كتاب : شرح الزركشي على مختصر الخرقي
المؤلف : شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي


قال : وكذلك في الدين الذين على الميت ، إذا وثق الورثة .
ش : أي لا يحل بالموت إذا وثق الورثة بأقل الأمرين ، من قيمة التركة ، أو الدين ، بكفيل مليء ، أو رهن يفي بالحق ، لأن الأجل حق للميت ، فورث عنه كبقية حقوقه .
2047 قال : ( من ترك حقاً أو مالًا فلورثته ) هذا هو المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين ( والثانية ) وهي اختيار ابن أبي موسى : يحل . لأن ذمة الميت قد خربت ، أو في حكم الخراب ، لتعذر المطالبة ، والورثة لم يلتزموا الدين ، ولا رضي صاحبه بذممهم ، وتعلقه بالتركة فيه ضرر على الميت ، لأن ذمته مرتهنة بدينه .
2048 كما في الترمذي وحسنه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله : ( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ) وعلى رب الدين ، لاحتمال تلف التركة ، ولا نفع فيه للورثة ، لعدم تصرفهم في التركة إن قيل بتعلق الدين بها ، انتهى ، فإن لم يوثق الورثة حل على المشهور والمجزوم به للشيخين وغيرهما ، لغلبة الضرر ، وظاهر كلام أبي الخطاب في الانتصار أن الوارث لا يلزمه التوثيق إذا كانت ذمته مليئة ، وإنما يلزمه إذا كان على غير مليء .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) فعلى المذهب إن لم يكن له وارث فهل يحل الدين ، أو لا وينتقل المال إلى بيت المال ، ويضمن للغرماء ؟ فيه احتمالان ذكرهما في الانتصار ، ( الثاني ) لا خلاف نعلمه أن دين الميت المؤجل لا يحل بموته ، وكذلك لا يحل دين المفلس المؤجل بفلسه ، والله أعلم .
قال : وكل ما فعله المفلس في ماله قبل أن يوقفه الحاكم فجائز .
ش : معنى إيقاف الحاكم هو تفليسه ، لأنه بالتفليس أوقفه عن التصرف في ماله ، ويحتمل أن يريد بإيقاف الحاكم له إظهار الحجر عليه ، بالمناداة عليه بأن فلاناً قد حجر الحاكم عليه فلا تعاملوه ، وبالجملة ما فعله المفلس قبل تفليس الحاكم له في ماله ، من بيع ، أو قضاء بعض الغرماء ، ونحو ذلك فهو جائز ، لأنه رشيد غير محجور عليه ، فنفذ تصرفه كغيره .
ومفهوم كلام الخرقي أن ما فعله في ماله بعد الحجر عليه لا يجوز ، أي لا يصح وهو كذلك ، وقد تقدم ، ويدخل في عموم المفهوم عتقه لبعض أرقائه ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي الخطاب ، وأبي محمد ، ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه ، والقاضي والشريف : ينفذ ، وإنما قيد ذلك بالمال لأن تصرفه في الذمة يصح مطلقاً ، لكن لا يشارك أصحابه بعد الحجر عليه الغرماء ، والله أعلم .
قال : وينفق على المفلس ، وعلى من تلزمه مؤونته من ماله ، إلى أن يفرغ من قسمته بين غرمائه .
ش : ينفق على المفلس من ماله ، لأن ملكه باق .
2049 وقد قال : ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) وكذلك ينفق على من تلزمه مؤنته للحديث ، وشرط أبو محمد للنفقة عليه وعلى من تلزمه مؤونته أن لا يكون له صناعة تفي بذلك ، والواجب من النفقة أدنى نفقة مثله بالمعروف ، وحكم الكسوة حكم النفقة ، والله أعلم .
قال : ولا تباع داره التي لا غنى له عن سكناها .
ش : لأن حاجته داعية إلى ذلك ، فأشبه النفقة ، والكسوة ، ولابن حمدان احتمال أن من أدان ما اشترى به مسكناً ، أنه يباع ، ولا يترك له ، ولو كان المسكن عين ماله بعض الغرماء أخذه بالشروط السابقة ، وقد تقدم ذلك للخرقي ، وحكم الخادم المحتاج إليه حكم الدار ، وقد خرج من كلام الخرقي إذا كان له داران ، فإن إحداهما تباع ، لغناه عنها ، وكذلك لو كانت له دار واسعة ، لا يسكنها مثله ، ويشترى له مسكن مثله والله أعلم .
قال : ومن وجب عليه دين فذكر أنه معسر به حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بمعسرته .
ش : من وجب عليه دين فإن كان مؤجلًا لم يطالب به ولم يلازم به ، وإن كان حالًا فطولب به وله مال ظاهر أمر بوفائه ، وإن لم يكن له مال ظاهر فذكر أنه معسر ، فإن صدقه الغريم أو لم يصدقه وقامت بينة كما سيأتي بذلك لم يتعرض له لقوله تعالى : 19 ( { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ) ، وإن لم يصدقه ولم تقم بينة بذلك ، فإن علم له مال ، أو كان دينه ثبت عن مال كالبيع والقرض والغالب بقاؤه ، أو من غير مال كالضمان ونحوه وأقر أنه مليء ، فالقول قول غريمه مع يمينه أنه لا يعلم عسرته بدينه ، وفي الرعاية أنه يحلف أنه موسر بدينه ، ولا يعلم إعساره به ، فإن نكل عن اليمين حلف المفلس وخلي سبيله ، وإن حلف حبس المدين ليظهر حاله إلى أن يقيم بينة ولو بعد يوم [ تشهد بتلف أو إعساره هذا هو التحقيق ، وفاقاً للمجد وغيره ، وفي التلخيص أنها لابد وأن تشهد بالتلف ، وظاهر كلامه : والإِعسار . وكذا في الرعاية ، قال : ] تشهد بذهابه وإعساره ، لا أنه لا يملك شيئا ، ثم إن شهدت بالإِعسار اعتبر خبرتها بباطنه وإن شهدت بالتلف لم يعتبر ذلك ، إذ التلف يطلع عليه كل أحد ، بخلاف الإِعسار ، وهل يحلف مع بينته ؟ فيه قولان ، والتحقيق منهما وقطع به أبو محمد في الكافي ، وأبو البركات ، وصححه ابن حمدان أنها إن شهدت بالتلف فطلب منه اليمين على عسرته وجب عليه ذلك ، لأن اليمين على أمر محتمل ، خلاف ما شهدت به البينة ، وإن شهدت بالإِعسار فلا ، لما فيه من تكذيب البينة ، وإن لم يعلم له مال ، ولم يكن دينه عن مال ، كعوض النكاح وغيره ، ولم يقر بالملاءة به ، أو عن مال والغالب ذهابه ، فالقول قوله مع يمينه ، لترجحة جانبه ، إذ الأصل عدم المال ، ومن ثم يرجح جانب غريمه فيما إذا ثبت له مال إذ الأصل بقاؤه ، والخرقي رحمه الله لم يفرق بين حالة وحالة والمعروف التفرقة .
وقد علم من كلام الخرقي أن البينة تسمع على الإِعسار وهو كذلك .
2050 لحديث قبيصة بن المخارق وقد تقدم في الزكاة ( حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه : لبد أصابت فلاناً فاقه ) والله أعلم .
قال : وإذا مات فتبين أنه كان مفلساً لم يكن لأحد من الغرماء أن يرجع في عين ماله .
ش : هذا الشرط الرابع في رجوع البائع في عين ماله ، وهو أن يكون المفلس حياً ، فإن مات فلا رجوع له ، سواء مات بعد الحجر عليه أو قبله فتبين فلسه .
2051 لأن في بعض ألفاظ الحديث : عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن النبي : ( أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه منه ، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً ، فهو أحق به ، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء ) رواه مالك في الموطأ وأبو داود ، ولا يعترض بأنه مرسل ، إذ المرسل عندنا حجة مع أن أبا داود قد رواه أيضاً فوصله فقال : عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أن النبي ولفظه ( وأيما امريء هلك وعنده متاع امرىء بعينه ، اقتضى منه شيئاً أو لم يقتض ، فهو أسوة الغرماء ) . وقول الشافعي : إنه موجود في حديث أبي بكر عن أبي هريرة عن النبي أنه انتهى بالقول فهو أحق به ، وأنه يشبه أن يكون ما زاد من قوله : وإن مات . إلى آخره من رأيه لا روايته الظاهر خلافه ، وتركه الزيادة إن ثبت فلعله لعدم الحاجة إلى ذكرها إذاً ، مع كون الحكم لا يختل بتركها ، أو لنسيانها .
2052 واعتراضه بحديث ابن خلدة قاضي المدينة الذي رواه الطيالسي ، قال : 16 ( أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فأصاب رجل متاعه بعينه ، فقال أبو هريرة : هذا الذي قضى رسول الله أن من أفلس أو مات فأدرك رجل متاعه بعينه فهو أحق به ، إلا أن يدع الرجل وفاء ) . يجاب عنه بضعفه ، قال ابن المنذر : إنه مجهول الإِسناد ، وقال ابن عبد البر : يرويه أبو المعتمر ، عن ابن خلدة ، وأبو المعتمر غير معروف بحمل العلم وهذا الشرط أهمله صاحب التلخيص انتهى .
وقد بقي من شروط رجوع البائع فيما تقدم شروط ، ولم يتعرض لها الخرقي ( منها ) ما هو متفق عليه ، ومنها ما هو مختلف فيه ( أحدها ) أن لا يتغير المبيع تغيراً يزيل اسمه ، كأن كان حنطة فصار دقيقاً ، أو دقيقاً فصار خبزاً ، أو زيتاً فصار صابوناً ، أو غزلًا فصار ثوباً ، أو ثوباً فصار قميصاً ونحو ذلك ، لأن المبيع لم يبق بعينه ، واختلف فيما إذا كان بذراً فصار زرعاً ، أو بيضاً فصار فراخاً ونحو ذلك ، هل يسلك به سبيل الزيادة المتصلة كالجنين إذا صار ولداً ، فيجري في الرجوع فيه الخلاف السابق ، وهو رأي القاضي ، وصاحب التلخيص فيه ، أو سبيل ما تقدم مما تغير اسمه بصناعة ، فيمتنع الرجوع فيه ، وهو ظاهر كلام أبي محمد ؟ على قولين ( الشرط الثاني ) فيه ، وهو ظاهر كلام أبي محمد ؟ على قولين ( الشرط الثاني ) : أن لا يتعلق بالمبيع حق الغير ، كأن يجده مرهوناً ، لئلا يزال الضرر بالضرر ، ولأن الحديث ( من وجد متاعه عند رجل قد أفلس ) وهذا لم يجده عند المفلس ، واختلف فيما إذا كان عبداً فجنى ، هل يكون تعلق الجناية به مانعاً من الرجوع فيه ، ما في الرهن ، إذ حق الجاني مقدم على حق الراهن ، والمقدم على المقدم مقدم ، أو ليس بمانع ، لأن تعلق الجناية لا يمنع التصرف في الجاني بخلاف الرهن ؟ على وجهين ، وكذلك اختلف فيما إذا كان شقصاً مشفوعاً هل يمنع تعلق الشفعة به من الرجوع فيه ، لتعلق حق الشفعي به ابتداء ، وهو اختيار أبي الخطاب ، أو لا يمنع ، لأن بالرجوع يعود كما كان ، فيزول الضرر ، وهو اختيار ابن حامد ، أو إن طالب الشفيع امتنع الرجوع ، لتأكد حق الشفيع بالطلب [ وإن لم يطالب ] رجع ؟ على ثلاثة أوجه : ( الشرط الثالث ) أن يكون ثمن العين المبيعة حالًا ، فإن كان مؤجلًا فلا رجوع للبائع ، قاله أبو بكر في التنبيه ، وصاحب التلخيص فيه ، لعدم تمكنه من مطالبة الثمن إذاً الذي العجز عنه سبب الرجوع ، والمنصوص عن أحمد في رواية الحسن بن ثواب وعليه الجمهور أن هذا ليس بشرط ، لكن المنصوص أن المتاع يوقف إلى الأجل ، ثم عند انقضائه يخير البائع بين الأخذ والترك ، إعمالًا لحقيهما ، حق البائع في الرجوع ، وحق المفلس في الأجل ، وابن أبي موسى يقول : يؤخذ في الحال لعدم الفائدة في الوقف ( الشرط الرابع ) العجز عن أخذ الثمن ، فلو تجدد للمفلس مال بعد الحجر وقبل الرجوع فلا رجوع ، وقد تقدمت الإِشارة إلى هذا . ( الخامس ) كون البائع حياً ، فلا رجوع للورثة ، لظاهر الحديث ، وحكى الآمدي رواية أن هذا ليس بشرط ، فترجع الورثة ، وهو ظاهر كلام الشيخين ، لعدم اشتراطهم [ ذلك ] وعلى هذا مجموع الشرائط تسعة أو ثمانية أو سبعة ، والله أعلم .
قال : ومن أراد سفراً وعليه حق يستحق قبل مدة سفره فلصاحب الحق منعه .
ش : كمن أراد السفر من أهل مصر إلى الحجاز ، وعليه دين يحل في أول المحرم ونحو ذلك لما يلحق الغريم من الضرر بتأخير حقه ، والضرر منفي شرعاً قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) وإن كان الدين لا يستحق إلا بعد مدة السفر ، كما إذا كان قدومه في أواخر المحرم ، والدين يحل في أول ربيع ، ونحو ذلك ، فإن كان السفر للجهاد منع ، لما فيه من المخاطرة بالنفس ، فلا يؤمن فوات النفس ، وإن كان لغير الجهاد فروايتان ( إحداهما ) له منعه ، لاحتمال التأخير بحدوث حادث أو غيره ، فيلحق الغريم الضرر ( والثانية ) : وهي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي ليس له منعه ، لأن الأصل بل والغالب عدم الضرر ، إذ الأصل عدم الحادث ، وحيث قيل بالمنع فذلك معتبر بتوثيق برهن يفي بالحق ، أو كفيل مليء ، فيزول المنع لزوال الضرر إذاً .
( تنبيه ) : محل الخلاف على مقتضى كلام أبي محمد في السفر الطويل والله أعلم .

كتاب الحجر

الحجر في اللغة المنع [ والتضييق ] ومنه سمي الحرام حجراً ، قال تعالى : 19 ( { ويقولون حجراً محجورًأُ } ) أي حراماً محرماً ، ويسمى العقل حجراً لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته ، قال تعالى : 19 ( { هل في ذلك قسم لذي حجر } ) أي عقل ، وهو في الشرع منع خاص وهو : منع الصبي ، والمجنون ، والسفيه ، من التصرف في مالهم مطلقاً ، ومنع العبد ، والمكاتب ، والمريض والراهن والولي ، ونحوهم من تصرف خاص ، ثم الحجر تارة لحق نفسه ، كالحجر على الصبي ، والمجنون ، والسفيه ، وهذا الذي عقد الباب لأجله ، وتارة لحظ غيره ، وهو ما عدا ذلك .
والأصل في مشروعية الحجر قول الله تعالى : 19 ( { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } ) الآية وأضيفت الأموال إلى الأولياء لأنهم القائمون عليها ، المدبرون لها ، وقال تعالى : 19 ( { وابتلوا اليتامى } ) الآية ، وإذا ثبت الحجر على هذين ، ثبت على المجنون بطريق التنبيه . والله أعلم .
قال : ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله إذا كان قد بلغ .
ش : هذا مما لا خلاف فيه في الجملة ، وقد حكاه ابن المنذر إجماعاً ، ويشهد له قول الله تعالى : 19 ( { وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } ) ، ولأن الحجر كان لمعنى ، فيزول بزوال ذلك المعنى ، وهل يعتبر مع ذلك حكم الحاكم ؟ أما في المجنون فلا يعتبر لظهوره ، وأما في غيره فثلاثة أوجه ( ثالثها ) يعتبر في حجر السفيه دون الصبي ، وهو الصحيح عند الشيخين وغيرهما .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه إنما حكم على الصبي ، وحكم المجنون والسفيه حكمه ، فيدفع إلى المجنون إذا عقل ، وإلى السفيه إذا رشد ، وحكم حاكم على الصحيح ، وقد يقال : إن كلامه يشمل الثلاثة ، إذ الرشد لا بد منه فيها ، وإذاً تقدير كلامه : ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله ، فإن كان صبياً فإذا بلغ ، وفيه شيء .
ومفهوم كلام الخرقي رحمه الله أنه لا يدفع المال قبل البلوغ والرشد ، وهو صحيح ولو صار شيخاً ، لأن الله تعالى شرط للدفع ذلك ، والمشروط عدم عند عدم شرطه .
2053 وروى الجوزجاني في كتابه المترجم قال : كان القاسم بن محمد يلي أمر شيخ من قريش ، ذي أهل ومال ، فلا يجوز له أمر في ماله دونه ، لضعف عقله .
ويستفاد من كلامه بطريق الإِشارة أنه يحجر على الصبي ونحوه ، وقد تقدم ذلك والله أعلم .
( تنبيه ) : البلوغ يحصل في حق الغلام والجارية بالاحتلام ، وهو خروج المني الدافق بلذة ، لقوله تعالى : 19 ( { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } ) .
2054 وقول النبي : ( رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يحتلم ) .
وبنبات الشعر الخشن حول ذكر الرجل ، وفرج المرأة ، وحول الفرجين إن كان خنثى .
2055 لأن النبي لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ، فحكم بقتل مقاتلتهم ، وسبي ذراريهم ، وأمر بأن يكشف عن مؤتزرهم ، فمن أنبت فهو من المقاتلة ، ومن لم ينبت ألحق بالذرية ، وقال له النبي : ( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ) .
2056 وعن عمر رضي الله عنه ، أنه كتب إلى عامله أن 16 ( لا تأخذ الجزية إلا ممن جرت عليه الموسى ) .
2057 وباستكمال خمس عشرة سنة لأن ابن عمر رضي الله عنهما قال : 16 ( عرضت على النبي يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة لم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ) . متفق عليه .
2058 وفي مسند الشافعي رضي الله عنه أن عمر بن عبد العزيز أخبر بذلك ، فكتب إلى عامله : 16 ( أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة سنة ) .
2059 وتزيد الجارية بالحيض لقول النبي : ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) .
وأما الحمل فهو دليل إنزالها ، فيحكم ببلوغها إذا ولدت منذ ستة أشهر ، لأنه اليقين ، إذ الولد إنما يخلق من مائهما ، قال سبحانه وتعالى : 19 ( { فلينظر الإِنسان مِمَّ خلق ، خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب } ) . قال صاحب التلخيص فيه : فإن كانت ممن لا توطأ كأن طلقها زوجها ، وأتت بولد لأكثر مدة الحمل من حين طلاقه ، فيحكم ببلوغها قبل المفارقة .
( تنبيه ) : هل الإِنزال من أحد فرجي الخنثى المشكل علم على بلوغه ؟ فيه وجهان .
( أحدهما ) : لا ، لأن لا يكون إلا من أحدهما وهو مشكوك فيه ، والثاني نعم ، قال في التلخيص : لأن الاعتبار عندنا بالانتقال ، وهذا مختار أبي محمد ، لكنه لا يعتبر هذا [ البناء ، وفي الحيض ] أيضاً ، فأما إن حاض وأنزل فإنه يحكم ببلوغه عند القاضي ، وصاحب التلخيص وقيل : لا . والله أعلم .
قال : وكذلك الجارية وإن لم تنكح .
ش : حكم الجارية حكم الغلام ، عند الخرقي ، وأبي محمد ، فيدفع إليها مالها إذا رشدت وبلغت ، لعموم قوله تعالى : 19 ( { وابتلوا اليتامى } ) الآية ، ومنصوص الإِمام أحمد . في رواية أبي طالب أنه لا يدفع إليها بعد بلوغها ورشدها ، حتى تتزوج وتلد ، أو يمضي عليها حول في بيت زوجها ، وهذا مختار أبي بكر والقاضي ، والشيرازي ، وابن عقيل في التذكرة .
2060 لما روى سعيد بن منصور في سننه ، عن شريح أنه قال : 16 ( عهد إليّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولًاأو تلد ولداً ) . وعلى هذا إن لم تتزوج فقال القاضي : عندي أنها يدبفع إليها مالها إذا عنست ، أي كبرت وبرزت للرجال .
قال أبو محمد : ويحتمل دوام الحجر عليها مطلقاً . والله أعلم .
قال : والرشد الصلاح في المال .
ش : هذا المشهور المعروف في المذهب ، اتباعاً لتفسير ابن عباس رضي الله عنه .
2061 فإنه قال في قوله سبحانه : 19 ( { فإن آنستم منهم رشداً } ) : يعني صلاحاً في أموالهم . ولأن العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام ، فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا ، فعلى هذا إذا كان مصلحاً لماله ، دفع إليه ماله ، وإن كان مفسداً لدينه ، كمن يترك الصلاة ، أو يمنع الزكاة ، أو يغتاب الناس ، ونحو ذلك ، نعم إن كان فسقه يلزم منه تبذير المال ، كمن يشتري الخمر ، أو المغنيات ، ونحو ذلك فليس برشيد ، لا لفسقه ، بل لعدم حفظه ، وذهب ابن عقيل إلى أن الرشد الصلاح في المال وفي الدين ، قال : وهو الأليق بمذهبنا وقولنا ، بحسب الذرائع ، واستدل لذلك بالآية الكريمة ، فإنها نكرة في سياق الشرط فتعم والله أعلم قال : فإن عاوده السفه حجر عليه .
ش : إذا فك الحجر عن المحجور عليه بشرطه ، فعاود السفه أو جن أعيد الحجر عليه ، نظراً إلى دوران الحكم مع العلة .
2062 ويروى أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعاً ، فقال علي رضي الله عنه : 16 ( لآتين عثمان ليحجر عليك . فأتى عبد الله بن جعفر الزبير ، فقال : قد ابتعت بيعاً ، وإن علياً يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان ، )6 ( فيسأله الحجر علي . فقال الزبير : أنا شريكك في البيع . فأتى علي عثمان ، فقال : إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه . فقال الزبير : أنا شريكه في البيع . فقال عثمان : كيف أحجر على رجل شريكه الزبير ) .
( تنبيه ) : الذي يحجر هنا هو الحاكم لا غير ، ولا ينفك الحجر إلا بحكمه على الصحيح والله أعلم .
قال : فمن عامله بعد ذلك فهو المتلف لماله .
ش : من عامل السفيه بعد الحجر عليه ببيع أو قرض ، أو غيرهما لم تصح معاملته لأنه محجور عليه ، أشبه المجنون ، ثم ما أخذ منه يجب انتزاعه إن كان باقياً ، أو بدله أن كان تالفاً ، وما أخذه السفيه رد على مالكه إن كان باقياً ، وإن كان تالفاً فهو من ضمان مالكه ، علم بالحجر أو لم يعلم ، إذ مع العلم هو المتلف لما له ، حيث دفعه لمن ليس من أهل الدفع ، وسلطه عليه ، ومع عدم العلم هو المفرط ، حيث عامل من لم يعرف ، واختار ابن عقيل وجوب الضمان على السفيه ، لكونه من أهل الضمان ، سيما مع عدم العلم بالحجر ، ( وخرج ) بقيد المعاملة شيئان ( أحدهما ) ما قبضه السفيه بإذن مالكه ، لكن من غير أن يسلطه عليه ، كما لو أودعه ، أو أعاره فأتلف ذلك ، أو تلف بتفريطه ، كما لو أودعه ، أو أعاره فأتلف ذلك ، أو تلف بتفريطه ، فقال القاضي : يضمن ، نظراً إلى أن المالك لم يسلطه على ذلك ، بخلاف القرض ونحوه ، وقيل : لا يضمن ، لأن المالك مفرط ، حيث دفع المال لفاقد الأهلية ، ولعل منشأ الخلاف هل يصح استحفاظه أم لا ؟ لكن مقتضى كلام أبي البركات أن محل الخلاف فيما أتلفه ، أما ما تلف بتفريطه فإنه من ضمان مالكه بلا نزاع ، لأنه مفرط ، حيث دفعه في غير حرز ، ( الثاني ) : ما أخذه بغير اختيار صاحبه ، وأتلفه ، كأن غصب أو جنى ، فإن عليه ضمانه ، لانتفاء التفريط من المالك ، والله أعلم .
قال : وإن أقر المحجور عليه بما يوجب حداً أو قصاصاً ، أو طلق زوجته لزمه ذلك .
ش : إذا أقر المحجور عليه لسفه بما يوجب حداً ، كالزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، أو قصاصاً كالقتل العمد ، أو قطع اليد ونحو ذلك لزمه ذلك ، لأنه تصرف في غير مال ، والحجر إنما وقع على المال ، وقد حكى ابن المنذر الإِجماع على ذلك ، وكذلك إذا طلق زوجته صح طلاقه ، لكونه غير مال ، وبطريق الأولى إذا خالع ، وحكم المفلس حكم السفيه ، والله أعلم .
قال : وإن أقر بدين لم يلزمه في حال حجره .
ش : لئلا يزول معنى الحجر ، وقياساً على الصبي والمجنون ، ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله وغيره من الأصحاب أنه يلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه ، لأنه مكلف ، وإنما منع من إعمال ما أقر به الحجر ، وقد زال ، فيلزمه ما أقر به ، واختار أبو محمد أنه لا يلزمه مطلقاً ، إذ المنع من نفوذ إقراره في حال الحجر عليه حفظ ماله ، ودفع الضرر عنه ، ونفوذه بعد فك الحجر عليه يلزم منه تأخير الضرر عليه إلى أكمل حالتيه وحكم ما يوجب الدين كجناية الخطأ والغصب ، ونحو ذلك حكم الدين والله سبحانه أعلم .
كتاب الصلح

ش : الصلح يتنوع أنواعاً ، صلح بين المسلمين وأهل الحرب ، وصلح بين أهل العدل وأهل البغي ، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بنهما ، وصلح بين المتخاصمين في غير مال ، أو في المال وهو المراد هنا ، والأصل فيه [ عموم ] قوله تعالى : 19 ( { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } ) وقوله تعالى : 19 ( { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً ، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير } ) .
2063 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( الصلح بين المسلمين جائز ، إلا صلحاً حرم حلالًا ، أو أحل حراماً ) رواه الترمذي . وقال : حديث حسن صحيح . وأجمعت الأمة على جواز الصلح في الجملة والله أعلم .
قال : والصلح الذي يجوز هو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه ، فيصطلحان على بعضه ، فإن كان يعلم ما عليه فجحده فالصلح باطل .
ش : الصلح على الإِنكار جائز في الجملة ، لعموم قوله : ( الصلح بين المسلمين جائز ) ولأن الشريعة جاءت بجلب المصالح ، ودرء المفاسد ، وهذا كذلك ، إذ المدعي يأخذ عوض حقه الثابت له في اعتقاده ، والمدعى عليه يدفع ما يدفعه لدفع الشر عنه ، واليمين ، وحضور مجالس الحكام ، إلى غير ذلك ، ويتفرع على هذا أن الإِنسان إذا ادعى حقاً يعتقد ثبوته على إنسان ، فأنكره لاعتقاده أنه لا حق عليه ، ثم صالحه عنه بعوض ، جاز ، لما تقدم من أن المدعي يأخذ عوض حقه ، والمدعى عليه يدفع ذلك افتداء ليمينه ، ودفع الخصومة عنه .
2064 وفي الصحيح أن رجلين اختصما في مواريث درست بينهما ، فقال النبي : ( استهما وتوخيا ، وليحلل كل منكما صاحبه ) مختصر من حديث طويل ويكون هذا الصلح بيعاً في حق المدعي ، لاعتقاده أن الذي يأخذه عوض ماله ، حتى أنه إن وجد بما أخذه عيباً فله رده ، وإن كان شقصاً تثبت فيه الشفعة وجبت فيه ، اللهم إلا أن يكون المأخوذ بعض العين المدعاة ، فلا رد له ولا شفعة فيه ، لأنه يزعم أنه أخذ بعض حقه وترك بعضاً ، ويكون إبراء في حق المدعى عليه ، فلا يرد ما صالح عنه بعيب ، ولا يؤخذ منه بشفعة ، لاعتقاده أنه لم يزل ملكه عنه ، وأن الذي دفعه إنما هو لافتداء اليمين ، وقطع الخصومة .
وإن كان المدعي عليه يعلم ما عليه فجحده ثم صالح عنه ، فالصلح باطل في حقه ، لأنه توصل بإنكاره إلى هضم الحق ، وأكل مال الغير بالباطل ، وهذا صلح حلل حراماً في الظاهر ، وكذلك لو ادعى المدعي شيئاً لا يعتقد أنه له ، ثم صالح عنه ، فالصلح أيضاً باطل في حقه ، لأنه أكل للمال بدعواه الباطلة الكاذبة ، والله أعلم .
قال : ومن اعترف بحق فصالح على بعضه لم يكن ذلك صلحاً ، لأنه هضم للحق .
ش : من اعترف بحق وصالح على بعضه فله حالتان ( إحداهما ) أن يمتنع من الأداء إلا بالمصالحة ، فهذا ليس بصلح صحيح ، لما علل به المصنف من أنه هاضم للحق ، آكل لمال الغير بامتناعه المحرم . ( الحالة الثانية ) أن يكون باذلًا ، وتقع المصالحة ، كأن يقول : صالحني بخمسين عن المائة التي لك عليّ ، أو على نصف دارك ، ونحو هذا ، فهل فيه روايتان ، المشهور منهما وهو مختار القاضي ، وابن عقيل وغيرهما ، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يصح ، لأنه صالح عن بعض ماله ببعض ، ( والثانية ) يصح ، لأن معنى الصلح الإِتفاق والرضا ، وقد حصل هذا من غير هضم للحق ، ولا امتناع من أداء الواجب ، وحقيقة هذا أن المدعي يرضى بترك بعض حقه وأخذ البعض ، فصار كما لو قال : أبرأتك من نصف المائة ، فأعطني نصفها ، أو وهبتك نصف داري . ونحو هذا ، وهذا غير ممنوع منه بالإِتفاق ، قال أبو البركات : وكذلك يخرج في قوله : أبرأتك من كذا على أن توفيني الباقي .
واعلم أن مقتضى كلام الخرقي رحمه الله أنه لا يسمى الصالح على الإِقرار صلحاً ، وكذلك ابن أبي موسى ، وسماه القاضي وطائفة من أصحابه صلحاً ، وصورته الصحيحة عندهم أن يعترف له بعين فيعاوضه عنها ، أو يهبه بعضها ، أو بدين فيبرئه من بعضه ، ونحو ذلك فيصح إن لم يكن بشرط ، ولا امتناع من أداء الحق بدونه ، قال أبو محمد : والخلاف في التسمية ، أما المعنى فمتفق عليه ، وهو فعل ما عدا وفاء الحق وإسقاطه ، على وجه يصح ، والله أعلم .
قال : وإذا تداعى نفسان جداراً معقوداً ببناء كل واحد منهما ، تحالفاً وكان بينهما .
ش : لاستوائهما في الدعوى بلا مرجح ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن كان محلولاً من بنائهما .
ش : أي تحالفا وكان بينهما ، لما تقدم ، وصفة اليمين قال أبو محمد : أن يحلف كل واحد منهما على نصف الحائط أنه لو ولو حلف كل واحد منهما على جميع الحائط أنه له دون صاحبه جاز ، وكان بينهما ، قلت : والذي ينبغي أن تجب اليمين على حسب الجواب والله أعلم .
قال : وإن كان معقوداً ببناء أحدهما كان له مع يمينه .
ش : لأنه ترجح بالعقد ببنائه دون صاحبه ، واليمين في جنبة أقوى المتداعيين ، لكن شرط هذا العقد أن لا يمكن إحداثه عادة ، عند القاضي وأبي البركات ، وظاهر كلام الخرقي الإِطلاق ، والله أعلم .
كتاب الحوالة والضمان

ش : الحوالة مشتقة من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة ، ولها شبه بالمعاوضة ، من حيث إنها دين ، وشبه بالاستيفاء ، من حيث إنه يبرأ بها المحيل ، ولترددها بين ذلك ألحقها بعض الأصحاب بالمعاوضة ، وبعضهم بالإِستيفاء ، واختار أبو محمد أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه ، ليس بمحمول على غيره ، إذ لو كانت بيعاً للزم بيع الدين بالدين ، ولما جاز التفرق قبل القبض ، لأنه بيع مال الربا بجنسه ، ولجازت بين جنسين كالبيع ، قال : وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله ( والضمان ) يأتي إن شاء الله تعالى بيانه ، والألف واللام فيه للجنس ، فيشمل ضمان المال ، وضمان النفس ، والأصل في جواز الحوالة في الجملة الإِجماع .
2065 وسنده ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( مطل الغني ظلم ، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع ) .
قال : ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق فرضي ، فقد برىء المحيل أبداً .
ش : من أحيل بحقه من عليه مثل ذلك الحق فرضي بالحوالة ، برىء المحيل ، سواء أمكن استيفاء الحق ، أو تعذر لمطل أو فلس ، أو غير ذلك ، أما مع استيفاء الحق فواضح ، إذ وضع الحوالة انتقال الحق من ذمة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، وإذاً يبرأ المحيل ، وأما مع تعذره فلأنه مفرط ، حيث لم يشترط اليسار .
2066 ويروى أن حزناً جد سعيد بن المسيب كان له على علي رضي الله عنه دين ، فأحاله به ، فمات المحال به عليه ، فأخبره فقال : اخترت علينا أبعدك الله . فأبعده بمجرد احتياله ، ولم يخبره أن له الرجوع ، وهذا هو المشهور في المذهب ، وبه قطع أبو البركات وغيره ، قال أبو محمد : وعن أحمد ما يدل على أن المحال عليه إذا كان مفلساً ، ولم يعلم المحتال بذلك ، فله الرجوع ، قال : وبه قال جماعة من أصحابنا ، إذ الفلس عيب في المحال عليه ، فكان له الرجوع ، كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة .
ويستثنى من كلام الخرقي إذا شرط المحتال ملاءة المحال عليه ، فإنه إذا بان معسراً يرجع على المحيل ، بلا خلاف ، لأنه لا تلزمه الحوالة على غير مليء لمفهوم الحديث ، ومن هنا يتبين لك أن الرضى مسقط لرجوع المحتال على المحيل ، لا أنه شرط لصحة الحوالة ، إذ الحوالة تصح بدونه ، لكن لصحتها شروط ( أحدها ) : رضى المحيل اتفاقاً ، ( الثاني ) : تماثل الحقين ، وقد أشار الخرقي إلى ذلك ، والتماثل في الجنس ، كدراهم بدراهم ، وفي الصفة ، كناصرية بناصرية ، وفي الحلول أو التأجيل ، كحال بحال ، ومأجل بمؤجل ، بشرط اتفاق الأجلين فإن أحاله بناصرية على دمشقية أو بالعكس ، لم يصح عند أبي محمد ، وكذلك عند من ألحقها بالمعاوضة ، إذ اشترط التفاوت فيهما ممتنع كالقرض ، وأما من ألحقها بالاستيفاء فقال : إن كان تفاوتاً يجبر على أخذه عند بذله كالجيد عن الرديء صحت وإلا فلا ، ( الشرط الثالث ) أن يكون بمال معلوم كالمثليات لا بمالًا يصح السلم فيه كالجوهر ونحوه ، وفيما يصح السلم فيه غيل المثلي كالمذروع والمعدود وجهان ، وفي الحوالة بإبل الصدقة على من عليه مثلها وجهان ، وإن أحال بإبل الدية على إبل القرض صح إن قيل برد المثل في القرض ، وإن قيل برد القيمة لم يصح ، لاختلاف الجنس ، وفي العكس كأن أحال المقرض بإبل الدية لا يصح مطلقاً ، لأنا وإن قلنا يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفته ، وقيمته [ ومن عليه الدية لا ] يلزمه ذلك ( الرابع ) الديون على أربعة أقسام ، دين سلم ، ودين كتابة ، وما عداهما وهو قسمان ، مستقر ، وغير مستقر ، كثمن المبيع في مدة الخيار ، [ ونحو ذلك ] ، فلا تصح الحوالة بدين السلم ، ولا عليه ، وهل يجري هذا الحكم على رأس ماله بعد الفسخ ؟ فيه وجهان ، وتصح بدين الكتابة الصحيح دون عليه ، ويصحان في سائر الديون ، مستقرها وغير مستقرها ، وقيل : لا تصح على غير مستقر بحال ، وإليه ذهب أبو محمد ، وجماعة من الأصحاب ، وقيل : ولا بما ليس بمستقر ، وهو اختيار القاضي في المجرد ، وتبعه أبو الخطاب والسامري ، والله أعلم .
قال : ومن أحيل بحقه على ملئ فواجب عليه أن يحتال .
ش : نص أحمد رحمه الله على ذلك ، اتباعاً لظاهر الأمر في الحديث ، وفسر المليء في رواية إسماعيل العجلي بأن يكون بماله ، وقوله ، وبدنه ، قلت : فالمال أن يقدر على الوفاء ، والقول أن لا يكون مماطلًا ، والبدن أن يمكن حضوره إلى مجلس الحكم ، هذا الذي يظهر لي في التفسير ، فإن امتنع من القبول أجبر على ذلك ، لكن هل تبرأ ذمة محيلة قيل أن يجبره الحاكم ؟ فيه روايتان ، ( إحداهما ) نعم ، فلو هلك المحال عليه معسراً فلا شيء له ، وهي التي صححها القاضي يعقوب . ( والثانية ) : لا ، لكن تنقطع المطالبة بمجرد الحوالة ، ويصير بمثابة من بذل ماعليه من دين ، فامتنع صاحبه من القبض ، فإن الحاكم يجبره على القبض ، ولا تبرأ ذمة الغريم قبل ذلك .
وفهم من كلام الخرقي رحمه الله أنه لا يعتبر رضى المحتال ، ولا المحال عليه ، وهو الصحيح ، أما المحتال فللحديث ، وأما المحال عليه فلأن للإِنسان أن يستوفي حقه بنفسه وبوكيله ، والمحتال قد أقامه المحيل مقام الوكيل ، والله أعلم .
قال : ومن ضمن عنه حق بد وجوبه عليه ، أو قال : ما أعطيته فهو علي فقد لزمه ما صح أنه أعطاه .
ش : الضمان مشتق عند أبي محمد من الضم ، فهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق ، ورد بأن لام الكلمة في الضم ميم ، وفي الضمان نون ، وشرط صحة الإِشتقاق وجود حروف الأصل في الفرع ، ويجاب بأنه من الإِشتقاق الأكبر ، وهو المشاركة في أكثر الأصول ، مع ملاحظة المعنى ، وعند القاضي من التضمن فذمة الضامن تتضمن الحق ، وعند ابن عقيل : من الضمن ، فذمة الضامن في ضمن ذمة المضمون عنه ، والخلاف في الإِشتقاق ، أما المعنى فواحد ، وعرفه أبو البركات بأنه التزام الإِنسان في ذمته دين المديون ، مع بقائه [ عليه ] ، وليس بمانع ، لدخول كل من لم يصح تبرعه ، ولا جامع ، لخروج ضمان ما لم يجب ، والأعيان المضمونة ، ودين الميت إن برىء بمجرد الضمان عنه ، على رواية .
وهو جائز في الجملة بالإِجماع ، وسنده قوله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير ، وأنا به زعيم } .
2067 قال ابن عباس : الزعيم الكفيل .
2068 وقول النبي : ( الزعيم غارم ) إلى غير ذلك من الأحاديث . إذا تقرر هذا عندنا إلى لفظ الخرقي رحمه الله ، فقوله : ومن ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه فقد لزمه . أي لزم الضامن ذلك الحق ، وذلك لما تقدم من قول النبي : ( الزعيم غارم ) رواه أبو داود ، والترمذي وحسنه . وقوة كلام الخرقي تقتضي أنه لا بد من رضى الضامن ، وهو واضح ، إذ الإِنسان لا يلزمه عقد لم يلتزمه ، لكن لا بد مع رضاه من أن يصح تبرعه ، ومقتضى كلامه أنه لا يعتبر رضى المضمون له ، ولا رضى المضمون عنه ، ولا معرفتهما ، لحديث أبي قتادة ، وقال القاضي : تعتبر معرفتهما . وقيل : تعتبر معرفة المضمون له ، دون المضمون عنه وقوله أو قال : ما أعطيته فهو علي . فهذه مسألة ضمان المجهول ، وضمان ما لم يجب ، ومذهبنا الصحة فيهما ، فما ثبت أنه أعطاه ولو في المستقبل فإنه يلزمه ، للآية الكريمة ، إذ حمل البعير مجهول ، وغير واجب حينئذ .
وقول الخرقي : ما أعطيته . قال أبو محمد : مراده الإِستقبال ، دفعاً للتكرار ، ولأنه عطفه على الأول ، فدل على أنه غيره ، إذ العطف يقتضي المغايرة ، واحتمل أن مراده الماضي ، ويكون فائدة المسألة بيان صحة ضمان المجهول ، وقد حكى الأصحاب في نحو هذا اللفظ ، هل هو للماضي أو للمستقبل وجهين ، ذكرهما ابن أبي موسى ، وكذلك النحاة قالوا : الفعل الماضي الواقع صلة لموصول ، أو لنكرة موصوفة ، يحتمل أن يحمل على الماضي ، كما في قوله تعالى : 19 ( { الذين قال لهم الناس } ) ويحتمل أن يحمل على المستقبل ، كما في قوله تعالى : 19 ( { إلا الذين تابوا } ) أي يتوبوا ، ويرجح الأول إعمال الحقيقة والله أعلم .
قال : ولا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن .
ش : لا يبرأ المضمون عنه بنفس الضمان ، بل يثبت الحق في ذمة الضامن ، مع بقائه في ذمة المضمون عنه ، لقول النبي : ( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ) .
2069 وفي المسند عن جابر رضي الله عنه قال : توفي صاحب لنا ، فأتِينا به النبي ليصلي عليه ، فخطا خطوة ثم قال : ( أعليه دين ) ؟ قلنا : ديناران ، فانصرف ، فتحملهما أبو قتادة فقال : الديناران عليَّ ، فقال رسول الله : ( وجب حق الغريم ، وبرىء الميت منهما ؟ ) قال : نعم . فصلى عليه ، ثم قال بعد ذلك : ( ما فعل الديناران ) ؟ قال : إنما مات أمس . قال : فعاد إليه من الغد ، فقال : قد قضيتهما ، فقال رسول الله : ( الآن بردت جلدته .
وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أن المضمون عنه إذا كان ميتاً برىء بمجرد الضمان عنه ، استدلالًا بقوله في حديث جابر : ( وبرىء الميت منهما ) ويجاب عنه بأنه هذا ليس إخباراً منه ببراءته ، وإنما هو استفهام من أبي قتادة ، في أنه هل ضمن متبرعاً لا ليرجع ، ولهذا أجابه بنعم .
( تنبيه ) : حكى أبو الخطاب وأبو محمد وغيرهما هذه الرواية في الميت مطلقاً ، وخصها أبو البركات بالميت المفلس والله أعلم .
قال : فمتى أدى رجع به عليه ، سواء قال له : اضمن عني أو لم يقل .
ش : إذا أدى الضامن الدين لم يخل من أحوال ، ( الأول ) ضمن بإذنه وأدى بإذنه ، ( والثاني ) ضمن بإذنه وأدى بغير إذنه ( الثالث ) بالعكس ، ولا خلاف عندنا أنه يرجع في هذه الصور الثلاث ، ( الرابع ) ضمن وقضى بغير إذنه ، لكن نوى الرجوع فعنه لا يرجع ، لأن أبا قتادة لو استحق الرجوع لصار له دين على الميت ، وإذاً لم يصل النبي عليه ، لعدم فائدة الضمان إذاً ، إذ ذمة الميت لم تزل مشغولة بدين ، ( وعنه ) وهي اختيار الخرقي ، والقاضي ، وأبي الخطابي ، والشريف ، وابن عقيل ، والشيرازي وابن البنا ، وغيرهم يرجع ، لأنه قضاء مبرىء من واجب عليه ، فكان من ضمان من هو عليه ، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه ، وقوله تعالى : 19 ( { فإن أرضعن لكم فآتوه أجورهن } ) وهو شامل لما إذا أرضعت بأمره أو بلا أمره ، وأما حديث أبي قتادة فإنما قضى متبرعاً ، لعلمه أنه لا وفاء له ، وقصده أن النبي يصلي عليه ، بل قد يقال : في حديث أبي قتادة دليل على أن غير المتبرع يرجع ، لقوله له : ( وجب حق الغريم ) أي عليك ( وبرى الميت منهما ) ( الحال الخامس ) إذا ذهل عن قصد الرجوع وعدمه ، وظاهر كلام الخرقي وتبعه صاحب الوجيز أنه يرجع ، وإذاً المقتضي للرجوع هو تأدية الواجب عن الغير والمسقط له هو قصد التبرع وقد عرفت من هذا ( حالًا سادساً ) وهو إذا نوى التبرع ، فلا يرجع بلا ريب ، وهذه الصور تستثنى من عموم كلام الخرقي ، والله أعلم .
قال : ومن تكفل بنفس لزمه ما عليها إن لم يسلمها .
ش : الكفالة بالنفس صحيحة ، في قول الجمهور ، حتى قيل : إنه إجماع ، لقول الله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام : 9 ( { لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } ) وفيه نظر ، إذ الظاهر أن المراد بالموثق اليمين ، ولأن النفس يجب تسليمها بعقد ، فوجب تسليمها بالكافلة كالمال ، فعلى هذا إن لم يسلم النفس مع بقائها لزمه ما عليها ، لعموم قوله : ( الزعيم غارم ) وقياساً على الكفالة بالمال .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله أنه لا بد من رضى الكفيل ، وهو واضح ، وأنه لا يشترط لصحتها رضى الكفيل ، وهو واضح ، وأنه لا يشترط لصحتها رضى المكفول له ، وهو أحد الوجهين ككفالة المال ، والوجه الآخر يشترط ، لئلا يفوت معنى الكفالة ، إذ معناها حضور المكفول به ، وإذا كان بلا إذنه لم يلزمه الحضور .
وشرط صحة الكفالة بالنفس أن تكون بالمال ، فلا تصح الكفالة ببدن من عليه حد أو قصاص ، وتخصيص الخرقي الكفالة بالنفس يخرج منه الكفالة بالعين وهو واضح في غير المضمونة ، وفي المضمونة وجهان ، والله أعلم .
قال : فإن مات برىء المتكفل .
ش : إذا مات المكفول به برىء المتكفل ، لأن الكفالة على الحضور ، وبموت المكفول به يسقط عنه الحضور ، وإذا سقط عنه الحضور سقط عن فرعه وهو الكفيل ، والله سبحانه أعلم .
كتاب الشركة


