كتاب : شرح الزركشي على مختصر الخرقي
المؤلف : شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي

الطلاق ، أي طلاق غير المدخول بها ولا بدعة ، وقد حكى ذلك ابن عبد البر إجماعاً في غير العدد ، وذلك لما تقدم من أن العلة في المنع من الطلاق في الحيض طول العدة ، وفي الطهر المجامع فيه خوف الندم بظهور الحمل ، وغير المدخول بها لا عدة عليها ، ولا ارتياب في حقها ، ولو عكس فقال لغير المدخول بها : أنت طالق للبدعة ، ولو عكس فقال لغير المدخول بها : أنت طالق للبدعة ، وهي طاهر طلقت في الحال لذلك ، وكذلك حكم الآيسة والصغيرة ، لا سنة لطلاقهما ولا بدعة ، وكذلك الحامل المستبان حملها ، على أشهر الروايتين ، لما تقدم ، والرواية الثانية تثبت سنة الوقت للحامل ، لحديث ابن عمر رضي الله عنه المتقدم ، وهو ظاهر كلام الخرقي السابق ، ولهذا لم يقل إذا قال لها : أنت طالق للبدعة . أنها تطلق إذا كانت حاملًا ، وعلى هذا إذا قال للحامل أنت طالق للبدعة . لم تطلق في الحال ، حتى يوجد نفاس أو حيض .
( تنبيه ) وقول الخرقي : لا سنة فيه ولا بدعة ، أي من حيث الوقت ، وكذا من حيث العدد على مختاره ، وعلى الرواية الأخرى تثبت لهم السنة من حيث العدد ، والله أعلم .
قال : وطلاق الزائل العقل بلا سكر لا يقع .
ش : طلاق الزائل العقل لجنون أو إغماء أو طفولية لا يقع .
2694 لقول النبي : ( رفع القلم عن ثلاثة ، عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل ) رواه أبو داود .
2695 وقال على رضي الله عنه : كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه . ذكره البخاري في صحيحه ، مع أن هذا قد حكي إجماعاً والحمد لله ، وقد يدخل في كلام الخرقي رحمه الله النائم ، وهو أيضاً بالإجماع ، وقد شهد له النص .
ومما يدخل في كلام الخرقي من تعاطى ما يزيل عقله لغير حاجة ، كالبنج ونحوه ، وقد اختلف المذهب في هذا ، فألحقه ابن حامد وأبو الخطاب في الهداية ، وأبو محمد بالسكران ، وفرق أحمد بينهما ، فألحقه بالمجنون ، ووجه القاضي الفرق بأن الغالب من الناس أنهم يشربون لغير المعصية ، بخلاف المسكر ، والحكم يتعلق بالغالب ، ولأن كثيراً ممن يشرب المسكر يظهر زوال العقل مع إثباته ، فحكم بإيقاع الطلاق سداً للذريعة ، بخلاف متعاطي البنج ونحوه ، ومما قد يلحق بالبنج الحشيش الخبيثة ، وأبو العباس يرى أن حكمها حكم الشراب المسكر ، حتى في إيجاب الحد ، ويفرق بينها وبين البنج ، بأنها تشتهى وتطلب ، فهي كالخمر ، بخلاف البنج ، فالحكم عنده منوط باشتهاء النفس وطلبها ، والله أعلم .
قال : وعن أبي عبد الله رحمه الله في طلاق السكران روايات ، إحداهن : لا يلزمه الطلاق ، ورواية : يلزمه ، ورواية يتوقف عن الجواب ، ويقول : قد اختلف أصحاب رسول الله فيه .
ش : الرواية الأولى اختيار أبي بكر ، وابن عقيل فيما أظن ، ونص عليها أحمد صريحاً في رواية جماعة ، بل هي آخر قوليه على ما حكى عنه الميموني ، قال : أكثر ما فيه عندي أنه لا يلزمه الطلاق ، فقيل له : أليس كنت مرة تخاف أن يلزمه ، قال : بلى ولكن أكثر ما عندي أنه لا يلزمه .
2696 وذلك لقول عثمان رضي الله عنه : ليس لمجنون ولا لسكران طلاق .
2697 وقال ابن عباس رضي الله عنه وطلاق السكران والمستكره ليس بجائز . ذكرهما البخاري في صحيحه ، وقال أحمد : حديث عثمان رضي الله عنه ارفع شيء فيه ، وهو أصح يعني من حديث علي ، وقال ابن المنذر : هذا ثابت عن عثمان ولا نعرف أحداً من الصحابة خالفه .
2698 وقد جاء في حديث بريدة في قصة ماعز أنه قال : يا رسول الله طهرني . قال : ( مم أطهرك ؟ ) قال : من الزنا . فسأل رسول الله أبه جنون ؟ فأخبر أنه ليس بمجنون ، فقال : ( أشرب خمراً ؟ ) فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ، فقال النبي : ( أزنيت ؟ ) قال : نعم . فأمر به فرجم . رواه مسلم والترمذي وصححه ، وهذا ظاهر في أن وجود ريح الخمر منه يمنع من ترتب الحكم عليه ، ويجعله في حكم المجنون ، ولأنه زائل العقل ، أشبه المجنون والنائم ، ولأن شرط التكليف العقل وهو مفقود ، ولا أثر لزوال الشرط بمعصيته ، بدليل أن من كسر ساقه جاز أن يصلي قاعداً ، ولا قضاء عليه ، وكذلك لو ضربت المرأة بطنها فنفست ، سقطت عنها الصلاة ( والرواية الثانية ) اختارها الخلال والقاضي ، وعامة أصحابه ، الشريف وأبو الخطاب ، والشيرازي وغيرهم .
2699 لأنه يروى عن النبي : ( كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه ) ، وعن علي رضي الله عنه مثله ، ذكره البخاري في صحيحه .
2700 وروى ابن وبرة الكلبي قال : أرسلني خالد إلى عمر رضي الله عنه ، فأتيته في المسجد ، ومعه عثمان وعلي وعبد الرحمن ، وطلحة والزبير ، فقلت : إن خالداً يقول : إن الناس انهمكوا في الخمر ، وتحاقروا العقوبة ؛ فقال عمر : 16 ( هؤلاء عندك فسلهم ، فقال علي رضي الله عنه : )6 ( نراه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون . فقال عمر : أبلغ صاحبك ما قال ) ، فجعله الصحابة في حكم الصاحي ، بدليل أنهم أوجبوا عليه حد المفتري ، ولأن كثيراً ممن يتعاطى ذلك يظهر زوال العقل مع ثباته ، فعومل معاملة الصاحي ، سداً للذريعة .
ولا يخفى أن أدلة الرواية الأولى أظهر ، إذ الحديث الأول وكذلك قصة ابن وبرة لم يذكر من رواهما ، ولا يعرف صحتهما .
2701 ثم يضعف قصة ابن وبرة أن مذهب علي رضي الله عنه أن السكران إنما يجلد أربعين ، وما ذكره البخاري عن علي رضي الله عنه في قوله : كل الطلاق جائز . فغايته عموم ( والرواية الثالثة ) نص عليها فيما أظن في رواية حرب ، وقد ذكر وجه توقفه ، وهو اختلاف أصحاب رسول الله ، وفي التحقيق لا حاجة إلى ذكر هذه الرواية ، لأن أحمد حيث توقف فللأصحاب قولان ، وقد نص على القولين ، فاستغني عن ذكر رواية التوقف ، واعلم أن الروايتين المتقدمتين يجريان في عتقه ونكاحه ، وبيعه وردته ، وسائر أقواله ، وقتله وسرقته ، وكل فعل يعتبر له العقل ( وعنه ) أنه كالمجنون في أقواله ، وكالصاحي في أفعاله ، لأن تأثير الفعل أقوى من تأثير القول ولهذا قلنا على رواية : إن الإكراه لا يؤثر في الأفعال ( وعنه ) رابعة أنه في الحدود كالصاحي ، وفي غيرها كالمجنون ، قال في رواية الميموني : تلزمه الحدود ، ولا تلزمه الحقوق ، وهذه اختيار أبي بكر ، فيما حكاه عنه القاضي ، ويلزم أن يقول اختياره في الطلاق عدم الوقوع ، وذلك سداً للذريعة ، وحذاراً من أن تنتهك محارم الله بالاحتمال ، ويشهد لها أيضاً قصة ابن وبرة إن صحت ( وعنه ) رواية خامسة أنه فيما يستقل به مثل عتقه وقتله وغيرهما كالصاحي ، وفيما لا يستقل به مثل بيعه ونكاحه ومعاوضته كالمجنون ، حذاراً من أن يلزم غيره بقوله شيء ، حكاها ابن حامد ، قال القاضي : وقد أومأ إليها في رواية البرزاطي ، وقد سأله عن طلاق السكران فقال : لا أقول في طلاقه شيئاً ، قيل له : فبيعه وشراؤه ؟ قال : أما بيعه وشراؤه فغير جائز .
قلت : ونقل عنه إسحاق بن هانيء ما يحتمل عكس هذه الرواية ، فقال : لا أقول في طلاق السكران وعتقه شيئاً ، ولكن شراؤه وبيعه جائز .
( تنبيه ) السكر الذي يقع الخلاف فيه أن يخلط في كلامه ، ولا يعرف فعله من فعل غيره ، ونحو ذلك ، قال سبحانه : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } ) فجعل سبحانه علامة زوال السكر علمه بما يقول ، ولا يعتبر أن لا يعرف السماء من الأرض ونحو ذلك ، لأن ذلك لا يخفى على المجنون ، والله أعلم .
قال : وإذا عقل الصبي الطلاق فطلق لزمه .
ش : هذه إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار عامة أصحابه ، الخرقي وأبي بكر ، وابن حامد ، والقاضي وأصحابه ، كالشريف ، وأبي الخطاب ، وابن عقيل .
2702 لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أتى النبي عبد فقال : يا رسول الله سيدي زوجني أمته ، وهو يريد أن يفرق بيني وبينها . قال : فصعد رسول الله المنبر فقال : ( يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ، ثم يريد أن يفرق بينهما ، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ) رواه ابن ماجه والدارقطني .
2703 ولما يروى من قوله : ( كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه ) المغلوب على عقله ( والثانية ) لا يقع طلاقه حتى يبلغ ، لقول النبي : ( رفع القلم عن ثلاثة ) الحديث ، وتقييد الخرقي الصبي بالعاقل ليخرج من لم يعقل ، ولا نزاع في ذلك ، ولينيط الحكم بالعقل ، وكذا أكثر الروايات ، وهو اختيار القاضي وغيره ، ( وعنه ) تقييد ذلك بابن عشر ، وهو اختيار أبي بكر ، لجعله حداً للضرب على الصلاة ونحوها ، ومعنى عقل الطلاق أن يعرف أن النكاح يزول به ، ويلزم من هذا أن يكون مميزاً ، والله أعلم .
قال : ومن أكره على الطلاق لم يلزمه شيء .
2704 ش : لما يروى عن النبي أنه قال : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ) رواه ابن ماجه .
2705 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله يقول : ( لا طلاق ولا عتاق في غلاق ) رواه أبو داود وهذا لفظه ، وأحمد وابن ماجه ، ولفظهما ( في إغلاق ) قال المنذري : وهو المحفوظ . قال أبو عبيد والقتيبي : معناه في إكراه . وقال أبو بكر : سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين فقالا : يريد الإكراه ، لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه ، وقد تقدم قول ابن عباس رضي الله عنه : إن طلاق السكران والمستكره ليس بجائز .
2706 وعن قدامة بن إبراهيم ، أن رجلًا على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تدلى يشتار عسلًا فأقبلت امرأته فجلست على الحبل ، فقالت : ليطقلها ثلاثاً ، وإلا قطعت الحبل ، فذكرها الله والإسلام فأبت ، فطلقها ثلاثاً ، ثم خرج إلى عمر رضي الله عنه فذكر ذلك له ، فقال : ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق . رواه سعيد بن منصور ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، ويستثنى من هذا إذا كان الإكراه بحق ، كإكراه الحاكم المولي على الطلاق بعد التربص ، إذا لم يف ، وإكراه الرجلين اللذين زوجهما وليان ، ولم يعلم السابق منهما ، لأنه قول حمل عليه بحق فصح ، كإسلام المرتد .
وقول الخرقي : ومن أكره على الطلاق لم يلزمه شيء . ظاهره وإن نوى به الطلاق ، وهو أحد القولين ، نظراً إلى أن اللفظ مرفوع عنه بالإكراه ، فإذاً تبقى نيته مجردة ، ( والقول الثاني ) أنه بمنزلة الكناية ، إن نوى به الطلاق وقع وإلا لم يقع ، حكاهما أبو الخطاب في الانتصار ، وكذلك حكى شيخه عن أحمد ما يدل على روايتين ، وجعل الأشبه الوقوع ، وكذلك أورده أبو محمد مذهباً ، ولا نزاع عند العامة أنه إذا لم ينو الطلاق ، ولم يتأول بلا عذر ، أنه لا يقع ، ولابن حمدان احتمال بالوقوع والحال هذه ، والله أعلم .
قال : ولا يكون مكرهاً حتى ينال بشيء من العذاب ، مثل الضرب ، أو الخنق أو عصر الساق ، وما أشبهه ، ولا يكون التواعد إكراهاً .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار القاضي وجمهور أصحابه ، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وغيرهم ، ونص عليه أحمد في رواية الجماعة ، وقال : كما فعل بأصحاب النبي .
2707 وكأنه يشير إلى قصة عمار رضي الله عنه فروي أن المشركين أخذوه فأرادوه على الشرك ، فأعطاهم ، فانتهى إليه النبي وهو يبكي ، فجعل يمسح الدموع عن عينيه ، ويقول : ( أخذك المشركون فغطوك في الماء ، وأمروك أن تشرك بالله ففعلت ، فإن أمروك مرة أخرى فافعل ذلك بهم ) رواه أبو حفص ، ووجه الدليل منه أن الرخصة وردت في مثل ذلك ، فاقتصرت عليه ، ولأن التواعد غير محقق ، وغايته ظن ، ولا يترك بالظن أمر متيقن ( والرواية الثانية ) يكون التواعد إكراهاً ، اختارها ابن عقيل في التذكرة ، وأبو محمد ، لما تقدم عن عمر رضي الله عنه في الذي اشتار العسل ، ولأن الإكراه إنما يتحقق بالوعيد ، فإن الماضي من العقوبة لا يندفع بفعل ما أكره عليه وإنما يباح الفعل المكره عليه دفعاً لما يتوعد به من العقوبة فيما بعد ، ( فعلى الرواية الأولى ) شرط الضرب أن يكون شديداً ، أو يسيراً في حق ذي مروءة ، على وجه يكون إخراقاً ، ومما يشبه الضرب ، وعصر الساق القيد والحبس الطويلان ، وأخذ المال الكثير ، زاد في الكافي : والإخراج من الديار لا السب ونحوه رواية واحدة ، قاله في المغني ، وجعل في الكافي الإخراق ممن يغض ذلك منه إكراهاً ، وفي تعذيب الولد قولان ، وضبط أبو البركات ذلك بأن يكون مثله يتضرر بذلك تضرراً بيناً ، ولا بد أن يستدام مع الفعل التوعد بذلك ، ( وعلى الرواية الثانية ) شرط التواعد أن يكون بما تقدم من قادر يغلب على ظنه فعله إن خالفه ، وعجزه عن دفعه وهربه واختفائه ، وهل يستثنى على هذه الرواية التهديد بالقتل فيكون إكراهاً ، لأنه لا يمكن تداركه بعد وقوعه ؟ ، استثناه القاضي في الروايتين ، وقال : يجب أن يقال : يكون إكراهاً ، رواية واحدة ، وتبعه المجد ، وزاد قطع الطرف ، ولا شك أن المعنى فيهما واحد ، وتبعه المجد ، وزاد قطع الطرف ، ولا شك أن المعنى فيهما واحد ، وظاهر كلام أبي محمد في كتبه عدم استثنائه ، وقد أورد على القاضي في التعليق فشمله ، وأجاب بالفرق بما تقدم ، ثم قال : على أن هذه الرواية لا فرق بين القتل وغيره ، على ظاهر كلام أحمد في رواية صالح والمروذي ، والله أعلم .

باب صريح الطلاق وغيره


أي باب حكم صريح الطلاق وغيره من الاستثناء في الطلاق ، والتعليق بشرط ، وغير ذلك مما يذكر إن شاء الله تعالى ، والصريح الخالص من كل شيء ، فصريح الطلاق اللفظ الموضوع له ، الذي لا يفهم منه عند الإطلاق غيره ، أو يفهم لكن على بعد .
قال : وإذا قال لها : قد طلقتك ، أو قد فارقتك ، أو قد سرحتك ؛ لزمه الطلاق .
ش : ظاهر كلام الخرقي رحمه الله أن هذه الألفاظ صريحة في الطلاق ، ولا نزاع في أن المذهب أن لفظ الطلاق وما تصرف منه مما يفهم منه الطلاق صريح في الطلاق ، لأنه موضوع له على الخصوص ، وقد ثبت له عرف في الشرع والاستعمال ، ففي الكتاب العزيز : 19 ( { الطلاق مرتان } ) ( فإن طلقها ) وفي السنة والاستعمال أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض .
2708 وقالوا : طلق رسول الله حفصة ، وهذا واضح لا خفاء به ، وقد دخل في الطلاق وما تصرف منه طلقتك ، وأنت طالق ، وأنت مطلقة وأنت الطلاق ، وخرج منه أطلقك وطلقي ؛ لأنه لا يفهم منهما الطلاق ، إذ الأول وعد ، والثاني طلب ، وليس بخبر ولا إنشاء ، وحكى أبو بكر عن أحمد رواية في : أنت مطلقة أنه ليس بصريح ، لاحتمال أن يريد طلاقاً ماضياً ، ويلزمه ذلك في طلقتك ؛ ولأبي محمد في الكافي احتمال في : أنت الطلاق ؛ أنه لا يكون صريحاً ، ومن الصريح إذا قيل له : أطلقت امرأتك ؟ قال : نعم . إذ السؤال معاد في الجواب ، وأطلقك ؛ ليس بصريح على المذهب ، لانتفاء عرف الاستعمال فيه ، وللقاضي فيه احتمال .
وأما لفظ السراح والفراق ففيهما وجهان ، ( أحدهما ) وهو الذي ذكره الخرقي ، وتبعه عليه القاضي في التعليقة وفي غيرها ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وابن البنا والشيرازي وغيرهم أنهما صريحان ، حكمهما حكم لفظ الطلاق ، لورودهما في الكتاب العزيز بمعنى الفرقة ، فأشبها لفظ الطلاق ، قال سبحانه : 19 ( { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } ) وقال : 19 ( { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } ) وقال : 19 ( { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } ) وقال سبحانه : 19 ( { فتعالين أمتعكن وأسرحكن } ) ( والثاني ) وهو اختيار ابن حامد ، وأبي الخطاب في الهداية ، والشيخين ليسا بصريح ، لاستعمالهما في غير الطلاق كثيراً ، فأشبها سائر كناياته ، قال سبحانه : 19 ( { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } ) وقال تعالى : 19 ( { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } ) وأما قوله تعالى : 19 ( { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } ) فليس المراد به الطلاق قطعاً ، إذ الآية في الرجعية ، وهي إذا قاربت انقضاء عدتها فإما أن يمسكها برجعة ، وإما أن يترك حتى تنقضي عدتها فيسرح ، فالمراد بالتسريح في الآية الكريمة قريب من معناها اللغوي ، وهو الإرسال ، وهو أن تخلى ، وكذلك المفارقة في الآية الثانية ، المراد بها ترك مراجعتها ، كأنه إذاً يظهر حكم الفرقة ، لأنها قبل انقضاء العدة في حكم الزوجة ، وأما قوله : 19 ( { وإن يتفرقا } ) فليس فيه بيان لما تحصل به الفرقة ، وأما 19 ( { أسرحكن } ) يحتمل أرسلكن بالطلاق ، ثم المدار على عرف الاستعمال الشرعي ، وهو مفقود ، وعلى هذا الوجه هما كنايتان ظاهرتان ، حكمهما حكم الخلية والبرية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .
( تنبيه ) حكم الصريح أنه لا يحتاج إلى نية كما سيأتي إن شاء الله ، وأنه إن صرفه بأن قال : من وثاق . أو نحو ذلك فإن كان باللفظ سمع منه ، وإن كان بالنية فإنه يدين ، وفي الحكم إن قامت قرينة تكذبه كالغضب أو بسؤالها الطلاق لم يسمع ، وإلا فروايتان ، أنصهما القبول ، والله أعلم .
قال : ولو قال لها في الغضب : أنت حرة . أو لطمها فقال : هذا طلاقك . لزمها الطلاق .
ش : أما إذا قال لها : أنت حرة . فقد اتفق الأصحاب فيما علمت في عدها من كنايات الطلاق ، لأن الحرة هي التي لا رق عليها ، ولا شك أن النكاح رق .
2709 ولهذا في الحديث : ( اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ) أي أسراء ، والزوج ليس له على الزوجة إلا رق الزوجية ، فإذا أخبر بزوال الرق فهو الرق المعهود ، وهو رق الزوجية ، ثم من الأصحاب من يعدها في الكنايات الظاهرة ، وهم الأكثرون ومنهم من يعدها في المختلف فيه .
وظاهر كلام الخرقي أنه جعلها من الخفية ، لأنه قال : لزمها الطلاق . وظاهره طلقة واحدة ، ولم يجعلها كالخلية ونحوها .
وقيد الخرقي وقوع الطلاق بحال الغضب ، وهو مدل بشيئين ( أحدهما ) أن الكنايات إذا اقترن بها دلالة حال ، من غضب أو ذكر الطلاق ونحو ذلك ، قام ذلك مقام النية ، وطلقت على المشهور ، والمختار لكثير من الأصحاب من الروايتين ، إذ دلالة الحال كالنية ، بدليل أنها تغير حكم الأقوال والأفعال ، فإن من قال لرجل : يا عفيف ابن العفيف ؛ في حال تعظيمه كان مدحاً ، ولو قاله في حال الشتم والسب كان ذماً وقذفاً ( والرواية الثانية ) لا بد في الكنايات من النية ، لأن نفس اللفظ للطلاق وغيره ، ومميزه النية ، فلا بد من اعتبارها ، دفعاً للإيهام ، ومال أبو محمد رحمه الله أنه في الألفاظ التي يكثر استعمالها نحو : اخرجي ، واذهبي ، ونحو ذلك لا يقع بها طلاق ، إلا أن ينويه ( فعلى المذهب ) لو ادعى أنه لم يرد بها الطلاق دين ، وهل يقبل في الحكم ؟ على روايتين .
واعلم أن أبا البركات حكى الروايتين في القبول في الحكم وعدمه ، إذا ادعى عدم إرادة الطلاق وغيره يجعل الروايتين في الغضب ، هل يقوم مقام النية أم لا ؟ فربما ظن ظان أن بينهما تناف وليس كذلك ، فإن غايته أن الأصحاب ذكروا رواية لم يذكرها المجد ، وذكر يعني المجد رواية تؤخذ من كلامهم في غير هذا المحل ، وهو ما إذا ادعى أنه أراد بلفظه ما يخالف ظاهره ، ونحو ذلك .
( الشيء الثاني ) أنه إذا أتى بالكناية في غير حال الغضب لا يقع بها طلاق ، وهو كذلك ، لأن اللفظ بمجرده لا دلالة على الطلاق ، بل هو كالمشترك ، فلا بد من شيء يبين المراد منه ، ويستثنى من ذلك النية ، إذ هي تبين المراد ، وكأن الخرقي إنما تركه اكتفاء بذكر الغضب ، لأنه إذا اكتفي بالغضب لدلالته على النية ، فالنية أولى وأحرى ، وأما إذا لطمها وقال : هذا طلاقك . فقوة كلام الخرقي يقتضي وقوع الطلاق بمجرد ذلك من غير نية ، وهو قول ابن حامد ، لأن معناه أوقعت عليك طلاقاً هذا من أجله ، واختار أبو محمد أنه كناية في الطلاق ، يعتبر له ما يعتبر لها من النية ، أو دلالة حال ، لأن هذا اللفظ غير موضوع للطلاق ، ولا مستعمل فيه شرعاً ولا عرفاً ، فأشبه سائر الكنايات ، وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب في الخلاف ، ويحتمل كلام الخرقي هذا أيضاً ، ويكون اللطم قائماً مقام النية ، لأنه يدل على الغضب ، وعلى قياس ما تقدم لو أطعمها أو سقاها ونحو ذلك ، فعلى الأول يقع الطلاق بمجرده ، وعلى الثاني لا بد من النية ، وعلى القول بالوقوع من غير نية فلو فسره بمحتمل غيره قبل ، وعلى هذا فهذا قسم برأسه ليس بصريح وإلا خرج الخلاف إذا صرفه ، ولا كناية ، لأن الكناية تتوقف على النية ، فهو ظاهر في الطلاق ، يصرف عند الإطلاق إليه ، ويجوز صرفه إلى غيره ، والله أعلم .
قال : وقال أبو عبد الله : وإذا قال لها : أنت خلية أو أنت برية أو أنت بائن ، أو حبلك على غاربك ، أو الحقي بأهلك . فهو عندي ثلاث ، ولكني أكره أن أفتي به ، سواء دخل بها أو لم يدخل بها .
ش : وقوع الثلاث بهذه في الجملة هو المشهور عن أحمد ، واختيار كثير من الأصحاب ، لأنه المشهور عن الصحابة رضي الله عنهم .
2710 فعن أحمد أنه قال في الخلية والبرية والبتة قول علي وابن عمر رضي الله عنهم قول صحيح ثلاثاً .
2711 وقال أيضاً في البتة : عمر رضي الله عنه يجعلها واحدة ، وعلي وزيد رضي الله عنهما ثلاثاً .
2712 وروى النجاد بإسناده أن عمر رضي الله عنه جعل البتة واحدة ، ثم جعلها بعد ثلاث تطليقات .
2713 وروي أيضاً عن نافع أن رجلًا جاء إلى عاصم وابن الزبير فقال : إن ظئري هذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها ، فهل تجدان له رخصة ؟ فقال : لا ، ولكنا تركنا ابن عباس وأبا هريرة عند عائشة فسلهم ، ثم ارجع إلينا فأخبرنا ، فسألهم فقال أبو هريرة رضي الله عنه : لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هي ثلاث . وذكر عن عائشة متابعتهما ؛ ولأن معنى : أنت خلية . أنت متروكة خالية من النكاح ، وكذلك : برية . معناه البراءة من النكاح ، وكذلك بائن أي منفصلة من النكاح ، وكذلك : حبلك على غاربك . أي مرسلة غير مشدودة ، ولا ممسكة بعقد النكاح ، والغارب مقدم السنام ، والحقي بأهلك . كذلك ، إذ الرجعية لا تترك بيت زوجها ، وإذا كان هذا مقتضى هذه الألفاظ الثلاث ترتب الحكم على مقتضاها ، ولو نوى دونها لأن نيته تخالف مقتضاها ، فتلغو نيته ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى أنه يقع بها ما نواه ، اختاره أبو الخطاب في الهداية .
2714 لما روي أنه ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ، فأخبر النبي بذلك وقال : والله ما أردت إلا واحدة . فقال : ( والله ما أردت إلا واحدة ؟ ) فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة . فردها إليه رسول الله ، فطلقها الثانية في زمن عمر رضي الله عنه ، والثالثة في زمن عثمان رضي الله عنه ، وفي لفظ قال ( هو على ما أردت ) رواه أبو داود وصححه ، وابن ماجه والترمذي وقال : سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث فقال : فيه اضطراب .
2715 ولأن النبي قال لابنة الجون : ( الحقي بأهلك ) وهو لا يطلق ثلاثاً ، لأنه مكروه ، وعلى هذه الرواية إن لم ينو شيئاً وقعت بها واحدة ، ( وعنه ) ما يدل على أنه يقع بها واحدة بائنة ، إعمالًا لمقتضى اللفظ والأصل ، إذ مقتضاه البينونة ، والأصل عدم ما زاد على الواحدة ، وهذا الخلاف جارٍ في جميع الكنايات الظاهرة .
ثم اعلم أن عامة الأصحاب يحكون الخلاف على نحو ما قدمت ، وخالفهم أبو البركات ، فجعل محل الخلاف مع الإِطلاق ، هل تطلق ثلاثاً أو واحدة ؟ على روايتين أما إذا نوى شيئاً فيدين في ما نواه من غير تديين ، وكلام أحمد محتمل ، فإنه قال في غير رواية في هذه الصور ونحوها : أخشى أن يكون ثلاثاً ، انتهى ، ولا نزاع عندهم أن الخفية يقع بها ما نواه ، وقد اختلف الأصحاب في ما عدا الظاهرة والخفية ، والمختلف فيها ، وليس هذا موضع استقصاء ذلك ، إلا أنه لا نزاع عندهم فيما أعلمه أن الخلية والبرية والبائن من الكنايات الظاهرة ، وكذلك البتة والبتلة ، ولا نزاع أن نحو : اخرجي واذهبي ، وروحي ؛ من الكنايات الخفية ، واختلف في : الحقي بأهلك ، وحبلك على غاربك ، ولا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك ، ونحو ذلك هل هو ظاهر أو خفي ؟
وقول الخرقي : سواء دخل بها أو لم يدخل . احترز عن قول مالك رحمه الله ، فإنه قبل الدخول يجعلها واحدة ، وبعد ثلاثاً ، وإنما كره أحمد الفتيا بالثلاث في الكنايات الظاهرة لأنه لا نص فيها ، بحيث ترفع الشبهة ، وأيضاً فإن فيه الحكم بتحريم فرج مع الاحتمال ، والله أعلم .
قال : وإذا أتى بصريح الطلاق لزمه نواه أو لم ينوه .
ش : لأن اللفظ صريح فيه ، فلم يحتج به إلى نية كالبيع ونحوه ، وسواء قصد المزح أو الجلد .
2716 قال أبو هريرة : إن رسول الله قال : ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد ، النكاح والطلاق والرجعة ) رواه أبو داود وابن ماجه ، والترمذي وقال : حسن غريب . مع أن هذا اللفظ قد حكي اتفاقاً ، لكن على كل حال لا بد من قصد اللفظ ، ليخرج النائم والساهي ونحوهما .
ومفهوم كلام الخرقي أن الكنايات لا بد فيها من النية ، ولا نزاع في ذلك في الخفية ، أما الظاهرة فقد نص أحمد على اشتراط النية ، وعليه جمهور الأصحاب ، القاضي وأصحابه ، والشيخين وغيرهم ، ولم يشترط أبو بكر للظاهرة نية ، وقد وقع لأحمد ، إطلاقات ظاهرها ذلك ، لكنها محمولة على نصوصه الصريحة ، وزعم القاضي أن ظاهر كلام الخرقي أيضاً عدم الاشتراط ، أخذاً من إطلاقه الأول ، والله أعلم .
قال : ولو قيل له : ألك امرأة ؟ فقال : لا وأراد به الكذب لم يلزمه شيء .
ش : لأن قصارى هذا أن يكون كناية ، ولم يوجد شرطها وهو النية ، فلا يلزمه شيء ، ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يرد الكذب تطلق ، وذلك مع شرطه وهو النية ، هذا هو المشهور من الرواية ، والمختار للأصحاب ، لأنه لفظ يحتمل الطلاق ، لأنها إذا زال نكاحها فليست له بامرأة ، ونقل عنه أبو طالب إذا قيل له : ألك امرأة ؟ فقال : لا . ليس بشيء ، فأخذ أبو البركات من إطلاق هذا رواية أنه يلزمه طلاق وإن نوى ، لأنه خبر كذب ، وليس بإيقاع ، وحمل القاضي الرواية على أنه لم ينو الطلاق ، وعلى المشهور لو أقسم بالله على ذلك فقد توقف أحمد في رواية مهنا ، فخرج وجهان ، مبناهما على أن الإنشاءات هل تؤكد فيقع الطلاق ، أولًا تؤكد إلا الخبر ، فيتعين خبرية هذا ، فلا يقع الطلاق ، والله أعلم .
قال : ولو قال : قد طلقتها . وأراد به الكذب لزمه الطلاق .
ش : أي لو قيل له : ألك امرأة ؟ فقال : قد طلقتها . وأراد الكذب طلقت ، لأنه أتى بصريح الطلاق ، فلزمه كما لو قال ابتداء : طلقت زوجتي ، ونحو ذلك ، هذا هو المشهور ، وقال ابن أبي موسى : إنما تطلق في الحكم ، أما فيما بينه وبين الله تعالى فيدين ، كما لو قال : كنت طلقتها . والله أعلم .
قال : وإذا وهب زوجته لأهلها فإن قبلوها فواحدة ، يملك الرجعة إذا كانت مدخولًا بها ، وإن لم يقبلوها فلا شيء .
ش : هبة الزوجة لأهلها كناية في الطلاق في الجملة ، لأن هبتها تدل على رغبته عنها ، وذلك محتمل للطلاق ، فوقع به بشرطه كبقية الكنايات ، ثم الهبة إنما تلزم وتتم بالقبول ، ولذلك إن قبلوها ترتب الحكم ، وإن ردوها فلا شيء .
إذا تقرر هذا فالمشهور في المذهب أنها إن قبلوها فواحدة ، جعلا له كبقية الكنايات الخفية ، إذ الرغبة عنها تحصل بالواحدة ، وما زاد مشكوك فيه ، فلا يثبت بالشك ، وإن ردوها فلا شيء ، لأن الهبة لم تتم ( وعن أحمد ) رواية أخرى إن قبلوها فثلاث ، وإن ردوها فواحدة .
2717 لأنه قول زيد بن ثابت أو يقال : إذا قبلوها فهو كالحقي بأهلك ، وهو كناية ظاهرة ، في رواية ، فكذلك هنا ، وإن ردوها فواحدة ، بناء على أن الهبة تلزم في المعين بدون القبض ، وأنها كناية خفية وحيث أوقعنا طلقة فإن كانت مدخولًا بها فهي رجعية ، وإن لم تكن مدخولًا بها فهي بائن ، قال أبو محمد : وهذا كله مع الإِطلاق أو نية الواحدة ، أما لو نوى اثنتين أو ثلاثاً فهو على ما نوى ، كبقية الكنايات الخفية انتهى ، وشرط وقوع الطلاق أن ينوي الزوج الطلاق ، قاله القاضي وأبو الخطاب وغيرهما ، كبقية الكنايات ، قال القاضي : وينبغي أن تعتبر النية من الذي يقبل أيضاً ، وتبعه على ذلك ابن حمدان ، كما لو قال لزوجته اختاري ؛ وفيه شيء ، لأن : اختاري . حقيقة في توكيلها في الطلاق ، بخلاف هذا فإن حقيقة الهبة تحصل بالقبول ، ولهذا كثير من الأصحاب لا يشترطون ذلك .
( تنبيه ) : وحكم : وهبتك لنفسك ، حكم وهبتك لأهلك ، على ما تقدم ، قاله أبو لاخطاب ، والشيخان وغيرهم ، وزاد أبو محمد وتبعه ابن حمدان إذا وهبها لأجنبي ، وقد ينازع في ذلك ، فإن الأجنبي لا حكم له عليها ، بخلاف نفسها وأهلها ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لها : أمرك بيدك . فهو بيدها وإن تطاول ، ما لم يفسخ أو يطأها .
ش : للزوج أن يطلق امرأته بنفسه ، وله أن يوكل في ذلك ، كما يوكل في عتق عبده ونحوه ، وله أن يوكل المرأة كالأجنبي ، فإذا قال لها : أمرك بيدك . فتارة يقصد بذلك تنجيرز طلاقها ، فتطلق في الحال ، وماذا تطلق ؟ ينبني على ما تقدم في الكنايات الظاهرة ، وتارة يقصد بذلك تفويض الطلاق إليها ، فهذا نوع توكيل لها في الطلاق ، فتملك ذلك على التراخي .
2718 اعتماداً على أن هذا قول علي رضي الله عته ، وكما لو جعله في يد أجنبي ، هذا منصوص أحمد رحمه الله ، وعليه الأصحاب ، وخرج أبو الخطاب فيه قولًا أنه على المجلس كالاختيار كما سيأتي وقال أبو البركات : إن أحمد نص على المسألتين ، مفرقاً بينهما ، وإذاً لا يحسن التخريج ، والذي رأيته في التعليق التفريق بين ؛ أمرك بيدك . تملك به ثلاثاً ، واختاري . لا تملك به إلا واحدة ، نعم نص مفرقاً على أن : أمرك بيدك . للتراخي ، واختاري . يختص المجلس ، وعلى المذهب هو في يدها ما لم يفسخ الزوج ذلك أو يطأها ، لقيام ما يدل على بطلان التوكيل نصاً أو ظاهراً ، وإذا لم تعلم المرأة بالفسخ فينبغي أن يبقى التوكيل في يدها في رواية ، بناء على أن الوكيل لا ينعزل قبل علمه بالعزل .
قال : فإن قالت : قد اخترت نفسي . فهي واحدة يملك بها الرجعة .
ش : يعني إذا قال لها : أمرك بيدك . فقالت : اخترت نفسي . فهي واحدة رجعية ، لأن اختيارها لنفسها يحصل بواحدة ، والأصل عدم ما زاد على ذلك ، وهذا إذا لم تنو أكثر من واحدة ، فإن نوت أكثر من واحدة وقع ما نوت ، لأنها تملك الثلاث بالصريح ، على ما سيأتي ، فتملكها بالكناية كالزوج ، والله أعلم .
قال : وإن طلقت نفسها ثلاثاً ، وقال : لم أجعل إليها إلا واحدة ؛ لم يلتفت إلى قوله ، والقضاء ما قضت .
ش : كا نص عليه أحمد ، وقال : لا تنفعه نيته .
2719 وكذلك رواه البخاري في تأريخه عن عثمان ، ويروى أيضاً عن ابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهم .
2720 وعن حماد بن زيد ، أنه قال : قلت لأيوب : هل علمت أحداً قال في ( أمرك بيديك ) أنها ثلاث إلا الحسن ؟ قال : لا ؛ ثم قال : اللهم غفرا إلا ما حدثني قتادة ، عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ، قال : ( ثلاث ) قال أيوب : فلقيت كثيراً مولى ابن سمرة ، فسألته فلم يعرفه ، فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال : نسي . رواه أبو داود والترمذي ، والنسائي ، وقال : هذا حديث منكر . وعن البخاري أنه قال : إنما هو عن أبي هريرة موقوف ، ولأنه اسم جنس مضاف ، فيشمل الطلاق الثلاث ، وهذا غير قانع ، لأنه إنما يحسن مع الإِطلاق ، أما مع النية فالنية صالحة للتخصيص ، فإذاً العمدة ما تقدم ، وقول أحمد : لا تنفعه نيته . يؤيد ما يقوله الجماعة ، من أن الكناية الظاهرة يقع بها ثلاث وإن نوى واحدة ، وقد صرح أبو محمد هنا بأنه لا يدين انتهى ، ( وعن أحمد ) : رواية أخرى أنه يرجع إلى نيته ، كالرواية في الكنايات الظاهرة ، وقد سبقت ، ولا ريب أن المذهب عند الأصحاب الأول والله أعلم .
قال : وكذلك الحكم إذا جعله في يد غيرها .
ش : يعني يكون في يده ما لم يفسخ أو يطأ ، وله أن يطلق واحدة ، وله أن يطلق ثلاثاً ، ولو نوى الزوج أقل من ذلك ، على المذهب لما تقدم ، والله أعلم .
قال : ولو خيرها فاختارت فراقه من قوتها وإلا فلا خيار لها .
ش : المذهب المنصوص والمعمول به أن خيار المخيرة على الفور ، اتباعاً لقضاء الصحابة رضي الله عنهم .
2721 فعن سعيد بن المسيب أنه قال : 16 ( قضى عمر وعثمان رضي الله عنهما في الرجل يخير امرأته أن لها الخيار ما لم يفترقا ) ، رواه النجاد .
2722 وعن ابن عمر قال : ما دامت في مجلسها .
2723 وعن ابن مسعود وجابر نحوه ، ولم نعرف لهم مخالفاً في الصحابة ، ولأنه خيار تمليك ، فكان على الفور كخيار القبول ، وخرج أبو الخطاب فيه قولا أنه على التراخي ، من : أمرك بيدك . وقد تقدم أن أبا البركات حكى عن أحمد أنه نص على التفرقة ، فيبطل التخريج ( فعلى الأول ) هل يختص بالمجلس ، ويكون كمجلس القبول في البيع ، يبطل بالإِعراض عنه ، وهو اختيار القاضي والأكثرين ، أو يكون على الفور ، جواباً لكلامها ، وهو ظاهر كلام الخرقي ؟ على روايتين ، وهذا كله مع الإِطلاق ، أما لو خيرها مدة ، أو قال : اختاري متى شيئت . ونحو ذلك ، فإنها تملك ذلك حسب ما جعله لها .
