كتاب : شرح الزركشي على مختصر الخرقي
المؤلف : شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي


3736 كذا قال سعيد بن جبير ، وقتادة ، والحسن ، ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وناهيك به لمعرفته بالقرآن إن صح عنه ، وما أطلق والمراد به أكثر من ذلك ، كما في قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { ليسجننه حتى حين } ) فإنه عبر به عن عدة سنين ، قيل : ثلاث عشرة سنة . فما ذكرناه هو الأقل وهو المتيقن ، ولا يرد نحو قوله سبحانه : 19 ( { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } ) لقيام القرينة الدالة على أن المراد وقت المساء ووقت الصباح ، ولا نحو : 19 ( { ولتعلمن نبأه بعد حين } ) أي يوم القيامة ، لقيام القرينة أيضاً على إرادة الزمن الطويل ، والله أعلم .
قال : وإذا حلف أن يقضيه حقه في وقت ، فقضاه قبله لم يحنث ، إذا كان أراد بيمنه أن لا يجاوز ذلك الوقت .
ش : كما إذا حلف ليقضينه حقه في رمضان ، فقضاه في شعبان ونحو ذلك ، وهذه المسألة من فروع اعتبار النية ، فإنه إذا قصد أن لا يتجاوز رمضان ، فمعنى يمينه أني لا أؤخر القضاء لبعد رمضان ، فما قبل رمضان كله ظرف للقضاء ، فإذا قضاه في شعبان مثلًا لم يحنث ، لوجود القضاء في وقته ، وكذلك إذا كان السبب يقتضي ذلك ، لقيامه مقام النية ، كما تقدم ذلك للخرقي ، أما إن عدما فظاهر كلام الخرقي وأبي البركات واختاره أبو محمد أنه لا يبر إلا بالقضاء في الوقت الذي حلف عليه ، وهو رمضان على ما مثلنا ، اعتماداً على اللفظ ، وقال القاضي : يبر مطلقاً ، نظراً للعرف ، فإنه يقضي بالتعجيل في مثل هذه اليمين ، والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه حنث ، إلا أن يكون أراد أن لا يشربه كله .
ش : هذه المسألة قد تقدم الكلام عليها عند قوله : إذا حلف لا يدخل داراً فأدخلها بعض جسده . فلا حاجة إلى إعادتها والله أعلم .
قال : ولو قال : والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك . فهرب منه لم يحنث .
ش : لأن يمين الحالف انصبت على أنه لا يفارقه ، فهي على فعل نفسه ، فمتى هرب منه المحلوف عليه لم يوجد منه فعل ، فلم يحنث ، ومنصوص أحمد رحمه الله في رواية جعفر ابن أحمد بن شاكر أنه يحنث لأن المقصود من نحو هذه اليمين أن لا يحصل بيننا مفارقة ، فاليمين توجهت على فعل الحالف والمحلوف فيحنث ، فهو كما لو قال : لا افترقنا ، واختار أبو البركات متابعة لما جزم به أبو محمد في الكافي أنه متى أمكنه متابعته وإمساكه فلم يفعل حنث ، لأنه والحال هذه مختار للمفارقة ، فينسب إليه ، بخلاف ما إذا لم يمكنه ذلك ، فإنه لم توجد منه المفارقة ولا نسبت إليه .
( تنبيه ) لو فلسه الحاكم وحكم عليه بفراقه ، فهل يحنث نظراً إلى أن المفارقة وإن كان سببها من غيره قد وجدت منه ، أو لا يحنث لأن الفعل والحال هذه لا ينسب إليه ، لعدم اختياره له ؟ يخرج على روايتي ما إذا فارقه مكرهاً بضرب ، وما أجري مجراه والله أعلم .
قال : ولو قال : لا افترقنا . فهرب منه حنث .
ش : قد تقدمت الإشارة إلى هذا ، وأن المحلوف عليه هنا عدم المفارقة منهما . وقد وجدت مع الهرب ، فيحنث ، نعم لو أكرها معاً على الفرقة ففي الحنث خلاف كما تقدم .
( تنبيه ) الفرقة ما يعده الناس فراقاً كما في البيع ، والله أعلم .
قال : ولو حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه فذلك في كل مرة ، إلا أن يكون نوى مرة واحدة .
ش : إذا حلف على زوجته أنها لا تخرج إلا بإذنه ، أو بغير إذنه ، أو حتى يأذن لها ، فخرجت بغير إذنه حنث ، لوجود المخالفة فيما حلف عليه ، وانحلت يمينه بلا نزاع ، إذ حرف ( أن ) لا يقتضي التكرار ، وإن أذن لها فخرجت لم يحنث بلا ريب ، لعدم المخالفة ، ثم هل يحتاج بعد ذلك في كل خروج إلى إذن أو قد انحلت يمينه بالإذن الأول ؟ فيه روايتان ، المذهب منهما الأول ، وهذا معنى قول الخرقي : فذلك في كل مرة ، أي إذا لم يحنث ، وأصل الخلاف والله أعلم من قوله : إن خرجت . معناه خروجاً ، وخروجاً نكرة في سياق الإثبات ، لكنها في سياق الشرط ، فمن لحظ كونها في سياق الشرط وهو التحقيق قال : تعم كل خروج ، فكل خروج محلوف عليه أنها لا تخرج إلا على صفة ، وهو الإذن فإذا خرجت بغير إذنه حنث ، وإن كان قد أذن لها في خروج سابق ، ومن لحظ كونها نكرة في سياق الإثبات ، مع قطع النظر إلى الشرط ، قال : إنما تناولت خروجاً واحداً على صفة وهو الإذن ، فإذا أذن لها فخرجت زالت اليمين ، لوجود المحلوف عليه ، هذا كله مع الإطلاق ، أما مع التقييد باللفظ ، كما إذا قال : حتى آذن لك مرة ، أو في كل مرة ، فلا ريب في اعتماد ذلك ، وتقوم مقام اللفظ النية ، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله .
( تنبيه ) أخذ أبو الخطاب في الهداية الرواية الثانية من قول عبد الله عن أبيه : إذا حلف أن لا تخرج امرأته إلا بإذنه ، إذا أذن لها مرة فهو إذن لكل مرة ، وتكون يمينه على ما نوى ، وإن قال : كلما خرجت فهو بإذني ، أجزأه مرة واحدة ، وهذا ظاهر في الأخذ ، وكذلك تبعه أبو البركات ، وأبو محمد في المقنع على حكاية الرواية ، إلا أن قول أحمد رحمه الله في : كلما خرجت فهو بإذني . أنه يجزئه مرة واحدة ، فيه نظر ، لأن هذا صريح في العموم ، وقد يحمل قوله : أجزأه مرة واحدة . إذا نوى بالمرة الإذن في كل مرة ، أو أنه عبر بالعام وهو كل خروج عن الخاص ، وهو خروج واحد مجاز اه . وقطع أبو محمد في المغني بالرواية الأولى ، وجعل رواية عبد الله فيما إذا أذن لها مرة أنه يسمع منه ، وكأنه أخذ ذلك من قوله في الرواية : وتكون يمينه على ما نوى . والظاهر خلافه والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يأكل هذا الرطب . فأكله تمراً حنث ، وكذلك كلما تولد من ذلك الرطب .
ش : أصل هذه المسألة إذا اجتمع في المحلوف عليه التعيين والصفة ، أو التعيين والاسم ، فهل يغلب التعيين كما اختاره الخرقي وعامة الأصحاب ، منهم ابن عقيل في تذكرته ، ولهذا كان التعريف بالإشارة من أعرف المعارف أو الصفة والاسم ، وهو اختيار ابن عقيل على ما حكاه عنه أبو البركات ، وأومأ إليه أحمد في رواية مهنا ، فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ ، فثرد فيه وأكله أنه لا يحنث ، لأن ذلك بمنزلة العلة ، فيزول الحكم بزوالها ؟ على قولين .
ويدخل تحت ذلك صور ( منها ) مسألة الخرقي وهي ما إذا حلف لا يأكل هذا الرطب ، فصار تمراً أو دبساً أو خلًا ، ونحو ذلك ( ومنها ) إذا حلف لا آكل هذه الحنطة . فصارت دقيقاً ، أو خبزاً ، أو هريسة أو نحو ذلك ( ومنها ) : لا آكل هذا اللبن ، فصار جبناً ، أو كشكاً ونحو ذلك ، أو لا آكل هذا الحمل ، فصار كبشاً ، أو لا أدخل هذه الدار ، فصارت فضاء أو حماماً ، ونحو ذلك ، أو لا أكلم هذا الصبي . فصار شيخاً ، أو لا أكلم زوجة فلان هذه ، أو عبده سعيداً ونحو ذلك ، فطلق الزوجة ، وباع العبد ، أو : لا لبست هذا القميص فصار سراويل أو رداء ونحو ذلك ، واستثنى أبو محمد من ذلك إذا استحالت الأجزاء ، أو تغير الاسم ، مثل أن يحلف لا آكل هذه البيضة ، فتصير فرخاً ، أو الحنطة ، فتصير زرعاً ، فهذا لا يحنث بأكله ، قال : وعلى قياسه الخمر إذا صارت خلًا ، وعن ابن عقيل أنه طرد القول حتى في البيضة والزرع ، ولعله أظهر ، إذ لا يظهر بين صيرورة البيضة وأبعد من ذلك الخمر إذا صارت خلًا ، فإن الماهية باقية ، وإنما تغيرت الصفة ، وقد قال أبو البركات : إذا ناطفا أو شرابا ، بر على القول بتقديم التعيين ، ولا يبر على القول باعتبار الصفة ، وليس في الشراب إلا مائية ماء من التفاح .
( تنبيه ) محل الخلاف مع عدم النية والسبب ، أما مع وجود أحدهما فالحكم له كما تقدم والله أعلم .
قال : وإذا حلف أن لا يأكل تمراً فأكل رطباً لم يحنث .
ش : هذا واضح ، إذ المحلوف عليه التمر ، والرطب غيره فلا يحنث به والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يأكل اللحم ، فأكل الشحم أو المخ أو الدماغ لم يحنث ، إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم ، فيحنث بأكل الشحم .
ش : أما مع عدم الإرادة فلأن الشحم والمخ وهو الذي في العظام والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ليسوا بلحم حقيقة ولا عرفاً ، فالحالف لا يأكل لحماً لا يحنث بذلك ، لعدم تناول يمينه له ، وعلى قياس ذلك الألية وكل ما لا يسمى لحماً ، كالكبد والطحال ، والرئة والمصران ، والكرش والقانصة ، والقلب والأكارع والكلية ، وكذلك ما كان لحماً إلا أنه اختص باسم ، إما لغة أو عرفاً ، كلحم خد الرأس ، على ظاهر كلام أحمد ، واختيار القاضي ، وكاللسان على أظهر الاحتمالين ، وعن أبي الخطاب : يحنث بأكل لحم الخد ، وهو مناقض لاختياره في الهداية ، فيما إذا حلف لا يأكل رأساً ؛ لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة بأكله منفرداً ، فغلب العرف ، مع أنه قد يقال : إنه عرف فعلي ولم يغلب هنا العرف مع أنه نقلي ، وقد ناقض القاضي أيضاً قوله هذا فقال تبعاً لابن أبي موسى فيما إذا أكل هنا مرقاً يحنث ، لأنه لا يخلو من أجزاء لحم تذوب فيه ، وجرى أبو الخطاب على الصواب ، وتبعه الشيخان فقالا : لا يحنث . لأنه على تقدير تسليم أن فيه أجزاء لحم ذائبة فذلك لا يسمى لحماً ، لا حقيقة ولا عرفاً ، وأحمد قال في رواية صالح لا يعجبني . اه .
وأما مع إرادة الدسم ، فظاهر كلام الخرقي أنه لا يحنث بشيء من ذلك إلا بالشحم ، لأنه المتبادر من إرادة الدسم ، وقال الشيخان وغيرهما من الأصحاب : يحنث بجميع ذلك ، لوجود الاسم فيه .
( تنبيه ) اختلف في بياض اللحم كسمين الظهر ونحوه ( هل حكمه حكم اللحم ) فيحنث من حلف لا يأكل لحماً فأكله ، وهو قول ابن حامد والقاضي ، وظاهر كلام أبي البركات أن المسألة اتفاقية ، لدخوله في مسمى اللحم ، ولهذا لو اشتراه من وكل في شراء لحم لزم موكله ، ( أو حكم الشحم ) فيحنث من حلف لا يأكل شحماً فأكله ، وهو اختيار أكثر الأصحاب ، القاضي والشريف ، وأبي الخطاب والشيرازي وابن عقيل ، واختيار أبي محمد ، وقال : إنه ظاهر كلام الخرقي ، وقول طلحة العاقولي ، لشبهه للشحم في صفته وذوبه ، ولأن الله تعالى استثناه من الشحم حيث قال : 19 ( { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما } ) الآية ؟ على قولين ، وفي كلا الدليلين نظر . إذ مجرد شبه الشيء بالشيء لا يقتضي أن يسمى باسمه ، ويعطى حكمه ، على أن شبه سمين الظهر بالألية أقرب من شبهه بالشحم ، وأما الاستثناء فقال البغوي وغيره : 19 ( { إلا ما حملت ظهورهما } ) أي ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما اه فالمستثنى شحم حقيقة وعرفا ، إلا أن الله تعالى أرخص لهم فيه دفعاً للحرج عنهم ، والله أعلم .
قال : فإن حلف أن لا يأكل الشحم فأكل اللحم حنث ، لأن اللحم لا يخلو من شحم .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وذكر دليله ، وهو أن اللحم لا يخلو من شحم ، فالحالف لا يأكل الشحم يمينه تشمل كل شحم ، وهذا شحم فيدخل في يمينه ، وقال عامة الأصحاب : لا يحنث ، لأن وجود هذا والحالة هذه كالعدم ، فاليمين لا تتناوله عرفاً .
( تنبيه ) استنبط أبو محمد من هذا أن الشحم عند الخرقي كل ما يذوب بالنار ، قال : وهذا ظاهر قول أبي الخطاب ، وقول طلحة ، قال : ويشهد له ظاهر الآية والعرف ، وبنى على هذا أنه يحنث بأكل الألية ، وقال القاضي وغيره : إن الشحم هو الذي يكون في الجوف ، من شحم الكلى أو غيره ، فعلى هذا لا يحنث بأكل الألية واللحم الأبيض ، ونحو ذلك ، وهذا هو الصواب ، وقد تقدم أن الآية لا تدل على ما ادعاه ، وأن العرف عكس هذا والله أعلم .
قال : وإن حلف أن لا يأكل لحماً ولم يرد أكل لحم بعينه ، فأكل من لحم الأنعام أو الطائر أو السمك حنث .
ش : أما إذا أكل من لحم الأنعام أو الطائر فلا نزاع فيما نعلمه في حنثه ، لدخول المحلوف عليه ، وهو اللحم حقيقة وعرفاً ، وأما إذا أكل من لحم السمك ففي الحنث به وجهان ، المشهور منهما وهو اختيار الخرقي والقاضي ، وعامة أصحابه الحنث ( والثاني ) وهو اختيار ابن أبي موسى عدمه ، ولعله الظاهر ، لأن لحم السمك وإن كان لحماً حقيقة ، بدليل قوله تعالى : 19 ( { لتأكلوا منه لحما طريا } ) وقوله تعالى : 19 ( { ومن كل تأكلون لحما طريا } ) إلا أن أهل العرف خصصوا ذلك ، كما خصصوا لفظ الدابة بذوات الأربع ، وصاروا لا يسمونه لحما ، وإنما يسمونه سمكا ، ولهذا لا يكادون يقولون إذا أكلوا سمكاً : أكلنا لحماً . وإنما يقولون : سمكاً ، ولا ريب أن العرف ناسخ للحقيقة اللغوية ، إذ هي بالنسبة إليه مجاز ، ولعل هذا الخلاف مبني على أنه هل وصل إلى حد النقل أم لا ؟ فيكون الخلاف في تحقيق المناط ، والظاهر وصوله ، لأن ضابط المنقول أن يتبادر الذهن عند الإطلاق للمنقول إليه ، ولا ريب أن إطلاق اللحم لا يفهم منه عند الإطلاق السمك اه .
وظاهر إطلاق الخرقي أنه يحنث بأكل كل لحم ، فيدخل في ذلك اللحوم المحرمة ، كلحم الخنزير ونحوه ، وهو أشهر الوجهين ، وبه قطع أبو محمد ، لدخوله في مسمى اللحم حقيقة وعرفاً ( والثاني ) لا يدخل ذلك ، لأن قرينة حال المسلم تقتضي أنه لا يريد ذلك ، والقرائن تخصص ، وينبغي على هذا التعليل في كلام الخرقي أيضاً لحم الخد ، ولحم اللسان ، وقد تقدم الكلام على ذلك ، والله أعلم .
قال : وإذا حلف أنه لا يأكل سويقاً فشربه ، أو لا يشربه فأكله حنث ، إلا أن يكون له نية .
ش : أما مع النية فلا كلام كما تقدم غير مرة ، وأما مع عدمها ففيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) الحنث كما قاله الخرقي ، لأن مقصود اليمين في مثل ذلك الاجتناب ، فكأنه حلف أن يتجنب ذلك عن إيصاله إلى باطنه ( والثاني ) عدم الحنث ، أخذاً من قول أحمد في رواية مهنا فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ ، فثرد فيه وأكل : لا يحنث ، لأن أنواع الأفعال كالأعيان ، ولا ريب أنه لو حلف على نوع من الأعيان لم يحنث بغيره ، فكذلك الأفعال ( والثالث ) إن عين المحلوف عليه : كلا أكلت هذا السويق . حنث بشربه تغليباً للتعيين كما تقدم ، بخلاف ما إذا لم يعين : كلا أكلت سويقاً . فإنه لا يحنث ، وهذا قول القاضي في المجرد ، وعنده في الروايتين أن محل الخلاف مع التعيين ، أما مع عدمه فلا يحنث قولًا واحداً ، وخرج أبو الخطاب وأبو محمد الخلاف في كل ما حلف لا يأكله فشربه ، أو لا يشربه فأكله ، حتى قال أبو محمد فيمن حلف لا يشرب شيئاً فمصه ورمى به : أنه يجيء على قول الخرقي أنه يحنث ، ونص أحمد في رواية إبراهيم الحربي فيمن حلف لا يشرب شيئاً ، فمص قصب السكر : ليس عليه شيء ، وكذلك لو حلف لا يأكل شيئاً ، فمص قصب السكر ، لم يكن عليه شيء ، على ما يتعارفه الناس أن الرجل لا يقول : أكلت قصب السكر ، وتبع النص ابن أبي موسى . والله أعلم .
قال : وإذا حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة ، فوقعت في تمر ، فإن أكل منه واحدة منع من وطء زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها ، ولا يتحقق حنثه حتى يأكل التمر كله .
ش : مسألة الخرقي رحمه الله إذا شك في التمرة التى أكلها هل هي المحلوف عليها أم لا ، واختياره والحال هذه اجتناب الزوجة ، للشك في تحريمها ، أشبه ما لو اشتبهت أخته بأجنبية ، وتبعه على ذلك ابن البنا ، وقال أبو الخطاب وغيره : إنه لا يجب عليه اجتنابها ، بل الأولى له ذلك ، إذ الأصل الحل ، فلا يزول بالشك ، وفارق المقيس عليه ، إذ الأصل عدم الحل ، إلا بعقد يتحقق صحته ، بوجود شروطه ، وانتفاء موانعه ولم يوجد ، أما إذا علم أكل التمرة التي حلف عليها ، بأن أكل التمر كله ، أو الجانب الذي وقعت فيه ، ونحو ذلك فلا ريب في حنثه ، وإن علم أن التمرة التي أكلها غير المحلوف عليها فلا ريب أيضاً في عدم حنثه ، وحل زوجته .
وقول الخرقي : من حلف بالطلاق . يشمل البائن والرجعي ، وهو مبني على قاعدته في تحريم الرجعية ، أما على قول غيره في حلها فلا اجتناب ، إذا كان الطلاق رجعياً لأن قصاراه وطء رجعية وهو مباح ، والله أعلم .
قال : ولو حلف أن يضربه عشرة أسواط ، فجمعها فضربه بها ضربة واحدة ، لم يبر في يمينه .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، لأن الأسواط آلة أقيمت مقام المصدر ، فمعنى الكلام : لأضربنه عشر ضربات بسوط ، ولو قال كذلك لم يبر إلا بعشر ضربات ، فكذلك هذا ، يحقق ذلك أنه لو ضربه عشر ضربات بسوط بر اتفاقاً ، ولو عاد إلى السوط لم يبر بالضرب بسوط واحد ، كما لو حلف ليضربنه بعشرة أسواط .
3737 ولا ترد أيوب عليه السلام وإن قلنا : شرع من قبلنا شرع لنا . لأن ذلك رخصة في حقه ، رفقاً بامرأته ، لإحسانها إليه ، ولذلك امتنّ عليه بذلك ، ولو كان الحكم عاماً له ولغيره لما اختص بالمنة ، وكذك الكلام في المريض الذي يخشى تلفه ، يقام عليه الحد بعثكال من النخل ونحوه ، ترخيصاً من الشارع ، رفعاً للحرج والمشقة ، ولهذا لا يجوز أن يضرب في حال الصحة بالسياط المجموعة بلا ريب ، ( وعن ابن حامد ) أنه يبر بذلك ، أخذاً من قول أحمد في المريض عليه الحد : يضرب بعثكال النخل ، يسقط عنه الحد ، واستدلالًا بقصة أيوب عليه السلام .
3738 وبقول النبي في المريض الذي زنا ( خذوا له عثكالًا ، فيه مائة شمراخ ، فاضربوه بها ضربة واحدة ) وقد تقدم الجواب عن ذلك ، ثم كان من حق ابن حامد أن يسوي بين الأصل والفرع ، فلا يقول بالبر إلا في حق من له عذر يبيح ضربه في الحد بالعثكال ، وإذاً كان يقرب قوله ، ولهذا قال أبو محمد : لو قيل بهذا كان له وجه ، والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يكلمه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولًا حنث ، إلا أن يكون أراد أن لا يشافهه .
ش : أما إذا قصد بيمينه أن لا يكلمه مشافهة ، أو كان السبب يقتضي ذلك ، فلا إشكال في أنه لا يحنث بمكاتبته أو مراسلته ، لعدم التكليم مشافهة ، وإن قصد ترك مواصلته ، أو كان السبب يقتضي ذلك ، فلا ريب أيضاً في حنثه بمكاتبته ومراسلته ، لوجود مواصلته المحلوف على تركها ، وإن عريت اليمين عن قصد وسبب ففيه روايتان ، حكاهما في الكافي ( إحداهما ) وهي التي حكاها في المغني عن الأصحاب الحنث أيضاً ، لأن الظاهر من هذه اليمين هجرانه ، فتحمل يمينه عليه ، اعتماداً على الظاهر من هذه اليمين هجرانه ، فتحمل يمينه عليه ، اعتماداً على الظاهر ( والثانية ) وإليها ميل أبي محمد عدم الحنث والحال هذه ، لأن ذلك ليس بكلام حقيقة ، ولهذا يصح نفيه فيقال : ما كلمته ، وإنما كاتبته ، ولأن الله تعالى امتنّ على موسى عليه السلام فقال سبحانه : 19 ( { يا موسى إني اصطفتيك على الناس برسالاتي وبكلامي } ) ولو كانت الرسالة تكليماً لشارك موسى غيره من الرسل ، وأما قوله تعالى : 19 ( { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ، أم من وراء حجاب ، أو يرسل رسولا } ) فاستثنى الرسول من التكليم ، وذلك بالنظر إلى الاشتراك في أصل معنى التكليم وهو التأثير ، إذ هو مأخوذ من الكلم وهو الجرح ، ولا شك أن المراسلة والمكاتبة يؤثران في المرسل إليه والمكتوب له ، ولذلك جعل سبحانه الكلام قسيماً للوحي في موضع آخر ، لا من أقسامه فقال تعالى : 19 ( { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } ) الآية إلى قوله تعالى : 19 ( { وكلم الله موسى تكليما } ) نظراً إلى أن كلا منهما يختص عند الإطلاق باسم ، وبالجملة ميل أبي محمد هنا إلى الحقيقة ، وميل الأصحاب إلى المعنى ، وهو أوجه ، والله أعلم .

كتاب النذور


ش : النذور جمع نذر ، كفلس وفلوس ، يقال : نذرت أنذر وأنذر بفتح الذال في الماضي ، وكسرها وضمها في المضارع ، ونذرت بالقوم أنذر ، بالكسر في الماضي ، والفتح في المضارع ، إذا علمت بهم ، واستعددت لهم ، ولا نزاع في صحة النذر ، ولزوم الوفاء به في الجملة ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : 19 ( { يوفون بالنذر } ) وقوله : 19 ( { وليوفوا نذورهم } ) .
3739 وقول النبي : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه ) وهو عبارة عن قول يلتزم به المكلف المختار لله تعالى حقاً ، والله أعلم .
قال : ومن نذر أن يطيع الله عز وجل لزمه الوفاء به ، ومن نذر أن يعصيه لم يعصه وكفر كفارة يمين ، ونذر الطاعة الصلاة والصيام ، والحج والعمرة ، والعتق والصدقة ، والاعتكاف والجهاد ، وما كان في هذه المعاني ، سواء نذره مطلقاً ، بأن يقول : لله على أن أفعل كذا وكذا . أو علقه بصفة ، مثل قوله : إن شفاني الله عز وجل من علتي ، أو شفى فلاناً ، أو سلم مالي الغائب ، أو ما كان في هذا المعنى ، فأدرك ما أمل بلوغه من ذلك ، فعليه الوفاء به ، ونذر المعصية أن يقول : لله على أن أشرب الخمر ، أو أقتل النفس المحرمة ، وما أشبهه ، فلا يفعل ذلك ، ويكفر كفارة يمين لأن النذر كاليمين وإذا قال : لله على أئن أركب دابتي ، أو أسكن داري ، أو ألبس أحسن ثيابي ، وما أشبهه ، لم يكن هذا نذر أن يطلق زوجته ، استحب له أن لا يطلق ، ويكفر كفارة يمين .
ش : النذر أولًا على ضربين ، مطلق ومقيد ( فالمطلق ) أن يقول : لله علي نذر ، ولا ينوي شيئاً ، فيجب عليه كفارة يمين .
3740 لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي قال : ( كفارة النذر إذا لم يسم شيئاً كفارة يمين ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، ومسلم والنسائي ولم يقولا : ( إذا لم يسم شيئاً ) .
3741 وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : ( من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذراً أطاقة فليف به ) رواه أبو داود ، ( والمقيد ) على ضربين ( أحدهما ) ما يقصد به المنع من الشيء ، أو الحمل عليه ، ويسمى نذر اللجاج والغضب ، وقد تقدم الكلام عليه في الأيمان ( والثاني ) ما ليس كذلك ، وهو على خمسة أقسام ( أحدها ) أن ينذر قربة تستحب ولا تجب ، من صوم وصلاة ونحوهما ، فيجب الوفاء به بلا خلاف نعلمه عندنا ، سواء نذره مطلقاً ، كقوله : لله علي صوم يوم ، أو صلاة ركعتين ، أو مقيداً كقوله : إن شفاني الله أو شفى ولدي فلله علي الحج ، فوجد القيد ، وسواء كانت القربة مما لها أصل وجوب في الشرع كما تقدم ، أو لم تكن كالاعتكاف ، وهو إجماع في المقيد ، وفيما له أصل وجوب ، وقول الجمهور في الآخرين ، ويشهد للجميع عموم حديث ابن عباس ، وقوله تعالى : 19 ( { وليوفوا نذورهم } ) الآية .
3742 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله يقول : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) وفي رواية ( فليف بنذره ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يف به ) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
3743 ويشهد لغير المقيد ولما لا أصل لوجوبه في الشرع ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة ، وفي رواية يوماً في المسجد الحرام . فقال : ( أوف بنذرك ) متفق عليه .
3744 وعن جابر رضي الله عنه أن رجلًا قام يوم الفتح فقال : يا رسول الله : إني نذرت لله عز وجل إن فتح الله عليك مكة أن أصلي صلاة في بيت المقدس . فقال : ( صل ها هنا ) ثم أعاد عليه ، فقال : ( صل ها هنا ) ثم أعاد عليه ، فقال : ( فشأنك إذاً ) . رواه أبو داود ، وله في رواية : فقال النبي : ( والذي بعث محمداً بالحق لو صليت ها هنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس ) .
( الثاني ) أن ينذر معصية ، كشرب الخمر ، وقتل النفس التي حرم الله بغير حق ، وصوم يوم الحيض ، والتصدق بمال الغير ، ونحو ذلك ، فلا يجوز الوفاء به إجماعاً ، ويشهد له حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم .
3745 ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله يقول : ( لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله تعالى ، ولا يمين في قطيعة رحم ) .
3746 وللنسائي عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله : ( لا نذر في معصية ، ولا فيما لا يملك ابن آدم ) ثم فيه روايتان ( إحداهما ) أنه لاغ ولا شيء فيه ، قال 16 ( أحمد ) فيمن نذر ليهدِمنَّ دار غيره لبنة لبنة : لا كفارة عليه . وذلك لما تقدم .
3747 ولأن النبي قال لأبي إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس ، ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم : ( مروه فليتكلم ، وليجلس وليستظل ، وليتم صومه ) رواه البخاري وغيره .
3748 وقال للمرأة التي نذرت أن تنحر ناقته : ( لا نذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك العبد ) رواه مسلم وغيره ، وظاهر هذا أنه لا نذر صحيح في معصية الله ، أو لا نذر مشروع ، وغير المشروع وجوده كعدمه ، مع أن النبي لم يأمر في ذلك بكفارة ، ولو وجبت لبينها . ( والرواية الثانية ) وهي المذهب المعروف عند الأصحاب أنه منعقد .
3749 لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( لا نذر في معصية الله ، وكفارته كفارة يمين ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي .
3750 وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( النذر نذران فما كان نذر طاعة فذلك لله فيه الوفاء ، وما كان نذر معصية فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ، ويكفره ما يكفر اليمين ) . رواه النسائي ، رواه النسائي ، وهذا المبين يقضي على ذلك المجمل ويبين أن المراد به : لا وفاء لنذر في معصية الله . وكذلك جاء مصرحاً به في مسلم في التي نذرت نحر ناقة النبي قال لها : ( لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه العبد ) .
3751 وقد استشهد ترجمان القرآن لذلك من الكتاب ، فعن يحيى ابن سعيد ، أنه سمع القاسم بن محمد يقول : أتت امرأة إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقالت : إني نذرت أن أنحر ابني . فقال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تنحري ابنك ، وكفري عن يمينك . فقال شيخ عند ابن عباس رضي الله عنهما : كيف يكون في هذا كفارة ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال تعالى : 19 ( { الذين يظاهرون من نسائهم } ) ثم جعل فيه من الكفارة ما رأيت . رواه مالك في الموطأ ، فعلى هذه الرواية إن لم يفعل ما نذره من المعصية وجبت عليه كفارة يمين ، وإن فعل ذلك أثم ولا شيء عليه على المعروف ، كما لو حلف على فعل معصية ففعلها ، ولأبي محمد احتمال بوجوب الكفارة مطلقاً ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وظاهر الحدي .
( الثالث والرابع ) نذر مكروهاً أو مباحاً ، كطلاق زوجته من غير حاجة ونحوه ، أو ركوب دابة ، أو لبس ثوب له ونحوها ، وفي ذلك أيضاً روايتان ، ( إحداهما ) أنه لاغ لا شيء فيه ، لما تقدم من قول النبي : ( لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله ) وهذا لم يبتغ به وجه الله تعالى ، ولحديث أبي إسرائيل ، فإنه نذر أفعالًا تكره المداومة عليها وقد تحرم ، ولم يأمره النبي بكفارة .
3752 وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية ، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله فاستفتيته فقال : ( لتمش ولتركب ) .
3753 وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله رأى شيخاً يهادى بين ابنيه ، فقال : ( ما بال هذا ؟ ) قالوا : نذر أن يمشي . قال : ( إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني ) وأمره أن يركب ، متفق عليهما ، ولم يأمره في ذلك بكفارة ، ولو وجبت لبينها ( والثانية ) وهي المذهب أنه منعقد ، لأن في حديث عقبة رضي الله عنه أن رسول الله قال له : ( إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً ، فلتحج راكبة ، ولتكفر عن يمينها ) . رواه أبو داود ، وفي رواية له أيضاً وللترمذي ( ولتصم ثلاثة أيام ) وهذه زيادة فيجب قبولها ، ولعموم قول النبي : ( كفارة النذر كفارة يمين ) فعلى هذه الرواية إن لم يفعل ما نذره وجبت عليه الكفارة ، وإن فعل فلا شيىء عليه ، إلا أنه في المكروه لا يستحب له الفعل ، وفي المباح يتخير بين الفعل وتركه قاله الأصحاب .
3754 وقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن امرأة قالت : يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف . قال : ( أوفي بنذرك ) .
( القسم الخامس ) نذر الواجب ، كقوله : لله علي أن أصوم رمضان ، أو أحج حجة الإسلام ، ونحو ذلك ، فحكى أبو محمد عن الأصحاب عدم انعقاد النذر والحال هذه ، لأن النذر التزام ، والواجب لازم له ، فالتزامه تحصيل الحاصل ، وحكى في المغني احتمالًا وجعله في الكافي قياس المذهب أنه ينعقد موجباً للكفارة إن لم يفعله ، كما لو حلف على ذلك .
3755 وقد سمى النبي ذلك يميناً فقال : ( النذر حلف ) ولا نسلم أن نذر الواجب تحصيل الحاصل ، لاختلاف جهة الإيجاب ، إذ الواجب بالشرع غير الواجب بإيجاب المكلف ، ولهذا لو ترك الناذر صوم رمضان والحال ما تقدم لزمه كفارة يمين ، ولو تركه من غير نذر لم يلزمه غير القضاء ، وقال في المغني في موضع آخر : إن قياس قول الخرقي الانعقاد ، وقول القاضي عدمه ، فيما إذا نذر صوم يوم يقدم فلان ، فوافق قدومه يوماً من رمضان ، وأبو البركات حكى المسألة على روايتين ، وأورد المذهب بالانعقاد كنذر المباح .
( تنبيه ) قد علم من كلام الخرقي أن الطلاق مكروه ، وهذا مع عدم الحاجة إليه ، وهو المذهب ، ( وعنه يحرم ) والحال هذه ، كالطلاق في حال الحيض ، وطلاق الثلاث في رواية ، أما عند الحاجة إليه فيباح ، وقد يستحب ، كما إذا كان بقاء النكاح ضرراً ، وقد يجب كالمولي إذا امتنع من الفيئة .
قال : ومن نذر أن يتصدق بكل ماله أجزأه أن يتصدق بثلثه لما روي عن النبي أنه قال لأبي لبابة حين قال : إن من توبتي يا رسول الله أن أنخلع من مالي فقال رسول الله : ( يجزئك الثلث ) .
ش : لما تقدم للخرقي رحمه الله أن نذر الطاعة يلزم الوفاء به ، والصدقة طاعة وقربة ، أراد أن ينبه على هذه المسألة ، وإلا لاقتضى كلامه وجوب الصدقة بالجميع ، والذي قاله الخرقي هو المذهب المعروف .
3756 لما ذكره من حديث أبي لبابة وهو رفاعة بن عبد المنذر أنه قال : يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك ، وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله . فقال رسول الله : ( يجزئ عنك الثلث ) رواه أحمد .
3757 وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي ( سقط : صدقة إلى الله وإلى رسوله ، قال : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر ، رواه البخاري ، وأبو داود برواية قلت يا رسول الله إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى ) ( سقط : الله وإلى رسوله قدقة ، قال : لا ، قلت : فنصفه ، قال : لا ، قلت : فثلثه ؟ قال : نعم قلت : فإني )
سهمي من خيبر . وقد اعترض على هذا بأنه ليس فيه تصريح بالنذر ، فيحتمل أنه أراد أن يتصدق بذلك ، فأرشده النبي إلى ما هو أولى ، ويجاب بأن هذا ظاهر في جعله لله تعالى ، ويرشحه قول النبي : ( يجزئ عنك الثلث ) إذ لفظة الإجزاء ظاهرة في الوجوب ، ثم لو سلم أنه ليس بنذر ، فلا نسلم أن الصدقة بما زاد على الثلث قربة لمنع النبي من ذلك ، وهو لا يمنع القرب ، ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به .
ويحكى عن أحمد رواية أخرى أن الواجب في ذلك كفارة يمين .
3758 لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن رجل قال : مالي في رتاج الكعبة ، فقالت : يكفره ما يكفر اليمين . رواه مالك في الموطأ اه ( وعنه ثالثة ) حكاها ابن أبي موسى : يجب إخراج الجميع نظراً إلى أن الصدقة قربة وطاعة ، فدخل تحت قوله : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) .
ومقتضى كلام الخرقي أن من نذر الصدقة ببعض ماله لزمه ذلك البعض ، وإن كان أكثر من النظف ، ( وهو إحدى الروايتين ) وزعم أبو محمد في المغني أنه الصحيح من المذهب ، عملًا بما تقدم من الوفاء بنذر الطاعة ، خرج منه إذا نذر الجميع فيبقى فيما عداه على مقتضى الأصل ( والرواية الثانية ) أنه يجزئه إخراج ثلث ذلك البعض المعين أو المقدر ، وبها قطع القاضي في الجامع ، جعلفا للبعض كالكل ولأبي محمد احتمال أن البعض إن كان الثلث فما دون لزمه ، وإن كان أثر أجزأه قدر ثلث المال ، لما تقدم من أن الحديث يتضمن أن الصدقة بزيادة على الثلث ليس بقربة ، وهذا الاحتمال هو الرواية الثانية التي حكاها أبو البركات وصححها ، وعنده أن محل الخلاف فيما إذا زاد المسمى على ثلث الكل ، هل يلزمه الكل أو قدر ثلث المال ؟ على روايتين ، أما إذا كان المسمى قدر الثلث فما دون فإنه يلزمه الوفاء به رواية واحدة ، تضمن هذا أن للأصحاب في نقل الخلاف طريقتين ، والأولى طريقة أبي الخطاب ، وأبي محمد ، ومقتضى كلام القاضي ، وجمع ابن حمدان في رعايتيه الطريقتين ، فحكى المسألة على ثلاث روايات .
( تنبيه ) هل يختص ذلك بالصامت ، أو يعم كل مال ، إن لم يكن له نية وهو ظاهر إطلاق الأكثرين ، ومقتضى حديث كعب بن مالك ، لأنه جعل سهمه الذي بخيبر من المال ، وأقره النبي على ذلك ، وقياس مسألة إذا حلف لا مال له ومال غير زكوي ، أو دين على الناس أنه يحنث ؟ على روايتين .
قال : من نذر أن يصوم وهو شيخ كبير ، لا يطيق الصيام ، كفر كفارة يمين ، وأطعم لكل يوم مسكينا .
ش : هذا هو المذهب المنصوص ( أما الكفارة ) فلأنه لم يأت بالمنذور بعينه ، ولما تقدم في حديث أخت عقبة الذي رواه أبو داود قال فيه : ( ولتكفر يمينها ) .
3759 وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال : ( من نذر نذراً ولم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذراً لم يطقه فكفارته كفارة يمين ) . رواه داود ، ( وأما الإطعام ) فالكالصوم الواجب بأصل الشرع وقيل : لا يجب إلا الكفارة لظاهر الحديثين ، وقيل : لا يجب إلا الإطعام ، كالواجب بأصل الشرع وهو صوم رمضان ، وقيل : إن هذا النذر غير منعقد أصلًا ، لأنه تكليف ما لا يطيق ، وهو غير جائز شرعاً ، وحكم ما إذا نذر الصوم وهو قادر ثم عجز حكم ما تقدم ، إلا أنه لا نزاع في انعقاد نذره .
قال : وإذا ندر صياماً ولم يذكر عدداً ولم ينوه فأقل ذلك صوم يوم .
ش : لأنه ليس في الشرع صوم مفرد أقل من يوم ، فيجب ذلك ، لأنه اليقين ، وهذا مع الإطلاق ، أما مع التقييد بلفظه أو بنيته فيعمل على ذلك بلا ريب .
قال : وأقل الصلاة ركعتان .
ش : أي وإذا نذر صلاة فأقلها ركعتان ، ما لم ينو أكثر أو يسمه ، وهو إحدى الروايتين ، وهي التي نصبها أبوالخطاب والشريف في خلافيهما ، وقطع بها القاضي في الجامع ، وابن عقيل في التذكرة ( والرواية الثانية ) يجزئه ركعة ، ومبناهما على أن أقل ما يصح التطوع به هل هو ركعة أو ركعتان ؟ على روايتين تقدمتا ومفهوم كلامه ثم أن أقله ركعتان ، وعليه جرى ها هنا .
قال : وإذا نذر نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزئه إلا أن يمشي في حج أو عمرة .
ش : من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الوفاء بنذره ، كما تضمنه كلام الخرقي ، لأنه قربة وطاعة فلزمه كنذر الصلاة .
3760 ودليل الأصل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ) متفق عليه ، ولا يجزئه الذهاب إلا في حج أو عمرة لأنه المشي المعهود في الشرع إلى البيت ، فحمل إطلاق الناذر عليه ، ولقد غالى أبو محمد فقال : إذا نذر إتيان البيت غير حاج ولا معتمر لزمه الحج أو العمرة ، وسقط شرطه ، لمناقضته لنذره . وفيه نظر ، لجواز التصريح بخلاف الظاهر ، والكلام إنما يتم بآخره ويلزمه المشي من دويرة أهله ، والإحرام من حيث يحرم للواجب ، وحكم من نذر المشي إلى موضع من الحرم كذلك ، بخلاف غيره ، كعرفة وغيرها ، والله أعلم .
قال : فإن عجز عن المشي ركب وكفر كفارة يمين .