الشركة بوزن نعمة ، وبوزن سرقة ، وحكى بعضهم شركة بوزن ثمرة ، وهي : الاجتماع في استحقاق أو تصرف . ، وهي جائزة بالإِجماع ، وسند ذلك قوله سبحانه وتعالى : { وإن كثيراً من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض } أي من الشركاء .
2070 وقول النبي : ( يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا ) والشركة على ضربين ، شركة ملك ، وشركة عقود ، وهذا المقصود هنا .
قال : وشركة الأبدان جائزة .
ش : نص أحمد على ذلك .
2071 مستدلًا بأن النبي أشرك بين عمار وسعد وابن مسعود ، فجاء سعد بأسيرين ، ولم يجيئا بشيء ، ومعنى شركة الأبدان أو يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما ، وكلام الخرقي يشمل [ الإِشتراك ] في المباح ، [ كالإِشتراك ] في الإِصطياد ، والمعادن ونحو ذلك ، وكلام أحمد واستدلاله نص فيه ، وإطلاق الخرقي يشمل مالو اختلفت الصنائع ، وهو أحد الوجهين ، واختيار القاضي ، لأن من لزمه عمل شيء لا يعرفه أمكنه القيام به ، بأن يستأجر عليه من يفعله ، ونحو ذلك ( والثاني ) وهو اختيار أبي الخطاب لا يصح ، لئلا يلزم الشخص ما لا قدرة له على فعله ، والله أعلم .
قال : وإن اشترك بدنان بمال أحدهما ، أو بدنان بمال غيرهما ، أو بدن ومال ، أو مالان وبدن صاحب أحدهما ، أو بدنان بماليهما ، تساوى المال أو اختلف ، فكل ذلك جائز .
ش : أنواع الشركة الصحيحة أربعة ( أحدها ) شركة الأبدان وقد تقدمت ، ( الثاني ) : شركة العنان ، وهي المذكورة في قوله : أو بدنان بماليهما . أي يشترك رجلان بماليهما ، ليعملا فيه بأبدانهما ، وهي جائزة بالإِجماع ، حكاه ابن المنذر . ومأخوذة قيل : من تساوي عناني الفرسين في السير . لأن كلا من الشريكين مساو لصاحبه في المال والتصرف ، وقيل : بل من ( عن ) إذا عرض ، فكل واحد منهما عن له أن يشارك صاحبه ، وقيل : من عانه إذا عارضه . فكل واحد منهما عارض الآخر بمثل ماله وعمله ، ( الثالث ) : شركة المضاربة ، وهي المذكورة في قوله : أن يشترك بدنان بمال أحدهما ، أو بدن ومال . والأصل فيها أن يكون من أحدهما المال ، ومن الآخر العمل فيه .
2072 والأصل في جوازها ما روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه ، أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرجا في جيش إلى العراق ، فتسلفا من أبي موسى مالًا وابتاعا به متاعاً ، وقدما به إلى المدينة فباعاه وربحا فيه ، فأراد عمر رأس المال والربح كله ، فقالا : لو تلف كان ضمانه علينا ، فلم لا يكون ربحه لنا . فقال رجل : يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً ؟ قال : قد جعلته . وأخذ منهما نصف الربح ، وهذا دليل على جواز القراض .
2073 وقد روي جوازه أيضاً عن عثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وحكيم بن حزام ، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة فكان إجماعاً ، مع أن ابن المنذر قد حكى ذلك إجماعاً ، وحكمة الشرع تقتضي جوازها . [ إذ الدراهم والدنانير لا تنمي إلا بالتجارة ، وقد يملكها من لا يخسن التجارة ، ويحسن التجارة من لا يملكها ، فالحكمة تقتضي جوازها من الجانبين ] ، وهي مأخوذة قيل من الضرب في الأرض ، وهو السفر فيها غالباً للتجارة ، قال سبحانه : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } وقيل : بل من ضرب كل واحد منهما في الربح وتسمى قراضاً ، قيل : من القطع ، يقال : قرض الفأر الثوب . إذا قطعه ، فصاحب المال اقتطع من ماله قطعة وسلمها للعامل ، واقتطع له قطعة من الربح . وقيل : بل من المساواة والموازنة ، يقال : تقارض الشاعران ، إذا وازن كل واحد منهما الآخر بشعره ، وهنا من العامل العمل ، ومن الآخر المال فتوازنا . انتهى .
وأما إذا اشترك بدنان بمال أحدهما فهذه مضاربة يشترط فيها عمل رب المال ، والذي ذكره الخرقي [ وهو ] منصوص أحمد في رواية أبي الحارث الجواز لأن من لا مال له يستحق المشروط له من الربح بعمله في مال غيره ، وهذا [ هو ] حقيقة المضاربة ، وذهب ابن حامد ، وتلميذه ، وتلميذ تلميذه القاضي ، وأبو الخطاب ، وطائفة إلى أن هذا لا يصح ، إذ وضع المضاربة تسليم المال إلى المضارب ، ومع اشتراط عمله لا تسليم وعلى هذا في اشتراط عمل غلامه وجهان ، ( المنع ) وهو قول القاضي ، إذ يد الغلام كيد السيد ( والجواز ) إذ هو مال فصح [ كما ] لو ضم إليه بهيمة يحمل عليها ونحو ذلك .
( الرابع ) : شركة الوجوه ، وهي أن يشترك اثنان على أن يشتريا بجاههما ديناً ، وهي جائزة ، إذ معناها وكالة كل واحد منهما صاحبه في الشراء والبيع ، والكفالة بالثمن ، وكل ذلك صحيح ، ولأنها مشتملة على مصلحة من غير مضرة ، وأخذها أبو محمد من [ قول ] الخرقي : أو بدنان بمال غيرهما ، كيلا يخل بنوع من أنواع الشركة وقال القاضي : مراد الخرقي بهذا أن يدفع واحد ماله إلى اثنين مضاربة ، فيكون المضاربان شريكين في ربح بمال غيرهما [ لأنهما إذا أخذا المال بجاههما فلا يكونان مشتركين بمال غيرهما ] وهذا الذي قال القاضي هو ظاهر اللفظ ، وعلى هذا يكون هذا نوعاً من أنواع المضاربة قد ذكر للمضاربة ثلاث صور ، وبيقي من كلام الخرقي قوله : أو مالان وبدن صاحب أحدهما ، وهذا يجمع شركة ومضاربة ، فمن حيث إن من كل واحد منهما المال ، يشبه شركة العنان ، ومن حيث إن أحدهما يعمل في مال صاحبه بجزء من الربح هو مضاربة ، ونبه الخرقي رحمه الله بهذا على أنه كما يجوز كل واحد من أنواع الشركة الى انفراده ، كذلك يجوز اجتماع الجميع والله أعلم .
قال : والربح على ما اصطلحا عليه .
ش : يعني فيما تقدم من أنواع الشركة ، أما في المضاربة فإجماع حكاه ابن المنذر ، وأما في شركة العنان فاعتماداً على الشرط ، ولأن أحدهما قد يكون أبصر بالتجارة من الآخر فيجوز اشتراط زيادة في الربح في مقابلة عمله ، كاشتراط الربح في مقابلة عمل المضارب ، وكذلك شركة الأبدان لأنهما قد يتفاضلان في العمل ، وأما شركة الوجوه فإن قلنا : هي داخلة في كلام الخرقي ، اقتضى كلامه أن يكون حكمها كذلك وهذا الذي قطع به أبو البركات .
وقال أبو محمد : إنه قياس المذهب ، لأنها شركة فيها عمل ، فجاز ما اتفقا عليه كسائر الشركات ، وقال القاضي : الربح بينهما على قدر ملكيهما في المشترى لأن الربح يستحق بالضمان ، لوقوع الشركة عليه خاصة ، والضمان لا تفاضل فيه .
وأما ما جمع شركة ومضاربة كأن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما ، مثل أن يخرج كل واحد منهما ألفاً ليعمل أحدهما فيهما فلا بد وأن يشترط للعامل أكثر من ربح ماله ، كأن يشترط له الثلثان ، أو النصف والربع ، ونحو ذلك في مسألتنا ، ليكون الزائد على ربح ماله مقابلًا لعمله في نصيب صاحبه ، ولو جعل للعامل في صورتنا دون النصف لم يصح ، لأن الربح : [ استحقاقه إما بمال أو بعمل ، وهذا الجزء الزائد على النصف الذي شرط ] لغير العامل ليس في مقابلة مال ، ولا عمل ، ولو جعلا الربح والحال هذه بينهما نصفين فلا شركة ولا مضاربة ، إذ شركة العنان وضعها الشركة في المال والعمل ، وقد فات العمل من أحدهما ، والمضاربة وضعها جعل جزء من [ الربح في مقابلة عمل ] العامل ، وقد فات الجعل ، ويكون هذا إبضاعاً وهو جائز إن لم يكن عوضاً [ عن قرض ، كأن كان العامل اقترض الألف ، وجعل عمله في مال صاحبه عوضاً ] عن قرضه ، فإن ذلك غير جائز ، هذا كله إذا اصطلحا على ذكر شيء ، فأما إن لم يصطلحا على شيء فإن في المضاربة يكون الرح لمالك المال ، وللعامل أجرة المثل ، وفي العنان يكون الربح على قدر المالين ، وفي شركة الوجوه على قدر ملكي المشتري ، وفي شركة الأبدان يقسم أجرة ما تقبلاه بالسوية ، وهل يرجع كل واحد على الآخر بأجرة عمله ؟ فيه وجهان ، والله أعلم .
قال : والوضيعة على قدر المال .
ش : الوضيعة تختص المال وتتقدر به ، بلا خلاف نعلمه ، ففي شركة العنان على قدر المالين ، وفي شركة الوجوه على قدر ملكي المشتري ، وفي المضاربة تختص المال لا تتعداه إلى العامل ، والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء فضل دراهم .
ش : أو يجعل نصيبه كله من الربح دراهم كأن يشترط له ثلث الربح [ مثلًا ] وعشرة دراهم ، أو يشترط له مائة درهم ، من غير جزء من الربح ، وفي كليهما يفسد العقد ، وقد حكاه ابن المنذر في القراض إجماعاً ، والمعنى في ذلك احتمال أن لا يربح غيرها ، فيحصل على جميع الربح ، وفي ذلك ضرر وغرر بالآخر ، والشريعة تأباه ، والله أعلم .
قال : والمضاربة إذا باع بنسيئة بغير أمير ضمن في إحدى الروايتين والأخرى : لا يضمن .
ش : إذا أذن للمضارب أو لغيره من الشركاء أن يبيع نسيئة أو أمر بذلك أو نهى [ عنه ] اعتمد الإِذن ، ومتى خالف ضمن ، وإن أطلق له جاز أن يبيع بالحال ، وهل يجوز أن يبيع بالنسيئة ؟ فيه روايتان ، ( الجواز ) ، واختاره ابن عقيل ، إذ ذلك عادة التجار فكان مأذوناً له عرفاً ، ( والمنع ) إذ التصرف المأذون فيه ما كان على وجه الحظ ، ومع النسيئة لاحظ ، لما في ذلك من التغرير بالمال ، فكأنه منهي عنه عرفاً ، فعلى الأول : لا ضمان عليه ما لم يفرط ببيع من لم يوثق به ، أو من لم يعرفه ، وعلى الثاني : يلزمه ضمان الثمن . ( قلت ) : وينبغي أن يكون حالًا ، والبيع صحيح على مقتضى كلام الخرقي ، وجعله أبو محمد من تصرف الفضولي ، فيبطل على الصحيح ، والله أعلم .
قال : وإذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر ، إذا كان فيه ضرر على الأول ، [ فإن فعل وربح رده في شركة الأول ] .
ش : إذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على الأول ، كأن يكون المال الثاني كثيراً ، يشغله عن [ العمل في ] الأول أو الأول كثير ، متى اشتغل بغيره تعطل العمل في بعضه ، إذ وضع المضاربة على الحظ والنماء ، ومع وجود الضرر لاحظ ولا نماء ، فإن خالف وفعل رد ما ربح في المضاربة الثانية في [ شركة ] الأول ، لأن الأول والحال هذه يستحق منافعه ، فيستحق ما حصل في مقابلتها ، وخرج من كلام الخرقي إذا لم يكن على الأول ضرر بالمضاربة ، لقلة المال ونحو ذلك ، فإن للمضارب المضاربة لآخر ، إذ منافعه لم تملك عليه ، إنما الذي ملك عليه فعل ما فيه حظ ونحون ، والله أعلم .
قال : وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال .
ش : وضع المضاربة أن ينض مال المضاربة ، ثم يقسم الربح ، والله أعلم .
قال : وإذا اشترى سلعتين فربح في إحداهما وخسر في الأخرى ، جبرت الوضيعة من الربح .
ش : لأن رأس المال واحد ، فلا يستحق المضارب فيه ربحاً حتى يستوفي رأس المال ، كالتي قبلها ، والله أعلم .
قال : وإذا تبين للمضارب أن في يده فضلًا ، لم يكن له أخذ شيء منه إلا بإذن رب المال .
ش : لأن الربح وقاية لرأس المال ، فربما خسر بعد ، فتبين أن لا ربح ، ولأن رب المال شريكه في الربح ، فلا يقاسم نفسه إلا بإذنه ، وخرج إذا أذن رب المال لأن الحق لهما ، لا يخرج عنهما ، نعم : متى خسر المال والحال هذه لزم العامل رد أقل الأمرين مما أخذه ، أو نصف الخسران ، إذا قسما الربح نصفين .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أن العامل يملك الربح بنفس الظهور ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله والمنصوبة في المغني للخلاف ، اعتماداً على الشرط ، إذ هو صحيح ، فوجب العمل بمقتضاه . ( والرواية الأخرى ) لا يملكه إلا بالقسمة ، إذ لو ملكه بالظهور لكان ربحه له ، وكان شريكاً لرب المال به ، وكل ذلك ممتنع ، والله أعلم .
قال : وإذا اتفق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما ، كان الربح بينهما والوضيعة على المال .
ش : لا إشكال في صحة شرط الربح ، ولا في بطلان اشتراط الوضيعة أو بعضها على المضارب ، لمنافاة هذا الشرط لمقتضى المضاربة ، ومقتضى كلام الخرقي أن العقد لا يفسد بهذا الشرط ، وهو منصوص أحمد والمذهب ، لعدم تأثيره في جهالة الربح ، وعنه يفسد العقد ، لأنه شرط فاسد ، أشبه اشتراط فضل دراهم ، والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يقال لمن عليه دين ضارب بالدين الذي عليك .
ش : حكى ابن المنذر هذا إجماعاً عمن يحفظ عنه من أهل العلم ، لأن المال ما دام في يد المدين لا يصير للغريم إلا بقبضه ، ولم يوجد القبض هنا ، وخرج أبو البركات الصحة من صحة المضاربة بالعروض ، لأنه إذا اشترى شيئاً للمضاربة ، ودفع الدين ، فقد وقع الشراء [ والدفع بإذن الغريم ] فيصير كما لو دفع إليه عرضاً وقال : ضارب به ، والله أعلم .
قال : وإن كان في يده وديعة جاز له أن يقول : ضارب بها .
ش : لأن الوديعة ملك لصاحبها ، فجازت المضاربة عليها ، كما لو كانت حاضرة ، ومراد الخرقي رحمه الله بهذه الوديعة الدراهم والدنانير ، إذ غرضه بهذه المسألة بيان أن الوديعة يجوز دفعها لمن هي في يده مضاربة ، وقد يقال : إن إطلاقه يشمل ما إذا كانت غير الدراهم والدنانير ، فيكون من مذهبه جواز المضاربة على العروض ، كالرواية المرجوحة ، مع أن المسألة السابقة قد تأتي ذلك . والله سبحانه وتعالى أعلم .
كتاب الوكالة

الوكالة بفتح الواو وكسرها التفويض ، وفي الإِصطلاح : التفويض في شيء خاص في الحياة ، وهي جائزة بالإِجماع ، وسنده قوله تعالى : 19 ( { إنما الصدقات للفقراء ، والمساكين ، والعاملين عليها } ) ولهذا كان النبي يبعث السعاة لقبض الصدقات ، وقوله تعالى : 19 ( { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ، فلينظر أيها أزكى طعاماً ، فليأتكم برزق منه } ) .
2074 وأيضاً توكيل النبي عروة بن الجعد في شراء الشاة .
2075 وتوكيل أبي رافع في تزويج ميمونة .
2076 وعمرو بن أمية الضمري في تزويج أم حبيبة .
قال : ويجوز التوكيل في الشراء والبيع ، ومطالبة الحقوق ، والعتق ، والطلاق ، حاضراً كان الموكل أو غائباً .
ش : يجوز التوكيل في الشراء ، لما تقدم من الآية والخبر ، ولذلك قدمه الخرقي ، وفي البيع ، لأنه في معناه ، وكذلك ما في معناهما من الإِجارة ، والصلح ، والرهن ، والجعالة ، والمساقاة ، والنكاح ، ونحو ذلك من عقود المعاوضات ، ويجوز التوكيل في مطالبة الحقوق .
2077 لأن علياً رضي الله عنه وكل عقيلًا عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقال : ما قضي له فلي ، وما قضي عليه فعلي .
2078 ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان ، وقال : إن للخصومة قحماً ، وإن الشيطان ليحضرها ، وإني لأكره أن أحضرها . قال أبو زياد : القحم المهالك . ومثل هذا يشتهر ، ولم ينقل إنكاره فكان إجماعاً ، ويجوز التوكيل في العتق ، والطلاق ، لأن الحاجة قد تدعو إليهما ، أشبهاً ما تقدم ، ولأنه إذا جاز التوكيل في الإِنشاء جاز في الإِزالة بطريق الأولى ، وفي معناهما الوقف ، والهبة ، والخلع ، ونحو ذلك مما يزيل ملك المال ، أو ملك البضع ، وسواء في جميع ذلك حضور الموكل وغيبته ، لعموم الأدلة ، وإنما ذكر المصنف ذلك تنبيهاً على مخالفة الإِمام أبي حنيفة رحمه الله ، إذ عنده أن للخصم الامتناع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضراً ، والله أعلم .
قال : وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه إلا أن يجعل ذلك إليه .
ش : لا يجوز للوكيل التوكيل إلا بإذن ، على المشهور من الروايتين ، واختاره الخرقي ، وأبو محمد ، وغيرهما ، إذ إذن الموكل إنما يتناول تصرف الوكيل بنفسه ، فلا يتعداه إلى غيره ، كما لو نهاه ، فإنه ليس له التوكيل اتفاقاً ، وعنه : له ذلك ، لأن له أن يتصرف بنفسه ، فله أن يفوض ذلك إلى نائبه كالمالك ، أما إن جعل التوكيل إليه إما بنص ، ولفظ عام ، بأن قال له : اصنع ما شئت . أو قرينة حالية كأن يكون الوكيل لا يتولى مثله ذلك ، لدناءة الموكل فيه ، وشرف الوكيل ، ونحو ذلك ، أو يعجز عنه لكثرته فإنه يجوز ، اعتماداً على الإِذن اللفظي أو العرفي ، نعم هل يجوز التوكيل فيما يعجز عنه في الجميع ، أو في القدر الذي يعجز عنه فقط ؟ فيه وجهان ، وحيث جوز له التوكيل فإنه يتقيد بأمين ، لأن ذلك هو الحظ دون غيره ، والله أعلم .
قال : وإذا باع الوكيل ثم ادعى تلف الثمن ، من غير تعد منه ، فلا ضمان عليه ، فإن اتهم حلف .
ش : الوكيل في البيع وكيل فيه وفيما ينشأ عنه ، وهو حفظ الثمن ، فإذا باع وقبض الثمن ، ثم ادعى تلف الثمن ، والحال أنه من غير تعد منه ، فالقول قوله ، لأنه أمين ، والقول قول الأمين والحكمة في ذلك أنه لو كلف إقامة البينة على ذلك لتعذر عليه أو شق ، فيمتنع الناس من الدخول في الأمانة مع الحاجة إليه ، فيحصل الضرر ، ولهذا قلنا : إذا ادعى التلف بأمر ظاهر كحريق عام ، ونهب جيش ، ونحو ذلك مما تسهل إقامة البينة عليه ، كلف إقامة البينة على وجود ذلك ، ثم القول قوله في التلف ، ويتفرع على أن القول قوله أنه لا ضمان عليه ، أما لو ثبت تعديه ببينة أو إقرار فإن الضمان عليه ، لزوال أمانته ، فهو كالغاصب ، ومتى قلنا : القول قوله . فأنكره الموكل فإنه يحلف ، لأن ما ادعاه عليه محتمل ، والله أعلم .
قال : ولو وكله أن يدفع إلى رجل مالًا ، فادعى أنه دفعه إليه ، لم يقبل قوله على الآمر إلا ببينة .
ش : إذا وكل وكيلًا أن يدفع إلى رجل مالًا ، فادعى أنه دفعه إليه ، وأنكره من أمر بدفعه إليه ، فإن قول الوكيل لا يقبل على الآمر ، ويلزمه الضمان على المذهب ، لأنه مفرط ، حيث لم يشهد على الدفع ، أشبه ما لو أمره بذلك فخالف ، ( وعنه ) : يقبل قول الوكيل على الآمر ، فلا ضمان عليه ، حملًا للتفريط على المالك ، لأنه لم يحتط لنفسه ، حيث لم ينص له على الإِشهاد ، ولهذا قلنا على الصحيح : أنه لو دفع المال بحضرته لم يضمن ، لأن حضوره قرينة رضاه بالدفع بغير بينة ، وقيل : لا ينتفي الضمان . اعتماداً على أن الساكت لا ينسب له قول ، ( هذا كله ) إذا لم يكن بينة ، أما مع البينة فإن قوله يقبل على الآمر ، وينتفي عنه الضمان ، لعدم تفريطه ، ولا فرق بين أن تكون البينة قائمة ، أو غائبة ، أو ميتة ، إذا كانت على حال لو وجدت قبلت ، نعم لو كانت ممن اختلف في ثبوت الحق بشهادتها كشاهد واحد ، أو رجل وامرأتين فهل يبرأ من الضمان ؟ قال أبو محمد : يخرج على روايتين .
وقول الخرقي : ولو وكله أن يدفع إلى رجل مالًا . يشمل الدف على أي صفة كان ، فدخل في كلامه ما لو أمره بالإِيداع ، والأصحاب على أنه في الإِيداع لا يلزمه الإِيداع إذا لم يشهد ، لعدم الفائدة في الإِشهاد ، إذ القول قول المودع في الرد والتلف ، ويرد بأن فيه فائدة ، وهو ثبوت الوديعة ، فلو مات أخذت من تركته .
وقول الخرقي : لم يقبل قوله على الآمر . دل بطريق التنبيه أنه لا يقبل قوله على من أمر بالدفع إليه ، لأنه إذا لم يقبل قوله على من ائتمنه ، فعلى من لم يأتمنه أولى ، ومقتضى كلام الخرقي أن الآمر أنكر الوكيل ، وعلى هذا لو صدق الآمر الوكيل في الدفع فلا ضمان عليه ، وصرح القاضي وغيره من الأصحاب أنه لا فرق في تضمين الوكيل بين تصديق الآمر له أو تكذيبه ، لأن مناط الضمان كونه فرط ، حيث لم يشهد ، والله أعلم .
قال : وشراء الوكيل من نفسه غير جائز .
ش : هذا هو المشهور من الروايات ، اختارها الخرقي ، والشريف ، وأبو الخطاب ، وابن عقيل ، وغير واحد ، للتهمة ، إذ الإِنسان طبع على طلب الحظ لنفسه ، ومقتضى الوكالة طلب الحظ للموكل ، فيتنافى الغرضان ، أو أن مقتضى الإِذن في البيع أن يبيع من غيره ، لا من نفسه ، فكأنه قال : بع هذا ولا تبع من نفسك . ( والرواية الثانية ) : يجوز ، بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء ، لانتفاء التهمة غالباً ، ويلزم على هذه الرواية أن يقول بجواز التوكيل للوكيل ، إما مطلقاً ، وإما مع وجود قرينة تدل على ذلك ( والرواية الثالثة ) : يجوز ، بشرط أن يوكل من يبيع ، ويكون هو أحد المشتركين ، معللًا بأنه لا يأخذ بإحدى يديه من الأخرى ( والرواية الرابعة ) : يجوز أن يشارك فيه ، لا أن يشتريه كله ، لانتفاء التهمة أو ضعفها إذاً ، وعلى الروايات كلها إذا أذن له في الشراء من نفسه جاز له الشراء بلا نزاع ، نعم على مقتضى تعليل أحمد في الرواية الثالثة لا يجوز ؛ لأنه يأخذ بإحدى يديه من الأخرى ، والله أعلم .
قال : وكذلك الوصي .
ش : حكم الوصي حكم الوكيل ، لا يجوز له الشراء من مال موليه إلا حيث يجوز للوكيل ، لاستوائهما معنى ، فاستويا حكماً ، إذ كل منهما متصرف على الغير ، والله أعلم .
قال : وشراء الرجل لنفسه من مال ولده [ الطفل ] جائز ، وكذلك شراؤه له من نفسه .
ش : يجوز للأب أن يشتري لنفسه من مال ولده الذي تحت حجره ، ويبيع له من ماله ، لانتفاء التهمة في حقه غالباً ، لكمال شفقته ، والله أعلم .
قال : وما فعل الوكيل بعد فسخ الموكل أو موته فباطل .
ش : أما إذا علم الوكيل بفسخ الموكل أو موته ، فلا شك في بطلان ما فعله بعد ذلك ، وأما إذا لم يعلم ، فظاهر كلام الخرقي وهو اختيار الشريف ، وأبي الخطاب ، وابن عقيل وغيرهم أن تصرفه غير نافذ أيضاً ، لأنه متصرف بلا إذن ، لزواله بالفسخ أو الموت ، ولا ملك ، أشبه الفضولي ، قال القاضي : وهذا أشبه بأصول المذهب وقياسه ، لقولنا : إن الخيار إذا كان لهما كان لأحدهما الفسخ من غير محضر من الآخر ، ولم يذكر عن أحمد نصاً ، والمنصوص عن أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور ، وجعفر بن محمد ، وأبي الحارث أن تصرفه نافذ ، اعتماداً على أن الحكم لا يثبت في حقه قبل العلم ، كما نقول في الأحكام المبتدأة ، قال سبحانه : 19 ( { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } ) ومقتضى كلام الخرقي أن الوكالة عقد جائز ، لبطلانه إياها بالموت والفسخ ، وهو صحيح .
( تنبيه ) : القاضي وأبو محمد وغيرهما يجعلون الخلاف في نفس انفساخ عقد الوكالة قبل العلم ، وأبو البركات وغيره وهو مقتضى كلام الخرقي يجعلون الخلاف في نفوذ التصرف ، لا في نفس الانفساخ ، وهذا أوفق لمنصوصات أحمد ، قال أبو العباس : وهو لفظي ، والله أعلم .
قال : وإذا وكله في طلاق زوجته فهو في يده ، حتى يفسخ أو يطأ .
ش : الوكالة تنفسخ بما يدل على الفسخ من لفظ أو فعل ، إناطة للحكم على المعنى ، فإذا وكله في طلاق زوجته فإنه يملك ذلك مطلقاً ، لعدم تقييده له بزمان ولا مكان ، إلى أن يفسخ أو يطأ ، إذ وطؤه دليل رغبته فيها ، وعلى هذا إذا باشرها دون الفرج فقال أبو محمد : فيه احتمالان ، بناء على التردد في حصول الرجعة بذلك ، والله أعلم .
قال : ومن وكل في شراء شيء فاشترى غيره ، فإن الآمر مخير في قبول الشراء ، فإن لم يقبل لزم الوكيل ، إلا أن يكون اشتراه بعين المال ، فيبطل الشراء .
ش : من وكل في شراء شيء فاشترى غيره كأن وكل في شراء عبد زيد ، فاشترى عبد عمرو ، أو في شراء عبد ، فاشترى ثوباً ، ونحو ذلك فلا يخلو إما أن يقع الشراء بعين مال الموكل أو في ذمة الوكيل ، فإن وقع بعين مال الموكل فهل يبطل وهو المذهب .
2079 لقول النبي لحكيم بن حزام : ( لا تبع ما ليس عندك ) أو يقف على إجازة المالك لحديث عروة بن الجعد فيه روايتان ، وإن وقع في ذمة الوكيل بنية الشراء للموكل فهل الشراء صحيح . وهو المذهب المعروف المشهور ، وجزم به الشيخان وغيرهما ، إذ التصرف وقع في الذمة ، وهي قابلة لذلك أو باطل كالشراء بالعين ، حكاه القاضي في الروايتين ؟ فيه خلاف ، وعلى الأول فهل يلزم المشتري ، لكونه اشترى لغيره بغير أمره ، أشبه ما لو لم ينوه له ، أو يقف على إجازة الموكل ، فإن أجازه لزمه ، لأنه اشترى له ، أشبه ما لو أذن فيه ، وإن رده لزم الموكل لصدور الشراء منه ؟ فيه روايتان حكاهما أبو محمد ، ثم شرط القاضي وتبعه أبو البركات أن لا يسمي الموكل في العقد إذا كان الشراء في الذمة ، فإن سماه بطل ، وظاهر كلام الخرقي وأبي محمد عدم اشتراط هذا الشرط ، والله أعلم .
( باب الإِقرار بالحقوق )

الإِقرار الاعتراف ، وحده الإِظهار لأمر متقدم ، وليس بإنشاء ، والأصل فيه قوله تعالى : 19 ( { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين إلى قوله أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ، قالوا أقررنا } ) وقال تعالى : 19 ( { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } ) .
2080 وثبت أن النبي رجم ماعزاً بإقراره ، وقال : ( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) وأجمع المسلمون على صحة الإِقرار في الجملة .
قال : ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه ، كان استثناؤه باطلًا ، إلا أن يستثني عيناً من ورق ، أو ورقاً من عين .
ش : إذا أقر بشيء واستثنى من جنسه كأن أقر بعشرة دراهم ، واستثنى منها درهماً ونحو ذلك فإنه يصح بلا نزاع ، ويكون مقراً بالباقي بعد المستثنى ، لورود ذلك في الكتاب ، والسنة ، وكلام العرب ، قال سبحانه : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً } .
2081 وقال النبي في الشهيد : ( تكفر عنه خطاياه كلها إلا الدين ) ويدخل في كلام الخرقي ما إذا أقر بنوع من جنس ، واستثنى نوعاً آخر ، كأن أقر بتمر برني ، واستثنى تمراً معقلياً ، ونحو ذلك ، وهو أحد احتمالي [ المغني ، والإِحتمال الآخر وهو الصحيح عند ] أبي محمد لا يصح ، لعدم دخول المعقلي في البرني ، وإن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه ، فلا يخلو إما أن يكون ذلك في الدراهم والدنانير ، أو في غيرهما ، فإن كان في غيرهما كأن أقر بدراهم واستثنى منها ثوباً ، أو بثياب واستثنى منها دراهم ، أو بتمر واستثنى منه براً ، ونحو ذلك فالمذهب المعروف المشهور أنه لا يصح ، لأن الإِستثناء إما إخراج بعض ما يتناوله اللفظ ، أو ما يصلح أن يتناوله اللفظ ، مأخوذ من قولهم : ثنيت فلاناً عن رأيه . إذا صرفته عن رأي كان عازماً عليه ، وأحد الجنسين لا يتناوله الآخر ، ولا يصح أن يتناوله إلا على سبيل المجاز ، والأصل الحقيقة ، وعن أبي الخطاب صحة ذلك ، بناء على جواز استثناء أحد النقدين من الآخر . انتهى .
وإن كان ذلك في الدراهم والدنانير مثل أن أقر بمائة درهم ، واستثنى منها ديناراً ، أو بدينار واستثنى منه خمسة دراهم ففيه روايتان ( إحداهما ) لا يصح ، اختارها أبو بكر ، لما تقدم ، ( والثانية ) يصح ، اختارها الخرقي ، لأنهما في معنى الجنس الواحد ، لأن قدر أحدهما معلوم من الآخر ، فإذا قال : له علي مائة درهم إلا ديناراً فمعناه إلا عشرين درهماً ، ويعبر بأحدهما عن الآخر ، فمعنى : له عليّ دينار إلا درهمين ، له على عشرون درهماً إلا درهمين . إذ الدينار يعبر به عن عشرين درهماً ، ومهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح حمل عليه ، فعلى هذا يرجع في تفسير الدينار إلى المقر إن لم يكن للدينار بالبلد سعر معلوم ، وإن كان له سعر فهل يرجع إلى سعره ، أو إلى التفسير ؟ فيه قولان ، قال أبو محمد : ويمكن حمل الروايتين على اختلاف حالين ، فالموضع الذي قال بالصحة فيه ، إذا عبر بأحدهما عن الآخر ، أو علم قدره منه ، والموضع الذي قال بالبطلان فيه ، إذا انتفى ذلك ، والله أعلم .
قال : ومن ادعي عليه شيء فقال : قد كان ذلك وقضيته . لم يكن ذلك إقراراً .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية جماعة ، وجزم به الجمهور ، كالشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وشيخهم ، وقال : لم أجد رواية بغير هذا ، وذلك لأن الكلام بآخره ، والذي تضمنه مجموع كلامه أنه لا شيء له عليه ، لأن الاستصحاب إنما يعمل عمله إذا لم يرد ما يخالفه .
وعن أحمد رواية أخرى اختارها أبو الخطاب ، أنه يكون مقراً مدعياً للقضاء ، ولا يقبل قوله في دعوى القضاء إلا ببينة . إذ كلامه انطوى على جملتين ، إحداهما : كان له عليّ ألف . والثانية ) وقضيته . فيقبل قوله فيما عليه ، ولا يقبل قوله فيما له إلا ببينة .
وعنه رواية ثالثة ، حكاها أبو البركات : أن هذا ليس بجواب صحيح ، فيطالب برد الجواب ، إذ إقراره الأول يناقضه دعوى القضاء ثانياً ، وإذا تناقضا تساقطا ، ولو قال : له عليّ ألف وقضيته . ولم يقل ( كان ) ففيه الروايتان الأولتان ، وثالثة أنه مقر بالحق ، مكذب لنفسه في الوفاء ، فلا يسمع منه ، وإن أتى ببينة ، لأن : له عليّ ألف . يقتضي بقاءها في ذمته ، ودعوى القضاء تناقض ذلك ، ولو قال : كان له عليّ ألف . ولم يقل : وقضيته . فهو إقرار ، وخرج عدمه ، والله أعلم .
قال : ومن أقر بعشرة دراهم ، ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ، ثم قال : زيوفاً ، أو صغاراً ، أو إلى شهر . كانت عشرة جياداً . وافية . حالة .
ش : إذا أقر بدراهم لزمته جياد وافية حالة ، إذ هذا مقتضى الإِطلاق ، كما لو وقع البيع على ذلك ، نعم إذا كان في بلد أوزانهم ناقصة ، أو دراهمه مغشوشة ، فهل يلزمه من دراهم البلد ، كثمن المبيع بها وهو مقتضى كلام ابن الزاغوني ، وما صححه صاحب التلخيص أو جياد وافية ، إذ إطلاق الدراهم في الشرع ينصرف إلى ذلك ، بدلبل نصاب الزكاة وهو مقتضى كلام الخرقي ؟ فيه وجهان ، وحيث قلنا مع الإِطلاق يلزمه جياد وافية حال ، ففسرها بزيوف وهي الرديئة أو بصغار وهي الناقصة كدراهم طبرية ، وهي أربعة دوانيق ، بخلاف دراهم الإِسلام فإنها ستة دوانيق أو قال : مؤجلة . فلا يخلو إما أن يكون بكلام متصل ، أو ما في حكمه ، كالسكوت لتنفس ، أو عطاس ، ونحو ذلك ، أو منفصل ، فإن كان بكلام منفصل لم يسمع منه ، لإِفضائه إلى إبطال بعض ما اقتضاه ظاهر إقراره ، وهو الجودة ، والحلول ، والكمال ، فإن كان [ بمتصل ونحو سمع منه ، إذ الكلام بآخره ، فالإِقرار إنما حصل على صفة ، فلا يلزم غيرها ] ، نعم إذا قال : زيوف . وفسرها بما لا فضة فيه لم يسمع ، لأن قوله : دراهم . يناقضه ، وشرط القاضي فيما إذا قال : صغار . أن يكون للناس دراهم صغار ، وإن لم يكن لهم دراهم صغار لم يسمع منه ، وحكى أبو الخطاب احتمالًا فيما إذا فسر بالتأجيل أنه لا يسمع منه ، والله أعلم .
قال : ومن أقر بشيء واستثنى الكثير وهو أكثر من النصف أخذ بالكل ، وكان استثناؤه باطلًا .
ش : لا نزاع في جواز استثناء الأقل ، ولا في منع استثناء الكل ، ولا في أن المذهب المعروف المشهور أنه لا يجوز استثناء الأكثر ، حتى أن أبا محمد قال : لا يختلف المذهب في ذلك ، نظراً إلى أن هذا الذي ورد في كلام العرب ، قال الزجاج : لم يأتِ الاستثناء إلا في القليل من الكثير ، ولو قال قائل : مائة إلا تسعة وتسعين . لم يكن متكلماً بالعربية ، وكان عيّاً من الكلام والكنة ، وقال القتيبي : يقال : صمت الشهر إلا يوماً . ولا يقال : صمت الشهر إلا تسعة وعشرين . ولأن القليل في معرض النسيان ، فقبل وإن خالف مقتضى ما نطقه به ، بخلاف الكثير فإن احتمال السهو فيه بعيد ، وقيل : يجوز استثناء الأكثر ، نظراً لقوله تعالى : 19 ( { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } ) والغاوون أكثر ، بدليل 19 ( { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } ) ومنع أن الغاوين أكثر ، إذ العابد يدخل فيهم الملائكة ، والجن ، والإِنس ، وعلى تقدير التسليم ، فاستثناء الأكثر إنما يمتنع من عدد محصور ، أما الاستثناء بالصفة من جنس فإنه يجوز وإن كان أكثر ، وهذا أحد جوابي القاضي ، والآخر أنه استثناء منقطَع ، بمعنى ( لكن ) ولما كان النصف حداً بين القليل والكثير ، تردد الأصحاب فيه ، فمنعه أبو بكر ، وجوزه الخرقي ، والله أعلم .
قال : وإذا قال : له عندي عشرة دراهم . ثم قال : وديعة . كان القول قوله .
ش : لأنه فسر كلامه بما يوافق ظاهره لا بما يخالفه ، وإذاً يثبت لها حكم الوديعة ، بحيث لو ادعى تلفها بعد ذلك أو ردها قبل منه ، والله أعلم .
قال : ولو قال : لو عليّ ألف ، ثم قال : وديعة . لم يقبل قوله .
ش : هذا هو المشهور لمخالفته ظاهر إقراره ، لأن ( عليّ ) للإيجاب ، فمقتضى اللفظ أنها في ذمته ، والوديعة ليست في ذمته ، وعن القاضي : يقبل قوله على تأويل أن عليّ حفظها ، أو ردها ، ونحو ذلك ، والله أعلم .
قال : ولو قال : له عندي رهن . وقال المالك : وديعة . كان القول قول المالك .
ش : لأن المقر يدعي على المالك عقداً ، وهو ينكره ، والأصل معه ، ولأن إقراره يتضمن حقاً عليه ، وحقاً له ، فقبل فيما عليه دون ما له ، والله أعلم .
قال : ولو مات فخلف ولدين ، فأقر أحدهما بأخ أو بأخت ، لزمه أن يعطي الفضل الذي في يديه لمن أقر له .
ش : إذا مات رجل وخلف ولدين ، فأقر أحدهما بأخ أو بأخت ، وكذبه الآخر لم يثبت النسب اتفاقاً ، ويلزم المقر أن يدفع إلى المقر له ما فضل في يده عن ميراثه ، لأن إقراره تضمن ذلك ، وكما لو ثبت نسبه ببينة ، ففي صورة الإِقرار بأخ يلزمه أن يدفع إليه السدس ، لأنهم إذا كانوا ثلاثة على زعم المقر ، يكون المال بينهم أثلاثاً ، لكل واحد ثلثه ، وفي يده النصف ، فالفاضل عما يستحقه السدس ، وفي مسألة الإِقرار بأخت يدفع إليها نصف الخمس لأن المال بينهم على خمسة ، لكل أخ خمسان ، ولهما خمس ، وفي يده النصف ، فالفاضل عما يستحقه نصف الخمس ، وعلى هذا فقس ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن أقر بدين على أبيه لزمه من الدين بقدر ميراثه .
ش : فإذا كان ميراثه النصف لزمه من الدين نصفه ، وإن كان ميراثه الثلث لزمه منه الثلث ، وعلى هذا ، لأنه إقرار يتعلق بحصته وحصة أخيه ، فلا يلزمه إلا ما يخصه ، كالإِقرار بالوصية ، وإقرار أحد الشريكين على مال الشركة ، والله أعلم .
قال : وكل من قلت : القول قوله . فلخصمه عليه اليمين .
ش : أي في هذا الباب ، نحو : له عندي مائة درهم . وفسرها بوديعة ، أو : له عندي رهن . وقال المالك : وديعة : وما أشبه ، كالمضارب ، والشريك ، والراهن ، ونحوهم ، فمن القول قوله فلخصه عليه اليمين ، لأن ما ادعاه عليه محتمل .
2082 وقد قال : ( لو يعطي الناس بدعواهم ، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) والله أعلم .
قال : والإِقرار بدين في مرضه موته ، كالإِقرار في صحته ، إذا كان لغير وارث .
ش : إذا أقر بمال لغير وارث في مرضه المحجور عليه فيه كان كما لو أقر له في صحته ، على المشهور من الروايات ، والمختار عند الأصحاب ، لانتفاء التهمة غالباً ، ولاحتياجه إلى براءة ذمته ، وقد ينحصر الطريق في ذلك ، والرواية الثانية : لا يقبل مطلقاً . كالإِقرار لوارث ، والثالثة : يلزم في الثلث فما دون ، لا فيما زاد عليه ، تنزيلًا له منزلة الوصية .
ويدخل في كلام الخرقي بطريق التنبيه الإِقرار بغير مال ، كالإِقرار بالطلاق ونحوه ، فإنه يصح بلا نزاع ، فعلى الأولى وهو المذهب هل يحاص المقر له في المرض من ثبت دينه بينة أو بإقرار في الصحة ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) وبه جزم القاضي [ في الجامع ] والشريف ، وأبو الخطاب ، والشيرازي في موضع ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار التميمي نعم ، لأنه يجب قضاؤهما من رأس المال ، أشبه ما لو ثبتا ببينة ، ( والثاني ) واختاره أبو الخطاب في الانتصار ، وقال ابن البنا تبعاً لشيخه أظنه في المجرد : إنه قياس المذهب لا ، لنص أحمد في المفلس أنه إذا أقر وعليه دين ثبت ببينة أنه يبدأ به ، وعلى الرواية الثالثة يقدم دين الصحة بلا نزاع ، لأنا نزلنا الإِقرار منزلة الوصية ، والله أعلم .
قال : وإن أقر لوارث بدين لم يلزم باقي الورثة قبوله إلا ببينة .
ش : أما مع البينة فواضح ، وأما مع عدمها فلا يلزم باقي الورثة القبول ، لمكان التهمة ، نعم لا يبطل الإِقرار على المشهور من المذهب ، بل يقف على إجازة الورثة ، فإن أجازوه جاز ، وإن ردوه بطل ، ولهذا قال الخرقي : لم يلزم . ومقتضى كلام الخرقي أن الحكم منوط بحال الإِقرار ، فلو أقر لوارث فصار عند الموت غير وارث لم يصح ، إناطة بالتهمة ، ولو أقر لغير وارث فصار عند الموت وارثاً صح ، لانتفاء التهمة ، نص عليه أحمد ، معللًا بما تقدم ، ( وعنه ) الاعتبار بحال الموت كالوصية ، والأول المذهب ، والله أعلم .
قال : والعارية مضمونة ، وإن لم يتعد فيها المستعير .
ش : يعني إذا تلفت أو نقصت .
2083 لما روى الحسن ، عن سمرة ، عن النبي أنه قال : ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) رواه الخمسة إلا النسائي .
2084 وعن صفوان بن أمية أن النبي استعار منه أدراعاً ، فقال : أغضباً يا محمد ؟ قال : بل عارية مضمونة ) قال : فضاع بعضها ، فعرض النبي أن يضمنها ، فقال : أنا اليوم في الإِسلام أرغب . رواه أحمد ، وأبو داود .
وعموم كلام الخرقي يقتضي الضمان ولو شرط نفيه ، وهو المهشور من المذهب ، لمخالفة الشرط مقتضى العقد ، وعنه واختاره أبو حفص يسقط الضمان ، لأنه أبرأ من الضمان مع وجود سببه ، ؤشبه ما لو أبرأه من السراية بعد الجراحة ، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يضمن الولد ، وهو الصحيح من الوجهين ، عند أبي مجمد ، والله أعلم .
( تنبيه ) : العارية يد آخذة ، والوديعة يد معطاة ، فالعارية مثل القرض فجميعاً قابضهما ضامن ، والفرق بينهما أن العين المستعارة لا يجوز استهلاكها ، ولا هبتها ، ولا تغييرها ، ولا التصرف فيها ، بخلاف القرض ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
باب الغصب


