كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

له الورى لازموا إلا القليل تُقىً ... وضيّعوا كل ذي قربى وذي رحمِ
وغيرُ بدعٍ إذا سرنا مسيرهم ... والناس أشبه بالأزمان في الشيم
ولو قدرْتُ على ما أرتضيه لكم ... سَيَّرت شمس الضحى والبدر في الظِّلم
وقد أشرت بزَنْبيلي إلى صفتي ... من كُدْيَتي لذوي الأيسار والعَدَمِ
فكتب الجواب إليه في غير الوزن، وهو تقصير:
يا خير مَنْ أمسكت أنامله الق ... رطاس للرقم فيه بالقلم
وخيرَ مَنْ خَصّه الإله وإن ... عمَّ البرايا بالعِلمِ والعلمِ
ومَنْ له منطقٌ بلاغتُه ... قد بلّغته جَوامعَ الكَلِمِ
مَنْ ذا يطيق الجواب عن أدبٍ ... منثّرٍ جوهراً ومنتظِمِ
موجّهاً أتعبت غوامضُهُ ... مقاصداً كل مِدْرَهٍ فَهِمِ
ألغزَ فيه محبّباً وكنى ... عمّا تلاه الزيتون في القسمِ
لفظٌ له معنيان مشترك ... دلّ على مفعم ومهتضمِ
حقّق فكري بالحدس مقدصه ... وليس فكري عندي بمتّهم
للغير ما قد أتى مغايرةً ... إلى فقيرٍ أشقى من العدمِ
فتينُ حوران ما مآكله ... لا أحورٌ بالجمال متِّسمِ
أنزله الله بالأثير إذا ... ما دار مثل الكثبان والأكم
مركزه والمحيط منه به ... لربّه نعمةٌ من النعم
من اصطكاك الأجرام فيه لها ... بمٌّ وزيرٌ يا طيّب النغم
وربّما عاد ربّه ولَه ... مدارع كالمداد للقلم
لكنّ ذا أصفرٌ وذاك غدا ... كالقار في حُلكةٍ وكالفحم
مضمّخاً من لطيمةٍ خلق الخَ ... لوق منها للمعَسر اللطمِ
لا زال تينُ الوتين ملتقطاً ... له وتين الأشجار من قسمي
وقد اعتصّ الزنبيل من ذل ... ك التين زبيباً تراه كالعَنَمِ
وهو كثير من يابس صفرت ... وَطاته من نوائب حُطمِ
من ابن هاني شيخ القريض ومن ... ميمون قيس وأشجع السلمي
وهم ملوك القريض قادته ... ومُنْشِؤوه من سالف القدمِ
فما عسى أن يقوله رجُلٌ ... جُمَيز بستان رأسه بَلمي
ومنه:
إن عتبا فعُذرنا قد نحققْ ... حين فارقتم الرفاق وجلق
كنتم روحَهم فصاروا جسُوماً ... مُزّقت بالغرام كل ممزّق
وكذا الروح إذ تفارق جسماً ... بعد وصل أوصاله تتفرّق
ومنه، دو بيت:
يا حُسنَ ذؤابةٍ بدت للناس ... في أسمر رمحٍ قدّه المياس
ما واصل إلا قلت إنّي مَلكٌ ... أولوه لواءً من بني العبّاس
ومنه:
وشادن زارني ليلاً فقلت له: ... في حسن وجهك ما يغني عن القمر
فخلّنا بك نخلو لا سمير لنا ... ففي حديثك ما يغني عن السمر
وأنشدني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى، قال: أنشدني من لفظه لنفسه ابن السَّلاّر:
لعمرك ما مصرٌ بمصر وإنما ... هي الجنّة العُليَا لمن يتفكَّر
وأولادها الوِلدان من نسل آدم ... وروضتها الفردوس والنيل كوثرُ
ومن نظمه القصيدة الميميّة التي سمّاها القصيدة المُشِيعة لعقيدة الشِّيْعة، أولها:
سلام على أهل الهدى والتعلّم ... لطُرقْ الهدى من آخر ومقدّمِ
أبو بكر بن أحمد بن محمد ابن النجيب بن سعيد، الشيخ الأمين المقريء، شرف الدين الخلاطي الدمشقي سبط الشيخ أحمد إمام الكَلاّسة.
سمع من ابن عبد الدائم، وعمر الكرماني، وابن أبي اليسر، وعلي بن الأوحد، ومحمد بن النشبي، والمجد محمد بن عساكر، وغيرهم.
وكان رجلاً جيداً، ولي إمامة الكلاسَة، وتركها ووليَ إمامة مشهد ابن عروة، وله إثبات وإجازات.

قال شيخنا علم الدين البرزالي: رافقته في الحج سنة عشر وسبع مئة، وقرأت عليه ببطن مَرٍّ، وبمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشري شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة. وكان ابتداء مرضه في العشر الأواخر من شهر رمضان، صلى ودعا، وحضر إلى بيته وهو لا يتكلم، ثم إنه مرض وتغيّر ذهنه، واستمر على ذلك إلى أن مات، وحرص أهله على أن يجيبهم أو يتكلم معهم فلو يسمَعُوا منه شيئاً، وكان يظهر عليه أنه يفهم كلامهم، ويبكي رحمه الله تعالى.
أبو بكر بن محمد بن إبراهيم ابن أبي بكر بن خِلطان: الشيخ القاضي نجم الدين بن القاضي بهاء الدين.
سمع المقامات من ابن أبي اليسر، وكتب عنه من شعره، وحدّث بالإجازة عن سبط السِّلفيّ.
كان فقيهاً يعرف الفرائض، ويُجيد ما في مسائلها من الغوامض، وتولّى ببعض البلاد الشامية والنواحي التي يغلبُ على أهلها العاميّة، إلا أنه كان في عقله اضطراب، بل في عقيدته الباطلة، ورُمي بأشياء ما نجا معها من السيف إلا لما لأجله من المدافعة والمماطلة. وكان يعتقد أنه يكون له دوله، وأن تسل السيوف إذا مشى حَولَه.
ولم يزل على ذلك إلى أن مات بغصّته، ولم يحصل له من الملك بعض حصّته.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة. وقد قارب الثمانين، وكان بالمدرسة الناصرية بالقاهرة.
/الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم

بقية الكنى
أبو بكر بن محمد بن سلمان
ابن حمايل: القاضي الفاضل الكاتب بهاء الدين بن القاضي شمس الدين بن غانم أحد الإخوة، تقدم ذكر أخيه شهاب الدين أحمد في الأحمد في الأحمدين، وسيأتي ذكر أخيه القاضي علاء الدين بن غانم في مكانه من حرف العين.
كان كاتباً بليغاً، لا يبيت من العي لديغا، إلا أن حظه لم يكن قويا، ولا هو في طريق المنسوب يرى سويا. وكان له ميل إلى الصور الجميله، والجفون الكحيله، والوجنات الأسيله، إذا رآها هام فيها صبابه، وذهبت نفسه إلا صبابه، على ما عنده من العفه، وثقل المسكة التي لا توازنها الشهوة بالخفه، وعليه روح في السماع، وحركات لا يخرج بها عن الضرب والإيقاع. يدور ودموعه سائله، ونفسه من الوجد زائله، فيجد الناس به أنسا، ويرون منه ما يسمعونه عن كآبة الخنسا.
كان كاتب إنشاء بطرابلس في أيام الأمير سيف الدين أسندمر، ثم إنه حضر إلى دمشق وكتب الإنشاء عند الصاحب شمس الدين بدمشق، ثم لما جرى للقاضي زين الدين عمر بن حلاوات ما جرى على - ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة عمر - جهز القاضي بهاء الدين بن غانم عوضه إلى صفد موقعاً، فأقام بها بين يدي نائبها الحاج أرقطاي تقدير تسع سنين.
ولما توفي زين الدين بن حلاوات موقع طرابلس نقل إليها القاضي بهاء الدين بن غانم، فتوجه إليها وأقام بها إلى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، فقضى بها نحبه، وفارق من ألفه وأحبه في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر من السنة، وكان قد حفظ التنبيه، ومن مسموعاته مسند الإمام أحمد على ابن علان.
وكان في صفد قد حصل له ميل إلى مغن يدعى طقصبا، وصار يعمل به السماع في كل ليلة، وقرر ذلك كل ليلة عند واحد من أكابر الناس. وأنشدني من لفظه لنفسه:
لا ترجّى مودةٌ من مغنّ ... فمعنّى الفواد من يرتجيها
أبداّ لا تنال منه وداداً ... ولك الساعة التي أنت فيها
وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه:
كدت أبلى ببليّه ... من جفونٍ بابليّه
فتكت في القلب لكن ... كانت التقوى تقيّه
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يا من غدا مشتغلاً ... عمن به يشتغل
بيتك قلبي وهو من ... هجرك لي يشتعل
وأنشدني من لفظه لنفسه في بدر الدين بن الخشاب مشد صفد وشرف الدين بن كسيرات الناظر وكانت له عذبة:
يا ماعرا صفداً مذ حلّ منصبها ... وحلّ بالشدّ عقداً من مآثرها
دقّت بدرّة نحسٍ لا خلاق له ... أما تراها علت أكتاف ناظرها
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يا سيّداً حسنت مناقب فضله ... فعلت بما فعلت على الآفاق
حاشاك تكسر قلب عبدٍ لم يزل ... توليه حسن صنائع الإشفاق

هب أنه أخطا وأذنب مرّةً ... مولاي أين مكارم الأخلاق
كتب هو إلي من طرابلس وأنا مقيم بدمشق، وقد تأخرت مكاتباتي عنه، ثلاثة أوصال ورق أبيض وفي ذيلها مكتوب، ولم يك فيها غير ذلك:
سبحان من غيرّ أخلاق من ... أحسن في حسن الوفا مذهبا
كان خليلاً فغدا بعد ذا ... لمّا انقضى ما بيننا طقصبا
أشار بذلك إلى أمر طقصبا المذكور، وكان له عم أسود زوج أمه يدعى خليلاً، وكان ينغص علينا الاجتماع بحضوره، ولما كتب هذه كان طقصبا المذكور رحمه الله تعالى قد توفي بصفد من مدة، فحسن لذلك إبراز هذين البيتين في هذه الصورة، فكتبت أنا الجواب:
يا باعث العتب إلى عبده ... وما كفاه العتب أو ندّبا
ومذكري عهداً لبسنا له ... ثوب سرور بالبها مذهبا
مرّ فلم يحل لنا بعده ... عيش ولم نلق الهوى طيّبا
ما كلّ ذي ودّ خليلٌ ولا ... كلّ مليح في الورى طقصبا
فحبّذا تلك الليالي التي ... كم يسّر اللّه بها مطلبا
ما أحدٌ في مثلها طامعٌ ... هيهات فاتت في المنى أشعبا
وينهي بعد دعاء يرفعه في كل بكرة وأصيل، وولاء حصل منه على النعيم المقيم، ولا يقول: وقع في العريض الطويل، وثناء إذا مر في الرياض النافحة صح أن نسيم السحر عليل، وحفاظ ود يتمنى كل من جالسه لو أن له مثل المملوك خليل، ورود المثال الكريم، فقابل منه اليد البيضاء بل الديمة الوطفاء، بل الكاعب الحسناء، وتلقى منه طرة صبح ليس للدجا عليها أذيال، وغرة نحج ما كدر صفاها خيبة الآمال، فلو كان كل وارد مثله لفضل المشيب على الشباب، ونزع المتصابي عن التستر بالخضاب، ورفض السواد ولو كان خالاً على الوجنه، وعد المسك إذا ذر على الكافور هجنه، وأين سواد الدجا إذا سجى من بياض النهار إذا انهار، وأين وجنات الكواعب النقية من الأصداغ المسودة بدخان العذار، وأين نور الحق من ظلمة الباطل، وأين العقد الذي كله در من العقد الذي فيه السبج فواصل، يا له من وارد تنزه عن وطء الأقلام المسوده، وعلا قدره عن السطور التي لا تزال وجوهها بالمداد مربده حتى جاء يتلألأ ضياء ويتقد، وأتى يتهادى في النور بالذي تعتقد فيه المجوسية ما تعتقد، ولكن توهم المملوك أن تكون صحف الود أمست مثله عفاء، وظن بأبيات العود السالفة أن تكون كهذه المراسلة من الرقوم خلاء:
لو أنها يوم المعاد صحيفتي ... ما سرّ قلبي كونها بيضاء
فلقد سودت حال المملوك ببياضها، وعدم من عدم الفوائد البهائية ما كان يغازله من صحيحات الجفون ومراضها، وما أحق تلك الأوصال الوافدة بلا إفاده، الجائدة بزيارتها التي خلت من الجود بالسلام وإن لم تخل زورتها من الإجاده، أن ينشدها المملوك قول البحتري. أبي عبادة:
أخجلتني بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء
وقطعتني بالوصل حتى إنني ... متخوّفٌّ أن لا يكون لقاء
يا عجباً كيف اتخذ مولانا هذا الصامت رسولاً بعد هذه الفترة، وكيف ركن إليه في إبلاغ ما في ضميره ولم يحمله من در الكلام ذره، وكيف أهدى عروس تحيته ولم يقلدها من كلامه بشذره، ما نطق هذا الوارد إلا بالعتاب مع ما ندر وندب، ولا أبدى غير ما قرر من الإهمال وقرب.
و:
على كلّ حالٍ أمّ عمرو جميلةٌ ... وإن لبست خلقانها وجديدها
وبالجملة فقد مر ذكر المملوك بالخاطر الكريم، وطاف من حنوه طائف على المودة التي أصبحت كالصريم، وإذا كان الشاعر قد قال:
ويدلّ هجركم على ... أنّي خطرت ببالكم
فكيف بمن دخل ذكره الضمير وخرج، وذكر على ما فيه من عوج، وما استخف بي من أمرني ومن ذكرني ما حقرني، والله تعالى يديم حياته التي هي الأمان والأماني، ويمتع بألفاظه الفريدة التي هي أطرب من المثالث والمثاني بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
فكتب هو إلي الجواب عن ذلك:
يا هاجراً من لم يزل قلبه ... إليه من دون الورى قد صبا
أرسلت من بعد الجفا أسطراً ... أرقص منها السمع ما أطربا
شفت فؤاداً شفّه وجده ... من بعدما قد كاد أن يذهبا

قال لها العبد وقد أقبلت ... أهلاً وسهلاً بك يا مرحبا
أحلّها قلباً صحيح الولا ... ما كان في صحبته قلّبا
ولا نسي عهد خليل له ... قديم عهد كان مع طقصبا
وقبل مواقع تلك الأنامل التي يحق لها التقبيل، وقابل بالإقبال تلك الفضائل المخصوصة بالتفضيل، وقابلها بالثناء الذي إذا مر بالمندل الرطب جر عليه من كمائم اللطف وكمه فضل المنديل، وتأملها بطرف ما خلا من تصور محاسن صديق ولا أخل بما يجب من التلفت إلى خليل، وشاهد منه الروضة الغناء، بل الدوحة الفيحاء، بل الطلعة الغراء، فوجدها قد تسربلت من المحاسن البديعة بأحسن سربال، وتحلت من المعاني البديهة بما هو أحلى في عين المحب المهجور وقلبه من طيف الخيال. لكن مولانا غاب عن مملوكه غيبةً ما كانت في الحساب، وهجره وهو من خاطره بالمحل الذي يظنه إذا ناداه بالأشواق أجاب، واتخذ بدعة الإعراض عن القائم بفرض الولاء سنه، واشتغل عمن له عين رضىً عن نسيان ما مضى من كليلة ودمنه، فخشي المملوك من تطاول المده، وخامر قلبه تقلبات الأيام، فخاف أن تبقى أسباب المقاطعة ممتده، ووثق بما يتيقن من حسن الموافاة ويعتقد، فاقتضى حكم التذكار لطف الاقتصار، توصلا إلى تفقد التودد، ومن عادات السادات أن تفتقد بذكر أيام خلت مسرة وهناء، وليال أحلى من سواد الشباب، أولت بوصال الأحباب اليد البيضاء.
لو أنّ ليلات الوصال يعدن لي ... كانت لها روح المحبّ فداء
فيالها من مليحة أقبلت بعد إعراضها، ولطيفة رمقت بإيماء جفن مواصلتها وإيماضها، وبديعة استخرج غواص معانيها من بحار معانيها كل دره، وصنيعة أبدى نظام لآليها من غرر أياديها أجمل غره، ورفيعة جددت السرور وشرحت الصدور فعلت بما فعلت إكليل المجره، ومتطولة رغبت المقصر فيما يختصر وحببت، ومتفضلة قضت بحق تفضيلها على ما سبق وأوجبت:
مودّتها في مهجتي لا يزيلها ... بعاد ولا يبلي الزمان جديدها
والله يشكر ما خوله من فضل هذه المعالي والمعاني، ويمتع بفضائله التي تغني أغانيها عن المثالث والمثاني.
وبيني وبينه مكاتبات ومراجعات غير هذه، وقد أوردت شيئاً من ذلك في كتابي ألحان السواجع.
وأخبرني يوماً أنه زار قبر طقصبا المذكور فوجد قبره قد نبت به أنواع من الزهر، وطلب مني نظم شيء في ذلك فأنشدته أنا لنفسي:
بنفسي حبيب قبره راح روضةً ... خمائلها مسروقةً من مخايله
درى أنّه لا صبر للناس بعده ... فأهدى لهم أنفاسه في شمايله
وأنشدته أيضاً لنفسي:
لا تنكروا زهراً من حول تربته ... أضحى نسيم الصّبا من نشرها عطرا
هذه محاسن ذاك الوجه غيّرها ... بطن الثرى فاستحالت فوقه زهرا
وأنشدته أيضاً لنفسي:
أفدي حبيباً غدا في الترب مضجعه ... وفي لذّ لجفني الدمع والسهر
تحكي نجوم السما أزهار تربته ... لأنّ طلعته تحت الثرى قمر
وأنشدني هو لنفسه في ذلك..
أبو بكر بن محمد بن محمودابن سلمان بن فهد، القاضي الكاتب الرئيس البليغ شرف الدين بن القاضي شمس الدين بن القاضي شهاب الدين، كاتب السر بالشام ومصر وابن كاتب السر بالشام وابن كاتب السر بالشام، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر والده وجده في مكانيهما من حرف الميم.

كتب الخط الذي فاق، وسارت بأنباء محاسنه الرفاق، وتسرع ليتعلم لطفه النسيم الخفاق، وأبرزه مثل النجوم الزهر، فما تطلع منه كوكب إلا فاق في الآفاق، أتقن الرقاع ومزجه بالنسخ فجاء بديع المنظر، رائق المرأى قد سمج ورد الخد الأحمر لما تسيج بآس العذار الأخضر، وجود النسخ والثلث فما داناه فيهما كاتب في زمانه، وأبرزهما من القوة والصفاء في قالب يود لو نقطه الطرف بإنسانه، لو عاصره ابن البواب لكان مثل أبيه على بابه، أو ابن مقلة لعلم أنه ما يرضى به أن يكون من أضرابه، أو ابن العديم لعدم رقة حاشيته، وتطفل مع الوزارة لأن يكون من جملة حاشيته، هذا إلى نظم يترقرق زلاله، ونثر يفيء على نهر الطروس ظلاله، قد درب كتابة المطالعة ومهر، وزاد على إتقان أبيه وجده فيهما وظهر، هذا إلى شكل قل أن ترى مثله العيون، أو تقتضى من غير محاسنه ديون، وكرم نفس يخجل الغمائم، ولطف شمائل تفرد بالثناء عليها خطباء الحمائم، وحفاظ ود، ووثوق عهد وسلامة باطن، وبراءة من الخبث الذي تراه وهو في كثير من الناس مباطن.
ولي كتابة السر بدمشق بعد القاضي محيي الدين بن فضل الله، لأن القاضي علاء الدين بن الأثير لما انقطع بالفالج في سنة تسع وعشرين وسبع مئة، طلب السلطان القاضي محيي الدين وولده القاضي شهاب الدين والقاضي شرف الدين وولاه كتابة السر بدمشق، وأجلسه قدامه بدار العدل بقلعة الجبل، وقرأ قدامة القصص ووقع عليها في الدست، ورسم له أن يحضر دار العدل في دمشق، وأن يوقع على القصص بين يدي الأمير سيف الدين تنكز، فهو أول كاتب سر جلس في دار العدل، ولم يكن كتاب السر يجلسون قبل ذلك في الخدمة، فباشر ذلك.
وكان إذا توجه مع نائب الشام إلى مصر يحضره السلطان قدامه ويخلع عليه وينعم عليه، وكان يعجبه شكله كثيراً ويقول لألجاي الدوادار: يا ألجاي، هذا شرف الدين كأنه ولد موقعاً. ويروق له شكله وسمته، ويعجبه لباسه.
فلما توجه مع الأمير سيف الدين تنكز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة ولاه السلطان كتابة سر مصر، وجهز القاضي محيي الدين وأولاده إلى دمشق، وتوجه القاضي شرف الدين مع السلطان إلى الحجاز، ووقع بينه وبين الأمير صلاح الدين الدوادار، وطال النزاع بينهما وكثرت المخاصمات، ودخل الأمير سيف الدين بكتمر الساقي رحمه الله تعالى بينهما وغيره، فما أفاد، فقلق القاضي شرف الدين وطلب العود إلى دمشق ولم يقر له قرار، فأعاده السلطان إلى دمشق، وطلب القاضي محيي الدين وأولاده إلى مصر وأقرهم على ما كانوا عليه. وكانت ولايته كتابة السر بمصر تقدير ثمانية أشهر، ولما عاد فرح به تنكز وقام له وعاتقه وقال له: مرحباً بمن نحبه ويحبنا وأقام بينه وبين حمزة التركماني الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الحاء مكانه، فأوحى إلى تنكز ما أوحاه من المكر الخديعة والافتراء، فكتب تنكز إلى السلطان، فعزله بالقاضي جمال الدين عبد الله بن كمال الدين بن الأثير، وبقي في بيته بطالاً مدة، فكتب السلطان إلى تنكز يقول له: إما أن تدعه يوقع قدامك وإما أن تجهزه إلينا، وإما أن ترتب له ما يكفيه، فرتب له ثلاث مئة درهم وثلاث غرائر، ولما أمسك تنكز رسم السلطان أن يكون موقعاً في الدست بدمشق وولده شهاب الدين المقدم ذكره كاتب درج، فاستمر على ذلك إلى أن تولى الملك الصالح إسماعيل، فولاه وكالة بيت المال بالشام مضافاً إلى ما بيده، فأقام في الوكالة سنة أو قريباً منها، ثم إنه توجه إلى القدس للوقوف على قرية يشتريها الأمير سيف الدين الملك ليوقفها على جامعه بالقاهرة، فتوفي رحمه الله تعالى فجأة، لأنه دخل إلى بيت الخلا، فما خرج منه إلا إلى سرير البلى.
ووفاته رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
وكان رحمه الله تعالى عنده تجمل كثير زائد في أكله وملبسه ومركوبه، وكرم نفس، وفيه تصميم وبسط إذا خلا بمن يثق إليه، وكان فيه خواص، منها أنه يحلق رأسه بالموسى بيده، ويلف شاشة على طاقية من غير قبع فرد مرة ويصلحها بيده، وهي على رأسه ولا ينظر إليها وهي من أحسن ما يكون، وكان شديد القوى ذا همة وبطش.
أنشدني من لفظه لنفسه:
واللّه قد حرت في حالي وفي عملي ... وضاق عمّا أرجّي منكم أملي

أبيت والشوق يذكي في الفؤاد لظى ... نارٍ تؤجج في الأحشاء ذي شعل
ويصبح القلب لا يلهو بغيركم ... وأنتم عنه في لهوٍ وفي شغل
اللّه في مهجةٍ قد حثّها أجلٌ ... إن لم يكن صدّكم عنّي إلى أجل
وأنشدني من لفظه لنفسه:
على خدّه الورديّ خالٌ منمّقٌ ... عليه به للحسن معنىً ورونق
وفي ثغره الدرّ النظيم منضّدٌ ... يجول به ماء الحياة المروّق
وما كنت أدري قبل حبّه ما الهوى ... إلى أن تبدّى منه خصرٌ ممنطق
عليه من الحسن البديع دلائلٌ ... تعلّم ساليه الغرام فيعشق
وأنشدني من لفظه لنفسه:
رأت مقلتي من وجهه منظراً أسنى ... يفوق على البدر المنير به حسنا
غزالٌ من الأتراك أصل بلّيتي ... معاطفه النشوى وألحاظه الوسنى
رنا نحونا عجباً وماس تدلّلاً ... فما أرخص الجرحى وما أكثر الطعنا
له مبسم كالدر والشّهد ريقه ... وليس به لكنّه قارب المعنى
وأنشدني يوماً من لفظه لنفسه ملغزاً في ليل:
أيّما اسمٍ يغشى الأنام جميعا ... وإذا فكّرت لي ثلثاه
أن تزل في هجائه منه حرفاً ... لك منه مصحّفاً طرفاه
فأنشدته أنا لنفسي ملغزاً في فيل:
أيّما اسم تركيبه من ثلاث ... وهو ذو أربعٍ تعالى الإله
حيوانٌ والقلب منه نبات ... لم يكن عند جوعه يرعاه
فكيف تصحيفه ولكن إذا ما ... رمت عكساً يكون لي ثلثاه
وأنشدني يوماً لنفسه:
بعثت رسولاً للحبيب لعلّه ... يبرهن عن وجدي له ويترجم
فلمّا رآه حار من فرط حسنه ... وما عاد إلاّ وهو فيه متيّم
فأنشدته أنا لنفسي:
بي غزالٌ لمّا أطعت هواه ... أخذ القلب والتصبّر غصبا
ما أفاق العذول من سكرة العذ ... ل عليه حتى غدا فيه صبّا
وكتب هو إلي وأنا بالقاهرة يطلب مني الحضور إلى دمشق ليجهزني إلى الرحبة موقعاً:
يا فاضلاً فخر الورى بخلاله ... وعلا على أفق العلا بجلاله
فقلوبنا من شوقها جمراتها ... لم يطفها بالدمع فيض سجاله
فاجعل لنا من تبر فضلك فضلةً ... يغنى بها المضرور عند سؤاله
فكتبت أنا الجواب إليه:
شرّف دمشق أن ارتضيت بزورةٍ ... واشف الجوى من كلّ قلب واله
فلقد ملأت ديار مصر فضائلاً ... كم فاض منها النيل عند نواله
إن الكريم هو الجواد على الذي ... قد راح يسأل ما له في ماله
قم في الدّجى حتى الصباح وواله ... بدعا يقوه ببعض حقّ نواله
وأمل بما تمليه أعطاف الورى ... واحمد أبا بكرٍ على أفضاله
واسجع فإنّك ما برحت مطوّقاً ... إمّا بضافي جاهه أو ماله
مولىً غفلت ونمت عن ليل المنى ... فأبى وصيّرها شواغل باله
واستاقها غرّاً إليك وأنت لم ... تحتج إلى تحريكه بسؤاله
والبرّ أفضل ما أتى عفواً ولم ... تقبض يد الراجي حبال نواله
هذا هو الفضل الذي فضح الحيا ... وسما بجدواه على هطّاله
تلهو بنو الآمال عن مطلوبها ... علماً بأن لهم كريم خلاله
كرمٌ يفيض على العفاة سحابه ... ويسحّ وابله على استرساله
للّه سعيك في المعالي إنّه ... جعل الثريّا في عداد نعاله
وغدا يجرّ على المجرّة ساحباً ... يوم الفخار الفضل من أذياله
وسعى فأدرك غايةً من أمّها ... قامت ذراريها مقام ذباله
ما عاق نائله عن العافي مدى ... وعدٍ ولا شان العطا بمطاله
يا آل محمودٍ ليهنىء مجدكم ... شرفٌ أناف على الورى بجلاله

أقسمت ما لشبا السيوف إذا مضت ... في يوم معركةٍ جلاد جداله
كلاّ ولم ير قطّ بحراً مدّ من ... أمواهه ما بثّ من أمواله
خطٌّ أظنّ الروض جوّد عندما ... شقّت كمام الزهر تحت مثاله
وتلفّظٌ إن قلت سحرٌ لم يسع ... ني أن يكون حرام ذا كحلاله
وخلائق كالروّض أهدى نشره ... مرّ النسيم على ذوائب ضاله
وسياسةٌ طاش العدوّ لها وقد ... سكن الوليّ وقرّ من زلزاله
فاللّه يحرس للزمان بقاءه ... ويمتّع الدنيا بفضل كماله
وكتب هو إلي ونحن على الأهرام صحبة الركاب الشريف ملغزاً في القرط:
ما اسم ثلاثيّ ترى ... حلّته مفوّفه
اعمد إلى تركيبه ... فيه وصحف أحرفه
تجد جنىً يبطىء في ال ... عود به من قطفه
واعكسه إن تركته ... من بعد أن تحرّفه
تجد به ذا طرق ... بين الورى مختلفه
أبنه يا من فضله ... يعز من قد وصفه
فكتبت أنا إليه الجواب عن ذلك:
يا سيّداً قد زانه ... ربّ العلا وشرّفه
وقدّر الصّواب في ... أقلامه المحرّفه
وأوضح الفضل لمن ... يطلبه وعرّفه
أبدعت لغزاً حسناً ... صفاته مستطرفة
مثلّث الحروف كم ... ربّع ربّ معرفه
خضرته يانعة ... بهيئةٍ مشرّفه
كم زان أرضاً أقفرت ... ووجنةً مزخرفه
فالثلث منه سورة ... آياتها مشرّفه
بل جبلٌ أحاط بال ... أرض وذاك مغرفه
وانظر لثلثيه تجد ... كليهما في طرفه
بقيت ما جرّ النسي ... م في الرياض مطرفه
في ظلّ سعدٍ يرتقي ... من النعيم غرفه
وكتب هو إليّ أيضاً ملغزاً في حلفا:
يا ماجداً نجهد في وصفه ... وفضله من بعد ذا أوفى
ما اسمٌ إذا ما رمت إيضاحه ... عزّ وعن فكرك لا يخفى
وهو رباعيّ وفي لفظه ... تراه حقاً ناقصاً حرفا
صحّفه واحذف ربعه تلفه ... مدينةً كم قد حوت لطفا
وهذه البلدة تصحيفها ... خلقٌ يفوت الحدّ والوصفا
وإن تصحّف بعضها فهي ما ... زالت ترى في أذنٍ شنفا
وذلك الاسم على حاله ... حرّفه يرجع للصّبي جلفا
لم ير ذا حرب وكم شبّ من ... نارٍ لغير الرّوع ما تطفا
وإن تشأ صحّفه وانظر تجد ... خلقا سويا قطّ ما أغفى
أبنه يا من فكره لم يزل ... يرفع عن بكر النهى سجفا
لا زلت تبدي للورى كلّ ما ... يستوقف الأسماع والطّرفا
فكتبت أنا إليه الجواب عن ذلك:
يا سيّداً ألسن أقلامه ... كم صرفت عن عبده صرفا
ومحسنا ما زال طيب الثنا ... عيه حتى زيّن الصّحفا
ألغزت شيئاً لم يلن مسّه ... فراح إن صحّفته جلفا
ومفردٍ إن ألفٌ عوّضت ... أولاه يرجع بعد ذا ألفا
ونصفه حلّ وإن تحذف ال ... أوّل من أحرفه لفّا
وليس بالبدر على أنّه ... بالليل كم قد نزل الطّرفا
أمامنا في برّ مصر وإن ... صحّفت يصبح بعد ذا خلفا
إن زاحم الشاعر يذكر به ... كشاجماً في الحال والرّفّا
لا زلت ترقى في العلا صاعداً ... ما نظم الشاعر أوقفّا
في ظلّ عيش قد صفا ورده ... وراح بالإقبال قد حفّا
وكتب هو إلي ملغزاً في الهواء:
أيا ماجداً ما دهى فضله ... ونجم مكارمه ما هوى
أبن أيّما اسم خفى منظراً ... وخفّ ويلفى شديد القوى
ولا وزن فيه وفي وزنه ... إذا أنت حقّقت عمداً سوى

فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
أيا من تقصّر أمداحنا ... وأوصافنا فيه عمّا حوى
كأنك ألغزت لي في الذي ... غدا وله النشر فيما انطوى
إذا مرّ في الروض خرّت له ... غصون الأراك وبان اللوى
يمدّ ويقصر في لفظه ... فللجوّ هذا وذا للجوى
وكتبت أنا إليه وهو بدمشق، وكنت يومئذ بصفد وقد جهز إلي نقدة ذهب:
يا نسمةً لأحاديث الحمى نقلت ... أملت قضب اللّوى من بعدما اعتدلت
خطرت ما بينها فاعتادها طربٌ ... فرنّحت عطفها بالسكر وانفتلت
فإن تكن فهمت معنى ظفرت به ... فعذرها واضح في كلّ ما فعلت
قد كان للمسك أنفاسٌ تضوع شذاً ... فمذ أتيت بأخبار الحمى خملت
باللّه كيف أحبّائي الذين نأت ... بي المنازل عن أقمارهم وخلت
قد كنت أبديت أعذاراً لقلبي فال ... بقاء من بعدهم باللّه هل قبلت
وهل عفا اللّه عنهم حال عهدهم ... فمهجتي ما انثنت عنهم ولا انتقلت
آهاً من البعد آهاً إنّ لي كبداً ... تضرّمت بلغى الأشواق واشتعلت
وأدمعاً إن جرى ذكر الوصال جرت ... شؤونها فتخال السّحب قد هطلت
ومهجةً سئلت لو كان ينفعها ... بأيّ ذنب على التحقيق قد قتلت
وعزمةً عاقها حظّ به ابتليت ... لولاه كانت على المطلوب قد حصلت
أشكو الليالي ومالي في الورى حكمٌ ... يكفّ عنّي عواديها التي اتّصلت
يا دهر هل نهضت منك الجبال بما ... نهضت فيك من البلوى أو احتملت
يا دهر إن عادت الأيام تجمعنا ... غفرت ما علمت مني وما جهلت
وإن ظفرت بلثم الترب بين يدي ... من أرتجي زالت البأساء وارتحلت
ذاك الذي إن علت زهر الكواكب في ... محلّها تلقها عن تربه نزلت
ذاك الذي لا أرى إلاّ سجيّته ... على الهدى والتقى والبر قد جبلت
ذاك الذي خلقت للجود راحته ... ففاقت الغيث إذا يهمى وما احتفلت
أقول إذ عمّني بالتّبر نائله ... هذا إلى السّحب إن جادت وإن بخلت
مكارمٌ فهمت ما أشتكي فهمت ... وهمّة فعلت ما لم يطق فعلت
كم نلت خمس مىءٍ من بعد خمس مىءٍ ... كذا أعدّدّها يوماً وما انفصلت
ماذا ترى في أيادٍ ما أقابلها ... بالشكر إلا أراها وهي قد فضلت
لولا علا شرف الدين التي بهرت ... كانت شموس الندى والفضل قد أفلت
أقلامه الحمر من صون الممالك لو ... تكون سطوتها للبيض ما نكلت
تهتزّ في كفّه من فوق مهرقها ... لأنّها من معاني لفظه ثملت
وكان فيما مضى للسحر ترجمة ... حتى تكلّم أضحت وهي قد بطلت
عبارة هي أندى من نسيم صبا ... مرّت على زاهرات الروض وانصقلت
وأسطر إن أقل مثل العقود فما ... أرى العقود إلى تلك العلا وصلت
واوحشتا لمحيّاه الذي نقصت ... لحسنه طلعة الأقمار إذ كملت
فلست أحسد إلا من تكون له ... عين بمرآه دوني في الورى كحلت
هل الليالي تريني نور طلعته ... فربما غلطت وربما عدلت
يا آل محمود لا ثلّت عروشكم ... ولا ذوت زهرة منكم ولا ذبلت
ولا تزل منكم الأعناق حاليةً ... فإنها إن خلت من فضلكم عطلت
فكتب هو إلي الجواب عن ذلك:
يا فاضلاً منه أقمار العلا كملت ... وعنه آثار أرباب النهى اتّصلت
ومن محاسنه للناس قد بهرت ... ومن مكارمه كلّ الورى شملت
للّه درّ قوافٍ قد بعثت بها ... طالت وعنها نجوم الأفق قد نزلت

لقد أطاعتك أنواع البلاغة في ... ما قد أشرت من الترتيب وامتثلت
وما أظنك إلاّ قد بعثت لنا ... خميلةً عندها زهر الدجى خملت
فاللّه يشكر إحساناً حبوت به ... فمن أياديك أنواء الحيا خجلت
ما إن وعت أذنٌ معنى بلاغتها ... إلاّ وأمست بها الأعطاف قد ثملت
فالزهر قد أطلعت والدرّ قد نظمت ... والزهر قد فتّحت والسحر عنك تلت
شوقي إيك صلاح الدين ما علمت ... بشرحه ألسن الأقلام بل جهلت
وهل يحسّ جمادٌ بالذي فعلت ... بي النوى وعليه أضلعي اشتملت
وما أظنّ النوى أمست تزيد على ... هذا وقد فعلت فينا الذي فعلت
كأنّني بك قد أقبلت منتصراً ... يوماً على فئة بالحق قد خذلت
وقد تراجع فيك الدهر وانقطعت ... عصابة الجور عمّا فيك وانخزلت
فاصبر فما الصبر إلاّ شيمة كرمت ... وما التجلّد إلا رتبة نبلت
واللّه يبقيك في خيرٍ وفي دعةٍ ... ما حركّ الغصن أعطافاً قد انفتلت
وكتبت إليه:
وفى لها الحسن طوعاً بالذي اقترحت ... فلو رأتها بدور التمّ لافتضحت
كأنما البدر في ليل الذوائب قد ... تقلّدت بالنجوم الزهر واتّشحت
صحّت على سقمٍ أجفانها وكذا ... أعطافها وهي سكرى بالشباب صحت
تفري حشاي وتغنيها لواحظها ... ما ضرّ تلك الصفاح البيض لو صفحت
مهاة حسنٍ أداريها إذا نفرت ... عنّي وأعطفها بالعتب إن جمحت
قد حار في وصف أغزالي العذول بها ... وقال كيف حلت في غادة ملحت
بذلت في وصلها روحي فقد خسرت ... تجارة الحب في روحي وما ربحت
زارت لتمنحني من وصلها منناً ... أهلاً بها وبما منّت وما منحت
أقسمت ما سجعت ورق الحمائم في ... روضٍ على مثل عطفيها ولا صدحت
وكلّما اعتدلت بالميل قامتها ... رأيتها فوق حسن الغصن قد رجحت
وما اكتسى خدّها من لؤلؤٍ عرقاً ... لكنّها وردةٌ بالطلّ قد رشحت
ولي أمانيّ نفسٍ طالما كذبت ... فيها ولو جنحت نحو الوفا نجحت
وربّ ليلٍ خفيف الغيم أنجمه ... أزاهرٌ قد طغت في لجةٍ طفحت
يتلو الهلال الثريّا في مطالعها ... كأنّه شفة للكاس قد فتحت
وللنسيم رسالاتٌ مردّدة ... وجمرة البرق في فحم الدجى قدحت
والزهر قد أوقدت منه مجامره ... فكلما لفحت ريح الصبا نفحت
تحكي نداك الشذا الفياح طيب ثناً ... على علا شرف الدين التي مدحت
سهل الخلائق لا واللّه ما اغتبقت ... بمثلها عصبةٌ سكرى ولا اصطحبت
مسدّد الرأي لم تقصر إصابته ... عن الهدى إن دنت قصواه أو نزحت
رقى إلى غايةٍ ما نالها أحدٌ ... ولا سمت نحوها عينٌ ولا طمحت
بهمّة لجميع الناس عاليةٍ ... ونيّةٍ لمليك العصر قد نصحت
يدبّر الملك من مصر إلى حلب ... بعزم كاف به الأيام قد فرحت
يستعمل الحزم في كل الأمور فكم ... قد جدّ لمّا رأى بيض الظّبا مزحت
خصّته عاطفة السلطان فهو بها ... يأسو جوانح دهر طالما جرحت
حتى لقد نسخت أيات سؤدده ... آيات من قد مضى من قبله ومحت
يهذي عداه وليس البدر ينكر مع ... محلّه في كلاب الأرض إن نبحت
أضحت على الجود تبني راحتاه وما ... زالت كذاك وما انفكت وما برحت
كانت معاني الهدى والجود قد خفيت ... عنّا وعن مجده الوضّاح قد شرحت
وكان للجود أخبار فمذ رويت ... أنباؤه نسيت هاتيك واطّرحت

لولا الولوع بأن نلقى له شبها ... لما رنت مقلة للشمس إذ وضحت
دعني من الوزراء الذاهين فما ... رأت لواحظهم هذا ولا لمحت
هذا الذي إن تكن آراؤهم فسدت ... فإنها منه بالتأييد قد صلحت
لا زال يرقى ويلقى السّعد مقتبلاً ... ما انهلّت السحب بالأنواء وانسفحت
وما تألق برقٌ ليس يشبهه ... إلاّ دماء أعاديه التي ذبحت
فكتب هو الجواب إلي:
حمائم الأيك في الأفنان قد صدحت ... أم نسمة الزهر في الإصباح قد نفحت
أم روضةٌ دبّجتها كفّ ذي أدبٍ ... غضٍّ لغير صلاح الدين ما صلحت
يا فاضلاً فاق في الآفاق كلّ سنا ... بنور طلعته الغرّاء مذ لمحت
أوحشتنا شهد اللّه العظيم فكم ... جوارحٌ بسيوف السّقم قد جرحت
فلا رعى اللّه أياماً حوادثها ... على تفرّقنا قدماً قد اصطلحت
أهلاً بغادتك الحسناء إنّ لها ... محاسناً في بدور التم قد قدحت
أقسمت ما ظفرت يوماً بمشبهها ... قريحةٌ من أخي نظم ولا فرحت
خريدةٌ ولّدتها فكرةٌ قذفت ... بالدر من لجّةٍ بالفضل قد طفحت
فلا برحت ترينا كلّ آونةٍ ... قصيدةً لو رأتها الشمس لافتضحت
وبيني وبينه مراجعات ومكاتبات غير هذه، وقد ذكرت ذلك في كتابي ألحان السواجع.
أبو بكر المدّعي
في يوم الجمعة سلخ جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة ظهر بقرية حطين - وهي من عمل صفد، بها قبر ينسب لشعيب عليه السلام - شخص ادعى أنه السلطان أبو بكر المنصور بن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومعه جماعة تقدير عشرة أنفار فلاحين، فبلغ ذلك الأمي علاء الدين ألطنبغا برناق نائب صفد، فجهز إليه دواداره شهاب الدين أحمد وناصر الدين بن البتخاصي فأحضراه، فجمع له النائب المذكور الناس والحاكم، فادعى أنه كان في قوص وأن مؤمن لم يقتله، وأن أطلقه فركب البحر ووصل إلى قطيا، وبقي مختفياً في بلاد غزة إلى الآن، وأن له دادةً مقيمة في غزة عندها النمجا والقبة والطير. فقال النائب: وأنا كنت في تلك الأيام جاشنكيراً أولاً، وكنت أمد السماط بكرةً وعشياً وما أعرفك ؟! فأقام مصراً على حاله، وانفسدت له عقول من جماعة وما شكوا في ذلك، فطالع النائب بأمره السلطان، فعاد الجواب بتجهيزه محترزاً عليه في عشرة نفر إلى غزة، فخشبه نائب صفد وجهزه، وحضر من تسلمه إلى مصر، ثم حضر بعد ذلك كتاب السلطان يتضمن أن المذكور ظهر كذبه ووجد مقتولاً بالمقارع، وأنه سمر وقطع لسانه، وكان في هذه الحالة إذا شرب الماء يقول وهو على الخشب: أشرب ششني، وإذا رأى أميراً يقول: هذا مملوكي ومملوك أبي، ويقول: لي أسوة بأخي الناصر أحمد وأخي الكامل وأخي المظفر الكل قتلتموهم.
وظهر أخيراً أنه أبو بكر بن الرماح، وأنه كان يعمل وكيلاً في بلاد صفد، وأن شحنة بعض القرى قتله يوماً فآلمه الضرب فادعى ما ادعى.
قلت: هذا الذي اتفق جرى مثله في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وتسع وثلاثين وسبع مئة، وتسع وثلاثين وما بعدها، وهو ظهور الذي ادعى أنه دمرتاش بن جوبان، وجاء إلى أولاد دمرتاش ونسائه وأهله ووافقوه على ذلك، والتف عليه جماعة، وصارت له شوكة، وخيف على الشام ومصر منه إلى أن كفى الله أمره وقتل.
وكان ظهوره بعد موت دمرتاش بتسع سنين أو ما حولها، والتبس الحال في أمره حتى على السلطان الملك الناصر حتى إنه نبش قبره وأخرجت عظامه من مكانها برا باب القرافة بقلعة الجبل.