ش : إذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه المشي ، لظاهر حديثي أنس وأخت عقبة رضي الله عنهما وسيأتيان ، ولأن المشي والحال هذه قربة ، لأنه مشي إلى عبادة ، والمشي إلى العبادة أفضل فإن عجز عن المشي جاز له الركوب .
3761 لحديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله رأى شيخا يهادي بين ابنيه فقال : ( ما بال هذا ؟ ) قالوا : نذر أن يمشي . قال : ( إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني ) وأمره أن يركب . متفق عليه .
3762 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى رسول الله فقال : يا رسول الله إن أختى نذرت أن تمشي إلى البيت ، أو قال : أن تحج ماشية ، فقال رسول الله : ( إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئاً ، فلتحج راكبة ولتكفر عن يمينها ) .
رواه أبو داود .
وإذا ركب كفر كفارة يمين ( على إحدى الروايتين ) واختيار القاضي ، وأبي محمد ، لهذا الحديث ، وبه احتج أحمد ، ولأبي داود في رواية والترمذي في حديث عقبة بن عامر قال : ( ولتصم ثلاثة أيام ) ولعموم قول النبي : ( كفارة النذر كفارة يمين ) ( وعن أحمد رواية أخرى ) : يجب عليه هدي من الميقات لأنه أخل بواجب في الإحرام ، فلزمه الهدي كتارك الإحرام من الميقات ، والإحرام دونه .
3763 ولما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية ، وإنها لا تطيق ذلك ، فقال النبي : ( إن الله لغني عن مشي أختك ، فلتركب ولتهد بدنة ) ، وفي رواية : أمرها أن تركب وأن تهدي هديا . رواه أبو داود ، ويخرج لنا ( رواية ثالثة ) أنه لا شيء عليه ، بناء على تارك المنذور لعذر ، وهو ظاهر حديث أنس رضي الله عنه المتقدم .
3764 وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : نذرت أختى أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية ، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله ، فاستفتيته فقال : ( لتمش ولتركب ) متفق عليه وليس في الصحيح ذكر كفارة .
وإن عجز عن مشي البعض وقدر على البعض ، فإنه يمشي ما قدر عليه ، ويركب ما عجز عنه ، لقول النبي لأخت عقبة : ( لتمش ولتركب ) أي لتمشي ما قدرت عليه ولتركب ما عجزت عنه ، وحكم الكفارة على ما سبق .
هذا كله إذا ترك المشي لعجزه عنه ، أما إذا تركه مع قدرته عليه فلا ريب في وجوب الكفارة عليه ، ثم هل هي كفارة يمين أو هدي ؟ على الروايتين السابقتين والمذهب على إجزاء حجه ، وقال أبو محمد : قياس المذهب أنه يستأنف الحج ماشياً لتركه صفة النذر ، كما لو نذر صوماً متتابعاً ففرقه ، وعلى هذا لو مشى بعضاً وركب بعضاً ففيه احتمالان ( أحدهما ) يحج ثانياً فيمشي ما ركب ( والثاني ) لا يجزيه إلا حج يمشي في جميعه ، اعتماداً على ظاهر نذره .
تنبيهان ( أحدهما ) عكس مسألة الخرقي إذا نذر الركوب إلى بيت الله الحرام فإنه يلزمه ، لأن فيه إنفاقاً في الحج ، فإن تركه ومشى لزمته الكفارة ، ثم هل هي كفارة أو هدي ؟ ، على الروايتين السابقتين ، وهذا كله مع الإطلاق ، أما لو نوى بالمشي أو بالركوب إتيانه ، فإنه يلزمه إتيانه في حج أو عمرة ، ولا يلزمه مشي ولا ركوب . ( الثاني ) يلزم المنذور من المشي أو الركوب في الحج أو العمرة إلى التحلل ، لانقضاء النسك إذاً ، وقال 16 ( أحمد ) : يركب في الحج إذا رمى ، وفي العمرة إذا سعى ، لأنه لو وطىء بعد ذلك لم يفسد حجاً ولا عمرة ، وظاهر هذا أنه إنما يلزمه ذلك إلى التحلل الأول والله أعلم .
قال : وإذا نذر عتق رقبة فهي التي تجزئ ، عن الواجب ، إلا أن يكون نوى رقبة بعينها .
ش : إذا نذر رقبة وأطلق حمل ذلك على ما يجزىء في الواجب ، وهي الرقبة المؤمنة على المذهب ، السالمة من عيب مضر بالعمل على ما تقدم ، حملًا للمطلق على المعهود الشرعي ، وهو الواجب في الكفارة وإن نوى رقبة معينة أجزأته وإن كانت كافرة أو معينة ، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله ، قال أحمد فيمن نذر عتق عبد بعينه فمات العبد قبل أن يعتقه : يلزمه كفارة يمين ، ولا يلزمه عتق عبد ، لأن هذا شيء فاته ، على حديث عقبة بن عامر ، وإليه أذهب في الفائت وما عجز عنه اه .
قال : وإذا نذر صيام شهر من يوم يقدم فلان ، فقدم في أول يوم من شهر رمضان ، أجزأه صيامه لشهر رمضان ونذره .
ش : النذر والحال هذه منعقد في الجملة ، قال القاضي في روايتيه : من نذر أن يصوم يوم يقدم فلان انعقد نذره ، ذكره أبو بكر في الاعتكاف من كتاب الخلاف ، وحكى صحته عن أحمد في مواضع اه ، وكذلك جزم غير واحد من الأصحاب بالصحة وذلك لأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به غالباً ، فأشبه غيره من النذور ، فإذا قدم فلان في أول شهر رمضان فهل يتبين بذلك عدم انعقاده ، المشهور وه اختيار أبي محمد ة وظاهر كلام الخرقي نعم لقوله : أجزأه يامه لرمضان ونذره وعن القاضي أن ظاهر كلام الخرقي عدم الانعقاد وأخذ ذلك من كون الخرقي لم يوجب القضاء والحال هذه .
إذا تقرر هذا فلقدوم زيد حالات ( إحداها ) أن يقدم والناذر صائم صوماً واجباً ، ففيه روايتان ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي ، وابن عقيل في التذكرة : يجزئه صومه عن الواجب والنذر ، لأن الذي نذره صوم يوم يقدم فلان وقد صامه ( والثانية ) وهي أنصهما ، واختيار أبي بكر والقاضي ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما لا يجزئه عن النذر ، لأنه لم يأت بما وجب عليه لأن الواجب عليه صوم يوم قدوم زيد عن النذر ، ولم يأت به عن النذر ، إنما أتى ببعضه عنه ، ولهذا الخلاف التفات إلى نذر صوم الواجب ، وإلى أنه هل يلزمه الصوم حين القدوم ، أو من أول اليوم ؟ وعلى هذا فمذهب الخرقي صحة نذر الواجب كما هو المذهب ، وأنه إنما يلزمه من حين القدوم ، وهو أحد الوجهين أو الروايتين ، ونظير ذلك إذا قال : أنت طالق يوم يقدم زيد ، هل تطلق من حيث قدومه أو من أول اليوم ؟ على قولين اه فإن قلنا : لا يجزئه لزمه القضاء لتركه المنذور ، وهل عليه كفارة ؟ فيه روايتان يأتي الكلام عليهما إن شاء الله تعالى ، ويتخرج أن لا شيء عليه ، كنذر الواجب في رواية وقد تقدم في كلام القاضي ما يدل عليه .
( الحال الثانية ) : وهي التي ذكرها الخرقي في قوله :
ومن نذر أن يصوم يوم يقدم فلان فقدم يوم فطر أو أضحى لم يصمه ، وصام يوماً مكانه ، وكفر كفارة يمين .
ش : إذا قدم يوم فطر أو أضحى فقيه روايتان ( إحدهما ) لا شيء عليه ، لأن يوم الفطر والأضحى ليس بمحل للصوم ، لمنع الشارع منه ، فأشبه ما لو قدم ليلًا ، إذ الممنوع منه شرعاً كالممنوع منه حساً ، وحكى أبو محمد هذه الرواية تخريجا من نذر المعصية ، وفيه نظر ، لأن العصيان يعتمد المخالفة ، ولا مخالفة هنا من الناذر ( والرواية الثانية ) وهي المذهب عليه القضاء ، لأن النهار محل للصوم في الجملة ، بخلاف الليل ، والمانع عارض ، وإذاً يجب القضاء لترك المنذور ، ولهاتين الروايتين التفات إلى الصلاة في الدار المغصوبة ، من حيث إنه هل ينظر إلى عين الصلاة ، أو إلى الصلاة من حيث هي ؟ لكن المشهور ثم النظر إلى عين الصلاة ، والمشهور هنا النظر إلى ذات اليوم من حيث هو ، وقد يفرق بأن ثم المصلي آثم عاص لارتكابه النهي . بخلاف هنا فإنه لا مخالفة منه ، وإنما وجد أمر بغير اختياره ، منعه من الصوم . اه وعلى هذه إذا قضى هل عليه كفارة ؟ فيه روايتان ( أشهرهما ) عن الإمام وعند الأصحاب : نعم لتركه المنذور في وقته ( والثانية ) لا لأنه معذور في الترك ، أشبه المكره ، وخرج أبو محمد ( قولًا رابعاً ) بوجوب الكفارة من غير قضاء ، مما إذا نذرت المرأة صوم يوم حيضها ، وحكم ما لو وافق يوم حيض أو نفاس حكم ما تقدم إلا أن عن أحمد رواية فيما إذا وافق يوم عيد أنه إن صام صح صومه ، وهنا لا يصح الصوم بلا خلاف .
( الحال الثالثة ) : قدم وهو مفطر ، ففيه روايتان إحداهما لا شيء عليه ، والثانية وهي المذهب عليه القضاء ، وقد تقدم توجيههما ، وعلى هذه ففي الكفارة روايتان ، بناء على تارك المنذور لعذر .
( الحال الرابعة ) : إذا قدم وهو ممسك ، ففيه روايتان ( إحداهما ) وهي ظاهر كلام الشيرازي ، واختيار ابن عبدوس أنه ينوي صيامه عن النذر ولا شيء عليه ، لوجود الصوم منه في اليوم ، ولا تضر نيته من النهار لأن الواجب إنما تعلق به إذاً ، وقد شهد لذلك قضية صوم يوم عاشوراء ( والثانية ) عليه القضاء ، ويمنع أن الواجب إنما تعلق به إذ ذاك ، بل تبين تعلقه به من أول اليوم ، وفي الكفارة لكونه معذورا روايتان ، هذا نقل الشيخين ، وقال القاضي في الجامع : إنه ينوي صوم ذلك اليوم ويقضي ويكفر . وهذا الذي نصبه الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وقال الشريف : إنه اختيار أبي بكر وهو مبني على لزوم الإمساك له وإن لم يصح صومه عن النذر كرمضان ، والمختار خلافه . ( الحال الخامسة ) قدم وهو صائم تظوعا ، ففيه أيضاً روايتان كالممسك ( إحداهما ) أنه يعتقده عن النذر ويجزئه . ( والثانية ) عليه القضاء ، وفي الكفارة الخلاف . ( الحال السادسة ) إذا قدم في الليل ، أو والناذر مجنون ، فلا شيء عليه وإن أفاق في اليوم ، على ظاهر إطلاق أبي البركات ، وقد يقال فيما إذا أفاق في اليوم إنه كالمفيق في أثناء يوم من رمضان . ( الحال السابعة ) قدم في النهار ، وكان قد بيت له النية ، لخبر سمعه من الليل ، فيجزئه بلا ريب .
قال : وإن وافق قدومه يوماً من أيام التشريق صامه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله ، والرواية الأخرى لا يصومه ، ويصوم يوما مكانه ، ويكفر كفارة يمين .
ش : هذا مبني على أصل تقدم ، وهو أن أيام التشريق هل يصح صومها عن الفرض أم لا ؟ فإن قلنا يصح صام هنا ، وصار كما لو كان القدوم في غير يوم تشريق ، وإن قلنا لا يصح فهو كما لو قدم في يوم عيد وقد تقدم ، وقد علم من هذا أن يوم العيد لا يصح صومه وهو المذهب ، وعن أحمد رواية أخرى أنه إن صام صح صومه ، كالصلاة في الدار المغصوبة . ( تنبيهان ) ( أحدهما ) إذا قلنا بالإجزاء عن رمضان والنذر ، فهل ينوي النذر ؟ قد يقال : إنه ينويه كما إذا قلنا فيما إذا كان صائماً تطوعاً أو ممسكاً ، ويحتمل هذا كلام الخرقي ، وعلى هذا يكون كلامه مشعراً بصورتي التطوع والممسلك اه ( الثاني ) إذا كان القدوم في الليل ، أو والناذر مجنون فقد يقال : بطل النذر إذاً لعدم تصور الفعل ، إذ الليل ليس بمحل للصوم أصلًا ، والمجنون لا يتوجه إليه خطاب تكليفي ، وقد يقال : بل قد تبيناً عدم انعقاده ، فيكون النذر موقوفاً . وهذان المدركان يلحظان أيضاً فيما إذا كان القدوم في يوم عيد أو وهو مفطر ، والله أعلم .
قال : ومن نذر أن يصوم شهراً متتابعاً ولم يسمه فمرض في بعضه أفطر فإذا عوفي بنى ، وكفر كفارة يمين ، وإن أحب أتى بصيام شهر متتابع ولا كفارة عليه .
إذا نذر أن يصوم شهراً والحال هذه فصام ثم في أثنائه مرض مرضا مجوزاً للفطر فأفطر فإنه إذا عوفي يخير بين الإتيان بشهر متتابع ولا كفارة عليه ، لإتيانه بالمنذور على وجهه ، وبين البناء على ما صامه والتكفير بكفارة يمين ، لتركه صفة المنذور ، كما أمر النبي أخت عقبة بالكفارة لتركها المشي ، ويخرج رواية أخرى بعدم وجوب الكفارة للعذر ، لإمكانه الإتيان بالمنذور على وجهه .
وقول الخرقي : مرض . قد قلنا : أي مرضاً مجوزاً للفطر . وهو شامل للموجب للفطر وهو المخوف ، وغير الموجب وهو المبيح ، ولا ريب أن حكم الموجب ما تقدم ، أما المبيح فهل حكمه كذلك أو حكم من أفطر لغير عذر ، فيلزمه الاستئناف بلا كفارة ؟ على وجهين ، وكذلك هذان الوجهان فيما إذا سافر سفراً يبيح الفطر ، ولنا وجه ثالث يفرق بين المرض والسفر ، ففي المرض يخير ، لأن السبب وجد بغير اختياره ، وفي السفر يتعين الاستئناف ، لوجود السبب منه باختياره ، وقد تقدم نحو ذلك في الظهار ، وكلام الخرقي مشعر بأنه لو نذر شهراً وأطلق أنه لا يلزمه التتابع فيه ، وهو إحدى الروايتين ، لوقوع الشهر على ما بين الهلالين وعلى ثلاثين يوماً ، ولهذا لو صام ثلاثين يوماً أجزأه بلا ريب واللَّه أعلم .
قال : وكذلك المرأة إذا نذرت صيام شهر متتابع وحاضت فيه .
ش : يعنى إنها تخير بين الاستئناف فلا شيء عليها وبين البناء مع الكفارة .
وقال : ومن نذر أن يصوم شهراً بعينه فأفطر يوماً بغير عذر ابتدأ شهراً وكفر كفارة يمين .
ش : إذا نذر صوم شهر بعينه كرجب مثلاً فأفطر يوماً فيه أو أكثر ، فلا يخلو إما أن يكون لعذر أو لغير عذر ، فإن كان لغير عذر ففيه روايتان ( إحداهما ) وهي المشهورة واختيار الخرقي وأبي الخطاب في الهداية وابن البنا أنه ينقطع صومه ويبتدىء شهراً كاملاً ، ( والثانية ) وقال أبو محمد : إنها الأقيس لا ينقطع صومه ، فيتم على ما صامه ثلاثين يوماً إذا زال عذره وأصل الخلاف أن التتابع في الشهر المعين هل وجب لضرورة الزمن ، وإليه ميل أبي محمد ، أو لإطلاق النذر ، وإليه ميل الخرقي والجماعة ، ولهذا لو شرط التتابع بلفظه أو نواه لزمه الاستئناف قولاً واحداً ، ومما ينبني على ذلك أيضاً إذا ترك صوم الشهر كله ، فهل يلزمه شهر متتابع ، أو يجزئه متفرقاً ؟ على الروايتين ولهاتين الروايتين أيضاً التفات إلى ما إذا نذر صوم شهر وأطلق ، هل يلزمه متتابعاً أم لا ؟ وقد تقدم أن كلام الخرقي يشعر بعدم التتابع ، وقضية البناء هنا يقتضي التتابع ، كما هو المشهور عند الأصحاب ثم . انتهى . وعلى كلتا الروايتين يلزمه كفارة ، جبراً للفطر الذي أفطره فيه ، وإن كان الفطر لعذر فإنه يبني قولاً واحداً ، لكن هل يجب وصل القضاء وتتابعه أم لا ؟ على الروايتين السابقتين ، وهل يلزمه كفارة ؟ على الروايتين أيضاً في ترك المنذور لعذر .
قال : ومن نذر أن يصوم فمات قبل أن يأتي به صام عنه ورثته من أقاربه .
ش : أما جواز صوم النذر عن الميت في الجملة فهو المذهب المعروف .
3765 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن امرأة قالت : يا رسول اللَّه إن أمي ماتت وعليها صوم نذر ؟ أفأصوم عنها فقال : ( أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ذلك يؤدي عنها ؟ ) قالت : نعم قال : ( فصومي عن أمك ) متفق عليه ، وفي رواية : أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن اللَّه نجاها أن تصوم شهراً ، فأنجاها اللَّه فلم تصم حتى ماتت ، فجاءت قرابة لها إلى رسول اللَّه فذكرت ذلك له ، فقال : ( صومي عنها ) رواه أحمد وأبو داود ، والنسائي .
3766 وعلى هذا يحمل عموم ما روت عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه قال : ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) متفق عليه .
3767 بدليل ما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم ، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء ، وإن نذر قضى عنه وليه . رواه أبو داود ، فقد فهم من الحديث الأول اختصاص الحكم بالنذر ، وأنه لا يتعدى إلى غيره ، وقد جاء نحو هذا صريحاً عن النبي .
3768 فعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي قال : ( من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً ) إلا أن سنده ضعيف ، وقال الترمذي : الصحيح أنه عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما موقوف .
وقيل : لا يصوم أحد عن أحد ، كما لا يفعل ذلك عنه في الحياة ، وهو مردود بالنصوص ، والذي يصوم عنه ورثته من أقاربه ، لأنهم لما خلفوه في أخذ ميراثه كذلك فيما عليه ، وهذا على سبيل الاستحباب ، فلو لم يصوموا فلا شيء عليهم ، إلا أنه وقع للقاضي في تعليقه ما ظاهره أنه لو خلف إذاً تركة فالورثة مخيرون ، إن شاؤوا صاموا ، وإن شاؤوا أنفقوا على من يصوم ، وهو حسن ، ولو صام عنه قريبه غير الوارث ، أو وارثه غير القريب أو أجنبي أجزأ عنه ، كما لو قضى عنه دينه ، وقد شبهه النبي بالدين ، ولتشبيهه بالدين قلنا : لا يجب على الوارث القريب بالقضاء ، بل يستحب له ، إذ قضاء الدين عن الميت لا يجب على الوارث ما لم يخلف تركة يقضي منها ، وقول النبي : ( صومي عنها ) ونحو ذلك أمر بالصوم على جهة الفتوى فيما سئل عنه ، والغرض منه بيان الجواز .
3769 وقد جاء مصرحاً به ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه لمن شاء ) .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب مع القضاء فدية ، وهو كذلك ، لظاهر الحديث .
قال : وكذلك كل ما كان من نذر طاعة .
ش : كحج وصدقة ، وعتق واعتكاف ، ونحو ذلك من القرب .
3770 وقد جاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى رسول اللَّه فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ قال : ( نعم ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا اللَّه فاللَّه أحق بالوفاء ) رواه البخاري والنسائي بمعناه ، وفي رواية لأحمد والبخاري قال : جاء رجل فقال : إن أختي نذرت أن تحج . وهو دليل على الإجزاء من الوارث وغيره ، حيث لم يستفسره النبي أوارث هو أم لا ، فقد ورد النص بالقيام في الصوم والحج خصوصاً ، وورد في غيرهما عموماً .
3771 فعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن سعد بن عبادة استفتى رسول اللَّه فقال : إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه ؟ فقال رسول اللَّه ( اقضي عنها ) رواه أبو داود والنسائي .
وقد عمل على ذلك ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، وعن عائشة رضي اللَّه عنها ، وهما راويا الحديث ، وكذلك ابن عمر رضي اللَّه عنهما .
3772 قال البخاري : أمر ابن عمر رضي اللَّه عنهما امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء يعني ثم ماتت فقال : صلي عنها ، قال : وقال ابن عباس نحوه .
3773 وروى سعيد عن سفيان ، عن عبد الكريم أبي أمية عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة أنه سأل ابن عباس عن نذر كان على أمه من اعتكاف ، قال : صم عنها ، واعتكف عنها .
3774 وقال : حدثنا أبو الأحوص ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن عامر بن مصعب ، أن عائشة رضي اللَّه عنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن رضي اللَّه عنه بعدما مات .
ولنا قول آخر ضعيف أنه لا يفعل شيئاً من ذلك كما تقدم في الصوم .
وقد شمل كلام الخرقي الصلاة المنذورة ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر ، والقاضي في التعليق وغيرهما ، قياساً على ما تقدم ( والرواية الثانية ) لا يفعل الصلاة بخلاف الصوم وغيره ، لأنها عبارة تختص بالبدن ، لا بدل لها بحال .
ومفهوم كلام الخرقي أن الولي لا يفعل ما هو واجب بغير النذر ، من قضاء رمضان ، وصوم كفارة ، وصوم السبعة أيام للمتمتع ، وحج ، وزكاة مال ، وعتق في كفارة ، وقد صرح بذلك الأصحاب في قضاء رمضان ، لما تقدم من الإشارة في الاستدلال ، وكذلك نص عليه أحمد في السبعة الأيام للمتمتع في رواية المروذي ، قياساً على قضاء رمضان ، لوجوبها بأصل الشرع ، وهو فرق صوري ، وقد يقال : الأصل عدم الاستنابة إلا ما استثناه الدليل ، وكذلك نص أحمد في صوم الكفارة في رواية ابن منصور ، إذ الكفارة زاجرة كالحد ، فلم ينب فيها الولي . بخلاف نذر الصوم فإنه نذر طاعة ، أشبه نذر صدقة المال .
وأما الحج الواجب فقد قال الأصحاب إن لوارثه ولغير وارثه أن يفعله عنه بعد مماته وإن لم يوص بذلك ، سواء كان له تركة أو لم يكن .
3775 وقد شهد لذلك ما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : أتى النبي رجل فقال : إن أبي مات وعليه حجة الإسلام ، أفأحج عنه ؟ قال : ( أرأيت لو أن أباك ترك ديناً عليه أقضيته عنه ؟ ) قال : نعم . قال : ( فاحجج عن أبيك ) رواه الدارقطني ، وأما زكاة المال فلا يحضرني الآن فيه نقل ، والقياس أنه كالعتق الواجب ، وقد صرح القاضي وأبو البركات وغيرهما بصحته عن الميت مطلقاً ، وقد علم من مجموع هذا أن مفهومه إنما عمل به في الصوم فقط .
( تنبيه ) قول الخرقي : صام عنه ورثته من أقاربه ، ظاهره كما تقدم أن الذين يطلب منهم الصوم هم الورثة من الأقارب ، وأحمد رحمه اللَّه قال في من مات وعليه اعتكاف : ينبغي لأهله أن يعتكفوا عنه . وهو شامل للوارث وغير الوارث ، وقال ابن عبدوس : إذا صام الولي صام الأقرب من الأولياء . ثم قول الخرقي أيضاً : ورثته . يشمل جميع الورثة ، وظاهره أنه لو صام عنه الكل صح ، كأن يكونوا مثلاً عشرة ، وعليه عشرة أيام ، فيصوموا عنه كل واحد يوماً ، وقد ذكر لأحمد في رواية أبي طالب من كان عليه صوم شهر ، هل يصوم عشرة أنفس شهراً ؟ فقال : يصوم واحد وقد قرر القاضي في تعليقه هذا النص على ظاهره ، لما أورده على لسان الخصم ، وقال فيه : كما لا يصح أن يطوف واحد ويسعى آخر واللَّه أعلم .
كتاب أدب القاضي


ش : قال الأزهري : القضاء في الأصل إحكام الشيء والفراغ منه ، ويكون القضاء إمضاء الحكم ، ومنه قوله تعالى [ ب 2 ] 19 ( { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } ) [ ب 1 ] وسمي الحاكم قاضياً لأنه يمضي الأحكام ويحكمها ، ويكون ( قضى ) بمعنى أوجب ، فيجوز أن يكون سمي قاضياً لإيجابه الحكم على من يجب عليه . انتهى قلت : ويجوز أن يكون سمي من الأول ، لأنه ينبغي أن يكون محكماً في نفسه ، أي كاملاً في صفاته وأفعاله .
والأصل في مشروعيته قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيها شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما } ) [ ب 1 ] وقوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { وأن احكم بينهم بما أنزل اللَّه } ) [ ب 1 ] وقوله تعالى [ ب 2 ] 19 ( { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى } ) [ ب 1 ] .
3776 وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما عن النبي أنه قال ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ) متفق عليه .
3777 ولأبي داود والنسائي من رواية أبي هريرة رضي اللَّه عنه ( وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ) وكذا من مسلم ، مع أن هذا وللَّه الحمد إجماع والقضاء من فروض الكفايات ، لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه ، فكان واجباً كالجهاد والإمامة ، ولما تقدم من قوله تعال : [ ب 2 ] 19 ( { وأن احكم بينهم بما أنزل اللَّه } ) [ ب 1 ] ونحوه .
3778 وعن أبي سعيد رضي اللَّه عنه أن النبي قال : ( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمرُوا أحدهم ) رواه أبو داود .
3779 وله من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه مثله .
3780 وعن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما أن النبي قال : ( لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم ) رواه أحمد ، ونقل إسماعيل بن سعيد عن أحمد أنه سئل : هل يأثم القاضي بالامتناع إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به ؟ قال : لا يأثم . وظاهر هذا أنه غير واجب ، والأول المذهب ، قال أبو محمد : ويحتمل أن تحمل هذه الرواية على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان وغيره .
قال : ولا يولي قاض حتى يكون بالغاً عاقلاً ، مسلماً حراً عدلاً ، عالماً فقيهاً ورعاً .
3781 ش : ( أما اشتراط البلوغ ) فلما روي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه : ( تعوذوا باللَّه من رأس السبعين ، وإمارة الصبيان ) رواه أحمد ، ولأن الصبي مولَّى عليه فلا يكون مولى على غيره ، ولأن الصبي يستحق الحجر عليه ، والقاضي يستحق الحجر على غيره فتنافيا ، ( وأما اشتراط الإسلام ) فلأن ذلك شرط في الشهادة ، ففي القضاء أولى ، ودليل الأصل [ ب 2 ] 19 ( { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } ) [ ب 1 ] ولأن الكفر يقتضي إذلال صاحبه ، والقضاء يقتضي احترامه ، وبينهما منافاة ، وقد قال اللَّه سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { ولن يجعل اللَّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً } ) [ ب 1 ] وأي سبيل أعظم من أن يلزمه ، ويحكم عليه بغير اختياره ، ( وأما اشتراط الحرية ) فقياساً لمنصب القضاء على منصب الإمامة . ولأن العبد في أعين الناس ممتهن ، والقاضي موضوع للفصل بين الخصومات ، وبين الحالتين منافاة .
3782 وما ورد من قول النبي : ( اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي ، ما أقام فيكم كتاب اللَّه عز وجل ) رواه مسلم وغيره ، فمحمول على من كان عبداً مجازاً ، أو على غير ولاية الحكم ، ( وأما اشتراط العدالة ) فلقول اللَّه تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } ) [ ب 1 ] والقاضي يخبر بقول ، فلا يجوز قبوله مع فسقه لذلك ، ولأن العدالة شرط في الشاهد ، ففي القاضي أولى ، ولأن قوله ألزم ، وضرره أشمل ، ودليل الأصل [ ب 2 ] 19 ( { واشهدوا ذوي عدل منكم } ) [ ب 1 ] ( وأما اشتراط كونه عالماً ) أي عالماً بوجوه الكتاب والسنة ، واختلاف علماء المسلمين فقيهاً وهو من صار الفقيه له سجية ، لأن الفقيه اسم فاعل من فقه بالضم ككرم فهو كريم ، وذلك من صار له أهلية استنباط الأحكام الشرعية .
3783 فلما تقدم من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما ، إذ فيه في صحيح مسلم ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ) قال العلماء : معناه إذا أراد أن يحكم ، فعند ذلك يجتهد ، وإلا لو حمل على ظاهره لاقتضى أن الاجتهاد مؤخر عن الحكم ، وليس كذلك اتفاقاً .
3784 وعن بريدة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال : ( القضاة ثلاثة ، واحد في الجنة ، واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به ، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى على جهل فهو في النار ) رواه أبو داود وابن ماجه .
3785 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال : ( من أفتي بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه ) رواه أحمد وابن ماجه .
3786 وعن عمرو بن الحارث يرفعه إلى معاذ رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال له : ( كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ) ؟ قال : أقضي بكتاب اللَّه . قال : ( فإن لم تجد في كتاب اللَّه ؟ ) قال : أقضي بسنة رسول اللَّه قال : ( فإن لم تجد في سنة رسول اللَّه قال : أجتهد رأيي ولا آلو . قال : فضرب رسول اللَّه صدره وقال : ( الحمد للَّه الذي وفق رسول رسول اللَّه لما يرضي رسول اللَّه ) رواه أبو داود والترمذي ، وقد شهد لهذا قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { وأن احكم بينهم بما أنزل اللَّه } ) [ ب 1 ] وقوله : [ ب 2 ] 19 ( { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللَّه والرسول } ) [ ب 1 ] الآية .
( وأما اشتراط كونه ورعاً ) فلأن غير الورع لا يؤمن أن يتساهل ، فيأخذ الرشا الملعون آخذه عن اللَّه وعن الحق .
3787 فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال : ( لعن اللَّه الراضي والمرتشي في الحكم ) رواه الترمذي .
3788 وعن ابن عمرو رضي اللَّه عنهما نحو رواه أبو داود .
3879 وعن عمر بن عبد العزيز رضي اللَّه عنه أنه قال : ينبغي للقاضي أن يجتمع فيه سبع خصال ، وإن فاتته واحدة كانت فيه وصمة ، العقل ، والعفة ، والورع ، والنزاهة ، والصرامة ، والعلم بالسنن ، والحلم . رواه سعيد .
وظاهر كلام الخرقي أن الورع شرط لصحة تولية القضاء ، وهو ظاهر كلام أحمد على ما حكاه أبو بكر في التنبيه قال : إذا كان فيه ست خصال فقيهاً ، عالماً ، ورعاً ، عفيفاً ، بصيراً بما يأتي بصيراً بما يذر ، أي صلح للقضاء ، أو صلح أن يستقضي ، وعامة المتأخرين كالقاضي ومن بعده لا يشترطون ذلك ، بل يجعلونه من المندوبات .
إذا تقرر هذا فقد أهمل الخرفي رحمه اللَّه شروطاً أخر لا بد من التنبيه عليها ، ولعله لوضوحها ، أو لإشعار كلامه بها تركها ، ( منها كونه عاقلاً ) وهذا واضح جداً ، لأن المجنون أسوأ حالاً من الصبي ، ( ومنها كونه ذكراً ) ويحتمله كلام الخرقي لذكره ما تقدم بصيغة التذكير ، وذلك لما تقدم من قوله : ( القضاة ثلاثة ) قال : ( فرجل ) إلى آخره ، وظاهره حصر القضاة في الثلاثة الموصوفين بما ذكر .
وعن أبي بكرة رضي اللَّه عنه قال : لما بلغ رسول اللَّه أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى ، قال : ( لن يفلح قوم أولوا أمرهم امرأة ) رواه البخاري والنسائي والترمذي وصححه ، ولأن القاضي يحضره الرجال ، ويحتاج فيه إلى كمال رأي ، وتمام عقل ، وفطنة ، والمرأة لا تحضر محافل الرجال ، وهي ناقصة عقل بدليل النص ، قليلة رأي وفطنة ، وقد نبه اللَّه سبحانه على ذلك بقوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ، أن تضل إحداهما الأخرى } ) [ ب 1 ] فأشار سبحانه إلى كثير نسيانها وغلطها ، ( ومنها ) أن يكون متكلماً سميعاً بصيراً ، لأن الأخرس يتعذر عليه النطق بالحكم ، وإشارته إن فهمت لن لا يفهمها كل أحد ، والأصم لا يسمع قول الخصمين ، والأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه ، والشاهد من المشهود له ، ( واختلف ) هل يشترط كونه كاتباً ، وهو الذي أورده ابن حمدان مذهباً ، حذاراً من أن يخفي عليه ما يكتبه كاتبه ، فربما دخل عليه الخلل ، أو لا يشترط ، وهو ظاهر كلام عامة الأصحاب ، الخرقي وأبي بكر ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي وابن البنا وغيرهم ، ونصبه أبو محمد للخلاف ، نظراً إلى النبي كان أمياً ، وهو سيد الحكام ؟ على قولين ، ( وكذلك اختلف ) أيضاً في اشتراط كونه زاهداً ، والمذهب عدم الاشتراط ، وحكى ابن حمدان قولاً بالاشتراط وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أنه يشترط أن يكون أعلم من غيره ، وهو يرجع إلى صحة تولية المفضول مع وجود الفاضل ، والمذهب الصحة فيما أظن .
( تنبيهات ) ( أحدها ) ما يتصور فقده من هذه الشروط إذا فقد في الدوام أزال الولاية ، إلا فقد السمع أو البصر فيما ثبت عنده ولم يحكم به ، فإن ولايته ثابتة فيه ، ( الثاني ) العاقل من عرف الواجب والممتنع والممكن ، وما ينفعه وما يضره غالباً ، والعقل ضرب من العلوم الضرورية ، مثل العلم باستحالة اجتماع الضدين ونحوه ، قاله القاضي وغيره ، وقال التميمي : هو نور كالعلم ، وعن إبراهيم الحربي ، عن أحمد أنه قال : العقل غريزة ، والحكمة فطنة ، والعلم سماع ، والرغبة في الدنيا هوى ، والزهد فيها عفاف .
قال القاضي : معنى قوله أنه غريزة ، أنه خلق اللَّه ابتداء وليس باكتساب ، وللناس فيه أقوال كثيرة ، وهل محله القلب أو الدماغ ؟ فيه روايتان ، المختار منهما للأصحاب الأول ، قال التميمي : الذي نقول به أن العقل في القلب ، يعلو نوره إلى الدماغ فيفيض إلى الحواس ، ما جرى في العقل . انتهى ، وجعل الماوردي الاختلاف في محله مفرعاً على قول من زعم أنه جوهر لطيف ، يفصل به بين حقائق المعلومات كلها ، وقال : كل من نفى كونه جوهراً أثبت محله في القلب ، لأن القلب محل العلوم كلها .
( الثالث ) العدالة المشترطة هنا هل هي العدالة ظاهراً وباطناً كما في الحدود ، أو ظاهراً كما في إمامة الصلاة ، والحاضن ، وولي اليتيم ، ونحو ذلك ، أو فيها الخلاف كما في العدالة في الأموال ؟ ظاهر إطلاقها الأصحاب أنها كالذي في الأموال ، وقد يقال إنها كالذي في الحدود .
( الرابع ) غير واحد من الأصحاب يقول : من شرط القاضي كونه مجتهداً ، وهو الذي أشار إليه الخرقي بقوله : عالماً فقيهاً ، والمجتهد من له أهلية يمكنه أن يعرف بها غالب الأحكام الشرعية الفرعية بالدليل إذا يشاء . مع معرفة جملة كثيرة منها بأدلتها ، فيحتاج أن يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام المذكورة جملة ، ويعرف حقيقة ذلك ومجازه ، وأمره ونهيه ، ومبينه ومجمله ، ومحكمه ومتشابهه ، وعامه وخاصة ، ومطلقه ومقيده ، وناسخه ومنسوخه ، والمستثني والمستثنى منه ويزيد في السنة بأن يعرف مما يتعلق بالأحكام صحيحه وسقيمه ، وتواتره وآحاده ، ومرسله ومنقطعه ونحو ذلك ، ويعرف موضع الوفاق من موضع الخلاف فيما يتعلق بالأحكام ، والقياس وما يتعلق به ، والعربية ، المتداولة بالحجاز واليمن والشام والعراق ، ومن حولهم من العرب ، وزاد ابن عقيل في التذكرة : والاستدلال ، واستصحاب الحال ، والقدرة على إبطال شبه المخالف ، وإقامة الدلالة على مذهبه . واللَّه أعلم .
قال رحمه اللَّه : ولا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان .
ش : هذا واللَّه أعلم اتفاق .
3791 وقد شهد له ما روى عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما قال : كتب أبي وكتبت له إلى ابنه عبيد اللَّه بن أبي بكرة ، وهو قاض بسجستان ، أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان ، فإني سمعت رسول اللَّه يقول : ( لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ) رواه الجماعة . وفي معنى هذا كل مشغل للفكر ، كشدة جوع أو عطش أو ألم ، أو هم أو حزن ، أو فرح أو نعاس ، أو حر مزعج ، أو برد مؤلم ، أو مدافعة بول أو غائط ونحو ذلك .
وظاهر كلام الخرقي وعامة الأصحاب أن المنع من ذلك على سبيل التحريم ، وفي الخصال لابن البنا الإتيان بلفظ الكراهة ، وفي المغني : لا خلاف نعلمه أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان ، وعلى كل حال فإذا خالف وحكم فوافق الحق ( فعن القاضي ) لا ينفذ حكمه ، لارتكاب النهي .
3792 فيدخل تحت قوله عليه السلام : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ( وعنه ) في المجرد وهو الذي أورده الشيخان ، وأبو الخطاب مذهباً أنه ينفذ ، إذ المنع من ذلك كان حذاراً من شغل فكره المؤدي إلى عدم استيفاء النظر في الحكم ، فربما وقع الخلل فيه ، والفرض أن لا خلل في الحكم .
1793 وأما ما روي عن عبد اللَّه بن الزبير ، عن بيه رضي اللَّه عنهما ، أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند النبي في شراج الحرة التي يسقون بها النخل ، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر . فأبى عليه ، فاختصما عند رسول اللَّه ، فقال رسول اللَّه للزبير ( اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك ) فغضب الأنصاري ثم قال : يا رسول اللَّه أن كان ابن عمتك ، فتلون وجه رسول اللَّه ، ثم قال للزبير ( اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ) فقال الزبير : واللَّه إني لأحسب أن هذه الآية نزلت في ذلك [ ب 2 ] 19 ( { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } ) [ ب 1 ] الآية متفق عليه . فهذا الذي وجد من النبي كان غضباً يسيراً ، ومثله لا يمنع الحكم ، أو أنه لم يحكم حتى زال عنه ذلك . انتهى . وقيل : إن عرض ذلك بعد فهم الحكم نفذ لاستبانة الحق قبل الشاغل ، وإلا فلا ، هذا نقل أبي البركات ، وتبعه ابن حمدان ، ولفظ أبي محمد في الكافي : وقيل : إنما يمنع الغضب الحكم قبل أن يتضح حكم المسألة ، أما إذا حدث بعد اتضاح الحكم لم يمنع حكمه فيها لقضية الزبير ، وهذا ظاهر في جواز الحكم وعدم جوازه ، لا في نفوذه وعدم نفوذه .
وقال : وإذا نزل به الأمر المشكل عليه شاور فيه أهل العلم والأمانة .
ش : إذا نزلت بالقاضي قضية واتضح له حكمها حكم ، لما تقدم من حديث معاذ رضي اللَّه عنه ، وإن لم يتضح له الحكم وأشكل عليه شاور فيه ، لقول اللَّه تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { وشاورهم في الأمر } ) [ ب 1 ] وكذلك فعل في أسارى بدر ، وفي لقاء الكفار يوم بدر ، وفي غير ذلك .
3794 وروي : ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول اللَّه .
3795 وكذلك شاور أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه الصحابة في ميراث الجدة .
3796 وكذلك عمر رضي اللَّه عنه في حد الخمر . قال أحمد : لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة ، كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما ويشاور أهل العلم والأمانة ، إذ الجاهل لا قول له فيعتبر ، وغير الأمين قوله هدر .
إذا تقرر هدا فهذه المشاورة لمعرفة الحق بالاجتهاد ، فإذاً إذا اتضح له الحكم حكم ، وإلا أخره حتى يتضح له ، لا لتقليد غيره فإنه لا يجوز ، وإن كان أعلم أو ضاق الوقت .
( تنبيه ) هذه المشاورة على سبيل الاستحباب ، قاله في المغني ، وهو ظاهر كلام المجد ، لأنه أتى بلفظ الابتغاء ، ولا ريب أنه لا يقضي على جهل وتردد .
قال : ولا يحكم الحاكم بعلمه .
ش : هذا هو المذهب المنصوص ، والمختار لعامة الأصحاب من الروايات .
3797 لما روت أم سلمة رضي اللَّه عنها ، أن رسول اللَّه قال : ( إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار ) متفق عليه وظاهره أنه لا يحكم إلا بما يسمع في حال حكمه ، وقد روي : ( وإنما أحكم ) وهذا صريح أو كالصريح في أنه لا يحكم إلا بما يسمع .
3798 وأيضاً قوله في حديث هلال بن أمية رضي اللَّه عنه لما لاعن زوجته : ( أبصروه فإن جاءت به يعني الوالد على نعت كذا فهو لهلال ، وإن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك ) فجاءت به على النعت المكروه ، فقال النبي : ( لو كنت راجماً بغير بينة لرجمت هذه ) فلم يحكم بعلمه ، لعدم قيام البينة .
