كتاب : شرح الزركشي على مختصر الخرقي
المؤلف : شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي

للذمي ، والعشرة للحربي ، لأن المسلم لا يجب عليه فيما دون العشرين ، فكذلك الذمي ، والعشرة في حق الحربي كالعشرين في حق الذمي . واعتبر القاضي أبو الحسين للذمي عشرة ، وللحربي خمسة ، إذ الخمسة في حق الحربي كالعشرة في حق الذمي .
ومقتضى كلام الخرقي أنه إنما يؤخذ من مال التجارة لا من غيره ، وهو كذلك ، فلو مر الذمي بنا منتقلًا ، ومعه أمواله لم يؤخذ منه شيء ، ثم هو يشمل جميع أموال التجارة ، وكذا ظاهر كلام جماعة من الأصحاب ، وقال القاضي : إذا دخلوا لنقل ميرة بالناس حاجة إليها أذن لهم في الدخول بغير عشر ، ومال إلى هذا أبو محمد ، لكنه عمم في الكافي ، فجوز للإِمام الترك رأساً للمصلحة .
3492 لما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر ، يريد بذلك أن يكثر الحمل بالمدينة ، ويأخذ من القطنية العشر ؛ وهذا دليل على التخفيف عنهم للمصلحة ، وإذاً له الترك للمصلحة ، ( قلت ) : وهذا والله أعلم كان في المستأمنين ، إذ غيرهم يؤخذ منهم نصف العشر مطلقاً ، واختلف في الخمر والخنزير المتبايع بينهم هل يعشران أو لا يعشران ؟ على روايتين منصوصتين .
3493 وقد اضطرب في النقل عن عمر رضي الله عنه وخرج أبو البركات قولًا بتعشير ثمن الخمر دون الخنزير ، بناء والله أعلم على أنها مال دون الخنزير ، ولو كان في يد التاجر منهم جارية فادعى أنها أخته أو نحو ذلك ، فهل يقبل قوله ، لأن الأصل عدم الملك فيها ، أو لا يقبل نظراً لليد ؟ فيه روايتان ، ولا يقبل مجرد قوله : إن عليه ديناً ، نظراً للأصل ، فإن ثبت ذلك فقال أبو محمد : ظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع الأخذ منه إذا كان الدين بقدر ما عليه ، أو ينقص به نصابه المعتبر ، قياساً على الزكاة .
قال : ومن نقض العهد بمخالفته شيئاً مما صولحوا عليه حل دمه ماله .
ش : ينبغي للإِمام عند عقد الذمة أن يشترط عليهم شروطاً ، كما روي في السنة ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم ، الذي رواه أبو داود في مصالحة النبي أهل نجران ، فقال : ( ما لم تحدثوا حدثاً ، أو تأكلوا الربا ) والحدث الشيء الذي ينكر فعله .
3494 وفي البخاري وسنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أتى رسول الله أهل خيبر ، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم ، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل ، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ، ولرسول الله الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح ، ويخرجون منها ، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد ، فغيبوا مسكاً فيه مال وحلي لحيِّي بن أخطب ، كان احتمله معه إلى خيبر ، حين أجليت النضير ، فقال رسول الله لعم حيي واسمه سعية ( ما فعل مسك حيي الذي جاء به من بني النضير ؟ ) فقال : أذهبته النفقات والحروب ، فقال : ( العهد القريب ، والمال أكثر من ذلك ) وقد كان حيي قتل قبل ذلك ، فدفع رسول الله سعية إلى الزبير فمسه بعذاب ، فقال : قد رأيت حيياً يطوف في خربة رسول الله ابني أبي الحقيق ، أحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب ، وسبى رسول الله نساءهم وذراريهم ، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا ، وذكر الحديث إلى آخره .
3495 وروى سفيان الثوري عن مسروق ، عن عبد الرحمن ، قال : كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام ، وشرط فيها أن لا يحدثوا في مدينتهم ، ولا ما حولها ديراً ولا كنيسة ، ولا قلية ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب ، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم ، ولا يأووا جاسوساً ، ولا يكتموا غشاً للمسلمين ، ولا يعلموا أولادهم القرآن ، ولا يظهروا شركاً ، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإِسلام إن أرادوه ، وأن يوقروا المسلمين ، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا رأوا الجلوس ، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ولا فرق شعر ، ولا يتسموا بأسماء المسلمين ولا يتكنوا بكناهم ، ولا يركبوا سرجاً ولا يتقلدوا سيفاً ، ولا يتخذوا شيئاً من سلاح ، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ، ولا يبيعوا الخمور ، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم ، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا ، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ، ولا يظهروا صليباً ، ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين ، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيفاً ، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ، ولا يخرجوا شعانين ، ولا يرفعوا مع أمواتهم أصواتهم ، ولا يظهروا النيران معهم ، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين ، فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم ، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق . ورواه الخلال بنحو من هذا ، وزاد عليه ، وفيه قال : ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده .
إذا تقرر هذا فإذا شرط عليهم الإِمام هذه الشروط ونحوها مما روي عن عمر رضي الله عنه كما هو مقرر في موضعه ، فخالف بعضهم شيئاً منها ، فظاهر كلام الخرقي أن عهده ينتقض بذلك ، هو مقتضى ما تقدم ، إذ في حديث ابن عباس رضي الله عنهما : ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الربا . وفي قصة خيبر أن النبي قتل وسبى ، وأخذ المال بالنكث الذي نكثوا ، وفي قصة عمر رضي الله عنه : ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده . وقال : فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم ، وقد تقدم .
وظاهر كلامه أيضاً أن ما لم يصالحوا عليه لا ينتقض به عهدهم وإن لزمهم ، لعدم دخولهم على ذلك ، ولا يرد عليه بذل الجزية ، والتزام أحكام الملة ، لأن عقد الذمة عبارة عن هذين ، فمتى زالا أو أحدهما زال عقد الذمة .
وأما حكم المذهب فملخصه أن ما لزم أهل الذمة بشرط أو غيره كما هو مقرر في موضعه ينقسم أربعة أقسام ، ( أحدها ) ما ينتقض به العهد بلا خلاف ، وهو ما إذا امتنعوا من بذل الجزية ، والتزام أحكام الملة لما تقدم ، لكن قال أبو محمد في المغني : إذا حكم بها حاكم . ولم أر هذا الشرط لغيره ، وكذلك قتال المسلمين ، لأن إطلاق الأمان يقتضي ترك القتال ، فإذا فعلوه نقضوا الأمان ، ( الثاني ) ما لا ينتقض به إلا أن يشترط عليهم ، كما يقوله الخرقي ، وهو قذف المسلم أو إيذاؤه في تصرفاته بسحر ، على المنصوص في رواية الجماعة .
3496 لما روى أنس رضي الله عنه أن امرأة يهودية أتت رسول الله بشاة مسمومة ، فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله فسألها عن ذلك فقالت : أردت أن أقتلك . قال : ( ما كان الله ليسلطك على ذلك ) قالوا : ألا نقتلها ؟ قال : ( لا ) فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله رواه أحمد ، والأذى بالقذف دون ذلك ، وقيل ينتقض ، وحكاه أبو محمد في المقنع رواية ، ولعله أراد مخرجة مما سيأتي .
( والثالث ) ما ينتقض به على المنصوص والمختار للأصحاب ، وإن لم يشترط عليهم ، كما إذا فتن المسلم عن دينه أو قتله ، أو قطع الطريق عليه ، أو الزنا بمسلمة ، أو التجسس للكفار ، أو إيواء جاسوس ، أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء ، ذكر هذه الشيخان وغيرهما ، وزاد أبو محمد وغيره ذكر دين الله بسوء ، وزاد جماعة أصاب مسلمة بعقد نكاح ، أو الاجتماع على قتال المسلمين ، ثم إن أبا الخطاب في خلافة الصغير قيد القتل بأن يكون عمداً وهو حسن ، وأطلقه غيره ، وقد جاء في القتل قول عمر رضي الله عنه : ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده ، وجاء في سب رسول الله ما تقدم في قتل سابه .
3497 وجاء في قتل من تجسس ما روي عن فرات بن حيان رضي الله عنه أن رسول الله أمر بقتله ، وكان عيناً لأبي سفيان ، وحليفاً لرجل من الأنصار ، فمر بحليفه من الأنصار ، فقال : إني مسلم . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله إنه يقول : إنه مسلم . فقال رسول الله : ( إن منكم رجالًا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان ) . رواه أحمد وأبو داود ، وترجمه بحكم الجاسوس الذمي .
3498 وجاء في الزنا ما روي أن عمر رضي الله عنه رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا ، فقال : ما على هذا صالحناكم . وأمر به فصلب في بيت المقدس ، وبقية الصور في معنى ذلك ، وحكى كثير من أصحاب القاضي ، وتبعهم أبو محمد رواية أخرى بعدم النقض بذلك ما لم يشترط عليهم ، على رأي الخرقي ، وقال أبو البركات : إنهم خرجوها من نصه في القذف ، واختار هو التفرقة ، وتقرير النصوص على بابها .
( الرابع ) ما عدا ذلك من عدم إظهار المنكر ، وعدم رفع صوتهم بكتابهم ، ونحو ذلك مما هو مذكور في أحكام الذمة ، فهذا لا خلاف فيما أعلمه أنه إذا لم يشترط عليهم لا ينتقض به عهدهم ، وأما إن شرط عليهم فقولان ، اختار الخرقي النقض كما تقدم ، واختيار الأكثرين عدمه ، وحيث لم ينتقض العهد فإنه يلزمه موجب ما فعله من حد أو قصاص وإلا يعزر ، قال أبو محمد : وفعل به ما ينكف به أمثاله عن فعله ، وحيث انتقض العهد به فإن كان بسب الرسول تعين قتله كما تقدم ، وإن أسلم على المذهب ، وإن كان بغير ذلك فظاهر كلام الخرقي تعين قتله ، وهو المنصوص ، وظاهر قصة فرات بن حيان ، وقطع فيه أبو محمد بالتخيير كالأسير الحربي ، وهو اختيار القاضي .
ومن انتقض عهده في نفسه انتقض عهده في ماله ، على ما قاله الخرقي ، وهو ظاهر كلام الإِمام ، واختيار أبي البركات فيكون فيئاً ، لأن المال لا حرمة له في نفسه ، إنما هو تابع لمالكه حقيقة ، وقد انتقض عهد المالك في نفسه ، فكذلك في ماله ، ( وقال أبو بكر ) لا ينتقض العهد في ماله ، كما لا ينتقض في نسائه وذريته على ما تقدم ، فعلى هذا يدفع إليه إن طلبه ، وإن مات فهو لورثته ، فإن لم يكن له وارث فهو فيء .
قال : ومن هرب إلى دار الحرب من ذمتنا ناقضاً للعهد عاد حربا لنا .
ش : يعني أنه يصير حكمه حكم الحربي الأصلي ، فيخير الإِمام فيه إذا قدر عليه كالأسير الحربي ، وينتقض عهد ماله إعمالًا لحكم الدار ، ولا خلاف فيما أعلمه في التخيير ، أما انتقاض عهد ماله ففيه الخلاف ، فإذا قيل بعدم النقض فيه فقد تقدم أنه يعطاه إن طلبه ، وإن مات فهو لورثته ، ولو لم يمت حتى أسر واسترق فقيل يوقف ماله ، ثم إن عتق رد إليه وإن مات رقيقاً ففي كونه فيئا أو لورثته لو كان حراً وجهان ، واختار أبو البركات أنه يصير فيئا بمجرد استرقاقه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

كتاب الصيد والذبائح


ش : الصيد في الأصل مصدر صاد يصيد صيداً فهو صائد ، ثم أطلق على المصيد ، تسمية للمفعول بالمصدر ، قال الله تعالى : 19 ( { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ) والصيد : قال ابن أبي الفتح : ما كان ممتنعاً حلالًا لا مالك له . والأجود قول بعضهم : ما كان متوحشاً طبعاً ، غير مقدور عليه ، مأكولًا بنوعه .
والأصل في إباحته في الجملة الإجماع ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : 19 ( { يسألونك ماذا أحل لهم ، قل أحل لكم الطيبات ، وما علمتم من الجوارح } ) . الآية . وقوله تعالى : 19 ( { أحل لكم صيد البحر } ) . الآية . وقوله : 19 ( { وإذا حللتم فاصطادوا } ) . ومن السنة فكثير ، وسيأتي طرف من ذلك إن شاء الله تعالى .
قال : ومن سمى فأرسل كلبه أو فهده المعلم فاصطاد وقتل ولم يأكل منه جاز أكله .
ش : وذلك لقوله تعالى : 19 ( { يسألونك ماذا أحل لهم ، قل أحل لكم الطيبات ، وما علمتم من الجوارح مكلبين ، تعلمونهن مما علمكم الله ، فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه } ) . أي أحل الطيبات ، وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح ، وقرينة ذلك قوله تعالى : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم } ) ولو لم يقدر ذلك لزم أن يحل ما علمنا من الجوارح كالكلب ونحوه ، ولا قائل بذلك ، إذ القائل بحل الكلب لا يخصه بالمعلم .
3499 وقد روى أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إنا بأرض صيد ، أصيد بقوسي ، وبكلبي المعلم ، وبكلبي الذي غير معلم ، فما يصلح لي . ؟ فقال : ( ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك المعلم ، فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت تذكاته فكل ) .
3500 وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي ، وأذكر اسم الله ؛ فقال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ) قلت : وإن قتلن ؟ قال : ( وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس معها ) قلت : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؟ قال : ( إذا رميت بالمعراض فخرق فكله ، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله ) . متفق عليهما .
إذا تقرر هذا فيشترط لإباحة الصيد شروط .
( أحدها ) : التسبمية عند إرسال الجارح ، على المشهور والمختار للأصحاب من الروايات ، لما تقدم من الآية الكريمة ، ولقوله تعالى : 19 ( { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ) . الآية ، أمر سبحانه بالتسمية ، كما أن النهي ظاهر في التحريم ، ولحديثي أبي ثعلبة وعدي بن حاتم رضي الله عنهما فإنه وقف حل الأكل على التسمية ، فقال : ( وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل ) . وفي رواية في الصحيح ( واذكر اسم الله ) بصيغة الأمر ، ( والرواية الثانية ) لا تشترط التسمية مطلقاً [ وإنما تسن ، حملًا لهذه الظواهر على ذكر اسم الله بالقلب ، وهو لا يخلو حال المسلم عنه ] وفي لفظ في الصحيح أيضاً في حديث عدي : فإن وجدت مع كلبي كلباً آخر فلا أدري أيهما أخذه ؟ قال : فلا تأكل ، فإنما سميت على كلبك ، ولم تسم على غيره ) وهو لا يخلو حال المسلم عنه إذ معنى ذلك القصد إلى فعل ما أباحه الله تعالى على الوجه الذي شرعه ، وأصل ذلك أن الذكر هو التنبه بالقلب للمذكور . ومنه قوله تعالى : 19 ( { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } ) .
3501 وقوله : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) ثم يسمى القول الدال على الذكر ذكرا .
3502 وقد روى أبو داود في المراسيل ، وأسنده الدارقطني قال : قال رسول الله : ( ذبيحة المسلم حلال ، ذكر اسم الله أو لم يذكر ، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله ) 8 .
3503 وعن أبي هريرة رضي الله عنه فيمن نسي التسمية .
قال : قال رسول الله : ( اسم الله على فم كل مسلم ) . رواه الدارقطني . وقد قال الزجاج في قوله تعالى : 19 ( { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ) أي ما لم يخلصوا ذبحه لله ونحوه . قال أحمد : في معنى الميتة ، وقيل : إن الآية المراد بها ذبائح المشركين . وعلى هذه الرواية تسن خروجاً من الخلاف .
( والرواية الثالثة ) : تشترط في العمدة ، ولا تشترط في السهو .
3504 [ لعموم قول النبي : ( عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ) . الحديث .
ولا نزاع أن المذهب هو الأول ، وحمل التسمية على ذكر الله بالقلب خلاف ظاهر اللفظ ، ثم لا تخصيص للصيد بذلك إذ جميع ما يفعله المكلف يجب أن يذكر اسم الله تعالى فيه بأن يفعله على الوجه ذكره سبحانه ، ثم قول النبي : ( فإنما سميت على كلبك ، ولم تسم على غيره ) ظاهر في إبطال هذا التأويل ، وحديثاً ( ذبيحة المسلم حلال ) ، ( واسم الله على فم كل مسلم ) ضعيفان عند أهل المعرفة بالحديث ، والعفو في النسيان عن الإثم ، ثم قصارى النسيان أن يجعل الموجود كالمعدوم ، كالأكل في الصوم ، والكلام في الصلاة ، ونحو ذلك ، لا أنه يجعل المعدوم كالموجود ، بدليل أن من نسي الطهارة أو الستارة ونحوهما لا تصح صلاته ، وقد خطأ الخلال حنبلا في التفرقة هنا بين العمد والسهو ، وقال : إن في أول مسألته إذا نسي وقتل لم يأكل .
إذا تقرر هذا فصفة التسمية المعتبر ( بسم الله ) .
3505 وقد ثبت أن رسول الله كان إذا ذبح قال : ( بسم الله والله أكبر ) فإن كبر أو هلل ، أو سبح بدلًا عنها لم يجزئه . نص عليه أحمد في رواية أبي طالب في التكبير والتحميد ، نظر إلى أن النبي بين ذلك بقوله : ( بسم الله ) فيقتصر عليه ، وللشيخين احتمال بالإِجزاء ، لأنه يصدق عليه أنه ذكر اسم الله ، فيدخل في الآية والحديث ، ولا نزاع أنه لو قال : اللهم اغفر لي ، أنه لا يجزئه ، إذ ذلك طلب حاجة ، ولو سمى بغير العربية وهو يحسنها فقولان ، نظرا إلى ما تقدم من أن المقصود المعنى أو اللفظ ، وأبو محدم جزم هنا بالجواز ، وهو موافق لاحتماله ثم ، و القاضي بالمنع ، وقال : إنه المنصوص ، وأظنه أراد رواية أبي طالب .
ومحل التسمية عند الإِرسال ، لأنه الفعل الموجود من المرسل ، فاعتبرت التسمية عنده ، كما تعتبر عند الذبح من الذابح ، ولا يضر التقديم اليسير كالنية في العبادات ، وكذلك التأخير اليسير على إطلاق أحمد ، قال : إذا أرسل ثم سمى فانزجر ، أو أرسل فسمى . فالمعنى قريب من السواء ، وصرح بذلك أبو بكر في التنبيه ، وكذلك في التأخر الكثير ، بشرط أن يزجره فينزجر ، كما دل عليه كلام أحمد ، وقاله أبو محمد والشيرازي ، نظراً إلى أن الإرسال بدون تسمية وجوده كعدمه ، لفقدان شرطه ، فتعلق الحكم بالزجر ، ومنع ذلك القاضي ، نطراً إلى أن الحكم تعلق بالإِرسال الأول .
( تنبيه ) : عموم كلام الخرقي يشمل الكتابي ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى لإطلاق : 19 ( { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ) . ولعله الحكمة في عدم التصريح بالفاعل ، وقياساً على المسلم . ( والرواية الثانية ) لا تشترط التسمية في حق الكتابي ، بخلاف المسلم ، لإِطلاق 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) .
3506 قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أي ذبائحهم . وهي من آخر ما نزل ، ونصوص السنة ، وكذلك قوله تعالى : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه } ) الخطاب فيه للمسلم .
( الشرط الثاني ) : أن يرسل الجارح قاصداً للصيد ، لقول النبي : ( إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله عليه فكل ) فعلق الحل على ذكر اسم الله مع إرسال كلبه المعلم ، ( وأفعل ) فعل الفاعل ، فلا بد أن يوجد منه فعل ، وعلى هذا لو استرسل الكلب أو الفهد بنفسه لم يبح ، نعم لو استرسل بنفسه فزجره فزاد في طلب الصيد فإنه يباح ، لأن زجره لما أثر في عدوه صار بمنزلة إرساله له ، إذ فعل الإنسان متى انضاف إلى فعل غيره أنيط الحكم بالإِنسان ، بدليل ما لو صال كلب على آدمي فأغراه آخر تعلق الضمان عليه به . ( ويحتمل ) كلام الخرقي المنع ، لأنه إنما علق الحكم بالإِرسال .
( الشرط الثالث ) : أن يكون الجارح معلماً بلا نزاع ، للآية الكريمة ، ولحديثي أبي ثعلبة وعدي بن حاتم رضي الله عنهما وتعليم ذي الناب كالكلب والفهد بأن يسترسل إذا أرسل ، وينزجر إذا زجر بلا نزاع ، وبأنه إذا أمسك لم يأكل ، لقوله تعالى : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم } ) . والإِمساك علينا بأنه لا يأكل إذا أمسك علي نفسه ) وفي رواية ( فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ) فدل على أن إمساكه علينا علامته ترك الأكل .
3507 وقد صرح بذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل ، فإنما أمسكه على نفسه ، وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل ، فإنما أمسك على صاحبه ) رواه أحمد .
3508 ولا يعارض هذا ما رواه أبو داود وغيره في حديث أبي ثعلبة : ( إذا أرسلت كلبك ينظر هل فيه ( المعلم ) وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه ) لترجح ما تقدم بكثرة رواته وصحته ، ثم هو محمول على كلب معلم أكل بعد تعليمه ، ومن ثم اختلف عن الإِمام أحمد رحمه الله فيما أكل منه الصائد بعد تعليمه هل يحرم ؟ على روايتين ، ( إحداهما ) وهو المذهب بحرم ، تقديما لحديث عدي لصحته ، قال أحمد : حديث الشعبي عن عدي من أصح ما روي عن النبي وقال في حديث أبي ثعلبة : يختلفون عن هشيم فيه ؛ ولاعتضاده بحديث ابن عباس رضي الله عنهما . وظاهر قوله تعالى : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم } ) . ( والثانية ) لا يحرم ، لحديث أبي ثعلبة ، جمعاً بين الدليلين كما تقدم ، وأحمد رحمه الله جمع بأن حمل حديث عدي على الكراهة .
3509 فقال : الرخصة في الكلب يأكل من صيده أربعة من أصحاب النبي ، وإنما حديث عدي في الكراهة . قلت : ويخرج لنا من هذا أنه لا يعتبر ترك الأكل في التعليم رأساً ، إذ العمدة في ذلك حديث عدي ، وقد حمله الإِمام على الكراهة ، وقد يقال : العمدة الآية ، ويرجح حمل حديث عدي على الكراهة قول النبي فيه في الصحيح : ( فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ) فعلله بالخوف .
ويرشح ذلك بأن عديا رضي الله عنه لما كان موسعاً عليه أفتاه بالكف ، ورعا ، بخلاف أبي ثعلبة .
إذا تقرر هذا فهل يعتبر فيما ذكرناه من التعليم التكرار ، لاحتمال أن يكون تركه في أول مرة شبعاً ؟ التكرار ، لاحتمال أن يكون تركه في أول مرة شبعا ؟ وهو قول القاضي ، واختيار أبي محمد في المغني وغيرهما ، أولًا يعتبر التكرار ، بل يكتفي بأول مرة ، وبه قطع أبو الخطاب في كتابيه ، والشريف وأبو محمد في المقنع ، وأورده أبو البكرات مذهباً ، لأنه تعليم صناعة ، فلا يعتبر فيه التكرار كسائر الصنائع ؟ على قولين ، ( وعلى الأول ) هل المرجع في ذلك إلى العرف من غير تقدير بمرة أو مرات ، لعدم التقدير من الشارع ، وهو قول ابن البنا في الخصال ، أو يعتبر أن يكرر ذلك منه مرتين ، فيباح صيده في الثالثة ، أو ثلاثة مرات فيباح صيده في الرابعة ، وهو قول القاضي ، ولعل أصل القولين الروايتان في التكرار في الحيض ؟ على ثلاثة أقوال .
( تنبيه ) . الانزجار بالزجر يعتبر قبل إرساله على الصيد أو رؤيته ، أما بعد ذلك فإنه لا ينزجر بحال .
( الشرط الرابع ) أن يكون الإرسال على صيد ، فإن أرسل وهو لا يرى شيئاً فأصاب صيداً لم يبح ، إذ الإِرسال جعل بمنزلة الذكاة ، ولو نصب سكينا لا لقصد الصيد ، فانذبحت بها شاة لم تبح ، كذلك ها هنا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا الشرط مزيد تمام عند قوله : إذا رمس صيدا فأصاب غيره ، ومن ثم يؤخذ هذا . ( الشرط الخامس ) أن يكون الصائد من أهل الذكاة ، فإن كان وثنياً أو مرتداً ، أو من غير المسلمين وأهل الكتاب ، أو مجنوناً ونحو ذلك لم يبح صيده ، إذ الاصطياد أقيم مقام الذكاة ، والصائد بمنزلة المذكي ، ولهذا قال النبي : ( فإن أخذ الكلب ذكاته ) وإذاً تشترط الأهلية في المذكي ، وهذ الشرط يؤخذ من قول الخرقي : ولا يؤكل صيد مرتد ، وبقية الشروط أخذها من كلامه واضح ، واختلف في شرطين آخرين .
( أحدهما ) هل يعتبر في الجارح المعلم أن لا يأكل من الصيد ؟ وقد تقدم فيه روايتان ، وتقدم أن المذهب اعتبار ذلك ، وهو الذي ذكره الخرقي ، وعليه لو شرب من دمه ولم يأكل فإنه لا يحرم ، إذ المنع إنما ورد في أكل ما أكل منه الكلب ، فيبقى فيما عداه على مقتضى عموم الآية والخبر .
( والثاني ) : هل يعتبر في الجارح أن يجرح الصيد ، فلا يباح ما قتله بخنقه أو صدمته ، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه ، وبه قطع القاضي في الجامع ، والشريف ، والشيرازي ، وأبو محمد في المغني ، أو لا يعتبر فيباح ذلك ، وهو اختيار ابن حامد ، وظاهر كلام الخرقي ، وقال القاضي في المجرد : إنه ظاهر كلام أحمد ؟ على روايتين ، مناطهما أن خنق الجارح أو صدمه هل هو بمنزلة قتل المعراض بعرضه أم لا ؟ .
3510 ويرشح الأول مفهوم قول النبي : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ) ويرشح الثاني قول النبي : ( فإن أدركته حياً فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاته ) . . متفق عليه ، وهو يشمل القتل صدماً أو خنقاً . وأيضاً فالجارح حيوان له اختيار ما ، وقد أمسك على صاحبه ، فيدخل تحت قوله : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم } ) ، بخلاف المعراض ، فإنه لا يقال فيه : أمسك عليك .
قال : فإن أكل الكلب أو الفهد من الصيد لم يؤكل منه ، لأن أمسكه على نفسه ، فبطل أن يكوم معلماً .
ش : قد تقدمت هذه المسألة ، وقد نبه الخرقي على علتها ، وهو كونه أمسكه على نفسه ، ثم قوله : بطل أن يكون معلما . ظاهر أنه يصير كالمبتدئ تعليمه ، فيعتبر له شروط التعليم ابتداء ، وظاهر كلام أحمد وهو اختيار أبي محمد عدم ذلك ، لاحتمال أن يكون ذلك لفرط جوع أو نحو ذلك .
قال : وإذا أرسل البازي أو ما أشبهه فاصطاد وقتل أكل وإن أكلد من الصيد ، لأن تعليمه بأن يأكل .
ش : مذهب أحمد رحمه لله أنه لا يقتصر على الكلب في الصيد ، بل يلحق به ما في معناه مما يقبل التعليم ويصطاف به من سباع البهائم كالفهد ، كما ذكر الخرقي رحمه الله ، والنمر كما ذكر بعضهم ، أو جوارح الطير كالبازي والصقر ونحوهما ، نظراً للمعنى ، إذ ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلًا ، فلا فارق في المعنى ، وهذا هو القياس في معنى الأصل .
3511 ولما روي عن عدي رضي الله عنه أن النبي قال : ( ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليه ) قلت : وإن قتل : قال : ( وإن قتل ولم يأكل منه شيئاً ، فإنما أمسك عليك ) رواه الإمام أحمد وأبو داود ، ثم قوله تعالى : 19 ( { وما علمتم من الجوارح } ) الجوارح يشمل الجميع ، إذ الجوارح الكواسب ، ومنه قوله تعالى : 19 ( { ويعلم ما جرحتم بالنهار } ) أي كسبتم ، وقوله سبحانه : 19 ( { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } ) وقوله تعالى : 19 ( { مكلبين } ) ، أي مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب ، فالتكليب التضرية ، وقال أبو محمد : التكليب الإِغراء .
إذا تقرر هذا فلا بد في الجميع من التعليم بلا ريب ، فتعليم الفهد ونحوه من سباع البهائم كما تقدم في الكلب ، وأما جوارح الطير فبأن ينزجر إذا زجر ، ويجيب إذا دعي ، ولا يعتبر ترك الأكل ، فيخالف الكلب من هذه الحيثية .
وقد أشار الخرقي إلى الفرق ، وهو أن تعليم الجوارح بالأكل ، ويتعذر تعليمها بدونه ، بخلاف الكلب ونحوه .
5312 وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل الصيد ، وإذا أكل الصقر فكل ، لأنك تستطيع أن تضرب الكلب ، ولا تستطيع أن تضرب الصقر . رواه الخلال ، فإن قيل : فحديث عدي صريح في التسوية بين الكلب والبازي ؟ قيل : هو كذلك ، لكنه من رواية مجالد وهو ضعيف عندهم ، قال أحمد رضي الله عنه تصير القصة واحدة : كم من أعجوبة لمجالد ! والرواية الصحيحة تخالفه . اه والله أعلم .
قال : ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود إذا كان بهيما ، لأنه شيطان .
ش : قذ ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وأشار إلى دليله وهو أنه شيطان ، والشيطان آلة محرمة ، وإباحة الصيد المقتول رخصة ، والرخصة لا تباح بمحرم .
3513 ودليل كونه شيطاناً ما روى جابر رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله بقتل الكلاب ، حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله ، ثم نهى رسول الله عن قتلها ، وقال : ( عليكم بالأسود البهيم ذي الطفيتين فإنه شيطان ) . رواه أحمد ومسلم .
3514 وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ، فاقتلوا منها الأسود البهيم ) . رواه الخمسة وصححه الترمذي ، ثم إنه مأمور بقتله ، وإذاً يحرم اقتناؤه وتعليمه ، فلم يبح صيده كغير المعلم ، وقد قال أحمد : لا أعلم أحداً يرخص فيه يعني من السلف .
تنبيه ) : البهيم الذي لا يخالطه لون آخر قال ثعلب وإبراهيم الحربي : كل لون لم يخالطه لون آخر فهو بهيم ، قيل لهما : من كل لون ؟ قالا : نعم ، فإن كان فيه نكتتان فوق عينيه فهل يخرج بذلك عن كونه بهيما ؟ فيه روايتان أصحهما وبه قطع أبو محمد لا ، للخبر .
قال : وإذا أدرك الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات لم يؤكل .
ش : الذي تقدم للخرقي فيما إذا قتل الجارح الصيد ، وأما إذتا لم يقتله وأدركه الصائد حياً فلا يخلو إما أن يكون فيه حياة مستقرة أم لا ، تفإن لم يكن بل كانت كحياة المذبوح فإنه يحل بلا ريب ، إذ ذلك مذكى ، أو بمنزلة المذكى ، فالذكاة لا تفيد فيه شيئاً ، وإن كانت فيه حياة مستقرة فلا يخلو إما أن يتسع الزمان لذكاته أم لا ، فإن لم يتسع فهو كالأول ، لأنه لم يقدر على ذكاته بوجه ، أشبه الذي قبله ، وفي حديث أبي ثعلبة ( فأدركت ذكاته فكل ) أي فذكه وكل ، وهذا لم يدرك ذكاته ، فلم يدخل تحت الأمر بالذكاة ، وإن اتسع الزمان لذكاته لم يحل إلا بها ، لأنه حيوان مقدور عليه ، وأشبه ما لو لم يصده ، وقد تقدم قول النبي في حديث عدي : ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاته ) واعلم أن هذا التقسيم تبعت فيه أبا محمد ، وقد يقال : إن القسم الأول لا يدخل تحت التقسيم ، إذا ما حركته كحركة المذبوح هو بإطلاق المذكى عليه أولى من إطلاق الحي ، وعلى هذا لا يدخل هذا القسم تحت كلام الخرقي ، نعم كلامه يشمل القسمين الآخيرين ، وهذا ظاهر حديث عدي .
قال : فإن لم يكن معه ما يذكيه به أشلى الصائد له عليه حتى يقتله فيؤكل .
ش : هذا إحدى الروايات عن إمامنا رحمه الله واختيار الخرقي ، وأبي الخطاب في الهداية ، لأنه صيد قتله الجارح ، من غير إمكان ذكاته فيباح ، كما لو أدركه ميتاً يحققه أن قتل الجارح الصيد ، إنما جعل ذكاة له رخصة لتعذر تذكيته ، وهذا قد تعذرت تذكيته ، ومقتضى هذه الرواية أنه لو مات من غير إشلاء لم يحل وإن كان عن قرب ، وهو اختيار أبي محدم وأبي الخطاب ، لأنه حيوان مقدور عليه أشبه ما لو وجد آله ، ( والرواية الثاني ) : عكس هذه الرواية ، يحل بالموت من الجرح عن قرب الزمان ، دون إشلاء الصائد ، اختاره القاضي أظنه في المجرد ، إذ ما قارب الشيء بمنزلته ، ولو كان الزمان لا يتسع للذكاة أبيح ، فكذلك ما قاربه ، وأما قتل الجارح فإنما يؤثر في غير المقدور عليه ، وهذا مقدور عليه ، ( والرواية الثالثة ) : يحل بهما بإشلاء الجارح ، أو الموت عن قرب الزمان لما تقدم ، ( والرواية الرابعة ) : وهي اختيار أبي بكر وابن عقيل في التذكرة لا يحل مطلقاً ، وهو الراجح ، لظاهر حديثي عدي وأبي ثعلبة ، فإنهما ظاهران في وجوب تذكية ما أدركه حياً ، ولأنه مقدور عليه ، فأشبه بهيمة الأنعام ، وقرب الزمان فسره أبو البركات بأن لا يمضي عليه معظم يوم .
ومحل الخلاف إذا لم يوجد ما يذكيه به ، كما ذكره الخرقي ، وفي معناه إذا كان يمكنه الذهاب به إلى منزله فيذكيه ونحو ذلك ، فإنه لا يحل إلا بالذكاة .
( تنبيه ) : ( أشلى ) بمع نى ذعى ، يقال : أشليت الكلب . إذا دعوته إليك ، والعامة تقول : أشليته إذا حرضته على الصيد وأغريته به ، وإنما يقال في ذلك أشرته على الصيد ، فعلى هذا يحمل كلام الخرقي على أنه دعاه ثم أرسله ، لأن إرساله على الصيد يتضمن دعاءه إليه ، مع أن بعضهم أجاز أشلى بمعنى أغرى .
قال : وإذا أرسل كلبه فأصاب معه غيره لم يأكل الصيد إلا أن يدركه في الحياة فيذكيه .
ش : أما إذا أدركه في الحياة وذكاه فواضح ، وأما إذا لم يدركه في الحياة ، والحال ما تقدم فإنما لم يحل لأن في حديث عدي ( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ) قلت : وإن قتلن ؟ قال ؛ ( وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس معها ) وفي رواية : ( وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل ) وفي رواية : قلت : فإن وجدت مع كلبي كلباً آخر ، فلا أدري أيهما أخذه ؟ قال : فلا تأكل ، فإنما سميت على كلبك ، ولم تسم على غيره ) وفي رواية ( فإن وجدت عنده كلب آخر ، فخشيت أن يكون أخذه معه وقد قتلنه فلا تأكل ، فإنما ذكرت اسم الله على كلبك ، ولم تذكر على غيره ) وروى الجميع مسلم .
وقد علم من تعليل هذه الروايات وعليه يحمل كلام الخرقي أن هذا الحكم في كل كلب جهل حاله هل سمي عليه أو لم يسم ، وهل استرسل بنفسه أو أرسله صاحبه ، أو جهل حال مرسله هل هو من أهل الذكاة أم لا ، ولا يعلم أيهما قتله ، أو يعلم أنهما قتلاه ، معاً ، وكذلك بطريق الأولى إن علم أن المجهول هو القاتل ، أما إن علم حال الكلب الذي وجده مع كلبه ، وأن الشرائط المعتبرة قد وجدت فيه ، فإنه يحل ، ثم إن كان الكلبان قد قتلاه معاً فهو لصاحبيهما ، وإن علم أن أحدهما قتله فهو لصاحبه ، وإن جهل الحال فإن كان الكلبان متعلقين به فهو بينهما ، كما لو كان الصيد في يد عبديهما ، وإن كان أحدهما متعلقاً به دون الآخر ، فهو لمن كلبه متعلق به ، إذ هو بمنزلة يده ، وعلى من حكم له به اليمين كصاحب اليد ، وإن كان الكلبان ناحية والصيد قتيل ، فقال أبو محمد : يقتف الأمر حتى يصطلحا ، وحكى احتمالًا بالقرعة ، فمن قرع حلف وأخذ ، وهذا قياس المذهب فيما إذا تداعيا عينا ليست بيد أحد ، وعلى الأول إن خيف فساده بيع واصطلحا على ثمنه ، والله أعلم .
