كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

وكنت قد كتبت أنا إليه وأنا بالقاهرة في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة:
لي في الجوانح من حزني حرارات ... كما لبرد اللمى فيها حرارات
وللبوارق إن لاحت أو اعترضت ... في الضوء من ثغرك الضاحي إشارات
وللغصون إذا ورق الحمام تلت ... أيات عطفيك في الأسحار سجدات
أشكو ظلام ذؤابات دجت فغدت ... وما لها غير نور الفرق مشكاة
خيالك البدر في جو السماء إذا ... نظرت فيها لأن الأفق مرآة
ومن يسق نفسه للوجد فيك ففي ... لعب الغرام على خديك شامات
يا بدر حسن له دون البرية في ... أهلة اللثم لا في السحب هالات
دينار خدك واف في الجمال فلم ... زيدت به من سواد القلب حبات
لولا تجنيك لم يعذب جناك ولا ... طابت عليك لذات الصب لذات
لم لا سمعت دعاوى الصب فيك على ... هواك إن دعاويه صحيحات
وأنت يا من أداجيه على شغفي ... به وهيهات أن تخفى الصبابات
لا تقبلن شهادات الدموع ومن ... تعديل عطفيه في جفني جراحات
حلبت شطري زماني وارتضيت بها ... لي وحشة عن أنيس فيه إعنات
فكم مجالس لهو خمرها غزلي ... وشمعتي فكرة فيها شرارات
وليس لي طرب إلا إذا تليت ... عن ناصر الدين أخبار وآيات
فتى إذا فكرتي صاغت له مدحاً ... شنت على الوصف في علياه غارات
وسابق اللفظ في نظمي مدائحه ... الدر والزهر والزهر المنيرات
حوى الفضائل من سيف ومن قلم ... فليس عند الورى إلا فضالات
له محاريب حرب كلما ركعت ... سيوفه سجدت إذ ذاك هامات
فالأرض طرس وغى والخيل أسطره ... والسمهري ألف واللام لامات
وكم أدار كؤوس الموت حين شد ال ... حسام وارتقصت للسمر قامات
ليث فرائسه الفرسان يوم وغى ... وما البراثن إلا المشرفيات
إن أظلم الجو من جون العجاج فمن ... خرصان ذبله فيه ذبالات
وإن دجا البحث في تحقيق مسألة ... جلت حنادسه منه الدلالات
وأوضح الحق بالبرهان وازدحمت ... فيما يرى نصره منه العبارات
وإن أتاك بنقل فالبحور طمت ... ويعضد الرأي ما تهدي الروايات
وإن تمسك في قول بظاهره ... تخضع له الشهبات الفلسفيات
نقول إلا إذا ما كان حاضرنا ... فهو الخطيب ومنا نحن إنصات
وإن أدار على قرطاسه قلماً ... فباطن الطرس أنهار وجنات
عن كل همز سما في سطره ألفاً ... فقل غصون بأعلاها حمامات
يكاد من عبارات يسطرها ... تبدو لها من حمام الهمز رنات
نظم يروق ومعناه يرق لنا ... فاللفظ كأس له المعنى سلافات
يا شاكي الزمن الجاني استجر كرماً ... به فللدهر من نعماه ردات
وسوف يغفر للأيام زلتها ... وتنجلي ظلمات أو ظلامات
فما سمي النبي الهاشمي له ... بدع إذا انكشفت عنك الغيابات
لقد سما والورى من دون رتبته ... ولم تزل تفضل الأرض السماوات
خلائق مثل أنفاس الرياض إذا ... مرت بأزهارها ليلاً نسيمات
وجود كف كأن الفقر قفر فلاً ... تهمي على عطش منه غمامات
من معشر قد سها طرف السهى لهم ... عليه من مجدهم ترخى الذؤابات
لا زال في نعم أنفاس لذتها ... في كل ناد لها بالند نفحات
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
أوراق نظمك للأبصار روضات ... فيها لغر المعاني منك زهرات

يا ناظماً نزلت زهر السماء له ... كانت بروجاً فأضحت وهي أبيات
وفاضلاً لا يفض الله خالقنا ... له فما منه للدنيا كمالات
ترجلت لك فرسان القريض وولوا منك خوفاً كأن القوم أموات
كل بفضلك أمسى وهو معترف ... وليس يقوى لعصف الريح نسمات
يروي الأنام حديث الفضل عنك وقد ... علت لهم منك في ذاك الإجازات
ومن يعاند فيما رحت أذكره ... عما حويت من العليا فقل هاتوا
وكتبت أنا إليه أهنئه بقدومه من الحجاز في شهر الله المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة:
قدمت قدوم البدر والليل قد دجا ... فأشرقت الآفاق من سائر الأرجا
وكانت ربا مصر رياضياً تصوحت ... فجئت إليها كالغمام إذا ثجا
إذا النوق أعياها المسير فإنها ... بطيب الثنا والذكر عنك غدت تزجى
أيا من سرى والأنجم الزهر في الدجى ... ليهدى بها في القفر قد علقت سرجا
وأمسى هلال الأفق كوراً لنجبه ... وإلا على ظهر الجياد له سرجا
قطعت الفيافي نحو مكة محرما ... ولم تتخذ إلا التقى والفلا منجا
وجردت من ثوب مخيط ولم تزل ... برود الندى والبأس تحكمها نسجا
ولبيت لباك الإله لأنه ... رأى خير من لبى بركبك أو عجا
وطفت ببيت لم تر الباب مرتجاً ... متى جئته تدعو ولا الركن مرتجا
ترى الحجر المسود أحسن موقعاً ... بقلبك من خال على وجنة بلجا
فتوسعه لثماً بأبيض واضح ... إذا قال قلنا السحر من لفظه مجا
وفي عرفات كان عرفك ذائعاً ... تضوع عرفاً نشره ملأ الفجا
وحلقت حتى لا تكون مقصراً ... وذلك أنجى في العبادات بل أرجى
وسقت مطايا الهدي تنحر كومها ... وقد نضجت أكبادها بالسرى نضجا
فبخلت حتى السحب في جود وبلها ... وزدت إلى أن كدت أن تغرق اللجا
وجئت إلى قبر حوى خير مرسل ... ومن حبه الذخر المؤمل والملجا
تجادل عنه أو تجالد من غدا ... يعالج منه المسلمون فتىً علجا
إذا أنت رفعت الرماح مراوداً ... تشق بها من نقعه مقلةً دعجا
وإن ظمئت يوم الوغى أنفس العدا ... سللت لها في الروع بيض الظبا خلجا
أيا من غدت أعلامه وعلومه ... تنير لنا مثل الشهاب إذا أجا
قطعت الورى بحثاً وطفت بمكة ... فأصبحت في الحالين أفضل من حجا
بقيت مليكاً في الفضائل والعلا ... متى هاج خطب والتفت له هجا
ولا زلت محروس الجناب من العدا ... يسل لها غمد الدجا فجره نمجا
وكتب هو إلي من القاهرة بعد خروجي منها إلى صفد في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد:
يا راحلاً وجميل الصبر يتبعه ... هل من سبيل إلى لقياك يتفق
ما أنصفتك دموعي وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو يحترق
يا مولانا تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: ما قضى الله لامرئ مؤمن من قضاء إلا وكان الخيرة له فيما قضى من ذلك، إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وليس إلا للمؤمن. وفي الأثر: المؤمن ملقى، وفي حديث سويد الأزدي وقومه حين قدومهم على سيد البشر أنه فسر إيمانهم بخمس عشرة خصلة وعد منها الصبر عند البلاء، والرضا بمواقع القضاء. وبالجملة الحمد والشكر لله أولاً وآخراً، والله معك حيث كنت، والسلام:
أوحشت مصراً فادلهم ربعها ... شوقاً إلى ذلك المحيا الزاهر
أفضت من فضائلها فضائلاً ... من بحر علم قد حويت زاخر
نثر إذا نظرته كأنه المنثور لاح وسط روض ناضر
ونظم شعر راق في تأليفه ... فأخجل العقود في الجواهر
وحسن خط قد جعلت طرسه ... مدبجاً كالروض بالأزاهر

يا فخر دهر أنت من كتابه ... تخجل كل ناظم وناشر
وعز ملك كنت في ديوانه ... تنشئ ما يلعب بالضمائر
إذا ترسلت إلى أعدائه ... أغنيته عن الحسام الباتر
يا فاضلاً أخنى عليه دهره ... لا تخضعن لنكبة في الظاهر
فاصبر ولا تقلق لأهوال الردى ... فإن ثبت نلت أجر الصابر
أرجو لك العود لمصر سرعةً ... مظفراً كما يظن خاطري
فكتبت أنا الجواب إليه، رحمه اللهتعالى:
يا برق هل ترثي لصب ساهر ... وهل ترى لكسره من جابر
وهل لما قد نابه من راحم ... أو لم يكن فهل له من عاذر
أبيت لا أنيس لي إلا الذي ... يدور من شكواي في ضمائري
أخرجني كالسهم من كنانة ... حكم زمان في القضاء جائر
وابتزني صبري وما أرى الورى ... على الذي قد نالني من صابر
فأضلعي تحنى على جمر الفضى ... وما الشرار غير قلبي الطائر
ومن غدا باطنه مشتعلاً ... لم يفنه تجلد في الظاهر
ومقلتي تعثرت دموعها ... لأنها تجري على محاجري
والنوم لا أعرف منه سنة ... في سنة إلا بحكم النادر
يا دهر قد رميتني بنكبة ... عدمت فيها قوتي وناصري
القاتل المحل يجود كفه ... وصاحب الإبداع في المفاخر
كم حدثتني راحتاه عن عطا ... وكم روى إحسانه عن جابر
يا قاطع البيد إلى أبوابه ... ظفرت من جدواه بالجواهر
لا تشك في القفر ظماً فكفه ... أطبقها على الخضم الزاخر
ويا مجاريه لغايات العلا ... قف واسترح من هذه الخواطر
كم قد جرى البرق على آثاره ... فلم يفز إلا بجد عاثر
ويا مناوي بأسه إلى الوغى ... جهلت ما تبغي فلا تخاطر
أما ترى ما حاز من فضائل ... فاقت على قطر الغمام الماطر
والسيف واليراع في بنانه ... ما اجتمعا إلا على المآثر
سيادة في بيته مشهورة ... يعدها في كابر عن كابر
آه على ما فات من نواله ... وفضله وجبره لخاطري
ولطفه ذاك الذي إذا بدا ... تعرفه في كل روض زاهر
أبعدني دهري عن أبوابه ... يا ويح دهر بالفراق ضائري
وربما يسمح لي بعودة ... فيغفر الأول عند الآخر
وكنت كتبت إليه من الرحبة سنة تسع وعشرين وسبع مئة:
لي حالة بعد الأمير ناصر ال ... دين لها كل الأنام عاذر
ضنيت بالبعد فما لي قوة ... وغاب عن عيني فما لي ناصر
وكتبت أيضاً إليه:
يا غائباً عني بحكم النوى ... وذكره ما زال في خاطري
قد جار في الحكم زماني ولا ... بدع إذا اشتقت إلى ناصري
محمد بن جوهر بن محمدأبو عبد الله التلعفري المقرئ المجود الصوفي.
قرأ علي أبي إسحاق بن وثيق لأبي عمرو، وأخذ عنه التجويد ومخارج الحروف. وسمع بحلب عن ابن رواحة، وابن خليل، والصلاح موسى بن راجح، وغيرهم.
قال شيخنا الذهبي: قدم علينا دمشق، وقرأت عليه مقدمته في التجويد وجزءاً من الحديث. وكان شيخاً ظريفاً فيه دعابة وحسن محاضرة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وتسعين.
ومولده بتلعفر سنة خمس وست مئة.
محمد بن حازم بن حامدابن حسن الشيخ الإمام الصالح شمس الدين أبو عبد الله بن القدوة المقدسي، إمام دار الحديث الأشرفية بالجبل.
كان شيخاً صالحاً بهي المنظر، حسن الهيئة، كثير الخير، مشكور السيرة، حدث ب " صحيح " البخاري وغيره، وسمع عن ابن اللتي، والحسين بن صصرى، والناصح الحنبلي، وابن غسان، والفخر الإربلي، وغيرهم.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة عشرين وست مئة أو بعدها بقليل.
ووجد سماعه في أول سنة خمس وعشرين وست مئة حضوراً.
محمد بن الحرانيناصر الدين التاجر الشرابيشي.

كان للأمير سيف الدين تنكز به اعتناء، وإذا توجه للقاهرة يقف حوله ويشتري له ما يريد، وما يخرج من القاهرة حتى يقترض منه مبلغاً كبيراً من المئة ألف وما فوقها وما دونها، وما كان القاضي شرف الدين النشو يعارضه لأجل تنكز.
توفي - رحمه الله تعالى - في سنة أربعين وسبع مئة، وخلف ستة عشرة ألف ومئتين وستين ديناراً، ومئة وخمسة وثلاثين ألف درههم، وحججاً على أناس بمئة وخمسين ألف درهم، وخلعاً وقماشاً بسبعين ألف درهم، ولم يخلف وارثاً، وكان عند موته يقول: مالي.. مالي.. مالي.. إلى أن مات.
محمد بن الحسن بن إبراهيمفتح الدين الأنصاري المعروف بالقمني.
سمعت عليه بثغر الإسكندرية في صفر سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة جميع الحديث المسلسل بروايته عن النجيب عبد اللطيف الحراني، وأجاز لي جميع ما يجوز له روايته، وكتب بذلك بخطه.
محمد بن الحسن بن سباعالشيخ الإمام العروضي، شمس الدين الصائغ الدمشقي.
كان من مشيخة الأدب، والناس ينسلون إليه من كل حدب، أقرأ الناس في دكانه بالصاغة زمانا، وأخذوا عنه لشعرهم ميزانا، والعروض أول ما كان يعرف، وينفق من حاصله لمن يقصد ويصرف.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الصائغ في الأحياء ضائعا، وصوح روض الأدب منه، وكان به ضائعا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الثلاثاء ثالث شهر رمضان المعظم سنة عشرين وسبع مئة. والصحيح أنه مات في ثالث شعبان.
ومولده في صفر سنة خمس وأربعين وست مئة.
رأيته غير مرة وكان يتردد إلى القاضي قطب الدين بن شيخ السلامية، وينفق آدابه عليه، وله نظم كثير، ونثر كثير، وشرح " ملحة الإعراب " ، و " اختصر صحاح " الجوهري، فجرده من الشواهد، وله قصيدة عارض بها " القصيدة الهيتية " التي لشيطان العراق، فما داناها وشرحها على هوامشها، وملكتها بخطه وأخرجتها عن يدي، " وشرح الدريدية " في مجلدين من أربعة، ملكتها بخطه، وقد أخرجتها عن يدي لما وقعت على أشياء في الشواهد ضبطها بخطه على غير الصواب، وله " المقامة الشهابية " وضعها للقاضي شهاب الدين بن الخويبي، ملكتها بخطه مشروحة.
ومن شعره:
إن جزت بالموكب يوماً فلا ... تسأل عن السيارة الكنس
فثم آرام على ضمر ... لله ما تفعل بالأنفس
بأحمر هذا وذا أصفر ... وأخضر هذا وذا سندسي
فقل لذي الهيئة يا ذا الذي ... ينقل ما ينقل عن هرمسي
قولك هذا خطأ باطل ... أما ترى الأقمار في الأطلس
قلت: أخذه من سيف الدين بن قزل المشد ونقصه، لأنه قال:
زعم الأوائل أنما ... تبدو الذوائب للكواكب
وتوهموا الفلك المعظ ... م أطلساً ما فيه ثاقب
أتراهم لم ينظروا ... ما في الزمان من العجائب
كم من هلال قد غدا ... في أطلس وله ذوائب
وأنشدني من لفظه القاضي شهاب الدين أحمد بن عز الدين الفارقي الموقع قال: أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ شمس الدين الصائغ ملغزاً:
ما اسم إذا عكسته ... رأيته بنفسه
كذاك إن ضاعفته ... لم يختلف بعكسه
قلت: هو في سدس وضعفه ثلث، وهذا في اللغز البديع.
وقال الشيخ شمس الدين الصائغ وهو بمصر يتشوق إلى دمشق:
لي نحو ربعك دائماً يا جلق ... شوق أكاد به جوى أتمزق
وهمول دمع من جوى بأضالعي ... ذا مغرق طرفي وهذا محرق
أشتاق منك منازلاً لم أنسها ... أنى وقلبي في ربوعك موثق
طلل به خلقي تكون أولاً ... وبه عرفت بكل ما أتخلق
وقف عليك لذا التأسف والبكا ... قلبي الأسير ودمع عيني المطلق
أدمشق لا بعدت ديارك عن فتى ... أبداً إليك بكله يتشوق
أنفقت في ناديك أيام الصبا ... حباً وذاك أعز شيء ينفق
ورحلت عنك ولي إليك تلفت ... ولكل جمع صدعة وتفرق
فاعتضت عن أنسي بظلك وحشةً ... منها وهي جلدي وشاب المفرق
فلبست ثوب الشيب وهو مشهر ... ونزعت ثوب الشرخ وهو معتق

ولكم أسكن عنك قلباً طامعاً ... بوعود قربك وهو شوقاً يخفق
منها:
والريح تكتب في الجداول أسطراً ... خط له نسخ النسيم محقق
والطير يقرأ والنسيم مردد ... والغصن يرقص والغدير يصفق
ومعاطف الأغصان غنتها الصبا ... طرباً فذا عار وهذا مورق
وكان زهر اللوز أحداق إلى الزوار من خلل الغصون تحدق
وكأن أشجار الغياض سرادق ... في ظلها من كل لون نمرق
والورد باللون يجلو منظراً ... ونسيمه عطر كمسك يعبق
فبلابل منها تهيج بلابلي ... ولذاك أثواب الشقيق تشقق
وهزاره يصبو إلى شحروره ... ويجاوب القمري فيه مطوق
فكأنما في كل عود صارخ ... عود حلا مزمومه والمطلق
والورق في الأوراق يشبه شجوها ... شجوي وأين من الطليق الموثق
قلت: وهي طويلة جداً، وقد ذكرتها مستوفاة في الجزء الأول من " التذكرة " التي لي.
محمد بن الحسن بن محمدالخطيب كمال الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الإمام العلامة نجم الدين أبي محمد ابن الشيخ كمال الدين القرشي الأموي القرطبي الأصل الصفدي الخطيب بن الخطيب بن الخطيب، الدمشقي المولد.
كان خطيباً مصقعا، وأديباً ترك ربع البلاغة بعده بلقعا، كم أسال الدموع وفضها على الخدود من الخشوع، وكم علا ذروة المنبر واستقبل الناس فقالوا: هذا بدر قد بدا في سماء من العنبر. ليس للحمائم مثل أسجاعه إذا غردت، ولا للفصحاء مثل عبارته التي جمعت أنواع البيان فتفردت.
وكان ممن ينظم وينثر، ويجري قلمه في ميدان البلاغة ولا يعثر، يأتي فكره بقصائد كأنها قلائد، ونثره برسائل كلها فرائد:
لا تطلبن كلامه متشبهاً ... فالدر ممتنع على طلابه
كلم كنظم العقد يحسن تحته ... معناه حسن الماء تحت حبابه
خطب في حياة والده، وهو خالي الوجنة من النبات، وحير العقول بماله من الإقدام والثبات، وكان وهو أمرد يفتن القلوب بنظره، ويقسم الأفق أنه أحسن من قمره.
ومات والده وهو عار من حلي الآداب سار في ميعة الصبا والشباب، فلما مات والده - رحمه الله تعالى اجتهد ودأب، وتمسك بعرا الفضل والأدب، فنظم ونثر وكتب.
ولم يزل على حاله إلى أن خاطبه الخطب فجاءه، ولم يدفع الطبيب داءه.
وتوفي رحمه الله تعالى - يوم الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
ومولده بدمشق، تقريباً سنة تسع وسبع مئة.
صلى الظهر بالناس يوم الاثنين، وجاء إليه المؤقت فقال له: إن بعض المؤذنين ما يلازم التأذين، فأحضره وأنكر عليه، وحصل له منه غيظ، دخل بعد ذلك إلى بيته ونام فجأة على فراشه. وكذلك توفي والده رحمه الله تعالى - فجأة بصفد أيضاً، وقد تقدم ذكره في حرف الحاء مكانه.
وكان الخطيب كمال الدين يكتب خطاً حسناً وهو من بيت بلاغة وكتابة، وبيني وبينه مكاتبات ومراجعات، ذكرت أكثرها في كتابي " ألحان السواجع بين البادي والمراجع " ، وكنت أود ما يوده، وأختار ما يختاره من مسكنه دمشق - رحمه الله تعالى - وما اتفق له ذلك.
وكان قد كتب هو إلي من صفد في أواخر سنة أربع وخمسين وسبع مئة:
سلام كنشر المسك يسري ويعبق ... على معهد كالبدر يعلو فيشرق
ومشهد أنس حله من أحبتي ... موال لهم في شاهد المجد مشرق
وسادات عز قيدوا القلب في الهوى ... على حبهم والدمع في الخد أطلقوا
يذكرنيهم كل شيء يروقني ... فلي بهم مع كل حسن تعلق
ويذكي فؤادي هجرهم وبعادهم ... ولي نحوهم في كل حين تشوق
يردده سار ينم به الشذا ... ويخبر عن جار من الدمع يسبق
ويتلو على سمع التعطف منهم ... حديثي عسى يوماً يرق ويشفق
ويرفع حالاً نكرت وصف لمتى ... بعطف ابتداء لي على الود ينسق
وينسخ أشواقي بريحان قربه ... ويرقمه حقاً دنوي المحقق
أأحبابنا إن لم أفز بلقائكم ... فمنوا بطيف في الكرى وتصدقوا

فقد طال هذا البعد والزمن انقضى ... بأحلام قرب لا تتم فتصدق
وإن كان مع بعدي صحيحاً ودادكم ... أكيد ولكن التداني أوفق
سقى دوحةً كنا نلوذ بظلها ... من القرب سحاح الندى متدفق
وحيا زماناً كان فيه بوصلكم ... لسان حبوري بالمسرات ينطق
فما كان أهنا عيشنا وألذه ... وما راعنا بعد ولا شاب مفرق
ولا فرقت أيدي الحوادي شملنا ... ولا بات قلبي من لقا البين مورق
فواهاً على أوقات قرب قطعتها ... بكم وشبابي مائس الغصن مورق
ووصلكم داني الجنى في ربا المنى ... وصافي التصافي بيننا يترقرق
مضت بسلام ثم أعقبت الأسى ... فؤاداً سوى إعراضكم ليس يفرق
فما ذات طوق راعها فقد إلفها ... وأشجى حشاها بينه والتفرق
وأنطقها بالنوح في الدوح والبكا ... غريم غرام شفها والتحرق
بأشجى فؤاداً أو أشد تشوقاً ... وأحرى لعبرات بها العين تشرق
وأبرح مني أو بأذكى تلهباً ... على قرب إلف أو على الطيف يطرق
لعمري لقد كنت البعيد مزاره ... فحبك في سوداء قلبي ملصق
وإن تنكر الأيام ما لي عندها ... فأنت على دعوى ودادي مصدق
فديتك كن لي في ودادي معاضداً ... فأنت بإسعادي أحق وأخلق
ورأيك مسعود فكن لي مساعداً ... فإنك ذو الرأي السعيد الموفق
وإن أنت لم تسمع لقول شكايتي ... فعش سالماً مما يسوء ويرهق
فشكري أياديك الجميلة واجب ... أقوم به ما دمت أحيا وأرزق
وأسجع من مدحي بكل غريبة ... لأني بعقد المن منك مطوق
فدم في بقاء ينبت العز والغنى ... فأنت لنا الكنز الذي منه ننفق
يقبل الأرض التي يسأل الله تعالى أن يحمي حماها من الغير، ويجعلها كعبة تطوف بها الآمال والفكر، وأن يمنح ربها من مزيد النعم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وينهي أشواقه التي أصبح من حرها على خطر، ويذكره الذي كم له فيه من وطر، فلا يخلو منه أين كان ولا أنى نظر، وصحيح وده الذي هو بنقل الثقات معتبر، وحديث حبه المستطر، وقديم ولائه الذي هو للسان الملأ سمر.
وتلك نسبة رق قد عرفت بها ... حفظ الولا منكم حق لها يجب
يا مالكي أين إسعافي بما طمعت ... نفسي به من بعيد الدار يقترب
فقد سئمت حياتي مع بعادكم ... وقد خشيت الردى تأتي به النوب
وإن قضيت ولم يقض اللقاء لنا ... فكم مضى بحزازات الحشا وصب
فلا تعينوا على قلبي بقسوتكم ... فقد كفاه الجفا والشوق والنصب
وإن تباخل أحبابي بقربهم ... فالرسل والطيف يكفي الصب والكتب
وإن تجنوا برفع الود من خبر ... فالعبد للحب في الحالين ينتصب
فكتبت أنا الجواب إليه من رأس القلم ارتجالاً:
تحية ذي ود براه التشوق ... وأضناه بل أفناه وجد مؤرق
تروق كم راقت معاني حديقة ... إليها عيون الناظرين تحدق
وتأتي بلطف من تخص ربوعه ... كدمعة صب ودقها يترقرق
إلى مجدك السامي البنا الغامر الثنا ... تروح وتغدو دائماً تتأنق
بعثت كمال الدين نحوي مشرفاً ... عقود لآليه لجيدي تطوق
تنزهت منه في رياض بلاغة ... بها أدب أنهاره تتدفق
كأن قوافيه كؤوس يديرها ... على السمع مني البابلي المعتق
قوى في قوافيه التي قد تمكنت ... يخور لها عند البيان الخورنق
به ألفات كالغصون تقومت ... من الهمز يعلوها الحمام المطوق

ولا عين إلا مثل عين مريضة ... يهيم بها في الناس من يتعشق
ولا ميم إلا مبسم من رضابه ... رضاب يحاكيه المدام المروق
وأين البها أعني زهيراً فلو رأى ... أزاهر هذا كان في الحال يطرق
وذلك شعر ليس للناس مثله ... ولكن ذا أندى وأحلى وأرشق
وذاك قريض قد سما للسما وذا ... على أذن الجوزاء قرط معلق
وذاك إمام في البلاغة شامل ... وهذا موشى بالبديع موشق
فأذكرتني عهد الصبا بقدومه ... وذلك عهد الصبا معرق
إذا ذكرت نفسي زماناً قطعته ... وغصن الصبا ريان باللهو مورق
تصوب على خدب سحائب أدمع ... فلولا زفيري كنت بالدمع أغرق
ولو كان لي صبر لقيت به الأسى ... ولكن ثوب الصبر عني ممزق
فيازمني بالغت في عكس مقصدي ... فما لي بالحرمان أرزى وأرزق
فلا وطني يدنو ولا وطري أرى ... ومن دون ما أبغيه هام تفلق
أمولاي مدت بيننا حجب النوى ... وما رفعت والعمر من ذاك أضيق
فإن كان مولانا صفد صفت ... فإنك قد جلت بقربك جلق
وهبك خطيباً قد علا فوق منبر ... أما في دمشق منبر بك أليق
أدم شق لج البين في عرصاتها ... فكم من أناس أفلحوا مذ تدمشقوا
وجدد لباس العز في غير ربعها ... فطول مقام المرء في الحي مخلق
وضم بنا شمل التآلف واللقا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق
فكل مكان ينبت العز طيب ... وفي كل أفق للسعادة مشرق
فلو وضحت لي من مرادك لمحة ... لكنت لوفد الريح والبرق أسبق
فما أنا في حفظ الوفا متاصنعاً ... ولا أنا للزور القبيح منمق
وأنت فتدري ما قضته جبلتي ... فما أدعي إلا وأنت تصدق
ولكن دهراً قد بلينا بأهله ... أباعوا به ثوب النفاق ونفقوا
أناس تنازلنا إلى أن ترفعوا ... علينا ألا يا ليتهم لو ترفقوا
فكانوا أصولاً في صحائف عزهم ... ونحن على بعض الهوامش ملحق
فثق بقضاء الله وارض بحكمه ... فلي أمل لا بد فيك يحقق
يقبل الأرض وينهي ورود المثال الكريم الذي فضح كماله القمر، وسلب بسحره الألباب وقمر، وأحيا رسم البلاغة، فساد بما شاد وعمر، وهمى غمام فضله وسقى رياض الفصاحة وهمر، وقسم نظمه ونثره فهذا للندامى غناء، وهذا للمحدثين سمر، وخالف العادة لأنه جاء بستاناً في ورقه، إلا أن جميعه زهر وثمر، وأمر ونهى في سلطان فضله، فأذعن الفصحاء له وقالوا له: السمع والطاعة فيما نهى وأمر، وأطرب المسامع فعلم أن من أنشأه لو شاء بالطرس طبل وزمر، فوقف المملوك على أبياته وآمن بآياته وعلم أنه يقصر عن مباراة مباديه وهو في غاياته، وتصور عتبه فتضور وتفكر في أمره الأمر فتكفر، وتربض لما يدبره في معناه فما تصبر، وترفق للحيلة فما رأى لها دليلاً تقرر، وتحرى فيما يعتمده فما وجد فيه بحثاً تحرر:
سوى حضورك في أمن وفي دعة ... ليقضي الله ما نرجو ونرتقب
أو فالتصبر أولى ما ادرعت له ... فالسول يقضى به والقصد والأرب
فلي أماني خير فيك أرقبها ... أرى بعيد مداها وهو مقترب
فلا يضيق لك صدر من أذى زمن ... أيامه تمنح الحسنى وتستلب
وربما كان مكروه الأمور إلي ... معروفها سبباً ما مثله سبب
وكنت قد كتبت له توقيعاً من الفخري لما كان بدمشق، على أن يكون موقعاً بصفد في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، ونسخته:

رسم بالأمر العالي، لا زال يزيد بدور أوليائه كمالا، ويفيد سفور نعمائه جمالاً، ويعيد وفور آلائه على من بهر بفوائده التي غدا سحر بيانها حلالا، أن يرتب المجلس السامي القضائي الكمالي في كذا، لأنه الأصيل الذي ثبت في البيت الأموي ركنه، وتفرع في الدوحة العثمانية غصنه، وكمل قبل بلوغ الحلم حلمه، فلم يكن في هضبات الأبرقين وزنه، وألف حين أشبل غاب المجد حتى كأنه كنه، والبليغ الذي تساوى في البديع نظمه ونثره، وخلب العقول من كلامه سحره، وفاق زهر الليالي لآليه ودراريها دره، والفاضل الذي ألقى إليه العلم فضل الرسن ومج السهاد فم جفنه وغيره قد ذر الكسل فيها فترة الوسن، وبهر في مذهبه فللشافعية به كما للحنفية محمد بن الحسن، والخطيب الذي يعلو صهوة المنبر فيعرفه وإن لم يضع العمامة، ويطمئن له مطاه حتى كأنه بينه وبين علميه علامه، ويبرز في سواد شعاره بوجه يخجل البدر إذا بدا في الغمامة، ويود السمع إذا أطاب لو أطال، فإنه ما سامه منه سآمه، ويغسل دون الذنوب إذا أيه بالناس وذكر أهوال القيامة، ويتحقق الناس أن كلامه روض ومنبره غصن، وهو في أعلاه حمامه.
فليباشر ذلك مباشرةً هي في كفالة مخائله، وملامح شمائله، ومطامح الآمال في نتيجة المقدمات من أوائله، وليدبج المهارق بأقلامه التي تنفث السحر في العقد، وتشب برق الإسراع حتى يقال: هذا الجمر قد وقد، وتنبه على قدر هذا الفن فإنه من عهد والده خمل وخمد، وتنبهه فإن ما رقى لما رقد، ليسر ذلك الليث الذي شب له منه شبله، وذلك الغيث الذي فض له منه فضله، والوصايا كثيرة وهو غني عن شرحها. ملي بحراسة سرحها، فلا يهدى إلى هجره منها تمره، ولا يلقن إلى بحره منها دره، ولكن تقوى الله تعالى أعم الوصايا وأهم نفعاً مما في حنايا الزوايا من الخبايا، وهو بها يأمر الناس على المنابر، والآن تنطق بها ألسنة أقلامه من أفواه المحابر، فليكن بها أول مأمور، وأول متصف أسفر له صبحها من سواد الديجور. والله يزيده فضلا، ويزيده من القول المحكم فصلا.
والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه حجة ثبوته، والعمل بمقتضاه إن شاء الله تعالى.
محمد بن الحسنالأمير ناصر الدين ابن الأمير عماد الدين بن النشائي.
كان أمير عشرة مقدماً على خمسين بدمشق، وأحد الحجبة بين يدي النواب وأخذ حكومة البندق بعد الأمير سيف الدين بلغاق المقدم ذكره في حرف الباء.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وصلي عليه بالجامع الأموي ودفن بسفح قاسيون.
محمد بن الحسن بن يوسف الأرمويالفقيه المحدث الصالح، صدر الدين الشافعي نزيل دمشق.
قدم دمشق ولزم ابن الصلاح، وحدث عنه، وعن كريمة، والتاج بن حموية، وابن قميرة، وعدة، وتفقه وحصل وتعبد.
قال شيخنا الذهبي: كتبت أنا عنه وسائر الرفاق.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة سبع مئة.
ومولده سنة عشر وست مئة.
محمد بن الحسنالأمير صلاح الدين أبو الحسن ابن الملك الأمجد مجد الدين ابن السلطان الملك الناصر داود ابن السلطان الملك المعظم عيسى ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
سمع حضوراً من والده، وروى عنه، وسمع من ابن البخاري والفاروثي وجماعة. وكانت له ديون كثيرة.
ولم يزل في تعب إلى أن توفي - رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده في رابع عشري القعدة سنة أربع وستين وست مئة.
محمد بن الحسين بن محمدابن يحيى الأرمنتي، جمال الدين.
كان فقيهاً ذكيا، كريم النفس أبيا، لطيف الذات، ظريف الصفات، نهايةً في السماح، لا يلحقه البرق في ذلك ولا عاصف الرياح، حتى أفضى به ذلك إلى الفقر، وأدى بحاله إلى العقر.
وكان أديباً ناظماً ناثرا، إذا جرى في فن الإنشاء لم يكن عاثرا.
ولم يزل على حاله إلى أن حضرت منيته، وانقطعت من الحياة أمنيته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بأرمنت سنة إحدى عشرة وسبع مئة.

كان قد أخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين القفظي، والشيخ جلال الدين أحمد الدشناوي، والأصول عن الشيخ شهاب الدين القرافي والشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الجزري الخطيب، وأصول الدين والمنطق عن بعض العجم، وذكر للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فقال: الفقيه ابن يحيى ذكي جداً، فاضل جداً. وتولى الحكم بأدفو، ناب في الحكم بقوص وبنى بأرمنت مدرسةً ودرس بها.
ومن شعره:
عريب النقى قلبي بنار الجوى يكوى ... وجيدي عنكم دائم الدهر لا يلوى
ولي مقلة تبكي اشتياقاً إليكم ... ولي مهجة ليست على هجركم تقوى
نشرتم بساط البعد بيني وبينكم ... ألا يا بساط البعد قل لي متى تطوى
بعادكم والله مر مذاقه ... وقربكم أحلى من المن والسلوى
محمد بن الحسين بن تغلبموفق الدين الأدفوي خطيب أدفو.
كان فيه كرم وجود وسماح، شاع خبره في الوجود، وله في الطب يد باسطه، وقوة في العلاج ناشطة، وينظم وينثر، ويخطو لما يخطب فلا يعثر. ومعرفته بالوثائق جيدة وكتابته.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح فلم يجد لعلته علاجا، وأمسى وقد اتخذ إلى المعاد معاجا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة سبع وتسعين وست مئة.
قال الفاضل كما الدين الأدفوي: رأيته مرات، وكان يأتي الجماعة أصحابنا أقاربه فيسمعهم يشتمونه، فيرجع ويأتي من طريق أخرى حتى لا يتوهموا أنه سمعهم.
ووقفت له على كتاب لطيف تكلم فيه على تصوف وفلسفة.
وكان وصياً على ابن عمه وعليه ثمر للديوان وقف، عليه منه خمسة وعشرين أردباً، فشدد الطلب عليه، فتقدم الخطيب إلى الأمير وأنشده:
وقفت علي من المقرر خمسة ... مضروبة في خمسة لا تنكر
من ثمر ساقية اليتيم حقيقةً ... ليت السواقي بعدها لا تثمر
حمت النصارى بينهم رهبانهم ... وأنا الخطيب وذمتي لا تخفر
واجتمع يوماً بالجامع جماعة وعملوا طعاماً وطلبوا جعفر المؤذن ولم يطلبوا الخطيب، فبلغه ذلك، فكتب إليهم أبياتاً منها:
وكيف رضيتم بما قد جرى ... صحبتوا المؤذن دون الخطيب
أمنتم من الأكل أن تمرضوا ... ويحتاج مرضاكم للطبيب
قال: وكان يمشي للضعفاء والرؤوساء ويطبهم - رحمه الله تعالى - .
محمد بن الحسينالشيخ شمس الدين الغوري، بضم الغين المعجمة وسكون الواو بعد راء، الحنفي المدرس.
كان فاضلاً، وكان في لسانه عجمة، وكتب بخطه كتباً في العربية، ووقع المسكين في لسان الفخر عثمان النصيبي، فجعل يمسخر به في حكاياته، ويذكر وقائعه ويزيد في بعضها من مضحكاته. ولقد حكي عنه مرة حكاية تنمر فيها تنكز نائب الشام ورسم بقتل الشيخ شمس الدين بالمقارع، وما خلص من ذلك إلا بالجهد.
وأهل دمشق يحكون عنه حكايات مشهورة بينهم.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
محمد بن الحسين بن القاسمابن علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين، الصدر الأصيل بدر الدين ابن العدل عماد الدين ابن الحافظ بهاء الدين ابن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر.
كان رجلاً حسناً.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن ابن أبي اليسر، وسمع على جماعة، وشهد على الحكام بدمشق، وولي الولايات من جهة الكتابة، وحج وأقام باليمن مدة، وكان له ثلاثة أولاد نجباء قدمهم بين يديه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
محمد بن الحسين بن عبد اللهابن الحسين، زين الدين أبو عبد الله القرشي ابن الفويي.
روى " الخلعيات " كاملة عن ابن العماد، وكان من الفقهاء بمصر.
وكان عدلاً خيراً، عمر وتفرد في وقته، وأخذ الناس عنه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سادس عشري المحرم سنة ثلاث وسبع مئة.
ومولده سنة أربع عشرة وست مئة.
وأجاز شيخنا البرزالي.
محمد بن الحسين بن عتيقابن رشيق، الشيخ الإمام علم الدين المصري المالكي.
سمع " الأربعين المخرجة " لابن الجميزي عليه، وسمع " صحيح " مسلم من ابن البرهان.

