كتاب : شرح الزركشي على مختصر الخرقي
المؤلف : شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي

أو قدرها في فرجها ؛ لما تقدم عن ماعز ، وإذا اعتبر ذلك في الإقرار ففي البينة أولى .
3146 وعن جابر رضي الله عنه قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال : ( ائتوني بأعلم رجل منكم ) فأتوه بابني صوريا فنشدهما : ( كيف تجدان أمر هذين في التوراة ) ؟ قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما . قال : ( فما يمنعكم أن ترجموهما ) ؟ قالوا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ؛ فدعا رسول الله بالشهود ، فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحل ، فأمر رسول الله برجمهما . . . رواه أبو داود . وهل يعتبر مع ذلك أن يذكروا ( المكان ) لاحتمال الاختلاف ، فتكون شهادة أحدهم على غير الفعل الذي شهد به الآخر ، ( والمزني بها ) لاحتمال الاختلاف في إباحتها ، ولذلك قال النبي لماعز : ( فبمن ) ؟ وهو اختيار القاضي ، أو لا يعتبر ذلك ، كما لا يعتبر في الإقرار ، ولهذا لم يذكر المكان في قصة اليهود ، ولا المزني بها في أكثر الأحاديث ، وهذا اختيار ابن حامد ؟ على وجهين ، وأجراهما أبو البركات في الزمان والمكان ، وهو واضح ، وكلام أبي محمد يقتضي أنه لا يشترط ذكر الزمان بلا خلاف . ( السادس ) : أن يشهدوا كلهم في مجلس واحد ، ذكره الخرقي في غير هذا الموضع ، فقال : إن جاء الأربعة متفرقين ، والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم ، قبلت شهادتهم ، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة ، وعليهم الحد .
3147 وذلك لما روي أن أبا بكر ونافعاً ، وشبل بن معبد شهدوا عند عمر رضي الله عنه على المغيرة بن شعبة بالزنا ، ولم يشهد زياد ، فحد الثلاثة ، ولو لم يشترط المجلس لم يحدهم ، لجواز أن يكملوا أربعة في مجلس آخر ، وفيه نظر ، لأن قرينة حالهم تقتضي أنه لا رابع لهم إلا زياد ، ولا يشترط مجيئهم جملة ، بل شهادتهم في مجلس واحد ، وفي قصة المغيرة أن أبا بكرة رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه : 16 ( أرأيت لو جاء آخر فشهد أكنت ترجمه ؟ قال عمر رضي الله عنه : إي والذي لا إله إلا هو ، والذي نفسي بيده ) ؛ والله أعلم .
قال : ولو رجم بإقراره ، فرجع قبل أن يقتل كف عنه ، وكذلك إن رجع بعد أن جلد ، وقبل كمال الحد خلي عنه .
3148 ش : لأن في الصحيح وفي السنن من رواية أبي هريرة ونعيم بن هزال وغيرهم أن ماعزاً رضي الله عنه لما وجد مسّ الحجارة فر ، وفي رواية : خرج يشتد ، فضرب حتى مات ، وذكر ذلك لرسول الله فقال : ( هلا تركتموه ) وفي هذا تحضيض على تركه ، وفي رواية : ( لعله أن يتوب فيتوب الله عليه ) ، وفي هذا دليل على تركه وقبول رجوعه .
3149 وفي حديث بريدة رضي الله عنه قال : كنا أصحاب رسول الله نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما ، وإنما رجمهما عند الرابعة . . . رواه أبو داود . ولأن ذلك شبهة ، والحد يدرأ بها ، ولأن الإقرار أحد بينتي الحد ، فسقط بالرجوع ، كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد .
إذا تقرر هذا فصفة الرجوع عن الإقرار أن يقول : كذبت في إقراري ، أو لم أفعل ما أقررت به ، ونحو ذلك ، فإذاً يجب الكف عنه ، ومتى قتل ضمن والحال هذه ، لزوال إقراره صريحاً فكأنه لم يقر وضمانه بالدية فقط ، للاختلاف في صحة رجوعه ، وذلك شبهة دارئه للقصاص ، ولو هرب ، أو قال : ردوني إلى الإمام ونحو ذلك ترك أيضاً ، لكن متى قتل والحال هذه فلا ضمان على قاتله ، لأن ذلك ليس بصريح في رجوعه ، ولذلك والله أعلم لم يضمن النبي ماعزاً من قتله . وقول الخرقي : ولو رجم بإقراره ، فيه أشعاره بأنه لو رجم بالبينة ثم رجع أو هرب لم يسمع منه ، وهو كذلك بالإجماع فيما أظن ، والله أعلم .
قال : ومن زنا مراراً ولم يحد فحد واحد .
ش : حكى ذلك ابن المنذر عمن يحفظ عنه من أهل العلم ، في مسألتي المنطوق والمفهوم ، ولأن قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ) يشمل من زنى مرة ، ومن زنى مراراً ، وقول النبي في الأمة : ( إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ) ، يقتضي أن من زنا بعد أن حد يحد ثانياً .
قال : وإذا تحاكم إلينا أهل الذمة حكمنا عليهم بما حكم الله عزّ وجلّ علينا به .
ش : أما الحكم عليهم بما حكم الله علينا به فلا ريب فيه ، قال الله تعالى : 19 ( { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } )9 ( { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } ) ، وقال تعالى : 19 ( { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } )9 ( { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } )9 ( { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ) . وهل الحكم بينهم ( على طريق الوجوب ) ، ويحتمله كلام الخرقي ، للآية الأولى ، ( أو على طريقة التخيير ) وهو المشهور ، للآية الثانية ، إذ صدرها : 19 ( { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } ) وكالمستأمنين ، ( أو إن اتحدت ملتهم خير ) لأن الآية وردت في اليهود ، وملتهم واحدة ، وإن اختلفت وجب ، كما لو تحاكموا مع مسلم ، ( أو يخير للآية ) إلا أن يتظالموا في حقوق الآدميين ، فيجب دفعاً للظلم الواجب دفعة على كل أحد ، لا سيما على الحكام المنتصبين لذلك ، وهو مختار أبي البركات ؟ على أربع روايات ، وهل يحكم آن ويعدى آن خبرناه بطلب أحدهما ، أو لا بد من اتفاقهما كالمستأمنين ؟ على روايتين ، والله أعلم .
قال : وإذا قذف بالغ عاقل حراً مسلماً أو حرة مسلمة بالزنا ، جلد الحد ثمانين جلدة إن طالب المقذوف ، ولم تكن للقاذف بينة .
ش : القذف محرم بالإجماع ، للأذى الحاصل به المأمور بانتفائه شرعاً ، وقد نصّ الله تعالى ورسوله على القذف بالزنا ، لتأكد تحريمه ، قال سبحانه : 19 ( { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ، فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ، وأولئك هم الفاسقون } ) . . . وقال تعالى ؛ 19 ( { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، لعنوا في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم } ) .
3150 وقال النبي : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) قالوا : وما هن يا رسول الله ؟ قال : ( الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) متفق عليه .
ويجب الحد بالقذف بالزنا بالإجماع ، للآية الكريمة ، ووجوبه بشروط أربعة ، اثنان منها في القاذف ، واثنان في المقذوف ، فأما اللذان في القاذف ( فأحدهما ) أن يكون مكلفاً ، وهو العاقل البالغ ، إذ غيرهما لا يتعلق به حكم خطابي ، لرفع القلم عنه فلا حد على مجنون ، ولا مبرسم ، ولا نائم ، ولا سكران ، على ظاهر كلامه ، وعموم كلام غيره يقتضي أنه على الروايتين ، ولا على صبي ( الثاني ) أن لا يكون له بينة بما قاله على المقذوف ؛ لقوله تعالى : 19 ( { والذين يرمون المحصنات ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ، فاجلدوهم ثمانين جلدة } ) الآية ، شرط سبحانه للجلد عدم البينة ، وفي معنى البينة الإقرار من المقذوف ، فإن كان القاذف زوجاً اشتُرِط شرط ثالث ، وهو عدم لعانه ، فإن لاعن فلا حدّ عليه ، لقوله سبحانه : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم ، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } ) الآية .
وأما الاثنان اللذان في المقذوف ( فأحدهما ) أن يكون محصناً ، والمحصن هنا فسره الأصحاب بالحر المسلم العاقل ، العفيف عن الزنا ، الذي يجامع مثله ، وفي اشتراط سلامته من وطء الشبهة وجهان ، وكذلك في اشتراط بلوغه روايتان ، وهذا قد يؤخذ من كلام الخرقي مفرقاً ، فالحرية والإسلام نص عليهما هنا ، والعفة عن الزنا تؤخذ من الشرط الثاني في القاذف . وكونه يجامع مثله يذكره بعد ، واقتصاره على ذلك يفهم منه أنه لا يشترط البلوغ ، والعقل يؤخذ من نفيه الحد عن قاذف الطفل ، والسلامة من وطء الشبهة لا يشترطها ، وبيان ذلك أما الحرية والإسلام ، فلأن العبد والكافر حرمتهما ناقصة ، فلا ينتهض لإيجاب الحد ، والآية الكريمة وردت في الحرة المسلمة ، وغيرهما ليس في معناهما ، وأما العقل فلأن غير العاقل لا يعير بالزنا ، لعدم تكليفه ، والحد إنما وجب دفعاً للعار عن المقذوف ، وأما العفة عن الزنا فلأن غير العفيف لا يشينه القذف ، والحد إنما وجب من أجل ذلك ، وقد أسقط الله تعالى الحد عن القاذف إذا كانت له بينة بما قال ، وأما كونه مثله يجامع فلأن غير ذلك لا يعير بالقذف ، لتحقق كذب القاذف ، والقذف إنما وجب لذلك ، وأقل من يجامع مثله أن يكون له عشر سنين إن كان ذكراً ، أو تسع سنين إن كان أنثى ، كذا ذكر أبو محمد تبعاً لظاهر كلام الخرقي .
وأما اشتراط البلوغ على رواية قيل إنها مخرجة ، وليست بمنصوصة . فلأن غير البالغ غير مكلف أشبه المجنون ، وأما عدم اشتراطه على أخرى وهو مقتضى كلام الخرقي ، وقطع بها القاضي والشريف وأبو الخطاب في خلافاتهم ، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة فلأن ابن عشر سنين ونحوه يلحقه الشين بإضافة الزنا إليه . ويعير بذلك ، ولهذا جعل عيباً في الرقيق ، وأشبه البالغ . وأما اشتراط السلامة من وطء الشبهة وعدمه ، فلعل مبنى ذلك على أن وطء الشبهة هل يوصف بالتحريم أم لا ، وقد تقدم عن القاضي أنه وصفه بالتحريم ، وأن ظاهر كلام الخرقي وجماعة عدم وصفه بذلك ، وكذلك ظاهر كلام جماعة هنا أنه لا يشترط السلامة من ذلك .
( تنبيه ) : ظاهر كلام الأصحاب أنه لا يشترط العدالة ، بل لو كان المقذوف فاسقاً لشرب خمر ونحوه أو لبدعة ، ولم يعرف بالزنا ، فإن الحد يجب بقذفه ، وقال الشيرازي : لا يجب الحد بقذف مبتدع ولا مبتدعة .
( الشرط الثاني ) في المقذوف مطالبته بالقذف ، لأنه حق له ، فلا يستوفى بدون طلبه كبقية حقوقه . وهذا سواء قلنا : إنه للقاذف محض حق له ، كما هو المنصوص ، والمختار للأصحاب ، أو قلنا : هو حق الله تعالى ، وليست بالبينة ، لأنه أذى للآدمي فيه حق ، قطعاً للأذى الحاصل له ، مع أن مقتضى كلام أبي البركات نفي الخلاف رأساً ، والقطع بأنه حق للآدمي ، وهو الصواب ، وبيان ذلك له محل آخر ، وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامة الحد ، فلو طالب ثم عفى عن الحد سقط ، على المذهب وعلى الرواية المحكية بأنه حق لله تعالى لا يسقط بالعفو .
( تنبيهان ) : أحدهما إذا وجب الحد بقذف من لم يبلغ لم يقم حتى يبلغ ويطالب ، لعدم اعتبار كلامه قبل البلوغ ، وليس لوليه المطالبة ، حذاراً من فوات التشفي ، ولو قذف غائباً اعتبر قدومه وطلبه ، إلا أن يثبت أنه طالب في غيبته ، فيقام على المذهب ، وقيل : لا ، لاحتمال عفوه ، ولو قذف عاقلاً فجن أو أغمي عليه قبل الطلب ، لم يقم حتى يفيق ويطالب ، فإن كان قد طالب ثم جن أو أغمي عليه جازت إقامته . ( الثاني ) : يستثنى مما تقدم الوالد لا يحد بقذف ولده ، والله أعلم .
قال : وإن كان القاذف عبداً أو أمة جلد أربعين ، بدون السوط الذي يجلد به الحر .
ش : الإجماع على وجوب الحد على العبد بقذف المحصن ، لشمول الآية الكريمة له ، ثم مقدار الحد إن كان القاذف حراً ثمانون للآية الكريمة ، وإن كان القاذف عبداً فأربعون ، جعلا له على النصف من الحر ، لأن ذلك مما يتبعض .
3151 وقد قال أبو الزناد : 16 ( جلد عمر بن عبد العزيز عبداً في فرية ثمانين ، قال أبو الزناد : فسألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك ، فقال : أدركت عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، والخلفاء هلم جرا ، فما رأيت أحداً جلد عبداً في فرية أكثر من أربعين ) . . . رواه مالك في الموطأ .
3152 وقال سعيد : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، قال : حضرت عمر بن عبد العزيز جلد عبداً في فرية ثمانين ، فأنكر ذلك من حضره من الناس والفقهاء ، وهذا كنقل الإجماع من الصحابة ، والإنكار على من خالفهم ، وهو يخص عموم الآية ، وإن كان القاذف نصفه حراً فبحساب ذلك ، على ظاهر كلام أحمد ، لأن ذلك مما يتبعض ، وقيل : هو كالعبد ، لأن الإجماع إنما انعقد على الثمانين في الحر ، فيبقى فيما عداه على أصل براءة الذمة ، ولو قيل بالعكس لاتجه ، لشمول الآية الكريمة للجميع ، خرج منه العبد لأقوال الصحابة ، فما عداه على العموم .
واشترط الخرقي أن يكون جلد العبد بسوط دون الذي يجلد به الحر ، تخفيفاً للصفة كما خفف في القدر ، ولأبي محمد احتمال بتساويهما ، وهو ظاهر كلام جماعة من الأصحاب ، لأنه على النصف ، ولا يتحقق التنصيف إلا مع المساواة .
قال : وإذا قال له : يا لوطي ، سئل عما أراد ، فإذا قال : أردت أنك من قوم لوط ، فلا شيء عليه ، وإن قال : أردت أنك تعمل عمل قوم لوط ، فهو كمن قذف بالزنا .
ش : إذا قال له : يا لوطي ، فعند الخرقي وهو إحدى الروايتين عن أحمد رضي الله عنه أن هذا ليس بصريح في القذف ، لاحتماله له ولغيره ، إذ يحتمل أنه منهم أي ينسب إليهم . وإذا احتمل واحتمل ، والحد يدرأ بالشبهة ، مع أن الأصل براءة الذمة ، لم يحكم بأنه صريح ، وعند ذلك يسأل عما أراد ، فإن فسره بما لا يوجب الحد ، كما إذا قال : أردت أنك من قوم لوط ، أي تنسب إليهم ، فلا حد عليه ، لأنه فسر كلامه بما يحتمله مما لا يوجب حداً ، وإن فسره بما يوجب الحد ، كما إذا قال : أردت أنك تأتي الذكران . وجب الحد عندنا بلا ريب ، لوجوب حد الزنا على فاعل ذلك كما تقدم ، وهذا هو الضابط ، وهو أن كل ما وجب حد الزنا بفعله ، وجب الحد بالقذف به ، وما لا فلا ، ومن ثم خرج الخلاف إذا قذفه بإتيان بهيمة ، انتهى . وكذلك إن فسره بما يشمل الوطء وغيره ، كقوله : أردت أنك تعمل عمل قوم لوط ؛ لأن من أشهر أعمالهم إتيان الذكران .
( وعن أحمد ) لا يقبل تفسيره في حال الغضب ، لأن القرينة تكذبه ، والمنصوص عن أحمد في رواية الجماعة وعليه عامة الأصحاب أن ذلك صريح في القذف ، فلا يقبل قوله بما يحيله ، لأن هذا اللفظ إذا أطلق لا يكاد يفهم منه إلا إتيان الذكران ، وإرادة الانتساب إلى قوم لوط بعيدة جداً ؛ إذ الظاهر أو القطع بأنهم لم يبق منهم أحد ، والاحتمال البعيد وجوده كعدمه ، ومن ثم بعد الشيخان قول الخرقي ، فعلى هذا إذا قال : أردت أنك تعمل عمل قوم لوط غير إتيان الذكران ، فهل يقبل منه ، نظراً إلى أنه من باب إطلاق العام ، وإرادة الخاص ، وهو سائغ كثيراً ، أو لا يقبل ، لمخالفته الظاهر ؟ فيه وجهان . أما على قول الخرقي فيقبل منه بطريق الأولى ، لأنه إذا قبل منه صرف اللفظ عن مقتضاه عرفاً ، فلأن يقبل منه إطلاق العام وإرادة الخاص أولى ، هذا هو التحقيق ، تبعاً لأبي البركات ، وأبو محمد في مغنيه يبني الوجهين على روايتي الصراحة وعدمها ، فإن قلنا صريح لم يقبل وإلا قبل ، والله أعلم .
قال : وكذلك من قال يا معفوج .
ش : هذا التشبيه ( يحتمل ) أن يرجع إلى أصل المسألة السابقة ، فعلى هذا إن فسره بما لا يوجب الحد ، كما إذا قال : أردت أنك معفوج دون الفرج ونحوه ، قبل منه عند الخرقي ، ولم يقبل منه عند غيره ، وعلى هذا جرى الشيخان . ( ويحتمل ) أن يرجع إلى قوله : فهو كمن قذف بالزنا ، فيجب الحد ، ولا يقبل التفسير . ولعله أظهر ، إذ المعفوج مفعول من عفج بمعنى نكح ، فهو بمعنى منكوح أي موطوء .
( تنبيه ) : قد أخذ من كلام الخرقي في هذه المسألة ، وفي التي قبلها أن الحد لا يجب إلا بلفظ صريح ، كقوله : يا زاني ، أو يأتي باللفظ الحقيقي في الجماع ، أما الألفاظ المحتملة كقوله لامرأة : يا قحبة ، أو لرجل : يا مخنث ، أو يقول لعربي : يا نبطي ، يا فارسي ، أو يعرض بالزنا ، كأن يقول لمن يخاصمه : ما أنت بزان ، ما يعرفك الناس بالزنا ، يا حلال ابن الحلال ، ونحو ذلك ، فلا يجب به الحد ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر ، وأبي محمد . ( والثانية ) : يجب الحد بجميع ذلك في الجملة ، وهي اختيار القاضي ، وكثير من أصحابه في التعريض ، وتحقيق الروايتين وتوجيههما له محل آخر ، والله أعلم .
قال : ولو قذف رجل فلم يقم عليه الحد حتى زنا المقذوف ، لم يزل الحد عن القاذف .
ش : نظراً إلى أن شرط وجوب الحد وهو الإحصان قد وجد ، فلا عبرة بما يطرأ بعده ، وصار هذا كما لو سرق عيناً ثم ملكها ، ونحو ذلك ، وفي قوله : فلم يقم عليه الحد حتى زنى إشعار بأنه لو ثبت أنه كان زنى قبل القذف أن الحد يزول عن القاذف ، وهو كذلك ، لتبين زوال شرط الوجوب ، والله أعلم .
قال : ومن قذف عبداً أو مشركاً ، أو مسلماً له دون العشر سنين أو مسلمة لها دون تسع سنين أدب ولم يحد .
ش : قد تقدم أن من شرط وجوب الحد إسلام المقذوف ، وحريته ، وكونه يجامع مثله ، أو بالغ على ما تقدم ، مع العقل ، والعفة عن الزنا ، والسلامة من وطء الشبهة على وجيه ، فمتى عدم واحد من هذه انتفى الوجوب ، وإذاً يؤدب زجراً عن عرض المعصوم ، وكفاً له عن أذاه . ( وعن أحمد ) لا يؤدب لقذف كافر ، والأول المذهب بلا ريب ، ولا عبرة بإيراد ابن حمدان في الكبرى المذهب الثاني ، جعل الأول قويلاً ، ( وعن أحمد ) في أم الولد إذا كان لها ولد يحد قاذفها ، وبه قطع الشيرازي ، وقيل : يحد العبد بقذف العبد ، ولا عمل على ذلك .
( تنبيه ) : لا يحد والد لقذف ولده ، نص عليه في رواية ابن منصور وأبي طالب ، وهل يؤدب ؟ لفظه في رواية ابن منصور : لا يحد ، فيحتمل أنه يؤدب ، ولفظه في رواية أبي طالب : ليس عليه شيء ، لا يؤخذ لابن من أبيه حد ، فيحتمل أنه لا يؤدب ، وهو أظهر ، وهل حكم الأم حكم الأب ؟ فيه وجهان ، أصحهما وهو الذي قطع به أبو محمد في الكافي ، وابن البنا أن حكمهما حكمه ، وحكم الجد والجد ، وإن علوا حكم الأب ، قاله ابن البنا والله أعلم .
قال : ومن قذف من كان مشركاً ، وقال : أردت أنه زنى وهو مشرك . لم يلتفت إلى قوله ، وحد إذا طالب المقذوف .
ش : نظراً إلى الحالة الراهنة ، وهو إذاً مسلم ، فيدخل في الآية الكريمة ، ولو كان قال : زنيت وأنت مشرك ، فهل يحد أو لا يحد ؟ على روايتين ، أصحهما وأنصهما الثاني ، وعليها إذا قال : أردت قذفي في الحال ، فأنكره ، فهل يحد . وهو اختيار القاضي ، أو لا يحد ، وهو اختيار أبي الخطاب ؟ فيه وجهان ، وأبو محمد يحكي الروايتين فيما إذا قال : زنيت في شركك ، ولعل مدرك ذلك أنه وصل قوله بما يبطله ، ومدرك الأول أن الواو هل هي للحال أو عاطفه ؟ وقوله : إذا طالب المقذوف ، زيادة إيضاح ، وإلا لا بد من شروط الوجوب في كل موضع ، والله أعلم .
قال : وكذلك من كان عبداً .
ش : أي إذا قذفه بعد أن أعتق وقال : أردت أنه زنى وهو عبد . لم يلتفت إلى قوله ، كالمسألة السابقة ، لأنهما متساويان معنى ، فتساويا حكماً ، والله أعلم .
قال : ويحد من قذف الملاعنة .
ش : لأن لعانها لم يثبت زناها ، فإحصانها باق .
3153 وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي قضى في الملاعنة أن لا ترمى ، ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، رواه أبو داود ، والله أعلم .
قال : وإذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إن كانت الأم في حال الحياة .
ش : لأن الحق لها ، فلا يطالب به غيرها ، ولا فرق بين أن يتعذر الطلب منها لجنونها ونحو ذلك ، أو لا يتعذر ، لما فيه من فوات التشفي المقصود قطعاً .
وقول الخرقي : إذا كانت الأم في حال الحياة ، مفهومه أن للولد المطالبة إذا ماتت الأم ، وهذا بشرط أن تطالب الأم على المذهب المنصوص ، وعلى تخريج لا يشترط الطلب ، واعلم أن هذا الذي ذكره الخرقي على سبيل المثال ، وإلا جامع المسألة بأن الحي ليس لوارثه المطالبة بموجب قذفه في حياته ، وله ذلك بعد مماته بشرطه ، ثم من يرثه هل هم جميع الورثة ، وهو ظاهر كلام أبي محمد ، وبه قطع القاضي في خلافه فيما أظن ، ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور ، أو يختص به من سوى الزوجين ، وهو قول القاضي في موضع آخر ، أو تختص به العصبة ؟ على ثلاثة أقوال ، والله أعلم .
قال : وإذا قذفت أمه وهي ميتة ، مسلمة كانت أو كافرة ، حرة أو أمة ، حد القاذف إذا طالب الابن وكان حراً مسلماً .
ش : دفعاً للحقوق العار بالابن ، فإنه والحال هذه يلحقه العار ، بخلاف ما إذا كانت الأم في الحياة ، فإن معظم العار لاحق بها ، وقول الخرقي : وهي ميتة ، مسلمة كانت أو كافرة ، حرة أو أمة ، إذا طالب الابن ، وكان حراً مسلماً . تنبيه على أن شرط الوجوب من الإحصان والمطالبة إنما يشترطان في الولد نظراً إلى أن القذف في الحقيقة كأنه له ، لا في الأم .
( تنبيه ) : جعل أبو البركات ذكر الخرقي الأم هنا على سبيل المثال ، فقال : إن حد قذف الميت يثبت لجميع الورثة حتى الزوجين . نص عليه ، وقال في موضع : يختص به من سواهما ، وقيل تختص به العصبة ، وأبو محمد عدى ذلك إلى الأمهات بطريق القياس ، معللاً بالقدح في النسب كالمسألة قبل ، وحكى فيمن يرث قذف الميت الأقوال الثلاثة في القذف الموروث ، والقاضي في الجامع الصغير قطع بأن الوارث هنا جميع الورثة ، وأبو محمد والشيرازي وابن البنا اقتصروا على الأم ، معلّلين بالقدح في النسب ، واقتصر على ذلك . ولا خلاف عنده أنه لو كان المقذوف جده أو أخاه ونحوهما من الأقارب عدا الأمهات أن الحد لا يجب ، لانتفاء القدح في النسب والأقوال التي ذكرها أبو البركات جارية عنده في القذف الموروث ، والمنصوص والله أعلم إنما هو فيه ، فإن القاضي في تعليقه جزم فيه بأنه لجميع الورثة ، معتمداً على قول أحمد في رواية ابن منصور في رجل قذف يهودية أو نصرانية ، ولها ولد مسلم ، أو زوج مسلم ، يقام عليه الحد . قال : فقد جعل للزوج حقاً فيه اه . وأبو محمد يوافق في هذه الصورة أنه لجميع الورثة على ظاهر كلامه ، والله أعلم .
قال : ومن قذف أم النبي قتل ، مسلماً كان أو كافراً .
ش : لأن ذلك قدح في نسب النبي وتعريض لسبّه وتنقيصه ، وذلك موجب للقتل لما تقدم ، وقوله : قتل . ظاهره ولا يستتاب ، وهو إحدى الروايتين ، وهو المذهب ، وقد تقدم ذلك ، وكذلك الروايتان فيما إذا أسلم الكافر هل يسقط عنه القتل أم لا ، والخلاف في سقوط القتل ، أما توبته فيما بينه وبين الله تعالى فمقبولة بلا ريب ، والله أعلم .
قال : ومن قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوه ، أو واحد منهم .
ش : هذا هو المشهور من الروايات ، نظراً إلى أن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه ، وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف في قوله ، ولأن الذين شهدوا على المغيرة رضي الله عنه تضمن قولهم قذف امرأة ، ولم يحدهم عمر رضي الله عنه إلا حداً واحداً ؛ ( وعن أحمد ) : لكل واحد حد ، نظراً إلى أن كل واحد مقذوف ، والبراءة من المقذوف بحد كامل ، ( والرواية الثالثة ) إن طلبوا جملة فحد واحد وإلا فحدود ، لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه وقع الحد للجميع ، بخلاف ما إذا تفرقوا ، فإن طلب أحدهم لا يكون طلباً من الآخر ، ولا مسقطاً لحقه وعلى المذهب الحق واجب لهم على سبيل البدل ، فأيّهم طلب به استوفى ، ولم يكن لغيره الطلب ، وإن أسقط أحدهم فلغيره طلبه واستيفائه ، لأن المعرة عنه لم تزل .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا قذف الجماعة بكلمات أن لكل واحد حداً ، وهو المذهب المشهور من الروايتين ، لأن ظهور كذبه في أحد اللفظين لا يدلّ على كذبه في اللفظ الآخر ، وبهذا فارق ما إذا كان بكلمة واحدة ، ولأنها حقوق لآدميين ، فلم تتداخل كالديون ، ( والرواية الثانية ) إن طلبوا جملة فحد واحد ، لوقوع الحد إذاً لهم كالأيمان ، وإلا فحدود والله أعلم .
قال : ومن أتى حداً خارج الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم لم يبايع ولم يشار حتى يخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد .
ش : من حل دمه بقصاص أو ردة ، أو غير ذلك ، أو وجب عليه حد لسرقة ، أو شرب خمرة ونحوه ، ثم لجأ إلى الحرم ، فإنه لا يقام عليه ذلك فيه ، ولكن لا يبايع ، ولا يشارى ، ولا يطعم ولا يسقى ، حتى يخرج من الحرم فيقام عليه ؛ هذا هو المشهور من الروايتين عن الإمام أحمد ، والمختار لأصحابه ، لقول الله تعالى : 19 ( { ومن دخله كان آمناً } ) أي الحرم ، وهو خبر بمعنى الأمر ، أي آمنوا من دخل الحرم ، أو خبر عما استقرّ في حكم الشرع .
3154 ولقول النبي : ( إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب ) متفق عليه . وفي لفظ : ( وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، ثم عادت إلى حرمتها ، فلا يسفك فيها دم ) والحجة فيه من وجهين ( أحدهما ) أنه حرّم سفك الدم بها وأطلق ، وتخصيص مكة بذلك يدل على أن الدم الحلال مراد ، وهو المراد ، إذ سفك الدم الحرام لا يختص بمكة ، مع أن اللفظ الآخر نكرة في سياق النفي ، فيعم كل دم . ( الثاني ) قوله : وإنما حلت لي ساعة من نهار ، والذي أحل له سفك دم حلال ، منع منه الحرم وأحل له ، ثم عادت الحرمة ، وبهذا تتقيد إطلاقات قطع السارق ، وجلد الزاني ، ونحو ذلك ، وما وقع في الحديث من قوله : إن الحرم لا يعيذ عاصياً ، ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة ، هو من قول عمرو بن سعيد الأشدق ، يدفع به الحديث المتقدم ، وقوله هو المدفوع . ( والرواية الثانية ) يجوز استيفاء كل شيء ما عدا القتل ، لأن الحديث إنما صرح فيه بسفك الدم ، وغير النفس لا يقاس عليها ، لعظم النفس ، والمذهب الأول ، وعليه لا يبايع ولا يشارى ، ولا يطعم ولا يؤوى ، ويقال له : اتق الله واخرج ، ليؤخذ منك الحق الذي عليك ، ليكون ذلك وسيلة إلى استيفاء ما عليه ، إذ لا يجوز تركه بالكلية .
3155 وتبعاً لابن عباس رضي الله عنهما فإنه قال ذلك ، رواه عنه الأثرم ، إذا تقرر هذا فالخرقي رحمه الله إنما نصّ على الحد لأنه إذا منع في الحد ، فالقتل ، وقطع الطريق بطريق الأولى ، أو يقال : كلها حدود ، لأن الله تعالى حدها وشرعها .
( تنبيه ) : إذا استوفي منه في الحرم وقع الموقع مع الإساءة .
قال : وإن قتل أو أتى حداً في الحرم ، أقيم عليه الحد في الحرم .
ش : لأنه لما انتهك حرمة الحرم انتهكت حرمته ، وقد قال الله تعالى : 19 ( { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ) إلى قوله : 19 ( { الشهر الحرام بالشهر الحرام ، والحرمات قصاص ، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما من أحدث حدثاً في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء ، رواه الأثرم .
( تنبيه ) : التعريف في الحرم لمعهود ذهني ، وهو حرم مكة ، أما حرم مدينة النبي فلا يمنع من إقامة حد ولا قصاص فيه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

كتاب القطع في السرقة

ش : وهو مشروع بشهادة النص والإجماع ، قال الله تعالى : 19 ( { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، جزاء بما كسبا ، نكالاً من الله والله عزيز حكيم } ) .
3157 وقال النبي : ( تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً ) والله أعلم .
قال : وإذا سرق ربع دينار من العين ، أو ثلاثة دراهم من الورق ، أو قيمة ثلاثة دراهم طعاماً كان أو غيره ، وأخرجه من الحرز قطع .
ش : لا نزاع عندنا أن القطع لا يكون إلا في نصاب ، فلا قطع في القليل .
3158 لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً ) وفي رواية قالت : كان رسول الله يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً متفق عليهما . . . وفي رواية قال : ( اقطعوا في ربع الدينار ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك ) ، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثنا عشر درهماً . رواه أحمد ، وهذا يقيد إطلاق الآية الكريمة .
3159 ويصرف قول النبي في الصحيح : ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده ) عن ظاهره ، أن المراد بذلك ما يساوي ثلاثة دراهم .
3160 ففي الحديث قال الأعمش : 16 ( كانوا يرون أنه بيض الحديد ، وأن من الحبال ما يساوي دراهم ) . وهذا نقل للإجماع ، أو قول قريب منه ، أو أن المراد البيضة والحبل على ظاهرهما ، وأن ذلك وسيلة إلى القطع ، لأنه إذا سرق التافه تدرج إلى ما هو أعلى منه ، إلى أن يسرق نصاباً فيقطع .
واختلف عن إمامنا رحمه الله في قدر النصاب ، ولا نزاع عندنا أن الفضة أصل في القطع وفي التقويم ، وأن أقل نصابها ثلاثة دراهم .
3161 لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قطع يد السارق في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم . وفي رواية : ثمنة ثلاثة دراهم . رواه الجماعة . والأصل عدم القطع فيما دون ذلك ، إذ قد علم أن إطلاق الآية الكريمة ليس بمراد .
3162 وعن عمرة بنت عبد الرحمن قالت : 16 ( إن سارقاً سرق في زمن عثمان أترجة ، فأمر بها عثمان أن تقوم ، فقومت بثلاثة دراهم ، من صرف اثني عشر درهماً بدينار ، فقطع عثمان يده ) . . . رواه مالك في الموطأ ، وهذا ظاهر في أن التقويم حصل بهما . واختلف عن أحمد في المذهب هل هو أصل في القطع بنفسه ( فعنه ) نعم ، وهو المذهب ، لحديث عائشة المتقدم . ( وعنه ) لا ، ولعل ذلك يحتج له برواية أحمد في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم : وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، فعلى هذه يقوم بالدراهم ، فما يساوي منه ثلاثة دراهم قطع به ، وإن لم يبل ربع الدينار ، [ وما لو يساو ثلاثة دراهم لم يقطع به ، وإن بلغ ربع دينار ] ، ( وعلى المذهب ) أقله ربع دينار ، فلو كان دونه وساوى ثلاثة دراهم لم يقطع ، لعموم حديث عائشة رضي الله عنها : ( لا قطع إلا في ربع دينار ) ، ثم على هذا هل هو أصل في التقويم ، وهو اختيار ابن عقيل في تذكرته ، وأبي محمد في كافيه ، لأنه أحد النقدين ، فكان التقويم به كالأجزاء ، وأن ما كان أصلاً في القطع ، كان أصلاً في التقويم كالأجزاء ، أو ليس بأصل في التقويم ، وإنما الأصل الدراهم ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أكثر الأصحاب ، القاضي والشيرازي ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن البنا ؛ لأن التقويم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما حصل بها ، وكذلك عثمان رضي الله عنه قوم بها ؟ على روايتين ، فعلى الأولى متى بلغت قيمة المسروق أدنى النصابين قطع . وعلى الثانية الاعتبار بالدراهم فقط ، وسواء كان المسروق طعاماً أو غيره ، بعد أن يكون مالاً ، لما تقدم عن عثمان رضي الله عنه ولما سيأتي إن شاء الله تعالى في حديث الثمر . وإنما يجب القطع إذا أخرج ذلك من حرز مثله .
3163 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، قال : سئل رسول الله عن الثمر المعلق ، فقال : ( من أصاب منه بفيه من ذي حاجة ، غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ) رواه الترمذي والنسائي ، وأبو داود وزاد : ( ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ، ومن سرق دون ذلك فعليه القطع ، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة ) ، وللنسائي في رواية قال : سئل رسول الله : في كم تقطع اليد ؟ قال : ( لا تقطع في تمر معلق ، فإذا ضمّه الجرين قطعت في ثمن المجن ، ولا تقطع في حريسة الجبل ، فإذا ضمها المراح قطعت ) .
3164 وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي ، أن رسول الله قال : ( لا قطع في تمر معلق ، ولا في حريسة جبل ، فإذا آواه المراح أو الجرين ، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ) رواه مالك في الموطأ ، فنفى القطع في التمر المعلق ، وفي حريسة الجبل ، لعدم الحرز فيهما ، وأوجب القطع فيما ضمه الجرين أو المراح ، لوجود الحرز فيهما ، والأحراز تختلف باختلاف الأموال ، وبيان ذلك له محل آخر .
هذا بيان كلام الخرقي مجملاً ، أما بيانه مفصلاً فقوله : وإذا سرق ، يخرج منه المنتهب والمختلس ، والغاصب والخائن ، فلا قطع على واحد منهم .
3165 لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي قال : ( ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ) راه الخمسة وصححه الترمذي ، ولأن الله ورسوله إنما أوجب القطع على السارق ، وهؤلاء ليسوا بسارقين ، ويخرج منه أيضاً جاحد العارية ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار ابن شاقلا ، وأبي الخطاب في الهداية ، وأبي محمد ، لما تقدم من أن الشارع إنما أوجب القطع على السارق ، وجاحد العارية ليس بسارق ، ولدخوله في الخائن ، وقد أسقط عنه الشارع القطع . ( والرواية الثانية ) وهي أشهرهما ، وبها قطع القاضي في جامعه ، وأبو الخطاب والشريف في خلافيهما ، وابن البنا وغيرهم ، يقطع .
3166 لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي بقطع يدها ، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه ، فكلم النبي فيها ، فقال له النبي : ( يا أسامة ألا أراك تشفع في حد من حدود الله عزّ وجلّ ) ، ثم قام النبي خطيباً فقال : ( إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه ، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ) رواه مسلم وغيره . وفي رواية قالت : استعارت امرأة تعني حلياً على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هي ، فباعته ، فأخذت ، فأتي بها النبي فأمر بقطع يدها ، وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد ، وقال فيها النبي ما قال . . . رواه أبو داود والنسائي .