3799 وأصرح من هذين ما روت عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقاً ، فلاجه رجل في صدقته ، فضربه أبو جهم فشجه ، فأتوا النبي فقالوا : القود يا رسول اللَّه . فقال : ( إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم ) قالوا : نعم ، فخطب فقال : ( إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود ، فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا ، أفرضيتم ) ؟ قالوا : لا ، فهمّ المهاجرون بهم ، فأمرهم رسول اللَّه أن يكفوا عنهم فكفوا ، ثم دعاهم فزادهم فقال : ( أفرضيتم ؟ ) فقالوا : نعم ، قال : ( إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم ) قالوا : نعم . فخطب فقال : ( أرضيتم ؟ ) قالوا : نعم . رواه الخمسة إلا الترمذي ، فلم يحكم عليهم النبي بعلمه لما جحدوا ، تعليماً لأمته ، وسداً لباب التهم والظنون .
3800 وعن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه قال : لو رأيت رجلاً على حد من حدود اللَّه عز وجل ما أخذته ولا دعوت له أحداً حتى يكون معي غيري ، حكاه الإمام أحمد .
( والرواية الثانية ) يجوز أن يحكم بعلمه ، أخذاً من قول أحمد فيما نقله أبو طالب في الأمة إذا زنت يقيم مولاها الحد إذا تبين له الزنا ، حملت لو رآها ، قال أبو الخطاب : فإذا جاز للسيد ذلك برؤيته في الحدود فالحاكم أولى ، ومن قوله في رواية حرب : إذا أقر في مجلسه بحد أو حق لزمه ذلك وأخذ به . وفي كلا المأخذين نظر ، إذ السيد لا يتهم في ماله اتهام الحاكم ، ولا يعم ضرره كضرر الحاكم ، والإقرار في المجلس يخالف الإقرار في غيره كما سيأتي .
3801 وبالجملة استدل لهذه الرواية بما روي عن عائشة رضي اللَّه عنها أن هنداً قالت : يا رسول اللَّه إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم ؟ فقال : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) متفق عليه ، كذا ترجم عليه البخاري فقال : باب حكم الحاكم بعلمه إذا لم يخف الظنون والتهم ، وكان أمراً مشهوراً . ولأنه إذا جاز الحكم بشاهدين مع أنهما إنما يحصلان غلبة الظن ، فما يجزم به أولى ، وقد أجيب عن قضية أبي سفيان بأنها فتيا لا حكم ، وإلا فكيف يحكم على الغائب مع إمكان حضوره ؟ لا يقال : يجوز أن يكون النبي عالماً بتعذر حضوره ، لأنا نقول : ويجوز خلاف ذلك ، فإذاً هي واقعة عين .
( والرواية الثالثة ) يجوز ذلك في غير الحدود لما تقدم ، لا في الحدود لدرئها بالشبهة ، وذلك شبهة .
إذا تقرر هذا فلا فرق في ذلك بين ما سمعه قبل ولايته أو بعدها ، ولا بين ما علمه في مجلس حكمه أو قبله ، إلا أنه استثني من ذلك الحكم بالبينة في مجلسه بلا نزاع أعلمه ، وكذلك الإقرار على منصوصه في رواية حرب المتقدمة ، وهو الذي أورده الشيخان وأبو الخطاب مذهباً ، لأن مجلس الحكم التهمة منتفية عنه غالباً ، وطرد القاضي القاعدة في الإقرار فقال : لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان ، حذاراً من الحكم بالعلم ، واستثنى عامة الأصحاب الجرح والتعديل ، فإنه يحكم بعلمه فيه ، وإلا يتسلسل ، فإن الشاهدين يحتاج إلى معرفة عدالتهما ، فإذا لم يحكم بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين ، ثم كل واحد منهما إلى مزكيين وتسلسل ، وحكى ابن حمدان في رعايتيه قولاً بالمنع وهو مردود إن صح ما حكاه القرطبي ، فإنه حكى اتفاق الكل على الجواز .
( تنبيه ) الخلاف في جواز حكمه بعلمه ولا نزاع أنه لا يحكم بخلاف علمه و ( ألحن ) أي أفصح وأفطن ، وقد جاء مفسراً في رواية أخرى قال : ( فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ) أي أكثر بلاغة وإيضاحاً لحجته ، واللَّه أعلم .
قال : ولا ينقض من حكم غيره إذا رفع إليه إلا ما خالف كتاباً أو سنة ، أو إجماعاً .
ش : لأن الواجب أن لا يعدل عن هذه الثلاثة مع وجودها ، بدليل حديث معاذ رضي اللَّه عنه المتقدم .
3802 وعن شريح أنه كتب إلى عمر رضي اللَّه عنه يسأله ، فكتب إليه : أن اقض بما في كتاب اللَّه ، فإن لم يكن في كتاب اللَّه فبسنة رسول اللَّه ، فإن لم يكن في كتاب اللَّه ولا في سنة رسول اللَّه فاقض بما قضى به الصالحون ، فإن لم يكن فيما قضى به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك ، رواه النسائي ، وإذاً من خالف حكمه واحداً من الثلاثة فقد عدل عنها ، فيرد قوله ، بدليل قول النبي ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ويرجح هذا أيضاً قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللَّه ورسوله } ) [ ب 1 ] الآية .
3803 وعن عمر رضي اللَّه عنه قال : ردوا الجهالات إلى السنة ، وقول 16 ( الخرقي ) : خالف كتاباً أو سنة . مقيد بنصيهما ، بخلاف ما إذا كانت المخالفة لظاهريهما ، فإنه لا ينقض إذ الظواهر تختلف آراء المجتهدين فيها ، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد .
3804 ولأن أبا بكر رضي اللَّه عنه سوى بين الناس في العطاء ، وأعطى العبيد ، وخالفه عمر رضي اللَّه عنه ففاضل بين الناس ، وخالفهما علي فسوى بين الناس ، وحرم العبيد . ولم ينقض واحد ما فعله من قبله ، وهذا إجماع أو كالإجماع من الصحابة على أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد .
والحكم في حكم نفسه كذلك ، فإذا تبين له خطأ نفسه فإن كان لمخالفة نص كتاب أو سنة إجماع نقض حكمه ، وإلا لم ينقضه .
وعموم كلام الخرقي وغيره يقتضي النقض لمخالفة نص السنة وإن كانت آحاداً ، ونص عليه الإمام ، وظاهر كلامه وكلام غيره أن حكم الحاكم وحكم غيره لا ينقض لمخالفة ما عدا هذه الثلاثة ، هو كذلك ، واختار ابن حمدان النقض لمخالفة قياس جلي قطع فيه بنفي الفارق .
وقول الخرقي : لا ينقض من حكم غيره إلى آخره ، يشمل ما إذا كان الغير متولياً أو معزولاً ، يصلح للقضاء أو لا يصلح ، وكذلك أطلق أبو بكر وابن عقيل ، والشيرازي وابن البنا ، ومنهم من صرح بالقَبْليَّة ، وقال أبو الخطاب في الهداية : إذا كان من قبله لا يصلح للقضاء نقض أحكامه كلها وإن وافقت الصواب . وخالفه أبو محمد في المغني والكافي ، واختار أنه لا ينقض الصواب منها لعدم الفائدة في ذلك ، وإنما ينقض ما خالف الحق منها ، وإن لم يخالف واحداً من الثلاثة . ويتلخص فيمن هذه حالة ثلاثة أقوال ، ( النقض ) مطلقاً ، ( النقض ) إن خالف الصواب ، وإن لم يخالف واحداً من الثلاثة نقض وإلا فلا ، وهو ظاهر كلام المجد ، ويشهد له إطلاق الأكثرين .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا يجب عليه تتبع قضايا من كان قبله ، وصرح بذلك أبو محمد في كتابيه ، وظاهر كلامه في المقنع تبعاً لأبي الخطاب في الهداية الوجوب ، وهو الذي أورده ابن حمدان في الكبرى مذهباً ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا شهد عنده من لا يعرفه سأل عنه ، فإن عدله اثنان قبل شهادته .
ش : وضع هذه المسألة أن مستور الحال وهو من عرف إسلامه وجهل حاله هل تقبل شهادته ؟ فيه روايتان مشهورتان ( إحداهما ) وهي اختيار أبي بكر والخرقي فيما قاله القاضي في روايتيه ، اعتماداً على قوله فيما بعد : والعدل من لم تظهر منه ريبة تقبل شهادته في الجملة ( والرواية الثانية ) وهي المذهب عند الأكثرين ، القاضي وأصحابه ، وأبي محمد والخرقي ، فيما قاله أبو البركات ، اعتماداً على لفظه هنا ، وهو ظاهر لا تقبل ، ومنشأ الخلاف أن العدالة هل هي شرط لقبول الشهادة ، والشرط لا بد من تحقق وجوده ، وإذاً لا يقبل مستور الحال لعدم تحقق الشرط فيه ، أو الفسق مانع فيقبل ، إذ الأصل عدم الفسق ، ويشهد للأول قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { واستشهد شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، ممن ترضون من الشهداء } ) [ ب 1 ] فوصف الشاهدين بعد كونهما من رجالنا وهم المسلمون بأن يكونا من الذين نرضاهم ، فدل على اشتراط زيادة على الإسلام وهي العدالة ، ويؤيد ذلك ويوضحه قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { واشهدوا ذوي عدل منكم } ) [ ب 1 ] فأمر باستشهاد العدل ، ومستور الحال لا تعلم عدالته ، فلا يخرج من عهدة الأمر باستشهاده ، ويشهد للثاني قوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } ) [ ب 1 ] أو ( فتثبتوا ) فأمر سبحانه بالتثبت عند مجيىء الفاسق ، إذ الفسق هو السبب للتثبت ، فإذا انتفى الفسق انتفى التثبت ، إذ لا بقاء للمسبب عند انتفاء السبب .
3805 وأيضاً ما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : جاء أعرابي إلى النبي فقال : إني رأيت الهلال . يعني رمضان ، فقال : ( أتشهد أن لا إله إلا اللَّه ؟ ) قال : نعم . قال : ( أتشهد أن محمداً رسول اللَّه ؟ ) قال : نعم . قال : ( يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً ) رواه الخمسة إلا أحمد فاكتفى بمجرد إسلامه ، وأجيب عن الحديث بأن الصحابة عدول ، فلا حاجة إلى البحث عن عدالتهم ، وعن الآية الكريمة بأنا نقول بموجبها ، وأنه إذا انتفى الفسق انتفى التثبت ، لكن إنما ينتفي الفسق بالخبرة به أو بالتزكية ، فإن قيل : ينتفي بأن الأصل في المسلمين العدالة . قيل : لا نسلم هذا ، إذ العدالة أمر زائد على الإسلام ، ولو سلم هذا فمعارض بأن الغالب لا سيما في زماننا هذا الخروج عنها ، وقد يلتزم أن الفسق مانع ، ويقال : المانع لا بد من تحقق ظن عدمه كالصبي والكفر .
إذا تقرر هذا فإذا عرف الحاكم عدالة الشاهد أو فسقه عمل على ذلك ، كما أشار إليه الخرقي بقوله : من لا يعرفه . لما تقدم من أن الحاكم يحكم بعلمه في ذلك ، وإن جهلهما فعلى الأولى إن كان مسلماً قبل شهادته ما لم يظهر له منه ريبة ، من غفلة أو غير ذلك ، ولم يقدح فيه خصمه ، فإن جهل إسلامه فلا بد من المعرفة به ، وذلك إما بخبره عن نفسه بأنه مسلم ، أو بإتيانه بما يصير به مسلماً ، وإما ببينة أو اعتراف من المشهود عليه ، ولا يكتفي بظاهر الدار . وإن جهل حريته حيث تعتبر فلا بد من معرفتها ، إما ببينة ، وإما باعتراف المشهود عليه ، وهل يرجع إلى قول الشاهد في ذلك ؟ فيه وجهان ، الذي جزم به أبو محمد لا ، إذ لا يملك أن يصير حراً ، فلا يملك الإقرار بذلك ، بخلاف الإسلام ، وإن ارتاب ، أو قدح فيه خصمه سأل عنه ، كما يسأل عن عدالته على الرواية الثانية بلا ريب ، وذلك بأن يكتب الحاكم ما يعرف به الشاهد في الجملة فيكتب اسمه وكنيته وحليته ، ونسبه وصنعته ، وسوقه ومسجده ومسكنه ، ويكتب اسم المشهود له ، [ حذاراً من أن يكون بينه وبين المشهود له ما يمنع قبول شهادته له ، ويكتب المشهود عليه ] حذاراً من أن يكون بينه وبين الشاهد ما يمنع من قبول شهادته عليه ، ويكتب قدر الدين ، لأنهم قدْ يرون قبوله في اليسير دون الكثير ، في رقاع ، ويرفعها إلى أصحاب مسائله الذين يعرفونه بحال من جهل حاله ، ثم إذا أخبره منهم اثنان بجرح أو تعديل اعتمد عليه ، وهل يراعى في أصحاب مسائله شروط الشهادة أو في المسؤولين ؟ على وجهين ، واللَّه أعلم .
قال : وإن عدله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى .
ش : لتضمن قول الجارح زيادة خفيت على المعدل ، من محل محرم ، أو شرب خمر ونحو ذلك ، والأخذ بالزائد أولى ، لأن المعدل قوله متضمن لنفي ما يقدح في العدالة ، والجارح مثبت لذلك ، ولا ريب أن المثبت مقدم على النافي ، والخرقي إنما نص على ما إذا استوى عدد الجارحين والمعدلين ، أما إن زاد عدد أحدهما على الآخر ، كما إذا عدله اثنان وجرحه واحد وقبلناه ، فالتعديل أولى ، لأنها ببينة تامة والعكس بالعكس بطريق الأولى ، ولو عدله ثلاثة وجرحه اثنان وبينا السبب فالجرح أولى لما تقدم ، ولو لم يبينا السبب وقبلنا ذلك فالتعديل أولى .
تنبيهات ( أحدهما ) هل يقبل في الجرح والتعديل قول عدل وهو اختيار أبي بكر بناء على أنه خبر ، أو قول اثنين وهو ظاهر قول الخرقي ، واختيار القاضي وعامة الأصحاب بناء على أنه شهادة ؟ على روايتين وعليهما تنبني تزكية المرأة وتزكية الأعمى لمن لم يخبره قبل عماه بل بعده ، وتزكية الوالد للولد ونحوه ، والتزكية بدون لفظ الشهادة ، وظاهر كلام أبي محمد اشتراط الذكورية ولفظ الشهادة عليها ، ( الثاني ) لا يقبل التعديل إلا ممن له خبرة باطنة ومعرفة بالجرح والتعديل ، غير متهم بمعصية ولا غيرها .
3806 ومعنى الخبرة الباطنة كما جاء عن عمر رضي اللَّه عنه أنه أتى بشاهدين فقال : لا أعرفكما ، ولا يضركما أن لم أعرفكما ، جيئا بمن يعرفكما ؛ فأتيا برجل فقال له عمر رضي اللَّه عنه : أتعرفهما ؟ فقال : نعم . فقال عمر رضي اللَّه عنه : صحبتهما في السفر الذي يتبين فيه جواهر الناس ؟ قال : لا . قال : عاملتهما في الدراهم والدنانير الذي يقطع فيها الرحم ؟ قال : لا . قال : كنت جاراً لهما تعرف صباحهما ومساءهما ؟ قال : لا . قال يا ابن أخي لست تعرفهما ، جيئا بمن يعرفكما . ظاهر قول الأصحاب أن الحاكم لا يقبل تعديل المعدل حتى يعلم أو يظن أن له خبرة بالمعدلة ، لما تقدم عن عمر رضي اللَّه عنه ، وهذا هو أحد احتمالي أبي محمد ( والثاني ) أن معنى كلام الأصحاب أن المعدل لا يجوز له التعديل إلا إذا كان ذا خبرة ، أما الحاكم فله أن يقبل التعديل وإن لم يعرف حقيقة الحال ، وله أن يستكشف كما فعل عمر رضي اللَّه عنه .
( الثالث ) يقبل التعديل المطلق ، وصفته أن يقول : هو عدل رضي ، أو عدل مقبول الشهادة ؛ ولا يشترط أن يقول : علي ولي . ولا يكفي : لا أعلم منه إلا الخير . وهل يكفي : هل عدل . من غير بيان السبب ؟ على وجهين ، ظاهر كلام أبي محمد الجواز ، وظاهر كلام أبي البركات المنع ، وهل يقبل الجرح المطلق ؟ فيه روايتان ، المذهب منهما عدم القبول ، وقيل : إن اتحد مذهب الجارح والحاكم ، أو عرف أسباب الجرح قبل المطلق . وهو حسن ، والمطلق أن يقول : هو فاسق ، أو : ليس بعدل . والمبين أن يذكر قادحاً في عدالته برؤية أو سماع منه ، أو استفاضة عنه ، هذا هو المشهور ، وعن القاضي في خلافه ، فالمبين أن يقول : هو فاسق ونحوه ، والمطلق أن يقول : اللَّه أعلم به . ونحوه . انتهى ولا يكفي قوله : بلغني عنه كذا .
( الرابع ) التزكية حق للشرع ، يطلبها الحاكم وإن سكت عنها الخصم ، وقيل بل حق للخصم ، فلو أقربها حكم عليه بدونها ، وعلى الأول لا بد منها . واللَّه أعلم .
قال : ويكون كاتبه عدلاً .
ش : لا ريب في كون كاتب القاضي يكون عدلاً ، لأنها موضع أمانة ، وقد لزم من اشتراط عدالته كونه مسلماً ، وهو كذلك .
3807 لما يروى أن أبا موسى قدم على عمر رضي اللَّه عنه ومعه كاتب نصراني ، فأحضر أبو موسى شيئاً من مكتوباته عند عمر رضي اللَّه عنه ، فاستحسنه وقال : قل لكاتبك يجيء فيقرأ كتابه . قال : إنه لا يدخل المسجد . قال : ولم ؟ قال : إنه نصراني . فانتهره عمر رضي اللَّه عنه ، وقال : لا تأمنوهم وقد خونهم اللَّه ، ولا تقربوهم وقد أبعدهم اللَّه ، ولا تعزوهم وقد أذلهم اللَّه . وفي رواية : أن أبا موسى قال لعمر رضي اللَّه عنه : إن لي كاتباً نصرانياً ، قال : مالك قاتلك اللَّه ، أما سمعت اللَّه يقول : [ ب 2 ] 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } ) [ ب 1 ] .
ويستحب أن يكون مع عدالته فقيهاً ، ليعرف مواقع الألفاظ التي تتعلق بها الأحكام ، وقد تضمن كلام الخرقي رحمه اللَّه جواز اتخاذ الكاتب وهو كذلك ، بل يستحب ، لأن الحاكم يكثر اشتغاله ، فتتعذر عليه الكتابة بنفسه ، وإن اشتغل بها ترك ما هو أهم منها .
قال : وكذلك قاسمه .
ش : لأنه أمينه ، فاشترطت فيه العدالة كبقية أمنائه ، ويشترط مع عدالته كونه حاسبا ، لأنه عمله الذي هو مرصد له ، فهو كالفقه للحاكم .
قال : ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي له قبل ولايته .
ش : لأن حدوث الهدية إذاً دليل على أنها لأجل الولاية ، توسلاً إلى استمالة قلب الحاكم معه على خصمه ، فأشبهت الرشوة .
3808 ولهذا قال مسروق : إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت ، وإذا قبل الرشوة بلغت به إلى الكفر .
3809 والسحت قد فسره الحبر وسعيد بن جبير أنه الرشوة .
3810 وعن كعب الأحبار رضي اللَّه عنه قال : قرأت في بعض كتب اللَّه : الهدية تفقؤ عين الحاكم . قال ابن عقيل : معناه أن المحبة الحاصلة للمهدي إليه منعته من تحديق النظر إلى معرفة باطل المهدي . انتتهى .
3811 وشاهد هذا الحديث المرفوع ( حبك الشيء يعمي ويصم ) رواه أحمد في مسنده .
3812 وقد روي عن أبي حميد الساعدي رضي اللَّه عنه ( هدايا العمال غلول ) رواه أحمد .
وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل التحريم ، وصرح به غيره ، عن ابن عقيل الكراهة إذا لم يكن له حكومة ، أما مع الحكومة فلا نزاع في التحريم .
ومفهوم كلام الخرقي أنه يقبل هدية من كان يهدي إليه قبل ولايته ، وهو كذلك ، صرح به غير واحد ، لأن ولايته ليس سبباً لها .
3813 وقد قال النبي في عامل الزكاة ( هل جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدي إليه أم لا ) فدل على أن الهدية متى لم يكن سببها الولاية جاز قبولها ، قال القاضي : ويستحب له التنزه عنها ، وصرح ابن حمدان بالكراهة ، وهذا إن لم يكن له حكومة ، أما مع الحكومة ، أو مع توقعها فلا يجوز القبول بلا ريب ، مع أن أبا بكر في التنبيه منع من الهدية وأطلق .
وظاهر كلام الخرقي والأصحاب والاقتصار في الاستثناء على هذه الصورة ، وفي الجامع الصغير : ينبغي ألا يقبل هدية إلا من صديق كان يلاطفه قبل ولايته ، أو ذي رحم محرم منه ، بعد أن لا يكون له خصم ، وكأنه أناط المنع بالتهمة ، ونفاه عند ظن عدمها .
قال : ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه .
ش : أي يدخلهما عليه معاً ، ولا يقدم أحدهما في الدخول ، لئلا ينكسر قلب صاحبه ، وربما كان ذلك سبباً لعدم قيامه بحجته .
3814 وقد روى عمر بن شيبة في كتاب قضاة البصرة بإسناده عن أم سلمة رضي اللَّه عنها أن النبي قال : ( من يلي القضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه ، وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر ) ، واللَّه أعلم .
قال : والمجلس .
ش : أي يجلسهما مجلساً واحداً لما تقدم ، والأولى أن يكونا بين يديه .
3815 لما روى عبد اللَّه بن الزبير قال : قضى رسول اللَّه أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم . رواه أحمد وأبو داود .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في ذلك بين المسلم والكافر ، وهو أحد الوجهين . حذاراً من انكسار قلبه المؤدي غالباً أو كثيرا لعدم قيامه بحجته ، وإنه ظلم له ( والوجه الثاني ) يقدم المسلم على الكافر في الدخول ، ويرفعه في الجلوس ، لقوله سبحانه [ ب 2 ] 19 ( { لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة } ) [ ب 1 ] الآية والذي في المغني أنه يجوز تقديم المسلم على الكافر في الجلوس .
3816 لما روى إبراهيم التيمي قال : وجد علي كرم اللَّه وجهه درعه مع يهودي ، فقال : درعي سقطت وقت كذا . فقال اليهودي : درعي وفي يدي ، بيني وبينك قاضي المسلمين . فارتفعا إلى شريح ، فلما رآه شريح قام من مجلسه ، فأجلسه في موضعه ، وجلس مع اليهودي بين يديه ، فقال علي : إن خصمي لو كان مسلماً لجلست معه بين يديك ، ولكن سمعت رسول اللَّه يقول : ( لا تساووهم في المجالس ) . ذكره أبو نعيم في الحلية وظاهر كلامه أنه يسوي بينهما في الدخول ، وفي الرعاية قول بالعكس يقدمه ولا يرفعه ، وإذاً الأقوال أربعة .
قال : والخطاب .
ش : أي يسوي بينهما في الخطاب ، فلا يرفع صوته على أحدهما أو ينصت له دون الآخر لما تقدم .
3817 وعن علي رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال : ( يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي . واللَّه أعلم .
قال : وإذا حكم على رجل في عمل غيره وكتب بإنفاذ القضاء عليه إلى قاضي ذلك البلد قبل كتابه ، وأخذ المحكوم عليه بذلك الحق .
ش : كتاب القاضي إلى القاضي مقبول في الجملة بالإجماع ، ويرجحه مكاتبة النبي إلى ملوك الأطراف كقيصر وكسرى وغيرهما .
3818 وفي الصحيح أنه كتب إلى قيصر ( بسم اللَّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللَّه إلى قيصر عظم الروم أما بعد فأسلم تسلم أسلم يؤتك اللَّه أجراً عظيماً ، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين و [ ب 2 ] 19 ( { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } ) [ ب 1 ] الآية ومكاتبة سليمان عليه السلام بلقيس ، قال سبحانه حكاية عنها 19 ( { إني ألقي إلي كتاب كريم ، إنه من سليمان ، وإنه : بسم اللَّه الرحمن الرحيم ، ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } ) [ ب 1 ] الآية .
إذا تقرر هذا فاعلم أن كتاب القاضي إلى القاضي لا يقبل في حق اللَّه تعالى كالحدود ونحوها ، ويقبل في كل حق لآدمي يثبت بشاهدين أو بشاهد يمين ، أو شاهد وامرأتين ، وهل يثبت فيما عدا ذلك ؟ فيه ثلاث روايات ( القبول مطلقاً ) ويحتمله إطلاق الخرقي ( وعدمه مطلقاً ) وهو مختار كثير من أصحاب القاضي ( والقبول إلا في الدماء ) وحكم حد القذف ، حكم الحدود ، إن قيل المغلب فيه حق اللَّه تعالى وإلا حكم الدماء .
ثم الكتاب على ضربين ( أحدهما ) أن يكتب بما حكم به ، وهو الذي ذكره الخرقي ، وذلك بأن يحكم على رجل بحق فيغيب قبل إيفائه أو تقوم البينة على حاضر بحق فيهرب قبل الحكم عليه ويثبته ، ويسأل الحاكم الحكم بذلك فيحكم به ، ففي جميع ذلك متى سأل المحكوم له الحاكم أن يحكم بذلك وأن يكتب له كتاباً بحكمه ، فإنه يلزمه إجابته ، ويلزم المكتوب له قبل ذلك والعمل به ، وإن قربت المسافة ، فيؤخذ المحكوم عليه بذلك الحق ، إن اعترف أنه المحكوم عليه ، وإن أنكر أنه المسمى في الكتاب ، ولم يقم المدعي عليه بينة بذلك فاقول قول مع يمينه .
( الضرب الثاني ) أن يكتب بما ثبت عنده ليحكم به حاكم آخر ، مثل أن تقوم عنده بينة بحق لشخص على شخص ، فيسأله صاحب الحق أن يكتب له كتاباً بما حصل عنده ، فإنه يكتب له بذلك ، قال القاضي : يكتب له : شهد عندي فلان وفلان بكذا . ليحكم به المكتوب إليه ، ولا يقول : ثبت عندي . لأن قوله : ثبت عندي . حكم بشهادتهما ، ولا يقبل هذا الكتاب إلا أن يكون بين الحاكمين مسافة القصر على المذهب ، وبه قطع أبو محمد ، وقيل : يقبل إذا لم يمكن الذاهب إليه بكرة أن يعود إليه عشية ، والخرقي رحمه اللَّه إنما ذكر إذا كتب إلى قاض معين ، والحكم فيما إذا كتب إلى قاض مبهم كمن يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين كذلك ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة عدليم يقولان : قرأه علينا ، أو قرىء عليه بحضرتنا ، فقال : شاهدا على أنه كتابي إلى فلان .
ش : أما اشتراط شاهدين لقبول كتاب القاضي إلى القاضي فلا ريب فيه ، لما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى من أن ما ليس بمال ، ولا يقصد ، منه المال ، لا يقبل فيه شاهدان ، وأما صفة الشهادة فإنه يقرؤه عليهما ، أو يقرؤه بحضرتهما ، ثم يقول : اشهدا علي أن هذا كتابي إلا فلان . وقال القاضي : يكفي أن يقول : هذا كتابي إلى فلان . من غير أن يقول : اشهدا علي . انتهى . ثم إذا وصلا إلى المكتوب إليه قالا . نشهد أن هذا كتاب فلان إليك ، كتبه بقلمه وأشهدنا عليه بما فيه ؛ ولو كتب كتاباً وأدرجه وختمه ، وقال : هذا كتابي إلى فلان اشهدا علي بما فيه . لم يصح على المذهب المشهور ، وهو مقتضى قول الخرقي ، لأن شهادته وقعت علي ما فيه وأنه مجهول ، وبنى أبو محمد ذلك على قول أحمد فيمن كتب وصيته وختمها وقال : اشهدا علي بما فيها . أنه لا يصح وخرج رواية أخرى بالصحة من قوله فيمن وجدت وصيته مكتوبة عند رأسه ، وعرف خطه وكان مشهوراً ، أنه ينفذ ما فيها ، وقد تقدم في الوصايا أن الأولى تقرير هذين النصين على بابهما ، كما هو طريقة ابن حمدان ، و أبو البركات قال هنا : وعنه ما يدل على الصحة ، ولم يبين المأخذ ، انتهى .
فعلى هذه الرواية قال أبو محمد في المقنع : إذا عرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله . وكذا قال ابن حمدان وزاد قيل لا . وظاهر هذا أن على هذه الرواية يشترط لقبول الكتاب أن يعرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب وختمه ، وفيه نظر ، وأشكل منه حكاية ابن حمدان قولاً بالمنع ، فإنه إذاً تذهب فائدة الرواية ، والذي ينبغي على هذه الرواية أن لا يشترط شيء من ذلك ، وهو ظاهر كلام أبي البركات ، وأبي محمد في المغني ، نعم إذا قيل بهذه الرواية فهل يكتفي بالخط المجرد من غير شهادة ؟ فيه وجهان حكاهما أبو البركات ، وعلى هذا يحمل كلام ابن حمدان وغيره ، انتهى .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط ختم كتاب القاضي إلى القاضي ، وهو كذلك .
3819 لأن النبي لما كتب الكتاب إلى قيصر لم يختمه ، فقيل له : إنه لا يقرأ كتاباً غير مختوم ، فاتخذ الخاتم ، وهذا يدل على أن الختم ليس بشرط ، وأنه إنما فعله لمصلحة ، وهي قراءة الكتاب .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) هل يشترط في الشاهدين أن يكونا عدلين عند المكتوب إليه ، أو يكتفي بذلك عند الكاتب ؟ فيه قولان حكاهما ابن حمدان ( الثاني ) جعل ابن حمدان من صور الروايتين إذا شهدا أن هذا كتاب فلان إليك من عمله ، وجهلا ما فيه ، والذي ينبغي قبول مثل هذه الشهادة ، لانتفاء الجهالة عنها ، وقصاراه أنها لم تفد فائدة ، إذ ما في الكتاب لا يثبت بذلك ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يقبل الترجمة عن أعجمي حاكم إليه إذا لم يعرف لسانه إلا من عدلين يعرفان لسانه .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار عامة الأصحاب ، بناء على إجراء ذلك مجرى الشهادة ( والثانية ) يقبل في ذلك عدل واحد ، بناء على إجرائه مجرى الخبر ، وهو اختيار أبي بكر .
3820 وقد استشهد لذلك بما في حديث زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه أن النبي أمره فتعلم كتاب اليهود ، قال : حتى كتبت للنبي كتبه ، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه ، رواه البخاري وأحمد .
3821 وقال البخاري : وقال أبو جمرة كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس فعلى هذا يشترط للمترجم ما يشترط للراوي من الإسلام والتكليف ، والعدالة والضبط ، كما هو معروف في موضعه ، ولا تشترط الذكورية ولا الحرية ، ولا الإتيان بلفظ الشهادة ، وعلى الأولى الترجمة شهادة ، يشترط فيها ما يشترط في الشهادة على الإقرار بذلك الحق الذي وقعت الترجمة فيه ، ففي الحدود والقصاص تشترط الحرية على المشهور ، وعدلان ذكران ، وفي الزنا هل يكفي مع الحرية والذكورية اثنان ، أو لا بد من أربعة ؟ فيه وجهان من الروايتين في الإقرار بذلك ، وفي غير ذلك وغير المال لا تشترط الحرية ، ويكتفي بذكرين حرين ، وفي المال يكفي رجل وامرأتان ، ولا بد من لفظ الشهادة في جميع ذلك .
( تنبيه ) حكم التعريف والرسالة كذلك ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا عزل فقال : كنت قد حكمت في ولايتي لفلان على فلان بحق . قبل قوله ، وأمضي ذلك الحق .
ش : هذا منصوص أحمد ، وبه جزم القاضي في جامعه ، وأبو الخطاب في خلافه ، وابن عقيل في تذكرته وغيرهم ، لأنه أخبر بما حكم به ، وهو غير متهم ، فأشبه ما لو أخبر بذلك حال ولايته ، ولأنه لو لم يقبل ذلك منه لأفضى إلى ضياع حقوق كثير من الناس ، وذلك ضرر وإنه منفي شرعاً ، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بأنه لا يقبل قوله ، وعلله بأنه في حال ولايته لا يجوز حكمه بعلمه ، فبعد عزله أولى ، واستثنى أبو البركات من هذا الاحتمال ما كان على وجه الشهادة عن إقرار ، فعلى هذا لو كان حكمه مستنداً إلى بينة لم يشهد ، لأنه شهادة على شهادة ، ولم يتحقق وجود شرطها ، واستثنى ابن حمدان منه ما إذا شهد مع غيره أن حاكماً حكم به ، ولم يذكر نفسه ، وحكى قول أبي البركات قولاً انتهى . وشرط القبول على المذهب أنه لا يتهم ، ذكره أبو الخطاب وغيره .
وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو قال ذلك في ولايته قبل منه بطريق الأولى وهو كذلك ، حتى مع التصريح أنه حكم بالنكول أو بعلمه ، ونحو ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد ( ومقتضى كلامه ) أيضاً أنه لو أخبر في حال ولايته بحكم في غير محل ولايته أنه يقبل منه ، لأنه إذاقبل قوله بعد العزل فلأن يقبل قوله مع بقائها في غير موضع ولايته أولى ، وقال القاضي : لا يقبل إذا كانا جميعاً في غير محل ولايتهما ، أما إن اجتمعا في عمل أحدهما كأن اجتمع قاضي دمشق وقاضي مصر في مصر فإن قاضي مصر لا يعمل بخبر قاضي دمشق بما أخبره به قاضي مصر إذا رجع إلى دمشق ؟ فيه وجهان بناء على حكم الحاكم بعلمه ، وكأن الفرق ما يحصل إلى الأول ، ومن هنا قال إن قول القاضي في فروع المسألة يقتضي أن لا يقبل قوله فيها ، واللَّه أعلم .
قال : ويحكم على الغائب إذا صح الحق عليه .
ش : القضاء على الغائب في الجملة هو المذهب المعروف المشهور ، حذاراً من دخول الضرر على صاحب الحق بضياع حقه ، أو تأخر لا إلى أمد ، واستدلالاً بحديث هند ، فإن النبي قال لها : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) فقضى عليه مع غيبته ، وفيه نظر ، فإن أبا سفيان يجوز أن يكون حاضراً في البلد ، ثم إنها لم تقم بينة على ذلك ، والصواب في الحديث أنه ورد على سبيل الفتيا لها لا الحكم ، والمعتمد عليه هو الأول ، وأيضاً فإن تعذر الوصول إلى إقرار الخصم يجعل للمدعي عليه سبيلاً إلى إقامة البينة لفصل القضاء ، كما لو حضر إلى مجلس الحكم وامتنع من الكلام ( وعن أحمد رواية أخرى ) واختارها ابن أبي موسى لا يجوز القضاء على الغائب مطلقاً ، لما تقدم من قول النبي لعلي كرم اللَّه وجهه : ( إذا جلس إليك خصمان ، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء ) رواه أبو داود وغيره . وأجيب بأنا نقول بموجبه ، فإذا هذا فيما إذا كان الخصمان حاضرين ، ولقائل أن يقول : الاستدلال بما أشار إليه في التعليل وهو أن الحاكم إذا سمع من الصخم تبين له القضاء ومقتضاه أنه إذا لم يسمع منهما لا يتبين له القضاء ، وإذا كان أحدهما غائباً لم يسمع منه ، ولا ممن تقوم مقامه وهو وكيله فلم يسمع منهما .
والتفريع على الأول ، وعليه فلا يحكم على الغائب إلا إذا صح الحق عنده وعليه ، وصحته بأن تقوم به بينة ، فلو لم يكن به بينة لم يحكم ، بل ولا يسمع الدعوى ، لعدم فائدتها ، ومع قيام البينة هل يحلفه الحاكم على بقاء حقه على الغائب ، لجواز الاستيفاء أو الإبراء ونحو ذلك ، أو لا يحلفه وهو اختيار أبي الخطاب ، والشريف والشيرازي وغيرهم ، ومن ثم قال أبو محمد في المغني : إنه المشهور ، لإطلاق قول النبي : ( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ) وظاهره أنه لا شيء على المدعي غير البينة ، كما أنه لا شيء على المنكر غير اليمين ؟ عى روايتين .
ثم إذا قدم الغائب فهو على حجته ، ويعتبر في الغيبة أن تكون إلى مسافة القصر فأزيد ، قاله أبو محمد في الكافي ، وابن حمدان في رعايتيه ، وحكى في الكبرى قولاً أن يكون فوق نصف يوم ، والخرقي لم يحد ذلك بحد ، وكذلك أبو الخطاب والشريف وأبو البركات وغيرهم ، ويعتبر أيضاً أن يكون في غير محل ولايته ، أما لو كان غائباً بمكان في ولايته ولا حاكم فيه ، فإن الحاكم يكتب إلى من يصلح للقضاء بالحكم بينهما ، فإن تعذر فإلى ثقة بالصلح بينهما ، فإن تعذر قال للمدعي : حقق دعواك . فإن فعل أحضر خصمه ، وإن بعدت المسافة على المذهب ، وقيل : يحضر من مسافة القصر فأقل ، وقيل : إن جاء وعاد في يوم أحضر ولو قبل تحرير الدعوى ، وحيث لم يلزم بالحضور فإنه يقضي عليه كمن في غير عمله ، وإذا قضى على الغائب فإن كان في عين سلمت إلى المدعي ، وفي دين يوفي من ماله إن وجد له مال .
وفي أخذ كفيل بذلك من المدعي وجهان ( أشهرهما ) وهو ظاهر كلام 16 ( أحمد ) لا ، ثم قال ابن البنا وأبو محمد وابن حمدان : إنما يقضي على الغائب في حقوق الآدميين ، لا في حقوق اللَّه كالزنا والسرقة ، نعم في السرقة يقضي بالمال فقط ، وفي حد القذف وجهان ، بناء اللَّه أعلم على أن المغلب فيه هل هو حق للَّه تعالى ، أو حق لآدمي ، ولم يقيد الخرقي وأبو الخطاب وأبو البركات وغيرهم القضاء بذلك انتهى .
وحكم المستتر في البلد والميت ، والصبي والمجنون حكم الغائب فيما تقدم من الحكم على كل واحد منهم إذا ثبت الحق اليه ، ومن حلق المدعي إن قيل به ، ومن كون المستتر إذا ظهر ، والصبي والمجنون إذا حكم برشدهما على حججهم ، ومن أخذ كفيل بالمدعي ، إنه قيل بذلك حكم الغائب ، إلا أن مقتضى كلام أبي الخطاب والشيخين وغيرهم عدم جريان الخلاف فيهم ، وأجراه ابن حمدان في رعايتيه في المستتر .
وقول 16 ( الخرقي ) : يحكم على الغائب . مفهومه أنه لا يحكم على الحاضر ، وهو يشمل الحاضر في البلد والحار في مجلس الحكم ، ولا نزاع في الثاني ، أما الأول فقيل وهو مقتضى كلام أبي محمد في كتبه ، وأحد احتمالي أبي الخطاب : لا يسمع البينة ولا الدعوى عليه حتى يحضر ، كالحاضر مجلس الحكم ، وقيل يسمعان ، وهو الاحتمال الآخر لأبي الخطاب ، وقيل يسمعان ولا يحكم عليه حتى يحضر ؛ وهو اختيار أبو البركات ، وقال : إن أبا طالب نقله عن أحمد ، وكأنه أشار إلى رواية أبي طالب في رجل وجد غلامه عند رجل ، فأقام البينة أنه غلامه ، فقال الذي عنده الغلام : أو دعني هذا رجل . فقال 16 ( أحمد ) : أهل المدنية يقضون على الغائب ، يقولون : إنه لهذا الذي أقام البينة ، وهو مذهب حسن ، وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الإعذار ، وهو إذا ادعى على رجل ألفا وأقام البية ، فاختفى المدعي عليه يرسل إلى بابه ، فينادي الرسول ثلاثاً ، فإن جاء وإلا قد أعذر إليه ، فهذا يقوي قول أهل المدينة ، وهو معنى حسن ، فلم ينكر أحمد سماع البينة ولا الدعوى ، ثم إنه حكى قول أهل المدينة في القضاء على الغائب وأطلق وحسنه ، وهو يشمل الغائب في البلد ، وحكى قول أهل العراق في القضاء على غائب مختف ، وجعله كالشاهد لقول أهل المدينة ، فكأنه عنده محل وفاق .
ومن هنا واللَّه أعلم قال أبو البركات : إن الحاضر في البلد إذا امتنع من الحضور ألجىء إليه بالشرطة والتنفيذ إلى منزله مراراً ، وإقعاد من يضيق عليه ببابه في دخوله وخروجه ، أو ما يراه الحاكم من ذلك ، فإن أصر على التغيب سمعت البينة وحكم بها عليه قولاً واحداً ، وتبعه ابن حمدان على ذلك فيما أظن [ وفي المقنع أنه إذا امتنع من الحضور هل تمسع البينة ويحكم بها ؟ على روايتين ] ، مع أنه قطع بجواز الحكم على الغائب وفيه نظر ، وكلام القاضي وكثير من أصحابه محتمل لذلك ، فإنهم قالوا واللفظ للقاضي في الجامع : يجوز القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة بالحق ، وكذلك إن كان حاضراً ممتنعاً من حضور مجلس الحاكم في إحدى الروايتين ، والأخرى لا يجوز ، وهذا يحتمل أن يعود إليهما ، ويحتمل عوده إلى الامتناع فقط ، وعلى كل حال فهو مخالف لقول أبي البركات ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا أتاه شريكان في ربع أو نحوه فسألاه أن يقسمه بينهما قسمه وأثبت في القضية بذلك أن قسمته إياه بينهما كان عن إقرارهما ، لا عن بينة شهدت لهما بملكهما .
