك عجب من ذلك وأنكره حتى كأن نسي ما قدمه من وعده إياه بالصبر وبعدم المصاحبة إن سأله عن شيء بعد ذلك، مع حرصه على صحبته والتعلم منه فكان في إعادة لفظ الأهل في الآية الكريمة إقامة لعذر موسى في الاعتراض في هذه الحالة؛ لأنه حالة لا يصبر عن الاعتراض فيها لأن حالهم يقتضى بذل الأجر في إصلاح أمر ديناوي لحرصهم وشحهم فترك طلب الأجرة على إصلاح ذلك مع الضرورة والحاجة وقع إحساناً إلى أهلها الذين قابلوهما بالمنع عن الضيافة، فكانت البلاعة متعلقة بلفظ الأهل التي هي الحاملة على الاعتراض ظاهراً فأطلعه الخضر عليه السلام بأن الجدار إنما كان ليتيمين من أهلها، واليتيم محل المرحمة، وليس محلاً لأن يطلب منه أجرة، وإما لعجزه، أو لفقره وهو الظاهر، أو لأنه لا يجوز تصرفه في ماله، ولهذا قال: " رحمة من ربك " ، ولم يكن لأهلها الذين أبوا أن يضيفوهما، والله سبحانه وتعالى أعلم، انتهى ما نقلته من خط الشيخ رحمه الله تعالى.
قلت: جواب الشيخ رحمه الله تعالى في غاية الحسن، وهو كلام عارف بهذا الفن، جار على القواعد، والذي قاله الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمه الله تعالى في الجواب عن ذلك ملخصه: أنه إنما أعاد الأهل بلفظ الظاهر، لأمرين. أحدهما: أن استطعتم صفة لقرية، فلو قال: أستطعماهما لكان مجازاً، إذ القرية لا تستطعم، فلا بد من ذكر المضاف مضمراً، فتعين ذكره مظهراً، ولا يرد عليه أن استطعما جواب ل؟ إذا، لا صفة لقرية، لأنا نقول: لقوله في القصة الأخرى: " حتى إذا لقيا غلاماً فقتله " ، فقال: ههنا جواب إذا متعين ولا يستقيم أن يكون فقتله جوابه إذ الماضي الواقع في جواب، إذا لا يكون بالفاء، فتعين فيه. قال: والظاهر أن الجواب في القصة الأخرى هكذا لأنها في مساق واحد.

الثاني: أن الأهل لو أضمر لكان مدلوله مدلول الأول، ومعلوم أنه جمع الأهل، ألا ترى أن إذا قلت: أتيت أهل قرية كذا، إنما تعني: وصلت إليهم، فلا خصوصية لبعضهم، والاستطعام في العادة إنما يكون لمن يلي النازل بهم وهم بعضهم، فوجب أن تقول: استطعما أهلها لئلا يفهم أنهم استطعموا جميع الأهل، وليس كذلك.
وقد أجابني عن هذا السؤال شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى بجواب طويل، نظم ونثر، وقد كتبته بخطي، وقرأته عليه، وهو مثبت في التذكرة التي لي. وقد تقدم جواب الشيخ زين الدين علي بن الحسين بن شيخ العوانية في ترجمته أيضاً.
ومن شعر الشيخ نجم الدين رحمه الله تعالى، قوله في مليحة اسمها: قلوب:
عاتبني في حبكم عاذل ... يزعم نصحي وهو فيه كذوب
وقال: ما في قلبك اذكره لي ... فقلت في قلبي المغنى قلوب
ومنه في مليح نحوي:
أضمرت في القلب هوى شادن ... مشتغل في النحو لا ينصف
وصفت ما أضمرت يوماً له ... فقال لي: المضمر لا يوصف
وأنشدني من لفظه لنفسه ما كتبه من أبيات إلى الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليمني.
بأبي بكر خصصت بها ... من أخي الأفضال والمنن
أقبلت تختال في حلل ... وشيها من صنعة اليمن
فرعها يملي خلاخلها ... ما يقول القرط في الأذن
قلت: هو مأخوذ من قول الصاحب جمال الدين عيسى بن مطروح:
إذا ما اشتهى الخلخال أخبار قرطها ... فيا طيب ما تملي عليه الظفائر
ولكن قول الشيخ نجم الدين أخصر بكثير، فهو أحق به.
؟

علي بن رزق الله بن منصور
الشيخ نور الدين المقدسي.
سمع من ابن عبد الدائم، وأبي حامد محمد بن الصابوني.
أجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة.
علي بن سالم بن عبد الناصرالقاضي الرئيس الفاضل المنشئ علاء الدين أبو الحسن الكناني الغزي الشافعي، أحد الأخوة.
كان حسن الشكل والسمت، بهي المنظر؛ إلا أنه لا يملك الصمت، لا يكاد يسكت إذا تكلم، ولا يخشى على حسام لفظه أن يتثلم. تام القامة، ملحي الوجه والعمامة، وخطه جيد ما به بأس، وفضله ظاهر ما به إلباس، له قدرة على مداخلة الأكابر، والخوض معهم في اللجج والمعابر، يتحدث بالتركي، ويرمي في الإماج والألكي؛ إلا أن الموت هصر غصنه اليانع، وأجرى عليه المدامع.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع وأربعين وسبع مئة فيما أظن.
باشر التوقيع بغزة بعد ابن منصور لما توجه إلى طرابلس فيما أظن، وتغير عليه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى وعزله، وأحضره إلى دمشق، واعتقله. ولما كان في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا رسم له بالمدرسة الجراحية والمواعيد بالصخرة في القدس الشريف.
وكتب إلي أيام غضب تنكز علي شعراً كثيراً، من ذلك:
غدا حالي بحمد الله حالي ... وبالي قد تخلص من وبالي
وراح الخير منحل العزالي ... علي وقبل ذا كان الغزالي
وحزت العز مذ يممت حبراً ... كبحر لا يكدر بالقلال
فحياني وأحياني وأبدى ... مكارم لم يشنها بالقلا لي
وأرشفني على ظمأ زلالاً ... فكان ألذ من بنت الدوالي
وشنف مسمعي ببديع لفظ ... فقلت أتيت بالسحر الحلال
فزدني من قريضك يا خليلي ... فإن بليغ لفظك قد خلا لي
أبث لديك خطباً قد دهاني ... نوائب أذهبت جاهي مالي
وقد فني اصطباري واحتمالي ... وقد خان المناصح والموالي
فعجل يا أخا العلياء جبري ... وعاملني معاملة الموالي
فقد ذقت المنايا لا المنى يا ... إماماً قد تفرد بالمعالي
فقد قدتني الأحزان قداً ... بوخز البيض والسمر العوالي
وأنبني ونيبني زماني ... وصيرني على جمر المقالي
وأنت أبا الصفاء تقيم عذري ... وتغضي عن عيوب في مقالي
أيا من علمه عم البرايا ... وحشى حلمه في كل حال

فبلغني ولا ترجي رجائي ... فسيف الغم يا بن العم خالي
رجوتك في قديم ثم لما ... علوت مكانة زاد الرجا لي
فلا حظني بعين الجبر واعطف ... حماك الله من غلب الرجال
قلت: خانته العوالي والمعالي ومالي، ما أتى لها بأخت، وكان يمكنه ذلك، وتكررت معه: لفظة: لي، بلام الجر، وياء المتكلم، وهو إيطاء، وبعضهم تسمح فيه.
وكتب على كتابي جنان الجناس:
نزهت في روض الجنان الناضر ... طرفاً يفديه بنور الناظر
خطرت به والحسن فيه شاهد ... أبكار أفكار بدت للخاطر
أكرم بجنات الجناس وزهرها ... مع زهرها الزاهي البهي الباهر
نمت بها لما نمت ريح الصبا ... فغدت تضوع بالعبير العاطر
يحيا الصريع بها إذا ما جعفر ... منها أتت غدرانه بغدائر
ويصير في روض المحاسن خالداً ... يأتي يفضل ربيعها للزائر
فأعجب لروض زخرفته يراعه ... في نقش قرطاس بنقس محابر
أضحى به در البلاغة زاهياً ... فالناس فيه ناظم مع ناثر
قد فاق منشئه به من قبله ... فاعجب لسباق أتى في الآخر
ما قدر سحبان وقدر قدامة ... إن خاض في بحر الخليل الزاخر
فلقد أتيت أبا الصفا بفضائل ... كملت به من كل واف وافر
قلدت أجياد الزمان قلائداً ... نظمتها من كل زاه زاهر
وسكنت معنى العز يا ابن الغر إذ ... أبرزت معنى ذا بهاء باهر
فلك الفضاحة والسماحة والكيا ... سة والرياسة من أقل مفاخر
قصرت في مدحيك فاعذر إنني ... فني فروع الفقه لست بشاعر
أصبحت من جور الزمان نعامتي ... فتخاء تجفل من صغير الصافر
ونظمت هذا الهموم ضجيعتي ... بل كان قلبي في جناحي طائر
فاغضض عن العي الذي في منطقي ... واحرص بجهدك أن تقيم معاذري
واسلم ودم لعرائس أبرزتها ... وجليتها من بكر فكر ظاهر
فكتبت أنا الجواب أشكره على ذلك:
أسماء نظم قد زهت بزواهر ... وحديقة قد أحدقت بزواهر
أم غادة أهديتها في جيبها ... من شعرك الفتان عقد جواهر
بكرت إلي فباكرتني نشوة ... ما كان يخطر مثلها في خاطري
في باطني منها باقي سكرة ... يبدو علي بها الهنا في ظاهري
مهلاً علاء الدين قد حملتني ... منناً تفوق على الغمام الماطر
وجبرت تضيفي الكسير فقد غدا ... يروي الإجازة في الورى عن جابر
ما هذه أولى يد أوليتني ... لك يا بن سالم ابن عبد الناصر
زهر ودر ذاك من روض زها ... نبتاً وهذا من خضم زاخر
إن كان شعر كنت أفقه عالم ... أو كان فقه كنت أبدع شاعر
وكتب إلي كثيراً وهذا القدر كاف.
وحمل إلي تخميس البردة؛ قصيدة البوصيري، فكتبت أنا له عليها: وقفت على هذا التخميس الذي طرز طرسه، وسقي الفضل غرسه، وجلا للعين عرسه، ونوع في البديع جنسه، ونول أهل الأدب أنسه، وساق إلى طيبة بأحمال المدائح عنسه، فرأيت أسرار البلاغة فيه فاشية، وأبكار الفصاحة كيف غدت في خدور السطور ناشيه، والبردة كيف اكتست بهذه الزيادة رقة الحاشية:
لله من جاء به أولاً ... فإنه أتعب من بعده
عسل ثغر الزهر في روضه ... لما روى الإبداع عن شهده
وكل سطر غصن قد غدا ... يحمل من قافية ورده
أقسم ما خمسها ناظماً ... لكنه قد طرز البردة

