كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

ثم إنه انتقل الى دمشق في التاريخ المذكور وشرح فيها مقدمة ابن الحاجب، وتفسير قوله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " ، وتفسير " إن الله وملائكته يصلّون على النبي " الآية، وتفسير " يا أيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث " .
ثم إنه توجه الى مصر في التاريخ المذكور وصنّف فيها شرح البديع للساعاتي في الأصولين باسم السلطان الملك الناصر، وشرح ناظر العين، وشرح المنهاج للبيضاوي، وشرح طوالع القاضي ناصر الدين البيضاوي وتعاليق على مسائل. ثم صنّف مختصراً في أصول الدين، وشرح فصول النسفي، وتفسير سورة يوسف، وسورة الكهف.
ثم إنه شرع في تفسير مستقل وصل فيه الى حين اجتماعي به في سابع عشر شوال سنة خمس وأربعين وسبع مئة الى قوله تعالى: " مَن يُطع الرسول فقد أطاع الله " . وقال لي: كنت قد فسّرت جملة كبيرة، ولكن في فتنة قوصون عدمت المسوّدات فأنا الآن أغرمها.
وقال لي بعض الجماعة إنه يمتنع من الأكل في كثير من الأوقات لئلا يحتاج الى الدخول الى الخلا خوفاً من ضياع الزمان بلا كتابة في التفسير.
وكان خطّه قوياً وقلمه سريعاً، ورأيته يكتب في هذا التفسير من خاطره من غير مراجعة، وكان قد شرع قبل ذلك في مختصر لطيف في أصول الدين، وجيز اللفظ، كثير الفوائد والمباحث.
وسمع البخاري مرتين على الحجّار بقراءة شيخنا البرزالي، وسمع على أشياخ ذلك العصر، وأذن لجماعة كثيرة بالشام ومصر في الإفتاء، وانتفع به الناس في الشام ومصر كثيراً، وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ولما بلغتني وفاته رحمه الله تعالى قلت أرثيه:
أيها العاذل لا تلح ... فعندي ما كَفاني
كيف لا تسفح عيني ... دمعها أحمر قاني
أظلمت عينيّ لمّا ... فقدتُ شمس الزّمان
وغدا جَفني قريحاً ... باكياً مما دَهاني
لم يُفدهُ كُحْلٌ ... بعدَ فقدِ الأصبهاني
محمود بن محمد بن إبراهيم بن جملةالشيخ الإمام الورع الخطيب جمال الدين بن جملة، خطيب الجامع الأموي بدمشق.
كانت له طريقة، سلكها فجعل مجازها حقيقة، لازم بها الخطابة وركن، ولزم مكانه بالجامع فما تحرّك منه بعدما سكن، واقتصر به على خاصة نفسه وملازمة خطابته وهواه ودرسه، لا يتردد الى أمير ولا كبير ولا صغير، بل الأمراء يحضرون إليه، ويتطفلون عليه، ويلتمسون بركاته، ويعدّون سكناته وحركاته، وإشاراته عند نوّاب الشام مشهورة مقبولة، وربوع أوقاته بالخيرات مأهولة:
حسُنَت وطابت في الورى أخبارُه ... وأصحّها راوي العُلا أصحاحا
وكأن درّاً فاه راوي مدحه ... مهما روى وكأن مسكاً فاحا
قد سخّر الأرواح خالقها له ... إن لم يكن قد سخّر الأشباحا
فإذا علا يوماً ذؤابةَ منبرٍ ... نثروا على كلماته الأرواحا
وأما جنازته فكانت آية بلغت من الاحتفال الغاية، وجازت الحد في الكثرة والنهاية، حُملت على الأصابع ولم تصل إليها الرؤوس، وتناهب الناس آثاره، واجتلوا نعشه منصة وهو فيها عروس.
وما زال على حاله الى أن انفرد ابن جملة عن جملة الأحياء وأصبح في مماته من أعجب الأشياء.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الإثنين العصر الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة.
وكان قد ولي الخطابة بعد الخطيب تاج الدين بن جلال الدين القزويني في سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
محمود بن علي بن محمودابن مقبل العراقي، تقي الدين الدّقوقي الحنبلي، الإمام المتقن محدّث بغداد، شيخ المستنصرية.
أسمعه أبوه من المؤرخ علي بن أنجب، وعبد الصّمد بن أبي الجيش، وابن أبي الدنيّة وجماعة، من ذلك كل جامع المسانيد من محمد بن أبي الدنية، وطلب هو بنفسه يسيراً، وكان يحدّث الناس على كرسي ببغداد، ويحضره خلق عظيم ويأتي بكل نفيس، وله نثر ونظم ومعرفة بالنحو واللغة، وكان يعظ في الأعزّية.
وكان متقناً متحرّياً جهوريّ الصوت محبوباً الى الناس لفضله وعلمه. وليَ مشيخة المستنصرية بعد ابن الدواليبي.
توفي - رحمه الله تعالى - في أوائل المحرّم من سنة ثلاث وثلاثين، أو أواخر الحجة من سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ولم يخلّف درهماً، وحُمل نعشه على الرؤوس.

ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة.
محمود بن عزّي بن مشعل
الشيخ الفقيه الفاضل جمال الدين البصروي.
كان فقيهاً جيداً حفظ التنبيه ثم حفظ الوجيز، وكان يكرر عليه وينقل منه كثيراً.
توفي في سابع عشري شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة ببصرى ودفن بها.
محمود بن محمد بن عبد الرحيمابن عبد الوهاب، الشيخ بهاء الدين، الكاتب المجوّد المتقن المحرر السلمي، المعروف بابن خطيب بعلبك.
كان فرداً في زمانه، وندرةً في أوانه. كاتبٌ أين الرياض من حروفه القاعدة، والعقود من سطوره التي تبيت العيون في محاسنها ساهدة، كم روّض قلمُه طرساً، وجلا على الأبصار عرساً، وخضع له الكُتّاب فلا تسمع إلا همساً، ألفاته أحسنُ اعتدالاً من القدود الرشيقة، ولاماته أظرف انعطافاً من الأصداغ المسوّدة على الخدود الشريقة، وعَيْناته أسحر من العيون الدُّعْج، ونوناته أسلبُ للقلب من الحواجب البُلج:
خطٌّ كأن العيونَ ناشدَة ... سود أناسيهنّ من كُتبه
أقلامه كنّ للورى قصَباً ... والسّبقُ للمحتوى على قصبه
كتب عليه جماعة من أولاد الأعيان، وبرع في الكتابة منهم شرذمة مختلفة الأديان.
وكان فيه ديانة وعفّة وصيانة، وتقوى تمنعه من التطلّع الى أولاد الناس وأمانة.
ولم يزل على حاله الى أن جرى القلم بحلول حَينه، وودّ كل كاتب لو فداه بإنسان عينه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وسبع مئة بمنزله في العُقيبة بدمشق، ودفن بمدرسة الشيخ أبي عمر بالصالحية.
ومولده في إحدى الجماديين سنة ثمان وثمانين وست مئة.
وكان يخطب جيداً بصوت طيّب، وأقام بدمشق مدة سنين، وكان محبوباً لكرم أخلاقه وعفّته. وكان من أحسن الأشكال، تام الخلق، وصف خطّه للأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، فأحضره وأمره بأن يكتب له نسخة بالبخاري، فاعتذر له بأنه مشغول بتكتيب أولاد الناس، فقال: أنا أصبر عليك، فأغفله مدة تزيد علي سنة، وطلبه فأحضر له منه مجلداً، فرماه على الأرض وضربه ضرباً كثيراً مبرحاً، ودفع إليه المجلّد، ورأيته، أعني المجلد، في بعلبك وهو نسخ شيء عجيب الى الغاية.
وقلت أنا في الشيخ بهاء الدين:
إن ابن الخطيب وابن هلال ... ليس ذا مثلَ ذا على كل حال
أيُّ نون أمسكتَ من خطّ هذا ... فهي من حُسنها بألفِ هلال
محمود بن محمد بن محمدابن نصر الله ابن المظفر بن أسعد بن حمزة، الصدر الرئيس العدل الكبير الفاضل الأصيل محيي الدين، أبو الثناء ابن الصدر الكبير شرف الدين ابن الصدر جمال الدين بن أبي الفتح التميمي الدمشقي بن القلانسي.
كان أحد الصدور الأعيان، كان له إشغال وتحصيل، وكان فيه خيرٌ وتواضع وملازمة لداره وعدم اختلاط بالناس، وباشر نظر ديوان البيوت وأوقاف الحرَمين.
وكان قد سمع من ابن البخاري وعبد الواسع الأبهري.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في عشري ذي الحجة سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وسبعين وست مئة.
محمود بن مسعود بن مصلحالإمام العلامة ذو الفنون قطب الدين أبو الثناء الفارسي الشيرازي الشافعي المتكلم صاحبُ التصانيف.
كان أبوه طبيباً، وعمه من الفضلاء، فقرأ عليهما وعلى الشمس الكتبي والزكي البرشكاني، ورتب طبيباً في البيمارستان وهو حدث.
وسافر الى النصير الطوسي ولازمه وبحث عليه الإشارات وقرأ عليه الهيئة وبقية الرياضي وبرع.
واجتمع بهولاكو وأبغا، وقال له أبغا: أنت أفضل تلامذة النصير وقد كبر، فاجتهد لا يفوتك شيء من علمه. قال: قد فعلت، وما بقي لي به حاجة.
ثم إنه دخل الروم فأكرمه البَروانه، وولاه قضاء سيواس وملطيّة، وقدم الى الشام رسولاً من جهة الملك أحمد، فلما قُتل أحمد ذهب قطبُ الدين، فأكرمه أرغون، ثم إنه سكن تبريز مدة، وأقرأ المعقولات وسمع شرح السنّة من القاضي محيي الدين، وروى جامع الأصول في رمضانين، قرأه الصدر القونوي عن يعقوب الهذباني عن مصنفه.
وكان من أذكياء العالم وممن ساس الناس وداهن وسالم، مدّ يد الباع في كل الفنون، سديد الرأي في مخالطة الملوك والتحرّز من العيون. صنف التصانيف المفيدة وأودعها الذخائر العتيدة، وكان لفلك الفضائل قطباً، ولشمس العلوم شرقاً وغرباً:

بجودٍ يهمل السحب احتقاراً ... إذا ما امتدّ بينهما الهُمولُ
وأخلاقٍ كأبكار الغواني ... إذا اشتملت عليهنّ الشَمولُ
ولم يزل على حاله الى أن دارت رحى المنون على قُطبه، وجعلت شخصه في الثرى تِرباً لتُربه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشري شهر رمضان سنة عشر وسبع مئة.
ومولده بشيراز سنة أربع وثلاثين وست مئة.
وكان الشيخ قطب الدين ظريفاً مزّاحاً لا يحمل هماً، وهو بزي الصوفية، وكان يجيد اللعب بالشطرنج ويلعب به، والخطيب على المنبر وقت اعتكافه.
وكان حليماً سمحاً لا يدّخر شيئاً، بل ينفق ما معه على تلامذته ويسعى لهم، وصار له في العام ثلاثون ألف درهم، وقصده صفي الدين عبد المؤمن المطرب فوصله بألفي درهم، وفي الآخر لازم الإفادة، فدرّس الكشّاف والقانون والشِّفا وعلوم الأوائل.
وكان القان غازان يعظّمه ويعطيه، وكان كثير الشفاعات، وإذا صنّف كتاباً صام ولازم السهر ومسوّدته مبيضته.
وكان يحب الصلاة في الجماعة ويخضع للفقير، ويوصي بحفظ القرآن، وإذا مُدح يخشع ويقول: أتمنى لو كنت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لي سمع ولا بصرٌ رجاء أن يلمحني بنظرة.
مرض نحو شهرين، ولما مات رحمه الله أدّيت عنه ديونه.
وكان يتقن الشعبذة، ويضرب بالرباب ويورد من الهزليات ألواناً بحضور خربندا، وفي دروسه، وكانت أخلاقه جميلة ومحاسنه وافرة.
ومن تصانيفه غرّة التاج حِكمة، وشرح الإشراق للسهروردي، وشرح الكليات وشرح مختصر ابن الحاجب وشرح المفتاح للسكاكي.
محمود بن مسعودالسلطان علاء الدين بن شهاب الدين صاحب الهند.
كان ملكاً عظيماً بنى بدلّي منارة عظيمة ارتفاعها مئة وخمسون ذراعاً مرجّلة الأساس عظيمة البناء، عرضها من أسفل رميةُ سهم، ويراها الناس من مسيرة يومين.
ولم يزل في ملكه الى أن وصل الخبر الى مكة بوفاته، وصُلي عليه بها صلاة الغائب سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وتسلطن بعده ولده غياث الدين فدام سنة، وخرج عليه أخوه قطب الدين مبارك وتملّك، وسجن غياث الدين، ودام قطب الدين مبارك في الملك الى سنة عشرين وسبع مئة، وقُتل، وتسلطن مملوكهم خسرو التركي.
محمود بن ديواناكان قد ظهر في تبريز بمشيخة وصلاح، وخضع له المغول وغيرهم، وكانت له زاوية في توريز.
حكى الإربلي عز الدين الطبيب نقلاً عن التاج عبد الله الطيبي ما معناه أن آل فرَنك أحد أولاد القانات كان مرشحاً للملك، وكان محباً للفقراء، فأتى يوماً الى زاوية الشيخ محمود ديوانا ومدّ له سماطاً، وعمل له سَماعاً، ورقص الشيخ محمود وطاب ودار في الطابق، وجذب آل فرنك إليه، وألقى كلاهه عن رأسه وألبسه طاقية كانت على رأسه وقال: قد ولّيتك السلطنة، ورقص ورقص معه. فنقلت هذه الكلمة الى غازان، فضرب عنق آل فرنك بين يديه.
وكان قسيم الغصن في تثنيه، وشقيق البدر أو ثانيه.
وأمر بإحضار الشيخ محمود ديوانا، فلما رآه قال: أهلاً بالشيخ الذي قد صار يولّي الملوك بطاقية، وأمر به فشُدّ بين دفتين، ونُشر حتى وقع نصفين بقسمة صحيحة سواء بسواء.
المحوجبشمس الدين محمد بن يوسف الجزري.
مختارالأمير الكبير الطواشيظهير الدين المعروف بالبُلبيسي الخازن دار بقلعة دمشق.
كان حسن الشكل، حسن الأخلاق، فيه وقار وسكون، وحفظ القرآن، وكان يتلوه بصوت حسن.
أنشأ مكتباً للأيتام قبالة القلعة، ووقف عليه الجامكية. وكان له خبز بطبلخاناه. وولي التقدمة على المماليك السلطانية بمصر مكان الطواشي فاخر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في آخر شعبان سنة ست عشرة وسبع مئة بقلعة دمشق، ودفن برّا باب الجابية بتربته التي عمّرها، ووقف عليها أوقافاً وقرر فيها مقرئين بالنوبة ليلاً ونهاراً.
اللقب والنسب

ابن مخلوف
محيي الدين محمد بن علي. وقاضي القضاة علي بن مخلوف.
ابن مراجلعلاء الدين علي بن عبد الرحيم.
المرداويموسى بن محمد.
ابن المرحّل
الشيخ شهاب الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز. والشيخ صدر الدين محمد بن عمر، وأخوه عبد الوهاب.
والمغربيمالك بن عبد الرحمن.
وزين الدينمحمد بن عبد الله ابن مختار الحنفي محمد بن مختار.
المَرجاني

عبد الله بن محمد.
ابن المخرميّ
ابراهيم بن الحسن.
ابن المروانيأحمد بن حسن، وأخوه علاء الدين علي بن حسن، وابنه ناصر الدين محمد بن علي.
المراكشيفخر الدين عبد الله بن محمد.
وتاج الدينمحمد بن ابراهيم.
والمرينيالأمير علاء الدين مغلطاي.
المرينيالسلطان عثمان بن إدريس.
والمرينيعثمان بن يعقوب، وولده السلطان علي بن عثمان.
مريم بنت أحمدابن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد، الدمشقية، أم عبد الله، بنت الجمال.
كانت امرأة صالحة خيّرة، حضرت على الفقيه محمد بن عبد الملك بن عثمان المقدسي، وأجازها الكاشغري، وابن القبيطي، وجماعة.
وتوفيت - رحمها الله تعالى - ثالث عشري جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولدها سنة خمس وثلاثين وست مئة.
وهي أخت الإمام محكب الدين عبد الله المقدسي المحدّث، وزوجة الشيخ أحمد بن أبي محمد العطار إمام مغارة الدم.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها جزءاً من فوائد أبي عروبة الحراني وغير ذلك.
ابن مزهرالقاضي فخر الدين محمد بن مظفر.
وشرف الدينيعقوب بن مظفّر.
ابن مُزَيْز
تاج الدين الحموي أحمد بن إدريس.
وعز الدينعبد العزيز بن إدريس.
المزّي
المؤقِّت محمد بن أحمد.
و

المزي
يوسف بن عبد الرحمن.
المستكفي باللهأمير المؤمنين، أبو الربيع سليمان بن أحمد.
مسعود بن أحمدابن مسعود بن زيد، الشيخ الإمام العالم، المفتي الحافظ، المجوّد فخر المحدّثين، قاضي القضاة بالديار المصرية، سعد الدين الحارثي، العراقي، الحنبلي. والحارثية قرية قريبة من بغداد، المصري المولد.
سمع من الرضي بن البرهان، والنجيب عبد اللطيف، وابن علاق، وطبقتهم. وبدمشق من جمال الدين الصيرفي، وابن أبي الخير، وابن أبي عمر، وعدّة.
وعُني بهذا الشأن، وكتب العالي والنازل، وخرّج وصنّف، وتميّز وتفرّد، ودرّس بالناصرية بالقاهرة، وبالصالحية، وبالجامع الطولوني.
وولي القضاء بالديار المصرية في ثالث شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبع مئة، فأقام في ذلك سنتين ونصفاً، وسار فيه سيرة مرضية، وكان متيقظاً فيه محتاطاً متحرزاً، وقدّم الفضلاء والنبلاء من كل طائفة.
قال كما الدين الأدفوي: قال لي القاضي شمس الدين بن القمّاح: تكلمت معه في المذهب، فقال: كل ما يلزم القول بالجهة أقول به. قال وحكى لي بعض أصحابنا أنه دخل المدرسة الكاملية ليجتمع بالشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فلما رآه الشيخ قام وقال: داعية، ولم يجتمع به. انتهى.
وشرح جملة من سُنن أبي داود شرحاً جيداً، وشرح قطعة من المقنع في مذهبه ولم يكمله، أتى فيه بفوائد ومباحث ونقول كثيرة، ولو كمل لانتفع الناس به.
وكان قد قدم الى دمشق على مشيخة دار الحديث النورية، ثم إنه ضجر ورجع وحدث بدمشق ومصر.
وكان رئيساً فصيح الإيراد، عذب العبارة، قويّ المعرفة بالمتون والرجال صيّناً، وافر الحرمة، فاخر البزّة. وكان أبوه من التجار.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة سحر الأربعاء رابع عشر ذي الحجة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
وخلفه في الفقه ولده الإمام شمس الدين عبد الرحمن.
مسعود بن أوحد بن الخطيرالأمير الكبير بدر الدين، أمير حاجب بالديار المصرية في أيام الملك الناصر محمد وفيما بعد، ونائب السلطنة بغزة غير مرة، ونائب طرابلس غير مرة، وأكبر مقدمي الألوف بالشام.
كان عريقاً في الرئاسة، غريقاً في الحشمة والنفاسة، كريم الودّ والإخاء، كثير البذل لأصحابه والسخاء، وكان بابه حرمَ اللاجي، وقبلة الراجي، لا يخبأ جاهه عن قاصده، ولا ماله عن وافده. كثير الاتّضاع كأن من يجالسه أخوه من الرضاع، ألطف من النسيم إذا سرى، وأرأف بالضعيف من والديه إذا عاينا به أمراً منكراً. وكان به للملك الناصري جمال، وهو لمن استجار به ثِمال، بل كان في ذلك الأفق بدر كماله، وزينة موكبه في يمينه وشماله، وصاحب رأيه الذي كم أسفر وجهه عن جماله. وحكّمه الملك الناصر في الديار المصرية فحكم بالعدل، وأفاض نِيل نَيْله بالجود والبَذل، وزان دولته بحسن سيرته، وصفاء باطنه وطُهر سريرته:

يتكفّل الأيتامَ عن آبائهم ... حتى ودِدْنا أننا أيتامُ
يتجنّب الآثامَ ثم يخافُها ... فكأنما حسناته آثامُ
قد شرّد الإعدام عن أوطانه ... بالبذل حتى استُطرفَ الإعدامُ
ولم يزل يتنقل في الممالك تنقل البدور، ويتوقّل في هضبات المعالي توقّل العقبان والنسور، الى أن اختار المقام بدمشق فأجيب، وسكن ما بقلبها من الوجيب، وكان في حِماها للناس رحمة، ولكل من نزلت به بليّة نعمة، يمدّ عليهم ظل شفقته، وينشر لهم جناح رحمته، فما يبالون بمن عدل أو جار، ولا يحفلون بمن بعُد أو زار، حتى نزل الأمر الخطير بابن الخطير، ورأى الناسُ بالبكاء لموته كيف يكون اليوم المطير.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء سابع شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وثمانين وست مئة ليلة السبت سابع جمادى الأولى بحارة الخاطب بدمشق.
وأخذ إمرَة العشرة بدمشق سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. وقرّبه الأمير سيف الدين تنكز وأدناه وأحبّه، ثم إنه جهّزه الى باب السلطان صحبة أسندَمُر رسول جوبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فلما رآه السلطان أعجبه شكله وسمته ووقاره، ورسم له بالمقام عنده، وأعطاه طبلخاناه، فجعله حاجباً. ولم يزل في الحجوبية الى أن أمسك الأمير سيف الدين أُلماس أمير حاجب سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، فولاه السلطان مكانه أمير حاجب، ولم يكن بمصر إذ ذاك نائب سلطنة إلا أمير حاجب، فكان يعمل النيابة والحجوبية، وقيل: إن السلطان لما أعطاه إمرة الحجوبية كان على حركة للصيد فأعطاه جملاً حمله دراهم، تقدير سبعين ألف درهم إنعاماً عليه، وقال له: هذا برسم إقامة الرّخت وحركة الصيد، وأحبّه السلطان والناس أجمعون من الأمراء والمشايخ وأمراء الخاصكية، وكان يمشي في خدمته الأمراء الكبار.
ولم يزل على حاله في وجاهةٍ حتى أمسك الملك الناصر محمد الأمير سيف الدين تنكز، فرسم للأمير بدر الدين بنيابة غزة، فحضر إليها في مستهل صفر سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، فأقام فيها سبعة أشهر، ثم إنه نقله الى دمشق، فحضر إليها في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا. فلما اتفق للأمير سيف الدين قوصون ما اتفق أيام الملك الأشرف كجك طلب الأمير بدر الدين الى مصر، وأعاده الى وظيفة الحجوبية وكان بها أمير حاجب في مستهل صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
ولما انفصل قوصون خرج الى غزة ثانياً نائباً، وأقام بها شهرين، ثم حضر الى دمشق ثانياً وأقام بها مدة، وهو أكبر مقدمي الألوف. ثم إنه رُسم له بالتوجه الى غزة نائباً ثالث مرة، فتوجه إليها في شهر رجب أو أوائل شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ولم يزل بها الى أن جرى للأمير سيف الدين يلبُغا ما جرى وقُتل، فرُسم للأمير بدر الدين بنيابة طرابلس، فتوجه إليها في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وعاد منها الى دمشق في أواخر شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة، فإنه عُزل بألجيبغا الخاصكي، ولما اتّفق حضور ألجيبغا الى دمشق وقتله أرغون شاه، على ما مرّ في ترجمته، في سنة خمسين وسبع مئة، وخلت دمشق من نائب يقوم بأمرها سدّ الأمير بدر الدين النيابة ونفّذ مهمات الدولة، وكاتبه الملك الناصر حسن في البريد وسدّ ذلك على أحسن ما يكون.
ثم إن السلطان رسم له بالعود الى طرابلس نائباً بعد أن وُسِّط ألجيبغا وأياز بسوق الخيل في دمشق، على ما تقدم في ترجمتهما.
فتوجه إليها في أوائل جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة.

ولم يزل بطرابلس الى أن طُلب الى مصر، فدخل الى دمشق نهار عيد الفطر سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وخرج منها متوجّهاً بطُلبه الى مصر، فلما وصل الى الرملة ورد المرسوم عليه بعوده الى دمشق، فعاد إليها ودخلها في عاشر ذي القعدة، وأقام مدةً بغير إقطاع، ثم إنه أعطي أخيراً خبز نوروز. ولم يزل كذلك الى أن توجه في نوبة بيبغاروس صحبة الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب الشام والعسكر الشامي، وأقاموا على لدّ، وحضر الأمير عز الدين طقطاي الدوادار وهم على لُدّ ومعه تقليده الشريف بنيابة طرابلس مرة ثالثة، فلبسه هناك، وخدم به، وأقام هناك الى أن حضر السلطان الملك الصالح صالح من مصر ودخل الى دمشق وهو مع نائب الشام، ثم إنه توجه الى حلب صحبة الأمير سيف الدين شيخو، والأمير سيف الدين طاز الى حلب في طلب بيبغاروس، وأقاموا بحلب مدة، فاستعفى الأمير بدر الدين هناك من نيابة طرابلس، وثقل عليهم، فأعفون، واستقر على حاله بدمشق.
وفي يوم عيد رمضان حُمل الجَتْر على رأس السلطان على العادة في مثل ذلك، ولما عادت العساكر المصرية صحبة السلطان الى القاهرة فوّضت إليه نيابة الغيبة بدمشق، ولم يتحرك السلطان في تلك المدة بحركة في دمشق إلا برأيه وترتيبه، لقِدم هجرته ومعرفته بمصطلح الملك من الأيام الناصرية.
ولم يزل على حاله بدمشق الى أن توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور وصلى عليه نائب الشام وأعيان الأمراء والقضاة. وكانت جنازة حافلة، ودفن في الصالحية بتربتهم.
وكان قد حدّث عن ابن دقيق العيد.
ولما توفي - رحمه الله تعالى - قلت أنا أرثيه:
يا ذلّتي وشقاي بعد مسعود ... وطولَ حزني وتعدادي لتعديدي
ويا نواحي الذي يملا نواحي جي ... رون استعدْ واستزد لي فوق مجهودي
مات الأمير الذي كان الزمان إذا ... سطا لجأنا لظلٍ منه ممدودِ
ولّى وزال وقد أضحت مناقبه ... بين الأنام له تقضي بتخليدِ
كانت لياليه أعراساً لناظرها ... حُسناً وأيامه أيام تعييدِ
وكان للملك عطفٌ من عزائمه ... يختال في حلتي نصرٍ وتأييد
زها به الملك من مصرٍ الى حلب ... وهزّ عجباً به أعطاف أُملود
وشيّدت ركنَه منه سياسته ... وبات من ذاك في استيعاب تمهيد
تُغني بسالته يوم الكريهة عن ... لباس سابغةٍ من نسج داوود
تكادُ أسيافُه تقضي على مهج ال ... أعداء في حربها من غير تجريد
ويصبحُ الرمح في يُمنه ذا هيفٍ ... ووجنة السيف تمسي ذات توريد
يمحو ببيض أياديه الكريمة ما ... للدهر من ظلماتٍ في الورى سودِ
أضحت به غزةٌ في عزّة فتحت ... باباً لنيل المعالي غير مردود
كذا طرابلس إذا صار نائبها ... بادَت نوائبها عنها الى البيد
وجاور البحر فيها مثله وربا ... على عجائبه بالفضل والجود
خلائقٌ مثل روض زهره خضِلٌ ... ونسمةُ الصبح فيه ذات ترديد
وطاب ريّاً كما طابت أرومته ... أصلاً تفرّع عن آبائه الصيد
وما تواضع إلا زاد رفعته ... علوّ مجد بفرع النجم معقود
وزان أيامه من بعدما عطلت ... بجوهرٍ تزدهي منه بتنضيد
فالتاج في رأسها راقتْ جواهره ... والشّنْف في أذنها والطوق في الجيد
يا حاجباً كان عين الله تحرسه ... من عين عادٍ مع المعدوم معدود
أخليت أفق دمشقَ من سناك فطر ... ف النجم ما بين تصويت وتصعيد
تبكي الكواكب بدراً كان يؤنسها ... بنوره ثم أضحى تحت جُلمود
أبقى بنيهِ رواةَ الجود عنه لنا ... فنحن في سندٍ فيه ابن مسعود
لا زال تسقي ثراهُ سُحبُ مغفرةٍ ... تسري له في طريقٍ غير مسدودِ

ولما كان الأمير بدر الدين - رحمه الله تعالى - بطرابلس نائباً أهدى الى الأمير سيف الدين أرغون شاه، وهو نائب دمشق، شيئاً من القلقاس وقصب السكر والمحمّضات، فكتبتُ أنا الجواب إليه عن ذلك وهو: يقبّل الباسطة الشريفة العالية المولوية الأميرية الكبيرية البدرية، لا زالت أياديها تنقل الغوارب، وتبعث نفوس محبيها على التوسع في نيل المآرب، وتخصّهم من تُحفها بما يجمع لهم بين لذة المناظرة والمآكل والمشارب، وينهي بعد دعاءٍ تفسحت له بين النجوم المضارب، وولاءٍ أعلامه خفّاقةُ الذوائب بين المشارق والمغارب، ورود المشرف الكريم أعلاه الله تعالى قرينَ ما أنعم به مولانا أعزّ الله أنصاره من هدايا طرابلس المحروسة، وتفضل بما يتوق به الى معاهدها المأنوسة، فوقف المملوك منه على روض تدبّج، وكافور بعنبر الليل تسبّج. ورأى بحر فضله وهو بأمواج سطوره مدرّج، وبهت لرصف سطوره التي كأنها نبت عذار في هامش الخدّ مخرَّج، فلثم المملوك منه موقع الاسم الكريم، وقبّل منه خدَّ كعابٍ وسالفة ريم، ووصل ما أنعم به من الهدية الكريمة، فمن قلقاس يقصّر ابن قلاقس عن نعته، ويعجز البحتري لو أنه قواف عن نحته، كل رأس منه يعود في طبخه كالمُخّ، وتمشي النفس إليه وهو في رقعة الخوان مشي الرخ، رؤوسه كرؤوس العدا المحزوزة غلّفتها الدماء والهضاب، وأصابعه كأصابع العذارى إذا انغمست في الخضاب، يتفرّى العنبر عن كافوره، وينصدع الديجور منه بصبح بدا في سفوره، وينزل في اللهاة ليناً ونعومة وانملاساً، ويزدرد الحلقوم لذاذة يخطفها من العيش اختلاساً، ويكاد من نضجه يقول لطاهيه وآكله إذا شبّها وقاسا:
وإن سألوك عن قلبي وما قاسى ... فقل قاسى، فقل قاسى
ومن قصب سكرٍ كل عود له دونة غصن البان، وصفرةٌ استعارها من العاشق إذا صدّ عنه الحبيبُ أو بان، وحلاوة ذوق لولاها لما شبّهه إلا بالمرّان، وما ئيةٍ كريق الحبيب الذي ردّ الردى وصدّ الصدى عن القلب الحرّان، فشكراً لجزرات الهند وما أهدت منه لأرض العجم والعرب، وعُجباً للونه وطعمه ووصفه فما يُدرى هل هو قصبُ ذهب، أو قصب ضرَب، أو قصب طرب، وبخٍ بخٍ لجُرعه التي تمر بالحلق والازدراد نائم لم يتنبّه، وزاهٍ زاه لحالاته المتناقضة فإن حزّه كحزّ رقاب العدا ومصّه كمص شفاه الأحبة، ومن أترجٍ أصفر وكبّاد أحمر، هذا لونه لون الوجل، وهذا له حمرة الخدّ الخجِل، هذا تحرّج متضرّج، وهذاك تهيّج وما تدبّج، لا تنهض بأوصافهما قوائم المسودات والمبيّضات، ولا يقربُ منهما الفواكه الحلوة لأنها تقول: ما لنا وللدخول في هذه المحمّضات، فالله يشكر هذه الأيادي التي جادت له بالبستان والقصر، ومتّعته وهو في الشام بالمحاسن التي ادّكر بها أوقات مصر، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وكان الأمير بدر الدين - رحمه الله تعالى - قد جهّز إلي من طرابلس ثوب صوف أزرق مربّعاً في غاية الحسن قرين كتاب منه. فكتبتُ أنا الجواب إليه أشكر إحسانه وهو: يقبّل الأرض، وينهي ورود المرسوم الكريم أعلاه تعالى، فوقف المملوك له قائماً، وقبّل شفة عنوانه اللعساء لاثماً، وتوهم أن هذا طيف خيال من فرحه وأنه كان حالماً، ووضعه على رأسه وعينيه، وفضّه فقبّل الأرض وكرر ذلك، كأن مولانا - أعزه الله تعالى - حاضر والمملوك بين يديه، ورآه متوّجاً بالاسم الكريم فعلم أن طالعه مسعود، وفاح أرجه فقال: هذا إما لطخ عنبر أو مس عود، ونزّه ناظره في تلك الحديقة التي تجدولت بالسطور وتطوّلت ببياض طرسها وسواد نقشها فقصر عنها كافور النهار ومسكُ الديجور، وعلم أن كاتبها حرسه الله تعالى قد تأني فيها وتأنق، ودبّجها بأنواع المنثور فقابل المملوك ما فيها من الجبر والصدقة بدعاء يرفعه، والملائكة بين سُرادق العرش تضعه، والله الكريم لعلمه بإخلاصه يستجيبُ له لما يسمعه، فإن المملوك ما توهّم أن العبد يرعى له المولى حقوقه، ولا أن المملوك يجري بين أيديهم ذكر السوقة، ووصل ما تصدق به مولانا ملك الأمراء أعز الله أنصاره من الصوف الأزرق المربّع:
فيا فخري به لما أتاني ... ويا شرفي به بين الصفوفِ
فزُرقته تُحاكي لازَورداً ... على لون السّما والبحر توفي
ولم أرَ قبله ثوباً رفيعاً ... غدا دِرعاً أردّ به حُتوفي

يقول مساجل الأثواب فخراً ... لقد أعيا الحريري وصفُ صوفي
يا له من مربّع يودّ المملوك لو وصفه بألف مخمّس، وذي لون أزرق يحسُن أن يكون سماءً تتبرّج فيها " الجواري الكُنّس " ، ما أحسن لونه الأزرق لأن البدر أهداه، وما أحكم نسجه فإن صانعه أتقن ما ألحمه فيه وسدّاه، وما أثقله من سحابه فإن الغمائم تخجل من أيادي من أسداه. كم نال المملوك به من مسرة بخلاف ما يزعمه المنجمون في التربيع، وكم استجلى من لونه الأزرق سوسناً فكأن الزمان به زمان الربيع، وتعجّب له من مربّع يُحكمه أهل التثليث ويطيبُ الثناء على صانعه وأصله خبيث، ونشره المملوك من طيّه فرآه بحراً وجندرته أمواجه، وقال: هذا خليج جاء من بحر لا ينحرف عن الجود معاده ومعاجُه، فكل أمره عجيب، وكل ما فيه غريب، حتى إنه في غاية اللين وإن كان يصنعه عُبّاد الصليب. وقد غفر المملوك به من ذنوب الدهر ما مضى وما بقي، وجعل تاريخ قدومه عيداً وما ينكر تاريخ المسعودي ولا الأرزقي، والله يوزع المملوك شكر هذه الصدقات التي عمّ سحابها وأغرق، وروى جودها عن نافع بن الأزرق، فقد نوّهت بقدره، ونوعت له أسباب جبره، ويُديم الله أيام مولانا ملك الأمراء لمماليك أبوابه وغلمانه، ويغفر بإحسانها لهم ذنوب زمانهم، فإنهم من ظلّه الوارف في أمانه، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
مسعود بن سعيدابن يحيى، سعد الدين المصري الجيزي المعروف بابن الحماميّة.
كان صوفياً أديباً، سمع من الحافظ العطار، وكان شيخاً حسناً، حسن المحاورة يكتب خطاً حسناً. وكان واسع الصدر، كثير الاحتمال، صحبَ بيدرا مملوك الأشرف، وكانت له صورة في أيامه، وكان مع ذلك متواضعاً، دخل عليه يوماً ولده، فأساء عليه الأدب وسبّه وشتمه شتماً قبيحاً، فلما فرغ قال له: ما نصطلح؟ وكتب له ورقة بأربعين درهماً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومولده تخميناً سنة تسع وثلاثين وست مئة.
وكانت وفاته بالجيزة.
أنشدني من لفظه شيخنا أثير الدين، قال: أنشدني المذكور لنفسه:
علام أُلامُ في حلو الشمائل ... ويعذُبُ في الهوى عذلُ العواذِلْ
غزالٌ هِمتُ من غزلي عليه ... إذا وافى بجفنَيْهِ يُغازِل
له وجهُ الغزالةِ حين تبدو ... ضُحىً من فوق غصنِ البان مائل
نبيّ جمالِ حُسن كم أقامت ... له الألحاظُ فينا من دلائل
مسعود بن أبي الفضائلعلم الدين المعروف بابن حشيش الكاتب.
نقل طرائق خاله معين الدين هبة الله بن حشيش وزير المعظم بن الصالح أيوب وكاتبه. وكان قد رتّبه كاتب الوزارة بدمشق مدة، ثم اجتذبه الأشرف موسى صاحب حمص وحظي عنده، وله فيه أبيات:
والله لولا الأشرف السلطانُ عنترة الجيوش
ما كان ابن حشيش بين الناس إلا كالحشيش
ولما توفي الأشرف صاحب حمص استمر علم الدين مسعود كاتب درج النواب بمعلوم من ديوان السلطان، ثم نقل الى كتابة الدرج بدمشق.
أقام مدة ثم إنه توفي سنة ست وتسعين وست مئة بدمشق، وسيأتي ذكر ولده القاضي معين الدين هبة الله بن حشيش.
مسعود بن قراسنقرالأمير سعد الدين بن الجاشنكير، أخو الأمير سيف الدين قطلوبك، وقد تقدم ذكره.
كان قد ولي الحجوبية بدمشق مدة، ثم إنه تولى القدس مدة.
ومات - رحمه الله تعالى - بدمشق ثاني شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وسبع مئة، ونقل بعد ست ليال الى القدس ودفن هناك في تربةٍ كان عمّرها له.
مسعود بن محمد بن محمدالإمام الفاضل قوام الدين ابن الشيخ برهان الدين ابن الشيخ الإمام شرف الدين الكرماني الحنفي.
قدِم دمشق في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، ونزل الخاتونية بالقصّاعين، وحضر عنده الجماعة، ودخل الى تنكز، وتردد إليه الطلبة، وكان يعرف الفقه والأصول العربية، وكان عنده بحث ونظر وجدال، ولوالده وجدّه مصنّفات في العلوم.
الألقاب والأنساب

ابن المشهدي
محمد بن عمر.
ابن مصدّق
الحسين بن عليّ.
ابن مُصعب
نور الدين أحمد بن إبراهيم.
المطروحيالأمير جمال الدين آقوش.
المطعّم
عيسى بن عبد الرحمن.
ابن المطهّر
الشيخ جمال الدين الحسين بن يوسف.