3167 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي بها فقطعت يدها . . . رواه أبو داود والنسائي وقال فيه : كانت تستعير متاعاً على ألسنة جاراتها وتجحده ، وفي رواية : كانت تستعير الحلي للناس وتمسكه ، فقال رسول الله : ( لتتب هذه إلى الله ورسوله ، وترد ما تأخذ على القوم ) ثم قال : ( قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها ) ، وهذه الألفاظ منها ما هو ظاهر ، ومنها ما هو صريح في أن القطع كان لجحد العارية ، وتسميتها سارقة في الصحيح . دليل على أن جاحد العارية يسمى سارقاً ، والاعتبار بالتسمية الشرعية اه .
ويخرج من كلامه أيضاً الطرار ، وهو الذي يبط الجيب أو غيره ، ويأخذ منه ، وهذا أيضاً إحدى الروايتين . ( والثانية ) يقطع ، وإليها ميل أبي محمد ، وبني القاضي في روايتيه الخلاف على أن الجيب والكم هل هما حرز مطلقاً ، أو بشرط أن يقبض على كمه ، ويزر جيبه ، ونحو ذلك . وقوله : ربع دينار من العين ، أو ثلاثة دراهم من الورق . ظاهره أن يكون ذلك خالصاً من الغش ، أما إن كان فيه غش ، فلا قطع حتى يبلغ ما فيه نصاباً ، وهل يكفي وزن التبر منهما ، أو تعتبر قيمته بالمضروب ؟ فيه وجهان ، المذهب منهما الأول ، وقوله : أو قيمة ثلاثة دراهم ، قد تقدم أن من مذهب الخرقي أن الذهب أصل في القطع ، وليس بأصل في التقويم ، ثم إن أبا محمد قال : إذا قومنا بذلك قومنا بالمضروب ، لأن الإطلاق إنما ينصرف إليها دون المكسرة . وقوله : طعاماً كان أو غيره . قد تقدم أنه يشترط أن يكون مالاً ، ليخرج الحر ، ولا نزاع في ذلك في غير النائم والمجنون ، أما فيهما فروايتان ، ويدخل في ذلك العبد ، بشرط أن يكون صغيراً أو نائماً ، أو مجنوناً ، أو أعجمياً لا يميز بين سيده وبين غيره .
وقد استثني من ذلك ما لا يتموّل عادة كالماء ونحوه ، والمحرم كالصليب ونحوه ، والتابع لغيره كإناء الخمر ونحوه ، على خلاف في الجميع ، واستقصاء ذلك له محل آخر . وقوله : وأخرجه من الحرز ، مفهومه أنه لو أتلفه في الحرز ، أو أكله أنه لا قطع عليه ، وهو كذلك ، نعم لو ابتلع جوهراً ونحوه وخرج به ففي القطع ثلاثة أوجه ، ثالثها إن خرج قطع وإلا فلا . وقوله : وأخرجه ، سواء أخرجه بنفسه ، أو كان الإخراج ينسب إليه ، كأن تركه في ماء فخرج به ، أو على دابة فخرجت به ، أو دفعه لمجنون فأخرجه ، ونحو ذلك ، ومقتضى كلامه أن الإخراج يترتب الحكم عليه ، ولو ملكه بعد ذلك بهبة أو غيرها وهو كذلك .
( تنبيه ) : ( الخبنة ) ما تحمله في حضنك ، وقيل : هو ما تأخذه في خبنة ثوبك ، وهو ذيله وأسفله ، ( والجرين ) موضع التمر الذي يجفف فيه ، مثل البيدر للحنطة ، ( والمجن ) الترس ، ( وحريسة الجبل ) فعيلة بمعنى مفعولة ، أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع ، لأنه ليس بموضع حرز ، ( والمراح ) بضم الميم الموضع الذي تأوي إليه الماشية ليلاً ، ( والخائن ) اسم فاعل من خان ، وهو يشمل الخيانة في الوديعة وفي غيرها .
( والمنتهب ) اسم فاعل من انتهب الشيء استلبه ولم يختلسه ، ( والمختلس ) اسم فاعل من اختلس الشيء اختطفه . قاله ابن فارس . ( والسرقة ) فسرها أبو محمد بأنها أخذ المال في وجه الخفية والاستتار ، قال : ومنه استراق السمع ، وقال : إن الاختلاس نوع من الخطف والنهب ، وإنما المختلس يختفي في ابتداء اختلاسه ، بخلاف السارق والله أعلم .
قال : إلا أن يكون المسروق ثمراً أو كثراً فلا قطع فيه .
ش : الكثر جمار النخل ، وهذا الاستثناء من قوله : طعاماً كان أو غيره .
أو من قوله : وأخرجه من الحرز ، لأنه إذا كان في بستان محوط ، وأخرجه منه ، يتوهم أنه محرز ، فلذلك استثناه ، والأصل في عدم القطع بذلك حديث عمرو بن شعيب ، المتقدم .
3168 وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( لا قطع في ثمر ولا كثر ) رواه الترمذي والنسائي ، وأبو داود . وقد علم مما تقدم أنه لا فرق بين أن يكون ذلك في بستان محوط أو غيره ، واستثنى من ذلك أبو محمد ما إذا كانت النخلة أو الشجرة في دار محرزة ، فسرق منها نصاباً ، فإن عليه القطع .
( تنبيه ) : ويغرم ذلك بمثليه للخبر ، ثم إن بعض الأصحاب اقتصر على ذلك .
وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنهم عدوا ذلك إلى الماشية تسرق من المرعى ، إذا لم تكن محرزة ، واقتصروا على ذلك ، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب في حريسة الجبل ، وكذلك الحديث الذي في الموطأ ، وأن أبا بكر عدى ذلك إلى كل ما سرق من غير حرز ، أنه يغرم بمثليه .
وحكى أبو البركات ذلك نصاً ، قياساً على ما تقدم في حديث عمرو بن شعيب .
3169 وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، أن رقيقاً لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها ، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب ، فأمر عمر رضي الله عنه كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم ، ثم قال عمر رضي الله عنه : 16 ( أراك تجيعهم ، ثم قال عمر رضي الله عنه : والله لأغرمنك غرماً يشق عليك ، ثم قال للمزني : كم ثمن ناقتك ؟ فقال المزني : كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم ؛ فقال عمر رضي الله عنه : أعطه ثمان مائة درهم ) . . . رواه مالك في الموطأ ، واحتج به أحمد ، فأوجب غرامة مثليها ، لما أسقط القطع ، ومقتضى هذا الحديث ، وكذلك مقتضى حديث عمرو بن شعيب أن المسروق متى فات القطع فيه ، إما لعدم حرزه ، أو عدم بلوغه نصاباً ، أو لشبهة ونحو ذلك ، أنه يغرم بمثليه ، وهذا مقتضى احتجاج أحمد ، وإذاً يتلخص في المسألة أربعة أقوال ، هل يختص غرامة المثلين بالثمر والكثر ، أو بهما وبالماشية ، أو بكل ما سرق من غير حرز ، أو يتعدى ذلك لكل ما سقط فيه القطع ، وهو أظهر ، ثم هل يجب مع غرامة المثلين تعزير ؟ أوجبه ابن عقيل في تذكرته ، وأكثر الأصحاب لم يذكروا ذلك .
قال : وابتداء قطع يد السارق أن تقطع يده اليمنى .
3170 ش : لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما .
3171 وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ، 16 ( أن رجلاً من اليمن أقطع اليد والرجل قدم المدينة ، فنزل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فشكى إليه أن عامل اليمن ظلمه وقطع يده ، وكان يصلّي من الليل ، فيقول أبو بكر رضي الله عنه : وأبيك ماليلك بليل سارق ، ثم إنه بيت حليا لأسماء بنت عميس ، فافتقدوه ، فجعل يطوف معهم ، ويقول : اللّهمّ عليك بمن بيت أهل دويرة الرجل الصالح ، ثم وجدوا الحلي عند صائغ ، فزعم أن الأقطع جاء به ، فاعترف الأقطع أو شهد عليه ، فأمر به أبو بكر رضي الله عنه فقطعت شماله ، فقال أبو بكر : والله إن دعاءه على نفسه أشدّ عندي من سرقته ، وهذا يدلّ على أن عادتهم كان البداءة باليمين ) .
3172 وفي قراءة ابن مسود ( فاقطعوا أيمانهما ) وهذا إن ثبت فهو حجة عندنا على المشهور ، ولأنها آلة السرقة غالباً ، فناسب عقوبته بإزالتها ، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك اتفاقاً ، والله أعلم .
قال : من مفصل الكف .
ش : حكى ذلك أبو محمد أيضاً اتفاقاً ، ولأنه اليقين ، وما زاد عليه مشكوك فيه .
3173 وقد روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن النبي أمر بقطعه من المفصل ، أي السارق .
قال : وتحسم .
ش : الحسم غمس اليد في زيت مغلى بعد القطع ، لتشتد أفواه العروق ، لئلا ينزف الدم فيموت .
3174 والأصل فيه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله أتي بسارق قدسرق شملة ، فقالوا : يا رسول الله إن هذا قد سرق . فقال رسول الله : ( ما إخاله سرق ) فقال السارق : بلى يا رسول الله ، فقال رسول الله : ( اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ، ثم ائتوني به ) فقطع فأتي به النبي فقال : ( تب إلى الله ) فقال : تبت إلى الله ، فقال : ( تاب الله عليك ) رواه الدارقطني ، ورواه عبد الرزاق من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلاً ، وهل الزيت من بيت المال ، أو من مال السارق ؟ فيه وجهان ، المجزوم به منهما عند أبي محمد أنه من بيت المال ، وابن حمدان بنى على أنه احتياط له ، أو من تتمة الحد .
قال : فإذا عاد فقطعت رجله اليسرى .
ش : أما قطع رجله فلما يأتي في المسألة الآتية ، مع الأمن من المحذور الذي في قطع الثالثة .
3175 مع أن ذلك قول العامة ، منهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم ، وناهيك بهم .
3176 وما روى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله : ( لا قطع على السارق بعد قطع يمينه ) فمنقطع ، مع أنه والله أعلم مخالف للإجماع ، وأما كونها اليسرى فلأنه أرفق به ، لتمكنه من المشي على خشبة ونحو ذلك ، بخلاف ما لو قطعت اليمنى ، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في المحاربين ، فقال : 19 ( { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } ) والله أعلم .
قال : من مفصل الكعب .
ش : كما في اليد .
قال : وحسمت .
ش : لما تقدم في اليد ، والله أعلم .
قال : فإن عاد حبس ولا تقطع غير يد ورجل .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار الخرقي وأبي بكر ، وأبي الخطاب في خلافه ، وابن عقيل والشيرازي ، وأبي محمد وغيرهم ، لعموم : 19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فساداً } ) إلى قوله : 19 ( { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } ) وهذا محارب لله ورسوله ، فشملته الآية وقد أشار علي رضي الله عنه إلى ذلك .
3177 فروى سعيد : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن عبد الرحمن بن عائذ قال : أتي عمر رضي الله عنه برجل أقطع اليد والرجل قد سرق ، فأمر به عمر رضي الله عنه أن تقطع رجله . فقال علي رضي الله عنه : إنما قال الله تعالى ؛ 19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } ) إلى آخر الآية ، وقد قطعت يد هذا ورجله ، فلا ينبغي أن تقطع رجله ، فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها ، إنما تعزره ، أو تودعه السجن ، فاستودعه السجن ، ولأن ذلك بمنزلة إهلاكه ، فإنه لا يمكنه أن يتوضأ ، ولا يغتسل ، ولا يتحرز من نجاسته ، ولا يزيلها عنه ، ولا يدفع عن نفسه ، ولا يأكل ولا يبطش ، وبذلك علل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه .
3178 فروى سعيد : حدثنا أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، قال : 16 ( حضرت علي بن أبي طالب أتي برجل مقطوع اليد والرجل ، فقال لأصحابه : ما ترون في هذا ؟ قالوا : اقطعه يا أمير المؤمنين ، قال : قتلته إذاً وما عليه القتل ، بأي شيء يأكل الطعام ، بأي شيء يتوضأ للصلاة ؟ بأي شيء يغتسل من جنابته ؟ بأي شيء يقوم على حاجته ؟ فرده إلى السجن أياماً ثم أخرجه ، فاستشار الصحابة فقالوا مثل قولهم الأول ، وقال لهم مثل ما قال أول مرة ، فجلده جلداً شديداً ثم أرسله ) . . . ( والرواية الثانية ) تقطع يده اليسرى في الثالثة ، والرجل اليمنى في الرابعة .
3179 لما روى جابر رضي الله عنه قال : جيىء رسول الله بسارق فقال : ( اقتلوه ) قالوا : يا رسول الله إنما سرق ، فقال : ( اقطعوه ) فقطع ثم جيء به الثانية ، فقال : ( اقتلوه ) فقالوا : يا رسول الله إنما سرق . فقال : ( اقطعوه ) فقطع ثم جيء به في الثالثة فقال : ( اقتلوه ) قالوا : يا رسول الله إنما سرق . فقال : ( اقطعوه ) فقطع ثم أتي به الرابعة فقال : ( اقتلوه ) فقالوا : يا رسول الله إنما سرق . فقال : ( اقطعوه ) فقطع فأتي به الخامسة فقال : ( اقتلوه ) قال جابر رضي الله عنه : فانطلقنا به فقتلناه ، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ، ورمينا عليه بالحجارة . . . رواه أبو داود وهذا لفظه والنسائي . وروى النسائي نحو ذلك أيضاً من رواية الحارث بن حاطب رضي الله عنه ، ولأن أبا بكر رضي الله عنه فعل ذلك ، كما تقدم عنه .
3180 وكذلك روي عن عمر رضي الله عنه حكاه عنه أحمد ، واحتجّ به ، وهما اللذان أمرنا بالاقتداء بهما ، وقد أجاب أبو محمد عن الحديث بأنه في شخص استحق القتل ، بدليل الأمر بقتله في أول مرة ، وقد يقال على هذا بأنه إذا كان مستحق القتل فكيف جاز تأخيره ، مع أنه إذا اجتمع مع القتل غيره سقط ، واستوفي القتل ، فكيف قطع ، والذي يظهر في الجواب عن الأمر بالقتل أن هذا مما علم الرسول حقيقة الأمر فيه ، وأن أمر هذا يؤول إلى القتل ولا بدّ ، وأنه لا يجيىء منه خير ، فهو كالصبي الذي قتله الخضر ، الذي طبع كافراً .
3181 وفي النسائي ما يشعر بهذا ، فروى عن الحارث بن حاطب أن الرسول أتي بلص فقال : ( اقتلوه ) فقالوا : يا رسول الله إنما سرق ، فقال : ( اقتلوه ) فقالوا : يا رسول الله إنما سرق ، قال : ( اقطعوا يده ) قال : ثم سرق فقطعت رجله ، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه ، حتى قطعت قوائمه كلها ، ثم سرق أيضاً الخامسة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : كان رسول الله أعلم بهذا ، حين قال اقتلوه ، ثم دفعه إلى فتية من قريش ، منهم عبد الله بن الزبير ، وكان يحب الإمارة . فقال : أمروني عليكم ، فأمروه عليهم ، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه . اه .
والذي يظهر الرواية الثانية إن ثبتت الأحاديث ، فإن النسائي ضعف حديث جابر رضي الله عنه وقال : لا أعلم في هذا الباب حديثاً صحيحاً ، فعلى المذهب فيمنع من تعطيل منفعة الجنس ، وهما اليدان والرجلان ، وهل يمنع من تعطيل عضوين من شق ؟ على وجهين . ( وعلى الثانية ) لا أثر لذلك ، فعلى هذا من سرق وهو أقطع اليد اليسرى ، والرجل اليمنى ، قطعت يده اليمنى على الثانية دون الأولى ، لإفضائه إلى تعطيل منفعة الجنس ، وإن كان أقطع اليد اليسرى فقط ، قطعت يمينه على الثانية دون الأولى . لكن في قطع رجله اليسرى وجهان ، بناء على تعطيل منفعة الشق ، واستقصاء التفريع له محل آخر .
( تنبيه ) : أطلق الخرقي الحبس ، وتبعه الشيخ ، وقال القاضي في الجامع ، والشيرازي وابن البنا : يحبس حتى يحدث توبة ، وقال ابن حمدان : يحبس ويعزر حتى يتوب ، والله أعلم .
قال : والحر والحرة والعبد والأمة في ذلك سواء .
ش : الاتفاق في الحر والحرة بشهادة النص بذلك . قال سبحانه وتعالى : 19 ( { والسارق والسارق فاقطعوا أيديهما } ) الآية ، ولفعل رسول الله فإنه قطع سارق رداء صفوان ، وقطع المخزومية ، أما العبد والأمة فهو قول العامة ، لعموم النص ، ولما تقدم عن عمر رضي الله عنه في الرقيق الذين سرقوا الناقة .
3182 وروى القاسم عن أبيه أن عبداً أقر بالسرقة عند عليّ رضي الله عنه فقطعه . . هـ رواه أحمد .
3183 وعن نافع 16 ( أن عبداً لابن عمر رضي الله عنهما سرق وهو آبق ، فبعث به إلى سعيد بن العاص وهو أمير المدينة ليقطع يده ، فقال سعيد : لا تقطع يد الآبق ، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما : في أي كتاب الله وجدت هذا ؟ فأمر به ابن عمر رضي الله عنهما فقطعت يده ) .
3184 وكذلك قضى به عمر بن عبد العزيز أيضاً ، رواه مالك في الموطأ .
3185 وقطعت عائشة رضي الله عنها يد عبد . . . رواه مالك أيضاً في الموطأ ، وهذه قضايا اشتهرت ولم تنكر ، فكانت حجة . ويدخل في الحر المسلم والكافر ، فيقطع الذمي بسرقة مال المسلم ، وكذلك يقطع المسلم بالسرقة من مال الذمي .
أما الحربي الذي لا أمان له فلا يقطع المسلم بالسرقة من ماله ، ولا هو بسرقة مال المسلم ، فإن كان له أمان قطع المسلم بسرقة ماله .
وهل يقطع هو بسرقة مال المسلم ؟ فيه وجهان أصحهما يقطع ، والثاني وهو اختيار ابن حامد : لا يقطع ، ويدخل في العبد العبد الآبق ، وذلك لعموم ما تقدم ، ويؤيّده قصة ابن عمر .
3186 أمّا ما رواه الدارقطني عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله : ( ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع ، ولا على الذمي ) فقال : الصواب أنه موقوف ، والله أعلم .
قال : ويقطع السارق وإن وهبت له السرقة بعد إخراجها .
3187 ش : لما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال : ( تعافوا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حد فقد وجب ) رواه النسائي وأبو داود .
3188 وعن صفوان بن أمية قال : كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ، ثمن ثلاثين درهماً ، فجاء رجل فاختلسها مني ، فأخذ الرجل فأتي به النبي ، فأمر رسول الله به ليقطع ، فأتيته فقلت : تقطعه من أجل ثلاثين درهماً ، أنا أبيعه وأنسيه ثمنها . قال : ( فهلا كان قبل أن تأتيني به ) ، زاد في أخرى : إني قد وهبتها له . . . رواه النسائي ، وهذا يدل على أن ملك العين المسروقة بعد الرفع إلى الحاكم لا يؤثر ، بخلاف ما قبله . وكذلك قيد أبو محمد المسألة بل وزاد : والمطالبة بها ؛ وإن كان كلام الخرقي مطلقاً . وقوله : بعد إخراجها يحترز عما لو وهبت له السرقة قبل إخراجها ، فإنه لا قطع قطعاً والله أعلم .
قال : ولو أخرجها وقيمتها ثلاثة دراهم ، فلم يقطع حتى نقصت قيمتها قطع .
ش : اعتباراً بحال الإخراج ، لأنه به كمل السبب ، ولعموم : 19 ( { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ) والله أعلم .
قال : وإذا قطع فإن كانت السرقة قائمة ردت إلى مالكها .
ش : هذا اتفاق ولله الحمد ، لأنها عين ماله ، ولا مقتضي لنقله عنه والله أعلم .
قال : وإن كانت متلفة فعليه قيمتها ، موسراً كان أو معسراً .
ش : أما إن كانت تالفة وقد قطع ، فعليه مثلها إن كانت مثلية ، وقيمتها إن كانت متقومة ، كما لو أتلفها من غير سرقة ، ولأن القطع والغرم حقان لمستحقين ، فجاز اجتماعهما ، كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك .
والخرقي رحمه الله ذكر المسألة فيما إذا قطع ، لأن النعمان يقول : إذا كانت تالفة إذاً فلا غرم عليه ، وقال : موسراً كان أو معسراً ، لأن مالكاً يوافق النعمان في المعسر ، ونحن في الموسر ، والله أعلم .
قال : وإذا أخرج النباش من القبر كفنا قيمته ثلاثة دراهم قطع .
3189 ش : يروى هذا عن عائشة وابن الزبير رضي الله عنهم ، ولأنه أخذ للمال على وجه الخفية ، فدخل في مسمى السارق ، وإذاً يدخل في الآية الكريمة ، والأحراز تختلف باختلاف الأموال ، ألا ترى أن حرز الباب تركيبه في موضعه .
3189 م وقد روى أبو داود عن أبي ذر رضي الله عنه قال : دعاني رسول الله فقلت : لبيك ، فقال : كيف أنت إذا أصاب الناس موت ، يكون البيت فيه بالوصيف يعني ( القبر ) ، قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ( عليك بالصبر ) ، قال حماد : فبهذا قال من قال بقطع يد النباس ، لأنه دخل على الميت بيته ، والكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعاً ، فلو سرق لفافة رابعة من على الرجل ، أو التابوت الذي هو فيه ، ونحو ذلك لم يقطع ، لعدم مشروعيته . وقوله : أخرج من القبر ، فلو أخرجه من اللحد فلا قطع ، والله أعلم .
قال : ولا يقطع في محرم .
ش : كالخمر والخنزير والميتة ونحو ذلك ، لأن له سلطاناً على ذلك ، لإباحة الشرع إزالته ، ولأنه غير مال ، أشبه الحشرات ، وبذلك علّل أحمد رحمه الله في رواية الميموني ، فيمن سرق لذمي خمراً أو خنزيراً : لا يقطع ، ليس لهما قيمة عندنا . اه .
وقد يتخرج لنا قول أن الذمي يقطع بسرقة خمر الذمي ، بناء على أنها مال لهم ، ولهذا قلنا بتضمينها على الذمي للذمي على تخريج ، وقد يقال بعدم التخريج ، لقيام الشبهة ، وهو وقوع الخلاف في ذلك ، وقد يدخل في كلام الخرقي إذا سرق صليباً ، أو صنم ذهب ونحو ذلك ، وهو قول القاضي ، وخالفه تلميذه أبو الخطاب ، فأوجب القطع والله أعلم .
قال : ولا في آلة لهو .
ش : كالطنبور ، والمزمار ، والشبابة ونحو ذلك ، وإن بلغت قيمته مفصلاً نصاباً ، لأنه آلة للمعصية بالإجماع . فأشبه الخمر ، ولأن الشارع سلّطه عليه ، حيث جعل له إفساده وزواله .
3190 ودليل الأصل أمر النبي بكسر دنان الخمر ، وشق زقاقه ، مع أنه يمكن زوال المحرم وتبديده ، وقد حرق موسى العجل ، وقذفه في البحر ، ولم يكتف بحرقه ودفع الحلي إلى أربابه ، والله أعلم .
قال : ولا يقطع الوالد فيما أخذه من مال ولده ، لأنه أخذ ماله أخذه .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وذكر دليله ، وهو أنه أخذ ماله أخذه ، ومن أخذ ماله أخذه لا يقطع ، لأنه أخذ مباحاً له .
3191 ودليل ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم ) رواه الخمسة .
3192 وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله لي مالاً وولداً ، وإن أبي يريد أن يحتاج مالي . فقال : ( مالك لأبيك ) رواه ابن ماجه ، وروى أحمد نحوه من حديث عمرو بن شعيب ، والخرقي رحمه الله في تعليله قصور ، لأنه لو أخذ ما ليس له أخذه ، كما إذا كان الأخذ يضر بالولد لم يقطع ، ثم إن جواز الأخذ مختص بالأب الأدنى ، وعدم القطع يتناول الأب وإن علا ، فإذاً توجيه ذلك أن له فيه شبهة ، وهو وجوب نفقته أو نحو ذلك والله أعلم .
قال : ولا تقطع الوالدة فيما أخذت من مال ولدها .
ش : لما تقدم في الأب الأعلى ، ولأنها أحد الأبوين فأشبهت الآخر ، وكذلك أمها وإن علت ، واقتصار الخرقي على الوالد والوالدة يخرج به غيرهما ، ولا نزاع أن هذا المذهب في غير الابن ، لظاهر الكتاب ، فإن قيل : فالنفقة تجب لغير هؤلاء ، فيصير له في المال شبهة ، وإذاً لا قطع ، قيل : النفقة وإن وجبت لبعضهم لكن وجوبها لمن تقدم أقوى ، ثم إن القرابة التي بينهما لا تمنع قبول الشهادة ، فلا تمنع القطع ، بخلاف الوالدين .
وجرى الشيرازي على مطلق الشبهة ، فلم ير القطع على ذي الرحم المحرم ، أما الابن فالمذهب المجزوم به عند القاضي والشيخين والشيرازي ، وابن عقيل والشريف ، وأبي الخطاب وابن البنا أنه لا يقطع بسرقة مال أبيه وإن سفل ، لأن بينهما قرابة تمنع من قبول شهادة أحدهما لصاحبه ، فلم يقطع بماله كالأب ، ولأن النفقة تجب على الأب حفظاً للابن ، فلا يناسب إتلافه حفظاً لمالِهِ ، وكلام الخرقي يوهم القطع ، وهو رواية حكاها ابن حمدان ، وهو مقتضى ظواهر النصوص والله أعلم .
قال : ولا العبد فيما سرق من مال سيده .
3193 ش : لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : 16 ( جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه بغلام له ، فقال : اقطع يده ، فإنه سرق مرآة لامرأتي . فقال عمر رضي الله عنه : لا قطع عليه ، هو خادمكم أخذ متاعكم ) . . . رواه مالك في الموطأ . وعن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه ، ولا يعرف لهما مخالف ، ولأن له فيه شبهة ، وهو وجوب النفقة ، والمدبر ، وأم الولد ، والمكاتب كالقن .
قال : ولا يقطع السارق إلا بشهادة عدلين أو إقرار مرتين .
ش : أما كونه لا يقطع إلا يشهادة عدلين فلعموم قوله تعالى : 19 ( { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ) ، أمّا قوله تعالى : 19 ( { واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ) فنزلت في سياق الأموال ، فاقتصر على ذلك ، وغير المال من النكاح والحدود ونحوهما ليس في معناه ، لأن ذلك يحتاط له ما لا يحتاط للمال ، ومن الاحتياط له عدم قبول المرأة ، لضعف عقلها ، وسرعة نسيانها ، وأما قطعه بشهادتهما فللآية الكريمة أيضاً ، وقال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن قطع يد السارق تجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان ، ووصفا ما يوجب القطع ، ويشترط في الشاهدين أن يكونا رجلين لما تقدم ، مسلمين وإن كان السارق ذمياً ، حرين على المذهب ، عدلين وإن قبلنا مستور الحال في الأموال ، احتياطاً للأموال ، ويشترط مع ذلك أن يصفا السرقة والحرز ، وجنس النصاب وقدره ، والمسروق منه ، ليزول الاختلاف في ذلك .
وأما كونه يقطع بإقرار مرتين ، ولا يقطع بما دونهما .
3194 فلما روى أبو أمية المخزومي ، أن رسول الله أتي بلص فاعترف اعترافاً ، ولم يوجد معه متاع ، فقال له رسول الله : ( ما إخالك سرقت ) ؟ قال : بلى ، مرتين أو ثلاثاً ، قال : فقال رسول الله : ( اقطعوه ) مختصر . . . رواه أحمد وأبو داود ، ولو وجب القطع بأول مرة لما أخره .
3195 وعن القاسم بن عبد الرحمن ، عن عليّ رضي الله عنه قال : 16 ( لا يقطع السارق حتى يشهد على نفسه مرتين ) . حكاه أحمد في رواية مهنا ، واحتج به . ولأنه حد يتضمن إتلافاً ، فكان من شرطه التكرار كحد الزنا ، قال أبو محمد : ويعتبر أن يذكر في إقراره شروط السرقة من النصاب ، والحرز ، وإخراجه منه .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في ذلك بين الحر والعبد ، وهو المذهب بلا ريب ، كبقية الحدود . وروى مهنا عن أحمد : إذا أقر العبد أربع مرات أنه سرق قطع ، وظاهر هذا اعتبار أربع مرات ، ليكون على النصف من الحر .
قال : ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع .
ش : لأنه حد لله ثبت بالاعتراف ، فقبل رجوعه عنه كحد الزنا ، وهذا بخلاف ما لو ثبتت سرقته بالبينة ، فإن رجوعه لا يقبل كالزنا سواء ، هذا إن شهدت البينة على الفعل ، أما إن شهدت على إقراره بالسرقة ثم جحد ، فقامت البينة بذلك ، فهل يقطع نظراً للبينة ، أو لا يقطع نظراً للإقرار ؟ على روايتين حكاهما الشيرازي . ( واعلم ) أن هذا الذي ذكره الخرقي من أن القطع لا يثبت إلا بإقرار مرتين ، وأنه إذا رجع عن الإقرار قبل منه ، مختص بالقطع ، أما المال فيكفي في ثبوته مرة ، وإذا رجع عنه لم يقبل رجوعه والله أعلم .
قال : وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب ، لأن سرقة النصاب فعل يوجب القطع ، فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص ، والمعنى في ذلك أن الشارع له نظر إلى حفظ الأموال كالأنفس ، فكما أن في الأنفس تقتل الجماعة بالواحد سداً للذريعة ، فكذلك في الأموال ، واختار أبو محمد في مغنيه عدم القطع إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصاباً ، لأن كل واحد لم يسرق نصاباً ، فلم يجب عليه قطع كما لو انفرد .
3196 ويرجح ذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً ) رواه ابن ماجه .
3197 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ، فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير من يخطىء في العقوبة ) رواه الترمذي وقال : وروي موقوفاً وهو أصح اه .
3198 وروي نحو ذلك عن غير واحد من الصحابة ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يكون المسروق ثقيلاً ، يشترك الجماعة في حمله ، وبين أن يخرج كل واحد منه جزءاً ، ونص عليه أحمد والأصحاب ، لاشتراكهم في الهتك والإخراج ، ولهذا أيضاً قلنا : لا فرق إذا هتكا الحرز بين أن يدخلا معاً ، أو يدخل أحدهما فيخرج بعض النصاب ، ثم يدخل الآخر فيخرج باقيه والله أعلم .
قال : ولا يقطع وإن اعترف بالسرقة أو قامت بينة ، حتى يأتي مالك المسروق فيدّعيه .
ش : هذا المذهب المختار للخرقي ، والقاضي وأصحابه ، لأن المال مما يباح بالبذل ، فيحتمل أن مالكه أباحه له ، أو وقفه على طائفة السارق منهم ، أو أذن له في دخول حرزه ونحو ذلك ، فاعتبرت المصالبة لتزول الشبهة ، ويرشح هذا ما تقدم في المسألة قبل ، وقال أبو بكر في الخلاف : لا تشترط المطالبة ، وهو قوي ، عملاً بإطلاق الآية الكريمة ، وعامة الأحاديث ، فإنه ليس في شيء منها اشتراط المطالبة ولا ذكرها ، ولو اشترطت لبين ذلك وذكرها ، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، والإخلال بما الحكم متوقف عليه ، وإنه لا يجوز .
( تنبيه ) : وهل يفتقر إلى المطالبة في القطع بالكفن كسائر المسروقات ، ويكون المطالب ورثة الميت ، أو لا يفتقر ، لأن الطلب شرع لاحتمال كون المسروق مملوكاً للسارق . وقد يئس من ذلك هنا ؟ فيه احتمالان ، أظهرهما الثاني والله أعلم .
كتاب قطاع الطرق

ش : والأصل فيهم قول الله تعالى : 19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً } ) إلى قوله : 19 ( { فاعلموا أن الله غفور رحيم } ) .
وقد اختلف أهل العلم في سبب نزول هذه الآية .
3199 فعن ابن عمر رضي الله عنهما 16 ( أن ناساً أغاروا على إبل رسول الله وارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا راعي رسول الله مؤمناً ، فبعث في آثارهم ، فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، قال : فنزلت فيهم آية المحاربة وهم الذين أخبر عنهم أنس بن مالك رضي الله عنه حين سأله الحجاج ) .
2200 وعن أبي الزناد أن رسول الله لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار ، عاتبه الله في ذلك ، فأنزل الله تعالى : 19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فساداً } ) الآية ، رواهما أبو داود والنسائي .
3201 وفي حديث أنس رضي الله عنه في رواية لأبي داود ، في قصة العرنيين قال : فبعث رسول الله في طلبهم ، فأتي بهم ، قال : فأنزل الله في ذلك : 19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } ) الآية .
وأصل الحديث متفق عليه . . . فهؤلاء أخبروا أن الآية نزلت في العرنيين ، وكانوا مرتدين .
3202 وكذلك حكي عن سعيد بن جبير .
3203 وعن ابن عباس رضي الله عنهما : 19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } ) الآية إلى قوله : 19 ( { غفور رحيم } ) نزلت هذه الآية في المشركين ، فمن تاب منهم قبل أن يقدروا عليهم لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه . رواه أبو داود والنسائي ، وهو قريب من قول الأوّلين ، وقال أبو محمد : إن الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين .
3204 وكأن مدرك أبي محمد في حكاية ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ما روى الشافعي رضي الله عنه في مسنده عنه رضي الله عنه ، أنه قال في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض .
وقد يجمع بين القولين ، بأن الآية نزلت في المرتدين ، كما أخبر ابن عمر وأنس وغيرهما رضي الله عنهم ، وابن عباس رضي الله عنهما رأى أن نزول الآية على سبب لا يقتضي الاختصاص به ، بل يتبع لفظها ، ولفظها دل على أن كل محارب لله ورسوله هذا حكمه ، وقطاع الطريق من المسلمين محاربون لله ولرسوله ، لمخالفتهم أمره وارتكابهم نهيه .
( تنبيه ) : ( اللقاح ) جمع لقحة ، وهي ذوات اللبن من الإبل ، وقيل : ذوات المخاض ( وسملت عينه ) إذا فقئت بحديدة محماة ، والله أعلم .
قال : والمحاربون هم الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء ، فيغصبونهم المال مجاهرة .
ش : لا نزاع أن هؤلاء محاربون ، تثبت لهم أحكام المحاربة التي تذكر بعد ، واختلف فيمن يفعل ذلك في المصر ، فظاهر كلام الخرقي أنه لا يكون محارباً ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ، لأن الغوث يلحقه غالباً ، فتزول شوكة المعتدي ، ويكون في حكم المختلس ، والمختلس ليس بمحارب ؛ وقال أبو بكر : يكون محارباً ، وتبعه على ذلك القاضي في الجامع ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وغيرهم ، قال أبو محمد : إنه قول كثير من أصحابنا ، وقال أبو العباس : إنه قول الأكثرين ، تمسكاً بعموم الآية الكريمة .
ونظراً إلى أن ذلك في المصر أعظم خوفاً ، وأكثر ضرراً ، فكان بذلك أولى . وتوسط القاضي أطنه في المجرد أو في الشرح الصغير فقال : إن كانوا في المصر مثل أن كبسوا داراً ، وكان أهل الدار بحيث لو صرخوا أدركهم الغوث فليسوا بمحاربين ، وللحوق الغوث عادة ، وإن حصروا قرية أو بلداً ففتحوه ، وغلبوا على أهله ، أو محلة مفردة ، بحيث لا يلحقهم الغوث فهم محاربون ، لعدم لحوق الغوث لهم ، وهو يرجع إلى الأول ، غايته أنه نقح كلام الخرقي ، وأحمد رحمه الله توقف عن الجواب في المسألة .
وقول الخرقي : يعرضون للقوم السلاح ، مفهومه أنهم لو عرضوا بغير سلاح لم يكونوا محاربين ، وهو كذلك .
ويدخل في السلاح كل ما أتى على النفس أو الطرف ، وإن لم يكن محدداً ، كالحجر والعصا ، وقوله : فيغصبونهم المال مجاهرة . مفهومه أنهم لو أخذوا المال خفية ، أو على وجه الخطف فليسوا بمحاربين ، وهو كذلك .
وأنه لو خرج الواحد والاثنان على رخر الركب فأخذوا منه شيئاً فليسوا بمحاربين ، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم محاربون ، والله أعلم .
قال : فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وإن عفا صاحب المال ، وصلب حتى يشتهر ، ودفع إلى أهله ، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد ، ثم حسمتا وخلي .
ش : مذهب أحمد رحمه الله أن قاطع الطريق إذا قتل وأخذ المال قتل وصلب ، وإن قتل ولم يأخذ المال قتل فقط ، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى ، وإن لم يأخذ المال ولم يقتل نفي ، لما تقدم عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .
3205 وذكر الزجاج أنه روي في التفسير أن أبا بردة الأسلمي كان عاهد النبي أن لا يعرض لمن يريد النبي وأن لا يمنع من ذلك ، وأن النبي لا يمنع من يريد أبا بردة ، فمرّ قوم يريدون النبي بأبي بردة ، فعرض أصحابه لهم فقتلوهم وأخذوا المال ، فأنزل الله على نبيه ، وأتاه جبريل وأعلمه أن الله عزّ وجلّ يأمره أن من أدركه منهم قد قتل وأخذ المال قتله وصلبه ، ومن قتل ولم يأخذ المال قتله ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع يده لأخذ المال ، ورجله لإخافته السبيل اه .