قال : وإذا سمى ورمى صيداً فأصاب غيره جاز أكله .
ش : لعموم قوله تعالى : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم } ) ، وحديث عدي وغيره ، ونه أرسل آلة الصيد قاصداً للصيد ، فحل ما صاده ، كما لو أرسلها على كبار ، فتفرقت عن صغار ، فأخذها على مالك ، أو كما لو أخذ صيداً لا يحل في طريقه على الشافعي .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو رمى لا إلى صيد فأصاب صيداً أنه لا يحل ، لأن قوله عليه السلام ( إذا أرسلت كلبك ) معناه إلى صيد ، وهنا لم يرسل إلى صيد ، ولأبي محمد في الكافي احتمال بالحل ، كما لو أرسل على صيد فأصاب غيره ، وعموم مفهوم كلام الخرقي يشمل ما إذا قصد غير صيداً قصداً محققاً ، كأن قصد حجراً أو هدفاً أو إنساناً فأصاب صيداً ، أو مظنوناً كأن رأى سواداً أو خشباً فظنه آدمياً ، فرماه فإذا هو صيد ، وما إذا رمى لا إلى صيد فأصاب صيداً .
وقول الخرقي : ورمى صيداً . يحتمل أن يريد ما يظنه صيداً ، إذ الأحكام تنبني على غلبة الظن ، فيدخل في ذلك ما إذا رأى سواداً فظنه صيداً ، فوجده كذلك ، وما إذا رمى حجراً يظنه صيداً محققاً ، فيخرج هاتين الصورتين ، لكن صورة السواد لم نر فيها خلاقاً .
وقد علم من كلام الخرقي جواز الصيد بالسهام ، ويلحق بها ما في معناها من المحددات ، ولا نزاع في ذلك وفي الصحيح في حديث عدي : ( وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله ) وفي حديث أبي ثعلبة : ( ما صدت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم كل ) .
قال : وإذا رماه فغاب عن عينيه ، فأصابه ميتاً وسهمه فيه ، ولا أثر به غيره ، جاز أكله .
ش : هذا هو المشهور من الروايات ، واختيار الخرقي والقاضي ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وأبي محمد وغيرهم .
3515 لأن في حديث عدي : ( وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه ، فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت ، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل ) رواه مسلم وغيره ، وفي رواية ( إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس فيه إلا أثر سهمك فكل ، فإن وقع في الماء فلا تأكل ) . رواه البخاري .
3516 وفي حديث أبي ثعلبة الخشني : ( إذا رميت بسهمك فغاب عنك فكل ما لم ينتن ) وفي رواية : في الذي يدرك صيده بعد ثلاث فكله ما لم ينتن . رواهما مسلم وغيره .
( والرواية الثانية ) إن غاب نهاراً فلا بأس ، وإن غاب ليلًا لم يأكله ، قال في رواية ابن منصور : إذا غاب الصيد فلا تأكله إذا كان ليلًا ، وإذا كان نهاراً ولم ير به أثراً غيره يأكله .
3517 لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إذا رميت فأقعصت فكل ، وإن رميت فوجدت فيه سهمك من يومك أو ليلتك فكل ، وإن بات عنك ليلة فلا تأكل ، فإنك لا تدري ما حدث فيه بعدك .
( والرواية الثالثة ) إن كان جرحه موحياً حل وإن فلا ، لأن مع الإيحاء يبعد تأثير المشاركة ، بخلاف ما إذا لم يوح .
3518 وفي بعض روايات حديث عدي رضي الله عنه قال : سألت رسول الله قلت : أرضنا أرض صيد ، فيرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه ليلة أو ليلتين ، فيجد فيه سهمه ؟ قال : ( إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثراً غيره ، وعلمت أن سمهمك قتله فكله ) . رواه أحمد والنسائي ، وفي رواية أخرى قلت : يا رسول الله أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد ؟ قال : ( إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكله ) . رواه الترمذي وصححه . فوقف الحل على العلم بكون سهمه قتله ، ولا نعلم ذلك إلا إذا كان الجرح موحياً .
( والرواية الرابعة ) : إن غاب مدة طويلة لم يبح ، وإن كانت يسيرة أبيح ، قيل له : إن غاب يوما ؟ قال : يوم كثير . ذكرها أبو محمد ، ولم يذكرها عامة الأصحاب ، كأنهم حملوها على الرواية الثانية .
وعن أحمد ( رواية خامسة ) كراهية ما غاب مطلقاً .
3519 ويروى نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما خروجاً من الخلاف .
والمذهب هو الأول بلا ريب . وأرجح الروايات بعده رواية التفرقة بين الإِيحاء وعدمه ، بناء على الزيادة المذكورة في حديث عدي ، وقد تقدم أن الترمذي صحح ذلك ، والزيادة من الثقة مقبولة ، ويجاب عن ذلك بأن رواية الصحيحين وغيرهما تخالف ذلك ، أو يحمل العلم بالقتل على الظن ، وإذا وجد فيه سهمه أو أثره فقد ظن أن سهمه قتله ، وإذاً تتفق الروايان .
واعلم أن علم المذهب يشترط للحل شرطان :
( أحدهما ) أن يجد فيه سهمه ، ليتحقق وجود السبب المقتضي للحل ، إذ الأصل عدم ما سواه ، ويقوم مقام وجود سهمه وجود أثره ، قاله الشيخان وغيرهما ، لما تقدم في حديث عدي رضي الله عنه ( ليس به إلا أثر سهمك فكل ) . وفي رواية ( فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل ) وظاهر ذلك الاكتفاء بأثر السهم . وكلام الخرقي وطائفة من الأصحاب يوهم اشتراط وجود سهمه فيه ، وسؤال أحمد وقع عمن عرف سهمه فيه أيأكله ؟ قال : نعم . ولو لم يجد سهمه فيه ولا أثره ، كأن غاب الصيد قبل تحقق الإِصابة ، ثم وجده عقيراً ، والسهم ناحية ، فإنه لا يباح ، لأن السبب المقتضي للحل لم يعلم ، وصل التحريم .
( الشرط الثاني ) أن لا يجد به أثراً آخر يحتلم أنه أعان في قتله ، لما تقدم في الحديث ، وذلك لأنه والحال هذه قد تحقق المعارض ، والأصل التحريم ، فم يبح بالشك ، ولو كان الأثر مما لا يحتمل القتل به كالسنور ونحوه لم يؤثر ، إذا المعارض والحال هذه وجوده كعدمه ، وفي الصحيحين في حديث عدي رضي الله عنه ( فإن وجدته قد قتل فكل ، إلا أن تجده قد وقع في ماء ، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ) وإذ كان الأثر مما لا يحتمل إعانته في القتل فقد روي أنه ليس بقاتل فلا شك .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) حكم الكلب إذا عقر ثم غاب حكم السهم ، على ما تقدم من الخلاف إن لم يجد الصيد في فمه ، فأما إن وجده في فم الكلب ، أو وهو يعبث به ، فإنه يحل بلا خلاف ، على ما حكى أبو البركات .
( الثاني ) ( ينتن ) رباعي مضموم الأول ، من : أنتن الشيء . إذا تغيرت رائحته ، وقال بعض اللغويين : يقال : أنتن اللحم إذا تغير بعد طبخه ، وقيل وأصله إذا تغير وهو نيء . وهذا الحديث يرد ما قاله ، بل يقال : أنتن اللحم نيئاً أو مطبوخا .
قال : وإذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل لم يؤكل .
ش : هذا يشمل ما إذا كانت الجراحة موحية ، كما إذا ذبحه ، أو أخرجت حشوته ونحو ذلك ، وما إذا لم تكن موحية ، ولا خلاف في التحريم إذا لم تكن موحية ، للشك في السبب المقتضي للحل ، وقد قال النبي : ( وإن وجدته قد قتله فكل ، إلا أن تجده قد وقع في ماء ، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ) . متفق عليه .
وأما إذا كانت موحية ( فعنه ) وقال أبو محمد : إنه المشهور عنه ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، و أبي بكر ، وبه جزم الشيرازي التحريم أيضاً ، لما تقدم من قوله عليه السلام ( وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل ) . رواه مسلم ، وفي البخاري ( وإن وقع في الماء فلا تأكل ) ( وعنه ) وهو الصواب ، وقال أبو محمد : إنه اختيار أكثر المتأخرين لا يحرم ، لما تقدم من قوله : ( فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ) وإذا كان الجرح موحياً فقد علم أن سهمه قتله فلا تردد ، ومحل الخلاف فيما إذا كان الماء أو التردي يقتله ، مثله ، فلو لم يكن يقتله مثله ، كما إذا كان رأس الحيوان خارجاً من الماء ، أو كان مما لا يموت بالماء كطير الماء ، فإنه لا خلاف في إباحته ، قاله أبو محمد ، إذ لا شك إذاً في أن الماء لم يقتله . ولهذا قال النبي : ( وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل ) .
( تنبيه ) لو رمى طائرا في الهواء ، أو على شجرة أو جبل فوقع إلى الأرض فمات حلّ ، قاله أبو محمد ، ولم يذكر خلافاً ، لعدم إمكان التحرز من ذلك ، ومسألة الخرقي فيما إذا رمى الصيد فوقع على جبل ، ثم تردى منه ، أو على شجرة ثم تردى منها والله أعلم .
قال رحمه الله : وإذا رمى صيداً فقتل جماعة فكل ذلك حلال .
ش : قد تقدم نحو هذه المسألة في قوله : إذا رمى صيداً فأصاب غيره . إلا أن ثم أصاب غير الصيد الذي قصده ، وهنا أصابه مع غيره ، وهو أولى بالجواز مما ثم ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا رمى صيداً فأبان منه عضماً لم يأكل ما أبان منه ، وأكل ما سواه في إحدى الروايتين عن أبي عبد اللَّه رحمه اللَّه والرواية الأخرى يأكله وما أبان منه .
ش : محل هذا الخلاف فيما إذا أبان منه عضواً وبقيت فيه حياة غير مستقرة ، وقد أشار الخرقي إلى ذلك بقوله : وأكل ما سواه . وإنما يأكل ما سواه إذا مات في الحال ، وذلك إذا كانت الحاية فيه غير مستقرة ، أما لو ضربه فقطع رأسه ، أو قطعه نصفين ، فإن هذا يحل بلا نزاع ، إذ هذا ذكاة ، ولو أبان منه عضواً وبقيت فيه حياة معتبرة فإنه لا يحل ما بان منه بلا نزاع .
3520 لانطباق قوله : عليه السلام ( ما أبين من حي فهو ميت ) عليه ، اللهم إلا أن يكون مما يحل ميتته كالسمك والجراد ، فإنه يحل ما بان منه ، إذ غاية المبان أنه ميتة ، وميتة هذا حلال .
إذا تقرر هذا ( فوجه الرواية الأولى ) قول النبي : ( ما أبين من حي فهو ميت ) . وهذا يصدق عليه أنه أبين من حي فيكون ميتاً ، ( ووجه الثانية ) وهي المشهورة ، والمختارة لعامة الأصحاب ، أبي بكر والقاضي والشريف ، وأبي الخطاب والشيرازي ، وابن عقيل وابن البنا أن ما كان ذكاة لبعض الحيوان كان ذكاة لجمعية ، والخبر نقول بموجبه ، إذ هذا ما أبين من حي ، إنما أبين ممن هو في حكم الميت ، وقد أشار أحمد إلى ذلك فقال : إنما حديث النبي ما قطعت من الحي ميتة ، إذا قطعت وهي حية تمشي وتذهب ، أما إذا كانت البينونة والموت جميعاً ، أو بعده بقليل فلا بأس به ، ألا ترى الذي يذبح ربما مكث ساعة ، وربما مشى حتى يموت . اه .
وقول الخرقي : أبان منه عضواً . ظاهره أنه لو بقي معلقاً بجلده حل بحل الصيد بلا خلاف ، وهو كذلك ، صرح به أبو الخطاب ، وغيره واللَّه أعلم .
قال رحمه اللَّه : وكذلك إذا نصب المناجل للصيد .
ش : يعني أنه يباح الصيد المقتول بها ، وأن ما أبين منه هل يحل أم لا ؟ على الخلاف والتفصيل السابق .
3521 وذلك لدخوله في عموم ( كل ما ردت عليك يدك ) ولأنه قتل الصيد بحديدة ، على الوجه المعتاد ، أشبه ما لو رماه بها ، وحكم السكاكين حكم المناجل ، ولا بدّ أن يلحظ أن شرائط الصيد موجودة في الناصب ، كأن يكون أهلاً للذكاة ويسمي ، بقي هل يشترط أن يرى الصيد كما في السهم والكلب ؟ لم أر من صرح بذلك ، بل ربما كلامهم يوهم عدم ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا صاد بالمعراض أكل ماقتل بحده ، ولم يأكل ما قتل بعرضه .
ش : في الصحيح من حديث عدي رضي اللَّه عنه قال : فقلت له : إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؟ قال : ( إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله ) وفي لفظ ( إذا أصابه بحده فكل ، وإذا أصابه بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكله ) .
( تنبيهان ) : أحدهما : المعراض خشبة ثقيلة أو عصا غليظة في طرفها حديدة ، وقد تكون بغير حديدة ، غير أنها يحدد طرفها ، وقال أبو عبيد : هو سهم لا ريش فيه ولا نصل ، والتفسير الأول أليق بالحديث ، وحكم سائر آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصيد ، وإن قتلت بحدها أبيح ، إلا أن لا تجرح .
3522 وفي المسند من حديث رضي اللَّه عنه قال : قلت يا رسول اللَّه إنا قوم نرفي فما يحل لنا ؟ قال : ( يحل لكم ما ذكرتم اسم اللَّه عليه وخزقتم فكلوا منه ) .
( الثاني ) : ( الوقيذ ) فعيل بمعنى مفعول ، أي الموقوذ ، وهو المضروب بالعصا حتى يموت ، وبه فسر قوله تعالى 19 ( { والموقوذة } ) واللَّه أعلم .
قال : وإذا رمى صيداً فعقره ، ورماه آخر فأثبته ، ورماه آخر فقتله لم يؤكل .
ش : أما عقر الأول فلم يؤثر في الصيد ملكاً لعدم إثباته له ، وأما رمي الثاني فإنه ملكه بإثباته ، لأنه أزال امتناعه ، وإذاً تتعين ذكاته للقدرة عليه ، فلما رماه الثالث فقتله لم يؤكل ، لأن ذاته بذبحه أو نحره ، ولم يوجد واحد منهما .
وكلام الخرقي محمول على أن من أثبته لم يوحه ، ولذلك نسب القتل إلى الثالث ، وعلى أن الثالث لم يذبحه ، ولذلك أتى بلفظ القتل في حقه ، أما إن كان المثبت له جرحه موحياً ، وجرح الثالث غير موح فإنه يحل بلا ريب ، لأنه قد صار بالجرح الأول في حكم المذبوح ، فلم يؤثر الثاني شيئاً ، وكذلك إن كان جرح الثالث موحياً لذلك ، وخرج التحريم من قول الخرقي فيمن ذبح فأتى على المقاتل ، فلم تخرج الروح حتى وقعت في ماء ، أو وطىء عليها شيء لم تؤكل ، وقوله أيضاً فيما إذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل لم يؤكل ، وأما إن كان الثالث أصاب مذبحه فإنه يحل ، لمصادفته محل الذب ، نعم إن قيل أن من ذبح ملك الغير لا يحل ، فكذلك ههنا .
قال : وكان لمن أثبته القيمة مجروحاً على من قتله .
ش : قد علم من هذا أن العاقر له لا شيء له ، لأنه لم يثبت له فيه حق ، لبقائه على امتناعه ، ولا عليه ، لأنه حين ضربه كان مباحاً ، أما من أثبته فله القيمة على قاتله ، لأنه ملكه بالإثبات لإزالته امتناعه ، فالثالث قتل حيواناً مملوكاً لغيره ، فيكون عليه الضمان ، وقد تقدم أن مسألة الخرقي فيما إذا كان المثبت له لم يوحه . وأن القاتل لم يذبحه .
ولنبين ذلك إن شاء اللَّه تعالى بياناً شافياً فنقول : المثبت إن أوحاه فلا شيء على الثالث إلا قيمة ما خرق من جلده ، لأنه هو الذي فوته على المثبت ، وإن كان المثبت لم يوحه فلا يخلو ، إما أن يكون الثالث ذبحه برميته أو لا ، فإن كان قد ذبحه بها فقال الشيخان في ممختصريهما : لا شيء عليه أيضاً إلا قيمة ما خرق من جلده .
وقال في المغني : عليه أرش ذبحه ، كما لو ذبح شاة لغيره ، وهذا أصوب في النظر ، فإن الفرض أن المثبت لم يوحه ، فلو ترك لعاش ، فالثالث فوت حياته ، فيكون عليه أرش ذلك ، وهو تفاوت ما بين قيمته مجروحاً حياً بالجرح الأول ، وبين قيمته مذبوحاً ، وإن لم يكن ذبحه برميته فلا يخلو إما إن يوحيه برميته أو لا ، فإن أوحاه ضمن جميعه ، لأنه حرمه على مالكه ، وحال بينه وبينه ، وكذلك إن لم يوحه ولم يدرح مالكه ذكاته ، أما إن أدرك مالكه ذكاته وذبحه أو تركه فعاش فلا شيء عليه الثالث إلا أرض جرحه ، وإن تركه بلا ذكاة حتى مات بالجرح ( فقيل ) : إن الثالث يضمن جميعه أيضاً ، نظراً إلى أنه مات من جرحين مباح ومحرم ، فاختص الضمان بالمحرم . ( وقيل ) وهو قول القاضي : يضمن نصف قيمته مجروحاً بالجرحين ، مع أرش ما نقصه بجرحه ، لأنه مات من الجرحين ، ومالكه لما ترك ذكاته اختار موته ، فتعلق الضمان بجرحه ، ثم يجب لعى الثالث مع نصف القيمة أرض ما نقه بجرحه ، لانفراده إذاً بالتعدي ، ( وقيل ) وهو اختيار أبي البركات إن الثالث إنما يضمن نصف قيمته مجروحاً بالجرح الأول لا غير ، ويدخل أرش الجرح في بدل النفس ، كما في الجناية على الآدمي ، واللَّه أعلم .
قال : ومن كان في سفينة فوثبت سمكة فسقطت في حجره فهي له دون صاحب السفينة .
ش : السمك من المباح ، يملكه من سبق إليه ، فإذا وقع في حجر إنسان فهو له ، لثبوت يد الإنسان على ما في حجره ، وهذا اختيار الخرقي ، وتبعه عليه أبو محمد وغيره ، ( وقيل ) : هو قبل الأخذ على الإباحة ، إذ حجره ملكه ، فهو كما لو وقع في أرضه صيد .
ومفهوم كلام الخرقي أن السمكة لو وقعت في السفينة كانت لمالكها ، وكذلك قال ابن أبي موسى ، وقياس القول الآخر أنها تكون قبل الأخذ على الإباحة .
قال : ولا يصاد السمك بشيء نجس .
ش : كالميتة والعذرة ونحو ذلك ، لما يتضمن من أكل السمك للنجاسة ، وكره أحمد أيضاً الصيد ببنات وَرْدَان معللاً بأن مأواها الحشوش ، وكذلك الصيد بالضفدع ، معللاً بالنهي عن قتله ، وهذا المنع من الخرقي يحتمل التحريم ويحتمل الكراهة ، وهو المشهور ، وكذلك كلام أحمد يحتمل وجهين ، لأنه كره ذل .
قال : ولا تؤكل ذبيحة مرتد ولا صيده وإن تدين بدين أهل الكتاب .
ش : لأنه كافر لا يقر على كفره ، أشبه عبده الأوثان وقوله : وإن تدين بدين أهل الكتاب . ينبه به على مذهب إسحاق والأوزاعي فإنهما أجازا ذبيحته إذا تدين بدين أهل الكتاب ، وقوله : ( ولا يؤكل صيد مرتد ) . أي ما قتله من الصيد ، أما ما لم يقتله وذكاه من هو من أهل الذكاة فلا إشكال في حله . واللَّه أعلم .
قال : ومن ترك التسمية على صيد عامداً أو ساهياً لم يؤكل .
ش : قد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرقي بين الصيد بالكلب والسهم ، وهو المذهب ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى يعفى عن تركها سهواً في السهم ، إلحاقاً له بالذبح ، بخلاف الكلب ، واللَّه أعلم .
قال : ومن ترك التسمية على الذبيحة عامداً لم تؤكل ، وإن تركها ساهياً أكلت .
ش : ملخص ذلك أن الخلاف الذي تقدم في الصيد مثله في الذبيحة ، والتوجيه كالتوجيه ، إلا أن الأصحاب لا يختلفون فيما علمت في اشتراط التسمية في ا لصيد مطلقاً ، ثم منهم من المذهب عنده في الذبيحة كذلك ، كأبي الخطاب في خلافه ، ومنهم وهم العامة من فرق بينهما ، ثم منهم من قال بعدم الاشتراط في الذبيحة مطلقاً وهو أبو بكر ، ومنهم من قال بالاشتراط في العمدية دون حالة السهوية وهم الأكثرون ، الخرقي والقاضي في روايتيه ، وأبو محمد وغيرهم .
ووجه الفرق أن اللَّه تعالى أمرنا بالتسمية على الصيد بقوله : 19 ( { واذكروا اسم اللَّه عليه } ) . وكذلك النبي في حديث أبي ثعلبة وعدي وغيرهما ، والذبيحة لم يرد فيها ذلك ، فالأصل عدم الاشتراط ، مع أن عموم قوله تعالى : 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) والظاهر أنهم لا يسمون يقتضي ذلك .
3523 وقد جاء في حديث رواه ابن منصور في سننه ، عن راشد بن سعد قال : قال رسول اللَّه : ( ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم ) . وقوله تعالى : 19 ( { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللَّه عليه } ) وقد تقدم أن المراد بها الميتة وذبائح المشركين ، وقيل المراد بها ما تعمد ترك التسمية عليه ، بدليل قوله تعالى : ( وإنه لفسق ) . مع أنها متقدمة على قوله : 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) ، ويعضد هذا من جهة المعنى أن الذبح وقع في محله ، فجاز أن يسامح فيه بخلاف الصيد .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) الجاهل بوجوب التسمية لا يعذر ، بخلاف الناسي ، ولذلك أفطر الجاهل بالأكل في الصوم دون الناسي ؛ ( الثاني ) : يشترط قصد التسمية على ما يذبحه ، فلو سمى على شاة وأخذ غيرها فذبحها بتلك التسمية لم يجزئه ، لعدم قصدها بالتسمية ، وكذلك لو رأى قطيعاً فسمى وأخذ منه شاة فذبحها بالتسمية الأولى لم يجزئه ، ولا يشترط أن يقصده بالتسمية صيداً معيناً ، فلو سمى على صيد فأصاب غيره حل ، دفعاً للحرج والمشقة ، نعم هل يشترط قصد الآلة بالتسمية ، فلو سمى على سهم ثم ألقاه وأخذ غيره فرمى بالثاني من غير تسمية لم يجزئه ، لأنه لما تعذر غالباً اعتبار التسمية على صيد بعينه اعتبرت على آلته ، أو لا يشترط كما في الذبيحة ، فإنه لو سمى على سكين ثم ألقاها وأخذ غيرها أجزأه ؟ فيه قولان ، واللَّه أعلم .
قال : وإن ند بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه وقتله أكل .
3524 ش : الأصل في ذلك ما روى رافع بن خديج قال : كنا مع النبي في سفر ، فعند بعير من إبل القوم ، ولم يكن معهم خيل ، فرماه رجل بسهم فحبسه ، فقال رسول اللَّه : ( إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش ، فما فعل منها هذا فافعلوه به هكذا ) . رواه الجماعة ، وزاد الحميدي ( وكلوه ) .
3525 وعليه يحمل حديث أبي العشراء ، عن أبيه رضي اللَّه عنهما قال : قلت : يا رسول اللَّه أما تكون الزكاة إلا في الحلق واللبة ؟ قال : ( لو طعنت في فخذها لأجزأك ) . رواه الخمسة .
وقول الخرقي : ندّ بعير : تبع فيه وقعة الحديث ، ويلحق به ما في معناه ، ولهذا عمم النبي الحكم فقال : ( إن لهذه البهائم ) . وقوله : فلم يقدر عليه . هذه صورة المسألة ، وإلا لو قدر عليه وجبت ذكاته ، وقوله : فرماه بسهم أو نحوه ، يحترز به عما لو رماه بما لا يجرحه فقتله فإنه لا يباح ، كما إذا قتل بثقل المعراض ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك إن تردى في بئر أو نحوه فلم يقدر على تذكيته ، فجرحه في أي موضع قدر عليه فقتله أكل .
ش : لأنه ساوى البعير إذا ندّ معنى ، فساواه حكماً إذ المعنى فيهما عدم القدرة على الذكاة الأصلية .
3526 ويروى أن بعيراً تردى في بئر فذكي من قبل شاكلته ، فبيع بعشرين درهماً ، فأخذ ابن عمر رضي اللَّه عنهما عشره بدرهمين واللَّه أعلم .
قال : إلا أن يكون رأسه في الماء فلا يجوز أكله ، لأن الماء يعين على قتله .
ش : يعني أن المتردي في بئر أو نحوه إذا كان رأسه في الماء فلا يحل ، لما علل به الخرقي من أن الماء قد أعان على قتله ، وإذاً حصل قتله بسبب مباح ومحرم فغلب جانب التحريم ، وأيضاً من شرط الحل وجود الذكاة المعتبرة أو مايقوم مقامها ، وهنا لم يعلم وجود ذلك ، وبهذا فارق إذا رمى الصيد فوقع في ماء وكان جرحه موحياً ، لأن ثم قد علم وجود السبب ، وشك في المانع .
وقد علم من كلام الخرقي هنا بطريق التنبيه أن من شرط الماء ثم أن يعين على قتل الصيد .
قال : والمسلم والكتابي في كل ما وصفت سواء .
ش : يعني في الاصطياد ، فيباح ما صادوه ، خلافاً لمالك في منعه في صيدهم ، بخلاف ذبائحهم ، والحجة عليه ، عموم 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) . وفي أنه يشترط لصيدهم ما يشترط لصيد المسلمين ، وكذلك يشترط لذبيحتهم التسمية حيث اشترطت في المسلمين ، وقد تقدم ، وعن أحمد في هذه المسألة روايتان ، ثم ظاهر كلام الخرقي أن حربي أهل الكتاب كذميهم ، وقد طال أحمد في ذبائح أهل الحرب : لا بأس بها . وحديث عبد اللَّه بن مغفل في الشحم قال : إسحاق أجاد . وحكى ابن المنذر إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ذلك .
وظاهر كلامه أيضاً أن عربي أهل الكتاب كغيره ، وهو إحدى الروايتين . واختيار أبي محمد ، تمسكاً بعموم الكتاب ، ( والرواية الثانية ) وهي المختارة للقاضي وأصحابه لا تباح ذبيحة نصارى العرب ، ومنهم من يحكي الخلاف في بعض العرب ، وقد تقدمت هذه المسألة في النكاح .
وظاهر كلامه أيضاً أن العبرة بالذابح لا بأبويه ، إلا أنه قد نص في النكاح على أن من أحد أبويه غير كتابي لا تؤكل ذبيحته ، ولا تنكح نساؤه ، وقد تقدم الكلام على ذلك واللَّه أعلم .
قال : ولا يأكل ما قتل بالبندق ولا الحجر لأنه موقوذة .
ش : وكذلك ما في معنى البندق والحجر مما ليس بمحدد ، كالعصا والشبكة والفخ ونحو ذلك ، والأصل في ذلك آية المائدة 19 ( { حرمت عليكم الميتة } ) إلى قوله 19 ( { والموقوذة } ) ، مع القياس على المعراض .
3527 وقد قال ابن عمر رضي اللَّه عنهما في المتقولة بالبندق : تلك الموقوذة .
3528 وعن عبد اللَّه بن المغفل رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه نهى عن الخذف ، وقال : ( إنها لا تصيد صيداً ، ولا تنكأ عدوا ، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين ) متفق عليه .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يؤكل ما قتل بالبندق أو الحجر وإن خرق ، حتى لو قطع الحجر رأس الطائر وذهب به فإنه لا يحل ، وهو كذلك ، لإطلاق ما تقدم .
3529 وعن إبراهيم عن عدي بن حاتم رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه : ( إذا رميت فسميت فخزق فكل ، وإن لم يخزق فلا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت ) . رواه أحمد ، وهو مرسل ، لأن إبراهيم لم يلق عديا ، واعلم أن كلام الخرقي محمول على حجر لا حد له ، أما ماله حد فحكمه حكم سائر المحددات إن أصابت بحدها أبيح وبغيره لم يبح .
قال : ولا يؤكل صيد المجوسي إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له .
ش : أما صيد المجوسي عدا ما لا ذكاة له كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى فإن عدم إباحته إجماع أو كالإجماع ، قال أحمد : لا أعلم أحداً قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة ، وقال أيضاً : هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأساً ، ما أعجب هذا ؟ يعرض بأبي ثور ، وقال إبراهيم الحربي : خرق أبو ثور الإجماع ، فقد حكى هذا الإمام أن ثور خرق الإجماع ، مع أن خلاف الواحد في الاعتداد به نزاع .
وقد دل مفهوم قوله تعالى : 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لم } ) . . على أن طعام غير أهل الكتاب لي حلاً لنا ، وقد دللنا على أن المجوس لا كتاب لهم في النكاح بما فيه كفاية فلينظر ثم ، وأما ما لا يشترط له ذكاة كالسمك ، وما لا يعيش إلا في الماء ، وكذلك الجراد على المذهب فإن صيد المجوس لا يضره ، لأن قصاراه أنه ميتة ، وميتة ذلك حلال .
3530 فعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه : ( أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال ) . رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني لكنه ضعيف ، وهذا واللَّه أعلم السبب في ذكر الخرقي الحوت .
وقد تقدم قول النبي في البحر : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتتة ) . قال أحمد : هذا خير من مائة حديث .
3531 وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : كل من صيد البحر صيد نصراني أو يهودي أو مجوسي . ذكره البخاري في صحيحه .
( تنبيه ) حكم من لا كتاب له كعبدة الأوثان ونحوهم حكم المجوس بطريق الأولى ، وإنما نص الخرقي على المجوس لوقوع الخلاف فيهم ، وإن كان الخلاف شاذاً .
قال : وكذلك كل ما مات من الحيتان في الماء .
ش : هذا معطوف على قوله : إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له . أي فيؤكل ، وكذلك كل ما مات من الحيتان في الماء فإنه يؤكل ، وذلك لما تقدم من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي اللَّه عنهم والخرقي نص على الحيتان اتباعاً للحديث ، فيلحق بذلك كل ما في معناه مما يسمى سمكاً ، أو مما لا يعيش إلا في البحر ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللَّه تعالى واللَّه أعلم .
قال : وإن طفا .
ش : يعني وإن طاف ما مات من الحيتان ، أي علا على وجه الماء ، وإنما ذكر الخرقي ذلك لأن بعض السلف كرهه ، والمذهب عندنا بلا ريب حله ، قال أحمد : الطافي يؤكل ، وما جزر عنه الماء أجود ، والسمك الذي نبذه البحر لم يختلف الناس فيه ، وإنما اختلفوا في الطافي ، وليس به بأس ، وذلك لعموم ما تقدم .
3532 وعن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه قال : الطافي حلال .
3533 وعن عمر رضي اللَّه عنه في قوله تعالى : 19 ( { أحل لكم صيد البحر وطعامه } ) . قال : صيده ما أصيد ، وطعامه ما رمى به ، ذكرهما البخاري في صحيحه ، وخرج أبو البركات فيه قولاً أنه لا يباح منه ما مات بلا سبب ، من رواية ضعيفة في الجراد .
3534 ووجه ذلك في الجملة ما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه : ( ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه ) . رواه أبو داود . وهذا نص ، إلا أن الصحيح وقفه على جابر ، قال أبو داود : رواه الثقات فأوقفوه على جابر ، وقد أسند من وجه ضعيف .
( تنبيه ) على المذهب هل يكره أكل الطافي ؟ ظاهر كلام أبي محمد الكراهة ، لأنه قال في حديث جابر : إن صح نحمله على نهي الكراهة ، لأنه إذا مات رسب ، فإذا انتن طفا فره لنتنه لا لتحريمه .
3535 قلت : وقد جاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما نحو هذا ، فقال في قوله تعالى : 19 ( { أحل لكم صيد البحر وطعامه } ) . طعامه ميتته إلا ما قذرت منها . ذكره البخاري في صحيحه ، وكلام أحمد السابق محتمل الكراهة وعدمها واللَّه أعلم .
قال : وذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام في الحلق واللبة .
ش : قد تقدم حكم غير المقدور عليه منهما ، أما المقدور عليه منهما فإن ذكاته في الحلق واللبة والذكاة هي الذبح والنحر ، فالذبح في الحلق ، والنحر في اللبة ، وهي الوهدة التي في أصل العنق والصدر ، وهذا واللَّه أعلم إجماع .
3536 وقد شهد له ما روى الدارقطني عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : بعث رسول اللَّه : بديل بن الورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى ( ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق ، وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال ) .
3537 وعن عمر رضي اللَّه عنه أيضاً أنه نادى : إن النحر في الحلق واللبة لمن قدر ، وحديث أبي العشراء المتقدم يقتضي أن المعروف عندهم ذلك .
وظاهر كلام الخرقي أنه يكتفي بقطع الحلقوم وهو مجرى النفس ، والمريء وهو مجرى الطعام والشراب ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي الخطاب في خلافه الصغير ، لظاهر ما تقدم ، لأنه قطع في محل الذكاة ما لا تبقى الحياة معه ، أشبه ما لو قطع مع ذلك الودجين ، ( والرواية الثانية ) : يشترط مع ذلك قطع الودجين ، اختارها أبو بكر وابن البنا .
3538 لما روي عن ابن عباس وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما قالا : نهى رسول اللَّه : عن شريطة الشيطان ، زاد ابن عيسى : وهي التي تذبح فيقطع منها الجلد ، ولا تفرى الأوداج ، ثم تترك حتى تموت ، رواه أبو داود .
3539 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه كان يقول : ما فرى الأوداج فكله . رواه مالك في الموطأ ، واجتزأ في الكافي بقطع أحد الودجين عنهما ، وحكى الرواية على ذلك ، والمعروف في النقل الأول .
( تنبيه ) ( شريطة الشيطان ) وهي الناقة ونحوها التي شرطت أي أثر في حلقها أثر يسير ، كشرط الحجام ، من غير قطع الأوداج ولا إجراء الدم ، وكان هذا من فعل الجاهلية ، وأضيفت إلى الشيطان فإنه حملهم على ذلك ، والفري القطع ، والأوداج جمع ودج ، وهو عرق في العنق ، وهما ودجان في جانبي العنق .
قال : ويستحب أن ينحر البعير ، ويذبح ما سواه من الأنعام .
ش : هذا اتفاق والحمد للَّه وقد قال اللَّه تعالى : 19 ( { فصل لربك وانحر } ) . وقال تعالى : 19 ( { إن اللَّه يأمركم أن تذبحوا بقرة } ) .
3540 قال مجاهد : أمرنا بالنحر ، وأمر بنو إسرائيل بالذبح ، ولأن النبي بعث في قوم ما شيتهم الإبل ، وبنو إسرائيل ماشيتهم البقر .
3541 وفي الصحيح أن رسول اللَّه نحر بدنه ، وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده .
قال : فإن ذبح ما ينحر ، أو نحر ما يذبح فجائز .
3542 ش : هذا هو المذهب المعروف لما في الصحيحين من حديث أسماء رضي اللَّه عنها قالت : نحرنا فرساً على عهد رسول اللَّه : فأكلناه . متفق عليه . والظاهر أن مثل هدا لا يخفى على النبي ، ثم حكايتها ذلك تدل على أن هذا كان أمراً مشتهراً بينهم .
قال : وإذا ذبح فأتت على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء ، أو وطىء عليها شيء لم تؤكل .
ش : هذه المسألة نظير مسألة ما إذا رمى الصيد فوقع في ماء ، أو تردى من جبل ، والكلام فيها كالكلام ثم نقلا ودليلاً ، ولا بد أن يلحظ أن الماء والوطء يقتل مثله غالباً ، وقد تقدم نحو ذلك .
قال : فإن ذبحها من قفاها وهو مخطىء ، فأتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة أكلت .