ش : اوصل في جواز القسمة في الجملة الإجماع ، وقد شهد له قسم النبي خيبر على ثمانية عشر سهماً ، وقسمه الغنائم ، وقوله ( الشفعة فيما لم يقسم ) ثم الحكمة تقتضي ذلك ، إذ بالشركاء حاجة إلى ذلك ، ليتمكن كل منهم من التصرف ، في حقه بما شاء ، ويتلخص من سوء المشاركة .
إذا ثبت ذلك فإذا أتى الحاكم اثنان أو أكثر فادعيا أنهما شريكان في ربع وهو العقار من الدور ونحوها أو نحوه ، وهو ما عداه من الأموال وسألاه أن يقسمه بينهما ، فإنه يقسمه بينهما وإن لم يثبت عنده ملكهما ، اعتماداً على ظاهر أيديهما ، ولهذا جاز شراؤه واتهابه منهما ونحو ذلك ، وإذا قسمه أثبت في كتاب القسمة أن قسمته بينهما بسؤالهما ، لا بينة شهدت لهما ، حذاراً من أن يكون لغيرهما ، وذكر الخرقي العقار لينبه على مذهب النعمان ، فإن عنده أن الشريكين إذا نسبوا العقار إلى إرث لا بد وأن يثبت الموت والورثة ، بخلاف غيره ، والشافعي إرث يعمم الثبوت في الجميع ، واللَّه أعلم .
قال : ولو سأل أحدهما شريكه مقاسمته فامتنع الآخر أجبره الحاكم على ذلك ، إذا ثبت عنده ملكهما ، وكان مثله ينقسم ، وينتفعان به مقسوماً .
ش : الأموال على ضربين ( أحدهما ) ما لا ضرر في قسمته ولا رد عوض ، كأرض واسعة ، ودكان كبيرة ، وقرية وبستان ، ومكيل أو موزون من جنس واحد ، وإن مسته النار كدبس ونحوه ، ومذروع متساوي الأجزاء والقيمة ، فلا تنقص قيمته بقطعه ونحو ذلك ، فهذا تجب قسمته إذا طلب أحد الشريكين ذلك ، لتضمنه جلب مصلحة من تصرف كل واحد منهما في ماله بحسب اختياره ، من غراس وبناء وإجارة وغير ذلك وزوال مفسدة ، وهي ضرر الشركة ، وإن مبني الشريعة على ذلك .
واشترط الخرقي مع ذلك أن يثبت عند الحاكم ملكهما ، وأقره أبو محمد على ذلك مريداً ببينة ، ومعللاً بأن الإجبار على القسمة حكم على الممتنع منهما ، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه ، وفي هذا نظر ، فإنهما إذا أقرا بالملك فينبغي أن يلزما بمقتضى إقرارهما ، فيجبر الممتنع منهما على القسمة ، كما لو قامت البينة بذلك ، وقد أهمل هذا الشرط أبو الخطاب وأبو البركات ، وابن حمدان في الصغرى ، وألحقه بخطه في الكبرى ، ويحتمل أن يكون مراد الخرقي بثبوت الملك ما هو أعم من البينة أو الإقرار ، ويحترز عما إذا ادعى أحدهما الشركة وأنكر الآخر ، وسكت غيره عن ذلك لوضوحه .
( الضرب الثاني ) ما في قسمته ضرر أو رد عوض ، كذار صغيرة وحمام ، أو طاحون كذلك ، وأرض لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة ، كبئر ، أو بناء أو شجر في بعضها ونحو ذلك ، وكعبد وسيف ، فهذا ونحو إذا رضي الشريكان بقسمته قسم ، لأن الحق لهما لا يعدوهما ، وإن امتنع أحدهما لم يجبر .
3822 أما مع الضرر فلقول النبي ( لا ضرر لا ضرار ) رواه ابن ماجه ، وفي لفظ : أن رسول اللَّه قضى أن لا ضرر ولا إضرار . وأما مع رد العوض فلأنه إذاً بيع ، والبيع لا إجبار فيه والحال هذه ، قال سبحانه [ ب 2 ] 19 ( { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ) [ ب 1 ] لا يقال : في عدم القسمة ضرر . لأنا نقول : يندفع ذلك بالبيع عليهما إذا طلب أحدهما ذلك ، كما نص عليه أحمد رحمه اللَّه في دابة مشتركة بينهما ، وعممه غير واحد من الأصحاب في كل ما قي قسمته ضرر ، ويرشح ذلك أيضاً بأن حق الشريك في نصف القيمة ، لا قيمة النصف ، انتهى .
واختلف في الضرر المانع من القسمة ( فعنه ) وهو ظاهر كلامه في رواية الميموني هو أن تنقص القيمة بالقسمة ، إذ مثل ذلك يعد ضرراً ، وإنه منفي شرعاً ( وعنه ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد في العمدة هو ما يتعذر معه انتفاع أحدهما بقسمه مفرداً فيما كان ينتفع به مع الشركة ، كدار صغيرة إذا قسمت حصل لكل واحد منهما موضع لا ينتفع به ، قال أبو محمد : أو ينتفع به لا على وجه الدارية ، بل على وجه المخزنية ونحو ذلك لأن كل واحد منهما دخل على الانتفاع بها على وجه الدراية . ففي العدول إلى دون ذلك ضرر ، وإنه منفي شرعاً ( فعلى الأول ) إذا نقصت القيمة بالقسمة فلا إجبار ، وإن انتفع بها فيما كان ينتفع به قبل ( وعلى الثاني ) الاعتبار بالنفع وإن لم تنقص القيمة ، وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل اعتبارهما ، قال : كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها .
( فإن كان الضرر على أحدهما دون الآخر ، كرجلين لأحدهما الثلث ، وللآخر الثلثان ، يستضر صاحب الثلث بالقسمة ، دون صاحب الثلثين ( فعنه ) وهو ظاهر رواية حنبل المتقدمة ، وبه جزم القاضي في الجامع ، والشريف وأبو الخطاب في خلا فيهما والشيرازي لا يجبر واحد منهما ، إذ هذه القسمة لا تخلو من ضرر ( وعنه ) وإليه ميل الشيخين إن طلبها صاحب الثلث والحال هذه أجبر الآخر عليه ، لأنه رضي بإدخال الضرر على نفسه ، ولا ضرر على شريكه ، وإن طلبها صاحب الثلثين لم يجبر الآخر ، لما فيه من الضرر عليه ، وحكي عن القاضي عكس ذلك في الصورتين وفيه بعد ، انتهى .
( تنبيه ) حيث توقفت القسمة على التراضي فهي بيع بلا ريب ، وحيث لم تتوقف عليه بل يجبر الممتنع عليها فهي إفراز ، على المذهب المشهور المختار لعامة الأصحاب لأنها تنفرد عن البيع باسم وحكم ، فلم تكن بيعاً كسائر العقود ، يحقق ذلك دخول الإجبار فيها مطلقاً ، وليس لنا نوع من البيع كذلك ، ووقع في تعاليق أبي حفص العكبري عن شيخه ابن بطة ، أنه منع قسمة الثمار التي يجري فيها الربا خرصا وأخذ من هذا أنها عنده بيع ، كما أخذ من نص أحمد على جواز الخرص في هذه الصورة أنها إفراز ، وذلك لأنه يبذل نصيبه من أحد السهمين ، بنصيب صاحبه من السهم الآخر ، وهذا حقيقة المنع .
وينبني على الخلاف فوائد ( منها ) جواز قسمة الثمار التي يجري فيها الربا بالخرص ( ومنها ) جواز قسمة المكيل وزناً والموزون كيلاً ( ومنها ) التفرق قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض في المبيع ( ومنها ) إذا حلف لا يبيع فقسم أنه لا يحنث ( ومنها ) جواز قسمة العقار الموقوف أو بعضه ، وعلى قول ابن بطة ينعكس جميع ذلك ، ولو كان بعض العقار وقفاً ، وبعضه طلقاً ، واحتيج إلى رد عوض ، فإنه يتوقف كما تقدم على التراضي ، ثم إن كان العوض من صاحب الطلق لم يجز ، لأنه يشتري بعض الوقف ، وإنه ممتنع ، وإن كان من رب الوقف جاز على الأصح ، المقطوع به عند أبي محمد ، وعلى كلا القولين لا يوجب شفعة ، وينفسخ بالعيب ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا قسم طرحت السهام ، فيصير لكل واحد ما وقع سهمه عليه ، إلا أن يتراضيا فيكون لكل واحد منهم ما رضي به .
ش : أي وإذا أريد القسم طرحت السهام ، ويصير لكل واحد من الشركاء ما وقع سهمه عليه ، إذ القرعة دخلت لقطع التنازع ، وبيان المستحق ، وقد حصلت فوجب أن يترتب حكمها عليها ، فإن تراضيا على أن يأخذ كل واحد سهماً بغير قرعة جاز ، لأن الحق لهما لا يتجاوزهما ، ويكون اللزوم هنا بالتراضي والتفرق كالبيع .
وظاهر كلام الخرقي يشمل كل قاسم ، ونوعي القسمة ، وكذلك تبعه على هذا الإطلاق أبو الخطاب في الهداية ، وأبو البركات والشيرازي وابن البنا ، وأبو محمد في المقنع ، وزاد أبو الخطاب ومن تبعه قولاً أنها لا تلزم فيما فيه رد ؛ بخروج القرعة إلا بالرضا لأنها إذاً بيع بعد القرعة ، وعلى مقتضى هذا التعليل جميع قسمة التراضي لا تلزم إلا بالرضا ، وفصل أبو محمد في المغني والكافي فقال في قاسم الحاكم في قسمة الإجبار : تلزم القسمة بخروج القرعة ، إذ قرعة قاسم الحاكم كحكمه ، وفي قسمة التراضي وجهان ( أحدهما ) كالأول ولما تقدم ( والثاني ) لا تلزم إلا بالتراضي ، لأنها إذاً بيع ، وجعل حكم قاسمها حكم قاسم الحاكم إن كان بصفته ، وإن كان كافراً ، أو غير عارف بالقسمة ونحو ذلك لم تلزم القسمة إلا بتراضيهما ، كما لو قسما بأنفسهما ، وتبعه على ذلك ابن حمدان ، وعلى هذا التفصيل كلام الخرقي ومن تبعه محمول على قاسم الحاكم .
( تنبيه ) كيفما أقرع جاز إلا أن الأولى عند الأصحاب أن يكتب اسم كل شريك في رقعة ثم تدرج في بنادق شمع أو طين متساوية ، قدراً ووزناً ، وتطرح في حجر رجل لم يحضر ذلك ، ويقال له : أخرج بندقة على هذا السهم . فمن خرج اسمه كان له ، ثم الثاني كذلك ، والسهم الباقي للثالث إذا كانوا ثلاثة ، واستوت سهامهم ، ولو كتب اسم كل سهم في رقعة ثم قال : أخرج بندقة لفلان ، وبندقة لفلان ، وبندقة لفلان جاز ، ولو كانت سهام الثلاثة مختلفة كنصف وثلث وسدس ، جزىء المقسوم ستة أجزاء ، وأخرج الأسماء على السهام لا غير ، فيكتب باسم رب النصف ثلاث رقاع ، ولرب الثلث رقعتين ، ولرب السدس رقعة ، ثم يخرج بندقة على أول سهم ، فإن خرج عليه اسم رب النصف أخذه مع الثاني والثالث ، وإن خرج اسم رب الثلث أخذه مع الثاني ، ثم يقرع بين الآخرين كذلك ، والباقي للثالث . واللَّه سبحانه أعلم .
كتاب الشهادات


ش : الشهادات جمع شهادة وهي الإخبار عما شوهد أو علم ، ويلزم من ذلك اعتقاد ذلك ، ومن ثم كذب اللَّه المنافقين في قولهم لرسول اللَّه [ ب 2 ] 19 ( { نشهد إنك لرسول اللَّه } ) [ ب 1 ] لأن قلوبهم لم تواطىء ألسنتهم ، والشهادة يلزم منها ذلك ، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ، وإذاً لم يصدق إطلاق نشهد . انتهى ومن ذلك قوله تعالى [ ب 2 ] 19 ( { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ) [ ب 1 ] أي من حضر منكم الشهر ، وقوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { واللَّه على كل شيء شهيد } ) [ ب 1 ] أي محيط ، فالأول من الحضور ، والثاني من الإحاطة بالشيء ، وهو أعم من الأول ، واشتقاقها قيل : من المشاهدة ، لأن الشاهد يخبر عما يشاهده وقيل لأن الشاهد بخبره يجعل الحاكم كالشاهد للمشهود عليه ، وتجيء الشهادة بمعنى الخبر .
3823 ومنه قول ابن عباس رضي اللَّه عنهما : شهد عندي رجال مرضيون ، وأرضاهم عندي عمر ، أن رسول اللَّه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب ، ولا نزاع في مشروعية الشهادة والإشهاد ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } ) [ ب 1 ] [ ب 2 ] 19 ( { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ) [ ب 1 ] [ ب 2 ] 19 ( { ولا تكتموا الشهادة } ) [ ب 1 ] .
3824 وقال النبي ( ألا أخبركم بخير الشهداء ، الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها ) رواه مسلم وغيره ، في عدة أحاديث كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى . واللَّه أعلم .
قال ولا يقبل في الزنا إلا أربعة .
ش : هذا إجماع وللَّه الحمد ، وقد شهد له قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ، فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } ) [ ب 1 ] وقوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { ولولا جاؤا عليه بأربعة شهداء } ) [ ب 1 ] الآية ، وحكم اللواط حكم الزنا ، على أنه قد يدخل في اسم الزنا ، وكذلك حكم من أتى البهيمة إن قلنا يحد وإن قلنا يعزر فهل يكتفي بشاهدين كبقية التعزيرات ، أو لا بد من الأربعة ؟ فيه وجهان .
( تنبيه ) حكم الشهادة على الإقرار بالزنا حكم الشهادة على المقر به وهو الزنا ، لا يثبت إلا بأربعة في رواية ، وفي أخرى حكم بقية الإقرارات ، يثبت بشاهدين واللَّه سبحانه أعلم .
قال : رجال .
ش : فلا مدخل للنساء في ذلك ، وهو قول العامة ، اعتماداً على ظهر الآية ، فإن اللَّه سبحانه خاطب الحكام بقوله : [ ب 2 ] 19 ( { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } ) [ ب 1 ] أي واللَّه أعلم من جنسكم وصفتكم ، وهم الرجال المسلمون ، وإلا لاكتفى بقوله : أربعة ثم الآية الكريمة تقتضي الاجتزاء بأربعة ، ومن أجاز شهادة النساء فأقل ما يجزىء عنده خمسة ، ثلاثة رجال وامرأتان مقام رجل ، وإنه خلاف ظاهر الآية الكريمة واللَّه أعلم .
قال : أحرار .
ش : فلا تقبل شهادة العبيد في ذلك ، على المشهور من المذهب ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى بيان ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : مسلمين .
ش : لما تقدم من الآية الكريمة ، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك إجماعاً فقال : أجمعوا على أنه يشترط كونهم مسلمين ، عدولاً ظاهراً وباطناً ، وسواء كان المشهود عليه ذمياً أو مسلماً ، ومقتضى هذا اشتراط عدالة الباطن في ذلك بلا خلاف ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال أقل من رجلين .
ش : أي عدا ما تقدم وهو الزنا ، وقد شمل هذا أموراً ( أحدها ) الحدود والقصاص ، ولا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه لا يقبل في ذلك إلا شهادة رجلين ، فلا مدخل للنساء في ذلك وهو قول العامة ، لأن شهادة النساء فيها شبهة ، لتطرق الخطأ والنسيان إليها ، كما شهد له النص في قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ) [ ب 1 ] وذلك مما يندرىء بالشبهة ، فوجب ألا يقبل فيه ذلك ، وقد تقدم الكلام في القصاص في كتاب الجراح ، وتقدم فيه رواية أخرى أنه لا يقبل فيه إلا أربعة ( الثاني ) من ادعى الفقر ليأخذ من الزكاة لم يقبل منه إلا بثلاثة ، نص عليه أحمد في رواية علي بن سعيد .
لحديث قبيصة الذي رواه مسلم وغيره قال فيه : ( ورجل أصابته فاقة ، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : لقد أصابت فلاناً فاقة ) الحديث ، والمذهب عند القاضي الاجتزاء في ذلك بشاهدين كغيره ، وهو ظاهر إطلاق الخرقي ، اعتماداً على [ ب 2 ] 19 ( { واشهدوا ذوي عدل منكم } ) [ ب 1 ] ونحوه قال القاضي : وحديث قبيصة في حل المسألة لا في الإعسار ( الأمر الثالث ) معرفة الموضحة وداء الدابة ونحوهما ، يقبل فيه طبيب واحد ، وبيطار واحد ، إذا لم يوجد غيره ، نص عليه أحمد ، نظراً للحاجة ، ونحو هذا ما نقل عنه في رجل يوصي ولا يحضره إلا النساء ، قال : أجيز شهادة النساء ، وكذلك نقل عنه أنه أجاز شهادة النساء على الجراح ، وفي الحكام ، وهو حسن .
3825 ولعل شهادة خزيمة من هذا الباب ، وعليه يحمل قول الإمام 16 ( أحمد ) : لا يقبل أنه وصي حتى يشهد له رجلان أو رجل عدل . أي واللَّه أعلم إذا لم يوجد غيره .
وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا يقبل في جميع ذلك إلا رجلان ، وقد صرح بذلك القاضي في الوصية ، فقال : المذهب أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين ( الرابع ) ما عدا ما تقدم وما عدا المال وما يتعلق بالمال ، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال ، كالنكاح ، والرجعة والولاء ، والولاية والنسب ، والتوكيل والإيصاء إليه في غير مال ، فلا يقبل فيه على المذهب إلا رجلان ، كما قال الخرقي ، لقوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ) [ ب 1 ] خرج منه المال ونحوه لقوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ) [ ب 1 ] لوروده في سياق المال ، ففيما عداه يبقى على مقتضى الأمر ، ولا يحسن إلحاق ما تقدم بالمال ، إذ المال يسامح فيه ، ما لا يسامح في النكاح ونحوه ، ويكثر وقوعه بخلاف غيره ، ونقل حرب عن أحمد : إذا تزوج بشهادة نسوة لم يجز ، فإن كان معهن رجل فهو أهون . فأخذ من ذلك أبو البركات رواية أن النكاح يثبت بشاهد وامرأتين ، وكذلك الرجعة لأنها في معناه ، دون ما تقدم ، وأخذ القاضي روايتيه من هذا النص نحوه أن كل ما لا يسقط بالشبهة هل يثبت بشاهدين ، أو شاهد ويمين الطالب ؟ على روايتين ، وحكى عنه أبو محمد أن النكاح وحقوقه من الرجعة ، والطلاق والخلع لا يثبت إلا بشاهدين رواية واحدة ، وما عدا ذلك يخرج على روايتين ، وعلى هذا يتلخص في المذهب ثلاث طرائق ، واتفقوا على أن المذهب أنه لا يقبل في الجميع إلا رجلان .
قال : ولا يقبل في الأموال أقل من رجل وامرأتين أو رجل عدل مع يمين الطالب .
ش : وذلك كالقرض والغصب ، والديون كلها ، وتسمية المهر ، ودعوى رق مجهول النسب ونحو ذلك وذلك أما في الرجل والمرأتين فهو وللَّه الحمد إجماع ، وقد شهد له قوله سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ) [ ب 1 ] الآية .
3826 وأما في الشاهد واليمين فلما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه قضى بيمين وشاهد ، رواه أحمد ومسلم ، وأبو داود ، وزاد : في الحقوق . ولأحمد في رواية : إنما كان ذلك في الأموال .
3827 وعن جابر رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قضى باليمين مع الشاهد ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي .
3828 ولأحمد من حديث عمارة بن حزم ، ومن حديث سعد بن عبادة مثله .
3829 أبي داود والترمذي وغيرهما عن ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه ، نحوه .
3830 ولابن ماجه عن سرق رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه أجاز شهادة الرجل ويمين الطالب . وهذه الأحاديث تنتهض لرتبة الاستفاضة ، وزيادة أبي داود وأحمد في حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما تخرج ذلك عن أن تكون واقعة عين ، وهو ظاهر بقية الأحاديث ، وإذاً يخصص عموم ( ولكن اليمين على المدعى عليه ) لا سيما وقد دخله التخصيص بدعاوى الأمناء المقبولة ، وبالقسامة بالنص ، وإذاً يضعف على رأيهم ، على أن الأصيلي قال : إنه لا يصح رفعه ، وإنما هو من قول ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، لكن الأجود ثبوت رفعه ، لرفع الإمامين البخاري ومسلم له ، ولا يعارض ما تقدم الآية الكريمة ، إذ ليس فيها تصريح بالحصر ، ولذلك يثبت المال بنكول المطلوب منه وبيمين الطالب إجماعاً ثم لو سلم ذلك فذلك زيادة والزيادة على النص ليست بنسخ ، على أنا نقول بموجب الآية الكريمة ، إذ موجبها الأمر بمن يستشهد به في المعاملات ، لا ما يقضى به عند الدعاوي والخصومات ، وهذا واضح لا خفاء به .
3831 ويؤيد ذلك ويرشحه أن هذا يروي عن الخلفاء الراشدين .
وعن أبي بن كعب ، ومعاوية ، وشريح ، وعمر بن عبد العزيز ، وأنه كتب به إلى عماله .
وهو مذهب الفقهاء السبعة ، وغيرهم ، وكذلك قال مالك ، وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من السنة ، وقال أحمد : مضت السنة أن يقضي باليمين مع الشاهد الواحد .
وحكم ما يقصد به المال من البيع والأجل والخيار فيه ، والوصية لمعين أو الوقف عليه ونحو ذلك حكم المال ، لأنه في معناه ، وقد تقدم الخلاف في الجراح في الجناية الموجبة للمال فقط ، كجناية الخطأ ، هل تثبت بذلك أم لا تثبت إلا برجلين ، وأن على القول بالثبوت ففيما إذا كان القود في بعضها كالهاشمة والمنقلة روايتان .
( تنبيه ) اختلف عن أحمد في العتق ، والوكالة في المال ، والإيصاء فيه ودعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه ، ودعوى الأسير إسلاماً سابقاً لمنع رقه ، هل يثبت بالشاهد واليمين ، والرجل والمرأتين ، لأن ذلك يؤول إلى طلب دعوى مال أو التصرف فيه ، أو لا يثبت إلا برجلين ، نظراً للحال الراهنة ؟ على روايتين . انتهى .
وقول الخرقي : ويمين الطالب ، يدخل فيه وإن كان كافراً أو امرأة ، وهو كذلك نص عليه أحمد ، ويشهد له حديث سرق ، وظاهر كلامه أنه لا يشترط أن يقول فيها : وأن شاهدي صادق في شهادته ، وهو المذهب من القولين ، وظاهر الأحاديث ، وهل تقوم المرأتان واليمين مقام الرجل واليمين لقيامهما مقامه فيما تقدم ، أو لا نظراً لظاهر الأحاديث ، ولأن شهادة المرأتين ضعيفة تقوت بالرجل ، وقد عدم ذلك هنا ؟ على قولين ، المذهب منهما وبه قطع أبو محمد في المغني الثاني ؛ واللَّه أعلم .
قال : ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاع ، والولادة ، والحيض والعدة ، وما أشبهها شهادة امرأة عدلٍ .
ش : ما أشبهها كالحمل ، وعيوب النساء تحت الثياب ونحو ذلك .
3832 وذلك لما روي عن عقبة بن الحارث رضي اللَّه عنه أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب ، فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما . قال : فذكرت ذلك لرسول اللَّه فأعرض عني ، قال : فتنحيت فذكرت ذلك للنبي فقال : ( وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما ) فنهاه عنها رواه البخاري وغيره ، وفي رواية أخرى ( دعها عنك ) .
3833 وروي عن علي رضي الَّه عنه أنه أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال ، رواه أحمد وسعيد . ونص الخرقي على الاكتفاء بامرأة واحدة ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار القاضي وأبي بكر وغيرهما ، لما تقدم ، ( والرواية الثانية ) لا يكفي إلا امرأتان ، لأن الرجال في غير ذلك أكمل منهن ولا يقبل منهم إلا رجلان ، فكذلك النسوة . انتهى ، وحكم الرجل في ذلك حكم المرأة ، لأنه أكمل منها ، وظاهر كلام الخرقي أن ضبط ذلك بما لا يطلع عليه الرجال ، وكذا أبو البركات ، وخص القاضي ذلك بخمسة أشياء . الولادة ، والاستهلال ، والرضاع ، والعيوب تحت الثياب ، والعدة ، واللَّه أعلم .
قال : ومن لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد ، لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك .
ش : ظاهر هذا أن أداء الشهادة ( فرض عين ) في الجملة ، وهو منصوص أحمد ، قاله أبو البركات ، وقال السامري : إنه ظاهر كلامه ، وذلك لقوله سبحانه وتعالى : 19 ( { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } ) وقوله سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { ولا تكتموا الشهادة ، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } ) [ ب 1 ] ولأنها أمانة ، فلزمه أداؤها كبقية الأمانات ، ودليل القاعدة قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } ) [ ب 1 ] الآية وقيل : بل أداؤها ( فرض كفاية ) ، وهذا ظاهر ما جزم به أبو الخطاب في الهداية ، وأبو محمد في الكافي والمغني ، وحكاه ابن المنجا رواية ، مستنداً للفظ المقنع ، فعلى هذا إذا كان المتحمل جماعة فالأداء متعلق بالجميع ، فإذا قام به من يكفي منهم سقط عن الباقين ، وإذا امتنع الكل أثموا ، كسائر فروض الكفايات ، وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه ، كما لو لم يوجد في القرية إلا مؤذن واحد ونحو ذلك ، ولو كان عبداً لم يكن لسيده منعه ، من ذلك ، كما لا يمنعه من صلاة الفرض فإن دعي بعضهم للفعل مع وجود غيره فهل يتعين عليه ذلك ، بحيث يأثم إذا امتنع ، نظراً للدعاء ، أو لا يأثم ، كما لو لم يدع ؟ فيه وجهان ، حكاهما في المغني ، وفي ذلك بحث ، فإن أدى شاهد وأبى الآخر ، وقال : احلف أنت بدلي . فهل يأثم ؟ فيه وجهان ، وإنما يأثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر كما سيأتي بيانه ، أما على الأول فيتعين على كل من المتحملين القيام بالشهادة ، كما يجب على جميع المكلفين بالصلاة القيام بها ، وسواء كان المشهود عليه نسيباً أو غيره ، وهو الذي عبر عنه الخرقي بالقريب والبعيد ، ولكن تشترط القدرة على أدائها ، كما صرح به الخرقي ، فلو كان عاجزاً عن أدائها لحبس أو مرض ونحو ذلك لم يلزمه ، إذ جميع التكاليف ملحوظ فيها القدرة ، ولا بد مع ذلك أن لا يلحقه ضرر ، فإن كان يلحقه بأدائها ضرر في نفسه أو ماله لم يلزمه ، لقول اللَّه سبحانه [ ب 2 ] 19 ( { ولا يضار كاتب ولا شهيد } ) [ ب 1 ] . على أن يكون مبنياً للمفعول .
3834 كما صرح بذلك ابن عباس رضي اللَّه عنهما في قراءته حيث قرأ ( ولا يضارر ) بالفتح ، ولكن يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل .
3835 وقد صرح بذلك عمر رضي اللَّه عنه فقرأ ( ولا يضارر ) بالكسر ، فيخرج من هذا أن النهي إذاً للشاهد عما يطلب منه أو عن التحريف والزيادة والنقصان ، انتهى ، وقول النبي : ( لا ضرر ولا ضرار ) ولأن القاعدة أن الإنسان لا يلزمه أن يضر نفسه لنفع غيره ، ومن ثم قلنا : إذا عجز الشاهد عن المشي فأجرة المركوب والنفقة على رب الشهادة ، كما قلنا في نفقة المحرم في الحج ونحوه ، أنه على المرأة ، وقلنا : إنما يلزمه الأداء إذا كان فيما دون مسافة القصر ، إذ مسافة القصر فما زاد يلحق الضرر بالسعي إليه قال ابن حمدان وقيل : أو ما يرجع فيه إلى منزله ليومه ، قلت : وإبدال أو هنا ببل أظهر .
تنبيهان ( أحدهما ) الأداء يختص بمجلس الحكم ( الثاني ) الخرقي رحمه اللَّه لم يتعرض لحكم التحمل ، وهو فرض كفاية في الجملة ، لأن الحاجة العامة تدعو إليه ، فهو كالقضاء ونحوه ، ثم هل ذلك مطلقاً ، وهو ظاهر إطلاق أبي محمد وغيره ، ولذلك أورده ابن حمدان مذهباً مطلقاً ، أو يختص بالمال ، وكل حق لآدمي ، وبه قطع أبو البركات ؟ فيه قولان ، وقد تقدم التفريع على القول بفرض الكفاية ، واللَّه أعلم .
قال : وما أدركه من الفعل نظراً أو سمعه تيقناً ، وإن لم ير المشهود عليه شهد به .
ش : ملخص هذا أن ما عمله الشاهد شهد به ، وما لا فلا ، لقوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } ) [ ب 1 ] . قال علماء التفسير : من شهد بالحق وهو توحيد اللَّه ، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإيقان ، وجوّزوا في الاستثناء الانقطاع ، على معنى : لكن من شهد بالحق . والاتصال ، لأن من جملة ما يدعون من دون اللَّه الملائكة ، وقوله سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { ولا تقف ما ليس لك به علم } ) [ ب 1 ] أي لا تتبع ما لا علم لك به .
3836 وقد فسره ابن الحنفية بشهادة الزور .
3837 وقد روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : سئل رسول اللَّه عن الشهادة قال : ( ترى الشمس ؟ ) قال : نعم . قال : ( على مثلها فاشهد أو دع ) رواه الخلال .
إذا تقرر هذا فمدرك العلم الذي تحصل به الشهادة الرؤية بالبصر ، والسماع بالسمع دون ما عداهما من مدارك العلم ، وهو اللمس ، والذوق ، والشم ، وقد أشار اللَّه سبحانه إلى ذلك حيث قال : [ ب 2 ] 19 ( { ولا تقف ما ليس لك به علم ، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } ) [ ب 1 ] فخص سبحانه الثلاثة بالسؤال ، لأن العلم بالفؤاد وهو القلب ، ومستنده السمع والبصر ، انتهى . فالرؤية تختص بالأفعال ، كالقتل والغصب ، والسرقة والزنا ، وشرب الخمر ، والصفات المرئية كالعيوب في المبيع ونحو ذلك ، والسماع ضربان سماع من جهة الاستفاضة وسيأتي وسماع من المشهود عليه ، كالإقرار والعقود ، والطلاق ونحو ذلك ، ولا يعتبر في ذلك عندنا رؤية المشهود عليه ، بل المعتبر تيقن صوت المشهود عليه ، وقد شهد لذلك جواز رواية الأعمى ، ورواية من روى عن أزواج رسول اللَّه من غير محارمهن ، وقول الخرقي : شهد به . ظاهره اللزوم وهو يرشح أن مذهبه أن الأداء فرض عين ، ثم كلامه يشمل وإن كان المشهود عليه غائباً ، وهو كذلك إذا عرف المشهود عليه باسمه وعينه ونسبه ، فإن لم يعرفه إلا بعينه لم يشهد عليه إلا بحضرته ، نص عليه في رواية مهنا ، وسأله عن رجل يشهد لرجل بحق له على رجل ، وهو لا يعرف اسم هذا ولا اسم هذا ، إلا أن يشهد له فقال : إذا قال : أشهد أن لهذا على هذا ، وهما شاهذان جميعاً فلا بأس ، وإذا كان غائباً فلا يشهد حتى يعرف اسمه . انتهى .
وظاهر كلام أحمد الاكتفاء بمعرفة الاسم ، وقد يقال إذا حصل به التمييز فلا حاجة إلى معرفة النسب واللَّه أعلم .
قال : وما تظاهرت به الأخبار ، واستقرت معرفته في قلبه شهد به ، كالشهادة على النسب والولادة .
ش : هذا أحد ضربي السماع ، وهو ما يحصل من جهة الاستفاضة ، والشهادة بها إجماع في الجملة ، إذ يتعذر العلم غالباً بدونها ، فلو وقفت الشهادة على الرؤية ، أو السماع من المشهود علهي ، لامتنعت الشهادة على كثير من الأشياء ، وفي ذلك ضياع لكثير من الحقوق ، وإنه لمناف لأصل وضع الشهادة ، وفيه ضرر عظيم ، وإنه منفي شرعاً ، قال مالك رحمه اللَّه : ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول اللَّه إلا بالسماع إذا ثبت ذلك في الجملة فمحل ذلك اختلف العلماء فيه ، بعد أن حصل إجماعهم على ما قال أبو محمد وللَّه الحمد على الصورتين اللتين ذكرهما الخرقي ، فخص ذلك القاضي في الجامع وأظن وفي الخلاف الكبير ، وأتباعه كالشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي وابن البنا في سبعة أشياء الملك المطلق ، والوقف ، والنكاح ، والعتق ، والولاء ، والنسب والموت ، وكأنهم أدخلوا الولادة في النسب لما تقدم من الإجماع ، قال ابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي وابن البنا : وما عدا ذلك فلا بد من سماعه من المشهود عليه ، وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنهم زادوا على ذلك مصرف الوقف ، والولاية والعزل ، ونحوه في الكافي ، ومقتضى كلامه في المقنع عدم حصر ذلك ، بل ضبطه بما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك ، ومثَّل له بما في المغني ، وزاد الخلع تبعاً للهداية ، ثم قال : وما أشبه ذلك . وزاد عليه أبو البركات الطلاق ، وقال فيه وفي الخلع : نص عليه . وكلامه محتمل للحصر وعدمه .
إذا تقرر هذا فمن شرط الشهادة بالاستفاضة على ظاهر كلام الخرقي والإمام أن يستفيض ذلك ، بحيث يسمعه من عدد يقع له العلم بخبرهم ، لما تقدم من قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { ولا تقف ما ليس لك به علم } ) [ ب 1 ] وقوله عليه السلام ( على مثلها فاشهد أودع ) ونحو ذلك ، وقال القاضي في المجرد : يكفي أن يسمع من عدلين فصاعداً ، ويسكن قلبه إلى خبرهما ، لأن الحقوق تثبت باثنين ، قال أبو البركات : والأصح أنه متى وثق بمن أخبره ، وسكنت نفسه له فليشهد ، وإلا فلا ، ومقتضى هذا ولو أنه واحد ، واللَّه أعلم .
قال : ومن لم يكن من الرجال والنساء عاقلاً مسلماً بالغاً عدلاً ، لم تجز شهادته .
ش : يشترط للشاهد سواء كان رجلاً أو امرأة شروط ( أحدهما ) العقل فلا تقبل شهادة منه ليس بعاقل إجماعاً قاله ابن المنذر ، وسواء كان عدم عقله بجنون أو سكر ، أو طفولية أو غير ذلك ، إذ هؤلاء لا تحصل الثقة بهم ، ولا يحصل لهم علم بما يشهدون به ، فمعنى الشهادة منتف فيهم ( الثاني ) الإسلام ، وهو واللَّه أعلم إجماع في الجملة ، لقول اللَّه سبحانه [ ب 2 ] 19 ( { واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } ) [ ب 1 ] وقوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { واشهدوا ذوي عدل منكم } ) [ ب 1 ] والكافر ليس بذي عدل ، ولا هو من رجالنا ، ولا هو ممن نرضاه ، ثم من العلماء من عمم ذلك في كل شيء ، ومنهم من استثنى صورة أو صورتين ، ومذهبنا استثناء صورة بلا نزاع ، وهي الوصية في السفر كما سيأتي ، واختلف عن إمامنا في صورة ثانية وهي شهادة بعضهم على بعض ، والمشهور عنه رواية الجماعة قيل رواه عنه نحو عشرين نفساً عدم القبول فلا استثناء لما تقدم .
3838 ولأن النبي قال : ( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ) رواه أهل السنن وهم أخون الخونة ، ونقل عنه حنبل : تقبل شهادة بعضهم على بعض ، كما يلي بعضهم على بعض .
3839 ولما يروى عن جابر رضي اللَّه عنه أن النبي أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ، رواه ابن ماجه ، وقد رد هذا لضعفه ، والأول بأن مناط الولاية القرابة والشفقة ، وذلك موجود فيهم ، على أنا نمنع ذلك على وجه عندنا ، وأجاز ذلك البرمكي في صورة خاصة للحاجة ، وهي شهادة السبي بعضهم لبعض في النسب ، إذا ادعى أحدهم أن الآخر أخوه ، ولا نزاع عند الأصحاب أن المذهب الأول ، وإنما اختلفوا في إثبات الخلاف ، فابن حامد والقاضي وأصحابه على إثباته ، والخلال خطأ حنبلاً في ذلك ولم يثبته رواية ، بناء على قاعدته في أن ما انفرد به حنبل عن الرواة لا يحكي رواية ، وكذلك خطأه صاحبه عبد العزيز ، وقال : إنه غلط لا شك فيه ، ومال أبو محمد إلى قولهما ، وقال : الظاهر الغلط ،
وبالجملة على هذا القول تعتبر عدالته في دينه ، مع بقية شروط الشهادة ، وهل يعتبر اتحاد الملة ؟ فيه وجهان .
( تنبيه ) الحاكون لهذه الرواية يقولون فيما رأيت : ( وعنه ) تقبل شهادة بعضهم على بعض . ومقتضاه أن شهادة بعضهم لبعض لا تقبل بلا نزاع ( الشرط الثالث ) البلوغ على المشهور من الروايات ، والمختار للأصحاب ، متقدميهم ومتأخريهم ، لظاهر قوله سبحانه [ ب 2 ] 19 ( { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } ) [ ب 1 ] والصبي ليس من الرجال ، وقوله سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { ممن ترضون من الشهداء } ) [ ب 1 ] والصبي لا يرضى لعدم الثقة بقوله ، إذ لا وازع له عن الكذب ، وأيضاً قوله سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { ولا تكتموا الشهادة ، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } ) [ ب 1 ] والصبي لا يتعلق به مأثم ، ولا ينهى نهي تأثيم ، فدل على أنه لا مدخل له في الشهادة ، ولأن من لا يقبل قوله على نفسه لا يقبل قوله على غيره كالمجنون ( والرواية الثانية ) يقبل ممن هو في حال أهل العدالة ، لإمكان الضبط منه ، ولهذا صح تحمله فأشبه البالغ ، ثم إن ابن حامد على هذه الرواية استثنى الحدود والقصاص ، فلم يقبل شهادته فيها احتياطاً لذلك ، وهل يكتفي بالعقل على هذه الرواية ، وهو مقتضى نص أحمد في رواية حنبل ، وقول القاضي في روايتيه ، وأبي البركات أو لا بد من بلوغ عشر سنين ، وهو ظاهر منصوه ، في رواية ابن إبراهيم ، وقول أبي محمد في المغني والكافي ؟ على قولين ( والرواية الثالثة ) لا يقبل إلا في الجراح .
3840 لأن ذلك يروى عن علي رضي اللَّه عنه ولأن الحاجة داعية إلى ذلك ، فأشبه شهادة النساء على الولادة ، قال الشريف وأبو الخطاب : قال شيخنا : إذا جاءوا قبل أن يتفرقوا . أي عن الحالة التي تجارحوا عليها ، فإن جاءوا بعد أن تفرقوا لم تقبل شهادتهم ، لاحتمال أن يلقنوا ، وظاهر كلام الشيخين أن هذا القيد من تمام الرواية ، وقال القاضي في الجامع : أو يشهد على شهادتهم قبل أن يتفرقوا ، وزاد ابن عقيل في التذكرة فيما إذا وجد الجراح في الصحراء ( الشرط الرابع ) العدالة لقوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { واشهدوا ذوي عدل منكم } ) [ ب 1 ] وقال سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } ) [ ب 1 ] أو [ ب 2 ] 19 ( { فتثبتوا } ) [ ب 1 ] فأمر سبحانه بالتبين أو التثبت عند مجيء الفاسق .
3841 وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي اللَّه عنهم قال : قال رسول اللَّه : ( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت ) رواه أحمد وأبو داود .
وكان أبو عبيد لا يراه خص بالخائن والخائنة أمانات الناس ، بل جميع ما فرض اللَّه تعالى على العباد القيام به ، وهو حسن ، ويؤيده قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها } ) [ ب 1 ] الآية ولأن الثقة لا تحصل بقوله ، لارتكابه محظور الدين ، والكذب من جملته .