وكان فقيهاً عارفاً بالمذهب مفتياً، ولي نيابة القضاء بالإسكندرية نحو اثنتي عشرة سنة، وليها قبل شرف القضاة ابن الربعي نحو سنة وأكثر، ثم وليها بعده بقية المدة، ثم عزل واستمر إلى أن مات.
وكان متعيناً للقضاء، وعينه بدر الدين بن جماعة لقضاء دمشق، وكان يقول: ما عندي مثله.
وتوفي - رحمه الله تعالى - حادي عشر المحرم سنة عشرين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
وكان يكتب في الإجازات:
أجزت لهم أبقاهم الله كل ما ... رويت عن الأشياخ في سلف الدهر
وما سمعت أذناي من كل عالك ... وما جاد من نظمي وما راق من نثري
على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... برياً من التصحيف عار من النكر
وبالله توفيقي عليه توكلي ... له الحمد في الحالين والعسر واليسر
محمد بن الحسينالسيد الشريف شمس الدين ابن السيد شهاب الدين الحسيني الموقع، تقدم نسبه في ترجمة والده رحمهما الله تعالى.
كان يكتب خطاً حسناً، ويجعل الطروس بسطوره تختال بين سناء وسنى، كأن المهارق تحت خطه خمائل، وألفاته فيها غصون تتمايل، وكان والده ينشئ وهو يكتب، فما ترى أحداً يتعنت ولا يعتب.
ولم يزل على حاله إلى أن لحق أباه قريبا، وما خلص من شرك المنية من كان الأجل لأجله رقيبا.
وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في حادي عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده...
وكان قد دخل إلى توقيع الدست الشريف بالديار المصرية لما توجه والده لكتابة السر بحلب، واستمر على ذلك، وحضر صحبة ركاب السلطان الملك الصالح في سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وحضر صحبة ركاب السلطان المنصور صلاح الدين محمد بن حاجي إلى دمشق، وعاد إلى مصر.
وكان قد اختص بالكتابة عند الأمير سيف الدين الداودار، وما سمعت له بنظم ولا نثر، وإنما كان عنده من إنشاء والده شيء كثير إلى الغاية.
محمد بن حسينا الأميركان قد حكم في مملكة التتار بأذربيجان، أعطاه يوماً النوين جوبان قدحاً ليشربه، وذلك في سنة أربع وعشرين وسبع مئة فقال: إن لم تشربه تؤدي ثلاثين توماناً من المال، فقال: أنا أؤدي ذلك ولا أشربه، فأشار جوبان إلى جماعة بأن يلازموه على المبلغ، فخرج محمد حسينا من عنده، ومضى إلى الأمير نكباي وهو ذو مال عظيم، فقال له: أعطني ثلاثين توماناً، فقال له: بربح عشرة توامين، فقال: نعم، وكتب عليه حجة بأربعين توماناً وسلمها إليها، فقال الأمير نكباي للجماعة الذين هم مع حسينا: اذهبوا إلى النوين جوبان وقولوا له: إن المال عندي، فهل أحمله إلى خزانته أو أسلمه إلى العسكر، وأي شيء تريد من النقود. فحضروا إلى جوبان وعرفوه ذلك، فطلب محمد حسينا، وقال له: تعطي أربعين توماناً من الذهب ولا تشرب قدحاً من الخمر؟! قال: نعم. فأعجب جوبان ذلك، وخلع عليه ملبوسه، ومزق الحجة، وحكمه حكماً قوياً، وصار عنده مقرباً.
محمد بن الحشيشيالشمس الرافضي الموصلي.
قال شيخنا الذهبي، ومن خطه نقلت: حدثني الإمام محمد بن منتاب أن عز الدين يوسف الموصلي، كتب إليه وأراني كتابه قال: كان رفيق معنا في سوق الطعام، يقال له الشمس بن الحشيشي، كان يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ويبالغ، فلما ورد شأن تغيير الخطبة إذ ترفض القان خربندا، افترى وسب. فقلت له: يا شمس، قبيح عليك أن تسب هؤلاء، وقد شبت. مالك ولهم وقد درجوا من سبع مئة، والله تعالى يقول: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم " فكان جوابه: والله إن أبا بكر وعمر وعثمان في النار، قال ذلك في ملأ من الناس، فقام شعر جسدي، فرفعت يدي إلى السماء وقلت: اللهم يا قاهر فوق عباده يا من لا يخفى عليه شيء، أسألك بنبيك إن كان هذا الكلب على الحق فأنزل بي آية، وإن كان ظالماً فأنزل به ما يعلم هؤلاء الجماعة أنه على الباطل في الحال. فورمت عيناه حتى كادت تخرج من وجهه، واسود وجهه وجسمه حتى بقي كالقير، وخرج من حلقه شيء يصرع الطيور، فحمل إلى بيته، فما جاوز ثلاثة أيام حتى مات، ولم يتمكن أحد من غسله مما يجري من جسمه وعينيه. ودفن.
قال ابن منتاب: جاء إلى بغداد أصحابنا وحدثوا بهذه الواقعة، وهي صحيحة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة.
محمد بن حمزة بن أحمد بن عمر

القدوة الشيخ الصالح شمس الدين أبو عبد الله المقدسي الحنبلي.
سمع حضوراً من ابن اللتي، وجعفر الهمذاني، وسمع من كريمة، والضياء، وجماعة. وتفقه ودرس وأفتى وأتقن المذهب.
قرأ الحديث بالصالحية التي بالسفح وكتب الخط المليح.
وكان صالحاً خيراً إمام أماراً بالمعروف، داعية إلى ما يعتقده، يحط على من خالفه.
ناب في القضاء عن أخيه مديدة قبل موته.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
محمد بن حمزة بن عبد المؤمنأمين الدين الأصفوني الشافعي.
كان فقيهاً فاضلاً متديناً، تولى الحكم بأبوتيج، وتولى إسنا، وأعاد بمدرسة سيوط.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده بسيوط.
محمد بن حمزة بن معدالفرجوطي، مجد الدين.
كان له أدب ونظم. قال كمال الدين الأدفوي: أنشدني ابن أخيه أبو عبد الله محمد قال: أنشدني عمي لنفسه:
يا سيداً أسند في جاهه ... بجانب عز به جانبي
عساك أن تنظر في قصة ... واجبة تطلق لي واجبي
أوصلك الله إلى مطلب ... مؤيد بالطالب الغالب
وتوفي رحمه الله تعالى بفرجوط سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
محمد بن الخضر بن عبد الرحمنابن سليمان بن علي، القاضي تاج الدين بن زين الدين، المعروف بابن الزين خضر.
كان من جملة كتاب الدرج بباب السلطان، ثم إنه كتب قدام الوزير الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، وكان حظياً عنده، وكان يجلس في دار العدل هو وشمس الدين بن اللبان خلف موقعي الدست على عادة كتاب الدرج للوزير. ثم إن السلطان الملك الناصر محمد جهزه إلى حلب كاتب سرها لما عزل القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود. فتوجهه إليها في أوائل سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فباشرها إلى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة فحضر أو أوائلها صحبة الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب إلى باب السلطان، فهزلهما معاً، وجهز بدلهما الأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير نائباً والقاضي شهاب الدين أحمد بن القطب كاتب سر، فأقام القاضي تاج الدين بمصر بطالاً مدة.
وكان الأمير سيف الدين طاجار يعتني به كثيراً، فسعى له حتى رتب من موقعي الدست بين يدي السلطان، فأقام على ذلك مدة. فلما توفي القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب سر دمشق، رسم السلطان الملك الكامل للقاضي تاج الدين بكتابه سر دمشق عوضاً عنه، فحضر إليها في سلخ شعبان سنة ست وأربعين وسبع مئة، وأقام بها إلى ثامن شهر ربيع الآخر من السنة الثانية.
وتوفي ليلة الجمعة من الشهر سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون وصلى الناس عليه والقضاة والأعيان، وكان مرضه بدوسنطاريا انقطع به ثمانية أيام.
محمد بن خلف بن محمد بن عقيلالشيخ بدر الدين المنبجي التاجر السفار.
كان رئيساً متمولاً معروفاً بالدين والعقل والثقة، يحضر بمجالس الحديث، ويسمع لأولاد ابنه.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة.
محمد بن خليلالشيخ شمس الدين الصوفي.
سمع من الشيخ شمس الدين أبي بكر محمد بن إبراهيم المقدسي، وأبي الهيجاء غازي بن أبي الفضل بن الحلاوي، وغيرهما. حدث مراراً. أجاز لي...
محمد بن دانيال بن يوسفالخزاعي الموصلي، الحكيم الفاضل الشاعر الأديب شمس الدين.
صاحب النظم الحلو، والقريض الذي ليس فيه بيت من النكت خلو، والنثر العذب الرائق، والكلام الذي أصبح وهو على زهر الرياض فائق، والطباع الداخله، والمخيلة التي هي بالصواب غير باخله.
كان ابن حجاج عصره، وابن سكرة مصره. لو كانا حيين لقلداه المجون. وعلما أن نكته تفعل بالألباب ما لا تفعله ابنة الزرجون. قد لطف كلامه، وظرف نظامه، يأتي بمضحكات تعجب منها الثكالى، وتنشط الكسالى، لو رآه أبو نواس لما قال: " أما ترى الشمس حلت الحمل " .
أو ابن الهبارية لما نظم " حي على خير عمل " . وكان لا يبالي بما يقول من سخفه، ولا يستحي في المجون إذا رفع مرخى سجفه:
لو عابه سيبويه قال له: ... خرا الكسائي في لحية الفراء
ولم يزل على حاله إلى أن استجن حشا ضريحه، وأوحش الزمان وأهله خفة روحه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة ليلة الأحد ثاني عشري جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة.

وكان ابن دانيال رحمه الله تعالى طبيباً كحالاً، أديباً شاعراً مطبوعاً على الدخول في أقواله وأفعاله. توجه صحبة الأمير سيف الدين سلار إلى قوص ومع الأمير سلار حسن الحليق، وكان من جملة مماليك سلار غلام جميل الصورة، له صورة عند أستاذه، فتمشى الحليق ومعه الخادم، فوجدا ظل جميز وجدولاً يجري، فرقد الحليق هناك، ونام الخادم عنده، فطلبه أستاذه فلم يجده، ففرق المماليك في طلبه، فوجدهما على تلك الحالة، فأحضروا وقد اشتد غضب سلار، فلما رأى ابن دانيال ذلك تقدم وقال: يا خوند، أقول لك ما تفعل بهذين، فقال: قل. قال: احلق ذقن هذا القواد حسن، واخص هذا الخادم. فضحك سلار وسكن غضبه.
حكى لنا شيخنا الحافظ فتح الدين قال: اجتزنا جماعة به وهو في دكان داخل باب الفتوح والناس عليه مجتمعون، فقالوا: تعالوا نخايل على الحكيم، فقلت لهم: ما أنتم وزنه فلا تشاكلوه فقالوا: لا بد وهو يكحل الناس. فقال بعضنا: يا حكيم تحتاج إلى عصيات؟ فقال: لا والله، إلا... أي من كان منكم يشتهي يقود فليتقدم قال: فقلت لهم: قلت لكم: لا تشاكلوه فما قبلتم قولي، أو كما قال.
وله نوادر كثيرة من هذا النمط. يقال إن الملك الأشرف أعطاه قبل أن يلي فرساً، وقال له: هذا اركبه إذا طلعت القلعة أو سافرت معنا إلى الصيد، لأنه كان في خدمته، فلما كان بعد أيام رآه وهو راكب على حمار مكسح، فقال له: يا حكيم أين الفرس الذي أعطيناك؟ فقال: بعتها وزدت عليها واشتريت هذا الحمار، فضحك منه.
وكان له راتب لحم على ديوان السلطان فعمل في وقت استيمار، وقطع هو وغيره، فدخل على الأمير سيف الدين سلار وهو يعرج فقال له: ما بك يا حكيم؟ قال: بي قطع لحم، فضحك منه، وأمر له بإعادة مرتبه من اللحم.
وله من التصانيف كتاب " طيف الخيال " أبدع فيه وقيل: إنه أخرجه من القوة إلى الفعل، ولبس ثيابه ورقص بآلاته جميعها، وله أيضاً أرجوزة سماها: " عقود النظام في من ولي مصر من الحكام " .
ومن شعره يستهدي قطراً:
نعم أنت أولى من نؤمله قدراً ... وأكرم من نهدي المديح له درا
وما أنت إلا ديمة أي ديمة ... تسح فيحيي سحها البلد القفرا
ولو لم تكن يا ابن المكارم ديمةً ... تجود لما استهديت من جودك القطرا
فجد لي به من ساعتي إنني امرؤ ... أخاف إذا جرعت في عسل صبرا
ودعني من رفع النحاة ونصبهم ... وجرهم أن يملأوا جرتي جرا
فقد لهبت عندي القطائف غلة ... عليه وأبدت ألسناً للظما حرا
وشقت له أيدي الكنافة جيبها ... وقد شيقت من طول وحشتها الصدرا
وقد صدع البين المشت لبعده ... قلوباً، فقلب اللوز منكسر كسرا
وإن جاءني مع ذلك القطر سكر ... أنقطه حتى يكون لكم شكرا
ومنه في الثقة عامل الملقة بالجيزة:
ما لي وللمنخرقه ... والعطف والمنزلقه
وغله الخالص في ... تحصيلها والملقه
ورحلتي في مركب ... بكل فدم موسقه
أرجاؤها علي من ... زحامهم مضيقه
بت بها لضيقها ... وضنكها في بوتقه
ترقص في البحر لدى ... أمواجه المصفقه
والريح لا تجري على ... طريقة متفقه
تهب غرباً وتهب ... ب تارةً مشرقه
كأنها من هوج ... رفيقنا اللص الثقه
أقبحنا خلقاً فسب ... حان الذي قد خلقه
بصورة القر فلو ... لا، ذقنه والعنفقه
وأنه الكلب لمن ... عاينه أو حققه
والكلب لو جاراه في ... خساسة ما لحقه
شيخ لنقصه وإن ... كان ثقيلاً طبقه
رافقته ولم تكن ... رفاقيته رفقه
حتى إذا ما غيب الأ ... فق لدينا شفقه
وهوم الناس فلا ... عين امرئ مؤرقة
نام فكان نائماً ... كالحية المطوقه

وقام في الليل كمث ... ل من يريد السرقه
يسعى إلى عبد له ... وجه شبيه الدرقه
عبل الذراع أسود ... بشفة مشتقه
لو جاز رأس أيره ... في كم قاض فتقه
أولجه في سرمه ... ثم عليه طبقه
وفك سندان استه ... بفيشة كالمطرقه
ولم يزل حتى رمى ... بيض المخاصي زنبقه
فقلت في نفسي ترى ... خيطه أم فتقه
وعاد نحوي قائلاً ... وجحره مبصقه
ما أطيب الأير سج ... قا والخصي مدققه
ولو أتاني نكته ... على سبيل الصدقه
أحسن من ذاك وذا ... جارية معشقه
جديدة في حسنها ... وقهوة معتقه
ذات حر يضيق بالأي ... ر إلى أن يخنقه
حر رميت طيره ... من خصيتي بندقه
فخر مصروعاً ولم ... يقطع سواي سبقه
غنت فأغنت عن شدا ال ... حمامة المطوقه
لله صب لا يضي ... ع عهده وموثقه
أو شادن عليه أك ... باد الورى محترقه
علق نفيس كل كه ... جة به معتلقه
يموج عند نيكه ... تحتك مثل العلقه
يكاد موج ردفه ... للصب أن يغرقه
كم ليلة ركبني ... من خلفه في الحلقه
لما استجاد عدتي ... في العرض يوم النفقه
وجونة زاهية ... بظلمة وبرزقه
ذات شواء قد غدا ... مشتملاً بجردقه
وافى ونفسي لم تزل ... إلى لقاء شيقه
لولا خلوق ثوبه ... لكدت أن أخلقه
في إثره دجاجة ... مصلوقة في مرقه
تتبع بوارانيةً ... في دهنها معرقه
فمن حبته هذه ... سبحان رب رزقه
وقال يوم كتب كتابه:
قد تجاسرت إذ كتبت كتابي ... طمعاً في مكارم الأصحاب
وهي طويلة وقد أوردتها في الجزء الأول من " التذكرة " .
وقال وقد أبطلوا المنكرات في أيام الملك المنصور حسام الدين لاجين.
رأيت في النوم أبا مره ... وهو حزين القلب في مره
وعينه العوراء مقروحةً ... تقطر دمعاً قطرةً قطره
يصيح واويلاه من حسرتي ... تلك التي ما مثلها حسره
وحوله من رهطه عصبةً ... فيهم على قلتهم كثره
من كل علق مثل بدر الدجى ... قيمته في واحد بدره
مظفر اللحظ بعشاقه ... وإنما في جفنه كسره
شمس ضحى غصن نقىً قدره ... وظله من خلفه الشعره
تجميشه نقل لمن ضمه ... وجوز التينة بالتمره
يهون وزن المال في وصفه ... طالعه الميزان والزهره
ومن سحور العين فتانةٍ ... خود لها شمس الضحى ضره
تقول للعشاق من معصمي ... تنزهوا في الماء والخضره
إذا رأى عاشقها كسها ... يود لو ترضعه بظره
وكل قواد له ضرطة ... من شدقه يتبعها شخره
يسطو على العاشق في سومه ... مغالباً لما اقتضى حذره
يقول والكيفاح من خلفه ... وعنده في قوله شمره
زن ألف دينار إذا رمتها ... إن كنت ما ترضى بها بعره
سبحان من ولد في خدها الن ... قي بياضاً فوقه حمره
هيا تمتع دي بحق الوفا ... لا تترك القصف على فشره
وكل لوطي له نهمةً ... على سميط اللحم في السفره
إن وسوست في وجهه فسوة ... يقل لها يا طيبها نخره

وكل زناء يرى بولة ال ... قحبة في صبحته نشره
وكل بنت ما لها عذرةً ... لكن هواها من بني عذره
سحاقةً قد كلكلت بظرها ... وما لها في دلكها شعره
وكل خمار وفي كفه ... كأس على عاتقه جره
ومن حشيشي سطيل على ... شاربه قد بقلت خضره
ومن بني حام له مزرة ... صفى لها صاحبه المزره
وكل بغاء به أبنة ... مبادل أبغى من الإبره
وكل جلاد على خلوة ... عمرةً هاجت به عميره
ومن خيالي ومن مطرب ... وزامر قد جاء في الزمره
فقلت يا إبليس ماذا الذي ... أسال من مقلتك العبره
وما الذي أزعج أشياعك النو ... كى وإن كانوا ذوي شره
فقال لي: يا بأبي أنت قد ... وقعت في مس أخت ما أكره
قلت جيوشي ووهى منصبي ... وعدت لا أمر ولا إمره
وأصبح الخمار لا يلتقي ... في بيته كوزاً ولا جره
ومنزل المزار صفر وقد ... علته من ذلته صفره
وبات قلي الفار في حسرة ... وقلبه يقلى على جمره
وكاد أن يسطو الحشيشي وأن ... يجرح بالخنجر والشفره
وسائر الستات من قحبنا ... أكثرهن اليوم في الحجره
يطلبن أزواجاً فلا قحبة ... منهن إلا أصبحت حره
وكل سالوس قمار وقد ... أجاد بالعفق بها مهره
كم جهد ما أغوي وأعوي وكم ... أصفف المقصوص والطره
وكم أرى العينين مكحولة ... لمن رمي بالعين والنظره
وكم وكم أشهر في خدمة ال ... عشاق في الليل إلى بكره
وما أرى اليوم ولا عاشقاً ... إلا الذي أغويه في الندره
قد كسدت سوق المعاصي فلا ... شرب ولا قصف ولا عشره
هذا على أني ومن غيتي ... أقود لا أجر ولا أجره
فقلت: يا إبليس سافر بنا ... وطول الغيبة والسفره
إياك أن تسكن مصراً وأن ... تقربها إن كنت ذا خبره
فإن فيها صاحباً عادلاً ... مبارك الطلعة والغره
قد علم السلطان في نصحه ... لملكه ما شاع بالشهره
جزاء من خالف مرسومه ... تجريسه والضرب بالدره
وقال على لسام المشاعلة:
لا ودخان المشعل ... وضوئه المشتعل
وعرفه الذي غدا ... يزري بعرف المندل
وقد جودها وهي طويلة، وقد أوردتها في الجزء الثالث من " التذكرة " . وقال:
قد عقلنا والعقل أي وثاق ... وصبرنا والصبر مر المذاق
كل من كان فاضلاً كان مثلي ... فاضلاً عند قسمة الأرزاق
وقال:
بي من أمير شكار ... وجد يذيب الجوانح
لما حكى الظبي جيداً ... حنت إليه الجوارح
وقال:
ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ولا بختي
قد بعت عبدي وحماري معاً ... وصرت لا فوقي ولا تحتي
وقال:
يا سائلي عن صنعتي في الورى ... وحرفتي فيهم وإفلاسي
ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس
وقال:
إذا ما كنت متخوماً ... فكن ضيفاً على شير
فما يخرج منه الخب ... ز إلا بالمناشير
وقال:
يا رشاً لحظه الصحيح عليل ... كل صب بسيفه مقتول
لك ردف غادرته رهن خصر ... وهو رهن كما علمت ثقيل
وقال:
وأقطع قلت له ... أنت لص أوحد
فقال هذي صنعة ... لم يبق لي فيها يد
وقال:
كم قيل لي: إذ دعيت شمساً ... لا بد للشمس من طلوع
فكان ذاك الطلوع داءً ... يرقى إلى السطح من ضلوعي

وقال قد صلبوا ابن الكازروني، وفي عنقه جرة خمر في أيام الظاهر:
لقد كان حد الخمر من قبل صلبه ... خفيف الأذى إذ كان في شرعنا جلدا
فلما بدا المصلوب قلت لصاحبي ... ألا تب فإن الحد قد جاوز الحدا
وقال أيضاً:
لقد منع الإمام الخمر فينا ... وصير حدها حد اليماني
فما جسرت ملوك الجن خوفاً ... لأجل الحد تدخل في القناني
وقال أيضاً:
يقولون الحكيم أبو فلان ... حوى كرماً وجوداً في اليدين
فقلت علمت ذلك وهو سمح يضيع كل يوم ألف عين
وقال أيضاً:
قطعت من يومين بطيخةً ... وجدت فيها جعس مصمودي
قالوا خرى الخولي في أصلها ... من يوم جري الماء في العود
قال في مكارم اليهودي:
مكارم ما زال في طبه ... مكارهاً واللفظ فيه اشتباه
أعني به الغارق في ذقنه ... ولست أعني غارقاً في خراه
قلت: وقد اخترت أنا " ديوانه " بالديار المصرية وهو أجمعه في الجزء الرابع عشرين من التذكرة.
وللحكيم شمس الدين بن دانيال موشحة ظريفة وهي:
غصن من البان مثمر قمرا ... يكاد من لينه إذا خطرا يعقد
أسمر مثل القناة معتدل
ولحظه كالسنان منصقل
نشوان من خمرة الصبا ثمل
عربد سكراً علي إذ خطرا ... كذاك في الناس كل من سكرا عربد
يا بأبي شادن فتنت به
يهواه قلبي على تقلبه
مذ زاد في التيه من تجنبه
أحرمني النوم عندما نفرا ... حتى لطيف الخيال حين سرى شرد
عيناه مثوى الفتور والسقم
قد زلزلا من سطاهما قدمي
سيفان قد جردا لسفك دمي
إن كان في الحب قتلتي نكرا ... فها دمي فوق خده ظهرا يشهد
لا تلحني بالملام يا عذلي
فإنني في هواه في شغل
وانظر لماذا المحب به بلي
لو عبد الناس قبله بشراً ... لكان من حسنه بغير مرا يعبد
حملت وجداً كردفه عظماً
وصرت نضواً كخصره سقماً
لو أن ما بي بالصخر لأنهدما
فالحب داء لو حمل الحجرا ... لذاب من هول ذاك وانفطرا وانهد
جوى أذاب الحشا فحرقني
ونيل دمع جرى فغرقني
لكنه بالدموع خلفني
فبت أجري في الدمع منحدرا ... ذاك لأني غدوت منكسرا مفرد
بديع حسن سبحان خالقه
أحمر خد يبدي لعاشقه
مسكاً ذكي الشذا لناشقه
نمل عذار يحير الشعرا ... وفود شعر يستوقف الزمرا أسود
وقد عارض ابن دانيال بهذه الموشحة موشحة لأحمد بن حسن الموصلي الوشاح وهي:
بي رشاً عندما رنا وسرا ... باللحظ للعاشقين إذ أسرا قيد
السحر من لفظه ومقلته
والرشد من فرقه وغرته
والغي من صدغه وطرته
بدر بصبح الجبين قد سترا ... بليل شعر وانظر له سترا أسود
إن قلت بدر فالبدر ينخسف
أو قلت شمس فالشمس تنكسف
أو قلت غصن فالغصن ينقصف
وسنان جفن سما عن النظرا ... وكل طرف إليه قد نظرا سهد
حاجبه مشرف على شغفي
عارضه شاهد على أسفي
ناظره عامل على تلفي
به غرامي قد شاع واشتهرا ... وسيفه في الحشا إذا اشهرا يغمد
زها بثغر كالدر والشنب
وأطلع الأقحوان كالحبب
رصع شبه اللجين في الذهب
حوى الثريا من نوره أثرا ... له أدمعي الذي نثرا نضد
عذاره النمل في القلوب سعى
والنحل من ثغره الأقاح رعى
ويوسف أيدي النسا قطعا
بالنور من وجهه سبا الشعرا ... وردني بالجفا وما شعرا مكمد
بما بأجفانه من الوطف
وما بأعطافه من الهيف
وما بأردافه من الترف
ذا الأسمر اللون ردني سمرا ... وفي فؤادي من قده سمرا أملد
خلد طول الحياة في خلدي
وكابدت لاعج الجوى كبدي
ضعيف خصر يوهي قوى جلدي
فخصره حالتي قد اعتبرا ... وعن سقامي فقد روى خبرا مسند

قلت: وسيأتي في ترجمة شمس الدين محمد بن علي الدهان عدة موشحات في هذا الوزن وهي جيدة.
محمد بن داود بن محمد بن منتاببضم الميم وسكون وبعدها تاء ثالثة الحروف وبعدها ألف وباء موحدة، التقي المأمون شمس الدين أبو عبد الله الموصلي السلامي الشافعي التاجر.
حضر غزاة عكا، وحفظ " التنبيه " و " الشاطبية " وسمع من أبي جعفر بن الموازيني، وببغداد من أبي القاسم وغيره.
وسافر للتجارة وغاب عن دمشق زماناً، ثم إنه عاد إليها وسكنها بعد العشرين وسبع مئة.
وكان مليح الشكل مهيباً جميل اللباس حسن البشر، دائم البذل والصدقة، خبيراً بالأمتعة، ذا خط من أوراد وتهجد ومروة، مجوداً لكتاب الله. وكان التجار يخضعون له ويحتكمون إليه وثوقاً بعلمه وورعه.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة رابع عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة نيف وسبعين وست مئة.
وصلي عليه بعد الجمعة، وشيعه أمم من الناس.
محمد بن داودالمسند الجليل شرف الدين أبو الفضائل بن الخطيب عماد الدين بن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل بن يوسف بن يحيى بن خطيب بيت الأبار.
روى عن السخاوي، وشيخ الشيوخ تاج الدين بن حويه، وإبراهيم الخشوعي، وعز الدين بن عساكر، وعتيق السلماني، والصفي عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة، وإسحق بن طرخان الشاغوري، والمرجا بن شقيرة، والحافظ ضياء الدين المقدسي، وابن الصلاح، وجماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى في عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن داودمجير الدين بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن عمر بن قزل المشد التركماني الأصل، سبط الملك الحافظ ابن السعيد بن الأمجد صاحب بعلبك، القاضي شمس الدين بن الحافظ.
كان فقيهاً حنفيا، شاعراً ذكياً يقع بقوة ذهنه على المعنى إذا كان خفيا، ويرى غوامض المواقيت وكيف لا وقد كان للشمس سميا، وله مشاركة في العربيه، ومداخلة في النكت الأدبيه. ونثره غير طائل، وخطه ليس بهائل.
يعرف الرياضي جيداً، أعني فيما يتعلق بالحساب، وآلات المواقيت من الربع والاصطرلاب، ويضع الآلات بيده ولكن وضعاً عفشا، ويكتب رسومها رسماً وحشا. وكان يضع من حيل بني موسى جمله، ويحمل نفسه من تجارب أعمالها ما لا يطيق حمله. قد أفنى عمره في ذلك وسلك طرائقها الموحشة وليله حالك. إلا أنه كان في حل المترجم آيه، وذهنه في حله بلا فاصلة غايه، وهو أول من كتب لي مترجماً وحللته، وهززت له حسامه وسللته.
ولم يزل على حاله إلى أن ضاع من ابن الحافظ حساب عمره، وأذهل ذويه مبهم أمره.
وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس فيما أظن سنة أربع وثلاثين وسبع مئة في تاسع عشر المحرم، ودفن هناك، وكان وصى بأن ينقل إلى دمشق.
وكان أولاً بصفد ناظر الجيش، فأقام بها زماناً، ثم إنه نقل إلى نظر جيش طرابلس.
وكان قد سمع من ابن شيبان " ثلاثيات المسند " ، ومن ابن البخاري " كتاب الترمذي " ، وسمع بمصر والإسكندرية، وحدث.
ولما توجه الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب من صفد والأمير علم الدين الجاولي لحصار سلع، عمل رسالة في ذلك نظماً ونثراً، وسمعتها من لفظة غير مرة، ومما جاء فيها نظماً:
دعت قلعة السلع من مضى ... بلطف إلى حبها القاتل
وغرتهم حين أبدت لهم ... محياً كبدر دجى كامل
ولما استجابوا لها أعرضت ... دلالاً وقالت إلى قابل
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
وقرأت عليه بصفد " رسالة الإصطرلاب " لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وأخبرني أنه قرأها على المصنف.
وحكى لي أن القاضي بدر الدين حكى له أن إنساناً من المغاربة جاء إليه وهو بمنزله دار الخطابة بالجامع الأموي، وكان إذ ذاك قاضي القضاة وخطيباً، وقال: يا سيدنا رأيت اليوم في الجامع إنساناً وفي كمه آلة الزندقة، فاستفهمت كلامه واستوضحته إلى أن ظهر لي أنه رآه وفي كمه إصطرلاب، قال: فقال لي: إذا جئت لتقرأ علي شيئاً تحيل في إخفاء ذلك ما أمكن.

ووصف لي يوماً حل المترجم وحببه وزينه، وقال لي: يعوزك أن تكون تحل المترجم، فقلت له: اكتب لي شيئاً منه، فكتبه لي وأخذته من عنده، وبت بعض ليلتي أفكر فيه، وفتح الله علي بفكه من غير شيخ ولا موقف، فحللته وكتبت جواب ما كتبه لي، وكتبت فيه:
سلكت المترجم في ليلة ... ولولاك ما كنت ممن سلك
وما كان ليلي به ذا حياً ... لأنك شمس تضيء الحلك
وكتب إلي يوماً، وقد بلغه عني كلام لم أقله، واستقالني من العتب فلم أقله:
أعيذك من ضمير غير صاف ... وأنت كما نراك أبو الصفاء
وغرس الدين لا يذوي ثراه ... فمحتاج لشمس الاستواء
فكيف يرى بعاداً عن سناها ... ويعمل فكره طلب الخفاء
أحاشي ذهنك الوقاد يسطو ... عليه ظلمه الخل المراء
وأن تصغي إلى الواشي وأنت ال ... عليم بصدق ودي وانتمائي
فلا بالله لا تسمع حديثاً ... ينمقه الحواسد بافتراء
فإني قد جعلتك في مماتي ... خليلاً أصطفيه وفي بقائي
فكتبت أنا الجواب إليه:
أيا شمس العلوم لمجتليها ... ويا من فضله بادي السناء
ومن قد ظل منه الفضل فينا ... ولولاه نبذنا بالعراء
ألست إذ ادلهمت مشكلات ... جلاها بالتروي والذكاء
فما يخفى عليه مقال غش ... لأن الغش يظهر في الصفاء
أعيذك أن تصدق قول واش ... وأن تمشي على غير استواء
أتحسبني أفوه بغير شكر ... لفضلك لا وخلاق السماء
وبابك منذ كنت عرفت نفسي ... عقدت عليه ألوية الولاء
وما أهدى النسيم إليك طيباً ... وكان شذاه إلا من ثناء
وودي أنت تعلمه يقيناً ... صحيح لا يكدر بالجفاء
فلا تسمع لما نقل الأعادي ... وما قد نمقوه من افتراء
فأصلك طيب حاشاه يجفو ... خليلاً دأبه رفع الدعاء
وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لله در الخليج إن له ... تفضلاً لا نطيق نشكره
حسبك منه بأن عادته ... يجبر من لا يزال يكسره
قلت: أخذه من قول الأول وفيه زيادة:
سد الخليج بكسره جبر الورى ... طراً فكل قد غدا مسرورا
الباء سلطان فكيف تواترت ... عنه البشائر إذ غدا مكسورا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وذي شنب مالت إلى فيه شمعة ... فردت لإشفاق القلوب عليه
فمالت إلى قدامه شغفاً به ... فقبلت البطحاء بين يديه
وقالت بدا من فيه شهد فهزني ... تذكر أوطاني فملت إليه
فحالت يد الأيام بيني وبينه ... فعفرت أجفاني على قدميه
قلت: أخذ قول الأول، وزاد هو عليه:
أتدرون شمعتنا لم هوت ... لتقبيل ذا الرشأ الأكحل
درت أن ريقته شهدة ... فحنت إلى إلفها الأول
محمد بن داودالأمير ناصر الدين ابن الأمير نجم الدين بن الزيبق.
كان أولاً أمير عشرة بعد وفاة والده، ثم أعطي نيابة الرحبة في أيام الأمير سيف الدين أيتمش، فأقام تقدير سنتين أو أقل، ثم عزل منها وأقام في دمشق وهو أمير طلبلخاناه، فولاه الأمير سيف الدين أغون الكاملي ولاية مدينة دمشق، فباشرها إلى أن أتى الأمير علاء الدين أمير المارداني إلى دمشق نائباً، فجعله والي الولاة بالصفقة القبلية، فسفك فيها الدماء، واستخرج الأموال، ولكن اطمأنت به البلاد من العشران والفتن.
ولم يزل بها أن مرض مدة، وتوفي رحمه الله تعالى، وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في أول شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة، ونقل إلى دمشق.
محمد بن رضوانابن إبراهيم بن عبد الرحمن، زين الدين العذري، المعروف بابن الرعاد، براء وعين مهملة مشددة وبعدها ألف ودال مهملة.

أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: كان المذكور خياطاً بالمحلة من الغربية وله مشاركة في العربية وأدب لا بأس به، وكان في غاية الصيانة والترفع عن الدنيا والتردد إليهم، واقتنى من صناعة الخياطة من الكتب كثيراً، وابتنى بها داراً حسنة، ورأيته بالمحلة مراراً.
وأنشدني لنفسه قال: أنشدني للشيخ بهاء الدين بن النحاس:
سلم على المولى البهاء وقل له: ... شوقي إليه وإنني مملوكه
أبداً يحركني إليه تشوق ... جسمي به مشطوره منهوكه
لكن نحلت لبعده فكأنني ... ألف وليس بممكن تحريكه
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه:
رأيت حبيبي في المنام معانقي ... وذلك للمهجور مرتبة عليا
وقد جاء لي من بعد هجر وقسوة ... وما ضر إبراهيم لو صدق الرؤيا
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه:
نار قلبي لا تقري لهباً ... وامنعي أجفان عيني أن تناما
فإذا نحن اعتنقنا فارجعي ... نار إبراهيم برداً وسلاما
وأنشدني قال أنشدني لنفسه:
قالوا وقد عاينوا نحولي ... إلام في ذا الغرام تشقى
ضنيت أو كدت فيه تفنى ... وأنت لا تستفيق عشقا
فقلت: لا تعجبوا لهذا ... ما كان لله فهو يبقى
قلت: شعر عذب منسجم.
وتوفي رحمه الله تعالى بالمحلة سنة سبع مئة.
وكان قد أخذ النحو عن العلامة أبي عمرو ابن الحاجب.
ومن شعر ابن الرعاد أيضاً:
أشكو إلى الله قصاصاً يجرعني ... بالصد والهجر أنواعاً من الغصص
إن تحسن القص يمناه فمقلته ... أيضاً تقص علينا أحسن القصص
قال كمال الدين الأدفوي: أخبرني شيخنا أثير الدين قال: قال لي زين الدين المذكور: أرسل إلي شهاب الدين الخوبي حين كان قاضياً بالغربية أن أرسل إلي بالكتاب الذي استعرته مني، فقلت له: ما استعرت في دهري من أحد شيئاً فأعاد الرسالة، فكتبت إليه هذه الأبيات:
غنيتم فأطغاكم غناكم فأغنتنا ... قناعتنا عنكم ومن قنع استغنى
ألا مالكم سدتم فساءت ظنونكم ... ومن عادة السادات أن يحسنوا الظنا
عسى سفرة شرقية حلبية ... تروح بكم منا وتغدو بكم عنا
وأرسلها إليه، فما فرغ من قراءته إلا بريدي وصل إليه أن يتوجه إلى حلب قاضياً.
ومن شعر ابن الرعاد أيضاً قوله:
أعد نظراً فما في الخد نبت ... حماه الله من ريب المنون
ولكن رق ماء الوجه حتى ... أراك خيال أهداب الجفون
قلت: مأخوذ من قول الأول:
ولما استقلت أعين الناس حوله ... تراقبه حيث استقل وسارا
تمثلت الأهداب في صفو خده ... خيالاً فخالوا الشعر فيه عذارا
ولعل هذا وما قبله منقول من قول ابن سناء الملك:
لم يهني إلا هواه ولا دل ... ل على السقام إلا دلاله
ما خلا خده الصقيل من الخا ... ل ولكن سواد عيني خاله
وزاده تصريحاً نجم الدين بن صابر المنجنيقي حيث قال:
أهلاً بوجه كالبدر حسنا ... صيرني حبه هلالا
قد رق حتى لحظت فيه ... سواد عيني فخلت خالا
وقال تاج الدين مظفر الذهبي:
لاح هلالاً وانثنى مثقفاً ... وصال ليناً ورنا غزالاً
لو لم تكن وجنته ماء لما ... خلت سواد العين فيه خالا
وكلهم أخذه من الشريف البياضي حيث قال:
بوجه شف ماء الحسن فيه ... فلو لثمت صحيفته لسالا
يؤثر فيه لحظ العين حتى ... رأيت سوادها في الخد خالا
محمد بن سالمابن نصر الله بن سالم بن واصل، القاضي الإمام العلامة جمال الدين بن واصل الحموي الشافعي، قاضي القضاة بحماة.
كان أحد الأئمة الأعلام، والقائمين بجمع العلوم الخافقة الذوائب والأعلام.

برع في العلوم الشرعية وطلع كالشمس في الفنون العقليه، وجمع شمل ما تفرق في العلوم الأدبيه. صنف وجمع وألف، ودخل في كل فن وما تخلى عنه ولا تخلف. وأفتى واشتغل ودرس، وقضى وحكم وفصل لما علم وتفرس. وبعد صيته واشتهر، وبرز على الأقران في الجدال ومهر. وغلب عليه الفكر إلى أن صار يذهل عن جليسه، ويغيب عن وجوده في حضرة أنيسه:
وأديم نحو محدثي نظري ... أن قد فهمت وعندكم عقلي
ولي القضاء مدة مديده، وفاز منها بالسيرة الحميده، وأضر أخيراً، وحاز بذلك أجراً كبيرا.
ولم يزل على حاله إلى أن قطع عمر ابن واصل، ولم يبق في حياته حاصل.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة ثاني عشري شوال سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده بحماة في ثاني شوال سنة أربع وست مئة.
ودفن بتربته بعقبة بيرين.
وقيل إنه كان يشغل في حلقته في ثلاثين علماً وأكثر، وحضر حلقته نجم الدين دبيران المنطقي، وأورد عليه إشكالاً في المنطق.
وكان قد جهز عن صاحب مصر رسولاً إلى الأنبرور، فتوجه، فأعظمه الأنبرور، وسأله عن مسائل تتعلق بعلم المناظر وغيرها، فأخذها وبات بها، وأصبح وقد أملى الجواب عليها في مجلد صغير، فعظم في عين الأنبرور وقال: يا قاضي ما سألناك عن حلال ولا حرام في دينك الذي أنت فيه قاض، وإنما سألناك عن أشياء لا يعرفها إلا الفلاسفة الأقدمون، فأجبت عنها، وليس معك كتب ولا ما تستعين به، مثلك يكون قسيساً، وحسد المسلمين عليه، وزاد في تعظيمه وإكرامه، وأحضر له الأرغل وهو الآلة عندهم في الطرب، ولا يضرب به إلا في أيام أعيادهم، فقيل: إنه ما اهتز له ولا تحرك، وعندهم إن أحداً ما يسمعه فيملك نفسه من الطرب، إلا أنه لما قام وجدوا كعابه مما حكها في البساط قد أدماها الحك، وبقي أثر الدم في البساط، فزاد تعجب الأنبرور منه أيضاً وأعطاه شيئاً كثيراً.
وحكى لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني غرائب من حفظه وذكائه، وحكى الحكيم السديد الدمياطي عنه أنه تعشى ليلة عند الشيخ علاء الدين بن النفيس، وصلينا العشاء الآخرة. قال: إلا أن القاضي جمال الدين كان يحتد في البحث ويحمار وجهه، والشيخ علاء الدين في غاية الرياضة، ثم إن القاضي آخراً قال: والله يا شيخ علاء الدين أما نحن فعندنا نكيتات ومواخذات وإيرادات وأجوبة، وأما أنت فهكذا خزائن علوم، هذا أمر بارع. أو كما قال.
وأخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: قدم المذكور علينا القاهرة مع الملك المظفر صاحب حماة، فسمعت منه، وأجاز لي جميع مروياته ومصنفاته، وذلك بالكبش من القاهرة في يوم الخميس التاسع والعشرين من المحرم سنة تسعين وست مئة. وهو من بقايا من رأيناه من أهل العلم الذين ختمت بهم المئة السابعة.
وأنشدني لنفسه مما كتب به لصاحب حماة الملك المنصور محمد بن مظفر:
يا سيداً ما زال نجم سعده ... في فلك العلياء يعلو الأنجما
إحسانك الغمر ربيع دائم ... فلا نرى في صفر محرما
ومن شعر قاضي القضاة جمال الدين بن واصل أيضاً:
وأعيذ مصقول العذار صحبته ... وربع سروري بالتأهل عامر
وفارقته حيناً فجاء بلحية ... تروع وقد دارت عليه الدوائر
فكررت طرفي في رسوم جماله ... وأنشدت بيتاً قاله قبل شاعر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقال مجيباً والفؤاد كأنما ... يقلقه في القلب مني طائر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
قلت: ومن مصنفاته " التاريخ " الذي له، وكان مفرج الكروب في دولة بني أيوب وله " مختصر الأربعين في أصول الدين " ، " وشرح الموجز في المنطق " لأفضل الدين الخونجي، و " شرح الجمل " له أيضاً، و " شرح قصيدة ابن الحاجب " في العروض والقوافي، و " التاريخ الصالحي " ، و " مختصر الأدوية المفردة " لابن البيطار، واختصر " الأغاني الكبير " ، وملكت به نسخة عظمى. وكان خطه عليها بعدما أضر، وكتاب " نخبة الأملاك في هيئة الأفلاك " .
محمد بن سعد اللهابن مروان بن عبد الله القاضي الرئيس عز الدين ابن القاضي سعد الدين أبي الفضل ابن الشيخ الفقيه العدل بدر الدين الفارقي.

