كتاب : شرح الزركشي على مختصر الخرقي
المؤلف : شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي

المعسر ، والله أعلم .
[ باب ] باب من أحق بكفالة الطفل )
ش : كفالة الطفل واجبة ، لأن الصبي يهلك بتركها ، فوجبت كالإنفاق عليه ، ويتعلق بها حق لقرابته لما سيأتي ، والله أعلم .
قال : والأم أحق بكفالة الطفل والمعتوه إذا طلقت .
ش : إذا افترق الزوجان وبينهما ولد ، فالأم أحق به في الجملة ، إن كان طفلاً ، بلا خلاف نعلمه .
2885 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، أن امرأة قالت : يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وثديي له سقاء ، وحجري له حواء ، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني ، فقال لها رسول الله : ( أنت أحق به ما لم تنكحي ) رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه .
2886 ويروى أن أبا بكر الصديق حكم على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بعاصم لأمه أم عاصم ، وقال : ريحها وشمها ولطفها خير له منك . رواه سعيد في سننه ، ولأنها أقرب الناس إليه مع أبيه ، وتتميز عن الأب بأنها تلي بنفسها ، والأب لا يلي بنفسه ، وحكم المعنوه حكم الطفل ، لاستوائهما معنى ، فاستويا حكماً ، ويشترط فيمن تثبت له الحضانة الحرية والبلوغ ، والعقل ، والعدالة الظاهرة ، والله أعلم .
قال : وإذا بلغ الغلام سبع سنين خيّر بين أبويه ، فكان مع من اختار منهما .
ش : أي إذا بلغ الغلام سبع سنين وهو عاقل ، لما تقدم له من أن حضانة المعتوه لأمه ، والمذهب المشهور أن الغلام والحال هذه يخير بين أبويه .
2887 لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي خير غلاماً بين أبيه وأمه ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ، وفي رواية أن امرأة جاءت إلى رسول الله وأنا قاعد عنده ، فقالت : يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة ، وقد نفعني ، فقال لها رسول الله : ( استهما عليه ) فقال زوجها : من يحاقني في ولدي ؟ فقال النبي : ( هذا أبوك وهذه أمك ، فخذ بيد أيهما شئت ) فأخذ بيد أمه فانطلقت به ؛ مختصر رواه أبو داود .
2888 وعن عمر رضي الله عنه أنه خير غلاماً بين أبيه وأمه رواه سعيد .
2889 وعن عمارة الجرمي قال : خيّرني عليّ رضي الله عنه بين عمي وأمي وكنت ابن سبع سنين أو ثمان ، وروي نحو ذلك عن أبي هريرة ، ولا نعرف لهم مخالفاً ، ولأن الحضانة تثبت لحظ الولد ، فيقدم فيها من هو أشفق به ، ولا ريب أن ميل الولد إلى أحد الأبوين دليل على أنه أشفق به ، فرجح بذلك ، وإنما قيدناه بالسبع لأنه إذا بلغ حداً يعرب عن نفسه ، ويميز بين الإكرام وضده ، ولأنه أول حال أمر الشرع بمخاطبته فيها ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن اوم أحق به ، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب ، ولا ريب أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخص منه فيقدم ، ( وعنه ) رواية ثالثة الأب أحق به ، لأنه إذاً يحتاج إلى التأديب والتعليم ، والأب أخص بذلك ، ولا ريب أنها أضعفهن ، لمخالفتها الحديثين معاً ، وقد ذكر الخرقي رحمه الله حكم الطفل وحكم الغلام ، ولم يتعرض لحكم البالغ ، والحكم أنه يكون حيث شاء إن كان رشيداً .
( تنبيه ) : ( يحاقني ) أي ينازعني في حقي منه ، والله أعلم .
قال : وإذا بلغت الجارية سبع سنين فالأب أحق بها .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، نظراً إلى أن المقصود بالحضانة حظ الولد ، والحظ للجارية بعد السبع كونها عند أبيها ، لقيامه بحفظها ، ولأنه وليها ، وأعلم بكفؤها ، ومنه تخطب وتزوج .
وفي المذهب رواية أخرى ذكرها القاضي في تعليقه أن اوم أحق بها حتى تبلغ ، ولفظها من رواية مهنا : الأم أحق بالجارية حتى تستغني ، قيل له : وما غنى الجارية ؟ قال : حتى تتزوج . ويستدل لذلك بقول النبي : ( أنت أحق به ما لم تنكحي ) وبقصة ابنة حمزة .
2890 ويرشحه أن في الحديث ( من فرق بين والدة وولدها ، فرق الله بينه وبين أحبّته يوم القيامة ) والله أعلم .
قال : وإذا لم تكن أم أو تزوجت الأم ، فأم الأب أحق من الخالة .
ش : إذا لم تكن أم أو تزوجت الأم ، أو قام بها مانع من فسق ونحوه ، فإن أم الأب مقدمة على الخالة ، على المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة الأصحاب ، لأنها جدة وارثة ، فقدمت كأم الأم ، ولأن لها ولادة ووراثة ، فأشبهت أم الأم ، وعن أحمد رواية أخرى أن الأخت من الأم والخالة يقدمان على أم الأب استدلالاً بحديث ابنة حمزة .
2891 فعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر وزيد رضي الله عنهم ، فقال علي : أنا أحق بها ، هي ابنة عمي ، وقال جعفر : هي بنت عمي ، وخالتها تحتي ، وقال زيد : ابنة أخي ، فقضى بها رسول الله لخالتها ، وقال : ( الخالة بمنزلة الأم ) متفق عليه .
2892 ورواه أحمد أيضاً من حديث علي رضي الله عنه ، وفيه : ( والجارية عند خالتها ، فإن الخالة والدة ) وكذلك رواه أبو داود من حديث علي رضي الله عنه ، وقال : ( إنما الخالة اوم ) فجعل الخالة بمنزلة اوم ، ولا ريب أن الأم مقدمة على أم الأب ، فكذلك من بمنزلتها ، وهذا ظاهر في الاستدلال ، فعلى هذه الرواية قال أبو الخطاب ومن تبعه : يكون هؤلاء أحق من الأخت من الأم ، ومن جميع العصبات ، وقال أبو البركات : يحتمل على هذه الرواية تقديم نساء الحضانة على كل رجل ، ويحتمل أن يقدمن إلا على من أدلين به ، ويحتمل تقديم نساء الأم على الأب وأمهاته ، وسائر من في جهته ، وأن كل امرأة في درجة رجل تقدم هي ومن أدلى بها عليه . انتهى .
وعلى الأولى ظاهر كلام الخرقي أن أم الأب مقدمة على أم الأم ، لقوله : فإن لم تكن أم ، أو تزوجت الأم فأم الأب أحق من الخالة ، وصرح بذلك بعد في قوله : والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم ، وخالة الأب أحق من خالة الأم ؛ وهذا إحدى الروايتين ، وهو أن قرابة الأب كأمه وأخته ، ومن يدلي به هل تقدم على قرابة الأم كأمها وأختها ومن يدلي بها ؟ على روايتين منصوصتين ، ( إحداهما ) قرابة الأب مقدمة ، كما يقوله الخرقي ، وهو مقتضى قول القاضي في تعليقه ، وفي جامعه الصغير ، والشيرازي وابن البنا ، لتقديمهم الأخت للأب على الأخت للأم ، وذلك لأن التمييز له مزية في التقديم ، وقرابة الأب ساوت قرابة الأم في القرب ، وتميّزت عنها بإدلائها بعصبة ( والرواية الثانية ) قرابة الأم مقدمة ، وهو اختيار القاضي في روايتيه ، وابن عقيل في تذكرته ، لتمييز قرابة الأم بإدلائها بمن تقدم على الأب وهو الأم .
وقد تضمن كلام الخرقي أن المرأة إذا تزوجت سقطت حضانتها ، وهو المذهب في الجملة بلا ريب ، لما تقدم من قوله : ( أنت أحق به ما لم تنكحي ) ( وعنه ) في الجارية خاصة لا تسقط حضانتها بالتزويج ، نظراً لحديث ابنة حمزة ، فإن النبي قضى بها لها مع كونها كانت مزوجة ، وأجيب عن هذا بأنها كانت زوجة لقريب ، وإنما تسقط الحضانة إذا كانت مزوجة بأجنبي ، وهذه مسألة تستثنى من كلام الخرقي ، وهو أن التزويج مسقط للحضانة إلا بقريب من الطفل ، وقيل : شرط القريب أن يكون جداً للطفل ، ومقتضى كلام أبي محمد في المغني أن من شرطه أن يكون من أهل الحضانة ، وإذاً لا يحسن منه الجواب عن الحديث ، لأن جعفراً رضي الله عنه كان ابن عمها ، وليس هو من أهل الحضانة ، وحيث قيل : إن التزويج مسقط للحضانة فذلك بمجرده من غير دخول ، على مقتضى كلام الخرقي وعامة الأصحاب ، إعمالاً لظاهر الحديث ، ولأبي محمد احتمال أن حقها لا يسقط إلا بالدخول ، نظراً إلى المعنى المقتضي لإسقاط حقها بالتزويج ، وهو الاشتغال بالزوج والتخصيص به ، وذلك منتف قبل الدخول ، والله أعلم .
قال : والأخت من اوب أحق من الأخت من الأم ، وأحق به من الخالة ، وخالة الأب أحق من خالة اوم .
ش : قد تقدم هذا ، وأن مذهب الخرقي أن قرابة الأب تقدم على قرابة الأم ، فلا حاجة إلى إعادته ، وتقدم أن عن أحمد رواية أخرى مشهورة بالعكس ، ورواية أخرى أن الخالة أحق من أم الأب ، وأن على هذه الرواية تقدم الخالة على الأخت من الأب ، لتقديمها على من أدلت به .
قال : وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت ، ثم طلقت عادت على حقها من كفالته .
ش : لا نزاع عندنا في ذلك ، إذا كان الطلاق بائناً ، لأن حقها إنما زال لمعنى ، وهو الاشتغال بالزوج ، فإذا طلقت زال ذلك المعنى ، فتعود إلى ما كانت عليه ، واختلف فيما إذا كان الطلاق رجعياً ، فظاهر كلام الخرقي وهو الذي نصبه القاضي في تعليقه ، وقطع به جمهور أصحابه ، كالشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن البنا وابن عقيل في التذكرة أن حقها يعود ، نظراً إلى زوال اشتغالها به ، لعزلها عن فراشه ، وعدم القسم لها عليه ، وقال القاضي : قياس المذهب أن حقها لا يعود حتى تنقضي عدتها ، بناء على أن الرجعية مباحة ، فاشتغالها بالزوج لم يزل ، وعلى هذا فقول الخرقي جار على قاعدته من تحريم الرجعية ، وأبو محمد خرج الوجه الثاني من كون النكاح قبل الدخول مزيلاً للحضانة مع عدم الشغل ، والله أعلم .
قال : وإذا تزوجت المرأة فلزوجها أن يمنعها من رضاع ولدها إلا أن يضطر إليبها ، أو يخشى عليه التلف .
ش : للزوج منع المرأة من رضاع ولدها من غيره ، ومن رضاع ولد غيرها بطريق الأولى ، إذ عقد النكاح يقتضي تمليك الزوج الاستمتاع في كل الزمان ، ما لم يضرّ بها ، سوى أوقات الصلوات ، والرضاع يفوت الاستمتاع في بعض الأوقات ، فكان له المنع ، كالخروج من منزله ، فإن اضطر الولد إليها ، بأن لا يوجد مرضعة سواها ، أو لا يقبل الولد ثدي غيرها ، وخشي عليه التلف ، فليس للزوج المنع نظراً لحفظ النفس المقدم على حق الزوج ، وملخصه أنه يجب ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما ، وقول الخرقي : من رضاع ولدها . ظاهر سياق كلامه أنه من غيره ، وإلا كان يقول : وللزوج منع المرأة من رضاع ولدها . وفي بعض النسخ : ولدها من غيره .
قال : وعلى الأب أن يشترضع لولده إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجرة مثلها ، فتكون أحق به من غيرها ، سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة .
ش : قد دلّ كلام الخرقي على مسألتين ( إحداهما ) أن إرضاع الولد على الأب وحده ، وليس له إجبار أمه على رضاعه مطلقاً ، ولظاهر قوله سبحانه : 19 ( { والوالدات يرضعن أولادهن } ) الآية إلى : 19 ( { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ) وقوله سبحانه : 19 ( { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } ) ومتى اختلفا فقد تعاسرا ( المسألة الثانية ) أن الأم إذا شاءت أن ترضعه بأجرة مثلها كان لها ذلك ، وقدمت على غيرها إذا كانت مفارقة من الزوج بلا نزاع ، وكذلك إذا كانت في حباله على المشهور ، وقيل : بل إذا كانت في حباله كان له منعها بأجرة وبغيرها ، ومبنى الخلاف على فهم الآية الكريمة ، وذلك لأن إرضاعه كنفقته ، والجامع أن بنيته لا تقوم إلا بهما ، ونفقته لو كان كبيراً عليه ، فكذلك إرضاعه إذا كان صغيراً ، ولظاهر الآية الكريمة : 19 ( { والوالدات يرضعن أولادهن } ) فإن الله سبحانه جعل حكمه الشرعي أن الوالدات يرضعن أولادهن ، لكن هل المراد كل والدة ، اعتماداً على عموم اللفظ ، فتدخل فيه المطلقة وغيرها ، أو المراد به الوالدات المطلقات ، لذكرهن في سياق المطلقات ، والسياق والسباق يخصصان ؟ فيه قولان ، فعلى الثاني إذا كان المراد المطلقات فالمزوجات لم تتناولهن الآية ، وإذاً للزوج منعهن من الإرضاع ، نظراً لحقه من الاستمتاع ، كما له ذلك في ولد غيره ، وقول الخرقي : بأجرة مثلها . مفهومه أنها إذا طلبت أكثر من أجرة المثل لم تكن أحق به ، وهو كذلك ، لطلبها ما ليس لها ، فتدخل في قوله تعالى : 19 ( { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } ) نعم لو طلبت أكثر من أجرة المثل ، ولم يوجد من ترضعه إلا بمثل تلك الأجرة ، فقال أبو محمد : الأم أحق ، لتساويهما في الأجرة ، وميزة الأم ، وقوله : فتكون أحق به . مقتضاه وإن وجد متبرعة برضاعه ، وهو كذلك ، اعتماداً على إطلاق الآية الكريمة ، والله سبحانه أعلم .
[ باب ] باب نفقة المماليك )
قال : وعلى ملاك المملوكين أن ينفقوا عليهم ويكسوهم بالمعروف .
ش : هذا إجماع والحمد لله ، وقد دلت عليه السنة النبوية .
2893 فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال لقهرمان له : هل أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال : لا . قال : فانطلق فأعطهم ، فإن رسول الله قال : ( كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته ) رواه مسلم .
2894 وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي قال : ( للمملوك طعامه وكسوته ، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق ) رواه أحمد ومسلم ، والواجب له قدر كفايته من غالب قوت البلد وأدمه لمثله بالمعروف ، وكذلك الكسوة من غالب كسوة البلد لأمثال العبد بالمعروف .
2895 لأن في بعض روايات حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( بالمعروف ) رواه الشافعي في مسنده ، وسواء كان قوت سيده وكسوته مثل ذلك أو أزيد ، والمستحب أن يطعمه من طعامه ، ويلبسه من لباسه .
2896 لما روى أبو ذر أن النبي قال : ( هم إخوانكم وخولكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتوهم فأعيونهم عليه ) متفق عليه .
( تنبيه ) القهرمان .
قال : وأن يزوج المملوك إذا احتاج إلى ذلك .
ش : على السيد أن يزوج مملوكه إذا احتاج إلى ذلك ، لقول الله سبحانه : 19 ( { وأنكحوا الأيامى منكم ، والصالحين من عبادكم وإمائكم } ) وظاهر الأمر الوجوب .
2897 وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من كانت له أمة فلم يزوجها ولم يصبها ، أو عبد فلم يزوجه ، فما صنعا من شيء كان على السيد . ولأن النكاح مما تدعو الحاجة إليه غالباً ، أو يتضرر بفواته ، فأجبر عليه السيد كالنفقة وقوله : إذا احتاج إلى ذلك . يخرج به من لا حاجة له إلى ذلك ، كالصغير والأمة إذا كان السيد يطؤها ، وكذلك إذا سراه السيد لاندفاع حاجته .
( تنبيه ) : ولا يجب التزويج إلا بطلب المملوك ، لأن الحق له ، فلا تعلم حاجته إلا بطلبه ، والله أعلم .
قال : فإن امتنع أجبر على بيعه إذا طلب المملوك ذلك .
ش : إذا امتنع السيد مما وجب عليه من طعام ، أو كسوة أو تزويج ، وطلب المملوك البيع ، فإن السيد يجبر على ذلك ، لأن بقاء الملك عليه مع الإخلال بما تقدم إضرار بالعبد ، وإزالة الضرر واجبة شرعاً ، والبيع طريق لزواله ، فوجب دفعاً للضرر المنفي شرعاً ، وإنما توقف الحق على طلب العبد ، لأن الحق له ، فلا يستوفى بدنه طلبه ، ومفهوم كلام الخرقي أن السيد إذا قام بالواجب عليه لا يجبر على البيع ، وإن طلب المملوك ذلك ، وقد نصّ أحمد عليه ، إذ لا ضرر يزال ، والله أعلم .
قال : وليس عليه نفقة مكاتبه إلا أن يعجز .
ش : المكاتب مع سيده في أكسابه ومنافعه ونفقته ونحو ذلك كالأجنبي ، فإذا عجز عاد كما كان قبل الكتابة .
قال : وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها إلا أن يكون فيها فضل عن ربه .
ش : إذا لم يكن في الأمة فضل عن ري ولدها فليس لسيدها أن يرضعها لغيره ، حذاراً من إضراره ، لنقصه عن كفايته ، وصرف اللبن المخلوق له لغيره ، وإن كان فيها فضل عن ريه جاز له أن يرضعه غيرها ، لانتفاء المحذور ، مع وجود المقتضي وهو الملك .
قال : وإذا رهن المملوك أنفق عليه سيده .
2898 ش : لقول النبي : ( الرهن من راهنه ، له غنمه وعليه غرمه ) ونفقته من الغرم ، فكانت على الراهن .
قال : وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى سيده ما أنفق عليه .
ش : هذا هو المشهور ، حتى أن أبا الخطاب في الهداية وأبا محمد في المقنع ، وغيرهما قطعوا بذلك ، وخرج أبو محمد قولاً آخر أنه لا يرجع ، بناء على رواية النفقة على الرهن والوديعة ، والجمال إذا هرب الجمال ، ونحو ذلك ، وكذلك أبو البركات برد الآبق ، مع جملة هذه المسائل ، وذكر الخلاف ، إلا أنه قيد ذلك بما إذا نوى الرجوع ، وتعذّر استئذان المالك ، وبعض الأصحاب لا يشترط تعذر الاستئذان ، وقد يفرق بين الآبق وغيره أن الآبق يخشى ضرره ، لاحتمال لحوقه بدار الحرب ، وارتداده ، وهذا المعنى غير موجود في غيره ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

كتاب الجراح

ش : الجراح جمع جراحة ، بمعنى الجرح بفتح الجيم ، مصدر جرحه يجرحه جرحاً ، والاسم الجرح بضم الجيم ، وذكر الخرقي رحمه الله الجراح وإن كان القتل يوجد بغيره لغلبة وقوع القتل به بخلاف غيره .
قال : والقتل على ثلاثة أوجه ، عمد وشبه عمد ، وخطأ .
ش : القتل بحسب صفته يقع على ثلاثة أوجه ، لأن الضارب إن قصد القتل بآلة تصلح له غالباً فهذا هو العمد ، وإن قصد القتل بإلة لا تصلح للقتل غالباً فهو شبه العمد ، وإن لم يقصد القتل فهو الخطأ ، وبعض المتأخرين كأبي الخطاب ومن تبعه زاد قسماً رابعاً ، وهو ما أجري مجرى الخطأ كالقتل بالسبب ، وكالنائم ينقلب على إنساب ونحو ذلك ، ولا نزاع أنه باعتبار الحكم الشرعي لا يزيد على ثلاثة أوجه ، ( عمد ) وهو ما فيه القصاص أو الدية .
2899 قال ابن عباس رضي الله عنهما ، كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم تكن فيهم الدية ، فقال الله لهذه الأمة : 19 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى } ) الآية 19 ( { فمن عفي له من أخيه شيء } ) قال : فالعفو أن يقبل في العمد الدية ، والاتباع بمعروف يتبع الطالب بمعروف ، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان ، 19 ( { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } ) فيما كتب على من كان قبلكم ، رواه البخاري وغيره .
2900 وفي الصحيحين أن النبي قال : ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يقتل ، وإما أن يفدي ) .
( وشبه عمد ) وهو ما فيه دية مغلظة ، من غير قود .
2901 فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم ، أن النبي قال : ( عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ، ولا يقتل صاحبه ، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس ، فيكون دم في عميا ، في غير ضغينة ، ولا حمل سلاح ) رواه أحمد وأبو داود .
( وخطأ ) وهو ما فيه دية مخففة .
2902 فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( في دية الخطأ عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن مخاض ذكر ) رواه الخمسة .
( تنبيه ) ( ينزو الشيطان ) أي يثب ( في عميا ) أي جهالة و ( في غير ضغينة ) أي ذنب أي يثير الشيطان فتنة بين قوم ، فيقتل إنسان ، ولا يعرف من قتله في غير ذنب ، والله أعلم .
قال : فالعمد أن يضربه بحديدة ، أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط ، أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله ، أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة ، أو فعل به فعلاً الغالب أنه يتلف .
ش : لما ذكر الخرقي أن القتل يقع على ثلاثة أوجه ، أراد أن يعرف كل واحد منها ، فعرف العمد بما ملخصه أن يقصد ضربه بمحدد ، أو شيء الغالب أنه يتلف .
فقوله : ما إذا ضربه بحديدة ، أي ما إذا قصد ضربه بحديدة فجرحه ، وفي معنى ذلك كل محدد من حجر أو غيره ، وقوله : أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط . . . الفسطاط هنا خيمة صغيرة ، وعمودها التي تقوم عليه .
2903 وإنما شرط الخرقي في قتل العمد الزيادة على ذلك لما روى المغيرة بن شعيبة رضي الله عنه ، أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط ، فقتلتها وهي حبلى ، قال : فجعل رسول الله دية المقتولة على عصبة القاتلة ، وغرة لما في بطنها ، قال : فقال رجل من عصبة القاتلة : أنغرم دية من لا أكل ، ولا شرب ولا استهل ، فمثل ذلك يطل . فقال رسول الله : ( أسجع كسجع الأعراب ) قال : وجعل عليهم الدية . رواه مسلم ، ولو كان القتل بذلك عمداً لأوجب فيه القود ، ولم يجعل الدية على العاقلة ، لأنهم لا يحملون عمداً اتفاقاً .
وقوله : أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله ، أي في عرف الناس ، ولم يقل في ظنع ، لاتهامه في ذلك ، ( وقوله ) : أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة ، أي إعادة تقتل غالباً ، وفي معنى ذلك إذا ضربه بخشبة صغيرة في مقتل ، أو في حال ضعف قوة من مرض ، أو صغر أو كبر ، أو حر أو برد ، ونحو ذلك ، ( وقوله ) : أو فعل به فعلاً الغالب أنه يتلف . كأن ألقاه في ماء كثير يغرقه عادة ، أو في نار لا يمكنه التخلص منها ، أو في زبية أسد ، أو من شاهق ، أو أنهشه كلباً أو سبعاً أو حية ، أو ألسعه عقرباً من القواتل ، أو سحره بما يقتل غالباً ، أو أطعمه طعاماً بسم يقتل مثله غالباً ، ونحو ذلك .
( تنبيه ) قال ابن الأثير : الفسطاط الخيمة الكبيرة ، ولعله يريد باعتبار عرف زمانه ، وإن أراد أنه في اللغة كذلك ، فهو محمول على ما تقدم ، لما مر من الإجماع على أن العاقلة لا تحمل العمد انتهى ، وهو فارسي معرب ، وفيه ست لغات ، فسطاط ، وفستاط ، وفساط مع ضم الفاء وكسرها فيهن ، ( واستهل المولود ) إذا بكى حين يولد ، والاستهلال رفع الصوت ، ( ويطل ) روي بالمثناة من تحت ، وروي بالموحدة ، فعلى الأول هو من طل دمه إذا هدر ، ولم يطلب بثأره ، وعلى الثاني هو فعل ماضٍ من البطلان ، ( والسجع ) تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد ، نحو : وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه . والاستفهام لما يتضمنه السجع من الباطل ، وكذلك جعله له كسجع الأعراب . وفي رواية : الكهان . أما السجع الخالي من الباطل فليس بمذموم ، لوروده في الكتاب العزيز ، وفي كلام سيدنا محمد ، نحو : 19 ( { في سدر مخضود ، وطلع منضود ، وظل ممدود } ) ، 19 ( { ما لكم لا ترجون لله وقاراً ، وقد خلقكم أطواراً } ) قال بعضهم : لا يقال في القرآن أسجاع ، وإنما يقال فواصل ، مستدلاً بما تقدم ، وقد يقال : إذا كان الإنكار للباطل فيه ، فلا تمتنع التسمية ، لعدم ورود الإنكار عليه .
قال : ففيه القود .
ش : أي العمد ، سواء كان القتل بمحدد ى و بغيره ، ( أما المحدد ) فالقود به اتفاق في الجملة ، إذا كان الجرح بسكين ونحوها ، جرحاً كبيراً ، أما إن كان صغيراً ، كشرطه الحجام ونحوها ، أو غرزة بإبرة أو شوكة ، فإن كان في مقتل كالعين والفؤاد فكذلك ، إذ مثل ذلك في هذا المحل يقتل غالباً ، وكذلك إن كان في غير مقتل لكن بقي متألماً حتى مات ، لصلاحية السبب ، مع أن الأصل عدم غيره ، وإذا كان في غير مقتل ومات في الحال فوجهان ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي أن فيه القود ، لأن المحدد له سراية ونفوذ ، وقد عضد ذلك موته في الحال ، ولهذا قيل فيه إنه لا يعتبر غلبة الظن في حصول القتل به بخلاف غيره ، ( والثاني ) وهو قول ابن حامد لا قود بذلك ، لأن الظاهر أن الموت ليس منه .
وأما إذا كان بغيره فكذلك عندنا وعند الجمهور ، ولإطلاق 19 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى } ) ، 19 ( { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً } ) ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يقتل ، وإما أن يفدي ) ونحو ذلك .
2904 ولخصوص ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن يهودياً رضّ رأس جارية بين حجرين ، فأخذ اليهودي فأقر ، فأمر به رسول الله أن يرض رأسه بالحجارة ، وقال همام : بحجرين . متفق عليه . وللبخاري : قتلها على أوضاح لها . ولا يقال : قتله لنقض العهد ، لأنه إذا كان يقتله بالسيف ، ولما قتله بالرض بالحجارة دلّ على إرادة المماثلة ، المدلول عليها بقوله سبحانه ؛ 19 ( { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ) .
2905 وما روي من قول النبي : ( ألا وءن في قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل ) فمحمول على حجر شبيه بالسوط والعصا وهو الصغير ، جمعاً بين الأدلة .
( تنبيه ) : ( إما أن يقتل ، وإما أن يفدي ) أي يأخذ الدية ، ( والرض ) دق الشيء بين حجرين ، وما جرى مجراهما ( والأوضاح ) واحدها وضح ، الحلي من النقرة .
قال : إذا اجتمع عليه الأولياء ، وكان المقتول حراً مسلماً .
ش : أي شرط وجوب القود في العمد اجتماع جميع الأولياء على الاستيفاء ، فلو عفى بعضهم سقط القصاص ، لعدم تبعيضه ، وكذلك إذا كان بعضهم صغيراً أو مجنوناً أو غائباً ، فإن استيفاءه يتوقف على قدوم الغائب أو توكيله ، وحصول التكليف ، وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى وشرطه أيضاً أن يكون المقتول حراً مسلماً ، وهذا من حيث الجملة ، وتمامه يأتي إن شاء الله تعالى .
قال : وشبه العمد أن يضربه بخشبة صغيرة ، أو حجر صغير ، أو لكزة أو فعل به فعلاً الأغلب من ذلك الفعل أن لا يقتل .
ش : شبه العمد أن يقصد القتل بآلة لا تصلح للقتل غالباً ولم يجرحه ، كما مثل الشيخ رحمه الله ، وكما إذا نخزه بشيء لا يقتل غالباً ، أو ألقاه في ماء لا يغرقه مثله غالباً ، ويسمى ذلك شبه العمد ، لأنه جمع عمداً لقصده الجناية ، وخطأ لعدم صلاحية الآلة لذلك ، وسمي أيضاً عمد الخطأ ، وخطأ العمد لذلك .
( تنبيه ) اللركز الضرب بجمع الكف في أي موضع كان من جسده ، وعن أبي عبيدة : الضرب بالجمع على الصدر .
قال : فلا قود في هذا .
ش : لحديث عمرو بن شعيب المتقدم ( عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ، ولا يقتل صاحبه ) وحديث : ( ألا وإن في قتل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل ) .
قال : والدية على عاقلته .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة اوصحاب ، لحديث المغيرة بن شعبة في التي قتلت ضرّتها بعمود الفسطاط ( والرواية الثانية ) وهي اختيار أبي بكر : تجب الدية على الجاني .
2906 لعموم ( لا يجني جان إلا على نفسه ) ، ولا يخفى ضعف هذا ، إذ الخاص يقضي على العام ، فعلى الأول تجب مؤجلة على العاقلة بلا ريب ، وعلى الثاني هل تجب على القاتل مؤجلة أو حالة ؟ على قولين لأبي بكر .
قال : والخطأ على ضربين ، أحدهما أن يرمي الصيد ، أو يفعل ما يجوز له فعله ، فيؤول إلى إتلاف حر ، مسلماً كان أو كافراً .
ش : لما فرغ من تعريف العمد وشبهه ، أشار إلى تعريف الخطأ ، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ، وهو على ضربين ، خطأ في الفعل وهو الذي ذكره الخرقي ، ولا ريب أن الخطأ واضح فيه ، وقد قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئاً فيصيب غيره ، لا أعلمهم يختلفون فيه . وقوله : مسلماً كان أو كافراً . تنبيه على أنه لا فرق في ذلك بين المسلم والكافر ، كما دلّ عليه قوله تعالى : 19 ( { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } ) الآية ، ولا بد من تقييد الكافر بأن يكون له عهد ، كما في الآية الكريمة ، وقوله : أو يفعل ما يجوز له فعله . مفهومه أنه إذا فعل ما ليس له فعله ، كأن يقصد رمي آدمي معصوم ، أو بهيمة محترمة ، فيصيب غيره ، أن الحكم ليس كذلك ، فيكون عمداً ، وهو منصوص أحمد في رواية الحسن بن محمد بن الحارث ، على ما ذكره القاضي في روايتيه ، وخرجه أبو محمد على قول أبي بكر فيمن رمى نصرانياً ، فلم يقع به السهم حتى أسلم أنه عمد ، يجب به القصاص ، والذي أورده في المغني مذهباً أن هذا أيضاً خطأ ، إناطة بعدم قصد من قتل ، وهو مقتضى قول المجد ، قال : أن يرمي صيداً أو هدفاً أو شخصاً ، فيصيب إنساناً لم يقصده .
قال : فتكون الدية على العاقلة ، وعليه عتق رقبة مؤمنة .
ش : الخطأ لا قود فيه اتفاقاً ، كما أشعر به قوله تعالى : 19 ( { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } ) الآية ، ولأن شبه العمد إذا لم يجب القود به كما تقدم ، ففي الخطأ أولى ، وتجب الدية فيه على العاقلة اتفاقاً حكاه ابن المنذر ، وقياساً على شبه العمد ، وقد ثبت بالنص ، وعلى الاقتل عتق رقبة مؤمنة ، لعموم ( لا يجني جان إلا على نفسه ) مع 19 ( { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ، ودية مسلمة إلى أهله } ) .
( تنبيه ) : تقدير الآية الكريمة والله أعلم : فالواجب تحرير رقبة مؤمنة ، ودية مسلمة إلى أهله ، ومن يتعلق به الواجب ليس في الآية ما يدلّ عليه ، ولا يصح أن يقدر 19 ( { فعليه تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } ) لأن الدية ليست عليه ، نعم إن قيل : الدية عليه ، وأن العاقلة تحملها عنها ، صح ذلك ، لكن المعروف خلافه .
قال : والوجه الآخر أن يقتل في بلاد الروم من عنده أنه كافر ، ويكون قد أسلم وكم إسلامه ، إلى أن يقدر على التخلص إلى بلاد الإسلام ، فيكون على قاتله عتق رقبة مؤمنة بلا دية ؛ لأن الله تعالى قال : 19 ( { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } ) .
ش : هذا الضرب الثاني من ضربي الخطأ ، وهو الخطأ في القصد ، ولا نزاع في كون هذا ونحوه خطأ ، ولا نزاع أيضاً في وجوب الرقبة على القاتل ، للآية الكريمة ، ووقع النزاع في الدية ، والمشهور عن إمامنا ، ومختار عامة أصحابنا الخرقي ، والقاضي ، والشيرازي ، وابن البنا ، وأبي محمد وغيرهم عدم وجوبها مطلقاً ، لما أشار إليه الخرقي ، وهو أن الله سبحانه ذكر ( أولاً ) قتل المؤمن خطأ ، وأن فيه الكفاة والدية ، ثم ذكر ( ثانياً ) إذا كان من قوم عدو لنا وهو مؤمن ، وأن فيه الكفارة ، ولم يذكر الدية ، ثم ذكر ( ثالثاً ) إذا كان من قوم بيننا وبينهم ميثاق ، أن فيه الكفارة والدية ، فظاهر الآية الكريمة أن القسم الثاني لا دية فيه ( وعن أحمد ) رواية أخرى تجب الدية على العاقلة ، ودليلها يظهر من الكلام على الآية الكريمة ، وذلك أن ( من ) في قوله 19 ( { فإن كان من قوم عدو لكم } ) يحتمل أن تكون لبيان الجنس ، فيكون ظاهر الآية الكريمة عدم وجوب الدية فيمن تقدم ذكره ، كما ذكره الخرقي ، ويلحق به من أسلم ودخل دار الحرب ، للاشتراك في أنه قصد قتل حربي ، وإنما لم تجب الدية والحال هذه والله أعلم لأن الشارع له حرص عظيم على قتل أهل الحرب من غير تثبت ، إذا بلغتهم الدعوة ، فلو أوجبنا الدية في هذه الحال ، ربما توقف فيمن يقتله منهم ، ويحتمل وهو الذي قدمه البغوي أن تكون ( من ) ظرفية ، كقوله سبحانه ؛ 19 ( { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } )9 ( { ماذا خلقوا من الأرض } ) فإذاً معنى الآية : فءن كان في قوم عدو لكم وهو مؤمن ، وهذا يشمل ما قاله الخرقي ، وما إذا تترس الكفار بمسلم ، وخيف على المسلمين إن لم يرموا فرماهم فأصاب المسلم ، وهذا رواية ثالثة لإمامنا ، وللمفسرين قول آخر ، وهو الذي قطع به الزجاج ، والزمخشري ، أن المعنى في الآية الكريمة أن يسلم الرجل في قومه الكفار ، وهو بين أظهرهم فيقتل ، ولا دية لأهله لأنهم كفار محاربون ، فلا يستحقون الدية ، فانتفاء الدية كان لعدم مستحقها ، لا لعدم قبول المحل لها ، ولهذا أوجب الله سبحانه وتعالى بعد في من بيننا وبينهم ميثاق الدية ، لوجود مستحقها ، ( ومن ) أيضاً على هذا القول لبيان الجنس وروايتنا الثانية تتوجه على هذا القول .
2907 ويؤيد ذلك ما روى محمود بن لبيد رضي الله عنه قال : اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة يوم أحد ، وهم لا يعرفونه فقتلوه ، فأراد رسول الله أن يديه ، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين . رواه أحمد ، وفي لفظ رواه الشافعي قال : فقضى رسول الله بديّته .
2908 وأيضاً عموم قول النبي : ( من قتل خطأ فديته مائة من الإبل ) مختصر ، رواه الخمسة إلا الترمذي .
قال : ولا يقتل مسلم بكافر .
2909 ش : لما روى أبو جحيفة قال : قلت لعلي : يا أمير المؤمنين هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله ؟ قال : والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ما علمته ، إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن ، وما في هذه الصحيفة ، قال : قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : فيها العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مئمن بكافر . رواه أحمد والبخاري ، والنسائي والترمذي .
2910 وعن قيس بن عبادة قال : انطلقت أنا والأشتر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقلنا له : هل عهد إليك رسول الله شيئاً لم يعهده إلى الناس عامة ؟ قال : لا إلا ما في هذا ، وأخرج كتاباً من قراب سيفه ، فإذا فيه : ( المئمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، ويسعى بذمّتهم أدناهم ، ألا لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ، من أحدث حدثاً فعلى نفسه ، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً ، فعليه لعنة الله والملائكة ، والناس أجمعين ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي ، قال بعض الحفاظ : رجاله رجال الصحيحين .
2911 ولأبي داود عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله نحوه ، وهذا نحوه يخص 19 ( { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } )9 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى ، الحر بالحر } )9 ( { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ، فلا يسرف في القتل } ) .
2912 وقوله : ( العمد قود ، من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ، إن أحبوا قتله ، وإن أحبوا الدية ) على أن 19 ( { كتب عليكم القصاص } ) إنما ورد والله أعلم في المسلمين ، بدليل 19 ( { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } ) فخاطب المسلمين ، ثم قال سبحانه : 19 ( { فمن عفي له من أخيه شيء } ) والكافر ليس بأخ للمسلم 19 ( { وكتبنا عليهم فيها } ) شرع من قبلنا ولا نسلم أنه شرع لنا ، ولو سلم فقد ورد شرعنا بخلافه ، ثم قد قيل : إن فيها ما يدل على إرادة المسلمين ، وهو قوله سبحانه : 19 ( { فمن تصدق به فهو كفارة له } ) ولا كفارة للكافر ولا صدقة .
2913 وما روى ابن البيلماني أن النبي أقاد مسلماً بذمي ، وقال : ( أنا أحق من وفى بذمته ) رواه الدارقطني . مردود ( أولاً ) بضعفه ، فإن أحمد قال في رواية الميموني : ليس له إسناد . وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه : الحق فيمن ذهب إلى حديث رسول الله : ( لا يقتل مؤمن بكافر ) وإن احتج بحديث البيلماني محتج فهو عندي مخطىء ، وإن حكم به حاكم ثم رفع إلى آخر رده ، وهذا مبالغة في ضعف الحديث ، وأن مثله لا يسوغ معه الاجتهاد ، وقال الدارقطني : ابن البيلماني ضعيف ، لا تقوم به حجة ( وثانياً ) بأنه حكاية فعل لا عموم له ، فيحمل إن صح على أنه قتله وهو كافر ثم أسلم .
واعترض على دليلنا بأن قوله : ( لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ) لا بد فيه من تقدير ، وإلا يلزم أن ذو العهد لا يقتل في عهده مطلقاً ، إذ يقتل بالذمي والمعاهد ، والتقدير : ولا ذو عهد في عهده بحربي والقيد في المعطوف قيد في المعطوف عليه ، وأجيب ( أولاً ) بالمنع ، وأن العطف إنما يقتضي التشريك في أصل الحكم ، لا في توابعه ، والعطف في أنه لا يقتل ، من غير نظر إلى تعيين من يقتل به ، كما تقول : مررت بزيد قائماً وعمرو ، أي ومررت بعمرو ، ولا يلزم أن يكون قائماً ( وثانياً ) أنه ليس المراد والله أعلم أنه لا يقتل إذا قتل ، بل ( في ) ( إما ظرفية ) كما هو الأصل فيها ، أي ولا ذو عهد ما دام باقياً في عهده ، نبه أن العهد لا يقتضي العصمة مطلقاً ، كما في الذمة ، بل في زمن العهد خاصة ، ( أو سببية ) .