3842 وما أحسن ما يروى عن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال : لا يؤسر رجل بغير العدول . ويتفرع على هذا عدم قبول شهادة الفاسق ، ثم هو على قسمين ( فاسق من جهة الأفعال ) وهو من ارتكب كبيرة كالزنا ، أو شرب الخمر ، أو قتل النفس التي حرم اللَّه تعالى بغير الحق ، أو الغيبة ، أو النميمة ، أو ترك الصلاة ونحو ذلك ، أو أدمن على صغيرة ، كنظرة محرمة ، وسب بغير الزنا ونحو ذلك . ( وفاسق من جهة الاعتقاد ) وهو الذي يعتقد البدعة ، كمن يذهب مذهب الرافضة الذين يسبون الصحابة ، ويزعمون في علي رضي اللَّه عنه أنه الأحق بالخلافة من أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه ، ونحو ذلك ، أو مذهب الجهمية القائلين بنفي غالب الصفات ، ومن جملة ذلك الاستواء اللائق بذاته سبحانه وتعالى ، أو مذهب المشبهة المشبهين اللَّه تعالى بخلقه ، تعالى اللَّه عما يقولون علوا كبيراً ، وخرج أبو الخطاب رواية بقبول شهادة الفاسذ من جهة الاعتقاد ، إذ لم يتدين بالشهادة لموافقة على مخالفة ، كالخطابية الذين يشهد بعضهم لبعض بتصديقه ، من رواية قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ، إذ لهم وازع عن الكذب ، قال أبو محمد : وروي عن أحمد جواز الرواية عن القدري إذا لم يكن داعية ، فكذلك الشهادة قلت : وهذا لعله لتخريج أبي الخطاب ، ومن الفساق من فعل شيئاً من الفروع المختلف فيها معتقداً للتحريم ، كحنبلي أو شافعي نكح امرأة بغير ولي ، أو شرب من النبيذ ما لم يسكره ، ونحو ذلك على المذهب المنصوص ، ولأبي الخطاب احتمال بقبول شهادته ، لوقوع الخلاف في ذلك ، أما من فل من الفروع ما يعتقد إباحته ، كحنفي شرب من النبيذ ما لا يسكره ، أو تزوج بلا ولي ، وشافعي أخر الحج الواجب مع إمكانه ، أو نكح نكاح تحليل ونحو ذلك ، فهل يفسق وترد شهادته ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية عبد اللَّه في الحج ، واختيار أبي بكر والشيرازي ، أو لا يفسق ، ولا ترد شهادته ، وهو منصوصه في رواية صالح في شارب النبيذ ، واختيار القاضي والشيخين ؟ على قولين ، ولعل مبناهما على أن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد .
تنبيهات ( أحدها ) الكبيرة على نص أحمد ما فيها حد في الدنيا ، كشرب الخمر ، والزنا والسرقة ، أو وعيد في الأخرى كاليمين الفاجرة ، وأكل الربا ، والغيبة ، على الأشهر ونحو ذلك ( الثاني ) بقي على الخرقي من شروط من تقبل شهادته شرطان ( أحدهما ) الحفظ ، فلا تقبل شهادة مغفل ، ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان وسيأتي ( الثاني ) النطق ، فلا تقبل شهادة الأخرس ، على المنصوص المجزوم به عند الأكثرين ، وإن فهمت إشارته ، لأن الشهادة يعتبر فيها التحقيق والتيقن ، والإشارة فيها نوع احتمال ، وقيل : وأومأ إليه أحمد : إنها تقبل من المفهوم إشارته ، كما يصح لعانه إذا قلنا إنه شهادة ونحو ذلك ، ويحتمل هذا كلام الخرقي ، وتوقف الإمام فيما إذا أداها بخطه ، وقال أبو بكر : لا تقبل ، وهو ( أحد احتمالي ) القاضي ، مفرقا بينهما وبين الطلاق ونحوه ، بأن الطلاق له كناية فضعف ، فلهذا وقع فيه بالكناية ، والشهادة ليس لها إلا صريح ، فقويت فلم تدخلها الكناية ، ( والاحتمال الثاني ) وهو اختيار أبي البركات تقبل ، إذ الكناية عندنا بمنزلة الصريح على أصح الروايتين وأشهرهما ، ولذلك صح نكاح القادر على النطق بها على المذهب ( الثالث ) قد يقال : إن ظاهر كلام الخرقي قبول شهادة البدوي على من هو أهل القرية كالعكس ، وهذا اختيار أبي الخطاب في الهداية ، وإليه ميل أبي محمد ، لدخوله في العمومات ، والذي قطع به القاضي في الجامع ، وأظن وفي التعليق ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وغيرهم عدم القبول .
3843 لما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه أنه سمع رسول اللَّه : يقول : ( لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية ) رواه أبو داود وابن ماجه ، وعلل ذلك أبو عبيد بما فيه من الجفاء في حقوق اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : والعدل من لم تظهر منه ريبة .
ش : من هنا أخذ القاضي وغيره أن مذهب الخرقي قبول مستور الحال ، لعدم ظهور الريبة منه ، وليس بالبين ، لما تقدم له من أنه إذا شهد عنده من لم يعرف حاله سأل عنه ، فدل على أن كلامه هنا فيمن عرف حاله .
إذا تقرر هذا فالعدل هو الذي تعتدل أحواله وأقواله ، وأصله في اللغة الاستقامة ، والاعتدال ضد الاعوجاج ، والريبة التهمة ، فمتى ظهرت منه تهمة لم يعتدل ، لكن قد يقال : إن ظاهر هذا أن مجرد التهمة ولو بصغيرة تخرجه عن العدالة ، والمشهور خلاف هذا ، وأن العدالة يعتبر لها شيئان ( أحدهما ) الصلاح في الدين ، وهو أداء الفرائض كالصلاة ، والزكاة ونحو ذلك ، وقد نص أحمد على رد شهادة من لم يؤد الزكاة واحتناب المحارم ، وقد ضبط ذلك بأنه لا يرتكب كبيرة وقد تقدم تفسيرها ، لأن اللَّه سبحانه نهى أن تقبل شهادة القاذف ، فيقاس على ذلك كل من ارتكب كبيرة ، وقد نص أحمد على رد شهادة آكل الربا ، والعاق وقاطع الرحم ، ومن أخرج أسطوانة أو كنيفاً في طريق المسلمين ، وكذلك من ورث ذلك حتى يرد ما أخذ من الطريق ولا يد من على صغيرة ، كإدمان نظرة محرمة ونحو ذلك ، وقد اختلف عن أحمد في رد الشهادة بالكذبة الواحدة ، ولعل ذلك للتردد في أنها هل هي صغيرة أو كبيرة .
3844 واستدل أحمد للمنع بأن النبي رد شهادة رجل في كذبة وجعل ابن حمدان الروايتين في الكذب ، وأورد ذلك مذهباً ، وفيه نظر ، ولا يمنع مجرد وجود الصغيرة ، لقول اللَّه سبحانه [ ب 2 ] 19 ( { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } ) [ ب 1 ] قيل : المراد الصغائر ( الشيء الثاني ) المروءة ، وهي اجتناب الأمور الدنيئة ، التي تزري به كالأكل في السوق ، كأن ينصب مائدة ويأكل عليها ، ولا يضر أكل الشيء اليسير كالكسرة ، ونحوها أو كأن يكشف ما جرت العادة بتغطيته من يديه ، أو يمد رجليه في مجمع الناس ، أو يتمسخر بما يضحك الناس به ، أو يخاطب امرأته أو سريته بحضرة الناس بالخطاب الفاحش ، أو يحدث الناس بمباضعته لهما ، ونحو ذلك من الأفعال الدنيئة التي يجتنبها ذوو المروءات ، وإنما اعتبر ذلك في الشهادة وإن لم يكن حراماً ، لأن مرتكبه لا تحصل الثقة بقوله ، لأن من فعل ذلك لا يمتنع غالباً من الكذب ونحوه ، ومن ثم قلنا : من داوم على ترك السنن الراتبة ردت شهادته لا لارتكابه محرماً ، بل لأن من هذه حاله لا يؤمن أن يترك شيئاً من الفرائض .
3845 وقد روي عن النبي أنه قال : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) أي من لم يستح صنع ما شاء ، واختلف في الصنائع الدنيئة هل مرتكبها مخل بالمروءة كالزبال ، والحجام ، والحائك ، والحارس ونحوهم ، على وجهين المشهور منهما لا ، لكن لا يقبل مستور الحال منهم وإن قبل من غيرهم ، وإن قبل من غيرهم ، وهذا مكان يحتاج إلى بسط لا يليق بهذا المختصر ، واللَّه أعلم .
قال : وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر ، إذا لم يكن غيرهم .
ش : الأصل في ذلك قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ، اثنان دوا عدل منكم ، أو آخران من غيركم ، إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } ) [ ب 1 ] الآية وهذا ظاهر في ذلك
3846 ثم قد زاده إيضاحاً بحيث صيره نصاً ما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري ، وعدي بن بدَّاء ، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم ، فلما قدموا بتركته فقدوا جاماً من فضة ، مخوّصاً بذهب ، فأحلفهما رسول اللَّه ، ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا : ابتعناه من تميم الداري ، وعدي بن بدّاء ، فقام رجلان من أوليائه فحلفا : لشهادتنا أحق من شهادتهما . وأن الجام لصالحبهم ، قال : وفيهم نزلت هذه الآية : [ ب 2 ] 19 ( { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } ) [ ب 1 ] رواه البخاري وأبو داود فقد وافق قضاء الرسول الآية الكريمة ، ثم إن الصحابة رضي اللَّه عنهم قضو بذلك ، فدل على بقاء الحكم بعد وفاته .
3847 فعن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ، ولم يجد أحداً من المسلمين ، يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى ، فأخبراه وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد أن كان في عهد رسول اللَّه ، فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ، ولا بدّ لا ولا كتما ، ولا غيرا ، وأنها لوصية الرجل وتركته ، وأمضى شهادتهما . رواه أبو داود .
3848 وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أذ قضى بذلك في زمان عثمان رضي اللَّه عنه رواه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ، وقد تبين بمجموع هذا ( رد قول من زعم ) أن المراد بالشهادة الحضور ، كما في قوله 19 ( { وليشهدوا عذابهما طائفة من المؤمنين } ) ويكون المعنى فليحضر اثنان ، أي يوصي إليهما في هذه الحالة ، تأكيداً أو نحو ذلك ، ( وقول من زعم ) أن المراد بالشهادة اليمين ، كما في آية اللعان أيضاً ، وأبعد من هذه الأقوال ( من زعم ) نسخ الآية [ الكريمة ، إذ لا دليل على ذلك ، مع أن السلف عملت عليه ، ومن ثم أخذ أكثر السلف بظاهر الآية ] قال ابن المنذر : به قال أكابر الماضين . والظاهر أن الأئمة لو بلغتهم الأحاديث لأكدت عندهم ظاهرا الآية ، ولم يعدلوا عنها ، قال أحمد : أهل المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى ، من أن يعرفونه ؟
إذا تقرر هذا ( فشرط الخرقي ) لشهادة الكفار والحال ما تقدم أن يكونوا من أهل الكتاب ، وهو المشهور من الروايتين ، لأن الأحاديث التي وردت في ذلك إنما وردت من أهل الكتاب ، ولا يحسن إلحاق غيرهم بهم ( والرواية الثانية ) لا يشترط ذلك ، تمسكاً بإطلاق الآية الكريمة ، ونظراً لحال العذر ، وقيل ( يشترط ) مع كونهم من أهل الكتاب أن يكون لهم ذمة وليس بشيء ، ( ويشترط ) أيضاً أن لا يوجد غيرهم ، وهو كذلك كما في الأحاديث ، وكما أومأت إليه الآية الكريمة ( ويشترط أيضاً أن يحضر الموصي الموت ، كما في الآية والأحاديث ، وعموم كلامه يشمل الوصية من المسلم والكافر وهو كذلك .
إذا تقرر هذا فيحلف الحاكم الشاهدين من الكفار ، إذا شهدا في الوصية كما تقدم ، بعد العصر : ما خانا ولا كذبا ولا حَرَّفا ، وإنها لوصية الرجل . وهل ذلك على سبيل الوجوب وهو الأشهر أو الاستحباب ؟ على وجهين ، ثم إن اطلع على أنهما استوجبا إثماً لخيانتهما وأيمانهما الكاذبة ، قام رجلان من أولياء الموصي ، فحلفا باللَّه لشهادتنا أحق من شهادتهما ، ويقضي لهم اقتداء بالآية الكريمة واللَّه أعلم .
قال : ولا تجوز شهادتهم في غير ذلك .
ش : قد تقدم ذلك عن قرب ، والخلاف في شهادة بعضهم على بعض ، فلا حاجة إلى إعادته .
قال : ولا تقبل شهادة خصم .
ش : لما فرغ الخرقي من شروط الشهادات ، شرع يتكلم في موانعها وقوله : خصم . ( يحتمل ) : أن يريد به العدو ، وهو الظاهر ، فلا تقبل شهادة القاذف على من قذفه ، أو من قطع عليه الطريق على القاطع ، ونحو ذلك ، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال قال رسول اللَّه ( لا تجوز شهادة القانع لأهل البيت ) والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت ، رواه أحمد وهذا لفظه ، وأبو داود والغمر الحقد ، ولأن العداوة تورث تهمة شديدة ، فمنعت الشهادة كالقرابة القريبة ، ولا ترد قبول شهادة الكفار في الوصية ، لأن الشارع استثنى ذلك للحاجة الداعية إليه ، وأبو محمد أجاب بأن العداوة ثَم دينية ، والدين يمنع شهادة الزور ، ومقتضى تعليله قبول شهادة الكفار مطلقاً ، ويرد عليه أن البدعي لا تقبل شهادته على السني ، بخلاف العكس ، وإن كانت العداوة دينية تمنع شهادة الزور .
ويحتمل أن يريد كل خصم فيدخل فيه من خاصم في حق ، كالوكيل أو الوصي ، لا تقبل شهادته فيما هو وكيل أو وصي فيه ، وكالشريك أو المضارب ، لا تقبل شهادته فيما هو شريك أو مضارب فيه ، وذلك لأنه يشهد لنفسه فأشبه المالك .
واعلم أن إطلاق الخرقي غير مراد ، إذ شهادة العدو تقبل لعدوه ، لانتفاء التهمة ، إنما الممتنع شهادته عليه ، وكذلك شهادة الوكيل أو الوصي تقبل في غير ما هو وصي أو وكيل فيه ، وكذلك الشريك والمضارب تقبل شهادتهم في غير مال الشركة والمضاربة .
تنبيهان ( أحدهما ) شرط العداوة أن تكون ظاهرة ، وأن تكون لغير اللَّه ، كذا قيده ابن حمدان ( الثاني ) لو كان القذف في حال الشهادة ، كمن شهد على رجل بحق ، وقذفه المشهود عليه ، لم ترد شهادته بذلك ، لئلا يتخذ ذلك وسيلة في إبطال الشهادات والحقوق ، واللَّه أعلم .
قال : ولا جار إلى نفسه نفعاً .
ش : أي نفعا بشهادته ، كشهادة الغرماء للمفلس المحجور عليه ، أو للميت بمال ، لأن حقوقهم تتعلق بذلك لو ثبت ، وخرج قبل الحجر لأن الحق متعلق بالذمة ، لا يقال : تتوجه المطالبة إذأُ لأنا نقول : المطالبة لليسار ، مع أن ابن حمدان اختار في الكبرى الرد والحال هذه ، لأن توجه المطالبة تهمة تصلح لرد الشهادة . انتهى . ومن ذلك شهادة أحد الشريكين بعفو الآخر عن شفعته ، وشهادة السيد لعبده المأذون له في التجارة ، أو لمكاتبة ، والأجير لمستأجره فيما استأجر فيه نص عليه ، والوارث لمورثه بجرح قبل الاندمال ، ونحو ذلك ، لما في ذلك كله من التهمة المانعة من قبول الشهادة .
3849 وقد روي عن الزهري قال : مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ، والظنين المتهم .
3850 وعن طلحة بن عبد اللَّه بن عوف قال : قضى رسول اللَّه أن لا شهادة لخصم ولا طنين . والاعتبار بالوارث حال الموت ، كما في الوصية ، وفي شهادة الوارث لمورثه في مرضه بدين وجهان ، والقبول قطع به أبو محمد ، لاحتمال إفضائه إلى الموت ، فتجب الدية للوارث الشاهد ابتداء ، فيكون شاهداً لنفسه ، وهنا الحق إنما يجب للمشهود له ثم يجوز أن ينتقل ، ويجوز أن لا ينتقل ، قلت : وعلى هذا الفرق ينبغي أن يخرج في الشهادة بالجرح خلاف ، بناء على أن الشهادة هل تجب في الشهادة بالجرح خلاف ، بناء على أن الشهادة هل تجب للمجروح ابتداء أو للورثة ، انتهى . ثم على القول بالقبول متى حكم بها لم يتغير الحكم بالموت بعده ، واللَّه أعلم .
قال : ولا دافع عنها .
ش : أي دافع عن نفسه ضرراً ، كأن يشهد المشهود عليه بجرح الشهود ، أو العاقلة بجرح شهود قتل غير العمد ، لأنهم يدفعون بذلك الدية عن أنفسهم ، وقيل : إن كان الشاهد منهم فقيراً أو بعيداً قبلت شهادته ، لانتفاء التهمة في الحال الراهنة ، وكذلك شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق ، أو الإبراء منه ونحو ذلك ، لما في ذلك من التهمة المخلة بالثقة من الشاهد ، واللَّه أعلم .
قال : ولا تجوز شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة .
ش : قد تقدم أن هذا أحد شروط الشهادة ، لأن من كان كذلك لا تحصل الثقة بقوله ، ولهذا لم تقبل روايته ، قال ابن حمدان : إلا في أمر جلي مع بحث الحاكم عنه . انتهى . وتقييده بكثرة الغلط يحترز عن قليله ، إذ أحد لا يسلم من ذلك ، وإنما تتفاوت مراتب الناس فيه ، ولا شك أن كثرة غلطه تخل بغلبة ظن صدقه ومقتضى قول الخرقي وغيره أنه لو تساوى حاله أو تقارب قبل قوله ، وكلام أبي محمد في المغني يحتمل خلاف هذا ، لأنه قال : ولا يمنع من الشهادة وجود غلط نادر ، أو غفلة نادرة ، واللَّه أعلم .
قال : وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت .
ش : لعموم : [ ب 2 ] 19 ( { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } ) [ ب 1 ] ونحو ذلك ، وكما في روايته وفي شهادته بالاستفاضة ، مع أنه لا بد أن يسمعها من عدلين ، ولا بد من معرفتهما ، ليعرف عدالتتهما ، ودعوى عدم تيقن الصوت ممنوع ، إذ قد يكون المشهود عليه ممن ألفه الأعمى ، وكثرت صحبته له ، فيعرف صوته يقيناً .
3851 ولهذا قال قتادة : للسمع قيافة كقيافة البصر . وقد أشعر كلام الخرقي أنه لا تجوز شهادة الأعمى على الأفعال ، وهو كذلك ، لعدم آلة ذلك منه ، نعم لو تحمل الشهادة على ذلك قبل العمى جاز أن يشهد به بعده ، إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه ، وكذلك إن لم يعرفه بذلك ، بل تيقن صوته ، قاله في المغني فإن لم يعرفه إلا بعينه فوصفه فهل تقبل لقيام الصفة مقام المشاهدة ، وهو قول القاضي ، أو لا تقبل لعدم ضبط ذلك غالباً ؟ فيه وجهان ، ولعل لهما التفاتاً إلى القولين في السلم في الحيوان وقد تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : ولا تجوز شهادة الوالدين وإن علوا للولد وإن سفل .
ش : وسواء في ذلك ولد البنين ، وولد البنات ، لما في ذلك من التهمة المانعة كما تقدم ولأن بينهما بعضية ، فكأنه شهد لنفسه .
3852 قال : ( فاطمة بضعة مني ، يريبني ما رابها ) ولأنه إذا شهد له في المال ونحوه كأنه شهد لنفسه ، لأن ماله كماله ، بدليل قوله عليه اللام ( أنت ومالك لأبيك ) ( وفي المذهب ) رواية أخرى بالقبول ، قال الجمهور : فيما لا يجر به نفعاً غالباً ، نحو أن يشهد أحدهما لصاحبه بعقد نكاح ، أو قذف ، قال القاضي وأصحابه ، وأبو محمد في المغني : أو مال ، وهو مستغن عنه ، لانتفاء التهمة غالباً ، وأطلق القبول في الكافي ، فإن ثبت الإطلاق فمستنده العمومات ، ولا ريب أن المذهب على كل حال الأول .
قال : ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وأن علوا .
ش : الخلاف في شهادة الولد لهما كالخلاف في شهادتهما له ، والمذهب هنا كالمذهب ثَمَّ ، إلا أن التهمة في شهادة الولد للوالد أخف من العكس ، فلهذا ( عن أحمد رواية ثالثة ) تقبل شهادة الولد لهما ، ولا تقبل شهادتهما له ، وعللها بأن مال الابن لأبيه ، بخلاف مال الأب ، فإنه لا يضاف إلى ابنه ، وقول الخرقي : ولا تجوز شهادة الوالدين إلى آخره ، مقتضاه أن شهادة أحدهما على صاحبه تقبل ، وهو المذهب بلا ريب ، حتى أن أبا البركات جزم بذلك ، إذ شهادته له إنما ردت للتهمة ، ولا تهمة في شهادته عليه ، وقد قال سبحانه وتعالى : [ ب 2 ] 19 ( { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ، شهداء للَّه ، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } ) [ ب 1 ] فأمر سبحانه بالشهادة عليهم ، ولو لم تقبل لما كان في الشهادة عليهم فائدة ، وحكى القاضي في المجرد رواية أخرى وقال في الروايتين : نقلها مهنا لا تقبل كما في الشهادة له ، جعلا له كالفاسق .
تنبيه : الولد هنا والوالد المراد بهما من النسب ، لا من الرضاع والزنا ، واللَّه أعلم .
قال : ولا السيد لعبده .
ش : لأن العبد له ، فشهادته له شهادة لنفسه في الحقيقة .
قال : ولا العبد لسيده .
ش : لأنه متهم ، وقد دخل في كلامه المكاتب لا تجوز شهادته لسيده ، لأنه عبد له .
قال : ولا الزوج لامرأته ، ولا المرأة لزوجها .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، المجزوم به عند الأكثرين ، لتبسط كل منهما في مال الآخر عادة ، فأشبه الولد مع الوالد وبالعكس ، ولهذا أضيف مال أحدهما إلى الآخر ، قال سبحانه وتعالى [ ب 2 ] 19 ( { وقرن في بيوتكن } ) [ ب 1 ] وقال [ ب 2 ] 19 ( { لا تدخلوا بيوت النبي } ) [ ب 1 ] فأضاف البيوت إليهن تارة ، وإلى النبي أخرى ، ( وعن أحمد ) رحمه اللَّه رواية أخرى : تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه ، تمسكا بالعمومات ، وقد خرج من كلام الخرقي شهادة أحدهما على صاحبه ، فتقبل بلا خلاف ، وهو أمثل الطريقتين ، والطريقة الثانية في ذلك الخلاف أيضاً ، واللَّه أعلم .
قال : وشهادة الأخ لأخيه جائزة .
ش : للعمومات ، ولا يصح إلحاقه بالوالد والولد ، لضعف التهمة في حقه أو انتفائها ، وقد علم من كلام الخرقي قبول شهادة كل قريب ما عدا الوالدين والمولودين بطريق الأولى ، وكذلك الأجنبي ، وإن كان صديقاً ملاطفاً ، على الأشهر المقطوع به عند الشيخين وغيرهما .
قال : وتجوز شهادة العبد في كل شيء إلا في الحدود .
ش : مذهبنا قبول شهادة العبد في كل شيء ما عدا الحدود والقصاص ، لأنه منا ومن رجالنا ، وممن نرضاه ، ومن ذوي العدل ، فدخل في الآيات الكريمات ، وكما في روايته وفتياه ، وأخباره الدينية .
3853 وفي الصحيح عن عقبة بن الحارث قال : تزوجت أم يحيى بنت أبي وهاب ، فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما . فذكرت ذلك لرسول اللَّه فقال : ( كيف وقد زعمت ) وفي رواية : فنهاه عنها ، وفي رواية ( دعها عنك ) ودعوى أنه لا مروءة له ممنوع ، بل هو كالحر ، ينقسم إلى من له مروءة ومن لا مروءة له ، وقد كان كثير من سلف هذه الأمة وعلمائها وصالحيها موالي ، ولم يحدث فيهم بالإعتاق إلا الحرية لا تحدث علماً ولا ديناً ، واختلف في الحدود في القصاص ( فعنه ) تقبل فيهما أيضاً ، هو اختيار القاضي يعقوب ، وإليه ميل ابن عقيل في التذكرة ، فإنه قال : لي عن أحمد منع في الحدود ، وذلك لما تقدم من العمومات ( وعنه ) لا تقبل ، لما في شهادته من الخلاف ، إذ كثير من الفقهاء أو أكثرهم لا يقبلها ، وذلك شبهة ، والحدود والقصاص تندرىء بالشبهة ، وقيل : يقبل في القصاص ، لأنه حق لآدمي ، مبني على الشح والضيق ، لا الحدود ، لأنها حق للَّه تعالى ، وحقوق اللَّه سبحانه مبنية على المساهلة والمسامحة ، وهو ظاهر كلام الخرقي .
قال : وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيها شهادة النساء .
ش : أي الأحرار ، لدخولها في 19 ( { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ) الآية ، مع حديث عقبة المتقدم .
( تنبيه ) حكم المكاتب والمدبر ، وأم الولد حكم القن في ذلك ، وكذلك المعتق بعضه ، قاله أبو محمد في المغني ، ولا معنى لقول ابن حمدان في الكبرى : قلت : وكذا المعتق بعضه .
قال : وشهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره .
ش : لعموم الآيات ، ولأنه عدل مقبول الشهادة في غير الزنا ، فيقبل في الزنا كغيره .
قال : وإذا تاب القاذف قبلت شهادته .
3854 ش : لعموم ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) .
3855 ( التوبة تجب ما قبلها ، والإسلام يجب ما قبله ) أي يقطع ما قبله ، وإذاً يصير كمن لم يقذف ، ولأنه تائب من ذنبه ، فقبلت شهادته كالتائب من الزنا ، أو قتل النفس ، بل أولى ، لأنها أعظم من القذف ، وأما قوله سبحانه وتعالى : [ ب 2 ] 19 ( { ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً } ) [ ب 1 ] فمعناه أن لم يتوبوا ، بدليل آخر الآية ، بناء عندنا على أن الاستثناء إذا تعقب جملاً عاد إلى جميعها ، ما لم يمنع منه مانع ، وبيان ذلك له موضع آخر .
3856 ويدل عليه هنا ما يروى عن عمر رضي اللَّه عنه أنه كان يقول لأبي بكرة رضي اللَّه عنه حين شهد على المغيرة به شعبة رضي اللَّه عنه : لست أقبل شهادتك . ولم ينكر ذلك منكر فكان إجماعاً .
3857 قال : سعيد بن المسيب : شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة رجال أبو بكرة ، ونافع بن الحارث ، وشبل بن معبد ، ونكل زياد ، فجلد عمر رضي اللَّه عنه الثلاثة ، وقال لهم : توبوا تقبل شهادتكم . فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما ، وأبى أبو بكرة فلم تقبل شهادته ، وكان قد عاد مثل النصل من العبادة .
3858 وما رواه ابن ماجه بسنده عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، قال : قال رسول اللَّه ( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ، ولا محدود في الإسلام ) فقال ابن عبد البر : لم يرفعه من روايته حجة . ثم يدل على ضعفه قبول شهادة كل محدود تائب في غير القذف ، انتهى . واللام في القاذف للعهد ، أي القاذف بالزنا ، ويحتمل أنها للجنس ، فيدخل فيه القذف بالشتم ونحوه ، وهو أمشى على ما قال أبو محمد ، فإنه أي القاذف بالشتم ترد شهادته وروايته ، وهذا يدل على أن القذف بالشتم ونحوه عند كبيرة ، وإلا كان اعتبر تكرر ذلك ، وإطلاق الخرقي يقتضي : وإن لم يجلد ، وهو كذلك عندنا ، لأن اللَّه سبحانه رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء ، الجلد ، وانتفاء الشهادة ، والفسق ، فيتبين بمجرد الرمي .
( تنبيه ) إذا جاء القاذف مجيء الشاهد كما في قصة الذين شهدوا على المغيرة ، فإن شهادته ترد دون روايته ، بدليل ما تقدم عن عمر في حق أبي بكر رضي اللَّه عنهما ، مع أنه مقبول الرواية بلا تردد ، بخلاف من قصد الشتم والقذف ، فإن شهادته وخبره وفتياه لا يقبلن حتى يتوب .
قال : وتوبته بأن يكذب نفسه .
ش : هذا هو المشهور من المذهب ، جزم به القاضي في القاضي في الجامع الصغير ، وأظن وفي التعليق الكبير ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل في التذكرة وغيرهم
3859 لأنه يروى عن عمر رضي اللَّه عنه عن النبي أنه قال في قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن اللَّه غفور رحيم } ) [ ب 1 ] قال : ( توبته إكذاب نفسه ) . وهذا نص إن ثبت ، ولأن عرض المقذوف تلوث القذف ، والإكذاب يزيل ذلك التلوث ، فيصير كأن لم يوجد قذف وهو المقصود ، وفرق القاضي أظنه في المجرد ، وزعم أنه المذهب ، فقال إن كان قذفه بالسب والشتم فكما تقدم ، وإن كان بالشهادة فتوبته أن يقول : القذف حرام باطل ، ولن أعود إلى ما قلت . حذاراً من أن يكون صادقاً ، فلا يؤمر بالكذب ، ونحو هذا قال السامري ، ولفظه : ندمت على ما كان مني ، ولا أعود إلى ما اتهم فيه . قال : ولا يقول : ولا أعود إلى ما كان مني . لما فيه من منع الشهادة ، واختار أبو محمد في المغني أنه إن لم يعلم صدق نفسه فكالأول ، وإن علم صدقه فتوبته الاستغفار والإقرار ببطلان ما قاله ، وتحريمه ، وأنه لا يعود إلى مثله ، وعلله بأنه قد يكون كاذباً في الشهادة ، صادقاً في السب ، ونحو هذا جزم به في الكافي ، وفيه نظر ، فإن الكذب مخالفة الواقع ، والصادق لم يخالف الواقع ، فكيف يقر ببطلان ما قاله ، ثم كيف يكون كاذباً في الشهادة ، مع أنه صادق فيما لفظ به ، نعم الشرع منعه من الشهادة حيث لم يكمل النصاب ونحو ذلك ، فإن قيل مطلقاً ، قلنا : فإذاً يتوجه إطلاق الخرقي والأكثرين ، ويكون تكذيبه نفسه راجعاً لما في حكم اللَّه سبحانه ، وحكى في المنقع قولاً ظاهره أنه رابع أنه إن علم صدق نفسه فتوبته أن يقول : قد ندمت على ما قلت ، ولا أعود إلى مثله ، وأنا تائب إلى اللَّه تعالى منه . وهو حسن . وظاهر كلام الخرقي أنه لا يعتبر مع توبة القاذف إصلاح العمل ، وجزم به كثير من الأصحاب ، وظاهر كلام أبي محمد في المقنع وتبه ابن حمدان أن فيه الخلاف الآتي ، ومقتضى ما في المغني نفي الخلاف من القاذف بلفظ الشهادة ، أما غير القاذف فهل يكتفي بمجرد توبته ، أو لا بد من إصلاح عمله سنة ؟ فيه روايتان مشهورتان ، المشهور منهما الأول ، ولأبي محمد في الكافي احتمال أنه يعتبر مضي مدة نعلم توبته فيها ، من غير توقيت ، واقاضي يجعل محل الخلاف في غير المبتدع ، أما المتبدع فيعتبر له مضي سنة ، وهو مقتضى كلام السامري .
( تنبيه ) : هل من إصلاح مجانبة من كان يواليه في ذلك أم لا ؟ على روايتين . واللَّه أعلم .
قال : ومن شهد وهو عدل بشهادة قد كان شهد بها وهو غير عدل وردت عليه لم تقبل منه في حال عدالته .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، المجزوم به عند الأكثرين ، لأنه يتهم بأدائها ، لما لحقه بردها من الغضاضة والمعيرة ، فيحتمل أنه أظهر العدالة ليزول عنه ما حصل له من ذلك ، ولا يرد ما إذا ردت لكفره أو صغره ، أو جنونه أو رقه ، أو حرابته ثم أعيدت بعد زوال ذلك ، فإنها تقبل على الأصح ، لانتفاء التهمة في ذلك غالباً أو قطعاً ، وأيضاً الفسق يخفى فيحتاج في معرفته إلى بحث واجتهاد ، وكذلك العدالة ، وإذاً نقول شهادة مردودة بالاجتهاد ، فلا تقبل بالاجتهاد ، حذاراً من نقض الاجتهاد ، ومن ثم قيل وصححه أبو البركات ، وقال أبو محمد في الكافي : إنه الأولى فيما إذا ردت لتهمة رحم ، أو زوجية ، أو عداوة ، أو جلب نفع ، أو دفع ضرر ، ثم زال ذلك : إنها لا تقبل لذلك ، وقيل وقال في المغني : إنه الأشبه بالصحة يقبل نظراً للتعديل الأول ، إذ لا عار على الشاهد في الرد بذلك ، بخلاف الرد بالفسق ، واللَّه أعلم .
قال : إن كان لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلاً قبلت منه .
ش : إذ العدالة وكذلك البلوغ والإسلام والحرية إنما تعتبر حال الأداء ، لأنه حال ترتب الحكم ، بخلاف ما قبل ذلك ، ولذلك قبلت رواية من كان صبياً في زمن النبي ، كابن عباس ، والنعمان بن بشير ، وغيرهما رضي اللَّه عنهم من صبيان الصحابة ، وقد أجمع الناس على أحضار الصبيان مجالس السماع ، وفائدته ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : ومن شهد وهو عدل فلم يحكم بشهادته حتى حدث منه ما لاتجوز شهادته معه لم يحكم بها
ش : لأن حدوث ذلك يورث تهمة حال الشهادة ، لأن كثيراً من الناس يستر الفسق ، ويظهر العدالة ، وخرج ما إذا شهد ثم خرس أو عمي ، أو صم أو جن أو مات ، فإن ذلك لا يمنع الحكم ، لأن ذلك لا يورث تهمة ، لأنه لا يحتمل أنه كان موجوداً حال الشهادة .
قال : وشهادة العدل على شهادة العدل جائزة في كل شيء إلا في الحدود ، إذ كان الشاهد الأول ميتاً أو غائباً .
ش : الشهادة على الشهادة جائزة في الجملة بالإجماع ، قال أبو عبيد : أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال ، وللحاجة الداعية إلى ذلك ، إذ قد يتأخر إثبات الوقوف ونحوها عند الحاكم ، ثم يموت شهود ذلك ، فلو لم تقبل لأفضى ذلك إلى ضرر كثير ، وإنه منفي شرعاً ، ومحل قبولها الأموال بلا ريب ، للإجماع والمعنى المتقدمين ، لا الحدود بلا نزاع عندنا ، لانتفاء المعنى المتقدم وهو الحاجة ، إذ الستر فيه أولى ، ولأن الحدود تندرىء بالشبهة ، والشهادة على الشهادة فيها نوع شبهة ، لتطرق السهو والغفلة والكذب إلى كلا الفريقين ، شاهدي الأصل ، وشاهدي الفرع ، واختلف عن إمامنا فيما عدا ذلك ( فعنه ) وهو ظاهر كلام الخرقي : تقبل ، لأنه حق لا يندرىء بالشبهة ، فأشبه المال ( وعنه ) وو ظاهر كلام أبي بكر وابن حامد لا تقبل ، لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين ، فأشبه حد السرقة ( وعنه ) تقبل إلا في الدماء والحدود ، وإليه ميل أبي محمد ( واعلم ) بأن بابي الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي عند الشيخين في مختصريهما باب واحد ، ما قيل في أحدهما قيل في الآخر ، وما لا فلا .
( تبيه ) : وأبو البركات يستثني حقوق اللَّه سبحانه من محل الخلاف ، وهو أشمل مما تقدم .
إذا تقرر هذا فيشترط للشهادة على الشهادة شروط ( أحدها ) تحقق شروط الشهادة من العدالة وغيرها في كل واحد من شاهدي الأصل ، وشاهدي الفرع ، إذ الحكم ينبني على الشهادتين جميعاً ، فاعتبرت الشروط في كل منهما ، كالراوي عن الراوي ، وهذا واللَّه أعلم اتفاق ، فإن عدل شهود الفرع شهود الأصل ، بأن شهادا بعدالتهما ، وعلى شهادتهما جاز ، وإن لم يشهدا بعدالتهما ، وعلى شهادتهما جاز وتولى ذلك الحاكم ( الشرط الثاني ) : أن تتعذر شهادة شهود الأصل ، لأن المقتضي لجواز الشهادة على الشهادة الحاجة ، ولا حاجة مع حضور شهود الأصل ، ولا ترد الرواية ، لأنها أخف ، ولهذا لم يعتبر فيها العدد ، ولا الذكورية ، ولا الحرية ، ولا انتفاء التهمة ، ولا اللفظ ونحو ذلك ، انتهى . ولا ريب أن لا تعذر أبلغ من الموت ، واختلف عن إمامنا في التعذر بما عداه ، كالتعذر بغيبة ، أو مرض يمنع الحضور ونحوه ، أو لكبر أو حبس ، أو خوف من سلطان أو لص ، أو فتنة ونحو ذلك ( فعنه ) وهو الأشهر ، والمختار للأصحاب الاجتزاء بذلك ، كالتعذر بالموت ، والجامع التعذر ( وعنه ) لا يكتفي بذلك ، لاحتمال زوال العذر ، وتأول القاضي ذلك على الموت ، وما في معناه من الغيبة البعيدة ، وعلى المذهب اختلف في حد الغيبة ، فالمختار للشيخين وأبي الخطاب وغيرهم أنها مسافة القصر ، لأنها الغيبة المعتبرة شرعاً في كثير من الأحكام ، فكذلك هنا إلحاقاً للفرد الواحد بالأعم الأغلب ، وعن القاضي أنها مسافة لا تتسع للذهاب والعود في اليوم ، لأنها والحال هذه يلحق شاهد الأصل بأداء الشهادة حرج ومشقة ، وإنهما منتفيان شرعاً ( الشرط الثالث ) أن يعين شاهداً الفرع شاهدي الأصل ، ولا يكفي أن يقولا حرين عدلين ذكرين ، لاحتمال عدالتهما عندهما ، دون غيرهما ، فيتمكن المشهود عليه من الجرح . ( الشرط الرابع ) الاسترعاء ، وهو أن يطلب شاهد الأصل من الشاهد عليه حفظ الشهادة وأداءها ، فيقول : اشهد على شهادتي بكذا . ثم هل يشترط أن يسترعيه بعينه ، وهو احتمال ذكره في المغني ، أو يكتفي بمجرد الاسترعاء ، فلو سمعه يسترعي شاهداً جاز له أن يشهد على شهادته ، وهو الذي أورده في المغني مذهباً ؟ فيه قولان ، فإن عدم الاسترعاء لم يشهد ، كأن يسمعه يقول : أشهد على فلان بكذا . لم يشهد ، لاحتمال أن يقول ذلك على سبيل الاستفهام الإنكاري ، ويحتمل أن يكون هازلاً ونحو ذلك ، ولهذا قال أحمد : لا تكون شهادة إلا أن يشهدك ، فإذا سمعته يتحدث فإنما ذلك حديث . ونحو ذلك . نعم إن سمعه يشهد بذلك عند الحاكم ، أو يعزوه إلى سبب من بيع أو قرض ، ونحو ذلك فهل يقوم مقام الاسترعاء وهو الذي قاله القضي وابن البناء وغيرهما ، لزوال الاحتمال إذاً ، أو لا يقوم مقامه لأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة ، والنيابة يعتبر فيها الإذن ؟ فيه روايتان . ( الشرط الخامس ) أن يشهد شاهدان على شاهدي الأصل ، سواء شهدا على كل واحد منهما ، أو شهد على كل واحد واحد ، على المذهب المنصوص .
3860 قال 16 ( أحمد ) : شاهد على شاهد يجوز ، لم يزل الناس على ذا ، شريح فمن دونه ، وشرط أبو عبد اللَّه بن بطة شهادة أربعة ، على كل أصل فرعان ، وقيل يكتفي بشهادة فرغين ، بشرط أن يشهدا على كل واحد من الأصلين ، واختلف في ( شرط سادس ) وهو اشتراط ذكورية شهود الأصل وشهود الفرع ( فعنه ) اشتراط ذلك ، لأن في الشهادة على الشهادة ضعفاً ، وفي شهادة النساء ضعف ، فيجتمع ضعفان ، فلا يدخل النساء في ذلك ( وعنه ) لا يشترط ذلك ، أما في الأصول فلعموم ما تقدم 19 ( { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ) [ ب 1 ] ونحو ذلك ، وأما في الفروع فنظرا للمقصود ، إذ هو إثبات الحق المشهود به ، وقد ثبت أنه يثبت بالنساء ( وعنه ) وهو الأشهر لا يشترط ذلك في شهود الأصل لما تقدم ، ويشترط في شهود الفرع ، نظراً لعين ما شهدوا به ، وهو شهادة الأصول ، وأن ذلك ليس بمال ، ولا المقصود منه المال ، ويتفرع على ذلك أنه لو شهد رجلان على رجل وامرأتين ، جاز على الثانية والثالثة ، دون الأولى ، ولو شهد رجل وامرأتان على الثانية والثالثة ، دون الأولى ، ولو شهد رجل وامرأتان على مثلهم ، أو على رجلين ، لم يجز على الأولى ، وكذا على الثالثة ، وجاز على الوسطى انتهى . وقد علم من تعليل ما تقدم وهو لأبي محمد أن المرأة لا تكون فرعاً إلا فيما يقبل فيه شهادة النساء منفردات أو مع الرجال ، وحكى ابن حمدان ذلك قولاً ، والذي قدمه وهو مقتضى إطلاق أبي البركات وغيره جواز كونها فرعاً مطلقاً .
قال : ويشهد على من سمعه يقر بحق ، وإن لم يقل للشاهد : أشهد علي .