الغصب محرم بالإِجماع ، وقد دل عليه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، وتدلوا بها إلى الحكام } الآية .
2085 وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جاداً ، ولا لاعباً ، وإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليردها عليه ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وهو في اللغة : أخذ الشيء ظلماً . قاله الجوهري وابن سيده وغيرهما ، وفي الإصطلاح قال أبو محمد في المقنع أنه : الاستيلاء على مال الغير قهراً بغير حق . فالاستيلاء يستدعي القهر والغلبة ، فإذاً قوله : ( قهراً ) زيادة في الحد ، ولهذا أسقطه في المغني ، لكن فيه زيادة إيضاح ، يخرج بذلك المال المسروق ، والمنتهب ، والمختلس ، لأنه لم يأخذه على [ وجه القهر ، وقوله : بغير حق . يخرج الاستيلاء بحق ، كاستيلاء الولي على ] مال الصبي ، والحاكم على مال المفلس ، ونحو ذلك .
وهو غير جامع ، لخروج ما عدا المال من الحقوق ، كالكلب ، وخمر الذمي ، ونحو ذلك ، ثم إنه عرف ( غير ) بالألف واللام ، والمشهور عدم تعريفها بهما ، ولهذا لم يعرفها في المغني ، وقال أبو البركات : هو الاستيلاء على مال الغير ظلماً . ويرد عليه ما ورد على الأول ، وأنه غير مانع ، لدخول السرقة ، والانتهاب ، ونحو ذلك كالاختلاس فيه ، والله أعلم .
قال : ومن غصب أرضاً فغرسها أخذ بقلع غرسه ، وأجرتها إلى وقت تسليمها ، ومقدار نقصانها ، إن كان نقصها الغرس .
ش : يصح غصب العقار على المذهب المعروف المشهور ، حتى أن القاضي وعامة أصحابه لم يذكروا في المسألة خلافاً ، مع أن القاضي ذكر رواية ابن منصور ، واستشكلها .
2086 وذلك لما روي عن سعيد بن زيد قال : قال رسول الله : ( من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوق يوم القيامة من سبع أرضين ) متفق عليه ، وفي لفظ لأحمد ( من سرق ) .
2087 وعن الأشعث بن قيس رضي الله عنه أن رجلًا من كندة ورجلًا من حضرموت اختصما إلى النبي في أرض باليمن ، فقال الحضرمي : يا رسول الله أرضي اغتصبها هذا وأبوه . فقال الكندي : يا رسول الله أرضي ورثتها من أبي . فقال الحضرمي : استحلفه يا رسول الله أنه ما يعلم أنها أرضي وأرض والدي ، اغتصبها أبوه ، فتهيأ الكندي لليمين ، فقال رسول الله : ( إنه لا يقتطع عبد أو رجل مالًا بيمينه إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم ) فقال الكندي : هي أرضه وأرض والده . رواه أحمد .
ونقل عنه ابن منصور ما يدل على أن العقار لا يضمن بالغصب ، إذ الغصب إثبات اليد على المال عدواناً ، على وجه تزول به يد المالك ، ولا يوجد ذلك في العقار ، وفائدة الخلاف أنها لو غرقت بماء السماء ونحو ذلك ، أو كان فيها بناء فانهدم ، ضمن على الأول دون الثاني ، ولو غصبها غاصب آخر ، فهدم بناءها ، أو نقل ترابها ، فللمالك تضمين من شاء منهما على الأول ، وعلى الثاني يضمن الثاني فقط ، لوجود النقل والهدم منه . إذا تقرر هذا فإذا غصب أرضاً فغرسها ، فإنه يؤخذ بقلع غرسه .
2088 لما روى عروة بن الزبير ، أن رسول الله قال : ( من أحيا أرضاً فهي له ، وليس لعرق ظالم حق ) قال : ولقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله ، غرس أحدهما نخلًا في أرض الآخر ، فقضى لصاحب الأرض بأرضه ، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها ، قال : فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس ، وإنها لنخل عم . رواه أبو داود ، والدارقطني ، قال أحمد : العم الطوال . ويؤخذ بأجرتها إلى وقت تسليمها ، وكذلك كل ما له أجر ، بناء على أن منافع المغصوب مضمونة ، إذ هي بمنزلة الأموال ، ولهذا قلنا على المشهور : يجبر المفلس المحترف على إيجار نفسه لوفاء دينه ، وسواء انتفع أو لم ينتفع ، لتلفها تحت يده العادية .
ويؤخذ أيضاً بنقص الأرض إن نقصها الغرس ، وكذا لو نقصت بغيره ، وكذلك الحكم في كل عين مغصوبة ، على الغاصب ضمان نقصها ، كما يضمن جملتها ، والنقص هو نقص القيمة في جميع الأعيان ، اختاره الشيخان ( وعنه ) وهو المشهور عنه أن في عين الدابة ربع قيمتها .
2089 واعتمد في ذلك على ما روي عن عمر رضي الله عنه ، أنه كتب إلى شريح وقد كتب إليه يسأله عن عين الدابة : إنا كنا ننزلها بمنزلة الآدمي ، إلا أنا أجمع رأينا أن فيها ربع الثمن . وهذا إجماع ، وهو اختيار القاضي في التعليق ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، ثم الشيخان ، وأبو الخطاب في الهداية والقاضي في روايتيه ، جعلوا الخلاف في عين الدابة من الخيل ، والبغال ، والحمير ، ونصوص أحمد على ذلك ، والقاضي في تعليقه وفي جامعه ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، وصاحب التلخيص ، والمستوعب ، وأبو محمد في الكافي ، خصوا الخلاف بعين الفرس ، ( وعنه ) أن الرقيق يضمن بما يضمن به في الإِتلاف ، [ وتفرد أبو محمد في المقنع عن الأصحاب ، فخرج أنه يضمن بأكثر الأمرين من النقص أو مما يضمن به في الإِتلاف ] وتحرير ذلك يحتاج إلى ذول . والله أعلم .
قال : وإن كان زرعها فأدركها ربها والزرع قائم ، كان الزرع لصاحب الأرض ، وعليه النفقة ، وإن استحقت بعد أخذ الغاصب الزرع لزمته أجرة الأرض .
ش : إذا غصب أرضاً فزرعها فإن أدركها ربها والزرع قائم ، كان الزرع له وعليه النفقة ، على ظاهر كلام أحمد في عامة نصوصه والخرقي ، والشيرازي ، وابن أبي موسى فيما أظن .
2090 لما روى رافع بن خديج رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( من زرع في أرض قوم بغير إذنهم ، فليس له من الزرع شيء وله نفقته ) رواه الخمسة إلا النسائي ، وقال البخاري : هو حديث حسن . وعليه اعتمد أحمد ، فقال في رواية علي بن سعيد . آخذ به . وفي رواية حرب : أذهب إليه . وقال القاضي ، وعامة أصحابه ، والشيخان : يخير مالك الأرض بين تركه إلى الحصاد بالأجرة ، وبين أخذه بالنفقة ، نظراً إلى رب الأرض ، وحملا على الغاصب ، إذ لو كلف الأخذ بالقيمة ربما شق ذلك عليه ، وحكى أبو الخطاب احتمالًا بأن الزرع للغاصب ، لأنه نماء ملكه ، وعلهي الأجرة .
ولا نزاع أن رب الأرض لا يجبر الغاصب على قلع الزرع . ثم هل النفقة قيمته وهي التي صححها القاضي في التعليق ، قياساً على ما إذا أتلفه أو نفقته من البذر والمؤونة وهو ظاهر كلام الخرقي ، لظاهر الديث ؟ فيه روايتان ، وقال ابن الزاغوني : أصلهما هل يضمن ولد المغرور بمثله أو بقيمته ؟ وإن أدركها ربها بعد أخذ الغاصب الزرع فقد استقر ملك الغاصب عليه ، لأنه نماء ملكه ، فيكون له على القاعدة ، وإنما خرجنا عن ذلك في الزرع للحديث ، وبعد الأخذ لا يشمله الحديث ، لأنه إنما يكون زرعاً ما دام قائماً ، وعليه الأجرة ، ونقص الأرض إن كانت نقصت ، لما تقدم .
ويدخل في عموم كلام الخرقي الزرع الذي يجز مرة بعد أخرى ، كالنعنع ونحون ، وهو أحد احتمالي أبي محمد ، والاحتمال الثاني أن حكمه حكم الغراس ، والله أعلم .
قال : ومن غصب عبداً أو أمة وقيمته مائة ، فزاد في بدنه ، أو بتعليمه ، حتى صارت قيمته مائتين ، ثم نقص بنقصان بدنه ، أو نسيان ما علم ، حتى صارت قيمته مائة ، أخذه سيده من الغاصب ، وأخذ مائة .
ش : خلاصته أن زوائد العين المغصوبة مضمونة على الغاصب ، سواء كان ذلك ذاتاً كالسمن أو معنى كتعلم صناعة ، ونحو ذلك ، لأنها تحدث على ملك مالك العين ، وقد تحصلت تحن يد الغاصب ، فلزمه ضمانها كالأصل ، فإذا غصب عبداً قيمته مائة ، فسمن أو تعلم صناعة ، فصارت قيمته مائتين ، ثم عاد كما كان ، بأن هزل أو نسي الصناعة ، فإنه يجب على الغاصب رده ، ورد مائة في مقابلة ما ذهب من السمن أو الصناعة ، والله أعلم .
قال : ومن غصب جارية فوطئها وأولدها ، لزمه الحد ، وأخذها سيدها وأولادها ، ومهر مثلها .
ش : إذا غصب جارية فوطئها لزمه الحد ، لأنه زان ، إذ لا شبهة له في ذلك ، ثم إذا قدر عليها سيدها أخذها ، لأنها عين ملكه ، وأخذ أولادها ، لأنهم نماء ملكه ، ولا يلحق نسبهم بالواطيء لأنه زان ، وأخذ مهر مثلها لأنه بدل منفعة ، ( وعنه ) : لا مهر للثيب ، وهو بعيد ، ولا لمطاوعة وهو جيد ، لنهيه عن مهر البغي ، والأول المذهب ، لأن الحق للسيد ، فلا يسقط بمطاوعتها ، فإذا كانت بكراً فعليه أرش بكارتها على الصحيح ، ولو اعتق الغاصب حل الوطء ، ومثله يجهل ذلك ، لقرب عهده بالإِسلام ، ونحو ذلك ، فالحكم كذلك ، إلا أنه لا حد عليه ، وأولاده أحرار يفديهم كما سيأتي ، والله أعلم .
قال : وإن كان الغاصب باعها فوطئها المشتري ، وأولدها وهو لا يعلم ، ردت الجارية إلى سيدها ، ومهر مثلها ، وفدى أولاده بمثلهم ، وهم أحرار ، ورجع بذلك كله على الغاصب .
ش : إذا باع الغاصب الجارية المغصوبة ، فإن البيع فاسد على المذهب ، وقيل عنه : يقف على الإِجازة ، وقيل عنه : يصح مطلقاً ، والتفريع على الأل ، فنقول : لا يخلو المشتري إما أن يكون عالماً بالغصب أو غير عالم ، والمرجع في ذلك إليه ، لأن ذلك مما يخفى ، فإن كان عالماً فحكمه حكم الغاصب على ما تقدم ، وإن لم يكن عالماً فإن الجارية ترد إلى مالكها ، لأنها مال غيره في يده ، وقد قال : ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) ويرد مهر مثلها ، لأنه في مقابلة منفعتها غير المأذون فيها ، وإن كان المشتري قد أولدها فإن ولده حر ، لاحق نسبه به ، لمكان الشبهة ، وعليه فداؤه على المذهب ، لأنه فوّت رقه على سيده ، باعتقاده حل الوطء ، وعنه لا فداء عليه ، لانعقاده حراً ، ويفديه بمثله يوم الوضع على مختار القاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب ، والشيخين ، وغير واحد ، لأنه أول أوقات الإِمكان ، وقيل : يوم المحاكمة . وهو ظاهر إطلاق أحمد في رواية ابن منصور ، وجعفر بن محمد ، ثم هل يفديه بمثله وهو مختار الخرقي ، والقاضي ، وعامة أصحابه أو بقيمته وهو مختار أبي محمد ، وصاحب التلخيص ، أو يخير ، وهو مختار أبي بكر في المقنع ؟ على ثلاث روايات ، وأصل الاختلاف اختلاف الصحابة ، وهل المعتبر المثل في الصفات تقريباً ، وهو ظاهر كلام الخرقي وأحمد أو المثل في القيمة وهو اختيار عبد العزيز ؟ فيه وجهان .
ويرجع المشتري على الغاصب بقيمة الولد ، لأنه دخل على أنه غير مضمون عليه ، ولا إتلاف من جهته ، وهل يرجع بالمهر ؟ فيه روايتان ، ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي والقاضي ، وعامة أصحابه نعم .
2091 تبعاً لقضاء عمر رضي الله عنه ، فإنه قضى بالرجوع ، ولما تقدم ، ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر لا ، اتباعاً لقضاء علي رضي الله عنه ، فإنه قضى بعدم الرجوع ولأنه غرم ما استوفى بدله ، فلم يرجع به ، كما لو تلفت الجارية أو أجزاؤها ، والله أعلم .
قال : ومن غصب شيئاً ولم يقدر على رده لزم الغاصب القيمة ، فإن قدر عليه رده وأخذ القيمة .
ش : من غصب شيئاً فعجز عن رده كعبد أبق ، أو فرس شرد ، ونحو ذلك لزمته قيمته ، لأنه تعذر رده ، أشبه ما لو تلف ، ويملكها المغصوب منه ، قاله أبو محمد ، وقال القاضي في التعليق : لا يملكها ، وإنما يباح له الإِنتفاع بها ، بإزاء ما فاته من منافع العين المغصوبة ، ولا نزاع أن الغاصب لا يملك العين المغصوبة ، فإذا قدر عليها بعد أداء القيمة ردها على المغصوب منه ، لبقائها على ملكه ، وأخذ القيمة ، لأن دفع القيمة كان لتعذر العين ، وقد زال التعذر ، ولئلا يجتمع البدل والمبدل لشخص واحد ، والله أعلم .
قال : ولو غصبها حاملًا فولدت في يده ، ثم مات الولد ، أخذها سيدها ، وقيمة ولدها أكثر ما كانت قيمته .
ش : إذا غصب حاملًا ، أو حائلًا فحملت عنده ، فإن الولد مضمون عليه ، إذ الولد إما مودع في الأم ، وإما كأجزائها ، وفي كلا الموضعين يجب الضمان ، إذ الاستيلاء على الظرف وعلى الجملة استيلاء على المظروف وعلى الجزء .
إذا تقرر هذا فإذا ولدت في يده فلا يخلو إما أن تلده حياً أو ميتاً ، فإن ولدته ميتاً وكان قد غصبها حاملًا ، فلا شيء عليه ، لأنه لا يعلم حياته حين استيلائه ، وإن كان قد غصبها حائلًا فحملت ، ثم أسقطته ميتاً ، فكذلك عند القاضي أبي يعلى ، وعند ابنه أبي الحسين يضمنه بقيمته لو كان حياً ، قال أبو محمد : والأولى إن شاء الله أن يضمنه بعشر قيمة أمه ، وإن ولدته حياً وجب رده مع أمه على مالكها ، مع أرش نقص الولادة إن كان ثم نقص ، فلم مات الولد رد الأم ورد قيمة الولد لما تقدم ، ثم إن كانت قيمته لا تختلف من يوم الولادة إلى يوم التلف ردها ، وإن اختلفت فإن كان لمعنى فيه من كبر ، وسمن ، وهزال ، وتعلم صناعة ، ونحو ذلك فالواجب القيمة الزائدة ، لأنه مغصوب في تلك الحال ، فإذا نقص البعض ضمن النقص ، وإن كان الاختلاف لتغير الأسعار لم يضمنه ، نص عليه ، واختاره الأصحاب ، حتى أن القاضي قال : لم أجد عن أحمد رواية بالضمان ، ونقل عنه ابن أبي موسى وناهيك به رواية بالضمان لذلك وعليها حمل القاضي كلام الخرقي هنا .
فعلى المذهب يضمن المغصوب بقيمته يوم تلفه ، على المشهور والمختار أيضاً عند الأصحاب ، إذ قبل التلف الواجب رد العين ، وإنما ثبتت القيمة حين التلف ، ونقل عنه ابن مشيش : يضمنه بقيمته يوم غصبه ، وكذلك نقل عنه ابن منصور ، إلا أنه عاوده في ذلك فجبن عنه ، تنزيلًا لزوال يده منزلة تلف العين ، وحكم بقية المتقومات كذلك ، أما المثلي فيضمن بمثله ، فإن تعذر المثل فبقيمته يوم إعوازه على المذهب ، والله أعلم .
قال : وإذا كانت للمغصوب أجرة فعلى الغاصب رده وأجرة مثله مدة مقامه في يده .
ش : يجب رد المغصوب ما دام باقياً ، لما تقدم من قول النبي : ( على اليد مأخذت حتى تؤديه ) وقوله : ( ومن أخذ عصا أخيه فليردها ) ويجب الرد وإن تضرر بذلك ، كأن بعّده ، أو بنى عليه ، ونحو ذلك ، لأنه الذي أدخل الضرر على نفسه ، وإذا رده فإن كانت له أجرة فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يديه ، على المنصوص والمختار للأصحاب ، وسواء استوفى المنافع ، أو لم يستوفها ، لأن المنافع مال فوجب ضمانه كالعين ، ونقل عنه محمد بن الحكم التوقف في ذلك ، إلّا أن الخلال قال : هذا قول قديم ، لأن ابن الحكم مات قبل أبي عبد الله بنحو من عشرين سنة . واستدل لذلك بقوله : ( الخراج بالضمان ) وحمل على الأعيان ، والله أعلم .
قال : ومن أتلف لذمي خمراً أو خنزيراً فلا غرم عليه ، وينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه .
ش : من أتلف من مسلم أو ذمي خمراً أو خنزيراً لذمي ، فإنه لا غرم عليه .
2092 لما في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال : ألا إن رسول الله حرم بيع الخمر ، والميتة ، والخنزير ، والأصنام . وما حرم بيعه لا لحرمته لم تجب قيمته كالميتة ، وخرج أبو الخطاب وتبعه أبو البركات رواية بضمان خمر الذمي على الذمي ، بناء على أنها مال ، وعلى كل حال فينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه ، لأن عقد الذمة اقتضى تركهم وما هم عليه ، ما لم يضر المسلمين ، والوفاء بالعهد واجب ، أما إن أظهروا ذلك فإنه يتعرض لهم ، ويمنعون منه ، لمخالفتهم الشرط ، والله أعلم .
كتاب الشفعة

الشفعة مأخوذة من ضم الشيء إلى الشيء ومن ذلك الشفع ، اسم للزوج ، لأنه انضم الثاني إلى الأول ، ومنه قوله تعالى : 19 ( { والفجر ، وليال عشر ، والشفع والوتر } ) والشفيع ، لانضمامه في المعونة إلى المشفوع له ، ( وحدها ) في الإِصطلاح قال أبو محمد في المقنع : إنها استحقاق الإِنسان انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها . وهو غير جامع ، لخروج الصلح بمعنى البيع ، والهبة بشرط الثواب ، ونحو ذلك منه ، وقال في المغني : استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه ، من يد من انتقلت إليه ، وهو غير مانع ، لدخول ما انتقل بغير عوض ، كالإِرث ، والوصية ، والهبة بغير ثواب ، أو بعوض غير مالي على المشهور ، كالخلع ونحون ، فالأجود إذاً أن يقال : من يد من انتقلت إليه بعوض مالي أو مطلقاً .
2093 وهي جائزة لما روى جابر رضي الله عنه قال : قضى رسول الله بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق فلا شفعة . رواه أحمد ، والبخاري ، وفي لفظ : إنما جعل النبي . الحديث رواه أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، إلى غير ذلك من الأحاديث ، والإِجماع على ذلك إلا خلافاً شاذاً يروى عن الأصم ، والله أعلم .
قال : ولا تجب الشفعة إلا للشريك المقاسم ، فإذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق فلا شفعة .
ش : يشترط للشفعة شروط ( أحدها ) أن يكون شريكاً ، فلا تجب الشفعة للجار ، لما تقدم من حديث جابر ، إذ معناه الشفعة حاصلة أو ثابتة ، أو مستقرة في كل ما لم يقسم ، فما قسم لا تحصل فيه ولا تثبت ، ويؤيد هذا الرواية الأخرى المصرح فيها بالحصر : إنما جعل وتمام الحديث أيضاً يدل على ذلك ، والراوي ثقة ، عالم باللغة ، فلا ينقل إلا اللفظ أو معناه .
2094 وقد روى الترمذي وصححه في هذا الحديث : قال رسول الله : ( إذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق ، فلا شفعة ) .
2095 وأصرح من هذا كله ما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( إذا قسمت الدار ، وحدت فلا شفعة فيها ) .
2096 وقد روى الأثرم عن عمر ، وعثمان وعلي رضي الله عنهم أنه لا شفعة للجار .
ونقل القاضي يعقوب رواية بثبوت الشفعة بالجوار ، وصححه ابن الصيرفي ، واختاره الحارثي فيما أظن .
2097 لما روي عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( الجار أحق بشفعة جاره ، ينتظر بها وإن كان غائباً ، إذا كان طريقهما واحداً ) رواه الخمسة وقال الترمذي : حسن غريب . لكن قد تكلم فيه شعبة وغيره ، وقال بعض المحققين : إنه صحيح ، وإن كلامهم بلا حجة .
2098 وعن أنس رضي الله عه ، أن رسول الله قال : ( جار الدار أحق بالدار ) رواه النسائي ، وابن حبان ، وعلى المذهب لو حكم الحنفي لحنبلي بالجوار فهل له الأخذ ؟ منعه القاضي ، وجوزه ابن عقيل .
( الشرط الثاني ) : أن يكون ذلك الشقص المشترك مما يقبل القسمة ، وهذا معنى قول الخرقي : للشريك المقاسم الذي يقاسم ، أي يستحق أن يقاسم ، فلا تجب في الحمام الصغير ، والبئر ، والعراض الضيقة ، ونحو ذلك ، لأن الحديث ( إذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق ) والحدود إنما تقع فيما يقبل القسمة ، فإذاً تقدير الحديث : الشفغة في كل شيء يقبل القسمة ما لم يقسم .
2099 وقد روى أبو عبيد في الغريب ، عن النبي أنه قضى أن لا شفعة في فناء ، ولا طريق ، ولا منقبة ، ولا ركح . قال أبو عبيد : المنقبة الطريق الضيق بين الدارين ، لا يمكن أن يسلكه أحد ، والركح ناحية البيت من ورائه .
2100 واعتمد أحمد على ما رواه عن ابن إدريس ، عن أبي عمارة ، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن أبان بن عثمان ، عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : لا شفعة في بئر ، ولا فحل ، والأرف يقطع كل شفعة . قال أحمد : الأرف الأعلام ، والفحل فحل النخل .
( الشرط الثالث ) : أن يكون المبيع أرضاً ، فلا شفعة في غير الأرض ، لأن ظاهر الحديث أنه إنما حكم بذلك في الأرض دون غيرها ، إذ وقع الحدود . وتصريف الطرق ، إنما هو في الأرض ، لأن الأرض هي التي تبقى على الدوام ، ويدوم ضررها ، ويستثنى من غير الأرض البناء ، والغراس ، فإن الشفعة تجب فيهما تبعاً للأرض .
2001 وفي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي : ( قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ، ربعة أو حائط ، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ) رواه مسلم وغيره ، فنص على الحائط أي حائط النخل ، وهذا الشرط قد يؤخذ من كلام الخرقي ، من قوله : فإذا وقعت الحدود . إذ الخرقي سبك الحديث . ( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى أن الشفعة تجب في كل شيء ، إلا في منقول ينقسم ، فتجب على هذا في كل ما لا ينقسم ، كالحمام الصغير ونحوه ، وفي غير الأرض ، من البناء [ المنفرد ] ونحون ، لعموم حديث جابر المتقدم .
2102 وروى عبد الله بن أحمد رحمه الله في المسند عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أن النبي قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور .
2103 وروى الطحاوي بسنده عن جابر رضي الله عنه قال : قضى رسول الله بالشفعة في كل شيء . قال بعض الحذاق من المحدثين : ورواته ثقات . ولا ريب عند الأصحاب أن المذهب ما تقدم .
( الشرط الرابع ) : أن ينتقل الشقص بعوض مالي ، وتحريره أنه إن انتقل بغير عوض كالإِرث والوصية ونحوهما لم تثبت الشفعة عندنا بلا نزاع ، وإن انتقل بعوض مالي كالبيع ، والهبة بشرط الثواب ، ونحوهما ثبتت الشفعة بلا نزاع ، وإن انتقل بعوض غير مالي كالصداق ، والصلح عن دم العمد ، ونحوهما فوجهان ، أشهرهما عند القاضي وأكثر أصحابه لا ، ( والثاني ) واختاره ابن حامد ، وأبو الخطاب في الإِنتصار نعم ، وعليه هل يأخذ الشقص بقيمته أو بالدية ومهر المثل ؟ فيه وجهان ، والله أعلم .
قال : ومن لم يطالب بالشفعة في وقت علمه بالبيع فلا شفعة له .
ش : إذا ثبتت الشفعة فهل حق المطالبة بها على الفور أو التراخي ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي المشهورة ، والمختارة عند الأصحاب أنه على الفور ، فلو أخره من غير عذر سقطت شفعته .
ش : إذا ثبتت الشفعة فهل حق المطالبة بها على الفور أو التراخي ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي المشهورة ، والمختارة عند الأصحاب أنه على الفور ، فلو أخره من غير عذر سقطت شفعته .
2104 لأنه يروى عن النبي أنه قال : ( الشفعة لمن واثبها ) ولأن ثبوته على التراخي ربما أضر بالمشتري ، لعدم استقرار ملكه ، ( والثانية ) واختارها القاضي يعقوب أنه على التراخي ، كخيار العيب ، ( فعلى الأولى ) هل يتقيد بساعة العلم وهو ظاهر كلام الخرقي ، وأحمد ، واختيار أبي محمد ، لظاهر الحديث أو يتقيد بمجلس العلم اختاره ابن حامد ، والقاضي وأصحابه ، وحكاه ابن الزاغوني رواية عن أحمد ، إذ حالة المجلس في حكم حالة العقد ؟ فيه قولان ، وعلى الفورية متى كان التأخير لعذر لم تسقط شفعته ، كأن يعلم ليلًلا فيؤخر إلى الصبح ، أو لأكل ، أو شرب لجوع أو عطش به ، أو ليخرج من الحمام ، أو ليأتي بالصلاة وسننها ، أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها ، ونحو ذلك .
وقد نبه الخرقي على ذلك بقوله :
ومن كان غائباً وعلم بالبيع في وقت قدومه ، فله الشفعة وإن طالت غيبته .
ش : لأن الغائب معذور ، إذ الحكم لا يثبت في حقه إلا بعد العلم ، فإذا علم ثبت الحكم في حقه ، ومثله المحبوس ، والمريض ، ونحوهما ممن لم يعلم بالبيع لعذر ، والله أعلم .
قال : وإن علم وهو في السفر فلم يشهد على مطالبته فلا شفعة له .
ش : إذا علم وهو في السفر بالشفعة ، فأشهد على الطلب بها فهو على شفعته ، لأنه قد علم منه أنه غير تارك لها ، بل مطالب ، وكذلك إن لم يشهد لتعذر الشهود ونحو ذلك ، لمقام العذر ، وإن لم يشهد مع وجود من تقبل شهادته سقطت شفعته ، كما لو أخر الطلب مع حضوره ، نعم ) إن ترك الإِشهاد وسار في الطلب ففيه وجهان ، ( السقوط ) وهو ظاهر كلام أحمد ، والخرقي ، لأن السير يكون للطلب وغيره ، فلا يتبين إلا بالإِشهاد ( وعدمه ) لأن الظاهر أن السير للطلب ، وينبغي أن يكون حكم سير وكيله حكم سيره ، وإذا أشهد ثم أخر القدوم مع إمكانه بطلت ضفعته عند القاضي ، ولم تبطل على ظاهر كلام الخرقي ، وكذلك الوجهان إن أخر الطلب بعد القدوم والإِشهاد ، ومقتضى كلام الخرقي أن الإِشهاد إنما يكتفى به في السفر إناطة بالعذر ، وأبو البركات جعل الشرط أحد شيئين الإِشهاد ، أو المضي المعتاد ، والله أعلم .
قال : فإن لم يعلم حتى تبايع ذلك ثلاثة فأكثر ، كان له أن يطالب بالشفعة من شاء منهم ، فإن طالب الأول رجع عليه الثاني بالثمن الذي أخذه منه ، والثالث على الثاني .
ش : هذا تفريع على القول بالفورية كما هو المذهب ، فإذا لم يعلم الشفيع بالبيع حتى تبايع ذلك الشقص اثنان ، أو ثلاثة ، أو أكثر من ذلك ، فإن للشفيع أن يطالب بالشفعة من شاء منهم ، لأن سبب الشفعة الشراء ، وقد وجد من كل واحد منهم ، فإن طالب الأول فسخ عقد من بعده ، وإذاً يرجع الثاني بالثمن على الأول ، لأنه لم يسلم له المبيع ، ويرجع الثالث على الثاني أيضاً لذلك ، وعلى هذا ، وإن طالب الثاني أخذ بما اشتراه به ، واستقر عقد الأول ، وفسخ عقد الثالث ، فيرجع الثالث على الثاني بالثمن لما تقدم وإن طالب الثالث أخذ بما اشتراه به ، واستقر عقد الأولين ، وجعل ابن أبي موسى هذا الحكم إذا لم يكن الشقص في يد واحد منهم بعينه ، أما إن كان في يد أحدهم فالمطالبة له وحده .
ومقتضى كلام الخرقي [ أن المشتري ] يصح تصرفه في الشقص المبيع قبل أخذ الشفيع ، أو قبل علمه ، وهو صحيح ، لأن قصاراه أن يكون قد ثبت فيه حق تملك ، وذلك لا يمنع التصرف ، بدليل الابن يتصرف في العين الموهوبة له ، وإن جاز لأبيه الرجوع فيها ، وقيد أبو البركات ذلك بما قبل الطلب ، فلعله بنى ذلك على أن الأخذ يحصل بالطلب ، وهو رأي القاضي ، وأبي الخطاب ، بشرط الملاءة ، وعند أبي محمد لا يملكه إلا بالأخذ ، أو ما يدل عليه ، نحو : أخذته بالثمن ، أو تملكته . وعند ابن عقيل لا يملكه إلا بدفع الثمن ، وعلى رأي الجميع لا يفتقر إلى حكم حاكم ، وفي التذكرة أن يفتقر ، والله أعلم .
قال : وللصغير إذا كبر المطالبة بالشفعة .
ش : الشفعة تثبت للصبي كما تثبت للبالغ ، للعمومات ، ولأن ثبوتها لدفع ضرر عن المال ، أشبهت خيار العيب ، فعلى هذا إن كان فيها حظ فللولي الأخذ بها ، بل قال أبو محمد : يجب ، لأه مصلحة من غير مفسدة ، والولي عليه رعاية مصالح الصبي . وإن لم يكن فيها حظ فليس له الأخذ ، فإن أخذ فهل يصح لأن فيه دفع ضرر عن الصبي في الجملة أو لا يصح لمنعه من الشراء ، أشبه مالو اشترى معيباً يعلم عيبه ؟ فيه روايتان ، وإن ترك الولي الأخذ بها مطلقاً فهل للصبي إذا بلغ الأخذ بهاوهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور والخرقي ، لأن الأخذ حق ثبت له ، فلا يسقط بترك غيره ، كوكل الغائب ، ( أو ليس له الأخذ ) وبه كان يفتي ابن بطة ، فيما حكاه عنه أبو حفص ، لأنه يملك الأخذ ، فملك الترك كالمالك ( أو إن تركها ) الولي والحظ فيها للصبي فله الأخذ ، وإن تركها لعدم الحظ سقطت وهو اختيار ابن حامد ، . وتبعه القاضي ، وعامة أصحابه ، لأنه فعل ماله فعله فينفذ ، كما لو أخذ مع الحظ ؟ ثلاثة أقوال ، وحكم المجنون والسفيه حكم الصبي ، والله أعلم .
قال : وإذا بنى المشتري أعطاه الشفيع قيمة بنائه ، إلا أن يشاء المشتري أن يأخذ بناءه فله ذلك ، إذا لم يكن في أخذه ضرر .
ش : إذا بنى المشتري قبل أخذ الشقص ، ثم اختار الشفيع الأخذ ، فله ذلك للعمومات ، ويلزمه أن يدفع إلى المشتري قيمة بنائه ، نص عليه أحمد في رواية الجماعة ، دفعاً للضرر المنفي عنه شرعاً ، قال القاضي وأصحابه والشيخان وغيرهم : أو يقلعه ويضمن نقصه ، لأنه في معنى ما تقدم ، لزوال الضرر به ، هذا إن لم يشأ المشتري أخذ بنائه ، فإن أراد أخذ بنائه فقيل : وهو ظاهر كلام الأكثرين ، بل الذي جزموا به له ذلك ، أضر بالأرض أو لم يضر ، لأنه عين ماله ، ولا يلزمه طم الحفر ، ولا الأرش ، قاله القاضي ، إذ النقص حدث في ملكه ، فلا يقابل بعوض ، فعلى هذا يخير الشفيع بين أخذه ناقصاً بكل الثمن أو تركه ، وقال أبو محمد : ظاهر كلام الخرقي أن عليه ضمان النقص الحال بالقلع . قلت : وينبغي أن يزيد إذاً أو بالطم .
وظاهر كلام الخرقي امتناع الأخذ على المشتري مع الضرر بالأرض ، إذ الضرر لا يزال بالضرر ، وتبعه على ذلك ابن عقيل في التذكرة ، فعلى هذا يبقى التخيير السابق للشفيع ، فلو امتنع منه سقط حقه ، وحكم الغراس حكم البناء .
( تنبيها ) : ( أحدهما ) : يتصور بناء المشتري على القول بالفورية في صور ، ( منها ) إذا أظهر المشتري زيادة في الثمن ، أو أن الشقص موهوب له ، أو أن الشراء لفلان فقاسمه ، بناء على ذلك ، أو لجهل الشفيع بثبوت الشفعة له ، قاله ابن الزاغوني ، أو قسم عليه لصغره مع الولي ، أو لغيبته إن قلنا : الحاكم يقسم على الغائب ، وغرس أو بنى ثم بان للشفيع الحال ، أو قدم ، أو بلغ .
( الثاني ) : في كيفية تقويم البناء ، قال أبو محمد : الظاهر أن الأرض تقوم وفيها البناء ، ثم تقوم خالية ، فما بينهما قيمة البناء ، فيدفع إلى المشتري إن أحب الشفيع ، أو ما نقص نه إن اختار القلع ، لا قيمته مستحقاً للبقاء ، ولا قيمته مقلوعاً ، والله أعلم .
قال : وإن كان الشراء وقع بعين أو ورق أعطاه الشفيع مثل ذلك ، وإن كان عرضاً أعطاه قيمته .
ش : الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد .
2195 لأن في بعض ألفاظ حديث جابر ( هو أحق به بالثمن ) رواه الجوزجاني ولأن الشفيع يستحق أخذ الشقص ، فيستحقه بالثمن كالمشتري ، إذغا تقرر هذا فإذا وقع العقد على مثلي كالدراهم ، والدنانير ، والمكيلات ، والموزونات أخذ بمثله لمماثلِتِه له صورة ومعنى ، وإن وقع العقد على غير مثلي كالثياب والحيوان أخذ بقيمته وقت العقد ، لتعذر مثله ، ولعل الخرقي إنما خص بالدراهم والدنانير بوجوب المثل لغلبة وقوع البيع بهما ، بخلاف غيرهما من المثليات .
وقول الخرقي : وإن كان الشراء وقع بعين . إلى آخره ، يستثنى منه ما إذا وقع العقد على ثمن ثم زيد فيه أو نقص في مدة الخيارين ، فإن الاعتبار بما استقر عليه العقد ، لا بما وقع العقد عليه ، والله أعلم .
قال : وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري ، إلا أن يكون للشفيع بينة .
ش : إذا اختلفا في الثمن ، فقال المشتري : اشتريته بمائة . وقال الشفيع : بل بخمسين . مثلًا ، فالقول قول المشتري ، إذا الشفيع يدعي الاستحقاق بالثمن الأول ، والمشتري ينكره ، والقول قول المنكر مع يمينه ، ولأن المشتري هو العاقد ، فهو أعلم بصفة العقد ، فإن كانت للشفيع بينة فالقول قوله ، وكذلك إن كانت للمشتري بينة ، وإذاً لا يمين عليه ، ولو أقاما بينتين بما ادعياه ، فقال الشريف : تقدم بينة الشفيع ، لأنه خارج ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وقيل : يتعارضان ، والله أعلم .
قال : وإن كانت دار بين ثلاثة ، لأحدهم نصفها ، وللآخر ثلثها ، وللآخر سدسها ، فباع أحدهم ، كانت الشفعة بين النفسين على قدر سهامهما .
ش : الصحيح المشهور من الروايتين أن الشفعة تستحق على قدر الأملاك ، اختاره الخرقي ، وأبو بكر ، وأبو حفص ، والقاضي ، وجمهور أصحابه ، لأنه حق يستفاد بالملك ، فكان في حال الاشتراك على قدره كالغلة ، ( والرواية الثانية ) : أنه على عدد الملاك ، اختارها ابن عقيل ، إذ لو انفرد كل واحد لاستحق الجميع ، فإذا اجتمعوا تساووا ، كالبنين في الميراث ، ( فعلى الأول ) تنظر مخرج سهام الشركاء ، وتأخذ السهم المشفوع فتقسمه على عدد سهام الشفعاء ، ففي هذا المثال الذي ذكره الخرقي ، مخرج السهام ستة ، فإذا باع صاحب النصف فسهام الشفعاء ثلاثة ، فالسهم المشفوع بينهم على ثلاثة ، لصاحب الثلث سهمان ، ولصاحب السدس سهم ، فيصير العقار بينهم على ثلاثة ، ولو باع صاحب الثلث كان نصيبه بينهم أرباعاً ، ولو باع صاحب السدس كان نصيبه بينهم أخماساً ، وعلى القول الثاني يقسم السهم المشفوع بين الآخرين نصفين على كل حال ، والله أعلم .
قال : فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر أن يأخذ إلا الكل أو يترك .
ش : إذا ترك أحد الشركاء شفعته لم يكن لبقية الشركاء أن يأخذوا إلا الكل ، لما في أخذ البعض من التشقيص على المشتري ، وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعاً ، فلو كان الشركاء غائبين ، فقدم أحدهما ، لم يكن له أيضاً أن يأخذ إلا الكل أو يترك ، ثم إذا أخذ الكل ، فقدم آخر قاسمه أو عفى ، ثم إذا قدم ثالث قاسم الأولين أو عفى ، فيبقى ما كان يستحقه للأولين ، والله أعلم .
قال : وعهدة الشفيع على المشتري ، وعهدة المشتري على البائع .
ش : العهدة في الأصل كتاب الشراء ، ويقال : عهدته على فلان . أي ما أدرك فيه من درك فإصلاحه عليه ، والمراد هنا أن الشقص إذا ظهر مستحقاً أو معيباً فإن الشفيع يرجع بالثمن أو بأرش العيب على المشتري ، إذ الشفيع تملكه من جهته ، فرجع عليه لكونه بائعه ، ثم يرجع المشتري على البائع ، لما تقدم في الشفيع مع المشتري ، ويستثنى من ذلك إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري ، وقلنا بثبوت الشفعة ، فإن العهدة إذاً على البائع ، لحصول الملك له من جهته ، والله أعلم .
قال : والشفعة لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها .
ش : إذا لم يطالب الشفيع بالشفعة لم تورث عنه على المنصوص المشهور ، وعليه الأصحاب ، لأنه نوع خيار للتمليك ، أشبه خيار القبول ، ولأنا لا نعلم بقاءه على شفعته ، لاحتمال رغبته عنها ، ولا ينتقل للورثة ما يشك في ثبوته ، وخرج أبو الخطاب قولًا بالإِرث ، بناء على رواية إرث الأجل ، أما إن طالب فيورث عنه بلا نزاع ، أما على رأي القاضي ومن تبعه فواضح ، وأما على رأي ابن عقيل ، وأبي محمد ، ومن تبعهما فلأنه قد علم بمطالبته بقاؤه على شفعته واختياره .
واعلم أنه قد اختلف تعليل أحمد رحمه الله في إبطال الشفعة بالموت ، فقال في رواية أبي طالب : الشفعة لا تورث ، لعله لم يكن يطلبها ، فجعل العلة عدم العلم برغبة الميت ، قال القاضي في التعليق . فعلى هذا لو علم الوارث أنه راغب فيها ، كان له المطالبة وإن لم يطالب الميت ، وقال في رواية ابن القاسم : إنها تجب بالطلب ، وإذا تركت لم تجب ، كيف تورث وأصحابها تركوها ؟ ، قال القاضي : وظاهر هذا أنه جعل العلة ترك المطالبة من الميت ، لأنها تسقط بتركها ، قال : فعلى هذا لو مات قبل العلم بالبيع لسفر أو غيره كان للوارث المطالبة . انتهى وقد تحرر من هذا أنها تورث بالمطالبة بلا نزاع ، وبما إذا لم يعلم الشفيع بالبيع على رواية ، وعلى أخرى إذا علم منه الرغبة في الأخذ ، وإذاً ينبغي أن يكون القول قول الوارث في ذلك مع يمينه ، والله أعلم .
قال : وإذا أذن الشريك في البيع ثم طالب بالشفعة بعد وقوع البيع فله ذلك .
ش : إذا أسقط الشريك شفعته قبل البيع ، أو وجد منه ما يدل عليه ، كالإِذن في البيع ونحو ذلك لم تسقط شفعته ، نص عليه أحمد ، معللًا بأن الشفعة إنما وجبت له بعد البيع ، وعلى هذا الأصحاب ، ونقل عنه إسماعيل بن سعيد أن القول بالإِسقاط ليس ببعيد ، معتمداً على الحديث المتقدم ( لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك ، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ) فظاهره أن الترك يسقط الشفعة ، وقد أكده مفهوم قوله : ( فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ) فمفهومه أنه إن باعه وقد آذنه فلا حق له ، وهذا ظاهر ، والله أعلم .
قال : ولا شفعة لكافر على مسلم .
ش : لأنه معنى يختص به العقار ، أشبه الاستعلاء في البنيان .
2106 وقد روى الدارقطني في كتاب العلل عن أنس ، أن النبي قال : ( لا شفعة لنصراني ) ومفهوم كلام الخرقي أن الشفعة تثبت للمسلم على الذمي ، لأنها إذا ثبتت للمسلم على المسلم ، فللمسلم على الكافر أولى ، ومفهومه أيضاً أنها تثبت للذمي على الذمي ، وذلك للعمومات ، وشمل كلام الخرقي من حكم بكفره من أهل البدع ، فإنه لا شفعة له على مسلم .
( تنبيه ) : قال أحمد في رواية حنبل : لا نرى شفعة في أرض السواد .
2107 وذلك لأن عمر رضي الله عنه وقفها ، وكذلك كل أرض وقفها عمر ، كأرض الشام ومصر ، قال أبو محمد : إلا أن يحكم ببيع ذلك حاكم ، أو يفعله الإِمام أو نائبه ، فتثبت الشفعة ، لأنه مختلف فيه ، وحكم الحاكم ينفذ في المختلف فيه ، والله أعلم .
كتاب المساقاة