كان جيد الكتابة يكتب المطالعة بديوان الإنشاء بدمشق، وهو مرشح لكتابة السر، مشاراً إليه معظماً.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة سابع عشري، شعبان سنة سبع عشرة وسبع مئة، وعمره اثنان وخمسون سنة.
وهو والد القاضيين محيي الدين محمد، وشهاب الدين أحمد، كاتبي الإنشاء بدمشق.
محمد بن سعيد بن أبي المنىالإمام الفقيه بدر الدين الحلبي الحنبلي نزيل القاهرة.
سمع من التقي بن مؤمن، والعز بن الفراء، والأبرقوهي. ونسخ كثيراً، وحصل وأفاد. وكانت فيه صفات حميدة.
قال شيخنا الذهبي: انتقيت له جزءاً حدث به.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وسبعين وست مئة.
محمد بن سعيد بن عبد اللهتقي الدين المدني الحجازي، قارئ الحديث بالمدينة النبوية.
كان أسود اللون، فاضلاً في الأدب. ورد إلى دمشق، ثم توجه منها إلى القاهرة، ليعود إلى المدينة.
فتوفي رحمه الله بالقاهرة في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة.
وسمع بالشام ومصر وكتب عنه من شعره شيخنا البرزالي.
ومولده في أحد الربيعين سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
محمد بن سعيد بن محمد بن سعيدالصدر الرئيس الفاضل شرف الدين ابن الصدر شمس الدين بن الأثير الكاتب، تقدم ذكر والده.
كان شاباً حسناً عاقلاً وقوراً، كان قد أسره التتار في واقعة غازان فيمن أسروه، ومن الله عليه بالرجوع إلى وطنه، وكان وصوله إلى دمشق في تاسع عشر صفر سنة إحدى وسبع مئة، فأصيب بوالده، وترك له ميراثاً جيداً، فلم يتمتع به.
وتوفي رحمه الله تعالى سابع ربيع الأول سنة ثلاث وسبع مئة، وكان على طريق حميدة ودفن عند والده.
محمد بن سعيد بن ريانالطائي، القاضي، تاج الدين ابن الرئيس عماد الدين.
أول ما عرفت من أمره أنه كان كاتب إنشاء بحلب، ثم إنه حضر إلى القاضي كريم الدين الكبير لما جاء لزيارة بيت المقدس في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، وأخذ كتابه إلى الأمير سيف الدين تنكز بأن يكون مباشراً بدمشق، فتولى نظر بعلبك وأقام بها مدة، ثم إنه توجه إلى حلب صاحب الديوان، ثم إنه خرج منها في واقعة لؤلؤ وعاد إلى دمشق وأقام بها على نظر البيوت وصحابة ديوان الجامع الأموي.
ودام على ذلك مدة، ثم أصابه فالج فأقعده في بيته بقدر أربع سنين أو أكثر، إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في بكرة الاثنين ثاني عشري جمادى الآخرة سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
وكان - رحمه الله تعالى - شكلاً حسناً، فيه رئاسة وسؤدد، حسن الأخلاق كريماً، يتجمل في ملبسه ومأكله، ويكتب خطاً جيداً.
ورأيته يكتب الكتاب مقلوباً من الحسبلة إلى البسملة في أي معنى اقترح عليه.
وبرع في كتابة الحساب والإنشاء.
ومات - رحمه الله تعالى - وقد تجاوز الستين قليلاً.
محمد بن سلمان بن حمائل بن عليالصدر الرئيس الفاضل شمس الدين المقدسي، عرف بابن غانم. وقد تقدم ذكر أولاده شهاب الدين أحمد، وعلاء الدين علي، وبهاء الدين أبو بكر.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن ابن حمويه وابن الصلاح. وكان من أعيان الناس، معروفاً بالكتابة والكفاية والمعرفة والتقدم وحسن المحاضرة، وحصل كتباً نفيسة.
ولي التدريس بالعصرونية. وسمع أيضاً في سنة ثلاث وثلاثين وست مئة من الشيخ تقي الدين يوسف بن عبد المنعم بنابلس، وسمع بدمشق من القرطبي وابن مسلمة وجماعة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة سبع عشرة وست مئة.
محمد بن سليمان بن الحسن بن الحسينالعلامة الزاهد جمال الدين أبو عبد الله البلخي الأصل، المقدسي، الحنفي المفسر، المعروف بابن النقيب، أحد الأئمة.
دخل القاهرة، ودرس بالعاشورية، ثم تركها وأقام بالجامع الأزهر مدة.
وكان صالحاً زاهداً متواضعاً عديم التكلف، أنكر على الشجاعي إنكاراً تاماً، بحيث إنه هابه وطلب رضاه. وكان الأكابر يترددون إليه ويلتمسون منه الدعاء.
صرف همته أكثر دهره إلى التفسير، وجمع تفسيراً حافلاً، جمع فيه خمسين مصنفاً. وذكر فيه أسباب النزول والقراءات والإعراب واللغات والحقائق في علم الباطن. قيل: إنه في ثمانين مجلدة. ولهذا التفسير نسخة في جامع الحاكم بالقاهرة.
قال شيخنا الذهبي: سمعت منه حديث علي بن حرب.

وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة في شهر الله المحرم سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى عشرة وست مئة.
وقال الفاضل كمال الدين الأدفوني في تاريخه " البدر السافر " في ترجمة ابن النقيب هذا: وله نظم، منه يمدح الشيخ قطب الدين القسطلاني وهو قوله:
سألت أخاك البحر عنك فقال لي ... شقيقي إلا أنه الساكن العذب
لنا ديمتا ماء ومال، فديمتي ... تماسك أحياناً وديمته سكب
إذا نشأت تبريه فله الندى ... وإن نشأت بحرية فلي السحب
أقل عليه من سماح صفاته ... فإني أخشى أن يداخله العجب
قلت: كذا قال كمال الدين الأفودي، ونسب هذه الأبيات إلى ابن النقيب المفسر، وليس الأمر كذلك، وإنما هذه من قصيدة لابن اللبانة مدح بها المعتمد بن عباد وأولها:
بكت عند توديعي فما علم الركب ... أذاك سقيط الطل أم لؤلؤ رطب
وتابعها سرب وإني لمخطئ ... نجوم الدياجي لا يقال لها سرب
وأظن ابن النقيب كتب بها إلى ابن القسطلاني مستشهداً بها على عادة الناس.
وأورد لابن النقيب أيضاً:
نسيم الصبا هيجت من قلبي المضنى ... فنوناً من الأشواق نفنى ولا تفنى
وعهدي بأنفاس الصبا تبرد الجوى ... وتهدي من الأرواح راحاً لمن أنا
فما لي إذا هبت سحيراً يهزني ... غرام كما هزت جنوبية غصنا
وما لي إذا هبت صبا شام بارق ... من الحزن أنساني صميم الحشا حزنا
قلت: نعم هذا شعر ابن النقيب، وإلا فأين هذه الطبقة من تلك الطبقة الأولى، أين الثريا من الثرى.
محمد بن سليمان بن أبي العز بن وهيبالإمام المفتي شمس الدين ابن قاضي القضاة صدر الدين الحنفي مدرس النورية والعذراوية.
كان من كبار الحنفية مقصوداً بالفتوى، أفتى نيفاً وثلاثين سنة، وناب في القضاء عن والده، وكان منقبضاً عن الناس.
توفي - رحمه الله تعالى - نهار الجمعة سادس عشر ذي الحجة سنة تسع وتسعين وست مئة.
وكانت له إجازة بعد سنة خمسين وست مئة، ولم يحدث.
محمد بن سلمانالإمام المفتي وجيه الدين الرومي القونوي الحنفي، إمام الربوة.
كان شيخاً فاضلاً متواضعاً، ولي تدريس العزية التي بالميدان، وأعاد وأفتى.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة.
محمد بن سليمان بن عمر بن سالمالصدر الرئيس بدر الدين محمد بن قاضي القضاة جمال الدين الأذرعي المعروف بالزرعي.
كان رئيساً محتشماً قد باشر عدة أنظار بالديار المصرية، وكان من أصحاب القاضي كريم الدين الكبير، وكان قد سمع من ابن البخاري وزينب بنت مكي وجماعة، وحدث بالقاهرة وبمنفلوط. وآخر ما تولى نظر الفيوم.
فتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة في آخر جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن سليمان بن سومر البربري الزواويقاضي القضاة جمال الدين أبو عبد الله المالكي.
قدم الإسكندرية حدثاً، وتفقه بها، وبرع في المذهب، وفرط في السماع من ابن رواج والسبط.
ثم إنه سمع من أبي عبد الله المرسي، وأبي العباس القرطبي، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، والسيخ أبي محمد بن برطلة. وعالج الشروط، وناب في الحكم بالقاهرة، وحكم بالشرقية وغير مكان.
ثم إنه قدم على قضاء دمشق فحكم بها ثلاثين سنة، وكان حاكماً ذا صرامه، قاضياً يبلغ بها الضعيف مرامه، ماضي الأحكام بتاتاً، أراق دم جماعة تعرضوا لجناب النبي صلى الله عليه وسلم، عارفاً بمذهبه، عالماً بمقدمه ومنقلبه، لو رآه مالك رضي الله عنه لسره وأشهب لما ركب في إثره إلا المجره.
حصل له في آخر عمره فالج ورعشه، وبقي على نطقه من العجز وحشه، وكان لا ينطق إلا بمشقة، ولا يأتي بالكلمة إلا حسيت شفته منشقه، وعجز عن العلامه، واستناب من يكتب عنه من برئ عنده من الملامه.
وعزل قبل موته بقليل، وبقي إلى أن سلك تلك السبيل، ومضى إلى ربه ذي المن والفضل الجزيل.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبع مئة.
عزل قبل موته بنحو عشرين يوماً بالقاضي فخر الدين بن سلامة المالكي.
ومولد القاضي جمال الدين الزواوي في حدود سنة ثلاثين وست مئة، ومات ولم يسرع إليه الشبهات.

وكان بمصر من أعيان العدول، وناب في الشرقية والغربية، وناب في القاهرة، وترجح لولاية القضاء بالقاهرة عقيب وفاة ابن شاش، وتولي ابن مخلوف، ثم إنه تولى قضاء دمشق ووصل إليها في عاشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وست مئة، واستمر بها قاضيا نحو ثلاثين سنة.
وظهر في أيامه ما لم يكن معروفاً من مذهب مالك، وعمر المدرسة النورية والصمصامية، وحصلت له رعشة في وسط ولايته وكان يجد له مشقة، وثقل لسانه عن الكلام أخيراً.
وحدث " بصحيح " مسلم و " الموطأ " رواية يحيى بن يحيى، و " بالشفا " لعياض وغير ذلك.
محمد بن سليمان بن أحمد بن يوسفالشيخ الصالح المقرئ الصنهاجي المراكشي الإسكندري، إمام مسجد قداح.
سمع عبد الوهاب بن رواج، ومظفر بن الفوي.
أخذ عنه الرحالون، وكتب في الإجازات.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة سبع عشرة وسبع مئة.
محمد بن سليمان بن حمزةابن أحمد بن عمر، ابن الزاهد أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، قاضي القضاة عز الدين أبو عبد الله بن قاضي القضاة تقي الدين المقدسي الحنبلي.
وسمع الحديث من جماعة من أصحاب ابن طبرزد، منهم الشيخ شمس الدين، وابن البخاري، وأبو بكر الهروي. وجدته خديجة بنت خلف، وحبيبة بنت الشيخ أبي عمرو، ومن جماعة غيرهم.
وخرج له شمس الدين بن سعد " مشيخة " عن أكثر من خمسين شيخاً. وأجاز له ابن عبد الدائم وجماعة.
واشتغل وحصل، وقرأ الفقه على والده وغيره. وكان له محفوظ في الحديث. واستنابه والده في الحكم. وترك تدريس المدرسة الجوزية، وكتب في الفتوى. وكان فيه عقل وحسن تودد.
ولما مات والده باشر تدريس دار الحديث الأشرفية بالصالحية، وانقطع في بيته مدة ولاية قاضي القضاة شمس الدين ابن مسلم الحنبلي، ولما توفي ولوه مستقلاً، ووصل توقيعه بذلك إلى دمشق في ثاني عشر ربيع الأول سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فباشره واختاره الناس لما تقدم لوالده من الحقوق، ولحسن خلقه وتودده، وقضاء حوائج الناس.
وحج ثلاث مرات، وحدث في كل حجة منها، وزار القدس مرات، وحضر بعض الغزوات، وتولى القضاء مستقلاً أربع سنين ولم يكملها. وكان له ورد من التلاوة، ومن الصلاة في الليل.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الأربعاء تاسع صفر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وحضر جنازته خلق كثيرة، وكان يوماً كثير المطر والوحل، ودفن بتربة الشيخ أبي عمر.
ومولده في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وست مئة.
وولي المنصب بعده قاضي القضاة شرف الدين أبو محمد عبد الله بن الحافظ.
محمد بن سليمان بن أحمدتاج الدين بن الفخر.
سمع من أبي عبد الله محمد بن غالب الجياني بمكة، ومن تقي الدين بن دقيق العيد بالقاهرة، ومن غيرهما.
وحدث بقوص وغيرها. واشتغل بالعلم. وكان متعبداً ممتنعاً عن الغيبة وسماعها.
له في السماع حال حسنة، وكتب الخط الجيد، وكتب كثيراً من الحديث والفقه وغير ذلك.
قال كمال الدين جعفر الأدفوي: لما عدل بعض الجماعة بقوص في أيام ابن السديد قام في ذلك وقصد أن لا يقع، وتوجه إلى مصر وقال قصيدة سمعتها منه أولها:
شريعتنا قد انحلت عراها ... فحي على البكاء لما عراها
وأقام بمصر.
وتوفي فيها - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
قلت: أنشدت بالقاهرة وقد تعدل جماعة سقاط:
تعدل كل جمري بمصر ... وشاف إلى العدالة كل جمري
فقل للفاسقين ازنوا تزكوا ... ولا تتأخروا فالوقت بدري
محمد بن سليمان بن همام بن مرتضىالصدر القاضي جلال الدين ابن العدل وجيه الدين، المعروف بابن البياعة، أحد كتاب الإنشاء بدمشق، وناظر ديوان الرباع. كان أبوه من عدول القاهرة.
روى عن جعفر الهمذاني وغيره، وسمع منه علاء الدين الوداعي وغيره.
كان يمني نفسه بالوزاره، ويزعم أن طيفها جاءه في النوم وزاره، ويعد أصحابه بوظائف، ويجعلهم في الذهن كباراً وهم ما بين حارس وطائف، وله في ذلك آثار، وعند رفاقه الموقعين أخبار.
ولم يزل على ذلك إلى أن مرض مرضة طول فيها، وانقطع عواده وعدم تلافيها، وانفلج أخيرا، ولم يجد له في ذلك أجرة ولا أجيرا، ثم إنه أصبح ثالث التراب والمدر، وانقبض عن الأحياء وانقبر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثلاثين وسبع مئة.

ومولده سنة خمسين وست مئة.
وكان شيخاً طوالاً، مسترسل الذقن خفيفها، وكانت له معرفة بابن الخليلي الوزير، وصحبه، فمن هنا كان يحدث نفسه الأمارة بالوزارة، وبلغت هذه الأماني شمس الدين غبريال وكان يضحك منه ويهزو به، وما ترتب على ذلك إلا مصلحة من خلاص جامكيته وماله على الديوان.
جاء الأمير علاء الدين ألطنبغا من مصر متوجهاً رسولاً إلى مهنا عن السلطان قبل أن يلي نيابة حلب، فلما وصل إلى دمشق توجه إليه الصاحب شمس الدين وسلم عليه، وقال: يا مولانا الساعة يجيء إليك شيخ طوال صفته كذا وكذا، ونشتهي توهمه أنك سمعت هناك أنه يكون وزير الشام، وجاء الصاحب شمس الدين، وطلب جلال الدين وقال له: يا مولانا كنا عند هذا الأمير ورأيناه يسأل عنك كثيراً، وقال: لي معه كلام وأريد أجتمع به، رح إليه وعرفني أي شيء يقول لك، فتوجه إلى ألطنبغا، فحالما رآه عرفه بالصفة التي قررها عنده الصاحب شمس الدين، فقام إليه وأجلسه إلى جانبه وتلقاه، وقال: توقيع مولانا بوزارة دمشق قد كتب في مصر، وكان السلطان رسم بأن أحضره إليك ولكن تعوق ليكون التشريف قرينه، وفي هذه الأيام يصل إليك. ويا مولانا أنا والله قد بشرتك والحلاوة أنك لا تنسانا، فقال: بسم الله، وبينما هم في هذا الحديث دخل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، ولم يعلم القضية، فجلس فوقه إلى جانب الأمير، فتأذى جمال الدين وقال: هذا قلة أدب، فقال له الشيخ كمال الدين: إيش جرى؟ فذكروا له طرفاً من ذلك وأن تقليده بالوزارة واصل في هذه الأيام. فقال له الشيخ كمال الدين: يا شيخ مسكين هؤلاء يضحكون عليك. فقام وخرج مغضباً.
وقال يوماً للشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم: بلغني أنك لما كنت في مصر سعيت عند فخر الدين ناظر الجيش حتى أبطل كتابة تقليدي، فقال: والله يا مولانا ما دولة أكون أنا مشيرها وأنت وزيرها إلا دولة خرا.
وكان قد أنزل عليه الشيخ تاج الدين اليمني، وكان في زمن الأفرم بدمشق، وكان ينشئ له ما يحتاج إليه في الديوان.
محمد بن سليمان بن عبد الله بن سليمانالمحدث الفقيه الفاضل تقي الدين الجعبري، الشاهد.
سمع من الحجار وطبقته، وقرأ عليه كثيراً، وتخرج بوالد حميه شيخنا الحافظ جمال الدين المزي، وقرأ على العامة، وهو رفيقي في أكثر مسموعاتي بالشام، وقد كنت أجزت له ولأولاده.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبع مئة.
محمد بن سليمان بن أحمدالقاضي شمس الدين القفصي، بالقاف المفتوحة والفاء الساكنة، وبعدها صاد مهملة، نائب الحكم العزيز المالكي بدمشق.
ناب لقاضي القضاة شرف الدين المالكي، ومن بعده لقاضي القضاة جمال الدين المسلاتي.
كان فهماً بمذهب مالك رضي الله عنه، خبيراً بالأحكام، وفي لسانه عجمة المغاربة، يجعل الثاء سيناً والجيم زاياً. وكان يسكن المنيحة، ويدخل المدينة كل يوم ويخرج منها. وكان إذا رأى في مجلس حكمه ما لا يعجبه قال بفمه، وأشار بيده بالفحش، ويقول للمرأة التي يتأذى منها: واللك يا مومس.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني شوال يوم الأحد سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
وكانت له مشاركة في العربية والأصول، عفا الله عنه وسامحه.
وكان قد ولي نيابة الحكم في صفر سنة عشرين وسبع مئة.
محمد بن شرشيقبكسر الشين المعجمة وبعدها راء ساكنة وسين ثانية معجمة وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة وقاف، ابن محمد بن عبد العزيز بن عبد القادر بن صالح بن دوست بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله الجون بن عبد الله المحسن بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الشيخ الإمام العارف الكامل شمس الدين أبو الكرم ابن الشيخ الإمام القدوة حسام الدين أبي الفضل ابن الشيخ الإمام القدوة جمال الدين أبي عبد الله ابن الشيخ الإمام علم الدين الزهاد شمس الدين أبي المعالي ابن الشيخ الإمام قطب العارفين أبي محمد الجيلي الحسني الحنبلي المعروف بالحيالي، بكسر الحاء المهملة والياء آخر الحروف وألف بعدها لام، والحيال: بلدة من أعمال سنجار.

حفظ القرآن العظيم في صباه، والفقه للإمام أحمد، وسمع الحديث وهو كثير من جماعة منهم الإمام فخر الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد البخاري المقدسي بدمشق، وأبو العباس أحمد بن محمد النصيبي بحلب، والإمام عفيف الدين أبو محمد عبد الرحيم بن محمد بن أحمد بن الزجاج بمكة، والإمام عفيف الدين أبو محمد عبد السلام بن محمد بن كزروع المصري البصري بالمدينة الشريفة. ورحل وحدث ببغداد ودمشق والحيال وغيرها من البلاد.
وروى عنه جماعة منهم أولاده المشايخ حسام الدين عبد العزيز، وبدر الدين حسن، وعز الدين الحسين، وظهير الدين أحمد، ومحدث العراق تقي الدين أبو الثناء محمود بن علي بن محمود الدقوقي الحنبلي، والشيخ الإمام زين الدين أبو الحسن علي بن الحسين بن شيخ العوينة الموصلي الشافعي، والإمام بدر الدين محمد بن الخطيب الإربلي الشافعي، وخلق.
كان مشهوراً بالصلاح والعبادة والزهد والسماح، يكاثر الغمام إذا سح، ويتحقق البحر الزاخر معه أنه شح. وله هيبة في النفوس وعليه وقار وناموس، يعظمه الناس وهو لا يعبأ بأمرهم، ولا يلتفت إلى شواظ نارهم ولهيب جمرهم، وكان ملوك دار بكر يحبونه ويخدمونه ويحيونه ويقبلون إشاراته ويقبلون على رسائله وإماراته، ولهم فيه اعتقاد وانتفاء لما يؤثره منهم وانتقاد، ومع ذلك مليح الخلق، صبيح الخلق، زائد الحشمه، كثير الإحسان للناس والخدمه.
ولم يزل على حاله إلى أن حالت حياة الحيالي وأبلت جدته الأيام والليالي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده ليلة الجمعة منتصف شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وست مئة بالحيال.
وبيته بيت رياسة وحشمة وسؤدد ومروءة. والخير والإحسان معروف بهم، ولم تمس يد هذا الشيخ شمس الدين من نشأته إلى موته فضة ولا ذهباً، وجوده في تلك البلاد مشهور، وكان له كشف وأحوال وحلم وتجمل، وهو وأهل بيته معروفون بمناصحة الإسلام، ويكاتبون ملوك مصر ونواب أطراف بلاد الشام.
ولما كنت في الرحبة سنة تسع وعشرين وسبع مئة وما بعدها أهديت إليه قماشاً إسكندرياً وأهدى إلي أشياء من طرائف سنجار، ولم تزل رسله مدة مقامي بالرحبة تتردد إلى الرحبة وأخدمهم وأقوم بما يجب لأجله. رحمه الله تعالى.
محمد بن شريف بن يوسفالفاضل الكاتب المجيد صاحب الخط الفائق، شرف الدين ابن الوحيد الزرعي.
سافر إلى الحجاز والعراق، واجتمع بياقوت المجود.
كان تام الشكل، متأنقاً في اللبس والأكل، حسن الزه، لدن المهزه، موصوفاً بالشجاعه، وبالعبارة السادة والبراعه، يتكلم بعدة ألسن، ويأتي فيها بما يروق ويحسن، وقد ضرب بحسن كتابة المثل، وسار ذكرها في السهل والجبل، لأنها أخملت زهرات الخمائل، وفاقت على من تقدمه الأوائل، فلو رآه ابن البواب لجود تحت مثاله، وعلم أن بدر هذا فاق على هلاله، أو ابن مقلة شخص إليه إنسانه، وعلم أنه ما تلحق إجادته ولا حسانه، أو الولي التبريزي لتحقق أنه قد برز وسبقه، وأنه ما يشم ريحانه ولا محققه.
وكان قد فضح الأوائل والأواخر بفصاح نشخه، وتفرد هو بكمال الخط وترك غيره يخبط في مسخه، فما أحقه بقول البستي:
إن هز أقلامه يوماً ليعملها ... أنساك كل كمي هز عامله
وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له
أما أنا فلا أرى أحداً مثله كتب في المحقق والريحان وفصاح النسخ، لأنه أتى في ذلك بالإبداع. وكان في حياته يبيع المصحف نسخاً بلا تجليد ولا تذهيب بألف درهم. وكان ابن تمام قد كتب عليه وحكى طريقه، وكان يكتب المصاحف فيقول له: اكتب أنت المصحف وهاته إلي. فإذا أتى به يزن له أربع مئة درهم، ويأخذ الشيخ شرف الدين فيكتب في آخره: كتبه محمد بن الوحبد، ويبيعه هو بألف درهم.
وروى عنه البرزالي وقاضي القضاة جلال الدين القزويني.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن الوحيد في قبره وحيدا، وفقد الناس منه كاتباً فريدا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في البيمارستان المنصوري بالقاهرة في يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده بدمشق سنة سبع وأربعين وست مئة.
وكان يتكلم بعدة ألسن، وكان يتهم في دينه. قيل: إنه وضع الخمر في دواته وكتب منها المصحف.

وأخوه علاء الدين مدرس البادرائية كان ممن يحط عليه ويذكره بكل سوء، وكان قد اتصل بخدمة الجاشنكير قبل السلطنة وأعجبه خطه. فكتب له ختمة في سبعة أجزاء في ورق بغدادي قطع النصف بليقة ذهب، قلم الأشعار، دخل فيها ألف وست مئة دينار ليقة، فدخل في الختمة ستة مئة دينار وأخذ هو الباقي، فقيل له في ذلك، فقال: متى يعود آخر مثل هذا يكتب علي مثل هذه الختمة، وزمكها صندل، ورأيتها أنا وهي وقف بجامع الحاكم بالقاهرة وما أظنها يكون لها ثان من حسنها، ولما فرغت أدخله الجاشنكير ديوان الإنشاء، فما أنجب في الديوان، فكانت الكتب التي تدفع إليه ليكتبها في أشغال الناس على القصص تبيت عنده وما تتنجز، وهذا تعجيز من الله تعالى لمثل هذا الكاتب العظيم. كما يحكى عن الحريري صاحب " المقامات " وأنه بعد عمل المقامات طلب إلى ديوان الإنشاء ببغداد فأعطاه صاحب الديوان كتاباً فمكث فيه من بكرة النهار إلى الظهر وهو ينتف عثنونه، ولم يفتح الله عليه بشيء حتى قال فيه ابن حكينا:
شيخ لنا من ربيعة الغرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان وقد ... ألجمه في العراق بالخرس
هذا وقد كان يوماً في بعض مجالس الأكابر، فجرى ذكر البستي وقوله في رجل بخيل شرير: إن لم يكن لنا طمع في درك فاعفنا من شرك شرك، فلم يبق أحد حتى استحسنها، وأقر بالعجز عن الإتيان بمثلها، فقال الحريري في الحال: وإن لم تدننا من مبارك فأبعدنا عن معارك معارك.
قلت: وما لابن الوحيد والحريري إلا قول أبي الطيب:
وتوهموا اللعب الوغى والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان
ولهذا، إنه لما دخل ابن الوحيد ديوان الإنشاء بلغ القاضي شرف الدين بن فضل الله صاحب الديوان عنه كلام يفهم منه أنه ينقص به، فطلبه وقال: اقعد. أعطوه درجين قطع الثلاثين، وقال: أوصل أحدهما بالآخر وعجل، فوصلهما. فقال: اكتب وعجل إلى صاحب اليمن وهد قوائمه، وزعزع أركانه فيه، وتوعده وهدده، ثم لطف القول حتى لا ييأس، ثم عد ببعض تلك الغلطة الأولى وعرفه أن العساكر التي نجهزها إليه يكون أولها عنده وآخرها عندنا، وذكره باصطناعنا لوالده قبله، وأنه لو شئنا ما تركناه جالساً على سرير مملكته، ولكن نحن نرعى هذا البيت الأيوبي، ومن هذا وأشباهه. وعجل بكتابة هذا لأدخل وأقرأه على السلطان، فبهت شرف الدين وأسقط في يده وأرعدت فرائصه، ولم يدر ما يقول ولا ما يكتب، ثم إنه اعترف وقال: يا مولانا والله ما أنا قدر هذا، والعفو. فقال له: إذا كنت كذا فلا تكن بعدها تكثر فضولك. فاستغفر الله وخرج.
وكان الشيخ شرف الدين شيخ خطيب بعلبك وغيره ممن كتب عليه.
ونظمه فيه يبس قليل، إلا أنه كان جيد العربية، عارفاً باللغة، وله رسائل كثيرة وقصيدة لامية سماها " سرد اللام في مادة لامية العجم " .
وكان الله قد رمى بينه وبين محيي الدين البغدادي حتى عمل له ذلك المنشور المشهور الذي أقطعه فيه قائم الهرمل وأبو عروق وما أشبه هذه الأماكن.
ولقد وقفت أنا بالديار المصرية على كتاب " خواص الحيوان " وفي بعضه ذكر الضبع، ومن خواص شعره أنه من تحمل بشيء منه حدث به البغاء، وقد كتب ابن البغدادي على الهامس: أخبرني الثقة شرف الدين بن الوحيد أنه جرب ذلك فصح معه، أو كما قال.
ومما ينسب إلى ابن الوحيد، ورأيته لغيره:
وخضراء لا الحمراء تفعل فعلها ... لها وثبات في الحشا وثبات
تؤجج ناراً في الحشا وهي جنة ... وتبدي مرير الطعم وهي نبات
ومن شعر ابن الوحيد:
الله باري قوس حاجبه التي ... مدت وإنسان العيون النابل
ولحاظه نبل لها من هدبه ... ريش وأفئدة الأنام مقاتل
ومنه:
جهد المغفل في الزمان مضيع ... وإن ارتضى أستاذه وزمانه
كالثور في الدولاب يسعى وهو لا ... يدري الطريق ولا يزال مكانه
وكان السراج الوراق قد مرض في وقت، فجهز إليه شرف الدين بن الوحيد أبلوجة سكر ومعها رقعة بخطه المليح، فكتب إليه السراج ومن خطه نقلت:
أرسل لي ابن الوحيد لما ... مرضت بالأمس جام سكر
ومدحةً لي بخطه لي ... فقلت ذا سكر مكرر

حلى وحلى فمي وجيدي ... عقد شراب وعقد جوهر
ووقف يوماً شيخنا ناصر الدين شافع على شيء من نظم ابن الوحيد فقال:
أرانا يراع ابن الوحيد بدائعا ... تشوق بما قد أنهجته من الطرق
بها فات كل الناس سبقاً فحبذا ... يمين له قد أحرزت قصب السبق
فقال ابن الوحيد:
يا شافعاً شفع العليا بحكمته ... فساد من راح ذا علم وذا حسب
بانت زيادة حظي بالسماع له ... وكان يحكيه في الأوضاع والنسب
فجاءني منه مدح صيغ من ذهب ... مرصعاً بل أتى أبهى من الذهب
فكدت أنشد لولا نور باطنه ... أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
فلما بلغت هذه الأبيات ناصر الدين شافعاً قال:
نعم نظرت ولكن لم أجد أحداً ... يا من غدا أوحداً في قلة الأدب
جازيت مدحي وتقريظي بمعيرة ... والعيب في الرأس دون العيب في الذنب
وزدت في الفخر حتى قلت منتسباً ... بخطك اليابس المرئي كالحطب
بانت زيادة حظي بالسماع له ... وكان يحكيه في الأوضاع والنسب
كذبت والله لن أرضاه في عمري ... يا بن الوحيد وكم صنفت من كذب
جازيت نظمي وقد نضدته درراً ... يروق سمع الورى دراً بمحتلب
وما فهمت مرادي في المديح ولو ... فهمته لم توجهه إلى الأدب
سأتبع القاف إذا جاوبت مفتخراً ... بالزاي يا غافلاً عن سورة الغضب
خالفت وزني عجزاً والروي معاً ... وذاك أقبح ما يروى عن العرب
قلت: ابن الوحيد - رحمه الله تعالى - معذور في العدول عن الوزن والقافية لأنه ما كان يجد في ذلك الوزن والقافية مثل قول أبي الطيب: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي، فإن ناصر الدين كان ذلك الوقت قد أضر، وقد احترز ابن الوحيد بقوله: " لولا نور باطنه " احترازاً، لكنه ما أفاده مع تسرع ناصر الدين شافع، ورحم الله كلا منهما.
وأخبرني شيخنا الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس اليعمري - رحمه الله تعالى - قال: كان شرف الدين بن الوحيد الكاتب يقول في قول القائل: " النبيذ بغير الدسم سم، وبغير النغم غم " : هاتان السجعتان ما وقع لهما ثالث، وهو قولي: " وبغير المليح قبيح " .
قلت أنا: ما كان ابن الوحيد - رحمه الله تعالى - لمح فيهما من الجناس المرقص والمطرب، ولو أن الأمر راجع إلى السجع فقط أو إلى الوزن فقط عمل الناس مجلدات من هذا النوع، ولكن أنا تكلفت لهما ثالثاً: " وبغير النهم هم " أعني أن الإكثار من الشراب سبب الانشراح والسرور، على العادة من كلام أولعوا بالشراب وبالغوا في الإكثار وحثوا على معاقرته.
محمد بن شكرالشيخ الإمام الفاضل شمس الدين الديري الشافعي الناسخ.
كتب ما لا يحصى كثرة، وكان مقرئاً بالسبع، وكان يعرف علم الحرف ويتكلم عليه جيداً إلى الغاية، وله مشاركة في علوم كثيرة، وأظنه كتب في المصطبة في وقت. والله أعلم.
وكانت له عناية بتصانيفي، لا يسمع بشيء منها إلا ويكتبه لنفسه أولاً وللناس ثانياُ، وكتب من الكتب الستة الصحاح كثيراً، ومن كتب الفقه المطولة كثيراً.
ثم إنه آخر الحال أقام بدار الحديث الأشرفية يرتزق بالنسخ إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة وقد قارب التسعين عفا الله عنه.
محمد بن الشنبكيبالشين المعجمة والنون الساكنة وبعدها باء موحدة وكاف، ناصر الدين.
كان من ظرفاء القاهرة، ساكناً خيراً، يلعب بالعود ويلوذ بالقاضي جمال الدين رئيس الأطباء، ورأيته بسوق الكتب مرات وكتب إلي يوماً:
أيا صلاح الدين يا فاضلاً ... لفظك ما أسمى وأسناه
كالدر منظوماً وإن كان منثوراً فما أغلى وأعلاه
إن دار بين الشرب في أكؤس ال ... أفواه ما أجلا وأحلاه
ما الزهر ما الزهر إذا استمتعوا ... منه برؤياه ورياه
فيطرب السمع لألفاظه ... ويرقص القلب لمغناه
فكتبت أنا الجواب إليه:

يا ناصر الدين الذي نظمه ... قد زان مغناه ومعناه
أتحفتني منه بشعر غدا ... كالزهر مرآه ورياه
فلفظه إن حال في منطق ... حلاه أو في السمع حلاه
يحكي محياك الكريم الذي ... حياه لي الله وحياه
كذا يكون الشعر يا مالكي ... ما كل من أنشاه وشاه
محمد بن شهريالأمير شجاع الدين متولي بعلبك.
توفي يوم الأحد خامس شهر رجب سنة تسع وتسعين وست مئة، ودفن بمقبرة اللوزة يوم الاثنين.
محمد بن صالح بن حسنشمس الدين بن البنا القفطي الشافعي.
كان فقيهاً أديباً شاعراً، أخذ الفقه والأصول عن الشيخ مجد الدين بن دقيق العيد وتلميذه بهاء الدين القفطي، وتولى الحكم بسمهود والبلينا وجرجا وطوخ.
وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يكرمه، وتوجه صحبته إلى دمشق، وسمع منه. قال ابن الوالي: قد سمع منه بقوص.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثمان وتسعين وست مئة.
محمد بن صبيح بن عبد اللهبدر الدين، رئيس المؤذنين بالجامع الأموي بدمشق المعروف بالتفليسي، لأن والده كان عتيق امرأة كانت ابنة كمال الدين التفليسي التاجر، وتارة كان ينتسب إلى الكرخي.
سمع على أبيك الجمالي سنة سبع وخمسين وهو حاضر في الخامسة، وسمع بعد ذلك على ابن عبد الدائم، وعمر الكرماني، وأبي بكر بن النشبي، وأحمد بن نعمة المقدسي، وغيرهم.
وقرأ القرآن على الشيخ يحيى المنبجي. وكان حسن الصوت في القراءة والأذان والتسبيح موصوفاً بذلك مشهوراً في البلاد، سمع منه الطلبة وأم بنائب السلطنة مدة، وولي حسبة الصالحية والإشراف على الجامع الأموي. وكان يقرأ في المصحف على الكرسي عقيب صلاة الصبح ويخرج أمام الخطيب يوم الجمعة بالسواد.
توفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة خمس وعشرين وسبع مئة بخانقاه الطواويس.
ومولده تقريباً سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
محمد بن أبي طالب الأنصاري الصوفيشمس الدين المعروف بشيخ حطين أولاً، ثم أخيراً بشيخ الربوة.
رأيته بصفد مرات، واجتمعت به مدة مديدة.
كان من أذكياء العالم وأقوياء الفهم الذي من رزقه فقد سلم وسالم. له قدرة على الدخول في كل فن، وجرأة على التصدي لكل ما سنح في الأذهان وعن، رأيت له عدة من التصانيف في كل علم حتى في الأطعمه، وكل ما يعمل على النار المضرمه، وفي أصول الدين على غير طريق الأشاعره، ولا طريق الاعتزال ولا الحشوية المتظاهره، لأنه لم يكن له علم. وإنما كان ذكيا، وعقله بفهم الغرائب زكيا، فكنت يوماً أراه أشعرياً، ويوماً أراه معتزليا، ويوماً أراه حشويا، ويوماً أراه يرى رأي ابن سبعين وقد نحا طريقه، وتكلم على العرفان والحقيقه. نعم كان يتكلم على الأوفاق ووضعها، وحفظها فيما يستعمله ورفعها، ويتكلم على أسرار الحروف كلاماً مناسبا، ويدعي أنه لا يرى دونه في ذلك حاجبا، ويعرف الرمل ويتقنه ضربا، ويدريه جنساً ونوعاً وضربا.
وكان ينظم نظماً ليس بطائل، ويستعير فيه ما يريده من جميع القبائل، وكان قد لحقه الصم، وحصل به له ولمن يعرفه ألم، ثم أضر بأخرة من عينه الواحده، وبقي رحمه لمن يراه عدواً أو عنده له معانده.
ولم يزل على حاله إلى أن رأى عين اليقين، وعلم أن معارات الدنيا لا يحمين من الموت ولا يقين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - فيما أظن في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبع مئة بصفد.
ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة.
نقلته من خط شيخنا البرزالي.
كان ذكياً وعبارته حلوة، ما تمل محاضرته، وكان يدعي عمل الكيمياء، ودخل على الأفرم وأوهمه شيئاً من ذلك، فولاه مشيخة الربوة، والظاهر أنه كان يعلم منها ما يخدع به العقول، ويتلعب بالألباب الأغمار، ولما جاء إلى صفد ورأيته بها كان شيخ قرية علمين الفقراء، وهي قرية عند قرية مغران بالقرب من الشريعة عند جسر يعقوب، وقف السلطان صلاح الدين يوسف تغمده الله تعالى برحمته.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: ومولده بزاوية جده الشيخ أبي طالب بقصر حجاج بدمشق.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: وأعرف جده أبا طالب، وكان صالحاً يصلي الجمعة دائماً تحت النسر، انتهى.