2724 وقد قال النبي لعائشة رضي الله عنها لما خيرها ( إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ) والله أعلم .
قال : وليس لها أن تختار أكثر من واحدة إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك .
ش : إذا خيرها وأطلق فليس لها أن تختار أكثر من واحدة .
2725 قال أحمد هذا قول ابن عمر وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وعمر وعائشة رضي الله عنهم ، ولأن : اختاري . تفويض مطلق ، فيتناول أقل ما يقع عليه الأسم ، وما زاد عليه فهو مشكوك فيه ، فلا يثبت مع الشك ، وهذا بخلاف : أمرك بيدك . فإنه للعموم كما تقدم ، وإن قيد ذلك بواحدة أو أكثر اتبع ، ويكون في الواحدة تنصيص على مقتضى الإِطلاق ، وفي الثلاث والاثنتين من باب إطلاق المطلق ، وإرادة العام مجازاً ، والله أعلم .
قال : وإذا طلقها بلسانه ، واستثنى شيئاً بقلبه ، وقع الطلاق ولم ينفعه الاستثناء .
ش : إذا طلق زوجته بلسانه ، كأن قال مثلًا : أنت طالق ثلاثاً . واستثنى شيئاً بقلبه ، كأن نوى إلا واحدة ، وقع الطلاق ، ولم ينفعه الاستثناء ، لأن العدد نص ، والنية لا تقاومه ، فلا يرتفع بالضعيف ما يثبت بالنص القاطع ، واستعمال الثلاث بمعنى اثنتين استعمال للفظ في غير ما يصلح له .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا ينفعه الاستثناء لا ظاهراً ولا باطناً ، وهو اختيار الشيخين ، إذ اللفظ غير صالح لما أراد ، ومفهوم كلام أبي الخطاب أنه ينفعه باطناً ، لأنه قال : لم يقبل في الحكم ، ( وقول الخرقي ) : وإذا طلقها بلسانه . قد يحترز عما إذا طلق نسوة واستثنى واحدة منهن بقلبه ، ولهذا صورتان ، ( إحداهما ) : أن يقول : نسائي الأربع طوالق . ثم يستثنى بقلبه إلا واحدة ، فهذه كمسألة الكتاب ( الثانية ) : أن يقول : نسائي طوالق ويستثني بقلبه إلا واحدة ، فهذا ينفعه الاستثناء ، لأن ( نسائي ) عام قابلة للتخصيص ، والنية صالحة لذلك ، ( قوله ) : واستثنى شيئاً بقلبه . يحترز عما إذا استثنى بلسانه ، فإنه ينفعه ذلك ، لورود ذلك في الكتاب والسنة ، وكلام العرب ، وعن أبي بكر : لا يصح الاستثناء في عدد الطلاق بحال ، وليس بشيء وعلى الأول يصح استثناء الأقل بلا نزاع ، ولا يصح استثناء الكل بلا نزاع ، وفي النصف والأكثر ثلاثة أقوال ( ثالثها ) : يصح في النصف دون الأكثر ، وهو مقتضى قول الخرقي في الأقارير ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لها : أنت طالق في شهر كذا . لم تطلق حتى تغيب شمس اليوم الذي يلي الشهر المشترط .
ش : ملخصة أنه إذا جعل زمناً طرفاً لوقوع الطلاق ، فإن الطلاق يقع في أول ذلك الظرف ، لصلاحيته له ، كما لو قال : إذا دخلت الدار فأنت طالق . فإنها تطلق إذا دخلت أول جزء منها ، فإذا قال لزوجته : أنت طالق في شهر شعبان مثلًا ؛ فإنها تطلق إذا غربت شمس آخر يوم من رجب ، لأن الشهر المشترط للطلاق يلي ذلك فبغروب شمس آخر يوم من رجب ، دخل أول جزء من شعبان ، وهو أول الظرف فتطلق ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لها : إذا طلقتك فأنت طالق . فإذا طلقها لزمها اثنتان .
ش : إذا قال لزوجته المدخول بها : إذا طلقتك فأنت طالق ؛ فقد علق طلاقها على طلاقها ، فإذا طلقها طلقت طلقتين ، طلقة بالمباشرة ، وطلقة بوجود الشرط ، وقوله : فإذا طلقها . يشمل ما إذا باشرها بالطلاق ، كما لو قال لها بعد التعليق : أنت طالق . وما إذا علق طلاقها بعد التعليق على شرط ، فوجد الشرط ، كما إذا قال لها إذا طلقتك فأنت طالق . ثم قال لها : إن دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت الدار ، فإنهاتطلق طلقتين ، طلقة بدخول الدار ، وطلقة بالتعليق الأول ، وهذا بخلاف ما لو قال لها : إن دخلت الدار فأنت طالق . ثم قال لها : إذا طلقتك فأنت طالق . ثم دخلت الدار ، فإنها لا تطلق إلا طلقة واحدة بالتعليق الأول ، وقاعدة ذلك أن التعليق مع وجود الشرط بمنزلة التنجيز ، ففي الصورة الأولى التعليق ، ووجود الشرط وجدا بعد التعليق السابق ، فكان بمنزلة التنجيرز ، وفي الثانية لم يوجد بعد التعليق إلا الشرط ، وهو أحد جزئي التنجيز ، وليس بتنجيز ، والله أعلم .
قال : ولو كانت غير مدخول بها لزمته واحدة .
ش : علم من هذا أن الصورة السابقة فيما إذا كانت مدخولًا بها ، وهذه فيما إذا كانت غير مدخول بها ، فلا تطلق إلا واحدة بالطلاق الثاني ، إذ به تبين ، والبائن لا يلحقها طلاق ، فلا يمكن إعمال الشرط الأول ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لها : إن لم أطلقك فأنت طالق . ولم ينو وقتا ، ولم يطلقها حتى مات أو ماتت ، وقع الطلاق بها في آخر وقت الإمكان .
ش : ( إن ) المكسورة المخففة موضوعة للشرط ، لا تدل على زمان إلا من حيث أن الفعل المعلق بها من ضرورته الزمان ، فهي مطلقة في الزمان كله ، لا تدل على فور ولا تراخ ، ولا فرق بني الإِثبات والنفي ، فإذا قال : إن لم أطلقك فأنت طالق . ولم ينو وقتاً ولم يطلقها ، فإنه لا يحنث بالتأخير ، إذ الفعل ليس على الفور ، فكل وقت يمكن أن يفعل ما حلف عليه ، والوقت لم يفت ، فإذا مات أحدهما علمنا حنثه حيئذ ، لا نتفاء إيقاع الطلاق بها بعد موت أحدهما ، أما بعد موته فواضح ، إذ الطلاق من جهته وقد تعذر ، وأما بعد موتها فلا نتفاء قابليتها لوقوع الطلاق عليها ، فإذاً يتبين أن الطلاق وقع حيث لم يبق زمن يسع لأنت طالق ، هذا هو المذهب بلا ريب ( وعن أحمد ) رواية أخرى أنه متى عزم على الترك بالكلية حنث حال عزمه ، وهذا كله إن لم ينو وقتاً ، أما إن نوى وقتاً ، فإن اليمين تتعلق بذلك الوقت ، بحيث إذا فات طلقت ، إذ النية لها مدخل في تقييد المطلق ، كما لها مدخل في تخصيص العام ، وكذا لو قامت قرينة بفورية ، كما لو قال لزوجته مثلًا : ادخلي الدار اليوم . فقالت : لا أدخل . فقال : إن لم تدخلي فأنت طالق . فإن يمينه تتقيد باليوم ، لأن حاله تقتضي التقييد بذلك ، والله أعلم .
قال وإن قال : كلما لم أطلقك فأنت طالق . لزمها ثلاث إن كانت مدخولًا بها .
ش : كلما تقتضي التكرار ، قال الله تعالى : 19 ( { كلما دخلت أمة لعنت أختها } ) 19 ( { كل ما جاء أمة رسولها كذبوه } ) فيقتضي تكرار الطلاق بتكرار الصفة ، وهو عدم الطلاق ، فإذا مضى بعد يمينه زمن يمكن أن يطلقها فيه ولم يطلقها ، فقد وجد الشرط ، فيقع بها طلقة ، وتتبعها الثانية والثالثة ، إن كانت مدخولًا بها ، ولما كان زمن وقوع الطلاق متصلًا بتكلمه ، غير منفصل عنه ، قال : لزمها ثلاث ، وإن كانت غير مدخول بها طلقت واحدة لا غير ، لأنها تبين بها ، فلا يلحقها ما بعدها ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لها : أنت طالق إذا قدم فلان ، فقدم به ميتاً أو مكرها لم تطلق .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين ، لأنه لم يقدم ، وإنما قدم به ، إذ الميت لم يوجد منه فعل أصلًا ، والمكره وإن وجد منه فعل ، لكنه منسوب إلى من أكرهه ، ( والوراية الثانية ) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه : يحنث ، لأن الفعل يصح نسبته إليه ، ولذلك يقال : دخل الطعام البلد ، وقال سبحانه : 19 ( { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها } ) وأجيب بأنه وإن نسب الفعل إليه ، لكنه في الميت ونحوه على سبيل المجاز ، والأصل الحقيقة ، وفي المكره فالشارع ألغى ذلك ، حيث قال : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ) فالفعل من المكره مرفوع عنه ، فلا ينسب إليه ، وهذا كله مع عدم النية ، أما مع النية فيحمل الكلام عليها بلا إشكال .
ومفهوم كلام الخرقي أنه متى قدم مختاراً حنث الحالف ، وهو كذلك ، سواء علم باليمين أو جهلها ، قال الخلال : قولا واحداً ، وقال ابن حامد : إن كان القادم لا يمتنع باليمين ، كالسلطان والرجل الأجنبي فكذلك ، لأنه إذاً تعليق للطلاق على صفة ، وإن كان ممن يمتنع من القدوم باليمين ، كقرابة لها أو لأحدهما ، أو غلام لأحدهما ، فجهل اليمين ، أو نسيها ، خرج على ما إذا حلف على فعل نفسه ، وفعل ناسياً أو جاهلًا ، لأنه إذاً بمنزلة اليمين ، واليمين يعذر فيها بالجهل والنسيان ، قال أبو محمد : وينبغي على هذا القول أن تعتبر نية الحالف ، فإن قصد باليمين منع القادم من القدوم كان يميناً ، وإن قصد جعله صفة في الطلاق لم يكن يميناً ، فلا يفرق بين علم القادم وجهله ، وتعتبر قرائن أحواله أيضاً ، فإذا كان التعليق على قدوم غائب بعيد ، يعلم أنه لا يعلم اليمين ، أو على فعل صغير أو مجنون ، أو ممن لا يمتنع بها ، لا يكون يميناً ، وإن كان التعليق على من يعلم بيمينه ، ويمتنع من أجلها فهو يمين ، ومتى أشكلت الحال قال : فينبغي أن يقع نظراً للفظ والله أعلم .
قال : وإذا قال لمدخول بها : أنت طالق ، أنت طالق ؛ لزمتها تطليقتان ، إلا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى ، فيلزمها تطليقة .
ش : أما لزوم التطليقتين لهاإذا لم يرد بالثانية إفهاما ، فنطراً لمقتضى اللفظ ، إذ مقتضاه وقوع الطلاق ، وقصد الإفهام صارف له ولم يوجد ، فهو كالعام والمطلق ، يعمل بهما ما لم يوجد مخصص مقيد ، وأما لزوم واحدة لها فقط إذا نوى بالثانية إفهام الزوجة أن الطلاق قد وقع عليها ، فلا ريب فيه ، لأنه لم يقصد بالثانية إنشاء الطلاق وإنما ، أراد الإخبار والبيان عما تقدم ، ومثل ذلك لو قصد التأكيد ، نعم يشترط أن لا يفصل بينهما بما لم تجر العداة به ، إذ التوكيد تابع ، فشرطه الاتصال كسائر التوابع ، والله أعلم .
قال : وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى ، ولم يلزمها ما بعدها ، لأنه ابتداء كلام .
ش : يعني أن الحكم السابق فيما إذا كانت مدخولًا بها ، أما إن كانت غير مدخول بها فقال لها : أنت طالق ، أنت طالق . فإنها تبين بالأولى ، لانتفاء العدة عليها ، فيصادفها قوله الثاني : أنت طالق . بائناً والبائن لا يقع بها طلاق ، ولا فرق أن ينوي بقوله الثاني الطلاق ، أو يطلق لما تقدم ، وقول الخرقي : لأنه ابتداء كلام . يعني ( أنت طالق ) الثاني كلام مستقل ، لا تعلق له بالأول ، واحترز بالأول عن قوله لغير المدخول بها أن تطالق ثلاثاً ، ومن : أنت طالق وطالق وطالق ، كماسيأتي ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لغير المدخول بها : أنت طالق وطالق وطالق . لزمتها الثلاث ، لأنه نسق ، وهو مثل قوله : أنت طالق ثلاثا .
ش : الواو لمطلق الجمع ، أي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم ، من غير إشعار بترتيب ولا معية ، على المشهور المعروف من قولي العلماء والأدباء ، وأهل الأصول ، حتى أن الفارسي حكى اتفاق أهل العربية عليه ، ونص عليه سيبويه في بضعة عشر موضعاً من كتابه ، وعن ثعلب وابن درستويه ، وقليل من الأدباء أنها للترتيب ، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد واختاره جماعة من الشافعية ، وقيل : إنه اختيار أبي بكر من أصحابنا ، وحكاه ابن حمدان رواية عن الإِمام أحمد وعزي أيضاً إلى نص الشافعي ، وتوجيه الخلاف ، واستقصاؤه له محل آخر ، ( فعل الأول ) إذا قال لغير المدخول بها : أنت طالق وطالق وطالق . طلقت ثلاثاً ، لما تقدم من أن الواو للجمع ، والكلام كله في حكم جملة واحدة ، فهو كقوله : أنت طالق ثلاثاً ، ولهذا قال الخرقي : لأنه نسق . أي غير متفرق ، لا يقال : أنت طالق ثلاثاً . جملة واحدة بلا ريب ، بخلاف : أنت طالق وطالق وطالق لأنها ثلاث جمل ، وكل جملة منهن غير مقيدة بشيء ، بخلاف : أنت طالق ثلاثاً . فإنه مقيد بالثلاث والكلام إنما يتم بآخره ، لأنا نقول : الصحيح عند الجمهور سيبويه وغيره أن هذا من باب عطف المفردات ، لا من باب عطف الجمل ، فالعامل في الثاني هو العامل في الأول ، بواسطة حرف العطف ، ودعوى أن كل جملة غير مقيدة بشيء ، ممنوع مع العطف ، فالكلام إنما يتم معه أيضاً بآخره ، كما في : أنت طالق ثلاثاً . انتهى .
وعلى الثاني لا تطلق غير المدخول بها إلا طلقة ، كما لو قال لها : أنت طالق . ثم طالق . إذ الطلاق الثاني إذا كان مرتباً بعد الأول اقتضى سبق الأول له ، وإذاً تبين فلا يلحقها طلاق بعد ذلك ، وقول الخرقي : وهو مثل قوله : أنت طالق ثلاثاً . إشعار بأن هذه الصورة لا خلاف فيها ، وهو كذلك ، إذ : ثلاثاً . تمييز ، وتبيين للطلاق الذي لفظ به ، والله أعلم .
( تنبيه ) : إذا ادعى التأكيد فإن ادعى تأكيد الثانية بالثالثة سمع منه ، لاتفاق اللفظ ، وهذا من العطف المغير الذي قاله أبو البركات ، وإن ادعى تأكيد الأولى بالثانية ، لم يسمع منه ، نعم يدين فيما بينه وبين الله تعالى ، والله سبحانه أعلم .
قال : وإذا طلق ثلاثاً وهو ينوي واحدة فهي ثلاث .
ش : لأنه استعمل اللفظ في غير ما يصلح له لغة وعرفا ، فلغا استعماله ، وأعمل بمقتضى اللفظ ، لا يقال : لأنه تجوز في ذلك . لأن الثلاث نص قاطع في العدد ، فلا يقبل التجوز ، وإرادة الوحدة ، إذ صحة ذلك موقوفة على أن مثل ذلك تجوزت العرب فيه ، ولم تنقل الوحدة ، وقد دل كلام الخرقي رحمه الله على أنه إذا طلق ثلاثاً يقع عليه الثلاث ، وهذا مذهبنا ومذهب العامة .
2726 لأنه قد جاء في بعض روايات ابن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته وهي حائض ، وأمره النبي بالمراجعة ، أنه قال : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً ، كان يحل لي أن أرجعها ؟ قال : ( لا كانت تبين منك وتكون معصية ) رواه الدارقطنيى .
2727 وعن يونس بن يزيد قال : سألت ابن شهاب عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه قبل أن يدخل بها ، فقال أبوه : هي طالق ثلاثاً . كيف السنة في ذلك ؟ فقال : أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، مولى ابن عامر بن لؤي ، أن محمد بن إياس بن البكير الليثي وكان أبوه شهدا بدراً أخبره ، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : بانت منه ، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره . وإنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال مثل قول أبي هريرة ، وسأل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : مثل قولهما . رواه البرقاني في كتابه المخرج على الصحيح .
2728 وعن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس رضي الله عنه فجاءه رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثاً ؛ قال : فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال : ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ، ثم يقول : يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال : 19 ( { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } ) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجاً ، عصيت ربك فبانت منك امرأتك . وإن الله قال : 19 ( { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقونه لعدتهن } ) رواه أبو داود . وهذا كالإِجماع من الصحابة على صحة وقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة .
2729 وقد عورض هذا بما روى طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الطلاق على عهد رسول الله وأي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم . فأمضاه عليهم ، رواه أحمد ومسلم ، وقد قال بظاهر هذا طائفة قليلة من العلماء ، وهو اختيار أبي العباس ، وحمله بعض التابعين على ما قبل الدخول .
2730 وقد جاء ذلك مصرحاً به في رواية أبي داود ، وتأوله بعضهم على صورة تكرير اللفظ ، بأن يقول : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق . فيلزمه واحدة مع التوكيد ، وثلاث مع عدمه ، ففي زمن النبي وأبي بكر رضي الله عنه لصدقهم صدقوا في إرادت التوكيد ، ولما رأى عمر رضي الله عنه أحوال الناس قد تغيرت ألزمهم الثلاث ، وأحمد رحمه الله أشار إلى ضعف رواية طاووس هذه ، فقال : كان أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما قاله طاووس ، وكذلك أشار البيهقي ، قال : هذا الحديث مما اختلف فيه البخاري ومسلم ، وتركه البخاري ، قال : وأظنه إنما تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس رضي الله عنه قال ابن المنذر : وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه علم شيئاً عن رسول الله ثم يفتي بخلافه ، وقال الشافعي : يشبه والله أعلم أن يكون ابن عباس رضي الله عته قد علم أن كان شيئاً فنسخ ، وبالجملة تنقيح هذه المسألة ، والكلام على هذه التأويلات ، يحتاج إلى بسط أزيد من هذا ، ولا يليق بمختصرنا ، والله أعلم .
قال : وإذا طلق واحدة وهو ينوي ثلاثاً فهي واحدة .
ش : إذا طلق واحدة فله حالتان ( إحداهما ) : أن يقول : أنت طالق . فهذا إن أطلق وقعت واحدة بلا ريب ، وإن نوى ثلاثاً فيه روايتان ( إحداهما ) : وهي اختيار القاضي ، وقال إن عليها الأصحاب ، واختيار أصحابه أيضاً الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي لا تطلق إلا واحدة ، لأن لفظه لا يتضمن عدداً ، وإنما هو إخبار في الحقيقة عن صفة هي عليها ، فهو كقوله : قائمة وقاعدة . فإذا نوى به الثلاث فقد نوى ما لا يتضمنه اللفظ ، ولا يقتضيه ، فيلغى ( والرواية الثانية ) : تطلق ثلاثاً ، ولعلها أظهر ، لأنه قوله : أنت طالق . تقديره الطلاق أو طلاقاً ، ولو صرح بذلك ونوى الثلاث طلقت ثلاثاً ، فكذلك إذا لم يصرح به ، إذا لمقدر كالملفوظ به ، ثم لو لم يقدر بشيء فالصفة التي وصفها به ، وهي : أنت طالق . تتضمن المصدر وزيادة ، ولا ريب أن المصدر يصح تفسيره بالقليل والكثير ، فكذلك : أنت طالق . ولهذا لو صرح بالتفسير فقال : أنت طالق ثلاثاً . طلقت ثلاثاً بلا ريب ، فعلى هذه الرواية إذا صرح بالواحدة فقال : أنت طالق واحدة وهذه هي الحالة الثانية ونوى ثلاثاً ، ففيه وجهان ( أحدهما ) : وهو الذي قطع به أبو محمد في الكافي والمغني ، ومتقضى كلام الخرقي لا تطلق إلا واحدة ، لأن الواحدة صريح في الوحدة ، فإذا نوى بها ثلاثاً فقد نوى ما لا يحتمله اللفظ ، ثم إن ينيته خالفت صريح لفظه ، ولا شك أن النية أضعف من اللفظ ، فالقوي يقدم على الضعيف ، ثم لو قدر تعراض اللفظ والنية لبقي : أنت طالق مجرداً . وإنه لا يقع به إلا واحدة ( والوجه الثاني ) : تطلق ثلاثاً ، وتكون نيته دالة على محذوف ، تقديره : أنت طالق واحدة معها اثنتان ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
باب الطلاق بالحساب

قال : وإذا قال لها : نصفك طالق ، أو يدك أو عضو من أعضائك طالق ، أو قال لها : أنت طالق نصف تطليقة ، أو ربع تطليقة ؛ وقعت بها واحدة .
ش : أما كونها تطلق طلقة إذا طلق منها جزءاً مشاعاً كنصفها وثلثها ونحو ذلك ، أو معيناً كيدها وعينها ونحو ذلك ، فلأنها جملة لاتتبعض في الحل والحرمة ، وجد فيها ما يقتضي التحريم فغلب ، كما لو اشترك مسلم ومجوسي في قتل الصيد ، ولأنه أشار بالطلاق إلى ما هو من أصل الخلقة ، لا يزال عنها في حال السلاملاة ، فكانت الإِشارة إليه كالإِشارة إلى الجملة ، دليله لو أشار إلى الوجه أو الرأس ، وخرج السن ، لأنه ليس من أصل الخلقة ، وإنما يحدث بعد كمالها ، والشعر والظفر لزوالهما في حال السلامة ، يحقق ذلك أن الأصل في كلام المكلف الإِعمال لا الإِلغاء ، وإطلاق البعض على الكل مجاز مستعمل سائغ ، قال سبحانه وتعالى : 19 ( { ذلك بما كسبت أيديكم } ) وقال : 19 ( { تبت يد أبي لهب } ) بما كسبتم وتبت جملته .
2731 وقال النبي : ( لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ) عبر بالخف عن الإِبل ، والحافر عن الخيل ، وهو كثير ، وإذاً فهذا كذلك تصحيحاً لكلام المكلف .
( تنبيه ) : إذا أضاف الطلاق إلى عضو من أعضائها فهل يقع عليها جملة ، تسمية للكل باسم البعض ، وهو ظاهر كلام أحمد ، قاله القاضي ، أو على العضو نظراً لحقيقة اللفظ ، ثم يسري تغليباً للتحريم ؟ فيه وجهان ، وينبني عليهما إذا قال : إن دخلت الدار فيدك طالق ؛ فدخلت وقد قطعت يدها ، أو قال : يدك طالق . ولا يد لها ، فعلى الأول تطلق ، وعلى الثاني لا ، انتهى ، أو ربع طلقة ، أو ثمن طلقة ، ونحو ذلك ، وهو قول جمهور أهل العلم ، فلما تقدم من إطلاق البعض على الكل ، تصحيحاً لكلام المكف ، والله أعلم .
قال : ولو قال لها : شعرك أو ظفرك طالق ، لم يلزمها الطلاق ، لأن الشعر والظفر يزولان ، ويخرج غيرهما ، وليس هما كالأعضاء الثابتة
ش : نص أحمد رحمه الله على ذلك مع السن ، وعلل بأن ذلك يبان ، يعني مع السلامة فأشبه الريق والحمل ، والدمع والعرق ، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بأنها تطلق بذلك ، لأنه جزء من الجملة ، أشبه يدها .
( تنبيه ) : توقف أحمد رحمه الله في رواية مهنا والفضل في الروح ، هل يكون مظاهراً بها أم لا ؟ والذي أورده أبو الخطاب وأبو البركات مذهباً الطلاق ، وقال أبو بكر : لا تطلق . ونقله عن أحمد ، وجزم أبو البركات تبعاً لأبي الخطاب في الدم بالطلاق ، وابن البنا في الخصال بعدمه ، والله أعلم .
قال : وإذا لم يدر أطلق أم فلا يزول يقين النكاح بشك الطلاق .
ش : يعني لم تطلق ، وقد علله الخرقي بأن النكاح متيقن ، والطلاق مشكوك فيه ، واليقين لا يزول بالشك ، وهذه قاعدة مستمرة ، تقدم ذكرها في الطهارة ، والله أعلم .
قال : وإذا طلق فلم يدر أواحدة أو ثلاثاً ، اعتزلها وعليه نفقتها ما دامت في العدة ، فإن راجعها في العدة لزمته نفقتها ، ولم يطأها حتى يتيقن كم الطلاق ، لأنه متيقن للتحريم ، شاك في التحليل .
ش : المسألة الأولى إذا شك في أصل الطلاق ، وهذه إذا علم أنه طلق وشك في قدر ما طلق ، فالمنصوص أيضاً وعليه الأصحاب أنه يبني على اليقين لما تقدم ، وقال الخرقي : يعتزلها . وهذا أصل مبني على قاعدته ، من أن الرجعة محرمة ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى قال : وعليه نفقتها . لأن الأصل بقاؤها . اشتناداً لبقاء النكاح ، قال : فإن راجعها في العدة لزمته نفقتها . لما تقدم ، إذ الأصل عدم الثلاث ، قال : ولم يطأ حتى يتيقن كم الطلاق ، لأنه متيقن للتحريم شاك في التحليل ؛ وهذا الأصل والتعليل كلاهما منازع فيه ، فالتعليل بناء عنده على أن الرجعة محرمة ، وهو إحدى الروايتين ، والمشهور وعليه الأصحاب خلافه ، لما سيأتي إن شاء الله ، وإذا انتفى هذا التعليل انتفى الأصل ، ثم لو سلم هذا التعليل ، وأن الرجعة محرمة لم يبح ما قاله ، لأن الذي ينفيه تحريم تزيله الرجعة ، فيزول بزوالها ، ولهذا عامة الأصحاب لم يلتفت لهذا ، وقالوا بالإِباحة ، ولضعف هذا القول أنه لم يلتفت له القاضي في تعليقه ، وحمل كلام الخرقي على الاستحباب ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لزوجاته : إحداكن طالق ، ولم ينو واحدة بعينها ، أقرع بينهن ، فأخرجت القرعة المطلقة منهن .
ش : إذا قال لزوجهاته : إحداكن طالق . ونوى واحدة معينة ، قبل منه تعيينها وطلقت ، لأنه عينها بنيته ، أشبه مالو عينها بلفظه ، وإن لم ينو ففيه روايتان ( أشهرهما ) عن أحمد وعليها عامة الأصحاب ، حتى أن القاضي في تعليقه وأبا محمد وجماعة لا يذكرون خلافاً أنه يقرع بينهما ، فمن خرجت عليها القرعة فهي المطلقة ، لأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية ، فتدخله القرعة ، دليله العتق ، ودليل الأصل أن النبي أقرع بين العبيد الستة ، ولأن الحق لواحد غير معين ، فوجب تعيينه بالقرعة ، كالحرية في العبيد ، إذا أعتقهم وضاق ثلثه عن جميعهم ، وكالبداءة بإحدى نسائه في القسم أو السفر بها ، قال أحمد : القرعة سنة رسول الله ، وجاء بها القرآن ( والرواية الثانية ) : يرجع إلى تعيينه ، فمن عينها فهي المطلقة ، لأنه يملك الإِيقاع ابتداء والتعيين ، وقد أوقع ولم يعين ، فيملك ذلك استيفاء لما ملكه ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن طلق واحدة من نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة المطلقة منهن .
ش : منصوص أحمد رحمه الله في رواية الميموني وأبي الحرث أنه لا فرق بين هذه الصورة والتي قبلها ، وعلى هذا عامة الأصحاب ، الخرقي ، والقاضي ، وأصحابه وغيرهم ، وسئل أحمد رحمه الله عن ذلك في رواية إسماعيل بن سعيد فقال : أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة ؛ فأخذت في ذلك والله أعلم أبو البركات رواية بالمنع ، وهو اختيار أبي محمد ، فلا مدخل للقرعة عنده هنا ، ويحرمان عليه جميعا ، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية ، أو ميتة بمذكاة ، وفرق بين هذه والتي قبلها بأن الحق ثم لم يثبت لواحدة بعينها ، فدخلت القرعة لتبيين التعيين ، وهنا الطلاق واقع في معينة لا محالة ، والقرعة لا ترفعه عنها ، فلا توقعه على غيرها انتهى .
والظاهر ما يقول الجماعة ، وإن كان أصل دخول القرعة في هذا ليس بالواضح ، لأن هذا الفرق إنما يتم لأبي محمد رحمه الله لو قيل بأن الطلاق يقع في غير المعينة من حين القرعة ، وليس كذلك ، بل الطلاق على ما صرح به القاضي ، وذكر عن الإِمام أحمد ما يدل عليه في رواية أبي طالب يقع من حين الإِيقاع ، وإذا وقع الطلاق من حين الإِيقاع ، فلا بد له من محل يتعلق به ، ولايتعلق إلا بمعين ، فلا فرق بين الصورتين ، وقد دخلت القرعة في الصورة الأولى فتدخل في الثانية ، وأبو محمد يوافق الجماعة على هذا الأصل ، فإنه يجعل العدة من حين الإِيقاع ، لا من حين القرعة انتهى .
فعلى قول أبي محمد يحرم الجميع عليه ، وتجب عليه نفقتهن ، لأنهن محبوسات عليه بحكم النكاح ، وكذلك في قول الجميع قبل القرعة ، ولم أرهم فرقوا بين الطلاق الرجعي والبائن ، مع أن الرجعي لا يحرم على المذهب ، فقد يقال : لأنه إذا وطئ فقد يطأ من أصابها الطلاق ، فتحصل رجعتها على المذهب ، وإذاً لا مطلقة منهن ، فإذا أقرع بعد ذلك وخررجت القرعة بعد ذلك على واحدة ، فيحكم بطلاقها وهي زوجة ، فلهذا المحذور حرم الوطء مطلقاً ، نعم لو أراد وطء الجميع فلا ينبغي أن يمنع من ذلك ، لأن بذلك تحصل رجعة من طلقها جزماً ، فأشبه ما لو قال : من وقع عليها طلاقي فقد راجعتها ، وعلى قول الأصحاب إذا أقرعنا مع النسيان فخرجت القرعة على واحدة ، فقد حكم بطلاقها ظاهراً ، فإذا قال بعد ذلك : ذكرت المنسية وأنها غير التي خرجت عليها القرعة ، حكمة بطلاق التي ذكرها بإقراره بلا ريب ، وهل ترجع إليه التي خرجت عليها القرعة ؟ لا يخلو إما أن تكون القرعة بحكم حاكم أم لا ، فإن كانت بحكم حاكم ترجع إليه ، حذاراً من إبطال حكم الحاكم بقوله ، وكذلك إن لم تكن القرعة بحكم حاكم وتزوجت ، نص أحمد على هاتين الصورتين ، لتعلق حق الغير بها ، وفيما عدا هاتين الصورتين قولان وبعضهم يحكيهما روايتنين ( إحداهما ) : ترجع إليه ، وهو اختيار الشيخين وغيرهما ، إذ القرعة ليست بطلاق صريح ولا كناية فوجودها كعدمها ( والثانية ) : وهي قول أبي بكر وابن حامد لا ترجع إليه ، ويحكم عليه بطلاقهما ، الثانية بإقراره ، والأولى بالقرعة ، احتياطاً للفروج ، ودفعاً للتهمة ، والله أعلم .
قال : فإن مات قبل ذلك أقرع الورثة بينهن ، وكان الميراث للبواقي منهن .
ش : يعني إذا مات الزوج قبل القرعة ، أقرع الورثة بين النسوة ، فمن خرجت عليها القرعة فلا ميراث لها ، والميراث للبواقي ، نص أحمد رحمه الله على ذلك في رواية الجماعة .
2732 وهو مروي عن علي رضي الله عنه ، وذلك لأنهن قد تساوين ، فلا سبيل إلى التعيين ، فوجب المصير إلى القرعة ، كمن أعتق عبيداً في مرضه ، لا مال له سواهم ، وأبو محمد رحمه الله هنا يوافق الجماعة في القرعة ، وإن لم يقل بدخولها في المنسية ، واعلم أن هذا فيما إذا كان الطلاق بائناً ، أما إن كان رجعياً فإن الجميع يرثنه ، وهذا واضح ، والله أعلم .
قال : وإذا طلق زوجته أقل من ثلاث فقضت العدة ، وتزوجت غيره ، وأصابها ، ثم طلقها أو مات عنها ، وقضت العدة ، ثم تزوجها الأول فهي عنده على ما بقي من الثلاث .
ش : هذه المسألة الملقبة بالهدم ، وهو أن نكاح الثاني هل يهدم طلاق الأول ، وملخص الكلام في المسألة أن الرجل إذا طلق امرأته ثم رجعت إليه فإن كان قد طلقها ثلاثاً ثم رجعت إليه بشرطه ، فإنها ترجع إليه بطلاق ثلاث بالإجماع ، وإن كان قد طلقها دون الثلاث ، ثم رجعت إليه قبل نكاح زوج آخر ، رجعت على ما بقي من طلاقها بلا خلاف أيضاً ، وإن رجعت بعد نكاح زوج آخر ، والحال هذه ، فهذه صورة الخرقي ، وفيها روايتان ، أشهرهما عن أحمد ، وهي اختيار الأصحاب أنها تعود على ما بقي من طلاقها ، ولا هدم ، نظراً إلى إطلاق قوله سبحانه : 19 ( { الطلاق مرتان ، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } ) إلى قوله سبحانه : 19 ( { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } ) وظاهر إطلاق الآية الكريمة أن من طلقها زوجها طلقتين ، ثم طلقها الثالثة ، أنها قد حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، وهو يشمل ما إذا رجعت إليه قبل تزويج زوج آخر أو بعده ، وأيضاً فهذا قول جمهور الصحابة رضي الله عنهم .
2733 قال أحمد هذا قول عمر ، وعلي ، وأبي ، ومعاذ ، وعمران بن حصين رضي الله عنهم .
2734 ورواه ابن المنذر أيضاً عن زيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمر ، ومن جهة القياس أن الزوج الثاني لا يحتاج إليه في إباحتها للأول ، فوجب أن لا يؤثر في عدد الطلاق ، أشبه وطء السيد أو الزوج الثالث أو الرابع ( والرواية الثانية ) تعود إليه بطلاق ثلاث ، فنكاح الثاني هدم الطلاق الأول .
2735 وهذا قول ابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهما ، قال أحمد : روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم : نكاح جديد وطلاق جديد ، لأن نكاح الثاني إما أن يكون تأثيره في رفع التحريم والعدد ، أو في رفع التحريم فقط ، لا جائز أن يؤثر في رفع التحريم فقط ، لأنه يلزم أن يرفع الثالثة ، إذ التحريم تعلق بها ، فلزم أن يكون تأثيره في رفعهما جميعاً ، فإذا طلقها واحدة أو اثنتين فالعدد موجود فيرفعه ، وأجيب بأنه يهدم التحريم المتعلق بالثلاث ، ولا تحريم فيما دون الثلاث ، وعن قول ابن عمر ، وابن عباس ، بأن أقوال الصحابة على قاعدتنا إذا اختلفت كانت كدليلين متعارضين ، وإذاً يصار إلى الترجيح ، ولا شك أن قول الأولين إرجح ، والقاضي حمل قول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ، على ما إذا كان بعد طلاق ثلاث ، وجعل المسألة اتفاقية من الصحابة ، والله أعلم .
قال : وإن كان المطلق عبداً فطلق اثنتين لم تحل له زوجته حتى تنكح زوجاً غيره ، سواء كانت الزوجة حرة أو مملوكة ، لأن الطلاق بالرجال ، والعدة بالنساء .
ش : لما ذكر أن الزوج إذا طلق امرأته أقل من ثلاث أنها تعود إليه على ما بقي من طلاقها ، فإطلاق هذا شامل للحر والعبد ، فأراد أن يخرج العبد ويقول : إن نهاية ما يملكه طلقتان ، وإن كان تحته حرة ، وأن ملك الثلاث مختص بالحر ، وإن كان تحته أمة ، فالطلاق معتبر بالرجال ، هذا أنص الروايتين وأشهرهما عن الإمام ، وعليه الأصحاب ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { الطلاق مرتان } ) الآية إلى : 19 ( { فإن طلقها } ) فجعل للزوج أن يطلق ثلاثاً ، والمراد به الحر ، بدليل : 19 ( { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } ) الآية ، والأخذ إنما يصح من الحر ، لا يقال : الآية إنما وردت في الحرة ، بدليل : 19 ( { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ) قيل : الأمة يصح الإفتداء منها بإذن سيدها ، وفي هذا الإستدلال نظر ، ( أما أولًا ) فلأن الله سبحانه قال للحرة الرشيدة ، دون الأمة ، وإذا كان للحرة فلا نزاع أن الحر الذي تحته حرة يملك ثلاثاً ، ( وأما ثانياً ) فلو سلم أن الأمة داخلة في هذا فلا نسلم أن المراد من قوله : 19 ( { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن } ) ، لأن العبد يصح خلعه ، بل وقبضه لعوضه على المنصوص ، ولو قيل : إنه لا يصح قبضه ، فأخذ السيد كان بسببه فنسب إليه ، ثم لو سلم هذا فمثل هذا لا يقتضي تخصيص أول الآية الكريمة ، غايته أنه أفرد بعض من دخل في الآية بحكم .
2736 واستدلوا أيضاً على ما تقدم بما روى الدارقطني بإسناده عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي قال : ( طلاق العبد اثنتان وقرء الأمة حيضتان ) .
2737 وقد عورض هذا بأن الحديث رواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي قال : ( طلاق الأمة اثنتان ، وعدتها حيضتان ) .
2738 وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : ( طلاق الأمة اثنتان ، وعدتها حيضتان ) رواه ابن ماجه والدارقطني ، وهذا دليل للرواية الثانية ، وأن الطلاق معتبر بالنساء ، فيملك زوج الحرة ثلاثاً ، وزوج الأمة اثنتين ، والأحاديث في الباب ضعيفة ، والذي يظهر من الآية الكريمة أن كل زوج يملك الثلاث مطلقاً ، والله سبحانه أعلم .
قال : وإذا قال لزوجته : أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين ؛ طلقت ثلاثاً .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية مهنا ، وعليه الجمهور ، نظراً إلى أن نصف الطلقتين طلقة ، وقد أوقعه ثلاثاً ، فيقع ثلاث ، كما لو قال : أنت طالق ثلاث طلقات ، وقال أبو عبد الله بن حامد : تطلق طلقتين ، نظراً إلى أن الإضافة بمعنى ( من ) أي من طلقتين ، وذلك طلقة ونصف ، ثم تكمل فتصير طلقتين ، والله سبحانه أعلم .
باب الرجعة

ش : الرجعة بفتح الراء وكسرها ، مصدر رجع يرجع رجعة ورجعة ، والأصل فيها قول الله تعالى : 19 ( { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ) إلى قوله : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) والمراد به الرجعة عند العلماء ، وأهل التفسير ، وقال سبحانه : 19 ( { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف ، أو فارقوهن بمعروف } ) قيل : أمسكوهن برجعة .
2739 وقد ثبت أن النبي أمر ابن عمر أن يراجع امرأته لما طلقها وهي حائض .
2740 ولما طلق حفصة نزل عليه جبريل عليه السلام بالأمر بمراجعتها ، مع أن هذا إجماع والحمد لله .
قال : والزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة ، وتحرمها الثلاث من الحر ، والاثنتان من العبد .
ش : أما كون الزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة ، فإجماع من أهل العلم ، لقوله سبحانه : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ، فمالكم عليهن من عدة تعتدونها } ) وإذا لم تكن عليها عدة فهي بائن بمجرد الطلاق ، وتصير كالمدخول بها بعد انقضاء عدتها ، وأما كون الثلاث أي بكلمة واحدة من الحر تحرمها فلما تقدم ، وإنما خص غير المدخول بها بالتحريم بالثلاث ، لشهرة الخلاف فيها ، بخلاف ما بعد الدخول ، فإن الثلاث تحرمها في صورة بالإجماع بلا ريب ، وهو ما إذا فرقها ، للآية الكريمة ، وكذا إذا جمعها على قول العامة كما تقدم ، وبالجملة متى حكم بوقوع الثلاث على الزوجة حرمت بذلك بلا ريب ، ويرتفع التحريم بأن تنكح زوجاً آخر بشروطه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كلام الخرقي ما يشير إلى ذلك ، وفرق الخرقي رحمه الله بين الحر والعبد ، بناء على ما تقدم له قبل ، من أن الحر يملك ثلاثاً ، والعبد اثنتين ، والله أعلم .