وكان المذكور قد خنق وقطع رأسه وجهز إلى القان بوسعيد، وكان يدعي أنه حصل الاتفاق في أمره وهرب من الاعتقال من سجن القلعة، ووصل إلى البحر وركب فيه مركباً وتغيب إلى أن ظهر، وأن الذي قتل كان غيره. وليس لذلك صحة أصلاً، بل الذي قتل وقطع رأسه بحضور أمناء السلطان ومماليكه الأمناء الخواص الذين لا يتجاسرون مع مهابة أستاذهم على وقوع شيء من ذلك، وهذا أمر اتفق وقوعه إلى حين تعليق هذه الأوراق، وهو شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وسبع مئة مرتين، الأولى هذه والثانية واقعة أبي بكر بن الرماح المذكور آنفاً، فلا ينكر على عاقل وقوع مثل هذه الأمور. وقد قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى في كتابه نقط العروس: أخلوقة لم يسمع بمثلها، أتى رجل يقال له خلف الخضري بعد اثنين وعشرين سنة من موت المؤيد بالله هشام بن الحكم، ادعى أنه هشام، فبويع وخطب له على المنابر بالأندلس، وسفكت الدماء، وتصادمت الجيوش وأقام نيفاً وعشرين سنةً. وقال أيضاً: فضيحة لم يقع في العالم مثلها: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها تسمى كل منهم بأمير المؤمنين، وهم خلف الخضري بإشبيلية على أنه هشام بن الحكم، ومحمد بن القاسم بن حمود بالجريزة، ومحمد بن إدريس بن حمود بمالقة، وإدريس بن علي بن حمود.
وقال أيضاً في كتاب الملل والنحل: أنذرنا الجفلى لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر، فرأيت أنا وغيري نعشاً وفيه شخص مكفن، وقد شاهد غسله رجلان شيخان حكمان من حكام المسلمين من عدول القضاة في بيت، وخارج البيت أبي رحمه الله تعالى وجماعة عظماء البلد، ثم صلينا عليه في ألوف من الناس، ثم لم نلبث إلا شهوراً نحو التسعة حتى ظهر حياً وبويع بالخلافة، ودخلت إليه أنا وغيري وجلست بين يديه، وبقي كذلك ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام، حتى لقد أدى ذلك إلى توسوس جماعة لهم عقول في ظاهر الأمر، إلى أن ادعوا حياته حتى الآن، وزاد الأمر حتى أظهروا بعد ثلاث وعشرين سنة من موته على الحقيقة إنساناً قالوا هو هذا، وسفكت بذلك الدماء وهتكت الأستار وأخليت الديار وأثيرت الفتن.
انتهى كلام ابن حزم رحمه الله تعالى.
وقلت أنا في ذلك:
قد قتل المنصور في قوص ... واقتصّ من القتال في القاهره
وبعد اثني عشر عاماً مضت ... من صفد في عصبة فاجره
يطلب ملكاً في يدي غيره ... وهذه أعجوبة ظاهره
أبو بكر ابن القاضي بهاء الدين بن سكرهناظر النظار بدمشق. كان رجلاً طوالاً إلى الغايه. دقيقاً لا إلى النهايه، كاتباً متصرفاً، مائلاً إلى الخير متعرفا، متطلعاً في الغدوات والروحات، إلى تحصيل الحسان من الزوجات، قد جعل ذلك دابه، ولو قدر ما ترك على ظهرها من دابه. أول ما علمته من حاله أنه كان مباشراً في القلاع الحلبية وبعض الثغور، ثم إنه حضر مع المباشرين في نوبة لولو غلام قندس سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وسلمهم الملك الناصر محمد إليه، فتولى عقابهم وصب على هذا بهاء الدين سوط عذاب، انحل به جسده وأذاب، ثم أخذهم وتوجه بهم إلى حلب، ثم إنني بعد ذلك رأيته في حماة وهو بها ناظر، وكنا قد توجهنا لتلقي الأمير سيف الدين طقزتمر من حلب لما رسم له بنيابة دمشق، فبالغ في إحسانه، وتفضل من يده ولسانه. ثم إنه صرف منها وتوجه إلى مصر.
ورسم له بنظر النظار بدمشق، فحضر إليها في أوائل شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وسبع مئة عوضاً عن القاضي مكين الدين بن قروينة، ولم يستقم له بدمشق حال مع النائب الأمير سيف الدين طقزتمر بواسطة أستاذ داره.
ثم إنه توفي في عاشر شعبان سنة ست وأربعين وسبع مئة - رحمه الله تعالى - ودفن بمقابر الشيخ أرسلان.
وكان قد اعتكف في شهر رمضان بالجامع الأموي، فأنشدني من لفظه لنفسه القاضي شهاب الدين بن فضل الله:
بمدشق عجائب ... في الأحاديث منكره
العليم الذي روى ... واعتكاف ابن سكّره
أبو بكر بن محمد بن عليالشيخ الفاضل تقي الدين البانياسي الكاتب المجود.
كان كاتباً جيداً فاضلاً، له نظم ونثر. انتفع الناس به وكتبوا عليه، وله أخلاق حسنة، وكان مقيماً بالمدرسة الجاروخية.
توفي رحمه الله تعالى في ثامن ذي الحجة سنة ست وثلاثين وسبع مئة.

ومولده تقريباً سنة ستين وست مئة.
أبو بكر بن بلبانالأمير صلاح الدين ابن الأمير سيف الدين البدري.
كان أمير عشرة بدمشق، وهو أحد الإخوة.
توفي رحمه الله تعالى في ثالث شهر رجب الفرد سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
أبو بكر بن محمد بن عمرابن أبي بكر بن قوام بن علي بن قوام بن منصور بن معلى البالسي: الشيخ الإمام العالم الزاهد العابد الورع نجم الدين بن قوام الشافعي.
كان من بيت علم وصلاح، وخير وزهد وفلاح، صاحب زاوية وحال، وكرامات وكرم ونوال، يتلقى الواردين بإحسانه، ويوليهم الجود من يده ولسانه، يقرئهم ويقريهم، ويميرهم على ما بدته ويمريهم، يعتقد الناس بركاته، ويتوسمون الخير في سكناته وحركاته.
اجتمعت به غير مره، ورصع في جيدي من فضله كل دره.
ولم يزل على حاله إلى أن استسقى وما به ظما، وخر النجم إلى الأرض من السما.
وتوفي رحمه الله تعالى بهذه العلة في أوائل شهر رجب الفرد سنة ست وأربعين وسبع مئة، وكانت جنازته حفلة، وصلى نائب الشام عليه وجماعة من الأمراء.
وحدث عن ابن القواس وغيره.
وكنت قد كتبت له توقيعاً في أيام الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى بنظر الشبلية، ونسخته: رسم بالأمر العالي المولولي السلطاني الملكي الناصري، لا زال نجم الدين به بازغا، ومنهل جوده لوارديه عذباً سائغا. وثمر كرمه لجناة رفده حلواً بالغا، أن يرتب المجلس السامي الشيخي النجمي أبو بكر في كذا، ثقةً بورعه الذي اشتهر، وفضله الذي بهر، وأصله الذي طاب فرعه فالتقوى له ثمر، والعلم زهر، فما خطب لمباشرة هذه الوظيفة إلا وثوقاً بصفاته الحميدة، وتمسكاً بما عرف من طريقته السديدة، واتكالاً على ما حازه من صفات جواهرها على جيد الأيام نضيده، وركوناً إلى بيته الذي له من سلفه أركان مشيده، ورغبةً في شمول هذه المدرسة ببركته التي هي بيت القصيدة. فليباشر ما فوض إليه مباشرةً سدادها في كفالة كفايته مضمون، ويغتبط بما يفوز به من هذا البر فإن له فيه أجراً غير ممنون، مجتهداً في تنمية ريع هذا الوقف المبرور، مقتصداً في تثمير ما يجره إليه من المنافع حتى يدل على أن فعله تعلق من بركته بجار ومجرور، معتمداً في إحياء ميته على من هو عدل في حكمه لا يحيف، مستنداً في استخراج حقوقه إلى الجلد حتى لا يقال إن أبا بكر رجل أسيف، مساوقاً مباشرته في جليله وحقيره، وقليله وكثيره، وغائبه وحاضره، ومعروفه ونادره، فلا يدع مستحقيه من صرف ما لهم في أوار ولا أوام، ولا يمكن أحداً منهم يسلك طريقاً معوجة فإنه ابن قوام، فلو لم يكن الظن به جميلاً ما عذق به هذا الأمر دون البريه، ولو لم يكن أسداً في الحق ما أسند إليه نظر الشبليه، وليتبع شروط الواقف حيث سارات مقاصده لأنه ناظر، وليصرف ما أمر به على ما أراده فإنه إن كان غائباً فله إله حاضر، والوصايا كثيرة ومنه تؤخذ فوائدها، وعلى جيد الزمن تنضد منه فرائدها، وهو بحمد الله تعالى ابن بجدتها علماً ومعرفه، وأدرى الناس بما يتحرك فيها من لسان أو شفه، ولكن التقوى زمام كل أمر، وعمدة الدين وعماده من زيد وعمرو، فلا ينزع منها حلة ارتداها، ولا يترك طريقاً سلكها عمره واقتفاها، والله تعالى يعينه في سكونه وحركته، وينفع الناس بعلمه وبركته. والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفق بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
أبو بكر بن محمد بن قاسمالشيخ الإمام العلامة ذو الفنون شيخ الإقراء والعربية بالشام، مجد الدين المرسي ثم التونسي الشافعي.
قدم القاهرة مع أبيه، وأخذ النحو والقراءات عن الشيخ حسن الراشدي، وحضر حلقة الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وسمع من الفخر علي والشهاب بن مزهر.
كان الشيخ مجد الدين آية في ذكائه، غاية في إكبابه على العلوم واعتنائه، تفرد في وقته بمعرفة العربية وغوامضها الأدبية، فلو رآه ابن السراج لما راج، والزجاجي لسود مصنافته بالعفص والزاج، أو السيرافي لقال لصاحبيه سيرا في المهامه، أو قفا بنا نسمع بعضاً أو كلاً من كلامه، أو الفارسي لترجل قدامه، وحمل لواء الفخر له ومعه قدامه.
وفيه قلت أنا:
تملّك النحو حتى ما لذي أدبفي الناس نون و واو بعدها حاء
هذا مليك لهذا العلم فاصغ لما ... أقوله لاكسائيٌّ وفرّاء

وكان مجيداً في غير ذلك من الفنون، معيداً مبدياً لما في سواه من النكت والعيون، تخرج به الأئمة، وملكهم ما أرادوا من المقادات والأزمه، ونالته محنة من كراي نائب الشام، وانتجع لها بارق الصبر وشام، وعلى يده ظهر غش الباجربقي، وبهرجة نقده، ولولاه لدام مدة وبقي.
ولم يزل على حاله أن أصبح مظهره في القبر ضميرا، وسكن المجد في الأرض حفيرا.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت سادس عشري ذي القعدة سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة ست وخمسين وست مئة بتونس.
أقام بالقاهرة مدةً ودخل دمشق في ولاية قاضي القضاة عز الدين في الولاية الثانية، وحضر عند زين الدين الزواوي، ورتب صوفياً بالخانقاه الشهابية، وجلس للإقراء، ثم سكن العقيبة، وناب في الإمامة بجامعها ثم اشتهر أمره وشاعت فضائله، وحضر الدروس، وولي مشيخة الإقراء بالتربة الصالحية والتربة الأشرفيه، وولي تدريس النحو بالناصرية ودرس بالأصبهانيه، وصار شيخ البلد في الإقراء والعربيه، مع المشاركة في الفقه والأصول وغير ذلك.
حدثني غير واحد ممن أثق به أن الناس سألوا الشيخ شمس الدين الأيكي عن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وعن الشيخ صدر الدين بن الوكيل أيهما أذكى ؟ فقال: ابن الزملكاني، ولكن هنا شاب مغربي هو أذكى منهما يعني به الشيخ مجد الدين. وامتحن على يد الأمير سيف الدين كراي فضربه بباب القصر ضرباً كثيراً لما ألقى المصحف - على ما سيأتي في ترجمة كراي - ولما سب الأمير الخطيب جلال الدين، قال له الشيخ مجد الدين: اسكت اسكت، وقوى نفسه ونفسه عليه فرماه وقتله، وكان في وقت قد انفعل للشهاب الباجربقي ودخل عليه أمره، ثم إنه أناب وأفاق وجاء إلى القاضي المالكي واعترف وجدد إسلامه - على ما سيأتي في ترجمة الباجربقي.
وكانت طريقته مرضية، وعنده دين وصلاح، وفيه مودة ومحبة للخلوة والانقطاع، وتلا عليه شيخنا الذهبي بالسبع، وانتقى له جزءاً من مشيخة ابن البخاري وحدث به. ومن الناس من يقول فيه: محمد بن قاسم، وشيخانا البرزالي والذهبي قالا فيه: أبو بكر بن محمد، والله أعلم.
أبو بكر بن إبراهيم بن حيدرةابن علي بن عقيل: الإمام العالم الفاضل جمال الدين القرشي المعروف بابن القماح.
اشتغل بالفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وعرض التنبيه عليه، ثم اشتغل على السديد الترمنتني وغيره، وقرأ الفرائض. وجاور بمكة سنةً، وولي عدة ولايات من جهة الكتابة بالقاهرة وأعمالها، وقدم في المحرم دمشق متوجهاً إلى حلب متولياً وكالة بيت المال.
وقرأ عليه الشيخ علم الدين البرزالي الأربعين الصغرى للبيهقي بسماعه من الشيخ شمس الدين أبي الفضل المرسي عن أبي روح، وهو عم القاضي شمس الدين محمد بن أحمد بن القماح نائب الحكم بالقاهرة، ثم إنه عاد إلى القاهرة، وتوفي بها إلى رحمة الله تعالى في ذي الحجة سنة ثماني عشرة وسبع مئة، ودفن بالقرافة الصغرى.
ومولده في شهر ربيع الآخرة سنة سبع وثلاثين وست مئة.
أبو بكر بن عبد اللهابن عبد الله: الشيخ الإمام الفاضل سيف الدين الحريري الشافعي.
توفي رحمه الله تعالى في أواخر شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
وتولى تدريس الظاهرية الجوانية الشيخ جمال الدين محمود بن جمله.
أبو بكرالأمير سيف الدين البابيري

بالباء الموحدة وبعدها ألف وبعدها ياء أخرى وياء آخر الحروف ساكنة وراء.
كان كردي الأصل، شيخاً قديم الهجرة تنقل في الولايات والمباشرات بحلب وطرابلس ودمشق، وكان قد طلبه السلطان الملك الناصر محمد إلى مصر، وولاه كاشفاً بالشرقية، فلم تطب له الديار المصرية، فتشفع بالأمير سيف الدين تنكز، فطلبه إلى دمشق وولاه الصفقة القبلية، وأمسك تنكز وهو بها.
ثم إنه انتقل إلى حلب ثم إلى دمشق، وولي شد الدواوين بدمشق مرات، وولي نيابة جعبر مرات، وآخر إمرة وليها لما كان الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين طاز. بحلب في واقعة بيبغاروس، فتوجه إليها في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وأقام بها إلى أن جاء الخبر في شوال سنة ست وخمسين وسبع مئة بوفاته رحمه الله تعالى.
وكان خبيراً درباً مثقفاً فيه ود وأنس، وعلى ذهنه تواريخ ووقائع وشعر وكان قد عدى السبعين.
أبو بكر بن عباس

القاضي جمال الدين الخابوري، كان قاضي بعلبك.
توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
أبو بكر بن محمد بن عنتر السلميأجازه سبط السلفي، وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق.
أبو بكر بن محمد بن عبد الغنيالشيخ نجم الدين. أجاز لي بالقاهرة سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم عيد الفطر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
أبو بكر بن علي بن محمد الكلوتاتيسمع من ابن النحاس والنجيب، وأجاز لي بمصر بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
أبو بكر بن نصرالقاضي زين الدين الإسعردي المحتسب بالديار المصرية، ووكيل بيت المال.
توفي رحمه الله في سادس عشر شهر رمضان سنة عشرين وسبع مئة، ودفن بالقرافة، وصلى عليه قاضي القضارة بدر الدين بن جماعة.
وولي مكانه في الحسبة قريبه القاضي نجم الدين محمد بن حسين بن علي الإسعردي كاتب الحكم بالقاهرة، وفي الوكالة القاضي قطب الدين محمد بن عبد الصمد السنباطي.
أبو بكر بن يوسف بن شاذييأتي تمام ترجمة نسبه في ترجمة والده في حرف الياء إن شاء الله تعالى.
الأمير أسد الدين ابن الأمير صلاح الدين ابن الملك الأوحد: أحد أمراء الطبلخاناه بصفد المضافين إلى دمشق.
كان شاباً حسناً عاقلاً ساكناً، فيه حشمةً وأدب. توجه أمير الركب سنة خمس وخمسين، وسبع مئة فلطف الله به وبالركب، وكنت أنا معهم في تلك السنة، فما رأينا إلا الخير في الذهاب والإياب. لم نجد في الطريق ولا في المدينة، ولا في مكة، من شوش على الركب بشيء مما يحكيه الحجاج من المتحرمة والنهابة.
ولم يزل الأمير أسد الدين بدمشق إلى أن ورد المرسوم بتوجه كل من له إقطاع في صفد إلى صفد والإقامة بها، فتوجه إليها مع من توجه، وأقام بها مدة فضاق عطنه وشاقه وطنه، فضعف هناك وورد إلى دمشق فأقام يومين أو ثلاثة.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر رمضان المعظم سنة سبع وخمسين وسبعمئة.
وسيأتي ذكر أخي أمير علي وذكر والدهما في مكانيهما رحمهم الله أجمعين.
أبو بكر بن سليمان بن أحمدأمير المؤمنين المعتضد ابن أمير المؤمنين المستكفي ابن أمير المؤمنين الحاكم العباسي، أبو الفتح.
كان شكلاً مليحاً تاماً، أسمر ذا لحية سوداء، صبيح الوجه، عليه خفر ومهابة، تقدم نسبه كاملاً في ترجمة أخيه أمير المؤمنين الحاكم بالله بن سليمان في الأحمدين.
قدم إلى دمشق في سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة صحبة الملك الصالح صالح في واقعة بيبغاروس، ثم إنه قدمها ثانياً في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر صحبة الملك المنصور صلاح الدين محمد بن حاجي، وعاد إلى مصر صحبة السلطان.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي في غالب الظن في جمادى الأولى أو الأخرى سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
وتولى الأمر بعده أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد بن المتوكل على الله.
اللقب والنسب

الأبوبكري الأمير سيف الدين بكتمر
ابنه الأمير علاء الدين علي.
أخوه الأمير شهاب الدين أحمد.
البكري نور الدين علي بن يعقوب.
بكلمش
بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وفتح اللام وكسر الميم وبعدها شين معجمة: الأمير سيف الدين أمير شكار الناصري.
كان الملك الناصر حسن قد جعله أمير شكار، ولما كان في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة أخرجه من مصر إلى طرابلس نائباً عوضاً عن الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير، ووصل بكلمش إلى دمشق في يوم الجمعة ثالث عشري شهر رمضان المعظم، وتوجه إلى طرابلس، ولم ير أهل طرابلس منه شيئاً من الخير، سوى أنه كان يجيد اللعب بالطير.
وكان حسن الشباب، وضيء الإهاب، بسط جوره على أهل طرابلس وظلمه، وأعاد أيامهم كأنها ليالي ظلمه، وربما تعرض إلى الحريم، ونزل بروضة فأصبحت كالصريم، ورحل منها جماعة لم يصبروا على هذا المضض، ولا صبروا على هذا المرض، ولم يزل بها وهو يطلب حريمه من القاهرة فما يجاب، ولا يرد جوابه على يد بريدي ولا نجاب.

وتوجه إلى صفد في واقعة أحمد الساقي وحصره في القلعة - على ما تقدم في ترجمة أحمد - وعاد إلى طرابلس، ولم يزل بها إلى أن خرج مع بيبغاروس وأحمد، ووصلوا إلى دمشق في نهار الأربعاء خامس عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وأقاموا بها أربعةً وعشرين يوماً على ما تقدم في ترجمة أحمد، وعاث الأمير سيف الدين بكلمش في مرج دمشق وأفسد، ولما هرب بيبغاروس، وعاد إلى حلب عاد بكلمش معه ودخلوا الأبلستين إلى عند ابن دلغادر، وأقاموا عنده، ثم إن أحمد وبكلمش حضرا إلى نواحي مرعش وناوشهما أهل القلاع القتال، ثم لحق بهما ابن دلغادر، ولم يزالا عنده إلى أن أمسكهما ابن دلغادر وجهزهما إلى حلب، فاعتقلهما نائبها الأمير سيف الدين أرغون الكاملي وطالع السلطان الملك الصالح صالحاً بأمرهما، فعاد الجواب على يد الأمير سيف الدين طيدمر أخي الأمير سيف الدين طاز بأن يجهز رأسيهما إلى مصر فحز رأساهما، وجهزا مع المذكور في العشر الأوسط من المحرم سنة أربع وخمسين وسبع مئة، فسبحان الدائم الباقي.
بلاط الأمير سيف الدينكان معروفاً بالدين، موصوفاً بالعقل المتين، حسن الود لأصحابه، أفاق الدهر من سكرته وصحا به، كان مقدماً عند المظفر، ذا جانب على التقديم موفر، إلا أنه لحسن نيته، وسلامة طويته، سلمه الله من الناصر فما آذاه، ولاحظه السعد وحاذاه.
ولم يزل إلى أن جعل اسمه فوقه، ونزل به من الموت ما أعجز صبره وطوقه.
وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس في شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وكان قد أخرج من مصر إلى دمشق فأقام بها قليلاً، ثم نقل إلى طرابلس وبها مات رحمه الله تعالى.
بلاط قبجقالأمير سيف الدين أحد أمراء الطبلخانات.
حضر إلى دمشق في أوائل خمسين وسبع مئة، وأقام بها أميراً إلى أن توفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من ذي الحجة سنة ست وخمسين وسبع مئة.
بلاط قيىبكسر القاف، وبعدها ياء وآخر الحروف، وألف مقصورة: الأمير سيف الدين.
توجه من القاهرة إلى نيابة بهسنى، وأقام بها مدة، ثم حضر إلى دمشق وأقام بها أميراً، إلى أن توفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، كان يلعب الشطرنج بعد العشاء الآخرة وأصبح ميتاً من غير علة.
بلال الطواشيالأمير حسام الدين أبو المناقب المغيثي الحبشي الجمدار الصالحي.
كان لالا الملك الصالح علي بن المنصور قلاوون، ثم إن العادل كتبغا جعله يتحدث في أمر السلطان الملك الناصر محمد، وهو كبير الخدام المقيمين بالحرم النبوي.
حدث بمصر ودمشق، وقرأ عليه الشيخ شمس الدين عدة أجزاء يرويها عن ابن رواج.
كان حالك السواد، تام الشكل، يهيم من المعروف في كل واد، له بر وصدقات، وبذل في الخير ونفقات، وله أموال عظيمة، وغلمان على أوامره ونواهيه مقيمه، وله في الدول الحرمة الوافرة والوجاهة السافرة.
حضر المصاف ورد، فأدركه أجله في سنة تسع وتسعين وست مئة فحمل إلى قطيا.
بلبانالأمير سيف الدين المنصوري، ملك الأمراء الطباخي، نائب حلب.
كان أميراً جليلا، وللشجاعة خليلا، أبلى في نوبة غازان بلاءً حسناً وروع التتار، ورقص الخطية من غناء سيوفه، ومن روس المغل النثار، لأنه كان ذا بأس ونجده، وشهامة للقاء الأبطال مستعده، خيوله مسومه، وسهامه إلى نحور الأعداء مقومه، ولولا وجوده ذهب عسكر الإسلام في تلك المرة المره، وجرى الأمر على خلاف القاعدة المستمره، لكنه التقى ذلك البحر الزخار بصدره، وخاض في ذلك العسكر الجرار بنحره، فصرع الفرسان، وجد لهم فجدلهم، وبسط لهم بساط الحتف وبدلهم، وكان كثير الحشم، وافر المماليك والخدم، تولى نيابة طرابلس، وحصن الأكراد وحلب، وأقدم الخيرات بعدله إليها وجلب.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل به الأمر الذي لا يدفع، والحتف الذي لا يرفع.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر ربيع الأول بالساحل سنة سبع مئة.
وغالب مماليكه تأمروا في أيام الملك الناصر محمد، وكانوا كبار الدولة، منهم الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور المقدم ذكره نائب الشام وحلب، والأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير نائب حلب وطرابلس، والأمير سيف الدين منكوتمر الطباخي، وغيرهم.
بلبانالأمير سيف الدين الجوكندار.

كان نائب القلعة بصفد في نوبة غازان، فلما كسر المسلمون، وهرب الأمراء جاء الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أو الأمير سيف الدين سلار على وادي التيم، وحضروا إلى صفد، وطلبوا منه مركوبا ليحملهم عليه، فلم يعطهم شيئاً، فلما وصلوا إلى مصر عزلوه من نيابة قلعة صفد، وجهزوه أميراً إلى دمشق.
وكان ابنه الأمير علاء الدين قطليجا شاباً جميلاً حسن الوجه، فولاه الأفرم الحجوبية بالشام، ثم إنه في شهر ربيع الآخر سنة سبع مئة ولاه الأفرم شد الدواوين بدمشق، وفوض الأمر إليه، واشتغل بالشد، وانفرد الأفرم بقطليجا المذكور، لأنه كان طبجياً، وأقام على ذلك مدة.
ولما توفي الأمير علم الدين أرجواش نائب قلعة دمشق تولى هو نيابة القلعة في جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة، ثم إنه في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبع مئة توجه لنيابة حمص، وأعيد السنجري إلى قلعة دمشق، تولى نيابة حمص فورد إليها.
ولم يزل بها مقيماً إلى أن فاءت إليه الوفاة، وفغر الموت له فكه وفاه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة، وكان مبخلا، ولصاحبه مبجلا، أحسن في شد دمشق إلى من عرفه، وما جاءه أحد من صفد إلا وصرفه في أشغال الديوان، وما صرفه، وله بصفد حمام مليح بعين الزيتون، كنت أعهده نادراً في تلك البقعة، وهو كان في تلك الأيام طراز هاتيك الرقعة.
بلبانالأمير سيف الدين طرنا، بضم الطاء المهملة وسكون الراء وبعدها نون وألف.
كان أمير جاندار بالديار المصرية، فجهزه السلطان إلى صفد نائباً بعد الأمير سيف الدين بهادر آص، فحضر إليها ووقع بينه وبين الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، فعزله السلطان، ورسم له بأن يتوجه إلى دمشق أميراً، فتوجه إليها بطلبه، فدخل إليه ليقبل يده ويسلم عليه، فأمسكه في حادي عشري القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة، وبقي في الاعتقال عشر سنين فما حولها، ثم إنه شفع فيه فأخرج من الاعتقال وأعطي إقطاع الأمير شرف الدين حسين، وجعل أمير مئة مقدم ألف، ثم إن تنكز أقبل عليه واختص به، وكان يشرب معه القمز.
ولم يزل على حاله إلى أن قالت عقبان المنية قد طرنا إلى طُرنا، وحمنا عليه وحومنا ودرنا.
وتوفي رحمه الله تعالى حادي عشري ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن في تربته جوار داره دار الأمير علاء الدين أيدغدي شقير تحت مئذنة فيروز.
وكان رحمه الله تعالى ضخماً أبيض، جسيماً كأن وجهه جمر أومض، ولما كان يدور مع الزفة حول الدهليز يوقع بالعصا، ويضرب ذلك الرمل والحصى، وإذا خرج أولئك الرهجية وعدلوا عن النغمة الجهرية التفت إليهم، ووقع بالعصا على الأرض، ومشى أمامهم ذات الطول والعرض، ولذلك كانت عليه في السماع طلاوة، ولضخامته إذا دار حلاوة.
بلبانالأمير سيف الدين السناني.
أحد أمراء الدولة الناصرية، له دار في رأس الصليبة تحت قلعة الجبل عند جامع الأمير سيف الدين شيخو، وأخرجه الملك الصالح إسماعيل إلى نيابة ثغر ألبيرة في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، فحضر إليها، ولم يزل بها إلى أن أمسك الملك الناصر حسن الوزير منجك، فطلب السناني إلى القاهرة، فتوجه إليها وجعله أستاذ دار، وأقام على ذلك إلى أن توجه إلى منفلوط لقبض مغلها، فتوفي هناك في شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
وأخبرني الشيخ بهاء الدين السبكي أن المذكور توفي سنة اثنتين وستين أواخر سنة إحدى وستين وسبع مئة بمنفلوط، كذا جاء الخبر بذلك إلى دمشق ثم ظهر بعد ذلك أنه لم يمت، وإنما أخذت التقدمة والإقطاع منه للأمير عز الدين طقطاي الدوادار وأعطي السناني طبلخاناه ضعيفة، وأقام بالديار المصرية.
بلبانالأمير سيف الدين الغلمشي، بضم الغين المعجمة وسكون اللام وبعد الميم شين معجمة.
حدث بدمشق عن ابن خليل وعن المرسي وغيرهما، وكان قد سمع في صغره من جماعة مع القاضي عز الدين بن الصائغ لأنه كان مملوكه، وانتقل عنه، وانتقل إلى أن صار أميراً بالقاهرة، وتولى الشرقية مرة وكان شهماً كافياً، فيه سياسة.
توفي في جمادى الآخرة سنة تسع وسبع مئة.
بلبانالأمير سيف الدين البدري أحد مقدمي الألوف بدمشق.

كان شيخاً عاقلاً مهيبا، قد وفر الله له من سلامة الباطن نصيبا، خلف ذهباً جما، أكله وراثه أكلاً لما، قيل: إن العين من الذهب وحده ثلاثون ألف دينار، خارجاً عن البرك والعدة والخيل وما مع ذلك من عقار، وخلف أولاداً أنجب منهم اثنان، وكان لهما في المباشرات شان زانهما وما شان.
ولم يزل إلى أن حلت به المثلاث، ونحت الموت منه الأثلاث.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الخميس يوم عيد الفطر سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وكان قد توجه أمير الركب الشامي في سنة سبع وسبع مئة، وقد تولى نيابة قلعة دمشق عوضاً عن بهادر السنجري في شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وعزل منها وتوجه إلى نيابة صفد عن الأمير سيف الدين بلبان طرنا في ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة، وتوجه إلى حمص نائباً عوضاً عن القرماني في شهر صفر سنة تسع عشرة وسبع مئة، ولما توفي في حمص نقل إلى دمشق وصلي عليه بسوق الخيل، ودفن في جبل قاسيون.
بلبانالأمير سيف الدين التتري.
كان رجلاً سليما، مأموناً حليما، لا يعرف ما الناس فيه، ويظن أن الناس ليس فيهم سفيه، وله أموال غزيرة وحواصل كثيرة، وأولاده الذكور والإناث نهاية في الجمال وغاية في الحسن والكمال.
ولم يزل إلى أن جاءه الأمر الذي لا يخدع، ولا يرد بحيلة ولا يردع.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
وكان توجه أمير الركب في سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وهو من كبار المنصورية.
بلبانالأمير سيف الدين القشتمري.
أحد الأمراء بدمشق كان يسكن بدرب الريحان بدمشق.
توفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة تسع وتسعين وست مئة.
بلبان الجمقدارالأمير سيف الدين المعروف بالكركند.
كان من كبار الأمراء. أقام بدمشق مدة بدار فلوس، ثم نقل إلى الديار المصرية، ثم أعيد إلى دمشق، فأقام بها في دار بمحلة مسجد القصب ظاهر دمشق.
وفي سابع شهر ربيع الآخر سنة ثلاثين وسبع مئة توفي إلى رحمه الله تعالى ودفن بتربته بجبل قاسيون، وكان يوماً مطيراً.
وأظنه كان أولاً بصفد أمير عشرة في أيام الأمير سيف الدين بتخاص، والله أعلم.
بلبانالأمير سيف الدين المهمندار الدواداري عتيق، الأمير جمال الدين موسى بن الأمير علم الدين الدواداري. كان أمير عشرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في نصف جمادى الأولى سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربة أستاذه بسفح قاسيون.
بلبانالأمير سيف الدين الصرخدي الطاهري.
أحد أمراء الطبلخاناه بالقاهرة، كان قد تجاوز الثمانين وكان فيه خير، مواظب على الصلوات.
توفي رحمه الله تعالى في عشري جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبع مئة.
بلبانالأمير سيف الدين العنقاوي، بعد العين المهملة نون وقاف وألف بعدها واو، الزراق المنصوري.
كان في الحبس وأفرج عنه، وكان قد جاوز السبعين سنة، وكان من أمراء الطبلخاناه.
توفي فجأة بعدما توضأ وتهيأ للتوجه لصلاة الجمعة في سابع عشر شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة ودفن بجبل قاسيون.
بلبانالأمير سيف الدين المحسني.
أظنه كان أولاً من جملة البريدية بمصر، ثم إن السلطان جهزه لإحضار مباشري قطيا في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ثم إنه ولاه القاهرة بعد علاء الدين أيدكين، فيما أظن، فأقام فيها إلى أن ولاها علاء الدين بن المرواني، وجهز الأمير سيف الدين بلبان لنيابة دمياط، فأقام بها قليلاً، وانفصل في شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة، أظنه توفي معتقلاً.
وكان رجلاً جيداً خيراً مشكوراً.
بلبانالأمير سيف الدين الإبراهيمي.
كان أحد أمراء الطبلخاناه بحماة.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وسبع مئة، وكتب بإقطاعه لأسنبغا مملوك الأمير سيف الدين أسندمر العمري نائب حماه.
بلرغيبباء موحدة ولام وراء وغين معجمة بعدها ياء آخر الحروف، ومنهم من يقدم الراء والغين على اللام: الأمير سيف الدين الأشرفي.

كان أميراً وجيها، لا يجد له في المضاهاة شبيها، مشهوراً بالتعظيم، والحفدة التي هي كحبات العقد في التنظيم، وثق إليه المظفر فجهزه إلى الناصر ليكون يزكا، ولم يدر أنه زرع الغدر فأثمر معه وزكا، وخامر عليه من الرمل وجمع به من الملك الشمل، ووصل إليه إلى غزه، فوجد بقربه ما كان يجده كثير من قرب غزه، إلا أنه لما دخل إلى مصر أمسكه، وأماته في السجن جوعاً وأهلكه.
ووفاته بقلعة الجبل سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالحسينية.
بلغاقالأمير سيف الدين: كان ناظر الحرمين: القدس وبلد سيدنا الخليل عليه السلام، وهو بلغاق ابن الحاج جغابن يارتمش الخوارزمي.
روى الحديث عن ابن عبد الدائم بالقدس ودمشق، وولي الحرمين آخر عمره، ورأيته بصفد مرتين أيام الجوكندار الكبير، وكان شيخاً قد أنقى، وعمل على ما هو في الآخرة خير وأبقى، مع سيرة مشكوره، ومعاملة مع الفقراء ما هي من مثله منكوره، معروفاً بالخير والبركه، موصوفاً بالصلاح في سكونه والحركه، كثير الاتضاع، غزير الجودة على ما ألفه من الرضاع.
ولم يزل على نظر الحرمين إلى أن أمسى ولم يحفظه من الموت حرم وراح إلى الله بعد ما كاد يصل إلى الهرم.
وتوفي بقرية الغازية من بلد صيدا أو بلد بيروت في جمادى الأولى سنة تسع وسبع مئة، ونقل إلى دمشق ودفن بسفح قاسيون.
ومولده بالقاهرة في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وست مئة، وكان حكم البندق بالشام.
البلفيائي: القاضي زين الدين محمد بن عمر.
وشمس الدين محمد بن يعقوب.
بلكالأمير سيف الدين الجمدار الناصري.
حضر مع الأمير سيف الدين بشتاك إلى دمشق في واقعة تنكز مع جملة أمراء الطبلخانات الذين حضروا في ذلك المهم، وتوجه معه إلى مصر، وأقام بها إلى أن رسم للأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي بنيابة حماة، وكان في صفد نائباً، فحينئذ رسم للأمير سيف الدين بلك هذا بنيابة صفد، وذلك في أيام الملك الصالح إسماعيل، فحضر إليها، وأقام بها مدة الأيام الصالحية، ولما توفي الصالح رحمه الله تعالى وولي الكامل شعبان أخرج الأمير سيف الملك إلى صفد نائباً عوضاً عن بلك، وعاد بلك إلى مصر وأقام بها أميراً على مئة في تقدمة ألف، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبع مئة.
ولم يزل بها مقيماً إلى أن فرق الموت بين بلك وما ملك، ولم يدر ذووه أيةً سلك.
توفي رحمه الله بعد عيد رمضان في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
بلكالأمير سيف الدين أمير علم.
أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، لما عزل الأمير ناصر الدين محمد بن بهادرآص من نيابة حمص في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وسبع مئة رسم للأمير سيف الدين بلك بنيابة حمص، فتوجه إليها بمرسوم السلطان الملك الصالح صالح، فأقام بها نائباً إلى أن ورد عليه الأمر الذي لا يرد إذا دعا، ولا يصد منه مانع إذا ما نعى.
ووفاته في ثالث عشري شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
البندنيجي: المسند علي بن محمد بن ممدود.
بهادر الشمسيالأمير سيف الدين.
كان من أهل الصلاح والسلاح، وممن يتبع الصلاة بالصلات والسماح، ترك الإمرة مره، ونزل عما فيها من الدرة إلى الدره، ولبس زي الفقراء ورفض رياش الأمراء، ثم إنه أعيد، ورغب بالوعد وهدد بالوعيد، ورسم له بإعادته إلى الإمره، فعاد إليها ولم تعلم عوانه الخمره، وولي نيابة قلعة دمشق في جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وسبع مئة عوضاً عن القرماتي.
ولم يزل على حاله بقلعة دمشق إلى أن أنزله الموت منها على حكمه، ودخل به في عداد همه وبكمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة ثمان عشرة وسبع مئة، وكانت نيابته ما يقارب السبعة أشهر، وكان موته فجأة.
وولي النيابة بعده الأمير علم الدين سنجر الدميثري.
بهادر الجوكندارالأمير سيف الدين.
كان أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق وسكنه جوا باب الصغير، وكان يركب وينزل، ويرى أنه عن الدولة بمعزل، لكنه أمير خمسين فارسا. وعلمه لا يرى يوم الحاجة ناكسا.
ولم يزل على حاله إلى أن مر الأمير وما عاد، وبدل بالتعس على النعش بعد الإسعاد.
وتوفي رحمه الله تعالى في صفر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
وهو زوج بنت الأمير سيف الدين الجوكندار.
بهادرالأمير سيف الدين المنصوري المعروف بالحاج بهادر.