فيا له من سهم خرج من كنانه، وشهم لا يثني إلا حجام عنانه، وذي فهم ثقف العلم رمح قلمه، وأرهف سنانه، لقد أصبحت غزة به ذات عزه، وأمس كثير الفضائل وفوائد تخجل منها عزه، يقول جاره البحر: ما لي عجائبه، ولا لي لآليه، ويعجز بلديه أبو إسحاق أن يكون قوى فيه لقوافيه، ويرى الخياط أن البردة كانت قبل هذا التفصيل سدى، ويعترف الرفاء أن إبرة قلمه قد لبست من المداد الصدا، فالله يديم لبني الآداب هذه الفوائد، ويميرهم من هذه المآدب التي غصون أقلامهم في امتداحهم فوائد، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
علي بن سعيد بن سالمعلاء الدين الصبيبي، بضم الصاد المهملة، وبعدها باء موحدة مفتوحة، وياء آخر الحروف ساكنة، وباء ثانية نسبة إلى قلعة الصبية وهي قلعة بين صفد ودمشق، ومدينة هذه القلعة بليدة بانياس، الخياط، الشاعر المعروف بالشوش بشينين معجمتين بينما واو ساكنة والأولى مضمومة.
كان من أعاجيب الأناسي، وممن غدت لحيته وكأنها خلقت بالمواسي، ووقفت سفنه في أبحر القريض، ولم تجر لأنها قيدت بالمراسي، وأضحكت الثكالى حركاته، حتى قال الزمان: لقد بان ياسي من التعجب بعد البانياسي، ما عساي أن أقول فيمن يزعم أن أبا الطيب عنده باقل، وأن أبا تمام لم ينهض من الحضيض شعره المتثاقل. يدعي مثل هذا بتصميم، ويتبادى وما فيه شعرة من تميم.
ولم يزل في طيشه، وتقتير عيشه إلى أن دب سوس البلى في الشوش، وفتح فاهاً له قبره المرفوش.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في حدود سنة ست وسبعين وست مئة.
اجتمعت به غير مرة بالجامع الأموي وبجسر اللبادين، وكان ينشدني كثيراً من شعره فأسمع العجائب والغرائب، وأشكر الله على نعمة العقل، إلا أنه كان يندر له البيت في القصيدة ونصف البيت.
وقال لي غير مرة وأنا وهو نمشي في صحن الجامع بعد ما يدير وجهه إلى القبلة: وحق هذا المعبد وما يتلى فيه، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل شعري ما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
وقال لي غير مرة: أنا والله الذي لا إله إلا هو، ما لي غرض مع المتنبي، شعري خير من شعره، وكذا يقول في أبي تمام وغيره.
ولقد قال لي مرة وأنا بجسر اللبادين: يا مولانا! ما هذا الحاتمي إلا كان إماماً عظيماً، هذا يسمي شعراء عمرنا ما سمعنا بهم، مثل الحطبة، كذا قال بالباء الموحدة، ومثل الطرماخ كذا قال، بضم الطاء وسكون الراء، وبعد الألف خاء معجمة.
وأنشدني في وقت قصيدة له ثانية جاء منها:
والليل أسود كالزنجي حالكه ... والبرق سيف له فيه جراحات
فقلت له: يا شيخ علاء الدين: عابوا عليك هذا، وقالوا: كأنك تقول: الليل أسود أسود أسود، فنفر في وقال: ما أراك أنت الآخر إلا قليل العقل مثلهم.
وقال لي مرة: يا مولانا هجاني واحد أبلم، قلت: ما قال؟ قال: قال:
في الخواصين خياط ... قالوا إن اسموا الشوش
من جهلو صار لو ... فوق راسو شر بوش
ثم مر بيده على رأسه في الهوى، وراح وجاء مرات، وقال: يا مولانا! أين الشربوش الذي على رأسي.
وقلت أنا فيه وقد تبرمت به:
كأني إذا أنشا وأنشد شعره ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل
فيرمي ولا يدري فؤادي ومسمعي ... بجلمود صخر حطه السيل من عل
ونقلت من خط شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى، قال: أنشدنا لنفسه موشحاً:
هل لكم من شعور بأفاعي الشعور ... حين يلدغن قلبي من كثيب الخصور
لا تزيدوا ملامي ... ما لدائي دوا
قد وهى بي غرامي ... وهوى بي الهوى
وبرى من عظامي ... جلدها والقوى
وتدانى حمامي ... آه أنى للنوى
من ذوات الخدور هل لنا من مجير ... راشقات بهدب من نشاط الفتور
من سهام الجفون ... كم بقلبي كلوم
نزحها من عيوني ... عند مي مقيم
أوردتني منوني ... وهو منهم نعيم

لذ فيهم شجوني ... أقصروا لا تلوموا
إن نار السعير جنتي مع سروري ... لا تزيدوا فعتبي كمنادي القبور
علي بن سليم بن ربيعةالقاضي الفقيه الأديب أقضى القضاة ضياء الدين الأذرعي الشافعي.
تنقل في قضاء النواحي نحواً من ستين سنة من جهة ابن الصايغ وغيره، أكبرها طرابلس وأعمالها، وناب بدمشق أياماً سنة تسع وعشرين وله نظم كثير، من ذلك: نظم التنبيه في ستة عشر ألف بيت.
وكان منطبعاً بساماً عاقلاً.
توفي رحمه الله تعالى بالرملة ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وله أربع وثمانون سنة.
علي بن سليمان بن أحمدأبو الحسن الهادي بالله ابن أمير المؤمنين المستكفي ابن أمير المؤمنين الحاكم.
كان أبوه المستكفي بالله قد عهد إليه بالخلافة بعده، فتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشرين شوال سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وعاش أقل من عشرين سنة، ودفن في ترب جده بجوار السيد نفيسة رضي الله عنها، وفجع به والده، ووجد عليه وجداً عظيماً.
علي بن سنجرالإمام العالم تاج الدين بن قطب الدين أبي اليمن البغدادي ابن السباك، بالسين المهملة وبالباء الموحدة المشددة، وبعدها ألف وكاف الحنفي.
عالم بغداد، وواحدها الذي يطلق عليه أنه أستاذ، انتهت إليه رئاسة المذهب بالمسنتصرية، وتفرد هناك بالعلوم الأدبية.
وكان قيماً بعرفانه، ذكياً قد مضى فضله برفعة شانه. وخطه رياض مونقه، وآفاق بالشموس مشرقه، ما يرضى أن يكون ياقوت فصاً في خاتمه، ولا يرى أن جود هذه الصناعة، ينسب إليه، لا إلى حاتمه.
ونظم شعراً تجاوز به الشعرى، وظن من سمعه أن قوافيه وضعت في أذن دراً.
ولم يزل على حاله إلى أن سبك ابن السباك في بوتقة القبر، وعدم الطلبة على المصيبة به ذخائر الصبر.
وتوفي رحمه الله ...
ومولده سنة إحدى وستين وست مئة، أو في ستين، في شعبان، الشك منه.
وكان قد سمع وهو كهل صحيح البخاري عن ابن أبي القاسم، وأحكام ابن تيمية منه، وإحياء علوم الدين من كمال الدين محمد بن المبارك المخرمي، ومسند الدارمي من ست الملوك، وله إجازة من أبي الفضل بن الدباب، ومحمد بن المريح.
وأخذ السبع عن أمين الدين مبارك بن عبد الله الموصلي، والمنتجب التكريتي.
وتفقه على ظهير الدين محمد بن عمر البخاري، وعلى مظفر الدين أحمد بن علي بن ثعلب بن الساعاتي صاحب مجمع البحرين.
وقرأ الفرائض على أبي العلاء محمود الكلاباذي، والأدب على حسين بن إياز، وحفظ اللمع، ثم المفصل والبداية وأصل ابن الحاجب، وله أرجوزة في الفقه، وشرح أكثر الجامع الكبير.
ومن شعره:
هل أرى للفراق آخر عهد ... إن عمر الفراق عمر طويل
طال حتى كأننا ما اجتمعنا ... فكأن التقاءنا مستحيل
وأنشدني الإمام تقي الدين بن رافع، قال: أنشدنا المطري، قال: أنشدنا ابن السباك لنفسه:
الأمر أعظم مما يزعم البشر ... لا عقل يدركه كلاً ولا نظر
فانظر بعينك أو فاغمض جفونك واح؟؟ ... ذر أن تقول عسى أن ينفع الحذر
فكل قول الورى في جنب ما هو في ... نفس الحقيقة إن هم فكروا هذر
فاستغفر الله قولاً قد نطقت به ... فيما مضى وهو في الألواح مستطر
وأنشدني الحافظ نجم الدين أبو الخير سعيد الذهلي، قال: أنشدنا ابن السباك لنفسه:
يا نهار الهجير نجم الدين قد طلت بالصو ... م كما طال ليل هجر الحبيب
ذاك قد طال بانتظار طلوع ... مثل ما طلت بانتظار مغيب
ومن شعره:
يخفي السلام علي خوف وشاته ... ويبيت لي حتى الصباح نديما
فلسانه حين التقينا صامت ... ولحاظه تقرينني التسليما
قلت: هذه تقرينني مستثقلة إلى الغاية لو أنها في النيل كدرته، أو في وجه الصباح جدرته، ولو قال: ولحاظه تهدي لي التسليما؛ لكان أحسن وأعذب في السمع.
ومن شعره:
لما غدا والشهد من ريقه ... ودونه يستشهد المستهام
ازدحم النمل على خده ... والمنهل العذب كثير الزحام