ش : هذا يشمل الإقرار بحق في الحال ، كقوله : له علي كذا ، والإقرار بسابقة الحق ، كقوله : أقرضني ، أو كان له علي ، أو كان له علي وقضيته ، إذا جعلناه إقراراً ، وهذا إحدى الروايات عن الإمام ، نقلها ابن منصور ، وهو المذهب عند أبي محمد ، لعموم [ ب 2 ] 19 ( { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } ) [ ب 1 ] وغير ذلك ، والشاهد هنا قد حصل له العلم بسماعه ، فجاز له أن يشهد به ، كما لو حصل له العلم بالرؤية ( والرواية الثانية ) لا يجوز له أن يشهد بذلك مطلقاً ، نقلها بكر بن محمد ، واختارها أبو بكر ، لجواز أن يكون قال ذلك على سبيل الممازحة ، لا على سبيل الحقيقة ، وكما في الشهادة على الشهادة ( والرواية الثالثة ) أنه إن أقر بحق في الحال شهد به ، زأن أقر بسابقة الحق لم يشهد به ، نقلها أبو طالب ، واختارها أبو البركات ، لأن المقر بحق في الحال معترف به ، فالشاهد يجزم تبعاً لإقراره بأنه عليه ، والمقر بسابقة الحق لا يلزم منه أنه عليه ، لأنه يجوز أن يكون وفّاه ، فالشاهد لا يجزم بأنه عليه ( والرواية الرابعة ) يخير الشاهد في الشاهد في الشهادة والحال ما تقدم ، ولا يجب عليه ذلك ، نقلها أحمد بن سعيد لأن وقوع الخلاف شبهة درأت الوجوب ، وتورع ابن أبي موسى فقال في القرض ونحوه : ولا يشهد به لما تقدم وفي الإقرار بحق في الحال يقول : حضرت إقرار فلان فكذا ، ولا يقول : أشهد على إقراره . فعلى الأولى لو قال التحاسبان للشاهدين : لا تشهدا علينا بما يجري بيننا . فهل يمنع ذلك الشهادة ، أو لا يمنع ويلزم إقامتها ، وبها قطع أبو محمد في المغني ؟ على روايتين .
والخرقي رحمه اللَّه لم يذكر إلا الإقرار ، وبقي عليه سماع الحكم ، وغير ذلك من العقود ، والطلاق ، ونحو ذلك مما مرجعه القول ، أما سماع الحكم ففيه الروايات الثلاث الأول المبدوء بهن في الإقرار ، وأما الطلاق والعقود ونحو ذلك فيشهد به ، وإذا شهد بذلك فالأولى أن يشهد على الأفعال ، وقد حكى القاضي في الأفعال روايتين أيضاً ( إحداهما ) لا يشهد بها حتى يقول له المشهود عليه : اشهد . ( والثانية ) يشهد ، قال أبو محمد : فإن أراد بذلك العموم لم يصح ، لأدائه إلى منع الشهادة عليه بالكلية ، إذ الغاصب لا يستشهد أحداً على غصبه ، وكذا السارق ونحوهما ، ثم إن أبا بكرة وأصحابه لما شهدوا على المغيرة لم يقل عمر رضي اللَّه عنه : هل أشهدكم على ذلك ؟ قال : وإن أراد الأفعال التي تكون بالتراضي ، كالقبض في الرهن ، والقبض والتفرق في البيع ، ونحو ذلك جاز . ( قلت ) : وإذا جرى الخلاف في ذلك فينبغي جريانه في الطلاق والعقود ونحو ذلك ، وكلام أبي البركات الجزم بالشهادة بذلك ، ويحتمل أن يريد القاضي بالأفعال الشهادة على الإقرار بالأفعال . واللَّه أعلم .
قال : وتجوز شهادة المستخفي إذا كان عدلاً .
ش : هذا أحد نوعي الشهادة على المقر ، وإن لم يشهده على ما سمعه ، والخلاف فيه كالخلاف فيه ثم ، ومختار أبي بكر إنما هو واللَّه أعلم مصرح به هنا ، وتبعه ابن أبي موسى على مختاره ، وإنما قال الخرقي : إذا كان عدلاً . لئلا يتوهم أن هذا يدخل تحت قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { ولا تجسسوا } ) [ ب 1 ] فيكون مرتكباً للنهي ، فيمنع من الشهادة لذلك ، فأشار إلى أن هذا التجسس غير ممنوع منه للحاجة الداعية ، وإنما المشترط العدالة ، لأنها تمنع من التجسس في غير ذلك ، والمستخفي يشمل المستخفي في كل ما سمعه أو حضره ، واللَّه أعلم .
كتاب الأقضية

قال : وإذا هلك رجل وخلف ولدين ومائتي درهم ، فأقر أحدهمابمائة درهم ديناً على أبيه ، إلا أن يكون المقر عدلاً فيشاء الغريم أن يحلف مع شهادة الابن ، ويأخذ مائة ، وتكون المائة الباقية بين الابنين .
ش : وضع هذه المسألة إذا أقر بعض الورثة بدين على مورثهم ، فإن عندنا يلزمه من الدين بقدر إرثه ، ففي مسألة الخرقي إرثه النصف ، فيلزمه نصف الدين ، ولو كان إرثه الثلث ، لزمه ثلث الدين ، ولو كان إرثه الثمن كما لو كان المقر والحال ما تقدم زوجة ، لزمها ثمن الدين وعلى هذا ، لأن إقراره تضمن أن المقر له يستحق من أصل التركة هذا المبلغ ، وفي يده مثلاً نصفها ، فيلزمه نصفه ، وأن إقراره تضمن حقاً عليه وحقاً على غيره ، فيسمع على نفسه ، ولم يسمع على غيره ، فإن كان المقر عدلاً فالغريم مخير ، إن شاء اسشهده على ذلك ، فإذا أتى بلفظ الشهادة حلف مع شهادته واستحق الباقي ، إذ لا تهمة في حق المقر ، لأنه لا يجر إلى نفسه بالشهادة نفعاً ، ولا يدفع بها ضرراً والحال هذه ، وإن شاء لم يستشهده ، واقتصر على ما حصل له بالإقرار ، ولو كان المقر عدلين فأكثر وشهدا بذلك ، ثبت الدين بشهادتهما ، ولزمه قضاؤه من أصل التركة .
واعلم أن في كلام كثير من الأصحاب في المسألة تساهلاً يعرف مما أصَّلوه ، وهو أن قولهم : يلزمه من الدين بقدر إرثه . يشمل ما لو كان الدين المقر به مثلاً ألف درهم ، وإرثه النصف ، وهو مائة درهم ، فإن إطلاقهم يقتضي أنه يلزمه خمسمائة درهم لأنها قدر إرثه ، وليس كذلك ، وإنما تركوا التنبيه على ذلك لأنه أصّلوا أولاً أن الدين إنما يلزم قضاؤه من التركة ، ولا يلزم الورثة شيء زائد عليها . واللَّه أعلم .
قال : وإذا هلك رجل عن ابنين ، وله حق بشاهد ، وعليه من الدين ما يستغرق ماله ، فأبى الوارثان أن يحلفا مع الشاهد ، لم يكن للغريم أن يحلف مع شاهد الميت ويستحق .
ش : إنما لم يكن للغريم الذي هو صاحب الدين أن يحلف مع الشاهد ويستحق ، لأن الحق ليس له ، إنما هو للميت أو للورثة ، فأشبه ما لو لم يستغرق حقه الدين ، وقد أشعر كلام الخرقي بأنه لا يجب على الورثة أن يحلفوا ، وهو كذلك ، لأنهم قد يقوم عندهم شبهة تمنعهم من اليمين ، والإنسان لا يجب عليه أن يضر نفسه لنفع غيره .
وقوله : فأبى الوارثان أن يحلفا . يعلم منه أن الحق لا يثبت إلا بيمين جميع الورثة ، وهو كذلك ، نعم إذا حلف بعضهم ثبت له من الحق بقدر إرثه ، ولا يشاركه فيه صاحبه ، ويتعلق به من الدين بقدر ما ثبت له .
قال فإن حلف الوارثان مع الشاهد حكم بالدين ودفع إلى الغريم .
ش : هذا مبني على ما تقدم من أن الحقوق المالية تثبت بشاهد ويمين الطالب ، وإذاً إذا حلف الورثة مع الشاهد حكم بالدين ، فصار تركة ، ودفع إلى الغريم ، لوجوب قضاء الدين قبل الإرث والوصية .
واعلم أن في كلام الخرقي ما يشعر بأن الدين يمنع نقل التركة إلى الورثة لأنه قال أولاً : ولو هلك رجل عن ابنين وله حق بشاهد . إلى آخر المسألة ، فأضاف الحق إلى الميت ، والأصل في الإضافة الحقيقية ، وقد اختلفت الرواية في هذه المسألة ، والمنصوص المشهور المختار للأصحاب إن الدين لا يمنع نقل التركة إلى الورثة ( وعن أحمد ) رواية أخرى أنه يمنع في قدره ، وعلى هذه يكون نماء التركة حكمه حكمها ، وما تحتاج إليه من المؤونة منها ، ولا يصح تصرفهم فيها ، لعدم ملكهم لها ، وعلى المذهب هل يصح تصرفهم فهيا ؟ فيه خلاف مبني على أن تعلق حق الغرماء بالتركة هل هو كتعلق حق المرتهن بالرهن ، وهو الذي ذكره القاضي في تعليقه في الزكاة في موضعين استطراداً ، فعلى هذا لا يصح تصرفهم ، أو كتعلق حق المجني عليه بالعبد الجاني ؟ وهو الذي أورده أبو محمد في المغني مذهباً ، وقال ابن حمدان : إنه الأقيس ، وعلى هذا يصح تصرفهم ، ثم إن قضوا الدين وإلا نقض ، قاله أبو محمد في المغني ، وحكى ابن حمدان قولاً آخر على هذا القول أن الوارث لا يتصرف قبل الوفاء بدون إذن الغريم ، أو التوثيق برهن يفي بالحق ، أو كفيل مليء ، وينبني أيضاً على الخلاف في التعلق حكم النماء ، فإن قيل كتعلق المرتهن بالرهن ، تعلق الدين بالنماء ، وإن قيل كتعلق حق المجني عليه بالجاني ؛ اختصت الورثة بالنماء ، واللَّه أعلم .
قال : ومن ادعى دعوى على رجل ، وذكر أن بينته بالبعد منه فحلف المدعى عليه ، ثم أحضر المدعي بينته حكم بها ، ولم تكن اليمين مزيلة للحق .
ش : لأن البينة تبين الحق وتظهره ولعموم قول : النبي : ( البينة لمن ادعى ) وهذا قد ادعى وأقام البينة ، فيكون له ، واليمين لا تزيل الحق ، ولا تبطل الحكم بالبينة ، لأن أثرها عند عدم البينة ، أما مع وجودها فالحكم لها .
والخرقي رحمه اللَّه ذكر المسألة في البعد ، ولم يتعرض لحد البعد ، وكذا أبو محمد في المغني ، وظاهر الإطلاق يقتضي مسافة القصر ، ومقتضاه أنها لو كانت قريبة لم يكن الحكم كذلك ، فيحتمل أنه لا يملك تحليف المدعى عليه ، ويحتمل أنه إذا أحلفه ثم أحضر بينة لم يحكم بها ، و أبو الخطاب قال : إذا قال : لي بينة وأريد تحليفه . فهل يحلف له ؟ يحتمل وجهين ، وقيد في المغني الوجهين بما إذا كانت حاضرة ، وفصل في الكافي فقال : إن قال مع الحضور : أحلفوه ثم أقيم بينتي ، لم يستحلف ، وإن قال : ولا أقيمها . أحلف ، ثم هل يمكن من إقامة البينة بعد ؟ فيه وجهان ، وفصل أبو البركات تفصيلاً أخر فقال : إن كانت البينة غائبة عن البلد ملك تحليفه ، ثم إقامة البينة ، وإن كانت حاضرة في مجلس الحكم لم يملك إلا أحدهما . ( إقامة ) البينة من غير تحليف أو ( تحليفه ) ولا تسمع البينة ، وإن كانت غائبة عن المجلس حاضرة في غير مجلس الحكم فوجهان ، الذي أورده مذهباً ملكهما ، وحكى ابن حمدان فيما إذا كانت حاضرة ثلاثة أوجه ، ( يملكهما ) ( يملك ) أحدهما فقط ، ( لا يملك ) إلا إقامة البينة .
قال : واليمين التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين باللَّه عز وجل .
ش : لظاهر قوله تعالى : [ ب 2 ] 19 ( { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } ) [ ب 1 ] وقال سبحانه [ ب 2 ] 19 ( { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } ) [ ب 1 ] .
3861 وعن عبد اللَّه بن أنيس الجهني قال قال رسول اللَّه ( إن من الكبائر الإشراك باللَّه ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وما حلف حالف باللَّه يمين صبر ، فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعل اللَّه نكتة في قلبه إلى يوم القيامة ) رواه أحمد والترمذي .
3862 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه : ( من حلف باللَّه فليصدق ، ومن حلف باللَّه له فليرض ، ومن لم يرض فليس من اللَّه ) رواه ابن ماجه .
( تنبيه ) الحالف بصفات اللَّه حالف باللَّه ، فحكمه حكمه ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كان الحالف كافراً إلا أنه إن كان يهودياً قيل له : قل : واللَّه الذي أنزل التوراة على موسى ، وإن كان نصرانياً قيل له : قل : واللَّه الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، وإن كان لهم مواضع يعظمونها ، ويتقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها .
ش : يعني أن حكم الكافر حكم المسلم ، في أنه يبرأ إذا حلف باللَّه سبحانه فقط ، لإطلاق ما تقدم ، ولقول اللَّه سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { تحبسونها من بعد الصلاة ، فيقسمان باللَّه } ) [ ب 1 ] وزاد أنه إن كان يهودياً قيل له : قل واللَّه الذي أنزل التوراة على موسى .
3863 لما روي عن عكرمة أن النبي قال له يعني لابن صوريا : ( أذكركم باللَّه الذي نجاكم من آل فرعون ، وأقطعكم البحر ، وظلل عليكم الغمام ، وأنزل عليكم المن والسلوى ، وأنزل التوراة على موسى ، أتجدون في كتابكم الرجم ؟ ) قال : ذكرتني بعظيم ، ولا يسعني أن أكذبك رواه أبو داود . وإن كان نصرانياً قيل له : قل : واللَّه الذي أنزل الإنجيل على عيسى . قياساً على اليهودي .
وظاهر كلام الخرقي أن التغليظ لا يشرع إلا في حق أهل الكتاب ، لقضية النص المتقدم ، وإلى هذا ميل أبي محمد ، ويحتمل أن ميله إلى عدم مشروعيته مطلقاً ، وهو الذي أورده ابن حمدان مذهباً ، مع تصريحه بالكراهة ، لكنه استثنى القسامة واللعان ، ولا يستثنيان ، لأن صفتهما كذلك ، إذ لو لم يكرر الأيمان في القسامة واللعان ، ولو يأت باللعنة والغضب لم يجزه . والخلاف إنما هو في تغليظ زائد على المجزىء ، وجوزه أبو الخطاب وأتباعه إن رآه الحاكم ، ويتلخص ثلاثة أوجه المشروعية ، وعدمها ، والمشروعية في حق أهل الذمة فقط ، وحيث قيل به فظاهر كلام أبي البركات جوازه مطلقاً ، وكذا الخرقي ، وخصه أبو الخطاب بما له خطر كالجنايات ، والطلاق ، والحدود ، واللعان ونحو ذلك ، وكذا في المال لكنه هل من شرطه أن يبلغ نصاب الزكاة ، أو يكتفي ببلوغه نصاب السرقة ؟ فيه وجهان ، ثم إن الخرقي رحمه اللَّه ذكر التغليظ باللفظ والمكان ، والنص في اليهود إنما ورد باللفظ فقط .
3864 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي قال لرجل حلفه ( احلف باللَّه الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء ) يعني للمدعي ، رواه أبود داود وكذا وقع لأحمد في رواية الميموني ، قال : يقال للمجوسي : واللَّه الذي خلقني ورزقني ، ولم يتعرض للمكان ، وزاد أبو الخطاب على المكان الزمان ، كبعد العصر ، وبين الأذانين .
واعلم أنه لا نزاع عندنا فيما علمت في عدم الاستحباب ، وإنما النزاع في المشروعية ، وإذا لم يستحب لم يجب بلا ريب ، وقد حكي الإجماع على ذلك ، ولا عبرة بوجه حكاه بعض الشافيعة بالوجوب ، وأنكره بعضهم ، ومن ثم لو بذل الحالف اليمين باللَّه تعالى ، وأبى التعظيم والتغليظ ، لم يكن ناكلا ، ولو قيل بالاستحباب في اللفظ كان حسناً ، لحديثي عكرمة وابن عباس رضي اللَّه عنهما ، وهو ظاهر كلام الخرقي بل والإمام .
قال : ويحلف الرجل فيما عليه على البت .
ش : معنى البت القطع والجزم ، والذي عليه يشمل الإثبات كقوله : واللَّه لقد بعتك داري ، أو أقرضتك ألفاً ؛ أو لقد باعك أبي داره ، أو أقرضك ألفاً . ونحو ذلك ، والنفي كقوله : واللَّه ما اشتريت هذا العبد ، ولا له علي هذا الألف . ونحو ذلك ، والمذهب في جميع ذلك أن اليمين على الجزم والقطع ، لحديث [ ابن عباس رضي اللَّه عنها ( احلف باللَّه الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء ) وهو خرج بياناً لمجمل اليمين ، وحكي عن أحمد ( رواية أخرى ) أن اليمين في ذلك كله على نفي العلم .
3865 واستشهد له أحمد بحديث ] الشيباني ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن النبي قال : ( لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا ما لا يعلمون ) وأبو البركات خص هذه الرواية بما إذا كانت الدعوى في النفي وهو أقرب ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى في البائع يحلف لنفي عيب السلعة على نفي العلم بذلك ، لأنه فعل الغير ، واللَّه أعلم .
قال : ويحلف الوارث على دين الميت على نفي العلم .
ش : هذا مما لا أظن فيه خلافاً في المذهب ، وهو أن الحالف على فعل الغير يحلف على نفي العلم ، وعليه يحمل حديث القاسم بن عبد الرحمن ، والمعنى أنه لا يمكنه الإحاطة بفعل الغير ، بخلاف فعل نفسه .
3866 وقد روي أن رجلاً من كندة ورجلاً من حضرموت اختصما إلى رسول اللَّه في أرض من اليمن ، فقال الحضرمي : يا رسول اللَّه إن أرضي اغتصبها أبو هذا ، وهي في يده . قال : ( هل لك بينة ؟ ) قال : لا ولكن أحلفه واللَّه ما يعلم أنها أرضي ، اغتصبها أبوه ، فتهيأ الكندي لليمين ، رواه أبو داود ولم ينكر ذلك النبي ، وحكم نفي الدعوى على الغير كذلك ، كما إذا ادعى عليه أنه ادعى علي أبيه ألفا ، فأقر له بشيء فأنكر الدعوى ، ونحو ذلك ، فإن يمينه على نفي العلم على المذهب .
( تنبيه ) حيث قيل : إنها على البت لم تجزه على نفي العلم ، وحيث قيل : إنها على نفي العلم أجزأ الحلف على البت ، وكان التقدير فيه العلم ، كما في الشاهد إذا شهد بعدد الورثة ، وقال ليس له وارث غيره ، سمع ذلك وكان التقدير فيه علمه واللَّه أعلم .
قال : وإذا شهد من الأربعة اثنان أن هذا زنا بهذه في هذا البيت ، وشهد الآخران أنه زنا بها في البيت الآخر ، فالأربعة قذفة وعليهم الحد .
ش : هذا مبني على أصل أشعر به كلام المصنف ، وهو أن شهادتهم لا تكمل على ذلك ، وهو المذهب بلا ريب ، لأن أحد الفريقين كاذب ولا بد ، إذ لا يمكن أن يكون زنا واحداً في موضعين ، ولأنهما لما تعارضا تساقطا ، وصارا كالعدم ( وعن أحمد ) رواية أخرى واختارها أبو بكر تكمل شهادتهم ، لأنهم جاءوا أربعة على زنا واحد ، فدخلوا تحت قوله سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء } ) [ ب 1 ] ونحو ذلك ، وقد استبعد أبو الخطاب هذه الرواية ، وجعلها غلطا ، وعليها يحد المشهود عليه ، ولا حد على الشهود فهل هم قذفة فيجب عليهم الحد وهو الذي قاله الخرقي ، وهو المذهب أم لا فلا حد عليهم ؟ على روايتين ، ولعل مبناهما على الخلاف في مجيء القاذف مجيء الشاهد ، هل يندفع عنه الحد بذلك ، أم لا وفيه شيء انتهى .
وحكم الاختلاف في البلد واليوم حكم الاختلاف في الموضع .
( تنبيه ) محل الخلاف في أصل المسألة إذا شهدوا بزنا واحد ، أما إن شهدوا بزنائين ، فلا ريب أن الشهادة لا تكمل ، وأن الشهود قذفة ، إذ لا يمكن جعل الفعلين فعلاً واحداً ، كذا حققه أبو البركات .
ومقتضى كلام أبي محمد جريان الخلاف وإن شهدوا بزنائين ، وليس بشيء .
قال : ولو جاء الأربعة متفرقين ، والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبلت شهادتهم ، فإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد .
ش : قد تقدمت هذه المسألة في الحدود فلا حاجة إلى إعادتها .
قال : ومن حكم بشهادتهما بجرح أو بقتل ثم رجعا فقالا عمدنا . اقتص منهما ، وإن قالا : أخطأنا ، غرما الدية أو أرش الجرح .
ش : أما إذا حكم بالشهادة واستوفي فلا شيء على المشهود له ، كما تضمنه كلام الخرقي ، وأما الشهود فإن رجعوا وقالوا : عمدنا القتل بذلك ، اقتص منهما ، لأن هذا سبب قوي يفضي إلى القتل غالباً ، أشبه المباشرة بالقتل .
3867 وقد روى سعيد في سننه فيما أظن أن علياً رضي اللَّه عنه شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه ، ثم عادا وقالا : أخطأنا ليس هذا هو السارق . فقال رضي اللَّه عنه : لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما .
وإن قالا : أخطأنا وظننا أن هذا هو اقاتل ، وليس هو القاتل ، فعليهما الدية إن كان المشهود به مما تجب به الدية ، أو أرش الجرح إن كان دون ذلك ، لأن قولهما محتمل ، وهو مما لا يعلم إلا من جهتهما ، ولا شيء على العاقلة ، لأن ذلك ثبت باعترافهما ، وإن قالا : عمدنا الشهادة عليه ، ولم نعلم أنه يقتل بمثل هذا . وهما ممن يجهلان ذلك فكما تقدم ، ولكن تكون دية ذلك دية شبه العمد ، لقصدهما الجناية ، أمّا إذا حكم بالشهادة ولم تستوف ثم رجعوا فالمذهب المجزوم به عند أبي محمد في مغنيه وأورده أبو البركات مذهباً أنه لا يستوفي ، لأن الرجوع والحال هذه شبهة ، والعقوبات تدرأ بالشبهات ، وقيل ويحتمله كلام الخرقي إن كان الحق لآدمي استوفى ، لأن الحق تعلق بالحكم فلا يسقط بالرجوع كما في المال ، والحكم في الشهود كما تقدم .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لو لم يحكم بالشهادة لم يكن الحكم كذلك وهو صحيح ، إذ لا يجوز الحكم ، وتلغى الشهادة ، لأن الشهادة شرط الحكم ، وقد زالت قبله ، فأشبه ما لو فسقوا انتهى ، وحكم الد فيما تقدم حكم القود ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كانت شهادتهما بمال غرماه .
ش : لأنهما أقرا أنهما حالاً بينه وبين ماله بغير حق ، فأشبه ما لو أتلفاه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يرجع به على المحكوم له ، سواء كان المال قائماً أو تالفاً .
ش : لأن المحكوم له حقه وجب بالحكم ، فلا يسقط بقولهما ، إذ ليس قولهما الثاني بأولى من الأول ، وفارق إذا بانا كافرين ، لتبين زوال شرط الحكم وهو العدالة ، وهنا لم يتبين ، لجواز كونهما عدلين في شهادتهما ، وإنما كذبا في رجوعهما ، وكلام الخرقي يشمل ما إذا قبض المال ، وما إذا لم يقبض ، وهو كذلك ، ومن ثم قلنا إن ظاهر كلام الخرقي أن القود يستوفي إذا كان الرجوع بعد الحكم واللَّه أعلم .
قال : وكذلك إن كان المحكوم به عبداً أو أمة غرماً قيمته .
ش : العبد والأمة مال من الأموال ، فيجري عليهما حكم المال ، ثم تارة يشهدان بعتق ذلك ، وتارة يشهدان به لشخص ، والحكم فيهما واحد ، وكأن الخرقي إنما أفرد ذلك عن بقية الأموال ليبين أن الواجب فيه قيمة لا مثل ، ومتى كان الرجوع في جميع ذلك قبل الحكم لغت الشهادة كما تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا قطع الحاكم يد السارق بشهادة اثنين ، ثم علم أنهما كافران أو فاسقان ، كانت دية اليد في بيت المال .
ش : هذا مبني على أن خطأ الحاكم والإمام في بيت المال ، لأنه وكيل عن المسلمين ، ونائب منابهم ، فكان خطؤه عليهم ، كالأجير الخاص خطؤه في حق مستأجره عليه ، ولأن خطأهما يكثر لكثرة الخاص خطؤه في حق مستأجره عليه ، ولأن خطأهما يكثر لكثرة تصرفاتهما ، فإيجابه على عاقلتيهما يفضي إلى حرج ومشقة ، وإنهما منفيان شرعاً ، وهذا إحدى الروايتين . ( والرواية الثانية ) أن خطأهما على عاقلتيهما كغيرهما .
3868 ويشهد له ما روي عن عمر رضي اللَّه عنه أن امرأة ذكرت عنده بسوء فأرسل إليها فأجهضت جنينها ، فبلغ ذلك عمر رضي اللَّه عنه ، فشاور الصحابة فقال بعضهم : لا شيء عليك ، إنما أنت مؤدب . وقال علي رضي اللَّه عنه : عليك الدية . فقال عمر رضي اللَّه عنه : عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها على قومك . يعني قريشاً لأنهم عاقلته .
وقد تضمن كلام الخرقي أنه لا شيء على الشهود وهو كذلك ، لأنهما مقيمان على أنهما صادقان ، وإنما الشرع منع من قبول شهادتهم ، وبذلك فارقوا الراجعين ، لاعترافهم بالكذب ، واعلم أن كلام الخرقي ( مبني ) على أن الحكم ينقض والحال هذه ( وعن أحمد ) رواية أخرى : لا ينقض إذا بانا فاسقين ، وإذاً لا ضمان ، ( ومبني ) أيضاً على أنه لا تزكية له ، أما إن كان ثم تزكية فهل الضمان على المزكين ، لأنهم الذين ألجؤا الحاكم إلى الحكم ، وهو اختيار أبي محمد ، أو على الحاكم على ما تقدم ، وهو قول القاضي ، وظاهر إطلاق الخرقي ، أو على أيهما شاء المستحق ، والقرار على المزكين ، أو على الشهود ، وقول أبي الخطاب في خلافه الصغير ؟ ( على أربعة أقوال ) والحكم فيما إذا بان الشهود عبيداً حكم ما إذا بانوا كفاراً عند أبي محمد في مغنيه ، وقال أبو البركات : للحاكم والحال هذه نقضه إذا كان لا يرى قبولهم في ذلك ، وعلى هذا إن لم ينقضه فلا ضمان ، وإن نقضه كان ما تقدم .
( تنبيه ) لو كان المحكوم به قوداً ثم بان ما تقدم ، فمقتضى كلام أبي محمد في مغنيه أن الحكم كذلك ، وقال أبو البركات : يرجع ببدل القود المستوفى على المحكوم له .
قال وإذا ادعى العبد أن سيده أعتقه ، وأقام شاهداً حلف مع شاهده وصار حراً .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر ، والرواية الثانية لا يثبت إلا بشاهدين ، اختارها الشريف أبو الخطاب في خلافيهما ، وغيرهما ، واختلف اختيار القاضي ، فتارة اختار الأول ، وتارة اختار الثاني ، كأنه آخر قوليه ، ومنشأ الخلاف أن من نظر إلى أن العتق إتلاف مال في الحقيقة قال بالأول كبقية الإتلافات ، ومن نظر إلى أن العتق نفسه ليس بمال ، وإنما المقصود به تكميل الأحكام قال بالثاني : وصار كذلك كالطلاق والقصاص ونحوهما ، واللَّه أعلم .
قال : ومن شهد شهادة زور أدب ، وأقيم للناس في المواضع التي يشتهر بها أنه شاهد زور إذا تحقق تعمده لذلك .
3869 ش : أما أدبه فاتباعا لعمر رضي اللَّه عنه ، ولأنه أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة ، تضر بالناس ، فأشبه السب بل ولى ، ويؤدب بما يراه الحاكم من جلد أو حبس ، أو كشف رأس ونحو ذلك ، وأما قيامه للناس في المواضع التي يشتهر فيها فليعرفه الناس فيجتنبوه ، فيأتى به في سوقه أو في قبيلته ونحو ذلك ، فيطاف به ويقال : هذا شاهد زور فاجتنبوه . وهذا كله إذا تحقق تعمده لشهادة الزور ، وذلك إما بإقراره أو بما يلزم ذلك منه قطعاً ، بأن يشهد على رجل بعقد في مصر ، ويعلم أنه في ذلك الوقت في الشام ، أو يشهد بقلت رجل وهي حي ونحو ذلك ، أما إذا لم يتحقق كما في تعارض البينتين ، أو ظهور فسق ونحو ذلك فلا ، لأن الفاسق قد يكون صادقاً ، والتعارض لا يعلم به كذب إحدى البينتين بعينها .
وقد علم من كلام الخرقي أن شهادة الزور حرام ، ولا ريب في ذلك ، بل هي من أعظم الكبائر أو أعظمها ، وقد قرنها اللَّه في ذلك ، بل هي من أعظم الكبائر أو أعظمها ، وقد قرنها اللَّه سبحانه بالأوثان فقال : [ ب 2 ] 19 ( { فاجتنبوا الرجس من الأوثان ، واجتنبوا قول الزور } ) [ ب 1 ] .
3870 وفي الصحيحين عن أنس رضي اللَّه عنه قال : ذكر لرسول اللَّه الكبائر ، أو ذكر الكبائر فقال : ( الشرك باللَّه ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ) وقال ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قول الزور ، أو قال شهادة الزور ) .
3871 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه : ( لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب اللَّه له النار ) رواه ابن ماجه . وكيف لا يكون كذلك وهو من الساعين في الأرض بالفساد ، بل هو أعظم من المحاربين ، لإمكان الاحتراز منهم ، وهذا لا يمكن الاحتراز منه ، وعلى هذا فينبغي المبالغة في تعزيره بما يردعه ويكف شره ، ولكي يرتدع أمثاله ، والله أعلم .
قال : وإن غير العدل شهادته بحضرة الحاكم ، فزاد فيها أو نقص قبلت منه ما لم يحكم بشهادته .
ش : وذلك بأن يقول فيما إذا شهد بمائة ثم قال : بل هي مائة وعشرة ؛ أو بل هي خمسون ونحو ذلك ، وذلك لاحتمال دخول السهو والغلط عليه الذي لا يسلم منه إنسان ، والفرض أنه عدل غير متهم ، فقبلت زيادته أو نقصه ، كما لو تم على الأولى ، وقوله : ما لم يحكم بشهادته . احترازاً مما إذا حكم بها فإنه لا تقبل زيادته ولا نقصه ، لثبوت الحق الحكم ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا شهد شاهد بألف ، وآخر بخمسمائة حكم لمدعي الألف بخمسمائة ، وحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى إن أحب .
ش : أما كونه يحكم لمدعي الألف بخمسمائة فلحصول الاتفاق عليها من الشاهدين ، وأما بكونه يحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى إن أحب فمبني على الحكم بشاهد ويمين وقد تقدم ذلك ، وهذا مع الإطلاق كما صورة الخرقي ، أو مع الاتفاق على السبب أو الصفة ، أما مع الاختلاف ، كأن يشهد أحدهما بألف من قرض ، والآخر بخمسمائة من ثمن مبيع ، أو أحدهما بألف بيض ، والآخر بخمسمائة سود ونحو ذلك ، فإن البينة لا تكمل على شيء ، ويكون للمدعي بما ادعاه منهما شاهد واحد ، فيحلف معه إن أحب ، واللَّه أعلم .
قال : ومن ادعى شهادة عدل فأنكر العدل أن تكون عنده ، ثم شهد بها بعد ذلك ، وقال : كنت قد أنسيتها . قبلت منه . ولم ترد شهادته .
ش : لأن الفرض أنه عدل ، وما ادعاه من النسيان محتمل ، فلا يرد قوله مع احتمال صدقه ، وعدم تحقق قادح في عدالته .
قال : ومن شهد شهادة تجر إلى نفسه نفعاً بطلت شهادته في الكل .
ش : وذلك بأن يشهد على زيد بدار له ولعمرو ، ونحو ذلك ، لأنها شيء واحد ، فإذا بطل بعضه بطل كله ، إذ الشيء يفوت بفوات جزئه ، وخرج أبو محمد قولاً آخر أن البطلان يختص بما هو متهم فيه ، قال : من قولنا في عبد بين ثلاثة ، اشترى نفسه منهم بثلاثمائة درهم ، فادعى أنهم قبضوها منه ، فأنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئاً ، فأقر له اثنان وشهدا على المنكر بالقبض ، فإن شهادتهما تقبل عليه في عتق حصته ، وبراءة المكاتب منه على المنصوص ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا مات رجل وخلف ابنا وألف درهم ، فادعى رجل على الميت ألف درهم ، فصدقة الابن ، وادعى آخر مثل ذلك وصدقة الابن ، فإن كان في مجلس واحد كانت الألف بينهما ، وإن كانا في مجلسين كانت الألف للأول ، ولا شيء للثاني .
ش : وضع هذه المسألة إذا مات رجل وخلف وارثاً وتركة ، فأقر الوارث لشخص بدين على مورثه يستغرق التركة ، ثم أقر لآخر ، فإن كان في مجلسين فهي للأول بالإقرار ، ولا شيء للثاني ، لأنه إقرار على الغير وإنه غير مقبول ، ولأن إقراره الأول منع من تصرفه في التركة تصرفاً يضر بالأول ، فلم يقبل إقراره عليه ، كإقرار الراهن بجناية عبده المرهون ، وإن كان في مجلس واحد فهل هي للأول لتعلق حقه بمجرد الإقرار له ، أو يتشاركان فيها وهو قول الخرقي ، وجزم به أبو محمد ، لأن حال المجلس كحالة العقد ، فهو كما لو أقر لهما معاً ، أو إن تواصل الإقراران تشاركا وإلا اختص الأول بها ، وهو ظاهر كلام أحمد وهو حسن ؟ على ثلاثة أقوال .
( تنبيه ) لو كان الإقرار بعين التركة أولاً ، ثم أقر بها ثانياً ، فإنها تكون للأول ثم يغرمها للثاني ، لأنه حال بإقراره بينه وبينها .
قال : وإذا ادعى على مريض دعوى فأومأ برأسه أي نعم لم يحكم بها عليه حتى يقول بلسانه .
ش : ملخصه أنه لا يصح الإقرار بالإشارة من الناطق ، وإن عجز عن الكلام في الحالة الراهنة ، لأنه ناطق بالقوة ، فأشبه الناطق بالفعل ، ويخرج لنا صحة إقرار من اعتقل لسانه ، وأيس من نطقه ، كما في لعانه في وجه ، وتعليل أبي محمد يقتضيه ، لأنه علل المسألة بأنه غير ميؤس من نطقه ، فأشبه الصحيح ، وقوله : على مريض : يخرج الصحيح ، وهو على ضربين ، من لا يصح إقراره بالإشارة بلا ريب ، وهو القادر على النطق ، ومن يصح إقراره بالإشارة إن فهمت وهو الأخرس ، واللَّه أعلم .
قال : ومن ادعى دعوى وقال : لا بينة لي . ثم أتى بعد ذلك ببينة لم تقبل ، لأنه مكذب لبينته .
ش : هذا منصوص أحمد ، وبه جزم أبو الخطاب في الهداية ، وأبو محمد في مغنيه وكافيه ، وغيرهما ، لما علل به الخرقي من أنه مكذب لبينته ، لإخباره بأنه لا بينة له ، وقيل وهو احتمال لأبي محمد في المقنع يقبل سواء أحلفه الحاكم أو لم يحلفه ، لاحتمال أن تكون البينة سمعت ذلك من غير أن يعلم ، فأشبه ما لو قال : لا أعلم لي ببينة . أو لاحتمال أن يكون قال ذلك عن نسيان ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا شهد الوصي على من هو موصى عليهم قبلت شهادته .
ش : هذا واللَّه أعلم اتفاق ، لأنه غير متهم في ذلك ، وقد يخرج عدم القبول من رواية عدم قبول شهادة عمودي النسب بعضهم على بعض ، واللَّه أعلم .
قال : وإن شهد لهم لم تقبل إذا كانوا في حجره .
ش : لأنه متهم في ذلك ، لجواز ذلك عند الحاجة إليه ، ولأنه هو الذي يخاصم لهم ، فلم تقبل شهادته لهم ، كما لو شهد لنفسه ، وقوله : إذا كانوا في حجرة . يحترز عما لو شهد لهم بعد زوال ولايته عنهم ، فإن شهادته إذاً تقبل لزوال المقتضي للمنع ، والحكم في أمين الحاكم يشهد ليتيم تحت ولايته كالحكم في الوصي سواء ، ونص الخرقي على هذه المسألة يؤيد أن قوله ثم : ولا تقبل شهادة خصم . أن مراده العدو .
قال : وإذا شهد من يخنق في الأحيان قبلت شهادته في حال إفاقته .
ش : حكى ابن المنذر هذا إجماعاً ممن يحفظ عنه من أهل العلم ، ويشهد له أن الاعتبار في الشهادة بحال أدائها ، بدليل الصبي إذا كبر ، وهذه العبارة تشعر بأن الغالب عليه الإفاقة ، وهي عبارة الشيخين ، ونحوها عبارة ابن حمدان قال : تقبل ممن يصرع في شهر مرتين . قال : وقيل ممن ، يخنق أحياناً في حال إفاقته ، وكل هؤلاء لم يشترطوا أن يتحمل حال إفاقته ، بل التعليل السابق وهو لأبي محمد يقتضي عدم اشتراط ذلك ، وفيه نظر .
قال : وتقبل شهادة الطبيب العدل في الموضحة ، إذا لم يقدر على طبيبين ، وكذلك البيطار في داء الدابة .
ش : هذا منصوص أحمد ، للحاجة الداعية إلى ذلك ، إذ لا يمكن كل أحد أن يشهد به ، بل يختص بنوع خاص ، فأشبه العيوب تحت الثياب ، وكذلك الحكم في كل ما يختص بمعرفته الأطباء ، واللَّه سبحانه أعلم .
كتاب الدعوى والبينات

ش : الدعوى قال ابن عقيل الطلب ، قال اللَّه سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { ولهم ما يدعون } ) [ ب 1 ] وزاد ابن أبي الفتح عليه : زاعماً ملكه ، وكأنهما يريدان لغة ، وقال أبو محمد في المغني : الدعوى أي في اللغة إضافة الإنسان إلى نفسه شيئاً ملكاً أو استحقاقاً أو صفة أو نحو ذلك ، قال : وفي الشرع إضافته إلى نفسه استحقاق شيء في يده غيره أو في ذمته ، والمدعى عليه من يضاف إليه استحقاق شيء عليه ، وقيل : المدعي من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره ، أو إثبات حق في ذمته ، والمدعى عليه من ينكر ذلك . وهو قريب من الذي قبله ، وقال الشيخان في مختصريهما : المدعي من إذا سكت ترك . قال ابن حمدان وقيل : مع إمكان صدقه . ولا بد من هذا القيد والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك . وقد يكون كل من الخصمين مدعياً ومدعى عليه ، كما في الاختلاف في قدر الثمن .
3872 والأصل في الدعوى قول النبي : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ) متفق عليه . وشرط المدعي والمدعى عليه التكليف والرشد ، وجواز التبرع ، قاله ابن حمدان ، وهو أخص من قول أبي محمد : ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف ، واللَّه أعلم .
قال : ومن ادعى زوجية امرأة فأنكرته ، ولم تكن له بينة ، فرق الحاكم بينهما ولم تحلف .
ش : إذا ادعى إنسان زوجية امرأة فلا يخلو إما أن تقر له أو تنكر ، ( فإن أقرت ) له فهل يسمع إقرارها ؟ وهو ظاهر كلام الخرقي ، وصححه أبو البركات ، لأنها غير متهمة في ذلك ، لتمكنها من إنشاء العقد بشروط ، أو لا يسمع إقرارها ؟ لأن ذلك مما لا يستباح بالبذل ، وهو مفتقر إلى شرائطه ولم يعلم حصولها ، أو إن ادعى زوجيتها واحد قبل ، لأنه لا معارض له ، وإن ادعاها اثنان لم تقبل للمعارضة ، وهي التي قطع بها في المغني ، مع أنه حكى الخلاف في مختصره ؟ ( على ثلاث روايات ) ( وإن أنكرته ) وثم بينة عمل بها بلا ريب ، وإن لم يكن بينة فرق بينهما ، لعدم ثبوت الزوجية ، ولم تحلف الزوجة على المذهب المشهور المعروف ، حتى قال أبو محمد : إنه رواية واحدة ، لأنه مما لا يباح بالبذل ، فلم تستحلف فيه كالحد ( وعنه ) ما يدل على الاستحلاف فيه ، وجعله أبو محمد تخريجاً ، لعموم ( ولكن اليمين على المدعى عليه ) فعلى هذه هل يقضى فيه بالنكول ؟ على روايتين .
( تنبيه ) إطلاق الخرقي يقتضي أن من ادعى الزوجية سمع منه وإن لم يذكر شرائط النكاح ، وهو قويل قاله في المقنع تبعاً للهداية ، لأنه نوع ملك ، فأشبه ملك العبد ونحوه على المذهب ، والمذهب وبه جزم في المغني وأبو البركات وغيرهما أنه لا بد من ذكر شروط كثيرة ، وبهذا فارق غيره من الأملاك ، واللَّه أعلم .
قال : ومن ادعى دابة في يد رجل فأنكره ، وأقام كل منهما بينة ، حكم بها للمدعي ببينته ، ولم يلتفت إلى بينة المدعى عليه ، لأن النبي أمر باستماع بينة المدعي ، أو يمين المدعى عليه ، وسواء شهدت بينة المدعي أنها له ، أو قالت : ولدت في ملكه .