المساقاة مفاعلة من السقي سميت بذلك لاحتياج أهل الحجاز إلى السقي من الآبار ، وهي في الإِصطلاح قال أبو محمد : عبارة عن أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ، ليقوم بسقيه وما يحتاج إليه ، بجزء معلوم له من ثمره ، وليس بجامع ، لخروج ما يدفعه إليه ليغرسه ويعمل عليه ، ولا بمانع ، لدخول ما له ثمر غير مقصود كالصنوبر .
2108 والأصل في جوازها ما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : عامل رسول الله أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر ، متفق عليه .
2109 وقال البخاري : قال قيس بن مسلم ، عن أبي جعفر رضي الله عنهم قال : ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث أو الربع ، وزارع علي ، وسعد بن مالك ، وابن مسعود ، وعمر بن عبد العزيز ، والقاسم ، وعروة ، وآل أبي بكر ، وآر عمر ، وآل علي قال : وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر ، وإن جاؤا بالبذر فلهم كذا ، ومثل هذا لا يقصر عن رتبة الإِجماع . والله أعلم .
قال : وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم ، بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر .
ش : تجوز المساقاة في النخل والكرم ، وكل شجر له ثمر مقصود ، لعموم ما تقدم من حديث ابن عمر ، ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة على الشجر ، فأشبه النخل والكرم ، ويشترط أن يكون بجزء مشاع معلوم ، كالثلث ، والربع ، والعشر ، ونحو ذلك ، للحديث ، لا على صاع أو آصع ، أو ثمرة نخلة بعينها ، لما فيه من الغرر ، إذ يحتمل أن لا يحصل إلا ذلك فيتضرر رب الأصل ، ويحتمل أن يكثر الحاصل فيتضرر العامل .
2110 وفي الصحيحين عن رافع بن خديج رضي الله عنه ، قال : كنا أكثر الأنصار حقلًا ، فكنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه ، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ، فنهانا عن ذلك رسول الله ، فأما الورق فلم ينهنا . ولا على جزء مبهم كنصيب ونحوه ، للغرر المنهي عنه شرعاً .
ومقتضى كلام الخرقي أن التسمية تكون للعامل ، لأن المالك يستحق بالأصل ، فلو كانت التسمية للمالك كأن قال : لي النصف فهل تصح ، ويكون الباقي للعامل ، أو لا تصح ؟ فيه وجهان ، ومقتضى كلامه أنها لا تصح على ما لا ثمر له ، وهو صحيح ، إذ ليس منصوصاً عليه ، ولا في معنى المنصوص عليه ، وكذلك ما له ثمر غير مقصود ، نعم إن قصد ورقه كالتوت ، أو زهره كالورد ونحوه ، فقال أبو محمد : القياس جواز المساقاة ، عليه ، لأنه في معنى المنصوص ، وقد يقال : إن المنصوص يشمله ، وقوله : الثمر ( أل ) بدل من المضاف إليه ، أي من ثمرتها ، فلو شرط له ثمرة نخل غير التي ساقاه عليها لم يصح ، وكذلك لو جعل له ثمرة سنة غير السنة التي ساقاه عليها ، لمخالفة ذلك لموضوع المساقاة ، والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم .
ش : إذا شرط له جزءاً معلوماً كالربع مثلًا ومائة درهم لم يصح ، لأنه في معنى شرط آصع ، إذ يحتمل أنه لا يحدث من النماء ما يساوي تلك الدراهم ، فيتضرر رب المال ، وبطريق الأولى لو شرط له دراهم منفردة عن جزء لما تقدم ، ولمخالفة موضوعها ، والله أعلم .
قال : وتجوز المزارعة ببعض مايخرج من الأرض .
ش : المزارعة دفع الأرض إلى من يزرعها ، ويعمل عليها بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها لما تقدم من حديث ابن عمر ، وقصة أبي جعفر .
2111 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف ، رواه أحمد ، وابن ماجه . والله أعلم .
قال : إذا كان البذر من رب الأرض .
ش : المشهور عن أحمد رحمه الله كما قال الخرقي أنه يشترط كون البذر من رب الأرض ، وعلى هذا عامة الأصحاب ، حتى أن القاضي وكثيراً من أصحابه لم يذكروا خلافاً ، لأنه عقد يشترك العامل ورب المال في نمائه ، فوجب أن يكون رأس المال كله من أحدهما ، كالمساقاة والمضاربة .
ونقل عنه مهنا ما يدل على جواز كون البذر من العامل ، واختاره أبو محمد .
2112 لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي أعطي خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها ، ولهم شطر ما يخرج منها ، رواه البخاري ، ولمسلم وأبي داود والنسائي : دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها ، على أن يعتملوها من أموالهم ، ولرسول الله شطر ثمرتها . وقد تقدم عن عمر أنه قال : وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا . والله أعلم .
قال : وإن اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي لم يجز ، وكانت للمزارع أجرة مثله .
ش : إذا اتفقا على أن رب الأرض يأخذ مثل بذره ويقتسما ما بقي لم يجز ، لأنه بمنزلة ما لو اشترط آصعا معلومة ، إذ ربما لا تخرج هذه الأرض إلا مقدار البذر ، فيذهب عمل العامل مجاناً ، وإذاً يفسد هذا الشرط ، ويفسد به العقد ، لأنه يعود بجهالة نصيب كل منهما ، وإذا فسد العقد كان الزرع لصاحب البذر ، لأنه عين ماله ، سيما والأرض أرضه ، وعليه للعامل أجرة مثله ، لأنه إنما دخل للعمل ولم يسلم له ، والله أعلم .
قال : وكذلك تبطل إن أخرج المزارع البذر ، ويصير الزرع للمزارع ، وعليه أجرة الأرض .
ش : هذا تصريح منه بالبطلان في المسألة السابقة ، وإنما بطلت المزارعة هنا إذا أخرج المزارع البذر لما مر من أن شرط صحة المزارعة كون البذر من رب الأرض ، فإذا فات الشرط فات المشروط ، وإذاً يصير الزرع للمزارع ، لأنه عين ماله ، وعليه أجرة الأرض ، لأن ربها إنما بذلها بعوض ولم يسلم له ، والله سبحانه أعلم .
( كتاب الإِجارة )
قال في المغني : إنها مشتقة من الأجر وهو العوض ، ومنه سمي الثواب أجراً ، وحدها في الوجيز بأنها : عوض معلوم ، في منفعة معلومة ، من عين معينة أو موصوفة في الذمة ، أو في عمل معلوم . وليس بمانع ، لدخول الممر وعلو بيت ونحوه والمنافع المحرمة .
والأصل في جوازها قوله تعالى : 19 ( { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ) وقوله تعالى حكاية عن صاحب موسى 19 ( { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ، على أن تأجرني ثماني حجج ، فإن أتممت عشراً فمن عندك } ) الآية .
2113 قال : ( إن موسى عليه السلام أجر نفسه ثماني حجج أو عشراً ، على عفة فرجه ، وطعام بطنه ) رواه أحمد وابن ماجه .
2114 وعن عائشة رضي الله عنها في حديث الهجرة قالت : واستأجر النبي وأبو بكر رجلًا هادياً خريتا والخريت الماهر بالهداية وهو على دين كفار قريش ، وأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال ، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا . رواه أحمد والبخاري .
2115 وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم ) فقال أصحابه : وأنت ؟ قال : ( نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ) رواه أحمد والبخاري والإِجماع على ذلك إلا ما حكي عن الأصم ولا عبرة به ، والله أعلم .
قال : وإذا وقعت الإِجارة على مدة معلومة ، بأجرة معلومة فقد ملك المستأجر المنافع ، وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد ، إلا أن يشترطا أجلًا .
ش : الإِجارة على ضربين ( أحدهما ) أن تقع على عين موصوفة أو معينة ، مدة معلومة ، كأجرتك هذه الدار شهراً ، ونحو ذلك ( والثاني ) : أن تقع على عمل معلوم ، كبناء حائط ، وخياطة ثوب ، وحمل إلى موضع معين ، ونحو ذلك ، والمقصود هنا هو الأول .
واعلم أن الإِجارة لها ثلاثة أركان ( الركن الأول ) العاقد ، ولم يذكره الخرقي لوضوحه ، إذ شرط العاقد في جميع العقود كونه جائز التصرف ( الثاني ) المعقود عليه ، وهو المنفعة والأجرة ، ( أما المنفعة ) فمن شرطها أن تكون معلومة ، فإذا كانت على مدة كما قال الخرقي اشترط كونها معلومة ، كشهر كذا ونحو ذلك ، بلا خلاف نعلمه ، ولو علقها على ما يقع اسمه على شيئين كالعيد وجمادى ، فهل يصح وينصرف إلى الأول منهما وهو رأي أبي محمد أو لا يصح حتى يعين ذلك وهو رأي القاضي ؟ فيه وجهان .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط في المدة أن تلي العقد وهو صحيح ، وإذاً لا بد من ذكر الابتداء كالانتهاء ، فلو أطلق فقال : أجرتك هذه الدار شهراً ، فهل يصح ، ويكون ابتداؤه من حين العقد وهو اختيار أبي محمد أو لا يصح حتى يسمي الشهر وهو منصوص أحمد ، وبه قطع القاضي وكثيرون ؟ فيه قولان .
وظاهر كلامه أيضاً أنه لا تقدير لأكثر مدة الإِجارة ، فتجوز إجارة العين مائة سنة وأكثر ، إذا غلب على الظن بقاؤها فيها ، وهذا المذهب ، وقد نص أحمد على جواز عشر سنين ، وقيل : واختاره ابن حامد يتقيد ذلك بسنة ، فلا يجوز أكثر منها ، وقيل : بل بثلاثين سنة .
( وأما الأجرة ) فمن شرطها أيضاً أن تكون معلومة كالثمن في المبيع .
2116 وقد روي عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : نهى رسول الله عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره . رواه أحمد ، ثم هل يشترط العلم بقدر رأس المال وصفته ، أو تكفي مشاهدته ؟ فيه وجهان .
( الركن الثالث ) : المعقود به وهو الصيغة ، وتنعقد بلفظ الإِجارة والكراء ، وكذا ما في معناهما على الصحيح ، وهل تنعقد بلفظ البيع ؟ فيه وجهان ، أصلهما هل هي نوع من البيع أو شبيهة بالبيع .
إذا تقرر هذا وصحت الإِجارة فقال الخرقي : فقد ملك المستأجر المنافع . ولا ريب في هذا .
2117 وقد نص عليه أحمد ، محتجاً بأن ابن عمر رضي الله عنهما اكترى جمالًا ثم صارف الجمال ، ولو لم يكن قد ملكها لم تصح مصارفته ، فظاهر احتجاجه إنما هو في الأجرة ، لأنها أحد العوضين فإذا ملكت ملك الأجر ، وأيضاً فإن المؤجر يملك التصرف في هذه المنفعة كما يتصرف في العين ، فإذا أجرها ملك المستأجر منها ما كان يملك المؤجر ، وإذا ملك المستأجر المنافع حين العقد ملك المؤجر جميع الأجرة إذاً ، لأنها أحد العوضين فيملك بما يملك به الآخر . [ إذ المعارضة مبناها المعادلة ، فإذا ملك المستأجر المنفعة ملك المؤجر الأجرة ] .
واعلم أن الأجرة وإن ملكت بالعقد فإنها لا تستقر إلا بمضي المدة ، ولا يستحق تسليمها إلا بعد تسليم المعقود عليه ، فإذا كانت على عين إلى مدة وهو الذي ذكره الخرقي فلا يجب تسليم الأجرة إلا بعد تسليم العين ، وإن كانت على عمل في الذمة فلا يجب تسليم أجرته إلا بعد تسليم العمل ، وعلى هذا وردت النصوص ، نحو قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ) فإن الإِرضاع مل في الذمة ، فإذا سلمته وجب إيتاؤها أجرتها .
2118 وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( يقول الله عز وجل : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، ومن كنت خصمه خصمته ، رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حراً وأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره ) رواه أحمد والبخاري .
2119 وروى أيضاً في حديث له عن النبي أنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان ، قيل : يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : ( لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله ) رواه أحمد . فهذه النصوص ظاهرها أنها على عمل في الذمة . هذا كله إن لم يوجد شرط لفظي أو عرفي يقتضي التأخير أو التعجيل ، فإنه يعمل بمقتضاه ، فلو أجره داره شهراً بمائة درهم تحل في آخره ، أو أجره على خياطة ثوب بدرهم الآن ، عمل على ذلك ، وعلى هذا يحمل قول ابن أبي موسى ، وإن استؤجر كل يوم بأجر معلوم ، فله أجر كل يوم عند تمامه ، إذ عرف الناس المطرد في ذلك أنهم إذا استأجروا إنساناً شهراً كل يوم بكذا ، فإنهم يعطونه الأجرة في آخر كل يوم ، فيجري هذا مجرى الشرط ، ولو لم يحمل على هذا لكان ظاهره مخالفاً لقول الخرقي والأصحاب ، كما أن ظاهر قول الخرقي : وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد ، إلا أن يشترطا أجلًا . يقتضي أن الأجرة المؤجلة لا تملك حين العقد ، وفيه نظر ، إذ صرح القاضي في تعليقه في الجنايات بأن الدين في الذمة غير مؤجل ، بل ثابت في الحال ، وإن تأخرت المطالبة به ، وإذاً ينبغي أن يكون تقدير كلامه : وملكت عليه الأجرة ، ووجب تسليمها إن سلمت العين ، إلا أن يشترطا أجلًا فلا يجب التسليم ، فيكون الإِستثناء من مقدر ، والله أعلم .
قال : وإذا وقعت الإِجارة على كل شهر بشيء معلوم ، لم يكن لواحد منهما الفسخ إلا عند تقضي كل شهر .
ش : قد تضمن كلام الخرقي رحمه الله صحة نحو هذه الإِجارة ، وهو المنصوص من الروايتين ، واختيار القاضي ، وعامة أصحابه ، والشيخين .
2120 لما روي عن علي رضي الله عنه قال : جعت مرة جوعاً شديداً ، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة ، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مداراً ، فظننتها تريد بله ، فقاطعتها كل ذنوب على تمرة ، فمددت ستة عشر ذنوباً ، حتى مجلت يداي ، ثم أتيتها فعدت لي ست عشرة تمرة ، فأتيت النبي فأخبرته فأكل معي منها . رواه أحمد ، ووزان هذا إذا باعه الصبرة كل قفيز بدرهم ، فالعلم بالثمن يتبع العلم بالمثمن ، كذلك هنا ، العلم بالأجر يتبع العلم بالمنفعة .
( والرواية الثانية ) واختارها أبو بكر ، وابن حامد وفي الكافي أبو بكر ، وجماعة من أصحابنا بطلان ذلك ، نظراً إلى أن المدة مجهولة ، ، إذ ( كل ) اسم للعدد ، فإذا لم يقدره كان مجهولًا ، فعلى الأولى الإِجارة تلزم في الشهر الأول وتكون فيما بعده مراعاة ، فلكل واحد منهما أن يفسخ عند رأس كل شهر ، بأن يقول : فسخت الإِجارة في الشهر المستقبل . ونحو ذلك ، فلو لم يفسخ حتى دخل الشهر الثاني لزم العقد فيه ، وكذلك الثالث ، هذا مقتضى كلام الخرقي ، وأبي الخطاب في الهداية ، وابن عقيل في التذكرة ، وأبي محمد في كتبه ، وقد صرح بذلك ابن الزاغوني فقال : تلزم بقية الشهور إذا شرع في أول الجزء من ذلك الشهر ، وقال القاضي : له الفسخ في جميع اليوم الأول من الشهر الثاني ، وبه قطع أبو البركات ، وأورده ابن حمدان مذهباً ، والله أعلم .
قال : ومن استأجر عقاراً مدة بعينها فبدا له قبل تقضيها لزمته الأجرة .
ش : من شرط صحة استئجار العقار أن يكون على مدة معينة ، ولا بد أيضاً أن يكون معلوماً برؤية ، ولا تكفي الصفة ، لعدم تأتيها على ذلك ، إذا تقرر ذلك ، فمتى بدا للمستأجر الفسخ قبل تقضي المدة لم تنفسخ ، لأن الإِجارة عقد لازم من الطرفين ، إذ هي أحد نوعي البيع ، وإذاً لا يملك أحد المتعاقدين فسخه ، فإذا فسخ المستأجر فوجود ذلك كعدمه ، في بقاء الأجرة عليه ، وفي ثبوت المنفعة له ، والله أعلم .
قال : ولا يتصرف مالك العقار فيه إلا عند تقضي المدة .
ش : لا يتصرف مالك العقار فيه إذا فسخ المستأجر الإِجارة أو لم يفسخها إلا إذا انقضت المدة ، لما تقدم من أن الفسخ لا ينفذ ، وأن المنفعة باقية على ملكه ، وبطريق الأولى إذا لم يفسخ ، فإن تصرف فإن كان قبل تسليم العين فقال : أبو محمد تنفسخ الإِجارة . وإن كان بعده كما إذا أكراه داراً سنة وسلمها له فسكن شهراً ، ثم ترك السكنى فتصرف المالك فيها فهل تنفسخ الإِجارة فيما تصرف فيه أولًا ويكون للمستأجر عليه أجرة المثل ؟ فيه احتمالان ، والله أعلم .
قال : فإن حوله المالك قبل تقضي المدة لم يكن له أجرة لما سكن .
ش : إذا حول المؤجر المستأجر قبل انقضاء المدة المعقود عليها ، لم يكن للمؤجر أجرة لما سكن ، نص عليه أحمد وعليه الأصحاب لأنه لم يسلم إليه المعقود عليه ، فلم يستحق [ شيئاً ] ، كما لو استأجره ليحفر له عشرين ذراعاً ، فحفر عشرة ، وامتنع من حفر الباقي ، وحكى أبو محمد في المقنع احتمالًا بأن عليه من الأجرة بقسطه ، لأن استيفاءه حصل على وجه المعاوضة ، أشبه المبيع استوفى بعضه ، ومنعه المالك بقيته ، والله أعلم .
قال : وإن جاء أمر غالب ، يحجز المستأجر [ عن ] منفعة ما وقع عليه العقد ، لزمه من الأجرة بمقدار مدة انتفاعه .
ش : قد تقدم أن المعقود عليه المنفعة ، فإذا جاء أمر منع المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها ، وكان قد انتفع ، فإن عليه من الأجرة بقدر ما انتفع ، لحصول المعقود عليه ، والتمكن من استيفائه شرعاً ، فأشبه ما لو استوفى جميع المنفعة ، ولا يلزمه أجرة لما يستقبل ، لعدم حصول المعقود عليه ، إذ حصولها إنما هو باستيفائها أولًا فأول ، وقد تعذر ذلك ، وصار هذا كما لو اشترى صبرتين ، فقبض إحداهما وتلفت الأخرى بأمر سماوي قبل قبضها ، ثم إن كانت أجرة المدة متساوية ، وقد استوفى نصف المدة مثلًا ، ومنع من باقيها ، فعليه نصف الأجرة ، وإن اختلفت كأن يكون أجرها في الصيف أكثر من أجرها في الشتاء ، أو بالعكس ، فإن الأجر المسمى يقسط على ذلك ، فإذا قيل : إن أجرها في الصيف يساوي مائة درهم ، وأجرها في الشتاء يساوي خمسين ، وكان قد سكن الصيف ، كان عليه بقدر ثلثي المسمى .
إذا تقرر هذا فاعلم أن الأمر الغالب الذي ذكره الخرقي له صور ( إحداهما ) إذا تلفت العين ، ثم إن كان تلفها قبل التسليم ، أو بعده ، وقبل مضي مدة لها أجر ، فإن الإِجارة تنفسخ ، وإن كان بعد التسليم ومضي مدة لها أجر ، انفسخ فيما بقي ، واستقر ما مضى ، وهذه الصورة مما يدل عليه كلام الخرقي ، لكن ليس في كلامه رحمه الله تعرض للفسخ ولا لعدمه ، وظاهره الفسخ ، ( الصورة الثانية ) : أن يحدث للعين ما يمنع استيفاء معظم المعقود عليه مع بقائها ، كدار انهدمت وأرض انقطع ماؤها ، ونحو ذلك ، فهل تنفسخ الإِجارة وهو مقتضى كلام الخرقي ، وبه قطع ابن أبي موسى ، والشيرازي ، وابن البنا ، ذكروه في الدار ، واختاره أبو محمد ، لأن المقصود بالعقد قد فات ، أشبه ما لو تلف ( أو لا تنفسخ ) ، بل يثبت للمستأجر خيار الفسخ وهو قول القاضي في الدار ، وصححه القاضي في التعليق ، لإِمكان الانتفاع بالعرصة ، بنصب خيمة ، أو جمع حطب ، ونحو ذلك ، أشبه نقص العين ؟ فيه وجهان ، أما لو زال نفعها بالكلية ، أو الذي بقي فيها لا يباح استيفاؤه بالعقد ، كدابة مؤجرة للركوب ، صارت لا تصلح إلا للحمل ، فإن الإِجارة تنفسخ وجهاً واحداً ، ( الصورة الثالثة ) إذا غصب العين غاصب ، فيخير المستأجر بين الفسخ والرجوع بما يقابل ما بقي من المدة ، وبين الإِمضاء ومطالبة الغاصب بأجرة المثل ، وخرج أبو الخطاب الانفساخ إن قيل بعدم تضمين منافع المغصوب ، ويحتمله كلام الخرقي هنا ، ( الصورة الرابعة ) إذا حدث خوف عام ، منع المستأجر من استيفاء المنفعة ، أو حصرت البلد ، فامتنع المستأجر من الخروج إلى الأرض المؤجرة ، أو اكترى للحج فلم يحج الناس ذلك العام ، ونحو ذلك ، فإن للمستأجر خيار الفسخ .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله أنه لو حدث أمر يمنع المستأجر من منفعة ما وقع عليه العقد ، كأن تعيب المعقود عليه ، فإن العقد لا ينفسخ ، نعم للمستأجر الخيار بين الفسخ والإِمساك بكل الأجرة ، ذكره ابن عقيل ، وتبعه أبو محمد وغيره ، قاله أبو البركات ، وقياس المذهب أن له الأرش ، ولا يبطل الخيار بالتأخير .
( فائدة ) لو أتلف المستأجر العين المؤجرة ، ثبت ما تقدم من الفسخ أو الانفساخ ، مع تضمين المستأجر ما أتلف ، ومثله جب المرأة زوجها تضمن ولها الفسخ ، والله أعلم .
قال : ومن استؤجر لعمل شيء بعينه فمرض أقيم مقامه من يعمله ، والأجرة على المريض .
ش : هذا أحد نوعي الإِجارة ، وهو الإِجارة على عمل شيء في الذمة ، معين برؤية أو صفة ، كخياطة هذا الثوب ، وبناء حائط طوله كذا وعرضه كذا ، وآلته كذا ، فمتى مرض المؤجر والحال هذه لزمه أن يقيم مقامه من يعمل ذلك ، ليخرج من الحق الواجب في ذمته إيفاؤه ، أشبه المسلم فيه ، والأجرة عليه ، لأنها في مقابلة ما وجب عليه ، ويستثنى من ذلك ما إذا شرط عينه ، كأن تخيط لي أنت هذا الثوب ، فههنا لا يقيم غيره مقامه ، بل يخير المستأجر بين الفسخ ، والصبر حتى يتبين الحال ، والله أعلم .
قال : وإذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإِجارة بحالها .
ش : ولا انفساخ ، لأن الإِجارة عقد لازم ، فلا تنفسخ بتلف العاقد مع سلامة المعقود عليه ، كما لو زوج أمته ثم مات ، هذا المنصوص عن أحمد ، وعليه الأصحاب ، وقال أبو محمد في المستأجر إذا لم يكن وارث ، أو تعذر استيفاء وارثه ، كأن اكترى للحج ، ومات في الطريق : إن الإِجارة تنفسخ ، وزعم أن هذا ظاهر كلام أحمد وشمل كلام الخرقي رحمه الله إذا مات الموقوف عليه ، فانتقل الوقف إلى من بعده ، فإن الإِجارة لا تنفسخ ، وهو أحد الوجهين ، والوجه الآخر تنفسخ ، وهو قول أبي إسحاق بن شاقلا ، وأومأ إليه أحمد لا للموت ، بل لأن ملكه قد زال ، والله أعلم .
قال : ومن استأجر فله أن يسكنه غيره ، إذا كان يقوم مقامه .
ش : إذا استأجر عقاراً فله أن يسكنه غيره ، لأنه ملك المنفعة ، فله أن يتصرف فيها كيف شاء ، كالمشتري إذا ملك المبيع ، ، لكن شرط إسكان الغير أن يكون ذلك الغير يقوم مقامه ، كما إذا اكترى داراً للسكنى ، فله أن يدفعها لمن يسكنها ، لا لحداد وقصار يعمل فيها ذلك ، وإن اكترى ظهراً للحمل فله أن يركبه مثله ، ومن هو أخف منه ، لا من هو أثقل نه ، وإن اكترى دابة لحمل الحديد ، فليس له أني يدفعها لمن يحمل عليها القطن ، ونحو ذلك ، لأن ذلك غير المعقود عليه ، أو زائد عليه ، فلا يجوز .
وقد شمل كلام المصنف إسكان الغير على وجه العارية ، أو الهبة ، أو الإِجارة ، وقد اختلف عن أحمد في الإِجارة ، فعنه وهو المذهب عند الأصحاب ، وظاهر كلام الخرقي الجواز مطلقاً ، لما تقدم من أنه ملك المنفعة ، ومقتضى ملك المنفعة جواز التصرف فيها كالأعيان ، ولأن من جاز له أن يستوفي المنفعة بنفسه جاز له أن يستوفيها بغيره ، دليله مالك الرقبة ، ( وعنه ) عدم الجواز مطلقاً ، لأنه تصرف فيما لم يدخل في ضمانه فلم يجز ، كالتصرف في المكيل والموزون قبل قبض ، ( وعنه ) يجوم بمثل ما اكترى لا بأزيد ، حذاراً من أن يربح فيما لم يضمن ، وقد نهى النبي عن ربح ما لم يضمن ، فإن فعل تصدق بالزيادة نص عليه ، ( وعنه ) إن عمل فيها عملًا كأن جدد عمارة ونحو ذلك جازت [ الزيادة ، جعلا لها في مقابلة العمل ، وإلا لم تجز ، ( وعنه ) إن أذن له المؤجر في الإِجارة جازت ] وإلا فلا ، كذا الرواية فيما نقله حنبل ، وكذلك حكاها القاضي وغيره ، وحكى أبو محمد الرواية أنه إن أذن له المؤجر في الزيادة جازت وإلا فلا ، ومحل الخلاف فيما بعد القبض ، أما قبله فعلى القول بالجواز ثم ، فههنا أوجه ( الجواز ) ( وعدمه ) ، والثالث يجوز للمؤجر دون غيره ، والله أعلم .
قال : ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، واختيار القاضي في التعليق الكبير ، وجماعة .
2121 لما روى عتبة بن الندر رضي الله عنه ، قال : كنا عند النبي فقرأ ( طس ) حتى بلغ قصة موسى ، فقال : ( إن موسى أجر نفسه ثماني سنين ، أو عشر سنين ، على عفة فرجه ، وطعام بطنه ) رواه أحمد ، وابن ماجه ، وشرع من قبلنا شرع لنا على المشهور ، ولا سيما وقد ذكره مقرراً له ، ويعضده وجوب النفقة والكسوة للمرضعة ، قال تعالى : 19 ( { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ) ونقل عنه حنبل : أكرهه : معللًا بالجهالة ، وهو اختيار القاضي في بعض كتبه أظنه في المجرد ، وحمل الكراهة هو وغيره على المنع ، بقرينة ما علل به الإِمام ، والله أعلم .
قال : وكذلك الظئر .
ش : الظئر هي المرضعة غير ولدها ، وقد ظأره على الشيء . إذا عطفه عليه ، وحكمها في استئجارها على الرضاع بطعامها وكسوتها حكم الأجير ، فيها الروايتان ، إلا أن القاضي قال : لا يختلف قوله هنا في الجواز ، ولهذا قيل محل الروايتين في الأجير أما الظئر فيجوز إجارتها بذلك رواية واحدة ، لقضية النص .
( تنبيه ) : إذا صحت الإِجارة فهل قدر الطعام والكسوة ما يجب في الكفارة حملا للمطلق من كلام الآدميين ، على المقيد من كلام الشارع أو يرجع إلى نفقة مثله وكسوته حملا للمطلق على المتعارف ، وهو الذي جزم به أبو البركات ؟ فيه روايتان منصوصتان ، وقال أبو محمد في المقنع والمغني ، وصاحب التلخيص : يرجع في الإِطعام إلى الكفارة ، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله ، وهو تحكم ، ثم أبو محمد وغيره يخص المسألة بصورة الاختلاف ، وأبو البركات لا يخصها بذلك ، وكلام أحمد وقع تارة على هذا ، وتارة على هذا ، والله أعلم .
قال : ويستحب أن تعطى عند الفطام عبداً أو أمة كما جاء الخبر ، إذا كان المسترضع موسراً .
2122 ش : الخبر ما روى حجاج بن حجاج الأسلمي ، عن أبيه ، قال : قلت : يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع ؟ قال : ( الغرة ، العبد أو الأمة ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، والمعنى في ذلك والله أعلم أن الرضاع سبب حياته ، وحفظ رقبته ، فجعل الجزاء من جنس .
2122 م الرقبة ، ليناسب الشكر النعمة ، ولهذا قال النبي : ( لا يجزي ولده والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه ) والله أعلم .
قال : ومن اكترى دابة إلى موضع فجاوزه ، فعليه الأجرة المذكورة ، وأجرة المثل لما جاوز .
ش : كما إذا اكترى إلى بلبيس مثلًا ، فجاوزه إلى الصالحية ، فإن عليه الأجرة المسماة في العقد ، لاستيفاء المعقود عليه متميزاً عن غيره ، وأجرة المثل للزائد ، لأنه متعد في ذلك ، فهو كالغاصب ، وقد حكى ذلك أبو الزناد عن الفقهاء السبعة ، وهذه الصورة متفق عليها ، ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في المقنع من وجوب أجرة المثل على قول ، ولا ما اقتضاه كلام ابن حمدان من وجوب ما بين القيمتين على قول ، وأجرة المثل على قول ، فإن القاضي قال : لا يختلف أصحابنا في ذلك . وقد نص عليه أحمد ، والله أعلم .
قال : وإن تلفت فعليه أيضاً قيمتها .
ش : يعني إذا تلفت في مدة المجاوزة ، لأنه إذاً متعد ، فضمنها كالغاصب ، هذا إذا لم تكن يد صاحبها عليها ، أو كانت يده عليها واستكرهه على ذلك ، أما لو كانت يد صاحبها عليها ، ولم يرض بذلك ، فظاهر كلام الخرقي أنه يضمنها أيضاً ، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن البنا ، والشيرازي ، وأبي محمد في الكافي ، وأبي البركات ، إناطة بالتعدي ، وسكوت صاحبها لا يدل على الرضى ، كما لو باع ملك غيره بحضرته فلم يمنعه ، وقيل : إنما يضمن نصف قيمتها فقط ، لأنه اجتمع عليها يدان ، يد صاحبها ، ويد المستأجر ، وما يقابل يد المستأجر يقابل النصف ، فيختص بضمان النصف ، وعن القاضي في الشرح الصغير : لا ضمان ، لوجود يد المالك ، وعنه أظنه في المجرد : إن تلفت وهو راكبها ، أو حمله عليها ضمنها ، وإن تلفت وقد نزل عنها ، وسلمها إلى مالكها لسقيها ونحو ذلك فلا ضمان ، ووافقه في المغني على ذلك ، إلا أنه استثنى فيما إذا تلفت في يد مالكها بسبب تعبها من الحمل ونحو ذلك ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن اكترى لحمولة شيء فزاد عليه .
ش : مثل أن يكتريها لحمل مائة رطل ، فيحمل مائة وعشرة ونحو ذلك ، لأنه استوفى المعقود وزاد عليه ، فيلزمه المسمى ، وأجرة المثل للزائد ، وضمان الدابة إن تلفت لتعديه ، أو ضمان النصف ، لتلفها بفعل مضمون وغير مضمون ، وحكى القاضي وتبعه أبو محمد في المقنع عن أبي بكر وجوب أجرة المثل في الجميع ، اعتماداً على قوله فيمن استأجر أرضاً لزرع شعير فزرع حنطة : إن عليه أجرة المثل للجميع ، لعدوله عن المعقود عليه إلى غيره ، قال في المغني : وبينهما فرق ، فإن ما حصل التعدي فيه في الحمل متميز ، وهو الرطل الزائد مثلًا ، بخلاف الزرع ، فإلحاق هذه المسألة بما إذا اكترى إلى موضع فجاوزه أسد ، وهذا الذي قطع به في الكافي ، وأبو البركات ، مع أن أحمد نص في الزرع في رواية عبد الله أنه ينظر إلى ما يدخل على الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير ، فيعطى رب الأرض ، بيان ذلك أن يقال : أجرة مثلها إذا زرعها حنطة أن تساوي مائة درهم ، وأجرة مثلها إذا زرعها شعيراً أن تساوبي ثمانين ، فالواجب عليه ما بين ذلك ، وهو عشرون ، مع المسمى في العقد ، ولو اكترى لحمل حديد ، فحمل قطناً ، وجب أجرة المثل هنا بلا نزاع ، قاله أبو محمد ، والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يكتري لمدة غزاته .
ش : لجهالة المدة المشترط عليها ، والله أعلم .
قال : فإن سمى لكل يوم شيئاً معلوماً فجائز .
ش : هذا هو المنصوص عن أحمد ، وهو قياس مسألة كل شهر بدرهم ، وقد تقدمت نقلًا ودليلًا ، والله أعلم .
قال : ومن اكترى إلى مكة فلم ير الجمال الراكبين ، والمحامل ، والأغطية ، والأوطية ، وجميع ما يحتاج إليه لم يجز الكراء .
ش : يشترط معرفة المعقود عليه كالبيع ، فيحتاج الجمّال إلى رؤية ما تقدم ، لأن ذلك يختلف ويتباين ، فاشترطت معرفته كقدر الطعام المحمول ، وذكر الخرقي هذه الصورة لينبه على مذهب الغير ، إذ مذهب مالك رحمه الله عدم اشتراط رؤية الراكبين ، وكذلك أبو حنيفة في الأوطية في حال ، وكذلك الشافعي في غطاء المحمل وتبعه القاضي رحمه الله ، والله أعلم .
قال : فإن رأى الراكبين أو وصفاً له ، وذكر الباقي بأرطال معلومة فجائز .
ش : لأن ذلك مما ينضبط بالصفة ، ولذلك يصح السلم فيه ، وإذاً تحصل معرفته ، وقال الشريف و أبو الخطاب : لا تكفي الصفة في ذلك ، لاختلاف الراكب في ثقله وخفته ، وحركته وسكونه ، وذلك لا ينضبط بالصفة ، والله أعلم .
قال : وما حدث في السلعة من يد الصانع ضمن .
ش : الأجير على ضربين ، ( أجير خاص ) وهو من استؤجر إلى مدة ، كمن استؤجر شهراً أو يوماً ، لخدمة ، أو بناء ، ونحو ذلك ، فيستحق المستأجر نفعه في جميع المدة ، [ سمي خاصاً لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة ] ( وأجير مشترك ) وهو الذي قدر نفعه بالعمل ، كمن استؤجر لخياطة ثوب معين أو موصوف ، ونحو ذلك ، سمي مشتركاً للاشتراك في عمله ، لأنه يتقبل لاثنين وأكثر .
إذا تقرر هذا فالأجير الخاص لا يضمن ما تلف بفعله ، ولا بغير فعله ، ما لم يوجدمنه تفريط وقصد للخيانة ، نص عليه أحمد في رواية جماعة ، وعليه الأصحاب ، لأن عمله غير مضمون عليه ، فلم يضمن ما تلف به كالقصاص ، ولأنه نائب عن المالك ، في صرف منافعه فيما أمر به ، فلم يضمن إذا لم يتعد ، كالوكيل ، وذهب ابن أبي موسى إلى أنه يضمن ما جنت يده ، وحكى عن أحمد رواية بتضمينه ما تلف بأمر خفي لا يعلم إلا من جهته ، كما سيأتي في الأجير المشترك ، اللهم إلا أن يعمل في بيت المستأجر فلا يضمن ما تلف بغير فعله ، وعنده أنه لا فرق [ بين الأجير الخاص ، والأجير المشترك ، والمنصوص الفرق وعليه الأصحاب .
وأما الأجير المشترك وهو الذي ذكره الخرقي هنا فيضمن ] ما تلف بفعله ، كحائك أفسد حياكته ، وقصار خرق الثوب بدقه أو عصره ، وطباخ أفسد طبخه ، وجمال أتلف المتاع بعثرته ، أو بانقطاع الحبل الذي شد به ، ونحو ذلك ، نص على ذلك أحمد في رواية الجماعة ، وعليه الأصحاب .
2123 لما روى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ، أنه كان يضمن الصباغ والصواغ ، وقال : لا يصلح الناس إلا ذلك . ولأن عمله مضمون عليه ، وما تولد من المضمون فه مضمون ، كجناية العمد ، ودليل الوصف أنه لا يستحق العوض إلا بالعمل ، وأن الثوب لو تلف في حرزه بعد علمه لم يكن له أجر .
وظاهر كلام أحمد والخرقي أنه لا فرق بين أن يعمل في بيته ، أو في بيت المستأجر ، ولا بين أن يكون المستأجر على المتاع أم لا ، وصرح به القاضي في التعليق في أثناء المسألة ، وابن عقيل ، واختاره أبو محمد ، إذ ضمانه كجنايته ، وعن القاضي أظنه في المجرد قال في الكافي : وأصحابه . أنه إنما يضمن ما عمله في ملكه ، أما ما عمله في ملك المستأجر من خياطة ونحوها ، فلا ضمان عليه ، ما لم يفرط ، كأن يسرف في الوقود ونحوها ، لأنه سلم نفسه إلى المستأجر ، أشبه الأجير الخاص ، وكذلك لو كان صاحب المتاع مع الملاح في السفينة ، أو راكباً على الدابة فوق حمله ، لعدم زوال يد المالك ، وكذلك لو كان الراكب على الدابة حراً ، إذ الحر لا يضمن من جهة الإِجارة ، وخرج أبو الخطاب وجهاً بعدم الضمان رأساً ، كسراية القود وإفضاء الزوجة ، إذ التلف حصل من فعل مباح ، والله أعلم .
قال : وإن تلفت من حرزه فلا ضمان عليه .
ش : ما تلف عند الأجير المشترك لا يخلو من ثلاثة أحوال ( أحدها ) : أن يكون بتفريط منه أو تعد ، فيضمن كما دل عليه كلام الخرقي بطريق التنبيه ، وهو واضح ، ( الثاني ) : ما تلف بفعله بغير تفريط منه ، وقد تقدم ، ( الثالث ) : ماتلف بغير فعله من غير تفريط منه ، كأن سرق أو حرق ونحو ذلك ، والمشهور المنصوص في رواية الجماعة أنه لا ضمان عليه ، لأنها عين مقبوضة بعقد إجارة ، لم يتلفها بفعله ، أشبهت العين المستأجرة ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى بالضمان مطلقاً ، لقوله : ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) ( وعنه ) ثالثة إن كان التلف بأمر ظاهر كالحريق ، واللصوص الغالبين ، ونحو ذلك فلا ضمان ، وإن كان بأمر خفي كالضياع ، ونحو ذلك فعليه الضمان ، إناطة بالتهمة ، قال صاحب التلخيص : ومحل الروايات إذا لم تكن يد المالك على المال ، أما إن كانت عليه فلا ضمان بحال ، والله أعلم .
قال : ولا أجرة له فيما عمل فيها .
ش : قد تقدم أن ما تلف من حرز الأجير المشترك ونحو ذلك فلا ضمان عليه فيه ، وهو يشمل ما إذا تلف بعد فعله وقبله ، فإذا تلف بعد فعله فهل يستحق أجرة لذلك ؟ قال الخرقي : لا أجرة له ، لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر ، فلم يستحق عوضه ، كالمبيع من الطعام إذا تلف في يد البائع قبل تسليمه .
وظاهر كلام الخرقي وتبعه أبو محمد أنه لا فرق بين أن يعمل في بيت المستأجر أو خارجاً عنه ، ولا بين أن يكون ذلك بناء أو غيره ، وفصل أبو البركات ذلك ، وملخص ما قاله أنه إن كان العمل في بيت المستأجر ، وكان بناء فله أجرته رواية واحدة ، لأن تسليمه يحصل بمجرد فعله ، وإن كان غير بناء فروايتان ، مبناهما على أنه إذا كان في ملكه فهل العمل مسلم بمجرد عمله ، أو لا بد من التسليم ؟ وإن كان العمل خارج بيت المستأجر وكان غير بناء فلا أجرة له رواية واحدة ، إذ التسليم إذاً لا يحصل إلا بالقبض ، وإن كان بناء فروايتان ، مبناهما على أن العادة هل جرت في البناء بقبضه في موضعه ، أو أنه لا بد من التسليم فيه كغيره ، وقطع القاضي في التعليق في البناء بأن له أجرته ، وفي غيره لا أجرة له ، ونص أحمد على ذلك في رواية ابن منصور ، والله أعلم .
قال : ولا ضمان على حجام ، ولا ختان ، ولا متطبب ، إذا عرف منهم حذق الصنعة ، ولم تجن أيديهم .
ش : لا ضمان على من ذكر والحال هذه ، لأنهم فعلوا فعلًا مباحاً مأذوناً فيه ، أشبه قطع الإِمام يد السارقد أما إذا لم يكن لهم معرفة بذلك فيضمنون ، لتحريم المباشرة عليهم إذاً ، وكذلك إن عرف منهم حذق لكن جنت أيديهم ، كأن تجاوز الختان إلى بعض الحشفة ، أو قطع الطبيب سلعة فتجاوزها ، ونحو ذلك ، لما تقدم في الأجير المشترك ، وحكى ابن أبي موسى إذا ماتت طفلة من الختان فيدتها على عاقلة خاتها ، قضى بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، والله أعلم .
قال : ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد .
ش : لا ضمان على الراعي ، لأنه مؤتمن على الحفظ ، أشبه المودع ، ولأٌّ ها عين قبضت بحكم الإِجارة ، أشبهت العين المستأجرة ، أما إذا تعدى أو فرط مثل أن تركها تغيب عن نظره ، أو ضربها ضرباً أسرف فيه ، أو من غير حاجة إليه ، أو سلك بها موضعاً مخوفاً ، أو نام عنها أو غفل ، ونحو ذلك فيضمن ، لأنه مفرط ، أشبه المودع ، ولو جاء بجلد الشاة مدعياً لموتها من غير بينة قبل قوله على أصح الروايتين .
وقد تضمن كلام الخرقي جواز إجارة الراعي ، وهو واضح ، لقوله تعالى حكاية عن صاحب موسى { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } الآية ، وجواز إجارة الطبيب ، لأنه فعل مباح مأذون فيه ، أشبه سائر الأفعال المباحة ، ويقدر ذلك بالمدة ، لا بالعمل لعدم انضباطه ، ويبين قدر ما يأتي له في كل يوم ، هل هو مرة أو أكثر من ذلك ، ولا يجوز التقدير بالبرء عند القاضي ، وجوزه ابن أبي موسى ، وكذلك أبو محمد ، لكن جعله جعالة لجواز جهالة العمل فيها ، ويجوز اشتراط الكحل من الطبيب على الأصح لا الدواء اعتماداً على العرف .
وتضمن أيضاً جواز إجارة الختان ، وهو واضح لما تقدم ، وجواز إجارة الحجام ، وهو اختيار أبي الخطاب ، وتبعه الشيخان .
2124 لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي احتجم ، حجمه أبو طيبة فأعطاه صاعين من طعام ، وكلم مواليه فخففوا عنه [ متفق عليه ، وفي لفظ : دعا غلاماً منا فحجمه ، فأعطاه أجره صاعاً أو صاعين ، وكلم مواليه أن يخففوا عنه ] من ضريبته . رواه أحمد والبخاري .
2125 وعن ابن عباس قال : احتجم النبي وأعطى الحجام أجره ، ولو كان سحتاً لم يعطه . رواه أحمد ، والبخاري ، ولأن بالناس حاجة إلى ذلك ، أشبه غيره من المنافع .
وقال القاضي وجمهور أصحابه : لا يصح الاستئجار على الحجامة ، وهو ظلام كلام أحمد ، وقال في التلخيص : إنه المنصوص . وذلك :
2126 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي نهى عن كسب الحجام ، ومهر البغي ، وثمن الكلب ، رواه أحمد .
2127 وعن رافع بن خديج رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( كسب الحجام خبيث ، ومهر البغي خبيث ، وثمن الكلب خبيث ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي ولفظه ( شر المكاسب ثمن الكلب ، وكسب الحجام ، ومهر البغي ) والنهي يقتضي التحريم ، وكذلك الخبث ، لا سيما وقد قارنه بما لا نزاع في تحريمه ، وجعله شر المكاسب .
2128 وقد روى محيصة بن مسعود أنه كان له غلام حجام ، فزجره النبي فقال : ألا أطعمه أيتاماً لي ؟ قال : ( لا ) قال : أولًا أتصدق به ؟ فرخص له أن يعلفه ناضحه . رواه أحمد ، وفي لفظ : أنه استأذن النبي في إجارة الحجام ، فنهاه عنها ، ولم يزل يسأله فيها حتى قال : ( أعلفه ناضحك ، وأطعمه رقيقك ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، وأما حديث ابن عباس فقال أحمد في رواية الأثرم : هذا تأويل من ابن عباس . وأما إعطاء النبي فعلى طريق الصلة والإِحسان ، لما فعل معه ، جمعاً بين الأحاديث ، وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم : نحن نعطي كما أعطى النبي ، ونقول له كما قال النبي : لا تأكله . قيل له : فيشارط في الحجامة ؟ قال : لم أسمع في الشرط شيئاً . وعلى هذا يجوز أن يعطى من غير شرط ، ويطعمه رقيقه وناضحه لما تقدم ، ويحرم عليه هو أكله في إحدى الروايتين ، قال في رواية الأثرم : لا تأكله . وهذا اختيار القاضي ، وطائفة من أصحابه .
( والرواية الثانية ) : يكره . قال أبو النضر عنه : كان يذهب إلى أنه يكره ، ويقول : هو شر كسب ، ولا يقول : هو حرام ، وإذا قيل بالتحريم في حقه ، فهل يحرم في حق غيره من الأحرار ؟ ظاهر كلام القاضي في التعليق ، وصاحب التلخيص التحريم ، وصريح القاضي في الروايتين بالجواز اعتماداً على أن أحمد قال : أطعمه الرقيق . قال : والرقيق يحتاج أن يشتري له طعاماً . وفيه نظر ، وعلى القول بجواز الإِجارة فيكره للحر أيضاً أكله ، لما تقدم من الأحاديث .
( تنبيه ) : يجوز استئجار الحجام لغير الحجامة ، من الفصد ، والختن ونحو ذلك ، إذ نهيه عن كسب الحجام أي في الحجامة ، كما أن نهيه عن مهر البغي أي في البغاء ، والله أعلم .
كتاب إحياء الموات