كان من أكابر الأمراء بالديار المصرية متعيناً فيهم، فأخرج إلى حلب على إمرة، ثم نقل إلى دمشق، ثم أعطى بها تقدمة ألف، وأقام بها مدة، وداخل الأفرم، وصار من أخصائه، وكان معروفاً بالتجري، وعدم التحرز والتحري، محباً للفتن، يصدح فيها على فنن، لا يحظى بالسرور، إلا إذا أجرى قناة الشرور، وكان يؤلب على الجراكسه، ويعد المهادنة لهم من المماكسه، لا يكاد يصبر على تعاطي السلاف، ولا يرى الدهر يده فارغة من كاس، كأنها تلافيه من التلاف، قيل: إنه كان يمر بين القصرين، وهو يتناول الخمر، ويقدح في أقداحه الجمر، وربما فعل ذلك بدمشق إذا دخل من الصيد، ولا يبالي بما يقوله عمرو وزيد.
أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: أخبرني والدي أنه كان أشبه الناس بالملك الظاهر بيبرس، وأقام في طرابلس نائباً بعد أسندمر إلى أن هجم عليه هادم اللذات، وفرق بينه وبين الأتراب واللدات.
وتوفي رحمه الله في شهر ربيع الآخر سنة وسبع مئة.
ولما ولي الملك بيبرس الجاشنكير وفرح به الأفرم تغير الحاج بهادر على الأفرم بعد مداخلته مجالس أنسه، ومواطن إطرابه ولذاته، وأخذ في تغيير الأمراء عليه، ويقول لمن يخلو به: هؤلاء الجراكسة متى تمكنوا منا أهلكونا وراحت أرواحنا معهم، فقوموا بنا نعمل شيئاً قبل أن يعملوا بنا، وتحالف هو وقطلوبك الكبير على الفتك بالأفرم إن قدرا عليه، فأحس الأفرم بذلك، فلم يزل بالحاج بهادر إلى أن استصلحه على ظنه، وقال: بعد أن سلمت من هذه الحية ما بقيت أفكر في تلك العقرب، يعني بالحية الحاج بهادر، وبالعقرب قطلوبك.
ولما تحرك الملك الناصر من الكرك أرسل الأفرم الحاج بهادر وقطلوبك الكبير يزكاً قدامه، فنزلا على الفوار، وأظهرا للأفرم، وأبطناله الغدر، ثم إنهما راسلا السلطان الملك الناصر في الباطن وحلفا له، ثم سارا إلى لقائه، ودخلا معه إلى دمشق، وكان الحاج بهادر حامل الجتر على رأس السلطان يوم وصوله دمشق، ولما جلس على كرسي الملك بقلعة الجبل ولى الحاج بهادر نيابة طرابلس، فتوجه إليها وأقام بها إلى أن مات رحمه الله تعالى.
بهادر آصالأمير سيف الدين المنصوري.
كان شكلاً طوالاً من الرجال، يباهي الغمام في فيض السجال، له صدقات ومعروف، وبشره للعفاة معروف، ذا رخت كثير، وتجمل في الإمرة غزير، وعنده خدام ومماليك، ودسته ترى الملوك فيه صعاليك، جهز السلطان الملك الناصر بعد موته، أخذ جماعة من مماليكه، عملهم سلاح دارية لأشكالهم الهائله، ومحاسنهم الطائله.
ولم يزل على إمرته في تقدمة الألف إلى أن برق ناظره، وهيأ له القبر حافره.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر سنة ثلاثين وسبع مئة.
وكان هو القائم بأمر الملك الناصر لما كان بالكرك تجيء رسله إليه في الباطن، وتنزل عنده، وهو الذي يفرق الكتب ويأخذ أجوبتها، ويحلف الناس في الباطن إلى أن استتب له الأمر، وكان آخر من يبوس الأرض بين يدي السلطان في الشام، وجهزه السلطان إلى صفد نائباً بعد الأمير سيف الدين قطلوبك الكبير في شهر جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، فأقام به مدة تقارب سنة ونصفاً، ثم أعيد إلى حاله بدمشق، فوصل إليها ثامن عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ولما كان مع الأمير سيف الدين تنكز في واقعة ملطية أشار بشيء فيه خلافه، فقال بهادرآص: كما نحن في الصبينة فلم يحملها منه، وحقدها عليه، فكتب إلى السلطان فقبض عليه وأقام في الاعتقال مدة سنة ونصف أو أكثر، ثم أفرج عنه وأعيد إلى مكانه وإقطاعه.
ولما توفي رحمه الله تعالى دفن في تربته برا باب الجابية، وخلف خمسة أولاد ذكور: الأمير ناصر الدين محمد، والأمير علي، والأمير عمر، والأمير أبو بكر، والأمير أحمد. فلحقه الأمير عمر، وكان أحسنهم وجهاً وقامةً، ثم أمير أحمد، ثم أمير علي.
وكان أمير عشرة، وكان أولاً وكيل السلطان وبيده إقطاع هائل إلى الغاية، وقفت أنا على ورقة فيها أسماء أماكن إقطاعه قبل الروك وهي: من دمشق: نهر قلوط.
من حمص: النهر بكماله، وأرض المرزات.
من الجولان: قرية سمكين، وقرية جلين بكمالها.

من البقاع: ثلث كفر رند، ثلث عين، دير الغزال بكمالها، ربع الرمادة، محمسة بكمالها، ربع الدلهمية، قرقما بكمالها، تعناييل بكمالها، حقل حمزة بكمالها، ربع علين، مزرعة الساروقية بكمالها، سدس عين حليا، القناطر بكمالها، علاق بكمالها، ربع يونين.
من بيروت: سبعل بكمالها.
من أذرعات: سدس كفرتا، نصف بيت الراس، ربع كفر الماء، ربع حديجة، ربع شطنا، ربع مهربا، ربع كفر عصم، نصف عونا من بصرى.
من صرخد: المحوسه، ربع نجيح، قيما بكمالها، نصف السعف، ربع قارا من زرع.
من جبل عوف: الغرية بكمالها، صوفة بكمالها، حنيك بكمالها، أم الخشب بكمالها، نصف دلاعا.
من البلقا: نصف ماجد، بيرين بكمالها، ثلاث مزارع بكمالها، ربع بقعة.
من نابلس: الكفر بكماله، صانور بكمالها، كفر كوس بكمالها.
من لد: خرنوبة بكمالها، أخصاص العوجاء بكمالها.
من عكا: عشرة أرماح بكمالها.
من صفد: المنيسة بكمالها، المناوات بكمالها، المعشوقة بكمالها، كفر كنة، وعوض عن ذلك جميعه بعد الروك: نمرين: من غور زعر بكمالها، الكفرين بكمالها، مردا. من نابلس ثلثا رويسون دير بجالا بكمالها.
بهادر بن عبد الله المنصوريالمعروف بالعجمي.
كان من جملة أمراء دمشق، وسكنه بالديماس، وكان في سنة خمس وتسعين وست مئة قد حج بالناس، وحمدت في المسير سيرته، وشكرت في الطريق طريقته. وكان شاباً حسن الطلعه، جميل الذهاب والرجعه، له دين متين، ومحبة لأهل العلم العاملين.
ولم يزل إلى أن ذوى غصنه الرطب، وفرغ عمره ما عنده في الوطب.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وست مئة، ودفن بجبل قاسيون.
بهادرالأمير سيف الدين المعزي.
كان أميراً كبيراً، قبض عليه السلطان الملك الناصر، وبقي في الاعتقال مدة زمانية، ثم إنه أخرجه في سنة ثلاثين وسبع مئة، فيما أظن، وأقبل عليه إقبالاً زائداً، وجعله أمير مئة مقدم ألف، وكان يجلس في دار العدل مع الأمراء المشايخ، وكان يسميه: وينعم عليه كثيراً.
وكان خيراً ساكناً وادعا، إلى المهادنة راكنا، يفتنه الناظر الفاتر، ويخلب لبه الجفن الساحر، يبالغ في إكرام مماليكه ويبرهم، ويسرهم بما فيه إطابة سرهم، لا يزال يغدق عليهم إنعامه ويفيء عليهم جوده وإكرامه، واقتنى منهم جملة جميله، وأخمل بهم زهرات الخميله.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح المعزي معزىً فيه، وعجز الطبيب في تلافه عن تلافيه.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة أربعين وسبع مئة، أو آواخر سنة تسع وثلاثين.
وكان قد أمسك هو وبكتمر الحاجب، وأيدغدي شقير والخازن في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبع مئة.
بهادر سمزبالسين المهملة والميم المكسورة وبعدها زاي، الأمير سيف الدين المنصوري.
كان من أمراء دمشق، معروفاً بالإقدام، مشهوراً في الحروب بثبوت الأقدام، لا يرد وجهه عن قلة ولا كثره، ولا يخشى من حسامه وجواده نبوةً ولا عثره.
كان مع الأفرم وهم يتصيدون بمرج دمشق على قرية بضيع، فدهمهم في الليل طائفة من عرب غزية، فقاتلوهم وقتل من العرب نحو نصفهم، ودخل هذا الأمير فيهم ولم يرجع عنهم، وأطال الغزو فيهم والمجاهدة لهم احتقاراً بهم، فطعنه من العرب فارس برمح في صدغه فصرعه، وعرض عليه صرف المنية فكرعه، وذلك في ثالث ذي القعدة سنة أربع وسبع مئة، ودفن بقبر الست ظاهر دمشق، وسمر من العرب واحد وطيف به إلى أن مات.
بهادر بن عبد اللهالأمير سيف الدين السنجري.
كان رجلاً سعيدا، ولم يكن من الخير بعيدا، تنقل في النيابات بالحصون وغيرها، وباشرها فغاضت بشرها، وفاضت بخيرها.
ولم يزل إلى أن دعاه ربه فأجابه، وأعظم الناس مصابه.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وهو بحمص نائب.
ولما كان في نيابة قلعة دمشق جاءه المرسوم بأن يكون نائب الغيبة بدمشق، لخلوها من نائب، وذلك في المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة، فحضر الموقعون والوزير، ونفذ وحكم، وولى عدة ولايات منها نظر البيمارستان لشرف الدين بن صصرى عوضاً عن بدر الدين بن الحداد، ولم تتم الولاية، وولى نظر الأسرى لعماد الدين بن الشيرازي، وولى نظر البيوت لشمس الدين بن الخطيري، وولى صحابة الديوان بالجامع الأموي لمحيي الدين بن القلانسي.

وطلب في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة على البريد إلى مصر فتوجه إليها، ودخل عوضه الأمير سيف الدين بلبان البدري، وعاد السنجري بعد فراغ رمضان متوجهاً لنيابة ثغر البيرة، وتوجه إلى غزة نائباً عوضاً عن الأمير علاء الدين طيبغا قوين باشي بحكم وفاته في شهر رمضان سنة اثنين وثلاثين وسبع مئة.
بهادرالأمير سيف الدين الناصري الدمرتاشي.
كان قد ورد إلى البلاد صحبة تمرتاش، فرآه السلطان فأحبه، ولما قتل تمرتاش أخذه السلطان وقربه وبالغ في تقديمه، فلامه الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، وقال: ياخوند، كل واحد من مماليكك يقعد في خدمتك ما شاء الله حتى تقدمه لإمرة عشرة، ثم تنقله لإمرة أربعين، وبعد مدة حتى يكون أمير مئة، فخالفه وأعطاه إمرة مئة، وقدمه على ألف، وزوجه إحدى بناته، وصار أحد الأربعة الذين يبيتون ليلة بعد ليلة عند السلطان، وهم: قوصون وبشتاك وطغاي تمر وبهادر الناصري، ولم يزل عنده إلى أن مرض، وطالت به علته وابتلي برمد أزمن، وقرحة طولت، ولازمه إنسان مغربي غريب البلاد، وعالجه بأشياء لم يوافقه الأطباء عليها، فلزم بيته وامتنع من الطلوع إلى القلعة إلا في الأحيان.
وكان شكلاً ظريفا، محبوباً إلى القلوب طريفا، ولم تكن عيناه متركه، ولا أفعالها للقلوب محركه، وله قامة مديده، ومحاسن هيفها عديده، إلا أن رمد عينيه أصدأ سيوف جفونها، وغير فتكات ظباها التي أغمدتها في جفونها، وكواه المغربي على جنبه فأنكاه، وكان سنه يضحك في السعادة فأبكاه، ولم يزل على ذلك إلى أن تولى السلطان الملك الصالح إسماعيل فاستحوذ على الملك لكونه زوج أخت السلطان، وسكن في الأشرفية دار قوصون، وصار الأمر والنهي والحل والعقد له، وأخرج الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني إلى نيابة حماة.
ولما نقل الأمير سيف الدين طقزتمر من نيابة حلب إلى نيابة دمشق نقل الأمير علاء الدين الطنبغا إلى نيابة حلب، وأخرج الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي إلى نيابة حماة.
ولم يزل على حاله إلى أن أخذ في ليله، وعدم حوله وحيله، فبات وما أصبح، وخسر ما كان ظنه يربح، وذلك في أوائل شوال سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، رحمه الله تعالى.
بهادرالأمير سيف الدين بن الكركري.
كان مشد الدواوين بحمص أيام تنكز، فأقام بها مدة، ثم إنه نقله إلى شد الدواوين بصفد، وولاية الولاة بها على إمرة طبلخاناه.
لم يكن عنده رقه، ولا يرعى في الحق لصاحب حقه، بطشه أسرع من رد طرفه، وهيج عضبه أشد من خطب الزمان وصرفه، لا يقوم لغضبه الجبل الراسي، ولا يداني الحديد البارد قلبه القاسي، ومات في عقوبته جماعه، ولم يخن سوء الذكر ولا سماعه، إلا أنه كان فيه مع ذلك خدمة ورياسه، ومخادعة لأرباب الجاه وسياسه. يقال إنه قتل ولده بالمقارع وألقاه على القوارع لشراب أخذ منه نشوته، وكشف بها الستر حشوته.
ولما جاء الأمير سيف الدين طشتمر إلى صفد نائباً وقع بينه وبينه، وصار لا يسمع منه ولا يخضع له ويترفع عليه، وإذا شفع في أحد عنده لا يقبل منه، وإذا علم أن الفلاح من جهته أو من جهة مماليكه قتله بالمقارع إلى أن يموت، فضاق عطن طشتمر منه وكظم غيظه، وصبر له إلى أن أمسك الأمير سيف الدين تنكز، فما ظن أن ابن الكركري ولا غيره إلا أنه يشنقه في أول وهلة، فلم يظهر له منه بعد تنكر تنكز، وتوجه طشتمر عقيب ذلك إلى باب السلطان، فأعطاه نيابة حلب، فباس الأرض، وطلب ابن الكركري من السلطان ليكون عنده في حلب مشدا، فوافقه السلطان على ذلك، لأنه كان يتحقق منه الأمانة والعفة عن مال الرعايا، ولم يزل بحلب إلى أن هرب طشتمر منها، على ما سيأتي في ترجمته، فما وفى له ابن الكركري ومال عليه، ولما عاد طشتمر من البلاد الرومية اعتقله، وتوجه إلى دمشق وتوجه منها إلى مصر، وجرى ما جرى من قتلة طشتمر، ثم إن ابن الكركري خلص بعد موت طشتمر من الاعتقال وبقي بطالاً، فحضر إلى دمشق في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر، ورتب له راتباً على الأموال الديوانية، ثم إنه رتب في شد الدواوين بدمشق وهو بلا إمرة، فأقام على ذلك قليلاً، وجهز إلى حمص مشداً، ثم إلى صفد مراراً كثيرة.

وباشر ولاية مدينة دمشق مدة بعد إقطاع، ثم طلبه الأمير شهاب الدين أحمد نائب صفد لشد صفد، فجهز إليها فأقام قليلاً، وكان ذلك في سنة تسع وأربعين في الطاعون، فتوهم الناس أنه يموت بها، فطلبه الأمير بدر الدين مسعود من السلطان أن يكون مشداً عنده بطرابلس على عشرة قد انحلت عنده، فرسم له بالتوجه إليها، فأقام بها قريباً من شهر، وجاءه القضاء الذي لا تحمى منه الحصون ولا يرى در حي دونه وهو مصون.
ووفاته رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة في جمادى الآخرة.
بهادرالأمير سيف الدين الأوشاقي الناصري المعروف بحلاوة.
كان إذا ساق في البريد وجاء إلى مركز قال للسواق أو لأحد من غلمان البريد: تأكل حلاوة ؟ فإذا قال: نعم ضربه بالسوط الذي معه، فسموه بهادر حلاوة.
وكان أشقر، أزرق العين بنظر أخف على القلوب منه رؤية الحين، الظلم ملء إهابه، والقسوة لا تخرج عما تحت ثيابه. ساق في البريد زماناً وهو بالكوفية البيضاء، وشوته المهامة وما سوته بالرمضاء. وكان السلطان يندبه في مهماته، ويأمنه على أسراره في ملماته.
وكان الأمير سيف الدين تنكز يدعوه ابني تارة بالعربي، وتارة بالتركي، وكلما جاء في البريد أعطاه فروة قرظية بغشا كمخا على الدوام، ولما طال ترداده، وقضى الأشغال ألبسه السلطان الكلوتة، ولما أراد السلطان أمساك تنكز جهز بهادر حلاوة في البريد إلى طشتمر بصفد، وحضر معه إلى دمشق، ولما أحاطوا بباب النصر، وجرى ما جرى، وخرج إليهم تنكز ومشى ومشوا جميعاً، ولم يجسر أحد على كلامه، فقال بهادر هذا بالتركي: يا أمراء عجلوا بالمشي، فقال له تنكز: أنت الآخر يا روسي، وضربه بالمقرعة على أكتافه. ولما قبض عليه وقيد أخذ سيفه وتوجه به إلى السلطان، فوعده بطبلخاناه.
ولما حضر الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى دمشق تأمر بهادر حلاوة طبلخانه، ورسم له السلطان أن يكون مقدم البريدية بالشام، فأقام على ذلك مدة، ثم إن ألطنبغا ولاه بر دمشق، فأقام به مدة، وخدم الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري أتم خدمة لما كان على خان لاجين، ولم يزل على ذلك إلى أن توجه الناصر أحمد إلى القاهرة، فقطع خبزه ثم أعيد إليه.
ولما حضر الأمير علاء الدين أيدغمش إلى دمشق نائباً خرج إقطاعاً بهادر حلاوة لأحد أولاد أيدغمش، ثم أعيد له إقطاع آخر بالإمرة، وأقام على ولاية البر إلى أن حضر الأمير سيف الدين طقزتمر إلى دمشق نائباً، فورد المرسوم من مصر بنقلة حلاوة إلى أمراء حلب، فتوجه إليها وأقام بها مدة تقارب الأربعة أشهر أو أكثر، إلى أن ذاق حلاوة علاقم الموت، وحصل لوجوه العدم والفوت، وذلك في ثلاث عشر صفر سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
قيل بين الأسما وبين المسمّى ... نسبةٌ تكتسي بذاك طلاوه
قلت هذا ما صحّ عندي لأنّا ... كم رأينا مرارةً من حلاوه
بهادرالأمير سيف الدين بهادر الدواداري.
أول ما عرفت من أمره أنه كان في ولاية صيدا وكان يخدم الناس كلهم، ويحسن إليهم، خصوصاً العسكر الصفدي الذي يحضر لليزك بصيدا في كل شهر، ولما مات تنكز عزل من صيدا بعد ما أقام بها مدة زمانية، وتولى نابلس وهو على ذلك المنوال، ثم تولى كرك نوح بالبقاع، ثم عزل وولي أستاذ دارية السلطنة بدمشق، وهو بطال بلا إقطاع، ثم أنعم عليه بعشرة أرماح في أيام أرغون شاه.
ولم يزل عليها في الوظيفة المذكورة إلى أن دار الموت بالدواداري، وأصبح زند المنية فيه وهو واري، وذلك في يوم عرفة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
وكان شيخاً طويلاً تام الخلق حسن الشكل والخلق، كأن الورد في وجهه تفتح والياسمين من شيبه بعارضيه مجنح.
بهادرالأمير سيف الدين التقوي الساكن بدرب السوسي.
كان أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق، وأظنه كان أولاً بالقاهرة، وله دار على بركة الفيل في أول الجبانية، وكان قد جرد من دمشق إلى الرحبة، فأحسن إلى العسكر الذي كان معه، وأثنوا عليه ثناءً كثيراً.
توفي رحمه الله تعالى وهو عائد من الرحبة بالقريتين في نصف شعبان سنة ثلاثين وسبع مئة، وحمل إلى دمشق في محفة، ودفن بالقبيبات.
بهادر بن أولياء بن قرمانالأمير سيف الدين، أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق، سكنه بالقبيبات بدمشق.
توفي رحمه الله تعالى في أوائل صفر سنة سبع وخمسين وسبع مئة.

وأعطي إقطاعه للأمير زين الدين زبالة الفارقاني نائب قلعة دمشق، وأعطيت العشرة التي كانت معه لغرس الدين خليل بن قرمان.
بوسعيدملك التتار، القان بن القان محمد بن خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو المغلي، صاحب العراق والجزيرة وأذربيجان وخراسان والروم، والناس يقولون فيه أبو سعيد، على أنه كنية، والصحيح أنه علم، هكذا رأيت كتبه التي كانت ترد على السلطان الملك الناصر محمد، يكتب على ألقابه الذهبية بوسعيد باللازورد الفائق، ويزمك بالذهب.
لما وقعت المهادنة والصلح بينه وبين صاحب مصر أراد السلطان أن يبتدئه بالمكاتبة، فبقي السلطان يطلب كاتب السر القاضي علاء الدين بن الأثير بالمكاتبة، وهو يقول له: يا خوند إن كتبنا له المملوك قد لا يكتب المملوك وإن كتبنا له والده أو أخوه فهو قبيح. ثم قال له بعد شهر: ياخوند رأيت أنا نكتب موضع الاسم ألقاب مولانا الشيخ السلطان بالطومار ذهباً، ونكتب على الكل محمد بالذهب أيضاً نسبة طغرة المناشير، فقال: هذا جيد، وجهز الكتاب على هذا الحكم، وعاد الجواب كذلك خلا بوسعيد، فإنها كانت باللازورد المليح المعدني، فقال السلطان: ونحن نكتب كذلك، فقال القاضي علاء الدين بن الأثير: ياخوند لأنا نكون قد قلدناهم، فاستمرت المكاتبة بينهما كذلك إلى أن توفي بوسعيد رحمه الله تعالى.
وكان شاباً مليحاً، لا يرى في المكارم طليحا، مسلماً، إلى الخير مسلما، معلماً بالجود وللسكون معلما، كتب الخط المنسوب، ودخل في ذلك العدد المحسوب، ورأيت خطه على ديوان أبي الطيب كأنه باكورة زهر غب القطر الطيب، وأجاد الضرب بالعود ولعب به، فكانت يمينه سحابة تقهقه منها الرعود، وصنف مذاهب في النغم ونقلت عنه، ورواها أولو النغم وتداولوها، وأصلها منه، وأبطل كثيراً من المكوس وأطلق جماعة من الحبوس، وأراق الخمور، وصمم في من شربها على أمور، وهدم ما في بغداد من الكنائس، وتتبع من له في دين الإسلام دسائس، وخلع على من أسلم من الذمه، وجعل الترغيب في الدخول للإسلام من الأمور المهمه، وأسقط ما في ممالكه من مكوس الثمار، ولم يدع فيها أحداً يتعرض لهذا السبب إلى أخذ درهم ولا دينار، وورث ذوي الأرحام، ولم يأخذ منهم لبيت المال نصيبا، وأصبح في هذه المسألة لأبي حنيفة رضي الله عنه نسيبا، إلا أنه كانت به عنة، لا يجد له منها سوى بغداد جنة، وهو كان آخر بيت هولاكو وبانقراضه انقرضوا، ونكثوا حبل الملك ونقضوا.
ولم يزل في سعة ملكه والفرح بما في فلكه إلى أن زعزع الموت أركانه، وحرك كل قلب لما رأت العين إسكانه.
وكانت وفاته رحمه الله تعالى في الأردو بأذربيجان في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وقد أناف على الثلاثين سنة.
وكانت دولته عشرين سنة، ولم تقم بعده لملوك المغل قائمة.
وكان جلوسه على التخت في مستهل جمادى الأولى سنة سبع عشرة وسبع مئة بمدينة السلطانية، وكان عمره يومئذ إحدى عشرة سنة والله أعلم.
وكان قبل موته بسنة قد حج الركب العراقي، وكان المقدم عليه، بطلاً شجاعاً، ولم يمكن أحداً من العربان يأخذون من الركب شيئاً، فلما كانت السنة الآتية خرجت العربان على الركب ونهبوه، وأخذوا منه شيئاً كثيراً، فلما عادوا شكوا إليه، فقال: هؤلاء في مملكتنا أو في مملكة الناصر ؟ فقالوا: لا في مملكة الناصر ولا مملكتك إنما هؤلاء في البرية، لا يحكم عليهم أحد، يعيشون بقائم سيفهم ممن يمر عليهم، فقال: هؤلاء فقراء، كم مقدار ما يأخذون من الركب نحن نكون نحمله إليهم من بيت المال من عندنا كل سنة، ولا ندعهم يأخذون من الرعايا شيئاً، فقالوا له: يأخذون منهم ثلاثين ألف دينار، ليراها كبيرة فيبطلها، فقال: هذا القدر ما يكفهم ولا يكفيهم، اجعلوها كل سنة ستين ألف دينار، وتكون تحمل صحبة مسفر من بيت المال من عندنا مع الركب، فمات من سنته، رحمه الله تعالى، وجرت بعده أمور يطول شرحها، ولما بلغت وفاته السلطان الملك الناصر قال: رحمه الله تعالى، والله ما بقي يجينا مثل بوسعيد.
بولاي النوين التتريأحد مقدهي التتار الذين حضروا مع غازان، اسمه على الصحيح مولاي وإنما الناس يحرفونه تهكماً به وبأمثاله كما يقولون في خداي بندا: خربندا.

لما أراد غازان العود من دمشق بعد ما ملكها إلى بلاده، ورتب الأمير سيف الدين قبجق نائب دمشق وجعل الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار نائب حلب والأمير فارس الدين البكي نائب السواحل كلها وزكريا بن الجلال وزيراً يستخرج الأموال من دمشق، وحلب وطرابلس، جعل بولاي هذا مقيماً بجماعة من عسكر التتار ردءاً لهؤلاء النواب إلى أن يستخدموا لهم جنداً، فنبت ببولاي الدار، وضاق عطنه من المقام بأرض الشام، وتذكر هو وقومه بلادهم وجنى له من دمشق جناية لما قدم من الغور في العشر الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة.
الألقاب والأنساب

البيابانكي أحمد بن محمد
ابن البياعة: شمس الدين محمد بن عثمان.
وجلال الدين محمد بن سليمان.
بيبرسالملك المظفر ركن الدين البرجي الجاشنكير المنصوري، وكان يعرف بالعثماني.
كان أبيض أشقر مستدير اللحية أزهر، فيه عقل موفر الأقسام، ودين لا يدعه يقع في محظور ولا حرام. يتجنب الفواحش ويحاذيها، ويقول:
إنّ السلامة من ليلى وجارتها ... أن لا تمرّ بوادٍ من بواديها
شاع عنه ترك المحرمات وذاع، وملأ الأقطار والأسماع، خلا أنه لم يرزق في ملكه سعداً ولا أنجز الله له من طول المدة وعدا، وخانه سفرآؤه وخبث عليه أمراؤه وأسلموه وقفزوا، وتركوه فرداً وتميزوا، فولى مدبراً ولم يعقب، وخرج من مصر نحو الصعيد خائفاً وهو مترقب، إلى أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، واصفرت شمس سعوده وشحبت، فعاد وقد استسلم للطاعه، وبذل في رضى الله جهد الاستطاعه، وكانت أمواله لا تحصى، وأوامره لا تعصى، وله قبل السلطنة إقطاع كبيرة فيه عدة طبلخانات.
وكان أستاذ الدار للملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان سلار النائب، فحكما في البلاد وتصرفا في العباد، والسلطان له الاسم لا غير، وكانوا نواب الشام خوشداشيته، وحزبه من البرجية.
ولما توجه السلطان الملك الناصر محمد إلى الحجاز ورد من الطريق إلى الكرك وأقام بها وأظهر لهم أنه ترك الملك، لعب الأمير سيف الدين سلار بالجاشنكير وسلطنه، وتسمى بالمظفر وفوض الخليفة إليه ذلك، وأفتاه جماعة من الفقهاء بذلك منهم الشيخ صدر الدين بن الوكيل، والشيخ شمس الدين بن عدلان، حتى قيل في ذلك:
ومن يكن ابن عدلانٍ مدبّرة ... وابن المرّحل قل لي كيف ينتصر
وكتب عهده عن الخليفة، وركب بخلعة الخلافة السوداء والعمامة المدورة، والتقليد على رأس الوزير ضياء الدين النشائي، وناب له سلار، واستوسق له الأمر، وأطاعه أهل الشام ومصر، وحلفوا له في شوال سنة ثمان وسبع مئة، ولم يزل إلى وسط سنة تسع، حصل للأمير سيف الدين نغاي وجماعة من الخواص نحو المئة، وخامروا عليه إلى الكرك، فخرج الناصر من الكرك وحضر إلى دمشق وسار في عسكر الشام إلى غزة فجهز المظفر يزكا قدم عليهم الأمير سيف الدين بلرغي فخامر إلى الناصر، فذل المظفر، وهرب في مماليكه نحو الغرب، ثم إنه رجع بعد ما استقر الملك الناصر في قلعة الجبل، فذكر أن قراسنقر ضرب حلقة بالقرب من غزة لما خرج من مصر نائباً في دمشق، فوقع في الحلقة الجاشنكير المذكور ومعه نحو ثلاث مئة فارس، فتفرق الجماعة عنه في ثامن ذي القعدة سنة تسع وسبع مئة، رجع بنفسه معه على الهجن إلى مصر والأمير بهادرآص، فوصلا به إلى الخطارة، وتسلمه منهما الأمير سيف الدين أسندمر، وردهما لأن السلطان كان قد جهز يقول للجاشنكير: تروح إلى صهيون فهي لك، فتوجه في البرية، فوقع به قراسنقر، وكتب إليه فيما بلغني ممن له اطلاع: الذي أعرفك به أنني قد رجعت إليك لأقلدك بغيك، فإن حبستني عددت ذلك خلوة، وإن نفيتني عددت ذلك سياحة، وإن قتلني كان ذلك شهادة.
ومات رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة، وقيل: سقاه سما فهلك من وقته.
وعلى كل حال فما جاشت نفس الجاشنكير ولا جشأت ولا عبأت بوارد الموت ولا خسأت.
عمر الجامع الحاكمي بعد الزلزلة، ووقف عليه الأوقاف والكتب النفسية الكبيرة، وكتب له ابن الوحيد ختمة في سبع أجزاء بقلم الأشعار ذهباً، أخذ لها ليقةً ألف وست مئة دينار، وزمكها وذهبها صندل المشهور، وغرم عليها جملةً من الأجر، وما أظن أنه بقي يتهيأ لأحد أن ينشىء مثلها، ولا من تسمو همته إلى أن يغرم عليها مثل ذلك.

وكانت سلطنته عصر يوم السبت ثالث عشري شوال سنة ثمان وسبع مئة بالقاهرة، وجعل الأمير سيف الدين بلرغي مكان الجاشنكير ومكان بلرغي الأمير سيف الدين بتخاص، ومكان بتخاص الأمير جمال الدين بن آقوش نائب الكرك.
وعمر الخانقاه الركنية التي في رحيبة العيد مجاورة لخانقاه سعيد السعداء، ورتب لها فيما قيل أربع مئة صوفي، وصنع داخلها للفقراء بيمارستانا. ولما حضر السلطان الملك الناصر من الكرك لم يستمر لها إلا بمئة صوفي لا غير، وكان في كل قليل يؤخذ من حاصلها السبعون ألفاً والخمسون ألفاً والأقل والأكثر.
وكنت قد قلت فيه رحمه الله تعالى:
تثنّى عطف مصرٍ من قدوم ال ... مليك النّاصر الندب الخبير
فذلّ الجاشنكير بلا لقاءٍ ... وأمسى وهو ذو جاشٍ نكيرٍ
إذا لم تعضد الأقدار شخصاً ... فأوّل ما يراع من النصير
بيبرسالشيخ المسند الكبير الجليل علاء الدين أبو سعيد بن عبد الله التركي العديمي مولى الصاحب مجد الدين بن العديم.
ارتحل مع أستاذه، وسمع ببغداد جزء البانياسي من الكاشغري، وجزء العيسوي من ابن الخازن وأسباب النزول من ابن أبي السهل، وتفرد بأشياء، وسمع من ابن قميره.
وحدث بدمشق وحلب. وسمع منه علم الدين البرزالي، وابن حبيب، وأولاده، والواني، وابن خلف، وابن خليل المكي، وغده.
وكان مليح الشكل أمياً، غير فصيح، أعجميا، لم يزل يسمع إلى أن عدم العديمي وفقد، وزيف الموت صرفه وما انتقد.
ووفاته بحلب سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده في حدود العشرين وست مئة.
بيبرسالأمير ركن الدين الشرفي المنصوري المعروف بالمجنون.
توجه بالناس إلى الحج في سنة ست وسبع مئة، ولما أمسك الأمير سيف الدين كراي المنصوري نائب دمشق توجه بالأمير ركن الدين والأمير سيف الدين أغرلو العادلي إلى الكرك في شهر ربيعة الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري شهر ربيعة الأول سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وكان سكنه بالزلاقة داخل الباب الصغير، وكانت وفاته بحمص.
بيبرسالأمير ركن الدين التلاوي، بكسر التاء ثالثة الحروف وبعدها لام ألف وواو بعدها ياء النسب.
كان أميراً لا مهابه، وشدة بأس تروع أعداءه وتروق صحابه، ولي شد دمشق بصرامة وحرمة أوقدت ضرامه، فخافه المباشرون وغيرهم، وطار من خوفه طيرهم.
ولم يزل على حاله إلى أن بردت أنفاسه، ونفضت من الحياة أحلاسه.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شهر رجب الفرد سنة ثلاث وسبع مئة.
وكان فيه ظلم وعسف، وفرح الناس بموته، وباشر السد بعده الأمير شرف الدين قيران عقيب وصوله من طرابلس.
بيبرسالأمير ركن الدين الموفقي المنصوري، كان من عتقاء الملك الأشرف.
كان قد ولي النيابة بغزه، وجعل لها بإمرته فيها طرباً في عطفها وهزه، وكان كبير القدر معظما، ومعاليه ترى على جيد الزمان عقداً منظما، ثم عزل من غزة وأقام بدمشق إلى أن بانت حياته، وقطف ثم عمره جناته.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة أربع وسبع مئة، وحضر الأمراء جنازته وتولى غزة بعده أقجبا المنصوري.
بيبرسالأمير ركن الدين العلائي.
كان من جملة أمراء دمشق، توجه منها يوم السبت سابع عشري شوال إلى غزة نائباً عوضاً عن الأمير سيف الدين أقجبا المنصوري، وذلك في سنة سبع وسبع مئة، فأقام بها إلى أن عزل منها في صفر سنة تسع وسبع مئة بالأمير سيف الدين بلبان البدري، فأقام بدمشق على إمرته مدةً، ثم وصل إليه تقليده بنيابة حمص في سادس شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، فتوجه إليها وأقام بها إلى أن قبض السلطان عليه بحمص في بكرة الأحد تاسع شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
وورد إلى دمشق فأمسكه الأمير سيف الدين قجليس، وأمسك الأمير بدر الدين القرماني والأمير سيف الدين طوغان والأمير ركن الدين بيبرس المجنون، والأمير علم الدين سنجر البرواني والأمير ركن الدين بيبرس التاجي والأمير سيف الدين كشلي، وتوجهوا بهم إلى الكرك، وكان قد باشر الحجوبية في سنة أربع وسبع مئة.
بيبرسالأمير ركن الدين الجالق الصالحي المعروف بالعجمي.

كان أميراً كبيراً من الجمدارية في أيام الصالح، وأمره الظاهر، وكان كثير الأموال، ودفن بظاهر القدس.
وكان قد توفي رحمه الله تعالى بظاهر الرملة في نصف جمادى الأولى سنة سبع وسبع مئة.
بيبرسالأمير ركن الدين الحاجب.
كان أولاً أمير آخور، فلما حضر السلطان من الكرك عزله بالأمير أيدغمش المذكور في حرف الهمزة، ثم إنه ولاه الحجبة، فكان حاجباً إلى أن جرد إلى اليمن هو وجماعة من العسكر المصري، فغاب مدة باليمن، ولما حضر نقم السلطان عليه أموراً نقلت عنه، فاعتقله في حادي عشر ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
وكان قبل تجريده إلى اليمن قد حضر إلى دمشق نائباً مدة غيبة الأمير سيف الدين تنكز بالحجاز، ولما حضر الأمير سيف الدين تنكز عاد إلى مصر قبل وروده بيوم أو يومين ولم يعلم أحد بخروجه، ثم إن السلطان أفرح عنه. وكان الإفراج عنه في شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة من الإسكندرية، وجهزه إلى حلب أميراً، فبقي هناك مدة.
ولما توجه الأمير سيف الدين تنكز إلى مصر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة طلبه من السلطان، فرسم له بالحضور إلى دمشق، فحضر إليها ونزل بدار أيدغدي شقير وملكها، ولم يزل بدمشق مقيماً إلى أن توجه الفخري هو وطشتمر إلى مصر، فأقره على نيابة الغيبة بدمشق هو والأمير سيف الدين اللمش الحاجب، وكان الملك الناصر أحمد يكتب إليه وكان قد أسن، وحصل له في وجهه ماشرى، فما علم بعدها ما باع من الحياة ولا ماشرى.
وتوفي بعدها بجمعة في شهر رجب الفرد سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
وله دار مليحة بالقاهرة داخل باب الزهومة في رأس حارة زويلة مشهورة، وهو والد الأمير علاء الدين أمير على الحاجب الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.
بيبرسالأمير ركن الدين الدوادار المنصوري الخطائي.
كان رأس الميسرة، وكبير الدولة. عمل نيابة السلطنة، ثم إنه سجن مدة، وأفرج عنه وأعيد إلى منزلته.
وكان فاضلاً في أبناء جنسه، عاقلاً لا يستشير في أمره غير نفسه، وافر الهيبة، واضح الشيبة له منزلته مكنية عند السلطان، ومحلة لا يشركه فيها غيره في النزوح والاستيطان، يقوم له إذا أقبل، ويقول له: اجلس فإنك أكبر من هؤلاء وأنبل.
ولم يزل على حاله إلى أن أمسكه الحين فما أفلته، وسل عليه حسامه وأصلته.
ومات وهو في عشر الثمانين بمصر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
وعمل تاريخاً كبيراً بإعانة كاتبه ابن كبر النصراني وغيره، خمسةً وعشرين مجلداً.
وتولى نيابة مصر في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة بعد بكتمر الجوكندار، ودفن بمدرسته التي أنشأها تحت قلعة الجبل، وحضر جنازته نائب السلطان والأمراء وأعتق مماليكه وجواريه، وفرق خيله.
وكان يجلس رأس الميسرة وكان قد أمسك هو والأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، والأمير سيف الدين سنقر الكمالي، وحبسوا في برج بالقلعة ومعهم خمسة أمراء غيرهم.
بيبرسالأمير ركن الدين حاجب صفد، كان منسوباً إلى سلار.
أخرجه السلطان الملك الناصر محمد إلى صفد بعد سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فأقام بها أميراً إلى أن توفي حاجبها الأمي علاء الدين أقطوان الكمالي، فرسم له بالحجبة مكانة.
ولما رسم السلطان الملك الناصر للأمير بهاء الدين أصلم بنيابة صفد رسم لبيبرس أن يكون في دمشق أميراً حتى لا يجتمعا، لأن أصلم كان سلاريا.
ثم إنه بعد موت الناصر محمد طلب العود إلى صفد، وعاد إليها حاجباً، وكان عاقلاً خبيرا، يصلح أن يكون مدبراً ومشيرا، عديم الشر وادعا، قائلاً بالحق صادعا، له نعمة وسعاده، وفيه الحسنى وزياده.
ولم يزل بصفد إلى أن هيل عليه ترابه، وفقده ذووه وأصحابه.
وتوفي رحمه الله تعالى في أول شهر رجب الفرد سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
بيبرسالأمير ركن الدين الأحمدي أمير جاندار.
كان من أعيان الدولة في أيام السلطان الملك الناصر، وهو أمير جاندار مقدم ألف، وكان أحد الأبطال، يعجز من مقاومته أبو محمد البطال عنده قوة نفس وعزم، وسوء ظن بالدهر وحزم، قد حلب الدهل أشطره، وقرأ من ريبه أسطره، مع ما فيه من محبة الفقراء، وإيثار الصلحاء.

