كتاب : شرح الزركشي على مختصر الخرقي
المؤلف : شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي

اعتبار الطعم مع الكيل أو الوزن لا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن ، كالتفاح ، والرمان ، والسفرجل ، والخوخ ، والكمثري ، والإجاص ، والجوز ، والأترج ، والخيار والبيض ، ونحو ذلك ، [ ولا في غير مطعوم ، كالأشنان ، والحديد والرصاص ، ونحو ذلك ] .
( التنبيه الثاني ) : قول أحمد : لا تباع سكين بسكينتين . محمول على ما إذا اختلف الوزنان ، أما إن اتحدا جاز ، إذ العبرة به لا بالعدد .
( الثالث ) : ( سائر ) استعملها الخرقي هنا ، وفي قوله بعد وسائر اللحمان جنس واحد . وفي مواضع بمعنى ( جميع ) وهو خلارف اللغة المشهورة ، حتى أن بعضهم أنكر ذلك ، وقد استعمل الخرقي رحمه اللَّه اللغة المشهورة أيضاً في الغسل ، في قوله : ثم يفيض الماء على سائر جسده . وكذلك في باب المصراة .
1846 وهي التي نطق بها النبي في قوله لغيلان بن سلمة ( أمسك أربعاً ، وفارق سائرهن ) وعلى هذا هي مأخوذة من السؤر ، وهو البقية ، وعلى الأول من سور البلد ، وهو ما أحاط به ، ( والتمر الجنيب ) بفتح الجيم وكسر النون ، وآخره باء موحدة ، نوع من جيد التمر ، ( والجمع ) بفتح الجيم ، وسكون الميم ، تمر مختلف ، من أنواع متفرقة ، غير مرغوب فيه للاختلاط ، إذ ما يخلط إلا لرداءته ( والرماء ) بفتح الراء مخففاً ممدوداً ، لغة في الربا ، ( ويضارع ) أي يشابه ( وأبي مجلز ) بكسر الميم ، وسكون الجيم ، وآخره زاي ، ( وحيان ) بحاء مهملة مفتوحة ، وبعدها ياء مشددة ، مثناة من تحت ، واللَّه أعلم .
قال : وما كان من جنسين جاز التفاضل فيه يداً بيد ، ولا يجوز نسيئة .
ش : قد تقدم أن شرط جريان ربا الفضل الجنس عند العامة ، فإذا عدم الجنس امتنع ربا الفضل ، وجرى ربا النسيئة ، إن اجتمع الجنسان في علة واحدة ، كمكيل بمكيل ، وموزون بموزون ، ومطعوم بمطعوم ، إن علل بالطعم ، وذلك لما تقدم من حديث عبادة ، وأبي سعيد ( يداً بيد ) وفي حديث أبي سعيد ( ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) .
وإن اختلفا في العلة كمكيل مع موزون فروايتان ، ( إحداهما ) وهي ظاهر كلام الخرقي جريانه أيضاً ، لحديث عبادة المتقدم ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يداً بيد ) ( والثانية ) لا يجري ، لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل ، فأشبه الثياب ، والحيوان ، كما سيأتي .
ويستثني مما تقدم إذا كان أحد العوضين ثمناً والآخر مثمناً ، فإنه يجوز النساء بغير خلاف نعلمه ، وإن اتحدا في الوزنية ، لئلا ينسد باب السلم في الموزونات .
وقول الخرقي : يداً بيد . يقتضي وجوب التقابض في الجنسين من مالي الربا ، إذا بيع أحدهما بالآخر ، ولا نزاع عندنا فيما نعلمه في ذلك ، إن كانت العلة واحدة ، لما تقدم من حديثي عبادة ، وأبي سعيد .
1847 وعن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء ) متفق عليه أي : إلا هاك وهات . كذا فهمه عمر رضي اللَّه عنه .
1848 ففي الموطأ : قال مالك بن أوس بن الحدثان النصري : أنه التمس صرفاً بمائة دينار ، قال : فدعاني طلحة بن عبيد اللَّه ، فتراوضنا حتى اصطرف مني ، وأخذ الذهب يقلبها في يده ، ثم قال : حتى يأتيني خازني من الغابة ، وعمر بن الخطاب يسمع ، فقال : واللَّه لا تفارقه حتى تأخذ منه ، ثم قال : قال رسول اللَّه . وذكر الحديث ، وهذا يمنع تأويل من ادعى أن ( يداً بيد ) أي لا يكون نسيئة انتهى .
أما إن اختلفت العلة فظاهر إطلاق الخرقي وجوب التقابض أيضاً ، وصرح بذلك ابن عبدوس على رواية منع النساء التي هي أيضاً ظاهر كلام الخرقي ، وهو ظاهر حديث عبادة المتقدم ، والمعروف عند كثير من المتأخرين حتى أن أبا الخطاب قال : إنه رواية واحدة جواز التفرقة قبل القبض ، وإن منعنا النساء ، وحيث أوجبنا التقابض فتفرقا قبله بطل العقد .
( تنبيه ) : ( هاء وهاء ) بالمد ، وفتح الهمزة ، وفيه أربع لغات هذه إحداهن ، وفيها لغتان ( إحداهما ) أنها تقال بلفظ واحد مطلقاً ، ( وثانيتهما ) تلحق بها العلامات المفرقة ، فللمذكر ( ها ) وللمؤنث ( هات ) وللاثنين ( هاءآ ) وللجميع ( هاؤا ) كالحال في ( هاؤم ) ( اللغة الثانية ) في الأربع ( هأ ) بالقصر والهمزة الساكنة على وزن ( خف ) وفيها اللغتان المتقدمتان ، فعلى التفريق للمذكر ( هأ ) كخف وللمؤنث ( هائي ) كخافي ، وللاثنين ( هاآ ) كخافا ، وللجمع ( هاؤا ) كخافوا ( اللغة الثالثة ) ( هاء ) بالمد ، وكسر الهمزة ، [ بلفظ واحد مطلقاً ، غير أنهم زادوا ياء مع المؤنث ، فقالوا : هائي . ( الرابعة ) بالقصر وترك الهمزة ] ، حكاها بعض اللغويين ، وأنكرها أكثرهم ، حتى أن الخطابي خطأ من روى من المحدثين كذلك ، ومعنى ( هاء وهاء ) : خذ وهات في الحال ، كما قيل : يداً بيد . ( وتراوضنا ) تجارينا ، واللَّه أعلم .
قال : وما كان مما لا يكال ولا يوزن فجائز التفاضل فيه يداً بيد ، ولا يجوز نسيئه .
ش : قد علم من ترجمة هذه المسألة أن وضع المسألة السابقعة فيما كان مكيلاً أو موزوناً ، وهذا واللَّه أعلم الذي أحوج الخرقي إلى فصل المسألتين ، ليفصل مسألة الوفاق من مسألة الخلاف ، وإلا فحكم المسألتين عنده واحد .
إذا عرف هذا فقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه اللَّه فيما إذا انتفت علة ربا الفضل ، هل يجوز النساء ؟ على أربع روايات ( إحداهن ) وهي اختيار القاضي وأبي الخطاب ، وابن عبدوس ، وأبي محمد ، وغيرهم يجوز .
1849 لما روى عبد اللَّه بن عمرو بن العاص ، أن رسول اللَّه أمره أن يجهز جيشاً ، فنفذت الإبل ، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة ، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة ، رواه أحمد ، وأبو داود ، والدارقطني وصححه .
1850 وعن علي رضي اللَّه عنه أنه باع جملاً له يسمى عصيفيرا بعشرين بعيراً إلى أجل ، رواه مالك في موطئه ، والشافعي في مسنده .
1851 وعن ابن عمر ، ورافع بن خديج نحوه ، ذكر ذلك البخاري وغيره . ( والثانية ) واختارها ابن أبي موسى ، وأبو بكر ، والخرقي فيما قاله القاضي ، وأبو الخطاب وغيرهما لا يجوز .
1852 لما روى الحسن عن سمرة أن النبي نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نيسئة ، رواه الخمسة وصححه الترمذي .
1853 وقد روي من حديث جابر بن سمرة رواه عبد اللَّه بن أحمد ، ومن رواية ابن عباس ، رواه البزار ، ومن رواية ابن عمر رضي اللَّه عنهم جميعاً وهو يشمل بعمومه الجنس والجنسين ، ولا يضر التكلم في بعضها ، إذ الحجية تحصل بمجموعها ، لتقوي بعضها ببعض ، مع أن الترمذي قد صحح الأول ، وأحمد احتج به في رواية ابن إبراهيم ، وحديث عبد اللَّه بن عمرو قضية عين ، فلعل ذلك كان في بدء الإسلام ، قبل نزول تحريم الربا ، أو كانت المعاملة مع أهل الحرب ، جمعاً بين الأدلة .
ومن نصر الأول رجحه بفعل الصحابة ، وطعن في الأحاديث بأن أحمد قال : ليس فيها حديث يعتمد عليه ، ويعجبني أن يتوقاه ، وقال في حدث ابن عمر وابن عباس : إنهما مرسلان ، وإن الحسن لا يصح سماعه من سمرة ، ولا يخفى أن مثل هذا الطعن لا يسقط الحجية ، لما تقرر من أن المرسل حجة عندنا ، بل وعند العامة في مثل هذا الموطن لاعتضاده بحديث آخر ، وبمرسل آخر ، فعلى هذه الرواية لو باع عرضاً بعرض ، ومع أحدهما دراهم ، العروض نقداً ، والدراهم نسيئة جاز ، إذ لا نساء بين الثمن والمثمن ، ولو كانت الدراهم نقداً ، والعرضان أو أحدهما نسيئة لم يجز ، حذاراً من النسيئة في العروض ، نص عليه أحمد ، وقاله القاضي وغيره ( والرواية الثالثة ) يحرم في الجنس الواحد ، ولا يحرم في الجنسين لأن الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل ، فمنع النساء كالكيل والوزن ، ويحمل حديث سمرة بن جندب ونحوه على ذلك ، وهو مردود بأن الجنس شرط الجريان ربا الفضل أو محل في ذلك ، لا وصف في العلة ، والحمل على ما ذكر فيه تعسف ( والرابعة ) يحرم في الجنس الواحد متفاضلاً لا متماثلاً ، ولا في الجنسين .
1854 لما روى جابر رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال ( لا يصلح الحيوان بالحيوان اثنان بواحد نسيئة ، ولا بأس به يداً بيد ) رواه الترمذي وحسنه ، ومفهومه جواز الواحد بالواحد ، لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة ، وقد قال أحمد : زاد فيه ( نساء ) وليث ابن سعد سمعه من أبي الزبير ، لا يذكر فيه ( نساء ) قال أبو محمد : ويحتمل أن الخرقي أراد هذه الرواية ، قلت : وعلى هذا يكون تقدير الكلام : وما كان مما لا يكال ولا يوزن ، فجائز التفاضل فيه يداً بيد ، إذا كان جنساً واحداً ، ولا يجوز نسيئة ، وعلى ما قال الجماعة أنه اختيار الخرقي التقدير في الثاني : أي ولا يجوز بيعه نسيئة ، ويحتمل كلام الخرقي منع النساء مع التفاضل مطلقاً ، والتقدير إذاً : ولا يجوز التفاضل فيه نيسئة ، وهذا يرجحه أن في اللفظ ما يدل عليه وهو ذكر التفاضل ، ويبعده ما تقدم في صدر المسألة .
( تنبيه ) : ( القلائص ) جمع قلوص ، وقد تقدم في أول الكتاب ، ( والراحلة ) ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يباع شيء من الرطب بيابس من جنسه إلا العرايا .
ش : الألف واللام في الرطب لمعهود ذهني ، وهو رطب يجري فيه الربا ، كالرطب والعنب ، فلا يباع الأول بالتمر ، ولا الثاني بالزبيب ، متماثلاً ولا متفاضلاً .
1855 لما روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : نهى رسول اللَّه أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً ، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام ، نهى عن ذلك كله ، متفق عليه .
1856 وعن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه قال : سمعت النبي يسأل عن اشتراء التمر بالرطب ؟ فقال لمن حوله ( أينقص الرطب إذا يبس ؟ ) قالوا : نعم . فنهى عن ذلك ، رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ، وهذا السؤال إرشاد للعلة ، وهي النقص في ثاني الحال ، أو انفراد أحدهما بالنقص ، سؤال تقرير وتنبيه ، لا استفهام حقيقي ، لعلمه بذلك .
واستثنى الخرقي العرايا ، وسيأتي ذلك إن شاء اللَّه ، ومفهوم كلامه جواز بيع الرطب بالرطب ، ويأتي أيضاً إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزناً ، ولا ما أصله الوزن كيلاً .
ش : المساواة المعتبرة فيما يحرم فيه التفاضل هي المساواة في معياره الشرعي ، وهو الكيل في المكيل ، والوزن في الموزون ، فلا يباع المكيل بجنسه ، إلا كيلاً ، ولا الموزون بجنسه إلا وزناً ، إلا إذا علم مساواته في معياره [ الشرعي ] .
1857 لما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( الذهب بالذهب وزناً بوزن ، مثلاً بمثل ، والفضة بالفضة ، وزناً بوزن ، مثلاً بمثل ، فمن زاد أو استزاد فهو ربا ) رواه مسلم .
1858 وفي حديث عبادة في رواية أبي داود أن رسول اللَّه قال : ( الذهب بالذهب تبرها وعينها ، والفضة بالفضة تبرها وعينها ، والبر بالبر مدي بمدي ، والشعير بالشعير مدي بمدي ، والتمر بالتمر مدي بمدي ، والملح بالملح مدي بمدي ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى ) فاعتبر في الموزون الوزن ، وفي المكيل الكيل ، فمن خالف ذلك خرج عن المشروع المأمور به .
1859 وإذاً يدخل تحت قوله : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردلإ نعم لا يعتبر كيل جرت العادة به ، بل يجوز التعديل بإناء لم تجر العادة بالكيل به ، كما يجوز بالوضع في كفتي الميزان ، ذكره في التلخيص .
ومفهوم كلام الخرقي جواز بيع المكيل بمكيل من غير جنسه كيلاً ، وهو كذلك لحديث عبادة ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ) .
1860 وفي الصحيح من حديث أبي بكرة رضي اللَّه عنه : وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا ، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا ، متفق عليه ، ومن ثم اختار الشيخان وابن عقيل ، وصاحب التلخيص ، وغيرهم جواز بيع المكيل بالمكيل جزافاً ، وبيع الموزون بالموزون جزافاً ، ومنع ذلك ابن أبي موسى ، والقاضي في المجرد ، والشريف ، وغيرهم ونص عليه أحمد في رواية الحسن بن ثواب وغيره .
1861 لنهيه عن بيع الطعام بالطعام مجازفة ، وهو محمول على الجنس الواحد ، جمعاً بين الأدلة .
( تنبيه ) : المرجع في الكيل إلى مكيال أهل المدينة ، وفي الوزن إلى ميزان أهل مكة ، في زمن النبي .
1862 لما روى ابن عمر أن رسول اللَّه قال : ( الوزن وزن أهل مكة ، والمكيال مكيال أهل المدينة ) رواه النسائي .
1863 وهو لأبي داود من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، وما لا عرف له بهما فهل يعتبر عرفه في موضعه ، أو يرد إلى أقرب الأشياء شبهاً به بالحجاز ؟ فيه احتمالان حكاهما القاضي في التعليق ومن بعده ، وما لا أصل له بالحجاز في كيل ولا وزن ، ولا له شبهه بما جرى فيه العرف ، كالثياب ، والحيوان ، والمعدود من الجوز ، والبيض ، والرمان ، والقثاء ، والخيار ، والخضروات ، والبقول ، [ والسفرجل ] ، والكمثري ، والخوخ ونحو ذلك ، فإذا اعتبر التماثل فيه اعتبر بالوزن ، لأنه أضبط ، قاله أبو محمد ، وكذلك ذكر القاضي في الفواكه الرطبة .
إذا عرف هذا فالبر والشعير مكيلان بالنص [ قال أبو محمد : وكذلك سائر الحبوب ، والأبازير ، والأشنان ، والجص ، والنورة ونحوها ] ، وسائر ما تجب فيه الزكاة كالزبيب ، والفستق ، والبندق ، والعنب ، والمشمش ، والبطم ، والزيتون ، واللوز .
والملح [ مكيل بالنص ، والذهب والفضة موزونان ، قال أبو محمد : وكذلك ما أشبههما من جواهر الأرض كالحديد ، والرصاص ، والصفر والنحاس ، والزجاج والزئبق ] ، وكذلك الإبرسيم ، والقطن والصوف والكتان ، وغير ذلك [ وكذلك الخبز واللحم ، والشحم ، والزبد ، والجبن ، وكذا الشمع وما أشبهه ] وكذلك الزعفران ، والعصفر ، والورس .
والدقيق ، والسويق مكيلان عند أبي محمد ، نظراً لأصلهما ، وجوز القاضي بيعهما بالوزن كالخبز ، أما المائعات كاللبن ، والأدهان ، من الزيت ، والشيرج ، والعسل ، والدبس ، فقال أبو محمد : الظاهر أنها مكيلة ، وكذا قال القاضي في الأدهان أنها مكيلة ، وقال في اللبن : يصح السلم فيه كيلاً ، وعن أحمد أنه سئل عن السلف في اللبن ، فقال : نعم كيلاً أو وزناً . واللَّه أعلم .
قال : والتمور كلها جنس واحد ، وإن اختلفت أنواعها .
ش : الجنس هو الشامل لأشياء مختلفة [ بأنواعها ، والنوع هو الشامل لأشياء مختلفة ] بأشخاصها ، والمراد هنا الجنس الأخص ، والنوع الأخص ، إذ قد يكون الشيء جنساً بالنسبة إلى ما تحته ، ونوعاً بالنسبة [ إلى ما فوقه ، وكالإنسان فإنه جنس بالنسبة إلى الزنجي ، والتركي ، وغير ذلك ، ونوعاً بالنسبة ] إلى الحيوان ، والمعتبر هنا الإتفاق في الاسم الخاص من أصل الخلقة ، كالحنطة والتمر وغيرهما ، لأن النبي اعتبر التمر بالتمر ، والبر بالبر وأطلق ، بل ومنع من بيع الجنيب بالجمع متفاضلاً كما تقدم .
إذا عرف هذا فالأدقة والأدهان تختلف باختلاف أصولها ، [ فدقيق الحنطة والشعير والفول أجناس ، كما أن أصولها ] كذلك ، والزيت ، والشيرج ، ودهن بزر الكتان ، ودهن السمك ، ونحو ذلك أجناس كأصولهن ، ودهن الورد ، ودهن البنفسج ونحوهما جنس ، إن كان أصلهما واحداً ، والخلول أجناس من المذهب كأصولها ، ( وعنه ) أن خل العنب والتمر في حكم الجنس الواحد ، وفي التلخيص وجه أن الخلول كلها جنس واحد ولا معول عليهما ، أما على المذهب فيجوز بيع خل العنب بخل التمر متماثلاً ومتفاضلاً ، وخل التمر بخل التمر متماثلاً لا متفاضلاً ، ويغتفر ما فيهما من الماء ، لأنه غير مقصود للمصلحة ، أما خل العنب بخل الزيت فالمنصوص وقاله القاضي وغيره منع بيع أحدهما بالآخر مطلقاً ، لانفراد أحدهما بالماء ، فأشبها تمرين في أحدهما نواه ، والآخر نزع منه واللَّه أعلم .
قال : والبر والشعير جنسان .
ش : هذا على المذهب المنصوص بلا ريب ، لحديث عبادة ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ) وللنسائي وأبي داود فيه : وأمرنا أن نبيع البر بالشعير ، والشعير بالبر ، يداً بيد ، كيف شئنا ؛ ( وعنه ) ما يدل على أنهما جنس واحد ، قال : الحنطة والشعير والسلت صنف ، وقال : يكره أن يبيع الحنطة بالشعير اثنين بواحد ؛ لما تقدم عن معمر بن عبد اللَّه ، وهو محمول على التورع ، كما أشار هو إليه فقال : أخاف أن يضارع . أي يشابه ، ثم مع النص السابق لا يعرج على غيره ، واللَّه أعلم .
قال : وسائر اللحمان جنس واحد .
ش : هذا إحدى الروايات عن أحمد رحمه اللَّه ( والثانية ) أنها أجناس باختلاف أصولها ، اختارها أبو بكر ، والقاضي في تعليقه ، وأبو الحسين ، وأبو الخطاب في خلافه ، وابن عقيل ، وأبو محمد ومبناهما واللَّه أعلم على أن الإعتبار هل هو بحال جريان الربا فيه ، وهو إذاً يشمله اسم واحد ، ويرجحه نهيه عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل ، وهي كلها طعام ، أو باعتبار أصوله ، وأصوله مختلفة ، وينقض الأول بعسل النحل ، وعسل القصب ، والحديث محمول على ما إذا اتفق الجنس ، بدليل ما تقدم ( والثالثة ) أنها أربعة أجناس ، لحم الأنعام جنس ، ولحم الوحش جنس ، ولحم الطير جنس ، ولحم دواب الماء جنس ، وهي اختيار القاضي في روايتيه ، وحمل كلام الخرقي على ذلك ، لأن لحم هذه الحيوانات تختلف المنفعة بها ، والقصد إليها ، فجعل كل واحد جنساً ، نظراً لذلك ، فعلى الثانية لحم الإبل كله جنس واحد ، وكذلك البقر ، وكذلك الغنم على المشهور ، ولأبي محمد احتمال بأنهما جنسان ، ضأن ومعز ، لتفريقه سبحانه بينهما حيث قال : 19 ( { من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين } ) وكل ما له اسم يخصه من الوحش والطير جنس .
( تنبيهات ) ( أحدها ) اللبن ، والشحم ، والأكبدة ، والأطلحة ، والرئات ، والجلود ، والأصواف ، والعظام ، والرؤوس ، والأكارع ، ونحو ذلك مما اشتمل عليه اللحم ، فجيري فيهن ما يجري فيه من الخلاف ، وكذلك مقلو البيض ، لصيرورته موزوناً ، أما قبل ذلك فهو معدود ، فلا يجري فيه الربا على المذهب .
( الثاني ) اللحم والشحم جنسان على المشهور ، فيخرج [ بيع أحدهما بالآخر متماثلاً ومتفاضلاً ، وعن القاضي منع ] بيع أحدهما بالآخر مطلقاً .
( الثالث ) اللحم الأبيض كسمين الظهر والأحمر جنس واحد على الأشهر ، قاله القاضي ، وابن البنا ، وغيرهما ، وقال أبو محمد : إن ظاهر كلام الخرقي أنهما جنسان ، لقوله : إن اللحم لا يخلو من شحم ، قال : ولو لم يكن هذا شحماً لم يختلط لحم بشحم ، وفرع على قوله أن كل أبيض في الحيوان يصير دهناً جنس واحد ، واختار ذلك في المغني ، وبنى على ذلك أن الألية والشحم جنس ، والمشهور عند الأصحاب أنهما جنسان ، وهو الذي قاله في المقنع .
( الرابع ) هل لحم رأس شيء جنس برأسه كالقلب ونحوه ، أو نوع من لحم جنسه ؟ فيه وجهان .
( الخامس ) هل يجوز بيع اللبن باللبأ ؟ فيه وجهان ، حكاهما ابن البنا ، وعن القاضي أنه خصهما بما إذا مست النار أحدهما ، وعند أبي محمد والسامري أنهما جنس واحد ، يجوز بيع أحدهما ، وعلى ما إذا مست النار أحدهما حمل السامري وجه منع ابن البنا ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يجوز بيع بعضه ببعض رطباً ، ويجوز إذا تناهى جفافه مثلاً بمثل .
ش : لا إشكال في جواز بيع ما كان رطباً ، عند تناهي جفافه ، من التمر ، واللحوم ، وغيرهما بمثله ، واختلف في بيع كل رطب بمثله رطباً ، فعنه المنع مطلقاً ، حكاه ابن الزاغوني ، واختاره أبو حفص العكبري ، وحمل كلام الخرقي عليه ، لنصه عليه في اللحم ، لأن النبي نهى عن بيع الرطب بالتمر ، مشيراً للتعليل بالنقص ، وهذا موجود في الرطبين ، لأنهما ينقصان ، يحققه أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في باب الربا .
1864 بدليل نهيه عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر ، رواه مسلم ، وهنا يجهل التساوي في ثاني الحال ، وذهب جمهور الأصحاب القاضي ، وأبو الخطاب ، والشيخان وغيرهم ، وهو مقتضى مفهوم كلام الخرقي السابق ، ونص عليه أحمد في الرطب بالرطب إلى الجواز ، لنهيه عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل ، والرطبان إذا بيعا مثلاً بمثل قد استويا في المثلية ، فدخلا في عموم المستثنى ، ولأنهما استويا في الحال ، على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص ، فأشبها اللبن باللبن ، وخرج بيع الرطب بالتمر ، لانفراد أحدهما بالنقص واشتراط عدم الجهل بالتساوي [ في ثاني الحال ] لا نسلمه ، بل المشترط عدمه في الحال ، فكان مناط المسألة واللَّه أعلم التساوي ، هل يشترط في الحال ولا يضر الجهل به في ثاني الحال ، أو يشترط حالاً ومآلاً ؟ على قولين ، إلا أنه استثنى على الثاني بيع رطب لا يجيء منه تمر ، وعنب لا يجيء منه زبيب ، فإنه يجوز بيعه بمثله قبل جفافه ، نظراً إلى أن كمال ذلك في حال رطوبته ، وفساده في حال جفافه ، قاله في التلخيص .
( تنبيه ) : اشترط القاضي والأكثرون في بيع اللحم بمثله نزع العظم ، لتتحقق المساواة المعتبرة شرعاً ، وكالعسل بالعسل ، لا يباع إلا بعد التصفية ، ومال أبو محمد إلى عدم اشتراط ذلك ، وذكر أنه ظاهر كلام الإمام ، وعلله بأن العظم تابع من أصل الخلقة ، فأشبه النوى في التمر ، وخرج الشمع في العسل ، لأنه من فعل النحل .
قال : ولا يجوز بيع اللحم بالحيوان .
ش : لا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه لا يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه ، كبيع لحم بقر ببقر ، ونحو ذلك .
1865 لما روي عن سعيد بن المسيب رضي اللَّه عنه ، أن النبي نهى عن بيع اللحم بالحيوان ، رواه مالك في الموطأ ، وأبو داود في المراسيل .
1866 وعنه أيضاً أن رسول اللَّه نهى عن بيع الحي بالميت . احتج به أحمد ، ورواه أبو داود في المراسيل أيضاً ، وناهيك بمراسيل سعيد ، مع أن الأول قد أسند من حديث ثابت بن زهير ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي إلا أن ثابتاً منكر الحديث ، قاله أبو حاتم الرازي .
1867 وقال أبو الزناد : 16 ( كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان . ولأنه مال ربوي ، بيع بما فيه من جنسه ، مع جهالة المقدار ، أشبه السمسم بالشيرج ، والزيتون بالزيت ) [ ونحو ذلك ] .
واختلف في بيع اللحم بحيوان من غير جنسه ، كلحم بقر بإبل ، وظاهر كلام أحمد والخرقي ، وأبي بكر ، وابن أبي موسى ، والقاضي في تعليقه ، وجامعه الصغير ، وأبي الخطاب في خلافه الصغير ، وغيرهم ، أنه لا يجوز ، نظراً لإطلاق ما تقدم .
1868 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن جزوراً نحرت ، فجاء رجل بعناق ، فقال أعطوني جزءاً بهذا العناق . فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه : لا يصلح هذا . رواه الشافعي ، وقال : لا أعلم مخالفاً لأبي بكر في ذلك .
واختار القاضي فيما حكاه عنه أبو محمد الجواز ، لأنه مال ربوي بيع بغير أصله ولا جنسه فجاز ، كما لو باعه بذهب أو فضة ، وبعض المتأخرين بنى القولين على الخلاف في اللحم ، هل هو جنس من أجناس ، ؟ وصرح أبو الخطاب في الانتصار بأنهما على القول بأنه أجناس ، وهو الصواب ، ولهذا اختلف في بيع اللحم بحيوان لا يؤكل ، كعبد وحمار ونحوهما ، قال أبو الخطاب : ولا رواية في ذلك ، فيحتمل وجهين . والجواز صرح به في خلافه الصغير ، وكذا شيخه في التعليق ، وابن الزاغوني ، وهو ظاهر كلام أبي جعفر ، وشيخه في الجامع الصغير ، والمنع أورده ابن عقيل في التذكرة مذهباً ، وهو احتمال له في الفصول ، والصحيح عنده فيه كقول الأكثرين ، ولم يطلع أبو محمد على المسألة صريحاً ، فقال : ظاهر كلام الأصحاب الجواز . واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى ذهباً بورق عيناً بعين ، فوجد أحدهما فيما اشترى عيباً فله الخيار بين أن يرد أو يقبل ، ويأخذ قدر ما نقص بالعيب ، إذا كان بصرف يومه ، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه .
ش : لما فرغ الخرقي رحمه اللَّه من بيان الربا ، شرع يتكلم في الصرف ، ومعنى العين بالعين أن يقول : بعتك هذه الدراهم بهذه الدنانير ، ونحو ذلك ، فإذا وقع العقد كذلك ، فوجد أحدهما بما اشتراه عيباً فله حالتان ، ( إحداهما ) أن يكون من غير جنس المعقود عليه ، كالرصاص في الفضة ، ونحو ذلك ، فهنا يبطل العقد على المذهب ، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، ( الثانية ) أن يكون العيب من جنس المعقود عليه ، كالسواد في الفضة ، ونحو ذلك ، وهذا الذي ذكره الخرقي هنا ، ولا بد من بنائه على أصل ، وهو أن النقود هل تتعين بالتعيين أم لا ؟ فإن قلنا : لا تتعين ، فحكم ذلك حكم التصارف في الذمة كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، وإن قلنا : تتعين وهو المذهب ، وعليه بنى الخرقي كلامه فلواجد العيب والحال ما تقدم الخيار بين الرد والإمساك بلا خلاف نعلمه ، كغير الذهب والفضة من المبيعات ، فإن اختار الرد بطل العقد ، ولم يكن له أخذ البدل ، كما لو كان المبيع عرضاً ، لأن البيع تعلق بعينه ، فيفوت بفواته ، وإن اختار الإمساك فله ذلك بلا نزاع نعلمه أيضاً ، وله مع ذلك أخذ ما نقص المبيع بالعيب في الجملة ، وعلى المذهب المجزوم به عند الشيخين ، وصاحب التلخيص ، والسامري ، وهو جار على قاعدة المذهب في سائر المبيعات ، من جواز أخذ الأرش مع القدرة على الرد .
وظاهر ما أورده أبو الخطاب في الهداية مذهباً وأحد نسخ الخرقي أنه لا يجوز أخذ الأرض مطلقاً ، لأن ذلك زيادة على ما وقع عليه العقد ، وهذا قد يتوجه من جهة الدليل ، وهو قياس الرواية الضعيفة في سائر المبيعات ، لأنه لا أرش مع القدرة على الرد ، فعلى الأول لا يجوز أخذ الأرض في الجنس الواحد مطلقاً ، كفضة بفضة ، حذاراً من فوات المماثلة المشترطة .
وعن القاضي أنه خرج وجهاً بالجواز في المجلس ، نظراً أن الزيادة طرأت بعد العقد ، وأبو الخطاب في الهداية يخرج قولاً بجواز أخذ الأرش ، ويطلق ، ويدخل في كلامه الجنس والجنسان ، وفي المجلس وبعده ، وابن عقيل يحكي ذلك رواية في صورة تلف أحد العوضين ، ووجهه جعل الصنعة مقومة فإنه لا يجوز أخذ عوضها مع اتحاد الجنس بلا ريب ، بل يمنع على هذا القول من بيع الصحاح بالمكسرة ونحو ذلك ، وأما قول القاضي فقد رده أبو محمد بأن الأرش من العوض ، بدليل أنه يخبر به في المرابحة ، ويأخذ به الشفيع ، وقوله : إن الأرش من العوض . ليس بجيد ، كما سيأتي ، مع أن هذا القول لا وجه له ، لأن الأرش في المعيب عوض عن جزء من مقابله ، وهو الصحيح ، إذ الثمن يتقسم على المثمن ، فالعيب لم يقابله شيء فيرجع بقسطه ، فلو جاز أخذ الأرش في الجنس الواحد لكان صاحب الدينار الصحيح دفع ديناراً [ إلا جزءاً وهو الأرض الذي أخذه في مقابلة العيب وأخذ ديناراً ] معيباً ، وإنه عين الربا ، انتهى .
ويجوز في الجنسين مطلقاً ، أعني قبل المجلس وبعده ، على ظاهر إطلاق الخرقي ، وصاحب التلخيص ، وأبي البركات ، والسامري ، وهو الصواب ، الذي لا ينبغي عل المذهب غيره ، لما تقدم من أن الأرض عوض عن الجزء الفائت من الثمن ، فالدافع لأرض دينار ظهر معيباً بيع بعشرة دراهم ، إنما يدفعه عوضاً عن جزء من العشرة [ دراهم ] تبيناً عدم استحقاقه ، وإذاً فالعوضان في الصرف قد قبضا بكمالهما ، ومع أحدهما زيادة تبيناً عدم استحقاقه لها .
وفصل أبو محمد فقال : إن كانا في المجلس جاز أخذ الأرش ، إذ قصاراه تأخر قبض بعد عوض الصرف عن بعض ، وإنه جائز ما داما في المجلس ، وإن تفرقا لم يجز ، حذاراً من التفرق قبل قبض بعض الصرف ، إلا أن يجعلا أرش الفضة مثلاً ثوباً ، نحو ذلك فيجوز ، لعدم اشتراط القبض لذلك ، وهذا منه يقتضي أن الأرش عوض عن الجزء الفائت من المعيب ، [ فكأنه من جملة العوض ، وهذا ليس بشيء على المذهب ، وإنما هو بدل ما قابل الجزء الفائت من المبيع بالعيب ] [ ويدل على ذلك قطعاً نسبة الأرش إلى الثمن ، ولو كان عوض الجزء الفائت من المبيع المعيب ] لكان المأخوذ ما نقص بالعيب فقط ، من غير نسبة إلى ثمن ولا غيره ، نعم أظن أن هذا اختيار أبي العباس ثم يلزم أبا محمد أن يقول : بالتفرق بطل العقد ، أو بطل في قدر ما يقابل العيب ، لحصول التفرق قبل كمال الصرف ، ويلزمه أيضاً أن لا يجوز أخذ أرش عيب الفضة ذهباً ، ولا أرش عيب الذهب فضة ، حذاراً من مسألة مد عجوة ، وهو لم يشترط ذلك ، بل هذا الإلزام وارد في سائر المبيعات ، فإنا إذ أخذنا أرش ثوب بيع بعشرة دراهم درهماً مثلاً ، كان على مقتضى قوله قد بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض ، مع أحدهما من غير جنسهما ، فكان ينبغي أن لا يجوز ذلك ، والظاهر أن الإجماع على خلافه .
إذا تحققت هذا فشرط الخرقي رحمه اللَّه للتخيير المتقدم أن يكون المردود بصرف يومه أي يوم الصرف ، فلو نقصت قيمته عن يوم الصرف كأن كان الدينار بعشرة ، فصار بتسعة زال التخيير وتعين الأرش ، كذا فهم عنه ابن عقيل ، وأبو محمد ، وهو ظاهر كلام أحمد على ما قال أبو محمد ، وقطع به السامري ، حذاراً من أن يرد المبيع مع تعيبه في يده ، والصحيح عند أبي محمد أن التخيير بحاله ، بناء على أن تغير السعر ليس بعيب ، بدليل عدم ضمانه في الغصب ، ثم لو سلم أنه عيب فظاهر المذهب وهو الذي قاله الخرقي كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى أن تعيب المبيع عند المشتري لا يمنع الرد ، انتهى . هذا شرح أبي محمد أو نحوه ، بناء على أحد نسخ الخرقي ، ولفظها : فله الخيار بين أن يرد أو يقبل إذا كان بصرف يومه ، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه ، وليس فيها ذكر الأرش ، إلا أنه جعل الشرط راجعاً للرد ، ويلزم على قوله أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، التقدير : له الخيار بين أن يرد إذا كان بصرف يومه ، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه ، أو يقبل ، والظاهر جعل الشرط راجعاً للتخيير كما تقدم ، حذاراً من تقديم وتأخير الأصل عدمه ، انتهى . ثم على هذه النسخة قد عطف على اشتراط كون المردود بصرف يومه ، كون العيب من جنس المعقود عليه ، فثبوت الخيار مشروط بشرطين ، كون المردود على صرف يومه ، وكون عيبه من جنسه ، فلو كان عيبه من غير جنسه زال التخيير ، وأما الحكم فيأتي ، وهو أن الصرف يكون فاسداً .
وفي بعض النسخ وعليها شرح ابن الزاغوني : فله الخيار بين أن يرد ، أو يأخذ قدر ما نقص بالعيب ، وهذه واضحة ، وفي أخرى : له الخيار بين أن يرد أو يقبل ، إذا كان بصرف يومه ، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه ، أو يأخذ أرش ما نقص بالعيب ، وعلى هذه النسخة يكون في الكلام أيضاً تقديم وتأخير ، أي له الخيار بين أن يرد بشرط كذا وكذا ، وبين أن يقبل ويأخذ الأرش ، ويكون ( أو ) بمعنى الواو .
وأما على النسخة التي كتبناها فالظاهر رجوع الشرط إلى الأرش ، أي : له الخيار بين أن يرد أو يقبل ويأخذ الأرش ، بشرط كونه على حساب يوم اصطرفا [ لا على أزيد منه ، كما إذا كان الدينار يوم اصطرفا ] بعشرة ، فصار باثني عشر ، ولا على أنقص ، كما إذا صار بثمانية ، وما ذاك إلا أن الثمن ينقسم على المثمن يوم العقد ، فالفائت بالعيب فات على حساب يوم العقد ، وهذا فرع من مسألة تقويم المبيع المعيب ، وقد صرحوا بأنه يقوم يوم العقد ، إلا ما كان من ضمان البائع فتقويمه يوم القبض ، وعلى هذا يسلم من الاعتراض السابق ، ومن دعوى تقديم وتأخير الأصل عدمه ، بقي أنه عطف على ذلك كون العيب من جنس المعقود [ عليه ] ، فلو كان من غير الجنس لم يتصور أخذ الأرض كما سيأتي .
فإن قيل : ظاهر هذا أن العيب إذا كان من غير الجنس امتنع الأرش ، وله القبول ، قيل : إذا حصل التصريح بخلاف ذلك فلا عبرة بالظاهر ، انتهى .
وقول الخرقي : فوجد أحدهما فيما اشتراه عيباً . يشمل العيب في الجميع وفي البعض ، وهو كذلك ، إلا أنه إذا اختار إمساك الصحيح ورد العيب فهل له ذلك ؟ على قولي تفريق الصفقة ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا تبايعا ذلك بغير عينه ، فوجد أحدهما عيباً فله البدل ، إذا كان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه ، كالوضوح في الذهب ، والسواد في الفضة .
ش : هذا هو المعبر عنه بالصرف في الذمة ، ومثاله : بعتك ديناراً مغربياً ، بعشرة دراهم ناصرية ، ونحو ذلك ، وهو جائز عندنا ، لظاهر قوله ( ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) فمقتضاه جواز ما عدا ذلك ، بشرط القبض في المجلس ، بدليل الرواية الأخرى ( يداً بيد ) ونحو ذلك ، إذا ثبت هذا فتصارفا عينا في الذمة ، ثم وجد أحدهما بما قبضه عيباً ليس من غير جنس المعقود عليه ، بل من جنسه كما مثل الخرقي رحمه اللَّه ، فلا يخلو إما أن يجد ذلك قبل التفرق أو بعده ، فإن وجده قبل التفرق فله المطالبة بالبدل الذي وقع عليه العقد وهو صحيح لا عيب فيه ، وله الإمساك ، إذا قصاراه الرضى بدون حقه ، وله أخذ الأرض في الجنسين ، لا في الجنس على المذهب فيهما ، وإن وجده بعد التفرق واختار الرد فهل يبطل العقد برده ، وهو اختيار أبي بكر ، لوجود التفرق قبل القبض ، لأن البدل إنما يأخذه عوضاً عما وقع عليه العقد ، أو لا يبطل وله البدل في مجلس الرد ، فإن تفرقا قبله بطل العقد ، وهو اختيار الخرقي والخلال ، والقاضي وأصحابه ، وغيرهم ، لأن القبض وقع صحيحاً ، وإلا لبطل العقد بالتفرقة مطلقاً ، وبدله يقوم مقامه ؟ فيه روايتان ، وحكى عنه ثالثة : أن البيع قد لزم ، وهي بعيدة ، لأنه يلزم منها إلزام العاقد بما لم يلتزمه .
فعلى الأولى إن وجد البعض رديئاً فرده بطل فيه ، وفي البقية قولا تفريق الصفقة .
وعلى الثانية : له بدل المردود في مجلس الرد . انتهى ، وإن اختار الإمساك فله ذلك بلا ريب ، لكن إن طلب مع ذلك الأرش فقال أبو محمد بناء على ما تقدم : له ذلك على الثانية لا الأولى ، وأما على المحقق وقد تقدم فله ذلك في الجنسين على الروايتين ، إذ الذي يأخذه عوض عن جزء فات من الثمن ، ولا يجوز في الجنس الواحد مطلقاً حذاراً مما تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : فأما إن كان عيب ذلك دخيلاً عليه من غير جنسه ، كان الصرف فيه فاسداً .
ش : لما فرغ الخرقي رحمه اللَّه من بيان العيب إذا كان من الجنس شرع في بيانه إذا كان من غير الجنس ، ثم إنه فصل بين ما إذا تصارفا بعين وبين ما إذا تصارفا في الذمة ، وهنا أطلق فشمل كلامه المسألتين ، ثم كلامه أيضاً شامل لما قبل التفرق وبعده ، وعلى ذلك جرى السامري مصرحاً به ، وزاعماً أن أحمد رحمه اللَّه نص عليه ، وذكره الخرقي ، والظاهر أن مستنده من كلام أحمد إطلاق ، كما هو في كلام الخرقي ، وكذلك تبعه أبو العباس ، حتى أنه وهم جده في قوله : وعنه أنها لا تتعين فتبدل مع الغصب والعيب بكل حال ، لشمول كلامه للعيب من الجنس ومن غيره ، وفي توهيمه بهذا الإطلاق نظر ، لأنه قد تقدم له قبل ذلك بأسطر أن المتصارفين إذا تفرقا فوجد أحدهما بما قبضه عيباً من غير الجنس بطل الصرف ، فيحمل كلامه هنا على غير الصرف ، توفيقاً بين كلاميه .