2914 كما في الصحيح أن امرأة دخلت النار في هرة . أي ولا ذو عهد بسبب عهده ، نبه بذلك على أن العهد سبب لعصمة الدم ، وناسب ذكر ذلك هنا ، لئلا يتوهم من عدم قتل المسلم بالكافر التساهل في قتل الكافر ، فبين أنه وإن لم يقتل المسلم بالكافر ، لكن لا يقتل المعاهد ، ما دام له عهد . انتهى .
وقول الخرقي : ولا يقتل مسلم بكافر . يستثنى منه صورتان ( إحداهما ) إذا قتله أو جرحه وهو كافر ثم أسلم ، فإنه يقتل به على المنصوص ، نظراً لابتداء الحال ، وفيه احتمال ، اعتماداً على إطلاق الحديث ( والصورة الثانية ) إذا قتله في المحاربة ، على إحدى الروايتين ، ومفهوم كلامه أن المسلم يقتل بالمسلم ، والكافر بالكافر ، وهو كذلك في الجملة ، إذ لا بد من عصمة المقتول .
( تنبيه ) : ( فلق الحبة ) هو شقها للإنبات ، ( وبرأ النسمة ) البرء الخلق ، والنسمة كل ذي روح ، ( والتكافؤ ) التماثل والتساوي ، أي أنهم متساوون في القصاص والدية ، لا فضل لشريف على وضيع ، ولا كبير على صغيرة ، ونحو ذلك ، ( وهم يد على من سواهم ) أي أنهم مجتمعون يداً واحدة على غيرهم ، من أرباب الملك فلا يسع أحداً منهم أن يتقاعد عن نصرة أخيه المسلم ، ( ويسعى بذمتهم أدناهم ) أي أدنى المسلمين إذا أعطى أماناً ، فعلى الباقين موافقته ، وأن لا ينقضوا عهده ( وأحدث حدثاً ) الحدث الأمر الحادث ، والمراد هنا الجناية والجرم ، ( وآوى محدثاً ) آواه ضمه إليه وحماه ، والمحدث الذي يجني الجناية .
قال : ولا حر بعبد .
ش : لمفهوم 19 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر } ) .
2915 ولما روى الدارقطني بإسناده عن إسماعيل بن عياش ، عن الأوزاعي ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رجلاً قتل عبده متعمداً ، فجلده النبي ونفاه سنة ، ومحا اسمه من المسلمين ، ولم يقده به ، وأمره أن يعتق رقبة . وإسماعيل بن عياش حجة في الشاميين على الصحيح .
2916 وعن علي رضي الله عنه : السنة أن لا يقتل حر بعبد . رواه أحمد ، وهو منصرف إلى سنة رسول الله .
2917 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( لا يقتل حر بعبد ) رواه الدارقطني .
2918 وروى أيضاً عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جدّه ، أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد ، ولأن القصاص لا يجري بينهما في الأطراف ، فكذلك في النفس ، كالأب مع ابنه ، وبهذا يتخصص ( النفس بالنفس ) ( العمد قود ) ( المسلمون تتكافؤ دماؤهم ) ونحوه .
2919 وما في السنن من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله قال : ( من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه ) وفي رواية : ( ومن خصى عبده خصيناه ) محمول على من قتل من كان عبده ، أراد والله أعلم أن يبين أن إنعامه بالعتق لا يمنع القصاص ، جمعاً بين الأدلة ولأن في الحديث : ( ومن جدع عبده جدعناه ) وقد نقل الإجماع أن ذلك لا يجب .
وعموم كلام الخرقي يقتضي أن الحر لا يقتل بالعبد ، وإن كان الحر ذمياً ، وهو كذلك كما سيأتي ، ويستثنى من عموم كلامه إذا قتله أو جرحه وهو رقيق ، ثم أعتق ، وإذا قتله في المحاربة على رواية ، ومفهوم كلامه أن الحر يقتل بالحر ، وهو كذلك بلا ريب ، وأن العبد يقتل بالعبد ، وهو المذهب بلا ريب ، لعموم قوله سبحانه : 19 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } )9 ( { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ) ، وقوله : ( المسلمون تتكافؤ دماؤهم ) ونقل ( عنه ) جماعة القصاص بينهم إذا استوت قيمتهم ، مراعاة لجانب المالية ، مع إعمال القصاص في الجملة ، قال في المغني : وينبغي أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر يعني انتفاء القصاص ، وكذلك ذكر أبو البركات الرواية ، ويستثنى من عموم المفهوم المكاتب لا يقتل بعبده .
قال : وإذا قتل الكافر العبد عمداً فعليه قيمته ، ويقتل لنقض العهد .
ش : أي أن الكافر لا يقتل بالعبد المسلم ، لما تقدم من أن الحر لا يقتل بالعبد ، وهو يشمل المسلم والكافر ، وإذا انتفى القصاص وجبت الدية ، ودية العبد قيمته كما سيأتي ، ويقتل الكافر لنقضه العهد ، إذ مما ينتقض به عهد الكافر قتل المسلم ، هذا هو المذهب المنصوص .
2920 لما روي أن ذمياً كان يسوق حماراً بامرأة مسلمة ، فنخسه فرماها ، ثم أراد إكراهها على الزنا ، فرفع إلى عمر رضي الله عنه ، فقال : 16 ( ما على هذا صالحناهم ) ، فقتله وصلبه .
2921 وروي في شروط عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى عبد الرحمن بن غنم أن ألحق بالشروط : 16 ( من ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده ) . وقيل ( عنه رواية أخرى ) لا ينتقض العهد بذلك ، مخرجة مما إذا قذف مسلماً ، قال أبو البركات : والأصح التفرقة ، وعلى هذه الرواية يؤدب بما يراه ولي الأمر .
قال : والطفل والزائل العقل لا يقتلان بأحد .
ش : لعدم جريان قلم التكليف عليهما ، قال النبي : ( رفع القلم عن ثلاث ، عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ) .
2922 وقد روى الإمام مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، أن مروان كتب إلى معاوية بن أبي سفيان أنه أتي إليه بمجنون قد قتل رجلاً ، فكتب إليه معاوية بن أبي سفيان أن اعقله ولا تقد منه ، فإنه ليس على مجنون قود ، وقد شمل كلام الخرقي السكران ، ومن شرب البنج ونحوه ، وقد تقدم الكلام على ذلك في الطلاق .
2923 وفي الموطأ أن مالكاً رحمه الله بلغه أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية أنه أتي بسكران قد قتل فكتب إليه أن اقتله .
قال : ولا يقتل والد بولده .
2924 ش : لما روى حجاج بن أرطاة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( لا يقاد الوالد بالولد ) رواه أحمد وابن ماجه ، والترمذي وهذا لفظه ، وقال : وقد روي عن عمرو بن شعيب مرسلاً ، وروى البيهقي نحوه من رواية ابن عجلان عن عمر رضي الله عنه ، وصحح إسناده ، وقال ابن عبد البر : هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق ، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه .
2925 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول : ( لا تقام الحدود في المساجد ، ولا يقتل الوالد بالولد ) .
2926 وعن سراقة بن مالك رضي الله عنه قال : حضرت رسول الله يقيد الأب من ابنه ، ولا يقيد الابن من أبيه رواهما الترمذي ، وفي الصحيح عنه أنه قال : ( أنت ومالك لأبيك ) وهذه الإضافة إن لم تثبت حقيقة الملكية فهي شبهة تدرأ القصاص ، ولأن الأب سبب إيجاده ، فلا يناسب أن يكون الابن سبباً في إعدامه .
قال : وإن سفل .
ش : لا يقتل والد بولده وإن سفل الولد ، لأنه ولد ، ومن علا والد ، فيدخل فيما تقدم ، قال سبحانه : 19 ( { يوصيكم الله في أولادكم } ) دخل فيه ولد الولد ، وقال سبحانه : 19 ( { ملة أبيكم إبراهيم } ) .
قال : والأم والأب في ذلك سواء .
ش : لأنها أحق بالبر من الأب .
2927 بدليل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله أي الناس أحق مني بحسن الصحبة ؟ قال : ( أمك ) قال : ثم من ؟ قال : ( أمك ) قال : ثم من ؟ قال : ( أمك ) متفق عليه ، ولمسلم في رواية : من أبر . وإذا كانت أحق بالبر اندرأ عنها القصاص بطريق الأولى ، وحكى أبو بكر وأبو محمد عن أحمد قولاً بوجوب القصاص على الأم لا الأب ، وأخذه أبو بكر من رواية حرب في امرأة قتلت ولدها ، قال أحمد : أما الرجل إذا قتل ولده فقد بلغنا أنه لا يقتل ، ولم يبلغنا في المرأة شيء ، ومنع ذلك القاضي ، وقال : هذا نقل للتوقف ، لا لوجوب القصاص ، فالأم لا تقتل رواية واحدة ، وأخذه أبو محمد من قول أحمد في رواية مهنا في أم ولد قتلت سيدها عمداً : تقتل . قال : من يقتلها ؟ قال : ولدها . وهذا إنما يدل على أن القصاص لا يسقط بانتقاله إلى الولد ، لا أن القصاص يجب بقتل الولد ، ولذلك حكى أبو البركات الرواية ، ولم يلتفت إلى حكايتها في وجوب القود بقتل الولد .
قال : ويقتل الولد بقتل كل واحد منهما .
ش : هذا المشهور ، والمختار للأصحاب ، من الروايتين ، لظواهر الآي ، والأخبار السالمة عن معارض ، ولحديث سراقة المتقدم ، ولأنه إذا قتل بالأجنبي فبهما أولى ، لعظم حرمتهما ، ونقل حنبل : لا يقتل ولد بوالده ، ونحوه نقل مهنا ، لأنه لا تقبل شهادته له بحق النسب ، فلم يقتل به كالأب مع ابنه .
( تنبيه ) : اختلف في الجد من قبل الأم يقتل ابن ابنته ، وابن البنت يقتل جده لأمه ، هل حكم ذلك حكم الجد من قبل الأب ، وحكم الابن من الصلب ، أو لا ، فيجري القصاص بينهما بلا ريب ؟ على وجهين ، وكلام الخرقي محتمل .
قال : وتقتل الجماعة بالواحد .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمختار من الروايتين .
2928 لما في الموطأ عن سعيد بن المسيب ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل قتلوه قتل غيلة ، وقال عمر رضي الله عنه : 16 ( لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً ) . وفي البخاري نحوه .
2929 وعن علي رضي الله عنه 16 ( أنه قتل ثلاثة برجل ) ، ولأن فيه سداً للذريعة ، وحسماً للمادة ، وتحقيقاً لحكمة الردع والزجر التي فيها حياتنا ، ونقل حنبل : لا تقتل الجماعة بواحد ، فذكر له حديث عمر فقال : ذلك في أول الإسلام ، وفي لفظ عنه : هذا تغليظ من عمر . وحسن هذا ابن عقيل في فصوله . وذلك لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { الحر بالحر } )9 ( { النفس بالنفس } ) .
2930 ويروى عن معاذ أنه خالف عمر رضي الله عنهما ، وقال : 16 ( لا تؤخذ نفسان بنفس ) . واختلف عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فعلى هذا الواجب دية واحدة بين القاتلين ، وعلى الأولى هل تجب عليهم دية لأنها بدل ما أتلفوه ، وفارق القصاص ، لأنه إنما وجب سداً للذريعة ، أو ديات ، وهو الذي ذكره أبو بكر ، وصححه الشيرازي ، إذ كل واحد كالمنفرد بالقتل ، بدليل ما لو عفى عن بعضهم ، لم يتجاوزه العفو .
( تنبيه ) : شرط قتل الجماعة بالواحد أن يكون فعل كل واحد منهم صالحاً للقتل به ، ( والغيلة ) بكسر الغين القتل خديعة ومكراً ، من غير أن يعلم أنه يراد بذلك .
قال : وإذا قطعوا يداً قطعت نظيرتها من كل واحد منهم .
ش : لما ذكر أن الجماعة تقتل بالواحد ، ذكر أيضاً أن الأطراف يؤخذ منها الطرف الواحد بأكثر منه ، وهذا هو المذهب ، وذلك لما تقدم من سد للذريعة ، ولأنه أحد نوعي القصاص ، فأخذ فيه الجماعة بالواحد كالأنفس .
2931 وقد روي عن علي رضي الله عنه أن شاهدين شهدا عنده بالسرقة ، فقطع يده ، ثم جاءا بآخر فقالا : هذا هو السارق ، وأخطأنا في الأول ، فرد شهادتهما على الثاني ، وغرمهما دية الأول ، وقال : 16 ( لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما ) . رواه الأثرم بسنده عن الشعبي ، عن علي رضي الله عنه . وذكره الإمام أحمد في رواية الميموني ( وعن أحمد ) رواية أخرى لا تقطع الأطراف بطرف واحد ، كما لا تقتل الجماعة بالواحد بل أولى ، إذ النفس أشرف من الطرف ، فلا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد المحافظة على ما دونها .
وقول الخرقي : قطعت نظيرتها ، أي إذا كانت يميناً قطعنا من كل واحد منهم اليمين ، وكذلك إذا كانت يساراً قطعنا من كل واحد اليسار ، ولا تؤخذ يسار بيمين ، ولا يمين بيسار ، لعدم المماثلة المعتبرة شرعاً ، وشرط وجوب القصاص على الجماعة في الطرف أن يشتركوا في ذهابه ، على وجه لا يتميز فعل أحدهم من فعل صاحبه ، كأن يشهدوا عليه بما يوجب قطع طرفه ، ثم يرجعوا ويقولوا تعمدنا ذلك ، أو يكرهوا إنساناً على قطع طرف فيقطعون مع المكره ، أو يلقوا صخرة على إنسان فتقطع طرفه ، أو يضعوا حديدة على مفصل ، ويتحاملوا جميعاً حتى تبين العضو ، ونحو ذلك ، فإن قطع كل واحد من جانب لم يجب القصاص ، لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ، ولم يشارك في قطع جميعها .
قال : وإذا قتل الأب وغيره عمداً قتل من سوى الأب .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، والمقطوع به عند عامة الأصحاب ، لأن القتل تمحض عمداً عدواناً ، وإنما سقط عن الأب لمعنى قام به ، فلا يتعدى إلى غيره ، ولأن هذا القتل أعظم إثماً وأكبر جرماً .
2932 قال النبي لما سئل عن أعظم الذنب قال : ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ، ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ) فإذا وجب القصاص في غير هذا القتل ففيه بطريق الأولى والأحرى ، وسقوطه عن الأب لما تقدم ، لا لقصور في السبب المقتضي ، ( والرواية الثانية ) لا يجب القصاص على غير الأب ، كما لم يجب على الأب ، إذ الزهوق وجد منهما ، فلم يتمحض القتل موجباً للقصاص ، وهذا ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه ، قال : إذا اجتمع في القود من يقاد ومن لا يقاد فلا قود .
قال : وإذا اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ ، لم يقتل واحد منهم .
ش : هذا أيضاً هو المشهور من الروايتين ، والمختار لجمهور الأصحاب ، إذ عمد الصبي والمجنون في حكم الخطأ ، لعدم اعتبار قصدهما شرعاً ، وإذا القتل لم يتمحض عمداً عدواناً ، فلم يوجب القصاص ، كما لو كانا خاطئين وكقتل شبه العمد ، ( ونقل ابن منصور عن أحمد ) القصاص على البالغ دونهما ، وهو اختيار أبي بكر فيما حكاه القاضي ، وظاهر ما في التنبيه على ما تقدم انتفاء القود ، لأن فعله لو انفرد لأوجب فكذلك إذا وجد مع غيره إذ السقوط عن الغير لمعنى اختصّ به .
قال : وكان على العاقل ثلث الدية في ماله ، وعلى عاقلة كل واحد من الصبي والمجنون ثلث الدية ، وعتق رقبتين في أموالهما ، لأن عمدهما خطأ .
ش : أما وجوب الدية عليهم أثلاثاً فلأن ذهاب النفس حصل من فعلهم ، والنفس فيها دية ، وهم ثلاثة ، فكانت الدية عليهم أثلاثاً ، ولأن الدية بدل المحل المتلف ، بدليل اختلافها باختلافه ، والمحل واحد ، فديته واحدة ، وكذلك الحكم في المسألة السابقة ، إذا عدل الولي إلى طلب المال ، يجب على شريك الأب بقسطه ، كذا ذكره الشيخان ، وقد يقال : يجب على شريك الأب جميع الدية ، بناء على المذهب ، من أنه يقتل ، وعلى رواية أن الجماعة إذا قتلوا واحداً وجبت عليهم ديات ، انتهى . وأما كون ما يلزم العاقل يكون في ماله ، فلأن فعله عمد ، والعاقلة لا تحمل عمداً ، وأما كون ما يلزم الصبي والمجنون يكون على عاقلتهما ، فلأن فعلهما في حكم الخطأ ، والخطأ والحال هذه تحمله العاقلة ، فكذلك ما في حكمه .
وقد شمل كلام الخرقي الصبي العاقل وغيره ، وهو كذلك على المشهور ( وعن أحمد ) رواية أخرى في الصبي العاقل أن عمده في ماله ، نظراً إلى أن له قصداً صحيحاً في الجملة ، بدليل صحة صلاته ، ونحو ذلك ، وسقوط القصاص عنه كان لعدم جريان القلم الخطابي عليه ، انتظار تكامل عقله .
وأمّا كون على الصبي والمجنون عتق رقبتين في أموالهما ، فلأن الله سبحانه جعل في قتل الخطأ الدية والكفارة ، وهذا القتل جار مجرى الخطأ ، فأعطي حكمه ، وكان مقتضى قوله سبحانه : 19 ( { فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة } ) مع قوله : ( لا يجني جان إلا على نفسه ) أن ذلك على الخاطىء أو من بمعناه ، لكن قام الدليل أن الدية في ذلك على العاقلة فيبقى فيما عداه على مقتضى ما تقدم ، وهذا أيضاً هو المشهور عن أحمد ، بناء على أن على كل واحد من المشتركين كفارة ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن على الجميع كفارة واحدة ، فعلى هذه يكون على الصبي والمجنون ثلثي رقبة ، ونبه الخرقي بوجوب الكفارة على الصبي والمجنون بوجوبها على البالغ ، وقوله : لأن عمدهما خطأ ، تعليل لإسقاط القصاص في أصل المسألة ، وفي أن ما لزمهما يكون على عاقلتهما ، وفي لزوم الكفارة لهما .
قال : ويقتل الذكر بالأنثى .
ش : لا نزاع في ذلك ، لقوله سبحانه : 19 ( { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ) .
2933 وقوله : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) ذكر منها : ( النفس بالنفس ) ولحديث اليهودي الذي قتل الجارية ، فقتله النبي بها وقد تقدم .
2934 وفي كتاب عمرو بن حزم عن أبيه عن جده ، ( ويقتل الذكر بالأنثى ) رواه مالك والنسائي ؛ وإذا قتل الذكر بالأنثى فلا شيء لورثته على المذهب بلا ريب ، اعتماداً على ظاهر الآية والحديث ، ونقل إبراهيم بن هانى عن أحمد : يقتل ويعطى ورثته نصف الدية .
2935 وروى ذلك سعيد في سننه عن علي رضي الله عنه ، والظاهر أنه مستند أحمد .
قال : والأنثى بالذكر .
ش : لا خلاف في هذا أيضاً لا في القصاص ولا في الدية ، إذ هو أعلى منها ، أشبه العبد يقتل بالحر .
قال : ومن كان بينهما في النفس قصاص فهو بينهما في الجراح .
ش : يعني من جرى بينهما في النفس قصاص ، جرى بينهما في الجروح ، قياساً للجروح على النفس ، فيقتص للحر المسلم والعبد ، والذمي من مثلهم ، ويقتص للذكر من الأنثى ، وبالعكس ، ويقتص من الناقص للكامل ، كالكافر بالمسلم ، والعبد بالحر ، ولا يقتص من مسلم لكافر ، ولا من حر لعبد ، ونحو ذلك كما في الأنفس سواء ، ولهذه المسألة تتمة تأتي إن شاء الله تعالى .
قال : وإذا قتله رجلان أحدهما مخطئ ، والآخر متعمد ، فلا قود على واحد منهما .
ش : قد تقدم هذا فيما إذا قتل بالغ وصبي ومجنون ، وحكينا الخلاف ، وأن المذهب ما قاله الخرقي ، وكذلك الخلاف هنا والمسألة واحدة ، وكان حق الخرقي أن يقدم هذه المسألة .
قال : وعلى العامد نصف الدية في ماله ، وعلى عاقلة المخطئ نصفها ، وعليه في ماله عتق رقبة مؤمنة .
ش : قد تقدم مثل هذا سواء في مسألة البالغ والصبي والمجنون ، ونزيد هنا بأن ظاهر كلام الخرقي أن العامد لا كفارة عليه فيه ، وسيصرح بهذه المسألة فيما بعد ، والله أعلم .
قال : ودية العبد قيمته وإن بلغت ديات .
ش : هذا هو المشهور والمختار للأصحاب ، من الروايتين ، نظراً للمالية ، مع قطع النظر عما سواها ، وبيان ذلك أنه مال متقوّم ، فضمن بكمال قيمته بالغة ما بلغت ، كغيره من الأموال ( والرواية الثانية ) أنه لا يبلغ به دية الحر ، نظراً للمالية والآدمية معاً ، وبيان ذلك أنه ضمان آدمي ، فلم يزد على دية الحر كالحر ، وذلك أن الله تعالى لما أوجب في الحر دية مقدرة ، وهو أشرف من العبد ، كان ذلك تنبيهاً على أن العبد لا يزاد عليها ، بل ينبغي أن ينقص عنها لنقصه عنه قطعاً ، ولهذا الخلاف التفات إلى أن العبد هل يملك أو لا يملك إذ منشأ الخلاف أن له شبهاً بالبهائم وبالأحرار ، والله أعلم .
( تنبيه ) : لم يقدر أحمد النقص على هذه الرواية ، فينبغي أن يكتفي بما يعد في العرف نقصاً ، والله أعلم .
[ باب ] باب القود )
ش : القود القصاص ، والقتل يقع على ثلاثة أضرب ، ( واجب ) وهو قتل المحارب ، والزاني المحصن ، والمرتد ، وتارك الصلاة بشرطه ، وكذلك في الدفع عن حرمته ، وعن نفسه في رواية ، ( ومباح ) وهو القتل قصاصاً أو دفعاً عن النفس في رواية ( ومحظور ) وهو القتل عمداً بغير حق ، وهو من الكبائر العظام ، والجرائم التي تقرب من الشرك بالله المستعان ، حتى أن العلماء اختلفوا في قبول توبة من فعل ذلك ، على قولين هما روايتان عن الإمام ، وإن كان المشهور عنه وعن غيره قبول ذلك تفضلاً من الله وإحساناً ، ونبسط ذلك لا يليق بهذا المكان .
قال : ولو شق بطنه فأخرج حشوته فقطعها ، فأبانها منه ، ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الأول .
ش : الحشوة بكسر الحاء وضمها الأمعاء ، فإذا قطع حشوته وأبانها منه ، أو فعل به فعلاً لا تبقى الحياة معه ، ولا حياة مستقرة فيه ، فقد صبره في حكم الميت ، فيعطى حكمه ، وإذاً القاتل هو الأول ، ولا شيء على الثاني من قصاص أو دية نعم عليه التعزير ، لارتكابه المحرم .
قال : ولو شق بطنه ثم ضرب عنقه آخر ، فالثاني هو القاتل ، لأن الأول لا يعيش مثله ، والثاني قد يعيش مثله .
ش : ضابط ذلك أن يفعل به فعلاً يجوز بقاء الحياة معه ، ثم يقتله آخر ، فالثاني هو القاتل ، لأنه المفوت للنفس جزماً ، قال أبو محمد : وكذلك الحكم إذا لم يجز بقاؤه مع الجناية ، إلا أن فيه حياة مستقرة كخرق المعى وأم الدماغ .
2936 لأن عمر رضي الله عنه لما جرح سقوه لبناً فخرج ، فعلم أنه ميت ، فقيل له : اعهد إلى الناس ، فعهد إليهم ، وجعل الخلافة في أهل الشورى فقبل الصحابة عهده وعملوا به .
قال : وإذا قطع يديه ورجليه ثم عاد فضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه ، قتل ولم تقطع يداه ولا رجلاه في إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى قال : إنه لأهل أن يفعل به كما فعل .
ش : الرواية الأولى هي المشهورة عن أحمد ، واختيار الأكثرين الخرقي وأبي بكر ، والقاضي في خلافه وفي روايتيه ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل والشيرازي .
2937 لما روى عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه أن النبي نهى عن النهبى والمثلة ، رواه البخاري ، والمثلة تشويه خلقة القتيل ، كجدع أطرافه ، وقطع مذاكيره ، ونحو ذلك ، وإذا فعل به مثل ما فعل فقد مثل به فيدخل في النهي .
2938 وعن النبي أنه قال : ( لا قود إلا بالسيف ) رواه ابن ماجه ، إلا أن أحمد قال : ليس إسناده بجيد ، ولأن القصاص أحد بدلي النفس ، فدخل في حكم النفس كالدية ( والرواية الثانية ) نقلها الأثرم وهي أوضح دليلاً ، لقول الله تعالى : 19 ( { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } )9 ( { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } )9 ( { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ) ولحديث أنس بن مالك رضي الله عنه المتقدم أن يهودياً رضّ رأس جارية بين حجرين ، فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله أن يرض رأسه بالحجارة ، متفق عليه ، فرتب رسول الله الرض على اعترافه .
2939 وعنه : ( من حرق حرقناه ، ومن غرق غرقناه ) وهذه الأدلّة أخصّ من حديث المثلة ، قال أبو العباس رحمه الله : هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل ؛ ( فعلى هذه الرواية ) متى اقتصر على ضرب عنقه فهو أفضل ، وإن قطع ما قطعه الجاني أو بعضه ، ثم عفى مجاناً فله ذلك ، فإن عفى إلى الدية لم يجز إذ جميع ما فعل بوليه لم يوجب إلا دية ، فإن فعل فله ما بقي من الدية ، فإن لم يبق شيء فلا شيء له ، ( وعلى الأولى ) إن فعل به مثل ما فعل فقد أساء ولا شيء عليه ، فإن قطع طرفاً ثم عفى إلى الدية كان له تمامها ، وإن قطع ما يوجب دية ثم عفى لها لم يكن له شيء ، وإن قطع ما يجب به أكثر من دية ثم عفى ، فهل يلزمه ما زاد على الدية ، أو لا ؟ فيه احتمالان ، وكذلك لو تساوى العضوان في الدية ، واختلفا في المحل ، كأن قطع يده فقطع الولي رجله ثم قتله ، فهل يلزمه ضمان الرجل لعدم استحقاقها له بوجه ، أو لا يلزمه لتساويهما في الضمان ؟ فيه احتمالان أيضاً .
ويستثنى على هذه الرواية إذا قتله بمحرم كتجريعه الخمر ، واللواط ، والسحر ، وفي النار خلاف .
وقول الخرقي : قبل أن تندمل جراحه ، احترازاً مما إذا اندملت كما سيأتي ، وقوله : قتل ، أي بالسيف ، لأنه الآلة التي يشرع القصاص بها .
قال : فإن عفا عنه الولي فعليه دية واحدة .
ش : لا خلاف في هذا نعلمه في المذهب ، لأنه قاتل قبل استقرار الجرح ، فدخل أرش الجراحة في أرش النفس ، كما لو حصل ذلك بالسراية .
قال : ولو كانت الجراح برأت قبل قتله ، فعلى المعفو عنه ثلاث ديات ، إلا أن يريدوا القود فيقيدوا ويأخذوا من ماله ديتين .
ش : إذا قطع يديه ورجليه وبرأ ذلك قثم قتله ، فقد استقر حكم القطع ، فللولي أن يقتص من الجميع بلا نزاع ، وله أن يعفو عنه ويأخذ ثلاث ديات ، دية لنفسه ، ودية للرجلين ، ودية لليدين ، وله أن يقتص منه في النفس ، ويأخذ منه دية الأطراف ، وله أن يقتص منه في الأطراف ويأخذ دية النفس ، وله أن يقتص في بعض الأطراف ، ويأخذ دية بعضها ، إذ حكم القطع استقر ، فلا يتغير حكمه بالقتل بعد ذلك ، والله أعلم .
قال : ولو رمى حر مسلم عبداً كافراً ، فلم يقع به السهم حتى أسلم وعتق ، فلا قود وعليه دية حر مسلم إذا مات من الرمية .
ش : لا نزاع في وجوب دية حر مسلم إذا مات من الرمية ، لأن الإتلاف حصل لنفس حر مسلم ، واختلف في وجوب القود ، فنفاه الخرقي ، وتبعه القاضي ، وابن حامد ، فيما حكاه تلميذه ، إذ الرمي جزء من الجناية ، ولا ريب في انتفاء المكافأة حال الرمي ، وإذا عدمت المكافأة في بعض الجناية ، عدمت في كلها ، إذ الكل ينتفي بانتفاء بعضه .
وأثبته أبو بكر ، وابن حامد فيما حكاه ابن عقيل في التذكرة ، وهو ظاهر كلام أحمد ، لقوله في رجل أرسل سهماً على زيد ، فأصاب عمراً : هو عمد ، عليه القود ؛ فاعتبر الحظر في ابتداء الرمي ، وذلك لأنه قتل مكافئاً له ظلماً عمداً ، فوجب القصاص ، كما لو كان حال الرمي كذلك ، يحققه لو رمى مسلماً فلم يصبه السهم حتى ارتد ومات ، فإنه لا قصاص عليه ، وملخص ما تقدم أن سبب السبب وهو الرمي هل حكمه حكم السبب الذي هو الإصابة أم لا ؟ يخرج على قولين ، ولهذا شبه بما إذا تعددت الأسباب كما يذكر في مسألة التجاذب ، هل يناط الحكم بالجميع أو بآخرها ؟ على قولين ، فترتب الحكم على الجميع شبه قول أبي بكر ، وتعلق الحكم بالآخر ، وهو المشهور ، شبه قول الخرقي .
قال : وإذا قتل رجل اثنين ، واحداً بعد واحد ، فاتفق أولياء الجميع على القود ، أقيد لهما ، وكذلك إن أراد أولياء الأول القود ، والثاني الدية أقيد للأول ، وأعطي أولياء الثاني الديّه من ماله ، وكذلك إن أراد أولياء الأول الدية ، والثاني القود .
ش : إذا قتل واحد جماعة فرضي أولياؤهم بأخذه بجميعهم ، أخذ بهم ، لرضاهم بدون حقهم ، أشبه ما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء ، وإن طلب أحدهم القصاص ، والآخر الدية ، فلهم ذلك ، سواء كان من رضي بالقود حقه متقدماً أو متأخراً .
2940 لعموم قول النبي : ( من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ، إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية ) وإن تشاحوا فيمن يقتص منه منهم على الكمال ، فإن كانت حقوقهم تعلقت به في حال واحدة ، قدم أحدهم بالقرعة ، وإن اختلف وقت التعلق فهل يقدم أحدهم بالقرعة ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً لتساوي حقوقهم بالنسبة إلى البدل والمال ، أو أسبقهم ، لتميزه بالسبق ، وبه جزم أبو محمد ؟ فيه وجهان .
قال : وإذا جرحه جرحاً يمكن الاقتصاص منه بلا حيف اقتص منه .
ش : الأصل في جريان القصاص في الجروح في الجملة الإجماع ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { والجروح قصاص } ) .
2941 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية ، فطلبوا إليها العفو ، فأبوا ، فعرضوا الأرش فأبوا ، فأتوا رسول الله وأبوا إلا القصاص ، فأمر رسول الله بالقصاص ، فقال أنس بن النضر رضي الله عنه : أتكسر ثنية الربيع ، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها . فقال رسول الله : ( يا أنس كتاب الله القصاص ) فرضي القوم ، فقال رسول الله : ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) رواه البخاري ، وفي رواية مسلم أن أخت الربيع جرحت إنساناً ، وأن السائل أم الربيع ، ولعلهما واقعتان .
إذ تقرّر هذا فيشترط لجريان القصاص في الجروح ثلاثة شروط ( أحدها ) إمكان القصاص من غير حيف ، ككل جرح ينتهي إلى عظم ، كما في الموضحة ، لقول الله تعالى : 19 ( { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ) ثم قال سبحانه وتعالى : 19 ( { واتقوا الله } ) أي إذا اقتصصتم ، وقال سبحانه : 19 ( { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ) فأباح لنا سبحانه أن نفعل مثل ما فعل بنا ، فإذا لم يمكن الاستيفاء إلا بحيف لم نفعل مثل ما فعل بنا ، بل زدنا عليه ، فلم نتق الله ، كما في الجناية المبتدأة ( الشرط الثاني ) أن يكون الجارح ممن يؤخذ بالمجروح لو قتله ، وذلك بأن يجرحه عمداً محضاً ، فلا قصاص في الخطأ إجماعاً ، وكذلك في شبه العمد على المذهب كالأنفس ، كما لو ضربه بحصاة لا يوضح مثلها ، فأوضحت ، وخالف أبو بكر وتبعه الشيرازي ، فأوجب القصاص في الجروح في شبه العمد ، كأن يضربه بشيء لا يقطع الطرف فيتلفه ، لعموم ( والجروح قصاص ) وهو منتقض بالخطأ ، وله أن يجيب بأنه خرج بالإجماع ، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم ( الشرط الثالث ) التكافؤ بين الجارح والمجروح ، كما تقدم في قول الخرقي : ومن كان بينهما في النفس قصاص ، فهو بينهما في الجراح . ومقتضي كلام الشيخ أبي محمد أن قول الخرقي : ومن كان بينهماقصاص في النفس ، فهوبينهما في الجراح . وقوله بعد : إذا كان الجاني ممن يقاد من المجني عليه لو قتله ؛ معناهما واحد ، وقد يحمل أحدهما على التكافؤ ، والآخر على اشتراط العمدية ، دفعاً للتكرار ، وحذاراً من فوات شرط .
واعلم أن ظاهر كلام ابن حمدان في الرعاية الصغرى تبعاً لأبي محمد في المقنع أن المشترط لوجوب القصاص أمن الحيف ، وهو أخص من إمكان الاستيفاء بلا حيف ، والخرقي رحمه الله إنما اشترط إمكان الاستيفاء ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني ، وأبو البركات ، وجعل أبو البركات أمن الحيف شرطاً لجواز الاستيفاء وهو التحقيق ، وعليه لو أقدم واستوفى ولم يتعد وقع الموقع فلا شيء عليه ، وكذا صرح أبو البركات ، وعلى مقتضى قول ابن حمدان ، وما في المقنع ، يكون جناية مبتدأة ، يترتب عليها مقتضاها .
قال : وكذلك إن قطع منه طرفاً من مفصل ، قطع منه مثل ذلك المفصل ، إذا كان الجاني ممن يقاد من المجني عليه لو قتله .
ش : لا نزاع في جريان القصاص في الأطراف ، وقد دلّ عليه قوله تعالى : 19 ( { والعين بالعين } ) إلى آخر الآية ، ويشترط لذلك ما تقدم ، وإمكان الاستيفاء هنا من غير حيف ، ( بأن يكون ) القطع من مفصل ، كالكوع والكعب ونحو ذلك ، ويلتحق بذلك ما له حد ينتهي إليه ، كمارن الأنف وهو ما لان منه ، فإن كان من غير مفصل ، كنصف الذراع ، ونصف الساق ونحو ذلك ، فلا قصاص من ذلك الموضع بلا ريب ، حذاراً من الحيف الممنوع منه شرعاً .
وهل يقتص من المفصل الذي دونه ، كالكوع والكعب ، لرضاه بدون حقه ، أشبه ما لو رضى صاحب الصحيحة بالشلاء ، أو تتعين الدية ، وهو المنصوص ، واختيار أبي بكر ، وحكاه في الهداية عن الأصحاب ، حذاراً من أن لا يفعل به مثل ما فعل به .
2942 ولما روي أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف ، فقطعها من غير مفصل ، فاستعدى عليه النبي ، فأمر له بالدية ، فقال : إني أريد القصاص ؛ فقال : ( خذ الدية بارك الله لك فيها ) ولم يقض له بقصاص ، رواه ابن ماجه ؟ فيه قولان ، فعلى القول الأول هل يكون للمجني عليه أرش الباقي ؟ فيه وجهان ، أشهرهما لا ، انتهى . ( وبأن يكون ) الطرفان متماثلين ، وذلك في شيئين ( في الاسم الخاص ) فلا تؤخذ يسار بيمين ، ولا يمين بيسار ، ولا عليا من الشفة والأجفان بسفلى ، ونحو ذلك . ( وفي الصحة والكمال ) فلا تؤخذ صحيحة بشلاء ، ولا كاملة الأصابع بناقصتها ، ونحو ذلك ، لانتفاء المماثلة المعتبرة شرعاً ، وإذا حصل الحيف ، ولا يشترط التماثل في الرقة والغلظ ، والصغر والكبر ، ونحو ذلك ، إذ اعتبار ذلك يفضي إلى إسقاط المماثلة رأساً .
قال : وليس في المأمومة ولا في الجائفة قصاص .
ش : لما ذكر الخرقي رحمه الله أن من شرط وجوب القصاص في الجروح إمكان الاستيفاء من غير حيف ، ذكر جرحاً في الرأس وهو المأمومة ، وجرحاً في الجوف وهو الجائفة ، لا يمكن الاستيفاء فيهما إلا بحيف ، أو لا يؤمن في الاستيفاء فيهما الحيف .
2943 وقد روي عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( لا قود في المأمومة ، ولا في الجائفة ، ولا في المنقلة ) رواه ابن ماجه .
2944 وعن علي رضي الله عنه : لا قصاص في المأمومة .
2945 وعن ابن الزبير رضي الله عنهما أنه اقتص من المأمومة ، فأنكر الناس عليه ، وقالوا : ما سمعنا أحداً اقتصّ منها قبل ابن الزبير ، انتهى . والمأمومة هي التي تصل إلى جلدة الدماغ ، وتسمى تلك الجلدة أم الدماغ ، لأنها تجمعه ، فالشجة الواصلة إليها تسمى مأمومة ، وآمة لوصولها إلى أم الدماغ ، والجائفة هي التي تصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو نحر ، أو غير ذلك ، والله أعلم .
قال : وتقطع الأذن بالأذن .
ش : هذا إجماع في الجملة ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { والأذن بالأذن } ) وكلام الخرقي يشمل كل أذن بكل أذن ، ويستثنى من ذلك أذن السميع ، هل تؤخذ بأذن الأصم ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا تؤخذ بها ، لنقص أذن الأصم عنها ، فأشبه اليد الصحيحة ، لا تؤخذ بالشلاء ( والثاني ) وهو اختيار القاضي ، ومقتضى كلام الخرقي وبه قطع أبو محمد في الكافي والمغني تؤخذ بها منعاً للنقص ، إذ السمع في الرأس لا في الأذن انتهى ، والأذن الصحيحة هل تؤخذ بالشلاء ؟ فيه أيضاً وجهان ( أحدهما ) لا تؤخذ لنقص الشلاء ( والثاني ) وهو اختيار القاضي أيضاً تؤخذ بها ، إذ المقصود من الأذن جمع الصوت والجمال ، وهذا حاصل فيها ، فلا نقص ، والأذن التامة بالمخرومة ، وفيها أيضاً وجهان ، تعليلهما ما تقدم ، وأبو محمد والقاضي يختاران عدم الأخذ بخلاف ثم ، لأن الخرم نقص جزء ويعد عيباً ، أما المثقوبة هل تؤخذ بها الصحيحة ؟ فرق أبو محمد بين أن يكون الثقب في محله كموضع القرط ، أو في غير محله ، ففي محله تؤخذ بها لعدم العيب ، وفي غير محله هو كالخرم ، لا تؤخذ بها عنده .