الموات ، والميتة ، والموتان بفتح الميم والواو : الأرض الدارسة ، قاله أبو محمد في المغني ، وقال الفراء : الأرض التي لم تحي بعد .
2129 والأصل في جوازه ما روته عائشة رضي الله عنها ، عن النبي قال : ( من عمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها ) قال عروة : قضى به عمر في خلافته . رواه البخاري .
2130 وعن سعيد بن زيد عن النبي قال : ( من أحيى أرضاً ميتة فهي له ، وليس لعرق ظالم حق ) رواه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي وقال : حسن .
2131 وعن جابر رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( من أحيى أرضاً ميتة فهي له ) رواه أحمد والترمذي وصححه . والله أعلم .
قال : ومن أحيى أرضاً لم تملك فهي له .
ش : من أحيى أرضاً ميتة لا يعلم أنها ملكت فهي له إلا ما يستثنى ، لما تقدم من الأحاديث .
وظاهر كلام المصنف أنه لا يفتقر إلى إذن الإِمام ، وعليه الأصحاب ، ونص عليه أحمد ، مستدلًا بعموم الحديث وهو مبني على أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال ، ( وظاهر كلامه ) أيضاً أن الذمي يملك بالإِحياء كالمسلم ، وهو المنصوص ، وعليه الجمهور ، لعموم ما تقدم ، وقال ابن حامد : لا يملك الذمي بالإِحياء . وحمل أبو الخطاب قوله على دار الإِسلام ، قال القاضي : وهو مذهب جماعة من أصحابنا .
2132 لما يروى عن النبي أنه قال : ( موتان الأرض لله ورسوله ، ثم هي لكم مني ) وأجيب بعد تسليم صحته أنها لكم أي لأهل داركم ، جمعاً بين الأدلة ، والذمي من أهل دارنا ، فعلى المنصوص إن أحيا موات عنوة لزمه عنه الخراج ، وإن أحيا غيره فلا شيء عليه ، في أشهر الروايتين ، ( وعنه ) : عليه عشر ثمره وزرعه ، ( وظاهر كلامه ) أيضاً أن موات العنوة يملك بالإِحياء ، ولا شيء فيه كغيره ، وهو إحدى الروايتين ، واختاره القاضي ، وأبو محمد ، وغيرهما ، لعموم ما تقدم ، ( وعنه ) ليس في أرض السواد موات ، معللًا بأنها لجماعة المسلمين ، فلا يختص بها أحدهم ، وهذا اختيار أبي بكر ، وابن أبي موسى ، والشيرازي ، وعلى هذه الرواية قال أبو البركات : تقر في يده بالخراج ، لاختصاصه بمزية ، وهو السبق بالإِحياء .
ومفهوم كلام الخرقي رحمه الله أن ما ملك لا يملك بالإِحياء ، وهذا لا يخلو من ثلاثة أحوال ( الأول ) ن يكون له مالك معصوم ، وهذا لا إشكال أنه لا يملك بالإِحياء ، لما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها ، ( الثاني ) : أن يكون له مالك لكن غير معصوم كالحربي ، فقال أبو البركات وصاحب التلخيص . وهو ظاهر كلام القاضي إنه يملك بالإِحياء إذ لا حرمة لملكه أصلًا ، وإذاً تستثنى هذه الصورة من مفهوم كلام لخرقي ، وقال أبو محمد : حكم دار الحرب حكم دار الإِسلام ، حتى أنه جعل فيما عرف أنه ملك ولم يعرف له مالك معين روايتين ، كالمسألة التي بعده ، واستدل بعموم الخبر ، وبأن عامرهم إنما يملك بالقهر والغلبة ، ( الثالث ) : أن يعرف أنه ملك ، ولكن لا يعرف له مالك ، كخراب باد أهله ، ولم يعرف لهم وارث ، فعنه وهو المشهور عنه لا يملك بالإِحياء ، وهو مقتضى كلام الخرقي ، واختيار أبي بكر ، والقاضي ، وعامة أصحابه ، كالشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي ، لظاهر حديث عائشة ، إذ هذه لأحد ، لأنه إن كان له وارث فهي له ، وإن لم يكن له وارث فهي فيء للمسلمين ، وبهذا علل أحمد في رواية أبي داود ، ( وعنه ) : تملك بالإِحياء ، عملًا بعموم أكثر الأحاديث ، ( وعنه ) وإن تيقنت عصمة من ملكها لم تملك بالإِحياء لما تقدم ، وإن شك في عصمته ملكت ، لأن المقتضي قد وجد ، وشك في المانع ، وهذا اختيار صاحب التلخيص ، واستثنى أبو محمد من هذا ما به آثار ملك قديم جاهلي ، كمساكن ثمود ونحوهم ، فإنها تملك بالإِحياء .
2133 لما يروى عن طاوس ، عن النبي أنه قال : ( عادي الأرض لله ولرسوله ، ثم هي بعد لكم ) رواه سعيد في سننه ، وأبو عبيد في الأموال ، ويحتاج كلام أبي محمد إلى بحث ليس هذا موضعه ، والله أعلم .
قال : إلا أن تكون أرض ملح ، أو ما للمسلمين فيه المنفعة ، فلا يجوز أن ينفرد بها الإِنسان .
ش : استثنى رحمه الله مما يملك بالإِحياء صورتين ، ( أحداهما ) أرض الملح ، أي معدن الملح ، فإنه لا يملك بالإِحياء .
2134 لما روي عن أبيض بن حمال رضي الله عنه ، أنه وفد إلى النبي استقطعه الملح ، فقطع له ، فلما أن ولى قال رجل من المجلس : أتدري ما قطعت له ؟ إنما قطعت له الماء العد . قال : فانتزعه منه ، قال : وسأله عما يحمي من الأراك ، فقال : ( ما لم تنله خفاف الإِبل ) رواه الترمذي وأبو داود وفي رواية له : أخفاف الإِبل قال محمد بن الحسن المخزومي : يعني أن الإِبل تأكل منتهى رؤسها ويحمي ما فوقه . ولأن هذا مما يتعلق بمصالح المسلمين العامة ، فلم يجز إحياؤه كطرق المسلمين ومواردهم ، وفي معنى الملح جميع المعادن الظاهرة ، لا تملك بالإِحياء ، وهي ما العمل في تحصيله لا في إظهاره ، كالقار ، والنفط ، والبرام ، والموميا ، والكحل ، والزرنيخ ، والجص ، ونحو ذلك ، وكذلك الحكم في المعادن الباطنة ، وهي ما كان ظهورها بالعمل عليها ، كمعادن الذهب ، والفضة ، والحديد ، والصفر ، والفيروزج ، ونحو ذلك مما هو مثبوت في طبقات الأرض ، ذكره صاحب التلخيص ، وأبو محمد ، وحكى أبو محمد احتمالًا فيما أظهره من المعادن الباطنة ، أنه يملك بالإِحياء ، ويحتمله كلام أبي البركات ، ولفظه : أو ما فيه معدن ظهر قبل إحيائه ، ومقتضاه أنه يمنع من إحياء موات قد ظهر فيه معدن ، ويستفاد منه بطريق التنبيه أنه يمنع من إحياء معدن قد ظهر ، لا من إحياء معدن لم يظهر .
( الصورة الثانية ) : ما فيه المنفعة للمسلمين ، وهو ما قرب من العامر ، وتعلق بمصالحه ، من طرقه ، ومسيل مائه ، وطرح قمامته ونحو ذلك ، وكذلك ما تعلق بمصالح القرية ، كمرعى ماشيتها ، ومحتطبها ، ونحو ذلك ، وكذلك حريم البئر والنهر ، ونحو ذلك ، كل ذلك لا يجوز إحياؤه .
2135 لما روي عن النبي أنه قال : ( من أحيا أرضاً ميتة في غير حق مسلم فهي له ) ومفهومه أن من أحيا أرضاً ميتة في حق مسلم لم تكن له ، ولأن ذلك من مصالح المملوك ، فأعطي حكمه ، فإن قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه ففيه روايتان ، أنصهما وأشهرهما عند الأصحاب أنه يملك بالإِحياء ، لعموم قوله : ( من أحيا أرضاً ميتة ) مع انتفاء المانع ، وهو التعلق بمصالح العامر ، ( والثانية ) : لا يملك بالإِحياء ، تنزيلًا للضرر في المآل ، منزلة الضرر في الحال ، إذ هو بصدد أن يحتاج في المآل ، واستثنى الأصحاب صورة ثالثة ، وهي موات بلدة كفار صولحوا على أنها لهم ، ولنا الخراج عنها ، فلا يملك بالإِحياء ، لأن مقتضى الصلح أن لا يتعرض لهم في شيء مما صولحوا عليه ، قال أبو محمد : ويحتمل أن تملك بالإِحياء لعموم الخبر ، والله أعلم .
قال : وإحياء الأرض أن يحوط عليها حائطاً .
ش : ظاهر كلام الخرقي أن التحويط إحياء للأرض مطلقاً ، وحكاه القاضي وغيره رواية ، بل وجزم به القاضي ، والشريف ، وأبو الخطاب .
2136 لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي قال : ( من أحاط حائطاً على أرض فهي له ) رواه أحمد وأبو داود ، ولأحمد مثله من رواية سمرة ، وعلى هذا يشترط كونه الحائط منيعاً ، مما تجري العادة بمثله .
وحكى القاضي وغيره رواية أخرى أن إحياء الأرض تعميرها العمارة العرفية لما تراد له ، إذ الشارع أطلق الإِحياء ، فيحمل على ما يتعارفه الناس ، وحديث الحائط يحمل على صورة تقتضي العرف يها ، وهذا اختيار ابن عقيل في التذكرة ، فعلى هذا إن كان الإِحياء للسكنى ، فإحياؤها ببناء حيطانها وتسقيفها ، وإن جعلها حظيرة كفى بناء حائط جرت العادة به ، وإن كان للزرع فبأن يسوق إليها ماء ، ويقلع أحجارها إن احتاجت إلى ذلك ، أو يحبس الماء عنها ، ونحو ذلك على ما جرت به العادة في مثلها ، ولا يعتبر أن يزرعها ويسقيها ، ولا أن يفصلها تفصيل الزرع ، ويحوطها من التراب بحاجز ، ولا أن يقسم البيوت إن كانت للسكنى ، في أصح الروايتين وأشهرهما ، والأخرى يشترط جميع ذلك ، ذكرها القاضي في الخصال ، وجمع أبو البركات الروايتين في أصل الإِحياء ، فجعلهما رواية واحدة ، فقال : بأن يحوطها بحائط ، أو يعمرها العمارة العرفية ، وحكى في المقنع قولًا آخر بأن ما يتكرر كل عام فليس بإحياء وما لا يتكرر فهو إحياء ، والله أعلم .
قال : أو يحفر فيها بئراً فيكون له خمس وعشرون ذراعاً حواليها ، وإن سبق إلى بئر عادية فحريمها خمسون ذراعاً .
ش : إذا حفر في الموات بئراً للتملك ، وأخرج ماءها ، ملكها وملك حريمها ، خمساً وعشرين ذراعاً من كل جانب ، وإن سبق إلى بئر عادية ، ملكها بظهور يده عليها ، وملك حريمها خمسين ذراعاً ، نص عليه أحمد ، واختاره الخرقي ، والقاضي في التعليق ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة ، والشيخان وغيرهم .
2137 لما روى الدارقطني وغيره ، عن النبي أنه قال : ( حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعاً ، وحريم البئر العادي خمسون ذراعاً ) .
2138 وروي أبو عبيد بإسناده عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال : السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعاً ، والبدي خمس وعشرون ذراعاً . واختار أبو الخطاب في الهداية ، والقاضي فيما حكاه عنه أبو محمد في المغنى والكافي ، أن حريم البئر قدر ما يحتاج إليه في ترقية مائها ، فإن كان بدولاب فبقدر مدار الثور أو غيره ، وإن كان بسانية فبقدر طول البئر ، وإن كان يستقي منها بيده فبقدر ما يحتاج إليه الواقف ، وعلى ذلك ، إذ هذا ثبت للحاجة ، فيقدر بقدرها ، وقال القضي فيما حكاه عنه في المقنع ، وحكاه عنه وعن جماعة من الأصحاب صاحب التلخيص : حريم البئر قدر مدرشائها من كل جانب .
2139 لأنه يروى عن النبي أنه قال : ( حريم البئر مد رشائها ) رواه ابن ماجه ، وقال القاضي في الأحكام السلطانية : له أبعد الأمرين من الحاجة أو قدر الأذرع . وقد توقف أحمد عن التقدير في رواية حرب ، والمذهب الأول .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) قد تقدم أنه يملك حريم البئر بالحفر أو بالسبق ، وهو ظاهر كلام أحمد ، وصرح به الخرقي ، والقاضي في التعليق ، وغيرهما ، وعلى قياسه أن ما قرب من العامر ، وتعلق بمصالحه ، يكون ملكاً لأهل العامر ، أو لجماعة المسلمين ، وعن القاضي أن هذه المرافق لا يملكها المحيي بالإِحياء ، وإنما يكون أحق بها ، ( الثاني ) : ( العادية ) بالتشديد القديمة ، نبة إلى عاد ، إذ كل قديم ينسب إليهم لقدمهم ، والله أعلم .
قال : وسواء في ذلك ما أحياه أو سبق إليه ، بإذن الإِمام أو غير إذنه .
ش : يعني أن الحريم المذكور يثبت له ، سواء أحياه كما إذا حفر بئراً في موات أو سبق إليه ، كما إذا سبق إلى بئر عادية ، وكذا أطلق أحمد ، والقاضي ، وغيرهما ، وعلل القاضي بأن البسر العادية مال من أموال الكفار ، فتكون غنيمة بوضع اليد عليها ، قلت : وينبغي على مقتضى هذا التعليل أن تكون لجماعة الغانمين ، أو يكون السبق إليها لا بقوة المسلمين ، فتكون له ، وقال في المغني : يجب أن يحتمل قول الخرقي في ملك البئر العادية على بسر انطمست ، فجدد حفرها ، أو ذهب ماؤها فاستخرجه ، ليكون ذلك إحياء ، أما بئر لها ماء ينتفع بها المسلمون فلا تحتجر ، لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة ، وقد تقدم أن الإِحياء لا يفتقر إلى إذن الإِمام ، والله أعلم .
كتاب الوقوف والعطايا

( الوقوف ) جمع وقف كفلس وفلوس ، يقال : وقف . على الأفصح وأوقف . على لغة ، ويقال : أحبس ، وحبس وحبس . ومنه قوله لعمر : ( إن شئت حبست أصلها ) ( والعطايا ) جمع ( عطية ) كخلايا وخلية ، ومعنى الوقف قال أبو محمد ، وصاحب التلخيص : إنه تحبيس الأصل ، وتسبيل المنفعة ، وأرادا : مع شروطه المعتبرة ، وحده غيرهما فأدخل الشروط في الحد ، ويحتاج إلى بسط .
2140 والأصل في جوازه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( إذا مات الإِنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء ، صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) رواه مسلم وغيره .
2141 وعن ابن عمر رضي الله عنهما : أن عمر أصاب أرضاً من أرض خيبر ، فقال : يا رسول الله أصبت أرضاً بخيبر ، لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه ، فما تأمرني ؟ قال : ( إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها ) فتصدق بها عمر على أن لا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث ، في الفقراء ، وذوي القربى ، والرقاب ، والضيف ، وابن السبيل ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، ويطعم صديقاً ، غير متمول وفي لفظ : غير متأثل مالًا : رواه الجماعة .
2142 وعن جابر رضي الله عنه : لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ذو مقدرة إلا وقف . وقال أحمد في رواية حنبل : قد وقف أصحاب رسول الله ، وقوفهم بالمدينة ظاهرة ، فمن رد الوقف فإنما رد السنة . وأما العطية فيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى . والله أعلم .
قال : ومن وقف في صحة من عقله وبدنه على قوم ، وأولادهم ، وعقبهم ، ثم آخره للمساكين ، فقد زال ملكه عنه .
ش : إذا وقف في صحة من عقله بأن لا يكون مغلوباً على عقله بجنون ، أو إغماء أو غيرهما وفي صحة من بدنه ، بأن كان غير مريض وقفا متصلاً
كما ذكر الخرقي ، فإن ملك الواقف يزول عن العين الموقوفة ، على المشهور المعروف ، المختار من الروايتين ، لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة ، أشبه الهبة والبيع ، ( والرواية الثانية ) : أنه باق على ملك الواقف ، لقوله : ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ) فعلى الأول ينتقل الوقف إلى الموقوف عليه ، على المشهور المختار أيضاً من الروايتين ، كالهبة والبيع ، إلا أن يكون الموقوف عليه مما لا يملك ، كالمسجد ونحوه ، فإن الملك في الوقف ينتقل إلى الله تعالى ، ( والرواية الثانية ) : يكون ملكاً لله تعالى ، حكاها غير واحد ؛ وهي ظاهر اختيار ابن أبي موسى ، قياساً على العتق ، بجامع زوال الملك على وجه القربة ، وفرق بزوال المالية ثم ، بخلاف هنا .
وتلخص أن في المسألة ثلاثة أقوالب ( ملك ) للموقوف عليه ، وهي المذهب ، ( ملك ) لله تعالى ، ( ملك ) للواقف وبنيه وللخلاف فوائد ( منها ) لو كان الموقوف ماشية لم تجب زكاتها على الثانية ، وكذلك على الثالثة ، لضعف الملك ، وهو انتقاء التصرف في الرقبة والمنفعة ، ووجبت على الموقوف عليه على الأولى ، على ظاهر كلام الإِمام ، واختيار القاضي في التعليق ، وأبي البركات ، وغيرهما ، وقيل : لا تجب ، لضعف الملك ، اختاره صاحب التلخيص وغيره ، ( ومنها ) : أرش جنايته ، يلزم الموقوف عليه على الأولى ، لانتفاء التعلق بالرقبة لامتناع البيع ، وعلى الثانية هل يجب في بيت المال أو في الغلة ؟ فيه وجهان ، قلت : وعلى الثالثة يحتمل أن يجب على الواقف ، ويحتمل أن يجب في الغلة ، ( ومنها ) إذا كان أمة ملك الموقوف عليه تزويجها على الأولى ، والحاكم على الثانية ، لكن يشترط إذن الموقوف عليه ، قاله في التلخيص ، قلت : والواقف على الثالثة ، لكن إذن الموقوف عليه ( ومنها ) النظر حيث أطلق يكون للموقوف عليه ، على الأولى ، وللحاكم على الثانية ، وبه جزم ابن أبي موسى ، قلت : وللواقف على الثالثة ( ومنها ) الشفعة لا تستحق على الثانية ، قلت : وكذا على الثالثة ، وفي استحقاقها على الأولى وجهان ( ومنها ) نفقة الوقف ، تجب حيث شرطت ، ومع عدمه في الغلة ، ومع عدمها على من الملك له ، قاله في التلخيص ، قلت : فعلى الثانية تجب في بيت المال ، هذا في الحيوان لحرمته ، أما العقار فلا تجب عمارته إلا على من يريد الإِنتفاع به ( ومنها ) إذا وطئها الموقوف عليه ، فلا حد عليه للملك أو شبهه ، وتصير أم ولد على الأولى ، لا على الثانية والثالثة ، والله أعلم .
وظاهر كلام الخرقي أن ملك الواقف يزول عن الوقف وإن لم يخرجه عن يده ، وهو المشهور المختار المعمول به من الروايتين ، لعموم قوله في حديث عمر : ( لا يباع أصلها ، ولا يوهب ، ولا يورث ) ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث ، أشبه العتق ( وعنه ) نلا يلزم ويزول الملك عنه إلا بالإِخراج عن يده ، اختاره ابن أبي موسى ، لأنه تبرع بشيء لم يخرج عن المالية أشبه الهبة ، ( وظاهر كلامه ) أيضاً أنه لا يفتقر إلى القبول من الموقوف عليه ، ولا خلاف في ذلك إن كان على غير معين كالمساكين ، أو على من لا يتصور القبول منه كالمساجد ، أما ما كان على آدمي معين ، ففي اشتراط القبول وجهان ، قال ابن حمدان في الصغرى وابن المنجا : ثم إنهما مبنيان على انتقال الملك إلى الموقوف عليه ، إن قلنا : ينتقل . اشترط ، وإن قلنا : لا . فلا ، والظاهر أنهما على القول بالإِنتقال ، إذ لا نزاع بين الأصحاب أن الإِنتقال إلى الموقوف عليه هو المذهب ، مع اختلافهم في المختار هنا ، وشبهة الخلاف تردده بين التمليك والتحرير ، وقد تقدم ذلك ، لكن الأصحاب مترددون في التعليل ، وينبغي اتباع سنن واحد .
وقول الخرقي : في صحة من عقله وبدنه . احترز به عن الوقف في المرض ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، وقوله على قوم . إلى آخره ، يحترز به عن المنقطع ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يرجع إليه شيء من منافعه .
ش : يعني أنه إذا صح الوقف كما تقدم فإن منافعه تنتقل إلى الموقوف عليه بلا نزاع لما تقدم ، ولا يصير للواقف فيها حق ، إذ هذا وضع الوقف ، والأدلة تشعر بذلك ، نعم إن وجدت فيه صفة الاستحقاق استحق كأحد المستحقين ، كمن وقف مسجداً فإنه يستحق الصلاة فيه ، أو مقبرة فإنه يملك الدفن فيها ، أو سقاية فيملك الشرب منها ، ونحو ذلك .
2143 وفي النسائي والترمذي وحسنه عن عثمان رضي الله عنه : أن النبي قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة ، فقال : ( من يشتري بر رومة ، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين ، بخير له منها في الجنة ؟ ( فاشتريتها صلب مالي . والله أعلم .
قال : إلا أن يشترط أن يأكل منه ، فيكون له مقدار ما اشترط .
ش : إذا وقف وقفاً وشرط أن يأكل منه ، أو يسكنه مدة حياته ، أو مدة معلومة صح ، نص عليه .
2144 محتجاً بما روى أن في صدقة النبي أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر .
2145 ولأن في حديث عمر : لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، أو يطعم صديقاً ، غير متمول ، وكان عمر هو الوالي عليها إلى أن مات .
2146 ويروى عن ابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما أنهما وقفا داريهما وسكناهما مدة حياتهما . والظاهر أن ذلك عن شرط ، والله أعلم .
قال : والباقي على من وقف عليه وأولاده الذكور والإِناث من أولاد البنين ، بالسوية ، إلا أن يكون الواقف فضل بعضهم .
ش : إذا وقف على قوم وأولادهم وعقبهم كما تقدم ، وشرط الأكل منه ، فإن الفاضل بعد الأكل يكون بين القوم وأولادهم ، وعقبهم يشارك الآخر الأول ، إذ الواو للجمع المطلق لا للترتيب ، ويكون بين الذكور والإِناث بالسوية ، إذ هذا قضية الاشتراك ، كما لو أقر لهم بشيء ، ولهذا لما شرك الله بين ولد الأم في الثلث كان بينهم بالسوية ، نعم إذا فضل الواقف بأن جعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، أو بالعكس اعتبر تفضيله ، كما لو جعله على أحدهم دون الآخر .
وقول الخرقي : من أولاد البنين ، نص منه على أنه إذا وقف على قوم وأولادهم وعقبهم دخل فيه ولد البنين ، ولا خلاف في هذا نعلمه ، ومفهوم كلامه أنه لا يدخل فيه ولد البنات ، وهو أشهر الروايات ، نص عليها في : ولد ولدي لصلبي . واختاره القاضي في التعليق والجامع ، والشيرازي ، وأبو الخطاب في خلافه الصغير ، لقوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } الآية ، ولم يدخل فيه ولد البنات وقال الشاعر :
بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