وإذا عرف هذا فلا بد من التعرض للتفصيل ، وبيان محل الوفاق من محل الخلاف ، فنقول : إذا تصارفا مثلاً ذهباً بفضة عيناً بعين ثم وجدا أو أحدهما عيباً من غير جنس المعقود عليه مثل أن ظهرت الدراهم أو بعضها رصاصاً ، أو الدنانير نحاساً ، ونحو ذلك فلا يخلو إما أن نقول : إن النقود تتعين بالتعيين ، أم لا ، فإن قلنا ، لا تتعين . فكما لو تصارفا في الذمة على ما سيأتي ، وإن قلنا : تتعين وهو المذهب كما تقد فإنا نتبين فساد الصرف على المعروف المجزوم به لعامة الأصحاب ، لأن البدل متعذر ، لتعلق البيع بالعين ، وكذلك الرضى بالموجود ، لأنه غير ما وقع عليه العقد ، فهو كما لو قال : بعتك هذه البغلة . فإذا هي حمار ، ونحو ذلك ، وقيل عنه : يلزم العقد والحال هذه ، تغليباً للإشارة ، ولا معول عليه ، فعلى المذهب إن ظهر البعض معيباً بطل فيه ، وهل يبطل في غيره ؟ قولاً تفريق الصفقة ، وإن تصارفا في الذمة ثم وجدا أو أحدهما العيب السابق ، فإن كان قبل التفرق رد وأخذ بدله ، والصرف صحيح ، وفاقاً لابن عقيل ، والشيرازي وصاحب التلخيص ، وأبي محمد ، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب ، إذ المقبوض تبين أنه غير الذي وقع عليه العقد ، وظاهر إطلاق الخرقي وهو الذي قاله السامري وأبو العباس فساده كما بعد التفرق .
وإن كان بعد التفرق وعليه عندي يحمل كلام الخرقي ، نظراً للغالب فإنا نتبين فساد الصرف على المذهب المحقق ، لأنهما تفرقا قبل قبض المعقود عليه فيما شرط له القبض ، ولا قبض ما يصلح أن يكون عوضاً عنه ، وبهذا خرج إذا كان العيب من الجنس ، لصلاحية المقبوض للعوضية عن ذلك ، ولا أرش قبل التفرق ولا بعده لما قلناه من أن المقبوض لا يصلح أن يكون عوضاً ، وأجرى أبو محمد في الكافي وصاحب التلخيص فيه هنا والحال هذه الروايتين اللتين فيما إذا كان العيب من الجنس ، إحداهما أن العقد يبطل برده ، والثانية لا يبطل ، وبدله في مجلس الرد يقوم مقامه ، فمجرد وجود العيب من غير الجنس عندهما بعد التفرق لا يبطل قولاً واحداً ، عكس المذهب ، وليس بشيء ، فعلى ما اختاره أبو محمد وغيره إن وجد العيب في البعض فقبل التفرق يبدل ، وبعده يبطل فيه ، وفي غير المعيب قولاً تفريق الصفقة .
واعلم أن كلام الأصحاب في هذه المسألة فيه اضطراب كثير ، وقد تقدم أن أبا العباس وهم جده فيها ، مع أن في توهيمه ما فيه ، وناهيك بهما ، وقد بالغت في تحريره على غاية الضعف وباللَّه المستعان .
وقول الخرقي : وجد . أي ظهر ، فيخرج منه ما إذا علم حال العقد ، والحكم فيه أن العيب إن كان من الجنس فالعقد لازم ولا كلام .
نعم إن كان الصرف في جنس ، والعيب في البعض ، فقد يبطله من يمنع بيع النوعين بنوع منه ، وإن كان العيب من غير الجنس والصرف في جنسين انبنى على إنفاق [ المغشوشة ] ، وفيه روايتان ، المختار منهما الجواز ، وأبو محمد يحمل رواية الجواز على ما ظهر غشه ، واصطلح عليه ورواية المنع على ما خفي غشه ، ويقع في اللبس ، ونحو ذلك قال ابن عقيل في الفصول .
وإ كان الصرف في جنسين ، فإن كان العيب في أحد العوضين ، ويخل بالمماثلة ، ولا قيمة له ، لم يجز ، لإفضائه إلى عدم التماثل المشترط شرعاً ، وإن كان له قيمة خرج على مسألة مد عجوة ، وإن كان العيب في العوضين وتساوى العيبان فقولان ، أظهرهما عند أبي محمد الجواز ، وقطع ابن عقيل في الفصول ، والسامري بالمنع .
ثم اعلم أنا قد ذكرنا أصلاً بنينا عليه ما تقدم ، وهو : أن النقود هل تتعين بالتعيين أم لا ؟ فنشير إلى بيان ذلك فنقول : المذهب المنصوص في رواية الجماعة ، والمعمول عليه عند الأصحاب كافة ، أن النقود تتعين بالتعيين كالعروض بالإتفاق ، لأن ذلك عوض مشار إليه في العقد ، فوجب أن يتعين كالعروض ، ولأن ما تعين في الغصب والوديعة تعين بالعقد كالعروض ، ومعنى تعين ذلك في الغصب أنه لو طولب بذلك لزمه تسليمه بعينه ، ولا يجوز العدول عنه .
1869 ومما استدل به على ذلك أيضاً حديث عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه : سمعت رسول اللَّه ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، إلا سواء بسواء ، عيناً بعين . ولو كان الذهب والفضة في الذمة لم يكن عيناً بعين ، وإنما يكون عيناً بعين إذا ملكت عين كل واحد منهما ، وفيه نظر ، إذ يلزم منه أن لا يباع الذهب بمثله إلا عيناً بعين ، وقد حكي الإجماع على خلافه ، والذي يظهر أن المراد من الحديث واللَّه أعلم حضور الطرفين المصطرف عليهما ، كما يحكى عن مالك أو تعيينهما بإقباضهما ، وحضورهما في المجلس ، وكونهما حالين ، كما يقوله أصحابنا وغيرهم ، بدليل أن في رواية أخرى في هذا الحديث ( يداً بيد ) بدلك ( عيناً بعين ) وكذا في رواية أخرى ( يداً بيد ) وفي وراية أخرى ( ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) وقول القاضي وأبي الخطاب وغيرهما : إن رواية عبادة ( يداً بيد ، عيناً بعين ) وإن ( يداً بيد ) أن لا يكون نسيئة ( وعيناً بعين ) تعينهما بالتعيين ، لم أرهما مجموعين في روايته ، ولا في رواية غيره ، مع أنه معترض بما تقدم ، انتهى .
ونقل أبو داود عن أحمد وسأله عن عبد دفع إلى رجل مالاً ، وأمره أن يشتريه فاشتراه به فأعتقه قال : يرد الدراهم على المولى ، ويؤخذ المشتري بالثمن ، والعبد حر . فظاهر هذا أنه لم يحكم بتعيينه ، وإلا لبطل العقد ، ولم تقع الحرية ، وتأول القاضي ذلك في تعليقه على أن قوله : اشتراه به . أي نقده في ثمنه ، واشترى في ذمته ، توفيقاً بين نصوصه ، وأبى ذلك أبو الخطاب والجمهور ، نظراً للظاهر ، ووجه ذلك أنه لا غرض في أعيان الدارهم والدنانير ، وإنما الغرض في مقدارها ، فإذا عينت كان تعيينها كالمكيال والميزان ، وكما لو استأجر أرضاً ليزرعها حنطة ، فإن الحنطة لا تتعين ، بل له أن يزرع ما هو مثلها ضرراً ، ولأن الفراء قال في قوله سبحانه { وشروه بثمن بخس } الآية : الثمن ما يثبت في الذمة . فجعل من صفة الثمن ثبوته في الذمة ، ومن قال بالتعيين لم يجعلها تثبت في الذمة ، وهي ثمن قطعاً ، ونقض الأول بالغصوب والعواري ، فإنها لا تبدل وإن ك ان المعنى واحداً ، وبما إذا باع قفيزاً معيناً من صبرة ، لم يكن للبائع إبداله بمثله من تلك الصبرة ، وإن لم يتعلق به غرض ، على أنا نمنع أن التعيين لا غرض فيه ، إذ قد يكون فيه غرض ، وهو اعتقاد حلها ونحو ذلك ، وقول الفراء لا يقبل في الأحكام ، وإنما يقبل في ما طريقه اللغة ، والتعيين وعدمه حكم شرعي .
وفائدة الخلاف على ما قال أبو الخطاب في الانتصار أن على المذهب لا يجوز للمشتري إبدالها ، وإذا خرجت مستحقة بطل العقد ، وإذا وجد البائع بها عيباً كان له الفسخ ، وإذا تلفت قبل القبض تلفت من مال البائع ، بناء على المذهب من أن المتعين ، لا يفتقر إلى قبض .
وعلى المرجوح للمشتري إبدالها ، ولا يبطل العقد بكونها مستحقة ، ولا يفسخ البائع بالعيب فيها ، ويجب إبدالها ، وإذا تلفت كانت من مال المشتري ، ما لم يقبض البائع .
( تنبيه ) : في نسخة من التلخيص بخط الموفق المصري فيما أظن : الثمن إن عين تعين بالتعيين ، في البيع وغيره من عقود المعاوضات ، في أصح الروايتين ، وينفسخ العقد بتلفه قبل القبض في كل معاوضة محضة ، كالإجارة ، والصلح بمعنى البيع ، وإن لم يتمحض لم ينفسخ بتلفه كالمهر ، وهذا سبق قلم منه أو من الناسخ ، لأنه إذا تعين تلف من مال البائع كما تقدم ، واستقر الملك فيه ، أما إن لم تعين فيتلف من مال المشتري ، وينفسخ العقد فيه ، واللَّه أعلم .
قال : ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما .
ش : الصرف بيع الأثمان بعضها ببعض كما تقدم ، والقبض في المجلس شرط لصحة العقد ، نص عليه القاضي ، وابن عقيل ، والشيخان ، وغير واحد ، مع أن ابن المنذر قد حكاه إجماعاً ، فقال : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد ، وقد شهد لذلك النصوص السابقة ( الذهب بالورق رباً إلا هاء وهاء ) وغير ذلك ، والمجلس هنا مجلس الخيار في البيع ، فلا يضر طوله مع تلازمهما ، فلو مشيا ولو يوماً ونحوه إلى منزل أحدهما مصطحبين صح ، وقبض الوكيل يقوم مقام قبض موكله ، بشرط قبضه قبل مفارقة موكله المجلس ، فإن فارق الموكل المجلس فسد الصرف ، وإن قبض الوكيل في المجلس ، وموت أحد المتصارفين قبل القبض يفسد الصرف ، لعدم تمام العقد ، فإن قبض البعض دون البعض فلا بيع بينهما فيما لم يقبض ، وفيما قبض قولاً تفريق الصفقة .
واعلم أن عبارة الخرقي هنا أجود من عبارة من قال : بطل الصرف . فإنه يوهم وجود عقد ثم بطلانه ، وليس كذلك ، إذ هنا القبض بمنزلة القبول ، لا يتم العقد إلا به ، واللَّه سبحانه أعلم .
قال : والعرايا التي رخص رسول اللَّه فيها هو أن يوهب للإنسان من النخل ما ليس فيه خمسة أوسق ، فيبيعها بخرصها تمراً ، لمن يأكلها رطباً .
1870 ش : الرخصة التي رخصها رسول اللَّه هي ما قال زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه : إن رسول اللَّه رخص [ لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر ، وفي رواية : رخص ] في العرية ، يأخذها أهل البيت بخرصها يأكلونها رطباً .
1871 وعن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم .
1872 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه نحوهما ، متفق عليهن .
إذا عرف هذا فقد اختلف في العرية لغة ، فقيل : إنها نوع من العطية ، خصت باسم كالنحلة ، لا بيع ، قال الجوهري : العرية النخلة يعريها رجلاً محتاجاً ، فيجعل تمرها له عاماً ، فعليه ، بمعنى مفعوله وأنشد لسويد بن الصامت :
وليست بسنهاء ولا رجبية

ولكن عرايا في السنين الجوائح

وقال غيره : إنه من عراه يعروه ، إذا أتاه يطلب منه عرية ، فأعراه أي أعطاه إياها ، كما يقال : سألني فأسألته . وهو نحو الأول ، وعن أبي عبيد : العرية اسم لكل ما أفرد عن جملة ، سواء كان للهبة ، أو للبيع ، أو للأكل . ونحو ذلك قال أبو بكر وغيره من أصحابنا ، قال بعضهم : سميت بذلك هنا لأنها معرية من البيع المحرم ، أي مخرجة منه .
واختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم في العرية التي وقع الترخيص فيها شرعاً ، على نحو اختلاف أهل اللغة ، فظاهر كلام الخرقي وتبعه صاحب التلخيص تخصيصها بالهبة ، وهو ظاهر ك ** لام أحمد ، قال أيضاً في رواية سندي ، وابن القاسم : العرية أن يهب الرجل للجار أو ابن العم النخلة والنخلتين ، ما لا يجب فيه الزكاة ، فللموهوب له أن يبيعها بخرصها تمراً للمرفق .
ومختار القاضي وجمهور الأصحاب عدم اختصاصها بالهبة ، بل هي عندهم [ في الجملة ] شراء الرطب على رؤوس النخل ، سواء كان ذلك موهوباً أو غير موهوب .
1873 وقد روي عن محمود بن لبيد قال : قلت لزيد : ما عراياكم هذه ؟ فسمى رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول اللَّه أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يتبايعون به رطباً ، وعندهم فضول من التمر ، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم ، يأكلونه رطباً ، وهذا بظاهره إن صح يدل لما قاله الجمهور .
1874 ويرشحه ما في الصحيح من حديث سهل أنه رخص في بيع [ العرية أن تباع بخرصها تمراً ، يأكلها أهلها رطباً ، وقد يقال : إنه لا دليل في كليهما ، إذ فيهما أنه رخص في بيع ] العرايا ، وليس في الحديث بيان العرايا ما هي .
1875 ومما استدل به أيضاً لقول القاضي ومن وافقه تفسير يحيى بن سعد ، أحد رواه الحديث ، فإنه قال : العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات ، لطعام أهله رطباً ، بخرصها تمراً .
1876 وعورض بتفسير ابن إسحاق ، فإنه فسرها بالهبة ، كذا نقل عنه أبو داود ، مع أن كليهما غير صحابي ، فلا حجة في تفسيرهما .
وبالجملة يشترط لجوازها على كلا القولين شروط ( أحدها ) كونه رطباً على رؤوس النخل ، لما تقدم ، أما الرطب على وجه الأرض فلا يجوز بتمر ، لنهيه عن بيع الرطب بالتمر ، خرج منه ما تقدم بحكم الأخذ شيئاً فشيئاً ، لحاجة التفكه كما دلت عليه قصة محمود بن لبيد ، وهذا المعنى مفقود في الرطب المجذوذ ، فيبقى فيه على المنع .
( الثاني ) : كونها فيما دون خمسة أوسق .
1877 لما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه : أن رسول اللَّه رخص في العرايا بخرصها ، فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق . متفق عليه ، شك داود بن الحصين ، أحد الرواة ، وهذا يخص ما تقدم من حديث زيد ، ورافع وسهل ، وغيرهم ، ويقضي عليها ، فلا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق ، على المذهب المعروف ، المجزوم به ، وبعض الأصحاب يقول : رواية واحدة ، وأغرب ابن الزاغوني في وجيزه فلم يشترط الأوسق أصلاً فيما إذا كان المشتري هو الواهب ، بأن شق عليه دخول الموهوب له وخروجه في بستانه ، أو كره الموهوب له دخول بستان غيره ، ولا نظير لهذا .
أما على المذهب ففي الخمسة ( روايتان ) المختار منهما عند الأصحاب المنع ، لأن النهي عن المزابنة مطلق ، خرج منه ما دون الخمسة بيقين ، ووقع الشك في الخمسة بيقين ، فيبقى على مقتضى الأصل من المنع ، ( والثانية ) الجواز ، نظراً إلى عموم أحاديث الرخصة ، خرج منها ما زاد على الخمسة بيقين ، فما عداه يبقى على مقتضى الترخيص .
( الثالث ) : كون ذلك بخرصة لا جزافاً ، لما تقدم من الأحاديث ، وأيضاً فالشارع أقام الخرص للحاجة مقام الكيل ، فلا يجوز العدول عنه ، كما لا يعدل عن الكيل فيما يشترط فيه الكيل ، ثم هل الخرص على ما يؤول إليه عند الجفاف ، وهو اختيار القاضي ، وأبي محمد ، وصاحب التلخيص ، ارتكاباً لأخف المفسدتين وهو الجهل بالتساوي دون أعظمهما وهو العلم بالتفاضل أو على ما هو عليه إذاً نظراً للتساوي في الحال ، ولعله ظاهر الأحاديث وقيل : إنه المنصوص هنا ؟ على روايتين .
( الرابع ) : كون البيع بتمر ، فلا يجوز بيعها بخرصها رطباً ، لما تقدم من حديثي زيد وسهل ، نعم لا إشكال في جواز البيع بنقد أو بعرض ، لانتفاء المزابنة رأساً ، ويشترط في التمر المشتري به ( أن يكون ) كيلاً لا جزافاً .
1878 لأن في البخاري عن ابن عمر عن زيد مرفوعاً : ورخص في العرايا [ أن تباع بخرصها كيلاً ، ولأن الأصل كما تقدم اعتبار الكيل من الجانبين ، سقط في أحدهما ، وأقيم الخرص مقامه للحاجة ، ففي الآخر يبقى على مقتضى الأصل ، ( وأن يكون ) التمر مثل ما حصل به الخرص ، لا أزيد ولا أنقص .
1879 لأن في الترمذي في حديث زيد : أذن لأهل العرايا ] أن يبيعوها بمثل خرصها .
( السادس ) اشتراط الحلول والقبض من الطرفين في مجلس العقد ، نص عليه ، لأن بيع تمر بتمر ، فاعتبر فيه جميع شروطه ، عدا ما استثناه الشارع ، وقبض كل منهما بحسبه ، ففي النخلة بالتخلية ، وفي التمر باكتياله ، فإن سلم أحدهما ثم مشى الآخر فسلم جاز . ( السابع ) اعتبار الحاجة ، لما تقدم من قصة محمود بن لبيد ، وذكر الرخصة يؤذن بذلك . ثم الحاجة [ تارة ] تكون للمشتري ، بأن يحتاج إلى أكل الرطب ، ولا ثمن معه إلا التمر ، وهذا الذي في قصة محمود بن لبيد ، وهو الذي قاله الخرقي ، ( وتارة ) تكون للبائع ، بأن يحتاج إلى أكل [ التمر ] ، ولا ثمن معه إلا الرطب ، وهذه الصورة لم يذكرها الخرقي وطائفة من الأصحاب ، ونص عليها أبو بكر ، وأبو البركات ، وغيرهما ، وجوازها بطريق التنبيه ، لأنه إذا جاز مخالفة الأصل لحاجة التفكه فلحاجة الإقتيات أولى ، وهذا يعتمد أصلاً ، وهو جواز القياس على الرخصة ، وعليه المعوّل ، إن فهمت [ العلة ] كمسألتنا ، وعن ابن عقيل أنه جعل من صور الحاجة إذا كانت موهوبة أن يشق على الواهب دخول الموهوب له بستانه وخروجه ، أو يكره الموهوب دخول بستان غيره ، فيجوز إذاً البيع ، انتهى .
ويكتفي بالحاجة المتقدمة من جهة البائع أو المشتري على المشهور ، والمختار لأبي محمد وغيره ، وظاهر ما في التلخيص أنه يشترط مع حاجة المشتري المتقدمة أن يشق على الموهوب له القيام عليها ، وحكى أبو محمد عن القاضي ، وأبي بكر اشتراط [ الحاجة من جانبي البائع والمشتري ، والذي في ( التنبيه ) : العرية أن يكون للرجل النخلة والنخلتان حملهما دون خمسة أوسق ، وهو محتاج إلى التمر ] ، أو يكون إنسان يحتاج إلى الرطب ولا يمكنه شراؤه إلا بالتمر ، فيتبايعان الرطب بالتمر ، وهذا صريح في الاكتفاء بالحاجة من أحد الجانبين ، [ نعم اشتراط الحاجة من الجانبي ] هو المقدم عند ابن عقيل .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) يتفرع على اشتراط الحاجة من الجانبين أنه لو باع رجل عريتين [ من رجلين ] ، فيهما أكثر من خمسة أوسق لم يجز ، أما من اكتفى بالحاجة من أحد الجانبين فإنه ألغى جانب البائع ، ولم يعتبر إلا المشتري ، فيجوز للبائع أن يبيع مائة وسق في عقود متعددة ، بالشروط السابقة ، ولا يجوز للمشتري أن يشتري أكثر من خمسة أوسق ، ولو في صفقتين .
( الثاني ) ( هل تختص ) الرخصة بعرية النخل ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار ابن حامد ، وابن عقيل ، وأبي محمد ، اقتصاراً على مورد النص ، إذ غيرها لا يساويها في الحاجة ، لجمعها بين المصلحتين ، التفكه والاقتيات .
1880 ثم في الترمذي في حديث رافع وسهل : أن النبي نهى عن المزابنة التمر بالتمر ، إلا أصحاب العرايا ، فإنه قد أذن لهم ، وعن بيع العنب بالزبيب ، وعن كل ثمر بخرصة . ( أو لا تختص ) ، فتجوز في سائر الثمار وهو قول القاضي ، إلحاقاً لذلك بعرية النخل ، بجامع الحاجة ، أو يلحق العنب فقط ، وهو احتمال لأبي محمد ، لقوة شبهه بالرطب في الاقتيات والتفكه على ثلاثة أقوال ، وخرج أبو العباس على ذلك بيع الخبز باليابس في برية الحجاز ونحوها ، وكذلك بيع الفضة الخالصة بالمغشوشة ، نظراً للحاجة .
188( الثالث ) المزابنة فسرها أبو سعيد الخدري ، ورافع ، وسهل ، ببيع الثمر بالتمر وفي حديث سهل في الصحيح : أن رسول اللَّه نهى عن بيع الثمر بالتمر ، وقال ( ذلك الربا ، تلك المزابنة ) .
1882 وفسرها ابن عمر بأن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً بزبيب كيلاً ، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام ، نهى عن ذلك كله . متفق عليه ، زاد مسلم : وعن كل تمر بخرصة .
( والمزابنة ) : مفاعلة ، مأخوذة من ( الزبن ) بفتح الزاي ، وإسكان الموحدة ، والزبن في اللغة الدفع الشديد ، ومنه وصفت الحرب بالزبون ، [ لشدة الدفع فيها ، وسمي الشرطي زبنياً ، لأنه يدفع الناس بعنف وشدة ، ومن ذلك أيضاً ] واللَّه أعلم ( الزبانية ) ولما كان كل واحد من المتبايعين في هذه المبايعة يدفع الآخر عن حقه سميت بذلك ، ( والخرص ) بكسر الخاء اسم للمخروص ، وبفتحها المصدر ، والرواية بالكسر ، قاله القرطبي ، وقال النووي : ( بخرصها ) بفتح الخاء وكسرها ، الفتح أشهر ، فمن فتح قال مصدر ، ومن كسر قال اسم للشيء المخروص ، وعلى هذا يترجح بل يتعين ما قاله القرطبي ( ونهى عن بيع الثمر بالتمر ) الأول بثلاث نقط ، والثاني باثنتين ، والمراد بذلك واللَّه أعلم بيع الرطب بالتمر ، ( والرجبية ) من النخل منسوبة إلى رجب ، جمع رجبة ، كركبة وركب ، قاله في الصحاح ، وقال القزاز في جامعه : ومعنى البيت : ليست هذه النخلة كريمة علينا ، ولكن نعريها الزائر والضيف ، والترجيب التعظيم ، وإن فلاناً لمرجب ، أي معظم ، واللَّه أعلم .
قال : فإن تركها حتى تتمر بطل البيع .
ش : الضمير في ( تركها ) يرجع للمشتري ، وهذا هو المذهب من الروايتين ، إذ بتأخره علمنا عدم الشرط ، وهو عدم الحاجة إلى أكل الرطب ، ولأن النبي قال ( يأكلها أهلها رطباً ) أي حالها أن يأكلها أهلها رطباً ، فإذا لم يأكلها أهلها رطباً انتفت صفتها التي هي حكمة الرخصة ، ولا فرق بين الترك لعذر أو غيره ، سداً للذريعة ( والثانية ) لا يبطل ، لاستكمال الشروط حال العقد ، وعن أحمد فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها ثم تركها ، إن قصد ذلك حال العقد بطل ، وإلا لم يبطل ، فيخرج هنا كذلك ، والقول بالبطلان كما دل عليه كلام الخرقي فيما إذا كانت الحاجة في الرطب للمشتري ، أما إن كان للبائع في التمر فترك المشتري لها حتى تتمر وعدمه سيان ، واللَّه أعلم .

باب بيع الأصول والثمار


ش : ( الأصول ) جمع أصل ، كفلس وفلوس والمراد هنا الأشجار ( والثمار ) جمع ثمر ، كجبل وجبال ، وواحدة الثمر ثمرة ، وجمع الثمار ثمر ، ككتاب وكتب ، وجمع الثمر أثمار كعنق وأعناق ، واللَّه أعلم .
قال : ومن باع نخلاً مؤبرً وهو ما قد تشقق طلعه فالثمرة للبائع متروكة في رؤوس النخل إلى الجذاذ ، إلا أن يشترطها المبتاع .
ش : من باع نخلاً مؤبراً فإن ثمرته تكون للبائع ، إلا أن يشترطها المبتاع .
1883 على نص حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما ، قال : سمعت رسول اللَّه يقول : ( من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترطها المبتاع ) متفق عليه وتكون للبائع متروكة في النخل إلى الجذاذ ، ولا يلزمه قطعها في الحال ، إذ النقل والتفريغ جار على العرف ، كما لو باع داراً له فيها قماش ونحو ذلك ، فلا يلزم بالنقل ليلاً ، ولا جمع دواب البلد لذلك ، بل إنما ينقله على المعتاد ، والمعتاد في الثمرة أخذها عند جذاذها ، والمرجع في ذلك إلى العادة ، فإن كان نخلاً فحين تتناهى حلاوة ثمره ، إلا أن تجري العادة بأخذه بسراً ، أو يكون بسره خيراً من رطبه ، فإنه يجذه حين استحكام حلاوة بسره ، وإن كان فاكهة فأخذه حين [ يتناهى ] إدراكه ، ويجذ مثله ، وإن قيل : إن بقاءه خير له ، فلو أصابت الثمرة آفة ، بحيث لم يبق في بقائها فائدة ، فهل يجب تفريغ الأشجار منها في الحال ، لعدم الفائدة في بقائها إذاً ؟ فيه احتمالان ، ولو خيف على الأصول ضرر كثير كالجفاف ونحوه فهل يجبر أيضاً رب الثمرة على القطع حفظاً للأصول ، أو لا ، لأن رب الأصول دخل على ذلك ؟ فيه وجهان أيضاً ، وإن احتاجت الثمرة مدة بقائها على الأصول إلى سقي لم يلزم المشتري ، لأن البائع لم يملكها من جهته ، لكنه لا يملك منع البائع منه إن احتاجت إليه الثمرة ، وإن أضر بالأصل ، لاقتضاء العقد البقاء ، وكذلك إن احتاجت الأصول إلى سقي ، لم يملك صاحب الثمرة منع ربها ، وإن أضر بثمرته كذلك أيضاً .
ومفهوم كلام الخرقي أن الثمرة إذا لم تؤبر فهي للمشتري بإطلاق العقد ، وهو مفهوم الحديث أيضاً .
والخرقي رحمه اللَّه إنما حكم على النخل إذا أبر جميعه ، أما إذا أبر بعضه فلم يتعرض له ، والحكم أن النخلة الواحدة ، ما لم يؤبر منها يتبع ما أبر ، فيكون الجميع للبائع ، بلا خلاف نعلمه ، وكذلك الحكم في النوع عند ابن حامد ، حذاراً من سوء المشاركة ، واختلاف الأيدي ، والمنصوص أن لكل حكم نفسه نظراً لظاهر الحديث ، فعلى الأول هل الجنس كالنوع ، فيتبع النوع الذي لم يؤبر النوع الذي أبر جميعه وبعضه ، ويكون الجميع للبائع إذا بيع جميع الجنس ، أم لكل حكمه ؟ فيه قولان ، أشهرهما الثاني ، أما الحائطان فلا يتبع أحدهما الآخر ، ولهذه المسألة التفات إلى مسألة بدو الصلاح في البعض ، ويأتي الكلام عليها إن شاء اللَّه تعالى بما هو أتم من هذا .
( تنبيه ) : أصل التأبير التلقيح ، وهو وضع الذكر في الأنثى ، والخرقي رحمه اللَّه فسره بالتشقق ، لأن الحكم عنده منوط به ، وإن لم يلقح ، لصيرورته في حكم عين أخرى ، وعلى هذا فإنما أنيط الحكم واللَّه أعلم في الحديث بالتأبير لملازمته للتشقق غالباً ، وهذا الذي قاله الخرقي هو أشهر الروايتين ، وقد بالغ أبو محمد فقال : إنه لا اختلاف فيه بين العلماء .
( والثانية ) : لا بد من التلقيح بعد التشقق وإلا يكون للمشتري ، عملاً بظاهر الحديث ، وتمسكاً بالمقتضي اللغوي ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك بيع الشجر إذا كان فيه ثمر باد .
ش : أي ظاهر كالتين ونحوه ، والحكم في ذلك كالحكم فيما تقدم أنه إن ظهر فهو للبائع ، والحكم في ذلك كالحكم فيما تقدم أنه إن ظهر فهو للبائع ، لأنه قد صار كعين أخرى إلا أن يشترطه المبتاع ، وإن لم يظهر فهو للمشتري ، قياساً على ما تقدم ، لمساواته له في المعنى ، والأصحاب قد قسموا الشجر على أضرب ليس هذا موضع بيانها ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى الثمرة دون الأصل ولم يبد صلاحها على الترك لم يجز ، وإن اشتراها على القطع جاز .
ش : بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بدون أصلها له ثلاثة أحوال .
( أحدها ) أن تباع بشرط التبقية ، فلا يصح إجماعاً .
1884 لما رواه عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمبتاع ، وفي رواية قال ( لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ) .
1885 وعن أنس رضي اللَّه عنه أن النبي نهى عن بيع التمر حتى تزهو ، قلنا لأنس : ما زهوها ؟ قال : حتى تحمر وتصفر . قال : ( أرأيت إن منع اللَّه الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه ) وفي رواية : قال النبي : ( إن لم يثمرها اللَّه فبم تستحل مال أخيك ) متفق عليه .
1886 وروي نحو ذلك من حديث جابر ، وأبي هريرة ، وابن عباس رضي اللَّه عنهم .
( والثاني ) : أن يشتريها بشرط القطع في الحال ، فيجوز في قول العامة ، لأمن المفسدة التي علل بها صاحب الشريعة ، وهو منع اللَّه الثمرة ، واستحلال مال أخيه بغير شيء ، وهنا الأخذ في الحال ، فالاستحلال بما أخذ في الحال .
( الثالث ) : اشتراها وأطلق ، وهذا لم يتعرض الخرقي رحمه اللَّه للحكم عليه بنفي ولا إثبات ، وفيه قولان للعلماء ، هما روايتان عن إمامنا ، أشهرهما وفيه قولان للعلماء ، هما روايتان عن إمامنا ، أشهرهما وبه جزم الشيخان والأكثرون لا يصح ، لأن الإطلاق يقتضي النقل على ما جرت به العادة ، والعادة في الثمر كما تقدم قطعها إذا بدا صلاحها ، فصار كأنه مشروط عدم القطع .
( والثانية ) : يصح إن قصد القطع ، ويلزم به في الحال ، نص عليها في رواية عبد اللَّه ، حملاً على عرف الشرع والحال هذه ، وتصحيحاً لكلام المكلف ما أمكن ، والشيرازي يحكي رواية بالصحة من غير اشتراط قصد القطع ، وما حكاه السامري عن ابن عقيل في التذكرة أنه ذكر في هذه المسألة أربع روايات ليس بجيد ، إنما حكى ذلك على ما اقتضاه لفظه فيما إذا شرط القطع ثم ترك ، انتهى ، أما بيعها مع أصلها فيجوز إجماعاً ، لأنها إذاً تتبع الأصل ، فأشبهت الحمل مع أمه ، وأس الحيط ، وأيضاً قول النبي ( من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع ) .
وإن بيعت لمالك الأصل كما إذا باع أصولها بعد أن أبرت ، ولم يشترطها المشتري ، ثم باعها له ، وكذلك لو وصى بنخل مؤبر ثم باع الورثة الثمرة للموصى له فوجهان ( أحدهما ) : يصح ، وهو اختيار السامري ، وصاحب التلخيص فيه ، لأنه اجتمع الأصل والثمرة للمشتري ، فأشبه ما لو اشتراهما معاً ( والثاني ) : وهو ظاهر كلام الخرقي لا يصح ، لعموم الحديث ، ولأنه لا متبوع ولا تابع ، وعلى هذا لو شرط القطع صح ، قال أبو محمد : ولا يلزم الوفاء بالشرط ، لأن الأصل له ، ومقتضى هذا أن اشتراط القطع حق للآدمي ، وفيه نظر ، بل هو حق للَّه تعالى كما سيأتي .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : الزرع قبل اشتداده كالثمرة قبل بدو صلاحها ، يجري فيها ما تقدم .
1887 ولمسلم وأبي داود ، والترمذي ، في رواية في حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي نهى عن بيع النخل حتى يزهو ، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة ، نهى البائع المشتري .
1888 وعن أنس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه نهى عن بيع العنب حتى يسود ، وعن بيع الحب حتى يشتد ، رواه أبو داود والترمذي .
( الثاني ) : ( الزهو ) قد فسره أنس رضي اللَّه عنه ، وفيه لغتان : زهى يزهو ، وأزهى يزهي ، حكاهما أبو زيد ، قال الأصمعي : لا يقال النخل يزهو . وإنما يقال : يزهي ، قال الخطابي : هكذا روي الحديث . يعني ( يزهو ) ، والصواب في العربية ( تزهي ) قال ابن الأثير : وهذا القول منه ليس عند كل أحد ، فإن اللغتين قد جاءتا عند بعضهم ، وبعضهم لا يعرف في النخل إلا ( أزهى ) ، انتهى وابن الأعرابي فسر ( زهى يزهو ) بمعنى : ظهر . ( وأزهى يزهي ) إذا احمر أو اصفر ، ( والحب ) الطعام ، واشتداد الحب قوته وصلابته ، واللَّه أعلم .
قال : فإن تركها حتى يبدو صلاحها بطل البيع .
ش : هذا هو المذهب المنصوص ، والمختار من الروايات للأصحاب الخرقي ، وأبي بكر ، وابن أبي موسى ، والقاضي وأصحابه ، وغيرهم ، لعموم نهيه عن بيع الثمرة حتى تزهو ، خرج منه صورة اشتراط القطع ، وفعله عقب العقد بما هو كالإجماع فيبقى فيما عداه على مقتضى النهي ، ولأنه أخر قبضاً مستحقاً للَّه تعالى ، فأبطل العقد ، كتأخير [ قبض ] رأس مال السلم والصرف .
والمعتمد في المسألة سد الذرائع ، فإنه قد يتخذ اشتراط القطع حيلة ، ليسلم له العقد ، وقصده الترك ، والذرائع معتبرة عندنا في الأصول وقد عاقب اللَّه سبحانه وتعالى أصحاب السبت بما عاقبهم به ، لما نصبوا الشباك يوم الجمعة ، حيلة على الصيد بها يوم السبت ، وعاقب أصحاب الجنة بما عاقبهم ، لما قصدوا حرمان الفقراء ، والتحيل على إسقاط حق اللَّه سبحانه ، ونهى سبحانه عن سب الآلهة التي تدعى من دون اللَّه ، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سب اللَّه جل وعلا ، بقوله : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللَّه ، فيسبوا اللَّه عدواً بغير علم } .
1889 وامتنع النبي من قتل المنافقين ، حذاراً من أن يقال : إن محمداً يقتل أصحابه .
1890 ومنع سائق الهدي أن يأكل منه هو أو أحد من رفقته إذا عطب دون محله ، حذاراً من أن يقصر في علفه ويفرط فيه .
1891 ومنع القاتل من الإرث ، لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى تعجيل الميراث .
1892 وأمر عمر بقتل الجماعة بالواحد ، سداً للذريعة أيضاً ، وأدلة هذا اوصل كثيرة ، وقد عمل إمامنا على ذلك في كثير من المسائل . ( والرواية الثانية ) لا يبطل البيع ، نظراً إلى أن المبيع بحاله ، وغاية الأمر أنه انضاف إليه غيره ، وذلك لا يقتضي البطلان ، بدليل ما لو اشترى حنطة فاختلطت بأخرى ولم تتميز ، ( والثالثة ) : نقلها أبو طالب إن قصد الحيلة فسد البيع ، لمقارنة النهي للعقد إذاً ، وإن لم يقصد الحيلة لم يفسد ، لخلو العقد عن النهي ظاهراً وباطناً ، وقد اختلف الأصحاب في هذه الرواية والتي قبلها ، فأثبتها ابن عقيل وغيره ، وتأول الثالثة شيخه فقال : معناها ما إذا لم يقصد الحيلة وهو أسهل ، يعني أنه لا يأثم ، وإن قصد الحيلة أثم ، قال : وإلا فهما يتفقان في حكم الصحة والبطلان ، إذ ما يبطل العقد لا فرق فيه بين القصد وعدمه ، قال : فمحصول المذهب فيه روايتان ، وأبو محمد تأول الثانية على ما إذا لم يقصد الحيلة ، ومع القصد يبطل البيع عنده رواية واحدة ، ومحل الخلاف عنده مع عدم القصد ، وطريقته أخص الطرق ، كما أن عم الطرق طريقة ابن عقيل . ( وحيث قيل ) بالفساد فإن المبيع بزيادته للبائع ، نص عليه أحمد ، ويرد الثمن ، لأنه قد تبين عدم الشرط المصحح للعقد ، فبطل من أصله . ( وحيث قيل ) بالصحة فهل يشترك البائع والمشتري في الزيادة ، لحدوثها عن ملكيهما ، أو يتصدقان بها استحساناً للاختلاف ؟ فيه روايتان منصوصتان ، وحمل القاضي في روايتيه وفي تعليقه كلا النصين على الاستحباب ، وجعل الزيادة للمشتري ، هذا هو التحقيق في النقل ، وفاقاً لنصوص الإمام وللقاضي في التعليق ، وأبي البركات ، وحكى ابن الزاغوني وأبو محمد وغيرهما رواية أن البائع يتصدق بالزيادة على القول بالبطلان ، وكأنهم تبعوا القاضي في روايتيه ، فإنه زعم أن حنبلاً روى ذلك عن الإمام ، وفيه نظر ، فإنه صرح في التعليق بأن حنبلاً وابن سعيد اتفقا على الصحة ، إلا أن ابن سعيد [ قال ] : يشتركان ، وحنبلاً قال : يتصدقان ، وفي الكافي رواية بالشركة على القول بالبطلان أيضاً ، وكأنه أخذها من قول ابن أبي موسى : وقيل عنه . ويتلخص من ذلك أن على القول بالبطلان ثلاثة أقوال ، كما ذلك على القول بالصحة .
ومعنى التصدق بالزيادة أو الاشتراك فيها أن ينظر كم قيمتها وقت العقد ، وكم قيمتها بعد الزيادة ، فما بينهما محل التردد ، فإذا قيل مثلاً قيمتها وقت العقد مائة ، ثم صارت قيمتها بعد الزيادة مائتين ، فالصدقة أو الشركة له بالمال الزائد .
ثم من المباشر للصدقة فيها ؟ قد تقدم أن على رواية البطلان يتصدق بها البائع ، أما على رواية الصحة فظاهر نص الإمام كما سيأتي أنهما يتصدقان بها ، وقال ابن الزاغوني : لا تدخل في ملك واحد منهما ، ويتصدق بها المشتري .
( تنبيه ) : ترجم الخرقي رحمه اللَّه المسألة إذا ترك حتى بدا الصلاح ، وكذا القاضي وجماعة ، وكذا وقعت نصوص أحمد الذي حكم فيها بالبطلان ، أما نصاه اللذان حكم فيهما بالصحة ، فقال فيهما : إذا كبرت وزادت ، قال في رواية ابن سعيد : لا يشتري الرطبة إلا جزة ، فإن تركها حتى تطول وتكبر كان البائع شريكاً للمبتاع في الثمن ، إلا أن يكون يسيراً ، قدر يوم أو يومين ، وكذلك النخل ، ومن ثم استثن ابن عقيل من كون البائع يشارك المشتري الزمن اليسير ، تبعاً لنص الإمام انتهى ، وقال في رواية حنبل : إذا باعه زرعاً على أن يجزه ، أو نخلاً على أن يصرمه ، فتركه حتى زاد ، فالزيادة لا يستحقها واحد منهما ، ويتصدقان بها ، فقد يقال بتقرير نصوصه ، فالبطلان إذا بدا الصلاح ، والصحة إذا لم يبد ، واللَّه أعلم .
قال : وإن اشتراها بعد أن يبدو صلاحها على الترك إلى الجذاذ جاز .
ش : اوصل في ذلك ما تقدم من نهيه عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، وعن بيعها حتى تزهو ، ونحو ذلك .
1893 وعن عمرة أن رسول اللَّه نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة ، رواه مالك في الموطأ .
ودلالة هذه الأحاديث من أوجه ( أحدهما ) : أنه غيا النهي بغاية ، فبوجودها يزول النهي ، ويبقى على أصل الإذن في جواز البيع ( الثاني ) أن ما بعد الغاية والحال هذه يعطى عكس حكم ما قبلها ، وإلا فذكر الغاية إذاً وعدمها سيان ، وما قبلها لا يجوز إلا بشرط القطع ، فما بعدها يجوز وإن شرط الترك ، ( الثالث ) : أنه علل المنع بعلة ، وهي الخوف من تلفها ، ووقوع العاهة بها ، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، وإذا بدا الصلاح زالت العلة غالباً ، فيزول المنع انتهى ، والخرقي رحمه اللَّه على ما إذا اشتراها بشرط القطع ، ليصرح بمخالفة الخصم ، ويفهم منه بطريق التنبيه صورة الوفاق ، وهي ما إذا أطلق .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) بدو الصلاح في شجرة صلاحج لجميعها ، بلا خلاف أعلمه بين الأصحاب ، وكثير منهم يقول : رواية واحدة ، واختلف في صلاح بعض النوع ، هل يكون صلاحاً [ لسائر ذلك النوع الذي في القراح ؟ فيه روايتان ، أشهرهما عن الإمام : لا يكون صلاحاً له كما لا يكون صلاحاً ] لقراح آخر ، وهذا اختيار أبي بكر في الشافي ، وابن شاقلا في تعاليقه ، واستدل له ابن شاقلا بقوله ( حتى يبدو صلاحه ) وقال : وهو يقتضي الكل بدلالة قوله تعالى : { كما بدأكم تعودون } فإنه يقتضي الكل لا البعض ( والثانية ) : وهي اختيار الأكثرين ، ابن أبي موسى ، وابن حامد ، والقاضي وأصحابه وغيرهم يكون صلاحاً كما في النخلة الواحدة [ إذ سوء المشاركة والاختلاط موجود في النوع ، كما في النخلة الواحدة ] ، وخرج بذلك قراح آخر ، واختلف القائلون بهذه الرواية في النوع كالبرني مثلاً هل يكون صلاحاً لسائر الجنس الذي في القراح ؟ فقال القاضي ، وابن عقيل ، وأبو محمد والأكثرون : لا يكون صلاحاً ، وقال أبو الخطاب : يكون صلاحاً ، وهو ظاهر النص الآتي .