وفي ثبوت هذا نظر ، فإنه قد ثبت عن ابن عمر وغيره رضي الله عنهم أن الآية نزلت في غير هذا ، ولا يغرنك قول أبي محمد في الكافي أن قضية أبي بردة رواها أبو داود ، فقد قال هو في المغني قيل رواها أبو داود .
قلت : والقطع أنها ليست في سنن أبي داود ، وإلا لذكرها ابن الأثير في جامع الأصول وغيره .
والمعتمد في ذلك على قول ابن عباس رضي الله عنهما وهو إن خالف ظاهر الآية الكريمة لكن يرجحه أن قوله موافق للقاعدة الشرعية ، من أن العقوبات على قدر الإجرام .
ولهذا اختلف حد الزاني والسارق والقاذف وغيرهم ، بخلاف ظاهر الآية الكريمة . . . فإن ظاهرها أن من حارب حصل فيه هذا التخيير من القتل أو القطع ، وإن لم يقتل ولا أخذ المال ، وأيضاً عموم قول النبي : ( لا يحل دم امرئ مسلم ، يشهد أن لا إله إلاّ الله إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير الحق ) . وهذا قد يعترض عليه بأنه عموم ، والآية تخصه . وكون العقوبة تختلف باختلاف الجرم مسلّم ، ولكن الشارع رأى أن هذه المفسدة العظيمة جزاؤها هذا الجزاء ، سداً للذريعة ، وحسماً للمادة ، ثم إن صاحب الشرع لم يذكر القتل أو القطع فقط في مقابلة مجرد المحاربة ، وإنما خير بين عقوبات ، والأمر في ذلك موكول إلى الأئمة والحكام الذين عليهم إقامة الحدود ، وتخييرهم تخيير مصلحة ، لا تخيير استشفاء ، فهم لا يفعلون إلا ما يرون أنه أصلح ، فإذا رأوا توزيع العقوبات على قدر الإجرام وجب ذلك عليهم ، وإن رأوا أن هذا المحارب وإن لم يقتل لا يندفع شره إلا بالقتل ، ككبير محاربين يجمعهم قوله ، ويفرقهم عدمه ، ونحو ذلك وجب قتله ، وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فيسأل أولاً عن صحة سنده ، فإن صح فهو معارض بنص القرآن اه .
( وعن أحمد ) رواية أخرى أن من قتل وأخذ المال يقتل لقتله ، ويقطع لأخذه المال ، لأن كلاً منهما لو انفرد لأوجب ذلك ، فإذا اجتمعا وجبا معاً كالزنا والسرقة .
( وعنه ) أيضاً فيمن قتل ولم يأخذ المال أنه يصلب مع القتل ، والمذهب الأول .
وقول الخرقي : قتل وإن عفى صاحب المال : يعني أنه يقتل حتماً ، ولا يدخله العفو ، قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم ، وذلك لأنه أجري مجرى الحدود ، فلم يدخله العفو كبقيتها ، ولهذا قلنا على إحدى الروايتين : لا يعتبر التكافؤ بين القاتل والمقتول ، بل يؤخذ الحر بالعبد ، والمسلم بالذمي ، والأب بالابن ، واعتبرناه على أخرى ، نظراً إلى أن الحد فيه انحتامه بدليل أنه لو تاب قبل القدرة سقط الانحتام ، وبقي القصاص .
ولعموم قول النبي : ( لا يقتل مسلم بكافر ) . فعلى هذه إذا فاتت المكافأة قطعت يده ورجله إن كان قد أخذ المال ، وإلا نفي ، وأغرم دية الذمي أو قيمة العبد ، وهذا اختيار أبي الخطاب ، والشريف والشيرازي وغيرهم ، وهو أمشى على قاعدة المذهب .
وقوله : وصلب حتى يشتهر ، هذا أحد الوجهين ، واختيار أبي محمد ، وأبي الخطاب ، وشيخه في الجامع .
وقال : إنه ظاهر كلام أحمد ، لأن المقصود من الردع للغير والزجر إنما يحصل بذلك . ( والثاني ) وقاله أبو بكر : يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب ، اعتماداً منه على أن أحمد لم يوقت الصلب ، .
ونظراً إلى إطلاق الآية الكريمة ، وظاهر كلام الخرقي أن صلبه بعد قتله ، وهو كذلك ، إذ هو تتمة للحد ، وكمال له ، ولهذا قلنا : إذا مات قبل أن يقتله ، أو قتل لغير المحاربة لم يصلب على أشهر الوجهين ، إذ الحد قد فات بموته ، كبقية المحدودين ، وإنما قطعت يمنى يدي من أخذ المال لما تقدم في السارق ، وإنما قطعت يسرى رجليه لتتحقق المخالفة المأمور بها ، وإنما حسمتا لما تقدم في السارق .
( تنبيه ) : إذا كان القتل شبه عمد فقال أبو محمد : ظاهر كلام الخرقي أنه يقتل بذلك .
( قلت ) : وفي هذا نظر ، فإنه متى اعتبر إطلاق الخرقي دخل فيه قتل الخطأ وقد جعله أصحاب الخلاف محل وفاق ، قاسوا عليه إذا فاتت المكافأة ، والله أعلم .
قال : ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله .
ش : لعموم قول النبي : ( لا قطع إلا في ربع دينار ) . وقد يتخرج لنا عدم اشتراط ذلك ، من رواية عدم اعتبار المكافأة ومن ثم قلت إن الأمشى على المذهب اعتبارها .
( تنبيه ) : ويشترط الحرز ، وانتفاء الشبهة في المال المسروق ، والله أعلم .
قال : ونفيهم أن يشردوا ، فلا يتركون يأوون في بلد .
ش : يعني من لم يقتل من المحاربين ، ولم يأخذ المال ، فإنه ينفى كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ثم إن النفي الكلي هو التشريد .
وهذا هو المذهب المجزوم به عند القاضي وغيره ، لظاهر الآية ، ( وعن أحمد ) نفيهم تعزيرهم بما يردعهم من تشريد وغيره ، ( وعنه ) نفيهم حبسهم .
وعلى الأول إذا شردوا لم يتركوا يأوون في بلد ، لظاهر 19 ( { أو ينفوا من الأرض } ) فظاهره نفيهم عن جميعها ، ولا يتأتى إلا بما قلناه .
( تنبيه ) : قال أبو محمد : ولم يذكر أصحابنا قدر مدرة نفيهم ، فيحتمل أن يتقدر ذلك بما تظهر فيه توبتهم ، ويحتمل أن يقدر بعام ، كنفي الزاني والله أعلم .
قال : فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم سقطت عنهم حدود الله عزّ وجلّ ، وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال ، إلا أن يعفى لهم عنها .
ش : إذا تاب المحاربون قبل القدرة عليهم سقطت عنهم حدود الله تعالى ، كالصلب والقطع ، والنفي وانحتام القتل ، أما بعد القدرة فلا يسقط عنهم شيء للآية الكريمة : 19 ( { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } ) الآية .
أوجب سبحانه الحدود ، واستثنى من تاب قبل القدرة ، فمن عداه يبقى على العموم ، والمعنى في ذلك أن من تاب قبل القدرة الظاهر أن توبته توبة إخلاص ، بخلاف من تاب بعدها ، فالظاهر أنه إنما فعل ذلك تقية ، أما حقوق الآدميين فلا تسقط إلا بأدائها ، أو إسقاط أربابها كالضمان ، ووقع في المبهج في أول باب قطاع الطريق أن توبتهم قبل القدرة لا تسقط عنهم الحدود في رواية كما بعدها ، وجزم في آخر الباب بالقبول كما يقوله الجماعة ، وهو الصواب والله سبحانه أعلم .
كتاب الأشربة وغيرها

قال : ومن شرب مسكراً قل أو كثر جلد ثمانين جلدة ، إذا شربها مختاراً لشربها ، وهو يعلم أن كثيرها يسكر .
ش : تحريم الخمر إجماع أو كالإجماع ، وقد شهد لذلك من الكتاب قوله تعالى : 19 ( { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون } ) .
3206 قال بعض المفسرين : نزل في الخمر أربع آيات ، نزلت بمكة : 19 ( { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } ) فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر ، فإنها مذهبة للعقل ، مسلبة للمال . فنزلت 19 ( { فيهما إثم كبير ، ومنافع للناس } ) فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا عبد الرحمن ناساً منهم فشربوا وسكروا ، فأم بعضهم فقرأ : 19 ( { قل يا أيها الكافرون ، أعبد ما تعبدون } ) فنزلت : 19 ( { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } ) . فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد بن أبي وقاص ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء للأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه موضحة ، فشكى إلى رسول الله ، فقال عمر رضي الله عنه : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت : 19 ( { إنما الخمر والميسر } ) . . . إلى قوله : 19 ( { فهل أنتم منتهون } ) فقال عمر رضي الله عنه : 16 ( انتهينا يا رب ) .
3207 وفي السنن قريب من ذلك ، فعن عمر رضي الله عنه أنه قال : اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت التي في البقرة ؛ 19 ( { يسألونك عن الخمر والميسر ، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } ) الآية فدعي عمر فقرأت عليه ، فقال : اللّهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت التي في النساء : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ) الآية ، فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت التي في المائدة : 19 ( { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر } ) إلى قوله : 19 ( { فهل أنتم منتهون } ) فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : 16 ( انتهينا انتهينا ) . . . رواه أبو داود والترمذي والنسائي .
قال بعض العلماء : والتحريم في الآية من نحو عشرة أوجه ، تسميتها رجساً وهو المستقذر ، وجعلها من عمل الشيطان ، والأمر باجتنابها ، وجعل الفلاح مرتباً على اجتنابها ، فمن لم يجتنبها لا يفلح ، وجعلها توقع العداوة والبغضاء ، وتصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، ثم طلب الانتهاء عنها بقوله سبحانه : 19 ( { فهل أنتم منتهون } ) أي جدير وحقيق أن ينتهي عن شيء جمع هذه الأوصاف .
وورد في تحريمها من السنة ما يبلغ مجموعه التواتر .
3208 فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال : ( كل شراب أسكر فهو حرام ) .
3209 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : ( كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ) رواهما الجماعة . وفي رواية لمسلم : ( ومن شرب الخمر في الدنيا ، ومات وهو يدمنها لم يتب منها ، لم يشربها في الآخرة ) .
3210 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( كل مخمر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال ) قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله ؟ قال : ( صديد أهل النار ) .
3211 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( لعن الله الخمر ، وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ) رواهما أبو داود . والأخبار في ذلك كثيرة جداً ، وسيمر بك إن شاء الله تعالى طرف منها وبالغ الصحابة رضي الله عنهم في تحريمها والمباعدة منها .
3212 فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : 16 ( اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبّد ، فلقيته امرأة أغوته ، فأرسلت إليه جاريتها فقالت : إنها تدعوك لشهادة ، فانطلق مع جاريتها ، فطفق كلما دخل باباً أغلقته دونه ، )6 ( حتى أفضى إلى امرأة وضيئة ، عندها غلام وباطية خمر ، فقالت : والله ما دعوتك للشهادة ، ولكن دعوتك لتقع علي ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً ، أو تقت هذا الغلام . قال : فأسقيني من هذا الخمر كأساً ، فسقته كأساً ، فقال : زيدوني . فلم يرم حتى وقع عليها وقتل الغلام ، فاجتنبوا الخمر ، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر . . . إلا يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه ) . . . رواه النسائي .
3213 وعن علي رضي الله عنه قال : 6 ( لو بني مكانها منارة لم أؤذن عليها ، ولو نبت مكانها كلأ لم أرعه ) .
3214 وما روي عن بعض الصحابة كقدامة بن مظعون ، وعمرو بن معدي كرب ، وأبي جندل بن سهيل ، أنهم قالوا : إنها حلال تمسكاً بقوله تعالى : 9 ( { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } ) الآية ، فتأويل منهم أخطأوا فيه ، فبين لهم علماء الصحابة معنى الآية ، وحدهم عمر رضي الله عنه لشربها فقيل إنهم رجعوا عن قولهم .
3215 وقد قال البراء رضي الله عنه في هذه الآية قال : مات رجل من أصحاب رسول الله قبل أن تحرم الخمر ، فلما حرمت قال رجال : كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر ؟ فنزلت : 9 ( { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } ) .
3216 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قالوا : يا رسول الله أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر لما نزل تحريم الخمر ؟ فنزلت : 9 ( { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } ) الآية . . . رواهما الترمذي .
3217 وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة تحريم الخمر قال : فقال بعض القوم : قد قتل قوم وهي في بطونهم ، فأنزل الله تعالى : 9 ( { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } ) .
إذا تقرر هذا فالاتفاق أيضاً على حد شاربها في الجملة ، واختلف في مقداره ، وعن إمامنا رضي الله عنه في ذلك روايتان ( إحداهما ) أن مقداره ثمانون . اختارها الخرقي ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي وغيرهم .
3218 لما روى ثور بن زيد الديلي 6 ( أن عمر رضي الله عنه استشار في حد الخمر ، فقال له علي رضي الله عنه أرى أنه يجلد ثمانين جلدة ، فإنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هدى افترى ، فجلد عمر رضي الله عنه في حد الخمر ثمانين ) . . . رواه مالك في الموطأ والدارقطني .
3219 وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه استشار الناس ، فقال عبد الرحمن رضي الله عنه : 16 ( أخفّ الحدود ثمانون ) . فأمر به عمر رضي الله عنه . وهذا كالإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على الجلد ثمانين الرواية الثانية وهي اختيار أبي بكر قدره أربعون .
3220 لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي ضرب في الخمر بالجريد والنعال ، وجلد أبو بكر أربعين . . . وفي رواية أن النبي أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريد نحو أربعين . قال : وفعله أبو بكر رضي الله عنه ، فلما كان عمر رضي الله عنه استشار الناس ، فقال عبد الرحمن أخفّ الحدود ثمانون ، فأمر به عمر رضي الله عنه . . . متفق عليه .
3221 وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود عن حضين بن المنذر ، قال : 16 ( شهدت عثمان بن عفان رضي الله عنه أتي بالوليد قد صلى الصبح ثم قال : أزيدكم ؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر ، وشهد آخر أنه رآه يتقيأها . فقال عثمان رضي الله عنه : إنه لم يتقيأها حتى شربها ، فقال : يا علي قم فاجلده . فقال علي رضي الله عنه : قم يا حسن فاجلده ، فقال الحسن رضي الله عنه : ولّ حارها من تولى قارها ؛ فكأنه وجد عليه . فقال : يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده ؛ فجلده وعلي رضي الله عنه يعدّ حتى بلغ أربعين . فقال : أمسك ثم قال : جلد النبي أربعين ، وأبو بكر رضي الله عنه أربعين ، وعمر رضي الله عنه ثمانين ، وكل سنة ، وهذا أحب إلي ) . ورواه أبو داود أيضاً مختصراً قال : فقال علي رضي الله عنه : 16 ( جلد رسول الله في الخمر وأبو بكر رضي الله عنه أربعين ، وكمّلها عمر رضي الله عنه ثمانين ، وكل سنة ) . وفعل كل أحد بل وقوله المخالف لفعل رسول الله ملغى ، واعلم أن عامة الأصحاب يحكون الروايتين كما تقدم ، وأبو العباس يحكي الرواية الثانية أن الواجب أربعون ، وأن الزيادة على الأربعين يفعلها الإمام عند الحاجة ، إذا أدمن الناس الخمر . أو كان الشارب لا يرتدع بدونها ، قال : وهذا أوجه القولين . قلت : ولا ريب أن هذا القول هو الذي يقوم عليه الدليل ؛ إذ النبي ضرب نحواً من أربعين ، ولم يوقت فيه مقداراً معيناً .
3222 قال علي رضي الله عنه : 16 ( ما كنت لأقيم على أحد حداً فيموت فأجد في نفسي شيئاً ، إلا صاحب الخمر ، فإنه لو مات وديته ، وذلك أن رسول الله لم يسنه ) ، متفق عليه . وفي رواية أبي داود : فإن رسول الله لم يسن فيه شيئاً ، إنما هو شيء قلناه نحن .
3223 وعن ابن عباس رضي الله عنهما 16 ( أن رسول الله لم يوقت في الخمر حداً ) ، رواه أبو داود .
وإذا كان رسول الله لم يوقت فيه قدراً معيناً ، وضرب نحواً من أربعين ، وجب اتباع فعله ، وكذلك فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه في صدر خلافته .
ولما رأى رضي الله عنه عتوّ الناس وازديادهم ضرب ثمانين .
3224 قال السائب بن يزيد رضي الله عنه : 16 ( كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله فإمرة أبي بكر رضي الله عنه وصدر من خلافة عمر رضي الله عنه ، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا ، حتى كان آخر إمرة عمر ، فجلد أربعين ، حتى إذا عتوا ، وفشوا جلد ثمانين ) . . . رواه البخاري ، ووافقه الصحابة على ذلك ، بل وأشاروا عليه كما تقدم .
3225 ولما كان عثمان رضي الله عنه جلد الحدين كليهما ثمانين وأربعين كما في أبي داود ، وعلي رضي الله عنه جلد أربعين ، وقال : إن الكل سنة . وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه زاد فيه النفي وحلق الرأس لما كثر الشرب ، مبالغة في الزجر .
وهذا كله يدلّ على جواز الزيادة على الأربعين اه .
وقول الخرقي ( ومن ) يدخل فيه الرجل والمرأة ، والحر والعبد ، وسيأتي الكلام على العبد ، والمسلم والكافر ، ولا يخلو الكافر إما أن يكون ملتزماً أو غير ملتزم ، فغير الملتزم كالحربي لا حدّ عليه ، والملتزم كالذمي والمستأمن فيه روايتان ، أصحهما عند أبي محمد وأبي الخطاب في الهداية لا حد عليه ، لأنا صالحناهم على أن لا نتعرض لهم فيما لا ضرر علينا فيه . ( والثانية ) عليه الحد ، لأنه مكلف ، فجرى عليه الحد كالمسلم .
وقد تنبني الروايتان على تكليفهم بالفروع ، لكن المذهب ثم قطعا تكليفهم بها . واختار أبو البركات هنا أنه إن سكر حد وإلا فلا ، إناطة باعتقاده التحريم وعدمه ، وقوله ( شرب ) خرج على الغالب ، وكذلك الحكم لو ثرد الخمر أو اصطبغ به ، أو لتَّ به سويقاً ، أو خلطه بطعام فأكله أو استعط به ، أو احتقن به ، نص أحمد على أكثر ذلك ، وأومأ إلى بقيتها ، وكذلك إن طبخ به لحماً فأكل من مرقته ، قاله أبو محمد . أما إن عجن به دقيقاً وخبزه فإنه لا يحد بأكله ، لأن النار أكلت أجزاء الخمر ، ولم يبق إلا أثره . وكذلك مختار أبي محمد في الاحتقان ، كما لو داوى به جرحه ، وكلامه يوهم أن ذلك رواية ، ووقع في كلام أحمد أنه لو تمضمض به وجب الحد .
فقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه في الرجل يستعط بالخمر ، أو يحتقن به ، أو يتمضمض أرى عليه الحد ، فهم يقولونه : لو أن رجلاً لت سويقاً بخمر أو صب على خمر ماء كثيراً ثم شربه لم يحد ؛ ذكر هذا النص القاضي في التعليق ، وهو محمول على أن المضمضمة وصلت إلى حلقه .
قال ابن حمدان في الكبرى : وكذا قيل في المضمضة به يعني يحد .
قال : وهو بعيد اه .
وقوله : مسكراً قلّ أو كثر ، يخرج به غير المسكر وهو واضح ، ويعم كل مسكر وإن قل ولم يسكر به .
وهذا مذهبنا لما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها : ( كل شراب أسكر فهو حرام ) وحديث ابن عمر رضي الله عنهما : ( كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ) ، وحديث ابن عباس : ( كل مخمر خمر ، وكل مسكر حرام ) وإذا كان كل مسكر خمراً فقد دخل في آية التحريم ، مع أن رسول الله نصّ على تحريمه .
3226 ودخل في وجوب الحد ، بقوله عليه السلام : ( من شرب الخمر فاجلدوه ) ، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من رواية معاوية وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم .
3227 وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قدم من جيشان ، وجيشان من اليمن ، فسأل رسول الله عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة ، يقال له المزر ، فقال رسول الله : ( أو مسكر هو ) ؟ قال : نعم ، قال رسول الله : ( كل مسكر حرام ، وإن الله عهد لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ) .
قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : ( عرق أهل النار ، أو عصارة أهل النار ) رواه مسلم والنسائي .
3228 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : خطب رسول الله فذكر آية الخمر ، فقال رجل : يا رسول الله أرأيت المزر ؟ قال : ( وما المزر ) ؟ قال : حبة تصنع باليمن ، قال : ( تسكر ) ؟ قال : نعم ، قال : ( كل مسكر حرام ) .
وفي رواية : ( المسكر قليله وكثيره حرام ) .
3229 وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( أنهاكم عن قليل ما أسكر وكثيره ) ، رواه النسائي .
3230 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سئل رسول الله عن البتع ، وهو نبيذ العسل ، وكان أهل اليمن يشربونه ، فقال : ( كل شراب أسكر فهو حرام ) متفق عليه .
3231 وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) .
3232 وعن عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت : قال رسول الله : ( كل مسكر حرام ، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ) رواهما أبو داود والترمذي .
والأحاديث في الباب كثيرة ، وقد صنف الإمام أحمد في ذلك كتاباً كبيراً وافياً بالمقصود ، وقد اختلف الناس في الحشيش هل يحد بها أو لا يحد ، ومختار أبي العباس وجوب الحد بها .
وقول الخرقي : وهو مختار لشربها ، يعلم أن كثيرها يسكر . يعني أنه يشترط لوجوب الحد شرطان ( أحدهما ) أن يكون مختاراً ، فإن كان مكرهاً فلا حد عليه ، هذا هو المذهب المعروف ، والمختار من الروايتين .
3233 لقول النبي : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ) الحديث .
قال أبو محمد : وسواء أكره بالوعيد ، أو بالضرب أو ألجى إلى شربها بأن فتح فوه وصب فيه .
( والرواية الثانية ) يحد ، حملاً للحديث على الإكراه على الأقوال ، والأفعال تؤثر ما تؤثر الأقوال ، ولا نزاع أنه يجوز أن يدفع بها لقمة غص بها ، إذا لم يجد مائعاً سواها ، لقوله تعالى : 19 ( { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } ) .
( الثاني ) أن يعلم أن كثيرها يسكر ، لأنه إذا لم يعلم ذلك لم يقصد ارتكاب المعصية ، فهو كمن زفت إليه غير زوجته ، وفي معنى ذلك من لم يعلم بالتحريم لما تقدم .
3234 وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما لا حد إلا على من علمه . نعم مدعي ذلك إن نشأ بين المسلمين لم تقبل دعواه ، وإلا قبل ، ولا تقبل دعوى الجهل بالحد ، قاله ابن حمدان .
قال : فإن مات في جلده فالحق قتله .
ش : لأنه مأذون في جلده من جهة الحق سبحانه ، فإذا مات في ذلك من غير اعتداء فقتله منسوب إلى البارئ سبحانه ، ولأنه حد وجب لله ، فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود . وما تقدم عن علي رضي الله عنه في شارب الخمر من قوله : لو مات وديته ، محمول على التورع لأن الرسول لم ينص عليه بلفظه ، وليس فيه أنه يديه من بيت المال ، وقد قال هو ؛ إن النبي جلد أربعين . وحصل الإجماع على ذلك ، فهو كبقية الحدود ، ولا فرق بين أن يموت في الأربعين أو بعد الأربعين ، وإن قلنا : الزيادة عليها تعزير ، إذ التعزير واجب فهو كالحد .
قال : ويضرب الرجل في سائر الحدود قائماً .
ش : هذا هو أشهر الروايتين .
3225 لأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : لكل موضع من الجسد حظ . يعني في الحد إلا الوجه والفرج ، وقال للجلاد : اضرب وأوجع ، واتق الرأس والوجه ، وقيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب .
( والرواية الثانية ) يضرب جالساً ، لأن الله تعالى لم يأمر بالقيام ، واستعمل الخرقي ( سائر ) بمعنى جميع على قاعدته ، ومراده الحدود التي فيها ضرب .
قال : بسوط .
ش : يعني أن الضرب يكون بسوط ، لا بعصا ولا بغيرها ، إذ الجلد إذا أطلق إنما يفهم منه الضرب بالسوط .
3236 وقد روى زيد بن أسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله ، فدعا رسول الله بسوط ، فأتي بسوط مكسور ، فقال : ( فوق هذا ) فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال : ( بين هذين ) فأتي بسوط قد لان وركب به فأمر به فجلد ، وهذا بيان للجلد المأمور به في الآية الكريمة .
وقد دخل في كلام الخرقي حد الخمر ، ولا ريب عندنا أنه يجوز الجلد فيه بالسوط لما تقدم .
3237 وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه جلد قدامة بن مظعون بسوط ، ولا يتعين ذلك ، بل للإمام أن يضربه بالجريد والنعال إذا رأى ذلك ، لما تقدم . قاله أبو الخطاب في الهداية ، وأبو البركات وابن حمدان .
وعموم كلام الخرقي يقتضي تعين ذلك ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني ، فأورده مذهباً ، وهو ظاهر كلامه في الكافي ، وكلام القاضي في الجامع الصغير ، والشريف والشيرازي وابن عقيل وغيرهم ، قالوا : يضرب بسوط . وأجاب أبو محمد عما تقدم بأنه كان في بدء الإسلام ، ويرده حديث السائب بن يزيد وقد تقدم .
قال : لا جديد ولا خلق .
ش : لما تقدم عن زيد بن أسلم ، ولأنه إن كان خلقاً قل ألمه ، وإن كان جديداً جرح ، والمقصود ردعه لا قتله .
3228 وعن علي رضي الله عنه أنه قال : ضرب بين ضربين ، وسوط بين سوطين . ومن ثم قال أحمد : لا يبدي إبطه في شيء من الحدود ، أي لا يبالغ في رفع يده فيبالغ في الألم ، وربما قتله ، وقال الأصحاب : يضرب وعليه القميص والقميصان لا الفراء ونحوها .
قال : ولا يمد ولا يربط .
ش : لأن ذلك لم ينقل عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم .
3239 وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ليس في ديننا مد ، ولا قيد ، ولا تجريد .
3240 وفي مسلم في قصة ماعز قال : فما أوثقناه ولا حفرنا له .
قال : ويتقي وجهه .
3241 ش : ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه ) رواه أبو داود ، واقتصر الخرقي على الوجه لهذا الحديث ، وزاد غيره ( الرأس ) لما تقدم عن علي رضي الله عنه ( والمقاتل ) حذاراً من قتله ، ويفرق الضرب على جميع أعضائه .
وهذا على رواية أنه يضرب قائماً ، وعلى الأخرى يضرب الظهر وما قاربه .
قال : 16 ( وتضرب المرأة جالسة ) .
ش : لأن المرأة عورة ، وجلوسها أستر لها .
3242 وعن علي رضي الله عنه قال : تضرب المرأة جالسة والرجل قائماً .
قال : وتشد عليها ثيابها ، وتمسك يداها لئلا تنكشف .
ش : ذكر الخرقي الحكم ودليله ، وهو خشية تكشفها وهي عورة .
قال : ويجلد العبد والأمة أربعين بدون سوط الحر .
ش : يجلد العبد والأمة نصف جلد الحر ، وذلك أربعون على اختيار الخرقي ، وعشرون على اختيار أبي بكر .
3243 لأن ابن شهاب رضي الله عنه سئل عن حد العبد في الخمر فقال : بلغني أن عليه نصف حد الحر في الخمر وكان عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم يجلدون عبيدهم في الخمر نصف حد الحر . . . رواه مالك في الموطأ ، ويكون سوطه دون سوط الحر ، تخفيفاً للصفة كما في العدد ، ولأبي محمد احتمال وهو ظاهر إطلاق جماعة أنه كسوط الحر ، لأن التنصيف إنما يتحقق إذا كان كذلك .
قال : والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حرم إلا أن يغلي قبل ذلك فيحرم .
ش : لا ريب أن العصير إذا غلى وقذف بالزبذ أنه حرام وإن لم تأت عليه ثلاثة أيام .
3244 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : علمت أن رسول الله كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فأخذه فإذا هو ينش ويغلي فقال لي : ( اضرب به الحائط ، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ) رواه أبو داود والنسائي ، نعم إذا علم من شيء أنه لا يسكر فلا بأس به وإن غلى كالفقاع ، إذ العلة في التحريم الإسكار ، ولا إسكار فيه .
ولا ريب أنه إذا لم يغل ولم يأت عليه ثلاثة أيام ، أنه مباح .
3245 لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كنا ننبذ لرسول الله في سقاء غدوة فيشربه عشية ، وعشية فيشربه غدوة ، مختصر . . . رواه أبو داود والترمذي والنسائي ، واختلف فيما إذا أتت عليه ثلاثة أيام ولم يغل ، فمنصوص أحمد وعليه عامة أصحابه تحريمه .
3246 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله ينبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك ، والليلة التي تجيء ، والغد والليلة الأخرى ، والغد إلى العصر ، فإن بقي شيء سقى الخادم ، أو أمر به فصب .
وفي رواية : كنّا ننقع لرسول الله الزبيب فيشربه اليوم والغد ، وبعد الغد إلى مساء الثالثة ، ثم يأمر فيسقى أو يهراق . رواه مسلم وأحمد وأبو داود ، وظاهر هذا أن هذا كان دأبه وعادته ، لا أنه فعل ذلك في شيء ، الغالب أنه يتخمر بعد ذلك .
3247 وقد روى الشالنجي بإسناده عن النبي أنه قال : ( اشربوا العصير ثلاثاً ما لم يغل ) .
3248 وقال ابن عمر رضي الله عنهما في العصير : اشربه ما لم يأخذه شيطانه . قيل : وفي كم يأخذه شيطانه ؟ قال : في ثلاث . . . حكاه أحمد . والمعنى في ذلك أن الشدة تحصل في الثلاث كثيراً ، وهي خفية تحتاج إلى ضابط ، فجعلت الثلاث ضابطاً لها ، ولم يلتفت أبو الخطاب إلا إلى الغليان ، وحمل كلام أحمد على عصير الغالب أن يتخمر في الثلاث ، ولأبي محمد احتمال بكراهة ذلك من غير تحريم ، لأن 16 ( أحمد ) قال في موضع : أكرهه .
قال : وكذلك النبيذ .
ش : يعني أنه مباح ما لم يغل ، أو يأت عليه ثلاثة أيام لما تقدم من حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم ، والنبيذ ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو به الماء .
قال : والخمرة إذا أفسدت فصيرت خلا لم تزل عن تحريمها .
ش : هذا هو المذهب المشهور المجزوم به .
3249 لما روي عن أنس رضي الله عنه أن النبي سئل عن الخمر يتخذ خلا فقال : ( لا ) . . . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه .
3250 وعنه أيضاً أن أبا طلحة سأل رسول الله عن أيتام ورثوا خمراً ، فقال : ( أهرقوها ) قال : أفلا نجعلها خلاً ؟ قال : ( لا ) رواه أحمد وأبو داود ، فنهى عن التخليل ، والنهي يقتضي الفساد ، وأمر بإراقتها مع كونها لأيتام ، ولو زال تحريمها بالتخليل لأرشده إلى ذلك ، حذاراً من ضياع المال ، لا سيما وهي لأيتام .
3251 وقد روي أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر فقال : لا تحل خمر أفسدت ، حتى يكون الله تعالى هو الذي تولى إفسادها ، ولا بأس على مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلاً ما لم يعتمد إفسادها ، فعند ذلك يقع النهي . رواه أبو عبيد في الأموال بنحو من هذا المعنى ، وهذا قاله بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر فكان إجماعاً ، وقيل : يزول تحريمها مطلقاً ، لأن علة التحريم الشدة المطربة ، وقد زالت فيزول التحريم ، وقيل وهو احتمال لأبي محمد إن قصد تخليلها بنقلها من الشمس إلى الفيحاء أو بالعكس حلت لما تقدم ، وإن خللت بما يلقى فيها لم تحل ، لنجاسة الملقى فيها ، فإذا انقلبت بقي الملقى فيها على نجاسته .
قال : وإن قلب الله تعالى عينها فصارت خلاً فهي حلال .
ش : لما تقدم عن عمر رضي الله عنه ولزوال علة التحريم من غير فعل محرم .
قال : والشرب في آنية الذهب والفضة حرام .
3252 ش : لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) متفق عليه . ولمسلم : ( الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب ) .
3253 وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة بالمدائن فاستسقى فسقاه مجوسي في إناء من فضة ، فرماه به وقال : إني قد أمرته أن لا يسقيني فيه ، إني سمعت رسول الله يقول : ( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) متفق عليه .
فنهي والنهي يقتضي التحريم ، وأخبر أن الذي يفعل هذا تجرجر النار في بطنه ، أو أنه هو يجرجرها في بطنه ، وعلى كليهما لا يكون ذلك إلا بفعل محرم .
( تنبيه ) : ( الديباج ) كذا ، والله أعلم .
قال : وإن كان قدح عليه ضبة فضة فشرب من غير موضع الضبة فلا بأس .
ش : إباحة الضبة في الجملة إجماع حكاه أبو البركات .
3254 ويشهد له ما روى أنس رضي الله عنه أن قدح النبي انكسر ، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة . . . رواه البخاري ، ولفظه : انصدع .
وهذا يخصص حديث ابن عمر رضي الله عنه المتقدم في الآنية : ( أو إناء فيه شيء من ذلك ) إن صح ، إلا أن البيهقي أشار للاعتراض على حديث البخاري فقال : إنه يوهم أن يكون النبي اتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة قال : فصح بهذا السند أيضاً إلى أنس وفيه : فجعلت مكان الشعب سلسلة .
3255 وروى أيضاً عن عاصم الأحول قال : رأيت قدح النبي عند أنس رضي الله عنه وكان قد انصدع فسلسله بفضة ، قلت : وإنما يجيىء الوهم إذا ضبط الرواة ( جعلت ) مبنياً للفاعل ، أما إن لم يضبطوا ذلك فيحتمل البناء للمفعول ، وإذاً لا يتعين أن يكون الفاعل هو أنس رضي الله عنه بل يجوز أن يكون النبي هو الفاعل ، وهذا أولى ، لموافقته رواية البخاري ، ثم على البناء للفاعل ليس فيه أن ذلك كان بعد موت النبي ، فيجوز أن يكون في حياته بأمره ، ثم تارة أضاف الفعل إلى نفسه لأنه الفاعل حقيقة ، وتارة أضافه إلى النبي لأمره بذلك ، كما يقال : بنى الأمير المدينة ، ونحو ذلك .
وعاصم فيه كلام ، ثم قوله : فسلسله ليس فيه أن ذلك بعد موت النبي ، فيجوز أن يكون في حياته ، وأضاف الفعل إليه كما تقدم ، وبالجملة بالإجماع فيه كفاية ، على أنا نقول بحجية قول الصحابي ، وتخصيصه للعموم .
إذا تقرر هذا ، فظاهر كلام الخرقي اختصاص الجواز بضبة الفضة ، وهو المذهب المنصوص اتباعاً لقضية النص .
( وعن أبي بكر ) جواز اليسيرة من الذهب لحاجة .
وظاهر كلامه أيضاً أنه يشترط أن لا يباشر الضبة بالاستعمال ، ولا يشرب من موضعها ، وهو ظاهر كلام أحمد ، واختيار ابن عقيل ، وابن عبدوس ، إذ الأصل التحريم تبعاً للنص ، ثم أبيح ما تدعو الحاجة إليه ، فما عداه يبقى على الأصل ، وقيل : يكره ذلك من غير تحريم .
وبه قطع أبو الخطاب في الهداية ، وابن البنا ، وصاحب التلخيص ، و أبو محمد في الكافي والمغني ، ولابن تميم احتمال بالإباحة ، ويحتمله كلام القاضي في تعليقه ، وأبي البركات في محرره ، وطائفة لسكوتهم عن ذلك .
ومحل الخلاف إذا لم يحتج إلى المباشرة ، أما إن احتاج إلى ذلك كلحس الطعام والشراب إذا كانت في موضعه فيباح .
واختلف في شرطين آخرين ( أحدهما ) هل يشترط في الضبة أن تكون يسيرة ، وهو المذهب ، لأنها إذاً تابعة في حكم العدم ، أو لا يشترط ، بل تجوز الكبيرة للحاجة إناطة بها وهو اختيار ابن عقيل ؟ على قولين .
( الثاني ) هل يشترط أن تكون مع قلتها للحاجة ، وهو المنصوص ، قاله أبو البركات ، وقطع به أبو الخطاب في هدايته ، وابن البنا ، وصاحب التلخيص فيه ، قصراً للحكم على مورد الأثر ، أو لا يشترط ، وجزم به جماعة ، نظراً لاغتفار اليسير مطلقاً كما تقدم ؟ على قولين ، ثم على الثاني هل تكره والحال هذه ، وبه جزم القاضي في تعليقه ، ويحتمله كلام أحمد في رواية أحمد بن نصر ، وجعفر بن محمد ، قال : لا بأس بالضبة ، وأكره الحلقة ، أو تباح ، وبه قطع ابن عقيل ، والشيرازي ؟ على قولين أيضاً .
وكلام الخرقي محتمل في الشرطين ، لكن لا نعرف قائلاً بجواز الكبيرة لغير حاجة بل ملخص الشرطين أن الكبيرة لغير حاجة لا تباح ، واليسيرة لحاجة تباح ، وفي الكبيرة لحاجة واليسيرة لغير حاجة قولان .
( تنبيه ) : المراد بالحاجة هنا أن يحتاج إلى تلك الصورة ، سواء كانت من حديد أو فضة ، أو نحاس أو غير ذلك ، لا أن يحتاج إلى كونها من فضة ، بل هذه ضرورة يباح معها الذهب ولو مفرداً ، كما لو احتاج إلى اتخاذ أنف من ذهب ونحو ذلك ، والله أعلم .
قال : ولا يبلغ بالتعزير الحد .