قال : والأنف بالأنف .
ش : هذا أيضاً إجماع في الجملة ، وقد شهد له قوله تعالى ؛ 19 ( { والأنف بالأنف } ) وكلام الخرقي يشمل كل أنف بكل أنف ، ويستثنى من ذلك الأنف الشام ، هل يؤخذ بالأخشم ، وهو الذي لا شم فيه ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا يؤخذ نظراً لنقص الأخشم عنه ( والثاني ) وهو مقتضى كلام الخرقي ، واختيار القاضي ، وبه جزم أبو محمد في الكافي والمغني ، يؤخذ به ، لأن عدم الشم لعلة في الدماغ ، لا لنقص في الأنف ، والأنف الصحيح هل يؤخذ بالأشل ؟ فيه أيضاً وجهان ، تعليلهما ما تقدم في الأذن الصحيحة بالشلاء ، والمختار للقاضي أيضاً الأخذ ، والأنف التام هل يؤخذ بالمخروم ؟ فيه أيضاً وجهان ، تعليلهما والمختار فيهما ما تقدم في الأذن ، وينبغي أن يجري الوجهان أيضاً في الثقب مطلقاً ، والله سبحانه أعلم .
قال : والذكر بالذكر .
ش : لا نعلم في ذلك خلافاً ، وقد دلّ على ذلك قوله سبحانه : 19 ( { والجروح قصاص } ) وقد شمل كلام الخرقي كل ذكر بكل ذكر ، ويستثنى من ذلك ذكر الخصي والعنين ، هل يؤخذ بهما الذكر الصحيح ؟ على ثلاث روايات ( إحداهن ) وهو مقتضى كلام الخرقي يؤخذ بهما ، لعموم 19 ( { والجروح قصاص } ) ودعوى النقص ممنوعة ، إذ عدم الإنزال في الخصي لذهاب الخصية ، والعنة لعلة في الظهر ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وغيرهم لا يؤخذ بهما العنين ، إذ العنين لا يطأ ولا ينزل ، والخصي لا يولد له ولا ينزل ، فأشبها ذكر الأشل ( والثالثة ) يؤخذ بذكر العنين ، لأن ذلك مرض ، والصحيح يؤخذ بالمريض ، دون ذكر الخصي لأنه مأيوس من إنزاله المني ، فهو كالأشل ، وهذا اختيار ابن حامد ، وهذا الخلاف قال القاضي في الجامع : مبني على اختلاف الرواية في دية ذلك ، والله أعلم .
قال : والأنثيان بالأنثيين .
ش : لعموم ( والجروح قصاص ) والله أعلم .
قال : وتقلع العين بالعين .
ش : هذا إجماع ، وقد شهد له قوله سبحانه : 19 ( { والعين بالعين } ) وشمل كلام الخرقي كل عين بكل عين ، ويستثنى من ذلك العين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة ، وعين الأعور إذا قلع عين صحيح ، فإنه عينه لا تقلع بها ، حذاراً من ذهاب جميع بصره بنصف بصر .
2946 واعتماداً على أن ذلك يروى عن عمر وعثمان رضي الله عنهما ، وفيه احتمال أن عينه تقلع ، ويعطى نصف الدية ولعلها من رواية قتل الذكر بالأنثى ، وإعطاء ورثته نصف الدية ، والله أعلم .
قال : والسن بالسن .
ش : هذا أيضاً إجماع ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { والسن بالسن } ) وحديث الربيع وقد تقدم ، والله أعلم .
قال : فإن كسر بعضها ، برد من سن الجاني مثله .
ش : لظاهر حديث الربيع ، أنها كسرت ثنية جارية فأمر النبي بالقصاص ، ويكون القصاص بالمبرد ليأمن من أخذ زيادة ، بخلاف الكسر ، فإنه لا تؤمن معه الزيادة ، ويبرد من السن مثل ما ذهب من سن المجني عليه ، لقوله تعالى : 19 ( { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ) وتعتبر المثلية بالأجزاء فيؤخذ النصف بالنصف ، والربع بالربع ، ونحو ذلك ، لا بالمساحة ، حذاراً من أخذ جميع السن بالبعض ، إذا كانت سن الجاني صغيرة ، وسن المجني عليه كبيرة ، والله أعلم .
قال : ولا تقطع يمين بيسار ، ولا يسار بيمين .
ش : لفوات المماثلة المعتبرة ، لا يقال ينبغي أن تؤخذ اليسار باليمين ، لنقص اليسار عن اليمين ، لأنا نقول منافعهما تختلف ، فأشبها الرجل مع اليد ، والله أعلم .
قال : وإذا كان القاطع سالم الطرف ، والمقطوع شلاء فلا قود .
ش : لانتفاء المماثلة المعتبرة شرعاً ، إذ لا نفع فيها إلا الجمال ، فلا تؤخذ بها ما كملت منفعته ، كالعين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة ، ومراد الخرقي بالطرف يجوز أن يكون اليدان والرجلان ، ويجوز أن يريد ما هو أعم من هذا ، فيدخل فيه الأنف الأشل ، والأذن الشلاء ، ويكون ظاهر كلام الخرقي أحد الوجهين المتقدمين ، والله أعلم .
قال : وإذا كان القاطع أشل ، والمقطوعة سالمة ، فشاء المظلوم أخذها فله ذلك ، ولا شيء له غيرها ، وإن شاء عفا وأخذ دية يده .
ش : يخير صاحب اليد الصحيحة التي قطعت ، بين أن يعفو عن الجاني ، ويأخذ دية يده بلا ريب ، وبين أن يأخذ الشلاء بيده الصحيحة لرضاه بدون حقه ، أشبه ما لو رضي المسلم بالقصاص من الذمي ، والحر من العبد ، ويشترط لذلك ما تقدم من إمكان الاستيفاء من غير حيف ، بأن يقول أهل الخبرة : إنا نأمن من قطعها التلف ، أما إن قالوا إنه إذا قطعها لم يأمن أن لا تستد العروق ، ويدخل الهواء إلى البدن فيفسده فلا قصاص ، حذاراً من الحيف الممنوع منه شرعاً ، وإذا أخذت الشلاء بالصحيحة بشرطه فلا شيء للمقتص على المذهب ، لئلا يجمع في العضو الواحد بين القصاص والدية ، واختار أبو الخطاب في هدايته أن له الأرش ، وقد بقي من تقاسيم مسألة اليدين إذا كانتا صحيحتين وهو واضح ، وإذا كانتا أشلتين ، والقصاص جار فيهما بشرط أمن الحيف ، والله أعلم .
قال : وإذا قتل وله وليان بالغ وطفل ، أو غائب لم يقتل حتى يقدم الغائب أو يبلغ الطفل .
ش : هذا هو المذهب المنصوص بلا ريب ، حتى أن أبا محمد في الكافي لم يذكر غيرها .
2947 لقول النبي : ( من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ، إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية ) أضاف القتل إلى اختيار جميع الأهل ، والصغير والمجنون من جملتهم ، فإذا لم يوجد منهم الاختيار لم يجز القتل ، وحكى ابن حمدان في رعايته الصغرى رواية بأن من حضر له الاستيفاء وعممها ، وخصها الشيخان ومن رأينا كلامه بالصبي والمجنون ، وجعلوا الغائب أصلاً قاسوا عليه المذهب ، قال القاضي وأتباعه : قود ثابت لجماعة معينين ، لم يتحتم استيفاؤه ، فلم يجز لبعضهم أن ينفرد باستيفائه ، أصله إذا كان بعضهم غائباً ؛ واحترزوا ( بمعينين ) عمّا إذا لم يكن له وارث ، فإن للإمام الاستيفاء ، مع أن القود للمسلمين ، وفيهم الصغير والمجنون ، ( ولم يتحتم استيفاؤه ) عن قطاع الطريق إذا قتلوا من في ورثته صغير أو مجنون ، فإنهم يقتلون من غير انتظار .
واعلم أن أصل هذه الرواية أخذها القاضي من قول أحمد في رواية ابن منصور في يتيتم قطعت يده فوليه بالخيار ، إن شاء الدية ، وإن شاء القود ، أرأيت إن مات قبل أن يندمل ، ووجه الأخذ أن أحمد جوز للولي القصاص ، ويلزم منه سقوط تشفي الصغير ، فكذلك هنا ، إذ غايته سقوط التشفي ، والعجب أن القاضي لم يذكر هذه الرواية في محلها ، بل خرج ثم على معنى هنا ، وبالجملة وجه هذه الرواية أن الصغير والمجنون في حكم المعدومين ، ولأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم قصاصاً ، وفي الورثة صغار ، فلم ينكر عليه ، وأجيب بوجهين ( أحدهما ) أنه إنما قتله لكفره ، لأنه قتل علياً كرم الله وجهه مستحلاً لدمه ، كما هو مذهب الخوارج ، ومن استحل ذلك كفر ، وقد قال خبيثهم عمران بن حطان قبحه الله في ذلك يمدح قاتله :
يا ضربة من تقي ما أراد بها

إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً

إني لأذكره يوماً فأحسبه

أوفى البرية عند اللَّه ميزاناً

ولهذا كان أشهر الروايتين عن إمامنا رحمه الله تكفيرهم ( والوجه الثاني ) وهو جواب أبي بكر أن عبد الرحمن بن ملجم شهر السلاح ، وسعى في الأرض بالفساد ، وحارب الله ورسوله ، وإذاً يتحتم قتله فيكون كقاطع الطريق إذا قتل ، والحسن هو الإمام ، فقتله لذلك ، ولذلك لم ينتظر الغائبين ، وقد حكي الاتفاق على وجوب انتظارهم ، ونقل عبد الله : إذا كان في الأولياء صبي أو مصاب لم يقتل حتى يشب الصغير ، وإن كان مصاباً يصيرون إلى الدية ، قال القاضي : وظاهر هذا أنه أسقط القصاص رأساً في حق المجنون ، وأثبته في حق الصغير ، كما قال ، وهو محمول على أن جنونه مطبق ، لا يرجى زواله .
قال : ومن عفى من ورثة المقتول عن القصاص ، لم يكن إلى القصاص سبيل ، وإن كان العافي زوجاً أو زوجة .
ش : ( قد تضمن ) كلام الخرقي صحة العفو عن القصاص ، وهو إجماع ولله الحمد ، بل هو أفضل ، لقوله سبحانه : 19 ( { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ، وأداء إليه بإحسان } ) وقال تعالى : 19 ( { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } ) .
2948 وقال أنس بن مالك رضي الله عنه : 16 ( ما رأيت رسول الله رفع إليه شيء فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو ) . رواه الخمسة إلا الترمذي .
2949 وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، أن رسول الله قال : ( ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفاً عليهن ، لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا ، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله تعالى بها عزاً يوم القيامة ، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ) رواه أحمد .
( وتضمن أيضاً ) أن القصاص حق لجميع الورثة يرثه من يرث المال .
2950 وذلك لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا ، ولا يرثوا منها إلا ما فضل من ورثتها ، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها ، وهم يقتلون قاتلها ، رواه الخمسة إلا الترمذي ، ويتفرع على هذا أنه من عفى من الورثة عن القصاص سقط ، إذ القتل عبارة عن زهوق الروح بآلة صالحة ، وذلك لا يتبعض ، فإذا أسقط بعض مستحقيه حقه منه سقط ، لتعذر استيفائه .
2951 وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كان امرأة ) رواه النسائي ، وأبو داود ولفظه : ( الأولى فالأولى ) .
وقوله : وإن كان العافي زوجة ، تنصيص على مخالفة مذهب الغير ، وذلك لما تقدم .
2952 وعن عمر رضي الله عنه أنه أتي برجل قد قتل قتيلاً ، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه ، فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل : قد عفوت عن حقي . فقال عمر رضي الله عنه : 16 ( الله أكبر عتق القتيل ) . رواه أبو داود ( وقوله ) : عن القصاص : يحترز به والله أعلم عما إذا عفى عن الدية ، فإنه يكون مختاراً للقود ، ولم أعلم من صرح بذلك ، وأظن ذلك وقع للقاضي في روايتيه ، وقال : أومأ إليه أحمد في رواية الميموني ( وقوله ) : لم يكن إلى القصاص سبيل ، أي طريق ، ويفهم منه أن له إلى الدية سبيل ، وهو كذلك ، أما في حق من لم يعف فواضح ، لتعذّر القصاص عليه ، وذلك يوجب تعين الدية له ، وأما في حق من عفى فهو ينبني على أصل ، وهو أن الواجب في قتل العمد أحد شيئين ، القصاص أو الدية على المذهب ، فعلى هذا إذا عفى عن القصاص ثبتت له الدية ، ويأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام على ذلك .
( تنبيه ) : ( المقتتلين ) هنا أن يطلب أولياء القتيل القود ، فيمتنع القتلة ، فينشأ بينهم الحرب والقتال من أجل ذلك ، فجعلهم مقتتلين بفتح التائين من أجل ذلك ، يقال : اقتتل فهو مقتتل ، غير أن هذا إنما يستعمل أكثره فيمن قتله الحرب قاله الخطابي . ( وينحجزوا ) أي ينكفوا عن القود ، بعفو أحدهم ولو كان امرأة ، ( والأول فالأول ) أي الأقرب فالأقرب .
قال : وإذا اشترك الجماعة في القتل فأحب الأولياء أن يقتلوا الجميع فلهم ذلك ، وإن أحبوا أن يقتلوا البعض ، ويعفو عن البعض ، ويأخذوا الدية من الباقين ، كان لهم ذلك .
ش : إذا اشترك الجماعة في القتل فللأولياء أن يقتلوا الجميع ، بناء على المذهب ، من أن الجماعة تقتل بالواحد وقد تقدم ، ولهم أن يقتلوا البعض ، لأنهم إذا كان لهم قتل الجميع فقتل البعض بطريق الأولى ، ويعفوا عن البعض ، لأن من له قتل شخص ، له العفو عنه كما تقدم ، ولا يسقط القصاص عن البعض بالعفو عن البعض ، لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر ، كما لو قتل كل واحد رجلاً ، ويأخذوا الدية من البعض ، لأن من ملك قتل شخص ، ملك العفو عنه إلى الدية كما سيأتي ، وماذا يأخذ منه ، هل يأخذ منه دية كاملة ، أو بقسطه من الدية ، فلو كان القاتلون أربعة فعليه ربع الدية ؟ فيه روايتان تقدمتا .
وقول الخرقي : ويأخذوا الدية ، ظاهره وإن لم يرض الجاني ، وهو يستدعي بيان أصل ، وهو أن موجب العمد ما هو ؟ عن أحمد ثلاث روايات ( إحداهن ) ، وهو المذهب عند الأصحاب وتقدمت الإشارة إليه موجبه أحد شيئين ، القصاص أو الدية ، لقوله سبحانه : 19 ( { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } ) أوجب سبحانه الاتباع بالمعروف بمجرد العفو ، وهو يشمل ما إذا عفى مطلقاً ، وذلك فائدة أن الواجب أحد شيئين .
2953 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم تكن الدية فيهم ، فقال الله سبحانه لهذه الأمة : 19 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى } ) الآية 19 ( { فمن عفي له من أخيه شيء } ) قال : فالعفو أن يقبل في العمد الدية ، مختصر ، رواه البخاري وغيره ، قال الزمخشري في قوله تعالى : 19 ( { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } ) أهل التوراة كتب عليهم القصاص ، وحرم العفو وأخذ الدية ، وأهل الإنجيل العفو ، وحرم القصاص والدية ، وخيرت هذه الأمة بين الثلاث ، القصاص والدية والعفو ، ونحوه قال البغوي ، إلا أنه قال : وأهل الإنجيل الدية .
2954 وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يقتل ، وإما أن يفدى ) متفق عليه .
2955 وعن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله يقول : ( من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح ، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث ، بين أن يقتص ، أو يأخذ العقل ، أو يعفو ، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه ) ثم تلا ؛ 19 ( { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } ) رواه أحمد وأبو داود . وهذا نص ( والرواية الثانية ) موجب العمد القود عيناً ، وله العفو إلى الدية من غير رضى الجاني ، فتكون الدية بدلاً عن القصاص ، اختارها ابن حامد ، لظاهر قول الله تعالى ؛ 19 ( { كتب عليكم القصاص } ) .
2956 وقول النبي : ( من قتل عمداً فهو قود ، ومن حال دونه فعليه لعنة الله ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) رواه أبو داود والنسائي . ( والثالثة ) موجبه القود عيناً ، وليس له العفو على الدية بدون رضى الجاني ، لأن هذا متلف يجب به البدل ، فكان بدله معيناً ، كسائر أبدال المتلفات .
إذا تقرّر هذا فكلام الخرقي جار على الرواية الأولى ، إذ عليها إذا اختار الدية كانت له بلا ريب ، وكذلك إذا عفى مطلقاً ، أما على الثانية فلا شيء عليه إذا عفى مطلقاً ، وإنما تجب له الدية إذا عفى عن القود إليها ، كذا قال الشيخان وغيرهما ، وشذ الشيرازي فقال : لا شيء له أيضاً على هذه الرواية ، وفي موضع آخر من المبهج أيضاً ظاهر كلامه موافقة الجماعة ، وعلى الثالثة لا يستحق العفو إلا برضى الجاني .
( تنبيه ) : ( يفدي ) المراد هنا بالفدية الدية ، بدليل أن في رواية أخرى : ( إما أن يؤدى ، وإما أن يقاد ) . ( والصرف ) التوبة ( والعدل ) الفدية .
قال : وإذا قتل من للأولياء أن يقيدوا به ، فبذل القاتل أكثر من الدية على أن لا يقاد ، فللأولياء قبول ذلك .
ش : إذا قتل من للأولياء أن يقيدوا به ، أي يأخذوا به القود ، فبذل القاتل أكثر من الدية ، على أنه لا يقاد بالمقتول ، فللأولياء قبول ذلك ، لأن الحق لهم ، لا يعدوهم .
2957 وفي الترمذي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله قال : ( من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا الدية ، وهي ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفه ، وما صولحوا عليه فهو لهم ) وذلك لتشديد القتل ، ولأبي البركات احتمال بالمنع من ذلك ، وربما فهم من كلام الخرقي أن الأولياء لو رضوا بدون الدية كان لهم ذلك ، وهو كذلك بلا ريب .
قال : وإذا قتله رجل وأمسكه آخر ، قتل القاتل ، وحبس الماسك حتى يموت .
ش : هذا أشهر الروايتين عن أحمد ، واختيار القاضي ، والشريف وأبي الخطاب في خلافاتهم ، والشيرازي ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { فمن اعتدى عليكم } ) الآية ، والقاتل اعتدى بالقتل فيقتل ، والممسك اعتدى بالحبس إلى الموت فيحبس إلى أن يموت .
2958 وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : ( إذا أمسك الرجل ، وقتله الآخر ، يقتل الذي قتل ، ويحبس الذي أمسك ) رواه الدارقطني .
2959 وعن علي رضي الله عنه أنه أتي برجلين قتل أحدهما ، وأمسك الآخر ، فقتل الذي قتله ، وقال للذي أمسك ؛ أمسكته للموت ، فأنا أحبسك في السجن حتى تموت . رواه الأثرم والشافعي في مسنده . ولا يعرف له مخالف في الصحابة ( والرواية الثانية ) يقتلان جميعاً ، لظاهر قول عمر رضي الله عنه : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به ، ولأن القتل وجد منهما ، أحدهما بالسبب ، والآخر بالمباشرة ، أشبه ما لو باشراه ، وأجيب عن قول عمر رضي الله عنه أن المراد بقوله : لو تمالأ عليه لو تشاركوا ، ثم هو معارض بقول علي ، وشرط قتل الممسك قصد القتل بإمساكه ، أما إن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه ، ذكره أبو محمد ، وكذلك ذكر القاضي أنه إذا أمسكه للعب أو الضرب فقتله القاتل أنه لا قود على الممسك ، ذكره محل وفاق .
( تنبيه ) : ( أمسك ومسك ) لغتان ، والخرقي جمع بينهما فقال : وأمسكه آخر . وقال : وحبس الماسك حتى يموت . والماسك اسم فاعل من مسك ، واسم فاعل : أمسك ، ممسك .
قال : ومن أمر عبده أن يقتل ، وكان العبد أعجمياً ، لا يعلم أن القتل محرم قتل السيد .
ش : الأعجمي هو الذي لا يفصح ، وله حالتان ، تارة يعلم أن القتل محرم وسيأتي وتارة لا يعلم ، والخرقي رحمه الله إنما ذكر الأعجمي لأنه الذي لا يعلم غالباً ، فالعجمة قرينة تصديقه ، وهذا ما لم تقم قرينة تكذبه ، كالناشئ في بلاد الإسلام ، وبالجملة إذا أمر السيد من هذه صفته بالقتل فقتل ، فإن السيد يقتل ، لأن العبد والحال هذه كالآلة له ، فإذاً السيد قد تسبّب في قتله بما يقتله غالباً ، فأشبه ما لو أنهشه حية أو كلباً ونحو ذلك ، ولا يقتل العبد ، لأن العبد والحال هذه معتقد الإباحة ، وذلك شبهة تمنع القصاص ، ولأن حكمة القصاص الردع والزجر ، ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة ، واختلف عن أحمد فيما يفعل به ( فعنه ) يؤدب ويترك ، حذاراً من إقدامه على ذلك مرة أخرى ( وعنه ) يحبس حتى يموت .
2960 اعتماداً على أن هذا قول أبي هريرة رضي الله عنهما ، قال علي رضي الله عنه : يستودع السجن .
قال : وإن كان العبد يعلم حظر القتل قتل العبد ، وأدب السيد .
ش : إذا كان العبد يعلم حظر القتل ، فإنه يقتل إذا كان مكلفاً ، لأنه مباشر مكلف ، عالم بتحريم القتل ، فكان موجب القتل عليه للعمومات ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولأن المباشرة تقطع حكم السبب ، أشبه الحافر مع الدافع ، ويؤدب السيد ، لتسببه بما أفضى إلى القتل ، وهذه التفرقة التي قالها الخرقي تبعه عليها أبو الخطاب والشيخان وغيرهم ، وحكى الشيرازي في العبد من حيث الجملة روايتين ( إحداهما ) يحبس إلى الممات ويقتل السيد ، ( والثانية ) يقتل العبد ، ويؤدب السيد ، ثم حكى قول الخرقي ، والله أعلم .
باب ديات النفس


ش : الديات واحدتها دية مخففة ، وأصلها ( ودى ) والهاء بدل من الواو ، كالعدة من الوعد ، والزنة من الوزن ، تقول : وديت القتيل أديه دية وودياً . إذا أعطيت ديته ، وأتديت إذا أخذت الدية ، فالدية في الأصل مصدر ، سمي به المال المؤدي إلى المجني عليه أو إلى أوليائه ، كالخلق بمعنى المخلوق ، والأصل في الدية الإجماع ، وسنده قوله تعالى : 19 ( { ودية مسلمة إلى أهله } ) وقول النبي : ( في النفس مائة من الإبل ) في عدة أحاديث نذكر ما تيسر منها إن شاء الله تعالى .
قال : ودية الحر المسلم مائة من الإبل .
ش : لا نزاع أن دية الحر المسلم مائة من الإبل ، وأن الإبل أصل في الدية ، واختلف عن أحمد رحمه الله هل هي الأصل لا غير ، أو معها غيرها ، وهل ذلك الغير أربعة أو خمسة ؟ ( فعنه ) وهو ظاهر كلام الخرقي ونصبه أبو محمد في المغني للخلاف أنها الأصل لا غير .
2961 لأن في حديث عمرو بن حزم : ( في النفس مائة من الإبل ) رواه النسائي ومالك في الموطأ .
2962 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، قال : قضى رسول الله أن من قتل خطأ فديته من الإبل مائة ، ثلاثون بنت مخاض ، وثلاثون بنت لبون ، وثلاثون حقة ، وعشرة ابن لبون ذكر ، رواه أبو داود والنسائي .
2963 وعن عقبة بن أوس ، عن رجل من أصحاب النبي ، قال : خطب النبي يوم فتح مكة فقال : ( ألا وإن في قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل ، منها أربعون ثنية إلى بازل عامها ، كلهن خلفة ) رواه النسائي .
2963 م وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، أن رسول الله خطب يوم الفتح على درجة البيت ، فقام في خطبته فكبر ثلاثاً ، ثم قال : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى ، من دم أو مال تحت قدمي ، إلا ما كان من سقاية الحاج ، وسدانة البيت ) ثم قال : ( ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها ) رواه أبو داود والنسائي ، وقال : ورواه القاسم بن ربيعة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي ، وظاهر هذه الأحاديث أن الدية هي الإبل خاصة ، ويؤيّد ذلك أن النبي فرق بين دية العمد والخطأ ، فغلظ العمد ، وخفف الخطأ ، ولم يرد ذلك عنه إلا في الإبل .
( وعنه ) أنها خمسة أشياء كل منها أصل بنفسه ، الإبل ، والبقر ، والغنم ، والذهب ، والفضة ، أما في الإبل فلما تقدم ، وأما في البقر والغنم فلأن في حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله قضى على أهل البقر بمائتي بقرة ، ومن كان دية عقله في شاء فألفا شاة .
2964 وأما في الذهب والفضة فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رجلاً من بني عدي قتل ، فجعل رسول الله ديته اثني عشر ألفاً ، رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وهذا لفظه ، وروي عن عكرمة عن النبي مرسلاً ، قال بعضهم : وهو أصح وأشهر .
2965 ولمالك في الموطأ : بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَوَّم الدية على أهل القرى ، فجعلها على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم ، قال مالك : فأهل الذهب أهل الشام ، وأهل مصر ، وأهل الورق أهل العراق .
( وعنه ) أنها ستة أشياء ، ويضاف إلى الخمسة السابقة مائتا حلة ، وهذه اختيار القاضي وكثير من أصحابه ، الشريف وأبي الخطاب والشيرازي وغيرهم .
2966 لما روي عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله قضى في الدية على أهل الإبل مائة من ازبل ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ، وعلى أهل القمح شيئاً لم يحفظه محمد بن إسحاق ، وفي رواية عنه عن جابر رضي الله عنه قال : فرض رسول الله فذكر ما تقدم ، وقال : وعلى أهل الطعام شيئاً لا أحفظه . رواه أبو داود ( والرواية الأولى ) أظهر دليلاً ، لأن أحاديث هذه الرواية لا تقاوم تلك الأحاديث ، وعلى تقدير مقاومتها فتحمل على أنه جعل ذلك بدلاً عن الإبل ، وهذا ظاهر في حديث عمرو بن شعيب ، إذ أوله : أن رسول الله كان يقوم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار ، أو عدلها من الورق ، ويقومها على أثمان الإبل ، إذا غلت رفع في قيمتها ، وإذا هاجت رخصت نقص من قيمتها ، وبلغت على عهد رسول الله ما بين أربعمائة إلى ثمانمائة ، وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم ، قال : وقضى على أهل البقر بمائتي بقرة ، ومن كان دية عقله في شاء فألفا شاة ، وهذا ظاهر في أنه إنما كان يعتبر الإبل لا غير ، بل هو نص في الذهب والورق ، أنه كان يعتبرهما بالإبل ، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما واقعة عين لا عموم لها ، إذ قوله : جعل ديته اثني عشر ألفاً يحتمل على أنها أصل ، ويحتمل على أنها بدل ، والاحتمالان متقابلان ، وإذاً يترجح احتمال البدلية ، لموافقته لما تقدم ، والكلام على حديث عطاء كالكلام على حديث أستاذه رضي الله عنهما ، وفعل عمر رضي الله عنه ظاهر في أن ذلك على سبيل التقويم ، فهو مؤيّد لما قلناه ، وأبو محمد رحمه الله يختار في العمدة قولاً رابعاً ، هو بعض الرواية الثانية ، وهو أن الدية مائة من الإبل أو ألف مثقال ، أو اثنا عشر ألف درهم ، وهو ظاهر في الورق ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما إن صح ، فإن فيه في رواية للترمذي أن النبي جعل الدية اثني عشر ألفاً ، وليس بظاهر في الذهب ، لأن المعتمد فيه على حديث عمرو بن شعيب ، وفعل عمر ، وهما ظاهران أو صريحان في أن ذلك على سبيل التقويم .
إذا تقرر هذا فعلى الرواية الثانية والثالثة إذا أحضر من عليه الدية شيئاً من الخمسة أو الستة سالماً من العيب لزم قبوله ، أما على الرواية الأولى فإن من وجبت عليه الدية متى قدر على الإبل لا يجزئه غيرها ، وإن عجز عنها انتقل إلى ما شاء من الأربعة أو الخمسة المتقدمة ، على اختلاف الروايتين ، وكذلك إذا لم توجد إلا بأكثر من ثمن المثل ، وقال أبو محمد : هذا ينبغي فيما إذا كانت الإبل موجودة بثمن مثلها إلا أن هذا لا يجدها ، لكونها في غير بلده ونحو ذلك ، فإذاً ينتقل إلى غيرها ، أما إن غلت الإبل كلها فلا ينتقل إلى غيرها .
وظاهر كلام الخرقي أن الواجب الإبل من غير نظر إلى قيمة ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار الشيخين ، لظاهر حديث عمرو بن حزم ، وحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده وغيرهما ، فإنه أطلق الإبل ، ولم يقيدها بقيمة ، فتقييدها بها يحتاج إلى دليل ، وكذلك الأحاديث التي فيها ذكر البقر والغنم والحلل ، ليس فيها اعتبار قيمة ، وأيضاً فإنه فرق بين دية العمد والخطأ ، فغلظ دية العمد وشبهه ، وخفف دية الخطأ ، واعتبار القيمة يقتضي التسوية بينهما ، وهو خلاف ما تضمنته سنة رسول الله ، وأيضاً فحديث عمرو بن شعيب نص في أنه كان يعتبر الذهب والورق بالإبل ، ويقومها على أثمانها ، لا أنه كان يعتبر الإبل بغيرها من ورق أو غيره . ( والرواية الثانية ) يعتبر أن لا تنقص المائة بعير عن دية الأثمان ، كذلك حكى الرواية أبو البركات ، واختارها أبو بكر ، نظراً إلى أن عمر رضي الله عنه قومها كذلك ، فجعل على أهل الذهب ألف مثقال ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم ، فظاهره أن قيمتها كذلك ، وأجيب بأنه اتفق أن قيمتها في ذلك الوقت كان كذلك ، وصرنا إليه بعد ذلك ، حذاراً من التنازع ، وحكى أبو محمد الرواية في الكافي أنه يعتبر أن تكون قيمة كل بعير مائة وعشرين درهماً ، وحكى ذلك في المقنع عن أبي الخطاب ، ولا ريب أنه قطع بذلك في الهداية ، وقال في المغني : إن الأصحاب ذكروا أن ذلك مذهب أحمد ، والتحقيق هو الأول ، وعليه يحمل كلام أبي الخطاب وغيره ، وسيأتي في كلام أبي محمد ما يدل عليه ، والقول في البقر والغنم والحلل كالقول في الإبل على ما تقدم ، كذا ذكره أبو البركات ، وأبو محمد في المغني ، قال : كذا قول أصحابنا في البقر والشاء والحلل ، يجب أن يكون مبلغ الواجب من كل صنف منها اثني عشر ألفاً ، فقيمة كل بقرة أو حلة ستون درهماً ، وقيمة كل شاة ستة دراهم ، وقال في المقنع : يؤخذ في الحلل المتعارف ، فإن تنازعا فيها جعلت قيمة كل حلة ستين درهماً ، وهو ذهول ، بل عند التنازع يقضي بالمتعارف على المختار .
وظاهر كلام الخرقي أيضاً أن الدية لا تغلظ ، لا بحرم ولا إحرام ولا غير ذلك ، وكثير من الأصحاب أنه لا يعتبر أن تكون الإبل من جنس إبله ، ولا إبل بلده ، واعتبر ذلك القاضي أظنه في المجرد ، والقول في البقر والغنم كالقول في الإبل .
قال : فإن كان القتل عمداً فهي في مال القاتل حالة أرباعاً ، خمس وعشرون بنات مخاض ، وخمس وعشرون بنات لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة .
ش : إذا كان القتل عمداً فالإجماع على أن الدية في مال القاتل .
2967 وقد شهد له ما روى عمرو بن الأحوص ، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله ، فقال رسول الله : ( لا يجني جان إلا على نفسه ، لا يجني والد على ولده ، ولا مولود على والده ) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه .
2968 وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ، ولا بجريرة أخيه ) رواه النسائي .
2969 وعن أبي رمثة رضي الله عنه قال : خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله ، فرأيت برأسه ردع حناء ، وقال لأبي : ( هذا ابنك ) ؟ قال : نعم ، قال : ( أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ) وقرأ رسول الله : 19 ( { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ) رواه أحمد وأبو داود . وإذا وجبت حالة كسائر أبدال المتلفات ، ولأن ما وجب بالعمد المحض كان حالاً كأرش الأطراف ، واختلف في مقدارها ( فعن أحمد ) رحمه الله وهو أشهر الروايتين عنه أنها تجب أرباعاً ، كما ذكره الخرقي ، واختاره أبو بكر ، والقاضي وعامة أصحابه ، الشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن البنا ، وابن عقيل .
2970 لما روى الزهري ، عن السائب بن يزيد ، قال : كانت الدية على عهد رسول الله أرباعاً ، خمساً وعشرين جذعة ، وخمساً وعشرين حقة ، وخمساً وعشرين بنت لبون ، وخمساً وعشرين بنت مخاص ، ( وعنه ) أنها تجب أثلاثاً ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة في بطونها أولادها .
2971 وذلك لحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله قال : ( من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوه ، وإن شاءوا الدية ، وهي ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، وما صولحوا عليه فهو لهم ، وذلك لتشديد القتل ) رواه الترمذي . ولما تقدم من حديث عقبة بن أوس ، وعبد الله بن عمرو ، وهذه الرواية اختيار أبي محمد في العمدة ، وهو الصواب ، إذ حديث الزهري لا يعرف من رواه ، ولو عرف لم يقاوم هذه الأحاديث ، وقد قال أحمد في رواية حنبل : الذي أذهب إليه في دية العمد أثلاثاً ، وهؤلاء يقولون أرباعاً خلاف الحديث ، وعلى هذه الرواية هل يعتبر في الخلفات وهن الحوامل كونهن ثنايا ، وهن اللاتي استكملن خمس سنين ، وبه قطع القاضي في الجامع ، لحديث عقبة بن أوس ، أو لا يعتبر ، لإطلاق حديث عمرو بن شعيب ، وهو الذي ذكره القاضي ؟ فيه وجهان ، ويرجح الأول بأن فيه زيادة ، فيحمل المطلق عليها ، ويجاب بأن القيد ذكر نظراً للغالب ، إذ الغالب أنه لا يحمل الإثنية .
قال : فإن كان القتل شبه العمد فكما وصفت في أسنانها ، إلا أنها على العاقلة في ثلاث سنين ، في كل سنة ثلثها .
ش : القول في أسنان دية شبه العمد كالقول في دية العمد سواء ، لما تقدم من قول النبي : ( عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل ) وهي واجبة على العاقلة على المذهب ، وقد تقدم ذلك في أول كتاب الجراح ، وعليه فإنها تجب عليهم في ثلاث سنين ، في كل سنة ثلثها .
2972 نظراً إلى أن هذا يروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما ، ولا يعرف لهما مخالف ، مع أن هذا قول العامة ولا عبرة بمخالفة الخوارج .
( تنبيه ) : لم يتعرض الخرقي لسن غير الإبل ، والحكم أنه يجب في البقر النصف مسنات ، والنصف أتبعة ، وفي الغنم النصف ثنايا ، والنصف أجذعة ، في العمد والخطأ على ظاهر كلام الشيخين وغيرهما ، وجعل ذلك القاضي في جامعه في العمد وشبهه ، وقال في الخطأ : يحتمل أن يخفف فيجب من البقر تبيع وتبيعة ومسنة ، أثلاثاً ، ومن الغنم جذعة وجذع من الضأن ، وثنية من المعز ، أثلاثاً أيضاً ، وحكي عنه أنه جزم بذلك في خلافه .
قال : وإن كان القتل خطأ كان على العاقلة مائة من الإبل ، تؤخذ في ثلاث سنين أخماساً ، عشرون بنات مخاض ، وعشرون بني مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة .
ش : لا نزاع أن دية قتل الخطأ على العاقلة ، وقد تقدم ، ولا نزاع أيضاً في أنها مائة من الإبل ، وأنها تؤخذ منهم في ثلاث سنين ، واختلف في كيفية وجوبها ، ومذهبنا أنها تجب أخماساً كما ذكره الخرقي .
2973 لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( في دية الخطأ عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات مخاص ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن مخاض ذكر ) رواه الخمسة ، وقال أبو داود : وهو قول عبد الله . وكلام الخرقي يشمل إذا كان المقتول امرأة أو ذمياً أو جنيناً ، وهو قول القاضي في الخلاف والجامع .
( تنبيه ) : ابتداء الحول في النفس من حين الزهوق ، وفيما دونها من حين الاندمال على المشهور ، وبه قطع القاضي في الجامع ، وقال القاضي : ابتداؤه في القتل الموحي والجرح الذي لم يسر عن محله من حين الجناية .
قال : والعاقلة لا تحمل العمد ، ولا العبد ، ولا الصلح ، ولا الاعتراف ، ولا ما دون الثللاث .
ش : لا تحمل العاقلة العمد ، وإن لم توجب جنايته قصاصاً ، ولا العبد إذا قتله قاتل ، ولا الصلح ، وهو أن يدعي عليه القتل فيبنكره ثم يصالح المدعي على مال ، وفسره القاضي بأن يصالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية ، ورد بأن هذا عمد ، فيدخل في الأول ، ولا الاعتراف ، وهو أن يقر القاتل بقتل الخطأ أو شبه العمد ، ولا ما دون ثلث الدية التامة ، كدية المجوسي ونحوه .
2974 لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : العمد والعبد ، والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة ، رواه الدارقطني . وحكى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله .
2975 وقال الزهري : مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية العمد إلا أن يشاؤوا ، رواه مالك في الموطأ .
2976 وعن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية أن لا يحمل منها شيء حتى يبلغ عقل المأمومة . ولأن الخطأ إنما جعل على العاقلة لكون الجاني معذوراً ، تخفيفاً عنه ، ومواساة له ، والعامد لا يناسب أن يخفف عنه ولا يواسب ، والعبد الواجب فيه قيمته ، تختلف باختلاف صفاته ، فلم تحمله العاقلة كسائر القيم ، والاعتراف ثبت بإقراره ، ولا يثبت على إنسان شيء بإقرار غيره ، والصلح في معنى الاعتراف ، وما دون الثلث يسير فلا يجحف به ، فلا يناسب التخفيف به ، وبهذا ونحوه تتخصص العمومات المطلقة في حمل العاقلة .
( تنبيه ) : يستثنى مما دون الثلث الجنين إذا مات هو وأمه بجناية واحدة ، فإن العاقلة تحمل ديته ، وإن نقصت عن الثلث مع دية أمه ، سواء سبقها بالزهوق أو سبقته ، كذا صرح به أبو البركات ، وقال أبو محمد في المغني : إذا مات قبل موت أمه لا تحمله العاقلة ، نص عليه ، وإن مات مع أمه حملته العاقلة نص عليه ، ومقتضى كلامه أنه لو تأخر عنها بالزهوق لم تحمله العاقلة ، وكذلك مقتضى كلامه في المقنع ، قال : وإن ماتا منفردين لم تحملهما العاقلة .