ابن معبد
الأمير علاء الدين علي بن محمود. وأخوه الأمير بدر الدين محمد بن محمود.
المظفر بن محمدابن جعفر الصّدر الكبير الأمير فخر الدين بن الطّرّاح، قد تقدّم ذكر أخيه قوام الدين الحسن بن محمد في مكانه من حرف الحاء.
كان عارفاً بتحصيل الأموال وعمارة الأرضين.
ولي نيابة واسط والحلة والكوفة مدة طويلة، وكان كريماً شجاعاً فاضلاً ينظم وينثر، وله خبرة تامة بمباشرة الديوان.
ولم يزل على ذلك الى أن قُتل ببغداد، وكان عليه ديوان أكثر من مئة ألف درهم، وصودر أهله وأقاربه وأتباعه، وكان يكاتب السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون، وقد مرّ طرف من ذكره في ترجمة أخيه قوام الدين.
مظفر بن عبد اللهابن مظفر بن قرناص الشيخ فتح الدين أبو الفتح بن بدر الدين بن قرناص الخزاعي الحموي.
سمع بدمشق من ابن أبي اليسر سنة سبعين وست مئة.
وحدّث عنه، وسمع منه ابن طويل وجماعة.
وكان من أعيان بلده وعدولها، وله نظم.
وولي نظر المعرّة، ونظر الجامع بحماة، وله مُلك يقوم بأمره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في نصف المحرّم سنة ثلاثين وسبع مئة بحماة.
الألقاب والأنساب
ابن المعلم
رشيد الدين الحنفي إسماعيل بن عثمان. وفخر الدين محمب بن محمد. وشمس الدين محمد بن يحيى. وتقي الدين يوسف بن إسماعيل.
ابن معضادمحمد بن ابراهيم.
ابن المغازيضياء الدين عيسى بن أبي محمد.
مغلطايالأمير علاء الدين الناصري الجمالي، المعروف أولاً بمغلطاي خُرُزْ، بضم الخاء المعجمة والراء وبعدها زاي.
كان من أكبر مماليك السلطان الملك الناصر محمد، أمير مئة مقدم ألف.
ولاه السلطان الوزارة بعد الصاحب أمين الدين في رابع عشري شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، كان أستاذدار وأمير منزل، وتولى الوزارة مضافة الى ذلك، ولم يجتمع ذلك قبله لغيره.
وكان خيّراً كريماً عديم الشر حليماً، لا يستكثر شيئاً على أحد، ولا يظلم مَن اعترف ولا جحد، وعمّر داراً ومدرسة وتربة على التقوى إن شاء الله مؤسسة، وذلك بدرب الملوخية داخل القاهرة. إلا أنه في الآخر تزلزلت عند السلطان مكانته، وخانته إعانته فمرض وتعلل وظمئ الى العافية وما تبلل، وكلّ حدّ سعده وتغلل، وتردى حلة الإدبار وتجلل، وتوجه الى الحجاز، وانتقلت حقيقة حياته الى المجاز.
وتوفي - رحمه الله تعالى - عائداً بعقبة إيلات سنة ثلاثين وسبع مئة، ولم يزل على الوزارة الى أن مات رحمه الله تعالى.
وكان أستاذ داره سيف الدين مازان وخزنداره سيف الدين طُراي هما المتحدثان في القطع والوصل والاستخدام والانفصال، ولما ولي الوزارة طلب الصاحب شمس الدين غبريال من دمشق الى مصر وجعله ناظر الدولة معه، فأقام معه الى أن سعى في عوده الى الشام بعد سنتين، وكان إذا توقف الأمير سيف الدين أرغون النائب في العلامة على توقيع براتب أو بإقطاع أو بشيء من غير ذلك، يقول الوزير: لأي شيء ما كتبت عليه؟ فيقال له: يا خوند، أستكثر ذلك على صاحبه، فيقول: هو ما هو كثير عليه، إقطاعه تعمل في السنة ألف ألف درهم، ويعلّم هو على التوقيع.
وكان قد حضر الى دمشق متوجهاً لكشف القلاع الحلبية في شهر رجب سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
مغلطايالأمير علاء الدين البيسري، أحد أمراء دمشق.
كان أميراً جيداً، وله معرفة بالطيور وأمراضها.
ودفن بالجبل، وصلى عليه نائب السلطة الأفرم بسوق الخيل، وكانت وفاته في ثاني جمادى الأولى سنة سبع وسبع مئة.
مغلطايالأمير علاء الدين بن أمير مجلس.
حضر الى دمشق من القاهرة، وكان في دمشق أمير مئة مقدم ألف، وكان الأمير سيف الدين يحبه ويكرمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن بجبل قاسيون.
مغلطايالأمير علاء الدين الخازن النائب بقلعة دمشق.
توفي بها في عاشر صفر سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن في تربته بسفح قاسيون.
وكان رجلاً جيداً محباً للخير، وله برّ ووقف، وخلّف تركةً جيدة.
مغلطاي بن قليج

ابن عبد الله، الشيخ الإمام الحافظ القدوة علاء الدين البكجري - بالباء ثانية الحروف وبعد الكاف جيم وراء وياء النسبة - الحنفي مدرّس الحديث بالظاهرية بين القصرين بالقاهرة.
شيخ حديث، يعرف القديم والحديث، ويطول في معرفة الأسماء الى السماء بفرع أثيث، وينتقي بمعرفته الطيب من الخبيث، ولي الظاهرية شيخاً للحديث بها بعد شيخنا العلامة فتح الدين بن سيد الناس، وعبث المصريون به لأجل ذلك، ونظموا الأشعار والأزجال والبلاليق والأكياس، ونفضوا ما عندهم في ذلك ولم يغادروا بقايا نفقات ولا فضلات أكياس.
وكان كثير السكون، والميل الى الموادعة والركون، جمع مجاميع حسنة، وألّف تواليف أتعب فيها أنامله، وكدّ أجفانه الوسنة.
ولم يزل على حاله الى أن ابتلعته المقابر، واستوحشت له الأقلام والمحابر.
وجاء الخبر الى دمشق بوفاته في سلخ شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
ومولده بعد التسعين وست مئة.
كان يلازم قاضي القضاة جلال الدين القزويني وانتفع بصحبته كثيراً، فلما مات الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس - رحمه الله تعالى - في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، تكلم القاضي له مع السلطان، فولاه تدريس الحديث بالظاهرية مكانه، وقام الناس وقعدوا لأجل ذلك، ولم يبال بهم.
ولما كان في سنة خمس وأربعين وسبع مئة وقف له الشيخ صلاح الدين العلائي رحمه الله تعالى على تصنيف له وضعه في العشق، وكأنه تعرّض فيه لذكر عائشة الصدّيقة رضي الله عنها، فقام في أمره وكفّره، واعتقل أياماً، فقام في حقه الأمير بدر الدين جنكلي بن الباب وخلّصه.
وكان قد حفظ الفصيح لثعلب، وكفاية المتحفظ، وسمع من علي بن عمر الوالي، ويوسف بن عمر الختني، ويوسف الدبابيسي، وغيرهم، ووضع شيئاً في المؤتلف والمختلف، وعمل سيرة مختصرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ النسائي بنفسه، ودرّس بجامع القلعة بالقاهرة بواسطة قاضي القضاة جلال الدين.
وكان ساكناً جامد الحركة يلازم المطالعة والكتاب والدأب، وعنده كُتب كثيرة وأصول صحيحة.
كتب إلي من القاهرة وأنا بدمشق في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة:
سلام كما ازدانت بروض أزاهرُ ... وذكرٌ كما نامت عيونٌ سواهرُ
تحية من شطت به عنك داره ... وأنت له عينٌ وسمعٌ وناظرُ
فيا سيد السادات غير مدافع ... ويا واحد الدنيا ولا من يفاخر
لك الشرف الأسمى الذي لاح وجهه ... كما لاح وجه الصبح والصبح سافر
لئن سهرت في المكرمات أوائل ... لقد شرفت بالمأثرات أواخر
سجايا استوت منهن فيك بواطنٌ ... أقامت عليهن الدليل ظواهر
يقبّل الأرض عبدٌ كتب هذه الخدمة عن ودّ لا أقول كصفو الراح، فإن فيها جُناحا ولا كسقط الزند، فربما كان شحاحاً، ولكن أصفى من ماء الغمام، وأضوا من قمر التمام، مستوحش من خدمتكم كثيراً، ومعلن بالثناء وإن كان المملوك حقيراً، ومستعرض خدمتكم وحاجتكم ليحصل له الشرف بمناجاتكم، ويتطلب منكم الدعاء بظهر الغيب، فإنه متقبل ولاسيما منكم بلا ريب.
والمملوك أجلّ خدمتكم أن يكتب إليكم لما يقدحه خاطره، ويسفره ناظره، لكون باعه قصيراً في هذا العلم وغيره، وجبركم أوجب هذا الإدلال.
فكتبت أنا الجواب إليه في ورق أحمر وهو:
سطورٌ تبدّت أم رياض نواضرُ ... تحار لها مما حوته النواظرُ
أتينا فخلناها أزاهر روضةٍ ... وما هي إلا في السماء زواهر
وما شاهدت عيني سواها رسالةً ... يغازلني منها حسانٌ سواحر
يحقق ما فيها من الحسن باطناً ... لأهل المعالي زخرفٌ وهو ظاهر
صناعة من تمسي البلاغة فوق ما ... يحاوله من نظمه وهو قادر
وما كل من عانى الترسّل ناثرٌ ... ولا كل من يعزى له النظم شاعر
أيا حافظاً قد ضاع عرْفُ حديثه ... وما ضاع بل قد أحرزته الدفاتر
تفضّلت بدأً بالتحية عالماً ... بأني عن غايات فضلك قاصر
وباعك قد أمسى مديداً على العلا ... وبحركَ في النّظم المنقّح وافر

إذا افتقر المنشي الى بعض فقرةٍ ... فعندك من حُرّ الكلام ذخائر
وما شئت إلا أن فضلك بعدما ... ترحلت يرويه عطاءٌ وجابر
فلا تلزمني بالجواب وبالجوى ... لبعدك يكفيني الحنين المسامر
وشوقي الى ما فاتني من فضائل ... لها تقصت عندي البحور الزواخر
وإني إذا ما غنّت الوُرق نادب ... وإني إذا نام الخليّون ساهر
فلا زالت العلياء حاليةَ الطُّلى ... بألفاظك الحسنى فهنّ جواهر
يقبّل الأرض التي تضع الملائكة بها الأجنحة، ويدّخر بها من بركات الدعاء نفائس الأسلحة، تقبيل من عدم أنسه، وفقد من السرور فصله ونوعه وجنسه، وعلم أن بهجته من الزمن كانت عارية فاستردّها، وكذلك العواري. وتبيّن أن الفراق جعل القلب مملوك الجوى والعبرات جواري، وتحقق أن الدهر ناقد فأعدم كل مسلم للنوى شرط البخاري.
وكنا كما نهوى فيا دهرُ قُلْ لنا ... أفي الوَسعِ يوماً أن نعود كما كنّا
على أن المملوك يصبّر نفسه على فراق مولانا ويتجلد، ويعلل قلبه باجتماع الشمل فإنه ألِف العَود وتعوّد، ويحمل الأمر في هذا البين على الظاهر ولا يتأوّل، ويتمسّك في بُعده بما قاله الأول:
أأحباب قلبي والذين بذكرهم ... وترداده طولَ الزمان تعلّقي
لئن غاب عن عيني بديعُ جمالكم ... وحار على الأبدان حكمُ التفرّق
فما ضرّنا بُعدُ المسافة بيننا ... سرائرُنا تسري إليكم فنلتقي
وينهي ورود المشرفة الشريفة، لا بل كنز الفصاحة التي لو أنفق البليغ مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّها ولا نصيفه، بل كعبة الحسن التي لا تزال الألباب بها طائفة، والعيون مطيفة، لا بل الغادة الحسناء التي تقرر بها الاستحسان في مذهب أبي حنيفة، فوجد مقام الجواب عنها ضنكاً، ووقف لها واستوقف وبكى واستبكى وقال:
لك الفضل سبّاقاً به كلَّ غايةٍ ... وما لك فيه من شبيهٍ ولا مثلِ
وقد كنتُ مسعوداً لو أني سابق ... بكبْتي عن شوقي ولكن بكت قبلي
وقد شجع المملوك نفسه وأرسل الجواب في هذا الورق الأحمر لأمر يرجو فيه خيراً، ولأن الحمرة دليل الخجل إذا نشرت بين يدي مولانا الذي حمد البيان عند صباحه سُرىً وسيراً، ولأنها متى أوردت حديث بديع قال لها حفظ مولانا ونقده: لا يصح حديث جاء فيه ذكر الحُميرا، ولمولانا علوّ الرأي في الإتحاف بهذه الفوائد، والمحاسن التي لا تزال غصون رياضها للمتطفلين على الآداب موائد، والله تعالى يخرق ببقاء مولانا العوائد بمنّه وكرمه.
مغلطايالأمير علاء الدين المرتيني، بفتح الميم وسكون الراء وبعدها تاء ثالثة الحروف وياء آخر الحروف، ونون.
ولي نيابة قلعة دمشق مرات، وولي الحجوبية بدمشق أيضاً وغير ذلك.
وتوفي بقلعة دمشق نائباً في شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق، وكان قد جاء الخبر بوفاة ابن له بالقاهرة بأيام قلائل، فمات رحمه الله تعالى عقيب ذلك.
وكان قد ولي قلعة دمشق في وقت جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وذلك بعد الأمير سيف الدين بنغجار.
مغلطايالأمير علاء الدين أمير آخور السلطان الملك الناصر حسن.
كان شديد الباس قويّ النفس في دفع الإلباس، لا يصبر على ذلة، ولا يصاحب إلا العزمة المشمعلة، كثير الحسد، لا يرحم عدوّه ولو كان بين ماضغي أسد. وكان يتنفس الصعداء في حق الدولة، ويظن أنه فارس الجو وصاحب الجولة، ويرى أنه أحق بها منهم وأجدر، وأنه أولى بذلك وأقدر، فمازال يعمل على إبعاد من كرهه منهم، وذهاب الحكم في الأمر والنهي عنهم، وساعدته الأقدار على مراده، وحكم فيهم بيض سيوفه وسمر صعاده، وزاد في التشفي وإظهار حقوده، وتلظّت نار غضبه بوقوده:
حتى لو ارتشق الحديد أذابه ... بالوقد من أنفاسه الصعداء
ثم إن مدة حكمه ما امتدت، وشدة جبروته ما اشتدت، فكبا جواد سعده في وسط ميدانه، وخرّ بناؤه المشمخر بعد علوّ أركانه، فانقلبت الدولة عليه كما قلبها، وجُلبت البلية إليه كما جلبها، ونزل من الثريا الى الثرى، وكان أمام الملوك فأصبح وراء السوقة من الورى، وانحط منهبطاً الى سيدوك، وقال له القدر: هذا القدر الذي لا يعدوك:

فيا لها من محنة عاجلت ... قريبةُ العرس من المأتم
ثم إنه أُفرج عنه من اعتقاله، وحكم الدهر له بانتقاله، فما فرح بالفضاء حتى عثر بالقضاء، وناح عليه حمام حَمامه، وبكاه الغيث بأجفان غمامه.
وتوفي بدمشق رحمه الله تعالى عاشر شهر رمضان سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
كان يشاقق الأمير سيف الدين منجك الوزير، ويسمعه الكلام الفجّ في كل وقت، وكان الوزير يتقيه، فلما توجه الأمير بيبغاروس الى الحجاز، عمل مغلطاي على إمساك الوزير، لأنه انفرد به، وقلب ذلك الحزب وأباده، وسيّر الى الطريق وأمسك النائب بيبغا، وهو أخو الوزير، وتفرّد بتدبير الحال، وطلع من الإصطبل وصار رأس نوبة، وسكن الأشرفية. وكان قد تزوج بابنة الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام، وأخرج الأمير سيف الدين شيخو الى الشام على أنه يتوجه الى طرابلس، ثم إنه سيّر الى دمشق فأمسكه، وجهّزه الى الاسكندرية، وأخرج الأمير علاء الدين علي المارداني الى دمشق، وأخرج غيره، وأراد إمساك أحمد الساقي نائب صفد، فجرى ما ذكرته في ترجمته، واستوحش الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب حلب، فعمل على إمساكه، وتخبّط أمر الشام ومن فيه، وتعب الناس به، وصاروا منه في أمر مريج، وزاد في الإقدام على القبض والنقل، وإخراج الأمراء من الديار المصرية.
ولم يزل شرّه يتفاقم، وضرره يتعاظم، الى أن خُلع السلطان الملك الناصر حسن في يوم الإثنين ثامن عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وذلك بعد ركوبهم الى قبة النصر، وأجلسوا السلطان الملك الصالح صالحاً على الكرسي، ثم إن السلطان أمسكه في رابع يوم من مُلكه، وهو ثاني شهر رجب الفرد، وأمسك معه جماعة، منهم الأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري، وجُهّزوا الى الاسكندرية، وفي مغلطاي يقول القائل:
سلطاننا في مغلطا ... ي أطاع أمرَ الخالقِ
وشفى القلوب بحبسه ... وأذلّ كلَّ منافقِ
وخبيصةَ البحر اغتدى ... وخراه منه نقانقي
ولم يزل مغلطاي معتَقلاً الى أن أفرج السلطان الملك الصالح عنه وعن الوزير منجك، فوصل الأمير علاء الدين مغلطاي الى دمشق في حادي عشري شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وسبع مئة متوجهاً الى طرابلس ليكون بها مقيماً بطّالاً، وأقام بها قليلاً، فحصل له ضعفٌ وتعلّل، فسأل من السلطان أن يحضر الى دمشق ليتداوى بها ويقيم يها، فرسم له بذلك، فحضر الى دمشق وأقام بها أياماً قلائل، وهو في مرضه الى أن مات في تاريخه المذكور، رحمه الله تعالى.
وكانت مدة حكمه ثمانية أشهر ويومين، لأنه أمسك الوزير منجك في رابع عشري شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وأمسك هو في ثامن عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وذلك ثمانية أشهر، لا بل ثمانية أيام حسوماً.
وقلت أنا في أمره لما أُمسك:
مَغالطُ مغلطاي مشتْ قليلاً ... وروّجها الزمان له فراجتْ
وعاجتْ عن قليلٍ واضمحلّت ... وما جاءت بخير حين ماجت
اللقب والنسب

ابن المغيث
إسماعيل بن عبد العزيز.
ابن مكتومتاج الدين أحمد بن عبد القادر.
ابن المكرّم
أبو بكر بن محمد. وجمال الدين محمد بن مكرّم.
ابن مكيمحمد بن محمد. وأخوه أحمد.
المقصّاتي المقرئ
أبو بكر بن عمر.
المقدسيبهاء الدين إبراهيم بن عبد الرحمن.
المقريزيمحي الدين عبد القادر بن محمد.
المقاتليفخر الدين عثمان بن بلبان.
ابن مقاتل الزجّال
علي بن مقاتل.
ابن مقلّد
حاجب العرب علي بن مقلّد.
بني المُغَيزل
جماعة: منهم زين الدين أحمد بن محمد، وفخر الدين عبد الله بن أحمد، وبهاء الدين عبد الصمد بن عبد اللطيف، وفخر الدين محمد بن عبد الكريم، وصلاح الدين يوسف بن محمد، وناصر الدين عبد الرحمن بن أحمد.
ملك آصالأمير سيف الدين.
كان أولاً بالديار المصرية جاشنكيراً، وقدم الى دمشق، ولم يزل على حاله، وباشر شدّ الدواوين بدمشق. ثم إنه سأل الإعفاء، فأجيب الى ذلك، وباشر عمارة التربة التي لأرغون شاه تحت قلعة دمشق. وكان قبل ذلك كله قد باشر نيابة جعبر، وجرت له واقعة مع العرب، ونجّاه الله منها، ثم إنه عاد الى دمشق.

ولما أمسك السلطان الملك الناصر حسن الوزير منجك، أمر بإمساك الأمير سيف الدين ملك آص والأمير شهاب الدين بن صبح، لأنهما اتّهما بميلهما الى الوزير، فأمسكا بدمشق في يوم الخميس عشري القعدة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، واعتُقلا في قلعة دمشق.
ولما كان في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة أفرج عنهما، فأعيدا الى طبلخاناه بعد ذلك، فأقام الأمير سيف الدين ملك آص على حاله.
ولما حضر بيبغاروس الى دمشق انتمى إليه ملك آص، وبقي في خدمته، وندبه في أشغال ومهمات، فلما وصل السلطان الملك الصالح صالح الى دمشق أمر بإمساك جماعة، منهم الأمير ساطلمش الجلالي، والأمير زين الدين مصطفى البيري، والأمير علاء الدين علي بن البشمقدار، والأمير سيف الدين ملك آص، والأمير حسام الدين حسام مملوك أرغون شاه، وذلك في يوم الأربعاء خامس شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وتوجهوا بهم الى الإسكندرية واعتُقلوا بها جميعاً. ولم يزالوا بها.
ولما كان في يوم الأربعاء من شهر رجب الفرد سنة أربع وخمسين وسبع مئة وصل الى دمشق الأمير سيف الدين ملك آص والأمير سيف الدين ساطلمش الجلالي ومن كان معهما في الحبس، وقد أفرِج عنهم ورُسم لهم بالإقامة في دمشق بطّالين.
ولم يزل ملك آص في دمشق بطّالاً الى أن كتب له الأمير علاء الدين أمير علي المارداني نائب الشام وسأل من السلطان أن يرتّب له على الأموال الديوانية مرتّب، فرسم له بذلك، ورتّب مقدار شهرين.
ثم إنه توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشر شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة، ودُفن رحمه الله تعالى في تربته المليحة المجاورة لداره بجوار جامع يلبغا في سوق الخيل.
ملِكْتَمُر
الأمير سيف الدين الحجازي الناصري، أحد المقدّمين أمراء الألوف، أصهار السلطان الملك الناصر محمد، أظنه تزوّج بابنة السلطان التي كانت أولاً مع الأمير سيف الدين طغاي تمُر الناصري.
كان في حركاته أشبه شيء بالقضيب إذا ماس، وهبّ به نسيم السحر بارد الأنفاس، ووجهه كالبدر إذا بدا، والشمس إذا رام الحائر بها الهدى، إذا التفت فلا تلتفت الى الغزال النافر، ولا تحتج مع جبينه الى الصبّاح السافر، مع جود من أين للغمام كرمُه إذا سفح، أو البحر نواله إذا طفح، وخلق كأنه نسيم ورْد هبّ في سحره، وجرّ ذيله المبلول على زهره، فهو كما قال أبو تمام في وليده وتغزّل به في قصيده:
مليٌّ بأن يسترقّ القلو ... بَ على هزله وعلى جدّه
وأن يوجد السّحر في طرفه ... وأن يُجتنى الوردُ من خدّه
يشفّ القلوب وإن أكذبَ ... الظنون وأخلفَ في وعده
بما أشبه البدرَ من حُسنه ... وما شاكل الغصنَ من قدّه
وألسنةُ الحمد مجموعةٌ ... على شكره وعلى حمده
وجرتْ له بعد أستاذه الناصر أمور، وكُسف بدره وسط الديجور، وغرُب نجماً، ثم بزغ في سماء السعادة قمراً تمّا.
ولم يزل بعد ذلك في مدارج صعود، ومطالع سعود، الى أن غُصّ من بريق السيف بريق، وأمسكه الأجَل في المشيق.
وكانت قتلته في حادي عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
ولم يكن عند أستاذه الناصر أحدٌ في منزلته ولا مَن يُدانيه في علوّ مرتبته.
قال لي القاضي شرف الدين النشّو: لو أن هذا الحجازي يلازم خدمة السلطان ويواظبها أخذ منه شيئاً كثيراً الى الغاية.
وقال لي الشيخ شهاب الدين أحمد العسجدي: اجتمعتُ به فرأيت على ذهنه مسائل فقهية يسأل عنها، وذهنه جيّد.
وقال لي كاتبه مجد الدين رزق الله: إنه يلعب بجميع الملاهي، بالعود والدفّ وغير ذلك. وحكى لي أنه يصفُّ له ثلاثة أرؤس خيلاً وأن هيهمز نفسه فيعدّيها في الهواء الى الأرض من ذلك الجانب من غير أن يضع يده على شيء منها.

ولقد رأيته وهو في القاهرة وفي صلاة الجمعة مع السلطان بجامع قلعة الجبل، وما يكاد يستقرّ على الأرض لا قائماً ولا قاعداً، لا يزال في حركة يتموج وينعطف كالغصن، وكان من محبة السلطان فيه ما يدعه ينزل يوم السبت الى الميدان للعب بالكرة، بل يدعه ينزل يوم الثلاثاء ويلعب بالكرة هو وخاصيّته من الجمداريّة الذين يألف بهم ويميل إليهم من مماليك السلطان، وكان يقول له: يا

ملكتمر
لما تلعب تبرقَع حتى لا تؤثّر الشمس في وجهك، ولا يدعه يحضر الخدمة إلا في بعض الأوقات القليلة حتى لا يراه أحد.
وكان الحجازي في جملة من أمسكهم قوصون وحبسهم في واقعة المنصور أبي بكر، ولما حضر الناصر أحمد من الكرك أخرجه م الحبس، وقتل قوصون، وأبان في واقعة الكامل عن فروسية ورُجلة، على ما تقدّم في ترجمة الأمير شمس الدين آق سنقر.
وكان الحجازي أحد من قام بدولة الملك المظفّر حاجّي، ولم يزل في غاية العظمة والوجاهة الى أن تنكّر له الملك المظفر بسبب لعب الكرة وتحزّبهم، وكأنه أضمر الغدر، فجاء أحد من اتفق معه الى السلطان وعرّفه أنهم قد عزموا يوم الإثنين عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين على الركوب الى قبة النصر ليفعلوا كما فعلوا بالملك الكامل، فطلبه السلطان الملك المظفّر عشية الأحد العصر، وأمسكه أمسك الأمراء الستة المذكورين في ترجمة آقسُنقر، ويقال إن الأمير سيف الدين منجك وغيره من الخاصكية ضربوه بالسيوف وبضّعوه، فقال الأمير شمس الدين آقسنقر وقد أمسكوه أيضاً: هذا المسكين ما هو مسلم؟ فضربوه بالسيوف وقطّعوه.
وكان الأمير سيف الدين ملكتمر شاباً طويلاً حسن الوجه، خفيف الحركة، زائد الكرم، قلّ من يحضر بين يديه ويخرج بغير خلعة ولا إنعام سواء كان ربّ سيفٍ أو قلم أو ربّ صناعة. وحكى لي بعض الفقهاء أنه وهبه مرة ألف دينار ولم يجتمع به إلا مرة واحدة.
وكان أخيراً قد لفّ عليه أولاد الأمراء يركبون معه وينزلون في خدمته ويأكلون على سماطه ويأخذون إنعاماته وإطلاقاته، ولهذا أُمسك معه جماعة منهم واعتُقلوا، وكان السبب في إمساكه وإمساك غيره، شجاع الدين أغرلو المقدّم ذكره.
وقلت أنا فيه رحمه الله تعالى:
بغا أغرلو على الحجازي ... وكان للمُلك كالطراز
مضى شهيداً وعاش هذا ... يرتع في اللؤم والمغازي
فمصرُ والشام في التها ... ب البرق اليماني على الحجازي
ملكتَمُر
الأمير سيف الدين السعيدي.
أظنه الذي جهّزه القان بوسعيد الى الملك الناصر محمد بن قلاوون هو والأمير سيف الدين أرغون شاه، وحضر في وقت الى الشام وأقام به ثم طُلب الى مصر وأقام بها الى أن أمسك الأمير سيف الدين صرغتمش، فرسم السلطان الملك الناصر حسن بإخراجه الى قلعة المسلمين.
فخرج وهو مريضٌ، فلما وصل الى حماة توفّي الى رحمة الله تعالى في العشر الأول من ذي القعدة سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
ملكتمرالأمير سيف الدين المعروف بالدم الأسود.
كان أمير ستين فارساً بدمشق، وسكن بالعقيبة عند حمام الجلال.
توفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وسبع مئة.
اللقب والنسب
ابن الملاق
محمد بن علي.
ابن ملّي
الشيخ نجم الدين أحمد بن محسن.
المنجّا بن عثمان
ابن سعد بن المنجا بن بركات بن المؤمّل، العالم العلامة المفتي زين الدين أبو البركات ابن الصدر عز الدين ابن الإمام الكبير الأوحد العلامة وجيه الدين التنوخي المعري الأصل، الدمشقي المولد، الحنبلي.
حضر على جعفر الهمداني، وابن المقيّر، وسالم بن صصرى، وسمع من السخاوي، والتاج القرطبي، والرشيد بن مسلمة، وتفقّه على أصحاب جدّه، وعلى أصحاب الشيخ الموفّق، وقرأ الأصول على كمال الدين التفليسي وغيره، وبرع في المذهب.
وتفقّه عليه ابن الفخر، وابن أبي الفتح، وابن تيمية، وجماعة من الأئمة.
وشرح كتاب المقنع في الفقه شرحاً جيّداً في أربع مجلّدات، وفسّر الكتاب العزيز ولكنه لم يبيّضْهُ، وألقاه كلَّه دروساً، وشرع في شرح المحصول ولم يكمله واختصر نصفه. وكانت له في الجامع الأموي حلقة للاشتغال والفتوى نحو ثلاثين سنة متبرّعاً. وكان يصوم الخميس والإثنين، ويذكّر من حين يصلي الصبح الى أن يصلي الضحى.

وكان له مع الصلوات تطوّعٌ كثير، وفي آخر الليل تهجّد، ويفطّر الفقراء عنده في بعض الليالي وفي شهر رمضان كله.
وسمع صحيح مسلم على السخاوي.
وكان له مُلكٌ وثروة وحرمة وافرة، وسأل الناس الشيخ جمال الدين بن مالك أن يشرح لهم ألفيته فقال: زين الدين يشرحها لكم. وكان قد قرأ على ابن مالك وأجاز لشيخنا الذهبي جميع مرويّاته.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
اللقب والنسب

المنبجي
الأديب بدر الدين محمد بن عمر. ومحمد بن خلف.
ابن منتابشمس الدين محمد بن داود.
منتصر بن الحسن بن منتصرالشيخ ضياء الدين الكناني العسقلاني المحتد، الأدفوي المولد والدار، خطيب أدفو.
سمع من الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، وأبي عبد الله بن النعمان، وغيرهما. وقرأ الفقه، ثم ورد الى البلاد فقيرٌ من السعودية فصحبه وتصوّف، وعمّر رباطاً بأدفو.
قال كمال الدين الأدفوي: وكان كثير المروءة، كثير المكارم والحلم، يبذل ماله ونفسه وجاهه في حوائج الناس. وكان صحيح الاعتقاد وكان كل يوم جمعة يصلي الصبح بغلس، ويخرج الى المقابر يزور ويقرأ ويدعو، لا يخلّ بذلك ولا ينقطع عن الصلوات الخمس بالجماعة إلا لضرورة. وكان يحفظ مسائل من الفقه والكلام، ويستحضر تواريخ وتراجم الناس وأنسابهم، وكان من أحسن الناس خطابةً يُشجي سامعه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وقال: قرأت عليه جزءاً من الشّفاء.
اللقب والنسب
بنو المنجا
عز الدين المحتسب محمد بن أحمد. وقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا. ووجيه الدين محمد بن عثمان. وشرف الدين محمد بن المنجا. وعز الدين محمد بن أحمد ناظر الجامع.
ابن المنذرفخر الدين محمد بن المنذر.
منصور بن جمّاز
منصور بن جمّاز بن شيخة الحسيني صاحب المدينة الشريفة النبوية.
قتل رحمه الله تعالى سنة خمس وعشرين وسبع مئة في رابع عشر شهر رمضان، قتله في البرية شابٌ من أقاربه.
وكان قد كبر وأسنّ وشاخ، وله مدة في إمرة المدينة من حياة والده، لأن والده كان قد كبر وعجز، وكان يخطَب لهما معاً الى أن مات والده، واستقر في إمرة المدينة بعده ولده الأمير بدر الدين كُبيش.
منصور بن عبد الكريمابن أحمد الشيخ الصالح أبو أحمد السَراوي المعروف بابن العجمي وبابن الحمصي.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان شيخاً صالحاً أقام بدمشق مدةً في بستان جوار دار الطُعم، حضرت يوماً عنده فذكر أن والده كان تاجراً من أهل تبريز، وأنه قرأ القرآن ولازم التجارة مع والده الى أن بلغ عشرين سنة، فترك ذلك وحصل له إقبال على الطاعة. وجاور وحضر واقعة حمص سنة ثمانين وست مئة، ورأى الملائكة فيها، وأنه نظم قصيدة على حرف التاء أكثر من ألفي بيت في السلوك، قال: وأنشدني بعضها، وكان اجتماعي به في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
ثم إنه بعد ذلك انتقل الى حمص، وتولى بها مشيخة الخانقاه الى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
اللقب والنسب
المنصور
جماعة: صاحب ماردين غازي بن قرا أرسلان.
والمنصورحسام الدين لاجين.
والمنصورأبو بكر بن محمد.
والمنصور الكبيروالد المملوك سيف الدين قلاون.
ابن منعةمحمد بن أحمد.
المنفلوطيشرف الدين محمد بن عبد المنعم.
منكلي بُغا
الأمير سيف الدين الناصري.
كان سلحداراً من أكبر خاصكية السلطان الملك الناصر محمد، وكان شكلاً مليحاً طوالاً، تامّ الخَلق كبير الذقن، وكان من خوشداشية الأمير سيف الدين أرغون النائب، وهو أمير مئة مقدّم ألف، وزوّجه السلطان أخيراً بزوجته بنت بُرقطاي قريب القان أزبك، فأقامت عنده قليلاً.
وتوفي عنها في سنة ثلاثين أو أوائل إحدى وثلاثين وسبع مئة.
ثم تزوّجها الأمير سيف الدين موصون أخو قوصون.
منكلي بغا
الأمير سيف الدين الفخري الناصري.

كان في جملة أمراء دمشق، ولما توجّه العساكر الى مصر في نوبة السلطان أحمد، توجه هو صحبة الفخري، وأقام في القاهرة، ثم جعل أمير جاندار.
وكان حسن الشكل بسّاماً، فيه خيرٌ ومروءة وتعصّب لمن يخدمه.
ولم يزل على ذلك الى أن رُسم له في أيام المظفّر حاجي بنيابة طرابلس، فحضر إليها على البريد ووصل الى دمشق في ثاني عشري المحرّم سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحضر معه الأمير شجاع الدين أغرلو، ليقرّه في النيابة ويعود، فأقام بها نائباً الى أن جرى للأمير سيف الدين يلبغا ما جرى من هروبه وإمساكه، على ما يأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، فطلب منكلي بغا الفخري الى مصر، وجاء في طلبه الأمير سيف الدين طشبغا الجمدار، ووصل الى دمشق وتوجّه منها الى القاهرة في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وأقام بمصر، من أكبر أمراء المشور، وزادت عظمته لما أمسِك الأمير سيف الدين منجك الوزير، لأنه هو الذي عضد الأمير علاء الدين مغلطاي أمير آخور على إمساك الوزير.
ولم يزل في زيادة عظمة الى أن خُلع الملك الناصر حسن وتولى الملك الصالح صالح، فأُمسك منكلي بغا المذكور في ثاني شهر رجب من السنة المذكورة.
ولم يزل في الاعتقال بالإسكندرية الى أن وصل الخبرُ الى دمشق بوفاته في جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. ووجدَت له أموال عظيمة.
منكلي بغاالأمير سيف الدين.
أنشأه الملك الصالح إسماعيل، وصار من أكبر الخاصكية، وحضر من مصر ليتوجّه بالأمير بدر الدين أمير مسعود بن الخطير في أيام الملك المظفّر حاجي ليرتّبه في نيابة طرابلس ويعود، وأحضره من غزة وتوجه به الى طرابلس وأقرّه فيها وعاد الى دمشق فأقام بدمشق مدة ثلاثة أيام.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر رجب سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
منكبرسالأمير الكبير ركن الدين أبو سعيد الجمالي التركي الساقي، وأحد غلمان الأمير جمال الدين إيدغدي العزيزي.
كان بطلاً شجاعاً مهيباً من أمراء الدولة المنصورية والأشرفية، ولي نيابة غزة في دولة المنصور لاجين.
سمع منه شيخنا الذهبي بحضرة ابن الظاهري، وشهد الوقعة، فجاءته ضربة في وجهه، فصرخ في أصحابه وحمل بهم في التتار، فجاءه سهمٌ واشتغل عنه أصحابه، ثم عادوا إليه فوجدوه مستنداً الى رمحه، فلما سقط عجزوا عن دفنه.
وكانت قتلته في سنة تسع وتسعين وست مئة.
منكوتمرالأمير سيف الدين مملوك السلطان حسام الدين لاجين.
كان عند مخدومه جزءاً لا يتجزّا، ولدناً صلبت قناته وإن لام مهَزّا، لا يخرج عما يراه، ولا يضرب به جبلاً إلا قطعه وفراه، قد حكم عليه وملكه، وأدار عليه فلكه، وهو لا يرى خلافَه، ولا يرشف إلا سُلافه، فكان عنده:
نافذ الأمر لو يجير من النق ... ص بدور الدّجي لدام التّمام
فسلك في النيابة ما لا يجب، وترك كل أمير من الأكابر وقلبه من الخوف يجب، وجسّر أستاذه على إمساك جماعة، وهوّن عليه أمانيّه وأطماعه، فتغلّثت الخواطر من الأمراء الأكابر، وتوحّشوا بعد الأنس وأيقنوا أن السجون لهم مقابر. فقتلوا السلطان، كما مرّ في ترجمته، وجرّوا هذا ملكتمر على حزّ رقبته، على ما تقدّم في ترجمة لاجين، وذلك سنة ثمان وتسعين وست مئة.
وبنى المدرسة التي داخل القاهرة، ودرّس بها في شوال سنة سبع وتسعين وست مئة. وكان قد ولي كفالة الممالك بالقاهرة بعد إمساك قراسُنقر وجماعته في منتصف ذي القعدة سنة ست وتسعين وست مئة.
الألقاب والأنسابابن مُنيّر
فخر الدين عبد الواحد بن منصور.
ابن مهاجرالشاعر أحمد بن عبد الله.
ابن المهتارمجد الدين أحمد بن محمد. ومجد الدين عليّ بن يوسف. وناصر الدين محمد بن يوسف.
المهدي

كان قد خرج بعض الزنادقة من مدينة حماة وتوجّه الى بلاد النُصيرية ودخل بلد جبلة، وورد الى دمشق محضرٌ من طرابلس، مضمونه أنه لما كان يوم الجمعة ثاني عشري ذي الحجة سنة سبع عشرة وسبع مئة بعد صلاة الجمعة حضرت النصيرية الكفرة الفجرة الى مدينة جبلة، وعُدّتهم أكثر من ثلاثة آلاف، يقدمهم شخص تارة يدّعي أنه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله تعالى، وتارة يدّعي أنه علي بن أبي طالب فاطر السماوات والأرض، وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله، وأن البلاد بلاده، والمملكة الإسلامية مملكته وأن المسلمين كفرة، وأن دين النصيرية هو الحق، وأن السلطان الملك الناصر محمد صاحب البلاد مات من ثمانية أيام، واحتوى المذكور على عقول جماعة من مقدّمي النصيرية، وعيّن لكل إنسان منهم تقدمة ألف، ونيابة قلعة من قلاع المسلمين من المملكة الإسلامية، وفرّق عليهم إقطاعات الأمراء والحلقة، وافترقت الطائفة المذكورة ثلاث فرق على مدينة جبلة، فرقة ظهرت قبلي البلد بالشرق فخرج عليهم عسكر المسلمين فكسّرهم وقتل جماعة عدتهم مئة وأربعة وعشرون، وقتل من المسلمين نفر يسير، وهربت الفرقة المذكورة، وجرح من المسلمين منهم جمال الدين مقدّم العسكر بجبلة. وفرقة ثانية ظهرت قبلي جبلة بالغرب على جانب البحر، وفرقة ثالثة ظهرت شرقيّ جبلة بشمال، وكثروا على المسلمين وكسروهم، وهجموا على جبلة، ونهبوا الأموال، وسبوا الأولاد، وهتكوا النساء، وقتلوا جماعةً من المسلمين بجبلة، ورفعوا أصواتهم لا إله إلا عليّ، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وسبّوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وبقي الشيوخ والنساء والصبيان يصيحون وا إسلاماه، وا سلطاناه، وا امراءاه، ولم يكن لهم مُنجد في تلك الحالة إلا الله تعالى، وجعلوا يتضرّعون ويبتهلون. وجرى في هذا اليوم أمر عظيم.
ثم إن الشخص المذكور جمع الأموال المذكورة المأخوذة وقسّمها على مقدميهم، وقال إنه لم يكن للمسلمين ذكرٌ ولا خبرٌ ولا دولة، ولو كنت في عشرة بقضيبٍ واحد لا بسيفٍ ولا بترس ولا برمح، انتصرتُ عليهم وقتلتهم، وأظهر دين النصيرية ونادى في البلاد المقاسمة عليهم بالعشر، وأمر بخراب المساجد، وجعلها خمّارات، وأمسك النصيرية جماعة من المسلمين بجبلة، وأرادوا قتلهم، وقالوا لهم: آمنوا بمحمد بن الحسن، وقولوا لا إله إلا عليّ، فمن قالَها حقن دمه وصان ماله وأعطي فرماناً.
وكانوا في اليوم المذكور قبل دخوله جبلة كبسوا ذوق سليمان التركماني وذوق تركمان من جهة حلب، وأخذوا أموالهم وأولادهم وحريمهم، وكان الغالب على الجمع المذكور طائفة العبديين، ومنهم الشخص المذكور، وطائفة من الحرانية وجماعة من بلد المرقب والعليقة، والمنيعة. وفي عشية اليوم المذكور، وصل الأمير بدر الدين التاجي مقدم عسكر اللاذقية، وبات يحرس جبلة وأولاده حضور معه، ومعه العسكر، وكان قد عزم المذكور على دخول جبلة مرة ثانية، والشخص المذكور في جامع بجبلة بخيله ورجاله بقرية اسمها الصريفة من عمل جبلة. وقد ثبت المحضر المذكور على قاضي جبلة، وقيل إن المذكور كان يريهم خياماً وعساكر في البحر ويقول لجمعه هؤلاء الملائكة يقاتلون معكم وينصرونكم. ثم إن العسكر الطرابلسي ركب معهم إليهم فأبادوهم، وقتلوا منهم جماعة وقُتل كبيرُهم المذكور، وأراح الله منهم.
مهديالأمير عز الدين والي حلب.
ذُكر أنه كان وتّاراً يصنع الأوتار بحلب ويبيعها للقطّانين، ثم إنه توصل وعمل الجندية، ثم أخذ عشرة، وعمل ولاية حلب، ثم شدّ الدواوين بحلب.
وكان حسن الشكل مليحَ الذقن والحواجب، أسود الشعر، حلو العبارة، عليه قبول.
حضر مع بيبغاروس الى دمشق، ثم إنه أُمسِك مع من أمسك وحضر مع الجماعة الذين جُهّزوا مع الأمير فارس الدين ألبكي، واعتُقلوا بقلعة دمشق.
ثم إنه أخرج ووسّط في ثالث شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة في سوق الخيل هو ونائب صفد برناق وحاجي أخو أحمد نائب صفد وأسنبغا الرسولي نائب جعبر وأسنَ بك بن خليل الطرقي، على ما تقدّم في ترجمة ألطّنبغا برناق.
مهلهل بن سعيدالفقيه نجم الدين الخليلي.
كان شاهداً عاقداً فقيهاً مدرّساً بالفرخشاهية الشافعية ومدرسة سبع المجانين، وكان ضعيف البصر، معروفاً بخدمة القاضي شرف الدين بن فضل الله.