ش : أصل التعزير في اللغة المنع ، فقوله تعالى ؛ 19 ( { وعزروه } ) أي منعوا أعداءه من الظفر به . وقول القائل : عزرت فلاناً ، إذا ضربته في معصية ، أي منعته بضربي إياه من معاودة مثل ذنبه .
وقال السعدي : عزرته ، أي أدبته ، وعزرته وقرته ، فهو من الأضداد ، وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ، كالوطء دون الفرج ، وسرقة ما لا قطع فيبه ، والجناية على الناس في أموالهم أو في أبدانهم بما لا قصاص فيه . . . ونحو ذلك .
3256 سئل علي رضي الله عنه عن قول الرجل للرجل : يا فاسق يا خبيث ، قال : هن فواحش فيهن تعزير ، وليس فيهن حد . ولا يشرع فيما فيه حد إلا على ما قاله أبو العباس في شارب الخمر ، وفيما إذا أتى حداً في الحرم ، فإن بعض الأضحاب قال : إن حده يغلظ ، وهو نظير تغليظ الدية بالقتل في ذلك .
وكذلك نص أحمد ، وقاله جماعة من الأصحاب فيمن شرب الخمر في رمضان : يغلظ حده ، وهل يشرع فيما فيه كفارة ، كالظهار ، وقتل شبه العمد ونحوهما ؟ فيه وجهان .
إذا تقرر هذا فلا تقدير لأقل التعزير ، بل هو على قدر ما يراه الإمام ، إلا في وطء جارية زوجته التي أحلتها له ، فإنه لا ينقص عن مائة ، بل ولا يزاد عليها للنص ، ويختلف باختلاف الأشخاص والأجرام ، ولا يتعين الضرب فيه ، بل يجوز بالحبس والإحراق إلا في وطء جارية زوجته .
قال في الكافي : والجارية المشتركة ، ولا يجوز بقطع الطرف والجرح ، وأخذ المال . قاله أبو محمد . وجوّز أبو العباس التعزير بقطع الخير ، والعزل عن الولايات .
3257 مستنداً لعزل عمر رضي الله عنه بعض نوابه لما بلغه عنه أنه تمثل بأبيات في العقار .
3258 وعنه أيضاً رضي الله عنه أنه عزر فيه بالنفي وحلق الرأس ، واختلف في أعلاه ، فروى جماعة عن أحمد أنه لا يزاد فيه على عشر جلدات .
3259 اعتماداً على حديث أبي بردة هانىء بن نيار رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول : ( لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط ، إلا في حد من حدود الله عز وجل ) ، وفي لفظ : ( لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله تعالى ) رواه البخاري ، وهذا عام في كل عقوبة ، خرج منه الاستثناء حدود الله تعالى . والمتيقن من ذلك الحدود المقدرة الطرفين ، فما عداها يبقى على العموم .
وحكى أبو الخطاب ( رواية أخرى ) أنه لا يزاد على تسع جلدات ، ولا يظهر لي وجهها ، ونقل جماعة عن أحمد في الرجل يطأ جارية بينه وبين شريكه : يجلد مائة إلا سوطاً .
3260 قال : كذا قال سعيد بن المسيب ، قال الراوي : وذهب إلى حديث عمر رضي الله عنه ونص أيضاً فيما إذا وطىء جارية زوجته وقد أحلتها له أنه يجلد مائة .
3261 لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه رفع إليه رجل غشي جارية زوجته ، فقال : لأقضين فيها بقضاء رسول الله إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة ، وإن كانت لم تحلها لك رجمتك . رواه الخمسة ، فاستثنى القاضي في الروايتين هاتين الصورتين .
وقال : المذهب عندي أنه لا يزاد على عشر جلدات إلا في هاتين الصورتين ، لقضية النص .
وقال : هو في خلافه ، وعامة أصحابه وغيرهم : إنه يؤخذ من هذا أن كل ما كان سببه الوطء كوطء الجارية المشتركة والمزوجة ، والمحرمة برضاع ، ووطء الأجنبية دون الفرج ، وإذا كان مع امرأة في لحاف ، ووطء الأب جارية ابنه ، ووطء البهيمة حيث قيل بالتعزير فيهما : يجوز أن يزاد فيه على عشر جلدات ، ما لم يبلغ به الحد في ذلك الجنس ، فيجوز أن يضرب الحر مائة ، ولا ينفي ، وبعضهم يقول مائة إلا سوطاً ، أو مائة بلا نفي .
وبعض الأصحاب اعتمد نص أحمد كما تقدم ، ففي المشتركة مائة إلا سوطاً ، وفي أمة الزوجة مائة ، ونص أيضاً فيما إذا وطىء دون الفرج أنه يضرب مائة .
3262 وقد نقل عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف يضربان مائة ، وفرع أبو البركات على هذا في أن العبد يضرب خمسين إلا سوطاً ، قال ابن حمدان : وقيل خمسون ، ومن قال بهذا وهم الأكثرون قالوا : إن في ما عدا الوطء يجوز أن يزاد فيه على عشر جلدات ، ولا يبلغ به أدنى الحدود .
3263 أخذاً بما روى صالح قال : حدثني أبي ، ثنا وكيع ، ثنا سفيان ، عن عطاء بن أبي مروان أن علياً رضي الله عنه ضرب النجاشي ثمانين ، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين ، وقال : هذا لتجريك على الله ، وإفطارك في رمضان . قال أبي : أذهب إليه ، وظاهر كلام الخرقي أن جميع التعزيرات يجوز أن يزاد فيها على العشر ، ولا يبلغ به أدنى الحدود ، كذا فهم عنه القاضي وغيره .
ثم أكثر الأصحاب يقولون : لا يبلغ بالحر أدنى حده وهو الأربعون أو الثمانون ، ولا بالعبد أدنى حده ، وهو عشرون أو أربعون . وقيل : لا يبلغ بكليهما حد العبد .
وقال أبو محمد : إن كلام أحمد في وطء الأمة المشتركة ونحوها ، وكلام الخرقي يحتمل أن لا يبلغ بالتعزير في الذنب حد جنسه ، ويجوز أن يزيد على حد جنس آخر ، وإلى هذا ميل أبي العباس ، وهو أقعد من جهة الدليل .
3264 لما روي عن عمر رضي الله عنه أن رجلاً نقش على خاتمه ، وأخذ من بيت المال ، فضربه مائة ، ثم ضربه في اليوم الثاني ، مائة ، ثم ضربه في اليوم الثالث مائة ، وهذا كله دون حد جنسه وهو القطع ، وحديث النعمان لم يبلغ بع الحد في جنسه ، لأن حد واطىء جارية امرأته الرجم لإحصانه . وكذلك قصة عمر والخلفاء رضي الله عنهم في الأمة المشتركة ، وفيمن وجد مع امرأة في لحاف ، ويحمل حديث أبي بردة رضي الله عنه على أن أحداً لا يؤدب فوق عشرة أسواط ، والتأديبات تكون في غير محرم ، وقوله : ( إلا في حد من حدود الله تعالى ) فالمراد به في المحرمات التي حرمها الله سبحانه ، كما في قوله : 19 ( { تلك حدود الله فلا تقربوها } ) ، وذلك يشمل الحدود المقدرة وغيرها ، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور .
قال : وإذا حمل عليه جمل صائل ، فلم يقدر على الامتناع منه إلا بضربه ، فضربه فقتله فلا ضمان عليه .
ش : إذا صالت عليه بهيمة فلم يقدر على التخلص منها إلا بضربها ، فله ذلك إجماعاً ، ولا ضمان عليه ، لأنه حيوان جاز إتلافه ، فلم يضمنه كالآدمي المكلف ، ولأنه قتله لدفع شره ، فأشبه العبد ، وفارق المضطر إلى طعام الغير ، حيث يضمنه فإن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه ، ولم يصدر منه ما يزيل عصمته .
قال : ولو دخل رجل منزله بسلاح ، فأمره بالخروج فلم يفعل ، فله ضربه بأسهل ما يخرجه به ، فإن علم أنه يخرج بضرب عصا لم يجز أن يضربه بحديدة .
ش : إذا دخل رجل منزل غيره بغير إذنه فلصاحب المنزل أمره بالخروج ، لتعديه بالدخول ، قال الله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم ، حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } ) الآية .
3265 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله فقال : يا رسول الله أرأيت أن عدي على مالي ، قال : ( فأنشده بالله ) قال : فإن أبوا عليّ ؟ قال : ( فقاتل ، فإن قتلت ففي الجنة ، وإن قتلت ففي النار ) رواه النسائي . فإن خرج بالأمر لم يكن له ضربه لظاهر الحديث ، ولزوال تعديه وإن لم يخرج بالأمر فله ضربه ، دفعاً للضرر الحاصل له بتسليط الغير عليه . وللحديث ، ويضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به ، لأن الزائد لا حاجة به إليه ، إذ المقصود الدفع ، ولهذا قلنا في البغاة لا يتبع مدبرهم ، ولا يجاز على جريحهم ، وقد أشار في الحديث إلى هذا حيث أمر بالإنشاد أولاً ، ويتفرع على هذا أنه إذا علم أنه يندفع بعصا لم يجز أن يضربه بحديدة ، وكذلك لو غلب على ظنه أنه يندفع بقطع بعض أعضائه لم يكن له قتله ، فلو قتله والحال هذه ضمنه ، وكذلك لو ضربه فقطع يده فولى ، لم يكن له ضربه ثانياً ، فإن فعل فقطع رجله ضمنها فقط ، وعلى هذا .
3266 وقد يستشكل هذا بالحديث الصحيح : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) . والأمر باللسان أسهل على المنكر عليه من التغيير باليد بكسر أو إتلاف ونحو ذلك .
3267 وقد روي أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى لصاً فأصلت عليه السيف ، قال : فلو تركناه لقتله . وحمل أبو محمد فعل ابن عمر على قصد الترهيب ، وقد يحمل على أنه خشي إن لم يبادره بذلك بادره اللص بالقتل . وفي هذه الصورة يجوز بدأته بالقتل .
( تنبيه ) الخرقي ذكر الحكم فيما إذا كان مع الداخل سلاح ، وأبو محمد قال في المغني : وإن لم يكن معه سلاح ، ولعل كلام الخرقي أصوب إذ المسألة مفروضة عند كثير من الأصحاب فيمن دخل متلصصاً أو صائلاً ، والغالب من حال هذين أن معهما سلاحاً ، أما إن دخل إنسان على غير هاتين الحالتين ، فظاهر كلام الأصحاب أنه لا يجرى عليه هذا الحكم . نعم يؤمر بالخروج قطعاً ، فإن لم يخرج فينبغي أن يخرج بالشرط ونحو ذلك .
قال : فإن آل الضرب إلى نفسه فلا شيء عليه .
ش : يعني إذا آل الضرب إلى نفس الداخل فلا شيء على الضارب ، لأنه تلف لدفع شره فلم يضمنه كالباغي .
3268 وقد روي أن رجلاً أضاف إنساناً من هذيل ، فأراد امرأة على نفسها ، فرمته بحجر ، فقتلته فقال عمر رضي الله عنه : والله لا يودى أبداً .
3269 وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق في رواية مسلم قال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : ( فلا تعطه مالك ) قال : أرأيت ءن قاتلني ؟ قال : ( قاتله ) قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : ( فأنت شهيد ) قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال : ( هو في النار ) .
قال : وإن قتل صاحب الدار كان شهيداً .
ش : لأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيداً كالعادل يقتله الباغي ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه .
3270 وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي . . .
3271 وقد روي من حديث بريدة رواه النسائي ، ومن حديث سعيد بن زيد رواه الترمذي ، وأبو داود والنسائي ، ولفظه : سمعت رسول الله يقول : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) .
قال : وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها ، وما أفسدت من ذلك نهاراً لم يضمنوه .
ش : كذا قال جماعة من الأصحاب ، منهم القاضي في الجامع الصغير ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا ، وابن عقيل في التذكرة ، وغيرهم .
3272 لما روى حرام بن محيصة رضي الله عنهما أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه ، فقضى نبيّ الله أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه . قال ابن عبد البر : هذا وإن كان مرسلاً فهو مشهور ، حدث به الأئمة الثقات ، وتلقاه فقهاء بالحجاز بالقبول . ولأن عادة أهل المواشي إرسالها نهاراً ، وحفظها ليلاً ، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً لا ليلاً ، فإذا أتلفت ليلاً فالتفريط من أهلها لتركهم حفظها ، وإن أتلفت نهاراً فالتفريط من أرباب الحوائط ، لعدم حفظها ، ومن التفريط منه الغرم عليه .
وحكى أبو البركات رواية ، وأوردها مذهباً ، وقطع بها أبو الحسين في فروعه ، أن الضمان إنما يجب على أرباب البهائم في الليل إذا لم يحفظوها عن الخروج فيه ، لتفريطهم إذاً ، بخلاف ما إذا حفظوها فأفسدت ، كما إذا انفلتت من الربط ، أو سقط الحائط أو فتح اللص الباب ونحو ذلك ، فخرجت فأفسدت فلا ضمان ، لانتفاء التفريط ولعموم ( العجماء جبار ) نعم في صورة ما إذا فتح الباب لص ونحوه الضمان على الفاتح ، قاله في الكافي ، واستثنى أبو البركات من عدم الضمان في النهار ما إذا أرسلت عمداً بقرب ما تفسده عادة ، لقصد التعدي والحال هذه ، ونحو هذا قول القاضي في موضع قال : المسألة عندي محمولة على موضع فيه مزارع ومراعي ، أما القرى العامرة التي لا يرعى فيها إلا بين قراحين كساقية وطريق ، وطرق زرع ، فليس لصاحبها إرسالها بغير حافظ عن الزرع ، فإن فعل فعليه الضمان لتفريطه .
والخرقي رحمه الله نص على الزرع ، فقد يوهم كلامه أن غير الزرع لا ضمان فيه على أربابها مطلقاً ، وصرح بذلك أبو محمد .
3273 مستنداً لقول النبي : ( العجماء جبار ) ، ولم يفرق القاضي في الجامع ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وأبو البركات وغيرهم بين الزرع ، وغيره ، ويرشحه حديث ناقة البراء رضي الله عنه ، فإن الحوائط البساتين .
( تنبيه ) : ( العجماء ) الدابة ، ( والجبار ) الهدر الذي لا شيء فيه .
قال : وما جنت الدابة بيدها ضمن راكبها ما أصابت من نفس أو جرح أو مال ، وكذلك إن قادها أو ساقها .
ش : لإمكان حفظها والحال هذه عن الجناية ، فإذا لم يحفظها الراكب أو السائق أو القائد فقط فرط ، والمفرط عليه الضمان .
3274 وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( الرجل جبار ) رواه أبو داود ، فمفهومه أن غير الرجل ليس بجبار ، فيحمل على ما إذا كان معها راكب أو سائق أو قائد ، وتحمل روايته في الصحيحين : ( العجماء جرحها جبار ) ، على ما إذا لم يكن معها أحد ، وحكم ما أتلفته بفمها حكم ما أتلفته بيدها ، وكلام الخرقي يشمل الليل والنهار وهو كذلك ، وعلم من ذلك أن المسألة السابقة فيما إذا لم تكن في يد أحد .
قال : وما جنت برجلها فلا ضمان عليه .
ش : يعني راكبها ، وهذا إحدى الروايتين ، وبه قطع الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل في التذكرة ، لعموم الحديث السابق .
3275 وفي رواية ذكرها رزين أن رسول الله قضى في الدابة تنفح برجلها أنه جبار . ( والثانية ) عليه الضمان في الحال التي يضمن فيها اليد أو الفم ، قياساً للرجل عليهما ، وفصل أبو البركات فجعل وطأها يضمنه من معها من راكب أو سائق أو قائد ، لإمكان حفظها إذاً بخلاف نفحها ابتداء ، فإنه لا يضمنه ، لعدم إمكان حفظها ، ونحو ذلك ، قاله ابن البنا قال : إن نفحت برجلها وهو يسير عليها فلا ضمان ، وإن كان سائقاً لها ضمن ما جنت برجلها . واتفق الشيخان على أنه يضمن نفحها لكبحها باللجام ونحوه ، قال أبو البركات : ولو أنه لمصلحته ، لأنه السبب في جنايتها ، ومن ثم قيل : إذا كان السبب من غيره كأن نخسها ونحو ذلك ، فالضمان على ذلك الغير .
( تنبيه ) : لو أوقفها في طريق فإنه يضمن جنايتها بيدها أو رجلها ، وإن لم يكن معها ، قاله ابن عقيل وابن البنا ، إن كان الطريق ضيقاً ، وإن كان واسعاً فروايتان ، حكاهما ابن البنا .
3276 ومنشأهما حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين ، أو في سوق من أسواقهم ، فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن ) رواه الدارقطني ، فهل يؤخذ بعمومه مطلقاً ، أو يحمل على ما إذا وقفها في طريق ضيق ، أو حيث يضر بالمارة ، لتعدّيه إذاً بخلاف الطريق الواسع .
قال : وإذا تصادم الفارسان فماتت الدابتامن ضمن كل واحد منهما قيمة الآخر .
ش : لأن كلاً منهما ماتت دابة الآخر بصدمته ، فكان عليه ضمانها كما لو أتلفها من غير صدم ، وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها .
قال : قال : وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفاً فتلفت الدابتان ، فعلى السائر قيمة دابة الواقف .
ش : هذا الذي أورده أبو البركات مذهباً ، ونص عليه أحمد ، قاله أبو محمد ، لأن السائر والحال هذه هو الصادم المتلف ، فوجب عليه الضمان ، واختار أبو محمد أنه إن كان الواقف في طريق ضيق فلا ضمان على السائر ، لتعدي الواقف إذاً بخلاف السائر ، ويشهد لهذا الحديث النعمان وقد تقدم .
ومقتضى كلام الخرقي أن الواقف لا يضمن السائر مطلقاً ، وهو منصوص أحمد ، لأنه هو المتلف لنفسه أو ماله بصدمته ، وقيل يضمنه مطلقاً ، لأنه لولاه ما تلف . وقيل : يضمنه مع ضيق الطريق ، لتعديه بالوقوف إذاً دون سعته ، لعدم تعديه ، وهو مختار أبي محمد ، ومقتضى حديث النعمان رضي الله عنه .
قال : وإذا تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر ، وفي مال كل واحد منهما عتق رقبة .
ش : لأن كل واحد منهما مات من صدمة الآخر ، ووجوب الدية على عاقلتيهما ، لأن ذلك إما خطأ أو شبه عمد ، لأنهما وإن تعمدا ذلك فالصدمة لا تقتل غالباً ، ولا فرق بين البصيرين والأعميين ، والبصير والأعمى والله أعلم .
قال : وإذا وقعت السفينة المنحدرة على الصاعدة ، فغرقتا فعلى المنحدرة قيمة السفينة الصاعدة ، أو أرش ما نقصت إذا أخرجت ، إلا أن تكون المنحدرة غلبتها الريح فلم يقدر على ضبطها .
ش : أما كون السفينة المنحدرة إذا وقعت على المصعدة على قيم المنحدرة قيمة السفينة المصعدة إن غرقت ، أو أرش ما نقصت إن خرجت من الغرق ، لأن المنحدرة تنزل عليها من علوّ فتكون بمنزلة السائر ، والمصعدة بمنزلة الواقف ، وأما كونه يستثنى من ذلك إذا غلب المنحدرة ريح فلم يقدر على ضبطها ، لأنه والحال هذه لا ينسب للقيم تفريط ألبتة ، بخلاف ما تقدم .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لو غرقت المنحدرة أنه لا شيء على قيم المصعدة ، وهو كذلك كالسائر مع الواقف ، نعم يستثنى من ذلك إذا كان قيم المصعدة مفرطاً بأن كان يمكنه العدول بسفينته ، والمنحدرة غير قادر ولا مفرط ، فإن الضمان على المصعد ، إناطة بالتفريط . . . ولهذه المسألة التفات إلى مسألة السائر مع الواقف ، والله أعلم .
كتاب الجهاد


ش : لا ريب في مشروعية الجهاد والحث عليه .
3277 وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي قال ) ( لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ) متفق عليه .
3278 وعن أبي عبس الحارثي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمه الله على النار ) رواه البخاري والترمذي والنسائي .
3279 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنّة ) رواه أحمد والترمذي .
3280 وعن ابن أبي أوفى رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إن الجنة تحت ظلال السيوف ) رواه أحمد والبخاري . . .
3281 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل للنبي : ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ( لا تستطيعونه ) قال : فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك يقول : ( لا تستطيعونه ) قال في الثالثة : ( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم بآيات الله ، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ) رواه مسلم .
3282 وللبخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة ) مختصر . والأحاديث في فضله كثيرة جداً ، وكيف لا وبه قيام الدين .
قال : والجهاد فرض على الكفاية .
ش : هذا قول عامة أهل العلم ، لقول الله تعالى : 19 ( { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون } ) إلى : 19 ( { وكلا وعد الله الحسنى } ) الآية . وهذا يدل على أن القاعد بلا ضرر غير آثم مع جهاد غيره .
3283 وفي الصحيحين عن البراء رضي الله عنه قال : لما نزلت 19 ( { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله تعالى } ) قال النبي : ( ادعوا فلاناً ) فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف ، فقال : اكتب 19 ( { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } ) وخلف النبي ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله أنا ضرير ، فنزلت مكانها : 19 ( { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون } ) الآية ، وقوله تعالى : 19 ( { وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } ) الآية .
3284 قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : 19 ( { إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً } ) ، و 19 ( { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } ) قال : نسختها 19 ( { وما كان المئمنون لينفروا كافة } ) . . . رواه أبو داود . ولأن النبي كان يبعث السرايا ويقيم هو وسائر أصحابه . وعلى هذا تحمل الأوامر المطلقة ؛ كقوله تعالى : 19 ( { كتب عليكم القتال } ) ، وقوله : 19 ( { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } ) وقوله تعالى : 19 ( { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } ) وقوله : 19 ( { انفروا خفافاً وثقالاً } ) ونحو ذلك .
3285 وقول النبي : ( الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً ) رواه أبو داود .
3286 وقوله : ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) رواه أبو داود والنسائي .
3287 وقوله عليه السلام : ( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) رواه مسلم وغيره . وابن المبارك يقول في هذا الحديث : نرى أن ذلك كان على عهد رسول الله .
( تنبيه ) : يتعين الجهاد في ثلاثة مواضع ( أحدها ) إذا التقى الزحفان ، وتقابل الصفان ، لقوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } ) ، وقوله تعالى ؛ 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } ) إلى قوله : 19 ( { فقد باء بغضب من الله } ) . ( الثاني ) إذا استنفره الإمام ، لقوله سبحانه : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض } ) إلى قوله : 19 ( { إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً } ) .
3288 وفي الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله قال : ( لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا ) . ( الثالث ) إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ، والنفير إليهم ، لأنهم في معنى حاضري الصف فتعين عليهم كما يتعين عليه لعموم : 19 ( { انفروا خفافاً ثقالاً } ) الآية . . . ولم يذكر أبو محمد في الكافي والمقنع تعينه إلا في موضعين ، إذا حضر الصف ، وإذا حضر العدو بلدة ، وكلام ابن المنجا يقتضي أن ( حصر ) بالصاد المهملة ، لأنه قال : ولأن البلد إذا حصر قرب شبه من فيه بمن حضر الصف ، وإنما هو بالمعجمة ، فإن عبارته في الكافي والمغني كما تقدم .
قال : وإذا قام به قوم سقط عن الباقين .
ش : هذا تفسير لفرض الكفاية ، وهو يشترك وفرض العين أن الجميع مخاطبون به على الصحيح ، وأن الكل إذا تركوه أثموا وقوتلوا عليه ، كما في فرض العين سواء ، ويخالفه في أنه إذا قام البعض به سقط عن الباقين ، بخلاف فرض العين كالصلاة ونحوها ، فإنه لا يسقط عن البعض بفعل البعض ، قال أحمد في رواية حنبل : الغزو واجب على الناس كلهم ، فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم ، والفرض في ذلك موقوف على غلبة الظن ، فإذا غلب الظن أن الغير يقوم بذلك سقط عن الباقين ، كما إذا كان ثم جند لهم ديوان لذلك ، وفيهم كفاية ، أو قوم أعدوا أنفسهم لذلك وفيهم منعة للقاء العدو ، ونحو ذلك . وإن غلب على الظن أن لا قائم به وجب على كل أحد القيام به .
( تنبيه ) : إذا قام بفرض الكفاية طائفة ، ثم قام به أخرى ، فهل يقع فعل الثانية فرضاً ؟ فيه وجهان ، وكلام ابن عقيل يقتضي أن فرضيته محل وفاق ، وكلام أحمد رضي الله عنه محتمل .
قال : قال أبو عبد الله رحمه الله : لا أعلم شيئاً من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد .
ش : روى ذلك عن أحمد جماعة ، قال الأثرم : قال أحمد : لا نعلم شيئاً من أبواب البر أفضل من السبيل . وقال في رواية الفضل بن زياد : ما من أعمال البر أفضل منه ، وذلك لما تقدم في فضله ، وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقيل للنبي : ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ( لا تستطيعونه ) .
3289 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : مرّ رجل من أصحاب النبي بشعب فيه عيينة من ماء عذبة ، فأعجبته لطيبها ، فقال : لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله فذكر ذلك لرسول الله ، فقال : ( لا تفعل ، فإن مقام أحدكم يوماً في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة ، اغزوا في سبيل الله ، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ) .
3290 وعن المقدام بن معديكرب قال : قال رسول الله : ( للشهيد عند الله ست خصال ، يغفر الله له في أول دفعة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقاربه ) رواهما الترمذي ، وقال في الثاني : حسن صحيح غريب .
3291 وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي فقال : أي الناس أفضل ؟ قال : ( رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه ) قال : ثم من ؟ قال : ( ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب ، يعبد ربه ويدع الناس من شره ) .
3292 وفيهما أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( إيمان بالله ورسوله ) قيل : ثم ماذا ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله ) قيل : ثم ماذا ؟ قال : ( الحج المبرور ) .
3293 وفيهما أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سألت رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) قلت : ثم أي ؟ قال : ( بر الوالدين ) قلت : ثم أي ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله ) قال : حدثني بهن رسول الله ولو استزدته لزداني .
3294 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( ألا أخبركم بخير الناس ؛ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ) . . . رواه الترمذي وحسّنه .
3295 وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : كنت عند منبر رسول الله فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام . وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم . فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه . فأنزل الله تعالى : 19 ( { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد كمن آمن بالله } ) إلى آخرها . رواه مسلم . ولأن فيه إعلاء كلمة الله سبحانه ، وبذل المهجة ، ونفعه يعم جميع المسلمين .
قال : وغزو البحر أفضل من غزو البر .
3296 ش : روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله أنه كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله فأطعمته ، ثم جلست تفلي رأسه ، فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك ، قالت : فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ( أناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ، ملوكاً على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة ) مختصر رواه مسلم .
3297 وعن أم حرام رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد ، والغريق له أجر شهيدين ) رواه أبو داود .
3298 وفي حديث رواه ابن ماجه : ( شهيد البحر مثل شهيد البر ، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر ، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله ، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح ، إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم ، يغفر لشهداء البر الذنوب كلها إلا الدين ، ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين ) .
وقد دل كلام الخرقي على مشروعية الغزو في البحر ، وقد دل عليه ما تقدم ، والله أعلم .
قال : ويغزى مع كل بر وفاجر .
3299 ش : روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( الجهاد واجب عليكم مع كل أمير ، براً كان أو فاجراً ) مختصر .
3300 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( ثلاث من أصل الإيمان ، الكف عمن قال لا إله إلا الله ، لا نكفره بذنب ، ولا نخرجه من الإسلام بعمل ، والجهاد ماض منذ بعثني الله ، إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ، لا يبطله جور جائر ، ولا عدل عادل ، والإيمان بالأقدار ) رواهما أبو داود .
( تنبيه ) : قال أحمد : لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين ، وإنما يغزو مع من له شفقة على المسلمين . فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه ، إنما ذلك على نفسه .
3301 ويروى عن النبي : ( إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ) .
قال : ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو .
ش : نص أحمد على ذلك ، مستدلاً بقوله تعالى : 19 ( { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } ) الآية ، وهذا إذا لم يكن ثم عذر ، فإن كان ثم عذر بكون الأبعد أخوف ، أو الأقرب مصالحاً ، ونحو ذلك ، فلا بأس بتقديم الأبعد .
قال : وتمام الرباط أربعون يوماً .
3302 ش : ويروى هذا عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم .
3303 وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب عن النبي أنه قال : ( تمام الرباط أربعون يوماً ) أما أقل الرباط فقال أحمد : يوم رباط ، وليلة رباط ، وساعة رباط .
3304 وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ) رواه أحمد والنسائي والترمذي .
3305 ولأحمد عنه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها ) .
3306 وفي مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان ) .
قال : وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما .
3307 ش : الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى رسول الله فاستأذنه في الجهاد ؟ قال : ( أحيّ والداك ) ؟ قال : نعم ، قال : ( ففيهما فجاهد ) رواه الجاعة .
3308 وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله فقال له : ( هل لك أحد باليمن ) ؟ قال : أبواي . قال : ( أذنا لك ) قال : لا . قال : ( فارجع إليهما فاستأذنهما ، فإن أذنا لك فجاهد ، وإلا فبرّهما ) رواه أبو داود .
9 3 وعن معاوية بن جاهمة أن جاهمة رضي الله عنه جاء إلى النبي فقال : يا رسول الله أردت الغزو ، وقد جئت أستشيرك ، فقال : ( هل لك من أم ) ؟ قال : نعم . قال : ( فالزمها ، فإن الجنة عند رجليها ) رواه النسائي . وهذا نص في المنع منه بدون إذنهما وجوازه بإذنهما .
وقول الخرقي : مسلمين . وكذلك إذا كان أحدهما مسلماً ، إذ يجب بر الواحد منهما كما يجب برهما . وحديث جاهمة في أحدهما ، وعموم كلام الخرقي يشمل وإن كانا رقيقين ، ويؤيد ذلك عدم الاستفصال من رسول الله ، وقيل : لا يعتبر إذنهما إذا كانا رقيقين ، وبه قطع أبو البركات ، لعدم ولايتهما ، أشبها المجنونين ، ويخرج به ما إذا كانا كافرين ، وهو كذلك ، لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وغيره كانوا يجاهدون بدون إذن آبائهم ، وقوله : تطوعاً . المراد به إذا لم يتعين عليه الجهاد ، وسماه تطوعاً لأن فرض الكفاية له شبه بالتطوع ، لسقوطه عن البعض بفعل البعض . ويخرج منه ما إذا تعين عليه ، وقد صرح به حيث قال : وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لهما .
قال : وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لأبويه .
ش : أي إذا خوطب به على التعيين ، لأنه والحال هذه تركه معصية ، ولا طاعة لأحد في معصية الله ، وقد قال سبحانه وتعالى في حقهما : 19 ( { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } ) .
3310 نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : كانت أمي حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمداً عليه السلام فأنزل الله تعالى : 19 ( { وإن جاهداك على أن تشرك بي } ) الآية .
قال : وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركها .
ش : كالحج ، والصلاة في الجماعة ، وطلب العلم الواجب ، ونحو ذلك ، لمساواتها للحج معنى ، فتساويا حكماً وقد نص أحمد رحمه الله على الحج والصلاة في الجماعة ، معللاً بالفرضية .
3311 وما أحسن ما قال الحسن رضي الله عنه وسئل عن البر والعقوق ، قال : البر أن تبذل لهما ما ملكت ، وتطيعهما فيما أمراك به ، ما لم يأمراك بمعصية الله ، والعقوق أن تهرجهما وتحرمهما .
قال : ويقاتل أهل الكتاب والمجوس ، ولا يدعون ، لأن الدعوة قد بلغتهم .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وعلّته ، وهو أن الدعوة قد بلغتهم ، فلا حاجة إليها ثانياً .
3312 وفي الصحيحين عن ابن عون قال : كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال ، فكتب إلي : إنما كان ذلك في أول الإسلام ، وقد أغار رسول الله على بني المصطلق وهم غارون ، وأنعامهم تسقى على الماء ، فقتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم ، وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث ، حدثني به عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وكان في ذلك الجيش .
قال : وتدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا .
3313 ش : لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما قاتل رسول الله قوماً قط إلا دعاهم . رواه أحمد .
3314 ولمسلم وغيره من حديث بريدة قال : ( إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو ثلاث خلال ، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ) وذكر الحديث إلى آخره .
3315 وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله كتب إلى كسرى وقيصر ، وإلى النجاشي ، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى . رواه مسلم وليس هذا بالنجاشي الذي صلى عليه النبي ، وهذا من الخرقي رحمه الله خرج على الغالب ، إذ لو كان في عبدة الأوثان من بلغته الدعوة لجاز قتالهم من غير دعوة ، ولو كان في أهل الكتاب ونحوهم من لم تبلغه الدعوة لدعوا قبل القتال ، فالحكم منوط بالبلوغ وعدمه . قال أحمد : الدعوة قد بلغت وانتشرت ، ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة ، لم يجز قتالهم قبل الدعوة ، وعن أحمد ما يدل على أن اليوم لا يجب أن يدعى أحد ، وأن الدعاء كان في ابتداء الإسلام . قال : كان النبي يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب ، حتى أظهر الله الدين وعلا الإسلام . ولا أعرف اليوم أحداً يدعى ، قد بلغت الدعوة كل أحد ، والروم قد بلغتهم الدعوة ، وعلموا ما يراد منهم ، وإنما كانت الدعوة في أول الإسلام ، وإن دعا فلا بأس . وعلى هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما وإذاً تكون الدعوة مستحبة مطلقاً .
3316 وقد روى سهيل بن سعد أنه سمع النبي يوم خيبر قال : ( أين علي ) ؟ فقيل : إنه يشتكي عينيه فأمر فدعي له فبصق في عينيه فبرئ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء ، فقال : نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ، فقال : ( على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) متفق عليه ، وأهل خيبر كانت الدعوة قد بلغتهم .
قال : ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
ش : أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، ومن اتخذ التوراة والإنجيل كتاباً ، كالسامرة والأفرنج ونحوهم ، والمجوس عباد الشمس والقمر ، فهؤلاء يقاتلون على أحد شيئين الإسلام أو الجزية . . . وهذا والله أعلم اتفاق ، وقد شهد له ( أما في أهل الكتاب ) ومن دان بدينهم ، فقوله سبحانه وتعالى : 19 ( { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ) .
3317 وعن ابن شهاب قال : أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران وكانوا نصارى . رواه أبو عبيد في الأموال .
3318 ( وأما في المجوس ) فلما روى بجالة بن عبدة قال : كنت كاتباً لجزء بن معاوية ، عم الأحنف بن قيس ، فأتى كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل موته بسنة : فرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس ، ولم يكن عمر رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله أخذها من مجوس هجر . رواه البخاري وغيره .
3319 وعن جعفر بن محمد عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله يقول : ( سنّوا بهم سنة أهل الكتاب ) رواه مالك في موطئه والشافعي في مسنده .
3320 وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال لعامل كسرى : أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده ، أو تؤدوا الجزية ، رواه أحمد والبخاري .
ومقتضى كلام الخرقي أن المجوس ليسوا أهل كتاب ، لعطفهم على أهل الكتاب ، والعطف يقتضي المغايرة ، وهو كذلك ، ويدل عليه قوله : ( سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب ) فدل على أنهم غيرهم .
وقال الله سبحانه : 19 ( { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } ) فدل على أن الكتاب إنما أنزل على طائفتين فقط ، وهم اليهود والنصارى ، ومما يرشح ذلك توقف عمر رضي الله عنه في أخذ الجزية منهم ، ولو كان لهم كتاب لما توقف ، لدخولهم في الذين أوتوا الكتاب ، المأمور بأخذ الجزية منهم .
3321 وما يروى عن علي رضي الله عنه أن لهم كتاباً ، فقال أبو عبيد : لا أحسبه محفوظاً ، ثم عموم كلام الخرقي يشمل أهل الكتاب والمجوس من العرب وغيرهم ، وهو كذلك لما تقدم أن النبي أخذ الجزية من أهل نجران وهم من العرب .
3322 وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى أكيدر دومة ، فأخذوه فأتوا به ، فحقن له دمه ، وصالحه على الجزية . رواه أبو داود ، وهو عربي من غسان .
3323 ولا يغرنك ما روى أبو داود في المراسيل عن الحسن ، قال : أمر النبي أن يقاتل العرب على الإسلام ، ولا يقبل منهم غيره ، وأمر أن يقاتل أهل الكتاب على الإسلام ، فإن أبوا فالجزية ؛ إذ مراسيل الحسن عند أهل العلم بالحديث من أضعفها ، وقول الخرقي : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . تبع فيه لفظ الآية . قال أبو الخطاب : يمتهنون عند أخذها ، ويطال قيامهم ، وتجر أيديهم .
قال : ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، لعموم 19 ( { اقتلوا المشركين } ) ونحو ذلك . وقول النبي : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) الحديث ، خرج من ذلك أهل الكتاب والمجوس بالآية الكريمة وبالحديث ، فيبقى فيما عداه على العموم ، ثم في قول النبي : ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) دليل على أن أهل الكتاب هم المختصون ببذل الجزية وإلا فليس للتخصيص فائدة .
ومما يرشح ذلك أيضاً توقف عمر رضي الله عنه فيهم حتى أخبره عبد الرحمن بما أخبره ، ولو جاز أخذ الجزية من كل كافر لم يكن لتوقفه معنى .
( وعن أحمد ) رواية أخرى : يقبل من جميع الكفار ، إلا عبدة الأوثان من العرب ، لأنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق ، فأقروا بالجزية كالمجوس .
وقد دخل في كلام الخرقي أهل الصحف ، كصحف إبراهيم وشيث ونحو ذلك ، وهو المذهب بلا ريب ، لعدم دخولهم في الكتاب إذا أطلق ، ولهذا قال سبحانه : 19 ( { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } ) الآية ، ولأنها مواعظ ، لا أحكام فيها ، وقيل : يقر أهلها بالجزية ، لأنه يصدق أنه نزل لهم كتاب .