قلت أنا: وهو شيخ النجم الحطيني المعروف بنجيم الذي سمره السلطان الملك الناصر بالقاهرة وجهزه إلى دمشق مسمراً على جمل، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف النون مكانه، وكان هذا النجم يخدمه، وهو شيخ الخانقاه بحطين من بلاد صفد، وورد عليهم إنسان في تلك المدة أضافوه على العادة، وكان هذا النجم رأى مع الضيف ذهباً، فاتبعه لما سرى من الخانقاه، وقتله في الطريق وأخذ ذهبه، وبلغت القضية نائب صفد الأمير سيف الدين كراي، فأحضر الشيخ شمس الدين وضربه ألف مقرعة، على ما قيل، وعوقب زماناً، ثم أفرج عنه، ثم إن هذا النجيم كان بعد ذلك يؤذي الشيخ. حكى لنا الشيخ شمس الدين قال: كنت أخافه على نفسي، فأنام في الربوة وأغلق باب المكان وهو محدود، وأستوثق من الأقفال وغيرها، وأكون نائماً آمناً، وما أشعر به إلا وقد أيقظني فأفتح فأرى السكين في يده مجردة، ويقول: يا أفخاذ الغنمة، ما تريد أن أفعل بك؟ قال: فأدخل بكل طريق من ضروب الخداع والتلطف أنه أي فائدة في قتلي، وفرضنا أني قتلت، فهل في هذا فائدة تحصل، ولا أزل أخدعه حتى يمضي ويتركني.
وأنشدني لنفسه ومن خطه نقلت:
الله أكبر يا الله من قدر ... حارت عقول أولي الألباب في صدره
نجم به كسفت شمس وذا عجب ... أن يكسف الشمس جرم النجم مع صغره
ولم يزل الشيخ شمس الدين مروعاً من هذا النجم إلى أن سمر. وكان ما يسميه بعد ذلك إلا الهالك، ويكني عن نفسه بالشخص. فيقول: جرى للشخص مع الهالك كيت وكيت، وما كانت حكاياته عنه تمل، لأنه يؤديها بعبارة فصحى وينمقها ويزمكها.
وجمع هذا الشيخ كتاباً في علم الفراسة سماه " كتاب السياسة في علم الفراسة " كتبته بخطي من خطه، وتناولته منه بصفد، ولم أر في كتب الفراسة مثله، وقد نقله مني جماعة أفاضل بمصر والشام منهم الشيخ شمس الدين الأكفاني، لأنه جمع فيه كلام الشافعي رضي الله عنه وكلام ابن عربي وكلام صاحب المنصوري وكلام أفلاطون وكلام أرسطو، فجاء حسناً إلى الغاية.
ولحقه صم زائد قبل موته بعشرة أعوام، أضرت عينه الواحدة. وتوفي بمارستان الأمير سيف الدين تنكز بصفد رحمه الله تعالى.
كان من أفراد العالم وله في كل شيء يتحدث فيه مصنف.
وأنشدني من لفظه لنفسه، ومن خطه نقلت، في مليح كان يميل إليه، وتوكل بقرية فرادية من عمل صفد، ولاه الحاكم بصفد هذه الوكالة:
قل للمقيمين بفراديه ... من ذا الذي أفتى بإفراديه
ومن لحيني في الهوى عامداً ... أصدرني من قبل إفراديه
وما الذي أوجب هجري وأن ... تقصد الأتراك أكراديه
فقيل مت في حبهم أو فعش ... فما لمقتول الهوى من ديه
وهجرك الحكم العزيز اقتضى ... من غير ما ذنب ولا عاديه
وإنما سنة أهل الهوى ... تغاير الحضار والباديه
ونقلت من خطه له:
للنفس وجهان لا تنفك قابلةً ... مما تقابل من عال ومستفل
كنحلة طرفاها في مقابلة ... فيها من اللسع ما فيها من العسل
ونقلت من خطه وأنشدنيه:
نظر الهلال إليه أول ليلة ... فرآه أحسن منظراً فتزيدا
ورآه أحسن وهو بدر فهو من ... غم يذوب ويضمحل كما بدا
ونقلت من خطه له:
يا من تعالى أن يجوز بذاته ... وصفاته التلويح والتصريح
أنت العلي عن الصفات بأسرها ... لكن تنزيلك اللطيف يبوح
والقول منا عند كل تعقل ... وتخيل وتوهم سبوح
ونقلت من خطه له، يعني نفسه:
تأدب حتى لم يجد من يناظره ... وحتى قلته كتبه ودفاتره
ودارس ما فيها فلم ير ذا حجى ... وذا أدب مما يراه يحاوره
وطاب به الحرمان من كل جانب ... وظل إليه الفقر تسعى بوادره
فلو رام بحراً زاخراً وهو ظامي ... يحاول منه شربة غاص زاخره
وكان يعرض شعراً كثيراً علي وأغير منه كثيراً.

وكان صبوراً على القلة والفقر والوحدة، كثير الآلام والأوجاع. وكان به انفتاق في أنثييه يثور به كل قليل ويقاسي منه شدة، وكان قد كبر سنه وأنقى شيبه. والذين رأيتهم يقومون بعلم الفراسة ثلاثة: شيخنا نجم الدين بن الكمال الصفدي الخطيب رحمه الله تعالى، وهذا الشيخ شمس الدين، والحكيم أسد اليهودي، وكان أصدقهم فراسة أسد اليهودي، ولكنه لما رأى هذا المصنف الذي ذكرته لشيخ الربوة معي بحلب سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة وطلبه مني لينسخه، فأبيت، ثم طلبه بدمشق، ثم طلبه بالقاهرة وما اتفق إعطاؤه.
محمد بن طرنطايالأمير ناصر الدين ابن الأمير الكبير حسام الدين، أمير مئة مقدم ألف بالديار المصرية.
وكان قد اتصل ببستان ابنة الأمير سيف الدين قبجق نائب الشام، أظنها كانت أولاً زوجة الأمير سيف الدين كراي المنصوري نائب الشام.
كان جيداً خيراً، سليم الباطن، وعنده ثلاثة مماليك اسم أحدهم " حلب " والآخر " مصر " والآخر " دمشق " ، وهو ابن الأمير حسام الدين طرنطاي نائب الديار المصر لأستاذه الملك الناصر.
وحج الأمير ناصر الدين أربع مرات.
وكان قد أجاز له ولأخوته سنة سبع مئة الحافظ شرف الدين الدمياطي، والأبرقوهي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الخميس تاسع شهر رجب الفرد سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمدرسة والده داخل القاهرة.
محمد بن طغريل الصيرفيالمحدث، المخرج، مفيد الطلبة، ناصر الدين الدمشقي.
روى عن أبي بكر بن عبد الدائم، والمطعم. وقرأ الكثير. وسمعت بقراءته " صحيح " مسلم على البندينجي الصوفي وغير ذلك. وكان سريع القراءة فصيحها يأتي فيها إتيان السيل إذا تحدر، لا يكترث ولا يدأب فيها.
توفي - رحمه الله تعالى - غريباً في حماة سنة سبع وثلاثين وسبع مئة ولم يتكهل أو بلغ الأربعين.
قال شيخنا شمس الدين الذهبي: جيد التحصيل، مليح التصريح، كثير الشيوخ، حسن القراءة، ضعفوه من قبل العدالة، ثم ترددنا في ذلك وتوقفنا، فالله يصلحه، ولو قبل النصح لأفلح.
قلت: لم يطعنوا عليه إلا لأنه إذا قرأ قلب الورقتين والثلاث، والله أعلم.
محمد بن طغلق شاهالسلطان الأعظم العادل الفاضل أبو المجاهد، صاحب دهلي وسائر مملكة الهند والسند ومكران والمعبر، وكان يخطب له بمقدشوة وسرنديب وكثير من الجزر البحرية.
ورث الملك عن أبيه طغلق شاه، ملك هو إسكندر زمانه، وحاكم الأرض في عصره وأوانه، قد دوخ البلاد، ودخل في طاعته العباد، يحكم على بلاد الهند، وما دخل في مسمى السند، ليس في ملوك الأرض من يدانيه في اتساع ملكه، ولا من ينخرط در بلاده في سلكه، تكاثر الرمال عساكره، وتفاخر النجوم جواهره، وتغامر البحار الزاخرة ذخائره، وتحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره إذا تغلغل طرف المرء في طرف من ملكه غرقت فيه خواطره، كريم بخل الغمام، وجواد أضحت هباته هي الأطواق والناس الحمام، تغرق البحار في فضاء كرمه، وتستحي السيول أن تطأ مواطئ حرمه، قد وسع الناس طوله، وشملهم بالإحسان فعله وقوله، ما أمه عاف إلا وتلقاه الغنى، وسرى الفقر عنه والعنا، ونوله في مبادي جوده غايات المنى:
وغير كثير أن يزورك راجل ... فيرجع ملكاً للعراقين واليا
وأما تواضعه لله تعالى مع هذه العظمة فأمر عجيب، وفعل لا يصدر إلا ممن إذا دعاه الهدى يجيب.
وأما محبته لأهل العلم فشيء زاد على الصفة، وعجزت عن إدراك كنهها بنت كل شفة، يجعلهم ندماءه الخواص وجلساءه الذين هم في بحر كرمه غواص، يتقرب إليهم بالمكارم، ويحكمهم في أمواله كما يحكم في فريسته الليث الضبارم.
لم يزل على حاله إلى أن أوحش منه إيوانه، وما أغنى عنه ماله وهلك عنه سلطانه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة تقريباً.
مما يستدل به على عظمة هذا السلطان أنه ورد في وقت كتابه إلى سلطاننا الأعظم محمد في مقلمة ذهب وزنها ألفا دينار، وهي مرصعة بجوهر قوم بثلاث آلاف دينار.

وكنت يوماً عند الأمير عز الدين أيدمر الخطيري وقد جاء إنسان في زي فقير، فقال: يا خوند أنا جئت في جملة من أرسله السلطان صاحب الهند محمد بن طغلق شاه، وسبب الرسالة أن السلطان فتح تسعة آلاف مدينة وقرية أو قال: تسعة عشر ألف، وأخذ من ذلك ذهباً عظيماً يتجاوز الحد والوصف، وانتعل من مدينة دهلي كرسي ملكه إلى وسط هذه البلاد التي فتحها ليكون قريباً من الأطراف، وأنه أجري يوماً عنده ذكر مكة والمدينة. فقال: أريد أن يتوجه من عندنا ركب يحج في كل سنة، فقيل له: إن ذلك في مملكة الملك الناصر محمد بن قلاوون، فقال: نجهز إليه هدية، ونطلب منه الإذن في ذلك. وأنه جهز إليه مركباً قد ملئ من التفاصيل الهندية الفائقة خيار ما يوجد، وعشرة بزاة بيض وخدم وجواري، وأربعة عشر حقاً قد ملئت من فصوص الماس، وكنت أنا في جملة المسفرين. وأننا لما وصلنا إلى اليمن أحضر صاحب اليمن المماليك الذين في خدمة الرسول، وقال لهم: أي شيء يعطيكم صاحب مصر، اقتلوا أستاذكم وأنا أجعلكم أمراء عندي، فلما قتلوه شنق الجميع وأخذ المركب بما فيه، وأريد أن تحضرني عند السلطان فأدخله الأمير عز الدين الحظيري إلى السلطان وحكى له الواقعة.
وكتب القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله في ذلك الوقت كتاباً إلى صاحب اليمن جاء فيه عند ذكر ذلك: وبعد أن كان في عداد الملوك أصبح وهو من قطاع الطريق.
ومن الأدلة على سعة ملكه وكثرة الذهب عنده أنه أقل ما يوجد الدينار عنده مثقالين وثلاثة كثيراً، ويوجد الدينار خمسين مثقالاً، وأنا رأيت في الرحبة ديناراً زنته تسعون مثقالاً.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: وكان طغلق شاه رجلاً تركياً من مماليك ملوك الهند، ويقال إنه الذي عمل أبيه فقتله. قالوا: صورة قتله أنه تركه في خركاه وقد بدت به علة، ثم إنه هيج عليه الفيلة حتى أتى فيل منها على الخركاه وحطمها وألقاها عليه، وتمادوا في إخراجه حتى أخرجوه ميتاً لا روح فيه.
قال: وكان محمد هذا عنيناً لكي كوي على صلبه أيام الحداثة لعلة حصلت له، وهو متمذهب بمذهب أبي حنيفة، يحفظ في المذهب كتاب " الهداية " . وقد شدا طرفاً جيداً من الحكمة، ويحضر مجلسه الفقهاء للمناظرة بين يديه، ويجيز الجوائز السنية، وملكه ملك متسع جداً، وعسكره كثير.
قال: ذكر الافتخار عبد الله دفتر خوان الواصل في الرسلية في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون أن عسكره مبلغ تسع مئة ألف فارس، قال: وفي ذلك نظر، إنما الشائر الذائع أنه يقارب الست مئة ألف يجري على كلهم ديوانه، منهم الفارس والراجل، والراجل أكثر لقلة الخيل عندهم، لأن بلادهم لا تنتج الخيل وتفسد ما يجلب إليها من الخيل. وذكر أن عنده ألفاً وسبع مئة فيل وأن عنده عدداً كثيراً من الأطباء والندماء والشعراء بالعربية وبالفارسية وبالهندية، وعدداً كثيراً من المغاني رجال وجواري قال: ونعته في بلاده: " سلطان العالم، إسكندر الزمان الثاني، خليفة الله في أرضه " ، ولهذا يدعو له الخطباء على المنابر في ممالكه والدعاة.
وفي بلاده معادن كثيرة وتجاوره كوة قراجل، بالقاف والراء والألف والجيم واللام، وهو جبل يقارب البحر المحيط الشرقي، وهي بلادكفار، وفيها معادن الذهب، وله عليها أتاوة جزيلة إلى غير ذلك. ومما يوجد في بعض بلاده من نفائس الياقوت والماس عين الهر والمسمى بالماذنبي. قلت: هو البنفش الماذنبي، يعنون أنه يقول: ما ذنبي كوني لم أكن بسعر البلخش.
قال: وذكر لي الشيخ مبارك الأنباتي، وكان من كبار دولته ثم تزهد: أن ابن قاضي شيراز أتاه بكتب حكمية منها كتاب " الشفاء " لابن سينا بخط ياقوت في مجلدة، فأجازه عن ذلك جائزة عظيمة، ثم إنه أمر بإدخاله إلى خزائنه ليأخذ منها ما يريد، فأخذ منها ديناراً واحداً وضعه في فمه فلما خرج ليقبل يده قيل له: ما فعل شيئاً، وأنه لم يتعرض إلا لدينار واحد فسأله عن ذلك. فقال: أخذت حتى امتلأ بطني، وطلع هذا الدينار من فمي، فأعجبه ذلك وضحك منه وأمر له بلك من الذهب، واللك عبارة عما يقارب المئتي ألف مثقال وسبعين ألف مثقال بالمصري.
قال: ولحقه يبس مزاج من قبيل السوداء، انتهى.
قلت: ومما يؤكد كرمه المفرط ما ذكرته في ترجمة الشريف عضد المذكور في حرف العين مكانه.
محمد بن طولو بغاالمحدث ناصر الدين أنو نصر التركي.

شاب ساكن دين، كتب الأجزاء، ودار على الشيوخ وحصل. أجزت أنا له. وكان قد سمع من الحجار بعض " الصحيح " ، وسمع من ابن أبي التائب، وبنت صصرى، وخلق بنفسه. وكتب، وتخرج.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ......
ومولده سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
محمد بن طينالالأمير ناصر الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين نائب طرابلس وغزة وصفد.
كان الأمير ناصر الدين المذكور من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق. وكان ذا صورة بديعة ومحيا جعله البدر طلعته في الكمال طليعة، ووجنات يقطف الورد من جناتها الغضة، ويخال أنها خليطا عقيق أحمر وبلور أو مرجان وفضة، بحيث إنه ظهر للنساء في دمشق قماش يعرف بخدود ابن طينال، وبذل الناس في ذلك جملة من الأموال.
وكان في مرح الشبيبة يجري مرخى الرسن، ويملأ عينيه في غفلة الزمان عنه من الوسن، وورثه والده جملة من الأملاك والعين، ورخت الإمرة الذي هو من النعمة الطائلة أحد النصفين، فأذهب الجميع وتحمل ما يقاربه من الدين.
ولم يزل على حاله إلى أن خسف الموت بدره في الكمال، وأودع في بطن الأرض منه جملة من الجمال.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في بكرة الأربعاء تاسع عشري شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
محمد بن عالي بن نجمالشيخ شمس الدين الدمياطي.
سمع من النجيب، والمعين الدمشقي.
وأجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في...
ومولده سنة خمسين وست مئة.
محمد بن عبد الجبارمعين الدين الأرمنتي الفلكي المعروف بابن الدويك.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: كان ينظم، وأنشدني من نظمه، وكان يعمل التقاويم، وأخبرني في بعض السنين أن النيل يقصر فجاء نيلاً جيداً، فعمل فيه بعض الشعراء أبياتاً منها قوله:
أخرم تقويمك يابن الدويك ... من أين علم الغيب يوحى إليك
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة أربعين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن محمدالإمام المفتي البارع شمس الدين أبو عبد الله ابن الشيخ المفتي الزاهد فخر الدين البعلبكي الحنبلي.
سمع من خطيب مردا، وشيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري، والفقيه محمد الونيني، والزين بن عبد الدائم، والرضي بن البرهان، والنجم البادرائي، وجماعة، وتفقه على والده على الشيخ شمس الدين بن قدامة، وجمال الدين بن البغدادي، ونجم الدين بن حمدان.
وقرأ الأصول على مجد الدين الرووراوري، وبرهان الدين المراغي.
وقرأ الأدب على الشيخ جمال الدين بن مالك. وحفظ القرآن وصلى بالناس وهو ابن تسع، وحفظ " المقنع " و " منتهى السول " ، و " مقدمتي " أبي البقاء، وقرأ معظم " الشافية " لابن مالك.
وكان أحد الأذكياء المناظرين العارفين بالمذهب وأصوله، والنحو وشواهده، وله معرفة حسنة بالحديث والأسماء غير ذلك وعناية بالرواية. وأسمع أولاده الحديث.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين.
قال شيخنا الذهبي: سمع بقراءتي " معجم " الشيخ علي بن العطار، ولي منه إجازة.
وكان يبحث مع الشيخ تقي الدين بن تيمية.
محمد بن عبد الرحمن بن سامةابن كوكب بن عز بن حميد الطائي السوادي، الدمشقي الصالحي الحنبلي، الحافظ المتقن المحدث الصالح شمس الدين أبو عبد الله، نزيل القاهرة.
سمعوه من ابن عبد الدائم. وطلب بنفسه فسمع من ابن أبي عمر، وابن الدرجي، والكمال عبد الرحيم، وأصحاب حنبل والكندي. وارتحل فسمع بمصر من العز الحراني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وببغداد من الكمال الفويرة وعدة بواسط وحلب والثغر، وانتهى إلى أصبهان. قال شيخنا الذهبي: وما أظنه ظفر بها برواية.
وقرأ الكثير من الأمهات، وانتفع به الطلبة.
وكان فصيحاً سريع القراءة حسن الخط، له مشاركة في أشياء، وفيه كيس وتواضع ودين وتلاوة، وله أوراد، وتزوج بأخرة.
وكان عمه شهاب الدين بن سامه محدثاً عدلاً شروطياً، نسخ الأجزاء وحمل عن ابن عبد الدائم وعدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - رابع عشري ذي القعدة يوم الثلاثاء سنة ثمان وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة.
وكانت وفاته بالقاهرة، ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي.
محمد بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب

بهاء الدين الأسنائي.
كان فقيهاً فرضياً فاضلاً، تفقه على الشيخ بهاء الدين هبة الله القفطي، وقرأ عليه الأصول والفرائض والجبر والمقابلة، وكان يقول له: إن اشتغلت ما يقال لك إلا الإمام.
وكان حسن العبارة، ثاقب الذهن، ذكياً، فيه مروة، بسببها يقتحم الأهوال، ويسافر في حاجة صاحبه الليل والنهار.
قال كمال الدين جعفر: ثم ترك الاشتغال بالعلم وتوجه لتحصيل المال فما حصل عليه ولا وصل إليه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص ليلة الأضحى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن زيدالبقراط الدندري، بدالين مهملتين بينهما نون ساكنة وبعد الدال راء.
قرأ القرآن على أبي الربيع سليمان الضرير البوتيجي، وقرأ أبو الربيع على الكمال الضرير، وتصدر للإقراء، وقرأ عليه جماعة بدندرا، واستوطن مصر مدة واشتغل بالنحو مدة، واختصر " اللمحة " نظماً، وقال في أول اختصاره:
وها أنا اخترت اختصار اللمحة ... أمنحه الطلاب فهو منحه
وفي الذي اختصرته الحشو سقط ... ليقرب الحفظ ويبعد الغلط
وفيه أيضاً بما أريد ... فائدة يحتاجها المريد
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وهو الآن حي.
قلت:....
محمد بن عبد الرحمن بن محمدابن عمر بن عبد الرحيم، الصدر الرئيس الكاتب شهاب الدين، أبو عبد الله بن العجمي كاتب الدرج بحلب، وهو أخو الشيخ عز الدين عبد المؤمن، وأخو الخطيب شمس الدين أحمد.
وقد تقدم ذكرهما في مكانيهما، وكانوا قد سمعوا على الشيخ كمال الدين بن النصيبي " الشمائل " للترمذي في سنة ثمان وثمانين وست مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - تاسع عشر شوال سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربتهم.
محمد بن عبد الرحمن بن عمرالشيخ الإمام العلامة، ذو الفنون، قاضي القضاة جلال الدين أبو عبد الله القزويني الشافعي الأشعري.
سمع من الشيخ عز الدين الفاروثي وطائفة. وأخذ المعقول عن شمس الدين الأيكي.
كان قاضي القضاة جلال الدين شريف الخلال، منيف الجلال، وارف الظلال، صارف الملال، طود حلم، وبحر علم، يتموج فضائل، ويتبرج براهين ودلائل، بذهن يتوقد، ويدور على قطب الصواب كالفرقد، قد ملأ الزمان جودا، وجعل أقلام الثناء عليه ركعاً وسجودا.
ولم ير قاض أشبه منه بوزير، ولا إنسان كأنه وفي أثوابه أسد يزير، يجلس إلى جانب السلطان في دار عدله، ويغدو كالشمس بين أهلة وأهله، مهما أشار به هو الذي يكون، ومهما حركه فهو الذي لا يعتريه سكون. يرمل على يد السلطان لا يفعل ذلك غيره إذا حضر، ولا يتقدم عليه سواه من أشراف ربيعة أو مضر:
فالأمر مردود إلى أمره ... وأمره ليس له رد
جمع بين قضاء الشام والخطابة، وفاز في كل المنصبين بالإصابة، وطلب إلى قضاء الديار المصرية فسد ما فسد، وعوذته مكارمه " من شر حاسد إذا حسد " ، وأقام هناك مدة ينشر ألوية علومه، ويفيض على الناس سواكب غيومه. ثم إنه عاد إلى الشام عود الغمام إلى الروض إذا ذوى، والبدر التمام إلى الأفق الذي زل نجمه وهوى، فجدد معاهد الفضل والإفضال، وعمر غابه بالليث الخادر أبي الأشبال.
ولم يزل على حاله إلى أن زال ذلك الطود، وزل وتقشع ذلك المطر الجود.
وتوفي - رحمه الله تعالى - منتصف جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. وشيع جنازته خلق عظيم، ودفن في مقابر الصوفية.
ومولده بالموصل سنة ست وستين وست مئة.
وسكن الروم مع والده وأخيه، وولي بها قضاء ناحية وله من العمر نحو ثلاثين سنة، وتفقه وناظر واشتغل، وتخرج به الأصحاب، وناب في قضاء لأخيه قاضي القضاة سنة ست وتسعين، وناب في ما أظن لقاضي القضاة نجم الدين بن صصرى في أول المحرم سنة خمس وسبع مئة. وولي خطابة الجامع الأموي مدة.

وطلبه السلطان إلى دمشق في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وشافهه بولاية قضاء الشام، ووصله بذهب كثير ولما طلبه دافع عنه تنكز، فقال: هذا عليه ديون كثيرة، وابنه نحس ما يجمل أن يكون أبوه قاضي القضاة. فقال السلطان: أنا أوفي دينه، وولده أنا أدعه يقيم في الديار المصرية. فجهزه في نصف جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة. صلى بالناس صلاة الخسوف لأن القمر خسف تلك الليلة. ثم إنه صلى الصبح يوم الخميس وسافر إلى القاهرة.
وعاد إلى دمشق في خامس شهر رجب يوم الخميس، وباشر المنصب على أتم ما يكون وصرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين وراك المدارس، واستناب الشيخ جمال الدين بن جملة والشيخ فخر الدين المصري.
ولما كان في يوم الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة وصل البريد إلى دمشق فطلبه إلى مصر وولاه السلطان قضاء الديار المصرية، وعظمه ورفع شأنه، ورأى من العز والوجاهة ما لا رآه غيره.
وكان يرمل على يد السلطان في دار العدل.
قال لي القاضي شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود، وقد كان كاتب السر بمصر، وقد خرج من يوم اثنين نهار دار عدل: اليوم أخرج قاضي القضاة جلال الدين من كمه ست عشرة قصة غير ما شفع فيه وأشار به وشكر منه، والجميع يقضيه السلطان وما يرده.
وحج مع السلطان، ورتب له ما يكفيه بزيادات، وأحسن في مصر إلى أهلها وإلى الشاميين، وكان في باب السلطان ذخراً وملجأ لمن يقصده من الشاميين يشفع له ويساعده على مقاصده، ويصله عند قدومه وعند سفره وما بين ذلك. وأحبه المصريون، وفتح لهم باب الاشتغال في الأصول. كنت يوماً عنده وقد جاء إليه محضر فيه شهود، فوقف على أسماء الشهود اسماً اسماً، والتفت وقال: من هو فلان؟ فقال أحد الواقفين: أنا يا مولانا، فقال له: ما أنت الذي كان يعمل الدوادارية لقبجق؟ قال: نعم. قال: ما هذه الحالة؟ فشكا بطالة وقلة. فقال له: اصعد إلى فوق، وأجلسه. ولما انقضى ذلك الشغل وخف المجلس ولم يبق إلا من هو به خاص أخرج كيس النفقة ونفضه فنزل منه ما يقارب المئة. فقال: خذ هذه ارتفق بها في هذا الوقت وعد إذا فرغت، ولما كان في... رسم له السلطان بالعود إلى دمشق قاضي القضاة كما كان أولاً، فحضر إليها وصحبه، وصحب أولاده من المجلدات النظيفة النفيسة ما يزيد على خمسة آلاف مجلد، وفرح الناس به. فأقام قليلاً وتعلل، وأصابه فالج إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور، وتأسف الناس عليه لما كان فيه من الحلم والمكارم وعدم الشر وعدم المجازاة لمن أساء إليه بالإحسان.
وكان ينتسب إلى أبي دلف العجلي وكرمه بصدق هذه الدعوى.
وكان فصيحاً بليغاً في وقت البحث والجدل، منطقياً إلا إذا علا صهوة المنبر فإنه ليس ذلك، لغلبة الحياء.
وكان مليح الصورة، حلو العبارة، كبير الذقن رسلها، موطأ الأكناف، سمحاً، جواداً حليماً، جم الفضائل، حاد الذهن، يراعي قواعد البحث. وكان يحب الأدب ويحاضر به، وله فيه ذوق كثير يستحضر نكته، ويكتب خطاً جيداً حسناً. وصنف في المعاني والبيان مصنفاً وسماه " تلخيص المفتاح " وشرحه وسماه " الإيضاح " ، وقرأ عليه جماعة بمصر والشام، وكان يعظم الأرجاني الشاعر، يرى أنه من مفاخر العجم، واختار شعره وسماه " الشذر المرجاني من شعر الأرجاني " .
وعلى الجملة فكان من أفراد الزمان في مجموعه علماً وعقلاً وأخلاقاً. وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين بالقاهرة.
وكتبت أنا إليه أهنيه في الديار المصرية لما قدم من الحج سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة بقصيدة فائية وهي:
من خص ذاك البنان الغض بالترف ... وزان ذاك القوام اللدن بالهيف
وضم في شفتيها در مبسمها ... فراح من أحمر المرجان في صدف
وحلل الفرق فرعاً من ذوائبها ... والبدر أحسن ما تلقاه في السدف
علقتها من بنات الترك قد غنيت ... بدمع عاشقها عن منة الشنف
يلقى المتيم من تثقيف قامتها ... ما لا يلاقيه كوفي من الثقفي
ومنها:
في حفظ سالفها للحسن ترجمة ... فاقت وما اتفقت للحافظ السلفي
يا للهوى عينها عين؛ وحاجبها ... نون وتم العنا من قدها الألفي

يا هذه إن للأشعار معجزةً ... تبقى عن السلف الماضين للخلف
ضعي بنانك مخضوباً على جسدي ال ... بالي ليجتمع العناب بالحشف
يا عاذلي في هوى عيني محجبة ... خف شر ناظرها، فالسر فيه خفي
ودع فؤادي ودعه نصب ناظرها ... لا ترم نفسك بين السهم والهدف
إني لأعجب للعذال كيف رأوا ... شخص وقد رحت ذا روح تردد في
أليس يشغلهم طيب الثناء على ... قاضي القضاة جلال الدين عن شغفي
ويستفزهم أفراح مقدمه ... من حجه وهو مثل الشمس في الشرف
حج غدا حجة في الدهر ثابتة ... إن ينكسف نورها للشمس تنكسف
كم جاب في سيره والعيس قد سئمت ... جذب البرى والسرى في مهمه قذف
والركب من فضله أو من فضائله ... ما بين مغترف منه ومعترف
حتى نضا الإحرام ملبسه ... عن الهدى والندى والعلم والصلف
وراح ذا جسد قد طاب عنصره ... عار من العار بالإحسان ملتحف
ما مس طيباً وإن كان الحجيج بما ... أثنوا عليه غدوا في روضة أنف
وأم أم القرى ذات القرار ومن ... يطلب رضى الله في تلك الديار كفي
وطاف بالبيت فارتاح المقام له ... لما تمسك بالأستار والسجف
فكل ركن إذا حاذاه منكبه ... يود لو كان عنه غير منعطف
وراح في عرفات واقفاً وله ... عرف يسير به عرق ولم يقف
وفي منى كم أنال الطالبين منى ... أمسوا بها عن سطا الأعداء في كنف
وجاء طيبة يقضي حق ساكنها ... ومثل ذمته ترعى له وتفي
وزار من لم يزل في نصر ملته ... وشرعه بالقضا يا خير معتكف
هذا الإمام الذي ترضى حكومته ... خلاف ما قاله النحوي في الصحف
حبر متى جال في بحث وجاد فلا ... تسأل عن البحر والهطالة الوكف
له على كل قول بات ينصره ... وجه يصان عن التكليف بالكلف
قد دب عن ملة الإسلام ذب فتى ... يحمي الحمى بالعوالي السمر والزعف
ومذهب السنة الغراء قام به ... وثقف الحق من حيف ومن جنف
يأتي بكل دليل قد جلا جبلاً ... فليس ينسفه ما مغلط النسفي
وقد شفى العي لما بات منتصراً ... للشافعي بزعم المذهب الحنفي
تحمي دروس ابن إدريس مباحثه ... فحبذا خلف منه عن السلف
فما رأى ابن سريج إذ يناظره ... من خيل ميدانه فليمض أو يقف
ولو أتى مزني الوقت أغرقه ... ولم يعد قطرةً في سحبه الذرف
وقد أقام شعار الأشعري فما ... يشك يوماً ولا يشكو من الدنف
وليس للسيف حد يستقيم له ... ولو تصدى له ألقاه في التلف
والكاتبي غدا في عينه سقم ... إذ راح ينظر من طرف إليه خفي
من معشر فخرهم أبقاه شاعرهم ... في قوله: " إنما الدنيا أبو دلف "
هو الحفي بما يوليه من كرم ... فما جرى قلم في مدحه فحفي
لو شاء في رفعة من مجده وغلا ... لمد نحو الثريا كف مقتطف
قد زان أيامه عدل ومعرفة ... فسعده في دوام غير منصرف
يغدو الضعيف على الباغين منتصراً ... ولم يكن قبله منهم بمنتصف
لو يشتكي النهر مثل الغصن عنه مع الصبا إليه رمى عطفيه بالقصف
بل لو شكى الدهر خصم من بنيه غدا ... من خوفه بين مرتج ومرتجف
دامت مآثره اللاتي أنظمها ... تهدي لسمع المعالي أحسن التحف
ما رسخت عذبات البان سافحةً ... من الصبا وشفت صباً من الأسف
فكتب هو إلي قرين ما بعث به:

يا مولانا هذه الأبيات التي تفضلت بإرسالها، وأنبطت معين زلالها، ما أقول فيها إلا أنها ذهب مسبوك، أو وشي محبوك، أو ستر ظلام عن الذراري مهتوك، أو دمع مسفوح من صب دمه في الحب مسفوك، قد رق وراق وراع، وأمال الأعطاف وشنف الأسماع، وتألق في دياجي سطوره برق معناه اللماع. كم قد تلعبت فيه بضروب الفنون، وخضت من أنواع العلوم في شجون، أخملت أرج الخمائل من الأرجاني، وأهنت ما عز من أبكار ابن هاني:
وأخذت أطراف الكلام فلم تدع ... قولاً يقال ولا بديعاً يدعى
فكذا فليكن كلام الأفاضل، وكذا فليكن من يناصر أو يناضل. لقد تفضل مولانا بأوصاف هو أحق بها ممن وصفه، وأولى بأن يجعل إليه مرجعه ومصرفه، ومن تمام الإحسان العميم والبر الجسيم، قبول ما جهزه المملوك صحبة محكم القاضي ضياء الدين فإنه نزر، وما يقابل من هذا مده بهذا الجزر، والله تعالى يمتع الزمان وأهله بهذه الكلمات، ويمد بعونه في الحركات والسكنات، إن شاء الله تعالى.
محمد بن عبد الرحمنالصدر الرئيس الكبير، القاضي شرف الدين ابن القاضي الكبير ابن العدل أمين الدين سالم ابن الحافظ بهاء الدين أبي المواهب الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي الدمشقي.
سمع كثيراً من الحديث. وسمع رضيعاً بقراءة شيخنا البرزالي على والديه وجدته وخاله، ثم سمع على الشيخ فخر الدين بن البخاري " مشيخة " بكمالها. وكان صدراً يملأ العين والصدر، ويجعل لمحاسنه البدر، يستحيي الغمام من جوده، ويهب كل ما هو في موجوده، ساد على الدماشقة، بكثرة المكارم، وعلم الناس السماح حتى الغمائم:
ولهذا أثنت عليه الليالي ... ومشت دون سعيه الأيام
ولم يزل في المعالي يترقى ويحاذر الملام ويتوقى إلى أن فاضت نفسه وهو محرم يلبي، وختم الله له بخير فهو يخبأ له عمله ويربي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سابع ذي الحجة سنة سبع عشرة وسبع مئة، وعمره خمسة وثلاثون سنة، ودفن ضحوة يوم التروية بمقبرة الحجون على باب مكة.
وكان له همة وعزمة ومعرفة وكفاية. باشر بدمشق نظر الأشراف، ونظر الجامع الأموي، ولبس خلعة بصحابة الديوان في سادس عشر المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ولبس الصاحب غبريال أيضاً لنظر الدواوين، وكان هو قد وصل من حماة إلى دمشق في شهر رمضان سنة ثمان وسبع مئة، وكان لها ناظراً لما أقطعت حماة للأمير سيف الدين قبجق، وولي عوضه بهاء الدين عبد الصمد بن المغيزل وباشر نظر الجامع الأموي في ذي القعدة من السنة المذكورة.
ومن مكارمه ما حكاه لي عنه القاضي الرئيس ضياء الدين أبو بكر بن خطيب بيت الآبار بالقاهرة، قال: كنا عنده ليلة وقد أحضر حلوى ليجهزها لبعض أصحابه الذين يقدمون من الحجاز، قال: فأكلناها بمجموعها، ثم إنه أحضر عوضها مرة أخرى، فأكلناها بمجموعها، ثم إنه أحضر الثالثة، وأنا في شك هل قال: فأكلناها، وأحضر الرابعة أو لا، وأهل دمشق يحكون عن كرمه غرائب - رحمه الله تعالى - .
وكان قد تولى صحابة الديوان بدمشق في سادس عشر المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وخلع عليه وعلى الصاحب شمس الدين غبريال.
محمد بن عبد الرحيم بن الطيب القيسيالأندلسي الضرير العلامة الضرير المقرئ أبو القاسم.
تلا بالسبع على جماعة، وسكن سبتة، أراده الأمير العزفي أن يقرأ في شهر رمضان " السيرة " فبقي يدرس في كل يوم ميعاداً ويورده، فحفظها في شهر رمضان. وكان طيب الصوت صاحب فنون، يروي عن أبي عبد الله الأزدي، وأخذ عنه أئمة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في رمضان سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاثين وست مئة أو نحوها.
محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرمويالشيخ الإمام العلامة المحقق صفي الدين أبو عبد الله الشافعي الأشعري المعروف بالهندي.

كان قيماً لفن الكلام، عارفاً بغوامضه التي خفيت عن السيف والإمام، لو رآه ابن فورك لانفرك، أو الباقلاني لقلا معرفته، ووقع معه في الدرك، أو أمام الحرمين لتأخر عن مقامه، أو الغزالي لما نسج " المستصفى " إلا على منواله ولا رصفه إلا على نظامه، أو ابن الحاجب لحمل العصا أمامه، وجعله دون الناس إمامه. مع سلامة باطن تنعته يوم حشره، وديانة طواها الحافظان له إلى يوم نشره، ومودة لا تنسى عهودها، ولا تجفو على كبره مهودها، وانعطاف على الفقراء وحنو، وبراءة من الكبرياء والعتو. أقرأ الكبار وأفادهم، وأفاض عليهم فضلة فضله وزادهم.
ولم يزل على حاله إلى أن تكدر للصفي مورد حياته، وناداه الموت بإغفال شياته، فبات الدين وقد ثلم هنديه، وثل عرش الأصول بل هد نديه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الثلاثاء تاسع عشري صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة بمنزله بالمدرسة الظاهرية بدمشق، ودفن في مقابر الصوفية.
ومولده في ليلة الجمعة ثالث شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وست مئة بالهند.
وكان له جد لأمه فاضل من أهل العلم هو شيخه، قرأ عليه ومات سنة ستين وست مئة، وخرج من دهلي البلد المشهور بالهند في شهر رجب سنة سبع وستين وست مئة، ودخل اليمن، وأقام بمكة نحواً من ثلاثة أشهر، واجتمع بابن سبعين.
ولما كان باليمن أكرمه المظفر وأعطاه أربع مئة دينار. ثم إنه ركب البحر، ودخل الديار المصرية في سنة سبعين، وخرج منها، ودخل البلاد الرومية وأقام بها إحدى عشرة سنة، منها خمسة بقونية، وخمسة بسيواس، وسنة بقيصرية. ودرس بقونية وسيواس، واجتمع بالقاضي سراج الدين الأرموي وأكرمه وأخذ عنه المعقول.
وخرج من الروم سنة خمس وثمانين وست مئة، وقدم دمشق وأقام بها واستوطنها وعقد حلقة الإشغال بالجامع الأموي وقرأ عليه الأعيان وفضلاء الناس، ودرس في دمشق بالروحانية والدولعية والأتابكية والظاهرية. وكان مقصوداً بالاستفتاء، ويكتب كثيراً في الفتاوى. وكان فيه خير وديانة وبر للفقراء يفطر في شهر رمضان عشرة من الفقراء الضعفاء.
وصنف في أصول الدين كتاب " الفائق " ، وكان يقوم في الليل فيتوضأ ويلبس أفخر ثيابه، وعلى ما قيل حتى الخف والمهماز، ويصلي ورده في جوف الليل، وكان يحفظ ربع القرآن لا غير. قيل عنه إنه قرأ يوماً في الدرس: " المص " ، مصدر يمص مصاً، ولم ينطق بها حروفاً مقطعة كما هو لفظ التلاوة.
وممن تخرج عليه الشيخ صدر الدين بن الوكيل وغيره، وأظن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أيضاً، وكان في بعض مدارسه ناظر لا ينصفه، فقال: هذه المدرسة يعمل فيها بآيتين من كتاب الله تعالى، المدرس: " ليس لك من الأمر شيء " ، والناظر: " لا يسأل عما يفعل " .
ولما عقد بعض المجالس للعلامة تقي الدين بن تيمية عين صفي الدين الهندي لمناظرته، فلما وقع الكلام قال لابن تيمية: أنت مثل العصفور تنط من هنا إلى هناك. وقيل: إن الشيخ تقي الدين ذكر ما هو المشهور في سبب تسمية المعتزلة بهذا الاسم، وهو أن واصل بن عطاء لما اعتزل حلقة الحسن البصري سمي بذلك معتزلاً، فيقال إن الشيخ صفي الدين قال: لا نسلم. فقال الحاضرون: ما يقال في نقل التاريخ لا نسلم، وكان ذلك سبب نصرة ابن تيمية. ومنها أن قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى قال لابن تيمية: هذا الكلام الذي يثلج الصدر. فقال له الشيخ كمال الدين بن الزملكاني: والله تسخر وجه الشافعية بتلك الحاجة لما كنت أنت حاكمهم، فقال لابن صصرى: لي يقال هذا الكلام؟ اشهدوا علي أني عزلت نفسي من القضاء، فانفصل المجلس على غضب ابن صصرى.
قلت: وما أنصف تقي الدين الهندي في قوله، لعله كان عنده سبب آخر لتسمية المعتزلة غير ذلك، إذ هو ممكن.
وما رأيت أضعف ولا أوحش من خطه ومن خط الشيخ شمس الدين بن الأكفاني، وقد تقدم ذكره. وقيل إنه أجري بين يديه ذكر خطه، فقال له بعض الطلبة: والله يا سيدي ما رأينا أوحش من خطك. فقال: والله البارحة رأيت كراساً أوحش من خطي. فقالوا له: هذا يمكن. فقام وأتى بالكراسة فإذا بها أوحش من خطه، واعترفوا بذلك، ثم إن ذلك الطالب تتبع الكلام إلى آخره فوجد آخره: وكتب محمد بن عبد الرحيم الأرموي. فقالوا: هذه بخطك، فأعجبه ذلك، وضحك.