توفي رحمه الله تعالى في سادس عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة.
ابن مهمندار العربيوسف بن سيف الدولة.
مهنا بن عيسى بن مهناأمير آل فضل عرب الشام. من بيتٍ أولهم من رجل من طيّ بن سلسلة بن عُنين بن سلامان، نشأ هذا الرجل في أيام أتابك زنكي وأيام ولده نور الدين الشهيد، وفد عليه فأكرمه وشاد بذكره، والى هذا عنين يُنسب كل عرب عنين من كان من ولده أو من حلفائه أو من استخدمه الأمراء الذين من ولده، وهم يزعمون أنهم من ولد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك من العبّاسة بنت المهدي أخت الرشيد هارون.
كان هذا الأمير حسام الدين مهنّا طويل النجاد، كثير الرماد، عزير العتاد، ينخرط في سلوك الملوك، وتقصّر الشمس عن بلوغ مجده إذا كانت في الدّلوك، يتطفّل الملوك على وفادته، ويرون سعادتهم دون سعادته، يبالغون في إنعاماته، ويزيدون فيما يجرونه في إقطاعاته.
لم يزل معظَّماً عند ملوك المغل والإسلام، مفخماً إذا نشرت في الحروب مطويات الأعلام، أجار قراسُنقر والأفرم والزردكاش، وردهم بعد موتهم الى الانتعاش.
ولم تُحفر له ذمة، ولم يبال بالسلطان أمدحه أم ذمّه، وتشرّد بسببهم عن وطنه، وبعد لذلك عن عطنه، وتمادت الأيام والليالي على ما فعل، واشتغل السلطان بأمره واشتعل، وأتعب العساكر في تطلّبه، وكل البريد من تقاضي وعوده وتقلّبه، وحفيت الأقلام بما تخطّ الرسائل، وتنمّق الاستعطاف والوسائل، ونفذت بيوت الأموال في ترضّيه، وتقضّت الأعمار في تقاضيه:
الى كم ترد الرسل عما أتوا له ... كأنهم في ما وهبتَ مُلامُ
فإن كنتَ لا تعطي الذّمام طواعة ... فعوذُ الأعادي بالكريم ذمامُ
وإن نفوساً أمّمَتْك، منيعةٌ ... وإن دماءً أمّلتْك حرامُ
إذا خاف ملك من مليكٍ أجَرْتَه ... وسيفَك خافوا، والجوار يُسامُ
إلا أنه فاز في الوفاء بالثّناء السموألي، وفاح بعد وفاته الذكر المندليّ، ولم يزل يدافع بوعوده، ويمني السلطان بوصاله بعد صدوده مدة تزيد على الاثنتين وعشرين سنة، والسلطان يرى كل سيئة يأتي بها حسنة، الى أن داس بساطه، وأوفد عليه اغتباطه، فسُرَّ بمقدمه، ولم ينل قطرة من دمه، وأفاض عليه أنعُماً أخجل البحار مددُها، وأملّ الأنفاس والأنفال عددها، وعاد الى بيوته سالما، وظن الناس به أنه كان في هذه الحركة حالما.
ولم يزل بعد ذلك على حاله الى أن ركب مطية الشرجع، وعزّ على ذويه المآب والمرجع.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة بالقرب من سلمية، ودُفن بتربةٍ له في قرية بينها وبين سلمية مسافة بريد، وحزن العرب عليه، وأقاموا له مأتماً عظيماً، واجتمع الرجال لذلك والنساء من البلاد والقرى، ولبسوا السّواد، وعاش نيفاً وثمانين سنة.
وقلت أنا لما توفي رحمه الله تعالى:
أمسى مهنا بالممات منغّصا ... فمصابُه عمّ الأنام وخصّصا
كم شقّ منه على الصوارم والقنا ... إدراكُ مطلوبٍ وقد شقّ العصا
وأقام في نجدٍ بحصن مانع ... لا تستطيع له الجيوش تخلّصا
حتى إذا وافت منيّته، وقد ... أمسى به ظلُ الحياة مقلّصا
جرّت عليه الريح ذيلَ هوانه ... لم يدرِ ضربَ الرمل أو طرْقَ الحصى
وهؤلاء آل فضل هم جمهرة العرب، وجمهرة الحرب والحرَب، وسحبُ السّماح إذا جرّ الكرم ذيله وانسحب.
ومهنّا جده: هو الأمير مانع بن حُديثة بن فضل بن ربيعة الطائي الشامي التدمري، كان أمير عرب الشام في دولة طغتكين صاحب دمشق، ولم يصرّح لأحد من هذا البيت بإمرة على العرب بتقليد من السلطان إلا من أيام العادل الكبير أبي بكر أخي السلطان صلاح الدين، أمّر منهم حُديثة، ثم إن ابنه الكامل قسم الإمرة نصفين لمانع بن حُديثة ولغنّام أبي طاهر بن غنّام، ثم إن الإمرة انتقلت الى أبي بكر بن علي بن حُديثة، وعلا فيها قدره، وبعدَ صيتُه.

ولما كان من البحرية ما كان، ساقت تصاريف الدهر الملك الظاهر بيبرس الى بيوتهم وهو طريدٌ شريد، ولم يكن معه سوى فرس واحد يعوّل عليه، فسأل علي بن حُديثة فرساً يركبه فلم يُعطه شيئاً، وكان ذلك بمحضر من عيسى بن مهنا، فأخذه عيسى إليه، وضمّه وآواه وأكرمه وقراه، وخيّره في رباط خيله، فاختار منها فرساً، فأعطاه ذلك وزوّده، وبالغ في الإحسان إليه، فعرفها الظاهر له، ولما تسلطن الظاهر، انتزع الإمرة من أبي بكر بن علي، وجعلها لعيسى بن مهنا، وأتاه أحمد بن طاهر بن غنّام وسأله أن يشركه معه في الإمرة، فأرضاه بأن يعطيه إمرة ببوق، وبقي أبو بكر بن علي شرداً طريداً، تارة بنجد، وتارة بأطراف الشام الى أن مات. وأمّنه الملك الظاهر غير مرة وحلف له فما وثق به واطمأنّ إليه.
وعلتْ درجة عيسى بن مهنا عند الظاهر ولم يزل معظّماً الى أن مات.
ثم إن الإمرة صارت لولده الأمير حسام الدين مهنا هذا في أيام الملك المنصور قلاوون، وعلت مكانته أكثر من مكانة أبيه.
قال شيخُنا شهاب الدين محمود: حضرت طرنطاي المنصوري، وهو مخيّم بالخربة، وقد حضره أحمد بن حجّي أمير آل مَري يدّعي بألف بعير أخذتها آل فضل لعربه، ومهنّا حاضر، وكل منهما جالس الى جانب من طرنطاي فألحّ أحمد بن حجي في المطالبة واحتدّ وارتفع صوته، ومهنا ساكت لا يتكلم، فلما طال تمادي أحمد في الضجيج وتمادى مهنا في السكوت، أقبل طرنطاي على مهنا وقال: ما تقول يا ملك العرب، فقال: وما أقول؟ نُعطيهم ما طلبوا، هم أولاد عمّنا، وإن كانت لهم عندنا هذه البُعيرات، أعطيناهم حقّهم، وإن كان ما لهم شيء، فما هو كثير إذا أعطينا بني عمّنا من مالنا. فقال أحمد: ألا قل، تكلم، وزاد في هذا ومثله، ومهنا ساكت، فلما زاد، رفع مهنا رأسه إليه وقال: يا أحمد: إن كان كلامك عليك هيّناً فكلامي أنا عليّ ما هو هيّن، وهذه الأباعر أقل من أن يحصل فيها كلام، وأنا أعطيك إياها. ثم قام فقال طرنطاي، هكذا والله يكون الأمير.
ولم يزل مهنا على إمرته الى أن جاءت الدولة الأشرفية. ولما خرج الأشرف لفتح قلعة الروم مرّت العساكر بسرمين إقطاع مهنا، فأكلت زروعها وآذَتْ آهلَها، فشكوا الى مهنّا أذية العساكر، فشكا الى الأشرف، فعزّ على الأشرف، واستنقص همّته وقال: كم جهد ما أوذوا حتى تواجهني بالشكوى، وما كان يغتفر هذا الفعل لهذا الجيش العظيم الخارج لأجل إذلال العدو وقصّ جناح الكفر. وأسمعه من هذا ومثله، ثم لما كان الفتح ركب الأشرف في الفرات في خواصه، ومعه جلساؤه من بني مهدي وكانوا يضحكونه، فجاء مهنا بن عيسى فأمر بمدّ الإسقالة له ليدخل، فلما دخل عليها غمز عليه فحرِّكت الإسقالة فوقع في الماء وتلوّث بالطين، فهزأت به بنو مهدي، وضحك الأشرف ومن حوله، وطوى مهنا جوانحه على ألمها، ثم إنه استأذن في الانصراف الى بيوته، فأذن له وقال: الى لعنة الله، فأسرّها مهنا في نفسه ولم يُبْدِها، وركب من وقته وتوجه الى أهله وأقام عندهم على حذر، ثم لما عاد الأشرف ونزل بحماة، بعث إليه مهنا بخيل وجمال، فقبلها وخلع على رسوله وبعث إليه خلعة سنيّة ليطَمْئِنه بذلك ثم يكسبه، فلما جاءت إليه، لبسها إظهاراً للطاعة، وارتحل لوقته ضارباً وجه البرية، فلم يتمّ للأشرف ما أراده منه. وعاد الى مصر وفي نفسه من إمساك مهنا وإخوته وبنيه. وظن مهنا أن لا حقد عنده، فلم يلبث الأشرف أن خرج الى الكرك وخرج منها على أنه يتصيّد كباش الجبل، فعمل له مهنا ضيافةً عظيمة، فحضرها الأشرف وأكل منها، ولما فرغ من ذلك أمسك مهنا ومعه جماعة، وجهزهم الى مصر وحبسهم في برج القلعة، وضيّق عليهم إلا في الراتب لهم.
وكان مهنا في الحبس لا يأكل إلا بعد مدة، وإذا أكل أكل ما يُقيم رمقه، ويصلي الصبح، ويُدير وجهه الى الحائط ويصمت ولا يكلم أحداً حتى تطلع الشمس، ثم يقوم بعجلة وسرعة ويأخذ كفاً من حصى وتراب كان هناك، ثم يزمجر ويرمي به الى الحائط كالأسد الصّائل. فلما خرج الأشرف الى الصيد، ترك ذلك الفعل، فقيل له في ذلك، فقال: قُضي الأمر، ولم يُر منبسطاً إلا في ذلك الحين.

قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: حدّثني الأمير مظفّر الدين موسى بن مهنا قال: لما كنا في الاعتقال كان عمي محمد بن عيسى مغرى بدخول المرتفق والتطويل فيه، وكان المرتفق مقارباً لدور حريم السلطان أو لبعض الأمراء، فقلت له في ذلك فقال: يا ولد مهنا، لعلي أسمع خبراً من النسوان، فإنهن يتحدّثن بما لا يتحدث به الرجال. فبينما نحن ذات يوم، وإنما بمحمد قد خرج وقال بشراكم، قد سمعت صائحة النساء تقول: واسلطاناه، فقلنا له: دعنا مما تقول، فقال: هو ما أقول لكم. وكان لنا صاحب من العرب تنكّر وأقام بمصر، وكان يقف قبالة مرمى البُرج الذي نحن فيه ويومئ إلينا ونومئ إليه، غير أنه لا يسمعنا ولا نسمعه، فلما كنا في تلك الساعة ومحمد يحدثنا، وإذا بصاحبنا قد جاء وأومأ ثم مدّ يده الى التراب وصنع فيه هيئة قبر ونصب عليه عوداً، عليه خرقة صفراء كأنها صنجق سلطاني ثم نكسها وقعد كأنه يبكي، ثم وقف قائماً ورقص، فتأكّد الخبر عندنا بموت الأشرف. فلما فُتح علينا من الغد سألنا الفتّاح والسجانين فأنكروا، ثم اعترف لنا بعضهم، فكان ذلك أعظم سرور دخل على قلبنا.
ولما خرجوا من السجن شكوا احتياجهم الى النساء، فأطلق لهم جماعة من الجواري الأشرفيات، ولم يكن مرادهم بذلك إلا التشفي، وأُعيد الجماعة الى أهلهم إلا مهنا، فإنه أخّر مدة ثم جُهّز، ولما خرج من دمشق لحقه البريد من دمشق الى ثنيّة العقاب بأن يعود، فامتنع وتوجّه الى أهله، وكانوا قد ندموا على إطلاقه، ثم إنه قدم مصر بعد ذلك مرات وهو كالطائر الحذر الذي نُصبت له الأشراك في كل مكان، وآخر مرة قدمها في أوائل الدولة الناصرية الأخيرة سنة عشر وسبع مئة، وكان بلرلغي الكبير مملوك مهنا وهو الذي قدمه، فلما وجده قد أمسك تحدث فيه مع السلطان، وقال هذا مملوكي وقدمته ليعطى إقطاعاً في الحلقة فأعطى فوق حقّه حتى جعلتموه ملكاً من الملوك، وأنا أريد أن تأخذ كل ماله ومماليكه وتعطيه إياه برقبته ليكون عندي الى أن يموت، فوُعد بذلك. ثم إن بلرلغي مات في ذلك الوقت، فقيل له: قد مات، فعزّ ذلك عليه من عدم قبول شفاعته مع ما كان يمت به من سوابق الخدم للسلطان لما كان في الكرك.
وخرج مهنا وقد طار خوفاً ورعباً، ولما اجتمع بقراسُنقر، وكانت بينهما صداقة مؤكدة قديمة، وكل منهما مستوحش، فجدّدا الأيمان والعهود على المضافرة، وأن لا يسلّم واحد منهما صاحبه. ولما توجه قراسنقر الى حلب زاره مهنا وخلا به، فأراه قراسنقر كتاباً من السلطان إليه فيه إعمال الحيلة على إمساك مهنا، فقال له مهنا: فما أنت صانع، قال: أنا أطيعه فيك وأجاهره، وهو يجعلني وكدَه ودأبه، فمَن يحميني منه إن قصدني، قال له مهنا تجيء إلينا. فتحالفا على ذلك. ثم إن مهنا وفّى لقراسُنقر لما توجه إليه - على ما مرّ في ترجمة قراسنقر وأجاره.
وأما زوجة مهنا عائشة بنت عساف، فإنها بالغت في خدمة قراسنقر، وكانت تقول لمهنا: يا مهنا، ذكر الدهر، لا تدعه. وكذلك محمد بن عيسى بن علي الأفضل بن عيسى بن مهنا أخو مهنا، فما كان رأيه إلا التقرب بإمساك قراسنقر والجماعة الى السلطان، فكانت عائشة تقول: تعساً لأم ولدت الفضل بن مهنا. وكتب مهنا الى السلطان يستعطفه ويقول: هؤلاء مماليكك ومماليك أبيك وكبار بيتكم، وقد هربوا من الموت، وسألوا أن تكفّ عنهم وتهبهم البيرة لقراسنقر، الرحبة للأفرم، وبهسنا للزردكاش، وإذا حصل مهمٌ جامعٌ للإسلام حضروا إليه وجاهدوا بين يديك، على ما مرّ في ترجمة قراسنقر.

وما اطمأنّوا، وجهّزهم مهنا الى خربندا وقال له: متى حميت هؤلاء كنت أنا في طاعتك وخفرت الرّكب العراقي، وسيّرهم مع ابنه سليمان، وجهّز معهم لخربندا ومن حوله خيولاً مسوّمة من جهته، فقوبلوا بالإكرام والرعاية، وخلع على سليمان، وأطلق له أموالاً جمة، وجهّزت لمهنا خلع وإنعامات وبرالغ بالبصرة له ولأهله، ومعها الحلة والكوفة وسائر البلاد الفراتية، واشتدت الوحشة بينه وبين السلطان الملك الناصر محمد، فأعطى الإمرة لأخيه فضل، وتظاهر مهنا بالمنافرة والمُباينة والوحشة، وحضر الى خربندا، فأكرمه غاية الإكرام وأجلّه نهاية الإجلال، وقرر أمر الركب العراقي، وأعطى عصاه خفارة لهم وتأميناً، وضاع الزمان وامتدّت الأيام والليالي في المراوغة من مهنا، وهو يعد السلطان أنه يحضر إليه ويُمنّيه ويسوّف به من وقت الى وقت، والبريد يروح ويجيء، والرُسل تتردد مثل الأمير بهاء الدين أرسلان الدواردار والأمير علاء الدين الطّنبغا نائب حلب والشيخ صدر الدين بن الوكيل، وما ألوى ولا عاج، ثم كان أولاده وإخوته يتناوبون الحضور الى السلطان وهو ينعم عليهم بمئين ألوف وبالإقطاعات العظيمة والأملاك، وهم يمنّونه حضوره ويعدونه بقدومه، ومهنا لا يزداد إلا حذراً. والسلطان لا يزداد إلا طمعاً في حضوره، ومع ذلك في هذه المدة جميعها ما تنقطع المراسلات بينهما والمكاتبات والشفاعات، وإذا ظهرت للمسلمين مصلحة نبّه مهنا عليها وأشار إليها، وكان السلطان يقبل نُصحه.
ثم لما كان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، توجّه مهنا بنفسه من ذاته الى السلطان، ووصل الى دمشق يوم الجمعة رابع ذي الحجة من السنة، ودخل الديار المصرية، فأكرمه السلطان غاية الإكرام وأنعم عليه بإنعامات كثيرة الى الغاية. وعاد مهنا راجعاً الى بلاده، وكان دخوله قلعة الجبل نهار الأحد عشري الحجة، وعاد الى دمشق فدخلها سادس المحرم سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. ولم يزل بعد ذلك الى أن توفي في التاريخ المذكور.
وله من الأولاد جماعة، وهم: موسى وسليمان وأحمد وفياض وحمام وهيازع وحيار وجويف وقارا وشُعبه وتوبَلة وعنقا.
ومن سيادة مهنا ما حكاه لي زغبان بن عبد المؤمن الشقاري التدمري حاجب الأمير معيقل بن فضل يومئذ، قال: كان قد دفن الأمير فضل دفيناً في الأرض من الذهب مبلغه اثنا عشر ألف دينار، ثم إنه طلبه في وقت ولم يجده في المكان الذي دفنه، وإنه اتهم به محمد بن نجام حاجبه، ولم يذكر له ذلك، وإن ابن نجام بلغه ذلك، فخاف ابن نجام من الأمير فضل، وتوجّه الى مهنا، وشكا حاله إليه فأعطاه مهنا اثني عشر ألف دينار، فأخذها ابن نجام وأحضرها الى فضل، فأبى أن يأخذها، وقال: ما مهنا أكرم مني، أنا ما طالبتُك بها ولا أخذها، فردّها ابن نجام على مهنا، فقال: أنا خرجتُ عنها وهي لك، ولم يأخذها.
ابن المهندسمحمد بن محمد بن إبراهيم.
ابن الموازينيالمسند شمس الدين محمد بن علي.
موسى بن إبراهيمابن يحيى، الإمام المحدّث المفتي نجم الدين الشقراوي ثم الصالحي الحنبلي الشروطي، شيخ العالمية.
روى عن الحافظ الضياء، وإسماعيل بن ظفر، وقرأ الكثير ونسخ وجمع. وكان حلو المحاضرة.
توفي رحمه الله تعالى في مستهل جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة.
وكان قد قرأ الكتب الكبار، وسمع الناس بقراءته كثيراً، وحدّث، وكتب كثيراً، واشتغل كثيراً. وكان مفتياً، وله نظمٌ، وكان ينقل كثيراً من اللغة وعنده جملة من التاريخ، وكان يفتي في مذهب.
موسى بن أحمدابن الحسين بن بدران بن أحمد، القاضي الرئيس الكبير، قطب الدين بن ضياء الدين، أبو البقاء، ابن شيخ السلامية، ناظر الجيوش الإسلامية بالشام ومصر، الخاقاني، نسبة الى الفتح بن خاقان وزير المتوكل.
كان وقوراً مهيباً، فاضلاً لبيباً، يحبّ الفضلاء، ويربّ النبلاء، ويحسن الى الفقراء، ويواسي همّ كبار الأمراء.
رأى من العز والوجاهة، وعلوّ المرتبة والنباهة ما لا رآه غيره، ولا قُدّ لمثله سيره.
باشر نظر الجيوش بمصر والشام، وتألّق برق سُعوده حتى انتجعه كلُ أحد وشام، فلاح بدرُ سياده، وفاح زهر سعاده، حتى كأن أبا تمام، عناه بقوله دون الأنام:
جُعلت نظام المكرمات فلم تُدرْ ... رحى سُودد إلا وأنت لها قطبُ

بجودك تبيضّ الخطوب إذا دجتْ ... وترجع عن ألوانها الحجج الشهبُ
لم يزل في تقدّم وتكريم، وترقٍّ الى غايات مجدٍ يحتقر معها كل غاية تعظيم، الى أن أمسى من ترابٍ فراشه، وبطل حتى المعاد معاشه.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وستين وست مئة.
كان أولاً صاحب ديوان الجيش والقاضي بدر الدين بن العطار ناظراً في زمن الأفرم، ولما جاء السلطان الملك الناصر محمد الى دمشق من الكرك، وتجه بالعساكر الى مصر، توجه معه القاضي قطب الدين، وعاد الى الشام وهو ناظر الجيش، ولم يزل كذلك الى أن غضب السلطان على القاضي فخر الدين ناظر الجيش فجهز طلب القاضي قطب الدين، فتوجه إليها هو والأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، وذلك في أوائل سنة اثنتي عشرة وسبع مئة في شهر ربيع الأول، وولاه نظر الجيش بالديار المصرية.
ولم يزل هناك الى أن عُمل روك الشام، فحضر الى دمشق بأوراق الروك في شهر ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. واستمر ناظر الجيش بالشام الى أن حضر القاضي معين الدين بن حشيش على وظيفة النّظر، وعزل القاضي قطب الدين تقدير أربعة أشهر. ثم إنه ورد مرسوم السلطان بأن يكون القاضي معين الدين شريكاً للقاضي قطب الدين في النّظر، وأن يكون لكل منهما معلوم مستقل نظير الأصل. وكان القاضي قطب الدين يعلّم أولاً.
ولم يزالا كذلك الى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، فطلب القاضي معين الدين الى الديار المصرية لينوب عن القاضي فخر الدين في نظر الجيش عند توجهه الى الحجاز، وانفرد القاضي قطب الدين أخيراً بالنظر، الى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ. ورأى من السعادة والعزّ والوجاهة والتمكن والتقدم في أيام تنكز ما لا رآه غيره، ولما تنكّر الأمير تنكز على المتعممين وعلى صهره الصاحب شمس الدين عبريال توفي رحمه الله تعالى، ولم ير منه ما يكرهه.
وكان الأدباء والفضلاء والشعراء يترددون الى محله ويقضي حوائجهم، وله نظمٌ ونثر.
أنشدني من لفظه ولده الشيخ عز الدين حمزة، قال: أنشدني والدي لنفسه مواليا:
الحب في الله يا محبوب لي مفسوحْ ... فداوِ الوصل من أضحى به مجروحْ
وارحمْ محبّاً على فرشِ الضّنا مطروحْ ... دمع مسفوح، وجفن بالبُكا مقروح
وبه قال أنشدني له:
بالله دعْ عنك هجراني ودعْ ذا الصدْ ... فقل تطاول بي الهجران فوق الحدْ
كم ذا تجورُ عليّ يا رشيقَ القدْ ... مسلم أنا، ما أنا كافرٌ ولا مرتدْ
وأنشدني من لفظه القاضي شهاب الدين بن فضل الله، ومن خطّه نقلت، قال: أنشدني من لفظه لنفسه القاضي قطب الدين:
ما اخترتُ مقامي برُبا لبنانْ ... فرداً ومشرّداً عن الأوطانْ
إلا لأراك أو أرى من نظرتْ ... عيناه الى جمالك الفتّانْ
وكتب الشيخ علاء الدين علي بن غانم الى القاضي قطب الدين، رحمهما الله تعالى، وهو بالقاهرة سنة اثنتي عشرة وسبع مئة:
يا غائباً بينه وبيني ... من شقّة البعد لي حجابُ
هجرت حتى ولا سلام ... ولا كلامٌ ولا كتابُ
فكم بعثنا له كتاباً ... ما عاد عنها ولا جواب
عليه قد حقّ كلُ عتب ... وما عسى ينفع العتاب
فقد أحبائي عن يقين ... بغير شك هو العذاب
فكتب القاضي قطب الدين إليه الجواب:
أقسمت بالله أن شوقي ... بضيق عن حصره كتابُ
وأنني إذ نأيت عنكم ... دموعُ عيني لها انكباب
وأن كتبي وإن تراخت ... فإن ودي له إياب
وإن يكن حُقّ كل عتب ... يا حبذا ذلك العتاب
موسى بن أحمد بن محمدابن ابراهيم، الصدر، كمال الدين أبو الفتح ابن قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمعت منه ببعلبك أحاديث من جزء ابن عرفة عن النجيب الحرّاني، وله إجازة من السّبط. وكان رجلاً عاقلاً عارفاً بالأمور. درّس بالمدرسة النجيبية في حياة والده، وبعده مدة، وولي نظر الدواوين الحكمية.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت سابع عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون عند قبر والده.

ومولده بالقاهرة سنة إحدى وخمسين وست مئة.
قلت: وهذا كمال الدين موسى كان السبب في عزل والده، وبذنبه عُزل، قيل: إنه شكا يوماً عليه غريم ودفعه الى قاضي القضاة ابن الصائغ على مبلغ ست مئة درهم، فاستحيا القاضي ووزنها، فتوجه كمال الدين موسى الى والده وقال: اليوم تفضّل قاضي القضاة ووزن عني ست مئة درهم، فقال والده: والله لو وزن ستة آلاف دينار ما أنصفك، يعني والده أنك أنت السبب في عزل أبيك وولايته. وفيه يقول مجد الدين بن الظّهير:
وكيف يؤتى رشدَه حاكمٌ ... حكّم في لحيته موسى؟
موسى بن أحمدالشيخ مجد الدين الأقصرائي، شيخ الشيوخ بسرياقوس.
كان شيخاً كريم النفس الى الغاية، له بالمكارم أتمّ عناية، يهبُ ما يملكه، ويأتي على ما في يده ويتركه، ريّض الأخلاق حتى كأنها مرّ النسيم، أو كأس رحيق مختوم مزاجها من تسنيم، كثير الاحتمال، غزير التضرع والابتهال، له أوراد يسردها من الذّكر عقيب الصلوات، وأحوال تتنزّل عليه في أوقات الخلوات، قلّ أن ترى العيون له نظيراً، أو تجد له شبهاً في الملوك وإن كان فقيراً:
يصبو إليه قلبُ من هو عند أرْ ... باب القلوب معشّقٌ مقبولُ
يهواه لا يُصغي لقول مفنّد ... أبداً ولا يثنيه عنه عَدول
كلٌ يهيم بحبه وكذاك مَن ... ملك الإرادة أمره المفعول
ولم يزل على حاله الى أن عرق جبينه، ونبا حسه وربا أنينه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربعين وسبع مئة.
وكان له سماع من عبد الله الصّنهاجي، ومن أبي الحسن علي بن جابر اليمني.
وكان في الإسكندرية، ثم ولي مشيخة خانقاه الأمير سيف الدين بكتمر الساقي بالقرافة، ثم إن السلطان نقله الى الخانقاه التي له بسرياقوس.
وكان آيةً في الكرم، وعليه روحٌ وأنس زائد إذا دار في السماع، وله ذكر يورده هو وجماعة الصوفية عقيب كل صلاة بحيث أنه يتصل الذكر عقيب المغرب بأذان العشاء الآخرة. وقلت له في ذلك، فقال: أنا اختصرت لأجل هذا الجمع، ولما كنت بالاسكندرية كان الورد أكثر من هذا.
وكان السلطان يعظّمه ويحمل إليه في كل شهر مبلغ سبعة آلاف درهم، للشيخ منها ألفان، والباقي للفقراء. وكان يفعل ذلك معهم في كل شهر، يطلع الى الخانقاه، ويقيم عندهم اليومين والثلاثة ويعود يجلس بين الفقراء ويقضي أشغال الناس، وكان الناس قد عرفوا ذلك منه، وكانوا يؤخرون أشغالهم الى أن يطلع الى خانقاه سرياقوس، وهذا الإنعام كان خارجاً عن أوقاف الخانقاه، لكنه قطع ذلك قبل موته بسنوات.
ولبستُ منه خرقة التصوف في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وقال: لبستُ الخرقة الصوفية من يد الشيخ العارف الكامل كمال الدين العجمي، وهو لبسها من يد الشيخ أبي منصور العراقلية وهو لبسها من يد الشيخ بدر الدين العراقلية، وهو لبسها من يد الشيخ أوحد الدين الكرماني وهو لبسها من يد الشيخ أبي الغنائم ركن الدين السجاسي، وهو لبسها من يد الشيخ قطب الدين الأبهري، وهو لبسها من يد الشيخ ضياء الدين أبي النجيب السهروردي، وهو لبسها من يد الشيخ أحمد الغزالي، وهو لبسها من يد الشيخ أبي الفرج الزنجاني، وهو لبسها من يد الشيخ أحمد الأسود، وهو لبسها من يد الشيخ أبي العباس النهاوندي، وهو لبسها من يد الشيخ أبي عبد الله بن خفيف، وهو لبسها من يد الشيخ أبي العباس النهاوندي، وهو سمع تلقين الذّكر من أبي القاسم الجُنيد البغدادي وصحبه، وهو لبسها من سريّ السقطي وصحبه، وهو من معروف الكرخي وصحبه، وهو من داود الطائي وصحبه، وهو من حبيب العجمي وصحبه، وهو من الحسن البصري وصحبه، وهو من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصحبه، وهو من سيد المرسلين والآخرين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وطريق أخرى: لبسها الشيخ أحمد الغزالي من يد الشيخ أبي بكر الزجّاج النّيسابوري، وهو لبسها من يد الشيخ محمد النساج، وهو لبسها من الشيخ أبي بكر الشبلي، وهو لبسها من الجنيد البغدادي رضي الله عنهم.
موسى بن أبي بكرالأمير بدر الدين ابن الأمير سيف الدين الأزكشي.

جهّزه الأمير جمال الدين الأفرم الى الرحبة نائباً، فأقام بها الى أن نزل عليها خربندا ومعه عساكر المغل وقراسنقر والأفرم وسليمان بن مهنا، ونصبوا عليها المجانيق فقاتل وصابر ورابط وحصّن القلعة وثبت، جزاه الله خيراً عن الإسلام الى أن رحل خربندا بمن معه من المغل، وقد تقدّم شيء من طرق ذلك في ترجمة ذلك وفي ترجمة جوبان رحمه الله تعالى، ثم إنه عُزل وحضر الى دمشق.
وبقي على إمرته الى أن توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة خمس عشرة وسبع مئة بداره في القبيبات، وحضر الأمير سيف الدين تنكز جنازته.
موسى بن أبي بكرشرف الدين، ملك التكرور.
وصل الى الديار المصرية في أول شهر رجب سنة أربع وعشرين وسبع مئة بسبب الحج، وصحبه جمعٌ كثير، ونزل بالقرافة الكبرى، واستأذن في الصعود الى القلعة لتقبيل يد السلطان، فأذن له، فطلع في طائفة يسيرة، ولما وصل أمر بتقبيل الأرض فامتنع، فأُلزم، ففعل ذلك على كره، ولم يمكَّن من الجلوس. فلما خرج ووصل الى باب القلعة قُدّم له حصان أشهب بزنّاري أطلس أصفر، وبعد ذلك خلع عليه السلطان خلعةً سنية، وأمر له بمركوب، وسيّر هو الى السلطان أربعين ألف دينار، وصيّر الى نائب السلطنة نحو عشرة آلاف دينار، وهيأ له السلطان من الهُجن والنياق وآلات الحج أشياء كثيرة، وكذلك فعل به نائب السلطنة.
وكان شاباً مليح الشكل حسن الوجه، له رغبةٌ في العلماء، وهو فقيه مالكي المذهب، وقيل: إنه كان معه تقدير عشرة آلاف تكروري وجاء معهم ذهب كثير حتى نزل الذهب في تلك المدة درهمين، وحصل للناس بهم نفع كثير، وذكروا أن تحت يده أربعة عشر ملكاً، وسعة ملكه ثلاث سنين.
وحكي لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني رحمه الله تعالى رئاسة كبيرة، ووصل إليه منه جملة كثيرة من الذهب، وقال: كانت تحية من يدخل إليه أن يضع عمامته ويكشف رأسه، وهناك رماد مفروش فيأخذ من ذلك الرماد ويرشّه على رأسه.
موسى بن رافعابن مفرّج بن رافع بن عبد الواحد بن أحمد، الشيخ الصالح الحمصي.
كان من أهل الخير والصّلاح، ومن أهل القرآن والفهم والمعرفة.
سمع من ابن هامل، وحدّث عنه.
وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وستين بحمص.
موسى بن عبد الرحمن بن سلامةالقاضي الرئيس بهاء الدين المدلجي المصري أحد كتّاب الإنشاء بالديار المصرية.
تولى خطابة المدينة النبوية في ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
موسى بن علي بن موسىابن يوسف ابن الأمير محمد شرف الدين الزّرزاري.
أخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين قال: هذا المذكور مولده بإربل في ثالث عشري جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وذكر لي أن أباه قاضي القضاة بإربل، وأن جدّه أيضاً كان قاضياً.
وهو رجل ساكن النفس حسن الصورة، عنده فضائل من فقه وأدب وغير ذلك. وذكر لي أنه سمع الحديث، وأنه قرأ على الكواشي التفسير الصغير، وسمع عليه كثيراً من التفسير الكبير وأنه سمع ببغداد من ابن الفويرة والقلانسي. وذكر لي أنه نظم الوجيز وأنشدنا منه أبياتاً.
وأنشدنا لنفسه من أبيات:
تواضع تكن كالنجم استبان لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولم يكُ كالدخان يرفع نفسه ... الى طبقات الجو، وهو وضيع
قال: وأنشدنا لنفسه، وقد تردّد الى بعض أهل الجاه بمصر مراراً:
لئن عاد موسى واقفاً باب هامان ... على كبره حتى انقضت منه عامان
فقد قام في أبواب فرعون قبله ... على كفره، في مصر موسى بن عمران
قلت: أظنه المعروف بالقطبي، ويلقّب ضياء الدين، كان يخطب بجامع الأمير كراي بالحُسينية، ومتصدّراً لإقراء السبع بالجامع الظاهري بالحسينية أيضاً، وكان من العلماء الصلحاء. واتفق الناس على الثناء عليه.
وتوفي رحمه الله تعالى وهو ساجد في الصلاة في حادي عشر شهر رجب سنة ثلاثين وسبع مئة، وكانت جنازته حافلة الى الغاية، ودفن بزاوية الشيخ ابن معضاد.
وحدّث عن ابن عزّون، والنجيب عبد اللطيف، ومن في طبقتهما. وأجاز لي في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة.
موسى بن علي بن قلاوونأمير موسى ابن الملك الصالح ابن السلطان الملك المنصور.

كان أحد الأمراء بمصر، وكان شكلاً محبباً حسناً، فبلغ السلطان محمداً عمه عنه أمر، فخافه وندب الأمير علاء الدين أيدغدي شقير والأمير سيف الدين بكتمر الحاجب للتوجه إليه والقبض عليه، فتغيّب، وخرج السلطان وزاد غضبه وقال: هذا هو في القاهرة وما لحق يخرج منها، وأمر بإحراقها، فوقف الأمير سيف الدين أرغون النائب وباس الأرض وتضرّع، وسأله إبطال ذلك وأن ينزل الجماعة ويتطلبوه، وتوجه المذكورون وأمسكوا مملوكاً صغيراً من الكتابية وضربوه فأقرّ أن الفقيه الذي لهم توجه هو والأمير، فأمسكوا الفقيه وعاقبوه، فأخذهم ودلّهم على المكان الذي هو فيه، وأتى بهم الى دار أستاذر دار الفارقاني، فكبسوا داره وفتّشوا جميع داره ولم يجدوا أحداً وحلف أنه ما رآه، فبقي هناك مكان لا يؤبه، له صورة خرستان، فقالوا: افتحوا هذا، فحلف بالله والطلاق وبنعمة السلطان أن ما فيه ما يطلبونه، فقال بكتمر أنا ما أقد أقول للسلطان إنه بقي مكان ما دخلنا إليه، ففتحوه فإذا بأمير موسى هناك، فشتم أمير موسى لبكتمر الحاجب، وسبّه، وبالغ في ذلك وهو ساكت، وأرادوا إخراجه فقال: ما أخرج من هنا حتى تحلفوا لي بأن هذا صاحب هذه الدار لا يكلمه السلطان ولا يؤذيه، فإنني والله ما أعرفه ولا أكلت معه خبزاً، وإنما الفقيه هو صاحبه، وأنا الذي طرحت شرّي عليه ورميت أذاي عليه، فحلفوا على ذلك بالله وبالطلاق، وأخذوه من هناك، وطلعوا به الى السلطان. فلما كان بعد ثلاثة أيام، سيّر السلطان الى دار أمير موسى وقال: اعملوا عزاءه، فدار جواريه بين القصرين وفي الشارع مدة يطفن بالدرادك، وأما أستاذ دار الفارقاني، فإنه سُمّر وبقي من بكرة الى العصر، ووقف الأمراء وشفعوا فيه، فأفرج عنه وعاش بعد ذلك سنتين وكان ذلك في سنة...
موسى بن عليالشيخ الإمام الكاتب المجوّد المتقن شيخ دمشق نجم الدين المعروف بابن البُصَيص - بياء موحّدة وصادَين مهملتين وبينهما ياء آخر الحروف.
شيخ الكتّاب في زمانه، ونادرة عصره وأوانه، تفرّد في الدنيا بكتابة المزدوج وأتقنه وكل من تقدّمه فيه سمج، وآخترع قلماً آخر سماه المعجز، وأتى فيه بمحاسن إذا أطنب فيه الواصف ظنّ أنه موجد، وكان خطه كأنه حدائق ذات بهجة، وسطوره من حسنها تفدى بكل مهجة، لو عاينه الولي التبريزي لم يكن له تبريز، أو ابن العديم لاعترف له بالتعجيز:
كأن المعاني في محاريب طرسه ... قناديل ليل، والسطور سلاسلُ
كواكب عجم في أهلّة أحرف ... بدورُ المعالي بينهنّ كواملُ
كتب عليه جماعة من الأعيان وسادوا، وأبانوا بفضلهم مقادير رتبهم فأبانوا من تقدمهم وأبادوا.
ولم يزل على حاله الى أن غار في الثرى نجمه، وهيل عليه ترابه ورجمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده بحماة سنة إحدى وخمسين وست مئة.
وكتب الأقلام السبعة وجوّدها، وأقلامه الرطبة كلها لم يلحقه فيها أحد. وممن كتب عليه: الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، والشيخ بدر الدين بن المحدّث، والقاضي علاء الدين بن الآمدي، وجماعة آخرون.
وكتب هو شيئاً كثيراً الى الغاية من الدروج والقطع والطراز الذي في الطّارمة، والذي على باب دار السعادة، والذي في الظاهرية الجوانية والذي على باب الأمير سيف الدين بهادر آص، كل ذلك بخط يده، وقد تغير طراز دار السعادة مرات وأعاد عليه الدهانون، وأصوله باقية ومعالم حسنها بادية. وكان يكتب على الطاسات وعلى ما يُنقش، ويطعّم كل سطر بدرهم ويكتب في اليوم جملة من ذلك مستكثرة.
وكان يعمل بالفأس في بستانه ويعمّر باللبن وغيره، ويكتب تلك الكتابة المليحة الرطبة، ورزق الحظوة في خطه واشتهر، وكان مأموناً على أولاد الناس، عفيفاً خيّراً ديّناً.
وقلت أنا فيه:
يشهد لابن البُصيص خط ... يسلب ممن يراه عقلهْ
بأنه النجم في عُلاه ... وما رأى مثله ابن مقله
وله شعر في الحقيقة على رأي التصوف، وكان قليل البضاعة من العربية. ومن شعره ما نقلته من خطه على ما تراه من اللحن الفاحش وفساد المعنى:
ألا كل شيء ما خلا الله نافد ... وكل وجود قد بدا فهو بائدُ
تفكر في هذا الوجود ووضعه ... وفي حركات الفلك وهي سوامد

وفي حركات النيّرات بأفقها ... وفي كل جرم لا يُرى متباعد
وما ذاتها في رقةٍ وكثافة ... وهل هي شيء دائم متوالد
ترى كل ما في الكون لابد زائل ... له محدث باق وذلك نافد
وإيجادنا فيه وذلك آية ... تدلّ على فرد تفرّد واحد
وكم آية غابت فليس تُرى لنا ... تدلّ على وتر التفرّد ماجد
شهيد على الأشياء ليس بغائب ... على كل شيء من نواحيه شاهد
تحققتُ حقاً أنه لي محرك ... على أنه سبحانه لي واجد
فعشت سعيداً ثم أُنقل مكرماً ... الى واحد إنعامه متزايد
وإني مهما عشتُ شاكرُ أنعم ... عليّ توالتْ من نوالك حامِد
فحسبي تشريفاً أراه محقّقاً ... بأنك ربي ليس فيه معاند
موسى بن علي بن بيدوابن نوغاي تمر بن هولاكو القان المغلي.
نشأ بسواد العراق، يقال إنه كان نسّاجاً، فلما مات بوسعيد توثّب علي باشا وطلب موسى هذا وسلطنه، وسار به الى أذربيجان، وعملا مصافا مع أرباكاوون المذكور في حرف الهمزة وابن الرشيد مع ذلك، وانتصر موسى وتملّك بتوريز، ثم إن المغل تناخت مع الشيخ حسن، وعملوا مصافا يقل فيه جمع موسى، وقتل علي باشا، وتقهقر موسى، وبقي في جبال الأكراد نحو أربعة أشهر ومعه محمد بيك والأمير حافظ، ومعه أيضاً الوزير نجم الدين ابن شروين، وقصدوا بغداد ودخولها، وقتلوا طوغان، وكان من كبار الظلمة المقدّمين، له سطوة وشجاعة، فاستخفّ بهم وبرز للقتال، فقُتل هو وجماعة، وطيف برأسه ورأس الأمير نصرت شاه معاً.
ثم حشد موسى وقصد أذربيجان، فتصابر الفريقان أياماً وليالي، ثم كبس أصحاب حسن بإعانة خلقٍ من الأكراد موسى، فاستجار موسى بأمير من الأكراد - وكان قد أحسن إليه - فأجاره. ثم إنه غدر به وحمله الى حسن فهمّ باستبقائه، فقام عليه الأمراء وقتلوه، قصّفوا ظهره، فمات في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، وقيل: إنهم قطعوا أنفه أولاً ثم ذبحوه.
وكان موسى حسن الشكل جيد العقل صحيح الإسلام، وكانت قتلته يوم الأضحى بالأردو، هو من أبناء الأربعين. وكان قد نشأ عند نصراني بدقوقا يتعلّم الحياكة.
قال شيخنا شمس الدين الذهبي: رأيت القاضي حسام الدين الغوري يثني على عقله ودينه.
موسى بن علي بن أبي طالبابن أبي عبد الله بن أبي البركات العلوي الحسيني الدمشقي الحنفي، عز الدين أبو القاسم الموسوي، من ذرية إبراهيم ولد موسى الكاظم.
سمع حضوراً من الفخر الإربلي، وسمع الموطأ من مكرّم القرشي، وسمع من السخاوي، وابن الصلاح، وأبي طالب بن صابر، وعدة.
وتفرّد وأكثر عنه الطلبة، وسكن مصر، وحضر المدارس.
وكان مليح الشكل حسن البزّة، تفرّد عن جدّه مدرس المعينية رشيد الدين النيسابوري، وأخذ عنه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وشيخنا الذهبي والشيخ تقي الدين بن رافع والواني.
ومات وهم يسمعون عليه صحيح مسلم، فانتهوا الى نصف الكتاب، وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة.
موسى بن علي بن منكوتمرالأمير شرف الدين ابن الأمير علاء الدين ابن الأمير سيف الدين. قد تقدّمت ترجمة جدّه منكوتمر.
كان الأمير شرف الدين المذكور أحد أمراء الطبلخات بطرابلس، ولكنه أضيف الى عسكر دمشق، وإذا كان أوان يَزَكِه توجّه الى طرابلس وعمل يزكه وعاد الى دمشق.
وكان شاباً ظريفاً مطبوع الحركات والسكنات، نظيف اللباس، طيب الرائحة، كأن غصن بان أو قضيب ريحان.
ولم يزل على حاله الى أن توفي في عشري شهر الله المحرم سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
موسى بن محمدابن موسى بن يونس كمال الدين بن بهاء الدين ابن العلامة الفريد كمال الدين بن يونس قاضي الموصل وابن قاضيها.
توجه الى السلطانية في مهم له فأدركه أجله بها في جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وكان فاضلاً إماماً علامة، وولي قضاء الموصل بعده ولده.
موسى بن محمد بن أبي الحسينالشيخ الفاضل المؤرخ المعمّر المسند بقية المشايخ، قطب الدين أبو الفتح ابن شيخ مذهبه أبي عبد الله اليونيني البعلبكي.