وكان قد قرأ عليه جماعة منهم: القاضي حسام الدين الغوري قاضي قضاة مصره. ولما ولي الغوري القضاء ببغداد دخل على شيخه ابن السباك بالخلعة، وقال: الحمد لله الذي جعل من غلمانك قاضي القضاة.
ورأيت أنا بخطه نسخة بالكشاف في مجلدين صغيرين وهي كتابة عظيمة صحيحة مليحة إلى الغاية.
؟

علي بن طرنطاي
الأمير علاء بن الأمير الكبير حسام الدين طرنطاي المنصوري.
كان أصغر الأخوة، وهو أمير عشرة بالديار المصرية، مليح الشكل، حسن الهيئة.
توفي رحمه الله تعالى في حادي عشر شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة، وعمل عزاؤه أياماً.
؟
علي بن طغريل
الأمير علاء الدين أمير حاجب دمشق.
حضر من مصر إلى دمشق حاجباً في شهر ربع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة في أواخر أيام يلبغا، فما أقام إلا يسيراً حتى جرى ليلبغا ما جرى، على ما سيأتي في ترجمته، وكانت الملطفات قد جاءت من السلطان المظفر حاجبي إليه والى الأمراء بدمشق بإمساك يلبغا، فلما هرب يلبغا ساق الأمير علاء الدين خلفه وجماعة من الأمراء، ورد من رد منهم، وبقي هو وراءه إلى أن اضطره إلى حماة.
حكى لي الأمير سيف الدين تمر المهمندار انه رأى هذا الأمير علاء الدين وقد جاءه اثنان من جماعة يلبغا، وطعناه برمحيهما، وأنه عطل ذلك بقفا سيفه، ولم يؤذ أحداً منهما، وكان يحكي لي ذلك، ويتعجب من فروسيته.
ولم يزل بدمشق على إمرته ووظيفته إلى أن وصل الأمير سيف الدين أرغون شاه، فأقام يدخل عليه في كل خدمة، ويطلب منه الإقالة من الشام والرجوع إلى مصر إلى أن كتب له إلى باب السلطان، وجاء الجواب بالإجابة إلى ذلك، فعاد إلى مصر في شعبان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحضر الأمير سيف الدين منجك عوضه حاجباً.
وأقام الأمير علاء الدين بالقاهرة بطالاً إلى أن توفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
علي بن طيدمر ككزبضم الكافين، وبعدهما زاي، الأمير علاء الدين أحد أمراء العشرات بدمشق، والده من مماليك السلطان الملك الناصر محمد.
وكان هذا ظريف القد، أسيل الخد، وجفنه يجرد سيفاً ماضي الحد، وخده كأنما ورد الورد وما رد، ظريف العمة، لبق الشمائل، يود الغصن لو ضمة، والبدر لو وهبه كماله وتمه. يتجمل به الموكب إذا كان في دارته، والأفق إذا تخيل أنه في شارته. ومع حسنه البارع فكان لطيفاً، إذا خطا رأيت الجمال به مطيفاً، سهل الإنقياد، كثير الوداد، ليس فيه شمم، ولا عنده عن طلب الميل صمم.
ولم يزل إلى أن أذبل الموت ورد خده، وكف عن جفنه غرب حده.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر رجب سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ولم يبقل وجهه.
علي بن طنبغا قوين باشيعلاء الدين ابن الأمير علاء الدين نائب حمص ونائب غزة. تقدم ذكر والده في مكانه من حرف الطاء.
كان هذا علي ذا صورة جميلة، وطلعة كم جعلت القلوب من حسنها دمنة، والعيون كليلة، أرشق من الغصن إذا عطفته النسمات، وأعدل من الرمح إلا أن هذا ألطف حركات، كم فتن قلباً، وجعل من الصب دمعه صبا.
بينا هو بدر في ليالي كماله إذا به قد انخسف، وبينا هو غصن يميس في اعتداله إذا هو قد انقصف، وأنشد الناس قبره:
ما أنت يا قبر لا روض ولا فلك ... من أين جمع فيك الغصن والقمر
وتوفي رحمه الله تعالى بكرة الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، ومات عن اثنتين وعشرين سنة، وصلى عليه بسوق الخيل، وحضره الأمير سيف الدين والأمراء.
وكانت جنازته حافلة، وكان قد حج مرتين، وأثنى الناس عليه، وتألموا له ولوالده.
علي بن عثمانابن يعقوب بن عبد الحق السلطان أبو الحسن بن أبي سعيد بن أبي يوسف المريني، صاحب مراكش وفاس وغيرهما، المريني، تقدم ذكر والده في مكانه.
ملك أبو الحسن هذا، رحمه الله تعالى، بعد موت والده سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. وكان سلطاناً فاضلاً، مناظراً للفقهاء ولأرباب السلاح مناضلاً.

قام بالجهاد مدة ملكه، ونظم كثيراً من البلاد في سلكه، امتشق الصوارم واعتقل الأسل، واشتار العسل من غزواته وما اختار الكسل، وباشر القتال بنفسه، وأقام وجهه للنبل مقام ترسه، ووجد ضرب المواضي أحلى من الضرب، وجاد بروحه للخطوب حتى كأنما له في قتله أرب. يكر على الأبطال، والسيف مصلت بكفه، ويقدم على الصفوف باجتهاد، كأنه يخاف أن يطعن من خلفه، فما حمل على جيش إلا أباده، وأبان للملائكة كره، وفره وطراده، وأجال في حومات الوغي جياده، وارتجل المنايا للأعادي وباده، وعلى صرح الإسلام وشاده، وأصلح فساد الدهر وأهله فساده، هذا مع فضائل بحرها زخار، وعلوم نيرها سيار.
ولم يزل في جهاد مع الفرنج، وحروب نصره الله فيها، وقد ظن أنه لم ينج، إلى أن أدبر سعده، وأخلفه الزمان وعده، وطالما صدق وعده، وخانه حتى ابنه، وساعده عليه حتى أدبرت شجاعته وأقبل جبنه، وهذه قاعدة الأيام التي قل ما انخرمت، وطالما أصبحت جمراتها رماداً بعد ما اضطرمت.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
وكان هذا السلطان أبو الحسن قد صادق سلطاننا الأعظم الملك الناصر محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وهاداه وراسله، وجهز إليه التحف والطرف، وجهز إليه مرة في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة خمسين فرساً بسروجها وعددها المغربية صحبة الجهة التي حضرت للحجاز، وتدعى الحرة، وحضر معها شيء كثير من التحف النفائس.
قيل: إنها أحضرت معها صورة كرمة تحمل على رؤوس النساء، عناقيدها الجواهر النفيسة، وأحضرت من الثياب البيض الرفاع جملة وافرة. وكانت هذه السروج على كل ركاب منها طلاء ذهب، ستة سبعة دنانير، وأمر السلطان لها بجميع ما دعت حاجتها إليه من آلات الحج وزاده وماعون مائه لها ولمن حضر معها، وكان معها فيما أظن خمس مئة نفر، ولما عادت أرسل السلطان معها من تحف مصر وقماش إسكندرية، وقماش العراق شيئاً كثيراً.
وكان قد جهز إلى مكة، شرفها الله تعالى، ختمة بخط يده، وقر بعير مذهبة مليحة في بابها، والى القدس الشريف ختمة أخرى نظيرها صحبة ابن فرقاجة، وجهز معه مبلغاً اشترى به ملكاً ووقفه على من يقوم بقراءة القرآن هنا وهنا.
وكانت المكاتبات ما تنقطع بينهما كل قليل. وورد منه كتاب على السلطان الملك الصالح إسماعيل في أواخر شعبان سنة خمس وأربعين وسبع مئة على يد كاتبه ابن أبي مدين يعزي السلطان فيه بأبيه، ويهنئه بالجلوس على تخت الملك، ويذكر واقعة جرت له، ويطلب الدعاء، ويستنجد به على الأعداء، ونسخته بعد الحمدلة والصلاة: من عبد الله علي أمير المسلمين المجاهدين في سبيل رب العالمين، المنصور بفضل الله، المتوكل عليه، المعتمد به جزيع أموره ما لديه، سلطان البرين، حامي العدوتين، مؤثر المرابطة والمثاغرة، ومؤازر حرب الإسلام، مظاهر دين الملك العلام، ابن مولانا أمير المسلمين المجاهدين في سبيل رب العالمين، فخر السلاطين، حامي حوزة الدين، ملك البرين، إمام العدوتين، ممهد البلاد، مبدد شمل الأعاد، مجند الجنود، المنصور الرايات والبنود، محط الرحال، مبلغ الآمال، أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، حسنة الأيام، حسام الإسلام، أبي الأملاك، شجى أهل العناد والإشراك، مانع البلاد، رافع علم الجهاد، مدوخ أقطار الكفار، مصرخ من ناداه للاسنتصار، القائم لله بإعلاء دين الحق، أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أخلص الله لوجهه جهاده، ويسر في قهر عداة الدين مراده.