2977 وإنما استثنى ذلك في الجملة لما روى المغيرة بن شعبة قال : ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى ، فقتلتها ، قال : وإحداهما لحيانية ، فجعل رسول الله دية المقتولة على عصبة القاتلة ، وغرة لما في بطنها ، فقال رجل من عصبة القتلة : أنغرم دية من لا أكل ، ولا شرب ولا استهلّ ، فمثل ذلك يطل ، فقال رسول الله : ( أسجع كسجع الأعراب ) قال : وجعل عليهم الدية ، وهذا كان بجناية واحدة ، ثم إن رسول الله لم يستفصل هل سبقها بالزهوق أو سبقته ، ولو اختلف الحكم لبيّنه ، فإذاً الصواب ما قاله أبو البركات .
قال : وإذا جنى العبد فعلى سيده أن يفديه أو يسلمه .
ش : جناية العبد تتعلق برقبته ، لعموم قول النبي : ( لا يجني جان إلا على نفسه ) وسيده مخيّر بين أن يفديه لزوال أثر الجناية إذاً ، وبين أن يسلمه في الجناية ، لتأديته المحل الذي تعلق به الحق برمته ، هذا إحدى الروايات ( والرواية الثانية ) يخيّر بين فدائه ، أو بيعه في الجناية ( والرواية الثالثة ) يخير بين الثلاثة ، وإذا اختار البيع فهل يلزمه أن يتولاه إذا طلب منه ولي الجناية ذلك ، أو يكفي تسليمه للبيع فيبيعه الحاكم ؟ فيه روايتان .
وقول الخرقي : وإذا جنى العبد ، أي جناية أوجبت مالاً ، بقرينة ذكر الفداء إذ الفداء إنما يدخل فيما فيه المال ، وذلك بأن يكون خطأ أو شبه عمد ، أو عمداً لا قصاص فيه ، أو فيه القصاص واختير فيه المال ، وكذلك الحكم لو أتلف مالاً ، وقد يدخل في لفظه ، لأن الجناية تشمل الجناية على المال والبدن ، والله أعلم .
قال : فإن كانت الجناية أكثر من قيمته لم يكن على السيد أن يفديه بأكثر من قيمته .
ش : جناية العبد لا تخلو إما أن تكون وفق قيمته أو أكثر من قيمته ، فإن كانت وفق قيمته فلا نزاع أن السيد لا يلزمه أكثر من ذلك ، لأنه لا حقّ للمجني عليه في أكثر من ذلك ، وكذلك إن كانت أقل من قيمته على المذهب المعروف لذلك ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى يلزم فداؤه بجميع قيمته ، وإن جاوزت دية المقتول ، إذا كانت الجناية موجبة للقود ، لأنه إذاً استحق إتلافه ، فكان له بديه ، وتشبه هذه الرواية أنه يملكه بغير رضي السيد ، فيما إذا كانت الجناية كذلك ، وإن كانت أكثر من قيمته فكذلك ، لا يلزم السيد أن يفديه بأكثر من قيمته إن لم يختر فداءه بلا ريب ، لأن الجناية تعلقت برقبة العبد لا غير ، والسيد إنما يؤدي بدل الرقبة ، وبدل الرقبة هو القيمة ، فلا يلزمه أكثر منها ، وإن اختار الفداء ففيه روايتان مشهورتان ، أشهرهما وأنصهما وهي اختيار القاضي ، والخرقي ، وأبي الحسين وغيرهم لا يلزمه إلا القيمة ، لما تقدم ، ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر يلزمه والحال هذه أرش الجناية بالغة ما بلغت ، لاحتمال أنه إذا بيع رغب فيه راغب فتزيد قيمته ، والله أعلم .
قال رحمه الله : والعاقلة العمومة وأولادهم وإن سفلوا في إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى الأب والابن والإخوة ، وكل العصبة من العاقلة .
ش : ( وجه الرواية الأولى ) حديث المغيرة بن شعبة ، أن رسول الله جعل دية المقتول على عصبة القاتلة ، وغرة لما في بطنها . رواه مسلم وغيره وقد تقدم ، وهذا يشمل كل عصبة ، خرج منه الآباء والأبناء .
2978 بدليل ما روى جابر رضي الله عنه ، أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ، ولكل واحدة منهما زوج وولد ، فجعل رسول الله دية المقتولة على عاقلة القاتلة ، وبرأ زوجها وولدها ، لأنهما ما كانا من هذيل ، فقال عاقلة المقتولة : ميراثها لنا . فقال رسول الله : ( لا ، ميراثها لزوجها وولدها ) رواه أبو داود ، وهذا يقتضي أن الأولاد ليسوا من العاقلة ، فكذلك الآباء ، قياساً لأحد العمودين على الآخر ، وخرج منه الإخوة أيضاً .
2979 بدليل ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ، ولا بجريرة أخيه ) رواه النسائي ، فظاهره أنه لا يؤخذ بجريرة أخيه مطلقاً ، وإذا خرج الأخ والابن والأب من التحمل بقي من عداهم ، وهم العمومة وأولادهم وإن سفلوا .
( ووجه الثانية ) وهي اختيار أبي بكر فيما حكاه القاضي في الجامع والقاضي أبو الحسين ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي وغيرهم عموم حديث المغيرة ، وحديث جابر لا يقاومه ، ثم لا يدل على خروج الابن مطلقاً ، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه لا يؤخذ بجريرته ، أي إذا كان عمداً ، جمعاً بين الأدلة ( وعن أحمد ) رواية ثالثة : العاقلة جميع العصبة إلا الآباء والأبناء ، وزعم القاضي في روايته أنها اختيار الخرقي ، لتقديمه إياها ، ولانتفاء الخلاف عنده في الإخوة ، ووجه هذه الرواية يعرف مما سبق ( وعنه ) رواية رابعة أن العاقلة كل العصبة إلا أبناء الجاني ، إذا كان امرأة ، نص عليها أحمد فقال : لا يعقل الابن عن أمه ، لأنه من قوم أخرين ، وهي اختيار أبي البركات وعليها يقوم الدليل ، إذ حديث المغيرة يقتضي أن العاقلة هم كل العصبة ، وحديث جابر صريح في أن ابن المرأة لا يعقل عنها ، وإذا خرج ابن المرأة بقينا فيما عداه على العموم ، ثم قد علّل في الحديث خروج الولد والزوج بأنهما ما كان من هذيل ، يعني والمرأة هذلية ، فليسا من قبيلتها ، والمعنى في ذلك أن قبيلة الشخص هي التي تواليه وتنصره ، بخلاف غيرها ، وكذلك قال أحمد ، لأنه من قوم أخرين ، ومقتضى الحديث وتعليل أحمد أن ابن المرأة إذا كان من قبيلتها كابن ابن عمها يعقل عنها ، وصرح به ابن حمدان ، وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أن العاقلة كل العصبة إلا الأبناء ، ولعله يقيس أبناء الرجل على أبناء المرأة ، وليس بشيء ( واعلم ) أن أبا الخطاب في خلافه حكى عن شيخه أنه أخذ رواية أن العاقلة العصبة إلا عمودي النسب من هذا النص ، قال : وفيه نظر ، ولا شك في ضعف هذا المأخذ .
قال : وليس على فقير من العاقلة ولا امرأة ، ولا صبي ولا زائل العقل حمل شيء من الدية .
ش : لا خلاف أن الصبي غير المميز والزائل العقل لا يحملان من العقل شيئاً ، لأنهما ليسا من أهل النصرة ، وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعاً ، وحكم المميز حكم غيره على المذهب ، وحكاية ابن المنذر تشمله ، وقيل : بل حكم البالغ ، ( ولا ريب ) أن المذهب أن الفقير لا يحمل من العقل شيئاً ، حذاراً من أن نخفّف عن من جنى ، ونثقل على من لم يجن .
2980 وقد روى عمران بن حصين رضي الله عنهما أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء ، فأتى أهله النبي فقالوا : يا رسول الله إنا أناس فقراء . فلم يجعل عليه شيئاً ، رواه أبو داود والنسائي . ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن الفقير يحمل من العقل ، بناء على أنه من أهل النصرة ، كذا أطلق الرواية أبو محمد ، وقيدها أبو البركات بالمعتمل ، وهو حسن ، ( ولا ريب ) أيضاً أن المذهب أن المرأة لا تحمل من العقل شيئاً ، لعدم التناصر منها ( وعنه ) تحمل بالولاء لأنها إذاً عصبة ، ويخرج عليها الأم الملاعنة إذا قلنا : إنها عصبة ، وإن عمودي النسب من العاقلة أنها تعقل ، وتشبه هذه الرواية رواية أنها تلي على معتقها في النكاح ، وحكم الخنثى حكم المرأة ، وظاهر كلامه أن البعيد والغائب ، والشيخ والمريض ، والزمن والهرم يحملون كغيرهم ، وهو كذلك ، نعم في الزمن والهرم وجه أنهما لا يحملان .
قال : ومن لم تكن له عاقلة أخذت من بيت المال .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين لأن النبي ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر .
2981 ففي الصحيح قال : فكره رسول الله أن يبطل دمه ، فوداه بمائة من إبل الصدقة ، وفي لفظ : فوداه رسول الله من عنده ، فبعث إليهم رسول الله مائة ناقة حمراء .
2982 وروي أن رجلاً قتل في زحام ، في زمن عمر رضي الله عنه ، ولم يعرف قاتله ، فقال علي لعمر رضي الله عنهما : يا أمير المؤمنين لا يبطل دم امرئ مسلم ، فأدى ديته من بيت المال ، ( والرواية الثانية ) لا شيء على بيت المال ، اختارها أبو بكر في التنبيه ، لأن فيه حقاً للنساء والصبيان والمجانين والفقراء ، ولا عقل عليهم ، فلا يصرف حقهم والمجانين والفقراء ، ولا عقل عليهم ، فلا يصرف حقهم فيما لا يجب عليهم ، قال أبو محمد : ولأن بيت المال ليس بعصبة ، وما يصرف إليه من مال من لا وارث له إنما يؤخذه على أنه فيء ، لا أنه إرث . ( قلت ) : وقد يكون هذا منشأ الخلاف ، وهو أن بيت المال هل هو عصبة أم لا ؟ لكن المشهور أنه ليس بعصبة ، والمشهور أن يدي ، ولا يستقيم البناء ( واعلم ) أن محل الروايتين عند أبي محمد تبعاً للقاضي في المسلم ، أما الذمي فإن بيت المال لا يحمل عنه عندهما بلا خلاف ، بل تكون الدية عليه على المذهب ، وقيل : لا شيء عليه كالمسلم على المذهب ، وعند أبي البركات أنهما جاريتان فيهما وهو ظاهر كلام الخرقي ، وهو مما يضعف البناء ، وحيث حمل بيت المال فهل ذلك في ثلاث سنين كالعاقلة أو في دفعة ، لأن النبي أدى دية الأنصاري في دفعة ، والعاقلة التأجيل عليهم تخفيفاً بهم ، ولا حاجة بنا إلى التخفيف في بيت المال ؟ فيه وجهان ، أصحهما الثاني ، والله أعلم .
قال : فإن لم يقدر على ذلك فليس على القاتل شيء .
ش : إذا لم يقدر على أخذ شيء من بيت المال سقطت الدية ، فلا شيء على القاتل ، على المعروف عند الأصحاب ، بناء عندهم على أن الدية وجبت على العاقلة ابتداء ، فلا تجب على غير من وجبت عليه ، كما لو عدم القاتل فإن الدية لا تجب على أحد ، كذلك هاهنا ، وخالفهم أبو محمد فاختار وجوبها على القاتل لعموم قوله تعالى : 19 ( { ودية مسلمة إلى أهله } ) مع قوله : ( لا يجني جان إلا على نفسه ) وسقوطها لقيام العاقلة مقامه ، فإذا لم توجد عاقلة ، أو وجدوا وانتفى حملهم لدليل ، بقيت واجبة عليه ، ولأن الأمر دائر بين أن يبطل دم المقتول ، وبين إيجاب ديته على المتلف ، لا يجوز الأول مخالفة إطلاق الكتاب والسنة ، فيتعين الثاني ، وفي كلامه رحمه الله إشعار بأن الدية تجب على القاتل ، وتتحملها العاقلة .
( تنبيه ) : سميت العاقلة عاقلة لأن الإبل تجمع فتعقل بفناء أولياء المقتول ، أي تشد عقلها لتسلم إليهم ، ولذلك سميت الدية عقلاً ، وقيل سموا بذلك لإعطائهم العقل الذي هو الدية ، وقيل لأنهم يمنعون عن القاتل .
قال : ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة الأصحاب .
2983 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله قال : ( دية المعاهد نصف دية الحر ) رواه أبو داود ، والنسائي ولفظه : أن النبي قال : ( عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين ) وهم اليهود والنصارى ، ورواه الترمذي ولفظه : ( دية عقل الكافر نصف عقل المؤمن ) قال الخطابي : ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا ، ولا بأس به ، وبه قال أحمد . ( قلت ) : وهذا يبين الآية الكريمة ( الرواية الثانية ) ثلث دية المسلم ، إلا أن أحمد رجع عنها ، قال في رواية أبي الحارث : كنت أذهب إلى حديث عمر أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، ثم نزلت عن حديثه لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، ومن ثم قال أبو بكر : المسألة رواية واحدة ، أنها على النصف . وقد بين أحمد رحمه الله مأخذه في الروايتين ، وحديث عمرو بن شعيب قد تقدم .
2984 أما حديث عمر فهو ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : 16 ( كانت قيمة الدية على عهد رسول الله ثمان مائة دينار ، أو ثمانية آلاف درهم ، قال : وكانت دية أهل الكتاب يومئذ على النصف من دية المسلم ، قال : فكانت كذلك حتى استخلف عمر قام خطيباً فقال : إن الإبل قد غلت ، ففرضها عمر رضي الله عنه على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاة ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ؛ قال : وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية ) ، رواه أبو داود .
( تنبيه ) : ولا فرق في ذلك بين الذمي منهم والمستأمن ، لاشتراكهم في الكتاب مع حقن الدم .
قال : ونساؤهم على النصف من دياتهم .
ش : لما كانت دية نساء المسلمين على النصف من دياتهم ، كانت نساء أهل الكتاب على النصف من دياتهم ، مع أن هذا قد حكاه ابن المنذر إجماعاً .
قال : وإن قتلوا عمداً أضعفت الدية على قاتلة المسلم ، لإزالة القود ، هكذا حكم عثمان بن عفان رضي الله عنه .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وذكر دليله .
2985 والمحكي عن عثمان رواه عنه أحمد عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم عن أبيه ، أن رجلاً قتل رجلاً من أهل الذمة ، فرفع إلى عثمان ، فلم يقتله وغلظ عليه ألف دينار . ولهذا نظائر في الشريعة ( منها ) سارق الثمر والكثر يغرم بمثله مرتين ، لإزالة القطع ، ( ومنها ) الأعور إذا قلع عين صحيح ، تجب عليه دية كاملة ، كما حكم به الصحابة رضي الله عنهم ، لدرء القصاص عنه ، ويقرب من ذلك غرامة اللقطة بمثلها مرتين إذا كتمها ، وكذلك أخذ شطر مال الكاتم ماله في الزكاة على رواية .
2986 لحديث بهز بن حكيم ، وغير ذلك ، وهذا ونحوه يخصص عموم ما تقدم ، وقول الخرقي : على قاتله المسلم . يحترز عن قاتله إذا كان ذمياً ، فإن الدية لا تضعف عليه ، لوجوب القصاص عليه ، والله أعلم .
قال : ودية المجوسي ثمان مائة درهم .
2987 ش : لما روى الشافعي في مسنده ، والدارقطني عن سعيد بن المسيب قال : 16 ( كان عمر رضي الله عنه يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ، والمجوسي ثمان مائة ) .
2988 ويروى ذلك أيضاً عن عثمان وابن مسعود رضي الله عنهما ، ولا يعرف لهم في عصرهم مخالف ، وقول النبي : ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) لا عموم فيه ، ثم المراد به والله أعلم في أخذ الجزية ، جمعاً بين الأدلة ، وسواء كان المجوسي ذمياً أو مستأمناً ، وإن قتله مسلم عمداً أضعفت الدية عليه ، لإزالة القود ، نص عليه أحمد ، قياساً على الكتابي فتجب ألف وستمائة درهم .
قال : ونساؤهم على النصف من ذلك .
ش : كنساء المسلمين وأهل الكتاب ، وقد حكي إجماعاً والله أعلم .
قال : ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر المسلم .
2989 ش : لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( عقل المرأة مثل عقل الرجل ، حتى يبلغ الثلث من ديته ) رواه النسائي .
2990 وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال : 16 ( سألت سعيد بن المسيب : كم في إصبع المرأة ؟ قال : عشر من الإبل . قلت : فكم في إصبعين ؟ فقال : عشرون من الإبل . قلت : فكم في ثلاث أصابع ؟ قال : ثلاثون . قلت : فكم في أربع أصابع ؟ فقال : عشرون . قلت : حين عظم جرحها ، واشتدت مصيبتها ، نقص عقلها ؟ قال سعيد : أعراقي أنت ؟ قلت : بل عالم متثبت أو جاهل متعلم . قال : هي السنة يا ابن أخي ) . رواه مالك في الموطأ ، وذكر أبو محمد أن في كتاب عمرو بن حزم : دية المرأة على النصف من دية الرجل . ولم أجد ذلك في حديث عمرو بن حزم في جامع الأصول ، ولا في المنتقى .
قال : وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث ، فإذا جاوزت الثلث فعلى النصف .
ش : لا نزاع عندنا أن جراح المرأة تساوي جراح الرجل فيما دون ثلث الدية ، ففي أصبعها عشر من الإبل ، وفي الإصبعين عشرون من الإبل ، وفي الثلاث أصابع ثلاثون ، ولا نزاع عندنا أيضاً أنها فيما زاد على الثلث على النصف ، ففي أربع أصابع منها عشرون ، وفي يدها خمس وعشرون ، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب وسعيد ، واختلف هل تساوي الرجل في قدر الثلث ، كالجائفة والمأمومة ، ونحو ذلك ؟ على روايتين ( إحداهما ) تساويه وهو اختيار الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وغيرهم ، لأنه في حد القلة ، بدليل جواز الوصية به ( والثانية ) يختلفان ، فيجب في جائفتها سدس دية الرجل وهو اختيار أبي محمد لأن النبي سماه كثيراً قال : ( الثلث والثلث كثير ) ، وحديث عمرو بن شعيب محتمل للقولين ، بناء على أن الغاية هل تدخل في المغيا ، وذلك وإن كان في ( إلى ) الأكثر عدم الدخول ، ففي ( حتى ) الكثير الدخول ، والله أعلم .
قال : ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغ ذلك .
ش : قد تقدمت هذه المسألة والكلام عليها ، فلا حاجة إلى إعادتها ، ونزيد هنا بأنه لا فرق في ذلك بين العبد القن والمدبر والمكاتب ، وأم الولد ، لدخول الكل في إطلاق العبد ، وقد قال عليه السلام : ( المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ) .
قال : ودية الجنين إذا سقط من الضربة ميتاً وكان من حرة مسلمة غرة عبد أو أمة ، قيمتها خمس من الإبل ، موروثة عنه كأنه سقط حياً .
ش : الواجب في دية الجنين والحال هذه غرة .
2991 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : اقتتلت امرأتان من هذيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر ، فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله ، فقضى رسول الله أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها ، وورثها ولدها ومن معهم ؛ مختصر متفق عليه .
2992 وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : سأل عمر رضي الله عنه عن إملاص المرأة ، وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها ، فقال : أيكم سمع من النبي فيه شيئاً ؟ قال : فقلت : أنا ، قال : ما هو ؟ قلت : سمعت رسول الله يقول : ( فيه غرة عبد أو أمة ) قال : لا تبرح حتى تجيبء بالمخرج . قال : فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به ، فشهد معه أنه سمع النبي يقول : ( فيه غرة عبد أو أمة ) متفق عليه . والغرة عبد أو أمة ، لما تقدم من الحديثين السابقين ، وما روي ( عبد أو أمة أو فرس أو بغل ) وهم عند أهل العلم بالنقل ، والصحيح ما تقدم ، ويشترط أن تكون قيمة العبد أو الأمة عشر دية الأم .
2993 لأن ذلك يروى عن عمر وزيد رضي الله عنهما ، فقيد إطلاق ما تقدم ، مع أنه أقل مقدر ، وقدره الشارع في الجنايات ، وهو أرش الموضحة ، ودية السن ، فاعتبر بذلك ، ولا ترد الأنملة ، لأنه لا نص فيها ، إنما هو اجتهاد . و الخرقي رحمه الله قال : قيمتها خمس من الإبل . بناء عنده على أن الأصل في الدية الإبل ، فجعل التقويم بها ، وغيره من الأصحاب مقتضى كلامه أن التقويم بواحد من الخمسة أو الستة على ما تقدم ، وأن ذلك راجع إلى اختيار الجاني ، كما له الاختيار في دفع أي الأصول شاء إذا كان موجب جنايته دية كاملة .
وحكم هذه الغرة أنها موروثة عن الجنين ، كأنه سقط حياً ، لأنها دية له وبدل عنه ، فورثها ورثته كما لو قتل بعد الولادة ، وشرط الخرقي للضمان السابق أن يسقط من الضربة ميتاً ، أي بسبب الضربة ، بأن يسقط عقيبها ، أو يبقى بها متألماً إلى أن يسقط ، أما إن ضربها فماتت بحملها ولم تلقه ، أو ضرب من في بطنها شيء يتحرك فذهب فلا شيء عليه ، لعدم العلم بوجوده ، والأصل براءة الذمة .
وكلام الخرقي يشمل ما إذا ألقته في حياتها ، أو بعد موتها ، وهو كذلك ، والحكم فيما إذا ظهر بعضه ولم يظهر جميعه حكم ما إذا ظهر جميعه ، قاله أبو محمد . وقول الخرقي : وكان من حرة مسلمة ؛ يريد به أن الأم متى كانت كذلك كان الولد حراً مسلماً ، فيجب ما تقدم ، وقد تكون الأم رقيقة كافرة ، والجنين حر مسلم ، بأن يغر بأمة ، أو يتزوج المسلم كتابية ، فتجب الغرة السابقة ، أما إن كان الجنين رقيقاً فسيأتي حكمه ، وإن كان كافراً كالمولود بين كتابييّن ونحوهما ، فإن الواجب فيه عشر دية أمه إن ساوت الأب في الدين ، أو كانت أعلى منه كنصرانية تحت مجوسي ، وإن نقصت عنه كمجوسية تحت كتابي وجب عشر ديتها لو كانت على دين الأب .
( تنبيه ) : الولد الذي تجب به الغرة ما تصير بن الأمة أم ولد ، وما لا فلا ، وأصل ( الغرة ) بياض في جبهة الفرس ، ومن ثم قال أبو عمرو بن العلاء : الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء ، ولم يعتبر ذلك الفقهاء ، نظراً لإطلاق الحديث ، مع قرينة غلبة السواد على أرقاء أهل الحجاز ، والغرة أيضاً أول الشيء وخياره ، ومن ثم قال أصحابنا : لا يقبل في الغرة معيب ، لأن ذلك ليس بخيار ، وبنى على ذلك جمهورهم أن من لم يبلغ سبع سنين لا يجزىء لأنه يحتاج إلى من يكفله ويقوم به ، فليس من الخيار ، وقال أبو محمد : إن ظاهر كلام الخرقي الإجزاء ، والله أعلم .
قال : وإن كان الجنين مملوكاً ففيه عشر قيمة أمه .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، قياساً على الجنين الحر ، فإن فيه عشر دية أمه ، كذلك المملوك فيه عشر قيمة أمه ، إذ قيمة الأمة بمنزلة دية الحرة ، وحكى أبوالخطاب في خلافه رواية أخرى أن الواجب نصف عشر قيمة أمه ، ولا عمل عليه ، ثم الواجب هنا قيمة لا عبد أو أمة لأن الرقيق الواجب فيه قيمة ، بخلاف الحر فإن الواجب فيه إما الإبل ، أو أحد خمسة أشياء أو ستة .
قال : وسواء كان الجنين ذكراً أو أنثى .
ش : أما الجنين الحر فلإطلاق الحديث ، وأما المملوك فبالقياس على الحر ، والله أعلم .
قال : فإن ضرب بطنها فألقت جنيناً حياً ، ثم مات من الضربة ففيه دية حر إن كان حراً ، أو قيمته إن كان مملوكاً ، إذا كان سقوطه لوقت يعيش لمثله ، وهو أن يكون لستة أشهر فصاعداً .
ش : أما وجوب دية الحر أو قيمة المملوك على الضارب والحال ما تقدم فلأنه مات من جنايته ، بعد ولاته لوقت يعيش لمثله ، أشبه ما لو قتله بعد وضعه ، وقد قال ابن المنذر : إن هذا مما أجمع عليه كل من يحفظ عنه من أهل العلم ، وتعلم الحياة باستهلاله بلا ريب .
2994 لقول النبي : ( إذا استهل المولود ورث وورث ) وهل تعلم بارتضاعه ، أو تنفسه ، أو عطاسه ، أو نحو ذلك مما يدل على الحياة ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) لا ، لمفهوم الحديث السابق ( والثانية ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد نعم ، لأن الارتضاع ونحوه أدلّ على الحياة من الاستهلال ، فاستفيد من الحديث بطريق التنبيه ، أما مجرد الحركة والاختلاج فلا يدلان على الحياة ، لأن ذلك قد يكون لخروجه من مضيق فلم تتيقن حياته .
وشرط الخرقي لوجوب الضمان السابق أن يموت من الضربة أي بسببها ، وذلك بسقوطه في الحال وموته ، أو بقائه متألماً إلى أن يموت ، أو بقاء أمه متألمة إلى أن تلقيه حياً فيموت ، أما لو ألقته ثم بقي زمناً سالماً لا ألم به ثم مات فلا ضمان ، ولو وضعته حياً ، فجاء آخر فقتله وفيه حياة مستقرة فهو القاتل ، وإن لم تكن فيه حياة مستقرة ، بل حركة كحركة المذبوح فالقاتل هو الأول ، ويؤدب الثاني ( وشرط ) أيضاً أن تضعه لوقت يعيش لمثله ، وإلا فحكمه حكم الميت فيه الغرة ، لعدم تصور بقائه ، وبيَّن رحمه الله أن الوقت الذي يعيش لمثله ستة أشهر فصاعداً ، لأن ذلك أقل مدة الحمل والله أعلم .
قال : وعلى كل من ضرب ممن ذكرت عتق رقبة مؤمنة ، سواء كان الجنين حياً أو ميتاً .
ش : هذا قول جمهور أهل العلم ، لأن الله سبحانه قال : 19 ( { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ) وقال : 19 ( { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله ، وتحرير رقبة مؤمنة } ) أي المقتول ، وهذا الجنين إن كان من مؤمنين أو كان أحد أبويه مؤمناً فهو محكوم بإيمانه تبعاً ، فيدخل في الآية ، وإن كان من كتابيين فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق فتشمله الآية ، ولأنه نفس مضمونة بدية ، فوجبت فيه الرقبة كالكبير .
قال : وإذا شربت الحامل دواء فأسقطت به جنينها فعليها غرة لا ترث منها شيئاً ، وتعتق رقبة .
ش : أما وجوب الغرة فلأن الجنين مات بجنايتها ، أشبه ما لو كان الجاني غيرها ، وأما كونها لا ترث منها شيئاً فلأنها قاتلة ، وقد تقرّر أن القاتل لا يرث المقتول ، فعلى هذا تكون الغرة لبقية الورثة ، وأما كونها تعتق رقبة فلما تقدم قبل والله أعلم .
قال : وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق ، فرجع الحجر فقتل رجلاً فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث الدية .
ش : لأنه قتل حصل بفعلهم وجنايتهم ، وهم ثلاثة ، فوجب تثليث الدية على عواقلهم ، لأنه كما سيأتي إما خطأ ، وإما شبه عمد ، هذا هو المذهب المعروف وقيل : بل تجب الدية في بيت المال ، لأن ذلك من مصالح المسلمين ، فإن تعذر فعلى العاقلة ، وكلام الخرقي يشمل ما إذا قصدوا معيناً أو لم يقصدوا ، وهو كذلك لأن قصد الواحد بالمنجنيق يندر أن يصيبه ، فلا يكون عمداً ، نعم مع قصد معين أو جماعة يكون ذلك شبه عمد وقد تقدم حكمه ومع عدم القصد يكون خطأ ، واختار ابن حمدان أنه عمد إن كان الغالب الإصابة ، وقول الخرقي : قتل رجلاً . يحتمل أن يكون من غيرهم ، ويحتمل أن يكون منهم ، وعلى هذا يكون مقتضى قول الخرقي أن جناية الإنسان على نفسه تكون خطأ ، تحملها العاقلة لورثته ، وهو إحدى الروايتين ، والرواية الثانية لا شيء فيها ، وقال ابن عقيل في التذكرة : تكون عليه يدفعها إلى ورثته ، والله أعلم .
قال : وعلى كل واحد منهم عتق رقبة مؤمنة في ماله .
ش : هذا مبني على المذهب من أن المشتركين في القتل على كل واحد منهم كفارة ، لا أن الواجب على الجميع كفارة واحدة ، وقد تقدم ذلك ، وتقدم أيضاً أن الكفارة تجب في مال القاتل .
قال : فإن كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالة في أموالهم .
ش : هذا هو المذهب المختار للأصحاب بلا ريب لما تقدم لأن الواجب على كل واحد والحال هذه دون الثلث ، والعاقلة لا تحمل ما دون الثلث لما تقدم ، وإذا انتفى حمل العاقلة وجبت الدية في أموالهم ، لأن ذلك أثر فعلهم . قال النبي : ( لا يجني جان إلا على نفسه ) وتجب حالة ، لأنها بدل متلف ، فوجبت حالة كسائر أبدال المتلفات ، وقد يستشكل بأن الجاني إذا حمل دية شبه العمد كانت من ماله مؤجلة على المذهب ، كذلك هاهنا قد يقال ، وحكى أبو بكر رواية أخرى أن العاقلة تحمل ذلك ، نظراً إلى أن هذه جناية واحدة أوجبت ما زاد على الثلث ، فحملته العاقلة كما لو كانوا ثلاثة ، واستشهد القاضي في روايتيه على هذه الرواية بما نقل يعقوب بن بختان عن أحمد ، في قوم رموا بالمنجنيق ، فرجع فقتل رجلاً من المسلمين فالدية على عواقلهم والكفارة في أموالهم . قال : وهذا يحتمل أن يكونوا ثلاثة فما دون ، ويحتمل أن يكونوا أكثر من ذلك ؛ قلت : من حمل مطلق كلامه على مقيده لا ينبغي له أن يثبت هذه الرواية ، بخلاف من لم يحمل ، وظاهر كلام الأصحاب أنه لا خلاف في الخمسة أن الدية لا تكون على العاقلة ، وصرح بذلك ابن حمدان ، وهو مما يضعف تعليل الرواية الثانية .
( تنبيه ) : الضمان في الرمي بالمنجنيق يتعلق بمن مد الحبال ، ورمى الحجر ، دون من وضعه في الكفة وأمسك الخشب ، إذ الأول مباشر ، والثاني متسبّب ، والمباشرة تقطع حكم السبب ، والمنجنيق أعجمي معرب ، بفتح الميم وكسرها ، وحكي فيه منجنوق ومنجليق . . . والله أعلم .
( باب ديات الجراح )
ش : لما فرغ الخرقي رحمه الله من بيان ديات الأنفس شرع يتكلم على ديات الجراحة .
قال : ومن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية ، وما فيه منه شيئا ففي كل واحد منهما نصف الدية .
2995 ش : الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله لابن حزم في العقول : ( إن في النفس مائة من الإبل ، وفي الأنف إذا أوعب جدعاً الدية كاملة ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الجائفة مثله ، وفي العين خمسون ، وفي اليد خمسون ، وفي الرجل خمسون ، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل ، وفي كل سن خمس ، وفي الموضحة خمس ) رواه مالك في موطئه ، وهذا لفظه ، والنسائي وفي روايته : ( وفي الأنف إذا أوعب جدعه بالدية ، وفي اللسان الدية ، وفي الشفتين الدية ، وفي البيضتين الدية ، وفي الذكر الدية ، وفي الصلب الدية ، وفي العينين الدية ، وفي الرجل الواحدة نصف الدية ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الجائفة ثلث الدية ، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل ، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل ، وفي السن خمس من الإبل ، وفي الموضحة خمس من الإبل ، وأن الرجل يقتل بالمرأة ، وعلى أهل الذهب ألف دينار ، ذكره في رواية ، وفي العين الواحدة نصف الدية ، وفي اليد الواحدة نصف الدية ) ، قال ابن عبد البر : كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء ، وما فيه متفق عليه إلا قليلاً ، انتهى . ففي هذا الحديث مما في الإنسان منه شيء واحد الأنف ، والذكر ، واللسان والصلب ، وغير ذلك مقيس عليها ، وفيه مما في الإنسان منه شيئان الشفتان والبيضتان ، والعينان ، والرجلان ، واليدان ، وغير ذلك مقيس عليها وملحق بها والله أعلم .
قال : وفي العينين الدية .
ش : لما تقدم في حديث عمرو بن حزم ، مع أنه إجماع ، ولا فرق بين أن يكونا صحيحتين أو مريضتين ، أو حولاوين ، وفي العين الواحدة نصف الدية ، على مقتضى كلام الخرقي ، لما تقدم في حديث عمرو بن حزم ، وعموم كلامه يقتضي شمول عين الأعور ، وهو مقتضى حديث عمرو بن حزم ، والمذهب أن في عين الأعور دية كاملة .
2996 نظراً إلى قضاء الصحابة عمر وعثمان وعلي وابن عمر رضي الله عنهم ، ولا يعرف عن غيرهم خلافهم ، ولأن قلع عينه يتضمن ذهاب بصره كله ، إذ الأعور يبصر بعينه كما يبصر الصحيح ، فوجبت الدية كما لو أذهب البصر من العينين .
قال : وفي الأشفار الأربعة الدية .
ش : في الأشفارالدية ، لأن ذلك هو جميع الجنس ، فوجب فيه جميع الدية كاليدين والرجلين ، والأشفار فسرها أبو محمد بالأجفان ، وهو مقتضى كلام غيره ، وابن أبي الفتح يجعل الشفر منبت الهدب ، والجفن غطاء العين ، والله أعلم .
قال : وفي كل واحد منها ربع الدية .
ش : لأنه عدد تجب الدية في جميعه ، فوجب في بعضه بالقسط ، كاليدين والأصابع والله أعلم .
قال : وفي الأذنين الدية . . .
ش : لأنهما مما في البدن منه شيئان .
2997 ويروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما ، وادعى أبو محمد أنه في كتاب عمرو بن حزم ، ولم أره ، وقد شمل كلام الخرقي الأذن الصماء ، والأذن المستشحفة ، والأذن المخرومة ، وهو صحيح إن قلنا : يؤخذ به السالم من ذلك في العمد ، وإلا الواجب في ذلك حكومة ، والله أعلم .
قال : وفي السمع إذا ذهب من الأذنين الدية .
2998 ش : يروى هذا عن عمر رضي الله عنه .
2999 ويروى أيضاً عن معاذ رضي الله عنه أن النبي قال : ( وفي السمع الدية ) وقال ابن المنذر : أجمع عليه عوام أهل العلم . ولأنه حاسة تختص بنفع ، فكان فيه الدية كالبصر ، ولو ذهب السمع من أحد الأذنين وجب نصف الدية والله أعلم .
قال : وفي الأنثيين الدية .
ش : لحديث عمرو ( في البيضتين الدية ) ، ويجب في إحداهما نصفها .
قال : وفي الصعر الدية .
ش : لذهاب المنفعة والجمال ، أشبه سائر المنافع .
3000 ولأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت ، ولا يعرف له مخالف .
قال : والصعر أن يضربه فيصير الوجه في جانب .
ش : قال الجوهري : الصعر الميل في الخد خاصة ، وقال أبو محمد : أصله داء يأخذ البعير في عنقه فيلتوي له عنقه ، وفي التنزيل : 19 ( { ولا تصعر خدك للناس } ) أي لا تعرض عنهم بوجهك تكبراً كإمالة وجه البعير الذي به الصعر ، والله أعلم .
قال : وفي المثانة إذا لم يستمسك البول الدية .
ش : لأنه عضو فيه منفعة كثيرة ، ليس في البدن مثله أشبه سائر الأعضاء ، ومنفعة المثانة حبس البول ، فإذا غيرت فقد زالت المنفعة .
قال : وفي قرع الرأس إذ لم ينبت الشعر الدية ، وفي الحاجبين إذا لم ينبت الشعر الدية ، وفي اللحية إذا لم ينبت الشعر الدية .
ش : هذا هو المذهب المشهور من الروايتين ، لأنه إذهاب للجمال على الكمال ، فوجبت الدية كاملة كأنف الأخشم ، وأذن الأصم ، ( والرواية الثانية ) في الجميع حكومة ، لأنه إذهاب جمال من غير منفعة ، فأشبه اليد الشلاء ، وألحق الأصحاب بهذه الثلاثة أهداب العينين ، فجعلوا فيها دية على المذهب ، وفي الواحد منها ربع الدية ، كما أن في الحاجب نصفها ، وقوله : إذا لم ينبت . شرط لوجوب الدية ، فلو نبتت فلا دية .
قال : وفي المشام الدية . . .
ش : قال أبو محمد : أراد الشم ، انتهى . ويجوز أن يكون أراد المنخرين . وفي كل واحد من ذلك نصف الدية ، أما الأول فلأنها حاسة تختص بمنفعة ، أشبهت سائر المنافع ، مع أن القاضي يدعي أن في حديث عمرو ( وفي المشام الدية ) ولم أر ذلك ، وأما الثاني فلأنه مما في الإنسان منه شيئان ، وهو إحدى الروايتين ، والمشهور منهما ، وعليها ففي الحاجز حكومة ، ( والرواية الثانية ) فيهما ثلثا الدية ، وفي الحاجز ثلثها ، اختارها أبو بكر ، والله أعلم .
قال : وفي الشفتين الدية .
ش : لحديث عمرو ( وفي الشفتين الدية ) وفي كل واحدة نصف الدية على المذهب المشهور من الروايتين ، قياساً على ما في الإنسان منه شيئان .
3001 واتباعاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ( والرواية الثانية ) في الشفة السفلى ثلثا الدية ، وفي العليا ثلثها .
3002 اتباعاً لزيد بن ثابت ، ولأن نفع السفلى أكثر ، فناسب أن تزيد ديتها على دية العليا .
قال : وفي اللسان المتكلم به الدية .
ش : لحديث عمرو بن حزم ، وقد حكى إجماعاً ، وقوله : المتكلم به ، يحترز به عن لسان الأخرس ، فإن الدية لا تكمل فيه ، بل الواجب فيه إما ثلث الدية ، أو حكومة على اختلاف الروايتين ، ويستثنى من عموم المفهوم لسان الطفل ، فإن الكلام منتف فيه ، والدية واجبة فيه ، نعم إن بلغ إلى حد يتحرك فيه بالبكاء ولم يحركه فحكمه حكم لسان الأخرس ، والله أعلم .
قال : وفي كل سن خمس من الإبل إذا قلعت ممن قد ثغر .
ش : في كل سن خمس من الإبل على المذهب ، لما تقدم من حديث عمرو بن حزم .
3003 وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : قال رسول الله : ( في كل إصبع عشر من الإبل ، وفي كل سن خمس من الإبل ، والأصابع سواء ، والأسنان سواء ) . . . رواه الخمسة إلا الترمذي ، وقال في المغني : وحكي عن أحمد أن في جميع الأسنان والأضراس دية . . قال : ويتعين حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد ، للإجماع على أن في كل سن خمساً من الإبل ، والأسنان فيها ستون بعيراً ، لأنها اثنا عشر سناً ، أربع ثنايا ، وأربع رباعيات ، وأربعة أنياب ، ففيها خمس ، والأضراس فيها أربعون ، لأنها عشرون ضرساً . . . انتهى .