ش : فسر القاضي الخطأ بأن تلتوي الذبيحة عليه ، فتأتي السكين على القفا ، لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها ، فيسقط اعتبار المحل ، المتردية في بئر ، أما مع عدم الالتواء فلا تباح ، إذ الجرح في القفا سبب للزهوق ، وهو في غير محل الذبح ، فإذا اجتمع مع الذبح منع الحل ، لخروج الروح بجائز وممنوع منه ، وإذاً يغلب جانب المنع .
وقد روي عن أحمد ما يعضد هذا التفسير ، فقال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد اللَّه عن ذبح القفا ، قال : عامداً أو غير عامد ؟ قلت : عامداً . قال فلا بأس . ففسر غير العمد بالالتواء ، وأبدل أبو البركات لفظ الخطأ بالسهو ، وهو أعم من كلام القاضي ، لدخول غير الإلتواء فيه ، ويقرب من كلام الخرقي ، إلا أن إطلاق الخرقي يدخل فيه حال الجهل اه .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا فعل ذلك عمداً أنها لا تؤكل ، وهو منصوص أحمد المتقدم ، لخروج الروح بسبب مباح ومحرم ، فغلب جانب التحريم .
3543 وعن ابن عباس وابن عمر وأنس رضي اللَّه عنهم : إذا قطع الرأس مع ابتداء الذبح من الحلق فلا بأس ، ولا يتعمد ، فإن ذبح من القفا لم تؤكل ، سواء قطع الرأس أو لم يقطع ، ( وحكى القاضي ) والشيرازي وغيرهما رواية أخرى بالإحاطة بشرطه ، وهو اختيار القاضي ، والشيرازي ، وأبي محمد وغيرهم ، لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحله ، دليله المتردية ، وأكيلة السبع ، ونحوهما .
وشرط الحل حيث قلنا به أن تأتي السكين على موضع الذبح وفيه حياة مستقرة ، ويعلم ذلك بوجود الحركة القوية قاله القاضي ، ولم يعتبر أبو البركات القوة ، وقوة كلام الخرقي وغيره يقتضي أنه لا بد من علم ذلك ، وقال أبو محمد : إن لم يعلم ذلك فإن الغالب البقاء لحدة الآلة . وسرعة القطع ، فالأولى الإباحة ، وإن كانت الآلة كالة ، وأبطأ القطع لم يبح ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا ذبح الشاة وفي بطنها جنين أكلا ، لأن ذكاتها ذكاة جنينها .
3544 ش : لما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه : ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ) . رواه أبو داود .
3545 وعن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن النبي مثله رواه الترمذي ، ورواه أبو داود ، ولفظه قال : قلنا : يا رسول اللَّه ننحر الناقة ، ونذبح البقرة والشاة في بطنها الجنين ؟ قال : ( كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه ) وهذا ظاهره جواز الأكل مطلقاً ، وبين علة ذلك ، وهو كون ذكاته ذكاة أمه ، وهو يبعد رواية من روى ( ذكاة أمه ) بالنصب ، على تقدير : يذكى تذكية مثل تذكية أمه ، ثم حذف المصدر وصفته ، وأقيم المضاف ءليه مقامع ، أو التقير كذكاة أمه ، فحذف الجار ونصب ، وتترجح رواية الرفع من وجه آخر ، وهو أنه لا تقدير فيها ، ورواية النصب لا بد فيها من تقدير ، ثم إن ابن المنذر قد قال : لم يرو عن أحد من الصحابة والتابعين وسائر العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذبح غير ما روء عن النعمان ، ( واعلم ) أن شرط كون ذكاته ذكاة أمه أن يخرج ميتاً ، أو متحركاً كحركة المذبوح ، أما إن كانت فيه حياة مستقرة فإنه كالمنخنقة ، قاله أبو البركات ، وقال أحمد : إن خرج حياً فلا بد من ذكاته ، لأنه نفس أخرى . ( وعنه ) رواية ( أخرى ) : إن مات بالقرب حل .
قال : أشعر أو لم يشعر .
ش : يعني أن ذكاة الأم عين ذكاة جنينها ، أشعر الجنين أي نبت عليه الشعر أو لم يشعر ، أي لم ينبت عليه الشعر .
3546 وإنما ذكر الخرقي ذلك لأن ابن عمر رضي اللَّه عنهما وجماعة من التابعين والأئمة رضي اللَّه عنهم قالوا : إن أشعر فذكاته ذكاة أمه ، وإن لم يشعر فلا فنبه الخرقي على عدم التفرقة ، اتباعاً لإطلاق الحديث .
قال : ولا يقطع عضواً مما ذكي حتى تزهق نفسه .
ش : لما تقدم عن النبي أنه قال : ( ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق ) .
3547 وعن عمر رضي اللَّه عنه كذلك ، لأن فيه تعذيباً للحيوان وإنه منهي عنه .
وظاهر إطلاق الخرقي أن هذا النهي على سبيل التحريم ، وإذاً قد يقال : لا يحل أكله على قياس قوله : إذا ذبح فأتى على المقاتل ، ثم وقعت في ماء ، أو وطىء عليها شيء أنها لا تؤكل ؛ إذ الزهوق حصل من مباح وممنوع منه ، وظاهر كلام أبي محمد الكراهة ، لأنه قال : كره ذلك أهل العلم ، ثم قال في العضو : أن الظاهر إباحته .
قال : وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال .
ش : هذا واللَّه أعلم مما لا نزاع فيه ، وقد قال أبو محمد : لانعلم فيه خلافاً ، وقد دخل فيه البصير والأعمى ، والعدل والفاسق ، والمجبوب والأقلف على المذهب .
3548 ( وعنه ) لا تصح ذكاة الأقلف ، اعتماداً في ذلك على ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، والطاهر والجنب ، والناطق والأخرس ، وسيأتيان ، والرجل والمرأة ، والبالغ والصبي ، وقد حكاه ابن المنذر فيهما إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم .
3549 وفي صحيح البخاري وغيره عن نافع أنه سمع ابنا لكعب بن مالك يخبر ابن عمر رضي اللَّه عنهم أن أباه أخبره ، أن جارية لهم كانت ترعى غنماً بالجبيل الذي بالسوق وهو بسلع ، فأبصرت بشاة منها موتاً ، فكسرت حجراً فذبحتها ، فقال لأهله : لا تأكلوا حتى آتي رسول اللَّه فأسأله أو أرسل إليه من يسأله ، فسأل رسول اللَّه فأمره بأكلها والحر والعبد سواء في الاعتبار اه .
ويشترط مع الإطاقة للذبح العقل فلا تصح ذكاة مجنون ولا طفل ولا سكران ، لانتفاء القصد منهم المعتبر في الذكاة شرعاً .
قال : إذا سموا أو نسوا التسمية .
ش ؛ لما تقدم هذا ، وأن مذهب الخرقي اشتراط التسمية في العمد دون السهو ، وإنما نص الخرقي على ذلك ليصرح بأن حكم أهل الكتاب حكم المسلمين في اشتراط التسمية ، وقد تقدم هذا أيضاً والخلاف فيه ، وإن كان الأليق ذكره هنا .
( تنبيه ) إذا لم يعلم أسمى الذابح أم لا أو ذكر اسم غير اللَّه أم لا ؟ فالذبيحة حلال ، لعدم الوقوف من ذلك على كل ذابح .
3550 وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : إن قوماً قالوا لرسول اللَّه : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم اللَّه عليه أم لا ؟ قال : ( سموا عليه أنتم وكلوه ) قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر . رواه البخاري ، وأبو داود ولفظه قالوا : يا رسول اللَّه إن قوماً حديث عهد بكفر ، وذكره بمعناه .
قال : فإن كان أخرس أومأ إلى السماء .
ش : قد دل على حل ذبيحة الأخرس . وقد حكاه ابن المنذر إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم ويشترط له ما يشترط للناطق من التسمية ، إلا أنه لما تعذر النطق في حقه أقيمت إشارته مقام نطقه ، كما أقيمت مقام ذلك في سائر تصرفاته .
وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا بد من الإشارة إلى السماء ، لأن ذلك علم على قصد تسمية الباري سبحانه وتعالى .
3551 وهذا كما قال النبي للجارية : ( أين اللَّه ) ؟ فأشارت إلى السماء ، فقال : ( من أنا ) ؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول اللَّه وإلى السماء ، أي أنت رسول اللَّه ، فقال رسول اللَّه : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) فجعل رسول اللَّه إشارتها إلى السماء علماً على الوحدانية ، وإلى رسالته ، وحكم بإيمانها ، قال أبو محمد : ولو أشار الأخرس إشارة تدل على التسمية وعلم ذلك كان كافياً ؛ قلت : وهذا يقتضي أن التنبيه السابق في حال الغيبة ، أما في حال الحضور فلا بد من العلم أو الظن بوجود التسمية .
قال : وإن كان جبناً جاز أن يسمي ويذبح .
ش : لبقاء أهليته ، إذ الجنابة لا تخرجه عن الإسلام ، وقد قال ابن المنذر : لا أعلم أحداً منع من ذلك . ويسمي كما يسمي عند اغتساله ، لأن الذي منع منه هو قراءة القرآن ، وليس المقصود بالتسمية على الذبيحة القراءة .
قال : والمحرم من الحيوان ما نص اللَّه عز وجل عليه في كتابه .
ش : الذي نص اللَّه عز وجل عليه في كتابه هو قوله سبحانه : 19 ( { حرمت عليكم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير اللَّه به } ) . إلى آخرها . ولا نزاع في تحريم هذه الأشياء في الجملة ، ( أما لحم الخنزير ) فلا ريب في تحريمه ، وكذلك بقية أجزائه ، اعتماداً على الإجماع ، أو أن الشحم ونحوه داخل في مسمى ذكر اللحم لكونه صفة له ، بدليل قوهم : لحم سمين . أي لحم شحيم ، أو أن ذكر اللحم خرج مخرج الغالب ، لأنه معظم ما يقصد ، مع ما فيه من مراغمة الكفار الذين يتدينون بأكل لحمه ، ( وأما الميتة ) فيستثني منها ما استثناه المبيّن لكتاب ربه وهو الحوت والجراد ، ويلحق بالحوت ما في معناه مما يسمى سمكاً ، أو مما لا يعيش إلا في البحر ، أو مما مات فيه على ما تقدم نعم بقي النظر في الطافي فإن عموم الآية يقتضي تحريمه .
3552 وعموم قوله : لما سئل عن التوضىء بماء البحر ( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته ) يقتضي إباحته ، فلا بد من مرجح ، ( فقد يقال ) بترجيح عموم الكتاب لقوته ، ولهذا قيل : إن عموم الكتاب لا يتخصص بالسنة ، وبما تقدم من حديث جابر رضي اللَّه عنه ( وما مات فيه وطفا فلا تقربوه ) .
3553 وبما روي عن علي رضي اللَّه عنه أنه قال : ما طاف من صيد البر فلا تأكله ، ( وقد يقال ) بترجيح عموم السنة ، لأن عموم الكتاب قد دخله التخصيص ولا بد ، بخلاف عموم السنة فإنه قد شك في تخصيصه ، والأصل عدم التخصيص ، وبما تقدم من قول أبي بكر رضي اللَّه عنه : الطافي حلال .
3554 وقول عمر رضي اللَّه عنه في قوله سبحانه : 19 ( { أحل لكم صيد البحر وطعامه } ) قال : صيده ما أصيد ، وطعامه ما رمى به . وهذا تفسير من عمر رضي اللَّه عنه ، وإذاً يكون مخصصاً لقوله تعالى : 19 ( { حرمت عليكم الميتة } ) . وتكون السنة عاضدة لهذا التفسير ، وما روي عن علي رضي اللَّه عنه فلا يعرف أصله ، وحديث جابر الصحيح وقفه عليه ، وقد قال بعضهم : إن الآية الكريمة لا تخصيص فيها ، بل وردت على ما يتعارفه الناس في العادة ، والعرف في السمك أنه لا يطلق عليه ميتة ، ولهذا إذا قيل : أكل فلان ميتة ، لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد ، وكذلك إذا قال أكل دماً ، لم يسبق إلى الكبد والطحال .
وقد أدخل بعضهم في الآية الكريمة الأجنة ، وقد تقدم الاعتماد على رواية الرفع ، وأن ذكاته عين ذكاة أمه ، وإذاً هي مذكاة لا ميتة على أن رواية النصب تخرج الحديث عن كثير فائدة ، إذ الجنين إذا خرج حياً حياة مستقرة فلا يخفى حكم الذكاة في حقه ، لأنه نفس أخرى .
ومما قيل بدخوله في الميتة جلدها ، ولبنها ، وشعرها ، وعظمها ، والكلام على تسليم ذلك أولاً وعلى خروجه بالتخيصيص ليس هذا محله .
وأما الدم فالمراد به ما عدا الكبد والطحال ، إما بالخطاب العرفي ، أو ببيان النبي وقيل : إن ذلك خرج بقوله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى : 19 ( { أو دماً مسفوحاً } ) إذ الكبد والطحال لا يمكن سفحهما فلا يدخلان في الدم المحرم ، ( ومما قيل ) أنه خرج بقوله سبحانه : 19 ( { دما مسفوحاً } ) ما على العروق ، وما يبقى على اللحم من الدم ، ( ومما قيل ) أيضاً بخروجه الذباب ونحوه مما لا دم له سائل ، ولذلك قيل بطهارة ميتته على المذهب ، وبحله في رواية ، وتحريم الخنافس ونحوهنا للخبث .
وأما 19 ( { ما أهل به لغير اللَّه } ) أي الذي رفع عليه الصوت بتسمية غير اللَّه ، كأن يسمى عليه اسم المسيح صلوات اللَّه عليه أو اسم صنم ، ونحو ذلك كما كانوا في الجاهلية يذبحون فيقولون : باسم اللات والعزى ؛ وقد اختلف في حل ما ذبح كذلك ، على قولين للعلماء هما روايتان عن إمامنا ( إحداهما ) وبها قطع أبو محمد ، وحكاه عن القاضي ، وصححها أبو البركات التحريم ، لذلك .
3555 ولما في صحيح مسلم وغيره عن علي رضي اللَّه عنه أنه سمع النبي يقول : ( لعن اللَّه من ذبح لغير اللَّه ) ، و ( الثانية ) ويحكى ذلك عن الشافعية الحل ، لقوله سبحانه : 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) . وقد علم أنهم يذكرون اسم المسيح ، فيكون المراد بالآية الأولى من عدا أهل الكتاب .
وأما ( المنخنقة ) فهي التي اختنقت بحبل أو غيره ، ( والمتردية ) التي تردت من جبل أو نحوه ، ( والنطيحة ) التي تنطح أو تنطح فتموت ، ( والموقوذة ) التي تقتل ضرباً يقال : وقذتها أقذها وقذا . وأوقذتها أوقذها إيقاذاً . إذا أثخنتها ضرباً ، ( وما أكل السبع ) التي أكل منها السبع ، والعرب تسمي ما قتله السبع ، وما أكل منه وبقيت منه بقية أكيلة السبع ، وهي فريسته ، والحكم في هذه الأربعة أنها إذا أدرك ذبحها على التمام حلت وإلا فلا ، وبيان ذلك أن قوله تعالى : 19 ( { إلا ما ذكيتم } ) إنما يرجع إلى ما تمكن ذكاته ، وهو المنخنقة وما بعدها ، أما الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير اللَّه به ، فلا يتصور فيه ذكاة ، والمعنى : إلا الشي الذي أدركت ذكاته من هذه الأربعة ، وأصل الذكاة في اللغة تمام الشيء ، ومنه الذكاء في السن والفهم تمامهما ، فتمام السن النهاية في الشباب ، فقبل ذلك أو بعده لا يسمى ذكاء ، وتمام الفهم سرعة القبول ، وذكيت النار ، أتممت إشعالها ، فقوله سبحانه : 19 ( { إلا ما ذكيتم } ) أي ما أدركتم ذبحه على التمام .
واختلف في الذبح على التمام ما هو في هذه الآية ، ( وعن إمامنا ) في ذلك ثلاث روايان . ( إحداهن ) : بأن يكون في ذلك حياة يمكن أن تزيد على حركة المذبوح ، أو تتحرك كحركة المذبوح عند الذبح ، ولو بيد أو رجل أو طرف عين ونحو ذلك ، ( الثانية ) : أن ما يمكن أن يبقى معظم اليوم يحل ، وما يعلم موته لأقل منه في حكم الميت ، ( والثالثة ) : ما تيقن أنه يموت من السبب في حكم الميت مطلقاً ، اختارها ابن أبي موسى ، واختار أبو محمد قولاً رابعاً أنها إن تيقن موتها بالسبب ، كأن تعيش زمناً يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح ، وإن كانت مما لا يتيقن موتها فكالمريضة ، متى تحركت وسال دمها حتل وإلا فلا ، وتوجيه هذه لأقوال ، والاتساع في الآية الكريمة يحتاج إلى بسط لا يليق بهذا الشرح .
وقوله سبحانه : 19 ( { وما ذبح على النصب } ) . أي الحجارة التي كانت لهم يعبدونها ، واحدها نصاب ، و ( على ) قيل بمعنى اللام ، أي وما ذبح لأجل الأصنام ، والذابح للأصنام هم عبادها فالمنع هنا للشرك ، وعلى هذا يحل ما ذبحه الكتابي لعيده أو لكنيسته ونحو ذلك ، وهو مذهبنا ، لعموم 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) . نعم يكره ذلك على الصحيح ، وعلى هذا تستوي هذه الآية ، قووله تعالى : 19 ( { وما أهل لغير اللَّه به } ) إن قيل : المراد بها ذبائح المشركين ، وظاهر هذه أن المنع إنما كان لأجل الذبح للصنم ، وإذاً فالذبح للكنيسة ونحوها في معناه .
3556 ويؤيده حديث علي رضي اللَّه عنه ( لعن اللَّه من ذبح لغير اللَّه ) وقد قيل : إن الذبح لهذه الأشياء يدخل أيضاً في قوله تعالى : 19 ( { وما أهل لغير اللَّه به } ) وإذاً هذا من ذكر الخاص بعد العام .
قال : وما كانت العرب تسميه طيباً فهو حلال ، وما كانت تسميه خبيثاً فهو محرم ، لقوله تعالى : 19 ( { ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث } ) .
ش : يعني أن اللَّه سبحانه وتعالى نص على تحريم أشياء وقد تقدمت ، وأجمل حل أشياء وتحريم أشياء ، وترك بيان ذلك إحالة على عرف من وقع الخطاب لهم وهم العرب ، والمراد بهم أهل الحجاز من أهل الأمصار ، لأنهم الذين نزل عليهم الكتاب ، ولا عبرة بأهل البوادي ، لأنهم للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا ، ولو وجد شيء لا يعرفه أهل الحجاز ، رد إلى أقرب الأشياء شبهاً به في الحجاز ، فإن تعذر شبهه بشيء منها فهو مباح ، كذا قاله الشيخان ، لدخوله في قوله تعالى : 19 ( { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً } ) . الآية .
3557 وعن سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه قال : سئل رسول اللَّه : عن الجبن والسمن والفراء ، فقال : ( الحلال ما أحل اللَّه في كتابه ، والحرام ما حرم اللَّه في كتابه ، وما سكت اللَّه عنه فهو مما عفي عنه ) رواه ابن ماجه والترمذي .
قلت : وقد يستشكل هذا يعني أن الأصل في الأطعمة الحل ، وظاهره مخالف لما هو مقرر في الأصول من أن الأصل في الأعيان ( هل هو الحظر ) كما هو اختيار ابن حامد والقاضي والحلواني ، ( أو الإباحة ) كما هو اختيار أبي الحسين الخرزي وأبي الخطاب ( أو الوقف ) كما هو اختيار ابن عقيل وأبي محمد على ثلاثة أقوال ، وبنوا على ذلك أن من حرم شيئاً أو أباحه ، وقال : طلبت دليل الشرع فلم أجد ، فبقيت على حكم الأصل من حضر أو إباحة ، فهل يصح ذلك أم لا ، وكذلك من كان في بريّة لا يعرف شيئاً من الشرعيات ، وهناك فواكه وأطعمة ، فهل تكون في حقه على الإباحة أو الحضر ، وبسط ذلك يحتاج إلى طول .
إذا علم هذا فمن السمتخبثات الحشرات ، كالديدان ، وبنات وردان ، والخنافس ، والفأر والأوزاغ ، والجراذين ، والعقارب والحيات ، ونحو ذلك ، وكذلك القنفذ .
3558 لما في السنن من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال ذكر القنفذ لرسول اللَّه فقال : : ( هو خبيثة من الخبائث ) .
قال : وبسنة رسول اللَّه الحمر الأهلية .
ش : أي والمحرم من الحيوان بسنة رسول اللَّه أشياء منها الحمر الأهلية .
ظ 3559 وذلك لما روى البراء بن عازب رضي اللَّه عنه قال : نهى رسول اللَّه يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية نضيجاً ونيئاً .
3560 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : إن رسول اللَّه نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية .
3561 وعن أبي ثعلبة الخشني رضي اللَّه عنه قال : حرم رسول اللَّه الحمر الأهلية متفق عليهن قال ابن عبد البر : روي عن النبي تحريم الحمر الأهلية علي وعبد اللَّه بن عمر ، وعبد اللَّه بن عمرو ، وجابر والبراء ، وعبد اللَّه بن أبي أوفى ، وأنس ، وزاهر الأسلمي رضي اللَّه عنهم بأسانيد صحاح حسان ، قال : ولا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها ، وقال 16 ( أحمد ) : خمسة عشر من أصحاب رسول اللَّه : كرهوها . واللَّه أعلم .
قال : وكل ذي ناب من السباع .
ش : أي ومن المحرم بسنة رسول اللَّه كل ذي ناب من السباع .
3562 وذلك لما روى أبو ثعلبة الخشني رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه نهى عن أكل ذي ناب من السباع . رواه الجماعة .
3563 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال : ( كل ذي ناب من السباع حرام ) . رواه مسلم وغيره ، وهذا نص في أن المراد بالنهي التحريم كما هو ظاهره ، ولا يعارض هذا قوله تعالى : 19 ( { قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً } ) . الآية . لأن سورة الأنعام مكية نزلت قبل الهجرة ، وكان القصد بالآية الكريمة الرد على الجاهلية في تحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، ولم يكن في ذلك الوقت محرم إلا ما ذكر في الآية ، ثم بعد ذلك حرم أموراً كثيرة كالحمر والبغال وغير ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : وهي التي تضرب أنيابها الشيء وتفرس بها .
ش : هذا تبيين وتوضيح لصاحب الناب من السباع ، ولأنياب مما يلي الرباعيات من الأسنان ، ويدخل في هذا الأسد والنمر والفهد ، والذئب والكلب والخنزير ، والفيل وابن آوى وابن عرس والنمس . وسئل أحمد عن ابن آوى وابن عرس فقال : كل شيء ينهش بنابه فهو من السابع . فكأنه لم يتحقق عنده حالهما ، كما لم يتحقق عنده كال الدبّ ، فقال : إن لبم يكن له ناب فلا بأس به ، وكذلك قال أبو محمد : ينظر فيه فإن كان ذا ناب يفرس به حرم وإلا أبيح ، وقطع أبو بكر بتحريمه ، وقطع أبو محمد في ابن آوى وابن عرس والنمس بأنها من السباع فتحرم ، واختلفت الرواية عن أحمد في الثعلب وسنور البر هل هما محرمان أو مباحان ، على روايتين ، للتردد في كون لهما نابان يفرسان به أم لا .
والشيخ رحمه اللَّه تعالى علل التحليم بكونهما من السباع ، والإباحة بكونهما يفديان في الحرم والإحرام ، ولا يفدي إلا المأكول ، وقد يقال : الفداء للتردد فيهما احتياطاً ، وكذلك اختلف الأصحاب في السنجاب فرآه القاضي مما له ناب فحرمه ، ولم يتحقق ذلك لأبي محمد ، فحكى فيه احتمالاً بالإباحة ، ورجحه اعتماداً على الأصل .
قال : وكل ذي مخلب من الطير .
ش : هذا عطف على ما تقدم .
3564 وذلك لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : نهى رسول اللَّه عن كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير . رواه مسلم وغيره .
3565 وعن جابر رضي اللَّه عنه قال : حرم رسول اللَّه يعني يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ، ولحوم البغال ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير . رواه أحمد والترمذي .
قال : وهي التي تعلق بمخاليبها ( الشيء ) وتصيد بها .
ش : كالعقاب ، والبازي ، والصقر ، والشاهين ، والحدأة ، والبومة ، ونحو ذلك .
قال : ومن اضطر إلى أكل الميتة فلا يأكل منها إلا ما يأمن معه الموت .
ش : أي الميتة التي نص اللَّه تعالى على تحريمها في الآية الكريمة ، وإباحتها في حالة الاضطرار في الجملة إجماع والحمد للَّه ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { إنما حرم عليكم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل به لغير اللَّه ، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ، إن اللَّه غفور رحيم } ) وفي آية المائدة : 19 ( { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم ، فإن اللَّه غفور رحيم } ) . ولا نزاع في إباحة ما يؤمن معه الموت ، كما أنه لا نزاع في تحريم ما زاد على الشبع ، لانتفاء الاضطرار المبيح إذاً ، وفي الشبع روايتان أنصهما وهي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار عامة الأصحاب ليس له ذلك ، لأن اللَّه سبحانه حرم الميتة أولاد ، ثم أباح ما اضطررنا إليه بقوله تعالى : 19 ( { فمن اضطر } ) . وفي آية أخرى 19 ( { إلا ما اضطررتم إليه } ) . ومع أمن الموت لا اضطرار ، ويؤيده ذلك قوله سبحانه : 19 ( { غير باغ ولا عاد } ) . أي ولا عاد سد لجوعه ، ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر فيما حكاه عنه الشيخ وغيره ، والذي رأيته في التنبيه ظاهره الرواية الأولى له ذلك .
3566 لما روى جابر بن سمرة رضي اللَّه عنه أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهله وولده ، فقال رجل : إن لي ناقة لي ضلت ، فإن وجدتها فأمسكها . فوجدها فلم يجد صاحبها ، فمرضت فقالت امرأته : انحرها . فأبى ، فنفقت ، فقالت : اسلخها حتى نقدد حتى شحمها ولحمها ونأكله . فقال : حتى أسأل رسول اللَّه فأتاه فسأله فقال : ( هل عندك غني يغنيك ؟ ) قال : لا . قال : ( فكلوه ) . قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك . رواه أبو داود ، فأطلق رسول اللَّه الأكل ، ولم يقيده بما يسد الرمق .
وفرق أبو محمد بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة كاحل الأعرابي فيجوز له الشبع ، اتباعاً لإطلاق الحديث ، إذ لو اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب ، وأفضى إلى ضعف بدنه ، وربما أدى ذلك إلى تلفه ، وبين ما إذا لم يكن مستمرة فلا يجوز له الشبع ، لانتفاء المحذور المتقدم ، وعملاً بمقتضى الآية .
إذا تقرر هذا ، فمعنى الاضطرار أنه متى ترك الأكل خاف التلف ، قال 16 ( أحمد ) : إذا كان يخشى على نفسه ، سواء كان من جوع ، أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي ، وانقطع عن الرفقة فهلك ، أو يعجز عن الركوب فيهلك . ومقتضى هذا أنه يجوز له الشبع إذا كان سد الرمق يقطعه عن الرفقة ، أو يعجزه عن الركوب ( فيهلك ) ، وهو مقتضى كلام الخرقي ، وظاهر الآية الكريمة ، لأنه والحال هذه مضطر .
ولم يفرق الخرقي رحمه اللَّه بين الحاضر والمسافر وهو كذلك ، اعتماداً على ظاهر الآية ، ولأن الاضطرار قد يكون في الحضر في سنة المجاعة ، ( وعن أحمد ) أنه قال : أكل الميتة إنما يكون في السفر ، قال أبو محمد : يعني أنه في الحضر يمكنه السؤال ، قال : وهذا من أحمد خرج مخرج الغالب ، إذ الغالب وجود الطعام الحلال في الحضر ، ودفع الضرورة بالسؤال ، قلت : وظاهر هذا التقرير أن الميتة لا تباح لمن يقدر على دفع الضرورة بالمسألة ، وقد قال أبو محمد : إنه ظاهر كلام أحمد . اه .
وكلام الخرقي في شموله للمسافر يشمل السفر الجائز والمحرم ، وهو اختيار صاحب التلخيص ، وقال عامة الأصحاب : لا يباح للعاصي بسفره تناول الميتة بحال . وأصل هذا أن قوله تعالى : 19 ( { غير باغ } ) هل هو غير باغ على المسلمين ، أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه ، أو بمن أكلها تلذذاً ؟ فيه ثلاثة أقوال للمفسرين . وكذلك في قوله سبحانه 19 ( { غير متجانف الإثم } ) هل التجانف بالسفر أو بالزيادة على سد الرمق ؟ فيه أيضاً قولان . ويرجح ظاهر إطلاق الخرقي بقوله تعالى : 19 ( { لا ما اضطررتم إليه } ) فإنه أطلق فيه ، وبقوله تعالى : 19 ( { ولا تقتلوا أنفسكم } ) وبأن أكل الميتة عزيمة واجبة ، حتى لو امتنع كان عاصياً ، كما هو المشهور من الوجهين لهذه الآية وهو ظاهر كلام أحمد .
3567 قال في رواية الأثرم وقد سئل عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل ، فذكر قول مسروق : ومن اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار . وعلى هذا اعتمد صاحب التلخيص ، وقد يقال أن أصل هذا الخلاف أن المسكين إذا امتنع من المسألة حتى مات هل يأثم أم لا ؟ قال القاضي : كلام أحمد يقتضي روايتين ، فإن قلنا يأثم وجب الأكل ، وإن قلنا لا يأثم لم يجب الأكل .
( تبيه ) حكم جميع المحرمات حكم الميتة فيما تقدم في الجملة ( والحرة ) أرض تركبها حجارة سود ( وضلت ) أي ضاعت ( ونفقت ) أي ماتت .
قال : ومن مر بثمرة فله أن يأكل منها ولا يحمل ، فإن كان عليها محوطاً فلا يدخل إلا بإذن .
ش : اختلفت الرواية عن إمامنا في هذه المسألة ( فروي عنه ) إباحة ذلك مطلقاً ، أعني سواء كان محتاجاً أو لم يكن ، وسواء أكل من المعلق أو من المتساقط ، وهذه ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي وغيره ، وقال القاضي في خلافه الصغير : اختاره عامة أصحابنا ، وقال أبو الخطاب في هدايته : عامة شيوخنا .
3568 وذلك لما روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي قال : ( من دخل حائطاً فليأكل ولا يتخذ خبنة ) رواه الترمذي وابن ماجه .
3569 وعن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال : سئل رسول اللَّه عن الرجل يدخل الحائط فقال : ( يأكل غير متخذ خبنة ) رواه أحمد ( وعنه ) : لا يحل له ذلك مطلقاً إلا بإذن المالك . . حكاها ابن عقيل في التذكرة .
3570 لعموم ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام ) متفق عليه .
3571 وعن العرباض بن سارية أن رسول الله قال : ( ألا وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم ) أخرجه أبو داود . وغاية هذين عموم فنخصه بما تقدم ، ( وعنه ) جواز ذلك من المتساقط دون غيره .
3572 لما روى رافع بن عمرو ، قال : كنت أرمي نخل الأنصار ، فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول الله فقال : ( يا رافع لم ترم نخلهم ؟ ) قلت : يا رسول الله الجوع . قال : ( لا ترم ، وكل ما وقع ، أشبعك الله وأرواك ) . وقد يقال : إن الرسول علم أنه يسقط من نخلهم ما يشبعه ، وكيف لا يحصل له الشبع ، وقد حصل له دعاء النبي ، ومع حصول ذلك فلا حاجة إلى الرمي ، لأنه نوع إفساد ، ( وعنه ) يحل له ذلك لحاجة ، ولا يحل لغير حاجة .
3573 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، عن النبي أنه سئل عن التمر المعلق ، فقال : ( ما أصاب منه من ذي الحاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ، ومن أخرج منه شيئاً فعليه غرامة مثليه ، والعقوبة ) رواه الترمذي وحسنه . ( وعنه ) إن كان مضطراً أكل وإلا لم يأكل . . حكاها القاضي في الجامع وغيره ، وهي ظاهر كلامه في رواية أبي طالب ، وسئل إذا لم يكن تحت الشجرة شيء يصعد ؟ فقال : لم أسمع يصعد ، فإن اضطر أرجو أن لا يكون به بأس ، ( وهذه الرواية ) قد تحمل على أن المراد بالضرورة الحاجة ، لأن أبا محمد صرح بأنه هنا لا يعتبر حقيقة الاضطرار ، والظاهر حملها على ظاهرها ، وأن المراد بالضرورة هنا الضرورة المبيحة للميتة ، ولهذا قال القاضي هنا بعد أن ذكر الرواية : وعندي أنه يباح له الأكل إذا احتاج إلى ذلك ، مثل أن تشتهي نفسه الثمرة وتلتهف عليها ، ولا شيء معه لشرائها ، ولا يجد من يبيعه إياها نسيئاً ، لا يقال : فلا فائدة في هذه المسألة على هذه الرواية ، لأن غير الثمرة تباح أيضاً عند الضرورة ، لأنا نقول : فائدة ذلك أن الثمرة تباح مجاناً حيث أبيح تناولها ، ( وعنه ) يباح ذلك في السفر دون الحضر ، قال في الرواية صالح وسئل عن ذلك : إنما الرخصة للمسافر ، وهذه الرواية قد تحمل على رواية اشتراط الحاجة .
واعلم أن هذا الخلاف كله في الأكل بفيه دون الحمل كما صرح به الخرقي ، وشهدت به الأحاديث ، وهو أن لا يتخذ خبنة ، وهي ما تحمله في حضنك ؛ وقيل : هو أن يأخذه في خبنة ثوبه ، وهو ذيله وأسفله .
ثم شرط جواز الأكل حيث قيل به أن لا يكون على الثمرة حائط ، نص عليه أحمد والأصحاب ، قال 16 ( أحمد ) : لأنه شبه الحريم .
3574 وبأنه استند في ذلك إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما : إن كان عليها حائط فهو حريم فلا تأكل ، وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس ، وسيأتي في الحديث ما يرشد إلى ذلك أيضاً . ( نعم ) إن كان مضطراً جاز له الدخول والأكل ، وفي معنى الحائط الناطور . قاله غير واحد من الأصحاب ، وقال في المغني : قال بعض أصحابنا : الناطور بمنزلة المحوط .
وظاهر كلام الخرقي أن هذا الحكم مختص بالثمرة ، فلا يثبت هذا الحكم لغيرها من مال الغير ، ولا نزاع في ذلك إلا في صورتين ، فإنه قد اختلف عن إمامنا فيهما ، ( إحداهما ) الزرع ( فعنه ) المنع كغيره من الأموال ، وقال : إنما رخص في الثمار ، وقال : ما سمعنا في الزرع أن يمس منه ، وذلك لأن الثمار النفوس تتشوف إليها رطبة ، بخلاف الزرع ، ( وعنه ) يأكل من الفريك ، إذ العادة جارية بأكله رطباً فأشبه الثمرة ، قال أبو محمد : وكذلك الحكم في الباقلاء والحمص وشبههما مما يؤكل رطباً ، فأما الشعير وما لم تجر العادة بأكله فلا يجوز الأكل منه .
قلت : ولهذه المسألة التفات إلى ما تقدم في الزكاة من أنه يوضع لرب المال عند خرص الثمرة الثلث أو الربع ، ولا يترك له شيء من الزرع إلا ما العادة أكله فريكاً .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) قد علم أن الخلاف إنما هو في الفريك ، وأبو محمد ألحق بذلك ما في معناه كما تقدم وهو حسن ، والشيخان في مختصريهما وغيرهما يحكون الخلاف في الزرع على الإطلاق .
( الثاني ) ظاهر كلام أحمد أن الخلاف في الزرع حيث رخص له في الثمرة ، وأبو البركات جعل الخلاف على الرواية الأولى ، وظاهر كلامه المنع على ما بعدها مطلقاً . ( الصورة الثانية ) شرب لبن الماشية ، فيه أيضاً روايتان ، ( إحداهما ) له أن يحلب ويشرب ولا يحمل ، اختارها أبو بكر .
3575 لما روى الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي قال : ( إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب ، وإن لم يكن فليصوت ثلاثاً ، فإن أجابه فليستأذنه ، فإن أذن له فليحتلب وليشرب ولا يحمل ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، وقال ابن المديني : سماع الحسن من سمرة صحيح .
3576 وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي قال : ( إذا أتى أحدكم حائطاً فأراد أن يأكل فليناد : يا صاحب الحائط . ثلاثاً ، فإن أجابه وإلا فليأكل ، وإذا مر أحدكم بإبل فأراد أن يشرب من ألبانها فليناد : يا صاحب الإِبل ، أو يا راعي الإِبل . فإن أجابه وإلا فليشرب ) رواه أحمد وابن ماجه .