قال : وإذا طلق الحر زوجته بعد الدخول بها أقل من ثلاث ، فله عليها الرجعة ما دامت في العدة .
ش : أجمع أهل العلم على هذا بشرط أن لا يكون الطلاق بائناً ، بأن يكون بعوض أو يقول لها : أنت طالق طلقة بائناً ؛ ونصححه على رواية أو يخالعها بغير عوض ، ونقول بصحته ، وأنه طلاق ، وأجمعوا أيضاً على أنه لا رجعة له إذا انقضت العدة ، وسند الإجماعين قول الله تعالى : 19 ( { المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ) إلى : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) أي في مدة القروء فالآية الكريمة دالة بمنطوقها على منطوق كلام الشيخ ، وبمفهومها على مفهومه .
وقد دل كلام الخرقي رحمه الله على أنه لا يعتبر رضى المرأة في الرجعة ، ولا ريب في ذلك ، للآية الكريمة ، ولقوله سبحانه : 19 ( { فأمسكوهن بمعروف } ) فخاطب الأزواج بذلك ، فإن قيل : قوله سبحانه : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) يقتضي بظاهره أن لغيرهن حقاً ، قيل : الأحقية والحقية كلاهما بالنسبة إلى الزوج ، فإذا أراد إصلاحاً كما نطقت به الآية الكريمة فهو أحق ، وإن لم يرد إصلاحاً فله حق ، فتصح منه الرجعة مع النهي عن ذلك .
قال : وللعبد بعد الواحدة ما للحر قبل الثلاث .
ش : قد تقدم أن العبد لا يملك إلا اثنتين ، فهو ليس له الرجعة إلا بعد الواحدة ، أما بعد الاثنتين فقد استوفى عدد طلاقه ، وبانت منه زوجته .
قال : ولو كانت حاملًا باثنين فوضعت واحداً كان له مراجعتها قبل أن تضع الثاني .
ش : لقوله تعالى : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) فجعل سبحانه الأجل وضع الحمل ، والحمل يتناول الولدين وأكثر ، وإذا كان الأجل وهو العدة باقياً فله الرجعة ، لبقاء العدة ، وبطريق الأولى لو وضعت بعض الولد ، كان له الإرتجاع قبل وضع بقيته .
قال : والمراجعة أن يقول لرجلين من المسلمين : اشهدا أني قد راجعت امرأتي . بلا ولي يحضره ، ولا صداق يزيده ، وقد روي عن أحمد رواية أخرى تدل على أن الرجعة تجوز بلا شهادة .
ش : الرواية الأولى عزيت إلى اختيار الخرقي ، وأبي إسحاق ابن شاقلًا في تعاليقه ، ونص عليها أحمد في رواية مهنا ، لقول الله سبحانه : 19 ( { فأمسكوهن بمعروف ، أو فارقوهن بمعروف ، وأشهدوا ذوي عدل منكم } ) أمر وظاهر الأمر الوجوب ، ولأنه استباحة بضع مقصود ، فوجبت الشهادة فيه كالنكاح ( والثانية ) نص عليها في رواية ابن منصور ، واختارها أبو بكر ، والقاضي وأصحابه ، الشريف وأبو الخطاب ، وابن عقيل والشيرازي وغيرهم ، لإطلاق : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) وإذاً يحمل الأمر في الآية الكريمة على الاستحباب ، جمعا بينهما ، وأيضاً فالله سبحانه قال : 19 ( { وأشهدوا } ) وليس فيه ما يقتضي المقارنة للرجعة ، فلو أشهد بعد الرجعة وفّى مقتضى الآية ، والإشهاد بعد الرجعة مستحب بالإجماع ، فكذلك عند الرجعة ، حذاراً من الجمع بين الحقيقة والمجاز في اللفظ الواحد ، ولأنها لا يشترط لها الولي ، فلم تشترط لها الشهادة كالبيع ، وما قيل في قياس الأولى أنها استباحة بضع فغير مسلم ، إذ الرجعية مباحة على الصحيحة كما سيأتي .
إذا تقرر هذا فجعل أبو البركات هاتين الروايتين على قولنا بأن الرجعة لا تحصل إلا بالقول ، وهو واضح ، أما إن قلنا : إنها تحصل بالوطء فكلامه يقتضي أنه لا يشترط الإشهاد رواية واحدة ، وعامة الأصحاب يطلقون الخلاف ، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق ، قال : لما أورد عليه أن الوطء لا يكون رجعة : لأن الله سبحانه أمر بالشهادة ، والشهادة لا تتأتى على الوطء ، فأجاب : ليس في الآية ما يقتضي المقارنة ، فيطأ ثم يشهد ، فأورد عليه أن هذا إشهاد على الإقرار بالرجعة ، وليس بإشهاد على الرجعة ، فأجاب : الله سبحانه أمر بالإشهاد ، وأطلق ، ( ومقتضى ) كلام الخرقي رحمه الله أن الرجعة محصورة في القول ، لقوله : والمراجعة أن يقول . فلا تحصل بالوطء ولا بغيره ، ( وهذا إحدى الروايات ) عن أحمد ، لظاهر قوله تعالى : 19 ( { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ) والظاهر من الإشهاد إنما هو على القول ، وقد تقدم جواب القاضي عن هذا ، وأيضاً فالرجعة تراد لإصلاح الثلم الداخل في النكاح ، ونفس النكاح لا يقع بالفعل ، كذلك إزالة ما دخله من الثلم ( والرواية الثانية ) أن الرجعة تحصل بالوطء وإن لم ينو ، اختارها ابن حامد ، والقاضي وأصحابه ، لإطلاق قوله تعالى : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن ف ذلك } ) والرد حقيقة في الفعل ، بدليل : رددت الوديعة . وأيضاً : 9 ( { فأمسكوهن بمعروف ، أو فارقوهن بمعروف } ) وحقيقة الإمساك في الفعل أيضاً ، ولأنها مدة معلومة ، خير بين القول الذي يبطلها ، وبين تركها حتى تمضي المدة ، فقام الوطء فيها مقام القول ، كالبيع بشرط الخيار ، والمعنى فيهما أن كلا منهما وطؤه دليل على رغبته في الموطوءة ، واختيار رجوعها إليه ( والرواية الثالثة ) وهي اختيار أبي العباس : إن نوى الرجعة بالوطء حصلت ، للعلم برغبته فيها ، وإلا لم تحصل .
وعلى القول بحصول الرجعة بالوطء لا تحصل بالقبلة ولا باللمس ، نص عليه أحمد في رواية ابن القاسم ، وعليه الأصحاب ، وإن كانا لشهوة ، وخرج القاضي وغيره رواية بحصول الرجعة بذلك ، بناء على ثبوت تحريم المصاهرة بهما ، وخرجها أبو البركات من نصه في رواية ابن منصور على أن الخلوة تحصل بها الرجعة ، قال : فاللمس ونظر الفرج أولى ، وقد حكى أبو الخطاب عن الأصحاب أنهم قالوا : إن الرجعة تحصل بالخلوة ، واختار هو أنها لا تحصل ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني وغيره ، إلا أن مقتضى كلامه في المقنع أن أحمد نص على أن الخلوة لا تحصل بها الرجعة ، وليس كذلك فإن نص أحمد في رواية ابن القاسم إنما هو في اللمس والقبلة ، إذ الرجعة لا تحصل بهما ، ونصه في الخلوة أن الرجعة لا تحصل بها ، وقد يقال : إن في كلام الأصحاب تهافت ، حيث قالوا : إن الرجعة لا تحصل بالقبلة ونحوها وقالوا : إنها تحصل بالخلوة ، ويجاب بأن الخلوة عندهم بمنزلة الوطء ، بدليل تقرر الصداق ، ووجوب العدة بها ، ونحو ذلك ، فكذلك في حصول الرجعة .
واعلم أن الأصحاب مختلفون في حصول الرجعة بالوطء ، هل هو مبني على القول بحل الرجعية أم مطلقاً ، على طريقتين للأصحاب ( إحداهما ) وهي طريقة الأكثرين ، منهم القاضي في روايتيه وفي جامعه وجماعة عدم البناء ( والثانية ) وهي مقتضى كلام أبي البركات ، ويحتملها كلام القاضي في التعليق البناء ، فإن قلنا : الرجعية مباحة حصلت الرجعة بالوطء ، وإن قلنا : محرمة . لم تحصل ، وهذه طريقة أبي الخطاب في الهداية ، قال : لعل الاختلاف مبني على حل الوطء وعدمه ، وقد تضمن هذا أن في حل الرجعية خلافاً ، وهو كذلك كما تقدمت الإشارة إليه ، والمذهب المشهور المنصوص حلها ، وعليه عامة الأصحاب ، لإطلاق : 9 ( { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } ) والرجعية من نسائه ، بدليل لو قال : نساؤه طوالق ، فإنها تطلق ، وأيضاً قوله تعالى : 9 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) فسماه الله تعالى بعلًا ، والبعل تباح زوجته ، فكذلك هنا ، والرد إلى ما كانت عليه ، لزوال الثلم الحاصل بالطلاق ، ولأنها في حكم الزوجة في الإرث واللعان ، وغير ذلك ، فكذلك في الحل ، وأومأ أحمد في رواية أبي داود إلى التحريم ، فقال : أكره أن يرى شعرها ، فأخذ من ذلك القاضي ومن تبعه رواية بالتحريم ، وهي ظاهر كلام الخرقي حيث قال فيما تقدم لأنه متيقن للتحريم ، شاك في التحليل ، لأنه طلاق ، فأثبت التحريم كالذي بعوض ، أو معتدة فحرم وطؤها كالمعتدة التي قال لها : أنت بائن . انتهى ، وقد تقدم أنه مما يبنى على ذلك حصول الرجعة وعدمها ، ومما ينبني عليه المهر إذا وطئها ، إن قلنا مباحة فلا مهر ، وكذلك إن قلنا محرمة وطاوعته ، أما إن أكرهها وقلنا محرمة فثلاثة أوجه ( الوجوب ) مطلقاً ، وهو ظاهر ما جزم به أبو الخطاب في الهداية ( وعدمه ) وبه قطع القاضي في التعليق ، وفي الجامع الصغير ، والشريف في خلافه ، وإليه ميل أبي محمد ( والثالث ) التفرقة إن راجعها لم يجب ، وإلا وجب ، وبه قطع أبو محمد في المقنع ، أما الحد فلا يجب بوطئها بلا ريب ، وإن قلنا بالتحريم ، وينبغي أن يلحق النسب به بلا نزاع ، لاندراء الحد ، قال أحمد : كل من درأت عنه الحد ألحقت به الولد ، ووقع في كلام أبي البركات في الطلاق ما قيل : إنه يقتضي قولين ، بناء على الحل وعدمه ، وليس بالبين . انتهى .
وصرح الخرقي رحمه الله بأنه لا يشترط في الرجعة ولي ولا صداق ، وهو إجماع والحمد لله ، وظاهر القرآن يشهد له ، وهل يبطل الرجعة التواصي بالكتمان ، نص في رواية أبي طالب على البطلان ، وخرج عدمه من نصه على عدم البطلان بذلك في النكاح .
قال : وإذا قال : ارتجعتك . فقالت : انقضت عدتي قبل رجعتك . فالقول قولها مع يمينها ، إذا ادعت من ذلك ممكناً .
ش : قول المرأة مقبول في عدتها في الجملة ، لقول الله سبحانه : 19 ( { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } ) قيل : المراد الحمل والحيض ، ولولا أن قولها مقبول في ذلك لما حرم عليها كتمانه ، ثم إذا اختلفت هي والزوج هل راجعها في العدة أم لا ؟ فلا يخلو إما أن يكون في وقت حكم بأنه من عدتها ، أو في وقت حكم بانقضاء عدتها فيه ، أو في وقت محتمل لهما ، فالأول قول الزوج بلا ريب ، لأنه يملك الإنشاء فملك الإقرار ، فإذا قال في العدة : راجعتها أمس أو منذ كذا . قبل قوله ، وفي الثاني : القول قولها بلا ريب أيضاً كذلك ، فإذا قال بعد انقضاء عدتها : كنت راجعتها . وأنكرته ، فالقول قولها ، لأنه لا يملك الإنشاء ، فلا يملك الإقرار .
وفي الثالث لا يخلو إما أن تسبقه بالدعوى أو يسبقها بالدعوى ، أو يتداعيا معاً ، فإن سبقته بالدعوى كأن قالت في زمن يمكن فيه انقضاء عدتها : قد انقضت عدتي . فيقول هو : كنت راجعتك . فالقول قولها بلا خلاف نعلمه ، لأن خبرها والحال هذه بانقضاء عدتها مقبول ، فبقولها : انقضت عدتي . حكم بانقضاء عدتها ، فدعواه بعد ذلك غير مقبولة ، لانتفاء إنشائه ، وإذاً ينتفي إخباره أيضاً .
وإن سبقها بأن قال والحال ما تقدم : راجعتك . فتقول هي : انقضت عدتي قبل رجعتك . ففيه قولان ( أحدهما ) وهو الذي قاله الخرقي ، وتبعه عليه الشيرازي : القول قولها ، لظاهر قول الله سبحانه : 19 ( { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } ) وإطلاقها يقتضي أن قولها مقبول مطلقاً ( والثاني ) وبه قطع أبو الخطاب في الهداية ، واختاره القاضي وغيره القول قول الزوج ، لما تقدم فيما إذا سبقته هي ، وعلى هذا القول إذا تداعيا معاً فهل القول قولها ، لترجح جانبها ، أو قول من تقع له القرعة لتساويهما ؟ ( وجهان ) .
وقول الخرقي : ما إذا ادعت من ذلك ممكناً . يلتفت إلى قاعدة ، وهو ما الممكن في انقضاء العدة ؟ ( فإن كانت ) العدة بالأقراء فأقل ما يمكن انقضاء العدة تسعة وعشرون يوماً ولحظة ، إن قيل : القرء الحيض ، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً ، وإن قيل : خمسة عشر فثلاثة وثلاثون يوماً ولحظة ، وإن قيل : القرء الطهر ، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً ، فثمانية وعشرون يوماً ولحظتان ، وإن قيل : الطهر خمسة عشر ، فاثنان وثلاثون يوماً ولحظتان ، إلا أن المنصوص عن أحمد أن المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها بالأقراء في شهر لا يقبل قولها إلا ببينة ، وظاهر قول الخرقي القبول مطلقاً ، لأنه أناط ذلك بالإمكان ، ( وإن كانت ) العدة بوضع الحمل ، وادعت وضع ولد تام فالممكن ستة أشهر فأزيد منذ إمكان الوطء بعد العقد ، وإن ادعت سقطاً فالممكن ثمانون يوماً ، ( وإن كانت ) بالأشهر فهو أمر محدود معروف ، والنزاع فيه إنما ينبني على أول وقت الطلاق ، والقول قول الزوج في ذلك ، فإذا قال : طلقتك في ذي الحجة فلي رجعتك . وقالت : بل طلقتني في شوال ، فلا رجعة لك . فالقول قوله ، إذ الأصل بقاء النكاح ، وعكس هذا لو ادعى أنه طلقها في شوال ، لتسقط النفقة ، وقالت هي : بل في ذي الحجة ، فالقول قولها ، نظراً إلى الأصل أيضاً ، إذ الأصل بقاء وجوب النفقة ، فكذلك إذا لم يكن لها نفقة ، لأنها تقر على نفسها بما هو أغلظ ، وحيث قيل : القول قولها ، فأنكرها الزوج ، فهل تجب عليها اليمين ، وهو اختيار الخرقي ، وأبي محمد لعموم ( اليمين على المدعى عليه ) أو لا تجب وقال القاضي : إنه قياس المذهب ، إذ الرجعة لا يصح بذلها ، فأشبهت الحدود ، وعن أحمد ما يدل على روايتين ، وعلى الأول إن نكلت لم يقض بالنكول ، قاله القاضي ، ولأبي محمد احتمال أن يستحلف الزوج ، وله الرجعة بناء على القول برد اليمين على المدعى عليه . انتهى .
قال : ولو طلقها واحدة ، فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانية ، بنت على ما مضى من العدة .
ش : لأنهما طلاقان لم يتخللهما إصابة ولا خلوة ، فلم يجب بهما أكثر من واحدة ، كما لو والى بينهما ، وكذلك الحكم لو طلقها ثم فسخ نكاحها لعيب في أحدهما ، ونحو ذلك انتهى .
قال : ولو طلقها ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم ، فاعتدت ثم نكحت غيره ، وأصابها ردت إليه ، ولا يطأها حتى تنقضي عدتها في إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى : هي زوجة الثاني .
ش : الرواية الأولى هي المذهب بلا ريب ، لأنها زوجته ، نكحها نكاحاً صحيحاً ، فردت إليه ، كما لو غصبها غاصب .
2741 ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه .
274( والثانية ) تروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وقول الخرقي : ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم . لأنه إذا لم يشهد فإن قلنا : الإشهاد شرط لصحة الرجعة ؛ فقد فات الشرط ، فتبطل الرجعة ، وتكون زوجة الثاني بلا ريب ، وإن قيل : إنه ليس بشرط ، فالنكاح صحيح في الباطن ، لكن لا يقبل قوله في ذلك ، لا على الزوج ، ولا على المرأة ، لأنه لا يملك الإنشاء فلا يملك الإقرار ، ثم ينظر في الزوج والمرأة فإن صدقاه كان كما لو قامت به البينة ، وإن صدقه الزوج وحده فقد اعترف بفساد نكاحه ، فتبين منه ، وعليه للمرأة مهرها ، إن كان بعد الدخول ، ونصفه إن كان قبله ، لأنه لا يصدق على المرأة في إسقاطه حقها ، ولا تسلم المرأة للمدعي لما تقدم ، ويكون القول قولها ، وهل هو مع يمينها ؟ على وجهين ، وإن صدقته المرأة وحدها لم يقبل قولها على الزوج الثاني ، في فسخ نكاحه ، لكن متى زال نكاحه ردت إلى الأول ، لأن المنع من الرد كان لحق الثاني وقد زال ، ولا يلزم المرأة مهر الأول ، على ما أورده الشيخان مذهباً ، لاستقراره لها ، أشبه ما لو قتلت نفسها ، وألزمها القاضي له بالمهر لإقرارها ، بحيلولتها بينه وبين بضعها ، وهذا قياس المنصوص في الرضاع ، وهو اختيار القاضي أيضاً ثم ، واختيار الشيخين ثم أيضاً عدمه ، جريا على قاعدتهم ، فإن مات الأول والحال هذه ، وهي في نكاح الثاني ، فقال أبو محمد : ينبغي أن ترثه ، لإقراره بزوجيتها ، وتصديقها له ، وإن ماتت لم يرثها ، لتعلق حق الثاني بالإرث ، وإن مات الثاني لم ترثه لإنكارها صحة نكاحه .
قلت : ولا يمكن من تزويج أختها ، ولا تزويج أربع سواها انتهى ؛ وقول الخرقي : من حيث لا تعلم . لأنها إذا علمت لم يصح نكاح الثاني بلا خلاف ، وقوله : فاعتدت ، لأنها إذا لم تعتد فلا ريب في بطلان نكاح الثاني ، وقوله : ثم نكحت غيره وأصابها . لأنه إذا لم يدخل بها فلا خلاف أنها زوجة الأول ، لأن بالدخول حصل للثاني مزية ، فلذلك قدم في رواية مرجوحة ، وقوله : ولم يصبها حتى تنقضي عدتها . يعني إذا ردت إلى الأول بعد إصابة الثاني لها ، لم يصبها حتى تنقضي عدتها من الثاني ، لتعلم براءة رحمها .
قال : رحمه الله : وإذا طلقها وانقضت عدتها منه ، ثم أتته فذكرت أنها نكحت من أصابها ، ثم طلقها أو مات عنها ، وانقضت عدتها منه ، وكان ذلك ممكناً ، فله أن ينكحها إذا كان يعرف منها الصدق والصلاح ، وإن لم تكن عنده في هذه الحال لم ينكحها حتى يصح عنده قولها
ش : ملخص الأمر أن الأحكام تناط بغلبة الظن كثيراً ، والمرأة مؤتمنة على نفسها ، وعلى ما أخبرت به عنها ، ولا سبيل إلى ذلك على الحقيقة إلا من جهتها ، فوجب الرجوع إلى قولها ، كما لو أخبرت بانقضاء عدتها ، ومقتضى قوله أنه إذا لم يعرف منها الصدق والصلاح لا يقبل قولها ، وهو كذلك ، لأنه لم يوجد ما يغلب على ظنه صدقها ، والأصل التحريم ، فيبقى عليه ، ومقتضى كلامه أنه يرجع إلى قول المرأة ، إذا كانت بالصفة المتقدمة ، وإن أنكر الزوج الذي ادعت إصابته لها ، ولو قال الزوج الأول : أنا أعلم أن الثاني ما أصابها . لم تحل له ، إذ لا غلبة ظن مع العلم بالتحريم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
كتاب الإيلاء

ش : الإيلاء بالمد الحلف ، مصدر آلى يؤلي إيلاء وتألى وأتلى ، والألية بوزن فعلية اليمين ، وكذلك الألوة بسكون اللام وتثليث الهمزة والإيلاء شرعاً حلف الزوج القادر على الوطء بالله تعالى أو بصفة من صفاته ، على ترك وطء زوجته في قبلها مدة زائدة على أربعة أشهر ، وفي بعض هذه القيود خلاف ، والأصل فيه قوله تعالى : 19 ( { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } ) الآية .
2743 وثبت أن رسول الله آلى من نسائه أو من بعض نسائه شهراً .
قال رحمه الله : والمولي هو الذي يحلف بالله عز وجل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر .
ش : ذكر الخرقي رحمه الله أن للمولي ثلاث صفات ( إحداها ) أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته سبحانه ، ولا نزاع أن من حلف بذلك يكون مولياً ، لإرادته من الآية الكريمة ، إما بخصوصه وإما مع غيره ، واختلف فيمن حلف بغير ذلك ، كمن حلف بطلاق ونحوه هل يكون مولياً أم لا ؟ فعنه وهو المشهور والمنصوص ، والمختار لعامة الأصحاب لا يكون مولياً ، لأن الإيلاء إذا أطلق ينصرف إلى القسم بالله تعالى .
2744 وقد قرأ ابن عباس وأبي : 19 ( { يقسمون } ) .
2745 وفسره ترجمان القرآن عبد الله بن عباس بأنه الحلف بالله تعالى ذكره الإمام أحمد عنه .
2746 وعن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت آلى رسول الله من نسائه وحرم ، فجعل الحرام حلالًا ، وجعل في اليمين الكفارة . رواه ابن ماجه والترمذي ، وذكر أنه روي عن الشعبي مرسلًا وأنه أصح ، فدل على أن حلفه كان بالله ، وفعله خرج بياناً للإيلاء المشروع ، ثم في الآية قرينة تدل على أن المراد اليمين به سبحانه ، وهو قوله : 19 ( { فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم } ) فالمغفرة لما حصل من انتهاك حرمة القسم ، ولا انتهاك للطلاق ونحوه ( وعنه ) يكون مولياً ، لإطلاق : 19 ( { للذين يؤلون } ) أي يحلفون ، والحالف بالطلاق ونحوه حالف ، بدليل : إن حلفت بطلاقك فأنت طالق . ثم قال : إن وطئتك فأنت طالق ( وعنه ) واختاره أبو بكر في الشافي : يحصل بكل يمين مكفرة ، قال أبو بكر أصل الإيلاء عند أبي عبد الله اليمين بالله تعالى ، وكل يمين من حرام وغيره إذا وجبت في اليمين كفارة . انتهى ، وهذا القول متوسط ، وعليه فيخص الأيلاء باليمين بالله تعالى ، والظهار ، والنذر ، وتحريم المباح .
2747 وفي الحديث : ( النذر حلف ، وكفارته كفارة يمين ) وعلى الثانية لا بد أن يحلف بما يلزمه به حق ، كالطلاق والعتاق ، وتحريم المباح ، والنذر ، وإن كان مباحاً أو محرماً ، على مقتضى إطلاق كلام أبي الخطاب وأبي البركات وغيرهما ، وقال أبو محمد : إنه قياس المذهب ، بناء على انعقاد النذر بهما ، ولو قال : إن وطئتك فأنت زانية . لم يكن مولياً ، لأنه لا يلزمه بالوطء شيء ، لأنه إذا وطئ لا يصير قاذفاً لانتفاء تعلق القذف بالشرط .
( تنبيه ) قال أبو الخطاب في خلافه الصغير : هذه المسألة إنما تصح على أصلنا على الرواية التي تقول : إذا ترك وطأها مضاراً من غير يمين لا يكون مولياً .
قلت : كأنه بحلفه علم منه الإضرار ، فحكم عليه بالإيلاء على المذهب ، وإذاً تنتفي هذه المسألة كما قال أبو الخطاب ، ومقتضى كلام القاضي في التعليق أنه لا يكون مولياً ثم حتى يمتنع من فعل ما حلف عليه ، على وجه يعلم به قصد الإضرار ، كأن يحلف بالطلاق لأفعلن كذا ، ثم يتركه ولا عذر له ، أو يظاهر منها ولا يكفر ، ونحو ذلك ، كذا مثل القاضي انتهى ( الصفة الثانية ) أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر أو مطلقاً ، وهذا هو المذهب المنصوص ، والمختار للأصحاب ، لأن قوله تعالى : 19 ( { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم } ) فظاهر الآية الكريمة يقتضي أن الفيئة بعد مدة التربص ، والفيئة هي الرجوع عما حلف عليه ، وذلك إنما يكون مع بقاء اليمين ، ولازم ذلك أن تكون اليمين على أكثر من أربعة أشهر ( وعن أحمد ) رواية أخرى يصح على أربعة أشهر ، ولا يصح فيما دون ذلك ، وهو مبني على أصل ، وهو أن الفيئة تكون في مدة التربص ، والتربص إنما هو أربعة أشهر .
2748 واستدل على ذلك بأن ابن مسعود قرأ : 19 ( { فإن فاءوا فيهن } ) أي في الأربعة أشهر ، ولأصحابنا ظاهر الآية الكريمة ، فإن الفاء للتعقيب ، فظاهر الآية الكريمة أن الفيئة والطلاق يكونان بعد مدة التربص .
2749 يرشح هذا ما قاله أحمد في رواية أبي طالب قال : قال عمر وعثمان وعلي ، وابن عمر رضي الله عنهم : يوقف المولي بعد الأربعة الأشهر ، فإما أن يفيء ، وإماأن يطلق .
2750 وعن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه أنه قال : سألت اثني عشر رجلًا من أصحاب النبي عن الرجل يولي ، قالوا : ليس بشيء حتى تمضي أربعة أشهر ، فيوقف فإن فاء وإلا طلق . رواه الدارقطني ، وما يروى عن ابن مسعود فلا يعلم صحته ( الصفة الثالثة ) أن يحلف على ترك وطء زوجته ، ووطء الزوجة إنما ينصرف غالباً لوطئها في الفرج تختص يمينه بذلك بأن يقول والله لا وطأتك في قبلك . أو لا وطئتك ويطلق ، فلو حلف أن لا يطأها في الدبر ، أو دون الفرج ، لم يكن مولياً ، لأنه إنما يصير مولياً من امتناعه مما وجب عليه ، وهذا ليس بواجب عليه ، ولو حلف أن لا يطأ أمته أو أجنبية مطلقاً ، أو إن تزوجها ، لم يكن مولياً على المذهب بلا ريب ، لأن الإيلاء الذي ذكره الله تعالى ذكره في النساء ، قال سبحانه : 19 ( { للذين يؤلون من نسائهم } ) .
وخرج الشريف أبو جعفر وغيره صحته من الأجنبية مطلقاً ، من قول أحمد في الظهار : يصح قبل النكاح ، لأنه يمين ، فمقتضى تعليله صحة الأيلاء ، لأنه يمين ، وخرج أبو البركات صحته بشرط إضافته إلى النكاح كالطلاق في رواية .
( ويدخل ) في كلام الشيخ الرجعية ، لأنها زوجة فيصح الأيلاء منها ، وهذا هو المشهور من الروايتين ، والمذهب بلا ريب عند الأصحاب ، بناء على دخولها في نسائه ، ( وعنه ) لا يصح الأيلاء منها ، وعلله بأن الطلاق منعه من الجماع ، فبناه على تحريمها ، والخرقي يقول بالتحريم فترد عليه ، ويدخل في كلامه أيضاً كل زوجة وإن كانت ذمية أو أمة أو صغيرة أو مجنونة ، للآية الكريمة وتطالب الصغيرة والمجنونة عند تكليفهما ، وكذلك يدخل من لم يمكن وطؤها لرتق ونحوه ، وقد أومأ إليه أحمد في رواية مهنا ، وجزم به القاضي في تعليقه وجامعه ، وجماعة من أصحابه ، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا ، للآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : 19 ( { للذين يؤلون نسائهم } ) وزوج الرتقاء ونحوها قد آلى منها ، فدخل تحت العموم ، والعجز عن الوطء لا يمنع صحة الإيلاء ، كما لو آلى منها وبينهما مسافة لا يصل إليها فيها ( وفي المذهب ) قول آخر أنه لا يصح الإيلاء من الرتقاء ونحوها ، وأورده أبو الخطاب وأبو محمد مذهباً ، وصححه صاحب البلغة ، لأن المنع هنا ليس باليمين ، والمولي هو المتنع بيمينه من وطء زوجته ، وعلى الأول يفيء فيئة المعذور ، صرح به القاضي وغيره .
ويدخل في كلام الخرقي كل زوج حلف على وطء زوجته وإن كان عبداً ، للآية الكريمة ، وكذلك إن كان ذمياً للآية الكريمة أيضاً ، وفائدته في أنه يوقف بعد إسلامه ، ويؤخذ بالكفارة ، كذا قال القاضي في تعليقه ، وقال أبو محمد : يلزمه ما يلزم المسلم إذا تقاضوا إلينا ؛ وظاهر هذا أنه يوقف في كفره ، وكذلك إن كان خصياً أو مريضاً يرجى برؤه ، للآية أيضاً ، وكذلك إن لم يتصور منه الوطء لجب أو شلل ، على عموم كلام الخرقي ، وصرح به من تقدم في المرأة إذا كانت رتقاء ، والخلاف هنا كالخلاف ثم سواء .
نعم يستثنى من عموم كلام الشيخ إذا كان الزوج غير مكلف كالصبي والمجنون ، فإنه لا يصح إيلاؤه ، لانتفاء الشرط في حقهما ، وهو اليمين بالله تعالى ، نعم ينبغي على القول بصحة الإيلاء بالطلاق ونحوه أنه يصح الإيلاء من الصبي ، حيث صح طلاقه ، لوجود شرط الإيلاء في حقه إذاً ، وأطلق أبو الخطاب في الهداية في السكران والمميز وجهين ، وقال : بناء على طلاقهما . والله أعلم .
قال : وإذا مضى أربعة أشهر ورافعته أمر بالفيئة .
ش : مدة الإيلاء أربعة أشهر ، للآية الكريمة ، ولا فرق بين الحر والعبد ، على المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة الأصحاب ، تمسكاً بالعموم ( والرواية الثانية ) واختارها أبو بكر أنها في العبد على النصف من الحر ، وذلك شهران ، لأنه على النصف في الطلاق والنكاح ، فكذلك في هذا ، ولا تفريع على هذه ، أما على المذهب فإذا آلى الرجل من زوجته ضرب له مدة أربعة أشهر ، لا تطالب فيهن بوطء ، فإذا مضت المدة ورافعته الزوجة إلى الحاكم ، أمره الحاكم بالفيئة ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم } ) وظاهره أن الفيئة بعد مدة التربص ، لأنه عقبها للمدة ، وهو مقتضى ما تقدم عن الصحابة رضوان الله عليهم .
ومقتضى كلام الخرقي أن ابتداء الأربعة أشهر من حين اليمين ، وأنه لا يحتاج في المدة إلى ضرب من الحاكم ، وهو كذلك ، وأنه لا بد في أمره بالفيئة من أن ترفعه بعد ذلك إلى الحاكم ، ولا بد من ذلك ، لأن الحق لها ، فوقف على طلبها ، ويؤخذ من هذا أن الصغيرة والمجنونة لا تطالب إلا بعد زوال الصغر والجنون ، ليصح طلبهما ، وأنها لا تطلق بمضي المدة ، ولا نزاع في ذلك عندنا ، لظاهر الآية الكريمة وقد تقدم أيضاً عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم ما يقتضي ذلك ، ثم في الآية أيضاً إنما أخر لذلك ، وهو قوله تعالى : 19 ( { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } ) فمقتضاه أن ثم عزم وطلاق مسموع ، ومن طلقت بهذه المدة فلا عزم ولا شيء يسمع .
2751 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق ، فلا يقع عليه الطلاق حتى يطلق ، يعني المولي . أخرجه البخاري ، قال : ويذكر ذلك عن عثمان وعلي ، وأبي الدرداء ، وعائشة ، واثني عشر رجلًا من أصحاب النبي .
ومقتضى إطلاق الخرقي أنه لا فرق بين أن يوجد في المدة مانع للوطء من قبلها أو من قبله ، أو لا يوجد ، ولا نزاع في ذلك إذا كان المانع من قبله ، لوجود التمكين ، وفيما إذا كان المانع من قبلها قولان ( أحدهما ) وهو الذي قطع به القاضي في تعليقه ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا أنه يحتسب عليه بمدته ، كما إذا كان المانع من جهته ، وهو ظاهر إطلاق الآية الكريمة ( والثاني ) وهو الذي جزم به أبو محمد في كتبه الثلاثة ، وقدمه أبو الخطاب في الهداية لا يحتسب عليه ، لأن المنع من قبلها لا من قبله ، ولعل هذا يلتفت إلى أصل تقدم ، وهو أنه يصح الإيلاء ممن يتعذر وطؤها ، والعامة على الصحة ، فقياس قولهم هنا الاحتساب ، وأبو محمد يقول ثم لا يصح ، وهنا جرى على ذلك ، وعلى هذا القول إن طرأ العذر استأنفت المدة عند زواله ، لأن ظاهر الآية يقتضي توالي الأربعة أشهر ، وخرج أن يسقط أوقات المنع ، وتبني ويستثنى على هذا القول الحيض ، فإنه يحتسب من مدته بلا ريب ، لئلا يودي إلى إسقاط حكم الأيلاء ، لأن الغالب أنه لا يخلو منه شهر ، وفي الاحتساب بمدة النفاس وجهان ، واعلم أن من شرط مضي الأربعة أشهر والطلب عقبهن أن لا تنحل اليمين فيهن بحنث ولا تكفير ولا غيره ، كما إذا أبانها في أثناء المدة ، ولم يعدها إلى نكاحه حتى انقضت ، لأن المقتضي للطلب الإيلاء وقد زال .
قال : والفيئة الجماع .
ش : الفيئة هي الرجوع عن الشيء الذي قد لابسه الإنسان ، والزوج قد لابس الامتناع من الوطء ، فيرجع عنه ويجامع ، وهذا في حق القادر على الوطء كما سيأتي .
قال : أو يكون له عذر من مرض أو إحرام ، أو شيء لا يمكن معه الجماع ، فيقول : متى قدرت جامعتها . فيكون ذلك من قوله فيئة .
ش : يعني أن القادر على الوطء فيئته الجماع بلا ريب ، أما العاجز عن الوطء لمرض ونحوه ففيئته باللسان ، لأنه لما عجز عن الوطء ، قام اللسان مقامه ، لأنه الذي يقدر عليه ، فيدخل تحت ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ثم اختلف الأصحاب في صفة ذلك ، فقال الخرقي : يعدها فيقول : متى قدرت جامعتك . وعلى هذا لو كان مجبوباً قال : لو قدرت جامعتك . وتبعه على ذلك القاضي في المجرد ، وحسنه أبو محمد ، وزاد القاضي في تعليقه أن يقول مع ذلك : قد ندمت على مافعلت ، وقال هو : إن صفة الفيئة أن يقول : فئت إليك . وهو مقتضى قول عامة أصحابه ، ووقع في كلام القاضي أن المسألة على روايتين ، وانبنى على ذلك إذا قدر على الوطء هل يلزمه ؟ فالخرقي وأبو محمد يقولان يلزمه ، وفاء بالوعد ، وإليه ميل القاضي في الروايتين ، وهو لازم قوله في المجرد ، قال القاضي : وقد أومأ إليه أحمد في رواية حنبل ، إذا فاء بلسانه ، وأشهد على ذلك كان فايئاً ، قال : ومعنى قوله : أشهد على ذلك . أي أشهد على ما به من العذر أنه لو كان قادراً أو قدر على ذلك فأنا أفعل ؛ واختار القاضي في التعليق وجمهور أصحابه ، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وقبلهما أبو بكر أنه لا يلزمه ، لحصول الواجب عليه وهو الفيئة ، إذ لا وعد ، قال القاضي في التعليق وفي الجامع ، متابعة لأبي بكر إنه ظاهر كلام أحمد في رواية مهنا ، وسئل إذا آلى من امرأته وهو غائب عنها ، بينه وبينها مسيرة أربعة أشهر ، أو تكون صغيرة أو رتقاء أو حائضاً ، يجزيه أن يفيء بلسانه وقلبه ، إذا كان لا يقدر عليها ، وقد سقط عنه الإيلاء ، واعترض ذلك القاضي في الروايتين ، فقال : معنى قوله : سقط عنه الإيلاء ، يعني في الحال ، لا أنه سقط مطلقاً ، وقد ذكر الخرقي ممن يفيء بلسانه المحرم ، ولم يفرق بين أن تطول مدة إحرامه أو تقصر ، قال أبو محمد : وكذلك على قياسه الإعتكاف المنذور ، وقال أبو البركات يمهل المحرم حتى يحل ، وأطلق ثم قال بعد ذلك : إن الزوج إذا كان به عذر من مرض أو إحرام ، أو صوم فرض ونحوه ، وطالت مدته ، فاء فيئة المعذور ، مع أنه قدم أن المظاهر لا يمهل لصيام الشهرين ، بل يؤمر بالطلاق ، وكذلك قال أبو محمد : إنه لا يمهل لصوم الشهرين ، وخرج من المحرم فيه قولًا أنه يمهل ، وقولًا أنه يفيء فيئة المعذور ، انتهى .
قلت : وهذا من أبي البركات ظاهره التناقض .
قال : فمتى قدر فلم يفعل أمر بالطلاق .
ش : إذا لم يفعل الفيئة الواجبة وهي الجماع مع القدرة ، أو القول مع عدمها ، ق أمر بالطلاق ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } ) فظاهرها أنه إذا لم يفء يطلق ، وكذا فهمت الصحابة رضوان الله عليهم ، وقد تقدم ، وأيضاً فإن الله سبحانه قال : 19 ( { فإمساك بمعروف ، )9 ( أو تسريح بإحسان } ) وإذا لم يفء فلم يمسك بمعروف ، فتسريح بإحسان . والله أعلم .
قال : فإن لم يطلق طلق الحاكم عليه .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار القاضي في تعليقه ، والشريف وأبي الخطاب والشيرازي ، وأبي محمد وغيرهم ، لأنه حق تدخله النيابة ، مستحقه متعين ، فإذا امتنع من هو عليه من الإيفاء ، كان للسلطان الاستيفاء كالدين ، وخرج إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة ، ولم يختر ، لم يملك الحاكم الاختيار ، لأن الحق غير متعين ( والرواية الثانية ) ليس للحاكم أن يطلق عليه ، بل يحبسه ويضيق عليه حتى يطلق ، لأن الله تعالى أضاف الطلاق إليه بقوله : 19 ( { وإن عزموا الطلاق } ) .
2752 ولعموم ( الطلاق لمن أخذ بالساق ) وحُمِلا على حال الاختيار ، وظاهر كلام الخرقي أن المولي إذا طلق واحدة اكتفي بها ، ولا ريب في ذلك ، وظاهر كلامه أنها تكون رجعية ، كالطلاق من غيره ، وسيصرح بذلك ، وذلك لأنه طلاق صادف مدخولًا بها ، من غير عوض ولا استيفاء عدد ، فوجب أن يكون رجعياً ، كما لو لم يكن مولياً ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر ، والقاضي وأصحابه ، كالشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن عقيل ، وأبي محمد ( والرواية الثانية ) يكون بائناً ، لأن الطلاق إنما ثبت دفعا للضرر عنها ، بامتناعه من وطئها ، ومع كونه رجعياً لا يزول الضرر ، لإمكان مراجعتها ، وأجيب بأن الضرر يزول بضرب المدة بعد الرجعة إن بقيت مدة الإيلاء .