قال : وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا .
ش : هذا أحد الصور الثلاث التي يتعين الجهاد فيها ، وهو ما إذا نزل العدو بالبلد ، وقد تقدم ذلك ، والدليل عليه ، ونزيد هنا بأنه لا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إليه لحفظ البلد ، ومن يمنعه الأمير من الخروج ، أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال ، ونحو ذلك .
قال : المقل منهم والمكثر .
ش : يعني أن العدو إذا نزل بالبلد وجب على كل أحد الخروج إليه ، سواء كان غنياً يقدر على الزاد ، أو فقيراً لا يقدر على ذلك ، إذ العدو نازل على البلد ، فلا حاجة إلى ذلك ، فإن كان قريباً من البلد دون مسافة القصر اشترط الزاد ، ولم تشترط الراحلة .
قال : ولا يخرجون إلى العدو إلا بإذن الأمير ، إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه ، فلا يمكنهم أن يستأذنوه .
ش : لا يجوز الخروج إلى العدو إلا بإذن الأمير ، إذ أمر الحرب موكول إليه ، وهو أعلم بكثرة العدو وقلته ومكامنه ، فاتبع رأيه في ذلك ، إلا أن يتعذر استئذانه ، كطلوع عدو غالب عليهم بغتة ، ويخافون شره إن استأذنوه فإن أذنه إذاً يسقط ، ارتكاباً لأدنى المفسدتين لدفع أعلاهما .
3324 وقد أغار الكفار على لقاح النبي فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجاً من المدينة ، فتبعهم فقاتلهم من غير إذن ، فمدحه النبي وقال : ( خير رجالنا سلمة بن الأكوع ) وأعطاه سهم فارس وراجل .
( تنبيه ) لا يكون الإذن العام كالنفير مثلاً إذناً لمن منعه الإمام قبل ذلك . وقال : لا تصحبني ، نص عليه أحمد .
قال : ولا يدخل مع المسلمين من النساء إلى أرض العدو إلا امرأة طاعنة في السن ، لسقي الماء ومعالجة الجرحى ، كما فعل النبي .
ش : لا تدخل النساء مع المسلمين أرض العدو ، حذاراً من ظفر العدو بهن ، واستحلال ما حرم الله منهن مع أنهن لسن من أهل القتال ، إذ الغالب عليهن الجبن والخور .
3325 وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : استأذنت النبي في الجهاد ، فقال : ( جهادكن الحج ) ويجوز دخول المرأة الكبيرة لسقي الماء ، ومعالجة الجرحى .
3326 لما روي عن أم عطية الأنصارية قالت : غزوت مع رسول الله سبع غزوات ، أخلفهم في رحالهم ، وأصنع لهم الطعام ، وأداوي الجرحى ، وأقوم على المرضى .
3327 وعن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار ، يسقين الماء ، ويداوين الجرحى . رواه أحمد ومسلم .
وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم ، وهو ظاهر كلام أبي البركات ، قال : يلزم الإمام أن يمنع المخذل والمرجف والنساء . وجعله في المغني مكروهاً ، وجوز للأمير خاصة أن يدخل بالمرأة الواحدة إذا احتاج إليها ، كما كان النبي يقرع بين نسائه فتخرج معه من تقع عليها القرعة .
قال : وإذا غزا الأمير بالناس لم يجز لاْحد أن يتعلف ولا يحتطب ، ولا يبارز علجاً ، ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثاً إلا بإذنه .
ش : لأن الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو ، ومكامنهم وقوتهم ، فإذا خرج إنسان أو بارز بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كميناً للعدو فيأخذوه ، أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك ، أو يكون ضعيفاً لا يقوى على المبارزة فيظفر العدو به ، فتنكسر قلوب المسلمين . بخلاف ما إذا أذن ، فإنه لا يأذن إلا إذا انتفت المفسدة ، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك حيث قال : 19 ( { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } ) الآية .
وقد فهم من كلام الخرقي جواز المبارزة بإذن الأمير ، وهو قول العامة ، وقد شاع وذاع مبارزة الصحابة في زمن النبي ومن بعده .
3328 قال قيس بن عباد : سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقسم قسماً أن 19 ( { هذان خصمان اختصموا في ربهم } ) أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر ، حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة . . . متفق عليه .
3329 وكذلك قال علي رضي الله عنه : نزلت هذه الآية في مبارزتنا يوم بدر 19 ( { هذان خصمان اختصموا في ربهم } ) رواه البخاري .
3330 ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : قتلت تسعة وتسعين رئيساً من المشركين مبارزة ، سوى من شاركت فيه .
وقد صرح الخرقي بأن المبارزة بدون إذن حرام ، وظاهر كلام أبي محمد في المغني الكراهة ، قال : ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن .
قال : ومن أعطي شيئاً يستعين به في غزاته فما فضل فهو له ، فإن لم يعط لغزاة بعينها رد ما فضل في الغزو .
ش : من أعطي شيئاً ليستعين به في الغزاة فله حالتان ( إحداهما ) أن يعطى لغزوة بعينها ، فهذا إذا غزا وفضلت فضله فهي له ، لأن المقصود أن يغزو هذا المعين هذه الغزوة ، والدفع على سبيل المعاونة ، أشبه ما لو وصى أن يحج عنه فلان بألف .
3331 وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعطى شيئاً للغزو يقول لصاحبه : إذا بلغت وادي القرى فشأنك به .
( الثانية ) أن يعطى للغزو مطلقاً ، أو للنفقة في سبيل الله ، فهذا إذا غزا وفضلت منه فضلة أنفقه في غزاة أخرى ، لأن الدفع لجهة قربة ، فلزم صرف جميعه فيها ، كما إذا أوصى أن يحج عنه بألف ، وهذه المسألة غير مسألة الدفع في الزكاة .
قال : وإذا حمل الرجل على دابة فإذا رجع من الغزو فهي له ، إلا أن يقول : هي حبيس فلا يجوز بيعها إلا أن تصير في حال لا تصلح للغزو ، فتباع وتجعل في حبيس آخر .
ش : إذا حمل الرجل على دابة للغزو ، فإذا رجع من الغزو فالدابة له ، كالنفقة المدفوعة إليه .
3332 وقال عمر : حملت على فرس في سبيل الله ، فأضاعه صاحبه الذي كان عنده ، فأردت أن أشتريه منه ، وظننت أنه بائعه برخص ، فسألت رسول الله فقال : ( لا تشتره ، ولا تعد في صدقتك ، وإن أعطاكه بدرهم ، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه ) متفق عليه . وهذا يدل على ملكه له ، ولولا ذلك لما باعه ، ولم يفرق الخرقي هنا بين أن يدفعه ليغزو عليه غزوة معينة ، أو للغزو وأطلق ، وقياس ما تقدم التفرقة ، وهذا كله مع الإطلاق ، أما لو صرح له بالعارية أو بالحبسية ، ونحو ذلك فإنه يعمل على ذلك ، ففي العارية يرد إلى مالكه ، وفي الحبسية يجعل في الحبس ، ولا يجوز بيعه ، لما تقدم في الوقف من أنه لا يجوز بيع العين الموقوفة إلا أن يؤول الفرس إلى حال لا يصلح للغزو ، فإنه يباع ويجعل في حبيس آخر ، وقد تقدم ذلك في الوقف .
قال : وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله ، أو كان في مكان لا يصلى فيه ، جاز أن يباع ويصير في مكان ينتفع به .
ش : يعني وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله ، أو كان في مكان لا ينتفع به ، كأن ينتقل أهل القرية عنه ، أو يخاف في الذهاب إليه من اللصوص ونحو ذلك ، فإنه يجوز بيعه على المذهب المشهور ، قال أحمد في رواية صالح : يحول المسجد خوفاً من اللصوص ، وإذا كان موضعه قذراً ، قال القاضي : يعني إذا كان يمنع من الصلاة فيه . ونص على بيع عرصته في رواية عبد الله ، وذلك لما تقدم في جواز بيع الوقف ، وبيع الفرس الحبيس ، وقد بالغ أحمد في رواية أبي داود ، فقال في مسجد أراد أهله رفعه من الأرض ، ويجعل تحته سقاية وحوانيت ، فامتنع بعضهم من ذلك ، فقال : ينظر إلى قول أكثرهم ، وقد أخذ القاضي بظاهر اللفظ ، وأن أهل المسجد لهم رفعه ، وجعل سقاية تحته ، لحاجتهم إلى ذلك ، وأبى ذلك ابن حامد ، وحمل كلام أحمد على مسجد أراد أهله إنشاءه ابتداء ، واختلفوا كيف يعمل ، وفي هذا التأويل بعد من اللفظ .
( وعن 16 ( أحمد ) ) رواية أخرى في أصل المسألة أن المساجد لا تباع ، ولكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر ، لإمكان بقاء العين مع صرفه في جهة المسجدية ، ولذلك قلنا على المذهب أنه إذا لم يمكن إنشاء مسجد بالثمن صرف في شقص مسجد .
( تنبيه ) يكون البائع لذلك الإمام أو نائبه ، نص عليه ، وكذلك المشتري بالثمن ، وكذلك كل وقف لا ناظر له .
قال : وكذلك الأضحية إذا أبدلها بخير منها .
ش : سيأتي الكلام على الأضحية إن شاء الله تعالى في بابها .
قال : وإذا سبى الإمام فهو مخير إن رأى قتلهم ، وإن رأى منّ عليهم وأطلقهم بلا عوض ، وإن رأى فادى بهم ، وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم ، وإن رأى استرقهم ، أي ذلك رأي أن فيه نكاية للعدو وحظاً للمسلمين فعل .
ش : يخيّر الإمام في الأسرى بين أربعة أشياء في الجملة ، القتل ، والمنّ ، والفداء ، والاسترقاق ، أما القتل فلعموم : 19 ( { اقتلوا المشركين } ) ولأن النبي قتل رجال بني قريظة ، وهم بين الستمائة والسبعمائة ، وقتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وفيه تقول أخته :
ما كان ضرك لو مننت وربما

منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

3333 فقال رسول الله : ( لو سمعت شعرها لما قتلته ) . ( وأما المن والفداء ) فلقوله سبحانه : 19 ( { فإما منّاً بعد وإما فداء } ) .
3334 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي وأصحابه من جبال التنعيم ، عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم النبي سلماً فأعتقهم ، فأنزل الله سبحانه : 19 ( { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم } ) إلى آخر الآية رواه مسلم وغيره .
3335 وعن جبير بن مطعم أن النبي قال في أسارى بدر : ( لو كان المطعم بن عدي حياً ، ثم كلمني في هؤلاء النتني لتركتهم له ) رواه البخاري وغيره .
3336 وثبت في الصحيحين أن النبي منّ على ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة .
3337 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة .
3338 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم ، بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة ، أدخلتها بها على أبي العاص ، قالت : فلما ررها رسول الله رق لها رقة شديدة . وقال : ( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها الذي لها ) ؟ قالوا : نعم . رواهما أبو داود .
3339 وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل ، رواه أحمد والترمذي وصححه .
3340 ( وأما الاسترقاق ) فلما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله يقولها فيهم ، سمعت رسول الله يقول : ( هم أشد أمتي على الدجال ) ، قال : وجاءت صدقاتهم فقال النبي : ( هذه صدقات قومنا ) قال : وكان سبية منهم عند عائشة رضي الله عنها ، فقال رسول الله : ( أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل ) متفق عليه .
3341 وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت : لما قسم رسول الله سبايا بني المصطلق ، وقعت جويرية بنت الحارث في السبي لثابت بن قيس بن شماس ، أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسها ، وكانت حلوة ملاحة ، فأتت رسول الله فقالت : يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، سيد قومه ، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك ، فجئتك أستعينك على كتابتي ؛ قال : ( فهل لك في خير من ذلك ) ؟ قالت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : ( أقضي كتابتك ، وأتزوجك ) ؟ قالت : نعم يا رسول الله ، قال : ( قد فعلت ) قالت : وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله تزوج جويرية ابنة الحارث ، فقال الناس : أصهار رسول الله فأرسلوا ما بأيديهم . قالت : فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق ، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها . رواه أحمد واحتج به ، وهذا التخيير تخيير مصلحة واجتهاد ، لا تخيير تشهي فمتى رأى الإمام المصلحة في خصلة تعينت عليه ، لأنه ناظر للمسلمين ، فوجب عليه فعل الأصلح كولي اليتيم ، ومتى تردد فقال أبو محمد : القتل أولى .
( وقوله ) : فادى بهم ، أي بمسلم ، ولا نزاع في جواز ذلك ، لما تقدم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ، ( وقوله ) : وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم . هذا هو المذهب المجزوم به عند القاضي ، وأبي البركات ، وأبي محمد في المغني ، وغيرهم ، لأن النبي فادى أهل بدر بالمال بلا ريب .
وحكى أبو محمد في المقنع رواية أنه لا تجوز المفاداة بمال ، وحكاها أبو الخطاب في هدايته وجهاً ، لأن الله سبحانه عاتب نبيّه على ذلك ونزل : 19 ( { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى } ) الآية .
3342 قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أسروا الأسارى يعني يوم بدر قال النبي لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما : ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ) ؟ قال أبو بكر : يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون لنا قوة على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام ، فقال رسول الله : ( ما ترى يا ابن الخطاب ) ؟ قال : لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكنني أرى أن تمكنني فنضرب أعناقهم ، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان نسيباً لعمر فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوي رسول الله ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت . فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدين يبكيان ، قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما . فقال رسول الله : ( أبكي للذي عرض على أصحابك من هذه الشجرة ) شجرة قريبة منه ، وأنزل الله عزّ وجلّ : 19 ( { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ) إلى قوله : 19 ( { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } ) ، فأحلّ الله لهم الغنيمة . رواه أحمد ومسلم . ( وأجيب ) بأن العقاب كان على أخذ المال ابتداء ، ثم إن الله سبحانه أقرّ ما فعله وأحل لهم الغنيمة كما في الحديث .
3343 قال عمر رضي الله عنه لما كان يوم بدر وأخذ يعني النبي الفداء فأنزل الله عزّ وجلّ : 19 ( { ما كان لنبي أن يكون له أسرى ، حتى يثخن في الأرض } ) إلى قوله : 19 ( { لمسكم فيما أخذتم } ) من الفداء 19 ( { عذاب عظيم } ) ثم أحل لهم الغنائم . . . رواه أبو داود .
إذا تقرر هذا ، فاعلم أن هذا التخيير الذي ذكره الخرقي هو في الأحرار المقاتلة ، أما الأرقاء فءن الإمام يخير بين قتلهم إن رأى ذلك لمضرة بقائهم ونحو ذلك ، أو تركهم غنيمة كالبهائم ، وأما النساء والصبيان فيصيرون أرقاء بنفس السبي ، لأن النبي نهى عن قتلهم ، وكان النبي يسترقهم إذا سباهم ، وأما من يحرم قتله غير النساء والصبيان كالشيخ الفاني ، والراهب ، والزمن ، والأعمى فقال أبو محمد في الكافي والمغني : لا يجوز سبيهم لتحريم قتلهم ، وعدم النفع من اقتنائهم . ( وحكى عنه ) ابن المنجا أنه قال في المغني : يجوز استرقاق الشيخ والزمن ، ولعل هذا في المغني القديم ، وحكى أيضاً عن الأصحاب أنهم قالوا : كل من لا يقتل كالأعمى ونحوه يرق بنفس السبي ، وأما أبو البركات فجعل من فيه نفع من هؤلاء حكمه حكم النساء والصبيان ، وظاهر كلامه أن من لا نفع فيه لا يسبى ، وهذا هو أعدل الأقوال .
( تنبيه ) : إذا أسلم الأسير تعين رقه ، نص عليه أحمد ، وعليه الأصحاب ، لأنه أسير يحرم قتله ، أشبه المرأة ، وقال أبو محمد في الكافي : يسقط القتل ، ويخير فيه بين الثلاثة الأخر ، لأن القتل امتنع لمانع ، وهو ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) ونحوه ، فيبقى ما عداه على الأصل .
3344 وفي مسلم وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل ، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله وأسر أصحاب رسول الله رجلاً من بني عقيل ، وأصابوا معه العضباء ، فأتى عليه رسول الله وهو في الوثاق ، فقال : يا محمد ، فأتاه فقال : ( ما شأنك ) فقال : بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج ؟ يعني العضباء ، فقال : ( أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف ) ثم انصرف عنه فناداه فقال : يا محمد يا محمد ، قال : ( ما شأنك ) ؟ قال : إني مسلم . قال : ( لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ) ثم انصرف عنه فناداه : يا محمد يا محمد ، فأتاه فقال ؛ ( ما شأنك ) ؟ فقال : إني جائع وظمآن فأسقني . قال : ( هذه حاجتك ) ففدي بعد بالرجلين . ( وأجاب ) القاضي بأن النبي يحتمل أنه علم من حاله أنه كان منافقاً ، وفيه نظر ، وأجاب أبو محمد في المغني بأن هذا لا ينافي رقه ، فإن رقيق المسلمين يجوز أن يفادى بهم ، ويعترض على هذا بأنه إذا صار رقيقاً فكيف ترك موثوقاً ، ثم إنه إنما تجوز المفاداة برقيق المسلمين بإذنهم على قوله ، وليس في الحديث إذن ، ويجاب بأن ترك ذكر الإذن في الحديث لا يدل على عدمها ، ثم لو ثبت أنه لم يستأذنهم فذلك لعلمه أنهم راضون بما يفعله .
قال : وسبيل من استرق منهم وما أخذ منهم على إطلاقهم سبيل تلك الغنيمة .
ش : طريق من استرق منهم ، والمال الذي أخذ منهم على إطلاقهم طريق الغنيمة ، في أنه يخمس ، ثم تقسم أربعة أخماسه بين الغانمين ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، لأنه مال غنمه المسلمون ، أشبه الخيل والسلاح .
قال : وإنما يكون له استرقاقهم ، إذا كانوا من أهل الكتاب ، أو مجوساً ، فأما من سوى هؤلاء من العدو فلا يقبل من بالغي رجالهم إلا الإسلام أو السيف أو الفداء .
ش : يعني أن الذين يجرى عليهم الاسترقاق هم الذين يقرون بالجزية ، وهم أهل الكتاب والمجوس . أما من عداهم من مشركي العرب والعجم ، فالمنصوص عن 16 ( أحمد ) في رواية محمد بن الحكم وإليه ميل أبي محمد ، وهو الصواب جواز استرقاقهم ، واحتج بحديث جويرية وقد تقدم .
3345 وقال : لا أذهب إلى قول عمر رضي الله عنه : ليس على عربي ملك . وقد سبى النبي العرب في غير حديث . وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما حين سبى بني ناجية .
3347 ونقل عنه ابن منصور ، وقد سئل عن قول عمر رضي الله عنه في العربي يتزوج الأمة فولدت : لا يسترقون يفديهم . قال : لا أقول في العربي شيئاً ، قد اختلفوا فيه ، فتوقف عن الجواب ، فيخرج له قول بعدم الجواز ، و ابن حامد قال : في المسألة روايتان ، وتبعه من بعده على ذلك ، وكأن مستند المنع قول عمر رضي الله عنه ولأنه لا يقر بالجزية فأشبه المرتد . وهذه الرواية هي اختيار الخرقي ، والشريف ، وابن عقيل في التذكرة والشيرازي .
( تنبيه ) : أبو محمد وأبو الخطاب ومن تبعهما يحكون الخلاف كما تقدم في غير أهل الكتاب والمجوس ، وأبو البركات جعل مناط الخلاف فيمن لا يقر بالجزية ، فعلى قوله نصارى بني تغلب يجرى فيهم الخلاف ، لعدم أخذ الجزية منهم ، ويقرب من هذا قول القاضي في الروايتين ، فءنه حكى الخلاف في مشركي العرب من أهل الكتاب ، ثم حكى كلام الخرقي ، وكلام أحمد في رواية محمد بن الحكم ، فيمن لا كتاب له ، وأحمد رحمه الله إن لم يكن عنه نص بالمنع إلا رواية ابن منصور ، فليس له توقف إلا في العرب ، وهو لم يعلل بعدم الإقرار بالجزية ، حتى يؤخذ بعموم علته في كل من لا يقر بالجزية من العجم ونحوهم .
قال : وينفل الإمام ومن استخلفه الإمام كما فعل النبي في بدأته الربع بعد الخمس ، وفي رجعته الثلث بعد الخمس .
ش : النفل في اللغة الزيادة ، ومنه نفل الصلاة ، زيادة على فرضها ، وقوله تعالى : 19 ( { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } ) فيعقوب عليه السلام هو ولد ولد إبراهيم وهو زائد على ما طلبه إبراهيم من الولد .
إذا تقرر هذا فينبغي للإمام أو نائب الإمام إذا غزا غزاة أن يبعث أمامه سرية تغير على العدو ، ويجعل لها الربع بعد الخمس ، أو تغير خلفه إذا رجع ، ويشترط لها الثلث بعد الخمس ، فما أتت به أخرج خمسه ، وأعطى السرية ما جعل لها ، ثم قسم الباقي على الجيش والسرية معاً ، اقتداء برسول الله .
3347 فعن حبيب بن مسلمة أن النبي نفل الربع بعد الخمس في بدأته ، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته ، رواه أحمد وأبو داود .
3348 وعن عبادة بن الصامت مثله ، ولم يقل : بعد الخمس . . . رواه أحمد والترمذي .
3349 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة ، سوى قسم عامة الجيش ، والخمس في ذلك كله واجب .
3350 وعنه أيضاً أن رسول الله بعث سرية قبل نجد ، فخرجت فيها فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً ، ونفلنا رسول الله بعيراً بعيراً . . . متفق عليهما ، وهذا على سبيل الندبية ، فللإمام أن لا ينفل شيئاً ، وأن ينفل ما دون ذلك ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما فإنه قال : كان ينفل بعض من يبعث من السرايا ، وقال : إن الرسول نفلهم بعيراً بعيراف ، ( وهل له ) أن ينفل ذلك بلا شرط ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وظاهر الأحاديث ، أو ليس له ذلك إلا بشرط ، وهو الذي ذكره في المغني ، لأن مع عدم الشرط تتعلق جميع حقوق الغازين بالمال ، فلا يخص بعضهم ببعضه ؟ على روايتين . ( وهل له ) أن يزيد على الثلث ، لا يجوز له بلا شرط رواية واحدة ، لأن النبي لم ينقل عنه أنه زاد على ذلك ، وهل له ذلك بالشرط ، لأن زيادة النبي ونقصه يدل على أن ذلك غير مقدر ، أو ليس له ذلك ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وبه قطع أبو محمد لما تقدم ؟ على روايتين .
قال : ويرد من نفل على من معه في السرية إذ بقوتهم صار إليه .
ش : يعني أنه إذا جاء بعض السرية بشيء فنفله ، ولم يأت بعضهم بشيء فلم ينفله ، فإن من نفل يرد على من لم ينفل من السرية ، لما علّله الخرقي ، من أن بقوة من لم ينفل صار المال لمن نفل .
ش : ومن قتل منا واحداً منهم مقبلاً على القتال فله سلبه .
ش : القاتل يستحق السلب في الجملة بلا ريب .
3351 لقول النبي : ( من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه ) متفق عليه ، رواه أبو قتادة وغيره ، إذا علم هذا فيشترط لاستحقاقه شروط ( أحدها ) أن يغر بنفسه في قتله في حال الحرب ، بأن يقتله حال المبارزة ، أو والحرب قائمة ، ونحو ذلك ، قال أحمد : السلب للقاتل إنما هو في المبارزة ، لا يكون في الهزيمة .
3352 لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال : نفلني رسول الله يوم بدر سيف أبي جهل وكان قتله . رواه أبو داود .
3353 وإنما أدرك ابن مسعود أبا جهل وبه رمق ، فأجهز عليه ، كذا روي معنى ذلك في أبي داود وغيره ، ولو لم يكن التغرير شرطاً لدفع إليه السلب أجمع ، فعلى هذا لو رمى بسهم إلى صف الكفار ، فقتل فلا سلب له ، لعدم التغرير ، وكذلك لو حمل جماعة من المسلمين على واحد فقتلوه ، فلا سلب لهم ، ويكون غنيمة لذلك ، وكذلك إذا قتله اثنان على المنصوص في رواية حرب ، ( وعن القاضي ) : هو لهما ؛ لعموم ( من قتل قتيلاً ) واستثنى أبو محمد ما إذا قتله اثنان ، وكانت ضربة أحدهما أبلغ في قتله من الأخرى ، أن السلب يكون له .
3354 مستدلاً بأن أبا جهل ضربه معاذ بن عفراء ، ومعاذ بن عمرو بن الجموح ، وأتيا النبي فأخبراه ، فقال : ( أيكما قتله ) ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته . فقال : ( هل مسحتما سيفيكما ) ؟ قالا : لا ، فنظر في السيفين فقال : ( كلاكما قتله ) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، متفق عليه . وهذا يحتمل أن يكون كما قاله أبو محمد ، ويحتمل أنه نفل السلب لمعاذ بن عمرو وإن لم يستحقه ، ويكون في هذا دليل على أن للإمام أن ينفل بعض الغانمين .
ومن صور التغرير أن يكون المقتول مقبلاً على القتال ، فإن كان مدبراً فلا سلب له ، لعدم التغرير في قتله ، ولأن المسلمين قد كقوا شره بانهزامه ، فأشبه ما لو كان مأسوراً ، واستثنى أبو محمد من ذلك ما إذا انهزم والحرب قائمة ، فأدركه إنسان فقتله فإن سلبه له .
3355 معتمداً على أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قتل طليعة الكفار وهو منهزم ، فقال النبي : ( من قتل الرجل ) ؟ قالوا : سلمة بن الأكوع ، قال : ( له سلبه أجمع ) ، والحديث في الصحيحين ، ومن صوره أيضاً أن يكون الكافر ممتنعاً ، فإن كان مثخناً بالجراح ، وقتله إنسان فلا شيء له ، لعدم التغرير ، وقد تقدم حديث ابن مسعود في ذلك ، ( واعلم ) أن جماعة من الأصحاب يجعلون كل واحد من هذه شرطاً ، والذي يظهر أنها كلها ترجع إلى التغرير ، والإشارة إلى هذا الشرط في قول الخرقي : مقبلاً على القتال .
( الشرط الثاني ) أن يقتل الكافر ، كما في الحديث ( من قتل قتيلاً ) أو يثخنه يصيره في حكم المقتول ، لأنه إذاً صار في حكم الميت ، ولو قطع أربعته ، وقتله آخر فسلبه للقاطع ، [ لا أعلم فيه خلافاً ] ، لأنه الذي كفى المسلمين شره ، وصيره في حكم الميت . وكذلك لو قطع يديه أو رجليه على وجه لذلك ، وعلى آخر هو للقاتل ، لعموم الحديث ، وعلى ثالث هو غنيمة ، كما لو اشترك اثنان في قتله ، وكذلك الأقوال الثلاثة فيما إذا قطع يده ورجله ، ثم قتله آخر ، والمنصوص أنه غنيمة ، وهو المقدم في التي قبلها أيضاً ، ولو قطع يداً أو رجلاً ثم قتله آخر ، فالسلب للقاتل على ما قطع به أبو البركات ، وحكاه في المغني احتمالاً ، لأنه الذي كفى المسلمين شره ، وقطع في الكافي بأنه غنيمة ، كما لو اشترك اثنان في قتله ، وهذا الذي أورده في المغني مذهباً ، ولو أسره فقتله الإمام فلا شيء له من السلب ، على المذهب المنصوص لعدم القتل .
( الشرط الثالث ) أن يكون القاتل ممن له حق في الغنيمة ، فإن لم يكن له فيها حق أصلاً ، كالمخذل والمرجف ، والمعين على المسلمين فلا شيء له لأنه ليس من أهل الجهاد ، وإن كان له فيها حق لكن إرضاخ لا إسهام ، كالصبي والمرأة ونحوهما ، فهل يستحق السلب إذا قتل ، لعموم الحديث ، وبه قطع أبو محمد ، أو لا يستحقه ، لأن السهم آكد منه للإجماع عليه وهو لا يستحقه ، فالسلب أولى ؟
( الشرط الرابع ) أن يكون المقتول من اتلمقاتلة ، فإن كان شيخاً فانياً ، أو صبياً ، أو امرأة ، ونحو ذلك ممن قد نهي عن قتله ، لم يستحق قاتله سلبه ، بلا خلاف نعلمه ، فإن قاتل هؤلاء فهل يستحق قاتلهم سلبهم ، وبه قطع أبو محمد ، لجواز قتلهم إذاً ، أو لا يستحق سداً للذريعة ؟ فيه وجهان .
( تنبيه ) : قال أبو محمد : إذا بارز العبد بغير إذن مولاه لم يستحق السلب ، لأنه عاص ، وكذلك كل عاص كمن دخل بغير إذن ، ( وعن أحمد ) فيمن دخل بغير إذن يؤخذ منه الخمس ، وباقيه له كالغنيمة ، قال : ويخرج في العبد مثله ، قلت : قد يقال تعلق الحق بالغنيمة آكد للإجماع عليها ، بخلاف السلب ، فإن منهم من يجعله كالنفل ، لا يستحق إلا بالشرط ، ثم قال : إنه لا يشترط في استحقاق السلب أن تكون المبارزة بإذن الإمام ، لعموم الخبر ، ولأن كل من قضي له بالسلب في عصره لم ينقل أنه أذن له في المبارزة ، ( قلت ) : وهذا يتمشى على قوله ، من أن الإذن في المبارزة مندوب إليه لا واجب ، أما على ما يقوله الخرقي وغيره فلا .
قال : غير مخموس .
ش : يعني أن القاتل يستحق السلب إذا وجدت شروطه من غير تخميس ، لعموم ما تقدم .
3356 وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم حنين : ( من قتل رجلاً فله سلبه ) فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلاً ، وأخذ أسلابهم . رواه أحمد وأبو داود ، وفي لفظ : ( من تفرد بدم رجل فقتله فله سلبه ) قال : فجاء أبو طلحة بسلب أحد وعشرين رجلاً . رواه أحمد ، وفيه دليل على أن من شرط استحقاق السلب التغرير في القتل ، وأن المشركين في القتل لا يستحقان السلب كما تقدم .
3357 وعن عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضي الله عنهما أن النبي لم يخمس السلب ، رواه أحمد وأبو داود .
ومقتضى كلام الخرقي أن السلب يكون من أصل الغنيمة ، لا من خمس الخمس ، وهو كذلك لإطلاق الحديث .
قال : قال ذلك الإمام أو لم يقل .
ش : يعني أن السلب يستحقه القاتل ، اشترط ذلك الإمام أو لم يشترطه ، هذا هو المنصوص المشهور ، والمذهب عند عامة الأصحاب ، واختار أبو بكر أنه لا يستحقه إلا من شرطه له الإمام ، وحكى ذلك غير واحد من الأصحاب رواية عن أحمد ، وأخذها القاضي في الروايتين من قول أحمد في رواية حرب : ليس له ذلك إلا أن يكون قتاله بإذن الإمام ، وهذا المأخذ لا يدلّ على المدعى ، وبالجملة مدرك الخلاف في ذلك أن قوله : ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) هل ذلك بيان لشرع عام ، أو مختص بتلك الواقعة ، فلا يستحق إلا بالشرط ، وكذلك حكم النبي بالسلب للقاتلين ، كسلمة بن الأكوع وغيره ، هل ذلك لاستحقاقهم إياه مطلقاً ، أو من باب النفل ؟ ويرجح الأول أن الأصل عدم التخصيص ، وبيان الشرع العام ، ثم إن أبا قتادة كان قد قتل القتيل قبل أن يقول النبي : ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) وأعطاه النبي سلبه ، ولو كان إنما يستحق بالشرط لما أعطاه النبي السلب .
3358 قال أبو قتادة : خرجنا مع النبي عام حنين ، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة ، قال : فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين ، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه ، وضربته على حبل عاتقه ، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ما للناس ؟ فقلت : أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا ، وجلس رسول الله فقال : ( من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه ) قال : فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال مثل ذلك ، قال : فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال ذلك الثالثة ، فقمت فقال رسول الله : ( ما لك يا أبا قتادة ) ؟ فقصصت عليه القصة ، فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله ، سلب ذلك القتيل عندي ، فأرضه من حقه ، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لا ها اللَّه إذاً لا يعمد إلى أسد من أسد الله ، يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه . فقال رسول الله : ( صدق فأعطه إياه ) متفق عليه . لا يقال : فالرسول دفع إليه السلب من غير بينة ولا يمين ، لأنا نقول : قد شهد له واحد ، وقد يكتفي في مثل ذلك بالواحد ، لتعذر إقامة اثنين ، أو يكون قبول الواحد إذاً خاصاً بأبي قتادة رضي الله عنه .
3359 وما في مسلم والمسند عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : قتل رجل من حمير رجلاً من العدو ، فأرتد سلبه فمنعه خالد بن الوليد رضي الله عنه وكان والياً عليهم ، فأتى رسول الله عوف بن مالك ، فأخبره فقال لخالد : ( ما منعك أن تعطيه سلبه ) ؟ قال : استكثرته يا رسول الله ، قال : ( ادفعه إليه ) فمرّ خالد بعوف فجرّ بردائه ، ثم قال : هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله ، فسمعه رسول الله فاستغضب فقال : ( لا تعطه يا خالد ، هل أنتم تاركون لي أمرائي ، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استرعى إبلاً وغنماً ، فرعاها ثم تحين سقيها ، فأوردها حوضاً ، فشرعت فيه ، فشربت صفوه وتركت كدره ، فصفوه لكم ، وكدره لهم ) فقيل : منع رسول الله السلب عقوبة ، ويرد أنه عاقب من لم يذنب ، والله أعلم .
قال : والدابة وما عليها من آلتها من السلب ، إذا قتل وهو عليها ، وكذلك جميع ما عليه من الثياب والسلاح والحلي وإن كثر ، فإن كان معه مال لم يكن من السلب ، وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله قول آخر في الدابة أنها ليست من السلب .
ش : في الدابة ثلاث روايات ( إحداها ) أنها من السلب مطلقاً ، أعني سواء كان يقاتل عليها أو ممسكاً بعنانها .
3360 أما إذا كان يقاتل عليها فلما روى عوف بن مالك رضي الله عنه قال : خرجت مع زيد بن حارثة رضي الله عنه في غزوة مؤتة ، ورافقني مددي من أهل اليمن ، ومضينا فلقينا جموع الروم ، وفيهم رجل على فرس أشقر ، عليه سرج مذهب ، وسلاح مذهب ، فجعل الرومي يغري بالمسلمين ، فقعد له الممددي خلف صخرة ، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله ، وحاز فرسه وسلاحه ، فلما فتح الله عزّ وجلّ للمسلمين ، بعث إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه فأخذ منه السلب ، قال عوف : فأتيته فقلت : يا خالد أما علمت أن رسول الله قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى ، ولكني استكثرته . وذكر الحديث إلى آخره . . . رواه أحمد وأبو داود ، وأما إذا كان ماسكاً بعنانها فلأنها معدة للقتال عليها ، متمكن من ذلك ، فأشبهت سيفه أو رمحه الذي في يده .
( والثانية ) : ليست من السلب مطلقاً ، اختارها أبو بكر ، لأن السلب اسم لما كان على البدن ، وذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن معديكرب : فأخذ سواريه ومنطقته ، يعني ولم يذكر فرسه .
( والثالثة ) : إن قاتل عليها فهي من السلب ، لما تقدم في حديث عوف ، وإن كان ممسكاً بعنانها فليست من السلب ، لما تقدم في دليل الثانية ، خرج منه إذا كان يقاتل عليها ، لفهم الصحابة ، فيبقى ما عداه على مقتضى اللغة ، وهذه الرواية أعدل الأقوال ، وهي اختيار الخرقي ، والخلال ، ولا يغرنك قول أبي محمد في الكافي : إن اختيار الخلال الرواية الثانية كتلميذه ، فإنه وهم ، ولا نزاع أن التي في بيته أو مع غلامه أو مجنوبة ونحو ذلك لا تكون من السلب ، وحيث حكم بالدابة أنها من السلب فكذلك ما عليها من آلتها ، من سرج ولجام ونحو ذلك ، لا ما كان محمولاً عليها من دراهم ونحو ذلك ، إذا علم حكم الدابة ، فالذي هو سلب عندنا بلا ريب ما كان على المقتول ، من ثياب كعمامة ، ودرع ومغفر ونحو ذلك ، وسلاح كرمح وسيف ، وسكين ونحو ذلك ، وحلي كتاج وأسورة ونحوهما ، لأن ذلك يدخل في اسم السلب . فشمله قول الرسول : ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) .
3361 وفي حديث عمرو بن معديكرب أنه حمل على أسوار فطعنه فدق صلبه فصرعه ، فنزل إليه فقطع يده ، وأخذ سوارين كانا عليه ، ويلمقاً من ديباج وسيفاً ومنطقة ، فسلم ذلك له ، فأما المال الذي معه في كمرانة أو خريطته فليس من السلب ، وكذلك خيمته ورحله ، ونحو ذلك مما ليس في يده ، لأن ذلك لا يدخل في مسمى السلب ، فلا يتناوله الحديث .
قال : ومن أعطاهم الأمان منا من رجل أو امرأة أو عبد جاز أمانه .
ش : يصح إعطاء الأمان للكفار في الجملة بالإجماع ، فيحرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم ، قال الله تعالى ؛ 19 ( { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ) وقد شاعت الأحاديث بذلك .
3362 قالت أم هانىء أخت علي رضي الله عنهما : ذهبت إلى رسول الله عام الفتح ، فوجدته يغتسل ، وفاطمة ابنته تستره بثوب ، فسلمت عليه فقال : ( من هذه ) ؟ فقلت : أنا أم هانئ بنت أبي طالب ، فقال : ( مرحباً بأم هانىء ) ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمان ركعات ، ملتحفاً في ثوب واحد ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلاً قد أجرته ، فلان بن هبيرة ، فقال رسول الله : ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء ) قالت أم هانىء : وذلك ضحى . . . متفق عليه .