وعنده من مماليكه رجال يملأ بهم في الحروب سجال، ويقدمون على الأسود في غابها ويجيلون بين نفوس الأعادي وبين رغابها، قد كثر منهم العدد، وقواهم بالخيل والسلاح والعدد، فإذا ركبوا زلزلوا الأرض، وجابوا طول البسيطة والعرض، لو صد بهم جبلاً صدعه أو رد بهم على سيل حافر كفه عن شأوه وردعه، لا جرم أنه بهم نجا، ووجد له من ضيق الناصر أحمد مخرجا.
وهو أحد من يشار إليه في الحل والعقد، بعد الملك الناصر محمد، وهو الذي قوى عزم قوصون على إقامة المنصور أبي بكر، وخالف بشتاك، وقال: هذا الذي ولاه أستاذكم وهو أبوه، وما اختار الذي تختاره أنت، وأبوهما أخبر بهما.
ولما نسب إلى المنصور ما نسب من اللهو واللعب، واستعمال الشراب حضر إلى باب القصر وبيده دمرتاش، وقال: أيش هذا اللعب ؟ فانفل الجماعة الذين كانوا عند السلطان أبي بكر.
ولما توفي الناصر محمد فرغ عن الوظيفة وولى مكانه أروم بغا، ثم إن الناصر أحمد لما جلس على كرسي الملك ولاه نيابة صفد، فخرج إليها وأقام بها مديدة، ولما انهزم الفخري من رمل مصر، ووصل إلى جينين قاصداً الأحمدي هذا، وأشار مماليكه عليه بذلك، ونزل هو من صفد، ولو اجتمعا ما نال أحمد منهما غرضاً، ثم إن الفخري قال: لا، هذا أيدغمش على عين جالوت هنا وهو أقرب، فجاء إليه فأمسكه، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة الفخري، ثم إن الناصر أحمد حقد على الأحمدي ذلك وهم بإمساكه، فأحسن بذلك، فخرج من صفد هو ومماليكه ملبسين عدة السلاح، واتبعهم عسكر صفد فخرج منهم واحد وقتل ركن الدين عمر البتخاصي الحاجب الصغير.
ثم إن الأحمدي قصد دمشق وليس لها يومئذ نائب، فخرج الأمراء ليلاً لإمساكه فقال: أنا قد جئت إليكم غير محارب، فإن جاء أمر السلطان بإمسكاي أمسكوني وأنا ضيف عندكم، فأخرجوا له الإقامة، تلك الليلة، وأصبح والأمراء معه، وجاء البريد من الكرك بإمساكه فكتب الأمراء إلى السلطان يسألونه فيه وأن هذا مملوكك ومملوك والدك، وهو ركن من أركان الدولة، وماله ذنب، واليوم يعيش وغداً يموت، ونسأل صدقات السلطان العفو عنه، وأن يكون أميراً بدمشق. فرد الجواب بإمساكه، فردوا الجواب بالسؤال فيه، فأبى ذلك وقال: أمسكوه وانهبوه، وخذوا أمواله لكم وابعثوا إلي برأسه، فأبوا ذلك، وخلعوا طاعته وشقوا العصا عليه.
وبعد أيام قليلة ورد الأمير سيف الدين طقتمر الصلاحي من مصر مخبراً بأن المصريين خلعوا أحمد وولوا الملك الصالح إسماعيل.
وبقي الأحمدي مقيماً بقصر تنكز بالمزة إلى أن ورد المرسوم له بنيابة طرابلس، فتوجه إليها، وأقام بها قريباً من شهرين، ثم طلب إلى مصر، فتوجه إليها وحضر عوضه الأمير سيف الدين أروم بغا نائباً، ثم إن الأحمدي جهز إلى الكرك يحاصر الناصر أحمد فحصره مدة، وبالغ، فلم ينل منه غرضاً، وتوجه إلى مصر، وأقام بها إلى أن أتاه الأمر الذي لا يرده بواب، ولا يحول دونه حجاب.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة ست وأربعين وسبع مئة، ومات وهو في عشر الثمانين.
ولما كان في تلك المدة مقيماً بدمشق جاء حريم طشتمر من الكرك بعد ما نهبن بالكرك وسلبن موجودهن، فدفع الأحمدي إليهن مبلغ خمسة آلاف درهم.
بيبرسالأمير الصالح الخير ركن الدين أبو أحمد بن عبد الله التركي القيمري ثم الظاهري السلاح دار.
روى عن ابن المقير، والمكرم بن عثمان، وغيرهما. ولما كان بمصر لازم الشيخ شرف الدين الدمياطي، واستنسخ بعض مصنفاته وسمع الغيلانيات على غازي الحلاوي، وحصل بها نسخة. وكان يحفظ كثيراً من الأحاديث والآثار والأدعية المأثورة.
وحدث بالقاهرة وبدمشق والحجاز.
قرأ عليه الشيخ علم الدين البرزالي بعرفة الأربعين لابن المقير، ثم إنه ورد دمشق، ثم إنه حبس وقطع خبره، ثم أفرج عنه وانقطع في بيته، وأقبل على شانه، وعمل على ما يرجح كفة ميزانه، وأقام على ذلك مدة سنين لا يجتمع بالدولة، ولا بأحد من أرباب الصولة، ولا يتردد إلى أحمد من نواب السلطنة، ولا يدانيه ولا يتوجه إليه ولا يراه ولا يرائيه، إلى أن أتاه الأمر الذي يرد فلا يرد، ويصد فلا يصد.
وكانت وفاته رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة أربع وسبع مئة.
بيبرسالأمير ركن الدين الفارقاني نائب قلعة دمشق.

كان شيخاً طويلا، قديم الهجرة جليلا، فيه خير وديانه، وبر وصيانه، أحسن نيابة القلعه، وخبر ما وجد فيها من سلعه، ولم يزل بها على حاله إلى أن أنزله الموت من حصنه، وما أمكنه الفرار ولو علا على ظهور حصنه.
ووفاته في العشر الأوسط من جمادى الأولى سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ولما كان بالديار المصرية جهزه السلطان إلى القاضي كريم الدين الكبير، فتولى ما أمره به، وكان يحكى عنه ما عامله به من المكارم وكيف تلقى ذلك برضىً وتسليم لأمر الله تعالى.
بيبغاالأمير سيف الدين الأشرفي.
كان في وقت نائب الكرك فيما بعد العشرين وسبع مئة فيما أظن، ثم إنه عزل منها، وحضر إلى دمشق وجهز إلى قلعة صرخد، فيما أظن أيضاً، وكان قد أضر بأخرة فعدم قمريه المنيرين، وفقد نقديه البصيرين.
ولم يزل على حاله إلى أن دعاه باريه فلباه، وقال نادبه. وارباه.
ووفاته رحمه الله تعالى في...
بيبغاالأمير سيف الدين مملوك الملك المؤيد صاحب حماه رحمه الله تعالى.
كان من جملة أمراء الطبلخاناه بحماة.
ولم يزل بها على إمرته، وصحبة من ارتضاه وعشرته، إلى أن فقده ودوده وعاث في لحمه حشرات الأرض ودوده.
ووفاته رحمه الله تعالى سنة ست وأربعين وسبع مئة.
بيبغاروسالأمير سيف الدين نائب السلطنة بالديار المصرية.
أول ما ظهر وشاع ذكره في الأيام الصالحية إسماعيل، وهو الذي جاء في أول دولة الكامل يطلب طقزتمر نائب الشام إلى مصر، ثم لما قتل المظفر حاجبي ظهر واشتهر، وباشر النيابة بمصر على أحسن ما يكون وأجمل ما باشره غيره لأنه أحسن إلى الناس وبسط لهم إلإيناس، ولم يظلم أحداً ولم يتخذ على من تهتك رصدا، وكان إذا مات أحد أعطى ولده إقطاعه، وكل من طلب منه شيئاً قال: سمعاً وطاعه، فأحبه الناس ودعوا، وحفظوا عهده ورعوا، ومشوا في ركابه وسعوا، وتباركوا بطلعته، وتقرب كل أحد إليه بنفاق سلعته، وكان الطاعون في أيامه، وذلك الوباء داخلاً في أقسامه، فيقال: إنه كفن مئة ألف أو يزيدون، وأعطى الإقطاعات للأولاد، أراد الأمراء ذلك أو لا يريدون.
قيل: إنه جاءت إليه امرأة وقالت: مات زوجي وليس له إلا إقطاعه وترك لي هاتين الابنتين، فرق لها، فقال لناظر الجيش: اكشف عبرته. فقال: خمسة عشر ألف، فقال: من يعطي في هذا عشرين ألف درهم فقال واحد: أنا أعطي اثني عشر ألف درهم فقال: هاتها، فوزنها، فقال للمرأة: خذي هذه الدراهم وجهزي بنتيك، وأعطى الإقطاع لذلك الذي سلم الدراهم.
وكان في النيابة فيه خير كثير، وإحسان إلى الناس غزير إلا أنه كان يعكف على حسو السلافه، ويرى أنه بتعاطي كؤوسها قد نال الخلافه، ماله رغبة في غير اجتلاء شوسها وتناول كؤوسها، واجتلاء أنوارها من يدي سقاتها الأقمار وتذهيب أشعتها لما عليهم من الأطمار، لا يقابل من قابله بها برده، فهي تغرب في فمه وتطلع في خده، ومع ذلك فما يخل بالجلوس في الخدمة أوقات الخدم، وثبات مالها في الدول المعروفة من قدم القدم.
وكان قد ولى أخاه الأمير سيف الدين منجك الوزارة، فاختلف في أمره فيما بين الخاصكية، فأرضاهم بعزله أياماً قلائل، ثم إنه أخرج أمير أحمد الساقي إلى صفد نائباً، ثم أخرج بعده الأمير سيف الدين الجيبغا إلى دمشق، ثم أخرج حسام الدين لاجين العلائي زوج أم المظفر إلى حماه، وأقام على حاله إلى أن عزم على الحج، فقال له أخوه منجك: لا تحج، والله يتم لنا ما تم للفخري وطشتمر، فلم يسمع منه، وتوجه إلى الحجاز في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، ومعه فاضل ومامور، وحج معه الأمير سيف الدين طاز، والأمير سيف الدين بزلار وغيرهم من الأمراء، فأمسك بعد توجهه الأمير سيف الدين منجك بأيام قلائل، وقبض عليه الأمير سيف الدين طاز في الينبع في سادس عشري القعدة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. فقال لطاز: أنا ميت لا محاله، فبالله دعني أحج، فقيده وأخذه معه وحج وطاف وسعى، وهو مقيد على إكديش، ولم يسمع بمثل ذلك، ولما عاد من الحجاز تلقاه الأمير سيف الدين طينال الجاشنكير، وأخذه وحضر به إلى الكرك، وسلمه إلى نائبها، وتوجهوا بأخيه فاضل إلى القاهرة مقيداً، فدخلها، أعني النائب بيبغا إلى الكرك في سابع المحرم سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة. وقلت أنا فيه رحمة له:

تعجّب لصرف الدّهر في أمر بيبغا ... ولا عجبٌ فالشمس في الأفق تكسف
لقد ساس أمر الملك خير سياسةٍ ... ولم يك في بذل الندى يتوقّف
وأمسك في درب الحجاز ولم يكن ... له عن رضى السلطان في ذاك مصرف
وسلّم للأقدار طوعاً وما عتا ... ولو شاء خلّى السيف بالدم يرعف
وسار إلى البيت العتيق مقيّداً ... وريح الصبا تعتلّ والورق تهتف
فيا عجباً ما كان في الدهر مثله ... يطوف ويسعى وهو في القيد يرسف
وعاجوا به من بعد للكرك التي ... على ملكها في نفس الملوك تأسّف
وأودع في حصن بها شامخ الذرّى ... تراه بأقراط النجوم يشنّف
سيؤويه من آوى المسيح ابن مريم ... وينجو كما نجّي من الجبّ يوسف
ولم يزل في الكرك معتقلاً إلى أن ولي الملك السلطان الملك الصالح صالح، فأفرج عنه وعن الأمير سيف الدين شيخو وبقية الأمراء المعتقلين بالإسكندرية، ووصل إلى القاهرة، فوصله وأنعم عليه وخلع عليه، ورسم له بنيابة حلب عوضاً عن الأمير سيف الدين أرغون الكاملي.
فوصل إلى دمشق نهار السبت ثالث عشري شعبان سنة اثنين وخمسين وسبع مئة ومعه الأمير عز الدين طقطاي ليقره في النيابة ويعود، ولما وصل إلى غزة عمل له الأمير سيف الدين بيبغاتتر النائب بغزة سماطاً فأكله، ولما فرغ منه أمسكه وجهزه مقيداً إلى الكرك، وتوجه هو إلى حلب وباشر النيابة، ومن حين دخلها تغيرت نيته وفسدت على الأمير طاز وعلى الدولة، ووسوس له الشيطان، نعوذ بالله منه، وحسن له كل قبيح، وسول له كل فساد بعد ذلك الخير والصلاح، واتفق مع أحمد الساقي نائب حماة، ومع بكلمش نائب طرابلس على الركوب والحضور إلى دمشق، فإن وافقهم أرغون الكاملي نائبها على ما يريدون وإلا ضربوا معه مضافاً، وأخذوا عسكر الشام وتوجهوا به إلى مصر، واتفق معه الأمير زين الدين قراجا بن دلغادر نائب الإبلستين على ذلك. وترددت الرسل بينهم، وجعلوا يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، إلى أن بلغ الأمير سيف الدين أرغون الكاملي قوة عزمهم على الحضور إلى دمشق، فخلف عسكر الشام للسلطان الملك الصالح، وتوجه بالعسكر إلى لد، وأقام عليها، ودخل بيبغاروس وأحمد وبكلمش بعساكر حلب وحماة وطرابلس وتركمان بن دلغادر إلى دمشق نهار الاثنين ثالث عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة مطلبين، ولاقاهم الأمير علاء الدين ألطنبغا برناق نائب صفد، على ما تقدم في ترجمته، ونزل بيبغا على قبة يلبغا ظاهر دمشق، وأقام عنده أحمد يومين ثلاثة، ثم إنه توجه بألف فارس وأقام على المزيريب، وتسيب تركمان بن دلغادر وغيرهم من المفسدين على بلاد حوران وبلاد البقاع وبعلبك والمرج والغوطة يعبثون ويفسدون وينهبون الأموال والغلال والدواب ويستحلون الفروج، ويرتكبون المحارم مدة أربعة وعشرين يوماً، إلى أن بلغهم وصول الأمير سيف الدين طاز إلى لد في خمسة آلاف فارس من العسكر المصري، وتحققوا أن السلطان الملك الصالح عقيب ذلك يصل، فتفللت العزائم وهرب دلغادر، وتوجه إلى بلاده على وادي التيم، فقدم بيبغاروس إلى المزيريب، واجتمع بأحمد الساقي وبات عنده ليلةً، ثم إنهم انهزموا إلى بلاد حلب، وأرادوا الدخول إلى حلب فمنعوا، وأمسك أهل حلب منهم جماعةً، على ما تقدم في ترجمة الطنبغا برناق، وقتل حينئذ الأمير فاضل أخو بيبغاروس، وكان من الفرسان، ووصل الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، والأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين طاز بعساكرهم إلى دمشق في خامس عشري شعبان، ووصل السلطان يوم الخميس مستهل شهر رمضان، وجهز الأمير أرغون الكاملي والأمير شيخو والأمير طاز وعساكر الشام إلى حلب خلف بيبغا، فوصلوا إلى حلب، وأقاموا بها وببيغا وجماعته مفرقون في بلاد مرعش وما حولها، وأقام بيبغا في الأبلستين، وضرب أحمد وبكلمش مع عساكر الحصون رأساً، ووقعت الأمطار والثلوج وعاد الأمير شيخو والأمير طاز وعسكر الشام بعدما تقرر الأمير سيف الدين الكاملي بحلب نائباً على عادته، فوصلوا إلى دمشق في تاسع عشري شهر رمضان.

ثم إن السلطان الملك الصالح توجه بالعساكر المصرية بعد ما صلى الجمعة في الجامع الأموي، وخرج منها سائراً إلى مصر في سابع شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، ولما طال الأمر على ابن دلغادر أمسك أحمد وبكلمش وقيدهما وجهزهما إلى حلب فاعتقلا بالقلعة، وكان من أمرهما ما ذكرته في ترجمة أحمد الساقي، ثم إن الأمير عز الدين طقطاي قعد في حلب ينتظر رسل بيبغاروس، وكان ابن دلغادر قد جهز إمساكه في الأبلستين، فوصل بيبغا مقيداً إلى حلب ثالث عشر شهر الله المحرم سنة أربع وخمسين وسبع مئة، وخرج طقطاي الدوادار وجماعة من العسكر وتلقوه، فلما رأى الأمير عز الدين طقطاي بكى وقال: والله أنا أعرف ذنبي، والذي أشار علي بذلك فقد لقاه الله فعله، والله ما كان ذلك برضاي، وأنا فقد وقعت في فعلي. وسير إلى الأمير سيف الدين أرغون الكاملي يطلب منه لحم ثم مشوياً ومأمونية، فجهز ذلك إليه وأطلعوه بالقلعة، ثم إنهم حزو راسه، بعدما قطع الوتر أمراسه، وتوجه الأمير عز الدين طقطاي الدوادار برأسه إلى الديار المصرية. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن الشيطان الرجيم.
وقلت أنا في ذلك:
لا تعجبوا من حلب إن غدا ... أرغون فيها جبلاً راسي
من أجل هذا لم تطر فرحةً ... وبيبغاروس بلا راس
وكتب إلي المولى القاضي شرف الدين حسين بن ريان كتاباً نظماً ونثراً، فأما نظمه فأذكره، وهو:
بنيل الأماني هلّ شهر المحرم ... وحلت به البلوى على كل مجرم
أتوا فيه بالأعداء أسرى أذلّةً ... إلى حلب الشهباء يا خير مقدم
فبكلمشٍ وافوابه وبأحمد ... ومن بيبغا قد أدركوا كل مغنم
ومن رام ظلم الناس يقتل بسيفه ... ولو نال أسباب السماء بسلّم
مضوا وقضوا لا خفّف اللّه عنهم ... إلى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم
ففي رمضان كان يوم انكسارهم ... وآخره في عشر شهر المحرّم
فأكرم به شهراً كريماً مباركاً ... حراماً أتى من بعد شهر محرّم
بدأنا به العام الجديد فأسفرت ... لياليه عن شهرٍ شريفٍ معظّم
به يوم عاشوراء يومٌ مبارك ... أتت فيه أخبارٌ البخاري ومسلم
تعيّن شكر اللّه فيه على الذي ... سعى بيبغا فيه على كل مسلم
أرانا هلالاً كالسّوار وحوله ... عقود نجومٍ كالجمان المنظّم
وحيث وجدنا النصر فيه على العدى ... تعيّن أن يبقى كأعظم موسم
فصنه عن الآثام فيه ولا تمل ... إلى اللّهو في شهر المحرّم تسلم
وفي صفرٍ فاصرف من الصفر كلّما ... ملكت على صرف المدامة تغنم
مدام إذا لاح الحباب حسبتها ... بكاساتها شمسا تحفّ بأنجم
بدورٌ بها ساقٍ من الترك أهيفٌ ... يريك عقود الدرّ عند التبسّم
له طلعةٌ كالبدر يشرق نورها ... على قامةٍ مثل القضيب المنعّم
ويبدي هلالاً من ضياء جبينه ... ويخفيه في داجٍ من الشّعر مظلم
تترجم عيناه عن السّحر في الهوى ... فيعجز فكري حلّ ذاك المترجم
يسلّ على عشّاقه سيف لحظه ... ويرشقهم من ناظريه بأسهم
تقدّمت إذ أقدمت ليلة وصله ... على قبلةٍ والفضل للمتقّدم
فما ردّني عمّا أردت ونلت ما ... قصدت من التقبيل في ذلك الفم
وعانقت منه غصن بانٍ على نقاً ... ووسّدته في الليل زندي ومعصمي
وزاد سروري بعد ذلك إذ أتى ... إليّ جوابٌ عن كتابي المقدّم
بعثت به منّي إلى صاحب له ... فضائل شتّى أمرها غير مبهم
فأهدى جواباً عن كتابٍ رفلت في ... معانيه في ثوبٍ من الفخر معلم

به أتحلّى حليةً وحلاوة ... تحول بأفواه العدى طعم علقم
خليلي صديقي صاحبي ثقتي أخي ... إمامي وشيخي في العلوم معلّمي
تسيل دموعي عندماً لبعاده ... ولو زارني ما سال دمعي عن دمي
أودّ مقامي في دمشق لأجله ... وطرف زماني عن بلوغ المنى عم
فإن جاد لي دهري بقصدي حمدته ... وإن لم يجد يستغن عنه ويذمم
أينكر قصدي قرب خلّ صحبته ... قديماً إلى عليائه الفضل ينتمي
فلو قيل لي أهل التكرم من هم ... لقلت صلاح الدين أهل التكرم
إذا جال في فكري تذكّر أنسه ... بكيت على بعدي وزاد تندّمي
أعيش ومالي في دمشق كفايتي ... وغيري له في يومه ألف درهم
هو الحظّ والرزق الذي شمل الورى ... على مقتضى التقسيم لا بالتقدم
أرجّي اجتماع الشّمل بالشام فاجتهد ... وساعد على نقلي إلى الشام واسلم
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
بعثت بشعرٍ مثل برد مسهّمٍ ... وهيهات بل عقدٍ بدرّ منظّم
وإلا كأفق بالنجوم موشعٍ ... وإلاّ كوجهٍ بالجمال ملثّم
فكم همزةٍ فيه كمثل حمامة ... على ألفٍ فيه كغصن مقوّم
وكم فيه من عين كعين كحيلةٍ ... وكم فيه من ميم كدائرة الفم
وكم فيه من جيم كخالٍ مدبّج ... ونقطتها خالٌ يلوح لمغرم
أشاهد منه زهر روض ومنظراً ... أنيقاً لعين النّاظر المتوسمّ
فنفس كرباً كم تنفس عن لظى ... عذاب وداء في القلوب مخيمّ
وأجرى دموعي من جفوني ومن يرد ... مواطر من غير السحائب يظلم
وأذكرني عهد الشباب ولم أكن ... لأنسى ليالي عصره المتصرّم
نظام فتىً عار من الغار يرتدي ... بثوبٍ بفضل العلم والحلم معلم
مناي من الأيام رؤية وجهه ... وأحسن وجهٍ في الورى وجه منعم
وما كلّ هاوٍ للجميل بفاعلٍ ... ولا كلّ فعّال له بمتمّم
غدا شرفي منه على كلّ حالة ... ولكن إذا كاتبته كان مفحمي
إذا ساق نحوي العرف غير مكدّر ... أسّوق إليه الحمد غير مذمم
أيا شرف الدين الذي سار ذكره ... وما هو عنه بالحديث المرجّم
لقد سقت أخبار البغاة وبيبغا ... سياق بليغٍ لم يكن بمجمجم
وما كان هذا بيبغا قدر ما ابتغى ... ولو نال أسباب السماء بسلّم
لقد كان في أمن وعزّ ونعمة ... ولكنّه عن علم ما في غد عمي
فأضمر عدواناً وبغياً ولم يكن ... ليخفى ومهما يكتم اللّه يعلم
وبات ونار الحقد تضرم صدره ... ولم يطفها غير الخميس العرمرم
وراح يناجي من وساوس قلبه ... ضعيف المساعي أو قليل التكرّم
وما ظنّ خيراً بالذي كان محسناً ... إليه ومن يفعل كذلك يندم
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهم
وعادى محبّيه لقول عداته ... وأصبح في ليل من الشكّ مظلم
وجاء دمشقاً في عساكر كلّهم ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم
إلا إنّ هذا الأمر عقبى الذي جرى ... وآخره يفضي لنار جهنم
وقدم هو قبل قصيدته نثراً يتعلق بأمر بيبغا وجماعته، وأردفت أنا قصيدتي بنثر أيضاً يتعلق بالمذكورين وكلاهما أثبته في الجزء الرابع والثلاثين من التذكرة التي لي، ونظمت أنا عدة مقاطيع لما خرجا من دمشق فارين من بيبغا.

فمن ذلك، وقد خرجنا مع الأمير سيف الدين أرغون الكاملي على أنه متوجه إلى خان لاجين فأخذ العساكر من تحت قلعة دمشق وتوجه بها إلى لد، فقلت أنا في ذلك:
خرجنا على أنّا نلاقي عسكراً ... أتى بيبغا فيها على خان لاجين
فلم ندر من تعتيرنا وقطوعنا ... بأنفسنا إلاّ بأرض فلسطين
وقلت أيضاً:
أيا ولدي وافاني البين فجأةً ... وبدّد شملاً قد تنظّم كالعقد
فسرت وما أعددت عنك تجلّدا ... لقلبي ولا حدّثت نفسي بالبعد
وقلت، وقد كثرت الأراجيف:
أخرجني المقدور من جلّق ... عن طيب جنّاتٍ جنيّات
فإن أعد يوماً لها سالماً ... فهو بنيّات بنيّاتي
وقلت، وقد جاءت الأخبار بأن القوم قد تقدموا الكتيبة:
قد ضجرنا من المقام بلدّ ... بلدٍ ما طباعه، مثل طبعي
كلّما قيل لي كتيبة جيشٍ ... قد أتت للكتيبة اصطكّ سمعي
فتراني مغيّراً من نحولي ... وسقامي، وفي المزيريب دمعي
وقلت، وقد زاد الذباب بالمنزلة:
لقد أتانا ذباب لدّ ... بكلّ حتفٍ وكل حيف
وقيل هذا ذباب صيفٍ ... فقلت لا بل ذباب سيف
وقلت أيضاً:
إن الذباب بلدّ ... لشرّ خصم ألدّ
بليت منه بعكسي ... وما يبالي بطرد
وقلت، لما كثرت الأراجيف بأن بيبغا رحل من دمشق وانهزم:
قد كثر الإرجاف عن بيبغا ... وأنّه قد سار عن بقعته
إذا أتانا خبرٌ سرّنا ... ما تغرب الشمس على صحّته
بيبغاالأمير سيف الدين تتر المعروف بحارس الطير.
توفى نيابة غزة بعد وفاة الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثم إنه عزل وأقام بمصر إلى أن أمسك الأمير سيف الدين منجك الوزير وأمسك أخوه بيبغاروس في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فولاه السلطان الملك الناصر حسن نيابة مصر عوضاً عن بيبغاروس، فأقام على ذلك إلى أن خلع الملك الناصر حسن، وتولى الملك الصالح صالح.
ولما خرج الأمير علاء الدين مغلطاي والأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري على الملك الصالح وأخذ مغلطاي هرب منكلي بغا الفخري، ودخل على الأمير سيف الدين بيبغا الفخري في بيته مستجيراً به فأجاره، وأخذ سيفه وسلمه إليهم، فعزله السلطان بعد ذلك وولى النيابة الأمير سيف الدين قبلاي، وجهز الأمير سيف الدين بيبغاتتر إلى نيابة غزة، فأقام بها شهراً أو أكثر، إلى أن ورد بيبغاروس إلى غزة متوجهاً لنيابة حلب، فمد له سماطا، فأكل منه وقبض عليه وقيده وجهزه إلى الإسكندرية، وذلك في شعبان سنة اثنين وخمسين وسبع مئة، ثم إنه أفرج عنه وحضر إلى القدس وأقام به بطالاً مدة، ثم طلب إلى مصر وأقام هناك بطالاً، ثم أعطي طبلخاناه في مصر.
ولما توفي الأمير علاء الدين ألطبنغا الشريفي نائب غزة رسم له بنيابة غزة، فوصل إليها في سابع عشر شعبان سنة ست وخمسين وسبع مئة، ولم يزل بها نائباً إلى أن عزل بالأمير سيف الدين سودون في أوائل سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
ولما عزل الأمير سيف الدين تمر المهمندار من نيابة غزة في شهر رجب الفرد اثنتين وستين وسبع مئة رسم السلطان المنصور صلاح الدين محمد بن المظفر حاجي للأمير سيف الدين بيبغاتتر بنيابة غزة، وهذه النيابة بغزة رابع مرة، وجرى ما جرى من الأمير بيدمر نائب الشام، وحضر السلطان الملك المنصور إلى دمشق في واقعة بيدمر، ولما عاد السلطان إلى مصر كأنه رمي الأمير سيف الدين بيبغاتتر بشيء من موافقة بيدمر، فلما كان السلطان على غزة رسم بتسمير ولده، فسمر تسمير سلامة، وطيف به، ثم إنه رسم للأمير سيف الدين بيبغاتتر بالتوجه إلى طرابلس صحبة الأمير علاء الدين علي بن طشتمر البريدي المصري، وجهز ولده موسى إلى مصياف، وولده الاخر إلى الدر بساك صحبة تغيبين، ثم إنه طلب إلى مصر على لسان مملوكه ألطنبغا، فتوجه إليه، ووصل إلى دمشق في محفة في يوم الاثنين تاسع عشر شعبان سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
بيدرابفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف ودال مهملة وبعدها راء وألف مقصورة: الأمير سيف الدين العادلي.

كان من أمراء الأربعين بدمشق، وتزوج ابنة أستاذه الملك العادل كتبغا، وكان يسكن بدار طوغان. توفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة أربع عشرة وسبع مئة.
بيدمربعد الياء الموحدة ياء آخر الحروف ودال مهملة وميم بعدها راء: الأمير سيف الدين الناصري.
أخرجه الملك الناصر محمد إلى صفد، فأقام بها، وكان نائبها الأمير سيف الدين أرقطاي يعظمه ويلازمه ويسمر عنده وهو بلا إمرة، ثم نقل إلى دمشق على إمرة عشرة في أيام تنكز، ولما حضر الفخري، وجرى له ما جرى، جهز هذا بيدمر المذكور إلى البلاد الرومية لإحضار طشتمر نائب حلب، ثم إن الناصر أحمد أعطاه طبلخاناه.
ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن جاءه أمر لا مرد لحكمه، ولا دفاع لخصمه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
وكان ذا محيا جميل، ورونق لا يستحيل، مليح العين، لا يمل الناظر إليها مطالبتها بما له عندها من الدين، وتوفي كهلا، وكان للخير والسكون أهلا.
بيدمرالأمير سيف الدين البدري.
كان بالقاهرة أميراً، وله بالقاهرة تربة حسنة عمرها، وأقام بدمشق مدة إلى أن طلبه الملك الكامل شعبان إلى القاهرة وولاه نيابة طرابلس، فحضر إليها وأقام بها قليلاً بعد نيابة الأمير شمس الدين آقسنقر الناصري، ولما خرج الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي بدمشق على الكامل كان الأمير سيف الدين بيدمر ممن حضر إليه من نواب الشام، وأقام بدمشق معه إلى أن خلع الكامل وتولى المظفر حاجي، فطلب البدري إلى مصر وولاه المظفر نيابة حلب، فتوجه إليها، وأقام بها إلى أن طلبه المظفر حاجي إلى القاهرة، وتولى مكانه الأمير سيف الدين أرغون شاه.
وكان البدري قد تولى نيابة حلب بعد الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي، وأقام البدري بالقاهرة قريباً من شهرين، ثم إنه أخرج هو والأمير نجم الدين محمود بن شروين الوزير والأمير سيف الدين طغاي تمر الدوادار إلى الشام على الهجن، فلما وصلوا إلى غزة لحقهم الأمير سيف الدين منجك، وقضى الله فيهم أمره، وأصبح طرف من ولاهم وهو بالبكاء أمره.
وكان خنقهم في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
وكان هذا البدري كثير الرحمه، على فكره للمبرات زحمه، له ورد من الليل يقومه متنفلا، ويجلس على موائد التعبد، وهو ملك، متطفلا، وكان يكتب الربعات بخط يده، ويبالغ في تذهيبها وتجليدها، ولا تقبل من صاحب فنده، ولقد حاول أخذ ختمةً مني وهو بدمشق، وبذل الرغائب لي فأبيت، وزخرفت الأعذار في عدم الخروج عنها ورأيت وراءيت.
وأخبرني كاتبه القاضي زين الدين بن الفرفور أنه كان يخرج من كل سنة أول كل شهر مبلغ خمسة ألاف درهم للصدقة، ويعتقد أن ذلك خير ماله من النفقة، ولم يبد منه في حلب مدة نيابته غير واقعة الامرأة التي قطع شعرها وأذنيها وجعلها بذلك تحكي النعامة لمن نظر إليها، وما أقام بعدها في حلب إلا قليلاً، ومضى إلى حلب يجر من الشقاء ذيولاً.
بيسريالأمير الكبير بدر الدين الشمسي الصالحي.
كان من أعيان الدولة، وممن له في الحروب ثبات وحولة، وبين الأكابر صون وصوله، وإذا قالوا لم يسمع، وإذا قال سمعوا قوله، وكان ممن ذكر للملك، وانخرط في ذلك السلك، وجرت له فصول، ورد جملةً من النصوص الواضحة وعارضها بالنصول، وقبض المنصور قلاوون عليه وأهدى الإهانة إليه، وبقي في السجن سنين، عدد الرهط الذين يفسدون في الأرض، وخالف في أمره السنة والفرض.
ثم إن الأشرف خليل أخرجه من سجنه وأبدله الفرح من حزنه، وأعاد إليه رتبته، وأجلسه إلى ركبته.
ثم إن المنصور لاجين قبض عليه ثانيا. وكان الأجل في هذه المرة له مدانيا، فتوفي في الجب، ولم تفده المطهمات القب، وعمل عزاؤه تحت قبة النسر بالجامع الأموي بدمشق، وحضره القضاة وملك الأمراء والدولة، وذلك في سنة ثمان وتسعين وست مئة في أيام الملك الناصر محمد.
وداره بين القصرين معروفة، وانتقلت إلى أحد الأميرين إما قوصون أو بشتاك، وكان الناس أولاً قد خرج لهم قماش ثمين وسموه شقف البيسرى لما تأنق فيه الصناع وزخرفوه.
البيسري الجندي الشاعر اسمه آقوش.

بيغرا
بالياء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها غين معجمة وراء وألف: الأمير سيف الدين الناصري.

كان بعد السلطان الملك الناصر محمد بن أكابر المقدمين، وحضر إلى دمشق لتحليف العسكر للملك الأشرف كجك، وحضر أيضاً لتحليف الأمراء للملك الكامل، والله أعلم، وكان أخيراً أمير جاندار وحاجبا.
ولم يزل معظما، ولدر السيادة منظما، ينفع من يخدمه ويؤهله لعلو المنزلة ويقدمه، ولم يزل إلى أن تولى الملك الصالح صالح، فأخرجه إلى حلب أميراً، فوصل إليها في شهر رجب الفرد سنة اثنين وخمسين وسبع مئة.
وبقي فيها على حاله إلى أن حان حينه، وحل عليه من الأجل دينه، في شهر شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
بينجارالأمير سيف الدين الحموي، أحد الأمراء بدمشق.
كان بدمشق حاجباً صغيراً إلى أن توجه الأمير سيف الدين طيدمر الإسماعيلي أمير حاجب بدمشق إلى نيابة قلعة الروم، فوصل المرسوم بعد ذلك بأن يكون الأمير سيف الدين بينجار الحموي عوضه أمير حاجب بدمشق في المحرم سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فلم يزل على هذه الوظيفة إلى أن توجه مع الأمير سيف الدين أرغون الكاملي والعسكر الشامي إلى الرملة في واقعة بيبغاروس.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة بالمعسكر على لد.
وكان جيداً خيراً ديناً، عنده كتب يطالع فيها، ويحب أهل العلم ويعظمهم ويحترمهم.
حرف التاء

التاج أحمد سعيد الدولة
كان ذا مكانة مكينة ومنزلة عظيمة عند الملك المظفر الجاشنكير، ولما ولي الملك أمر له بالوزارة فامتنع من ذلك، فرتب الصاحب ضياء الدين بن النشائي وزيراً، وجعل ابن سعيد الدولة مشيراً، فكانت فوط العلائم تحمل إليه ويعتبرها علامةً علامةً، فالذي يراه ويرتضيه كتب على يمين العلامة عرضاً: تحتاج إلى الخط الشريف، فإذا رأى السلطان ذلك علم، وإلا فلا، وكانت كتب البريد وغيرها كذلك، إلى أن تعب الأفرم من دمشق، وتهدده بقطع رأسه حتى امتنع من ذلك.
وكان مشهوراً بالأمانة والعفة، ولم يحصل منه تفريط، وضبط الدواوين والأموال، وكان إذا كان في ديوانه قضى الأشغال ونفذ الأمور، وأما إذا اعترضه أحد في الطريق وسأله حاجةً أمر بقتله بالمقارع، فهابه الناس.
وكانت له حرمة وافرة ومهابة شديدة، وكان لا يجتمع بغريب، ولا يخالط أحداً ولا يقبل هدية، ولما طلب للوزارة التجأ إلى زاوية الشيخ نصر، فلذلك كانت حرمته أوفر من حرمة الوزير وأعظم.
وتوفي في أوائل شهر رجب الفرد سنة تسع وسبع مئة، وولي مكانه ابن أخته كريم الدين.
أخبرني حفيده الصاحب تاج الدين موسى بن علم الدين أبي بكر أن اسم جده كان أحمد، فهو تاج الدين أحمد بن سعيد الدولة.
ابن تاج: الخطباء: جلال الدين محمد بن محمد.
التاج بن المناديلي: عبد الرحمن بن موسى.
والتاج المغسل: اسمه عبد الرحمن بن أيوب.
التادفي: المقرىء، محمد بن أيوب.
التاج الطويلالقاضي تاج الدين ناظر الدولة بالديار المصرية.
كان كاتباً كافيا، قائماً بصناعة الكتابة وافيا، فيه مروءة ومكارم، ولطف عشرة، ولو كان بين القنا والصوارم. تكرر منه مباشرة هذه الوظيفة مرات، ونال فيها سعادات زائدةً ومسرات، وكان رئيس طائفته، وزعيم هذه العصابة الذين هم تحت طواعيته.
ولم يزل على حاله إلى أن قصرت مدة الطويل وقطعت، وأخرجت روحه من جسده، ونزعت.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت ثاني عشري القعدة سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
وأنشدني القاضي زين الدين الخضر بن تاج الدين بن الزين خضر كاتب الإنشاء له في دواة أبياتاً، وأنا في ريبة من نسبتها إليه لأنها في الذروة وهي:
دواتنا سعيدة ... ليس لها من متربه
عروس حسنٍ جليت ... منقوشةٌ مكتّبه
قد انطلت حليتها ... على الكرام الكتبة
وفي التاج الطويل يقول ابن دانيال:
أصبحت في الكاتبين فرداً ... وأنت كنزٌ لكل راج
لا كشف اللّه منك راسي ... ودمت عزّي ودمت تاجي
مولاي قد ساءني افتقاري ... وسرّ حسادي احتياجي
فاصلح بحقّ الوفاء شاني ... فغير علياك لا أناجي
فالزيت قد قلّ من فتيلي ... وكاد أن ينطفي سراجي
وبات فوق التراب أهلي ... تلتقط الحب كالدجاج

عساك باللّه يا هلالي ... تكتب رزقي على الخراج
التبريزي: القاضي جمال الدين عبد القادر بن محمد. والشيخ تاج الدين علي بن عبد الله.
ابن تبع: محمد بن أحمد.
ترمشينبالتاء ثالثة الحروف، وراء بعدها ميم، وشين معجمة، وياء آخر الحروف، ونون: ابن دوا المغلي، صاحب بلخ وسمرقند وبخارى ومرو.
كان ذا إسلام، وممن يعد في أولي الأحلام، أكرم الأمراء المسلمين وقربهم، وسرحهم في صحاري الإحسان، وسر بهم لما سربهم، وجفا الكفرة وأبعدهم، وهددهم وتوعدهم، ولازم الصلوات الخمس في الجماعه، وأصغى إلى الخير وأحب سماعه، وترك الياسات، وقال: هي من أرذل السياسات، وأمر بأحكام الشريعة، وسدد ما دونها الذريعة، وأبطل من مملكته المكوس وجبايتها، وأمر بالمعدلة وتلا آيتها، وألزم جنده بالكف عن الأذى، ودفع عن عيون رعاياه القذى، وألزم التتار بالزرع، وقالوا: لا طاقة لنا، فقال: هذا هو الشرع. واستعمل أخاه على مدينة فقتل رجلاً ظالماً، فجاء أهله إلى ترمشين وشكوا، فبذل لهم أموالاً ليعفوا، فأبوا وقالوا: نريد حكم الله، فسلمه إليهم فقتلوه، ودعا الناس له.
ثم إنه زاد في التأله والتدين فعزم على ترك الملك والتبتل برأس جبل، وسافر معرضاً عن السلطنة، فظفر به أمير كان يبغضه، فأسره، وكاتب بزان الذي ملك بعده، فقتله صبرا، وهبره بالسيف هبرا، وذلك في سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، قدس الله سره.
تلك الأمير سيف الدين الحسنيورد إلى دمشق أميراً في تاسع عشر شعبان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة وبقي فيها مدة، ثم إنه لما نقل الأمير سيف الدين باينجار من الحجوبية الصغرى؛ إلى أن يكون بدمشق أمير حاجب عوضاً عن الأمير سيف الدين طيدمر الإسماعيلي لما توجه لنيابة قلعة الروم رسم للأمير سيف الدين تلك أن يكون حاجباً عوضاً عن باينجار، وذلك في المحرم سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فأقام كذلك مدة، ثم إنه تحدث للأمير سيف الدين شيخو رأس نوبة في ديوانه، فاجتهد فيه وثمر، فطلبه إلى مصر، فتوجه في شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وورد مكانه في الحجوبية الأمير علاء الدين علي بن بيبرس الحاجب من حلب.
وما أقام الأمير سيف الدين تلك الحسني في القاهرة، حتى توفي رحمه الله في غزة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، لأنه كان قد توجه صحبة ثقل السلطان وطلبه لما حضر الصالح في واقعة بيبغا.
التعجيزي: الفقيه شهاب الدين أحمد بن محمد.
تلك الأمير سيف الدين الشحنةكان أحد مقدمي الألوف بالشام. حضر إلى دمشق على إقطاع الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير في سنة خمس وسبع مئة، وكان في دمشق أكبر مقدميها، يحضر إليه قباء الشتاء من مصر من باب السلطان. وتوجه في واقعة سنجار.
ولم يزل في دمشق مقيماً إلى أن ورد المرسوم من مصر يطلبه صحبة منكلي بغا السلحدار، وحضر الأمير سيف الدين قردم على إقطاعه في سادس عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
ولم يزل في مصر مقيماً إلى أن ورد الخبر بوفاته في أوائل صفر سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
ابن تمام الشيخ تقي الدين

عبد الله بن أحمد، وأخوه الشيخ محمد بن أحمد.
تمر الساقي
الأمير سيف الدين ولاه السلطان الملك الناصر محمد حمص بعد موت بلبان
الجوكندار في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة، ثم ولاه نيابة طرابلس، بعد ما قفر الأفرم منها وتوجه مع قراسنقر، وذلك لما قدم مع العسكر من مصر في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ولم يزل بها مقيماً على حاله، إلى أن حضر الأمير سيف الدين قجليس الناصري إلى دمشق؛ وتوجه منها إلى طرابلس؛ فعاد منها ومعه الأمير سيف الدين تمر الساقي نائبها، وجاء عوضه لنيابة طرابلس الأمير سيف الدين كستاي الناصري في جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ولما وصل به إلى دمشق أمسكه، وأمسك الأمير سيف الدين بهادر آص وقيدهما، وتوجه بهما من دمشق وجهز بهادر آص إلى الكرك، وتوجه تمر الساقي إلى مصر، فأقام في الاعتقال بالإسكندرية أكثر من عشرين سنة، وأفرج عنه في شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.