ولأن ولد الهاشمية ليس بهاشمي ، ولا ينتسب إلى أبيها شرعاً ولا عرفاً ، وبهذا علل أحمد ، فقال : لأنهم من رجل آخر ، ( والرواية الثانية ) : يدخلون فيه ، اختاره أبو الخطاب في الهداية ، لأن البنات أولاده ، فأولادهن أولاد أولاده حقيقة ، وقد قال الله تعالى : 19 ( { ومن ذريته داود وسليمان } ) إلى قوله : 19 ( { وعيسى } ) وهو من ولد بنته .
2147 وفي البخاري وغيره أن النبي صعد المنبر فقال : ( إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) يعني الحسن .
2148 وعن أسامة بن زيد ، أن النبي قال لعلي : ( وأما أنت يا علي فختني ، وأبو ولدي ) ( والثالثة ) يدخلون إلا أن يقول : على ولد ولدي لصلبي . فلا يدخلون ، وهذه الرواية اختيار أبي بكر ، وابن حامد ، حكاه عنهما أبو الخطاب في الهداية ، و أبو محمد في المقنع ، والقاضي فيما حكاه عنه صاحب التلخيص ، وفي الروايتين للقاضي ، والمغني أنهما اختارا الرواية الثانية ، وفي الخصال لابن البنا أن ابن حامد اختار الثانية ، وأبا بكر الثالثة ، وكذا في المغني القديم فيما أظن ، ومحل الخلاف مع عدم القرينة أما مع القرينة فالعمل لها ، ولهذا قيل في عيسى عليه السلام والحسن : إنهما إنما دخلا مع الذكر ، والكلام مع الإِطلاق ، والله أعلم .
قال : وإذا لم يبق منهم أحد رجع إلى المساكين .
ش : يرجع إلى شرط الواقف في الجمع والترتيب وغير ذلك ، كما يرجع إليه في شرط الوقف ، ففي المسألة السابقة جمع بين القوم وأولادهم وعقبهم بواو الجمع ، فقلنا : يشترك فيه الجميع ، وفي الثانية رتبه بثم ، فقلنا بترتيبه بعد من تقدم ، ويوقف استحقاقه على انقراضهم ، ويدخل الفقراء في لفظ المساكين ، وكذلك كل موضع اقتصر فيه على ذكر أحد اللفظين ، فإنه يتناول القسمين ، أما لو جمع بين اللفظين آتياً بما يقتضي التمييز بينهما ، كأن قال : وقفت على [ الفقراء والمساكين نصفين . ونحو ذلك . فإنه يجب التمييز بينهما وقسم الوقف بينهما نصفين ، ولو قال : على ] الفقراء والمساكين . ولم يقل نصفين ، فالحكم كالزكاة ، يجوز الدفع إليهما ، والاقتصار على أحدهما على المشهور ، وعلى الرواية الأخرى لا بد وأن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف ، أعلم .
قال : وإذا لم يجعل آخره للمساكين ، ولم يبق ممن وقف عليه أحد ، رجع إلى ورثة الواقف في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله ، والرواية الأخرى يكون وقفاً على أقرب عصبة الواقف .
ش : قد تضمن هذا الكلام صحة الوقف المعلوم الابتداء ، المنقطع الانتهاء ، وهذا مذهبنا ، لأن مصرفه معلوم كما سيأتي ، فصح كما لو صرح بالمصرف ، إذ المطلق يحمل على العرف ، وإذا صح وانقرض من وقف عليه كما لو وقف على ولده وأولادهم [ فانقرضوا ] فإنه يصرف إلى جميع ورثة الواقف ، يقسم على قدر مواريثهم منه ، على إحدى الروايات عن أحمد رحمه الله ، وفي الكافي أنها ظاهر المذهب ، لأن الوقف مصرفه البر ، وأقاربه أولى الناس ببره ، لقوله : ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) .
2149 وقوله : ( إنك تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ) .
2150 وقوله : ( صدقتك على غير رحمك صدقة ، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة ) ( والراوية الثانية ) يختص به أقرب العصبة ، لأنهم أحق أقاربه ببره .
2151 قال : ( ابدأ بمن تعول ، أمك وأباك وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك ) رواه النسائي . ( والرواية الثالثة ) : يجعل في بيت المال ، يصرف في مصالحهم ، وهي أنّ الروايات عنه ، لأنه مال لا مستحق ، أشبه مال من لا وارث له ، ( والرواية الرابعة ) وبها قطع القاضي في الجامع الصغير ، والشريف ، وأبو جعفر ، وإليها ميل أبي محمد يصرف في المساكين ، لأنهم أعم جهات الخير ، ومصرف الصدقات ، وحقوق الله تعالى ، من الكفارات ونحوها .
وإذا قلنا : يرجع إلى أقارب الواقف الجميع أو العصبة ، فإنه يشمل غنيهم وفقيرهم ، على ظاهر كلام الخرقي والإِمام ، وبه قطع أبو البركات وغيره ، إذ مصرف الوقف كذلك ، واختار القاضي في الروايتين أنه يختص الفقراء منهم ، إذ القصد بالوقف بالبر والصلة ، والفقراء أولى بهذا المعنى من غيرهم ، ومن رجع إليه فإنه يرجع إليه وقفاً ، لأن الملك قد زال عنه بالوقف ، فلا يعود ، ملكاً إلى الورثة ، قطع بذلك القاضي ، وأبو الخطاب ، وأبو البركات ، وغيرهم ، وزعم في المغنى أن أحمد نص عليه ، وقال : ويحتمل كلام الخرقي أن يصرف إليهم إرثاً ، ويبطل الوقف ، وقال ابن أبي موسى : إن دفع إلى جميع الورثة رجع إرثاً ، بخلاف الرجوع إلى العصبة ، وهذا مقتضى ما في المقنع ، وكلام الخرقي عكسه ، وحيث قلنا ، يصرف إلى الأقارب فانقرضوا ، أو لم يوجد له قريب ، فإنه يصرف إلى بيت المال ، لأنه مال لا مستحق له ، نص عليه أحمد في رواية ابن إبراهيم ، وأبي طالب ، وغيرهما ، وقطع به [ أبو الخطاب ] وأبو البركات ، وقال ابن عقيل في التذكرة ، وصاحب التلخيص ، وأبو محمد : يرجع إلى الفقراء ، والمساكين ، إذ القصد بالوقف الصدقة الدائمة ، قال : ( أو صدقة جارية ) وقال ابن أبي موسى : يباع ويجعل ثمنه للمساكين ، ثم قال ابن الزاغوني : الخلاف في الرجوع إلى الأقارب ، أو إلى بيت المال ، أو إلى المساكين مختص بما إذا مات الواقف ، أما إن كان حياً فانقطعت الجهة فهل يعود الوقف إلى ملكه أو إلى عصبته وذريته ؟ فيه روايتان .
( تنبيه ) : الوقف له أربعة أحوال ( الأول ) : متصل الابتداء والانتهاء ، وهو الذي بدأ به الخرقي ( الثاني ) : منقطع الانتهاء ، وهو الذي ثنى به الخرقي ، ولا إشكال في صحة كليهما ( الثالث ، والرابع ) منقطع الابتداء متصل الانتهاء ، متصل الابتداء والانتهاء ، منقطع الوسط ، كأن وقف على من لا يجوز كعبد ، ثم على من يجوز كالمساكين ، أو وقف على ولده ، ثم عبده ، ثم على المساكين ، والمذهب صحتهما ، وقيل بالبطلان ، بناء على تفريق الصفقة ، وعلى الأول على يجعل من لا يجوز الوقف عليه كالمعدوم ، فيصرف إلى من يجوز الوقف عليه ، أو يعتبر فيصرف مدة وجوده مصرف المنقطع ، ثم إذا انقرض لمن يجوز الوقف عليه ؟ فيه وجهان ، وله تقاسيم أخر ليس هذا موضع بيانها ، والله أعلم .
قال : ومن وقف في مرضه الذي مات فيه ، أو قال : هو وقف بعد موتي . ولم يخرج من الثلث ، وقف منه بقدر الثلث ، إلا أن يجيز الورثة .
ش : الوقف تبرع بلا تردد ، فيعتبر من الثلث ، كالهبة ، والعتق ، فإذا وقف في مرضه المخوف المتصل بالموت ، على غير وارث ، نفذ منه الثلث فما دون بلا نزاع ، ما لم يمنع من ذلك مانع كالدين ، ووقف ما زاد على الثلث فما دون على إجازة الورثة ، كالتدبير .
وقد تضمن كلام الخرقي صحة الوقف المعلق بالموت ، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه الصغير ، وأبي محمد ، وقال : إنه ظاهر كلام أحمد .
2152 وأنه احتج بأن عمر رضي الله عنه وصى ، فكان في وصيته : هذا ما وصى به عبد الله أمير المؤمنين ، إن حدث به حدث أن ثمغاً صدقة . رواه أبو داود ، وقال القاضي أظنه في المجرد و أبو الخطاب في الهداية ، وابن البنا في الخصال ، لا يصح ، إلحاقاً له بالهبة . والأولون ألحقوه بالصدقة بالمطلقة ، ثم على قولهم هل يصح الوقف المعلق على شرط في الحياة ؟ فيه وجهان ، والمختار عند أبي محمد ، وأبي الخطاب البطلان ، وشبهة الخلاف تردد الوقف بين التحرير والتمليك كما تقدم ، وقال ابن حمدان : من قبله إن قيل الملك لله تعالى صح التعليق ، وإلا فلا .
وقد شمل كلام الخرقي صحة وقف الثلث في مرض الموت ، أو بعد الموت ، على الورثة أو بعضهم ، وهو أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله ، وأنصهما ، واختيار القاضي في التعليق وغيره ، وأكثر الأصحاب .
2153 والأصل في ذلك ما روى أن عمر رضي الله عنه وقف على ورثته . وعلى هذا اعتمد أحمد ، وعلى أنهم لا يبيعون ذلك ، ولا يهبونه ، وإنما ينتفعون به ، قلت : فكأنه عتق الوارث ( وعنه ) ما يدل على منع ذلك ، وإذاً يقف على إجازة الورثة ، كالوقف على غيرهم ، وهذا اختيار أبي حفص العكبري ، قال القاضي : فيما وجدته معلقاً عنه ، واختيار أبي محمد إلحاقاً له بالهبة ، وادعى أبو محمد أن وقف عمر كان على جميع الورثة ، قال : والنزاع في الوقف على البعض ، قال : ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ذلك ، قلت : ونص أحمد في رواية الحسن بن محمد الترمذي وغيره صريح بخلاف ذلك ، والله أعلم .
قال : وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئاً بيع واشترى بثمنه ما يرد على أهل الوقف ، وجعل وقفاً كالأول .
ش : إذا تعطل الوقف ، وصار بحيث لا يرد شيئاً ، أو يرد شيئاً لا عبرة به ، ولم يوجد ما يعمر به ، فإن الناظر فيه يبيعه ، ويشتري بثمنه ما فيه منفعة ، ير ، على أهل الوقف ، نص عليه أحمد ، وعليه الأصحاب .
2154 لما اشتهر عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة : أن انقل المسجد الذي بالتمارين ، واجعل بيت المال في قبلة المسجد ، فإنه لن يزال بالمسجد مصل . وهذا بمحضر من الصحابة ، ولم يظهر خلافه ، فيكون إجماعاً ، ولأنه تجب المحافظة على صورة الوقف ومعناه ، فلما تذر إبقاء صورته ، وجبت المحافظة على معناه .
2155 نظراً إلى قوله : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ويشهد له إذا عطب الهدي دون محله ، فإنه يذبح تحصيلًا لما أمكن . وحكى في التلخيص عن أبي الخطاب أنه لا يجوز بيع الوقف مطلقاً ، وهو غريب لا يعرف في كتبه .
وقول الخرقي : وجعل وقفاً . مقتضاه [ أنه ] لا يصير وقفاً بمجرد الشراء ، بل بد من إيقاف الناظر له ، ولم أر المسألة مصرحاً بها ، وقيل : إن فيها وجهين .
ومقتضى كلامه أنه لو بقي فيه نفع لم يجز بيع ، وإن كان غيره أجود منه ، وصرح به أبو محمد وغيره ، إذ الأصل المنع ، قال : ( لا يباع أصلها ) ترك ذلك حيث خيف من ضياعه وفواته رأساً ، نعم إن كان النفع لا يعد نفعاً فوجوده كالعدم .
وظاهر كلامه أنه لا يشترط أن يشتري من جنس الوقف ، وهو كذلك ، إذ القصد النفع ، نعم يتعين صرف المنفعة في المصلحة التي كانت الأولى تصرف فيها ، ومن هنا الفرس الحبيس إذا بيع اشتري بثمنه ما يصلح للجهاد .
وقد علم من كلام الخرقي أنه لا يجوز بيع الوقف إذا لم يخرب ، وهو كذلك بلا ريب .
2156 قال ابن عمر : إن عمر أصاب أرضاً من أرض خيبر ، فقال : يا رسول الله أصبت أرضاً بخيبر ، لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه ، فما تأمرني ؟ فقال : ( إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها ( فتصدق بها عمر على أن لا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث ، في الفقراء ، وذوي القربى ، والرقاب ، والضيف ، وابن السبيل ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم ، غير متمول . رواه الجماعة ، والله أعلم .
قال : وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو ، بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد .
ش : حكم الفرس الحبيس إذا صار لا يصلح إلا للطحن ونحو ذلك أنه يباع ويشرتي بثمنه ما يصلح للغزو ، أو يعان به في فرس ، نص عليه أحمد لما تقدم ، ( وعنه ) أنه يصرف ثمنه في مثله أو يصرف على الدواب الحبيس ، قال : لا يباع الفرس الحبيس إلا من علة ، إذا عطب يصير للطحن ، ويصير ثمنه في مثله ، أو ينفق ثمنه على الدواب الحبيس . وظاهره التخيير بين الأمرين ، وقد يحمل قوله : ينفق الثمن على الحبيس . على ما إذا تعذر شراء المثل ، وكذلك رأيت صاحب التلخيص حكى النص فقال : إنه نص على أن الفرس الحبيس إذا هرم يباع ، وإذا أمكن أن يشترى بثمنه فرس اشترى ، وجعل حبيساً ، وإلا جعله في ثمن دابة حبيس ، والله أعلم .
قال : وإذا حصل في يد بعض أهل الوقف خمسة أوسق ففيه الزكاة ، وإذا صار الوقف للمساكين فلا زكاة فيه .
ش : إذا كان الوقف شجرً فأثمر ، أو أرضاً فزرعت . وكان الوقف على قوم بأعيانهم ، فحصل لبعضهم من الثمرة أو الحب نصاب ففيه الزكاة ، لعموم قوله : ( فيما سقت السماء العشر ) ونحوه ، ولأن الملك تام في الثمرة والحب ، وهو متعلق الزكاة ، وإن حصل في يده دون نصاب فلا شيء عليه ، نعم إن حصل في يد الجميع نصاب وجبت الزكاة . على رواية تأثير الخلطة في غير الماشية ، وإن كان الوقف على قوم غير معينين كالمساكين فلا زكاة ، إذ شرط وجوبها الملك حين الوجوب ، والمسكين إنما يملك بالدفع ، نعم على رواية تأثير الخلطة في نحو ذلك ينبغي أن تجب الزكاة والله أعلم .
قال : وما لا ينتفع به إلا بالإِتلاف مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب فوقفه غير جائز .
ش : من شرط ما يوقف أن يكون عيناً يجوز بيعها ، ويدوم نفعها مع بقائها ، فلا يصح الوقف في الذمة كعبد ودار ، ولا ما لا يجوز بيعه ، إذ الوقف يعتمد نقل الملك ، فلا بد وأن يكون الموقوف مما يقبل النقل ، فلا يجوز وقف الكلب ، وأم الولد ، ووقف الحر نفسه ، وإن جازت إجازته ، ولا وقف الموصى له بخذمة عبد ذلك العبد ، لعدم الملك له في الرقبة ، ولا وقف أحد هذين العبدين ، وفيه احتمال كالعتق ، ولا ما لا يدوم نفعه كالرياحين ونحوها ، وبطريق الأولى ما لا منفعة فيه كالعين المستأجرة ، إذا الوقف تحبيس الأصل ، وتسبيل المنفعة ، وفي الأول لا تحبيس ، وفي الثاني [ لا منفعة ] ، نعم إن وقفها بعد مدة الإِجارة [ إذا انقضت ] ، صح إن قيل يصح تعليق الوقف على شرط في الحياة ، ولا ما يذهب بالانتفاع به ، كالمأكول ، والمشروب ، والشموع ، والدراهم ، والدنانير للتصرف فيها ، أو مطلقاً ، أما لو وقفها للوزن فقال في التلخيص : يصح كإجارتها لذلك . وقال أبو محمد : لا يصح ، لأن ذلك ليس من المرافق العامة . ويصح وقف الحلي عند العامة ، لأنه من المقاصد المهمة .
2157 وقد روي أن حفصة رضي الله عنها ابتاعت حلياً بعشرين ألفاً فحسبته على نساء آل الخطاب ، فكانت لا تخرج زكاته . قال أبو الخطاب [ في الهداية ] : ونقل الأثرم وحنبل : لا يصح . قال في المغني : وأنكر حديث حفصة . قال في التلخيص : وهو محمول على رواية منع وقف المنقول . قلت : ذكر القاضي في التعليق رواية الأثرم وحنبل ، ولفظها : لا أعرف الوقف في المال . فإن لم يكن في الرواية غير هذا ففي أخذ المنع منه نظر ، والله أعلم .
قال : ويصح الوقف فيما عدا ذلك .
ش : يصح [ الوقف ] فيما عدا ما ذكرناه ، من العقار ، والحيوان ، والأثاث ، والسلاح ، [ ونحو ذلك ] ، على المذهب المعروف ، وقد تقدم حديث عمر رضي الله عنه في وقف العقار .
2158 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً ، فإن شبعه ، ورثوه ، وبوله ، في ميزانه يوم القيامة حسنات ) رواه أحمد والبخاري .
2159 وقال في حق خالد : ( قد اختبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله ( ونقل حنبل والأثرم عنه : إنما الوقف للدور والأرضين ، على ما وقف أصحاب رسول الله . قال ابن عقيل : وظاهر هذا حصره على العقار ، إعمالًا لمقتضى ( إنما ) وذلك هو الذي يتأبد حقيقة ، بخلاف غيره ، والله أعلم .
قال : ويصح وقف المشاع .
2160 ش : في النسائي وابن ماجه عن ابنعمر رضي الله عنهما قال : قال عمر للنبي : إن المائة سهم التي بخيبر ، لم أصب مالًا قط أعجب إليّ منها ، قد أردت أن أتصدق بها . فقال النبي : احبس أصلها وسبل ثمرتها ) . والله أعلم .
قال : وإذا لم يكن الوقف على معروف أو بر فهو باطل .
ش : من شرط الموقوف إذا كان على جهة أن يكون معروفاً ، كالمساكين ، والمساجد ، والقناطر ، والمارين بالكنائس ونحو ذلك ، أو براً كالأقارب ، مسلمين كانوا أو ذمة ، نظراً لمعنى الوقف ، إذ وضعه ليتقرب به إلى الله تعالى ، وفي قصة عمر رضي الله عنه ما يشعر بذلك ، فلا يصح فيما ليس بربة ، سواء كان مأثماً كالكنائس ، والبيع ، وكتابة التوراة والإِنجيل ، وإن كان الواقف ذمياً ، والمغنين ، ونحو ذلك ، أو غير مأثم ، كالأغنياء ، ولهذا جعل الله الفيء مقسوماً بين ذي القربى ، واليتامى ، ومن سماه الله سبحانه ، حذاراً من أن تتداوله الأغنياء ، قال سبحانه : 19 ( { ما أفاء الله على رسوله من أه القرى فلله ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى والمساكين ، وابن السبيل ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } ) وقيل المشترط أن لا يكون معصية ، ولا يشرتط القربة ، فيصح على الأغنياء .
أما الوقف على أهل الذمة ، كأن قال : وقفت على النصارى ، أو على نصارى هذه البلدة ، ونحو ذلك ، فمقتضى كلام أبي البركات وصاحب التلخيص أنه لا يصح ، لأن الجهة جهة معصية ، بخلاف الوقف على أقاربه من أهل الذمة لأنها جهة بر ، وفي المغني : يصح الوقف على أهل الذمة ، لأنهم يملكون ملكاً محترماً ، أشبهوا المسلمين .
2161 ولأن صفية زوج النبي وقفت على أخ لها يهودي . وفيه نظر ، إذ العلة لست الملك المحترم ، بل كون ذلك قربة وطاعة ، ووقف صفية على قريبها المعين ، ولا إشكال في صحة ذلك ، لما فيه من البر ، بل لو كان معيناً وليس بقريب صح أيضاً ، لأن المعين يقصد نفعه ، ومجازاته ، ونحو ذلك ، بخلاف جهة أهل الذمة ، فإنها جهة معصية انتهى .
ومن شرط الموقوف عليه إذا كان غير جهة ، أن يكون معيناً يملك ملكاً محترماً ، فلا يصح على مجهول كرجل ، ولا على أحد هذين ، كالهبة ، قال في التلخيص : ويحتمل الصحة ، بناء على أنه لا يفتقر إلى قبول ، ولا على من لا يملك ، كالحمل ، والبهيمة ، وكذلك العبد ، لأنه وإن قيل إنه يملك لكن ملكه كالعدم ، وفي المكاتب وجهان ، لتردده بين الحر والعبد القن ، ولا على مرتد ، ولا حربي ، لعدم احترام ملكهم ، ويصح على الحر المعين ، وإن كان ذمياً أو فاسقاً ، والله أعلم .
قال : ولا تصح الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن إلا بقبضه .
ش : لما فرغ المصنف من الكلام على الوقوف شرع في الكلام على العطايا ، وهي جمع عطية ، كخلية وخلايا ، والعطية الشيء المعطى ، وحدها : تمليك عين في الحياة بلا عوض ، وهي جنس ، أنواعه الصدقة ، والهبة ، والهدية ، فإن كان القصد بها التقرب إلى الله تعالى لمحتاج فهي صدقة ، وإن حملت إلى المهدى إكراماً وتودداً فهدية ، وإلا فهبة ، إذا تقرر هذه فإن هبة غير المعين كقفيز من صبرة ، ورطل من زبرة ، ونحو ذلك تفتقر إلى القبض بلا نزاع وفي المعين ثلاث روايات ، ( الافتقار ) ، ( وعدمه ) وهو مختار القاضي وعامة أصحابه ( والتفرقة ) بين صبر المكيل والموزون فتفتقر إلى القبض دون غيرهما ، وهو مختار الخرقي ، وأبي محمد ، ومدرك الخلاف أن من قصر الحكم على غير المعين قال : مقتضى العموم عدم الافتقار .
2162 بدليل قوله : ( العائد في هبته كالعائد في قيئه ) خرج منه غير المعين .
2163 بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان نحلها جداد عشرين وسقاً من ماله بالغابة ، فلما حضرته الوفاة قال : يا بنية إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقاً ، ولو كنت جددتيه ، واحتزتيه كان لك ، وإنما هو اليوم مال وارث ، فاقتسموه على كتاب الله . رواه مالك في الموطأ ، وجداد عشرين وسقاً غير معين ، قال أحمد : حديث أبي بكر رضي الله عنه في شيء مجهول وإذاً يبقى في ما عداه على مقتضى العموم .
2164 ويؤيد هذا ما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما ، أنهما قالا : الهبة جائزة إذا كانت معلومة ، قبضت أو لم تقبض . ومن ألحق صبر المكيل والموزون بذلك قال : فيها أيضاً نوع شياع وإبهام فتلحق به .
2165 ومن عمّم الحكم في الجميع استدل بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ما بال قوم ينحلون أولادهم ، فإذا مات أحدهم قال : مالي ، وفي يدي . وإذا مات هو قال : قد كنت نحلته ولدي . لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد ، فإن مات ورثه .
2166 وأرى عثمان رضي الله عنه أن الوالد يجوز لولده [ إذا كانوا صغاراً ] .
2167 وقال بعض العلماء : اتفق أبو بكر وعمر ، وعثمان ، وعلي ، رضي الله عنهم على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة .
( تنبيه ) : حيث افتقرت الهبة إلى القبض فهل ذلك لصحتها ، أو للزومها وملكها ، أو للزومها فقط ؟ ظاهر كلام الخرقي وطائفة من الأصحاب الأول ، قال أبو الخطاب في الانتصار في البيع بالصفة : القبض ركن في غير المتعين ، لا ينبرم العقد بدونه ، وقال في موضع آخر : إن الزيادة قبل القبض للواهب . وهذا مقتضى كلام القاضي في المجرد أيضاً ، حيث جعلها تبطل بموت الواهب قبل القبض ، قال في التلخيص : كان القاضي يجعل القبض كجزء من السبب مثل القبول ، ومقتضى كلام أبي محمد في الكافي ، وأبي البركات بل صريحه الثاني ، ومقتضى كلام صاحب التلخيص الثالث ، لأنه قال بعد كلام القاضي المتقدم في المجرد : والمذهب لا يقتضي ذلك ، إذ الملك ينتقل في بيع الخيار على الصحيح ، وقال أيضاً : إن الزوائد الحاصلة بعد العقد وقبل القبض للمتهب بشرط اتصال القبض ، لكن شرطه اتصال القبض يقتضي القول الثاني ، وكلام أبي محمد في المغني يحتمل أيضاً القول الثاني والثالث ، وكلام أحمد ظاهره الثاني ، قال في رواية حنبل : إذا تصدق على رجل بصدقة دار أو ما أشبه ذلك فإذا قبضها الموهوب له صارت في ملكه . وكلام الصحابة رضي الله عنهم يحتمل القولين الأولين ، أما القول الثالث : فضعيف ، ولا يعرف مصرحاً به ، والله أعلم .
قال : وتصح في غير ذلك بغير قبض إذا قبل كما تصح في البيع .
ش : تصح الهبة في غير المكيل والموزون ، وقد تقدم ذلك ، وقوله : إذا قبل . تصريح بأنه لابد في الهبة من القبول ، ولا إشكال في ذلك ، إذ هو أحد ركنيها ، أشبه الإِيجاب ، ويقوم ما يدل عليهما مقامهما ، اختاره ابن عقيل ، وأبو محمد وغيرهما .
2168 وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي كان إذا أتي بطعام سأل عنه ، فإن قالوا : صدقة : قال لأصحابه : ( كلوا ) ولم يأكل ، وإن قالوا : هدية . ضرب بيده ، فأكل معهم ، وعن القاضي ، وأبي الخطاب : لاتصح بالمعاطاة . وقوله : كالبيع . أي أنه تتوقف صحته على القبول ، ومراده كالبيع مطلقاً ، لا كالبيع في المكيل والموزون ، إذ لا نزاع أن القبول في البيع ليس بشرط في الصحة إلا في التصرف ، وقد يأخذ من كلام الخرقي أن [ من ] شرط صحة القبول تأخره عن الإِيجاب ، كما أن ذلك بلا نزاع . رتبته ، وهذا إحدى الروايتين ، والله أعلم .
قال : يقبض للطفل أبوه أو وصيه بعد ، أو الحاكم ، أو أمينه بأمره .
ش : يقبض للطفل أبوه ، لما تقدم عن عثمان رضي الله عنه ، أو وصيه بعده ، لأنه يقوم مقامه ، أوالحاكم إذا مات الأب من غير وصي ، أو لم يكن أهلًا كالفاسق [ ونحوه ] ، إذ الحاكم ولي من لا ولي له ، أو أمين الحاكم بأمره ، لأنه يقوم مقامه .
ومقتضى كلام الخرقي أنه ليس لغير هؤلاء القبض ، وهو المشهور ، وقيل : للأم وبقية أقاربه ممن يقوم على الطفل القبض إن عدموا هؤلاء .
وقد تضمن كلامه أنه ليس للطفل القبض ، وهو صحيح ، لفقد الأهلية ، والطفل غالباً يطلق على غير المميز ، وقد يطلب عليه ، كما في قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } ) الآية ، وكلام الخرقي محتمل للأمرين ، وفي صحة قبض المميز وجهان طباقاً للاحتمالين ، لكن يصح بإذن وليه بلا ريب ، والله أعلم .
قال : وإذا فاضل بين ولده في العطية أمر برده ، كما أمر النبي .
ش : المشروع في عطية الأولاد التسوية بينهم .
2169 لما روى عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، قال : قال النبي : ( اعدلوا بين أبنائكم ) رواه أحمد ، وأبو داند ، والنسائي ويسوي بينهم على قدر ميراثهم ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، اقتداء بقسمة الله تعالى ، وقياساً لحال الحياة على حال الموت .
2170 قال عطاء : ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله فإن خالف ولم يسو بينهم أمر برد ذلك ، أو إعطاء الآخر حتى يستووا .
2171 لما روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به رسول الله ، فقال : إني نحلت ابن هذا غلاماً ما كان لي ، فقال رسول الله : ( أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ ) فقال : لا . فقال : ( فارجعه ) متفق عليه ، ولفظ مسلم : تصدق عليّ أبي ببعض ماله ، وفي رواية ( لا تشهدني على جور ، وإن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم ) .
وظاهر كلام الخرقي رحمه الله أن يسوي بينهم ، وإن اختص بعضهم بمعنى يقتضي الاختصاص كزمانة ، أو عمى ، أو اشتغال بعلم ، ونحو ذلك ، أو بمعنى يقتضي المنع كفسوق ، ونحو ذلك ، ونص عليه أحمد في رواية يوسف ابن موسى ، وهو ظاهر كلام الأكثرين ، لعموم حديث النعمان بن بشير ، ولأنهم سواء بالإِرث ، فكذلك في عطيته في حياته ، ( وعنه ) ما يدل على جواز تفضيل أحدهم أو اختصاصه لمعنى مما تقدم ، لقوله في تخصيص أحدهم في الوقف : لا بأس به إذا كان للحاجة ، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة . وهذا اختيار أبي محمد ، وعليه حمل حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
وظاهر كلامه أن الذي يجب التعديل بينهم هم الأولاد فقط ، وبه قطع أبو محمد في كتبه ، إذ الأصل تصرف الإِنسان في ماله كيف شاء ، خرج منه الأولاد بالخبر ، ولأنه لم يسأل بشيراً : هل لك وارث غير ولدك أم لا ؟ وقال أبو الخطاب ، وأبو البركات ، وصاحب التلخيص وغيرهم : حكمهم حكم الأولاد ، يسوي بينهم على قدر مواريثهم ، فإن لم يفعل رجع على ما تقدم ، وفي التلخيص أن أحمد رحمه الله نص عليه ، لأن المنع من ذلك كان خوف قطيعة الرحم والتباغض ، وهذا موجود في الأقارب ، والله أعلم .
قال : فإن مات ولم يرده فقد ثبت لمن وهب له ، إذا كان ذلك في صحته .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، واختارها الخلال ، وأبو بكر ، لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإن ظاهره أنه خصها بذلك ، وأنها لو كانت حازته لم يكن لهم الرجوع ، وكذلك عموم قول عمر : لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد .
( والثانية ) : للورثة الرجوع ، كما كان له الرجوع ، لأنه سماه جوراً .
2172 وفي رواية لمسلم : ( وإني لا أشهد إلا على حق ) وغير الحق ، والجور ، لا يختلف بالحياة والموت ، فلا يطيب أكله ، ويجب رده .
2173 وقد روى سعيد في سننه أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده ، وخرج إلى الشام فمات بها ، ثم ولد له بعد ذلك ولد ، فمشى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى قيس بن سعد ، فقالا : إن سعداً قسم ماله ، ولم يدر ما يكون ، وإنا نرى أن ترد هذه القسمة ، فقال قيس : لم أكن لأغير شيئاً صنعه سعد ، ولكن نصيبي له .
وقول الخرقي : إذا كان في صحته ، احترازاً مما إذا كانت العطية في مرض موته ، فإن ذلك لا ينفذ ، ويكون كالوصية له ، تقف على إجازة الورثة ، نعم إن كانت العطية في المرض ليسوي بينهم فهل يجوز ؟ فيه احتمالان ، أولاهما الجواز ، لأنه طريق لفعل الواجب ، لا سيما إذا قلنا : للورثة الرجوع . والله أعلم .
قال : ولا يحل لواحد أن يرجع في هبته ، ولا لمهد أن يرجع في هديته ، وإن لم يثب عليها .
2174 ش : لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه ) متفق عليه ، ولأحمد ، والبخاري ( ليس لنا مثل السوء ) ، وفي رواية لأحمد قال قتادة : ولا أعلم القيء إلا حراماً .
2175 وعن طاوس أن ابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهم رفعاه ، أن النبي قال : ( لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها ، إلا الوالد فيما يعطي ولده ، ومثل الرجل يعطي عطية [ ثم يرجع فيها ] ، كمثل الكلب ، أكل حتى إذا شبع قاء ، ثم رجع في قيئه ) رواه الخمسة ، وصححه الترمذي .
وعموم كلام الخرقي يشمل المرأة ، فليس لها أن ترجع في ما وهبته لزوجها ، وهو إحدى الروايات ، واختيار أبي بكر ، لعموم ما تقدم ، ولقوله تعالى : { إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } ( والثانية ) : للمرأة الرجوع مطلقاً ، نقلها الأثرم .
2176 واحتج لها بأن في الحديث ( إنما يرجع في المواهب النساء ، وشرار الأقوام ) ( وعنه ثالثة ) ، إن وهبته مخافة غضبه ، أو إضرار بها ، بأن يتزوج عليها ، ونحو ذلك رده إليها ، لأنها لم تطب نفساً به ، وإن لم يكن سألها ، فتبرعت به فهو جائز ، حكى الروايات الثلاث أبو محمد ، وعندي أن الثالثة لا تدل إلا على صحة هبتها وعدمها .
وكرم الخرقي أيضاً يشمل الأب ، فمقتضى كلامه أنه ليس له الرجوع ، وهو إحدى الروايات عن أحمد رحمه الله ، نقلها عنه المروذي في كتاب الزهد ، لعموم حديث ابن عباس المتفق عليه ، وقال أبو محمد : ظاهر كلامه الرجوع ، وأخذه من قوله : وإذا فاضل بين ولده في العطية أنه يرد ذلك . وفي نظر ، وبالجملة فهذا هو المشهور ، واختاره جماعة من الأصحاب لما تقدم من حديث ابن عباس الذي في السنن . وهو مخصص لحديثه الآخر ، ( وعنه رواية ثالثة ) اختارها أبو محمد ، وابن البنا وابن عقيل في التذكرة ، إن غرّ بها قوم ، كأن رغب الناس بسببها في معاملته ، أو مناكحته فلا رجوع ، لما فيه من الضرر [ بالغير ] المنفي شرعاً ، وإلا فله الرجوع لما تقدم ، ( وعنه رابعة ) إن زادت العين زيادة متصلة فلا رجوع ، لاتصالها بملك الولد ، وإلا فله الرجوع ، ونقل عنه حنبل : أرى أن من تصدق على ابنه بصدقة فقبضها الابن ، أو كان في حجر أبيه فأشهد على صدقته فليس له أن ينقض شيئاً من ذلك ، لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة . ونحو ذلك نقل المروذي ، قال أبو حفص : تحصيل المذهب أنه لا يرجع فيما دفع لغير الولد ، هبة كان أو صدقة ، ويرجع فيماوهبه لابنه ، ولا يرجع فيما كان على وجه الصدقة . وهذا اختيار ابن أبي موسى .
2177 لعموم قوله لعمر : ( لا تعد في صدقتك ) وقد فهم عمر العموم .
2178 فروى مالك في الموطأ عنه قال : من وهب هبة يرى أنه أراد بها صلة رحم ، أو على وجه صدقة ، فإنه لا يرجع فيها ، ومن وهب هبة ، أراد بها الثواب ، فهو على هبته ، يرجع فيها إذا لم يرض منها . وأبو محمد صرح بأنه لا فرق بين الصدقة وغيرها ، مستدلاً بأن في الصحيح في حديث النعمان ابن بشير : تصدق عليّ أبي ببعض ماله . . . القصة ، وصرح بذلك [ أيضاً ] القاضي في المجرد وهو ظاهر إطلاق جماعة .
وشرط الرجوع حيث جوزناه ( أن تكون العين ) الموهوبة باقية في ملك الابن ، فإن خرجت عن ملكه ثم عادت إليه بعقد ، أو إرث فلا رجوع ، وإن رجعت إليه بفسخ فثلاثة أوجه ، ثالثها ، إن كان كخيار المجلس أو الشرط رجع ، وإلا فلا ، ( وأن لا يتعلق ) بها حق يمنع تصرف الابن ، كالرهن ، وحجر الفلس ، والكتابة إن لم يجز بيع المكاتب ، ثم إن زالت هذه التعلقات جاز له الرجوع ، لزوال المانع .
وقوله : وإن لم يثب عليها . تنصيص على مخالفة من قال : إن لم يثبت عليها رجع . وهو مشعر بأن الهبة لا تقتضي ثواباً ، وهو كذلك ، وإن كانت من الأدنى للأعلى .
( تنبيه ) : هذا الحكم يختص بالأب ، فليس للأم الرجوع فيما وهبته لولدها ، على المنصوص والمختار ، وقيل : لها الرجوع كالأب . والله أعلم .
قال : وإذا قال : داري لك عمري ، أو هي لك عمرك . فهي له ولورثته من بعده .
ش : العمرى نوع من الهبة ، تفتقر إلى ما تفتقر إليه الهبة من الإِيجاب ، والقبول ، والقبض ، وهي مأخوذة من العمر ، ومعناها كما قال الخرقي أن يقول : داري أو فرسي ونحو ذلك لك عمري ، أو مدة حياتي ، أو لك عمرك ، أو حياتك . ونحو ذلك ، فتصح ، وتكون للمعمر ، ولورثته من بعده .
2179 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( العمرى ميراث لأهلها ) وفي لفظ ( جائزة لأهلها ) متفق عليه .
2180 وعن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله : ( من أعمر عمرى فهي لمعمره محياه ومماته ، لا ترقبوا ، من أرقب شيئاً فهو سبيل الميراث ) ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي .
2181 وعن جابر رضي الله عنه قال : قضى رسول الله بالعمرى لمن وهبت له ، متفق عليه ، وفي لفظ : ( أمسكوا عليكم أموالكم ، ولا تفسدوها ، فمن أعمر عمرى فهي للذي أعمر حياً وميتاً ، ولعقبه ( رواه مسلم .
وظاهر كلام الخرقي في العمرى أنها تكون للمعمر ولورثته ، وإن شرط المعمر رجوعها إليه ، أو إلى ورثته عند موت المعمر ، فيبطل الشرط ، ويصح العقد ، وهو إحدى الروايات عن أحد ، لعموم ما تقدم ، ولأن فيها ( لا ترقبوا ، من أرقب شيئاً فهو على سبيل الميراث ) والرقبى معناها الرجوع إلى المرقب إن مات المرقب .
2182 وعن جابر رضي الله عنه ، أن رجلًا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخل حياتها ، فماتت فجاء إخوته فقالوا : نحن فيه شرع سواء قال جابر : فاختصموا إلى رسول الله ، فقسمها بينهم ميراثاً . رواه أحمد . ( والرواية الثانية ) يصح العقد والشرط ، فتكون للمعمر إذا مات المعمر .
2183 إعمالًا لقوله : ( المسلمون على شروطهم ) .
2184 وعن جابر رضي الله عنه : إنما العمرى التي أجاز رسول الله أن يقول : هي لك ولعقبك . فأما إذا قال : هي لك ما عشت . فإنها ترجع إلى صاحبها . رواه أحمد ومسلم وأبو داود . ( وعنه ) يبطل العقد والشرط ، لأنه شرط منهي عنه ، إذ الجاهلية كانوا يفعلون ذلك .
2185 فنهى الشارع عنه بقوله : ( لا تعمروا ، ولا ترقبوا ) والنهي يقتضي الفساد ، وإذاً يفسد العقد ، لاختلاف الرضى بدونه ، والله أعلم .
قال : وإذا قال : سكناها لك عمرك . كان له أخذها أي وقت أحب ، لأن السكنى ليست كالعمرى والرقبى . ش : هذه هبة منفعة ، والمنافع إنما تستوفى بمضي الزمان شيئاً فشيئاً ، فلا تلزم إلا في قدر ما قبضه واستوفاه ، وقوله : لأن السكنى ليست كالعمرى والرقبى قد تقدم بيان العمرى وأما الرقبى فهي هبة ترجع إلى المرقب إذا مات المرقب ، ومعناها أنها لآخرهما موتاً ، وحكمها حكم العمرى المشروط رجوعها إلى المعمر ، فيها الروايات ، سواء أطلق فقال : أرقبتك هذه . أو صرح بموضوعها فقال : هي لآخرنا موتاً ، والله أعلم .
باب اللقطة