3363 وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله : ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً ) . . . رواه البخاري والنسائي ، وقال ) ( من قتل قتيلاً من أهل الذمة ) .
3364 وعن صفوان بن سليم ، عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله عن ربائهم رضي الله عنهم ، أن رسول الله قال : ( من ظلم معاهداً أو انتقصه ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس ، فأنا حجيجه يوم القيامة رواه أبو داود .
إذا تقرر هذا فيشترط لمعطي الأمان أن يكون ( مسلماً ) ، ولهذا قال الخرقي : منا . فلا يصح أمان الكافر ، وإن كان ذمياً .
3365 لما روي علي رضي الله عنه عن النبي قال : ( ذمة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم ) رواه أحمد ، وهو بعض حديث في الصحيح ، فقيد ذلك بالمسلمين ( عاقلاً ) فلا يصح من مجنون ، ولا طفل ، ولا مغمى عليه ، لأن كلامهم غير معتبر ، وكذلك السكران ، قاله أبو محمد ، ويخرج فيه قول ( مختاراً ) فلا يصح من مكره بلا ريب ، وهل يشترط البلوغ ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي أنصهما وأشهرهما لا يشترط ، وبه قطع القاضي في الجامع الصغير ، والشيرازي ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، وأبو بكر ، وقال : رواية واحدة ، حاملاً لرواية الاشتراط على غير المميز ، وهو مقتضى كلام شيخه ، وذلك لعموم الحديث ، إذ هو من المسلمين . ( والثانية ) ويحتملها كلام الخرقي يشترط ، لأنه غير مكلف ، ولا يلزمه بقوله حكم ، فلا يلزم غيره كالمجنون ، فعلى الأولى من شرطه أن يكون عاقلاً ، قاله جماعة وبعضهم يقول : مميزاً ، وقيده الخلال بابن سبع ، بشرط أن يعقل التخيير بين أبويه ، ( ولا فرق ) بين الرجل والمرأة بالإجماع ، لحديث أم هانىء .
3366 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( إن المرأة لتأخذ على القوم ) يعني تجير على المسلمين ، رواه الترمذي ، ( ولا بين ) الحر والعبد ، لعموم الحديث .
3367 وقد جاء أن عبداً أعطى أماناً ، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إن العبد المسلم رجل من المسلمين ، ذمته ذمّتهم ، رواه سعيد ولا بين المطلق والأسير ، والأجير والتاجر وغيرهم ، لعموم الحديث .
قال : ومن طلب الأمان ليفتح الحصن ففعل ، فقال كلٌّ واحد : أنا المعطي ، لم يقتل واحد منهم .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية أبي طالب وأبي داود ، وإسحاق بن إبراهيم ، في قوم في حصن استأمن عشرة ، ونزلت عشرة عشرة ، فيقولوا : لنا الأمان ، فيؤمنون كلهم ولا يقتل واحد منهم ، مع أن هذا والله أعلم اتفاق ، لأنه اشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه ، فحرم الكل ، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية ، أو ميتة بمذكاة ، وهل يجوز استرقاقهم ؟ فيه قولان ( أحدهما ) وهو ظاهر كلامه السابق لا ، لما تقدم . ( والثاني ) : يقرع بينهم ، فيخرج واحد بالقرعة ، ويسترق الباقون ، لأن الحق لواحد منهم ، فعين بالقرعة ، كما لو أعتق عبداً من عبيده وأشكل ، وهذا القول عزاه الشيخان وغيرهما إلى أبي بكر ، والذي في الروايتين أن أبا بكر قال : من أصحابنا من قال : يقرع بينهم ، وأن أبا بكر قال : ظاهر كلام أحمد أنه لا يسترق واحد منهم ، وذكر كلام أحمد السابق .
قال : ومن دخل إلى أرضهم من الغزاة فارساً ، فنفق فرسه قبل إحراز الغنيمة ، فله سهم راجل ، ومن دخل راجلاً فأحرزت الغنيمة وهو فارس ، فله سهم فارس .
ش : نفق فرسه أي مات ، وكذلك يقال في كل دابة ، ولا يقال لغيرها إلا مجازاً ، والاعتبار في الاستحقاق بحال الإحراز ، فءن أحرزت الغنيمة وهو راجل فله سهم راجل ، وإن أحرزت وهو فارس فله سهم فارس ، ولا عبرة بما قبل ذلك ، قال أحمد : أنا أرى أن كل من شهد الوقعة على أي حالة كان يعطى ، إن كان فارساً ففارس ، وإن كان راجلاً فراجل .
3368 لأن عمر رضي الله عنه قال : الغنيمة لمن شهد الوقعة اه ، وذلك لأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك ، فكان الاعتبار به بخلاف غيره .
قال : فيعطى ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه .
ش : أي يعطى الفارس ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه .
3369 لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قسم للفرس سهمين ، وللراجل سهماً . متفق عليه في رواية لأبي داود وأحمد : أن رسول الله أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم ، سهماً له وسهمين لفرسه .
3370 وعن ابن الزبير رضي الله عنهما قال : ضرب رسول الله عام خيبر للزبير رضي الله عنه أربعة أسهم ، سهم للزبير ، وسهم لذي القربى بصفية بنت عبد المطلب أم الزبير رضي الله عنها وسهمان للفرس . . . رواه النسائي .
3371 وعن أبي عمرة عن أبيه قال : أتينا رسول الله أربعة نفر ، ومعنا فرس ، فأعطى كل إنسان منا سهماً ، وأعطى الفرس سهمين ، رواه أحمد وأبو داود .
3372 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قسم لمائتي فرس بخيبر سهمين سهمين .
3373 وعن خالد الحذاء قال : لا يختلف فيه عن رسول الله قال : ( للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم ) رواهما الدارقطني .
3374 ولا يعارض الأحاديث هذه حديث مجمّع بن حارثة الأنصاري قال : قسمت خيبر على أهل الحديبية ، فقسمها رسول الله على ثمانية عشر سهماً ، فأعطى الفارس سهمين ، والراجل سهماً . . . رواه أبو داود ، لترجحها عليه بكثرة رواتها ، وأعلميتهم ، وأصحيتها ، ولذلك قال أبو داود : حديث ابن عمر رضي الله عنهما أصح ، قال : وأتى الوهم في حديث مجمع أنه قال : ثلاثمائة فرس ، وإنما كانوا مائتي فرس ، ثم إن حديث مجمع يحتمل أنه أعطى الفارس سهمين لفرسه ، والراجل سهماً ، أي صاحبه ، توفيقاً بين الكل .
قال : إلا أن تكون فرسه هجيناً ، فيكون له سهمان ، له سهم ، ولهجينه سهم .
ش : الهجين الذي أبوه عربي وأمه غير عربية ، وعكسه يسمى المقرف ، فإن كان أبواه غير عربيين فهو البرذون ، وهذه الثلاثة حكمها واحد ، ولهذا قال أبو محمد : أراد الخرقي بالهجين ما عدا العربي ، واختلف في هذه ( هل يسهم لها ) وهو المذهب ، كما يسهم لمن أبواه عربيان بالإجماع . ويسمى العتيق ، لدخولها في قوله تعالى : 19 ( { والخيل } ) وفي مسمى الفرس ، وقد قال الصحابة : إن النبي أسهم للفرس سهمين ، ( أو لا يسهم لها ) لأنها لا تعمل عمل العراب ، فأشبهت البغال ، ( أو إن أدركت ) العراب أسهم لها مثل العربي ، لأنها من الخيل ، وقد عملت عمل العراب فأعطيت حكمها ، وإن لم تدركها لم يسهم لها ، لأنها كالبغال إذاً ؟ على ثلاث روايات ، وحيث قلنا : يسهم لها . فهل يسهم لها كما يسهم للعربي سهمان ، وهو اختيار الخلال ، لما تقدم من أن النبي أسهم للفرس سهمين ، وهذه من الأفراس ، أو لا يسهم لها إلا سهم ، وهو اختيار الخرقي ، وأبي بكر ، والقاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وابن عقيل ، وأبي محمد .
3375 لما روى مكحول أن النبي أعطى الفرس العربي سهمين ، وأعطى الهجين سهماً ، رواه سعيد ، وأبو داود في المراسيل ، وروي موصولاً عن مكحول ، عن زياد بن حارثة ، عن حبيب بن سلمة ، عن النبي ، قال عبد الحق : والمرسل أصح . ولأن نفع العربي وأثره في الحرب أفضل ، فيكون سهمه أرجح ، وقول الصحابي : أسهم للفرس سهمين . حكاية واقعة عين لا عموم لها ، فيحتمل أنه لم يكن في تلك الخيل غير عربي ، وهو الظاهر ، لقلتها عند العرب ؟ على روايتين .
قال : ولا يسهم لأكثر من فرسين .
ش : يعني أن الرجل إذا كان معه أفراس ، أسهم لفرسين منها فقط ، لأن به إلى الثاني حاجة ، لاحتمال موت الواحد ، وضعفه بإدامة ركوبه .
3376 وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أن يسهم للفرس سهمين ، وللفرسين أربعة أسهم ، ولصاحبهما سهم ، فذلك خمسة أسهم ، وما كان فوق الفرسين فهو جنائب .
3377 وعن الأوزاعي أن رسول الله كان يسهم للخيل ، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين ، وإن كان معه عشرة أفراس . . . رواهما سعيد في سننه .
قال : ومن غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان .
ش : ( هل يسهم ) للبعير مطلقاً ، وهو منصوص أحمد في رواية مهنا ، واختيار القاضي ، وجمهور أصحابه ، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل . وحكاه في الهداية عن الأصحاب ، لقول الله تعالى : 19 ( { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } ) ولأنه حيوان يسابق عليه بعوض ، فجاز أن يسهم له كالخيل ( أو لا يسهم له ) وهو اختيار أبي الخطاب في الهداية ، وأبي محمد في المغني ، وأورده في المقنع ، وكذا أبو البركات مذهباً ، لأن النبي لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل ، مع أنه لم تخل غزوة من غزواته من الإبل ، ولو أسهم لها لنقل ، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكرّ والفرّ عليه ، فلم يسهم له كالبغل والحمار ، ( أو إن قدر ) على غيره لم يسهم له ، وإلا أسهم له لمكان العذر ، وهو منصوص أحمد في رواية الميموني ، واختيار الخرقي ، وابن البنا ؟ على ثلاثة أقوال ، وحيث أسهم له فهل يسهم له سهم واحد ، وهو قول العامة ، لأنه لا يساوي الخيل قطعاً ، فاقتضى أن ينقص عنها ، أو حكمه حكم الهجين ، وهو مقتضى قول أبي محمد في المغني ، وقول القاضي في الأحكام السلطانية ؟ على قولين ، وشرط أبو محمد في استحقاق السهم له أن يشهد الوقعة عليه ، ويمكن القتال عليه ، قال : فأما الإبل الثقيلة التي لا تصلح إلا للحمل فلا يستحق راكبها شيئاً ، لأنه أذنى حالاً من الراجل .
( تنبيه ) : ما عدا الخيل والإبل من البغال والحمير والفيلة لا يسهم لها على المذهب المعروف ، لأن النبي وخلفاءه لم ينقل عنهم أنهم أسهموا لشيء من ذلك ، وجعل القاضي في الأحكام السلطانية حكم الفيل حكم البعير ، وهو حسن .
قال : ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في قسمه .
ش : لأنه والحال هذه ملك الحاضرون الوقعة الغنيمة واستحقوها ، فالميت بعد ذلك مات عن حق ، فيكون لورثته ، لقوله عليه السلام : ( من مات عن حق فلورثته ) .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو مات قبل ذلك لا حق له ، وهو كذلك ، لعدم الملك . وهذا هو مناط المسألة ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى .
قال : ويعطى الراجل سهماً .
ش : هذا اتفاق والله أعلم ، وقد استفاضت الأحاديث بذلك .
قال : ويرضخ للمرأة والعبد .
ش : الرضخ قال الجوهري : العطاء ليس بالكثير ، والمراد هنا إعطاء شيء دون السهم من غير تقدير .
3378 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ، ويحذين من الغميمة ، وأما سهم فلا يضرب لهن .
3379 وعنه أيضاً أنه كتب إلى نجدة الحروري : سألت عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس ؟ وإنه لم يكن لهما سهم معلوم ، إلا أن يأخذا من غنائم القوم ، رواهما أحمد ومسلم .
3380 وعنه أيضاً قال : كان النبي يعطي المرأة والمملوك من الغنائم دون ما يصيب الجيش . . . رواه أحمد .
3381 وما روي عن الأوزاعي قال : أسهم النبي للصبيان بخيبر ، رواه الترمذي .
3382 وكذلك قول بعض الصحابيات رضي الله عنهن : أسهم لنا في خيبر ، كما أسهم للرجال . رواه أحمد وأبو داود محمولان إن صحا على الإرضاخ ، وقولها : كما أسهم للرجال ، أي أعطانا كما أعطى الرجال ، فالتشبيه في الإعطاء ، لا في القدر ، وحكم الصبي المميز حكم العبد ، يرضخ له كما يرضخ له ، لتساويهما معنى ، وهو كونهما ليسا من أهل القتال ، فتساويا حكماً .
3383 وعن سعيد بن المسيب قال : كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة ؛ والمدبر ، والمكاتب ، والمعلق عتقه بصفة كالقن ، لأنهم عبيد ، أما المعتق بعضه فقال أبو بكر : يرضخ له بقدر ما فيه من الرق ، ويسهم له بقدر الحرية ، لأن ذلك مما يتبعض ، فأشبه الميراث . وظاهر كلام أحمد على ما قال أبو محمد أنه يرضخ له فقط ، لعدم وجوب القتال عليه ، ومن ثم قلنا في الخنثى المشكل أنه يرضخ له ، ولأبي محمد احتمال أنه يعطى نصف سهم ، ونصف رضخ كالميراث ، قال : فإن انكشف حاله فتبين أنه رجل أعطي تمام السهم ، لأنا تبينا أنه أخذ دون حقه .
قال : ويسهم للكافر إذا غزا معنا .
ش : هذا أشهر الروايتين عن أحمد ، واختيار الخرقي ، والخلال وصاحبه والقاضي ، وجماعة من أصحابه الشريف ، والشيرازي وابن عقيل وغيرهم .
3384 لما روى الزهري أن النبي أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه . رواه الترمذي وأبو داود في المراسيل ، ولفظه استعان بناس من اليهود فأسهم لهم ، ولأن الكفر نقص في الدين ، فلم يمنع السهم كالفسق ، ( والثانية ) لا يسهم له ، بل يرضخ له ، لأنه من غير أهل الجهاد ، فأشبه المرأة والعبد ، وقد يمنع من هذا لمخاطبته بالفروع على الصحيح .
وقول الخرقي : غزا معنا . لم يشترط أن يكون بإذن الإمام ، وشرط ذلك الشيخان ، وأبو الخطاب ، لأنه غير مأمون ، فأشبه المخذل ، وكون المشهور أنه يسهم له ، مع أن المشهور فيما أظن أنه لا يستعان به ، قد يتناقض .
قال : وإذا غزا العبد على فرس لسيده ، قسم للفرس وكان للسيد ، ويرضخ للعبد .
ش : أما الرضخ للعبد فلما تقدم ، وأما القسم للفرس فلأنه فرس حضر الوقعة ، وقوتل عليه ، فاستحق السهم ، كما لو كان السيد راكبه ، وفارق فرس الصبي ونحوه حيث لا يستحق السهم ، لأن الفرس له ، فإذا لم يستحق السهم لنفسه فلفرسه أولى ، والعبد الفرس لغيره ، وكأن الخرقي أشار إلى هذا التعليل بقوله : وكان للسيد ، وإلا فالرضخ الذي يدفع للعبد هو للسيد .
قال : وإذا أحرزت الغنيمة لم يكن فيها لمن جاءهم مدداً أو هرباً من أسر حظ .
ش : هذا يعتمد أصلاً ، وهو أن الغنيمة تملك بالإحراز على ظاهر كلام الخرقي ، لأن به يحصل تمام الاستيلاء ، فعلى هذا إذا جاء مدد بعد ذلك ، أو انفلت أسير فلا شيء له ، لأنه حصل بعد ملك الغنيمة . وإن وجد قبل ذلك شاركهم ( وعن القاضي ) أن الغنيمة تملك بانقضاء الحرب ، وإن لم تحرز ، وهو الذي اعتمده أبو البركات في محرره ، لأنها إذاً حصل الاستيلاء عليها ، فملكت كسائر المباحات ، فعلى هذا إذا جاء المدد أو الأسير بعد انقضاء الحرب فلا شيء له وإن لم تحرز الغنيمة .
3385 وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله بعث أبان بن سعيد بن العاص على سرية من المدينة قبل نجد ، فقدم أبان بن سعيد وأصحابه على رسول الله بخيبر ، بعد أن فتحها وإن حزم خيلهم ليف ، قال أبان : اقسم لنا يا رسول الله ، قال أبو هريرة فقلت : لا تقسم لهم يا رسول الله . فقال أبان : وأنت بهذا يا وبر متحدر من رأس ضأن . فقال النبي : ( اجلس يا أبان ) ولم يقسم لهم رسول الله ، رواه أبو داود ، والبخاري تعليقاً ، وهذا ظاهره أنه بعد الإحراز .
3386 وما جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : 16 ( قدمنا فوافقنا رسول الله حين افتتح خيبر ، فأسهم لنا ؛ أو قال : أعطانا منها شيئاً ؛ وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهد معه إلا أصحاب سفينتنا ، مع جعفر وأصحابه ، قسم لهم معهم . محمول على أنهم قدموا وقت الفتح ، قبل الإحراز ، أو أن هذا كان خاصاً بهم ) .
قال : ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش فلم يحضر الوقعة أسهم له .
ش : وذلك كالطليعة والجاسوس والرسول .
3387 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قام يعني يوم بدر فقال : ( إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله ، وأنا أبايع له ) فضرب له رسول الله بسهم ، ولم يضرب لأحد غاب غيره ، رواه أبو داود .
3388 وعنه أيضاً قال : أما تغيب عثمان رضي الله عنه عن بدر فإنه كان تحته بنت رضي الله عنه وكانت مريضة ، فقال له النبي : ( إن لك أجر رجل وسهمه ) رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه ، ولأنه في مصلحتهم ، فأشبه السرية مع الجيش .
قال : وإذا سبوا لم يفرق بين الوالد وولده ، ولا بين الوالدة وولدها .
ش : يعني لا يفرق بينهم في القسم .
3389 أما بين الوالدة وولدها فلما روي عن أبي أيوب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ) رواه أحمد والترمذي .
3390 وعن علي رضي الله عنه أنه فرق بين والدة وولدها ، فنهاه النبي عن ذلك ، ورد البيع . رواه أبو داود ، مع أن هذا إجماع فيها مع ولدها الطفل ، وأما بين الوالد وولده فلأنه أحد الأبوين فأشبه الأم ، ولما سيأتي في الأخوين ، وإذا منع التفريق بين الأخوين فبين الأب وولده أولى ، والله أعلم .
قال : والجد في ذلك كالأب ، والجدة كالأم .
ش : لأنه إذا منع التفريق بين الأخوين فبين الجد وابن ابنه والجدة وابن ابنها أولى ، ويقال من الأعز من الولد وولد الولد ، ولأنهما يقومان مقام الأبوين في الحضانة ، والميراث ، والنفقة ، فكذلك في تحريم التفريق ، ولا فرق بين الجد والجدة من قبل الأب والأم ، ولا بين الجد الأعلى والأدنى ، لأن للجميع ولاية .
قال : ولا يفرق بين أخوين ولا أختين .
3391 ش : لما روي عن علي رضي الله عنه قال : أمرني النبي أن أبيع غلامين أخوين ، فبعتهما وفرقت بينهما ، فذكرت ذلك له فقال : ( أدركهما فارتجعهما ، ولا تبعهما إلا جميعاً ) رواه أحمد . وفي رواية : وهبني النبي غلامين أخوين ، فبعت أحدهما ، فقال لي رسول الله : ( ما فعل غلامك ) ؟ فأخبرته ، فقال : ( ردّه ) رواه الترمذي وابن ماجه . وظاهر كلام الخرقي أنه يجوز التفريق بين سائر الأقارب عدا من تقدم ، وهو الذي نصبه أبو محمد في المغني للخلاف ، إذ الأصل حل البيع ، خرج منه من تقدم ، فمن عداه يبقى على مقتضى الأصل ، وقال عامة الأصحاب وتبعه أبو محمد في كتابه الصغير : لا يفرق بين كل ذي رحم محرم ، قياساً على الإخوة ، ولا نزاع في جواز التفريق بين سائر الأقارب عدا ذي الرحم المحرم ، كما يجوز التفريق بين الأم وابنتها من الرضاع ، لعدم النص في ذلك ، وامتناع القياس على المنصوص لقوّته ، وحيث منع التفريق ( فهل ذلك مطلقاً ) وإن حصل البلوغ . وهو ظاهر إطلاق الخرقي ، وإطلاق الأحاديث السابقة ( أو يجوز ) ذلك بعد البلوغ .
3391 م لما روى سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع أبي بكر رضي الله عنه أمّره علينا رسول الله فغزونا فزارة ، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر رضي الله عنه فعرّسنا ، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر رضي الله عنه فشنينا الغارة ، فقتلنا على الماء من قتلنا ، قال : فنظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء نحو الجبل ، وأنا أعدو في أثرهم ، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل ، فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل ، قال : فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر ، وفيهم امرأة من فزارة ، عليها قشع من أدم ، ومعها ابنة لها من أحسن العرب ، قال : فنفلني أبو بكر رضي الله عنه ابنتها ، فلم أكشف لها ثوباً حتى قدمت المدينة ، ثم بت فلم أكشف لها ثوباً ، قال : فلقيني النبي في السوق ، فقال : ( يا سلمة هب لي المرأة ) فقلت : يا رسول الله لقد أعجبتني ، وما كشفت لها ثوباً ، فسكت وتركني ، حتى إذا كان من الغد لقيني في السوق فقال : ( يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك ) فقلت : هي لك يا رسول الله ، قال : فبعث بها إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين ، ففداهم بتلك المرأة ، رواه أحمد ومسلم وأبو داود .
( تنبيه ) : والتفريق الممنوع منه التفريق في الملك ، سواء كان ذلك بالبيع أو بالهبة ، أو بغير ذلك إلا في العنق ، وافتداء الأسرى ، وكذلك إذا اشترى أمة فحملت عنده وولدت ، ثم اطلع على عيب فأراد رد الأم وإمساك الولد ، قاله جماعة من الأصحاب ، وخالفهم الشيخان وهو الصواب ، فقالا : يتعين هنا الأرش لتعذر التفرقة .
قال : ومن اشترى منهم وهم مجتمعون ، فتبين أن لا نسب بينهم رد إلى المقسم الفضل الذي فيه بالتفريق .
ش : إذا اشترى إنسان من لا يجوز التفريق بينهم ، أو حصلوا في سهمه ، ثم تبين أن لا نسب بينهم ، رد الفضل الذي فيهم على المغنم ، أو على الذي اشترى منه ، لأن قيمتهم تزيد بذلك وتنقص ، لكونهما نسيبين ، وصار هذا كما لو اشترى شيئاً فبان معيباً ، فإنه أرجع بالأرش ، كذلك هنا ، يرجع عليه بالزيادة ( واعلم ) أن الخرقي لم يذكر إلا أنه يرد الفضل ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني والكافي ، والقياس أنه يخير بين الرد أو رد الفضل ، والله أعلم .
قال : ومن سبي من أطفالهم منفرداً ، أو مع أحد أبويه فهو مسلم ، ومن سبي مع أبويه كان على دينهما .
ش : من سبي من أطفال الكفار منفرداً عن أبويه حكم بإسلامه إجماعاً ، لانقطاع تبعيته عنهما الذي صار بها كافراً ، وإن سبي معهما فهو باق على دينهما في قول العامة ، لبقاء التبعية .
3392 قال : ( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) الحديث وقد تقدم ، فهنا الأبوان باقيان ، فهو باق على كفره ، وفي التي قبلها قد عدما ، فيصير على أصل الفطرة ، وإن سبي مع أحدهما ( فهل يحكم ) بإسلامه ، لانقطاع تبعيته عن مجموع الأبوين ، إذ تبعيته لهما معلقة بوجودهما ، وتغليباً للسابي والدار ، وهو الذي قطع به أبو محمد ، ( أو لا يحكم ) بإسلامه ، لأنه قد ثبتت له التبعية ، فلا تنقطع إلا بانعدامهما ؟ على روايتين .
( تنبيه ) المميز كالطفل على المنصوص ، وقيل بل كالبالغ ، فلا يحكم بإسلامه حتى يسلم بنفسه .
قال : وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم ، فأدركه صاحبه قبل القسمة فهو أحق به .
3393 ش : لما روى نافع أن عبداً لابن عمر رضي الله عنهما أبق فلحق بالروم ، فظهر عليه خالد فرده إلى عبد الله وأن فرساً لعبد الله غار فظهروا عليه ، فرده إلى عبد الله ؛ رواه البخاري وأبو داود . قال البخاري : وقال في رواية في الفرس : على عهد رسول الله ولأبي داود في العبد في رواية قال : فرد عليه رسول الله ولم يقسم .
3394 ولحديث العضباء ناقة رسول الله .
3395 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول : ( من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له ) رواه الدارقطني ، ولكنه ضعيف .
3396 وعن رجاء بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما : فيما أحرز المشركون من المسلمين ، ثم ظهر المسلمون عليهم بعد ؟ قال : ومن وجد ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم ، رواه سعيد .
قال : فإن أدركه مقسوماً فهو أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم ، في إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى إذا أقسم فلا حق له فيه بحال .
ش : ( الرواية الأولى ) نص عليها في رواية إسحاق بن إبراهيم ، جمعاً بين الحقين ، إذ حق مالكه تعلق به قبل القسمة ، فلما قسم أو بيع ءن قيل : إنه يأخذه بغير شيء . أفضى إلى ضياع حق الآخذ له ، وإن قلنا : لا يأخذه أصلاً أفضى إلى ضياع حقه ، فقلنا : يرجع فيه ، ويغرم القيمة أو الثمن جميعاً ، إعمالاً للحقين ما أمكن .
3397 ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً وجد بعيراً له في المغنم ، وقد كان المشركون أصابوه قبل ذلك ، فسأل عنه النبي ، فقال رسول الله : ( إن وجدته قبل أن يقسم فهو لك ، وإن وجدته قد قسم أخذته بالثمن إن شئت ) ذكره ابن حزم أو ابن عدي ، لكنه من رواية الحسن بن عمارة وهو متروك ، وروي أيضاً من حديث مسلمة بن علي ، وإسماعيل بن عياش وهما ضعيفان . ( والرواية الثانية ) رواها عنه جماعة ، لما تقدم عن عمر رضي الله عنه .
3398 وعنه أيضاً أنه كتب إلى السائب : 16 ( أيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه أو متاعه بعينه فهو أحق به من غيره ، وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما قسم فلا سبيل إليه ) .
3399 وعن سلمان بن ربيعة : إذا قسم فلا حق له فيه . رواهما سعيد . ولأن الأصل أن صاحبه لا يرجع فيه بحال ، لأنه مال انتقل إلى المسلمين من أموال الكفار ، فكان غنيمة كبقية أموالهم ، خرج منه ما قبل القسمة لقضية النص ، ولعدم تعلق حق معين به ، فما عداه يبقى على مقتضى الأصل .
وقول الخرقي : أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم ، يحتمل أنه يريد إذا اشتراه مشتر من المغنم بثمن ، فصاحبه أحق به بذلك الثمن ، ويحتمل أن يريد إذا حسب عليه بثمن ، أي بقيمة فصاحبه أحق به بذلك ، والأول أظهر في كلامه ، وبالجملة الخلاف في كلتي الصورتين ، و أبو البركات يحكي رواية ثالثة : أن في المقسوم لا حق له ، وفي المشتري يأخذه بالثمن ، وقال : إنه المشهور عن الإمام .
واعلم أن هذا الذي ذكره الخرقي يستدعي أصلاً ، وهو أن الكفار يملكون أموال المسلمين في الجملة ، وإلا إذا لم يملكوها فلا فرق بين قبل القسم وبعده ، وهذا هو المشهور ، وعليه تجري عامة نصوص الإمام ، واختار أبو الخطاب في تعليقه أنهم لا يملكونها ، وقال : إنه ظاهر كلام أحمد ، وتوجيه القولين ، والتفريع عليهما له محل آخر ، ومن المتأخرين من قال : إن الخلاف في الملك مبني على الخلاف في تكليف الكفار بالفروع ، وليس بجيد ، فإنه لا ريب أن المشهور ثم تكليفهم بها ، والمشهور الحكم بملكهم هنا ، ثم إنه لا نزاع أن الحربي لا يجري عليه حكم الإسلام في زناه وسرقته وقتله ونحو ذلك ، إنما فائدة ذلك العقاب في الآخرة ، وإذا قلنا يملكونها فهل ذلك بمجرد القهر والغلبة ، أو لا بد مع ذلك من الحوز إلى ديارهم ، وهو اختيار القاضي في روايتيه ؟ فيه روايتان .
قال : ومن قطع من مواتهم حجراً أو عوداً ، أو صاد حوتاً أو ظبياً ، رده على سائر الجيش إذا استغنى عن أكله والمنفعة به .
ش : ملخصه أن من أصاب من مباح دار الحرب شيئاً له قيمة فهو غنيمة .
3400 لما روي عن أبي الجويرية قال : أصبت جرة حمراء فيها دنانير ، في إمارة معاوية ، في أرض الروم ، قال : وعلينا رجل من أصحاب النبي من بني سليم ، يقال له معن بن يزيد ، فأتيته بها فقسمها بين المسلمين ، وأعطاني مثل ما أعطى رجلاً منهم ، ثم قال : لولا أني سمعت رسول الله يقول : ( لا نفل إلا بعد الخمس ) لأعطيتك . قال : ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت . رواه أحمد وأبو داود ، ولأنه أخذ بقوة المسلمين ، فكان غنيمة كالمأخوذ منهم ، وإن كان المأخوذ لا قيمة له ، كالأقلام والأحجار فهو لآخذه ، وإن صار له قيمة بعد ذلك بنقله ومعالجته ، نص عليه أحمد ، وقاله الشيخان اعتباراً بحاله الراهنة ، وهذا يدخل في كلام الخرقي ، وشرط الرد في المغنم أن يستغني عن أكله والمنفعة به ، لأنه لو وجد طعاماً مملوكاً لهم كان له أكله إذا احتاج إليه ، فالمباح أولى .
قال : ومن تعلف فضلاً عما يحتاج إليه رده على المسلمين .
ش : إذا تعلف الإنسان من دار الحرب علفاً ، فله أن يعلف دابته بغير إذن .
3401 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه ، رواه البخاري .
وعنه أيضاً أن جيشاً غنموا في زمان رسول الله طعاماً وعسلاً ، فلم يؤخذ منه الخمس . رواه أبو داود .
3403 وعن عبد الله بن مغفل قال : أصبت جراباً من شحم يوم خيبر ، فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم من هذا شيئاً ، فالتفت فإذا رسول الله مبتسماً . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ، وحكم علف دوابنا حكم طعامنا ، بجامع أن الحاجة قد تدعو إليهما ، إذ الحمل فيه مشقة ، وكذلك الشراء من دار الحرب ، فاقتضت الحكمة إباحة ذلك توسعة على الناس ، ورفعاً للحرج والمشقة ، ومن ثم إذا كان معه فهد أو كلب لم يكن له إطعامه ، لأن هذا يراد للتفريج ، فلا حاجة إليه في الغزو ، فإن تعلف فضلاً عما يحتاج إليه رد الفاضل ، لأن المقتضي للجواز في الأصل الحاجة ، فإذا انتفت انتفى الجواز ، وإذاً يرد الفاضل على المسلمين ، إما في المغنم وإما لبعض الجيش ، فيصير ذلك كالواجد له ابتداء ، وحكم الطعام حكم العلف إذا أخذ طعاماً له أن يأكل منه ، والأحاديث إنما وردت فيه ، فإن أخذ أكثر مما يحتاج إليه رد الفاضل .
3404 وقد روى ابن أبي أوفى قال : أصبنا طعاماً يوم خيبر ، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق . رواه أبو داود .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) الاحتياج هنا أن يكون به حاجة إلى مثله في الجملة ، وإن كان مما يمكنه أن يستغني ، فلو أصاب طعاماً أو علفاً وعنده مثل ذلك ، كان له أكله ، وعلف دوابه ، وإمساك ما عنده ، هذا مقتضى كلام أبي محمد ، وهو حسن ، ونظير الحاجة هنا نظير الحاجة إلى الضبة كما تقدم . ( الثاني ) قد تقدم للخرقي وغيره من الأصحاب أنه لا يجوز التعلف إلا بإذن الأمير . وقالوا هنا : من أخذ علفاً له أن يعلف دوابه منه بغير إذن ، وهذا يشمل ما إذا تعلف بإذن وبغير إذن ، وأبلغ من هذا أن في كلام أبي محمد ما يقتضي أن له ذلك وإن نهاه الإمام ، قال : إذا دخل الغزاة دار الحرب فلهم أن يأكلوا ما وجدوا من الطعام ويعلفوا دوابهم .
3405 وقال الزهري : لا يؤخذ إلا بإذن الإمام ، وقال سليمان بن موسى : لا يتركه إلا أن ينهى عنه الإمام ، وهذا يقتضي أنه ينتفع بذلك وإن نهى عنه الإمام ، لا يقال تحمل هذه المسألة على ما إذا وجد علفاً ، وثم على ما إذا تعلف ، أي خرج لطلب العلف ، لأن الخرقي قال هنا : تعلف كما قال ثم .
قال : فإن باعه رد ثمنه في المقسم .
ش : أي إذا باع شيئاً من العلف رد ثمنه في المغنم ، كذا قال الشيخان وغيرهما .
3406 لما روى سعيد في سننه أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر رضي الله عنه : إنا أصبنا أرضاً كثيرة الطعام والعلف ، وكرهت أن أتقدم في شيء من ذلك ، فكتب إليه عمر رضي الله عنه : دع الناس يعلفون ويأكلون ، فمن باع منهم شيئاً بذهب أو فضة ففيه خمس الله ، وسهام المسلمين . ولأن له فيه حقاً فصح بيعه ، كما إذا تحجر مواتاً ، وفرق القاضي ، وتبعه أبو محمد في الكافي ، فقال : إن باعه لغير غاز فالبيع باطل ، لأنه باع مال الغنيمة بغير إذن ، وإذاً يرد المبيع إن كان باقياً ، أو قيمته أو ثمنه إن كان أكثر إن كان تالفاً ، وإن باعه لغازٍ فلا يخلو إما أن يبيعه بطعام أو علف مما له الانتفاع به ، أو بغير لك . ( فالأول ) ليس بيعاً في الحقيقة ، إنما دفع إليه مباحاً ، وأخذ مثله ، فلكل منهما الانتفاع بما صار إليه ، ويصير أحق به لثبوت يده عليه ، ويتفرع على هذا أنه لو باع صاعاً بصاعين ، أو افترقا قبل القبض جاز إذ لا بيع ، وإن أقرضه إياه فقبضه فهو أحق به ، ولا يلزمه إيفاؤه ، فإن وفاه أو ردّه إليه عادت يده كما كانت ، ( والثاني ) لا يصح البيع أيضاً ، ويصير المشتري أحق به ، استناداً لليد ، ولا ثمن عليه ، حتى لو أخذ منه رد إليه . قال : ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم .
ش : يعني أن الجيش إذا دخل دار الحرب ، فخرجت منه سرية أو أكثر ، فإذا غنم الجيش شاركته السرية ، وإن غنمت السرية شاركها الجيش ، بعد أن يدفع إليها نفلها كما تقدم .
3407 لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله : ( المسلمون تتكافؤ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، ويجير عليهم أقصاهم ، وهم يد على من سواهم ، ويرد مشدهم على مضعفهم ، ومتسريهم على قاعدهم ) رواه أبو داود ، وقال أحمد في رواية أبي طالب قال النبي : ( السرية ترد على العسكر ، والعسكر يرد على السرية ) .
قال : ومن فضل معه من الطعام ، فأدخله البلد ، طرحه في مقسم تلك الغنيمة ، في إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى : مباح له أكله إذا كان يسيراً .
ش : الرواية الأولى نص عليها في رواية ابن إبراهيم ، واختارها الخلال وصاحبه والقاضي وأبو الخطاب في خلافيهما ، للاستغناء عنه ، وإذاً يزول المقتضي للإمساك . ( والثانية ) نص عليها في رواية أبي طالب في الطبخة والطبختين من اللحم ، والعليقة والعليقتين من الشعير ، يدخله طرسوس ، لا بأس به ، لأن اليسير مما تجري المسامحة فيه .
3408 وقد قال الأوزاعي : أدركت الناس يقدمون بالقديد ، فيهديه بعضهم إلى بعض ، لا ينكره إمام ولا عامل ولا جماعة .
3409 وعن القاسم مولى عبد الرحمن ، عن بعض أصحاب رسول الله قال : كنّا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه ، حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مملوءة . رواه أبو داود ، وهذه واقعة عين ، لأنه يحمل إلى رحالهم وهم مسافرون ، ولا نزاع في وجوب رد الكثير ، إذ المسامحة لم تجربه ، بخلاف الكثير ، ولأن المبيح الحاجة ، وفي الكثير قد بينا أن لا حاجة به إليه .
قال : وإذا اشترى المسلم أسيراً من أيدي العدو ، لزم الأسير أن يؤدي إليه ما اشتراه به .
ش : لأن الأسير يجب عليه فداء نفسه ، ليخرج من حكم الكفار ، فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه ، كما لو قضى الحاكم عنه حقاً امتنع من أدائه .