إلى محل ولدنا الذي طلع في أفق العلا بدراً تما، وصدع بأنوار الفخار فجلى ظلاماً وظلماً، وجمع شمل المملكة الناصرية، فأعلى منها علماً، وأحيا بها رسما، حائط الحرمين، القائم بحفظ القبلتين، باسط الأمان، قابض كف العدوان، الجزيل النوال، الكفيل تأمينه بحياطة النفوس والآمال، قطب المجد وسماكه، حسب الحمد وملاكه: السلطان الجليل، الرفيع الأصيل، الحافل العادل، الفاضل الكامل، الشهير الخطير، الأضخم الأفخم، المعان المورث المؤيد المظفر، الملك الصالح، أبو الوليد إسماعيل ابن محل أخينا الشهير علاؤه، المستطير في الآفاق ثناؤه، زين الأيام والليال، كمال عين إنسان المجد، وإنسان عين الكمال، وارث الدول، النافث بصحيح رأيه في عقود أهل الملل والنحل، حامي القبلتين بعدله وحسامه، النامي في حفظ الحرمين أجر اضطلاعه بذلك وقيامه، هازم أحزاب المعاندين وجيوشها، هادم الكنائس والبيع " فهي خاوية على عروشها " ، السلطان الأجل الهمام، الأحفل، الأفخم، الأضخم، الفاضل العادل، الشهير الكبير، الرفيع الخطير، المجاهد المرابط، المقسط عدله في الجائر والقاسط، المؤيد المظفر المنعم المقدس المطهر، زين السلاطين، ناصر الدنيا والدين، أبي المعالي محمد ابن الملك الأرضى الهمام الأقضى، والد السلاطين الأخيار، عاقد لواء النصر في قهر الأرمن والفرنج والططار، محيي رسوم الجهاد، معلي كلمة الإسلام في البلاد، جمال الأيام، ثمال الأعلام، فاتح الأقاليم، صالح ملوك عصره المتقادم، الإمام المؤيد المنصور المسدد، قسيم أمير المؤمنين فيما تقلد، الملك المنصور، سيف الدنيا والدين قلاوون مكن الله له تمكين أوليائه، ونمى دولته التي أطلعها السعد شمساً في سمائه، وأحسن إبزاغه للشكر أن جعله وارث آبائه.
سلام كريم يفاوح زهر الربا مسراه، وينافح نسيم الصبا مجراه، يصحبه رضوان يدوم ما دامت تقل الفلك حركاته، ويتولاه روح وريحان تحييه به رحمة الله وبركاته.

أما بعد حمد الله مالك الملك، جاعل العاقبة للتقوى صدعاً باليقين ودفعاً للشك، وخاذل من أسر في النفاق النجوى، فأصر على الدخن، والإفك. والصلاة والسلام على نبينا محمد ورسوله الذي محا بأنوار الهدى ظلم الشرك، ونبيه الذي ختم به الأنبياء، وهو واسطة ذلك السلك، ودحا به حجة الحق، فمادت بالكفرة محمولة الأفلاك، وماجت بهم حاملة الفلك، والرضا من آله وصحبه الذين ملكوا سبل هاده، فسلك في قلوبهم أجمل السلك، وملكوا أعنة هواهم، فلزموا من محجة الصواب أسحج الهلك، وصابروا في جهاد الأعداء، فزاد خلوصهم مع الابتلاء. والذهب يزيد خلوصاً على السبك، والدعاء لأولياء الإسلام، وحماته الأعلام بنصر لمضائه في العدا أعظم الفتك، ويسر بقضائه درك آمال الظهور، وأحفل بذلك الدرك، فكتبنا إليكم - كتب الله لكم رسوخ القدم، وسبوغ النعم - من حضرتنا بمدينة فاس المحروسة وصنع الله سبحانه تعرف مذاهب الألطاف، وتكيف مواهب تلهج الألسنة في القصور عن شكرها بالاعتراف، وتصرف من أمره العظيم وقضائه المتلقى بالتسليم ما يتكون بين الكاف والنون، ومكانكم العتيد سلطانه، وسلطانكم المجيد مكانه وولاؤكم الصحيح برهانه، وعلاؤكم الفسيح في مجال الجلال ميدانه، والى هذا زاد الله سلطانكم تمكيناً، وأفاد مقامكم تحصيناً وتحسيناً، وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلاً مبيناً، فلا خفاء بما كانت عقدته أيدي التقوى ومهدته الرسائل التي على الصفاء تطوى بيننا وبين والدكم نعم الله روحه وقدسه، وبقربه مع الأبرار في عليين آنسه - من مؤاخاة أحكمت منها العقود تالية الكتب والفاتحة، وحفظ عليها محكم الإخلاص معوذتاها المحبة والنية الصالحية، فانعقدت على التقوى والرضوان، واعتضدت بتعارف الأرواح عند تنازح الأبدان حتى استحكمت وصلة الولاء، والتحمت كلحمة النسب لحمة الإخاء، فما كان إلا وشيكاً من الزمان، ولا عجب في قصر زمن الوصلة أن يشكوه الخلان ورد وارد أورد رنق المشارب، وحقق قول: " ومن يسأل الركبان عن كل غائب " ، أنبأ باستئثار الله بنفسه الزكية وإكنان درته السنية، وانقلابه إلى ما أعد له من المنازل الرضوانية بجليل ما وقر لفقده في الصدور، وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك المقدور حناناً للإسلام بتلك الأقطار وإشفاقاً من أن يعتور قاصدي بيت الله الحرام من حر الفتن عارض الأضرار، ومساهمة في مصاب الملك الكريم، والولي الحميم، عميت الأخبار، وطويت طي السجل الآثار، فلم نر مخبراً صدقاً ولا معلماً بمن استقر له ذلك الملك حقاً، وفي أثناء ذلك أحفزنا الحركة عن حضرتنا لاستصراخ أهل الأندلس وسلطانها وتواتر الأخبار بأن النصارى أجمعوا على خراب أوطانها، ونحن أثناء ذلكم الشأن نستخبر الوارد من تلكم البلدان عما أجلى عنه ليل الفتن بتلكم الأوطان.

فبعد لأي وقعنا منها على الخبير، وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير، وتعرفنا أن الملك استقر منكم في نصابه، وتداركه الله منكم بفاتح الخير من أبوابه، فأطفأ بكم نار الفتنة وأخمدها، وأبرأ من أدواء النفاق ما أعل البلاد وأفسدها. فقام على سبيل الحج سابلا، وتعبد طريقه لمن جاء قاصداً أو قافلاً، ولما اجتمعت بهذا الخبر القرائن، وتواتر بنقله الحاضر له والمعاين، أثار حفظ الاعتقاد البواعث، والود الصحيح تجره حقاً الموارث، فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار، الجامعة بين الخبر والاستخبار الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار، ومثل ذلكم الملك رضوان الله عليه من يجل المصاب لفقدانه، وتحل عرا الاصطبار لموته ولات حين أوانه، ولكن الصبر الجميل أجمل ما ارتداه ذو عقل حصين، والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين، ومثلكم من لا يخف وقاره، ولا يشف عن ظهور الجزع للحادث اصطباره ومن خلفكم فما مات ذكره، ومن قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره، وقد طالت والحمد لله العيشة الراضية بالحقب، وطاب بين مبتداه ومحتضره هنيئاً بما من الأجر اكتسب، وصار حميداً إلى خير المنقلب، ووفد من كرم الله على أفضل ما منح موقناً ووهب ، فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة، وحماية زوار بيته مقيمة أو معرسة، ونحن بعد بسط هذه التعزية نهنئكم بما خولكم الله أجمل التهنئة، وفي ذات الله الإيراد والإصدار، وفي مرضاته سبحانه الإضمار والإظهار، فاستقبلوا دولة ألقى العز عليها رواقه، وعقد الظهور عليها نطاقه، وأعطاها أمان الزمان عهده وميثاقه، ونحن على ما عاهدنا عليه الملك الناصر رضوان الله عليه من عهود موثقة، وموالاة محققة وثناء كمائمه عن الزهر غب القطر مفتقه، ولم يغب عنكم ما كان من بعثنا المصحفين المكرمين اللذين خطتهما منا اليمين، وأوت بهما الرغبة من الحرميين الشريفين إلى " قرار مكين " ، وأنه كان لوالدكم الملك الناصر؛ تولاه الله برضوانه وأورده موارد إحسانه؛ في ذلك من الفعل الجميل، والصنع الجليل، ما ناسب مكانه الرفيع، وشاكله فضله من البر الذي لا يضيع حتى طبق فعله الآفاق ذكرا، وطوق أعناق الوراد والقصاد براً، وكان من أجمل ما به تحفى وأتحف، وأعظم ما يعرف إلى رضا الملك العلام في ذلك تعرف، إذنه للمتوجهين إذ ذاك في شراء رباع توقف على المصحفين، ورسم المراسم المباركة بتحرير ذلك الوقف مع اختلاف الجديدين، فجرت أحوال القراء فيها بذلك الخراج المستفاد وبما يصلهم من خراج ما وقفناه عليهم بهذه البلاد، على ما رسمه رحمة الله عليه من عناية بهم متصلة، واحترام في تلك الأوقاف فوائدها به موفرة متحصلة.
وقد أمرنا مؤدي هذه لكمالكم، وموفدها على جلالكم كاتبنا الأسنى الفقيه الأجل الأحظى الأكمل أبا المجد ابن كاتبنا الشيخ الفقيه الأجل الحاج الأتقى الأرضى الأفضل الأحظى الأكمل المرحوم أبي عبد الله بن أبي مدين حفظ الله عليه رتبته، ويسر في قصد البيت الحرام بغيته، بأن يتفقد أحوال تلك الأوقاف، ويتعرف تصرف الناظر عليها، وما فعله من سداد وإسراف. ويتخير لها من يرتضى لذلك، ويحمد تصرفه فيما هنالك، وخاطبنا سلطانكم في هذا الشأن جزياً على الود الثابت الأركان، وإعلاماً بما لوالدكم رحمه الله تعالى في ذلك من الأفعال الحسان، وكمالكم يقتضي تخليد ذلك البر الجميل، وتجديد عمل ذلك الملك الجليل، وتشييد ما اشتمل عليه من الشكر الأصيل والأجر الجزيل، والتقدم بالإذن السلطاني في إعانة هذا الوافد بهذا الكتاب، على ما يتوخاه في ذلك الشأن من طرق الصواب، وثناؤنا عليكم الثناء الذي يفاوح زهر الربا، ويطارح نغم حمام الأيك مطربا.
وبحسب المصافاة ومقتضى الموالاة نشرح لكم المتزيدات بهذه الجهات، وننبئكم بموجب إبطاء إنفاذ هذا الخطاب على ذلك الجناب، وذلك أنه لما وصلنا من الأندلس الصريخ، ونادى الجهاد منا عزماً لمثل ندائه نصيخ، أنبأنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب، وحتم عليهم بابهم اللعين التناصر من كل أوب، وأن تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية بإيجافها، وتنقص بالمنازلية أرضها من أطرافها، لتمحو كلمة الإسلام منها، وتقلص ظل الإيمان عنها، فقدمن من يشتغل بالأساطيل من القواد، وسرنا على أثرهم إلى سبتة منتهى المغرب الأقصى وباب الجهاد.