ولا نزاع أن المذهب أن صلاح الجنس لا يكون صلاحاً لجنس آخر ، وكذلك صلاح نوع من بستان ، لا يكون صلاحاً لنوع آخر من بستان آخر ، وعنه أن بدو الصلاح في شجرة من القراح صلاح له ولما قاربه .
( الثاني ) نص أحمد في الرواية الأولى : إذا احمر بعضه وبعضه أخضر ، يباع الذي بلغ ، وهذا يشمل النخلة والنخلات ، لكن القاضي قال : يجب أن يحمل هذا على أنه لا يكون صلاحاً لنخلة أخرى ، أما النخلة فيكون صلاحاً لها رواية واحدة ، ونصه في الثانية ، في بستان بعضه بالغ ، وبعضه غير بالغ : بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ ، فمن القائلين بالرواية الثانية ، من قصر الحكم على الغلبة ، كالقاضي في تعليقه ، وأبي حكيم النهرواني ، وأبي البركات ، تبعاً لهذا النص ، ومنهم من سوى بين القليل والكثير ، كابن أبي موسى مصرحاً به ، وأبي الخطاب وغير واحد ، تبعاً واللَّه أعلم للنص المحكي أخيراً ، ويتلخص في المسألة ثلاث روايات ، ( الثالثة ) الفرق بين الغلبة وغيرها ، ثم كلا النصين اللذين حكم فيهما الإمام بالصلاح يشملان النوع ، والجنسين ، كما يقوله أبو الخطاب ، عكس المشهور .
واعلم أن معنى : ما لم يبد صلاحه في حكم ما بدا صلاحه ، في جواز بيعه مع ما بدا صلاحه تبعاً له ، فلو أفرد بالبيع فوجهان ، وحكاهما القاضي في المجرد ، فيما لم يؤبر من النوع ، إذا أفرد بالبيع أن ثمرته تكون للبائع ، إن قيل : إن ما لم يؤبر تبع لما أبر ، وخالفه ابن عقيل فقال : إن الثمرة والحال هذه تكون للمشتري قولاً واحداً ، واللَّه أعلم .
قال : فإن كانت ثمرة نخل فبدو صلاحها أن تظهر فيها الحمرة أو الصفرة ، وإن كانت ثمرة كرم فصلاحها أن تتموه ، وصلاح ما سوى النخل والكرم أن يبدو فيه النضح .
ش : لما أناط الخرقي رحمه اللَّه جواز البيع ببدو الصلاح فسره وبينه ، بأنه ظهور الحمرة أو الصفرة في ثمرة النخل ، وذلك لما تقدم عن أنس رضي اللَّه عنه : حتى تحمر وتصفر .
1894 وعن جابر رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه نهى أن تباع الثمرة حتى تشقح ، قيل : وما تشقح ؟ قال ( حتى تحمار وتصفار ويؤكل منها ) .
1895 وسأل سعيد بن فيروز ابن عباس عن بيع النخل ، فقال : نهى رسول اللَّه عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤمل ، وحتى يوزن ، قال فقلت : وما يوزن ؟ فقال رجل عنده : حتى يحزر . متفق عليهما ، وصلاح ثمرة الكرم أن تتموه ، أي يجري فيها الماء الحلو وتلين ، وكذلك ما سوى ثمرة النخيل والكرم ، صلاحه أن يبدو فيه النضج لصلاحيته ، وكذلك الذي قبله للأكل ، وإذاً يدخل في معنى الأحاديث السابقة ، وعلى هذا أيضاً ينبغي أن يحمل كلام الخرقي في ثمرة النخل ، أنه لا بد مع احمرارها واصفرارها من صلاحيتها للأكل ، وفاقاً لحديث جابر وابن عباس ، وكذلك جعل أبو البركات الضابط في جميع الثمار أن يطيب أكلها ، ويظهر فيها النضج ، وأبو محمد جعل ما يتغير لونه عند صلاحه ، كالإجاص ، والعنب الأسود ، صلاحه تغير لونه كثمرة النخل ، والضابط الذي ذكره أبو البركات أجود .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) اختلف الأصحاب فيما يؤكل صغاراً وكباراً ، كالقثاء والخيار ، ونحوهما ، فقال القاضي وابن عقيل : صلاحه تناهي عظمه ، وقال أبو محمد : أكله عادة . وتوسط صاحب التلخيص فقال : صلاحه التقاطه عرفاً ، وإن طاب أكله قبل ذلك .
( الثاني ) ( تشقح ) بضم التاء وإسكان الشين ، وتخفيف القاف ، مضارع ( أشقح ) وقد فسره جابر ، و ( تحزر ) بتقديم الزاي على الراء ، أي تخرص ، وفي بعض الأصول بتقديم الراء ، قيل : إنه تصحيف ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يجوز بيع القثاء والخيار ، والباذنجان ، وما أشبهها إلا لقطة لقطة .
ش : لا يجوز بيع الخيار ، والباذنجان ، وما أشبه ذلك كالقثاء والبطيخ إلا لقطة لقطة ، لأن الزائد على ذلك غير معلوم ، فلم يجز بيعه ، لعدم العلم به .
واعلم أن هذه الأشياء عند جمهور الأصحاب أصولها كالشجر النابت ، وثمرتها كثمرته ، فتباع أصولها مطلقاً ، وثمرتها قبل بدو صلاحها [ معها ] ، أو لمالكها على وجه ، أو بشرط القطع ، أو مطلقاً بشرطه على رواية ، وبعد بدو الصلاح يباع الموجود منها واختار صاحب التلخيص المنع من بيع ثمارها قبل بدو صلاحها إلا بشرط القطع ، وإن بيعت مع أصولها ، لتعرضها للآفة مع الأصول إلا أن بيعت مع الأرض ، أو لمالكها ، وقياس قوله أن أصولها لا تباع صغرة إلا إذا أمنت العاهة ، إلا أن تباع مع الأرض أو لمالكها ، أو بشرط القطع ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك الرطبة كل جزة .
ش : حكم الرطبة وما ثبت أصوله في الأرض ويؤخذ دفعة بعد دفعة كالنعنع ، والهندباء ، ونحو ذلك حكم الخيار ، والباذنجان ، لا يباع إلا الموجود منه جزة جزة ، بشرط القطع في الحال ، إذ ما لم يظهر معدوم ، والموجود متى ترك ولم يقطع اختلط بغيره ، وإذاً يفضي إلى مشاجرة ونزاع ، وذلك مما لا يرضاه الشارع .
( تنبيه ) : حكم بيع الخيار ونحوه ، والرطبة ونحوها إذا بيع بشرط القطع ، ثم ترك حتى طالت الجزة ، أو حدثت ثمرة أخرى ولم يتميزا حكم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، إذا بيعت بشرط القطع ، ثم تركت حتى بدا صلاحها على ما تقدم ، قال غير واحد : ونص أحمد وقع في رواية ابن سعيد في الرطبة إذا تركها حتى طالت بالصحة ، وأظن أن ذلك وقع لابن عقيل أيضاً .
أما إن اشتريت ثمرة بعد بدو صلاحها ، فحدثت ثمرة أخرى للبائع ، فإن تميزتا فلا كلام ، وإن لم تتميزا اشتركا بقدر ما لكل منهما ، فإن لم يعلم القدر وقف الأمر حتى يصطلحا ، هذا رأي ابن عقيل ، وأبي محمد وهو الصواب ، بخلاف الثمرة قبل بدو صلاحها ونحوها ، لارتكاب النهي ثم ، وسدا للذريعة ، لئلا يتخذ ذلك حيلة لما هو ممنوع منه شرعاً ، وأجرى أبو الخطاب في ذلك الروايتين اللتين في الثمرة قبل بدو صلاحها ، وقال القاضي : إن كانت الثمرة للبائع ، فحدثت أخرى ، قيل لكل منهما : اسمح بنصيبك . فإن فعل أجبر الآخر على القبول ، وإن امتنعا فسخ العقد ، وإن اشترى ثمرة فحدثت أخرى لم يقل للمشتري اسمح ، إذ الثمرة كل المبيع ، ويقال للبائع ذلك ، فإن سمح أجبر المشتري على القبول ، وإلا فسخ العقد ، قال ابن عقيل : ولعل هذا القول لبعض أصحابنا ، فإني لم أجده معزياً إلى أحمد ، واللَّه أعلم .
قال : والحصاد على المشتري .
ش : الحصاد قطع الزرع ، والخرقي رحمه اللَّه كأنه استعمله في جميع ما تقدم ، لأن الجميع قطع ، وإنما كان ذلك على المشتري لأنه لتفريغ ملكه عن ملك البائع ، وأنه عليه كنقل الطعام ونحوه ، وفارق الكيل والوزن والذرع والعدد ، فإنهن من تمام التسليم ، وذلك على البائع ، والتسليم هنا حصل بالتخلية ، واللَّه أعلم .
قال : فإن شرطه على البائع بطل البيع .
ش : اختلف الأصحاب أولاً في جواز هذا الشرط ، فذهب جماعة منهم كأبي بكر ، وابن حامد ، والقاضي وجماعة من أصحابه وغيرهم إلى جوازه ، لما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى من أن البيع لا يبطله شرط واحد ، ولأن قصاراه أنه بيع وإجارة ، وإنهما جائزان منفردين ، فجازا مجتمعين ، وذهب الخرقي إلى منعه ، وهو الذي أورده ابن أبي موسى مذهباً ، لأنه اشترط العمل في المبيع قبل ملكه ، أشبه ما لو استأجره ليخيط له ثوب زيد إذا ملكه ، وأجيب بأن في مسألتنا حصلت الإجارة والملك معاً ، ومثل ذلك لا يمنع ، على المنصوص في جواز رهن المبيع على الثمن ، بخلاف ما تقدم ، وعلى هذا القول هل يبطل البيع لبطلان الشرط ؟ فيه روايتان حكاهما ابن أبي موسى .
والخرقي قطع بالبطلان ، فيحتمل أن مذهبه بطلان البيع بالشرط الفاسد ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار القاضي وابن عقيل ، ويحتمل أن يخص البطلان هذا الشرط ، وهو المرجح عند أبي محمد .
( تنبيه ) : خرج أبو الخطاب وجماعة من أتباعه من قول الخرقي عدم صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع مطلقاً ، وأبو البركات وصاحب التلخيص ذكرا ذلك رواية ، فيحتمل أن مستندهما ذلك ، ويحتمل أنهما اطلعا على نص ، وتردد أبو محمد في التخريج ، والأرجح عنده عدمه ، وقصر كلام الخرقي على هذه المسألة وشبهها مما يفضي إلى التنازع ، فإن البائع يريد القطع من أسفل ، ليبقى له بقية ، والمشتري يريد الاستقصاء ليزيد له ما يأخذه ، وإنما ترجح ذلك عنده لما تقدم من إفضاء ذلك إلى التنازع ، وليوافق المذهب [ في صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع ، إذ القاضي قد قال : إنه لم يجد بما قال الخرقي رواية في المذهب ] لأن الخرقي قال بعد : والبيع لا يبطله شرط واحد .
وجميع ذلك معترض ، أما الإفضاء إلى التنازع فممنوع ، إذ القطع على ما جرت به العادة ، كما لو لم يشترطه عليه ، وأما موافقة المذهب فإن المذهب أياً عند الأكثرين صحة هذا الشرط ، والقاضي إنما كلامه فيه ، وأما قول الخرقي فلا بد من تخصيصه بهذا الشرط ، أو بشرط منفعة البائع في المبيع .
وبالجملة يتلخص في صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع ثلاثة أقوال ، ( الصحة ) مطلقاً ، وهو المختار للأكثرين ، والمنصوص عن الإمام .
1896 محتجاً بأن محمد بن مسلمة رضي اللَّه عنه اشترى من نبطي جزرة حطب ، وشارطه على حملها ، ( والمنع ) مطلقاً ، ( والمنع ) في جز الرطبة وما في معناها ، والصحة فيما عدا ذلك ، ثم محل الخلاف إذا كانت المنفعة معلومة ، أما إن جهلت لهما أو لأحدهما فإنه لا يصح اشتراطها بلا نزاع نعلمه ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا باع حائطاً واستثنى منه صاعاً لم يجز ، فإن استثنى نخلة أو شجرة بعينها جاز .
ش : لا نزاع فيما نعلمه في جواز الثنيا كانت معلومة ، ولم تعد على المستثني بجهالة ، كما إذا باع حائطاً واستثنى منه نخلة بعينها أو نخلات كذلك ، ونحو ذلك .
1897 لما روى جابر رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه نهى عن المحاقلة والمزابنة ، والثنيا إلا أن تعلم ، رواه النسائي ، والترمذي وصححه ، وهذه الثنيا معلومة ، فصحت بمقتضى الحديث ، ولأن مثال ذلك إذا كان في الحائط مائة نخلة مثلاً ، واستثنى نخلة منه فقال : بعتك تسعاً وتسعين .
ولا إشكال أيضاً في منع الثنيا إذا كانت مجهولة ، كما لو قال والحال ما تقدم : إلا نخلة ، أو إلا جزءاً من الثمرة ، ونحو ذلك ، للحديث أيضاً ، ولأن جهالة المستثني تفضي إلى جهالة المستثنى منه ، ومن شرط المبيع كونه معلوماً .
1898 بدليل نهيه عن بيع الغرر ، ونحو ذلك .
واختلف فيما إذا باع حائطاً واستثنى منه صاعاً ، أو صبرة لا يعلمان قفزانها واستثنى منها قفيزاً ، ونحو ذلك ، أو باع حائطاً واستثنى ثلث ثمرته أو ربعها ، أو صبرة واستثنى سبعها أو ثمنها ونحو ذلك ، على ثلاثة روايات ، ( إحداهما ) : الصحة في الجميع ، اعتماداً على الحديث ، إذ الثنيا والحال هذه معلومة ، وقد قيل : إنه إجماع أهل المدينة ، ( والثانية ) : وهي اختيار أبي بكر ، وابن أبي موسى عدم الصحة في الجميع ، لأن الثنيا والحال هذه تفضي إلى جهالة المبيع ، وبيانه أن المبيع والحالة هذه إنما علم بالمشاهدة ، وبعد إخراج المستثنى تختل المشاهدة ، وإذاً يدعى تخصيص الحديث لذلك ( والثالثة ) : يصح في : إلا ثلثها ، إلا سبعها ، ونحو ذلك ، إذ معناه ، بعتك ثلثيها ، بعتك ستة أسباعها ، وهو معلوم ، ولا يصح في : إلا صاعاً ، إلا قفيزاً ، ونحو ذلك ، لما تقدم من أن المصحح للبيع والحال هذه الرؤية ، وبإخراج الصاع ونحوه تختل ، وهذه الرواية اختيار القاضي وجماعة من أصحابه ، وأبي محمد وغيرهم .
واختلف الأصحاب فيما إذا باع نخلة واستثنى منها صاعاً ونحو ذلك ، فأجرى أبو محمد فيه الخلاف ، وقطع القاضي في شرحه ، وفي جامعه الصغير بالصحة ، معللاً بأن الجهالة هنا يسيرة فتغتفر ، بخلاف ثم ، وكذا وقع نص أحمد في رواية حنبل بالصحة ، وتردد القاضي في التعليق فيه ، هل يجري على ظاهره ، لما تقدم من قلة الجهالة ، أو يحمل على الرواية التي قال فيها ثم بالصحة .
واختلفوا أيضاً فيما إذا قال : بعتك هذا الحيوان إلا ثلثه ، أو إلا ربعه ، ونحو ذلك ، فأجازه أبو محمد ، وابن عقيل ، كما لو قال في الصبرة : إلا ثلثها ، ومنع ذلك القاضي في المجرد ، قال : على قياس قول الإمام في الشحم ، ورد بأن الشحم مجهول ، ولا جهالة هنا ، وحمل ابن عقيل كلام شيخه على أنه استثنى ربع لحم الشاة ، لا ربعها مشاعاً ، ثم اختار الصحة في ذلك أيضاً ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى الثمرة دون الأصل فلحقتها جائحة من السماء رجع بها إلى البائع .
ش : لا نزاع عندنا فيما نعلمه في وضع الجوائح في الجملة .
1899 لما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( إن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً ، بم تأخذ من مال أخيك بغير حق ؟ ) وفي رواية : أن النبي أمر بوضع الجوائح . رواه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وللنسائي في رواية أخرى ( من باع ثمراً فأصابته جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئاً ، علام يأكل أحدكم مال أخيه المسلم ) ولأن الثمار على رؤوس الأشجار تجري مجرى الإجارة ، لأنها تؤخذ شيئاً فشيئاً كالمنافع ، ثم المنافع إذا تلفت قبل مضي المدة كانت من ضمان المؤجر ، كذلك الثمار ، لا يقال : المنافع قبل مضي المدة غير مقبوضة ، بخلاف الثمار فإنها مقبوضة ، لأنا نقول : كلاهما في حكم المقبوض من وجه ، ولهذا جاز التصرف في كل منهما على المذهب ، ثم لا نسلم أن الثمرة مقبوضة القبض التام ، بدليل أنها لو تلفت بعطش كانت من ضمان البائع ، فلا ترد صحة التصرف فيها ، فإنا نمنعه على رواية اختارها أبو بكر ، فيما حكاه عنه ابن شاقلا .
1900 وقال : إنه قول زيد بن ثابت ، وإن سلمناه فالإجارة ، يجوز التصرف فيها ، وإذا تلفت كانت من ضمان المؤجر .
1901 وقد اعترض على هذا بالحديث الصحيح أن رجلاً أصيب على عهد رسول اللَّه في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول اللَّه ( تصدقوا عليه ) قال : فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال رسول اللَّه ( خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك ) ولو كان الضمان على البائع لكانت المصيبة عليه ، وأجيب بأن هذا واقعة عين ، فيحتمل أنه أصيب بعد حرزها وقبضها القبض التام .
1902 واعترض أيضاً بحديث عمرة بنت عبد الرحمن ، قالت : ابتاع رجل ثمرة حائط في زمان رسول اللَّه ، فعالجه وقام فيه ، حتى تبين له النقصان ، فسأل رب الحائط أن يضع له أو يقيله ، فحلف أن لا يفعل ، فذهبت أم المشتري إلى رسول اللَّه ، فذكرت ذلك له ، فقال رسول اللَّه ( تألى فلان أن لا يفعل خيراً ) رواه أحمد ومالك في الموطأ وظاهره أن الوضع غير واجب على البائع ، وإلا لطلب رسول اللَّه البائع ، وأمره بذلك ، وأنكر عليه حلفه ، وامتناعه من الواجب ، وقد أجيب بأن الجائحة هنا يحتمل أن تكون بفعل آدمي والضمان عليه ، ويحتمل أنه علم أنه ينزجر بقوله ، ويخرج من الحق ، فلم يحتج إلى طلبه .
1903 ويشهد لذلك ما في المسند أن الرجل بلغه ، فأتى النبي فقال : يا رسول اللَّه إن شئت الثمن كله ، وإن شئت ما وضعوا ، فوضع عنهم ما وضعوا .
1904 وفي الموطأ فسمع بذلك رب الحائط ، فأتى رسول اللَّه فقال : يا رسول اللَّه هو له ويحتمل أنه كان قبل الأمر بوضع الجوائح ، على أنه ليس في الحديث أن الثمرة أصابتها جائحة ، مع أن الحديث مرسل ، ثم يضعفه اختلاف ألفاظه ، وما في المغني من أن المرأة قالت : فأذهبتها الجائحة ، وأنه متفق عليه [ الظاهر ] أنه وهم .
واعترض أيضاً بالأحاديث الصحيحة من نهيه عن بيع الثمرة حتى تزهو ، وقوله : ( أرأيت إن لم يثمرها اللَّه بم تستحل مال أخيك ؟ ) ولو كان الضمان على البائع لما استحل مال أخيه ، وهذا أقوى ما اعترض به .
وقد أجاب عنه القاضي بأن معناه : بم تستحل جواز الأخذ ، فهو إنكار على البائع في أخذ الثمن ، نظيره قوله تعالى : 19 ( { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } ) ولا يخفى أن ظاهر اللفظ خلاف هذا .
والذي يظهر لي عدم القول بوضع الجوائح ، وأن ذلك كان أولاً ، حين كانوا يتبايعون الثمار قبل بدو الصلاح .
1905 بدليل ما قال زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه : كان الناس في عهد رسول اللَّه يتبايعون الثمار ، فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم ، قال المبتاع : إنه أصاب الثمر الدمان ، أصابه مراض ، أصابه قشام ، عاهات يحتجون بها ، فقال رسول اللَّه لما كثرت عنده الخصومة ( إما لا فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر ) كالمشورة يشير بها ، لكثرة خصومتهم ، رواه البخاري ، وأبو داود ، وزاد : يتبايعون الثمار قبل بدو صلاحها ، وهذا بين في أنهم كانوا يتبايعون الثمار [ قبل بدو صلاحها ، وأن الجوائح ما كانت توضع ، وإلا لم يكن في الخصومة فائدة ، وأن رسول اللَّه قطع ذلك ، بأن منع البيع ] قبل بدو الصلاح .
ولا تفريع على هذا ، أما على المذهب ، فهل توضع الجوائح مطلقاً ، عملاً بعموم الحديث ، وهو اختيار جمهور الأصحاب ، إلا القدر اليسير الذي لا بد من تلفه غالباً ، قال أحمد : لا أقول في عشر تمرات ، ولا عشرين تمرة ، وما أدري ما الثلث ؟ أو لا يوضع إلا أن أتلفت الثلث فصاعداً ، وهو اختيار الخلال ، لأن اليسير مغتفر إذ لا بد من تلف ما غالباً ، وما دون الثلث يسير .
1906 بدليل قول النبي ( الثلث والثلث كثير ) ؟ على روايتين ، وقيدهما ابن عقيل وصاحب التلخيص بما بعد التخلية ، وظاهره أن قبل التخلية الكل على البائع ، ثم على الثانية : عل يعتبر الثلث بالقدر أو بالقيمة ؟ فيه قولان .
ومعنى وضع الجوائح أن الثمرة إذا تلفت أو بعضها قبل الجذاذ كان ذلك من ضمان البائع على المذهب ، فيرجع المشتري عليه بالثمن أو ببعضه حسب التالف . وعلى الرواية الأخرى إن أتلفت دون الثلث فمن ضمان المشتري ، وإن أتلفت الثلث فصاعداً فمن ضمان البائع ، وإن تعيبت الثمرة ولم تتلف خير المشتري بين الإمضاء والأرش ، وبين الرد وأخذ الثمن كاملاً .
ثم الجائحة التي هذا حكمها ما لم يكن بفعل آدمي ، كالريح ، والمطر ، والجراد ، والبرد ، ونحو ذلك ، أما ما كان بفعل آدمي كالحاصلة من قطاع الطريق ، ونهب الجيوش ، ونحو ذلك ، فإن المشتري مخير بين فسخ العقد ، ومطالبة البائع بالثمن ، وبين إمضائه ومطالبة المتلف بالبدل ، قاله القاضي وغير واحد ، واختار أبو الخطاب في الانتصار أن الضمان والحال هذه يستقر على المشتري ، فيلزم العقد في حقه ، ثم يرجع هو على المتلف ، وفي التلخيص وغيره أن في إحراق اللصوص ، ونهب الحرامية والجيوش وجهان ، يعني هل هو من الجائحة أم لا ؟ وكأن مرادهم خلاف أبي الخطاب وشيخه انتهى .
وقول الخرقي : اشترى الثمرة . الألف واللام للعهد ، أي الجائز بيعها ، وذلك بعد بدو صلاحها مطلقاً ، وقبله بشرط القطع ، ( وقوله ) : دون الأصل ، يخرج به ما إذا اشتراها مع الأصل ، فإن ضمانها يستقر عليه ، لحصولها تابعة لما ضمانه عليه ، وهو الأرض . ( وقوله ) : ولحقتها جائحة من السماء . يخرج به الجائحة من آدمي ، وكذا قال أبو البركات ، وظاهره كقول أبي الخطاب . ( وقوله ) : رجع بها على البائع . هذا فيما قبل تناهي الثمرة ، أما إن جذت فلا نزاع في استقرار العقد ، ولزوم الضمان للمشتري ، وكذلك إن حصل تناهياً ، لأن التفريط إذاً من المشتري ، وكذلك إن تمكن من قطعها ولم يقطعها ، فيما إذا بيعت قبل الصلاح بشرط القطع ، قاله أبو البركات ، والقاضي فيما حكاه عنه أبو محمد ، وهو احتمال له في التعليق ، لما تقدم ، وزعم فيه أن ظاهر كلام الإمام الوضع أيضاً ، اعتماداً على إطلاقه ، ونظراً إلى أن القبض لم يحصل .
ثم قول الخرقي : اشترى الثمرة . يشمل ثمرة النخل وغيرها ، وأحمد قال فيما حكاه عنه ابن عقيل : إنما الجوائح في النخل ، فظاهره إخراج ثمرة الشجرة ، لكن قال القاضي : إنما أراد إخراج [ الزرع ] ، والخضروات إذ لا فرق يظهر بين الشجر ، والنخل .
ويخرج من قول الخرقي وأحمد ما عدا الثمار ، من الزرع ، والخضراوات ، فلا وضيعة في ذلك ، بل ضمانه على المشتري ، وهذا أحد احتمالي القاضي : وقال : إنه الأشبه ، بعد أن قال : إنه لا يعرف الرواية في ذلك ، وفرق بأن الزرع لا يباع من غير شرط القطع إلا بعد تكامل صلاحه ، فإذا تركه بعد فقد فرط ، والثمرة تباع بعد بدو الصلاح ، وقبل تكاملها على الترك ، فلا تفريط . ( والثاني ) : وبه قطع أبو البركات حكم ذلك حكم الثمرة بالقياس عليها .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : ليس من الجائحة إذا استأجر أرضاً للزراعة فزرعها ثم تلف الزرع بغرق أو نحوه ، نص عليه أحمد ، وقاله الأصحاب ، قال أبو محمد : ولا نعلم فيه خلافاً ، لأن المعقود عليه منفعة الأرض ، وقد استوفيت بالزراعة ، والتلف حصل لمال المستأجر ، فهو كما لو استأجر بهيمة لحمل متاع ، فحملته فتلف أو سرق .
( الثاني ) : ( الجائحة ) في اللغة واحدة الجوائح ، وهي الآفات التي تصيب الثمار فتتلفها ، يقال : جاحهم الدهر يجوحهم ، واجتاحهم ، إذا أصابهم مكروه عظيم ، ( وتألى ) حلف ، و ( الدمان ) بفتح الدال ، [ وتخفيف الميم ] ، عفن يصيب النخل فيسوده و ( المراض ) داء يقع في الثمرة فتهلك ، يقال : أمرض الرجل . إذا وقع في ماله العاهة ، و ( القشام ) هو أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بلحا و ( إما لا ) أصله ، إن ما لا . فأدغمت النون في الميم ، والمعنى : إن لم يفعل فليكن هذا . وتمال إمالة خفيفة ، واللَّه سبحانه أعلم .
قال : وإذا وقع البيع على مكيل ، أو موزون ، أو معدود ، فتلف قبل قبضه فهو من مال البائع ، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض ، فإذا تلف فهو من مال المشتري .
ش : المبيع على ضربين ، متميز ، وغير متميز ، فغير المتميز قسمان ( أحدهما ) مبهم تعلق به حق توفية ، كقفيز من هذه الصبرة ، ورطل من هذه الزبرة ، ونحو ذلك ، فهذا يفتقر إلى القبض ، على المذهب المعروف ، المقطوع به عند عامة الأصحاب ، حتى أن بعضهم يقول : رواية واحدة .
1907 لما روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه قال : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعاً فهو من مال المبتاع . ذكره البخاري من قول ابن عمر رضي اللَّه عنهما تعليقاً ، واحتج به أحمد ، وقول الصحابي : مضت السنة . ينصرف إلى سنة رسول اللَّه ، وهو يدل بمفهومه على أن المبيع من مال البائع ، وفي كلام أبي محمد ما يقتضي حكاية رواية بعدم افتقار ذلك إلى القبض ، ولا يتابع عليها .
( القسم الثاني ) : مبهم لم يتعلق به حق توفيه ، كنصف العبد ، وربع الإناء ، وسدس القربة ، ونحو ذلك ، فاختلف كلام صاحب التلخيص فيه ، ففي البلغة أنه كالذي قبله ، قال : وإنما يفترقان في أنه لو تلفت الصبرة إلا قفيزاً منها تعين أنه المبيع ، بخلاف الجزء المشاع . وفي التلخيص في البيع وفي الرهن جعله من المتميزات ، فيه الخلاف الآتي . والمتميز قسمان أيضاً ( أحدهما ) ما تعلق به حق توفية ، كبعتك هذا القطيع كل شاة بدرهم ، وهذا الثوب على أنه عشرة أذرع . فالمشهور عند الأصحاب وبه قطع أبو البركات وغيره أنه كالمبهم الذي تعلق به حق توفية ، إناطة بها ، قال في التلخيص : وخرج بعض الأصحاب فيه وجهاً أنه كالعبد والثوب ، بناء على أن العلة ثم اختلاط المبيع بغيره . قلت : وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور ، وذكر له قول الثوري : كل شيء ليس فيه كيل ، ولا وزن ، ولا عدد ، فخراجه ، وحمله ، ونقصه على المشتري ، وكل بيع فيه كيل ، أو وزن ، أو عدد ، فلا بد للبائع أن يوفيه . فقال أحمد : أما العدد فلا ، ولكن كل ما يكال ويوزن فلا بد للبائع أن يوفيه ، لأن ملكه قائم فيه .
( القسم الثاني ) متميز لم يتعلق به حق توفية ، كالعبد ، والدار ، والصبرة ، ونحو ذلك من الجزافيات ، ففيه روايات .
( إحداهن ) وهي الأشهر عن الإمام ، والمختار لجمهور الأَصحاب عدم افتقار ذلك إلى القبض ، لمنطوق ما تقدم عن ابن عمر .
1908 وعن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي قضى ( أن الخراج بالضمان ) رواه الخمسة ، أي : حاصل أو ثابت بسبب الضمان ، وفي رواية : أن رجلاً ابتاع غلاماً فاستعمله ، ثم وجد به عيباً ، فرده بالعيب ، فقال البائع : غلة عبدي ؟ فقال النبي : ( الغلة بالضمان ) رواه أحمد ، وأبو داود وظاهره أن المبيع المتعين من ضمان المشتري ، لأنه جعل خراجه له ، بسبب أن ضمانه عليه .
( والثانية ) افتقار ذلك إلى القبض ، حكاها جماعة منهم أبو الخطاب في الانتصار ، وأخذها من قول أحمد في رواية الأثرم : إن الصبر لا تباع حتى تنقل . قال : وهي معينة كالعبد والثوب . وأظهر من هذا أخذها من رواية مهنا ، فيمن تزوج امرأة على غلام بعينه ، ففقئت عين الغلام ولم تقبضه فهو على الزوج ، وهذه قال في التلخيص : إنها اختيار ابن عقيل ، والذي في الفصول تصحيح الأولى ، ثم إنه حكى عن أبي بكر ما يقتضي تأويل الثانية ، واختار هو أنها على ظاهرها ، وأن عليها لا يكون الضمان على المشتري ، وهذا ليس منه اختياراً للرواية ، إنما فيه إثباتها ، نعم هو يختار أنه لا يجوز التصرف في ذلك قبل قبضه .
1909 وبالجملة استدل لهذه الرواية بما روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : ابتعت زيتاً في السوق ، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحاً حسناً ، فأردت أن أضرب على يده ، فأخذ رجل من خلفي بذراعي ، فالتفت فإذا زيد بن ثابت ، فقال : لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك ، فإن رسول اللَّه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع ، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم ، رواه أحمد ، وأبو داود .
1910 وعن حكيم بن حزام رضي اللَّه عنه قال : قلت : يا رسول اللَّه إني أبتاع هذه البيوع ، فما يحل لي منها وما يحرم علي ؟ قال ( يا ابن أخي إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه ) رواه البيهقي في سننه .
( والرواية الثالثة ) : أن المفتقر من ذلك إلى القبض هو الطعام ، وإن كان غير مكيل ولا موزون ، على ظاهر ما نقله أحمد بن الحسين الترمذي ، وقد سأله عن بيع الفاكهة قبل القبض ، فقال : في هذا شيء إن خرج مخرج الطعام ، لأن الحديث في الطعام ، وأصرح من هذا رواية الأثرم ، وسأله عن قوله : نهى عن ربح ما لم يضمن . قال : هذا في الطعام وما أشبهه ، من مأكول ، أو مشروب ، فلا تبعه حتى تقبضه ، ونحوه نقله المروذي ، وهذه الرواية قال ابن عبد البر : إنها الأصح عن إمامنا ، وإليها ميل أبي محمد بل ظاهر كلامه إناطة الحكم بها ، وعدم النظر إلى كون المبيع مبهماً أو مما تعلق به حق توفية ، أو غير ذلك .
1911 وقد استدل لها بما روى ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، أن رسول اللَّه قال : ( من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ) قال : وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً ، فنهانا رسول اللَّه أن نبيعه حتى ننقله من مكانه .
1912 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه نهى أن يبيع الرجل طعاماً حتى يستوفيه ، وفي رواية : حتى يكتاله . متفق عليهما .
1913 وفي مسلم نحوهما من حديث جابر ، وأبي هريرة رضي اللَّه عنه . وهذه الأحاديث شاملة بمنطوقها لكل طعام ، ومفهومها أن غير الطعام ليس كذلك ، وهو في معنى مفهوم الصفة ، لأٌّ هـ اسم مشتق ، لا اسم جامد كزيد ونحوه ( والرابعة ) : المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل والموزون ، بشرط أن يكون مطعوماً ، قال في رواية مهنا : كل شيء يباع قبل قبضه ، إلا ما كان يكال أو يوزن ، مما يؤكل أو يشرب ( والخامسة ) : وهي ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل أو الموزون ، أخذاً من نصه في رواية الأثرم : أن الصبر لا تباع حتى تنقل .
والخرقي رحمه اللَّه أناط الحكم بالمكيل ، والموزون والمعدود ، وظاهره خلاف هذه الأقوال ، فيكون قولاً سادساً ، ويحتمل أنه أراد ما تعلق به حق توفية ، وهو أولى ، وفاقاً للمذهب المنصوص . واللَّه أعلم .
واعلم أن أكثر هذه الروايات وأدلتها أخذت من المنع من البيع قبل القبض ، أو هو من كون الضمان على البائع ، وهو مبني على ما يقوله أكثر الأصحاب ، من أن المنع من البيع ، ولزوم الضمان للبائع ، متلازمان كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى . والمذهب عند العامة أن الذي يفتقر إلى القبض هو ما تعلق به حق توفية دون غيره .
إذا عرف هذا فالمفتقر إلى القبض يكون قبله من ضمان البائع ، ولا يجوز لمشتريه التصرف فيه كما سيأتي ، وما لا يفتقر إلى قبض من ضمان مشتريه ، وله التصرف فيه ، سواء قدر على القبض أو لم يقدر ، لكن متى منعه البائع منه بعد المطالبة ، واتساع الوقت للتسليم ، ضمن ضمان غصب ، لا ضمان عقد ، وليس اللزوم من أحكام القبض ، على المذهب كما تقدم ، ولا الضمان وعدمه مرتباً على اللزوم ، وقول السامري : إذا تم العقد بغير خيار ، أو بخيار وانقضت مدته من غير فسخ ، فإن كان المبيع غير متميز . إلى آخره ، يوهم ترتب الضمان على اللزوم وليس بشيء ، وكذلك ليس الملك من أحكام القبض هنا ، بل يحصل الملك بمجرد العقد ، على المذهب كما تقدم ، نص عليه أحمد في رواية محمد بن موسى ، في من اشترى قفيزاً من طعام من جملة أقفزة ، فهو من مال البائع ، [ فقيل له : أليس قد ملكه المشتري ؟ فقال : بلى ولكن هو من ضمان البائع ] انتهى ، وإذاً ما حصل من نماء في يد البائع فهو أمانة في يده للمشتري ، إذ النماء تابع للملك .
ومعنى تضمين البائع ما تقدم أنه إن تلف بأمر سماوي بطل العقد فيه ، وكان من مال البائع ، فيلزمه رد الثمن إن كان قد قبضه ، وإلا فلا شيء له ، قال القاضي وغيره : على قياس قوله في الثمرة إذا تلفت قبل أخذها بآفة سماوية ، وإن تلف بفعل من جهة آدمي ، فإن كان المشتري فقد استقر العقد ، وتلف من ماله ، وإن كان البائع أو أجنبياً خير المشتري بين فسخ العقد والرجوع بالثمن إذا كان قد دفعه ، وبين إمضائه ومطالبة متلفه بعوضه ، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن تلف البائع يبطل العقد .
وقد يقال : إن ظاهر إطلاق الخرقي بطلان العقد مطلقاً ، ونص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد ، في رجل باع ثوباً من رجل ، ثم باعه من آخر قبل التفرق ، ولما يسلمه للأول ، واستهلكه البائع ، أخذ بخلاصه ، فإن لم يقدر أن يخلصه فعليه قيمته يوم استهلكه ، فإن كان ذلك مما يكال أو يوزن فعليه المثل ، وظاهر هذا أن التلف إذا كان من جهة البائع ضمنه ، ولم يبطل العقد ، ولا يخير المشتري ، ويتلخص من هذا أن في تلف البائع ثلاثة أقوال ، والقاضي قال : يجب أن يحمل هذا النص على أنه اختار الإمضاء ، أما إن اختار الفسخ فله ذلك ، كما إذا ظهر على عيب بعد القبض ، فإنه يخير بين الإمضاء وبين الفسخ . ( قلت ) : وليس هذا نظير المسألة ، إنما نظيرها أن يظهر على عيب بعد التلف ، وإذاً لا تخيير على المعروف ، انتهى .
والعوض مثله إن كان مثلياً ، أو قيمته إن لم يكن مثلياً ، كما نص عليه أحمد ، وقاله جماعة ، ووقع لأبي البركات وجماعة أن الواجب القيمة ، فقيل : مرادهم كما تقدم ، وأرادوا بالقيمة البدل الشرعي . وكان شيخنا رحمه اللَّه ورضي عنه القاضي موفق الدين ينصر أن المراد القيمة على ظاهرها ، انتصاراً للمجد ، إذ هو في كلامه أظهر منه في كلام غيره ، ونظراً إلى تحقيقه ، ويعلله بما ملخصه : أن الملك هنا استقر على المالية ، فلذلك وجبت القيمة ، والمثلية لم يستقر الملك عليها ، فلذلك لم تجب ، ونص ابن سعيد يقطع النزاع . واللَّه أعلم .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : إذا اختلط ما تقدم بغيره ولم يتميز ، فإنه يبنى على أن الخلط هل هو بمنزلة الإتلاف أم لا ؟ فيه وجهان ، ومحل ذلك كتاب الغصب ، ولو تلف بعض المبيع بآفة سماوية انفسخ في قدره ، وفي الباقي قولاً تفريق الصفقة ، قال في التلخيص : والذي قطع به الشيخان عدم الفسخ في الباقي ، لكن يخير المشتري ، لتفريق الصفقة عليه ، ثم ظاهر كلام أبي محمد أنه يخير بين قبول كل المبيع ناقصاً ولا شيء له ، وبين الفسخ والرجوع بكل الثمن ، وظاهر كلام غيره أن التخيير في الباقي ، وأن التالف يسقط ما قابله من الثمن ، وإن كان تلف البعض بفعل المشتري كان ذلك بمنزلة قبضه له ، وإن كان بفعل البائع أو أجنبي ، خير المشتري بين الفسخ والرجوع بكل الثمن ، وبين الإمضاء والرجوع على المتلف بعوض ما أتلف ، أما إن تعيب ولم يتلف ، فإن كان بفعل البائع أو أجنبي ، فالمشتري بالخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن ، وبين الإمضاء ومطالبة المتلف بالأرش ، وإن كان بغير فعل آدمي ، خير بين أخذه ناقصاً ، ولا شيء له ، وبين الفسخ والرجوع بالثمن ، قاله أبو محمد ، وصاحب التلخيص ، فلو كان المبيع داراً فتلف سقفها قبل القبض ، وقلنا : إنها من ضمان البائع ، على الرواية الضعيفة ، فهل ذلك بمنزلة العيب ، كما لو تلفت يد العبد ، أو بمنزلة تلف البعض كأحد العبدين ؟ فيه وجهان .
( الثاني ) : في معنى ما يتعلق به حق توفية وإن لم يكن هو المبيع برؤية أو صفة متقدمة ، فإنه من ضمان بائعه حتى يقبضه المبتاع ، ذكره ابن أبي موسى وغيره ، واللَّه أعلم .
قال : ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه .
ش : قد تقدم أن جمهور الأصحاب جعلوا المنع من البيع والضمان متلازمين ، وأن الافتقار إلى القبض علم عليهما ، فكل ما افتقر إلى القبض فضمانه على بائعه ، ومشتريه ممنوع من بيعه قبل قبضه ، وما لا فلا .
1914 لأن النبي نهى عن ربح ما لم يضمن ، ومنع من بيع أشياء حتى تقبض ، والظاهر أن منعه من ذلك حذاراً من أن يربح فيما لم يضمن ، وإذاً إنما يبقى النظر في الممنوع من بيعه قبل قبضه ، هل هو كل شيء ، كما في حديثي زيد بن ثابت وحكيم بن حزام ، وأحاديث المنع من بيع الطعام بعض أفراد ذلك ، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره ، إذ لا ريب أن أحاديثه أثبت ، ورواته أكثر ، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه ما تعلق به حق توفية ، فقط ما دل عليه قول ابن عمر تضمنه أن المنع من البيع ، وتضمين البائع متلازمان ، ويحتمله حديث عائشة في المتعين ؟ انتهى .