3410 وقد روى سعيد في سننه بسنده عن الشعبي قال : أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب ، فأصابوا سبايا من سبايا العرب ، فكتب السائب بن الأقرع إلى عمر رضي الله عنه في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم ، قد اشتراه التجار من أهل ماه ، فكتب عمر رضي الله عنه : أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره ، وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما قسم فلا سبيل إليه ، وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رؤوس أموالهم ، فإن الحر لا يباع ولا يشترى ؛ ولم يفرق الخرقي بين أن يكون ذلك بإذن الأمير أو بغير إذنه ، وصرح به غيره ، ولم يجروا فيه رواية الضمان .
وقول الخرقي : إذا اشترى المسلم ، خرج مخرج الغالب ، وإلا لو اشترى الأسير ذمي كان الحكم كذلك .
قال : وإذا سبى المشركون من يؤدي إلينا الجزية ، ثم قدر عليهم ردوا إلى ما كانوا عليه ولم يسترقوا .
ش : أهل الحرب إذا استولوا على أهل ذمتنا ، ثم قدر عليهم وجب ردهم إلى ذمتهم ، فلا يجوز استرقاقهم ، لبقاء ذمتهم ، وانتفاء ما يوجب نقضها ، وهذا والله أعلم اتفاق .
قال : وما أخذه العدو منهم من رقيق أو مال رد إليهم إذا علم به قبل أن يقسم .
ش : يعني أن حكم أموالهم حكم أموال المسلمين ، على ما تقدم شرحه .
3411 قال علي رضي الله عنه : إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا ، وأموالهم كأموالنا ، فيدفع إليه قبل القسمة وفيما بعدها على الخلاف .
قال : ويفادى بهم بعد أن يفادى بالمسلمين .
ش : ظاهر كلام الخرقي أنه يجب فداؤهم وإن لم يكونوا في معونتنا ، وتبعه على ذلك أبو الخطاب في الهداية ، وأبو محمد في المغني ، لأنا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم ، فلزمنا القتال دونهم ، فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم ، لزمنا ذلك كالمسلمين ، والمنصوص عن أحمد ، واختيار القاضي أنه إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الإمام ، لأن أسرهم إذاً كان لمعنى من جهته ، وحيث وجب فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم ، إذ حرمة المسلمين أعظم ، وهو بصدد أن يفتن عن دينه الحق ، بخلاف الذمي ، وقد فهم من كلام الخرقي أنه يجب فداء المسلم ، وهو كذلك .
3412 وقد فادى رسول الله .
3413 وفي الحديث : ( أطعموا الجائع ، وعودوا المرضى ، وفكّوا العاني ) أي الأسير .
قال : وإذا حاز الأمير المغانم ، ووكل بها من يحفظها ، لم يجز أن يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة بأن لا يجدوا ما يأكلون .
ش : هذا تقييد للمسألة السابقة ، وهو أن من أخذ من دار الحرب طعاماً أو علفاً ، فله أكله وعلف دابته منه بغير إذن ، بشرط أن لا يجوز الإمام المغانم ، أما إذا حازها ووكل بها من يحفظها ، فإنه لا يجوز لأحد أخذ شيء منه إلا لضرورة على المنصوص ، واختيار أبي محمد ، لأنها قبل ذلك بمنزلة المباحات ، فإذا فعل فيها ذلك قوي ملك المسلمين فيها ، ولا فرق في ذلك بين دار الحرب ودار الإسلام ، وجوز القاضي في المجرد الأكل منها في دار الحرب مطلقاً لأن دار الحرب مظنة الحاجة ، بخلاف دار الإسلام .
قال : ومن اشترى من المغنم في بلاد الروم ، فتغلب عليه العدو ، لم يكن عليه شيء ، وإن كان قد أخذ منه الثمن رد إليه .
ش : إذا باع الإمام بعض الغنيمة لمصلحة قبل قسمها ، أو قسمها فباع بعضهم بعضاً وتقابضا ، ثم غلب العدو على المشتري فأخذه ، فهل هو ( من ضمان البائع ) وهو اختيار الخرقي ، لعدم كمال القبض ، إذ الغنيمة في دار الحرب على خطر من العدو ، لتشوف أنفسهم إليها ، فأشبهت التمر المبيع على رؤوس النخل إذا تلف قبل الجذاذ ، أو ( من ضمان المشتري ) وهو المشهور عن أحمد ، واختيار الخلال وصاحبه ، والقاضي ، لأنه مال مقبوض ، أبيح لمشتريه التصرف فيه ، فكان ضمانه عليه ، كما لو أحرز إلى دار الإسلام ، ولأن نماءه للمشتري ، فكان ضمانه عليه ، لقوله عليه السلام : ( الخراج بالضمان ؟ ) على روايتين ، وقيد أبو محمد الخلاف بما إذا لم يحصل تفريط من المشتري ، أما إن حصل منه تفريط ، كأن خرج بما اشتراه من العسكر ونحو ذلك ، فإن ضمانه عليه بلا خلاف .
ثم إن الخرقي إنما ذكر ذلك فيما اشترى من المغنم ، وكذلك الشيخان وأبو الخطاب ، ونصوص أحمد أيضاً إنما وردت في ذلك ، فعلى هذا ما اشتري من غير الغنيمة يكون ضمانه على المشتري بلا نزاع ، والقاضي ترجم المسألة في روايتيه فيما إذا تبايع نفسان في دار الحرب وتقابضا ، ثم غلب المشركون على المبيع فأخذوه ، وعلل رواية أن الضمان على البائع بأنه إذا كانت حال خوف فالقبض غير حاصل ، بدليل ما لو ابتاع شيئاً في دار الإسلام ، وسلمه في موضع فيه قطاع الطريق ، لم يكن ذلك قبضاً صحيحاً ، ويتلف من ضمان البائع ، كذلك هنا ، وهذه الترجمة والتعليل يشمل الغنيمة وغيرها ، وهنا شيء آخر وهو أن القاضي والشيخين إنما حكوا الخلاف بعد القبض ، ومقتضى هذا أن قبل القبض يكون ذلك من ضمان البائع . رواية واحدة . والخرقي رحمه الله لم يتعرض للقبض ، فقد يقال : إن كلامه محمول على ما قبل القبض ، والذي أخذ منه القاضي في روايتيه مذهب الخرقي ، وهو رواية أبي طالب ، ظاهرها كذلك ، فإنه قال : إذا اشتروا الغنيمة في أرض العدو ، ثم غلبوا عليها ، لا يؤخذ منهم الثمن ، لأنه لم يسلم لهم ما اشتروه ، وعلى هذا يرتفع الخلاف ، ويكون قبل القبض من مال البائع ، وبعده من مال المشتري ، وأبو الخطاب ترجم المسألة بما إذا وقع بعد لزوم البيع ، وقد فهم من كلام الخرقي أنه يجوز قسم الغنيمة وتبايعها في دار الحرب ، وهو كذلك .
قال : وإذا حورب العدو لم يحرقوا بالنار .
ش : أي لا يرموا بالنار ونحو ذلك ، ( وهو إحدى الروايتين ) وبها قطع أبو محمد في المغني .
3414 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : بعثنا رسول الله في بعث فقال : ( إن وجدتم فلاناً وفلاناً لرجلين من قريش فأحرقوهما بالنار ) ثم قال حين أردنا الخروج ( إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً ، وإن النار لا يعذب بها إلا الله ، فإن وجدتموهما فاقتلوهما ) ، رواه البخاري وأبو داود والترمذي وصححه .
3415 وفي الصحيح أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال : ( لا يعذب بالنار إلا رب النار ) ، ويستثنى من ذلك إذا لم يقدر عليهم إلا بذلك ، ارتكاباً لأدنى المفسدتين لدرء أعلاهما ، ولهذا جاز رمي المسلم المتترس به إذا خيف على المسلمين ، وكذلك إذا كانوا يفعلون ذلك بنا نفعل بهم ، لينتهوا عن ذلك ، ولعموم 19 ( { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ) ، وقوله تعالى : 19 ( { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ) ، ونحو ذلك .
3416 وعلى هذا يحمل ما روي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : بعثني رسول الله إلى قرية يقال لها أبنى فقال : ( أيتها صباحاً ثم حرق ) رواه أحمد وأبو داود ، ويحمل ذلك على أنه كان قبل النهي عن التحريق .
( والرواية الثانية ) يجوز رميهم بالنار ، لحديث أسامة .
3417 ولما روى سعيد بإسناده عن صفوان بن عمرو وحريز بن عثمان ، أن جنادة بن أبي أمية الأزدي ، وعبد الله بن قيس الفزاري ، وغيرهما من ولاة البحر ومن بعدهم ، كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار ، ويحرقونهم هؤلاء لهؤلاء ، وهؤلاء لهؤلاء . قال عبد الله بن قيس : ولم يزل أمراء المسلمين على ذلك . ويحمل ما تقدم على ما إذا صاروا في قبضتنا ، فإنه لا نزاع أنهم لا يحرقون ، ويستثنى من ذلك على هذه الرواية ما إذا كان تحريقهم يضر بالمسلمين ، فإنه لا يفعل بلا ريب .
قال : ولم يغرقوا النخل .
3418 ش : لما روي عن يحيى بن سعيد ، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث جيوشاً إلى الشام ، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان ، وكان يزيد أمير ربع من تلك الأرباع ، فقال : إني موصيك بعشر خلال : لا تقتلوا امرأة ، ولا صبياً ، ولا كبيراً هرماً ، ولا تقطع شجراً مثمراً ، ولا تخربن عامراً ، ولا تغرقن شاة ، ولا بعيراً إلا لمأكله ، ولا تغرقن نخلاً ، ولا تحرقه ، ولا تغلل ، ولا تجبن . رواه مالك في الموطأ .
3419 وروي عن مكحول قال : أوصى رسول الله أبا هريرة رضي الله عنه ثم قال : ( إذا غزوت فذكر أشياء قال ولا تحرقن نخلاً ، ولا تغرقنه ، ولا تؤذين مؤمناً ) .
3420 وعن القاسم مولى عبد الرحمن ، قال : قال النبي وذكر نحوه ( ولا تحرقن نخيلاً ولا تغرقها ، ولا تقطع شجرة ثمر ، ولا تقتلن بهيمة ليست لك بها حاجة ، واتق أذى المؤمن ) رواهما أبو داود في المراسيل .
3421 ولعموم نهي النبي عن قتل النحل ، وقتل شيء من الحيوان صبراً ، وحكم تغريقه حكم قتله .
قال : ولا تعقر شاة ولا دابة إلا لأكل لا بد لهم منه .
ش : أما عقر ذلك وإتلافه لغير الأكل فلا يخلو إما أن يكون في الحرب ، أو في غيرها ، فإن كان في الحرب فإنه يجوز بلا خلاف ، قاله أبو محمد ، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ، إذ قتل بهائمهم مما يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم ، وهو المراد كيف ما أمكن . ولهذا جاز قتل نسائهم وصبيانهم في البيات ، بخلاف ما إذا قدر عليهم منفردين ، وقد تقدم حديث المددي الذي عقر فرس الرومي ، وإن كان في غير حال الحرب لم يجز ، لما تقدم في وصية أبي بكر رضي الله عنه ولنهيه عن قتل الحيوان صبراً ، واختار أبو محمد جواز ذلك إن كان مما يستعين به الكفار في القتال ، كالخيل ، بشرط أن يعجز المسلمون عن سياقته وأخذه ، لأنه يحرم إيصال ذلك إلى الكفار بالبيع ونحوه ، فتركه لهم بلا عوض أولى بالتحريم ، ومال أبو العباس إلى الجواز على سبيل المقابلة ، كما سيأتي في الزرع ، وأما العقر للأكل فإن لم يكن بد من ذلك فيباح بلا خلاف . إذ ذلك يبيح مال المعصوم ، فالكافر أولى ، وإن لم تكن الحاجة داعية إلى ذلك فإن كان الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج والحمام ، وسائر الطيور ، فهذا كالطعام في قول الجميع ، قاله أبو محمد ، وإن كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل ، لم يبح ذبحه للأكل في قولهم جميعاً ، قاله أبو محمد أيضاً . وإن كان قد تقدم أنه هو يبيح عقر هذا لغير الأكل بشرطه فللأكل أولى ، وإن كان غير ذلك كالبقر والغنم ونحوهما لم يبح في قول الخرقي وغيره .
3422 لما روي عن رجل من الأنصار رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله في سفر ، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد ، وأصابوا غنماً فانتهبوها ، فإن قدورنا لتغلي ، إذ جاء رسول الله يمشي على قوسه ، فأكفأ قدورنا بقوسه ، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ، ثم قال : ( إن النهبة ليست بأحل من الميتة ، أو إن الميتة ليست بأحل من النهبة ) رواه أبو داود . وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد إباحة ذلك ، وهو اختيار أبي محمد ، لظاهر ما تقدم عن أبي بكر رضي الله عنه وقياساً لذلك على الطعام ، و أبو البركات قال : لا يعقر إلا لأكل يحتاج إليه ، فيحتمل أن يكون كقول الخرقي ، ويحتمل أن يكون أعم ، واستثنى أبو محمد من قول الخرقي أن يأذن الإمام في ذلك .
3423 لما روى عطية بن قيس قال : كنا إذا خرجنا في سرية فأصبنا غنماً نادى منادي ازمام : ألا من أراد أن يتناول شيئاً من هذه الغنم فليتناول ، إنا لا نستطيع سياقها . رواه سعيد .
قال : ولا يقطع شجرهم ، ولا يحرق زرعم إلا أن يكونوا يفعلون ذلك في بلدنا ، فنفعل بهم ذلك لينتهوا .
ش : حرق الشجر والزرع ينقسم ثلاثة أقسام ، ( أحدها ) : يجوز بلا خلاف على ما قال أبو محمد ، وهو ما إذا كانوا يفعلون ذلك بنا فنفعل ذلك بهم لينتهوا ، ولما تقدم ، أو لا يقدر عليهم إلا بذلك ، كالذي يقرب من حصونهم ، ويمنع من قتالهم ، أو يستترون به من المسلمين ونحو ذلك ، قال أبو محمد : أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريق ، أو تمكن من قتال أو سد بثق أو إصلاح طريق ، أو ستارة منجنيق ، ونحو ذلك .
( القسم الثاني ) ما يضر بالمسلمين قطعه ، لكونهم ينتفعون ببقائه للعلف أو الاستظلال ، أو أكل الثمرة ، أو لكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا ، فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا ، فلا يجوز دفعاً للضرر المنفي شرعاً .
( القسم الثالث ) ما عدا هذين ، وهو ما لا ضرر فيه ولا نفع سوى غيظ الكفار والإضرار بهم ، فهذا فيه روايتان . ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي وأبي الخطاب لا يجوز ، لما تقدم في وصية أبي بكر رضي الله عنه وحديث القاسم . ( والثانية ) وهي أظهر يجوز ، لما تقدم في حديث أسامة رضي الله عنه .
3424 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قطع نخل بني النضير وحرق ، ولها يقول حسان :
وهان على سراة بني لؤي

حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت ؛ 19 ( { ما قطعتم من لينة أو تركتموها } ) الآية متفق عليه ، ويحمل دليل الرواية الأولى على ما فيه نفع لنا ، وقرينة ذلك قوله : شجر مثمر .
قال : ولا يتزوج في أرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة ، فيتزوج مسلمة ويعزل عنها ، ولا يتزوج منهم .
ش : هذا تقييد لكلامه السابق ، وهو أن حرائر أهل الكتاب حلال ، وقد تقدم أن ظاهر كلامه الجواز ، بناء على عدم القيد ، وإذاً ظاهر كلامه المنع في دار الحرب وإن اضطر ، والجواز في دار الإسلام كما هو القول الثالث ثَم ، والقاضي لما كان مختاره جواز نكاح الحربيات من أهل الكتاب ، حمل كلام الخرقي على الكراهة التنزيهية ، وأبو محمد حمل كلام الخرقي على من دخل إليهم بأمان ، دون من كان في جيش المسلمين ، فيباح له التزويج .
3425 لما روي عن سعيد بن أبي هلال أنه بلغه أن رسول الله زوج أبا بكر رضي الله عنه أسماء بنت عميس رضي الله عنها وهم تحت الرايات . . . رواه سعيد . وقال : إن ظاهر كلام أحمد في الأسير المنع ، وإذاً هذا قول خامس : يمنع الأسير ، ومن دخل بأمان ، دون الداخل في الجيش .
وقال الخرقي : إنه إذا تزوج مسلمة يعزل عنها ، لأن أحمد كما تقدم إنما منع من أجل الولد ، خشية أن يستعبد ، ويصير على دينهم .
قال : ومن اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج وهو في أرضهم .
ش : هذا من نمط الذي قبله ، لأنه إذا وطىء في الفرج لا يأمن أن تلد ويغلبوه على ولدها ، فيسترقوه ويفتنوه عن الفطرة التي فطره الله عليها .
قال : ومن دخل في أرض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم .
ش : لأن إعطاءه الأمان مشروط بذلك عرفاً ، وإن لم يكن مذكوراً لفظاً ، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضاً للعهد ، وإذا كان ذلك مشروطاً لزم الوفاء به ، إعمالاً للشرط ، وحذاراً من الغدر ، فعلى هذا إن خانهم أو سرق منهم ، أو اقترض منهم ، ونحو ذلك وجب عليهم رد ذلك إلى أربابه ، وقوله : لم يخنهم في مالهم . يفهم منه بطريق التنبيه أنه لا يخونهم في أنفسهم .
قال : ولم يعاملهم بالربا .
ش : لأن ذلك نوع خيانة ، ولأن عقد الأمان اقتضى أنه يجري معهم على حكم الإسلام ، ومن حكم الإسلام تحريم الربا .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يكن ثم أمان كان له أن يعاملهم بالربا ، وهذا إحدى الروايتين . وبه قطع أبو البركات ، نظراً إلى أن له أن يتحيل على أخذ أموالهم بكل وجه من الوجوه ، إذ ليس ذلك بأسوأ حالاً من السرقة ونحوها ، ( والرواية الثانية ) وبها قطع أبو محمد لا يجوز ، إعمالاً لعموم آية تحريم الربا .
قال : ومن كان لهم مع المسلمين عهد فنقضوه حوربوا وقتل رجالهم .
ش : لأن المقتضي لعدم حربهم العهد وقد زال .
قال : ولم تسب لهم ذرية ، ولم يسترقوا إلا من ولد بعد نقضه .
ش : لأن العهد يشمل الرجال والذرية ، والنقض إنما وجد من الرجال ، فتختص إباحة الدم بهم ، وتبقى عصمة ذريتهم .
3426 قال 16 ( الإمام أحمد ) : قالت امرأة علقمة بن علاثة لما ارتد : إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد ، أما من حملت به أمه وولدته بعد النقض فإنه يجوز سبيه واسترقاقه بلا ريب ، لعدم ثبوت الأمان له بحال ، وكذلك من حملته قبل النقض ثم ولدته بعده ، على ظاهر كلام الخرقي ، وكلام أبي محمد ، اعتباراً بالولادة ، لأن بها ترتب الأحكام ، وظاهر كلام أبي البركات أنه لا يجوز سبيه ولا استرقاقه ، اعتباراً بحال انعقاده ، وقد تقدم للخرقي مثل ذلك في موضعين فنبهنا عليهما ، وحكم النساء حكم الذرية ، ولا فرق في هذا بين أن يكون العهد الذي لهم بذمة أو بأمان ، أما لو كان بهدنة فإن عهد ذريتهم ونسائهم ينتقض لنقضه فيهم ، لأن النبي سبى ذراري بني قريظة حين نقضوا عهده .
قال : وإذا استأجر الأمير قوماً يغزون مع المسلمين لمنافعهم لم يسهم لهم ، وأعطوا ما استؤجروا به .
ش : ظاهر هذا أنه يصح الاستئجار على الجهاد مطلقاً ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث وغيره ، قال في قوم استأجرهم الأمير في دار الإسلام ، على أن يغزو بهم ، هل يسهم لهم مع سهام المسلمين ؟ فقال : لهم الأجرة التي استؤجروا بها ، وليس لهم في الغنيمة شيء ، ولا يسهم لهم .
3427 وذلك لما روي عن جبير بن نفير قال : قال رسول الله : ( مثل الذي يغزون من أمتي ويأخذون الجعل يتقوون به على عدوهم ، مثل أم موسى ، ترضع ولدها وتأخذ أجرها ) رواه سعيد في سننه ، ولأنه أمر لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة ، بدليل صحته من الكافر ، فصح الاستئجار عليه كبناء المساجد ، ( وعن أحمد ) رضي الله عنه : أنه لا يصح الاستئجار عليه مطلقاً ، وهو اختيار القاضي في تعليقه ، وحمل كلام أحمد والخرقي على الاستئجار لخدمة الجيش ، كالاحتطاب ونحوه لا للقتال ، وذلك لأنه قربة وطاعة ، فلا يصح الاستئجار عليه ، كالأذان وصلاة الجنازة ، وتوسط القاضي في غير التعليق ، وأبو محمد في المقنع ، فصححه بمن لا يلزمه الجهاد ، كالعبد والمرأة ، بخلاف من يلزمه كالرجل الحر ، لأنه يتعين عليه بحضوره ، فلم يصح استئجاره عليه كالحج ، ومقتضى اختيار أبي محمد وأبي البركات صحة الاستئجار وإن لزمه ، إلا أن يتعين عليه فلا يصح ، وعليه حمل أبو محمد إطلاق الخرقي ، وهو متعين ، وحيث قلنا : لا يصح الاستئجار فإن وجود الإجارة كعدمها ، فللأجير السهم كما لو لم يكن إجارة ، وحيث قلنا بالصحة فهل يقسم للأجير ؟ فيه روايتان ، ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المقنع لا يسهم له .
3428 لما روى يعلى بن منية قال : أذن رسول الله بالغزو وأنا شيخ كبير ، ليس لي خادم ، فالتمست أجيراً يكفيني ، وأجري له سهمه ، فوجدت رجلاً ، فلما دنا الرحيل أتاني فقال : ما أدري ما السهمان ، وما يبلغ سهمي ؟ فسم لي شيئاً ، كان السهم أو لم يكن ، فسميت له ثلاثة دنانير ، فلما حضرت غنيمته أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت النبي فذكرت له أمره ، فقال : ( ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سماها ) رواه أبو داود . ( والثانية ) وهي اختيار الخلال وصاحبه : يسهم له ، لما تقدم من حديث جبير بن نفير ، وقول عمر رضي الله عنه : الغنيمة لمن شهد الوقعة .
3429 وفي مسلم وغيره في حديث طويل أن سلمة بن الأكوع كان أجيراً لطلحة رضي الله عنهما حين أدرك عبد الرحمن بن عيينة ، لما أغار على سرح رسول الله فأعطاه النبي سهم الفارس والراجل . وقد حمل هذا على أجير يقصد مع الخدمة والجهاد ، وحديث يعلى على من لم يقصد الجهاد أصلاً ، فعلى الرواية الأولى يعطى ما استؤجر به للجهاد ، لأنه عوض على عمل وقد عمله فاستحق ما جعل له في مقابلته ، وكذلك ينبغي على الثانية ، غايته أنه حصل له مع العوض زيادة وهو السهم .
( تنبيه ) : محل الخلاف فيمن استؤجر للجهاد ، أما الغزاة الذين يدفع إليهم من الفيء فلهم السهم ، لأن ذلك حق جعله الله لهم ليغزوا ، لا أنه عوض عن الجهاد ، وكذلك من يعطى من الصدقات ، وكذلك لو دفع دافع إلى الغزاة ما يتقوون به كان له أجره ولم يكن عوضاً .
3430 قال : ( من جهز غازياً كان له مثل أجره ) .
قال : ومن غل من الغنيمة حرق كل رحله إلا المصحف وما فيه روح .
ش : الغال هو الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة ، ولا يطلع عليه الإمام ، وهو محرم بلا ريب .
3431 فعن عمر رضي الله عنه قال : لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي فقالوا : فلان شهيد ، وفلان شهيد . حتى مروا على رجل فقالوا : فلان شهيد . فقال رسول الله : ( إني رأيته في النار في بردة غلّها أو عباءة ) ثم قال رسول الله : ( يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنّة إلا المؤمنون ) رواه أحمد ومسلم .
3432 وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : كان على ثقل رسول الله رجل يقال له كركرة ، فمات فقال رسول الله : ( هو في النار ) ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها ، رواه أحمد والبخاري .
3433 وحكمه أنه يحرق رحله لما روي عن صالح بن محمد بن زائدة قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم ، فأتي برجل قد غل ، فسأل سالماً عنه فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي قال : ( إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه ) قال : فوجدت في متاعه مصحفاً ، فسألت سالماً عنه فقال : بعه وتصدق بثمنه . رواه أحمد وأبو داود والترمذي .
3434 وعهن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما حرقوا متاع الغال ، رواه أبو داود وزاد في رواية تعليقاً : ومنعوه سهمه ، ويختص التحريق بالمتاع الذي غل وهو معه ، فلو استحدث متاعاً ، أو رجع إلى بلده وله فيه متاع ، أحرق ما معه حال الغلول فقط ، وإن انتقل المتاع عنه بهبة أو بيع ونحوهما فهل ينقض ذلك ويحرق لتعلق التحريق به قبل ذلك ، أو لا لأنه صار إلى غيره ، أشبه ما لو مات فصار إلى الورثة ؟ فيه احتمالان ( ويستثنى ) من المتاع الذي يحرق ( المصحف ) لحرمته . ولما تقدم من قول سالم فيه ( وما فيه روح ) لحرمته أيضاً ، ولنهي النبي أن يعذب بالنار إلا ربها ، ولم يستثن الخرقي غير هذين . ( واستثنى غيره السلاح ) لحاجته إليه في القتال ، وآلة دابته تبعاً لها ، وثيابه التي عليه ، حذاراً من تركه عرياناً ، ونفقته لأنها لا تحرق عادة ، قال أبو محمد : وينبغي أن يستثنى أيضاً كتب العلم والحديث ، إذ نفع ذلك يعود إلى الدين ، والمقصود ما أبقت النار من حديد ونحوه فإنه يبقى للغال ، ولأبي محمد احتمال في المصحف أن يباع ويتصدّق بثمنه ، اتباعاً لقول سالم ، وقول الخرقي : ومن غل . يشمل الذكر والأنثى ، والمسلم والذمي ، وهو كذلك ، وكذلك يشمل العبد والصغير ، وهما مستثنيان ، فالعبد ، لأن متاعه لسيده ، ولا يجني جان إلاّ على نفسه ، والصبي ، لأن الإحراق عقوبة ، والصبي ليس من أهلها .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يحرم سهمه ، وهو إحدى الروايتين ، إذ أكثر الروايات ليس فيها ذلك ، ( والثانية ) يحرم ، للرواية التي رواها أبو داود ، وظاهر كلامه أيضاً أن الحكم مختص بالغال ، فيخرج السارق ، وهو أحد الوجهين ، اقتصاراً على مورد النص . ( والثاني ) حكم السارق حكم الغال ، بجامع الخيانة فيهما .
قال : ولا يقام الحد على مسلم في أرض العدو .
3435 ش : لما روى بسر بن أرطاة أنه وجد رجلاً سرق في الغزو ، فجلده ولم يقطع يده . وقال : نهانا رسول الله عن القطع في الغزو . رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ، ولأن إقامة الحد والحال هذه مما يطمع العدو في المسلمين ، وربما كان المقام عليه الحد ضعيف الإيمان فيلحق بالعدو ، وبذلك علّل الصحابة رضي الله عنهم .
3436 فعن علقمة قال : كنّا في جيش في أرض الروم ، ومعنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعلينا الوليد بن عقبة ، فشرب الخمر ، فأردنا أن نحده فقال حذيفة : أتحدون أميركم ، وقد دنوتم من عدوكم ، فيطمع فيكم .
3437 وعن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ، ولا رجلاً من المسلمين حراً وهو غاز ، حتى يقطع الدرب قافلاً ، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار ، رواه سعيد .
3438 وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مثل ذلك . وقد أشعر كلام الخرقي أنه إذا رجع من أرض العدو أقيم عليه الحد ، وهو كذلك ، لعموم أمر الله ورسوله بإقامة الحدود ، ولقصة عمر رضي الله عنه .
قال : وإذا فتح حصن لم يقتل من لم يحتلم ، أو ينب ، أو يبلغ خمس عشرة سنة .
ش : إذا ظفر الأمير بالكفار لم يقتل صبياً .
3439 لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله ، فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان ، وفي رواية : فأنكر . رواه الجماعة إلا النسائي ، ولأن الصبي رقيق بنفس السبي ، ففي قتله إتلاف مال بلا ضرورة ، وإنه ممتنع والحال هذه بلا ريب .
والصبي هو من لم يبلغ ، ويعرف البلوغ بواحد من ثلاثة أشياء ( أحدها ) الاحتلام إجماعاً ، بشهادة النص بذلك ، قال الله تعالى : 19 ( { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ، كما استأذن الذين من قبلهم } ) .
34440 وقال النبي : ( لا يتم بعد احتلام ، ولا صمات يوم إلى الليل ) .
3441 وقال لمعاذ رضي الله عنه : ( خذ من كل حالم ديناراً ) .
3442 وقال : ( رفع القلم عن ثلاثة ذكر منها الصبي حتى يحتلم ) رواه أبو داود . ( والثاني ) إنبات الشعر الخشن حول القبل .
3443 لما روي عن عطية القرظي قال : عرضنا على النبي يوم قريظة ، فكان من أنبت قتل ، ومن لم ينبت خلي سبيله ، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي . رواه الخمسة وصححه الترمذي . وفي لفظ : فمن كان محتلماً أو نبتت عانته قتل ، ومن لا ترك . رواه أحمد والنسائي . ( الثالث ) بلوغ خمس عشرة سنة .
3444 لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : 16 ( عرضت على النبي يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني . رواه الجماعة ، قال نافع : فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال : هذا فصل ما بين الرجال وبين الغلمان . فمن لم يوجد فيه علامة من هذه فهو صبي ، وهذه العلامات يشترك فيها الذكر والأنثى ، وتزيد الأنثى بالحيض والحمل ) .
قال : ومن حارب من هؤلاء أو النساء أو الرهبان أو المشايخ في المعركة قتلوا .
ش : هذا والله أعلم اتفاق .
3445 وقد روي عن رباح بن ربيع رضي الله عنه أنه خرج مع رسول الله في غزوة غزاها ، وعلى مقدمته خالد بن الوليد رضي الله عنه فمر رباح وأصحاب رسول الله على امرأة مقتولة ، مما أصابت المقدمة ، فوقفوا ينظرون إليها ، ويعجبون من خلقها ، حتى لحقهم رسول الله على راحلته ، فانفرجوا عنها ، فوقف عليها رسول الله فقال : ( ما كانت هذه لتقاتل ) ، فقال لأحدهم : ( الحق خالداً فقال له : لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً ) ، رواه أحمد وأبو داود . وهذا يدل على أن المانع من القتل عدم القتال ، فمتى وجد القتال زال المانع ، ولعموم : 19 ( { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ) . وفي معنى القتال إذا كان لهم رأي فيه ، لأن الرأي أبلغ من القتال . قال أبو الطيب :
الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهي المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة

بلغت من العلياء كل مكان

ولربما طعن الفتى أقرانه

بالرأي قبل تطاعن الفرسان

3446 ولهذا قتل الصحابة رضي الله عنهم دريد بن الصمة ، لأنه يدبر أمر الحرب .
وقد فهم من كلام الخرقي أن النساء والرهبان والمشايخ إذا لم يقاتلوا لا يقتلون وهو كذلك ، أما في النساء فلما تقدم .
3447 ( وأما في الرهبان ) فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله إذا بعث جيوشه قال : ( اخرجوا بسم الله ، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع ) . رواه أحمد .
3448 ( وأما في المشايخ ) فلما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( انطلقوا بسم الله وبالله ، وعلى ملة رسول الله ، لا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا طفلًا صغيراً ، ولا امرأة ، ولا تغلوا ، وضموا غنائمكم ، أصلحوا ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) رواه أبو داود ، ولما تقدم في وصية أبي بكر رضي الله عنه : لا تقتلوا امرأة ولا صبياً ، ولا كبيراً هرماً .
3449 وعن راشد بن سعد قال : نهى رسول الله عن قتل الشيخ الذي لا حراك به . رواه ابن حزم من طريق ابن أبي شيبة ، وهو مرسل .
3450 وروى أيضاً من طريق حماد بن سلمة قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمرائه أن رسول الله قال : ( لا تقتلوا صغيراً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً ) .
3451 وعن عمر رضي الله عنه أنه وصى سلمة بن قيس فقال : لا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا شيخاً . رواه سعيد .
3452 ويحمل حديث سمرة أن النبي قال : ( اقتلوا شيوخ المشركين ، واستحيوا شرخهم ) رواه أبو داود والترمذي ، وقيل : إنه صححه . ( على الشيوخ ) الذين فيهم قوة على القتال ، إذ عدم القتال مختص بالشيوخ الفانين ، لما تقدم من النصوص ، والخاص مقدم على العام ( أو على شيوخ ) لهم رأي في القتال ، جمعاً بين الأدلة ، على أنه قد ذكر عبد الحق سنده ، وأنه من رواية حجاج بن أرطأة وسعيد بن بشير ، وقال : إنه لا يحتج بهما ؛ ثم لو تعذر الجمع من كحل وجه فحديثنا أولى ، لعمل الشيخين عليه ، وذلك دليل على أنه آخر الأمرين من رسول الله وحكم الزمن والأعمى حكم الراهب ونحوه . وقد أشار النبي في حديث رباح إلى ذلك ، حيث علل بكون المرأة لم تقاتل ، وكذلك المريض الميئوس من برئه ، أما لو كان ممن لو كان صحيحاً لقاتل فإنه يقتل ، لأنه بمنزلة الإجهاز على الجريح ، قال ذلك أبو محمد ، وكذلك قال في العبيد لا يقتلون لحديث رباح ، وقال في الفلاحين إذا لم يقاتلوا : ينبغي أن لا يقتلوا ، قياساً لهم على الشيوخ والرهبان ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد ، والخنثى المشكل لا يقتل لاحتمال كونه امرأة ، ذكره في الكافي .
قال : وإذا خلي الأسير منا وحلف لهم أن يبعث إليهم بشيء بعينه أو يعود إليهم فلم يقدر عليه لم يرجع إليهم .
ش : إذا أسر الكفار مسلماً ، وأطلقوه بشرط أن يبعث إليهم شيئاً معلوماً ، أو يعود إليهم إن لم يقدر على ذلك ، فإنه يلزمه الوفاء لهم ، كما اقتضاه كلام الخرقي ، لعموم 19 ( { وأوفوا بعهد الله } )9 ( { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا } )9 ( { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } ) .
ولما تقدم من نهيه عن الغدر .
3453 وقال : ( إنه لا يصلح في ديننا الغدر ) .
3454 وجعل ذلك من علامات المنافق ، ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى ، وفي تركه مفسدة ، لأنهم لا يؤمنون بعده ، والشارع بعث بجلب المصالح ، ودرء المفاسد ، ولأنه عاهدهم على مال ، فلزمه الوفاء لهم ، كثمن المبيع ، أو كالمشروط في عقد الهدنة ، فإن لم يقدر عليه ( فإن كان امرأة ) لم ترجع إليهم ، بل ولا يحل لها ، لقوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } ) الآية .
3455 وفي قصة الصلح بين النبي وقريش التي رواها البخاري وغيره من حديث أنس رضي الله عنه قال فيها : ثم جاء نساء مؤمنات ، فأنزل الله تعالى 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } ) حتى بلغ 19 ( { بعصم الكوافر } ) .
3456 وعن مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما قالا : لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل على النبي أنه قال : لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه ، فكره المؤمنون ذلك ، وامتعضوا منه ، وأبي سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي على ذلك ، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً ، وجاء المؤمنات مهاجرات ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله يومئذ وهي عاتق ، فجاء أهلها يسألون النبي أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم ، لما أنزل الله فيهن 19 ( { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن } ) إلى 19 ( { ولا هم يحلون لهن } ) . رواه البخاري . فمنع الله سبحانه من رجوع النساء إلى الكفار ، وامتنع النبي من ردهن ، وقد اختلف في دخول النسوة في قضية الصلح ، فقيل : لم يدخلن ، لقوله في القصة : على أن لا يأتيك منا رجل إلا رددته . وقيل : دخلن فيه ، لقوله في رواية أخرى : ولا يأتيك منا أحد . لكن نسخ ذلك أو بين فساده بالآية اه ، ( وإن كان رجلًا ) فهل يرجع إليهم ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي التي ذكرها الخرقي لا يرجع أيضاً كالمرأة ، ولأن تمكنهم منه والبقاء في أيديهم معصية ، فلم يجز كما لو شرط قتل مسلم ، أو شرب خمر . ( والثانية ) يلزمه الرجوع إليهم وفاء بالعهد ، لما تقدم في بعث المال ، ولأن النبي لما عاهد قريشاً على رد من جاءه مسلماً ، وفي لهم بذلك ، ولم ينهه الله سبحانه عن ذلك ، وقول الخرقي : حلف . ذكره على سبيل المثال ، وإلا المقصود الشرط .
قال : ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين ، ومباح له أن يهرب من ثلاثة .
ش : الأصل في ذلك قول الله سبحانه 19 ( { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } ) إلى قوله تعالى : 19 ( { والله مع الصابرين } ) أوجب سبحانه أولًا على الواحد الثبات للعشرة . ثم رحم ضعفنا وخفف عنا ، فأوجب ثبات الواحد للاثنين ، إذ هذا خبر في معنى الأمر ، أو خبر عما استقر في حكم الشرع ، وهذا أحسن ، أو متعين هنا ، إذ لو كان خبراً بمعنى الأمر لكان التقدير : إذا كان عشرون صابرون فليغلبوا ؛ فيكون التكليف إنما هو للصابر فقط ، والصبر واجب على المكلف ، لا شرط في التكليف ، وأيضاً فيكون أمراً بالغلبة من الله تعالى ، فإذاً المعنى المقرر في حكم الشرع أن المائة الصابرة تغلب مائتين فلتصبر ، وحيث غلبت المائة من المائتين فلعدم صبرها .