قال : فإن طلق عليه ثلاثاً فهي ثلاث .
ش : الحاكم مخير بين أن يفسخ النكاح وبين أن يطلق ، فإن فسخ فهل يقع بذلك طلاق ؟ على روايتين ، حكاهما الشيرازي وجمهور الأصحاب ، والمشهور المعروف أنه لا يقع ، وعليه فهل تحرم عليه على التأبيد كفرقة اللعان ، وهو اختيار أبي بكر أو تحل له وهو المذهب ؟ على قولين ، حكاهما أبو بكر ، وامتنع ابن حامد وجمهور الأصحاب من ذلك ، وجعلوا محلهما في فرقة اللعان ، وهكذا الطريقتان في كل فرقة من الحاكم ، وإن طلق فله أن يطلق واحدة واثنتين وثلاثاً ، نص عليه أحمد في رواية أبي طالب ، لأنه قام مقامه ، فملك ما يملكه ، كما لو وكله في ذلك ، وإذا طلق دون الثلاث فهل ذلك رجعي أو بائن ؟ مبني على طلاق المولي ( وعنه ) رواية ثالثة وهي المنصوصة أن طلاق الحاكم بائن ، لأنه موضوع لرفع النزاع ، وطلاق المولي رجعي لما تقدم .
قال : وإن طلق واحدة ، وراجع وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر ، كان الحكم كما حكمنا في الأول .
ش : هذا تصريح من الخرقي بأن طلاق المولي يكون رجعياً ، فإذا طلق وراجع نظرت في المدة ، فإن بقي منها قدر مدة الإيلاء وهو أكثر من أربعة أشهر على المذهب كان الحكم كما لو حلف ابتداء ، في أنه تضرب له المدة ، ثم يؤمر بعدها بالفيئة ، فإن فاء وإلا أمر بالطلاق ، فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه ، وجميع ما تقدم يجري هنا ، وذلك لأنها زوجة ممنوع من وطئها بيمينه ، أشبه ما لو لم يطلقها ، وفقهه أن الحكمة في ضرب المدة في النكاح الأول زوال الضرر عنها ، وهذا موجود في النكاح الثاني .
ومقتضى كلام الخرقي أنه إذا وقف فطلق أنه لا يبدأ بالمدة من حين طلق ، بل من حين راجع ، وهو مقتضى قول القاضي وغيره من الأصحاب ، قال أبو محمد : ومقتضى قول ابن حامد أنه إذا طلق استؤنفت مدة أخرى من حين طلق ، فإن تمت قبل انقضاء العدة وقف ثانياً ، فإن فاء وإلا أمر بالطلاق ، وهذا أخذه من قول ابن حامد : إنه إذا صح الإيلاء من الرجعية على المذهب تكون المدة من حين اليمين ، وهو قول أبي بكر أيضاً ، قال القاضي : وهو قياس المذهب ، بناء على أن الرجعية مباحة ، وهذا من القاضي يقتضي أن على قول الخرقي لا يحتسب بالمدة إلا من حين الرجعة ، إذ الرجعية عنده محرمة ، وصرح بذلك أبو محمد فقال : يجيء على قول الخرقي أنه لا يحتسب بالمدة إلا من حين الرجعة ، وملخصه أن هنا شيئين أحدهما إذا آلى من الرجعية وصححناه ، فالمدة على المعروف من حين اليمين ، وأبو محمد يأخذ من قول الخرقي بتحريم الرجعية ، أن المدة لا تكون إلا من حين الرجعة ، وهذا يجيء على قول أبي محمد ، من أنه إذا كان مانع من جهتها لم يحتسب عليه بمدته ، أما على قول غيره بالاحتساب فلا يتمشى ، وإذاً قول القاضي : إن هذا قياس المذهب ، بناء على أن الرجعية مباحة . ليس بجيد ، بل هو قياس المذهب ، وإن قلنا بتحريمها ، ولهذا قال هو وغيره : إن المدة من حين اليمين ( الشيء الثاني ) إذا وقف فطلق طلاقاً رجعياً ، فكل من وقفت على كلامه من الأصحاب يقول : لا تبتدئ المدة من حين الطلاق ، وأبو محمد خرج من قول ابن حامد أن المدة تبتدىء من حين الطلاق ، وهو غير مسلم له والله أعلم .
قال : ولو أوقفناه بعد الأربعة أشهر فقال : قد أصبتها . فإن كانت ثيباً كان القول قوله مع يمينه .
ش : نظرا للأصل ، إذ الأصل بقاء النكاح ، والمرأة تدعي ما يلزم منه رفعه ، ولا ريب أن القول قول مدعي الأصل ، لأن الظاهر معه ، ثم هل ذلك مع يمينه ؟ اختلفت نسخ الخرقي ، وأبو بكر يختار أن لا يمين ، والمسألة فيها روايتان ، ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا كانت بكرا كان القول قولها ، وهذا مشروط بما إذا شهدت البينة ببقاء عذرتها ، وإلا فالقول قول الزوج لما تقدم والله أعلم .
قال : ولو آلى منها فلم يصبها حتى طلقها ، وانقضت عدتها منه ، ثم نكحها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربع أشهر ، وقف لها كما وصفت .
ش : لما تقدم فيما إذا طلقها ثم راجعها إذاً والحال هذه هو ممتنع من وطء زوجته بيمينه ، أكثر من أربعة أشهر ، فأشبه ما لو لم يطلق ، وقوله : أكثر من أربعة أشهر . بناء على المذهب ، وعلى هذا لو بقي أقل من ذلك لم تضرب له مدة ، وقوله : كما وصفت . من أنه يؤمر بعد مضي المدة بالفيئة ، فإن لم يفء أمر بالطلاق ، فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه لما تقدم .
قال : ولو آلى منها واختلفا في مضي الأربعة أشهر ، كان القول قوله ، في أنها لم تمض مع يمينه .
ش : لأن الاختلاف في ذلك يرجع إلى الاختلاف في وقت اليمين ، ولو اختلفا في وقت اليمين كان القول قوله بلا ريب ، إذ الأصل عدم الإيلاء في ما تقدم ، ويكون ذلك مع يمينه ، لعموم قول النبي : ( ولكن اليمين على المدعى عليه ) واختار أبو بكر والقاضي أنه لا يمين ، لأنه اختلاف في حكم من أحكام النكاح ، أشبه الاختلاف في أصل النكاح ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
كتاب الظهار

ش : الظهار مشتق من الظهر ، وخص الظهر دون غيره لأنه موضع الركوب ، والمرأة مركوبة إذا جومعت ، فأنت علي كظهر أمي . أي ركوبك للنكاح حرام علي ، كركوب أمي للنكاح ، قال ابن أبي الفتح : وهو عبارة عن قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . وكأنه يريد في الأصل ، وإلا فالظهار في الإصطلاح أعم من هذا ، والأصل فيه قول الله سبحانه : 19 ( { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم } ) وما بعدها ، ومن السنة ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وهو محرم ، قال الله سبحانه : 19 ( { وإنهم ليقولون منكراً من القول وزورا } ) وأكد ذلك بقوله تعالى بعد : 19 ( { ما هن أمهاتهم } ) وهذا اتفاق والحمد لله والله أعلم .
قال : وإذا قال لزوجته : أنت علي كظهر أمي . أو كظهر امرأة أجنبية . أو أنت علي حرام ، أو حرم عضواً من أعضائها فلا يطأها حتى يأتي بالكفارة .
ش : قد اشتمل كلام الخرقي رحمه الله ، على مسائل ( إحداها ) إذا قال لزوجته : أنت علي كظهر أمي . أنه يكون مظاهراً ، وهذا إجماع والحمد لله ، ولذلك قدمه الخرقي ، وفي معنى هذه المسألة إذا شبه زوجته بغير أمه ممن تحرم عليه على التأبيد ، كأخته وإن كانت من الرضاع ونحو ذلك ، إناطة بالتحريم المؤبد ، ( المسألة الثانية ) إذا قال : أنت علي كظهر أجنبية . وفيه روايتان ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي ، وأبي بكر في التنبيه ، وجماعة من الأصحاب على ما حكى القاضي ، واختاره القاضي أيضاً في موضع يكون مظاهراً ، لأنه أتى بالمنكر من القول ، أشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه على التأبيد ، أو شبهها بمحرمة ، أشبه ما لو شبهها بالأم ( والرواية الثانية ) وهي اختيار ابن حامد ، والقاضي في التعليق ، والشريف ، والشيرازي ، وأبي بكر ، على ما حكاه عنه أبو محمد لا يكون مظاهراً ، لأنه شبهها بمن تحل له في حال ، أشبه ما لو شبهها بزوجة له أخرى محرمة ، أو حائض أو نفساء ، ونحو ذلك ، وفي معنى هذه المسألة إذا شبه امرأته بأخت زوجته ونحوها ، لأن تحريمها تحريم موقت ؟ على روايتين ( المسألة الثالثة ) إذا قال : أنت علي حرام ؛ فعن أحمد وهي اختيار الخرقي أنه ظهار وإن نوى غيره ، فيكون صريحاً ، لأن معناه معنى الظهار ، لأن : أنت علي كظهر أمي . معناه أنت علي حرام كتحريم ظهر أمي . ولأنه أتى بالمنكر من القول والزور في زوجته ، أشبه ما لو قال : أنت علي كظهر أمي .
2753 وقد ذكر ذلك إبراهيم الحربي عن عثمان وابن عباس رضي الله عنهم ( والرواية الثانية ) أنه ظاهر في الظهار ، فعند الإطلاق ينصرف إليه لما تقدم ، وإن نوى يميناً أو طلاقاً انصرف إليه ، لاحتماله لذلك ( والثالثة ) أنه ظاهر في اليمين ، فعند الإطلاق ينصرف إليها ، وإن نوى الطلاق أو الظهار انصرف إلى ذلك لعموم قوله تعالى : 19 ( { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } ) الآية إلى : 19 ( { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ) وهذا قد حرم ما أحل الله له ، فدخل في الآية .
2754 وكذا فهم الحبر ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : إذا حرم الرجل فهي يمين يكفرها ؛ وقال : 19 ( { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ) متفق عليه ، وفي لفظ أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي على حراماً . فقال : كذبت ليست عليك بحرام ، ثم تلا هذه الآية : 19 ( { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } ) أغلظ الكفارة عتق رقبة ؛ رواه النسائي ( المسألة الرابعة ) إذا حرم عضوا من أعضائها ، كأن قال : يدك علي حرام . أو يدك علي كيد أمي . أو كظهرها ، ونحو ذلك ، فالمذهب المنصوص المشهور أنه يكون مظاهراً ، لأن التحريم إذا ثبت في العضو سرى في الجميع ، لامتناع تحريم البعض وحل البعض ، وصار ذلك كما لو طلق يدها ونحو ذلك . ؛ وفي المذهب رواية أخرى ) لا يكون مظاهراً حتى يشبه جملة امرأته ، اتباعاً للنص ، وكما لو حلف لا يمس عضواً منها ، والعضو الذي يكون به مظاهراً هو الذي يكون به مطلقاً ، ومالا فلا . ( المسألة الخامسة ) أنه في جميع هذه الصور لا يطأ حتى يكفر ، وكذلك في كل موضع حكم بظهاره فيه ، وهو إجماع إذا كان التكفير بالعتق أو الصيام ، وقد شهد به النص وهو قوله تعالى : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا . . . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } ) واختلف عن أحمد رحمه الله فيما إذا كان التكفير بالإطعام ، ( فعنه ) وهو اختيار أبي بكر ، وأبي إسحاق ابن شاقلا ، يجوز الوطء قبل التكفير ، تمسكاً بظاهر الكتاب ، فإن الله تعالى ذكر عدم التماس في العتق والصيام ، ولم يذكره في الإطعام ، فاقتصرنا على مورد النص ، ( وعنه ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي في خلافه وفي روايتيه ، والشريف وأبي محمد وعيرهم لا يجوز ، لأن الله سبحانه لما ذكر عدم المسيس في العتق والصيام ، مع أن الصيام تطول مدته ، كان ذلك تنبيهاً على انتفاء المسيس في الإطعام .
2755 وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رجلًا أتى النبي قد ظاهر من امرأته فوقع عليها ، فقال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر ؟ فقال : ( ما حملك على ذلك يرحمك الله ؟ ) قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر . قال : ( فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك لله ) رواه الخمسة إلا أحمد ، وصححه الترمذي ، ومن جملة ما أمره الله به الإطعام ( المسألة السادسة ) الظهار يختص بالزوجة على ظاهر كلام الخرقي ، ونص عليه أحمد ، وجزم به جماعة من الأصحاب ، حتى قال القاضي في روايتيه : رواية واحدة . فعلى هذا لا ظهار من أمته ، ولا أم ولده ، لقول الله سبحانه : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم } ) فخص سبحانه الظهار بالنساء ، ولأن الظهار كان طلاقاف في الجاهلية ، فنقل حكمه وبقي محله .
2756 قال أحمد : قال أبو قلابة وقتادة : إن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية . والطلاق قطعاً لا يؤثر في الأمة كذلك الظهار ، واختلف عن أحمد فيما يلزمه ، ( فعنه ) وهو المشهور والمختار : تلزمه كفارة يمين ، لأنه تحريم لمباح من ماله ، فكان عليه كفارة يمين ، كتحريم سائر ماله ، ( ونقل عنه ) أبو طالب : ليس في الأمة ظهار ، ولكن حرام ، فعليه الكفارة ، قيل له : كفارة الظهار ؟ قال : نعم . قال أبو بكر : كل من روى عنه ليس عليه فيها كفارة الظهار ، إنما هو كفارة يمين ، إلا ما رواه أبو طالب ، قال : ولا يتوجه على مذهبه . انتهى ، وخرج أبو الخطاب والشيخان قولًا أنه لا شيء فيه ، قال أبو الخطاب : من قوله فيما إذا ظاهرت المرأة من زوجها : إنه لا شيء عليها ؛ إذ هذا ليس بظهار ، فتجب فيه كفارته ، وليس بيمين فتجب فيه كفارتها ( المسألة السابعة ) حيث حرم الوطء قبل التكفير هل يحرم الاستمتاع قبله ؟ على روايتين ( إحداهما ) وهي ظاهر كلام الخرقي يجوز ، لأن التماسس في الآية الكريمة كناية عن الوطء ، وإذا كانت الكناية مراده فالحقيقة غير مراده ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر ، والقاضي في خلافه ، وأصحابه كالشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن البنا وغيرهم لا يجوز .
2757 لأن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق : ( لا تقربها حتى تفعل ما أمر الله به ) رواه النسائي عن عكرمة مرسلًا ، وقال فيه : ( فاعتزلها حتى تقضي ما عليك ) وقد ادعى القاضي أن المراد بالمسيس في الآية الكريمة حقيقته ، وأن الوطء إنما ثبت بالسنة ، وفيه بعد .
قال : فإن مات أو ماتت أو طلقها لم تلزمه الكفارة ، فإن تزوجها لم يطأها حتى يكفر ، لأن الحنث بالعود وهو الوطء ، لأن الله عز وجل أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث .
ش : إعلم أن الخرقي رحمه الله قد بنى ما بدأ به على أصل ، وهو العود ما هو ؟ وقال : إنه الوطء . وهذا إحدى الروايتين ، نص عليه أحمد ، فقال في قوله تعالى : 19 ( { ثم يعودون لما قالوا } ) قال : الغشيان ، إذا أراد أن يغشى . وقال أيضاً : مالك يقول : إذا أجمع لزمته الكفارة ؛ فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يجمع كان عليه الكفارة .
2758 إلا أن يذهب إلى قول طاووس : إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق ؛ ولم يعجب أحمد رحمه الله قول طاووس ، وهو اختيار الشيخين ، لأن قوله تعالى : 19 ( { ثم يعودون لما قالوا } ) أي لقولهم ، ف ( ما ) والفعل في تأويل المصدر ، أي لقولهم ، والمصدر فيتأويل المفعول ، أي مفعولهم ومقولهم الذي امتنعوا منه وهو الوطء ، وقرينة هذا العود ، إذ هو فعل ضد قوله ، ومنه الراجع في هبته ، هو الراجع في الموهوب ، والعائد فيما نهي عنه فاعل المنهي ، والمظاهر مانع لنفسه من الوطء ، فالعود فعله ، ولأن الظهار يمين مكفرة ، فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها ، وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الأيمان ، وتجب الكفارة بذلك كسائر الأيمان ( والثانية ) وبها قطع القاضي وأصحابه : أنه العزم على الوطء ، قال القاضي : ونص عليه أحمد في رواية الجماعة ، منهم الأثرم ، فقال : العود أن يريد أن يغشى ، فيكفر قبل أن يمسها ، وكذلك نقل أحمد بن أبي عبدة : تلزمه الكفارة إذا أجمع على الغشيان ، فذكر له قول الشافعي أنه الإمساك ، فلم يعجبه ، وذلك لأن التكفير بنص الكتاب والسنة يجب قبل الوطء ، وهو مسبب عن الوطء على القول الأول ، لأن به يجب ، والمسبب لا يتقدم على السبب ، فإذاً قوله تعالى : 19 ( { ثم يعودون لما قالوا } ) أي يريدون العود ( فتحرير ) أي فالواجب تحرير ، وهذا كما في قوله تعالى : 19 ( { إذا قمتم إلى الصلاة } )9 ( { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } ) وهو كثير ، ( ومن قال ) بالأول أجاب بأن التكفير شرط الحل ، كما أن الطهارة شرط لصحة الصلاة من مريدها ، وملخصه أن لنا إخراج ووجوب ، فإخراج الكفارة يجب عند إرادة الوطء ، فهو مسبب عن الإرادة ، ووجوب الكفارة بمعنى استقرارها في ذمته يجب بالوطء .
إذا تقرر هذا انبنى عليه ما تقدم ، وهو ما إذا ماتت أو مات ، أو طلقها قبل الوطء ، فعلى القول الأول لا تجب الكفارة ، لأن وجوبها بالوطء ولم يوجد ، وعلى القول الثاني إن وجد ذلك بعد العزم وجبت لوجود العود ، وإلا لم تجب ، كذا فرعه أبو البركات على قول القاضي وأصحابه ، وزعم أبو محمد عن القاضي وأصحابه أنهم على قولهم لا يوجبون الكفارة على من عزم ثم مات أو طلق إلا أبا الخطاب ، فإنه قال بالوجوب ، فعلى القول بأن الكفارة على المطلق قبل الوطء وإن عزم ، إذا عاد فتزوجها فحكم الظهار باق ، فلا يطأ حتى يكفر ، لإطلاق الآية الكريمة ، فإن هذا قد ظاهر من زوجته ثم أراد العود إليها ، فدخل تحت : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم } ) ولأن الظهار يمين مكفرة ، فلم يبطل حكمها بالطلاق كالإيلاء ، وبنى ذلك القاضي على أصلنا من أن النكاح الثاني ينبني على الأول ، وأن الصفة لا تزول بالبينونة .
وقد دل كلام الخرقي على أن الكفارة لا تجب بمجرد الظهار ، ولا بالإمساك بعده ، ولا بإعادة القول ثانياً ، وقوله : لأن الحنث بالعود وهو الوطء . تعليل لأن الكفارة لا تلزم بالموت ، ولا بالطلاق قبل الوطء ، وقوله : لأن الله عز وجل أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث ؛ تعليل لقوله : فلم يطأها حتى يكفر . هذا الذي يظهر لي والله أعلم .
قال : ولو قال لامرأة أجنبية : أنت علي كظهر أمي ؛ لم يطأها إن تزوجها حتى يأتي بكفارة الظهار .
ش : هذا منصوص أحمد ، وعليه أصحابه ، وقال : ليس هو بمنزلة الطلاق .
2759 وذلك لما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في رجل قال : إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي . فتزوجها ، قال : عليه كفارة الظهار . ولأنها يمين مكفرة ، فصح انعقادها قبل النكاح ، كاليمين بالله تعالى ، ولأبي محمد احتمال بأنه لا يصح ، لقول الله سبحانه : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم } ) والأجنبية ليست من نسائه ، ولأنه نوع تحريم ، فلم يتقدم النكاح كالطلاق . وأجيب عن الآية بأنها خرجت مخرج الطلاق ، وعن القياس بالفرق من وجهين ( أحدهما ) أن الطلاق حل قيد النكاح ، ولا حل قبل العقد ، والظهار تحريم للوطء ، وذلك قد يتقدم على العقد كالحيض ( والثاني ) أن الطلاق يزيل المقصود من النكاح فلم يصح ، وهذا لا يزيله وإنما يعلق الإباحة على شرط . انتهى ، وكذلك الحكم إذا عمم فقال : كل النساء على كظهر أمي . والله أعلم .
قال : وإذا قال : أنت علي حرام ، وأراد في تلك الحال لم يكن عليه شيء ، وإن تزوجها ، لأنه صادق ، وإن أراد في كل حال لم يطأها إن تزوج حتى يأتي بالكفارة .
ش : أما إذا أراد بقوله : أنت علي حرام . الإخبار عن حرمتها في الحال ، فلا شيء عليه ، لما علل به من أنه صادق ، إذ قد وصفها بصفتها ، ولم يقل المنكر من القول والزور ، وأما إذا أراد تحريمها في كل حال فهو مظاهر ، لأن من جملة الأحوال إذا تزوجها ، ولفظة الحرام إذا أريد بها الظهار ظهار في الزوجة بلا ريب ، فكذلك في الأجنبية ، ولو أطلق فلا شيء عليه ، لاحتماله للإنشاء وللإخبار ، فلا يتعين أحدهما بغير تعيين . والله أعلم .
قال : ولو ظاهر من زوجته وهي أمة ، فلم يكفر حتى ملكها ، انفسخ النكاح ، ولم يطأها حتى يكفر .
ش : أما انفساخ النكاح فلا ريب فيه ، لعدم اجتماع ملك اليمين وملك النكاح ، وإذاً يغلب الأقوى وهو الملك ، ويبطل النكاح ، وأما الوطء فقال الخرقي : لا يطأها حتى يكفر ؛ واختاره ابن حامد والقاضي وغيرهم ، لشمول الآية الكريمة له ، وهي : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } ) وهذا قد ظاهر من امرأته ، فدخل في الآية وقال أبو بكر في الخلاف : يبطل حكم الظهار ، وتحل له ، وعليه كفارة يمين ، كما لو تظاهر منها وهي أمته ، لأنها خرجت عن الزوجات ، وصارت ملك يمينه ، فأعطيت حكم ذلك ، وخرج أبو البركات قولًا أنها تحل له بملك اليمين بلا كفارة ، مع عود الظهار لو عتقت أو بيعت ثم تزوجها ، ولعله مخرج مما إذا ظاهر من أمته لا شيء عليه ، وأن الصفة تعود ، وبيانه أنه إذا ظاهر منها وهي زوجته ، ثم ملكها ، فقد زالت الزوجية ، وملك اليمين لا يؤثر الظهار فيه شيئاً ، فيصير كما لو علق طلاق زوجته على شيء ، ثم أبانها وفعل المحلوف عليه ، فإنه لا شيء عليه ، كذلك هنا ، تحل له بملك اليمين ، ولا شيء عليه ، ثم بعد ذلك إذا أعتقها أو باعها ثم تزوجها عاد الظهار ، كما تعود الصفة .
قال : ولو تظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة ، لم يكن عليه أكثر من كفارة واحدة .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب ، حتى أن أبا محمد نفى الخلاف في المذهب .
2760 اتباعاً لقول عمر وعلي رضي الله عنهما فإنهما قالا كذلك ، رواه عنهما الأثرم ، ولا نعرف لهما مخالفاً ، وكما لو حلف بالله تعالى على ذلك ، وحكى أبو البركات رواية أخرى أن عليه لكل واحدة كفارة . لأنه قد وجد الظهار والعود فيها ، فأشبه ما لو أفردها .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو تظاهر منهن بكلمات كان عليه لكل واحدة كفارة ، وهو إحدى الروايات ، واختيار ابن حامد ، والقاضي وأبي محمد وغيرهم ، لأنها أيمان لا يحنث في أحدها بالحنث في الأخرى ، فلا تكفرها كفارة واحدة ، كما لو كفر ثم ظاهر ، ( والرواية الثانية ) وهي اختيار أبي بكر عليه كفارة واحدة .
2761 قال أبو بكر : اتباعاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لأن كفارة الظهار حق لله تعالى ، فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد ( والرواية الثالثة ) إن كان في مجالس فكفارات ، وإن كان في مجلس واحد فكفارة واحدة ، نقلها الفضل بن زياد ، والله أعلم .
قال : والكفارة عتق رقبة .
ش : لا نزاع في هذا ، وقد شهد له الكتاب العزيز قال سبحانه : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } ) أي فالواجب تحرير رقبة ، أو فعليه تحرير رقبة ، والله أعلم .
قال : مؤمنة .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار جمهور أصحابه ، الخرقي ، والقاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي وأبي محمد وغيرهم ، حملا للمطلق في آية الظهار ، على المقيد في كفارة القتل ، لاتّحاد الحكم .
2762 ولما روى معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال : كانت لي جارية فأتيت النبي فقلت : علي رقبة أفأعتقها ؟ فقال لها رسول الله : ( أين الله ؟ ) قالت : في السماء . فقال : ( من أنا ) فقالت : أنت رسول الله . فقال النبي : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) رواه مسلم والنسائي ، فعلل عتقها عما عليه بأنها مؤمنة ( والرواية الثانية ) لا يشترط إيمانها ، بل تجزيء وإن كانت كافرة ، نص عليها في اليهودي والنصراني ، واختارها أبو بكر ، أخذا بإطلاق الكتاب ، وهاتان الروايتان يجريان في كل رقبة واجبة ، من نذر أو كفارة ، ما عدا كفارة القتل ، فإن الإيمان شرط فيها بلا نزاع للنص ، والله أعلم .
قال : سالمة من العيوب المضرة بالعمل .
ش : لأنه لحظ فيه تمليك منافعه ، وخروجه من حيز العدم ، إلى حيز الوجود ، ومع الضرر بالعمل لم يحصل ذلك ، فعلى هذا لا يجزئ الأعمى ، ولا المقعد ، ولا مقطوع اليد أو الرجل ، أو أشلهما ، أو إبهام اليد ، أو سبابتها أو الوسطى ، أو الخنصر والبنصر من يد واحدة ، وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها ، بخلاف قطع غيرها من الأنامل ، ولو كان الجميع ، ولا يجزئ المجنون ، ولا المريض غير مرجو البرء ، كالسل ، بخلاف المرجو البرء ، ولا النحيف العاجز عن العمل ، ويجزئ الأعرج ، والمجدع الأنف والأذن ، والمجبوب والخصي ، والأعور على أصح الروايتين ، وهل يجزئ الأخرس مطلقاً ، وهو الذي حكاه القاضي في التعليق ، وأبو الخطاب عن أحمد ، أو لا يجزئ مطلقاً ، وهو الذي حكاه أبو محمد منصوصاً له ، أو إن كان به صمم لم يجزئ وإلا أجزأ ، وهو اختيار القاضي ، وجماعة من أصحابه ، وعليه حمل نص أحمد بالإجزاء ، أو إن فهمت إشارته أجزأ وإلا فلا ، وهو مختار أبي محمد ، أو إن انتفى عنه الصمم ، وفهمت إشارته أجزأ وإن وجد أحدهما منع ، وهو اختيار أبي البركات ، على خمسة أقوال ، وهذا كله على المعروف من المذهب ، وقد حكى ابن الصيرفي في نوادره رواية بإجزاء الزمن والمقعد ، فيخرج في عامة هذه الصور قول بالإجزاء ، وتمام الكلام على ذلك له محل آخر ، والله أعلم .
قال : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين .
ش : إذا لم يجد رقبة يشتريها ، أو وجدها ولم يجد ما يشتريها به ، أو وجد ما يشتريها به لكن بزيادة كثيرة ، أو مجحفة بماله ، أو وجدها ولكن احتاجها لخدمة ونحو ذلك ، فالكفارة صيام شهرين متتابعين ، لقوله سبحانه : 19 ( { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } ) والله أعلم .
قال : فإن أفطر فيهما من عذر بنى ، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ .
ش : الإجماع على وجوب التتابع في الشهرين ، لشهادة الكتاب ، وقد تقدم ذلك ، وكذلك السنة .
2763 فعن خويلة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنهم قالت : ظاهر مني أوس بن الصامت ، فجئت رسول الله أشكو إليه ، ورسول الله يجادلني فيه ويقول : ( اتقي الله فإنه ابن عمك ) فما برح حتى نزل القرآن : 19 ( { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } ) إلى الفرض ، فقال : ( يعتق رقبة ) فقالت : لا يجد . قال : ( فيصوم شهرين متتابعين ) قالت : يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال : ( فليطعم ستين مسكيناً ؟ ) قالت : ما عنده من شيء يتصدق به ؟ قال : ( فإني سأعينه بعرق من تمر ) قلت : يا رسول الله فإني سأعينه بعرق تمر آخر . قال : ( قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً ، وارجعي إلى ابن عمك ) والعرق ستون صاعاً ؛ رواه أبو داود .
إذا تقرر هذا فمعنى التتابع أن يوالي بين صيام أيامهما ، ولا يفطر فيهما ، ولا يصوم عن غير الكفارة ، ولا يشترط نية التتابع ، وإنما يشترط فعله ، ومتى أفطر فيهما من غير عذر ابتدأ ، لإخلاله بالشرط وهو التتابع ، وكذلك إن صام عن نذر أو قضاء ، أو كفارة أخرى لذلك ، فلو كان النذر أياماً من كل شهر كأيام البيض ، أو يوم الخميس قدم الكفارة عليه ، وقضى ذلك بعدها ، إذ لو وفى بنذره لانقطع التتابع ، لا يقال : هذا الزمن المنذور متعين للصوم ، فلا يقطع التتابع كصوم رمضان ، لأنا نقول : الزمان لا يتعين ، بدليل صحة صوم آخر فيه ، بخلاف زمن رمضان ، وإن أفطر لعذر فلا يخلو إما أن يكون موجباً أو مبيحاً ، فإن كان موجباً كالفطر للحيض والمرض المخوف ، أو فطر الحامل والمرضع لخوفهما على أنفسهما ، أو لكونه يوم عيد ، ونحو ذلك لم ينقطع التتابع ، لأنه مضطر إلى ذلك ، ولا صنع له فيه ، أشبه إذا كان الفطر للحيض ، ودليل الأصل الإجماع ، وإن كان العذر مبيحاً كالسفر ، والمرض غير المخوف فثلاثة أوجه ( أحدها ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، وإليه ميل أبي محمد لا يقطع ، لأنه عذر أباح له الفطر ، أشبه ما لو أوجبه ( والثاني ) يقطع ، لأن له مندوحة عنه ، أشبه ما لو أفطر بغير عذر ( والثالث ) وهو اختيار القاضي ، وجماعة من أصحابه يقطع السفر لأن إنشاءه باختياره ولا يقطع المرض ، لأن حصوله بغير اختياره ، وهو ظاهر كلام أحمد ، بل زعم القاضي أنه منصوصه .
وقد دخل في كلام الخرقي إذا أفطرت الحامل والمرضع لخوفهما على ولديهما ، وهو أحد الوجهين ، واختيار أبي الخطاب ، وأبي محمد ، ودخل أيضاً من أفطر لجنون أو إغماء ، ولا نزاع في ذلك ، وكذلك من أفطر لإكراه أو نسيان ، كمن وطيء كذلك ، أو خطأ كمن أكل يظنه ليلًا فبان نهاراً ، وهو أحد الوجهين أيضاً ، وقطع به أبو البركات ، نعم قد يستثنى منه كلامه من أكل ناسياً لوجوب التتابع أو جاهلًا به ، أو ظناً منه أنه قد أتم الشهرين ، فإن تتابعه قد ينقطع ، قاله أبو محمد .
قال : فإن أصابها في ليالي الصوم أفسد ما مضى من صومه ، وابتدأ الشهرين .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار أصحابه ، الخرقي ، والقاضي ، وأصحابه كالشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن البنا ، وابن عقيل وغيرهم ، والشيخين ، لقول الله تعالى : 19 ( { فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } ) أوجب سبحانه صوم الشهرين بشرطين ( أحدهما ) تقديم الشهرين على المسيس ( والثاني ) إخلاؤهما عن المسيس ، فإذا وطىء في خلالهما فقد فات أحد الشرطين وهو تقديمهما عليه ، وبقي الشرط الأخر يمكنه أن يأتي به فيستأنف الصوم ، فيخلو الشهران عن المسيس فوجب ذلك ، كمن أمر بشيئين فعجز عن أحدهما وقدر على الآخر ، يسقط ما عجز عنه ، ويلزمه ما قدر عليه ( والرواية الثانية ) لا ينقطع التتابع بذلك ، لأنه وطء لم يصادف محل الصوم ، أشبه ما لو وطئ غير التي ظاهر منها ، ولأن التتابع في الصيام عبارة عن اتباع صوم يوم بالذي قلبه ، وهذا متحقق وإن وطئ ليلًا ، وكذلك الروايتان إذا وطئها نهاراً ناسياً ، قاله غير واحد ، وخرجهما أبو محمد فيما إذا وطئها وقد أبيح له الفطر لمرض ونحوه .
واعلم أن ظاهر كلام أبي محمد في المقنع أن شرط عدم انقطاع التتابع فيما إذا وطئ ليلًا أن يطأ ناسياً ، وهو غفلة منه ، فلا يعتبر بذلك .
( تنبيه ) أخذت الرواية الأولى من قول أحمد في رواية ابن منصور : إذا تظاهر فأخذ في الصوم فجامع يستقبل ؛ وأخذت الثانية من قوله في رواية الأثرم وسئل عن المظاهر إذا صام بعض صيامه ، ثم جامع قبل أن يتمه ، كيف يصنع ؟ قال : يتم صومه . والروايتان مطلقتان كما ترى ، ولكن الأصحاب حملوهما على ما تقدم والله أعلم .
قال : فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً .
ش : إذا لم يستطع صوم الشهرين على الصفة الواجبة فكفارته إطعام ستين مسكيناً بالإجماع ، وقد شهد لذلك ما تقدم من الكتاب والسنة ، وسواء عدم الاستطاعة ( لكبر ) كما تقدم في قصة أوس بن الصامت ، ( أو شبق ) .
2764 لما روى سلمة بن صخر رضي الله عنهما قال : كنت امرءاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان ، فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئاً فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر على أن أنزع ؛ فبينما هي تخدمني من الليل إذا انكشف لي منها شيء فوثبت عليها ، فلما أصبحت غدوت على قومي ، فأخبرتهم خبري ، وقلت لهم : انطلقوا معي إلى رسول الله فأخبره بأمري ؛ فقالوا : والله لا نفعل ، نتخوف أن ينزل فينا قرآن ، أو يقول فينا رسول الله مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت واصنع ما بدا لك ؛ فخرجت حتى أتيت رسول الله فأخبرته خبري ، فقال لي : ( أنت بذاك ؟ ) فقلت : أنا بذاك . فقال : ( أنت بذاك ؟ ) فقلت : نعم ، ها أنا ذا فأمض في حكم الله ، فأنا صابر له . قال : ( أعتق رقبة ) فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها ، قال : ( فصم شهرين متتابعين ) قلت : يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم ؟ قال : ( فتصدق ) قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا وحشا مالنا عشاء . قال : ( اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق ، فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكيناً ، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك ) فرجعت إلى قومي فقلت لهم : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله السعة والبركة ، وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي ؛ قال : فدفعوها إلي . رواه الإمام أحمد وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، انتهى ، ( أو مرض ) وإن رجي زواله ، لدخوله تحت الآية الكريمة ، لا لسفر ، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا بد من تعدد المساكين ، وتأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الكفارات .
( تنبيه ) : فرقا . أي خوفا ، والله أعلم .
قال : مسلماً .
ش : من شرط المسكين المدفوع إليه في الكفارة أن يكون مسلماً ، على المنصوص والمختار للأصحاب ، فلا يجوز الدفع لذمي ، لأنه كافر ، فلم يجز الدفع إليه كالحربي والمستأمن ، إذ هو مال يجب دفعه إلى الفقير بالشرع ، فلا يدفع إلى أهل الذمة كالزكاة ، وحكى الخلال في جامعه رواية بالجواز ، قال القاضي : ولعله بنى ذلك على جواز عتق الذمي في الكفارة ، وذلك لأنه مسكين ، فدخل تحت : 19 ( { فإطعام ستين مسكينا } ) .
( تنبيه ) بحث الأصحاب وكلامهم يقتضي أن الخلاف في الذمي ، وأنه لا نزاع أن الحربي لا يدفع إليه ، وكذلك نص أحمد في جواز عتق الكافر إنما هو في اليهودي والنصراني .
قال : حرا .
ش : أي ومن شرط المسكين أن يكون حراً ، فلا يجوز دفعها لعبد ولا أم ولد ونحوها ، لعدم حاجتهم ، لوجوب نفقتهما على سيدهما ، وظاهر كلامه أنه لا يجوز دفعها إلى مكاتب ، ويأتي ذلك في الكفارات إن شاء الله تعالى ، ويدخل في كلام الخرقي في المسكين الفقير ، لأنه مسكين وزيادة ، وكذلك الغارم لإصلاح نفسه ، لأنه محتاج . والله أعلم .
قال : لكل مسكين مد من حنطة ، أو نصف صاع من تمر أو شعير .
2765 ش : أما كونه مدا من حنطة فلما روى الإمام أحمد قال : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن أبي يزيد المدني ، قال : جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير ، فقال النبي للمظاهر : ( أطعم هذا ، فإن مدي شعير مكان مدبر ) .
2766 وعلى هذا يحمل ما روي عن أبي سلمة ، عن سلمة بن صخر ، أن النبي أعطاه مكتلًا فيه خمسة عشر صاعاً ، فقال : ( أطعمه ستين مسكيناً وذلك لكل مسكين مد ) رواه الدارقطني ، وللترمذي معناه .
2767 ثم هذا قول زيد وابن عباس ، وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ، وأما كونه نصف صاع تمر أو شعير فلما تقدم من أن مدي شعير مكان مد بر .
2768 وفي أبي داود قال : وذكر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال يعني العرق زنبيلًا يأخذ خمسة عشر صاعاً ؛ وإذاً العرقان ثلاثون صاعاً ، فيكون لكل مسكين نصف صاع تمر ، انتهى والخرقي رحمه الله اقتصر على البر والشعير والتمر ، وقال غيره يجزيء هنا ما يجزيء في الفطرة فإن كان قوت بلده غير ذلك كالأرز والذرة ، فهل يجزئه ، وهو اختيار أبي الخطاب ، وأبي محمد ، أو لا يجزئه ، وهو اختيار القاضي ؟ فيه قولان ، وكذلك القولان في إجزاء الخبز ، إلا أن القاضي وأصحابه هنا وافقوا على الإجزاء .
( تنبيه ) المكتل الزنبيل ، وقيل القفة ، وهما بمعنى واحد ، وقيل القفة العظيمة ، والعرق قد فسره أبو سلمة بن عبد الرحمن ، بأنه يسع خمسة عشر صاعاً ، وفي حديث خويلة قالت : والعرق ستون صاعاً . وفي رواية : العرق مكتل يسع ثلاثين صاعاً ؛ قال أبو داود : وهذا أصح . يعني من كونه ستين صاعاً ، قال بعضهم : والاختلاف في قدره يدل على أنه يختلف ، فيكون بعضه أكبر من بعض ، وهو بفتح العين والراء ، وسكن بعضهم الراء ، والزنبيل بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة مخفف ، فإن كسرت الزاي شددت فقلت زبيل ، أو قلت زنبيل ، سمي زنبيلًا لأنه ينقل فيه الزبل للسماد .
قال : ومن ابتدأ صوم الظهار من أول شعبان أفطر يوم الفطر وبنى ، وكذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة أفطر يوم الأضحى وأيام التشريق ، وبنى على ما مضى من صيامه .
ش : قد تقدم أنه إذا ترك صوم الكفارة لعذر أنه لا يضره ويبني ، فإذا صام من أول شعبان ففي رمضان يترك الصوم للكفارة ، لأن هذا الزمن متعين لرمضان ، ثم يفطر يوم العيد ، فبعد ذلك يكمل ، وكذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة فإنه يفطر يوم الأضحى وأيام التشريق ، ثم يبني ، وإذا قلنا يجوز صوم أيام التشريق عن الفرض مطلقاً فإنه لا يفطر أيام التشريق .
قال : وإن كان المظاهر عبداً لم يكفر إلا بالصوم .