3004 وقول سعيد هو أن في كل ضرس بعيرين ، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال تبعه عليه في المقنع أن الواجب في الجميع دية واحدة وأطلق ، وحقق أبو البركات هذا القول فقال : وقيل : إن قلع الكل أو فوق العشرين لم يجب سوى الدية ، وذلك لأن هذه تشتمل على منفعة الجنس ، فكان الواجب فيه دية كاملة ، كبقية المنافع ، ويحمل الحديث على ما إذا قلعها متفرقة ، أو قلع دون العشرين .
وشرط وجوب ما تقدم أن تكون قد قلعت ممن قد أثغر ، وهو الذي قد سقطت رواضعه ، فأما سن الصبي الذي لم يثغر فهل يجب فيها ما يجب في سن من أثغر ، لعموم الحديث ، وهو اختيار أبي الخطاب ، وأبي محمد ، أو لا يجب إلا حكومة وهو اختيار القاضي ، ويحتمله كلام الخرقي ، لعدم مساواتها لسن الكبير ، وذلك يقتضي أن ينقص عنها ؟ على روايتين ، ( وشرط الوجوب ) في سن الصغير وغيره عدم عود مثلها ، فلو نبت مثل السن في محلها فلا شيء له ، حتى لو كان قد أخذ الدية أخذت منه ، كالشعر إذا نبت ، نعم لو عادت قصيرة أو متغيرة فله الأرش ، ( ويشترط ) أيضاً لوجوب أخذ الدية الإياس من عودها ، فإن رجي عودها لم تجب ديتها ، والمرجع في ذلك إلى قول أهل الخبرة ، قاله أبو البركات ( وعن أحمد ) أنه قيد ذلك في سن الصغير بسنة ، فإذا مضت وجبت الدية ، وقال القاضي : إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أخذت الدية وهو حسن ، وإنما وقع لأحمد والقاضي التقييد في الصغير دون غيره لأن الغالب أن سن الكبير لا يرجى عودها ، فلا انتظار .
تنبيهان ( أحدهما ) لو مات من قلعت سنه في مدة الانتظار فهل تجب دية السن لوجود سبب الدية . . . والأصل عدم العود ، أو لا تجب ، لاحتمال العود ، والأصل براءة الذمة ؟ فيه قولان ، وأبو محمد يخصهما بسن الصغير ، لأن الانتظار عنده إنما هو فيه . ( والثاني ) تجب دية السن فيما ظهر منها من اللثة ، لأن ذلك هو المسمى بها سناً ، وما في اللثة يسمى سنخاً ، ولو قلعها ابتداء بسنخها لم يجب فيها أكثر من الدية .
قال : والأضراس والأنياب كالأسنان .
ش : أي يجب فيهم ما يجب في الأسنان ، وذلك لما تقدم .
3005 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( الأسنان سواء الثنية والضرس سواء ) رواه ابن ماجه وهو نص ، وقد تقدم لنا قويل أن في كل ضرس بعيرين ولا عمل عليه .
قال : وفي الثديين الدية سواء كان من رجل أو امرأة .
ش : لأنهما مما في الإنسان منه شيئان ، وقد تقدم أن كل ما في الإنسان منه شيئان فيه الدية ، ولأن في ثدي المرأة جمالاً ونفعاً ، أشبها اليدين وفي ثندوتي الرجل جمالاً كاملاً ، أشبها أذني الأصم ، وعلى هذا في أحدهما نصفها .
قال : وفي الأليتين الدية . . .
ش : لما تقدم ، قال ابن المنذر : كل من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون في الأليتين الدية ، ولأن فيهما جمالاً ومنفعة ، لأنه يجلس عليهما كالوسادتين ، فأشبها اليدين ، وفي إحداهما نصفها لما تقدم .
قال : وفي الذكر الدية .
ش : لحديث عمرو بن حزم وقد تقدم ، مع أنه إجماع والحمد لله ، ولا فرق بين ذكر الكبير والصغير ، وإن لم يقدر أن يجامع به ، لعموم الحديث ، مع صلاحيته لذلك ، وعموم كلام الخرقي يدخل فيه ذكر العنين والخصي ، والذكر الأشل ، ولا نزاع فيما نعلمه أن الذكر الأشل لا تكمل فيه الدية ، وإنما الواجب فيه هل هو حكومة أو ثلث ديته ؟ على روايتين يأتي توجيههما في اليد الشلاء أما ذكر الخصي والعنين ففيهما ثلاث روايات ، ( إحداها ) وهي المشهورة حكمها حكم الذكر الأشل ، لأن منفعة الذكر الإنزال والإحبال ، وذلك مفقود فيهما . ( والثانية ) فيهما كمال الدية ، لعموم الحديث ، ولأنه عضو سليم في نفسه ، فكملت ديته كذكر الشيخ .
( والثالثة ) يجب الكمال في ذكر العنين ، لأنه غير مأيوس من الإنزال به والإحبال ، بخلاف ذكر الخصي .
( تنبيه ) ينبني على الخلاف السابق في ذكر الخصي إذا قطع الذكر والخصيتين معاً ، أو الخصيتين ثم قطع الذكر ، وجبت ديتان بلا ريب ، ولو قطع الخصيتين أو لا ، ثم قطع الذكر ، وجبت دية الخصيتين ، وفي الذكر روايتان ، إحداهما دية ، والأخرى حكومة أو ثلث ديته ، على اختلاف الروايتين في الواجب فيه إذا لم يجب فيه كمال الدية .
قال : وفي اليدين الدية .
ش : هذا إجماع والحمد لله ، وفد شهد له حديث عمرو بن حزم ، وفي إحداهما نصفها ، وقد شمل كلامه اليد الشلاء والزائدة ، وسيأتي الكلام على اليد الشلاء إن شاء الله تعالى ، وحكم اليد الزائدة حكمها ، وتجب الدية في قطعها من الكوع إذ اليد إذا أطلقت في الغالب أريد بها ذلك ، بدليل التيمم ، وقطع السارق ، وغسل اليدين إذا قام من نوم الليل ، فإن قطعها من فوق ذلك فهل في الزائد حكومة ، وهو اختيار القاضي فيما حكاه عنه أبو محمد ، وأبو الخطاب ، كما لو قطعه بعد قطعها من الكوع ، أو لا تجب ، وهو منصوص أحمد في رواية أبي طالب ، وقول القاضي في الجامع ؟ على قولين ، لأن اليد في الأصل اسم لليد إلى المنكب ، مع أن الأصل براءة الذمة .
وفي إحداهما نصفها إلا على رواية ضعيفة ، وهو إذا لم تكن له إلا يد واحدة ففيها دية كاملة ، كعين الأعور ، وعلى هذه لو قطع يد من له يدان لم تقطع يده ، بل يكون عليه دية كاملة .
قال : وفي الرجلين الدية .
ش : هذا أيضاً إجماع والحمد لله ، وحديث عمرو بن حزم يدل عليه ، وكلامه يشمل رجل الأعرج ، وهو المذهب ، لأن العرج لمعنى في غير القدم ، وعن أبي بكر : فيها ثلث الدية كاليد الشلاء ، ويستثنى من عموم كلامه الرجل الشلاء فإن حكمها حكم اليد الشلاء ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، وتجب دية الرجل في قطعها من الكعب ، فإن قطعها من فوق ذلك فقولان ، كما تقدم في قطع اليد ، وحكم قطع إحداهما حكم قطع إحدى اليدين .
قال : وفي كل إصبع من اليد والرجل عشر من الإبل .
ش : لما تقدم من حديث عمرو بن حزم ، وعمرو بن شعيب .
3006 وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال : ( هذه وهذه سواء ) . . . يعني الخنصر والإبهام رواه الجماعة إلا مسلماً ، وللترمذي وصححه : ( أصابع اليدين والرجلين سواء ، عشر من الإبل لكل أصبع ) ويستثنى من كلامه الإصبع الزائدة ، فإن فيها ثلث ديتها ، أو حكومة ، على اختلاف الروايتين ، والله أعلم .
قال : وفي كل أنملة منها ثلث عقلها ، إلا الإبهام فإنها مفصلان ، ففي كل مفصل خمس من الإبل .
ش : في كل أنملة من الأصابع ثلث عقل الإصبع لأن كل إصبع فيه ثلاث أنامل ، فديته مقسومة عليها ، إلا الإبهام فإنها مفصلان ، فتقسم دية الإصبع عليهما ، فيجب في كل مفصل نصف ديته ، وهو خمس من الإبل .
قال : وفي البطن إذا ضرب فلم يستمسك الغائط الدية ، وفي المثانة إذا لم يستمسك البول الدية .
ش : لأن كل واحد من هذين العضوين فيه منفعة ليس في البدن مثله ، فوجب في تفويت منفعته دية كاملة ، كسائر الأعضاء ، وحكى ابن أبي موسى رواية في المثانة أن فيها ثلث الدية ، والله أعلم .
قال : وفي ذهاب العقل الدية .
3007 ش : لأن ذلك يروى عن عمر وزيد رضي الله عنهما ، ولأن به يتميز من البهائم ، ويعرف به حقائق المعلومات ، ويدخل به في التكليف ، وهو شرط في ثبوت الولايات ، وصحة التصرفات ، وأداء العبادات ، فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس ، وقد ادعى أبو محمد أن في كتاب عمرو بن حزم ( وفي العقل الدية ) ، ولم أر ذلك ، والله أعلم .
قال : وفي اليد الشلاء ثلث ديتها ، وكذلك العين القائمة ، والسن السوداء .
ش : هذا إحدى الروايتين عن إمامنا ، واختيار عامة أصحابنا .
3008 لما روي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله قضى في العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها ، وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها ، وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها ؛ رواه النسائي ، ولأبي داود منه : قضى في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية .
3009 وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه 16 ( أنه قضى في العين القائمة إذا خسفت ، واليد الشلاء إذا قطعت ، والسن السوداء ، إذا كسرت ثلث دية كل واحدة منهن ) .
( والرواية الثانية ) في جميع ذلك حكومة ، ولعله قال ذلك قبل أن يبلغه الخبر ، أو قبل أن يثبت عنده ، وإذاً لا مقدر في ذلك ، ولا يمكن أيجاب الدية فيه كاملة ، لذهاب نفعه ، فيجب فيه حكومة .
تنبيهان : ( أحدهما ) العين القائمة هي الباقية في موضعها صحيحة ، وإنما ذهب نظرها وإبصارها ، واليد الشلاء التي بطلت لآفة تعتريها ، ومن ثم قال القاضي : الروايتان في السن السوداء التي ذهب نفعها ، أما إن لم يذهب نفعها بالكلية ، ففيها ديتها كاملة ، وخالفه أبو محمد عملاً بإطلاق أحمد ، وبظاهر الحديث . ( الثاني ) : الروايتان السابقتان جاريتان في الرجل الشلاء ، والإصبع الشلاء ، والذكر الأشل ، والثدي الأشل ، ولسان الأخرس ، ولسان الصبي الذي أتى عليه أن يحركه بالبكاء ولم يحركه ، والثدي دون حلمته ، والذكر دون حشفته ، والكف دون أصابعه ، وقصبة الأنف ، واليد والإصبع ، والرجل والسن الزوائد [ وذكر الخصي والعنين على رواية ، إلا أن المختار لأبي محمد في اليد والأصبع والرجل والسن الزوائد ] أن فيها حكومة ، وكذلك مختاره في الذكر ، دون حشفته ، والكف دون أصابعه ، والخرقي رحمه الله اقتصر على ما تقدم ، إما لورود النص فيها دون غيرها ، وإما لأن مختاره وجوب الحكومة فيما عداها .
واعلم أن أبا محمد جعل من صور الخلاف هنا شحمة الأذن ، وكلامه في المغني في هذا الموضع يقتضي أن مختاره أن فيها حكومة ، ولما تكلم في قطع الأذن ، وأن في بعضها بالحساب من ديتها ، قال : إنه روي عن أحمد أن في شحمة الأذن ثلث ديتها ، وأن المذهب الأول ، وعلى هذا الثاني جرى أبو البركات ، ولم يحك رواية الحكومة .
قال : وفي إسكتي المرأة الدية .
ش : الإسكتان بكسر الهمزة وفتحها شفرا الرحم ، وقيل جانباه مما يلي شفريه ، وفيهما الدية ، لأن فيها جمالاً ومنفعة ، وليس في البدن غيرهما من جنسهما ، فوجبت فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان ، والله أعلم .
قال : وفي موضحة الحر خمس من الإبل .
ش : لما تقدم في حديث عمرو بن حزم .
3010 وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن النبي قال : ( في الموضحة خمس من الإبل ) رواه الخمسة . وقوله : في موضحة الحر . يحترز به عن موضحة العبد ، فإن فيها نصف عشر قيمته أو ما نقص من قيمته ، على اختلاف الروايتين والله أعلم .
قال : سواء كان رجلاً أو امرأة .
ش : أي سواء كان المجني عليه رجلاً أو امرأة ، لعموم الحديث ، ولما تقدم من أن جراحها تساوي جراح الرجل إلى الثلث ، ونص الخرقي على ذلك لينبه على مذهب الشافعي رحمه الله ، وهو أن موضحتها على النصف من موضحة الرجل .
قال : وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا زادت صارت على النصف .
ش : قد تقدم الكلام على هذا بما فيه كفاية ، ونزيد هنا أن مقتضى كلامه أنها تساويه في الثلث ، وهذا اللفظ في هذا الموضع غير موجود في بعض النسخ .
قال : والموضحة في الوجه والرأس سواء .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار القاضي وعامة أصحابه ، لعموم ما تقدم .
3011 وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : 16 ( الموضحة في الرأس والوجه سواء ) .
( والرواية الثانية ) : في موضحة الوجه عشر من الإبل ، قال القاضي : نقلها حنبل انتهى . . . واختارها الشيرازي ، وذلك لأن شينها أكثر ، لظهورها ، بخلاف موضحة الرأس فإنه يسترها الرأس والشعر ، وأوَّل أبو محمد هذه الرواية بعد أن زعم أن لفظها موضحة الوجه أحرى أن يزاد في ديتها . بأن معناها أنها أولى بإيجاب الدية ، لا أنها يجب فيها أكثر ، وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا مقدر في غير موضحة الرأس والوجه من المواضح ، وهو كذلك ، إذ اسم الموضحة إنما يطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس ، وغيرهما ليس في معناهما ، لأن شينهما أكثر ، وخطرهما أعظم والله أعلم .
قال : وهي التي تبرز العظم وتوضحه .
ش : هذا بيان للموضحة أنها التي تبرز العظم أي تظهره ، سميت بذلك لأنها أبدت وضح العظم أي بياضه ، ولا فرق بين قليل ذلك وكثيره ، حتى لو أبدت من العظم قدر إبرة فهي موضحة ، ولو كانت كل الرأس فهي موضحة ، ومن ثم قال الأصحاب : لو شجه في رأسه شجة بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة ، لم يلزمه أكثر من أرش الموضحة .
قال : وفي الهاشمة عشر من الإبل .
3012 ش : لأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت ، ولأنها شجة فوق الموضحة ، تختص باسم ، فكان فيها مقدر كالمأمومة ، والله أعلم .
قال : وهي التي توضح العظم وتهشمه .
ش : هذا بيان للهاشمة ، وسميت بذلك لهشمها العظم ، وكان ابن الأعرابي يجعل بعد الموضحة المفرشة ، وهي التي يصير منها في العظم صديع مثل الشعرة ، ويلمس باللسان لخفائه ، انتهى . وتختص أيضاً بالرأس والوجه كما في الموضحة ، ولو هشمت العظم من غير إيضاح لم يجب أرش الهاشمة ، على مقتضى كلام الخرقي ، وهو كذلك بلا ريب ، وهل تجب خمس من الإبل ، لأنه الذي يخص الهشم ، أو حكومة لأن زيداً رضي الله عنه لم يحكم إلا في إيضاح وهشم ؟ فيه وجهان .
قال : وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل .
ش : قد حكى ذلك ابن المنذر إجماعاً ، وشهد له حديث عمرو بن حزم ، والله أعلم .
قال : وهي التي توضح وتهشم وتسطو حتى تنقل عظامها .
ش : المنقلة زائدة على الهاشمة ، لأنها التي توضح العظم وتهشم وتزيد في الهشم ، حتى تزيل العظام عن مواضعها ، وبذلك سميت المنقلة ، لنقلها العظام .
قال : وفي المأمومة ثلث الدية .
ش : لحديث عمرو بن حزم .
3013 وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله قضى في المأمومة بثلث العقل ، ثلاث وثلاثون من الإبل ، أو قيمتها من الذهب ، أو الورق أو البقر ، أو الشاء ، والجائفة مثل ذلك ، مختصر رواه أبو داود والنسائي .
قال : وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ .
ش : وتسمى أم الدماغ سميت بذلك لأنها تحوط الدماغ وتجمعه .
قال : وفي الآمة ما في المأمومة .
ش : الآمة والمأمومة حكمهما واحد ، وهما شيء واحد ، قال ابن المنذر : أهل العراق يقولون لها الآمة ، وأهل الحجاز المأمومة أي لهذه الجراحة ، وسميت بذلك لوصولها إلى جلدة الدماغ التي هي أم الدماغ .
( تنبيه ) : فإن خرق جلدة الدماغ فهي الدامغة يعني بالغين المعجمة ، وفيها ما في المأمومة ، وقيل فيها مع ذلك حكومة لخرق الجلدة .
قال القاضي : ولم يذكرها أصحابنا لمساواتها المأمومة في أرشها . قال أبو محمد : ويحتمل أنهم تركوا ذكرها لكون صاحبها لا يسلم غالباً والله أعلم .
قال : وفي الجائفة ثلث الدية .
ش : لما تقدم من حديث عمرو بن حزم وعمرو بن شعيب .
قال : وهي التي تصل إلى الجوف .
ش : وبذلك سميت ، وقد خرج من كلام الخرقي إذا طعنه في خده فوصل إلى فمه ، أنها لا تكون جائفة ، وهو المذهب ، لأن الفم في حكم الظاهر لا في حكم الباطن ، ولأبي الخطاب احتمال أنه جائفة ، لوصوله إلى جوفه ، والله أعلم .
قال : فإن جرحه في جوفه فخرج من الجانب الآخر ، فهي جائفتان .
3014 ش : اقتداء بأبي بكر الصديق رضي الله عنه فعن سعيد بن المسيب 16 ( أ رجلاً رمى رجلاً بسهم فأنفذه ، فقضى أبو بكر رضي الله عنه بثلثي الدية ) رواه سعيد بن منصور في سننه ، وروي ذلك أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال : ومن وطىء زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية .
ش : معنى الفتق أن يجعل مدخل الذكر ، وهو مخرج المني والحيض والولد ، ومخرج البول واحداً ، وقيل : بل هو خرق ما بين القبل والدبر ، وبعّده أبو محمد ، لغلظ الحاجز بينهما ، فيبعد ذهابه بالوطء ، وفي ذلك ثلث الدية .
3015 لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ولأنها جناية تخرق الحاجز بين مسلك البول والذكر ، فكان موجبها ثلث الدية كالجائفة ، ويجب ذلك في ماله إن تعمد ، بأن يعلم أنها لا تطيقه ، وإن وطأها يفضيها ، أما إن لم يعلم ذلك ، وكان مما يحتمل أن لا يفضي إليه فهو شبه عمد ، تحمله العاقلة على الصحيح ، وقيد الخرقي بالصغيرة ، وفي معناها النحيفة التي لا تحتمل الوطء ، ولتخرج الكبيرة المحتملة له ، فإنه إذا وطئها فأفضاها لا شيء عليه ، لأنه وطء مستحق له ، فلم يجب ضمان ما تلف به كالبكارة ، أو فعل مأذون فيه ممن يصح إذنه ، فلم يضمن ما تلف بسرايته كما لو أذنت في مداواتها بما أفضى إلى ذلك .
وقال : زوجته لتخرج الأجنبية ، فإنه إن زنا بها مطاوعة فلا شيء لها ، وإن كانت مكرهة واستمسك البول وجب ثلث الدية ، وإن لم يستمسك فالدية كاملة ، وإن وطئها بشبهة فكذلك مع المهر .
قال : وفي الضلع بعير .
3016 ش : يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الضلع بجمل ، وشرط أبو البركات لذلك أن يجبر مستقيماً ، ومفهوم كلامه أنه لو لم يجبر مستقيماً كان فيه حكومة ، ولم أر هذا الشرط لغيره ، وقد حكى القاضي في روايتيه أن أحمد قال : في الضلع بعير ، وهذا لا قيد فيه .
قال : وفي الترقوة بعيران .
ش : الترقوة بفتح التاء ، قال الجوهري : ولا تقل ترقوة بالضم ، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق ، وفيها بعيران على ظاهر كلام الخرقي ، فيكون في الترقوتين أربعة أبعرة .
3017 وهذا قول زيد بن ثابت رضي الله عنه ، والمنصوص أن في الواحدة بعيراً ، فيكون فيهما بعيران .
3018 وهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو المذهب عند القاضي وأصحابه ، حتى أن القاضي قال : مراد الخرقي بقوله : الترقوة : الترقوتان ، وإنما اكتفى بلفظ الواحد لإدخال الألف واللام المقتضية للاستغراق ، والله أعلم .
قال : وفي الزند أربعة أبعرة لأنه عظمان .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، وقاله ابن عقيل في التذكرة ، لما علل به الخرقي من أنه عظمان ، ففي كل عظم بعيران . والمنصوص في رواية صالح وأبي الحارث أن في الزند الواحد بعيران ، وفيهما جميعاً أربعة من الإبل ، وعليه القاضي وأصحابه وحمل القاضي كلام الخرقي أيضاً على الزندين .
3019 وذلك لما روى سعيد : حدثنا هشيم ، أخبرنا يحيى بن كثير ، ثنا سعيد ، عن عمرو بن شعيب ، أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر رضي الله عنهما في أحد الزندين إذا كسر ، فكتب إليه عمر 16 ( أن فيه بعيرين ، وإذا كسر الزندين ففيهما أربعة من الإبل ) .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا مقدر في غير هذه العظام ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور .
3020 وقيل له : إذا كسرت الذراع أو الساق ، فقال : يروى عن عمر رضي الله عنه في كل واحد فريضتان ، ولا تكتبه ، وظاهر هذا أنه لم يأخذ به ، ونص في رواية أبي طالب أن في كسر الساق وفي كسر الفخذ بعيران ، كذا في روايتي القاضي ، وظاهر كلام أبي البركات أن في رواية أبي طالب مع ذلك العضد والذراع ، وأن أحمد نص في رواية صالح أن في كل واحد من الأربعة بعيراً ، قال : ورواه عن عمر رضي الله عنه . ( والرواية الثانية ) اختيار القاضي وابن عقيل وأبي الخطاب ، وزاد على ذلك عظم القدم ، فجعل فيه بعيرين .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) حيث أوجبنا بعيراً أو بعيرين ونحو ذلك ، فإن في ذلك من البقر ونحوها بحساب ذلك ، ذكره ابن عقيل . ( الثاني ) الزند بفتح الزاي ، قال الجوهري : موصل طرف الذراع في الكف وهما زندان بالكوع والكرسوع ، وهو طرف الزند الذي يلي الخنصر ، وهو الناتىء عند الرسغ ، والله أعلم .
قال : قال أبو عبد الله رحمه الله : والشجاع التي لا توقيت فيها أوله ( الحارصة ) وهي التي تحرص الجلد يعني تشقه قليلاً ، وقال بعضهم : هي الحرصة ثم ( الباضعة ) وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ، ثم ( البازلة ) وهي التي يسيل منها الدم ثم ( المتلاحمة ) وهي التي أخذت في اللحم ، ثم ( السمحاق ) وهي التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة ، ثم ( الموضحة ) .
ش : الشجاج جمع شجة ، وهي المرة إذا جرحه في رأس أو وجه ، وقد تستعمل في غيرهما ، والشجاج عشر ، خمس فيها مقدر ، وهي الموضحة ، والهاشمة ، والمنقلة ، والمأمومة ، والدامغة ، وخمس لا مقدر فيها على المذهب المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين ، وهي هذه المذكورة ، لعدم التقدير فيها من جهة الشرع ، وما لا مقدر فيه الواجب فيه حكومة .
3021 ويروى عن مكحول قال : 16 ( قضى النبي في الموضحة بخمس من الإبل ، ولم يقض فيما دونها ) .
3022 ونقل أبو طالب عنه حكم زيد في البازلة ببعير ، وفي الباضعة ببعيرين ، وفي المتلاحمة بثلاثة ، وفي السمحاق بأربعة ، وأذهب إليه ، وهذا حكم أصحاب رسول الله ، كما حكموا في الصيد ، وهذا اختيار أبي بكر ، وحكى الشيرازي عن ابن أبي موسى أنه اختار ذلك في السمحاق ، انتهى . وعن القاضي أنه قال : متى أمكن اعتبار هذه الجراحات من الموضحة ، مثل أن يكون في رأس المجني عليه موضحة إلى جانبها ، قدرت هذه الجراحة منها ، فإن كانت بقدر النصف وجب نصف أرش الموضحة ، وإن كانت بقدر الثلث وجب ثلث الأرش . وعلى هذا ، إلا أن تزيد الحكومة على ذلك ، فيجب ما تخرجه الحكومة ، مثاله الجراحة قدر نصف الموضحة ، وشينها ينقص قدر ثلثيها ، الواجب ثلثا أرش الموضحة ، وإن نقصص الشين عن النصف ، فالواجب النصف ، وملخصه أنه يوجب الأكثر مما تخرجه الحكومة أو قدرها من الموضحة . قال أبو محمد : وهذا لا نعلمه مذهباً لأحمد ، ولا يقتضيه مذهبه . . . انتهى .
وأما تفسير هذه الشجاج وترتيبها ( فأولها ) الحارصة ، قال الأزهري : هي التي تحرص الجلد أي تشقه قليلاً ومنه : حرص القصار الثوب . أي خرقه ، بالدق ، ( ثم يليها ) على ما قال الخرقي ، وتبعه ابن البنا الباضعة ، وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ، يعني ولا يسيل منها دم ، بدليل ما ذكر بعد ، وكذلك قال الجوهري ، وابن فارس : الباضعة الشجة التي تقطع الجلد ، وتشق اللحم ، إلا أنه لا يسيل الدم ، فإن سال فهي الدامية ، وقال أبو محمد : الصواب الحارصة ، ثم البازلة ، ثم الباضعة ، وقال : لعل ما في النسخ غلط من الكتاب ، قال : لأن الباضعة التي تشق اللحم بعد الجلد ، ويسيل منها دم كثير في الغالب ، بخلاف البازلة ، فإنها الدامعة ، لقلة سيلان دمها .
3023 قال : ولأن زيداً رضي الله عنه جعل في البازلة بعيراً ، وفي الباضعة بعيرين ، فدل على أن الباضعة أشد ، انتهى .
وهذا قول الأصمعي والأزهري ، وبالجملة اتفقوا فيما علمناه على تقديم الحارصة ، وتأخير السمحاق ، واختلفوا في البازلة مع الباضعة ، أيهما يقدم على الأخرى والبازلة فاعلة من : بزلت الشجة الجلد ، أي شقته فجرى الدم ، يقال : بزلت الخمر . ثقبت إناءها فاستخرجتها ، فالدم محبوس في محله ، كالمائع في وعائه ، والشجة بزلته ، والسمحاق قشرة رقيقة فوق عظم الرأس ، فإذا وصلت الشجة إليها سميت سمحاقاً باسمها ، والله أعلم .
قال : وما لم يكن فيه من الجراح توقيت ، ولم يكن نظيراً لما وقتت ديته ففيه حكومة .
ش : الذي فيه من الجراح توقيت كالموضحة ، والمنقلة ، وكذلك الأنف واللسان ، ونحو ذلك ، والذي هو نظير الموقت كالهاشمة ، والأليتين ، ونحو ذلك ، أي تقدير من جهة الشرع ، وما عدا هذين ، وهو ما لا موقت فيه ، ولا يمكن قياسه على الموقت ، كجراح البدن سوى الجائفة ، وكسر العظام سوى ما تقدم ، كخرزة الصلب والعصعص ، ونحو ذلك ففيه حكومة ، حذاراً من أن تخلو الجراحة من أرش .
قال : والحكومة أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت ، فما نقص من القيمة فله مثله من الدية ، كأنه قيمته وهو عبد صحيح عشرة ، وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة ، فيكون فيه عشر ديته .
ش : قال ابن المنذر : إن هذا قول كل من نحفظ عنه من أهل العلم ، وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة ، فأجزاؤه مضمونة ، كما أن المبيع إذا كان مضموناً على البائع ، كانت أجزاؤه مضمونة عليه ، فالأجزاء تابعة للأصل ، وإذا كانت الأجزاء مضمونة ، ولم يرد فيها تقدير من جهة الشرع ، فالواجب سلوك هذه الطريقة ، لنصل إلى الواجب ، فيجعل الحر عبداً ليمكن تقويمه ، إذ الحر ليس بمال ، وغير المال لا يقوم ، فيقال : كم قيمة هذا لو كان عبداً لا جناية به ؟ فيقال مثلاً : مائة ، ويقال : وكم قيمته وبه الجناية ؟ فيقال مثلاً : ثمانون . فما بينهما من القيمتين هو الخمس ، فيكون له خمس الدية ، لأن ديته بمنزلة قيمته .
قال : وعلى هذا ما زاد من الحكومة أو نقص . . .
ش : يعني إنما ذكرته مثالاً ، وقد تزيد الحكومة على مثاله كما مثلنا ، وقد تنقص ، كما لو قيل : قيمته وهو صحيح عشرة ، وقيمته وبه الجناية تسعة ونصف ، فما بينهما نصف عشر قيمته ، فيكون فيه نصف عشر ديته .
قال : إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه ، فتكون أسهل مما وقت ديته فيه ، فلا يجاوز به أرش الموقت .
ش : يعني أن الواجب ما أخرجته الحكومة مطلقاً ، ويستثنى من ذلك إذا كانت الجراحة في شيء فيه مقدر ، فإنه لا يجاوز به المقدر ، حذاراً من أن يجب في بعض الشيء أكثر مما يجب فيه كله ، ولأن الضرر في الموضحة مثلاً أكثر من الضرر في البازلة ، وشينها أعظم ، فلا يناسب أن يزيد أرش البازلة على أرش الموضحة ، وفي بلوغ المقدر وجهان ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، وإليه ميل أبي محمد يبلغ ، نظراً إلى أن مقتضى الدليل وجوب ما أخرجته الحكومة ، سقط الزائد على أرش الموضحة مثلاً لمخالفة تنبيه النص ، ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل . ( والثاني ) وهو اختيار الشريف ، وابن عقيل ، وقال القاضي في جامعه : إنه المذهب لا يبلغه ، بل ينقص عنه شيئاً ، حسب ما يؤدي إليه الاجتهاد ، حذاراً من أن يجب في البعض ما يجب في الكل ، ونقضه أبو محمد بأن دية الأصابع فيها ما في اليد ، قال : وإن صح ما ذكر فينبغي أن ينقص أدنى ما تحصل به المساواة المحدودة ، ومثال المسألة لوشجه بازلة أو سمحاقاً ، لم تبلغ بأرش ذلك ( زيادة ) على أرش الموضحة ، وفي بلوغه أرش الموضحة وجهان ، وكذلك لو جرحه في بطنه جرحاً لا يصل إلى الجائفة ، لا يزيد أرشه على أرش الجائفة ، وفي مساواتها وجهان ، وكذلك لو جرحه في أنملته جرحاً لم يزد على أرش الأنملة ، وفي مساواتها على الوجهين .
والخرقي رحمه الله اقتصر على ذكر الرأس والوجه ، ومفهوم كلامه اختصاص الامتناع بهما ، فعلى هذا يجوز أن يزيد أرش جرح الأنملة على ما فيها ، وغيره من الأصحاب عدى الحكم إلى كل ما فيه مقدر كما تقدم .
( تنبيه ) : التقويم بعد البرء قياساً على أرش الجرح المقدر ، فإنه لا يستقر إلا بعد برئه ، فإن لم تنقصه الجناية شيئاً حال البرء ، فعنه وهو اختيار أبي محمد لا شيء فيها ، إذ الحكومة لأجل جبر النقص ، ولا نقص ، أشبه ما لو لطم وجهه فلم يؤثر ( وعنه ) وهو المنصوص ، واختيار القاضي وغيره : بلى ، لأن هذا جزء من مضمون ، فلم يخل عن ضمان ، كما لو أتلف منه مقدراً ولم ينقصه شيئاً ، فعلى هذا هل يقوم حال الجناية ، أو قبيل الاندمال التام ، فإن لم ينقص فحال الجناية ؟ فيه وجهان ، فإن لم ينقص حال الجناية أو زادته حسناً كإزالة لحية المرأة ، أو سن زائدة ، فلا شيء على الأصح عند الشيخين ، وقال أبو الخطاب في الهداية : يقوم كأنه عبد كبير له لحية فذهبت ، وأشانته ، فما نقص لزمه من دية المرأة بقسطه ، قال : وفيه نظر . وفي السن الزائدة قال أبو محمد على هذا القول : يقوم كأن لا سن له زائدة ولا خلقة أصلية ، ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة ، قال : ولو كانت المرأة إذا قدرناها ابنة عشرين فنقصها ذهاب لحيتها يسيراً ، وإذا قدرناها ابنة أربعين تنقصها كثيراً ، قدرناها ابنة عشرين كما يقوم الجرح الذي لم ينقص بعد الاندمال أو قبله .
قال : وإن كانت الجناية على العبد مما ليس فيه من الحر شيء موقت ، ففيه ما نقصته بعد التئام الجرح ، وإن كان فيما جني عليه شيء موقت في الحر ، فهو موقت في العبد .
ش : لا نزاع أن ما لا مقدر فيه من الحر يضمن العبد إذا جني عليه فيه بما نقص ، لأن ضمانه ضمان الأموال ، فيجب ما نقص كالبهائم ، ولأنه مما يضمن بالقيمة ، وإن كثرت فيضمن بما نقص ، كسائر الأموال ، واختلف فيما فيه مقدر من الحر ، إذا جني على العبد فيه ، ( فعنه ) وهو اختيار الخلال يضمن ما نقص أيضاً ، لما تقدم .
3024 واعتماداً من أحمد على أنه قول ابن عباس رضي الله عنهما و ( عنه ) وهو اختيار الخرقي ، وأبي بكر ، والقاضي وأصحابه أن ما كان مقدراً في الحر فهو مقدر في العبد من قيمته ، نظراً إلى أنه آدمي ، يضمن بالقصاص والكفارة ، فكان في أطرافه مقدراً كالحر ، ولأن له شبهاً بالآدميين وبالبهائم ، كما هو مقرر في موضعه ، فجعلناهم فيما لا مقدر فيه كالبهائم ، وفيما فيه مقدر كالأحرار ، إعمالاً لكل من الشبهين .
3025 وقد روي هذا عن علي رضي الله عنه .
قال : ففي يده نصف قيمته ، وفي موضحته نصف عشر قيمته ، سواء نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر .
ش : لا تفريع على الرواية الأولى ، بل الواجب النقص مطلقاً ، أما على مختار الخرقي وهو المذهب ففي يد العبد نصف قيمته ، كما في موضحة الحر نصف عشر ديته ، وفي لسانه أو ذكره ، أو يديه جميع قيمته ، مع بقاء الملك عليه ، كما أن في الحر في كل واحد من هذه الدية ، وعلى هذا ، وسواء نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر ، إناطة بالتقدير ، وعلى هذا لو جنى عليه جناية لا مقدر فيها في الحر ، إلا أنها في شيء فيه مقدر ، كما لو جنى عليه في رأسه أو وجهه دون الموضحة ، هل يضمن بما نقص مطلقاً ، وإليه ميل أبي محمد اعتباراً بالأصل ، أو إن نقص أكثر من أرشها وجب نصف عشر قيمته ، كالحر إذا زاد أرش شجته التي دون الموضحة على نصف عشر ديته ؟ فيه قولان ، والله أعلم .
قال : وهكذا الأمة .
ش : الأمة كالعبد فيما تقدم ، لأنها مال كهو .
( تنبيه ) : فإن بلغت جراحتها ثلث قيمتها ، فقال أبو محمد : يحتمل أن يرد جنايتها إلى النصف ، فيكون في ثلاثة أصابعها ثلاثة أعشار قيمتها ، وفي الأربع خمس قيمتها ، كالحرة تساوي الرجل في جراحها إلى الثلث ، فإذا زادت ردت إلى النصف ، قال : ويحتمل أن لا ترد إلى النصف ؛ لأن ذلك في الحرة على خلاف الأصل ، إذ الأصل زيادة الأرش بزيادة الجناية . قلت : وهذا هو الصواب ، إذ قياسها على الحرة إنما يقتضي أن تكون فيما نقص عن الثلث تساوي الذكر من الأرقاء في قيمته ، ولا يتأتى هذا .
قال : فإن كان المقتول خنثى مشكلاً ففيه نصف دية ذكر ، ونصف دية أنثى .
ش : كما يرث نصف ميراث ذكر ، ونصف ميراث أنثى ، ولأنه يحتمل الذكورية والأنوثية ، احتمالاً واحداً ، وقد يئس من انكشاف حاله ، فوجب التوسط بينهما ، حذاراً من ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح .
( تنبيه ) : جراحه ما لم يبلغ الثلث منها الواجب فيه دية ذكر ، وما زاد على الثلث الواجب فيه ثلاثة أرباعها نصف دية ذكر ، ونصف دية أنثى ، وفي الثلث قولان ، والله أعلم .
قال : وإن كان المجني عليه نصف حرا ، ونصفه عبداً فلا قود .
ش : يعني إذا كان الجاني حراً ، لعدم الكفاءة المعتبرة شرعاً كما تقدم ، ولو كان الجاني رقيقاً وجب القود بلا ريب ، لأن المجني عليه أكمل منه . وكذلك لو كان نصفه حراً لتساويهما ، ومن ثم لو كانت الحرية في القاتل أكثر فلا قود ، لعدم التساوي .
قال : وعلى الجاني إذا كان عمداً نصف دية حر ، ونصف قيمته .
ش : لأنه والحال ما تقدم نصفه حر ، والواجب في الحر الدية ، ففي نصفه نصفها ، ونصفه رقيق ، والواجب قيمة الرقيق ، ففي نصفه نصفها ، ويكون ذلك في مال الجاني ، لأنه عمد ، والعاقلة لا تحمل عمداً .
قال : وهكذا في جراحه .
ش : يعني يجب فيه نصف ما يجب في الحر ، ونصف ما يجب في العبد ، ففي لسانه دية حر ، ونصف قيمة عبد ، وفي يده أو رجله ربع دية حر ، وربع قيمة عبد . وفي موضحته ربع عشر دية حر ، وربع عشر قيمة عبد ، وعلى هذا هذا على مختار الخرقي الذي هو المذهب ، في أن العبد يضمن بالمقدر ، أما على الرواية الأخرى ففي لسانه نصف دية حر ، ونصف ما نقص ، وفي يده أو رجله ربع دية حر ، ونصف ما نقص ، وفي موضحته ربع عشر دية حر ، ونصف ما نقص ، والله أعلم .
قال : فإن كان خطأ ففي ماله نصف قيمته .
ش : أي وإن كان القتل خطأ ففي مال الجاني نصف قيمته في ماله ، لأنها وجبت بدل رقيق ، والعاقلة لا تحمل رقيقاً .
قال : وعلى عاقلته نصف الدية .
ش : لأنها بدل حر ، والعاقلة تحمل الحر في الخطأ .