وكان قد جاءه يوماً حمل دبس هدية من بعلبك، فأخذه الردادون الذين يقفون في الطريق لأجل المكس. فقالوا: هذا للشيخ تقي الدين الهندي. فقالوا: هاتوا خطه، فحضروا إليه وأخذوا خطه. وقد كتب: صفي الدين هندي في حمل دبس، إن يكن هو هو فهو هو وإلا فليس به، وكانت في لسانه عجمة الهنود.
محمد بن عبد الرحيم بن إبراهيمابن هبة الله البارزي، القاضي كمال الدين أبو عبد الله بن البارزي الجهني الحموي.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان رجلاً جيداً موصوفاً بالخير، عنده مروة وانقطاع، وكان من الفقهاء المدرسين، روى لنا عن جده، وسمع حضوراً من صفية القرشية.
توفي - رحمه الله تعالى - في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده في ثالث صفر سنة إحدى وأربعين وست مئة.
محمد بن عبد الرحيم بن عمرالجزري الباجربقي، بالباء الموحدة، وبعدها ألف وجيم وراء ساكنة وباء موحدة وقاف. الشيخ الزاهد ابن المفتي الكبير جمال الدين الشافعي.
وقد ذكرت والده في " التاريخ الكبير " .
كان أمره عجيبا، وحاله تجعل الولدان شيبا، خلب عقول الكبار من الفضلاء، وسحر بحاله السادة النبهاء النبلاء. لم نسمع عن أحد ما بلغنا عنه من الأمور الخارقه، والأحوال التي هي للعوائد مفارقه. حكى عنه جماعة فضلاء لا أتهم علومهم، ولا أستنزل حلومهم، حكايات ما أدري ما هي، ولا أعرف ما تضاهي، إلا أنها بعيدة عن تصديق عقلي بها، نائبة عن انفعال نفسي لصحتها عند تقليبها.
ولكن شاع هذا عند كثير من أهل عصري، وأخذ كل منهم على ذلك إصري، فما أدري ما أقول، إلا أن جماعة كفروه وأخرجوه عن حمى الإسلام ونفروه، والله يعلم السرائر وما تنطوي عليه الضمائر، وحكم بإراقة دمه من دمشق. وكان يكون ذلك درية للسيوف عند المشق.
وضاقت خطة فخلصت منها ... خلوص الخمر من نسج الفدام
وفر إلى الديار المصرية، وانقطع بالجامع الأزهر. وأتى هناك بأشياء مما أتى به في دمشق وأشهر، ثم إنه عاد إلى دمشق بعد مدة مديدة، وأقام بالقابون. واستمر الناس يترددون إليه وينتابون.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه ما أعجز الأوائل والأواخر رده، وفصل أوصاله الذي لا يلف على طول المدى خده.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
كان والده الفقيه قد تحول بولديه بعد الثمانين إلى دمشق، وسمعا من ابن البخاري، وجلس أبوهما للإفتاء. ودرس ومات وقد شاخ، فتزهد محمد هذا. وحصل له حال وكشف وانقطع، وصحبه جماعة فهون لهم الشرائع، وأراهم بوارق شيطانية، وكانت له قوة نفسانية فعالة مؤثرة، فقصده الشيخ صدر الدين بن الوكيل وقلده جماعة في تعظيمه، وكان ممن قصده الشيخ مجد الدين التونسي النحوي، فسلكه على عادته، فجاء إليه في اليوم الثالث في الوقت الذي قال له يعود فيه، وقال له: ما رأيت؟ وقال: وصلت في سلوكي إلى السماء الرابعة. فقال له: هذا مقام موسى بن عمران بلغته في ثلاثة أيام، فرجع الشيخ مجد الدين إلى نفسه وتوجه إلى القاضي المالكي وحكى له ما جرى وجدد إسلامه. وطلب الباجربقي وحكم بإراقة دمه القاضي جمال الدين المالكي قاضي القضاة بمحضر جماعة من العلماء في يوم الخميس ثاني ذي القعدة سنة أربع وسبع مئة. وفي سابع عشر رمضان حكم قاضي القضاة تقي الدين الجنبلي بحقن دمه بحكم عداوة الشهود، وذلك في سنة ست وسبع مئة، وكان الشهود عليه مجد الدين التونسي وعماد الدين محمد بن مزهر، والشيخ أبو بكر شرف الصالحي، وجلال الدين بن النجاري خطيب الزنجلية، ومحيي الدين بن الفارغي، والجمال إبراهيم بن الشيخ إسماعيل اللبناني. والذين شهدوا بالعداوة ناصر الدين بن عبد السلام، والشريف زين الدين بن عدنان، وأخوه، والقاضي قطب الدين ابن شيخ السلامية، وشهاب الدين الرومي، وشرف الدين قيروان الشمسي، فاختفى وتوجه إلى مصر وانقطع بالجامع الأزهر، وتردد إليه جماعة.

وحكى لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني حكايات عجيبة وأموراً غريبة، وحكى لي غيره من مادتها أشياء ليس للعقل فيها مجال. وحكى لي عنه القاضي شهاب الدين بن فضل الله أن أمين الدين سليمان رئيس الأطباء حكى له عنه، قال: كنت يوماً عنده في البستان الذي كان فيه، فجاء البستاني وهو من أهل الصحراء العوام، فقال له ابن الباجربقي: اقعد. فقعد ورمق الشيخ وقال للفلاح: تحدث مع الريس أمين الدين، قال: فأخذ ذلك الفلاح يتحدث معي في كليات الطب وجزيئاته وأنواع العلاج وخواص المفردات إلى أن أذهل عقلي، ثم بعد ساعة شال الشيخ رأسه من عبه فبطل ذلك الكلام، وسألت الفلاح فقال: والله ما أردي ما قلت، ولكن شيء جرى على لساني ما أدري.
وقد حكي عنه عجائب من هذا. وكان الشيخ صدر الدين يتردد إليه كثيراً، ويجلس بين يديه ويحصل له بهت في وجهه ويضع كفه على ضقنه ويخللها بأصابعه:
عجب من عجائب البر والبح ... ر وشكل فرد ونوع غريب
وشهد عليه مجد الدين التونسي، وخطيب الزنجلية، ومحيي الدين ابن الفارغي، والشيخ أبو بكر بن مشرف بما أبيح به دمه، وجن أبو بكر هذا أياماً ثم عقل.
وحكي عنه التهاون في الصلوات وذكر النبي صلى الله عليه وسلم باسمه من غير تعظيم ولا صلاة عليه، يقول: ومن هذا محمدكم؟! فحكم القاضي جمال الدين الزواوي المالكي بإراقة دمه، فاختفى وسافر. وسعى أخوه بجاه بيبرس العلائي إلى القاضي الحنبلي، فشهد نحو العشرين أن الستة بينهم وبينه عداوة، فعصم الحنبلي دمه، وغضب المالكي، وجدد الحكم بقتله. ثم إنه جاء بعد مدة ونزل بالقابون، وأقام به إلى أن مات وله ستون سنة.
ومما قيل عنه إنه قال: إن الرسل طولت على الأمم الطريق إلى الله تعالى.
قلت: بدون هذا يباع الحمار، بدون هذا يسفك ألف دم من هذا وأمثاله.
محمد بن عبد الرحيمالخطيب محيي الدين شيخ بعلبك، ومسندها، وشيخ الكتابة.
حدث عن ابن عبد الدائم، والقاسم الإربلي، والرشيد العامري، وابن هامل، وطائفة. وسمع الكثير، وكتب المنسوب.
وكان مليح الشكل عاقلاً صيناً.
توفي - رحمه الله تعالى - في تاسع شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة عن خمس وثمانين سنة.
محمد بن عبد الرحيم بن عليالقاضي شرف الدين الأرمتني.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوني: كان فقيهاً ذا ورع ونزاهة ومكارم، وتولى الجكم بقنا، ثم ارتحل إلى مصر، وتولى الحكم بإطفيح، ثم بمنية بني خصيب وأبيارفوة ودمياط والفيوم وسيوط. قال: وكان قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة يرعاه ويكرمه لما اتصف به من النزاهة، ولا يأكل لأحد شيئاً مطلقاً سواء كان من أهل ولايته أو غيرهم، غير أنه كان يقف مع حظ نفسه ويحب التعظيم وأن يقال عنه رجل صالح، وإذا فهم من أحد أنه لا يعتقده يحقد عليه ويقصد ضرره، ويرى أنه إذا عزل عن ولاية لا يتولى أصغر منها ويعالج الفقر الشديد، وعزله قاضي القضاة جلال الدين القزويني من سيوط ثم عرض عليه دونها فلم يوافق مع شدة ضرورته، واستمر بطالاً.
قلت: ما أحقه بقول الأول:
لإاصبحت بعد ذاك تفسو ... فما سوى عطرها فساها
قال: وكان يحفظ " التنبيه " حفظاً متقناً معرباً. وكان قليل النقل والفهم، وله في الحكم حرمة وقوة جنان.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بمصر في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة فيما يغلب على الظن.
محمد بن عبد الرحيم بن عباسابن أبي الفتح بن عبد الغني بن أبي محمد بن خلف بن إسماعيل القرشي، الشيخ شرف الدين أبو الفتح المعروف بابن النشو.
كان حسن الشكل، فيه أمانة ومعرفة. وسافر في التجارة إلى بغداد وديار مصر. وكان له ملك.
أسمعه خاله الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الغني القرشي ابن النشو بالقاهرة من ابن رواج، ويوسف الساوي، وفخر القضاة ابن الجباب، وابن الجميزي بهاء الدين، وغيرهم. وسمع أيضاً بدمشق.

وخرج له فخر الدين البعلبكي " مشيخة " في أربعة أجزاء عن نحو عشرين شيخاً. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأتها عليه، ومن الأجزاء التي تفرد بها بدمشق، وقرأتها عليه مراراً كتاب " المحدث الفاصل " الذي للرامهرمزي سبعة أجزاء، و " مشيخة وكيع ابن الجراح " ، وحديث إسماعيل الصفار عن الصغاني والدوري، و " مسند عائشة " للمروزي، والأجزاء الثلاثة من " المحامليات " : السادس والسابع والتاسع من المركبات وغير ذلك.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث شوال سنة عشرين وسبع مئة، ودفن برا الباب الصغير.
ومولده في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وست مئة.
محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطيقطب الدين، الفقيه الشافعي.
سمع من الحافظ الدمياطي، وقاضي القضاة ابن جماعة، وغيرهما. وتفقه على ظهير الدين التومنتي، وتقي الدين بن رزين. وبرع في مذهب الشافعي. وأفتى، ودرس، وتصدر للإشغال، وانتفع به الطلبة. وكان كثير النقل حافظاً للفروع ساكناً متديناً. وناب في الحكم في القاهرة، وولي الوكالة بالديار المصرية، ودرس بالفاضلية والحامية، وأعاد بالصالحية، وصنف تصحيحاً لكتاب " التعجيز " و " أحكام المبغض " .
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده بشبرا من الغربية سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
قول أصحاب الشافعي رضي الله عنه: إن الراهن والمرتهن إذا تشاحا في الرهن يكون عند من يسلمه الحاكم إلى عدل صورة التشاحح مما يسأل عنه.
فإنه إن كان قبل القبض فالتسليم غير واجب، وإن كان بعد القبض فلا يجوز نزعه ممن هو في يده.
وكان الشيخ قطب الدين السنباطي - رحمه الله تعالى - يصور ذلك فيما إذا وضعاه عند عدل ففسق، فإن يده تزال والرهن لازم، فإذا تشاحا حينئذ فمن يكون تحت يده اتجه اختيار الحاكم وكذلك لو رضيا بيد المرتهن لعدالته حين القبض ثم فسق ينبغي أن يكون كذلك.
قلت: هذه الكذلكة الثانية لا فائدة فيها فإنها هي الأولى بعينها.
محمد بن عبد العظيم بن علي بن سالمجمال الدين بن السقطي القاضي الشافعي.
كان رئيساً عاقلاً لبيباً وقوراً، من قضاة العدل، تولى نيابة الحكم بمصر والجيزة والقاهرة والقليوبية سنين كثيرة، ولم يؤخذ عليه في حكم حكم به، ولا نقص عليه أمر أبرمه. شهد عنده جماعة في قضية فتثبت فيها وركب إلى القرافة وقرأ تاريخ الوفاة من المشهود عليه، ورجع الجماعة إليه، فقال لهم: امضوا إلى قبره، واقرؤوا تاريخ الوفاة، فوجموا لذلك.
وله حكايات في التوقف وعدم التسامح في الأحكام. ودرس بالطيرسية بمصر وبالجامع الأقمر.
وسمع الحديث من ابن الصابوني، وأجز له ابن باقا. وترك القضاء مدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الاثنين حادي عشر شعبان سنة سبع وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين أو ثلاث وستين وست مئة.
ومن تشدده - رحمه الله تعالى - ما حكاه الفاضل كمال الدين الأدفوي قال: حكى لي العالم الفقيه أبو إسحاق إبراهيم الإسنائي قاضي قوص قال: وقعت لشخص عنده قضية احتيج فيها إلى التعريف، فقال له: أحضر من يعرف بك. فأحضر الشيخ علاء الدين الباجي، فقام إليه وأجلسه معه وبجله، فقال ذلك الشخص: سيدي علاء الدين يعرف بي، فقال القاضي: سيدي علاء الدين أكبر من ذلك، امض وأت بمن يعرف بك.
قال: وقال لي صاحبنا أبو عبد الله محمد الإخميمي الشهير بابن القاسح: طلبت من قاضي القضاة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ولاية العقود بالقاهرة وسألته أن يفوض ذلك إلى ابن السقطي فقال: ما يفعل، قلت: بلى يفعل. فقال: أنا أقرب في ذلك منه.
وله حكايات في التثبت والاحتياط والاحتراز معروفة مشهورة بين المصريين.
محمد بن عبد الغني بن عبد الكافيابن عبد الوهاب بن محمد بن أبي الفضائل، الشيخ زين الدين الأنصاري بن الحرستاني.
سمع من ابن صباح، وابن اللتي، وغيرهما.
وحدث بالدارمي، قرأه عليه بن حسيب، وكان ذهبياً بقيسارية المد، وله حرمة ووجاهة ببلده لدينه ومكارمه، وكان حافظاً للحكايات والأشعار يوردها إيراداً جيداً، وكان يلقب بالنحوي.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة.
محمد بن عبد الغني بن محمدابن يعقوب بن إلياس، الشيخ شمس الدين بن عز الدين ابن قاضي حران، الحموي النحوي.

كان متصدراً بجامع حماة الأعلى لللإقراء، وفقيهاً في المدارس، وله خصوصية بالأمير بدر الدين حسن بن الأفضل، وله عنده منزلة.
توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن صفر سنة ثمان عشرة وسبع مئة.
محمد بن عبد القادرابن عثمان بن منهال المصري، الصدر عز الدين.
كان رجلاً جيداً عارفاً، ولم يكن رأى دمشق، فنزل بالمدرسة الإقبالية الحنفية.
قال شيخنا البرزالي: فاجتمعت به وذاكرني في مروياته ومسموعاته، وكان له ميل إلى أن يخرج له شيء، وكان له شعر، وتولى إمامة الجامع الحاكمي بالقاهرة.
وسمع من الحراني، وشامية، والصفي خليل، وطبقتهم.
وأجاز له جماعة من المتأخرين من أصحاب البوصيري، وجمع شيوخه بالإجازة، ورتبهم فزادوا على الألف.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشر جمادى الأولى سنة تسع وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون في تربة ابن الجوخي.
ومولده سنة إحدى وستين وست مئة.
محمد بن عبد القوي بن بدرانالإمام المفتي النحوي شمس الدين أبو عبد الله المقدسي المرداوي الحنبلي.
قدم الصالحية، وتفقه على الشيخ شمس الدين وغيره.
وبرع في العربية واللغة، وأقرأ ودرس وأفتى وصنف، وكان حسن الديانة، دمث الأخلاق. ولي تدريس الصاحبية، وكان يحضر دار الحديث ويشغل بها وبالجبل.
وسمع من خطيب مردا، ومن محمد بن عبد الهادي، وعثمان بن خطيب القرافة، ومظفر بن الشيرجي، وإبراهيم بن خليل، وابن عساكر تاج الدين.
وله قصيدة دالية في الفقه، وكان على ذهنه حكايات ونوادر. وقرأ النحو على الشيخ جمال الدين بن مالك وغيره. وأخذ عنه القاضيان شمس الدين بن مسلم، وجمال الدين بن جملة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده بمردا سنة ثلاثين وست مئة.
محمد بن عبد الكريم بن علي التبريزيالمقرئ المعمر نظام الدين.
سافر مع أبيه للتجارة وأقام بحلب، وسمع من ابن رواحة، وقال: سمعت بها من بهاء الدين بن شداد. وكمل القراءات سنة خمس وثلاثين وست مئة على السخاوي إفراداً وجمعاً، وتلا بحرف أبي عمرو بالثغر على أبي القاسم الصفراوي، وبمصر على ابن الرماح. وتلا به ختماً على المنتخب الهمذاني.
ثم استوطن دمشق وأم بمسجد وأقرأ بحلقة، وكان ساكناً متواضعاً كثير التلاوة. قرأ عليه شيخنا الذهبي لأبي عمرو، وسمع منه " حرز الأماني " بقراءة ابن منتاب.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وسبع مئة.
ومولده بتبريز سنة ثلاث عشرة وست مئة.
محمد بن عبد الكريم بن محمد بن محمدالصدر مجير الدين بن المغيزل.
كان قد تولى نظر الدواوين بحماة.
وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبع مئة.
وقد تقدم ذكر والده شرف الدين في حرف العين مكانه.
محمد بن عبد الكريم بن محمد بن عليالشيخ الإمام العالم الزاهد الورع شمس الدين أبو عبد الله القرشي بن الشماع.
كان فاضلاً، من أعيان الفقهاء، وله مشاركة في القراءات والحديث والأصول والنحو، سمع من أصحاب الخشوعي وابن طبرزد، وحصل النسخ، وقرأ وحدث وتزهد مدة.
أقام بصفد في أواخر عمره إلى أن مات بها - رحمه الله تعالى - في مستهل جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبع مئة.
محمد بن عبد اللطيف بن يحيىابن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن تميم بن حامد، أقضى القضاة تقي الدين أبو الفتح بن أبي البركات بن أبي زكريا الأنصاري الخزرجي السبكي الشافعي.
أجاز له لما ولد جماعة من المسندين منهم الحافظ شرف الدين الدمياطي، وفي تلك السنة توفي.
وأحضره أبوه علي أبي العباس أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي، وأبي الحسن علي بن محمد بن هارون الثعلبي، وأبي المحاسن يوسف بن المظفر بن كوركيك الكحال، وأبي الحسن علي بن عيسى بن سليمان بن القيم، وغيرهم.

وأجاز له في سنة سبع وسبع مئة خلق من أعيان المشايخ بالديار المصرية والشامية يطول ذكرهم. ثم سمع بنفسه من خلق بالقاهرة ومصر وأعمالها ومكة والمدينة ودمشق بقراءته وقراءة غيره كأبي علي الحسن بن عيسى بن خليل الهكاري وأبي الحسن علي بن عمر بن أبي بكر الواني وأبي الهدى أحمد بن محمد بن علي بن شجاع العباسي، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ومحمد بن عبد الحميد بن محمد الهمذاني، وعبد الله بن علي بن عمر بن شبل الحميري، ويوسف بن عمر بن حسين الختني، وأحمد بن أبي طالب الصالحي، ويحيى بن يوسف المقدسي، ومحيي الدين بن فضل الله، وعلي بن إسماعيل المخزومي، ومحمد بن عبد المنعم الصواف، وأبي بكر بن يوسف بن عبد العظيم المصري، وخلائق يطول ذكرهم. وسمع العالي والنازل، وكتب بنفسه وخرج وانتقى وحصل.
وقرأ القرآن بالسبع في ختمات على شيخنا العلامة أبي حيان، وأجاز له بإقرائه حيث شاء متى شاء، وكتب له خطه بذلك.
وقرأ الفقه على مذهب الشافعي، وغيره من العلوم على شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وقرأ الفقه أيضاً على جدهيحيى بن علي وعلى الشيخ قطب الدين السنباطي. وقرأ الفقه أيضاً على ذي الفنون أبي علي الحسين بن علي الأسواني، ولازمه مدة طويلة، واشتغل بأصول الفقه على جده يحيى.
وقرأ النحو على شيخنا العلامة أثير الدين، لازمه نحواً من سبعة عشر عاماً، وشرح عليه " تقريب المقرب " تصنيفه، وكتاب " التسهيل " لابن مالك، وأجازه بإقرائهما، وسمع عليه كثيراً من " شرحه للتسهيل " ، وكثيراً من " كتاب سيبويه " سماعاً وشرحاً، وسمع عليه كثيراً من شعره بقراءتي أنا، وسمع عليه من شعر غيره، وكثيراً من المرويات الأدبية. وسمع عليه " مقامات " الحريري بقراءتي أنا، وقرأ كتاب " لباب الأربعين " وكثيراً من علم الخلاف على شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي. وقرأ كتاب " مطالع الأنوار " مرتين على الشيخ تاج الدين التبريزي، وسمع عنده كثيراً من الكتب المنطقية والخلافية والأصولية. وجالس في الأدب شيخنا العلامة ناصر الدين شافع بن علي وسمع عليه من شعره وتصانيفه، ومدحه بأبيات منها:
رأت العدا عباس جدك طاهراً ... فأتوا إلى عليا نداك بشافع
كان هذا أقضى القضاة تقي الدين من أصح الناس ذهناً وأذكاهم فطرة كما سفر البدر وهناً.
شارك في فنون، وعارك في عدة علوم خاض منها في شجون، عمل في القراءات عملاً بخل الزمان به على السخاوي، وكسر له ابن جبارة فما يقاومه ولا يقاوي.
وجد في سماع الحديث، وقرأ بنفسه، فما عند السلفي منه نقده، ولا ابن عساكر لو لاقاه لولى فراراً وهو وحده.
واشتغل بالفقه فلو أن الماوردي في زمانه ما تسمى أقضى القضاه، أو رآه الروياني نشف بحره في فضاه.
ودأب في الأصول فما للآمدي في مداه خطوه، ولا لابن خطيب الري ري إذا رقا من المنبر على ذروه.
وأكب على العربية حتى أطار ابن عصفور عن هذا الفن، وغدا الزجاجي يكسر قواريره على ضنه بما ظن. وحضر مآدب الأدب حتى افتقر صاحب الذخيرة وجعل صاحب " القلائد " مع الحصيري على حصيره. وكتب فروض المهارق، وأخمل بخطه الخمائل، وقد أحدقت بها زهر الحدائق. ونظم الشعر الذي ترقرق وانسجم. ولام الناس صاحب " لامية العرب " و " لامية العجم " :
لفظ كأن معاني السكر تسكنه ... فمن تحفظ بيتاً منه لم يفق
إذا ترنم شاد لليراع به ... لاقى المنايا بلا خوف ولا حرق
وأما الدين فإنه تمسك منه بالحبل المتين، وأما الورع فكان معلقاً منه في الوتين، له في ذلك عجائب، وأخبار تحملها الصبا والجنائب، قدم على شيخنا العلامة شيخ الإسلام وهو مقيم بالشام وعاد إلى القاهرة ثم زاره ثانياً فأمسكه إمساك غريم ألد، وألزمه بنيابته فسلك فيها الطريق الأسد بالأمر الأشد.
ولم يكن يزل على حاله إلى أن جر أبو الفتح إلى لحده، وطوت شقة الأيام منه نسيج وحده.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة السبت ثاني عشر ذي القعدة سنة أربع وأربعين وسبع مئة.

وكان قد نزل بالمدارس بالقاهرة وتولى الإعادة للفقهاء بالمشهد الحسيني والمدرسة السيفية في حدود سنة عشرين وسبع مئة. ودرس بالمدرسة السيفية المذكورة سنة أربع وعشرين وسبع مئة نيابة عن جده أبي زكريا يحيى، واستقر التدريس بها باسمه، ولم يزل بها مدرساً مع ما أضيف إليه من الوظائف إلى أن باشر التصدير بالجامع الطولوني وغيره لما توجه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي إلى الشام وولي القضاء بالمقسم ظاهر القاهرة.
ثم إنه ورد الشام وتولى تدريس المدرسة الركنية الجوانية وخلافة الحكم العزيز بالشام والتصدير بالجامع الأموي.
وكان - رحمه الله تعالى - شديد الورع متحرزاً في دينه محتاطاً لنفسه، درس بالركنية فحكى لي بعض الفقهاء أنه كان لا يتناول منها ما فيها من الجراية ويقول: تركي لهذا في مقابلة أني ما يتهيأ لي فيها الصلوات الخمس. وكان سديد الأحكام بصيراً بمواقع الصواب فيها.
وكتب إلى شيخنا العلامة أبي حيان مع خشكنانج جهزه إليه بعد عيد الفطر:
أهنيك بالعيد الذي حل عندنا ... خلعت عليه من علاك جلال
وحاولت تعجيل البشارة والهنا ... فأرسلت من قبل الهلال هلال
ومن شعره - رحمه الله تعالى - :
والله لم أذهب لبحر سلوةً ... لكم ولا تفريج قلب موجع
لكنه لما تأخر مدةً ... أحببت تعجيل الوفاء بأدمعي
ومنه:
منذ بعدتم فسروري بعيد ... وبعدكم لم أتمتع بسعيد
وكيف يهوى العيد أو نزهة ... شهيد وجد ودموع تزيد
فالبحر من تيار دمعي له ... يبكي به والعيد عيد الشهيد
وكنت قد كتبت إليه في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبع مئة:
تقي الدين يا أقضى البرايا ... ويا رب النهى والألمعية
ويا من راح أثنيتي عليه ... تضوع كمسك فطرته الذكية
أهز إلي منك بجذع علم ... فوائده تساقط لي جنية
لأنك لا تسامى في علوم ... نزلت بها منازلك العلية
ونظمك نظم مصري طباعاً ... حلاوته لذلك قاهرية
ودأبك فتح باب النصر حقاً ... وغيرك شغله بالباطلية
أفدنا إننا فقراء فهم ... لما تملي فضائلك الغنية
تقرر أن فعالاً فعولاً ... مبالغتان في اسم الفاعلية
فكيف تقول فيما صح منه ... وما الله بظلام البرية
أيعطي القول إن فكرت فيه ... سوى نفي المبالغة القوية
وكيف إذا توضأنا بماء ... طهور وهو رأي الشافعية
أزلنا الوصف عنه بفرد فعل ... وذاك خلاف رأي المالكية
فأوضح ما ادلهم علي حتى ... تغادرني على بيضا نقية
فإن يدنو ظلام الشك مني ... فإنك ذو قناديل مضية
ودم للمشكلات تميط عنها ... أذى فهم لأذهان مدية
فكتب الجواب إلي عن ذلك، وأجاد:
جلوت علي ألفاظاً جلية ... وسقت إلي أبكاراً سنية
ونظمت الجواهر في عقود ... فأزرت بالعقود الجوهرية
وأبدعت المسير من نظام ... فما لمسير عندي مزية
لآل مثل بدر التم نوراً ... ولكن في النهار لنا مضية
حلاوتها تخالط كل قلب ... ومن حشو وحوشي نقية
أتت من حافظ الآداب طراً ... وقلبي مغرم بالحافظية
وتعزى للخليل فما فؤادي ... يميل هوى لغير السكرية
فهمت بما فهمت من المعاني ... ولم أظفر بنكتتها الخفية
لأن العجز مني غير خاف ... ومالي في العلوم يد قوية
تأفف صاغة الآداب مني ... ومالي للإجابة صالحية
ومن جاء الحروب بلا سلاح ... كمن عقد الصلاة بغير نية
فخذ ما قد ظفرت به جواباً ... فما أنا قدر فطرتك الذكية
فظلام كبزاز وأيضاً ... فقد يأتي بمعنى الظالمية

وقد ينفى القليل لعلة في ... فوائده بنفي الأكثرية
وقد ينحى به التكثير قصداً ... لكثرة من يضام من البرية
وأما قوله ماء طهور ... ونصرته لقول المالكية
فجاء على مبالغة فعول ... وشاع مجيئه للفاعلية
وقد ينوى به التكثير قصداً ... لكثرة من يروم الطاهرية
وأيضاً فهو يغسل كل جزء ... ولاء وهو رأي الشافعية
فخذها من محب ذي دعاء ... أتى منه الروي بلا روية
له فيكم موالاة حلت إذ ... أصول الود منه قاهرية
فإن مرت إذا مرت فعفواً ... فإن الستر شيمتك العلية
فمرسل شعره ما فيه طعم ... تجاب به القوافي السكرية
وأورد له قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب السبكي في " الطبقات الصغرى " له، قال: وأنشدني أبو الفتح لنفسه بقراءتي عليه:
إذا رمت تعداد الخلائف عدهم ... كما قلته تدعى اللبيب المحصلا
عتيق وفاروق وعثمان بعده ... علي الرضى من بعده حسن تلا
معاوية ثم ابنه وحفيده ... معاوية وابن الزبير أخو العلا
ومروان يتلوه ابنه ووليده ... سليمان وافى بعده عمر ولا
يزيد هشام والوليد يزيدهم ... سناهم وإبراهيم مروان قد علا
بسفاح المنصور مهدي ابتدي ... وهاد رشيد للأمين تكفلا
وأعقب بالمأمون معتصم غدا ... بواثقه يستتبع المتوكلا
ومنتصر والمستعين وبعده ... لمعتز المتلو بالمهتدي انقلا
ومعتمد يقفوه معتضد وعن ... سنا المكتفي يتلوه مقتدر سلا
وبالقاهر الراضي تعوض متق ... وبالله مستكف مطيع تفضلا
وطائعهم لله بالله قادر ... وقائمهم بالمقتدي استظهر العلا
ومسترشد والراشد المقتفى به ... ومستنجد والمستضي ناصر تلا
وظاهرهم مستنصر قد تكلموا ... بمستعصم في وقته ظهر البلا
ومستنصر وحاكم وابنه ولم ... يقم واثق حتى أتى حاكم الملا
فدونكها مني بديهاً نظمته ... فإن آت تقصيراً فكن متطولا
وكتب له شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى:
أجدت تقي الدين نظماً ومقولاً ... ولم تبق شأواً للفضائل والعلا
فمن رام نظماً للأئمة بعدها ... يؤم محالاً خاسئاً ومجهلا
قلت: لم يذكر تقي الدين - رحمه الله تعالى - إبراهيم بن المهدي، وكان قد تولى بعد الأمين، ولا ابن المعتز في خلفاء بني العباس، لأنه بويع له في حياة المقتدر بعدما خلع، وكانت بيعة ابن المعتز يوم السبت لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومئتين، وأقعد في دار الداية، وسلم عليه بإمرة المؤمنين، لأن أولياء الأمر قالوا: المقتدر غير بالغ، ثم كان أمر ابن المعتز يوم السبت وبعض يوم الأحد، ثم فسد أمره وبطل لأن غلمان المقتدر صعدوا في الطيارات في الماء وصاحوا من دجلة، فخاف أصحاب ابن المعتز وتفرقوا، وأخذ وقتل وأعيد المقتدر. وفي ابن المعتز قال القائل:
لله درك من ملك بمضيعة ... واف من العلم والعلياء والحسب
ما فيه لو ولا لولا تنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
وفي قوله - رحمه الله تعالى - : " ووليده سليمان " تجوز يوهم من لا علم له أو وليده سليمان واحد، ومراده اثنان لأنه قال: " ومروان يتلوه ابنه " ، يعني به عبد الملك، وولي بعد عبد الملك ابنه الوليد الذي عمر الجامع الأموي، ثم تولى بعده سليمان، فقوله: " ووليده سليمان " كان ينبغي أن يأتي بينهما بفيصل، لأن لفظة الوليد مشتركة بين الولد والعلم.

وقد نظم الشيخ برهان الدين الجعبري - رحمه الله تعالى - قصيدة في هذه المادة مليحة ذكر الخلفاء إلى آخر وقت كلا منهم بلقبه وعمره ومدة خلافته، لكنها بخلاف بحروف الجمل، وقد ذكرتها مستوفاة في الجزء الرابع عشر من " التذكرة " التي لي. وله قصيدة أخرى نونية مردفة بألف، ذكر ذلك بعد حروف الجمل، بل ذكره تصريحاً.
ولشيخنا الذهبي أبيات قليلة ضمنها أسماء الخلفاء أيضاً في ثمانية أبيات ذكرتها أيضاً في هذا الجزء، وللرشيد الكاتب قصيدة رجز في ذكر الخلفاء، وقد أودعتها في الجزء السابع والثلاثين من " التذكرة " التي لي، وبعضهم نظم الخلفاء المصريين وما رأيت من نظمهم غيره، وهي:
الأول المهدي ثم القائم ... وبعده المنصور ذاك العالم
ثم المعز بعده العزيز ... والحاكم المبرز الإبريز
والظاهر المشهور والمستنصر ... في عهده شخص الهدى مستبصر
والمصطفى للدين والمستعلي ... وآمر والحافظ المستتلي
والظاهر المذكور ثم الفائز ... والعاضد الأخير ذاك الفائز
ونظم أبو الحسين الجزار أرجوزة سماها: " العقود الدرية في الأمراء المصرية " ، ذكر فيها من حكم في مصر من أول الإسلام إلى آخر أيام السعيد بن الظاهر، ثم كمل على ذلك فيما أظن الشيخ علاء الدين بن غانم إلى آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون في الدولة الثانية، ثم كمل عليها القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى آخر أيام الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد، ثم إنني أنا كملت عليها إلى آخر وقت، وهي جميعها في الجزء الرابع من " التذكرة " التي لي.
محمد بن عبد الله بن أحمدالقاضي شرف الدين بن الصاحب فتح الدين القيسراني المخزومي.
روى " جزء ابن عرفة " عن ابن عبد الدائم، وسمع من الفقيه اليونيني، وإبراهيم بن خليل، وجماعة.
ولد بحلب سنة ثمان وأربعين وست مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الجمعة مستهل شعبان سنة سبع وسبع مئة.
وكان من بيت حشمة وصداره، وكتابة ووجاهة وعباره، وسيادة تسفل عن مراقي مراتبهم النجوم السياره. جملوا الممالك وصانوها، وزادوا الدول بهجة بألفاظهم وزانوها.
وكان القاضي شرف الدين هذا إذا كتب أخذ أرض الطرس ظخرفها وازينت. وعدت من الخيرات اليمانية وتعينت. نظم كأنه القلائد، ونظم يشبه الدر على لبات الخرائد، كله منتخب، وكله وجه غانية كأنه بالحسن البارع قد انتقب:
كأن طروسه روض نضير ... وأزهار المعاني فيه غضه
فكم نال الأديب بها غناه ... لأن كلامه ذهب وفضه
وكان متين الديانة، متوشحاً بالصيانه، معروفاً بالعفة والأمانه، وكان يلازم تلاوة القرآن، لا يخل بذلك في ولا أوان. يقرأ القصص، وإذا فرغ منها عاد إلى التلاوة على الراتب. وإذا مر بآية سجدة دار إلى القبلة وسجد وظهره إلى النائب. وتبرم منه النائب وشكاه، وذكر للسلطان وغيره وحكاه، فما رجع عن عادته، ولا ترك ذلك من سعادته.
ولم يزل على حاله إلى أن سكن نبضه وبطل من بيت المال قبضه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور.
أخبرني شيخنا الحافظ أبو الفتح بن سيد الناس قال: كان القاضي شرف الدين قد توجه صحبة السلطان إلى غزوة، فرأيته في المنام كأنه منصرف عن الواقعة، وقد نصر الله المسلمين فيها على التتار، فأخبرني بما فتح الله به، فنظمت في المنام بيتين، واستيقظت ذاكراً للأول منهما وهو:
الحمد لله جاء النصر والظفر ... واستبشر النيران: الشمس والقمر
فكتبت إليه أعلمه بذلك، فكتب إلي الجواب عن ذلك:
أيا فاضلاً تلهي معاني صفاته ... فكل بليغ فاضل من رواته
ومن يستبين الفهم من لحظاته ... له أمر بالرشد في يقظاته
وفي النوم يهديه لخير الطرائق
ومن قربه غايات كل فضيلة ... وأشطره تزهى بزهر خميلة
وجملته في الناس أي جميلة ... فإن قام لم يدأب لغير فضيلة
وإن نام لم يدأب لغير الحقائق

يقبل اليد العالية الفتحية فتح الله أبواب الجنة بها ولها، وأسعد خاطره الذي ما اشتغل عن الصواب ولا لها، ومشتهى خلقه الذي لا أعرف لحسنه مشبهاً، تقبيل مشتاق إلى روايته ورؤيته، ونتائج بديهته ورويته، كتعطش إلى روائه وإروائه والتيمن بعالي آرائه، والتحلي به في هذه السفرة المسفرة بمشيئة الله تعالى عن الفلاح والنجاح، والغزوة التي لها الملائكة الكرام النجدة، والرايات النبوية السلاح، والحركة التي أخلص المسلمون لله تعالى رواحهم، وغدوهم، وتعلقت آمالهم بأنه سبحانه وتعالى يهلك عدوهم، فإنهم قد بغوا والبغي وخيم المصرع، وابتغوا الفتنة والفتنة لمثيرها تصرع. وقد تكفل الله تعالى بالملة المحمدية أن يديل دولتها، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله لا يسلط على هذه الأمة من يستبيح بيضتها، فلهذا ما أمضينا في السهر ليلا، ولا أنضينا في السفر خيلا، ولا رجونا إلا أن " نحمد السرى عن الصباح " ، وكدنا أن " نطير إلى الهيجاء زرافات ووحداناً " بغير جناح ولا جناح. وسمحنا بنفوس نفائس في طلب الجنة والسماح رباح، وينهي أن المشرف العالي ورد إليه فتنسم أرواح قربه، وأوجد مسرات قلبه، وأعدم مضرات كربه، وأبهجه الكتاب بعبير رياه، وألهجه الخطاب تعبير رؤياه، فرأى خطه وشياً مرقوما، ولفظه رحيقاً مختوما، ووجده محتوياً على درر كلامية وبشر مناميه، وحديث نفس عصاميه.
نرجو من الله أن نشاهد ذلك أيقاظا، ونكون لأبنائه حفاظا.
وهو كتاب طويل. وأجاب عنه شيخنا فتح الدين، وقد أثبتهما في الجزء الأول من " التذكرة " التي لي.
محمد بن عبد الله بن المجد إبراهيمالشيخ الكبير المشهور الصالح المرشدي.
قرأ على ضياء الدين بن عبد الرحيم، وتلا على الصائغ. وكان فقيهاً شافعي المذهب. وكانت له أحوال وهمة عظيمة، في خدمة الناس على مر السنين والأحوال، يطعم الناس الذين يردون عليه، ويأتي لكل واحد بما في خاطره ويقدمه بين يديه، اشتهر هذا الأمر عنه وذاع، وامتلأت به النواحي والبقاع. ولو ورد عليه من الألف نفس فما دونها أو جاؤوه في أي وقت كان من غير هدية يهدونها وجدوا ما يكفيهم ويكفي دوابهم وشيوخهم وشوابهم.
ولم يكن يقبل لأحد شيئاً البته. وتحيل الناس عليه في مثل هذا فحالما علم به رده بغته.
ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى خالقه على سداد، وسكن لحده إلى يوم المعاد.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وسبع مئة.
كان يحكي عجائب يحار لها السامع من إحضاره الأطعمة الكثيرة للواردين وكل من حضر وخطر بباله في الطريق قبل وصوله إليه شيء من المآكل الغريبة أحضره إليه ووضعه قدامه على الخصوص، وكان مقامه بقرية منية مرشد بالقرب من بلد فوه بالديار المصرية.
تحيل السلطان الملك الناصر محمد وجهز له مع الأمير سيف الدين بكتمر الساقي جملة من الذهب، فغالطه في قبولها ودسها معه في مأكول جهزه معه إلى السلطان. وحج في هيئة كبيرة وتلامذة.
أنفق في ليلة ما قيمته ألفان وخمس مئة درهم، وقيل: إنه أنفق في ثلاث ليال ما قيمته ألف دينار، وكان يأتيه الأمراء الكبار ومن دونهم من الفقراء، فيقوم بخدمتهم على أتم ما يكون، وقل من أنكر عليه، فاجتمع به إلا وزال ذلك من خاطره. وكان شيخنا فتح الدين بن سيد الناس ممن ينكر حاله ويشنع عليه، فما كان إلا أن اجتمع به، فسألته عنه، فقال: هو إنسان حسن. ثم إنه اجتمع به مرة ومرة، وكذلك الأمر ناصر الدين بن جنكلي كان ينكر عليه واجتمع به، وجرى بينهما تنافس في الكلام، ولم يجئ من عنده إلا وقد رضي به.
وأخبرني جماعة ممن توجه إليه وأقام عنده أن في مكانه مسجداً ومنبراً للخطيب يوم الجمعة، وكان يأمر الناس بالصلاة، ولم يصل مع أحد، وصلاة الجماعة لا يعدلها شيء. وأمره غريب والسلام، يتولى الله سريرته.
وكان قد عظم شأنه، ويكتب الأوراق إلى دوادار السلطان، وإلى كاتب السر، وإلى من يتحدث في الدولة بقضاء أشغال الناس بعبارة ملخصة موجزة على يد من يتقاضاه ذلك، ويقضي جميع ما يشير به، وما عظم واشتهر في الديار المصرية إلا بتردد القاضي فخر الدين ناظر الجيش إليه، فإنه كان يزوره كثيراً، فعظم لذلك محله في النفوس.