وظاهر كلام ابن عقيل في الفصول أن المنع من البيع غير ملازم للضمان ، لأنه حكى أن ما تعلق به حق توفية من ضمان البائع ، وفي غيره من المتعيان كالعبد والصبرة ونحوهما روايتان ، ثم قال : إذا ثبت أن المبيع المتعين من ضمان مشتريه ، فهل يصح بيعه قبل قبضه ؟ نقل الأثرم : لا يجوز بيع الصبرة قبل قبضها . ونقل ابن القاسم ما يدل على الجواز ، ثم حكى الخلاف أيضاً في المكيل والموزون إذا لم يكن مطعوماً ، وفي المطعوم إذا لم يكن مكيلاً ، وهذا أيضاً ظاهر ما حكى السامري عن القاضي ، فإنه حكى عنه في الصبرة هل هي من ضمان البائع أو من ضمان المشتري ؟ على روايتين [ وأنه هل يجوز للمشتري التصرف فيها قبل القبض ؟ على روايتين ] قال : الأقيس جواز التصرف ، لأنه لم يتعلق به حق توفية ، ولو تلف قبل القبض كان من مال المشتري ، فهو كالعبد ، وظاهر كلاميهما أن الخلاف في جواز التصرف على القول بالضمان ، والذي يظهر لي من جهة الدليل عدم التلازم ، وأن المتعينات من ضمان المبتاع لظاهر حديث عائشة رضي اللَّه عنها وقول ابن عمر ، وغيرها من ضمان البائع ، لمفهوم قول ابن عمر ، وأن جميع الأشياء يمنع من بيعها قبل قبضها ، لحديث زيد بن ثابت ، وحكيم بن حزام ، إذ الذي منع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره انتهى .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) : عموم كلام الخرقي المنع للبائع ولغيره ، وهو كذلك انتهى ، ( الثاني ) : حيث جوزنا البيع قبل القبض فباع قبل أن يقبض فالمشتري الثاني مخير بين أن يطالب به الأول ، وبين أن يطالب به الثاني ، والثاني يطالب الأول ( الثالث ) : بيان القبض يأتي إن شاء اللَّه تعالى للخرقي في الرهن ، فلنتكلم عليه ثم ، واللَّه أعلم .
قال : والشركة فيه والتولية والحوالة به كالبيع .
ش : الشركة في المبيع بيع بعضه بقسطه من الثمن ، بأن يقول : أشركتك في نصفه بنصف الثمن ، أو في سدسه بسدس الثمن ، ونحو ذلك ، والتولية فيه بيع جميعه بكل الثمن ، وهما نوعان من أنواع البيع ، فما ثبت في البيع ثبت فيهما ، وقد ثبت المنع من البيع قبل القبض فيما تقدم ، فكذلك فيهما ، ومثلهما بيع المرابحة ، نحو : رأس مالي فيه مائة ، بعتك بها وربح عشرة ، والمواضعة ، كأن يقول والحال هذه : ووضيعة عشرة . والصلح بمعنى البيع ، كأن يقر له بمائة فيعطيه عنها عرضاً ، ونحو ذلك ، والهبة بثواب ، لأن المغلب فيها حكم البيع ، على المذهب ، والإجارة ، لأنها بيع في الحقيقة ، ويتصور في ذلك في الأواني الموزونة ، وفي المبهم في الموزون ، كرطل من صنجة حديد ، وفي المعين على رواية اعتبار القبض فيه ، وعليها التزويج كالإجارة ، قاله في التلخيص ، والقسمة حيث قيل إنها بيع ، والخرقي رحمه اللَّه ذكر الشركة والتولية على سبيل التمثيل ، أما الحوالة فقد منع الخرقي منها فيحتمل لأنها عنده بيع ، ويحتمل وإن قيل : إنها عقد مستقل . لأنه تصرف في المبيع المفتقر إلى القبض قبل قبضه ، فلم يجز كالبيع ، ويكون الخرقي قد نبه بهذه الصورة على بقية التصرفات ، وهذا أوفق لعبارة القاضي ، وأبي الخطاب وغيرهما ، لقولهم : يجوز التصرف في المبيع المتعين قبل قبضه ، ولا يجوز فيما لم يتعين قبل قبضه ، إلا أن القاضي وأبا الخطاب وقع في أثناء كلامهما استثناء العتق يريدان على القول بأن جميع الأشياء تفتقر إلى القبض ، وقد صرح باستثناء العتق أيضاً صاحب التلخيص وغيره ، وحكى صاحب التلخيص عن القاضي وابن عقيل أنهما ذكرا في موضع أن رهن ما افتقر إلى القبض يصح بعد قبض الثمن ، لأن قبضه قد صار مستحقاً من غير خلاف ، وخرج هو على ذلك الهبة بغير ثواب ، وفي هذا التعليل نظر ، لأن مقتضاه جواز كل التصرفات في المفتقر إلى القبض بعد قبض ثمنه ، لاستحقاق قبضه ، واللَّه أعلم .
قال : وليس كذلك الإقالة ، لأنها فسخ ، وعن أبي عبد اللَّه رحمه اللَّه : الإقالة بيع .
ش : أي ليست الإقالة كالتولية والشركة ونحوهما ، لما علل به من أنها فسخ ، والممنوع منه إنما هو البيع وما في معناه ، ( والرواية الثانية ) الإقالة بيع ، أي في معناه ، فتلحق بالتولية والشركة ونحوهما ، وقد فهم من كلام الخرقي وتعليله إناطة الحكم بالبيع وما في معناه ، وإذاً ظاهره مخالف لما تقدم من قول القاضي وغيره .
( تنبيه ) : المشهور من الروايتين وهو اختيار جمهور الأصحاب ، القاضي ، وعامة أصحابه ، وأبي الحسين ، وأبي محمد ، وحكاه عن أبي بكر الذي قدمه الخرقي ، لأن الإقالة هي الرفع والإزالة ، يقال : أقالك اللَّه عثرتك . أي أزالها .
1915 قال : ( من أقال نادماً أقاله اللَّه عثرته ) رواه أبو داود ، والرفع والإزالة غير البيع ، إذ هو عقد ، وهي رفع له فهما ضدان ، ومن ثم لا يحصل أحدهما بلفظ الآخر ، وجازت الإقالة في المسلم فيه ، مع الاتفاق على أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه ، ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه ، وعللها بأنها إزالة ملك إلى مالك ، ويريد فيه بعوض على وجه التراضي ، وإذاً هي في معنى البيع ، فتلحق به .
وللخلاف فوائد ، ( منها ) أن على الأول يجوز قبل القبض فيما يعتبر له القبض ، ولا يحتاج إلى كيل ثان ، وحكى أبو محمد عن أبي بكر أنه لا بد فيها من كيل ثان إقامة للفسخ مقام البيع ، والذي في التنبيه إيجاب الكيل على القول بأنها بيع ، لا على القول بأنها فسخ ، ( ولا تجوز ) إلا بمثل الثمن ، ( ولا تستحق ) بها شفعة ، ( ولا يحنث ) بفعلها فيما إذا حلف لا يبيع فأقال ، ( ويكون النماء ) للبائع ، قاله القاضي في الجامع الصغير ، وعلى الثانية تنعكس هذه الأحكام إلا بمثل الثمن في أحد الوجهين ، أما وجوب الاستبراء على البائع إذا عادت إليه بإقالة فالذي قطع به أبو بكر في التنبيه وجوبه على القول بأن الإقالة بيع ، وكذلك الشيرازي قطع بالوجوب وقاله وبنى المسألة على أن الإقالة بيع ، ومقتضى كلاميهما عدم الوجوب إن لم يقل إنها بيع ، والمنصوص عن أحمد في رواية ابن القاسم وابن بختان وجوب الاستبراء مطلقاً ، ولو قبل القبض ، وهو مختار القاضي وجماعة من أصحابه ، إناطة بالملك ، واحتياطاً للأبضاع ، ونص في رواية أخرى أن الإقالة إن كانت بعد القبض والتصرف وجب الاستبراء ، وإلا لم يجب ، وكذلك حكى الرواية القاضي ، وأبو محمد في الكافي ، والمغني ، وكأن أحمد رحمه اللَّه لم ينظر في هذه إلى انتقال الملك ، إنما نظر إلى الاحتياط .
والعجب من أبي البركات ، حيث لم يذكر : قبل التفرق ، مع جودته وتصريح الإمام به ، لكنه قيد المسألة بقيد لا بأس به ، وهو بناؤها على القول بانتقال الملك ، أما لو كانت الإقالة في بيع خيار وقلنا : ولم ينتقل الملك . فظاهر كلامه أن الاستبراء لا يجب ، وإن وجد القبض ، ولم يعتبر أبو البركات أيضاً القبض فيما إذا كان المشتري لها امرأة ، بل حكى فيها الروايتين وأطلق ، وخالف أبا محمد في تصريحه بأن المرأة بعد التفرق كالرجل ، ونص أحمد الذي فرق فيه بين التفرق وعدمه وقع في الرجل ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى صبرة طعام لم يبعها حتى ينقلها .
ش : وذلك لما تقدم من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما وغيره أن رسول اللَّه قال : ( من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ) وقال ابن عمر : 16 ( كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً ، فنهانا رسول اللَّه أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ) . وهذا يقال : إنه استفيد مما تقدم ، بناء على أن مراد الخرقي بالكيل ما تعلق به حتى توفية وغيره ، وهو ظاهر ما شرح عليه أبو محمد وغيره ، وقد يقال بالمنع هنا وإن قيل : إنه من ضمان المشتري ، اتباعاً لإطلاق النص .
( تنبيه ) : ( الصبرة ) قال الأزهري : هي الكومة المجموعة من الطعام . قال : وسميت صبرة لإفراغ بعضها على بعض . واللَّه أعلم .
قال : ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرة .
ش : هذا منصوص أحمد رحمه اللَّه ، وعليه الأصحاب ، حذاراً من تغرير المشتري وغشه ، إذ البائع لا يفعل ذلك غالباً والحال هذه إلا لذلك ، والغش حرام .
1916 قال ( من غشنا فليس منا ) .
1917 وقد روي أن النبي قال : ( من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافاً حتى يبينه ) وهذا نص في المسألة ، وعن مالك رحمه اللَّه أنه قال : لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك .
وعن أحمد رحمه اللَّه ما يدل على كراهة ذلك وإساءة فاعله ، من غير تحريم ، إذ المشتري يحتاط لنفسه ، فلا يشتري ما يجهله ، وإذا اشترى مع الجهل فالتفريط منسوب إليه ، وعلى هذه الرواية البيع صحيح لازم ، نص عليه ، أما على الأولى فهل يفسد البيع لأجل النهي ، وبه قطع أبو بكر في التنبيه ، وطائفة من الأصحاب ، أو لا يفسد ، وهو قول القاضي ، وكثير من أصحابه ، إذ قصاراه أنه تدليس ، وهو غير مفسد ، بدليل حديث المصراة ؟ فيه وجهان ، ثم على القول بالصحة إن علم المشتري بعلم البائع فلا خيار له ، لدخوله على بصيرة ، وإن لم يعلم فله الخيار كالتدليس ، ولو انفرد المشتري بالعلم دون البائع فحكمه حكم انفراد البائع بذلك ، في أنه ينهى عن الشراء ، وإذا اشترى ففي صحة شرائه الخلاف السابق ، أما مع علمهما فعموم كلام الخرقي يقتضي المنع من ذلك أيضاً ، وقد غالى أبو بكر فجزم بالبطلان فيه ، وهو أحد الوجهين على القول بالبطلان مع علم أحدهما ، حكاهما في التلخيص ، وأما مع جهلهما فيصح البيع بلا تردد ، كما فهم ذلك من كلام الخرقي ، وقد دل عليه حديث ابن عمر وغيره . ولا فرق عندنا بين عين الأثمان والمثمنات .
ولا يشترط معرفة باطن الصبرة ، دفعاً للحرج والمشقة ، اعتماداً على تساوي أجزائها غالباً ، بخلاف الثوب ونحوه ، وشرط أبو بكر في التنبيه لجواز بيع الصبرة تساوي موضعها ، فإن لم يتساوَ لم يجز ، إلا أن يكون يسيراً يتغابن بمثله ، وعامة الأصحاب لا يشترطون ذلك ، وعندهم أنه إن ظهر تحتها ربوة أو فيها حجر ونحو ذلك مما يتغابن بمثله في مثلها ، ولم يعلم به المشتري ، فله الخيار بين الرد والإمساك ، كما لو وجد باطنها رديئاً ، نص عليه أحمد ، ولابن عقيل احتمال أنه يرجع بمثل ما فات ، إذا أمكن تحقيق ذلك أو حزره ، وإن بان تحتها حفرة تأخذ العين المذكورة أو بان باطنها خيراً من ظاهرها ، فلا خيار للمشتري ، وللبائع الخيار إن لم يعلم ، ولأبي محمد احتمال أنه لا خيار له ، إذ الظاهر علمه بذلك ، ولابن عقيل احتمال أنه يأخذ منها ما حصل في الانخفاض ، حتى يتساوى وجه الأرض ، واختار صاحب التلخيص أن حكم الأولى حكم ما لو باعه أرضاً على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة ، وحكم الثانية حكم ما لو باعه أرضاً على أنها عشرة أذرع فبانت أحد عشر ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى صبرة على أن كل مكيلة منها بشيء معلوم جاز .
ش : لأن المبيع معلوم بالمشاهدة ، وقدر ما يقابل كل جزء من المبيع من الثمن معلوم ، فصح للعلم بالعوض .
1918 وعن علي رضي اللَّه عنه 16 ( أنه أجر نفسه كل دلو بتمرة ، وجاء إلى النبي بالتمر فأكل ) ، واللَّه أعلم .
باب المصراة وغير ذلك


ش : معنى التصرية عند الفقهاء أن يجمع اللبن في ضرع البقرة أو الشاة ونحوهما اليومين والثلاثة ، حتى يعظم ، فيظن المشتري أن ذلك لكثرة اللبن ، وإذاً هي المصراة ، والمحفلة أيضاً ، يقال : ضرع حافل . أي عظيم ، والحفل الجمع العظيم ، واختلف في معناها لغة فقال الشافعي رحمه اللَّه تعالى : التصرية أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة ، ويترك حلبها اليومين والثلاثة ، حتى يجتمع لبنها ، فيزيد المشتري في ثمنها لما يرى من ذلك . وقال أبو عبيد : المصراة هي الناقة ، أو البقرة ، أو الشاة يصرى اللبن في ضرعها ، أي يجمع ويحبس . قال : ولو كانت من الربط لقيل فيها : مصرورة . وإنما جاءت مصراة وهذا هو المشهور . وقال الخطابي : قول أبي عبيد حسن ، وقول الشافعي صحيح ، والعرب تصر الحلوبات ، وتسمي ذلك الرباط صراراً ، واستشهد بقول العرب : العبد لا يحسن الكر ، وإنما يحسن الحلب والصر . انتهى .
والتصرية حرام ، إذا قصد بها التدليس على المشتري لما سيأتي ولأنها غش وخديعة ، وقد قال : ( من غشنا فليس منا ) .
1919 وقوله : ( بيع المحفلات خلابة ، ولا تحل الخلابة لمسلم ) .
وقول الخرقي : وغير ذلك . أي مما إذا وجد بالمبيع عيباً ، لأن ذلك يقع عن تدليس وعن غيره ، ومن اختلاف المتبايعين ، ومن بيوع منهى عنها ، ونحو ذلك مما ستقف عليه ، إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : ومن اشترى مصراة وهو لا يعلم ، فهو بالخيار بين أن يقبلها ، أو يردها وصاعاً من تمر .
1920 ش : الأصل في هذا ما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا تصروا وفي رواية لا تصر الإبل والغنم ، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين ، بعد أن يحلبها ، إن شاء أمسك ، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر ) متفق عليه .
1921 وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه ( من اشترى محفلة فردها فليرد معها صاعاً ) رواه البخاري ، والبرقاني على شرطه وزاد ( من تمر ) .
1922 وروي نحوه من حديث ابن عمر وأنس .
ولا يقال : إن هذا مخالف لقواعد كلية ، ( منها ) أن اللبن مثلي ، والتمر ليس بمثل له ، والقاعدة ضمان المثلي بمثله لا بغيره ، ( ومنها ) أن الصاع محدود ، واللبن ليس بمحدود ، فإنه يختلف بالقلة والكثرة ، والقاعدة أن الضمان على قدر الذهاب ، ثم لما عدل عن المثل إلى غيره فقد يجيء به نحو المتابعة ، فهو بيع الطعام بالطعام غير يد بيد ، فهو الربا ، لأنا نقول : حديث المصراة أصل مستثنى من تلك القواعد ، لمعنى يخصه ، وبيانه أن اللبن الحادث بعد العقد ملك للمشتري ، فيختلط باللبن الموجود حال العقد ، وقد يتعذر الوقوف على قدره ، فاقتضت حكمة الشرع أن جعل ذلك مقدراً ، لا يزيد ولا ينقص ، دفعاً للخصام ، وقطعاً للمنازعة ، وإنما خص ذلك واللَّه أعلم بالطعام لأنه قوت كاللبن ، وجعل تمراً لأنه غالب قوتهم ، ولا يحتاج في تقوته إلى كلفة ، ومن ثم واللَّه أعلم وصفه بقوله : ( لا سمراء ) دفعاً للحرج في تكلف السمراء ، لقلتها عندهم ، ثم لا نظر للقياس مع وجود النص .
وقد عارض بعضهم حديث المصراة بقوله ( الخراج بالضمان ) ونشأ له ذلك من جعله التمر في مقابلة اللبن الحادث بعد العقد ، وهو ممنوع ، وإنما هو في [ مقابلة الموجود حال العقد .
1923 بدليل ما في البخاري وأبي داود في الحديث ( من اشترى غنماً مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ) على تقدير تسليم أنه في ] مقابلة الحادط وإنه لبعيد فهو عام ، وحديث المصراة خاص ، ولا معارضة بين العام والخاص انتهى .
وقول الخرقي : مصراة . يشمل بعمومه الآدميات ، والأتان ، والفرس ، وهو أحد الوجهين ، واختيار ابن عقيل ، اعتماداً على عموم الحديث ، ونظراً إلى أن الثمن يختلف بذلك ، ( والثاني ) : لا يثبت ، ويحتمله كلام الخرقي بعد في قوله : وسواء كان المشتري ناقة ، أو بقرة ، أو شاة . لاقتصاره على ذلك ، وزعم ابن البنا تبعاً لشيخه أنه قياس المذهب ، بناء منهما على أن لبن الآدمية لا يجوز بيعه ، وذلك لأن لبن ما ذكر لا يعتاض عنه عادة ، ولذلك لا يجب في مقابلته شيء ، ولا يقصد قصد بهيمة الأنعام ، والخبر ورد فيما يقصد عادة .
وقوله : وهو لا يعلم . يخرج ما إذا علم التصرية ، فإنه لا خيار له ، وهو كذلك لعلمه بالعيب .
وقوله : فهو بالخيار ، أي إذا علم بالتصرية ، إذ ثبوت أمر لشخص يعتمد علمه به . ثم كلامه يشمل قبل الحلب ، ويعلم ذلك ببينة ، أو بإقرار من البائع ، وإذاً له الرد عندنا ولا شيء عليه ، بناء على ما تقدم من أن التمر في مقابلة اللبن الموجود حال العقد ، ولا وجوب للبدل مع وجود المبدل ، وهذه الصورة تستثني من كلام الخرقي .
ويشمل أيضاً ما إذا حلب اللبن وأراد رده ، فإنه لا يجزئه إلا التمر ، وهذا أحد الوجوه ، وهو الذي جعله أبو الخطاب وأبو البركات مذهباً ، نظراً لإطلاق الحديث ، ( والثاني ) يجزئه رده ، ولا شيء عليه وإن تغير ، لما تقدم من أن البدل إيحابه منوط بعدم المبدل ، والمبدل موجود ، وإن حصل نقص فبتدليس البائع ، ( والثالث ) وهو اختيار القاضي ، وأبي محمد إن كان اللبن بحاله لم يتغير فكالثاني ، لما تقدم ، وإن تغير فكالأول ، دفعاً للضرر عن البائع .
ويشمل أيضاً ما إذا صار لبنها عادة ، ومراده واللَّه أعلم بالحكم الذي حكم به صورة واحدة ، وهو ما إذا حلبها ولم يصر لبنها عادة ، أما إذا صار لبنها عادة فلا خيار ، لزوال العيب الذي لأجله ثبت الرد ، وهذه الصورة أيضاً مستثناة من كلام الخرقي .
[ وقول الخرقي ] : بين أن يقبلها . ظاهره ولا أرش له ، وهو المشهور عند الأحاب ، وظاهر الحديث .
1924 وفي رواية لمسلم ( إذا ما اشترى أحدكم لقحة مصراة ، أو شاة مصراة فهو بخير النظرين [ بعد أن يحلبها ] ، إما هي ، وإلا فليردها وصاعاً من تمر ) ( وعن أحمد ) في رواية ابن هانىء : إن شاء رجع عليه بقدر العبي ، وكذا ذكر أبو بكر في التنبيه ، وتبعه الشيرازي ، وصاحب التلخيص فيه قياساً على بقية العيوب .
وقوله : وصاعاً من تمر . يقتضي أنه لا يجزئه غيره ، وهو كذلك اتباعاً للنص ، وما ورد في الحديث ( صاعاً من طعام ) فالمراد به واللَّه أعلم التمر ، إذ في رواية أخرى ( صاعاً من طعام لا سمراء ) وما ورد في حديث ابن عمر وسيأتي إن شاء اللَّه ( فإن ردها رد معها مثل أو قال مثلي لبنها قمحاً ) أشار البخاري إلى تضعيفه ، ويؤيد ضعفه أنه لا قائل به ، وقال الشيرازي : الواجب أحد شيئين ، صاع من تمر ، أو صاع من قمح .
1925 لأن في حديث رواه البيهقي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن رجل ، عن النبي أنه قال ( من اشترى مصراة فهو بخير النظرين ، فإن حلبها ورضيها أمسكها ، وإن ردها رد معها صاعاً من طعام ، أو صاعاً من تمر ) والطعام إذا أطلق غالباً يراد به البر ، ويجاب أنه بعد تسليم صحته محمول على أنه شك من الراوي ، توفيقاً بين الأحاديث ، ويعين ذلك قوله في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ( صاعاً من طعام لا سمراء ) .
وإطلاق الخرقي يقتضي [ وجوب ] التمر وإن زادت قيمته على قيمة الشاة ، وهو كذلك للخبر ، والواجب فيه أن يكون سليماً من العيب ، لأن الإطلاق يقتضي السلامة .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : لم يبين الخرقي رحمه اللَّه مقدار الخيار ، وكذلك جماعة ، وقال أبو الخطاب في الهداية : عندي أنه إذا تبين له التصرية ثبت له الرد ، قبل الثلاث وبعدها ، إلحاقاً لها بالعيوب . وييتخرج من قوله قول آخر أن الخيار على الفور ، بناء على القول به ثم ، وقدره ابن أبي موسى ، والقاضي ، وأبو البركات ، وغيرهم بثلاثة أيام .
1926 لأن في الحديث في رواية مسلم وغيره ( من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام ) .
1927 [ وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، أن رسول اللَّه قال ( من باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام ) ، فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً ) رواه أبو داود ، ثم اختلف هؤلاء فقال القاضي وزعم أبو محمد أنه ظاهر كلام أحمد : الثلاثة أيام مضروبة لتتبين بها التصرية ، إذ في اليوم الأول لبنها لبن التصرية ، وفي الثاني والثالث يجوز أن يكون نقص لاختلاف العلف ، وتغير المكان ، فإذا مضت الثلاثة تحققت التصرية غالباً ، فيثبت الخيار إذاً على الفور ، وقال ابن أبي موسى على ظاهر كلامه وأبو البركات : له الخيار في الثلاثة أيام إلى انقضائها . وهذا هو ظاهر الحديث ، وعليه المعتمد ، وهو عكس قول القاضي ، ثم إن أبا البركات صرح بأن ابتداء المدة بتبين التصرية ، وهو ظاهر قول ابن أبي موسى قال : هو بالخيار ثلاثة أيام ، إن شاء ردها ، وإن شاء أمسكها . ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في الكافي أن ابتداءها على قول ابن أبي موسى من حين البيع .
( الثاني ) : ( تصروا ) الرواية الصحيحة فيه ضم التاء ، وفتح الصاد ، وتشديد الراء [ المضمومة ] ، بعدها واو الجمع ، نحو 19 ( { فلا تزكوا أنفسكم } ) من : صراها يصريها تصرية ، كزكاها يزكيها تزكية ، وأصل ( تصروا ) : تصريوا . استثقلت الضمة على الياء ، فنقلت إلى ما قبلها ، لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموماً ، فانقلبت الياء واواً ، فاجتمع ساكنان فحذفت الواو الأولى وبقيت واو الجمع ، ( والإبل ) نصب على أنه مفعول تصروا ، وفيه رواية أخرى ( لا تصروا الإبل ) بفتح التاء ، وضم الصاد ، من : صريصر . ( والغنم ) على هذا أيضاً منصوبة الميم ، وروي ثالثة ( لا تصر الإبل ) بضم التاء بغير واو بعد الراء ، وبرفع الإبل على ما لم يسم فاعله ، من الصر أيضاً وهو الربط ، وهاتان الروايتان يجيئان على تفسير الشافعي ، والأولى على تفسير أبي عبيد ( والمحفلة ) قد تقدم تفسيرها ، ( والسمراء ) حنطة الشام ، والبيضاء حنطة مصر ، وقيل : السمراء الحنطة مطلقاً ، والبيضاء الشعير . ( واللقحة ) بفتح اللام وكسرها وهو أفصح الناقة القريبة العهد بالولادة ، بنحو الشهرين والثلاثة ، واللَّه أعلم .
قال : فإن لم يقدر على التمر فقيمته .
ش : من وجب عليه شيء فعجز عنه رجع إلى بدله ، وبدل المثلي عند إعوازه هو القيمة ، كما هو مقرر في موضعه ، وتجب قيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد ، واللَّه أعلم .
قال : وسواء كان المشتري ناقة ، أو بقرة ، أو شاة .
ش : لا نزاع عندنا نعلمه في ذلك ، لورود النص به في الإبل والغنم ، ولبن البقر أغزر ، فيثبت الحكم فيه بطريق التنبيه ، ثم عموم ( مصراة ) يشمل الجميع ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى أمة ثيباً فأصابها أو استغلها ثم ظهر على عيب كان مخيراً بين أن يردها ويأخذ الثمن كاملاً ، لأن الخراج بالضمان ، والوطء كالخدمة ، وبين أن يأخذ ما بين الصحة والعيب .
ش : هذا يبنى على قواعد ، فنشير إليها ، ثم نتعرض للفظ المصنف .
( منها ) : أن المذهب المشهور حتى أن أبا محمد لم يذكر فيه خلافاً أن من اشترى معيباً لم يعلم عيبه ثم علم ذلك فإنه يخير بين الرد ، وبين الإمساك وأخذ الأرش .
أما الرد فلا نزاع فيه نعلمه ، دفعاً للضرر عن المشتري ، إذ إلزامه بالعقد والحال هذه ضرر عليه ، والضرر منفي شرعاً .
1928 وعن عائشة رضي اللَّه عنها أن رجلاً اشترى غلاماً في زمن النبي ، وفيه عيب لم يعلم به ، فاستغله ، ثم علم العيب فرده ، فخاصمه إلى النبي ، فقال : يا رسول اللَّه إنه استغله منذ زمن ، فقال رسول اللَّه : ( الغلة بالضمان ) رواه أبو داود وغيره ، وهذا يدل على أن العيب سبب للرد .
1929 وعن العداء بن خالد رضي اللَّه عنه قال : كتب لي رسول اللَّه : ( هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوزة من رسول اللَّه ، اشترى منه عبداً أو أمة ، لا داء ، ولا غائلة ولا خبثة ، بيع المسلم للمسلم ) رواه الترمذي وابن ماجه وهذا يدل على أن بيع المسلم هذا حاله ، وأيضاً ما ثبت من أحاديث المصراة المتقدمة .
وأما الإمساك وأخذ الأرش فلأن البائع والمشتري تراضيا على أن العوض في مقابلة المعوض ، فكل جزء من العوض يقابله جزء من المعوض ، ومع وجود العيب قد فات جزء من المعوض ، فيرجع ببدله وهو الأرش . ( وعن أحمد ) رواية أخرى اختارها أبو العباس وهي أصح نظراً : لا أرش لممسك له الرد ، حذاراً من أن يلزم البائع ما لم يرض به ، فإنه لم يرض بإخراج ملكه إلا بهذا العوض ، فإلزامه بالأرش إلزام له بشيء لم يلتزمه ، ويوضح هذا ويحققه المصراة ، فإن النبي لم يجعل فيها أرشاً ، ودعوى أن التصرية ليست عيباً ممنوع ، انتهى .
والأرش ما بين قيمة الصحيح والمعيب منسوباً إلى الثمن ، وبيانه أن يقال مثلاً فيما اشترى بمائة وخمسين : كما يساوي هذا وهو صحيح ؟ فإذا قيل : مائة . قيل : وكم يساوي وهو معيب ؟ فإذا قيل : تسعين . فما بين القيمتين هو العشر ، فإذا نسبت ذلك إلى الثمن وجدته والحال هذه خمسة عشر درهماً ، فهو الواجب للمشتري ، ولو كان الثمن خمسين درهماً لكان عشرة خمسة دراهم ، فهو الواجب له ، وإنما نسب إلى الثمن ، ولم يجعل ما بين القيمتين من غير نسبة ، لئلا يجتمع للمشتري العوض والمعوض ، [ كما لو اشترى شيئاً بمائة ، ثم وجد به عيباً ، وكانت قيمته وهو صحيح مائتين وقيمته وهو معيب مائة ، فما بينهما مائة ، فلو أوجبت المائة للمشتري لاجتمع له العوض والمعوض ] وعلى ما تقدم لا يلزم ذلك ، إذ يجب له والحال هذه نصف الثمن ، ولا فرق فيما تقدم بين علم البائع بالعيب وعدمه .
( تنبيه ) : هل يملك المشتري أخذ الأرش من عين الثمن أو لا يملكه ؟ فيه احتمالان ذكرهما في التلخيص . ( القاعدة الثانية ) أن المبيع المعيب تعيبه عند المشتري هل يمنع من رده ؟ فيه نزاع يأتي إن شاء اللَّه تعالى ، واختلف في وطء الثيب هل هو عيب ، لأنه نقص في الجملة ، أو ليس بعيب ، وهو اختيار العامة ، لأنه لم يحصل به نقص جزء ولا صفة ، وكما لو كانت مزوجة فوطئها الزوج ؟ على روايتين ، وعلى الأولى فإن لم يمنع العيب الرد فالأرش هنا هو مهر المثل .
( القاعدة الثالثة ) : أن المبيع إذا زاد وأراد المشتري رده بعيب وجده فهل يلزمه رد الزيادة ؟ لا يخلو إما أن تكون متصلة كالسمن وتعلم صنعة ، أو منفصلة كالولد والكسب ، فإن كانت متصلة فلا يتصور مع الرد إلا ردها ، لكن هل يكون له قيمتها لحدوثها عن ملكه ، وتعذر فصلها ، أو لا قيمة لها ، لئلا يلزم البائع معاوضة لم يلتزمها ، وهو قول عامة الأصحاب ؟ على قولين ، وعن ابن عقيل : القياس أن له القيمة ، بناء على قولهم في الصداق ، إذا زاد زيادة متصلة ، ثم وجد ما يقتضي سقوطه أو تنصفه ، فإن المرأة لها أن تمسك ذلك وترد القيمة أو نصفها ، قلت : وفي هذا القياس نظر ، وإنما قياس الصداق أن المشتري يمسك ويرد قيمة العين ، نعم ما يحكى عن ابن عقيل سيأتي أنه رواية منصوصة أو ظاهرة .
وإن كانت الزيادة منفصلة فلا يخلو إما أن تكون حدثت من عين المبيع ، كالولد والثمرة ، أو لم تكن ، كالأجرة والهبة ، ونحو ذلك ، ( فالثاني ) فيما نعلمه لا نزاع أن للمشتري إمساكه ، ورد المبيع دونه ، ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في الكافي ، من أن فيه الخلاف الآتي ، فإنه في المغني لم يذكر فيه عن أحد خلافاً ، أما ( الأول ) وهو ما إذا كانت الزيادة من عين المبيع ، فالمنصوص ، والمعمول عليه عند اوصحاب حتى أن أبا محمد في المغني جزم به أن الحكم كذلك ، الزيادة للمشتري فيرد المبيع دونها .
1930 لحديث عائشة رضي اللَّه عنها قالت : قال رسول اللَّه : ( الخراج بالضمان ) وفي رواية : قضى أن الخراج بالضمان . رواه أبو داود وغيره ، وقد ورد في المسند وسنن أبي داود ، وابن ماجه ، أن الحديث ورد على مثل هذا ، فعن عائشة رضي اللَّه عنها : أن رجلاً اشترى غلاماً في زمن النبي ، وبه عيب لم يعلم به ، فاستغله ثم علم العيب ، فخاصمه إلى النبي ، فقال : يا رسول اللَّه إنه استغله منذ زمان ، فقال رسول اللَّه ( الغلة بالضمان ) وقضية السبب داخلة في العموم قطعاً .
وحكى القاضي وجماعة من أصحابه ، والشيرازي ، والشيخان ، وغير واحد ، عن أحمد رواية أخرى ، أنه يلزم البائع رد النماء مع الأصل ، جعلا للنماء كالجزء من الأصل ، ونظراً إلى أن الفسخ رفع للعقد من أصله حكماً ، ويرد عليه الكسب ونحوه ، وهذه الرواية قال أبو العباس : إن القاضي وأصحابه أخذوها من نص أحمد في رواية ابن منصور ، فيمن اشترى سلعة فنمت عنده ، فبان بها داء ، فإن شاء المشتري حبسها ورجع بقدر الداء ، وإن شاء ردها ورجع عليه بقدر النماء ، فجعلوا الراجع بقدر النماء هو البائع ، قال : وكذا صرح به ابن عقيل في النظريات ، قال أبو العباس : وهو غلط ، بل الراجع المشتري على البائع بقدر النماء ، فإن قوله : نمت عنده ، ظاهر في النماء المتصل ، ولو فرض أنه غير المتصل [ فلم يذكر أنه تلف بيد المشتري ، والأصل بقاؤه ، قال : فتكون هذه الرواية أن الزيادة المتصلة ] لا يجب على المشتري الرد بها ، بل له إذا إراد رد العين أن يأخذ من البائع قيمة الزيادة . انتهى .
ويستثنى على المذهب إذا كانت الزيادة ولد أمة ، فإنه يتعذر على المشتري الرد ، لتعذر التفرقة الممنوع منها شرعاً ، هذا اختيار الشيخين ، وظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور ، لكن إذا اختار ردهما معاً فهل يلزم البائع القبول ؟ يحتمل وجهين ، الظاهر اللزوم ، وقال الشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، وشيخهما فيما أظن في تعليقه : له إمساك الولد ورد الأم ، لأنه موضع حاجة ، وهو ممنوع ، للتمكن من الأرش .
إذا عرف ذلك رجعنا إلى لفظ المصنف رحمه اللَّه ، فقوله : إذا اشترى أمة ثيباً . يحترز عن البكر كما سيأتي ، وقوله : فأصابها أو استغلها . لأنه إذا لم يصبها ولم يستغلها المبيع بحاله ولا كلام ، وقوله : ثم ظهر على عيب ، يخرج ما إذا كان عالماً حال العقد ، لدخوله على بصيرة ، وإذاً لا رد له ولا أرش ، وقوله : كان مخيراً . إلى آخره ، مبني على القواعد الثلاث المتقدمة ، وهي أن مشتري المبيع المعيب غير عالم بعيبه يخير بين الرد ، والإمساك مع الأرش ، وأن وطء الثيب ليس بعيب ، وأن الغلة للمشتري ، ولا يمنع الرد ، وقوله : لأن الخراج بالضمان . تعليل لأن الغلة للمشتري ، وقوله : والوطء كالخدمة . بيان لأن الوطء ليس بعيب . والألف واللام في الوطء لمعهود تقدم ، وهو وطء الثيب ، واللَّه أعلم .
قال : فإن كانت بكراً فأراد ردها كان عليه ما نقصها .
ش : أي فأراد ردها بعدما أصابها ، ولا إشكال أن وطء البكر يعيبها عرفاً ، وينقصها حساً ، لأنه يذهب جزءاً منها ، وإذاً فقد تعيب المبيع عنده ، فهل يمنعه ذلك من الرد إذا اطلع على عيب ؟ فيه روايتان مشهورتان ، ( أشهرهما ) عن الإمام وهو اختيار الخرقي ، والقاضي أبي الحسين ، وأبي الخطاب في الانتصار ، وأبي محمد ، وغيرهم ، قال في التلخيص : هي المشهورة ، وعليها الأصحاب : أن ذلك لا يمنع الرد ، لما تقدم من حديث المصراة ، فإن النبي جعل للمشتري الرد ، مع ذهاب جزء من المبيع وهو اللبن ، وجعل التمر بدله .
1931 وروى الخلال بسنده ، عن ابن سيرين ، أن عثمان رضي اللَّه عنه قال في رجل اشترى ثوباً ولبسه ، ثم اطلع على عيب : يرده وما نقص . فأجاز الرد مع النقصان ، وعليه اعتمد أحمد .
1932 وعن عمر رضي اللَّه عنه نحو ذلك أيضاً ، قال : إن كانت ثيباً رد معها نصف العشر ، وإن كان بكراً رد العشر . لكنه ضعيف ، ولهذا لم يعتمده الإمام ، ولأن ثبوت الرد كان ثابتاً له قبل حدوث العيب عنده ، والأصل البقاء ما لم يأت دليل ، ثم الحمل على البائع أولى ، لأنه ما مدلس ، أو مفرط ، حيث لم يختبر ملكه . ( والثانية ) واختارها أبو بكر ، وابن أبي موسى ، وأبو الخطاب في خلافه الصغير يمنع ذلك الرد ، إذ الرد كان لإزالة الضرر [ عنه ، ومع وجود العيب يلحق الضرر بالبائع ، والضرر لا يزال بالضرر ] .
1933 وعن علي رضي اللَّه عنه في رجل اشترى جارية فوطئها فوجد بها عيباً قال : لزمته ، ويرد البائع ما بين الصحة والداء ، وإن لم يكن وطئها ردها . لكنه ضعيف أيضاً ومن ثم قال الشافعي رحمه اللَّه : لا نعلمه يثبت عن عمر ولا علي . فعلى هذه الرواية يتعين للمشتري الأرش ، وعلى الأولى على المشتري مع الرد أرش النقص الحادث عنده ، وهو ما نقص المبيع المعيب بالعيب ، مثاله أن يقال في مسألتنا : كم قيمتها بكراً معيبة بالعيب القديم ؟ فإذا قيل : مائة . فيقال : وثيباً ؟ فإذا قيل : ثمانون . فما بينهما عشرون ، فهو الواجب ، وعلى هذا .
وعن أحمد رحمه اللَّه رواية أخرى أن الواجب في وطء البكر المهر ، مع أرش البكارة . واللَّه أعلم .
قال : إلا أن يكون البائع دلس العيب ، فيلزمه رد الثمن كاملاً .
ش : هذا استثناء مما إذا تعيب المبيع عنده ، فإنه على رأيه يرده مع الأرش ، واستثنى من ذلك إذا دلس البائع العيب ، أي كتمه وأخفاه ، فإن للمشتري الرد بلا أرش ، وإذاً يلزم البائع رد الثمن كاملاً ، وهذا هو المذهب المنصوص المعروف ، وقد نص الإمام على أن المبيع لو تلف عند المشتري والحال هذه ثم علم العيب رجع بالثمن كله ، ولا شيء عليه للتلف ، وبالغ ابن أبي موسى فقال في صورة الخرقي : له الرد قولاً واحداً ، ولا عقر عليه ، وذلك لأن البائع مع التدليس قد ورط المشتري وغره ، فاقتضى الحمل عليه ، وصالا كالغار بحرية أمة ، الضمان عليه بقضاء الصحابة ، فكذلك هنا ، ومال أبو محمد إلى وجوب الأرش والحال ما تقدم ، مستدلاً بحديث المصراة ، فإن الشارع جعل لبائعها بدل اللبن ، مع تدليسه وارتكابه النهي ، وبحديث ( الخراج بالضمان ) والمشتري والحال هذه له الخراج ، فيكون الضمان عليه لعموم الحديث ، وهذا هو الصواب ، وقد حكاه أبو البركات رواية ، وكذلك صاحب التلخيص ، لكنه إنما حكاها في التلف ، إذ المشتري لا يرجع إلا بالأرش ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك سائر المبيع .
ش : استعمل الخرقي رحمه اللَّه ( سائر ) هنا بمعنى ( باقي ) وهي اللغة الفصحى ، كما تقدم ، أي باقي المبيع حكمه حكم الأمة فيما تقدم ، في أنه إذا اطلع على عيب فيه ، خير بين الرد وبين الأرش ، [ وفي أنه إذا استغله أو فعل فيه فعلاً ليس بعيب ، لم يمنع ذلك من رده ] ، وفي أنه إذا تعيب عنده له الرد ، مع رد النقص الحادث عنده ، إلا مع التدليس فلا أرش عليه .
واعلم أن مذهب أبي بكر في التنبيه أن وطء الأمة يمنع الرد مطلقاً ، معللاً باحتمال أن تحمل منه ، وتعيب المبيع لا يمنع الرد ، فهو قول ثالث ، واللَّه أعلم .
قال : ولو باع المشتري بعضها ثم ظهر على عيب ، كان مخيراً بين أن يرد ملكه منها بمقداره من الثمن ، أو يأخذ أرش العيب بقدر ملكه فيه .
ش : إذا لم يعلم المشتري بالعيب حتى باع بعض المبيع ، فله أرش الباقي في ملكه بلا نزاع نعلمه ، فإذا باع النصف مثلاً ، كان له أخذ نصف الأرش ، وإن باع الربع كان له ثلاثة أرباع الأرش ، وهل له أرش ما باعه ؟ فيه روايتان مبنيتان على ما إذا باع الجميع ثم علم بالعيب ، هل له الأرش ، وهو اختيار القاضي ، وأبي محمد ، كما لو لم يبعه إذ الأرض بدل الجزء الفائت ، أو لا أرش له إلا أن يعود إليه ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، لتوقع العود ، أو لاستدراك ظلامته بالبيع ؟ فيه روايتان ، وهل له رد ما بقي من ملكه من المبيع ؟ فيه روايتان أيضاً ، بناهما القاضي ، وابن الزاغون ، وغيرهما على تفريق الصفقة ، قال أبو محمد عن القاضي : سواء كان المبيع عيناً واحدة أو عينين ، وابن الزاغوني مثل بالعينين ، وخص أبو محمد الخلاف بما إذا كان المبيع عينين لا ينقصهما التفريق ، كالعبدين ، والثوبين ، أما إن كان عيناً واحدة ، أو عينين لكن ينقصهما التفريق ، كزوجي خف ، ونحو ذلك ، فيمتنع عليه الرد ، دفعاً للضرر عن البائع ، لنقص المبيع والحال هذه بالتفريق ، إلا أن يكون البائع دلس المبيع ، فإن للمشتري الرد مطلقاً ، لأن نقص المبيع عنده مع التدليس لا أثر له .