ش : هذا يدل على صحة ظهار العبد ، ولا ريب في ذلك ، لشمول الآية الكريمة له ، وإذا صح ظهاره فكفارته الصيام ، لأنه لا يجد الرقبة ، لأنه معسر ، وأسوأ حالًا منه ، فيدخل تحت : 19 ( { فمن لم يجد فصيام شهرين } ) وظاهر كلام الخرقي أن كفارته الصيام وإن أذن له سيده وهو والله أعلم بناء على قاعدته ، من أنه لا يملك وإن ملك ، ومن لا ملك له لا مال له يكفر به ، ومن الأصحاب من يقول : يجوز أن يكفر بالمال بإذن السيد ، وإن لم نقل إنه يملك ، وهو ظاهر كلام أبي بكر ، وطائفة من متقدمي الأصحاب ، وإليها ميل أبي محمد ، ولهم مدركان ( أحدهما ) : أنه يملك القدر المكفر به ملكاً خاصاً ( والثاني ) : أن الكفارة لا يلزم أن تدخل في ملك المكفر ، أما إن قلنا يملك ، أو أذن له سيده في التكفير بالمال ، فلا نزاع أنه له أن يكفر به ، ثم هل له ذلك على سبيل الوجوب أو الجواز ؟ فيه تردد للأصحاب ، وأيما كان فله على هذا التكفير بالإِطعام ، وهل له التفكير بالعتق ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) : نعم ، اختارها ، أبو بكر ، ومال إليها أبو محمد كالإِطعام ( والثانية ) : لا ، لأنه يقتضي الولاء ، والولاء يقتضي ولاية الإِرث ، وليس العبد من أهل ذلك ، ومن أصحابنا من بناهما على الروايتين في المعتق في الكفارة ، إن قلنا : عليه الولاء لم يكن له العتق ، وإن قلنا : لا ولاء عليه ، صح تكفيره بالعتق ، وإذا جوزنا له التكفير بالعتق ، فأذن له سيده في إعتاق نفسه عن كفارته جاز ذلك ، على مقتضى قول أبي بكر ، فإنه حكى فيما إذا أذن له في العتق وأطلق ، هل له أن يعتق نفسه ، لأن رقبته تدخل في الإِطلاق ، أو ليس له ذلك ، لأن خطابه بالإِعتاق قرينة على إرادة غيره .
( تنبيه ) : إذا أذن له سيده في الإعتاق وأطلق ، وجوزنا له عتق نفسه ، فلا بد أن تكون رقبته أقل رقبة تجزئ في الكفارة ، لأنه إذا أعتق غيره لا بد أن يكون كذلك ، لأنه وكيل ، فيجب عليه التصرف بالأحظ .
قال : وإذا صام فلا يجزيه إلا شهران متتابعان .
ش : قد تقدم أن كفارة العبد الصيام ، وإذاً فحكمه في ذلك حكم الحر في أنه يصوم شهرين متتابعين ، لدخوله في الآية الكريمة ، من غير قيام ما يقتضي التخصيص .
قال : ومن وطئ قبل أن يأتي بالكفارة كان عاصياً .
ش : لمخالفة أمر ربه سبحانه ، وأمر رسول الله ، قال الله تعالى : 19 ( { من قبل أن يتماسا } ) وهذا قد مس ، وقال النبي : ( لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ) وقد تقدم .
قال : وعليه الكفارة المذكورة .
ش : إذا خالف ووطىء استقرت عليه الكفارة المتقدمة ، لأنه ظاهر وعاد ، فيدخل تحت 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم ، ثم يعودون لما قالوا } ) الآية .
2769 وروى النسائي عن عكرمة ، أن رجلًا أتى النبي قد ظاهر من امرأته فوقع عليها ، فقال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي ، فوقعت عليها قبل أن أكفر ؛ فقال : ( ما حملك على ذلك يرحمك الله ؟ ) قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر . قال : ( فاعتزلها حتى تقضي ما عليك ) ولهذا أيضاً قال الأصحاب : ليس له الوطء ثانياً حتى يأتي بالكفارة ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه أكثر من كفارة واحدة ، وهو كذلك لما تقدم .
2770 وفي الترمذي وابن ماجه عن سلمة بن صخر رضي الله عنه عن النبي في المظاهر يواقع قبل أن يكفر ، قال : ( كفارة واحدة ) وهو إن صح نص .
قال : وإذا قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أبي . أو أنت علي حرام . لم تكن مظاهرة ، ولزمها كفارة الظهار ، لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور .
ش : أما كون المرأة لا تكون مظاهرة بذلك فهذا هو المعروف والمشهور ، والمجزوم به عند كثير من الأصحاب ، حتى أن القاضي قال في الروايتين : رواية واحدة ؛ لتخصيص الله سبحانه الظهار بالرجال قال تعالى : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودن } ) الآية ، ولأنه قول يوجب تحريماً في الزوجة ، يملك الزوج رفعه ، فاختص به الرجال كالطلاق ، وحكى ابن شهاب ، وأبو يعلى ابن أبي حازم رواية أخرى أنها تكون مظاهرة ، وقالا : اختارها أبو بكر ، وزاد ابن أبي حازم : والقاضي ، والشريف ؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم قضوا في ذلك بكفارة الظهار ، وسببها الظهار ، فدل على أنها تكون مظاهرة ، وقياساً لأحد الزوجين على الآخر ، وعلى هذا تجب كفارة الظهار بلا ريب ، أما على المذهب ( فعنه ) وهو المشهور ، واختيار الخرقي والقاضي ، وجماعة من أصحابه كالشريف ، وأبي الخطاب ولاشيرازي ، وابنه أبي الحسين يلزمها كفارة ظهار .
2771 قال أحمد مثل حديث عائشة بنت طلحة ، وهو ما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم ، أن عائشة بنت طلحة قالت : إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي . فسألت أهل المدينة ، فرأوا عليها الكفارة .
2772 وروى علي بن مسلم ، عن الشيباني ، قال : كنت جالساً في المسجد أنا وعبد الله بن معقل المزني ، فجاء رجل حتى جلس إلينا ، فسألته من أنت ؟ فقال : مولى لعائشة بنت طلحة التي أعتقتني عن ظهارها ، خطبها مصعب بن الزبير ، فقالت : هو علي كظهر أبي إن تزوجته . ثم رغبت فيه بعد ، فاستفتت أصحاب رسول الله وهو يومئذ كثير ، فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه ، فأعتقتني وتزوجته ؛ رواهما سعيد مختصرين .
( وعنه ) وهو اختيار أبي محمد : عليها كفارة يمين ، لأنه ليس بظهار ، فلا يوجب كفارته كسائر المنكر من القول ، وتجب كفارة يمين ، لأنه تحريم مباح ، أشبه تحريم سائر الحلال ( وعنه ) لا شيء عليها ، لأنه ليس بظهار فتجب فيه كفارته ، ولا يمين فتجب كفارتها ، وإذا قلنا بوجوب الكفارة عليها فإنما تجب بالحنث ، وهو الوطء إن قلنا تجب كفارة يمين ، وكذلك إن قلنا كفارة ظهار فلا تكون مظاهرة ، صرح بذلك القاضي وغيره ، بشرط أن لا تكون مكرهة ، وإن قلنا تكون مظاهرة ، فقيل : بالعزم على التمكين ، حكاه ابن أبي حازم فيما أظن ، قال ابن عقيل : رأيت بخط أبي بكر : العود التمكين .
( تنبيه ) عليها التمكين قبل التكفير ، قاله الشيخان ، لأن ذلك حق عليها ، فلا يسقط بيمينها ، قال أبو محمد : وحكي عن أبي بكر أنها لا تمكنه قبل التكفير كالرجل ، قال : وليس بجيد . لأن ظهار الرجل صحيح ، وظهارها غير صحيح ، قلت : قول أبي بكر جار على قوله من أنها تكون مظاهرة ، وقال أبو البركات : إنها ليس لها ابتداء القبلة والاستمتاع ، مع قوله : إنها تمكنه ، وإنها غير مظاهرة ، وذلك لأنه الذي في يدها ، وهي قد منعت نفسها منه .
قال : وإذا ظاهر من نسائه مراراً فلم يكفر فكفارة واحدة .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة الأصحاب ، القاضي ، والشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن البنا وغيرهم ، لأنه لفظ تتعلق به كفارة ، فإذا كرره كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى ، ولأن الكفارات زواجر بمنزلة الحدود ، فإذا وجدت قبل التكفير تداخلت كالحدود ( وعنه ) تجب كفارات ما لم ينو التأكيد أو الإفهام ، لأن الظهار مع العود قد وجداً ، فتجب الكفارة كما بأول مرة ، وأبو محمد في الكافي يحكي هذه الرواية إن نوى الاستئناف تكررت ، وإلا لم تتكرر ، وهو ظاهر كلام القاضي في روايتيه وليس بجيد ، فإن مأخذ هذه الرواية في الرجل يحلف على شيء واحد أيماناً كثيرة ، فإن أراد تأكيد اليمين فكفارة واحدة ، وحكى أبو محمد في المقنع الرواية إن كرره في مجالس فكفارات ، ولا أظنه إلا وهما ، والله أعلم .
كتاب اللعان

ش : اللعان مصدر : لاعن لعاناً . إذا فعل ما ذكر ، أو لعن كل واحد من الاثنين الآخر ، قال أبو محمد : مشتق من اللعن ، لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً ، وقال القاضي : لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذباً ، فتحصل اللعنة عليه . انتهى ، قال الأزهري : وأصل اللعن الطرد والإبعاد ، يقال : لعنه الله أي باعده .
والأصل في اللعان قول الله تعالى : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } ) إلى قوله تعالى : 19 ( { أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } ) .
2773 وعن الزهري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن عويمر ابن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي ، فقال له : يا عاصم أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ سل لي يا عاصم رسول الله ، فسأل عاصم رسول الله ، فكره رسول الله المسائل ، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله ، فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر ، فقال : يا عاصم ماذا قال لك رسول الله ؟ فقال عاصم : لم تأتني بخير ، قد كره رسول الله المسألة التي سألته عنها ، فقال عويمر : والله لا أنتهي حتى أسأله عنها ؛ فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله وهو وسط الناس ، فقال : يا رسول الله أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله : ( قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن ، فاذهب فأت بها ) قال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله ، فلما فرغا قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ؛ فطلقها عويمر ثلاثاً قبل أن يأمره النبي ؛ قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين . رواهما الشيخان ، وأبو داود وهذا لفظه .
قال : وإذا قذف الرجل زوجته البالغة الحرة المسلمة ، فقال لها : زنيت ، أو يا زانية ، أو رأيتك تزنين . ولم يأت بالبينة ، لزمه الحد إن لم يلتعن ، مسلماً كان أو كافراً ، حراً كان أو عبداً .
ش : الكلام على هذه المسألة أولًا من جهة الإجمال ، وثانياً من جهة التفصيل .
فأما من جهة الإجمال فإذا قذف الرجل زوجته التي هذه صفتها بما ذكر ، ولم يأت بالبينة لزمه الحد ، فإن التعن سقط عنه الحد ، لقول الله تعالى : 19 ( { والذين يرمون المحصنات } ) الآية ، أوجب سبحانه الحد على رامي المحصنات إن لم يأت بالبينة ، وهو شامل للأزواج وغيرهم ، ثم خص الأزواج بعد ذلك باللعان ، تنبيهاً على أن اللعان قائم مقام البينة في إسقاط الحد .
2774 ويشهد لهذا ما في السنن عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء ، فقال النبي : ( البينة وإلا حد في ظهرك ) فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلًا على امرأته يلتمس البينة ؟ فجعل رسول الله يقول : ( البينة وإلا حد في ظهرك ) مختصر ، رواه البخاري وأبو داود ، والترمذي وابن ماجه .
وأما من جهة التفصيل فقول الخرقي : إذا قدف الرجل زوجته ، إلى آخره يقتضي أن اللعان إنما يشرع بين الزوجين ، وهو اتفاق في الجملة ، أما قذف غير الزوجين فالواجب فيه إما الحد إن كانت المرأة محصنة ، أو التعزيز إن لم تكن محصنة ، لما تقدم من قول الله تعالى : 19 ( { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ) إلى : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم } ) دل على أن كل رام يلزمه الحد ، وأن الزوج له مع عدم البينة شيء آخر وهو اللعان ، وكذلك لا لعان بقذف الأمة ، وإن كان بينهما ولد ، لأن اللعان ، إنما ورد في الزوجات ، ويدخل في الزوجة الرجعية ، لأنها زوجة ، وكذلك من قذفها ثم أبانها ، لأن القذف ورد على زوجته ، وكذلك إذا قال لها : أنت طالق يا زانية ثلاثاً ؛ لأن قذفها حصل قبل بينونتها ، ويستثنى من الأجنبية إذا قذفها في نكاح فاسد ، أو أبانها ثم قذفها بزنا في النكاح ، أو في العدة أو قال لها : أنت طالق ثلاثاً يا زانية ، فإن في هذه الصورة إن كان بينهما ولد لاعن لنفيه ، للحاجة إلى ذلك ، وإن لم تكن زوجة ، لإضافة ذلك إلى الزوجية ، وإلا حد ولم يلاعن ، ويستثنى من الزوجة إذا قذف زوجته بزنا قبل النكاح ، فإنه يحد ولا يلاعن على المذهب مطلقاً ، لإضافة القذف إلى حالة البينونة ( وعنه ) يلاعن مطلقاً ، نظراً إلى أنها زوجته ، فيدخل في الآية الكريمة ( وعنه ) إن كان ثم ولد لاعن لحاجته إلى نفيه ، وإلا لم يلاعن ، انتهى ، وقوله : البالغة الحرة المسلمة . إلى آخره ، بيان لصفة الزوجين الذين يصح لعانهما ، وقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك ، فروي عنه أن من شرطهما أن يكونا مكلفين ، وإن كانا ذميين ، أو رقيقين أو فاسقين ، أو كان أحدهما كذلك ، لعموم : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم } ) وهذا شامل لكل زوج وزوجة ، خرج منه غير المكلفين ، لأن هذا لا يخلو من حد أو تعزير ، وذلك لا يتعلق إلا بمكلف ، وبنى القاضي وغيره ذلك على أن اللعان يمين ، واليمين لا يشترط لها إسلام ولا حرية ، ولا عدالة ، ودليل ذلك افتقار اللعان إلى اسم الله تعالى .
2775 وقول النبي في امرأة هلال : ( لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ) وهذه الرواية هي اختيار القاضي في تعليقه ، وجماعة من أصحابه ، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا ، واختيار أبي محمد إيضاً وغيره ( وعنه ) يشترط التكليف الإسلام والحرية والعدالة ، فلا لعان إلا من مسلمين حرين عدلين ، وعلله أحمد بأنه شهادة ، وذلك لوجود لفظ الشهادة فيه ، ولأن الله سبحانه قال : 19 ( { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } ) فجعلهم شهداء ( وعنه ) رواية ثالثة : لا يصح اللعان إلا من المحصنة وزوجها المكلف ، ولا لعان في قذف يوجب التعزير ، لأن الله تعالى قال : 19 ( { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ، فاجلدوهم ثمانين جلدة } ) ثم قال : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم } ) الآية ، وظاهره المحصنات ( وعنه ) لا لعان بقذف غير المحصنة ، إلا لولد يريد نفيه ، وهذا اختيار القاضي في المجرد ، نظراً للحاجة لنفي الولد ، وظاهر كلام الخرقي الثالثة ، لأنه اعتبر في الزوجة البلوغ والحرية والإسلام ، ولم يعتبر ذلك في الزوج ، والقاضي والشريف وأبو الخطاب قالوا : إن اختياره الثانية .
واعلم أن في كلام الخرقي تساهلًا ، لأنه قال : لزمه الحد إن لم يلتعن ، مسلماً كان أو كافراً . والحد إنما يجب بقذف المسلمة ، والكافر لا يكون زوجاً لمسلمة ، وقد يحمل على ما إذا أسلمت فقذفها في عدتها ، فإن هنا يلزمه الحد وإن كان كافراً ، وله أن يلتعن لإسقاطه إن كان بينهما ولد كما تقدم . انتهى ، وقوله : فقال لها : زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين ، بيان للألفاظ التي يصير بها قاذفاً ، ويترتب عليها اللعان ، ولا يشترط أن يضيف ذلك إلى الرؤية ، لعموم : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم } ) ولا أن يقذفها بزنا في القبل ، بل لا فرق بين القبل والدبر ، ولو قذفها بغير الزنا ، أو بزنا لكن في غير الفرج فلا حد ولا لعان ، ولو لم يقذفها بالزنا أصلًا ، بأن قال : لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني . ونحو ذلك ، فيأتي إن شاء الله تعالى ، وقوله : ولم يأت بالبينة لزمه الحد إن لم يلتعن ، تقدم الكلام عليه أولًا ، وظاهر كلامه أنه إذا قدر على البينة له أن يلتعن وهو كذلك ، لأنهما بينتان ، فكان له الخبرة في أيهما شاء والله أعلم .
قال : ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته .
ش : يعني لا يعرض له في طلب حد ولا لعان حتى تطالبه زوجته ، لأن ذلك حق لها ، فلا يقام إلا بطلبها ، كبقية حقوقها ، ولا يملك وليها المطالبة ، وإن كانت صغيرة أو مجنونة ، أو أمة ، لأنه حق ملحوظ فيه التشفي ، فليس لغير من هو له طلبه كالقصاص ، فإن أراد الزوج اللعان من غير طلبها ، ولا ولد لم يكن له ذلك بلا نزاع عندنا ، وكذلك مع وجود الولد على أكثر نصوص الإمام أحمد ، لأنه أحد موجبي القذف ، فلا يشرع مع عدم المطالبة كالحد ، واختار القاضي أن له اللعان وحده ، لأجل نفي الولد ، لحاجته إلى ذلك ، وجعله أبو البركات قياس رواية أنه يلاعن إذا نفى الولد ، ولم يرمها بالزنا ، بأن قال : لم تزن والولد ليس ولدي . ونحو ذلك ، كما سيأتي ، وهكذا الخلاف في كل موضع تعذر فيه اللعان من جهتها ، كما إذا أعفته عن المطالبة أو صدقته أو أقام بينة بزناها ، أو قذفها وهي محصنة فجنت ، أو وهي مجنونة بزنا قبل الجنون ، أو وهي خرساء أو ناطقة ثم خرست ولم تفهم إشارتها .
قال : فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبداً .
ش : إذا تلاعنا وفرق الحاكم بينهما ، حرمت الملاعنة على الملاعن على التأبيد ، فلا يجتمعان أبداً على المذهب بلا ريب .
2776 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله للمتلاعنين : ( حسابكما على الله تعالى ، أحدكما كاذب ، لا سبيل لك عليها ) . قال : يا رسول الله مالي ؟ قال : ( لا مال لك ، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها ) متفق عليه .
2777 وعن سهل بن سعد في قصة المتلاعنين : ففرق رسول الله بينهما ، وقال : ( لا يجتمعان أبداً ) .
2778 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً ) .
2779 وعن علي ، وابن مسعود رضي الله عنهما قالا : مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان . رواهن الدارقطني .
وشذ حنبل عن أصحابه فنقل عن أحمد أنه إذا أكذب نفسه حلت له ، نظراً إلى أن اللعان الذي وجد كأن لم يكن بالتكذيب ، وقد اختلف نقل الأصحاب في هذه الرواية ، فقال القاضي في الروايتين : نقل حنبل : إن أكذب نفسه زال تحريم الفراش ، وعادت مباحة كما كانت بالعقد الأول ؛ وقال في الجامع والتعليق : إن أكذب نفسه جلد الحد ، وردت إليه ، وظاهر هذا أنه من غير تجديد عقد ، وهو ظاهر كلام أبي محمد ، قال في الكافي والمغني : نقل حنبل : إن أكذب نفسه عاد فراشه كما كان ؛ زاد في المغني : وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق الحاكم ، فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله ؛ وفيما قاله نظر ، فإنه إذا لم يفرق الحاكم فإن قيل : الفرقة حصلت باللعان ، فهو كتفريق الحاكم ، وإن قيل : لا تحصل إلا بتفريق الحاكم ، فلا تحريم حتى يقال حلت له ، والذي يقال في توجيه ظاهر هذا النقل أن الفرقة إنما استندت للعان ، وإذا أكذب نفسه كأن اللعان لم يوجد ، وإذاً يزول ما ترتب عليه ، وهو الفرقة وما نشأ عنها وهو التحريم .
وأعرض أبو البركات عن هذا كله فقال : إن الفرقة تقع فسخاً متأبد التحريم ( وعنه ) إن أكذب نفسه حلت له بنكاح جديد ، أو ملك يمين إن كانت أمة ، وقد سبقه إلى ذلك الشيرازي ، فحكى الرواية أنها تباح بعقد جديد . انتهى .
فعلى المذهب متى وقع اللعان بعد البينونة أو في نكاح فاسد ، فهل يفيد الحرمة المؤبدة ، لأنه لعان صحيح ، أو لا يفيدها ، لأن الفرقة لم تحصل به ؟ على وجهين .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله ، أن الفرقة بينهما لا تحصل إلا بتفريق الحاكم ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار القاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافاتهم ، وابن البنا وأبي محمد ، وأبي بكر فيما حكاه القاضي في التعليق .
2780 لما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا لاعن امرأته في زمن رسول الله ، وانتفى من ولدها ، ففرق رسول الله بينهما ، وألحق الولد بالمرأة . رواه الجماعة .
2781 وعن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عمر رضي الله عنهما : رجل قذف امرأته . قال : فرق رسول الله بين أخوي بني عجلان ، وقال : ( الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ) يرددها ثلاث مرات ، فأبيا ففرق بينهما . متفق عليه ، ولو حصلت الفرقة بمجرد اللعان لما احتيج إلى فرقة .
2782 وقد تقدم في حديث سهل بن سعد أن عويمرا قال : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها . فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله ، قال الزهري : فكانت تلك سنة المتلاعنين ، وفي رواية في الصحيح : ( ذاكم التفريق بين كل متلاعنين ) وفي لفظ لأحمد ومسلم : فكان فراقه إياها سنة المتلاعنين ؛ وظاهره يقتضي أن طلاقه وقع ، ولو وقعت الفرقة لما وقع ، وقوله : فكانت تلك سنة المتلاعنين يعني التفريق بينهما ، وأحمد رحمه الله استدل بحديث سهل على أن الفرقة تقع بمجرد اللعان ، فقال في رواية ابن القاسم وقد سئل : متى تنقضي الفرقة بينهما ؟ فقال : أما في حديث سهل فقال : كذبت عليها إن أمسكتها ، هي طالق . وأما حديث ابن عمر فإنه يقول : فرق رسول الله بينهما ؛ وابن عمر أعرف بالحديث ، لأن سهلا كان له خمس عشرة سنة ، وابن عمر كان رجلًا ؛ ووجه الدليل من هذا أن قوله : فكانت تلك سنة المتلاعنين . أي الحكم بالفرقة باللعان ، ثم يرشح هذا القول أن اللعان معنى يقتضي التحريم المؤبد ، فلم يقف على حكم الحاكم كالرضاع ، وهذه الرواية عزاها أبو محمد إلى اختيار أبي بكر ، وظواهر الأحاديث تدل على الأولى وهي المذهب ، وعليها لا يحتاج الحاكم إلى استئذانها ، ولو لم يفرق كان النكاح بحاله ، قاله أبو محمد ، وعلى كلتيهما لا يحصل التفريق قبل تمام اللعان بينهما ، لأن النصوص إنما وردت بالتفريق بعد لعانهما .
( تنبيه ) فرقة اللعان فسخ لا طلاق ، نص عليه ، والله أعلم .
قال : وإن أكذب نفسه فلها عليه الحد .
ش : إذا أكذب نفسه لزمه ما عليه من وجوب الحد ، ولحوق النسب ، ولم يثبت ما عليه من عود حلها له ، على المذهب كما تقدم ، لأن بإكذاب نفسه تبين أن لعانه كذب ، وإذاً يجب الحد .
2783 وقد روى الدارقطني بإسناده عن قبيصة قال : قضى عمر رضي الله عنه في رجل أنكر ولد امرأته وهو في بطنها ، ثم اعترف وهو في بطنها ، حتى إذا ولد أنكره ، فأمر به عمر رضي الله عنه فجلد ثمانين جلدة ، لفريته عليها ، ثم ألحق به ولدها ، وإنما لم يثبت الحل حذاراً من أن يثبت له بمجرد قوله حل ، ولما كان من مذهب الخرقي أن اللعان لا يشرع إلا في قذف المحصنة اقتصر على الحد ، أما على قول غيره من أنه يشرع وإن لم تكن محصنة ، فيقول : أو التعزير إن لم تكن محصنة . والله أعلم .
قال : وإن قذفها وانتفى من ولدها ، وتم اللعان بينهما بتفريق الحاكم ، انتفى عنه إذا ذكره في اللعان .
ش : إذا ولدت المرأة ولداً لحق زوجها .
2784 لقول النبي : ( الولد للفراش ) ولا ينتفي عنه إلا اللعان على الصفة التي ذكرها الخرقي رحمه الله ، كما سيأتي بيانه .
2785 وذلك لما تقدم في حديث ابن عمر الصحيح : أن رجلًا لاعن امرأته ، وانتفى من ولدها ، ففرق رسول الله بينهما ، وألحق الولد بالمرأة .
2786 وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله لما لاعن بين هلال وامرأته قال : ففرق رسول الله بينهما ، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ، ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، رواه أحمد وأبو داود ، واختلف بماذا ينتفي ( فعنه ) بتمام لعانهما ( وعنه ) بنفي الحاكم مع ذلك ، وهذا الخلاف كالخلاف في الفرقة ، بماذا تحصل ( وعنه ) ثالثة تقف الفرقة على حكم الحاكم ، فإذا فرق انتفى الولد ، لأن قول ابن عمر رضي الله عنهما : ففرق رسول الله بينهما ، وألحق الولد بالأم . ظاهره أن نفي الولد مرتب على التفريق ، وخرج أبو البركات قولًا آخر ، أن الولد ينتفي بلعان الزوج وحده ، وكأنه خرجه من القول : إن تعذر اللعان من جهة المرأة ، يلاعن الزوج وحده لنفي الولد .
وقول الخرقي : وإن قذفها وانتفى من ولدها . لأن عنده كما سيأتي أن من شرط اللعان القذف ، وقوله : وتم اللعان بينهما . يحترز عن مذهب الغير أن الولد ينتفي بمجرد لعان الزوج ، كالتخريج المتقدم ، وقوله : وتم اللعان بينهما بتفريق الحاكم ؛ الظاهر أن الباء فيه للمعية ، أي مع تفريق الحاكم ، لا للسببية ، إذ تفريق الحاكم ليس سبباً لتمام اللعان ، بل تمامه بألفاظه المشترطة كما سيأتي ، وقوله : انتفى عنه إذا ذكره في اللعان ؛ يعني أنه يشترط لنفي الولد أن يذكره في اللعان ، فلو لم يذكره لم ينتف ، وهذا مختار القاضي وأبي محمد وغيرهما ، لما تقدم من حديث ابن عمر أن رجلًا لاعن امرأته وانتفى من ولدها ؛ ولأن غاية اللعان أن يثبت زناها ، وذلك لا يوجب نفي الولد ، كما لو أقرت به . وعلى هذا يشترط أن يذكره في الألفاظ الخمسة ، وحكى أبو محمد تبعاً للقاضي في روايتيه عن أبي بكر في الخلاف أنه لا يشترط ذكره ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم في لعان هلال وامرأته ، وقضى رسول الله أن لا يدعى ولدها لأب ، وليس في القصة أنه ذكر الولد في اللعان ، ولم يعرج أبو البركات على هذا الخلاف ، بل جزم أنه لا بد أن يتناوله اللعان ؛ إما صريحاً بأن يقول في لعانه : وما هذا الولد ولدي . وإما ضمنا ، بأن يقول من قذفها بزنا في طهر لم يصبها فيه وأنه اعتزلها حتى ولدت : أشهد بالله أني لصادق فيما ادعيت به ، ونحو ذلك ، يدل عليه والله أعلم .
قال : فإن أكذب نفسه بعد ذلك لحقه الولد .
ش : قد تقدم أنه إذا أكذب نفسه ثبت ما عليه من الحد ، ولحوق الولد ، لأن نفقته تجب عليه ، وكلام الخرقي يشمل وإن كان الولد ميتاً وله مال ، وهو كذلك والله أعلم .
قال : وإن نفى الحمل في التعانه لم ينتف حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن .
ش : منصوص أحمد في رواية الجماعة أنه لا يصح نفي الحمل ، وقال : ربما لم يكن شيئاً ، لعله يكون ريحاً ، وعلى هذا عامة الأصحاب ، معتمدين بأنه يكون ريحاً ، وقد يكون غيره ، فيصير نفيه مشروطاً بوجوده ، ولأن الأحكام التي ينفرد بها الحمل تقف على ولادته ، بدليل الميراث والوصية ، وغير ذلك ، وهذا حكم ينفرد به الحمل ، فدخل في القاعدة ، وفارق وجوب النفقة على الحامل ، وكونها لا توطأ حتى تضع وغير ذلك ، لأن هذه أحكام تتعلق بحيوان حامل ، لا ينفرد بالحمل ، فعلى هذا لا بد أن ينفيه عند وضعها له ويلاعن ، ونقل عنه ابن منصور ما يدل على أنه يصح نفيه ، وهو اختيار أبي محمد ، لأن في حديث سهل : وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ، ولعان هلال وامرأته كان قبل الوضع ، كما جاء في غير حديث .
2787 وجاء مصرحاً في حديث سهل وكانت حاملًا .
2788 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله لاعن على الحمل ، رواه أحمد . وينبني على هذا الخلاف في استلحاقه ، فعلى الأول لا يصح ، وقد نص عليه أحمد في رواية ابن القاسم ، وعلى الثاني يصح . والله تعالى أعلم .
قال : ولو جاءت امرأته بولد ، فقال : لم تزن ، ولكن ليس هذا الولد مني ؛ فهو ولده في الحكم ، ولا حد عليه لها .
ش : أما كون الولد والحال ما تقدم ولده ، فلأنه ولد على فراشه ، وقد قال : ( الولد للفراش ) وأما كونه لا حد عليه فلأن شرط وجوب الحد القذف ولم يوجد ، وظاهر كلام الخرقي أنه ليس له اللعان لنفي الولد ، وهذا اختيار القاضي في الروايتين ، وأبي محمد ، لأن اللعان الذي ورد في الكتاب والسنة ورد بعد القذف ، ولا قذف هنا ، فينتفي اللعان ، إذ الأصل الانتفاء مطلقاً ، إلا فيما ورد به الشرع ( والرواية الثانية ) وهي اختيار أبي بكر ، وابن حامد ، والقاضي في تعليقه وفي روايتيه ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وأبي البركات : له ذلك ، لأن مشروعية اللعان لشيئين ، نفي الحد والولد ، ولا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر ، ولو سلم أن أصل مشروعيته لنفي الحد ، فليشرع لأجل الولد من باب الأولى ، إذ ضرر الولد يتأكد ، ويلزم منه مفاسد عظيمة ، لا يوجد بعضها في الحد ، فكيف بمجموعها .
( تنبيهان ) أحدهما ذكر أبو البركات من صور الروايتين إذ قال صورة الخرقي ، ولم يقل : ولم تزن . ولم يجعله قاذفاً ، أو قال : وطئت بشبهة ، أو مقهورة بنوم أو إغماء أو جنون أو إكراه ؛ وحكى اختيار الخرقي في الجميع ، وأبو محمد في المغني قطع فيما إذا قال : وطئت بشبهة أنه لا لعان . وحكى الخلاف فيما إذا قال أكرهت على الزنا . وهذا ظاهر كلام القاضي ، لأنه استدل لاختيار الخرقي بأن من رمى أحد الواطئين لم يكن له أن يلاعن ، كما لو قذف الزوجة دون الواطىء ، فقال : وطئك فلان بشبهة ، وكنت عالمة أنه أجنبي . وأجاب عن ذلك في التعليق بأنه إنما لم يكن له اللعان لجواز نفي الولد عنه ، بعرضه على القافة ، وأبو محمد يقول في هذه الصورة التي جعلها القاضي محل وفاق : له اللعان ، وينصب الخلاف مع القاضي ، وضابط الباب أنه متى قذف بالزنا ، بأن تضمن قذفه رميها ورمي واطئها ، شرع اللعان بلا ريب ، وعكسه إن لم يقذفها ، ولا قذف واطئها ، فهنا لا لعان عند أبي محمد في المغني ، والقاضي ، ولا خلاف ، وعند أبي محمد في المقنع وأبي البركات فيه الروايتان ، والصحيح عند أبي البركات مشروعية اللعان ، وهذا الذي اقتضى لأبي البركات أن يقول : وهو أصح عندي . أي في جميع الصور ، وإن قذف واطئها دونها ، بأن قال : أكرهت على الزنا . ونحو ذلك ، فهنا يجري الخلاف بلا ريب ، والمصحح عند القاضي ومن تقدم مشروعية اللعان ، خلافاً للخرقي ، وأبي محمد ، وإن قذفها دون الواطئ ، كما إذا قال : وطئك فلان بشبهة . وكنت عالمة ، فعند القاضي هنا لا خلاف أنه لا يلاعن ، ومختار أبي محمد أنه يلاعن ، وكلام أبي البركات محتمل لجريان الخلاف ، وأن الصحيح عنده مشروعية اللعان ، ومناط المسألة عند القاضي أن لا يكون له طريق إلى نفي الولد إلا اللعان ، والمناط عند أبي محمد والخرقي أن يقذف زوجته بالزنا ، والمناط عند أبي البركات أنه يحتاج إلى نفي الولد ، وإن أمكن نفيه بالعرض على القافة ، ونحو ذلك ، لأن القافة قد تتعذر ، وقد يشتبه الأمر عليها ، ونحو ذلك .
( التنبيه الثاني ) حيث شرع اللعان في هذه الصور فإن الولد ينتفي بمجرد لعان الزوج وحده ، ذكره أبو البركات والله أعلم .
قال : واللعان الذي يبرأ به من الحد أن يقول الزوج بمحضر من الحاكم : أشهد بالله لقد زنت . ويشير إليها ، وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها ، حتى يكمل ذلك أربع مرات ، ثم يوقف عند الخامسة ويقال له : اتق الله ، فإنها الموجبة ، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فإن أبى إلا أن يتم فليقل : ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، فيما رماها به من الزنا ، وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب . أربع مرات ، ثم توقف عند الخامسة ، وتخوف كما يخوف الرجل ، فإن أبت إلا أن تتم فلتقل : وأن غضب الله عليها إن كان من الصاذقين ، فيما رماني به الزنا ، ثم يقول الحاكم : قد فرقت بينكما .
ش : هذا بيان لصفة اللعان ، والأصل فيه في الجملة الآية الكريمة ، وقد تقدمت .
2789 وعن سعيد بن جبير أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : يا أبا عبد الرحمن المتلاعنان أيفرق بينهما ؟ قال : سبحان الله ، نعم أول من سأل عن ذلك فلان ابن فلان ، قال : يا رسول الله أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع ؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك ؛ قال : فسكت النبي فلم يجبه ، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال : إن الذي سألتك عنه ابتليت به ، فأنزل الله هؤلاء الآيات في سورة النور : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم } ) فتلاهن عليه ، ووعظه وذكره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر ، فقال : لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ؛ ثم دعا بالمرأة فوعظها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، قالت : لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب ، فبدأ بالرجل فشهد : 19 ( { أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان الكاذبين } ) ثم ثنى بالمرأة فشهدت : 19 ( { أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } ) ثم فرق بينهما متفق عليه .
وظاهر كلام الخرقي أن جميع ما ذكره تتوقف صحة اللعان عليه ، فيكون شرطاً فيه ، ونحن نتكلم عليه مفصلًا ، فأما كون ذلك بمحضر الحاكم فلا بد منه .
2790 لأن في قصة هلال أن النبي قال : أرسلوا إليها ، فتلا عليهما رسول الله ، وذكرهما ، وأخبرهما أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقال هلال : والله لقد صدقت عليهما ، فقالت : كذب . فقال رسول الله : ( لاعنوا بينهما ) وظاهره أنه كان بحضوره ، وكذلك بقية الأحاديث ، تدل على ذلك ، نعم لو كانت المرأة خفرة ، بعث الحاكم من يلاعن بينهما ، إذ هو نائب عنه ، ونائبه قائم مقامه ، وأما كون الزوج يقول : أشهد بالله أربع مرات . فللآية الكريمة والحديث ، وأما كونه يقول : لقد زنت . فلأن الذي يشهد به هو زناها ، وأما كونه يشير إليها فلتتميز عن غيرها ، وهذا إذا كانت حاضرة ، فإن كانت غائبة أسماها ونسبها ، حتى تنتفي المشاركة بينها وبين غيرها ، وهذا كله شرط ، وقيل لأحمد : كيف يلاعن ؟ قال : على ما في كتاب الله ، يقول أربع مرات : أشهد بالله إني فيما رميتها به من الزنا لمن الصادقين . وهو ظاهر النصوص ، والخرقي رحمه الله تعالى استغنى عن ذلك بقوله : لقد زنت . لأن معناهما واحد ، قال أبو محمد : واتباع لفظ النص أولى وأحسن .
2791 وأما كون الزوج يوقف بعد الرابعة ، ويقال له ما ذكر ، فلأن في حديث هلال لما قال النبي : ( لاعنوا بينهما ) فقيل لهلال : اشهد . فشهد : 19 ( { أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } ) فلما كانت الخامسة قيل : يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر ، وإن هذه الموجبة التي توجب العذاب . فقال : والله لا يعذبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها ، فشهد : 19 ( { الخامسة أن لعنة الله عليه أن كان من الكاذبين } ) ثم قيل لها : اشهدي . فشهدت : 19 ( { أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين } ) فلما كانت الخامسة قيل لها : اتقي الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فتلكأت ساعة ثم قالت : والله لا أفضح قومي ؛ فشهدت : 19 ( { الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } ) الحديث رواه أبو داود وأحمد ، وهو ظاهر النصوص ، وهذا الإيقاف والموعظة مستحبان عند الأصحاب ، لأنهما ليسا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الصحيح ، وإنما فيه الموعظة أولا ، وأما كونه إن لم يرجع وأبى إلا أن يتم فليقل : ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا ، للآية الكريمة والحديث ، وهذا أيضاً شرط ، إلا أنه لو أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد أو بالغضب ففي الإجزاء ثلاثة أوجه ( ثالثها ) الإِجتزاء بالغضب لا بالإِبعاد ، وفي إبدال لفظه أشهد بأقسم أو أحلف وجهان ، أصحهما : لا يجزئ : وقال الوزير ابن هبيرة من أصحابنا : من اشترط من الفقهاء أنه يزاد بعد قوله : 19 ( { من الصادقين } ) : فيما رميتها به من الزنا . اشترط في نفيها عن نفسها : فيما رماني به من الزنا . ولا أراه يحتاج إلى ذلك ، لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه ، ولم يذكر هذا الإِشتراط ، وأما كون المرأة تقول بعد ذلك : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ، أو لقد كذب . على ما قال الخرقي إلى آخره ، فلما تقدم ، وهو كله أيضاً شرط إلا الموعظة والإِيقاف كما في الرجل ، وإذا أبدلت الغضب باللعنة لم يجز ، لأن الغضب أبلغ ، وإن أبدلت الغضب بالسخط فوجهان ، وقد تضمن كلام الخرقي أن لعان الزوج مقدم ، وهو كذلك ، فلو ابتدأت المرأة لم يعتد بذلك ، وكذلك الترتيب في الألفاظ شرط ، واعلم أن من شرط اللعان أيضاً الإِلقاء من الحاكم أو نائبه ، فلو ابتدأ الرجل من غير إلقاء لم يعتد به ، كما لو حلف من غير أن يأذن له الحاكم ، أو شهد من غير سؤال ، والله أعلم .
قال : فإن كان بينهما في اللعان ولد ذكر الولد فإذا قال : أشهد بالله لقد زنت ، يقول : ما هذا الولد ولدي . وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب ، وهذا الولد ولده .
ش : قد تقدم أنه يشترط لنفي الولد ذكره في اللعان ، وأنه لا ينتفي إلا بذلك ، على مختار الخرقي ، ثم إن الخرقي اكتفى بأن يقول : وما هذا الولد ولدي . وتبعه على ذلك أنه محمد ، وقال القاضي : يشترط أن يقول : هذا الولد من زنا ، وليس هو مني . يعني خلقاً وخلقاً والله أعلم .
قال : فإن التعن هو ولم تلتعن هي فلا حد عليها ، والزوجية بحالها .