وبات في عافية، وأرسل إلى الذين من حوله ليحضروا إليه فقد عرض أمر مهم، فأتوه، فدخل خلوته وأبطأ، فطلبوه فوجدوه ميتاً في التاريخ المذكور.
والحكايات في شأنه تزيد وتنقص إلا أنه لا يدعي شيئاً، ولم يحفظ عنه شطح، حسن العقيدة، شافعي المذهب، وكان يخرج إلى الواردين أطعمة كثيرة من داخل مكانه، ولا يدخل إلى ذلك المكان أحد سواه.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي الأمير الوزير مغلطاي الجمالي رحمه الله تعالى، قال: توجهت إلى زيارة الشيخ محمد المرشدي، فلما قربت منه اشتهيت قمحية بلبن حليب بلحم رميس، فلما وصلنا جاء ومعه زبدية كبيرة فيها قمحية بلبن حليب بلحم رميس، وقال لي: كل. ثم بقي يغيب ويأتي بأشياء أخر ويضعها قدام مماليكي، وكلما أتى بشيء إلى واحد منهم تعجب منه ويقول: أنا والله كنت اشتهيه، وأحضر أكثر من عشرين لوناً ما يطبخ إلا في مطبخ السلطان.
قال: وحكى لي شهاب الدين أحمد بن مليح الإسكندري بالإسكندرية، قال: نويت زيارة الشيخ محمد في نفسي. وقلت: لعلي أصادف عنده هيطلية بسمن وعسل آكل منها. فجاء كتاب وكيل الخاص باستعمال حوائج السلطان، فعاقني عما عزمت عليه، فلم يمض غير يومين أو ثلاثة وإذا أنا برجل قد أتاني من عند الشيخ، وقال: الشيخ يسلم عليك وقد بعث لك هذا السمن والعسل ليعمل لك هيطلية وتأكل بهما، ولو كانت تحمل إليك لبعث بها.
قال: وقد زعم قوم أن هذه الكرامات إنما كانت بصناعة مقررة بينه وبين قاضي فوه فإنهما كانا روحين في جسد، وكان قد تحصن بالشيخ، فلا يقدر قاضي القضاة ولا أحد على عزله، وطال ذيله، وأكثر من تسجيل البلاد والتجارة، والولاة ترعاه إما لاعتقاد في الشيخ أو لرجاء العناية من الشيخ بهم عند الدولة. فنمت أمواله، وصلحت حاله، واتسعت دائرة سعادته، ولم يبق له دأب إلا يلقى من يصل من ذوي الأقدار قاصداً زيارة الشيخ، لأن فوه طريق منية مرشد، فإذا وصل الزائر أنزله وأضافه وشرع في محادثته ومحادثة من معه حتى يقف على ما في خواطرهم وما يقترحونه، ثم إنه يبعث إلى الشيخ بذلك على دواب مركزة في الطريق بينهما ويمده من الأصناف بما لعله لا يكون عنده، ويعطيه حلية كل رجل من المذكورين واسمه.
قلت: هذا فيه بعد إلى الغاية، وهذا يريد أموالاً كثيرة ينفقها القاضي أولاً على الزائرين، ثم إنه يجهز إلى الشيخ بما يطعم به زواره ثانياً. ولعل الذي كان يشتهي المأكول أو المشروب يشتهيه بعد فراق القاضي في نفسه، فمن أين يعلم الشيخ بذلك أيضاً؟ فما كل من قصد الشيخ يعمل طريقه على فوه ويجتمع بالقاضي.
واستفاض أنه ما راح أحد وتمنى شيئاً يأكله أو يشربه إلا وجاءه الشيخ به.
وكان الشيخ - رحمه الله تعالى - أسمر مبدناً ربعة من الرجال، حسن الشكل، منور الصورة، جميل الهيئة، حسن الأخلاق.
ومات - رحمه الله تعالى - وقد قارب الستين. وكان يفتي من يسأله من غير أن يكتب خطه.
محمد بن عبد الله بن الحسينابن علي بن عبد الله الزرزاري الإربلي الدمشقي، قاضي القضاة العلامة شهاب الدين أبو الفرج وأبو عبد الله بن الإمام مجد الدين.
سمع من ابن أبي اليسر، ومظفر بن عبد الصمد الصائغ، والفخر علي، وابن أبي عمر، وأبي بكر بن الأنماطي، وابن الصابوني، وعبد الواسع الأبهري، والنجم بن المجاور، وابن الواسطي، وابن الزين، وابن بلبان، وغيرهم.
وكتب الطباق، وسمع كثيراً، وأفتى، ودرس، وجود العربية والفقه. وكان في الشروط آية، وفي معرفة الأحكام ونقضها وإبرامها غاية. وكان في المكارم لا يجارى، وفي الجود لا يبارى، وله على الناس خدم، وفي المروة رسوخ قدم. ينظر في المكتوب نظرة واحدة فيعرف فساده من صلاحه، ويزيل منه واواً أو يزيده ألفاً فيأتي بالمراد على اصطلاحه. ولي قضاء القضاة بدمشق بعد ابن جملة فلم يحمد، وعاد طرف الدين به وهو أمد.
ولم يزل على حاله إلى أن انهدم ابن المجد، وأهلك نفوس ذويه عليه من الألم والوجد.

كان أولاً ينوب في وكالة بيت المال عن القاضي جمال الدين والقاضي علاء الدين ابن القلانسي، ثم إنه انفرد بالوكالة في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ثم ولي قضاء القضاة بعد ابن جملة، ولبس تشريفه لذلك اليوم في يوم الأحد ثامن عشري القعدة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ولم يزل به إلى أن عزل من باب السلطان بقاضي القضاة جلال الدين القزويني، ولم يعلم، ثم إنه توجه إلى القاضي شهاب الدين بن القيسراني يهنئه بكتابة السر، فنفرت به البغلة عن حمام الخضراء فرض دماغه، فحمل في محفة إلى العادلية.
ومات بعد أسبوع في آخر جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة، ولم يعمل له عزاء. وأوذي أصهاره.
أنشدني من لفظه لنفسه شمس الدين محمد الخياط الشاعر:
بغلة قاضينا إذا زلزلت ... كانت له من فوقها الواقعة
تكاثر ألهاه من عجبه ... حتى غدا ملقى على القارعة
فأظهرت زوجته عندها ... تضايقاً بالرحمة الواسعة
وكتب إليه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة:
قاضي القضاة ابق في سماء علاً ... مقتبل السعد نافذ الحكم
كم من صديق قد جاء يسألني ... في البر والمكرمات والحلم
عن ابن صصرى وعنك. قلت له: ... لا فرق بين الشهاب والنجم
محمد بن عبد الله بن عمرالشيخ الإمام العلامة الخير الورع زين الدين بن علم الدين ابن الشيخ زين الدين بن المرحل الشافعي. هو ابن أخي الشيخ صدر الدين بن الوكيل.
ربي على طريق خير وسلامه، ونشأ في صون وعفاف لم يلحقه في ذلك سآمه، يلازم الاشتغال ليلاً ونهارا، ويكرر دروسه في كل وقت مرارا. وكان من أحسن الناس شكلا، وأبهجهم وجهاً، كأن البدر منه تجلى.
وكان قد جود الفقه والأصول وتوفر عنده منهما المحصول.
وأما العربية فكان فيها ضعيفا، ولم يسمع الناس له فيها صريفا.
وناب في الحكم بدمشق فحمدت سيرته، وود الناس، لو دامت على ذلك جيرته.
ولم يزل على ذلك إلى أن رحل ابن المرحل إلى المقابر وعد بعد أن كان موجوداً في الغوابر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
وكان عمه الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى يحسده، ويقول: لا إله إلا الله ابن الجاهل طلع فاضلاً وابن الفاضل طلع جاهلاً يعني بذاك ابنه.
وكان قاضي القضاة شمس الدين بن الحريري عينه للقضاء وأشار به على السلطان إما لقضاء مصر أو لقضاء الشام، ولم يكن فيه ما يمنعه عن ذلك غير صغر سنه. وجهزه السلطان على البريد إلى دمشق وولاه تدريس الشامية البرانية عوضاً عن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، فوصل إليها يوم الثلاثاء تاسع عشري شهر رجب سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وكان الناس قد أوهموا الأمير سيف الدين تنكز ووصفوه بالدين المتين، فلما جاء كان في الميدان، فلما رآه ترجل له وجاء وقبل يده، فنزل بذلك من عينه.
وأخبرني جماعة أن دروسه لم تكن بعيدة عن دروس الشيخ كمال الدين لفصاحته وعذوبة ألفاظه.
وباشر نيابة الحكم عن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي بدمشق في الحادي والعشرين من صفر سنة ثلاثين وسبع مئة.
محمد بن عبد الله بن محمد الأموي المرويالشيخ الأديب محب الدين أبو عبد الله المغربي المعروف بابن الصائغ.
رأيته بالقاهرة مرات، واجتمعت به في دروس شيخنا العلامة أثير الدين وغيرها. وسمعت أنا وهو " صحيح " البخاري بقراءة الشيخ شهاب الدين بن المرحل النحوي على الشيخ فتح الدين وأخيه بالقاهرة أبي القاسم بالظاهرية بين القصرين، فكان هذا الشيخ محب الدين يأتي بفرائد في أثناء السماع مما يتعلق بالعربية الغريبة واللغة.
وكان يعرف العروض معرفة تامه، ويجيد الكلام على غوامضها الخاصة والعامه.
وأما العربية فكان عنده لبابها، ولديه تجتمع أبوابها، ذهنه الخارق فيها كالنار إذا توقدت، وحلها بيده إذا تعقدت.
وشعره فائق جزل، يسلك به طريق الجد لا الهزل، أنشدني منه كثيرا، وحباني منه لؤلؤاً نظيماً ونثيرا. وكان يعاني اللعب بالعود، ويطيب وقته بالأماني والوعود.
ولم يزل على حاله إلى أن سكت المحب فما نبس، وصح عنده من أمر الموت ما التبس.

وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
وكان قد كتب إلي وأنا بالقاهرة:
صلاح الدين يا رب المقال ... ويا ترب المعاني والمعالي
تصدق لي بصرف زكاة جاه ... ففيها إن أردت صلاح حالي
فكتبت جوابه مع شيء أهديته إليه:
محب الدين في الآداب شيخ ... نوى لي أن يعرض بالنوال
إذا ما الجاه لم أك فيه وجهاً ... فما لي لا أجود بفضل مالي
وأنشدني من لفظه لنفسه يمدح القاضي نجم الدين محمد بن محمد الطبري قاضي مكة، وقد أنشده القاضي خمسة أبيات على هذا الوزن والروي، وستأتي في ترجمة المذكور إن شاء الله تعالى:
شرع الهوى هوني لعزة جاهك ... فارثي لذلة موقفي بجاهك
رقي لجسم رق من دنف الهوى ... وشفاه ما تحويه حو شفاهك
لا تعجبي إن ذبت شوقاً واعجبي ... أن ليس إلا سقم طرفك ناهك
وسن نفى وسني فنمت ولم أنم ... ما ليلة الساهي كليل الساهك
بطحاء وادي الأثل لولا تيهها ... ونفارها ما حمت في أتياهك
ولما وخدت بها شوازب ضمراً ... أوردتها عشراً ثغاب مياهك
بدلت سدرك بالسدير وما حوى ... ونفائح النسرين فيح عضاهك
وهجرت طيب كرى وواصلت السرى ... بمشقة التهجير في إدماهك
أدعوا بسعدى أين يمن سراي إذ ... أكرهتم وعففت عن إكراهك
نصبوا علي رحاضهم لكنهم ... شاهت وجوههم لصولة شاهك
جبت الشعاب وآل شعبة عندما ... سدل الظلام رداءه برداهك
أعشو إلى حلي الترائب خفيةً ... إذا غمض الأتراب عن أفكاهك
ادني اللجين لعسجدي شاحب ... صدئ الإهاب بما اكتساه ساهك
اسقي عهاد الدمع عهداً باللوى ... أنسيته لشفاي لا لشفاهك
زمناً أردد آهة المشغوف من ... حرقي فيحيكيني ترجع آهك
أنضارتي اشتعل المشيب فأنضبت ... شعل الحشا ما راق من أمواهك
ينهى وينهكني مشيب صنته ... ولما عرفت بصون ناه ناهك
حللك المفارق قد تنفس صبحه ... يا نفس هبي من كرى استعماهك
يستبد هونك للنسيب فشرفي ... بشريف مكة منتج استبداهك
قاضي الشريعة والمقيم منارها ... حيث المقام وحيث بيت إلهك
بلدت في جوب البلاد ومدحه ... يشفي فينفي تهمة استبلاهك
لولاه أوشكت الخمول فلازمني ... شكر الذي سنى لقاه لقاهك
يا خير أرض الله قد رضي النوى ... رجل ثوى فأوى إلى أواهك
القطب نجم الدين إشراق الدنا ... معنى العلا أسنى وجوه وجاهك
من إن تشابهت الوجوه أقل لها ... من بعد هذا الذهن لاستشباهك
إن يخف معناك السقيم فعامل ... بصحيح حكمته على أفقاهك
روى الحديث فرويت ساحاتها ... يا سحب إذا حلت عرا أفواهك
غيثاً أغاثك يا حجاز بدره ... وجلا هوامد أغبرت بجلاهك
فاخضر مرعاك المبارك ممرعاً ... والتفت البهمى بغض شباهك
جودي سماء يمن دعوة من سما ... رتبا يقل لها انتعال جباهك
يا نفس إنك قد نقهت من الغنى ... ولقد غنيت اليوم في استنقاهك
هذا الجواد لما حوى يمناه في ... إفقار كيس المال أم إرفاهك
يسخو بما يوعى ويطبي ما يعي ... كم بين كنز نفيسة ونفاهك
دارت رحى الأيام تبغي جاره ... فأجاره من كل داء داهك
أم القرى قد جار من أم القرى ... بفناء بدنك كلها وشاهك
ناسبت غرته وبيت نسيبه ... فأعدت ليس البدر من أشباهك
يا همةً عن كل هم نزهت ... إلا العلا دومي على استنزاهك

لسموت حين سمهت في شأو العلا ... أفردت فالأسماء في أسماهك
يا فكرة بدهت بأبدع ملحة ... ما أقرب الإبداع من إبداهك
عرضتها لمعارض لم يحكها ... أنى وقد لزمت قوافيها هك
محمد بن عبد الله بن الحسينابن علي بن عبد الله بن عمر بن عيسى ابن أحمد بن حسن، الشيخ الفقيه الصالح الزاهد عفيف الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الإمام مجد الدين أبي محمد الزرزاري الإربلي الدمشقي.
سمع من شيخ الشيوخ الأنصاري، وإبراهيم بن خليل، وجماعة. حفظ " التنبيه " ، ولما مات والده ولي تدريس الكلاسة مدة بعده. وكان إماماً بالقيمرية، ثم انتقل عنها إلى الظاهرية.
حدث بالقاهرة ودمشق وبطريق الحجاز.
توفي رحمه الله تعالى ثالث عشري شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده بحلب سنة خمسين وسبع مئة، وأثنى الناس عليه عند موته كثيراً.
محمد بن عبد المجيد بن عبد اللهالقاضي سعد الدين بن فخر الدين بن صفي الدين ابن الأقفاصي.
كان قد ولي نظر الخزانة بمصر، ولما توجه السلطان الملك الناصر إلى الكرك في سنة ثمان وسبع مئة توجه صحبته، وأظهر هناك شراً كثيراً وعسفاً.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة أربع عشرة وسبع مئة في ثامن عشري ذي الحجة.
كذلك يقال في ألسنة العوام: " الأقفاصي " ، وإنما هو الأقفهسي، بهمزة مفتوحة وقاف ساكنة وفاء مفتوحة وبعدها سين مهملة، نسبة إلى أقفهس، وهي قرية من قرى مصر.
محمد بن عبد المجيد بن أبي الفضلابن عبد الرحمن بن زيد الحنبلي، الشيخ الفقيه الإمام المفتي بدر الدين أبو عبد الله.
كان فاضلاً صالحاً مسجلاً، ليس في بلده له نظير، وكان يكتب الإسجالات والشروط كتابة مليحة خطاً ولفظاً.
ويفتي الناس ويقرئهم.
توفي رحمه الله تعالى تاسع شهر ربيع الأول سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
محمد بن عبد المحسن بن الحسنشرف الدين الأرمنتي، قاضي البهنسا.
كان فقيهاً نحوياً شاعراً ذكياً كثير الاحتمال، أريباً باذلاً للنوال. بنى مدرسة ورباطاً ومسجداً بالبهنسا. ورسخ بذلك قدمه في الخير ورسا.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه حتفه، ورغم بالموت أنفه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وسبعين وست مئة.
وكان قد قرأ الفقه بالصعيد على خاله سراج الدين يونس بن عبد المجيد الأرمنتي، وتأدب به ولازمه، وأقام بمصر سنين يشتغل بها مع خاله، إلى أن ولي خاله فسار معه وتزوج ابنته، وكان ينوب عنه حيث كان، وكان قد عين شرف الدين المذكور لقضاء الإسكندرية، وطلب إلى القاهرة فحضر جمع كبير من أهل البهنسا وأظهروا الألم لفراقه، وسألوا القاضي جلال الدين القزويني ألا يغيره، فأعفاه، ورجع إلى البهنسا. ثم إنه عين لقوص، فلم يوافق، ومات رحمه الله تعالى ولم يعقب.
وقال القاضي كمال الدين الأدفوي: أنشدني كثيراً من شعره ومنه:
جز بسفح العقيق وانشق خزامه ... وفؤادي سل عنه إن رمت رامه
وإذا ما شهدت أعلام نجد ... وزرود وحاجر وتهامه
صف لجيرانها الكرام بيوتاً ... حالة الصب بعدهم وغرامه
وترقق لهم وسلهم وصالا ... وقل الهجر والصدود علامه؟
عبدكم بعدكم على الود باق ... لم يغير طول البعاد ذمامه
يا كرام النصاب إنا نراكم ... حيث كنتم بكل حي كرامه
قال: أنشدني لنفسه يجمع " العبادلة " :
إن العبادلة الأخيار أربعة ... مناهج العلم في الإسلام للناس
ابن الزبير وابن العاص وابن أبي ... حفص الخليفة والحبر ابن عباس
وقد يضاف ابن مسعود لهم بدلاً ... عن ابن عمرو لوهم أو لإلباس
وقال: حكى لي أن بعض عدول البهنسا حكى له أن امرأة حضرت مع زوجها إلينا لنوقع بينهما الطلاق، فرأيناه لا يشتهي ذلك، فكلمناها، فلم تقبل، فاوقعناه، فالتفت إلينا وأنشدت:
لما غدا لأكيد عهدي ناقضاً ... وأراد ثوب الوصل أن يتمزقا
فارقته وخلعت من يده يدي ... وتلوت لي وله " وإن يتفرقا "

1638 - ... محمد بن عبد المحسن بن أبي الحسن
ابن عبد الغفار، الشيخ الفاضل الواعظ المسند المعمر، مسند الوقت، عفيف الدين أبو عبد الله الأزجي البغدادي الحنبلي الخراط، والده الدواليبي شيخ الحديث بالمستنصرية.
سمع سنة أربع وأربعين من ابن الخير إبراهيم، وابن العليق، وابن قميرة، وأخيه يحيى، وبعد الملك بن قينا، وأحمد بن عمر الباذبيني، وعجيبة الباقدارية، وطائفة أخرى، وسمع " المسند " كله بفوت، و " صحيح مسلم " ، وانتهى علو الإسناد إليه.
كان يقول: حفظت " اللمع " في النحو و " مختصر الخرقي " .
وحج غير مرة. ووعظ بكلاسة دمشق، وسمع منه شيخنا الذهبي بالعلا وغيرها، وكان حسن المحاضرة، طيب الأخلاق، أخذ عنه الفرضي وابن الفوطي، وشيخنا البرزالي، وصفي الدين بن الخطيب، وسراج الدين القزويني، وشمس الدين بن خلف، وأخوه منصور، وعفيف الدين المطري، وخلق سواهم.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الخميس، ودفن يوم الجمعة خامس عشري جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة ببغداد.
ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة.
ومن شعره:
كم قد صفت لقلوب القوم أوقات ... وكم تقضت لهم بالليل لذات
فالليل دسكرة العشاق يجمعهم ... ذكر الحبيب وصرف الدمع كاسات
ماتوا فأحياهم إحياء ليلهم ... ومن سواهم أناس بالكرى ماتوا
لما تجلى لهم والحجب قد رمغت ... تهتكوا وصبت منهم صبابات
وغيبتهم عن الأكوان في حجب ... وأظهرت سر معناهم إشارات
شافي القلوب هو المحبوب يشهده ... صب له بقيام الليل عادات
إذا صفا الوقت خافوا من تكدره ... وللوصال من الهجران آفات
وكان ينظم المواليا والكان وكان.
محمد بن عبد المحسنالقاضي قطب الدين أبو عبد الله بن مجد الدين بن تقي الدين السبكي، قاضي حمص.
مولده سنة أربع وثمانين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق بعدما نزل عن القضاء بحمص، وكان قد وليها في سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ولم يزل إلى أن ولي بعلبك في سنة ثلاث وستين وسبع مئة فأقام بها مديدة يسيرة، ثم عاد إلى حمص، وحضر إلى دمشق في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وسبع مئة وحصل له ضعف انقطع به إلى أن توفي في بكرة الجمعة مستهل جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة، ودفن بالصالحية.
وكان كثير السكون والميل إلى الموادعة والركون، لا يتحدث فيما لا يعنيه، ولا يؤسس الشر ولا يبنيه. وكان شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يركن إليه ويعتمد عليه.
وروى عن ابن الحبوبي، وعلي بن محمد بن هارون الثعلبي وطائفة.
وكان قد تفقه على الشيخ صدر الدين السبكي، وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب السبكي أنه كان يستحضر من " الحاوي " جملة كبيرة، وكان كثير التلاوة رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الملك بن عمرالشيخ الإمام الزاهد القدوة شرف الدين الأرزوني.
كان شيخاً مشهوراً بالصلاح، تام الشكل، أسمر، مهيباً جليلاً قليل الشيب مليح الهمة والعمة والشيبة والبزة، صاحب سمت وهدى ووقار.
صحب الكبار وتعبد وانقطع سنة ست وتسعين وست مئة.
محمد بن عبد الملك بن إسماعيلالأمير الملك الكامل ناصر الدين ابن الملك السعيد بن السلطان الملك الصالح ابن العادل الأيوبي سبط الكامل وابن خالة صاحب الشام الناصر يوسف وابن خالة صاحب حماة.
حدث عن ابن عبد الدائم.
كان من أمراء دمشق الأكابر في الطبلخاناة، وكان ذكياً خبيراً، بصيراً بالورود في القضايا والصدور يعد في رؤساء الأمراء وسادة الصدور، ويجلس من المحافل الكبار في الصدور، ينبسط كثيراً مع لطافه، وينخرط في التنديب إلى سلك يزين عقوده من الزمان أعطافه، ونوادره عديده، وبوادره فيها عتيده، لو عاصره أبو العيناء لقال هذا هو الإمام، أو الجماز قفز وناوله هذا الزمام. أو أبو العبر لعثر، أو أشعب الطمع لسلا عما رأى وسمع.
كانت تقع له نكت حاره، وتناديب إلى القلوب ساره، هزازة، خلابه، بزازة سلابه.
ولم يزل يستدين وينفق ويستعين ممن لا يرفق إلى أن بهضه حمل الدين، وصار منه بمنزلة القذى في العين، وصار كلما نهض بهض. وكلما نسخ رسخ.

كخائض الوحل إذا طال العناء به ... فكلما قلقلته نهضة رسبا
وأنجده الله أخيراً بالأمير سيف الدين تنكز فحجز عليه في إقطاعه، وترم الصاحب شمس الدين يتحدث له في مشتراه وابتياعه ووفاء ديونه وانتفاء غبونه. فصلحت حاله بعض الصلاح. وما تقدر على الإمساك كف تعودت البذل والسماح.
وبقي على حاله حتى فقده الوجود، وترك العيون عليه بالدموع تجود.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
وأوصى أن يدفن عند أبيه بتربة الكامل فما مكن، ودفن بتربة جدتهم أم الصالح، ووالدته وهي ربيعة خاتون بنت السلطان الملك الكامل محمد ابن السلطان الملك العادل أبي بكر.
وكان الملك المنصور صاحب حماة ابن خالته، وكان الملك العزيز صاحب حلب مزوجاً بخالته الأخرى.
كان أولاً من أمراء دمشق، ثم نقل إلى حماة، ثم أعيد إلى دمشق، ولما حضر إليها اجتمع بأصحابه، فسألوه عن حماة، فقال: أنا ما كنت في حماة بل كنت في الأردو، يعني بذلك أن الملك المؤيد ابن خالته صاحب حماة يتكلم بالتركي.
وعاشر الأفرم ونادمه وأحبه كثيراً وقربه، وكان لا يصبر عنه، وكان يوما هو والشيخ صدر الدين بن الوكيل عند الأمير جمال الدين الأفرم وقد أحضر لهم على بكرة سخاتير صنعها لهم وتأنق الطباخون بها، فقال الملك الكامل: يا شيخ أنا أحب السخاتير فقال صدر الدين: " حب الوطن من الإيمان " فانتكى الكامل منها، وكان قد تقرر بينهم أنه من سبق وحضر إلى حضرة الأفرم يركب الذي يجيء بعده ويدور في المجلس فتأخر الملك الكامل تلك الليلة إلى أن تحقق أن صدر الدين قد سبقه وجاء بعده، فقال الأفرم: أيش أخرك إلى هذا الوقت، قم يا شيخ اركبه، فقال: والله طيب إن غبنا ما تذكرونا، وإن جئنا تحملون علينا الكلاب! فقال صدر الدين: يا خوند ما يضيع له شي، استوفاها.
قلت: والشيخ صدر الدين أخذ تنديبته من قول نصير الدين الحمامي، أنشدني من لفظه شيخنا الحافظ فتح الدين اليعمري، قال: أنشدني من لفظه لنفسه النصير الحمامي:
رأيت شخصاً آكلاً كرشةً ... وهو أخو ذوق وفيه فطن
وقال ما زلت محباً لها ... فقلت من الإيمان حب الوطن
ونقلت من خط الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم، وأنشد فيه إجازةً:
أيها اللائمي لأكلي كروشا ... أتقنوها في غاية الإتقان
لا تلمني على الروش فحبي ... وطني من دلائل الإيمان
وقيل له: إن هلال رمضان ثبت البارحة، فقال: من رآه؟ فقالوا: مجد الدين الميت، فقال: هذا ميت وفضولي، ويخلط شعبان في رمضان.
وحضر عند الصاحب شمس الدين ليلة، فلما أحضرت الحلوى وجاء البابا بالفوطة والماوردية ورش على يده، فأخذ الماورد ومسح به عينيه وقال: الحلوى رأيتها بعيني، وأما بيدي فما لمستها، لأن الصاحب كان قد أشغله بالحديث عنه حتى فرغت، فضحك الصاحب وأحضر له حلوى تخصه.
وحكى لي الأمير شرف الدين حسين بن جندر قال: جرى الحديث بيننا يوماً في حضرة الأفرم، فقلت المثل المشهور: " فقلت اصفعوني وردوا شبابي " ، فقال: والله الأولى نقدر عليها الساعة والأخرى ما يقدر عليها إلا الله تعالى.
ونظر ولده يوماً في حضرة الأفرم وهو واقف قدامه إلى بعض الفقهاء وقد لبس بابوجاً أزرق، فتعجب ولده من ذلك فقال: لا تعجب منه، هذا نصراني مقلوب.
ووجدوه يوماً في الصيف وعليه فروة سنجاب، فقالوا: يا ملك في الصيف بفروة؟ فقال: أنا ما ألبس بالفصول، إلا إذا بردت لبست الفروة.
وكان من أخص الناس بالشيخ كمال الدين الزملكاني، وكان إذا وقع بينه وبينه ركب فرسه ودار على أصحابه ومعارفه وقال: قد وقع بيني وبين ابن الزملكاني فلا تسمع في ما يقول، وكذلك يفعل الآخر.
ودخل إليه الأمير شرف الدين حسين بن جندر يعوده في مرضه، وكان قد طلب إلى الديار المصرية وأخذ معه ثلاث مئة درهم فقال: هذه برسم الطبيب، فقال: بالله دعها تحت الطراحة لئلا يبصرها أرباب الدين، وقال له يوماً: أمير شرف الدين ما نحن كلنا أولاد ناس، فما أعلم من أين داخلت هؤلاء التتر وصرت منهم، وما أعلم وجه المناسبة بينكم، نعم دينك هو الذي يجمع بينكم.
وقلت أنا فيه:

الملك الكامل في سعده ... نقص وفي تنديبه قد كمل
كبيت شعر نصفه سائر ... حسناً وباقي لفظه قد خمل
وكان الملك الكامل قد باشر شد الأوقاف بدمشق وصار يولي ويعزل، فغضب ابن صصرى لذلك، وترك الكلام في الأوقاف، فصار الملك الكامل يصرف مال الأوقاف الحكمية بقلمه إلى أن وصل كتاب السلطان لقاضي القضاة ابن صصرى في أواخر شهر رجب الفرد سنة تسع وسبع مئة باستمراره على نظر الأوقاف، فانشرح لذلك وتكلم على عادته في الأوقاف.
ولم يزل الكامل في شد الأوقاف إلى أن عزل بالأمير سيف الدين بكتمر المنصوري لما وصل الناصر من الكرك، وكان الملك العادل كتبغا قد أمره في المحرم سنة تسع وتسعين وست مئة لما كان بدمشق.
محمد بن عبد المنعمشرف الدين بن المعين المنفلوطي.
كان فقيهاً شافعياً، أديباً شاعراً تفقه بالشيخ نجم الدين البالسي وغيره، وقرأ الأصول على الشمس المحوجب. وكان مقبولاً عند الحكام، واختصر " الروضة " ، وتكلم على أحاديث " المهذب " وسماه " الطراز المذهب " .
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ومن شعره:
ما للمليحة ما رعت حق الإخا ... لمحبها يوماً ولم تدر السخا
أضحت رياح صدودها لمحبها ... نكداً عواصف بعدما كانت رخا
وعزيزة بالدل ظلت لعزها ... متذللاً أبغي لديها منتخا
سفكت دمي عمداً وآية سفكها ... في الخد إذ أضحى به متضمخا
كم أثبتت للصب آية صدها ... منها أبت لثبوتها أن تنسخا
محمد بن عبد الوهاب بن عطيةالفقيه المحدث ناصر الدين الإسكندراني.
قال شيخنا الذهبي: صحبته بالثغر، وسمعت بقراءته على الغرافي، وكان قارئ الحديث عنده بالأبزارية ويؤم بمسجد، وكان دينا عاقلاً، مليح الخط.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده في حدود الستين وست مئة.
محمد بن عبد الوهاب بن عبد العزيزابن الحسين بن الحباب، القاضي نجم الدين المصري، وكيل بيت المال بالقاهرة.
روى " جزء الحفار " عن علي ابن مختار بن الجمل، وسمع أيضاً من جده وابن الجميزي.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وست مئة.
وكان موصوفاً بالأمانة والنزاهة، وهو من بيت رئاسة في مصر.
محمد بن عبد الوهاب بن عليالقاضي جمال الدين بن السديد الإسنائي.
نشأ في سعادة ورئاسة، وسيادة ونفاسه. وكان له خدم، وأتباع وحشم، وكانت فيه صداره، وعليه رونق من السعادة والنضاره.
وتوفي رحمه الله تعالى... وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وسبعين وست مئة.
اشتغل بالعلم، وقرأ الفقه على الشيخ بهاء الدين القفطي، وأجازه بالفتوى. وتوجه إلى القاهرة، وسمع من الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والحافظ شرف الدين الدمياطي، وقاضي القضاة ابن جماعة، وقرأ على شيخنا أثير الدين " الفصول في النحو " ، وعلى الخطيب الجزري " الأصول " وأجازه بالفتوى، وأجازه الشيخ فخر الدين عثمان بن بنت أبي سعد.
وتعدل وجلس بالقاهرة وقوص، وتولى العقود، واستنابه زين الدين إسماعيل السفطي في الحكم بأرمنت، وتولى الخطابة بإسنا، وتولى الحكم بقمولا وقنا وقفط وأصغون، ثم ولي النيابة بقوص ثم إن قاضي القضاة جلال الدين القزويني قسم على قوص بينه وبين شهاب الدين أحمد بن عبد الرحيم بن حرمي القمولي، فتولى جمال الدين قوص والبر الشرقي وذاك في البر الغربي، وتزوج ببنت ابن حرمي للائتلاف، وأقبل جمال الدين على المتجر بجملته، واستمال ابن حرمي الوالي بالهدايا. فاتفق أن وقع الغلاء في قوص سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، وكان عند جمال الدين تقدير ألفي إردب وخمس مئة إردب، فقال الوالي لجمال الدين: إنه يبيع بالسعر المعروف، فأراد التأخير لغلاء السعر، فكتب الوالي إلى السلطان، فبرز مرسومه بالحوطة عليه وإحضاره، وصرف عن القضاء. ثم إن جمال الدين تولى النيابة خارج باب النصر بالقاهرة بعد سنتين وشهرين مديدة لطيفة، فلما تولى قاضي القضاة عز الدين بن جماعة لم يوله.
محمد بن عثمان بن أبي الوفاءالقاضي بدر الديم بن فخر الدين العزازي، أحد كتاب الدرج بدمشق.

كان حسن البزة والسمت، كثير الوقار يلزم الصمت، عديم الشر، حافظ السر، يكتب خطاً حسنا، يطلع به في روض الطرس ورداً وسوسنا.
لم يزل على حاله إلى أن غاب بدره فما طلع، وسار على النعش وما رجع.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الخميس ثالث عشر ذي الحجة سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبعين وست مئة.
حج واستصحب معه الشيخ إبراهيم الصياح، وعادله في المحمل. وكان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان.
قال شيخنا البرزالي: وسمع معنا على الشيخ تقي الدين الواسطي عدة أجزاء.
قلت: وكان كثير الملازمة بسوق الكتب بحسر اللبادين يوم الجمعة، ويقتني الكتب النفيسة، وملك منها ومن الكرند شيئاً كثيراً، وكان عنده من والده - وقد تقدم ذكره في حرف العين - أشياء نفيسة مثل السرطان البحري والكحل الأصبهاني والنصفية في داخل قصبة، إلى غير ذلك. إلا أنه كان إذا أنشأ شيئاً يأتي بما يضحك منه.
ولما توفي رحمه الله تعالى طلبت أنا من الرحبة ورتبت مكانه، وكان في آخر أمره قد حنا عليه الأمير سيف الدين ألجاي الناصري الدوادار ووعده أن يكون من جملة موقعي الدست فعاجلته المنية ولم تبلغه الأمنية.
محمد بن عثمانالصاحب الأمير نجم الدين البصروي، ابن أخي قاضي القضاة صدر الدين الحنفي.
كان فيه كرم زائد، وجود يأتي لعافيه بالصلة والعائد، وعنده شهامه، ولديه همة وصرامه.
ودرس أولاً ببصرى، وأتى بفوائد في دروسه تترى، وخدم السلطان الملك الناصر وهو في الكرك، ونقل إليه ما أراد فما بقى ولا ترك، وسعى له في الباطن مع أمراء دمشق بملطفات إلى أن انبرم له الأمر، وصار لهباً ذلك الجمر، فرعى له حقه، وملكه من السؤدد رقه. فولي الحسبة، ثم نظر الخزانة، ثم الوزارة، وانتقل بعد ذلك إلى الإمارة، فأعطي طبلخاناه، ولم يلبس زي الأمراء، وأنف منه للازدراء.
ولم يزل على حاله إلى أن انبثق نجمه وضمه رجمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشري شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ووصل من مصر إلى دمشق في سابع صفر سنة عشر وسبع مئة متولياً وزارة دمشق، وترك الحسبة لأخيه فخر الدين سليمان، وأظنه استمر في الوزارة إلى أن تولاها الصاحب عز الدين بن القلانسي ثالث ذي القعدة سنة عشر وسبع مئة، ولبس هو للإمرة يوم الخميس ثالث عشر صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة ولم يغير ملبوسه، وكان قد وصل من مصر إلى دمشق في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة.
وقد تولى الحسبة عوضاً عن أمين الدين يوسف العجمي، ثم إنه وصل من مصر أيضاً متولياً نظر الخزانة عوضاً عن شمس الدين بن الخطيري مضافاً إلى الحسبة في أواخر شهر رمضان سنة سبع وسبع مئة. ثم إنه عزل من الحسبة في عشري جمادى الآخرة سنة تسع وسبع مئة بالشيخ عز الدين بن القلانسي.
وقد تقدم ذكر أخيه الشيخ صفي الدين أبي القاسم بن عثمان في مكانه، وذكر أختهما أم يوسف فخرية الصالحة في مكانه من حرف الفاء.
محمد بن عثمان بن يوسفالصدر الكبير القاضي بدر الدين أبو عبد الله الآمدي ثم المصري الحنبلي، المعروف بابن الحداد.
تفقه بمصر، وحفظ " المحرر " وتميز، ثم دخل في الكتابة، واتصل بالأمير قراسنقر، ودخل معه إلى حلب وولي نظر ديوانه والأوقاف والخطابة. ولما تولى دمشق ولى ابنه خطابة دمشق، انتزعها من الخطيب جلال الدين القزويني، ثم وصل توقيع جلال الدين بعد أيام من مصر بإعادته. ثم ولي الحسبة عوضاً عن فخر الدين البصروي. ووصل إلى دمشق من مصر في ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة، ثم إنه عزل بابن مبشر، ثم أعيد إليها في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة. وتولى نظر البيمارستان النوري، ثم نظر الجامع الأموي.
وكان له سماع من القاضي شمس الدين بن العماد، وذكر لقضاء دمشق في وقت.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
محمد بن عثمانالصدر المقرئ صلاح الدين ابن الشيخ المقرئ شمس الدين بن محمد بن منيع بن عثمان بن شاد البشطاري.
كان مقرئاً، رئيس المؤذنين بالجامع الصالحي خارج باب زويلة بالقاهرة، كانت له قراءات في عدة أماكن، وفيه مروءة وعصبية، وله مكانة عند الناس.
توفي رحمه الله تعالى ليلة عبد الأكبر سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن ثاني يوم بالقرافة.
محمد بن عثمان بن أبي الحسن

ابن عبد الوهاب الأنصاري، قاضي القضاة، شمس الدين بن الحريري، قاضي القضاة بدمشق وبالقاهرة.
سمع من ابن أبي اليسر، وابن عطاء، والجمال بن الصيرفي، والقطب بن أبي عصرون، وجماعة. وتفقه فبرع في الفقه، وحفظ " الهداية " وغيرها، وأفتى ودرس وتميز.
وكان من قضاة العدل، والحكام الذين خص ستر وقارهم بالهدل، نظيف البزه، صلب القناة في الحق عند الغمز والهزه، عليه مهابة ووقار، وسمت ترمى النجوم عنده بالاحتقار، وله عباره، وشارة وإشاره، وكان قوالاً بالحق، قواماً بالصدق، حميد الأحكام، صارماً على الخاص والعام، متين الديانه، وصين الصيانه، له أوراد يقوم بأوقاتها، ويعد ذلك لنفسه من أقواتها.
وكان يراعي الإعراب في كلامه، وفي فصله القضاء عند أحكامه، ومع نسائه وخدامه، إلا أنه كان مفرطاً في تعظيم نفسه، ورؤية الناس من أبناء جنسه. وبهذا لا غير نقم عليه، وبه يشار عند الذم إليه.
ولم يزل على حاله إلى أن لبس الحريري قطن أكفانه، وأطبق القبر على إنسانه ما يطول من غمض أجفانه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة يوم السبت رابع جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وفي شهر ربيع الأول ورد البريد يطلبه إلى مصر متولياً قضاء القضاة بها عوضاً عن قاضي القضاة شمس الدين السروجي، وولاه السلطان أيضاً تدريس الناصرية والصالحية وجامع الحاكم. وكان وهو بدمشق قد عزل بقاضي القضاة شمس الدين الأذرعي، وطلب للأذرعي توقيع شريف من الشام، فلما كان في شهر ربيع الآخر سنة ست وسبع مئة وصل البريد من مصر ومعه توقيع فتوهم البريدي أنه لقاضي القضاة ابن الحريري، فتوجه به إليه، وحضر أصحابه إليه للهناء به، ففتح التوقيع وقرئ، ولما وصل القارئ إلى الاسم وجده غير فطوى التوقيع، وحصل لقاضي القضاة خجل من هذا الأمر، وكانت هذه واقعة غريبة.
ولما أقام بمصر قاضياً كان لبكتمر الساقي إصطبل بأرض بركة الفيل لورثة الملك الظاهر وقفاً، فتعرض إليهم وقال: هذه الأرض زادت معكم، فتوجه وكيل بيت المال ونائب الحكم لقياس الأرض فما زادت شيئاً، ثم أرسلوهم مرة أخرى وتحيلوا على الزيادة وقالوا: أعطونا أرض الإصطبل بالزيادة، فقالوا: نحن نشهد علينا بقبض الأجرة ونعوض، فقيل للسلطان: في مذهب أبي حنيفة يجوز التعويض، فقال لابن الحرير عن ذلك، فقال: هذا رواية عن أبي يوسف وحده، وما أعمل بها، فولى السلطان القاضي سراج الدين عمر صهر القاضي السروجي قاضياً وعزل ابن الحريري، وحكم سراج الدين بذلك وبقي على القضاء مدة يسيرة، ثم مات، وأعيد ابن الحريري، وعظمت مكانته.
وكان فقيهاً جيداً، له محفوظات جيدة، ودرس بعدة مدارس، وأفتى وشغل الطلبة وولي قضاء دمشق مدة سنتين، وانفصل منه، ثم طلب لقضاء مصر، وكان موصوفاً بالنزاهة لا يقبل لأحد هدية، وكان له حرص على خلاص الحقوق وفصل القضايا، وصحبته جيدة، ومودته أكيدة، ينفع أصحابه ومعارفه.
وكانت جنازته حافلة، وعمل عزاؤه بالجامع الأموي، وكان قد سمع الحديث على النجيب المقداد، وابن علان، وغيرهم. وحدث بدمشق والقاهرة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وخرجت له جزءاً عن عشرة من الشيوخ، قرئ عليه غير مرة.
وفي قاضي القضاة شمس الدين الحريري يقول شمس الدين الباذرائي:
مذ أسلمتني عين أم سالم ... إلى الردى يئست من مسالمي
وكلما قل نصيبي عندها ... تكاثرت في حبها لوائمي
يا مقلتي أنتما نعمتما ... والقلب يشقى وهو غير جارم
جنيتما الذنب فلا أقل من ... أن تبكيا قلبي بدمع ساجم
عيناي عونان علي وهما ... مني وهل بعدهما من راحم
قلبي غمر في اتباع غيه ... يا ليتني بدلته بحازم
منها في المديح:
قد ختم الدهر به أجواده ... وإنما الأعمال بالخواتم
وقال يمدحه أيضاً:
أشكو إلى عثمان جود ابنه ... فقد رماني في الطويل العريض
قد صيد الباخل بحر الندى ... وعلم المفحم نظم القريض
والشيء لا يظهر تمييزه ... للناس إلا بوجود النقيض
له يد فياضة بالندى ... كالبحر إلا أنها لا تغيض
عجبت من حاسده كيف لا ... يقضي أسى وهو المعنى المريض