قلت : الضرر يندفع عن البائع برد أرش نقص التشقيص ، وقد صرح بذلك صاحب التلخيص وإذاً فما قاله غيره أوجه .
وقول الخرقي : ولو باع المشتري بعضها . ( يحتمل ) أن يرجع الضمير إلى بعض السلعة المبيعة ، وعلى هذا شرح ابن الزاغوني ، وإذاً يكون اختيار الخرقي جواز رد الباقي ، وكذا حكى أبو محمد عنه ، وعلى هذا إن حصل بالتشقيص نقص رد أرشه من كلامه السابق ، إلا مع التدليس كما تقدم ( ويحتمل ) أن يرجع إلى بعض السلعة المدلسة ، وعلى هذا لا يكون في كلامه تعرض لرد الباقي ، فيما إذا كان المبيع غير مدلس .
وقد اقتضى كلام الخرقي أنه ليس له رد ما باعه ، وهو واضح ، نعم إذا عاد إليه ولو بعقد فله الرد إن لم يأخذ أرشه ، ولم يعلم بعيبه حين بيعه ، واللَّه أعلم .
قال : وإن ظهر على عيب بعد إعتاقه لها أو موتها في ملكه فله الأرش .
ش : إذا ظهر المشتري على عيب في السلعة المبيعة ، بعد أن تلفت تلفاً معنوياً كالإعتاق ، ونحوه الوقف ، والاستيلاد ، أو حسياً كالموت فله الأرش رواية واحدة ، لأنه كان له قبل ذلك ، والأصل البقاء ، وفارق البيع على رواية ، لعدم توقع العود ، وعدم استدراك الظلامة ، وهل له الفسخ ، والرجوع بالثمن ، وغرامة القيمة ؟ عامة الأصحاب على أنه ليس له ذلك ، ولأبي الخطاب تخريج بجواز ذلك ، كأنه من رواية تلف المبيع في مدة الخيار ، وفرق صاحب التلخيص بأن هنا يعتمد الرد ولا مردود ، وثم يعتمد الفسخ .
وظاهر كلام الخرقي أن أرش العبد المعتق يكون للمشتري ، ولا يلزمه صرفه في الرقاب ، وهو إحدى الروايتين وأصحهما ، إذ العتق إنما صادف الرقبة ، لا الجزء الفائت ، ( والثانية ) : يجب صرفه في الرقاب ، لأنه خرج عن الرقبة للَّه تعالى ، ظاناً سلامتها ، وذلك يقتضي خروجه عن هذا الجزء ، وأبو محمد يحمل هذه الرواية على الاستحباب ، والقاضي يحملها على ما إذا كان العتق كان واجب ، أما إن كان تبرعاً فالأرش له قولاً واحداً .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو حصل تصرف المشتري بالبيع ، أو العتق ، ونحوهما ، بعد العلم بالعيب ، أنه لا أرش له ، وهو المشهور عند الأصحاب ، لأنه قد رضي بالمبيع ، فسقط حقه من الأرش ، كما سقط من الرد بلا نزاع ، وحكى صاحب التلخيص [ عن بعض الأصحاب أن الأرش لا يمنع التصرف مطلقاً ، وأبو محمد يقول : إن هذا ] قياس المذهب ، كما لو اختار الإمساك والمطالبة بالأرش ، ولأن الأرش عوض الجزء الفائت بالعيب ، وذلك موجود مع التصرف .
( تنبيه ) : إذا لم يعلم بالعيب حتى خرجت السلعة المبيعة عن ملكه بهبة ، فهل له الأرش ؟ إن قلنا : فيما إذا باعها : له الأرش . فكذلك هنا ، وإن قلنا : لا أرش له ثم . فهنا روايتان مبنيتان على تعليل عدم الأرش في البيع ، فإن علل باستدراك الظلامة وجب هنا ، لعدم الاستدراك ، وإن علل بتوقع العود لم يجب هنا لذلك ، ومختار القاضي وأبي محمد الوجوب ، واللَّه أعلم .
قال : وإن ظهر على عيب يمكن حدوثه بعد الشراء وقبله حلف المشتري ، وكان له الرد أو الأرش .
ش : إذا ظهر المشتري على عيب يحتمل حدوثه بعد الشراء وقبله ، كالسرقة ، والإباق ، والخرق في الثوب ، ونحو ذلك ، ففيه روايتان مشهورتان ، ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي القول قول المشتري مع يمينه ، إذ الأصل عدم القبض في الجزء الفائت ، فكان القول قول من ينفيه ، كما لو اختلفا في قبض المبيع ، ( والثانية ) وهي أصوبهما واختيار القاضي في الروايتين ، وأبي الخطاب في الهداية القول قول البائع مع يمينه ، لأن الأصل السلامة ، وعدم استحقاق الفسخ ، فكان القول قول من يدعي ذلك ، ولو لم تحتمل الدعوى إلا قول المشتري كالإصبع الزائدة ، والجراحة المندملة عقب العقد ، ونحو ذلك فإن القول قوله بلا يمين ، للعلم بصدقه بلا نزاع ، وكذلك إن لم تحتمل إلا قول البائع كالجرح الطارىء الذي لا يحتمل كونه قديماً ، ونحو ذلك فإن القول قوله بلا يمين أيضاً لما تقدم .
( تنبيه ) : صفة يمين المشتري أن يحلف أنه اشتراه وبه هذا العيب ، أو أنه ما حدث عنده ، أما يمين البائع فعلى حسب جوابه ، إن أجاب أن هذا العيب لم يكن فيه حلف على ذلك ، وإن أجاب أنه ما يستحق علي ما يدعيه من الرد حلف على ذلك ، ويحلف على البت ، على المشهور من الروايتين ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى ما مأكوله في جوفه ، فكسره فوجده فاسداً ، فإن لم يكن له مكسوراً قيمة كبيض الدجاج رجع بالثمن على البائع ، وإن كان له مكسوراً قيمة كجوز الهند فهو مخير في الرد ، ويأخذ الثمن ، وعليه أرش الكسر ، أو يأخذ ما بين صحيحه ومعيبه .
ش : مناط هذه المسألة إذا اشترى ما لا يطلع على عيبه إلا بكسره ، كالذي ذكره الخرقي ونحوه ، فكسره فوجده معيباً ، هل له شيء ، أو لا شيء له ما لم يشترط سلامته ؟ فيه روايتان ، ( إحداهما ) لا شيء له ما لم يشترط سلامته ، اعتماداً على العرف ، إذ الناس في بياعاتهم على ذلك ( والثانية ) وهي المذهب بلا ريب له شيء ، نظراً إلى أن إطلاق العقد يقتضي السلامة من عيب لم يطلع عليه المشتري ، [ فاعتمد ذلك ] .
1934 ودليل هذا الأصل ما روي عن العداء رضي اللَّه عنه ، قال : كتب لي رسول اللَّه ( هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة ، من محمد رسول اللَّه ، اشترى منه عبداً أو أمة شك عباد أحد الرواة لا داء ، ولا غائلة ولا خبثة ، بيع المسلم ) رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وهذا يدل على أن بيع المسلم هذا حاله .
وعلى هذا لا يخلو إما أن يكون لمكسور ذلك قيمة ، أو لا قيمة له ، فإن لم يكن لمكسوره قيمة كبيض الدجاج ، والجوز الخرب ، قال أبو محمد : والبطيخ التالف فإنا نتبين فساد العقد ، لانتفاء شرطه وهو المنفعة ، وإذاً يرجع المشتري بالثمن كله .
وإن كان لمكسوره قيمة كجوز الهند ، وبيض النعام فإن كسره كسراً لا ينتفع به معه فقد أتلفه ، فيتعين له الأرش ، وإلا إن كان الكسر بقدر استعلام المبيع فهل ذلك بمنزلة العيب الحادث عنده ؟ يخرج فيه روايتيه ، أو ليس بعيب ، فيرده بلا أرش ، وهو اختيار القاضي ، لأنه لا يمكنه معرفة المبيع إلا بذلك ، مع أن البائع سلطه عليه ، أو له الرد مع الأرش ، وهو أعدل الأقوال ، واختيار أبي محمد ، وصاحب التلخيص ، ويشهد له قصة المصراة ، فإن النبي جعل المشتري الرد ، مع رد بدل ما تلف بيده من المبيع ، وهو اللبن ، مع تدليس البائع وغروره ، فهنا أولى ؟ على ثلاثة أقوال .
وإن كان كسراً يمكن استعلام المبيع بدونه ، فلا ريب أنه على الرواتين المتقدمتين ، فيما إذا عاب عنده ، نعم على قول القاضي في الذي قبله ، إذا رد هل يلزمه أرش الكسر أولا يلزمه إلا الزائد على استعلام المبيع ؟ محل تردد ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا باع عبداً وله مال قليلاً كان المال أو كثيراً فماله للبائع ، إلا أن يشترطه المبتاع ، إذا كان قصده العبد لا المال .
ش : إذا باع عبداً وله مال فماله للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع ، فيكون له بشرطه .
1935 لما روى ابن عمر رضي اللَّه عنه [ قال : سمعت رسول اللَّه يقول : ( من ابتاع نخلاً قد أبرت ، فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع ، ومن ابتاع عبداً له مال ، فماله للذي باعه ، إلا أن يشترط المبتاع ) ] رواه مسلم وغيره .
1936 وعن جابر رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه نحوه ، رواه أبو داود .
1937 وعن علي رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه قضى بذلك .
1938 وعن عبادة نحوه ، رواه البيهقي في سننه .
وشرط الخرقي لصحة اشتراط المبتاع مال العبد مطلقاً ، أن يكون قصده العبد لا المال ، لأن المال إذاً يدخل عن طريق التبع ، فلا تضر جهالته ولا غير ذلك ، كأساسات الحيطان ، لا يقال : فباشتراطه يدل على أنه مقصود ، لأنا نقول : المقصود بالشرط والحال هذه بقاء المال في يد العبد ، من غير التفات إلى المال ، وتحقيق ذلك ألا ترى أن الشارع جوز قرض الدراهم وغيرها ، مع أنه مفض إلى بيع دراهم بدراهم إلى أجل ، لكن لما كان القصد منه الرفق ، لا بيع دراهم بدراهم نسيئة ، لم يمنع منه ، أما إن كان قصده المال فإنه يشترط لصحة الشرط اشتراط شروط المبيع ، من العلم بالمال ، وكونه مع العوض المبذول لا يجري الربا بينهما ، وغير ذلك ، كما يشترط ذلك في العينين المبعتين ، لأنه إذاً بمنزلتهما .
واعلم أن من مذهب الخرقي رحمه اللَّه أن العبد لا يملك ، فكلامه خرج على ذلك ، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق ، وتبعهما أبو البركات ، أما إن قلنا : العبد يملك . فصرح أبو البركات بأنه يصح شرطه إن كان مجهولاً ، ولم يعتبر أبو محمد الملك ، بل أناط الحكم بالقصد وعدمه ، وزعم أن هذا منصوص أحمد والخرقي ، وفي نسبة ذلك إليهما نظر ، لاحتمال بنائهما على الملك كما تقدم ، وهو أوفق لكلام الخرقي ، ولمشهور كلام الإمام ، وحكى أبو محمد عن القاضي أنه رتب الحكم على الملك وعدمه ، فإن قلنا : يملك . لم يشترط ، وإن قلنا : لا يملك . اشترط ، وحكى صاحب التلخيص عن الأصحاب أنهم رتبوا الحكم على القصد وعدمه ، كما يقوله أبو محمد ، ثم قال : وهذا على القول بأن العبد يملك ، أما على القول بأنه لا يملك ، فيسقط حكم التبعية ، ويصير كمن باع عبداً ومالاً ، وهذا عكس طريق أبي البركات ، ثم يلزم منه التفريع على الرواية الضعيفة ، ويتلخص في المسألة أربع طرائق ، واللَّه أعلم .
قال : ومن باع حيواناً أو غيره بشرط البراءة من كل عيب لم يبرأ ، سواء علم به البائع أم لم يعلم .
ش : من باع شيئاً وشرط البراءة من كل عيب بأن يقول : بعتك وأنا بريء من كل عيب لم يبرأ ، وكذلك إن لم يعمم ولم يبين ، بأن قال : من عيب كذا إن كان فيه ، ولا فرق في ذلك بين علم البائع وعدمه ، على المنصوص والمختار للأصحاب من الروايات ، لأنه خيار ثبت شرعاً بمطلق العقد ، فلم يسقط بشرط الإسقاط ، الدليل عليه خيار الرؤية ، وخيار الفسخ عند انقطاع المسلم فيه في المحل ، ولأن في ذلك خطراً وغرراً ، وهما منفيان شرعاً .
( والرواية الثانية ) : إن علم البائع بالعيب وكتمه لم يبرأ ، لأنه إذاً مدلس مذموم .
1939 قال : ( ليس منا من غش ) وقال : ( من غش فليس مني ) .
وقال : ( المسلم أخو المسلم ، لا يحل لمسلم إن باع من أخيه بيعاً أن لا يبينه له ) وإن لم يعلم برىء ، لعدم ارتكابه الذم ، وتمهد عذره في ذلك .
1941 وبهذا قضى عثمان رضي اللَّه عنه ، ففي الموطأ أن ابن عمر باع غلاماً له بثمانمائة درهم ، وباعه بالبراءة ، فقال الذي ابتاعه : بالغلام داء ولم يسمه ، فاختصما إلى عثمان رضي اللَّه عنه ، فقال الرجل : باعني عبداً وبه داء ولم يبينه لي . فقال ابن عمر : بعته بالبراءة ، فقضى عثمان على ابن عمر باليمين ، أن يحلف له : لقد باعه الغلام وما به داء يعلمه . فأبي عبد اللَّه أن يحلف له ، وارتجع العبد ، فباعه عبد اللَّه بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم ، ومثل هذا يشتهر ولم ينكر ، فينزل منزلة الإجماع ، مع أن مالكاً قد حكاه إجماعاً لهم ، فقال : الأمر المجتمع عليه عندنا في من باع عبداً أو حيواناً بالبراءة ، فقد برىء من كل عيب ، إلا أن يكون علم في ذلك عيباً فكتمه ، فإن كان علم عيباً فكتمه لم تنفعه تبرئته ، وكان ما باع مردوداً عليه ، ( وعن أحمد ) رضي اللَّه عنه صحة البراءة من المجهول ، فخرج من ذلك أبو الخطاب وأتباعه صحة هذا الشرط ، لأن أحمد رحمه اللَّه علل الرواية بالجهالة ويستدل لهذا التحريم بعموم ( المسلمون عند شروطهم ) ونحو ذلك .
1942 وبدليل الأصل ، وهو ما روي أن رجلين اختصما في مواريث درست إلى رسول اللَّه ، فقال رسول اللَّه ( استهما وتوخيا الحق ، وليحلل كل منكما صاحبه ) انتهى . ( فعلى المذهب ) يلغو الشرط ، ويصح العقد ، وخرج أبو الخطاب أيضاً ومن تبعه قولاً ببطلانهما ، من الرواية في الشروط الفاسدة ، وفرق القاضي في المجرد بأن إطلاق العقد يقتضي عدم الرد ، إذ الأصل السلامة ، واشتراط عدم الرد شرط من مقتضى العقد ، وكأنه اشتراه بغير شرط البراءة ، وقد أصاب به عيباً ، فيخير بين الإمساك والرد . ( وعلى الثانية ) لو ادعى المشتري أن البائع علم بالعيب ، وإنما اشترط البراءة تدليساً ، فالقول قول البائع مع يمينه ، ولا تفريع على الثالثة .
ونص الخرقي على الحيوان لينبه على مذهب الغير .
( تنبيه ) ليس منصوص المسألة : بعتك على أن به عيب كذا ، وأنا بريء منه ، بل هنا يصح الشرط ، كما لو قال : وبه هذا العيب ، وأوقفه عليه ، واللَّه أعلم .
قال : ومن باع سلعة بنسيئة ، لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به .
ش : أي نقداً ، بقرينة ذكر النسيئة أولاً .
1943 وذلك لما روى الدارقطني بسنده إلى أبي إسحاق السبيعي ، عن امرأته ، أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم ، فقالت : يا أم المؤمنين إني بعت غلاماً من زيد بثمانمائة درهم نسيئة ، وإني ابتعته منه بستمائة نقداً ، فقالت لها عائشة رضي اللَّه عنها : بئس ما اشتريت ، وبئس ما شريت ، إن جهاده مع رسول اللَّه قد بطل إلا أن يتوب . ومثل هذا لا يقال قياساً ، إنما يقال توقيفاً ، وأيضاً ما تقدم من سد الذرائع ، إذ ذلك وسيلة إلى بيع ثمانمائة بستمائة إلى أجل ، وإنه لا يجوز .
1944 ومن ثم يروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في مثل ذلك أنه قال : أرى مائة بخمسين بينهما حريرة .
1945 وقد روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : سمعت رسول اللَّه يقول : ( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد سلط اللَّه عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم ) رواه أبو داود وقد فسر أبو عبيد الهروي العينة بما تقدم .
وقيل : بالجواز ، كما لو كان الشراء بعد قبض ثمنه بدونه ، أو قبله بمثله أو أكثر ، ونحو ذلك ، وينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يكن حيلة ، أما إن قصد الحيلة ابتداء فإن العقدين يبطلان ، وقول الشافعي رحمه اللَّه : إن كان هذا ثابتاً أي ما روي عن عائشة فتكون عابت عليه بيعاً إلى العطاء ، لأنه أجل غير معلوم ، بناء منه على أن في بعض الروايات : إني بعته جارية إلى العطاء . مردود بأن في رواية أخرى قالت : أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ؟ قالت عائشة رضي اللَّه عنها : 19 ( { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى } ) وهذا دليل على أنها رضي اللَّه عنها رأت أن ذلك ربا ، وعابته لذلك ، ( وقوله أيضاً ) : إن زيداً خالفها ، وإن القياس معه ، فقوله أولى . معترض بأنه لم ينقل أنه خالفها بعد إنكارها عليه ، والظاهر أنه لم يكن عنده علم بالمسألة ، فاعتمد على الأصل في الإذن في البيع ، وإذاً فتوعد عائشة رضي اللَّه عنها على استمراره على ذلك ، ولا نعلم أن القياس معه ، بل القياس المنع ، اعتماداً على [ قاعدة سد الذرائع ، ثم لا نسلم أن موافقة القياس تقتضي ترجح قوله ، بل العكس ، إذ من ] خالف القياس الظاهر أن قوله عن توقيف ، ومن ثم قال بعض العلماء : إن قول الصحابي إذا خالف القياس حجة ، بخلاف ما إذا لم يخالفه . انتهى .
والخرقي رحمه اللَّه ترجم المسألة بقوله : ومن باع سلعة إلى آخره ، اكتفاء بالمعتاد في ذلك ، وتمام ترجمتها ( بأن يشتري ما باعه نقداً ، هو أو وكيله ، من مشتريه ، بدون ما باعه به نسيئة ، قبل قبض ثمنه ، مع بقاء صفته ) ( فنقداً ) يخرج ما لو كان البيع بعرض والشراء بنقد ، أو بالعكس ، أو البيع بعرض والشراء بآخر ، فإنه يجوز إذ لا ربا بين الأثمان والعروض ، ولا بين عرضين ، ( وهو أو وكيله ) يخرج ما لو كان المشتري أباه أو ابنه ، ونحو ذلك ، فإنه يجوز ، وفيه تصريح بأن فعل الوكيل كفعل الموكل ، و ( من مشتريه ) يخرج ما لو اشتراه من غيره ، بعد انتقاله إليه ، ونحو ذلك ، فإنه يجوز ، و ( بدون ما باعه به ) يخرج ما إذا باعه بمثله أو أزيد ، فإنه يجوز ، ويخرج ما إذا باعه بجنس كالدراهم مثلاً واشتراه بجنس آخر ، كالدنانير ، فإنه يجوز على قول الأصجاب ، كما لو اشتراه بعرض ، وأبو محمد يختار المنع ، لأن النقدين كالجنس الواحد في معنى الثمنية ، و ( نسيئة ) هو أحد شقي المسألة ، أن يبيع نقداً ويشتري نسيئة ، و ( قبل قبض ثمنه ) يخرج ما إذا باعه بعد قبض الثمن ، فإنه يجوز ، و ( مع بقاء صفته ) يخرج ما إذا تغيرت صفته بما ينقصه ، فإنه يجوز شراؤه بأقل مما باع به ، أما لو تغيرت بزيادة فبطريق التنبيه لا يجوز ، ويفهم من تغير الصفة أنه لا أثر لتغير السعر .
( تنبيه ) : عكس هذه المسألة إذا كان البيع حالاً ، والشراء بأكثر مما باعها به نسيئة ، وفي ذلك روايتان ، حكاهما أبو العباس ( إحداهما ) ونص احتمال لأبي محمد الجواز ما لم يكن حيلة ، نظراً لأصل حل البيع ، خرج منه الصورة المتقدمة ، وهذه لا تساويها ، لندرة وقوعها ، فتبقى على الأصل ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا باع شيئاً مرابحة ، فعلم أنه زاد في رأس المال ، رجع عليه بالزيادة وحظها من الربح .
ش : المرابحة البيع برأس المال وربح معلوم ، نحو : بعتك برأس مالي وربح عشرة . أو : على أن أربح في كل عشرة درهماً ، وهو ( ده يازده ) ويشترط للصحة في الصورتين معرفة البائع والمشتري لرأس المال حال العقدين ، فلو جهلا أو أحدهما لم يصح .
إذا عرف هذا ، وتبايعا كذلك ، ثم علم المشتري بعد ذلك ببينة أو إقرار أن البائع زاد في رأس المال ، كأن كان رأس المال تسعين ، فأخبر أنه مائة فإن المشتري يرجع عليه بالزيادة لأن البائع التزم له البيع برأس المال بحظها من الربح ، لأن العشرة مثلاً إذا سقطت يسقط ما يقابلها ، لأنه إنما ثبت تبعاً لها ، ولأبي محمد احتمال في : وربح عشرة . أن المشتري لا يرجع بشيء من الربح ، لأن البائع إنما رضي بإخراجها عن ملكه بهذا الربح . انتهى .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار للمشتري والحال هذه ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار صاحب التلخيص فيه ، لأنه ازداد خيراً ، إذ من رضي بمائة وعشرة مثلاً ، يرضى بتسعة وتسعين ، ( والثانية ) : له الخيار . لاحتمال أن له غرضاً في الشراء بالثمن الأول ، لتحلة قسم ، أو وفاء بعهد ، ونحو ذلك ، ثم مع ظهور خيانة البائع يزول ائتمان المشتري له في الثمن الثاني ، واللَّه أعلم .
قال : وإن أخبر بنقصان من رأس ماله ، كان للمشتري ردها أو إعطاؤه ما غلط به .
ش : إذا باع مرابحة ثم أخبر بنقصان من رأس المال مثل أن يخبر أن رأس ماله مائة ، ثم يدعي أن رأس ماله إنما هو مائة وعشرة ، وأنه غلط فيما أخبر به أولاً فهل ( القول قوله ) وهو ظاهر قول الخرقي ، لأن البائع لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه ، والقول قول الأمين ، ( أو لا يقبل قوله ) إلا أن يكون معروفاً بالصدق ، لترجح قوله إذاً ، بخلاف ما إذا لم يكن معروفاً بذلك ، فإن الظاهر كذبه ، فيلغى قوله ، ( أو لا يقبل إلا ببينة ) ، لأن مجرد قوله الثاني يعارضه قوله الأول ، فيتساقطان ، بخلاف ما إذا كان مع الثانية بينة ، فإنه يترجح بها ، وهذا اختيار أبي محمد ، وحمل كلام الخرقي عليه ، مدعياً أن الخرقي إنما لم يذكر ذلك لأنه عطفه على قوله قبل : فعلم أنه زاد في رأس المال . والعلم يكون ببينة أو إقرار ، كذلك هنا . ( أو لا يقبل قوله ) وإن أتى ببينة ، لتكذيبه لها ظاهراً ؟ أربع روايات .
فعلى الأولى إن صدق المشتري البائع فلا يمين عليه ، وإن كذبه فعليه اليمين ، كغيره من الأمناء ، وهذه اليمين تستفاد من قول الخرقي بعد : وكل من قلنا : القول قوله . فلصاحبه عليه اليمين . وصفة هذه اليمين كما قاله أبو الخطاب : إني غلطت ، وشراؤها علي كذا ، لأنه يحلف على فعل نفسه ، فيمينه على البت ، وكذلك الحكم على الثانية إن كان معروفاً بالصدق ، وإلا فدعواه ملغاة رأساً إن لم يكن له بينة ، وكذلك تلغى دعواه على الثالثة إن لم يكن له بينة ، وكذلك على الرابعة مطلقاً ، بقي إذا لم يقبل مجرد قوله ، فادعى أن المشتري يعلم غلطه ، فأنكر ، فإن القول قوله ، لإنكاره ، وهل ذلك مع يمينه ، وهو رأي أبي محمد ، أو لا يمين عليه ، وهو رأي القاضي لأنه مدع ، واليمين على المدعى عليه ؟ على قولين ، ورد قول القاضي بأنه والحال هذه مدعى عليه .
إذا عرف هذا فحيث ثبت أنه أخبر بنقصان إما بتصديق المشتري له ، وإما بقوله ، أو ببينة ، ونحو ذلك فإن المشتري يخير بين إعطاء البائع ما غلط به ، لأن بيعه كان برأس ماله ، ورأس ماله قد ثبت أنه كذلك ، فإن لم يعطه كان له الفسخ ، وبين الرد ، لأنه لم يرض بالزائد ، نعم إن رضي البائع بترك الزيادة فلا رد له .
ولم يذكر الخرقي رحمه اللَّه أن البائع والحال هذه يرجع على المشتري بحظ ما غلط به من الربح ، وكذا أبو الخطاب في الهداية ، وصاحب التلخيص فيه ، وأبو البركات ، وقال أبو محمد : يرجع بحظ ذلك من الربح ، فإذا قال : وربح درهم في كل عشرة . رجع بدرهم ، إذا كان الغلط بعشرة ، وكذلك إن قال : وربح عشرة . وكان ما أخبر به أولاً مائة ، وله احتمال في هذه الصورة فقط ، أنه لا يرجع بشيء ، لرضاه في السلعة بربح عشرة ، واللَّه أعلم .
قال : وله أن يحلفه أنه وقت ما باعها لم يعلم أن شراءها أكثر من ذلك .
ش : حيث ثبت أن البائع أخبر بنقصان إما بقوله ، أو ببينة ، ونحو ذلك فادعى عليه المشتري أنه وقت البيع كان عالماً أن شراءها أكثر مما أخبر به ، فإن دعواه تسمع ، لأن البائع لو أقر بذلك لزم البيع في حقه بما أخبر به ، أولاً ، لرضاه به ، وتعاطي سببه ، فهو كمشتري المعيب عالماً بعيبه ، ثم إن أقر البائع بذلك لزم البيع بما حصل الإخبار به أولاً ، لما تقدم ، وإن أنكر بأن قال : ما علمت ذلك . ونحوه فللمشتري أن يحلفه على حسب جوابه ، فإن حلف فلا كلام ، وإن نكل ، أو أقر قضي عليه ، واللَّه أعلم .
قال : وإن باع شيئاً واختلفا في ثمنه تحالفا .
ش : إذا اختلف المتبايعان في ثمن المبيع كأن قال البائع : بعته بمائة . مثلاً ، وقال المشتري : إنما اشتريته بخمسين . ونحو ذلك فإن كانت لأحدهما بينة حكم بها ، وإلا تحالفا ، على المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايات .
1946 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي قال ( لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ) متفق عليه واللفظ لمسلم .
1947 وللبيهقي ( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ) وكل من المتبايعين مدع ومنكر ، إذ البائع في مثالنا يدعي فضل الثمن ، والمشتري ينكره ، والمشتري يدعي السلعة بأقل ، والبائع ينكره ، وإذاً يحلف كل واحد منهما على ما أنكره ، عملاً بعموم الحديث .
1948 وللبيهقي في سننه عن ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن [ الفقهاء من ] أهل المدينة ، كانوا يقولون : إذا تبايع الرجلان واختلفا في الثمن تحالفا ، فأيهما نكل لزمه القضاء ، فإن حلفا فالقول قول البائع ، وخير المبتاع ، إن شاء أخذ بذلك الثمن ، وإن شاء ترك ، وقد زعم أبو محمد أن في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود الآتي ( إذا اختلف المتبايعان ، والسلعة قائمة ، ولا بينة لأحدهما تحالفا ) ( والثانية ) القول [ قول ] البائع مع يمينه ، حكاها ابن أبي موسى ، وابن المنذر ، وزاد : ويترادان البيع .
1949 لما روى ابن مسعود رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه : ( إذا اختلف المتبايعان ، وليس بينهما بينة ، فالقول ما يقول صاحب السلعة ، أو يترادان ) رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وفي رواية ( أو يتتاركان ) وفي أخرى ( فالقول ما قال البائع ، والمبتاع بالخيار ) وفي أخرى لأحمد والنسائي عن أبي عبيدة ، وأتاه رجلان تبايعا سلعة ، فقال هذا : أخذت بكذا وكذا ، وقال هذا : بعت بكذا وكذا . فقال أبو عبيدة : أتي عبد اللَّه في مثل هذا ، فقال : حضرت النبي في مثل هذا ، فأمر بالبائع أن يُسْتَحْلَفَ ، ثم يخير المبتاع ، إن شاء أخذ ، وإن شاء ترك . ولم أر في شيء من ألفاظ الحديث ( تحالفاً ) .
وهذه الرواية ، وإن كانت خفية مذهباً ، فهي ظاهرة دليلاً ، اعتماداً على هذا الحديث ، لا يقال : هذا الحديث منقطع ، كما قال الشافعي رحمه اللَّه ، وكذا قال ابن عبد البر [ وغيره : إن فيه انقطاعاً . لأنا نقول : لما تعددت طرقه ، تقوى بعضها ببعض ، ودل ذلك على أن له أصلاً ، وقد قال ابن عبد البر ] : هو محفوظ ، مشهور ، أصل عند جماعة العلماء ، تلقوه بالقبول ، وبنوا عليه كثيراً من فروعه ، قد اشتهر عنهم بالحجاز ، والعراق ، شهرة يستغنى بها عن الإسناد .
1950 كما اشتهر حديث ( لا وصية لوارث ) انتهى .
ويشهد لذلك أيضاً ( من جهة المعنى ) أن السلعة كانت للبائع ، والمشتري يدعي نقلها بعوض ، والبائع ينكره إلا بالعوض الذي عينه ، والقول قول المنكر ، وعدم الرضى إلا بذلك ، ( ومن جهة المذهب ) إذا اختلف المكاتب وسيده في عوض الكتابة : القول قول السيد . على رواية مرجحة عند البعض .
وما ذكر للرواية الأولى فغايته أنه عموم ، على أنه قد يمنع أن كلاً منهما ، منكر ، بل قد يقال : البائع هو المنكر للنقل بالعوض الذي ذكره المشتري ، أو المنكر هو المشتري ، لأن حقيقة ما يدعي عليه قدر رأس المال ، وهو ينكره .
( والثالثة ) : حكاها أبو الخطاب في الإنتصار : إن كان قبل القبض تحالفا ، لما تقدم أولاً ، وإن كان بعده فالقول قول المشتري ، لاتفاق البائع والمشتري على حصول الملك له ، ثم البائع يدعي عليه عوضاً ، والمشتري ينكر بعضه ، والقول قول المنكر ، واللَّه أعلم .
قال : فإن شاء المشتري أخذه بعد ذلك بما قال البائع ، وإلا انفسخ البيع بينهما .
ش : هذا تفريع على المذهب من أنهما يتحالفان ، وإذاً هل ينفسخ البيع بينهما بنفس التحالف ، وهو المنصوص ، على ما زعم ابن الزاغوني ، لأن المقصود من التحالف رفع العقد ، فاعتمد ذلك أوْ لا ينفسخ بذلك ، وهو المشهور ، والمعروف ، والمختار للخرقي ، وابن أبي موسى وأبي الخطاب ، والشيخين وغير واحد ، لأنه عقد صحيح ، فتنازعهما لا يقتضي فسخه ، كما لو أقام كل منهما بينة ؟ على قولين ، وعلى الثاني إن شاء المشتري الأخذ بما قال البائع أخذ به ولا فسخ ، لما تقدم من حديث ابن مسعود ، وكذلك إن رضي البائع بما حلف عليه المشتري .
وإن امتنعا من ذلك فهل ينفسخ البيع بمجرد إبائهما ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، أو لا ينفسخ بذلك ، وهو المعروف عند الشيخين وغيرهما ؟ على قولين ، وعلى الثاني : هل يفتقر الفسخ إلى حاكم ؟ وهو احتمال لأبي الخطاب في الهداية ، وقطع به ابن الزاغوني ، لوقوع الخلاف في ذلك ، أو لا يفتقر إلى ذلك ، بل لكل منهما الفسخ ، وهو مختار الشيخين وغيرهما ، لما تقدم من حديث ابن مسعود ( أو يترادان البيع ، أو يتتاركان البيع ، ثم يخير المبتاع ، إن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ) وفي الحديث أن الأشعث بن قيس قال لعبد اللَّه بن مسعود وكانا اختلفا في ثمن مبيع : فإني تارك لك البيع ؟ على قولين ، واللَّه أعلم .
قال : والمبتدي باليمين البائع .
ش : لما قال رحمه اللَّه : إن البائع والمشتري يتحالفان . فلا بد من أن أحدهما يبدأ باليمين ، فقال : إن المبتدىء بها هو البائع ، وذلك لتساويهما من حيث الإنكار ، وترجح البائع لكون العين ترجع إليه بعد التحالف ، ومن نكل منهما عن اليمين ، أو عن بعضها قضي عليه .
( تنبيه ) صفة اليمين أن كلا منهما يحلف يميناً واحدة ، يجمع فيها بين النفي والإثبات ، فيحلف البائع : ما بعته بكذا ، وإنما بعته بكذا ، أو ما بعته إلا بكذا . ثم يحلف المشتري : ما اشتريته بكذا ، وإنما اشتريته بكذا . أو : ما اشتريته إلا بكذا ، لأن كلا منهما مدع ومدعى عليه ، فالإثبات لدعواه ، والنفي لما ادعي عليه ، ثم هل يبدأ بالنفي ، وهو المشهور ، لدفع قول الخصم ، أو بالإثبات ، لإثبات دعواه ابتداء ؟ على وجهين ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كانت السلعة تالفة تحالفاً .
ش : يعني أنه لا فرق بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة ، أنهما يتحالفان ، وهذا إحدى الروايتين ، ( والثانية ) وهي أنصهما ، واختيار أبي البركات : إن كانت السلعة باقية تحالفاً ، وإن كانت تالفة فالقول قول المشتري مع يمينه .
1951 لأن في حديث ابن مسعود في رواية ابن ماجه ( والبيع قائم بعينه ) وفي رواية لأحمد ( والسلعة كما هي ) ومفهومه أن السلعة إذا تلفت لا يكون القول قول البائع ، وإذاً يكون قول المشتري ، لأن حقيقة ما يدعى عليه قدر رأس المال ، وهو ينكر بعضه ، والقول قول المنكر ، وقد صرح بذلك الدارقطني في رواية فقال ( إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع ، فإذا استهلك فالقول ما قال المشتري ) وهذا نص .
والرواية الأولى اختيار الخرقي والأكثرين ، لأن المشهور والصحيح من الرواية في الحديث ما تقدم ، وهذه الرواية قد ضعفت ، من قبل أن راويها محمد بن أبي ليلى ، وهو سيء الحظ ، ورواية الدارقطني فيها الحسن بن عمارة ، وهو متروك .
1952 ثم يعارضه ما روى الدارقطني أيضاً في الحديث عن عبد اللَّه عن النبي قال : ( إذا اختلف البيعان ، والمبيع مستهلك ، فالقول قول البائع ) لكنه من رواية عبد اللَّه بن عصمة ، وهو ضعيف ، انتهى .
واعلم أن هذه الرواية المنصورة ، وقد أخذها القاضي في روايتيه من إطلاق أحمد أن المتبايعين إذا اختلفا تحالفاً ، ولم يفرق ، وعلى هذا من يخص عام كلام إمام بخاصه تكون المسألة عنده رواية واحدة ، في أن القول مع التلف قول المشتري . ثم اعلم أن أبا محمد ينصر الرواية المنصورة عند الأصحاب ، لكن يقول : ينبغي أن قيمة السلعة إذا كانت مساوية للثمن الذي ادعاه المشتري ، أن القول قول المشتري مع يمينه ، لعدم الفائدة في يمين البائع ، وفسخ البيع ، إذ حاصله يرجع إلى ما ادعاه المشتري ، وله فيما إذا كانت القيمة أقل احتمالان ( أحدهما ) : كالأول ، إذ لا فائدة للبائع في الفسخ ، بل وفيه ضرر عليه ( والثاني ) يشرع التحالف ، لحصول الفائدة للمشتري ، واللَّه سبحانه أعلم .
قال ورجعا إلى قيمة مثلها ، إلا أن يشاء المشتري أن يعطي الثمن على ما قاله البائع .
ش : يعني إذا كانت السلعة تالفة وتحالفا فإن شاء المشتري أن يعطي الثمن عل ما قال البائع ، وإلا انفسخ البيع بينهما على ما قاله الخرقي ، وإذاً يرجع كل منهما إلى ما خرج عنه ، والذي خرج عن المشتري هو الثمن ، فيرجع فيه ، إن كان قد قبض ، والذي خرج عن البائع هو السلعة ، وقد تعذر الرجوع فيها ، فيرجع في بدلها وهو القيمة ، فإن تساويا ، وكانا من جنس واحد ، تقاصا وتساقطا ، وإلا سقط الأقل ، ومثله من الأكثر ، هذا المشهور والمعروف .
ومثال ابن المنجا : إن كلام أبي الخطاب أن القيمة إن زادت على الثمن أن المشتري لا تلزمه الزيادة ، لأنه قال : المشتري بالخيار بين دفع الثمن الذي ادعاه البائع ، وبين دفع القيمة ، وذلك لأن البائع لا يدعي الزيادة ( قلت ) : وكلام أبي الخطاب ككلام الخرقي ، وليس فيه أن ذلك بعد الفسخ ، بل هذا التخيير مصرح به بأنه بعد التحالف ، وليس إذ ذاك فسخ ، ولا شك أن المشتري والحال هذه مخير على المشهور كما تقدم عند قيام السلعة ، فكذلك عند تلفها ، والذي قاله ابن المنجا كأنه بحث لصاحب النهاية ، فإنه حكى عنه بعد ذلك أنه قال : وجوب الزيادة أظهر لأن بالفسخ سقط اعتبار الثمن .
وقد بحث أبو العباس ذلك أيضاً فقال : يتوجه أن لا تجب قيمته إلا إذا كانت أقل من الثمن ، أما إن كانت أكثر فهو قد رضي بالثمن ، فلا يعطى زيادة ، لاتفاقهما على عدم استحقاقها ، قال : كما قلنا مثل هذا في الصداق ولا فرق ، إلا أن هنا انفسخ العقد الذي هو سبب استحقاق المسمى ، بخلاف الصداق ، فإن المقتضي لاستحقاقه قائم . واللَّه أعلم .
قال : فإن اختلفا في صفتها فالقول قول المشتري مع يمينه في الصفة .
ش : أي إذا تحالفا ورجعا إلى قيمة السلعة ، فإن اتفقا على قيمتها فلا كلام ، وإن اختلفا في صفتها ، والصفة ليست عيباً كالسمن والكتابة ونحوهما فالقول قول المشتري مع يمينه ، بلا نزاع نعلمه ، لأنه غارم ، والقول قول الغارم ، واعتماداً على أصل براءة الذمة ، ثم الأصل عدمها ، وإن كانت عيباً ، كالبرص ، والخرق في الثوب ، ونحو ذلك ، فهل القول قول المشتري ، وهو المشهور ، وظاهر كلام الخرقي ، لما تقدم من أنه غارم ، أو قول البائع في نفي ذلك ، لأن الأصل عدمها ؟ فيه وجهان ، وملخص الأمر أنه قد تعارض أصلان ، فخرج قولان ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يجوز بيع الآبق .
ش : لأنه بيع غرر ، وإنه منهي عنه شرعاً ، والنهي يقتضي الفساد .
1953 ودليل النهي ما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه نهى عن بيع الغرر .
1954 على أن في المسند ، وسنن ابن ماجه ، عن أبي سعيد : نهى رسول اللَّه عن بيع ما في بطون الأنعام ، وعما في ضروعها إلا بكيل ، وعن شراء الغنائم حتى تقسم ، وعن شراء الصدقات حتى تقبض ، وعن شراء العبد وهو آبق ، وعن ضربة الغائص . إلا أن فيه كلاماً ، ومن ثم قال البيهقي : هذا وإن لم يثبت فكله داخل في بيع الغرر ، [ قلت وهذا صحيح ، إذ الغرر ] على ما فسره القاضي من أصحابنا [ وغيره ] ما تردد بين جائزين ، ليس هو في أحدهما أظهر ، والآبق كذلك ، لأنه متردد بين الحصول والعدم ، وكلام الخرقي شامل لآبق يعلم خبره أو لا يعلم ، وهو كذلك ، واللَّه أعلم .
قال : ولا الطائر قبل أن يصاد .
ش : لأن ذلك من الغرر المتقدم ، وقد دخل في كلام الخرقي المملوك وغير المملوك ، وما يألف العود أو لا يألفه ، وهو كذلك .
وقوله : قبل أن يصاد ، يخرج منه ما إذا صيد [ وهو واضح ، ثم : ما صيد . يدخل فيه ما صيد ] ببرج ونحوه ، وقد اختلف في بيع الطائر في البرج ، فأجازه أبو محمد ، بشرط كون الباب مغلوقاً ، إناطة بالقدرة على التسليم ، وشرط القاضي مع ذلك إمكان أخذه بسهولة ، فإن لم يمكن أخذه إلا بتعب ومشقة لم يجز ، لأن قدر ذلك غير معلوم ، واللَّه أعلم .
قال : ولا السمك في الآجام .
ش : لما تقدم أيضاً .
1955 وقد روي عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا تشتروا السمك في الماء ، فإنه غرر ) رواه الإمام أحمد ، لكن قال البيهقي : إن فيه انقطاعاً .