ش : إذا ادعى إنسان دابة أو شيئاً في يد إنسان ، فإن أقر له فلا كلام ، وإن أنكره وأقام كل واحد منهما بينة بالمشهور من الروايات والمختار للأصحاب تقديم بينة المدعي مطلقاً ، لما استدل به الخرقي من أن النبي أمر باستماع بينة المدعي ، أو يمين المدعى عليه .
3873 فعن الأشعث بن قيس قال : كان بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول اللَّه فقال : ( شاهداك أو يمينه ) مختصر متفق عليه .
3874 وعن وائل بن حجر قال : جاء رجل من حضرموت ، ورجل من كندة إلى رسول اللَّه فقال الحضرمي : يا رسول اللَّه إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي ، فقال الكندي : هي أرضي وفي يدي ، أزرعها ، ليس له فيها حق . فقال النبي للحضرمي ( ألك بينة ؟ ) قال : لا . قال : ( فلك يمينه ) مختصر رواه مسلم وغيره . وظاهر هذا أنه جعل البينة للمدعي مطلقاً .
3875 ويرشحه ما روي أيضاً في الحديث ( البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه ) وظاهر هذا الحصر ، وأيضاً فإن شهادة المدعى عليه يجوز أن يكون مستندها اليد والتصرف ، فتصير بمنزلة اليد المفردة ، وإذاً تقدم بينة المدعي ( وعنه ) رواية ثانية ، تقدم بينة المدعى عليه مطلقاً ، أثبتها أبو الخطاب وأتباعه ، ونفاها القاضي ، لأن البينتين لما تعارضتا تساقطتا وصارا كمن لا بينة لهما ، وإذاً القول قول المدعى عليه ، أو يقال : لما تعارضتا ترجحت بينة المدعى عليه ، [ لموافتها الأصل ( وعنه ) رواية ثالثة : تقدم بينة المدعي إلا أن تختص بينة المدعى عليه ] بسبب ، كأن تشهد بأنها له ، نتجت في ملكه . أو أقطعها له الإمام ونحو ذلك ، أو سبق ، كأن تشهد بأنها له منذ سنتين ، وتقول بينة المدعي : منذ سنة . فتقدم بينة المدعي عليه ، لأنه بذلك يزول أن مستند البينة اليد .
3876 ولما روي عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما أن النبي اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير ، وأقام كل واحد منهما البينة ، أنها له أنتجها ، فقضى بها رسول اللَّه للذي هي في يده . إلا أن أحمد قال في رواية محمد بن الحكم : أصحاب أبي حنيفة يروون في النتاج حديثاً ضعيفاً ، لم يجب الأخذ به ( وعنه ) رواية رابعة عكس الثالثة ، تقدم بينة المدعى عليه إلا أن تختص بينة المدعي بسبب أو سبق ، وعلى هاتين الروايتين هل يكفي مطلق السبب ، كالشراء ، أو الهبة ونحو ذلك ، أو لا بد من إفادته للسبق كالنتاج والإقطاع ؟ على رواتين ، وللمسألة تفاريع أخر ليس هذا موضعها .
واعلم أن بينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل ، وبينة المدعي تسمى بينة الخارج ، لأنه جاء من خارج ، ينازع الداخل ، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يمين على المدعي مع البينة ، وهو كذلك ، وكذلك لا يمين على المدعى عليه إن قدمت بينته ، والخرقي رحمه اللَّه لم يتعرض لما اختص أحدهما بالبينة لوضوحه ، ولا ريب أن يحكم له بذلك ، لأن البينة تبين الحق وتوضحه ، ثم إن كانت البينة للمدعي فلا يمين عليه ، قال أبو محمد : بغير خلاف في المذهب . ثم قال : قال أصحابنا : ولا فرق بين الحاضر والغائب ، والحي والميت ، والصغير والكبير والمجنون ، والمكلف ، وقال الشافعي : إن كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه حلف المشهود له أنه لم يقض ، ولم يبر لتزول الشبهة ، وهذا حسن . انتهى ، وهذا عجيب ، فإن في مختصره ومختصر غيره أن الدعوى إذا كانت على غير حاضر أو غير مكلف وثم بينة حكم بها ، وهل يحلف المدعي مع بينته أنه لم يقض ولم يبر ؟ على روايتين وهذه هي المسألة بعينها ، فكيف يقول : بلا خلاف في المذهب . وأن الأصحاب لم يفرقوا بين الحاضر وغيره ، ولا بين المكلف وغيره . انتهى . وإن كانت البينة للمدعى عليه فلا يمين عليه على المذهب ، وفيه احتمال لأبي محمد ، لاحتمال أن يكون مستند البينة اليد والتصرف ، فيصير وجودها كالعدم ، واللَّه أعلم .
قال : ولو كانت الدابة في أيديهما ، فأقام أحدهما البينة أنها له ، وأقام الآخر البينة أنها له نتجت في ملكه ، أسقطت البينتان ، وكانا كمن لا بينة لهما ، وجعلت بينهما نصفين ، وكانت اليمين لكل واحد منهما على الآخر في النصف المحكوم به له .
ش : إذا كانت الدابة أو العين في أيديهما فتداعياها ، وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه ، فإن البينتين تتعارضان ، وإذاً هل يتساقطان وهو قول الخرقي ، واختيار كثير من الأصحاب ، أو يستعملان ؟ على روايتين ، ولعل مبناهما إذا تعارض الدليلان ، هل يتوقف المجتهد أو يتخير في العمل بأحدهما ؟ فيه خلاف وإذا قلنا : باستعمالها فهل ذلك بقسمة لتساويهما في البينة ، أو بقرعة ، [ لأنها تبين المستحق ؟ على روايتين ، فعلى رواية القرعة من خرجت له حلف أنها له ، لجواز خطأ القرعة ] ، أما على رواية القسمة فلا يمين ، لأنا أعملنا البينة ، فلو أوجبنا اليمين لجمعنا بين البينة واليمين وإنه ممنوع أما على رواية التساقط التي هي المشهورة فإنهما يصيران كمن لا بينة لهما ، وإذاً تقسم العين بينهما ، لتساويهما في اليد ، ويجب لكل واحد منهما اليمين على صاحبه فيما حكم له به كما قال الخرقي ، فاليمين تارة تجب بلا نزاع ، وتارة لا تجب بلا نزاع ، وفي المغني : واختلفت الرواية هل يحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به وهو الذي ذكره الخرقي أو لا يحلف وهي أصح ؟ على روايتين ، وظاهر هذا أن في اليمين روايتين ، سواء قلنا باستعمال البينتين أو بإلغائهما .
وقول الخرقي : أنها نتجت في ملكه ، ينبه به على أن ذللك ليس بمرجح لإحدى البينتين على الأخرى وقد تقدم ذلك وأن في الترجيح بذلك ، وكذلك في الترجيح بالسبق روايتين ، ومختار القاضي وجماعة من أصحابه الترجيح بذلك ، عكس ظاهر كلام الخرقي ، وإذا قيل بالترجيح بالسبب فهل يكتفي بمطلق السبب ، أو لا بد من إفادته للسبق ؟ على روايتين .
3877 واعلم أنه قد ورد في الباب حديث عن أبي موسى ، أن رجلين ادعيا بعيراً على عهد رسول اللَّه ، فبعث كل واحد منهما بشاهدين ، فقسمه النبي بينهما نصفين . روا أبو داود ، وهذا يستدل به على إلغاء البينتين ، وقسمة العين بينهما ، وعلى إعمالهما بالقسمة وهو أرجح ، لعدم ذكر اليمين فيه ، ومن ثم رجح أبو محمد عدم وجوب اليمين .
( تنبيه ) قد تقدم لنا رواية بالقرعة ، فيحتمل أنها بين البينتين ، وهو ظاهر ما في روايتي القاضي ، ويحتمل أنها بين المتداعيين وهو الذي حكاه عنه الشريف فقال : وعنه يقرع بينهما ، إلا أن شيخنا كان يقول : يقرع بين المتداعين لا بين البينتين ، واللفظ محتمل ، واللَّه أعلم .
قال : ولو كانت الدابة في يد غيرهما ، واعترف أنه لا يملكها ، وأنها لأحدهما لا يعرفه عينا ، أقرع بينهما ، فمن قرع صاحه حلف وسلمت إليه .
ش : إذا تداعيا دابة أو عينا في يد غيرهما ، فاعترف أنه لا يملكها ، وأنها لأحدهما لا يعرف عينه ، فإنه يقرع بينهما ، فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه ، لتساويهما في الدعوى ، وعدم البينة واليد ، والقرعة تميز المستحق عند التساوي ، بدليل عتق المريض عبيده الذي لا مال له سواهم .
3878 وعلى هذا يحمل ما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه أن رجلين تدارءا في دابة ، ليس لواحد منهما بينة ، فأمرهما رسول اللَّه أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها ، رواه أحمد وأبو داود ولم يتعرض الخرقي لوجوب اليمين على المقر ، وكذلك أحمد في رواية ابن منصور إذا قال : أودعني أحدهما لا أعرفه عيناً ، أقرع بينهما ، فمن تقع عليه القرعة حلف أنها له وأعطي ، وحمل هذا القاضي وغيره على ما إذا صدقاه في عدم العلم ، وأما إن كذباه فقال القاضي والشيخان وغيرهم : لهما عليه يمين واحدة أنه لا يعرف العين ، ولو أقام كل واحد منهما بينة والحال هذه ، فالحكم على ما تقدم في التي قبلها ، هل تتساقط البينتان ، ويصيران كمن لا بينة لهما كما تقدم وهو ظاهر إطلاق الخرقي ، لأنه لم يفصل ، وقياس قوله في التي قبلها ، واختيار جماعة من الأصحاب أو تستعملان ؟ على روايتين ، ثم في كيفية استعمالهما روايتان ( إحداهما ) يقرع بينهما ، فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها ، قاله أبو الخطاب وأبو البركات ، وعلى هذه تستوي رواية الاستعمال ورواية التساقط ، وقال أبو محمد : من غير يمين ( والثانية ) تقسم بينهما بغير يمين كما تقدم .
وقول الخرقي : واعترف أنه لا يملكها . يخرج ما إذا ادعى ملكها ، فإن القول قوله مع يمينه بلا ريب ، وقوله وأنها لأحدهما لا يعرفه عينا ، يخرج ماإذا أقر بها لأحدهما بعينه ، فإنها تكون لمن أقر له مع يمينه ، لأن بذلك تصير اليد له ، ومن له اليد القول قوله مع يمينه ما لم يكن بينة ، ويحلف المقر للآخر على المذهب ، وللمسألة تقاسيم أخر ليس هذا محلها ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا كان في يده دار فادعاها رجل وأقر بها لغيره ، فإن كان المقر له بها حاضراً جعل الخصم فيها ، وإن كان غائباً وكانت للمدعي بينة حكم له بها ببينته ، كان الغائب على خصومته متى حضر .
ش : إذا كانت في يده دار أو عين فادعاها إنسان ، فأقر بها من هي في يده لغيره ، نظر في المقر له ، فإن كان حاضراً مكلفاً جعل كأنه الخصم فيها ، لأن اليد بصدد أن تصير له ، وإذاً يسأل فإن صدق المقر ثبتت اليد له ، وصار الخصم فيها حقيقة ، فإن لم يكن بينة حكم بها له مع يمينه لليد ، وللمدعي اليمين على المقر أيضاً على المذهب ، وإن كان للمقر له أو للمدعي بينة عمل على ذلك ، وإن كان لكل منهما بينة انبنى على بينة الداخل والخارج كما تقدم ، وإن لم يصدق المُقِرَّ في إقراره وقال : ليست لي ، ولا أعلم لمن هي ، فهل تسلم للمدعي بلا يمين ، لأنه يدعيها ولا منازع له ، وهو اختيار أبي محمد في المغني وقال : إنه الأقوى ، أو مع اليمين بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه ، أو يحفظها أمين الحاكم ، لأنه مال لم يثبت مستحقه أشبه المال الضال ، وهو الذي ذكره القاضي ، أو تقر في يد رب اليد لأن اليد كانت له ، ولم يعلم ما يزيلها ، وهو المذهب قاله أبو البركات ، مع أن أبا محمد لم يذكره في المغني ؟ على أربعة أوجه ، فعلى الوجه الأخير لو عاد المقر فادعاها لنفسه سمع ، لأنه إقرار على ما في يده ، بخلاف ما قبله لزوال يده .
وإن كان المقر له غائباً ومثله الصبي والمجنون ولا بينة أقرت في يد المقر لعدم ثبوت المزيل لها ، وللمدعي أن يحلف المقر أنه لا يستحق تسليمها إليه ، إلا أن يقيم المقر بينة أنها لمن سماه فلا يحلف ، وإن كان للمدعي بينة حكم بها له ، بناء على ما تقدم من القضاء على الغائب ، ثم إذا قدم الغائب ، أو بلغ الصبي ، أو أفاق المجنون ، فهم على حججهم من القدح في بينة المدعي ، أو إقامة بينة تشهد بانتقال الملك إليهم من المدعي ، فإن أقاموا بينة بالملك فقط انبنى على بينة الداخل والخارج ، أما مع عدم الحضور والتكليف فإذا كان مع المقر بينة تشهد لمن سماه الحاكم يسمعها ، لزوال التهمة عن المقر ، وسقوط اليمين عنه كما تقدم ، ولا يحكم بها لعدم الدعوى من الغائب ، أو وكيله ، وخرج القضاء بها على صفة ما تقدم ، بناء على أن للمودع وغيره المخاصمة فيما في يده ، وإن أقر بها المدعي عليه لمجهول وهذه الصورة لم يذكرها الخرقي قيل له : عرفه وإلا فأنت ناكل عن الجواب ، فإن عاد فادعاها لنفسه فهل تسمع دعواه كما لو عين المقر له ، إذ قد يعني بالمجهول نفسه ، أو لا تسمع وجزم به في المغني كما لو أقر بها لغائب ونحوه ؟ على وجهين . واللَّه أعلم .
قال : ولو مات رجل وخلف ولدين مسلماً وكافراً ، فادعى المسلم أن أباه مات مسلماً ، وادعى الكافر أن أباه مات كافراً ، فالقول قول الكافر مع يمينه ، لأن المسلم باعترافه بأخوة الكافر مقر بأن أباه كان كافراً مدع لإسلامه ، وإن لم يعترف المسلم بأخوة الكافر ، ولم تكن بينة بأخوته كان الميراث بينهما نصفين ، لتساوي أيديهما .
ش : إذا مات إنسان وخلف ابنين أحدهما مسلم ، والآخر كافر ، فادعى كل واحد من الابنين أن أباه مات على دينه فلا يخلو إما أن يعترف المسلم بأخوة الكافر أو لا ، فإن اعترف بأخوته فالميراث للكافر في إحدى الروايتين ، واختاره الخرقي ، لما علل به من أن المسلم باعترافه بأخوة الكافر يعترف ظاهراً بأن أباه كان كافراً ، وأنه أسلم ، وإذاً دعوى أخيه على وفق الأصل ، وهو يدعي زوال ذلك ، والأصل البقاء ، وإنما قلنا : إنه معترف بأن أباه كان كافراً ، لأنه إن لم يعترف بذلك بل ادعى أنه مسلم الأصل ، فإذاً أولاده تبع له ، فيلزم أن أخاه ارتد ، والأصل عدم ذلك ، والظاهر أيضاً يكذبه ، إذ الظاهر أن المرتد لا يقر على ردته في دار الإسلم ( والرواية الثانية ) المال بينهما ، لأنهما تنازعا عيناً في أيديهما فتقسم بينهما ، وهو ظاهر كلام القاضي في الجامع الصغير ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وقال القاضي أظنه في المجرد : قياس المذهب أن التركة إن كانت في أيديهما قسمت بينهما ، وإن لم تكن في أيديهما أقرع بينهما ، فمن قرع حلف واستحقها ، كما إن تداعيا عيناً في يد غيرهما ، وقال أبو محمد : ومقتضى كلامه أنها إذا كانت في يد أحدهما أنها له مع يمينه ، قال : ولا يصح ، لاعترافهما بأن التركة للميت ، وأن استحقاقهما بالإرث ، فلا حكم لليد . انتهى .
ولأبي الخطاب احتمال أن الأمر يقف حتى يظهر أصل دينه أو يصطلحان ، ولأبي محمد احتمال وهو اختياره في العمدة ، أن القول قول المسلم ، لأن حكم الميت حكم المسلمين في غسله ، والصلاة عليه ، ودفنه ، فكذلك في إرثه .
وإن لم يعترف المسلم بأخوة الكافر فالمشهور أنه بينهما ، لتساويهما في الدعوى ، وقيد ذلك الشيرازي بما إذا كانت أيديهما على التركة ، وفيه ما تقدم من الخلاف ، إلا رواية أن القول قول الكافر ، هذا كله إذا لم يعرف أصل دينه ، أما إن عرف أصل دينه فالذي جزم به القاضي في الجامع الشريف وأبو الخطاب وأبو البركات وقال : رواية واحدة أن القول قول من يدعيه ، لأن دعواه ترجحت بموافقة الأصل ، وأجرى ابن عقيل في التذكرة كلام الخلاقي على إطلاقه ، فحكى عنه أن الميراث للكافر والحال هذه ، ويقدم كما تقوله الجماعة ، وشذ الشيرازي فحكى فيه الروايتين اللتين قدمناهما فيما إذا اعترف المسلم بالأخوة ، ولم يعرف أصل الدين .
قال : وإن أقام الكافر بينة أن أباه مات كافراً ، وأقام المسلم بينة أن أباه مات مسلماً ، أسقطت البينتان ، وكانا كمن لا بينة لهما ، وإن قال شاهدان : نعرفه كان كافراً ، وقال شاهدان : نعرفه كان مسلماً . حكم بالميراث للمسلم ، لأن الإسلام يطرأ على الكفر ، إذا لم يؤرخ الشهود معرفتهم .
ش : إذا أقام المسلم والحال ما تقدم بينة أن أباه مات مسلماً ، وأقام الكافر بينة أن أباه مات كافراً ، أو قالت بينة نعرفه مسلماً ، وبينةً : نعرفه كافراً ، ولم يؤرخا ( فعن أحمد ) ما يدل على تقديم بينة الإسلام بكل حال في الصورتين ، وهو اختيار أبي محمد في العمدة ، وظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية لترجحها بالدار ، ولذلك حكم للميت بأحكام المسلمين ، من الغسل والدفن ، ونحو ذلك ، ولما أشار إليه الخرقي من أن الإسلام يطرأ على الكفر ، فيدل على تأخره ، والكفر لا يطرأ على الإسلام ، لعدم الإقرا عليه في دار الإسلام ، وفرق الخرقي وتبعه الشيرازي بين الصورتين فاختار في الصورة الثانية تقديم بينة الإسلام لما تقدم ، واختار في الأولى التعارض ، لأن قول البينة : مات مسلماً ، ومات كافراً ، ظاهره أنه مات ناطقاً بذلك ، وإذاً يتعارضان ، لأن النطق بالإسلام يعارضه النطق بالكفر ، وسوى القاضي وجماعة بين الصورتين ، وقالوا فيهما : إن عرف أصل دينه قدمت البينة الناقلة عنه ، لأنها تشهد بزيادة ، فهو كبينة الجرح مع بينة التعديل ، وإن لم يعرف تعارضتا ، وأبو محمد في المغني يوافق الخرقي في الصورة الثانية ، ويوافق القاضي ومن دان بقوله في الأولى ، ولو أرخ البينتان معرفتهما ، فإن كان بتأريخين مختلفين عمل بالآخر منهما ، لأنه ثبت بالبينة أنه انتقل عما كان عليه أولاً ، وإن اتحد التأريخ فقال أبو محمد : إن لم يعرف أصل دينه تعارضتا ، وإن عرف قدم الناقلة عنه .
( تنبيه ) لو قالت بينة : مات ناطقاً بكلمة الإسلام ، وبينة : مات ناطقاً بكلمة الكفر . فقال الشيخان وغيرهما : تتعارضان سواء علم أصل دينه أو لم يعلم ، ولم يذكروا خلافاً ، وشذ ابن عقيل في التذكرة فقال : إن عرف أصل دينه فالقول قول من يدعي نفيه ، لأنه يدعي أمراً طارئاً ، وحيث قيل بالتعارض هنا وفيما تقدم فهل يتساقطان ، ويصيران كمن لا بينة لهما على ما تقدم وهو الذي قاله الخرقي ، جرياً على قاعدته أو يستعملان بقسمة أو قرعة كما تقدم ، على الروايتين المتقدمتين ، وفيه نظر إن عرف أن أصل دينه الإسلام ، لأن بينة الكفر يلزم منها أن يكون قد ارتد ، فيكون المنازع في النصف أو الكل أهل الفيء ، وقد يقال : إن البينة ألغت اعتبار الأصل ، واللَّه أعلم .
قال : ولم ماتت امرأة وابنها فقال زوجها : ماتت قبل ابني فورثناها ، ثم مات ابني فورثته ، وقال أخوها : مات ابنها فورثته ، ثم ماتت فورثناها . ولا بينة لأحدهما ، حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه ، وكان ميراث الابن لأبيه ، وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين .
ش : إنما حلف كل واحد منهما والحال هذه على إبطال دعوى صاحبه ، لأن كل واحد منهما ينكر ما ادعى عليه به ، والمنكر عليه اليمين ، وإنما كان ميراث الابن لأبيه ، لأنه وارثه الحيث المتيقن ، وغيره مشكوك فيه ، وإنما كان ميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين لأنهما اللذان يرثانها يقيناً ، وغيرهما مشكوك فيه ، وهذا منصوص أحمد ، واختيار أبي البركات ، وقال ابن أبي موسى : يعين السابق بالقرعة ، كما لو قال : أول ولد تلدينه فهو حر . فولدت ولدين ، وأشكل السابق منهما عين بالقرعة ، كذلك هنا : وقال أبو الخطاب ومن تبعه : يرث كل واحد منهما من صاحبه من تلاد ماله دون ما ورثه عن الميت معه ، كما لو جهل الورثة موتهما ، فيقدر أن المرأة ماتت أولاً فورثها زوجها وابنها أرباعاً ، ثم يؤخذ ما ورثه الابن فيدفع لورثته الأحياء وهم الأب ، فيجتمع له جميع مالها ، ثم يقدر أن الابن مات أولاً ، فورثه أبوه أثلاثاً ، ثم يؤخذ ثلث الأم ، ويقسم بين ورثتها الأحياء ، وهم أخوها وزوجها نصفين ، فلا يحصل للأخ إلا سدس مال الابن . انتهى .
وقال أبو بكر : يحتمل أن المال بينهما نصفان ، قال : وهذا اختياري . قال : لأن كل رجلين ادعيا مالاً ، يمكن صدقهما فيه فهو بينهما ، وظاهر هذا الذي قاله أن ماله ومالها بينهما نصفين ، وأبطله أبو محمد ، بأنه يفضي إلى أن يعطى الأخ ما لا يدعيه ولا يستحقه يقيناً ، وٌّ هـ لا يدعي من مال الابن أكثر من سدسه ولا يمكن أن يستحق أكثر منه ، وذكر احتمالات أخر لقوله كلها تخالف ظاهره ، واللَّه أعلم .
قال : ولو شهد شاهدان على رجل أن أخذ من صبي ألفاً ، وشهد شاهدان على رجل آخر أنه أخذ من الصبي ألفاً ، كان على ولي الصبي أن يطالب أحدهما بالألف ، إلا أن تكون كل بينة لم تشهد بالألف التي شهدت بها الأخرى ، فيأخذ الولي الألفين .
ش : المسألة الأولى شهدت البينة على ألف بعينها ، يدل عليه ما ذكره في الثانية ، وإنما كان على الولي المطالبة بذلك ، لأنه المطالب باستيفاء حقوق الصبي والقيام بأمره ، وقد ثبت له بالبينة حق ، فيجب على الولي استيفاؤه ، وإنما كان له أن يطالب أيهما شاء إذا شهدت البينة بألف معينة فلأنه قد ثبت بالبينة أن كل واحد أخذ الألف فإن كان باقياً في يده فواضح ، وإن كان دفعه إلى الصبي لم يبرأ بذلك ، لأنه ليس له قبض صحيح فقد فرط ، وإن دفعه إلى أجنبي فكذلك ، لأنه ليس له الدفع إليه ، وإنما كان له أن يطالب بالألفين إذا شهدت البينة بألف غير معين ، لأن كل واحد من الرجلين ثبت أنه أخذ ألفاً ، فيلزمه أداؤه ، واللَّه أعلم .
قال : ولو أن رجلين حربيين جاءانا من أرض الحرب مسلمين ، فذكر كل واحد منهما أنه أخو صاحبه بشرطه ، وكالإقرار بالحقوق المالية ، واللَّه أعلم .
قال : ولو كانا سبياً فادعيا ذلك بعد أن أعتقا فميراث كل واحد منهما لمعتقه إذا لم يصدقهما ، إلا أن تقوم بما ادعياه من الأخوة بينة من المسلمين ، فيثبت بها النسب ، فيورث كل واحد منهما من أخيه .
ش : يعني إذا كان الأخوان سبيا فادعيا ذلك قبل عتقهما فقد تقدم ، وإن ادعياه بعد أن أعتقا وصدقهما المولى ، ثبت نسبهما وإرثهما ، لأن الحق للمولى ، ومن له حق يقبل إقراره عليه ، وإن لم يصدقهما وأقاما بذلك بينة من المسلمين ثبت النسب وتوارثا ، لأن البينة تبين الحق وتظهره ، وإن لم تكن لهما بينة معتبرة لم تقبل إقرارهما ، حذاراً من إضرار المولى بتفويت حقه من الولاء ، وإذاً يكون إرث كل منهما لمعتقه ، وخرج أبو البركات قبول إقرارهما ، ولعله مما إذا أقرا بمعتق لهما ، فإنه يقبل وإن أسقطا به وارثاً معروفاً .
وقول الخرقي : بينة من المسلمين . يحترز به عن البينة من الكفار ، فإنها لا تقبل في ذلك ، وقد تقدم عن أبي حفص قبول قولهما والحال هذه ، وحكاه أبو محمد هنا رواية ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا كان الزوجان في البيت فافترقا أو ماتا ، فادعى كل واحد منهما ما في البيت لو أنه ورثته ، حكم بما كان يصلح للرجال للرجل ، وبما كان يصلح للنساء للمرأة ، وبما كان يصلح أن يكون لهما فهو بينهما نصفين .
ش : ما يصلح للرجال كالعمائم ، والأقبية ، والطيالسة ونحو ذلك ، وما يصلح للنساء كحليهن ، ومغازلهن ، ومقانعهن ، وقمصهن ونحو ذلك ، والذي قاله الخرقي هو المنصوص في رواية الجماعة ، وسواء كانا حرين أو رقيقين ، أو أحدهما ، وسواء كان في أيديهما من طريق الحكم أو المشاهدة ، اختلفا في حال الزوجية أو بعدها ، أو اختلف ورثتهما لأن اليد لكل منهما على البيت ، بدليل لو نازعهما غيرهما فإن القول قولهما ، ثم إن لم تقم قرينة لأحدهما تساويا ، وإن قامت قرينة لأحدهما ترجحت دعواه بها ، وصار كما لو تنازعا دابة ، أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها ، ونحو ذلك ، وقال القاضي : إن كانت أيديهما عليه من طريق الحكم فكذلك ، وإن كانت أيديهما عليه من طريق المشاهدة قسم بينهما نصفين ، وإن كانت اليد المشاهدة عليه لأحدهما فهو له مع يمينه ، وإن لم يصلح له ، لأن اليد المشاهدة أقوى من القرينة .
وقوله : إذا كان الزوجان في البيت ، يريد بذلك أن لهما يداً حكمية أو حسية ، ويخرج بذلك ما لو لم تكن لهما يد حكمية ، وتنازعا في عين ، فإنه لا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له ، بل إن كانت في أيديهما فهي بينهما ، وإن كانت في يد أحدهما فهي له ، وإن كانت في يد غيرهما اقترعا عليها ، فمن قرع حلف واستحق كما تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : ومن كان له على أحد حق فمنعه منه فقدر له على مال ، لم يأخذ منه مقدار حقه ، لقول النبي : ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك ) .
ش : من كان له على أحد حق فمنعه ، ولم يقدر على أخذه منه بالحاكم ، وقدر له على مال ، لم يكن له في الباطن أن يأخذ قدر حقه على المذهب المنصوص المشهور .
3879 لما استدل به الخرقي ، وهو ما رواه أبو هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي قال : ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك ) رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، وإذا لم يخن من خانه فمن لم يخنه أولى .
3880 وقاله عليه السلام : ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه ) .
وخرج أبو الخطاب قولاً بالأخذ من قول أحمد في المرتهن : يركب ويحلب بقدر ما ينفق ، والمرأة تأخذ مؤونتها ، والبائع للسلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضاه ، وخرجه أبو البركات من تنفيذ الوصي الوصية مما في يده إذا كتم الورثة بعض التركة ، وهو أظهر في التخريج ، وحكى ابن عقيل هذا القول عن المحدثين من الأصحاب .
3881 وذلك لما روت عائشة رضي اللَّه عنها أن هنداً قالت : يا رسول اللَّه إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي ، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم ؟ فقال : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) متفق عليه ، فجوز لها الأخذ في مقابلة حقها بغير علمه .
3882 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي أنه كان يقول : ( الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة ) رواه البخاري وغيره ، فجعل المرتهن ينفق ويأخذ عوض حقه وهو نفقة المركوب ، فجعل المرتهن ينفق ويأخذ عوض حقه ، وهو نفقة المركوب ، ويجاب عن هذا بأن المرتهن لم يكن له حق قبل الراهن ، وإنما الشارع جوز له المعاوضة عملاً بالأصلح ، لئلا يفوت الركوب على الراهن مجاناً ، وأما حديث هند فإن أحمد أجاب عنه بأن حقها واجب عليه في كل وقت ، يعني أن جواز الأخذ لها كان دفعاً للحرج والمشقة عنها ، لأن حقها يتجدد كل يوم ، فلو لم يجز ذلك لأفضى إلى المحاكمة في كل وقت والمخاصمة ، وفي ذلك حرج عظيم ، وأجاب أبو بكر بجواب ثان ، وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة ، فكأن الحق صار معلوماً بعلم قيام مقتضيه ، وفيه شيء ، لأن المسألة وإن علم ثبوت الحق ، ولأبي محمد ( جواب ثالث ) وهو أن للمرأة من التبسط في مال الزوج ما يؤثر في إباحة أخذ الحق وبذل اليد فيه بالمعروف ، بخلاف الأجنبي ( وجواب الرابع ) وهو أن النفقة تراد لإحياء النفس ، ولا سبيل إلى تركها ، فلذلك جاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة ، بخلاف الدين ، ومن ثم قلنا : لو صارت النفقة ماضية لم يكن لها أخذها ، وكذلك لو كان لها دين آخر ، قلت : وهذا الفرع يرد جوابه الثالث ، ويندفع هو أيضاً بأنها لو وجدت ما تندفع به حاجتها من مالها جاز لها الأخذ ، انتهى .
فعلى المذهب إن أخذ لزمه الرد مع البقاء ، ووجب المثل أو القيمة مع التلف ، ثم إن كان من جنس حقه تقاصا وتساقطا ، وإلا لزمه غرمه ( وعلى القول الآخر ) وإن وجد جنس حقه أخذ منه قدر حقه ، ولا يأخذ من غيره مع قدرته عليه ، وإن لم يجد إلا من غير جنس حقه أخذ منه قيمة حقه ، متحرياً للعدل في ذلك ، جزم به أبو البركات ، وأبو الخطاب في الهداية وغيرهما ، وهو أحد احتمالي أبي محمد كما في الرهن ( والاحتمال الثاني ) ليس له ذلك ، لإفضائه إلى بيع مال غيره من نفسه بغير إذن له في ذلك ، وهذه المسألة تلقب بمسألة الظفر ، وقول الخرقي : فمنعه منه ، يخرج ما لم يمنعه ، فإنه ليس له الأخذ اتفاقاً ، فإن لزمه الرد ، وإن كان قدر الحق ومن جنسه ، لأنه قد يكون للإنسان غرض في عين من أعيان ماله ، فلا يجوز تملكها عليه بغير رضاه إلا لضرورة ، وإن تلف ذلك صار ديناً في ذمته ، فإن كان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاصا ، وكذلك لو لم يمنعه وقدر على الأخذ بالحاكم ، فإنه لا يجوز له الأخذ ، ولا بد أن يلحظ المنع ممنوع ، إذ لو كان مباحاً كما لو كان الدين مؤجلاً ، أو المدين معسراً فإنه لا يجوز الأخذ أيضاً بلا خلاف ، فإن أخذ رده مع البقاء ، وعوضه مع التلف ، ولا تقاصص هنا ، لأن الدين لم يستحق أخذه في الحال ، بخلاف التي قبلها ، واللَّه أعلم .
كتاب العتق


ش : العتق الحرية ، قال أهل اللغة : يقال منه عتق يعتق عتقاً وعَتقاً . بفتح العين وكسرها ، فهو عتيق وعاتق ، قال الأزهري : هو مشتق من قولهم : عتق الفرس . إذا سبق ونجا ، وعتق الفرخ إذا طار واستقل ، لأن العبد يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء ؛ قال : وإنما قيل تناول العتق الجميع لأن ملك السيد عليه كحبل في رقبته ، فإذا أعتق فكأن رقبته أطلقت من ذلك .
والأصل في مشروعيته قوله سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { فتحرير رقبة } )9 ( { فك رقبة } ) [ ب 1 ] .
3883 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي قال : ( من أعتق رقبة مسلمة وفي رواية ، مؤمنة أعتق اللَّه بكل عضو منه عضواً منه من النار ، حتى فرجه بفرجه ) متفق عليه وأجمع المسلمون على مشروعية ذلك ، وأنه قربه في الجملة ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه معاً ، أو وكل نفسان للثالث أن يعتق حقوقهما مع حقه ففعل ، أو أعتق كل واحد منهم حقه وكان معسراً ، فقد صار العبد كله حراً ، وولاؤه بينهم أثلاثاً .
ش : إذا كان العبد بين ثلاثة أو أكثر فأعتقوه معاً ، إما بأن حصل تلفظهم بعتقه في آن واحد ، أو وكلوا غيرهم أو أحدهم في عتقه ، أو علقوا عتقه على صفة فوجدت ، فإنه يصير حراً ، لأنه عتق من مالك .
3884 فدخل تحت قوله عليه السلام : ( لا عتق فيما لا يملك ابن آدم ) الحديث ، مفهومه نفوذ العتق فيما يملكه ، وهذا واللَّه أعلم اتفاق في الجملة ، وإذا كان حراً كان الولاء بينهم أثلاثاً ، لقول النبي : ( الولاء لمن أعتق ) وفي رواية : ( إنما الولاء لمن أعتق ) متفق عليه وكل منهم أعتق جزءاً فثبت له عليه الولاء ، وكذلك إذا أعتق الشركاء حقوقهم واحداً بعد واحد وهم معسرون ، فإنه يعتق على كل واحد منهم حقه على المذهب ، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، ويكون له ولاء ما عتق عليه ، إذ الولاء تابع للعتق كما تقدم .
واعلم أن من شرط صحة عتق المالك أن يكون مختاراً ، فلا يصح عتق المكره ، كما لا يصح طلاقه .
[ نعم إن أكره بحق كما إذا وجب الحاكم عليه صح من جائز التبرع ، فلا يصح من مجنون ولا طفل بلا ريب ] ، ولا مميز على إحدى الروايتين ، والرواية الثانية يصح ، كما يصح طلاقه ووصيته على المذهب فيهما ، وهو المجزوم به عند أبي محمد ، ولا من محجور عليه لسفه أو فلس على أصح الروايتين ، واللَّه أعلم .
قال : ولو أعتقه أحدهم وهو موسر عتق كله عليه .
ش : أما عتق نصيبه فلما تقدم .
3885 وأما عتق نصيب شريكه فلما روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي قال ( من أعتق شركاً له في عبد ، وكان له مال يبلغ ثمن العبد ، قوم العبد عليه قيمة عدل وأعطى شركاءه ، حصصهم ، وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق عليه ما بقي في ماله ، إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد ) رواه مسلم وغيره وهذا كالنص .
3886 وعن أبي المليح عن أبيه ، أن رجلاً من قومنا أعتق شقصاً له من مملوك ، فرفع ذلك إلى النبي فجعل خلاصه عليه في ماله ، وقال : ( ليس للَّه شريك ) رواه أحمد ، وفي لفظ ( هو حر كله ، ليس للَّه شريك ) رواه أحمد ولأبي داود معناه ، وكلام الخرقي يشمل الشريك المسلم والكافر وهو اختيار أبي محمد ، وذكره القاضي ، لعموم ( من أعتق شركاً له في عبد ) ولما علل به في حديث أبي المليح .
3887 وقد روى النسائي من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، وجابر رضي اللَّه عنه عن النبي أنه قال : ( من أعتق عبداً وله فيه شركاء وله وفاء ، فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمته ، كما أساء من مشاركتهم ، وليس على العبد شيء ) فعلل بسوء المشاركة ، وهذا موجود في الشريك الكافر ، وفيه وجه آخر أنه لا يسري على الكافر ، إذا أعتق نصيبه من مسلم ، حذاراً من أن يملك كافرا مسلماً ، ورد بأن هذا ليس بضمان تمليك ، وإنما هو ضمان إتلاف ، وليس بجيد ، إذ لو صح لم يكن له الولاء ، والفرض أن له الولاء على ما عتق عليه ، فدل على أنه يدخل في ملكه ، ثم يعتق ، لكن المحذور في ملك الكافر للمسلم غير وجود هنا ، ولو قدر وجود محذور ما فهو مغمور بما حصل من مصلحة العتق .
( تنبيه ) حد اليسار أن يكون حين الإعتاق واجداً لقيمة الشقص فقط ، على ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه وكلام غيره ، قال : إذا كان يملك مبلغ ثمن حصة شريكه ، وأورده ابن حمدان مذهباً ، وحكى قولاً آخر أن يكون ذلك فاضلاً عن قوت يومه وليلته ، ويحكى هذا عن القاضي في المجرد ، وابن عقيل في الفصول ، وهو الذي جزم به في المغني ، إلا أنه اعتبر مع ذلك ما يحتاج إليه من حوائجه الأصلية ، من الكسوة والمسكن ، وسائر مالا بد له منه ، وقال : ذكره أبو بكر في التنبيه ، ولم أر ذلك فيه ، بل لفظه ما تقدم ، ونظير ذلك صدقة الفطر ، فإن أبا محمد في المغني اعتبر لوجوبها ذلك ، ولم يعتبر القاضي وكثير من أصحابه وأبو البركات ، وأبو محمد في كتابيه إلا قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته ، وهو الذي أورده ابن حمدان في رعايتيه مذهباً ، ثم ذكر ما في المغني انتهى ، فإن أيسر ببعض القيمة عتق عليه بقدر ذلك ، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور ، وقيل : لا .
قال : وصار لصاحبيه عليه قيمة ثلثيه .
ش : هذا فرع على أن العتق يسري عليه ، وإذاً يصير لصاحبيه عليه قيمة ثلثيه ، لحديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما ( وأعطي شركاؤه حصصهم ) أي قيمة حصصهم ، ولأنه إما إتلاف معنوي فهو بمنزلة الحي ، وإما تمليك بالقيمة ، وإنما كان تجب القيمة وتعتبر القيمة حين العتق ، لأنه وقت انتقال الملك ، أو وقت الإتلاف على المعروف المشهور ، المجزوم به لأبي محمد وغيره ، وحكى الشيرازي قولاً أنه وقت التقويم ، وهو قياس القول الذي لنا في الغصب بأن الاعتبار بيوم المحاكمة ، فإن اختلفا في القيمة رجع إلى قول أهل الخبرة ، فإن تعذر بموت العبد أو غيبته ونحو ذلك فالقول قول المعتق ، لأنه المنكر للزيادة ، والأصل براءته منها ، وكذلك القول قوله إن اختلفا في صناعة فيه ، نعم إن كان العبد يحسنها في الحال ، ولم يمض زمن يمكن تعلمها فيه ، فالقول قول الشريك ، لعلمنا بصدقه ، وإن مضى زمن يمكن حدوثها فيه ، فهل القول قول المعتق ، لأن الأصل بقاء ما كان ؟ على وجهين ، وإن اختلفا في عيب كالسرقة والإباق ، فالقول قول الشريك ، إذ الأصل السلامة ، فإن كان العيب موجوداً واختلفا في حدوثه فهل القول قول الشريك أيضاً ، لأن الأصل البراءة منه حين العتق ، أو قول المعتق ، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان ، وهو الذي أورده في المغني مذهباً ؟ فيه قولان .
( تنبيه ) هل يقوم كاملاً لا عتق فيه ، أو وقد عتق بعضه ؟ فيه قولان للعلماء ، أصحهما الأول ، وهو الذي قاله أبو العباس فيما أظن ، لظاهر الحديث ، ولأن حق الشريك إنما هو في نصف القيمة ، لا قيمة النصف ، بدليل ما لو أراد البيع ، فإن الشريك يجبر على البيع معه ، واللَّه أعلم .
قال : فإن اعتقا بعد عتق الأول له ، وقبل أخذ القيمة ، لم يثبت لهما فيه عتق ، لأنه قد صار حراً بعتق الأول .
ش : يعني أن العتق مع اليسار يسري بمجرد اللفظ ، ولا يفتقر إلى أداء القيمة ، وهذا هو المشهور من المذهب ، لما تقدم من حديث ابن عمر وجابر رضي اللَّه عنهم ، الذي رواه النسائي ، ولرواية مسلم المتقدمة في حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، وللبخاري في رواية فيه ( من أعتق نصيباً له في مملوك ، أو شركاً له في عبد ، وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيق ) .