وحضر إلى دمشق وأقام بطالاً، ثم أعطي طبلخاناه، وكان السلطان الملك الناصر قد أفرج عنه وعن جماعة من الأمراء الذين كانوا بالإسكندرية، وهم: تمر الساقي، وبيبرس الحاجب، وبلرغي الصغير، وطغلق وأمير غانم بن أطلس خان، ولاجين العمري الحاجب، وبلاط الجوكندار، وأيدمر اليونسي، وطشتمر أخو بتخاص المنصوري، وقطلوبك الأوشاقي، وبيبرس العلمي وكشلي، والشيخ علي مملوك سلار.
وتوجه الأمير سيف الدين كستاي الناصري عوض تمر الساقي إلى طرابلس نائباً، ولما دخل الأمير سيف الدين تنكز من القصر إلى دار السعادة يوم أمسك وأراد العصيان دخل الأمير سيف الدين تمر الساقي إليه، وقال له: المصلحة أنك تروح لأستاذك، وأنا قعدت في الحبس أكثر من عشرين سنة، وها أنا واقف قدامك، فانفعل له وخرج إليهم، فأمسكوه، على ما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى.
وتوفي بمصر، والله أعلم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
تمر الموسويالأمير سيف الدين الناصري.
كان خفة إذا تحرك، وعليه خفر إذا تثنى على جواده أو تورك، وكان إذا رأى وجهاً حسناً هام، وقطع علائق الأوهام. وكان في نفس السلطان منه لذلك، إلا أن الأمير سيف الدين بكتمر الساقي كان يصده عن أذاه، ولا يصوب فيه رأياً يراه، فلما مات بكتمر الساقي أخرجه إلى دمشق فأقام فيها إلى أن تحرك طشتمر نائب حلب في واقعة الناصر، وكاد يمشي في الباطن ويحلف الأمراء له، فأمسك وأودع في قلعة دمشق سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة في أيام الطنبغا، ثم أفرج عنه لما صار الأمر للناصر أحمد.
تمرالمهمندارالأمير سيف الدين المهمندار بالشام.
كان من مماليك الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب المقدم ذكره. وقيل إنه كان من مماليك الطباخي نائب حلب.
وكان تمر المذكور مع أستاذه بكتمر الحاجب لما كان بصفد نائباً، وهو من أول حاله لم يزل بخير، له ثروة، ومعه مال له صورة.
ولما كان بدمشق ولاه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله شد الزكاة في يوم الإثنين خامس جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة عن الأمير نجم الدين داود الزيبق، فأقام على ذلك مدة، ثم إنه أضاف إليه المهمندارية، وجعله بطبلخاناه، ولما حضر الأمير سيف الدين بشتاك إلى دمشق في واقعة تنكز عزله من المهمندارية وجعله والياً على مدينة دمشق، فأقام بها تقدير جمعة، وعاد إلى المهمندارية.
وكان ساكناً وادعاً عاقلاً قليل الكلام جداً، وكنت يوماً عند الصاحب أمين الدين أمين الملك، فجرى ذكره، فأثنيت عليه، وقلت: ما يكون مثله في سكونه وعدم شره، فقال: إلا أنني مع هذا كله ما أقدر أعمل إلا ما يريده، ولم يزل على ذلك، في أتم حال، ثابت القدم مع تقلب الملوك والنواب، لا يختل عليه نظام، إلى أن كانت واقعة الأمير علاء الدين أمير علي نائب دمشق، في سنة ستين وسبع مئة، وتوجهه إلى باب السلطان وتجهيزه من الطريق إلى نيابة صفد، وكان القائم بذلك الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي أمير حاجب، فنقل الأمير سيف الدين تمر المهمندار، وجعل أمير مئة مقدم ألف، ولم يؤثر ذلك.
ولم يزل على حاله إلى أن رسم له بنيابة غزة فتوجه إليها، وأقام بها نائباً قريباً من نصف سنة، ثم رسم له بنيابة بإمرة الحجبة فحضر إليها، ولبس تشريفه في يوم الاثنين خامس عشري شهر رجب سنة اثنتين وستين وسبع مئة، وخدم، وسلمت العصا إليه.
ولم يزل كذلك حتى أخرجه الأمير بيدمر نائب الشام إلى غزة صحبة من خرج من عسكر دمشق في واقعة بيدمر وخروجه، فتوجه وهرب الأمير منجك، وجرى ما جرى وحضر السلطان الملك المنصور محمد بن حاجي، فأنكر على المهمندار موافقته لبيدمر على ذلك وطواعيته له، وأمسك من أمسك من الأمراء، وقطع خبز المهمندار، وخرجت وظيفته للأمير سيف الدين قماري الحموي.
وكان المهمندار ضعيفاً فاستمر مريضاً، إلى أن توفي يوم السبت ثامن عشر شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة ولعله قارب الثمانين رحمه الله تعالى، وبالجملة ما رأى خيراً منه مذ فارق المهمندار.
تمر بغا العقيليالأمير سيف الدين نائب السلطنة بالكرك، أحد مماليك الملك الناصر محمد.
كان خيراً كله، وبشراً لا يعدل عنه الصلاح ولا يمله. عاش به أهل الكرك ونجوا بنيابته من النوائب والدرك.

أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: أخبرني بعض مماليكه قال: هذا أستاذي، عمره ما نكح، وعنده الزوجة المليحة والجواري الملاح.
قلت: لعله كان عنيناً، وإلا فليس في ترك النكاح المشروع معنى يقصد به وجه الله طلب الثواب أو الهرب من العقاب.
ولم يزل على حاله بالكرك إلى أن اجتحفه سيل الحيف حتفا، ودعا به داعي المنون هتفا.
ووفاته رحمه الله في جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
تمربغاالأمير سيف الدين الحسني.
كان أحد أمراء الطبلخاناه بطرابلس.
ولم يزل بها إلى أن توفي في شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
تمرتاشبتاء ثالثة الحروف، وميم بعدها راء، وتاء ثالثة الحروف أيضاً وبعدها ألف وشين معجمة: ابن النوين جوبان.
كان معدوداً من الفرسان والأبطال الذين ليسوا من نوع الإنسان. إذا التقى الصفان وسل السيفان نزل عن ظهر جواده وجلس على بساط، واستعمل ما يبعث النفس على الانبساط، وتناول سقرقا صرفا، وركب للحملة على عدوه طرفا.
وكان قد قرر في عسكره أنه من مات في المعترك، فإقطاعه لولده من غير مشترك، ومن هرب فأنا وراءه بالرهب، وإذا وقع في يدي فالسيف، وما أرى في ذلك سلوك جنف ولا حيف.
فلهذا ما ثبت له أحد، ولا وجد من دونه ملتحد. وهزم جيوشاً عديده، وفتح بلاداً مساحتها مديده.
وكان قد خطر له أنه هو المهدي الذي يجيء آخر الزمان ويمهد الأرض، ولما بلغ أباه ذلك ركب وجاء إليه ورده عن العقيدة، واستصحبه معه إلى الأردو إلى خدمة القان بوسعيد. ولما حضر معه رأى الناس في الأردو ينزلون قريباً من خام الملك، فقطع الأطناب بالسيف، ووقف على باب خان القان ورمى بالطومار، وقال: أينما وقع ينزل الناس على دائرته. فأعجب ذلك بوسعيد. وعاد إلى بلاد الروم حاكما.
وكان واسع الكرم، تحسده الغمائم فتتوقد من البوارق بالضرم، لا يبالي بما أنفق، ولا ينام وجفنه على فائت مؤرق. وكان كرمه وجوده المفرط من أسباب هلاكه وإيقاعه في حبائل الموت وأشراكه، لأنه لما وصل إلى القاهرة لحقه من أمواله بالروم مئة ألف راس غنم فيما أظن، أو ثمانون ألف رأس، فلما وصلت إلى قطيا أطلق منها لبكتمر الساقي عشرين ألف رأس، ولقوصون كذا، ولفلان كذا ولفلان كذا، ففرق الجميع، فلم يهن هذا الأمر على الملك الناصر محمد. ودخل يوماً حمام قتال السبع التي في الشارع تحت القلعة، ولما خرج أعطى الحمامي ألف درهم والحارس ثلاث مئة درهم، فزاد ذلك في حنق السلطان عليه.
وكان حسناً شكله، كأن قوامه غصن بان وشعره ظله، إذا خطا تخطر، وظن بقوامه أنه رمح يتأطر، تعطفه نشوة الشباب ويظن من تثنيه أنه ارتشف بنت الحباب، شكا السلطان منه ذلك إلى بعض خواصه وقال: أرأيت هذا تمرتاش كيف يمشي قدامي، هذا إنما هو إعجاب منه بشكله وقده، واستخفافا. فقال: والله يا خوند هكذا يدخل إلى الطهارة، وهذه عادته أبداً.
وكان السبب في دخوله إلى هذه البلاد أنه لما مات أخوه دمشق خواجا، وهرب أبوه جوبان، اجتمع هو بالأمير سيف الدين أيتمش، وطلب الحضور إلى مصر، وحلف له أيتمش أيماناً معظمة عن السلطان، فحضر في جمع كبير، وخرج الأمير سيف الدين تنكز نائب دمشق، وتلقاه في يوم الأحد خامس عشري صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وتوجه إلى السلطان، وظن أن السلطان يخرج له، فلم يخرج لتلقيه وأمر برد من حضر معه إلا القليل، وأعطى لكل واحد مبلغ خمس مئة درهم وخلعة، فعاد الجميع إلا اليسير، وأراد السلطان أن يقطعه شيئاً من أخباز الأمراء، فقال له الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب: يا خوند، أيش قال عنك ؟ أنه وفد عليك وافد من الروم ما كان في بلادك ما تعطيه إقطاعا حتى تأخذ من إقطاع أمرائك، فرسم ل كل يوم من دخل قطيا بألف درهم، إلى أن ينحل له إقطاع يناسبه، ورسم له السلطان على لسان الأمير سيف الدين قجليس أن يطلق من الخزانة ومن الإصطبل ما يريده، وأن يأخذ منهما ما يختاره، فما فعل شيئاً من ذلك.
وكان الناس في كل يوم موكب يوقدون الشموع بين القصرين، ويجلس النساء والرجال على الطرق والأسطحة ينتظرون أن تمرتاش يلبس للإمرة، ثم إنه عبرت عينه أيضاً على مماليك السلطان الأمراء الخاصكية، ويقول: هذا كان كذا، وهذا كان في البلاد كذا، وهذا ألماس كان جمالاً، فما حمل السلطان هذا منه.

وألبس يوماً قباء من أقبية الشتاء على يد بعض الحجاب، فرماه عن كتفه، وقال: ما ألبسه إلا من يد ألماس أمير حاجب. ولما وصل القاهرة أقاموا الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر من الميمنة، ونقلوه إلى الميسرة، وأجلسوه مكانه.
ولم يزل على حاله بالقاهرة، إلى أن قتل جوبان أبوه في تلك البلاد، فأمسك السلطان تمرتاش، واعتقله فوجد لذلك ألماً عظيماً. وقعد أياماً لا يأكل فيها شيئاً، إنما يشرب ماء ويأكل بطيخاً، لما يجده في باطنه من النار، وكان قجليس يدخل إليه ويخرج ويطيب خاطره، ويقول له: إنما فعل السلطان هذا لأن رسل القان بوسعيد على وصول، وما يهون على بوسعيد أن يبلغه عن السلطان أنه أكرمك. وقد حلف كل منهما للآخر، فقال له يوماً: أنا ضامن عندكم انكسر لكم علي مال، حبستموني حتى أقوم به ؟، إن كان شيء فالسيف، وإلا فما في حبسي فائدة، والله ما جزائي إلا أن أسمر على جمل، ويطاف في بلادكم، هذا جزاء وأقل جزاء من يأمن إلى الملوك، ويسمع من كلامهم وأيمانهم.
ثم إن الرسل حضروا يطلبون تمرتاش من السلطان، فقال: ما أسيره حياً، ولكن خذوا رأسه، فقالوا: ما معنا أمر أن نأخذه إلا حيا، وأما غير ذلك فلا، فقال: فقفوا على قتله. وأخرج المسكين من سجنه ومعه قجليس الحاج وأيتمش وغيرهما.
فخنق جوا باب القرافة بقلعة الجبل، وكان يستغيث، ويقول: أين أيتمش ؟ يعني الذي حلف لي، وأيتمش يختبىء بين الناس حتى لا يراه، وقال: ما معكم سيف، لأي شيء هذا الخنق ؟ وكان ذلك في شهر رمضان المعظم سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، ثم حز رأسه بحضرة الرسل، وجهز في البريد قبل توجه الرسل، وكتب السلطان إلى بوسعيد يقول له: قد جهزت إليك رأس غريمك، فجهز لي رأس غريمي، يعني قراسنقر، فما وصل الرأس إلى بورسعيد حتى مات قراسنقر حتف أنفه، فقيل لبوسعيد. ألا تجهز رأس قراسنقر إليه، فقال: لا إن الله أماته بأجله ولم أقتله أنا.
ودفنت جثة تمرتاش برا باب القرافة عند تربة الفارس أقطاي. واستشار السلطان تنكز في قتلته، فما أشار بها، وقال: المصلحة استبقاؤه، وكان استشاره أولاً في إمساكه، فما أشار به.
وخلف تمرتاش من الأولاد: الشيخ حسن ومصر ملك، وجمد غان، وبير حسن، وتودان، رشيدون، وملك أشرف، والأشتر، ثم إنه ظهر بعد مدة من ادعى أنه تمرتاش وصدقه أولاده ونساؤه. وقد ذكرت ذلك في ترجمة أبو بكر الدعي، وكنت قد قلت:
احذر من الدنيا وإقبالها ... فربحها يفضي لخسران
ربّ غنىً فيها انتهى للعنا ... مثل تمرتاش بن جوبان
تنكزالأمير الكبير المهيب العادل الفريد سيف الدين أبو سعيد الأشرفي الناصري، نائب السلطنة بدمشق.
جلب إلى مصر وهو حدث فنشأ بها. وكان أبيض إلى السمره، كأن وجهه عليه حسن القمر وسعد الزهره، رشيق القامه، متوسط الهامه، مليح الشعر، لا يحسن وصفه من شعر، خفيف اللحية والشارب، يهتز إذا خطا من وسطه إلى السنام والغارب، قليل الشيب، بعيد من الخنا والفاحشة والريب، يملك نفسه عند المحارم، ويعد مغانم الفاحشة من المغارم، يذوب وجداً في هواه ويفنى غراما، ولا يرتكب - مع القدرة - حراما. يعظم الشرع الشريف ولا يخرج عن حكمه، ويوقر من يراه من الفضلاء لعلمه، ماله لذة في غير أمن رعاياه، ومن انضوى إلى ظله أو انزوى إلى زواياه، وكانت بذلك أيامه أعيادا، ولياليه أعراسا، وأموال الناس موفرة عليهم لا تفارق منهم أكياسا، كم أخذ الناس من إمره، وما نالهم غرامة خيط في إبره. وكم باشروا ولايات، وكم وصلوا إلى عدة نيابات، وكم وصل من إقطاع، وكم حكم حاكماً فقضى وهو بأمره يطاع، وما أحد تنوبه غرامه، ولا يعرف أسد خبت من غزلان رامه.
هذا، مع معرفة ودربه، وأحكام قد سددها الله، فما نفع منه في مواطن غربه، يقرأ الموقع عليه القصة ويسكت، ويطرق بعد ذلك في الأرض ينكت، فيأخذها ويعطيها لمشد الأوقاف إن كانت تتعلق بأحكام القضاه، أو للحاجب إن كانت تتعلق بأمر يأباه ولا يرضاه، أو للصاحب إن كانت تتعلق بجامكية أو مرتب، أو لناظر الجيش إن كانت تتعلق بحدود أرض، أو من قد ظلم جنديه وتغلب، أو لوالي المدينة إن كان بعملة سرقت، أو حادثة نزلت بأحد أو طرقت. ومع هذا يقول لكل واحد منهم ما يعتمده، ويكون في حجته ومستنده، وجميع ذلك مسدد، موثق بالشرع وبالسياسة مشدد.

ولم ير الناس أعف من يده ولا من فرجه، ولا شاهدوا شمس عدل نزلت أحسن من برجه، وأطار الله طائر حرمته ومهابته في سائر البلاد، وأثار سائر معرفته بين أهل الجدال والجلاد، ولذلك كانت الأسعار رخيصه، والضعيف لا ترعد له من القوي فريصه، وسائر الأصناف موجوده، وأثمانها واقفة عند حدود محدوده.
ولهذا كتبت أنا من الديار المصرية إلى القاضي شهاب الدين بن القيسراني:
ألا هل لييلاتٌ تقضّت على الحمى ... تعود بوعد للسرور منجّز
ليالٍ إذا رام المبالغ وصفها ... يشبّهها حسناً بأيّام تنكز
وكان الأمير سيف تنكز - رحمه الله تعالى - قد جلبه الخواجا علاء الدين السيواسي، وبعض الناس يقول: إنه مملوك السلطان حسام الدين لاجين، والصحيح ما أخبرني به القاضي شهاب الدين بن القيسراني قال: قال لي يوماً: أنا والأمير سيف الدين طينال من مماليك الأشرف.
سمع صحيح البخاري غير مرة من ابن الشحنة، وسمع كتاب الآثار للطحاوي، وصحيح مسلم، وسمع من عيسى المطعم وأبي بكر بن عبد الدائم، وحدث بثلاثيات البخاري، قرأها عليه المقريزي بالمدينة النبوية.
أمره السلطان الملك الناصر محمد إمرة عشرة قبل توجهه إلى الكرك، وكان معه في الكرك، وترسل عنه منها للأفرم، فاتهمه أن معه كتباً إلى أمراء الشام، ففتشه وعرض عليه العقوبة، فحصل له منه مخافة شديدة. ولما عاد عرف السلطان ذلك، فقال له: إن عدت إلى الملك فأنت نائب دمشق. فلما عاد وجرى ما جرى، وجعل الأمير سيف الدين أرغون نائب مصر قال لتنكز ولسودي: لازما أرغون وأبصرا أحكامه، فلازماه سنة.
ثم إنه جهز سودي لنيابة حلب، وبعد ذلك جهز تنكز إلى دمشق على البريد، ومعه الحاج أرقطاي وحسام الدين البشمقدار، فوصل إلى دمشق يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وباشر النيابة، وتمكن منها، وسار بالعساكر إلى ملطية وافتتحها في شهر الله المحرم سنة خمس عشرة وسبع مئة. وعظم شأنه وهابه الأمراء بدمشق، والنواب بممالك الشام، وأمن الرعايا في مواطنهم، وتحفزت السبل، وترددت القفول من سائر الأقطار، ولم يكن أحد من الأمراء ولا من أرباب الجاه يظلم أحداً ذمياً أو غيره خوفاً منه لبطشه وشدة إيقاعه.
ولم يزل في علو وارتقاء منزلة يتضاعف إقطاعه في كل وقت، وتزيد عوائد أنعامه وخيوله وما يصل إليه من باب السلطان من القماش والجوارح والتشاريف.
وكان السلطان لا يفعل شيئاً في مصر في ملكه غالباً حتى يستشيره ويكتب إليه فيه، وقلما كتب هو إلى السلطان وسأله في شيء فرده في جميع ما يقرره من عزل وولاية في نيابة أو قضاء قضاة أو غير ذلك من إقطاع الإمرة والحلقة، ولا يعطي لأحد إمرةً صغيرة كانت أو كبيرة أو نيابةً أو قضاء قضاة أو منصباً، صغيراً كان أو كبيراً فأخذ عليه رشاً أو طلب عليه مجازاةً أو مكافأة، هذا لم نسمعه عنه في وقت من الأوقات، بل يدفع إليه المبلغ الكبير أو الملك أو غير ذلك مما هو بجمل معدودة فيردها، ويعطي ذلك المطلوب لمن يسخره الله له بلا شيء.
ثم إن السلطان أذن له في الحضور إلى القاهرة، فتوجه إليها وعاد مكرماً محترماً زائد الإنعام، وصار بعد ذلك يتوجه في غالب الأوقات في كل سنة، وفي كل مرة يزيد إكرامه وإنعامه.
أخبرني القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص أن الذي خص الأمير سيف الدين تنكز من الإنعام في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة بلغ ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم. خارجاً عما أنعم عليه من الخيل والسروج، وماله على الشام من العين والغلة والأغنام. ثم إنني رأيت أوراقاً بيده فيها كلفته، وهي ثلاث وعشرون قائمة، من جملة ذلك طبلا باز ذهباً صرفاً، زنتهما ألف مثقال.
والقباء العفير الذي يلبسه آخراً، قال لي القاضي شرف الدين: إنه يتقوم على السلطان بألفي دينار مصرية فيه ألف وخمس مئة دينار حريراً، وأجر خمس مئة دينار. ثم إنه توجه بعد ذلك فيما أظن أربع مرات، وكل مرة يضاعف إنعامه وتمكينه، وتزيد هيبته، إلى أن كان أمراء مصر الخاصكية يخافونه.

أخبرني الأمير سيف الدين قرمشي الحاجب قال: قال لي السلطان: يا قرمشي لي ثلاثين سنة وأنا أحاول من الناس أمراً وما يفهمونه عني، وناموس الملك يمنعني أن أقوله بلساني، وهو أني لا أقضي لأحد حاجةً إلا على لسانه أو بشفاعته، ودعا له بطول العمر. قال: فبلغت ذلك للأمير، فقال: بل أموت أنا في حياة مولانا السلطان. قال: فلما أنهيت ذلك السلطان قال: يا قرمشي، قل له: لا أنت إذا عشت بعدي نفعتني في أولادي وحريمي وأهلي، وأنت إذا مت قبلي إيش أعمل أنا مع أولادك، أكثر ما يكونون أمراء، وها هم الآن أمراء في حياتك، أو كما قال.
وآخر ما كتب له عن السلطان في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة: أعز الله أنصار المقر الكريم العالي الأميري. وفي جملة الألقاب: الأتابكي الزاهدي العابدي. وفي النعوت: معز الإسلام والمسلمين، سيد الأمراء في العالمين، وهذا لم نعهده يكتب لنائب عن السلطان ولا لغير نائب، على اختلاف الوظائف والمناصب.
وزادت أملاكه، وعمر جامعه المعروف به بحكر السماق بدمشق، وأنشأ إلى جانبه تربة وداراً وحماماً، شرع في عمارة ذلك في شهر صفر سنة سبع عشرة وسبع مئة وعمر تربة لزوجته أم أمير علي، ومسجداً ومكتب أيتام بجور الخواصين، وعمر داراً للقرآن عند داره بجوار القليجية، وأنشأ بصفد بيمارستاناً، وعمر بالقدس رباطاً وحمامين، وساق الماء إلى الحرم، وصار يجري على باب المسجد الأقصى، وعمر بالقدس قيسارية مليحة، وجدد القنوات بدمشق، فانصلحت مياهها بعد أن كانت فسدت طعومها، وتغيرت روائحها، وجدد عمائر المدارس والزوايا والربط والخوانق، ووسع الطرقات، وأصلح الرصفات.
كان يدور بنفسه في الليل مختفياً ويشير بما يراه فما يصبح ذلك المكان إلا وقد هدم والصناع تعمل فيه.
وله في سائر الشام أملاك وعمائر وأوقاف. وفي الديار المصرية أيضاً داره المعروفة به، والحمام بالكافوري.
وكان الناس في أيامه آمنين على أنفسهم وحريمهم وأولادهم وأموالهم ووظائفهم، من في يده وظيفة لا يجسر أحد يطلبها لا من مصر ولا من الشام.
وكان يتوجه في كل سنة إلى الصعيد بمن يختاره من عسكر الشام إلى نواحي الفرات، وعدى الفرات في بعض سفراته وأقام يتصيد في ذلك البر خمسة أيام. وكان أهل تلك البلاد ينجفلون قدامه إلى بلاد توريز وسلطانية، وكذلك بلاد ماردين وبلاد سيس، وكان يصل أجرة الدابة خمسة عشر درهما في مسيرة نصف يوم.
ولم يكن له غرض غير الحق والعمل به ونصرة الشرع، خلا أنه كان به سوداء يتخيل بها الأمر فاسداً، ويحتد خلقه ويتغير ويزيد غضبه، فهلك بذلك أناس، لا يقدر أحد من مهابته يوضح له الصواب. وكان إذا غضب لا سبيل إلى رضاه ولا أن يحصل منه عفو. وإذا بطش بطش بطش الجبارين، ويكون الذنب عنده صغيراً حقيراً نزراً يسيراً، فلا يزال يكبره ويعظمه ويزيده ويوسعه، إلى أن يخرج فيه عن الحد. ورأيت من سعادته أشياء منها أنه كان إذا غضب على أحد، في الغالب لا يزال ذلك المغضوب عليه في خمول وخمود وتعس ونكس إلى أن يموت.
قال القاضي شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود كاتب سره قال: والله ما زلت في هم وخوف وتوقع مثل هذا إلى أمسك. وغضب على أحد ورضي عنه.
أخبرني قوام الدين أحمد بن أبي الفوارس البغدادي قال: قلت له يوماً: والله يا خوند، أنا رأيت أكبر منك وأكثر أموالاً منك، فلما سمع ذلك تنمر، وقال بغيظ: من رأيت أكبر مني ؟ فقلت: خربندا وبوسعيد وجوبان، فلما سمع ذلك سكن غيظه. ثم قلت له: إلا أنهم لم تكن رعاياهم تحبهم هكذا، ولا يدعون لهم كما يدعو رعاياك لك، ولا كانت رعاياهم في هذا الأمن وهذا العدل. فقال لي: يا فلان: أي لذة للحاكم إذا لم تكن رعاياه آمنين مطمئنين.
ومن إيثاره للعدل أنه كان يوماً يأكل معه بعض خواصه، أنسيت اسمه، فنظر إصبعه مربوطة، فسأله عن السبب فأنكره، فلم يزل به حتى قال: يا خوند: واحد قواس عمل قوساً ثلاث مرات، فأغاظني فلكمته، فلما سمع كلامه التفت عن الطعام، وقال: أقيموه، ورماه وضربه، على ما قيل: أربع مئة عصا، وقطع إقطاعه وبقي غضبان عليه سنين إلى أن شفع فيه حتى رضي عنه.

وأخبرني ناصر الدين محمد بن كوندك دواداره بعد موت تنكز بسنين، قال: والله ما رأيته في وقت من الأوقات مدة ما كنت في خدمته غافلاً عن نفسه، ولا أراه إلا كأنه واقف بين يدي الله تعالى، وما كان يخلو ليله من قيام. وقال لي أيضاً: لم يصل الأمير صلاة قط إلا بوضوء جديد.
وقال لي أيضاً: من حشمة الأمير أنه ما أمسك ميزاناً بيده قط منذ كان في الطباق إلى آخر وقت. انتهى.
قلت: ولم يكن عنده دهاء ولا له باطن، ولا عنده خديعة ولا مكر، ولا يصبر على أذى، ولا يحتمل ضيماً، ولا فيه مداراة ولا مداهنة لأحد من الأمراء، ولا يرفع بهم رأساً. وكان الشيخ حسن بن تمرتاش قد أهمه أمره وخافه، فيقال: إنه تمم عليه عند السلطان، وقال له: إنه قد قصد الحضور إلى عندي والمخامرة عليك، فتنكر السلطان له، وكان السلطان في عزم تجهيز الأمير سيف الدين بشتاك ويلبغا اليحيوي وعشرين أميراً من الخاصكية ومعهم بنتا السلطان إلى دمشق ليزوجوهما بابني الأمير سيف الدين تنكز، فبعث هو يقول: يا خوند، أيش الفائدة في حضور هؤلاء الأمراء الكبار إلى دمشق، والبلاد الساحلية في هذه السنة ممحلة وتحتاج العسكر إلى كلفة عظيمة وأنا أحضر بولدي إلى الأبواب الشريفة ويكون الدخول هناك، فجهز إليه السلطان طاجار الدوادار، يقول له: السلطان يسلم عليك ويقول لك إنه ما بقي يطلبك إلى مصر، ولا يجهز إليك أميراً كبيراً حتى لا تتوهم. فقال: أنا أتوجه معك بأولادي. فقال له: لو وصلت إلى بلبيس ردك، وأنا أكفيك هذا المهم، وبعد ثمانية أيام أكون معك بتقليد جديد وإنعام جديد، فلبثه بهذا الكلام، ولو كان توجه إلى السلطان ورأى وجهه لكان خيراً " ولكنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْراً كانَ مَفعولاً " .
وكان أهل دمشق في تلك المدة قد أرجفوا بأنه قد عزم على التوجه إلى بلاد التتار، فوقع ذلك الكلام في سمع طاجار الدوادار، وكان تنكز في هذه المدة قد عامله معاملة لا تليق به، فتوجه من عنده مغضباً، وكأنه حرف بعض الكلام والله أعلم، فتغير السلطان تغيراً عظيماً، وجرد خمسة آلاف فارس أو عشرة ومقدمهم بشتاك، وحلف عسكر مصر أجمع له ولأولاده، وجهز على البريد الأمير سيف الدين طشتمر النائب بصفد يأمره بالتوجه إلى دمشق والقبض على تنكز، وكتب إلى الحاجب وإلى قطلوبغا الفخري وإلى الأمراء بدمشق بالقبض عليه، وقال: إن قدرتم عليه، وإلا فعوقوه إلى أن يصل العسكر المصري، فوصل الأمير سيف الدين طشتمر الظهر إلى المزة، وجهز إلى الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري، وكان دوادار طشتمر قد وصل قبله بكرة النهار، واجتمع بالأمراء، واتفقوا، وتوجه الأمير سيف الدين أللمش الحاجب إلى جهة القابون. ووعر الطريق، ورمى الأخشاب فيها، وبرك الجمال، وقال للناس: إن غريم السلطان يعبر الساعة عليكم، فلا تمكنوه. وركب الأمراء واجتمعوا على باب النصر.
هذا كله وهو بسلامة الباطن في غفلة عما يراد به، ينتظر قدوم طاجار عليه بالتقليد الجديد، وكان قد خرج في ذلك النهار إلى قصره الذي بناه في القطائع عند حريمه، فتوجه إليد قرمشي الحاجب، وعرفه بوصول طشتمر، فبهت لذلك وسقط في يده، فقال له: ما العمل فقال: تدخل إلى دار السعادة، وغلقت أبواب المدينة، وأراد اللبس والمحاربة، ثم إنه علم أن الناس ينهبون، ويلعب السيف في دمشق، فآثر إخماد الفتنة، وأن لا يشهر سلاح. وأشاروا عليه بالخروج، فجهز إلى الأمير سيف الدين طشتمر وقال له: في أي شيء جئت ؟ قال: أنا جئتك من عند أستاذك، فإن خرجت إلي قلت لك ما قال لي، وإن رحت إلى مطلع الشمس تبعتك. ولا أرجع إلا إن مات أحدنا، والمدينة ما أدخل إليها. فخرج إليهم وقد عاين الهلاك، فاستسلم وأخذ سيفه، وقيد خلف مسجد القدم، وجهز السيف إلى السلطان، وجهز تنكز إلى باب السلطان، ومعه الأمير ركن الدين بيبرس السلاح دار، وكان ذلك العصر ثالث عشري ذي الحجة سنة أربعين وسبع مئة.
وتأسف أهل دمشق عليه ويا طول أسفهم وامتداد حزنهم وتلهفهم، فسبحان مزيل النعم الذي لا يزول ملكه، ولا يتغير عزه، ولا تطرأ عليه الحوادث.

ولقد رأيته بعيني في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وكنا في ركابه، وقد خرج السلطان في أولاده وأمرائه إلى البئر البيضاء يتلقاه، فلما قاربه ترجل له، وقبل رأسه، وضمه إليه، وبالغ في إكرامه، بعد ما كان يجيء إليه أمير بعد أمير يسلم عليه ويبوس يده وركبته وهو راجل، والأمير سيف الدين قوصون جاء إليه وتلقاه إلى منزله بالصالحية.
وأما الإنعامات التي كانت يفيضها عليه في تلك السنة من الرمل في كل يوم، إلى أن خرج في مدة تقارب الخمسين يوماً فشيء خارج على الحد.
ولقد رأيته وهو في الصيد في تلك السنة بالصعيد، وقد جاء إليه السلطان وقدامه الخاصكية: الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، ويلبغا اليحيوي، وألطنبغا المارداني، وآقسنقر، وآخر أنسيته الآن، وعلى يد كل واحد من هؤلاء الخمسة طير من الجوارح، وقال له: يا أمير أنا شكارك، وهؤلاء بازداريتك وهذه طيورك، فأراد النزول لبوس الأرض فمنعه.
ثم إنني رأيته بعيني يوم أمسك وقيد، والحداد يقيمه ويقعده أربع مرات، والعالم واقفون أمامه، وكان ذلك عندي عبرةً عظيمة. واحتيط على حواصله، وأودع مملوكاه طغاي وجنغاي في القلعة، وبعد مدة يسيرة وصل الأمير سيف الدين بشتاك وطاجار الدوادار والحاج أرقطاي وتتمة عشرة أمراء، ونزلوا القصر الأبلق، وحال وصولهم، حلفوا الأمراء، وشرعوا في عرض حواصله، وأخرجوا ذخائره وودائعه.
وتوجه بشتاك إلى مصر ومعه من ماله ما يذكر، وهو ذهب عين ثلاث مئة ألف وستة وثلاثون ألف دينار، ودراهم ألف ألف وخمس مئة ألف درهم، وجواهر بلخش أحجار مثمنة، وقطع غريبة، ولؤلؤ غريب الحب، وزركش طرز وكلوتات وحوائص ذهب بحامات مرصعة، وأطلس وغيره من القماش ما كان جملته ثمان مئة حمل.
وأقام بعد الأمير سيف الدين برسبغا، وتوجه بعدما استخلص من الناس ومن بقايا أموال تنكز وحواصله وبيوته أربعون ألف دينار وألف ألف درهم ومئة ألف درهم، وأخذ مماليكه وجواريه وخيله الثمينة إلى مصر.
وأما هو رحمه الله تعالى فإنه لما وصل إلى القاهرة أمر السلطان جميع الأمراء والمماليك أن يقعدوا له في الطرقات من جوا باب القلعة، وأن لا يقوم له أحد تقع عينه عليه، ولم يستحضره بل كان الأمير سيف الدين قوصون يتردد إليه في الرسلية، وهو بنفس قوية ونفس عظيم، لا يخضع ولا يخشع، وقال له مع قوصون: قال لك السلطان أبصر من تختاره يكون وصيك، فقال: قل له: والله خدمتك ونصحك ما تركت لي صاحباً أثق به ولا أتحول عليه، فمالي أحد أوصي له، فاستشار الأمراء في أمره، فقال له الأمير قوصون: يا خوند، هذا دعه أميراً هنا يركب وينزل في الخدمة. وقال الجاولي: يا خوند، هذا لا تفرط فيه تندم، وما يفوتك منه أمر ترومه. فأمر بتجهيزه إلى إسكندرية ومعه المقدم إبراهيم بن صابر، فأقام بها معتقلاً دون الشهر، وقضى الله فيه أمره، وصلي عليه بالإسكندرية. يقال إن ابن صابر توجه إليه إلى الإسكندرية وكان ذلك آخر العهد به، وأظلم الوجود، وزال أنسه بسببه.
وكأنه برق تألّق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع
ثم إنه ورد مرسوم السلطان إلى الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب الشام يقول فيه: إن تنكز كنا سألناه عن ماله فأنكر وقال: الذي هو تحت يد خزنداريتي، وهو مضبوط عند كتابي، فلما بلغه أنا استخرجنا ودائعه، وحصلنا جميع ماله، حصل له بذلك غيظ شديد وغبن عظيم، فحم لذلك حمى مطبقة ومات منها.
وورد مرسوم السلطان بأن تقوم أملاكه، فعمل ذلك بالعدول وأرباب الخبرة، وشهود القيمة وحضرت بذلك محاضر شرعية. إلى ديوان الإنشاء لتجهز إلى السلطان، فنقلت منها ما صورته: دار الذهب بمجموعها وإصطبلاتها: ست مئة ألف درهم.
دار الزمرد: مئتا ألف وسبعون ألف درهم.
دار الزردكاش وما معها: مئتا ألف وعشرون ألف درهم.
الدار التي بجوار جامعه: مئة ألف درهم.
الحمام التي بجوار جامعه: مئة ألف درهم.
خان العرصة: مئة ألف وخمسون ألف درهم.
إصطبل حكر السماق: عشرون ألف درهم.
الطبقة التي بجوار حمام ابن يمن: أربعة آلاف وخمس مئة درهم.
قيسارية المرحلتين: مئتا ألف وخمسون ألف درهم.
الفرن والحوش بالقنوات من غير أرض: عشرة آلاف درهم.
حوانيت التعديل: ثمانية آلاف درهم.
الأهراء من إصطبل بهادر آص: عشرون ألف درهم.
خان البيض وحوانيته: مئة ألف وعشرة آلاف درهم.

حوانيت باب الفرج: خمسة وأربعون ألف درهم.
حمام القابون: عشرون ألف درهم.
حمام القصير العمري: ستة آلاف درهم.
الدهشة والحمام: مئتا ألف وخمسون ألف درهم.
بستان العادل: مئة ألف وثلاثون ألف درهم.
بستان النجيبي والحمام والفرن، مئة ألف ثلاثون ألف درهم.
بستان الجبلي بحرستا: أربعون ألف درهم.
بستان الدردور بزبدين: خمسون ألف درهم.
الحدائق بحرستا: مئة ألف وخمسة وستون ألف درهم.
بستان القوصي بها: ستون ألف درهم.
الجنينة المعروفة بالحمام بزبدين: سبعة آلاف درهم.
بستان الرزاز: خمسة وثلاثون ألف درهم.
الجنينة وبستان غيث بها: ثمانون ألف درهم.
المزرعة المعروفة بتهامة بها: ستون ألف درهم.
مزرعة الركن البوقي والعنبري: مئة ألف درهم.
الحصة بالدفوف القبلية بكفر بطنا، ثلثاها: ثلاثون ألف درهم.
بستان السقلاطوني بالمنيحة: خمسة وسبعون ألف درهم.
حقل البيطارية بها: خمسة عشر ألف درهم.
الفاتكيات والرشيدي والكروم من زملكا: مئة ألف وثمانون ألف درهم.
مزرعة المرفع بالقابون: مئة ألف درهم.
الحصة من غراس غيطة الأعجام: عشرون ألف درهم.
نصف الغيطة المعروفة برزنية: خمسة آلاف درهم.
غراس قائم في جوار دار الجالق: ألفا درهم.
النصف من غراس الهامة: ثلاثون ألف درهم.
الحوانيت التي قباله جامعه: مئة ألف درهم.
الإصطبلات التي عند الجامع: ثلاثون ألف درهم.
بيدر زبدين: ثلاثة وأربعون ألف درهم.
أرض خارج باب الفرج: ستة عشر ألف درهم.
القصر وما معه خمس مئة ألف وخمسون ألف درهم.
ربع القصرين ضيعة: مئة ألف وعشرون ألف درهم.
نصف البيطارية: مئة ألف وثمانون ألف درهم.
حصة من البويضا: مئة ألف وسبعة وثمانون ألف درهم.
نصف بوابة: مئة ألف وثمانون ألف درهم.
العلانية بعيون الفاسرتا ثمانون ألف درهم.
حصة دير ابن عصرون: خمسة وسبعون ألف درهم.
حصة دوير اللبن : ألف وخمس مئة درهم.
الدير الأبيض: خمسون ألف درهم.
التنورية: اثنان وعشرون ألف درهم.
العديل: مئة ألف وثلاثون ألف درهم.
حوانيت داخل باب الفرج: أربعون ألف درهم.
الأملاك التي بمدينة حمص الحمام بحمص: خمسة وعشرون ألف درهم.
الحوانيت: سبعة آلاف درهم.
الربع: ستون ألف درهم.
الطاحون الراكبة على العاصي: ثلاثون ألف درهم.
زور قبجق: خمسة وعشرون ألف درهم.
الخان: مئة ألف درهم.
الحمام الملاصقة للخان: ستون ألف درهم.
الحوش الملاصق له: ألف وخمس مئة درهم.
المتاخ: ثلاثة آلاف درهم.
الحوش المجاور للخندق: ثلاثة آلاف درهم.
حوانيت العريضة: ثلاثة آلاف درهم.
الأراضي المحتكرة: سبعة آلاف درهم.
الأملاك التي ببيروت الخان: مئة وخمسة وثلاثون ألف درهم.
الحوانيت والفرن: مئة وعشرون ألف درهم.
المصبنة بآلاتها: عشرة آلاف درهم.
الحمام: عشرون ألف درهم.
المسلخ: عشرة آلاف درهم.
الطاحون: خمسة آلاف درهم.
قرية زلايا: خمسة وأربعون ألف درهم.
القرى التي بالبقاع مرج الصفا: سبع مئة ألف درهم.
التل الأخضر: مئة ألف وثمانون ألف درهم.
المباركة: خمسة وسبعون ألف درهم.
المسعودية: مئة ألف وعشرون ألف درهم.
الضياع الثلاثة المعروفة بالجوهري: مئة ألف وسبعون ألف درهم.
العادة: أربع مئة ألف درهم.
أبروطيا: ستون ألف درهم.
غير ذلك نصف يبرود والصالحية، والحوانيت: أربع مئة ألف درهم.
المباركة والناصرية: مئة ألف درهم.
رأس الماء بيم الروس: سبعة وخمسون ألف وخمس مئة درهم.
حصة من خربة روق: اثنان وعشرون ألف درهم.
رأس الماء والدلي بمزارعها: خمس مئة ألف درهم.
حمام صرخد: خمسون ألف درهم.
طاحون الفوار: ثلاثون ألف درهم.
السالمية: سبعة آلاف وخمس مئة درهم.
طاحون المغار: عشرة آلاف درهم.
قيسارية أذرعات: اثني عشر ألف درهم.
قيسارية عجلون: مئة ألف وعشرون ألف درهم.
الأملاك بقارا الحمام: خمسة وعشرون ألف درهم.
الهري: ست مئة ألف درهم.
الصالحية والطاحون والأراضي: مئة ألف وخمسة وعشرون ألف درهم.
راسليتا ومزارعها: مئة وخمسة وعشرون ألف درهم.
القصيبة: أربعون ألف درهم.
القريتين المعروفة إحداهما بالمزرعة والأخرى بالبينسية: تسعون ألف درهم.