وقوله : في الآجام . يخرج منه ما إذا كان بيده ونحوه ذلك ، كأن كان في بركة معدّة للصيد ، وعرف إما برؤيته كما إذا رؤي في الماء لصغر البركة ، ونحوها ، وأمكن أخذه ، صح بيعه ، لانتفاء المحذور ، وهو عدم القدرة على التسليم ، نعم إن كان في أخذه كلفة ومشقة خرج فيه ما تقدم من الخلاف في الطائر في البرج ، وأبو محمد هنا يسلم أن البركة إذا كانت كبيرة ، وتطاولت المدة في أخذه ، أنه لا يجوز بيعه ، للجهل بوقت إمكان التسليم ، واللَّه أعلم .
قال : والوكيل إذا خالف فهو ضامن ، إلا أن يرضى الآمر فيلزمه .
ش : أما ضمان الوكيل إذاً فلأنه خرج بمخالفته من حيز الأمانة ، إلى حيز الخيانة ، وإذاً يضمن ، لتعديه وظلمه ، وأما زوال الضمان عنه برضى الآمر فلأن الضمان كان لمخالفته ، وبرضى الآمر كأن المخالفة قد زالت .
هذا من حيث الجملة ، أما من حيث التفصيل فمخالفة الوكيل تارة تكون في أصل ما وكل فيه ، كأن يوكله في شراء عبد ، فيشتري ثوباً ، أو في بيع عبده زيد ، فيبيع عبده سعيداً ، ونحو ذلك ، فهذا لا إشكال في ضمان ما فوته على المالك ، لعدم موافقته المأمور بوجه ، ثم ينظر فإن كان البيع لأعيان مال الموكل ، أو الشراء بعين ماله ، لم يصح تصرفه ، على الصحيح المشهور من الروايتين ، لارتكابه النهي .
1956 بدليل حديث حكيم بن حزام : نهاني رسول اللَّه أن أبيع ما ليس عندي . وفي لفظ ( لا تبع ما ليس عندك ) رواه البخاري وغيره ، أي ما ليس في ملكك .
1957 بدليل ما في سنن البيهقي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول اللَّه أرسل عتاب بن أسيد إلى أهل مكة ( أن أبلغهم عن أربع خصال ، إنه لا يصلح شرطان في بيع ، [ ولا بيع وسلف ] ، ولا بيع ما لم يملك ، ولا ربح ما لم يضمن ) .
( والثانية ) يقع التصرف موقوفاً على إجازة مالكه ، إن أجازه جاز ، وإن رده بطل .
1958 لحديث عروة بن أبي الجعد البارقي ، أن النبي أعطاه ديناراً ليشتري به شاة ، فاشترى له به شاتين ، فباع إحداهما بدينار ، وجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه ، فكان لو اشترى التراب لربح فيه ، رواه البخاري وغيره .
وإن كان الشراء في الذمة فهل ذلك كما لو كان الشراء بالعين ، تجري فيه الروايتان ، وهو قول القاضي في روايتيه ، أو يصح هذا في الجملة بلا خلاف ، وهو المعروف المشهور ؟ على طريقتين للأصحاب ، وعلى الثاني : هل من شرط الصحة أن لا يسمي الموكل في العقد ، وهو رأي القاضي ، وأبي البركات ، أو لا يشترط ذلك ، وهو رأي أبي محمد ؟ وفيه قولان ، وحيث حكم بالصحة فإن رضي الموكل بذلك التصرف لزمه ، وزال الضمان عن الوكيل ، فيما دفعه من مال ونحو ذلك ، وإلا لزم الوكيل ما اشتراه ، وعليه ضمان الثمن إن كان قد نقده ، وعلى هذه الصورة يحمل كلام الخرقي ، انتهى .
وتارة يخالف الوكيل في صفة ما وكل فيه ، فهذا إن شهد العرف أن مخالفته كلا مخالفة لم تضر ، وذلك كأن يوكله في بيع شيء بمائة ، فيبيعه بمائة وعشرة ، أو بدرهم فيبيعه بدينار ، على أحد الوجهين ، لحصول المقصود بالدرهم من الدينار من كل وجه ، بخلاف العرض ، أو يأمره بالبيع نساء ، أو الشراء حالاً ، فيبيع حالاً ، أو يشتري نسيئة ، ولا ضرر على الموكل في حفظ الثمن ، وعن القاضي أنه لم يشترط نفي الضرر ، أو يأمره بالبيع بثمن في سوق ، فيبيع به في آخر ، لعدم تعلق الغرض به غالباً ، بخلاف ما لو قال : بعه لزيد ، فباعه لعمرو ، فإنه لا يصح لتعلق عرضه بذلك غالباً ، انتهى .
وإن لم يشهد العرف بذلك لكن يمكن تدارك ما حصل من الضرر عن الموكل ، مثل أن يوكله في بيع شيء بمائة ، أو شراء شيء بخمسين فيبيع بخمسين ويشتري بمائة ، ونحو ذلك ، فهذا هل يصح ويضمن الوكيل الزيادة والنقص ، لتفريطه ، ومخالفته ، وهو المنصوص ، لزوال الضرر عن الموكل ، ولا يلزم من زوال الوصف زوال الأصل ، أو لا يصح ، وهو اختيار أبي محمد في المغني ، وبه جزم صاحب التلخيص ، وقال : إنه الذي تقتضيه أصول المذهب ، ويحكى رواية ، لأنه مع مخالفته خرج عن حيز الأمانة ، فصار بمنزلة الأجنبي ، أو يصح البيع ولا يصح الشراء ، لئلا يلزم العوض لغير من حصل له المعوض ، وهذا المحذور فائت في البيع وهو الذي قطع به أبو محمد في المقنع ؟ على ثلاثة أقوال ، انتهى .
وإن لم يشهد العرف بذلك ، ولم يمكن التدارك ، كما تقدم فيما إذا أمره بالبيع لزيد فباع لعمرو ، ونحو ذلك ، فإنه لا يصح قولاً واحداً ، واللَّه أعلم .
قال : وبيع الملامسة والمنابذة غير جائز .
ش : المراد هنا بالجواز الصحة ، وبعدمه البطلان ، وإنما لم يصحا للنهي عنهما ، المقتضي للفساد شرعاً .
1959 ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه نهى عن الملامسة والمنابذة ، وفي رواية لمسلم ( أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه ، بغير تأمل ، والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر ، ولم ينظر كل واحد منهما ثوب صاحبه ) .
1960 وفي الصحيحين عن أبي سعيد نحوه ، متناً وتفسيراً ، والمنع من ذلك كان لاختلال شرط في المبيع ، وهو العلم به ، وقد فسر أيضاً بأن يقول : أي ثوب لمسته فهو علي بكذا ، أو أي ثوب نبذته فهو علي بكذا ، وهنا يجتمع مفسدان ، الجهالة ، والتعليق على شرط ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك بيع الحمل في البطن دون الأم .
ش : أي غير جائز ، وقد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك .
1961 وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، أن رسول اللَّه نهى عن بيع حبل الحبلة ، وكان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية ، يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ، وتنتج التي في بطنها .
1962 وروى مالك عن ابن شهاب ، أن سعيد بن المسيب كان يقول : 16 ( لا ربا في الحيوان ، وإن رسول اللَّه إنما نهى في بيع الحيوان عن ثلاث ، المضامين والملاقيح ، وحبل الحبلة ، فالمضامين ما في بطون إناث الإبل ، والملاقيح ما في ظهور الجمال ) ، والنهي عن ذلك لعدم العلم بالمبيع ، وانتفاء القدرة على التسليم .
وقول الخرقي : دون الأم . احترازاً مما إذا باعه مع أمه ، فإنه يصح ، تبعاً لأمه ، كأس الحيط ، ويدل هذا من كلامه على أن للحمل حكماً ، وأنه يأخذ قسطاً من الثمن ، وهو التحقيق ، واختيار أبي محمد وغيره ، وعن القاضي أنه لا حكم له وبيان ذلك ، وما يتفرع عليه له محل آخر .
( تنبيه ) : ( حبل الحبلة ) بفتح الباء فيهما على الصحيح رواية ولغة ، والحبل مصدر : حبلت المرأة . بكسر الباء : تحبل . بفتحها ، إذا حملت ، والحبلة جمع حابل كظالم وظلمة ، وأصل الحبل في بنات آدم ، والحمل في غيرهن ، قاله أبو عبيد ، وقد فسر ابن عمر ذلك ، وإلى تفسيره صار الفقهاء ، وقال المبرد : حبل الحبلة حمل الكرمة قبل أن تبلغ ، والحبلة الكرمة ، بسكون الباء وفتحها ( والمضامين ، والملاقيح ) قد فسرهما سعيد بن المسيب ، قال الشافعي : الملاقيح ما في بطون الإناث ، والمضامين ما في ظهور الجمال . وكذا فسره أبو عبيد وغيره ، واللَّه أعلم .
قال : وبيع عسب الفحل غير جائز .
ش : عسب الفحل ضرابه ، وبيع ذلك وكذلك إجارته لذلك لا تصح ، للنهي عن ذلك .
1963 ففي البخاري عن ابن عمر أن النبي نهى عن عسب الفحل .
1964 وفي مسلم : نهى النبي عن ضراب الفحل ، ولأنه لا يتحقق تسليم ذلك ، لأنه معلق باختيار الفحل وشهوته .
ولابن عقيل احتمال : يجوز إجارته لذلك ، لأنها منفعة مقصودة ، والغالب حصول النزو ، فيكون ذلك مقدوراً عليه ، وجوز أبو محمد دفع الأجرة دون أخذها ، لاحتياج الدافع إلى ذلك .
1965 ولأن النبي أعطى الحجام .
1966 وقال : ( إن كسبه خبيث ) وفيما قاله نظر ، لأنه إن سلم أن الخبيث المحرم فالمراد بالكسب الأجرة ، والنبي لم يدفع إليه ذلك أجرة ، وإلا يلزم أنه أعانه على المعصية ، وهو ممتنع قطعاً ، وإنما دفع إليه ما دفعه على سبيل البر والصلة .
وقد بالغ إمامنا رحمه اللَّه ، فمنع أن يعطى صاحب الفحل شيئاً على سبيل الهدية ونحوها ، وقوفاً على ما ورد ، وقال : لم يبلغنا أن النبي أعطى في مثل هذا شيئاً ، كما بلغنا في الحجام ، وقد قرر القاضي ذلك ، وقال : إنه مقتضى النظر ، لكن ترك في الحجام للنص ، فيبقى فيما عداه على مقتضى المنع ، وأبو محمد حمل كلام الإمام أحمد على التورع ، وجوز الدفع إليه على سبيل الهدية ونحوها .
1967 لما روي عن أنس رضي اللَّه عنه أن رجلاً من بني كلاب سأل رسول اللَّه عن عسب الفحل ، فنهاه عن ذلك ، فقال : يا رسول اللَّه إنا نطرق ونكرم ، فرخص في الكرامة ، رواه الترمذي ( قلت ) : وهذا الحديث الظاهر أنه لم يثبت عند الإمام ، واللَّه سبحانه أعلم .
قال : والنجش منهي عنه .
ش : هذا مما لا ريب فيه .
1968 فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه قال : ( لا تتلقوا الركبان ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، ولا تناجشوا ، ولا يبع حاضر لباد ) .
1969 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، قال : نهى رسول اللَّه عن النجش ، والنجش أن تعطيه بسلعته أكثر من ثمنها ، وليس في نفسك شراؤها ، فيقتدي بك غيرك .
1970 وقال ابن أبي أوفى : الناجش آكل ربا ، خائن ، وهو خداع باطل لا يحل . ذكره البخاري تعليقاً .
وظاهر كلام الخرقي رحمه اللَّه أن البيع مع النجش صحيح ، لأنه قال : والنجش منهي عنه ، وقال فيما تقدم : غير جائز ، وهذا هو المذهب المشهور ، لأن النهي لحق آدمي معين ، ويمكن تداركه ، فأشبه تلقي الركبان ، وبيع المدلس ، ونحو ذلك ، وقيل عن أحمد رواية أخرى ، أن البيع باطل تغليباً لحق اللَّه تعالى في النهي ، وقال أبو محمد : إن هذا اختيار أبي بكر ، والذي في التنبيه : أن النجش لا يجوز .
وفي المذهب قول ثالث ، صححه ابن حمدان : إن نجش البائع ، أو واطأ على ذلك بطل البيع ، وهذا القول خرجه صاحب التلخيص من قول أبي بكر ، في إبطال البيع بتدليس العيب ، وهو يؤيد رد ما حكاه عنه أبو محمد من البطلان مطلقاً ، انتهى ، ووجه هذا القول أن البائع أحد ركني العقد ، فارتكابه النهي يفسد البيع ، بخلاف الأجنبي .
وإذا صح البيع فحيث غر المشتري وذلك بأن كان جاهلاً بالقيمة ، فغبن غبناً يخرج عن العادة ثبت له الخيار ، نص عليه ، دفعاً للضرر عنه المنفي شرعاً ، أما إن كان عارفاً بالقيمة فلا خيار له ، لأنه الظالم لنفسه بتفريطه .
والخرقي رحمه اللَّه لم يتعرض للخيار ، فيحتمل أنه لم ير ذلك ، كما هو قول بعض أهل العلم ، لأنه فرط ، حيث اشترى ما لا يعرف قيمته ، واللَّه أعلم .
قال : وهو أن يزيد في السلعة ، وليس هو مشترياً لها .
ش : هذا تفسير النجش ، وإذاً يغر المستام ، وهو نحو تفسير ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، وهو حرام وخداع ، كما قال ابن أبي أوفى ، وقد زاد بعض أصحابنا في تفسيره فقال : ليغر الغر . وهو حسن ، لأن غير الغر وهو العارف بالقيم لا يغتر بمثل ذلك ، وإن اغتر فذلك لعجلته ، وعدم تأمله ، وأصل النجش قيل : الإستثارة والاستخراج ، ومنه سمي الصائد ناجشاً ، لاستخراجه الصيد من مكانه ، فالزائد في السلعة كأنه استخرج من المستام في ثمن السلعة ما لا يريد أن يخرجه ، وقيل : أصل النجس مدح الشيء وإطراؤه ، والناجش يغر المشتري بمدحه ، ليزيد في الثمن ، انتهى ، وحكم زيادة المالك في الثمن كأن يقول : أعطيت في هذه السلعة كذا . وهو كاذب حكم نجشه ، واللَّه أعلم .
قال : فإن باع حاضر لباد فالبيع باطل .
ش : الحاضر المقيم في المدن والقرى ، والبادي المقيم بالبادية ، والمراد هنا بالبادي على ما قال أبو محمد من يدخل البلدة من غير أهلها ، وإن كان من قرية أو من بلدة أخرى ، والحاضر المقيم في البلد ، ولا ريب أن النبي نهى عن بيع الحاضر للبادي .
1971 فعن جابر رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه ( لا بيع حاضر لباد ، دعوا الناس يرزق اللَّه بعضهم من بعض ) رواه مسلم والترمذي ، وأبو داود والنسائي .
1972 وعن أنس رضي اللَّه عنه ، قال : نهى رسول اللَّه أن يبيع حاضر لباد ، وإن كان أخاه لأبيه وأمه .
1973 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه ( لا تلقوا الركبان ، ولا يبع حاضر لباد ) متفق عليهما .
1974 وروي أيضاً ذلك من حديث ابن عمر ، وأبي هريرة ، وطلحة بن عبيد اللَّه وإنما نهى عن ذلك واللَّه أعلم لأنه متى ترك القادم يبيع سلعته اشتراها الناس منه برخص ، وتوسع عليهم السعر ، بخلاف ما إذا توفى الحاضر بيعها ، فإنه لا يبيعها غالباً إلا بغلاء ، وإذاً يحصل الضرر لأهل البلد ، وقد أشار النبي في تعليله إلى ذلك .
ولما كان هذا المعنى وجوده في أول الإسلام أكثر ، لما كان عليهم من الضيق ، اختلف العلماء في بقاء النهي ، وعن إمامنا رحمه اللَّه في ذلك روايتان ( إحداهما ) زواله ، وقال : كان ذلك مرة . ( والثانية ) وهي المشهورة عنه ، وعليها الأصحاب بقاؤه ، لعمومات النهي ، ووجود المعنى إذاً ، فعلى الأولى لا تفريع ، أما على المذهب فإذا باع الحاضر لهم ، فهل يبطل البيع بشرطه ، وبه قطع الخرقي ، اعتماداً على النهي لاقتضائه فساد المنهي عنه ، ولأن الضرر لا يمكن تداركه لأنه لآدمي غير معين ، بخلاف تلقي الجلب ، أولا يبطل ، لأن النهي لمعنى يتعلق بعين المعقود عليه ، وهو النظر لأهل البلد ، لمقصود التوسعة ، فهو كتلقي الركبان ، نظراً لحق الجالبين ، لكن ثبت الخيار ثم ، لاختصاص الضرر بالعاقد ، وهنا غلاء السعر عام ؟ على روايتين ، وجعل ابن المنجا الصحة على القول بزوال النهي ، والبطلان على القول ببقائه ليس بشيء ، إنما الروايتان على القول بالبقاء .
ومقتضى كلام الخرقي صحة الشراء للبادي ، وهو كذلك ، لأن النهي إنما ورد عن البيع ، لمعنى يختص به ، وهو الرفق بأهل الحضر ، وهذا غير موجود في الشراء للبادي ، إذ لا يتضرر الحاضر إذا لم يغبن البادي ، والخلق في نظر الشارع على السواء .
( تنبيه ) : هل للحاضر أن يشير على البادي ، من غير أن يباشر العقد ؟ مال أبو محمد إلى جواز ذلك .
1975 اقتداء بطلحة بن عبيد اللَّه ، فإنه قال لباد سأله أن يبيع له : إن رسول اللَّه نهى أن يبيع حاضر لباد ، ولكن اذهب إلى السوق ، فإن جاءن من يبايعك فشاورني ، حتى آمرك وأنهاك .
1976 ( قلت ) : وقد روى البيهقي في سننه عن جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه : ( ادعوا الناس يرزق اللَّه بعضهم من بعض ، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه ) وهذا نص إن صح ، واللَّه أعلم .
قال : وهو أن يخرج الحضري إلى البادي وقد جلب السلع ، فيعرفه السعر ، ويقول : أنا بيع لك بكذا ، فنهى رسول اللَّه عن ذلك ، وقال ( دعوا الناس يرزق اللَّه بعضهم من بعض ) .
ش : أي بيع الحاضر للبادي الذي قد نهى عنه رسول اللَّه ، والذي هو باطل هو هذا ، وهو ( أن يخرج الحضري إلى البادي ) أي ليبيع له ، فإن كان القاصد هو البادي لم يكن للحاضر أثر في الفعل ، وإذاً يصح البيع ، ويزول النهي ، وعموم الأحاديث وهو الذي فهمه طلحة ابن عبيد اللَّه يقتضي عدم اشتراط ذلك انتهى ( وأن يكون ) البادي جلب السلع ، أي للبيع لا للخزن ونحو ذلك ، [ لأن المنع كان لأجل التوسعة ، ومع قصد الخزن ونحو ذلك التوسعة في ترغيبه في البيع ] ( وأن يكون ) البادي جاهلاً بالسعر ، والحاضر عارفاً به ، ليعرفه إياه ، لأنه إذا كان عارفاً بالسعر لم يزده الحاضر على ما عنده شيئاً ، وحكى ابن أبي موسى رواية بالبطلان وإن عرف البادي السعر ، ورواية بالبطلان أيضاً وإن جهل الحاضر السعر .
وزاد القاضي وغيره شرطين آخرين ( أحدهما ) أن يريد البادي البيع بسعر اليوم ، فإن كان قصده البيع بسعر معلوم ، كان المنع من البيع من جهته ، لا من جهة الحاضر ، وزاد بعضهم في هذا الشرط : أن يقصد البيع بسعر اليوم حالاً لا نسيئة . ( الشرط الثاني ) أن يكون بالناس حاجة إليها ، لأن مع عدم حاجتهم التوسعة مستغنى عنها ، وهذه الشروط الخمسة شروط للبطلان والنهي ، متى فقد واحد منها صح البيع ، وزال النهي ، واللَّه سبحانه أعلم .
قال : ونهى عن تلقي الركبان .
1977 ش : الأصل في ذلك ما روى ابن عمر أن رسول اللَّه نهى عن تلقي السلع حتى يهبط بها الأسواق .
1978 وعن ابن عباس : نهى رسول اللَّه أن تتلقى الركبان ، ولا يبيع حاضر لباد . متفق عليهما .
1979 وفي الصحيح أيضاً نحو ذلك عن ابن مسعود ، وأبي هريرة .
( تنبيه ) : يجوز تلقي الجلب في أعلى السوق ، قاله أبو محمد ، لأن في حديث ابن عمر : أن رسول اللَّه نهى أن تتلقى السلع حتى يهبط بها إلى السوق . واللَّه أعلم .
قال : فإن تلقوا واشترى منهم فهم بالخيار إذا دخلوا السوق ، وعرفوا أنهم قد غبنوا ، إن أحبوا أن يفسخوا البيع فسخوا .
ش : إذا تلقيت الركبان فاشترى منهم ، فهل يصح البيع ، وهو المذهب المنصوص المقطوع به .
1980 لما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا تلقوا الجلب ، فمن تلقاه فاشترى منه شيئاً فصاحبه بالخيار إذا جاء السوق ) روه مسلم ، وأبو داود والترمذي . ولأن الحق في النهي لآدمي معين ، أمكن تداركه ، وبهذا فارق الحاضر للبادي ، والبيع في وقت النداء ، أو لا يصح ، اعتماداً على عامة الأحاديث في النهي المطلق ؟ على روايتين .
وعلى المذهب للركبان الخيار إذا هبطوا السوق ، ورأوا أنهم قد غبنوا ، على ظاهر الحديث ، وقول عامة الأصحاب ، ولم يشترط ذلك بعض المتأخرين ، بل العلم بالغبن لأن دخول السوق في الحديث حيلة واللَّه أعلم بمعرفة الغبن ، فإذا عرف قبل ثبت له الخيار .
وشرط ثبوت الخيار بالغبن أن يكون فاحشاً ، يخرج عن العادة على المذهب ، وقدره بعض الأصحاب بالسدس ، وبعضهم بالثلث ، والخرقي رحمه اللَّه أطلق الغبن فيحتمل أنه اكتفى بمجرد الغبن ، ويحتمل أن يكون موافقاً للأصحاب ، إذ الغبن إذا لم يخرج عن العادة لم يطلق عليه في العرف غبن .
وحكم البيع لهم حكم الشراء منهم ، إذ الخديعة موجودة فيهما ، وإذاً الخرقي إنما ذكره الشراء لأنه الغالب .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أن الحكم مخصوص بقصد التلقي ، فلو خرج بغير قصد ، فوافقهم فاشترى منهم ، لم يحرم عليه ذلك ، وهو احتمال لأبي محمد ، وقال القاضي : لا فرق بين القصد وعدمه في امتناع الشراء منهم ، إذ النهي دفعاً للخديعة والغبن عنهم ، وهذا موجود وإن لم يقصد التلقي .
( تنبيه ) : المعنى في النهي عن التلقي واللَّه أعلم أن المتلقي غالباً إما أن يكذب في سعر البلد ، وإذاً يكون غارّاً غاشّا ، أو يسكت فيكون مدلساً خادعاً ، أما إن صدق في سعر البلد ، فهل يثبت للركبان الخيار ، لعموم النهي أو لا يثبت لانتفاء الخديعة ؟ فيه احتمالان واللَّه أعلم .
قال : وبيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب ، لأنه وسيلة إلى المحرم ، والوسيلة إلى المحرم محرمة بلا ريب ، وإذاً يبطل البيع لارتكاب المحرم ، قال جل وعلا 19 ( { وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ) .
1981 وفي السنن أن النبي لعن الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وشاربها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وساقيها ، وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها .
وفي المذهب قول آخر : يصح البيع مع التحريم ، وشرط البطلان على البائع قصد المشتري ذلك ، إما بقوله ، أو بقرائن دلت على ذلك ، أما إن ظن ذلك ولم يتحققه فإن البيع يصح مع الكراهة ، قاله صاحب التلخيص ، وحكم ما كان وسيلة إلى المحرم كذلك ، كبيع السلاح للبغاة ، أو لأهل الحرب ، أو الجارية للغناء ، أو الأقداح والخبز والفواكه والمشموم والشموع لمن يشرب عليها المسكر ، والبيض للقمار ، والحرير لمن يحرم عليه ، ونحو ذلك ، أما بيع السلاح من أهل العدل لقتال البغاة ، وقطاع الطريق ، فجائز ، واللَّه أعلم .
قال : ويبطل البيع إذا كان فيه شرطان ، ولا يبطله شرط واحد .
ش : يبطل البيع بشرطين في الجملة .
1982 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، عن النبي أنه قال : ( لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا بيع ما ليس عندك ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، ولا يبطل بشرط واحد ، لمفهوم ما تقدم .
1983 وللحديث الصحيح ( من باع نخلاً مؤبرة فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترط المتباع ) .
1984 قال الإمام أحمد رحمه اللَّه : إنما نهى رسول اللَّه عن شرطين في البيع ، قال : وحديث جابر يدل على إباحة الشرط ، حين باعه جملة ، واستثنى ظهره إلى المدينة ، ويستثنى من ذلك على رأي الخرقي جز الرطبة فقط ، وما في معناها على ما تقدم .
وعموم كلام الخرقي يدخل فيه الشرط الفاسد ، فلا يفسد البيع به ، وهو إحدى الروايتين ، وقد تقدم ذلك أيضاً .
( تنبيه ) : اختلف في الشرطين المبطلين للعقد ، فعن القاضي في المجرد أنهما شرطان مطلقاً ، أي سواء كانا صحيحين أو فاسدين ، من مصلحة العقد أو من غير مصلحته ، زاعماً أن هذا ظاهر كلام أحمد ، ومعتمداً على إطلاق الحديث ، وكذلك قال ابن عقيل في التذكرة ، معللاً بأن اشتراط الشرطين يفضي إلى اشتراط الثلاثة ، وما لا نهاية له ، وعن أحمد أنه فسرهما بشرطين صحيحين ، ليسا من مصلحة العقد ، كأن يشتري حزمة حطب ، ويشترط على البائع حملها وتكسيرها ، أو ثوباً ويشترط خياطته وتفصيله ، ونحو ذلك ، لا ما كان من مصلحته ، كالرهن ، والضمين ، فإن اشتراط مثل ذلك لا يؤثر ، وإن كثر ، ولا ما كان من مقتضاه بطريق الأولى ، ولا الشرطين الفاسدين ، إذ الواحد كاف في البطلان ، وهذا اختيار الشيخين ، وصاحب التلخيص ، والقاضي في شرحيه ، وغالى أبو محمد فقال : إن ما كان من مقتضى العقد كاشتراط تسليم المبيع ، وحلول الثمن ، لا يؤثر فيه بلا خلاف . وعن الإمام أنه فسرهما بشرطين فاسدين ، وكذلك بعض الأصحاب ، وضعفه صاحب التلخيص ، بأن الواحد يؤثر في العقد ، فلا حاجة إلى التعدد ، ويجاب بأن الواحد في تأثيره خلاف ، أما الشرطان فلا خلاف في تأثيرهما ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا قال : أبيعك بكذا ، على أن آخذ منك الدينار بكذا ، لم ينعقد البيع ، وكذلك إن باعه بذهب ، على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه .
ش : إذا شرط عقداً في عقد ، مثل أن باعه شيئاً بدراهم ، وشرط أن يصارفه عن الدراهم بدنانير معلومة : أو بذهب وشرط أن يأخذ دراهم ، أو باعه داره على أن يبيعه داره الأخرى ، أو على أن يبيعه المشتري داره ، أو على أن يؤجرها له ، ونحو ذلك ، فالمذهب المشهور أن العقد يبطل .
1985 لما روي أبو هريرة رضي اللَّه عنه ، أن النبي نهى عن بيعتين في بيعة ، رواه الترمذي وصححه ، قال إمامنا : هذا معناه . ولما تقدم في حديث عبد اللَّه بن عمرو ( لا يحل سلف وبيع ) وفي المذهب قول آخر ، حكاه أبو محمد ، تخريجاً من الشروط المنافية لمقتضى العقد ، كأن لا يبيع ، ولا يهب ، وأبو البركات حكاه رواية : يصح العقد ، ويبطل الشرط ، كما ثبت ذلك بالنص في شرط الولاء .
واعلم أن الخرقي رحمه اللَّه قال قبل : إن البيع لا يبطله شرط واحد ، وقال هنا بالبطلان ، فيحتمل أن مذهبه أن كل الشروط الفاسدة تبطل البيع ، ويكون ما تقدم مراداً به الشرط الصحيح ، ويحتمل أن يخص البطلان بهذا الشرط وما في معناه من اشتراط عقد في عقد .
( تنبيه ) : للعلماء في تأويل بيعتين في بيعة تأويل آخر ، قاله مالك ، والشافعي وغيرهما ، وهو أن يقول بعتك بعشرة نقداً ، أو بعشرين نسيئة ، أو بعتك بدينار ، أو بعشرة دراهم ، ونحو ذلك ، وهذا أيضاً لا يصلح على المذهب ، لعدم العلم بالمبيع ، وخرج أبو الخطاب في الهداية صحة ذلك ، من رواية : إن خطته اليوم فلك درهم ، وإن خطته غداً فلك نصف درهم ، وتردد أبو محمد في التخريج ، وفرق على البيع بأن العقد ثم تمكن صحته ، لكونه جعالة ، تحتمل فيها الجهالة ، وبأن العمل الذي يستحق به الأجرة لا يقع إلا على إحدى الصفتين ، فتتعين الأجرة المسماة عوضاً ، فلا تنازع ، بخلاف هنا ، وفي كليهما نظر ، لأن العلم بالعوض في الجعالة شرط ، كما هو في الإجارة ، والبيع والقبول أيضاً في البيع لا يقع إلا على إحدى الصفتين فيتعين ما سمي لها ، واللَّه أعلم .
1986 ش : لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي قال : ( من ولي ليتيم مالاً فليتجر به ، ولا يدعه حتى تأكله الصدقة ) رواه الترمذي .
1987 وروي نحوه عن عمر رضي اللَّه عنه ، قال علماء الحديث : وهو أصح من المرفوع .
1988 وعن القاسم رضي اللَّه عنه ، قال : كانت عائشة تزكي أموالنا وإنها لتتجر بها في البحرين . ولأن ذلك أحظ لليتيم ، لكون نفقته تكون في ربحه ، والولي يفعل الأحظ ، ويشعر هذا التلعيل بأن شرط الاتجار به كونه في المواضع الآمنة ، ولا بد من ذلك ، وحكم الأب والحاكم ، وأمينه حكم الوصي بل أولى ، وظاهر كلام أبي محمد في المغني أو صريحه أن ذلك على سبيل الجواز والندبية ، لا على سبيل الوجوب ، إلا لا يجب على الولي أن يحصل له نفعاً ، بل الواجب عليه أن لا يضره ، وأورد على هذا إذا وهب له من يعتق عليه ، ولا تلزمه نفقة ، أنه يجب على الولي القبول ، ويجاب بأن هنا محض مصلحة ، من غير ضرر ما ، بخلاف ما تقدم ، فإن على الولي ضرراً في تفويت منافعه . واللَّه أعلم .
قال : ولا ضمان عليه .
ش : أي إذا اتجر الوصي بمال اليتيم ، فخسر المال أو تلف ، فلا ضمان عليه ، لأنه فعل ما أذن له فيه ، أشبه ما لو أحرزه في حرز مثله فتلف ، ونحو ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : والربح كله لليتيم .
ش : لأنه نماء ملكه ، فكان له ، كبقية أملاكه ، وليس للولي من ذلك شيء ، لأنه إنما يكون له ذلك بعقد ، وليس له أن يعقد مع نفسه ، لقوة التهمة عليه في ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : فإن أعطاه لمن يضارب له به فللمضارب من الربح ما وافقه عليه الوصي .
ش : للوصي أن يدفع المال إلى من يتجر فيه ، كما لو أن يتجر فيه بنفسه .
1989 وقد روي عن عمر رضي اللَّه عنه أنه فعل ذلك وله أن يجعل للمدفوع إليه جزءاً من الربح ، لأن ذلك مما يعد في العرف [ مصلحة ] و [ تصرف ] الولي منوط بالمصلحة ، واللَّه أعلم .
قال : وما استدان العبد فهو في رقبته ، يفديه سيده ، أو يسلمه ، فإن جاوز ما استدان قيمته لم يكن على سيده أكثر من قيمته ، إلا أن يكون مأذوناً له في التجارة ، فيلزم مولاه جميع ما استدان .
ش : للعبد في استدانته ونحوها حالتان ( إحداهما ) أن يكون مأذوناً له في التجارة ، فهذا ما استدانه كبيع أو قرض ونحوهما ( هل يلزم سيده ) ؟ وهو المشهور من الروايات واختيار الخرقي ، والقاضي ، وأبي الخطاب ، وغيرهم لأنه أغرى الناس بمعاملته ، بإذنه فيها ، أشبه ما لو قال : داينون .
1990 ولعموم ما روي عن جابر رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال : ( من باع عبداً وله مال ، فله ماله وعليه دينه ، إلا أن يشترط المبتاع ) رواه البيهقي في سننه ، وقال : هذا إن صح فالمراد العبد المأذون له في التجارة . ( أو برقبة العبد ) ؟ لأنه القابض للمال ، المتصرف فيه ، أشبه غير المأذون له . ( أو بذمة السيد ) لإذنه ، ( ورقبة العبد ) لقبضه المال ؟ على ثلاث روايات ، وبنى أبو العباس الروايتين الأولتين على أن تصرفه مع الإذن هل هو لسيده فيتعلق ما أدانه بذمته كوكيله ، أو لنفسه فيتعلق برقبته ؟ على روايتين . انتهى . ومحل الخلاف فيما ثبت ببينة ، أو بإقرار السيد ، أما ما أنكره السيد ، ولا بينة به ، فإنه يتعلق بذمة العبد إن أقر به ، وإلا فهو هدر .
وعموم كلام الخرقي وكثير من الأصحاب يقتضي جريان الخلاف [ وإن كان في يده مال ، ويؤيد إرادة ذلك ما حكاه أبو محمد ، بعد حكاية الخلاف ] عن مالك ، والشافعي رحمهما اللَّه ، أنهما قالا : إن كان في يده مال قضي دينه منه ، وإلا تعلق بذمته ، ومقتضى ذلك أنا نخالفهما في ذلك ، ثم إذا قلنا : إنه كالوكيل . فإن العهدة تتعلق بالموكل الذي هو السيد هنا ، وإن كان له في يد موكله مال ، وجعل ابن حمدان محل الخلاف فيما إذا عجز ما في يده عن الدين .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : حكم ما استدانه أو اقترضه بإذن سيده حكم ما استدانه حيث أذن له في التجارة ، قاله في المغني ، وقطع في التلخيص والبلغة بلزومه للسيد ، وكذا قال أبو العباس ، وهو ظاهر كلام المجد ( الثاني ) : قال أبو محمد وتبعه ابن حمدان : لا فرق في الذي استدانه بين أن يكون في [ الذي ] أذن له فيه ، أو في الذي لم يأذن له فيه ، كأن يأذن له في التجارة في البر مثلاً ، فيتجر في غيره ، إناطة بتغرير السيد ، وفيه نظر .
( الحالة الثانية ) العبد غير المأذون له ، ولتصرفه حالتان أيضاً ( إحداهما ) : أن يتصرف في عين المال ، إما لنفسه أو للغير ، فهذا كالغاصب ، أو كالفضولي ، على ما هو مقرر في موضعه ( الثانية ) أن يتصرف في الذمة ، فهل يصح تصرفه ، إلحاقاً له بالمفلس ، إذ الحجر عليه لحق غيره وهو السيد ، أو لا يصح إلحاقاً له بالسفيه ، إذ أهليته ناقصة ، وإذن السيد مكمل لها ؟ فيه قولان ، حكاهما أبو محمد ، وصاحب التلخيص وجهين ، وأبو البركات روايتين ، فعلى الأول ما اشتراه أو اقترضه ، إن وجد في يده انتزع منه ، لتحقق إعساره ، قاله أبو محمد وصاحب التلخيص ، وغيرهما ، وإن أخذه سيده لم ينتزع منه على المشهور ، لأنه وجده في يد مملوكه بحق ، أشبه ما لو وجد في يده صيداً ونحو ذلك ، واختار صاحب التلخيص جواز الانتزاع منه ، معللاً بأن الملك واقع للسيد ابتداء ، وإن تلف بيد السيد لم يضمنه ، ثم هل يتعلق ثمنه برقبة العبد ، أو بذمته ، على الخلاف الآتي ؟ وكذلك إن تلف بيد العبد ، ومقتضى كلام أبي البركات أنه لا ينتزع ولو كان بيد العبد ، وأن الثمن يتعلق بذمته بلا نزاع ، ويظهر قوله إن علم البائع أو المقرض بالحال ، أما إذا لم يعلم فيتوجه قول الأكثرين ، وعلى الثاني وهو بطلان التصرف يرجع مالك العين في عينه حيث وجدها ، فإن تلفت في يد العبد فهل تتعلق قيمتها برقبته كجناياته ، وهو المشهور ، واختيار الخرقي ، وأبي بكر ، أو بذمته ، يتبع بها إذا عتق ، حذاراً من تضرر السيد .
1991 ولعموم ما روى ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن الفقهاء التابعين من أهل المدينة ، قال : كانوا يقولون : دين المملوك في ذمته . رواه البيهقي في سننه ، أو إن علم رب العين بكونه عبداً فلا شيء له ، لأنه المتلف لماله ، نص عليها في رواية حنبل ، معللاً بما تقدم ؟ على ثلاث روايات ، وإن تلفت بيد السيد فكذلك ، على مقتضى كلام المجد وقال أبو محمد ، وصاحب التلخيص ، وغيرهما : يرجع إن شاء على السيد ، وإن شاء على العبد ، ثم إن أبا محمد مال إلى رقبته ، ومال صاحب التلخيص وابن حمدان إلى ذمته .
وحيث علق شيء من ذلك برقبة العبد ، فإن سيده يخير بين تسليمه أو فدائه ، فإن سلمه برىء ، وإن لم تف قيمته بالحق ، أما إن سلم فبيع ، وفضلت من ثمنه فضلة عن أرش جنايته ، فهل تكون لسيده وهو اختيار أبي محمد ، أو للمجني عليه وهو ظاهر كلام الإمام ، على ما قاله القاضي ؟ فيه قولان ، وإن فداه وكذا إن أعتقه فهل يلزمه أرش الجناية ، بالغة ما بلغت ، أو لا يلزمه إلا الأقل من قيمته ، أو أرش جنايته ، وهو المشهور ؟ على روايتين ، واللَّه أعلم .
قال : وبيع الكلب باطل ، وإن كان معلماً .
1992 ش : لما في الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغي وحلوان الكاهن .
1993 وقال ( ثمن الكلب خبيث ) رواه مسلم .
1994 وأصرح منها ما في سنن البيهقي وقد جود إسناده عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه : ( لا يحل ثمن الكلب ، ولا حلوان الكاهن ، ولا مهر البغي ) .
وقول الخرقي : وإن كان معلماً . لأن بعض العلماء أجاز بيع المعلم دون غيره ، وإليه ميل بعض المتأخرين من أصحابنا .
1995 لأن في رواية لأبي هريرة ( إلا كلب الصيد ) وكذلك في حديث لجابر ، لكنهما ضعيفان ، قال البيهقي : الثابت عن النبي خال من هذا الاستثناء والاقتناء ، ونحو ذلك قال الدارقطني وغيره ، واللَّه أعلم .
قال : ومن قتله وهو معلم فقد أساء .
ش : فسر أبو محمد رحمه اللَّه ( أساء ) بالتحريم ، وذلك لأنه حيوان يباح اقتناؤه ، والانتفاع به ، فحرم إتلافه كالشاة .
1996 ولعموم ( لا ضرر ولا ضرار ) وكذلك حكم كل كلب يباح اقتناؤه ككلب الماشية والزرع ، لا لحفظ البيوت على الأشهر ، أما ما لا يباح اقتناؤه ، ولا أذى فيه ، فقال أبو محمد : لا يباح قتله . ويحتمله كلام الخرقي في المحرم في قوله : وله أن يقتل الحدأة ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور ، وكل ما عدا عليه ، أو آذاه ، ولا فداء عليه .
1997 لما روى جابر رضي اللَّه عنه ، قال : أمرنا رسول اللَّه بقتل الكلاب ، حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها ، فنقتله ، ثم نهى عن قتلها ، وقال : ( عليكم بالأسود البهيم ، ذي النقطتين ، فإنه شيطان ) رواه مسلم .
وقوة كلام الخرقي هنا يقتضي عدم التحريم ، لتخصيصه الحكم بالمعلم ، وبه قطع أبو البركات ، مع القول بالكراهة ، وقد ينبني ذلك على النهي بعد الأمر . [ هل هو لما قبل الأمر ] ، أو للكراهة ؟ على قولين ، أشهرهما الأول ، ويستثنى على كل حال الكلب الأسود البهيم ، فإنه يباح قتله للحديث ، وكذلك الكلب العقور .
1998 لحديث عائشة رضي اللَّه عنها : أن رسول اللَّه قال : ( خمس من الدواب كلهن فواسق ، يقتلن في الحرم ، الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ) ويقتلان وإن كانا معلمين ، ويلحق بالكلب العقور كل ما آذى الناس وضرهم في أنفسهم وأموالهم ، فإنه يباح قتله ، وما لا أذى فيه لا يباح قتله على قول أبي محمد ، ويباح على قول المجد ، ولا غرم عليه عند المجد ، لكن يكره تنزيهاً ، واللَّه أعلم .
قال : ولا غرم عليه .
ش : إذا قتل الكلب قاتل غرم عليه ، وإن كان معلماً لأنه لا يقابل بالعوض شرعاً للنهي عنه وجعله خبيثاً .
1999 وقد جاء في حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، قال : نهى رسول اللَّه عن ثمن الخمر ، ومهر البغي ، وثمن الكلب ، وقال : ( إذا جاء يطلب ثمن الكلب ، فاملأ كفه تراباً ) رواه أبو داود .
2000 وما جاء عن عثمان رضي اللَّه عنه ، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما أنهما غرما قاتل الكلب ، فقد ضعفا . واللَّه أعلم .
قال : وبيع الفهد والصقر المعلم جائز .