( والثانية ) ليس له ذلك ، نص عليه .
3577 مفرقاً بينه وبين الثمر بأن أكل الثمر فعله غيره واحد من أصحاب النبي .
3578 ومستدلًا على المنع هنا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وقال : هو أجود إسناداً ، وهو ما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : ( لا يحلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه ، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فينتقل طعامه ، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم ، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ) متفق عليه . ( قلت ) : وقد يحمل على ما إذا كان صاحبها فيها ، توفيقاً بين الحديثين .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) الخلاف أيضاً في الماشية حكاه أبو البركات على الرواية الأولى ، وينبغي أن يكون حيث أبيح الأخذ ، ( الثاني ) إذا جوزنا الأكل من الثمار وغيرها فقال أبو محمد : الأولى أن لا يأكل إلا بإذن ، للخلاف والأخبار الدالة على التحريم ، ( قلت ) : وينبغي أن يتقيد جواز الحلب والشرب من الماشية بما إذا صوت بصاحبها ثلاثاً فلم يجبه ، كما في الحديث ، وقد نص أحمد على ذلك فقال : ناد ثلاثاً ، فإن أجابك وإلا فاشرب .
قال : ومن اضطر فأصاب ميتة وخبزاً لا يعرف مالكه أكل الميتة .
ش : هذا منصوص أحمد ، وبه قطع عامة الأصحاب ، منهم أبو محمد في المغني ، لأن الميتة منصوص عليها ، ومال الغير مجتهد فيه ، والمنصوص عليه أولى ، ولأن حق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة ، بخلاف حق الآدميين .
ولأبي محمد في المقنع احتمال بجواز أكل طعام الغير ، بشرط أن لا تقبل نفسه الميتة ، وبه جزم في الكافي لأنه والحال هذه عليه ضرر في أكل الميتة ، وإنه منفي شرعاً .
قال : فإن لم يصب إلا طعاماً لم يبعه مالكه أخذه منه قهراً ، ليحيي به نفسه ، وأعطاه ثمنه ، إلا أن يكون صاحبه مثل ضرورته .
ش : إذا لم يجد المضطر إلى طعام الغير فلا يخلو إما أن يكون صاحبه مضطراً إليه أيضاً أو لا ، فإن كان صاحبه مضطراً إليه فهو أحق به ، وليس لأحد أخذه منه ، لمساواتهما في الضرورة ، ويرجح المالك بالملك ، وقد أشار النبي إلى ذلك حيث قال : ( ابدأ بنفسك ) وإن لم يكن مضطراً إليه لزمه أن يبذل للمضطر ما يسد رمقه على المذهب ، أو قدر شبعه على رواية بقيمته ، لما فيه من إحياء نفس آدمي معصوم ، أشبه بذلك منافعه في إنجائه من الغرق ونحو ذلك ، فإن امتنع من ذلك فللمضطر أن يأخذ منه ما يسد رمقه أو قدر شبعه ولو قهراً ، حتى لو قتل صاحب الطعام فهو هدر ، ولو قتل المضطر ضمنه صاحب الطعام ، لأنه والحال هذه مستحق له دون مالكه ، ويلزمه عوض ما أخذ ، فإن كان معه في الحال وإلا لزمه في ذمته .
وقول الخرقي : فإن لم يصب إلا طعاماً لم يبعه مالكه . إلى آخره ، ظاهره أنه لو وجد ميتة وطعاماً وامتنع صاحبه من بذله له ببيع أو غيره لم يجز له أخذه منه قهراً ، وهو كذلك ، لأنه لم يتعين طريقاً لإِحياء نفسه ، ( وقوله ) : لم يبعه مالكه أخذه قهراً . مقتضاه أنه لو باعه له لم يكن له أخذه منه قهراً وهو واضح ، وفي معنى ذلك إذا بذله له مجاناً .
وكلام الخرقي يشمل ما إذا باعه له بأكثر من ثمن المثل ، وهو مختار أبي محمد في المغني ، وجوز القاضي والحال هذه أخذه قهراً وقتاله عليه ، وعلى كلا القولين لا يلزمه أكثر من ثمن مثله ، لأنه صار مستحقاً له بذلك ( ثم قول الخرقي ) : لم يبعه . يريد البيع الشرعي ، فلو امتنع المالك من البيع إلا بعقد ربا كان للمضطر أخذه قهراً ، على ظاهر كلام الخرقي ، ونص عليه بعض الأصحاب ، معللًا بأن عقد الربا محظور لا تبيحه الضرورة ، والمقاتلة والحال هذه طريق أباحه الشرح ، نعم إن لم يقدر على قهره دخل في العقد ملافظة وعزم على أن لا يتم عقد الربا ، بل إن كان نسأ عزم على أن العوض الثابت في الذمة يكون قرضاً ، وقال بعض المتأخرين : لو قيل : إن له أن يظهر معه صورة الربا ولا يقاتله ، بل يكون بمنزلة المكره فيعطيه من عقد الربا صورته لا حقيقته لكان أقوى .
وقوله : وأعطاه ثمنه . وبعضهم يقول قيمته ؛ والأجود عوضه ، وهي عبارة المغني ، لشمولها المثلي والمتقوم .
قال : ولا بأس بأكل الضب .
3579 ش : لما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله سئل عن الضب فقال : ( لا آكله ولا أحرمه ) وفي رواية لمسلم أنه قال : ( كلوه فإنه حلال ، ولكنه ليس من طعامي ) .
3580 وقال أبو سعيد رضي الله عنه كنا معشر أصحاب محمد لأن يهدى إلى أحدنا ضب أحب إليه من دجاجة .
قال : والضبع .
3581 ش : لما روي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمار قال : قلت لجابر : الضبع أصيد هي ؟ قال : نعم . قلت : آكلها ؟ قال : نعم . قلت : أقاله رسول الله ؟ قال : نعم . رواه الخمسة وصححه الترمذي والبخاري ، واحتج به أحمد ، ولفظ أبي داود : عن جابر رضي الله عنه سألت رسول الله عن الضبع فقال : ( هي صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم ) وبهذا يتخصص عموم النهي عن كل ذي ناب من السباع إن سلم أن له ناباً ، وقد قيل : إنه لا ناب له ، وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس .
قال رحمه الله : والثعلب .
ش : قد تقدمت الروايتان في الثعلب ، وأن الخلاف فيه للتردد فيه هل هو من السباع العادية فيدخل في عموم النهي ، أم لا فيبقى على أصل الإِباحة ، والشريف أبو جعفر يختار إباحته كالخرقي ، و أبو محمد يقول : إن أكثر الروايات عن أحمد رضي الله عنه التحريم ، والله أعلم .
قال : ولا يؤكل الترياق ، لأنه يقع فيه لحوم الحيات .
ش : الترياق دواء مركب يتعالج به من السم وغيره ، وقد علل الخرقي المنع منه لما فيه من لحوم الحيات ، وقد تقدم أن ذلك من الخبائث الممنوع منها ، وفي كلام الخرقي إشارة إلى أنه لا يجوز التداوي بمحرم ، ولا ريب في ذلك عندنا .
3582 لما روى أبو الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إن الله تعالى أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل داء دواء ، فتداووا ولا تداووا بحرام ) . رواه أبو داود .
3583 وعن وائل بن حجر ، أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي عن الخمر فنهاه عنها ، فقال : إنما أصنعها للدواء . فقال : ( إنه ليس بدواء ولكنه داء ) رواه مسلم وغيره .
3584 وقال ابن مسعود رضي الله عنه في المسكر : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم . رواه البخاري .
قال : ولا يؤكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم إذا علم أن السم أعان على قتله .
ش : لأنه مات من سبب مباح وهو السهم ، ومحرم وهو السم ، فلم يبح كما لو مات من رمية مسلم ومجوسي ، وكما لو رماه فوجده غريقاً في الماء ، وقد دل على الأصل قول النبي : ( وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكله ، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ) .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يعلم أن السم أعان على قتله أنه يباح وله صورتان ، تارة يعلم عدم إعانته وتارة يشك ، وهو كذلك ، لأن سبب الحل قد وجد ، وشك في المحرم ، والأصل عدمه ، وكأن مراد الخرقي رحمه الله بالعلم هنا الظن ، لإناطة الأحكام بغلبة الظن كثيراً ، وكذا قال الشيخان في مختصريهما ، وإن كان أبو محمد لم ينبه على ذلك في شرح الكتاب والله أعلم .
قال : وما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر لم يؤكل إذا مات في بر أو بحر .
ش : وذلك ككلب الماء وطيره والسلحفاة ونحو ذلك ، لأنه حيوان له نفس سائلة ، يعيش في البر ، فأشبه بهيمة الأنعام ، ولمفهوم ( أحل لنا ميتتان ) وسيأتي ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار عامة الأصحاب . ( والرواية الثانية ) وعن بعض الأصحاب أنه صححها أنه يحل ميتة كل بحري ، لقول النبي في البحر : ( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته ) وهو حديث صحيح ، تقدم الكلام عليه في أول الكتاب ، قال أحمد : هذا خير من مائة حديث . وهو شامل لكل ما مات في البحر .
3585 وعن شريح من أصحاب النبي قال : قال رسول الله : ( إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم ) رواه الدارقطني ، وذكره البخاري عن شريح موقوفاً .
3586 وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : كل ما في البحر قد ذكاه الله تعالى لكم . واستثنى أبو محمد في المغني السرطان ، فأباحه من غير ذكاة ، معللًا بأن مقصود الذبح إخراج الدم ، وتطييب اللحم بإزالته عنه ، والسرطان لا دم فيه ، فلا حاجة إلى ذبحه ، وظاهر كلامه في المقنع الصغير وغيره من الأصحاب جريان الخلاف فيه ، وظاهر كلام أبي محمد أيضاً استثناء الطير وأن شرط حله الذكاة بلا خلاف ، لأنه جعله أصلًا قاس عليه ، وقال : لا خلاف فيه فيما علمناه .
ومفهوم كلام الخرقي أن ما لا يعيش إلا في البحر تباح ميتته ، ويحل بلا ذكاة ، وهو يشمل شيئين ( أحدهما ) السمك ، ولا نزاع في حل حل ميتته ما عدا الطافي على ما تقدم ، لقول النبي : ( أحل لنا ميتتان ودمان ، فالميتتان الحوت والجراد ، والدمان الكبد والطحال ) وغير الحوت مما يسمى سمكاً في معناه ، مع ما تقدم من قول النبي في البحر : ( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته ) وغير ذلك . ( الثاني ) ما عدا السمك مما لا يعيش إلا في البحر ، وفيه روايتان . ( إحداهما ) وبها قطع أبو محمد في كتبه ، بل قال في كتابه الكبير : لا نعلم فيه خلافاً . وهي ظاهر كلام الخرقي أنه يحل بلا ذكاة ، لحديثي أبي هريرة وشريح .
3587 وفي الصحيح أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوا على ساحل البحر دابة يقال لها العنبر ، فأكلوا منها شهراً حتى سمنوا وادهنوا ، فلما قدموا على النبي أخبروه ، فقال : ( هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا ) ( والرواية الثانية ) وهي ظاهر اختيار جماعة من الأصحاب لا يحل شيء من ذلك إلا بالذكاة ، نظراً لتخصيص حديثي أبي هريرة وشريح بمفهوم ( أحل لنا ميتتان الحوت والجراد ) فإن التخصيص بالحوت يدل على نفي الحكم عما عداه ، وإنما ألحق بالحوت ما يسمى سمكاً بقياس أن لا فارق ، وقد يمنع صاحب الرواية الأولى هذا المفهوم ، لأنه مفهوم لقب وهو غير حجة ، ولو قيل بحجيته فلا يقاوم عموم ما تقدم ، ولصاحب الرواية الثانية أن يقول : حدثنا أبي هريرة وشريح قد دخلهما التخصيص باتفاقنا بما يعيش في البر ، فالتخصيص بمفهوم الحديث في الصورتين ، أولى من إخراج أحد الصورتين بقياس يعارضه العموم مع أنه طردي .
( تنبيه ) كلام الخرقي السابق في الحوت إذا مات في البحر أنه يحل ، فقد يقال مفهوم أنه إذا مات في البر أنه لا يحل ، وليس كذلك بالاتفاق والله أعلم .
قال : وإذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه نجس .
ش : ما أشبهه من اللبن والخل ونحو ذلك ، وعموم هذا يشمل القليل والكثير ، وما أصله الماء كالخل ونحوه وغيره ( وهذا إحدى الروايات ) واختيار عامة الأصحاب .
3588 لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن ميمونة رضي الله عنهما أن رسول الله سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال : ( إن كان جامداً ألقوها وما حولها ، وإن كان مائعاً فلا تقربوه ) . رواه أبو داود والنسائي ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه ، رواه أحمد وأبو داود ، وقد احتج أحمد بهذا الحديث ، وثبته محمد بن يحيى الذهلي والمائع يشمل القليل والكثير ، وهو حكاية حال مع قيام الاحتمال ، فينزل منزلة العموم في المقال ، لا يقال : هذا خرج على ما يتعارفه أهل المدينة ، ولم يكن عند أهل المدينة وعاء في الغالب يبلغ خمسمائة رطل ونحوه ، لأنا نقول الخطاب وإن وقع لأهل الحجاز ، فالحكم لا يخصهم بل يعمنا أيضاً ، فلا احتيج إلى تفصيل لفصل النبي ( والرواية الثانية ) أن حكم المائع حكم الماء ، اختارها أبو العباس ، نظراً إلى أن المعروف في الحديث : ( ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم ) أما التفرقة بين المائع وغيره فضعيف ، وبأنه خرج على المعتاد لأهل الحجاز ، وهم لا يعتادون السمن إلا في أوان صغار ، ( والرواية الثالثة ) ما أصله الماء كالخل ونحوه حكمه حكم الماء اعتباراً بأصله ، وما لا كاللبن ونحوه فلا .
قال : واستصبح به إن أحبّ .
ش : يجوز الاتصباح بالدهن المتنجس في ( إحدى الروايتين ) عن أبي عبد الله ، وهي أشهرهما عنه ، واختيار الخرقي وغيره .
3589 لأن ذلك يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما ولأنه انتفاع أمكن من غير ضرر ، فأشبه الطاهر .
3590 وقد جاء عن النبي في العجين الذي عجن بماء من أبيار ثمود ، أنه نهاهم عن أكله ، وأمرهم أن يعلفوه النواضح ، ( والرواية الثانية ) لا يجوز ، لأنه دهن نجس فلم يجز الاستصباح به كدهن الميتة .
3591 ودليل الأصل أن النبي لما سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ، فقال : ( لا هو حرام ) ولا تفريع على هذه ، أما على الرواية الأولى فيستصبح به على وجه لا يمسه ، ولا تتعدى نجاسته إليه ، بأن يجعل الزيت في إبريق له بلبلة ، ويصب منه في المصباح ولا يمسه ، أو يضع على رأس الوعاء الذي فيه الزيت سراجاً مثقوباً ، ويطينه على رأس الوعاء ، وكلما نقص زيت السراج صب فيه ماء ، بحيث يرتفع الزيت ، حذاراً من تلطخه بالنجاسة .
3592 ولهذا منع أحمد رحمه الله من دهن الجلود به ، وعجب من قول ابن عمر رضي الله عنهما أنه تدهن به الجلود .
قال : ولم يحل أكله .
ش : هذا مما لا ريب فيه ؛ لأن النجس خبيث ، والله سبحانه وتعالى قد حرم الخبائث ، ولهذا قال النبي : ( فلا تقربوه ) والله أعلم .
قال : ولا ثمنه .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمجزوم به عند عامة الأصحاب .
3593 لما في الصحيح أن النبي قال : ( لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم ، فجملوها فباعوها فأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه ) ( وعن أحمد ) رواية أخرى أنه يجوز بيعه لكافر يعلم بنجاسته ، نظراً لاعتقاد الكافر حله .
3594 واعتماداً على أن ذلك روي عن أبي موسى الأشعري ، وخرج أبو الخطاب في الهداية ومن تبعه كصاحب التلخيص وأبي محمد وغيرهما قولًا بجواز بيعه مطلقاً من رواية الاستصباح به ، لأنه إذاً منتفع به ، وضعف لأن المعروف عن أحمد وغيره جواز الاستصباح وتحريم البيع ، فدل على أنهم فرقوا بينهما ، وخرج ذلك أبو البركات على القول بتطهيره بالغسل ، لأنه إذاً كالثوب النجس ، وهذا واضح ، لأنه بناء ضعيف على ضعيف .
وكلام الخرقي كله في الدهن المتنجس ، أما الدهن النجس العين ، كدهن الميتة ، فلا يجوز الانتفاع به باستصباح ولا غيره .
3595 لما في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح : ( إن الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) فقيل : أرأيت يا رسول الله شحوم الميتة ، فإنه تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ، فقال : ( لا ، هو حرام ) ثم قال رسول الله عند ذلك : ( قاتل الله اليهود ، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنه ) لا يقال : يحتمل أن يرجع الضمير إلى البيع ، لأنا نقول : الاستصباح ونحوه أقرب مذكور ، فالرجوع إليه أولى ، ثم الرجوع إلى البيع تأكيد لما علم حكمه وهو التحريم ، بخلاف الرجوع إلى الاستصباح ونحوه ، فإنه لم يعلم حكمه ، فيكون تأسيساً ، ولا ريب أن التأسيس أولى والله أعلم .
كتاب الأضاحي


ش : الأضاحي جمع أضحية ، وإضحية بضم الهمزة وكسرها ، والضحايا جمع ضحية ، وقد أتى الخرقي بهذا الجمع بعد ، والأضحى جمع أضحاة كأرطأة وأرطى ، وبها سمي يوم الأضحى .
قال : والأضحية سنة ، لا يستحب تركها لمن يقدر عليها .
ش : لا نزاع في مشروعية الأضحية ومطلوبيتها ، اقتداء بالنبي فعلًا وقولًا .
3596 فقد صح عنه أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ، ووضع رجله على صفاحهما .
3597 وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قلت أو قالوا : يا رسول الله ما هذه الأضاحي ؟ قال : ( سنة أبيكم إبراهيم ) قالوا : ما لنا فيها ؟ قال : ( بكل شعرة حسنة ) قالوا : فالصوف ، قال : ( بكل شعرة من الصوف حسنة ) . رواه أحمد وابن ماجه .
3598 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد ) رواه الدارقطني ، في أحاديث أخر ، وقد قيل في قوله تعالى : 19 ( { فصل لربك وانحر } ) : المراد الأضحية .
3599 قال الحسن : صلاة يوم النحر والبدن ، وقال عطا ومجاهد : صل الصبح بجمع ، وانحر البدن بمنى ، واختلف في هذه المطلوبية هل تنتهي إلى الوجوب ؟ والمعروف المشهور المنصوص من مذهبنا أنه لا ينتهي إلى ذلك .
3600 لما روي عن جابر رضي الله عنه قال : صليت مع رسول الله عيد الأضحى ، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه ، وقال : ( بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، فمن لم يضح منا فقد كفاه تضحية النبي وناهيك بها أضحية .
3601 وعن علي بن حسين ، عن أبي رافع ، رضي الله عنه أن النبي كان يضحي بكبشين يقول في أحدهما : ( اللهم هذا عن أمتي جميعاً ، من شهد لك بالتوحيد ، وشهد لي بالبلاغ ) ويقول في الآخر : ( هذا عن محمد وآل محمد ) قال فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي ، قد كفاه الله المؤمنة برسول الله والغرم . رواه أحمد .
3602 وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال : ( ثلاث كتبت عليّ وهي لكم تطوع ، الوتر والنحر وركعتا الفجر ) رواه الدارقطني . وهو نص إن ثبت .
3603 وفي الصحيح أن النبي قال : ( من أراد أن يضحي فدخل العشر ) الحديث وسيأتي ، فعلق ذلك على الإرداة ، والواجب لا يتعلق على الإرادة ، وحكى أبو الخطاب ( رواية بالوجوب مع الغنى ) وأخذها من نص أحمد على أن للوصي أن يضحي عن اليتيم من ماله قال : فأجراها مجرى الزكاة وصدقة الفطر ، ونازعه أبو محمد في ذلك ، وقال : بل هذا على سبيل التوسعة عليه في يوم العيد ، كما يشتري له في ذلك اليوم ما جرت عادة أمثاله بلبسه . قلت : وهذا حسن ، ويرجحه أنه قال : للوصي أن يضحي . وما قال : عليه أن يضحي له . كما أن عليه أداء الزكاة عنه .
3604 وبالجملة استدل للوجوب بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ) رواه أحمد وابن ماجه .
3605 وعن مخنف بن سليم عن النبي قال : ( يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة ) رواه أحمد وأبو داود وقال : العتيرة منسوخة . وقد ضعفا ، أما الأول فقال الترمذي والدارقطني وغيرهما : الصحيح وقفه ، وأما الثاني فقال عبد الحق : إسناده ضعيف ، ثم على تقدير صحتهما يحملان على تأكيد الاستحباب ، جمعا بين الأدلة ، وقول الخرقي : سنة لا يستحب تركها . إشعار بتأكيدها .
قال : ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته ( شيئاً ) .
3606 ش : لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره ) رواه الجماعة إلا البخاري ، ولفظ أبي داود وغيره ( فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي ) .
وظاهر كلام الخرقي وابن أبي موسى والشيرازي وطائفة أن المنع من ذلك على سبيل التحريم ، وهو أحد الوجهين ، ونصره أبو محمد ، اعتماداً على ظاهر الحديث ، ( والوجه الثاني ) وهو اختيار القاضي وطائفة أن ذلك على سبيل الكراهة .
3607 لقول عائشة رضي الله عنها : ( كنت أفتل قلائد هدي رسول الله ثم يقلدها بيده ، ثم يبعث بها ، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي ) . متفق عليه . ولا ريب أن دلالة الأول أقوى ، لاحتمال خصوصية النبي بذلك ، واحتمال أن قص الشعر ونحوه مما يقل فعله ، إذ لا يفعل في الجمعة إلا مرة واحدة ، فلعل عائشة رضي الله عنها لم ترد بقولها ذلك ثم حديث أم سلمة في الأضحية ، وحديث عائشة رضي الله عنها في الهدي المرسل ، فلا تعارض بينهما ، وعلى هذا إذا فعل فليس عليه إلا التوبة ، ولا فدية إجماعاً .
( تنبيه ) ينتهي المنع بذبح الأضحية ، صرح به ابن أبي موسى وغيره ، لأن المنع لذلك ، فيزول بزواله ، فإذا نحر استحب له الحلق ، قاله ابن أبي موسى والشيرازي .
قال : وتجزىء البدنة عن سبعة وكذلك البقرة .
3608 ش : لما روي جابر رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة . متفق عليه وفي لفظ : قال لنا رسول الله : ( اشتركوا في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة ) رواه البرقاني على شرط الصحيحين . وفي رواية أنه قال : اشتركنا مع النبي في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة ؛ فقال رجل لجابر : أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور فقال : ما هي إلا من البدن . رواه مسلم وهو كذلك .
( تنبيه ) : فلو اشترك جماعة في بدنة أو بقرة على أنهم سبعة فبانوا ثمانية ، ذبحوا معها شاة وأجزأتهم ، وصححه الشيرازي على ما قاله أبو بكر وصاحب التلخيص ، قال الشيرازي وقال بعض أصحابنا : لا يجزىء عن الثامن ، ويعيد الأضحية .
قال : ولا يجزىء إلا الجذع من الضأن ، والثني من غيره .
3609 ش : لما روى جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( لا تذبحوا إلا مسنة ، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن ) . رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي .
3610 وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة ، فقال له رسول الله : ( شاتك شاة لحم ) فقال : يا رسول الله إن عندي داجنا جذعة من المعز . قال : ( اذبحهما ولا تصلح لغيرك ) . متفق عليه .
3611 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي يقول : ( نعم أو نعمت الأضحية الجذع من الضأن ) . رواه أحمد والترمذي .
3612 وعلى هذا يحمل ما روى مجاشع بن سليم أن النبي قال : ( إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية ) . رواه أبو داود ، أي الجذع من الضأن .
قال : والجذع من الضأن الذي له ستة أشهر وقد دخل في السابع .
ش : قد تقدم الكلام على ذلك في الزكاة ، وأن لنا وجهاً آخر أن الجذع من الضأن ما استكمل ثمانية أشهر ، وقد قال وكيع : الجذع من الضأن يكون ابن ستة أشهر أو سبعة وعرفه الخرقي هنا بصفة يعرف بها عند اشتباه سنّه فقال : وسمعت أبي يقول : سألت بعض أهل البادية : كيف تعرفون الضأن إذا أجذع ؟ قال : لاتزال الصوفة قائمة على ظهره ما دام حملًا ، فإذا نامت الصوفة على ظهره علم أنه قد أجذع .
قال : وثني المعز إذا تمت له سنة ودخل في الثانية .
ش : قد تقدم أيضاً الكلام على هذا ، وأن هذا الذي قاله الأصحاب وأن ابن الأثير قال : ما كمل له سنتان .
قال : والبقرة إذا صار لها سنتان ودخلت في الثالثة .
ش : لأنه يروى عن النبي أنه قال : ( لا تذبحوا إلا مسنّة ) ومسنة البقر التي لها سنتان ، ورأيت في نسخة من الجامع الصغير أن الثنية من البقر التي كمل لها ثلاث سنين .
قال : والإبل إذا صار لها خمس سنين ودخلت في السادسة .
ش : قال الأصمعي ، وأبو زياد الكلابي ، وأبو زيد الأنصاري : إذا مضت السنة الخامسة على البعير ، ودخل في السادسة ، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني . ويرى أنه يسمى ثنياً لأنه ألقى ثنيته ، فظاهر هذا أن أهل اللغة يعتبرون في تسميته ثنياً حين كمال خمس سنين وإلقاء ثنيته ، والفقهاء جعلوا الضابط استكمال خمس سنين .
قال : ويجتنب في الضحايا العوراء البين عورها . والعرجاء البين عرجها ، والمريضة التي لا يرجى برؤها ، والعجفاء التي لا تنقي .
ش : لا إشكال في اجتناب هذه الأربعة في الضحايا ، وأنها لا تجزيء .
3613 لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أربع لا تجوز في الأضاحي ، العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين عرجها وفي لفظ ظلعها والكسيرة التي لا تنقي ) رواه الخمسة وصححه الترمذي وفي لفظ ( والعجفاء التي لا تنقي ) بدل الكسيرة ، وهذا نص .
وفسر الخرقي العوراء بالبين عورها كما في الحديث ، وقال أصحابنا : هي التي انخسفت عينها وذهبت ، إذ العين عضو مستطاب ، فإن كان بها بياض لا يمنع النظر أجزأت ولو نقصه ، وكذلك إن أذهبه على أشهر الوجيهن ، لأن ذلك لا ينقص لحمها ، ( وفسر العجفاء ) بالتي لا تنقي كما في الحديث ، ( والكسيرة التي لا تنقي ) وفي لفظ كما تقدم ( العجفاء التي لا تنقي ) وهي التي لا مخ في عظامها لهزالها ، والنقي المخ ، وهذه بالمنع أجدر من التي قبلها ، لأنها عظام مجتمعة ، ( وفسر العرجاء ) بالبين عرجها كما في الحديث ، وفسر ذلك أبو الخطاب وابن البنا ، وصاحب التلخيص ، وأبو محمد وغيرهم بالتي تعجز عن مصاحبة جنسها في المشي ، والمشاركة في العلف ، لأن ذلك ينقص لحمها ، ويفضي إلى هزالها ، فلو كان عرجها يسيراً لا يفضي بها إلى ذلك ، أجزأت ، وقال أبو بكر وتبعه القاضي في الجامع الصغير ، هي التي لا تطيق أن يبلغ المنسك ، فإن كانت تقدر على المشي إلى موضع الذبح أجزأت .
وفسر الخرقي المريضة بالتي لا يرجى برؤها ، لأن ذلك ينقص لحمها نقصاً كثيراً ويهزلها ، والحديث قال فيه : ( البين مرضها ) أي التي تبين أثره عليها ، واختاره أبو محمد ، معللًا بأن ذلك ينقص اللحم ويفسده ، وقال القاضي ، و أبو الخطاب وابن البنا : المريضة هي الجرباء ، لأن الجرب يفسد اللحم . وأناط أبو البركات وصاحب التلخيص الحكم بفساد اللحم ، وهو أضبط وأشمل ، ولعل القاضي ومن تبعه أرادوا ضرب مثال .
قال : والعضباء .
ش : أي ومما يجتنب في الضحايا العضباء .
2614 وذلك لما روي عن علي رضي الله عنه قال : ( نهى رسول الله أن يضحى بأعضب القرن أو الأذن ) ، قال قتادة : فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال : العضب النصف فأكثر من ذلك . رواه الخمسة وصححه الترمذي ، وظاهر النهي التحريم والفساد ، وبهذا يتخصص مفهوم ( أربع لا تجوز في الضحايا ) إن سلم المفهوم وأن له عموماً .
قال : والعضب ذهاب أكثر من نصف الأذن أو القرن .
ش : العضب القطع مطلقاً ، والعضب المانع هنا هو المذهب لأكثر الأذن أو القرن على أشهر الروايتين . واختيار أكثر الأصحاب ، لأن الأكثر يعطى حكم الكل ، بخلاف اليسير فإنه في حكم العدم ، إذ اعتباره يشق ، وقد تقدم عن ابن المسيب وناهيك به أنه النصف فأكثر ، ولهذا والله أعلم قال أبو محمد في الهدايا إنه النصف ، لكن الأصحاب وهو أيضاً هنا على حكاية المذهب كما تقدم . ( والرواية الثانية ) أن المانع ذهاب الثلث فأكثر ، اختاره أبو بكر ، لتسمية النبي له كثيراً . ومنهم من حكى الرواية على أنه ذهاب أكثر من الثلث ، وملخصه أن للأصحاب في الثلث على هذه الرواية قولين ، كما أنه يتلخص في النصف على الأولى كذلك ، لكن الخلاف في الثلث أشهر من الخلاف ثم .
( تنبيه ) : يفهم من كلام الخرقي أن ما عدا هذه الخمسة لا يجتنب فيجزىء ، وهو كذلك ، إلا أن منها ما جعل في معنى ما تقدم فيمنع من التضحية به ، ويكون قد دخل في كلام الخرقي ، إما بطريق التنبيه ، وإما بطريق المساواة ، ومنها ما اختلف في التضحية به ، ونشير إن شاء الله تعالى إلى طرف من ذلك فمما جعل في معنى الممنوع منه فلا تجوز الأضحية به ( العمياء ) ، فإنها لا تجزىء بلا ريب ، إذ هي أولى بالمنع من العرجاء بلا ريب ، لمنعها من المشي مع جنسها ، ومشاركتها لهم في الرعي ، وما أحسن ما قال أبو البركات : لا تجزىء قائمة العينين . فإنه نبه على أن العلة ما قلناه ، لإذهاب عضو كما في العوراء التي انخسفت عينها ، ومن ذلك ( الجدباء ) وقال السامري : الجدباء . قال أحمد : هي التي قد يبس ضرعها ، لأن ذلك أبلغ من ذهاب شحمة العين ، ومنه على ما قال في التلخيص ( العصماء ) وهي التي انكسر غلاف قرنها ، وفيه شيء ومنه ( الهتماء ) وهي التي ذهبت ثناياها من أصولها ، قاله صاحب التلخيص ، زاعماً أنه قياس المذهب قال : لأن أثر ذهاب الأسنان لا سيما إذا ذهبت كلها أكثر من ذهاب بعض القرن ، وقال : إنه لم يعثر فيه للأصحاب بشيء .
ومما اختلف في التضحية به ( الجماء ) وهي التي لم يخلق لها قرن ، وقال ابن البنا : ولا أذن . فقال ابن حامد : لا يجوز ، لأن ذهاب جميع القرن أبلغ من ذهاب بعضه ، وقال القاضي و ابن البنا وأبو محمد وغيرهم : يجوز ، نظراً إلى أن هذا ليس بعيب ، بخلاف كسر بعض القرن ، ومن ذلك ( البتراء ) وهي التي لا ذنب لها قال أبو محمد : سواء كان خلقة أو مقطوعاً ، واختار هو الإجزاء .
3615 وقد روي من حديث الحجاج بن أرطأة ، عن بعض شيوخه ، أن النبي سئل أيضحى بالبتراء ؟ قال : ( لابأس به ) إلا أن هذا منقطع ، مع أن الحجاج ضعيف ، وقطع صاحب التلخيص بالمنع ، وقال : وهي المبتورة الذنب ، وظاهر هذا أنها المقطوعة الذنب ، وقد قال أبو محمد : إن التي قطع منها عضو كالألية لا يجوز التضحية بها ، ومنه أيضاً ( الخصي ) قاله جماعة من الأصحاب منهم الشيخان .
3616 لما روي عن أبي رافع رضي الله عنه قال : ( ضحى النبي بكبشين أملحين موجوءين خصيين ) . وعن عائشة رضي الله عنها نحوه . . . رواه أحمد والوجاء رض الخصيتين ، وما قطعت خصيتاه أو شلتا فكالموجوء ، ولأن الخصاء إذهاب عضو غير مستطاب ، يسمن الحيوان ويطيب لحمه ، بخلاف ذهاب شحمة العين ، وقيد ابن حمدان ذلك تبعاً لصاحب التلخيص بغير المجبوب فظاهره أن المجبوب لا يجزء عندهما . وقد فسر ابن البنا الخصي بالذي قطع ذكره وهو صريح لمخالتهما ، ومن ذلك ( المقابلة ) وهي التي قد انقطع من طرف أذنها قطعة ( والمدابرة ) وهي التي قد انقطع من خلف الأذن مثل ذلك ( والخرقاء ) وهي التي شقت أذنها ، وقال القاضي : التي انثقبت أذنها . ( والشرقاء ) وهي التي تشق أذنها لسمة ، فقال عامة الأصحاب بإجزاء ذلك مع الكراهة ، عملًا بمفهوم حديث البراء بن عازب ( أربع لا تجوز في الأضاحي ) وقال ابن أبي موسى بالمنع في الأربعة ، اتباعاً للنهي عن ذلك .
3617 فعن علي رضي الله عنه قال : ( أمرنا رسول الله أن نستشرف العين والأذن ، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء ) . رواه الخمسة وصححه الترمذي ؛ وهذا منطوق فيقدم على عموم ذلك المفهوم .
قال : ولو أوجبها سليمة فعابت عنده ذبحها وكانت أضحية .
ش : نص أحمد على هذا في رواية صالح .
3618 لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : اشتريت كبشاً لأضحي به ، فعدا الذئب فأخذ الألية قال : فسألت النبي فقال : ( ضح به ) . رواه أحمد وابن ماجه ، ويخرج لنا عدم الإجزاء بناء على القول بوجوب الأضحية ، كما لو أوجبها بنذره ثم عينها فعابت ، وقول الخرقي : فعابت . أي عيباً يمنع الإجزاء ، وإلا ما لا يمنع الإجزاء لا يحتاج إلى التنبيه عليه ، وفي قوله : فعابت . إشعار بأنه لو أعانها هو أنها لا تجزيه وهو كذلك .
قال : وإن ولدت ذبح ولدها معها .
ش : حكم ولد المعينة حكمها ، يذبحه كما يذبحها لأنه كجزئها ، ولأنه حكم قد ثبت له بطريق السراية من الأم ، فيثبت له ما ثبت لها كولد أم الولد .
3619 وعن علي رضي الله عنه أن رجلًا سأله فقال : يا أمير المؤمنين إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها ، وإنها ولدت هذا العجل . فقال علي رضي الله عنه : ( لا تحلبها إلا فضلًا عن تيسير ولدها ، فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة ) . رواه سعيد في سننه ، وكذلك قال أبو بكر وغيره من الأصحاب : إذا أوجب سبعة أنفس أضحية ذبحت وولدها عن السبعة ، والضمير في : وإن ولدت . راجع للتي أوجبها ، فلو لم يوجبها كان ولدها له كبقية نمائها ، ثم إن كلامه يشمل الولد الموجود حال التعيين وبعده وهو كذلك .
( تنبيه ) : لو عين أضحية عما ثبت في ذمته فولدت ذبح ولدها معها ، فلو تعيبت الأم فبطل التعيين فيها فهل يتبعها الولد كما يتبعها ابتداء فيبطل التعيين فيه ، أو لا ، لأن البطلان في الأم لمعنى اختص بها ؟ فيه وجهان .
قال : وإيجابها أن يقول : هي أضحية .