3457 وقد بين ذلك وفسره ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت 19 ( { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } ) كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ، ولا عشرون من مائتين ، ثم نزلت 19 ( { الآن خفف الله عنكم } ) الآية فكتب أن لا يفر مائة من مائتين . رواه البخاري ، وله أيضاً في رواية ، ولأبي داود قال : لما نزلت 19 ( { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } ) شق ذلك على المسلمين ، فنزلت 19 ( { الآن خفف الله عنكم } ) الآية ، قال : فلما خفف الله عنهم من العدة نقص عنهم من الصبر بقدر ما خفف عنهم .
3458 ويروى عنه أيضاً أنه قال : من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة فما فر .
وعلى هذا يحمل ما ورد من النهي المطلق عن تحريم الفرار يوم الزحف ، كقوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } ) الآية .
3459 وقول النبي : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) قالوا : وما هن يا رسول الله ، قال : ( الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) متفق عليه . ( ويستثنى ) من تحريم الفرار من المثلين فما دون ( الفرار للتحرف ) لمصلحة قتال بأن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن ، كما إذا كان في مقابلة الشمس ، أو الريح فاستدبرهما ، أو كان في وهدة أو في معطشة ، فانحاز إلى علو أو إلى ماء ، أو استند إلى جبل ، أو نفر بين أيدي الكفار لتنتقض صفوفهم ، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب ، أو ( الفرار للتحيز ) إلى فئة من المسلمين ، ليتقووا بها على عدوهم ، وإن بعدت الفئة ، حتى قال القاضي : لو كانت الفئة بخراسان ، والفئة بالحجاز جاز التحيز إليها ، وذلك لقوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة } ) الآية .
3460 ويروى أن عمر كان يوماً في خطبته إذ قال : 16 ( يا سارية بن زنيم الجبل ، ظلم الذئب من استرعاه الغنم . فأنكرها الناس ، فقال علي رضي الله عنه : دعوه فلما نزل سألوه عما قال ، فلم يعترف به ، وكان قد بعث سارية إلى ناحية العراق ليغزوهم ، فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم جمعة فظهر عليهم ، فسمعوا صوت عمر رضي الله عنه فتحيزوا إلى الجبل ، فنجوا من عدوهم ، وانتصروا عليهم ) .
3461 ويروى عنه أيضاً أنه قال : أنا فئة كل مسلم ، وكان بالمدينة ، وجيوشه بمصر والعراق والشام وخراسان . رواه سعيد .
3462 وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله ، فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف ؟ وبؤنا بالغضب ، ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ، ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال : ( من الفرارون ؟ ) فقلنا : نحن الفرارون . قال : ( لا بل أنتم العكارون ، أنا فئتكم وفئة المسلمين ) قال فأتيناه حتى قبلنا يده . رواه أحمد وأبو داود . وقوله : حاصوا حيصة ، أي حادوا حيدة . ومنه قوله تعالى : 19 ( { ما لهم من محيص } ) .
وقول الخرقي : ومباح له أن يهرب من ثلاثة . ذكره على سبيل المثال ، والمراد أنه يباح للمسلمين الفرار مما زاد على مثليهم . هذا هو المعروف ، واختار أبو العباس تفصيلًا ملخصه أن القتال لا يخلو إما أن يكون قتال دفع أو طلب ، ( فالأول ) كأن يكون العدو كثيراً لا يطيقهم المسلمون ، ويخافون أنهم إن انصرفوا عنهم عطفوا على من تخلف من المسلمين ، قال : فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب عليهم أن يبذلوا مهجهم في الدفع حتى يسلموا ، ونظير ذلك أن يهجم العدو على بلاد المسلمين ، والمقاتلة أقل من النصف ، لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم ، ( والثاني ) لا يخلو إما أن يكون بعد المصافة أو قبلها ، فقبلها هي مسألة الكتاب ، وبعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقاً إلا لتحرف أو تحيز ، كما دل عليه قوله سبحانه : 19 ( { إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار } ) وقصة بدر مرادة منها ، والمشركون إذ ذاك ثلاثة أضعاف المسلمين ، مع أحاديث الفرار من الزحف ، ومفهوم آية الأنفال الناسخة تحمل على ما قبل الشروع ، إذ المفهوم يكتفي فيه بمطلق المخالفة اه .
وظاهر كلامه أنه يباح لهم الفرار والحال هذه وإن غلب على ظنهم الظفر ، وهو المعروف عن الأصحاب ، عملًا بإطلاق الآية الكريمة ، ولأبي محمد في المغني احتمال بوجوب الثبات والحال هذه ، لما فيه من المصلحة ، وهو ظاهر كلامه في المقنع ، وظاهر كلام الشيرازي ، قال : إذا كان العدو أكثر من مثلي المسلمين ، ولم يطيقوا قتالهم ، لم يعص من انهزم ، لأن الله تعالى جعل الرجل منا بإزاء الرجلين منهم ، فإذا صاروا ثلاثة جاز للمسلم أن ينهزم منهم إذا خشي قهرهم . اه ولو غلب على ظنهم والحال هذه الهلاك فالفرار أولى ، حذاراً من كسر قلوب المسلمين ، وإن غلب على ظنهم الهلاك في الثبات وفي الانصراف فالأولى أن يقاتلوا ، ولا يفروا ولا يستأسروا ، لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين ، ويسلموا من تحكم الكفار عليهم ، ولجواز أن يغلبوا ، قال الله تعالى : 19 ( { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } ) ، ويجوز لهم أن يفروا لظاهر الآية ، وأن يستأسروا على المشهور المختار من الروايتين فيهما .
3463 لأن خبيباً الأنصاري وابن الدثنة سلما أنفسهما للأسر عند العجز والغلبة ، وامتنع من ذلك عاصم بن ثابت الأنصاري في سبعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين حتى قتلوا ، وكان الكل محمودين والقصة في البخاري وغيره ، ( والرواية الثانية ) : يلزمهم القتال .
3464 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( ليس منا من استأسر للمشركين من غير حاجة ) . ذكره ابن حزم لكنه ضعيف ، وهو اختيار الخرقي ، قال : فإن خشي الأسر قاتل حتى يقتل .
قال : ومن آجر نفسه بعد أن غنموا على حفظ الغنيمة ، فمباح له ما أخذ إن كان راجلًا أو على دابة يملكها .
ش : يجوز للإنسان أن يؤجر نفسه على حفظ الغنيمة ، ويباح له ما أخذ ، لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة ، فجاز كما لو أجر نفسه . [ ليدلهم على الطريق ونحو ذلك ، وهذا إذا كان راجلًا أو على دابة يملكها ، أما لو أجبر نفسه ] على حفظ الغنيمة وأطلق ، فإنه يجوز له أن يركب دابة من المغنم ، حذاراً من استعمال ملك الغير بغير إذن شرعي ، ولا عرفي ، فإن شرط في الإجارة ركوب دابة معينة فقال الشيخان : يجوز إذ ذاك بمنزلة الأجرة وإطلاق الخرقي يحتمل المنع .
وقد فهم من كلام الخرقي بطريق التنبيه أنه لا يجوز لأحد ركوب دابة من المغنم ، ولا ريب في ذلك في غير الغانمين ، وكذلك في الغانمين في غير القتال ، وأما في القتال فهل يجوز كما في السلاح ، أولًا يجوز لتعرض الفرس للعطب غالباً بخلاف السلاح ؟ على روايتين .
3465 وقد روى رويفع بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم حنين : ( لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبتاع مغنماً حتى يقسم ، ولا يلبس ثوباً من فيئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ، ولا أن يركب دابة من فيئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ) رواه أحمد وأبو داود .
قال : ومن لقي علجاً فقال له : قف أو ألق سلاحك . فقد أمنه .
ش : الخرقي رحمه الله ذكر ما فيه اشتباه ، إذ ذلك تنبيه على الواضح كأجرتك وأمنتك ، ولا تخف ولا تذهل ، ولا خوف عليك ، ولا بأس عليك ، ونحو ذلك مما يدل على الأمان ، وقد ورد الشرع بأجرتك وأمنتك . قال النبي لأم هانئ : ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) .
3466 وقال : ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) وبقية الألفاظ في معناهما ، وعند أصحابنا أن حكم : قف أو ألق سلاحك . حكم ذلك ، لأن الكافر يعتقده أماناً ، أشبه ما لو قال : أمنتك .
3467 وقد روى مالك في موطئه عن رجل من أهل الكوفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عامل جيش كان بعثه : بلغني أن رجالًا منكم يطلبون العلج حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع قال رجل : مترس . يقول لا تخف ؛ فإذا أدركه قتله . وإني والذي نفسي بيده لا أعلم مكان أحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه . وحكى أبو محمد احتمالًا ومال إليه أنه لا يكون أماناً ، لأن ذلك يستعمل للإرهاب والتخويف ، أشبه ما لو قال : لأقتلنك ؛ ويرجع إلى القائل ، فإن نوى به الأمان فهو أمان ، وإلا فيسأل الكافر فإن قال : اعتقدته أماناً رد إلى مأمنه ، وإلا فليس بأمان .
قال : ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده لم يقطع .
ش : من سرق من الغنيمة ممن له فيها حق لم يقطع ، لأن له فيها شبهة ، وهو حقه المتعلق به ، والحد يدرأ بالشبهة ، وصار كما لو سرق من مال مشترك بينه وبين غيره ، وكذلك إذا سرق من غنيمة لولده فيها حق ، لأن له في مال ولده حقاً في الجملة ، ولهذا لا يقطع بسرقته ، وحق ولده متعلق بهذا المال ، فصار كالذي قبله ، وكذلك إذا سرق العبد من الغنيمة الذي لسيده فيها حق ، لأنه لا يقطع بسرقة مال سيده ، كما تقدم ، فكذلك بما لسيده فيه جزء . وقوله : ممن له فيها حق . يخرج ما إذا لم يكن له فيها حق ، وله حالتان ( إحداهما ) : سرق قبل أن تخمس ، وهو حر مسلم ، فلا قطع عليه ، لأن له حقاً في الفيىء ، ( الثاني ) : سرق بعد أن خمست ، فإنه يقطع لانتفاء الحقية .
قال : وإن وطيء جارية قبل أن يقسم أدب ولم يبلغ به حد الزاني .
ش : يعني ممن له في الغنيمة حق أو لولده ، فإنه لا حد عليه ، لأن الملك يثبت للغانمين في الغنيمة ، فيكون للواطئ حق في الجارية أو لولده ، فيدرأ عنه الحد لذلك للشبهة ، وصار كالجارية المشتركة ، وإذا انتفى الحد وجب التعزير بلا ريب ، للمعصية المنتفي فيها الحد والكفارة ، وقدره قد سبق بيانه فلا حاجة إلى إعادته ، وقوله : لا يبلغ به حد الزاني . يبين أن قوله ثم : لا يبلغ بالتعزير الحد ، أن مراده ليس أدنى الحدود بل إما أعلاها ، وإما أن كل ذنب لا يبلغ به حد جنسه .
قال : وأخذ منه مهر مثلها فطرح في المغنم .
ش : لأن ذلك بدل منفعتها ومنفعتها لجميع الغانمين ، فكذلك بدلها ، فعلى هذا يطرح في المغنم ليعم جميع الغانمين ، وقال القاضي يسقط عنه من المهر قدر حصته منها ، ويجب عليه بقيته كالجارية المشتركة . ورده أبو محمد بأن قدر حصته قد لا يمكن ، لكثرة الغانمين وقلة المهر ، ثم إذا أخذناه فقد لا يمكن قسمته على بقية الغانمين مفرداً ، وإن طرح في المغنم وقسم على الجميع أخذ سهماً مما ليس له فيه حق .
قال : إلا أن تلد منه فتكون عليه قمتها .
ش : يعني أنها إذا ولدت منه والحال هذه فإنها تصير أم ولد له ، لأنه وطء لحق به النسب لشبهة الملك ، أشبه وطء الأب جارية ابنه ، وإذا صارت أم ولد له فعليه قيمتها تطرح في المغنم ، لأنه أتلفها بفعله ، أشبه ما لو قتلها ، وسواء كان موسراً أو معسراً .
وعن القاضي : إذا كان معسراً حسب قدر حصته من الغنيمة فصارت أم ولد ، وباقيها رقيق للغانمين كالإعتاق . وفرق بأن الاستيلاد أقوى ، لكونه فعلًا ، ولهذا نفذ من المجنون .
وظاهر كلام الخرقي أنها إذا صارت أم ولد لا مهر لها عليه ، لأنه استثنى ذلك من وجوب المهر ، وهو إحدى الروايتين ، ولعل مبناهما على أن المهر هل يجب بمجرد الإيلاج فيجب المهر أولًا يجب إلا بتمام الوطء ، وهو النزع ، فلا يجب لأنه إنما تم وهي ملك له ، وظاهر كلامه أيضاً أنه لا تجب قيمة الولد ، وهو إحدى الروايتين ، لأن ملكه حصل بالعلوق ولا قيمة للولد إذاً .
( والثانية ) : يجب عليه قيمة الولد حين وضعه ، لأنه فوته عليهم ، إذ من حقه أن يصير لهم .
وقد علم من كلام الخرقي أن الولد حر لاحقٌ نسبه بالواطىء ، وإلا لم تصر أم ولد ، وذلك لأنه وطء سقط فيه الحد لشبهة الملك ، أشبه واطىء جارية ابنه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
كتاب الجزية


ش : الجزية قال أبو محمد : الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام . وظاهر هذا التعريف أن الجزية أجرة الدار .
قال : مشتقة من جزاه بمعنى قضاه ، كقوله : 19 ( { لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً } ) .
وقال القاضي في الأحكام السلطانية : اسمها مشتق من الجزاء ، إما جزاء على كفرهم ، لأخذها منهم صغاراً ، أو جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقاً .
قال أبو العباس : وهذا أصح ، وهو يرجع إلى أنها عقوبة أو أجرة ، والأصل في جوازها الإجماع . وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى وهم صاغرون } ) . وما تقدم من أن النبي أخذ الجزية من نصارى نجران .
3468 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ما تريد من قومك ؟ قال : ( أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ) قال : كلمة واحدة ؟ قال : ( كلمة واحدة ، قولوا : لا إله إلا الله ) قالوا : إلهاً واحداً ؟ 19 ( { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق } ) . قال : فنزل فيهم القرآن 19 ( { ص والقرآن ذي الذكر إلى قوله إن هذا إلا اختلاق } ) . رواه أحمد والترمذي وحسنه ، في أحاديث أخر .
قال : ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني ، أو مجوسي إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه ، ومن سواهم فالإسلام أو القتل .
ش : قد تقدم أن الجزية تقبل من اليهود والنصارى والمجوس ، وإن كانوا من العرب ، ولا تقبل ممن سواهم على المذهب وإن كانت لهم صحف على الأشهر ، ونزيد هنا بأن ظاهر كلام الخرقي أن من أحد أبويه غير كتابي فاختار دين الكتابي أنه تقبل منه الجزية .
وكذلك ظاهر كلامه أن من انتقل إلى أحد هذه الأديان الثلاثة بعد مبعث سيدنا ونبينا أنه لا تقبل منه الجزية ، وهو أحد القولين في الصورتين ، نظراً لعموم النص .
وشرط الخرقي لكل من تقبل منه الجزية أن يكون مقيماً على ما عوهد عليه ، من بذل الجزية في كل عام ، لقوله سبحانه : 19 ( { حتى يعطوا الجزية } ) . أي يلتزموا أداءها والتزام أحكام الملة ، من ضمان الأنفس والأموال وإقامة الحدود ، وغير ذلك على ما هو مقرر في بابه ، إعمالًا لحكم الإسلام لنسخه كل ملة .
قال : والمأخوذ منهم الجزية على ثلاث طبقات ، فيؤخذ من أدونهم اثنا عشر درهماً ، ومن أوسطهم أربعة وعشرون درهماً ، ومن أيسرهم ثمانية وأربعون درهماً .
ش : لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ولم ينكره منكر ، وعمل عليه فكان إجماعاً .
3469 ففي البخاري عن ابن أبي نجيح قال : قلت لمجاهد : ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير ، وأهل اليمن عليهم دينار ؟ قال : فعل ذلك من قبل اليسار .
3470 وفي الموطأ عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعين درهماً ، ومع ذلك أرزاق المسلمين ، وضيافة ثلاثة أيام ، لكن مقتضى هذا أن عمر رضي الله عنه قابل الدينار بعشرة دراهم ، وأبو محمد نقل عنه أنه قابله باثني عشر درهماً ، وزعم أنه حديث لا شك في صحته ، مع أنه لم يذكر من رواه ، وليس هو والله أعلم في السنن .
3471 فإن قيل : ففي سنن أبي داود عن معاذ بن جبل ، أن رسول الله لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم يعني محتلماً ديناراً ، أو عدله من المعافري ثياب تكون باليمن . فظاهر هذا إجزاء الدينا في حق كل أحد ؟ قيل : هو محمول على أن الغالب على أهل اليمن كان الفقر ، كما أشار إليه مجاهد ، أو أن للإمام الزيادة والنقصان في الجزية كما هو إحدى الروايات ، واختيار الخلال ، قال : العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه عنه الجماعة ، بأنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص عنه ، على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع ، فاستقر قوله على ذلك اه .
3472 وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : صالح رسول الله أهل نجران على ألفي حلة ، النصف في صفر ، والبقية في رجب ، يؤدونها للمسلمين ، وعارية ثلاثين درعاً ، وثلاثين فرساً ، وثلاثين بعيراً ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح ، يغزون بها ، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد ذات غدر ، على أن لا تهدم لهم بيعة ، ولا يخرج لهم قس ، ولا يفتنوا عن دينهم ، ما لم يحدثوا حدثاً ، أو يأكلوا الربا . رواه أبو داود ، وهذا مع الذي قبله مع فعل عمر رضي الله عنه يدل على أن المرجع في ذلك إلى رأي الإمام فيما يطيقونه من الزيادة والنقصان .
والرواية الثانية : لا تجوز الزيادة ولا النقص على ما تقدم من أن على الأدون اثنا عشر درهماً ، والمتوسط أربعة وعشرون درهماً ، والغني ثمانية وأربعون درهماً ، وهي اختيار القاضي في روايتيه ، وقال : إنها اختيار الخرقي ، ولا شك أنها ظاهر كلامه ، وذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه .
والرواية الثالثة : تجوز الزيادة ولا يجوز النقص ، قال في رواية يعقوب بن بختان : لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك ، وله أن يزيد ، وهذا اختيار أبي بكر ، لأن عمر رضي الله عنه لم ينقص عن الدينار ، بل زاد عليه ، فيقتصر على ذلك ، فظاهر هذه الرواية أن الأدون لا ينقص عن الدينار ، والمتوسط لا ينقص عن الدينارين ، والغني عن الأربعة ، ويجوز أن يزادوا على ذلك . وقال ابن أبي موسى : لا يجوز النقص عن الدينار بحال ، وتجوز الزيادة عليه ، وهذا قول رابع .
( تنبيهات ) أحدها : الغني هنا من عده أهل العرف غنياً ، على المشهور والمقطوع به لأبي البركات ، وأبي محمد في المغني وغيرهما ، لأن ما لا تقدير فيه من جهة الشرع المرجع فيه إلى العرف كالقبض والحرز ، ( وقيل عن أحمد ) : الغني من ملك نصاباً ( وقيل عنه ) بل من ملك عشرة آلاف درهم ( وقيل ) بل من ملك مائة ألف درهم فهو غني ، ومن ملك دونها إلى عشرة آلاف فمتوسط ، ومن ملك عشرة آلاف فما دون ففقير .
الثاني : يقوم الدينار مقام الاثني عشر درهماً .
الثالث : ( عدله من المعافري ) عدل الشيء ما يعادله ويماثله ، والمعافري منسوب إلى معافر بفتح الميم ، موضع باليمن ، وهي ثياب تكون به .
قال : ولا جزية على صبي .
ش : هذا والله أعلم اتفاق ، وقد شهد له مفهوم حديث معاذ المتقدم ( خذ من كل حالم ديناراً ) مع أن الله تعالى إنما أمر بأخذ الجزية ممن يقاتل ، فقال سبحانه : 19 ( { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ، ولا باليوم الآخر } ) إلى 19 ( { حتى يعطوا الجزية } ) ، والصبي لا يقاتل .
3473 وعن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن اضربوا الجزية ، ولا تضربوها على النساء والصبيان ، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه الموسى . رواه سعيد وأبو عبيد .
قال : ولا زائل العقل .
ش : لأنه أسوأ حالًا من الصبي ، ولقول النبي : ( رفع القلم عن ثلاث ، عن الصبي حتى يحتلم ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ) مع أن هذا أيضاً والله أعلم اتفاق والحمد لله .
قال : ولا امرأة .
ش : هذا أيضاً والله أعلم اتفاق ، لما تقدم ولأن الجزية تؤخذ حقنا للدم ، كما أشعرت به الآية الكريمة ، والمرأة محقون دمها ، بدليل ما تقدم .
قال : ولا فقير .
ش : سواء كان معتملًا أو غير معتمل ، أما غير المعتمل فبالاتفاق مذهباً ، لعموم 19 ( { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ) الآية ، وهذا خبر ، فتخصيص غيره من الإنشاءات أولى بلا ريب ، لقول النبي : ( خذ من كل حالم ديناراً أو نحوه ) وأما المعتمل ففيه روايتان : ( إحداهما ) وبه قطع أبو محمد في كتبه ، وأبو الخطاب في الهداية تجب عليه ، لعموم 19 ( { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } ) إلى 19 ( { حتى يعطوا الجزية } ) وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( خذ من كل حالم ديناراً ) أخرج منه غير المعتمل ، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم ، ( والثانية ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، وأوردها أبو البركات مذهباً لا يجب عليه ، لأنه مال يجب بحلول الحول ، فلا يلزم الفقير كالزكاة والعقل . والرواية الأولى أسعد دليلًا ، ولأبي الخطاب احتمال بوجوب الجزية على الفقير غير المعتمل ، ويطالب بها إذا أيسر ، والمراد بالفقير هنا والله أعلم الفقير الذي هو أحد الأصناف في الزكاة ، ويدخل فيه المسكين لأنهما في غير باب الزكاة صنف واحد .
قال : ولا شيخ فان ، ولا زمن ولا أعمى .
ش : لما تقدم من أن الجزية وجبت لحقن الدم ، وهؤلاء دماؤهم محقونة ، ودليل الأصل ما تقدم ، وفي معنى هؤلاء الراهب ونحوه ممن لا يقتلون على ما تقدم ، لحقن دمائهم ، ولأبي محمد احتمال بوجوبها على الراهب ، ويحتمله كلام الخرقي لعموم النصوص .
قال : ولا على سيد عبد عن عبده ، إذا كان السيد مسلماً .
ش : هذا والله أعلم اتفاق ، حذاراً من إيجاب الجزية على مسلم ، إذ ما يجب على العبد إنما يؤديه السيد .
ومفهوم كلام الخرقي أن السيد إذا كان ذمياً وجبت عليه الجزية عن عبده ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، لعموم ( خذ من كل حالم ديناراً ) ونحوه مع انتفاء المحذور المتقدم ، ( والرواية الثانية ) وهي اختيار أبي بكر والقاضي ، و أبي محمد : لا يجب عليه أيضاً ، كما لو كان السيد مسلماً ، لأن العبد محقون الدم ، فأشبه المرأة والصبي ، أو لا مال له فأشبه الفقير .
3474 ويروى عن النبي أنه قال : ( لا جزية على العبد ) ، وقد قال ابن المنذر : إن هذا مما أجمع عليه كل من نحفظ عنه من أهل العلم .
قال : ومن وجبت عليه الجزية فأسلم قبل أن تؤخذ منه سقطت عنه .
ش : الجزية تجب بحلول الحول ، فإذا أسلم الذمي بعد حلول الحول فقد وجبت عليه الجزية ، فإن لم تكن أخذت منه سقطت عنه ، لعموم قول الله تعالى : 19 ( { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ) .
3475 وقول النبي : ( الإسلام يجب ما قبله ) ويؤيد دخول ذلك في العموم أن الجزية عقوبة سببها الكفر ، فسقطت بالإسلام كالقتل ، وخرج بذلك الديون ، فإن سببها ليس هو الكفر ، فلذلك لا تسقط بالإسلام .
3476 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( ليس على مسلم جزية ) . رواه الترمذي ، وأبو داود وهذا لفظه ، وقد فسره سفيان الثوري بما قلناه ، قال : معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت عليه الجزية بطلت عنه .
3477 ويروى أن ذمياً أسلم ، فطولب بالجزية ، وقيل : إنما أسلمت تعوذاً . قال : إن في الإسلام معاذاً . فرفع إلى عمر رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه : إن في الإسلام معاذاً . وكتب أن لا تؤخذ منه الجزية ، رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى ، وقد دل كلام الخرقي من طريق التنبيه أنه لو أسلم قبل الوجوب لا تؤخذ منه ، وهو واضح .
قال : وإذا أعتق العبد لزمته الجزية لما يستقبل ، سواء كان المعتق له مسلماً أو كافراً .
ش : هذا هو الصحيح المشهور من الروايتين أو الروايات ، إذ هو حر مكلف موسر ، من أهل القتال ، فدخل في عمومات النصوص ، ( ونقل أبو محمد ) عن أحمد رواية أخرى أنه يقر بغير جزية مطلقاً ، لأن الولاء شعبة من الرق ، وهو ثابت عليه ، فلم تجب عليه الجزية ، كما لو لم يعتق ، ووهن الخلال هذه الرواية ، وقال : هذا قول قديم رجع عنه أحمد ، والعمل على ما رواه عنه الجماعة ، وحكى أبو البركات الرواية أنه لا جزية عليه ، إذا كان المعتق له مسلماً ، قال : وقال أي أحمد لأن ذمته ذمة مولاه ، اه . والمسلم لا يجب عليه جزية ، فكذلك مولاه ، ويجتمع من النقلين على هذا ثلاث روايات .
وقول الخرقي : لزمته الجزية لما يستقبل ، أي لما بقي من الحول الذي عتق فيه بالقسط ، ثم لما بعده . وظاهر كلامه أنه لا يحتاج إلى عقد ذمة ، بل يتبع أهل الذمة في ذلك ، وهذا هو المشهور ، وللقاضي في موضع أنه يخير بين التزام العقد ، وبين أن يرد إلى مأمنه ، فإن اختار الذمة عقدت له ، وإلا ألحق بمأمنه .
وحكم الصبي يبلغ ، أو المجنون يفيق ، أو الفقير يوسر في أثناء الحول ، حكم العبد يعتق على ما مر ، إلا أنه لا خلاف فيما أعلمه أنهم لا يقرون بغير جزية .
قال : ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب .
ش : ( تغلب ) علم منقول من تغلب مضارع غلبت ، لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل ، وبنو تغلب هم بنو تغلب ابن وائل ، من العرب ، من ربيعة بن نزار .
3478 انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية ، فدعاهم عمر رضي الله عنه إلى أداء الجزية فأبوا وأنفوا ، وقالوا : نحن عرب ، خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة . فقال عمر رضي الله عنه : لا آخذ من مشرك صدقة ، فلحق بعضهم بالروم ، فقال النعمان بن زرعة : يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة ، وهم عرب يأنفون من الجزية ، فلا تعن عليك عدوك بهم ، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة ، فبعث عمر رضي الله عنه في طلبهم ، فردهم وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين ، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعان ، ومن كل عشرين ديناراً دينار ، ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم ، وفيما سقت السماء الخمس ، وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر ، فاستقر ذلك من قول عمر رضي الله عنه ولم ينقل أن أحداً من الصحابة خالفه ، مع أن ذلك مشتهر فكان إجماعاً أو بمنزلته .
وظاهر كلام الخرقي أن الجزية لا تؤخذ منهم وإن بذلوها راضين ، بها ، وفصل أبو محمد فقال : إن بذلها حربي قبلت منه ، لعموم قوله سبحانه : 19 ( { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ) الآية . وغيرها من الأحاديث ، وإن بذلها من دخل في عقد صلحهم وذمتهم فهل تقبل منه ، وهو احتمال ذكره لما تقدم ، أو لا تقبل ، وهو الذي أورده مذهباً ، وقطع به غيره ، حذاراً من تغيير ما وقع عليه الصلح ؟ فيه قولان .
قال : وتؤخذ الزكاة من أموالهم ومواشيهم وثمرهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين .
ش : لما تقدم ، وظاهر كلام الخرقي أنه يؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم ، وكل من يؤخذ منه الزكاة ، ولا تؤخذ ممن لا تؤخذ منه الزكاة وإن كان له مال ، بأن يكون غير زكوي كالدور ونحوها ، وعلى هذا الأصحاب ، نظراً إلى أن السؤال وقع منهم على أن يأخذ منهم كما يأخذ بعضنا من بعض ، فأجابهم إلى ذلك بعد الامتناع ، واستقر رأيه على ذلك ، والذي يأخذه بعضنا من بعض زكاة ، ولأن صبيانهم ونحوهم دخلوا في حكم الصلح ، فدخلوا في الواجب به كالرجال العقلاء ، ومال أبو محمد إلى أن هذا المأخوذ جزية باسم الصدقة ، فلا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالصبيان ونحوهم ، لأن النعمان بن زرعة قال لعمر رضي الله عنه : خذ منهم الجزية باسم الصدقة .
3479 ولهذا يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال : هؤلاء حمقى ، رضوا بالمعنى وأبوا الاسم ، ولأن الزكاة طهرة ، ولا طهرة لهم .
فعلى هذا مصرف المأخوذ منهم مصرف الجزية ، وعلى المذهب هل مصرفه مصرف الجزية ، وهو اختيار القاضي وأبي محمد ، نظراً للمعنى ، أو مصرف الزكاة ؟ وهو اختيار أبي الخطاب ، ويحتمله كلام الخرق نظراً للاسم ؟ فيه روايتان . وظاهر كلام الخرقي أن هذا الحكم مختص بنصارى بني تغلب ، ولا يشاركهم غيرهم ممن تهود أو تنصر أو تمجس من العرب ، وهو الذي أورده أبو محمد في المقنع والمغني مذهباً .
3480 وقال في المغني : نص عليه أحمد ، ورواه عن الزهري ، قال : نذهب إلى أن تؤخذ من مواشي بني تغلب خاصة الصدقة ، وتضعف عليهم . كما فعل عمر رضي الله عنه وذلك لعموم 19 ( { حتى يعطوا الجزية } ) ولأخذ النبي الجزية من أكيدر دُومة وغيره من العرب ، وقد تقدم ذلك ، ( وعن القاضي ) وأبي الخطاب حكم من تنصر من تنوخ وبهرا ، أو تهود من كنانة وحمير ، أو تمجس من تميم حكم بني تغلب ، قياساً لهم عليهم ، والمنصوص أن من كان من العرب من أهل الجزية وأباها إلا باسم الصدقة مضعفة ، وله شوكة يخشى الضرر منها ، فإنه يجوز مصالحتهم على مثل ما صولح عليه بنو تغلب ، لأنهم إذاً في معناهم ، والقياس حيث فهم المعنى وهذا هو الصواب ، وعليه يحمل إطلاق أحمد أو لا ، وإطلاق القاضي ومن تبعه ، ولهذا قطع به أبو البركات ، وعليه استقر قول أبي محمد في المغني ، لكنه شرط مع ذلك أن يكون المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو أزيد ، وهذا الشرط ليس في كلام أحمد ، ولا هو مشترط في بني تغلب ، ولا يشترط في غيرهم .
قال : ولا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم في إحدى الروايتين . عن أبي عبد الله رحمه الله ، والرواية الأخرى تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم .
ش : الرواية الأولى هي المشهورة عند الأصحاب .
3481 اتباعاً لعلي رضي الله عنه فإن ذلك يروى عنه . وقال : لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر ، وألحق بعض الأصحاب بهم تنوخ وبهرا ، وبعضهم جميع نصارى العرب ، بناء على ما تقدم لهم قبل .
والرواية الثانية : اختيار أبي محمد ، وقال : إنها آخر الروايتين عن أحمد ، وأن إبراهيم الحربي ، قال : فكان آخر قوليه أنه لا يرى بذبائحهم بأساً ، لعموم : 19 ( { وطعا الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ) [ ب 1 ] .
3482 ويروى ذلك عن ابن عباس وعمر رضي اللَّه عنهم .
قال : ومن اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده أخذه منه نصف العشر في السنة .
ش : من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده يبيع فيه أو يشتري منه أخذ من تجارته نصف العشر في الجملة .
3483 لما روي عن حرب بن عبد اللَّه عن جده أبي أمه ، عن أبيه رضي اللَّه عنه قال : أتيت النبي فأسلمت ، فعلمني الإسلام ، وعلمني كيف آخذ الصدقة من قومي ممن أسلم ، ثم رجعت إليه فقلت : يا رسول اللَّه كل ما علمتني فقد حفظته إلا الصدقة ، أفأعشرهم ؟ قال : ( إنما العشور على النصارى واليهود ) رواه أبو داود ، وفي رواية : ( ليس على المسلم العشور على اليهود والنصارى ) .
3484 ولأن هذا يروى عن عمر رضي اللَّه عنه ولم ينكر ، فكان بمنزلة الإجماع .
3485 وروى الإمام أحمد عن سفيان ، عن هشام ، عن أنس بن سيرين قال : بعثني أنس بن مالك إلى العشور ، فقلت : تبعثني إلى العشور من بين عمالك ؟ قال : أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع الشعر . ومن أهل الذمة نصف العشر .
3486 وعن لاحق بن حميد ، أن عمر رضي اللَّه عنه بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة ، فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كلا عشرين درهماً درهماً . رواه أبو عبيد في الأموال ، وظاهر هذا كله أن هذا حكم مقرر في الشرع ، لا أنه موقوف على مصالتهم على ذلك ، ولا على أخذهم منا ذلك . اه .
3487 ولا تأخذ منهم في السنة إلا مرة ، كما ذكره الخرقي ، ونص عليه أحمد ، وقال : كذا روي عن إبراهيم النخعي ، عن عمر رضي الله عنه حين كتب أن لا تؤخذ في السنة إلا مرة واحدة ، أن يأخذ من الذمي نصف العشر ، وروى أحمد بإسناده قال : جاء شيخ نصراني إلى عمر رضي الله عنه فقال : إن عاملك عشرني في السنة مرتين . قال : ومن أنت ؟ قال : أنا الشيخ النصراني ، قال عمر رضي الله عنه : وأنا الشيخ الحنيفي ، ثم كتب إلى عامله أن لا تعشروا في السنة إلا مرة .
وقول الخرقي ومن اتجر . يدخل فيه المرأة ، وهو المذهب ، لعموم ما تقدم ، وقال القاضي : لا يلزم المرأة إلا أن تتجر بالحجاز ، وقوله : من أهل الذمة . يحتمل أ يدخل فيه التغلبي ، لكونه من أهل الذمة ، ويحتمل أن لا يدخل لتقدم حكم التغلبي ، وفيه روايتان ، فعدم التعشير لأن المشترط عليه ضعف ما على المسلمين في ماله ، سواء اتجر أو لم يتجر ، والتعشير لعموم : ( إنما العشور على اليهود والنصارى ) ولأن ما جعل عليه في مقابلة الجزية ، فعلى هذا يكمل عليه العشر مضاعفة عليه ، نص عليه أحمد .
3488 وروى بإسنادن عن زياد بن حدير أن عمر رضي الله عنه بعثه مصدقاً ، فأمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر ، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر .
وقال أبو محمد : إن الأقيس أن يجب عليهم ضعف ما على المسلمين ، لا ضعف ما على أهل الذمة ، كما في بقية أموالهم . قال : وهو ظاهر كلام الخرقي ، لقوله : مثلي ما يؤخذ من المسلمين ، ومقتضى حديث لاحق بن حميد .
قال : وإذا دخل إلينا منهم تاجر عربي بأمان أخذ منه العشر .
3489 ش : لأن في حديثه عن عمر رضي الله عنه أنه بعث مصدقاً ، وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهماً درهماً ، ومن أهل الذمة من كل عشرين درهماً درهماً ، ومن أهل الحرب من كل عشرة واحداً .
3490 وعلى ذلك يحمل ما روى السائب بن يزيد قال : كنت عاملًا مع عبد الله بن عتبة بن مسعود ، في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكنا نأخذ من النبط العشر . رواه مالك في الموطأ .
3491 وقال : سألت ابن شهاب على أي وجه كان يأخذ عمر رضي الله عنه من النبط العشر ؟ فقال : كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية ، فألزمهم ذلك عمر رضي الله عنه ، وقول الخرقي : أخذ منه العشر ، ولم يقل في السنة . كما تقدم له في الذمي ، فيحتمل أنه اكتفى بما تقدم قبل ، وهذا منصوص أحمد ، ويحتمل أنه أراد الإِطلاق ، وأنه يؤخذ منه كلما دخل إلينا ، وهو قول ابن حامد ، وإطلاق كلام الخرقي يقتضي الأخذ من كل قليل وكثير من المال ، وهو قول ابن حامد ، ويستدل به بإطلاقات ما تقدم ، والمذهب المشهور أنه إنما يؤخذ من شيء مقدر ، لأن أنساً رضي الله عنه قال : أمرني عمر رضي الله عنه أن آخذ من المسلمين ربع العشر ، ومن أهل الذمة نصف العشر ، وإنما يؤخذ من المسلم إذا كان معه نصاب ، فكذلك الذمي ، ثم اختلف في ذلك المقدر ، ( فعنه ) وهو الذي قطع به أبو محمد في المقنع ، وحكاه في الهداية عن القاضي أنه عشرة دنانير مطلقاً ، للذمي والحربي ، لأن العشرة مال يبلغ واجبه نصف دينار ، فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم . ( وعنه ) اعتبار العشرين مطلقاً لهما ، لأن المسلم لا يجب عليه فيما دونها ، فكذلك هما ، ( وعنه ) اعتبار العشرين
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15