ش : أما انتفاء الحد عنها فلا نعلم فيه خلافاً في مذهبنا لأن الحدّ يدرأ بالشبهة ، ونكولها شبهة ، لأنه يحتمل أن يكون لشدة حيائها ، أو لعقدة على لسانها ، أو غير ذلك ، وهذا شبهة فدرأت الحد .
2792 ويرشح هذا قول عمر رضي الله عنه : إن الحد على من زنا وقد أحصن ، إذا كانت بينة ، أو كان الحمل أو الاعتراف ؛ وظاهره أنه لا حد بغير ذلك ، وقول الله سبحانه : 19 ( { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد } ) يحتمل أن يراد بالعذاب الحد ، ويحتمل أن يراد الحبس ، ويحتمل أن يراد غيره ، فلا يثبت الحد بالاحتمال ، وأما كون الزوجية بحالها فلأن الفرقة إنما تحصل بالتعانهما ، ولم يوجد ذلك .
وظاهر كلام الخرقي أنه يخلى سبيلها ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر ، لأن هذا لعان لم يوجب حدا ، فلم يوجب حبساً ، كما لو لم تكمل البينة ( والثانية ) : وهي اختيار القاضي ، وأبي علي ابن البنا ، والشيرازي وغيرهم أنها تحبس حتى تقر أو تلاعن ، نظراً لقوله تعالى : 19 ( { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد } ) فإذا لم تشهد لم يندرىء العذاب عنها ، وإنما قلنا : العذاب الحبس لآية النساء وهي قوله تعالى : 19 ( { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } ) الآية إلى 19 ( { فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ، )9 ( أو يجعل الله لهن سبيلا } ) وإنما لم يقل إنه الحد حذاراً من ارتكاب الأثقل بالاحتمال ، ومقتضى كلام الخرقي أن الولد لاحق له ، وهو كذلك والله أعلم .
قال : وكذلك إن أقرت دون الأربع مرات .
ش : يعني لا حد عليها ، لأنه لم يثبت بلعانه كما تقدم ، ولا بإقرارها المذكور ، إذ شرط ثبوت الحد عليها بالإِقرار أن تقر أربعاً ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والزوجية بحالها كما تقدم ، وحكم هذه حكم من نكلت على ما تقدم ، في حبسها أو تخليتها ، وفي أن الولد لاحق بالزوج على المنصوص ، وقد تقدم فيه قول آخر أن للزوج أن يلتعن وحده لنفيه ، وحكى ابن حمدان قولًا أنها إذا أقرت بعد النكول ثلاثاً أنها تحد ، وكأن مدركه أن شهادة الرجل بمنزلة شاهد ، فقد وجد بلعانه ربع النصاب ، وبإقرارها ثلاثة أرباعه ، ويلزم على هذا لو أقرت ثلاث مرات ، وشهد شاهد أنها تحد ، ولا أعرف النقل في ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
كتاب العدد


ش : العدة ما تعده المرأة من أيام أقرائها ، أو أيام حملها ، أو غير ذلك ، على ما يعرف إن شاء الله ، والأصل فيها قول الله تعالى : 19 ( { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ) وقوله تعالى : 19 ( { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ، واللائي لم يحضن ) أي فعدتهن كذلك ، أو فكذلك ، أو واللائي يئسن من المحيض ، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر ، وملخصه هل في الآية تقديم وتأخير أو تقدير ، وعلى الثاني هل المقدر مفرد أو جملة ؟ خلاف ، وقوله : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) الآية ، وقوله : 19 ( { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } ) وقول النبي لفاطمة بنت قيس : ( اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ) في أحاديث غير ذلك ، مع أن مشروعية ذلك إجماع والحمد لله والله أعلم .
قال : وإذا طلق الرجل زوجته وقد خلا بها فعدتها ثلاث حيض .
ش : قد انعقد الإجماع على وجوب العدة على المبتوتة ، لعموم 19 ( { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ) مع قوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ، ثم طلقتموهن } ) الآية ، وقد اختلف في وجوب العدة على المخلو بها بشرطه ، ومذهبنا وجوبها ، لقضاء الصحابة بذلك ، وقد تقدم الكلام على ذلك مبيناً ، في وجوب الصداق بالخلوة ، ويشترط لوجوب العدة بالخلوة مطاوعتها ، وكون الزوج ممن يولد لمثله ، وهل يعتبر خلوهما من الموانع كالجب والعنة ، والإحرام والصيام ، ونحو ذلك ؟ لم يعتبره أبو البركات ، مع حكايته الخلاف في الصداق ، وخرج أبو محمد الخلاف الذي ثم هنا .
وظاهر كلام الخرقي أن العدة لا تجب إذا لم يوجد مس أو خلوة ، ولو قبل أو لمس ، أو تحملت المرأة ماء الرجل ، وهو أحد الوجهين في الصور الثلاث ، والذي جزم به القاضي في المجرد وجوبها بتحمل المرأة الماء انتهى .
وعدة ذات القروء الحرة ثلاثة أقراء بالإجماع ، لشهادة النص بذلك ، واختلف في القروء هل هي الحيض أو الأطهار ؟ على روايتين مشهورتين ، هما قولان للعلماء ، ولأهل اللغة ( إحداهما ) أنها الأطهار ، ويعزى هذا في الجملة إلى أهل الحجاز .
2793 ونقله أحمد عن زيد وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم ، وزعم ابن عبد البر أن أحمد رجع أخيراً إلى هذا القول ، وعمدته في ذلك قول أحمد في رواية الأثرم : رأيت الأحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف ، والأحاديث عمن قال الطهر وأنه أحق بها ، والعمدة في ذلك قوله : 19 ( { فطلقوهن لعدتهن } ) أي في عدتهن ، كقوله تعالى : 19 ( { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } ) أي في يوم القيامة ، والمشروع السنة له كما تقدم ، وقال الأعشى يصف غزوة :
مورثة مالًا وفي الأصل رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا

والذي ضاع هو الأطهار ( والثانية ) القرء الحيض ، ويعزى هذا في الجملة إلى أهل العراق ، ويحكى عن الأصمعي والكسائي ، والفراء ، والأخفش ، قالوا كلهم : أقرأت المرأة . إذا حاضت . قال الأصمعي : فهي مقرؤ . وقال الكسائي والفراء : فهي مقرىء .
2794 ونقل ذلك الإمام أحمد عن عمر ، وابن مسعود رضي الله عنهما ، وهو المشهور عن أحمد ، واختيار أصحابه ، وآخر قوليه صريحاً ، كما نص عليه في رواية ابن القاسم ، فقال : كنت أقول بقول زيد وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم فهبته ، وكذلك في رواية الأثرم : كنت أقول الأطهار ، ثم وقفت لقول الأكابر . وأصرح من ذلك قوله في رواية النيسابوري : قد كنت أقول به ، إلا أني أذهب اليوم إلى أن الأقراء الحيض ، وهذا تصريح بالرجوع ، وعلى إحدى الطريقتين يرتفع الخلاف من مذهبه ، وما اعتمده أبو عمر فليس فيه إلا أن مختاره كان إذ ذاك الأطهار ، والعمدة في ذلك ما اعتمده أحمد من أن ذلك قول الأكابر ، وقد حكاه عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما .
2795 وروي عن أبي بكر الصديق ، وعثمان بن عفان ، وابن عباس ، وأبي موسى ، وعبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء رضي الله عنهم ، وأيضاً فقد وقع القرء في لسان المبين لكتاب ربه ، والمراد به الحيض .
2796 فعن القاسم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت للنبي : إنها مستحاضة : فقال : ( تجلس أيام أقرائها ، ثم تغتسل ، مختصر ، رواه النسائي .
2797 وعن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله الدم ، قال : ( فلتنظر قرأها الذي كانت تحيض ، فلتترك الصلاة ، ثم لتنظر ما بعد ذلك ، فلتغتسل عند كل صلاة وتصلي ) رواه أحمد والنسائي .
2798 وعن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض . رواه ابن ماجه .
2799 وعنها أيضاً رضي الله عنها أن النبي قال : ( طلاق الأمة تطليقتان ، وعدتها حيضتان ) رواه الترمذي وأبو داود . فعلم من هذا أن عرف الشرع في القرء أنها تحيض ، وأيضاً موافقة لظاهر الآية ، وهو : 19 ( { ثلاثة قروء } ) فإن ظاهرها ثلاثة قروء كوامل ، وإنما يكون ذلك إذا قلنا إنها الحيض ، أما إن قلنا إنها الأطهار فإنما هو قرآن وبعض الثالث ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وأيضاً قوله تعالى : 19 ( { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم ، فعدتهن ثلاثة أشهر } ) فنقلهن عند عدم المحيض إلى الإعتداد بالأشهر ، فظاهره أن الأشهر بدل عن الحيض ، وأيضاً فالعدة استبراء ، فكانت بالحيض كاستبراء الأمة .
2800 ودليل الأصل قول النبي : ( لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير حامل حتى تستبرأ بحيضة ) وأما قوله تعالى : 19 ( { فطلقوهن لعدتهن } ) فالمراد مستقبلات لعدتهن ، كما تقول : لقيته لثلاث بقين من الشهر ، أي مستقبلًا لثلاث .
2801 يؤيد هذا أن في حديث ابن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته وهي حائض ، وأمره النبي بمراجعتها ، فقال ابن عمر : قرأ النبي : 19 ( { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن } ) رواه أبو داود والنسائي .
2802 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة تطليقة ، قال : عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك ، لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً ، ثم قرأ : 19 ( { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن } ) وفي لفظ : وإن الله قال : 19 ( { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن } ) رواه أبو داود ، وأما بيت الأعشى فقيل : أراد من أوقات نسائك ، ولم يرد لا حيضاً ولا طهراً ، والقرء والقارىء جاء في معنى الوقت ، يقال : هذا قارىء الرياح . لوقت هبوبها ، ومن هنا قال بعض أهل اللغة : إن القرء يصلح للحيض والطهر ، بناء على أن القرء الوقت ، وقال آخر : يصلح لهما ، بناء على أن القرء الجمع ، ومنه قولهم : قريت الماء في الحوض ، وقرأت القرآن . أي لفظت به مجموعاً ، ولا ريب أن الدم يجتمع في البدن في الطهر ، ويجتمع في الرحم في الحيض ، وبالجملة من أهل اللغة من يجعل القرء للطهر ، ومنهم من يجعله للحيض ، ومنهم من يجعله مشتركاً بينهما ، والله أعلم .
قال : غير الحيضة التي طلقها فيها .
ش : هذا بناء على مختاره من أن الأقراء الحيض ، فعلى هذا لا تعتد بالحيضة التي طلقها فيها من العدة ، بل إنما تحتسب بما بعدها ، بلا خلاف نعلمه ، لظاهر الكتاب ، ولأن المنع من الطلاق في الحيض والله أعلم حذاراً من تطويل العدة عليها ، وإنما يكون ذلك إذا لم تحتسب بالحيضة التي طلقها فيها ، وبهذا قلنا والجمهور تحتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءاً إن قلنا القروء الأطهار ، وإلا يكون الطلاق في الطهر أضر بها ، وأطول عليها من الطلاق في الحيض ، والله أعلم .
قال : فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة ، أبيحت للأزواج .
ش : ظاهر هذا أن العدة لا يحكم بانقضائها بانقضاء الحيضة الثالثة ، بل لا بد مع ذلك من الاغتسال ، وهذا إحدى الروايتين ، وأنصهما عن أحمد ، واختيار أصحابه ، الخرقي ، والقاضي ، والشريف والشيرازي وغيرهم ، اعتماداً على أن هذا قول أكابر الصحابة .
2803 قال أحمد : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول : إذا انقطع الدم في الحيضة الثالثة فقد بانت منه . وهو أصح في النظر ، قيل له : فلم لا تقول به ؟ .
2804 قال : ذلك يقول به عمر وعلي وابن مسعود ، فأنا أتهيب أن أخالفهم ؛ يعني اعتبار الغسل ، ويرشح هذا القول أن ظاهر القرآن كما أشار إليه أحمد ، يقتضي انقضاء العدة بانقضاء الثلاثة قروء ، فترك هؤلاء الأكابر للظاهر ، الظاهر إنما هو عن توقيف ممن له البيان .
2805 وقد روي هذا أيضاً عن أبي بكر وعثمان ، وأبي موسى ، وعبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهم . ( والرواية الثانية ) تنقضي العدة بانقطاع دمها من الثالثة وإن لم تغتسل ، اختاره أبو الخطاب ، نظراً لظاهر القرآن ، ولا تفريع على هذه الرواية ، أما على الأولى فظاهر كلام الخرقي وجماعة أن العدة لا تنقضي ما لم تغتسل ، وإن فرطت في الاغتسال مدة طويلة ، وقد قيل لأبي عبد الله : فإن أخرت الغسل تعمداً ، فينبغي إن كان الغسل من أقرائها أن لا تبين وإن أخرته ؟ قال : هكذا يقول شريك . فظاهر هذا أنه أخذ به ، وقال أبو بكر : روي عن أبي عبد الله : إذا وجبت عليها الصلاة ولم يخرج الوقت . قال القاضي : يعني بذلك أنها لا تباح ما لم تجب عليها الصلاة ، فإذا وجبت أبيحت انتهى ، وقال أبو بكر أيضاً : روي عن أبي عبد الله أنها في عدتها إذا انقطع الدم لدون أكثر الحيض ، وإن انقطع لأكثره انقضت العدة بانقطاعه انتهى ، ومحل الخلاف في المسألة في إباحتها للأزواج ، وحلها لزوجها الأول بالرجعة ، أما ما عدا ذلك من انقطاع نفقتها ، وعدم وقوع الطلاق بها ، وانتفاء الميراث ، وغير ذلك ، فيحصل بانقطاع الدم رواية واحدة ، قال القاضي وغيره : قصراً على مورد حكم الصحابة . والله أعلم .
قال : وإن كانت أمة فإذا اغتسلت من الحيضة الثانية .
ش : مذهبنا ومذهب الجمهور أن عدة الأمة بالقرء قرءان .
2806 لما تقدم من قول النبي : ( وعدتها حيضتان ) وفي لفظ : ( وقرء الأمة حيضتان ) رواه الدارقطني ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : ( طلاق الأمة ثنتان ، وعدتها حيضتان ) رواه ابن ماجه والدارقطني ، إلا أن كلا الحديثين قد ضعف .
2807 لكن يرشحهما أنه قول عمر وعلي ، وابن عمر رضي الله عنهم ، والجمهور ، وكان القياس يقتضي أن تكون حيضة ونصفاً ، كما في كثير من أحكام الأمة مع الحرة ، إلا أن الحيض لا يتبعض .
2808 ولهذا قال عمر رضي الله عنه : لو أستطيع أن أجعل العدة حيضة ونصفاً لفعلت . إذا تقرر هذا فالخرقي رحمه الله عنده أن القروء الحيض ، فتكون عدة الأمة حيضتين ، وعنده أن الحرة لا تحل للأزواج حتى تغتسل من الثالثة ، فكذلك الأمة لا تحل حتى تغتسل من الثانية والله أعلم .
قال : وإن كانت من الآيسات أو ممن لم يحضن فعدتها ثلاثة أشهر .
ش : هذا إجماع والحمد لله ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ، واللائي لم يحضن } ) أي فكذلك ، أو فعدتهن كذلك ، أو واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر ، وملخصه أن الآية الكريمة هل فيها تقديم وتأخير ، أو تقدير ، وعلى الثاني هل المقدر مفرد أو جملة ؟ ثلاثة أقوال .
( تنبيه ) ويحتسب بالساعة التي فارقها ، على المشهور من الوجهين ، حذاراً من الزيادة على ظاهر الكتاب ، وقال ابن حامد : إنما يحتسب بأول الليل أو النهار ، فإذا طلقها نهاراً احتسب من أول الليل الذي يليه ، وليلًا يحتسب بأول النهار الذي يليه ، دفعاً لمشقة اعتبار الساعات والله أعلم .
قال : والأمة شهران .
ش : يعني أن ما تقدم إذا كانت الزوجة حرة ، أما إن كانت أمة فعدتها شهران ، وهذا هو المشهور من الروايات ، والمختار لعامة الأصحاب ، والمختار لعامة الأصحاب ، الخرقي والقاضي وأصحابه ، وأبي بكر فيما نقله القاضي في الروايتين ، إذ الأشهر بدل من القروء ، وعدة ذات القروء قرآن ، فبدلهما شهران .
2809 واعتمد أحمد على قول عمر رضي الله عنه : عدة أو الولد حيضتان ، ولو لم تحض كان عدتها شهران ( والرواية الثانية ) عدتها شهر ونصف ، اختارها أبو بكر فيما نقله أبو محمد .
2810 ويروى عن علي وابن عمر رضي الله عنهم ، لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة ، وعدة الحرة ثلاثة أشهر ، فنصفها شهر ونصف ، وإنما اعتدت الأمة ذات القروء بالحيضتين ، لتعذر تبعيض الحيضة ( الرواية الثالثة ) ثلاثة أشهر ، مخرجة على ما قال القاضي من نصه في أن استبراءها بثلاثة أشهر ، لظاهر إطلاق الكتاب ، ولأن اعتبار الشهور للعلم ببراءة رحمها ، ولا تحصل بدون ثلاثة أشهر في الحرة والأمة ، إذ الحمل يكون نطفة أربعين يوماً ، وعلقة أربعين يوماً ، ثم يصير مضغة ، أربعين يوماً ثم يتحرك ويعلو بطن المرأة ، ويظهر الحمل ، وهذا ظاهر لا خفاء به ، إلا أنه ضعف ، لأنه مخالف لإجماع الصحابة ، لأنهم إنما اختلفوا على القولين السابقين ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين من عادتها أن لا تحيض ، وبين من عادتها أن تحيض ، كمن بلغت خمسة عشر سنة ونحو ذلك ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار أبي بكر وأبي محمد ، واعتماداً على عموم الكتاب ( والرواية الثانية ) إذا أتى عليها زمان الحيض ولم تحض تعتد بسنة ، اختارها القاضي في خلافه وفي غيره ، وعامة أصحابه ، الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا ، لأنها والحال هذه مرتابة ، لجواز أن يكون بها حمل منع حيضها فوجب أن تعتد بسنة ، كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده .
( تنبيه ) حد الإياس هل هو خمسون سنة أو ستون ، أو يفرق بين نساء العرب ونساء العجم ، على خلاف سبق في الحيض ، وأبو محمد يختار أنها إذا بلغت خمسين ، وانقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب ، فقد صارت آيسة ، وإن رأت الدم بعد الخمسين ، على العادة التي كانت تراه فيها فهو حيض والله أعمل .
قال : وإذا طلقها طلاقاً يملك فيه الرجعة ، وهي أمة ، فلم تنقض عدتها حتى أعتقت ، بنت على عدة حرة ، وإن طلقها طلاقاً لا يملك فيه الرجعة فعتقت ، اعتدت عدة أمة .
ش : لأنها إذا أعتقت وهي رجعية فقد وجدت الحرية وهي زوجة ، فوجب أن تعتد عدة الحرائر ، كما لو أعتقت قبل الطلاق ، وإن عتقت وهي بائن فلم توجد الحرية في الزوجية ، فلم تجب عليها عدة الحرائر ، كما لو أعتقت بعد مضي القرئين والله أعلم .
قال : وإذا طلقها وهي ممن قد حاضت ، فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت سنة .
ش : هذا هو المذهب المعمول به بلا ريب ، لأنها إذاً حصلت مرتابة ، فوجب أن تقعد سنة ، تسعة أشهر للحمل اعتماداً على الغالب ، وثلاثة لعدة الإياس ، لتزول الريبة ، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنها تقعد للحمل أربع سنين ، نظراً إلى أن ذلك هو اليقين ، ثم تعتد للإياس .
( تنبيه ) ولو عاد الحيض قبل الحكم بانقضاء عدتها انتقلت إليه بلا ريب ، لأنه الأصل ، والبدل لم يتم ، وإن عاد بعد العدة وبعد نكاحها لم تنتقل إليه بلا ريب ، للحكم بصحة نكاحها ، وإن عاد بعد الحكم بانقضاء عدتها ، وقبل نكاحها ففي الانتقال إليه وجهان ، أصحهما لا تنتقل إليه ، للحكم بانقضاء عدتها ، والله أعلم .
قال : وإن كانت أمة اعتدت بأحد عشر شهراً ، تسعة أشهر منها للحمل ، وشهران للعدة .
ش : هذا مبني على ما تقدم له من أن عدة الأمة الآيسة شهران ، وهو المذهب ، أما على رواية أن عدتها شهر ونصف ، فتجلس عشرة أشهر ونصف ، وعلى رواية ثلاثة أشهر ، تساوي الحرة والله أعلم .
قال فإن عرفت ما رفع الحيض كانت في عدة حتى تعود الحيض فتعتد به ، إلا أن تصير من الآيسات ، فتعتد بثلاثة أشهر من وقت تصير في عدة الآيسات .
ش : إذا عرفت ما رفع الحيض من مرض أو رضاع ونحوه لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به ، أو تصير آيسة فتعتد عدة الآيسات ، نص عليه أحمد في رواية صالح ، وأبي طالب وابن منصور والأثرم ، إذا حبسها مرض أو علة أو رضاع فلا بد أن تأتي بالحيض وعليه أصحابه .
2811 لما روى الشافعي في مسنده عن حبان بن منقذ ، أنه طلق امرأته طلقة واحدة ، وكان لها منه بنية ترضعها ، فتباعد حيضها ، ومرض حبان ، فقيل له : إنك إن مت ورثتك . فمضى إلى عثمان وعنده علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهم : ما تريان ؟ فقالا : نرى أنها إن ماتت ورثها ، وإن مات ورثته ، لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض ، ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض . فرجع حبان إلى أهله فانتزع البنت منها ، فعاد إليها الحيض ، فحاضت حيضتين ، ومات حبان قبل انقضاء الثالثة ، فورثها عثمان رضي الله عنه ، والله أعلم .
قال : وإن حاضت حيضة أو حيضتين ، ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ، لم تنقض عدتها إلا بعد سنة من وقت انقطاع الحيض .
ش : لأنها إذاً تصير مرتابة ، فوجب أن تعتد بسنة ، كما لو ارتفع حيضها من حين طلقها ، والعدة لا تبنى على عدة أخرى ، ولذلك لو حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست ، انتقلت إلى ثلاثة أشهر ، ولو اعتدت الصغيرة شهراً أو شهرين ، ثم حاضت ، انتقلت إلى القروء .
2812 واعتمد أحمد في المسألة على قول عمر رضي الله عنه فإنه قال في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين ، وارتفع حيضها لا تدري ما رفعه : 16 ( تجلس تسعة أشهر ، فإن لم يستبن بها حمل ، تعتد بثلاثة أشهر ) . قال ابن المنذر : قضى به عمر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ، لا ينكره منكر والله أعلم .
قال : وإن طلقها وهي من اللائي لم يحضن ، فلم تنقض عدتها بالشهور حتى حاضت ، استقبلت العدة بثلاث حيض إن كانت حرة أو بحيضتين إن كانت أمة .
ش : لأن الشهور بدل عن الحيض ، فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل ، كالتيمم مع الماء ، وإنما لم تبن على ما مضى ، لما تقدم من أن العدة لا تبنى على أخرى ، وإذاً تعتد بثلاث حيض إن كانت حرة ، وبحيضتين إن كانت أمة ، بناء على أن القروء الحيض ، وإن قيل : إنها الأطهار فهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض قرء ؟ فيه وجهان والله أعلم .
قال : ولو مات عنها وهو حر أو عبد ، قبل الدخول أو بعده ، انقضت عدتها بتمام أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة ، وبتمام شهرين وخمسة أيام إن كانت أمة .
ش : أما كون الحرة تعتد بأربعة أشهر وعشر إذا مات زوجها لفقول الله تعالى : 19 ( { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } ) .
2813 وقول النبي : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ، أن تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ) متفق عليه ، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده ، إعمالًا لعموم الآية والخبر ، ثم المعنى يعضده ، وهو أن النكاح عقد عمر ، فإذا مات انتهى ، والشيء إذا انتهى تقررت أحكامه ، كتقرر أحكام الإجازة بانقضائها ، وأما كون الأمة تعتد بشهرين وخمسة أيام ، فقيل لاتفاق الصحابة على أن عدة الأمة المطلقة على النصف من عدة الحرة ، فكذلك عدة الوفاة ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن تكون صغيرة أو كبيرة ، مسلمة أو ذمية ، ولا بين أن يوجد في مدة الأربعة أشهر أو لم يوجد ، وهو كذلك .
( تنبيه ) والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال بأيامها ، فتجب عشرة أيام مع الليالي ، والله أعلم .
قال : ولو طلقها أو مات عنها وهي حامل منه ، لم تنقض عدتها إلا بوضع الحمل ، أمة كانت أو حرة .
ش : لقول الله تعالى : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) وهذا إجماع والحمد لله في الطلاق ، وفي كل فرقة في الحياة ، وكالإجماع فيما بعد الموت .
2814 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الحامل المتوفى عنها زوجها إنها تعتد بأطول الأجلين .
2815 وهو إحدى الروايتين عن عليى رضي الله عنه ، ويحكى عن سحنون من المالكية ، لقول الله تعالى : 19 ( { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } ) وهذا عام في كل متوفى عنها ، وللجماعة الآية السابقة ، فإن العموم فيها أصرح ، ثم يرشحه عمل العامة على وفقه .
2816 وعن ابن مسعود رضي الله عنه : من شاء لاعنته لأنزلت سورة النساء القصرى ، بعد الأربعة أشهر وعشراً . رواه النسائي وأبو داود ، وهذا لفظه ، يريد بسورة النساء سورة الطلاق ، وهذا يدل على أنها متأخرة عن الآية التي في سورة البقرة ، فيقضي عليها بالنسخ أو بالتخصيص .
2817 والذي يقطع النزاع ويبين المراد بلا ريب ، ما روي عن سبيعة الأسلمية رضي الله عنها ، أنها كانت تحت سعد بن خولة ، وهو من بني عامر بن لؤي ، وهو ممن شهد بدراً ، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها : مالي أراك متجملة ، لعلك ترجين النكاح ، إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشراً . قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت ، فأتيت النبي فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزويج إن بدا لي . قال ابن شهاب : ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أن لا يقربها زوجها حتى تطهر . متفق عليه .
2818 وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما بلغه هذا الحديث رجع إلى قول الجماعة ، وهذا الذي يظن به .
وقول الخرقي : بوضع الحمل ، أي كله ، فلو كان ولدين أو أكثر فلا بد لانقضاء العدة من وضع الجميع ، ولو كان واحداً فلا بد من انفصال جميعه .
( تنبيه ) لم تنشب . أي لم تمكث ، وتعلت من نفاسها . أي انقطع دمها وطهرت ، قال المنذري : وأصله عندهم السواد ، كأنه من العلو أي تتعلى عن حالتها من المرض والله أعلم .
قال : والحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان ، أمة كانت أو حرة .
ش : كأن تضع ولداً . أو يداً أو رجلًا أو نحو ذلك ، وقد حكي الإجماع على ذلك ، إذ بذلك يعلم أنها حامل ، فتدخل تحت قوله تعالى : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) وسواء كان ما تبين ظاهراً أو خفياً شهدت به القوابل .
ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا وضعت مالًا يتبين فيه شيء من خلق الإنسان أنها لا تنقضي عدتها به ، وهو المشهور عن أحمد ، ومختار أبي بكر ، والقاضي والشريف وأبي الخطاب في خلافاتهم ، وابن عقيل والشيرازي ، وأبي محمد وغيرهم ، لأنه قد حصل الشك في كونه ولداً ، فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة به ، حذاراً من دفع اليقين بأمر مشكوك فيه ، ( ونقل حنبل عن أحمد ) أنها تصير بذلك أم ولد ، فخرج القاضي وجماعة من ذلك انقضاء العدة به ، لأن الظاهر أنه بدء خلق آدمي ، أشبه ما لو تصور ، وأبى ذلك أبو محمد ، وقال : بيس هذا برواية في العدة ، إذ أحمد لم يتعرض لها . انتهى ، ويؤيد هذا أنه روي عن أحمد في رواية أخرى ما يدل على أنها تصير بذلك أم ولد ، ولا تنقضي به العدة ، والفرق الاحتياط في الصورتين ، ففي الاستيلاد تغليباً للحرية ، وفي العدة تغليباً للكمال ، ومحل الخلاف فيما إذا ألقت مضغة ، أما إن ألقت نطفة ، أو دماً أو علقة ، فإن العدة لا تنقضي به بحال عند الشيخين وغيرهما ، والقاضي في تعليقه جعل الخلاف في العلقة والمضغة ، ومحل الخلاف أيضاً إذا شهدت القوابل أن المضغة مبدأ خلق آدمي ، قاله أبو محمد ، فلو لم تشهد بذلك لم يحكم بانقضاء العدة بلا خلاف ، ولم يشترط ذلك أبو البركات والله أعلم .
قال : ولو طلقها أو مات عنها ، فلم تنكح حتى أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع سنين ، لحقه الولد وانقضت عدتها به .
ش : هذا يعتمد أصلًا ، وهو أكثر مدة الحمل ، والمذهب المشهور أن أقصاها أربع سنين ، لأن هذا لا نص فيه ، فيرجع فيه إلى الوجود ، وقد وجد ذلك .
2819 فروى الوليد بن مسلم قال : قلت لمالك بن أنس : حديث جميلة بنت سعد ، عن عائشة رضي الله عنها : لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل . قال مالك : سبحان الله ! من يقول هذا ؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد .
2820 وقال الشافعي : بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين .
2821 وقال أحمد : نساء بني عجلان يحملن أربع سنين ، وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون ، كل دفعة أربع سنين .
2822 وحكى أبو الخطاب أن محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بقي في بطن أمه أربع سنين ، وهكذا إبراهيم ابن نجيح العقيلي .
2823 ويؤيد ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب لامرأة المفقود أربع سنين . والظاهر أنه إنما فعل ذلك لأنه أقصى مدة الحمل .
2824 وعن أحمد أن أقصاه سنتان ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت : لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل . ولأن الاتفاق حصل على ذلك ، بخلاف غيره ، إذا تقرر هذا أتت المرأة بولد لأربع سنين فما دون ، من يوم طلاقها أو موت زوجها ، ولم تكن تزوجت ولا وطئت ، ولا انقضت عدتها بالقروء ، ولا بالأشهر على قول ، ولا بوضع الحمل ، فإن الولد لاحق للزوج ، والعدة منقضية به .
ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا أتت بولد أكثر من ذلك لم يلحق بالزوج ، ولا ريب في ذلك ، ومفهومه أيضاً أن العدة لا تنقضي به منه ، وهذا هو المذهب ، بلا ريب ، لأن الحمل منفي عنه يقيناً ، فلم يعتد بوضعه منه ، كما لو ظهر بعد موته ( وعن أحمد ) رحمه الله أن العدة تنقضي به ، لأنها ذات حمل ، فتدخل في : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) وهكذا الخلاف في كل ولد لا يلحق الزوج ، كامرأة الطفل المتوفى عنها ، والمطلقة عقب العقد ، ونحو ذلك ( وعن أحمد ) تنقضي به من غير الطفل ، لأنه يلحقه بالتحاقه ، بخلاف الطفل ، وأظن هذا اختيار القاضي ، وقد يقال : إن ظاهر إطلاق الخرقي أن من تقدم إذا أتت بولد لأربع سنين فما دون أنه يلحق الزوج ، وإن كانت قد أقرت بانقضاء عدتها ، لكن منصوص أحمد ، وقول الأصحاب على خلاف هذا ، فإنهم اتفقوا فيما علمت على أنها إذا أقرت بانقضاء عدتها بالأقراء ، أن الولد لا يلحق به ، وظاهر كلام أحمد وأبي بكر أن الحكم كذلك ، وإن أقرت بانقضائها بالأشهر ، وصرح بذلك أبو البركات ، وابن حمدان ، وظاهر كلام القاضي وعامة أصحابه إناطة ذلك بالأقراء ، بخلاف الأشهر ، وتبعهم أبو محمد على ذلك مصرحاً به والله أعلم .
قال : ولو طلقها أو مات عنها ، فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها ، فرق بينهما ، وبنت على عدتها من الأول ، ثم استقبلت العدة من الثاني .
ش : أما كونه يفرق بينهما والحال هذه ، فلأنه نكاح باطل اتفاقاً ، فوجب التفريق فيه ، كما لو تزوجت وهي زوجة ، وأما كونها تبني على عدتها من الأول فلسبق عدته ، وكونها عن وطء في نكاح صحيح ، وليس في كلام الخرقي بيان لمدة مقامها عند الثاني ، هل تنقطع به العدة أم لا ؟ وفي المسألة وجهان ، والذي جزم به القاضي والشريف وأبو الخطاب في خلافاتهم ، أن العدة لا تنقطع به ، والذي جزم به أبو محمد في كتبه الانقطاع ، وأما كونها تستقبل عدتها من الثاني ، فلأنهما حقان مقصودان لآدميين ، فلم يتداخلا ، كالدينين واليمينين ، والعمدة أن عمر وعلياً رضي الله عنهما حكما بذلك كما سيأتي ، ولا نعرف لهما مخالفاً .
قال : وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين ، لعموم : 19 ( { وأحل لكم ما وراء ذلكم } )9 ( { والمحصنات من المؤمنات } ) وغير ذلك ، ولأنه لو زنا بها لم تحرم عليه أبداً ، فهذا أولى ( والرواية الثانية ) تحرم أبداً .
2825 لما روى مالك عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي ، فطلقها ونكحت في عدتها ، فضربها عمر رضي الله عنه ، وضرب زوجها ضربات بمخفقة ، وفرق بينهما ، ثم قال : أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ، وكان خاطباً من الخطاب ، وإن كان دخل بها فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ، ثم اعتدت من الآخر ، فلا ينكحها أبداً ، والمعنى في ذلك والله أعلم أن الله تعالى أوجب العدة لبراءة الرحم ، حفظاً للأنساب ، وشرع النكاح بعدها صيانة للفروج ، فلما انتهك الحرمة ، وأخل بالحكمة ، واستعجل السبب الذي رتب عليه الشرعالإباحة في غير محله ، اقتضت الحكمة أن يعامل بنقيض قصده المؤبد ، كالقاتل لمورثه .
2826 وقد اعترض على قول عمر رضي الله عنه بقول علي رضي الله عنه ، فإنه روي عنه أنه قال : 16 ( إذا انقضت العدة فهو خاطب من الخطاب ) .
2827 وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه رجع إلى قول علي رضي الله عنه .
ومفهوم كلام الخرقي أنها لا تحل قبل انقضاء العدتين ، وعلى هذا الأصحاب كافة ، ما عدا أبا محمد ، فإنه يميل إلى أن له أن ينكحها في عدتها منه ، بعد فراغ عدة الأول ، قال بعد أن حكى هذا عن الشافعي : وهذا حسن موافق للنظر ، لأن العدة إنما شرعت حفظاً للنسب ، وصيانة للماء ، والنسب لاحق به ها هنا ، فأشبه ما لو خالعها ثم نكحها في عدتها ، والأصحاب اعتمدوا على قضاء عمر رضي الله عنه وقد تقدم .
2828 وعن علي رضي الله عنه أنه قضى في المرأة تتزوج في عدتها ، أنه يفرق بينهما ، ولها الصداق بما استحل من فرجها ، وتكمل ما أفسدت من عدة الأول ، وتعتد من الآخر . ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة رضي الله عنهم ، ولعموم : 19 ( { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } ) الآية والضمير في قول الخرقي : وله أن ينكحها . أي الثاني ، أما الأول فإن كان طلاقه ثلاثاً لم تحل له بهذا النكاح ، لبطلانه وعدم مشروعيته ، وإن كان دون الثلاث فله نكاحها بعد العدتين ، وإن كانت رجعية فله رجعتها في عدتها منه ، قاله أبو محمد والله أعلم .
قال : فإن أتت بولد يمكن أن يكون منهما ، أري القافة وألحق . بمن ألحقوه به منهما ، وانقضت عدتها به منه ، واعتدت للآخر .
ش : إذا حملت هذه المنكوحة في العدة فعدتها بوضع الحمل ، كغيرها بلا ريب ، ثم ينظر في الولد فإن أمكن كونه من الأول دون الثاني ، كأن تأتي بالولد لدون ستة أشهر من وطء الثاني ، ولأربع سنين فما دون من فراق الأول ، فهو ملحق به ، وتنقضي عدتها منه به ، ثم تعتد للثاني ، وإن أمكن كونه من الثاني وحده ، كأن تأتي به لستة أشهر فأزيد إلى أربع سنين من وطء الثاني ، ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول ، فهو ملحق بالثاني ، فتنقضي عدتها منه به ، ثم تتم عدة الأول ، وإنما قدمت عدة الثاني والحال هذه على عدة الأول ، حذاراً من أن يكون الحمل من إنسان ، والعدة من غيره ، وإن أمكن كونه منهما ، كأن تأتي به لستة أشهر فصاعداً من وطء الثاني ، ولأربع سنين فما دون من بينونتها من الأول ، وهذه صورة الخرقي ، فإنه يرى القافة ، فإن ألحقته بأحدهما لحق به ، وأانقضت عدتها به منه ، ثم اعتدت للآخر ، وإن ألحقته بهما لحق بهما ، وانقضت عدتها به منهما ، ولو لم يمكن كونه من واحد منهما ، بأن ولدته لدون ستة أشهر من وطء الثاني ، ولأكثر من أربع سنين من فراق الأول ، فإنه لا يلحق بواحد منهما ، ولا تنقضي عدتها منه ، على المذهب كما تقدم ، ولو أمكن كونه منهما ، ولم توجد قافة أو أشكل أمره عليها ، فإنها بعد وضعه تعتد بعدة أخرى ، لأن الولد إن كان من الأول فعليها أن تعتد للثاني ، وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول ، ولا يتيقن ذلك إلا بعدة كاملة ، وهل يضيع نسب الولد والحال هذه ، أو يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء منهما ؟ فيه خلاف مشهور والله أعلم .
قال : وأم الولد إذا مات سيدها فلا تنكح حتى تحيض حيضة .
ش : لأنها قد زال الملك عنها ، فلزمها الاستبراء بحيضة عند إرادة النكاح ، كالأمة القن إذا زال الملك عنها وأريد وطؤها ، ودليل الأصل قول النبي : ( لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ) ومقتضى كلام الخرقي أنه يكتفى في استبرائها بحيضة ، وهو المشهور من الروايتين أو الروايات ، والمختار للأصحاب ، لأنه استبراء لزوال الملك عن الرقبة ، فكان حيضة في حق من تحيض ، كسائر استبراء المعتقات والمملوكات ( والرواية الثانية ) تعتد بعد موته بأربعة أشهر وعشر .
2829 لما روي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : لا تلبسوا علينا سنة نبينا ، عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر . يعني أم الولد ، رواه أبو داود وابن ماجه وقد ضعف ، قال ابن المنذر : ضعف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص ، وقال الميموني : رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو هذا ، ويقول : أين سنة النبي في هذا ؟ وقال : أربعة أشهر وعشراً إنما هي عدة الحرة من النكاح ، وإنما أمة هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية . وقال القاسم بن محمد : سبحان الله ! الله يقول : 19 ( { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً } ) ما هن بأزواج .
وقد أول بعضهم الحديث على أنه إنما جاء في أم الولد بعينها ، كأن أعتقها صاحبها ثم تزوجها ، وحكى أبو محمد عن أبي الخطاب أنه حكى رواية ثالثة أنها تعتد بشهرين وخمسة أيام ، قال : ولم أجد هذه الرواية في الجامع ، ولا أظنها صحيحة عن أحمد ، قلت : ولم أرها أنا في الهداية ، ووجهها أنها حين الموت أمة ، فكانت عدتها عدة الأمة ، وهذا كله ضعيف ، إذ لا عدة هنا ، إنما هو استبراء والله أعلم .
قال : وإن كانت مؤيسة فبثلاثة أشهر .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، ومختار الخرقي و أبي بكر ، و القاضي و أبي محمد وغيرهم ، لأن المقصود من الاستبراء العلم ببراءة الرحم ، فلا يحصل إلا بذلك ، قال أحمد بن القاسم : قلت لأبي عبد الله : كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان حيضة ، وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهراً ؟ فقال : إنما قلنا ثلاثة أشهر لأجل الحمل ، فإنه لا يتبين في أقل من ذلك .
2830 وقد سأل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك ، وجمع أهل العلم والقوابل ، فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر ، فأعجبه ذلك .