ش : وكذلك ما في معناهما كالشاهين ، والبازي ، ونحوهما ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي محمد ، لأنه حيوان يباح نفعه واقتناؤه مطلقاً ، فأشبه البغل والحمار ، [ ولعموم { وأحل اللَّه البيع } إن قيل بعمومه ( والثانية ) : واختارها أبو بكر ، وابن أبي موسى لا يجوز ، إلحاقاً لها بالكلب ، لنجاستها ، إذ المنع منه معلل بذلك ، وخرج البغل والحمار ] ، وإن قيل بنجاستهما بالإجماع ، على أن ابن عقيل خرج فيهما قولا بالمنع . انتهى ، ومقتضى هذا التعليل تخصيص محل الخلاف ، وجعله على القول بنجاسة ذلك ، وكثير من الأصحاب يطلق الخلاف ، وقد أكد ابن حمدان إرادة الإطلاق ، فقال بعد ذكر الروايتين : وقيل : ما قيل بطهارته منها صح بيعه ، وما لا فلا .
وقول الخرقي : المعلم . يحترز عن غير المعلم فإنه لا يجوز بيعه ، لعدم الانتفاع به ، نعم إن قبل التعليم جاز بيعه على الأشهر ، كالجحش الصغير ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك بيع الهر .
ش : أي يجوز بيعه ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي محمد ، لما تقدم .
2001 ولما في الصحيح أن امرأة دخلت النار في هرة لها حبستها ، والأصل في اللام أنها للملك ( والثانية ) : واختارها أبو بكر : لا يجوز .
2002 لما في مسلم عن جابر رضي اللَّه عنه ، أنه سئل عن ثمن الكلب والسنور ، فقال : زجر رسول اللَّه [ عن ذلك .
2003 وعنه أيضاً : نهى رسول اللَّه ] عن ثمن الهر ، رواه أبو داود ، وحمل على غير المملوك ، أو على ما لا نفع فيه ، أو على الهر المتوحش ، أو على أن ذلك كان في الابتداء ، لما كان محكوماً بنجاسته ، ثم لما حكم بطهارة سؤره حل ثمنه ، وكلها محامل ودعوى لا دليل عليها ، واللَّه أعلم .
قال : وكل ما فيه المنفعة .
ش : أي يجوز بيعه ، وقد علم من هذا إناطة الحكم عنده بما فيه منفعة ، وكذلك الثياب ، والعقار ، وبهيمة الأنعام ، ونحو ذلك ، لأن الحكمة في جواز البيع الانتفاع وشرط المنفعة أن تكون مباحة ، لتخرج آلات اللهو ونحوها ، ويستثنى من ذلك الوقف ، وأم الولد ، والمدبر ، والزيت النجس ، على خلاف في بعض ذلك ، وبسط ذلك يحتاج إلى طول ، واللَّه سبحانه أعلم .
ابن عمر أن رسول اللَّه نهى عن تلقي السلع حتى يهبط بها الأسواق .
1978 وعن ابن عباس : نهى رسول اللَّه أن تتلقى الركبان ، ولا يبيع حاضر لباد . متفق عليهما .
1979 وفي الصحيح أيضاً نحو ذلك عن ابن مسعود ، وأبي هريرة .
( تنبيه ) : يجوز تلقي الجلب في أعلى السوق ، قاله أبو محمد ، لأن في حديث ابن عمر : أن رسول اللَّه نهى أن تتلقى السلع حتى يهبط بها إلى السوق . واللَّه أعلم .
قال : فإن تلقوا واشترى منهم فهم بالخيار إذا دخلوا السوق ، وعرفوا أنهم قد غبنوا ، إن أحبوا أن يفسخوا البيع فسخوا .
ش : إذا تلقيت الركبان فاشترى منهم ، فهل يصح البيع ، وهو المذهب المنصوص المقطوع به .
1980 لما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا تلقوا الجلب ، فمن تلقاه فاشترى منه شيئاً فصاحبه بالخيار إذا جاء السوق ) روه مسلم ، وأبو داود والترمذي . ولأن الحق في النهي لآدمي معين ، أمكن تداركه ، وبهذا فارق الحاضر للبادي ، والبيع في وقت النداء ، أو لا يصح ، اعتماداً على عامة الأحاديث في النهي المطلق ؟ على روايتين .
وعلى المذهب للركبان الخيار إذا هبطوا السوق ، ورأوا أنهم قد غبنوا ، على ظاهر الحديث ، وقول عامة الأصحاب ، ولم يشترط ذلك بعض المتأخرين ، بل العلم بالغبن لأن دخول السوق في الحديث حيلة واللَّه أعلم بمعرفة الغبن ، فإذا عرف قبل ثبت له الخيار .
وشرط ثبوت الخيار بالغبن أن يكون فاحشاً ، يخرج عن العادة على المذهب ، وقدره بعض الأصحاب بالسدس ، وبعضهم بالثلث ، والخرقي رحمه اللَّه أطلق الغبن فيحتمل أنه اكتفى بمجرد الغبن ، ويحتمل أن يكون موافقاً للأصحاب ، إذ الغبن إذا لم يخرج عن العادة لم يطلق عليه في العرف غبن .
وحكم البيع لهم حكم الشراء منهم ، إذ الخديعة موجودة فيهما ، وإذاً الخرقي إنما ذكره الشراء لأنه الغالب .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أن الحكم مخصوص بقصد التلقي ، فلو خرج بغير قصد ، فوافقهم فاشترى منهم ، لم يحرم عليه ذلك ، وهو احتمال لأبي محمد ، وقال القاضي : لا فرق بين القصد وعدمه في امتناع الشراء منهم ، إذ النهي دفعاً للخديعة والغبن عنهم ، وهذا موجود وإن لم يقصد التلقي .
( تنبيه ) : المعنى في النهي عن التلقي واللَّه أعلم أن المتلقي غالباً إما أن يكذب في سعر البلد ، وإذاً يكون غارّاً غاشّا ، أو يسكت فيكون مدلساً خادعاً ، أما إن صدق في سعر البلد ، فهل يثبت للركبان الخيار ، لعموم النهي أو لا يثبت لانتفاء الخديعة ؟ فيه احتمالان واللَّه أعلم .
قال : وبيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب ، لأنه وسيلة إلى المحرم ، والوسيلة إلى المحرم محرمة بلا ريب ، وإذاً يبطل البيع لارتكاب المحرم ، قال جل وعلا 19 ( { وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ) .
1981 وفي السنن أن النبي لعن الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وشاربها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وساقيها ، وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها .
وفي المذهب قول آخر : يصح البيع مع التحريم ، وشرط البطلان على البائع قصد المشتري ذلك ، إما بقوله ، أو بقرائن دلت على ذلك ، أما إن ظن ذلك ولم يتحققه فإن البيع يصح مع الكراهة ، قاله صاحب التلخيص ، وحكم ما كان وسيلة إلى المحرم كذلك ، كبيع السلاح للبغاة ، أو لأهل الحرب ، أو الجارية للغناء ، أو الأقداح والخبز والفواكه والمشموم والشموع لمن يشرب عليها المسكر ، والبيض للقمار ، والحرير لمن يحرم عليه ، ونحو ذلك ، أما بيع السلاح من أهل العدل لقتال البغاة ، وقطاع الطريق ، فجائز ، واللَّه أعلم .
قال : ويبطل البيع إذا كان فيه شرطان ، ولا يبطله شرط واحد .
ش : يبطل البيع بشرطين في الجملة .
1982 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، عن النبي أنه قال : ( لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا بيع ما ليس عندك ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، ولا يبطل بشرط واحد ، لمفهوم ما تقدم .
1983 وللحديث الصحيح ( من باع نخلاً مؤبرة فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترط المتباع ) .
كتاب السلم

ش : يقال : سلم وأسلم ، وسلف وأسلف ، والسلم والسلف عبارتان عن معنى واحد ، قاله الأزهري وغيره ، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب السلم ، لأن السلف يقال على القرض ، ولذلك بوب الخرقي وغيره السلم ، دون السلف ، وهو نوع من البيع ، ينعقد بما ينعقد به ، وبلفظه ، ويشترط له ما يشترط له ، ويزيد شروطاً يأتي بيانها إن شاء الله تعالى ، وهو جائز بالإِجماع ، وسنده قوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } ) .
2004 قال ابن عباس رضي الله عنهما : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله ، وأذن فيه ، ثم قرأ هذه الآية ، وفي رواية : إن الله قد أحله في كتابه ، وأذن فيه ، وقال الآية ، رواهما البيهقي في سننه . ولا ريب أن الآية الكريمة شاملة له .
2005 وفي الصحيحين عنه قال : قدم رسول الله المدينة ، وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث ، فقال : ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) أقر على ذلك ، وبين شرطه ، والله أعلم .
قال : وكل ما ضبط بصفة فالسلم فيه جائز .
ش : يشترط للمسلم فيه شروط ، دل كلامه هنا منها على شرطين ( أحدهما ) : أن يكون مما يتأتى ضبطه بالصفة ، ليوجد شرط المبيع ، وهو العلم به ، فعلى هذا يصح السلم في المكيل ، والموزون ، والمذروع ، ونحوها ، لتأتي الصفة على ذلك ، وقد أقر النبي على السلف في الثمار ، وقال : ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) .
2006 وروى البخاري عن عبد الرحمن بن أبزى ، وعبد الله بن أبي أوفى ، قالا : 16 ( كنا نصيب المغانم مع رسول الله ، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام ، فنسلفهم في الحنطة ، والشعير ، والزبيب ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم ، فقلت : أكان لهم زرع أم لم يكن لهم زرع ؟ قالا : ما كنا نسألهم عن ذلك ) . وأجمع المسلمون على جواز السلم في الثياب ، وعلى جوازه في الطعام ، قاله ابن المنذر ، ولا يصح فيما لا ينضبط بالصفة ، كجوهر ، وما فيه أخلاق مقصودة لا تتميز ، كمعجون ، وثمن مغشوش ، وحامل من حيوان ، وشاة لبون ، على الصحيح فيها ، وفي الرؤوس ، والجلود والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط ، ونحو ذلك ، وكذلك ما يجمع أخلاطاً تتميز ، كالخفاف ، والقسي ، والنبل المريش ، والثوب المنسوج من نوعين ، والمعدود المختلف ، كالحيوان ، والبيض ، والرمان ، ونحو ذلك ، واللحم المشوي ، والمقلي ، والمطبوخ خلاف ، وبسط ذلك له محل آخر .
ويشترط في الصفة أن تكون بحيث يعرف بها المبيع عرفاً ، لما تقدم ، فيصفه بما يختلف به الثمن غالباً ، فيذكر جنسه كتمر ، ونوعه كبرني ، وبلده كعراقي ، وقدره كصغار أو كبار ، وحداثته كحديث ، وجودته كجيد ، أو عكسهما كقديم ورديء ، ولا يصح : أجود ، ويصح : أردى ، على أصح الوجهين ، وقد يزاد على هذه ، أو ينقص منها ، بحسب المسلم فيه وليس هذا موضع استقصاء ذلك .
( الشرط الثاني ) : كونه في الذمة ، فلا يصح في عين ، لأن لفظ السلم والسلف للدين .
2007 وعن رجل من أهل نجران قال : قلت لابن عمر : أسألك عن السلم في النخل ، قال : أما السلم في النخل فإن رجلًا أسلم في نخل لرجل ، فلم يحمل ذلك العام ، فذكر ذلك لرسول الله فقال : ( بم يأكل ماله ؟ فأمره فرده عليه ، ثم نهى عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه ، رواه أبو داود وغيره .
2008 وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : نهي عن بيع النخل حتى يبدو صلاحه . وقيل : إن أهل المدينة كانوا يسلمون في ثمار نخيل بأعيانها ، فلما قدم النبي نهاهم عن ذلك ، وقال : ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ) الحديث ، والله أعلم .
قال : إذا كان كيل معلوم أو وزن معلوم ، أو عدد معلوم .
ش : هذا ( الشرط الثالث ) : وهو أن يقدر المسلم فيه : بكيل معلوم عند العامة ، إن كان مما يكال ، أبو بوزن كذلك إن كان مما يوزن ، لما تقدم من حديث ابن عباس ، أو بعدد ، أو ذرع كذلك ، قياساً على ما تقدم ، ولأنه عوض ثبت في الذمة ، فاشترط معرفة قدره كالثمن ، ولا يتعين ما عيناه من كيل العامة ، ونحوه على المذهب ، لعدم الفائدة في ذلك ، وهل يفسد به العبد ؟ فيه وجهان ، ولا يصح بإناء أو صنجة غير معلومين عند العامة ، لاحتمال هلاك ذلك ، وإذاً يتعذر المسلم فيه ، وذلك غرر ، ولا حاجة إليه ، ومن ثم اشترط أن يكون المكيال والميزان وكذلك الوصف بلغة يفهمها غير المتعاقدين ، فإن فهمها عدلان دون أهل الاستفاضة كفى على المقدم ، لارتفاع التنازع بالرجوع إليهما انتهى .
ومقتضى ما تقدم أنه لا يصح السلم فيما يكال وزنا ، ولا فيما يوزن كيلًا ، وهو المشهور ، والمختار للعامة ، ونص عليه الإِمام في المكيل لا يسلم فيه وزناً قياساً كالربويات ، وكالمذروع وزناً وعكسه ، فإنه لا يصلح اتفاقاً ، وعنه ما يدل واختاره أبو محمد ، ويحتمله كلام الخرقي أنه يجوز ، لحصول معرفة القدر ، ومقتضى كلام الخرقي أنه يسلم في جميع المعدودات عدداً ، ولا ريب في ذلك في الحيوان ، أما في غيره فثلاثة أقوال ، وزناً ، عدداً ، ما تقارب كالجوز ، والبيض ، عدداً ، وما تفاوت كالبطيخ ، والرمان ، والبقول ، وزناً ، والله أعلم .
قال : إلى أجل .
ش : هذا ( الشرط الرابع ) وهو أن يكون مؤجلًا على المذهب المعروف ، لما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، فإنه أمر ، والأمر للوجوب .
2009 قال القرطبي في شرح مسلم : لا سيما على رواية من روى : ( من أسلم فلا يسلم إلا في كيل معلوم ) إلى آخره انتهى .
2010 وفي سنن البيهقي عن ابن عباس أنه قال : اضرب له أجلًا . ولأن السلم إنما جاز رخصة ، لأنه للارتفاق لأنه بيع معدوم ، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل ، والله أعلم . قال : معلوم بالأهلة .
ش : يشترط في الأجل كونه معلوماً ، لما تقدم من الحديث ، ولقول الله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } ) فلا يصح إلى نزول المطر ، أو قدوم زيد ، ونحو ذلك ، وهل يصح إلى الحصاد ونحوه ، أو إلى نفس العطاء ، لتقارب الزمن أو لا يصح ، لتقدم ذلك وتأخره .
2011 وهو قول ابن عباس ، وابن عمر رضي الله عنهم ، واختاره عامة الأصحاب ؟ فيه قولان ، وقيل : محل الخلاف في الحصاد إذا جعله إلى زمنه ، أما فعله فلا يصح ، واختلف أيضاً فيما إذا علقه باسم يتناول شيئين كربيع ، ويوم النفر ، هل يصح ويتنزل على أول يوم ، وبه قطع في المغني ، أو لا يصح ، [ وهو الذي أورده في التلخيص مذهباً ؟ وفيما إذا قال : شهر كذا . هل يصح . ويتعلق بأوله ، وهو اختيار أبي محمد ، أو لا يصح رأساً ، وفيما إذا قال مثلًا : أول رمضان أو آخره ، هل يصح ويتعلق بأول جزء ، وآخر جزء ، أو لا يصح ] ، لأن أول الشهر يعبر به عن النصف الأول ، وكذا الآخر ، وهو احتمال لصاحب التلخيص ؟ على قولين في الجميع . انتهى .
ثم ظاهر كلام الخرقي وكذلك ابن أبي موسى وابن عبدوس أن علم ذلك لا غير بالأهلة ، بأن يجعل حلوله في أول جزء من رمضان ، أو يوم عاشوراء ، أو إلى شهر رجب ، ونحو ذلك ، لأن الله سبحانه وتعالى جعل التأقيت : بهن ، قال تعالى : 19 ( { يسألونك عن الأهلة ، )9 ( قل هي مواقيت للناس والحج } ) فعلى هذا لا يصح تأقيت بعيد من أعياد الكفار مطلقاً ، وقال القاضي وغيره : إن كان مما يتقدم ويتأخر كعيد السعانين للنصارى ، ونحو ذلك لم يصح ، وإلا صح ، كالنيروز ونحوه .
( تنبيه ) : يشترط للأجل شرط آخر ، وهو أن يكون له وقع في الثمن ، بحيث يختلف به السعر ، ومثل ذلك أبو محمد في الكافي بالشهر ، ونصفه ، لا اليوم ونحوه ، وكثير من الأصحاب يمثل بالشهر ، والشهرين ، فمن ثم قال بعضهم : أقله شهر . نعم يصح كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما يأخذ منه كل يوم قدراً معلوماً ، كالخبز ، واللحم ، ونحو ذلك ، نص عليه ، والله أعلم .
قال : موجوداً عند محله .
ش : هذا ( الشرط الخامس ) وهو كون المسلم فيه عام الوجود في وقت حلوله غالباً ، لوجوب تسليمه إذاً ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، فإن الغالب عدم تسليمه ، فلم يصح بيعه ، كالآبق ونحوه ، وذلك كالسلم في العنب والرطب في الصيف ، لا في الشتاء ، لندرة وجودهما فيه ، وفي معنى ذلك إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه ، أو قرية صغيرة ، ونحو ذلك لاحتمال جائحة ذلك ، وقد حكى الجوزجاني الإِجماع على كراهة ذلك ، قال ابن المنذر : إن المنع منه كالإِجماع ، وقال أبو بكر في التنبيه : إن كان قد بلغ ، وأمنت عليه الجائحة صح . قلت : وهو حسن إن لم يحصل إجماع ، إذ الغالب له التسليم إذاً ، ثم حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم ، أنهى عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه ، يشهد لذلك .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يشترط [ وجوده حال العقد ، وهو كذلك ، وكذلك لا يشترط ] عدمه ، وهو الصحيح من الوجهين ، حكاهما ابن عبدوس ، والله أعلم .
قال : ويقبض الثمن كاملًا وقت السلم ، قبل التفرق .
ش : هدا ( الشرط السادس ) وهو خاتمة الشروط عنده ، وهو أن يقبض رأس مال السلم قبل التفرق عن مجلس العقد ، حذاراً من أن يصير بيع دين بدين .
2012 فيدخل تحت النهي عن بيع الكالى بالكالى ، وقد استنبط ذلك الشافعي رحمه الله من قوله : ( من أسلف فليسلف ) قال : أي فليعط . قال : لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما سلفه فيه ، قبل أن يفارق من سلفه . انتهى ولأنه لا يجوز شرطاً تأجيل العوض فيه ، فلم يجز التفرق فيه قبل القبض كالصرف ، وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما لم يقبض ، وهل يبطل في المقبوض وهو ظاهر كلام الخرقي ، و أبي بكر في التنبيه ، لقوله : إذا أسلفه دراهم ، فخرج بعضها رديئاً فالسلم كله باطل أو لا يبطل وهو المشهور ؟ فيه روايتا تفريق الصفقة ، والله أعلم .
( تنبيه ) : المجلس هنا كمجلس الصرف ، وكلاهما كمجلس الخيار ، هذا مقتضى كلام الأصحاب ، ووقع للقاضي في الجامع الصغير أنه إذا تأخر قبض رأس مال السلم اليومين والثلاثة ، لم يصح العقد ، والله أعلم .
قال : ومتى عدم شيء من هذه الأوصاف بطل .
ش : الإِشارة إلى الأوصاف المتقدمة ، وهذا هو شأن الشروط يعدم المشروط عند عدمها ، أو عدم بعضها ، ولو قال الخرقي : فسد العقد . كما قال في الصرف : ومتى افترق المتصارفان فسد العقد . لكان أولى ، لئلا يوهم وجود عقد ثم بطلانه .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط غير ذلك ، وقد تقدم أن في اشتراط عدم المسلم فيه حين العقد خلاف ، وكذلك في اشتراط وصف رأس المال ، والعلم بقدره إذا كان مشاهداً وجهان ، ( أحدهما ) وهو قول القاضي ، وأبي الخطاب ، وصاحب التلخيص ، وغيرهم اشتراطه ، كما لو كان في الذمة ، ولأنه عقد يتأخر تسليم المعقود عليه ، فوجب معرفة رأس ماله ، ليرد بدله ، كالقرض والشركة ، وعلى هذا لا يجوز أن يكون رأس المال جوهراً ونحوه ، لعدم تأتي الصفة عليه ( والثاني ) وإليه ميل أبي محمد لا يشترط ، كما في بيوع الأعيان ، وكذلك في اشتراط ذكر مكان الإِيفاء تردد ، فالقاضي لا يشترطه مطلقاً ، ويقول في مثل البرية ونحوها : يوفي في أقرب الأماكن إلى مكان العقد ، وابن أبي موسى ، وصاحب التلخيص ، يشترطانه في البرية ونحوها ، واتفق الفريقان على عدم الاشتراط حيث أمكن الوفاء في محل العقد ، نعم لو شرطه في غيره والحال هذه صح شرطه ، على أصح الروايتين ، ولم يصح في الأخرى ، وبها قطع أبو بكر في التنبيه ، والقاضي ، وأبو الخطاب أطلقا الروايتين ، فيشمل كلامهما ما إذا شرطاه في محل العقد أيضاً وهو ضعيف ، والله أعلم .
قال : وبيع المسلم فيه من بائعه أو غيره قبل قبضه فاسد .
ش : بيع المسلم فيه قبل قبضه من بائعه مثل أن يسلم إليه في أردب قمح ، فيأخذ عنه فولًا ، أو شعيراً أو دراهم ، أو نحو ذلك فاسد .
2013 لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ) رواه أبو داود إلا أنه ضعيف ، والمعتمد على نهيه عن بيع الطعام قبل قبضه ، وعن ربح ما لم يضمن .
2014 وقد سئل ابن عمر عن ذلك فقال : 16 ( خذ رأس مالك ولا ترده في سلع أخرى ) ، رواه البيهقي في سننه ، ( وعنه ) فيمن أسلم في بر ، فعدمه عند المحل ، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكانه جاز ، ولم يجز أكثر من ذلك ، وحمله أبو محمد على رواية أن البر والشعير جنس ، ولكن بيعه من غير بائعه لا يصح ، للنهي عن ربح ما لم يضمن ، وبيع الطعام قبل قبضه ، والله أعلم .
قال : وكذلك الشركة فيه ، والتولية ، والحوالة به ، طعاماً كان أو غيره .
ش : أي فاسد كالبيع ، أما الشركة والتولية فلأنهما نوعان من أنواع البيع ، فيثبت لهما حكمه ، وأما الحوالة فلأنها إما بيع أو فيها شائبته ، فلم تجز كالبيع ، والحوالة تارة تقع عليه ، كما إذا أحال المسلم بما عليه من قرض ، أو بدل متلف ، على المسلم إليه ، وهنا قد حصل التصرف في المسلم فيه قبل قبضه ، أشبه بيعه ، ثم الحوالة وقعت على غير مستقر ، وتارة تقع به ، كأن يحيل المسلم إليه ، بما عليه من السلم ، على من له عليه مثله ، من قرض ، أو بدل متلف ، وهذه صورة الخرقي ، وهنا لا يظهر لي وجه المنع ، والله أعلم .
قال : وإذا أسلم في جنسين ثمناً واحداً ، لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس .
ش : مثل أن يسلم ديناراً مثلًا في أردب قمح ، وأردب فول ، فلا يصح حتى يبين قسط كل واحد منهما من الدينار ، كأن يقول مثلًا : ثلثه عن الفول ، وثلثاه عن الشعير ، وهذا هو المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة الأصحاب ، إذ لا يؤمن الفسخ بتعذر أحدهما ، فلا يعرف ما يرجع به ، فيفضي إلى التنازع المطلوب عدمه ( والرواية الثانية ) يجوز وإن لم يبين قسط ما لكل منهما كبيوع الأعيان ، ولهذه المسألة التفات إلى معرفة رأس مال السلم وصفته ، ولعل الوجهين ثم من الروايتين هنا ، وأبو محمد لما لم يطلع على الرواية الثانية خرج هنا وجهاً من الوجه [ ثم ] ، إن ابن أبي موسى ، وأبا بكر وغيرهما [ منعوا ] من ذلك إذا أسلم في خمسة دنانير ، وخمسين درهماً ، في أردب حنطة ، فقالوا : لا يجوز حتى يبين حصة ما لكل واحد منهما [ من الثمن ، وخالف أبو محمد فقال بالجواز هنا ، وهو الصواب ، إذ بتعذر المسلم فيه يرجع ] بقسطه منهما ، والله أعلم .
قال : وإذا أسلم في شيء واحد ، على أن يقبضه في أوقات متفرقة أجزاء معلومة فجائز .
ش : مثل أن يسلم إليه عشرة دراهم في قنطار خبز ، يأخذ منه كل يوم عشرة أرطال ، أو في عشرين رطل لحم ، يأخذ كل يوم رطلين ، ونحو ذلك ، لحصول الرفق الذي لأجله شرع السلم ، والله أعلم .
قال : وإذا لم يكن السلم كالحديد ، والرصاص ، وما لا يفسد ، ولا يختلف قديم وحديثه ، لم يكن عليه قبضه قبل محله .
ش : السلم أي المسلم فيه ، تسمية للمفعول بالمصدر ، كتسمية المرهون رهناً ، والمسروق سرقة ، ونحو ذلك ، ولا يخلو المسلم فيه إما أن يؤتى به في وقته ، أو بعده ، أو قبله ، فإن أتي به في وقته [ أو بعده لزم قبوله ، وإن تضرر المسلم بذلك ، وإن أتي به قبل وقته ] فإن كان في قبضه ضرر ولو مآلا لكونه مما يتغير ، كالفاكهة ونحوها ، أو لكون قديمه دون حديثه كالحبوب ، أو كان مما يتغير قبل الوقت المشترط ، أو لكونه مما يحتاج في حفظه إلى مؤونة كالحيوان ونحوه ، أو كان مما يخاف عليه إذاً من ظالم ، ونحو ذلك لم يلزم المسلم قبوله ، لأن عليه في ذلك ضرراً ، وإنه منفي شرعاً ، قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) وإن كان مما لا ضرر في قبضه كالحديد ، والرصاص ، إذ لا فرق بين قديمه وحديثه ، وكان الوقت آمناً ، ولا مؤونة لحفظه لزمه قبوله ، لأن غرضه حاصل مع زيادة منفعة لا ضرر عليه فيها ، فأشبه زيادة الصفة على المذهب ، وهذا كله إذا أتى به على صفته ، فإن أتى به على غير صفته فإن كان دونها جاز قبوله مع اتحاد الجنس ، ولم يلزم ، وإن كان فوقها واختلف الجنس لم يجز كما تقدم ، وإن اتحد الجنس والنوع لزم القبول على المذهب بلا ريب ، وقيل : لا يلزم بل يجوز ، وقيل : لا يجوز ، [ وعلى المذهب فإن اختلف النوع فهل يلزم القبول ، وهو قول القاضي والمجد ، أو لا يلزم ، وهو قول أبي محمد ، أو لا يجوز ] ويحكى رواية ؟ على ثلاثة أقوال ، والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يأخذ رهناً ولا كفيلًا من المسلم إليه . ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر في التنبيه ، وابن عبدوس ، إذ وضع الرهن الإِستيفاء من ثمنه ، عند تعذر الإِستيفاء من ذمة الغريم ، والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن ، ولا من ذمة الضامن ، حذاراً من أن يصرفه إلى غيره ، وإنه منهي عنه ، وفيه نظر ، لأن الضمير في ( لا يصرفه ) راجع للمسلم فيه ، وإذاً يشتري ذلك من ثمن الرهن ويدفع ولا محذور ، وكذلك يشتريه الضامن ويسلمه ، وإذاً لم يصرف إلى غيره ( والثانية ) وهي الصواب إن شاء الله تعالى ، واختيار أبي محمد ، وحكاها القاضي في روايتيه عن أبي بكر : يجوز ذلك ، لقول الله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } ) إلى قوله : 19 ( { فرُهُن مقبوضة } ) وقد شهد ترجمان القرآن أن السلم مراد منها وداخل فيها ، فهي كالنص فيه ، والكفيل كالرهن بجامع التوثقة .
2015 ومن ثم روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، 16 ( أنه كان لا يرى بأساً بالرهن والقبيل في السلم ) ، وروى نحو ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما .
2016 وحكاية أبي محمد الكراهة عنهما في الرهن والكفيل ، يحتمل أنه رواية أخرى عنهما .
2017 وقد استدل على ذلك أيضاً بما في الصحيح أن النبي اشترى من يهودي طعاماً ، ورهنه درعاً من حديد ، وليس بالبين ، ومقتضى كلام الأصحاب أنا إذا منعنا أخذ الرهن لم يجز وإن تراضيا بذلك ، وأنا إن جوزناه كان كبقية الرهون ، يلزم بالقبض ، أو بمجرد العقد إن لم يكن معيناً على رواية ، وإذا لم يلزم ، ولم يقبض فللمسلم الفسخ ، وقال ابن عبدوس : ليس للمسلم طلب رهن ، فإن شرطاه لم يلزم المسلم إليه الدفع إلا أن يشاء ، والله أعلم .
كتاب الرهن

ش : الرهن في اللغة الثبوت والدوام ، يقال : ماء راهن . أي راكد ، ونعمة راهنة ، أي ثابتة دائمة ، وقيل : هو مأخوذ من الحبس ، ومنه قوله سبحانه : { كل امرىء بما كسب رهين } أي حبيس بمعنى محبوس ، وهو قريب من الأول ، لأن المحبوس ثابت في مكانه لا يزايله ، وهو في اصطلاح الفقهاء : توثقة دين بعين أو بدين على قول يمكن أخذه من ذلك ، إن تعذر الوفاء من غيره ، وهو جائز بالإِجماع ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : 19 ( { فرهان مقبوضة } ) .
2018 وفي الصحيحين أن النبي اشترى من يهودي طعاماً ، ورهنه درعاً من حديد .
2019 وفي البخاري عن عائشة : توفي النبي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير ، والله أعلم .
قال : ولا يصح الرهن إلا أن يكون مقبوضاً .
ش : ظاهر كلام الخرقي ، وابن أبي موسى ، وابن عقيل في التذكرة ، والقاضي في الجامع الصغير ، وابن عبدوس أن القبض شرط في صحة الرهن ، والمعروف عند الأصحاب أنه إنما هو شرط للزومه ، وعلى ذلك حمل القاضي فيما أظن وابن الزاغوني وأبو محمد كلامه ، وكذلك قال في الهبة أيضاً : إن القبض شرط لصحتها ، وهو مقتضى كلام طائفة ثم ، وقد جعل القاضي في التعليق القبض في الرهن آكد منه في الهبة ، معللًا بأن استدامة القبض في الرهن شرط فيه ، بخلاف الهبة ، وبأن القصد التوثقة ، ولا تحصل إلا بالقبض ، بخلاف الهبة ، إذ القصد منها الملك ، قال : وهو يحصل وإن لم تقبض .
إذا عرف هذا فجعل القبض شرطاً للصحة أو للزوم إنما هو في غير المعين المفرز ، كقفيز من صبرة ، ورطل من زبرة ، ونحوهما ، أما المعين كالعبد والدار ونحوهما ، والمشاع المعلوم بالنسبة من معين ، فهل حكمه حكم ما تقدم ، يشترط لصحته أو للزومه القبض ؟ وهو مقتضى كلام الخرقي ، وأبي بكر في التنبيه ، وابن أبي موسى ، ونصبها أبو الخطاب والشريف وقال في الكافي : إنه المذهب لظاهر قوله تعالى : 19 ( { فرهان مقبوضة } ) وصفها سبحانه بكونها مقبوضة ، ولأنه عقد إرفاق أشبه القرض ، أو لا يشترط له ذلك ، بل يلزم بمجرد العقد وقال في التلخيص : إنه الأشهر ، قياساً على البيع ؟ على روايتين .
( تنبيه ) : حيث اعتبر اللزوم فذلك في حق الراهن ، إذ لا لزوم في حق المرتهن ، والله أعلم .
قال : من جائز الأمر .
ش : الجار والمجرور في موضع الحال ، أي لا يصح الرهن إلا مقبوضاً في حال كونه من جائز الأمر ، وصاحب الحال محذوف دل عليه السياق ، وتقديره : من مقبض جائز الأمر ، وهو المكلف ، الرشيد ، المختار ، فلو رهن وهو كذلك فحجر عليه لجنون ، أو سفه ، أو فلس لم يصح تقبيضه ، بل ويبطل إذنه في القب إن كان قد أذن ، لأنه نوع تصرف ، وتصرف هؤلاء غير صحيح ، وكذلك إن أغمي عليه ، نعم يقوم ولي المجنون والسفيه مقامه في ذلك ، وفي المفلس يعتبر إذن الغرماء في القبض ، ولو رهن وهو مختار ، ثم أكره على القبض لم يصح ذلك ، ويستفاد مما تقدم أنه إذا لم يصح التقبيض من هؤلاء وإن كان قد وجد الرهن فلأن لا يصح عقد الرهن بطريق الأولى ، والله أعلم .
قال : والقبض فيه من وجهين ، فإن كان مما ينقل فقبض المرتهن له أخذه إياه من راهنه منقولًا ، وإن كان مما لا ينقل كالدور ، والأرضين فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه ، لا حائل دونه .
ش : قبض كل شيء بحسبه ، على ما جرت العادة فيه ، على المشهور والمختار من الروايتين ، فقبض ما ينقل كالصبر ونحوها بالنقل .
2020 قال ابن عمر رضي الله عنهما : 16 ( كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً ، فنهانا رسول الله أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ) . متفق عليه ، والنهي عن ذلك لعدم قبضه .
2021 لأن في البخاري عنه أيضاً أن رسول الله قال : ( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه ) وفي لفظ ( حتى يستوفيه ) وقبض ما يكال ، أو يوزن ، أو يعد ، أو يذرع ، بكيله أو وزنه أو عدده أو ذرعه ، نظراً للعرف في ذلك ، ولما تقدم .
2022 وعن عثمان رضي الله عنه ، أن رسول الله قال : ( إذا اشتريت فاكتل ، وإذا بعت فكل ) رواه أحمد والبيهقي ، وللبخاري منه كلام النبي بغير إسناد ، وفي رواية للبيهقي ( إذا ابتعت كيلًا فاكتل ، وإذا بعت كيلًا فكل ) .
2023 وعن حكيم بن حزام ، وعثمان رضي الله عنهما أنهما كانا يجلبان الطعام من أرض قينقاع إلى المدينة ، فيبيعانه بكيله ، فأتى عليهما رسول الله ، فقال : ( ما هذا ؟ ) قالا : جلبناه من أرض كذا وكذا ، ونبيعه بكيله ، قال : ( لا تفعلا ذلك ، إذا اشتريتما طعاماً فاستوفياه ، فإذا بعتماه فكيلاه ) رواه البيهقي في سننه ، ولا يشترط مع ذلك نقله على المذهب ، لظاهر ما تقدم ، وفيه احتمال ، وشرط الإِعتداد بكيل ذلك أو وزنه ونحوهما حضور المشتري أو وكيله ، فلو كيل أو وزن بغير حضوره لم يكن قبضاً إلا أن يشتري منه مكيلًا بعينه ، ويدفع إليه ظرفاً ويقول : كله لي . فيفعل ، فإنه يصير مقبوضاً ، قال صاحب التلخيص : وفيه نظر إذ الفرق بين كيله في ظرف أو غير ظرف بعيد جداً .
وهل يكتفي بعلم كيل ذلك أو وزنه [ ونحو ذلك ] عن الكيل والوزن ونحوهما ؟ نص أحمد رحمه الله في المكيل على روايتين ، كما إذا اشترى مكيلًا قد شاهد كيله قبل البيع ، ولم يغب عنه ، ( إحداهما ) لا يكتفي بذلك ، ولا يكون قبضاً صحيحاً ، وهي اختيار أبي بكر ، والقاضي .
2024 لما روي عن جابر رضي الله عنه ، قال : نهى رسول الله عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان ، صاع البائع ، وصاع المشتري ، رواه ابن ماجه ، والبيهقي . واحتج به أحمد في رواية ابن إبراهيم .
2025 ورواه البيهقي من رواية أبي هريرة أيضاً ، وزاد ( فيكون للبائع الزيادة ، وعليه النقصان ) ( والثانية ) يكتفي بذلك ، قبضاً صحيحاً ، إذ المقصود معرفة المقدار وقد حصل ، وعلى هذا للمشتري التصرف فيه بذلك ، وليس له مطالبة البائع بكيل ، وإن ادعى نقصانه لم يقبل منه ، وعلى الأول تنعكس هذه الأحكام ، وظاهر كلام المجد ، وغيره الإِكتفاء بعلم ذلك في غير المكيل ، وصاحب التلخيص أجرى ذلك في الوزن أيضاً فقال فيما اشتري بكيل أو وزن ، وقبض بمعياره ، ثم بيع من بائعه ، أن فيه الروايتين .
( تنبيه ) : فإن كان المبيع في الكيل ، وعقد البيع الثاني ، ففرغه المشتري الثاني ، صح القبض ، وأغنى عن الإِستئناف ، انتهى .
وقبض ما يتناول كالجواهر ، والأثمان ، ونحوهما بالتناول ، إذ العرف فيها ذلك ، وقبض الحيوان بمشيه من مكانه . وما عدا ذلك كالدور ، والعقار ، والثمرة على الشجرة ، ونحو ذلك بالتخلية بينه وبين مرتهنه ، من غير حائل بينهما ، بأن يفتح له باب الدار ، أو يسلم إليه مفتاحها ، ونحو ذلك ، وإن كان فيها متاع للراهن ، وعن أحمد رواية أخرى أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز ، قياساً على العقار ونحوه .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله أنه لم يجعل للقبض إلا وجهين فقط ، النقل ، والتخلية ، فقد يقال في الجواهر ونحوها : إن تناولها نقل لها ، لأنها انتقلت من يد البائع إلى يد المشتري ، وكيل المكيل ونحوه نقله من محله إلى محل آخر ، وخلاصته أن صفات النقل تختلف ، وأحال الخرقي رحمه الله بيانها على موقف ، ثم إنه رحمه الله لم يتعرض لصفة القبض فيما يعتبر له القبض في البيع ، فليعتمد هنا .
وقوله : أخذ من راهنه . إشارة إلى أنه لا بد في القبض من التسليم من الراهن ، أو ما يقوم مقامه ، وهو إذنه في ذلك ، أما إن لم يوجد واحد منهما فإن وجود ذلك كعدمه ، على المعروف المجزوم به ، وفي التلخيص في الهبة حكاية رواية بصحة قبض ما قبضه المتهب بدون إذن الواهب ، فيخرج هنا كذلك ، ولا معرج على ذلك ، أما على المذهب فلو كان الرهن في يد المرتهن ، بإعارة ، أو وديعة ، ونحو ذلك ، ففي اشتراط إذنه له في القبض روايتان ، وقيل : وجهان ، فإن اشترط فلا بد من مضي زمن يتأتى القبض فيه ، فإذا كان المرهون حاضراً بين يدي الراهن ، أكتفي بمضي مدة يتأتى قبض ذلك فيها ، فاكتياله أو وزنه ، أو نقله حسب ما هو ، وإن كان في بيته ، أو دكانه ، ونحو ذلك ، فلا بد من أن يمضي إليه ، ويشاهد المرهون ، ليتحقق التمكين ، ثم بعد ذلك تمضي مدة يمكن القبض فيها على ما ذكر ، وإن لم يشترط الإِذن ففي اعتبار مضي زمن يتأتى القبض فيه وجهان ، والله أعلم .
قال : وإذا قبض الرهن من تشارطا أن يكون الرهن على يده صار مقبوضاً .
ش : تصح النيابة في قبض الرهن ، لأنه قبض في عقد ، فجاز التوكيل فيه كسائر القبوض ، فعلى هذا إذا اتفق الراهن والمرتهن حال العقد أو بعده على جعل الرهن في يد إنسان صح ، وصار مقبوضاً للمرتهن ، قاله في المغني ، وفيه تساهل ، لأنه يوهم أن له أخذه منه ، وليس كذلك كما سيأتي .
ثم قول الخرقي : من . يشمل المسلم والكافر ، والعدل والفاسق ، والذكر والأنثى ، والحر والعبد ، وغيرهم ، وهو كذلك ، إلا أنه لا بد أن يقيد بكونه جائز التبرع ، ليخرج الصبي ، والمجنون ، والعبد بغير إذن سيده ، والمكاتب بلا جعل ، أما إن أذن السيد ، أو جعل للمكاتب جعل ، فإنه يجوز ، لزوال المانع ، وانتفاء التبرع ( ويشمل ) أيضاً الاثنين ، والجماعة ، وهو كذلك ، وليس لواحد منهم الإِنفراد بحفظه .
وقوله : من تشارطا قوته تقتضي أن يكون غيرهما ، فلو استناب المرتهن الراهن في القبض لم يصح ، قاله في التلخيص ، وعبد الراهن القن ، وأم ولده ، ومستولدته كهو ، نعم يجوز استنابة مكاتبه ، وكذلك عبده المأذون له في أصح الوجهين ، وفي الآخر لا يجوز إلا أن يكون عليه دين .
وقوله : صار مقبوضاً . يقتضي أنه ليس لواحد منهما نقله عن من جعل على يده ، وهو كذلك ، كما لو كان بيده المرتهن ، نعم إن اتفقا على ذلك جاز ، وكذلك إن تغيرت حال المجعول على يده ، كأن كان عدلًا ففسق ونحون ، كان لكل منهما طلب التحويل إلى آخر ، ثم إن اتفقا عليه وإلا جعله الحاكم عند عدل ، وكذا لو تغيرت حال المرتهن ، فللراهن رفع الأمر إلى الحاكم ، ليضعه على يد عدل ، والله أعلم .
قال : ولا يرهن مال من أوصي إليه بحفظ ماله إلا من ثقة .
ش : لأن ولي اليتيم إنما يتصرف بالأحسن ، قال سبحانه : 19 ( { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ) والأحسن بل الحسن أن لا يرهن مال اليتيم إلا عند ثقة ، إذ الرهن أمانة ، وغير الثقة لا يؤتمن ، ولا بد أن يكون الحظ لليتيم في الرهن ، كأن يحتاج إلى نفقة على نفسه ، أو عقاره المتهدم ، ونحو ذلك ، وله مال ينتظر وروده ، فالأحظ إذاً في الإِقتراض ، ورهن بعض أصوله ماله ، أما إن لم يكن له مال ينتظر ، فلاحظ في الاقتراض ، وإذاً يبيع بعض أصول ماله ، فإن لم يجد من يقرضه ، ووجد من يبيعه نساء ، وكان أحظ من بيع ماله ، جاز الشراء نساء ، ورهن شيء من ماله ، قاله في المغني ، وظاهره أنه لا ينتقل إلى الشراء نسيئة إلا عند عدم من يقرضه ، والذي ينبغي مراعاة الأصلح لليتيم . انتهى .