ش : لا ريب في صيرورة الحيوان واجباً بقوله هذا أضحية ، لأن هذا هو اللفظ الموضوع لذلك ، أشبه ما لو قال لعبده : هذا حر . ولا يتعين لفظ الأضحية ، بل كل لفظ دل على ذلك كقوله : هذا لله . ونحوه من ألفاظ النذر ، كما هو قاعدة المذهب ، وصرح به الأصحاب ، وقد يتعين بالنية كما في البيع والوقف والهبة ونحوهن ، في رواية ضعيفة . والخرقي والله أعلم إنما أراد بذلك المبالغة في أنه لا يحصل بالنية مع الشراء ، كما يقوله المالكي والحنفي ، وهو احتمال قاله أبو الخطاب ، وذلك لأنه إزالة ملك على وجه القربة ، فلا تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف .
( تنبيه ) : وكذلك حكم الهدي يحصل بقوله : هذا هدي ، أو لله ، ونحو ذلك ، لا بالنية ولو مع سوقه ، ولا بإشعاره وتقليده ، قاله عامة الأصحاب ، وخالفهم أبو محمد فقال بوجوبه بذلك ، جازماً به كما يحصل الوقف ببناء مسجد والإذن في الصلاة فيه والله أعلم .
قال : ولو أوجبها ناقصة وجب عليه ذبحها ولم تجزئه .
ش : إذا أوجب التي اشتراها ناقصة أي نقصاً يمنع الإجزاء وجب عليه ذبحها ، لأن إيجابها كالنذر لذبحها ، فيلزمه الوفاء به ، وصار هذا كنذر هدي من غير بهيمة الأنعام ، فلا يجزئه عن الأضحية الشرعية ، لقول النبي : ( أربع لا تجوز في الأضاحي ) ويكون شاة لحم منذورة ، فإن زال عيبها كأن كانت عجفاء فزال عجفها ونحو ذلك أجزأت عن الأضحية ، قاله جماعة من الأصحاب .
قال : ولا تباع أضحية الميت في دينه .
ش : لأن ذبحها قد تعين ، أشبه ما لو كان حياً ، ولأنه خرج عنها لله تعالى في حياته ، أشبه الوقف ، ولم يفرق الأصحاب فيما علمته بين أن يوجبها في حال صحته أو في حال مرضه ، وقد يقال : إن قولهم : إن التبرعات في المرض تعتبر من الثلث وتنقض للدّين المستغرق . يخرج ذلك ، وقول الخرقي : أضحية الميت . يشمل ما إذا أوجبها ، أو ذبحها ثم مات ، فإنها إذاً تتعين بالذبح ، وخرج منه ما إذا عدم ذلك ، كما لو اشتراها بنية الأضحية ثم مات ، فإنها تباع في دينه لانتفاء تعيينها بذلك على المذهب .
قال : تعيينها بذلك على المذهب .
قال : ويأكلها ورثته .
ش : يعني على الوجه المشروع في الأكل كما سيأتي ، لقيامهم مقامه والله أعلم .
قال : والاستحباب أن يأكل ثلث أضحيته ويتصدق بثلثها ويهدي ثلثها .
ش : قال الإمام أحمد : نحن نذهب إلى حديث عبد الله ، يأكل هو الثلث ، ويطعم من أراد الثلث ، ويتصدق على المساكين بالثلث .
3620 قال علقمة : ( بعث معي عبد الله بهديه فأمرني أن آكل ثلثها ، وأن أرسل إلى أهل أخيه بالثلث ، وأن أتصدق بالثلث ) .
3621 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( الهدايا والضحايا ثلث لك ، وثلث لأهلك ، وثلث للمساكين ) .
3622 وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في صفة أضحية النبي قال : ( ويطعم أهل بيته الثلث ، ويطعم فقراء جيرانه الثلث ، ويتصدق على السؤال بالثلث ) . رواه الحافظ أبو موسى في ( الوظائف ) وقال : حديث حسن . ولأن الله قال : 19 ( { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } ) .
وظاهر ذلك القسم على ثلاثة .
وقول الخرقي : والاستحباب . ظاهر في أنه لو أكل أو أهدى أو تصدق بأكثر من الثلث جاز ، ولا ريب في ذلك ، نعم كلامه أيضاً يقتضي أنه لو أكلها كلها ، أو أهداها كلها ، أو تصدق بها كلها جاز ، وليس كذلك ، بل الأصحاب على أنه لا يجب الأكل منها ، ويجب أن يتصدق منها ولو بأوقية ، نظراً لقوله تعالى : 19 ( { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } ) . وقوله تعالى : 19 ( { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } ) أمر ، وظاهر الأمر الوجوب ، خرج منه الأكل .
3623 بدليل ما روى عبد الله بن قرط أن رسول الله قال : ( أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر ) .
3624 وقرب إلى رسول الله خمس بدنات أو ست ينحرهن ، فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها ، فلما وجبت جنوبها قال كلمة خفية لم أفهمها ، فسألت بعض من يليني ما قال ؟ قالوا : قال ( من شاء اقتطع ) وظاهر هذا أنه لم يأكل من ذلك شيئاً ، وفيه نظر ، لأن هذه واقعة عين ، والمعتمد أن الأمر بالأكل يرد كثيراً والمراد به الإباحة ، كما في قوله تعالى : 19 ( { كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه } ) . ونحوه فكذلك ها هنا ، بخلاف الأمر بالصدقة ، وغاية ما يقال أنه يلزم إذاً استعمال الأمر في حقيقته ومجازه ، ونلتزمه على أن المندوب مأمور به عندنا حقيقة .
إذا تقرر هذا فالذي يجب عليه الصدقة به هو أقل ما ينطلق عليه الاسم ، قاله جمهور الأصحاب ، نظراً لإطلاق الآيتين المتقدمتين ، وقال أبو بكر في التنبيه : لا يدفع إلى المساكين ما يستحي من توجهه به إلى خليطه . اه ومن لم يأت بالواجب من الصدقة ، بأن أكل الجميع ، أو أهدى الجميع ، فهل يضمن ما كان يجب أن يتصدق به ، أو ما كان يشرع أن يتصدق به وهو الثلث ؟ فيه وجهان .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) عموم كلام الخرقي في الإطعام يشمل الكافر ، وهو كذلك في الصدقة المستحبة منها ، كبقية صدقة التطوع ، أما الصدقة الواجبة منها فلا تدفع إليه كالزكاة ونحوها ، ولهذا قيل : لا بد من دفع الواجب إلى فقير وتمليكه ، وهذا بخلاف الإهداء فإنه يجوز بناء على قوله باستحباب الأضحية ، ففي الأكل وجهان ( الجواز ) كما في هدي التمتع والقران ( وعدمه ) كالأحضية المنذورة على قول الأكثرين ، وعن أبي بكر وتبعه أبو محمد جواز الأكل من الأضحية المنذورة أيضاً ، لأن أكثر ما في النذر التزام حكم الأضحية ، ومن حكمها جواز الأكل ، والله أعلم .
قال : ولا يعطي الجازر بأجرته شيئاً منها .
3625 ش : قال علي رضي الله عنه : ( أمرني رسول الله أن أقوم على بدنه ، وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها ، وأن لا أعطي الجزار منها شيئاً ، وقال : ( نحن نعطيه من عندنا ) . متفق عليه . وفي قوله : بأجرته . إشعار بأنه يجوز الدفع إليه لا على سبيل الأجرة ، كأن يدفع إليه لفقره أو هدية ، وهو كذلك ، لأنه ساوى غيره في ذلك ، وزاد عليه بمباشرته لها ، وتشوف نفسه إليها ، وبهذا المعنى يتخصص عموم الحديث ، ولو قيل بعمومه سدا للذريعة لكان حسناً .
قال : وله أن ينتفع بجلدها .
ش : لا نزاع في ذلك ، لأن الجلد جزء من الأضحية ، أشبه اللحم .
3626 وعن أبي سعيد الخدري أن قتادة بن النعمان أخبره ، أن النبي قام فقال : ( إني كنت أمرتكم أن لا تأكلوا من الأضاحي فوق ثلاثة أيام لتسعكم ، وإني أحله لكم ، فكلوا منه ما شئتم ، ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي ، وكلوا وتصدقوا ، واستمتعوا بجلودها ، وإن أطعتم من لحومها شيئاً فكلوا إن شئتم ) . رواه أحمد ، وفي قول النبي : ( وإن أطعمتم من لحومها شيئاً فكلوا إن شئتم ) إشعار بوجوب الإطعام منها ، وتوقف الأكل عليه .
قال : ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئاً منها .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب ، لما تقدم من حديثي علي والنعمان رضي الله عنهما قال أحمد : سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك وتعالى ! .
وحكى قول النبي ( لا يعطي في جزارته شيئاً منها ) ( وعن أحمد ) رواية أخرى : يجوز بيع الجلد والصدقة بثمنه .
3627 لأن ذلك يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما ولأنه إذا كان له منع الفقراء منه رأساً بأن ينتفع به ، فلأن يمنعهم من عينه ويدفع ثمنه إليهم أولى ( وعنه ثالثة ) يباع بمتاع البيت كالغربال ونحوه ، فيكون إبدالًا بما يحصل منه مقصودها ، كما جاز إبدال الأضحية ، ( وعنه رابعة ) يباع جلد البقرة والبدنة ويتصدق بثمنه ، دون الشاة ، ولعله اعتمد في ذلك على أثر .
( تنبيه ) : حكم جل الأضحية حكم جلدها ، قاله أبو البركات ، لكنه إنما حكى الروايتين الأولتين .
قال : ويجوز أن يبدل الأضحية إذا أوجبها بخير منها .
ش : هذا مبني على أصل ، وهو أنه إذا أوجب أضحية فهل يزول ملكه عنها ؟ بذلك قال عامة الأصحاب ، وزعم أبو محمد في الكافي أن أحمد نص على أنه لا يزول بذلك ، إذ النذور محمولة على أصولها في الفروض ، وفي الفرض لا يزول ملكه وهو الزكاة ، وله إخراج البدل فكذلك في النذر ، وخالفهم أبو الخطاب في هدايته وخلافه الصغير ، فقال بالزوال ، معتمداً على قول أحمد في الهدي إذا عطب في الحرم : قد أجزأ عنه . وقوله في الأضحية إذا هلكت : ليس عليه بدلها . وقوله إذا عين الهدي أو الأضحية فأعورت أو عجفت يذبحها وتجزئه ، وكذا لو ذبحت فسرقت ، أو ذبحها ذابح بغير إذنه أجزأت ، قال : ولو كان ملكه باقياً لوجب عليه بدلها في جميع هذه المواضع ، ووجه ذلك أنه جعلها لله تعالى ، فأشبهت المعتق والموقوف ، فعلى هذا القول لا يجوز البيع ولا الابدال مطلقاً .
أما على المذهب فيجوز إبدالها بخير منها وقد نص عليه أحمد ، نظراً لمصلحة الفقراء في ذلك ، ولا يجوز بدونها قطعاً ، لما فيه من تفويت حرمتها وإنه لا يجوز ، وهل يجوز بمثلها ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختاره أبو محمد لا يجوز ، لأنه تفويت للعين من غير فائدة تحصل ، أشبه ما لو أبدلها بدونها . ( والثاني ) يجوز لأن الواجب لم ينقص .
وحيث جاز الإبدال فهل يجوز البيع ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي اختيار أبي بكر و القاضي يجوز ، إذ الإبدال بيع في الحقيقة ، ولأن النبي ساق مائة بدنة في حجته ، وقدم علي من اليمن فأشركه فيها . رواه مسلم وغيره ، ( والثانية ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد لا يجوز .
3628 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أهدي عمر رضي الله عنه بختيا ، فأعطي بها ثلاثمائة دينار ، فأتى النبي فقال : يا رسول الله إني أهديت بختيا فأعطيت بها ثلثمائة دينار ، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدناً ؟ قال : ( لا انحرها إياها ) رواه أحمد وأبو داود ، والبخاري في تأريخه ، وهذا نص ، وفيه دليل على المنع من الإبدال ، كما يقوله أبو الخطاب ، ويجاب عن تشريك النبي بأن ذلك في الأجر والثواب ، أو كان قبل الإيجاب .
وحيث جاز البيع فهل ذلك بشرط أن يبيعها لمن يضحي بها ، قاله الشيرازي ، وصاحب التلخيص ، أو مطلقاً ، وهو ظاهر كلام القاضي وأبي بكر ؟ فيه قولان ، ثم على القولين يشتري خيراً منها ، قاله أبو بكر وصاحب التلخيص ، وحكاه أبو محمد عن القاضي ، وظاهر كلام القاضي في الجامع جواز شراء مثلها ، قال : عليه بدنة مكانها . ثم قال صاحب التلخيص : يصرف ثمنها في خير منها ، وقال غيره : يشتري خيراً منها ، وأطلق .
( تنبيه ) : حكم الهدي الواجب حكم الأضحية فيما تقدم .
قال : وإذا مضى من نهار يوم الأضحى مقدار صلاة الإمام العيد وخطبته فقد حل الذبح .
ش : يوم الأضحى يوم لذبح الأضحية في الجملة بالإجماع ، واختلف بماذا يدخل وقت الذبح ، فعند الخرقي أنه يدخل بمقدار مضي صلاة العيد وخطبته ، لأن الصلاة تتقدم وتتأخر ، وقد تفعل وقد لا تفعل ، وذلك ضابط لا يختلف ، فأنيط الحكم به ، ولم يعتبر أبو محمد في المقنع تبعاً لأبي الخطاب في الهداية غير قدر الصلاة ، لأن المذكور في الأحاديث كما سيأتي إن شاء الله تعالى الصلاة ، وقال القاضي وعامة أصحابه الشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي وابن البنا ، وأبو محمد في المغني ، وهو إحدى الروايات عن الإمام : المعتبر في حق أهل المصر صلاة الإمام فقط .
3629 لما روي عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه أنه صلى مع رسول الله يوم أضحى ، قال : فانصرف فإذا هو باللحم وذبائح الأضحى تفرق ، فعرف رسول الله أنها ذبحت قبل أن يصلي ، فقال : ( من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح بسم الله ) .
3630 وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله يوم النحر : ( من كان ذبح قبل الصلاة فليعد ) متفق عليهما وللبخاري من حديث أنس ( من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب نسك المسلمين ) ( والرواية الثانية ) وهي اختيار أبي محمد في الكافي ، وزعم في المغني أنها ظاهر كلامه : المعتبر مع الصلاة الفراغ من الخطبة ، لأن النبي إنكاره كان بعد الفراغ من الخطبة ، ولأن الخطبة كالجزء من الصلاة . ( والرواية الثالثة ) : يعتبر مع ذلك ذبح الإمام .
3631 لما روي عن جابر رضي الله عنه قال : ( صلينا مع رسول الله يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا ، وظنوا أن النبي قد نحر ، فأمر النبي من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر ، ولا ينحروا حتى ينحر النبي ) . . رواه أحمد ومسلم .
وهذه الروايات في حق أهل الأمصار ، أما أهل القرى الذين لا صلاة عليهم لقلتهم ، ومن كان في حكمهم كأصحاب الطنب والخركاوات ، فعامة الأصحاب هنا يوافقون الخرقي ، لأنه تعذر في حقهم اعتبار حقيقة الصلاة اعتبر قدرها ، ثم إن عامة أصحاب القاضي على أن المعتبر قدر الصلاة فقط ، بعد دخول وقتها ، بناء على اعتبارهم الصلاة ثم ، وظاهر كلام القاضي في الجامع و أبي محمد أن المعتبر قدر الصلاة والخطبة ، ولنا وجه ثالث أن المعتبر مع ذلك ذبح الإمام من الرواية الثالثة ثم ، وحكى صاحب التلخيص وجهاً آخر أن المعتبر ذلك الوقت ، أي وقت صلاة الإمام ، وهو ظاهر إطلاق أبي البركات ، أو صلاة الإمام وخطبته ، أو خطبته وذبحه ، ويتلخص أن في أهل الأمصار خمسة أقوال ، وفي أهل القرى ستة .
إذا تقرر هذا فلا فرق في أهل الأمصار بين من عليه الصلاة ومن لا صلاة عليه ، كالنساء ونحوهن ، ثم إن الخرقي رحمه الله وكثيراً من الأصحاب أطلقوا قدر الصلاة والخطبة ، فيحتمل أن يعتبروا ذلك بمتوسطي الناس ، و أبو محمد اعتبر قدر صلاة وخطبة تامتين في أخف ما يكون ، وإذا اعتبرنا الصلاة فإذا صلى الإمام في المصلى واستخلف من صلى في المسجد ، فمتى صلوا في أحد الموضعين جاز الذبح ، ولو لم يصل الإمام في المصر لعذر أو غيره لم يجز الذبح حتى تزول الشمس ، لأن الصلاة تفوت إذاً ، وأما الذبح في اليوم الثاني والثالث فيجوز قبل الصلاة ، لأنه مرتب على أداء صلاة العيد ، وذلك قد سقط .
قال : إلى آخر يومين من أيام التشريق .
ش : وقت الذبح عندنا ينتهي بمضي يومين من أيام التشريق ، فأيام النحر عندنا ثلاثة أيام يوم الأضحى ، ويومان بعده .
3632 لأن النبي قد ثبت عنه بلا ريب أنه نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، ويلزم منه تأقيت الذبح بثلاث ، ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه ، لا يقال : فقد ثبت نسخ ذلك ، لأنا نقول الحديث دل على حكمين ، المنع من الاودخار فق ثلاث ، وأن وقت الذبح ذلك ، ونسخ المنع من الادخار فوق ثلاث لا يلزم منه نسخ الحكم الآخر .
3633 ثم إن هذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس ، وأبي هريرة وأنس رضي الله عنهم قال أحمد : أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله . وفي رواية قال : خمسة من أصحاب رسول الله ولم يذكر أنساً .
3634 ولا مخالف لهم إلا رواية رويت عن علي رضي الله عنه .
( تنبيه ) : فإن خرج الوقت ولم ينحر ذبح الواجب قضاء ، إذ الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كتفرقة اللحم ، وخير في التطوع ، فإن ذبح فهو شاة لحم ، والله أعلم .
قال : نهاراً ولا يجوز ليلًا .
ش : لما تكلم الخرقي رحمه الله على أول وقت الأضحية وآخره ، شرع يتكلم على محله ، فقال إن محله النهار دون الليل ، ولا نزاع أن النهار محل للذبح ، واختلف في الليل هل هومحل لذلك أم لا ؟ ( فعنه ) وهو اختيارالخرقي ليس بمحل لذلك ، نظراً لظاهر قوله تعالى : 19 ( { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ) واليوم اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
3635 وفي مراسيل أبي داود فيما أظن من طريق بقية بن الوليد ، عن مبشر بن عبيد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، قال : ( نهى رسولي الله عن الذبح بالليل ) ، لكن مبشراً قالوا : متروك . فهو عكس اسمه ( وعنه ) وهو اختيار أبي بكر ، والقاضي وأصحابه ، وصاحب التلخيص وغيرهم هو محلّ للذبح أيضاً ، لأن النهي عن الادخار فوق ثلاث ، يدخل فيه الليل ، واليوم يطلق ويراد مع ليلته ، ومحل الخلاف فيما عدا ليلة النحر ، وهذا واضح ، لأن الوقت في الذبح إنما يدخل بعد مضي جزء من النهار كما تقدم اه ، فعلى الأولى إن ذبح ليلًا لم تجزئه أضحيته ، لكن في الواجب يلزمه البدل ، وفي التطوع يكون ذبحه ذبح لحم ، وعلى الثانية تجزىء لكنه يكره حذاراً من الخلاف والله أعلم .
قال : فإن ذبح قبل ذلك لم تجزئه .
ش : إذا ذبح قبل وقت الذبح ، بأن ذبح في اليوم الأول قبل مقدار الصلاة والخطبة ، أو مقدار الصلاة على ما تقدم من الخلاف ، وفي اليوم الثاني ، وكذا الثالث قبل طلوع فجرهما على مختاره لم تجزئه لإيقاع ذلك في غير وقته ، أشبه ما لو صلى قبل الوقت ، وقد شهد لذلك ما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه ( من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ) والله أعلم .
قال : ولزمه البدل .
ش : لما تقدم من قول النبي ( من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ) وفي لفظ ( فليعد ) وكلام الخرقي يشمل الأضحية الواجبة وغيرها ، وهو ظاهر الحديث ، لكن أبا محمد وغيره حملوا على الواجب بنذر أو بتعيين ، أما ما ذبحه تطوعاً فلا بدل عليه إلا أن يشاء ، لأن غايته أنه قصد تطوعاً فأفسده ، فصار كما لو خرج بصدقة تطوع فدفعها لغير مستحقها ، وحمل أبو محمد الحديث على الندب ، أو على التخصيص بمن وجبت عليه . قلت : وأولى المحملين الأول ، لأن النبي حكم حكماً عاماً ، فدعوى التخصيص لا دليل عليه .
والبدل الواجب مثل المذبوح أو خير منه ، قال أبو محمد : وهو بظاهره مشكل ، إذ الحيوان عند الأصحاب متقوم بلا ريب ، وكأن أبا محمد إنما أراد أن يشتري بقيمته مثله ، وترك بيان ذلك إحالة على ما تقدم له ، وقد قال هو والأصحاب فيما إذا أوجب أضحية ثم أتلفها : إنه يضمنها بقيمتها تصرف في مثلها ؛ ثم اختلفوا هل يضمنها بقيمتها يوم الإتلاف فقط ، وهو قول القاضي ، وتبعه أبو الخطاب في خلافه ، أو بأعلى القيمتين ، وهو قول أكثر أصحاب القاضي ؟ على قولين . وعلى القول الثاني : أعلى القيمتين هو من حين الإيجاب إلى حين التلف ، عند ابن عقيل ، وصاحب التلخيص ، ومن حين التلف إلى حين جواز الذبح ، عند الشريف وأبي الخطاب في الهداية ، والشيرازي والشيخين وغيرهم .
( تنبيه ) : الشاة المذبوحة شاة لحم كما في الحديث ، يصنع بها ما شاء ، هذا المشهور ، ولأبي محمد احتمال أن حكمها حكم الأضحية ، كالهدي إذا عطب ، لا يخرج عن حكم الهدي على رواية ، ويكون معنى قوله ( شاة لحم ) أي في فضلها وثوابها خاصة ، دون ما يصنع بها .
قال : ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم .
ش : لا نزاع في ذلك ، لأنها قربة وطاعة ، فلا يليها غير أهل القرب ، ومقتضى كلام الخرقي أنه يجوز أن يذبحها غير المسلم ، ومراده بذلك الكتابي ، بدليل ما تقدم له ، وقد اختلف عن أحمد في ذلك ، ( فعنه ) وهو اختيار الخرقي وعامة الأصحاب يجوز ، لأنه يجوز له ذبح غير الأضحية ، فجاز له ذبح الأضحية كالمسلم ، ولأن الكافر يجوز أن يتولى ما هو قربة للمسلم كبناء المساجد ونحو ذلك ، ( وعنه ) المنع .
3636 لأن في حديث ابن عباس الطويل ( ولا يذبح ضحاياكم إلا طاهر ) .
3637 وقال جابر : لا يذبح النسك إلا مسلم . وحملًا على الكراهة التنزيهية اه .
ويشترط أن ينوي المسلم ذلك ، ويكون توكيل الذمي في مجرد النحر ، نعم في المعينة لا يحتاج إلى نية ، نظراً للتعيين .
( تنبيه ) : عامة الأصحاب على حكاية الروايتين على الإطلاق ، وخصهما ابن أبي موسى والشيرازي بالبقر والغنم ، وجزما في الإبل بعدم الإجزاء ، وقال الشريف و أبو الخطاب في خلافيهما : هذا أي جواز ذبح الكتابي على الرواية التي تقول : الشحوم المحرمة على اليهود لا تحرم علينا ، زاد الشريف : أو على كتابي نصراني ، ومقتضى هذا أن محل الروايتين على القول بحل الشحوم ، أما إن قلنا بتحريم الشحوم فلا يلي اليهودي بلا نزاع ، وقد أشار أبو محمد إلى هذا ، فإنه علل المنع بأن الشحم محرم علينا ، فيكون ذلك إتلاف جزء منها ، وأجاب بمنع تحريم الشحم .
قال : فإن ذبحها بيده كان أفضل .
ش : اقتداء بالنبي ، فإنه ضحى بكبشين أقرنين أملحين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ، ووضع رجله صفاحهما ، ونحر من البدن التي ساقها في حجته ثلاثاً وستين بدنة ، ولأن فعل القرب أولى من الاستنابة فيها ، فإن استناب جاز بلا نزاع ، وقد استناب النبي فيما غبر عليه من بدنه ، والمستحب إذا لم يذبح بيده أن يمسك المدية بيده حال الإمرار ، فإن لم فليحضر ، لأن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الطويل ( واحضروها إذا ذبحتم ، فإنه يغفر لكم عند أول قطرة من دمها ) والله أعلم .
قال : ويقول عند الذبح : بسم الله والله أكبر .
ش : قد تقدم هذا ، وأن النبي سمى وكبر ، والأولى أن يكون ذلك عند تحريك يده بالذبح والله أعلم .
قال : فإن نسي لم يضره .
ش : إذا نسي التسمية فلا يضره ، وقد تقدم ذلك والخلاف فيه ، فلا حاجة إلى إعادته .
قال : وليس عليه أن يقول عند الذبح عمن ، لأن النية تجزئ .
ش : لا ريب في الاكتفاء بالنية ، إذ الأعمال بها ، نعم إن ذكر من ضحى عنه فحسن .
3638 لأن في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( اللهم منك وإليك عن محمد وأمته ، بسم الله والله أكبر ) ثم ذبح .
وقول الخرقي : لأن النية تجزئ . إشعار بأنه لا بد من النية ، ولا إشكال أنها لا تصير أضحية إلا بالنية ، بقي هل تحتاج إلى تجديد النية عند الذبح ؟ قال في التلخيص : إذا قال : جعلت هذه أضحية . أغناه عن تجديد النية عند الذبح ، وكذا إذا نذرها بعينها ، بخلاف ما إذا نذرها في ذمته ثم قال : جعلتها هذه . فإنه لا بد وأن ينويه وقت الذبح . قلت : وعلى هذا ففي المتطوع به لا بد وأن ينويه عند الذبح .
قال : ويجوز أن يشترك السبعة فيضحوا بالبقرة أو البدنة .
ش : قد تقدمت هذه المسألة في أول الباب ، وقد يقال : إنه إنما أعادها ها هنا لأن كلامه السابق في أن البدنة أو البقرة تجرئ عن سبعة ، فهذا قد يقال فيما إذا ذبحها ذابح عنهم ونحو ذلك ، وهذه المسألة فيما إذا اشتركوا فيها ، والأجود أن يقال : إن كلامه السابق في الواجب ، إذ الإجزاء مشعر بذلك ، وهنا في التطوع ، ونبه بذلك على مخالفة من فرق بينهما اه .
( تنبيه ) : الاعتبار أن يشترك الجميع دفعة ، فلو اشترك ثلاثة في بقرة أضحية وقالوا : من جاء يريد أضحية شاركناه . فجاء قوم فشاركوهم ، لم تجزئ إلا عن الثلاثة ، قاله الشيرازي .
قال : والعقيقة سنة .
ش : قال الأزهري : قال أبو عبيد : قال الأصمعي وغيره : العقيقة أصلها الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد ، وسميت الشاة المذبوحة عند حلق شعره عقيقة ، على عادتهم في تسمية الشيء باسم سببه ، ثم اشتهر ذلك فلا يفهم من العقيقة عند الإطلاق إلا الذبيحة ، وقال ابن عبد البر : أنكر أحمد هذا التفسير ، وقال : إنما العقيقة الذبح نفسه ، وذلك لأن أصل العق القطع ، ومنه : عق والديه . إذا قطعهما ، والذبح قطع الحلقوم والمريء .
والعقيقة مشروعة مطلوبة عندنا بلا ريب .
3639 لما روي عن أم كرز الكعبية رضي الله عنها أنها سألت رسول الله عن العقيقة ، فقال : ( نعم عن الغلام شاتات ، وعن الأنثى واحدة ، ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثاً ) . رواه أحمد والترمذي وصححه .
3640 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً . رواه أبو داود والنسائي وقال : بكبشين كبشين .
3641 وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال : كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها ، فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران . رواه أبو داود وقال 16 ( أحمد ) : العقيقة سنة عن رسول الله قد عق عن الحسن والحسين ، وفعله أصحابه .
واختلف أصحابنا هل تنتهي هذه المطلوبية إلى الوجوب ؟ فقال أبو بكر في التنبيه بانتهائها إلى ذلك ، قال أبو الخطاب : ويحتمله كلام أحمد .
3642 لما روى الحسن عن سمرة أن رسول الله قال : ( كل غلام مرتهن بعقيقته ، تذبح عنه يوم سابعه ، ويحلق رأسه ويسمى ) . رواه الخمسة وصححه الترمذي . وقال الإمام أحمد والنسائي وغيرهما : لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة .
3643 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، أن النبي أمر بتسمية المولود يوم سابعه ، ووضع الأذى عنه والعق . رواه الترمذي وقال : حسن غريب .
وقال عامة الأصحاب وهو المعروف عن أحمد بعدم انتهائها إلى ذلك ، ووقفوا عند القول باستحبابها .
3644 لما روي عن عمرو بن شعيب أيضاً عن أبيه عن جده ، قال : سئل النبي عن العقيقة فقال : ( لا أحب العقوق ) وكأنه كره الاسم ، فقالوا : يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له . قال : ( من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل ، عن الغلام شاتان متكافئتان ، وعن الجارية شاة ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي ، وإذاً يحمل ما تقدم على تأكيد الاستحباب ، جمعاً بين الأدلة ، ويرجحه الأمر بالتسمية يوم السابع والحلق ، ليس ذلك بواجب ، وإذا كانا مستحبين فكذلك الذبح ، حذاراً من استعمال الأمر في حقيقته ومجازه ، لا لمجرد دلالة الاقتران .
قال : عن الغلاام شاتان ، وعن الجارية شاة .
ش : لما تقدم من حديثي أم كرز وعبد الله بن عمرو ، وعق النبي عن الحسن والحسين قد جاء فيه كبش ، وجاء كبشان ، مع أن رواية الكبش قد تحمل على الجواز ، وعلى عدم الوجدان ، وكذا نقول بجواز أن يذبح شاة واحدة إذا لم يقدر على غيرها ، والأولى كون الشاتين متماثلتين ، لما تقدم في الحديث ( متكافيتان ) قال أحمد : يعني متقاربتين أو متساويتين .
قال : تذبح يوم السابع .
ش : وذلك لما تقدم من حديثي سمرة وعبد الله بن عمرو ، وظاهر كلام الخرقي أن جميع العقيقة تذبح يوم السابع ، وقال ابن البنا : تذبح إحدى شاتي الغلام يوم ولادته ، والأخرى يوم سابعه ، والأول هو المعروف في النقل ، وهو ظاهر الحديث ، فإن فات السابع فقال اوصحاب في أربع عشرة ، فإن فات ففي إحدى وعشرين .
3645 لأن ذلك يروى عن عائشة رضي الله عنها ، وهذا على سبيل الاستحباب وبعد يجزئ لحصول المقصود ، وكذلك قبل بعد الولادة ، إذ هو أول الوقت ، فإن تجاوز إحدى وعشرين ففيه احتمالان ( أحدهما ) : يستحب في كل سابع ، فيذبح في ثمانية وعشرين ، ثم في خمس وثلاثين ، وعلى هذا قياساً على ما تقدم ، ( والثاني ) يفعل في كل وقت ، لأن هذا قضاء ، فلم يتوقف كقضاء الأضحية وغيرها .
قال : ويجتنب فيها من العيوب ما يجتنب في الأضحية .
ش : يجتنب في العقيقة من العيب ما يجتنب في الأضحية ، لأنها قربة يتقرب بها إلى الله تعالى ، شكرا على نعمته ، فأشبهت الأضحية ، فعلى هذا لا يعق بعوراء بين عورها ، ولا عرجاء بين عرجها ، ولا مريضة بين مرضها ، ولا عجفاء لا تنقي ، وبيان مفصلًا قد تقدم .
قال : وسبيلها في الأكل والصدقة والهدية سبيلها .
ش : لأنها نسيكة مشروعة ، أشبهت الأضحية ، قال أبو محمد : وإن طبخها ودعا إخوانه فأكلوها فحسن .
قال : إلا أنها تطبخ أجدالًا .
ش : يعني أن الأولى في العقيقة أن تفصل الأعضاء ، فتطبخ كذلك ، ولا تكسر عظامها ، تفاؤلًا بسلامة المولود .
3646 وفي مراسيل أبي داود عن جعفر عن أبيه ، أن النبي قال : في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين رضي الله عنهم ( أن يبعثوا إلى بيت القابلة برجل ، وكلوا وأطعموا ، ولا تكسروا منها عظماً ) ولهذا قال أبو بكر في التنبيه : يعطي القابلة منها فخذاً .
( تنبيه ) الأجدال واحدها جدل بالدال غير المعجمة وهو العضو ، والله سبحانه أعلم .
كتاب السبق والرمي


ش : الأصل في مشروعية ذلك الإجماع .
3647 وقد شهد له ما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله سابق بالخيل التي قد أضمرت من الحفيا ، وكان أمدها ثنية الوداع ، وسابق بالخيل التي لم تضمر من الثنية ، إلى مسجد بني زريق ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما فيمن سابق فيها . متفق عليه واللفظ لمسلم زاد البخاري قال سفيان : من الحفيا إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة ، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل .
3648 وعن أنس رضي الله عنه قال : كانت لرسول الله ناقة تسمى العضباء ، وكانت لا تسبق ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها ، فاشتد ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله : ( إن حقاً على الله أن الله تعالى لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه ) رواه أحمد والبخاري ، وقال الله سبحانه : 19 ( { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ) .
3649 قال عقبة بن عامر رضي الله عنه : سمعت النبي يقول : ( ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ) رواه مسلم وغيره .
3650 وعنه أيضاً عن النبي قال : ( من علم الرمي ثم تركه فليس منا ) . رواه أحمد ومسلم وغيره .
3651 وعنه أيضاً عن النبي قال : ( إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة ، صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير ، والذي يجهز به في سبيل الله ، والذي يرمي به في سبيل الله ) وقال : ( ارموا واركبوا ، وأن ترموا خير لكم من أن تركبوا ) ، وقال : ( كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثاً ، رميه عن قوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته أهله ، فإنهن من الحق ) رواه الخمسة ، والله أعلم .
قال : والسبق في الحافر والنصل والخف لا غير .
ش : السبق بفتح الباء الجعل المخرج في المسابقة ، وبسكونها مصدر سبقه سبقاً ومسابقة ، ولا نزاع في جواز المسابقة بغير عوض مطلقاً ، من غير تقييد بشيء معين ، كالمسابقة على الأقدام والسفن والمزاريق ، والطيور والفيلة ونحو ذلك ، وكذلك المصارعة ، ورفع الحجر ليعرف الأشد .
3652 وقد سابقت عائشة النبي على رجليها . رواه أبو دادو .
3653 وصارع النبي ركانة فصرعه . رواه الترمذي .
3654 ومر النبي بقوم يربعون حجراً ، أي يرفعونه ليعرفوا الأشد منهم ، وأما المسابقة بعوض فمذهبنا أنه لا يجوز إلا في الثلاثة التي ذكرها الخرقي ، ( في النصل ) ، وهو السهام من النشاب والنبل دون غيرها ( والخف ) وهو الإبل وحدها ( والحافر ) وهو الخيل وحدها ، وهو تسمية الشيء باسم جزئه ، أو على حذف مضاف ، أي ذي خف ، وذي حافر ، وذي نصل ، وتبع الخرقي في ذلك لفظ الحديث الذي هو المعتمد عليه في المسألة .
3655 وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ، وصححه ابن القطان أي لا سبق شرعي ، أو لا سبق يعتبر في الشرع في غير هذه الثلاثة ، وقد صرح بمعنى هذا في رواية النسائي فقال : ( لايحل سبق إلا على خف ، أو حافر ، أو نصل ) وإنما خصت هذه الثلاثة والله أعلم بتجويز العوض فيها ، لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها وأحكامها ، ولأنها المعهودة المعتادة للنبي وأصحابه ، ولهذا قلنا : إن المراد بالنصل والخف والحافر ما تقدم ، دون المزاريق ، والفيلة ، والبغال والحمير ، نظراً للمعتاد .
قال : وإذا أراد أن يستبقا أخرج أحدهما ولم يخرج الآخر .
ش : لا نزاع في جواز جعل العوض في المسابقة من الإمام ، لما في ذلك من الحث على تعلم الجهاد ، والنفع للمسلمين ، وكذلك يجوز عندنا جعله من غير المتسابقين ، نظراً لما فيه من المصلحة ، فأشبه شراء السلاح والخيل لذلك ، ويجوز أيضاً عندنا جعله من أحد المتسابقين ، كأن يقول مثلًا من أراد الإخراج : إن سبقتني فلك عشرة ، وإن سبقتك فلا شيء عليك ، لما في ذلك من المصلحة ، وبهذا خرج عن أن يكون قماراً ، إذ المتقامران لا يخلو كل منهما من أن يكون غارماً أو غانماً ، فكل منهما دخل على خطر ، وهنا ليس كذلك ، إذ أحدهما لا خطر عليه ، لأنه إما أن يكون غانماً ، أو غير غارم ، وصاحبه إما غارماً أو غير غانم .