هذا كله خارج عن الأملاك ووجوه البر بصفد وعجلون والقدس ونابلس والرملة وجلجولية والديار المصرية، لأنه عمر بيمارستاناً بصفد مليحاً، وبعض أوقافه بها، وعمر بالقدس رباطاً وحمامين وقيسارية، وله بجلجولية خان مليح إلى الغاية أظنه سبيلاً، وله بالرملة، وله بالقاهرة في الكافوري دار عظيمة وإصطبل وحمام وحوانيت.
وكان رحمه الله قد اعتمد في حياته شيئاً ما سمعنا به عن غيره، وهو أنه استخدم كاتباً بمعلوم يأخذه في كل شهر من عين وغلة، ليس له شغل ولا عمل غير ما يدخل خزانته من الأموال ويستقر له، فإذا حال الحول على ذلك الواصل، عمل أوراقاً بما يجب عليه صرفه من الزكاة، وتعرض الأوراق عليه، فيأمر بإخراجه وصرفه إلى ذوي الاستحقاق.
وكان إذا جلس في الخدمة يقعد ويرفع يديه، ويدعو سراً بما يحب، ويمسح وجهه، ثم بعد ذلك يفتح الدواة، ويأخذ القلم، ويضعه على ظفر إبهامه اليسار، ويفتح شقته، ويقبل على كاتب السر ويقرأ القصص عليه، وإذا أراد فراغ الخدمة طبق الدواة، فيقول الحاجب: بسم الله استريحوا. وإذا علم في كل يوم فهو الدستور للناس أجمعين.
إذا خرج كاتب السر لا يبقى بدار السعادة أحد من أرباب الخدم، وكان أخيراً لا يدخل عليه العلامة إلا أربعين علامة بالعديد من غير زيادة، وكان أخيراً إذا توجه إلى الصيد لا يعود يمسك قلماً ولا يعلم علامة، بل قبل السفر يكتب جميع ما يحتاج إليه من الأجوبة، والكتب المطلقة والتسامير وأوراق الطريق والمطالعات إلى باب السلطان، ويدخل بها في يومين ثلاثة وهي مسطرات، يتعلم على الجميع إلى أن يتكامل ما يريده كاتب السر.
وكان يعظم أهل العلم، وإذا كانوا عنده واجتمع بهم لا يسند ظهره إلى الحائط، بل ينفتل ويقبل وجهه، ويوادهم ويؤنسهم، أعني غير القضاة، ويقول: حلت علينا البركة. فالله يكرمه في جواره، ويجيره في يوم الموقف من دار بواره بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وقلت أرثيه، رحمه الله تعالى:
كذا تسري الخطوب إلى الكرام ... وتسعى تحت أذيال الظلام
وتغتال الحوادث كلّ ليثٍ ... هزبرٍ عن فريسته محام
وتبذل بعد عزٍّ وامتناعٍ ... وجوهٌ لم تعرّض للّطام
فكم ملكٍ غدا في الأرض دهراً ... وآل إلى انتقالٍ وانتقام
إذا ما أبرم المقدور أمراً ... رأيت الصّقر من صيدا الحمام
وهل يرجى من الدنيا رفاءٌ ... ولم تطبع على رعي الذمام
إذا ضاقت جوانحنا بهمٍّ ... توسّعه بأنواع السّ؟قام
أقال اللّه عثرتنا فإنّا ... رمانا الدّهر في شرّ المرامي
وردّ اللّه عقبانا لخيرٍ ... فقد أمسى الزمان بلا زمام
تنكّر يوم تنكز كّل عرف ... وسام الذلّ فينا كلّ سام
ومال إلى المدينة كلّ مولى ... وحام على الرزية كلّ حام
وأذهل يومه الألباب حتّى ... كأنّا فيهب صرعى بالمدام
بكيت دمشق لمّا غاب عنها ... وأوحش أفقها بدر التّمام
فيا تمزيق شمل العدل فينا ... ويا تفريق ذاك الإنتظام
ويا لمصيبةٍ بدمشق حلّت ... شدائدها بأحداث عظام
فكم من مقلة للحزن تجري ... مدامعها بأربعةٍ سجام
رعاه اللّه من راعٍ أمينٍ ... أنام بعدله عين الأنام
وكفّ حوادث الأيّام عنهم ... فلم تطرق حماهم بانتقام
وكيف ينوبهم خطبٌ ملمٌّ ... وناب الدّهر فيهم غير نام
حنوٌّ زاد في إفراط برٍّ ... يسكّن برده لهب الضّرام
وتدبيرٌ خلا عن حظّ نفسٍ ... وناب الرّعب فيه عن الحسام
ودستٌ حكمه في دار عدلٍ ... تأيّد بالملائكة الكرام
وكم جبّار قومٍ ذي عتوٍّ ... تهيّب أن يراه في المنام
يساوي عنده في العدل بين ال ... كرام الغرّ والسّود اللئام
وهيبته سرت شرقاً وغرباً ... وشاعت عنه في مصرٍ وشام
يراع المغل في توريز منه ... ويطرق أرضهم في كلّ عام

وكم قطع الفرات وصاد حتّى ... توغّل في فضا تلك المرامي
إذا ما قيل هذا اللّيث وافى ... مضوا هرباً كأمثال النّعام
فرائسه فرائصها تراها ... دوامي لا تزال على الدّوام
ولم نر قبله ليثاً أتته ... أفاعي القيد تنذر بالحمام
وقد رقت لنا فتئنّ حزناً ... عليه في القعود وفي القيام
ألا فاذهب سقيت أبا سعيدٍ ... فقد روّى زمانك كلّ ظام
فأنت وديعة الرّحمن منّا ... تحوطك في الرّحيل وفي المقام
وليت فلم تخن للّه عهدا ... ولم تجذبك فيه عرى الملام
وحاشى أن يراك اللّه يوماً ... تعدّيت الحلال إلى الحرام
ونلت من السّعادة والمعالي ... منالاً حاز غايات المرام
وكنت إذا دجا ليل القضايا ... وكانت من مهمّاتٍ جسام
تفرجّها بقولٍ منك فصلٍ ... لأنّ القول ما قالت حذام
وكنت تحبّ نور الدّين طبعاً ... لأنّكما سواءٌ في التزام
رعيت كما رعى وحميت ما قد ... حمى نفديك من راع وحام
بقيت ممتّعاً بالخلد حتّى ... يقوم النّاس من تحت الرّجام
ولما كان في أوائل شهر رجب الفرد سنة أربع وأربعين وسبع مئة، حضر تابوته من الإسكندرية إلى دمشق، ودفن - يرحمه الله تعالى - في تربته التي تجاور جامعه بدمشق فقلت:
إلى دمشق نقلوا تنكزا ... فيالها من آية ظاهرة
في جنّة الدنيا له جثّة ... ونفسه في جنة الآخرة
وقلت أيضاً:
في نقل تنكز سرٌّ ... أراده اللّه ربّه
أتى به نحو أرضٍ ... يحبّها وتحبّه
وقلت أيضاً كأني أخاطبه:
أعاد اللّه شخصك بعد دهر ... إلى بلدٍ وليت فلم تخنها
أقمت بها تدبّرها زمانا ... وتأمر في رعاياها وتنهى
فلا هذا الدخول دخلت فيها ... ولا ذاك الخروج خرجت منها
تنكز بغاالأمير سيف الدين المارداني، أمير مجلس الناصري.
كان حظيا عند الملك الناصر حسن، والسعد في يده يصرفه بزمام ورسن. بالغ في تقريبه، واعتمد على عقله وتجريبه، فنوله ما شاء من وجاهه، وخوله فيما أراد من فضل ونباهه. إلا أنه في آخر أيامه اعتل، ورماه السقم بدائه وانسل. فلم يزل يقوم ويبرك، ويسكن ويحرك، إلى أن اختطفه كاسر المنيه، واجتحفه سيل المنيه.
وكانت وفاته رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
كان في أيام الملك الناصر حسن الأولى مشد الشرابخاناه، ولما أمسك الوزير منجك وجرى ما جرى، أعطي إمرة مئة، وتقدمة ألف، واختص بالملك الناصر، وصارت له المنزلة العلية عنده، فخرج الأمير علاء الدين مغلطاي، وطاز على السلطان وركبا إلى قبة النصر، وجهز إليه: أن جهز إلينا النمجا وتنكز بغا، فجهز إليهما ما طلباه وخلعاه، وجرى ما جرى.
ثم لما ملك الملك الصالح صالح، أفرج عنه، وحضر معه إلى الشام في واقعة بيبغاروس، ولما عاد إلى مصر رسم له بإمرة مئة فارس وتقدمة ألف، وعظم شأنه، وارتفع قدره في الدولة الناصرية الثانية، وعين لنيابة الشام مرات، فما اختار ذلك.
ثم إنه تعلل وطال مرضه قريباً من سنة إلى أن ورد الخبر بوفاته رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
توبةابن علي بن مهاجر بن شجاع بن توبة: الصاحب تقي الدين أبو البقاء الربعي التكريتي. المعروف بالبيع.
كان أولاً تاجراً، حضر إلى البلاد وتعرف بالسلطان الملك المنصور وهو أمير قبل الملك، فلما آل الأمر إليه ولاه وزارة الشام مدة، ثم إنه عزله، ثم تولى وصودر غير مرة، ثم يسلمه الله تعالى.
وعمر لنفسه تربة مليحة تصلح للملك، وكان يظلم الناس ويعسف، ويهيل كثبان الأموال وينسف، إلا أنه مع ظلمه فيه مروءه، وعنده من الإسلام بقايا رحمة مخبوءه، وتقريب لأهل الصلاح، وادخار من دعاء الفقراء، فإنه أوقى جنة وأمضى سلاح.

ولم يكن له باطن ينطوي على غش، ولا يسكن الخبث معه في عش، وفيه سماح ومزاح غير مزاح، وكرم يباري به الرياح، وحسن خلق يصفو به كدر الماء، ويتلعب بالقلوب تلعب الأفعال بالأسماء، يقتني الخيول المسومه، والمماليك الملاح الذين وجوههم أقمار على رماح مقومه.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءت نوبة توبه، وسقاه غمام الحمام صوبه.
ووفاته رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده يوم عرفة سنة عشرين وست مئة ودفن بتربته.
يقال إنه كان عنده مملوك مليح اسمه أقطوان، فخرج يوماً آخر النهار يسير إلى وادي الربوة، ومملوكه أقطوان خلفه، فمر بمسطول وهو نائم، فلما أحس بركض الخيل فتح عينيه، وقال: يا الله توبة !، فقال: والك يا أبلم إيش تعمل بتوبة ؟، واحد شيخ نحس، اطلب منه أقطوان أحب إليك.
وأظنه باشر الوزارة بعد عزل الصاحب فتح الدين بن القيسراني، فلبس التقي توبة خلعة الوزارة في تاسع القعدة سنة ثمان وسبعين وست مئة، ثم قبض عليه في خامس عشري الحجة من السنة المذكورة، وأوقعت الحوطة عليه، وتولى الوزارة مجد الدين إسماعيل بن كسيرات.
ثم أفرج عنه في أول أيام حسام الدين لاجين، لما كان نائب دمشق، ثم قبض عليه أيضاً في جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وست مئة، ثم أطلق، ثم قبض عليه مرة أخرى في شهر واحد وأفرج عنه، تولى الوزارة، ثم قبض عليه في جمادى الأولى سنة ثمانين وست مئة، وتولى عوضه تاج الدين بن السنهوري. ثم إنه تولى الوزارة، ولم يزل بها إلى أن عزل بالصاحب يحيى بن النحاس في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وست مئة. وتوجه إلى مصر في شهر رجب، وأوقعت الحوطة على أمواله وأملاكه، ثم عاد إلى دمشق فتولى الوزارة في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وست مئة.
ثم إنه طلب إلى مصر هو وقاضي القضاة حسام الدين الحنفي وشمس الدين بن غانم سنة سبع وثمانين وست مئة، وعادوا في جمادى الأولى.
وفي شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وست مئة صادره الشجاعي بدمشق بعد حضور السلطان من فتح طرابلس فآذاه وأخرق به. ثم إنه توجه إلى مصر وعاد وزيراً في المحرم سنة تسعين وست مئة.
ولما عاد الأشرف من فتوح عكا إلى دمشق قبض عليه وعلى طوغان المشد، وجماعة من الكتاب. وأفرج عنه في شهر رجب سنة تسعين وست مئة، وصرف عن الوزارة بالصاحب شهاب الدين أحمد الحنفي يوم العيد الأضحى سنة خمس وتسعين وست مئة.
وفي شهر ربيع الأول تولى الوزارة التقي توبة عوضاً عن شهاب الدين الحنفي في سنة ست وتسعين وست مئة.
ونقلت من خط الوداعي له:
إني حلفت يمينا ... لم آت فيها بحوبه
مذ أقعدتني الليالي ... لا قمت إلاّ بتوبه
ونقلت منه، وقد وقع من أعلى حصانه:
فديناك لا تخش من وقعة ... فإن وقوعك للأرض فخر
سقوط الغمام بفصل الربيع ... ففي البرّ برٌّ وفي البحر درّ
ونقلت منه أيضاً:
لا تخف أيها الصا ... حب من وقع الحصان
أنت غيث ووقوع ال ... غي من خصب الزّمان
تومان تمرالأمير سيف الدين الناصري مملوك الملك الناصر حسن.
كان عند أستاذه عزيزا، وخلاصة حسنه البسيط لا يراه الناس وجيزا، له مكانة من قلبه قد ترفعت، ومنزلة من خارطه تردت بالمحبة وتلفعت، عمل عليه الأمير سيف الدين صرغتمش وأنزله من القلعه، ومنع طلعته لأنن يكون لها إلى القصر طلعه، فصبر لهذه النازله، وقال: ما تقابل بالجد هذه الهازله. وكان قد بغي عليه فانتصر، وعاد لما كان عليه بل زاد وما اقتصر.
وكان شاباً طوالا، إذا خطر كان غصنا، وإذا التفت كان غزالا، له ديانه، ولأهل العلم عنده مكانه.
باشر النيابات، ودخل في الأحكام فما أظلم عليه منها الغيابات، بإطراق وسكون، وميل إلى التعدد وركون:
لقد غدت الممالك خالياتٍ ... بعدلك يا أخا الشّيم الرضايا
وحسن الذكر في الدنيا غراس ... تنال ثمارها الأيدي السخايا
ولم يزل على حاله إلى أن أناطر، وذوى منه غصن ما كأنه ماء ولا خطر.
وتوفي رحمه الله تعالى في طاعون غزة سنة أربع وستين وسبع مئة، في أوائل شهر رمضان المعظم.

كان هذا الأمير سيف الدين من أكبر خاصكية الملك الناصر حسن، فعمل عليه الأمير سيف الدين صرغتمش، ولم يقدر على أكثر من أنه أنزله من القلعة، وبقي في القاهرة إلى أن أمسك صرغتمش، فعاد إلى ما كان عليه أولاً، وجهزه الملك الناصر حسن إلى فياض بن مهنا ليأخذه ويتوجه به إلى مصر، فوصل إلى حلب، وركب منها الهجن وأخذه، وراح به إلى السلطان، ولم يزل عند أستاذه في أعز مكانة وأرفع منزلة، إلى أن خلع الملك الناصر، فأخرج إلى طرابلس نائبا عوضاً عن الأمير زين الدين أغلبك الجاشنكير، وأقام بطرابلس نائباً إلى أن تحرك الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في دمشق، فجهز إليه ليحضر إلى دمشق، فامتنع أولاً، ثم وافق، ثم جاء إليه ونزل بالقصر الأبلق، وتوجه معه وعاد معه من غباغب، ونزل القصر الأبلق، ولم يصح أنه توجه منه ليلاً إلى تلقي السلطان الملك المنصور محمد بن حاجي.
ولما وصل السلطان إلى دمشق وتقرر الأمر، جهز الأمير سيف الدين تومان تمر إلى حمص نائباً، فتوجه إليها وأقام بها نائبا إلى أن عزل منها. وحضر إلى دمشق وأقام بها أمير مئة مقدم ألف في الميمنة، فأقام أشهراً قليلة، ورسم له في أوائل شهر رمضان سنة ثلاث وستين وسبع مئة بنيابة غزة. وكان قد عزل من حمص بالأمير سيف الدين يلبغا البجاسي في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
وكان قد حضر من حمص إلى دمشق على إقطاعه الذي كان بيده وهو في حمص، ثم رسم له بإقطاع الأمير سيف الدين سلامش، وأجلسوه في الميمنة دون المقدمين وفوق أمراء الطبلخانات.
ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن عزل الأمير سيف الدين كجكن نائب غزة. وجهز الأمير سيف الدين تومان تمر إلى غزة نائباً في رابع عشر شهر رمضان سنة ثلاث وستين وسبع مئة، فأقام بغزة إلى أن توفي بها في التاريخ المذكور.
وكان في هذه النيابات الثلاث مشكور السيرة، محمود الأحكام، رحمه الله تعالى.
توماابن إبراهيم الطبيب الفاضل علم الدين الشوبكي.
كان بالطب عارفا، وبالعلاج للأسقام صارفا، اشتهر بالإنجاب علاجه، وصح على تدبيره من كل مرض مزاجه، وكان يدرس الطب بجامع ابن طولون، ويرى أنه بذاك في رتبة ما وصل إليها سولون.
ولم يزل على حاله إلى أن فسد تركيبه، وجاءه سهم من الموت يصيبه منه نصيبه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر شهر رجب الفرد سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
وكان من أطباء السلطان وتجاوز السبعين. واختصر مسائل حنين، وتولى القاضي جمال الدين بن المغربي مكانه في الجامع، ودفن بالقرافة.
ابن التركمانيالأمير شمس الدين إبراهيم ابن الأمير بدر الدين محمد بن عيسى. الشيخ تاج الدين: أحمد.
ابن عثمانووالدهما عثمان بن إبراهيم. وقاضي حماة الحنفي علم الدين سليمان.
التونسيمجد الدين النحوي أبو بكر بن محمد بن قاسم الثوري. عثمان بن محمد.
التلاويالأمير ركن الدين بيبرس.
ابن تيميةالعلامة تقي الدين أحمد بن عبد الحليم، وشرف الدين أخوه عبد الله بن عبد الحليم. وشرف الدين التاجر: عبد الواحد. ومجد الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز. وعلاء ذلدين علي بن عبد الغني.
ابن التيتي: محمد بن إسماعيل.
حرف الثاء

ثامر
ابن دراج البدوي، من عرب خفاجة.
أنشدني من لفظه القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله، قال: أنشدني من لفظه ثامر بن دراج لنفسه بقلعة الجبل، سنة خمس وثلاثين وسبع مئة:
رأت البرق لامعاً فاستطارت ... وبكت بالدموع سمّاً رذاذا
قلت ماذا ؟ فقالت: البرق، قلنا: ... ألبرقٍ على الحمى كلّ هذا
ابن الثّردة
علي بن إبراهيم.
ابن ثروانشيخ البيانية عيسى بن ثروان.
ثعلبابن الحسن بن ثعلب، شرف الدين القاهري العطار.
أنشدني العلامة أثير الدين أبو حيان، قال أنشدني المذكور لنفسه:
تمتّعت بالتوفيق والعزّ والبقا ... وحوشيت من كسف ألمّ ومن كشف
ولا زلت في عزّ ولين ورفعة ... مقيماً بصدر الآي من سورة الكهف
حرف الجيمابن جابي الأحباس: ركن الدين عمر بن محمد.
جاريكعبد الله الأمير سيف الدين.

كان أحد أمراء الخمسين بدمشق، يسكن عند الشامية بظاهر دمشق.
توفي رحمه الله تعالى في عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبع مئة، ودفن بالقبيبات.
جاريك تمرالأمير سيف الدين المارداني.
كان من مماليك السلطان الملك الناصر محمد. أخذه الأمير سيف الدين تنكز من السلطان في بعض سفراته إلى القاهرة، وأقام عنده في دار السعادة. ولما كان في آخر سفرة، توجها إلى مصر أخذ له طبلخاناه من السلطان فيما أظن.
ولما أمسك تنكز توجه إلى القاهرة وأقام هناك، وجماعة تنكز يقولون إنه ممن عمل على إمساك تنكز باتفاق مع طاجار الدوادار، والله يعلم ما كان من ذلك.
ثم إن جاريك تمر خرج صحبة الفخري إلى الكرك، ووصل معه إلى دمشق. وفي أواخر الأمر كان بمصر حاجباً صغيراً. ثم إنه جهز إلى الكرك نائباً ولم يزل بها إلى أن أمسك الوزير منجك في أيام الناصر حسن في المرة الأولى، ورسم له بالتوجه إلى ألبيرة نائباً، وحضر إلى الكرك الأمير سيف الدين أراي عوضاً عنه فأقام جاريك تمر بالبيرة نائباً إلى أن خلع الناصر حسن، وتولى الملك الصالح صالح، فرسم له بالعود إلى القاهرة، وكان من جملة الحجاب.
ولما عاد الناصر حسن إلى الملك جرده، ومعه الأمير سيف الدين علم دار الداودار إلى الحجاز في سنة ستين وسبع مئة.
وأقام بمكة مجرداً سنتين، فوطنها ووطدها، وساس العرب أحسن سياسة، إلى أن توجه الأمير ناصر الدين محمد بن قراسنقر من دمشق إلى الحجاز في سنة إحدى وستين وسبع مئة، ورسم له بالمقام في مكة، وأن يعود الأمير جاريك تمر إلى دمشق مقدم الركب الحجازي.
ولما وصل إلى دمشق طلع الأمير سيف الدين بيدمر نائب الشام وتلقاه وحضر معه، ودخلا دار السعادة، ولما صار فيها قيده وأودعه في المدرسة العذراوية. ثم إنه جهزه صحبة الأمير سيف الدين برناق إلى باب السلطان، فرسم الناصر حسن باعتقاله في ثغر الإسكندرية.
ولم يزل بها إلى أن خلع الناصر حسن، وأفرج عن الأمراء المعتقلين، فحضر جاريك تمر إلى دمشق على إقطاع الأمير حسام الدين لاجين العلائي، ووصل إلى دمشق يوم الأحد حادي عشر شهر رجب سنة اثنتين وستين وسبع مئة، وجهز الأمير سيف الدين أرغون الأشعري الدوادار، وخطب ابنته فأجابه وجهزها إليه.
ثم إنه طلب إلى مصر فتوجه إليها في شعبان سنة ثلاث وستين وسبع مئة فيما أظن وأقام بها إلى أن توفي بالقاهرة في سادس عشري ذي القعدة سنة ثلاث وستين وسبع مئة رحمه الله تعالى.
جركسالأمير سيف الدين.
تولة نيابة قلعة الروم، وأقام بها زمانا، وأخذ من الدهر في طول المدة أمانا، فحصل أموالا، وكنز جملة لا يبالي معها أعادى الأيام أم والى، وثور نعمة طائله وأملاكاً هائله، وشاع أمر سعادته واشتهر، وبرز ذكره إلى الديار المصرية وظهر، وتحدث الناس بأمره، وعلموا بمكنون سره.
ولم يزل على حاله في القلعة المذكورة، إلى أن حالت حاله الحاليه، وقال " ما أَغْنَى عَنّي ماليه " .
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ورسم الملك الصالح إسماعيل أن يتوجه الأمير سيف الدين منجك للحوطة على موجوده، فساق على البريد من مصر إلى قلعة الروم لأجل ذلك.
جاغانالأمير سيف الدين الحسامي المنصوري.
كان مملوك السلطان حسام الدين لاجين المنصور.
كان فيه دين، وعقله في السياسة مكين، وفضله في التدبير مبين، ونيله في السياسة متين. أقامه أستاذه في شد الدواوين بدمشق لما كان قبجق بها نائباً، فوقع بينهما، واستوحش قبجق من السلطان وقفز ودخل بلاد التتار.
ولم يزل إلى أن دعي إلى البلى، وأصبح غيث الدمع عليه مسبلا.
وتوفي في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة.
وكان قد وصل إلى دمشق مشدا في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة من قبل أستاذه، ومعه تقليد الصاحب تقي الدين توبة، وكان قد ولى الشد أولاً عوضاً عن فتح الدين بن صبرة، ولما قتل السلطان لاجين أمسك جاغان بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة، وأفرج عنه في جمادى الأولى من السنة.
اللقب والنسب

ابن جبارة
شهاب الدين أحمد بن محمد. وتقي الدين عبد الله ابن عبد الولي.
ابن الجبابمحمد بن عبد الوهاب.
ابن الجباسأحمد بن منصور.
الجالقالأمير ركن الدين بيبرس.

الجاولي الأمير علم الدين سنجر.
ججكتو
الأمير سيف الدين التركماني. أحد أمراء الطبلخانات بدمشق. بجيمين مكسورتين وكاف ساكنة، وبعدها تاء ثالثة الحروف وواو: كان أولاً مقيماً بطرابلس، ولما جرى لألجيبغا نائبها ما جرى، ثم جرى لبكلمش نائبها أيضاً ما جرى، كره الإقامة بدمشق، فأجيب إلى ما سأله.
ولم يطل مقامه بدمشق حتى توفي رحمه الله تعالى يوم السبت سادس شهر رمضان سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
وكان له أولاد وأقارب، وهو كبير قومه بطرابلس رحمه الله تعالى.
جركتمرالأمير سيف الدين الإسعردي.
أخرجه الناصر حسن إلى نيابة حماة بعد إمساك الأمير ركن الدين عمرشاه، فما أقام بها إلا قليلاً، دون الشهرين، وعزله منها بالأمير علاء الدين بن تقي الدين.
وحضر الأمير جركتمر إلى حلب أميراً من بعض الأمراء بها، ثم جهزه إلى بعض قلاع حلب بطالاً، ثم أمسكه واعتقله بالإسكندرية، فأقام بها معتقلاً إلى أن خلع الناصر حسن، وحضر بعد ذلك إلى دمشق أميراً مقدماً على ألف.
وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة خامس شهر الله المحرم سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى شكلاً تاماً حسن الوجه.
اللقب والنسب
ابن الجرايدي محمد بن يعقوب
الجزري محمد بن يوسف
الجعبري
الشيخ برهان الدين إبراهيم بن عمر. وتاج الدين صالح بن ثامر. وتقي الدين محمد بن سليمان.
جعفرابن ثعلب بن علي الإمام
الأديب الفاضل كمال الدين أبو الفضل الأدفوي، بضم الهمزة وسكون الدال وضم
الفاء وبعدها واو مشددة، الشافعي.
كان فقيها ذكيا، فاضلاً زكيا، يعرف النحو، وتشرق شمسه فيه في يوم صحو، يغلب على ابن ثعلب الأدب، ولا يفتر عما له فيه من الطلب، وحظه من التاريخ موفر، وجيشه إذا غزا فيه مظفر، ضحوك السن دائم البشر، لا يلقاه أحد إلا عاطر النشر، حلو الملق عند الملقى، يروق من يحادثه خلقا وخلقا، لطيف الذات، متوسع النفس في اللذات.
لم يزل على حاله إلى أن جاءه ساقي المنايا، واستخرج الدمع عليه من الخبايا.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومولده في بضع وثمانين وست مئة.
كان عنده خبرة بالموسيقى، وله نظم ونثر، ولازم شيخنا العلامة أثير الدين كثيراً. ورأيته مرات بسوق الكتب في القاهرة، وأنشدني من شعره.
وكان كثيراً ما يقيم ببلده أدفو في بستان له هناك في أيام بطالة الدروس، وصنف أشياء: الإمتاع في أحكام السباع وجوده، والطالع السعيد في تاريخ الصعيد وجوده، والبدر السافر في تحفة المسافر، تأريخ، وجوده.
ومن شعره ما نقلته من خطه:
لروضة مصر حسنٌ لا يسامى ... يطيب لمن أقام بها المقام
لها وجهان ممدوحان حسناً ... وذو الوجهين مذمومٌ يلام
قلت: هو يشبه قول نور الدين علي بن عبد الله القصري في الروضة:
ذات وجهين فيهما خيّم الحس ... ن فأضحت بها القلوب تهيم
ذا يلي مصر فهو مصرٌّ وهذا ... يتولى وسيم فهو وسيم
قد أعادت عصر التصابي صباها ... وأبادت فيها الغموم الغيوم
ومن شعره:
وقد كنت في عصر الصّبا ذا صبابةٍ ... وما راق من لهوٍ إليّ حبيب
زماني صفوٌ كلّه ومسرّةٌ ... ولي من وصال الغانيات نصيب
فلما رأيت الشيب لاح تكدّرت ... حياتي فحلو العيش ليس يطيب
إذا ابيضّ مسودّ الشباب فإنّه ... دليلٌ على أنّ الحصاد قريب
ومذ حلّ هذا الشيب سارت مسرّتي ... وصار عليها للهموم رقيب
فلا تعجبوا ممّا بدا من كآبتي ... سروري وقد وافى المشيب عجيب
ومن شعر كمال الدين الأدفوي، رحمه الله تعالى:
إنّ الدروس بمصرنا في عصرنا ... طبعت على لغطٍ وفرط عياط
ومباحثٍ لا تنتهي لنهايةٍ ... جدلاً ونقلٍ ظاهر الأغلاط
ومدرّسٍ يبدي مباحث كلّها ... نشأت عن التخليط والأخلاط
ومحدّثٍ قد صار غاية علمه ... أجزاء يرويها عن الدّمياطي

وفلانة تروي حديثاً عالياً ... وفلان يروي ذاك عن أسماط
والفرق بين عزيرهم وعزيزهم ... وافصح عن الخيّاط والحنّاط
والفاضل النحرير فيهم دأبه ... قول أرسطا طاليس أو بقراط
وعلوم دين اللّه نادت جهرةً ... هذا زمان فيه طيّ بساطي
ولّى زماني وانقضت أربابه ... وذهابهم من جملة الأشراط
ومنه:
أذكرتني الورقا حديثاً بليلى ... قد تقضّى فبتّ أجري الدموعا
ووصلت السهاد شوقاً إليها ... وغراماً، وقد هجرت الهجوعا
كيف يخلو قلبي من الحبّ يوماً ... وعلى حبّها حنيت الضلوعا
كلّما أولع العذول بعذلي ... في هواها يزداد قلبي ولوعا
ومنه:
وهيفاء غار الغصن من لين قدّها ... بقلبي هوى منها وليس يزول
يروم عذولي صاح منّي سلوّهاوذلك أمرّ ما إليه سبيل
وقد عابها عندي فقال طويلةٌ ... ألم ترها عند النسيم تميل
فقلت له: هذي حياتي وإنني ... ليعجبني أن الحياة تطول
جعفرابن علي بن جعفر بن الرشيد

الشيخ المعمر شرف الدين الموصلي.
ذكر أنه سمع من السهروردي كتاب العوارف بالموصل، ومن ابن الزبيدي بدمشق، ومن ابن الجميزي بمصر، ومن ابن رواج بالثغر.
وروى عنه الدمياطي في معجمه، وقال فيه: المعروف بالحسن البصري.
توفي رحمه الله تعالى بدمشق سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده بالموصل سنة أربع وست مئة.
كان من الأشياخ الفضلاء، والرواة النبلاء، حفظةً للأخبار، نقلةً للأشعار عمر فروى، وطال عمره في الخير وما غوى.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح خبراً بعد عين، ونعب بشت شمله غراب البين.
جعفرابن محمد بن عبد الكريم
بن أحمد بن حجون بن محمد بن حمزة: الإمام المفتي ضياء الدين أبو الفضل
الصعيدي الشافعي الحسيني.
درس بمشهد الحسين، وبمدرسة زين التجار. وسمع وهو شاب من ابن الجميزي وأبي القاسم السبط.
وكان قد برع في المذهب، وأفتى أربعين سنة من عمره، فأفنى مدتها في ذلك وأذهب، وخدم العلم زمانا، وكان على استخراج معانيه معانا.
ولم يزل الضياء على حاله إلى أن محي، ودفع إلى حفرته ودحي.
ووفاته رحمه الله تعالى على سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ثمان عشرة وست مئة.
جعفرابن محمد بن عبد العزيز
بن أبي القاسم بن عمر بن سليمان بن إدريس المتأبد بن يحيى المعتلي، ووصل
الشيخ أثير الدين نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وأنشدني من لفظه شيخنا المذكور، قال أنشدني المذكور لنفسه:
لا تلمنا إن رقصنا طرباً ... لنسيمٍ هبّ من ذاك الخبا
طبّق الأرض بنشرٍ عاطرٍ ... فيه للعشاق سرٌ ونبا
يا أهيل الحيّ من كاظمةٍ ... قد لقينا من هواكم نصبا
قلتم جز لترانا بالحمى ... وملأتم حيّكم بالرّقبا
لست أخشى الموت في حبّكم ... ليس قتلي في هواكم عجبا
إنما أخشى على عرضكم ... أن يقول الناس قولاً كذبا:
استحلّوا دمه في حبّهم ... فاجعلوا وصلي لقتلي سببا
قلت: شعر عذاب متوسط.
توفي المذكور بالقاهرة سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده بها سنة إحدى عشرة وست مئة.
جعفر بن محمد بن عدنانالقاضي الرئيس أمين الدين بن الرئيس الفاضل محيي الدين بن أبي الجن الحسيني.
كان حسن الهيئه، لطيف الذهاب والفيأه، حسن الخلق، يقبل على من أمه بوجهه الطلق، لين الكلمة في خطابه، سمح الكف يبذل ما في وطابه، عارفا بصناعة الكتابه، عالماً بالمسألة فيها والإجابه، تنقل في الولايات الكبار، وباشر الوظائف التي ما لجرحها جبار، ولي النقابة والنظر على الأشراف، والنظر على الدواوين بدمشق ومالها من الأطراف، وغير ذلك.
ولم يزل على حاله إلى أن غمس شخصه في التراب، وقمس من ماء الرزية في سراب.
وكانت وفاته، رحمه الله تعالى، في ثالث عشر شهر رجب الفرد سنة أربع عشر وسبع مئة.
ومولده في مستهل شهر رجب الفرد سنة خمس وخمسين وست مئة.

وكان قد لبس لنقابة الأشراف في شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة عوضاً عن والده الشيخ محيي الدين، وقدم على غيره مع صغر سنه لفضله وفهمه وعقله. ولبس خلعة نظر الدواوين بدمشق في يوم الأربعاء، سابع عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ابن جعوان: شهاب الدين أحمد بن العباس.
جقطاي الأمير سيف الدين.كان خفيف الحركه، سريع الخطره، لا يبالي بشيء فاته أأدركه أم تركه.
ورد إلى دمشق صحبة الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري، لما ترك على خان لاجين، وكان قد تزوج بامرأة الجمالي الوزير، وهي في الحسن والعظمة ما هي، ورمي من أمرها بدواهي، وتنقل به الحال إلى أن صار حاجباً صغيراً بدمشق، ولم يزل بها إلى أن أمسك وهو والأمير سيف الدين أقبغا عبد الواحد والأمير سيف الدين بلو قبجق، وذلك في شوال سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة لأنهم رموا بالمباطنة للناصر أحمد، وهذا آخر عهدي به.
الألقاب والأنساب

جلال الدين قاضي القضاة القزويني
محمد بن عبد الرحمن
أبو جلنك الشاعر أحمد بن أبي بكر.
جماز بن شيحة
الأمير عز الدين أبو سند الحسيني، صاحب المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
كان أميراً في تلك البقعة الشريفه، وكبيراً في تلك الرقعة المنيفه، يحكم ولا يرد، ويحاول ما يختار فلا يصد.
كبر وطعن في السن، وصار بعد تلك الغضارة في الصبا وهو شن، فأضر وهو على الإمرة قد أصر، وأسر من أمرها إلى ولده ناصر الدين أبي عامر منصور ما أسر وما أشر.
ولم يزل جماز المذكور على حاله إلى أن ابتلعه حفرة القبر، وفقد قومه معه الصبر.
وتوفي رحمه الله تعالى، في شهر ربيع الأول سنة أربع وسبع مئة.
وكان شيخاً كبيراً أضر في آخر عمره، وقام عنه بالأمر في حياته ولده الأمير ناصر الدين أبو عامر أبو منصور.
ابن جماعة قاضي القضاة
بدر الدين محمد بن إبراهيم. عماد الدين إسماعيل بن إبراهيم، أخوه.
جمال الكفاة: جمال الدين إبراهيم ناظر الخاص والجيش.
الجناحي نائب غزة،
اسمه أيدمر.
أولاد ابن أبي الجن: جماعة، منهم: الشريف أمين الدين جعفر بن محمد، وزين الدين الحسين بن محمد، ووالدهما محمد بن عدنان، وعدنان بن جعفر، وعلاء الدين علي بن الحسين النقيب، وناصر الدين يونس بن أحمد.
جنغايبضم الجيم وسكون النون وبعدها غين معجمة وألف ممدودة وبعدها ياء آخر الحروف: سيف الدين مملوك الأمير سيف الدين تنكز.
كان رقيقاً أهيف، حلو الوجه أوطف، نحيلاً مصفرا، ضئيلاً بالسعادة مظفرا، لا يزال به قرحه، تنغص عليه من العيش كل فرحه، وتبدل كل مسرة بترحه، لأنه كان ينفث منها الدم والقيح، ويجد الألم مما لها من الفيح، ولأجل ذلك أفسح له أستاذه في استعمال القليل من الراح، والمداواة منها بما يصلح مزاجه لا بما يرتاض به ويرتاح، ولم نره كان عند أستاذه أعز منه ولا أقرب، وما كان يدعه في الخلوة يقف قدامه.
أخبرني القاضي علم الدين ناظر الجيوش، وكان مستوفي ديوان تنكز أولاً، قال: كان الأمير قد رسم لنا بأنه يطلق من الخزانة العشرة آلاف فما دونها، ويمضي أمره فيها ولا يشاور عليه. قال: ولم نعلم أنه مضى يوم من الأيام ولم ينعم عليه بشيء إلا فيما ندر. انتهى.
وكنا نراه في الصيد إذا خرج، يركب أستاذه ناحية، ويركب هو ناحية في طلب آخر بازدارية، وكلابزيه، وأناس في خدمته، ويكون معه في الصيد مئتا عليقة، ويكون على السيباله خمس ست حويص ذهباً.
وعلى الجملة فما نعلم أن أحداً رزق حظوته عنده، كان يقال: إنه ذو قرابته، والظاهر أن ها هو الصحيح، لأن هذا جنغاي ما كان في مقام من يعشق، لأنه لم يكن أمرد ولا مليح الوجه. والله أعلم. ولم يكن له عنده وظيفة ليتوسط فيها بينه وبين الناس، بل أظنه كان ساقياً.

وفي آخ الأمر أرجف بأنه هو وطغاي أمير آخور تنكز، قد حسنا لأستاذهما التوجه إلى بلاد التتار، فطلبهما السلطان منه، فلم يجهزهما، ولما أمسك تنكز قبض عليهما، وأودعا في قلعة دمشق، فلما حضر بشتاك إلى دمشق أحضرهما قدامه، وسلمهما إلى برسبغا، فضربهما بالمقارع ضرباً عظيماً إلى الغاية في الليل والنهار، واستخرج ودائعهما، وقررهما على مال أستاذهما، ثم بعد جمعة ركب بشتاك، ووقف في الموكب بسوق الخيل وأحضرهما، ووسطهما بحضور أمراء مصر والشام، وذلك في العشر الأول من شهر الله المحرم سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، ووسط معهما أوزان تنكز.
جنقارالأمير سيف الدين.
أمسك هو والأمير بدر الدين بكتوت الشجاعي في شهر رجب الفرد سنة إحدى عشرة وسبع مئة، واعتقلا في قلعة دمشق في أيام نائب الكرك، ثم إنه ورد المرسوم في شهر رمضان بنقلهما إلى الكرك.
جنكليبفتح الجيم، وسكون النون، وفتح الكاف، وبعدها لام وياء آخر الحروف: ابن محمد بن البابا بن جنكلي بن خليل بن عبد الله العجلي، الأمير الكبير المعظم الرئيس بدر الدين كبير الدولة الناصرية محمد، ورأس الميمنة بعد الأمير جمال الدين نائب الكرك.
كان شكلاً هائلا، ووجهاً يحاكي القمر كاملا، يتوقد وجهه وضاءه، ويتفقد حلمه الذين أساؤوا إناءه، يعرف حق من قصده، ويقبل بوجه حنوه على من رصده، ويزرع من المعروف ما يسره في غد إذا حصده، قد صارت المكارم له جبله، والمواهب تتحدر من غمائم أنامله المستهله، يحفظ فرجه، ويسد بالعفة ما يفتحه له السلطان من فرجه، لا يقرب من مماليكه من كان أمرد، ولا يجعله على باله أأقبل عليه بوجهه أم رد، وليس له من الجواري حظيه، ولا امرأة يدنو إليها بحسنة أو خطيه، اللهم إلا ما كان من أم أولاده التي حضرت معه من البلاد، ولم تر عليها له طارفاً يستجده على مالها من التلاد، يصلي العشاء الآخرة، ويدخل إلى فرشها، ويخرج لصلاة الصبح وكأنها بلقيس في عرشها.
وكان يحب أهل العلم ويجالسهم، ويطارحهم المسائل ويدارسهم، ويبسط لهم الود الأكيد ويؤانسهم. وكان يعرف ربع العبادات ويجيده، ويتكلم على الخلاف فيه ويفيده. وكان يميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية ويترشف كلامه، وينتشي بذكره، لو كنت أعلم أنه يتناول المدامه، وينفر عمن ينحرف عنه ويوليه الملامه، ويوفر العطاء لمن قلده، ويسني الهبات لمن قيد كلامه وجلده إذا كتبه وجلده. هذا مع الإحسان المطلق مع الناس أجمع، والبر الذي إذا فاض أخجل الغيوث الهمع، تارة بجاهه الذي لا ترد إشارته الملوك، وتارة بماله الذي تنخرط جواهره في السلوك.
وكان آخر وقته كبير الدولة في السلم وإثارة غبار السنابك، وإذا حضر دار عدل قال: يا أتابك، سبحان من أتى بك.
ولم يزل على حاله في سؤدده إلى أن غاب بدره وأفل، ونزل شخصه إلى حضيض القبر واستفل.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وأربعين وسبع مئة، يوم الاثنين العصر سابع عشر ذي الحجة.
وكان ينتسب إلى إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه، وسيأتي ذكر ولده الأمير ناصر الدين محمد.
خطبه الملك الأشرف خليل وهو في تلك البلاد، ورغبه في الحضور، فلم يوافق حتى يرى منشوره بالإقطاع، فكتب له منشوراً بإقطاع جيد وجهزه إليه، فلم يتفق حضوره. ثم إنه وفد على السلطان الملك الناصر محمد، وذلك في أوائل سنة أربع وسبع مئة. وكان وصوله إلى دمشق يوم الثلاثاء حادي عشر القعدة سنة ثلاث وسبع مئة، وكان مقامه بالقرب من آمد، فأكرمه وأمره، ولم يزل عنده معظماً مبجلاً.
وكان في آخر وقت، بعد خروج الأمير سيف الدين أرغون من الديار المصرية، يجهز إليه الذهب مع الأمير سيف الدين بكتمر الساقي ومع غيره، ويقول له: لا تبوس الأرض على هذا ولا تنزله في ديوانك، كأنه يريد إخفاء ذلك.
وكان يجلس أولاً في الميمنة ثاني نائب الكرك، فلما توجه نائب الكرك لنيابة طرابلس، جلس الأمير بدر الدين رأس الميمنة. وكان السلطان الملك الناصر محمد قد زوج ابنه إبراهيم بابنة الأمير بدر الدين، وما زال معظماً في كل دولة.
وكتب له في ألقابه عن السلطان الملك الصالح إسماعيل: الأتابكي الوالدي البدري. وكانت له في الدولة الصالحية وجاهة زائدة لم تكن لغيره. لأنه هو الذي أخذ السلطان وأجلسه على الكرسي، وحلف له، وحلف الناس له.