قلت: البيتان الأولان من هذه القصيدة مأخوذان من قول الأول:
ما رأينا من جود فضل ابن يحيى ... ترك الناس كلهم شعراء
محمد بن عثمان بن أسعدابن المنجا بن بركات بن المؤمل، الرئيس الإمام، شيخ الجماعة من الحنابلة، وجيه الدين أبو المعالي بن المنجا التنوخي الدمشقي الحنبلي.
سمع من ابن اللتي حضوراً، ومن جعفر الهمداني، ومكرم، وسالم بن صصرى، وخضر بن المقير.
ودرس بالمسمارية، وكان صدراً مبجلا، وجواداً يذر الغمام مبخلا، ديناً محترما، صيناً لا يرى منه وقت من البر محترما، محباً للأخيار، مجانباً للأغيار، له تسرع في الخير، وهمة تسابق البرق فضلاً عن الطير.
ولم يزل على حاله إلى أن هلك ابن المنجا، وأصبح على فراشه مسجى.
وتوفي رحمه الله تعالى بدار القرآن في شهر شعبان سابعه سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
وكانت له أملاك ومتاجر، وله بر وأوقاف، أنشأ داراً للقرآن بدمشق ورباطاً بالقدس، وباشر نظر الجامع الأموي تبرعاً، وكان من أولي الاقتصاد في ملبسه مع سعة دائرته وسعادته.
محمد بن عثمان بن عبد اللهسراج الدين أبو بكر الدرندي، الفقيه الشافعي.
قرأ القراءات على نجم الدين عبد السلام بن حفاظ صهره، وتصدر للإقراء بقوص سنين كثيرة، وانتفع به جمع كثير.
وكان متقناً ثقة، وسمع من الحافظ ابن الكومي، وتقي الدين بن دقيق العيد، ومحمد بن أبي بكر النصيبي، وعبد النصير بن عامر بن مصلح الإسكندري وغيرهم، وحدث بقوص.
وقرأ الفقه على جلال الدين أحمد الدشناوي، وسراج الدين بن دقيق العيد ودرس، وناب في الحكم بقفط وقنا وقوص.
واستمر في النيابة إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وكان يستحضر متوناً كثيرة من الحديث والتفسير والإعراب، واختلط في آخر عمره.
محمد بن عثمان بن محمدابن علي بن وهب بن مطيع، جلال الدين ابن علم الدين بن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.
سمع جده، والحافظ الدمياطي، والفقيه المقرئ تقي الدين محمد بن أحمد بن عبد الخالق الصائغ، ومن أحمد بن إسحاق الأبرقوهي، وغيرهم. واشتغل بالمذهبين المالكي والشافعي.
وقرأ " مختصر المحصول " لجد والده الشيخ مجد الدين وكان يذكر بخير وينسب إلى دين.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وكان قاضي القضاة ابن جماعة يؤثره ويبره، ودعه مرةً فأعطاه ذهباً وفضة من ماله، وكتب له بتدريس دار الحديث بقوص، فأقام بها مدة.
وتوفي بالقاهرة سنة ست أو سبع وعشرين وسبع مئة.
محمد بن عثمان بن أبي بكرقاضي القضاة شرف الدين النهاوندي، قاضي صفد وغيرها.
كان من أعرف الناس بالمداراه، وأخلبهم في المحادثة والمجاراه، له دربة بسياسة الخصوم ومصالحهم، وقودهم إلى تراضيهم بعد تشاحيهم ومشاحتهم، وله قدرة على مداخلة النواب، والعبور إلى رضاهم من كل باب، وكان ممتع المحاضره، شهي المسامره، لطيف الأخلاق، ذا كرم دفاق، تنقل في البلاد كثيرا، وقاسى في آخر عمره قلةً وفقراً كبيرا.
ولم يزل على حاله إلى أن ضمه ترابه وفارقه أحبابه وأترابه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة أربعين وسبع مئة بالقاهرة.
كان أولاً قد تولى قضاء صفد بعد والده المقدم ذكره في مكانه من حرف العين، وأقام بها إلى أن طلب إلى مصر، وانحرف عليه قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة وعزله بالقاضي فتح الدين القليوني، ثم إن قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى حنا عليه وولاه قضاء عجلون، ثم قضاء نابلس، ثم ولاه قضاء القضاة بطرابلس، ثم إنه أعيد إلى صفد بعد القاضي حسام الدين القرمي، ثم إنه نقل إلى قضاء طرابلس، ثم أعيد إلى صفد بعد القاضي جمال الدين عبد القاهر التبريزي فيما أظن وأقام بها إلى أن تغير عليه الأمير سيف الدين تنكر، فعزله بالقاضي شمس الدين الخضري، فأقام في بيته بصفد بطالاً نحواً من أربع سنين، ثم إنه توجه إلى القاهرة ونزل عند الأمير سيف الدين أرقطاي لما بينهما من الصحبة، فمات هناك في التاريخ.
محمد بن عثمان بن حمدانشمس الدين الثعلبي المعروف بابن البياعة.
كان شاعراً، مدح الأمير علم الدين الدوادار وغيره، وكان مشد الرقيق، يخدم في الجهات السلطانية.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.

ومن شعره:
نعم غرامي بنجد فوق ما زعموا ... أفنى وأبقى وهذا بعض ما علموا
حدث فديتك عن ذاك الحمى وأعد ... ففي حديثك ما يشفى به الألم
ليس الحمى غير قلبي والذي به ... ففيه ثأرهم بالشوق يضطرم
بانوا فبان الغضى ذاو ومنهله ... غور وأنواره من بعدهم ظلم
خيمت يا وجد في قلبي لفقدهم ... فلا رأت وحشةً من أهلها الخيم
ولا تغير واديهم ولا أفلت ... بدوره وسقت أكنافه الديم
فالقلب في حرق والطرف في غرق ... والصبر منثلم والدمع منسجم
محمد بن عثمان بن أحمدابن عثمان بن هبة الله بن أحمد بن عقيل، الصدر الفاضل الحكيم فتح الدين أبو عبد الله الشيخ جمال الدين بن أبي الحوافر القيسي.
سمع من النجيب الحراني " مشيخة " ابن كليب، و " مجالس " ابن مسلمة، و " مجالس " الخلال، وحدث، وكان طبيباً معروفاً بالقاهرة.
توفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة، ودفن بالقرافة.
محمد بن عثمان بن محمدالفقيه الإمام شمس الدين الأصبهاني المعروف بابن العجمي الحنفي.
كان مدرساً بالإقبالية للحنفية، وفيها توفي رحمه الله تعالى في نصف شوال سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ودرس أيضاً بالمدينة النبوية.
سمع من ابن البخاري " مشيخته " ، وكان فيه وسواس في الطهارة وديانة وانجماع عن الناس، وجمع منسكاً على مذهبه، وولي تدريس الإقبالية بعده قاضي القضاة نجم الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي، وأثنى الناس على درسه وفصاحته.
محمد بن عدنان بن حسنالشيخ الإمام العابد الشريف السيد محيي الدين العلوي الحسيني الدمشقي الشيعي، شيخ الإمامية وكبيرهم.
ولي مرةً نظر السبع، مات ولداه زين الدين حسين وأمين الدين جعفر وهما من جلة رؤساء دمشق، باشر الأنظار ونقابة الأشراف، وتقدم ذكرهما في مكانهما، فاحتسبهما عند الله تعالى. وأخبرني غير واحد أنه لما مات كل منهما كان يسجيه قدامه وهو قاعد يتلو القرآن ولم تنزل له دمعة، وولي النقابة في حالة حياته ابن ابنه شرف الدين عدنان بن جعفر إكراماً لجده.
وكان محيي الدين ذا تعبد زائد وولاية وتلاوة دائمة وتأله، وانقطع بالمزة. وكان يترضى عن عثمان وعن غيره من الصحابة، ويتلو القرآن ليلاً ونهاراً، ويناظر منتصرا للاعتزال متظاهراً بذلك.
توفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
محمد بن أبي العز بن مشرفابن بيان الأنصاري الدمشقي، الشيخ الجليل، المسند المعمر شهاب الدين البزاز، شيخ الرواية بالدار الأشرفية.
روى الصحيح غير مرة عن ابن الزبيدي، وحدث أيضاً عن ابن صباح والناصح وابن المقير، ومكرم، وابن ماسويه، وتفرد في وقته.
وكان حسن الإصغاء جيد الخط. أخذوا عنه ببعلبك ودمشق وطرابلس وأماكن، وعاش سبعاً وثمانين سنة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في سابع ذي الحجة.
وهو أخو نجم الدين أبي بكر بن العز بن مشرف الكاتب.
محمد بن عقيل بن أبي الحسنابن عقيل نجم الدين البالسي، أحد أعيان الشافعية وفضلائها بالديار المصرية.
سمع من الفخر بن البخاري وغيره بدمشق، وسمع ببلبيس من علي بن عبد الكريم، والفضل بن رواحة وغيرهما. وبالقاهرة من ابن دقيق العيد، وناب في الحكم بمصر عن ابن دقيق العيد، وولي قضاء بلبيس ودمياط عن قاضي القضاة ابن جماعة، وولي نيابة الحكم ظاهر القاهرة بالحسينية. ودرس بالمدرسة الطيبرسية بمصر وبالمدرسة المعزية، وبزاوية الدوري بالجامع العتيق وبالمسجد بالشارع خارج القاهرة.
وصنف في الفقه مختصراً حسنا لخص فيه كتاب " المعين " ، وشرح " التنبيه " شرحاً جيداً، ولم يكمله، واختصر " كتاب الترمذي في الحديث " .
وكان قوي النفس، حصل بينه وبين فخر الدين ناظر الجيش بسبب أنه ركب لرؤيا الهلال لشهر رمضان ورجع والمديرون أمامه يصيحون على العادة، فمروا على دار فخر الدين، فأهان المديرين، وشق ذلك عليه وانزعج، وتكلم في ذلك، وكتب محضراً، وجرى في ذلك كلام، ولوطف وسئل على أن يجتمع بفخر الدين فلم يفعل.

وطلب منه قاضي القضاة جلال الدين القزويني قضية فتوقف فيها وصرف نفسه، وكان ينوب عنه بمصر، ثم استرضي وعاد.
قال كمال الدين الأدفوي: جئته مرة وهو راكب، وطلبت منه كتاباً من وقف المدرسة المعزية، فرجع إلى المعزية من دار النحاس بمصر فأخرج الكتاب وأرسله إلي، وكان يؤثر مع ضعف حاله، قانعاً باليسير، مقللاً من المأكل والملبس. دارت الفيتا عليه بمصر، واشتغل طلبة مصر عليه.
وتوفي رحمه الله تعالى رابع عشر المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ستين وست مئة.
قلت: وأجاز لي بالقاهرة بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
محمد بن علي بن محمد بن الملاقبالتخفيف في اللام، القاضي بدر الدين الرقي، الفقيه الحنفي.
سمع من بكبرس الخليفتي " الأربعين الودعانية " وسمعها منه الدواداري، وأجز للدماشقة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة تسع عشرة وست مئة.
محمد بن عليالأمير شهاب الدين العقيلي، نائب الدواداري في شد الدواوين بالشام.
قتل في أواخر سنة سبع وتسعين وست مئة، وكان قد شاخ وأسن وسمر قاتله.
محمد بن علي بن محمد بن عليابن منصور المؤمل بن محمود البالسي، المسند عماد الدين أبو المعالي.
كان يشهد على الحكام مدة طويلة، وأسمعه أبوه حضوراً وسماعاً واستجاز له من جماعة ببغداد ومصر ودمشق، وانتفع به الناس، وحدث بالقاهرة ودمشق.
ومن شيوخه حضوراً السخاوي، وابن الصلاح، وكريمة القرشية، وشيخ الشيوخ ابن حمويه، والضياء المقدسي الحافظ، وسالم خطيب عقربا، وعمر بن المنجا، وإبراهيم الخشوعي، وإسحاق بن طرخان الشاغوري، وعتيق السلماني، وعبد الحق بن خلف وعبد الملك بن الحنبلي، وعلي بن عبد الصمد الرازي، وعيسى الداركي، وخرج له شيخنا الذهبي جزءاً جمع فيه شيوخه بالسماع والحضور والإجازة على حروف المعجم، وحدث به.
وتوفي رحمه الله تعالى خامس عشر جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده في صفر سنة ثمان وثلاثين وست مئة بدمشق.
محمد بن علي بن وهب بن مطيعالإمام العلامة شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين، قاضي القضاة، تقي الدين أبو الفتح ابن الشيخ الإمام مجد الدين المعروف بابن دقيق العيد القشيري المنفلوطي المصري المالكي الشافعي.
سمع من ابن المقير، وابن الجميزي، وابن رواج، والسبط، وعدة. وسمع من ابن عبد الدائم، والزين خالد بدمشق وخرج لنفسه " أربعين تساعيات " ولم يحدث عن ابن المقير وابن رواج، لأنه داخله شك في كيفية التحمل عنهما.
كان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى إماماً في فنونه، غماماً فيما يرسله من الفوائد في كلامه وعيونه، مفسراً، محدثا، سبق في هذين من كان عجلاً أو متلبثاً، فقيهاً مدققا، قام بفروع المذهبين محققا، أصولياً أشعريا، حقيقاً بانفراده في ذلك حريا، نحوياً أديبا، ناظماً ناثراً عجيبا، لا يباريه في كل فنونه مبار، ولا يجاريه في مضمارها مجار، ولا تعلق له الريح إذا أم غايةً بغبار.
وإذا خطاب القوم في البحث اعتلى ... فصل القضية في ثلاثة أحرف
وكان ذكياً غواصاً على المعاني، قناصاً لشوارد ما يحاوله من العلوم ويعاني، وافر العقل، سافر الحجب عن وجوه النقل، كثير السكينه، لازم الوقار والأبهة الركينه، بخيلاً بالكلام، قل أن يسمع منه غير رد السلام، شديد الورع، مديد الباع إذا قام في أمر شرعي وشرع، ملازم السهر والسهاد، مداوم المطالعة في استخراج ما ينتفع به في العبادة العباد، وكانت كفه تتخرق، وتدع الغمام حسداً لجوده بنار البرق يتحرق، عديم الدعاوى، كثير الشكر قليل الشكاوى، بصيراً بعلل المنقول، خبيراً بغلل المعقول:
يروي فيرى كل ذي ظمأ له ... بحمى الحديث تعلق وهيام
ببديهة في العلم يقسم من رأى ... ذاك التسرع أنه السهام
وكيف لا يكون ذلك، وهو الذي بعثه الله على رأس المئة ليجدد للأمة أمر دينها، ويحدد لها ما اشتبه من قواعد شريعتها عند تبيينها. وهؤلاء الذين أشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " يبعث الله على رأس كل مئة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها " .

كان الأول على رأس المئة الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المئة الثانية الشافعي رضي الله عنه، وعلى رأس المئة الثالثة ابن سريج، وقيل: أبو الحسن الأشعري، ويمكن الجمع بينهما، فإن الأشعري جاء لأصول الدين، لأن المعتزلة كانوا قد طبقوا الأرض فحجزهم رضي الله عنه في قموع السمسم، وابن سريج جاء لتقرير الفروع.
وعلى رأس المئة الرابعة أبو حامد الإسفراييني، وقيل: سهل بن أبي سهل محمد المقول فيه النجيب بن النجيب، كان أحد عظماء الشافعية الراسخين في الفقه والأصول والحديث والتصوف.
وعلى رأس المئة الخامسة حجة الإسلام أبو حامد الغزالي. وعلى رأس المئة السادسة الإمام فخر الدين الرازي. وعلى رأس المئة السابعة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.
ومن سعادة الشافعية أن الجميع شافعيون. فإن قلت: فكيف تعمل في عمر بن عبد العزيز؟ قلت: ما كانت المذاهب الأربعة ظهرت ذلك الزمان.
وقد أنشد شيخ من أهل العلم في مجلس ابن سريج:
اثنان قد مضيا فبورك فيهما ... عمر الخليفة ثم حلف السؤدد
الشافعي الألمعي محمد ... إرث النبوة وابن عم محمد
أبشر أبا العباس إنك ثالث ... من بعدهم سقياً لتربة أحمد
فصاح ابن سريج وبكى، وقال: لقد نعى إلي نفسي، ومات في تلك السنة رحمه الله تعالى.
وزاد على ذلك بعض الفقهاء فقال:
والرابع المشهور سهل محمد ... أضحى عظيماً عند كل موحد
يأوي إليه المسلمون بأسرهم ... في العلم إن جاؤوا بخطب مؤبد
لا زال فيما بيننا خير الورى ... للمذهب المختار خير مجدد
وأنشد من لفظه لنفسه مولانا قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب الأنصاري السبكي الشافعي مكملاً على الأبيات الأولى التي في ابن سريج:
ويقال إن الأشعري الثالث ال ... مبعوث للدين القويم الأملد
والحق ليس بمنكر هذا ولا ... هذا وعلمهما اقرأن فعدد
هذا لنصرة أصل دين محمد ... لنظير ذلك في فروع محمد
وضرورة الإسلام داعية إلى ... هذا وذاك ليهتدي من يهتدي
وقضى أناس أن أحمد الأسفرا ... ييني رابعهم فلا تستبعد
فكلاهما فرد الورى المعدود من ... حزب الإمام الشافعي محمد
والخامس الحبر الإمام محمد ... هو حجة الإسلام دون تردد
وابن الخطيب السادس المبعوث إذ ... هو في أصول الدين أي مؤيد
والسابع ابن دقيق عيد فاستمع ... فالقوم بين محمد أو أحمد
وانظر لسر الله أن الكل من ... أصحابنا فافهم وأنصف ترشد
هذا على أن المصيب إمامنا ... أجلى دليل واضح للمهتدي
يا أيها الرجل المريد نجاته ... دع ذا التعصب والمراء وقلد
هذا ابن عم المصطفى وسميه ... والعالم المبعوث خير مجدد
وضح الهدى بكلامه وبهديه ... يا أيها المسكين لم لا تقتدي
ولم يزل الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد إلى أن طفئ سراجه الوهاج، وأثار عليه لواعج الأحزان وهاج.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده في البحر الملح وكان والده رحمه الله تعالى متوجهاً إلى مكة في البحر، فولد له عند الينبع في يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وست مئة، ولذلك ربما كتب بخطه: " السجي " . ثم إن والده أخذه على يده فطاف به وجعل يدعو الله أن يجعله عالماً عاملاً.
وقلت أنا فيه:
ومن عند الطواف بخير بيت ... غدا يدعو أبوه له هنالك
بأن يمتاز في عمل وعلم ... فقل لي كيف لا يأتي كذلك
وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى قد تفقه بأبيه الشيخ مجد الدين بقوص، وبالشيخ عز الدين بن عبد السلام بالقاهرة وبطائفة، واشتهر اسمه في حياته وحياة مشايخه، وتخرج به أئمة.

وكان لا يسلك المراء في بحثه، بل يتكلم بسكينة كلمات يسيرة، فلا يراد ولا يراجع. وكان عارفاً بمذهبي مالك والشافعي، كان مالكياً أولاً، ثم صار شافعياً. قال: وافق اجتهادي اجتهاد الشافعي إلا في مسألتين أحدهما أن الابن لا يزوج أمه والأخرى...، وحسبك بمن يتنزل ذهنه على ذهن الشافعي.
قلت: أما مسألة الابن وعدم تزويجه لأمه فلأنه متفرع عن أصلين: أحدهما: أبوه، ولا ولاية له في تزويج أمه، والثاني: أمه، وما لها أن تزوج ابنها، فبطل أن يكون للابن ولاية في تزويج أمه.
وامتدحه شيخنا الإمام العلامة المحقق النظار ركن الدين محمد بن محمد بن القوبع بقصيدة طنانة جاء منها في مدحه:
صبا للعلم صباً في صباه ... فاعل بهمة الصب الصبي
وأتقن والشباب له لباس ... أدلة مالك والشافعي
وستأتي بقية الأبيات في ترجمة الشيخ ركن الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن.
وكانت ولايته قضاء القضاة بالديار المصرية في يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وست مئة.
وكان الشيخ تقي الدين لا ينام الليل إلا قليلاً ولا يقطعه إلا بمطالعة وذكر وتهجد، أوقاته كلها معمورة.
وله التصانيف البديعة ك " الإلمام والإمام " شرحه ولم يكمله، ولو كمل لم يكن للإسلام مثله، وكان يجيء في خمس وعشرين مجلدة، وله " علوم الحديث " و " شرح العمدة " في الأحكام الذي أملاه على ابن الأثير فاضل العصر الذي تعرفه وهو إملاء، وشرح " مقدمة " المطرزي في أصول الفقه. وألف " الأربعين في الرواية عن رب العالمين " وشرح بعض " مختصر ابن الحاجب " ، و " شرح ابن الحاجب " في فروع المالكية، وشرح " مختصر التبريزي " في فروع الشافعية.
وكان رحمه الله تعالى قد قهره الوسواس في أمر المياه والنجاسات، وله في ذلك وقائع وحكايات عجيبة. وكان كثير التسري، وله عدة أولاد سماهم بأسماء الصحابة العشرة.
ولما طلع إلى السلطان حسام الدين لاجين قام له وخطا عن مرتبته.
وعزل نفسه عن القضاء مرات، ثم يسأل ويعاد. وكان شفوقاً على المشتغلين، كثير البر لهم.
قال قطب الدين عبد الكريم: أتيت إليه بجزء سمعه من ابن رواج والطبقة بخطه، فقال: حتى أنظر في هذا، ثم عاد إليه فقال: هو خطي، ولكن ما أحقق سماعي له ولا أذكره.
أخبرني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي قال: حكى لي الشيخ قطب الدين السنباطي قال: بلغني أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قال: لكاتب الشمال عشرين سنة. أو قال: " سنين " ، الشك مني أنا في روايتي عن شيخنا تقي الدين - لم يكتب علي شيئاً، قال السنباطي: فاجتمعت به وقلت له: قال فلان عن مولانا كذا وكذا، فقال: أظن ذلك أو كذلك يكون المسلم، أو كما قال.
وكان يقول: ما تكلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله تعالى.
ولما جاءت التتار ورد مرسوم السلطان إلى مصر بجمع العلماء وقراءة البخاري، فقرؤوا البخاري إلى أن بقي ميعاد أخروه ليختم يوم الجمعة، فلما كان يوم الجمعة رئي الشيخ تقي الدين في الجامع فقال: ما فعلتم ببخاريكم؟ فقالوا: بقي ميعاد ليكمل اليوم، فقال: انفصل الحال من أمس العصر وبات المسلمون على كذا، فقالوا: نخبر عنك؟ قال: نعم، فجاء الخبر بعد أيام بذلك، وذلك في سنة ثمانين وست مئة على حمص، ومقدم التتار منكوتمر.
وقال عن بعض الأمراء وقد خرج من القاهرة إنه ما يرجع، فما رجع.
وأساء شخص عليه الأدب فقال الشيخ: نعيت لي في هذا المجلس ثلاث مرات، فمات بعد ثلاثة أيام.
واستمع له بعض أصحابه ليلةً وهو يقرأ، قال: فوصل إلى قوله تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " . قال: فما زال يكررها حتى طلع الفجر.
قلت: ويدل على ذلك تحريه في عدم الكلام، وأنه كان بخيلاً، وشعره فيه أيضاً ما يدل على ذلك.
أنشدني الشيخ شمس الدين بن نباته المصري من لفظه، قال: أنشدني الشيخ تقي الدين لنفسه:
الجسم تذيبه حقوق الخدمه ... والنفس هلاكها علو الهمة
والعمر بذاك ينقضي في تعب ... والراحة ماتت فعليها الرحمة

ومن العجيب ما نقلته أنا من بعض التعاليق أن هذين البيتين حفظهما تاج الدين أحمد أخو الشيخ تقي الدين، وكان فارضاً عاقداً بالحسينية، فاتفق أنه قال في وقت في الهاجرة بمسجد الجوادي، فرأى في النوم والدهما الشيخ مجد الدين، رحمه الله تعالى، فسلم عليه، وسأله عن حاله، فقال: يا سيدي بخير. فقال: كيف محمد أخوك؟ قال: بخير، الساعة كنت عنده وأنشدني هذين البيتين. وأنشدهما، فقال: سلم عليه وقل له:
الروح إلى محلها قد تاقت ... والنفس لها مع جسمها قد عاقت
والقلب معذب على جمعهم ... والصبر قضى وحيلتي قد ضاقت
ونقلت أنا من خطه رحمه الله تعالى لنفسه:
أفكر في حالي وقرب منيتي ... وسيري حثيثا في مصيري إلى القبر
فينشئ لي فكري سحائب للأسى ... تسح دموعا دونها وابل القطر
إلى الله أشكو من وجودي فإنني ... تعبت به مذ كنت في مبدأ العمر
تروح وتغدو للمنايا فجائع ... تكدره والموت خاتمة الأمر
ونقلت من خطه له أيضاً:
سحاب فكري لا يزال هامياً ... وليل همي لا أراه راجلا
قد أتعبتني همتي وفطنتي ... فليتني كنت مهينا جاهلا
قلت: جاء في كلام أرسطو: تعبت بعرفاني فليتني خلقت لا أعرف.
وأنشدني الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن نباتة المصري قال: أنشدنا من لفظه لنفسه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
أتعب نفسك بين ذلة كادح ... طلب الحياة وبين حرص مؤمل
وأضعت عمرك لا خلاعة ماجن ... حصلت فيه ولا وقار مبجل
وتركت حظ النفس في الدنيا وفي ال ... أخرى ورحت عن الجميع بمعزل
ولقد وقفت له على جواب طويل كتبه بخط يده في درج إلى الأمير سيف الدين منكوتمر نائب السلطان حسام الدين لاجين، وكان عند أستاذه الجزء الذي لا يتجزأ، وقد كتب فيه بعد البسملة.
" ورد على العبد الفقير محمد بن علي مخاطبة الأمير الكبير سيف الدين، ووقف عليها وعجب منها لأمرين، ثم إنه ذكر كل فصل ويجيبه عنه، إلى أن قال في آخر ذلك: فكتب الأمير إلي كتاباً يكتب إلى من ليس عنده من الدين شيء، ولو كان الأمير عرف مني ارتكاب الكبائر الموبقات ما زاد على ما فعل، وبالجملة فإن الله تعالى أمر نبيه بالمباهلة والملاعنة في الدين، فقال لأهل الكتاب: " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبنائكم ونسائنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " فنتمثل أمر الله لرسوله ونقول: اللهم يا شديد البطش، يا جبار، يا قهار، يا حكيم، يا قوي يا عزيز يا قوي يا عزيز، يا قوي يا عزيز، نسب إلي أكل الحرام من المدارس الغائبة، وإلى أمور أنت أعلم بسرها، فإن كان ذلك في علمك صحيحاً فاجعل لعنتك ولعنة ملائكتك والناس أجمعين علي، وإن لم يكن صحيحاً فاجعلها على من افترى علي بها، وإن كان الولد قد فعل ما قيل من أخذ البراطيل فاجعلها عليه، وإن لم يكن فاجعلها على من افترى عليه، فهذا إنصاف وامتثال لما أمر الله به رسوله، وربك بالمرصاد، والشكوى إلى الله الحكم العدل " .
فلم يلبث إلا أسبوعاً أو أقل أو أكثر حتى قتل السلطان وحبس منكوتمر، ثم أخرج من محبسه وذبح.
وكان من شدة وسواسه ما يجلس على جوخ ولا يقربه.
وكان في بعض الأيام طلع إلى السلطان حسام الدين وهو جالس على طراحة جوخ، فجلس معه عليها وقضى شغله، وعاد إلى بيته، ونزع كل ما عليه وغسله. فقالوا له: يا سيدي لا كنت جلست عليها، فقال فكرت إن جلست دونه أكن قد أهنت منصب الشرع، وهو أمر ما يزول، فجلست معه وغسلت ما علي فزال.
وقيل: إنه امتنع من أكل الحلوى فقيل له في ذلك، فقال: لأني رأيت يوماً بعض الصناع يحرك دست حلوى ثم إنه أراق ماءً ولم يستنج. وقيل: كان يغسل الحلوى ويأكلها.
وكان قد عزل نفسه في شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وست مئة، ثم إنه أعيد إلى القضاء وخلع عليه، ورسم له أن لا يستنيب ولده محب الدين.
وعلى الجملة فكان امرأ غريباً قل أن ترى العيون مثله زهداً وورعاً وتصميماً وتحرياً واجتهاداً وعبادة وتوسعاً في العلوم.
فهو الذي بجح الزمان بذكره ... وتزينت بحديثه الأشعار

وأما ما كان يقع في حقه من شيخنا العلامة أثير الدين فله سبب، أخبرني شيخنا الحافظ أبو الفتح اليعمري قال: كان الشيخ تقي الدين قد نزل عن تدريس مدرسة لولده، أنسيت أنا اسم المدرسة واسم ابنه، فلما حضر الشيخ أثير الدين درس قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز قرأ آيةً يدرس بها ذلك اليوم وهي " قد خسر الذين قتلوا أولادهم " الآية، فبرز أبو حيان من الحلقة وقال: يا مولانا قاضي القضاة " قدموا أولادهم " ، يكرر ذلك، فقال قاضي القضاة: ما معنى هذا؟ فقال: ابن دقيق العيد نزل لولده فلان عن تدريس المدرسة الفلانية، فنقل المجلس إلى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فقال: أما أبو حيان ففيه دعابة من أهل الأندلس ومجونهم، وأما أنت يا قاضي القضاة يبدل القرآن في حضرتك وما تنكر هذا الأمر. فما كان إلا قليل حتى عزل ابن بنت الأعز عن القضاء بابن دقيق العيد. وكان إذا خلا شيء من الوظائف التي تليق بالشيخ أثير الدين يقول الناس: هذه لأبي حيان، فتخرج عنه لغيره. فهذا هو السبب الموجب لحطه عليه وشناعته.
والصحيح أن أهل العصر لا يرجع إلى جرح بعضهم بعضا بهذه الواقعة وأمثالها:
إن العرانين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا
وبعد هذا ما خلص ابن بنت الأعز من ضرب العنق إلا ابن دقيق العيد، لأن الوزير شمس الدين بن السلعوس لما عمل على ابن بنت الأعز وعزله، وعمل محاضر بكفره، وأخذ خط الجماعة على المحاضر، ولم يبق إلا خط ابن دقيق العيد، أرسل إليه المحاضر مع النقباء وقال: يا مولانا الساعة تضع خطك على هذه المحاضر، فأخذها وشرع يتأملها واحداً وحداً، والنقباء من القلعة يتواترون بالحث والطلب والإزعاج، وأن الوزير والسلطان في طلب ذلك، وهو لا ينزعج، وكلما فرغ محضراً دفعه إلى الآخر وقال: ما أكتب فيها شيئاً. قال الشيخ فتح الدين: فقلت أنا: يا سيدي لأجل السلطان والوزير، فقال: أنا ما أدخل في إراقة دم مسلم، قال: فقلت: فكيف كنت تكتب خطك بذلك، وبما يخلص فيه؟ فقال: يا فقيه ما عقلي عقلك، هم ما يدخلون إلى السلطان ويقولون: قد كتب فلان بما يخالف خطوط الباقين، وإنما يقولون: قد كتب الجماعة، وهذا خط ابن دقيق العيد، فأكون أنا السبب الأقوى في قتله، قال: فأبطل ذلك عملهم، وسكن سورتهم، وأطفأ شواظ نارهم.
قال شيخنا أبو الفتح: وما كان الشيخ تقي الدين يعجبه من يقول: قاضي القضاة الشافعي، فإذا قلنا: قاضي القضاة الشافعية قال: إيه هذا.
وأخبرني شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء قال: قال لي يوماً الشيخ تقي الدين: قول أبي الطيب:
أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركة لأعيا عيسى
في هذا شيء غير إساءة الأدب، ففكرت ساعة، ثم قلت: نعم، كون الموت ما يتفاوت إن كان بالسيف أو بغيره، فالإحياء من الموت سبيل واحدة، فقال: أحسنت يا فقيه. أو كما قال.
وهذه المؤاخذة دقيقة لا تصدر إلا من أديب كبير كالجاحظ أو غيره.
قال لي شيخنا شهاب الدين: ما رأيت في أهل الأدب مثله، وناهيك بمن يقول مثل الشهاب محمود في حقه مثل هذا، وقد كان شيخ الأدب في زمانه، ووقفت أنا له على كتاب كتبه إلى قاضي القضاة شهاب الدين الخويي شافعاً ومتشوقاً: " يخدم المجلس لا زال حافظاً لأحكام الجود، محفوظاً بضمان الله في ضمن السعود، محروس العزم من دواعي الهوى والعز من دعاوي الحسود، مقابل وجه الرأي بمرآة الحق، مولي جناب الباطل جانب الصدود، ولا برح على العفاة سحائب كرمه، ويروي الرواة من بحار علوم تمد من قلمه، ويجلو أبكار الأفكار مقلدة بما نظم السحر من حلي كلمه، ويبرز خفيات المعاني منقادةً بأيد ذهنه وأيدي حكمه، ويسمو إلى غايات المعالي حتى يقال: أين سمو النجم من هممه، ويسبغ من جمال فضله وجميله ما يبصره الجاهل على عماه، ويسمعه الحاسد على صممه، وينهي من ولائه ما يشهد به ضميره الكريم، ومن ثنائه ما هو أطيب من ودائع الروض في طي النسيم. ومن دعائه ما يقوم منه بوظيفة لا تهمل، ويشيعه برجاء يطمع معه

بكرم الله أن يقبل ويقبل، ويجري منه على عادة إذا انقضى منها ماض تبعه الفعل في الحال والعزم في المستقبل، غير خاف أنه " لكل أجل كتاب " ، ولكل مقصود أسباب، ولم يزل يهم بالكتابة والأيام تدافع، ويعزم على المخاطبة فتدفع في صدر عزمه الموانع، حتى طلع بهذا الوقت فجر حظه، واستناب منافثة قلمه عن مشافهة لفظه، وقال لخدمته هذه: ردي مورداً غير آسن، وتهني بمحاسن لا تشبهها المحاسن، وتوطني المحلة المسعودة فكما يسعد الناس، فكذلك تسعد الأماكن، وشاهدي من ذلك السيد صدراً بشره بالنجح ضامن، وشهاباً ما زلنا نعد السيادة سبعاً حتى عززت لنا منه بثامن، وكان السبب في ذلك أن القاضي نجم الدين بمحلة منف لما قدم القاهرة أقام بحيث نقيم، وحاضرنا محاضرة الرجل الكريم، ونافث منافثةً " لا لغو فيها ولا تأثيم " ، ولازم الدروس ملازمةً لولا أنها محبوبة لقلنا ملازمة غريم، وتلك حقوق له مرعيه، ومعرفة أنسابها مراضعة العلوم الشرعيه، وقصد هذه الخدمة إلى المجلس، فكان ذلك من واجب حقه، وذكر ثناءً فقلنا: رأيت الحق لمستحقه وسيدنا حرسه الله تعالى أهل لتقليد المنن، ومحل لأن يظن به كل حسن، والعلم بمروءته لا يقبل تشكيك المشكك، وأبوة يقتضي أن يرتقي من بعروة وده يستمسك. والله تعالى يرفع شانه، ويعلي برهانه، ويكتب له يوم إحسانه، ويطوي على المعارف اليقينية جنايه، ويطلق بكل صالحة يده ولسانه بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى " .
قلت: ما أعرف من كتب الإنشاء بعد القاضي الفاضل رحمه الله تعالى مثل القاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر، وماله مثل هذه المكاتبة إذا لم تعتبر التورية علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
وأنشدني شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس قال: أنشدني من لفظه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد لنفسه:
أأحباب قلبي والذين بذكرهم ... وترداده طول الزمان تعلقي
لئن غاب عن عيني بديع جمالكم ... وجار على الأبدان حكم التفرق
فما ضرنا بعد المسافة بيننا ... سرائرنا تسري إليكم فنلتقي
وبالسند المذكور له أيضاً:
قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثل ما يرتضي
فقلت لما لم يكن ذا تقى ... تعارض المانع والمقتضي
ومن شعر الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى:
كم ليلة فيك وصلنا السرى ... لا نعرف الغمض ولا نستريح
قد كلت العيس فجد الهوى ... واتسع الكرب فضاق الفسيح
وكادت الأنفس مما بها ... تزهق والأرواح منها تطيح
واختلف الأصحاب ماذا الذي ... يزيل من شكواهم أو يريح
فقيل تعريسهم ساعةً ... وقيل بل ذكراك وهو الصحيح
قلت: لا أعرف لأحد من المتقدمين ولا من المتأخرين حسن هذا المخلص ثم إنه نص على الصحيح بعد ذلك.
ومن شعره:
يا معرضاً عني ولست بمعرض ... بل ناقضاً عهدي ولست بناقض
أتعبتني فخلائق لك لم يفد ... فيها وقد جمحت رياضة رائض
أرضيت أن تختار رفضي مذهباً ... ويشنع الأعداء أنك رافضي
ومنه:
قد جرحتنا يد أيامنا ... وليس غير الله من آس
فلا ترج الخلق في حاجة ... ليسوا بأهل لسوى الياس
ولا تزد شكوى إليهم فلا ... معنى لشكواك إلى قاشي
وإن تخالط منهم معشرا ... هويت في الدين على الراس
يأكل بعض لحم بعض ولا ... يحسب في الغيبة من باس
لا ورع في الدين يحميهم ... عنها ولا حشمة جلاس
لا يعدم الآتي إلى بابهم ... من ذلة الكلب سوى الخاسي
فاهرب من الناس إلى ربهم ... لا خير في الخلطة بالناس
ومن شعره رحمه الله تعالى:
وقائلة مات الكرام فمن لنا ... إذ عضنا الدهر الشديد بنابه
فقلت لها: من كان غاية قصده ... سؤالاً لمخلوق فليس بنابه
لئن مات من يرجى فمعطيهم الذي ... يرجونه باق فلوذي ببابه
ومنه:
ومستعبد قلب المحب وطرفه ... بسلطان حكم لا ينازع في الحكم