( تنبيه ) : والحكم في الجراح أن ما كان عمداً كان في مال الجاني ، وكذلك إن كان خطأ ولم يبلغ الثلث ، وإن بلغه فعلى العاقلة .
كتاب القسامة

ش : القسامة الأيمان يقسم بها أولياء الدم على استحقاق دم صاحبهم ، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم ، وهو مصدر يقال : أقسم يقسم قسامة إذا حلف .
3026 والأصل فيها ما روى سهل بن أبي حثمة قال : انطلق عبد الله بن سهل ، ومحيصة بن مسعود إلى خيبر ، وهي يومئذ صلح ، فتفرقا ، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً ، فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ، ومحيصة وحويصة ابنا مسعود ، إلى النبي ، فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال : ( كبّر كبّر ) وهو أحدث القوم ، فسكت فتكلما ، فقال : ( أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم ) ؟ قالوا : كيف نحلف ولم نشهد ولم نر ؟ قال : ( فتبرئكم يهود بخمسين يميناً ) فقالوا : كيف نأخذ أيمان قوم كفار ؟ فعقله النبي من عنده ، وفي رواية فقال رسول الله : ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته ) قالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : ( فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ) . قالوا : يا رسول الله قوم كفار . رواه الجماعة .
3027 وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، عن أناس من أصحاب رسول الله رضي الله عنهم أن القسامة كانت في الجاهلية ، فأقرها رسول الله على ما كانت في الجاهلية ، وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر . رواه مسلم وغيره .
( تنبيه ) : ( يتشحط في دمه ) أي يضطرب ، ( وكبّر كبّر ) أي ليتكلم الأكبر ، ( وبرمته ) يقال : أخذت الشيء برمته ، إذا أخذته جميعه ، والرمة الحبل ، كأنه أعطاه بحبله الذي يكون فيه يقاد به .
قال : وإذا وجد قتيل فادعى أولياؤه على قوم لا عداوة بينهم ولا لوث ، ولم تكن لهم بينة ، لم يحكم لهم بيمين ولا غيرها .
ش : غير اليمين القصاص ، أو الدية ، ولا نزاع عندنا أنه لا يحكم لهم والحال هذه بذلك .
3028 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ) رواه مسلم وغيره ، وظاهره أنه ليس على المدعى عليه غير اليمين ، ولأن الأصل براءة الذمة ، فلا يثبت شغلها إلا بدليل ولم يوجد ، واختلف عن أحمد رحمه الله هل يحكم لهم باليمين على المدعى عليه . ( فعنه ) وهو اختيار الخرقي لا يحكم لهم بذلك ، لأنها دعوى لا يقضى فيها بالنكول ، فلم يستحلف فيها كالحدود ، وإنما لم يقض فيها بالنكول حذاراً من قتل نفس بأمر محتمل . ( وعنه ) وهو اختيار أبي محمد وهو الحق يحكم لهم بذلك ، لعموم الحديث المتقدم ، لا سيما والدماء مذكورة في أوله ، وذلك قرينة دخولها في اللفظ العام ، ولأنه حق لآدمي ، فاستحلف فيه كبقية الحقوق ، وعدم القضاء بالنكول ليس هو العلة في عدم الحلف في الحدود ، وإنما العلة تمحض حقيقته لله تعالى ، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى فعلى هذه هل يحلف المدعى عليه يميناً واحدة ، اعتماداً على ظاهر الحديث وكبقية الحقوق ، وهو اختيار أبي محمد ، وابن البنا ، وأبي الخطاب ، أو خمسين يميناً ، لأنها دعوى في قتيل ، فكان المشروع فيها خمسين يميناً ، كما لو كان بينهما لوث ؟ على روايتين ، وحيث حلف المدعى عليه فلا كلام ، وحيث امتنع لم يقض عليه بالقود ، بلا نزاع عندنا ، حذاراً مما تقدم ، وهل يقضى عليه بالدية ؟ فيه روايتان ، وإذا لم يقض فهل يخلى سبيله ، أو يحبس ؟ على وجهين .
واعلم أن محل الخلاف في أصل المسألة في قتل العمد ، أما قتل الخطأ فيستحلف فيه رواية واحدة ، ون موجبه مال .
وقول الخرقي : وإذا وجد قتيل ، وادعى أولياؤه على قوم . شرط هؤلاء القوم أن يكونوا معينين ، فلو كانت الدعوى على أهل مدينة ونحو ذلك لم تسمع ، قياساً على سائر الدعاوي ، وقوله : لا عداوة بينهم ولا لوث . يحترز عما لو كان بينهم ذلك كما سيأتي . . . وقوله : ولم تكن لهم بينة . يحترز عما لو كانت بينة ، فإنها تبين الحق وتظهره ، فيعمل بمقتضاها ، والله أعلم .
قال : وإن كان بينهم عداوة ولوث ، وادعى أولياؤه على واحد منهم ، وأنكر المدعى عليه ، ولم يكن للأولياء بينة ، حلف الأولياء خمسين يميناً على قاتله ، واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمداً .
ش : الأصل في هذه الجملة من جهة الإجمال ما تقدم من حديث سهل بن أبي حثمة ، فإن القتيل كان من الأنصار ، ولا ريب أن الأنصار ويهود خيبر كانوا متعادين ، ولما ادعى أولياء الأنصاري القتل على اليهود ، وأنكروا ذلك ، ولم تكن لأولياء الأنصاري بينة ، قال لهم النبي : ( أتحلفون وتستحقون قاتلكم ) ، وفي لفظ قال : ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته ) فجعل رسول الله أن الأولياء يقسمون على القاتل ويستحقونه .
أما من جهة التفصيل فقول الخرقي : وإن كان بينهم عداوة ولوث تنبيه على أن القسامة المذكورة من شرطها ذلك ، وهو كذلك بلا ريب ، لأن الحديث ورد على مثل ذلك ، وهو المثبت للقسامة ، فلا يتعداه ، ولأنه مع العداوة ونحوها يغلب على الظن صدق المدعين ، فتكون اليمين في جهتهم ، إذ اليمين في جنبة أقوى المتداعيين ، ولا نزاع عن إمامنا وأصحابنا أن الحكم يثبت بالعداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه ، كنحو ما بين الأنصار وأهل خيبر ، وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بالثأر ، وكما بين أهل البغي وأهل العدل ، وبين الشرطة واللصوص ، ونحو ذلك ، نظراً إلى واقعة الحديث ، وما في معناها ، من حيث أن لا فارق ، فهو كقياس الشيرج على السمن ، والأمة على العبد .
واختلف عن إمامنا هل يقتصر على ذلك ، وبه قطع جماعة من الأصحاب ، وقال أبو الخطاب : إنه اختيار عامتهم ، اقتصاراً على مورد النص وما في معناه ، أو يتعدى ذلك إلى كل ما يغلب على الظن صحة الدعوى ، كتفرق جماعة عن قتيل ، ووجود قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم ، وشهادة من لا يثبت القتل بشهادته ، كالعدل الواحد ، أو النساء أو الصبيان ، أو الفساق ونحو ذلك ، إناطة بغلبة الظن ، لأن ذلك معنى مناسب ، ولأن كثيراً من الأحكام يناط بها ؟ على روايتين ثم قول الخرقي : عداوة ولوث ، ظاهره أنه لا بد من الجمع بينهما ، فيحتمل أن يريد أنه لا يكتفي بمجرد العداوة ، بل لا بد من قدر زائد ، وهو ( إما ) ظهور العداوة كما تقدم ، وعبر عن ذلك باللوث ، ( وإما ) أن لا يكون في الموضع الذي وقع به القتل غير العدو ، كما هو رأي القاضي في موضع ، لكن منصوص أحمد أن ذلك لا يشترط ، وكذلك وقع للقاضي في موضع ، قال في قوم ازدحموا في مضيق ، فافترقوا عن قتيل : إن كان في القوم من بينه وبين عداوة ، وأمكن أن يكون هو قتله ، لكونه يقر به فهو لوث ، ( وإما ) أن يكون بالقتيل مع العداوة أثر القتل . وقد اختلف عن أحمد هل فقد الأثر قادح في اللوث لضعف غلبة الظن إذاً ، إذ القتل لا يخلو غالباً من أثر ، ولأن الواقعة التي وقعت في الأنصاري كان به أثر القتل ، لأنه كان يتشحط في دمه قتيلاً وهذا اختيار أبي بكر أو ليس بقادح ، لأن القتل لا يستلزم الأثر ، لأنه قد يغمه أو يعصر خصيتيه ، ونحو ذلك وهو اختيار القاضي وجماعة من أصحابه ، والشريف وابن البنا ، وأبي الخطاب والشيرازي وغيرهم ؟ على روايتين ( وإما ) أن الواو بمعنى أو ، ويكون مختاره الرواية الثانية ، انتهى .
وقوله : وادعى أولياؤه ، ظاهره أنه لا بد من اتفاق جميع الأولياء في الدعوى على المتهم بقتله .
فلو ادعى أحدهم أنه قتل ، وقال آخر : بل مات حتف أنفه ، أو ادعى أحدهم أن زيداً قتله ، وآخر أن عمراً قتله ، لم تشرع القسامة ، إذ مع ذلك تضعف غلبة الظن أو تزول ، ومن ثم قال أبو البركات : إن ذلك قادح في اللوث ، انتهى .
وقوله : على واحد منهم ، يحترز عما لو ادعوا القتل على جماعة ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، وقوله : وأنكر المدعى عليه ، ولم تكن للأولياء بينة . لأن مع الإقرار أو البينة يثبت الحق وتزول القسامة .
وقوله : حلف الأولياء ، فيه أمران ( أحدهما ) أن البادئ باليمين هم أولياء المقتول ، وهذا مذهبنا ، لحديث سهل بن أبي حثمة ، وحديث ابن عباس رضي الله عنهم : ( لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ) غايته عموم فيتخصص بذلك .
3029 وقول عبد الرحمن بن بجيد أن سهلاً والله أوهم الحديث ، أن رسول الله كتب إلى يهود : ( أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه ) فكتبوا يحلفون بالله خمسين يميناً : ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً ، فوداه رسول الله من عنده بمائة ناقة .
3030 وكذلك حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، عن رجل من الأنصار ، أن رسول الله قال لليهود وبدأ بهم : ( يحلف منكم خمسون رجلاً ) فأبوا ، فقال للأنصار : ( استحقوا ) ، قالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله ، فجعلها رسول الله دية على اليهود ، لأنه وجد بين أظهرهم . رواهما أبو داود ، لا يقاومان حديث سهل ، لاتفاق الأئمة على إخراجه وصحته ، ودعوى الوهم الأصل عدمه ، لا سيما وسهل ممن حضر الواقعة وعرفها .
قال في الصحيح : فبعث إليهم رسول الله مائة ناقة حمراء ، حتى أدخلت عليهم الدار ، فقال سهل : فلقد ركضتني منها ناقة حمراء .
فإن قيل : ففي بعض الروايات عن سهل ، عن رجال من كبراء قومه ، وهذا يدل على أنه لم يشهدالواقعة ، قيل : يجمع بين الروايات بأن يكون ابتداء القصة كان عن إخبار ، ثم قول النبي لحويصة ومحيصة لليهود كان عن مشاهدة ، ثم لو ثبت أن الجميع كان عن غير مشاهدة ، ثم لو ثبت أن الجميع كان عن غير مشاهدة ، فسهل صحابي ، ومراسيل الصحابة حجة ، وقد قال : عن رجال من كبراء قومه ، لا ريب أنهم من الصحابة ، ثم حديث عبد الرحمن بن بجيد ، والرجل الذي من الأنصار متعارضان ، إذ في حديث عبد الرحمن أن اليهود كتبوا يحلفون بالله خمسين يميناً ، وأن الرسول وداه ، وفي حديث الأنصاري أن اليهود أبوا أن يحلفوا ، وأن الرسول جعل الدية عليهم .
3031 وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن النبي قال : ( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر إلا في القسامة ) رواه الدارقطني ، وهذا نص يقطع النزاع إن ثبت .
( الأمر الثاني ) من هم الأولياء ؟ فيه عن أحمد روايتان . . ( إحداهما ) وهي اختيار ابن حامد ، وزعم أبو محمد أنه ظاهر قول الخرقي ، من قوله : إذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم ، وليس بالبين أنهم الرجال الوراث ، من ذوي الفروض أو العصبات ، دون غيرهم ، لأنهم المستحقون للقتل ، المطالبون به ، فاختصّت اليمين بهم ، كبقية الدعاوي ويؤيّد هذا حديث عمرو بن شعيب المتقدم : ( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر إلا في القسامة ) ، فظاهره أن في القسامة اليمين على المدعي ، والمدعي هو المستحق للدم .
( والثانية ) : واختارها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا وشيخهم فيما أظن ، أنهم العصبة وراثاً كانوا أو غير وراث ، لحديث سهل : ( يقسم خمسون منكم ) ، والظاهر أنه لم يكن له من الورثة خمسون رجلاً ، وفي الحديث قال : فقال رسول الله لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن ؛ ( أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ ) قالوا : لا . وهذا تصريح بأن الخطاب والجواب وقع لعصبة غير وارث ، وهما حويصة ومحيصة ، إذ هما ابنا عم القتيل . ولا نسلم أن الدعوى في القسامة إنما تكون من المستحقين للدم ، بل تكون للعصبة مطلقاً ، بدليل أن النبي منع عبد الرحمن من الكلام ، وأذن لحويصة ومحيصة ، ففي الحديث : فذهب عبد الرحمن ليتكلم ، لمكانه من أخيه ، فقال رسول الله : ( كبر كبر ) ، فتكلم حويصة ومحيصة ، وكأن المعنى والله أعلم طلب الثأر ، وذلك لا يختص الورثة ، وهذا ظاهر لا خفاء به ، ومن الغريب جزم أبي البركات بالرواية الأولى ، مع مخالفتها لظاهر الحديث ، وعلى هذه الرواية يبدأ من العصبة بالمستحقين للدم ، فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبات ، الأقرب فالأقرب ، فإن لم يوجد من نسبه خمسون رددت الأيمان عليهم ، وقسمت بينهم ، انتهى . وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أنهم العصبة الوراث .
وقول الخرقي : خمسين يميناً ؛ للحديث وفيه لفظان ، يقسم خمسون منكم ، أتحلفون خمسين يميناً ؛ وقوله : على قاتله ، قد يقال : إنه يشمل القاتل عمداً أو خطأ ، وقول الخرقي بعد : واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمداً ؛ أي وإن كانت غير عمد فالدية ، لما تقرر أن الواجب في غير العمد الدية ، وهذا منصوص أحمد ، وقول الأصحاب : لأنها دعوى قتل ، فشرعت فيها القسامة كالعمد ، وأخذ أبو محمد في المغني من هذه المسألة ، ومما يأتي بعد ، أن ظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تشرع في الخطأ ، وقطع بذلك عنه في المقنع ، فقال : وذكر الخرقي أن من شروط القسامة أن تكون الدعوى عمداً ، ومال هو أيضاً إلى ذلك ، لأن من شرط القسامة اللوث ، واللوث على الصحيح عندهم هو العداوة ، وتبعد التهمة مع الخطأ ، وهذا نظر حسن إلا أن كلام الخرقي ليس بالبين في ذلك ، ولذلك لم أر أحداً من الأصحاب عرج عليه ، وقول أبي البركات ، وقيل : لا قسامة في الخطأ ؛ يشير إلى قول أبي محمد ، ولو اتضح له أن ذلك ظاهر كلام الخرقي أو نصه لصرح بذلك عنه ، وبالجملة القول بالقسامة في الخطأ واضح إن قيل : اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي ، أما إذا قيل : اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي ، أما إذا قيل : اللوث هو العداوة فقط ففي القسامة في الخطأ نظر انتهى .
وقوله : واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمداً . هذا مذهبنا أن القسامة قد توجب القصاص ، لما تقدم في الحديث : ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته ) .
3032 وفي لفظ لأحمد قال رسول الله : ( تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يميناً ثم نسلمه ) .
3033 وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول الله قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء على شط لية ، فقال القاتل والمقتول منهم ، رواه أبو داود .
3034 وقول أبي قلابة في صحيح البخاري : ما قتل رسول الله إلا في إحدى ثلاث خصال ، رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، أو رجل زنا بعد إحصان ، أو رجل حارب الله ورسوله ، وإن الرسول إنما قال : أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم مردود بحديث سهل ، وهو صحابي ، وأعرف منه بالقصة لحضورها ، ثم هو مثبت ، والمثبت مقدم على النافي .
( تنبيه ) : ( الجريرة ) الذنب والجرم الذي يجنيه الإنسان ، ( وبحرة الرغاء ) البلدة .
قال : فإن لم يحلف الأولياء حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرىء .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، لحديث سهل ( فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ) أي يتبرؤون منكم ، وفي لفظ : ( فتحلف لكم يهود ) ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه ، فبرئ بها كسائر الأيمان ، وحكي ( عن أحمد ) رواية أخرى أنهم يحلفون ويغرمون الدية ، لحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار المتقدم ، وهو إن صح لا يدل ، لأن اليهود لم يحلفوا ، فعلى المذهب لو نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب عليه القود ، وهل تجب عليه الدية وهو اختيار أبي بكر والشريف ، وأبي الخطاب وأبي محمد كبقية الدعاوى ، أو لا تجب بل تكون في بيت المال ؟ على روايتين ، وعلى الثانية . . . هل يخلى سبيله ، أو يحبس حتى يقر أو يحلف ؟ على روايتين .
قال : فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه ، فداه الإمام من بيت المال .
ش : لما تقدم من أن النبي فدى عبد الله بن سهل لما لم يرض الأولياء بيمين اليهود ، فإن تعذّر الفداء من بيت المال لم يجب على المدعى عليه شيء ، إذ الواجب عليه اليمين ، ومستحقها امتنع من استيفائها .
قال : وإذا شهدت البينة العادلة أن المجروح قال : دمي عند فلان . فليس ذلك بموجب للقسامة ما لم يكن لوث .
ش : لما تقدم من قول النبي : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ) ولأنه خصم ، فلم تكن مجرد دعواه لوثاً كالخصم ، والله أعلم .
قال : والنساء والصبيان لا يقسمون .
ش : لا نزاع أن الصبيان لا يقسمون ، سواء كانوا من أهل القتيل أو مدعى عليهم ، لأن الأيمان حجة للحالف ، والصبي لا يثبت بقوله حجة ، حتى أنه لو أقر على نفسه لم يقبل ، فعلى هذا إذا كان مستحق الدم بالغاً وصبياً فهل تشرع القسامة في حق البالغ ، وهو المشهور ، أو لا تشرع حتى يبلغ الصبي ، وهو اختيار أبي محمد ؟ فيه وجهان ، وعلى المذهب يحلف البالغ ويستحق نصف الدية ، وهل يحلف خمسين يميناً ، قاله أبو بكر في الخلاف ، أو خمساً وعشرين ، وهو اختيار ابن حامد ؟ فيه وجهان ، وعلى الوجهين إذا بلغ الصبي حلف خمساً وعشرين ، واستحق بقية الدية ، وفيه وجه آخر أنه يحلف خمسين يميناً ، كالبالغ ابتداء في وجه قوي ، والحكم في المجنون والغائب ، والناكل عن اليمين ، كالحكم في الصبي .
وأما النساء فلا يقسمون أيضاً ، لأن النبي إنما خاطب الرجال فقال : ( يقسم خمسون منكم ) الحديث ، وزعم أبو محمد أن في الحديث ( يقسم خمسون رجلاً منكم ) ولم أره ، ولأن الأيمان في القسامة من المدعين نزلت منزلة الشهادة ، ولا مدخل للنساء في شهادة القتل ، فعلى هذا إذا كان في الأولياء نساء أقسم الرجال ، وسقط حكم النساء ، فإن كان الجميع نساء فهو كما لو نكل الورثة وقد تقدم .
( تنبيه ) : هل للخنثى المشكل مدخل في القسامة ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) نعم ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، لأن سبب القسامة وهو الاستحقاق قد وجد ، والمانع مشكوك فيه ( والثاني ) لا ، إذ القتل لا يثبت بشهادته فهو كالمرأة .
قال : وإذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم ، وحلف كل واحد منهم سبعة عشر يميناً .
ش : لما تقدم للخرقي أن النساء لا مدخل لهن في القسامة ، أشار إلى أنها تشرع في حق الرجال الوارثين ، وأنها تقسم بينهم على قدر إرثهم ومن هنا قال أبو محمد : إن ظاهر كلام الخرقي أنها تختص بالوراث ، وقد تقدم ، فعلى هذا إذا خلف المقتول ابنين ، حلف كل واحد منهما خمساً وعشرين يميناً ، ولا كسر ، وإن خلف ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم ، فحلف كل واحد منهم سبعة عشر يميناً ، إذ تكميل الخمسين واجب ، ولا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم عن بعض ، حذاراً من الترجيح بلا مرجح ، فوجب تكميل اليمين المكسورة على الجميع ، نظراً إلى أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب .
قال : وسواء كان المقتول مسلماً أو كافراً . حراً أو عبداً ، إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل ، لأن القسامة توجب القود ، إلا أن يحب الأولياء أخذ الدية .
ش : أما المسلم الحر فلا نزاع فيه ، لورود الحديث فيه ، وأما الكافر والعبد ففي معناه ، إذ المقتضى للقسامة اللوث ، وهو موجود في قتلهما ، وعلى هذا يحلف سيد العبد ، ويستحق القصاص أو قيمته ، ثم إن ظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تشرع إلا فيما يوجب القصاص ، كذا فهم أبو محمد ، واختار ذلك ، فعلى هذا لا تشرع في غير العمد المحض ، ولا في قتل غير المكافئ ونحو ذلك ، والمشهور مشروعية القسامة في جميع ذلك ، حتى أني لم أر الأصحاب عرجوا على كلام الخرقي ، والذي يظهر مشروعيتها في غير الخطأ ، لوجود اللوث المقتضي لها ، بخلاف الخطأ ، فإن اللوث وهو العداوة على المشهور لا يتأتى ، والله أعلم .
قال : وليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد .
ش : لا نزاع عندنا أن القسامة [ عندنا ] لا تشرع على أكثر من واحد ، إذا كانت الدعوى موجبة للقصاص ، اعتماداً على الحديث ، وهو قوله : ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته ) وحذاراً من أخذ أنفس بنفس واحدة ، ببينة ضعيفة ، وبيان ضعفها أن الحق هنا ثبت بقول المدعي مع يمينه ، مع التهمة في حقه ، وقيام العداوة المانعة من صحة شهادته على عدوه في حق لغيره ، فما بالك في حق لنفسه ، وفارق البينة ، فإنها قوية بالعدد ، وعدالة الشهود ، وانتفاء التهمة في حقهم ، لأنهم لا يثبتون لأنفسهم حقاً ، ولا عداوة بينهم وبين المشهور عليه ، واختلف عن إمامنا هل تشرع القسامة على أكثر من واحد ، إذا كانت الدعوى موجبة للدية ؟ ( فعنه ) وهو اختيار الخرقي ، وأبي بكر والقاضي ، وجماعة من أصحابه ، الشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي وابن البنا ، وابن عقيل لا تشرع ، اقتصاراً على مورد النص ( وعنه ) تشرع ، لأنها بمنزلة البينة في إثبات القود ، فكذلك في القسامة على أكثر من واحد ، وإنما تركنا ذلك فيما إذا كانت موجبة للقصاص ، للمحذور السابق ، وقد انتفى هنا ، فعلى هذا هل يحلف كل واحد من المدعى عليهم خمسين يميناً ، أو قسطه منها ؟ على وجهين .
قال : ومن قتل نفساً محرمة ، أو شارك فيها ، أو ضرب بطن امرأة ، حرة كانت أو أمة ، فألقت جنيناً ميتاً ، وكان القتل خطأ ، فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، توبة من الله عزّ وجلّ . . . وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله ما يدل على أن على قاتل العمد أيضاً تحرير رقبة .
ش : الأصل في كفارة القتل في الجملة الإجماع ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ، ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ) وقوله تعالى : 19 ( { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله ، وتحرير رقبة مؤمنة } ) الآية .
إذا تقرر هذا فقول الخرقي : من قتل ، يشمل الذكر والأنثى ، والحر والعبد ، والمكلف وغير المكلف ، والمسلم والكافر ، والآية الكريمة صالحة لدخول جميع ذلك فيها إلا غير المكلف ، فإنه لا يتناوله الخطاب التكليفي ، فإذاً وجوب الكفارة في ماله بضرب من القياس ، وهو أن الكفارة حق مالي يتعلق بالقتل ، فتعلقت بغير المكلف كالدية ، وفيه شيء ، إذ الدية لا تتعلق به ، إنما تتعلق بالعاقلة على المذهب . وقوله : نفساً ، يشمل الذكر والأنثى ، والحر والعبد ، والمسلم والكافر ، والمكلف وغير المكلف ، حتى لو قتل نفسه ، أو عبده ، أو إنساناً بإذنه ، والكتاب العزيز شامل لجميع ذلك ، إذ يدخل في 19 ( { من قتل مؤمناً } ) الذكر والأنثى بعرف الشرع ، والحر والعبد ، والمكلف وغير المكلف ، إذ الصبي ونحوه مؤمن حكماً ، وعبده والأجنبي بإذنه ، وكذلك قد تدخل نفسه ، ونازع في ذلك أبو محمد ، واختار أن الكفارة لا تجب في قتله نفسه ، وقال : الآية أريد بها إذا قتله غيره ، بدليل قوله سبحانه : 19 ( { ودية مسلمة إلى أهله } ) وقاتل نفسه لا تجب فيه دية .
3035 بدليل عامر بن الأكوع ، فإنه قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي فيه بكفارة ولا دية ، وفيه نظر ، إذ هذه واقعة عين ، فيجوز أن يكون الحكم كان مقرراً معروفاً عندهم ، ثم غايته أنه لم ينقل إلينا ذلك ، وعدم النقل لا يدل على العموم .
ويشمل كلام الخرقي أيضاً القتل بمباشرة أو سبب ، والآية صالحة لذلك ، إذ المتسبّب يصلح نسبة القتل إليه ، وقوله : محرمة ، يخرج منه القتل المباح ، كقتل الحربي ، والباغي ، والزاني المحصن ، والمستحق قتله قصاصاً ، ونحو ذلك ، أما الحربي ونحو فلا يدخل في الآية الكريمة ، لخروجه من قوله : 19 ( { ومن قتل مؤمناً } ) وعدم دخوله في قوله سبحانه : 19 ( { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } ) الآية ، وأمّا من عداه فبالنظر إلى المعنى ، إذ الكفارة وجبت ماحية أو زاجرة ، وقتل من ذكر أمر مطلوب ، فلا شيء يمحى ولا يزجر عنه .
ويشمل كل نفس محرمة ، وقد استثنى أبو محمد من ذلك نساء أهل الحرب وصبيانهم ، ومن لم تبلغه الدعوة ، إذ لا إيمان لهم ولا أمان ، فلم يدخلوا في مقتضى الكتاب العزيز ، وقد يقال : إن كلام الخرقي يخرج منه قتل الخطأ ، فإنه على الصحيح لا يوصف بتحريم ولا إباحة ، ويجاب بأنه لم يصف القتل بأنه محرم ، بل وصف النفس بكونها محرمة ، ولا ريب أن المقتول خطأ نفسه محرمة الإزالة ، وأبو البركات كأنه استشعر ذلك فعدل عن ( محرمة ) إلى : بغير حق .
وقوله : أو شارك فيها ، هذا هو المذهب المشهور أن الكفارة تتعدد بتعدد القاتلين ، لأنها من موجب قتل الآدمي ، فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن على الجميع كفارة واحدة ، وهي أظهر من جهة الدليل ، للآية الكريمة ، إذ هي تتناول الواحد والجماعة ، والله سبحانه جعل الواجب كفارة واحدة ، وكون القصاص يجب على كل واحد من المشتركين ممنوع ، ولو سلم فذلك سداً للذريعة ، وحسماً للمادة ، وقتل الخطأ ونحوه لا يقصد ، فلا سد ، ثم هو منقوض بالدية ، فإنها لا تكمل في حق كل واحد من الشركاء على المذهب .
( تنبيه ) : قال أبو محمد في المغني فيما إذا رمى ثلاثة بالمنجنيق ، فرجع الحجر فقتل رجلاً أن على كل واحد منهم عتق رقبة ، لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم ، لأن كل واحد منهم مشارك في قتل آدمي معصوم ، والكفارة لا تتبعض ، وغفل عن رواية أن على الجميع كفارة واحدة ، مع أنه حكاه هنا عن أبي ثور ، قال : وحكي عن الأوزاعي ، وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي . ( وقوله ) : أو ضرب بطن امرأة حرة كانت أو أمة ، فألقت جنيناً ميتاً . قد تقدم ذلك في دية الجنين ، فينظر ثم ، وكان القتل خطأ . يخرج العمد وشبهه ، ولا نزاع أن في قتل العمد روايتان ( إحداهما ) وهي اختيار أبي بكر وابن حامد ، والقاضي وولده أبي الحسين ، والشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي وابن البنا لا كفارة فيه ، لقوله تعالى : 19 ( { ومن قتل مؤمناً خطأ } ) الآية . . . إلى قوله : 19 ( { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعد لهم عذاباً عظيماً } ) فإنه سبحانه قسم القتل إلى قسمين قسم أوجب فيه الدية والكفارة ، وقسم جعل الجزاء فيه جهنم ، وظاهر ذلك أنه لا كفارة فيه ، يرشح ذلك أن الكفارة وجبت محواً لما حصل من ذهاب نفس مستحقة للبقاء ، والعمد أعظم من أن يمحى ما حصل فيه من الإثم بذلك .
3036 ولأن ذلك قول ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما . ( والثانية ) فيه الكفارة .
3037 لما روى واثلة بن الأسقع قال : أتينا رسول الله في صاحب لنا أوجب يعني النار بالقتل ، فقال : ( أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار ) رواه أحمد وأبو داود ، ولأنه أعظم جرماً ، فالحاجة إلى تكفيره أبلغ ، وهذه الرواية زعم القاضي والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما أنها اختيار الخرقي ، وليس في كلامه ما يدل على ذلك ، بل تقديمه يشعر بخلافه ، وقد حكى أبو محمد عن القاضي أنه قال : يلزم الشهود والكفارة ، سواء قالوا : أخطأنا أو تعمدنا . قال أبو محمد : وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال ، ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد ، قال أبو محمد : لأنه وإن قصد به القتل فهو جار مجرى الخطأ ، في أنه لا يجب به القصاص . ( قلت ) : وهذا ذهول عن المسألة ، بل متى قالت الشهود : تعمدنا القتل ، وجب القصاص .
( تنبيه ) : قال أبو محمد : ولا فرق بين العمد الموجب للقصاص وغيره ، كقتل الوالد ولده ، والسيد عبده ، والمسلم الكافر ونحو ذلك ، نظراً للعمدية ، انتهى .
أما شبه العمد فوقع لأبي محمد رحمه الله في المقنع إجراء الروايتين فيه ، وهو ذهول ، فقد قال في المغني : لا أعلم لأصحابنا فيه قولاً ، ومقتضى الدليل وجوب الكفارة فيه ، لأنه أجري مجرى الخطأ في نفي القصاص ، وحمل العاقلة ديته وغير ذلك ، فكذلك في الكفارة . قلت : وقد نص على وجوب الكفارة في شبه العمد الشيرازي وابن البنا ، والسامري وأبو البركات ، وبالله التوفيق .
ثم إن الخرقي رحمه الله لما فرغ من ذكر من تجب عليه الكفارة بيّن صفة الكفارة فقال : إنها عتق رقبة مؤمنة . وذلك بنص الكتاب العزيز ، فمن لم يجدها في ملكه فاضلاً عن حاجته ، ولم يجد ثمنها فاضلاً عن كفايته ، فعليه صيام شهرين متتابعين ، بنص الكتاب العزيز أيضاً ، فإن لم يستطع فهل يلزمه إطعام ستين مسكيناً ، ككفارة الظهار ، والوطء في نهار رمضان ، أو لا يلزمه ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي الخطاب ، والشريف في خلافيهما ؟ فيه روايتان ، ثم إن كلام الخرقي هنا يشمل العبد ، وهو مستثنى من ذلك ، فإن كفارته الصيام ، لعجزه عما سواه ، نعم إن أذن له السيد في التكفير بالمال فهل يملك ذلك مطلقاً ، أو إن قلنا : يملك ؟ على طريقتين قد تقدمتا ، وحيث ملك ذلك فله التكفير بالإطعام ، وفي العتق روايتان .
قال : وما أوجب القصاص فلا يقبل فيه إلا عدلان .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمختار من الروايتين .
3038 لما روى رافع بن خديج رضي الله عنه قال : أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر ، فانطلق أولياؤه إلى النبي ، فذكروا ذلك له ، فقال : ( لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم ؟ ) قالوا : يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين ، وإنما هم يهود ، وقد يجترون على أعظم من هذا ، قال : ( فاختاروا منهم خمسين فأستحلفهم ) فوداه رسول الله من عنده ، رواه أبو داود .
3039 وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر ، فقال رسول الله : ( أقم الشاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته ) وذكر الحديث رواه النسائي وهو يدل بمنطوقه على الاكتفاء بشاهدين ، وبمفهومه على أنه لا يكتفي بغير ذلك ، فلا يقبل رجل وامرأتان ، ولا رجل ويمين المدعي ، وقد قال أبو محمد : إنه لا يعلم في ذلك خلافاً ، ( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى : لا يقبل في ذلك إلا أربعة ، كشهادة الزنا ، والجامع حصول القتل منهما ، وهي مردودة بما تقدم .
قال : وما أوجب من الجنايات المال دون القود قبل فيه رجل وامرأتان ، أو رجل عدل مع يمين الطالب .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار القاضي ، والشيرازي ، وابن البنا ، وأبي محمد ، لأنها شهادة على ما يقصد به المال على الخصوص ، فوجب أن يقبل فيه ذلك ، كالشهادة على البيع ، وفارق قتل العمد ، فإنه موجب العقوبة ، فلذلك احتيط له . ( والثانية ) : لا يقبل فيه إلا رجلان ، اختارها أبو بكر ، وابن أبي موسى ، لأنها شهادة على قتل ، فلم تسمع من النساء ، كالقتل العمد ، فعلى الأول لو كان القصاص في بعضها ، كالهاشمة والمأمومة ، فهل يغلب جانب القصاص ، فلا يقبل إلا رجلان ، أو جانب المال ، فيقبل رجل وامرأتان ، أو رجل ويمين المدعي ؟ على روايتين .
[ باب ] باب قتال أهل البغي )
ش : الأصل في جواز قتالهم في الجملة قوله الله تعالى : 9 ( { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ) الآية . . . إلى : 9 ( { فأصلحوا بين أخويكم } ) .
3040 وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( تكون أمتي فرقتين ، فيخرج من بينهما مارقة ، يلي قتلهم أولاهما بالحق ) رواه مسلم وغيره .
3041 وقد قاتل علي رضي الله عنه أهل الجمل وأهل صفين .
قال : وإذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه حوربوا .
ش : الأصل في هذا ما تقدم .
3042 وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته ميتة جاهلية ) متفق عليه .
3043 وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ، ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : ( تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ) .
3044 وعن عرفجة الأشجعي قال : سمعت رسول الله يقول : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم ، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ) . رواهما أحمد ومسلم .
3045 وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : ( بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفراً بوحاً ، عندكم فيه من الله برهان ) متفق عليه ، إذ تقرر هذا فالإمام الذي هذا حكمه هو من اتفق المسلمون على إمامته كأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على إمامته وبيعته ، أو عهد الإمام الذي قبله إليه كما عهد أبو بكر الصديق إلى عمر رضي الله عنهما فأجمع الصحابة على قبول ذلك ، وفي معنى ذلك لو خرج رجل على الإمام فقهره ، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له ، وأذعنوا لطاعته وبايعوه ، كعبد الملك بن مروان ، فإنه حرج على ابن الزبير فقتله ، واستولى على البلاد وأهلها ، حتى بويع طوعاً وكرهاً ، فإنه يصير إماماً ، لما تقدم من حديث عرفجة وغيره .
( تنبيه ) : الخارجون على الإمام أربعة أصناف ( أحدها ) قوم امتنعوا من طاعته ، وخرجوا عن قبضته بلا تأويل ، أو بتأويل غير سائغ ، فهؤلاء قطاع الطريق ، يأتي حكمهم إن شاء الله تعالى . ( الثاني ) قوم خرجوا عن قبضة الإمام أيضاً ، ولهم تأويل سائغ ، إلا أنهم غير ممتنعين لقلّتهم ، فحكى أبو الخطاب فيهم روايتين ( إحداهما ) وصححها ، وكذلك صححها الشريف ، وحكاها أبو محمد عن الأكثرين حكمهم حكم قطاع الطريق أيضاً ( والثانية ) وحكاها أبو محمد عن أبي بكر حكمهم حكم البغاة ( الثالث ) الخوارج الذين يكفرون بالذنب ، ويكفرون عثمان وعلياً وطلحة والزبير ، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم ، فهؤلاء فيهم عن أحمد روايتان ، حكاهما القاضي في تعليقه ( إحداهما ) أنهم كفار ، فعلى هذا حكمهم حكم المرتدين ، تباح دماؤهم وأموالهم ، وإن تحيّزوا في مكان ، وكانت لهم منعة وشوكة ، صاروا أهل حرب ، وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كالمرتدين ، فإن تابوا وإلا قتلوا .
3046 لما روى علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول ) ( سيخرج قوم في آخر الزمان ، حداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة ) متفق عليه .
3047 وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه رأى رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق ، فقال : كلاب النار ، شر قتلى تحت أديم السماء ، خير قتلى من قتلوه ، ثم قرأ : 19 ( { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } ) إلى آخر الآية . . . فقيل له : أنت سمعته من رسول الله ؟ فقال : لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً حتى عد سبعاً ما حدثتكموه . . . رواه الترمذي وحسنه . ( والثانية ) لا يحكم بكفرهم .
3048 لما روى أبو سعيد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر في النصل فلا يرى شيئاً ، وينظر في القدح فلا يرى شيئاً ، وينظر في الريش فلا يرى شيئاً ، ويتمارى في الفوق ) رواه البخاري وغيره . قال أبو عمر ابن عبد البر قوله : يتمارى في الفوق ، يدل على أنه لم يكفرهم ، لأنهم علقوا من الإسلام بشيء ، بحيث يشك في خروجهم منه .
3049 ولعموم قوله عليه السلام : ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ) فعلى هذه قال أبو محمد في المغني ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة ، حكمهم حكمهم . وحكى ذلك في الكافي عن فقهاء الأصحاب ، واختار هو أنه يجوز قتلهم ابتداء ، والإجازة على جريحهم ، لما تقدم من مروقهم من الدين ، وأنهم كلاب النار ، وأن في قتلهم أجراً لمن قتلهم .
3050 وفي الصحيح عنه أنه قال فيهم : ( لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) وهذا توسط حسن ، وهو اختيار أبي العباس ، بل قال : إن الذي عليه أئمة الحديث كالأوزاعي ، والثوري ، ومالك ، وأحمد ، وغيرهم رضي الله عنهم ، الفرق بين البغاة وبين الخوارج ، وأن قتال علي الخوارج كان ثابتاً بالنصوص الصريحة عن النبي وبالاتفاق ، وأما القتال يوم صفين ونحوه فلم يتفق عليه الصحابة ، بل امتنع منه أكابرهم ، كسعد بن أبي وقاص ، الذي لم يكن بعد علي مثله ، وأسامة بن زيد ، وابن عمر ، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهم ، والنبي كان يحب الإصلاح بين الطائفتين لا القتال .
3051 ففي البخاري أنه خطب الناس والحسن رضي الله عنه معه فقال : ( إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين ) ، فأصلح الله تعالى به بين أهل العراق وأهل الشام ، فنزل عن الأمر لمعاوية .