( تنبيه ) وشرط العوض كونه معلوماً بالمشاهدة ، أو بالقدر ، والصفة .
قال : فإن سبق من أخرج أحرز سبقه ولم يأخذ من المسبوق شيئاً ، فإن سبق من لم يخرج أحرز سبق صاحبه .
ش : اعتماداً على الشرط السابق .
قال : وإن أخرجا جميعاً لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللًا يكافىء فرسه فرسيهما ، أو بعيره بعيرتهما ، أو رميه رمييهما .
ش : قد تقدم أن الفاصل بين المسابقة الشرعية والقمار ، أن المقامر يكون على خطر من أن يغنم أو يغرم ، بخلاف المسابق ، فعلى هذا إذا كان الجعل منهما ، ولم يدخلا محللًا لم يجز ، لوجود معنى القمار فيه وهو الخطر في كل واحد منهما .
3656 وقد نبه النبي على ذلك حيث قال فيما رواه عنه أبو هريرة رضي لله عنه ( من أدخل فرساً بين فرسين ، وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس به ، ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار ) . رواه أحمد واللفظ له ، وأبو داود وابن ماجه ، فجعله قماراً إذا أمن أن يسبق ، لأن كل واحد منهما إذاً على خطر من أن يغنم أو يغرم ، ولم يجعله قماراً إذا لم يأمن أن يسبق ، لأن كل واحد منهما إذاً يجوز أن يخلو من ذلك ، وإن كان الجعل منهما ، وأدخلا محللًا جاز للحديث ، لكن بشرط أن يكون كما قال الشيخ رحمه الله يكافىء ، أي يماثل فرسه فرسيهما إن كانت المسابقة على الخيل ، أو بعيره بعيرتهما إن كانت على الإبل . أو رميه رمييها إن كانت على الرمي لأنه إذا كان كذلك لم يؤمن أن يسبق ، فيجوز كما في الحديث ، لانتفاء معنى القمار ، وإن لم يكن كذلك بأن كان فرساهما جوادين ، وفرسه بطيئاً ، فهو مأمون سبقه ، فيكون وجوده كعدمه ، وإذاً يكون قماراً كما في الحديث .
( تنبيه ) : سمي الداخل بينهما محللًا لأن العوض صار حلالًا به ، فهو السبب لحل العوض ، والله أعلم .
قال : فإن سبقهما أحرز سبقهما ، وإن كان السابق أحدهما أحرز سبقه ، وأخذ سبق صاحبه ، فكان كسائر ماله ، ولم يأخذ من المحلل شيئاً .
ش : إذا جاز إخراج السبق وهو الجعل من كل واحد منهما بالشرط السابق ، فلا يخلو من خمسة أحوال . ( الحال الأولى ) جاءوا جميعاً ، فإن كل واحد منهما يحرز سبق نفسه ، ولا شيء للمحلل ، لأنه لا سابق فيهم . ( الثانية ) سبق المستبقان المحلل ، فكذلك لتساويهما ، وانتفاء سبق المحلل ( الثالثة ) سبقهما المحلل ، فإنه يحرز سبقيهما لسبقه . ( الرابعة ) سبق أحدهما ، فإنه يحرز سبق نفسه ، لأنه لا سابق له ، ويأخذ سبق صاحبه لسبقه ، ولا يأخذ من المحلل شيئاً ، إذ وضع المحلل أنه لا يدفع شيئاً . ( الخامسة ) سبق أحدهما مع المحلل ، فإن السابق يحرز سبقه ، ويكون سبق الآخر بينهما .
( واعلم ) أنه يشترط في المسابقة ( تعيين ) المركوبين والراميين ، لا الراكبين والقوسين ، ( واتحاد ) نوع القوسين والمركوبين ، فلا يجوز بين قوس عربية وفارسية ، ولا بين فرس عربي وهجين على المذهب ، وخرج الجواز بناء على تساويهما في السهم ( وتحديد ) المسافة بما جرت به العادة ، وقد تقدم شرط العوض .
قال : ولا يجوز إذا أرسل الفرسان أن يجنب أحدهما إلى فرسه فرساً يحرضه على العدو ، ولا يصيح به في وقت سباقه ، لما روي عن النبي أنه قال : ( لا جنب ولا جلب ) .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وذكر دليله .
3657 وهو ما روى عمران بن حصين ، عن النبي قال : ( لا جلب ولا جنب يوم الرهان ) . رواه أبو داود والنسائي وزاد ( ولا شغار في الإسلام ) وكذلك الترمذي وزاد ( ومن انتهب نهبة فليس منا ) .
3658 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : ( لا جلب ولا جنب ، ولا شغار في الإسلام ) . رواه أحمد ، والمعروف في تفسير الحديث ما قاله الخرقي ، وفسر القاضي وكذلك ابن الأثير في جامع الأصول الجنب بأن يجنب فرساً آخر معه ، فإذا قصر المركوب ركب المجنوب ، وهذا التفسير قديم ، فإن ابن المنذر قال : كذا قيل ، ولا أحسب هذا يصح ، لأن الفرس التي يسابق بها لا بد من تعيينها ، فإن كانت التي يتحول عنها فما حصل السبق بها ، وإن كانت التي يتحول إليها فما حصلت المسابقة بها في جميع الحلبة . ومن شرط السباق ذلك ، وعن أبي عبيد أنه فسر الجلب بأن يحشر الساعي أهل الماشية ليصدقهم ، قال : فلا يفعل ، ليأتيهم على مياههم فيصدقهم ، وهذا يرده ظاهر الحديث ، وقد يقال يوم الرهان ظرف للجلب فقط ، فلا دلالة في الحديث ، والله أعلم .
كتاب الأيمان والنذور

ش : الأيمان جمع يمين ، وهي في أصل اللغة الحلف بمعظم في نفسه أو عند الحالف ، على أمر من الأمور ، بصيغ مخصوصة ، كقوله : والله لأفعلن . وحياتك لأركبن ، والأصل في مشروعيتها الإجماع ، وقد شهد لذلك أمر الله تعالى نبيه بها ، قال سبحانه : 19 ( { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق } ) وقال تعالى : 19 ( { قل بلى وربي لتبعثن } )9 ( { قل بلى وربي لتأتينكم } ) وقال سبحانه : 19 ( { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } ) الآية .
3659 ومن السنة قول النبي ( إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ) متفق عليه .
قال : ومن حلف أن يفعل شيئاً فلم يفعله ، أو لا يفعل شيئاً ففعله فعليه الكفارة .
ش : الأصل في هذا في الجملة قول الله تعالى : 19 ( { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين } ) الآية .
3660 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ) رواه مسلم وغيره .
3661 وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ، أو أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ) متفق عليه . في عدة أحاديث سوى هذين .
وقد شمل كلام الخرقي ما كان فعله معصية ، فلو حلف أن يفعل معصية فلم يفعلها فعليه الكفارة ، وهذا قول العامة لما تقدم ، وقيل لا كفارة في ذلك .
3661 لما روي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله ( لا نذر فيما لا يملك ابن آدم ، ولا في معصية ، ولا في قطيعة رحم ، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليدعها ، وليأت الذي هو خير ، فإن تركها كفارتها ) رواه أبو داود والنسائي ، لكن قال فيه أبو داود : الأحاديث كلها عن النبي ( وليكفر عن يمينه ) إلا ما لا يعبأ به . وهذه إشارة إلى ضعفه وشذوذه .
3663 وقد روى الأحوص عن أبيه رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أرأيت ابن عم لي آتية أسأله فلا يعطيني ، ولا يصلني ، ثم يحتاج إلي فيأتيني فيسألني ، وقد حلفت أن لا أعطيه ولا أصله ؟ فأمرني أن آتي الذي هو خير ، وأكفر عن يميني . رواه النسائي .
وقول الخرقي : حلف أن يفعل شيئاً فلم يفعله ، هذا إذا كانت يمينه مؤقتة ففات الوقت ، أو كانت مطلقة ففات وقت الإمكان ، وبيان ذلك له محل آخر والله أعلم .
قال : فإن فعله ناسياً فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق .
ش : لما قال رحمه الله أن من حلف على ترك شيء ففعله فعليه الكفارة ، قال إن هذا مقيد بما إذا فعله ذاكراً ليمينه ، أما إذا فعله ناسياً لها واليمين بغير الطلاق والعتاق فلا شيء عليه ، لعموم قول الله تعالى : 19 ( { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، ولكن ما تعمدت قلوبكم } ) .
3664 وقول النبي : ( إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ) .
وإن كانت اليمين بالطلاق والعتاق فإنهما يلزمانه ، لترددهما بين التعليق بالشرط لأن صورتهما صورته وبين اليمين ، لوجود معنى اليمين فيهما وهو الحث أو المنع ، فغلب جانب التعليق احتياطاً للفروج ، ولفكاك الرقاب ، وأيضاً فقد تقدم أن أصل اليمين في اللغة الحلف بمعظم ، والحلف بالطلاق والعتاق كقوله : إن دخلت الدار فأنت طالق ، أو فعبدي حر ليس كذلك ، وإنما هو جزاء أو شرط ، والأصل الباء وعدم النقل ، وتسمية ذلك حلفا إنما هو مجاز ، لما فيه من الحث أو المنع ، والأصل الحقيقة ، وهذا هو المذهب عند الأصحاب .
وفي المذهب ( رواية ثانية ) لا يحنث في الجميع ، اعتماداً على عموم الآية والحديث ، إذ الحث والمنع في اليمين بمنزلة الطاعة والمعصية في الأمر والنهي ، وقد استقر أن فاعل المنهي عنه ناسياً أو مخطئاً لا يكون آثماً ولا مخالفاً ، فكذلك من فعل المحلوف على تركه ناسياً أو جاهلًا ، لا يكون حانثاً ، ولا مخالفاً ليمينه ، وهذه الراوية اختيار أبي العباس ، وقال : قد نظرت جوابه في هذه الرواية فوجدت الناقلين له بقدر الناقلين لجوابه في الرواية الأولى ، التي هي رواية التفرقة ( وعنه رواية ثالثة ) يحنث في الجميع ، وهي أضعفهن ، لأنه فعل ما حلف عليه قاصداً لفعله ، فأشبه الذاكر .
( تنبيه ) وحكم جاهل المحلوف عليه كمن حلف لا يسلم على فلان ، فسلم عليه يحسبه غيره ، أو أن لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه ، فأعطاه قدر حقه ، ففارقه ظنا منه أنه قد بر فوجد ما أخذه ردئياً ونحو ذلك حكم الناسي على ما تقدم ، ( أما المكره ) بغير الإلجاء ففيه روايتان ، والدي نصره أبو محمد عدم الحنث ، نظرا إلى أن الفعل لا ينسب إليه ، وخرج التفرقة بين الطلاق والعتاق وغيرهما من الرواية ثم وإن كان الإكراه بالإِلجاء كمن حلف لا يدخل دارا ، فحمل وأدخلها ، ولم يقر على الامتناع لم يحنث ، لعدم نسبه الفعل إليه ، وإن قدر على الامتناع فوجهان ( الحنث ) لأن قدرته على الامتناع بمنزلة فعله ( وعدمه ) لانتفاء الفعل منه حقيقة ، والفاعل في حال الجنون قيل كالناسي ، لأن فعله قد يعتبر ، بدليل صحة إيلائه ، والأصح عدم حنثه مطلقاً كالنائم .
قال : من حلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فلا كفارة عليه ، لأن الذي أتى به أعظم من أن تكون فيه الكفارة .
ش : كذلك قال أحمد رضي الله عنه في رواية الجماعة : هو أعظم من أن تكون فيه كفارة . وعليه الأصحاب .
3665 وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( خمس ليس لهن كفارة ، الشرك بالله ، وقيل النفس بغير حق ، ونهب المؤمن ، والفرار يوم الزحف ، ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق ) .
3666 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : اختصم إلى النبي رجلان ، فوقعت اليمين على أحدهما ، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء . قال فنزل جبريل على النبي فقال : إنه كاذب ، إن له عنده حق ، أمره أن يعطيه حقه وكفارة يمينه معرفته أن لا إله إلا الله أو شهادته . . رواهما أحمد ، وروى الثاني أبود داود بنحوه ، فأخبر النبي في الأول أن هذه اليمين لا كفارة لها ، وأخبر جبريل في الثاني أن كفارتها الشهادة ، لا الكفارة التي أوجبها الله تعالى في تعقيد الأيمان ، وكلامنا فيها ، وأيضاً فإن هذه اليمين أعظم من أن تكفر كما قال أحمد إذ الكفارة لا ترفع إثمها ، ولا تمحو ما حصل بها ، وبيان ذلك أنها كبيرة ، أو من أعظم الكبائر .
3667 ففي البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : جاء أعرابي إلى النبي فقال : يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال : ( الإشراك بالله ) قال : ثم ماذا ؟ قال : ( ثم عقوق الوالدين ) قال : ثم ماذا ؟ قال : ( اليمين الغموس ) قلت : وما اليمين الغموس ؟ قال : التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب .
3668 وعن عبد الله بن أنيس ، عن النبي قال : ( من أكبر الكبائر الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر ، فأدخل فيها جناح بعوضة ، إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة ) رواه أبو داود ، وأيضاً فهي يمين غير منعقدة ، فلا توجب كفارة كاللغو ، وبيان عدم انعقادها أنها لا تقتضي براً ، ولا يمكن فيها ، واليمين المنعقدة هي التي يمكن فيها البر والحنث .
3669 وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( اليمين حنث أو ندم ) فجعل اليمين مترددة بين شيئين الحنث أو الندم ، وهذه حنث فقط بل وندم .
( وعن أحمد ) رواية أخرى تجب فيها الكفارة ، لأنه وجدت منه اليمين والمخالفة مع القصد ، فأوجبت الكفارة كالمستقبلة ولأن الكفارة إذا وجبت مع غير الغموس أولى ، وجواب هذا قد تقدم ، وهو أن هذه لعظمها قصرت الكفارة عن الدخول فيها .
3670 قال ابن مسعود رضي الله عنه : كنا نعد من الأيمان التي لا كفارة فيها اليمين الغموس .
( تنبيه ) اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار ، وهي يمين الصبر ، وأصل الصبر الحبس ، فيمين صبر أي يمين حبس ، لأنها تحبس صاحبها .
قال : والكفارة إنما تلزم من حلف وهو يريد عقد اليمين .
ش : الكفارة إنما تلزم من حلف وهو قاصد لعقد اليمين ، فلو مرت اليمين على لسانه من غير قصد إليها ، كقوله : لا والله ، وبلى والله ، في عرض حديثه ، فلا كفارة عليه ، لأنه من لغو اليمين .
3671 قالت عائشة رضي الله عنها أنزلت هذه الآية : 19 ( { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } ) في قول الرجل : لا والله وبلى والله . أخرجه البخاري وأبو داود ، وقال بعض المحدثين : وطريقة البخاري في صحيحه تقتضي أن نحو هذا من باب المرفوع ، قلت : وكذلك جاء مصرحاً به في رواية أخرى لأبي داود ، قال : اللغو في اليمين قالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول الله : ( هو قول الرجل في بيته كلا والله ، وبلى والله ) وكذلك قال أهل اللغة : اللغو ما اطرح ولم يعقد عليه ، وإذا كان من اللغو فلا كفارة فيه بدليل الآية الكريمة ، فإن الله سبحانه نفى المؤاخذة فيه ، وجعل المؤاخذة والكفارة فيما عقدنا من الأيمان ، وكلام الخرقي يشمل الماضي والمستقبل ، وهو ظاهر قول عائشة رضي الله عنها ( وفي المذهب رواية أخرى ) في المستقبل أنه ليس من اللغو ، فيجب فيه الكفارة .
وقد خرج من كلام الخرقي من لا قصد له أصلًا ، كالنائم والطفل ، والمجنون ، ونحوهم ، وفي معنى ذلك السكران ، لانتفاء القصد منه ، وأبو محمد يجري فيه القولين من الروايتين في طلاقه .
ومما يلحق بذلك المكره ، لأن قصده كلا قصد ، وكذلك الصبي ، لأنه وإن كان له قصد إلا أن الشارع رفع القلم عنه ، ورفع القلم يقتضي أن لا تلزمه كفارة .
ودخل في كلامه الكافر فتصح يمينه ، وتلزمه الكفارة ، وإن حنث في كفره ، لأنه مكلف ، ولأن النبي أمر عمر بالوفاء بنذر الاعتكاف الذي نذره في الجاهلية والنذر حلف .
قال : ومن حلف على شيء وهو يرى أنه كما حلف عليه فلم يكن فلا كفارة عليه ، لأنه من لغو اليمين .
ش : اليمين على الماضي إما صادقاً فيها فهو بار إجماعاً ، وإما كاذباً فيها متعمداً فهي اليمين الغموس ، وقد تقدمت ، وإما مخطئاً معتقداً أن الأمر كما حلف عليه ، فهذه صورة الخرقي ، وهي عنده من لغو اليمين وإذا كانت من لغو اليمين فلا كفارة فيها وبيان أنها من لغو اليمين أن المؤاخذة منتفية فيها ، إذ المؤاخذة إنما تكون مع قصد المخالفة ولا مخالفة ، ولهذا لا يأثم الحالف والحال هذه ، وقيل عن أحمد ( رواية أخرى ) إن هذا ليس من لغو اليمين ، وتجب به الكفارة ، نظراً لظاهر حديث عائشة رضي الله عنها فإن ظاهره حصر اللغو في الأول ، ولأن اليمين بالله وجدت مع المخالفة ، فأوجبت الكفارة ، كاليمين على مستقبل .
( تنبيه ) الخرقي رحمه الله يجعل لغو اليمين شيئين ( أحدهما ) أن لا يقصد عقد اليمين ، كقوله : لا والله وبلى والله ، سواء كان ذلك في الماضي أو في المستقبل ( والثاني ) أن يحلف على شيء فيتبين بخلافه ، وهذه طريقة ابن أبي موسى وغيره ، وهي في الجملة ظاهر المذهب ، والقاضي يجعل الماضي لغواً قولًا واحداً ، وفي سبق اللسان في المستقبل روايتان ، وأبو محمد عكسه يجعل سبق اللسان في المستقبل لغواً قولًا واحداً وفي الماضي روايتان ، ومن الأصحاب من يحكي روايتين في الصورتين ، ويجعل اللغو في إحدى الروايتين هذا دون هذا ، وفي الأخرى هذا دون هذا ، وجمع أبو البركات بين طريقتي القاضي وأبي محمد ، فحكى المسألة على ثلاث روايات ، فإذا سبق على لسانه في الماضي : لا والله ، وبلى والله . في اليمين معتقداً أن الأمر كما حلف عليه فهذا لغو اتفاقاً ، وإن سبق على لسانه اليمين في المستقبل ، أو تعمد اليمين على أمر يظنه كما حلف عليه فتبين بخلافه ، فثلاث روايات ( كلاهما لغو ) وهو المذهب ( الحنث ) في الماضي دون ما يسبق على لسانه ( وعكسه ) وقد تلخص لك في المسألة خمس طرق ، والمذهب منها في الجملة قول الخرقي .
قال : واليمين المكفرة أن يحلف بالله عز وجل ، أو باسم من أسمائه .
ش : لا نزاع أن الحلف بالله عز وجل يمين مكفرة .
3672 وقد قال رسول الله ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) متفق عليه ، وكذلك الحلف باسم من أسمائه في الجملة ، وقد أمر الله سبحانه النبي أن يحلف بربه كما تقدم .
3673 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أكثر ما كان النبي يحلف ( لا ومقلب القلوب ) رواه البخاري وغيره .
3674 وفي النسائي والمسند أن النبي أمرهم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة . ولا يناقض هذا قول النبي ( من كان حالفاٍ فلا يحلف إلا بالله ) إذ الحالف بجميع أسماء الله أو صفاته حالف بالله ، وأسماء الله بالنسبة إلى هذا المقام تنقسم ثلاثة أقسام ، ( أحدها ) ما لا يسمى به غيره ، نحو والله ، والأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، ورب العالمين ، ومالك يوم الدين ، والحي الذي لا يموت ، وخالق الخلق ، ونحو ذلك ، وكذلك والرحمن ، على الصحيح ، فهذا القسم به يمين مكفرة بكل حال ، لاستحالة صرف ذلك إلى غير الله تعالى ، ( الثاني ) ما قد يسمى به غير الله ، لكن إطلاقه ينصرف إلى الله سبحانه ، كالخلق ، والرازق والرب ، والمولى والرحيم ، ونحو ذلك ، فهذا إن نوى به اسم الله أو أطلق كان يميناً ، نظراً لما يفهم منه عند ذلك ، وإن نوى غير الله فليس بيمين على المذهب ، لصحة إطلاقه عليه ، قال الله سبحانه حكاية عن يوسف عليه السلام : 19 ( { ارجع إلى ربك } ) و 19 ( { اذكرني عند ربك } ) وقال سبحانه : 19 ( { فارزقوهم منه } ) وقال عن نبيه 19 ( { بالمؤمنين رؤوف رحيم } ) وإذا نوى بلفظه ما يحتمله فينصرف إليه ، وقال طلحة العاقولي : إن أتى بذلك معرفاً نحو : والخالق والرازق . كان يميناً مطلقاً ، لأنه لا يستعمل مع التعريف إلا في اسم الله تعالى . ( الثالث ) ما يسمى به الله سبحانه ، لكن لا ينصرف إطلاقه إلى الله سبحانه ، كالحي والعالم والموجود ، والكريم ، فهذا إن نوى به غير الله ، أو أطلق فليس بيمين ، نظراً لما يفهم منه عند الإطلاق ، وإن نوى به الله تعالى فهو يمين عند الشيخين وغيرهما ، لأنه قصد الحلف بما يسمى به الله سبحانه ، أشبه القسم الذي قبله ، وقال القاضي وابن البنا : لا يكون يميناً ، لأن اليمين انعقادها لحرمة الاسم ، ومع الاشتراك لا حرمة ، والنية المجردة لا تنعقد بها اليمين ، وأجيب بأن الانعقاد بالاسم المحتمل المنوي به أحد محتملاته ، فيصير كالمصرح به ، والله أعلم .
قال : أو بآية من القرآن .
ش : لما قال الشيخ رحمه الله إن الحالف بالله تعالى أو بأسمائه تكون يمينه مكفرة ، أشار إلى أن الحالف بصفاته سبحانه كذلك ، كأن يحلف بكلام الله ، أو بالمصحف ، أو بالقرآن ، أو بآية منه ، أو بعزة الله ، أو بعظمته ، أو علمه ، ونحو ذلك .
3675 وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( لما خلق الله الجنة أرسل جبريل فقال : انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها . فقال : وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ) .
3676 وفي حديثه أيضاً عن النبي ( يبقى رجل بين الجنة والنار ، فيقول : يا رب اصرف وجهي عن النار ، لا وعزتك لا أسألك غيرها ) متفق عليهما .
3677 وفي حديث اغتسال أيوب ( بلى وعزتك ) ثم إن الصفات أيضاً تنقسم ثلاثة أقسام ( أحدها ) ما هو صفة لذاته سبحانه ، لا يحتمل غيرها ، كعزة الله ، وعظمته ، وكبريائه ، وكلامه ، ونحو ذلك ، فهذا القسم به يمين بكل حال ( الثاني ) ما هو صفة لذاته لكن قد يعبر به عن غيرها مجازاً ، كعلم الله وقدرته ، فإنها قد يراد بها معلوم الله ومقدوره ، كقولهم : اللهم اغفر لنا علمك فينا . أي ما علمته فينا ، ويقال : انظر إلى قدرة الله ، أي مقدوره ، فهذا مع الإطلاق يكون يميناً ، اعتماداً على ما يفهم منه عند التخاطب ، وكذلك مع قصد صفة الله تعالى بلا ريب ، ومع إرادة المعلوم أو المقدور لا يكون يميناً ، على قياس ما تقدم فيما إذا نوى بالرب غير الله سبحانه ، والمنصوص عن أحمد أن ذلك يكون يميناً بكل حال ، ولا يقبل منه فيه غير صفة الله ، ولعله يريد في الحكم .
( الثالث ) ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى ، لكن ينصرف بالنية أو بإضافته إليه لفظاً ، كالعهد والميثاق ، ونحو ذلك ، فهذا لا يكون يميناً مكفرة إلا بالنية . أو بالإضافة كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
قال : أو بصدقة ملكه أو بالحج .
ش : أي ومن الأيمان المكفرة الحلف بصدقة ملكه أو الحج ، كأن يقول : إن دخلت الدار ، أو كلمت زيداً ، أو نحو ذلك فعلي الحج ، أو فلله علي الصدقة بمالي أو عتق عبدي ، ونحو ذلك ، وضابطه أن يخرج النذر مخرج اليمين ، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئاً ، أو يحث به على شيء ، ويسمى هذا نذر اللجاج والغضب ، واختلف عن أحمد في حكمه ، ( فعنه ) أن الواجب فيه الكفارة ليس إلا ، حتى لو فعل المنذور لم يجزئه .
3678 لما روى سعيد بن منصور في سننه قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه ، عن عمران بن حصين ، عن النبي قال : ( لا نذر في غضب ، وكفارته كفارة يمين ) لكنه ضعيف من قبل محمد بن الزبير .
3679 وروى عبد الرزاق عن يحيى بن أبي كثير ، عن رجل من بني حنيفة ، وعن أبي سلمة كلاهما عن النبي ( لا نذر في غضب ، ولا في معصية الله ، وكفارته كفارة يمين ) ، وهذا وإن كان مرسلًا لكنه يتقوى بالذي قبله .
3680 ثم يعضد ذلك ما روى أبو داود في سننه عن سعيد بن المسيب ، أو رجلين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألني فكل مال لي في رتاج الكعبة ، فقال له عمر رضي الله عنه : إن الكعبة غنية عن مالك ، كفر عن يمينك ، وكلم أخاك ، سمعت رسول الله يقول : ( لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ، ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك ) .
3681 ويروى نحو هذا أيضاً عن ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وحفصة ، وزينب بنت أبي سلمة رضي الله عنهم . ولا يعرف عن غيرهم خلافهم ، ومثل ذلك لا يتقاصر عن تخصيص إطلاق الأمر بالوفاء بالنذر ، ثم بالنظر إلى المعاني ، وقد علم أن قول القائل : إن فعلت كذا فعلي الحج ، ونحو ذلك ليس مقصوده الشرط ولا الجزاء ، بل منع نفسه من ذلك ، فهو كاليمين ، فيدخل في قوله تعالى : 19 ( { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } ) الآية وهذا بخلاف قوله : إن شفى الله مريضي فعلي الحج . ونحو ذلك ، فهذا المقصود فيه وجود الشرط والجزاء ، والمعتبر المقاصد ، ( وعنه ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، والمذهب بلا ريب يتخير بين فعل ذلك ، عملًا بما التزمه ، وبين كفارة اليمين لما تقدم ، ويحكى عن ابن عقيل في الواضح أنه قال : يفعله .
قال : أو بالعهد .
ش : أي ومن اليمين المكفرة الحلف بالعهد ، وقد يشمل كلام الخرقي ( ما إذا نوى بذلك صفة الله تعالى ) ، وما إذا لم ينو ، ولا ريب أنه إذا نوى به صفة الله تعالى أنه يكون يميناً ، إذ العهد يحتمل أن يراد به كلام الله تعالى الذي أمرنا أو نهانا به ، كقوله تعالى : 19 ( { ألم أعهد إليكم يا بني آدم } ) ولا ريب أن كلامه صفة له سبحانه ، ويحتمل أن يراد به استحقاقه لما تعبدنا به ، فإذا نوى بالعهد الأول فقد نوى به أحد محتمليه ، بل هو الظاهر منه ، فيصير كما لو صرح به ، ( أما إذا لم ينو ) فهل هو يمين وهو ظاهر كلام الخرقي ، إذ الألف واللام بدل من المضاف ، فكأنه قال : وعهد الله . ولو قال ذلك فهو يمين بلا ريب أو ليس بيمين وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية ، لتردده بين صفة الله تعالى وغيرها والأصل براءة الذمة ؟ فيه روايتان .
( تنبيه ) حكم الميثاق ، والعظمة والجلال ، والأمانة ، حكم العهد ، إن أضاف ذلك إلى الله ، أو نوى به صفة الله ، فهو يمين ، وإن أطلق فروايتان .
قال : أو بالخروج من الإسلام .
ش : أي ومن اليمين المكفرة الحلف بالخروج من الإسلام ، كأن يقول : إن فعل كذا فهو يهودي ، أو مجوسي ، أو بريء من الإسلام ، أو القرآن ، أو النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أو يعبد الصليب ، أو يستحل الزنا ، أو ترك الصلاة ، ونحو ذلك ، ( وهذا أشهر الروايتين ) عن أحمد ، واختيار جمهور الأصحاب القاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن عقيل وغيرهم ، لأن التزام ذلك يقتضي الكفر ، وذلك أبلغ في انتهاك الحرمة من انتهاك حرمة القسم ، فكان بإيجاب الكفارة أولى .
3682 وقد روي عن النبي أنه سئل عن الرجل يقول : هو يهودي أو نصراني ، أو مجوسي ، أو بريء من الإسلام ، في اليمين يحلف بها ، فيحنث في هذه الأشياء ، قال : ( عليه كفارة يمين ) . رواه أبو بكر ، وهذا نص إن ثبت ، لكنه بعيد الثبوت ، ( والرواية الثانية ) لا كفارة في ذلك ، وهي اختيار أبي محمد ، إذ الوجوب من الشرع ، ولم يثبت ، ولأن ذلك ليس باسم الله ولا صفته ، فلا يدخل في الأيمان المشروع الحلف بها .
3683 وقد قال النبي : ( من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله ) .
3684 وفي الصحيحين أن رسول الله قال : ( من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال ) ولم يأمر في ذلك بكفارة ، قال أبو محمد : ويحتمل أن يحمل كلام أحمد رضي الله عنه في الرواية الأولى على الندب ، لأنه قال في رواية حنبل : أحب إلي أن يكفر كفارة يمين .
( قلت ) : وهذا الذي أخذ القاضي منه عدم وجوب الكفارة ، وقد نقل عنه حرب التوقف .
وقد خرج من كلام الخرقي إذا قال : أنا أسرق ، أو أقتل النفس التي حرم الله ، أو قال : أخزاه الله ، ونحو ذلك أنه لا يكون يميناً ، لأنه ليس بخروج من الإسلام ، وكذلك إن قال : عصيت الله في كل ما أمرني به إن فعلت كذا ، عند الأصحاب ، لأن المتبادر إلى الفهم من ذلك المأمور به من الفروع واختار أبو البركات أنه من الأول ، لدخول التوحيد فيه ، نظراً للعموم ، وكذلك عندهم في : محوت المصحف ، ونص عليه أحمد ، واختار ابن عقيل أنه يمين ، لأن ذلك إهانة للمصحف ، وإسقاط لحرمته ، وإنه كفر ، ولو قال : لا يراني الله في موضع كذا إن فعلت كذا ، فعند القاضي وقال : إن أحمد نص عليه وأبي البركات ، هو من الأول ، وهو واضح ، وخالف أبو محمد فلم يوجب في ذلك كفارة ، وظاهر كلامه وإن سلم وجوب الكفارة في الأول .
( تنبيه ) حيث وجبت الكفارة فيما تقدم فإنما تجب بالحنث .
3685 وفي صحيح مسلم ( من حلف باللات فليقل : لا إله إلا الله ) فجعل كفارة ما حصل منه قول لا إله إلا الله .
قال : أو بتحريم مملوكه أو شيء من ماله .
ش : أي ومن الأيمان المكفرة إذا حلف بتحريم مملوكه ، أو بتحريم شيء من ماله ، كأن قال : هذا العبد أو هذا الطعام علي حرام ؛ أو الحل علي حرام . ونحو ذلك ما عدا الزوجة إن فعلت كذا ، وفعله فعليه الكفارة . نص عليه أحمد ، مستدلًا بحديث العسل ، وهو الذي نزل فيه على الصحيح قول الله تعالى : 19 ( { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، تبتغي مرضاة أزواجك ، والله غفور رحيم ، قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ) فسمى سبحانه تحريم ما أحله يميناً ، وفرض له تحلة وهي الكفارة ، وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية .
3686 ففي الصحيحين أنها نزلت في العسل لما شربه ، وقال : ( لن أعود له ) أو ( لا حاجة لي فيه ) ثم اختلف في الحديث هل كان ذلك عند حفصة رضي الله عنها وأن عائشة وسودة رضي الله عنهما في حديث طويل وصفية رضي الله عنها تواصوا وقالوا للنبي : نجد منك ريح مغافير . أو كان ذلك عند زينب بنت جحش رضي الله عنها وأن عائشة وحفصة رضي الله عنهما تواصيا بما تقدم . وقيل نزلت في تحريمه أمة له .
3687 فعن أنس رضي الله عنه أن النبي كان له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة رض الله عنهما حتى حرمها على نفسه ، فأنزل الله عز وجل : 19 ( { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك } ) . رواه النسائي ، وقيل : إن هذه الأمة مارية القبطية ، وأيا ما كان فهو حجة لما تقدم .
ولم يتعرض الخرقي رحمه الله لما حرمه هل يحرم أم لا ؟ والمذهب أنه لا يحرم ، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بالتحريم ، لكنه يزول بالكفارة ، ومنشأ الخلاف أن من نظر إلى أنه تحريم لمباح ألحقه بتحريم الزوجة بالظهار ، فحرمه كما تحرم هي ، ومن نظر إلى أن هذا داخل بظاهر الآية في الأيمان ، فيعطى حكمها ، وحكمها أنها لا تحرم شيئاً ، لم يحرمه الله . ونص الخرقي رحمه الله على تحريم المملوك والمال ، لتخرج الزوجة ، لأن عنده أن ذلك ظهار ، وقد تقدم ذلك .
قال : أو بنحر ولده .
ش : هذا ساقط في بعض النسخ ، وثابت في أكثرها ، ] وبالجملة قد ذكر فيه بعد روايتين ، فلنؤخر الكلام عليه إن شاء الله تعالى إلى ثم ، والله أعلم .
قال : أو يقول : أقسم بالله ، أو أشهد بالله ، أو أعزم بالله .
ش : أي ومن اليمين المكفرة الحلف بواحد من هذه الأشياء ، هذا قول عامة أهل العلم ، إذ لو قال : بالله . ولم يقل : أقسم ولا أشهد . كان يميناً ، بتقدير الفعل قبله ، لأن الباء تتعلق بمقدر ، فإذا نطق بالفعل المقدر كان أولى بثبوت الحكم ، لا سيما وقد ثبت لذلك عرف الشرع والاستعمال ، قال الله تعالى : 19 ( { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } ) .
3688 وعن عبد الرحمن بن صفوان رضي الله عنه وكان صديقاً للعباس أنه لما كان يوم الفتح جاء بأبيه إلى رسول الله فقال : يا رسول الله بايعه على الهجرة ، فأبى وقال : ( إنها لا هجرة ) فانطلق إلى العباس ، فقام العباس معه فقال : يا رسول الله قد عرفت ما بيني وبين فلان ، وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت ، فقال النبي : ( إنها لا هجرة ) فقال العباس : أقسمت عليك لتبايعنه : قال : فبسط رسول الله يده فقال : ( هات أبررت عمي ولا هجرة ) .
3689 وعن أبي الزاهرية عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة أهدت إليها تمراً في طبق ، فأكلت بعضه وبقي بعضه ، فقالت : أقسمت عليك ألا أكلت بقيته ، فقال رسول الله : ( أبريها فإن الاثم على المحنث ) رواهما أحمد ، وإذا كان يميناً من غير ذكر اسم الله ، فمع اسم الله أولى وأحرى .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في هذه الثلاثة بين أن ينوي اليمين أو لا ينوي ، وهو قول الجمهور ، وخالف أبو بكر في : أعزم بالله . فقال : إن لم ينو اليمين لم يكن يميناً ، زاعماً بأنه لم يثبت لذلك عرف الشرع ولا الاستعمال ، وللأول احتمال اليمين مع الاقتران بما يقوم مقام النية ، وهو الجواب بجواب القسم ، والخرقي صور المسألة فيما إذا أتى بذلك بلفظ الاستقبال مع ذكر اسم الله ، فلو أتى به بلفظ الماضي ، كأن قال : شهدت بالله ، أو أقسمت بالله . فكذلك ، لما تقدم من حديثي عائشة وعبد الرحمن ، ولو لم يأت باسم الله ، كأن قال : أقسم أو أقسمت ، وفي حديث سليمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى أنه قال : ( لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ) ولم يذكر اسم الله ، وهو ظاهر في انعقاد اليمين وإن لم يذكر اسم الله في لفظه ، أو شهدت أو أشهد ، فإن نوى اليمين فهو يمين عندنا بلا خلاف نعلمه ، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله ، وإن لم ينو اليمين فروايتان . ( إحداهما ) وهي اختيار عامة الأصحاب ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل ، والشيرازي ، والخرقي ، وأبي بكر ، فيما قاله أبو الخطاب في الهداية هو يمين ( أيضاً ) لما تقدم من حديثي عبد الرحمن وعائشة رضي الله عنهما فإن الرسول لم يستفصل فيهما هل نويا اليمين أم لا .