متين التقى عف الضمير عن الخنا ... رقيق حواشي الطرف والحسن والفهم
يناولني مسواكه فأظنه ... تحيل في رشفي الرضاب بلا إثم
ومنه:
إذا كنت في نجد وطيب نسيمها ... تذكرت أهلي باللوى فمحجر
وإن كنت فيهم ذبت شوقاً ولوعة ... إلى ساكني نجد وعيل تصبري
وقد طال ما بين الفريقين قصتي ... فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري
ومنه، وقيل إنه في ابن الجوزي:
دققت في الفطنة حتى لقد ... أبديت ما يسحر أو يسبي
وصرت في أعلى مقاماتها ... حيث يراك الناس كالشهب
وسار ما صيرت من جوهر ال ... حكمة في الشرق والغرب
ثم تنازلت إلى حيث لا ... ينزل ذو فهم وذو لب
تثبت ما تجحده فطرة ال ... عقل ولا تشعر بالخطب
أنت دليل لي على أنه ... يحال بين المرء والقلب
ومنه ما نظمه في بعض الوزراء:
مقبل مدبر بعيد قريب ... محسن مذنب عدو حبيب
عجب من عجائب البر والبح ... ر ونوع فرد وشكل غريب
ومن شعره:
يا هل أقضى حاجتي من منى ... وأنحر البزل المهاريا
وأرتوي من زمزم فهي لي ... ألذ من ريق المها ريا
يهيم قلبي طرباً كلما ... أستلمح البرق الحجازيا
ويستخف الوجد عقلي وقد ... لبست أثواب الحجى زيا
ومنه:
تمنيت أن الشيب عاجل لمتي ... وقرب مني في صباي مزاره
لآخذ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره
ومنه:
يا شبابي أفسدت صالح ديني ... يا مشيبي نغصت طيب عيشي
فعدوان أنتما لا صديقا ... ن تلعبتما بحلمي وطيشي
ومنه:
لم يبق لي أمل سواك فإن يفت ... ودعت أيام الحياة وداعا
لا أستلذ لغير وجهك منظراً ... وسوى حديثك لا أريد سماعا
وأنشدني الشيخ شمس الدين بن نباته قال: أنشدني له:
لعمري لقد قاسيت بالفقر شدةً ... وقعت بها في حيرة وشتات
فإن بحت بالشكوى هتكت مروءتي ... وإن لم أبح بالصبر خفت مماتي
فأعظم به من نازل بملمة ... يزيل حيائي أو يزيل حياتي
وأنشدني من لفظه شيخنا فتح الدين قال: أنشدني من لفظه له:
الحمد لله كم أسعى بعزمي في ... نيل العلا وقضاء الله ينكسه
كأنني البدر أبغي الشرق والفلك ال ... أعلى يعارض مسعاه فيعكسه
قلت: هذا مثل قول الأرجاني:
سعيي إليكم في الحقيقة والذي ... تجدون عنكم فهو سعي الدهر بي
أنحوكم ويرد وجهي القهقرى ... دهري فسيري مثل سير الكوكب
فالقصد نحو المشرق الأقصى له ... والسير رأي العين نحو المغرب
قلت: إلا أن هذا المعنى الذي أتى به الشيخ تقي الدين في بيتين فهو أخصر. وقد تكلمت في " شرح لامية العجم " على معنى الأرجاني وأوضحته.
وأخبرني شيخنا الحافظ فتح الدين، وكان خصيصاً بالشيخ تقي الدين قال: كان الشيخ مغرىً بالكيمياء، معتقداً صحتها، قال: لأنه اتفق لي في مدينة قوص من صنعها بحضوره وحكى لي الواقعة بطولها في ذلك.
وممن روى عنه الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، وقطب الدين بن منير، وقاضي القضاة علاء الدين القونوي، وقاضي القضاة علم الدين الأخنائي، وآخرون، وحدث شيخنا الذهبي إملاءً.
وقال كمال الدين الأدفوي: حكى القاضي شهاب الدين بن الكويك التاجر الكارمي رحمه الله تعالى، قال: اجتمعت به مرةً واحدة، فرأيته في ضرورة، فقلت: يا سيدنا ما تكتب ورقة لصاحب اليمن؟ اكتبها وأنا أقضي فيها الشغل، فكتب ورقة لطيفة فيها:
تجادل أرباب الفضائل إذ رأوا ... بضاعتهم موكوسة الحظ في الثمن
وقالوا عرضناها فلم نلف طالباً ... ولا من له في مثلها نظر حسن
ولم يبق إلا رفضها واطراحها ... فقلت لهم لا تعجلوا السوق باليمن

وأرسلها إليه فأرسل له مئتي دينار، واستمر يرسلها صاحب اليمن إلى أن مات. وقال كمال الدين أيضاً: قال لي عبد اللطيف بن القفصي: هجوته مرة فبلغه، فلقيته في الكاملية فقال: بلغني أنك هجوتني، أنشدني، فأنشدته بليقةً أولها:
قاضي القضاة أعزل نفسو ... لما ظهر للناس نحسو
إلى آخرها فقال: هجوت جيداً.
وقال قال لي صاحبنا الفقيه الفاضل الثقة مجير الدين عمر بن اللمطي، قال: كنت مرةً بمصر، وطلعت إلى القاهرة، فقالوا لي: الشيخ طلبك مرات، فجئت إليه، فقال أين كنت؟ قلت: بمصر في حاجة، قال: طلبتك في حاجة، سمعت إنساناً ينشد خارج الكاملية:
بكيت قالوا عاشق ... سكت قالوا قد سلا
صليت قالوا زوكر ... ما أكثر فضول الناس
وقال: حكى لي صاحبنا فتح الدين محمد بن كمال الدين أحمد بن عيسى القليوبي قال: دخلت مرةً عليه وفي يده ورقة ينظر فيها زماناً، ثم ناولني الورقة وقال: اكتب من هذه نسخة، فأخذتها فوجدت فيها " بليقة " أولها:
كيف أقدر أتوب ... وراس إيري مثقوب
وقال: قال لي شيخنا تاج الدين محمد بن أحمد الدشناوي: سمعته ينشد هذه " البليقة " أولها:
جلد عميرة بالزجاج ... ولا الزواج
ويقول: بالزجاج يا فقيه...! وقال: حكى لي القاضي سراج الدين يونس بن عبد المجيد الأرمنتي قاضي قوص قال: جئت إليه مرة، وأردت الدخول، فمنعني الحاجب وجاء الجلال العسلوجي فأدخله وغيره، فتألمت، وأخذت ورقة وكتبت فيها:
قل للتقي الذي رعيته ... راضون عن علمه وعن عمله
انظر إلى بابك... ... ...... يلوح من خلله
باطنه رحمة وظاهره ... يأتي إليك العذاب من قبله
ثم دخلت وجعلت الورقة في الدواة، وظننت أنه ما رآني، فقال: أجلس، ما في هذه الورقة؟ قلت: يقرأها سيدنا، فقال: أقرأها أنت، فكررت عليه، وهو يرد علي فقرأتها، فقال: ما حملك على هذا؟ فحكيت له، فقال: وقف عليها أحد؟ فقلت: لا، فقال قطعها.
قال: وأخبرني برهان الدين إبراهيم المصري الحنفي الطبيب، وكان قد استوطن قوص سنين، قال: كنت أباشر وقفاً، فأخذه مني شمس الدين محمد ابن أخي الشيخ، وولاه لآخر، فعز علي، فنظمت أبياتاً في الشيخ، فبلغته، فأنا أمشي خلفه مرة فإذا به قد التفت إلي وقال: يا فقيه، بلغني أنك قد هجوتني، فسكت فقال: أنشدني، فألح علي فأنشدته:
وليت فولى الزهد عنك بأسره ... وبان لنا غير الذي كنت تظهر
ركنت إلى الدنيا وعاشرت أهلها ... ولو كان عن جد لقد كنت تعذر
فسكت زمانا وقال: ما حملك على هذا؟ فقلت: أنا رجل فقير، وأنا أباشر وقفاً أخذه مني فلان، فقال: ما علمت هذا، أنت على حالك، فباشرت الوقف مدةً، وخطر لي الحج، فجئت إليه استأذنه، فدخلت خلفه، فالتفت إلي وقال: أمعك هجو آخر؟ فقلت: لا، ولكني قصدت الحج، وجئت أستأذن سيدي، فقال: مع السلامة ما نغير عليك.
وقال ناصر الدين شافع: من شعر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قوله:
تجاوزت حد الأكثرين إلى العلا ... وسافرت واستبقيتهم في المعاوز
وخضت بحاراً ليس يعرف قدرها ... وألقيت نفسي في فسيح المفاوز
ولججت في الأفكار ثم تراجع اخ ... تياري إلى استحسان دين العجائز
وكتب إليه ناصر الدين حسن بن النقيب الفقيسي لما قدم الديار المصرية في سنة أربع وسبعين وست مئة:
أأنت كالشافعي إذ حل مصراً ... فهو فيها علماً وإن فات عصرا
قد رأيناه مذ قدمت علينا ... وسمعناه بعد ما حل قبرا
وارتضيناك مالكاً وإماماً ... فامض فينا الأحكام نهياً وأمرا
وهي ثلاثون بيتاً، فأجاب الشيخ عنها بأبيات أولها:
قد تأملت ما بعثت به لا ... زلت تهدي لمن يواليك برا
فرأيت الجمال كمل والإج ... مال فاستجمعا وسمي شعرا
وتنزهت في رياض بديع ... من صنيع اليبان أطلعن زهرا
يا أمير حتى على النظم والنث ... ر لقد زدت في الإمارة قدرا
وهي خمسة عشر بيتاً، وكتب الجواب ابن النقيب أيضاً وأوله:

أرسلت أبياتاً إلي بنشرها ... غرف الجنان تزخرفت وقصورها
وبها عيون الشعر إلا أنها ... ولدان هاتيك الجنان وحورها
ورأيت ألفافا من الجنات إلا ... أنهن حروفها وسطورها
وهي أحد عشر بيتاً، وقد أثبت الجميع في الجزء التاسع والعشرين من " التذكرة " التي لي.
وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى صحح حديث القلتين، واختار ترك العمل به لا لمعارض أرجح بل، لأنه لم يثبت عنده بطريق يجب الرجوع إليه شرعاً تعيين لمقدار القلتين.
وقال رحمه الله تعالى: ذكر بعضهم المسألة السريجية وقال: إذا انعكست انحلت وتقريره أن صورة المسألة: متى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً، أو متى طلقتك، فوجه الدور أنه متى طلقها الآن وقع قبله ثلاثاً ومتى وقع قبله ثلاثاً لم يقع، فيؤدي إثباته إلى نفيه، فانتفى، وعكس هذا أن يقول: متى طلقتك، أو متى وقع عليك طلاقي فلم يقع فأنت طالق قبله ثلاثاً، فحينئذ متى طلقها وجب أن تقع الثلاث القبلية، لأنه حينئذ يكون الطلاق القبلي ثابتاً على النقيضين، أعني المنجز وعدم وقوعه، وما ثبت على النقيضين فهو ثابت في الواقع قطعاً، لأن أحدهما واقع قطعاً، فالمعلق به واقع قطعاً. وهذه مقدمة ضرورية عقلية لا تقبل المنع بوجه من الوجوه، وأصل المسألة الوكالة. وكان شيخنا العلامة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يقول: إن طلقتك فوقع عليك طلاقي أو لم يقع فأنت طالق قبله ثلاثاً، ثم يقول لها: أنت طالق، فحينئذ يحكم بأنها طلقت قبل ذلك التطليق ثلاثاً عملاً بالشرط الثاني، وهو عدم الوقوع، لأن الطلاق المعلق مشروط بأحد أمرين: إما الوقوع وإما عدمه في زمن واحد مستند إلى زمن واحد قبلي، ولا يمكن الحكم بالوقوع القبلي مستنداً إلى عدم الوقوع فلا مجال فيه، لأنه لا يمكن أن يقال: لو وقع فيه لوقع قبله، لأنه إما أن يحتمل القبلية على المتسعة التي أولها عقب التعليق، أو على القبلية التي تستعقب التطليق، فإن التعليق لا يسبقه، وهذا فائدة فرضنا التعليق على التطليق ونفيه بكلمة واحدة، وإن كان الثاني لم يتمكن القول أيضاً بالوقوع قبله استناداً إلى الشرط الأول، لأنه كما تتقيد القبلية القريبة بالنسبة إلى الشرط الثاني كذلك تتقيد بالنسبة إلى الشرط الأول، فلا يكون على تقدم الوقوع على ذلك الزمان دليل، ولا له موجب، هذا كله إذا كان التعليق بالنقيضين بكلمة واحدة، كما فرضناه، وبان لك بهذا أن الحكم بالوقوع ليس لكونه معلقاً بالنقيضين وأن ما تعلق بالنقيضين واقع، كما توهمه القائل لأن التعليق بالعدم، وأنه لا مانع منه ولا استحالة فيه حتى لو انفرد التعليق بالعدم، وكان كذلك فلا أثر للتعليق معه على الوجود وإن وقع في فرض المسألة.
محمد بن علي بن أحمدابن فضل، المسند المبارك شمس الدين أبو عبد الله، أخو الإمام القدوة تقي الدين الواسطي.
حضر على الشيخ الموفق، وموسى بن عبد القادر، وابن راجح، وسمع عن ابن أبي لقمة، والقزويني، وابن البن، وابن صصرى، والبهاء، وابن صباح الكاشغري، وابن غسان، والزبيدي، وعمر بن شافع، وطائفة.
خرج له شيخنا الذهبي عوالي في جزء ضخم، وخرج له ابن النابلسي " مشيخةً " في جزأين، وسمع منه شيخنا المزي، وشيخنا البرزالي، وشيخنا ابن سيد الناس، والمقاتلي، وابن المهندس، ونجم الدين القحفازي، وشمس الدين بن المهيني، وغيرهم.
وتوفي رحمه الله تعالى في منتصف شهر رجب الفرد سنة سبع مئة.
ومولده سنة خمس عشرة وست مئة تقريباً.
محمد بن عليالوزير الكبير سعد الدين الساوجي العجمي.
كان من جملة وزراء خربندا، كان جباراً ظالماً، إلا أنه كان عمر ببغداد جامعاً أنفق عليه ألف ألف درهم، رافعوه، فقتله خربندا، وذبح ابناه قبله. صلى ركعتين قبل قتله وودع أهله وثبت للقتل، وخلع فرجيته على قاتله، فباس يده واستعجل منه في حل، ثم إنه أطار رأسه وقتل معه الوزير مبارك شاه، وصاحب الديوان المانشتري، وتاج الدين الآوي كبير الأشراف، والملك ناصر الدين يحيى بن إبراهيم صاحب سنجار، وذلك في سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
محمد بن علي بن يحيى بن عليالشيخ العلامة الغرناطي المالكي المقرئ بالمدينة، أبو محمد.

كان فقيهاً نحوياً مشاركا في عدة فنون، أديباً شاعراً، سمع بالمغرب " الموطأ " من أبي محمد بن هارون، وسمع بالحجاز من جماعة، وشرح " الجمل " في النحو وحدث.
سمع منه شيخنا البرزالي وجماعة، وجاور بمكة والمدينة مدة، وله نظم كثير في المديح النبوي أكثر من ألفي بيت.
وتوفي رحمه الله تعالى بالمدينة في يوم الاثنين سادس صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده بأجوار غرناظة سنة إحدى وسبعين وست مئة.
محمد بن علي بن عمر المازني الدهانشمس الدين الدمشقي الشاعر المشهور.
كان يعرف " مقامات " الحريري، وربما يحفظها، ويدري الموسيقى، ويرى محاسنها ويلحظها، فينظم الشعر الرقيق ويلحنه، ويروجه بذلك على الأسماع ويملأه بهجة ويشجنه. وكان يلعب بالقانون، ويرى أنه يصلح لمنادمة المأمون.
وكان له مكان قد عمره في الربوه، واعتنى به، وجعله بالزخرفة حظوه، يجمع به أحبابه وأترابه وأصحابه، ويأخذ أرباب الملاهي عنه الألحان، ويرون أنهم أشواق إليها من بنت الحان.
ولم يزل على حاله إلى أن دهي الدهان، وأمسى تحت الأرض إلى أن تصير السماء وردة كالدهان.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس شهر رجب يوم السبت سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
أنشدني من لفظه لنفسه القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: كتبت إليه مضمنا:
رأيتك أيها الدهان تبغى ... مزيدا في التودد بالمساعي
فلو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
وذكرت أنا هنا ما نظمته في مليح دهان:
ودهان أقول له ونفسي ... من الوجد المبرح لم أجدها
ملكت جميع حسن في البرايا ... فلو صورت نفسك لم تزدها
وكان قد اشترى مملوكاً وأحبه ورباه وهذبه وخرجه، فمات، فحزن عليه حزناً عظيماً، وأسف عليه أسفاً كبيراً، ورثاه بأشعار كثيرة، ولحنها وغنى بها على قانونه، ونقلها المغنون عنه وتداولها الناس مدة مديدة.
وأنشدني من لفظه لنفسه جمال الدين يوسف الشاعر الصوفي في ذلك:
لئن مات يا دهان مملوكك الذي ... بلغت به في الفسق ما كنت ترتجي
فمثله بالأصباغ وجهاً وقامةً ... وخصراً وردفاً ثم عاينه واصلج
ومن شعر شمس الدين الدهان مما رثى به مملوكه:
مصيبة فقد أيقظت كل هاجع ... ووثبة حتف فاجأت بالفواجع
ولوعة حزن فاجأت لاعج الأسى ... فصدمتها الشنعاء بين الأضالع
ووقعة رزء لم تدع حين هدمت ... قوى الصبر قلباً وقعها غير واقع
إذا ما دعا داعي التذكر باسمها ... أجابت حنيناً هاطلات المدامع
لقد ضل من يبغي اجتماعاً وألفةً ... من الدهر والأيام ذات القوارع
وما الدهر إلا ظالم غير منصف ... وموجد تفريق لنا غير جامع
وما هذه الأجساد إلا منازل ... وأرواحنا فيهن غير ودائع
ومنها:
ألا سبيل الله شخص رزئته ... على غرة والدهر جم الفحائع
فجعت به كالبدر في السن والسنا ... وكالشمس في إشراقها والمنافع
سريع إلى داعي الجميل مبرأ ... من العيب عف طرفه في المجامع
جميل المحيا فيه تلمح صادقا ... رزانة كهل وهو في سن يافع
وهي طويلة تزيد على الخمسين بيتاً.
وقال فيه أيضاً:
سلو طول هذا الليل يخبركم عني ... بأني لم يغمض لفقدكم جفني
رحلتم بصبري واستمر مريركم ... وأسلمتم قلبي إلى لوعة الحزن
وعوضتموني عن سروري بالأسى ... وبالبعد عن قربي وبالخوف عن أمني
وقد كان ظني أن يدوم وصالكم ... فأخلفت الأيام في وصلكم ظني
ومن شعره فيه ما أنشدنيه عنه الصارم إبراهيم بن عبد الرحمن العواد:
ما سيج الورد في خديك ريحان ... إلا ووجهك في التحقيق بستان
ولا تعطف منك العطف من صلف ... إلا وريقك خمر وهو نشوان
لله فتنة ذاك الطرف منك لقد ... سبى المحبين لحظ منه فتان
لو لم يكن سلب العشاق نومهم ... ما راح من غير سهد وهو وسنان

قلت: البيت الرابع أخذه من قول مهذب الدين بن القيسراني:
هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملأى من الوسن
وما أحسن ما أتى بهذا تضميناً شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود رحمه الله تعالى، أنشدنيه لنفسه إجازة:
قالوا وقد عاينوا عيني ساهرة ... من الكرى وأطالوا في لومهم
فقلت: عهدي به من يوم فارقني ... هذا الذي سلب العشاق نومهم
وبه قال: أنشدني له:
عند قلبي منك وجد لا يحد ... وغرام هزله في القول جد
واشتياق ناره لا تنطفي ... وله بين شغاف القلب وقد
أيها البدر الذي تيمني ... منه وجه يشبه البدر وخد
وسباني جوهر من ثغره ... فوقه من ريقه خمر وشهد
وبه قال: أنشدني له:
دلائل الوجد لا تخفى على الفطن ... والحب أقصاه ما أفضى إلى الفتن
كم ذا التستر والأشواق تعرب عن ... سر الهوى بلسان المدمع الهتن
دع التكتم فالكتمان نار جوى ... بين الجوانح تذكيها يد المحن
وبح فليس بعار أن تبوح فما ... في ساحة الحي إلا كل ذي شجن
قلت: الرابع أخذه من قول الأول.
لا تخف ما صنعت بك الأشواق ... واشرح هواك فكلنا عشاق
وبه قال: أنشدني له:
ألا حبذا الوادي وروض البنفسج ... وطيب شذى من عرفه المتأرج
وأغصان بان في نواحيه ميد ... وكل قويم القد غير معوج
وأنهار ماء في صفاء ورقة ... تسيل بها ما بين روض مدبج
فإن جعدته خطرة من نسيمه ... فيا حسن مرآى مائه المتموج
ومن شعره ملغزاً في الجوز:
ومجلود له جرم ... بلا جرم ولا ذنب
يعاقب وهو من كرم السجية طيب القلب
وكتب إليه المجير أحمد الخياط، نقلته من خطه:
بات بعيد الدار عن سكنه ... صب قريب المزار من شجنه
متيم يذرف الدموع دما ... في الربع بعد الدما على دمنه
لم يبق فيه بلى الرسوم سوى ... وسم خيال يلوح من بدنه
رام اكتتام الغرام مستتراً ... بالصبر والصبر ليس من جننه
وكيف يخفي الهوى وعبرته ... تنقل من سره إلى علنه
رق له الشامتون حين رأوا ... فرط اكتئاب علاه من حزنه
مد له لا يعي الملام ولا ... يدخل عذل العذول في أذنه
أقسمت بالبيت ذي الستور وبال ... حجيج والراقصات من بدنه
ويوم جمع والمشعرين ومن ... وفى فروض الميقات مع سننه
إن أبا عبد الله نادرة ... أحسن ما في الزمان من حسنه
ليس يوازى بمن يشاكله ... في سائر الناس من بني زمنه
لا في نهاه ولا فضائله ... ولا ذكاه كلا ولا فطنه
غذي لبان الآداب في حكم ال ... علوم قبل الفصال من لبنه
وفاق في الموسيقا ومعبد في ... دخوله والغريض في غننه
وفي القريض الجزل الرقيق شأى ... وفات نجل الحسين مع حسنه
هو الحبيب الذي يداهنني ... والدهن من فنه ومن فننه
واعدني ذورة وقد علقت ... ذاتي بحب الوعود في رهنه
فإن يبادر إنجازها عدةً ... عددتها ما حييت من مننه
وللمحب الداعي إليه هوىً ... يجذب من ضبعه ومن رسنه
سن له شوقه تباعده ... فلم يزل جارياً على سننه
وهو مقيم على ودادك ما عا ... ش إلى أن يلف في كفنه
قلت: قد حذفت منها كثيراً لما فيه من اللحن والزحاف وفساد التركيب.
وكتب شمس الدين الدهان إليه الجواب عن ذلك:
شف المعنى وزاد في شجنه ... هاتف أيك أوفى على فننه
دعا هديلاً شطت به غربة ال ... بين فأمسى يبكيه من شجنه

فاهتجن من دائه الدوي عقا ... بيل غرام له إلى سكنه
أذكره طيب عيشة سلفت ... وانصرمت بالقيان مع فتنه
فبات يجري دمعاً يشاركه ال ... غيث إذ الغيث ارفض عن مزنه
واصطلم البين صبره ونفى ... عن جفنه المستلذ من وسنه
فياله من فتى أخي حرق ... حافظ عهد المغيب مؤتمنه
ما ترك الحب حين جد به ... سوى خيال يلوح من بدنه
فقال للاحيه في الغرام دع اللو ... م ودعه إن كنت لم تعنه
لا تبغ بالعدل أن تقاد فقد ... مكن كف الغرام من رسنه
وللهوى المستلذ مهجته ... قد خضعت فانضوت إلي محنه
كما لعبد المجير قد خضعت ... غر القوافي فاتضعن في قرنه
أي بليغ أعيت بلاغته ... مسا وفاقت إياس في لسنه
صريح ود من أن يشاب نقي ال ... عرض صافي الأديم من درنه
كاتبتني محسناً بمحكمة ... ذات بيان دلت على فطنه
رقت وراقت فراح سامعها ... يخال سحراً قد صب في أذنه
لم يجر سبقا لمثلها ابن أبي الصل ... ت بغمدانه ولا عدنه
أربى على جرول بها وشأى ... حسان وابن الحباب من حسنه
يفديك عبد المجير مضطغن ال ... ضغنة أمسى يطوي على ضغنه
فاسلم على رغمه تصرف في ال ... كلام منثوره ومتزنه
ما انعطف البان بالنسيم وما ... رجعت الساجعات في غصنه
قلت: قوله: " فقل للاحيه في الغرام " البيت قافيته ملحونه، لأنه قال: " إن كنت لم تعنه " لأن النون ساكنة ووقع له قبلها أخرى في بيت حذفته، وهو معذور لأن المجير وقع له مثل ذلك، وحذفته، فقلده الدهان، وكلاهما اغتر بقول النحاة: الساكن إذا تحرك كسر، ذاك إذا كان الساكن متطرفاً، أما وبعده ضمير أو غيره فلا.
ولشمس الدين الدهان رحمه الله تعالى:
يا بأبي غصن بانة حملابدر دجى بالجمال قد كملاأهيف
فريد حسن ما ماس أو سفرا
إلا أغار القضيب والقمرا
يبدي لنا بابتسامه دررا
وفي شهد لذ طعمه وحلاكأن أنفاسه نسيم طلاقرقف
مورد الخد فاتر المقل
يفوق ظبي الكناس بالحمل
وينثني كالقضيب في الميل
من حمل ردف مثل الكثيب علانيط بخصر كأضلعي نحلامخطف
ظبي من الترك يقنص الأسدا
مقرطق قد أذابني كمدا
حاز بديع الجمال فانفردا
واهاً له لو أجار أو عدلالمستهام بهجره نحلامدنف
غزال سرب جماله شرك
ستر اصطباري عليه منتهك
لكل قلب هواه منتهك
علم قلبي الولوع والغزالاطرف له بالفتور قد كحلاأوطف
لله يوم به الزمان وفى
إذ من بالوصل بعد طول جفا
حتى إذا ما اطمأن وانعطفا
أسفر عنه اللثام ثم جلاورداً بغير اللحاظ منه فلايقطف
فظلت من فرط شدة الترح
إذ زارني والرقيب لم يلح
ألثم أقدامه من الفرح
وقلت إذ عن صدوده عدلاأهلاً من بعد جفوة وقلىأسعف
قلت: والأصل في هذا التوشيخ أن بعضهم أخذ قول أبي نواس الحسن بن هانئ:
أما ترى الشمس حلت الحملا ... وطاب وقت الزمان واعتدلا
فجاء إلى آخره وزاده توشيحة فقال: " فاشرب " ، ولما فتح هذا الباب لأهل النظم طاروا إليه زرافات ووحدانا ودخلوا أرسالاً لخفته وعذوبته، وغالب من نظم فيه لزم الباء في التوشيخة، وبعضهم عملها دالاً، وبعضهم عملها فاء مثل الدهان. فأول من علمته نظم في هذا ولزم الباء إبراهيم بن سهل المغربي فقال:
روض نضير وشادن وطلافاجتن زهر الربيع والقبلاواشرب
يا ساقياً ما وقيت فتنته
حكت كؤوس الرحيق صورته
فمثلت ثغره ووجنته
هذا حباب كالسلك معتدلاوذا رحيق لذا الزجاج علاكوكب
أقمت حرب الهوى على ساق
وبعت عقلي بالخمر من ساق
أسهر جفني بنوم أحداق

تمثل السحر وسطها كحلامعتلة وهي تبري العلافاعجب
قلبك صخر والجسم من ذهب
أيا سمي النبي يا ذهبي
جاورت من مهجتي أبا لهب
يا باخلاً لا أذم ما فعلاصيرت عندي محبة النجلامذهب
يا منيتي والمنى من الخدع
ما نلت سولي ولا الفؤاد معي
هل عنك صبر وفيك من طمع
أفنيت فيك الدموع والحيلافلا سلوي في الحب نلتولا مأرب
أتيت اشكوه لوعتي عجبا
فصد عني بوجهه غضبا
فعند هذا ناديت يا حربا
تصد عني يا منيتي مللاوأشتكي من صدودك العللاتغضب
قلت: ولما علقت هذه الموشحة راق لي وزنها فنظمت فيه مع علمي بأنني ما أوفيه، وهو:
لا تحسب القلب عن هواك سلاوإنما حاسدي الذي نقلاحرف
أسلو ولا صبر لي ولا جلد
ونار شوقي وسط الحشا تقد
وكل وجد دون الذي أجد
ما وصل القلب في هواك إلىهذا وإن شئت أن يرى بدلاسوف
لي بدر تم للعقل قد قمرا
وفاق شمس النهار والقمرا
وطرفه للأنام قد سحرا
والريق خمر قد حل لي وحلالأنه بالمنى إذا بخلايرشف
وجفنه صح سكره وصحا
كم بات حتف لصبه فتحا
وعذر ذاك العذار قد وضحا
سعى إلى فيه يرشف القبلا
والنمل سار إلى أن رأى العسلا
يا شادناً سل سيف مقلته
وهز قد القنا بخطرته
وأخجل البدر حسن صورته
وجهك يزداد بالجمال علا
والبدر في تمة إذا كملا
تبدو فترمي الغصون بالخجل
فلم يمس عطفها من الكسل
وأنت مغرى الأعطاف بالميل
وقدك اللدن كلما اعتدلا
أخشى عليه إن مال وانفتلا
شعرك ليل ووجهك القمر
والريق حلو وحشوه درر
والقد غصن ووجهك الزهر
خد زها الورد فيه واشتعلا
وعقرب الصدغ فيه قد نزلا
وأنشدني لنفسه إجازة صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى:
زار وصبغ الظلام قد نصلا
بدر جلا الشمس في الظلام ألا ... فاعجب
جاء وسجف الظلام قد فتقا
والصبح لم يبق في الدجا رمقا
وقد جلا نور وجهه الغسقا
وأدهم الليل منه قد جفلا
وقد أتى رائد الظلام على ... أشهب
أفديه بدراً في قالب البشر
قد جاء في حسنه على قدر
يرتع في روض خده نظري
خد بلطف النعيم قد صقلاكأنه من دمي إذا خجلايخضب
يا من غدا ظل حسنه حرما
لما حوى ما به الجمال حمى
فرعاً وصدغا مذ حكما ظلما
فأرقم الجعد يحرس الكفلاوحارس الخد منه قد جعلاعقرب
هلا تعلمت بذل ودك لي
من المليك المؤيد بن علي
سلطان عصر سما على الأول
لولا أياد بها الورى شملالأصبح الناس كالسماء بلاكوكب
وقال شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني:
بدر عن الوصل في الهوى عدلاما لي عنه إن جار أو عدلامذهب
مترك اللحظ لفظه خنث
إليه يصبو الحشا وينبعث
أشكو إليه وليس يكترث
دعا فؤادي لأن يذوب قلىوالموت والله من مقالي لاأقرب
لم يبق لي مقلة ولا كبد
والقلب فيه أودى به الكمد
وليس يلفى لهجره أمد
لا تعجبوا إن غدوت محتملالكن قلبي إن كان عنه سلاأعجب
بالحسن كل العقول قد نهبا
والحزن كل القلوب قد وهبا
شمس ولكنني لديه هبا
فانظر لذاك القوام كيف حلاغصتنا وكم منه بالجمال جلاغيهب
محمد بن علي بن عبد القويابن عبد الباقي محيي الدين التنوخي المعري ثم الدمشقي، ابن المارستاني الحنفي، نزيل القاهرة.
سمع من عثمان بن علي، وإبراهيم بن خليل، وفرج الخادم، وعبد الله بن الخشوعي، وعدة. وخرج له الدمياطي " مشيخة " ، وسمعها منه قديماً.
وكان مديماً للاشتغال، ورعاً زاهداً متواضعاً مفسراً، من كبار الحنفية، أعاد بالمنصورية والناصرية والظاهرية والصالحية، وحمل عنه الطلبة من سماعاته " جزء " الذهلي على ابن خطيب القرافة سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وأربعين وست مئة.
محمد بن علي بن الحسين بن سالم

الشيخ المقرئ الصالح الحاج، بقية المسندين، شمس الدين، أبو جعفر السلمي المرداسي بن الموازيني.
سماعه سنة اثنتين وعشرين وبعدها، إذ كان عند الملقن.
سمع أبا القاسم بن صصرى، والبهاء عبد الرحمن، وتفرد بالرواية عنهما، وسمع من إسماعيل بن ظفر، وأبي سليمان بن الحافظ، والشيخ الضياء.
وورث من أبيه ثروةً وعقاراً، وجاور مدة، وأنفق في البر والقرب، ثم أعطى ملكه لابنته، وبقى لنفسه كل يوم درهمين، ولبس العسلي وتزهد، وحدث بالحرم، وانحطم بالهرم، وثقل سمعه وضعف بصره.
وحدث عنه ابن الخباز وباقي الطلبة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين منتصف ذي الحجة سنة ثمان وسبع مئة.
ومولده سنة خمس عشرة تقريباً.
محمد بن عليالإمام الفاضل الفقيه النحوي الأصولي تاج الدين البارنباري الشافعي.
أخبرني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، رحمه الله تعالى، قال: قرأ المذكور على الشيخ حسن الراشدي القراءات السبع بالفاضلية، وقرأ المعقول على الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وحفظ " التعجيز " ، وكان يستحضره إلى آخر وقت، ويعرفه جيداً، وحفظ " الجزولية " ، واستمر على حفظ القرآن إلى أن مات.
وكان جيد المناظرة، متوقد الذهن في الفقه والأصولين والعربية والمنطق، وكان عديم التكلف في ملبسه، ولم يكن بيده غير فقاهات بالمدارس، كان يلقب بطوير الليل.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع عشرة وسبع مئة.
وقال لي شيخنا قاضي القضاة تقي الدين، قال لي ابن الرفعة: من عندكم من الفضلاء في درس الظاهرية؟ فقلت له: قطب الدين السنباطي، وفلان، وفلان، وعددت حتى انتهيت إلى ذكر البارنباري، فقال: ما في من ذكرت مثله.
ومن مباحثه في السؤال الذي يورد في قوله تعالى: " لا تأخذه سنة ولا نوم " وتقديره أن السنة أعم من النوم، ويلزم من نفي العام نفي الخاص، فكيف قال " ولا نوم " بعد قوله " لا تأخذه سنة " ؟ وقد أجاب الناس على هذا بأجوبة كثيرة، ومن أحسنها ما قاله البارنباري هذا، قال: الأمر في الآية على خلاف ما فهم، والمنفي أولاً إنما هو الخاص وثانياً العام ويعرف ذلك من قوله " لا تأخذه " أي لا تغلبه، ولا يلزم من أخذ السنة التي هي قليل من النوم أو النعاس عدم أخذ النوم له، فقال " ولا نوم " فعلى هذا فالسؤال منتف، وإنما يصح إيراده أن لو قيل لا يحصل له سنة ولا نوم. وهو جواب بليغ، قال مولانا قاضي القضاة تاج الدين السبكي: إلا أن لك أن تقول: فلم لا اكتفي بنفي أخذ النوم على هذا التقدير الذي قررت، وما الفائدة في السنة.
ومن سؤالات تاج الدين طوير الليل: سوى الأصحاب بين المانع الحسي والمانع الشرعي فيما إذا باع جاريةً حاملاً بحر أو باع جارية إلا حملها، فإن الصحيح فيهما البطلان، ولم يفعلوا ذلك فيما إذا باع داراً مستأجرة، فإن الصحيح فيها الصحة، والبطلان فيما إذا باع داراً واستثنى منفعتها شهراً.
وأجاب، وقد سئل: كيف يقول الغزالي إن النية في الصلاة بالشروط أشبه وهي بشرط أن تكون مقارنة للتكبير، والتكبير ركن، فيتحد زمان الركن والشرط مع كون الركن لا بد أن يكون داخل النية والشرط خارجاً؟ بأن المراد بالداخل ما تتقوم به الماهية ولا تصدق بدونه وبالخارج ما ليس كذلك سواء أقارن الداخل في الزمان أم لا، فالترتيب ليس في الزمان، والنية لا تتقوم بها الصلاة، لجواز أن توجد بلا نية، وتكون صلاة فاسدة، وكذلك ترك الأفعال الكثيرة في الصلاة فإنه شرط مع أنه لا يوجد إلا داخل الصلاة.
قال مولانا قاضي القضاة تاج الدين السبكي: هذا جوابه، وهو على حسنه قد يقال عليه: هذا يتم إذا قلنا: إن الصلاة موضوعة لما هو أعم من الصحيح والفاسد لتصدق صلاة صحيحة وصلاة فاسدة، أما إذا قلنا: إنما هي موضوعة للصحيح فقط، فحيث انتقى شرطها لا تكون موجودة. وقد حكى الرافعي الخلاف في أن لفظ العبادات هل هو موضوع لما هو أعم من الصحيح والفاسد أو هو مختص بالصحيح حيث قال في كتاب الإيمان: وسيأتي خلاف أن لفظ العبادات هل هو موضوع لما هو أعم من الصحيح والفاسد، أو مختص بالصحيح؟ وإن كان لم يف بما وعد إذ لم يحكه بعد، على ما رأيناه.
محمد بن علي بن محمد بن غانمالشيخ الفاضل القاضي بدر الدين ابن الشيخ علاء الدين بن غانم، تقدم ذكر أبيه وعمه وأخيه وابن عمه.

كان من جملة كتاب الإنشاء، كان على الاشتغال مكباً وإلى التفهم منصباً لا يثنيه عن ذلك ثان، ولا له من بيته في هذا ثان، يكون في ديوان الإنشاء جالسا، وتراه في مختصر ابن الحاجب دارسا، كثير الصمت، عليه وقار وسمت، يفيض جماعة الإنشاء فيما يفيضون فيه، وهو مشغول بنفسه وصلاح حاله وتلافيه. يتشدد في الكتابة فلا يكتب إلا ما وافق الشريعه، وكان مضمونه إلى الحق ذريعه. وكتب كثيراً وعلق تراجم والتقط ذلك من التواريخ والمعاجم، وكان غاوياً باقتناء الكتب، رافعاً عن البذل فيها أذيال الحجب، على مسكة كانت في يده، وشح سكن في خلده.
وكان جميل الصورة في صباه، مصونا في مرباه. ثم إنه سأل الإعفاء من ديوان الإنشاء، فأجيب إلى ما قصده، وتناول ما رصده.
ولم يزل على ذلك إلى أن سلك سبيل من مضى من الأمم، وأصبح وقد عد في الرمم.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر جمادى الأولى سنة أربعين وسبع مئة.
وكان منجمعاً عن الناس لا يتكلم فيما لا يعنيه، يكرر على محافظه الليل والنهار. وكان قد حفظ القرآن و " المنهاج " و " مختصر " ابن الحاجب و " الحاجبية " و " الملحة " ، وعرض ذلك على الشيخ كمال الدين، وعلى الشيخ برهان وعليه تفقه.
ولما توجه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى قضاء حلب وصار بها كتب له إذناً بالإفتاء، وجهزه إليه إلى دمشق، وفي آخر أمره سأل الإعفاء من كتابه الإنشاء وأن يكون له نظير معلومه على الجامع الأموي، فأجيب إلى ذلك. وكان بيده تدريس القليجية الشافعية والشريفية عوضاً عن القاضي نجم الدين الدمشقي، وباشر العمادية والدماغية عوضاً عن الشيخ بدر الدين بن أبي اليسر ابن الصائغ لما توجه لخطابة القدس، وكان يحمل المعلوم إلى أقارب الشيخ بدر الدين، ولما عاد ابن الصائغ إلى دمشق استمر بدر الدين في تدريسهما، فوشى به الأمير حسام الدين بن النجيبي مشد الأوقاف إلى الأمير سيف الدين تنكز، فأمر بإعادة المدرستين المذكورتين إلى ابن الصائغ، وكان قد عين لخطابة القدس عوضاً عن ابن الصائغ فغض ذلك منه.
ولما توجه الشيخ برهان الدين إلى الحجاز ألقى عنه الدرس بالباذرائية، وكان معه عدة وظائف من قراءات على الكراسي وغير ذلك مما يقارب الألف درهم في كل شهر.
وكان جماعة للكتب، أبيع له لما مات قريب الألفي مجلدة، وعلق على " المنهاج " تعليقه، وكان يحب الصالحين.
محمد بن علي بن محمد بن سعيدابن حمزة الشيخ الصدر الرئيس شرف الدين بن الصدر علاء الدين التميمي، ابن القلانسي.
من بيت كبير، وكان صاحب ثروة، تزوج في شبابه بابنة قاضي القضاة صدر الدين بن سني الدولة، وهو صاحب حمام الزهور بالصالحية، وهو خال عز الدين بن القلانسي.
كان محباً للفقراء والصالحين، وسمع من السخاوي والقرطبي، والعز بن عساكر، وابن مسلمة، غيرهم.
وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري جمادى الأول سنة أربع وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة بدمشق.
محمد بن علي بن عبد الواحدالأنصاري السماكي الدمشقي الزملكاني، الشيخ، الإمام، العالم العلامة، ذو الفنون، الذكي النحرير، شيخ الشافعية في عصره، كمال الدين أبو المعالي قاضي القضاة بحلب.
سمع من أبي الغنائم بن علان، والفخر علي، وابن الواسطي، وابن القواس، ويوسف بن المجاور، وعدة، وطلب الحديث.
وكان فصيحاً في قراءته متسرعاً. قال شيخنا شمس الدين الذهبي: له خبرة بالمتون، تفقه على الشيخ تاج الدين الفزاري وأفتى وله نيف وعشرون سنة، وسمي بالشيخ وعمره عشرون سنة.
وقرأ العربية على الشيخ بدر الدين بن مالك، وقرأ على قاضي القضاة شهاب الدين الخوييي وشمس الدين الأيكي.
وقرأ الأصول على الشيخ صفي الدين الهندي أول قدومه البلاد، أما لما عاد لم يقرأ عليه، وقرأ على قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي.
وأخبرني شيخنا نجم الدين بن الكمال الصفدي، قال: قلت له: فرطت في المنطق، قال: كان في طلبي له تلك الأيام شخص يعرف بالإفسنجي، وكنت قد درست وتميزت، أو قال، فكنت أتردد إليه على كره مني، والعلم في نفسه صعب، وعبارة الأفسنجي فيها عجمة، فإذا أردت منه زيادة بيان، أو قلت له: ما ظهر لي، جثا وأدار وجهه عني، فأنفت من تلك الحالة، وبطلت الاشتغال، أو كما قال.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16