2831 ثم قال : ألا تسمع قول ابن مسعود رضي الله عنه : ( إن النطفة أربعين يوماً ، ثم علقة أربعين يوماً ، ثم مضغة بعد ذلك ) قال أبو عبد الله : فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة ، وهي لحم ، فيتبين حينئذ ( والرواية الثانية ) أنها تستبرأ بشهر ، لأن الله جعل ثلاثة أشهر مكان ثلاث حيض ، فكل شهر مكان حيضة ، وهذه استبراؤها بحيضة ، فمكانها شهر ( وعنه ) ثالثة تستبرأ بشهرين ( وعنه ) رابعة بشهر ونصف ، كما لو كانت مطلقة ، وهذا الحكم لا يختص بأم الولد ، بل يجري في كل مستبرأة آيسة والله أعلم .
قال : وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت تسعة أشهر للحمل ، وشهراً مكان الحيضة .
ش : إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فإنها تقعد تسعة أشهر للحمل ، بلا ريب ، ثم تقعد شهراً للاستبراء عوض الحيضة ، قاله الخرقي ، وتبعه أبو محمد ، مع قولهما إن الآيسة استبراؤها بثلاثة أشهر ، وذلك لأن الاستبراء في الآيسة إنما كان بثلاثة أشهر لتعلم البراءة ، فجعل الشهر مكان الحيضة ، على وفق القياس ، وحكى أبو البركات وغيره فيها رواية أخرى أنها تستبرأ بثلاثة أشهر كالآيسة .
( تنبيه ) وإن علمت ما رفع الحيض لم تزل في الاستبراء حتى يعود الحيض فتستبرأ به ، أو تصير آيسة فتستبرأ باستبراء الآيسات والله أعلم .
قال : وإن كانت حاملًا فحتى تضع .
ش : هذا إجماع والحمد لله ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) وقول النبي : ( لا توطأ حامل حتى تضع ) الحديث . والله أعلم .
قال : وإن أعتق أم ولده أو أمة كان يصيبها لم تنكح حتى تحيض حيضة كاملة .
ش : لا يختلف المذهب أن الاستبراء هنا بحيضة ، وذلك لأنها موطوءة وطئاً له حرمة ، فلم يجز أن تتزوج قبل الاستبراء ، كالموطوءة بشبهة ، والمعنى فيه الخوف من اختلاط المياه ، وامتزاج الأنساب المطلوب عدمه شرعاً .
ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا لم يكن سيدها يطأها لا يلزمها استبراء ، وهو كذلك ، للأمن من اختلاط المياه وامتزاج الأنساب ، ولو لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما تقدم في أم الولد ، وقول الخرقي : حيضة كاملة . يحترز عن قول من يقول إنها إذا طعنت في الحيضة فقد تم استبراؤها ، والحديث نص في رد ذلك والله أعلم .
قال : وكذلك إن أراد أن يزوجها وهي في ملكه استبرأها بحيضة ثم زوجها .
ش : لما تقدم من الخوف من اختلاط المياه ، وامتزاج النسب .
( تنبيه ) فإن لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما تقدم في أم الولد والله أعلم .
قال : وإذا ملك أمة لم يصبها ولم يقبلها حتى يستبرئها بحيضة بعد تمام ملكه لها إن كانت ممن تحيض ، أو بوضع الحمل إن كانت حاملًا ، أو بمضي ثلاثة أشهر إن كانت من اللائي يئسن من المحيض ، أو من اللائي لم يحضن .
ش : إذا ملك لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها .
2832 لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه النبي قال في سبي أوطاس : ( لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ) رواه أحمد وأبو داود .
2833 وعن رويفع بن ثابت رضي الله عنه أن النبي قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره ) رواه أحمد والترمذي ، وأبو داود وزاد : ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها ) والاستبراء بحيضة إن كانت ممن تحيض ، أو بوضع الحمل إن كانت حاملًا للحديث ، أو بثلاثة أشهر على المشهور من الروايات ، ومختار الخرقي ، وقد تقدم ذلك ، ولا تحل له أيضاً قبلتها بلا خلاف أعلمه في المذهب في الجملة ، حذاراً من أن تكون حاملًا من المنتقلة عنه ، فيكون مستمتعاً بأم ولده غيره ، ولأنه استبراء حرم الوطء ، فحرم القبلة كالعدة .
وقول الخرقي : إذا ملك . يشمل كل ملك ، فيدخل فيه المملوكة بسبي ، فلا يصيبها قبل استبرائها بلا ريب ، وكذا لا يستمتع بها ، وهو إحدى الروايتين ، وزعم أبو محمد أنه الظاهر عن الإمام ، لأنه استبراء حرم الوطء ، فحرم دواعيه كالعدة ( والثانية ) له الاستمتاع بها دون الفرج ، لأن المنع في غيرها للحذر من أن تكون أم ولد للغير ، فيكون مستمتعاً بأم ولد غيره ، وبها جزام ابن البنا والشيرازي ، وملخصه أن من نظر إلى هذا المعنى أباح ، ومن قاس على العدة منع .
2834 وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : وقع في سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة ، فما ملكت نفسي أن قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون ( ويدخل فيه ) أيضاً إذا ملك أمة من مكاتبه ، وهو المذهب ، وبه جزم أبو محمد ، وفيه وجيه أنه لا استبراء ، اكتفاء باستبراء المكاتب ، ( ويدخل ) أيضاً إذا اشترى أمة مزوجة فطلقت ، فإن الاستبراء يجب بعد العدة ، وقيل : لا يجب بل تدخل فيها إذا أوجب الطلاق عدة ، أما إن لم يوجب عدة كالمطلقة قبل الدخول فإن الاستبراء يجب قولًا واحداً ، ( ومما يدخل فيه ) أيضاً إذا باع أمة ثم عادت إليه بإقالة أو فسخ ، حيث قيل بانتقال الملك ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار الشريف و أبي الخطاب ، و الشيرازي وغيرهم ( والرواية الثانية ) لا يجب الاستبراء ، ومحل الخلاف إذا كان العود قبل القبض ، أما إن كان بعد القبض والافتراق فإن الاستبراء يجب بلا خلاف ، هذا إذا كان المشتري رجلًا ، وكذلك إن كان امرأة عند أبي محمد ، وعند أبي البركات إن كانت امرأة جرى فيه الخلاف مطلقاً .
ومفهوم كلامه أنه لا يجب الاستبراء بغير الملك ، وقد قال أحمد في الأقالة توجب الاستبراء ، قال : لأني اعتبر الملك . فأناط الحكم بالملك ، فعلى هذا لو عجزت مكاتبته ، أو فك أمته من الرهن ونحو ذلك ، فلا استبراء عليه لذلك ، نعم يستثنى من ذلك إذا أسلمت أمته المجوسية أو المرتدة ، فإنه يجب عليه استبراؤها على وجه ، والمذهب أنه لا يجب لذلك ، وبه قطع أبو محمد ، ( وقوله ) : أمة . يشمل كل أمة وإن كانت بكراً أو لا تحمل ، أو انتقلت من صغير أو امرأة ، وهوكذلك ، لعموم الحديث ، ويستثنى من ذلك إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها ، فإنه لا يجب استبراؤها على إحدى الروايتين ، لأن الاستبراء يراد لمعرفة براءة الرحم ، ورحم هذه وقع حمل الآيسة ، لأن الإياس قد يخفى ، ثم وقد وقع حمل الآيسة ، كما وقع لامرأة سيدنا إبراهيم ، وهذه الرواية اختيار ابن أبي موسى وأبي محمد ، ولا عبرة بقول ابن المنجا أن ظاهر كلامه في المغني ترجيح الوجوب ، فإنه صرح بتصحيح عدم الوجود ، بل لم يستدل على الوجوب بشيء . ( والثانية ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، وابن البنا والشيرازي وغيرهم : يجب ، لعموم الحديث .
وقوله : ولم يقبلها . وفي معنى القبلة الاستمتاع فيما دون الفرج ونحو ذلك ، ( وقوله ) : بعد تمام ملكه لها . يحترز عما إذا ملك بعضها ، فإن الاستبراء لا يحتسب به إلا من حين ملك جميعها ، وأما إذا اشتريت بشرط الخيار ، وقلنا الملك ينتقل ، فإن الاستبراء لا يحتسب به إلا من حين انتهاء الخيار ، لعدم تمام الملك قبله ، وهو أحد الوحهين ، والوجه الثاني وبه جزم أبو محمد يحتسب به من حين انتقال الملك ، إناطة به ، وإن لم يتم ، وقد دخل في كلام الخرقي إذا وجد الاستبراء في يد البائع قبل القبض ، وقد تم الملك ، فإنه يجزئ ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار القاضي وجماعة من أصحابه ( والثانية ) لا يجزئ إلا بعد القبض ، وعلى هذه فهل يكفي قبض الوكيل ؟ فيه وجهان ، أصحهما الإجزاء ، لأن يده كيد الموكل والله أعلم .
قال : وتجتنب الزوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة ، والبيتوتة في غير منزلها ، والكحل بالإثمد ، والنقاب ، فإن احتاجت سدلت على وجهها ، كما تفعل المحرمة حتى تنقضي عدتها .
ش : قد تقدم أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة ، وشهران وخمسة أيام إن كانت أمة ، ( فتجتنب ) في مدة ذلك الطيب .
2835 لما روي عن أم عطية رضي الله عنها أن النبي قال : ( لا تحد المرأة فوق ثلاث إلا على زوج ، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً ، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب ، ولا تكتحل ، ولا تمس طيباً ، إلا أدنى طهرها فإذا طهرت من محيضها بنبذة من قسط وأظفار ) متفق عليه .
2836 وعن زينب بنت أبي سلمة أنها دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان ، فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره ، فدهنت منه جارية ، ثم مست بعارضيها ، ثم قالت : والله مالي بالطيب من حاجة ، غير أني سمعت رسول الله يقول : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ) متفق عليه وفي معنى الطيب الإدهان بالأدهان المطيبة ، كدهن الورد ونحوه ، لا غير المطيبة كالزيت ونحوه ، ( وتجتنب ) أيضاً الزينة ، لما تقدم من حديث أم عطية ، ( ولا تلبس ثوباً مصبوغاً ) الحديث .
2837 وعن أم سلمة زوج النبي ورضي عنها ، عن النبي أنه قال : ( المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ، ولا الممشقة ، ولا الحلي ، ولا تختضب ، ولا تكتحل ) رواه أبو داود والنسائي .
2838 وعن أم حكيم بنت أسيد ، عن أمها أن زوجها توفي عنها وكانت تشتكي عينها فتكتحل بالجلا ، فقالت : لا تكتحلي به إلا من أمر لا بد منه ، يشتد عليك ، فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار ، ثم قالت عند ذلك أم سلمة : دخل علي رسول الله حين توفي أبو سلمة ، وقد جعلت علي صبراً ، فقال : ما هذا يا أم سلمة ؟ فقلت : إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب . قال : ( إنه يشب الوجه ، فلا تجعليه إلا بالليل ، وتنزعيه بالنهار ، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحنا ، فإنه خضاب ) قالت : قلت بأي شيء ، أمتشط يا رسول الله ؟ قال : ( بالسدر تغلفين به رأسك ) رواه أبو داود والنسائي . ( والزينة تشمل ) زينة البدن ، كالاختضاب وتحمير الوجه ، وجعل الصبر عليه وتحفيفه ، ونحو ذلك ، لما تقدم في الأحاديث ، وما لم يذكر فيها فبالقياس على ما ذكر ، ولا تمنع مما يراد للتنظيف كالامتشاط بالسدر ، لحديث أم سلمة رضي الله عنها ، وكتقليم الظفر ، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ، ونحو ذلك ، ( وتشمل ) زينة الثياب ، فيحرم عليها المصبوغ من الثياب للتحسين ، كالمعصفر والمزعفر ، والأزرق الصافي والأخضر الصافي ، ونحو ذلك ، لما تقدم من حديث أم سلمة وأم عطية رضي الله عنهما ، ولا تمنع من مصبوغ لم يقصد بصبغه حسنه ، كالكحلي والأخضر المشبع ونحو ذلك ، نظراً للمعنى ، وتخصيصها به ، ولا من غير مصبوغ وإن كان حسناً ، لعدم دخوله في الحديث ، ولأن حسنه من أصل خلقته ، أشبه إذا كانت المرأة حسناء ، فإنه لا يلزمها أن تشوه نفسها ، وفي منعها مما صبغ غزله ثم نسج وجهان ، بناء على تفسير ثوب العصب المستثنى في الحديث ما هو ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، ( وتشمل ) الزينة أيضاً الزينة بالحلي ، كالخلخال والسوار ، حتى الخاتم ، لعموم حديث أم سلمة رضي الله عنها ( ولا الحلي ) انتهى ، ( وتجتنب ) أيضاً الكحل بالأثمد ، وهو نوع من الزينة ، وقد تقدم المنع في الأحاديث منه ، ولا فرق بين السوداء وغيرها ، نظراً للعموم ، نعم إن اضطرت إلى التداوي بذلك جاز ليلًا ، وتمسحه نهاراً ، لما تقدم عن أم سلمة رضي الله عنها ، ولا تمنع من الكحل بالتوتيا أو العنزروت ونحوهما ، لعدم الزينة ، والمنع ملحوظ فيه الزينة ، ( وتجتنب ) أيضاً النقاب ، وكأنه لا نص في ذلك عن أحمد ، لأن كثيراً من الأصحاب عزا ذلك إلى الخرقي ، وذلك لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة ، والمحرمة تمنع من ذلك ، وعلى هذا تمنع مما في معنى ذلك كالبرقع ، ولو احتاجت إلى ما يستر وجهها سدلت عليه ، كما تفعل المحرمة ، ( وتجتنب ) أيضاً المبيت في غير منزلها .
2739 لما روي عن الفريعة بنت مالك بن سنان ، وهي أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا ، حتى إذا كانوا بطرف القدوم ، لحقهم فقتلوه ، فسألت رسول الله أن أرجع إلى أهلي ، فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة ، قالت : فقال رسول الله : ( نعم ) قالت : فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني ، أو أمرني فدعيت له فقال : ( ما قلت ) ؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي ، قالت : فقال : ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً ؛ قالت : فلما أن كان عثمان بن عفان رضي الله عنه أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به ، رواه الخمسة وصححه الترمذي ، وتجب العدة في المنزل الذي مات الزوج وهي ساكنة فيه ، سواء كان مملوكاً لزوجها أو لم يكن ، كحال فريعة ، إلا أن تدعو ضرورة إلى خروجها منه ، بأن يحولها مالكه ، أو تخشى على نفسها هدماً أو غرقاً أو عدواً ونحو ذلك ، فلها أن تنتقل ، لكن هل تنتقل إلى أقرب الأماكن إلى المسكن ، وبه جزم أبو الخطاب في الهداية ، وأبو البركات ، أو حيث شاءت ، وهو مختار أبي محمد ، وحكاه عن القاضي ، فيه وجهان ، وقد ذكر أبو محمد من صور الأعذار المبيحة للإنتقال إذا لم تجد أجرة المنزل إلا من مالها ، فإن لها الإنتقال ، وذكر هو وغيره أنه لا يجب للمتوفى عنها سكنى إن كانت حائلًا بلا نزاع ، وفيما إذا كانت حاملًا روايتان ، وحاصل قوله وقد صرح به أن الواجب عليها فعل السكنى ، لا تحصيل المسكن ، وهو مقتضى قول القاضي في تعليقه ، فإنه قال : إذا بذل لها المنزل فإنه يلزمها أن تعتد فيه ، ولا يحل لها البيتوتة في غيره ، نص عليه في رواية حنبل ، وفرق بينها وبين المبتوتة في غيره ، وفي ما قالاه نظر ، فإنه يفضي إلى أسقاط العدة في المنزل رأساً ، فإن الورثة إذا لم يبذلوا السكن والمرأة إذا لم تبذل الأجرة سقط الإعتداد في المنزل ، وظاهر الحديث يخالفه ، فإن النبي قال لها : ( امكثي في بيتك ) مع قولها : إنه لم يتركها في مسكن يملكه ولا نفقة ، ولو كان لأمرها بالمكث في بيتها شرط ، وهو بذل الورثة الأجرة ، لبينه ، ثم إن عامة الأصحاب يقولون : لا تخرج عن منزلها إلا لضرورة ووزن الأجرة ليس بضرورة عليها ، ولفظ أحمد في رواية حنبل : لا تبيت المطلقة والمتوفى عنها إلا في منزلهما يذهبان بالنهار ، فإذا كان الليل أتيا المنزل الذي أدركهما فيه الوفاة ، والطلاق أسهل ، وهذا النص أيضاً على وفق الحديث ، والذي يظهر لي أنها يجب عليها بذل الأجرة من مالها إن قدرت على ذلك ، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
وظاهر كلام الخرقي أنها لا تجتنب الخروج نهاراً ، وهو كذلك ، نص عليه أحمد كما تقدم والأصحاب ، دفعا للحرج والمشقة ، إذ الحاجة قد تدعو إلى ذلك .
2840 وقد روى جابر رضي الله عنه قال : طُلِقَت خالتي ثلاثاً ، فخرجت تجذ نخلها ، فلقيها رجل فنهاها ، فذكرت ذلك للنبي ، فقال : ( اخرجي فجذي نخلك ، لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيراً ) رواه النسائي وأبو داود ، لكن اشترط كثير من الأصحاب لخروجها في النهار الحاجة ، وأحمد وجماعة لم يشترطوا ذلك ، فلا حاجة في التحقيق إلى اشتراطه ، لأن المرأة وإن لم يكن متوفى عنها تمنع من خروجها من بيتها لغير حاجة مطلقاً ، وقوله : وتجتنب الزوجة . يخرج منه غير الزوجة كأم الولد ونحوها ، فإنه لا إحداد عليها ، ويدخل فيه كل زوجة ، وإن كانت ذمية أو غير مكلفة ، وهو كذلك ، والمخاطب بتحصيل الإحداد على غير المكلف هو الولي .
( تنبيه ) الإحداد المنع ، فالمرأة تمنع نفسها مما كانت تتهيأ به لزوجها ، من تطيب وتزين ، فقول النبي : ( لا تحد المرأة ) وقوله بعد : ( ولا تلبس ثوباً مصبوغاً ) إلى آخره ، عطف تفسيري للإحداد ، يقال : أحدث المرأة إحداداً فهي محد ، وحدت تحد وتحد ، بالضم والكسر ، فهي حاد ، وسمي الحديد حديداً لامتناعه به ، أو لامتناعه على من يحاوله ، و ( العصب ) برود يمينة يعصب غزلها ، أي يجمع ويشد ، ثم يصبغ بعد ذلك وتنسج ، فيأتي مَوْشِياً لبقاً ، ما عصب منه أبيض ، لم يأخذ الصبغ ، هذا تفسير المنذريس ، و القاضي من أصحابنا وغيرهما ، ولهذا أباح القاضي ما صبغ غزله ثم نسج للتحسين ، نظراً للمعنى ، ( والنبذة ) القطعة من الشي ( والقسط ) العود الذي يتبخر به ، وقيل هو طيب غيره ، ويقال بالقاف والكاف ( والأظفار ) جنس من الطيب ، لا واحد له من لفظه ، وقيل واحدة ظفر ، وروي : ( قسط وأظفار ) على العطف ، وروي : أو أظفار ، على الإباحة والتسوية ، ورخص في ذلك لأجل قطع الرائحة الكريهة ، لا على معنى التطيب ( والممشقة ) من الثياب المصبوغة بالمشق ، بكسر الميم وفتحها ، وهو المغرة بفتح الميم ( وكحل الجلا ) هو الإثمد ، وحكى فيه كسر الجيم وفتحها ، والمد والقصر ( والصبر ) معروف الدواء المر ( ويشب الوجه ) أي يوقد اللون ويحسنه ، من قولهم شببت النار ؛ إذ أوقدتها ( وتغلفين ) أي تلطخين ، و ( خدرة ) بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة ، بطن من الأنصار ، ( والقدوم ) بفتح القاف وضم الدال المهملة موضع على ستة أميال من المدينة ، ويشدد ويخفف .
قال : والمطلقة ثلاثاً تتوقى الطيب والزينة والكحل بالإثمد .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار الخرقي والقاضي ، وعامة أصحابه ، لأنها معتدة ، بائن من نكاح ، فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها ، ولأن العدة تحرم النكاح ، فحرمت دواعيه ، كالإحرام والصيام ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر في الخلاف وابن شهاب : لا يحرم عليها شيء من ذلك ، لعموم الحديث ، فإنه دل على أن كل امرأة لا تحد إلا امرأة توفي عنها زوجها .
وقول الخرقي : المطلقة ثلاثاً : تخرج منه الرجعية ، لأنها زوجة ، ويلحق بالمطلقة ثلاثاً كل بائن ، وظاهر كلام الخرقي أنها لا تجتنب النقاب ، وصرح بذلك أبو محمد في الكتاب الكبير ؛ وظاهر كلامه في كتابه الصغير ، وكذلك أبو البركات منعها من ذلك ، وظاهر كلام الخرقي أيضاً أنه لا يجب عليها البيتوتة في منزل الطلاق ، وهوأشهر الروايتين ، والمجزوم به عند كثير من الأصحاب ، القاضي وأبي محمد وغيرهما .
2841 لأن النبي أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم . وحكي عنه أنها كالمتوفى عنها ، وعلى الأول هل لها البيتوتة عن المنزل الذي تكون فيه ، والسفر عن البلد ؟ فيه روايتان ، أنصهما : نعم ، وهذا كله إذا لم يمنعها المطلق من ذلك ، فأما إن أراد إسكانها في موضع يصلح لها ، ولا محذور فيه ، تحصيناً لفراشه ، لزمها ذلك .
قال : وإذا خرجت للحج فتوفي زوجها وهي بالقرب ، رجعت لتقضي العدة ، وإن كانت قد تباعدت مضت في سفرها .
ش : إذا سافرت المرأة إلى الحج ، ثم توفي عنها زوجها ، فلا يخلو إما أن تكون قريبة أو بعيدة ، فإن كانت قريبة لزمها العود ، لتأتي بالعدة في المنزل الذي وجبت فيه ، لأن القريبة في حكم المقيمة .
2842 وقد روى سعيد بن منصور : ثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد ابن المسيب قال : توفي أزواج نساءوهن حاجات أو معتمرات ، فردهن عمر رضي الله عنه من ذي الحليفة ، حتى يعتددن . وكلام الخرقي يشمل ما إذا أمكنها مع الرجوع الإتيان بالحج ، وما إذا لم يمكن ، ولا نزاع في ذلك مع الإمكان ، اللهم إلا إذا لحقها في الرجوع ضرر ، فإنها تمضي ، كما لو تباعدت ، وإن لم يمكن فهل ( تقدم العدة ) وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب ويعقوب بن بختان ، لعموم قول النبي لفريعة : ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) وهذه في حكم المقيمة في البيت ، ( أو الحج ) إن كانت قد أحرمت به قبل العدة ، وهو اختيار القاضي ، لمزيته بالسبق ، ولعموم : 19 ( { وأتموا الحج والعمرة لله } ) ؟ على روايتين ، فعلى الأول تتحلل لفوات الحج بعمرة كالمحصرة ، وإن كانت بعيدة مضت في سفرها ، لأنها تحتاج إلى سفر في رجوعها ، فأشبهت من بلغت مقصدها .
وظاهر كلام الخرقي أن مضيها على سبيل الوجوب ، وجعله أبو محمد على سبيل الجواز إن وصلت إلى منزلها قبل انقضاء عدتها ، وفصل أبو البركات فقال : إن أمكنها الرجوع لقضاء العدة ، ثم الإتيان بالحج خيرت ، وإن لم يمكنها قدمت الحج ، فخصص إطلاق الخرقي .
( تنبيه ) حد القريب ما لا تقصر فيه الصلاة ، والبعيد عكسه قاله القاضي .
قال : فإن رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها أتت به في منزلها .
ش : يعني إذا مضت في الحج ثم رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها ، فإنها تأتي به في منزلها ، لقول النبي : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
قال : ولو توفي عنها زوجها أو طلقها وهو ناء عنها ، فعدتها من يوم مات أو طلق ، إذا صح ذلك عندها ، وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين ، نظراً إلى أن العدة سببها ذلك ، والمسبب يتعقب السبب ، ولأن غاية ما فات القصد ، وهو غير معتبر في العدة ، بدليل الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتها من غير قصد ، ولأنها لو وضعت حملها غير عالمة بفرقة زوجها لانقضت عدتها ، فكذلك سائر أنواع العدة ( والرواية الثانية ) إن ثبت ذلك ببينة فكذلك لتحقق السبب ، وإلا فعدتها من يوم بلغها الخبر ، لعدم تعلق الحكم بها قبل ذلك ، وقوله : إذا صح ذلك عندها . لأنه إذا لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة . لأن العدة مرور زمن ، وقد وجد ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
كتاب الرضاع

ش : الرضاع مص الثدي ، بفتح الراء وكسرها ، مصدر رضع الصبي الثدي ، بكسر الضاد وفتحها ، يرضع ويرضع بالفتح مع الكسر ، والكسر مع الفتح ، والرضاع محرم بالإجماع ، وسنده قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } ) وقول النبي : ( إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ) وقد تقدم ذلك .
قال : والرضاع الذي لا يشك في تحريمه أن يكون خمس رضعات فصاعداً .
ش : اختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في القدر الذي يتعلق به التحريم من الرضاع ، فروي عنه أنه لا حد لذلك ، بل قليل الرضاع وكثيره سواء ، اعتماداً على إطلاق قوله تعالى : 19 ( { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة } ) وقول النبي : ( إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ) ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .
2843 وعن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب ، فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما . فذكرت ذلك للنبي فأعرض عني ، قال فتنحيت فذكرت ذلك للنبي فقال : ( وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما ) متفق عليه ، وبهذا استدل أحمد ( وروي عنه ) أن التحريم لا يثبت إلا بثلاث رضعات .
2844 اعتماداً على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال : ( لا تحرم المصة والمصتان ) رواه مسلم وغيره .
2845 وعن أم الفضل رضي الله عنها أن رجلًا سأل النبي أتحرم المصة ؟ فقال : ( لا تحرم الرضعة والرضعتان ، والمصة والمصتان ) وفي لفظ : ( لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان ) رواهما مسلم .
2846 وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن النبي قال : ( لا تحرم من الرضاعة المصة والمصتان ) رواه أحمد والنسائي والترمذي ، ومفهوم ذلك أن الثلاث تحرم ، ثم إطلاق ما تقدم يقتضي التحريم مطلقاً ، خرج منه الرضعة والرضعتان بالنص ، فما عداهما يبقى على مقتضى الإطلاق ( وروي عنه ) وهن مختار أصحابه متقدميهم ومتأخريهم أن التحريم لا يثبت إلا بخمس رضعات .
2847 لما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان فيما أنزل من القرآن ( عشر رضعات معلومات يحرمن ) ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن . رواه مسلم وأبو داود والنسائي .
2948 وفي لفظ : قالت : أنزل في القرآن ( عشر رضعات معلومات ) فنسخ من ذلك خمس ، وصارت إلى خمس رضعات معلومات ، فتوفي رسول الله والأمر على ذلك ، رواه الترمذي .
2849 وعن عائشة رضي الله عنهاأن رسول الله أمر امرأة أبي حذيفة فأرضعت سالماً خمس رضعات ، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة ، رواه أحمد ولو تعلق التحريم بدون الخمس لم يكن لذكر الخمس معنى ، ولكان النبي أمر امرأة أبي حذيفة أن ترضع سالماً ثلاثاً ، وهذا يقضي على إطلاق ما تقدم ، وكذا على مفهومه ، إذ غايته عموم ، فعلى الأولى لا كلام ، وعلى الثانية والثالثة متى امتص من الثدي ثم تركه فذلك رضعة بكل حال ، وعن ابن حامد إذا ترك بغير اختياره ثم عاد عن قرب فهما رضعة .
قال : والسعوط كالرضاع .
ش : أصل السعوط صب الدواء في الأنف ، والمراد هنا صب اللبن ، ومختار الخرقي والقاضي وأصحابه ، وأبي محمد وغيرهم ثبوت التحريم به ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، لحصول المعنى الحاصل بالرضاع منه ، وهو إنشاز العظم وإنبات اللحم .
2850 ويدل على التكليف على هذا المعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه : لا رضاع إلا ما شد العظم ، وأنبت اللحم وفي رواية : وأنشز العظم . رواه أبو داود ( والرواية الثانية ) لا يثبت التحريم به ، اختارها أبو بكر ، نظراً إلى أن هذا ليس برضاع ، والتحريم إنما حصل بالرضاع .
قال : وكذلك الوجور .
ش : أصل الوجور وضع الدواء في الفم ، وقال الجوهري : في وسط الفم ؛ والمراد هنا صب اللبن في الفم من غير الثدي ، والكلام فيه كالكلام في السعوط نقلًا ودليلًا ، والنص عن أحمد ورد فيه ، وقوله : كالرضاع . في أنه يعطى حكمه ، ومن ذلك أنه لا يحرم إلا خمس رضعات ، فكذلك هنا لا يحرم إلا خمس مصات .
قال : واللبن المشوب كالمحض .
ش : المشوب هو المخلوط بغيره ، عكس المحض وهوالخالص ، ومختار الخرقي ، و القاضي و الشريف ، و الشيرازي والشيخين ثبوت التحريم به لحصول إنبات اللحم ، وإنشاز العظم منه ، وقال ابن حامد واختاره أبو الخطاب في خلافه الصغير الحكم لأغلبهما ، إذ غير الغالب في حكم العدم ، وهذان القولان بناء على القول بالتحريم بالوجور ، كذلك صرح به القاضي في تعليقه ، وأبو البركات ، ومن ثم قال أبو بكر : قياس قول أحمد أنه لا يحرم ، لأنه وجور ، ثم أبو محمد يقول : الخلاف فيما إذا كانت صفات اللبن باقية ، أما إن ذهبت كأن كان يصب في ما لم يتغير به فلا تحريم ، لانتفاء الرضاع ومعناه ، وهو إنشاز العظم وإنبات اللحم به ، وعن القاضي وهو ظاهر كلامه في التعليق جريان الخلاف فيه ، إناطة بحصول اللبن في البطن .
قال : ويحرم لبن الميتة ، كما يحرم لبن الحي .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية إبراهيم الحربي ، واختيار أبي بكر ، والقاضي وأصحابه ، لحصول الرضاع على وجه يحصل به الإنبات والإنشاز .
2851 وقد قال أحمد : إن عمر رضي الله عنه قال : إن اللبن لا يموت ، واختار الخلال أن التحريم لا يحصل به ، وسئل أحمد في رواية مهنا عن صبي رضع من ثدي امرأة ميتة ، هل يكون رضاعاً ؟ فتوقف وقال : إلا أن عمر قال : إن اللبن لا يموت . وهذا يدل على أن المرجح عنده مع توقفه ثبوت التحريم به ، وكأن الخلال رحمه الله نظر إلى أن هذه ليست بمحل الولادة ، فأشبهت الرجل .
قال : وإذا حبلت ممن يلحق نسب ولدها به فثاب لها لبن ، فأرضعت به طفلًا خمس رضعات متفرقات في حولين ، حرمت عليه وبناتها من أبي هذا الحمل ومن غيره ، وبنات أبي هذا الحمل منها ومن غيرها ، فإن أرضعت صبية فقد صارت ابنة لها ولزوجها ، لأن اللبن من الحمل الذي هو منه .
ش : أما تحريم المرضعة المذكورة على الطفل فبنص الكتاب ، قال سبحانه : 19 ( { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } ) وأما تحريم بناتها على الطفل من أبي الحمل ومن غيره ، فلأنهن أخواته ، وقد قال سبحانه : 19 ( { وأخوانكم من الرضاعة } ) وأما تحريم بنأات بي هذا الحمل من المرضعة ومن غيرها عليه ، فبناء على أن الحرمة تنتشر من قبل الرجل ، كما تنتشر من قبل المرأة ، وقد تقدمت هذه المسألة في قوله : ولبن الفحل محرم . وأما صيرورة الصبية المرضعة منها بنتاً لها فإجماع .
2852 وقد دل عليه قول النبي : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) وأما صيرورة المرضعة بنتاً لزوج المرضعة ، فلما علل به الخرقي ، من أن اللبن من الحمل الذي هو منه ، وهو يلتفت إلى ما تقدم من لبن الفحل محرم ، وقول الخرقي : وإذا حبلت . يحترز مما إذا ثاب اللبن من غير حمل ، فإنه لا ينشر الحرمة ، وهو المنصوص والمختار للقاضي وعامة أصحابه من الروايتين ، لأنه لبن لم تجر العادة به لتغذية الطفل ، أشبه لبن الرجل ، وحكي عن أحمد رواية أخرى أنه ينشر الحرمة ، وصححها أبو محمد في الكتاب الكبير ، ولم يثبتها في الصغير ، بل قال : الظاهر أنها قول ابن حامد . وهي مشعرة بظاهر إطلاق 19 ( { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } ) وقول الخرقي : ممن يلحق نسب ولدها به . يحترز به عمن لم يلحقه النسب ، كالزاني والملاعن ، فإن الحرمة لا تنتشر إليهما ، وهو قول ابن حامد ، إذ التحريم فرع لحرمة الأبوة ، وحرمة الأبوة لم تثبت ، فكذلك ما هو فرع لها ، واختار أبو بكر أن الحرمة تنتشر إليهم ، إذ هو رضاع نشر الحرمة إلى المرضعة ، فنشرها إلى الواطئ لضرورة الإتفاق ، وفي المذهب ( قول ثالث ) تنتشر الحرمة إلى الزاني ، لأنه ولده ظاهراً ، دون الملاعن ، لانتفائه عنه ظاهراً وحكماً ، وقوله : فثاب لها لبن . أي اجتمع .
وقوله : فأرضعت به طفلًا خمس رضعات ، بناء على مختاره من أن التحريم إنما يتعلق بالخمس ، وقوله : متفرقات . بناء على أنه لا بد من عدد الرضعات ، وأنه لا يكتفى بالمص من غير مفارقة الثدي ، وهو المشهور ، وعن ابن أبي موسى : حد الرضعة أن يمتص ثم يمسك عن الإمتصاص لنفس أو غيره ، سواء خرج الثدي من فيه ، أو لم يخرج ، وكلام الخرقي يقتضي أنه متى وجد التفرق كفى ، وإن كان بغير اختياره ، وقد تقدم ذلك وقوله : في حولين . يحترز به عما بعد الحولين ، فإنه لا يؤثر ، ولا ريب في ذلك عندنا .
2853 لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي النبي ، وعندي رجل ، فقال : ( يا عائشة من هذا ؟ فقلت : أخي من الرضاعة ، فقال : ( يا عائشة انظرن من إخوانكن ، فإنما الرضاعة من المجاعة ) متفق عليه .
2854 وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( لا يحرم الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام ) رواه الترمذي وصححه .
2855 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( لا رضاع إلا ما فارق الحولين ) رواه الدارقطني .
2856 وعن ابن مسعود رضي الله عنه : لا رضاعة إلا ما كان في الحولين . رواه أبو داود .
2857 وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا رضاعة لكبير .
2858 وعن ابن عمر رضي الله عنهما : لا رضاعة إلا لمن أرضع في الصغر . رواهما مالك في الموطأ .
2859 وبهذا يتخصص ما روي عن زينب بنت أم سلمة رضي الله عنهما ، قالت : قالت أم سلمة لعائشة رضي الله عنهما : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي . فقالت عائشة رضي الله عنها : أمالك في رسول الله أسوة حسنة ، وقالت : إن امرأة أبي حذيفة قالت : يا رسول الله إن سالماً يدخل على وهو رجل ، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء ؛ فقال رسول الله : ( أرضعيه حتى يدخل عليك ) رواه أحمد ومسلم ، وفي رواية عن زينب ، عن أمها أم سلمة رضي الله عنها ، قالت : أبى سائر أزواج رسول الله أن يدخلن أحداً عليهن بتلك الرضاعة ، وقلن لعائشة رضي الله عنها : ما نرى هذا إلا رخصة رسول الله لسالم خاصة ، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا . رواه أحمد ومسلم والنسائي .
( تنبيه ) : الأيفع .
قال : ولو طلق الرجل زوجته ثلاثاً وهي ترضع من لبن ولده ، فتزوجت بصبي مرضع فأرضعته حرمت عليه ، ثم تزوجت بآخر ودخل بها ، وطلقها أو مات عنها ، لم يجز أن يتزوجها الأول ، لأنها صارت من حلائل الأبناء لما أرضعت الصبي الذي تزوجت به .
ش : أما تحريم المرضعة على الصبي المرضع فلأنها صارت أمه ، فدخلت في قوله تعالى : 19 ( { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } ) وأما امتناع تزويج الأول لها فلما علل به الخرقي ، من أنها صارت من حلائل أبنائه ، لأن المرضع ابن له لما تقدم ، والمرضعة زوجته ، فهي من زوجات أبنائه ، وقيود الخرقي رحمه الله واضحه .
قال : ولو تزوج كبيرة وصغيرة ، فلم يدخل بالكبيرة حتى أرضعت الصغيرة في الحولين ، حرمت عليه الكبيرة ، وثبت نكاح الصغيرة .
ش : أما تحريم الكبيرة فلأنها بإرضاعه صارت من أمهات نسائه ، وأمهات النساء يحرمن بمجرد العقد ، وأما ثبوت نكاح الصغيرة ، فلأنها قد صارت ربيبة ، ولم يدخل بأمها فلا تحرم ، لقوله سبحانه : 19 ( { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } ) وهذا أشهر الروايتين عن أحمد ، واختيار الخرقي وابن عقيل وغيرهما ( والرواية الثانية ) ينفسخ نكاح الصغيرة أيضاً ، لأنهما قد صارتا أما وبنتا واجتمعاً في نكاحه ، ولا ريب أن الجمع بينهما محرم ، فينفسخ نكاحهما ، كما لو عقد عليهما بعد الرضاع جملة ، وأجيب عن هذا بأن إزالة الجمع ممكن بانفساخ نكاح الكبيرة ، وهو أولى به لتحريمها بمجرد العقد ، بخلاف البنت فإنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم ، والدوام يغتفر فيه ما لا يغتفر في الإبتداء .
قال : وإن كان دخل بالكبيرة حرمتا عليه جميعاً .
ش : الكبيرة لأنها صارت من أمهات نسائه ، والصغيرة فلأنها صارت ربيبة مدخولًا بأمها .
قال : ويرجع بنصف مهر الصغيرة على الكبيرة .
ش : لأن الكبيرة قررته عليه ، وألزمته إياه وأتلفت عليه ما في مقابلته ، فوجب عليها الضمان كا لو أتلفت عليه المبيع ، وقد تضمن كلام الخرقي أن عليه نصف مهر الصغيرة ، وهو كذلك ، لأن نكاحها انفسخ قبل دخوله بها من غير جهتها ، فتنصف مهرها ، وفي كلامه أو لا إشعار بأن الكبيرة الغير مدخول بها لا مهر لها ، وهو واضح ، إذ الفسخ لسبب من جهتها ، أشبه ما لو ارتدت .
قال : وإذا تزوج بكبيرة لم يدخل بها ، وبصغيرتين فأرضعت الكبيرة الصغيرتين ، حرمت الكبيرة ، وانفسخ نكاح الصغيرتين ، ولا مهر للكبيرة ، ويرجع عليها بنصف مهر الصغيرتين ، ولا مهر للكبيرة ، ويرجع عليها بنصف مهر الصغيرتين ، وله أن ينكح من شاء منهما .
ش : أما تحريم الكبيرة فلأنها صارت من أمهات نسائه ، فشملها قوله سبحانه : 19 ( { وأمهات نسائكم } ) وأما انفساخ نكاح الصغيرتين فلأنهما قد صارتا أختين ، وقد اجتمعتا في نكاحه ، فينفسخ نكاحهما ، إذ ليست إحداهما بأولى بالبطلان من الأخرى ، فأشبه ما لو عقد عليهما ابتداء ، وهذا بناء على ما تقدم من مختاره ، من أنه إذا أرضعت كبيرة وصغيرة أنه لا بنفسخ نكاح الصغيرة ، وإذاً إذا ارتضعت الثانية قد صارتا أختين ، فينفسخ نكاحهما ، أما على الرواية الثانية فإن الصغيرة إذا انفسخ نكاحها مع الكبرى ، فالصغيرة الثانية إذا ارتضعت لم يوجد ما يجمع معها ، فيبقى نكاحها ، وأما كونه لا مهر للكبيرة فلأن الفسخ جاء من جهتها ، وأما كونه يرجع عليها بنصف مهر الصغيرتين فلما تقدم من أنها قررت ذلك عليه ، وألزمته له .
قال وإن كن الأصاغر ثلاثاً ، فأرضعتهن متفرقات ، حرمت الكبيرة ، وانفسخ نكاح المرضعتين أولًا ، وثبت نكاح آخرهن رضاعا .