3052 وقال : ( ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ) وذلك نحو ما وقع لأهل الجمل ، وهذا ظاهر في أن الذي فعله الحسن هو الذي كان يحبه الله ورسوله ، وأن الإصلاح بين الطائفتين ما أمكن أولى من القتال ، وهذا بخلاف الخوارج ، فإن الذي يحبه الله ورسوله كما دلت عليه الأحاديث هو قتالهم .
( الصنف الرابع ) : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه ، لتأويل سائغ ، وإن كان صواباً ، وقيل : لا بد وأن يكون خطأ ، ولهم منعة وشوكة ، فهؤلاء البغاة المبوّب لهم بلا ريب ، وكلام الخرقي يقتضي أن كل من طلب موضع الإمام فإنه يحارب ، وقرينة ( حوربوا ) تقتضي أن لهم منعة وشوكة ، والله أعلم .
( تنبيه ) : ( جثمان إنس ) ، ( يريد أن يشق عصاكم ) ، ( المنشط ) الأمر الذي تنشط له وتخف إليه ، وتؤثر فعله ، ( والمكره ) الأمر الذي تكرهه وتتثاقل عنه ، ( والأثرة ) الاستئثار بالشيء والانفراد ، والمراد في الحديث إن منعنا حقنا من الغنيمة والفيء ، وأعطي غيرنا ، نصبر على ذلك ، ( والكفر البواح ) الجهار ، ( والبرهان ) الحجة والدليل ، و ( الرمية ) و ( الفوق والقدح ) .
قال : ودفعوا عن ذلك بأسهل ما يعلم أنهم يندفعون به .
ش : البغاة إذا خرجوا على الإمام فإنه يراسلهم ، ويسألهم ما ينقمون منه ؟ فإن ذكروا مظلمة أزالها ، وإن ادّعوا شبهة كشفها ، لما تقدم من قول الله تعالى : 19 ( { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } ) ، فأمر سبحانه بالإصلاح أولاً .
3053 ويروى أن علياً رضي الله تعالى عنه راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل ، ثم أمر أصحابه أن لا يبدؤوهم بالقتال ، ثم قال : 16 ( إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة ، ثم سمعهم يقولون : الله أكبر يا ثارات عثمان ، فقال : اللّهمّ أكب قتلة عثمان لوجوههم ) .
فإن رجعوا وإلا خوفهم بالقتال ، ومتى أمكن دفعهم بغير القتال لم يجز قتلهم ، إذ المقصود كف شرهم ، وإن لم يمكن قاتلهم ، وعلى رعيته معونته ، لما تقدم من حديث عرفجة وغيره ، وصرح أبو محمد ، والقاضي في جامعه ، بأنه يجب قتالهم ، وهو ظاهر حديث عرفجة ، وظاهر الآية الكريمة : 19 ( { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي } ) وظاهر قصة الحسن رضي الله عنه وقول النبي : ( ستكون فتنة ) ونحو ذلك يقتضي أن القتال لا يجب ، وكيف يجب وقد امتنع منه مَنْ تقدم من الصحابة ، وأشار الحسن على أبيه بترك القتال ، وعلى هذا فللإمام أن يترك الأمر الذي في يده للذي خرج عليه إن لم يخف مفسدة ، كما فعل الحسن رضي الله عنه ويجوز له القتال ، كما فعل الإمام علي رضي الله عنه ويجب إذاً على رعيته معونته بلا ريب ، وعلى ذلك تحمل الآية الكريمة والحديث ، فإنه متى ترك الإمام الأمر الذي في يده حصل الإصلاح ، فإذاً لا حاجة إلى القتال ، وإن لم يترك فهو محق وغيره متعد عليه ، فيجب قتاله ، وكف شره ؛ لقوله تعالى : 19 ( { فقاتلوا التي تبغي } ) وقوله سبحانه : 19 ( { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ) وحديث عرفجة وغير ذلك ، والله أعلم .
قال : فإن آل ما دعوا به إلى نفوسهم فلا شيء على الدافع .
ش : يعني أنهم إذا دفعوا بالأسهل فالأسهل ، فآل ما دفعوا به إلى نفوسهم فلا شيء على الدافع ، من ولا ضمان ، لأنه فعل مأذون فيه شرعاً ، أشبه قتال الكفار ونحوهم ، وكذلك بطريق الأولى ما أتلفه العادل على الباغي حال الحرب من المال ، والله أعلم .
قال : وإن قتل الدافع فهو شهيد .
ش : لأنه قتل في قتال مأمور به ، أشبه قتيل الكفار ، والله أعلم .
قال : وإذا اندفعوا لم يتبع لهم مدبر ، ولم يجيزوا على جريح .
3064 ش : لما روي عن مروان بن الحكم رضي الله عنه قال : صرخ صارخ لعلي يوم الجمل : لا يقتلن مدبر ، ولا يذفف على جريح ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن . رواه سعيد ، ويروى نحوه عن عمار رضي الله عنه ، ولأن المقصود كف شرهم وقد حصل ، فأشبهوا الصائل ، وعموم كلام الخرقي ، يقتضي أنه لا فرق بين أن تكون لهم فئة ممتنعة يلجؤون إليها ، أو لم تكن ، وهو ذلك .
قال : ولم يقتل لهم أسير .
ش : لأن شره قد اندفع بأسره .
3055 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال : ( يا ابن أم عبد ما حكم من بغى على أمتي ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم ، فقال : ( لا يتبع مدبرهم ، ولا يجاز على جريحهم ، ولا يقتل أسيرهم ، ولا يقسم فيئهم ) ، ذكره القاضي في شرحه .
( تنبيه ) : ( ولا يجاز على جريحهم ) أي لا يقتل ، ( ولا يذفف ) .
قال : ولم يغنم لهم مال .
ش : لحديث ابن مسعود رضي الله عنه .
3056 وعن أبي أمامة رضي الله عنه : 16 ( شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ، ولا يقتلون مولياً ، ولا يسلبون قتيلاً ، ولأنهم معصومون ، أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم ، فيبقى ما عداه على أصل التحريم ) .
قال : ولم تسب لهم ذرية .
ش : لما تقدم في التي قبلها ، ولأنهم كالصائل لا يستباح منهم إلا ما حصل به ضرورة دفعهم .
3057 ويروى أن مما نقمت الخوارج على علي رضي الله عنه أنهم قالوا : إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم ، فإن حلت له دماؤهم ، فقد حلت له أموالهم ، وإن حرمت عليه أموالهم ، فقد حرمت عليه دماؤهم . فقال لهم ابن عباس رضي الله عنه : 16 ( أتسبون أمكم يعني عائشة رضي الله عنها ؟ أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها ؟ فإن قلتم : ليست أمكم فقد كفرتم ، وإن قلتم : إنها أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم ) .
قال : ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه .
ش : يعني من البغاة ، وذلك لأنهم مسلمون ، وغايته أنهم مخطئون ، فيجري عليهم حكم المسلمين .
3058 وعن النبي قال : ( صلوا على من قال : لا إله إلا الله ) قال أبو محمد : ولم يفرق أصحابنا بين الخوارج وغيرهم ، وظاهر كلام أحمد أنه لا يصلى على الخوارج ، قال : أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم ، وقال : الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم ، قد ترك النبي الصلاة بأقل من هذا .
3059 وذكر أن النبي نهى أن يقاتل في خيبر من ناحية من نواحيها ، فقاتل رجل من تلك الناحية وقتل ، فلم يصلّ عليهم النبي .
قال : وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة أو خراج لم يعد عليهم .
ش : لأن علياً رضي الله عنه لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جبوه .
3060 وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أتاه ساعي نجدة الحروري دفع إليه زكاته ، وكذلك سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، ولأن في الرجوع عليهم تنفيراً لهم عن الرجوع إلى الطاعة ، ومن ثم قلنا : لا يضمنون ما أتلفوه في حال الحرب على المذهب ، وفي الرجوع على أرباب الأموال ضرر عظيم ، ومشقة عظيمة ، وإنهما منتفيان شرعاً ، وحكم الجزية حكم الخراج ، ويقبل قول أرباب الصدقات في أنهم قد أخذوا الصدقة منهم بغير يمين ، ولا يقبل مجرد قول أهل الذمة ، لأنهم غير مأمونين ، وقيل : يقبل بعد مضي الحول ، إذ الظاهر أن البغاة لا يدعون الجزية لهم ، فكان الظاهر معهم ، وهل يقبل مجرد قول من عليه الخراج إن كان مسلماً في دفع الخراج إليهم ، لأنه حق على مسلم ، فهو كالزكاة ، أو لا يقبل ، لأنه عوض فهو كالجزية ؟ على وجهين .
قال : ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره .
ش : هذا مبني على أصل ، وهو أن البغاة إذا لم يكونوا مبتدعين لا يفسقون ، لأن لهم تأويلاً سائغاً ، أشبه اختلاف الفقهاء ، فعلى هذا إذا نصبوا قاضياً فحكمه حكم قاضي أهل العدل ، إن حكم بما يخالف نص كتاب أو سنة أو إجماع ، كأن يحكم على أهل العدل بضمان ما أتلفوه في الحرب ، أو على أهل البغي بنفي ضمان ما أتلفوه في غير حال الحرب ، نقض حكمه ، وإن حكم بمختلف فيه لم ينقض ، كأن حكم بسقوط الضمان عن أهل البغي فيما أتلفوه في الحرب ، ونحو ذلك ، وإن كتب إلى قاضي أهل العدل قبل كتابه لما تقدم ، والأولى عند أبي محمد عدم القبول ، كسراً لقلوبهم ، وإن كان البغاة مبتدعين لم يجز قضاء من ولوه ، لانتفاء شرط القضاء وهو العدالة ، ولأبي محمد احتمال بصحة القضاء ، ونفوذ الأحكام ، حذاراً من الضرر بفساد العقود المدة الطويلة ، والله أعلم .
كتاب المرتد

ش : المرتد في اللغة الراجع ، وفي الشرع الراجع عن دين الإسلام ، إلى دين الكفر ، والأصل فيه قوله سبحانه : 19 ( { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر } ) الآية .
3061 وفي الصحيح أن النبي قال : ( من بدل دينه فاقتلوه ) والله أعلم .
قال : ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وكان بالغاً عاقلاً ، دعي إليه ثلاثة أيام ، وضيق عليه ، فإن رجع وإلا قتل .
3062 ش : الأصل في قتل المرتد في الجملة ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( لا يحل دم امرئ مسلم ، يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث ، الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) رواه الجماعة .
3063 وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أشرف يوم الدار ، فقال : أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله قال : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : زنا بعد إحصان ، أو كفر بعد إسلام ، أو قتل نفس بغير حق فقتل به ) ، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله ، ولا قتلت النفس التي حرم الله ، فبم تقتلوني . . . رواه النسائي والترمذي ، ولا فرق عندنا بين الرجل والمرأة لهذا .
3064 وعن عكرمة قال : أتي علي بزنادقة فأحرقهم ، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم ، لنهي رسول الله قال : ( لا تعذبوا بعذاب الله ) ولقتلتهم لقوله رسول الله : ( من بدل دينه فاقتلوه ) رواه الجماعة إلا مسلماً ، وللترمذي فيه : فبلغ ذلك علياً فقال : صدق ابن عباس ، وأدوات الشرط يدخل فيها المؤنث على الصحيح .
3065 وروى أبو أحمد بن عدي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : ارتدت امرأة عن الإسلام ، فأمر رسول الله أن يعرض عليها الإسلام فأبت أن تقبل ، فقتلت . لكن قال : هذا يرويه عبد الله بن عطارد بن أذينة الطائي ، ولا يتابع عليه ، وهو منكر الحديث .
3066 وما في الصحيح أن النبي نهى عن قتل النساء ، فعام في الردة وفي غيرها ، وما تقدم خاص في الردة ، فيخص كما خص بالثيب الزانية ، وبالقاتلة ، هذا إذا لم نقل من أول الأمر إنه خاص بالسبب الذي ورد عليه ، وهو نساء أهل الحرب ، وهو الظاهر .
3067 وما في الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( لا تقتل المرأة إذا ارتدت ) فمن رواية عبد الله بن عيسى الجزري ، عن عفان ، وقد قال العلماء بالحديث : إنه كذاب يضع الحديث على عفان وغيره .
إذا تقرر هذا فيشترط لصحة الردة التكليف ، بأن يكون عاقلاً بالغاً ، إذ غير المكلف لا يتعلق به حكم خطابي .
3068 وفي السنن أن النبي قال : ( رفع القلم عن ثلاث ، عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ) فعلى هذا لا تصح ردة من زال عقله بنوم أو إغماء ، أو مرض أو شرب مباح ، وفي السكران ونحوه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى ، ولا ردة غير مميز ، وفي المميز خلاف أيضاً ، ويشترط لقتل المرتد حيث صحت ردته أن لا يرجع إلى الإسلام ، أما إن رجع إلى الإسلام فإنه لا يقتل ، لزوال المقتضى للقتل وهو الردة ، وقد قال الله تعالى : 19 ( { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ) .
3069 وصح عن النبي أنه قال : ( الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها ) وهذا قد أسلم وقد تاب ، فاقتضى أن ينقطع ما قبل ذلك ، وهذا قد أسلم وقد تاب ، فاقتضى أن ينقطع ما قبل ذلك ، ولا نزاع في هذا في غير الزنديق ، ومن تكررت ردّته ، ومن سبّ الله تعالى ، ورسوله ، والساحر ، أما في هؤلاء الخمسة ففيهم روايتان ( إحداهما ) تقبل توبتهم كغيرهم ، وهي ظاهر كلام الخرقي هنا في الجميع ، واختيار الخلال في الساحر ، ومن تكررت ردته والزنديق ، وآخر قولي أحمد في الزنديق ، قال في رواية أبي طالب : أهل المدينة يقولون : يضرب عنقه ولا يستتاب ، وكنت أقول ثم هبته ، ليس فيه حديث ، واختيار القاضي في روايتيه فيمن تكررت ردته ، وظاهر كلامه في تعليقه في ساب الله تعالى ، وذلك لما تقدم .
3070 وفي الموطأ أن رجلاً سار رسول الله فلم يدر ما سارّه به حتى جهر رسول الله ، فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين ، فقال رسول الله : ( أليس يشهد أن لا إله إلا الله ) ؟ قال : بلى ولا شهادة له . قال : ( أليس يصلي ) ؟ قال : بلى ولا صلاة له . فقال رسول الله : ( أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ) .
3071 وفي الحديث : ( يقول الله تعالى : يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ، يجعل لي صاحبة وولداً ) ، وبالاتفاق متى أسلم ذلك وتاب قبل منه . ( والثانية ) لا تقبل ، وهي اختيار أبي بكر ، والشريف وأبي الخطاب ، وابن البنا ، والشيرازي في الزنديق ، وقال القاضي في التعليق : إنه الذي ينصره الأصحاب ، واختيار أبي الخطاب في خلافه في الساحر ، وقطع به القاضي في تعليقه ، والشيرازي في ساب رسول الله ، والخرقي لقوله في من قذف أم النبي : قتل مسلماً كان أو كافراً .
( أما في الزنديق ) فلأنه كان مظهراً للإسلام ، مسراً للكفر ، فإذا وقف على ذلك منه ، فأظهر التوبة ، لم يزد على ما كان منه قبلها ، وهو إظهار الإسلام ، ولأنه ربما أفسد عقائد المسلمين في الباطن ، وفي ذلك خطر وضرر عظيم ، ولقصة عليّ رضي الله عنه أنه أتي بزنادقة فأحرقهم ، والظاهر أنه لم يستتبهم ، ويجاب بأن قصة علي رضي الله عنه واقعة عين ، مع أنه قد يكون من مذهبه أن الاستتابة لا تجب ، وما تقدم ليس بقانع في إهدار دم ناطق بالشهادتين .
( وأما فيمن تكررت ردته ) فلأن تكررها قرينة تكذبه في توبته ، ولقول الله تعالى : 19 ( { إن الذين آمنوا ثم كفروا ، ثم آمنوا ثم كفروا } ) الآية .
3072 وروى الأثرم بإسناده أن رجلاً من بني سعد مرّ على مسجد بني حنيفة ، فإذا هم يقرؤون برجز مسيلمة ، فرجع إلى ابن مسعود رضي الله عنه فذكر ذلك له ، فبعث إليهم فأتي بهم ، فاستتابهم فتابوا ، فخلوا سبيلهم إلا رجلاً منهم يقال له ابن النواحة ، قال : قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت ، وأراك قد عدت فقتله ، ويجاب بأن الدماء تحقن بالشبهة ، لا أنها تراق بها .
3073 وعن الآية بأن قتادة قال : نزلت في اليهود ، آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادتهم العجل ، ثم آمنوا بالتوراة ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد .
3074 وعن مجاهد 19 ( { ثم ازدادوا كفراً } ) أي ماتوا عليه ، فإذاً هذا ليس مما نحن فيه .
3075 وعن قصة ابن مسعود بأن أبا داود رواه عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبد الله رضي الله عنه بالكوفة ، فقال : ما بيني وبين أحد من العرب حنة ، وإني مررت بمسجد بني حنيفة ، فإذا هم يؤمنون بمسيلمة . فأرسل إليهم عبد الله فجيىء بهم فاستتابهم غير ابن النواحة ، قال له : سمعت رسول الله يقول : ( لولا أنك رسول لضربت عنقك ) فأنت اليوم لست برسول . فأمر قرظة بن كعب وكان أميراً على الكوفة فضرب عنقه في السوق ، ثم قال : من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة فلينظر إليه قتيلاً بالسوق ، وهذا يبين أنه إنما قتله تحقيقاً لقول رسول الله : ( لولا أنك رسول لقتلتك ) ، فكأنه استوجب عنده القتل ، وإنما منعه الرسالة ، وقد زالت .
3076 ( وأما في الساحر ) فلما روى جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( حد الساحر ضربة بالسيف ) ، رواه الدارقطني والترمذي ، وقال : الصحيح عن جندب موقوف .
3077 وعن بجالة بن عبدة رضي الله عنه قال : كنت كاتباً لجزء ابن معاوية ، عم الأحنف بن قيس ، فأتانا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنة ، 16 ( أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ، وفرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس ، وانهوهم عن الزمزمة ) ، فقتلنا ثلاث سواحر ، وجعلنا نفرق بين الرجل وحريمه في كتاب الله . رواه أحمد وأبو داود .
3078 وفي الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة رضي الله عنه 16 ( أنه بلغه أن حفصة زوج النبي ورضي الله عنها قتلت جارية لها سحرتها ، وكانت قد دبرتها ، فأمرت بها فقتلت ) ؛ وظاهر هذه الآثار القتل بكل حال .
3079 ويروى أن ساحرة طافت في أصحاب النبي وهم متوافرون ، تسألهم هل لها من توبة ، فما أفتاها أحد إلا ابن عباس رضي الله عنهما ، قال لها : 16 ( إن كان أحد من أبويك حياً فبريه ، وأكثري من عمل البر ما استطعت ، ويجاب بأن قصة عائشة رضي الله عنها لا يعرف من رواها ، مع أن الحبر ابن عباس رضي الله عنهما قد جعل لها توبة ) ، وغير ذلك وقائع أعيان .
( وأما في من سب الجناب ) الرفيع :
3080 فلما روى الشعبي عن علي رضي الله عنه 16 ( أن يهودية كانت تشت النبي وتقع فيه ، فخنقها رجل حتى ماتت ، فأبطل رسول الله دمها ) ، رواه أبو داود .
3081 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي وتقع فيه ، فينهاها فلا تنتهي ، ويزجرها فلا تنزجر ، فلما كان ذات ليلة ، جعلت تقع في النبي وتشتمه ، فأخذ المعول فوضعها في بطنها ، واتّكأ عليها فقتلها ، فلما أصبح ذكر ذلك للنبيّ ، فجمع الناس فقال : ( أنشدكم الله رجلاً فعل ما فعل ، لي عليه حق ) قال : فقام الأعجمي يتخطى الناس وهو يتزلزل ، حتى قعد بين يدي رسول الله ، فقال : يا رسول الله أنا صاحبها ، كانت تشتمك وتقع فيك ، فأنهاها فلا تنتهي ، وأزجرها فلا تنزجر ، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ، وكانت بي رفيقة ، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك ، فأخذت المعول فوضعته في بطنها ، واتكأت عليها حتى تقتلها . فقال النبي : ( ألا اشهدوا أن دمها هدر ) رواه أبو داود والنسائي ، واحتج به أحمد في رواية عبد الله .
( وأما فيمن سب الله سبحانه ) فبالقياس على ساب رسول الله بطريق الأولى ، قال أبو محمد : والخلاف في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا ، من ترك قتلهم ، وثبوت أحكام الإسلام في حقهم ، وأما قبول الله في الباطن ، وغفرانه لمن تاب وأقلع باطناً وظاهراً فلا اختلاف فيه ، فإن الله تعالى قال في حق المنافقين : 9 ( { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله ، وأخلصوا دينهم لله ، فأولئك مع المؤمنين ، وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً } ) انتهى .
واعلم أن الروايتين في ساب رسول الله ، وإن كان كافراً ، ويكون ذلك نقضاً لعهده ، فيقتل وإن أسلم ، والروايتين في الساحر حيث يحكم بقتله بذلك ، وإنما يحكم بقتله بالسحر حيث كفر به وكان مسلماً ، أما إن كان السحر مما لا يكفر به ، أو يكفر به والساحر من أهل الكتاب ، فإنه لا يقتل .
3082 لأن لبيد بن الأعصم سحر رسول الله ، وقالت له عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله أفلا أحرقته ؟ قال : ( لا ) .
3083 وفي البخاري أن ابن شهاب سئل أعلى من سحر من أهل العهد قتل ؟ قال : بلغنا أن رسول الله قد صنع ذلك فلم يقتل من صنعه ، وكان من أهل الكتاب ، ( وعنه ) ما يدل على قتله كما تقدم عن عمر رضي الله عنه .
إذا تقرّر ذلك فك موضع قلنا : لا تقبل التوبة فلا استتابة ، لعدم فائدتها ، وكل موضع قلنا بقبول التوبة فإنه لا يقتل حتى يستتاب ، احتياطاً للدماء .
3084 وعن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري ، عن أبيه قال : قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمن خلافته رجل من أهل اليمن من قبل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، وكان عاملاً له ، فسأله عمر رضي الله عنه عن الناس ، ثم قال : 16 ( ( هل فيكم من مغربة خبر ) ) قال : نعم ، رجل كفر بعد إسلامه ، قال : فما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه . قال : فهلا حبستموه ثلاثاً ، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً ، واستتبتموه ، لعله يتوب ويراجع أمر الله تعالى ، اللهمّ إني لم أحضر ولم آمر ، ولم أرض إذ بلغني . . . رواه مالك في موطئه والشافعي في مسنده . . . وهل ذلك على سبيل الاستحباب ، لظاهر ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
3085 وفي حديث لأبي موسى رضي الله عنه أن النبي قال له : ( اذهب إلى اليمن ) ثم أتبعه معاذ بن جبل رضي الله عنه فلما قدم عليه ألقى له وسادة ، وقال : انزل ؛ وإذا رجل عنده موثق ، قال : ما هذا ؟ قال : كان يهودياً فأسلم ثم تهوّد ، قال : لا أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله . . . متفق عليه ، ولأحمد : قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه ، وظاهر ذلك من غير استتابة ، وإنكار عمر رضي الله عنه يحمل على الاستحباب ، لأنهم كانوا ينكرون في المستحب ، أو على الوجوب ، وهو المذهب عند الأصحاب ، لظاهر قصة عمر ، وحديث جابر الذي رواه ابن عدي ، وبذلك يتقيد ما تقدم ، على أن في حديث أبي موسى الأشعري في رواية أبي داود : وكان قد استتيب قبل ذلك بعشرين ليلة أو قريباً منها ، فجاء معاذ : فدعاه فأبى ، فضرب عنقه ، إلا أن أبا داود قال : قد روي هذا الحديث من طرق ، وليس فيه ذكر الاستتابة ، انتهى .
ويستتاب ثلاثاً اتباعاً ، لقول عمر رضي الله عنه : 16 ( هلا حبستموه ثلاثاً ، ويضيق عليه ، لقوله أيضاً : وأطعمتموه كل يوم رغيفاً ) ، والله أعلم .
( تنبيه ) : ( الزنديق ) هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر ، وهو الذي كان يسمى منافقاً في الصدر الأول ، و ( رجز مسيلمة ) و ( حنة ) هنا بمعنى الأحنة ، وهي العداوة ، قال الجوهري : ولا تقل حنة ، وقال الهروي : هي لغة رديئة ، وقد جاءت ( ومغربة خبر ) بكسر الراء وفتحها ، وأصله من الغرب وهو البعد ، المعنى : هل من خبر جديد ، جاء من بلد بعيد ، ( والموثق ) المأسور المشدود في الوثاق من حبل أو قيد ، و ( الوسادة ) المخدة .
قال : وكان ماله فيئاً بعد قضاء دينه .
ش : قد تقدمت هذه المسألة في كتاب الفرائض وهو أن المرتد متى مات أو قتل على ردته فماله فيىء ، على المشهور من الروايات ، لا لورثته ولا لأهل الدين الذي اختاره ، وزاد هنا أن ذلك بعد قضاء دينه ، لأنه حق واجب عليه ، وأولى ما يؤخذ من ماله .
واعلم أن كلام الخرقي يعتمد أصلاً ، وهو أن أملاك المرتد لا تزول بنفس الردة ، وهذا هو المشهور من الروايتين . والمختار لعامة الأصحاب ، وعليه هل لا تزول إلا بالموت ، أو يتبين بالموت زوالها من حين الردة ، فيكون مراعى ؟ فيه روايتان أيضاً ، واختلف الأصحاب هنا في التصحيح ، وعليها تقضى ديونه مطلقاً . ( والرواية الثانية ) في الأصل تزول أملاكه بنفس الردة ، وهي اختيار أبي بكر ، وعليها فلا تقضى ديونه ، كذا قال القاضي في الجامع الصغير ، وأطلق ، وظاهر كلام أبي البركات أن الذي يمنع على هذه الرواية قضاء الدين المتجدد ، وأما اللازم له قبل الردة فيقضى على الروايات الثلاثة . . . والله أعلم .
قال : وكذلك من ترك الصلاة دعي إليها ثلاثة أيام ، فإن صلّى وإلا قتل ، جاحداً تركها أو غير جاحد .
ش : قد تقدمت هذه المسألة بأتم من هذا اللفظ ، في باب حكم من ترك الصلاة ، وقد يقال إنه إنما أعادها هنا لينبه على أن الزكاة والصوم والحج ليسوا كذلك ، وفيه نظر ، لأنه من ترك واحداً من الثلاثة جاحداً كفر بلا ريب . نعم إذا تركها غير جاحد ، فالمختار لعامة الأصحاب عدم الكفر ، ثم عن أحمد في الزكاة ثلاث روايات ، ثالثهن إن قاتل عليها كفر ، وإلا لم يكفر ، وعنه في الصوم روايتان ، وللأصحاب في الحج ثلاث طرق ، فأبو محمد يقول لا يكفر بحال ، ومقابله أبو بكر يقول يكفر بكل حال ، قال في الخلاف : من تخلف عن الإِقرار بالتوحيد ، مع القدرة عليه ، وعن الصلاة بعد الإِقرار والقدرة على عملها ، وإيتاء الزكاة بعد الإقرار بوجوبها عليه ، وصوم رمضان بعد الإقرار والقدرة عليه ، وكذلك الحج ، فعند أحمد أنه مرتد ، يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، وقال أيضاً : لا فرق بين الصوم والصلاة والزكاة والحج ، لأن هذا كله فرض كالتوحيد ، وتوسط أبو البركات فقال : إن أخره إلى وقت يغلب على ظنه موته قبله ، أو عزم على تركه بالكلية كفر وإلا فلا .
قال : وذبيحة المرتد حرام ، وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب .
ش : أما إذا لم تكن ردته إلى دين أهل الكتاب فاتفاق والحمد لله ، وأما إذا كانت إلى دين أهل الكتاب فهو قول العامة ، لأنه لا يقر على دينه ، أشبه الوثني ، ولأنه لا يثبت له أحكام أهل الكتاب في الجزية ، ولا في النكاح ، ولا في الاسترقاق ، فكذلك في الذبيحة .
قال : والصبي إذا كان له عشر سنين ، وعقل الإسلام فأسلم فهو مسلم .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، والمختار لعامة الأصحاب ، حتى أن جماعة منهم أبو محمد في المغني وفي الكافي جزموا بذلك .
3986 لعموم قول النبي : ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ) .
3087 ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) . . . الحديث .
3088 وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه انطلق مع رسول الله في رهط من أصحابه رضي الله عنهم قِبَل ابن صياد ، حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة ، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم ، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله ظهره بيده ، ثم قال رسول الله لابن صياد : ( أتشهد ، أني رسول الله ) ، فنظر إليبه ابن صياد ، فقال : أشهد أنك رسول الأميين . فقال ابن صياد لرسول الله : أتشهد أني رسول الله ؟ فرفضه رسول الله وقال : ( آمنت بالله وبرسوله ) وذكر الحديث ، فعرض عليه رسول الله الإسلام وهو دون البلوغ ، وعرضه ( عليه ) يقتضي صحته منه .
3089 وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يعرب عنه لسانه ، فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكراً وإما كفوراً ) ، رواه أحمد والإعراب منه يحصل قبل البلوغ ، وقد جعله إذاً إما شاكراً وإما كفوراً ولأن علياً رضي الله عنه أسلم صغيراً .
3090 قال عروة : 16 ( أسلم علي رضي الله عنه وهو ابن ثمان سنين ) . . . أخرجه البخاري في تاريخه ، فاعتبر ذلك الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم وعدّ من السابقين .
3091 فعن ابن عباس رضي الله عنهما : 16 ( كان علي رضي الله عنه أول من أسلم من الناس بعد خديجة رضي الله عنها ) ، رواه أحمد .
3092 وعن عمرو بن مرة عن أبي حمزة ، عن رجل من الأنصار ، قال : 16 ( سمعت زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول : أول من أسلم عليّ ؛ قال عمرو بن مرة فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ) . . . رواه أحمد والترمذي وصححه ، وجمع العلماء بين الأقوال فقالوا : أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي ، ومن الموالي زيد ، ومن العبيد بلال رضي الله عنهم .
وحكى أبو محمد في المقنع ، و أبو البركات رواية بعدم صحة إسلام الصبي ، لأنه ليس بمكلف ، أشبه الطفل ، أو قول يثبت به حكم ، فلم يصح منه كالهبة ، ولحديث : ( رفع القلم عن ثلاث ) وأجيب بأن الطفل لا يعقل بخلاف هذا ، وعدم صحة الهبة ونحوها حذاراً من لحوق الضرر به ، وهذا محض مصلحة ، ولهذا قلنا على الصحيح : تصح وصيته ، والحديث ظاهره أنه لا يكتب عليه شيء ، والإسلام يكتب له لا عليه ، ( فعلى المذهب ) شرطه أن يعقل الإسلام قطعاً ، بأن يعلم أن الله ربه لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، إذ من لا يعقل كلامه لا يدل على شيء ، وهل يحدّ مع ذلك بسن . حكى ابن المنذر عن أحمد أنه لا يحد ، وإليه ميل أبي محمد ؛ إذ المقصود عقل الإسلام ، والسن لا مدخل له في ذلك ، ولأن قوله في الحديث : ( حتى يعرب عنه لسانه ) يقتضي أن الحكم منوط بذلك فقط .
3093 وقد روى البخاري في تأريخه عن جعفر بن محمد عن أبيه ، قال : قتل علي وهو ابن ثمان وخمسين سنة ، وهذا يقتضي أنه أسلم وله نحو ست سنين ، لأنه أسلم في أول المبعث ، وعاشر رسول الله بعد مبعثه ثلاثاً وعشرين سنة ، وعاش علي رضي الله عنه بعد وفاته نحو الثلاثين ، ( وعن أحمد ) يشترط أن يكون ابن سبع ، لقوله عليه السلام : ( مروهم بالصلاة لسبع ) ، فدلّ على أن ذلك حد لأمرهم ، وظاهره صحة عباداتهم ، والإسلام هو أول العبادات ورأسها ، ( وعنه ) وهو الذي اعتمده الخرقي : يشترط أن يكون ابن عشر ، لتوجه الضرب إذاً ، ولم يتعرض الخرقي لردته ، لكنها تفهم من المسألة الآتية ، وفيها أيضاً روايتان ، لكن الخلاف هنا أشهر ، ولهذا كثير من الأصحاب جزم ثم بالصحة ، وحكى الخلاف هنا ، ومن ثم جمع أبو البركات كلام الأصحاب ، وحكى فيها ثلاث روايات ( الثالثة ) يصح الإسلام دون الردة ، وإليها ميل أبي محمد ، نظراً إلى قوله عليه السلام : ( رفع القلم عن ثلاث ) ، والمذهب عند الأصحاب الصحة ، لحديث جابر المتقدم ، ولأن من صح إسلامه صحت ردته كالبالغ ،
( تنبيهان ) : أحدهما إذا صححنا إسلام الصبي ، أو لم نصحح ردته فلا ريب أنه يحال بينه وبين أهل الكفر ، وكذلك إن لم نصحح إسلامه ، أو صححنا ردته ، حذاراً من فتنته ، ورجاء ثبوته على الإسلام ، أو عوده إليه حين بلوغه . ( الثاني ) : ( الأطم ) البناء المرتفع ، ( وحتى يعرب عنه لسانه ) أي يبين عنه .
قال : فإن عاد وقال : لم أدر ما قلت . لم يلتفت إلى مقالته ، وأجبر على الإسلام .
ش : إذا حكم بإسلام الصبي فرجع ، وقال : لم أدر ما قلت . لم يلتفت إلى قوله على المشهور ، وأجبر على الإسلام ، لأنه عاقل صح إسلامه ، فلا يلتفت إلى قوله ، كالبالغ إذا أسلم ثم قال : لم أنو الإسلام على المذهب ، ولأنه قد ثبت عقله للإسلام ومعرفته ، فلا يبطل ذلك بمجرد دعواه كالبالغ ، ( وعنه ) يقبل منه ، فلا يجبر على الإسلام . قال أبو بكر : هذا قول محتمل ، لأن الصبي في مظنة النقص ، فجاز أن يكون صادقاً ، والدماء يحتاط لها .
قال : ولا يقتل حتى يبلغ .
ش : يعني إذا أقام على رجوعه ، فإنه يصير مرتداً ، لكن لا يقتل حتى يبلغ ، لأن القتل عقوبة متأكدة ، فلا تجب على الصبي كالحد ، وحذاراً من قتله بأمر محتمل .
قال : ويجاوز بعد بلوغه ثلاثة أيام ، فإن ثبت على كفره قتل .
ش : قد تقرّر أنه لا يقتل حتى يبلغ ، فإذاً حكم الردة لم يتعلق به إلا بعد البلوغ ، فتكون الاستتابة بعده .
قال : وإذا ارتد الزوجان فلحقا بدار الحرب ، لم يجر عليهما ولا على أحد من أولادهما ممن كانوا قبل الردة رق .
ش : لا يجوز استرقاق المرتد ، رجلاً كان أو امرأة ، وإنما ذكر الخرقي رحمه الله تعالى الزوجين والله أعلم ، لأجل ذكر الأولاد ، وذلك لعموم ما تقدم : ( من بدّل دينه ماقتلوه ) ، ( قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه ) ونحو ذلك ، وإذا جاز استرقاقه وبقاؤه لم يقتل ، وأدوات الشرط كما تقدم تشمل المذكر والمؤنث ، وأما أولاد المرتدين فمن ولد قبل الردة لم يسترق ، لأنه مسلم تبعاً لأبيه ، فلا يتبعه في الردة ، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه وقد تبعوهم في الإسلام ، فلا يتبعونهم في الكفر ، وإذاً لا يسترقون صغاراً ، لأنهم مسلمون ، ولا كباراً لأنهم إن ثبتوا على إسلامهم فواضح ، ون ارتدوا فحكمهم حكم آبائهم كما تقدم ، ومن علقت به أمه بعد الردة وولدته بعدها جاز استرقاقه على ظاهر كلام الخرقي ، ومنصوص أحمد في رواية الفضل بن زياد ، واختيار أبي بكر في الخلاف ، والقاضي وأبي الخطاب ، والشريف وابن البنا والشيرازي وغيرهم ، لأنه مولود بين أبوين كافرين ، لم يسبق عليه حكم الإسلام ، أشبه ما لو كان أبواه كافرين أصليين ، واختار ابن حامد أنه لا يجوز استرقاقه ، وحكاه رواية ، لأنه لا يقر بالجزية ، فلا يسترق كأبيه ، ولعل ابن حامد إنما أخذ الرواية من عدم إقراره بالجزية ، وإن علقت به في الإسلام ووضعته في الردة فعند أبي البركات وأبي محمد في الكافي حكمه حكم ما لو وضعته في الإسلام ، وهو التحقيق ، لانعقاده مسلماً ، وكلام الخرقي يوهم العكس ، وقد أقرّه أبو محمد في المغني على ظاهره ، معلّلاً بأن أكثر الأحكام إنما تتعلق بالوضع ، فكذلك هذا ، وقد وقع نحو هذه العبارة للخرقي في النكاح ، وقد تقدم ذلك .
قال : ومن امتنع منهما أو من أولادهما الذين وصفت من الإسلام بعد البلوغ ، استتيب ثلاثاً ، فإن لم يتب قتل .
ش : أما من امتنع منهما أو من أولادهما الذين حكم عليهما من الإسلام ، فلا إشكال في قتلهم إذا لم يتوبوا ، كبقية المرتدين ، وقوله : الذين وصفت ، يعني الذين ولدوا قبل الردة ، وقوله : بعد البلوغ ، لما تقدم من أن حكم الردة إنما يتعلق بالصبي بعد البلوغ ، ومفهوم كلام الخرقي أن أولادهم الذين ولدوا بعد الردة لو امتنعوا من الإسلام لم يقتلوا ، وتحت هذا صورتان ( إحداهما ) اختاروا كفراً لا يقر أهله عليه بالجزية ، فهنا لا ريب في قتلهم . ( الثانية ) اختاروا كفراً يقر أهله عليه بالجزية ، فهنا روايتان ، حكاهما أبو البركات ، وأبو محمد في المقنع ( إحداهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي في روايتيه ، يقرون بالجزية ، لأنهم ولدوا بين كافرين ، ولم يسبق لهم حكم الإسلام ، فجاز إقرارهم بالجزية كأولاد الحربيين . ( والثانية ) ، وهي اختيار أبي بكر ، وبها قطع أبو محمد في الكافي ، وأبو الخطاب في الهداية ، لا يقرون بالجزية ، لأنهم أولاد من لا يقر على كفره ، فلا يقرون بالجزية كالولد الذي قبل الردة . ولهذا الخلاف التفات إلى أن من تهوّد أو تنصّر بعد المبعث هل يقر بالجزية أم لا . . . ؟ وسلك أبو محمد في المغني طريقة لم نرها لغيره ، فقال : إذا وقع أبو الولد في الأسر بعد لحوقه بدار الحرب ، فحكمه حكم سائر أهل دار الحرب ، وإن بذل الجزية وهو في دار الحرب ، أو وهو في دار الإسلام ، لم يقر بها ، لانتقاله إلى الكفر بعد نزول القرآن .
قال : ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعاً له .
3094 ش : لما روي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث ، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ) ، رواه البخاري وأحمد وقال فيه : ( ما من رجل مسلم ) ، وهو يشمل ما إذا كانوا من كافرة .