سمع من أبيه، والشرف الإربلي، وشيخ الشيوخ عبد العزيز، والرشيد العطار، وأبي بكر بن مكارم، وابن عبد الدائم، وعدة، وأجز له ابن رواج، ويوسف الساوي وجماعة.
وكانت له صورة كبيرة وجلالة، وفيه مروءة وعنده كرم ومعرفة تامة بالشروط، وصار شيخ بعلبك بعد أخيه أبي الحسين، وروى الكثير بدمشق وبعلبك، واختصر مرآة الزمان على نصف النصف، وذيّل عليها في أربع مجلدات.
ثم إنه أسنّ وكبر وعجز وتعلل.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده في صفر سنة أربعين وست مئة.
موسى بن محمد بن أبي بكرابن سالم بن سلمان المرداوي الحنبلي.
كان فقيهاً صالحاً حسن الهيئة مليح الشيبة.
قدم دمشق وحفظ المقنع وألفية ابن معطي، وحصّل كتباً، وكان يطالع وقنل، وسمع من خطيب مردابها، وبدمشق من ابن عبد الدائم، وعمر الكرماني، وجماعة. ومرض بالفالج مدة طويلة وانقطع عشرين سنة لا يقدر أن يصلي إلا بمن يعينه في السجود ويجلسه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رجب سنة تسع عشرة وسبع مئة.
وملده سنة خمس وأربعين وست مئة.
موسى بن محمد بن يحيىعماد الدين اليوسفي المصري، المعروف بابن الشيخ يحيى، أحد مقدّمي الحلقة بالديار المصرية.
كان مشهوراً بالمروءة، معروفاً بالعصبية التي هي في حنايا جوانحه مخبوءة، يصحب الأكابر، ويغالطهم بالمودة ويكابر، ويلازم صحبة الأعيان ويثابر، لم تفته صحبة رب سيفٍ ولا قلم، ولا حامل عِلم ولا رافع عَلم، يتقرّب إليهم بالخدم ويسعى على رأسه في قضاياهم لا على القدم:
تلذّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرامُ
وكان يعاني شيئاً من النظم والنثر على عاميته، ويأتي به طباعاً من غير تكلف سجيته، فيأتي من ذلك بما يُضحك الثكالى، وينشط القلوب للتعجب بعد أن كانت كُسالى، على أنه يأتي في ذلك بما يشبه التورية والاستخدام، والاستعارة والجناس الناقص والتام، فما كنت أنا ولا شيخنا الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس نقضي العجب من ذلك، ونقول له: يا سيدنا سبحان من وسع عليك في هذا الفن المسالك، فيعجبه ذلك، ويقول: والله هذا ولم أقرأ المقامات ولا حفظت شيئاً من شعر المتنبي، ولا اشتغلت بشيء من العربية ولا العلم، فنقول له: هذه مواهب وقرائح.
ولم يزل على حاله الى أن وهى ركن العماد، ومال الى خراب عمره وماد.
وتوفي بالقاهرة رحمه الله تعالى في أوائل سنة تسع وخمسين وسبع مئة بالقاهرة.
وجمع لنفسه تاريخاً كبيراً، يجيء في خمس عشرة مجلدة، وله غير ذلك.
وكان يصحب الكبار مثل القاضي كريم الدين الكبير، واختص بجمال الكفاة وبالوزير علم الدين بن زنبور وبالأمير سيف الدين أيتمش نائب الكرك وصفد، وبالأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، وبالحاج أرقطاي لما عمل النيابة بدمشق ومصر، وبغيرهم، واختص أخيراً بالأمير سيف الدين شيخو وسيف الدين صرغتمش.
وكان يكتب إلي قصائد وغيرها، فأحتاج الى أن أجيبه عن ذلك، ومما كتبته إليه:
دار عماد الدين شوقي لها ... يجلّ أن يذكر بين العباد
ما راق طرفي بعدها منزل ... لأنها في الحسن ذات العماد
وكتبت إليه:
أوحشتني يا عمدتي ... وعلى الحقيقة يا عمادي
يا من غدا وشعاره ... بين الورى بذل الأيادي
وله محاسن نشرها ... متضوع في كل ناد
ومكارم بحديثها ... فينا ترنّم كل شاد
ومروءة أبناؤها ... مشهورة بين العباد
يكفي محبك أنه ... من بعد بعدك في جهاد
محنٌ يذوب بنارها ... صمّ الصخور من الجماد
وصبابة إن قلت قلّت ... فهي تصبح في ازدياد
والصبر كنت أظنه ... ممن يوصلني ببلادي
وحياتكم لم يرض أن ... يشقى وخالف في المبادي
وكذا الكرى من عهدكم ... للآن لم يعرف وسادي
والله لم يخرج معي ... من عندكم إلا ودادي
فعدمت إلا أدمعاً ... تحكي بصيّبها الغوادي
ووجدت كل بلية ... حاشاكم إلا فؤادي

فغدوت أنشده وأط ... لب عوده، ولمن أنادي
وأظنه في ربعكم ... تجدونه بين الرماد
أفسدتموه بفضلكم ... لما غدا وفق المراد
يا دهر زدت من النوى ... وأطلت في هذا البعاد
ما آن أن تحنو، فقد ... أشمت بي كل الأعادي
موسى بن مهناالأمير مظفر الدين ابن الأمير حسام الدين أمير آل فضل، تقدم ذكر والده مهنا وعمه فضل وأخويه سليمان وأحمد في أماكنهم.
كان والده مهنا يقول: فرحت بأربع: عقل موسى، وشجاعة سليمان، وكرم أحمد، وحُسن فيّاض.
وكان ما من أحد من العربان الأمراء إلا وقد أكل إقطاع التتار إلا موسى، فإنه كان السلطان يغضب عليهم ويطردهم من بلاده، وما يأكل إلا إقطاع السلطان. وكان يتنقل في إمرة آل فضل في حياة أبيه، وأخذها مرة من عمه الأمير شجاع الدين فضل.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقعرة فجأة بعد صلاة العشاء الآخرة في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
وبموسى هذا كان يُكنّى أبوه مهنا، فيقال يا أبا موسى. ونقل من القعرة بعد موته الى تدمر ودفن بها.
موسى بن يحيى بن فضل اللهالأمير صلاح الدين، تقدم نسبه في ترجمة أخيه القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله في حرف الهمزة.
كان من أحسن الأشكال، وممن لا شبهة في حسن صورته ولا إشكال، مترَّك الوجه والعين، تنصرف النفوس الى رؤيته ولم تلتفت الى الورق ولا العين.
أدخله والده القاضي محيي الدين في جملة أرباب السيف، ولم يُر أن يُهدى الى وظيفة الكتاب في يقظة ولا طيف، فجمّل به المواكب، وكمّل به الكواكب، ثم إنه عُدّ في جملة الأمراء، وكاد يستخدم الجلة من الوزراء.
ولم يزل في مطالع سعوده، ومعارج صعوده، الى أن فسد صلاحه، ولم يسفر بالحياة صباحه.
وتوفي رحمه الله في صفر سنة ستين وسبع مئة.
ومولده سنة عشرة وسبع مئة.
هذا الأمير صلاح الدين توجه مع والده وإخوته الى الديار المصرية، وهو بزي الأتراك، فأعطاه السلطان الملك الناصر محمد إقطاعاً في حلقة مصر. وهو شقيق القاضي علاء الدين صاحب دواوين الإنشاء الشريف، أخذ له في أيام الناصر أحمد إمرة عشرة بمصر، ثم أخذ له إمرة عشرين. وكان مقيماً عند أخيه، وبعد كل فترة من السنين يحضر الى دمشق لكشف أملاكه وتعلّقاته، ويعود الى الديار المصرية، وكان من أحسن الأشكال وأظرفها.
ولما توفي رحمه الله تعالى، وجد عليه أخوه القاضي علاء الدين وجْداً عظيماً. وكتبت أنا إليه من دمشق المحروسة أعزيه فيه:
قد شبّ جمر الأسى في القلب واشتعلا ... مذ قيل لي إن موسى قد قضى الأجلا
موسى بن يحيى الذي قد كان طلعته ... كأنها الشمس لما حلّت الحمَلا
موسى بن يحيى بن فضل الله ذو نسب ... به الى عمر الفاروق قد وصلا
ذاك الأمير صلاح الدين خير فتى ... قد زيّن الدهر والأيام والدولا
قد كان موكب مصر يستنير به ... إذا غدا بنجاد السيف مشتملا
قد كان بدراً تضيء الليل طلعتُه ... إذا بدا، أفلا أبكي وقد أفلا
وكان ظلاً عليناً وارفاً وبه ... نلقى الردى، أفلا نأسى إذا انتقلا
لولا وفاة صلاح الدين ما وجدت ... لها المنايا الى أرواحنا سبلا
فأعظم الله فيه أجر فاقده ... ولا استخف به من حزنه جبلا
والله يبقيه في أمنٍ وفي دعة ... والله أكرم مدعو إذا سُئلا
فإنه في نهايات العلا، فإذا ... أراد غاية مجد في الورى نزلا
موسىالأمير شرف الدين الحاجب بحلب.
أقام زماناً بحلب أمير حاجب، الى أن كرهه الأمير سيف الدين الكاملي، ولما عاد الى حلب نائباً ثاني مرة كتب فيه فتوجه الى قلعة الروم نائباً.
ثم نُقل الى نيابة البيرة فأقام بها الى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وسبع مئة بالبيرة، وتوجه عوضه الأمير جمال الدين آقوش الحاجب بحلب.
موفقيةستّ الأجناس بنت أحمد بن عبد الوهاب بن عتيق بن وردان المصرية، مسندة القاهرة.

سمعت من الحسن بن دينار، وعبد العزيز بن النقّار، والعلم بن الصابوني، وطائفة، وتفرّدت بسماع أجزاء.
أخذ عنها شيخنا فتح الدين بن سيد الناس، والواني، وابن الفخر، وسائر الطلبة.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولدها سنة ثلاثين وست مئة.
اللقب والنسبالموفّقي
نائب غزة، الأمير ركن الدين بيبرس.
الموفّق
محمد بن محمد.

الموفق
ناظر الدولة هبة الله، ثم تسمى بعبد الله بن سعيد الدولة.
ابن المولى الحمويعبد الرحمن بن علي.
المؤيّد
صاحب حماة إسماعيل بن علي.
المؤيّد
صاحب اليمن داود بن يوسف.
و
المؤيد
ابن خطيب عقربا
عليّ بن إبراهيم.
ابن ميسّر
الصاحب عز الدين أحمد بن محمد.
ابن ميناشمس الدين محمد بن محمد.
حرف النون
ناصر بن منصور
ابن شرف، القاضي الإمام ناصر الدين التغلبي الزُرعي الشافعي.
كان رجلاً جيداً، كريم النفس، حسن الخلق، تام الشكل، مشكور السيرة، نزهاً عفيفاً.
كان أولاً خطيباً بزرع، ثم ولي القضاء بها، وولي قضاء أذرعات، وقضاء عجلون ونابلس وحمص، وولي قضاء صفد وقضاء طرابلس، وما باشر بلداً إلا وحصل الثناء عليه.
توفي رحمه الله تعالى بنابلس في ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ناصر بن أبي الفضلابن اسماعيل، الفقيه المقرئ ابن الهيتي الصالحي، ابن شرف الدين الشافعي.
كان مليح الصورة في صباه، مطرب الصوت، يقرأ القرآن في التُرب والختم، وحفظ التنبيه، ثم إنه، على ما ذكره شيخنا الذهبي، صحب الباجربقي وابن المعمار البغدادي والنجم بن خلكان، وتزندق، واستخف بأمور الدين، وتفوّه بعظائم، وتزهد وتوجه الى مكة، ثم الى بغداد، ثم إنه فرّ منها لما همّوا بقتله، ثم هرب من ماردين، فشهدوا عليه بكفر ثان بحلب، فأمسكه قاضيها الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وبعثه مقيّدا الى دمشق، فأقيمت عليه البيّنة عند قاضي القضاة شرف الدين المالكي، فما أبدى عذراً وسكت، لكنه تشهد وصلى ركعتين وتلا القرآن ثم ضرب عنقه، وما كفّن ولا غُسل.
وكانت قتلته في يوم الثلاثاء حادي عشري شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين وسبع مئة، وكان عمره نحواً من ستين سنة.
قلت: قال لي جماعة إنهم لما توجهوا به ليضربوا عنقه أنشد:
إن كان سفك دمي أقصى مرادهم ... فما غلت نظرة منهم بسفك دمي
ابن نبهانالشيخ محمد بن نبهان. وولده الشيخ علي بن محمد.
نجم الحطينياسمه أيوب بن أحمد، وإنما اشتهر بالنجيم الحطيني، وحطين بكسر الحاء المهملة وتشديد الطاء المهملة وبعدها ياء آخر الحروف ونون.
كان أفّاكاً، جريئاً على الأهوال فتّاكاً، لا يقدّم خوفاً من خالق ولا مخلوق، ولا يبالي بعد إدراك غايته أهو سابق أم مسبوق، يفتك نهاراً جهاراً، وإذا نزل بدار قوم رحل بخزية وترك عارا، ما حلّ في ناحية إلا ملأها فجورا، وكان له النّقص فيها زائراً ومَزورا، يفرّ من الشام الى مصر، ويخفر الذمة ويخون الإصر.
ولم يزل يذهب ويحور، ويظلم نفسه وغيره ويجور، ويفوت كلَّ زرية ودمه كما يقال يفور، حتى وقع بأعماله، وقطع الدهر بخيبة آماله:
وساقه البغي الى صرعة ... للحين لم تخطر على باله
وكان المذكور شيطاناً من الشيطاين، وإبليساً من الأباليس، يسفك الدماء، ولا يقف عند خطة شرعٍ ولا غيره.
أول ما اتصل بخدمة الشيخ شمس الدين محمد بن أبي طالب شيخ الربوة المقدّم ذكره في المحمدين، وكان الشيخ شمس الدين شيخ الخانقاه التي بحطين، فاتفق أن جاء إليهم فقير بات في الخانقاه، فرأى نجيم هذا معه ذهبا، فلما كان في الليل نبهه نجيم، وقال له: قم فقد طلع الصباح، فقام فوجد الليل باقياً، فقال: لا عليك أنا أخفرك حتى تطلع من هذا الوادي، فخرج به وعرّج عن الطريق وذبحه وأخذ ما معه. وجرى لشيخه مع كراي نائب صفد ما ذكرته في ترجمته.
وهرب نجيم الى الديار المصرية، ودخل الى الصعيد واتصل ببعض الولاة وجرت له هناك واقعة أخرى من هذا النمط حدثني بها الشيخ شمس الدين بن الأكفاني وأُنسيت أنا كيفيتها.

ثم إنه حضر بعد ذلك الى الشام فوجد شيخه الشيخ شمس الدين شيخ الربوة بدمشق، وأراد أن يعود الى صحبته، فأبعده ولم يقرّبه، ولا أراه وجهاً لما تقدم منه.
وحدثني الشيخ شمس الدين بن أبي طالب قال: كنت أتحقق جرأته وإقدامه وكنت أخافه على نفسيه وأحذره، فما أنام في مقام الربوة حتى أتحصن وأحكم غلق الأبواب، فأكون في بعض الليالي نائماً، فما أشعر به إلا وقد أنبهني من نومي بإزعاج وبيده سكين ويقول لي: يا أفخاذ الغنمة، أو يا أفخاذ النعجة، إيش أعمل بك الساعة؟ فأقول له: اتق الله وخفْه، وأترفق له وأتلطف حتى يدعني ويمضي، ومن رأى الربوة وحصانتها تعجب من فعل المذكور.
ولم يزل بدمشق حتى أن أتى السلطان الملك الناصر محمد من الكرك الى دمشق سنة تسع وسبع مئة، فداخل مماليك السلطان والخاصكية واتصل بهم.
حدثني الشيخ نجم الدين بن الكمال خطيب صفد رحمه الله تعالى، قال: لم نشعر يوماً بالنجيم إلا وعليه تشريف هائل، وقد جاء يسلّم علينا، فقلنا له: من أين لك هذا؟ قال: من السلطان، ومهما كان لكم من الحوائج قضيتها، قلنا له: عرّفنا بهؤلاء أصحابك، فقال: لا والله، متى عرفتموهم أنحستموني عندهم، ولكن أنا أقضي أشغالكم، قال: وقال لي إنني أنام في القصر الأبلق بين صناديق الخزانة الخاص، وأرى السلطان في منامه وقيامه، وليس بيني وبينه غير صندوق.
ثم إنه عمل ملحمة وعتقها وذكر فيها حلية واحدة من مماليك السلطان اسمه جولجين. وقد تقدم ذكره في حرف الجيم، وذكر فيها أنه يلي الملك، وذكر فيها آثاراً وعلائم توصل الى رؤيتها في الحمّام، أو سأل عنها من البابكية، ولعب بعقل ذلك المسكين الى أن توهم أن ذلك يقع، وكان يقول له ولخوشداشيته أوقعوا الفعل، فيظهرون له الخوف، فيقول لهم: إذا لم تقتلوا السلطان، أنا أقتله لكم، فما قدّر الله تعالى ذلك، وتوجه معهم الى مصر وأقام عندهم سنتين.
ثم إنه جاء الى حطين فاطلع السلطان على القضية، فوسط جولجين ومعهم جماعة، ثم بعث أخذ النجيم على البريد من صفد وجهزه الى دمشق مسمراً، وكان الموكب واقفاً في سوق الخيل بدمشق، وقد أقبل جمله، وهو مبرقع، فتوهم الناس أنه بكتمر الحاجب.
وكان وصوله الى دمشق مسمراً في يوم السبت سادس عشري شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبع مئة. وقلت أنا فيه:
لابد في الاسم من معنى يخصصه ... بذلك اللفظ فافهم حكمه الأزلي
كنجم حطين شاء الله رفعته ... لكنها بمسامير على جمل
نجمة التركمانيخرج على الدولة وتحرم وتجرم، وأخاف السبل، وأخذ القفول، وروّع الناس ببلاد ماردين والموصل وسنجار، جهزت إليه الفداوية، فوقعوا عليه، وضربوه بالسكاكين مرات وينجو ويقوم ويعود الى الحالة الأولى.
ثم إنه في مستهل جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، انضوى الى زبيد الأحلاف لما أبعدوا عن الرحبة، وجاء الى الشيخ حسن بن هندو حاكم سنجار، وأخذ منه عسكراً وتوجه به وبالأحلاف ومقدّمهم محمد بن عبيد الزبيدي الى الرحبة، ولم يكن بها يومئذ يزك من عسكر دمشق، فأغار على الرحبة وقتل بها، وسفك الدماء، وأسر، وأثخن الجراح، ونهب الأموال والمواشي، وأبان في ذلك اليوم، فكان يوهم أنه يرمي شخصاً بالنّشاب ويفوّق السهم الى شخص بعينه، ثم يطلق السهم على غيره. وبالغ في أذى الرعية، وعاد الى سنجار، فتوجهت العساكر إليه من دمشق وحلب وحماة، وحاصروا سنجار، ثم إن حاكم سنجار أظهر الطاعة وحلف هو ونجمة لصاحب مصر وأظهرا التوبة والإنابة. ثم إن الفداوية وقعت عليه وضربته خمس ضربات فأمسك الفداوية، وحزّ رؤوسهم، وعلقها على باب سنجار. ثم إنه عوفي بعد مدة، ونزح من سنجار، وتوجه الى ماردين وأقام هناك يعبث ويغير ويؤذي ويعتمد كل قبيح، الى أن قتل هو وولداه ونوابه، وحزّ رؤوسهم صاحب ماردين، وجهزها الى باب السلطان صحبة سيف الدين تيتمر أمير آخور، صاحب ماردين، فلما وصل الى حلب قال الأمير سيف الدين بيبغاروس نائب حلب: أي كلاب هؤلاء حتى يتوجهوا برؤوسهم الى باب مولانا السلطان ليسوا أمراء توامين ولا ملوكاً، هؤلاء حرامية قطاع طريق، وباب مولانا السلطان أجلّ من ذلك، وترك الرؤوس في حلب، وجهز أمير آخور صاحب ماردين بما على يده من المكاتبة، وكان ذلك في شوال سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
وقلت أنا فيه:

إذا بغى المرء لم تُحمد عواقبه ... وقلّ باغٍ نجا من قبضة العطب
كنجمةَ التركماني بات جثّته ... في ماردين وصار الرأسُ في حلب
الألقاب والأنسابابن النّجيبي
أبو بكر بن أيبك.
ابن النجارمحمد بن أسد.
ابن النّحاس
جماعة، منهم الشيخ بهاء الدين النحوي محمد بن ابراهيم. وكمال الدين الحلبي إسحاق بن أبي بكر. وبهاء الدين بن النحاس الحنفي الحلبي أيوب بن أبي بكر. وعلاء الدين والي دمشق علي بن إبراهيم بن خالد، وولي أبوه أيضاً مدينة دمشق. وأمين الدين محمد بن أبي بكر. وشهاب الدين يوسف بن محمد.
وابن نحلةعلاء الدين علي بن يحيى.
ابن النحويةالشيخ بدر الدين محمد بن يعقوب.
نسب خاتونابنة الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين ممدود ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها نسخة أبي مسهر عن إبراهيم بن خليل، ولا أعلم أنها روت غيرها. وكانت سمعت أيضاً من خطيب مردا، وابن عبد الدائم، وكانت كبيرة السن معمرة.
لم تزل شيخة برباط بلدق الى حين وفاتها. وكانت كثيرة الإقامة عند الحنابلة بالدير تحبهم وتؤثرهم، وعندهم سمعت الحديث.
وتوفيت رحمها الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين وست مئة.
الألقاب والأنساب

ابن النشابي
عماد الدين حسن بن علي. وناصر الدين محمد بن الحسن.
النشائي
الوزير ضياء الدين أبو بكر بن عبد الله.
النشّو
ناظر الخاص عبد الوهاب.
النشّائي
عز الدين عمر بن أحمد.
ابن
النشو
محمد بن عبد الرحيم.
نصر بن سلمان بن عمرالشيخ الإمام القدوة المقرئ المحدّث، النحوي، الزاهد، العابد، القانت، الرباني، بقية السلف المنبجي، نزيل القاهرة وشيخها.
سمع بحلب من إبراهيم بن خليل، وبمصر من الكمال الضرير، وتلا عليه بعدة كتب، وعلى الكمال بن فارس، وتصدّر في أيام مشايخه، وشارك في العلوم وتفنن، ثم إنه تعبّد وانقطع، وتردد إليه الكبار وكان يهرب منهم، وارتفع ذكره جداً في دولة تلميذه الجاشنكير، وكان ممن يؤذي الشيخ تقي الدين بن تيمية، وهو الذي أحرف الجاشنكير عنه.
قال ابن أخته الحافظ عبد الكريم: ما دخلت عليه قط إلا وجدته مشغولاً بما ينفعه في آخرته، وكان يتغالى في الشيخ محيي الدين بن عربي، ولا يخوض في مزمناته.
قال شيخنا الذهبي: ولقد جلست معه بزاويته، فأعجبني سمته وعبادته.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء بعد العصر سادس عشر جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة بمنبج.
نصر بن محمد بن محمدالسلطان أبو الجيوش ابن السلطان ابن الأحمر الأنصاري المغربي.
خرج على أخيه واعتقله وقتله وتملّك. وكانت دولته أربع سنين. ثم وثب عليه ابن أخته الغالب بالله وقهره، وقرر أبا الجيوش أميراً بوادي آش، فدام به نحواً من عشر سنين.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
نصير بن أحمد بن عليالمناوي الحمّامي.
كان عامياً إلا في النظم الذي يأتي بسحره، ويدير على الألباب كؤوس خمره، وكان في تلك الحلبة في جيادها المعدودة، وسوابقها التي تذر الرياح الهوج وأنفاسها مكدوده، قعدت معه التورية وجادت، ورأست على كلام غيره وسادت، معانيه بليغة وألفاظه فصيحة، وأبكاره برزت حاسرة ولم تخش فضيحة، وتراكيب كلماته في كل ما يأتي به في غاية الانسجام، ومقاصده مليحة تطوف على النفوس منها بالأنس جام، جاراه فحول عصره وجاراهم، وكتبوا إليه فأجابهم وباراهم وما ماراهم، وربما أربى في اللطف على مجاريه، ولو لم يكن حمامياً لما عرف حرّ الأشياء وباردها وأخذ الماء من مجاريه، كم ألغز فألغى ذكر من تقدم، وأوجز فأوجب أن الذي أداره على الأسماع كأس السلاف المقدم، وأعجز من أعجب السامعين، فقالوا ما غادر هذا الشاعر بعده من متردم، يقول من يسمع مقاطيعه الرائعة، أو يفكر في مقاصده اللائقة:
أحروف لفظٍ أم كؤوس مدامة ... وافت ونشوة سامع أو شاربِ
مما يضم السلك في جيد المها ... ة الرود، لا ما ضم حبل الحاطب

تحلو شمائل حسنها مجلوة ... كالروض تحت شمائل وجنائب
وكان في مصر يرتزق بضمان الحمامات، ويقيم بلاغة من فضالة تلك القمامات، عادة جرى الدهر على قاعدتها مع الأدباء، وغادة لم تغن الأيام من كان كفؤها من الألبّاء.
ولم يزل على حاله حتى أصبح للأعداء رحمة، وبكته معانيه الجمة.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة أربع وسبع مئة.
ومولده بمنية بني خصيب سنة تسع وست مئة.
أخبرني شيخنا العلامة أبو حيان، قال: كان المذكور أديباً بمصر كيّس الأخلاق يتحرّف باكتراء الحمامات، وأسنّ وضعف عن ذلك، وكان يستجدي بالشعر. وكتبت عنه قديماً وحديثاً.
وأنشدني قال: أنشدني المذكور من لفظه لنفسه:
لا تفُه ما حييت إلا بخير ... ليكون الجواب خيراً لديكا
قد سمعت الصدى وذاك جماد ... كل شيء تقول، ردّ عليكا
قلت أنا: قوله: إن الصدى جماد فيه نظر، لأن الصدى هو الصوت العائد عليك عندما يقرع صوتك ما يقابلك من حائط أو غيره، ولكن يمكن أن يتمحّل له وجه ضعيف. والنصير رحمه الله تعالى أخذ هذا من قول ابن سناء الملك:
بان عليها الذل من بعدهم ... ونراه حتى كاد أن لا يبين
فإن تقل أين الذين اغتدوا ... يقل صداها لك أين الذين
وأخذه ابن سناء الملك من الأرجاني حيث قال:
سأل الصدى عنه وأصغى للصدى ... كيما يجيب، فقال مثل مقاله
ناداه أين ترى محطّ رحاله ... فأجاب أين ترى محط رحاله
وقال، أنشدني له أيضاً:
أقول للكزس إذ تبدّت ... في كف أحوى أغنّ أحور
خرّبت بيتي، وبيت غيري ... وأصل ذا كعبك المدوّر
وبه قال، أنشدني له:
إن الغزال الذي هام الفؤاد به ... استأنس اليوم عندي بعدما نفرا
أظهرتها ظاهريات وقد ربضت ... فيها الأسود رآها الظبي فانكسرا
وبه قال: أنشدني له:
قالوا افتضحت بحبه ... فأجبت لي في ذا اعتذار
من لي بكتمان الهوى ... وبخده نمّ العذار
قلت: أحسن منه وأصرح قول الآخر:
لافتضاحي في عوارضه ... سبب والناس لوّام
كيف يخفى ما أكابده ... والذي أهواه نمّام
وبه قال: أنشدني له:
ما زال يسقيني زلال رضابه ... لما خفيت ضنىً وذبت توقدا
ويظنني حياً، رويت ريقه ... فإذا دعا قلبي، يجاوبه الصدى
وبه قال: أنشدني له:
ماذا يضرك لو سمحت بزورة ... وشفعتها بمكارم الأخلاق
وردعت نفسك حين تمنعك اللّقا ... وتقول هذا آخر العشاق
وبه إجازة، قال: أنشدني لنفسه:
إني لأكره في الأنام ثلاثة ... ما إن لهم في عدها من زائد
قرب البخيل، وجاهلاً متعاقلاً ... لا يستحي، وتودّداً من حاسد
ومن البلية والرزية أن ترى ... هذي الثلاثة جمّعت في واحد
وأنشدني من لفظه القاضي جمال الدين إبراهيم ابن كاتب سر حلب، قال: أنشدني من لفظه لنفسه:
لي منزل معروفه ... ينهلّ غيثاً كالسحب
أقبل ذا العذر به ... وأكرم الجار الجنب
وبه قال: أنشدني لنفسه:
رأيت فتى يقول بشطّ مصر ... على درج بدت والبعض غارق
متى غطى لنا الدرج استقينا ... فقلت: نعم وتنصلح الدقائق
قلت: في قوله الدقائق هنا نظر، وقد أشبعت القول في فساد ذلك في كتابي المسمى فضّ الختام عن التورية والاستخدام.
وبه قال: أنشدني له:
ومذ لزمت الحمام صرت فتى ... خلاً يداري من لا يداريه
أعرف حرّ الأشيا وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه
قلت: لما كتب أبو الحسين الجزار الى النصير قوله:
حسن التأني مما يعين على ... رزق الفتى والحظوظ تختلف
والعبد مذ كان في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف
كتب النصير الحمامي بيتيه المذكورين، وقد أربى النصير على أبي الحسين، لأن الجزار أتى بمثل واحد، والحمّامي أتى بمثلين.

وقال النصير للسراج الورّاق: قد عملت قصيدة في الصاحب تاج الدين، وأشتهي أنك إذا قرئت عليه تزهزه لها وتشكرها، وسيّرها الى الصاحب، فلما أنشدت بين يديه بحضرة السراج، قال الوراق بعدما فرغ من إنشادها:
شاقني للنصير شعرٌ بديع ... ولمثلي في الشعر نقد بصير
ثم لما سمعت باسمك فيه ... قلت: نعم المولى ونعم المصير
فأمر له الصاحب بدراهم وسيّرها إليه. وقال: قل له: هذه مئتا درهم صنجة، فلما أدى الرسول الرسالة، قال: قبل الأرض بين يدي مولانا الصاحب، وقل نسأل صدقاتك أن تكون عادة، فلما سمع الصاحب بذلك أعجبه، وقال: يكون ذلك عادة.
وكتب النصير الى السراج يتشوق:
وكدّرت حمامي بغيبتك التي ... تكدّر من لذاتها صفو مشربي
فما كان صدر الحوض منشرحاً بها ... ولا كان قلب الماء فيها بطيّب
قلت: وهذان مثلان أيضاً يتعلّقان بالحمّام.
وكتب أيضاً يستدعي:
من الرأي عندي أن تواصل خلوة ... لها كبد حرّى وفيض عيون
تراعي نجوماً فيك من حرّ قلبها ... وتبكي بدمع فارح وحزين
غدا قلبها صبّاً عليك، وأنت إن ... تأخرت أضحى في حياض منون
وكتب ناصر الدين بن النقيب الى النصير، وقد حصل له رمد:
يقولون لي عين النصير تألمت ... ولازمه في جفنه الحكّ والأكلُ
فقلت: أعين الرأس أم عين غيره ... فلعلو شيء لا يداوى به السفل
فقالوا: به العين التي تحت صلبه ... فقلت: لها التشيف عندي والكحل
وميل بماء الريق يبتلّ سفله ... فيدخل سهلاً غير صعب وينسلُ
وأغسلها بالبيض واللبن الذي ... علي بتقطيري له تجب الغسلُ
فإن شاء وافيتُ الأديب مدانيا ... ولم أشتغل عنه وإن كان لي شغل
فكتب النصير الجواب:
أيا من له في الطب علم مباشر ... وما كل ذي قول له القول والفعلُ
أتيت بطبٍ قد حوى البيع والشرا ... تبيّن لي في ذلك الخرج والدخل
وإن كان لي بطبّك إنه ... بسقمي صعب ليس هذا به سهلُ
فلا عدِم المملوك منك مداوياً ... وما زال للمولى على عبده الفضل
وكتب ابن النقيب إليه وهو بقرية في خطه:
رغبت في كسر أجر ... وفي اغتنام مثوبهْ
وهان ما كان فيه ... من السراج صعوبهْ
ولست في أرض شام ... ولست في أرض نوبه
وبيننا رمي سهم ... غلطت بل رجم طوبه
فكتب النصير الجواب:
رُحماك يا خير مولى ... ففي العتاب عقوبهْ
وأنت إن زدت عتباً ... يغدو غلامك قوبه
والعبد مازال يهوى ... لا بل يحب الرطوبه
تموّز فكرك والعب ... دُ فكره فيك طوبه
قلت: ما كان يليق ذكر تموز وهو من شهور الروم، وطوبة وهو من شهور القبط.
وكتب النصير الى السراج الوراق:
كنت مثل الغزال والله يكفي ... صرتُ في وجهه إذا جئت كلبا
ولعمري لا ذنب لي غير أني ... تُبتُ لله ظن ذلك ذنبا
وهو لو جاءني وقد تبت حتى ... يبتغي حاجة فلن أتأبّى
فكتب الوراق الجواب، ومنه:
وأتى الظبي مرسَلاً منك فاستغ ... ربْتُ لما دعوتَ نفسك كلبا
ولكم جئت عادياً خلفه تل ... هث عَدواً للصيد بُعداً وقربا
غير أني نظرت عين صفي الد ... ين كادت أن تشرب الظبي شربا
فاترك التوبة التي قد رآها ... لك وزراً كما زعمت وذنبا
واجتهد في رضاك عنه وقرّب ... كل نائي المدى تنلْ منه قربا
فلكم رضت جامحاً في تراضي ... ه وذللت بالسفارة صعبا
وكتب الى السراج أيضاً ملغزاً في نون:
ما اسمٌ ثلاثي يرى واحداً ... وقد يُعدّ اثنين مكتوبه
يظهر لي من بعضه كله ... إذ كل حرف منه مقلوبه
أضف ثمانين الى ستة ... إن شئت لا يعدوك محسوبه

اطلبه في البر وفي البحر لا ... فات حجى مولى مطلوبه
فكتب الوراق الجواب:
يا سالب الألباب عن سحره ... بمعجز أعجز أسلوبُهْ
ألغزت في اسم وهو حرفٌ وقد ... يخفى علينا فيك محجوبه
وهو اسمُ أنثى مرضع، طفلها ... غيرُ لبان الناس مشروبه
مطّرد منعكسٌ شكله ... سيّان في العين مقلوبه
قلت: قول النصير: أضف ثمانين الى ستة وهمٌ منه، لأن النونين بمئة والواو بستة فيكون ذلك مئة وستة.
وكتب النصير الى الورّاق ملغزاً في سيل:
أيا مَن له ذهنٌ لدى الفكر لا يخبو ... ومن لم يزل يحنو ولم يزل يحبو
قصدتُ سراج الدين في ليل فكرة ... يكاد جوادُ العقل في سيلها يكبو
ليرشد في شيئاً به يدرك المنى ... له قلب صبٍ كم فؤاد به صبُّ
إذا ركب البيداً يخشى ويُتّقى ... ولم يثنه طعن ولم يثنه ضربُ
بقلب يهد الصخر يوم لقائه ... ومن أعجب الأشياء ليس له قلب
فكتب الوراق الجواب:
أراك نصير الدين عذّبت خاطري ... وقد راق لي من لغزك المنهل العذبُ
وأثبتّ قلباً منه ثم نفيته ... وأعرفه صبّاً وهام له قلبُ
وأعرف منه أعيناً لا تحفّها ... جفون كعادات الجفون ولا هُدب
ومن وصفه صبُّ كما أنت واصف ... صدقت ولولاه لما عرف الحب
فدونك ما ألغزته لي مُبيّنا ... وذلك ما يحتاجه العُجم والعُرب
وكتب النصير إليه أيضاً:
أتى فصل الخريف عليّ جداً ... بأمراض لواعجها شدادُ
وأعذر عائي إن لم يعدني ... وربّ مريض قومٍ لا يعاد
فأجاب الورّاق:
خلائقك الربيع فليس تخشى ... خريفاً في الجسوم له اعتياد
ولا والله لم أعلمه إلا ... صحيحاً والصحيح فما يعادُ
وكتب النصير إليه أيضاً:
أيها المحسن الذي وهب الله ... تعالى الحُسنى له وزيادَهْ
ضاع ما كان من وصولات وصلي ... فتصدق بكتبها لي مُعاده
أين تلك الطروسُ نظماً ونثراً ... منك تأتي على سبيل الإفادهْ
كل طرس يحلى عروساً بدرّ ال ... قول كم من عقد وكم من قلاده
كان عيشي إذا أتاني رسولٌ ... منك يحيي خلاً أمتّ وداده
شهد الله ليس لي غير ذكرا ... ك وإلا خرست عند الشهاده
فكتب الوراق الجواب:
لم يغب عن سواد عيني حبيبٌ ... حلّ من قلبي المشوق سواده
فكأني ولا أذوق له رز ... ءاً جريرٌ وذاك عند سواده
ذو بيان أدنى بلاغته تُن ... سيك قساً وعصره وإياده
جوهري الألفاظ كم قلّد الأج ... ياد عقداً من نظمه وقلاده
فعبيدٌ أدنى العبيد لديه ... ولبيد عن نظمه ذو بلادَه
ولأزجاله ابن قُزمان يعنو ... فلتوشيحه يقرّ عُباده
فات دار الطراز منه خلال ... لَوبها للسعيد تمت سعاده
يا صديقي الذي غدا راغباً ف ... ي وللأصدقاء فيّ زهاده
هجروني كأنني مصحف أو ... مسجد قد أقيم أو سجّاده
دمت نعم النصير لي ما تغنّت ... ساجعاتٌ على ذُرا ميّاده
وكتب النصير الى الوراق:
يا أيها المولى السرا ... ج وماجداً أعلى مناره
يا من تجاوز فضله ... حدَّ القياس مع العباره
يا من يلوح بوجهه ... حسنٌ لناظره نضاره
يا بدر تمّ كم علي ... ه غدت من الفضلاء داره
كم في الورى معنى تني ... ر ولم أقل طوراً وتاره
وإذا مدحناه فما ... فيه صفات مستعاره
لمبشري إن زرتني ... بشرى ويحظى بالبشاره
يا واعدي في السبت ه ... ذا السبت جاء وشنّ غاره