وحكم الحاكم وأمينه حكم الوصي في ذلك ، وكذلك الأب بطريق الأولى ، ومن ثم له أن يرتهن من نفسه ، بخلاف غيره على المحقق ، وفي المغني حكاية رواية بجواز ذلك لغيره ، وفيها نظر ، إذ أصل ذلك والله أعلم البيع ، ولا يعرف فيه رواية مطلقة بالجواز ، والله أعلم .
قال : وإذا قضاه بعض الحق كان الرهن بحاله على ما بقي .
ش : العين المرهونة رهن بجميع الدين ، وبكل [ جزء ] من أجزائه ، وقد حكى ابن المنذر الإِجماع على نحو ذلك ، والله أعلم .
قال : وإذا أعتق الراهن عبده المرهون فقد صار حراً .
ش : هذا هو المشهور والمختار من الروايات للأكثرين ، لأنه عتق من مالك .
2026 فشمله مفهوم قول النبي : ( لا عتق فيما لا يملك ابن آدم ) . وفارق غيره من التصرفات ، لتشوف الشارع إليه ، ومن ثم نفذ في ملك الغير ، وفي المبيع قبل القبض ، وفي الآبق ، والمبهم ، ونحو ذلك ، ( والثانية ) واختارها الشيرازي : لا ينفذ مطلقاً ، حذاراً من إبطال حق المرتهن من الوثيقة ، وأنه لا يجوز ، كما لا يجوز بيعه ، وهبته ، ونحوهما ، ( والثالثة ) ينفذ عتق الموسر لا المعسر ، تخريجاً على المفلس ، إذ الموسر لا ضرر على المرتهن في عتقه ، لإِمكان أخذ القيمة منه ، بخلاف المعسر ، وهذا كله في نفوذ العتق ، أما الإِقدام عليه فإنه لا يجوز ، لما فيه من إدخال الضرر على المرتهن ، بإبطال حقه من الوثيقة ، نعم إن أذن المرتهن في العتق جاز ، ونفذ بلا ريب ، لزوال المانع ، والله أعلم .
قال : ويؤخذ إن كان له مال بقيمة المعتق فيكون رهناً .
ش : إذا قلنا بنفوذ العتق نظرنا في الراهن ، فإن كان له مال أخذت منه قيمة المعتق ، لتفويته إياه على المرتهن ، فتجعل رهناً ، لأنها بدل المرهون والحال هذه ، وبدل الشيء يقوم مقامه ، وخير أبو بكر في التنبيه المرتهن بين الرجوع بقيمة العبد ، أو بعبد مثله ، وإن لم يكن له مال بأن كان معسراً ، بقيت القيمة في ذمته إلى حين يساره ، ولا يستسعى العتيق ، فإن أيسر قبل حلول الحق أخذت منه كما تقدم ، وإن أيسر بعده فلا فائدة في جعل القيمة رهناً ، ويؤمر بالوفاء ، وتعتبر القيمة حين العتق ، لأنه وقت التلف ، وإن لم نقل بالنفوذ ، فظاهر كلام الأصحاب أنه لا ينفذ بعد زوال الرهن ، ولابن حمدان احتمال بالنفوذ إذاً ، هذا كله إذا لم يأذن المرتهن ، أما إن أذن في العتق فإن حقه يبطل من الوثيقة ، ولا قيمة له ، والله أعلم .
قال : وإن كانت جارية فأولدها الراهن خرجت أيضاً من الرهن .
ش : لأن الإِيلاد إتلاف معنوي ، فنزل منزلة الإِتلاف الحسي ، وعامة الأصحاب يجزمون هنا بذلك ، بخلاف العتق ، لأن الفعل أقوى من القول ، بدليل نفوذ إيلاد المجنون ، دون عتقه ، وظاهر كلامه في التلخيص إجراء الخلاف فيه ، فإنه قال : والإِستيلاد مرتب على العتق ، وأولى بالنفوذ ، لأنه فعل ، والله أعلم .
قال : وأخذ منه قيمتها تكون رهناً .
ش : أي إذا كان له مال ، وإلا بقيت القيمة في ذمته إلى يسرته ، على ما تقدم في العتق ، والإِعتبار في القيمة بيوم الإِحبال ، قاله في الرعاية ، ولا بد أن يلحظ أيضاً أن المرتهن لم يأذن في الوطء ، قال في التلخيص : وصدقه المرتهن أنها ولدته من وطئه ، أماإن أذن المرتهن في الوطء وحملت ، فإن الرهن يبطل ، ولا قيمة للمرتهن ، بشرط أن يصدقه أن الراهن وطيء ، وأنها ولدته لمدة يمكن أن يكون من ذلك الوطء ، أما إن صدقه في الإِذن ، وكذبه في أنه وطيء ، أو أنها ولته أو في المدة ، فالقول قوله ، والرهن بحاله ، لأن الأصل معه ، والله أعلم .
قال : وإذا جنى العبد المرهون ، فالمجنى عليه أحق برقبته من مرتهنه ، حتى يستوفى حقه . فإن اختار سيده أن يفديه وفعل فهو رهن بحاله .
ش : مراد الخرقي والله أعلم إذا جنى المرهون على أجنبي ، لا على السيد ، ولا على عبد السيد ، ولا موروثه ، إذ بيان ذلك يحتاج إلى بسط وتطويل ، لا يليق بمختصره ، ولا بهذه التعليق ، وجناية العبد على الأجنبي ، أو على ماله ، تتعلق برقبة العبد .
2027 لقوله : ( لا يجني جان إلا على نفسه ) فإن كان مرهوناً قدم حق المجني عليه ، على حق المرتهن ، لأن حقه ثبت بطريق الاختيار ، وحق المجني عليه ثبت لا بطريق الاختيار ، فكان أقوى ، ثم حق المرتهن يرجع إلى بدل وهو الذمة ، فلا يفوت بخلاف حق المجني عليه ، فإنه يفوت بفوات العين ، ويتفرع على هذا أن المجني عليه أحق برقبة العبد من المرتهن ، حتى يستوفي حقه ، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فللمجني عليه ذلك ، فإن فعل والجناية على النفس بطل الرهن ، وإن كانت على الطرف فالرهن بحاله ، لوجود سببه ، وزوال ما يقتضي التقديم ، وكذلك إن عفا مجاناً ، وإن عفا على مال ، أو كانت الجناية ابتداء موجبة للمال ، فالسيد يخير بين فدائه أو بيعه في الجناية ، على إحدى الروايات ( والثانية ) يخير بين الفداء أو دفعه بالجناية ، ( والثالثة ) : يخير بين الثلاثة ، فإن اختار البيع والجناية مستغرقة لقيمته ، بيع فيها وبطل الرهن ، وإن لم تستغرق قيمته ، فهل يباع جميعه ، دفعاً لضرر الشريك ؟ وإذاً يكون باقي ثمنه رهناً ، أو لا يباع منه إلا قدر الجناية ، ويكون باقيه رهناً ، لسلامته من معارض ؟ فيه وجهان ، فإن اختار السيد فداءه ، قبل منه فداؤه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته ، على المشهور من الروايتين ( والثانية ) لا يقبل منه إذا اختار الفداء إلا أرش الجناية كاملة ، فإذا فداه فهو رهن بحاله ، لزوال ما تعلق به ، وإن أراد السيد الدفع في الجناية ، واختار المرتهن فداءه فله ذلك ، ثم بكم يفديه ؟ فيه الروايتان المتقدمتان ، وإذا فداه وهو متبرع لم يرجع ، وبإذن الراهن يرجع ، وبغير إذنه فيه الوجهان في من أدى عن غيره واجباً بغير إذنه ، والمشهور ثم الرجوع ، وبه قطع القاضي ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وغيرهم هنا ، وقيل : لا يرجع عنا ، وإن رجع ثم ، وهو اختيار أبي البركات ، لعدم تحتم الفداء على السيد .
( تنبيه ) : إذا شرط المرتهن جعله رهناً بالفداء مع الدين الأول صح ، قاله القاضي ، لأن الرهن مع الجناية صيرته بمنزلة الجائز ، وقيل : لا يصح ، لأن رهن المرهون لا يصح ، والله أعلم .
قال : وإذا جرح العبد المرهون أو قتل فالخصم في ذلك سيده .
ش : لأنه مالكه ومالك بدله ، والمرتهن إنما يملك حبسه ، فهو كالمستأجر ، نعم إن ترك السيد المطالبة لعذر أو غيره ، فللمرتهن المطالبة ، لأن حقه يتعلق بموجب الجناية ، قاله القاضي ، وغير واحد من أصحابه ، وفرقوا بينه وبين المودع ، على المشهور عندهم ، بأن ثم مجرد حفظ وائتمان ، بخلاف الرهن والإِجارة ، فإن له فيها حق الوثيقة والمنفعة ، والله أعلم .
قال : وما قبض بسبب ذلك من شيء فهو رهن .
ش : قد تقدم أن العبد المرهون إذا قتل أو جرح أن الخصم في ذلك هو السيد ، إلا أنه على ما قال صاحب التلخيص وغيره ليس له القصاص إلا أن يأذن الراهن ، قال في التلخيص : أو إعطائه قيمة العبد ، وجعل ابن حمدان ذلك قولًا ، فإن اقتص كذلك فلا شيء عليه ، وإلا فعليه ، أقل الأمرين ، من قيمة العبد المرهون ، أو قيمة الجاني إن كانت [ الجناية على النفس ، أو أقل الأمرين من أرش الجرح ، أو قيمة الجاني ، إن كانت ] على ما دونها ، بجعل ذلك رهناً ، لتفويته ذلك باقتصاصه على المرتهن ، أشبه ما لو كانت الجناية موجبه للمال ، هذا هو المشهور عند الأصحاب ، والمنصوص عن أحمد .
وعن القاضي وبه قطع ابن الزاغوني في الوجيز ، واختاره المجد لا شيء عليه ، لأن الجناية لا توجب مالًا ، وإن لم يقتص السيد ، بل عفا إلى مال ، أو مطلقاً وقيل : الواجب أحد شيئين أو كانت الجناية موجبة للمال ابتداء ، ثبت المال ، وأخذ فجعل رهناً مكان العبد ، لأنه بدله فقام مقامه ، وإن عفا إلى غير مال ، وقلنا : الواجب القصاص عيناً ، أو مطلقاً ، وقلنا كذلك ، كان كما لو اقتص ، فيه القولان السابقان ، قاله أبو محمد ، وصحح صاحب التلخيص أنه لا شيء على السيد هنا ، مع قطعه ثم بالوجوب كما هو المنصوص ، وإن عفا عنا لمال بعد ثبوته ، أو إلى غير مال ، وقلنا : الواجب أحد شيئين ، فهل يصح عفوه ، ويؤخذ منه أرش الجناية ، فيجعل رهناً ؟ وهو قول أبي الخطاب وصاحب التلخيص ، أو لا يصح ، ويؤخذ الأرش من قبل الجاني ؟ وهو اختيار أبي محمد ، أو يصح بالنسبة إلى الراهن دون المرتهن ، فيؤخذ الأرش فيجعل رهناً ، فإذا انفك الرهن رد الأرش إلى الجاني ؟ وهو قول القاضي ، على ثلاثة أقوال ، وعلى الثالث لو استوفي الدين من الأرش فهل يرجع الجاني على العافي أم لا ؟ فيه احتمالان ، والله أعلم .
قال : وإن اشترى منه سلعة على أن يرهنه بها شيئاً من ماله يعرفانه ، أو على أن يعطيه بالثمن حميلًا يعرفانه ، فالبيع جائز ، فإن أبى تسليم الرهن أو أبى الحميل أن يتحمل ، فالبائع مخير في فسخ البيع ، وفي إقامته بلا رهن ولا ضمين .
ش : الحميل الضمين فعيل بمعنى فاعل ، يقال : ضمين ، وحميل ، وكفيل ، وزعيم ، وقبيل ، وصبير ، بمعنى ، فإذا اشترى شيئاً وشرط للبائع رهناً أو ضميناً على الثمن ، صح البيع والشرط ، لأنه شرط واحد ، من مصلحة العقد ، لما تقدم في قوله : والبيع لا يبطله شرط واحد ، ويشترط في الرهن والضمين أن يكونا معينين ، فلا يصح اشتراط أحد هذين العبدين ، كما لا يصح بيع أحدهما ، ولا ضمان أحد هذين الرجلين ، لأن الغرض يختلف ، وإذا صح الشرط فإن حصل الوفاء به فلا كلام ، وإن لم يحصل الوفاء به بأن امتنع من عين للضمان منه إذ هو التزام ، فلا يلزمه بدون رضاه ، كبقية الالتزامات أو امتنع المشتري من تسليم الرهن ، لأن الشرط لا يوجب عليه ذلك فإن البائع يخير بين فسخ العقد ، لفوات الشرط عليه ، وبين إمضائه بلا رهن ولا كفيل ، ثم هل له الأرش إذاً إلحاقاً له بالعيوب ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ، ويحكى عن ابن عقيل في العمد ، أو لا أرش له ، إلحاقاً له بالتدليس ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، والقاضي ، وأبي الخطاب ، وصاحب التلخيص فيه ، والسامري ، وأبي محمد ؟ على قولين ، واتفق الفريقان على وجوب الأرش عند تعذر الرد ، على مقتضى قول المجد ، والله أعلم .
قال : ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشي إلا ما كان مركوباً أو محلوباً ، فيركب ويحلب بقدر العلف .
ش : نماء الرهن ملك للراهن ، إذ النماء تابع للملك .
2028 وعن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( لا يغلق الرهن ، لصاحبه غنمه ، وعليه غرمه ) رواه الشافعي والدارقطني وحسن إسناده ، وروي مرسلًا عن سعيد ، وناهيك بمراسيله ، قال الشافعي رحمه الله : غنمه زيادته ، وغرمه هلاكه ونقصه ، انتهى ، وإذا كان النماء للراهن فلا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء ، لا من الأصل ، ولا من النماء .
2029 لقول النبي : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ) نعم إن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع ، ولم يكن الدين عن قرض جاز لوجود طيب النفس .
2030 وإن كان الدين عن قرض لم يجز ، حذاراً من ( قرض جر منفعة ) .
وهل يستثنى مما تقدم إذا كان الرهن مركوباً أو محلوباً أو لا ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) لا ، فلا ينتفع المرتهن من ذلك بشيء إلا بإذن مالكه ، كما تقدم للحديث .
2031 وعن إبراهيم النخعي وذكر له قوله : ( الرهن محلوب ومركوب ) فقال : إن كانوا ليكرهون أن يستمتعوا من الرهن بشيء . رواه البيهقي .
( والثانية ) : وهي المشهورة ، والمعمول عليها في المذهب للمرتهن أن يركب ما يركب ، ويحلب ما يحلب ، بمقدار العلف ، متحرياً للعدل في ذلك .
2032 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول لله : ( الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً ، ولبن الدار يشرب بنفقته إذا كان محلوباً ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة ) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي ، وقول الشافعي رحمه الله : يشبه قول أبي هريرة أن من رهن ذات ظهر ودر لم يمنع الراهن ظهرها ودرها ، لأن له رقبتها .
2023 يرده ما في المسند ( إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ، ولبن الدر يشرب ، وعلى الذي يشرب نفقته ) فجعل المنفق هو المرتهن ، فيكون هو المنتفع ، ثم قوله : ( الظهر يركب بنفقته ) أي بسبب نفقته ، وهو إشارة إلى أن الانتفاع عوض النفقة ) أي بسبب نفقته ، وهو إشارة إلى أن الانتفاع عوض النفقة ، وذلك إنما يتأتى في المرتهن ، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه ليسا بسبب المعاوضة ، وإنما ذلك بسبب الملك ، ولأن ذلك محض مصلحة ، من غير مفسدة ، ومبنى الشرع على ذلك ، وبيانه أن منفعة الركوب لو تركت لذهبت مجاناً ، وكذلك اللبن لو ترك لفسد ، وبيعه أولًا فأولًا ربما تعذر ، ثم هذا الحيوان لا بد له من نفقة ، فأخذها من مالكه ربما أضر به ، وربما تعذر أخذها منه ، فإن بيع بعض الرهن فيها فقد يفوت الرهن بالكلية ، فجوز الشارع للمرتهن الإِنفاق والاستيفاء بقدره ، إذ لا حرج عليه في ذلك ، بل فيه دفع الحرج عنه ، وحفظ الرهن ، وإذاً تحصل المصلحة من الطرفين . انتهى .
ويدخل في المحلوب إذا كانت أمة مرضعة ، فإن للمرتهن أن يسترضعها بقدر نفقتها ، كما أشار إليه أبو بكر في التنبيه ، ونص عليه ابن حمدان ، وهل يلحق بالمركوب والمحلوب ما يخدم من عبد أو أمة ؟ فيه روايتان ( أشهرهما ) لا ، قصراً للنص على مورده ، كما أشار إليه الإِمام في رواية الأثرم ، إذ الأصل المنع مطلقاً .
2034 لقوله : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ) خرج منه ما تقدم ( والثانية ) نعم ، قياساً على ما تقدم ، لفهم العلة وهو ذهاب المنفعة .
إذا عرف هذا فشرط الاستيفاء أن يكون بقدر العلف ، مع تحري العدل ، ولا ينهك ولا يعجف بالركوب والحلاب ، حذاراً من الضرر المنفي شرعاً ، ثم إن فضل من اللبن شيء عن النفقة ولم يمكن بقاؤه إلى وقت حلول الدين ، فإن المرتهن يبيعه إن أذن له في ذلك ، أو الحاكم إن لم يؤذن له ، ويجعل ثمنه رهناً ، وإن فضل من النفقة شيء رجع به على الراهن ، قاله أبو بكر ، و ابن أبي موسى ، وغيرهما ، وظاهر كلامهم الرجوع هنا ، وإن لم يرجع إذا أنفق على الرهن في غير هذه الصورة ، لكن ينبغي إذا أنفق متطوعاً أنه لا يرجع بلا ريب .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لجواز الإنفاق والاستيفاء فيما تقدم تعذر النفقة من المالك بامتناعه أو غيبته ، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية ، وأبي البركات ، وطائفة ، وصرح به أبو محمد في المغني ، نظراً لإِطلاق الحديث ، وشرط أبو بكر في التنبيه امتناع الراهن من النفقة ، والقاضي في الجامع الصغير ، وأبو الخطاب في خلافه وصاحب التلخيص وغيرهم غيبة الراهن ، وابن عقيل في التذكرة إذا لم يترك له راهنه نفقة ، وينبغي أن يكون هذا محل وفاق .
( تنبيه ) : قوله : ( لا يغلق الرهن ) في رواية ( من صاحبه ) الحديث أي لا يستحقه المرتهن ، يقال : غلق الرهن إذا لم يوف الراهن الحق ، فاستحق المرتهن الرهن ، قال زهير :
وفارقتك برهن لا فكاك له

يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

فأخبر النبي أن الرهن لا يغلق ، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث مرسل .
2035 فروى البيهقي في سننه بسنده إلى معاوية بن عبد الله بن جعفر ، قال رسول الله : ( لا يغلق الرهن ) وإن رجلًا رهن داراً بالمدينة إلى أجل ، فلما جاء الأجل قال الذي ارتهن : هي لي . فقال رسول الله : ( لا يغلق الرهن ) انتهى .
2036 وقال معمر : قلت للزهري : يا أبا بكر قوله : ( الرهن لا يغلق ) قال : يقول : إن لم آتك إلى كذا وكذا فهو لك . والله أعلم .
قال : وغلة الدار وخدمة العبد ، وحمل الشاة وغيرها ، وثمرة الشجرة المرهونة من الرهن .
ش : نماء الرهن كأجرة الدار والعبد ، وما يكتسبه باصطياد ونحوه وثمرة الشجرة وولد الأمة ونحو ذلك تبع للرهن ، فيكون مرهوناً كالأصل ، لأنه حكم ثبت في العين بعقد المالك ، فدخل فيه النماء والمنافع كالملك ، ولا يرد قوله : ( له غنمه ) لأنا نقول بموجبه ، وأن الغنم مال للراهن ، ولا يمنع ذلك من تعلق حق المرتهن به كالأصل .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله جواز إجارة المرهون في الجملة ، مع بقائه على الرهنية واللزوم ، لقوله : وغلة الدار . ولا غلة للدار إلا بالإِجارة ، وهذا اختيار أبي محمد ، وإحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، نص عليها في رواية ابن منصور ، فقال : له أن يكريه بإذن الراهن ، وتكون الأجرة للراهن . ( والثانية ) : يزول لزوم الرهن بذلك ، أومأ إليها في رواية ابن منصور أيضاً ، في رجل ارتهن داراً فأكراها من صاحبها ، فلا تكون رهناً حتى ينقضي ذلك ، فإذا انتقضى كراه رجعت إليه وصارت رهناً ، ونحوه نقل ابن ثواب ، وهذا اختيار أبي بكر في الخلاف ، قال : إن منافع الرهن تعطل ، ومبنى الخلاف على ما أشار إليه أبو الخطاب في الانتصار ، أن مقصود الرهن هل هو الاستيفاء من ثمنه ، عند تعذر الاستيفاء من الغريم ، والاختصاص به دون بقية الغرماء ، وذلك لا ينافي إجارته ، أو ذلك مع استحقاق حبسه ، وكونه تحت اليد على الدوام ، والإِجارة تخرجه عن يده .
وفي المذهب قول ثالث : إن أجر المرتهن بإذن الراهن فالرهن بحاله ، لعدم خروجه عن يد المرتهن وتصرفه ، وإن أجر الراهن بإذن المرتهن ، خرج من الرهن ، لخروجه إلى يد الراهن ، وإلى هذا القول ميل أبي الخطاب ، ومنصوص أحمد مما يدل على ذلك ، ومحل الخلاف إذا اتفقا على الإِيجار ، أما إن امتنع أحدهما من الإِيجار فإن منافعه تعطل على المذهب ، واختار ابن حمدان أنها لا تعطل ، فيجبر من أبى منهما على الإِيجار ، والحكم في إعارته كالحكم في إجارته ، والله أعلم .
قال : ومؤونة الرهن على الراهن .
ش : مؤونة الرهن من طعام ، وكسوة ، ومسكن ، وغير ذلك على الراهن ، لأن ملكه ، فكان ذلك عليه كبقية الأملاك ، وقد تقدم قوله : ( له غنمه ، وعليه غرمه ) والمؤونة من الغرم ، والله أعلم .
قال : وإن كان عبداً فمات فعليه كفنه .
ش : لأن الكفن من الغرم وهو عليه ، والله أعلم .
قال : وإن كان مما يخزن فعليه كراء مخزنه .
ش : لأنه من مؤونته ، وهي عليه لما تقدم ، والله أعلم .
قال : والرهن إذا تلف بغير جناية من المرتهن ، رجع المرتهن بحقه عند محله ، وكانت المصيبة فيه من راهنه ، وإن كان تعدى المرتهن ، أو لم يحرزه ضمن .
ش : الرهن أمانة في يد المرتهن ، لما تقدم من قول النبي : ( لا يغلق الرهن ، لصاحبه غنمه ، وعليه غرمه ) وهذا يدل على أن الغرم على الراهن لا المرتهن ، وهذا هو المذهب المعروف . ونقل أبو طالب عن أحمد إذا ضاع الرهن عند المرتهن لزمه . وظاهرها لزوم الضمان له مطلقاً ، لكن تأول ذلك القاضي على ما إذا تعدى ، وأبى ذلك ابن عقيل ، جريا على الظاهر .
2037 وبالجملة استدل لهذه الرواية بما يروى عن النبي أنه قال : ( الرهن بما فيه ) رواه الدارقطني والبيهقي ، لكنه ضعيف ، بل قيل : إنه موضوع . على أنه يحتمل أنه محبوس بما فيه ، وبما روي عن عطاء أن رجلًا رهن فرساً فنفق في يده ، فقال رسول الله للمرتهن : ( ذهب حقه ) رواه الدارقطني أيضاً وغيره ، وهو ضعيف أيضاً مع إرساله ، وقد قال أحمد : مرسلات سعيد صحاح ، وأما الحسن وعطاء فهي أضعف المرسلات ، لأنهما كانا يأخذان عن كل .
2038 قال الشافعي : ومما يدلك على وهن هذا عند عطاء إن كان رواه أن عطاء يفتي يخلافه ، ويقول فيما ظهر هلاكه أمانة ، وفيما خفي هلاكه : يترادان الفعل . انتهى .
ويتفرع على المذهب أن المصيبة فيه كأنها حصلت من راهنه ، فلو تلف أن نقص كان ذلك على راهنه ، وحق المرتهن بحاله ، يرجع به عند محله ، هذا كله إذا لم يتعد المرتهن ولم يفرط ، أما إن تعدى بأن استعمال الرهن أو فرط بأن لم يحرزه حرز مثله ونحو ذلك فإنه يضمن ، كما يضمن المودع ونحوه ، والله أعلم .
قال : إن اختلفا في القيمة فالقول قول المرتهن مع يمينه .
ش : حيث لزم المرتهن الضمان ، فاختلف هو والراهن في قيمة العين ، وهي تالفة أن ناقصة بأن يدعي الراهن مثلًا أن قيمتها ثلاثون ، ويدعي المرتهن أن قيمتها عشرون ، ولا بينة بما قال واحد منهما ، فالقول في ذلك قول المرتهن ، لأنه غارم ، ومنكر للزيادة ، والقول قول المنكر مع يمينه ، والله أعلم .
قال : وإن اختلفا في قدر الحق فالقول قول الراهن مع يمينه ، إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة .
ش : إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الحق الذي به الرهن ، مثل أن يقول الراهن : رهنتك هذا على ألف . فيقول المرتهن : بل على ألفين . فإذاً القول قول الراهن مع يمينه ، سواء أقر بالألف الأخرى أو أنكرها ، لأنه منكر للرهن بالزيادة التي يدعيها المرتهن ، والقول قول المنكر ، وكما لو اختلفا في أصل الرهن ، وهذا مع عدم البينة ، أما إن وجدت ، فإن الحكم لها ، لأنها تبين الحق وتظهره .
وقول الخرقي : إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة . الشرط راجع لهذه الصورة والتي قبلها ، والله أعلم .
قال : والمرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الغرماء حتى يستوفي حقه ، حياً كان الراهن أو ميتاً .
ش : لا يختلف المذهب فيما نعلمه أن المرتهن أحق بثمن الرهن إلى أن يستوفي حقه من بقية الغرماء ، في حياة الراهن لترجح حقه على حق غيره ، والراجح مقدم ، وبيانه أن حقه قد تعلق بالعين والذمة ، وحق غيره إنما تعلق بالذمة فقط ، فعلى هذا إذا حجر على الراهن لفلس فإن المرتهن يقدم بثمن الرهن ، فإن كان وفق حقه فلا كلام ، وإن نقص ضرب مع الغرماء بالنقص ، وإن زاد رد الفاضل على الغرماء .
أما مع موت الراهن . وضيق التركة عن جميع الديون ، فهل المرتهن أسوة الغرماء ، لأن التركة انتقلت إلى الورثة ، وتعلق حق الغرماء بها تعلقاً واحداً ، أو يقدم بثمن الرهن كما في حال الحياة ، إذ التركة إنما تنتقل إلى الورثة بصفة ما كانت للموروث ، وهذا هو المعروف عند الأصحاب ؟ على روايتين منصوصتين ، ولا يرد على الخرقي إذا جنى العبد المرهون ، فإن حق المجني عليه يقدم على الراهن ، لأن المجني عليه في الحقيقة ليس غريماً للراهن ، إذ حقه متعلق بعين الرهن فقط ، لا بذمة الراهن ، مع أن الخرقي قد ذكر حكم ذلك ، والله أعلم .
قال :
باب المفلس

ش : المفلس في عرف الفقهاء من فلسه الحاكم بالحجر عليه ، وسببه أن يكثر دينه على ماله ، ويطلب ذلك الغرماء ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى ، والفلس في اللغة ذهاب المال غير الفلوس ، قال ابن فلوس : يقال : أفلس الرجل . إذا صار ذا فلوس ، بعد أن كان ذا دراهم ، وقيل : هو العدم ، يقال : أفلس بالحجة إذا عدمها ، وقيل : هو من قولهم : تمر مفلس . إذا خرج منه نواه ، فهو خروج الإِنسان من ماله ، وعلى هذا سمي المفلس مفلساً ، وإن كان له مال يضيق عن دينه ، لأن ماله مستحق للصرف ، أشبه من لا مال له ، أو باعتبار ما يؤول إليه ، لأنه يؤول إلى أنه لا شيء له .
2039 وفي الصحيحين أن النبي قال لأصحابه : ( أتدرون من المفلس ؟ قالوا : يا رسول الله إن المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : ( ليس ذلك المفلس ، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ، ويأتي وقد ظلم هذا ، وأخذ من عرض هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم فرد عليه ، ثم طرح في النار ) فأخبرت الصحابة رضي الله عنهم عن المفلس في عرفهم ولغتهم ، وهو الذي لا شيء له ، فقال : هذا الفلس كلا فلس ، إنما الفلس المعتبر ، الذي معه الحسرة العظيمة ، والفقر الدائم ، هو فلس الآخرة ، حتى أن فلس الدنيا عنده بمنزلة الغنى .
2040 ونحو هذا قوله : ( ليس الغنى عن كثرة العرض ، إنما الغنى غنى النفس ) والله أعلم .
قال : وإذا فلس الحاكم رجلًا فأصاب أحد الغرماء عين ماله فهو أحق به .
ش : إذا ثبت على شخص دين حال ببيّنة أو إقرار ، وماله أقل منه قال ابن حمدان : أو قدره ، ولا كسب له ، ولا ما ينفق عليه منه ، أو خيف تصرفه فيه . انتهى فسأل غرماؤه قال في التلخيص : أو بعضهم ودينهم أكثر من ماله ، وحكى ابن حمدان ذلك قولًا . انتهى الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم ، لأن النبي حجر على معاذ ، وباع ماله [ في دينه .
2041 فروى البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه أن النبي حجر على معاذ بن جبل ماله ، وباعه ] في دين كان عليه ، وكان معاذ شاباً حليماً سمحاً ، من أفضل شباب قومه ، ولم يكن يمسك شيئاً ، فلم يزل يدان ، حتى أغرق ماله كله في الدين ، فأتى النبي فكلم غرماءه ، فلو تركوا أحداً من أجل أحد لتركوا معاذاً من أجل رسول الله ، فباع لهم رسول الله يعني ماله ، حتى قام معاذ بغير شيء .
2042 وكذلك حجر عمر رضي الله عنه على الأسيفع ، أسيفع جهينة .
فإذا حجر الحاكم عليه وهو معنى تفليسه له ترتب بذلك أحكام ( أحدها ) تعلق حق غرمائه بماله ، فلا يقبل إقراره عليه ، ولا يصح تصرفه المستأنف فيه ، إلا بالعتق على رواية ، وخرج بقيد ( المستأنف ) الرد بالعيب فيما اشتراه قبل الحجر ، والفسخ لخيار مشترط كذلك ، فإن تصرفه في ذلك صحيح ، لكن هل يتقيد بالأحظ ؟ وفي التلخيص أنه قياس المذهب بناء على إجبار المفلس على اكتساب المال بما لا منة عليه فيه ، أو لا يتقيد بذلك ، وهو المشهور ، لعدم استقرار العقد إذاً ؟ فيه قولان ، وبقيد ( المال ) التصرف في الذمة ، وكذلك التصرف في البضع ، وفي الدم ، وفي النسب ، ( والحكم الثاني ) بيع الحاكم ماله ، وقسم ثمنه بين غرمائه لما تقدم ، ( الثالث ) : انقطاع المطالبة عنه ما دام كذلك ، لظهور عسرته ، ووجوب إنظاره إلى ميسرته .
( الرابع ) : أن من وجد من الغرماء متاعه بعينه عنده فهو أحق به من بقية الغرماء ، بمعنى أن له فسخ البيع ، وأخذ سلعته ، بشروط تذكر إن شاء الله تعالى ، وهذه مسألة الكتاب .
2043 وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس ، أو إنسان قد أفلس فهو أحق به ) وفي رواية ( متاعه بعينه ) متفق عليهما .
2044 ومن ثم قضى بذلك عثمان رضي الله عنه ، رواه عنه البيهقي ، ولقد بالغ إمامنا رحمه الله في اتباع السنة كما هو دأبه ، فقال : لو أن حاكماً حكم أنه أسوة الغرماء ، ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث ، رد حكم الحاكم .
ومقتضى كلام الخرقي أن الفسخ والرجوع لا يفتقر إلى حكم حاكم ، وهو كذلك ، لثبوت ذلك بالنص ، فهو كخيار المعتقة ومن ثم أجاز أحمد نقض حكم من حكم بخلاف ذلك ، وعموم كلامه يشمل البيع ، والقرض ، والدابة ، والأرض المؤجرة إذا أفلس المستأجر قبل مضي مدة لمثلها أجر ، وكذلك الصداق ، كأن يصداق امرأة عيناً ، ثم يستحق الرجوع فيها أو في نصفها ، بأن ينفسخ النكاح لسبب من جهتها كردتها ، أو من جهته كطلاقه وقد أفلست فإنه يرجع في عين ماله بشرطه .
وقوة كلام المصنف يقتضي أن الرجوع في عين المال مختص ببيع ونحوه وجد قبل الفلس ، فيخرج ما وجد بعده فلا يرجع فيه ، وهو أحد الوجوه ، لدخوله على بصيرة أو تفريطه ، ( والثاني ) : يرجع أيضاً ، لإِطلاق الخبر ، ( والثالث ) : يفرق بين العلم بالفلس وعدمه ، وهو حسن .
( تنبيه ) : ( الأسيفع ) تصغير ( أسفع ) والسفعة في اللون السواد ، والله أعلم .
قال : إلا أن يشأ تركه ، ويكون أسوة الغرماء .
ش : يعني أن البائع إذا وجد ماله بعينه عند من أفلس ، فإنه يخير ، إن شاء رجع فيه لما تقدم ، وإن شاء لم يرجع ، وكان أسوة الغرماء ، لأن الشارع جعله أحق به وأولى به ، ولم يحتم ذلك عليه ، وظاهر كلام المصنف أنه لو بذل له الغرماء الثمن ، لم يلزمه القبول ، لأنه لم يستثن ذلك ، ونص عليه أحمد ، لظاهر الخبر ، ودفعا للمنة عنه ، [ نعم إن بذلوا الثمن للمفلس فبذله له امتنع عليه الفسخ ، لزوال سببه وهو عجزه عن أخذ الثمن ] ، ومن ثم لو أسقط الغرماء حقوقهم ، أو وهب له مال بحيث يمكن أداء الثمن زال الفسخ ، والله أعلم .
قال : فإن كانت السلعة قد تلف بعضها ، أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها ، أو نقد بعض ثمنها ، كان البائع فيها كأسوة الغرماء .
ش : قد تقدم أن أحد الغرماء إذا وجد متاعه بعينه عند من فلسه الحاكم أنه أحق به ، لكن ذلك بشروط ( أحدها ) أن يكون المتاع باقياً بحاله ، لم يتلف بعضه ، فإن تلف بعضه كأن تلف بعض الدار ، أو الثوب ، أو الثمرة المبيعة مع الشجرة ، أو قطعت بعض أطراف العبد ، ونحو ذلك فلا رجوع للبائع ، بل يكون أسوة الغرماء ، نظراً للخبر ، فإنه لم يجد المتاع بعينه ، فلو تعدد المبيع ، كعبدين أو ثوبين ، فتلف أحدهما فهل يمتنع الرجوع رأساً ، أو يرجع في الموجود ، ويضرب مع الغرماء بقسط التالف من الثمن ؟ فيه روايتان ، ولعل مبناهما أن العقد هل يتعدد بتعدد المبيع أم لا ؟ وحكم انتقال البعض ببيع ونحوه حكم التلف ، نعم إن عاد المنتقل إلى ملك المفلس فهل هو كالذي لم يزل ، أو كالذي لم يعد ؟ فيه وجهان مشهوران ، وحكى أبو محمد وجهاً ثالثاً : إن عاد بسبب جديد كبيع أو هبة ، ونحوهما فكالذي لم يعد ، وإن عاد بفسخ كالإِقالة ، والرد بالعيب فكالذي لم يزل ، وجعل أبو محمد من صور تلف البعض إذا استأجر أرضاً للزرع ، فأفلس بعد مضي مدة لمثلها أجرة ، تنزيلًا للمدة منزلة المبيع ، ومضي بعضها بمنزلة تلف بعضه ، وقال القاضي ، وصاحب التلخيص : له الرجوع ، ويلزمه تبقية زرع المفلس بأجرة المثل ، ثم هل يضرب بها مع الغرماء ، وهو المحكي عن القاضي أو يقدم بها عليهم وهو الذي في التلخيص ؟ على وجهين .
وقد فهم من كلام الخرقي بطريق التنبيه فيما إذا تلف المبيع جميعه ، فإنه لا رجوع ، وكذلك لو انتقل عنه ، وفهم من كلامه أيضاً أن نقص الصفات كالهزال ، ونسيان صناعة ونحو ذلك لا يمنع الرجوع ، وهو كذلك ، لأن المتاع موجود بعينه ، وإذا أخذ إنما يأخذ بجميع حقه ، واختلف في وطء البكر ، وجرح العبد ، هل هو من فقد الصفات فلا يمنع الرجوع وبه قطع أبو بكر أو من فقد الأجزاء فيمنع ؟ على وجهين ، أما وطء الثيب فبمنزلة فقد الصفات على المشهور ، وأجرى ابن أبي موسى فيه الوجهين ، وإذا قيل بالرجوع مع الجرح ، فإن كان الجرح مما لا أرش له ، كالحاصل بفعل بهيمة أو المفلس ، ونحو ذلك فلا شيء له مع الرجوع ، وإن كان مما له أرش كالحاصل بفعل أجنبي ، نظر ما نقص من قيمته ، فرجع بقسطه من الثمن ، قاله أبو محمد ، وقياس جعله من باب فقد الصفات ، أنه لا شيء له مطلقاً .
( تنبيه ) : إذا خلط المبيع أو بعضه بما لا يتميز منه كأن كان زيتاً فخلطه بمثله ، ونحو ذلك فقال أبو محمد : يسقط حقه من الرجوع ، لأنه لم يجد عين ماله ، [ وقد يقال : إنه ينبني على الوجهين في أن الخلط هل هو بمنزلة الإِتلاف أم لا ؟ ولا نسلم أنه لم يجد عين ماله ] ، بل وجده حكماً .
( الشرط الثاني ) : أن لا يزيد المتاع زيادة متصلة ، كالسمن ، وتعلم صناعة ، ونحو ذلك ، على اختيار الخرقي ، والشيرازي ، ولم يعتبر ذلك الإِمام في رواية الميموني ، بل جوز للبائع الرجوع بالزيادة مجاناً ، ومناط ذلك أن المبيع مع الزيادة المتصلة هل خرج عن أن يكون بعينه أم لا ؟ وخرج من كلام الخرقي الزيادة المنفصلة ، فإنها لا تمنع الرجوع في الجملة ، بلا خلاف نعلمه بين الأصحاب ، لوجود المتاع بعينه ، ثمهل تكون الزيادة للمفلس في الجملة ويحتمله كلام الخرقي ، لمنعه من الرجوع مع الزيادة المتصلة ، وهو اختيار ابن حامد ، والقاضي في روايتيه ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وأبي محمد ، لأنهما نماء ملكه أو للبائع وهو اختيار أبي بكر ، والقاضي في الجامع ، تمسكاً بإطلاق أحمد في رواية حنبل في ولد الجارية ، ونتاج الداية ، أنه للبائع ، وهو محمول عند ابن أبي موسى ، وابن حامد ، والقاضي ، وأبي محمد على ما إذا باعها حاملًا ؟ عل قولين ، فعلى الأول لو كانت الزيادة ولد الأمة فهل يمتنع الرجوع مطلقاً ، لتعذر التفرقة الممنوع منها شرعاً وهو قول ابن أبي موسى أو لا يمتنع إلا إن امتنع البائع من دفع القيمة ، أما إن دفع قيمة الولد فله الرجوع ، أو لا يمتنع مطلقاً ، بل تباع الأم وولدها ، ويصرف للبائع ما خص الأم من الثمن ، على أنها ذات ولد ؟ على ثلاثة أوجه .
ويدخل في قول الخرقي : أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها . ما إذا زادت بصناعة ، كقصارة ، ونحو ذلك ، وهو أحد الوجهين ، واختيار ابن أبي موسى ، ( والثاني ) وقال صاحب التلخيص : إنه المذهب لا يمنع ذلك الرجوع ، ثم هل تسلم للبائع مجاناً ، كالزيادة المتصلة على المنصوص أم عليه الأجرة ؟ فيه وجهان ، وقد تحرز الخرقي بقوله : مزيدة بما لا تنفصل زيادتها . عما إذا كان المتاع باباً فسمر فيه مسامير ، أو نحو ذلك ، فإن الزيادة تنفصل ، ويرجع البائع في عين ماله .
( الشرط الثالث ) : أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئاً ، فإن قبض منه شيئاً سقط حقه في الرجوع .
2045 لأن في الحديث في رواية لأبي داود ( أيما رجل باع سلعة ، فأدرك سلعته بعينها ، عند رجل قد أفلس ، ولم يقبض من ثمنها شيئاً فهي له ، فإن كان قضاه من ثمنها شيئاً فما بقي فهو أسوة الغرماء ) وفي معنى قبض البعض الإِبراء منه ، والله أعلم .
قال : ومن وجب له بشاهد فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه ويستحقوا .
ش : لأنهم غير مدعين ، واليمين إنما هي على المدعي مع شاهده .
2046 لقوله : ( البينة على المدعي ) واليمين لا تدخلها النيابة ومقتضى قول الخرقي أن المفلس إذا حلف صح حلفه ، وهو كذلك ، وأنه إذا لم يحلف لم يجبر ، وهو كذلك ، لاحتمال قيام شبهة عنده تمنعه من اليمين ، والله أعلم .
قال : وإذا كان على المفلس ديون مؤجلة لم تحل بالتفليس .
ش : هذا المذهب المشهور ، حتى أن القاضي جعله رواية واحدة ، لأن الأجل حق للمفلس ، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ، وعنه : يحل . حكاها أبو الخطاب ، دفعاً للضرر عن ربه ، ( وعنه ) : إن وثق لم يحل ، لزوال الضرر ، وإلا حل ، نقلها ابن منصور ، فإن قلنا بحلوله فهو كبقية الديون الحال ، وإن قلنا بعدم حلوله ، فإنه لا يوقف لربه شيء ، ولا يرجع على الغرماء به إذا حل ، نعم إذا حل قبل القسم شارك الغرماء ، [ وإن حل بعد قسمة البعض شاكهم أيضاً ، وضرب بجميع دينه ، وباقي الغرماء ] ببقية ديونهم ، والله أعلم .
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15