وكان ينفع العلماء والصلحاء والفقراء وأهل الخير وغيرهم. وكنت أتردد إليه وآخذ منه إحساناً كثيراً رحمه الله تعالى.
وقلت محبةً فيه، ولم أكتب بها إليه:
محيّا حبيبي إذا ما بدا ... يقول له البدر يا مخجلي
بلغت الكمال ولي مدّة ... أدور عليه وما تمّ لي
فباللّه قل لي ولا تخفني ... سرقت المحاسن من جنكلي ؟!
وقلت أيضاً، ولم أكتب بها إليه:
لا تنس لي يا قاتلي في الهوى ... حشاشةً من حرق تنسلي
لا ترس لي ألقى به في الهوى ... سهام عينيك متى ترسل
لا تخت لي يشرف قدري به ... إلاّ إذا ما كنت بي تختلي
لا جنك لي تطرب أوتاره ... إلا ثنا يملى على جنكلي
نقلت من خط علاء الدين بن مظفر الكندي الوادعي قال: تواترت الأخبار بأنه قد جرد من الأردو مقدم يسمى قبرتو يكون مقيماً بديار بكر عوض جنكلي بن البابا المهاجر إلى الإسلام، فلما وصل كتبت في مطالعة سلطانية:
أتى من بلاد المشركين مقدّمٌ ... تفاءلت لمّا أن دعوه قبرتو
وإنّي لأرجو أن يجيء عقيبها ... بشيري بأنّي للّعين قبرت
الألقاب والأنساب

ابن جهبل
شهاب الدين أحمد بن يحيى. محيي الدين إسماعيل بن يحيى.
ابن جوامرد: علاء الدين علي بن محمود.
جوادابن سليمان بن غالب بن معن بن مغيث بن أبي المكارم بن الحسين بن إبراهيم، وينتهي نسبه إلى النعمان بن المنذر.
هو عز الدين بن أمير الغرب، رجل يده صناع وإن كانت في الجود خرقا، أكتب من في عصره تحت أديم الزرقا، أتقن الأقلام السبعة وكان فيها واحدا، واشتغل بشيء من البيان فلو عاصره ما كان له جاحدا. وأما الصياغة فكان فيها ممن تصاغ له العليا، وتفرد بإتقان ما يعمل منها في هذه الدنيا.
وأما النشاب فكان سهمه فيه وافرا، وسعده في عمله وإفراده متضافرا.
وأما القص فهو فيه غريب القصة، لم ينس له فيه حصة، بحيث إنه كان في هذا وغيره ممن اقتعد الذروه، وتسلم الصهوه، وأكل العجوه، ورمى للناس البخوه، وجعل صحيحات العيون إليه حولاً من السهوه، لما عنده من الشهوه.
ولم يزل جواده يجري في حلبة عمره إلى أن كبا، واتخذ النعش بعد الجياد مركبا.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة.
ومولده في خامس المحرم سنة خمس وسبع مئة.
أما الكتابة فكان فيها غاية، يكتب من الطومار إلى قلم الغبار، ويكتب المصاحف والهياكل المدورة، ويأتي في كل ذلك بالأوضاع الغريبة من العقد والإخباط وغير ذلك. وكان يعمل النشاب بالكرك من أحسن ما يكون، ويعمل الكستوان ويتقنه ويزركشه، ويعمل النجارة الدق والتطعيم والتطريز والخياطة والبيطرة والحدادة ونقش الفولاذ والزركش والخردفوشية ومد قوساً بين يدي الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى مئةً وثلاثين رطلاً بالدمشقي، وكبت مصحفاً منقوطا مضبوطاً يقرأ في الليل، وزن ورقه سبعة دراهم وربع، وجلده خمسة دراهم، وكتب آية الكرسي على أرزة، وعمل زرقبع لابن الأمير سيف الدين تنكز اثنتي عشرة قطعة، وزنه ثلاثة دراهم، يفك ويركب بغير مفتاح، وكتب عليه حفراً مجرىً بسواد سورة الإخلاص والمعوذتين والفاتحة وآية الكرسي وغير ذلك، يقرأ عليه وهو مركب، ومن داخله أسماء الله الحسنى لا يبين منها حرف واحد إلى حين يفك، وجعل لمن يفكه ويركبه مئة درهم فلم يوجد من يحسن ذلك.
وكتب لتنكز قصة قصاً في قص في قص، وقص لامية المعجم.
وأما عمل الخواتيم ونقشها وتحريرها وإجراء المينا عليها فلم أر أحداً أتقن ذلك مثله ولا قاربه، وما رأيت مثل أعماله في جميع ما يعمل، ولا مثل إتقانه.
وحفظ القرآن وشد طرفاً من الفقه والعربية، ولعب بالرمح، ورمى النشاب وجوده، وأراد تنكز أن يتخذه زردكاشا عنده في وقت، وقربه وأعطاه إقطاعاً. وعلى الجملة فما رأيت مجموعه في أحد غيره.
ولم يزل على حاله إلى أن حصل له وجع المفاصل، فاستعمل دواء فيه شحم الحنظل فما أجابه، وبقي بعده أياماً. وتوفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور.
وكان مقامه في بلاد بيروت، وكان قد أهدى إلي في وقت طرفاً من هدايا بيروت، فكتبت أنا إليه:

يا سيّداً جاءت هداياه لي ... على المنى منّي ووفق المراد
أنت جوادٌ سابقٌ بالندى ... من ذا الذي ينكر سبق الجواد
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
وافى مثالك مطوّياً على نزهٍ ... يحار مسمعه فيها وناظره
فالعين ترتع فيما خطّ كاتبه ... والسمع ينعم فيما قال شاعره
وإن وقفت أمام الحيّ أنشده ... ودّ الخرائد لو تقنى جواهره
جوبانالنوين الكبير، النوين المعظم، نائب الممالك القانية.
كان بطلاً شجاعا، آمراً مطاعا، ذا إقدام وثبات، وله في الحروب إذا حميت وثبات، عظيماً ذا مهابه، كبيراً بين المغول، تقبس النار منه شهابه، شديد الوطأه، يخاف كل من في الأردو خطأه، عالي الشأن، كثير الفخار، بعيد المنال، رفيع المنار، همته عاليه، وعزمته بالحزم حاليه، صحيح الإسلام، مليح الانقياد في الدين والاستسلام، حظه من الصلاة موفور الأقسام، وعقيدته في النصح للإسلام، تعرف من ثغره البسام.
بذل الذهب الكثير حتى أوصل الماء إلى مكة، وجرى بها، ولم يبق للماء ثمن يباع به، وإنما الثمن لأجرة نقله، ووصل الماء إلى مكة، وجرى فيها بالصفا وبباب إبراهيم وبالأبطح في أوائل جمادى الأولى سنة ست وعشرين وسبع مئة.
وأنشأ مدرسةً مليحة بالمدينة النبوية في جوار الحرم الشريف وتربةً ليدفن بها، وكان له ميل كثير إلى المسلمين. وهو أحد الأسباب المتوفرة في تقرير الصلح بين بوسعيد مخدومه وبين السلطان الملك الناصر محمد.
أخبرني جماعة من أهل الرحبة أنه لما نزل خربندا عليها، ونصب المجانيق رمى منجنيق قراسنقر حجراً تعتع القلعة، وشق منها برجاً، ولو رمى غيره هدمها إلى الأرض.
وكان جوبان يطوف على العساكر، ويرتب المحاصرين، فلما رأى ذلك أحضر المنجنيقي، وقال له: أتريدني أقطع يدك الساعة، وذمه وسبه بانزعاج وحنق، وقال: والك، في شهر رمضان نحاصر المسلمين ونرميهم بحجارة المنجنيق ؟ لو أراد القان أن يقول لهؤلاء المغول الذين معه: ارموا على هذه القلعة مخلاة تراب كل واحد كان طموها، وإنما هو يريد أخذها بالأمان من غير سفك دم، والله متى عدت رميت حجراً آخر سمرتك على سهم المنجنيق.
وحكى لي منهم غير واحد أنه كان ينزع النصل من النشاب ويكتب عليه: إياكم أن تذعنوا أو تسلموا وطولوا أرواحكم فهؤلاء ما لهم ما يأكلونه، وكان يحذرنا هكذا بعدة سهام يرميها إلى القلعة، واجتمع الوزير، وقال له: هذا القان ما يبالي ولا يقع عليه عتب، وفي غد وبعده إذا تحدث الناس أيش يقولون ! نزل خربندا على الرحبة، وقاتل أهلها، وسفك دماءهم، وهدمها في شهر رمضان. فيقول الناس: أفما كان له نائب مسلم ولا وزير مسلم، وقرر معه أن يحدثا القان خربندا في ذلك، ويحسنا له الرحيل عن الرحبة. فدخلا إليه، وقالا: المصلحة أن نطلب كبار هؤلاء وقاضيهم، ويطلبوا منك الأمان، ونخلع عليهم ونرحل عنهم بحرمتنا، فإن الطابق قد وقع في خيلنا، وما للمغل ما تأكل خيولهم، وإنما هم يأخذون قشور الشجر ينحتونها ويطعمونها خيلهم، وهؤلاء مسلمون، وهذا شهر رمضان، وأنت مسلم وتسمع قراءتهم القرآن، وضجيج الأطفال والنساء في الليل، فوافقهم على ذلك. فطلبوا القاضي وأربعةً من كبار البحرية، وحضروا قدام خربندا، وخلعوا عليه، وباتوا فما أصبح للمغل أثر، وتركوا المجانيق وأثقالها رصاصاً، والطعام والعجين وغيره، ولم يصبح له أثر.
وهذه الحركة وحدها تكفيه عند الله تعالى، ويرى الله له أقل من ذلك، حقن دماء المسلمين ودفع الأذى عنهم، لكنه أباد عدداً كثيراً من المغل وجرى له ما تقدم في ترجمة أيرنجي، وأخذ من الوزير الرشيد ألف ألف دينار.
وقد مر ذكر ابنه تمرتاش وابنته بغداد، وكان ابنه دمشق خواجا قائد عشرة آلاف فارس. وزالت فيما بعد سعادتهم، وتنمر لهم بوسعيد، وتنكر، وقتل دمشق خواجا ولده، وهرب جوبان إلى والي هراة لائذاً به فآواه، وأطلعه إلى القلعة ثم قتله، ونقل تابوت جوبان - رحمه الله تعالى - إلى المدينة الشريفة ليدفن في تربته، لأن ابنته الخاتون بغداد جهزته مع الركب العراقي، فما قدر الله له ذلك، وبلغ السلطان الملك الناصر ذلك فجهز الهجن إلى المدينة، وأمرهم أن لا يمكن من الدفن في تربته فدفن في البقيع.

وكانت قتلته - رحمه الله تعالى - في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وكان من أبناء الستين لأنه لما قدم دمشق مع غازان كان من أكبر قواده، وكان له من الأولاد تمرتاش ودمشق خواجا وصرغان شيرا وبغبصطي وسلجوك شاه بغداد.
جوبانالأمير سيف الدين المنصوري.
أحد أمراء الشام وكباره، ومن إذا جرى في ميدان الشجاعة لا يطمع ملاعب الأسنة في شق غباره. قوي النفس لا يصبر على ذله، شديد البطش، لا يعبأ بما يترتب على الأهوار المضله، وكانت له عظمة في النفوس، وجلالة تجعل موضعه على الرؤوس، ولم يزل على ذلك إلى أن جرى بينه وبين تنكز مقاوله، كادت تصل إلى مصاوله، فأودعه في القلعة معتقلاً ليلة والثانيه، وقال حساده: " يا ليتها كانتِ القاضية " ثم إنه حمل إلى مصل ورسم له بالإقامة هناك، وقال له محبه: أبشر ظفرت بالسلامة هناك.
وكانت واقعته مع تنكز في جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، وأقام بمصر على إقطاع، وفي العشرين من شوال سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة عاد من مصر أميراً على ما كان عليه، وتوجه أمير الركب سنة ست وعشرين وسبع مئة، وأقام بدمشق على إمرته، إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في عشري صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وكان من مماليك الأشرف، أمره الأشرف، وخلف تركة كبيرة من الذهب والفضة والات والأمتعة، وكان قد جاوز السبعين، وأعطي إقطاعه للأمير شهاب الدين قرطاي نائب طرابلس.
جوبانالأمير سيف الدين، أحد الأمراء أصحاب الطبلخاناة.
كان حسن الصورة، مديد القامة، فهي على الهيف مقصوره، له طلعة إذا فاخرها البدر في تمامه، كانت له منصوره، بمعاطف كالغصون لا تزال بيد النسيم مهصوره، وشمائل راقت لمتأملها فمحاسنها غير محصوره.
تضرّم خدّاه حتى عجب ... ت لعارضيه كيف لا يضطرم
إلا أن الأيام عبثت بمحاسنه، وأثارت له البلى من مكامنه، فحولت حالاته، وعادته وعادت عن موالاته، وجعلت وجهه للأنام عبره، وأجرت عليه من العيون كل عبره، ولزم منزله لا يدخل ولا يخرج، ولا يرقى في منازل الحركة ولا يعرج، كالبدر إذا كسف، والغصن إذا قصف، ولم يزل على حاله إلى أن تلاشى واضمحل، وجوز اللحد أكل لحمه واستحل.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم السبت رابع عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
أول ما عرفت من أمره أنه حضر مع الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي من حلب إلى دمشق، وأظنه كان أمير عشرة، ولم يزل معه مدة نيابته في دمشق، إلى أن جرى له ما جرى على ما سيأتي في ترجمة يلبغا، فاعتقل في جملة من اعتقل من جماعته لأنه كان من ألزامه، على ما في ظني، ثم إنه أفرج عنه، وحضر إلى دمشق وكان بها أمير طبلخاناه، وتحدث في جامع يلبغا، وعمر إلى جانبه عمارة، ونوزع فيها، فأوقفها على الجامع.
ثم إن الملك الناصر حسن قطع إقطاعه، وبقي في دمشق بطالاً إلى أن أحضر الأمير سيف الدين اسندمر أخو يلبغا نائب دمشق فصار عنده من خواصه المقربين، ولارمه ثم إنه جهز إلى حماة أمير عشرة في أيام الأمير سيف الدين أسندمر، ثم إنه وقعت في وجهه آكلة - نعوذ بالله منها - فحضر إلى دمشق ولازم بيته لا يدخل ولا يخرج منه لأنها شوهت وجهه، إلى أن مات في التاريخ المذكور.
الجوهري: القاضي علاء الدين محمد بن نصر الله.
جوكو الهنديالشيخ عبد الله. كان ساكناً بالتقوية بدمشق.
كان كثير الحج، ملازم الصلاة في الليل إذا دج، يحافظ على الصف الأول في المقصوره، ويخاطب الناس بكلمات محصوره، وكان أولاً فقيراً من القلندريه، وتلك الفرقة المفتريه. صحب محمود سابقان، واقتدى به وقتاً من الزمان، ثم ترك تلك الطريقه، وأعرض عن المجاز وسلك الحقيقه. ولم يزل على حاله إلى أن مضى لسبيله، ودرج على أثر أهله وقبيله.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سابع عشر ربيع الآخر، سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
وكان اشتهر بين الناس بجاكير، والصحيح الأول بجيم بعدها واو، وكاف وواو، معنى جوكو بالهندي: الزاهد العابد.
جولجينبضم الجيم وبعدها واو ساكنة، ولام وجيم ثانية وياء آخر الحروف ساكنة ونون.
كان من مماليك السلطان الملك الناصر، أظنه كان جمداراً.

لما قدم السلطان من الكرك إلى دمشق في سنة تسع وسبع مئة داخله إنسان إلا أنه شيطان يعرف بالنجيم الحطيني، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف النون مكانه، ولعب بعقله وعمل له صورة ملحمة وعتقها، وكان قد تحمل حتى اطلع على آثار في جسمه وخيلان، وذكره في تلك الملحمة ووصفه، وساق الملك إليه بعد الناصر محمد، فدخل هذا في ذهنه وصدقه عقله، وغره من ذاك المسطور نقله وما خامره في ملكه شك، ولا احتاج دينار هذا القول عنده إلى حك، فصار ذلك في خاطره، ولم يزل خياله عن ناظره، وأسر ذلك إلى جماعة من خوشداشيته وممن بطنهم من حاشيته، وتوجهوا إلى مصر وأقاموا زمانا، ولم يعطهم الدهر بذلك أمانا، إلى أن أطلع الله السلطان على هذه الواقعة، فما كذب أن أحضره وجماعة معه وعرض عليهم العذاب فاعترفوا له بذلك، فوسطه لوقته، ونقله من مقته إلى مقته.
وطلب النجيم من صفد، وجرى له ما يجيء ذكره إن شاء الله في ترجمته. وكان ذلك في سنة خمس عشرة وسبع مئة، ورأيت أنا ابن جولجين هذا في القاهرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة غير مرة، وكان صورةً جميلة.
الألقاب والأنساب

الحاجبي شهاب الدين أحمد بن محمد.
ابن حاتم البعلبكي الشيخ إبراهيم بن أحمد.
حرف الحاء
حاجي محمد بن قلاوون
السلطان الملك المظفر سيف الدين، ابن السلطان الملك الناصر، ابن السلطان الملك المنصور.
ولد وأبوه في الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وكان ذا منظر وشكاله، ووجه كأن البدر سأله الحسن وشكا له. قد غرته الشبيبه، وضرته بإقبالها الدنيا الحبيبة، فأقبل على من قابله بمراءاة غشه، وسلم قياده لمن شركه في عشه، فأفنى أمراء الدولة، واستنفد حيله في القبض عليهم وحوله، وزاد في سفك الدماء، وأثار بالفتن عجاج الأرض إلى السماء. لا جرم، إن الدهر قلب له ظهر المجن في المحن، وملأ القلوب عليه بالأحقاد والإحن، ولم تطل مع ذلك المده، ولم ينفعه من ادخره عدةً من الغده، حتى ركبوا بالسلاح إلى قبة النصر، وسلبوا ثما أغصانه بالهصر، ورموه بالحصر والحصر، ونقلوا ألف ألفه بالملك من المد إلى القصر، وأنزلوا كوكبه إلى حضيض الأرض وبعد أوج القصر فخر على الألاءة لم يوسد وراح أقل من ظبي تحبل، وكان كأنه نمر تأسد. وضرجوا خد الأرض بدمه، وصبغوا كافوره بعندمه، وأبقوه رجمةً لعدوه، وألقوه في مهد تعرى من هدوه، وتركوه تسفي الريح عليه الرمل، وتبكي الغمائم على من انصدع له من الشمل؛ وكان أخوه الملك الكامل قد حسبه وأراد هلاكه، وقيل: إنه أمر أن يبنى عليه حائطان.
وكان الأمراء قد كتبوا إلى يلبغا اليحيوي نائب دمشق بأن يبرز إلى ظاهر دمشق، فبرز - على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمته - فاحتاج الكامل إلى أن يجرد عسكر الشام، فخرجوا إلى السعيدية أو الخطارة، ورجعوا إليه، فركب ونزل إليهم، فنصرهم الله تعالى عليه، وجرحوا أرغون العلائي، كما تقدم، وخلعوا الكامل وصعدوا إلى القلعة وأخرجوا حاجي من سجنه وأجلسوه على كرسي الملك وحلفوا له؛ وكان القائم بذلك الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، والأمير شمس الدين آقسنقر، وأرغون شاه.
وكان جلوسه على الكرسي مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وخلعوه في ثاني عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكان ملكه سنةً وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً.
وورد له الأمير سيف الدين بيغرا إلى دمشق، وحلف عسكر الشام، وانتظمت الأمور، وصفا له الملك، ولم يزل كذلك إلى أن أمسك الحجازي وآقسنقر وقرابغا وأيتمش وصمغار وبزلار وطقبغا وجماعة من أولاد الأمراء، فنفرت القلوب منه واستوحشت، وتوحش يلبغا نائب الشام، وجرى له ما جرى، يأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى.

وكان الذي فعل ذلك كله ودبره وأشار به وفعله شجاع الدين أغرلو مشد الدواوين، على ما تقدم في ترجمته، فأمسكه وفتك به بعد أربعين يوماً بمواطأة مع الأمير سيف الدين الجيبغا الخاصكي المقدم ذكره، ومع غيره. وكان قد فرق مماليك السلطان وأخرجهم إلى الشام وإلى الوجه البحري والقبلي بعدما قتل بيدمر البدري، والوزير نجم الدين طغاي تمر الدوادار، قبل الفتك بأغرلو، وهؤلاء الأمراء الذين قتلهم كانوا بقية الدولة الناصرية وكبارها ولهم المعروف، فزاد توحش الناس منه، وركب الأمير سيف الدين أرقطاي النائب بمصر وغالب الأمراء والخاصكية إلى قبة النصر. فجاءه الخبر فركب في من بقي عنده بالقلعة، وهم معه في الظاهر دون الباطن، فلما تراءى الجمعان ساق بنفسه إليهم، فجاء إليه الأمير سيف الدين بيبغاروس أمير مجلس وطعنه فقلبه إلى الأرض، وضربه الأمير سيف الدين طان يرق بالطبر من خلفه، فجرح وجهه وأصابعه، وكتفوه وأحضروه إلى الأمير سيف الدين أرقطاي ليقتله، فلما رآه نزل وترجل ورمى عليه قباءه، وقال: أعوذ بالله، هذا سلطان، ما أقتله، فأخذوه ودخلوا به إلى تربة كانت هناك وقضى الله أمره فيه في التاريخ المذكور.
ثم إن الأمراء بالقاهرة اجتمعوا وكتبوا إلى نائب الشام الأمير سيف الدين أرغون شاه يعرفونه القضية ويطلبون منه ومن أمراء الشام من يصلح للسلطنة، وجهزوا الكتاب على يد الأمير سيف الدين أسنبغا المحمودي السلاح دار. وكان ذلك ثاني عشر شهر رمضان بكرة الأحد.
ولما كان يوم الثلاثاء رابع عشر الشهر المذكور، عقدوا أمرهم على أن يولوا أخاه ناصر الدين حسن ابن الملك الناصر محمد، فأجلسوه على كرسي الملك وحلفوا له، وسموه بالملك الناصر، وجهزوا إلى الشام، وحلفوا له العساكر؛ فسبحان من لا يحول ولا يزول.
وقلت أنا في ذلك، وفيه لزوم الفاء المشددة:
خان الرّدى للمظفّر ... وفي الثرى قد تعفّر
كم قد أباد أميراً ... على المعالي توفّر
وقاتل النفس ظلماً ... ذنوبه ما تكفّر
وقيل: إن أحد الأسباب في قتلته أن الأمير سيف الدين الجيبغا الخاصكي، أتى إليه يوماً، فوجده فوق سطح يلعب بالحمام، فلما أحس به نزل فقال: من هذا ؟ قالوا له: ألجيبغا؛ فطلبه فصعد إليه، وكانت الوحشة قد ثارت، فقال له: ما يقول الناس ؟! قال: خير، فألح عليه، فقال له: يا خوند. أنت تدبر الملك برأي الخدام والنساء، وتلعب بهذا الحمام، فاغتاظ منه وقال: ما بقيت ألعبها، ثم إنه أخذ منها طائرين، وذبحهما، ولما رآهما مذبوحين، طار عقله، وقال: والله لا بد ما أحز رأسك هكذا، فتركه ومضى، فنزل المظفر وقال لخواصه: يا صبيان، متى دخل إلي هذا بضعوه بالسيوف، فسمع ذلك بعض الجمدارية، فخرج إلى الجيبغا، وقال له: لا تعد تدخل إليه، وعرفه الصورة، فخرج وعمل على مقتضى ذلك، وضاع ملكه وروحه منه لأجل الحمام.
وقلت أنا في ذلك:
أيّها العاقل اللبيب تفكّر ... في المليك المظفّر الضّرغام
كم تمادى في الغي والبغي حتى ... كان لعب الحمام جدّ الحمام
اللقب والنسبالحارثي: شمس الدين عبد الرحمن بن مسعود.
الحافي: الشيخ محمود بن طي.
الحاكم: أمير المؤمنين أحمد بن الحسن.
الحاكم بن المستكفي: أمير المؤمنين أحمد بن سليمان.
ابن الحبال: محمد بن أحمد.
ابن الحبوبي: إبراهيم بن علي.
ابن حباسة: إبراهيم بن حباسة.
ابن الحافظ: محمد بن داود، وصلاح الدين يوسف بن محمد.
الحاضري: محمد بن منصور.
حبيبةبنت عبد الرحمن زين الدين بن الإمام جمال الدين أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي.
الشيخة الصالحة المسندة أم عبد الرحمن، حضرت على الشيخ تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الفهم اليلداني، وخطيب مردا، وسمعت من إبراهيم بن خليل، وأجاز لها سبط السلفي، ومن بغداد إبراهيم بن أبي بكر الزعبي، وفضل الله بن عبد الرزاق وغيرهما.
توفيت رحمها الله تعالى في خامس شعبان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
وأجازت لي في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وكتب عنا بإذنها عبد الله بن أحمد بن المحب المقدسي.
حجاب شيخة رباط البغدادية.

بضم الحاء المهملة، وتشديد الجيم وبعدها ألف وباء موحدة: الشيخة الصالحة الزاهدة، شيخة رباط البغدادية.
كانت مشهورة بالصلاح والخير، وعندها لمن يزورها من النساء المروءة والمير، ملازمة هذا الرباط، قانعة بما هي فيه دائمة الاغتباط.
لم تزل على حالها إلى أن حل رباط أجلها في الرباط، فلم يكن لها حركه، وعدم من ذلك المكان بفقدها الأنس والبركه.
وتوفيت رحمها الله تعالى في المحرم سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
الألقاب والأنساب

الحجار المسند أحمد بن نعمة بن حسن.
حجازي بن أحمد بن حجازي
صفي الدين الديرقطاني.
قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي في تاريخ الصعيد: كان كريماً كاتباً أديباً ناظماً لطيفاً.
توفي ببلده رحمه الله تعالى سنة إحدى وسبع مئة.
وأورد له:
قل للمطايا قد بلغت النّقا ... فهنّها يا صاح بالملتقى
وخلّها ترعى عرار الحمى ... إن عرار الحيّ يجلو الشقا
وقد تملّى باللقا عاشقٌ ... كان لطيف الملتقى شيّقا
وقد محا الوصل حديث الجفا ... حتى كأنّ الهجر لن يخلقا
قال: وكان يعجبه غناء البصيصة، وكانت تغني من شعره، فحضرت يوماً، فقال:
ادخلي تدخلي علينا سروراً ... أنت واللّه نزهة العشاق
لا تميلي إلى الخروج سريعاً ... تخرجي عن مكارم الأخلاق
قلت: البيتان، فائقان رائقان، راقيان في درجة، إلا أنه يخاطب امرأة بقوله من أول ما يطرق سمعها: ادخل تدخلي هذا فيه ما فيه من العيب.
اللقب والنسبابن الحداد بدر الدين محمد بن عثمان.
الحجازي الأمير سيف الدين ملكتمر.
ابن حرز الله شهاب الدين أحمد بن أبي بكر.
الحراني جماعة نفيس الدين إسماعيل بن محمد، ومجد الدين الحنبلي اسماعيل بن محمد.
وابن الحراني ناظر الأوقاف محمد بن يحيى.
الحربوني الطبيب عبد الله بن محمد. حرمي بن قاسم بن يوسف العامري الفاقوسي الشافعي. القاضي مجد الدين وكيل بيت المال بالديار المصرية، ونائب قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ونائب قاضي القضاة جلال الدين القزويني.
أخبرني العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، قال: قرأ حرمي على الشيخ علاء الدين الباجي الأصولي الأصولين، وقرأ على السيف البغدادي الموجز والإرشاد، وسمع من قاضي القضاة عبد الرحمن بن بنت الأعز قصيدة من نظمه، وحدث بها، وكان يدرس بقبة الشافعي. وحفظ الحاوي الصغير على كبر.
وكان وكيل بيت الظاهر بيبرس، وبيت أيبك الخزندار، وبيت بكتمر الخزندار، وكان الناس يقولون: هو آدم أبو البشر.
وكان شيخاً طويلاً رقيقا، صغير الذقن بالمكرمات خليقا. ذو مروة غزيره، وسجايا بالمحاسن شهيره، يمشي مع الناس لقضاء أشغالهم ويشفع بوجاهته لهم عند من فيه بلوغ آمالهم، حسن التوصل، لطيف التوسل، مع سكون زائد وإطراق إلى الخير قائد.
ولم يزل على حاله إلى أن طرق حرم حرمي الموت، وحرم الفوز بالعيش من الفوت.
ووفاته رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة في يوم الأربعاء ثاني ذي الحجة.
وكان يلقي الدروس من حفظه من التوسيط على كبر سنه.
الألقاب والأنسابالحرستاني: شرف الدين إسماعيل بن محمد. وبدر الدين عثمان بن عبد الصمد.
ابن حريث: محمد بن محمد بن علي.
الحريري: سيف الدين الفاضل أبو بكر.
والحريري: قاضي القضاة شمس الدين محمد بن عثمان.
وابن الحريري: الشيخ حسن بن علي، وأخوه علي بن علي، وابن ابنه أحد الأخوين الحن والبن: علي بن محمد.
وابن الحريري: فخر الدين محمد بن ناصر، وصفي الدين أحمد بن محمد بن عثمان.
حسام بن عز بن ضرغام بن محمود بن درعمكين الدين القرشي المصري.
أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين، قال: كان المذكور غزولياً، جيد الأدب، أنشدنا لنفسه من قصيدة:
حاز الجمال بصورة قمريةٍ ... تجلو عليك مشارق الأنوار
وحوى الكمال بسيرة عمريةٍ ... تتلو عليك مناقب الأبرار
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه:
مسافرٌ سافرٌ عن بدر داجيةٍ ... تضيء من وجهه الظلماء والأفق

قريب عهدٍ من البيت الحرام غدت ... تطوى بأيدي المطايا تحته الطرق
لما زمزم رشحٌ من معاطفه ... وطيب طيبة من أردانه عبق
قلت: مولده أظن سنة ثلاث وعشرين وست مئة. وهو شعر جيد.
الألقاب والأنسابابن الحسام: الشاعر عمر بن آقوس. وجمال الدين إبراهيم بن أبي الغيث.
حسب اللهالشيخ جمال الدين الحنبلي، مدرس المنكوتمرية.
كان رجلاً فاضلاً صالحاً.
توفي - رحمه الله تعالى - في سادس عشر شهر ربيع الآخر، سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
الحسن بن أحمد بن الحسن بن أنوشروانقاضي القضاة حسام الدين أبو الفضائل ابن قاضي تاج الدين أبي المفاخر الرازي ثم الرومي الحنفي.
كان مجموع الفضائل، عرياً من الرذائل، كثير المكارم، عفيفاً عن المحارم، ظاهر الرئاسة حرياً بالسياسه، ملياً بالنفاسه، يتقرب إلى الناس بالود، ويتجنب الخصماء اللد، فيه مروءة وحشمه، وبينه وبين المفاخر قرابة ولحمه. وله نظم وعنده أدب، ورغبة في إذاعة الخير واجتهاد وطلب.
ولد بأقصرا سنة إحدى وثلاثين وست مئة. وولي قضاء ملطية أكثر من عشرين سنة، ثم نزح إلى الشام سنة خمس وسبعين وست مئة خوفاً من التتار، وأقام بدمشق وولي قضاءها سنة سبع وتسعين وست مئة بعد القاضي صدر الدين سليمان؛ وامتدت أيامه إلى أن تسلطن حسام الدين لاجين، وولى ابنه جلال الدين مكانه بدمشق؛ وبقي معظماً وافر الحرمة إلى أن قتل لاجين وهو عنده، فلما ضربوا السلطان بالسيف استغاث، وقال: ما يحل. فأشاروا إليه بالسيوف، فاختبأ هناك، واشتغلوا عنه بالسلطان.
ولما زالت دولة لاجين، قدم إلى دمشق على مناصبه وقضائه، وعزل ولده، ولم يزل على حاله إلى أن خرج إلى الغزاة، وشهد المصاف بوادي الخزندار في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة، وكان ذلك آخر العهد به. فأصابت الرزية الرازي وكان في غنية عن مرآه الملاحم والمغازي.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: والأصح أنه لم يقتل بالغزاة، وصح مروره مع المنهزمين بناحية جبل الجرديين، وأنه أسر وبيع للفرنج، وأدخل إلى قبرس هو وجمال الدين المطروحي.
وقيل: إنه تعاطى الطب والعلاج، وإنه جلس يطبب بقبرس، وهو في الأسر، لكن ذلك لم يثبت، والله أعلم.
قلت: ولما كنت بدمشق سنة خمس وثلاثين وسبع مئة؛ جاء الخبر إلى ولده القاضي جلال الدين على ما شاع بدمشق أن والده القاضي حسام الدين حي يرزق بقبرس، وأنه يريد الحضور إلى الشام، ويطلب ما يفك به من الأسر، ثم إن القضية سكنت، وهذا بعيد لأنه يكون عمره إلى ذلك الوقت مئة وأربع سنين؛ وقلت بناءً على صحة هذه الدعوى:
إنّ حال الرازي بين الرزايا ... حالةٌ لم نجد عليها مثالا
كان قاضي القضاة مصراً وشاماً ... ثم في قبرسٍ غدا كحّالا
الله أكرم وأرحم من أن يمشي أحد من أهل العلم الشريف إلى ورا، أو أن يرد في آخر عمره القهقرى.
الحسن بن أحمد بن زفر الحكيمعز الدين الإربلي. سمع ابن الخلال والموازيني وخلقاً.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: كان مظلماً في دينه ونحلته، متفلسفاً، صادقاً في نقله، حصل إثبات سماعاته، وألف كتباً وتواريخ، منها السيرة في مجلدين، وسمع معنا كثيراً.
قلت: وخطه معروف بين الفضلاء، ومجاميعه غالبها تراجم شعراء وتواريخ ووفيات؛ ويعرف بالعز الإربلي الطبيب، وعبث في مجاميعه برئيس الطب أمين الدين سليمان؛ كما عبث ركن الدين الوهراني بالمهذب النقاش في صورة المنام الذي صنعه، ورماه بأشياء من الخسة والبخل، وبأشياء من الزغل، وعمل الكيمياء، وبأشياء من المطالب؛ وأنه انتقى منها جملة. إلا أن في تعاليقه فوائد أدبية وغيرها وتراجم غريبة وغير ذلك يدل على أنه كان فاضلاً.
ولم يزل على حاله إلى أن بلي الإربلي، وفرغ جراب عمره الممتلي.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وعشرين وسبع مئة.
الحسن بن أحمد بن المظفرالشيخ الفاضل الكبير المعمر شرف الدين أبو علي بن الشيخ كمال الدين بن الخطيري الصوفي، بخانقاه خاتون ظاهر دمشق.
كان شيخاً حسناً عنده فضل وله نظر، وكتب المنسوب، ونسخ بخطه كتباً، وسمع صحيح مسلم من الرضي بن البرهان الواسطي بدمشق سنة خمس وخمسين وست مئة، وسمع من ابن عبد الدائم، وحدث وأخذ الطلبة عنه.

وتوفي في سابع عشر شعبان سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة أربعين وست مئة بمدينة كنبايت بالهند.
حسن بن أرتناالأمير بدر الدين الشيخ حسن بن النوين الحاكم بالروم، تقدم ذكر والده في مكانه.
كان هذا الشيخ حسن المذكور ذا حسن باهر، وجمال ظاهر، يفتن من يراه، ويسبح من خلقه وبراه، لأنه كان حسنه بديعا، ومن يشاهده صديعا، بوجه كأنه القمر إذا بزغ، وجفن بسحره نفث الشيطان ونزغ، وشكله تام القامه، كامل الهامه.
مرض في سيواس فانكسفت شمسه وأودع جوهر شخصه رمسه.
سمع به الأمير سيف الدين طشتمر نائب حلب، وأنه وصل إلى بهسنى، لأنه كان قد أرسله أبوه إلى الشيخ حسن الكبير ببغداد، فكتب إلى نائب بهسنى بطلبه، فحضر إليه إلى حلب، فأعجبه شكله وبهت لحسنه، فخلع عليه خلعة سنية، وأعاده إلى والده؛ وكان والده قد خطب له ابنة صاحب ماردين الملك الصالح شمس الدين، فأجابه إلى ذلك وجهزها إليه، وما أظنه دخل بها، بل مرض في سيواس، وكان والده في قيصرية، فتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. وكتب أبوه إلى صاحب ماردين؛ يقول له: إن لي ابناً آخر يصلح لزواجها، وأعطاها مدينة خرتبرت.
حسن بن أقبغا بن إيلكانبعد الهمزة ياء، آخر الحروف ساكنة ولام وكاف وألف بعدها نون: النوين الكبير الشيخ حسن بك الكبير الحاكم ببغداد والعراق، أبعد في أيام بوسعيد، وكان الناس في داخل حرمه، وهو بالوصيد، وجرت له حروب، وخطبته من الأيام خطوب، وكربت له منه كروب، ومرت به من المحن أنواع وضروب، ووجد بعد بوسعيد شدائد، وتلقى ضربات النكبات حدائد؛ وكافح طغاي بن سوتاي، وإبراهيم شاه وأولاد تمرتاش وغيرهم؛ وأقر له النصرة عليهم، وأطار طيرهم، وناصح المسلمين وما داجى، وصرح بالمحبة وما حاجى.
ولم تزل كتب ملوك مصر تفد إليه بالمبرات، وترد عليه بالمسرات، وتجهز له التشاريف، ويعظم في العنوانات والتعاريف، ورسله هو ما تنقطع ولا قصاده، وزراع وده المنجب وحصاده.
ولم يزل على حاله إلى أن ورد الخبر بوفاته في شعبان سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
وجلس ولده الشيخ سيف الدين أويس مكانه في الحكم على بغداد.
وهذا الشيخ حسن الكبير إنما عرف بهذا فرقاً بينه وبين الشيخ حسن بن تمرتاش، وسيأتي ذكره.
وكان الشيخ حسن الكبير أولاً زوج الخاتون بغداد بنت جوبان، فلم يزل به بوسعيد القان إلى أن أخذها منه بعدما أتت من الشيخ حسن بابنه الأمير إيلكان، ولم يزل الشيخ حسن مبعداً إلى أن توفي بوسعيد رحمه الله تعالى، فملك بغداد ونزل بها، وأقام فيها، وجرت له مع المذكورين حروب كثيرة ونصره الله عليهم، ولم يزل مروعاً من أولاد تمرتاش وهو المنصور، ثم إنه تزوج الخاتون دلشاذ بنت دمشق خواجا بن جوبان الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه.
وجرى في أيامه ببغداد الغلاء العظيم، حتى أبيع الخبز على ما قيل بصنج الدراهم، ونزح الناس عن بغداد؛ وعدم منها حتى الورق، وكان يجلب منها إلى الشام ومصر وغيرهما، ولما أظهر العدل وأمن الناس تراجع الناس إليها وذلك سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
وفي أوائل سنة تسع وأربعين وسبع مئة توجه إلى ششتر ليأخذ من أهلها قطيعة كان قد قررها عليهم، فلما أخذها وعاد وجد نوابه في بغداد قد وجدوا في رواق العزيز ببغداد ثلاث جباب نحاساً مثل جباب الهريسة، طول كل جب ما يقارب الذراعين والنصف، وهي مملوءة ذهباً مصرياً وصورياً ويوسفياً، وفي بعضه سكة الإمام الناصر، وكان زنة ذلك أربعة آلاف رطل بالبغدادي، يكون ذلك مثاقيل خمس مئة ألف مثقال.
الحسن بن تمرتاش بن جوبانالمعروف بالشيخ حسن، تقدم ذكر والده وجده في مكانهما.
كان هذا الشيخ حسن داهية ولم يكن ذاهبه، بعيد الغوص في الفكر والغور، مخادعاً، لا جرم أن أمست أيامه ذاهبه، ويشتغل بحيل ما تحكى عن البطال، ويفكر ذب خدع سحابه منه هطال، وكان يدخل إلى الحمام ويخلو بنفسه فيها اليوم واليومين والثلاث، وهو يفكر فيما يرتبه من المكر والاجتهاد والاكتراث، وقيل إنه مرة شرب دماً وقاءه، ليرتب على ذلك حيلا، وينال بها ممن يريد مقصوداً وأملا، وزاد بطشه، وصح في الحيل نقشه، وأفنى جماعة من كبار المغول، واغتالهم من فتكه غول، وشوش على المسلمين، قتل أهل تلك البلاد، وأضجر قومه من الإغارات والجلاد.