3095 قال البخاري وكان ابن عباس رضي الله عنهما مع أمه من المستضعفين ، ولم يكن مع أبيه على دين قومه ، ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه . ومن علوه التبعية له ، ( وظاهر كلام الخرقي ) أن هذا الحكم ثابت للصغير ما لم يبلغ ، وهو المنصوص والمشهور ، لحديث أنس رضي الله عنه المتقدم ، وقيل في المميز : لا يحكم بإسلامه حتى يسلم بنفسه كالبالغ ، لأنه يصير مستقلاً بنفسه ، ولعله يلتفت إلى أن المميز يصح إسلامه ، فصار كالبالغ ، لكن المذهب صحة إسلام المميز ، والمذهب التبعية إلى البلوغ ، ومراد الخرقي بالأبوين الأبوان الأدنيان الحقيقيان ، ولا يتبع الصغير جده ولا جدته في الإسلام .
قال : وكذلك من مات من الأبوين على كفره قسم له من الميراث ، وكان مسلماً بموت من مات منهما .
ش : أما كون الصغير يحكم بإسلامه بموت أحد أبويه الكافرين على المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين .
3096 فلما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ) ، ثم يقول أبو هريرة : 19 ( { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ) الآية . وفي رواية : قالوا : يا رسول الله أفرأيت من يموت منهم وهو صغير ؟ قال : ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) متفق عليهما . فجعل تهوده وتنصره وتمجسه بسبب أبويه ، فإذا ماتا فقد فات السبب ، وكذلك إذا مات أحدهما إذ لا ريب أن الشيء يفوت بفوات جزئه ، ومتى فات السبب بقي على أصل الفطرة التي خلقه الله عليها ، وهي الإقرار بالربوبية والوحدانية ، ( والرواية الثانية ) : لا يحكم بإسلامه ، لأنه ثبت كفره ، ولم يوجد منه إسلام ، ولا ممن هو تابع له ، فوجب إبقاؤه على ما كان عليه ، ولأنه لم ينقل عن النبي ولا عن أحد من خلفائه أنه أجبر أحداً من أهل الذمة على الإسلام لموت أبيه ، مع أنه لا يخلو زمنهم من موت بعض أهل الذمة عن يتيم ، والحكم في موت الأبوين كالحكم في موت أحدهما . وهل حكم المميز حكم البالغ أو حكم الطفل ؟ فيه القولان السابقان .
وكلام الخرقي يشمل الموت في دار الحرب ودار الإسلام ، وهو قويل بعده أبو البركات ، وعموم الحديث يقتضيه ، والذي أورده أبو البركات مذهباً وبه قطع أبو محمد في المغني اختصاص الحكم بدار الإسلام ، إذ قضية الدار الحكم بإسلام أهلها ، خرج منه الطفل الذي له أبوان ، فإذا عدما أو أحدهما بقي على الأصل . وأمّا كونه يقسم له من ميراث من مات من أبويه الذي جعل مسلماً بموته ، فلأن المانع من الإرث وهو الإسلام لم يتحقق وجوده حين الإرث ، إذ بالموت انتقل الإرث وحصل الإسلام . فالمانع إنما تحقق وجوده لما انتقل الإرث ، أما وقت الانتقال فلم يتحقق ، لا سيما ومن قاعدتنا على المشهور أن من أسلم قبل قسم الميراث قسم له . وقد استشكل على هذا نص أحمد في الكافر إذا مات عن حمل منه أنه لا يرثه ، والقاضي أظنه في المجرد حمل هذا على أنها وضعته بعد قسم الميراث ، وجعل أنها متى وضعته قبل ذلك ورث كما في هذه المسألة . وأبو البركات جرى على المنصوص في الموضعين ، وأشار للفرق بأن الحمل حكم بإسلامه قبل وضعه ، والإرث لا يحكم له إلا بانفصاله ، وقد يقال : الظاهر من كلام الأصحاب أنا نتبين بوضعه حياً إرثه ، فالإرث حصل له أيضاً من حين موت أبيه ، فهو كهذه المسألة ، والظاهر أن هذه شبهة القاضي ، فيجاب بأنه على كل حال المانع قد تحقق قبل الحكم بإرثه ، فلم يحصل شرط إرثه إلا والمانع قد تحقق فانتفى الإرث لوجود المانع ،
( تنبيه ) : ( الفطرة ) والله أعلم .
قال : ومن شهد عليه بالردة فقال : ما كفرت ، فإن شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله لم يكشف عن شيء .
ش : من شهد عليه بالردة فأنكر ، وشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله لم يكشف عن شيء مما شهد عليه ، ولم يكلف الإقرار بما نسب إليه .
3097 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) .
3098 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، وحسابهم على الله ) متفق عليهما ، ولأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي ، فكذا هذا .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلتفت مع ذلك إلى ما شهد عليه به ، ولو كان إنكار فرض ، أو إحلال محرم ، وحمل أبو محمد كلامه على من كفر بجحد الوحدانية أو الرسالة أو هما ، أما من كفر بغير هذا فلا يحصل إسلامه إلا بالإقرار بما جحده .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يكفي والحال ما تقدم جحده للردة ، وهذا والله أعلم كأنه مقصود الخرقي من ذكر هذه المسألة ، لينص على مخالفة بعض الحنفية ، وذلك لأنه بالبينة قد بان كفره ، فلم يحكم بإسلامه بدون الشهادتين ، كالكافر الأصلي .
3099 وقد روى الأثرم بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل عربي قد تنصر ، فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله ، وأتي برهط يصلون وهم زنادقة ، قد قامت عليهم بذلك الشهود العدول ، فجحدوا وقالوا : ليس لنا دين إلا دين الإسلام ، فقتلهم ولم يستتبهم ، ثم قال : تدرون لِمَ استتبت النصراني ؟ استتبته لأنه أظهر دينه ، فأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا ، وقد قامت عليهم البينة .
ومقتضى كلام الخرقي أن حصول الشهادتين كاف في إسلام المرتد ، وهو كذلك ، وكذلك كل كافر ، ولا يشترط أن يقول مع ذلك : وأنا بريء من الدين الذي كنت عليه ، لما تقدم .
3100 ولقول النبي للغلام اليهودي : ( يا غلام ، قل : لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ) .
3101 وقوله لعمه أبي طالب : ( أدعوك إلى كلمة أشهد لك بها عند الله ، لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ) نعم من كفر بجحد فرض ، أو تحريم أو تحليل ، أو نبي أو كتاب ، أو رسالة نبينا محمد إلى غير العرب ونحو ذلك ، فلا بد مع الشهادتين أن يقر بالمجحود به ، لأن الشهادتين كانت موجودة منه قبل ذلك .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يكتفي بأشهد أن محمداً رسول الله ، عن كلمة التوحيد ، وهو ( إحدى الروايات ) وهو مقتضى ما تقدم من الأحاديث . . . ( والثانية ) يكتفي بذلك .
3102 لما روى أنس رضي الله عنه أن يهودياً قال لرسول الله : أشهد أنك رسول الله . ثم مات ، فقال رسول الله : ( صلوا على صاحبكم ) ، ذكره أحمد في رواية مهنا محتجاً به ، ولأن الإقرار برسالة النبي يتضمن الإقرار بوحدانية سبحانه ، لتصديق الرسول فيما جاء به . ( والثالثة ) إن كان ممن يقر بالتوحيد كأكثر اليهود اكتفي بذلك ، لأن بانضمام تصديقه بالرسالة إلى ما عنده من التوحيد يكمل إسلامه ، وإن لم يقر بالتوحيد كالنصارى ونحوهم ، لم يكتف بذلك ، لأن الجاحد جحد شيئين ، فلا يزول جحده لهما إلا بالإقرار بهما ، وهده الرواية اختيار أبي محمد .
ومفهوم كلام الخرقي أيضاً أنه إذا قال : أنا مؤمن أو أنا مسلم ، لم يكتف بذلك ، ونص القاضي وابن البنا على الاكتفاء بذلك عن الشهادتين ، لتضمنهما إياها .
3103 وقد روى المقداد أنه قال : يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني ، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ، ثم لاذمني بشجرة فقال : أسلمت ، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ قال : ( لا تقتله ، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها ) رواه مسلم . قال أبو محمد : ويحتمل أن هذا فيمن كفره بغير جحد فرض ، أو كتاب أو نحو ذلك ، أما من كفره بذلك فلا نكتفي منه بقوله : أنا مسلم أو مؤمن ، لأنه قد يعتقد أن الإسلام ما هو عليه ، إذ أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون .
( تنبيه ) : لو أقر بالردة ثم رجع ، أو أنكر ، قبل منه بدون تجديد إسلام ، على ما قطع به ابن حمدان في رعايتيه ، و أبو محمد ، لما أورد عليه ذلك في أصل المسألة قال : يحتمل أن يقول فيه كمسألتنا ، وإن سلمنا فالفرق أن هنا ثبت بقوله ، فقبل رجوعه عنه ، وثم ثبت بالبينة فلا يقبل رجوعه كالزنا ، والله أعلم .
قال : ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يفيق ويتم له ثلاثة أيام من وقت ردته ، فإن مات في سكره مات كافراً .
ش : هل تصح ردة السكران ؟ فيه روايتان تقدمتا في طلاقه ، إلا أن أبا محمد كلامه ثم يوهم عدم صحة طلاقه ، وكلامه هنا بالعكس ، وربما أشعر كلام الخرقي بذلك . وبالجملة متى لم تصح ردته فلا كلام . وإن صحت فلا يقتل حتى يفيق من سكره ، ليكمل عقله ، ويفهم ما يقال له ، وتزول شبهته ، ولأن القتل جعل للزجر ، ولا يحصل الزجر في حال سكره ، ويتم له ثلاثة أيام من وقت صحوه ، كما قلنا في الصبي من حين بلوغه . هذا الذي أورده أبو البركات مذهباً ، والخرقي رحمه الله جعل الثلاث من وقت ردّته ، وتبعه على ذلك أبو محمد ، لأن مدة سكره لا تدوم غالباً أكثر من ثلاثة أيام ، بخلاف الصبي فعلى هذا لو استمرّ سكره أكثر من ثلاثة أيام ، فقال أبو محمد : لا يقتل حتى يصحو ويستتاب عقيب صحوه ، فإن تاب وإلا قتل في الحال .
( تنبيه ) : والحكم في إسلامه في سكره كالحكم في ردته ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
كتاب الحدود

الحدود جمع حد ، والحد في الأصل المنع ، ومنه قيل للبواب حداداً ، لمنعه الداخل والخارج إلا بإذن ، وسمي الحديد حديداً للامتناع به ، أو لامتناعه على من يحاوله ، والحد عقوبة تمنع من الوقوع في مثله ، وحدود الله محارمه . قال سبحانه تعالى : 19 ( { تلك حدود الله فلا تقربوها } ) ، وما قدره كجعل الطلاق ثلاثاً ، ونحو ذلك ، قال سبحانه : 19 ( { تلك حدود الله فلا تعتدوها } ) ولعل تسمية المحارم حدوداً ، وكذلك المقدرات إشارة إلى المنع من قربان ذلك أو تجاوزه والله أعلم .
قال : وإذا زنى الحر المحصن أو الحرة المحصنة جلداً ورجماً حتى يموتا ، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله ، والرواية الأخرى : يرجمان ولا يجلدان .
ش : الزنا مما علم تحريمه من دين الله بالضرورة ، وقد شهد له قوله سبحانه ؛ 19 ( { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } ) ، وقوله سبحانه : 19 ( { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ، يضاعف له العذاب يوم القيامة } ) ، وقوله تعالى : 19 ( { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } ) .
3104 وعدّه النبي في السبع الموبقات ، وجعله من أعظم الذنب .
إذا تقرر ذلك ( فالرواية الأولى ) اختيار أبي بكر عبد العزيز ، ونصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وصححها الشيرازي ، لقوله الله تعالى : 19 ( { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ) الآية ، وهذا عام في البكر والثيب ثم قد ورد رجم المحصن في سنة رسول الله بلا ريب ، وفعله خلفاؤه من بعده ، بل وفي الكتاب العزيز .
3105 قال ابن عباس رضي الله عنهما : سمعت عمر رضي الله عنه وهو على منبر رسول الله يقول : 16 ( إن الله بعث محمداً بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها ووعيناها ، ورجم رسول الله ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله في كتابه ، فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى ، ) 16 ( إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف ، وايم الله لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله لكتبتها ) . . . متفق عليه . وإذا ورد رجم الثيب في الكتاب وفي السنة ، وورد الجلد في الكتاب ، وهو يعمّه ويعم غيره ، وجب الجمع بينهما ، وقد أشار عليّ رضي الله عنه والله أعلم إلى ذلك .
3106 ففي البخاري عن الشعبي عن علياً رضي الله عنه حين رجم المرأة ضربها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، وقال : 6 ( جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله ) .
3107 مع أن في صحيح مسلم ، وسنن أبي داود والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة ، ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) ، وما يعترض على هذا من أن النبي لم يجلد ليس بنص صريح ، إذ غايته أنه لم ينقل أنه جلد ، وعدم النقل لا يدلّ على العدم .
( والرواية الثانية ) هي أشهر الروايتين عن الأثرم ، واختارها ابن حامد ، ونصرها الجوزجاني والأثرم في منتهاهما .
3108 لأن النبي رجم ماعزاً والغامدية ، وامرأة من جهينة ، ورجلاً وامرأة من اليهود ، ولم ينقل مع كثرة الروايات التي يبلغ مجموعها التواتر المعنوي بلا ريب أنه جلدهم .
3109 وقال : ( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) متفق عليه ، ولم يأمر بجلدها ، وهذا يبين أن هذا هو آخر الأمرين من رسول الله ، وقد أشار إلى هذا أحمد ، قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة رضي الله عنه : إنه أول حدّ نزل ، وإن حديث ماعز بعده رجمه رسول الله ولم يجلده ، وعمر رضي الله عنه رجم ولم يجلد ، وكذلك نقل إسماعيل بن سعيد نحو هذا ، والذي في الآية الكريمة يحمل على البكر .
3110 وقد ورد في أبي داود في رواية ، قال أبو السعادات : ذكرها رزين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أول ما كان الزنا في الإسلام أخبر رسول الل فأنزل الله تعالى : 19 ( { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } )9 ( { واللذان يأتيانها منكم فأذوهما ، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } ) ثم نزل بعد ذلك : 19 ( { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ) ، ثم نزلت آية الرجم في النور ، فكان الأول للبكر ، ثم رفعت آية الرجم من التلاوة ، وبقي الحكم بها ، وهذا إن ثبت فيه جمع بين الأدلة .
3111 وقد عمل على ذلك عمر وعثمان رضي الله عنه فرجما ، ولم ينقل أنهما جلد .
وتقييد الخرقي بالحر والحرة ليخرج العبد والأمة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى حدّهما ، وتقييد الحر بالمحصن والحرة بالمحصنة ليخرج غير المحصن كما سيأتي ، ولا نزاع في أن الإحصان شرط في الرجم ، وقد شهد لذلك حديث عبادة وحديث عمر رضي الله عنهما .
3112 وقول النبي : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ) ، وفي رواية : ( أو زنا بعد إحصان ) الحديث . . . وقد تقدم ذلك .
3113 وفي قصة ماعز أنه قال له : ( أحصنت ) ؟ قال : نعم ، فأمر به فرجم . والإحصان قد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب النكاح ، فلا حاجة إلى إعادته .
( تنبيه ) : الزنا الفاحشة يمد ويقصر ، فالقصر لأهل الحجاز ، والمد لأهل نجد ، أنشد ابن سيده :
أما الزناء فإني لست قاربه

والمال بيني وبين الخمر نصفان
والزاني من أتى الفاحشة ، وسيأتي كلام الخرقي إن شاء الله تعالى فيه ، والله أعلم .
قال : ويغسلان ويكفنان ، ويصلّى عليهما ، ويدفنان .
ش : أما الغسل والتكفين والدفن فاتفاق ، حكاه أبو محمد .
3114 وقال أحمد : سئل عليّ رضي الله عنه عن شراحة وكان رجمها فقال : اصنعوا بها ما تصنعون بموتاكم ؛ وصلّى عليّ رضي الله عنه على شراحة ، وأما الصلاة فهي أيضاً قول الأكثرين .
3115 لما روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت النبي وهي حبلى من الزنا ، فقالت : يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي ، فدعا نبيّ الله وليها فقال : ( أحسن إليها ، فإذا وضعت فأتني بها ) ففعل ، فأمر بها نبيّ الله فشدت عليها ثيابها ، ثم أمر بها فرجمت ، ثم صلى عليها ، قال عمر : أتصلّي عليها وقد زنت ؟ فقال رسول الله : ( لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل ) رواه مسلم وأبو داود والترمذي .
3116 وفي مسلم أيضاً وسنن أبي داود ، من حديث بريدة في قصة ماعز والغامدية قال : ثم أمر بها فصلّي عليها ودفنت .
3117 وما في الصحيح من حديث ابن عباس ، ومن حديث جابر رضي الله عنهم أن النبي لم يصل على ماعز ، فقضية عين ، يحتمل أن النبي لم يحضره ، أو اشتغل عنه لعارض ، أو غير ذلك ، ولأن عموم ( صلوا على من قال لا إله إلا الله ) يدخل فيه من مات بحد .
قال : وإذا زنى الحر بالبكر جلد مائة جلدة ، وغرب عاماً .
ش : أراد بالبكر من لم يحصن ، وإنما عبر بالبكر اتباعاً للفظ الحديث ، وقد حصل اتفاق العلماء ولله الحمد على الجلد ، بشهادة الكتاب والسنة بذلك ، وجمهورهم أيضاً على القول بالتغريب ، لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المتقدم .
3118 وعن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا : جاء أعرابي إلى النبي وهو جالس ، فقال : يا رسول الله أنشدك الله ألا قضيت لي بكتاب الله . فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه : نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي ، فقال النبي : ( قل ) ، قال : إن ابني كان عسيفاً على هذا ، فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله : ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) فغدا عليها فاعترفت ، فأمر بها رسول الله فرجمت ، أخرجه الجماعة ، والدلالة منه من وجهين ( أحدهما ) وهو العمدة قوله عليه الصلاة والسلام : ( وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ) . ( والثاني ) : قوله : سألت أهل العلم ، وأهل العلم هم جلة الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا يدلّ على أن هذا كان معروفاً مشهوراً عندهم ، وقد تأكّد قوله عليه السلام بفعله .
3119 فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ضرب وغرّب ، وأن أبا بكر رضي الله عنه ضرب وغرب ، وأن عمر رضي الله عنه ضرب وغرب ، رواه النسائي . لكن قال النسائي : الصواب في هذا الحديث أن أبا بكر رضي الله عنه ، وليس فيه أن النبي ودعوى أن هذا زيادة على النص ، وهو 19 ( { الزانية والزاني } ) الآية ، والزيادة على النص نسخ ، والكتاب لا ينسخ بالسنة ممنوع ، أما ( أولاً ) فلأن النص ليس فيه تعرض لنفي التغريب إلا من جهة المفهوم ، والحنفي لا يقول به ، وبالاتفاق متى عارض المفهوم نص قدم عليه ، وأما ( ثانياً ) فإنا لا نسلم أن الزيادة على النص نسخ ، كما هو مقرر في موضعه ، وأما ( ثالثاً ) فإنا لا نسلم أيضاً أن النسخ لا يحصل بالسنة ، بل يحصل بالسنة ، وإن كانت آحاداً ، على رواية اختارها فحل الفقهاء أبو الوفاء ابن عقيل ، والله أعلم .
قال : وكذلك المرأة .
ش : يعني أنها تجلد ، ولا نزاع في ذلك ، لنص الكتاب ، وتغرب ، وهو أيضاً قول الأكثرين ممن قال بالتغريب ، ثم وعليه المعول في المذهب ، لعموم حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، ولأن ما كان حداً في حق الرجل كان حداً في حق المرأة كسائر الحدود ، واختار أبو محمد في مغنيه أنها لا تغرب ، كقول مالك ، وله في كتبه الثلاثة احتمال بسقوطه إذا لم تجد محرماً .
3120 ومدركهما قوله عليه السلام : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم ) ولأن تغريبها بدون محرم تضييع لها ، ومعه يفضي إلى نفي من لا ذنب له ، وإن كلفت بأجرته فذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به .
( تنبيه ) : شرط التغريب أن يكون إلى مسافة القصر في الجملة ، إذ ما دونها في حكم المقيم ، قال أبو محمد : ويحتمل كلام أحمد في رواية الأثرم أنه لا يشترط ذلك ، لقوله : ينفى من عمله إلى عمل غيره . ولا تفريع على هذا ، أما على المذهب فالرجل ينفى إلى مسافة القصر بلا ريب ، وكذلك المرأة إذا كان معها محرمها ، ومع تعذره هل تنفى إلى مسافة القصر لما تقدم ، أو إلى ما دونها ، لحديث : ( لا تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم ) ؟ على روايتين ، هذه طريقة القاضي في الروايتين ، وأبي محمد في المغني ، وجعل أبو الخطاب في الهداية الروايتين فيها مطلقاً ، سواء نفيت مع محرمها أو بدونه ، وتبعه على ذلك أبو محمد في الكافي والمقنع ، وعكس أبو البركات طريقة المغني ، فجعل الروايتين فيها فيما إذا نفيت مع محرمها ، أما بدونه فإلى ما دونها قولاً واحداً ، كما اقتضاه كلامه .
قال : وإذا زنى العبد أو الأمة جلد كل واحد منهما خمسين جلدة ، ولم يغربا .
3121 ش : أما جلدهما فلما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا : سئل النبي عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، قال : ( إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير ) ، متفق عليه .
3122 وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : يا أيها الناس أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ، من أحصن منهم ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله زنت ، فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس ، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي فقال : ( أحسنت اتركها حتى تماثل ) رواه مسلم وأبو داود والترمذي ، لكن قال فيه : ( وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) جعله من لفظ الرسول ، والعبد في معنى الأمة ، وبهذين يضعف دليل خطاب 19 ( { فإذا أحصن } ) .
3123 على أنه نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أن المراد بالإحصان الإسلام .
وأما كونه خمسين جلدة ، فلقوله تعالى : 19 ( { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } ) والعذاب الذي في كتاب الله هو جلد مائة جلدة ، ولهذا عرفه .
3124 وعن عبد الله بن عياش قال : أمرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أجلد ولائد للإمارة ، أنا وفتية من قريش خمسين خمسين في الزنا . . . أخرجه مالك في الموطأ .
3125 وعن علي رضي الله عنه قال : أرسلني رسول الله إلى أمة له سوداء زنت ، لأجلدها الحد ، قال : فوجدتها في دمها ، فأتيت النبي فأخبرته بذلك ، فقال لي : ( إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين ) ، رواه عبد الله بن أحمد في المسند .
وأما كون ذلك بلا تغريب فلأن ما تقدم جميعه ليس فيه تغريب ، ولو وجب لذكر ، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، والعذاب كما تقدم والله أعلم المراد به الذي في الكتاب ، ولا تغريب فيه ، ثم إن التغريب في حق العبد في الحقيقة عقوبة لسيده دونه ، لما يفوته من خدمته ، وما يحتاجه من حفظه ونفقته ، والعبد غريب أينما كان ، والعقوبة لا تشرع على غير الزاني ، والله أعلم .
قال : والزاني من أتى الفاحشة من قبل أو دبر .
ش : مقصود الخرقي بهذا والله أعلم أن الموضع الذي يجب فيه الحد في القبل يجب فيه في الدبر ، فلا فرق بين القبل والدبر ، وذلك لأنه فرج مشتهى طبعاً ، محرم شرعاً ، فأشبه القبل ، ولأن الله تعالى قال : 19 ( { والاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } ) الآية ، ثم بين النبي ذلك بقوله : ( قد جعل الله لهن سبيلاً ) الحديث ، والفاحشة تشمل الوطء في القبل والدبر ، وقد سمى الله الوطء في الدبر فاحشة فقال لقوم لوط : 19 ( { أتأتون الفاحشة } ) أي الوطء في دبر الرجل ، ثم إن الخرقي رحمه الله أشار إلى تعريف الزاني الذي يترتب عليه الحد السابق بما ذكره . وفي قوله ( الفاحشة ) إشعار بأن شرط الإتيان في القبل أو الدبر أن يكون حراماً محضاً ، فيخرج بالأول الوطء الحلال ، ووطء الشبهة ، كمن وطىء امرأته في دبرها أو أمته الوثنية ، أو أمة لبيت المال وهو حر مسلم ، أو من ظنها زوجته ، أو بنكاح باطل اعتقد صحته ، أو لم يعلم بالتحريم لقرب عهده بالإسلام ونحو ذلك ، وقد تضعف الشبهة فيجري الخلاف ، كمن وطىء أمته وهي مزوجة ، أو مؤبدة التحريم ، أو أمة والده ، مع علمه بالتحريم ، أو وطىء في نكاح أو ملك مختلف في صحته مع علمه بالتحريم ، ونحو ذلك ، وبيان ذلك وشرحه على ما ينبغي له محل آخر ، إلا أنه لا بد أن يطأ بفرج أصلي ، في فرج أصلي ، وأن يغيب الحشفة أو قدرها ، فلو جامع الخنثى بذكره ، أو جامع في قبله فلا حد ، وقد فهم من كلام الخرقي أنه لا حد بالإتيان دون الفرج ، ولا بإتيان المرأة المرأة ، وهو كذلك والله أعلم .
قال : ومن تلوط قتل بكراً كان أو ثيباً ، في إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى ، حكمه حكم الزاني .
ش : ( الرواية الأولى ) اختيار الشريف .
3126 لما روي أن النبي قال : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه الخمسة إلا النسائي ، قال الترمذي : وكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو شامل للبكر والثيب ، لكن الحديث من رواية عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد اختلف في عمرو بن أبي عمرو ، فعن ابن معين ومالك تضعيفه ، وعن أحمد وأبي حاتم وغيرهما ليس به بأس .
3127 ورواه أبو أحمد ابن عدي من رواية عباد بن منصور ، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي ، ولفظه : ( في الذي يعمل عمل قوم لوط ، وفي الذي يؤتي في نفسه ، وفي الذي يقع على ذات محرم ، وفي الذي يأتي البهيمة يقتل ) ، وقد اختلف أيضاً في الاحتجاج بعباد بن منصور .
3128 وقد روى أبو أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموه الأعلى والأسفل ، ارجموهما جميعاً ) لكنه ضعفه ، وبالجملة هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً ، إذ ليس فيها متهم بكذب وسوء الحفظ يزول بتتابعها ، مع أن الجارحين لم يبينوا سبب الجرح ، وقد قال يحيى بن سعيد : عباد بن منصور ثقة ، لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه ، وهذا يدل على أن تضعيفهم له كان بسبب خطئه في رأيه ، ويقوي الحديث عمل راويه عليه .
3129 فعن سعيد بن جبير ومجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في البكر يؤخذ على اللوطية يرجم . رواه أبو داود ، ثم عمل الصحابة على ذلك .
3130 فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن علياً أحرقهما ، وأبا بكر هدم عليهما حائطاً ، ذكر ذلك أبو السعادات في جامع الأصول ، ولذلك احتج أحمد بقول علي رضي الله عنه ، وقيل : إن الصحابة أجمعوا على قتله ، وإنما اختلفوا في صفته . ( ووجه الرواية الثانية ) أنه فاحشة ، فكان كالفاحشة بين الرجل والمرأة .
3131 ويروى عن النبي : ( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ) ، وإذا كان زنا دخل في عموم الآية ، والأخبار السابقة والأحاديث السابقة لم تثبت .
وقول الخرقي : بكراً كان أو ثيباً ، أي محصناً كان أو غير محصن ، وإنما أراد لفظ حديث عبادة ، والله أعلم .
قال : ومن أتى بهيمة أدب وأحسن أدبه .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية ابن منصور ، واختيار الخرقي ، وأبي بكر ، لأنه أتى محرماً لا حد فيه ولا كفارة ، وذلك مقتضى للتأيب .
وقوله : وأحسن أدبه ، أي يبالغ فيه لشدة تحريمه ، إذ قد اختلف في قتل فاعل ذلك ، وورد فيه ما يدل على ذلك ، وذلك يقتضي المبالغة في تحريمه ، وإنما لم يحد لأن الحديث الذي ورد فيه قد تكلم فيه ، وقياسه على الوطء في فرج المرأة متعذر ، إذ ليس بمقصود ، يحتاج في الزجر عنه إلى حد ، بل يكتفي بالباعث الطبعي ، إذ النفوس الشريفة بل وغيرها تنفر من ذلك . ( ونقل عنه ) حنبل يحد حد الزاني ، كذا حكى القاضي في روايتيه ، والشيخان وغيرهما يحكون الرواية أن حده حد اللوطي ، يعني هل يرجم مطلقاً ، أو يحد حد الزاني ، وهذه اختيار القاضي والشيرازي ، وأبي الخطاب والشريف في خلافيهما .
3132 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله : ( من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي . وراويه عمرو بن أبي عمرو راوي حديث ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ) الحديث ، فهذا لازم للقائل ثم بالقتل .
3133 إلا أنه هنا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : 16 ( ليس على الذي يأتي البهيمة حد ) ، رواه أبو داود والترمذي وذلك يوهن روايتيه مع ما فيهما والله أعلم .
قال : وقتلت البهيمة .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار الخرقي ، وبه قطع أبو الخطاب في الهداية ، وأبو محمد في الكافي ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، لما تقدم من الحديث ، وهو وإن تكلم فيه فذلك لا يبلغ اطراحه بالكلية ، بل هو صالح لأن يؤثر شبهة في درء الحد الذي يندريء بالشبهة ، ولا يؤثر في غيره لعدم درئه بالشبهة . ( والرواية الثانية ) لا تقتل ، لأن المعتمد في ذلك على الحديث ، والحديث لم يثبت ، والنبي نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة ، فيدخل في عمومه ، وظاهر كلام أبي البركات ، أن قتلها لا يشرع على هذه الرواية ، وعن أبي بكر أنه توسط فقال : الاختيار قتلها ، وإن تركها فلا بأس ، ( ومحل هاتين الروايتين ) إذا قلنا بتعزير الفاعل ، أما إذا قلنا بحده حد اللوطي فإنها تقتل بلا نزاع ، كذا ذكره أبو البركات وهو واضح ، لأنا إذاً اعتمدنا على الحديث ، وهو أخص من النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكلة ، وكلام الخرقي يشمل المملوكة والمأكولة وغيرهما ، وهو كذلك ولم يتعرض الخرقي رحمه الله لأكلها إن كانت مأكولة ، وأحمد كره ذلك ، فخرج لأصحابه فيه وجهان ( أحدهما ) ويحتمله كلام الخرقي الجواز ، لعموم : 19 ( { أحلت لكم بهيمة الأنعام } ) وغير ذلك . ( والثاني ) وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ، وقطع به الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وشيخهما في الجامع ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي المنع ، لأنه حيوان مأمور بقتله ، وكل ما أمر بقتله لا يجوز أكله ، كما هو مقرر في موضعه ، ولعل الخلاف في ذلك مبني على علة قتلها ، فقيل : لئلا يعير فاعلها لذكره برؤيتها .
3134 فروى ابن بطة بإسناده عن النبي أنه قال : ( من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة ) قالوا : يا رسول الله ما بال البهيمة ؟ قال : ( لئلا يقال هذه وهذه ) وقيل : لئلا تلد خلقاً مشوهاً ، وبه علل ابن عقيل ، وعلى هذين يباح الأكل ، وقيل القتل لئلا تؤكل .
3135 قيل لابن عباس رضي الله عنهما لما ذكر الحديث : ما شأن البهيمة ؟ قال : 16 ( ما سمعت من رسول الله في ذلك شيئاً ، ولكن أراه كره أن يؤكل لحمها أو ينتفع بها ، وقد فعل بها ذلك ) . . . رواه أبو داود والترمذي ، واعلم أن محل الخلاف حيث شرعنا قتلها ، أما إن لم نشرعه فلا ريب في جواز أكلها والله أعلم .
قال : والذي يجب عليه الحد ممن ذكرت من أقر بالزنا أربع مرات ، وهو بالغ صحيح عاقل ، ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد ، أو يشهد عليه أربعة رجال من أحرار المسلمين عدول ، يصفون الزنا .
ش : ملخص ذلك أن الحد لا يجب إلا بأحد شيئين ، إقرار أو بينة ، فإن ثبت بإقرار اشترط أن يقر أربع مرات ، فلو أقر دونها لم يجب الحد .
3136 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : أتى رجل من أسلم رسول الله وهو في المسجد ، فناداه : يا رسول الله إن الآخر قد زنى ، يعني نفسه ، فأعرض عنه ، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله ، فقال له ذلك فأعرض ، فتنحى الرابعة ، فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه ، فقال : ( أهو به جنون ) ؟ قال : لا ، قال النبي : ( اذهبوا به فارجموه ) متفق عليه .
3137 وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً من أسلم جاء إلى النبي فاعترف بالزنا ، فأعرض عنه ، حتى شهد على نفسه أربع شهادات ، فقال النبي : ( أبك جنون ) ؟ قال : لا ، قال : ( أحصنت ) ؟ قال : نعم ، فأمر به فرجم . . . رواه أبو داود والترمذي والنسائي . وظاهر هذا أن الحكم مرتب على الأربعة ، وقد جاء أصرح من هذا .
3138 فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء ماعز إلى النبي فاعترف بالزنا مرتين ، فطرده ، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين ، فقال : ( شهدت على نفسك أربع مرات ، فاذهبوا به فارجموه ) .
3139 وعن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه قال : كان ماعز بن مالك يتيماً في حجر أبي ، فأصاب جارية من الحي ، فقال له أبي : ائت رسول الله فأخبره بما صنعت ، لعله يستغفر لك ، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج ، فأتاه فقال : يا رسول الله إني زنيت ، فأقم عليّ كتاب الله ؛ حتى قالها أربع مرات ، قال : ( إنك قد قلتها أربع مرات فبمن ) ؟ قال : بفلانة . قال : ( هل ضاجعتها ) ؟ قال : نعم ، قال : ( هل باشرتها ) ؟ قال : نعم ، قال : ( هل جامعتها ) ؟ قال : نعم ، قال : فأمر به أن يرجم ، وذكر الحديث . . . رواهما أبو داود وهذا ظاهر وصريح في أن الأربع علة في ترتب الحكم عليها .
3140 وفي المسند أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال له بحضرة رسول الله : إنك إن اعترفت الرابعة رجمك ؛ وقوله النبي لأنيس : ( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) ونحو ذلك واقعة عين ، إذ يحتمل أنه أحاله على ما عرفه من شرط الاعتراف ، وكذلك قول عمر رضي الله عنه : الرحيم حق على من أحصن ، إذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف ، يرجع إلى الاعتراف المعهود كالبينة ، وشرط اعتبار الإقرار أن يكون من مكلف ، وهو العاقل البالغ ، فلو أقر المجنون أو الصبي فلا عبرة بإقرارهما ، إذ لا حكم لكلامهما ، وقد رفع القلم عنهما .
3141 قال رسول الله : ( رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المعتوه حتى يبرأ ) رواه أبو داود .
3142 وفي الحديث أن رسول الله قال لماعز : ( أبك جنون ) ؟ قال : لا ، وفي رواية في الصحيح أنه سأل قومه : ( أتعلمون بعقله بأساً ، تنكرون منه شيئاً ) ؟ فقالوا : ما نعلمه إلا وفي العقل ، من صالحينا فيما نرى ، انتهى .
ومما في معنى المجنون من زال عقله بنوم ، أو إغماء ، أو شرب دواء ، أو سكر ، هذا ظاهر كلام الخرقي ، وأقرّه عليه أبو محمد ، وجزم بذلك . ومقتضى كلام أبي البركات جريان الخلاف فيه ، وفي بعض نسخ الخرقي : وهو صحيح بالغ عاقل ، وعلى ذلك شرح القاضي وأبو محمد ، وفسر القاضي ذلك بحقيقته ، وهو الصحة من المرض ، فلا يجب على مريض في حال مرضه ، وإن وجب عليه أقيم عليه بما يؤمن به تلفه ، وهذا فيه نظر ، فإن الحد إما أن يجب ويؤخر استيفاؤه إلى حين صحته ، أو يجب ويستوفى منه على حسب حاله ، فعلى كل حال ليس الصحة شرطاً للوجوب قاله أبو محمد ، ويحتمل أن يريد بالصحيح الذي يتصور منه الوطء ، فلو أقر بالزنا من لا يتصور منه الوطء كالمجبوب فلا حد عليه ، وهو كالذي قبله ، لأن هذا فهم من قوله : عاقل ، ( قلت ) : ويحتمل أن يريد بالصحيح الناطق فلا يقبل إقرار الأخرس ، لأنه إن لم تفهم إشارته فواضح ، وإن فهمت فهي محتملة ، وذلك شبهة تدرأ الحد ، وهذا احتمال لأبي محمد ، والذي قطع به القاضي الصحة ، ويحتمل أن يريد بالصحة الاختيار ، وأراد الصحة المعنوية فلا يصح إقرار المكره ، ولا نزاع في ذلك .
واعلم أنه يشترط في الإقرار أن يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة .
3143 وفي قصة ماعز أن رسول الله قال له : ( أنكتها ) ؟ قال : نعم . قال رسول الله : ( حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ) ؟ قال : نعم ، قال : ( كما يغيب الميل في المكحلة والرشاء في البئر ) ؟ قال : نعم ، قال : ( هل تدري ما الزنا ) ؟ قال : نعم ، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً . . . رواه أبو داود .
3144 وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أتى ماعز النبي قال له : ( لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ) ؟ قال : لا يا رسول الله ، قال : ( أنكتها ) ؟ قال : لا يكني ، قال : نعم ، فعند ذلك أمر برجمه ، انتهى . ولا يعتبر أن يكون في مجالس ، لأن أكثر الأحاديث ليس فيها تعريض لذلك ، ويعتبر في استقرار الإقرار دوامه ، أن لا ينزع عنه حتى يتم عليه الحد ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، انتهى .
وإن ثبت الزنا بالبينة اعتبر أن يكون أربعة ، وهذا إجماع في الجملة والحمد لله ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } ) . . . الآية ، وقوله سبحانه : 19 ( { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ) ، وقوله تعالى : 19 ( { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء ، فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } ) .
3146 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال رسول الله : أرأيت لو أني وجدت مع امرأتي رجلاً ، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ فقال رسول الله : ( نعم ) رواه مسلم ومالك في الموطأ اه .
ويعتبر في الأربعة شروط ( أحدها ) أن يكونوا رجالاً ، فلا يقبل فهم امرأة ، ولا خنثى مشكل بحال ، لأن لفظ الأربعة اسم لعدد المذكرين ، فظاهره الاكتفاء بأربعة ، فلو أقمنا المرأتين مقام الرجل خرجنا عن ظاهر الآية لاشتراط خمسة . ( الثاني ) : أن يكونوا من المسلمين ، فلا تقبل شهادة أهل الذمة ، كما لا تقبل روايتهم ، ولا أخبارهم الدينية . وسواء كانت الشهادة على مسلم أو ذمي ، ولا عبرة برواية حنبل في قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض . ( الثالث ) أن يكونوا أحراراً ، فلا تقبل شهادة العبد ، للاختلاف في شهادته في سائر الحقوق ، وذلك يؤثر شبهة في عدم قبوله في الحد ، لاندرائه بالشبهة . ( وعن أحمد ) لا يشترط ذلك ، ولعله أظهر ، لدخوله في عامة النصوص . ( الرابع ) أن يكونوا عدولاً ، فلا تقبل شهادة فاسق ، كما لا يقبل خبره ، وكبقية الشهادات بطريق الأولى . وقد قال الله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } ) الآية ، ولا مستور الحال ، وإن قبلناه في الأموال ، احتياطاً لهذا الباب وتضييقاً له . ( الخامس ) أن يصفوا الزنا فيقولوا : رأيناه غيّب ذكره أو حشفته
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15