متصدقاً زرني فذا ... يوم التصدق والزياره
فكتب الجواب عن ذلك:
مولاي يا حول الخلا ... ئق والعبارة والإشاره
ومنمّقاً في الطرس رو ... ضاً كاد أن يجري غضاره
قد كنت يوم السبت ذا ... عزم على قصد الزياره
لو لم تشنّ عليّ آلامي كفاك الله غاره
وكتب النصير ملغزاً في النار:
وما اسم ثلاثي به النفع والضرر ... له طلعة تُغني عن الشمس والقمر
وليس له وجه وليس له قفا ... وليس له سمع وليس له بصر
يمد لساناً يختشي الرمح بأسه ... ويسخر يوم الضرب بالصارم الذكر
يموت إذا ما قمت تسقيه قاصداً ... وأعجب من ذا أن ذاك من الشجر
أيا سامع الأبيات دونك شرحها ... وإلا فنم عنها ونبّه لها عمر
فكتب الوراق الجواب:
أراك نصير الدين ألغزت في الذي ... يعيد لمسك الليل كافور في السحرْ
رأى معشر أن يعشقوها ديانة ... وتالله لا تبقي عليهم ولا تذَرْ
وكل على قلب لهم ران اسمها ... فمسكنهم فيها ومأواهم سقر
وقد وصفوا الحسناء في لهجة لها ... كما وصفوا الحسناء بالشمس والقمر
ولو لم تكن ما طاب خبزٌ لآكل ... ولا لذّ ماء في حماك لمن عبر
وكتب النصير الى الوراق ملغزاً في ديك:
أيا من لديه غامض الشعر يكشفُ ... ومن بدره بادي السنا ليس يُكسَفُ
عساك هدىً لي إنني اليوم ذاهل ... عن الرشد فيما قد أرى متوقف
أرى اسماً له في الخافقين ترفّع ... أخا يقظة ذِكراً ولا يتعفّف
رأيت به الأشياء تبدو وضدّها ... فكان لهذا الأمرلا يتكيّف
فعرّفه ذو السمع وهو منكر ... ونكّره ذو اللب وهو معرّف
فجاوب لأحظى بالجواب فإنه ... إذا جاوب المولى العبيد يشرّف
فكتب الوراق الجواب:
إليك نصير الدين مني إجابة ... بها أوضح المعنى الحفيّ وأكشف
رأيتك قد ألغزت لي في متوجٍ ... بتذكاره أسماعنا تتشنف
ينبّه قوماً للصلاة ومعشراً ... عبادتهم آسٌ وكاسٌ وقرقف
له كرم قد سار عنه وغيرة ... وعرفٌ به من غيره ظل يُعرف
حظيّاً تراه وادعاً في ضرائر ... يزيّنه تاج وبُردٌ مفوَّف
وفي قلبه كيدٌ ولكن صدره ... غدا ضيقاً مثلي بذلك يوصف
وكتب إليه النصير ملغزاً في نعامة:
ومفردٍ جمعاً يُرى ... بحذف بعض الأحرف
اسم نعى أكثره ... فقال باقيه أكفف
تراه يعدو مسرعاً ... في بُرده المفوّف
فكتب الوراق الجواب:
لو قلت فيمن قد نعى ... مات لصدقتك في
وكل باغ كالذي ... يبغي رهين التلف
ألغزت في اسم طائر ... في الأرض عنا ما خفي
يفحص فافحص عنه يا ... ربّ الفنون تعرف
وهو لعمري في السما ... ء يُقتفى ويقتفي
وكتب النصير الى الوراق، وعنده أحمد الزجّال:
عندنا من غدا بحبك مغرى ... وله فيك عشقة وغرام
موصلي يهوى الملاح إذا ما ... جاء صبح اللحى وولى الظلام
فهو لا ينتهي عن الشيب بالش ... يب فماذا تقول يُجدي الملام
لا تسلّي منه الفؤاد مدامٌ ... عن حبيب ولو تغنى الحمام
لو تبدّى لعينه ابن ثماني ... ن غدا وهو عاشق مستهام
يستبيه من العيون بياض ... ومن الألعس الشفاه ابتسام
قرّ عيناً وطب فديتك نفساً ... عنده أنت أنت بدر تمام
فكتب الوراق الجواب:
حبذا من بنات فكرك عذرا ... ء لها من فتيق مسكٍ ختامُ
خلت ميم الروي وقد ضا ... ق ومن ذاق، قال فيه مدام
ولها من عقود لفظك حلي ... لم يحُز مثل درّه النظّام

أذكرت بالشباب عيشاً خليعاً ... نبت فوديه بعد آس ثمام
كيف لا كيف لا ولم أر صعباً ... قط يأتي إلا وأنت زمام
وبما فيك من تأتٍ ولطفٍ ... أنا شيخ للموصلي غلام
فهو نعم المولى ونعم النصير ال ... مرتضى أنت صاحبا وإمام
وكتب النصير أيضاً إليه ملغزاً في كُنافة:
يا واحداً في عصره بمصره ... ومن له حسن الثناء والسنا
تعرف لي اسماً فيه ذوق وذكا ... حلو المحيا والجنان والجنى
والحلّ والعقد له في دسته ... ويجلس الصدر وفي الصدر المنى
إن قيل يوما: هل لذاك كنية ... فقل لهم: لم يخل ذاك من كنا
فكتب الوراق الجواب:
لبّيك يا نعم النصير والذي ... أدنت به المنية لي كل المنى
عرّفتني الاسم الذي عرفته ... وكاد يخفى سره لولا الكنى
له من الحور الحسان طلعة ... تقابل المرآة منها الأحسنا
وخِدنه بعض اسمه طيرٌ غدا ... أصدق شيء إن بلوت الألينا
وهو لسان كله وبعد ذا ... منظره عند الكلام ألكَنا
وفي خوان المجد كان مألفي ... عند الصيام ربّ فاجمع بيننا
وكتب النصير أيضاً الى الوراق مع ظروف يقطين في فرد:
يا مَن لدفع الردى غدا جُنّهْ ... ومن له في قبولها المِنّهْ
هدية في الإناء يتبعها ... خير نبي وهكذا السُنّه
إذا بدا ظرفها بغلطته ... يود فتح الأديب لو أنّه
فكتب الوراق الجواب:
يا من غدا لي من العدا جُنّهْ ... ومن بحمامه لنا جنّهْ
جاء بها الفرد وهو ممتلئ ... مثل فؤاد الحماة بالكنّه
وكل ظرف منها بنوه على ال ... فتح فحقق في حبه ظنه
وكتب النصير الى الوراق أيضاً:
رُبّ راوٍ عن النبي حديثاً ... مسنداً شافياً كلاماً فصيحا
قال: قال النبي قولاً صحيحاً ... قلت: قال النبي قولاً صحيحا
وفهمت الذي أشار إليه ... وسمعت الذي رواه صريحاً
قال لي: يا أديب أنت فقيه ... قلت: لا، قال: حُزت ذهناً مليحا
فكتب الوراق الجواب:
إن فعلاً جعلته أنت قولاً ... ليس فيه يحتاج منكم وضوحا
فابْن منه مضارعاً يظهر الخا - في ويبدو الذي كنيت صريحا
وتراه يبدو لعينيك معت ... لاً وقد قلت فيه قولاً صحيحا
وهو فعلٌ لم تأته أنت يا شي ... طان فافهم مقاتلي تلويحا
وقال النصير يصف حمّامه:
حمّام الأديب العارف ... ما يجري، وحالو واقف
بها اسطول وما فيها أسطال ... والماء يتّزن بالقسطال
والعمال رأيتو بطال ... والاسكندراني ناشف
وماريت فيها بلان ... يسرّح لهد بالإحسان
والزبال يعرّ القوسان ... قال والخاتمه يصّالف
ذي دونه وقيّمها دون ... مبنية على مئة مجنون
والماء في المجاري مخزون ... والأنبوب معوج تالف
وتابوت على فسقيّة قلت ... مت بالكلية
خذوا من نصير الدية ... وإلا اثنيناً متناسف
وما أحسن ما كتب به ابن دانيال وهو:
لئن فخرتْ بالمكرمات بنو مصر ... فإنك بين الناس أجدر بالفخرِ
فما زلت ذا النادي النديّ لقاصد ... كثير رماد القِدر مرتفع القدرِ
ونارك للعافين دائمة اللظى ... لها لهب يبدو كألوية حُمر
وبيتك بيتٌ لم يزره مدنس ... فيذهب إلا وهو معه على طهر
وكم سقت ياقوتاً إليه وجوهراً ... لزينته حتى نسبت الى أمر
فلا زلت ذا الرمح الطويل تهزه ... يمينك عند النقع للبيض والسمر

وتسلب أسلاب الرجال وإنه ... لسلب فتى لم يأت ذاك على عذر
وكم لك من مشمولة قد عصرتها ... معتقة للشرب طيبة النشر
وكم تائب وفاك يكشف رأسه ... فحققت منه أنه جاء عن عذر
قلت: لقد جوّد هذا النظم ابن دانيال، وحقق أن مثله لا ينال. وقوله: ومشمولة قد عصرتها هو قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر بعينه ملغزاً في لسان الحرير الذي يستعمله المصريون في عمائمهم، وأبدع في ذلك غاية الإبداع، وهو:
ومشمولة راقت ورقّت فأصبحت ... على الشرب تزهى حين تهدى الى الكاس
وما عُصرت يوماً برجلٍ وكم لها ... إذا ما أديرت من صعود الى الراس
معتقة ما شمّست بعد عصرها ... لإثم وكم فيها منافع للناس
ابن النصيبيتاج الدين محمد بن أحمد. وضياء الدين محمد بن محمد.
النصيبي القوصيمحمد بن محمد بن عيسى.
ابن النصيركاتب الحكم علاء الدين علي بن محمد.
نُضار
بضم النون - بنت محمد بن يوسف، وهي ابنة الشيخ العلامة أثير الدين أبي حيان.
حجّت وسمعت بقراءة شيخنا البرزالي على بعض الرواة، وحدثت بشيء من مروياتها وحضرت على الدمياطي، وسمعت على جماعة، وأجازها من الغرب أبو جعفر بن الزبير، وحفظت مقدمة في النحو.
وعمل شيخنا أثير الدين والدها لما توفيت فيها كتاباً سماه ال

نضار
في المَسلاة عن نَضار. وكان والدها يثني عليها ثناء كثيراً.
وكانت تكتب وتقرأ، وقال لي والدها: إنها خرّجت جزء حديث لنفسها وإنها تعرب جيداً، وأظنه قال لي: إنها تنظم الشعر. وكان يقول دائماً: ليت أخاها حيّان مثلها.
وتوفيت رحمها الله تعالى في جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبع مئة في حياة والدها، فوجد عليها وجداً عظيماً ولم يثبت، وطلع الى السلطان وسأله أن يدفنها في بيته بالبرقية داخل القاهرة، فأذن له في ذلك، وانقطع عند قبرها ولازمه سنة.
ومولدها في جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبع مئة.
ولما توفيت كنت بالرحبة فكتبت الى والدها بقصيدة أولها:
بكينا باللجين على نُضار ... فسيل الدمع في الخدين جار
فيا لله جارية تولت ... فنبكيها بأدمعنا الجواري
الألقاب
ابن نفيس
علي بن مسعود.
ابن النقيبمحمد بن سليمان.
النعمان بن دولات شاهابن علي الخوارزمي الشيخ علي.
وصل الى دمشق في شهر رمضان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وأقام بها أياماً، وتوجه الى باب السلطان بالقاهرة، وحج من هناك، وأقام بالقاهرة مدة سنة ونصف، ورجع الى مخدومه القان أزبك.
وكان فاضلاً، طاف البلاد، واجتمع بالفضلاء، وحصّل المنطق والجدل والطب، وعاد الى بلده سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، واتصل بملكها وخدم عنده طبيباً، وصار رئيس الأطباء ببيمارستان خوارزم.
ثم إنه أرسله الى طقطاي بن بركة ملك دشت القبجاق، فحظي عنهد، ولما مات وولي أزبك أعطى للنعمان مالاً كثيراً ليعمر من بعضه خانقاه بالقدس، ويفرق البعض على المجاورين.
ومولده سنة سبع وخمسين وست مئة.
وكان قد استصحب من كتب الطب شيئاً كثيراً من دمشق لما عاد الى بلاده.
نعمون بن محمودابن نعمون بن عزيز، الشيخ نجم الدين أبو محمد بن الشيخ الصالح غرس الدين الحراني الحنبلي المؤذن بالجامع الأموي.
سمع من ابن أبي اليسر، والجد بن عساكر، وجماعة. وحدّث وحج، وله نظم وأشياء مما تليق بالمئذنة.
توفي في تاسع شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وستين وست مئة.
وكان خفيف الروح مع الديانة.
النسب واللقب
النمراوي
عز الدين الفقيه عبد العزيز بن عبد الجليل.
ابن نوحالشيخ عبد الغفار بن أحمد.
النهاونديشرف الدين محمد بن عثمان، ووالده جلال الدين بن أبي بكر.
نوروزنائب القان غازان محمود.

كان ديّناً مسلماً عالي الهمة، وهو الذي اجتهد وحرص وبالغ في أمر غازان حتى أسلم، وملّكه البلاد، ثم إنه وقع بينهما، فقتل غازان أخا نوروز وأعوانه، فجهز لقتاله النوين خطلوشاه، فتغلل جمع نوروز، واحتمى بهراة، فقاتل أهلها عنه، ثم إنهم عجزوا عن نصرته، فقتل نوروز في سنة ست وتسعين وست مئة، وبعث برأسه الى غازان.
نوروزالأمير سيف الدين.
كان في مصر معظّماً الى أن عاد الأمير سيف الدين طاز من الحجاز فأقام قليلاً ورسم بإخراجه الى دمشق على إقطاع الأمير سيف الدين شيخو القازاني الساقي، وحضر إليه على ثلاثة أرؤس من خسل البريد، ووصل الى دمشق في رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها أميراً الى أن ورد المرسوم على الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب الشام بإمساكه، فاعتقله بقلعة دمشق، وجرى ما جرى في واقعة بيبغاروس، وكان اعتقاله في حادي عشري شعبان من السنة المذكورة.
ثم أُخرج عنه وتوجه الى مصر فيما أظن، ثم أعيد الى دمشق، ولم يزل الى أن كانت واقعة بيدمر، وحضر السلطان الملك المنصور محمد بن حاجي، فقطعت إمرته.
ولما كان في العشر الأوسط من شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة توفي رحمه الله تعالى.
اللقب والنسب

النور الحكيم
عبد الرحمن بن عمر.
نوغايالأمير سيف الدين الجمدار.
أمر السلطان الملك الناصر محمد بإمساكه بدمشق في ذي الحجة سنة تسع وسبع مئة.
ولم يزل في الاعتقال بقلعة دمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالباب الصغير، وبقي الحرس على قبره أياماً.
نوغايالأمير سيف الدين الجمدار.
كان أميراً قديم الهجرة بدمشق، فلما توفي الأمير علاء الدين علي بن قراسنقر أُعطي إقطاعه، وتقدمته على الألف.
وأقام على ذلك مدة بدمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة ثاني عشر شعبان سنة ست وخمسين وسبع مئة. ودفن قبالة جامع كريم الدين بكرة الجمعة، فخلّف عليه ديوناً كثيرة، وأعطي إقطاعه للأمير زين الدين قطليجا الدوادار.
الألقاب والنسب
ابن أبي النوق
عثمان.
النويريشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب. وفخر الدين عثمان بن يوسف. وعماد الدين ناظر الكرك وصفد وغيرها محمد بن محمد بن يعقوب.
حرف الهاء
هارون بن موسى بن محمد
رشيد الدين، المعروف بابن المصلّي الأرمنتي.
قال كمال الدين الأدفوي: اجتمعت به ولم يعلق بذهني منه شيء، وله شعر كثير يأتيه من جهة الطبع، ليس يُعرف له اشتغال، وكان إنساناً حسناً فيه لطافة.
وتوفي رحمه الله تعالى بأرمنت سنة ثلاثين وسبع مئة.
وأورد له قوله:
حثّها الشوق حثيثاً من وراها ... فتراها عانقت تُرب ثراها
واعتراها الوجد حتى رقصتْ ... طرباً أسكرني طيبُ شذاها
غنّني يا ساقي الراح بها ... ليس يُغني فاقتي إلا غناها
منها في ذمّ الحشيش ومدح الخمر:
واملَ لي حتى تراني ميّتاً ... إن موت السُكر للنفس حياها
ليس في الأرض نباتٌ أنبتت ... فيه سرٌ حيّر العقل سواها
رامت الخضراء تحكي سُكرها ... قتلوها بعد تقطيع قفاها
قال: وكان في قبلي الدمقرات قرية تسمى ببوية وفيها ببرويّة، فقال فيها الرشيد المذكور:
بدويّه في بَبويَهْ ساكنا ... صيّرت عندي المحبة ماكنا
اسمها ست العربْ ... هيّجت عندي الطّرب
أنا قاعد بين جماعة نستريح
عبرت وحده لها وجه مليح
بقوام اعدل من الغصن الرجيح
في الملاحة زايدا
ووراها قايدا
لو تكون لي رايدا
كنت نعطيها ألف دينار وازنا ... وابن في داخل بيوتي ماذنا
وترى مني العجب ... في تصانيف الأدب
نفرت مني كما نفر الغزال
واسفرت لي عن جبين يحكي الهلال
ورنت أرمت بعينيها نبال
ثم قالت يا فلان
خذ من احداقي أمان
معك في طول الزمان
فأنا والله مليحه فاتنا ... ومن الحُساد ما أنا آمنا

والملوك واهل الرتب ... ياخذوا من الحسب
قلت يا ستي أنا هوني نموت
ادفنوني عندكم جوّا البيوت
والعذارى حولها يمشوا سكوت
ثم قالوا كلّميه
يا عُريبه وارحميه
ذا غريب لا تهجريه
يشتهر حالك يصير لك كاينا ... يقتلوه أهلك وتبقى ضامنا
ذا الحديث فيه العطب ... ليس ذا وقت الغضب
قالت امض لا يكن عندك ضجر
واصطبر واعمل على قلبك حجر
ما طريقي سابله من جا عَبر
ذي العذارى يعرفوك
ما تراهم يسعفوك
ظلموني وأنصفوك
قم وعاهدني فما أنا خاينا ... وأنا الليلة لروحي راهنا
مرّ وعبّي لي الذهب ... فترى عقلك ذهبْ
عاهدتني وبقيت في الانتظار
واورثتني الذل بعد الانكسار
والدجا قد صار عندي كالنهار
عندما غاب القمر
واظلم الليل واعتكر
جف قلبي وانكسر
وعُريبا في حديثي واهنا ... أمنه في سربها مطّامنا
والفؤاد مني اضطرب ... ونشف ذاك الطرب
صرت نرى النجم الى وقت الصباح
إذ بدا ذا الكوكب الدرّي ولاح
وإذا هي قد أتت ست الملاح
والعذارى في عتاب
مع عريبا في ضراب
ثم قالت ذا الكلاب
ينبحوا تأتي الرجال الظاعنا ... بالسيوف وبالرماح الطاعنا
يدركوني في الطلب ... يجعلوا رأسي ذنبْ
اللقب والنسب

ابن هارون المغربي
عبد الله بن محمد.
هاشم بن عبد الله بن عليالشيخ الإمام الفاضل نجم الدين أبو محمد التنوخي البعلبكي الشافعي، مدرّس المدرسة الصارمية.
اشتغل بالعلم مدّة عمره، وكتب بخطه، ونسخ وحصّل الأجزاء والكتب، وقرأ على الشيوخ، وسمع بقراءة شيخنا البرزالي على الشيخ تاج الدين الفزاري وغيره. وتوجه في الجفل الى القاهرة، وسمع مع المقاتلي. وولي المدرسة المذكورة بعد عماد الدين ابن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي، ودرّس بها في تاسع شهر رجب الفرد سنة...
وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت العشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقبرة الباب الصغير، وحضر جنازته جماعة من الفقهاء.
ومن شعره:
ولقد سمعت بسكّر من وصلكم ... فعساكم أن تجعلوه مكررا
وأظنه حلواً لذيذاً طعمه ... إذ كنت أسمع بالوصال ولا يرى
ومن شعره:
لا تركننّ الى الخريف فجوّه ... كدرٌ وخفقُ نسيمه خطّافُ
يجري مع الأبدان جري صديقها ... من لطفه ومن الصديق يخاف
ومنه في المشمش اللوزي:
أنكر العاشقون صفرة لوني ... بعدما كان كالزبرجد أخضر
ما دروا أنني عشقت فلوني ... اكتسى صفرة وقلبي تكسّر
الهاشمينور الدين علي بن جابر. وشمس الدين محمد بن هاشم.
هبة الله بن عبد الرحيمابن ابراهيم: شيخ الإسلام، ومفتي الشام، وأحد الأئمة الأعلام، قاضي القضاة شرف الدين أبو القاسم ابن القاضي نجم الدين ابن القاضي الكبير شمس الدين أبي الطاهر بن المسلّم الجُهني الحموي البارزي الشافعي، قاضي حماة، صاحب التصانيف.
سمع من أبيه وجدّه، وابن هامل، والشيخ ابراهيم بن الأرموي يسيراً، وتلا بالسبع على التادفي، وأجاز له نجم الدين الباذرائي، والكمال الضرير، والرشيد العطار، وعماد الدين بن الحرستاني، وعز الدين بن عبد السلام، وكمال الدين بن العديم.

برع في الفقه وغير ذلك، وتشعبت به في الفضائل الطرق والمسالك، وانتهت إليه الإمامة في زمانه، وتفرد برئاسة العلم في أوانه. وكان بحراً من بحور العلم الزخّارة، وحبراً من أحباره، الذين توقدوا للهدى مثل الكواكب السيارة، تستحي ذُكاء من ذكائه، وتفيض علومه حتى يأخذ الغمام منها ملء زكائه، مكباً على الطلب لا يفتر ولا يني ولا يقول السأم لنفسه طالبي بالتي هي أحسن ولا يني قد جانب ملة الملل، وتحقق أن الإخلال بذلك من الفساد والخلل، هذا مع الصون والرزانة والتواضع الذي زاده رفعة وزانه، والوقار الذي خفّت الجبال أن تكون وزانَه، والحلم الذي هو زينة العلم، وطراز الحرب والسلم، والمحاسن التي ما محا سناها ضوء صباح ولا حوتها الوجوه الصِّباح:
تراه إذا ما زرته متواضعا ... جليلاً على حشد الندي وحفله
وتعرف منه الفضل من قبل نطقه ... كما يُعرف الهندي من قبل سلّه
وتبصر منه أمةً وهو واحد ... وما زاد في ذي عدة مثل نبله
إذا كان في أفق وأظلم حادث ... سرى خائف العشواء في ضوء عقله
ولم يزل على حاله بحماة الى أن ترك القضاء، وذهب بصره فشكر القدر والقضاء. ثم إن البارزي أضمره الضريح وأخفاه، واستكمل الأجل واستوفاه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
فتوفي رحمه الله تعالى عن ثلاث وتسعين سنة، وحج مرات، وحدّث بأماكن، وحمل الناس عنه علماً جماً، وأذن لجماعة بالإفتاء.
وبلغني أن الشيخ برهان الدين بن تاج الدين الفزاري كان يقول: أشتهي أن أروح الى حماة، وأقرأ التنبيه على القاضي شرف الدين البارزي.
وكان يرى الكف عن الخوض في الصفات، ويثني على الطائفتين، واقتنى من الكتب شيئاً كثيراً بحيث إنه كان عنده من كل شيء نسختان وثلاثة.
وكان إذا سمع بتصنيف لأحد من أهل عصره جهّز الدراهم واستنسخ ذلك. وباشر القضاء بلا معلوم لغناه عنه، وما اتخذ درّة ولا عزّر أحداً قط، ولا ركب بمهماز ولا مقرعة، وعُيّن مرات لقضاء مصر فاستعفى، وكانت جلالته عجيبة مع تواضعه.
وكان قد أخذ الفقه عن والده وجده وجدّه، عن القاضي عبد الله بن إبراهيم الحموي، وعن فخر الدين بن عساكر، وأخذ القاضي عب الله عن القاضي أبي سعد بن أبي عصرون، عن الفارقي، عن أبي إسحاق الشيرازي، عن القاضي أبي الطيب، وأخذ فخر الدين عن قطب الدين مسعود النيسابوري، عن عمر بن سهل السلطان، عن الغزالي، عن إمام الحرمين، عن أبيه، عن أبي بكر القفّال.
ووقف القاضي شرف الدين كتبه وهي تساوي مئة ألف درهم. ولما توفي رحمه الله تعالى أغلقت أسواق حماة لمشهده.
وله من النصانيف: تفسيران، وكتاب بديع القرآن وكتاب شرح الشاطبية وكتاب الشرعة في السبعة وكتاب الناسخ والمنسوخ، ومختصر جامع الأصول في مجلدين، والوفا في شرف المصطفى، والإحكام على أبواب التنبيه، وغريب الحديث كبير، وشرح الحاوي، أربع مجلدات، ومختصر التنبيه، والزبدة في الفقه، وكتاب المناسك، وكتاب عروض وغير ذلك.
وله مما يقرأ طرداً وعكساً: سور حماة بربّها محروس.
قلت: وهذا في غاية الحسن، لأنه فصيح الألفاظ، عذب منسجم، ليس عليه كلفة، وفي القرآن العظيم من هذا النوع وهو قوله تعالى: " كلٌ في فلك " وقوله تعالى: " ربّك فكبّر " .
ومما جاء منه في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: " يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارقَ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية " .
وفيه تسامح ما، ومنه قولهم: كبّر رجاء أجر ربك وقول الحريري في مقاماته:
آسِ ارملاً إذا عرا ... وارعَ إذا المرء أسا
الأبيات.
وقول القاضي ناصح الدين الأرّجاني:
مودته تدوم لكل هولٍ ... وهل كلٌ مودته تدوم
وقوله أيضاً وهو مطلع قصيدة:
دام علا العماد
ومما ينسب الى القاضي الفاضل رحمه الله أبداً لا تدوم إلا مودة الأدباء وقوله القائل:
أرانا الإله هلالاً أنارا
وقول الآخر: مودتي لخلّي تدوم، وكما قال العماد الكاتب: سر فلا كبا بك الفرس فقال له الفاضل رحمه الله تعالى: دام عُلا العماد.
وقد يكون هذا النوع كل كلمتني قلبهما واحد، كقولك: أرضٌ خضراء، فيها أهيف، ساكب كاس، وكقول ابن النبيه:

لبقٌ أقبل فيه هيفُ ... كل ما أملك إن غنّى هبه
وتارة تكون كل كلمة قلب نفسها، كقول سيف الدين بن قزل المشد:
ليلٌ أضاء هلاله ... أنّى يضيء بكوكب
هبة الله بن عليابن السديد، مجد الدين الشافعي.
اشتغل بالفقه على الشيخ بهاء الدين القفطي، وكان يطالع تفسير ابن عطية كثيراً. وبنى مدرسة بإسنا، ووقف بساتينه عليها.
قال كمال الدين الأدفوي: اتفق عند انتهاء عمارتها حضر الشيخ تقي الدين الى أسنا لزيارة بهاء الدين القفطي، فسأله مجد الدين أن يلقي الدرس بها، فألقى الشيخ درساً، وكان شيخنا تاج الدين الدشناوي في خدمة الشيخ من قوص، فقال لمجير الدين: إذا فرغ الدرس قل للشيخ يا سيدي بدستور سيدي آخذ الدرس؟ فيبقى ذلك إذناً من الشيخ، فقال: لا، هذه مدرستي، وأقول له: أنا هذا الذي قلت، فيسكت أو يقول: لا، فينقل عني.
وكان يردّس بها ويعمل للطلبة طعاماً طيباً عاماً ويقول لمن تتفق غيبته يا فلان اليوم الفوائد والموائد:
ارضَ لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنبٌ عقابه فيه
وانتهت إليه رئاسة بلده، وخطب بأصفون.
وتوفي رحمه الله في بلده سنة تسع وسبع مئة.
هبة الله بن محمودابن أبي القاسم بن أبي الفضائل بن أبي القاسم بن محمد، الشيخ الإمام الزاهد العالم الكامل الفقيه أمين الدين بن قرناص الخزاعي الحموي الشافعي.
اشتغل بالفقه، وسمع جزء ابن عرفة من شيخ الشيوخ الأنصاري، وحدث بحماة وحلب ودمشق، وحج، وحدّث بمنى.
كان مدرساً بحماة، فترك التدريس وصحب الفقراء، وأعرض عن المناصب، وغير ملبوسه.
قال شيخنا علم الدين: قرأت عليه جزء ابن عرفة.
وتوفي رحمه الله تعالى: سلخ شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة.
وتأسّف صاحب حماة كونه لم يحضر جنازته لأنه كان غائباً عن حماة، وكان قد عاده في مرضه.
هبة الله بن مسعود بن أبي الفضائلالقاضي الفاضل معين الدين بن حشيش. قد تقدم ذكر والده في مكانه من حرف الميم.
كان فاضلاً أديباً عاقلاً لبيباً، ذا حافظة وذاكرة، ونظم كثّر الاستحسان له شاكره، عارفاً بوقائع الناس وأيامهم وتراجم أعيانهم وأعلامهم، يسرد من ذلك ألوفاً، ويقول لسان حاله: خُلقتُ لذا ألوفاً، آيةً في الحافظة عجيبة، متى دعاها الى شيء كانت له مجيبة، قد أتقن القلمين إنشاء وحساباً، وبلغ فيها الغايتين مآلاً ومآباً، وباشر الجيش شاماً ومصراً، ووهب الله بهيبته تأييداً ونصراً، ودبّر فأقبل ما أدبر، ورحّب المضائق بما نمّق قلمه وحبّر:
ورمى الى الغرض البعيد بفكره ... فأصاب حتف كوامن ودقائق
يقظ لأعقاب الأمور مجرّبٌ ... طبّ بأدواء الممالك حاذقِ
تنقل من الشام الى مصر مرات، ونال من السلطان مكارم ومبرّات.
ولم يزل على حاله بمصر أخيراً الى أن جمدت حواسه، وخمدت أنفاسه.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وستين وست مئة.
ودفن بالقرافة في تربة القاضي فخر الدين ناظر الجيش، وكانت جنازة حافلة.
وكان ينظم شعراً جيداً، وليس له نثر جيد، اللهم إلا إن ترسّل وكتب بلا سجع، فإنه يأتي في ذلك بالمثل السائر والبيت المطبوع، ويأتي بالشاهد على ما يحاوله وذلك في غاية البلاغة والفصاحة، يوفي المقام في ذلك حقّه، وكان عجباً في القوة الحافظة.
كان في مبدأ أمره كاتباً في الدبّاغة، حتى إنه كتب الى الأعسر أو لغيره من مشدّي دمشق ممن كان له الحكم في ذلك الوقت:
يا أميراً حاز الحيا والبلاغة ... قلتلتني روائح الدّباغهْ
ثم إنه نقل الى طرابلس وخدم في الجيش بها، وكان يساعد ابن الذهبي كاتب الإنشاء بطرابلس، فاشتهر وعرف بالأدب، فأحبّه الأمير سيف الدين أسندمر نائب طرابلس ولم يزل الى أن توجّه أسندمر مع السلطان الملك الناصر محمد من دمشق الى القاهرة سنة تسع وسبع مئة، فسعى له عند السلطان الى أن استخدمه بديوان الجيش بالديار المصرية.

وكان قد حضر معين الدين الى دمشق في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة ناظر الجيش عوضاً عن القاضي شمس الدين بن حميد وأقام بدمشق الى أن حضر القاضي قطب الدين من الديار المصرية، فتوجه القاضي معين الدين الى مصر، ولم يزل الى أن أمسك القاضي قطب الدين ناظر الجيش بالشام في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، فحضر القاضي معين الدين عوضه في نظر الجيش بالشام، ووصل الى دمشق خامس جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، فانفرد بذلك قليلاً. ثم إنه شورك بينهما في النظر بمعلوم لكل منهما نظيرُ الأصل، وكان القاضي قطب الدين هو الأكبر والعلامة له أولاً، ولم يزل بدمشق الى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ولما عزم القاضي فخر الدين على الحجاز طلب السلطان معين الدين ليسد الوظيفة في الجيش عن القاضي فخر الدين، فأقام بالديار المصرية الى أن مات في التاريخ.
وكان يكتب خطاً قوياً ولابد له إذا كتب اسمه هبة الله بن حشيش أن ينقط الشين خوفاً من التصحيف.
اجتمعت به في دمشق وفي مصر مرات، وأنشدني له كثيراً، ومما أنشدني له شيخنا علم الدين البرزالي إجازة قوله:
طيف ألمّ وطرف الهمّ وسنانُ ... وناظرٌ لارتقاب الوصل يقظان
سرى وموكبه شوقي وموطنه ... خدّي وذلكما طِرفٌ وميدانُ
حتى تضمنه الطرف السهيد وقد ... غطى شهيد الكرى للدمع طوفان
فلم يزل دون تهويم يمتّعنا ... بالوصل زوراً وطرف النجم سهران
فكم تلقى بصدري فرحةً فرشت ... له السرائر فالأحشاء أوطان
إذا تمشى الى جرح الجوارح يأ ... سوه فكم طُفئت للوجد نيران
فشق باللطف عن قلبي وعزّل عن ... ه ما يشقّ فقلبي اليوم فرحان
وراح يخلع جلباب السرور على ... وقتي وقد مرّ دهر وهو عُريان
أهلاً به من خيالٍ عاد لي أملي ... به وعاودني رَوحٌ وريحان
فالعيش رغدٌ ودار الأنس دانية ... وجيرة الحي بعد الهجر جيران
ورُقبة البدر سُهدٌ والمنى حلُمٌ ... تحلو لنا ومغاني الحي أوطان
فهذه منح الطيف المُلمّ بنا ... سراً فليت بواقي السر إعلان
وكتب من طرابلس الى الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم:
خيالك لما بان ركبُك ما بانا ... لأن له في ناظر العين أوطانا
إذا ما اشتكى قلبي لهيب غرامه ... لدمع يجاريه تأجج نيرانا
نعمت بما ترضون لي يا أحبتي ... ولم أخشَ أشواقاً إليكم وهجرانا
وعذب عذابي فيكم وتحرّقي ... وكم من عزيز في محبتكم هانا
فكتب شهاب الدين بن غانم الجواب إليه:
رقادي لما بنْت يا منيتي بانا ... فكيف يزور الطيف مني أجفانا
وقلبي مذ ودّعت لا علم لي به ... وآخر عهدي أنه عندكم كانا
على أن ما شطّت نوى من غدت له ال ... سرائر من صدري ربوعاً وأوطانا
وحاشى لمثلي أن يُرى متشكياً ... صدوداً وأن يخشى ببعدك هجرانا
وما زال توحيدي وشخصك والهوى ... بقلبي سكّاناً أقاموا وجيرانا
ومن شعره قصيدة في المجون، وجوّدها، أولها:
لا والأيورِ الصُّلعِ
منها يقول:
ما وقع الكسّ على ... قلب الخصيّ بموقعِ
هدية بنت علي بن عسكرالشيخة أم محمد البغدادية، اللّبان أبوها، الهرّاس جدها.
كانت امرأة صالحة، كثيرة الصلاة والنوافل. روت عن ابن الزبيدي، وابن اللتي، وجعفر الهمداني، وغيرهم.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها مسند الدارمي، ورافقتها في السفر من دمشق الى القدس، وقرأت عليها بعجلون، والبيت المقدس، وبلد الخليل عليه السلام، وبالأردن عند جسر دامية، وغير ذلك، وكانت تتردد الى بيتنا وتقيم عندنا الأيام المتوالية. وسمع منها جماعة من الطلبة.
ثم إنها توفيت رحمها الله تعالى بالقدس في ثامن عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
الألقاب والأنساب

الهذباني
نجم الدين الحسن بن هارون. ونور الدين علي بن محمد.

الهكاري
الشيخ شهاب الدين أحمد بن أحمد. عماد الدين داود بن محمد.
ابن هودالشيخ بدر الدين الحسن بن علي.
الهرغيتقي الدين عبد الله بن محمد.
ابن الهمامناصر الدين محمد بن الهمام.
أولاد ابن هلالالصاحب تقي الدين أحمد بن سليمان. ومعين الدين الحسين بن محمد. وفخر الدين عبد الرحمن بن عبد العزيز. ومخلّص الدين عبد الواحد بن عبد الحميد. ونجم الدين علي بن محمد. وأمين الدين محمد بن محمد بن عمر.
ابن الهيتيصلاح الدين ناصر بن أبي الفضل.
حرف الواو
ابن والي الليل
محمود بن رمضان.
الوتار القوّاس
علي بن إسماعيل.
وحيد الدين إمام الكلاسةيحيى بن أحمد.
ابن ورّيدة
عبد الرحمن بن عبد اللطيف.
وهبان بن عليابن محفوظ بن أبي الحياء السبتي، الشيخ زين الدين أبو الكرم المؤذن بباب السلطان، الجزري.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن ابن باقا الجزء الثالث من البيوع من مسائل الإمام أحمد الأثرم، قرأته عليه بمنزله في علوّ خان مسرور بالقاهرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة أربع وست مئة بجزيرة ابن عمر.
الألقاب والأنساب
ابن واصل
قاضي القضاة محمد بن سالم.
الوانيالشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد المؤذن. وشرف الدين عبد الله محمد بن إبراهيم.
والوانيعلي بن عمر بن أبي بكر.
والوانيمحمد بن إبراهيم.
الواسطيالشيخ عماد الدين أحمد بن إبراهيم. وتقي الدين عبد الرحمن بن عبد المحسن.
ابن الواسطيالقاضي شهاب الدين غازي بن أحمد. وموفق الدين محمد بن إبراهيم. والمسند شمس الدين محمد بن علي.
الوادعيعلي بن المظفر.
الورديالقاضي زين الدين.
ابن الورديعمر بن مظفر. وأخوه القاضي جمال الدين يوسف بن المظفر.
وليّ الدولة
أبو الفرج.
ابن الوحيد الكاتبمحمد بن شريف.
ابن الوزيريبدر الدين محمد.
أبو الوليد المالكيمحمد بن أحمد.
الوطواط الوراقمحمد بن إبراهيم.
حرف الياء
يحيى بن إبراهيم
الملك الناصر صاحب سنجار.
قتله القان خربندا، وقتل معه الوزير سعد الدين الساوجي، والوزير مبارك شاه في سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
يحيى بن أحمدابن خذاذاذ الخلاطي الشافعي، وحيد الدين، أبو حامد الروحي.
شيخ القراء، إمام الكلاسة بالجامع الأموي.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشري جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة.
قرأ بالروم على الصائن البصري. وولي إمامة الكلاسة نحو خمس عشرة سنة، وقبلها كان يؤم بمشهد ابن عروة. وولي مشيخة الخانقاه الأسدية، وبها مات رحمه الله تعالى.
وكان إماماً عارفاً بفن القراءات، وبلغ الثمانين من عمره، وحضر جنازته خلق عظيم.
يحيى بن أحمد بن يوسفابن كامل، السيد العدل الرضي عماد الدين بن شهاب الدين الشريف الحسيني، عرف بالبصراوي، ناظر ديوان الأشراف.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان رجلاً جيداً متواضعاً عدلاً من أهل السنّة، روى لنا عن ابن الصلاح، وابن مسلمة، وسمع من ابن البراذعي، وعتيق السلماني، والسخاوي، وغيرهم.
وتوفي رحمه الله تعالى ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وسبع مئة.
ومولده في شهر رمضان سنة ست وعشرين وست مئة.
يحيى بن أحمد بن عبد العزيزابن عبد الله بن علي بن عبد الباقي بن علي بن الصواف الجذامي الإسكندراني، الشيخ الفقيه الإمام المحدث المقرئ العدل شرف الدين أبو الحسين ابن المحدث نجيب الدين أبي الفضل.
حصل له صمم وكفّ بصره سنتين، وعُمّر، وكان يروي الخلعيات عن ابن عماد، وسمع من جده أبي محمد عبد العزيز، ومن ناصر بن عبد العزيز الأغماتي، وعبد الخالق بن إسماعيل التنّيسي، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن الجباب، ومرتضى بن العفيف، وجماعة. وقرأ القرآن بالروايات على ابن الصفراوي.

قال شيخنا علم الدين البرزالي: وأجاز لنا في سنة إحدى وسبعين وست مئة، ثم قرأت عليه جزء السلفي بسماعه من ناصر الأغماتي، والخامس من الخلعيات بسماعه من ابن العماد.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشري شعبان سنة خمس وسبع مئة.
ومولده بالإسكندرية في أحد الربيعين أو الجماديين سنة تسع وست مئة.
يحيى بن أحمد بن نعمةابن أحمد بن جعفر بن حسين بن حمّاد، الشيخ الإمام بقية السلف محيي الدين أبو زكريا ابن الشيخ الإمام الصالح كمال الدين المقدسي الشافعي، إمام مشهد علي بالجامع الأموي.
أول سماعه بالقدس في شعبان سنة أربعين وست مئة، سمع من والده مكي بن علان والمرسي والفقيه محمد اليونيني وشيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري وإسماعيل العراقي والنجم البلخي وابن خطيب القرافة وابن عبد الدائم وجماعة، وأجاز له السخاوي والفرضي وعتيق السلماني وابن الصلاح والعزّ بن عساكر وعمر بن البرادعي وجماعة.
وكان له اشتغال بالعلم في أول عمره، وعنده سكون وسلامة صدر، وأعاد بدمشق والقاهرة، وكان صالحاً مباركاً موصوفاً بالخير والدين.
توفي رحمه الله تعالى سادس عشري شهر رمضان سنة ست عشرة وسبع مئة ومولده سنة ثلاثين وست مئة تقريباً.
يحيى بن إسحاقابن خليل بن فارس، القاضي الفقيه الإمام محيي الدين أبو زكريا ابن القاضي الإمام العالم كمال الدين أبي محمد الشيباني الشافعي.
كان شيخاً حسناً مباركاً، ولي القضاء بشيزر وزُرع وأذرعات، وكان حسن السيرة، كثير التواضع فقيهاً، اشتغل وحصّل وكتب، وكان من أصحاب الشيخ شرف الدين بن المقدسي.
وسمع الحديث من والده، ومن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وأحمد بن أبي الخير، والقطب خطيب القدس، وجماعة.
وخرّج له شيخنا الذهبي جزءاً، وحدّث به.
توفي رحمه الله تعالى سلخ شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة، ودفن بجبل قاسيون.
يحيى بن إسماعيلابن محمد بن عبد الله، القاضي الصدر الرئيس النبيل شهاب الدين ابن القاضي عماد الدين بن القاضي شرف الدين ابن الصاحب فتح الدين بن القيسراني المخزومي، تقدم ذكر والده القاضي عماد الدين، وذكر غيره من بينهم.
كان القاضي شهاب الدين قد طبع على الرئاسة، وجمع في أجزائه من السيادة والسياسة، يتجمّل في مركوبه وملبوسه، ويتحمل المضض من نكد دهره وبؤسه، لا يشكو والدهر قد عضّه بنابه، ولا يظهر الشماته، ولا يُظهر الشماته بعدو ولا يقول في شده: ليت ما بنا به، ولا يتلفظ بسوء في حق من آذاه ويقول: من أطلق لسانه فليس بنابه. تخف الجبال الراسيات لوقاره، وتتعجب السلافة من لطفه وهي في خزف الدّن وقاره، أخلاقه كنسيم الصّبا، فالخمائل منها في خمول، ومحاسنه كثيرة العدد وعلى ظهر الزمان منها حُمول، وبشرٌ يتعجب من دوامه جليسه، وتواضع يشهد بالرفعة له أنيسه.
شيمة حرةٌ وظاهرُ بشرٍ ... راح من خلفه السماحُ يشفُّ
هذا الى كرم يضطرب موجه، ويشهد لمؤمّله بالفوز فوجه.
ولاه السلطان الملك الناصر محمد كتابة السر بالشام إكراماً للأمير سيف الدين تنكز، وتوهّم فيه التقصير، فبدا منه كل أمر معجز، فنفّذ مهمات البريد، وصان أسراره، وصال على أعاديه بكتبه التي يجهزها على الحرارة، حتى دخل في عين تنكز وملأ قلبه، وجعل إليه إيجابه وسلبه، وألقى إليه مقاليد دولته. وروى الليث عنه أسانيد صولته، فتقدم في تلك الدولة ورأس، وجنى من ثمرات الشكر مما غرس، فكان إذا جلس في صدر ديوانه كأنه كسرى في إيوانه مقدد وسؤدد، وستور من الجلالة عليه ترخى، وأطنابٌ من المهابة تُمدد:
بصفاته سجع الحمام وهزّ عط ... فيه قضيبُ البانةِ الأملودُ
سلك المكارم والممالك عزمُهُ ... فغدت وليس لنظمها تبديدُ
من معشر مولودهم في مهده ... يُرجى ومن قبل الفطام يسودُ
وكان خطّه أبهى من الروض وأبهج، وسطوره في طروسه آنقُ من بحر كافور بالمسك قد تموج، قد صغت حروفها وقعدت ووضعت تيجان الحسن على رؤوسها وعقدت.