3690 وكذلك في حديث أبي بكر رضي الله عنه لما قال : أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت . فقال النبي : ( لا تقسم يا أبا بكر ) . رواه أبو داود ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر لا تكون يميناً ، لاحتماله للقسم بالله وبغيره ، وإذاً لا بد من النية لتميز المراد وتبينه .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) ظاهر كلام أبي محمد في المقنع ، وأبي البركات أن حكم : أعزم . حكم أقسم وأشهد ، إن نوى به اليمين كان يميناً ، وإن أطلق فروايتان ، وقال أبو محمد في المغني : إذا قال : أعزم أو عزمت . لم يكن قسماً ، نوى به القسم أو لم ينو ، لأنه لم يثبت له عرف في الشرع ، ولا الاستعمال في كونه قسماً . قلت : وأكثر الأصحاب لم أرهم ذكروا ذلك ، وإنما ذكروا : أشهد وأقسم . وزادوا مع ذلك أحلف .
( الثاني ) لو قال : نويت بأقسمت بالله الخبر عن قسم ماض ، أو بأقسم . الخبر عن قسم يأتي دين ، وهل يقبل منه في الحكم ، وهو اختيار أبي محمد ، أو لا يقبل ، وهو اختيار القاضي ؟ فيه قولان .
قال : أو بأمانة الله .
ش : أي ومن الأيمان المكفرة الحلف بالأمانة ، وحكم الحلف بذلك حكم الحلف بعهد الله أو ميثاقه ، على ما مر إن أضافها إلى الله ، أو نوى بها صفة الله تعالى فهو يمين ، وإن قال : والأمانة . وأطلق فروايتان .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) قال أبو محمد : يكره الحلف بالأمانة .
3691 لأن في السنن أن النبي قال : ( من حلف بالأمانة فليس منا ) .
3692 وعن عمر رضي الله عنه أنه كان ينهى عن ذلك أشد النهي . ( قلت ) وظاهر الحديث والأثر التحريم .
( الثاني ) ظاهر كلام الخرقي أن ما عدا ما تقدم من الأيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته ، وما ذكره لا يكون يميناً مكفرة ، وذلك كالحلف بغير الله تعالى ، سواء كان معظماً أو غير معظم ، أضافه إلى الله تعالى أو لم يضفه ، كقوله : ومعلوم الله ومقدوره وخلقه ، والكعبة ، والنبي ، ورأس السلطان ، وزيد ، ونحو ذلك ، وهو كذلك ، للنهي عن الحلف بذلك .
3693 ففي الصحيح أن النبي قال : ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) .
3694 وقال : ( من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله ) .
3695 وقال : ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ) وإذا كان منهياً عن الحلف بذلك فلا يدخل في الأيمان المشروعة .
واستثنى من ذلك عامة الأصحاب الحلف برسول الله فجعلوا الحلف به يميناً مكفرة . ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب لأنه أحد شطري الشهادة ، فأشبه الحلف بالشطر الآخر وهو اسم الله ، وخالفهم أبو محمد نظراً لما تقدم ، ولأنه مخلوق ، فأشبه إبراهيم عليه السلام وأورد أبو البركات المذهب عدم وجوب الكفارة ، وظاهر نقله أن المسألة على روايتين ، وخرج على رواية وجوب الكفارة بجواز الحلف به ، أما إن لم يجب بالحلف به كفارة فحكمه في الحلف به حكم غيره ، هل يكره ذلك وهو الذي جزم به أبو الخطاب في الهداية ، وأبو علي ، وابن البنا ، وأورده أبو محمد مذهباً ، أو يحرم وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ، وهو ظاهر الحديث ؟ على قولين ، ( وعن أحمد ) ما يحتملهما وقال حرب : قلت لأحمد : الرجل يقول : وبيت الله . فكرهه ، وقال : هذا حلف بغير الله ، والله أعلم .
قال : ولو حلف بهذه الأيمان على شيء واحد فحنث لزمته كفارة واحدة .
ش : كأن حلف بالله ، وبالرب ، وبالرحمن ، وبعهد الله وميثاقه . ونحو ذلك على شيء واحد ، فكفارة واحدة ، لأن ذلك يمين واحدة ، وإنما ذلك تأكيد ومبالغة في الحلف ، فهو كما لو قال : والله الذي لا إله إلا الله هو ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، الطالب الغالب . إلى غير ذلك من تعداد الصفات ، وعكس هذه المسألة في الصورة مع الاتفاق في الحكم إذا حلفت يميناً واحدة على أشياء مختلفة ، إناطة بأنها يمين واحدة ، فلم يجب بها أكثر من كفارة واحدة .
وقول الخرقي : ولو حلف بهذه الأشياء كلها على شيء واحد . مفهومه أنه لو حلف بها على أشياء فحنث أنه يجب عليه لكل يمين كفارة ، وقد اختلف فيما إذا كرر اليمين على شيء واحد ، بأن قال : والله لا أكلت ، والله لا أكلت والله لا أكلت . أو على أشياء بأن قال : والله لا لبست ، والله لا شربت ، والله لا مشيت ، ثم أكل وشرب ، ولبس ومشى ( فعنه ) وهو اختيار أبي بكر والقاضي تجزئه كفارة واحدة ، نظراً إلى أن الكفارات زواجر بمنزلة الحدود والحدود تتداخل ، فكذلك الكفارات ، ( وعنه ) يجب عليه كفارات بعدد ما حلف عليه ، نظراً إلى أن كل واحدة يمين منعقدة ، فأشبهت الأيمان المختلفة الكفارة ( وعنه ) وإليه ميل أبي محمد ، ويحتمل كلام الخرقي أنها إن كانت على فعل واحد كوالله لا أكلت ، ووالله لا أكلت ، ووالله لا أكلت فكفارة واحدة ، نظراً إلى أن ذلك غالباً يستعمل للتأكيد ، وإن كانت على أفعال كوالله لا شربت ، ووالله لا لبست ، ووالله لا مشيت فكفارات ، لانتفاء التأكيد إذاً ، ( ومحل الخلاف ) في الأول إذا لم يرد بلا ريب ، كما قد نص عليه أحمد في رواية حرب ، ( ومحل الخلاف ) في الثاني إذا كان ذلك قبل التكفير ، أما إن حنث مثلًا كفارة ثانية بلا ريب ، لانتفاء التداخل إذاً .
قال : ولو حلف على شيء واحد بيمينين مختلفين الكفارة لزمته في كل واحدة من اليمينين كفارتها .
ش : كأن حلف بالله وبالظهار ، لانتفاء التدخل ، إذ التداخل إنما يكون مع اتحاد الجنس كالحدود من جنس ، والكفارات هنا جنسان ، فأشبهتا حدّ الزنا والسرقة .
قال : ولو حلف بحق القرآن لزمته بكل آية كفارة يمين .
ش : نص أحمد على هذا في رواية حرب وغيره .
3696 وذلك لما ذكر أبو محمد بن حزم في كتاب الإعراب قال : وروينا من طريق الحجاج بن منهال ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن ، أو رسول الله قال : ( من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها كفارة يمين صبر ، إن شاء بر وإن شاء فجر ) وذكر أبو محمد بن قدامة أن الأثرم رواه عن مجاهد ، عن رسول الله فيحتمل أنه روي من طريقين .
3697 وهو إن كان مرسلًا ، فقد عضده أن ذلك قول ابن مسعود ، ولا يعرف عن صحابي غيره خلافه ، ( وعنه ) وقال أبو محمد : إنه قياس المذهب يجزئه كفارة واحدة ، بناء على أن الحلف بجميع صفات الله تعالى كما تقدم لا يجب بها أكثر من كفارة واحدة ، فالحلف بصفة واحدة وهي كلامه سبحانه أولى ، قال أبو محمد : ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في الأول على الاستحباب ، لأنه قال : عليه بكل آية كفارة ، فإن لم يمكنه فكفارة واحدة . قلت : وهذا للوجوب أقرب منه للاستحباب ، لأن أحمد إنما نقله لكفارة واحدة عند العجز ، إذ 19 ( { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ) وهو لا يطيق إلا ذلك ، والحكم فيما إذا حلف بالمصحف أو بكلام الله ، كالحكم فيما تقدم ، لأن ذلك عبارة عن القرآن ، والحكم فيما إذا حلف بسورة القرآن كالحكم في الحلف بكله ، هل يجب عليه بكل آية منها كفارة ، أو لا تجب إلا كفارة واحدة ؟ فيه القولان .
قال : وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله فيمن حلف بنحر ولده روايتان ، إحداهما كفارة يمين ، والأخرى يذبح كبشاً .
ش : هذا أولًا مبني على قاعدة تأتي للخرقي رحمه الله وهو أن نذر المعصية ينعقد موجباً لكفارة يمين ، إذ ذبح الولد معصية ، بل من أعظم المعاصي ، قال الله تعالى : 19 ( { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } ) وقال تعالى : 19 ( { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } ) .
3698 وقال النبي : ( أكبر الكبائر أن تجعل لله نداً وهو خلقك ) قيل : ثم أي ؟ قال : ( أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ) وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده أمر مختص به ، لا يتعداه إلى غيره ، ثم قد نسخ ذلك بالفداء بالكبش .
إذا تقرر هذا فمن أوجب كفارة يمين جرى على القاعدة في نذر المعصية ، إذ الواجب فيه كفارة يمين كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وإلى هذا ميل أبي محمد ، وقال أبو الخطاب في خلافه : إنه الأقوى . ومن أوجب ذبح كبش قال : لأنه الذي أوجبه الله تعالى على إبراهيم عليه السلام بدلًا عما أوجبه الله تعالى عليه من ذبح ولده ، إذ مقتضى النذر أن يلزم ذبح الولد ، لكن لما منعنا الله من ذلك كان بمنزلة منع إبراهيم من ذبح ولده ، ثم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أوجب الله عليه ذبح كبش بدلًا عن ذبح الولد ، فكذلك نحن .
3699 وقد اختلف عن الحبر ابن عباس رضي الله عنهما على قولين ، كالروايتين السابقتين ، وأنصبهما عنه ذبح كبش ، كما هو نص الروايتين عن أحمد ، وهو اختيار القاضي ونصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما .
و الخرقي رحمه الله صور المسألة فيمن حلف بنحر ولده ، كأن قال : إن فعلت كذا فلله علي نحر ولدي . أو : ولدي نحير إن فعلت كذا ، وكذلك الحكم فيما إذا نذر وأطلق ، كأن قال : لله علي نحر ولدي ، والحكم في نذر نحر نفسه أو نحر أجنبي كذلك ، قاله القاضي وأبو محمد ، وقد نص عليه أحمد في ذبح نفسه ، في رواية ابن منصور ، وأشار إليه في ذبح الأجنبي ، في رواية أبي طالب .
وقول الخرقي : فيمن حلف بنحر ولده ، هذه العبارة تشمل ما إذا كان له ولد واحد أو أولاد ، لكن مراده والله أعلم إذا لم يكن له إلا ولد واحد ، لأن أحمد نص في الثانية أن الكبش بتعدد الأولاد ، وهو جار على قاعدته ، ومنصوصه في الطلاق وغيره من أن المفرد المضاف يعم .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا تجب عليه الكفارة إلا إذا حنث ، ونص عليه أحمد فيمن نذر أن ينحر نفسه يفدي نفسه إذا حنث ، وقوله : يذبح كبشاً ، كذا قال بعضهم ، وبعضهم قال شاة وأحمد قد أجاب تارة بهذا ، وتارة بهذا .
قال : ومن حلف بعتق ما يملك فحنث عتق عليه كل ما يملك من عبيده ، وإمائه ، ومدبريه ، وأمهات أولاده ، ومكاتبيه وشقص يملكه من مملوك .
ش : صورة هذه المسألة إذا قال : إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر ، أو كل مملوك لي عتيق إن فعلت كذا ، فإذا فعل ذلك فقد وجد الشرط فيعمل بمقتضاه ، وهو عتق من تقدم ، كما لو قال : إن فعلت كذا ، فكل زوجة لي طالق ، ونحو ذلك ، وماذاك إلا أن هذا صورته صورة الشرط حقيقة ، وكذلك معناه ، إذ ليس فيه التزام حتى يشبه اليمين ، كما في نذر اللجاج : إن فعلت كذا فلله علي عتق عبيدي ، ونحو ذلك ، وإنما عتق عليه عبيده وإماؤه لأن ملكه عليهم تام بلا ريب ، وإنما عتق مكاتبوه ومدبروه وأمهات أولاده لبقاء ملكه عليهم ، فيدخلون فيما يملك ، وكذلك أيضاً عتق الشقص الذي يملكه ، لدخوله فيما يملكه ( وقيل عن أحمد ) رواية أخرى لا يعتق الشقص إلا أن ينويه ، لأن ذلك لا يخطر ببال الحالف غالباً ، فلا يتعلق به اليمين والله أعلم .
قال : ومن حلف فهو مخير في الكفارة قبل الحنث أو بعده وسواء كانت الكفارة صوماً أو غيره ، إلا في الظهار والحرام ، فعليه الكفارة قبل الحنث .
ش : قد تقدم أن مذهب الخرقي أن الحرام ظهار ، فحكمه حكمه وإنما عطفه عليه لتغاير لفظيهما كما في قوله :
فألفيت قولها كذباً وميناً .
وقد تقدم أيضاً أن كفارة الظهار يجب إخراجها قبل الحنث ، فلا حاجة إلى إعادة ذلك ، والكلام الآن في كفارة اليمن ، ومذهبنا ومذهب جمهور السلف أن الحالف إذا أراد الحنث في الجملة فهو مخير إن شاء أخرج الكفارة قبل الحنث ، وإن شاء بعده .
3700 لما روي عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله : ( يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك . وائت الذي هو خير ) . متفق عليه . وهذا أمر ، وأقل أحواله الجواز ، وللبخاري ( فأت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ) ، وفي لفظ ( إذا حلفت علي يمن ، فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك ، ثم ائت الذي هو خير ) رواه أبو داود والنسائي ، وهذا أصرح من الذي قبله .
3701 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من حلف علي يمين فرأى غيرها خيراً منها ، فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ) رواه مسلم وغيره .
3702 وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إني والله إن شاء الله لا أحلف علي يمين ، فأرى غيرها خيراً منها ، إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ) أو قال : ( أتيت الذي هو خير ، وكفرت عن يميني ) هذا لفظ أبي داود ، وعند النسائي في رواية ( إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ) وهو في الصحيحن بنحو ذلك أيضاً .
وظاهر كلام الخرقي أن التكفير قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة ، لا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وهو اختيار أبي محمد ، لورود الأحاديث بهذا تارة ، وبهذا أخرى ، فدل على استواء الأمرين ، وقال ابن أبي موسى : بعده أفضل عند أحمد ، للخروج من الخلاف ، وإذاً ينبغي براءة الذمة ، إذ عند الحنفي لا يجزئ الإخراج إلا بعد الحنث ، وكذلك عند الشافعي في الصوم فقط ، وهذا المقتضي لتنصيص الخرقي على التسوية بين الصوم وغيره ، وعورض الخروج من الخلاف بتعجيل النفع للفقراء .
وظاهر كلام الخرقي أن التخيير جار وإن كان الحنث محظوراً ، وهو أحد الوجهين ، إناطة بوجود السبب ( والوجه الثاني ) : لا يجزئه ، لأن النبي قال : ( إذا حلف على يمين ، فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك ، وائت الذي هو خير ) والإتيان هنا ليس بخير ، فلا يتناوله الأمر بالتقديم ، على أن الملحوظ في التقديم الرخصة ، والرخص لا تباح بالمعاصي .
( تنبيه ) . الكفارة قبل الحنث محللة لليمين ، قال الله تعالى : 19 ( { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ) وبعد الحنث مكفرة ، قال سبحانه : 19 ( { ذلك كفارة أيمانكم إذ حلفتم } ) قال بعضهم : أي فحنثتم .
قال : وإذا حلف بيمين فقال : إن شاء الله ، فإن شاء فعل ، وإن شاء ترك ، ولا كفارة عليه إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام .
ش : إذا حلف فقال مثلًا : والله لأدخلن الدار إن شاء الله . فهو مخير في الجملة بين الفعل والترك ، فإن ترك لم يحنث إجماعاً .
3703 وقد شهد له ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال : ( من حلف علي يمين فقال : إن شاء الله ، فلا حنث عليه ) رواه الخمسة وحسنه الترمذي .
3704 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من حلف فقال : إن شاء الله ، لم يحنث ) رواه الترمذي والنسائي .
3705 وفي الصحيحين أيضاً من حديثه ( لو قال سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام : لأطوفن الليلة بمائة امرأة ، تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله . فقال له الملك ، قل : إن شاء الله ، فلم يقل ونسي ، وطاف بهن ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان ) قال النبي : ( قال إن شاء الله ، لم يحنث ، وكان دركاً لحاجته ) .
إذا تقرر هذا فشرط صحة الاستثناء الاتصال المعتاد على المذهب المعروف ، س فلو كت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ، أو تكلم بكلام أجنبي ، ونحو ذلك بطل استثناؤه ، ولا يضر السكوت لعارض من تنفس أو عطاس ، ونحو ذلك ، إذ الاستثنتاء أحد المخصصات ، فاعتبر اتصاله كبقية المخصصات ، من الشرط والصفة وغيرهما .
3706 وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما من رواية أبي داود وغيره ( من حلف علي يمين فاستثنى ) فظاهره أن الاستثناء يكون عقب الحلف ، وقال أحمد : حديث النبي لعبد الرحمن بن سمرة ( إذا حلفت علي يمين ، فرأيت غيرها خيراً منها ، فكفر عن يمينك ) ولم يقل : واستثن . قلت والظاهر أن النبي إنما حكم على اليمين التي يحنث بتركها ، ولهذا لم يقل له ولم يستثن ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى : لا يضر الفصل اليسير ، بشرط أن لا يخلط كلامه بغيره .
3707 لما روي عن عكرمة أن النبي قال يوماً ( والله لأغزون قريشاً ، والله لأغزون قريشاً ) ثم قال : ( إن شاء الله ) ، وفي رواية عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي وفي رواية عن عكرمة يرفعه أنه قال : ( والله لأغزون قريشاً ثم قال : ( إن شاء الله ) ثم قال : ( والله لأغزون قريشاً إن شاء الله ) ثم قال : ( والله لأغزون ) ثم سكت ثم قال : ( إن شاء الله ) زاد فيه بعض الرواة : ثم لم يغزهم . رواه أبو داود ، واحتج به أحمد فقال : حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( والله لأغزون قريشاً ) ثم سكت ثم قال : إنما هو استثناء بالقرب ، ولم يخلط كلامه بغيره اه .
3708 وفي الصحيحين أن النبي قال في مكة ( لا يختلى خلاها ) الحديث ، فقال له العباس : يا رسول الله إلا الإذخر ، فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : ( إلا الإذخر ) فأثر الاستثناء وهو منفصل .
3709 وفي حديث سليمان عليه السلام أن الملك قال له : قل إن شاء الله ، فلم يقل ، وظاهره أنه قال له ذلك بعد الفراغ من اليمين . وقد قال عليه السلام : ( لو قال : إن شاء الله يعني وقت قال له الملك لم يحنث ) ( وحكى ابن أبي موسى ) عن بعض الأصحاب أن المشترط المجلس ، لأن حالة المجلس كحالة الكلام ، وينبغي أن يقيد هذا أيضاً بما قيد به الذي قبله ، من أنه لا يخلط كلامه بغيره ، وكلام الخرقي رحمه الله محتمل للقولين الأولين ، ( واشترط ) القاضي ، وأبو البركات وغيرهما مع ما تقدم أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه ، لأن المخرج بالاستثناء غير مراد بالحكم عليه ، وإلّا لزم أن يكون مراداً غير مراد ، وهو متناقض ، فيلزم منه رفع ما أوقعه ، وظاهر بحث أبي محمد أن المشترط قصد الاستثناء فقط ، حتى لو نوى عند تمام يمينه صح استثناؤه ، وفيه نظر ، وظاهر إطلاق الخرقي عدم الاشتراط أصلًا ، وهو وجه حكاه ابن البنا ، وبناه على أن لغو اليمين عندنا صحيح ، وهي ما كان على الماضي ، وإن لم يقصده ، وهو ظاهر حديث الإذخر وحديث سليمان .
وقول الخرقي : وإذا حلف ، يشمل كل حلف ، وكذلك ظاهر الحديث ، وقد استثنى من ذلك الطلاق والعتاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وإذاً يصير ملخص الأمر أن كل يمين تدخلها الكفارة ، كاليمين بالله تعالى ، والنذر والظهار يدخلها الاستثناء ، وقد نص أحمد على ذلك .
وقوله : فقال . ظاهره أنه لا ينفعه الاستثناء بقلبه ، وهو كذلك لظاهر الحديث ، ولأن الاستثناء كالجزء من اليمين ، واليمين لا تنعقد بالنية ، فكذلك الاستثناء ، وعن أحمد في المظلوم يستثنى في نفسه : أرجو أن يجوز إذا خاف على نفسه ، وكأنه رضي الله عنه نظر إلى أن ذلك تأويل ، والمظلوم ينفعه تأويله .
قال : وإذا استثنى في الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عن أبي عبد الله رحمه الله أنه توقف عن الجواب ، وقد قطع في موضع أنه لا ينفعه الاستثناء .
ش : وذلك كأن قال لزوجته : أنت طالق إن شاء الله . أو لعبده : أنت حر إن شاء الله . وتوقف أحمد عن الجواب في ذلك ، لاختلاف الناس فيه ، مع عدم نص قاطع في ذلك ، وحظر ذلك ، وهو الحكم بحل فرج أو تحريمه ، والذي استقر عليه قوله أنه لا ينفعه الاستثناء ، معللًا ذلك في رواية حنبل بأنهما ليسا من الأيمان ، وإذا لم يكونا من الأيمان فلا يدخلان في قول النبي ( من حلف فقال : إن شاء الله لم يحنث ) ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في أول الباب ، وأن المغلب فيهما التعليق على شرط ، وإذاً هذا الشرط الذي قد علق عليه الطلاق وهو مشيئة الله تعالى أمر لا سبيل إلى علمه ، فهو كالتعليق على مستحيل ، أو أمر يفضي اعتباره إلى رفع الطلاق بالكلية ، أشبه ما لو قال : أنت طالق طلقة لا تلزمك . ونحو ذلك .
3710 وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قال الرجل لامرأته : أنت طالق إن شاء الله . هي طالق . رواه أبو حفص بسنده ، وعن أبي بردة نحوه .
3711 وعن ابن عمر رضي الله عنهما وأبي سعيد رضي الله عنه قالوا : كنا معاشر أصحاب رسول الله نرى الاستثناء جائزاً في كل شيء إلا في العتاق والطلاق . ذكره أبو الخطاب ( وحكى أبو محمد رواية أخرى ) عن أحمد رضي الله عنه بصحة الاستثناء في الطلاق والعتاق ، بناء على أنهما من الأيمان ، فيدخلان في عموم ( من حلف على يمين ) إذ ذلك نكرة في سياق الشرط ، فتشمل كل يمين ، ونظراً إلى أن التعليق يحصل على مشيئة لم يعلم وجودها ، أشبه ما لو علقه على مشيئة زيد ، وأجيب بأن مشيئة الله تعالى قد علمت بمباشرة الآدمي بسب ذلك وهو النطق بالطلاق ، ونقل الشيخ أبو حامد الاسفرائيني ومن تبعه عن إمامنا رواية بالتفرقة بين الطلاق العتاق ، وقطع أبو البركات وغيره بأن ذلك غلط على الإمام ، وسبب الغلط والله أعلم أن أحمد قال فيمن قال : إن ملكت فلاناً فهو حر إن شاء الله ، فملكه صار حراً ، وقال فيمن قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق إن شاء الله ، فتزوجها لم تطلق ، ففرق بين التعليقين ، وذلك أن من أصله أن العتق يصح أن يعلق بالملك ، بخلاف الطلاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ففرق أحمد لأجل هذا ، لا لأجل الاستثناء بالمشيئة ، وللمسألة فروع أخر ليس هذا موضعها والله أعلم .
قال : وإن قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، لم تطلق إن تزوج بها ، وإن قال : إن ملكت فلاناً فهو حر ، فملكه صار حراً .
ش : اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في هاتين المسألتين على ثلاث روايات ( إحداهن ) صحة التعليق فيهما ، فيقع العتق والطلاق ( والثانية ) عدم الصحة فيهما فلا يقعان ، وهي اختيار أبي محمد ، وأبي الخطاب .
3712 ومدركهما أن قول النبي : ( لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ، ولا عتق له فيما لا يملك ، ولا طلاق له فيما لا يملك ) . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده .
3713 وقول النبي : ( لا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك ) رواه ابن ماجه من رواية المسور بن مخرمة ، هل هذا الطلاق والعتاق وقعا قبل ملك ، أو لم يقعا إلا في ملك ، وأصل هذا فيما قيل إن الشرط هل منع انعقاد السبب ، أو إنما منع ترتب حكمه عليه ، فمن نظر إلى الأول قال بوقوع الطلاق والعتاق ، لوجود سببهما في الملك ، ومن نظر إلى الثاني قال بعدم وقوعهما ، لوجود السبب قبل الملك ، والمشهور عن أحمد وهو المختار لعامة أصحابه ، حتى إن بعضهم لا يثبت ما يخالف ذلك التفرقة بين الطلاق والعتاق ، كما قاله الخرقي ، فيقع العتق دون الطلاق ، نظراً إلى أن العتق قربة وطاعة ، فصح تعليقه على الملك كالنذر ، وقد دل على الأصل قول الله تعالى : 19 ( { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } ) الآية . وهذا بخلاف الطلاق ، فإنه ليس بقربة من حيث هو ، بل عدمه هو القربة ، والأصل أن الإنسان لا ينفذ له تصرف إلا فيما يملك ، وأيضاً الملك قد يقصد للعتق ، كما في شراء من يعتق عليه برحم أو بشرط ، والنكاح لا يقصد للطلاق ، بل قد تذهب فائدته . اه . و الخرقي رحمه الله صور المسألة فيما إذا علق طلاق معينة على تزوجها ، وكذلك الحكم في غير المعينة ، كما إذا قال : كل امرأة أتزوجها فهي طالق . وكلامه في تعليق العتق يشمل ما إذا كان المكلف حراً أو عبداً ، والصحيح عندهم أن العبد لا يصح تعليقه ، وإن صح تعليق الحر ، لعدم ملكه حين التعليق .
قال : ولو حلف أن لا ينكح فلانة ، أو لا اشتريت فلانة ، فنكحها نكاحاً فاسداً ، أو اشتراها شراء فاسداً لم يحنث .
ش : هذا هو المشهور والمختار من الأوجه ، حملا لذلك على النكاح الشرعي والشراء الشرعي ، ولا ريب أنهما الصحيحان إذ كلام المكلف محمول على المراد من كلام الشارع ، وكلام الشارع المراد به الصحيح ، فكذلك كلام المكلف ، ( وقيل بحنثه ) مطلقاً ، نظراً لإطلاق اللفظ الشامل للشرعي واللغوي ، وملخصه أن الأول غلب الحقيقة الشرعية ، والثاني غلب الحقيقة اللغوية ( وفي المذهب وجه ثالث ) اختاره ابن أبي موسى ولا بأس به أنه يحنث بالنكاح أو الشراء المختلف فيه ، لعدم الجزم بكونه ليس بشرعي ، مع تيقن دخوله في الحقيقة اللغوية ، دون النكاح أو الشراء المتفق على بطلانهما ، لتيقن كونه ليس بشرعي ، مع أن المغلب في الإطلاق هو الشرعي ، والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يشتري فلاناً ، أو لا يضربه ، فوكل في الشراء أو الضرب حنث ما لم تكن له نية .
ش : لأن فعل الوكيل قائم مقام فعل الموكل ، فكأنه هو ، والدليل على أن الفعل يضاف إلى الموكل قال الله تعالى : 19 ( { محلقين رؤوسكم } ) وقال : 19 ( { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ) وقال رسول الله : ( اللهم ارحم المحلقين ) ولا ريب في تناول ذلك لمن حلق رأسه بأمره ، ولو حلف لا يدخل داراً ، فأمر من حمله وأدخله إليها حنث ، والخرقي رحمه الله ذكر الصورتين على سبيل المثال ، ولينبه بهما على مذهب المخالف ، والحكم منوط بما إذا حلف لا يفعل شيئاً ، وإنما ذكر هاتين الصورتين على سبيل المثال ، إذ الشافعي يخالف فيهما في الجملة ، والنعمان يخالف في صورة البيع دون الضرب ، ثم محل هذه المسألة إذا لم يكن ثم نية أو ما يقوم مقامها من قرينة حال ونحو ذلك ، أما مع النية أو بدلها فإن الحكم يناط بها ويعتمد عليها والله أعلم .
قال : وإذا حلف بعتق أو طلاق أو لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً حنث .
ش : قد تقدمت هذه المسألة في قوله : وإن فعله ناسياً فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق ، والخلاف فيها فلا حاجة إلى إعادتها ، والله أعلم .
قال : ومن حلف فتأول في يمينه فله تأويله إذا كان مظلوماً ، فإن كان ظالماً لم ينفعه تأويله ، لما روي عن النبي أنه قال : ( يمينك على ما يصدقك به صاحبك ) .
ش : التأويل أن يقصد بلفظه ما يخالف ظاهره مع احتمال اللفظ له ، كأن يحلف أنه أخي وينوي بذلك أخوة الإسلام ، قال الله تعالى : 19 ( { إنما المؤمنون إخوة } ) أو المشابهة استعارة ، أو يحلف أنه كان تحت سقف ، وينوي به السماء ، قال الله تعالى : 19 ( { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } ) أو يحلف أنه كان على فراش أو بساط ، مريداً بذلك الأرض ، قال سبحانه : 19 ( { والأرض فرشناها } ) وقال سبحانه : 19 ( { والله جعل لكم الأرض بساطا } ) أو يحلف ما لفلان عندي وديعة ، مريداً ب ( ما ) الذي ، أو ما فلان ههنا ، ويريد موضعاً معيناً ، ونحو ذلك مما هو سائغ في اللغة ، مع أن السابق إلى فهم السامع خلافه .
ولا يخلو المتأول من ثلاثة أحوال . ( أحدها ) أن يكون الحالف مظلوماً ، كأن يستحلفه ظالم على شيء لو صدقه لناله أو مسلماً أو ذمياً ضرر ، فهذا له تأويله بلا ريب .
3714 لما روى سويد بن حنظلة رضي الله عنه قال : خرجنا نريد رسول الله ، ومعنا وائل بن حجر ، فأخذه عدو له ، فتحرج القوم أن يحلفوا ، وحلفت أنا أنه أخي ، فخلي عنه ، فأتينا رسول الله فذكرت ذلك له ، فقال : ( أنت كنت أبرهم وأصدقهم ، صدقت ، المسلم أخو المسلم ) رواه أحمد وابن ماجه .
3715 وفي حديث الإسراء المتفق عليه : ( مرحبا بالأخ الصالح ، والنبي الصالح ) .
3716 وقال عليه السلام : ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ) ( الحال الثانية ) : أن يكون ظالماً ، كالذي يستحلف على حق عنده ، فهذا لا ينفعه التأويل ، وتنصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي يقصده المستحلف بلا ريب أيضاً .
3717 لما استدل به الشيخ رحمه الله وهو حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله : ( يمينك على ما يصدقك به صاحبك ) وفي لفظ : ( يصدقك عليه صاحبك ) وعنه رضي الله عنه أيضاً قال : قال رسول الله : ( اليمين على نية المستحلف ) رواهما مسلم وغيره ، ولأنه لو ساغ التأويل والحال ما تقدم لاتخذ ذلك وسيلة إلى جحود الحق ، وبطل المعنى المقصود باليمين ، وهو تخويف الحالف من عاقبة اليمين ، ولا ريب أن الشريعة تأبى مثل ذلك ، والشيخ رحمه الله اعتمد في الاستدلال على اللفظ الأول ، وكذلك غيره من الأئمة من أصحابنا وغيرهم ، وبعض العلماء اعتمد في الاستدلال على الثاني ، وقال : إن معنى الأول أن يمينك التي يجوز لك أن تحلفها هي التي تكون صادقة في نفسها ، بحيث لو اطلع عليها صاحبك لعلم أنها حق وصدق ، وأن ظاهرها كباطنها ، فيصدقك على ما حلفت عليه ، وإذاً فائدة هذا الحديث أن الحالف يعرض على نفسه اليمين ، فإن وجدها كما تقدم حلف إن شاء ، وإلا أمسك .
( الحال الثالثة ) إذا كان المتأول لا ظالماً ولا مظلوماً ، وهذه الحالة لم يتعرض الخرقي لها بنفي ولا إثبات ، وفيها قولان حكاهما أبو العباس ، وقال : إن ظاهر كلام أحمد المنع في اليمين اه . وظاهر كلام الشيخين الجواز ، واعتمد أبو محمد على ما روي أن مهنا كان عنده هو والمروذي وجماعة ، فجاء رجل يطلب المروذي ولم يرد المروذي أن يكلمه ، فوضع مهنا إصبعه في كفه فقال : ليس المروذي ها هنا ، وما يصنع المروذي ها هنا ، يريد ليس في كفه ، ولم ينكر ذلك الإمام أحمد .
3718 واستدل بأن النبي كان يمزح ولا يقول إلا حقاً ، والمزح أن يوهم السامع بكلامه غير ما يفهم من ظاهره ، كما قال لتلك العجوز : ( لا يدخل الجنة عجوز ) يعني أن الله ينشئهن أبكاراً ، عرباً أتراباً .
3719 وعن أنس رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى النبي فقال : يا رسول الله احملني . فقال رسول الله : ( إنا حاملوك على ولد ناقة ) فقال : وما أصنع بولد الناقة . قال : ( وهل تلد الإبل إلا النوق ) رواه أبو داود .
3720 وقال النبي لرجل احتضنه من ورائه : ( من يشتري العبد ) فقال : يا رسول الله تجدني إذاً كاسداً . قال : ( لكنك عند الله لست بكاسد ) ، وهذا كله من التأويل الحق الجائز ، فإن رسول الله لا يقول إلا حقاً ، ( قلت ) : وهذا كله ورد في غير اليمين وهو واضح ، أما اليمين فلها حرمة ، فقد يقال : لا حاجة إلى ارتكابها والتعريض فيها ، لا سيما وقد عضد هذا قول النبي : ( اليمين على نية المستحلف ) خرج منه المظلوم لما تقدم ، وللاتفاق أيضاً فيما أظن ، فيبقى ما عداه على مقتضى العموم ، والله أعلم .
كتاب الكفارات

ش : أجمع المسلمون على مشروعية الكفارة ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : 19 ( { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ، واحفظوا أيمانكم ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون } ) ، ومن السنة ما تقدم من قوله : ( فأت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ) ونحوه والله أعلم .
قال : وإذا وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير إن شاء أطعم .
ش : لما تقدم للخرقي رحمه الله اليمين الموجبة للكفارة شرع يبين الكفارة فقال : ومن وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير إن شاء أطعم ، وهذا والحمد لله إجماع في أنه إن شاء أطعم ، وإن شاء كسى ، وإن شاء أعتق ، وقد شهد النص المتقدم لذلك وهو واضح ، إذ أصل موضوع ( أو ) للتخيير بين شيئين أو أشياء .
3721 ولهذا قال ترجمان القرآن كما ذكره عنه الإمام أحمد في التفسير : كل ما كان في كتاب الله ( أو ) فهو للتخيير ، وما كان ( فمن لم يجد ) فالأول الأول ، والله أعلم .
قال : عشرة .
ش : الكلام في الإطعام في ثلاثة أمور ( أحدها ) في عددهم ، وهو عشرة بنص الكتاب ، نعم هل يقوم تكرار إطعام الواحد مقام تعداد الأشخاص ، أم لا ، أو يفرق بين العدم والوجود ؟ فيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
قال : مساكين مسلمين أحراراً ، كباراً كانوا أو صغاراً ، إذا أكلوا الطعام .