ولم يزل على حاله إلى أن قيل: إنه تهدد زوجته مرة فخبأت عندها خمسة من المغل فأصبح مخنوقا، وأظهر أنه وجد مشنوقا، فوضع في تابوت ودفن بتربته التي أنشأها بتوريز، وراح كما راح أمس الدابر، ودخل في زمرة من دخل في الزمن الغابر، ولم ينتطح في أمره عنزان ولا اختلفت فيها مقادير ولا أوزان، وكفى الله المسلمين منه شراً كبيراً، " وكان اللّه على كلِّ شيء قديراً " .
وجاء الخبر بوفاته في شهر رجب سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
وكان يقول أولاً: ما يمنعني من دخول الشام ودوسه إلا هذا تنكز، وقد حصلت له إحدى عشرة حيلة إن لم يرح بهذه وإلا راح بهذه ! فما كان إلا أن جاء رسوله القاضي تاج الدين قاضي شيراز، وتوجه إلى السلطان الملك الناصر محمد، وكان مما قاله: إن تنكز طلب الحضور إلى عندي، فاستوحش السلطان من تنكز رحمه الله تعالى وتغير عليه، وكان السبب في ذلك هذا الكلام، والله أعلم، ولما أمسك تنكز، قال: والله أنا كنت أعتقد أن قلع هذا تنكز صعب، وقد راح الآن بأهون حيلة، وعند الله تجتمع الخصوم.
الحسن بن رمضانالإمام العالم الفاضل القاضي حسام الدين القرمي الشافعي، أبو محمد قاضي القضاة بصفد وطرابلس، ابن الشيخ الإمام العالم الخطيب معين الدين أبي الحسن.
كان فاضلاً ذكيا، واضح المحيا بهيا، حسن الوجه مديد القامه، ترف الجسم عليه وسامه، بسام الثغر ضحوكا، جميل المنظر كأنما ألبس وشياً محوكا، جيد البحث والنظر، شديد الإصابة إذا فكر وادكر. يعرف العربية وغوامض مسائلها، والأصول ومآخذ وجوهها وتقرب وسائلها.
ولم يزل إلى أن حسم الحسام، ووقع في أشراك المنية وحبائلها الجسام.
وتوفي رحمه الله تعالى في طرابلس في شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين وسبع مئة.
وكان قد قدم إلى صفد على قضاء القضاة بها إلى أيام الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار، وأقام بها مدة وهو فقير لا يملك شيئاً، ثم إنه ثور نعمة موفورة واقتنى أملاكاً، ونقل إلى قضاء القضاة بطرابلس في ذي القعدة سنة ست عشرة وسبع مئة، فأقام بها مدة، وبنى حماماً عجيباً في طرابلس، وهو بها مشهور، وغير ذلك من الأملاك.
وكان قد طلب إلى مصر على البريد في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، فأقبل السلطان عليه وزاده وأعاده، ثم إنه عزل ووصل إلى دمشق وأقام بها وأقبل على شأنه، وولي تدريس الرباط الناصري بالجبل، وعكف على الاشتغال وسماع الحديث وعلومه، ولم يزل على خير.
اجتمعت به غير مرة، وجرت بيني وبينه مباحث في العربية وغيرها، وكان ذهنه في غاية الجودة والصحة. ولما كان في صفد وقع بينه وبين شيخنا نجم الدين بن الكمال خطيب صفد منازعة في مسألة إعراب، وأخذه بها في خطبته، وأصر الشيخ نجم الدين على مخالفته، وكتب إليه رسالة نظماً ونثراً افتتحها بقول بعض المغاربة:
نحنح زيدٌ وسعل ... لمّا رأى وقع الأسل
وكان الشيخ نجم الدين يقول في الخطبة الثانية عند الترضي على الخلفاء الراشدين: المكنى بأبي بكر الصديق وأبي حفص وأبي عمرو، ولا ينون بكراً ولا حفصاً ولا عمراً، وهو وجه في أبي بكر حسن وفيما بعده ضعيف.
الحسن بن عبد الرحمنالقاضي الصدر سعد الدين بن الأقفهسي، بهمزة وقاف ساكنة، وفاء مفتوحة، وهاء بعدها سين مهملة، والناس يقولون: الأقفاصي.
كان ناظر الخزانة بالديار المصرية؛ وله مكانة عند السلطان والدولة؛ وقدم دمشق، وسمع الحديث بقراءة الشيخ علم الدين البرزالي، وعاد إلى القاهرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في آواخر ذي الحجة، سنة خمس عشرة وسبع مئة، وتولى عوضه الصاحب ضياء الدين النشائي.
الحسن بن شرفشاههو الإمام العلامة السيد ركن الدين أبو محمد العلوي الحسيني الأستراباذي، عالم الموصل، ومدرس الشافعية، وهو من كبار تلاميذ نصير الدين الطوسي.
وكان السيد ركن الدين معظماً عند التتار، مبجلاً في تلك الديار، وافر الجلاله، وافي البساله، له على التتار إدرارات، وفي معاملاتهم وجهاتهم قرارات، بحيث إنها تبلغ في الشهر ألفاً وخمس مئة درهم، هذا مع الوجاهه، والتلقي بالرضا لا بالكراهه.

وكان فاضلاً مصنفا، كاملاً في علومه للأسماع مشنفا، يبحث ويدقق، ويغوص على المعاني ويحقق، يواخد الحدود والرسوم، ويشامخ في الألفاظ وموضوعاتها بين أهل الفهوم، ويمزج المنقولات بالمعقولات، ويرد المطلقات إلى المعقولات، فلذلك جاءت تصانيفه فجادت، وعاجت عن طريق الخمول وحادت، واشتهرت بين الفضلاء الأكابر، وشركتها ألسن الأقلام في أفواه المحابر.
ولم يزل على حاله إلى أن هدم الموت ركنه، ورماه بعد الفصاحة باللكنه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس عشرة وسبع مئة؛ وله سبعون سنة.
وكان يوصف بحلم زائد وتواضع كثير بحيث إنه كان يقوم للسقاء إذا دخل داره. وتخرج به جماعة من الأفاضل، إلا أنه كان لا يحفظ القرآن على ما قيل، وصنف شرح مختصر ابن الحاجب، وشرح مقدمتي ابن الحاجب، وشرح الحاوي في المذهب شرحين.
الحسن بن عبد الرحمن بن عمر

بن الحسن ابن علي بن إبراهيم بن محمد بن مرام
التيمي الأرمنتي الشافعي وأرمنت، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الميم وسكون النون وبعدها تاء ثالثة الحروف.
كان حسن الأخلاق، يجود في السعد والإملاق، خير كريم، لا يرحل عن مغنى الجود ولا يريم، تولى قضاء أرمنت، فما أتى قضيةً إلا وقيل له: أحسنت.
ولم يزل على حاله إلى أن تجرع كأس فقده، وانحل نظام عقده.
وتوفي رحمه الله تعالى بقوص سنة ست وثلاثين وسبع مئة؛ وحمل إلى أرمنت، ودفن بها.
ومولده سنة سبع وثمانين وست مئة بأرمنت.
قال كمال الدين جعفر الأدفوي: ولما مررت بأرمنت زرت قبره بظاهرها، ولم أدخل البلد، وقلت:
أتينا إلى أرمنت فانهلّ وابلٌ ... من الدّمع أجراه الكآبة والحزن
وجاوزتها كرهاً وأيّ إقامة ... بمغنىً رعاه اللّه ليس به حسن
فتىً كان يلقاها ببشرٍ وراحةٍ ... ولم نخش منه لا ملالاً ولا منن
ومن شعر قاضي أرمنت المذكور:
بكفّك الثقتان الخُبر والخَبر ... بأنّك البغيتان السول والوطر
وفيك أثبتت الدعوى بيّيّنةٍ ... أقامها الشاهدان العين والأثر
يمنك يمنٌ فكم ذا قد حوت ملحا ... يحار في وصفها الألباب والفكر
ندىً وليناً وتقبيلاً فواعجباً ... أمزنةٌ أم حريرٌ أم هي الحجر
قلت: شعر قاض.
أبو الحسن بن عبد اللهابن الشيخ غانم بن علي بن إبراهيم النابلسي: الشيخ الفاضل السيد القدوة.
كان رجلاً صالحاً فاضلا، عاملاً بما يعلمه من أمر دينه عاقلا، غافلاً عما عنده غيره راحلا، راجلاً في أمر آخرته، فارساً في تحصيل ما ينفعه في ساهرته، كثير السكون، والميل إلى أهل الصلاك والركون، بادي التقشف، ظاهر الحال، زائد التكشف، حسن المحاضره لطيف المذاكره، كثير الاتضاع غزير الانطباع، له شعر لطيف، وكلام في الطريقة ظريف، وفكر لا يجيد به عن الصواب ولا يحيف، وله تطلع وافر إلى علم الفروع ومسائل الفقه التي تروق ولا تروع.
ولم يزل على حاله إلى أن انفرد عن ذويه قهرا، وأودع بالرغم منهم قبرا.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء رابع ذي القعدة سنة سبع وسبع مئة.
ومولده بنابلس سنة أربع وأربعين وست مئة.
ودفن بالصالحية في التربة المعروفة بالشيخ عبد الله الأرموي، وكان قد سمع من ابن عبد الدائم وعمر الكرماني.
الحسن بن عبد الكريم
بن عبد السلام ابن فتح الغماري المغربي ثم المصري
الشيخ الإمام العالم المقرىء المجود الصالح المعمر، بقية المسندين أبو محمد المالكي الملقن المؤدب سبط زيادة بن عمران.
كان تلا بالروايات على أصحاب أبي الجود؛ وسمع من أبي القاسم بن عيسى جملةً صالحة، وكان آخر من حدث عنه.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: بل ما روى لنا عنه سواه. وكان عنده التيسير والتذكرة والعنوان في القراءات وكتاب المحدث الفاصل للرامهرمزي، وكتاب الناسخ والمنسوخ لأبي داود، وعده أجزاء وسمع الشاطبيتين من أبي عبد الله القرطبي تلميذ الشاطبي، وتفرد بمروياته.
وروى عنه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والعلامة أبو حيان، والحافظ فتح الدين بن سيد الناس والوافي وابن الفخر.
وكان شيخاً متواضعا، مزجياً لأوقاته مدافعا، طيب الأخلاق، يمرح فيما ارتداه من الجديد والأخلاق.

ولم يزل على حاله إلى أن نقص سبط زياده، وعدم الناس من الرواية والإفاده.
وتوفي رحمه الله تعالى بمصر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة سبع عشرة وست مئة.
الحسن بن عليالشيخ الإمام الفاضل بدر الدين، أبو علي بن عضد الدولة الحسن أخي المتوكل على الله ملك الأندلس أبي عبد الله محمد ابني يوسف بن هود.
كان الشيخ فاصلاً قد تفنن، وزاهداً قد تسنن، وعاقلاً استغرق فراح غافلاً تجنن، عنده من علوم الأوائل فنون، وله طلبة وتلاميذ وأصحاب وزبون، فيه انجماع عن الناس وانقباض، وانفراد وإعراض عما في هذه من الأعراض.
وكان لفكرته غائباً عن وجوده، ذاهلاً عن بخله وجوده، لا يبالي بما ملك، ولا يدري أيةً سلك، قد اطرح الحشمه، وذهل عما ينعم جسمه، ونسي ما كان فيه من النعمه، يلبس قبع لباد ينزل على عينيه، ويغطي به حاجبيه، ويواري جسده بما يقيه، ولا يحذر برداً ولا حراً، ولا يتقيه.
وكان يمشي في الجامع الأموي وسبابته قد رفعها، وينظر في وجوه الناس كأنهم ذروة ما فرعها.
ولم يزل على حاله إلى أن برق بصره، وألجمه عيه وحصره.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة، وصلى عليه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ودفن بسفح قاسيون.
ومولده بمرسية سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
وكانت وفاته في شعبان.
أخبرني العلامة أثير الدين أبو حيان، قال: رأيته بمكة وجالسته، وكان يظهر منه الحضور مع من يكلمه، ثم تظهر الغيبة منه، وكان يلبس نوعاً من الثياب، مما لم يعهد لبس مثله بهذه البلاد، وكان يذكر أنه يعرف شيئاً من علوم الأوائل. وكان له شعر أنشدنا له أبو الحكم بن هاني صاحبنا، قال: أنشدنا أبو علي الحسن بن عضد الدولة لنفسه:
خضت الدّجنّة حتى لاح لي قبسٌ ... وبان بان الحمى من ذلك القبس
فقلت للقوم: هذا الربع ربعهم ... وقلت للسمع: لا تخلو من الحرس
وقلت للعين: غضيّ عن محاسنهم ... وقلت للنطق: هذا موضع الخرس
وقال الشيخ شمس الدين الذهبي: هو الشيخ الزاهد الكبير أبو علي بن هود المرسي أحد الكبار في التصوف على طريقة الوحدة، وكان أبوه نائب السلطنة بها عن الخليفة الملقب بالمتوكل؛ حصل له زهد مفرط وفراغ عن الدنيا، وسكرة عن ذاته وغفلة عن نفسه، فسافر وترك الحشمة، وصحب ابن سبعين، واشتغل بالطب والحكمة، وزهديات الصوفة، وخلط هذا بهذا وحج ودخل اليمن، وقدم الشام.
وكان غارقاً في الفكر عديم اللذة، مواصل الأحزان، فيه انقباض عن الناس، حمل مرة إلى والي البلد وهو سكران، أخذوه من حارة اليهود فأحسن الوالي به الظن وسرحه، سقاه اليهود خبثاً منهم ليغضوا منه.
قلت: لأن اليهود نالهم منه أذى، وأسلم على يده منهم جماعة، منهم سعيد وبركات. وكان الشيخ يحب الكوارع المغمومة فدعوه إلى بيت واحد منهم وقدموا له ذلك فأكل منه، ثم غاب ذهولاً، على عادته، فأحضروا الخمر فلم ينكر حضورها وأداروها، ثم ناولوه منها قدحاً فاستعمله تشبهاً بهم، فلما سكر أخرجوه على تلك الحالة، وبلغ الخبر إلى الوالي، فركب وحضر إليه وأردفه خلفه، وبقي الناس خلفه يتعجبون من أمره، وهو يقول لهم بعد كر فترة: أي وأيش قد جرى، ابن هود شرب العقار، يعقد القاف كاملاً في كلامه، وفي ذاك يقول علاء الدين علي الوادعي ونقلت ذلك من خطه:
قالوا ابن هودٍ قد غدا ... سكران من خمر المعازف
وأعيذه لكنّه ... سكران من خمر المعارف
وكان اليهود يشتغلون عليه في كتاب الدلالة، وهو مصنف في أصول دينهم للرئيس موسى. قال الشيخ شمس الدين الذهبي، قال شيخنا عماد الدين الواسطي: أتيته وقلت له: أريد أن تسلكني، فقال: من أي الطرق: الموسوية أو العيسوية أو المحمدية ؟ وكان إذا طلعت الشمس ويصلب على وجهه، وصحبه الشيخ العفيف عمران الطبيب وسعيد المغربي وغير واحد من هؤلاء.
قلت: الذي بلغني عنه ما أخبرني به شيخنا نجم الدين الخطيب الصفدي. قال: كان بعض الأيام يقول لتلميذه سعيد: يا سعيد أرني فاعل النهار، فيأخذ بيده ويطلع به إلى سطح، فيقف باهتاً إلى الشمس نصف نهار.
وكان يوضع في يده الجمر فيقبض عليه ذهولاً عنه فإذا أحرقه رجع إليه حسه، فألقاه من يده، وكان تحفر له الحفر في طريقه فيقع فيها ذهولاً عنها وغيبة.
ومن شعره:

فؤادي من محبوب قلبي لا يخلو ... وسرّي على فكري محاسنه تجلو
ألا يا حبيب القلب يا من بذكره ... على ظاهري من باطني شاهدٌ عدل
تجلّيت لي منّي عليّ فأصبحت ... صفاتي تنادي: ما لمحبوبنا مثل
أورّي بذكر الجزع عنه وبانه ... ولا البان مطلوبي ولا قصدي الرمل
وأذكر سعدى في حديثي مغالطاً ... بليلى ولا ليلى مرادي ولا جمل
سوى معشرٍ حلّو النظام وفرّقوا الث ... ياب فلا فرضٌ عليهم ولا نفل
مجانين إلاّ أنّ ذلّ جنونهم ... عزيز على أعتابهم العقل
ومن شعره أيضاً:
سلامٌ عليكم صدّق الخبر الخبر ... فلم يبق قال القسّ أو حدّث الحبر
خذوا خبري عنّي بقيت مشاهدا ... ذروا ما يقول الغرّ أو يفهم الغمر
خذوا عن غريب الدار كلّ غريبةٍ ... وحقّكم من دونها حُجر الحِجر
عليك سلام اللّه يا خير قادم ... على خير مقدوم عليه لك البِشر
عليك سلام اسلم وقيت الرّدى فدم ... على غابر الأيام لا خانك الدهر
أتيتكم مستقضياً دين وعدكم ... فمن قولهم عند القضا يعرف الحرّ
اذكّركم عهداً لنا طال عهده ... وقولكم صبراً وقد فني الصبر
فلا تحسبوا أني نسيت عهودكم ... فإني وحقّ اللّه عبدكم الحرّ
أأنسى عهوداً بالحمى طاب ذكرها ... ومثلي وفيٌّ لا يليق به العذر
تحييّك عنّا الشمس ما أشرقت ضحا ... يحيّيك عنا ما تبدّى لك البدر
تحيّيك عنا كلّما ذرّ شارق ... يحيّيك عنّا من غمائمه القطر
تحيّيك عنا الريح بالروح قد بدت ... يحيّيك عنا من منابته الزّهر
ألا فاعجبوا من أمرنا إنه امروٌ ... ألا فاعجبوا للقلّ من بعضه الكثر
ومنه:
علم قومي بي جهل ... إنّ شأني لأجلّ
أنا عبد أنا ربّ ... أنا عزٌّ أنا ذلّ
أنا دنيا أنا أخرى ... أنا بعضٌ أنا كلّ
أنا معشوق لذاتي ... لست عني الدهر أسلو
فوق عشرٍ دون تسع ... بين خمسٍ لي محلّ
حسن بن علي بن محمدالأمير عماد الدين بن النشابي، والي دمشق.
كان ناهضاً كافيا، خبيراً بأدواء الولايات شافيا، له معرفة بسياسات البلد، وعنده على مكابدة أهوالها صبر وجلد.
كان أولاً صائغا، وتجرع الذل سائغا؛ ثم إنه خدم جندياً وتولى في البر، وصبر على ما في ذلك من الخير والشر، وتقلب به الدهر، وقفز إلى البحر من النهر، ثم تولى بر دمشق مده، وقام لها بما تحتاج إليه من عدة وعده، ثم تولى المدينه، وجعل موعده يوم الزينه، ثم أعطي طبلخاناه، وصارت مباعدة السعادة منه مداناه.
ولم يزل على حاله إلى أن غص بها الحلقوم، وفرغ أجل الكتاب المرقوم.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة بالبقاع، وحمل إلى دمشق، ودفن بتربته بقاسيون وكان من أبناء الخمسين.
وكان قد تولى مدينة دمشق في أول دولة الناصر محمد في صفر سنة ثلاث وتسعين وست مئة عوضاً عن الأمير عز الدين بن أبي الهيجاء.
حسن بن علي الصدرالرئيس الأصيل عزيز الدين أو محمد بن العدل شرف الدين ابن القاضي عزيز الدين محمد ابن القاضي العلامة عماد الدين محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله القرشي الأصبهاني المعروف جد والده بالعماد الكاتب.
أوصى أن يفرق على الجماعة الذين يحضرون دفنه حلوى صابونية على برزق، ففعل ذلك، وأكل منه الأغنياء والفقراء.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شوال سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون.
ومولده في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
وكان جيداً مشكور السيرة، عارفاً بصناعة الكتابة مبرزاً فيها، خدم في عدة جهات منها عمالة الخزانة، ثم نقل منها إلى استيفاء الخزانة.

وكان يتلو القرآن دائماً، وحج وجاور سنة، وسمع من ابن عبد الدائم، والخطيب عماد الدين بن الحرستاني والزين خالد النابلسي الحافظ، وابن أبي اليسر، ويوسف بن مكتوم وغيرهم، وشيوخه أكثر من خمسين. وله إجازة من الصدر البكري، وإبراهيم بن خليل وابن السروري، وجماعة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: خرجت له جزءاً عوال شيوخه، وجزأين آخرين بالسماع والإجازة.
حسن بن علي بن عيسى بن الحسنالإمام المحدث شرف الدين اللخمي المصري المعروف بابن الصيرفي، شيخ الحديث بالفارقانية.
كان فقيهاً معيدا، محدثاً مفيدا، خيراً صدوقا، مكباً على الرواية صبوحاً وغبوقا، حسن الأخلاق متواضعا، ساكناً خالياً من الشر وادعا، مليح الشيبه، ظاهر الهيبه.
سمع من عبد الوهاب بن رواج، وأبي الحسن بن الجميزي، ويوسف الساوي، وفخر القضاة ابن الحباب، والمؤتمن بن قميرة والزكي عبد العظيم، والرشيد العطار، وسمع بالإسكندرية من سبط السلفي وجماعة.
قال الشيخ شمس الدين: سمعت منه.
ولم يزل على حاله إلى أن رئي ابن الصيرفي وقد تبهرج، ودخل في قبره وتدحرج.
وتوفي رحمه الله تعالى: سنة تسع وتسعين وست مئة، وهو من أبناء الثمانين.
حسن بن علي بن أبي بكر بن يونسبدر الدين أبو علي الأمين الأنصاري الدمشقي القلانسي بن الخلال، بالخاء المعجمة وتشديد اللام.
كان أحد المكثرين، اعتنى بأمره خال أمه المحدث ابن الجوهري.
روى شيئاً كثيراً بدمشق وحلب ومصر، وكان يخرج أميناً على القرى، وله فهم وعنده فضل ما.
سمع من ابن اللتي، وابن المقير، ومكرم، وأبي نصر بن الشيرازي، وجعفر الهمداني، وكريمة الزبيرية، وسالم بن صصرى، وخلق كثير.
وحضر ابن غسان والإربلي. وأجاز له ابن روزبة، والسهروردي وأبو الوفاء بن منده. وله إثبات في ستة أجزاء.
وروى عنه المزي وابن تيمية، وابن البرزالي، وغيرهم.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وسبع مئة، ومولده في صفر سنة تسع وعشرين وست مئة.
الحسن بن علي بن أبي الحسن

بن منصورالشيخ الصالح الزاهد، بقية المشايخ ابن الشيخ علي الحريري.
كان شيخ الطائفة وزعيمهم وساقيهم ونديمهم، مليح الشيبة نقيها، يعرف الأحوال ورقيها، حسن الخلق، محبوباً إلى الخلق، له مكانة عند الأكابر، وحرمة عند أولي السيوف والمحابر، وربما يأتي بكرامات، ويظهر بأحوال للعقل فيها غرامات.
قدم إلى دمشق مرات، ورأى فيها أوقات مسرات، وكان مقامه في قريته بسر، ويكابد فيها العسر بعد اليسر.
ولم يزل على حاله إلى أن أدرج الحريري في قطن أكفانه، وأصبح والتراب ملء أجفانه.
ووفاته رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى وعشرين وست مئة.
الحسن بن عليالشيخ الإمام الفقيه الصالح الناسك الأسواني أخو الشيخ الإمام نجم الدين الحسين.
كان يؤم بالمدينة الشريفه، ويشاهد أنوارها المنيفه، حج فرضه وجاء إليها، وأقبل بجمعه عليها، فأقام بها ثماني عشرة سنة ملتزماً أن لا يخرج من بابها ولا يشتغل بشيء من أسبابها.
وكان يشغل بالحرم الشريف في الفقه، إلى أن حلت أسواء الموت بالأسواني، وانتقل إلى السعد الباقي بعد الذل الفاني.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
الحسن بن علي بن محمودالأمير الكبير بدر الدين أخو الملك المؤيد عماد الدين صاحب حماة.
كان له إقطاع كبير بحماه، ونعمة جليلة قد تغشت حماه، وأموال كاثرت النجوم، وكابرت أنواء الغيوم، مع ما عنده من النظر في العلوم، والمشاركة في الفضل لذوي الألباب والفهوم، وهو كان أكبر من أخيه، وإنما تقدم لأنه خدم الناصر لما كان في الكرك ولم يلو الأمير بدر الدين عليه، فقدمه وجعله صاحب حماة.
وصلي عليه غائباً بدمشق، في ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
الحسن بن علي بن محمد
بن عدنان بن شجاع
الشيخ الإمام بدر الدين الحراني المعروف بابن المحدث المجود الكاتب.
كان قد كتب على الشيخ نجم الدين بن البصيص، فيقال: إنه ما ظهر من تلاميذه في حسن الكتابة مثل بدر الدين المذكور، ومثل الشيخ كمال الدين محمد بن علي بن الزملكاني.

كان أديباً فاضلاً في فنه عجيباً، ينظم وينثر، ويجري في جلبة البلاغة ولا يعثر، كتب عليه من أهل دمشق جماعة كثيرون، يحركون نوافج الثناء عليه ويثيرون، وكان قد أخمل نفسه بالتعليم، ورضي من الدهر بالتسليم، فعز بالقناعه، وشرف نفسه عن التجشم والرقاعه، ولم يذل نفسه على أحد بالترداد، ولا دخل مع أبناء الدنيا في جملة الأعداد، على أنه له ملك يدخله منه كفايته، ويصل إليه من التجويد ما هو نهايته، وكان إذا كتب كبت، وعثرت الرياح من خلفه وكبت، وأراك بأقلامه الروض، إذا نبت، والسيوف إذا كلت عن مضارب مداه ونبت.
ولم يزل على حاله إلى أن رمي ابن المحدث من الحين بحادثه، وحكم في تركته أيدي وارثه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة رابع ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
كان الملك الأوحد يصحبه، فتحدث له مع الأفرم أن يدخل ديوان الإنشاء فرسم له بذلك، فأبى الشيخ بدر الدين ذلك، فلامه الأوحد على ترك ذلك. فقال: أنا إذا دخلت بين الموقعين ما يرتب لي أكثر من خمسة دراهم كل يوم، وما يجلسونني فوق أحد من بني فضل الله، ولا فوق بني القلانسي، ولا فوق بني غانم، فما أكون إلا دون هؤلاء، ولو تكلمت قالوا: أبصر المصفعة، واحد كان فقيه كتاب، قال يريد يقعد فوق السادة الموقعين، وإذا جاء سفر ما يخرجون غيري، فإن تكلمت قالوا: أبصر المصفعة، يحتشم عن السفر في خدمة ركاب مولانا أمير الأمراء، وهذا أنا كل يوم يحصل لي من التكتيب الثلاثون درهماً والأكثر والأقل، وأنا كبير هذه الصناعة، وأتحكم في أولاد الرؤساء والأكابر ونظم في ذلك:
لائمي في صناعتي مستخّفاً ... بي إذا كنت للعلى مستحقّاً
ما غزالٌ يقبّل الكفّ منّي ... بعد برّي ولم يضع لي حقّا
مثل تيسٍ أبوس منه يداً قد ... صفرت من ندى لأسأل رزقا
فيولّي عني ويلوي عن ردّ ... سلامي ويزدريني حقّا
فاقتصد واقتصر عليها فما عن ... د إله السماء خيرٌ وأبقى
وقال أيضاً:
غدوت بتعليم الصغار مؤمّراً ... وحولي من الغلمان ذو الأصل والفصل
يقبّل كفي منهم كلّ ساعة ... ويعطونني شيئاً أعمّ به أهلي
وذاك بأن أسعى إلى باب جاهلٍ ... أقبّل كفّيه أحبّ إلى مثلي
أميرٌ إذا ميّزت لكن بلا حجىً ... وكم قد رأينا من أمير بلا عقل
قلت: نظم عجيب التركيب، والأول جيد وفيه لحنة، لكنها خفية.
وأنشدني الشيخ شمس الدين محمد بن بادي الطيبي، قال: أنشدنا من لفظه لنفسه بدر الدين بن المحدث:
كن عاذراً شاتم المؤدب إذ ... يأخذ من عرضه ويشتمه
لأنه ناكه على صغرٍ ... ومن ينيك الصغير يظلمه
وكلّ فلسٍ حواه يأخذه ... وكلّ وقت بالضّرب يؤلمه
نيكٌ وأخذٌ والضرب بعدهما ... والحقد إحدى الثلاث يضرمه
قلت: ما جزم الشرط، ولا جوابه في الثاني، ويمكن توجيه إعرابه.
ومن شعره أيضاً:
بقل هو اللّه أحد ... أُعيذ خدّاً قد وقد
وناظراً وسنانه ... عليه طرفي ما رقد
أقول لما زارني ... أنجز حرٌّ ما وعد
من كاسه وخدّه ... تخال ورداً قد ورد
من حمل ثقل ردفه ... ما قام إلاّ وقعد
ولا انثنى من لينه ... إلاّ وقد قلت انعقد
كالظبي إلاّ أنّه ... يفعل أفعال الأسد
في جيد من عنّفني ... عليه حبلٌ من مسد
ومن شعر:
وقد عنّفوني في هواه بقولهم ... ستطلع منه الذّقن فاقصر عن الحزن
فقلت لهم: كفّوا فإنّي واقعٌ ... وحقّكم بالوجد فيه إلى الذّقن
ومن شعره فيمن يحبها، واسمها فرحة:
ما فرحتي إلاّ إذا وصلت ... فرحة بين الكسّ والكاس
لا أن أراها وهي في مجلسٍ ... ما بين طبّاخي وعدّاس
وشعره كثير، سقت منه جانباً جيداً في ترجمته في تاريخي الكبير، وخمس لامية العجم.

واجتمعت به غير مرة وأخذت من فوائده، وكان له مكتب برا باب الجابيه، ويكتب أولاد الرؤساء في المدرسة الأمينية بجوار الجامع الأموي، وكان كتب إلي قصيدة في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة لامية ملزومة وأجبته عنها بمثلها، والتزمت فيها الميم قبل اللام، وقد ذكرتها في ألحان السواجع.
؟الحسن بن علي بن حمد بن حميد بن إبراهيم بن شنار بفتح الشين والنون، وبعد الألف راء. البليغ الناظم الناثر بدر الدين الغزي.
شاعر إذ قلت شاعر، طاف بكعبة البلاغة وعظم تلك المشاعر، يغوص على المعنى، ويجزل الألفاظ ويحكم المبنى، وينشدك القطعة، فتحسب أنه ضرب المثلث أو جس المثنى، متين التركيب بليغ المعاني، فصيح الألفاظ، إلا أنه يستعمل الغريب فيما يعاني، فيثقل على السمع بذاك وروده، وما تروق رياحينه ولا وروده.
وكتب المنسوب مع السرعه، وراعى الأصل في وضع الحرف وفرعه، إلا أنه كان ذا خلق فيه زعاره، وبادرة ليس وراءها حقد فهي في السر معاره، فنفرت عنه بعض النفوس، ولو خلا منها وضع على الرؤوس.
ودخل ديوان الإنشاء، فكان فيه بالشام شامه، وصدق هذه الدعوى أنه كان يحكي بلونه مداده وأقلامه، ولكن كان حر النفس أبيها، سليم الطوية غبيها، لا يكذب لسانه، ولا يطوي الغل جنانه.
ولم يزل على حاله إلى أن صادته مخالب المنيه، وعدم الناس فواكه نظمه الجنيه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الخميس حادي عشر شهر رجب الفرد، سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبع مئة.
ودخل الديوان في سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وكان قد وضع رسالة أنشأها نظماً ونثراً وسمها ب قريض القرين، عارض بها ابن شهيد في رسالة التوابع والزوابع.
وغالب نظمه أنشدني إياه بصفد ودمشق والقاهرة، كتب إلي بالقاهرة:
ليل التجنّب من أجفاننا شهبه ... ومجدب الدمع ما كانت دما سحبه
ما لننوى أطلعت في غارب قمراً ... يقلّه البان يوم البين لا غربه
تنظّمت عبراتي في ترائبه ... عقداً كما انتثرت في وجنتي سحبه
يا من وفى الدمع إذ خان الوداد له ... غدر الحبيب وفاء الدمع أو سببه
قد كنت أحسب صبري لا يذمّ وقد ... مضى وفي ذمّة الأشواق أحنسبه
يا نازحاً سكن القلب الخفق ومن ... إحدى العجائب نائي الوصل مقتربه
ما لاح برق ولا ناحت مطوّقةٌ ... ولا تناوح من باب الحمى عذبه
إلاّ تساعد قلبي والدموع وأحنا ... ء الضلوع على شوقٍ علا لهبه
حكيت يا برق قلبي في الخفوق ولم ... يفتك إلا لهيب الوجد لا شنبه
من لي بأغيد بدر التم حين بدا ... قد ساء إذ رام تشبيهاً به أدبه
ممنّع بالذي ضمّت غلائله ... من القنا أو بما أصمت به هدبه
بين الأسنّة محجوبٌ ولو قدروا ... ما قوس حاجبه أغنتهم حجبه
سلبني بالضّنى لحمي لواحظه ... وهمّ أُسد الشرى المسلوب لا سلبه
لو لم يكن ريقه خمراً ومرشفه ... كأساً لما بات يحكي ثغره حببه
كذا ابن أيبك لولا ما حواه لما ... عن الكتائب أغنت في الورى كتبه
ذاد الأولى عن طريق المجد ثم نحا ... آثاره فقلت أجبالهم كثبه
وآب يقطف من أغصانه ثمراً ... إذا أتى غيره بالشوك يحتطبه
أقلامه فرحاً بالفضل أنملها ... كلّ يخلّق ثوب المجد مختضبه
تكاد ألسنها تمتدّ من شغفٍ ... إلى أجلّ معاني القول تقتضبه
يراعه روّعت لا مات أحرفها ... حشاء منحرفٍ لا ماته يلبه
أضحت مسبّبة الأرزاق حين حكت ... سبّابةً لعدوّ وقد وهى سببه
يا من يجيل قداح الميسر ارم بها ... وارم الفجاج ليسرٍ نجحه طلبه
واقصد جناب صلاح الدين تلق فتىً ... يهزّه حين يتلى مدحه طربه

بنت على عنق العيّوق همّته ... بيتاً تمدّ على هام السها طنبه
قد أتعبت راحتاه الكاتبين ولم ... يدركه حين جرى نحو العلى طربه
فاعجب لها راحةً تسقي اليراع ندىً ... إذا لم تكن أورقت في ظلها قضبه
تناسب الدرّ من ألفاظها وإلى ... بحر النّدا لا إلى بحر الدنا نسبه
يرضى ويغضب في حالي ندىً وردىً ... وبين هذين منهول الحمى نشبه
رضاه للطّالي جدواه ثمّ على ... ما تحتوي يده من ماله غضبه
فكتبت أنا إليه أشكره:
أغصن قدٍّ أقلّت بانه كثبه ... أم درّ ثغر حبيبٍ زانه شنبه
أم روض حزنٍ جديد النبت قد نسمت ... فيه أقاحيه لما أن بكت سحبه
أم جانب الأفق قد دجّت حنادسه ... للعين لمّا ازدهت في لمعها شهبه
أم نبت فكرٍ جلاها لي أخو أدبٍ ... خطابه زان جيد الدّهر أو خطبه
قريضه تعرفّ الأسماع جوهره ... فتنتقي حليها منه وتنتخبه
فلو همى الشعر قطراً قبله لغدا ... يروي الربا منه هامي الغيث منسكبه
ونثره لم يداخل مسمعي أحدٍ ... إلاّ ورنّح منه عطفه طربه
وخطّه مثل صدغ زرّقته يد ال ... حسن البديع وقاني الخدّ ملتهبه
لوصفه شهدة بالحسن قد شهدت ... وقد تبّرأ من ياقوته نسبه
ولابن مقلة عين ما رأت حسناً ... هذا ولو عاينته ما انقضى عجبه
هذا هو البدر لا النجم البصيص فقد ... مدّت على ابن هلالٍ في العلا طنبه
جزاك ربّك بدر الدين خير جزاً ... عن امرىء لم يطل نحو العلا سببه
بالغت في مدحه فاللّه يجعله ... كما تقول لتعلو في الورى رتبه
وكتبت أنا إليه ملغزاً في ضبع:
أيّها الفاضل الذي من يجاريه ... تقوّى في ما ادعى وتقوّل
والّذي من أراد يبصر قسّاً ... فعليه دون البريّة عوّل
هات، قل لي باللّه ما حيوانٌ ... ثابت الخلق قطّ لا يتحوّل
عينه إن قلعتها يتبدّى ... حيواناً غير الذي كان أوّل
فكتب هو إلي الجواب عن ذلك:
يا إماماً طال الورى بمعانٍ ... في المعالي يغوث من قد تطوّل
وإذا أعضل السؤال فما زا ... ل عليه في المعضلات المعوّل
إنّ زهراً أهديته غضّ عنه ... طرفه واستحال زهر المحوّل
حين ألغزت في معمّىً هداني ... نحوه الفكر حين سوّى وسوّل
حيوانٌ إن صيّروا رأسه العين ... رأوه إلى الجماد تحوّل
فابق واسلم تفيد علماً وجوداً ... فيهما ليس لامرىء متأوّل
وكتبت أنا إليه وقد جاءته بنت:
تهنّ بها وإن جاءتك أنثى ... لأنّ الشمس بازغة الجمال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
ولو كان النساء كمن أتانا ... لفضلت النساء على الرجال
فكتب هو الجواب إلي:
أتاني من هنائك يا رئيساً ... تتيه به المعاني والمعالي
ومن آثار جودك ما أراني ... حياً أهدته لي ريح الشمال
وكم أقرأتني وقريت فضلاً ... يفوت الحصر من أدبٍ ومال
وكتبت أنا إليه، وقد أهديت إليه أبلوجة سكر وكنت قبلها قد أهديت إليه قليل قطر:
أبلوجة بعثتها ... محبةً لك عندي
في اللون والكون أضحت ... تخالها نهد هند
فكتب الجواب إلي عن ذلك:

يقبل الأرض وينهي وصول صدقته الجاريه، وهديته التي جاءت بين الحسن والإحسان متهاديه، وهنديته التي قام نهدها مقام ثغر الغانيه، وأشرقت الأرض بنور وجهها من كل ناحيه، نهد أبرزه الصدر، وشهد ما تجرعت دون اجتناء حلاوته من إبر النحل مرارة الصبر، وهرم أكسب رونق الشباب وجه الدهر، ووجه طبع على دائرته ليلة تمامه البدر، فقابل الملوك تلك المنحة بدعائه وشكره المفرط وثنائه، ومدحه الذي تتدرج شواهد وده الصادق في أثنائه وتذكر بها ما مضى، شكر يد الكريم الذي استأنف إحسانه السابق وما انقضى، فذكر بنضار القطر السائل ولجين هذا الماء القائم، قول القائل:
وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ ... سال النضار بها وقام الماء
وكتب هو إلي:
يا ماجداً لم يزل نداه ... أولى بتقريظ كلّ متن
ومن غدا بالصفاء يكنى ... وودّنا عنه ليس نكني
نحن افتراقاً بنات نعش ... في ظلمة الهمّ والتمنّي
فسر إلينا نكن ثرّيا ... وادخل إلينا بغير إذن
ولا تدعنا نئنّ شوقاً ... ولا تقل للرسول إنّي
فكتبت أنا الجواب عن ذلك:
أبياتك الغرّ قد أتتني ... فشرّفتني وشنفّتني
شعرك فيها ظريف لفظٍ ... لطيف معنىً خفيف وزن
قد أثقلت كاهلي بشكرٍ ... فكلّ متني إذ كلّمتني
فإن أفز بالمثول فيكم ... فإنه غاية التمنّي
وإن تخلّفت عن حماكم ... يا طول دقّي في الجرن حزني
وكتب هو إلي وقد توالت الأمطار والثلوج في العشر الآواخر من رمضان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة: كيف مولانا ألحف الله ظله، وأرشف طله ووبله، وحمل على أعناق الأيام كله، وجعل مثله السحاب الجود ولا أعرف مثله، وضاهى برزقه هذا الغيث الواقع على خلاف القياس كله، فإن هذا اليوم قد عزز الصّنى والصنبر وعجز الصبر وعزى سكان الأجداث بالأحياء فكل بيت قبر:
يومٌ كأن سماءه ... حجبت بأجنحة الفواخت
جاء الطوفان والبحر المحيط، وجاب الصخر بوادي الربوة دم سيله العبيط، وجال في وجه البسيطة حياؤه فما انبسطت الخواطر بجوهره البسيط، أخفت النجوم في ليله، واطلع الحي القيوم على زنته الراجحة وكيله، وتراكمت سحبه الساترة فضاء الأفق بفضل ذيله، وأجلب على الوهاد والربا برجله الطامة وخيله، فكأنما وهت عرى ذلك الزمهرير فهبط، أو هيض جناح السحاب الجون فسقط، أو حل سلك النحوم الزاهر ففرط جوهر ذلك القطر لما انفرط، فالجدران لهيبته مطرقة، والعمران قد تداعت ولا يقيل البناء جموعها المتفرقه، والطرق قد شرقت بالسيول فلا تنطق آثارها المغربة ولا المشرقه، وقد قص جناح الارتكاض، وحصت قوادمه، فما تنهض وعظمه مهتاض، والسيل قد بلغ الزبا، وسوى بين الوهاد المتطامنة والربا، وبكت السقوف بعيون الدلف، وحملها المطر بيده العادية على خطه خسف، واستدل لها بمنطق الرعد على أن قدامها الخير، فقالت: هذا خلف، وشهر الصوم قد بلغ غايته، وعيد الفطر قد نصب رايته، وتلا آيته، وطلب من الموسر والمعسر كفايته، فأعاذ الله مولانا من الطلب فيه، ولا ألجأه إلى السعي لابتغاء فضل الله إلا بفيه، بمنه وكرمه.
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك: العجب من سؤال مولانا عن المملوك كيف حاله، وعنده علم هذا العناء الذي نصب على الأين والنصب تمييزه وحاله، وهي حال أبي الطيب، وما علم ابن منصور بها، ولو علم استعمل التباله. أما ترى هذا النوء الذي ذم نواله وحمد نواه، وأذهل الصائم عن صومه، فما بيت أمره ولا نواه وشغله من حسه فما يدري أفطر على تمرة أم نواه ؟، قد هال الجبال أمره، فشابت من الفرق إلى القدم، وغمرت سيوله الأباطح والربا، ولكن من الزيادة بدم، كيف يهنأ العيش وبروق الجو سيوف تخترط، ونفس هذه الرعود يخرج بعدما حبس في حشا السحاب وانضغط، وإلحاح سائل هذا المطر، فلو كان قطره دراً لما مدّ الفقير إليه يداً ولا التقط، وتوالي هذه الغيوث التي لو عاينها ابن هانىء لما قال:
ألؤلؤٌ دمع هذا الغيث أم نقط

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16