إلا أن الزمان قطع عليه اللذة، وارتجع حسنته الفذة، فأمسك السلطان تنكز، فانحل نظام السّعد، وزالت تلك المحاسن و " لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ " ، وأصابه في تلك المحنة شؤبوب، ومرّ عليه من لامع برقها ألهوب، إلا أنها كانت شدة خفيفة ومحنة عفيفة، فانقشع غيمها، وانجمع ضيمها. ثم إنه أُرسل سعده بعد فترة، ورفع على رأسه جترة، وقالت له الأيام:
لُحْ في العلا كوكباً إن لم تلُحْ قمراً ... أو قم بها ربوةً إن لم تقُم علَما
فعاد الى توقيع الدّست، وحطّت نغمة نغمته في الدُوكاة بعد أن طلعت في الرّست.
ولم يزل على حاله الى أن انطوى بعدما تألق، وتعلّى روحه الى الجنة وتعلّق.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد ثاني عشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية عند والده رحمه الله تعالى.
ومولده تقريباً سنة سبع مئة ومات بعلّة الاستسقاء بعدما عالج لواعجه قريباً من عشرة أشهر، وصبر على الامتناع من رؤية الماء وشربه جملة كافية.
وقلت أنا فيه:
قلت إذا استسقى الرئيس الذي ... بالجود عمّ الغرب والشرقا
عهدي أن البحر يسقي الورى ... مالي أرى البحر قد استسقى
وكان القاضي شهاب الدين - رحمه الله تعالى - قد ورد مع والده الى دمشق من حلب، وقد رُسم له من مصر أن يكون مع والده مُقيماً بدمشق، وأن يكون والده موقّعاً بالدست، وأن يكون هو كاتب إنشاء، فباشر ذلك على أتمّ ما يكون من التجمّل في ملبسه ومملوكه ودوابه ومركوبه الى غير ذلك، حتى كان القاضي محيي الدين بن فضل يقول: هذا المولى شهاب الدين بن القيسراني يجمّل هذا الديوان.
وكان يكتب الرقاع مليحاً الى الغاية. ولم يزل على ذلك الى أن توفي والده رحمه الله تعالى، على ما تقدم في ترجمته، فرتّبه الأمير سيف الدين تنكز في توقيع الدست مكان والده. ولم يلبث بعد ذلك إلا قليلاً حتى كتب فيه الى السلطان وسأل له أن يكون كاتب السر بدمشق، فأجابه السلطان الى ذلك. وكان تنكز يحبه ويميل إليه ويعتمد عليه اعتماداً كثيراً، حتى إنه كان في السفر لا يُمسك قلماً ولا يكتب على شيء، لا مطالعة الى باب السلطان ولا غيرها، بل يسطّر قبل سفره ما يحتاج إليه من المطالعات وأوراق الطريق والمراسيم التي على الخزانة بالتسافير والإنعامات والمُطلقات وجميع ما يكتب الى النواب والى غيرهم ممن هو في باب السلطان، يفعل ذلك وثوقاً به.
ولم يزل كذلك الى أن أُمسك تنكز ورسم السلطان بعزل كل من هو من جهة تنكز، فأمسكه الأمير سيف الدين بشتاك، وأخذ منه تقدير عشرين ألف درهم وأفرج عنه. وأقام بعد ذلك بطّالاً الى أن توفي السلطان.
وجاء الفخري وملك دمشق، فاستخدمه في كتابة الدست بدمشق. وتوجه مع الفخري والعساكر الى الديار المصرية، وعاد الى الوظيفة المذكورة، وأقام عليها بدمشق الى أن توفي القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر بدمشق، فكتب الأمير سيف الدين يلبغا وكان يومئذ نائب دمشق في القاضي شهاب الدين بن القيسراني وسأل من السلطان أن يكون كاتب سرّ بدمشق، فما قدّر الله له بذلك. وحضر بريدي يطلبه الى باب السلطان فتوجه الى الديار المصرية، فرسم له بأن يكون كاتب إنشاء بالقاهرة فأقام على ذلك قليلاً، ورسم له الملك الكامل بأن يكون موقع الدست قدام السلطان، فعمل ذلك مديدة. ثم إنه خرج الى دمشق على عادته موقع الدست، فأقام على ذلك الى أن مرض بعلة الاستسقاء، ومات في التاريخ المذكور، رحمه الله تعالى.
وكان شكلاً حسناً تامّ الخلق، مليح العمّة، نظيف اللباس، عطر الرائحة، محبوب الشخص، حسن الودّ، صحيح الصحبة، يملك أمر نفسه في حالتي الخير والشر، لا يظهر عليه غضب ولا كراهةُ أحد، يعامل صاحبه وعدوّه بظاهر حُسن وبشاشة، كثير الاحتمال، صابراً على أخلاق من يصحبه أو يعاشره، كثير الآداب والرئاسة، وكان أخيراً وهو كاتب السر يصوم الإثنين والخميس، ويتعبّد ويذكّر، لا يقابل أحداً بما يكرهه. لم أر مثله، صحبته مدة تزيد على ثلاث وعشرين سنة، ما رأيت منه سوءاً قط ولا ما أكرهه، فجزاه الله عن الصحبة خيراً.

وكان يحب الفقراء والصالحين، ويتودد إليهم ويقضي حوائجهم، وعمّر العمائر المليحة الغريبة العجيبة، ولم أر أحداً حاز مثل ذهنه في العمائر واستعمال الصنّاع والصبر على ما عندهم من المكاسرة والمدافعة.
وقلت أنا أرثيه، رحمه الله تعالى:
مات يحيى فكيف يحيا اللبيبُ ... وبه كانت الحياة تطيبُ
لم يمت إنما الرئاسة ماتت ... والمعاني تخرّمتها شعوب
كان للناس والأنام جمالاً ... فهو للبدر في التمام نسيب
كان والله كاملاً في المعاني ... وحماه للمعتفين رحيب
كان في جوده فريداً فأما ... إن ذكرت الوفا فأمرٌ عجيب
يملأ العين شكله وتسرَّ النف ... س أوصافه فما تستريب
ورئيس إن قلت فيه رئيس ... ما له في الأنام قطّ ضريب
خُلق كالنسيم إن مرّ وَهْناً ... في خلال الأزهار وهو رطيب
ومحيّاً لو أن بدراً رآه ... لاعتراه بعد الطلوع مغيب
وحياء كأنه إذ يُحيّا ... عند ردّ السلام منك مُريب
واحتمال لكل ضيم عظيم ... حيث رأس الوليد منه يشيب
وإذا نال حظوةً من مليك ... فلكل الأصحاب منه نصيب
هو في منصب يسامي الثريّا ... ونداه من المنادي قريب
لم يشنْ لفظه بغيبة شخص ... يحضر الشخص عنده أم يغيب
من سراةٍ إن سار عنهم ثناءٌ ... مادَ منه غصنٌ وماج كثيبُ
إن مخزوم في قريش لريحا ... نٌ شذاه يوم الفخار يطيب
جدّهم خالدٌ وخالد جدٌ ... لهم والجناس شيء عجيب
كلهم كاتبٌ رئيسٌ كريمٌ ... عالم فاضلٌ سريٌ نجيب
كتب السرّ عند تنكز دهراً ... وهو ذاك الملك العظيم المهيب
فأخاف العدا وسرَّ الموالي ... فلهذا يثني وهذا يثيب
وعلى كتبه حلاوة لفظ ... مقتضاه البيان والتهذيب
في طروس لنا تشفّ بياضاً ... وسطور مدادها غربيب
دبّر الملك بُرهةً ليس فيها ... ما تراه سوءاً ولا ما تعيب
يتلقى أغراض كلِّ مهمّ ... فترى رأيه سهاماً تصيب
وإذا جُهّز البريد بأمر ... فيه خوف فبالأمان يؤوب
ليس إلا اللفظ الذي هو سحر ... ولمعناه في القلوب دبيب
ولبعض الكلام رونقُ حُسنٍ ... منه تُنسى البلوى وتُمحى الذنوب
أيها الذاهبُ الذي سار عنّا ... وغمامُ الدموع منا يصوب
إن يكن شقّ فيك للصبح جَيب ... فلكم شُقِّقَتْ عليك جيوب
كان دهري سِلماً فمذْ غبت عني ... نشأت بينه وبيني حروب
كنت لا أختشي إذا اعتلّ يوماً ... من أذى خطبه وأنت طبيب
آه وا لوعتي وطول نحيبي ... مع علمي أن ليس يُجدي النحيب
غير أني قضيت للودّ حقاً ... برثاءٍ له عليّ وجوب
كم أيادٍ أولَيتَنيها ونُعمى ... ومحلّ الإحسان محْلٌ جديب
جعل الله بقعة أنت فيها ... روضٌ عفو فهو الكريم الوهوب
وكتبت أنا إليه من الديار المصرية أهنئه بكتابة السر بالشام في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة:
كم عدو يموت أيام يحيى ... ومحبّ في العز والسعد يحيا
هذه دولة تقول الليالي ... لعُلاها أهلاً وسهلاً ورعيا
طالما اشتاقها الزمان بنفسٍ ... هي للمجد والمكارم ظميا
جِمجَمَ الدهرُ مدة بسواها ... وهو منها يُسرّ في القلب أشيا

أطلعت في سما دمشق شهابا ... منه شمس النهار في الأفق خَزْيا
أين من يطلب المعالي وتأبى ... من رئيس تأتي لمغناه سعيا
لو أراد الزمان يأتي بمثلٍ ... لعلاه بين البريّة أعيا
كاتب السر سرَّ كل محبّ ... وأعاد الجميل فينا وأحيا
بسجايا من السحائب أندى ... وجناتٍ من الحدائق أفيا
ذو سكون وعفة ليس يشكو ... من خُطاه وجهُ الثرى قطّ وطيا
صرّفِ الآن دهرنا يا شهاب ال ... دين مهما أردت أمراً ونهيا
ومر السعد بالذي تشتهيه ... فهو يأتي في الحال ما اخترت جَريا
فلك الحمدُ والمآثر إرث ... عن كرامٍ زكوا مماتاً ومَحيا
أنت من عصبةٍ كرامٍ نماهم ... خالدُ بن الوليد في كل عَليا
عملوا صالحاً وحازوا المعالي ... فهم الفائزون أخرى ودُنيا
بك تزهى دمشق فامنع حماها ... فلها من علاء في العز بُقيا
قلم في بيان كفك يسعى ... فوق طرس أم حاك في الخط وشيا
كل سطر كأنه إذ تبدّى ... شفةٌ بالمدادِ الأسودِ لَميا
ينثر الدرّ بل يُري السحر حقاً ... حين يُملي عليه فكرك وحيا
فإذا ما أعملتَهُ في مهمٍّ ... يستبيح الأعداء قتلاً وسبيا
هذه الدولة التي كنت أرجو ... أن أرى لي بها مع السعد لُقيا
ويسر الفؤاد نيلُ الأماني ... وأرى طعم صبره صار أرْيا
لا أراني لها الزمان انفصالاً ... ما اشتكى عاشق من الحب نأيا
يقبّل الأرض ويهنئ نفسه والأنام، ومملكة الشام والأيام، وبيض الطروس وسُمر الأقلام وأرباب الطيالس وأصحاب الأعلام، بهذه الرتبة التي طلع في سمائها شهاباً توقّد نوره وكات سرٍّ كثرت بمعاليه في ديوان الإنشاء شموسه وبدوره، ووجدت الأقلام لها في ميدان البلاغة مجالاً، وبلغت المعالي من قربه أمانيها فلم تعدم بمن تهوى اتصالاً:
وزاد المرهفات ضياءَ عزمٍ ... فصار على جواهرها صِقالا
وأبصرت الذوابل منه عدلاً ... فأصبح في عواملها اعتدالا
فالله يرزقنا معاشر الأرقاء شكر هذه النعمة التي أقمر بها ليل الأمل والتحف الدهر منها برداء المحاسن واشتمل، وانتشق خمائل فضلها من كانت الأيام أخرته حتى خمل، وانتصف فيها من كانت واقعته تذكّر الناس بأيام صفّين والجمل:
وأضحى فضلها في الناس باد ... يدار بها على الشرب العُقارُ
فهذه الأيام التي كانت بها الآمال في الضمائر أجنّة، وهذه الأوقات التي جرت إليها سوابق الأماني مُطلقات الأعنة، وهذه الدولة التي جرت في رياض حماها جداول السيوف تشقّ رياحين الأسنّة، ليس فيها ما يقال له: كمُلَت لو أن ذا كمال.
فأنتم يا بني القيسراني فضلكم مثل جدكم خالد، ونجمُ من عاندكم هابط ونجم سعودكم صاعد، وجنان الفضل ترون فيها " مُتكئين فيها على الأرائك " وتحيتكم فيها المحامد، وأيديكم تضرب من البلاغة في الذهب الذائب إذا ضرب غيركم من العي في الحديد البارد، وبنان حسانكم ينهلّ بالنّدى فهو جائد وبنانُ غيركم جامد. زينتم الوجود من عصر نور الدين الشهيد سُقي ضريحه رحمة وبرّاً، وبدأت حسنات الأيام بوجودكم من هناك وهلم جرّا، كم قد تجمل منكم منصب الصحابة بوزير، وكم جلس منكم كاتب سرّ بين يدي صاحب السرير، وكم حلّيتم بدرر إنشائكم جيد قاضٍ وعنق أمير، وكم روى الإحسان منكم عن نافع وابن كثير.
أما فضائلكم فإنها ملأت الدفاتر، وأقرّت بالتقصير عنها مآثر البواتر.
وأما تشددكم في الدين فقد تفيأ الظل من سدرة المنتهى، وبلغ غايةً لم تكن الشمس في علوّ المنزلة أختَها.

وأما مكارمكم فما عهد الناس مثلها من البرامك، ولا اجتلوا مثل أقمارها في الدياجي الحوالك. وكيف لا يجد الناس بكم صفاء الأيام وفي وجودكم لذة العيش، أم كيف لا ينشقون أرج الخزامى وبنو مخزومٍ ريحانة قريش، فالله لا يُخلي الوجود من حسناتكم التي تفيد كل بهجة وتحيي من موت الفضائل كل مهجة.
بقاؤكم عصمةُ الدنيا وعزّكم ... سترٌ على بيضة الأيام منسدل
إن شاء الله تعالى.
وكتبت إليه وأنا بدمشق أتقاضاه وعداً بإقطاعٍ عند بعض الأمراء لفتاي:
يا سيداً دأبي الثناء المجتبى ... عليه بالتصريح والرمز
أصبحتُ من جودك أغنى الورى ... لكنني أحلم بالخبز
وكتبت أنا إليه عند وصولي الى القاهرة أصف له مشقة كابدناها في الطريق بالرمل وغيره، ونحن صحبة ركاب الأمير سيف الدين تنكز في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وهو مشتمل على نظم ونثر سقته جميعه في الجزء الحادي عشر من التذكرة.
يحيى بن سليمانابن علي، الإمام العالم محيي الدين الرومي الحنفي المعروف بالأسمر.
مدرّس المدرسة الركنية، تولاها بعد الفقيه الفاضل شمس الدين محمد بن المعلم الحنفي.
وكان شيخاً فاضلاً، وله حلقة إشغال تفيد الطلبة بالجامع الأموي، وقرأ عليه جماعة من الفقهاء.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
يحيى بن صالحابن عتيق، القاضي محيي الدين الزواوي المالكي.
كان فقيهاً فاضلاً ناب عن القاضي المالكي مدة بدمشق ثم عزله ثم أعاده.
واستمر الى أن مات في أوائل شوال سنة عشر وسبع مئة.
يحيى بن عبد اللهابن عبد الملك، الشيخ العلامة البارع، شيخ الشافعية أبو زكريا الواسطي.
قرأ الفقه والأصلين، وبرع في الفقه وتخرج به الأصحاب، ودرّس بالشرابية بواسط. تفقّه على والده وحدّث ببغداد بكتاب مطالع الأنوار النبوية في صفات أفضل البرية، وكان يقال هو فقيه العراق في زمانه.
تفقه عليه ابن عبد المحسن، وشمس الدين محمد بن القاسم الملحمي الواعظ، والمجد عبد الله بن إبراهيم الدقيقي وغيرهم.
وله سماع من الفاروثي صحيح البخاري بفوت. وأجاز له الشيخ عبد الصمد، والكمال بن وضّاح، وابن أبي الدينة، وله مؤلف في الناسخ والمنسوخ في الحديث وغير ذلك.
توفي بواسط في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
يحيى بن عبد الرحمنالشيخ المحدث الكاتب المجوّد المحرر الموسيقار نظام الدين بن النور الحكيم الجعفري.
كان يكتب طبقه، ويتقدم بحسن أوضاعه كل من سبقه، فإذا رأيت خطه في المهارق أنساك سحر الأحداق وزهر الحدائق، وكان له عناية بالحديث، وسماع القديم والحديث، قرأ بنفسه، وأسمع أولاده، ورحل بهم عن أوطانه، وفارق أحباءه وبلاده.
وكان موسيقاراً يتقن اللحون والأنغام، ويقرّ له في هذه الصناعة ربُّها ويخضع له ولو أنه الضرغام، فإذا أورد لحناً أعرب فيه عن أستاذيته، وفتن أهل الغرب بمشرقيته، وسلب عقولهم بمشرفيته:
ما كان حين يُغنّي في مجالسهم ... إلا نسيم الصّبا والقوم أغصانُ
قدم من العراق الى الشام، وانتجع بارق الملك الناصر وشام، وتوجه الى الديار المصرية، وطلب العود الى دمشق لما عند نفسه الأبيّة من الحرية، ثم إنه عاد الى عراقه وادّكر أوطانه لطيب أعراقه.
ولم يزل هناك يكتب عن الملوك وينظّم درّ رسائلهم في السلوك الى أن انتظم النظام في سلك الأموات وعدّ بعد حياته من الرُفات وفات.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وستين أو سنة ستين وسبع مئة. ورد خبر موته من بغداد.
كان هذا نظام الدين قد وصل من بغداد مع الوزير نجم الدين بن شروين وناصر الدين خليفة بن علي شاه لما وفدوا على السلطان الملك الناصر.
حكى لي من لفظه قال: دخلنا مصر، واستقر نجم الدين بن شروين أمير مئة مقدّم ألف، وناصر الدين خليفة طلبه الأمير سيف الدين تنكز من السلطان، فسيّره إليه، وأعطاه إمرة طبلخاناه في دمشق، وبقيت أنا عند الأمير سيف الدين قوصون، إذ طلبني يقول لي: يا شيخ نظام الدين، قول لنا ذلك البيشوره، قول لنا ذلك القول، قول لنا ذلك الساذج الذي لحنته أنت: فقلت أنا في نفسي: متى فترت يا يحيى أداروك هؤلاء مغنياً لا غير، فطلبت من السلطان العود الى دمشق، فجهزني إليها.

ولما ورد من باب السلطان أعطاه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى مشيخ ةالربوة، فأقام بها مدة يُسمع أولاده الحديث ويقرأ بنفسه على الأشياخ الى أن طلب العود الى بغداد، لأجل أملاكه، وكان أولاً يكتب الإنشان عن حكام بغداد، ولما عاد إليها استمر كذلك وكانت الكتب ترد عن حكام بغداد الى ديوان الإنشاء بخطه.
وكان والده النور حكيماً يطبّ ملوك المغل وغيرهم. وكان نظام الدين يكتب المنسوب ويضع الكوفي والمعقلي من أحسن ما يكون وأجوده، ووضع أشياء بخطه في بيت القاضي شهاب الدين يحيى بن القيسراني، وهي في غاية الإتقان، وأراني درجاً قد كتب فيه منازل الحج من بغداد الى مكة، وصوّر ذلك، وشجّره في خرقة كتّان، وهو من أحسن الأوضاع في التحرير والإتقان.
وكان أستاذاً في علم الموسيقى، له فيه أقوال وأعمال ينقلها عنه أربابُ هذا الفن في الشام ومصر وكان إذا خلا بمن أحب من الأكابر اندفع وغنى من غير آلة أشياء غريبة، سمعته غير مرة، وكان ينظم أيضاً.
نقلتُ من خط الشيخ الإمام العلامة صلاح الدين العلائي قال: نقلتُ من خط نظام الدين المذكور قوله:
أيها المالك الذي زيّن المُل ... كَ بفضلٍ يسمو على الوزراء
وبجودٍ قد أخجل المُزن منه ... وبعلم يُربي على العلماء
ما اسم شيء مناسب الأجزاء ... مستطيلٌ إذا سعى في فِناء
مستديرٌ لكونه فلكاً في ... ه نجومٌ طوال في سماء
عمّ حيناً مشارق الأرض والغر ... ب وطاف الدنيا بالاستيلاء
مُنزلٌ غير أنه ليس قرآ ... ناً وآياته بلا إحصاء
ذو عيون له فمٌ وعليه ... شاربٌ وهو مفرطٌ بالحياء
صيته أن ليس عنه غناءٌ ... صوته مطربٌ بغير غناء
فتراه طوراً على جبل عا ... لٍ وطوراً يُرى ببئر الماء
تارة كالجماد يُلفى على الأر ... ض وطوراً يطيرُ وسط الهواء
منه برّ ومنه بحرٌ وفيه ... كل نفس تولدت بسواء
وهو ركنُ الدنيا وغوث البرايا ... وملاذ الورى وعون الرواءِ
وحياة النفوس في حلبة السب ... ق مبيد الأنام في الهيجاء
فيه نونٌ وأول الاسم ميم ... ألفٌ تلوه بغير مراء
صاحب الأولياء في أول العم ... وأوفى في خدمة الأنبياء
واصطفى كل من تصوف حتى ... عُدّ في الأولياء والأصفياء
فبلقياه قام بالفرض قومٌ ... وبرؤياه سنّ كل سناء
كم له منّةٌ على كل نفس ... وله ضنّةُ على نُفساء
واحدٌ في صفاته ثاني اثني ... ن لتخمير طينة الأشياء
ثالثٌ إن يُعدّ في عالم الكو ... ن وإن شئت رابع الخلفاء
ما له خامسٌ ولكن في الخا ... مسِ منه عكسٌ بغير خفاءِ
عجب الناس من تناقض ما في ... ه مع الاعتدال والاستواء
ظاهرٌ طاهرٌ خفيٌّ حفيٌّ ... زائد ناقصٌ مريء مُراءِ
صاعدٌ نازل أمينٌ خؤون ... ناصرٌ قاصر شديدُ العناء
فابن ما ألغزتُ يا واحد العص ... ر كُفيت الروى وشر البلاء
وكتب الشيخ صلاح الدين رحمه الله تعالى الجواب عنه، ونقلت من خطه:
يا إماماً حلّى عقود العلائي ... كونه واسطاً لها ببهاء
قد بدا لُغزُك اللطيف بديعاً ... مشرقاً منه أنجم الجوزاء
هو في دقة الهواء ولكن ... حاز وصف الزلال عند الصفاء
فهو درّ والدر في الماء يلقى ... فلهذا لم يعدُه بتناء
نوّع الوصف ما لغزت فأضحى ... كل فكر لديه في إعياء
كيف لا والذي تضمّن بحرٌ ... من بيان يعزّ في الإحصاء
ظاهرٌ لفظه ولكن معاني ... ه تناهت في دقة وخفاء
وينابيعه تسحُّ زلالاً ... بمعينٍ من ألطفِ الأشياء

ليس يخفى أني أشرتُ الى ما ... ضمّن اللغز في أتم جلاءِ
فابق كنزاً للطالبين مفيداً ... والْقَ عزّاً ودُم بكل سناء
يحيى بن عبد الرحيمالأرمنتي المعروف بابن الأثير الشافعي.
كان من الفقهاء المباركين، درّس بمدرسة سيوط سنين كثيرة، وتولى الحكم بأطفيح وبمنفلوط وكانت سيرته حميدة، وهو من بيت علم ورئاسة وجلالة وأصالة.
وتوفي بسيطو في سنة ثمان وسبع مئة رحمه الله تعالى.
يحيى بن عبد الرحيم بن زكيرمحيي الدين القوصي الشافعي.
كان معتبراً جيّد الإدراك حسن الفهم.
سمع من تقي الدين بن دقيق العيد، وبدر الدين بن جماعة، وجلال الدين أحمد الدشناوي، وأخذ عنه الفقه، وأجازه بالإفتاء. ودرّس بقوص سنين كثيرة.
قال كمال الدين الأدفوي: حضرتُ عنده الدرس ست سنين أو ما يقاربها، وكان درساً مفيداً فيه تحقيق وقلة غلط، يتقنه ويحرر الكلام فيه، وقرأ النحو والأصول على جلال الدين، وتولى الحكم بقنا، وناب في قوص، وكان حميد السيرة محمود الطريقة، ولم يعب الناس عليه إلا أنه كان يداوم مسألة الحيلة في المعاملات، يبيع السجادة ونحوها بآلاف ويشتريها بما يعطيه في المعاملات التي قررت قبل المعاقدة. وكان يقول: إذا طولبتُ بها في غدٍ، قلت هذا الشافعي وأصحابه جوّزوا ذلك، وأنا مقلّد.
ولم يزل الى أن صُودر وأُخذ منه مال، وتضعضع وبقي في قوص.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
يحيى بن عبد اللطيفابن محمد بن سند، محيي الدين بن سراج الدين التاجر الكارمي.
كان هذا محيي الدين لطيفاً ظريفاً غاية في الكرم.
قال كمال الدين الأدفوي: لم ترَ عيني أكرم منه، عزيز النفس، يحفظ من النظم والنثر كثيراً، وزر اليمن، وكان له حظ عند السلطان الملك الناصر محمد، وكان محبوباً عند الخاص والعام، صحب جملة من الصالحين، وكان جماعة من أصحابه يلومونه على كثرة العطاء والنفقة، فيقول: قال لي جماعة ممن لهم كشف: تموت سعيداً.
توفي رحمه الله تعالى بمصر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة وعمره ستة وأربعون عاماً.
يحيى بن عبد الوهابابن عبد الرحيم، الشيخ الفقيه النحوي تاج الدين الدمنهوري الشافعي.
كان مصدّراً لإقراء العربية بجامع الصالح خارج باب زويلة وبالجامع الظافري بالقاهرة، بلغ السبعين من عمره، وله مصنفات، ووقف كتبه بالجامع الظافري.
كان قد غلب عليه التدين والانقطاع.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشر جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
يحيى بن عليابن تمام بن يوسف بن موسى، الشيخ صدر الدين أبو زكريا السبكي الشافعي.
هو عمّ شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي.
كان قد ولي قضاء المحلة وعدة مناصب. وروى عن ابن خطيب المزة، وسمع منه حفيده قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد ابن عبد اللطيف وغيره.
وكان إماماً عارفاً بأصول الفقه، ومدرساً بالسيفية، وتولاها بعده ابن أخيه العلامة تقي الدين.
وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
يحيى بن علي بن أبي الحسنابن أبي الفرج بن طاهر بن محمد، الشيخ الإمام المسند الفقيه الفاضل المنشئ محيي الدين بن الحداد الحنفي.
كان ناظماً ناثراً، قاعداً بفن الترسّل ماهراً، كتب الإنشاء بطرابلس زماناً، ونال من طول المدة في عمره أماناً، الى أن تخلى عن المباشرة، وملّ المصاحبة من إخوانه والمعاشرة وانقطع بدمشق مُقبلاً على شانه، عالماً بخيانة إخوانه، وزمانة زمانه.
ولم يزل الى أن عُدّ فيمن أركبته المنايا على الأعواد، ولم يحمل التطريق ابن الحداد.
وتوفي رحمه الله تعالى بمنزله في الكفتيّين داخل دمشق بعد العشاء الآخرة ليلة الاثنين حادي عشري شوال سنة سبع وخمسين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية الى جانب الشيخ جمال الدين الحصيري الحنفي.
ومولده سنة ست وستين وست مئة بدمشق، وأصله رقّي.
وكان قد تولى بالقاهرة نظر القنود، ثم دار الوكالة في سنة سبع عشرة وسبع مئة، فلما توفي شمس الدين الطيبي كاتب الإنشاء بطرابلس تولى مكانه، وخرج من القاهرة في أواخر سنة سبع عشرة وسبع مئة.

أخبرني ولده الأمير ناصر الدين محمد، أحد البريدية بدمشق قال: توجهت مع والدي الى عند قاضي القضاة تقي الدين السبكي - رحمه الله تعالى - وقال له وأنا أسمع: إن والده أحضر الى الشيخ محيي الدين النواوي - رحمه الله تعالى - بالرواحية وهو أمرد ليشتغل عليه، فقال له: هذا صبي أمرد، وأنا مذهبي أن النظر الى الأمرد حرام مطلقاً، ولكن توجه به الى تاج الدين الفزاري، فأخذه والده وجاء به الى الشيخ تاج الدين وهو يشتغل في الجامع الأموي، أو كما قال.
وكتب الإنشاء بطرابلس نحواً من أربعين سنة، وكانت له مباشرات بالشام في دمشق وبعلبك وحمص وحماة وحلب في غير ما وظيفة من وظائف الديوان.
وكان قد كتب هو إليّ لما ورد دمشق:
يا إماماً قد فاق سحبان بل قس ... سَ إيادٍ قل لي أأنت خضر
أنت للفضل قبلةٌ ولأهل ال ... علم نجم يُهدي وللدين بَدر
فإذا ما نطقت أفنيت أفكا ... ر البرايا ولم يحرْ لك فكر
وإذا ما وضعت في الطرس خطّاً ... باهر الحسن جلّ بل حلّ سحر
وإذا ما نظمت شعراً فللشع ... رى حياء منه وللشعر فخر
وإذا ما نحوت نحواً فمن زي ... دٌ من الماهرين فيه وعمر
أخجل النظم منك نظمٌ وأودى ... نثرة الشهب من مقالك نثر
أترى أنت عالم بولائي ال ... محضِ أم بينه وبينك ستر
ليس شكل من الصواب فلو حقّ ... قت قربي ما عاقني عنك بحر
وعلى الحالتين بعدٌ وقرب ... لك عندي حبٌ وحمدٌ وشكر
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
لك مني حمد يفوق وشكرٌ ... لي منه على مدى الدهر سكرُ
وولاء عقدتُ منه لواءً ... منه طي في الخافقَين ونشر
ودعاء حقٌ بغير ادّعاءٍ ... فيه من سرعة الإجابة سرّ
وثناءٌ أعليت منه بناءً ... فهو أفقٌ نجومه منك زهر
قد تفضّلت بادياً بقريضٍ ... كلُّ بيت فيه من الحسن قصرُ
فهو ينهل في انسجام ويحلو ... فعلي كل حالةٍ فهو قطر
وكأن السطور روض مريع ... والمعاني كأنها فيها زهرُ
أنت يا بن الحداد صغت المعالي ... لك طوقاً فيه كلامك درُّ
بك قد أشرقت دمشق وتاهت ... فلها من سناك فجرُّ وفخر
أنت فيها بحرٌ وقد سبق القو ... ل ضميري فقلت إنك حبرُ
كيف يُدعى بالبحر من كل بحر ... مستمدٌ من فضله مستمرّ
فابق في نعمةٍ تفيد البرايا ... فضلَ علمٍ يغشاه زيدٌ وعمرو
يحيى بن فضل اللهابن المجلي بن دعجان، القاضي الكبير الرئيس محيي الدين أبو المعالي القرشي العدوي العُمري، كاتب السر السلطان بالشام، أولاً، وبمصر أخيراً.
تقدم ذكر أخيه القاضي شرف الدين عبد الوهاب، وذِكرُ ولديه القاضي شهاب الدين أحمد، والقاضي بدر الدين محمد وذكر أخيه بدر الدين محمد بن فضل الله كلّ منهم في مكانه.
كان سعيد الحركات إذا تحرك، سديد السكنات، كأن القدر تكفّل له بحُسن العقبى وتدرّك، متعه الله تعالى بالمناصب والأولاد، والسعادة التي لها الجبال أوتاداً، فرأى في مناصبه ما لا رآه غيره، وفي أولاده من السعد ما لم يزجر به لغيرهم طيره. وكتب الخطّ الذي تودّ الرياضُ لو كانت أوراقه، والعقود لو نُظمت مثل سطره في حُسن اللباقة. ما أعتقد أنه خدم الترك مثله، ولا نبت في وادي أغراضهم إلا بانُهُ وأثله، قد درِبَ مقاصدهم وألفها، وفرّع مرامي مراميهم وعرفها، طال عمره في السعادة وخدمته في آخر عمره بالحسنى وزيادة.
وكان يرعى حقّ من خدمه، ويعلي كعب صاحبه وقدمه، ولم يكن فيه لأحد أذى، ولا رأى غيره من عينه قذى، منجمعٌ عن الناس، لا يجتمع بأحد في مآتم ولا أعراس، شُغله بخويصة نفسه، والاعتزال عن أبناء جنسه. وكان شديد الحزم، مديد الهمة والعزم:
لا يقرع السنَّ للفوات ولا ... يعضّ حرّ البنان من ندمه
يقلّ قدرُ الأنام عنه كما ... يصغر جنب الزمان في عظَمه

ولم يزل على حاله الى أن انهار به جُرفه، وتهدّم من عمره شُرفه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة، ودفن بالقرافة، وكانت جنازة عظيمة، ثم إنه نقل تابوته الى دمشق، ودفن بتربتهم التي في الصالحية في شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
وكتبت أنا الى ولده القاضي علاء الدين كاتب السر أرثيه بقصيدة وهي:
يا قاصد الفضل عُد قد مات مُحييه ... وغاب من كان بين الناس يُبديه
وأوحشَ الدست ذاك لصّدرٍ حين مضى ... فطالما كانت الأسرار تأويه
كم دبر الملك بالآراء فامتنعت ... ثغوره وحماهُ من أعاديه
ورفّة السُمر والبيض الصفاح فما اح ... تاج الشجاعُ لأن تجري مذاكيه
وكم كتابٍ له أردى الكتائب لم ... ما بات في ساحة الديوان يُمليه
مهما نسيتُ فما أنسى توجّعه ... لي من زماني إذ خانت لياليه
ولُطفه كلما وافيتُ مجلسَه ... كأنما نسماتُ الروض لي فيه
يا ذاهباً ترك الأسماع من حَزَنٍ ... تودّ لو أنها صُمّت لناعيه
ومن مضى والورى تدري محاسنه ... حتى لقد شكر الله مساعيه
أقسمتُ ما خدم الأملاك مثلُك في ... سرّ تبيتُ من الأعدا تُراعيه
ولا يوفّي الأمور الباهظات إذا ... ما أظلم الرشد حقاً أنت تدريه
ربّيْت فيما مضى من دهرنا دولاً ... من غير عجزٍ ولا كبرٍ ولايته
وكم وصلت لمن قد بات ملتجئاً ... إليك رزقاً رآه لا يواتيه
يُجنى عليك ولم تُظهر مؤاخذةً ... لأجل ذلك تعلو من تناويه
وما برحتَ عظيم القدر ذا شرفٍ ... عند المليك الذي جلّت أباديه
وقد مضَيت الى الله الكريم وما ... يضيعُ مثلك ضيفاً عند باريه
قدمت في مثل شهر الصوم حضرته ... بُشراك بُشراك خيرٌ بتَّ تجنيه
فقِرَّ عيناً بمن خلّفتَ من ولدٍ ... فإن حقّك كل الناس يدريه
ولم يمت من بنوه سادةً نجُبٌ ... كلٌ على حدةٍ يحيي معاليه
لاسيما وعلاءُ الدين ثالثهم ... يفوه بالمسك من أضحى يسمّيه
كفاية ووقار في رسوخ نهىً ... فما أرى أحداً في ذا يوفّيه
أما الكتابةُ فاسأل كلَّ يانعة ... من الحدائق إن كانت تحاكيه
أو العبارةُ فاسأل كل بارقة ... من الدياجر إن كانت تجاريه
أو الترسّل فاسأل كل هاطلة ... من السحائب إن كانت تباريه
أو الخلائق فاسأل كل نافحةٍ ... من النواسم إن كانت تضاهيه
نظمٌ كأن سلاف الدنّ شعشعها ... فينا ضُحىً وأدارتها قوافيه
وكل سجع لو أن البحر يعرف ما ... يأتي به لاستحتْ منه لآليه
يا من سردت معانيه وأقسمُ ما ... تدري الليالي له مثلاً فتحويه
اصبر على فقد مولى كلُّ ذي أدب ... إن كان يُنصفُ لا ترقا مآقيه
وسلّم الأمر في هذا لخالقه ... تنلْ من الله ما تغدو تُرجّيه
فأنت أولى بصبر القلب في حزنٍ ... ما غير فضلك فينا من يُعانيه
ولم أر فيمن عاصرته من كتب النسخ وخرّج التخاريج والحواشي أحلى ولا أظرف ولا آنق من القاضي محيي الدين بن فضل الله ومن الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، نعم والقاضي جمال الدين إبراهيم بن شيخنا شهاب الدين محمود، ولكن القاضي محيي الدين رعشت يده في آخر عمره، وارتجت كتابته أخيراً، ورأيت بخطه المثل السائر، والوشي المرقوم وهما في غاية الحُسن.

وأول ما كتب الإنشاء بدمشق في أيام أخيه القاضي شرف الدين عبد الوهاب سنة إحدى وستين وست مئة، ثم إنه جهّزه الى حمص، فأقام بها سنتين، ونُقل الى دمشق، فأقام مدة، ثم أعيد الى حمص وأقام بها قريباً من خمس سنين، ثم إنه نقل الى دمشق، ولما توجه أخوه الى كتابة السر بمصر وأقام بها الى أيام السلطان حسام الدين لاجين حصل للقاضي شرف الدين استرخاء، فجهّز السلطان أحضر القاضي محيي الدين سنة سبع وتسعين وست مئة، فأقام بمصر ينوب عن أخيه تسعة أشهر، ثم إنه طلب العود الى دمشق، فأعيد إليها.
ولم يزل بدمشق كاتب سر الى أن حضر السلطان من الكرك الى دمشق، وتوجه الى مصر سنة تسع وسبع مئة وهو معه، وعاد الى دمشق على وظيفته الى أن حضر أخوه القاضي شرف الدين عوضه بدمشق، ثم إنه عُطّل من المباشرة مدة، وأُخذ منه مبلغ مئة ألف درهم، وبقي مدة بلا خدمة، ثم رسم له أن يكون موقّعاً في الدست قدام الأمير سيف الدين تنكز، فلبث بعد ذلك الى أن باشر صحابة ديوان الإنشاء بعد القاضي شمس الدين ابن الشهاب محمود في رابع عشر ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وأقام على ذلك الى أن طلبه السلطان الملك الناصر الى مصر، وولاه كتابة السر بها لما بطُلتْ حركة القاضي علاء الدين بن الأثير، وطُلب معه القاضي شهاب الدين، وولده، والقاضي شرف الدين أبو بكر حفيد شهاب الدين محمود، فوصلوا الى القاهرة في تاسع عشر المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وأعيد شرف الدين الى كتابة سرّ دمشق عوضاً عن محيي الدين، وأقام بالقاهرة مدة الى سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وكان شرف الدين قد طلع مع تنكز الى مصر، فرُسم لشرف الدين أن يكون كاتب السرّ بمصر، وأن يتوجه القاضي محيي الدين وأولاده مع تنكز الى دمشق، وذلك في نصف شعبان من السنة المذكورة، ولم يلبث شرف الدين في المنصب إلا ريثما حجّ السلطان وعاد معه، فرسم لشرف الدين بعوده الى كتابة سر دمشق، وطُلب القاضي محيي الدين وأولاده الى مصر ثانياً، واستمر القاضي محيي الدين على ذلك الى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فزاد ضعفه، وكبُرت سنّه، فطلب من السلطان أن يعود الى دمشق ليموت بها، فرسم له بالتوجه الى دمشق، وألزم ولده القاضي شهاب الدين بالتوجه معه، وكُتب له توقيع عظيم في قطع الثلاثين بأن يستمر على صحابة الديوان بالممالك الإسلامية، وأن يكون جميع المباشرين لهذه الوظيفة من بالباب فمن دونه نوابه، وأنه حيث حلّ يقرأ القصص والمظالم والولايات والعزل والرواتب وغير ذلك، ويوقع فيما يراه، وتُجهز الى مصر ليُعلّم عليها العلامة الشريفة، ورسم بعود أولاده معه خلا القاضي علاء الدين فإنه كان في صحابة ديوان الإنشاء الشريف بمصر.
وتجهز القاضي محيي الدين وجماعته للسفر، وشدّت المحفة على البغال لتدمن على حملها، ولم يبق إلا سفره، فأُثقل في المرض، وانقطع جملة كافية. فلبث أياماً قلائل، وتوفي في التاريخ المذكور.
ولم أر في عمري من نال سعادته في مثل أولاده وأملاكه ووظائفه وعمره، وكان السلطان قد بالغ أخيراً في احترامه وتعظيمه، وكتب له في أيام الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار توقيعاً بالجناب العالي، فقبّل الأرض واستفعى من ذلك وكشطها، وقال: ما يصلح للمتعمم أن يُعدّى به المجلس العالي.
وأجاز لي بخطه في القاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
يحيى بن محمد بن عليابن زيد بن هبة الله رشيد الدين أبو طالب، الفقيه الحنفي، الأديب الشاعر.
حدّث بشيء من شعره، ورواه ولده أبو المحاسن يوسف والفقيه ظهير الدين علي بن عمر الكازروني وابن الغوطي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى وسبع مئة.
ومن شعره:
إن كنتَ من أهل الصبابة والجوى ... فاسمع ولا تبخل بنفسك في الهوى
من لا يذلّ لمن يحب فحظه ... من حبه إما الصدود أو النوى
فاخضع له إن شئت عزّة قربه ... فلقد هديت، فلا تكن ممّن غوى
يحيى بن محمد بن عليابن أبي القاسم، محيي الدين ابن العدل بدر الدين العدوي الدمشقي ابن السكاكري.
مولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
وتوفي بدمشق في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقبرة باب الفراديس.
فاق في كتابه الشروط وسمع الحديث من جماعة، وتزوج بقريب من المئة امرأة.