ش : إذا كن الأصاغر ثلاثاً ، فأرضعتهن الكبيرة متفرقات ، حرمت الكبيرة لما تقدم ، وانفسخ نكاح المرضعتين أولًا ، لما تقدم من أنهما قد صارتا أختين ، وقد جمع بينهما في النكاح ، فيبطل نكاحهما ، ويثبت نكاح الأخرى ، لأنها لم توجد ما يجمع معه ، وهذا أيضاً مبني على ما تقدم أما علي الرواية الأخرى فإنه ينفسخ نكاح الجميع ، نكاح الأولى مع الأم ، ونكاح الثانية والثالثة لأنهما قد صارتا أختين .
قال : وإن كانت أرضعت إحداهن منفردة واثنتين بعد ذلك معاً ، حرمت الكبيرة ، وانفسخ نكاح الأصاغر .
ش : أما تحريم الكبير فواضح ، وقد تقدم وأما انفساخ نكاح الأصاغر فلأنه قد صار جامعاً بين ثلاث أخوات ، لأن الأولى لم ينفسخ نكاحها ، فلما أرضعت الاثنتين بعد ذلك حصل الجمع بين الجميع ، واعلم أن انفساخ نكاح الأصاغر على الروايتين ، أما على المذهب فقد تقدم ، وأما على الرواية الأخرى فلأن الأولى ينفسخ نكاحها نكاحها مع الكبرى ، والأخريين ينفسخ نكاحهما ، لأنه قد صار جامعاً بينهما ، غايته أن وقت الفسخ يختلف .
فعلى الأولى : ينفسخ نكاح الجميع في حالة واحدة ، وعلى الثانية : ينفسخ نكاح الأولى مع الكبيرة ، ويتأخر فسخ نكاح الأخريين إلى حين الإِرضاع .
قال : ولو كان دخل بالكبيرة حرم الكل عليه على الأبد .
ش : أما تحريم الكبيرة فلما تقدم ، وأما تحريم الأصاغر فلأنهن ربائب ، مدخول بأمهاتهن فيحرمن .
قال : وإذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع حرم النكاح إن كانت مرضية ، وقد قال أبو عبد الله في موضع آخر : إن كانت مرضية استحلفت ، فإن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها ، وذهب في ذلك إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما .
ش : شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع ، على المذهب المشهور .
2860 لما روي عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب ، فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما . قال : فذكرت ذلك للنبي فأعرض عني ، قال : فتنحيت فذكرت ذلك له ، فقال : ( كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما ) فنهاه عنها ، أخرجه البخاري وغيره ، وللنسائي قال : فأعرض عنه ، فأتيته من قبل وجهه ، قلت : إنها كاذبة . قال : ( كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما ، دعها عنك ) .
2861 وقال الزهري : فرق بين أهل أبيات في زمن عثمان رضي الله عنه بشهادة امرأة في الرضاع .
2862 وقال لشعبي : كانت القضاة يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع ( وعن أحمد ) رواية ثانية : لا يقبل إلا بشهادة امرأتين لأن الرجال أكمل من النساء ولا يقبل إلا بشهادة رجلين مكذلك لا يقبل إلا بشهادة امرأتين ( وعنه ) ثالثة تقبل شهادة المرأة الواحدة ، وتستحلف مع شهادتها .
2863 اعتماداً على قول ابن عباس رضي الله عنهما فإنه قال في امرأة زعمت أنهاأرضعت رجلًا وأهله ، فقال : إن كانت مرضية استحلفت ، وفارق امرأته ، وقال : إن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها . يعني يصيبها فيهما برص ، عقوبة على كذبها ، نسأل الله العافية من ذلك ، والظاهر أنه لا يقول مثل هذا إلا عن توقيف ، وعلى كل حال فلا يقبل إلا شهادة مرضية ، إذ غيرها يدخل في قوله تعالى : 19 ( { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } ) الآية .
قال : وإذا تزوج امرأة ثم قال قبل الدخول : هي أختي من الرضاع ، انفسخ النكاح .
ش : لأن إقراره يتضمن ذلك ، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده ، وإنما ذكر الخرقي قبل الدخول لما يذكره من المهر ، وكلام الخرقي يشمل ما إذا كانت معروفة النسب ، وصرح بذلك القاضي في ضمن كلامه في التعليق .
قال : فإن صدقته فلا مهر لها ، وإن كذبته فلها نصف المهر .
ش : إذا قال قبل الدخول : هي أختي من الرضاعة . فإن صدقته فلا مهر لها لإِقرارها بفساد نكاحها من أصله . ولا مهر في النكاح الفاسد قبل الدخول ، وإن أكذبته فلها نصف المهر ، لأن حقها ثبت بالعقد ظاهراً ، ودعوى الزوج بعد ذلك إسقاطه دعوى مجردة فلا تسمع .
قال : ولو كانت المرأة هي التي قالت : هو أخي من الرضاعة . فأكذبها ، ولم تأتِ بالبينة على ما وصفت ، فهي زوجته في الحكم .
ش : أما كون المرأة زوجته في الحكم إذا قالت : هو أخي من الرضاعة . فأكذبها ولا بينة لها ، فلإن بقاء النكاح من حقوق الزوج ، ودعوى المرأة زواله دعوى مجردة فلا تسمع ، ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا صدقها انفسخ النكاح ، وهو كذلك للإتفاق على ما يقتضي الفسخ ، ومقتضى كلامه أنها متى أقامت البينة على ما ادعته كان القول قولها ، وهو واضح ، إذ البينة تبين الحق وتوضحه .

( كتاب النفقات )
قال : وعلى الزوج نفقة زوجته ما لا غنى لها عنه وكسوتها .
ش : نفقة الزوجة واجبة في الجملة بالإجماع ، وسنده قوله سبحانه وتعالى : 9 ( { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ، وما ملكت أيمانهم } ) ، وقول الله تعالى : 9 ( { لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } ) الآية .
2864 وعن جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل ، أن رسول الله ى خطب الناس فقال : ( اتقوا الله في النساء ، فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) رواه مسلم وغيره .
2865 وفي حديث هند الصحيح أن رسول الله قال لها : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) ، إذا تقرر هذا فقول الخرقي : إن الواجب على الزوج من النفقة ما لا غنى لها عنه وكسوتها ، أي شيئاً لا يستغنى عنه ، ومعناه ما لا بدّ لها منه ، فظاهر هذا أن الواجب عليه هو أقل الكفاية ، فكأنه اعتبر حال الزوج ، وقد صرح بذلك أبو بكر في التنبيه فقال : إنها على قدر يسار الزوج وإعساره ، على اجتهاد الحاكم ، وأومأ إليه أحمد في رواية أحمد بن سعيد ، فقال : أما نفقة خادم واحد فلا بدّ منه ، وهو على قدر اليسار ؛ وقال في رواية أبي طالب : إذا وجد ما يطعمها رغيفين ثلاثة ، يعني لم تملك الفسخ ، وذلك لظاهر قول الله تعالى : 9 ( { لينفق ذو سعة من سعته } ) إلى قوله : 9 ( { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً } ) .
2866 وعن معاوية القشيري قال : أتيت النبيّ قال : فقلت : ما تقول في نسائنا ؟ قال : ( أطعموهن مما تأكلون ، واكسوهن مما تلبسون ، ولا تضربوهن ولا تقبحوهن ) رواه أبو داود . وأومأ في رواية أبي صالح أن الاعتبار بحالها ، فقال : إذا غاب عن زوجته يضرب لها في ماله بقدر نفقة مثلها ؛ وذلك لحديث هند : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) ، وهو قضية عين ، وقد جمع القاضي في تعليقه بين كلام أحمد ، وجعل الاعتبار بحال الزوجين ، فيفرض للموسرة تحت الموسر نفقة الموسرين ، وللفقيرة تحت الفقير نفقة للفقراء ، وللمتوسطة تحت المتوسط أو إذا كان أحدهما موسراً ، والآخر معسراً نفقة المتوسطين ، وتبعه فيما علمت من بعده على ذلك ، جمعاً بين الدليلين .
قال : فإن منعها أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه مقدار حاجتها بالمعروف ، كما قال النبي لهند ، حين قالت : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي ، فقال : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وهو ما إذا منعها الواجب عليه أو بعضه ودليله ، وهو حديث هند الذي في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، أن هنداً رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي ، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم ، فقال : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) ، وهو صريح في أن لها أن تأخذ بغير إذنه ، والحكم للواحد حكم لغيره ، إما بطريق عرف الشرع كما نقوله ، أو بالقياس كما يقوله الأكثرون ، وكأن المعنى في ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك ، إذ النفقة تجب كل يوم ، فالمرافعة إلى الحاكم تشق أو تتعذر ، فجوز الشرع أخذ الكفاية بالمعروف ، دفعاً للحرج والمشقة .
قال : فإن منعها أو بعضه ولم تجد ما تأخذ منه ، واختارت فراقه فرق الحاكم بينهما .
ش : ظاهر هذا الكلام أنه منعها مع قدرته على الإنفاق ، ولم تجد له مالاً تأخذ منه ، ومختار أبي الخطاب في هدايته ، وأبي محمد أن لها الفسخ والحال هذه ، كما اقتضاه كلام المصنف ، لأن الإنفاق عليها من ماله متعذر ، فكان لها الفسخ كحال الإعسار ، بل أولى ، إذ لا عذر هنا ، بخلاف ثم .
2867 وقال ابن المنذر : ثبت أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم ، فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا ، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى . واختار القاضي أنها لا تملك الفسخ والحال هذه ، لأن الفسخ ثم لعيب الإعسار ولم يوجد ، ولأن الموسر الممتنع في مظنة إمكان الأخذ من ماله ، بخلاف المعسر ، ويأخذ من عموم كلام الخرقي أو من تنبيهه أنها إذا لم يجد ما ينفق عليها أصلاً أن لها الفسخ ، وهو المنصوص والمشهور من الروايتين ، والمختار للأصحاب ، لما تقدم عن عمر ، ولقول الله سبحانه : 19 ( { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } ) ، وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكاً بمعروف ، فيتعين التسريح .
2868 وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال : ( خير الصدقة ما كان ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ) فققيل : من أعول يا رسول الله ؟ قال : ( امرأتك ممن تعول ، تقول : أطعمني وإلا فارقني . جاريتك تقول : أطعمني واستعملني . ولدك يقول : إلى من تتركني ) رواه أحمد والدارقطني . قال أبو البركات : بإسناد صحيح .
2869 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً ، عن النبيّ في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته ، قال : ( يفرق بينهما ) رواه الدارقطني .
2870 وروى سعيد عن سفيان ، عن أبي الزناد ، قال : سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على زوجته أيفرق بينهما ؟ قال : نعم . قلت : سنة ؟ قال : سنة . وهذا ينصرف إلى سنّة رسول الله ، ( ونقل عنه ) ابن منصور ما يدل على أنها لا تملك الفسخ بالإعسار ، ما لم يوجد منه غرور ، فقال : إذا تزوج امرأة وهو مفلس ، ولم تعلم المرأة لا يفرق بينهما ، إلا أن يكون قال لها : عندي من العروض والأموال ؛ وغرّها من نفسها ، إلا أن القاضي حمل هذا على الإفلاس بالصداق ، وبالجملة قد قيل في وجه ذلك : إنه حق لها عليه ، فلم يفسخ النكاح لعجزه عنه كالدين ، وعلى هذه الرواية ترفع يده عنها لتكتسب ما تقتات به .
قال : ويجبر الرجل على نفقة والديه ، وولده الذكور والإناث ، إذا كانوا فقراء ، وكان له ما ينفق عليهم .
ش : أما كون الرجل يجبر على نفقة والديه ، وولده الذكور والإناث ، فليأت بالواجب ، وبيان الوجوب أما في حق الوالدين فلقول الله تعالى : 19 ( { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وبالوالدين إحساناً } ) ومن الإحسان لهما الإنفاق عليهما عند حاجتهما إلى ذلك .
2871 وعن كليب بن منفعة عن جدّه رضي الله عنهم ، أنه أتى النبيّ فقال : يا رسول الله من أبر ؟ قال : ( أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ومولاك الذي يلي ذاك ، حق واجب ، ورحم موصولة ) رواه أبو داود ، وأما في حق الأولاد فلقول الله سبحانه : 19 ( { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ) وقال : 19 ( { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ) وحديث هند : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) مع أن هذا إجماع في المسألتين في الجملة ، حكاه ابن المنذر فقال : أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال ، واجبة في مال الولد ، وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال ، الذين لا مال لهم .
ويدخل في كلام الخرقي في الوالدين الأجداد والجدات وإن علوا ، وفي الولد ولد الولد وإن سفل ، وهو كذلك ، بدليل قوله سبحانه : 19 ( { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } ) دخل فيه ولد البنين ، وقال سبحانه : 19 ( { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } ) يدخل فيه الأجداد ، وقال تعالى : 19 ( { ملة أبيكم إبراهيم } ) واشترط الخرقي رحمه الله لوجوب النفقة على من تقدم شرطين ( أحدهما ) أن يكون المنفق عليهم فقراء أي لا مال لهم ، ولا كسب يقوم بكفايتهم ، إذ النفقة تجب على سبيل المواساة ، والغني مستغن عن المواساة ، ( الثاني ) أن يكون للمنفق ما ينفق عليهم ، إما من مال أو صناعة ونحو ذلك ، فاضلاً عن نفقة نفسه وزوجته .
2872 لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي قال لرجل : ( ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلاهلك ، وإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي .
2873 وعن طارق المحاربي رضي الله عنه قال : قدمت المدينة وإذا رسول الله قائم على المنبر يخطب ، وهو يقول : ( يد المعطي العليا ، وابدأ بمن تعول ، أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك ) رواه النسائي .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط غير ذلك ، إلا أنه يذكر بعد أن السيد تلزمه نفقة رقيقه ، ولا يلزم ابنه نفقته ، وإن كان حراً ، وهو كذلك بلا ريب ، فإذاً الشروط ثلاثة ( ثالثها ) أن لا يكون أحدهما رقيقاً ، ولا بد ( من شرط رابع ) وهو أن يتحد دينهما ، فإن اختلف فلا نفقة لأحدهما على صاحبه ، لأن النفقة مواساة على سبيل البر والصلة ، ولا صلة مع اختلاف الدين ، ولأنهما غير متوارثين ، فلم تجب لأحدهما نفقة على الآخر ، كما لو كان أحدهما رقيقاً ، ولا نزاع في اشتراط هذا الشرط في غير عمودي النسب ، وفي عمودي النسب روايتان ، نص عليهما في الأب الكافر ، هل تجب عليه نفقة ولده المسلم ، وخرجهما القاضي في العكس ، وأبو محمد ينصر عدم الوجوب مطلقاً ، عكس ظاهر كلام الخرقي ، فإن ظاهره الوجوب في عمودي النسب ، لأنه لم يشترط ذلك ، وعدم الوجود في غيرهم ، كما هو متفق عليه ، لقوله بعد : أجبر وارثه . فاشترط الإرث ، فدلّ ذلك على اشتراط الاتفاق في الدين ، واختلف في ( شرط خامس ) وهو أن المنفق عليه هل من شرطه أن يكون زمناً ونحو ذلك ، أو لا يشترط ذلك ؟ لا نزاع فيما علمت أن الوالدين لا يشترط فيهما ذلك ، وهو مقتضى كلام الخرقي ، واختلف فيمن عداهما ، وعن أحمد ما يدلّ على روايتين ، ومختار القاضي وأبي محمد عدم الاشتراط مطلقاً ، كما هو ظاهر كلام الخرقي ، إناطة بالحاجة ، وتمسكاً بقول النبيّ لهند : ( خذي ما يكفيك وولدك ) وهو واقعة عين .
قال : وكذلك الصبي إذا لم يكن له أب ، أجبر وارثه الذكور والإناث على نفقته على قدر ميراثهم منه .
ش : كذلك الصبي أو الصبية إذا لم يكن له أب وكان فقيراً ، فإن وارثه وإن كان أنثى يجبر على نفقته ، لقول الله سبحانه : 19 ( { وعلى الوارث مثل ذلك } ) أي مثل ما وجب على المولود له ، ولما تقدم من حديث جابر وطارق ، وكليب رضي الله عنهم ، وهذا هو المشهور من الروايتين ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى لا تجب النفقة إلا على العصبات ، فعلى هذا لا تجب على العمة والخالة ونحوهما ، إذ النفقة معونة ، فاختصّت بالعصبات كالعقل .
2874 وقال ابن المنذر : روي عن عمر رضي الله عنه أنه حبس عصبة ينفقون على صبي الرجال دون النساء ؛ وعلى كلا الروايتين هل يشترط أن يرثهم بالفرض أو التعصيب في الحال ، أو لا يشترط ذلك ، بل الشرط الإرث في الجملة ؟ فيه روايتان ، المختار منهما عند القاضي وأبي الخطاب ، وأبي محمد وغيرهم الأولى .
ويستثنى مما تقدم ذوو الأرحام من غير عمودي النسب ، فإن النفقة لا تجب لهم ، على المنصوص والمجزوم به عند كثيرين ، حتى قال القاضي : رواية واحدة ؛ إذ قرابتهم ضعيفة ، وإنما يأخذون المال عند عدم الوارث ، فهم كسائر المسلمين ، وخرج أبو الخطاب وجوبها على توريثهم ، وهو قوي .
واشترط الخرقي لوجوب النفقة على الوارث أن لا يكون للمنفق عليه أب ، فلو كان له أب اختصّ بنفقته ، لقول الله تعالى : 19 ( { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ) وقال : 19 ( { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } ) وقال لهند : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) فجعل النفقة على أبيهم دونها ، وحيث أوجبنا النفقة على الوارث فإنها على قدر ميراثه من المنفق عليه ، لأنه لو ورث الجميع لوجب عليه الجميع ، فإذا ورث البعض وجب عليه بقدره ، إذ السبب هو الإرث .
وفرع الخرقي على ذلك فقال رحمه الله : فإن كان للصبي أم وجد ، فإن على الأم ثلث النفقة ، وعلى الجد الثلثين ، وإن كانت جدة وأخاً فعلى الجدة السدس ، والباقي على الأخ ، وعلى هذا المعنى حساب النفقات .
ش : لا ريب أن الأم والجد يرثان المال أثلاثاً ، فتكون النفقة عليهما أثلاثاً ، ولا ريب أن الجدة ترث السدس ، فيكون عليها من النفقة بقدر ذلك ، والأخ يرث الباقي ، فيكون عليه باقي النفقة ، وعلى هذا أبداً ، فلو كان له أم أم وأم أب ، فالنفقة عليهما نصفين ، لتساويهما في الإرث ، وظاهر كلام الخرقي أنها تجب بالقسط ، وإن كان بعضهم موسراً والآخر معسراً ، وهذا إحدى الروايتين ( والرواية الأخرى ) : تجب على الموسر وهذا إحدى الروايتين ، ( والرواية الأخرى ) : تجب على الموسر والحال هذه كل النفقة ، ففي الجدة والأخ إذا كان الأخ موسراً ، والجدة معسرة ، هل على الأخ خمسة أسداس النفقة حصة إرثه ، أو كلها ، لأن من معه كالمعدوم ؟ على الروايتين .
قال : وعلى المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيراً ، لأنه وارثه .
ش : هذا مبني على ما تقدم من أن الوارث تجب عليه نفقة موروثه ، وحديث كليب وقد تقدم صريح في ذلك ، ويشترط في وجوب الإنفاق الشروط المذكورة ، إذ هذا فرع مما تقدم .
قال : وإذا تزوجت الأمة لزم زوجها أو سيده إن كان مملوكاً نفقتها .
ش : يلزم زوج الأمة نفقتها إن كان حراً ، لأنها زوجته ، فيدخل في عموم ما تقدم ، وكذلك إن كان عبداً ، نظراً للعموم أيضاً ، ولأنه عوض واجب في النكاح ، فوجب على العبد كالمهر ، ثم هل تكون في ذمة السيد ، لإذنه في النكاح المفضي إلى إيجابها ، أو في رقبة العبد ، إذ الوطء في النكاح بمنزلة الجناية ، وجناية العبد في رقبته ، فكذلك ما يتعلق بالوطء ، أو في كسب العبد ؟ على ثلاث روايات ، المشهور منهن الأولى .
قال : وإن كانت تأوي بالليل عند الزوج ، وبالنهار عند المولى ، أنفق كل واحد منهما مدة مقامها عنده .
ش : لأن النفقة تابعة للتمكين ، والتمكين وجد للزوج في الليل ، فيختص بنفقة الليل ، وتجب نفقة النهار على المولى بأصل الملك ، ثم هل تجب النفقة عليهما نصفين ، قطعاً للتنازع ، وهو الذي جزم به أبو محمد ، أو تجب نفقة الليل وتوابعه من الغطاء والوطاء ، ودهن المصباح ، ونحوه على الزوج ، وما يتعلق بالنهار على السيد ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ؟ ( فيه وجهان ) وقد علم من هذه المسألة أن المسألة السابقة فيما إذا سلمت الأمة ليلاً ونهاراً .
قال : فإن كان لها ولد لم يلزم الزوج نفقة ولده منها ، حراً كان الزوج أو عبداً ، إذ نفقتهم على سيدهم .
ش : قد تقدمت الإشارة إلى هذا ، وذلك لأن ولد الأمة من نمائها ، فيكون لسيدها بلا ريب ، ونفقة المملوك على سيده ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وعن أحمد رواية أخرى أن ولد العربي يكون حراً ، وعلى أبيه فداؤه ، فعلى هذا تكون نفقته عليه .
قال : وليس على العبد نفقة ولده ، حرة كانت الزوجة أو أمة .
ش : لأن العبد لا مال له ، فتجب عليه النفقة ، ولو قيل يملك فملكه ناقص ، لا يحتمل المواساة .
قال : وعلى المكاتبة نفقة ولدها ، دون أبيه المكاتب .
ش : ولد المكاتبة يتبعها دون أبيه ، وإن كان مكاتباً ، بناء على القاعدة ، من أن الولد يتبع أمه في الحرية والرق ، وإذا تبعها وقف معها ، فإن عتقت بالأداء عتق ، وإن رقت رق ، وإذاً نفقته عليها ، لأن له حكم نفسها ، ولا ريب أن نفقة نفسها عليها ، فكذلك ولدها .
قال : وعلى المكاتب نفقة ولده من أمته .
ش : لأن ولده من أمته يتبعه ، فيصير حكمه حكمه ، فتجب عليه نفقته لما تقدم ، وتقييده ، بأمته لأن يكون ولده من غير أمته إما أن يكون من حرة فيكون حراً ، والمكاتب لا تجب عليه نفقة قريبه الحر ، لأنه وإن ملك لكنه محجور عليه في ذلك ، وإما أن يكون من مكاتبة فيتبعها ، ويعطى حكمها ، كما تقدم ، وإما أن يكون من أمة لسيده أو لأجنبي ، فالأجنبي يتبعها في رقها وتجب نفقته على سيده ، ولسيده كذلك ، اللهم إلا أن يشترط أن ولده يتبعه ، فإن نفقته تجب عليه ، إناطة بالتبعية ، هذا هو التحقيق تبعاً لأبي البركات ، ووقع لأبي محمد أن للمكاتب أن ينفق على ولده من أمة لسيده ، معللاً بأنه مملوك لسيده ، فينفق عليه من المال الذي تعلق به حق سيده ، وله احتمالان فيما إذا كان الولد من مكاتبة لسيده .
[ باب ] باب الحال التي تجب فيها النفقة على الزوج )
لما تقدم له أن النفقة تجب للزوجة ، ذكر الحال التي تجب فيها النفقة ، فقال رحمه الله :
وإذا تزوج بامرأة مثلها يوطأ ، فلم تمنعه نفسها ، ولا منعه أولياؤها لزمته النفقة .
ش : فظاهر هذا أن النفقة تجب بالعقد ما لم تمنعه نفسها ، ولا منعه أولياؤها ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، لأن العقد سبب الوجوب ، فترتب الحكم عليه ( والرواية الثانية ) لا تجب النفقة إلا بالتسليم ، أو ببذله حيث لزمه القبول ، وهو المشهور ، لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع ، وذلك بالتمكين منه ، ومع عدم التسليم أو بذله لم يوجد ، ولأن النبي تزوج عائشة رضي الله عنها ، ودخلت عليه بعد مدة ، ولم ينقل أنه أنفق إلا بعد دخوله ، ولا أنه كان يرسل نفقة ما مضى ، وفي الاستدلال بهذا نظر ، فإن من شرط وجوب النفقة على كل حال كون مثلها يوطأ ، كما ذكره الخرقي ، وعائشة رضي الله عنها حين تزوجها كانت بنت ست سنين على الصحيح ، ومثلها لا يوطأ غالباً ، والخرقي رحمه الله أطلق من يوطأ مثلها ، ولم يقيده بسن ، وكذا جماعة كثيرة من أصحاب القاضي ، منهم أبو الخطاب في الهدابة ، وابن عقيل ، والشيرازي ، وتبعهم على ذلك أبو محمد مصرحاً به ، وأناط ذلك القاضي بابنة تسع سنين ، وتبعه على ذلك أبو البركات ، وهو مقتضى نص أحمد ، قال في رواي صالح وعبد الله وسئل : متى يؤخذ الرجل بنفقة الصغيرة ؟ فقال : إذا كان مثلها يوطأ ، تسع سنين ، ولم يكن الحبس من قبلهم ، ففسر من مثلها يوطأ بتسع سنين ، وقد يحمل إطلاق من أطلق من الأصحاب على ذلك ، فإذاً أبو محمد منفرد عنهم .
وقول الخرقي : مثلها يوطأ ، يريد به والله أعلم في السن ، فلو كان بها رتق أو قرن ، أو مرض ونحو ذلك ، ومثلها في السن يوطأ ، فلا يخلو إما أن يكون هذا المانع يمنع الاستمتاع بالكلية ، أو لا ، فإن لم يمنعه بالكلية وجبت النفقة ، للتمكن من الاستمتاع الواجب في الجملة ، وإن منع الاستمتاع بالكلية كمرض كذلك أو إحرام ونحو ذلك ، فإن لم يرج زواله وجبت النفقة ، إذ لا حال لها ينتظر ، وإن رجي زواله كالإحرام ونحوه انتظر زوال ذلك ، ولم تجب النفقة لأنها والحال هذه كالصغيرة .
قال : وإذا كانت بهذه الحال التي وصفت ، وزوجها صغير ، أجبر وليه على نفقتها من مال الصبي .
ش : والحال التي وصفها أن يكون مثلها يوطأ ، ولم تمنع نفسها ، ولا منعها أولياؤها ، وإذا كان زوجها والحال هذه صغيراً وجبت عليه نفقتها ، لأن المنع جاء من قبل الزوج ، لا من قبلها ، أشبه ما لو كان غائباً ، وعلى المشهور لا بد أن تسلم نفسها ، أو تبذل له ذلك ، إذا تقرّر هذا فالمخاطب بالنفقة هو الولي ، كما يخاطب بأداء بقية الواجبات عنه ، والأداء من مال الصبي كما في بقية الواجبات .
قال : فإن لم يكن له مال فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما .
ش : قد تقدم الكلام على هذا ، وأنه يؤخذ من كلام الخرقي تنبيهاً ، ويؤخذ من كلامه هنا تصريحاً ، ونزيد هنا بأن المفرق في الفسخ للإعسار بالنفقة هو الحاكم ، لأنه أمر مختلف فيه ، والأمور المختلف فيها تقف على الحاكم .
قال : وإن طالب الزوج بالدخول ، وقالت : لا أسلم نفسي حتى أقبض صداقي ، كان ذلك لها ، ولزمته النفقة إلى أن يدفع إليها صداقها .
ش إذا طالب الزوج بالدخول ، وامتنعت المرأة حتى تقبض صداقها ، فلها ذلك ، لأن عليها في التسليم قبل قبض صداقها ضرراً ، والضرر منفي شرعاً ، وبيان الضرر أنها إذا سلمت نفسها قد يستوفي معظم المنفعة المعقود عليها وهو الوطء ، فإذا لم يسلم إليها عوض ذلك وهو الصداق لا يمكنها الرجوع فيما استوفى منها ، فيلحقها الضرر ، وفارق المبيع إذا تسلمه المشتري ، ثم أعسر بالثمن ، فإنه يمكنه الرجوع فيه ، وإذا كان لها الامتناع لأجل قبض الصداق ، مع بذلها للتسليم ، فلها النفقة ، لأن امتناعها في الحقيقة إنما جاء من جهة الزوج ، وكلام الخرقي يشمل الصداق الحال والمؤجل ، وهذا الحكم إنما هو في الحال ، أما المؤجل فليس لها الامتناع ، إذ لا حق لها تطالب به ، إذ حقها قد رضيت بتأخيره ، نعم لو حل المؤجل قبل التسليم ، فهل لها الامتناع نظراً إلى الحال الراهنة ، أو ليس لها الامتناع إلى ما دخلت عليه ابتداء ؟ فيه وجهان .
قال : وإذا طلق زوجته طلاقاً لا يملك رجعتها ، فلا سكنى لها ولا نفقة ، إلا أن تكون حاملاً .
ش : إذا بانت المرأة من زوجها بطلاق أو فسخ أو غير ذلك ، فلا يخلو إما أن تكون حاملاً أو حائلاً ، فإن كانت حاملاً فلها النفقة والسكنى إجماعاً ، وسنده قوله سبحانه ؛ 19 ( { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ) ولأن الحمل ولده ، ولا يمكنه الإنفاق عليه إلا بالإنفاق عليها ، فوجب نظراً إلى أن ما يتوقف عليه الواجب واجب ، وإن كانت حائلاً فلا نفقة لها على المشهور المعروف .
2875 لما روت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن زوجهات طلقها ألبتّة وهو غائب عنها ، فأرسل إليها وكيله بشعير فسطخته ، فقال : والله ما لك علينا من شيء . فجاءت رسول الله فذكرت ذلك ، فقال : ( ليس لك عليه نفقة ) وفي لفظ : ( ولا سكنى ) فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، متفق عليه .
2876 وعن الشعبي عن فاطمة أيضاً عن النبي في المطلقة ثلاثاً قال : ( ليس لها سكنى ولا نفقة ) رواه أحمد ومسلم ، وفي رواية عنها قالت : طلقني زوجي ثلاثاً ، فلم يجعل لي رسول الله سكنى ولا نفقة ، رواه الجماعة إلا البخاري ، وأيضاً قوله تعالى : 19 ( { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ) مفهومه أنهن ءذا لم يكن أولات حمل لا نفقة لهن .
وقد اعترض على خبر فاطمة رضي الله عنها بأن من شرط قبول خبر الواحد أن لا ينكره السلف ، وهذا الخبر قد أنكر .
2877 فعن الشعبي أنه حدث بحديث فاطمة بنت قيس أؤن رسول الله لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ، فأخذ الأسود بن يزيد كفاً من حصباء فحصبه به ، وقال : ويلك تحدث بمثل هذا ، قال عمر رضي الله عنه : لا نترك كتاب الله وسنة نبينا ، لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسبت ، رواه مسلم وغيره .
2878 وعن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : لقد عابت ذلك عائشة رضي الله عنها أشد العيب ، يعني حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، فقالت : إن فاطمة كانت في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها ، فلذلك أرخص لها رسول الله . رواه أبو داود وابن ماجه ، وأخرجه البخاري تعليقاً .
2879 وعن سليمان بن يسار في خروج فاطمة قال : إنما كان ذلك من سوء الخلق ، رواه أبو داود مرسلاً .
2880 وعن ميمون بن مهران قال : قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب ، فقلت : فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها ، فقال سعيد : تلك امرأة فتنت الناس ، إنما كانت لسنة ، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم ( وقد أجيب ) بأن هذا ليس بشرط عندنا ، إنما الشرط صحة الخبر ، ولا ريب في صحة خبرها ، وقد قال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد ، وسئل عن الأمور المختلفة عن رسول الله ، وقد رد أحد الأمرين بعض الخلفاء ، مثل حديث فاطمة بنت قيس : هل لنا العمل بما يرد الخليفة فقال : كان ذلك منه على احتياط ، وقد كان عمر رضي الله عنه يقبل من غير واحد قوله وحده ، ولا يكون ذلك دفعاً للآخر ، ثم إنكار عمر قد طعن في صحته الإمام أحمد ، قال أبو داود : وسمعت أحمد وذكر له حديث عمر : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا ، يصح هذا عن عمر ؟ قال : لا . وقال الفضل بن زياد : كتبت إلى أبي عبد الله أسأله عن المطلقة ثلاثاً هل لها سكنى أو نفقة ، وكيف حديث فاطمة ؟ فأتاني الجواب : أما الذي نذهب إليه فعلى حديث فاطمة ، وأما ما يروى عن عمر أنه قال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة . فإنا نرى أن ذلك وهم ممن روى عن عمر ، ون الكتاب يطلق لعدّتها ، قال : 19 ( { لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } ) وقال : 19 ( { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يطعن حملهن } ) فءن قيل : حديث عمر قد رواه مسلم وأبو داود ، والترمذي وغيرهم ، ثم يدل على ضعفه اختلاف ألفاظه ، ففي السنن ما تقدم ، وقال أحمد وقد ذكر له هذا فقال : أما هذا فلا ، ولكن قال : لا نقبل في ديننا قول امرأة . وقال الدارقطني : قوله : وسنة نبينا ، غير محفوظ ، لم يذكرها جماعة من الثقات ، ثم لو صح ذلك لم يكن فيه حجة ، إذ لا حجة لأحد مع رسول الله ، ثم إن عمر رضي الله عنه استند في إنكاره إلى كتاب الله وسنة الرسول ، ولا يعرف في سنة الرسول ما يخالف خبر فاطمة ، وكذلك ليس في الكتاب ما يخالفه كما تقدم عن أحمد ، فإن الآية الكريمة إنما تدل على الطلاق الرجعي ، والإنفاق على الحامل نفقة والد على ولده ، لا نفقة زوج على زوجته ، وقد قال محمد بن العباس النسائي : سألت أبا عبد الله : ما تقول في حديث عمر : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها ؟ فقال : لا نعرف في كتاب الله ذكراً ، ولا في سنة رسول الله ؛ وقال إسماعيل بن إسحاق : نحن نعلم أن عمر لا يقول لا ندع كتاب ربنا إلا لما هو موجود في كتاب الله تعالى ، والذي في الكتاب أن لها النفقة إن كانت حاملاً ، لقوله سبحانه : 19 ( { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ) أما غير ذات الحمل فلا يدلّ الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن ، لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق .
2881 ورضي الله عن فاطمة ، فعن عبيد الله وهو ابن عبد الله بن عتبة قال : أرسل مروان إلى فاطمة فسألها ، فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص ، وكان النبي أمر عليّ بن أبي طالب على بعض اليمن ، فخرج معه زوجها ، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها ، وأمر عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام أن ينفقا عليها ، فقالا : والله ما لها نفقة إلا أن تكون حاملاً ، فأتت النبي فقال : ( لا نفقة لك إلا أن تكون حاملاً ) فاستأذنته في الإنتقال ، فأذن لها ، فقالت : أين أنتقل يا رسول الله ؟ فقال : ( عند ابن أم مكتوم ) وكان أعمى ، تضع ثيابها عنده ولا يبصرها ، فلم تزل هناك حتى مضت عدتها ، فأنكحها النبي أسامة ، فرجع قبيصة إلى مروان فأخبره بذلك ، فقال مروان : لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة ، فسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها ، فقالت فاطمة حين بلغها ذلك : بيني وبينكم كتاب الله ، قال الله تعالى : 19 ( { فطلقوهن لعدتهن . . . لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك امراً } ) قالت : فأي أمر يحدث بعد الثلاث . رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه مرسل ، فقد بنت رضي الله عنها أن الكتاب إنما دل على ما قالت ، وأما قول عائشة رضي الله عنها : إن نقلتها إنما كان لكونها كانت في مكان وحش ، فليس في حديثها ما يدلّ على ذلك ، ولو كان فيه لما جاز لها تركه ، بل قد تقدم عنها في مسلم أنها قالت عن النبي في المطلقة ثلاثاً ، قال : ( ليس لها سكنى ولا نفقة ) وهذا يشملها وغيرها ، وقد تقدم أيضاً في السنن أن النبي قال : ( لا نفقة لك إلا أن تكون حاملاً ) فعلّل استحقاقها النفقة بالحمل ، ولو كان استحقاقها النفقة بالطلاق لكان ذكر الحمل عديم التأثير ، وما ذكر عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار فالجواب عنه كذلك ، ثم قد خالف عمر وعائشة ابن عباس رضي الله عنهم .
2882 قال أحمد : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا نفقة لها ولا سكنى . إذا طلقت ثلاثاً .
2883 ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه ، وإذا وقع التنازع بين الصحابة وجب الرجوع إلى الله وإلى الرسول . انتهى . وفي السكنى لها روايتان ( إحداهما ) لا سكنى لها ، وهي اختيار الخرقي ، والقاضي وغيرهما ، اعتماداً على حديث فاطمة المتقدم ، ( والثانية ) لها السكنى ، اعتماداً على قوله تعالى : 19 ( { أسكنوهن } ) الآية ، وقد يجاب عنه بأنه في الرجعية كما تقدم ، هذا كله إذا كان الطلاق بائناً كما تقدم ، أما إن كان رجعياً فلها السكنى والنفقة بلا نزاع ، للآية الكريمة .
2884 وفي خبر فاطمة رضي الله عنها أن النبي قال لها : ( إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة ، فإذا لم له عليها رجعة فلا نفقة لها ولا سكنى ) رواه أحمد . ولأنها في حكم الزوجات في الإرث والطلاق ، وغير ذلك ، فكذلك في النفقة ، والله أعلم .
قال : وإذا خالعت المرأة زوجها ، وأبرأته من حملها ، لم يكن لها نفقة ، ولا لولده حتى تفطمه .
ش : إذا خالعت الحامل زوجها ، ولم تبرئه من حملها ، فلها النفقة والسكنى كما تقدم ، وإن أبرأته من حملها بأن جعلت ذلك عوضاً في الخلع فإنه يصح ، بناء على ما تقدم من صحة الخلع بالمجهول ، ثم إن عينت مدة الحمل والكفالة إلى حين الفطام صح ، وكذلك إن أطلقت الكفالة ، وينصرف عند التنازع إلى حولين ، وإن أطلقت مدة الحمل فقط انصرف إلى زمن الحمل قبل وضعه ، قاله أبو محمد .
وظاهر كلام الخرقي أنه ينصرف إلى زمن الرضاع أيضاً ، وقال القاضي : إنما صح المخالعة على نفقة الولد ، وهي للولد دونها ، لأنها في حكم المالكة لها ، لأنها المستحقة لها ، وبعد الولادة تأخذ أجر رضاعها ، قال : فأمّا النفقة الزائدة على هذا من كسوة الطفل ودهنه ، ونحو ذلك فلا يصح أن يعاوض به ، لأنه ليس لها ، ولا هو في حكم ما هو لها ، فكأنه يخصّص كلام الخرقي ، والله أعلم .
قال : والناشز لا نفقة لها ، فإن كان لها منه ولد أعطاها نفقة ولدها .
ش : الناشر لا نفقة لها ، لأن النفقة وجبت في مقابلة تمكينها ، ومع النشوز لا تمكين ، وإن كان لها منه ولد أعطاها نفقته ، لأنها واجبة له فلا يسقط حقه بمعصيتها كالكبير ، وهذا يلتفت إلى قاعدة ، وهو أن النفقة هل تجب للحامل لحملها ، أو لها من أجله ؟ فيه روايتان ، أشهرهما أنها للحمل ، وهي اختيار الخرقي ، وأبي بكر ، والقاضي في تعليقه ، وغيرهم ( والثانية ) أنها لها من أجله ، واختارها ابن عقيل في التذكرة ، وللخلاف فوائد ( إحداها ) هذه المسألة وهي الناشز الحامل ، على الرواية الأولى لها نفقة الحمل لما تقدم ، وعلى الثانية لا شيء لها لنشوزها ( الثانية ) إذا كانت المطلقة أمة ، فعلى الأولى النفقة على السيد ، لأن الحمل ملكه ، وعلى الثانية على الزوج ، لأن نفقتها عليه ( الثالثة ) إذا كان الزوج عبداً ، فعلى الأولى لا شيء عليه ، لأنه لا يلزمه نفقة ولده ، وعلى الثانية عليه النفقة لما تقدم ( الرابعة ) إذا كانت حاملاً من نكاح فاسد ، أو وطء شبهة ، أو ملك يمين ، فعلى الأولى تجب لها النفقة ، نظراً للولد ، وعلى الثانية لا تجب إذا لا نكاح ، ( الخامسة ) إذا كان الزوج غائباً أو معسراً ، فعلى الأولى لا شيء لها ، إذ نفقة القريب تسقط بمضي الزمان ، وبالإعسار ، وعلى الثانية تثبت في ذمة الغائب وتلزم
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15