فما وصلناها إلا وقد أخذ أخذه العدو الكفور، وسد اختطاف الطواغيت على التعاون مجاز العبور، وأتوا من أجفالهم بما لا يحصى عدداً وأرصدوها بمجمع البحر حيث المجاز إلى دفع العدا، وتقلصوا عن الانبساط في البلاد، واجتمعوا إلى جزيرة الخضراء، أعاذها الله، بكل من جمعوه من الأعاد، لكنا مع انسداد تلك السبيل وعدم أمور نستعين بها في ذلكم العمل الجميل، حاولنا إمداد تلكم البلاد بحسب الجهد، وأصرخناهم بمن أمكننا من الجند، وجهزنا أجفاناً مختلسين فرصة الإجازة وتترد على خطر من جهز الجهاد جهازه، وأمرنا لصاحب الأندلس من المال بما يجهز به حركته لمداناة حزب الضلال، وأجرينا له ولجيشه العطاء الجزل مشاهرة، وأرضخنا لهم في النوال ما نرجو به ثواب الآخرة، وجعلت أجفاننا تتردد من يمشي السواحل ويلج أبواب الخوف العاجل، لإحراز الأمن الآجل، مشحونة بالعدد الموفورة، والأبطال المشهورة، والخيل المسومة، والأقوات المقومة، فمن ناج حارب دونه الأجل، وشهيد مضى لما عند الله عز وجل، وما زالت الأجفان تتردد على ذلك الخطر، حتى تلف منها سبع وستون قطعة غزوية أجرها عند الله يدخر، ثم لم نقنع بهذا العمل والإمداد، فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم مساهمة لأهل تلك البلاد، فلقي من هول البحر وارتجاجه، وإلحاح العدو ولجاجه، ما به الأمثال تضرب وبمثله يتحدث ويستغرب، ولما خلص لتلك العدوة بمن أبقته الشدائد نزل بإزاء الكافر الجاحد، حتى كان منه بفرسخين أو أدنى، وقد ضرب بطعن يصابح العدو ويماسيه بحرب بها يمنى، وقد كان من مددنا بالجزيرة جيش شريت شرارته، وقويت في الحرب إدارته، يبلون البلاء الأصدق، ولا يبالون بالعدو وهو منه كالشامة البيضاء في البعير الأورق، إلا أن المطاولة بحصرها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف، ومنازلتها في البر نحو عامين معقوداً عليها الصف بالصف، أدى إلى فناء الأقوات بالبلد حتى لم يبق لأهله قوت نصف شهر مع انقطاع المدد، وبه من الخلق ما يربي على عشرة آلاف دون الحرم والولد.
فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الإذن له في عقد الصلح، ووقع الاتفاق على أنه لاستخلاص المسلمين من وجوه النجح.
فأذنا فيه الإذن العام، إذ في إصراخه وإصراخ من في طره من المسلمين توخينا ذل المرام، هنالك دعا النصارى إلى السلم فاستجابوا لداعيه، وقد كانوا علموا فناء القوت، وما استرابوا الصلح إلى عشر سنين، وخرج من بها من فرسان ورجال وأهل وبنين، ولم يرزؤوا مالاً ولا عدة، ولا لقوا في خروجهم غير النزوع عن أول أرض مس الجلدة ترابها شدة، ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء، وأسليناهم عما جرى بالحباء، فمن خيل تزيد على الألف عتاقها، وخلع تربي على عشرة آلاف أطواقها، وأموال عمت الغني والفقير، ورعاية شملت الجميع بالعيش النضير، وكفى بالله ضر الطواغيت عما عداها، وما انقلبوا بغير مدرة عفا رسمها وصم صداها.

وقد كان من لطف الله حين قضى بأخذ هذا الثغر أن قدم لنا فتح جبل طارق من أيدي الكفر، وهو المطل على هذه المدرة، والفرصة منه فيها إن شاء الله ميسرة. حين يفترق عقد الكفار، ويفرد بهذه الجهة منه مجاوروا هذه الدار فلولا إجلابهم من كل جانب، وكونهم سدوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب، لما بالينا بأضعافهم، ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم. ولكن للموانع أحكام، ولا راد لما جرت به الأقلام، وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد، وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد من العَدد والعُدد، وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السفر، وتربط الجياد تنتخب العُدد لوقت الظهور المنتظر، وتكون على أهبة الجهاد وعلى مرقب الفرصة عند تمكنها في الأعاد، وعند عودنا من تلك المحاولة نسير الركب الحجاز موجهاً إلى هنالكم رواحله، فأصدرنا إليكم هذا الخطاب إصدار الود الخالص والحب اللباب، وعندنا لكم ما عند أحنى الآباء، واعتقادنا فيكم في ذات الله لا يخشى جديده من البلاء، وما لكم من غرض بهذه الأنحاء، فموفى قصده على أكمل الأهواء موالي تتميمه على أجمل الآراء، والبلاد باتحاد الود متحده، والقلوب والأيدي على ما فيه من مرضاة الله تعالى معتضده، جعل الله ذلكم خالصاً لرب العباد، مذخوراً ليوم التناد، مسطوراً في الأعمال الصالحة يوم المعاد بمنه وفضله، وهو سبحانه يصل إليكم سعداً تتفاخر به سعود الكواكب، وتتضفر على الانقياد له صدور المواكب، وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب، والسلام الأتم يخصكم كثيراً أثيراً، ورحمه الله وبركاته.
وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من عام خمسة وأربعين وسبع مئة، صورة خط أبي الحسن المريني صاحب فارس.
وكتب في التاريخ المؤرخ.
وكنت أنا إذ ذاك في القاهرة فرسم لي بكتابة الجواب فكتبته بخطي من إنشائي، في سادس شهر رمضان المعظم سنة خمس وأربعين وسبع مئة بعد البسملة في قطع النصف بقلم الثلث:
عبد الله ووليهصورة العلامة الشريفة ولده إسماعيل بن محمد.
السلطان الملك الصالح السيد العالم المؤيد المجاهد المثاغر المظفر المنصور، عماد الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، ملك العرب والعجم والترك، فاتح الأقطار، واهب الممالك والأمصار، إسكندر الزمان، مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، مالك البحرين، خادم الحرمين الشريفين، سيد الملوك والسلاطين، جامع كلمة الموحدين، ولي أمير المؤمنين، أبو الفداء إسماعيل ابن السلطان الشهيد السعيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين، أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد السعيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، خلد الله سلطانه، وجعل الملائكة أنصاره وأعوانه.
يخص المقام العالي الملك الأجل الكبير المجاهد المؤيد المرابط المثاغر المعظم المظفر المعمر الأصعد الأوحد الأمجد الأنجد السني السري، المنصور أبا السحن علي ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أمده الله بالظفر، وقرن عزمه بالتأييد في الآصال والبكر، بسلام وشت البروق وشائعه، وادخرت الكواكب ودائعه، واستوعب الزمان ماضيه ومستقبله ومضارعه، وثناء اتخذ المسك الأذفر طلائعه، ونبه للتغريد في الروض سواجعه، وجلا في كأسه من الشفق الأحمر مداماً ومن النجوم فواقعه.
عبد حمد الله على نعم أدت لنا الأمانة في عود سلطنة والدنا الموروثة، وأجلستنا على سرير مملكة زرابيها بني النجوم مبثوثة، وأحسنت بنا الخلف عن سلف عهوده في الأعناق غير منكورة ولا منكوثة.
وصلاه على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه الذين بلغ بجهادهم في الكفرة غاية أمله وسوله، صلاة تنحط بالرضوان سيولها، وتجر بالغفران ذيولها، ما تراسل أصحاب، وتواصل أحباب وسلامه.