ش : حكي عن الخليل رحمه الله : ( اللقطة ) بضم اللام ، وفتح القاف ، الكثير الإِلتقاط ، وبسكون القاف ما يلتقط . قال أبو منصور : وهو قياس اللغة . وقال الأصمعي ، وابن الأعرابي والفراء : هي بفتح القاف اسم للمال الملقوط أيضاً . ويقال فيه أيضاً : ( لقاطة ) بضم اللام ( ولقطة ) بفتح اللام والقاف ، وهي في الاصطلاح : المال الضائع عن ربه ، يلتقطه غيره .
2186 والأصل فيها ما روى زيد بن خالد الجهني قال : سئل رسول الله عن لقطة الذهب ، فقال : ( اعرف وكاءها ، وعفاصها ، ثم عرفها سنة ، فإن لم تعرف فاستنفقها ، ولتكن وديعة عندك ، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فادفعها إليه ) وسأله عن ضالة الإِبل فقال : ( مالك ولها ، دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر ، حتى يجدها ربها ) وسأله عن الشاة فقال : ( خذها ، فإنما هي لك ، أو لأخيك أو للذئب ) متفق عليه ، وفي أحاديث أخر . والله أعلم .
قال : ومن وجد لقطة عرفها سنة ، في الأسواق ، وأبواب المساجد .
ش : من وجد لقطة وجب عليه تعريفها ، وإن لم يرد تملكها ، لما تقدم من حديث زيد بن خالد .
2187 وفي رواية عنه ( لا يؤوي الضالة إلا ضال ما لم يعرفها ) رواه أحمد ، ومسلم ، وقدر التعريف سنة [ للحديث ] .
وظاهر كلام الخرقي أن السنة تلي الإِلتقاط ، وتكون متوالية ، وهو صحيح ، لظاهر الأمر ، إذ مقتضاه الفور على قاعدتنا ، ولأن صاحبها يطلبها عقب ضياعها ، فإذا عرفت إذاً كان أقرب إلى وصولها إليه ، بخلاف ما لو تأخر ذلك ، فلو ترك التعريف بعض الحول أثم ، وعرف بقيته ، لقوله : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) [ وإن تركه جميع الحول سقط على المنصوص ، لسقوط حكمة التعليف ، وهو تطلع المالك لها في الحول الأول ، وقيل : لا يسقط .
2188 نظراً لقوله : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ] وهنا قد استطاع التعريف على وجه ناقص ، فوجب عليه . انتهى ، ( ومحل التعريف ) محل وجدانها ، إن أمكن ، وفي الأسوق ، وأبواب المساجد ، في أدبار الصلوات ، ونحو ذلك من مجامع الناس ، لأن المقصود من التعريف إظهار ربها عليها ، وهذه الأماكن مظنة ذلك ، بخلاف غيرها .
2189 ولا تعرف في المسجد ، للنهي عن ذلك ، ووقته النهار ، وقد يفهم هذا من قوله : في الأسواق ، وأبواب المساجد .
وصفته أن يقول : من ضاع منه شيء ، أو نفقة ، أو ذهب ، ونحو ذلك ، ولا يذكر الصفة .
وظاهر كلام الخرقي أنه يعرف القليل والكثير ، وهو ظاهر إطلاق الحديث ، ويستثنى من ذلك اليسير ، الذي لا تتبعه النفس ، كالتمرة ، والكسرة ، والسوط ، ونحو ذلك ، فإنه لا يجب تعريفه ، ولواجده الانتفاع به .
2190 لما روى جابر رضي الله عنه قال : رخص لنا رسول الله في العصا ، والسوط ، والحبل ، وأشباهه ، يلتقطه الرجل ينتفع به . [ رواه أبو داود ] .
2191 وفي الصحيحين أنه مر بتمرة في الطريق ، فقال : ( لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها والمعروف تقييد اليسير بما لا تتبعه نفوس أوساط الناس كما مثلنا ) ، ونص أحمد في رواية أبي بكر بن صدقة على أنه يعرف الدرهم ، وقال ابن عقيل في التذكرة : لا يجب تعريف الدانق ونحوه . وحمله في التلخيص على دانق الذهب ، نظراً لعرف العراق ، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن اليسير دون ثلاثة دراهم ، لأنه تافه .
2192 بدليل قول عائشة رضي الله عنها : كانوا لا يقطعون في الشيء التافه .
وعموم ( من ) يشمل الذمي ، وصرح به غيره ، لعموم ( من وجد لقطة ) ولأنه أهل للتكسب ، فيصح التقاطه ، كاحتطابه ونحو ذلك ، ثم قال أبو محمد : إنه يضم إليه أمين في التعريف والحفظ ، وأكثر الأصحاب لم يتعرضوا لذلك ، وجعله ابن حمدان على القول بضم الأمين إلى الفاسق ، ( ويشمل ) الفاسق أيضاً ، وهو صحيح لما تقدم ، وهل يضم إليه أمين ؟ فيه وجهان ، ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام القاضي في الجامع ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي لا ، لأهليته للحفظ ، بدليل إيداعه ( والثاني ) واختاره القاضي في المجرد ، وابن البنا ، وبه قطع أبو البركات ، وأبو محمد في كتابيه الكبيرين نعم ، حفطاً لمال الغائب ، ثم قال القاضي : يكون الأمين هو المباشر للتعريف ، لاتهام الفاسق ، فربما قصر .
( ويشمل ) أيضاً الرقيق ، وهو صحيح ، فإن كان مكاتباً فحكمه حكم الحر ، وإن كان قنا صح التقاطه على المذهب ، ( وعنه ) لا يصح إلا بإذن سيده ، فعلى المذهب يصح تعريفه ، ثم إن تلفت في حول التعريف بلا تفريط فلا شيء عليه ، وأن تلفت بتفريطه ، أو أتلفها ضمنها في رقبته لجنايته ، وإن مضى حول التعريف هل يملكها ؟ قال في التلخيص : قال أصحابنا : يخرج على الروايتين في ملك العبد . وهذا مقتضى كلام أبي البركات ، قال صاحب التلخيص : وعلى ما بينت أن الروايتين فيما إذا ملكه السيد ، لا يملك هنا بحال . وقطع أبو محمد في الكافي والمغني أن السيد يملك بمضي الحول ، فإما أن نظر إلى ما قال صاحب التلخيص ، وإما أنه فرع على المذهب ، ثم إن صاحب المحرر قال : إن ملك وتلفت ضمنها في ذمته ، وإن لم يملك ضمنها في رقبته ، وقال في التلخيص : إنه يضمنها في ذمته ، نص عليه . قال : لأنها للسيد ، أو للعبد مضمونة في ذمته . وكذا قال طائفة من الأصحاب ، منهم أبو محمد في المقنع ، وهذا متوجه إن قلنا : إن العبد يملك ، أما إن قلنا : إن الملك للسيد ، كما صرح به أبو محمد ، واقتضاه كلام صاحب التلخيص وغيره فالجناية على مال السيد ، فلا تتعلق لا بذمته ، ولا برقبته ، بل الذي ينبغي أن تتعلق بذمة السيد ، وإن قيل : إن لعبد لم يملك ولا السيد ، تعين التعلق برقبته كجناياته ، وهذه تحتاج إلى زيادة تحقيق ، ولها فروع أخر ليس هذا موضعها ، وحكم أم الولد والمعلق عتقها بصفة حكم القن . والله أعلم .
قال : فإن جاء ربها وإلا كانت كسائر ماله .
ش : يعني إذا عرفها فإن جاء ربها في الحول فهي باقية على ملكه ، وإن انقضى الحول ولم تعرف ، صارت عند انقضاء الحول كسائر مال الملتقط ، على المذهب بلا ريب ، لما تقدم من حديث زيد .
2193 وفي رواية فيه ( فاستمتع بها ) وفي رواية ( وإلا فهي لك ) قال في الانتصار : ونقل البغوي عنه ما يدل على أن اللقطة لا تملك . قلت : وهو غريب ، لا تفريع ولا عمل عليه .
وقد شمل كلام الخرقي الغني والفقير ، وهو المشهور من المذهب لما تقدم من حديث زيد .
2194 وفي حديث أبي بن كعب ( فاستمتع بها ) وشذ حنبل عن أصحابه ، فنقل عن أحمد اختصاص التملك بالفقير ، وأنكر ذلك الخلال .
2195 لما روى عياض بن حمار قال : قال رسول الله : ( من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ، وليحفظ عفاصها ، ووكاءها ، ثم لا يكتم ، ولا يغيب ، فإن جاء ربها فهو أحق بها ، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء ) رواه الخمسة إلا الترمذي ، قال بعض الحفاظ : ورجاله رجال الصحيح . وظاهره أن واجدها لا يختص بها ، بل سبيلها سبيل الأموال المضافة إلى الرب سبحانه ، من الخمس وغيره ، وحديث زيد بن خالد قضية في عين لا عموم لها ، إذ يجوز أن النبي رآه فقيراً ، فأباح له الأخذ ، أو لمصلحة أخرى ، لأن الرسول نائب الله في أمواله .
وشمل كلامه أيضاً الأثمان ، والعروض ، والشاة ، ونحوها ، ولا خلاف في ملك الأثمان ، لنص حديث زيد بن خالد ، واختلف فيما عداها ، ( فعنه ) لا تملك مطلقاً .
2196 أما في الشاة ونحوها فلما روي عن النبي أنه قال : ( لا يؤوي الضالة إلا ضال ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والضالة اسم للحيوان ، دون سائر اللقطة .
2197 وأما في العروض فلأن ذلك يروى عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ولا يصح قياسها على الأثمان ، فإن الغرض يتعلق بها ، بخلاف الأثمان ، ( وعنه ) تملك مطلقاً ، وهي ظاهر كلام الخرقي هنا ، وسينص عليها في الشاة ، واختيار ابن أبي موسى ، وأبي محمد ، لحديث زيد بن خالد في الشاة ، وهو نص في جواز التقاطها ، وهو خاص ، فيقدم على ( لا يؤوي الضالة ) الحديث ، ولحديث عياض بن حمار ( من وجد لقطة ) مع التزام أن عموم الأشخاص ، يقتضي عموم الأحوال .
2198 وروى الجوزجاني والأثرم قالا : حدثنا أبو نعيم ، ثنا هشام ابن سعد ، قال : حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : أتى رجل رسول الله فقال : يا رسول الله كيف ترى في متاع يوجد في الطريق الميتاء ، أو في قرية مسكونة ؟ قال : ( عرفه سنة ، فإن جاء صاحبه وإلا فشأنك به ) .
2199 وروى الجوزجاني عن عمر وابنه ما يدل على أن العروض تملك ، ( وعنه ) رواية ثالثة وهي المشهورة في النقل والمذهب ، عند عامة الأصحاب أن الشاة ونحوها تملك دون العروض ، وقد فهم دليلها مما تقدم .
وحيث قلنا : لا تملك العروض . ( فعنه ) تعرف أبداً ، اختارها أبو بكر في ( زاد المسافر ) وابن عقيل أظنه في ( الفصول ) ، ( وعنه ) وهو المشهور عنه ، واختيار الخلال ، وزعم أن الأول قول أول تباع ويتصدق بثمنها بشرط الضمان ، وقال القاضي في الخصال : يخير بين تعريفها أبداً ، وبين دفعها إلى الحاكم ، ليرى رأيه فيها . وقال ابن عقيل في التذكرة : يدفعها إلى الحاكم .
وشمل كلام الخرقي أيضاً لقطة الحل والحرم ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار الجمهور ، لحديث زيد بن خالد ، وعياض بن حمار ، التزاماً بأن عموم الأشخاص يتناول عموم الأحوال ، إذ قوله : ( من وجد لقطة ) عام في كل واجد ، وعموم الواجدين يستلزم عموم أحوالهم .
[ وكذلك سؤال زيد عن لقطة الذهب ، اسم جنس مضاف ، فيشمل كل لقطة ذهب ، ويلزم منه عموم أحوالها ] ( والثانية ) : لا تملك لقطة الحرم بحال ، بل تعرف أبداً .
2200 لقوله في بلد مكة ( ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ) أي لمنشد على الدوام ، وإلا غير لقطة الحرم لا تحل أيضاً إلا لقاصد تعريفها ، وحفظها .
2201 ويؤيد هذا ما روى عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه أن رسول الله نهى عن لقطة الحاج ، رواه مسلم . وهذا أخص من تلك فيقيد ، لا سيّما ويمنع : أن عموم الأشخاص ( لا ) يستلزم عموم الأحوال .
وقول الخرقي : وإلا فهي كسائر ماله . ظاهره أنها تدخل في ملكه من غير اختياره ، وكذا نص أحمد في رواية الجماعة ، وعليه الجمهور ، لظواهر الأحاديث السابقة .
2202 وفي رواية لمسلم في حديث زيد بن خالد ( فإن جاء صاحبها ، فعرف عفاصها ، ووكاءها وعددها ، فأعطها إياه ، وإلا فهي لك ) واختار أبو الخطاب في هدايته أنه لا يملكها حتى يختار ذلك ، وحكاها ابن الزاغوني رواية .
ومقتضى كلامه أنه لو لم يعرفها التعريف السابق وهو السنة أنه لا يملكها ، وهو صحيح ، وكذلك لو لم يعرفها الحول ، نعم إن أخر التعريف أو بعضه في الحول الأول لعذر ، من مرض ، أو حبس ، أو صغر ، ونحو ذلك ، ملكها بالتعريف في ثاني الحول في وجه ، وعلى المنصوص لا كالأول ، والله أعلم .
قال : وحفظ وكاءها ، وعفاصها ، وحفظ عددها ، وصفتها .
ش : هذا عطف على قوله : عرفها سنة . فيحتمل أنه واجب مطلقاً كالتعريف ، لظاهر حديث زيدد ويحتمل أنه مطلوب جملة ، ثم عند الالتقاط مستحب ، وعند تمام التعريف ، وإرادة التصرف فيها أو خلطها بماله واجب ، وهو ظاهر كلامه ، وعليه شرح أبو محمد ، وفاقاً للأصحاب ، لأن دفعها إلى ربها يجب بما ذكر ، فلا بد من معرفته نظراً إلى أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب .
2203 وفي رواية عن أبي كعب أنه قال : وجدت مائة دينار ، فأتيت بها النبي فقال : ( عرفها حولًا ) فلم تعرف ، فرجعت إليه فقال : ( وظاهره أن الخلط مرتب على معرفة ما تقدم ، وأنه قبل التعريف لم يأمره بذلك ، وهذه القرينة الصارفة لحديث زيد وغيره عن الوجوب ، ( والوكاء ) الخيط الذي تلبط به ، ( والعفاص ) الوعاء الذي تكون فيه ، من خرقة أو غيرها ، وفي معنى العدد الكيل والوزن ، ويبالغ في معرفة صفتها ، وكل شيء تعرف به .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب الإِشهاد عليها ، وهو المشهور ، نظراً إلى حديث زيد وغيره ، حيث لم يأمره بالإِشهاد ، نعم يستحب ، لحديث عياض بن حمار ، وأوجبه ابن أبي موسى ، وأبو بكر في التنبيه ، لظاهر الأمر ، والشهود عدلان فصاعداً ، ولا يشهد على الصفات ، نص عليه ، لاحتمال شياعه ، فيعتمده المدعي الكاذب ، والله أعلم .
قال : فإن جاء ربها فوصفها دفعت إليه بلا بينة .
ش : يعني إذا جاء ربها بعد الحول ، وصيرورتها كسائر مال الملتقط ، وهي باقية ، فوصفها بالصفات السابقة ، وجب دفعها إليه بلا بينة ، وإن لم يغلب على ظنه صدقه .
2204 لأن في حديث أبي بن كعب قال : ( عرفها ، فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ، ووعائها ، فأعطها إياه ، وإلا فاستمتع بها ) رواه أحمد ، ومسلم ، والترمذي .
2205 وفي حديث زيد ( فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه ) وفي رواية فيه ( فإن جاء صاحبها ، فعرف عفاصها ، وعددها ، ووكاءها ، فأعطها إياه ، وإلا فهي لك ) .
2206 ولا ينافي هذا قوله ( البينة على المدعي ) واليمين على من أنكر ) . إذ هذا مع وجود منكر ، ولا منكر في صورة اللقطة ، فهي غير داخلة في الحديث ، ولو سلم دخولها ، فالتخصيص وقد قام دليله يخرجها ، مع أنا نقول البينة ما تبين الحق وتظهره ، والصفة هنا بهذه المثابة ، لتعذر إقامة البينة عليها غالباً ، لأنها تسقط في حال الغفلة والسهو .
وظاهر كلامه أنهلو ادعاها بلا صفة لم تدفع إليه ، وهو ظاهر لما تقدم ، وقوة كلامه يقتضي أنه لا يجب عليه دفع زيادتها معها والحال ما تقدم ، وهو أحد الوجهين ، أو الروايتين ، على ما في التلخيص ، واختيارأبي محمد ، لحدوثها في ملكه ، ( والثاني ) : [ يأخذها ربها بها ، كما يأخذها بالزيادة المتصلة ، وكالبائع الراجع على المفلس ، أما في حول التعريف فإنها ترد بزيادتها ] مطلقاً ، لبقائها على ملك مالكها ، والله أعلم .
قال : أو مثلها إن كانت قد استهلكت .
ش : اختيار أبي محمد رحمه الله أن اللقطة بعد الحول تملك بغير عوض يثبت في ذمته ، وإنما يتجدد العوض بمجيء صاحبها ، وعند القاضي وكثير من أصحابه لا يملكها إلا بعوض يثبت في ذمته لصاحبها ، وعلى القولين يزول ملك الملتقط عنها بوجوده إن كانت باقية ، ويجب عليه إذاً بدلها ، وهو مثلها ، أو قيمتها إن كانت تالفة ، لحديث زيد ، فإنه أمره بإنفاقها ، ثم قال : ( ولتكن وديعة عندك ، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه ) فأمره بدفعها إلى ربها ، بعد [ إباحة ] إنفاقها .
2207 وقال الأثرم : قال أحمد : أذهب إلى حديث الضحاك بن عثمان ، جوده ولم يروه أحد مثل ما رواه ، إن جاء صاحبها بعد سنة ، وقد أنفقها ردها إليه ، وحكى عنه أنه لوح إلى عدم الضمان ، لحديث عياض بن حمار ، لأن فيه ( فهو مال الله يؤتيه من يشاء ) وظاهره أنه مباح ، ولما تقدم من قوله : ( فهي لك ) وللأول أن يقول بموجبه ، إذ جعلها له ، وكون الله آتاه إياها ، لا ينافي وجوب الضمان عليه بوجود ربها ، وعلى هذا لو نقصت ضمن نقصها ، وتعتبر القيمة حين التملك ، قاله في التلخيص ، وهو ظاهر على رأي القاضي ومتابعيه ، أما على رأي أبي محمد فينبغي اعتبارها حين وجود ربها ، وكذا صرح به أبو البركات ، وهذا كله بعد الحول ، أما قبله فهي أمانة ، كبقية الأمانات ، والله أعلم .
قال : وإن كان الملتقط قد مات فصاحبها غريم بها .
ش : إذا مات الملتقط ، بعد أن صارت اللقطة كمال الملتقط ، ثم جاء ربها ، فهو غريم بها ، يرجع ببدلها إن اتسعت التركة ، وإلا تحاص الغرماء ، لما تقدم من أنه إنما يملكها مضمونة عليه ، إما حين التملك ، وإما حين وجود ربها ، وكلام الخرقي يحتمل أن يريد ما إذا تلفت ، بقرينة المسألة السابقة ، وعليه شرح أبو محمد ، ويحتمل أن يريد أنه غريم وإن كانت باقية ، تنزيلًا لانتقالها إلى الوارث منزلة الإِنتقال إلى الأجنبي ، ولو انتقلت إلى أجنبي لم يلزم إلا بدلها ، فكذلك إلى الوارث ، ثم عى الأول ظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا فرق بين أن يعلم تلفها بعد الحول أو لا ، وفي المغني احتمال أنه لا يلزم عوضها إن لم يعلم تلفها بعد الحول ، لاحتمال تلفها في الحول ، وهي إذاً أمانة ، والله أعلم .
قال : وإن كان صاحبها جعل لمن وجدها شيئاً معلوماً فله أخذه ، إن كان التقطها بعد أن بلغه الجعل .
ش : الجعالة جائزة في الجملة ، لقول الله تعالى : 19 ( { ولمن جاء به حمل بعير ، وأن به زعيم } ) .
2208 وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : انطلق نفر من أصحاب النبي في سفرة سافروها ، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب ، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم ، فلدغ سيد ذلك الحي ، فسعوا له بكل شيء ، لا ينفعه شيء ، فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا ، لعلهم أن يكون عندهم بعض شيء . فأتوهم فقالوا : أيها الرهط إن سيدنا لدغ ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه ، فهل عند أحد منكم شيء ؟ فقال بعضهم : والله إني لأرقي ، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا ، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلًا ، فصالحوهم على قطيع من غنم ، فانطلق يتفل عليه ويقرأ : 9 ( { الحمد لله رب العالمين } ) فكأنما نشط من عقال ، فانطلق يمشي وما به قلبة ، قال : فأوفوهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقتسموا . فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي النبي ، فنذكر له الذي كان ، فننظر الذي يأمرنا . فقدموا على النبي ، فذكروا له ذلك ، فقال : ( وما يدريك أنها رقية ؟ ) ثم قال : ( قد أصبتم ، اقسموا ، واضربوا لي معكم سهماً ) وضحك النبي . متفق عليه ، واللفظ للبخاري ، والحكمة تقتضي ذلك ، فإن العمل قد يكون مجهولًا كصورتنا ، فتتعذر الإِجارة فيه ، والحاجة تدعو إلى رده ، وقد لا يجد متبرعاً فاقتضت حكمة الشارع جواز ذلك .
إذا تقرر هذا فإذا جعل رب اللقطة لمن وجدها شيئاً معلوماً ، فلمن وجدها أخذه ، لما تقدم ، ولقوله : ( المسلمون عند شروطهم ) وكما لو استأجره على بناء حائط ، ونحو ذلك ، لكن بشرط أن يلتقطها بعد أن بلغه الجعل ، ليكون عمله في مقابلة الجعل ، أما إن وجدها قبل بلوغ الجعل فلا شيء له ، لأنه متبرع بعمله .
وقد تضمن كلام الخرقي أموراً ( منها ) أنه لا يشترط العلم بالعمل ، ولا المدة ، وهو صحيح ، بخلاف الإِجارة ، والحكمة ما تقدم ، ( ومنها ) أنه لو قدر المدة ، كأن قال : إن وجدتها في شهر ونحو ذلك . صح نظراً لإِطلاق كلامه ، لاحتمال الغرر فيها ، بخلاف الإِجارة على الصحيح ، ( ومنها ) أنه لا يشترط تعيين العامل ، للحاجة الداعية إلى ذلك ، بخلاف الإِجارة ، ( ومنها ) أن العمل قائم مقام القبول ، لأنه يدل عليه ، أشبه الوكالة ، ( ومنها ) أن الجعل لا بد وأن يكون معلوماً ، كالإِجارة وغيرها من العقود ، وحمل البعير في الآية معلوم عندهم ، والقياس على العمل لا يصح ، للحاجة الداعية ثم ، بخلاف هنا ، وفي المغني تخريج بجواز جهالة الجعل ، إن لم يمنع التسليم ، كقوله : من رد ضالتي فله نصفها . بخلاف : فله شيء . من قول الإِمام : إذا قال الأمير في الجهاد : من جاء بعشرة رؤوس فله رأس . جاز ، ومن قوله : إذا جعل جعلًا لمن يدله على قلعة أو طريق ، من مال الكفار مجهولًا ، كجارية بعينها ، وقد عرف من هذ ما توافق الجعالة الإِجارة فيه ، وما تخالفها ، وتخالفها أيضاً في أن الإِجارة عقد لازم ، والجعالة عقد جائز ، وتوافقها في أن ما جاز أخذ العوض عليه في الإِجارة جاز في الجعالة ، وما لا فلا .
وظاهر كلام الخرقي أن الجعل في مقابلة الوجدان ، وهو ظاهر كلام أبي البركات وغيره ، فعلى هذا هي بعد الوجدان كغيرها من اللقطات ، لصاحبها أخذها ، ولا يجب على الملتقط مؤونة ردها ، وقال في المغني : إذا قال : من وجد لقطتي فله دينار . فقرينة الحال تدل عى اشتراط الرد ، إذ هو المقصود ، لا الوجدان المجرد ، وءنما ذكر الوجدان لأنه سبب الرد ، فكأنه قال : من وجد لقطتي فردها عليّ . قلت : ولعله يريد بالرد تسليم العين ، أو التمكين منها ، وكذلك يريد الخرقي بالوجدان الوجدان المقصود ، لا مجرد الوجدان ، حتى لو ضاعت بعد أو تلفت استحق الجعل ، لأن هذا غير مقصود قطعاً ، وإذاً يرتفع الخلاف .
ومفهوم كلام الخرقي رحمه الله كما تقدم أنه لو وجد اللقطة قبل بلوغ الجعل أنه لا شيء له ، وكذلك في كل عمل عمله لغيره بغير جعل ، لئلا يلزم الإِنسان ما لم يتلزمه ، ولم تطب نفسه به ، إلا في صورة واحدة وهي رد الآبق ، فإن فيه مقدراً على المشهور المعروف ، والمختار للأصحاب .
2209 لأنه يروى عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود رضي الله عنهم ولم نعرف لهم في زمنهم مخالفاً .
2210 وعن النبي أنه جعل في رد الآبق إذا جاء به خارجاً من الحرم ديناراً ، ولأن المصلحة تقتضي ذلك ، لئلا يلحقوا بدار الحرب ويرجعوا عن دينهم ، وبذلك فارقوا غيهرم ، وتوقف في رواية ابن منصور فقال : لا أدري ، قد تكلم الناس فيه ، لم يكن عنده فيه حديث صحيح ، فأخذ من ذلك أبو محمد رواية بأنه لا شيء فيه ، وقال : وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله : وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى ربه ما أنفق عليه ، ولم يذكر جعلا ، وأقرب إلى الصحة ، قياساً على غيرهم ، لأن الأصل عدم الوجوب ، والحديث مرسل ، وفيه مقال ، ولهذا قال ابن منصور عن الإِمام : لم يكن عنده فيه حديث صحيح . وفي أخذ رواية من هذا نظر ، لأن الواقف لا ينسب له قول ، وكونه ظاهر قول الخرقي ينازع فيه أيضاً ، لأن الخرقي ذكر هذا في النفقات ، وهو بصدد بيانها ، لا بيان الجعل ، وعلى كل حال فالمذهب الأول .
وعليه اختلف في قدر الجعل ، واتفق الأصحاب فيما علمته أنه إن رده من خارج المصر ففيه روايتان ( إحداهما ) واختارها الخلال أن الواجب له أربعون درهماً .
2211 اعتماداً على أن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه . ( والثانية ) أنه دينار أو اثنا عشر درهماً .
2212 نظراً إلى أنه يروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما واختلف نقل الأصحاب فيما إذا رده من المصر ، ففي الهداية ، والمقنع ، والمحرر ، أن الواجب له دينار ، أو اثنا عشر درهماً ، وفي الخصال لابن البنا ، وكتاب الروايتين ، أنه عشر درهماً ، وفي الخصال لابن البنا ، وكتاب الروايتين ، أنه عشرة دراهم ، وبالغ القاضي في ذلك فقال : إن الرواية لا تختلف في ذلك ، وفي المغني أنه دينار أو عشرة دراهم ، وفي الكافي أنه دينار ، أو اثنا عشر درهماً في رواية ، وفي أخرى دينار ، وفي خلاف الشريف ، وأبي الخطاب ، والجامع الصغير ، أنه دبنار أو اثنا عشر درهماً في رواية ، وفي أخرى عشرة دراهم وجمع الطرق أنه دينار أو اثنا عشر درهماً في رواية ، وفي أخرى دينار أو عشرة دراهم ، وفي ثالثة دينار ، وفي رابعة عشرة دراهم ، وقد نقل ابن هانيء عن أحمد فيمن عمر قناة قوم أنه يرجع عليهم ، ذكر ذلك القاضي في الغصب ، من كناب التعليق ، وذكره من رواية محمد بن أبي حرب الجرجاني ، وعلله بأن الآثار بمنزلة الأعيان ، فكما أن يرجع بالأعيان ، كذلك يرجع بالآثار ، قلت : وهذا التعليل إنما يقتضي الرجوع فيما عمله ، بأن يزيله ، كما يرجع في الأعيان ، لا أنه يرجع ببدل ذلك على مالك العين ، والله أعلم .
قال : وإن كان الذي وجد اللقطة سفيهاً أو طفلًا قام وليه بتعريفها ، فإن تمت السنة ضمها إلى مال واجدها .
ش : إذا وجد اللقطة سفيه أو طفل قام وليه بالتعريف ، لأن واجدها ليس أهلًا للتعريف ، والولي قائم مقامه ، ونائب منابه ، فإذا تم التعريف ضمها الولي إلى مال واجدها ، وصارت كسائر ماله ، لأنها من أكسابه ، أشبه اصطياده ، ونحو ذلك ، وقد تضمن كلام الخرقي صحة التقاط الصبي والسفيه ، وهو صحيح . لعموم قوله : ( من وجد لقطة ) ونحو ذلك ، وكما يصح احتطابه وغيره ، والله أعلم .
قال : وإذا وجد الشاة بمصر أو بمهلكة فهي لقطة .
ش : يعني فله أخذها ، وهذا ( إحدى الروايتين ) وأشهرهما ، لما تقدم من قوله عليه السلام في حديث زيد بن خالد ( فإنما هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب ) ( والرواية الثانية ) لا يلتقطها إلا الإِمام ، لقوله : ( لا يأوي الضالة إلا ضال ) وعلى الأولى وهي المذهب هل يملكها بالتعريف ؟ فيه روايتان قد تقدمتا ، وحكم كل ما لا يمتنع من صغار السباع الثعلب ، وابن آوى ، والذئب ، ونحو ذلك كفصلان الإِبل ، وعجول البقر ، وأفلاء الخيل ، والأوز ، والدجاج ، ونحوها حكم الشاة فيما ذكرنا . وقد دل مفهوم كلام الخرقي عى ذلك فيما بعد .
وظاهر كلام الخرقي أنها تعرف كغيرها من اللقطان ، وهو مقتضى كلام صاحب التلخيص وأبي البركات ، وغيرهما ، وزعم أبو محمد أن الأصحاب لم يذكروا لها تعريفاً ، ثم قال أبو محمد : إن واجدها يخير بين ثلاثة أشياء ، ( أكلها ) وعليه قيمتها ، ( وبيعها ) وحفظ ثمنها ، ( وحفظها ) والإِنفاق عليها من ماله ، وهل يرجع به إن لم ينو التبرع ؟ فيه روايتان ، وظاهر كلام صاحب التلخيص يخالفه في الأخير ، لأنه قال : لا يبيع بعض الحيوان للنفقة عليه ، لأنه يفضي إلى بيع كله .
ونبه الخرقي بقوله : بمصر أو بمهلكة . على قول مالك ومن وافقه ، من أن إن وجدها بمصر أخذها وذبحها ، وبمهلكة يحفظها إلى أن يجيء ربها .
( واعلم ) أنها إنما تكون لقطة بالمهلكة إذا لم يعلم أن صاحبها تركها ، أما لو تركها صاحبها يالمهلكة ترك الإِياس منها ، فليست بلقطة ، وهي لمن أحياها ، نص عليه ، والله أعلم .
قال : ولا يتعرض لبعير ، ولا لما فيه قوة يمنع عن نفسه .
ش : لا يتعرض لبعير ، لنص حديث زيد ، ولا لما فيه قوة يمنع نفسه عن صغار السباع ، كالخيل ، والبغال ، والبقر ، لما علل به من قوله : ( دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء ، وتأكل الشجر ، حتى يجدها ربها ) وقال في الشاة ( خذها ، فإنما هي لك ، أو لأخيك أو للذئب ) فعلل جواز أخذ الشاة بكونها معرضة للذئب ، ومنع من أخذ البعير لكونه معه حذاؤه فيرعى ، ( وسقاؤه ) وهو ما يوعي في بطنه من الماء الماء ، وهو لكبر جثته لا يقدر عليه الذئب ونحوه ، فيؤمن من تلفه غالباً .
2213 وقد روى منذر بن جرير رضي الله عنهما ، قال : كنت مع أبي جرير ، بالبوازيج في السواد ، فراحت البقر ، فرأى بقرة أنكرها فقال : ما هذ البقرة ؟ قالوا : بقرة لحقت بالبقر . فأمر بها فطردت حتى توارت ، ثم قال : سمعت رسول الله يقول : ( لا يؤوي الضالة إلا ضال ) رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وألحق الأصحاب بذلك الحمر ، نظراً إلى صورتها ، وألحقها أبو محمد بالشاة ، نظراً إلى مشاركتها في علتها ، وهو تعرضها للذئب ، ومفارقتها للإِبل في عدم صبرها على الماء ، وحكم ما يمتنع من صغار السباع بطيرانه كالطيور كلها ، أو بسرعته ، كالظباء ونحوها ، أو بنابه ، كالفهد والكلب على وجه حكم الإِبل ونحوها ، نعم إن كانت الصيود متوحشة ، إذا تركت ذهبت إلى الصحراء ، وعجز عنها صاحبها جاز التقاطها ، قاله أبو محمد ، ويلحق بالإِبل من غير الحيوان ما يتحفظ بنفسه كأحجار الطواحين وكبير الخشب ، ونحو ذلك بطريق الأولى ، لأن الإِبل متعرضة للتلف في الجملة ، بخلاف هذه .
وقوله : ولا يتعرض لبعير . هذا في غير الإِمام أو نائبه ، أما الإِمام أو نائبه فله أخذها ليحفظها لمالكها ، لا ليتملكها .
2214 لما روى مالك في موطئه عن ابن شهاب قال : 16 ( كانت ضوال الإِبل في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إبلًا مؤبلة تتناتج ، ولا يمسها أحد ، حتى إذا كان عثمان أمر بمعرفتها ، ثم تباع ، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها ) . والله أعلم .
كتاب اللقيط

ش : اللقيط فعيل بمعنى مفعول ، كجريح ، وطريح وقتيل ، ونحو ذلك ، وهو الذي يوجد مرمياً على الطرق ، لا يعرف أبوه ، ولا أمه ، بشرط أن لا يبلغ سن التميز ، أو بلغها ولم يبلغ على المذهب ، وهو من فروص الكفايات ، لقول الله تعالى : 19 ( { وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإِثم والعدوان } ) ولأن فيه إحياء نسمة ، أشبه إنجاءه من الغرق ، والله أعلم .
قال : واللقيط حر .
ش : نظراً إلى الأصل ، لأن الله خلق آدم وذريته أحراراً ، والرق عارض .
2215 وعن سنين أبي جميلة أنه وجد منبوذاً في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : فجئت به إلى عمر فقال : ما حملك على أخذ هذه النسمة ؟ فقال : وجدتها ضائعة فأخذتها . فقال عريفه : يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح .
فقال : كذلك ؟ قال : نعم . قال عمر : اذهب فهو حر ، ولك ولاؤه ، وعلينا نفقته . رواه مالك . والله أعلم .
قال : وينفق عليه من بيت المال ، إن لم يوجد معه شيء ينفق عليه منه .
ش : ينفق على اللقيط من بيت المال ، إن لم يوجد معه ما ينفق عليه ، لما تقدم عن عمر رضي الله عنه ، ولأن بيت المال وارثه ، فكان نفقته عليه كقرابته ، فإن تعذر ذلك ، فعلى من علم حاله من المسلمين الإِنفاق عليه ، حذاراً من هلاكه ، كإنجائه من الغرق ، أما إن وجد معه شيء فإنه ينفق عليه منه ، لأنه محكوم له به ، لأنه يملك ، وله يد صحيحة ، بدليل أنه يرث ، ويورث ، ويملك أن يشتري له وليه ، ونحو ذلك ، أشبه البالغد وإذاً ينفق عليه من ماله كغيره ، ويتولى الإنفاق عليه من يحضنه على المشهور ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختاره ابن حامد ، وابن الزاغوني ، وابن البنا ، وصاحب النهاية ، وغيرهم ، لأن له ولاية عليه ، أشبه وصي اليتيم ، ولأن هذا من الأمر بالمعروف ، فلا يفتقر إلى حاكم ، كإراقة الخمر ، وقيل عنه ما يدل على وجوب استئذانه ، ونازع أبو محمد في دلالة ذلك ، وعليها إن أنفق بدون إذنه ضمن .
وقد أشعر كلام الخرقي بأن ما وجد مع اللقيط يكون له ، وهو صحيح ، كالذي يوجد في يده من نقد وغيره ، أو عليه من ثياب ونحوها ، أو تحته من فراش ونحوه ، أو مشدوداً بثيابه ، قال أبو محمد : أو ما جعل فيه كخيمة أو دار ، وظاهر كلام أبي البركات مخالفته ، أو ما طرح قريباً منه ، في وجه قطع به أبو البركات ، وأبو محمد في الكافي ، وصححه في المغني ، عملًا بالظاهر ، وفي آخر وأورده أبو الخطاب مذهباً لا يكون له كالبعيد ، أو دفن تحته ، على احتمال في الهداية ، كالطرح بقربه ، وعلى ما أورده فيها مذهباً ، وقطع به ابن البنا لا يكون له ، كالبالغ فإنه لو كان تحته دفين لم يكن له ، وتوسط أبو البركات ، متابعة لابن عقيل ، فجعله له بشرط طراوة الدفن ، اعتماداً على القرينة ، والله أعلم .
قال : وولاؤه لسائر المسلمين .
ش : يعني ميراثه ، شبهه بالرقيق لعدم معرفة نسبه ، وأراد ( بسائر ) جميع ، جرياً على قاعدته ، وإنما كان كذلك لأنهم يرثون مال مات ولا وارث له ، واللقيط كذلك ، وقد دل كلام الخرقي على أن ولاءه لا يكون لملتقطه ، وهو صحيح .
2216 لقوله : ( إنما الولاء لمن أعتق ) وحديث عمر قيل : أراد بالولاء الولاية عليه ، جمعاً بين الأدلة .
2217 وحديث ( تحوز المرأة ثلاثة مواريث ، عتيقها ، ولقيطها ، وولدها الذي لا عنت عليه ) رواه أبو داود ، والترمذي وحسنه . قال ابن المنذر : لا يثبت . والله أعلم .
قال : وإن لم يكن من وجد اللقيط أميناً منع من السفر به .
ش : إذا لم يكن الذي وجد اللقيط أميناً كأن كان فاسقاً منع من السفر به ، حذاراً من ادعاء رقة أو بيعه ، ونحو ذلك ، وكذلك إن كان مستور الحال ، في وجه اختاره في الكافي ، احتياطاً ونظراً لجانب اللقيط ، لأنا لا نأمن خيانته ، وفي آخر يجوز أن يسافر به كما يقر في يده ، إذ الظاهر من حال المسلم الأمانة ، وقد اقتضى كلام الخرقي أنه يقر في يد الفاسق في الحضر ، وهو أحد الوجهين ، لأنه قد سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم ، فيكون أحق به ، ولأنه أهل للحفظ في الجملة ، بدليل صحة إيصائه ، ( والثاني ) واختاره القاضي ، وأبو البركات وغيرهما لا يقر في يده ، لأنه نوع ولاية ، وليس من أهلها ، وعلى الأول قال أبو محمد : يضم إليه أمين يشارفه ، وشهد عليه ، ويشيع أمره ، ليؤمن التفريط فيه ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط شيء من ذلك ، وكذلك أجراه صاحب التلخيص وغيره على ظاهره .
ومفهوم كلامه أنه إذا كان من التقطه أميناً أقر في يده ، وسافر به ، أما الإِقرار في يده ، فلا نزاع فيه ، لحديث عمر ، لكن يشترط كونه حراً ، مكلفاً ، مسلماً ، رشيداً ، فلا يقر في يد عبد ، وإن كان مكاتباً ، لعدم تفرغه للحضانة ، ولا في يد صبي ، ولا مجنون ، لأنهم مولى عليهم ، لا أن لهم ولاية ، ولا في يد كافر وإن أقر في يد الفاسق ، لأن خطر الدين عظيم . نعم حيث حكم بكفر اللقيط أقر في يده ، لزوال المانع ، ولا في يد مبذر ، وإن لم يكن فاسقاً ، قاله في التلخيص ، لأنه ليس بأهل للأمانات الشرعية ، وأما السفر به فيجوز للأمن عليه ، لكن إن أراد السفر للنقلى ، فإن كان من بدو إلى حضر جاز ، لأنه أرفه له ، وأومن عليه ، وإن كان من حضر إلى بدو منع ، حذاراً من المشقة ، والخوف عليه ، وإن كان من حضر إلى حضر فوجهان ، الجواز للإِستواء ، والمنع لأن ظهور نسبه في محل التقاطه أغلب ، ولم يعارض ذلك ما يرجح عليه من رفاهيته ، والأمن عليه ، والله أعلم .
قال : وإذا ادعى اللقيط مسلم وكافر ، أري القافة ، فبأيهما ألحقوه لحق .
ش : إذا ادعى اللقيط مسلم وكافر ، أو حر وعبد ، أي ادعوا نسبه ، فهما سواء في الدعوى ، كما تضمنه كلام الخرقي ، ونص عليه أحمد ، وعليه الجمهور ، لأن كل واحد منهما لو انفرد صحت دعواه ، فإذا تنازعوا تساووا بالدعوى ، كالأحرار المسلمين ، وحكى ابن أبي موسى وجهاً أن الكافر والحال هذه لا يلتفت إلى دعواه إلا ببينة ، ثم إن كان لأحدما بينة حكم له ، وإن تساووا في البينة أو عدمها أري القافة معهما ، فأيهما ألحقته به لحق .
2218 لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه ، فقال : ( ألم تري أن مجززاً نظراً آنفاً إلى زيد بن حارثة ، وأسامة بن زيد ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض ) رواه الجماعة ، وفي رواية لمسلم وغيره ( قد غطيا رؤوسهما ، وبدت أقدامهما ) وفي لفظ : قالت دخل قائف والنبي شاهد ، وأسامة بن زيد ، وزيد بن حارثة مضطجعان ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض . فسر بذلك النبي ، وأعجبه ، وأخبر به عائشة ، متفق عليه .
2219 قال أبو داود : وكا أسامة أسود ، وكان زيد أبيض . فسروه بذلك ، وإخباره به ، دليل الاعتماد عليه ، ولأنه يحصل غلبة الظن ، أشبه البينة ، ويؤيد ذلك أن عمر رضي الله عنه حكم بذلك في خلافته كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولم ينكره منكر .
وقد نبه الخرقي بذكر هذه المسألة على تساوي المسلم والكافر في الدعوى ، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله ، في تقديمه المسلم ، وعلى أن القافة تعتبر ، خلافاً للشافعي ، واقتصاره على الاثنين يحتمل لأنه يجوز أن يلحق بهما ، ولا يلحق بأكثر منهما ، وهو قول ابن حامد ، قصراً على مورد النص .
2220 وهو ما روي عن عمر رضي الله عنه ، في امرأة وطئها رجلان في طهر ، فقال القائف : قد اشتركا فيه جميعاً فجعله بينهما .
2221 وعن علي : هو ابنهما ، وهما أبواه ، يرثهما ويرثانه . رواهما سعيد ، وقال أحمد : حديث قتادة ، عن سعيد ، عن عمر : جعله بينهما وقابوس ، عن أبيه ، عن علي : جعله بينهما . ونص أحمد في رواية مهنا أنه يلحق بثلاثة ، فاقتصر القاضي على ذلك ، ومال الشيخان إلى إلحاقه بما زاد على الثلاثة ، لأنه إذا جاز أن يخلق من اثنين ، كما شهب به قضاء الصحابة ، جاز أن يخلق من ثلاثة وأكثر .
( تنبيه ) : يعتبر للقائف الذكورية ، والعدالة لأنه إما بمنزلة الشاهد ، أو الحاكم والمعنيان معتبران فيهما ، وأن يكون مجرباً في الإِصابة ، ليحصل الظن بقوله ، وهل يكفي قائف واحد ، ومجرد خبره ، تنزيلًا له منزلة الحاكم ، أو لا بد من اثنين ، ولفظ الشهادة ، تنزيلًا لهما منزلة الشاهدين ؟ فيه روايتان ، وفي اعتبار الحرية وجهان ، بناء على الأصلين ، والله أعلم .
كتاب الوصايا