يحيى بن محمد بن سعد
ابن عبد الله بن سعد بن مفلح، الشيخ الإمام الصالح المعمر، مسند وقته سعد الدين أبو زكريا ابن الصاحب البليغ شمس الدين الأنصاري المقدسي الصالحي الحنبلي.
سمع حضوراً في الثالثة من ابن اللتي، وسمع في الخامسة من جعفر الهمذاني، واسمه في الطباق عليهما سعد، وبه يسمى أيضاً، ما كان له أخ واسمه سعد، وسمع من أبيه، والشرف المرسي، والكفرطابي، وابن عبد الدائم، وجماعة، وأجاز له ابن روزبه، والقطيعي، والأنجب الحمّامي، وابن صباح المخزومي، وعلي بن مختار العامري، وعبد المحسن السطحي، وأبو القاسم ابن الصفراوي، وخلقٌ كثير.
وتفرّد في وقته وروى الكثير على سداد وخير، وتواضع وحضور ذهن، وحسن خلق، وأكثر عنه ولده المحدّث شمس الدين.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشري ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
يحيى بن محمد بن عبد الرحمنالقاضي الرئيس جمال الدين بن الفويرة، تقدم ذكر ولديه علاء الدين علي والشيخ بدر الدين محمد الحنفي في مكانيهما.
كان القاضي جمال الدين رئيساً في نفسه، يتودد الى الناس، ويخدمهم، ويتجمّل معهم.
توفي رحمه الله تعالى في أول جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
يحيى بن مصطفىالأمير جمال الدين، أحد الأمراء العشرات بدمشق، ابن الأمير زين الدين مصطفى البيري.
كان شاباً طوالاً حسن الوجه والقامة، فيه خيرٌ ودين، يلازم صلاة المغرب بالجامع الأموي.
ولم يزل على طريقة جيدة، الى أن توفي رحمه الله تعالى في أواخر شهر رجب الفرد سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
وكان كماً، بقل عذاره، تألم له والده والناس أيضاً.
يحيى بن يوسفابن أبي محمد بن أبي الفتوح، الشيخ المعمر المسند شرف الدين أبو زكريا المقدسي ثم المصري.
روى شيئاً كثيراً بالإجازة من ابن رواج وابن الجميزي والمرسي والمنذري وغيرهم، وأكثر عنه شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي، والقاضي تقي الدين أبو الفتح السبكي وأقاربه، وشمسُ الدين محمد بن علي بن أيبك السروجي، وكانت الإجازة قد أخذها له أخوه محيي الدين محمد النحوي.
وكان شيخاً حسناً لا بأس به، يتعاسر في التحديث.
توفي رحمه الله بمصر سنة سبع وثلاثين وسبع مئة عن نيّف وتسعين سنة.
يحيى الملكإمام الدين البكري القزويني، صاحب الديوان بالعراق.
توفي رحمه الله تعالى بالحلّة سنة سبع مئة، ونقل الى بغداد، ودفن بمدرسته بدرب فراشا، وتولى بعده ابنه افتخار الدين مكانه.
يزدارالأمير سيف الدين أحد أمراء الطبلخاناة بدمشق.
توفي رحمه الله تعالى تقريباً في شهر رجب سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
يعقوب بن إبراهيمالشيخ الفقيه شرف الدين ابن الشيخ الإمام صدر الدين ابن الشيخ محيي الدين أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء بن ياسين بن عبد الله بن زهر البصروي ثم الصالحي.
سمع شيئاً من مسند الإمام أحمد بن حنبل على الشيخ شمس الدين بن أبي عمر والشرف السراج.
وكان فقيهاً، وله شعر، وفيه خيرٌ ودين وصلاح، وكان قائماً بعياله.
توفي رحمه الله في مستهل شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في خامس عشري شعبان سنة اثنتين وأربعين وست مئة.
يعقوب بن عبد الكريمالرئيس الكبير الصاحب شرف الدين ناظر حلب وطرابلس.
كان رئيساً نبيلاً، سؤوساً جليلاً، سمح اليد، لا يبالي بما وهب، ولا يفكر في الدهر أنام عنه أم تيقّظ له وهبّ، يتلقى الواردين عليه بالإحسان، ويكرمهم بكرامتي اليد واللسان.
وكان يخدم الأمير سيف الدين تنكز وحاشيته وجماعته وغاشيته وكان يرعاه إذا ورد من دمشق أو صدر، ويكرم نزله إذا صعد أو انحدر.
وقضّى في حلب سعادة عُظمى، وأياماً نظمها الدهر في سلك السرور نظماً، وتنقّل منها الى بلد طرابلس مرات، والتقى من حروب الزمان كرّات، وطُلب الى مصر غير مرة، وعاد منها ووجوه عداه مغبرّة.
يلاقي العِدا بالقصم، والوفد بالغنى ... وحُسّاده بالكبت، والداءِ بالحسم
خبيرٌ بأخلاق الزمان يروضها ... بلين الهُوينى أو بعارضة الحزم
وكان يحب الفضلاء، ويقرّب النبلاء.
ولم يزل على حاله الى أن جفّت مواد لهواته، وأكمل مدة حياته.

وتوفي - رحمه الله تعالى - في إحدى الجماديين سنة تسعٍ وعشرين وسبع مئة بحماة.
كان أولاً مباشراً نظر الجيش بحلب قبل عود الناصر من الكرك الى دمشق، ثم إنه توجه الى طرابلس سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. ثم إنه تولى نظر حلب، فأقام بها في سعادة ورياسة وسيادة الى أن عزِل في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
وتوجه الى نظر طرابلس فأقام بها الى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ثم إنه عاد الى نظر حلب، ثم إنه نقل الى نظر طرابلس فأقام بها دون السنة، ومرض وتعلّل، فتوجه الى حماة ليتداوى بها، وأقام بها مدة عليلاً، وكان صاحب حماة الملك المؤيد يعوده ويزوره ويصله، ولما مات مشى في جنازته، وكان يخدمه لما عليه من الخدمة والمكارمة.
وفيه يقول جمال الدين بن نباتة:
قالت العَليا لمن حولها ... سبقَ الصاحب واحتلّ ذُراها
فدعوا كسبَ المعالي إنها ... حاجة في نفسِ يعقوب قضاها
وكتب إليه شهاب الدين أحمد بن المهاجر يهنّيه بقدومه الى حلب بعد القاضي جمال الدين ابن ريّان، ومن خطه نقلت:
أبدت سروراً وهذا بعضُ ما يجب ... وكيف لا وقدوم الصاحب السببُ
وأسفرت من محيا البشر عن حسنٍ ... له إذا ما انتهى من وصفه حسبُ
وأقبلت تتهادى من غلائل في ... تيهٍ أنّ ممّن حاكها الطربُ
تقول للبرق إذ تفترّ باسمةً ... لقد حكيتَ ولكن فاتك الشنب
وتنشد الدوحُ إذ تهتزّ ناسمة ... بيني وبينك يا دوح الحمى نسبُ
لك البشارة يا شهباءنا فلقد ... أمسى وأصبح من حسادك الشهبُ
لقد علوتِ به قدراً ولا عجبٌ ... فإنه رجلٌ تعلو به الرتب
يكفيك من ذي المعالي أن منصبه ... قد زال عنه العنا والبؤس والنّصب
وأن مجلسه المأنوس منه زها ... روضاً فآض إليه الحُسن ينتسبُ
ما غاب عنه جمال من حوى شرفاً ... إليه آل التقصّي وانتهى الطلب
يعقوب بن مظفرابن مزهر، الصاحب شرف الدين. هو أخو القاضي فخر الدين أحمد بن مظفر.
كان الصاحب شرف الدين من أشياخ الكتّاب المعروفين بالنهضة والكفاية، كثير البرّ لأهله وأقاربه ومن يلوذ به، وكان المباشرون يخافونه ويخشون منه.
باشر النظر بدمشق وحلب وطرابلس وصفد وغير ذلك من المناصب.
توفي - رحمه الله تعالى - بحلب في شعبان ثامن عشرة سنة أربع عشرة وسبع مئة.
ومولده بنابلس سنة ثمان وعشرين وست مئة.
وكان وصوله الى حلب في هذه المرة ناظر الدواوين بها في مستهل شعبان، فأقام بها ثمانية عشر يوماً وتوفي رحمه الله.
يعقوبالأمير محيي الدين ابن الملك الأشرف عبد الحق ابن السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
كان جندياً وله إقطاع وعدة أولاد، وعليه ديون كثيرة، وكان يحفظ شعراً كثيراً.
وتوفي بالمزة ظاهر دمشق في ثامن ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
يلبسطيالأمير سيف الدين.
لما توفي الأمير سيف الدين بلبان البدري نائب حمص عيّن الأمير يسف الدين يلبسطي المذكور للنيابة، وخلع عليه في خامس عشر ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وتوجه إليها وأقام بها.
يلبغاالأمير الكبير سيف الدين اليحيوي الساقي الناصري نائب حماة وحلب ودمشق، ابن الأمير سيف الدين طابُطا، وقد تقدم ذكره في حرف الطاء.
كان جميل المحيا، قد طال رِيّاً وطاب رَيّاً، بثغر يفترّ عن أقحوانه، وقوامٍ يهزّ منه رمحاً لدناً، غلطتُ، بل غصن بانه، كريم السجايا والأخلاق، عديم النظر في مجموع محاسنه على الإطلاق، لا يكاد يمنع سائله ولا يرد وسائله، هذا الى إقدام زلّت عنه الأقدام، وشجاعة يُردُّ عنها عنترة بوجه دام:
قمرٌ يروقك في سحاب بنوده ... ضحكَ السيوفِ من البروق الخُلّب
طبّ بأدواء الممالك راضها ... بندى يد سمحٍ وسيف مقضبِ
ذو سطوة تسعُ البُغاة وتحتها ... حلمٌ يفيض على المسيء المذنب
بسماحة وحماسة قد بيّنا ... أن ليس يمنعُ مهلكٌ من مطلبِ

خرج على الملك الكامل، ورماه بالذل الشامل، وأراد أن يفعل مثلها بالمظفر، فخرّ صريعاً لليدين وللفم وقد تعفّر، وكان يظن الثانية مثل الأولى، فعادت صحيحات العيون من أمانيه حُولاً، وحزّ رأسُه عن جسده وما نفعه مثقّف سُمره ولا موضون زرده.
وكانت قتلته بقافون في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
كان الأمير سيف الدين يلبغا من أكبر الأمراء الخاصكية، ولم يكن عند أستاذه الملك الناصر محمد أعز منه، وكانت الإنعامات التي تصل إليه لم يفرح أحد بمثلها، يطلق له الخيل بسروجها وعُددها وآلاتها: الزركش والذهب المصوغ في سروجها مرصعاً بالجواهر الثمينة خمسة عشر خمسة عشر فرساً، والأكاديش من الجشار مئتين مئتين، وتجهَّز إليه التشاريف: الأطلس والحوايص الذهب والطرز الزركش وغير ذلك من التشاريف التي يحتاج هو الى أن يعطيها من عنده لمن يُحضر إليه ذلك.
حكى لي الحاج حسين أستاذداره قال: جرى يوماً بين يدي السلطان ذكر عشرين ألف دينار، فقال يلبغا: والله يا خوند أنا عمري ما رأيت عشرين ألف دينار، فلما خرج من عنده، طلب القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص وقال: أحضر إليّ الساعة خمسةً وعشرين ألف دينار، وخمسة تشاريف أطلس أحمر وطرزها وكلوتاتها وحوايصها، فلما حضر ذلك قال: احمل التشاريف الى عند يلبغا، وقل له: إذا جاء الجمدارية بالذهب اخلع عليهم التشاريف، وطلب خمسة جمدارية وحمّل كل واحد منهم خمسة آلاف دينار، وقال: توجهوا بهذا الذهب الى يلبغا، فأحضروها، وخلع هو عليهم تلك الخلع، وبنى له الإصطبل الذي في سوق الخيل تحت القلعة ظاهر القاهرة، ولم يعمّر قبله مثله، وأنفق عليه ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان يهندس الصنّاع فيه بنفسه، ولما فرغ مدّ فيه سماطاً عظيماً، وخلع على أمراء الدولة تشاريف وخيولاً. وبالجملة فكانت إنعاماته عليه وإطلاقاته له خارجة عن الحد.
وكان هو والأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي قد توليا تمريض السلطان لما مات. ثم إن يلبغا سأل في أيام الصالح إسماعيل أن يكون نائب حماة، فأُجيب الى ذلك، وجاء إليه عوضاً عن الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني، وتوجه المارداني الى نيابة حلب عوضاً عن الأمير سيف الدين طقزتمر، وجاء طقزتمر الى نيابة دمشق، وذلك في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
ولما مات الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني في حلب، رسم للأمير سيف الدين يلبغا بنيابة حلب، ولما ملك الملك الكامل طلب طقزتمر من دمشق الى مصر ليكون لها نائباً، ورسم للأمير سيف الدين يلبغا بنيابة دمشق، فدخل إليها يوم السبت ثاني عشر جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبع مئة، وتوجه الأمير سيف الدين أرقطاي الى حلب نائباً، وأقام يلبغا اليحيوي على حاله بدمشق، وأرجف الناس كثيراً بأن الملك الكامل يريد إمساك يلبغا، وذلك بعد إمساك الأمير سيف الدين آل ملك وسيف الدين قماري، فاستوحش الأمير سيف الدين يلبغا من ذلك وبرّز الى الجسورة بظاهر دمشق في خامس عشر جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وأقام هناك أياماً، وحضر إليه الأمير حسام الدين البشمقدار نائب حمص، والأمير سيف الدين آراق نائب صفد، والأمير سيف الدين أسندمر نائب حماة، والأمير بيدمر البدري نائب طرابلس، واجتمع الكل عنده بظاهر دمشق، وعسكر دمشق جميعه، واجتمعوا وأجمعوا على خلع الكامل، وظاهروه بالخروج عليه، وكتبوا إليه مطالعة بذلك، فكان ما كان من أمر الكامل، على ما مرّ ذكره في ترجمته.
ولما تولى الملك المظفر حاجي أقرّ سيف الدين يلبغا على حاله في نيابة دمشق وجعل ابنه أمير محمد أميراً بطبلخاناه، وأعطى دواداره الأمير عز الدين طقطاي طبلخاناه، وعمّر يلبغا قبة النصر عند مسجد القدم مكاناً كان قد برز إليه، وكان قد عمّر قبل ذلك القيسارية التي هي برّا باب الفرج، وعمّر الحمامين اللذين بحكر العنابة برّا الجابية بدمشق، وشرع في عمارة الجامع الذي بسوق الخيل على نهر بردى في أول سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.

وفي ثامن عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة ورد إليه الخبر على البريد على يد الأمير شمس الدين آقسنقر المظفري أمير جاندار بكتاب من السلطان الملك المظفر بإمساك الأمراء الستة الذين تقدم ذكرهم في ترجمة الأمير شمس الدين آقسنقر الناصري، وفيه إعلامه بالواقعة وإطابة خاطره وتسكينه. فكتب الجواب بالدعاء للسلطان وجهّز أستاذداره سيف الدين أشتقتمر معه، واستوحش يلبغا من هذه الواقعة كثيراً، واستدعى أمراء دمشق بعد ذلك بيومين، وهو في دار السعادة، وعرّفهم ما جرى، وكتب الى نواب الممالك بالصورة، وجهّز الأمير سيف الدين ملك آص الى حماة وحمص وحلب، وجهز الأمير علاء الدين القاسمي الى طرابلس. وجاءه ليلة الجمعة من زاده وحشة فلم يصبح له بدار السعادة أثر غير نسائه، وانتقل الى القصر الأبلق، ونزل والده وإخوته وألزامه ومن معه من مماليكه بالميدان، وكان يركب وينزل الى يوم الأربعاء، فجاءه الأمير سيف الدين آراي أمير آخور بكتاب السلطان الملك المظفر يطلبه الى مصر ليكون رأس أمراء المشور، وأن نيابة الشام قد أنعم بها على الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب حلب، وقال سيف الدين آراي ذلك بغمة لأمراء دمشق، فتحللت عنه العزائم، وفلّت الآراء، فتجهز وطلع الى الجسورة ثانياً على العادة التي فعلها في السنة الماضية، وكان ذلك بعد العصر خامس عشر جمادى الأولى، وأقام الى بعد الصلاة من يوم الجمعة سادس عشر جمادى الأولى، وكانت الملطفات قد جاءت من السلطان الى أمراء دمشق بإمساكه في عشية الخميس، فأنزلوا الصنجق السلطاني من القلعة، واجتمع عسكر دمشق تحته، ولما علم بذلك ركب بسلاحه في جماعته. ولما عاين أوائلهم هرب بمماليكه وأهله، وهرب معه أيضاً الأمير سيف الدين قلاوون، والأمير ناصر الدين بن جمق، وتبعه الأمير علاء الدين بن طغريل أمير حاجب، والأمير شهاب الدين بن صبح وغيرهما من عسكر دمشق، وعادوا بعدما أوصلوه الى ضمير، وقتل من العسكر جماعة.
ثم إن الأمير فخر الدين أياز نائب صفد وصل بعسكر صفد الى دمشق في بكرة الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، وخرج العصر بعسكر دمشق أيضاً وصفد وتوجه بهم الى حمص وجدّوا، وكان العرب قد أنكَوه ومنعوا منه الماء، واقتطعوا بعض نقله، وجدّ في طلبه سلار بن تتر البدوي وأخوه بُريد، ومنعوه النوم والقرار، وكلَّ هو ومن معه، وملّوا من حمل السلاح ليلاً ونهاراً، وحمي الحديد عليهم، وعاينوا الهلاك، واختلف مماليكه عليه، فقال لهم: بالله وسّطوني أو اضربوا عنقي. كل هذا وهم ما بين القريتين الى أمهين وصدد، ولما سمعت ذلك قلت:
تفرق شمل السعد عن يلبغا وقد ... بغا وغدا في عكسه متورّطا
فقال له السيف الذي شدّ وسطهُ ... وقد بالغ الأعراب في الجور والسّطا
تلذذ بقتلٍ فيه للنفس راحةٌ ... وإن رُمت أهنأ العيش فابغِ توسُّطا
وقال له مماليكه: أنت قلت لنا إن نائب حماة معك، توجّه بنا إليه، فلم يرَ إلا المطاوعة، فعبر على ظاهر حمص وتوجه الى حماة، فخرج إليه الأمير سيف الدين قلطيجا الحموي النائب بحماة، فتلقّاه ودخل به الى حماة، ثم إنه أمسكه وأمسك والده وأخويه قراكز وأسندمُر، وعز الدين طقطاي الدوادار وسيف الدين جوبان وقلاوون ومحمد بن جمق، وقيّدهم وجهّز سيوفهم الى السلطان. ثم بعد ذلك جهّز الأمير سيف يلبغا ووالده مقيَّدَين الى مصر، فلما وصلا الى قاقون تلقاهما الأمير سيف الدين منجك، فأطلعه الى قلعة قاقون هو ووالده وحبسهما في بيتين منفردين، ثم أُنزل والده من قلعة قاقون، وجُهّز وحده على البريد الى السلطان، وطلع الى الأمير سيف الدين يلبغا مشاعليّان، فأحسّ بذلك، وسألهما الوضوء وصلاة ركعتين، ولما فرغ من ذلك قال لهما: بالله هوّناها عليّ. فقالا له: يا خوند إن أردت ذلك فدعنا ندير كتافك، فمكّنهما من نفسه، وخنقاه، فسمع الناس شهقته من أسفل القلعة. ثم إنه حُزّ رأسه وجعل في عسل، وجُهّز الى باب السلطان، ثم دفنت جثته بقاقون، رحمه الله تعالى وسامحه وعفا عنه، وذلك في العشر الأواخر من جمادى الأولى في السنة المذكورة.
وقلت أنا في ذلك:
إن في يلبغا لكلِّ لبيبٍ ... عبرةً أصبحت على الدّهر تُتلى

ما تساوى العزُّ الذي قد رآهُ ... في دمشق بذلّ قاقون أصلا
وقلت أيضاً:
ألا إنما الدنيا غرورٌ وباطلُ ... فطوبى لمن كفّهاه منها تفرغا
وما عجبي إلا لمن بات واثقاً ... بأيام دهرٍ ما رعَت عهد يلبغا
ثم إن الأمير سيف الدين منجك وصل الى حماة، وجهز إخوة يلبغا وجماعته الذي أُمسكوا مقيّدين الى باب السلطان.
وخلّف الأمير سيف الدين يلبغا اثني عشر ولداً، أكبرهم أمير محمد وعمره تقدير سبع سنين، وكان له زوجتان: أخت صمغار وأخت بُزلار، وكان يحبها كثيراً، وأم محمد وهي أخت الخوندة أُردو.
وكان يتلو القرآن جيداً، ويلازم تلاوته في المصحف، ويحب أهل القرآن ويجالسهم، ويحب الفقراء. ولم يكن فيه شرٌ ولا انتقام. وقبل خروجه من دمشق أحضر إليه قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي الى القصر، ووقف أملاكه وخصّ الجامع الذي أنشأه بدمشق بمبلغ ستين ألف درهم في كل سنة من صلب ماله، رحمه الله تعالى. ومضى كأن لم يكن.
ولم أر مثل ما ناله من السعادة التي فاضت عنه على والده ووالدته وإخوته وأقاربه ومماليكه، لأن والده كان أمير مئة مقدم ألف، وأخواه أميري طبلخاناه، وولده أمير طبلخاناه، وذو قرابته الأمير شهاب الدين شعبان أمير طبلخاناه، ودواداره الأمير عز الدين طقطاي أمير طبلخاناه، ومملوكه سيف الدين جوبان أمير عشرة، وبقية مماليكه جماعة منهم لهم الإقطاعات الجيدة القوية في الحلقة. واعتنى بجماعة من أهل حماة وحلب ودمشق، وخلّص لهم الطبلخانات.
وعلى الجملة فكانت سعادة زائدة عن الحد، لكنها ختمت بهذا الشرّ الكبير الذي فاض عنه على ذويه، فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بقدر الصعود يكون الهبو ... طُ فإياك والرُتبَ العاليه
ومن جملة ما أرى من العز أنه كان قد توعّك وحصل له سوء مزاج، فكان عند السلطان في المرقد وهو جالس ورجلاه الى ركبتيه في حجر السلطان وهو يكبّسهما بيده ويرش الماورد على وجهه، ويتولى تمريضه وطبّه وعلاجه وخدمته بنفسه. وكان ولد السلطان وهو إبراهيم أكبر من أبي بكر قد مرض بالجدري فمات إبراهيم ودفن ولم يره أبوه ولا عاده شُغلاً منه بتمريض يلبغا، فهذا نهاية في العز.
ومن جملة الذلّ الذي رآه أن تولى خنقه في قلعة قاقون مشاعليّان ودفن في أرض قاقون جسداً بلا رأس، اللهم خلّصنا من شرور هذه الدنيا الغرارة.
وقلت أنا فيه وقد التزمت الزاي المشددة:
دعِ الدّهرَ يُعلي من أراد الى السُهى ... ودافعه من وقتٍ لوقت وجَزِّهِ
فقد نال منه يلبغا فوق ما ابتغى ... وقصّته تُجلى على المتنزّه
وأُنزل من عند الثريا الى الثرى ... وأمسكه صرفُ الرّدى في محزّه
وألحفه العيشُ الغليظُ رداءَهُ ... على لطفِ معناه ورقّة بزّه
فلا سعدَ إلا ما رأيناه نالهُ ... ولا ذلَّ إلا ما رأى بعد عزّه
اليلدانيأبو محمد الصحراوي عبد الرحمن بن عبد المولى.
يلقطلوبنت أبغا الخاتون.
كانت امرأة ديّنة صيّنة تقيّة نقيّة، محبّة للخير وأهله، وكانت عمّة غازان وخربندا، وكانت بين المغل جليلة القدر نبيهة الذكر، وافرة الحُرمة، مسموعة الكلمة، ذات شهامة وفروسية، وكانت مزوّجة بعرب طي، ومنازلها لا تبعد من أطراف بلاد الإسلام، ولما مات زوجها المذكور ركبت بنفسها وقتلت قاتله وقطعت رأسه وعلّقته في قلادة فرسها، وبقي الرأس على هذا زماناً طويلاً حتى كُلّمت فيه فألقته، وقيل إنما ألقته بأمر اليرلغ، ولم تتزوج بعد عرب طي، وحرص الأفرم على زواجها وكتب إليها في ذلك وأخذ كتب السلطان وسلار إليها فيه، وبذل لها حمص وبلادها صداقاً عنه فنهرت رسله وردّتهم بالخيبة، وقالت: أنا أنصح أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أنصح فلان وفلان وفلان، فإن كانت مناصحاتي للمسلمين هي التي أطمعت الإفرم فيّ فما بقيتُ أناصحهم، وكيف تجاسر الأفرم عليّ، ومن هو الأفرم؟ وأنا أقل كوتلجي عند مثل الأفرم.
وقدمت هذه يلقطلو الى الشام وتوجهت الى الحج في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.

قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: وكنت حاجّاً في تلك السنة فكنت أرى منها امرأة تعد برجال حزماً وعزماً وكرماً، وعليها سيماء الجلالة ووسامة الملك، وتصدقت بأموال كثيرة، قيل إنها تصدقت في الحرمين بثلاثين ألف دينار، وكانت تركب في الطريق محفة، وتركب الخيل، وتشدّ في وسطها التركاش ويُشال عليها الجتر، وكانت تضرب حلقات صيد وتتصيد طول الطريق. وكانت بحر كرم وغاية إحسان، ولما قدمت دمشق خرج الأمير سيف الدين تنكز للقيّها ولاطفها حتى دخلت دمشق بغير جتر على رأسها.
اليمنيالشيخ تاج الدين عبد الباقي، اسمه محمد بن أحمد.
ابن يمنقاضي القضاة الحنفي.
ينجيالأمير سيف الدين السلاح دار.
كان من جملة الأمراء بدمشق، ولما جاء الفخري وملك دمشق كان هو فيها مقيماً في شدّ الدواوين، وكان يصدّ الفخري وغيره عن أشياء كثيرة من طلب الناس.
ومرض مدة بعد ذلك وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
ينغجارالأمير سيف الدين الناصري أخو الأمير سيف الدين آرغون الدوادار الناصري.
كان سكنه على بركة الفيل في حكر الخازن، وأُخرج الى الشام سنة ثلاثين وسبع مئة فيما أظن، وأقام بدمشق مدة، وولي نيابة قلعة دمشق مدة، وولي الرحبة، وولي نيابة بعلبك مديدة في أيام الأمير سيف الدين يلبغا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق في ثامن عشر جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
يوسف بن إبراهيم بن جملةالشيخ الإمام العالم الفقيه قاضي القضاة بالشام، الحوراني المحجّي الشافعي الأشعري.
كان قد تفقّه مدة لابن حنبل رضي الله عنه، ثم إنه انتقل الى مذهب الشافعي، وتميّز وناظر الأقران، وأخذ عن الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وعن قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب، وعن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. وصار من الأعيان، ونظر القمر الى جماله وهو خزيان، وجالد فرسان البحث وجادلهم، وفضّ على الطلبة ما عنده في خزانة علمه وجاد لهم.
ولما باشر قضاء الشام وتولى بحكمه الأوامر والأحكام، باشر ذلك بصلف وأمانة، وعفاف لم تتطرق إليها جناية ولا خيانة، وكان ذا مهابة وسطوة على المريب، وشدة وطأة على القريب والغريب:
قاضٍ إذا التبس الأمران عنّ له ... رأيٌ يفرّق بين الماء واللبنِ
القائل الصدق فيه ما يضَرّ به ... والواحد الحالتين السرّ والعلن
الفاصل الحكم عيَّ الأولون به ... ومُظهر الحقّ للساهي وللذّهن
وكان فيه ديانة وحسن عقيدة، وله محاسن كل منها بيت القصيدة.
وكان في أيام نيابته لقاضي القضاة جلال الدين بدمشق قد قام على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الزيارة، وسدّد سهمه إليه وأطلق زياره، وانتصب لهذا الأمر، وأوطأ قدميه على الجمر، ولم يُصلّ على جنازته، وتبرأ من حيازته.
ولم يزل على حاله الى أن وقعت له تلك الواقعة التي كان فيها غرضاً للسهام الرواشق، ووقته في وقتها كل غاسق، ودخل الى دار السعادة وهو قاضي القضاة وخرج منها وهو فاسق، واعتُقل في القلعة مدة، وحلّت به في هذه الواقعة كل شدة، ثم إنه أفرج عنه بعد مدة، وأعطي تدريس المسروريّة بعد أن كاد يموت غمّاً، كما جرى لسيبويه في المسألة الزنبورية.
ولم يزل بعد ذلك على حاله الى أن غاض ماء حياته، وفاض دمع باكياته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، ودفن بوادي العظام عند أهله.
ومولده سنة ستّ وثمانين وست مئة.
وكان قد درّس بالدولعيّة، وخرّج له شيخنا علم الدين البرزالي عن الفخر علي وجماعة.
ولما توفي قاضي القضاة علم الدين الأخنائي ولي هو بعده قضاء القضاة بدمشق، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، لأن الأمير سيف الدين تنكز كتب في أمره للسلطان بعناية ناصر الدين الدوادار، وباشر القضاء على أحسن ما يكون من الصّلف والعفة. وكان فصيحاً بليغاً شديد العارضة في البحث.

ثم إن حمزة التركماني أحرف الأمير سيف الدين تنكز عنه وأغراه، ولم يزل به الى عقره وقال عنه إنه رشا ناصر الدين الدوادار بالذهب على القضاء، وهذا أمر أنا وغيري نستبعده من الجانبين. وكان تنكز قد فوّض إليه الأمر في الشيخ ظهير الدين لأنه لم يصح ما نقله عنه، فبالغ ابن جملة في تعزير الظهير واستقصى، والاستقصاء شؤم، فعُقد له مجلس في يوم الجمعة تاسع عشري شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وقد بيّت القضية له حمزة، فدخل وهو قاضي القضاة في الشام، وخرج وهو فاسق قد حكم بعزله وسجنه في القلعة. وكانت واقعة غريبة في تلك الأيام لم يعهد الناس مثلها.
أنشدني إجازة لنفسه القاضي زين الدين عمر بن الوردي:
دمشق لا زال ربعُها خَضِراً ... بعدلها اليوم يُضربُ المثلُ
فضامنُ المكْسِ مطلقٌ فرحٌ ... فيها وقاضي القضاة معتقلُ
وقلت أنا في ذلك:
العفو يا ربّ من بلاءٍ ... قوى الورى ما تطيقُ حَمله
أمرٌ جرى في الوجود فرداً ... يا عجباً وهو لابن جَملَه
وأقام في الحبس خمسة عشر شهراً الى أن شفع فيه موسى بن مهنا، وتحدث الأمير سيف الدين تنكز مع قاضي القضاة شرف الدين المالكي في عاشر صفر سنة ست وثلاثين وسبع مئة في إخراجه من الاعتقال، فقال القاضي: يكتب خطه، ويُشهد عليه أن الحُكم الذي صدر منه في حقه صحيح، فلم يُجب الى ذلك، وتردّد الرسول إليه في ذلك غير مرة، ثم إنه أجاب الى أنه يمشي الى مجلس المالكي ويسلم عليه، فخرج من القلعة يوم الإثنين ثالث عشر صفر الى دار القاضي المالكي، ثم الى الجامع، ثم الى أهله بالمدرسة المسرورية.
وولي القضاة بعده القاضي شهاب الدين بن المجد عبد الله.
ولما خرج من الاعتقال أُعطي تدريس الدولعيّة، ثم تمرّض، وخلت المدرسة الشامسة البرانية، فدرّس بها أياماً بعد ذلك زين الدين بن المرحّل، وكانت وفاته بالمسرورية.
وكنت بالديار المصرية لما رسم السلطان الملك الناصر بولايته قاضي القضاة، فكتبت له تقليده بذلك ونسخته: الحمد لله الذي أعلى منار الشرع الشريف بجماله، وجلّى دُجاه بمن تحسدُه البدور في الأفق ليالي التمام على كماله، وشيّد ركنه بمن يقصر باع السيف في جلاده عند جداله، وحفظ قواعده بمن إذا أمسك قلم فتاويه تفيّأت الأحكام تحت ظلاله، وأحيا سنّته بمن تتضح به سنن حرامه وحلاله، ونشر لواء فضله بمن إذا ظمئ البحر المحيط فقُلْ دع ذا فإنك عاجز عن حاله.
نحمده على نعمه التي ادخرت لأيامنا الشريفة حَبراً عزّ بوجوده اجتماع المثلين، واقتطف ثمار العلوم فما داناه أحد في الفروع ولا وصل معه الى الأصلين، وطال بالعلم ثم بالحلم وزاد في تطوّلاته ولم يقتصر على الطولين، وأجمع الناس على استحقاقه، فلم تكن المسألة فيه ذات قولين.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ندّخرها ليوم القضاة والفصل، ونعلم أنها أصل الإيمان وما سواه فرعٌ والقياس ردُّ فرع الى أصل، ونعتمد على بركات فضلها في الأمر والنهي والقطع والوصل، وننال بإخلاصها على أعداء الدين عز العزم ونصر النّصل.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خير من قضى ومضى، وأعدل من مضى، وسيف شرعه إذا استقبله مُشكل حكم فيه ومضى، وأشرف من ساس الناس بحلقة الرضى وحكمة المرتضى، وأعز من أغضى الشيطان لظهور ملّته على جمر الغضا.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير من اتّبع شرعه في أحكامه، وخاف مقام ربّه فشكر الله له حسن مقامه، وقصر خطاه على ما أمهره ونهاه، فلم يكن له إقدام على حركة أقدامه، واستبرأ لدينه في قضاياه فما أخطأت سهامه مرامي مَرامه، صلاة تتألق بأنوارها البروق اللامعة، وتتعلق بأستارها الخلائق في الواقعة، ما قبّلت ثغورُ الأقلام خدودَ المهارق الساطعة، ورقّمت إبَرُ الغمام برودَ الحدائق اليانعة، وسلّم تسليماً كثيراً الى يوم الدين.
وبعد: فإن منصب الشرع الشريف لا شك في عموم نفعه، ولا مَرية في أن السوابق جرت لنصبه، والعوالي جُرّت لرفعه، ولا ريب في أن شمم كلِّ عرنين ينقاد صاغراً لوضعه، ما حكمنا في شيء حتى نعود الى أمره ونعوذ، ولا خرجنا في السياسة عن حكمه لا على سبيل السهو ولا بحكم الشذوذ، ولا برز أمره بحكمٍ إلا وقال: سيفنا المنصور له دائم النفوذ.

وكانت دمشق المحروسة كالشامة في وجنة الشام، وكالجوهرة التي أصبحت واسطة عقد الملك في الانتظام، هذا الى ما جاء في فضلها في السنّة، وثبت لنا في الخارج أنها أنموذج الجنة، قد شغر منصب حكمها الشافعي من قاضٍ يسوس الرعايا، ويجتهد في أحكامه حتى تدلّه الألمعية على المقاتل الخفايا، ويتوسم وجوه الخصوم وكلامهم فيكون ابن جلا وطلاع الثنايا، أمهلْنا آراءنا الشريفة هذه الفترة، واستخرنا الله تعالى فيمن نحليه بهذا الطوق أو نخصّه بهذه الدرّة، وذكر بين أيدينا الشريفة جماعة كل منهم جلّ إلا أن يكون قد جلّى، واستوعب الشروط المعتبرة، وكان بذلك الاستيعاب مُحلّى، فأشار مَن إشارته كالسهم الذي يصيب الإشارة، وبركةُ رأيه خالصة من حظوظ النفس الأمّارة، وعيّن من عزّت به الشريعة الشريفة منالاً، وزان رتبتها الجليلة فازدادت به جمالاً، وحمى حوزتها لأنه فارس البحث وجدّلهم وجدّ لهم ونسف مغالط النسفي ولو كانت جبالاً، ونقّى ونقّح كلام من مضى فكم قيّد مطلقاً يمرح وأطلق مقيّدا برَسف، وجلس في حلقة دروسه وكأنما تطلع من محراب داود ويوسف، يغرق المُزني في وابل فضله الصيّب، ويفوق عَرفُ عرفانه على القاضي أبي الطيّب، ويتلوّن الصباغ في شامله من عجزه، ويعترف الغزالي بأنه لم يكن من نسج طرزه، قد صاغ أصوله وابن الحداد في الفروع، والتذّ بكراه وصاحب التنبيه لا يذوق لذّة الهجوع، وأنفق من محصوله وابن الحاجب في ضيعة من صيغة منتهى الجموع.
وكان المجلس العالي القضائي الجمالي هو مُظهر هذه الضمائر والمقصود بهذه الأدلة والأمائر، لا تليق هذه الصفات إلا بذاته، ولا تحسن هذه النعوت إلا بأدواته. فلذلك رُسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني المالكي الناصري الناضري، لا زال الرعايا بعدله في أمان، ومواقع اختياره ترتاد لهم الكافي الكافل من رب السيف والطيلسان، أن يفوّض إليه القضاة الشافعية بالشام المحروس ولاية أُحكم عقدها، وانتظم عِقدها، وتبلج عُرفُها وتأرّج عَرفُها. فليأمر بالمعروف وينْهَ عن المنكر، ويسير سيرة عمرية تُتلى محاسنها وتشكر.
وليأخذ بحق المظلوم ممن ظلمه، ويجر لسان قلمه بما قامت به البيّنة فعلمه، وليتّبع الحق إن كان مع المشروف أو الشريف، ويطلب رضى الله تعالى في خذلان القوي ونصرة الضعيف.
وليُسوّ بين المتخاصمين في موقفهما عنده، ويسمع الدعوى إذا تمت والجواب إذا أكمل قصده، وليُلِن جانباً لمن حضره، ويتمسك بآداب الشرع التي حضّه عليها وأمره.
وليتحرّز من أمر الشهود في كل شيء ولينقّب عن أحوالهم فإن منهم من يموت على الشهادة وهو حي، ويتبعهم بألمعيّته في كل أمر، ويسمع شهادتهم بفطنة إياس وذكاء عمرو.
والأيتام فليولّ عليهم من يراقب الله في أموالهم، ويخشى الله في معاملاتهم، فكفى ما بهم من سوء حالهم، ولا يركن في أمرهم إلا لمن اختبره المرة بعد المرة، وعلم أن عفته لا تسامحه في التماس الذّرة.
والأوقاف فليُجرِ أمورها على النظام البارع ولا يتعدّ بها شروط الواقفين، فإن نصّ الواقف مثل نصّ الشارع.
والأيامى فليزوجهنّ من أكفائهن شرعاً، ويمنع من يُلبسهن من العَضْل دَرعاً. والأنكحة الأهلية يستوضح عقودها، والخلية يعتبرها شهودها. ومال المحجور عليه يودعه حرزاً يُحفظ فيه، ومال الغائب، وكذلك المجنون والسفيه.
ووقائع بيت المال المعمور فلتكن مضبوطة النظام، محفوظة الزّمام، مقطوعة الجدل والخصام. ونوابه في البلاد والجهات والنواحي المتطرفات هو المطلوب عند الله بجنايتهم، والمحاسب على ما اجترحوه من ولايتهم. فلا يولّي من يراه فقيهاً " وإذا تولّى سعى في الأرض ليُفسد فيها " ، ولا من اتّصف بالجهل، ورأى زينة المال والأهل، بل يتحرّ في أمورهم، ويتّبع معاملتهم في غيبتهم وحضرهم، فأنت أدرى بما إليه الأمر يؤول، وكلكم راع وكل راع مسؤول.
والوصايا كثيرة ومنك تُعرف، وإليك ترجع وتصرف. فما نُعلّم عوانك الخمرة، ولا نعرّف صنّاعَك كيف تصنع الشذرة، فما تحتاج الى أن نسردها، بل نجمعها ولا نفردها، وهي تقوى الله عز وجلّ التي مَنْ تمسّك بها فاز قِدحُه، وأمِن سَرحُه، وتعيّن ربحه وتبيّن نُجْحه.
والله تعالى يتولاك، ويعينك على ما أولاك، ويزيدك مما أولاك.