ونوضح لعلمكم الكريم ورود كتابكم الكريم، وخطابكم الفائق على الدر النظيم، تفاخر الخمائل سطوره، ويصبغ خدود الورد بالخجل منثورة، وتحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه، والهمزات عليها طيوره، ويخلع على الآفاق حلل الأيام والليالي، فالطرس صباحه والنقس ديجوره، لفظه يطرب، ومعناه يعرب فيغرب، وبلاغته تدل على أنه آية لأن شمس بيانها طلعت من المغرب.
فاتخذنا سطوره ريحاناً، ورجعنا ألفاظه ألحاناً، ورجعنا إلى الجد فشبهنا ألفاته بظلال الرماح، وورقه بصقال الصفاح، وحروفه المعرقة بأفواه الجراح، وسطوره المنتظمة بالفرسان المزدحمة في يوم الكفاح، وانتهينا إلى ما أودعتموه من اللفظ المسجوع، والمعنى الذي يطرب طائره المسموع، والبلاغة التي فضح المتطبع فيها بيانها المطبوع.
فأما العزاء بأخيكم الوالد، قدس الله روحه وسقى عهده، وأحسن لسلفه خلفنا بعده، فلنا برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
ولولا الوثوق بأنه في عدة الشهداء ما رأى القلب قراره ولا رأى الطرف وسنه. عاش سعيداً يملك الأرض، ومات شهيداً يفوز بالجنة يوم العرض، قد خلد الله ذكره يسير مسير الشمس في الآفاق، ويوقف على نضارة حدائقه نظرات الأحداق، وورثنا منه حسن الإخاء لكم والوفاء بعهود مودة تشبه في اللطف شمائلكم.
وأما لهناء بوارثة ملكه، والانخراط مع الملوك في سلكه، فقد شكرنا لكم منحنا هذه المنحة، وقابلناها بثناء يعطر النسيم في كل نفحة، ووقفنا عليها حمداً جعل الود علينا إيراده، وعلى أنفاس سرحة الروض شرحه، وتحققنا به حسن ودكم الجميل وكريم إخائكم الذي لا يميد طود رسوخه ولا يميل.
وأما ما ذكرتموه من أمر المصحفين الشريفين اللذين وفقتموهما على الحرمين الشريفين، وأنكم جهزتم كاتبكم الفقيه الأجل الأسنى الأسمى أبا المجد ابن كاتبكم أبي عبد الله بن أبي مدين، أعزه الله تعالى، لتفقد أحوالهما والنظر في أوقافهما فقد وصل المذكور بمن معه في حرز السلامة وأكرمنا نزلهم، وسهلنا بالترحيب سبيلهم، وجمعنا على بذل الإحسان إليهم شملهم، وحضر المذكور بين أيدينا وقربناه وسمعنا كلامه وخاطبناه، وأمرنا في أمر المصحفين الشريفين بما أشرتم، ورسمنا لنوابنا في نواحي أوقافهما بما ذكرتم، وهذا الوقف المبرور جار على أحسن عادة ألفها وأثبت قاعدة عرفها، مرعي الجوانب، محمي المنازل والمضارب آمن من إزالة رسمه، أو إدالة حكمه، بدره أبداً في مطالع تمه، وزهرة دائماً يرقص في كمه، لا يزداد إلا تخليداً، ولا إطلاق ثبوته إلى تقييداً ولا عنق اجتهاده إلا تقليداً، جرياً على عادة أوقاف ممالكنا وقاعدة تصرفنا في مسالكنا، وله زيادة الرعاية، وإفادة الحماية، ووفادة العناية.
وأما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء وما لاقاه أهلها، ومني به من الكفار حزنها وسهلها، فإنه شق علينا سماعه الذي أنكى أهل الإيمان وعدد به ذنوب الزمان كل قلب بأنامل الخفقان، وطالما فزتم بالظفر، ورزقتم النصر على عدوكم، فجر ذيل الهمزية وفر، ولكن الحروب سجال، وكل زمان لدائه دولة ولرجائه رجال، ولو أمكنت المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسومة، وسالت على عدوكم أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة، وكحلنا عيون النجوم بمراود الرماح، وجعلنا ليل العجاج ممزقاً ببروق الصفاح، واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات، وفرجنا مضائق الحرب بتوالي الكرات، وعطفنا عليهم الأعنة، وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة، وفلقنا الصخرات بالصرخات، وأسلنا العربات بالرعبات، ولكن أين الغاية من هذا المدى المتطاول، وأين الثريا من يد المتناول، وما لنا غير إمدادكم بجيوش الدعاء الذي نرفعه نحن له ورعايانا، والتوجه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول في سجايانا.
وأما ما فقدتموه من الأجفان التي طرقها طيف التلاف، وأم حرم فنائها الفناء وطاف به بعد الإلطاف، فقد روع هذا الخبر قلب الإسلام، ونوع له الحزن على اختلاف الإصباح والإظلام، وهذه الدار ما يخلو صفوها من كدر القدر، وطالما أنامت بالأمن أول الليل، وخاطبت بالخطب في السحر، ولكن في بقائكم من خطب العطب ومع سلامة نفسكم الكريمة فالأمر هين، لأن الدر يفدى بالذهب، وأما ما رأيتموه من الصلح فرأي عقده مبارك، وعقده ما فيه فارط عزم، وإن كان فيتدارك.

والأمر يجيء كما يجب لا كما يحب، والحروب يزور نصرها تارة ويغب، ومع اليوم غدا، وقد يرد الله الردى، ويعيد الظفر بالعدا.
وأما عودكم إلى فاس المحروسة طلباً لإراحة ما عندكم من الجنود، وتجهيزاً لمن يصل من عندكم إلى الحجاز الشريف من الوفود، فهذا أمر ضروري التدبير، سروري التثمير، لأن النفوس تمل وثير الجهاد فكيف ملازمة صهوات الجياد، وتسأم من مجالسة الشرب فكيف بممارسة الحرب، وتعرض عن دوام اللذة، فكيف بمباشرة المنايا المغدة، وهذا جبل طارق الذي فتح الله به عليكم، وساق هدى هديته إليكم، لعله يكون سبباً إلى ارتجاع ما شرد، وحسماً لهذا الطاغية الذي مرد، ورداً لهذا النازل الذي قدم ورد الصبر لما ورد، فعادة الألطاف الإلهية بكم معروفة، وعزماتكم إلى جهات الجهاد مصروفة، وقد تفاءلنا لكم من هذا الجبل بأنه طارق خير من الرحمن يطرق. وجيل يعصم من سهم يمر من قسي الكفار ويمرق.
وأما ما منحتموه من الخيل العتاق والملابس التي تطلع بدور الوجوه من مشارق الأطواق، والأموال التي زكت عند الله تعالى ونمت على الإنفاق، فعلى الله عز وجل خلفها، ولكم في منازل الدنيا والأخرى شرفها وشرفها، وإليكم تساق هدايا أثنيتها وتحفكم تحفها، وإذا وصل وفدكم الحاج، وأنار له بوجه إقبالنا عليهم ليلهم الداج، كانوا مقيمين تحت ظل إكرامنا، وشمول إسعافنا لهم وإنعامنا، يتخولون تحفاً أنتم سببها، ويتناولون طرفاً في كؤوس الاعتناء بهم تنضد حببها، وإذا كان أوان الرحيل إلى الحج فسحنا لهم الطريق، وسهلنا لهم الرفيق، وبلغناهم بحول الله مناهم من منى، وسؤلهم ممن إذا زاروا حجرته الشريفة حازوا الراحة من العنا، وفازوا بالغنى، وإذا عادوا عاملناهم بكل جميل ينسيهم مشقة ذلك الدرب، ويخيل إليهم أن لا مسافة لمسافر بين الشرق والغرب، وغمرناهم بالإحسان في العود إليكم، وأمرناهم بما ينهون شفاهاً لديكم، وعناية الله تعالى تحوط ذاتكم، وتوفر لأخذ الثأر حماتكم، وتخصكم بتأييد تنزلون روضة الأنضر، وتجنون به ثمر النصر اليانع من ورق الجديد الأخضر، وتتحفكم بسعد لا يبلى قشيبه، وعز لا يمحو شبابه مشيبه، وتحيته المباركة تعاديكم وتراوحكم، وتناوحكم أنفاسها المعنبرة، وتنافحكم، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
علي بن عبد الله بن ريانابن حنظلة السيناني، بالسين المهملة وياء آخر الحروف ونون بعدها ألف ونون، نور الدين الحضرموتي.
أخبرني العلامة أثير الدين قال: ولد المذكور بدمريط، بال مهملة وميم ساكنة وراء مكسورة وياء أخر الحروف ساكنة وطاء مهملة، قرية من الشرقية بالديار المصرية.
تولى القضاء بجهات من الشرقية، وله معرفة بالنسب ومشاركة في الفقه. وحفظ جملة من الحديث، وله أدب ونظم على طريق العرب. وسينان الصحيح أنها من حمير وأنشدني لنفسه:
لقي الفؤاد مذ نأوا تلهبا ... وصارمته الغيد ربات الخبا
نار أسى تضرم في أحشائه ... تشب من وقد الغرام ما خبا
يا راكب الوجناء من خزاعة ... يرقلها طوراً وطوراً خببا
كأنها إذا انبرت بارقة ... تقطع أجواز الفلا والحدبا
حي أبيت اللعن دار زينب ... إن جزت بالربع وحي زينبا
ما أنصفت زينب لما أن نأت ... وغادرتني دنفا معذبا
أسامر النجم إذا جن الدجا ... شوقاً إلى غيد كأمثال الظبا
بيض حسان خرد كواعب ... إذا رنوا عجباً رأيت العجبا
يسفرن عن مثل الشموس أوجهاً ... ويختلبن القانت المهذب
توفي رحمه الله تعالى...
ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة.
علي بن عبد الله بن عمرنور الدين القصري.
أخبرني العلامة أثير الدين قال: وقع المذكور لبعض القضاة. وله نظم ونثر جيدان، أنشدني له يصف فرساً:
لما جرى شوطاً بعيد المدى ... ألف بني الغرب والشرق
فات ارتداد الطرف ثم انثنى ... يهزأ بالريح وبالبرق
قلت: أنا: اختصره من قول ابن حجاج من أبيات:
قالت له البرق وقالت له ال؟ ... ريح جميعاً وما ما هما
أأنت تجري معنا قال لا ... إن شئت أضحكتكما منكما