ش : الوصايا جمع وصية ، كالعطايا جمع عطية ، قال الأزهري : سميت الوصية وصية لأن الميت لما أوصى وصل ما كان فيه من أيام حياته ، بما بعده من أيام مماته ، والأصل فيها قول الله تعالى : 19 ( { كتب عليكم إذا حضر أحكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين ، والأقربين بالمعروف ، حقاً على المتقين } ) .
2222 وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : ( ما حق امريء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه ، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه ) رواه الجماعة .
2223 وعن أبي الدرداء رضي الله عنه ، عن النبي قال : ( إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم ، عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ، ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم ) رواه الدارقطني .
قال : ولا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك الورثة .
2224 ش : عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : سمعت النبي يقول : ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث ) رواه الخمسة إلا النسائي ، وحسنه الترمذي .
2225 وعن عمرو بن خارجة رضي الله عنه مثله ، رواه الخمسة إلا أبا داود ، وصححه الترمذي .
2226 وعنابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( لا يجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ) .
2227 وعن عمرو لن سعبل ، عن إلبه ، عن جده ، رضي الله عنهم أن النبي قال : ( لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة ) رواهما الدارقطني .
وقول الخرقي : ولا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة . ظاهره أن الوصية صحيحة ، موقوفة على إجازة الورثة ، فتكون إجازتهم تنفيذاً ، وهذا هو المشهور المنصور في المذهب ، حتى أن القاضي في التعليق ، وأبا الخطاب في خلافه الصغير ، وأبا البركات ، وجماعة لم يذكروا في المسألة خلافاً ، اعتماداً على حديثي ابن عباس وعبد الله بن عمرو ، فإن مقتضاهما أن الوصية للوارث صحيحة ، إذا أجازت الورثة ، ( وعنه ) ما يدل على أن الوصية باطلة ، أخذا من إطلاقه في رواية حنبل : لا وصية لوارث . وفيه نظر ، فإذاً إجازة الورثة ابتداء عطية ، اعتماداً على أن الصحيح في الرواية كما تقدم ( لا وصية لوارث ) وظاهره نفي الوصية مطلقاً ، وللخلاف فوائد ، ( منها ) إذا قلنا : إنها تنفيذ . لزمت بدون القبول والقبض ، وإن اعتبرنا القبض في الهبة ، وتصح مع جهالة المجاز ، ومع كون المجاز وقفا على المجيز ، وإن قلنا : وقف الإِنسان على نفسه لا يصح . ولو كان المجاز عتقاً ، كما لو تأخر العتق عن وصايا استغرقت الثلث ، وقلنا : يبدأ بالأول فالأول على المذهب . فإن ولاءه للموصي ، لأنه المعتق ، فتختص به عصبته ، ولو كان المجيز والد المجاز له ، كما لو وهب ثلث ماله ، ثم وصى لأخيه بماله ، فأجاز ذلك الأب ، لم يكن له الرجوع في المجاز به ، لأنه ليس بهبة منه ، وهو إنما يرجع فيما وهبه لولده ، ولو جاوز المجاز الثلث زاحم ما لم يجاوزه ، كما لو كان ثلثه مثلًا خمسين ، فأوصلى لرجل بمائة درهم ، ولآخر بخمسين ، ولآخر بخمسين ، وأجاز الورثة الجميع ، فإن المال وهو المائة وخمسون يقسم بينهم أرباعاً ، لأن الوصية صحت في الجميع .
وعلى الرواية الأخرى تنعكس هذه الأحكام ، فلا بد من القبول والقبض في المجاز ، حيث اعتبرنا القبض في الهبة ، لافتقارها إليهما ، ويشترط كون المجاز معلوماً ، إذ العلم شرط في صحة الهبة ، ولو كان المجاز وقفاً على المجيز ، كما لو وقف دره على ورثته ، وهما ابناه ، فأجازا ذلك ، لم يصح إن لم يصح وقف الإِنسان على نفسه ، لأن الوقف حصل منهما ، ولو كان المجاز عتقاً كان ولاؤه للمجيز ، لأنه العتق حقيقة لا للموصي ، ولو كان المجيز والد المجاز له ، جاز له الرجوع فيما أجازه له ، لأنه هبة منه ، ولو جاوز المجاز الثلث لم يزاحم ما لم يجاوزه ، ففي الصورة التي ذكرناها ثم ، يقسم المال بين المجاز لهم أثلاثاً ، لأن لصاحب المائة منها خمسون ، والخمسون الزائدة على الثلث هبة مبتدأة من المجيزين ، ولم يحصل لهم شيء يهبونه ، وقد يقال : إن عدم المزاحمة إنما هو في الثلثين ، لأن الهبة تختص بهما ، والمجيز يشرك بينهما فيهما ، أما الثلث فيقسم بينهم على قدر أنصابهم .
وعلى الروايتين يعتبر إجازة المجيز في مرضه من ثلثه ، أما على الرواية الثانية فواضح ، وأما على الأولى فلأنه تمكن من أخذ المال ، وقد وجد سببه في حقه ، فتسببه في إسقاطه بمنزلة تلفه ، أشبه ما لو حاباه في بيع له فيه خيار ، ثم أجازه في مرضه ، فإن محاباته تعبر من الثلث .
واعلم أنه يستثنى من كلام الخرقي الوصية بالوقف على الوارث ، فإنه يلزم في الثلث فما دون ، على رواية وقد تقدمت ، والله أعلم .
قال : ومن أوصى لغير وارث بأكثر من الثلث ، فأجاز ذلك الورثة بعد موت الموصي جاز ، وإن لم يجيزوا رد إلى الثلث .
ش : لا تجوز الوصية لوارث مطلقاً ، ، ولا لأجنبي بزائد على الثلث .
2228 لما روي عن سعد بن أبي وقاص قال : جاءني رسول الله يعودني من وجع اشتد به ، فقلت : يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : ( لا ) قلت : فالشطر يا رسول الله ؟ قال : ( لا ) قلت : فالثلث ؟ قال : ( الثلث والثلث كثير ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء ، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) رواه الجماعة ، فإن خالف ووصى للأجنبي بأكثر من الثلث ، وأجاز ذلك الورثة نفذ ، لأن الحق لهم لا يعدوهم ، وهل إجازتهم تنفيذ بناء على أن الوصية صحيحة ، أو ابتداء عطية بناء على أنها باطلة ؟ على ما تقدم من الخلاف في التي قبلها ، وإن لم يجيزوا صح الثلث فقط ، لما تقدم من حديث سعد ، وحديث أبي الدرداء : ( إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم ) الحديث ، وشرط نفوذ إجازتهم وردهم أن يكون بعد موت الموصي ، لأن الحق إنما يثبت لهم إذاً ، أما قبل ذلك فلا عبرة بذلك ، لأنه تصرف في الحق قبل ثبوته .
قال : ومن أوصي له وهو في الظاهر وارث ، فلم يمت الزموصي حتى صار الموصى له غير وارث فالوصية له ثابتة ، لأن اعتبار الوصية بالموت .
قال : ومن أوصى له وهو في الظاهر وارث ، فلم يمت الموصي حتى صار الموصى له غير وارث فالوصية له ثابتة ، لأن اعتبار الوصية بالموت .
ش : إذا أوصى لشخص في الظاهر أنه وارث كما إذا أوصى لأحد أخويه من أبويه ثم تجدد له ولد فإن الوصية والحال هذه صحيحة ثابتة ، لأن الأخ عند الموت غير وارث ، والاعتبار في الوصية بالموت ، لأنه الحال الذي يحصل به الانتقال إلى الوارث ، والموصى له ، وقد فهم من تعليل الخرقي عكس هذه الصورة وهو ما إذا أوصى لغير وارث ، فصار عند الموت وارثاً ، كما إذا أوصى لأحد أخويه وله ابن ، ثم مات الابن قبل أبيه ، فإنا تبينا أن الوصية لوارث ، فلا تكون ثابتة ، بل تقف على الإِجازة لما تقدم .
قال : وإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلت الوصية .
ش : لأن الوصية عطية بعد الموت ، وقد صادفت المعطى ميتاً فلم تصح ، كما لو وهب لميت ، وقد فهم من هذا أن الوصية لا تصح لميت ، [ وهو صحيح ] لأنه ليس بأهل للملك ، أشبه البهيمة .
قال : وإن رد الموصى له الوصية بعد موت الموصي بطلت الوصية .
ش : لأنه أسقط ماله أخذه فيسقط ، كما لو عفى عن شفعته بعد البيع ، ومراد الخرقي والله أعلم إذا كان الرد قبل القبول ، أما لو كان بعد القبول والقبض فإن الرد لا يصح ، والوصية بحالها ، لاستقرار ملكه عليها ، وكذلك لو كان عبد القبول وقبل القبض ، على ظاهر كلام جماعة من الأصحاب وأورده أبو البركات مذهباً ، وقال أبو محمد في المغني : إن كان الموصى به مكيلًا ، أو موزوناً صح الرد وبطلت الوصية ، لعدم استقرار الملك ، وإن كان غيرهما ففي صحة الرد وعدمه قولان ، بناء على اعتبار القبض في ذلك وعدمه ، وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو وجد الرد قبل الموت لم يصح ولم يعتبر ، وهو صحيح ، إذ الحق إنما يثبت له بالموت ، والله أعلم .
قال : وإن مات قبل أن يقبل [ أو يرد ] قام وارثه في ذلك مقامه ، إذا كان موته بعد موت الموصي .
ش : إذا مات الموصى له قبل أن يقبل أو يرد قام وارثه في الرد والقبول مقامه ، في إحدى الروايتين ، نقله عنه صالح ، واختاره الخرقي ، لعموم قوله : ( من ترك حقاً فلورثته ) والقبول حق للمورث ، فثبت للوارث ، كبقية الحقوق ، ( والرواية الثانية ) لا يقوم الوارث مقامه ، ويبطل حقه من القبول عليها ، نقلها عبد الله ، وابن منصور ، واختارها ابن حامد ، والقاضي ، والشريف ، وأبو الخطاب ، والشيرازي ، وغيرهم ، لأنه عقد يفتقر إلى القبول ، فإذا مات من له القبول قبله بطل العقد كالهبة ، ولأنه خيار لا يعتاض عنه ، أشبه خيار الشفعة ، وخياري الشرط والمجلس على المذهب ، ولهذا قال القاضي : إن هذا قيس المذهب . وحكى الشريف ، وأبو الخطاب وجهاً أنها تنتقل والحال هذه إلى الوارث بلا قبول ، نظراً والله أعلم بأن القبول لما تعذر ممن له الإِيجاب سقط اعتباره ، لمكان العذر ، كما لو كانت الوصية للمساكين .
وقول الخرقي : إذا كان موته بعد موت الموصي . احترازاً مما إذا كان موته قبل موت الموصي وقد تقدم ، وقد أشعر كلامه بأن الوصية والحال هذه لا تملك إلا بالقبول ، ولا خلاف نعلمه عندنا في ذلك ، إذا كانت لآدمي معين ، [ إلا الوجه المحكي قبل ، وذلك لأنها هبة بعد الموت ، فافتقرت إلى القبول كالهبة في الحياة ، قال أحمد رحمه الله : الهبة والوصية واحد . ولو كانت الوصية لآدمي غير معين ] كالمساكين ، أو لغير آدمي كالمساجد ، فلا قبول إناطة بالعذر .
وربما أشعر كلامه أيضاً بأن القبول لا تشترط الفورية فيه ، بل يصح وإن تراخى ، وهو صحيح ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى له بسهم من ماله أعطي السدس ، وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى : يعطى سهماً مما تصح منه الفريضة .
ش : الرواية الأولى اختيار القاضي ، وأصحابه الشريف ، وأبي الخطاب ، وابن عقيل ، والشيرازي وغيرهم .
2229 لأن ذلك يروى عن علي ، وابن مسعود رضي الله عنهما ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة .
2230 ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا أوصى لرجل بسهم من المال ، فأعطاه النبي السدس .
2231 وعن إياس بن معاوية : السهم في كلام العرب السدس فعلى هذا يعطى سدساً كاملًا ، إن لم تكمل فروض المسألة ، وإن كملت أعيلت به ، وإن عالت أعيل معها ، قال أحمد في رواية حرب ، وابن منصور : له السدس إلا أن تعول الفريضة ، فيعطى سهماً من العول .
والرواية الثانية ظاهر كلام الإِمام في رواية الأثرم ، وأبي طالب ، لأن ( سهماً ) ينصرف إلى سهام فريضته ، أشبه ما لو قال : فريضتي كذا وكذا سهماً ، لك منها سهم . وعلى هذا يعطى سهماً مما تصح منه الفريضة ، مضافاً إليها ، وعن أحمد ( رواية ثالثة ) اختارها الخلال وصاحبه : له مثل ما لأقل الورثة ، والأقل منها هو اليقين ، ثم إن أبا البركات وجماعة من أصحابه على إطلاق هاتين الروايتين ، نظراً لإطلاق الإِمام ، وقيدهما أبو محمد متابعة للقاضي بأن لا يزيد السهم أو النصيب على السدس ، فإن زاد عليه رداً إليه .
ولنذكر أمثلة تتضح بها المسألة ، فلو مات رجل وخلف أماً وبنتين ، وأوصى بسهم من ماله ، فعلى الرواية الأولى تكمل به المسألة ، إذ مسألتهم أصلها من ستة ، ترجع بالرد إلى خمسة ، فيزاد إليها السهم الموصى به وهو السدس ، فتصير من ستة ، وكذلك على الثانية والثالثة ، ولو كانت المسألة أماً وأختاً ، فهي من خمسة ، للأم الثلث سهمان ، وللأخت النصف ثلاثة ، فيضاف إليها السدس على الأولى ، فتكمل المسألة ، وكذا على الثانية ، وعلى الثالثة يضاف إليها مثل نصيب الأم ، لأنه أقل نصيب وارث له إذاً فتصير من سبعة ، وعلى رأي القاضي يكون له السدس ، لأن النصيب زاد عليه ، ولو كانت المسألة ابنتان وأبوان ، فهي من ستة ، وتعول بالسهم الموصى به إلى سبعة ، على الروايات الثلاث [ ولو كانت المسألة أختان لأبوين ، وأختان لأم ، وأم ، فأصلها من ستة ، وتعول إلى سبعة ، وتعول بالسهم الموصى به إلى ثمانية ، على الروايات الثلاث ] أيضاً ، ولو كان المسألة ثلاث أخوات لأبوين ، وأخوان وأختان لأم ، وأم ، فهي من ستة ، تعول إلى سبعة أيضاً ، فعلى الرواية الأولى تعول بالسهم الموصى به وهو السدس إلى ثمانية ، وتصح من ثمانية وأربعين ، للأخوات للأبوين أربعة وعشرون ، وللأخوة والأخوات للأم اثنا عشر ، وللأم ستة ، وللموصى له ستة ، وعلى الثانية تصح المسألة من اثنين وأربعين ، يزاد إليها السهم ، فتصير من ثلاثة وأربعين ، وعلى الثالثة تصح أيضاً من اثنين وأربعين ، يزاد إليها أقل أنصباء الورثة ، وهو سهمان ، فتصير من أربعة وأربعين ، ولو كانت المسألة زوجاً وابناً ، فعلى الرواية الأولى تصح من اثني عشر ، للزوج ثلاثة ، وللموصى له بالسهم اثنان ، والباقي للابن ، وكذلك على رأي القاضي على الروايتين الأخيرتين ، وعلى رأي المطلقين تصح من خمسة ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى له بمل نصيب أحد ورثته ولم يسمه ، كان له مثل ما لأقلهم نصيباً .
ش : لأن الأقل هو المتيقن ، وما زاد مشكوك فيه .
قال : كأن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ، وهم ابن ، وأربع زوجات ، فتكون صحيحة من اثنين وثلاثين سهماً ، للزوجات الثمن ، وهو أربعة ، وما بقي فللابن ، فزد في سهمان الفريضة مثل حظ امرأة من نسائه ، فتصير الفريضة من ثلاثة وثلاثين سهماً ، للموصى له سهم ، ولكل امرأة سهم ، وما بقي فللابن .
ش : هذا مثال للمسألة ، وهو واف بالمقصود ، وإنما صحت المسألة من اثنين وثلاثين ، لأن أصلهما من ثمانية ، للزوجات الثمن ، وهو واحد ، غير صحيح عليهن ، فتضرب أربعة في ثمانية ، فتصير من اثنين وثلاثين ، ثم تعمل كما ذكره الخرقي ، رحمه الله ، ولو كانت المسألة زوجاً وأبوين وابناً ، صحت من اثني عشر ، للزوج الربع ، ولكل واحد من الأبوين السدس اثنان ، والباقي للابن ، فتزيد عليها مثل نصيب أقل الورثة ، وهو أحد الأبوين ، فتصير من أربعة عشر ، هذا إن اختلفت أنصباء الورثة ، فإن اتفقت كان له مثل نصيب أحدهم ، فإذا خلف ثلاثة بنين ، فمسألتهم من ثلاثة ، فتزيد عليها مثل نصيب أحدهم ، فتصير من أربعة ، ولو سمى الوارث فسيأتي إن شاء الله تعالى ، ولو قال : مثل نصيب أكثر ورثتي . كان له مثل نصيب ذلك الوارث ، مضافاً إلى المسألة ، ففي مثال الخرقي يكون له ثمانية وعشرون سهماً ، لأنها أكثر نصيب وارث وهو الابن ، فتضاف إلى المسألة ، فتصير من ستين ، وفي الثانية يكون له خمسة ، فتصير المسألة من سبعة عشر ، ولو كانت الوصية بنصيب وارث معين له كابنه مثلًا ، ولم يقل : بمثل نصيبه . فهل يصح ويجعل كما لو صرح بالمثلية ؟ وبه قطع القاضي في الجامع الصغير ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، ومال إليه الشيخان ، محافظة على تصحيح كلام المكلف بحمله على حذف مضاف ، وهو المثل ، أو لا يصح ؟ وعزاه أبو محمد إلى القاضي ، وأظنه قاله في المجرد ، نظراً إلى الحقيقة ، وإذاً لا يصح لأن نصيب الوارث ليس له التصرف فيه ، والله أعلم .
قال : وإذا خلف ثلاثة بنين ، وأوصى لآخر بمثل نصيب أحدهم ، كان للموصى له الربع .
ش : لأن له مثل نصيب أحدهم مضافاً إلى المسألة ، لأنه جعل الوارث أصلًا ، وجعل للموصى له مثله ، فاقتضى أن يساويه ولا يزيد عليه ، ولو كان البنون أربعة ، كان للموصى له الخمس ، وعلى هذا ، فلو خلف ابنين وأوصى لاثنين بمثل نصيبهما كانت المسألة من أربعة ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى لزيد بنصف ماله ، ولعمرو بربع ماله ، ولم تجز الورثة ، فالثلث بينهما على ثلاثة أسهم ، لعمرو سهم ، ولزيد سهمان .
ش : قد تقدم أن لإِنسان أن يوصي بالثلث لغير الوارث ، وما زاد على ذلك يقف على إجازة الورثة ، فإذا أوصى لزيد بنصف ماله ، ولعمرو بربعه ، وخلف ابنين فأجازا ، فأصل المسألة من أربعة ، وتصح من ثمانية ، لزيد النصف أربعة ، ولعمرو الربع اثنان . ولكل ابن واحد ، وإن ردا أخذت النصف والربع ثلاثة ، من مخرجهما وهو أربعة ، وتجعل الثلاثة ثلث المال ، فتصير المسألة من تسعة ، وإنما قسم الثلث بينهما على قدر نصيبهما لأن الموصى فاضل بينهما فلم يسو بينهما ، كالوصية بثلث وربع ، وهذا لأن على قاعدتنا أن الوصية صحيحة ، فالمتبع فيها لفظ الموصي ، ويخرج على قول لنا أن الوصية بما زاد على الثلث باطلة أن الموصى له بالنصف لا يضرب بأكثر من الثلث ، لبطلان الزائد على ذلك ، وهو قول الحنفية ، وإذاً يؤخذ الثلث والربع من مخرجهما اثني عشر ، وذلك سبعة ، فيجعل ثلث المال ، فتكون المسألة من أحد وعشرين ، وعلى هذا فقس ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى لولد فلان فهو للذكر والأنثى بالسوية .
ش : قد حكي الاتفاق على ذلك ، إذ الاسم يشمل الجميع ، قال تعالى : 19 ( { يوصيكم الله في أولادكم ، للذكر مثل حظ الأنثيين } ) وقال تعالى : 19 ( { ما اتخذ من ولد } ) نفى الذكر والأنثى جميعاً ، ويدخل الخنثى أيضاً في ذلك ، لأنه ولد ، ولا يدخل ولد بناته اتفاقاً ، وهل يدخل فيه ولد بنيه ؟ فيه روايتان .
قال : وإن قال لبنيه . كان للذكور دون الإِناث .
ش : أي لبني فلان أو لبني ، لاختصاص الاسم بهم دون الإِناث ، قال سبحانه : 19 ( { أصطفى البنات على البنين } ) وقال تعالى : 19 ( { أم اتخذ مما يخلق بنات ، وأصفاكم بالبنين } ) وقال : 19 ( { زين للناس حب الشهوات من النساء ، والبنين } ) وهذا إذا لم يكونوا قبيلة ، فإن كانوا قبيلة كما إذا أوصى لولد هاشم ، أو بني تميم دخل فيه الذكر والأنثى ، والخنثى ، لأن ذلك اسم للقبيلة ذكرها وأنثاها ، قال تعالى : 19 ( { يا بني إسرائيل } ) وقال تعالى : 19 ( { ولقد كرمنا بني آدم } ) وقال : 19 ( { يا بني آدم } ) ولا يدخل فيه ولد بناتهم من غيرهم ، لأنهم لا ينسبون إليهم .
قال : والوصية بالحمل وللحمل جائزة ، إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ تكلم بالوصية .
ش : أما الوصية بالحمل فجائزة إذا كان مملوكاً وعلم وجوده ، أو حكم به حال الوصية ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، إذ غايته أنه غرر ، وذلك لا يمنع صحة الوصية كعتقه ، وذلك لأن نهيه عن الغرر مختص بالبيع ، وما في معناه ، حذاراً من أكل مال الغير بالباطل .
واشترط كونه مملوكاً لأن الوصية بملكم الغير باطلة ، واشترط العلم أو الحكم بوجوده ، وإلا لاحتمل حدوثه ، فلا تتعلق الوصية به ، نعم لو وصى بما تحمل جاريته ونحوها صحت ، لأن لفظه مستقبل .
وأما الوصية للحمل فجائزة أيضاً ، قياساً على إرثه ، بجامع انتقال المال من الإِنسان بعد موته بغير عوض ، بل أولى ، لصحتها للمخالف في الين والعبد ، بخلاف الإِرث ، وشرط صحتها أن تضعه لأقل من ستة أشهر من حيث الوصية ، ليعلم وجوده حال الوصية ، إذ التمليك لا يصح لمعدوم ، كذا قال الجمهور ، ومنهم أبو محمد في الكافي ، وفي المغني قيده بأن تضعه لستة أشهر فما دون ، وليس بجيد ، لأنها إذا وضعته لستة أشهر احتمل حدوثه حال الوصية ، فلم تصادف الوصية موجوداً يقيناً ، وقد انعكس ذلك على ابن المنجا رحمه الله تعالى فقال : لا بد من ذكر ستة أشهر ، معتمداً على ما في المغني ، ومعللًا بأنها إذا وضعته لستة أشهر علم وجوده حال الوصية ، وقد تطدم رده . انتهى ، أما إن وضعته لأكثر من ذلك لم تصح الوصية له على مقتضى كلام الخرقي ، وأورده أبو البركات مذهباً ، لأنه لا يعلم وجوده حال الوصية ، وسبب الانتقال إلى الورثة قد وجد يقيناً ، فلا يزول عنهم بالشك والاحتمال ، وقيل : إن وضعته لزوج أو سيد ولم يلحقهما نسبه إلا بتقدير وطء قبل الوصية صحت ، لأنه والحال هذه قد حكم بوجوده ظاهراً حال الوصية ، إذ حال المسلم إنما يحمل على الصلاح ، وإلا فلا لما تقدم ، وهذا الذي قطع به أبو محمد في الكافي والمغني ، لكنه لم يفصح بتنقيح الحكم .
واعلم أن من شرط الوصية بالحمل وللحمل أن تضعه حياً ، إذ الميت لا يصح تملكه ولا تمليكه ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى بجارية لبشر ، ثم أوصى بها لبكر ، فهي بينهما .
ش : لأن الأصل بقاء وصية الأول ، فالظاهر أنه يسوي بينهما لي الاستحقاق ، فإذاً تقسم العين بينهما مع وجودهما ، لاستوائهما في سبب الحق ، ويختص بها أحدهما مع موت الآخر ، لزوال المواحمة ، والله أعلم .
قال : وإن قال : ما أوصيت به لبشر فهو لبكر . كانت لبكر .
ش : لأن هذا دليل على الرجوع في وصية الأول ، والوصية بها للثاني ، فعمل على مقتضاه ، بخلاف التي قبلها ، فإنه يحتمل الرجوع والاشتراك في الاستحقاق ، والأصل عدم الرجوع .
وقد تضمن هذا صحة الرجوع في الوصية ، وهو إجماع إلا في الرجوع بالوصية بالعتق ، فإن في الرجوع فيه خلافاً ومذهبنا جوازه ، والله أعلم .
قال : ومن كتب وصيته يشهد فيها حكم بها ، ما لم يعلم رجوعه عنها .
ش : إذا كتب وصيته ولم يشهد فيها ، وعرف خطه ، فإنه ينفذ ما فيها ، ما لم يعلم رجوعه عنها ، نص عليه أحمد ، واعتمده الأصحاب ، لما تقدم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : ( ما حق امريء مسلم يبيت ليلتين ، وله شيء يريد أن يوصي فيه ، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه ) وظاهره إفادة الكتابة وإن لم يشهد بما فيها ، ولأن ذلك طريق يغلب على الظن صحة الوصية ، أشبه الشهادة بها ، وخرج ابن عقيل ، و أبو البركات رواية بعدم الصحة ، أخذاً من قوله فيمن كتب وصيته وختمها وقال : اشهدوا بما فهيا . أنه لا يصح ، وقد يفرق بأن الشهادة شرطها أن تقع على العلم ، وما في الوصية والحال هذه غير معلوم ، فلا تصح الوصية به ، أما لو وقعت الوصية على أنه وصى فليس في نص الإِمام ما يمنعه ، ثم بعد ذلك يعمل بالخط بشرطه ، ولهذا قال ابن حمدان : ومن وجدت وصيته بخطه صحت ، نص عليه ، وقيل : لا . فلو ختمها وأشهد بما فيها لم يصح ، نص عليه ، وقيل : بلى . انتهى ، أما إن عين للشاهد ما فيها فلا إشكال في صحة ذلك ، والعمل عليه ، ما لم يعلم الرجوع عنها . والله أعلم .
قال : وما أعطى في مرضه الذي مات فيه فهو من الثلث .
ش : ما أعطى في مرضه الذي مات فيه من عتق ، وهبة مقبوضة ، ومحاباة ، وصدقة ، ووقف ، وإبراء فهو من الثلث ، لما تقدم في حديث أبي الدرداء ( إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم ) الحديث ، مفهومه المنع مما زاد على الثلث .
2232 وفي مسلم وغيره عن عمران بن حصين ، 16 ( أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته ، لم يكن له مال غيرهم ، فجزأهم أثلاثاً ، ثم أقرع بينهم ، فأعتق اثنثن ، وأرق أربعة ) ) وشرط المرض أن يكون مخوفاً ، قاطعاً بصاحبه ، كذات الجنب ، والرعاف الدائم ، والقيام المتدارك ونحوها ، فإن كان غير مخوف كالرمد ، ووجع ضرس ، والصداع ، ونحوه ، فحكمه كم الصحيح ، عطيته من رأس المال ، وإن اتصل به الموت ، وكذلك إن كان مخوفاً ، لكنه لم يقطع بصاحبه ، كالجذام ، والسل في ابتدائه ، ونحوهما على الصحيح من الروايتين وقد تضمن كلام الخرقي أن عطية الصحيح من رأس ماله ، ولا نزاع في ذلك ، والله أعلم .
قال : وكذلك الحامل إذا صار لها ستة أشهر .
ش : يعني تكون عطيتها من الثلث لدخولها في شهور ولادتها ، ووجود الخوف عليها ، والمشهور من الروايتين أنها لا تصير عطيتها من الثلث إلا إذا ضربها المخاض ، لأنها إذاً يتحقق الخوف عليها ، بخلاف ما قبل ذلك ، والله أعلم .
قال : ومن جاوز العشر سنين فوصيته جائزة إذا وافق الحق .
ش : تصح وصية من لم يبلغ على المذهب المنصوص .
2233 لما روي أن صبياً من غسان ، له عشر سنين ، أوصى لأخوال له ، فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه ، فأجاز وصيته . رواه سعيد .
2234 وروى مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، أن عمرو بن سليم أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن ها هنا غلاماً يفاعاً ، لم يحتلم ، وورثته بالشام ، وهو ذو مال ، وليس له ها هنا إلا ابنة عم له ، فقال عمر : فليوص لها . فأوصى لها بمال يقال له : ( بئر جشم ) ، قال عمرو بن سليم فبعث ذلك بثلاثين ألفاً ، وابنة عمه التي أوصى لهاهي أم عمرو بن سليم ، قال أبو بكر : وكان الغلام ابن عشر ، أو اثنتي عشرة سنة ، وهذه قضية في مظنة الشهرة ، ولأنه تصرف تمحض نفعاً للصبي ، من غير ضرر يلحقه عاجلًا ولا آجلًا ، أشبه صلاته وإسلامه ، وبهذا فارق الهبة لأن الضرر قد يلحق بها في الآجل .
وفي المذهب وجه آخر : لا تصح وصيته حتى يبلغ ، لأنه تبرع المال ، أشبه هبته ، وعلى المذهب ، فلا بد أن يكون مميزاً ، إذ غير المميز في معنى المجنون ، فلا عبرلا بكلامه ، ثم من الأصحاب من لم يقيد ذلك بسن ، كالقاضي وأبي الخطاب ، وهو ظاهر كلام الإِمام أحمد في رواية الميموني ، ومنهم من قيده بعشر ، كالخرقي ، وابن أبي موسى ، وأبي بكر فيما حكاه عنه الشريف ، نظراً لمنصوص أحمد في رواية حنبل وصالح ، فإنه قيد الغلام بعشر ، والجارية بتسع ، اعتماداً على قول عمر رضي الله عنه ، قال الشريف ، ومن الأصحاب من قيده بسبع وهو رواية أخرى عن أحمد ، وحكى ابن المنذر عن الإِمام التقييد باثنتي عشرة سنة .
وقول الخرقي : إذا وافق الحق . قيد في جميع الوصايا ، وإن كانت من بالغ ، وإنما نص على ذلك هنا اتباعاً لمنصوصات الإِمام ، وذلك لأنه في مظنة مخالفة الحق ، بخلاف البالغ ، والله أعلم .
قال : ومن أوصى لأهل قرية ، لم يعط من فيها من الكفار إلا أن يذكرهم .
ش : يعني والله من المسلمين ، نظراً إلى أن حال المسلم يقتضي بر المسلم ، ومنع الكافر ، والعام كثيراً ما يطلق ويراد به الخصوص ، وقد قام دليل ذلك وهو قرينة الحال ، فعلى هذا لا يعطى من فيها من الكفار ، وظاهر كلام الخرقي وجماعة أنهم لا يعطون وإن لم يكن فيها إلا مسلم واحد ، لجواز إطلاق العام ، وإرادة الواحد ، قال الله تعالى : 19 ( { الذين قال لهم الناس } ) أريد به واحد ، ومال أبو محمد رحمه الله إلى أنهم يعطون ، نظراً إلى أن إطلاق العام وإرادة واحد قليل ، مع ما انضم إلى ذلك من مخالفة العموم .
ولا نزاع في دخول الكفار ، إذا صرح بذلك ، إذ لا اعتبار لمقتضى الحال مع التصريح بخلافه ، وكذلك لو تعذر الحمل على الخصوص ، كما إذا لم يكن في القرية مسلم أصلًاد وحكم الكافر إذا أوصى لأهل قريته كذلك ، في أنه يدخل كافرها الموافقه له في دينه ، وفي دخول كافرها المخالف له في دينه احتمالان ، ولا يدخل مسلمها لما تقدم ، وقيل : يدخل ، حذاراً من كون الإِسلام سبباً للمنع من غير نص يمنع ، والله أعلم .
قال : ومن أوصى بكل ماله ولا عصبة له ولا مولى فجائز ، وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى : لا يجوز إلا الثلث .
ش : الرواية الأولى نص عليها في رواية المروذي [ وحرب ] ، واختارها القاضي ، والشريف ، وأبو الخطاب ، والشيرازي ، وأبو محمد ، وغيرهم ، لظاهر قوله : ( إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ) علل المنع بخشية فقر الوارث ، وهذا لا وارث له يخشى فقره .
2235 واعتمد أحمد على أن ذلك يروى عن ابن مسعود .
( والثانية ) : نص عليها في رواية ابن منصور .
2236 معتمداً على أن ذلك قول زيد ، ومعللًا بأن بيت المال له عصبة ، وهو مفهوم قوله : ( إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم ) الحديث ، قال أبو الخطاب في الإِنتصار : وهي صريحة في منع الرد ، وتوريث ذوي الأرحام .
وقول الخرقي : ولا عصبة له ولا مولى . تبع فيه لفظ أحمد في رواية المروذي : فإنه قال : إذا لم يكن له عصبة أو مولى فله أن يضع ماله حيث شاء . وغيرهما يترجم المسألة : إذا أوصى من لا وارث له . لأن ذا الفرض يأخذ البعض بالفرض ، والباقي بالرد ، فهو كالعاصب ، ولهذا منع النبي سعداً أن يوصي بأكثر من الثلث ، نعم إن كان ذو الفرض لا يرد عليه ، كالزوجين جازت الوصية فيما زاد عن نصيبه على المذهب ، والله أعلم .
قال : ومن أوصى لعبده بثلث ماله ، فإن كان العبد يخرج من الثالث عتق ، وما فضل من الثلث بع عتقه فهو له ، وإن لم يخرج من الثلث عنق منه بقدر الثلث ، إلا أن يجيز الورثة .
ش : إذا أوصى لعبده بثلث ماله صح ، لأنها وصية تضمنت العتق بثلث ماله ، فصحت كما لو صرح بذلك ، ثم إن كان العبد يخرج من الثلث كما إذا كان ثلثه مائة ، وقيمة العبد مائة أو دونها عتق ، لأنه يملك من كل جزء من المال ثلثاً مشاعاً ، ومن جملة المال نفسه ، فيملك ثلثها ، وإذاً يعتق ذلك الجزء ، لتعذر ملك نفسه ، ويسري إلى بقيته ، كما لو أعتق بعض عبده بل أولى ، فإن فضل من الثلث بعد عتقه شيء فهو له ، لأنه قد صار حراً وإن لم يخرج من الثلث ، عتق منه بقدر الثلث ، والباقي موقوف على إجازة الورثة ، لما تقدم .
قيل : ومفهوم كلام الخرقي أنه لو أوصى له بمعين كمائة درهم ، أو ثوب أنه لا يصح ، وهو المشهور من الروايتين ، ثم قال أبو محمد في الكافي : على رواية الصحة يشترى العبد من الوصية فيعتق ، وما بقي فهو له ، قلت : محافظة على تصحيح كلام المكلف ما أمكن ، إذ تصحيح الوصية يسلتزم ذلم ، وإلا فكأنه وصى للورثة ببعض مالهم ، ولا فائدة في ذلك ، وبنى الشيرازي الروايتين على تمليك العبد إذا ملك ، ثم قال : وعلى رواية الصحة تدفع المائة إليه ، فإن باعه الورثة بعد ذلك فالمائة لهم ، وتعليل أبي محمد في المغني يقرب من ذلك ، والله أعلم .
قال : وإذا قال : أحد عبدي حر . أقرع بينهما ، فمن تقع عليه القرعة فهو حر إذا خرج من الثلث .
ش : القرعة لها مدخل في العتق ، لما تقدم من حديث عمران ابن حصين رضي الله عنه ، فإذا قال : أحد عبدي أو عبيدي حر . ولم يعينه ، أقرعنا بينهم ، إذ تعيين أحدهم ترجيح بلا مرجح ، ثم من خرجت عليه القرعة فهو حر ، إذ هذا فائدة القرعة ، وشرط نفوذ عتقه أن يخرج من الثلث ، لما تقدم من أن الإِنسان ليس له أن يوصي بأكثر من ثلثه ، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث ، والباقي موقوف على إجازة الورثة والله أعلم .
قال : وإذا أوصى أن يشتري عبد زيد بخمس مائة فيعتق ، فلم يبعه سيده ، فالخمسمائة للورثة .
ش : لأنه قد تعذر إعمال الوصية فبطلت ، كما لو مات الموصى له قبل موت الموصي ، أورد الوصية ، وإذا بطلت كان المال للورثة ، وقول الخرقي : فلم يبعه سيده . يشمل إذا لم يبعه مطلقاً ، أو لم يبعه بالخمسمائة ، وفي معنى ذلك حيث تعذر شراؤه ، إما بموته أو غير ذلك ، والله أعلم .
قال : وإن اشتروه بأقل ، فما فضل فهو للورثة .
ش : لأن مقصود الموصي العتق وقد حصل ، وكما لو وكل في شرائه في حياته بثمن معين ، فاشترى بدونه ، فإن الفاضل له ، كذلك هنا ، وحكى في المغني احتمالًا بأن الخمسمائة تكون لزيد ، وفرق في المغني فقال : إن كان ثم قرينة تقتضي إرفاق سيده بالثمن كما إذا كان صديقاً له ، أو ذا حاجة ، أو كان يعلم أن العبد يحصل بدون ذلك فإن الثمن جميعه يدفع إلى السيد ، كما لو صرح بذلك ، وإن عدمت القرائن كان كما تقدم ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى لرجل بعبد لا يملك غيره ، وقيمته مائة ولآخر بثلث ماله ، وملكه غير العبد مائتا درهم ، فأجاز الورثة ذلك ، فلمن أوصى له بالثلث ثلث المائتين ، وربع العبد ، ولمن أوصى له بالعبد ثلاثة أرباعه .
ش : إنما كان للموصى له بالثلث ثلث المائتين ، لأن المائتين من ماله ، وقد أوصى له بثلثه ، فلا معارض له ، فيستحق ثلثها ، وإنما كان له ربع العبد ، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه ، لأن مقتضى وصية صاحب الثلث أن يكون له ثلث العبد ، ومقتضى وصية صاحب العبد أن يكون له جميعه ، فقد تضمنت الوصية قسمة العبد على أربعة أثلاث ، وهو أربعة أرباع ، وليس طرح وصية أحدهما بأولى من الأخرى ، فيجعل الثلث ربعاً كمسائل العول .
قال : وإن لم يجز ذلك الورثة فلمن أوصى له بالثلث سدس المائتين ، وسدس العبد ، لأن وصيته في الجميع ، ولمن أوصى له بالعبد نصفه ، لأن وصيته في العبد .
ش : إذا لم يجز الورثة ما تقدم ، فقال الخرقي وجمهور الأصحاب : للموصى له بالثلث سدس المائتين ، وسدس العبد ، وللموصى له بالعبد نصفه ، لأن الوصية ترجع في الرد إلى الثلث ، وثلث المال والحال هذه مائة ، والوصية مائتان ، ثلث المال قدره مائة ، والعبد قيمته مائة ، نسبة الثلث الذي هو مائة ، إلى الوصية التي هي مائتان بالنصف ، فمن أوصى له بشيء رجع إلى نصفه ، نظراً إلى مقتضى المسمى في الوصية ، فللموصى له بالثلث سدس المائتين ، لأنه نصف ثلثها ، وسدس العبد ، لأنه نصف ثلثه ، واستحقاقه الربع في الإِجازة كان للمزاحمة العارضة ، وقد زالت ، وللموصي له بالعبد نصفه ، لأن الوصية له بكله .
واختار أبو محمد رحمه الله إن لصاحب الثلث خمس المائتين ، وعشر العبد ، ونصف عشره ، ولصاحب العبد ربعه وخمسه ، وخرجه أبو البركات وجهاً ، لأن الموصى له بالعبد في الحقيقة إنما أوصى له بثلاثة أرباعه ، لأنه أوصى لآخر بثلثه ، والموصى له بثلثه ، إنما أوصى له حقيقة بربعه ، لأنه أوصى لآخر بكله ، وإذاً يقسم الثلث بينهما على ذلك ، نظراً إلى مقتضى الوصية لو أمكن إعمالها بالإِجازة ، وعلى هذا يقسم الثلث بينهما على حسب مالهما في الإِجازة ، والذي لهما العبد وثلثا المائتين ، مجموع ذلك مائة وستة وستون درهماً ، وثلثا درهم ، نسبتة الثلث إلى ذلك ثلاثة أخماسه ، فمن له شيء في الإِجازة ، له ثلاثة أخماسه في الرد ، فالموصى له بالثلث له ثلث المائتين ، وهو ستة وستون درهماً ، وثلثا دلهم ، فيعطى ثلاثة أخماس ذلك ، وهو أربعون درهماً ، وقدر ذلك خمس المائتين ، وله من العبد ربعه ، وقيمة ذلك خمسة وعشرون درهماً ، فله ثلاثة أخماسه ، وهو خمسة عشر درهماً ، قدر ذلك من العبد عشره ، ونصف عشره ، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه ، وقيمة ذلك خمسة وسبعون درهماً ، ثلاثة أخماس ذلك خمسة وأربعون درهماً ، قدر ذلك من العبد ربعه وخمسه .
وطريقة العمل في ذلك على قول الأصحاب أن يجعل لكل واحد من أصل وصيته بقدر نسبة الثلث إلى مجموع الوصيتين ، وعلى قول أبي محمد يجعل لكل واحد من الذي حثل له في حال الإِجازة بقدر نسبة الثلث إلى مجموع ما حصل لهما فيها ، وعلى هذا لو كانت الوصية بالنصف مكان الثلث ، ففي حال الإِجاة لصاحب النصف نصف المائتين ، وثلث العبد ، ولصاحب العبد ثلثاه ، وفي حال الرد على قول الأصحاب مجموع الوصيتين مائتان وخمسون درهماً ، نسبة الثلث إلى ذلك خمسه فلكل واحد من أصل وصيته خمساها ، فللموصى له بالنصف خمسا المائة ، وهو أربعون درهماً وخمس العبد ، وقدره عشرون درهماً ، وللموصى له بالعبد خمساه ، وهو أربعون درهماً ، وعلى قول أبي محمد إذا نسبت الثلث إلى مجموع ما يصحل لهما في الإِجازة وهو مائتا درهم ، كان النصف ، فيكون لكل واحد نصف الذي يحصل له في الإِجازة ، فصاحب النصف يحصل له من المال المائة ، فله نصفها ، ويحصل له من العبد ثلثه ، فله نصفه وهو السدس ، وصاحب العبد يحصل له في الإِجازة ثلثاه ، فله نصف ذلك وهو الثلث ، وعلى هذا فقس ، والله أعلم .
قال : ومن أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى بالسوية ، ولا يجاوز به أربعة آباء ، لأن النبي لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى .
ش : إذا أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى ، لأن كليهما من قرابته ، ويكون بينهما بالسوية ، لأنه شرك بينهما فيه ، أشبه ما لو أقر لهما ، ويعطى الغني كالفقير ، لدخوله في لفظ القرابة ، ثم قيل وهو احتمال لأبي محمد ، وكلام ابن الزاغوني في الوجيز يقتضي أنه رواية يشمل كل قريب له من جهة أبيه وأمه ، نظراً لمقتضى اللفظ ، إذ قرابته اسم جنس مضاف ، فيشمل كل قريب له ، والمنصوص عن أحمد رحمه الله : إنما يتناول أقاربه من جهة أمه بشرط أن يصلهم في حال حياته ، إذ صلته لهم في حايته قرينة بره لهم بعد مماته ، والمشهور عنه اختصاص هذا اللفظ بقرابته من جهة أبيه ، لأن العرف في القراءة إذا أطلق إنما يتصرف لذلك ، ولهذا والله أعلم لم يعط النبي أقاربه من جهة أمه من سهم ذوي القربى .
ثم على هذا ( هل يشمل ) ولده وولد أبيه وإن علا ، اعتماداً على العموم .
2237 ولما روى مسلم وغيره عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية 19 ( { لن تنالوا البر } ) الآية قال أبو طلحة : يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا ، فأشهدك أني قد جعلت ببرحاء لله . قال : ( فاجعلها في قرابتك ) فجعلها في حسان بن ثابت ، وأبي بن كعب وبين حسان وأبي طلحة ثلاثة آباء ، وبين أبي طلحة وأبي بن كعب ستة آباء ، والظاهر أن جعله كان بحضرته أو بعلمه ، وأيضاً فقد دل على أن عرفهم ذلك .
( ولا يتجاوز ) بها أربعة آباء ، فإذا أوصى لقراءة زيد مثلًا ، أو وقف عليه تناول ولده ، فزيد أب ، وتناول أباه ، وجده ، وجد أبيه ، وأولادهم ، ولا يزاد على ذلك ، وهو اختيار الخرقي ، والقاضي ، وعامة أصحابه ، لما استدل به الخرقي ، من أن النبي لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى ، لأن الله سبحانه لما قال : 19 ( { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ، )9 ( فلله ، وللرسول ، ولذي القربى } ) يعني قرابته ، فقسمه النبي بين قرابته ، ولم يجاوز بني هاشم .
2238 ففي البخاري وغيره عن جبير بن مطعم رضي الله عنه ، قال : مشيت أنا وعثمان إلى النبي ، فقلنا : أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، قال : ( إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ) قال جبير : ولم يقسم النبي لبني عبد شمس ، ولا لبني نوفل شيئاً ، وفي رواية في السنن : لما قسم النبي سهم ذوي القربى من خيبر ، وذكر القصة ، وهذا خرج مخرج البيان للمسمى في الآية الكريمة ، وإذاً يحمل المطلق من كلام الناس ، على المطلق من كلام الشارع ، ويختص بما اختص به و ( هاشم ) هو الأب الرابع ، والأب الثالث عبد المطلب ، والأب الثاني عبد الله ، والنبي هو الأب الأول .
( أو لا يتجاوز ) بها ثلاثة آباء . نظراً إلى أن الولد لا يدخل في ذلك ، ولهذا لم ينقل أن النبي أعطى لولده شيئاً ؟ فيه ثلاث روايات ، وشذ ابن الزاغوني في وجيزه ، فجعل الأب الرابع عبد مناف ، فعلى هذا لا يدفع للولد ، وهو مخالف للفظ الخرقي وغيره .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) قد تقدم أن الولد والوالد يدخلان في لفظ القرابة ، وصرح بذلك القاضي ، والشيرازي ، وابن عبدوس ، وأبو الخطاب في خلافه ، وهو ظاهر كلام الخرقي وغيره ، وعبارة الشيخين توهم خلاف ذلك ، قال في المغني : الوصية لأولاده ، وأولاد أبيه ، وأولاد جده ، وأولاد جد أبيه ، وقال في المحرر : اختص بولده وقرابة أبيه وإن علا .
( الثاني ) قال أبو محمد في المغني والكافي : إذا أوصى لأقرب قرابته ، وله أب
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15