والخطّ الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه. والله الموفِّق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
يوسف بن أحمدابن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن طاهر، الشيخ الإمام الفاضل الصدر الكبير بهاء الدين أبو المحاسن ابن الصدر كمال الدين بن العجمي الحلبي، سبط الصاحب كمال الدين بن العديم.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا جزءَ ابن عرفة عن النجيب عبد اللطيف الحرّاني، وسمع كثيراً، وقرأ الفقه، واشتغل وحصّل وكتب المنسوب، ودرّس بحماة وولي كتابة الإنشاء بدمشق، وحكم بحماة نيابة.
وكان صالحاً ديّناً مشكوراً محبَّباً الى الناس.
توفي - رحمه الله تعالى - سابع عشري جمادى الآخرة سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وخمسين وست مئة.
ودفن بتربة خاله، قبالة جوسق ابن العديم ظاهر دمشق.
وتوفي بعده ولده القاضي عزّ الدين محمد بعشرة أيام، فإنه توفي - رحمه الله تعالى - تاسع شهر رجب سنة عشر وسبع مئة وولي بعد القاضي بهاء الدين بن العجمي تدريس النجيبية القاضي نجم الدين الدمشقي الشافعي نائب الحكم.
يوسف بن أحمد بن جعفرابن عبد الجبار الفقيه الإمام العالم الفاضل جمال الدين الشاطبي الشافعي.
كان فاضلاً اشتغل بفنونه وحصّل فضائل، وله نظم ونثر، وفيه أمانة ونهضة وديانة، وشهد له القاضي بدر الدين بن جماعة وغيره بأهلية التدريس والاشتغال والإفادة.
وولي خطابة جامع جرّاح مدة يسيرة، وكان يخطب بإنشائه.
وأدركه أجله دون الأربعين.
توفي - رحمه الله تعالى - حادي عشر شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
يوسف بن أحمد بن إبراهيمعلم الدين الخطيب القناوي الشافعي الأديب.
كان من الرؤساء الأعيان الكرماء الأجواد الأذكياء.
قرأ الفقه على جلال الدين أحمد الدشناوي، وكانت له معرفة جيدة بحلّ الألغاز، ونظم فيها أشياء كثيرة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رجب سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وله لغز في لابس، الثاني من قوله:
يبين إن صحّفت مع قولِ لا ... وهو إذا صحّفته لا يبين
وله لغزٌ في مغني:
ما اسمٌ إذا عكستهُ ... يُطربُ إن سمعتَهُ
يُنعِمُ بالوصل متى ... صحّفت ما عكسْتَهُ
وله لغز في زغل:
وما لغزٌ إذا فتّشت شعري ... تراه مسطّراً فيه مسمى
وإن تعكسهُ كان من التحرّي ... إذا حققته فيالبير يُرمى
وفاعله إذا نمّوا عليه ... فيخشى أن تُزال يداهُ حتما
قال كمال الدين الأدفوي: تولى الخطابة ببلده، وناب في الحكم في مواضع شتى، منها دشنا وفاو من بلاد قوص، والمنشأة، وطوخ من بلاد إخميم. وكان يكرم الوارد.
يوسف بن أحمد بن أبي بكرابن علي بن إسماعيل بن عمرو بن عبد المجيد، المسند المُعمّر، بقية الرواة، أبو علي الغسّولي المعروف بابن غالية.
سمع من موسى بن عبد القادر، والشيخ الموفق، وتفرّد في وقته.
وسمع منه خلق، فسمع منه شيوخنا الذهبي والبرزالي والمزي، وسمع منه المقاتلي، وابن النابلسي، والمحبّ الصدر أبو بكر بن خطيب حماة، والشهاب بن عُدَيْسة، ونجم الدين القحفازي، وخلق.
قال شيخنا الذهبي: كان شيخاً ساكناً فقيراً متعفّفاً، بدت منه هنات وسط عمره، ثم إنه كبر وصلحت حاله، وكان حجّاراً، ثم عجز ولزم بيته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة سبع مئة.
وجبي له الكفن، ومولده بقاسيون سنة اثنتي عشرة وست مئة.
يوسف بن أحمد بن محمد بن عمرالفقيه محب الدين المقدسي الحنبلي.
كان يشهد تحت الساعات بدمشق، ولديه فضيلة، وفيه إقدام وشهامة، ودخل بلاد الروم وغيرها، وسمع من خطيب مَرْدا، ولم يحدّث.
توفي - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة.
يوسف بن أحمد بن يوسفابن عبد الله بن علي بن الحسين بن عبد الخالق بن شكر، الصدر نجم الدين بن علم الدين بن تاج الدين بن الصاحب صفيّ الدين بن شكر المالكي.
كان مدرباً بمدرسة جدّه بالقاهرة.
توفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة.
يوسف بن أحمد بن محمد

ابن يوسف بن عبد الغني الجذامي الإسكندري الفقيه، المالكي، الأديب صدر الدين، عرف بابن غنّوم - بغين معجمة ونون مشددة وواو بعدها ميم - موقّع الثغر.
كان فاضلاً ذكياً. كتب للقضاة زمناً طويلاً، ثم إنه انقطع بمنزله، وخمّس قصائد للصرصري.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده بالإسكندرية سنة ستّ وسبعين وست مئة.
قال كمال الدين الأدفوي أنشدني لنفسه، وقد سألته أن ينشدني شيئاً من شعره:
يا مَن يُسائل عن شعري ليرويه ... مهلاً فليس شعاري نظمَ أشعارِ
مُذ حلّ زائر هذا الشيب صيّرني ... بعد الصّبا وإزاري ذِكرُ أوزاري
قال: وأنشدني له أيضاً:
وبي غريب الدار مُستأنسٌ ... أسالَ دمعي منهُ خدّ أسيلْ
فإن أمُت شوقاً الى وصله ... ففي سبيل الله وابن السبيلْ
قال: وأنشدني له:
قُم نقترع بكر المدامة بُكرةً ... في روضة حسُنت وراقَتْ مَنْظرا
فالرّاح سيفٌ قاطعٌ لهمومنا ... أو ما تراه بالحَباب مُجوهَرا
قال: وأنشدني له أيضاً:
جَلا مسواكُ ثغرك خيرَ درّ ... فجلّ بذاك واكتسبَ المَزايا
وأنشد صحبهُ تيهاً وفخراً ... أنا ابن جلا وطلاعُ الثّنايا
يوسف بن أسعد بن علم السعداءالقاضي الرئيس صلاح الدين ابن القاضي سعد الدين بن العسّال.
شاب أنبته الزمان في رياض السؤدد وغرس، وفرح به الجودُ لما نبغ ورأس، لم أر في سنّة من حاز رياسته، ولا من ملك سعادته وسيادته، واتصف بلزوم المكارم، وحمل عن رفاقه الكلف والمغارم، هذا الى صورة أبدعها الجمال، وقامةٍ كالغصن إذا هبّت عليه الصّبا فماد ومال، يجلس في ديوانه، ويُرى إذا احتبى في إيوانه:
بوجهٍ يملأ الدنيا جمالاً ... وكفٍّ تملا العليا نَوالا
قصف غصنه، وأسلمه الى الحِمام حصنُه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
كان قد زوّجه الصاحب شمس الدين غبريال بابنته، واحتفل بأمره ودخل به الى ديوان الإنشاء بدمشق، وأحضر له توقيعاً من السلطان بمعلوم جيّد من العين والغلة والخبز واللحم والعَليق والكسوة. وكان مطبوعاً ظريفاً خيّراً كريماً رئيساً فيه حشمة، وتودد وحسن صحبة.
ولم يزل في خير وسعادة الى أن أُمسك الصاحب شمس الدين، فأُمسك هو أيضاً جملة جماعته، وصودر وناله بعض أذى وعصر، ثم طُلب الى مصر، وعاد بطالاً من كتابة الإنشاء.
وكان قد عمّر قاعة صغيرة، فصنعتُ أنا له أبياتاً كتبت فيها وهي:
دار يدرُّ نَداها ... إذا رأت زائريها
وينزل الضيفُ منها ... بجنّة يرتضيها
تكاد من فرط جود ... تهتزّ بالضّيف تيها
فكلُ طالع سعدٍ ... تراه من نازليها
وللورى في بناها ... أزاهرٌ تجتنيها
وكم بدورٍ تمامٍ ... من أهلها تجتليها
والشّمسُ في أُفقها من ... بنائها وبنيها
لا غروَ إن أدهشَتنا ... وحُسن يوسف فيها
يوسف بن أسعدالأمير صلاح الدين الدوادار.
كان في مبدأ أمره نصف عامل في بيروت على ما قيل، ثم إنه بطّل الكتابة وتوصّل بالجندية الى أن صار دوادار الأمير سيف الدين قبجق، ثم آل أمره الى أخذ الأمرة بحلب، وولي بها الحجوبية في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب، ثم ولي بها شدّ الدواوين، ثم طلب الى مصر مرات، ثم إن السلطان ولاه ثغر الاسكندرية عوضاً عن بكتمر والي الولاة في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ثم إنه ولي منفلوط بالصعيد، ثم إنه جُعل مشدّ الدواوين بالقاهرة أيام وزارة الجمالي.
ثم عزل وبقي في مصر أميراً، ثم إن السلطان جهّزه رسولاً الى القان بوسعيد، فعاد وقد أشاع الناس أنه يكون وزيراً، فلما وصل الى مصر سُعي علي، فبطل ذلك، فسعى له الأمير سيف الدين بكتمر الساقي لما مات الأمير شهاب الدين المهمندار، فرسم له السلطان بالمهمندارية، فأقام فيها قليلاً.

ولما توفي الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار جعله السلطان دواداراً مكانه، وكان القاضي شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود قد رُسم له بعده بيويميات يسيرة بكتابة السر بمصر، فقاسى شرف الدين منه شدائد، وأنكاداً كثيرة، وتوجها صحبة السلطان الى الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وهما في ذلك، النكد والشرّ، ولما حضرا من الحجاز أقام القاضي شرف الدين قليلاً وهو يعمل عليه الى أن عُزل وأُخرج الى دمشق، وبقي صلاح الدين في الدوادارية، وقد استطال على الناس أجمعين، واستطار شرّه خصوصاً على الكُتّاب، فحسّنوا للسلطان أن يخرج كاشف الثغور الحلبية، فتعلّل، وانقطع في بيته مدة شهرين، ولما قام ودخل الى السلطان عزله في ثاني عشر شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وحضر الى صفد أميراً، فأقام بها، ونقل الى طرابلس، ثم نقل الى حلب، وجُعل بها والي البر فيما أظن، ثم إنه حج بعدما نقل من حلب الى طرابلس.
وورد الخبر الى دمشق بوفاته في جمادى الأولى سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
وكان يكتب خطاً حسناً، وله مشاركة كثيرة في تواريخ وتراجم الناس، وكان كافياً ناهضاً فيما يتولاه، خبيراً بما يفوّض إليه، إلا أنه كان مفرط الشّح الى الغاية.
لو مات من عطشٍ والكوزُ في يده ... وكان ممتزجاً بالشّهدِ ما شرِبا
إلا أنه رحمه الله تعالى، وقف داره وهي عظمى بحلب مدرسة على فقهاء المذاهب الأربعة، ووقف كتّاب أيتام بالمدينة.
وكان يدّعي النظم، أنشدني من لفظه صلاح الدين خليل بن رمتاش بصفد، قال: أنشدني من لفظه صلاح الدين الدوادار وقال إنهما له:
ما اللعبُ في النار في الميلاد في سفَهٍ ... لكنما هو للإسلام مقصودُ
يُراد كبتَ النّصارى أن ربهُم ... عيسى بنَ مريم مخلوقٌ ومولود
وكانت عنده كتب عظيمة من كل فن، وكان إذا كان بطّالاً مثل مثل الزلال الحلو البارد، فإذا ولي ولو حراسة الدرب مثلاً انسلخ من ذلك اللطف ولبس لمن يعرفه ولمن لا يعرفه جلد النمر، وتحدث بحراسة الدرب في كل ما في الدولة من الوظائف، قال له يوماً الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب لما ولي الشدّ بعد بطالته: يا صلاح الدين ما في الدنيا مثلك إذا كنت بطّالاً.
قلت: ولهذا لم تكن تطول له مدة في ولايته.
يوسف بن إسماعيلابن عبد الكريم بن عثمان، الشيخ الجليل المسند تاج الدين الحلبي.
سمع من الضياء صقر الحلبي وغيره.
وتوفي رحمه الله تعالى بكرة الخميس ثامن عشر شوال سنة تسع وعشرين وسبع مئة. أجاز لي رحمه الله في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وكتب عنه الشيخ تقي الدين محمد بن رافع.
يوسف بن إسماعيل بن عثمانابن محمد، الشيخ الإمام تقي الدين ابن الشيخ الإمام، العلامة رشيد الدين المعروف بابن المعلم.
كان فقيهاً، درّس بالمدرسة البلخية مدرسة والده بدمشق، وكتب في الفتوى، ثم إنه توجه هو ووالده في الجفل الى الديار المصرية، وأقاما هناك مدة بجوار الجامع الأزهر.
وتوفي في خامس جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وسبع مئة. وفقده والده، ثم إنه عاش بعده شهراً واحداً ولحقه بالوفاة رحمهما الله تعالى.
يوسف بن أبي بكرالصّدر الرئيس الكبير القاضي ضياء الدين بن خطيب بيت الآبار الدمشقي.
صدرٌ صدره رحيب، ورئيس ما له في زمانه ضريب، وكبير يكون الجبل الراسخ عنده صغيراً، وكريم لا يزال الجود على ماله مُغيراً، ذو مروءة يسعى أجرُها بين الصفا والمروة، ونفس ما ترى أن تحلّ في المجلس إلا في الذروة، منزله كعبة الوُرّاد، وخوانه منهلُ الروّاد، كان أهل الشام به يجدون الجدا، ويجتلون من وجهة قمر الهدى، ويحتلون من بابه في مراتع الندى.
إن جادَ للعافي أجاد وإن سعى ... في ضيق طرق للسعادة وُسِّعا
عن نشره فاحَ النسيم معنبِراً ... وبشُكرِهِ غنّى الحمام مرجّعا
انتقل من الشام الى الديار المصرية بطلب السلطان، ونسي بإقباله عليه ما ألفه شبابه في نعيم الأوطان، وباشر الوظائف الكبار فسدّها، وأصلح فسادها وأحكم عقدها بكفاية وأمانة، وعناية وإعانة، خلا أن الزمان خانه أخيراً، وأراه بعد عزّه يوماً كان من الذلّ عبوساً قمطريراً.

فأقام في بيته عاطلاً، ولم يزل الدهر ببلوغ أمانيه مماطلاً الى أن أمسى منزل الضياء وقد أظلم، وراح الى من هو بسريرته علم.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة إحدى وستين وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة تسع وثمانين وست مئة.
كان أولاً بدمشق في ديوان تنكز، وفيه سيادة وعنده رياسة، داره مألوف الضيفان، ومأوى الأصحاب والإخوان، متى جاء الإنسان الى منزله وجد كل ما يختاره إن كان هو حاضراً أو لم يكن، يجد جميع ما يحتاج إليه الى أن يروح ولو أقام جمعة وأكثر.
ولما تولى قاضي القضاة جلال الدين القزويني قضاء الديار المصرية في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، طلبه من السلطان، فأحضره على البريد، فولاه نظر الصدقات الحكمية والأيتام، وكان يحضر دار العدل مع القضاة.
وساد في القاهرة ورأس، وأحبه المصريون لمكارمه ومروّته وحلمه، وولاه السلطان الملك الناصر محمد مطابخ السكر وولاه نظر الأهراء مع ما بيده، وتولى نظر البيمارستان المنصوري، فسلك فيه أحسن السلوك، ورافق فيه الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك، وبعده الأمير علم الدين الجاولي، وبعده الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، ووقع بينهما، وعُزل منه في الأيام الصالحية إسماعيل، ثم تولاه، ورافق فيه الحاج أرقطاي نائب مصر.
وكان قد تولى أيام الملك الناصر محمد حسبة القاهرة ومصر.
وكان قبل ذلك محتسب القاهرة مع البيمارستان، ولما كان الغلاء في سنة ستّ وثلاثين وسبع مئة جمع له السلطان بين الحسبتين.
ولما خرج القاضي جلال الدين من القاهرة الى قضاء الشام تعصّب شرف الدين النشو عليه، وساعده عليه غيره، وأخذوا منه الحسبتين والصدقات وأبقوا عليه البيمارستان.
فلما كانت أيام الصالح إسماعيل ولاه نظر الدولة مع البيمارستان، فباشر ذلك مديدة، ولم يتناول معلوماً، وطلب الإعفاء، فأعفاه، ثم ولاه الجوالي مع حسبة القاهرة والبيمارستان، ثم إنه وقع بينه وبين الأمير بدر الدين جنكلي، فعزل من الجميع في أواخر دولة الصالح ولزم بيته.
فلما كان في أيام الكامل تولى نظر البيمارستان والحسبة بالقاهرة، ثم إن علاء الدين بن الأطروش نازعه في وظائفه هذه مرات، وتولاها، ثم تعاد عليه، ثم إن الأمير سيف الدين صرغتمش اعتمد عليه في الأوقاف بمصر والشام، وكان يدخل به كل قليل الى السلطان الملك الناصر حسن، ويخرج من عنده بتشريف، وزادت عظمته ووجاهته، وبالغ في إكرامه وتقديمه على الناس كلهم.
ولما أمسك صرغتمش قُبض عليه، وضُرب وعُصر، وأخذ منه شيء قليل، وأخرجوه الى قوص، فتوجه إليها، وأقام بها سنة وأكثر، ثم رُسم بعوده الى القاهرة، فأقام بها في بيته بطالاً الى أن توفي.
وكان شكلاً تاماً غليظاً، عليه مهابة وله عبسة، وهو مع أصحابه الذين نعرفهم من ألطف ما يكون، وما رأيت أكثر رياسة منه، ومع ذلك طاهر اللسان، لا يذكر أحداً إلا بخير، ويعامل صديقه وعدوه بمعاملة واحدة. يملك نفسه ولا تظهر عليه كراهة لأحد، وصدره على طعامه متسع، وكل لأهل الشام نِعْمَ الذخيرة، انتفعوا به كثيراً.
وقلت لما بلغتني وفاته بالقاهرة في ذي الحجة سنة إحدى وستين وسبع مئة، رحمه الله تعالى:
ما لنا في سوء عيشٍ ... عمّنا فيه الشقاءُ
وعلى الدنيا ظلامٌ ... أترى مات الضياءُ
وكان الشيخ شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي قد خرّج له أربعين حديثاً عن أشياخه الذين سمع منهم في صغره، وحدّث بها في داره برأس حارة زويلة بالقاهرة في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وكنت فيمن سمعها عليه، وكتبت أنا عليها تقريظاً نظماً ونثراً، من جملة ذلك:
كريمٌ ساد بالأفضال حتى ... غدا في مجده بادي السّناء
له ذكرٌ يطبّق كل أرض ... فيملأ جوّها طيبُ الثناء
فما تخفى عُلاهُ على بصير ... وإن تخفى فذو حسدٍ مرائي
وهَبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء
ولما كنت بالقاهرة سنة خمس وأربعين وسبع مئة كتبت له عن السلطان الملك الصالح إسماعيل - رحمه الله تعالى - توقيعاً بنظر الجوالي بالقاهرة ومصر والوجهين قبلياً وبحرياً، ونسخته:

الحمد لله الذي جمّل أيامنا الشريفة بضيائها، وكمّل دولتنا القاهرة بمحاسن أوليائها، وجعل نعمنا الغامرة تكاثر الغمام بآلائها، وضوّا ممالكنا العامرة بمن يجمّل النظر فيما يتولاه من نواحيها وأرجائها.
نحمده على نعمه التي لا تزال تجول وتجود، وتروم اختصاصنا بالمزيد من كرمها وترود، وتؤم حرمنا بأفضالها فتصول بنصول النصر على الأسود وتسود، وترد على حمانا الرحب فتجود بوافر أحسابها على أهل التهائم والنجود.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترغم من الكفار معاطسهم، وتجذّ بحدّها منابت بهتانهم ومغارسهم، وتحسم بحسامها أبطال باطلهم وفوارسهم، وتهدم بإقامة منار الإسلام معابد ضلالهم وكنائسهم.
ونشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أعرض عن متاع الدنيا، ورغب فيما أعدّ الله له في الآخرة من المقام المحمود والدرجة العليا، وشُغل بذكر الله تعالى في اليقظة وقلبه في الرؤيا، وقام في نصرة الحق يسعى فشكر الله مقاماً وسعياً.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا بهداه خير سبيل وفازوا لما اتّبعوه بالفخر المعظم والمجد الأثيل، ونصروا الدين الحنيف بطعن الأسمر المثقف، وضرب الأبيض الثقيل، وعزّ وجود مثلهم لما ضرب مثلهم في التوراة والإنجيل، صلاة لا يبلغ العدد أمدها، ولا يُنفذ الزمن مُددها، ما تبسّم ثغر صباح عن لعس ظلام، وتنسم روض أرض عن نفس شيخ أو ريح خزام، وسلّم تسليماً كثيراً الى يوم الدين.
وبعد فإن المناصب تعلو بمن يلي أمرها، وتشرف على غيرها بمن يعظّم الناس لأجله قدرها، وتفوق بمن يُطلع في ليالي التمام والكمال بدرها، وتكبُر بمن إذا تحدث فيها أجرى بالأموال والأمواه بحرها، وتفخر بمن إذا تولى نظرها جمع نفعها ومنع ضرها، ونظر الجوالي التي في الوظائف الدينية عدادها، والى القُرَب السنيّة معاجها ومعادها، والى الشرع الشريف ميلها واستنادها، وبسيفنا الذي تجرده مهابتنا انتصارها واعتضادها، لأنه استخراج مالٍ قد تقرر شرعاً، وأخصب في الحل مرعىً، ودرّ بالبركات ضرعاً، واتسع به الإسلام صدراً لما ضاق به الكفر ذرعاً، وقرّت به عيون الدين، وكيف لا تقر العين إذا أخذت من عدوها وهو لا يستطيع منعاً، لا يدخل الحول على ذمّي إلا جاء إليه من يطلب الجالية، وأحاط به الذلّ الذي يقول معه " ما أغنى عنّي مالَيَه " ، وتجددت له حال حالكة وحالة الإسلام حالية، على أن أهل الذمة في الذلة ماهرون، وتمام المصيبة أنهم يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.

وكان المجلس العالي القضائي الضيائي أبو المحاسن يوسف ممن جمّل الدول، وأسعفته الأيام بمراده حتى كأنها له من جملة الخول، وفخر زمانه بوجود مثله، وشهد حتى حسّاده بوفور فضله، وأجرى الله تعالي نهر دُرْبته فكان غير آسن، وبهر حُسن أوصافه حتى صدق من قال: إن يوسف أبو المحاسن، ورفع الله خبره فانتصب تمييزاً، ومضت له مدة في الشام والسعدُ يقول: هذا في مصر يكون عزيزاً، وخُطب الى الديار المصرية فوردها وحلّ بها فحلّ الأمور تصرفاً وعقدها، وولي المناصب العلية، وباشر الوظائف السنيّة، أحسن نظره في الأوقاف وأجرى أمورها على أجمل الأوصاف، ونظر في أموال الأيتام فنما حاصلهم وربا، وأجمل المعاملة لهم فما انتهى لهم سبب إلا أتبع سبباً، وتولى نظر البيمارستان المنصوري فغمره بحسن النظر وعمره، وأثّر فيه بنياناً لألأ الضياء شمسه وقمره، وزاد أوقافه ريعاً وملكاً، ونظم درّ تدبيره الجميل سلكاً، وباشر الحسبة الشريفة، فكانت بمعارفه أليق وأشبه، وأصبح قدرها بولايته أنبل وأنبه، وروّع أصحاب الغش بمهابته، وما لكل محتسب عند الناس حسبه، الى غير ذلك من نظر الأهراء التي ملأها حبّاً، وصبّ الله البركات فيها بنيته الطاهرة صبّاً، ونظر دار القنود التي حلّت بحديثه فيها، وتميز ارتفاعها جُملاً تعجِز واصفيها. هذا الى صدر رحيب، وخلق ما له مُشاكل ولا ضريب، وثناء هو في الذكر أبو الطيب، ووجه الى القلوب حبيب، فكأنه كعبة قصّاد، ومنزل روّاد، ومنهل ورّاد، وحِلبة جود سبق فيها حاتماً هذا الجواد. قد تورّع عن المناصب الدنيوية، وعرضت عليه أيامنا الشريفة وأيام والدنا الشهيد فلم يكن له فيها رغبة ولا نيّة، وندبناه لنظر دولتنا الشريفة، ورقيناه ذُرا شرفاتها المنيفة، فجعل نجوم أموالها أهلّة، وأمطر سحائبها المستهلّة، وأعرض عنها فما باشرها إلا تحلّة، ولوى جيده عنها واستعفى، ورنّق الإهمال في ناظره حتى أغفى، فأجبنا قصده وأعفيناه، وعلمنا تورّعه فآثرنا راحته إلا بما استثنيناه، وخبأنا له عندنا ما يناسب مراده ويوافق اجتهاده، ويعاضد اعتماده، عِلماً بإعراضه عن العرض الأدنى، وزهداً فيما وزرُه يبقى وحطامه يفنى.
فلذلك رُسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطان الملكي الصالحي العمادي أن يفوّض إليه نظر الجوالي بمصر والقاهرة المحروستين والوجه القبلي والوجه البحري مضافاً الى ما بيده.
فليباشر ما فُوّض إليه مباشرة عهدت من حسن اعتماده وشُهدت من وافر اجتهاده، وهو بحمد الله غنيٌ عن الوصايا التي تشير إليها أنامل الأقلام، وتخفق بها من قعقعة الطروس أعلام، فما نعلّم عوانه فيها خمرة، ولا نُطلع في أفق هذا التوقيع نجماً، ولو شاء أطلع شمس الصواب وبدره، ولكن تقوى الله تعالى ملاك الأمور المهمّة، والوصايا التي إذا راعاها الإنسان لم يكن أمره عليه غُمّة، فليجعلها لعينه نصباً ولقربه من الله قُربى.
والله تعالى يُديم صونه، ويجدد في كل حال عونه.
والخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفّق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
يوسف بن أبي البيانرشيد الدين مقابل الاستيفاء بصفد.
كان شيخاً قديم الهجرة، وكان يهودياً أولاً، وخدم عند أرجواش، ثم عند التلاوي، وأسلم اختياراً من غير إكراه، لأنه كان يجتمع بالشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ صدر الدين بن الوكيل.

وكان شيخاً وادعاً لا شرّ فيه، يحتمل الأذى ولا يكافي عليه، قال: قال لي يوماً الشيخ تقي الدين بن تيمية: يا رشيد، قال ابن حزم: أول كذبة كذبها بنو إسرائيل أنهم زعموا أنهم دخلوا الى مصر في زمن يوسف الصديق، وهم اثنان وسبعون نفساً، وخرجوا منها مع موسى لما فروا من فرعون ست مئة ألف، قال: وكنت إذ ذاك يهودياً، فقلت له: يا سيدي هذا ابن حزم كان نبياً؟ فقال: لا. قلت: ولا كان من الصحابة؟ قال: لا. قال: ولا من آل بيت النبي؟ قال: لا. قلت: هذا ابن حزم ما كان يعرف اثنين واثنين أربعة؟ فقال: لأي شيء؟ قلت: ما يعلم مولانا أن قطعة الشطرنج أربعة وستون بيتاً، وإذا وضعت في الأول عدداً واحداً وفي الثاني اثنين وفي الثالث أربعة وفي الرابع ثمانية وهلمّ جراً، هكذا تضاعف العدد في كل بيت فبلغ العدد أخيراً ثمانية عشر ألفاً ست مرات، وأربع مئة وستة وأربعين ألفاً، خمس مرات، وسبع مئة وأربعة وأربعين ألفاً أربع مرات، وثلاثة وسبعين ألفاً ثلاث مرات، وسبع مئة وتسعة آلاف مرتين، وخمس مئة واحداً وخمسين ألفاً وست مئة وخمسة عشر عدداً، ومع ذلك فبنو إسرائيل إنما عدّوا الرجال، وأما النساء والصبيان والأشياخ الذين هرموا فلم يذكرونهم. فقلت له: إنا يا مولى رشيد الدين: قوم يخرجون في عدة ألف ألف نفس على القليل هاربين على وجوههم من فرعون، على ماذا حملوا زادهم؟ وأي ماءٍ إذا نزلوا عليه كفاهم، هذا بعيد من العادة. فلم يحر جواباً. فقلت له: أنا أتبرع لك بالجواب، وهو أنهم كان معهم موسى صلوات الله عليه، وبيده العصا التي يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً، وعناية الله تعالى بهم تحملهم وتعينهم على ما يحتاجون إليه من كل شيء، وعلى الجملة فالذي استبعده ابن حزم لا ينكر، لأن هذا عدد كثير على ما يزعمونه.
وكان هذا رشيد الدين يحفظ كثيراً من ديوان العفيف التلمساني، وأظنه رآه واجتمع به، وكان بيني وبينه صحبة ومودة.
ولما توفي - رحمه الله تعالى - بصفد في ثالث عشري شهر رجب الفرد سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وكان قد عدّى الثمانين. حكى لي قال: رأيت في النوم كأنني قد أكلت اثنين وثمانين مثقالاً من الدرياق، والأطباء يقولون: إن كل مثقال لسنة، فلعلي أعيش هذا العدد، فعدّى الثمانين، وربما تجاوز عدد المثاقيل، وكان شيخاً طوالاً، ولم يتزوج عمره.
ولما توفي رحمه الله تعالى أخبرني بوفاته القاضي جمال الدين عبد الله الكاتب، وهو ابن أخت المتوفى، وهو إذ ذاك شابٌ يانع غض الشبيبة، فاشتغل خاطري عامة ذلك النهار بالقاضي رشيد الدين رحمه الله تعالى، فلما نمتُ رأيتني في المنام وأنا كأني أنشد الحكيم الفخر الطبيب ابن أخت رشيد الدين أيضاً وهو إذ ذاك شابٌ أيضاً:
الناس إما قادمٌ في مهده ... أو راحلٌ في نعشه يُتحاشى
هذا لزهرةِ هذه الدنيا أتى ... غضّاً وهذا قد ذوى وتلاشى
فانتبهتُ وأنا أذكرهما، وأعجبني هذا المعنى، ونظمت فيه في اليقظة، فلم ألحق هذه الطبقة، لكن فيه مقابلة أربعة بأربعة. وهو:
أرى أن البريّة وفد زهرٍ ... وفعلهم تطابق بالتساوي
فهذا قد أتى في المهد غضّاً ... وهذا راح فوق النعش ذاوي
يوسف بن حمّاد
الشريف جمال الدين الحسيني المشهدي الإمامي، شيخ الشيعة ومفتيهم.
حجّ مرات، وجاور بمكة، وله نظم.
مات في المعترك سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
يوسف بن دانيالابن منكلي بن صرفا، القاضي الإمام الفاضل بدر الدين ابن القاضي ضياء الدين.
تقدم ذكر والده في حرف الدال، التركماني الكركي قاضي الشوبك.
كان فقيهاً فاضلاً، قرأ على الشيخ تاج الدين، وعلى ولده. وأقام بالكرك مدة يُفتي ويدرّس، ثم ولي القضاء بالشوبك.
وكان حسن الشكل مليح الهيئة، فيه كرم ومروّة، وسمع من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن البخاري، ومن والده وغيرهم. وحدّث بدمشق والكرك والشوبك.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
يوسف بن داود بن عيسىابن محمد بن أيوب، الملك الأوحد نجم الدين أبو المحاسن ابن الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر ابن الملك المعظم شرف الدين ابن الملك العادل أبي بكر.

كان من أعيان أولاد الملوك وأكابرهم المشهورين بالفضل والديانة والجلالة والمكانة والتقدم في المجالس عند الملوك، وكان يُحسن الى الضعفاء والمرضى، يفرّق عليهم الأكحال والأدهان وغير ذلك بالقدس.
وتوفي سنة ثمان وتسعين وست مئة بالقدس، ودفن برباطه بالقدس عند باب حطّه.
ومولده في سنة ثمان وعشرين وست مئة.
يوسف بن رزق اللهالقاضي جمال الدين الموقع، هو ابن أخت القاضي شرف الدين بن فضل الله وأخيه القاضي محيي الدين.
أظنه باشر الجيش مدة، ثم إنه انتقل الى كتابة الإنشاء، ورُسم له في وقت بكتابة الدرج في حماة عوضاً عن نجم الدين بن قرناص، ولكن لم يمكّن من المباشرة. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز جهّزه الى غزة موقعاً، فأقام بها مدة، ثم إنه نقل الى توقيع صفد، وأقام بها مدة، ثم إن تنكز نقم عليه وعزله، وأقام بطّالاً، عزله بعلاء الدين بن نصر الله، ولما أُمسك تنكز طلع القاضي جمال الدين الى مصر، وعاد الى الوظيفة بصفد.
ولم يزل بها الى أن توفي - رحمه الله تعالى - في شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وسبع مئة. وكان قد ثقل سمعه، وأما باقي حواسه فإنه تمتع بها، ولعله قارب التسعين، وهمّته كما كان ابن ثلاثين سنة.
وكان فيه كرم ومروّة وعشرة، ودُفن بصفد ومات له بدمشق ولدان كانا شابين مليحين، صبر على مصيبتهما، واحتسب.
وأنشدني من لفظه لنفسه في سنة أربعين وسبع مئة بدمشق:
بدا لنا ينفخ عُثنونه ... وكبّر العِمّة واللّحيه
وعنفص الأنف لأفسو به ... فجئتُ أفسو طلعت خريه
يوسف بن سليمانابن أبي الحسن بن إبراهيم، الفقيه الأديب الشاعر الخطيب الصوفي الشافعي النابلسي.
نشأ بدمشق وقرأ بها الأدب على الشيخ تاج الدين اليماني، وقرأ النحو على الشيخ نجم الدين القحفازي وغيره، وحفظ التنبيه فيما أظن.
كان شاعراً قادراً على الارتجال، ماهراً في الإقامة على المعاني الجيدة والارتحال، ينظم القطعة على ما يُطلب منه بديهاً، ويجيد الإتيان بها والتصرّف فيها.
وكان لذيذ المفاكهة، جميل التخلف والمواجهة، صحب الناس وعاشرهم وجاملهم بالودّ وكاشرهم، وحاسنهم وما خاشنهم، وشاجنهم وما شاحنهم، وصافاهم وما نافاهم، فاشتمل الرؤساء على ودّه، والتقطوا من منادمته جنيّ ورده، وكان كما قال الحريري:
وعاشرت كل جليس بما ... يُلائمه لأروق الجليسا
فبين الرواة أدير الكلا ... م وبين السُقاة أدير الكؤوسا
وكان مليح النادرة، سريع الجواب في البادرة، وتنسّك في آخر عمره وحسُن حاله في نهاية أمره، وخطب فأشجى القلوب، وندّم على ما ندّ من الذنوب.
ولم يزل على حاله أن خلا من مقامه المنبر، وما ذكره صاحبه إلا استعبر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة خمسين وسبع مئة في طاعون دمشق، انقطع يومين لا غير.
وحج في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، ثم إنه حج في سنة سبع وأربعين وسبع مئة، عقيب موت ولده سليمان، فإنه حصل له ألم كبير بوفاته، وما رأى لنفسه دواء غير الحج.
وكان شاعراً يجيد المقاطيع لفظاً ومعنى، وله في ذلك بديهة مطاوعة، وفكرة متسرعة، وكان القاضي شهاب الدين بن فضل الله قد جدّد رسوم البدرية التي في أرض مَقْرى، وعمّرها في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وقرر فيها خطبة يوم الجمعة، وجعل هذا جمال الدين خطيباً بها، فهو أول من خطب بها، وكان أول يوم خطب به يوماً مشهوداً، اجتمع له القضاة والعلماء ووجوه الناس والأعيان، وعمل القاضي شهاب الدين ذلك النهار طعاماً كثيراً، وخلع فيه الخلع السنيّة، وخطب جمال الدين المذكور خطبة جيدة فصيحة الألفاظ بليغة المعاني، واستمر الى أن مات - رحمه الله - وهو يخطب من إنشائه.
وكتبت له توقيعاً بالخطابة، ونسخته:

رُسم بالأمر العالي لا زال يكسو المنابر جمالاً، ويُكسب أقمار الوجوه من الخطباء كمالاً، أن يرتّب المجلس السامي جمال الدين في كذا ثقة ببلاغته التي يرف على مياهها ريحانُ القلوب، وفصاحته التي يكاد لفظها لمن يذوق يذوب، وبراعته التي إذا قال: أيها الناس فقد غزا الأسماع بجيش غير مغلوب، وعظاته التي إذا فاه بها بكى الناس ليوسف بأجفان يعقوب، وعبارته التي نسج منها ابن المنيّر على خير أسلوب، ومقاصده التي قطف ابن نباتة زهره من روضها المحبوب، لأنه في هذا العصر بحمد الله تعالى أفضل مَن عفّ ومن برّ، وأفصحُ خطيب لو كُلف مشتاق فوق ما في وسعه لسعى إليه المنبر.
فليباشر ذلك مباشرة يعقد على فخرها الإجماع، وتُشنّف بدرّها الأسماع، ويثق من إحسان هذه الدولة ببلوغ مناه، وإزالة عناه، وإزاحة ما يحجب غناه. فطالما خلت وظيفة كان يظنها له ملاذاً، وشغر منصب استسقى منه رذاذاً، ولاح رزق قلب وجهه في سمائه، وهذه الولاية تقول: " يوسفُ أعرضْ عن هذا " ، الى أن لمع به شهاب تألق، وأغدق وابل جوده الذي فاض وترقرق، فرقاه خطيباً، وهزّ بلطفه المنبر غصناً رطيباً، وضوّع أرجاءه بأرجه حتى قيل إنه ضمّخ طيباً فليُجر بعظاتها الراجزة سحب المدامع، ويوقظ البصائر بإرشاده من كل ذي طرف هاجع، ويُميل عِطف من يسمعه فإنه على غصن منبره بليل حُلّته بلبلٌ ساجع. وليستدرج القلوب الطائرة الى لقط حب التوبة، ويستخرج خبايا الندم على ما فات، فكم للنفوس من أوبة بعد عظيم الحوبة، ويغسل درن الذنوب بذكر الممات فكم لصخر القساوة به من لين وذوبة. وإذا وعظ فلا يعظ إلا نفسه التي يمحضها النصيحة، وإذا ذكّر فليذكر في ذلك الجمع انفراده إذا سكن ضريحه، فإن ذلك أوقعُ في نفس السامع، وأجلبُ لسحّ الجفن الهامي بالدمع الهامع، وليأخذ لذلك طيبه العاطر وزينته، ويرقى درج منبره بوقاره الذي لا تُزعزع الرياح سكينته، وليبلّغ السامعين بإفهام واقتصاد، ويذكّرهم بتقوى الله تعالى والموت والمَعاد.
وليأت بأدب الخطيب على ما يعلمه. ويحذر من تقعير اللفظ الذي يكاد أن يُعربه فيُعجمه، وتقوى الله تعالى جُنّة واقية، وجنة راقية، وسنّة باقية، فليلبس حلّة شعارها ويُعلي منازه منارها، والله يليّن لمقاله جامد القلوب، ويمنح بعظاته ما سود الصحف من الذنوب.
والخط الكريم أعلاه، حجة بمقتضاه، والله الموفق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وكان القاضي محيي الدين بن فضل الله لما تولى كتابة السر بعد شمس الدين بن الشهاب محمود قد رتّب جمال الدين المذكور في ديوان الإنشاء كاتب الغيبة على الموقعين، وكان يحضر الديوان بكرةً وعصراً، ويكتب اسم من تغيّب، ويؤخد من كل من غاب من جامكيته ما يخص كل يوم، ولازم الديوان مدة فتاقت نفسه ليكون من جماعة الجماعة في الموقعين، وأخذ يرشّح نفسه لذلك وينجمع عن الناس، وخلع ذلك الثوب الذي كان لبسه، فسلّطوا عليه الفخر عثمان النصيبي الذي كان يدخل الى تنكز، ويُمسخر بالناس عنده، فدخل يوماً الى تنكز وقال: يا خوند هناك صبي وما أقدر أعمل شغلاً إلا به، فقال: اطلبوه، فطلب في الحال، فأحضر، وأخذ عثمان يمسخر وينزل في قذاله، فتألم جمال الدين المذكور لذلك ألماً عظيماً وكاد يسافر من دمشق، وتيقظ له جماعة الشعراء في ذلك العصر، ونظموا فيه مقاطيع كثيرة، وجمعها زين الدين عمر بن الحسام الشاعر، وعملها صورة مقامة، وكتب بها نسخ كثيرة، ومما نظم في هذه الواقعة:
يوسف الشاعر من نقصه ... يروم جهلاً رتبة الفاضل
تطلّب التوقيع في جلّق ... فجاءه التوقيع في الساحل
وأنشدني من لفظه في فرس أدهم:
وأدهم اللون فات البرقَ وانتظرَهْ ... فغارت الريحُ حتى غلّبتْ أثرَهْ
فواضعٌ رجلَه حيث انتهت يده ... وواضع يده أنّى رمى بصره
شهمٌ تراه يُحاكي السهم منطلقاً ... وما له غرض مستوقف خبره
يعقّر الوحش في البيداء فارسه ... وينثني وادعاً لم يستثر غبره
إذا توقّل قطب الدين صهوته ... أبصرتَ ليلاً بهيماً حاملاً قمره
وأنشدني أيضاً لنفسه:
قد مضتْ ليلةُ الوصال بحالٍ ... قصّرت عن محصّل الأزمان

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16