هذا ارتداد الطرف قد فته ... إلى المدى سبقا فمن أنتما
قلت: وأنشدني لنفسه في روضة مصر:
ذات وجهين فيهما قسم الحس؟ ... ن فأضحت بها القلوب تهيم
ذا يلي مصر فهو مصر وهذا ... يتولى وسيم فهو وسيم
قد أعادت عصر التصابي صباها ... وأبادت فيها الغموم الغيوم
قال الشيخ أثير الدين وزدت أنا بيتاً وهو:
فبلج البحار يسبح نون ... ويفج القفار يسنح ريم
ومن نثره: جفن علمه الغرام كيف يكف، ودمع أبي حين وقف بالربع أن يقف انتهى.
وقال كمال الدين الأدفوي: وكان فيه مروءة ومكرمة.
أخبرني بكتوت مولى قاضي القضاة معز الدين الحنفي: أن ابن الكيلج تحدث له مع مولاه في العدالة ورسم بكتابة أسجال. قال بكتوت: فاستأذنته في أن يكتبه ابن القصري، وأعطاني ابن الكيلج أربعة دنانير للكاتب، فركبت وتوجهت إليه، ووضعت الدنانير بين يديه، فقام وفتح صندوقه، فأخرج منه ورقاً وكتب الأسجال، وأخرج من عنده دينارين وأضافهما إلى الأربعة، وقال: هؤلاء ضيافتك لدخولك إلى منزلي.
وتوفي نور الدين بالقاهرة سنة ست أو سبع وتسعين وست مئة.
علي بن عبد الله بن عمرابن أبي القاسم البغدادي الحنبلي، أخو الإمام رشيد الدين، وهو الشيخ زين الدين أبو الحسن.
أجاز له ابن العليق وجماعة. وسمع من فضل الله الجيلي ثلاثة أجزاء أبي الأحوص. ومن علي بن محمد بن خطاب بن الخيمي جزء التراجم للنجاد، ومن ابن تيمية أحكامه، ومن محيي الدين بن الجوزي كثيراً من تواليف أبيه.
وتفرد في وقته، وكتب في الإجازات، لكن كان عامياً، يتهاون في الدين، وكان أخوه يزجر عن السماع منه.
قال السراج القزويني: تركته لما فيه مما لا يليق.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
علي بن عبد الله بن أبي الحسنابن أبي بكر الإمام، العلامة، المفتن، المفتي، المتكلم، تاج الدين، الأردبيلي المولد، التبريزي الدار، الشافعي، الصوفي. قال: سمعت من جامع الأصول على القطب الشيرازي، وبعض الوسيط على شمس الدين بن المؤذن. وأخذت النحو والفقه عن ركن الدين الحديثي. وعلم البيان عن النظام الطوسي، والحكمة والمنطق عن السيد برهان الدين عبيد الله، وشرح الحاجبية عن السيد ركن الدين المؤلف، وأجازني شمس الدين العبيدي، وعلم الخلاف عن علاء الدين النعمان الخوارزمي، وإقليدس وأوطاوقس وبادوسيوس، والحساب والهيئة. عن فيلسوف الوقت كمال الدين حسن الشيرازي الأصبهاني، والوجيز في الفقه عن شيخ الزمان، حمزة الأردبيلي، وعلم الجبر والمقابلة والمساحة والفرائض عن الصلاح موسى، وشرح السنة والمصابيح عن فخر الدين جار الله الجندراني والبستي تاج الدين الملقب بالشيخ الزاهد عن الشيخ شمس الدين التبريزي عن الركن السجاسي عن القطب الأبهري عن أبي النجيب السهروردي، عن أحمد الغزالي عن أبي بكر النيسابوري عن محمد النساج عن الشبلي عن الجنيد.
وأدركت كمال الدين أحمد بن عربشاه بأردبيل، دعا لي، ولقنني الذكر عن أوحد الدين الكرماني، وأدركت شيخاً كبيراً أجاز لي، أدرك الفخر الرازي. وأدركت ناصر الدين الببيضاوي، وما أخذت عنه شيئاً، وجالست ابن المطهر الحلي، وما أخذت عنه لتشيعه.
واشتغلت وأنا ابن عشرين إلى تسع وعشرين سنة، وأفتيت ولي ثلاثون سنة، ووليت الخانقاه والتدريس وأنا ابن ثلاث وثلاثين، وخرجت إلى بغداد بعد ست عشرة وسبع مئة، وأتيت المشهد والحلة والسلطانية ومراغة، وحججت، ثم دخلت مصر سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
قال شيخنا شمس الدين الذهبي: هو عالم كبير شهير، كثير التلامذة، حسن الصيانة، من مشايخ الصوفية، كاتبن ي غير مرة، وحصل نسخة بالميزان، وذكرني في تواليفه.
وقال الشيخ تقي الدين بن رافع: قديم فسمع علي بن عمر الواني، ويونس الدبابيسي ويوسف الختني، وابن جماعة. وكتب الطباق، وحصل جملة من الكتب الحديثية، وشغل في فنون ودرس بالطرنطائية، وناظر، وكثرت طلبته، وصنف في التفسير والحديث والأصول، وأقرأ الحاوي كله في نصف شهر، رواه عن شرف الدين علي بن عثمان العتقي عن مصنفه، انتهى.
قلت: كان الشيخ تاج الدين من أفراد زمانه، وأنجاب عصره وأنجاد أوانه، بحراً يتموج علوماً، وحبراً يتأرج طيباً بالفوائد مستديماً.

أخذ عن جماعة وانتفعوا وترقوا من حضيض الجهل وارتفعوا، وأقرأ الناس المنقول والمعقول، وتفرد بفنونه، فلو شاء لم يدع قائلاً يقول، وحضرت دروسه للطلبة، وسمع عبارته إلا أنها في عجمتها تورد من الدر مخشلبه، واعتراف المشايخ بفضله، وأصاب الأغراض والشواكل بنبال نبله.
ولم يزل بمصر على حاله إلى أن سكنت تلك العبارات، وبطلت تلك الإشارات.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان المعظم سنة ست وأربعين وسبع مئة.
وتوجهت إليه يوماً، وهو بالمدرسة الطرنطائية، ومعي كتاب كشف الحقائق لأثير الدين الأبهري، وطلبت الاشتغال فيه عليه فقال: ما عندي عليه شرح، وكلامه عقد، ففارقته، وسمعت غير واحد من المصريين أنه أقرأ الحاوي من أوله إلى آخره في شهر واحد تسع مرات.
وكان يشغل في هذه العلوم التي ذكرها كلها، وعلى الجملة، فكان في عصره عديم النظير.
وقلت أنا فيه لما مات رحمه الله تعالى:
يقول تاج الدين لما قضى ... من ذا رأى مثلي بتبريز
وأهل مصر بات إجماعهم ... يقضي على الكل بتبريز
علي بن عبد الله بن عبد القويابن الحسن بن أبي المجد بن ناجي بن سليمان المدلجي، الشافعي، المعروف بالعصلوجي.
كان فقيهاً مدرساً بمصر، روى كتاب الشهاب للقضاعي عن الحافظ رشيد الدين العطار القرشي، وسمع منه أمين الدين الواني وغيره. وناب في الحكم عن ابن دقيق العيد بمصر.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع شهر الله المحرم سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولده في صفر سنة ست وأربعين وست مئة.
وان ينعت بالقاضي جلال الدين بن أبي الحسن.
علي بن عبد الله بن مالكالشيخ الصالح الإمام الفاضل نور الدين أبو الحسن الدمديطي، بضم الدال المهملة الأولى وبعدها ميم ساكنة ودال ثانية مفتوحة وياء آخر الحروف ساكنة وطاء مهملة، الشافعي.
كان يعرف قطعة صالحة من أنساب العرب، ويذاكر بذلك، وله شعر.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة، ودفن بمقابر الصوفية خار باب النصر في آخر صفر سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
علي بن عبد الحميد بن محمد بن وفاءالفقيه الفاضل، علاء الدين بن التركيشي، الحنبلي.
كان من أعيان الحنابلة، فاضلاً نبيهاً نبيلاً، يبحث ويناظر ويجادل.
توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في سابع عشري شوال سنة تسع وسبع مئة، ودفن خارج باب النصر، وكان قد سمع جزء ابن عرفة على ابن أبي الخير.
علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعمابن نعمة بن سلطان بن سرور المقدسي، فخر الدين، مفتي نابلس.
كان من العلماء الأتقياء، أفتى نحواً من أربعين سنة، وارتحل، وسمع من ابن الجميزي، وسبط السلفي، وابن رواج، ومحيي الدين بن الجوزي.
وكتب شيخنا الذهبي عنه، وهو والد عماد الدين مفتي نابلس.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل المحرم سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاثين وست مئة بنابلس.
واجتمع خلق كثير في جنازته، وحضر أهل القرى من البر، وكان شيخاً صالحاً، كثير التواضع، محبباً إلى الناس.
علي بن عبد الرحمنالقاضي نور الدين بن المغيزل، الحموي، الكاتب.
كان بحماة له وجاهة، وعنده أبوة ونزاهة، وحظي عند المنصور بحماه، ولاذ القاصدون لها بحماه، وكتب الدرج للمنصور، وأصبح وممدود جاهه عليه مقصور. وبعده توجه إلى طرابلس صحبة أسندمر النائب، فلم تطل مدته، وحلت به النوائب ففارق مغنى العيش، ولم يغن عنه ثبات ولا طيش.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة إحدى وسبع مئة. وهو من نسل بنات شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري.
حضر إلى دمشق أول سنة إحدى وسبع مئة، وتوجه مع نائبها الأمير سيف الدين اسندمر كاتب درج، وتقدم عنده، وحظي لديه، وأقام من بعض صفر إلى جمادى الآخرة، وتوفي. وكان قد رتبه عوض ابن رواحة، فأعيد لموته ابن رواحة إلى مكانه.
علي بن عبد الرحمن بن أبي بكر الوانيالأمير علاء الدين، مقدم البريدية بدمشق المعروف بابن الفرا.
كان حظياً عند الأمير سيف الدين تنكز، يسوق في المهمات، ويجهزه إلى باب السلطان في المعضلات، إلا أنه كان ينبسط معه بالفعل المؤذي والقول الفاحش، وتارة يدنيه كالمحبوب، وتارة يبعده كالوارش.
أعطاه السلطان الملك الناصر طبلخاناه وحضر بها، فأنكر ذلك عليه، وحبسه مرة بسببها.