3888 وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي قال : ( من أعتق شخصاً من مملوك فعليه خلاصه من ماله ) ( وفي المذهب وجه آخر ) قواه أبو العباس أنه لا يعتق إلا بعد أداء القيمة ، لظاهر رواية ابن عمر رضي اللَّه عنهما المتفق عليها ، فإنه قال فيها ( فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد ) وفي رواية متفق عليها أيضاً ( من أعتق عبداً بينه وبين آخر ، قوم عليه في ماله قيمة عدل ، ولا وكس ولا شطط ، ثم عتق عليه في ماله إن كان موسراً ) وهذا أصح من رواية النسائي وغيره ، وأصرح من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه ، مع أن قوله : ( فهو حر ؛ أو فهو عتيق ) يحمل على ما بعد القيمة ، جمعاً بين الأحاديث ، إذ المقصود من جميعها واحد ، وحمل مطلق ذلك على مقيده معتبر بلا ريب .
فعلى المذهب إذا أعتق الشريك بعد عتق الأول لم ينفذ عتقه ، لأن عتق المعتق محال ( وعلى الثاني ) قال ابن حمدان يحتمل وجهين ، وظاهر هذا أنه لا يصح التصرف فيه بغير العتق .
قال : وإذا أعتقه الأول وهو معسر ، وأعتقه الثاني وهو موسر عتق عليه نصيبه ، ونصيب شريكه ، وكان له عليه ثلث قيمته ، وكان ثلث ولائه للمعتق الأول ، وثلثاه للمعتق الثاني .
ش : قد تضمن كلام الخرقي أن عتق المسعر لا يسري لا عليه ولا على غيره ، وإنما يعتق ما أعتقه فقط ، وهذا هو المشهور من الروايتين ، والمجزوم به عند أكثر الأصحاب ، لما تقدم من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، وهو أصح وأشهر من غيره .
3889 وقد روى الدارقطني فيه ( ورق ما بقي ) وهذا نص إن ثبت .
3890 وعن إسماعيل بن أمية ، عن أبيه عن جده ، رضي اللَّه عنهم قال : كان لهم غلام يقال له طهمان أو ذكوان ، فأعتق جده نصفه ، فجاء العبد إلى النبي فقال النبي : ( تعتق في عتقك ، وترق في رقك ) قال : فكان يخدم سيده حتى مات . رواه أحمد . ( وعن أحمد رواية أخرى ) اختارها أبو الخطاب في الانتصار أن العبد يعتق كله ، ويستسعى في قيمة باقية غير مشقوق عليه .
3891 لماروي أبو هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي قال : ( من أعتق شقصاً من مملوك فعليه خلاصه في ماله ، فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ، ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق ، غير مشقوق عليه ) رواه الجماعة إلا النسائي ، وحديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما رواه أيوب فقال فيه مرة : قال نافع : وإلا فقد عتق منه ما عتق ، ومرة قال : فلا أدري أشيء قاله نافع أم هو من الحديث ، وإذا لم يثبت أنه من لفظ الرسول فلا حجة فيه ، وقد أجيب عن هذا بأن مالكاً جزم به كما تقدم ، وقد تابعه على ذلك جماعة من الحفاظ ، كجرير بن حازم ، وعبيد اللَّه وغيرهما ، والجازم مع زيادة علم ، فيقدم على الشاك ، وأما حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه فقد طعن فيه الحفاظ ، قال الأثرم : ذكره سليمان بن حرب فطعن فيه وضعفه ، وقال ابن المنذر : لا يصح . وقال أبو عبد اللَّه : ليس في الاستسعاء شيء يثبت عن النبي ، حديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروبة ، وأما همَّام وشعبة وهشام الدستوائي فلم يذكروه ، وحدث به معمر فلم يذكر فيه السعاية ، قال أبو داود : وهمام أيضاً لا يقوله . قلت : وهذا يدل على أن لفظ الاستسعاء شاذ ، لمخالفته الجمهور ، وقد ذكر همام أنه من قول قتادة وفتياه ، ثم على تقدير صحته فالأول يترجح بعمل أهل المدينة ، والجمهور عليه ، وبأنه مخالف للظواهر والأصول ، لإفضائه إلى منع المالك من التصرف في ملكه ، وإحالته على سعاية قد لا يحصل منها شيء ، وإدخال العبد في شيء قد لا يريده ، وفي ذلك ضرر ، ومعاوضة بغير رضا ، وإنه منفي شرعاً ، ثم ذلك حصل بسبب جناية غيرهما ، ومن الأنسب الأحرى أن [ ب 2 ] 19 ( { لا تزر وازرة وزر أخرى } ) [ ب 1 ] .
إذا تقرر هذا فعلى المذهب إذا أعتق المعسر استقر العتق في نصيبه ، ثم إذا أعتقه الثاني وهو موسر عتق نصيبه ، وسرى إلى نصيب شريكه الثالث كما تقدم ، وكان ثلث الولاء للمعتق الأول ، لأن الذي أعتقه هو الثلث ، وثلثاه للمعتق الثاني ، لأن الذي حصل له بالعتق مباشرة وسراية الثلثان .
وعلى القول بالسعاية هل يعتق في الحال ، وهو ظاهر كلام الأكثرين ، وأورده ابن حمدان مذهباً ، أو لا يعتق حتى يؤدي السعاية ، وهو اختيار أبي الخطاب في الانتصار ؟ فيه وجهان ، ( فعلى الأول ) يصير حكمه حكم الأحرار ، وتبقى قيمته في ذمته ، يستسعى فيها قدر طاقته ، ولا يرجع على أحد ، ولا يصح العتق فيه بعد ، فإن مات مات حراً ، فإن كان في يده مال كان لسيده بقية السعاية ، وما بقي لورثته ، ( وعلى الثاني ) حكمه حكم المكاتب ، يملك اكتسابه ومنافعه ، ويصح للشريك عتقه ، وإن مات فللشريك الذي لم يعتق من ماله مثل الذي له ، لكن تكون كتابته لازمة ، واللَّه أعلم .
قال : ولو كان المعتق معسراً عتق نصيبه منه ، وكان ثلثه رقيقاً لمن لم يعتق ، فإن مات وفي يده مال كان ثلثه لمن لم يعتق ، وثلثاه للمعتق الأول ، والمعتق الثاني بالولاء ، إذا لم يكن له وارث أحق منهما .
ش : هذا أيضاً فرع على المذهب المتقدم ، فإن المعتق الثاني إذا كان أيضاً معسراً عتق نصيبه فقط ، وبقي ثلثه رقيقاً لمن لم يعتق ، فإذا مات العبد وترك مالاً كان ثلثه للذي لم يعتق بملكه لثلثه ، وثلثاه ميراث لأنه ملكهما بجزئيه الحرين للمعتقين بالولاء ، إن لم يكن له وارث يفرض أو تعصيب يقدم عليهما ، فإن كان له وارث يرث البعض كأم مثلاً أو زوجة فإنها تأخذ فرضها ، والباقي بين المعتقين إن لم يكن عصبة مناسب ، وهذا كله إن لم يكن مالك ثلثه قاسم العبد في حياته أو هايأه فإذاً لا حق له في تركته ، لأنها حصلت بجزئه الحر .
قال : وإذا كان العبد بين نفسين ، فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه ، فإن كانا معسرين لم يقبل قول كل واحد منهما على شريكه .
ش : لأنها دعوى مجردة ، لا تتضمن حقاً ، لما تقدم من أن عتق المعسر لا يسري ، وهذا بخلاف ما لو كانا موسرين ، فإن دعوى كل واحد مهما تضمنت أنه يستحق على شريكه نصف القيمة ، وإذا لم يقبل قول كل واحد منهما على الآخر ، لم يعتق من العبد شيء ، واللَّه أعلم .
قال : فإن كانا عدلين كان للعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حراً ، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حراً .
ش : إذا كان الشريكان عدلين ، فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما إن ادعى ذلك ، ويصير كله حراً ، لأن كل واحد منهما يشهد بعتق نصفه ، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حراً لذلك أيضاً ، وهذا من الخرقي بناء على أن العتق يقبل فيه شاهد ويمين المدعي ، وقد تقدم ذلك ، وإن لم يكونا عدلين فله أن يحلف كل واحد منهما أنه ما أعتق نصفه ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كان الشريكان موسرين فقد صار العبد حراً باعتراف كل واحد منهما بحريته ، وصار مدعياً على شريكه نصف قيمته ، فإن لم تكن له بينة فيمين كل واحد منهما لشريكه .
ش : إذا كان الشريكان موسرين وادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه ، فقد صار العبد حراً ، لتضمن دعواهما ذلك ، إذ عتق الموسر يسري ، فكل منهما حقيقة دعواه حرية العبد ، وأنه يستحق على شريكه نصف قيمته ، لأنه يدعي أن شريكه أعتق نصيبه ، فسرى إلى حقه ، فيؤاخذ كل منهما بإقراره ، ويحكم بحرية العبد ، ويصير كل منهما مدعياً على شريكه نصف قيمته ، فإن كان ثم بينة عمل بها بلا ريب ، وإن لم يكن فيمن كل واحد منهما مستحقة لشريكه ، عليه أن يحلف له ، لأنه منكر لما ادعى عليه ، واليمين على المنكر لما تقدم .
ولم يتعرض الخرقي رحمه اللَّه لحكم الولاء في هاتين الصورتين ، وهما ما إذا كانا موسرين أو معسرين عدلين ، فحلف العبد معهما أو مع أحدهما ، والحكم أنه لا ولاء عليه ، لأن أحداً لا يدعيه ، بل دعوى كل واحد منهما تضمنت إنكاره ، ولا يثبت لأحد حق ينكره ، وكذلك إذا ادعى العبد العتق ، وأنكره السيد ، وقامت عليه البينة ، فإن عاد من نسبت إليه عتاقته فاعترف بذلك ثبت له الولاء ، لأنه لا مستحق له سواه قاله أبو محمد .
وقد بقي من تقسيم دعوى الشريكين إذا كان أحدهما موسراً والآخر معسراً ، والحكم أن نصيب المعسر يعتق وحده مجاناً ، لتضمن دعواه أن نصيبه عتق بإعتاق شريكه الموسر ، ولا يعتق نصيب الموسر ، لأن دعواه أن المعسر أعتق ، والحكم أن عتقه لا يسري على ما تقرر ، ولا تقبل شهادة المعسر عليه ، لأنه يجر بها نفعاً ، لكونها توجب عليه نصف القيمة ، نعم له علي اليمين لضمان السراية ، فإن نكل قضي عليه ، وإن رد اليمين وقلنا بذلك فحلف المعسر أخذ قيمة حقه ، ولم يعتق حق الموسر باليمين المردودة ، لأنه لم يوجد منه إقرار ولا ما يقوم مقامه وهو النكول ، ولا ولاء للمعسر في نصيبه ، لأنه لا يدعيه ، فإن عاد المعسر أعتق نصيبه وادعاه ثبت له ، قاله أبو محمد ، وفيه شيء ، لأن دعواه أولاً تبطل دعواه ثانياً ، وكذلك إن عاد الموسر فأقر بإعتاق نصيبه ثبت له الولاء ، وغرم نصيب المعسر ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا مات رجل وخلف ابنين وعبدين لا يملك غيرهما ، وهما متساويان في القيمة ، فقال أحد الابنين : أبي أعتق هذا . وقال الآخر : أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما . أقرع بينهما ، فإن وقعت القرعة على الذي اعترف الابن بعتقه عتق منه ثلثاه ، إن لم يجز الابنان عتقه كاملاً ، وكان الآخر عبداً ، وإن وقعت القرعة على الآخر عقت منه ثلثه ، وكان لمن أقرعنا بقوله فيه سدسه ونصف العبد الآخر ، ولأخيه نصفه وسدس العبد الذي اعترف أن أباه أعتقه ، فصار ثلث كل واحد من العبدين حراً .
ش : هذه المسألة محمولة على حالة يكون التبرع فيها من الثلث ، كالعتق في مرض الموت ونحو ذلك ، إذ لو لم يكن كذلك لنفذ العتق في الكل ، ولم يقف على إجازة الورثة ، وقرينة هذا ذكر الإجازة في الورثة .
إذا تقرر أن ذلك حالةٍ العتق فيها من الثلث فلا يخلو ذلك من أربعة أحوال ( أحدها ) أن يعينا العتق في أحدهما ، فيعتق منه ثلثاه ، إن لم يجيزا عتقه كاملاً ، لأن ذلك ثلث جميع ماله ، وهذا واضح ( الثاني ) عين كل واحد منهما العتق في غير الذي عينه أخوه ، فيعتق من كل واحد ثلثه ، لأن مجرد قول الشخص إنما يقبل في حق نفسه دون حق غيره ، وحق كل واحد منهما نصف العبدين ، فيقبل قوله في حقه من الذي عينه وهو ثلثاه ، وذلك هو الثلث ، ويبقى له نصف ثلثه وهو السدس ، ونصف العبد الآخر ( الثالث ) قال أحدهما : أبي أعتق هذا . وقال الآخر : أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما . وهي صورة الكتاب ، فإنه يقرع بينهما لتبيين ما حصل فيه الإبهام ، فإن وقعت على الذي اعترف الابن بعتقه عتق منه ثلثاه ، لأن بخروج القرعة عليه كأنه قد حصل اتفاق الابنين على عتقه ، وإذاً يعتق ثلثاه ، إلا أن يجيزا عتقه كاملاً فيعتق جميعه ، لأن ذلك محض حقهما ، ويبقى العبد الآخر على الرق ، لأنه قد تبين أنه لم يقع في عتق ، وإن وقعت على الآخر كان كما لو عين كل منهما عبداً كما تقدم ، يعتق من الذي خرجت عليه القرعة ثلثه ، لأنه حق الذي قال : لا أدري . وله وهو الذي أقرعنا بسبب قوله سدسه ، ونصف العبد الآخر ، ولأخيه نصف الذي خرجت عليه القرعة ، لأنه ينكر العتق فيه رأساً وسدس العبد الذي اعترف أن أباه أعتقه ، لأن ثلثه عتق بإقراره كما تقدم ، وإذاً آل الأمر إلى أن صار ثلث كل واحد منهما حراً ( الحال الرابع ) أن يقولا : أعتق أحدهما ولا ندري من منهما . فإنه يقرع بين العبدين ، فمن وقعت عليه القرعة عتق منه ثلثاه ، إن لم يجيزا عتقه كله ، وبقي الآخر على الرق ، والفطن لا يخفى عليه جميع الأحوال من مسألة الكتاب ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كان لرجل نصف عبد ، ولآخر ثلثه ، ولآخر سدسه ، فأعتقه صاحب النصف وصاحب السدس معاً ، وكانا موسرين ، عتق عليهما ، وضمنا حق شريكهما فيه نصفين ، وكان ولاؤه بينهما أثلاثاً ، لصاحب النصف ثلثاه ، ولصاحب السدس ثلثه .
ش : ملخصه أن العتق إذا سرى على اثنين من الشركاء فأكثر بعتقهما معاً هل يكون على عدد رؤوسهم وهو المذهب المجزوم به بلا ريب لأن العتق بمنزلة الإتلاف ، وقد وجد منهما فيتساويان في ضمانه ، كما لو جرحه أحدهما جرحا ، والآخر أكثر منه ، أو على قدر المالكين وهو احتمال لأبي الخطاب لأن ذلك حصل بسبب الملك ، فقدر بقدره كالنفقة ؟ على قولين ، ( فعلى المذهب ) إذا أعتق صاحب النصف وصاحب السدس والحال ما تقدم ، عتق عليهما نصيب صاحب الثلثين نصفين ، فيحصل لصاحب النصف الثلثان ، النصف بالمباشرة ، والسدس بالسراية ، ولصاحب السدس الثلث ، نصفه مباشرة ، ونصفه سراية ، ( وعلى الاحتمال ) الآخر يكون الثلث بينهما أرباعاً ، لصاحل النصف نصفه ، ونصف نصفه ، وذلك سدس ونصف سدس ، وذلك ربع ، فيستقر عليه عتق ثلاثة أرباع العبد ، ولصاحب السدس ربع الثلث ، وهو نصف السدس ، فيستقر عليه عتق ربعه ، ولو كان المعتق صاحب النصف وصاحب الثلث ، لكان ( على المذهب ) المعتق الربع ، لصاحب النصف الثلث والربع ، ولصاحب الثلث الربع والسدس ، ( وعلى الاحتمال ) السدس بينهما أخماساً ، لصاحب النصف ثلاثة أخماسه ، ولصاحب الثلث خمساه ، فالعبد على ثلاثين سهماً ، لصاحب النصف ثمانية عشر ، وذلك نصفه ونصف خمسه ، ولصاحب الثلث اثنا عشر ، وذلك خمساه ، ولو كان المعتق صاحب السدس والثلث لكان ( على المذهب ) لصاحب السدس ربع وسدس ، ولصاحب الثلث ثلث وربع ، ( وعلى الاحتمال ) النصف مقسوم بينهما على ثلاثة ، فيستقر لصاحب السدس الثلث ولصاحب الثلث الثلثان والضمان والولاء تابعان للسراية .
وقول الخرقي : معاً . قد تقدم ثم تصوير ذلك بأن يتفق تلفظهما بالعتق في آن واحد ، أو يعلقاه على صفة واحدة ، أو يوكلا شخصاً يعتق عنهما ، فلو سبق أحدهما بالعتق لعتق عليه كله بشرطه كما تقدم ، وقوله : وهما موسران ، لأنهما لو كانا معسرين لم يسر كما تقدم ، وإن كان أحدهما موسراً فقط اختص بالسراية .
قال : وإذا كانت الأمة نفسين فأصابها أحدهما وأحبلها أدب ولم يبلغ به الحد .
ش : قد تضمن هذا الكلام تحريم وطءالجارية المشتركة وهذا واللَّه أعلم اتفاق ، وقد دل عليه قوله سبحانه وتعالى : [ ب 2 ] 19 ( { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } ) [ ب 1 ] إلى [ ب 2 ] 19 ( { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } ) [ ب 1 ] والوطء والحال هذه قد صادف ملك الغير بلا نكاح ، فإذا وطىء الشريك أثم بلا ريب ، ( ولا حد عليه ) كما تضمنه أيضاً كلام الخرقي ، وهو قول العامة ، لأنه وطء صادف ملكاً له ، أشبه ما لو وطىء زوجته الحائض ، وكما لو سرق عيناً له بعضها ، ويعزر اتفاقاً ، لإتيانه ، المعصية ، ولا يبلغ به الحد ، لأنه لو بلغ به الحد لصار حداً .
وظاهر كلام الخرقي أنه يجوز أن يزاد على عشر جلدات وقد تقدم ذلك مستوفى في التعزيرات على ما يسره اللَّه سبحانه ، فلينظر ثم ، ولا فرق في هذا كله بين أن يحبلها أو لا يحبلها ، وإنما ذكر الإحبال قيداً فيما يأتي بعده واللَّه أعلم .
قال : وضمن نصف قيمته لشريكه ، وصارت أم ولد له .
ش : يعني الشريك المحبل تصير الأمة المشتركة أم ولد له ، لأنه وطء صادف ملكاً له ، فأشبه ما لو كانت خالصة له ، ولأن العتق يسري إلى ملك الغير ، فلأن يسري الاستيلاد أولى لقوته ، بدليل صحته من المجنون ، ونفوذه في مرض الموت ، بخلاف العتق ، فإنه إنما ينفذ في المرض من الثلث ، ولا يصح من مجنون ، وإذا صارت أم ولد له ضمن نصف قيمتها لشريكه ، لأنه أتلف ذلك عليه معنى ، أشبه ما لو أتلفه عليه حساً .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه والحال هذه شيء من المهر ، ولا من قيمة الولد ، وهذا إحدى الروايات ، وظاهر كلام أبي الخطاب ، وأبي محمد في المقنع ، وعلله القاضي في تعليقه في كتاب الغصب بأن زوال ملك الشريك حصل بفعل اللَّه ، وهو انعقاد الولد ، وهذا يقتضي أن لا يجب نصف قيمة الأمة ، وليس بشيء ، وقد يعلل بأن المهر إنما يستقر بالنزع ، وعند النزع كانت مملوكة ، لأنها انتقلت إليه بالعلوق ، والولد لا قيمة له إذاً ( والرواية الثانية ) لا يلزمه للولد شيء لما تقدم ، ويلزمه نصف مهرها ، لمصادفة الوطء لملك الغير ، والانتقال حصل بعد ذلك ، وقد يؤخذ من هاتين خلاف المهر هل ( يستقر ) بالإيلاج أو ( لا يستقر ) إلا بالنزع ( والرواية الثالثة ) يلزمه نصف مهرها لما تقدم ، ونصف قيمة الولد ، لأنه بفعله منع انخلاقه على ملك الشريك ، أشبه ولد المغرور ، وقال القاضي إن وضعته بعد التقويم فلا شيء فيه ، لأنها وضعته في ملكه ، وإن وضعته قبل ذلك فالروايتان ، واختار اللزوم ، واعلم أن الإحبال ليس بكاف في ما تقدم ، بل لا بد من وضع ما تصير به أم ولد كما سيأتي ، وقد أشعر بذلك قوله صارت أم ولد له وولده حر ، واللَّه أعلم .
قال : وولده حر .
ش : لأنه وطء في محل له في ملك ، أشبه ما لو وطىء زوجته في الحيض ، أو في الإحرام ونحو ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : فإن كان معسراً كان في ذمته نصف قيمتها .
ش : لا فرق في سراية الاستيلاد بين الموسر والمعسر على منصوص أحمد ، واختيار الخرقي والشيخين وغيرهما ، لما تقدم قبل ، وعلى هذا يبقى في دمته نصف قيمة الجارية ، لأن اللَّه سبحانه أوجب إنظار المعسر بقوله سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ) [ ب 1 ] وقال القاضي في الجامع الصغير ، وأبو الخطاب في الهداية : لا يسري الاستيلاد مع الإعسار كالمباشرة ، وحذاراً من إضرار الشريك بتأخير حقه ، وعلى هذا هل يكون الولد كله حراً ، تغليباً للحرية وهو ظاهر كلام الأكثرين أو نصفه حراً ونصفه رقيقاً كأمه ؟ فيه احتمالان ، ذكرهما في المغني .
قال : وإن لم تحبل منه فعليه نصف مهر مثلها ، وهي على ملكهما .
ش : أما وجوب نصف مهر المثل والحال هذه فلأن منفعة البضع مشتركة بينه وبين شريكه ، وقد استوفاها ، فوجب عليه ما يقابل نصيب شريكه ، كما لو فعل ذلك أجنبي ، وأما كونها والحال هذه على ملكهما لأن المقتضي والحال هذه لتزلزل ملكهما الاستيلاد ، ولم يوجد ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا ملك سهما من بعض من يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله ، وكان لشريكه عليه قيمة حقه منه ، وإن كان معسراً لم يعتق عليه منه إلا مقدار ما ملك ، وإذا ملك بعضه بالميراث لم يعتق عليه إلا مقدار ما ملك منه ، موسراً كان أو معسراً .
ش : إذا ملك سهما ممن يعتق عليه وهو ذو الرحم المحرم فلا يخلو إما أن يكون بغير اختياره كالميراث ، أو باختياره كالبيع والهبة والاغتنام ونحو ذلك ، وفي كليهما يعتق السهم الذي ملكه ، لأن كل سبب إذا وجد في الكل عتق به ، إذا وجد في البعض عتق به ، كالإعتاق بالقول ، ثم ينظر فإن كان معسراً استقر العتق في ذلك السهم ، ولم يسر على المذهب ، كما تقدم في المباشرة ، وإن كان موسراً والتملك باختياره سرى عليه في نصيب شريكه ، لأنه تسبب في العتق اختياراً منه ، فسرى عليه كما لو وكل في عتق بعض عبد يملكه ، وإن كان التملك بغير اختياره لم يسر عليه ، على المشهور عند الأصحاب ، والمجزوم به للقاضي في الجامع ، وأبي محمد في الكافي وغيرهما ، لأنه لم يتسبب في الإعتاق ، إنما حصل بغير اختياره ، ومنصوص أحمد في رواية المروذي أنه يسري عليه والحال هذه ، لأنه عبد عتق عليه بعضه وهو موسر ، فسرى إلى باقيه ، كما لو أوصي له به فقبله ، ولم يذكر القاضي في الروايتين بالأول نصاً ، وحيث سرى ضمن لشريكه قيمة حقه منه ، لإتلاف ذلك عليه .
وقول الخرقي : من بعض . إشعار لكون السهم قليلاً ، ونبه بذلك على الكثير ، وهو كذلك .
( تنبيه ) : حكم إرث الصبي والمجنون حكم إرث غيرهما إما لو وهب لهما أو وصي لهما بسهم ممن يعتق عليها ، فهل يسري عليهما مع يسارهما إن قبله الولي ، لكونه قائماً مقامهما ، أو لا يسري لدخوله في ملكهما بغير اختيارهما ؟ فيه وجهان ، وعليهما يتفرع جواز قوبل الولي وعدمه ، وحيث جاز له القول فشرطه أن يكونا ممن لا تلزمه النفقة ، وحيث منع من القبول فقبل فهل يصح ويلزمه الغرامة ، أو لا يصح رأساً ؟ فيه احتمالان .
قال : وإذا كان له ثلاثة أعبد فأعتقهم في مرض موته ، أو دبرهم ، أو دبر أحدهم . وأوصى بعتق الآخرين ، ولم يخرج من ثلثه إلا واحد منهم ، لتساوي قيمتهم ، أقرع بينهم بسهم حرية ، وسهمي رق ، فمن وقع له سهم حرية عتق دون صاحبيه .
ش : أما كونه يقرع بينهم والحال هذه :
3892 فلما روى عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ، لم يكن له مال غيرهم ، فدعا بهم رسول اللَّه فجزأهم أثلاثاً ، ثم أقرع بينهم ، فأعتق اثنين وأرق أربعة ، وقال له قولاً شديداً ، رواه الجماعة إلا البخاري .
3893 وعن أبي زيد الأنصاري رضي اللَّه عنه ، أن رجلاً أعتق ستة أعبد عند موته ، ليس له مال غيرهم ، فأقرع بينهم رسول اللَّه فأعتق اثنين وأرق أربعة ، رواه أحمد وأبو داود بمعناه ، وقال فيه : ( لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين ) ولأنه حق في تفريقه ضرر ، فوجب جمعه بالقرعة كقسمة الإجبار مع الطلب إجماعاً ، وبذلك يبطل قول الخصم : إنه مخالف للقياس ، ثم لو سلم ذلك فالحجة في قول رسول اللَّه مطلقاً : ويدل على دخول القرعة في المشتبهات في الجملة قوله سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { فساهم فكان من المدحضين } ) [ ب 1 ] وقوله سبحانه : [ ب 2 ] 19 ( { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } ) [ ب 1 ] ولا يعترض على هذا بأنه منسوخ ، لعدم جوازه في شريعتنا ، لأنا نقول : دل ذلك على شيئين ، مشروعية القرعة مطلقاً في الكفالة ، وإلقاء واحد من الجماعة في اليم ، وامتناع القرعة في دين لا يدل على عدم مشروعية القرعة مطلقاً ، كيف وقد حصل تواتر معنوي على مشروعيتها ، قال أحمد : في القرعة خمس سنن :
3894 أقرع بين نسائه ، وأقرع بين ستة مملوكين .
3895 وقال لرجلين ( استهما ) .
3896 وقال : ( مثل القائم بحدود اللَّه والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ) .
3897 وقال : ( لو يعلم الناس في في النداء والصف الأول لاستهموا عليه ) . انتهى .
3898 ولما تشاح الناس في الأذان يوم القادسية أقرع بينهم سعد ، وهذا إجماع من الصحابة على مشروعية القرعة ، وصفة القرعة أن يقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق ، فمن خرج له سهم الحرية عتقه دون الآخرين ، فيكتب ثلاث رقاع ، في واحدة حرية ، وفي اثنتين رق ، وتترك في ثلاث بنادق شمع أو طين ، وتغطى بثوب ، ويقال لمن لم يحضر : أخرج بندقة لهذا ، فإن خرج له رقعة حرية عتق ، وورق الآخران ، وإن خرجت رقعة رق رق ، وأخرجت أخرى على آخر ، فإن خرجت رقعة الحرية عتق ورق الثالث ، وإن خرجت رقعة رق رق ، وتعين عتق الثالث ، لانحصار العتق في الثلاثة ، ولا تتعين هذه الصفة ، بل كيف ما أقرع جاز ، وهذا في الصورة التي ذكرها الخرقي ، وهي إذا استوت قيمتهم ، أما إن اختلفت فلذلك صور ليس هذا موضع بيانها . واعلم أنه يستفاد من كلام الخرقي مسائل غير ما استفيد منه بالنص وهو ما تقدم ( إحداها ) أن قوله : إذا كان له ثلاثة أعبد فأعتقهم في مرض موته . يشمل ما إذا أعتقهم في دفعات لكان أولى ، لأنه قال بعد : ولو قال لهم في مرض موته أحدكم حر ، أو كلكم حر . ومات فكذلك ؛ فصرح بما إذا أعتقهم ، فلو لم يحمل هذا على أنه أعتقهم في دفعات أو على العموم لكان تكراراً وهو خلاف الظاهر ، لا سيما في هذا المحل ، فإنه يبعد جداً ، لعدم الفصل بين المسألتين ، ويعلم من هذا أن مذهب الخرقي أنه يسوي في العطايا بين متقدمها ومتأخرها ، وهذا إحدى الروايات ، لما تقدم من حديثي جابر وأبي زيد رضي اللَّه عنهما ، أن النبي لم يستفصل هل أعتقهم بكلمة أو بكلمات ( والرواية الثانية ) أن يقدم الأول فالأول ، إلى أن يستوفي الثلث ، وهي المذهب عند الأصحاب ، حتى أن أبا محمد جزم بها ، وحمل كلام الخرقي على العتق دفعة واحدة ، ويلزم منه المحذور السابق ( والرواية الثالثة ) إن كان فيها عتق قدم ، وإلا سوي بين متقدمها ومتأخرها . انتهى . ( الثانية ) أن قوله : في مرض موته . يخرج ما إذا أعتقهم في صحته ، فإن عتقهم ينفذ وإن كان عليه دين يستغرق قيمتهم ، على المذهب المعروف ، ما لم يكن محجوراً عليه بفلس أو سفه ، فإن في نفوذ عتقه خلافاً مشهوراً ( الثالثة ) دل كلامه على أن العتق في مرض الموت من الثلث ، ولا خلاف في ذلك فيما نعلمه ، وقد شهد له حديث جابر وأبي زيد ، وأن الوصية أيضاً بالعتق من الثلث ، وهذا واضح أيضاً ، لما تقدم من قوله عليه السلام : ( إن اللَّه تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم ) الحديث . وكذلك التدبير أيضاً ، وهو المذهب بلا ريب ، لأن التدبير عتق معلق بالموت فهو كالوصية ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن التدبير في الصحة معتبر من رأس المال ، نظراً لحالته الراهنة . ( الرابعة ) إطلاقه هنا يقتضي أن الوصايا إذا وقعت دفعات سوي بين متقدمها ومتأخرها ، وهذا هو المذهب هنا بلا ريب ، عكس المذهب في العطايا ، وفيه رواية أخرى إن كان فيها عتق قدم ، وإلا سوي كرواية ثم ، ولا نعلم هنا رواية بتقديم الأسبق فالأسبق . ( الخامسة ) صريح كلامه التسوية بين التدبير والوصية بالعتق ، وذلك لأنهما اجتمعا في كونها عتقا بعد الموت ، ولأبي محمد احتمال بتقديم التدبير ، لأن الحرية تقع فيه بالموت ، والوصية تقف فيه على الإعتاق بعده . انتهى . ويقوي هذا الاحتمال أو يتعين إن قيل : إن كان التدبير في الصحة وقلنا : إنه من رأس المال .
( السادسة ) قوله : ولم يخرج من الثلث إلا أحدهم لتساوي قيمتهم . يخرج به ما إذا خرج الجميع من الثلث فإنا نعتقهم ، ولو لم يخرج منهم شيء لدين على الميت ونحو ذلك فإنا لا نعتق منهم شيئاً .
قال : ولو قال لهم في مرض موته : أحدكم حر . أو كلكم حر . ومات فكذلك .
ش : يعني حكم ذلك حكم ما تقدم ، وقد تقدم التنبيه على صورة : كلكم حر . أما أحدكم حر إذا لم ينو معيناً فإنه يقرع بينهم ، إذ لم يكن عليه دين يستغرقهم ، فمن خرجت عليه القرعة عتق إن خرج من الثلث ، وإلا عتق منه قدر الثلث ، وإن نوى معيناً تعين العتق فيه ، وليس للمعتق التعيين إذا لم ينوه على المذهب ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا ملك نصف عبد فدبره ، أو أعتقه في مرض موته ، فعتق بموته ، وكان ثلث ماله يفي بقيمة النصف الذي لشريكه أعطي وكان كله حراً في إحدى الروايتين عن أبي عبد اللَّه رحمه اللَّه ، والرواية الأخرى لا يعتق إلا حصته وإن حمل ثلث ماله حصة شريكه .
ش : الرواية الأولى اختيار أبي الخطاب في خلافه ، إلا أنه إنما صرح بذلك في العتق ، وذلك لأن تصرف المريض في ثلث ماله كتصرف الصحيح في الجميع ، ولو أعتق الصحيح الموسر سرى في كل ماله ، فكذلك يسري في ثلثه ( والثانية ) اختيار الشيرازي ، والشريف ، وحكاه عن شيخه ، لأن حق الورثة تعلق بماله إلا ما استثنيناه من الثلث بتصرفه فيه ، وفي المذهب ( رواية ثالثة ) يسري في العتق لما تقدم ، إذ العتق يقع في حال الحياة ، ولا يسري في التدبير ، لأن ملكه يزول بموته ، فلم يبق له شيء يوفي منه ، وهذه اختيار القاضي في الروايتين ، إلا أنه لم يصرح برواية إنما قال : يجب أن يكون الصحيح من الروايتين أنه إذا أعتق في مرضه قُوّم ، وإذا أوصى لم يُقَوَّم ، واعلم أن حكم الوصية يعتق بذلك حكم تدبيره ، صرح به القاضي في روايتيه ، وأبو الخطاب وغيرهما .
وقول الخرقي : فعتق بموته . أي بسبب موته ، إشعار منه بأن العتق في المرض والتدبير والوصية جميع ذلك معتبر بالموت ، إن كان له مال يخرج له من ثلثه نفذ ، وإلا نفذ منه قدر الثلث ، وإن لم يكن له مال ، أو كان له لكن عليه دين يستغرقه ، لم ينفذ منه شيء ، وقوله : وكان ثلث ماله يفي بقيمة نصف الشريك ، يحترز عما إذا لم يف بقيمة نصيب الشريك ، وتحته صورتان ( إحداهما ) لا يفي بشيء منه ، فهذا لا يعتق إلا نصيبه ، قال أبو محمد : بلا خلاف نعلمه ، إلا قول من يقول بالسعاية ( الثانية ) وفي ببعضه ، فينبغي أن يتخرج على العتق والحال هذه في حال الصحة ، إن قلنا : يسري في ذلك القدر على المنصوص . خرج هنا الخلاف السابق ، وإن قلنا : لا يسري ثم فهاهنا أولى .
ومقتضى كلام الخرقي أنه بمجرد التدبير لا يسري عليه ، وهذا هو المذهب المشهور المجزوم به للقاضي وغيره ، إذ التدبير إما تعليق بصفة أو وصية ، وكلاهما لا يسري ، وحكى أبو الخطاب والشيخان وجها ، وابن حمدان في رعايتيه رواية بالسراية ، فيصير كله مدبراً ، ويغرم لشريكه قيمة حقه منه ، لأنه سبب يوجب العتق بالموت ، فسرى كالاستيلاد ، وهذا التعليل يوجب السراية ولو مع الإعسار ، كالاستيلاد على المنصوص ، وهو مقتضى إطلاق أبي الخطاب وأبي محمد في المقنع ، وابن حمدان ، وهو مشكل على أبي الخطاب ، لأن الأصل عنده إنما يسري مع اليسار ، فكذلك الفرع ، وقيد ذلك أبو محمد في المغني وأبو البركات باليسار ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك إذا دبر بعضه وهو مالك لكله .
ش : يعني فيه الروايتان ، وهل يسري في بقيته إن وفي ثلثه به ، لما تقدم من أنه غير محجور عليه في الثلث ، أو لا يسري ، لما تقدم من أن ملكه يزول بالموت ؟ ولم يتعرض الخرقي لما إذا أعتق بعضه في مرض موته وهو مالك لكله ، وفيه أيضاً الخلاف السابق .
قال : ولو أعتقهم وثلثه يحتملهم فأعتقناهم ، ثم ظهر عليه دين يستغرقهم بعناهم في دينه .
ش : وهذا راجع لما تقدم من قوله : وإذا كان له ثلاثة أعبد ، فأعتقهم في مرض موته . وهذا الذي قاله الخرقي هو المذهب بلا ريب ، قطع به غير واحد من الأصحاب ، لأنه تبرع في المرض بما يعتبر من الثلث ، فقدم الدين عليه كالهبة ، ولأن العتق والحال هذه بمنزلة الوصية ، والدين مقدم على الوصية .
3899 وقال علي رضي اللَّه عنه : قضى رسول اللَّه أن الدين قبل الوصية . ذكره البخاري تعليقا ، وهو بعض حديث رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وحكى أبو الخطاب في كتابيه رواية يعتق ثلثهم والحال هذه ، فعلى الأولى إن اختار الورثة إمضاء العتق وقضاء الدين فهل لهم ذلك ؟ فيه وجهان في المغني ، واحتمالان في الكافي .
وقيل : مبناهما إذا تصرف الورثة في التركة ، وعلى الميت دين ، وقضي الدين هل ينفذ ؟ فيه وجهان ، والخرقي صور المسألة فيما إذا ظهر عليه دين ، فلو كان الدين ظاهراً فكلام أبي الخطاب يقتضي جريان الخلاف فيه أيضاً .
قال : ولو أعتقهم وهم ثلاثة فأعتقنا منهم واحداً لعجز ثلثه عن أكثر منه ، ثم ظهر له مال يخرجون من ثلثه عتق من أرق منهم .
ش : يعني أن الاعتبار بما في نفس الأمر ، لا بما يظهر لنا ، كما في المسألة التي قبلها ، إذ خفاء صحة التصرف علينا لا يمنع صحته إذا وجد شرطه ، وقد وجد ، إذ الإنسان له أن يتصرف في ثلث ماله عند موته بما شاء ، وقوله : عتق من أرق منهم ، أي تبينا عتقه حين خروجه من الثلث ، وحكم التدبير والوصية كذلك .
قال : ومن قال لعبده : أنت حر في وقت سماه ، لم يعتق حتى يأتي ذلك الوقت .
ش : يصح تعليق العتق على شرط ، كقدوم زيد ، وأول رجب ، ونحو ذلك .
3900 لأنه يروى عن أبي ذر أنه قال لعبده : أنه عتيق إلى رأس الحول . ولا يعرف له مخالف ، ولأنه عتق بصفة فصح كالتدبير ، أو إزالة فصح على ذلك كالطلاق ، إذا تقرر هذا فلا يعتق حتى يجيء الشرط ، لأن المعلق على شرط عدم عند عدمه ، ويعتق عند وجوده ، لوجود السبب ، مع انتفاء المانع ، نعم شرط عتقه أن يوجد الشرط وهو في ملكه ، فلو كان قد خرج من ملكه لم يعتق ، إذ ( لا عتق لابن آدم فيما لا يملك ) كما شهد به النص .
قال : وإذا أسلمت أو ولد النصراني منع من غشيانها والتلذذ بها ، وكان نفقتها عليه ، فإذا مات عتقت .
ش : هذه المسألة قد ذكرها هنا رحمه اللَّه وذكرها أيضاً في أحكام أمهات الأولاد ، فلنؤخر ذكرها إلى ثم ، فإنه أليق بها ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا قال لأمته : أول ولدته تلدينه فهو حر . فولدت اثنين أقرع بينهما ، فمن أصابته القرعة عتق إذا أشكل أولهما خروجاً .
ش : وذلك لأن أحدهما استحق العتق في نفس الأمر ، ولم يعلم عينه ، فوجب إخراجه بالقرعة ، كما لو قال لعبديه : أحدكما حر . ولو علم أولهما خروجاً حكم بعتقه وحده من غير قرعة ، لوجود الشرط ، إذ هو أول ولد ولدته ، وهذا بشرط أن تلدهما حيين ، أما إن ولدت الأول ميتاً ، والثاني حياً ففيه روايتان ( إحداهما ) وهي اختيار أبي محمد ، قطع به في المقنع ، وصححه في المغني مع أنه لم يذكر ذلك رواية ، إنما ذكره عن الشافعي وغيره لا يعتق منهما شيء ، إذ شرط العتق وجد في الميت ، إذ هو أول ولد ولدته ، وليس بمحل للعتق ، فانحلت اليمين به ( والرواية الثانية ) وبها جزم القاضي في الجامع الصغير ، وكثير من أصحابه ، الشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ابن عقيل في التذكرة يعتق الحي منهما لأن القصد من اليمين التعليق على ولد يصح العتق فيه ، وذلك بأن يكون حياً ، فالحياة مشروطة فيه ، فكأنه قال أول ولد تلدينه حياً فهو حر . واللَّه أعلم .
قال : وإذا قال العبد لرجل : اشترني من سيدي بهذا المال ، وأعتقني . ففعل فقد صار العبد حراً ، وعلى المشتري أن يؤدي إلى البائع مثل الذي اشتراه به ، وولاؤه للذي اشتراه ، إلا أن يكون قال له . بعني بهذا المال ، فيكون الشراء والعتق باطلاً ، ويكون السيد قد أخذ ماله أخذه .
ش : ملخصه أن شراء الأجنبي للعبد والحال هذه لا يخلو إما أن يكون في الذمة أو بعين المال الذي دفعه له العبد ، فإن كان في الذمة فالشراء صحيح ، لأن تصرف
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15