ولم يزل يقع معه ويقوم، ويسف تارة ويحوم إلى أن أمسك فخلص، وزاد من فرحه ما كان نقص، وأقام بعده مدة إلى أن عقر سمعه، وطفيء من الحياة شمعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة. في طاعون دمشق، وولده شهاب الدين أحمد، ولما مات كان أمير عشرة لا غير.
علي بن عبد الرحيمكمال الدين بن الأثير الأرمنتي.
كان فقيهاً شافعياً، قاضياً بليغاً لا تجد فيه عيا، من بيت أصالة في الصعيد، ورئاسة ذكرها باق لا يبين ولا يبيد، وكان أبوه حاكماً بأعمال قوص، واسم سؤدده فيها صحيح غير منقوص.
وكان هذا كمال الدين قد تولى قضاء الشرقية وأحاديث سيرته فيها تقية، وتولى قضاء أشموم الرمان، وذكره فيها باق على مر الزمان.
ولم يزل إلى أن طوحت به الطوائح، وقامت عليه النوائح وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة بمصر.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: أخبرني القاضي أبو الطاهر إسماعيل بن موسى بن عبد الخالق السفطي قاضي قوص قال: كان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قد عزل نفسه، ثم أعيد إلى القضاء فولاني بلبيس، وقال لا تعلم أحداً، وتوجه إليها عجلاً، فتوجهت ثاني يوم الولاية إليها ولم يشعر أحد، فلما جلست للقضاء بلغ الكمال الأرمنتي، وكان قاضياً بها، فأرسل إلى أصحاب الشيخ يسألهم، فسألوا الشيخ هل عزله، فقال: ما عزلته، فكتبوا إليه فأخذ في الحديث في الحكم، فلما بلغ الشيخ، قال: أنا ما عزلته وإنما انعزل بعزلي ولم أوله.
علي بن عبد الرحيم بن مراجلالصدر علاء الدين الحموي الأصل الكاتب.
كان والده شهاب الدين عبد الرحيم يتصرف في جهات الديوان بحلب ودمشق، وكان علاء الدين له إلمام بالأدب، وله فيه تحصيل وطلب.
وكان ينظم ويقدم على ذلك ولا يعظم، إلا أنه كان للشر يتسرع، ويقلد الجهل في أموره ولا يتشرع.
ولم يزل يغير وينجد في البلاد، ويتقلب بين ظهراني العباد، إلى أن غلت مراجل المنية لابن مراجل، وعجل أجله الآجل.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق سنة ثلاث وسبع مئة.
وكان قد باشر عدة جهات من مشارفة ونظر، وباشر أخيراً استيفاء النظر بدمشق، وتوجه إلى مصر بعد السبع مئة، وتأخر مقامه بها شهوراً فقال:
أقول في مصر إذ طال المقام بها ... وساء من سوء ملقى أهلها خلقي
يا أهل مصر أجيبوا في السؤال عسى ... يسكن الله ما ألقى من القلق
هل فيكم من يرجى للنوال ومن ... يلقى لوفد بوجه ضاحك طلق
أم عندكم لغريب في دياركم ... بقية من ندى أو عارض غدق
فقيل ذلك مما ليس نعرفه ... وإنما سفننا تجري على الملق
فبلغ ذلك الصاحب تاج الدين بن حنا، فأرسل طلبها منه، فزاد فيها علاء الدين بن مراجل:
لكن رأيت بها مولى خلائقه ... أعاذها الله بالإخلاص والفلق
السيد الصاحب المولى الوزير ومن ... فاق الورى كلهم بالخلق والخلق
تاج المعالي وتاج الدين قد جمعت ... فيه المكارم تأتي منه في نسق
ستر على أهل مصر لم يزل أبداً ... مغطياً منهم للويل والحمق
فالنيل من جود كفيه يفيض بها ... كالسيل لكنه ينجي من الغرق
فلما وقف عليها أرسل له شيئاً له صورة.
علي بن عبد العزيزالخطيب الكبير عماد الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين بن السكري.
كان فيه وجاهة وصدراه، وحشمة ترشحه للوزارة، جهز إلى التتر رسولاً وبلغ برسالته مآرب وسولا، وأحسن السفارة فيما توجه فيه، ورغب أولئك القوم في تلاف من عانده وتلافيه، وعاد إلى القاهرة، وصارت له بذلك ترجمة نادرة.
ولم يزل على حاله إلى أن قال له داعي الموت حيهل، ونهل من حوض المنايا مع من نهل.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر صفر في السادس والعشرين منه سحر يوم الجمعة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده خامس عشري المحرم سنة خمس وثلاثين وست مئة.
وكان يدرس بمشهد الحسين بالقاهرة، وبمدرسة منازل العز بمصر. وكان خطيباً بالجامع الحاكمي، وولي إمامة مشهد السيدة نفيسة والنظر على أوقافه. وكان مشهوراً بين رؤساء الديار المصرية، وعنده عقل وافر وديانة.

قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن جده لأمه الشيخ بهاء الدين بن الجميزي، وحدث بالقاهرة وبدمشق، وأظنه كان مفتي دار العدل.
علي بن عبد الغنيالفقيه المعمر العدل علاء الدين بن تيمية ابن خطيب حران ومفتيها، الشيخ مجد الدين.
كان هذا علاء الدين شروطياً بمصر.
روى عن الموفق عبد اللطيف وابن روزبه، وكان شاهداً عاقلاً عاقداً مرضياً.
توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده بحران سنة تسع عشرة وست مئة. حمل عنه المصريون.
علي بن عبد الكافيابن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علي بن مسوار بن سوار بن سليم: الغمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الخاشع البارع، والعلامة شيخ الإسلام، حبر الأمة، مفتي الفرق، المقرئ، المحدث، الرحلة، المفسر، الفقيه، الأصولي، البليغ، الأديب، المنطقي، الجذلي، النظار. جامع الفنون، علامة الزمان، قاضي القضاة أوحد المجتهدين تقي الدين أبو الحسن الأنصاري الخزرجي السبكي الشافعي الأشعري.
يا سعد هذا الشافعي الذي ... بلغه الله تعلى رضاه
يكفيه يوم الحشر أن عد في ... أصحابه السبكي قاضي القضاة
أما التفسير فيا إمساك ابن عطية، ووقوع الرازي معه في رزية.
وأما القراءات فيا بعد الداني، وبخل السخاوي بإتقان السبع المثاني.
وأما الحديث فيا هزيمة ابن عساكر، وعي الخطيب لما أن يذاكر.
وأما الأصول فيها كلال حد السيف، وعظمة فخر الدين كيف تحيفها الحيف.
وأما الفقه فيا وقوع الجويني في أول مهلك من نهاية المطلب، وجر الرافعي إلى الكسر بعد انتصاب علمه المذهب في المذهب.
وأما المنطق فيا إدبار دبيران وقذى عينه، وانبهار الأبهري وغطاء كشفه، بمينه.
وأما الخلاف فيا نسف جبال النسفي، وعمى العميدي، فإن إرشاده خفي.
وأما النحو فالفارسي ترجل له يطلب إعظامه، والزجاجي تكسر جمعه وما فاز بالسالمة.
وأما اللغة فالجوهري ما لصحاحه قيمة، والأزهري أظلمت لياليه البهيمة.
وأما الأدب فصاحب الذخيرة استعطى، وواضع اليتيمة تركها، وذهب إلى أهل يتمطى.
وأما الحفظ فما سد السلفي خلة ثغره، وكسر قلب الجوزي لما أكل الحزن لبه وخرج من قشره.
هذا إلى إتقان فنون يطول سردها، ويشهد الامتحان أنه في المجموع فردها، واطلاع على معارف أخر، وفوائد متى تكلم فيها قتل بحر زخر، وإذا مشى الناس في رقراق علم كان هو خائض اللجة. وإذا خبط الأنام عشواء سار هو في بياض المحجة.
وأما الأخلاق فقل أن رأيتها في غيره مجموعة، أو وجد في أكياس الناس دينار على سكتها المطبوعة؛ فم بسام، ووجه بين الجمال والجلال قسام، وخلق كأنه نفس السحر على الزهر نسام، وكف تخجل الغيوث من ساجمها، وتشهد البرامكة أن نفس حاتم في نقش خاتمها، وحلم لا يستقيم معه الأحنف، ولا يرى المأمون معه إلا خائناً عند من روى أو صنف، ولا يوجد له فيه نظير ولا في غرائب أبي محنف، ولا يحمل حلمه بل، فإنه جاء بالكيل المكنف.
لم أره انتقم لنفسه مع القدرة، ولا شمت بعدو هزم بعد النصرة، بل يعفو ويصفح عمن أجرم، ويتألم لمن أوقد الدهر نار حربه وأضرم، ورعاية ود لصاحبه الذي قدم عهده، وتذكر لمحاسنه التي كاد يمحوها بعده، طهارة لسان لم يسمع منه في غيبة بنت شفة، ولا تسف طيور الملائكة منه على سفه. وزهد في الدنيا وأقلامه تتصرف في الأقوال، وتفضها على مر الأيام والجمع والأشهر والأحوال، واطراح للملبس والمأكل، وعزوف عن كل لذة، إعراض عن أغراض هذه الدنيا التي خلق الله النفوس إليها مغذه.
وهذا ما رآه عياني، وختم عليه جناني، وأما ما وصف لي من قيام الدجى، والوقوف في موقف الخوف والرجا، فأمر أجزم بصدقه، وأشهد بحقه، فإن هذا الظاهر لا يكون له باطن غير هذا، ولا يرى غيره حتى المعاد معاذا:
عمل الزمان حساب كل فضيلة ... بجماعة كانت لتلك محركه
فرآهم متفرقين على المدى ... في كل فن واحداً قد أدركه
فأتى به من بعدهم فأتى بما ... جاؤوا به جمعاً فكان الفذلكة
وتصانيفه تشهد لي بما ادعيت، وتؤيد به ورويت، فدونك وإياها، وترشف كؤوس حمياها، وتناول نجومها إن وصلت إلى ثرياها.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16