ش : هذا ( الأمر الثاني ) مما يتعلق بالإطعام وهو صفة المطعمين ، وقد اشترط 16 ( الخرقي ) رحمه الله لهم أربعة أوصاف . ( الأول ) أن يكونوا مساكين ، اعتماداً على ما تقدم من الآية ، وعلى قوله تعالى : 19 ( { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } ) الآية . ويدخل في المسكين الفقير ، لأنه مسكين وزيادة على قاعدتنا ، ولما تقدم من أن الفقير والمسكين في غير الزكاة صنف واحد ، لأن جهة استحقاقهم واحدة وهي الحاجة ، وإنما جعلا صنفين في الزكاة للتفريق بينهما في الاسم والعطف المقتضي للمغايرة ، ويخرج ما عدا هذين ، وإن كان من أهل الزكاة ، نعم يجوز الدفع للغارم لإصلاح نفسه لاحتياجه ، فهو كالمسكين ، وكلام أبي محمد يوهم المنع . ( الثاني ) أن يكونوا مسلمين ، وقد تقدم هذا في الظهار فلا حاجة إلى إعادته . ( الثالث ) أن يكونوا أحراراً ، وهذا أيضاً قد تقدم في كفارة الظهار ، ونزيد هنا بأن ظاهر كلامه أنه لا يجوز دفعها إلى مكاتب ، لأنه ليس بحر ، وهذا ( إحدى الروايتين ) واختيار القاضي في المجرد ، وأبي الخطاب في الهداية ، وأبي محمد ، لأنه صنف آخر غير المساكين ، والله سبحانه إنما جعل الإطعام للمساكين ، ولأنه يأخذ ليفك رقبته ، لا لتحصيل كفايته كالمسكين . ( والثانية ) وهي اختيار القاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافاتهم يجوز ، لأنه محتاج للأخذ فأشبه المسكين ، ( الرابع ) أن يكونوا قد أكلوا الطعام ، فلا يجوز دفعها إلى صغير لم يأكل الطعام ، وهذا ( إحدى الروايتين ) واختيار القاضي ، لظاهر قوله تعالى : 19 ( { فإطعام } ) فظاهره أن الواجب إطعامهم ، فإذا لم يعتبر ذلك فلا أقل من اعتبار إمكانه ومظنته ، ولا يتحقق المظنة فيمن لم يأكل . ( والثانية ) وهي اختيار أبي الخطاب لا يشترط ذلك ، إذ حقيقة الأكل ليس بشرط ، والإطعام مصدر أريد به المطعوم ، فالواجب مطعوم عشرة مساكين ، بأن يملكهم ذلك ، وهذا يمكن في حق من لم يأكل الطعام ، بأن يقبض له وليه فيحصل له الملك ، كما يقبض للصغير الذي قد أكل الطعام .
قال : لكل مسكين مد من حنطة أو دقيق ، أو رطلان بالعراقي خبزاً أو مدان تمراً أو شعيراً .
ش : هذا الأمر الثالث ، وهو في قدر ما يدفع للمساكين وهو مد حنطة ، أو نصف صاع تمر أو شعير ، وقد تقدمت هذه المسألة في الظهار ، وتقدم أن غيره قال : يجزىء في الكفارة ما يجزىء في الفطرة ، وقد نص الخرقي هنا على جواز إخراج الدقيق ، ولم يتعرض له في الظهار ، ولا ريب في إجزائه في الكفارتين ، كما يجزىء في الفطرة ، ومراد الخرقي بالدقيق الحنطة ، أما دقيق الشعير فالواجب منه مدان ، ثم المعتبر في الدقيق الوزن لتفرق أجزائه في الطحن ، ولهذا قال 16 ( أحمد ) : يجزئه بالوزن رطل وثلث ، ولا يجزئه إخراج مد دقيق بالكيل اه ، نعم لو طحن مد الحنطة وأخرجه أجزأه ، وكذلك إن أخرج من الدقيق ما يعلم أنه مد .
ونص هنا أيضاً على جواز إخراج الخبز ، ( وهو إحدى الروايتين ) عن أحمد ، واختيار القاضي وعامة الأصحاب ، لدخول ذلك في قوله : 19 ( { فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } ) والخبز من أوسط طعام أهلينا ، وعلى هذا جرى السلف .
3722 فروى الإمام أحمد في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما : 19 ( { من أوسط ما تطعمون أهليكم } ) قال : الخبز واللبن ، وفي رواية عنه قال : الخبز والتمر ، والخبز والزيت ، والخبز والسمن .
3723 وعن علي رضي الله عنه الخبز والتمر ، الخبز والسمن ، الخبز واللحم .
3724 وعن الأسود بن يزيد : الخبز والتمر .
3725 وعن ابن سيرين كانوا يقولون : إن أفضله الخبز واللحم ، وأوسطه الخبز والسمن ، وأخسه الخبز والتمر . وهذا يقرب من حكاية الإجماع ، وفارق زكاة الفطر ونحوها ، لأن النص هنا تناول الخبز ، بخلاف ثم ، فإن قول الراوي : فرض رسول الله صدقة الفطر صاعاً من تمر . لا يتناوله ، مع أنه لو قيل بالإجزاء في زكاة الفطر دون غيرها لكان متوجهاً ، لأن قوله عليه السلام : ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) الملحوظ فيه سد حاجتهم ، وحاجتهم تندفع بدفع الخبز ، وهذا بخلاف غير زكاة الفطر ، فإن الدفع يراد للاقتيات في جميع العام ، فيحتاج إلى الادخار ولا بد في المدخر من أن يكون على صفة يمكن ادخاره ، ( والرواية الثانية ) لا يجوز إخراج الخبز ، لخروجه عن حال الكمال والادخار ، أشبه الهريسة ونحوها .
فعلى المذهب لا بد أن يدفع رطلي خبز بالعراقي ، لأن ذلك لا يكون أقل من مد ، نعم لو طحن مداً وخبزه ودفع خبزه أجزأه ، نص عليه أحمد .
تنبيهان ( أحدهما ) شرط إجزاء المخرج في الكفارة أن يكون سالماً من العيب ، بأن لا يكون مسوساً ، ولا فيه تراب يحتاج إلى تنقية ، لأنه مخرج في حق الله تعالى عما في الذمة ، أشبه الشاة المخرجة في الزكاة . ( الثاني ) قال أبو محمد : الأفضل البر ، خروجاً من الخلاف ، قلت : وهذا كأنه على مختاره في الفطرة . وعلى المذهب ثم الأفضل التمر ، فكذلك هنا ، وقد قال أحمد : التمر أعجب إلي ، والدقيق ضعيف ، والتمر أحب إلي . ولأبي محمد احتمال بأفضلية الخبز على غيره ، نظراً لرفع الكلفة عن المسكين وهوواضح والله أعلم .
قال : ولو أعطاهم مكان الطعام أضعاف قيمته ورقاً لم يجزئه .
ش : لما ذكر صفة الدفع للفقراء في الإطعام أراد أن يبين أنه لا يجزىء إخراج قيمة ذلك ، وأرشد إلى ذلك بمثال ، وهو أنه لا يجزىء إخراج أضعاف قيمة ذلك من الورق ، وذلك لما فيه من العدول عن المنصوص ، لأن المطعوم أو الثياب ليسا بورق ولا ذهب ، ولأن الشارع خير بين ثلاثة ، وجواز إخراج القيمة يفضي إلى التخيير بين أربعة ، وهو خلاف النص أيضاً ، وقد حكى أبو محمد في المقنع وغيره من الأصحاب رواية بالجواز ، وقطع في المغني هنا بالمنع ، وكأنه بنى ذلك على المذهب . والله أعلم .
قال : ويعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله .
ش : لأنه حق لله واجب ، فجرى مجرى الزكاة ، فعلى هذا لا يجوز الدفع للوالدين وإن علوا ، أو للولد وإن سفل ، وفي بقية الأقارب الواجبة نفقتهم روايتان ، ويجوز الدفع إلى من عدا ذلك من الأقارب .
قال : ومن لم يصب إلا مسكيناً واحداً ردده عليه في كل يوم تتمة عشرة أيام .
ش : إذا ردّد الكفارة على مسكين واحد عشرة أيام في كفارة اليمين ، أو ستين يوماً في كفارة الظهار ونحوها ، فهل يجزئه ؟ فيه ثلاث روايات ( إحداها ) وهي اختيار أبي بكر وابن بطة فيما حكاه عنه أبو حفص في تعاليقه يجزئه مطلقاً ، نظراً إلى أن تكرار الإطعام قائم مقام تكرار الأشخاص ، ولأنه لو أطعم كل يوم مسكيناً حتى كملت العدة جاز بلا ريب ، فكذلك إذا كرر إطعام الواحد ، لأنه صدق عليه أنه أطعم كل يوم مسكيناً . ( والثانية ) وهي اختيار ابن شهاب لا يجزئه مطلقاً ، اعتماداً على قوله تعالى : 19 ( { فكفارته إطعام عشرة مساكين } ) فمن لم يطعم عشرة لم يمتثل الأمر . ( والرواية الثالثة ) وهي اختيار الخرقي ، والقاضي وأصحابه ، وعامة الأصحاب لا يجزئه مع الوجود ، لما تقدم في التي قبلها ، ويجزئه مع العدم ، إناطة بالعذر ، إذ معنى الشيء يقوم مقامه عند تعذره ، كما أقيم التراب مقام الماء عند تعذره ، وكذلك غيره من المبدلات والله أعلم .
قال : وإن شاء كسا .
ش : قد تقدم الدليل على التخيير بين الإطعام والكسوة والعتق .
قال : عشرة مساكين ، للرجل ثوب يجزئه أن يصلي فيه ، وللمرأة درع وخمار .
ش : الكلام في الكسوة على ثلاثة أشياء ( أحدها ) في عدد المكسوين وذلك عشرة بنص الكتاب . ( والثاني ) في صفتهم بأن يكونوا مساكين ، وهو بنص الكتاب أيضاً ، وقد تقدم إيضاح ذلك في الإطعام ، إذ هؤلاء المساكين هم الذين في الإطعام فيشترط لهم ما يشترط لهم . ( والثالث ) في صفة ما يدفع إليهم من الكسوة ، وهو ما تصح صلاة الفريضة معه ، إذ الكفارة عبادة ، تعتبر فيها الكسوة ، فلم يجز فيها أقل مما ذكرناه كالصلاة ولأن اللابس لما لا يستر عورته ليس بمكتس شرعاً ، إذا تقرر هذا فيدفع للرجل ثوب يستر عورته وعاتقه أو بعضه ، على الخلاف في الواجب في المنكب ، وللمرأة ما يستر عورتها وهي جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها على إحدى الروايتين ، ولما كان ذلك لا يحصل غالباً إلا بدرع وهو القميص ، وخمار ، ذكر الخرقي ذلك ، وإلا لو أعطاها ثوباً واسعاً يستر بدنها ورأسها أجزأه ذلك ، إناطة بستر عورتها المعتبرة في الصلاة ، وقد وقع لابن البنا أنه يدفع للرجل قميص ومنديل ، وفيه نظر ، والله أعلم .
قال : وإن شاء أعتق .
قال : قد تقدم الإجماع على التخيير في ذلك .
قال : رقبة مؤمنة قد صلت وصامت ، لأن الإيمان قول وعمل ، وتكون سليمة ليس فيها نقص يضر بالعمل .
ش : الكلام في العتق في شيئين : ( أحدهما ) في عدد المعتق وهو رقبة واحدة بالإجماع ، وشهادة الكتاب والسنة .
( والثاني ) : في صفة الرقبة ، ويعتبر لها أمران ( أحدهما ) أن تكون مؤمنة ، وهو اتفاق في كفارة القتل ، لنص الكتاب عليه ، وهو قوله تعالى : 19 ( { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ) أما في غيرها من الكفارات فروايتان تقدمتا في الظهار ، والمذهب منهما بلا ريب عند الأصحاب اشتراط ذلك أيضاً ، وأبو بكر يختار عدم الاشتراط كالرواية الأخرى ، ومبنى ذلك على أنه هل يحمل المطلق على المقيد مع الاختلاف في السبب ، والاتحاد في الحكم أم لا ؟ وفيه ثلاثة أقوال ، ثالثها وهو اختيار أبي الخطاب يحمل بضرب من القياس ، وبيانه هنا أن الإعتاق يتضمن تكميل أحكامه ، ومن تكميل أحكامه بل هو رأسها الإسلام ، فاشترط فيه ذلك ، كالمعتق في كفارة القتل وحيث اشترط الإيمان فهل يشترط له الصوم والصلاة أم لا ؟ فيه عن أحمد ما يدل على روايتين ( إحداهما ) وهي اختيار الأكثرين لا يشترط ذلك ، فعلى هذا يجوز عتق الطفل الصغير ، لأنه محكوم بإيمانه شرعاً ، قال سبحانه : 19 ( { والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ، ألحقنا بهم ذرياتهم ، وما ألتناهم من عملهم من شيء } ) .
3726 وفي الصحيح من حديث معاوية بن الحكم أنه أتى النبي بجارية ، فقال لها : ( أين الله ؟ ) قالت : في السماء ، قال : ( من أنا ؟ ) قالت : أنت رسول الله ، قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) فحكم لها بالإيمان بهذا القول ، وكذلك في حديث أبي هريرة ، ولأن أحكام الإسلام جارية على الطفل في إرثه وغسله ، ودفنه والصلاة عليه ، وغير ذلك ، فكذلك في عتقه في الكفارة ، وعلى هذه الرواية لا يجزئ الجنين ، لعدم ثبوت أحكام الدنيا له . ( والثانية ) وهي اختيار الخرقي يشترط ذلك ، وعللها الخرقي تبعاً لأحمد في رواية الأثرم بأن الإيمان قول وعمل ، وإذاً لا بد من وجود العمل ، إما حقيقة ، وإما تأهلًا ، وعلى هذا هل يشترط حقيقة العمل أو التأهل لذلك ؟ فيه أيضاً عن أحمد ما يدل على قولين ( أحدهما ) المشترط التأهل ، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل : أحب إلي أن يكون كبيراً ، وهو الذي اعتمده القاضي ، وأبو البركات ، فحكيا الرواية على أنه لا يجزئ من له دون سبع سنين ، ويجزئ من بلغها لتأهله لعمل ذلك . ( والثاني ) المشترط العمل ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وأحمد في رواية الأثرم ، وقد تقدمت ، فعلى هذا من صام وصلى وصح ذلك منه أجزأ وإن كان صغيراً ، ومن لا فلا وإن كان كبيراً اه .
وحيث لم يشترط الإيمان فأحمد إنما نص على إجزاء اليهودية والنصرانية ، وكذلك قال أبو محمد ( وعنه ) تجزئ الذمية ، وهذا ربما أعطى أنه لا يجزئ غير الذمية بلا خلاف ، وبعض الأصحاب يطلق الخلاف في اشتراط الإيمان في غير كفارة القتل وعدمه اه .
( الأمر الثاني ) أن تكون الرقبة سليمة ، ومعنى سلامتها أن لا يكون فيها نقص يضر بالعمل ، وقد تقدم ذلك في الظهار ، فلا حاجة إلى إعادتها والله أعلم .
قال : ولو اشتراها بشرط العتق وأعتقها في الكفارة عتقت ولم تجزئه عن الكفارة .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، والمختار للأصحاب ، لأن عتقه مستحق بسبب آخر فلم يجزئه ، كما لو اشترى قريبه ينوي به عتقه عن الكفارة ، أو علق عتقه على شرط ، ونواه عند وجوده . ( والثانية ) تجزئ لأن عتقه لم يتحتم ، أشبه المعلق عتقه هل هو حق لله تعالى بحيث يجبر المشتري عليه ، وإذاً لا يجزئ في الكفارة ، أو لآدمي ، فلا يجبر المشتري عليه ، بل للبائع الفسخ ، وإذاً يجزئ في الكفارة ؟ فيه قولان .
وقد فهم من كلام الخرقي جواز اشتراط هذا الشرط في البيع ، وصحة البيع المشروط فيه هذا الشرط ، ولنشر إلى المسألتين ، ( فأما ) جواز اشتراط العتق في البيع ففيه روايتان ، ( المذهب منهما ) عند الأصحاب جواز ذلك وصحته .
3727 لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق ، فاشترطوا ولاءها ، فذكرت ذلك لرسول الله فقال : ( اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق ) متفق عليه . إلا أن البخاري لم يذكر لفظ : أعتقيها .
( والثانية ) لا يصح ذلك ، وهي ظاهر كلام صاحب الوجيز ، لأن شرط مناف لمقتضى البيع ، أشبه اشتراط أن لا يبيعه ولا يهبه ، ونحو ذلك على المذهب ، ( فعلى الأولى ) هل يجبر المشتري على العتق إن أباه ، وهو المشهور ، أو يكون للبائع الفسخ ؟ فيه قولان مبنيان على ما تقدم ، ( وعلى الثاني ) هل يبطل البيع ، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه ، لأن فواته يفوت الرضى الذي هو شرط لصحة البيع قطعاً ، أو لا يبطل ، وهو اختيار أبي محمد ، لحديث بريرة ، فإن أهلها اشترطوا الولاء ، ولم يبطله النبي ؟ فيه روايتان والله أعلم .
قال : وكذلك لو اشترى بعض من يعتق عليه إذا ملكه ، ينوي بشرائه الكفارة ، عتق ولم يجزئه .
3728 ش : أما العتق فلعموم ( من ملك ذا رحم محرم عتق عليه ) وأما عدم الإجزاء في الكفارة فلأن الواجب تحرير الرقبة ، كما نص الله عليه سبحانه ، والتحرير فعل العتق ، ولم يحصل هنا ، إنما الذي حصل الشراء ، ولأنه لم يخلص العتق لله سبحانه ، أشبه ما لو أعتقه رياء وسمعة ، والله أعلم .
قال : ولا يجزىء في الكفارة أم ولده .
ش : هذا هو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين ، لأن عتقها مستحق بسبب آخر ، أشبه المعلق عتقه بصفة عند وجودها ونحوه . ( والثانية ) يجزىء لدخول ذلك تحت قوله سبحانه : 19 ( { فتحرير رقبة } ) والله أعلم .
قال : ولا مكاتب قد أدى من كتابته شيئاً .
ش : هذا إحدى الروايات ، واختيار القاضي وأصحابه وغيرهم ، لأنه إذا أدى فقد حصل العوض عن بعض الرقبة في المعين ، فلم يجزكما لو أعتق بعضها ، وإذا لم يؤد فهي رقبة كاملة لم يؤد عن شيء منها عوض ، أشبهت المدبرة . ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر يجزىء مطلقاً ، لأنه عبد ما بقي عليه درهم ، كما ثبت بالنص فأجزأ عتقه كغيره ، ولدخوله تحت قوله تعالى : 19 ( { فتحرير رقبة } ) . ( والثالثة ) لا يجزئه مطلقاً ، لأن عتقه مستحق بسبب آخر ، أشبه أم الولد ، ولا نزاع أنه لو أعتق عبداً على مال يأخذه منه لم يجزئه عن الكفارة ، والله أعلم .
قال : ويجزىء المدبر .
ش : لدخوله تحت قوله تعالى : 19 ( { فتحرير رقبة } ) ولأن التدبير إما وصية أو تعليق بصفة ، وأيًّا ما كان فإنه يجزىء كما يجزىء الموصى به ، والمعلق عتقه بصفة وجودها .
قال : والخصي .
ش : لأن ذلك لا يضر بالعمل ، فأشبه الفحل ، ولا فرق بين المقطوع والأشل والموجوء ، لتساويهم في المعنى والله أعلم .
قال : وولد الزنا .
ش : لدخوله تحت قوله تعالى : 19 ( { فتحرير رقبة } ) ولأنه كغيره في جواز بيعه وعتقه ، وقبول شهادته ونحو ذلك ، فكذلك في إعتاقه عن الكفارة .
3729 وما ورد من قول النبي : ( ولد الزنا شر الثلاثة ) فقد قال الطحاوي : المراد به الملازم للزنا ، كما يقال : ابن السبيل ، للملازم لذلك ، وقال غيره : هو شر الثلاثة أصلًا ونسباً وعنصراً ، لخبثه ، وهو نشوءه من ماء الزنا ، على أن الكلام في أحكام الدنيا ، وليس في الحديث تعرض لذلك ، والله أعلم .
قال : فمن لم يجد من هذه الثلاثة واحداً صام ثلاثة أيام .
ش : إذا لم يجد واحداً من الثلاثة السابقة وهي الإطعام والكسوة والعتق بأن لا يجد ذلك أصلًا أو وجده وتعذر عليه شراؤه لعدم الثمن ، أو لكونه محتاجاً إلى ما هو أهم منه ، كما هو مفصل في موضعه ، فإنه ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام بالإجماع ، وشهادة الكتاب والله أعلم .
قال : متتابعة .
ش : قدر الصيام ثلاثة أيام بنص الكتاب والإجماع ، وشرطها التتابع على المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين .
3730 نظراً إلى أن ذلك قد ورد في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ذكره الإمام أحمد في التفسير وغيره ، وناهيك بهما ، وهو وإن لم يثبت كونه قرآناً لعدم تواتره فلا أقل من أن ينزل منزلة خبر الآحاد ، على أنهما سمعاه من النبي على سبيل التفسير ، فظناه قرآناً ، وإذاً فهو حجة يجب المصير إليه . ( والثانية ) لا يجب التتابع فيها ، عملا بإطلاق الآية الكريمة ، والصحابي إنما نقل اذلك على كونه قرآناً ، وإذا لم يثبت كونه قرآناً سقط اعتباره رأساً ، وأصل ذلك أن ما صح من القراءة الشاذة هل يكون حجة ، بحيث يخصص العام ، ويقيد المطلق ، ونحو ذلك أم لا ؟ فيه قولان للعلماء ، وهما روايتان عن إمامنا أشهرهما نعم ، وهو مذهب الحنفية ، والثانية لا ، وهو مذهب الشافعية ، وحيث اشترطنا التتابع فأفطر فيها فلا يخلو إما أن يكون لعذر أو لغير عذر ، وبيان ذلك قد تقدم مفصلًا في الظهار والله أعلم .
قال : ولو كان الحانث عبداً لم يكفر بغير الصوم .
ش : قد تقدم الكلام على هذا في الظهار بما فيه كفاية ، ونزيد هنا بأن ظاهر كلامه صحة يمين العبد ، ولا ريب في ذلك ، لدخوله تحت الخطاب ، وأن السيد ليس له منعه من الصيام وإن أضرّ به ، وهو كذلك ، لأنه حق لله تعالى ، فأشبه صوم رمضان أو قضائه ، وهذا بخلاف الحج ، لأن الضرر كثير ، لطول مدته ، وفوات خدمته والله أعلم .
قال : ولو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق فعليه الصوم ولا يجزئه غيره .
ش : هذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم ، في عبد حلف فحنث وهو عبد ، ولم يكفر حتى عتق : يكفر كفارة عبد ، لأنه إنما يكفر ما وجب عليه يوم حنث ، ولو افترى وهو عبد ثم أعتق فإنما يجلد جلد العبد ؛ وقد ذكر أحمد الحكم ودليله ، وملخص القياس أن هذا حق تعلق به وهو رقيق فلم يتغير بحريته كالحد ، وأيضاً فإن الذي خوطب به وتعلق به هو الصوم ، لا سيما على قول الخرقي ، فإنه لو أذن له في التكفير بالمال لم يكن له ذلك ، فإذا فعل غير ما خوطب به لم يجزئه . [ كما لو وجبت عليه صلاة الصبح فصلى بدلها مائة ركعة أو أكثر فإنها لا تجزئه ] .
وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى .
واعلم أن هذا على مختار الخرقي من أنه ليس له التكفير بغير الصوم ، أما من قال : يجوز له التكفير بالمال في الجملة في حال رقه فبعد عتقه أولى ، ولهذا قال القاضي في قول الخرقي : إن فيه نظراً ، قال : لأن المنصوص أنه يكفر كفارة عبد ، أي لا يلزمه التكفير بالمال فإن كفر به أجزأه . ( قلت ) ولا نظر في ذلك على قول الخرقي ، إنما النظر لو كان الخرقي يجوز له التكفير بالمال في حال رقه ، كما يقوله القاضي ، ثم قال ذلك اه .
وظاهر كلام الخرقي أن الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب ، إذ لو اعتبر أغلظ الأحوال لأوجب على العبد التكفير بالمال إذا قدر عليه قبل أن يأتي بالصوم ، وقد اختلف عن إمامنا رحمه الله في هذه المسألة ، ( فعنه ) كما هو ظاهر كلام الخرقي الاعتبار بحال الوجوب ، وهذا اختيار القاضي في تعليقه ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن شهاب وأبي الحسين ، والشيرازي ، وابن عقيل وغيرهم ، لأنه حين الاستقرار في الذمة ، لأنه لو فعل ما وجب عليه إذ ذاك لأجزأه بلا ريب ، ولأن الكفارة وجبت على وجه الطهرة ، فاعتبرت بحال الوجوب كالحد ( وعنه ) الاعتبار بأغلظ الأحوال ، اختارها القاضي في روايتيه ، وحكاها الشريف وأبو الخطاب عن الخرقي ، وكأنهما أخذا ذلك من قوله : ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى العتق أو الإطعام إلا أن يشاء . إذ ظاهره أن من لم يدخل في الصوم كان عليه الانتقال إلى العتق أو الإطعام ، وما تقدم أظهر ( وبالجملة ) وجه هذا القول بأنه حق يجب في الذمة بوجود مال ، فاعتبر بأغلظ الحالين كالحج ، والجواب القول بالموجب في الحج ، لأنه ليس له حالتان ، إنما له حالة واحدة ، وهي حالة اليسار ، يجب فيها ويستقر ، وقبل ذلك لا يخاطب به أصلًا ، والكفارة يخاطب بها على كل حال ، ( وعنه ) رواية ثالثة حكاها الشيرازي : الاعتبار بحال الأداء ، قياساً على الوضوء ، فالجامع أنه حق له بدل من جنسه ، فكان الاعتبار فيه بحال الأداء كالوضوء .
إذا تقرر هذا ( فعلى الرواية الأولى ) يعتبر اليسار والاعسار حال الوجوب عليه ، فإذا كان موسراً إذ ذاك ففرضه العتق لا يجزئه غيره ، وإن كان معسراً ففرضه الصوم ، ولا يجب عليه العتق بعد وإن أيسر ، ( وعلى الثانية ) متى وجد رقبة من حين الوجوب إلى حين التكفير لم يجزئه إلا العتق ، ( وعلى الثالثة ) الاعتبار بحال الأداء ، فإذا كان موسورا إذا وجب عليه العتق ، وإن كان حين الوجوب معسراً ، ولو كان حين الأداء معسراً أجزأه الصوم ، وإن كان حين الوجوب موسراً اه .
وقول الخرقي : ولو حنث وهو عبد . إلى آخره إشعار بأن حالة الوجوب هي حالة الحنث ، وهو كذلك قطعاً ، فعلى هذا لو حلف العبد ولم يحنث حتى عتق فحكمه حكم الأحرار ، وهذا في اليمين ، أما في الظهار والقتل فوقت الوجوب العود والزهوق ، والله أعلم .
قال : ويكفر بالصوم من لم يفضل عن قوت عياله يومه وليلته مقداراً ما يكفر به .
ش : قد تقدم أن من لم يجد واحداً من الثلاثة المتقدمة وهي العتق ، والإطعام والكسوة انتقل إلى الصيام ، وبيان عدم الوجدان أن لا يفضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته مقدار ما يكفر به ، لأنه إذاً يدخل تحت قوله : 19 ( { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } ) بخلاف ما إذا وجد ما يكفر به فاضلًا عما تقدم ، فإنه واجد ، فلا يدخل تحت الآية الكريمة .
وعموم كلام الخرقي رحمه الله يقتضي أن من وجد ما يكفر به فاضلًا عما تقدم لا يجوز له أن يكفر بالصوم ، وإن كان ماله غائباً ، وهو كذلك بلا نزاع فعلمه ، فيما إذا أمكنه الشراء بنسيئة ، وكذلك إن لم يمكنه كما هو مقتضى كلام الخرقي ، ومختار عامة الأصحاب ، حتى أن أبا محمد ، وأبا الخطاب والشيرازي وغيرهم جزموا بذلك ، وقيل : يجوز والحال هذه العدول إلى الصوم ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ، وقيل : إنما يعدل إليه في كفارة الظهار خاصة إذا رجا إتمامه قبل حصول المال ، وحكم الدين الرجو الوفاء حكم المال الغائب قاله أبو محمد .
وعموم كلامه أيضاً يقتضي أن الدين لا يمنع وجوب الكفارة ، وهو إحدى الروايتين ، والرواية الثانية وصححها أبو محمد يمنعها ، ثم أن أبا محمد في المغني جعل محلهما في الدين غير المطالب به ، أما المطالب به فيمنعها بلا خلاف ، وغيره يطلق الخلاف .
قال : ومن له دار لا غنى له عن سكناها ، أو دابة يحتاج إلى ركوبها ، أو خادم يحتاج إلى خدمته ، أجزأه الصيام في الكفارة .
ش : لأن ذلك من حوائجه الأصلية ، أشبه الطعام المحتاج إليه ، وفي معنى ما تقدم ما يلبسه ولو للتجمل ، وما يحتاج إليه من كتب علم ونحو ذلك .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله أنه متى استغنى عن سكنى الدار ، أو لم يحتج إلى دابة أو عبد ، فإن الصيام لا يجزئه ، وهو كذلك في الجملة ، كما إذا كان له داران أو عبدان أو دابتان ونحو ذلك ، يستغني بإحداهما ، فإنه يبيع الأخرى ، وينتقل إلى التكفير بالمال ، وكذلك إذا كان له دار واحدة أو دابة واحدة ، ونحو ذلك ، وأمكنه بيعها وشراء ما يسكنه مثله أو يركبه مثله ، ويفضل ما يشتري به رقبة ، فإنه يلزمه ذلك ، جمعا بين الحقين ، وكذلك إذا كان مثله يخدم نفسه وله خادم ، فإنه يلزمه عتقه ، قاله أبو محمد ، لأنه غير محتاج إليه ، وعلى قياسه لو كان له دار يسكنها ، ومثله يسكن بالأجرة ، ولا ضرر عليه في ذلك ، فإنه يلزمه بيعها والتكفير بالمال ، ويستثنى من ذلك إذا كان له سرية يمكنه بيعها وشراء سرية ورقبة يعتقها ، فإنه لا يلزمه ذلك ، وينتقل إلى الصيام ، لتعلق الغرض بعينها ، وكذلك إذا تعذر عليه بيع ما تقدم ، أو أمكن البيع وتعذر الشراء ، فإن له الانتقال إلى الصوم ، لتعذر الجمع بين الحقين ، فأشبه ما لو لم يكن له فضل ، وتمام الكلام على ذلك له محل آخر ، والله أعلم .
قال : ويجزئه إن أطعم خمسة مساكين وكسى خمسة .
ش : مناط المسألة أن يطعم بعضاً ويكسو بعضاً ، بحيث يستوفي من المجموع عشرة ، والخرقي ذكر صورة على سبيل المثال ، وإنما أجزأ ذلك لأن كل كل فقير من العشرة مخير فيه بين إطعامه وكسوته ، فإذا أطعم مثلًا خمسة وكسى خمسة ، فقد قام بالواجب عليه ، فوجب أن يجزئه ، ولأن كلا من الطعام والكسوة يقوم مقام الآخر في جميع العدد ، فكذلك في بعضه ، كالتيمم لما قام مقام الماء في البدن كله في الجنابة ، قام مقام البعض فيما إذا كان بعض البدن صحيحاً وبعضه جريحاً .
ويتخرج لنا وجه آخر أنه لا يجزئه ، كما لو أعطى في الجبران شاة وعشرة دراهم ، لاستلزامه التخيير ثم بين ثلاثة أشياء ، وهنا بين أربعة أشياء ، والشارع إنما خيره ثم بين شيئين ، وهنا بين ثلاثة أشياء .
( تنبيه ) لو أطعم المسكين بعض الطعام وكساه بعض الكسوة لم يجزئه بلا ريب ، لأنه لم يأت بالواجب من أحدهما ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن أعتق نصفي عبدين ، أو نصفي أمتين ، أو نصفي عبد وأمة أجزأ عنه .
ش : هذا اختيار القاضي في تعليقه ، وعامة أصحابه كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن البنا والشيرازي ، لأن نصف الشيئين بمنزلة الشيء الواحد ، بدليل ما لو كان له نصف ثمانين شاة مشاعاً ، وجبت عليه الزكاة كما لو ملك أربعين ، واختار ابن حامد فيما حكاه القاضي في روايتيه ، وأبو بكر وحكاه نصاً عن أحمد أنه لا يجزئه ذلك ، لأن إطلاق الرقبة ينصرف إلى الكاملة ، ثم إن المراد من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل من ذلك ، وفي المذهب وجه ثالث اختاره الشيخان : إن كان نصفهما حراً أجزأ لتكميل الأحكام ، إذ بذلك يحصل تكميل عبدين لا عبد واحد ، فهو بالجواز أولى ، وإلا لم يجزىء لما تقدم في دليل أبي بكر ، والله أعلم .
قال : وإن أعتق نصف عبد ، وأطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه .
ش : لأن الأصل عدم التلفيق ، لأنه عدول عن المنصوص ، وإنما قلنا به في الإطعام والكسوة لتساويهما في المعنى ، وهنا لم يتساويا ، بل تباينا ، إذ القصد من العتق تكميل الأحكام ، وتخليص الرقبة من الرق ، والقصد من الإطعام والكسوة سد الخلة بدفع الحاجة ، ودفع ضرر الحرّ والبرد مع ستر العورة ، وهما متباينان ، بخلاف الطعام والكسوة ، فإنهما لتقاربهما أجريا مجرى الجنس الواحد ، و الخرقي رحمه الله نص على جواز التلفيق من الطعام والكسوة ، وعلى منع ذلك في العتق مع أحدهما ، وبقي عليه لو أتى ببعض واحد من الثلاثة ثم عجز عن تمامه ، هل له التتميم بالصوم ؟ ليس له ذلك قاله أبو محمد ، قال : لأنه إذا لم يجز تكميل أحد نوعي المبدل من الآخر وهو الطعام أو الكسوة فتكميله بالمبدل أولى . ( قلت ) : وقد يقال بذلك كما في الغسل والوضوء مع التيمم ، فإنه لو وجد ماء يكفي لبعض طهارته لزمه استعماله ثم تيمم للباقي ، وأبو محمد استشعر هذا ، وأجاب عنه بأن التيمم لا يأتي ببعضه عن بعض الطهارة ، وإنما يأتي به بكماله ، قال : وها هنا لو أتى بالصيام جميعه أجزأه . قلت : وهذا الجواب فيه نظر ، فإنه وإن أتي به بكماله ، فإنه إنما يأتي به عن بعض الطهارة لا عن كلها ، ولهذا لو قدر على الماء لزمه غسل مابقي من بدنه ولا يلزمه غسل الجميع وإنما كان يأتي به بكماله ، لأنه التيمم ليس له إلا صفة واحدة ويرجح هذا أيضاً قول النبي : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
قال : ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى العتق أو الإِطعام إلا أن يشاء .
ش : هذا المذهب المجزم به عند عامة الأصحاب ، منهم أبو محمد في المغني ، لأنه بذل لا يبطل بالقدرة على المبدل ، فلم يلزمه الخروج إلى المبدل بعد الشروع فيه ، كالمتمتع العاجز عن الهدي إذا شرع في صوم السبعة الأيام ، فإنه لا يلزم منه الخروج اتفاقاً ، وفارق التيمم فإنه يبطل بالقدرة على الماء بعد فراغه منه ، وليس كذلك الصوم ، فإنه لا يبطل إذا قدر على العتق وأيضاً فإن الصوم يجري كل يوم منه مجرى عبادة منفردة ، بدليل افتقاره إلى نية ، وعدم تعدي فساده إلى ما قبله ، وليس كذلك الصلاة .
ولأبي محمد في المقنع احتمال أنه يلزمه الانتقال ، لقدرته على المبدل قبل إتمام البدل ، فأشبه المتيمم إذا قدر على الماء قبل إتمام الصلاة ، وقد تقدم الفرق .
وصريح كلامن الخرقي أن له أن ينتقل إلى العتق والإطعام إذا شاء ذلك ، لأنه إنما سقط عنه ذلك للرفق به ، فإذا أتى به أجزأه ، كالمريض الساقط عنه حضور الجمعة إذا حضرها ، وقد تقدم للخرقي في العبد أنه إذا أعتق لا يجزئه غير الصوم ، والفرق أن العبد ليس له أهلية التكفير بغير الصوم كما تقدم ، بخلاف الحر المعسر ، وخرج أبو الخطاب في الحر المعسر قولًا أنه كالعبد لا يجزئه غير الصوم ، نظراً إلى أنهما إنما خوطباً بالصوم ، ففعل غيره يكون عدولًا عماً وقع به الخطاب ، ويتلخص أن في العبد والحر والمعسر ثلاثة أقوال ( ثالثها ) للحر الانتقال بخلاف العبد ، وهو اختيار الخرقي .
( تنبيه ) قال الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما : فائدة هذه المسألة إذا قلنا : الاعتبار بأعلى الحالين ، أما إن قلنا بحال الوجوب فلا ، لأنه إذاً لو قدر على العتق قبل الشروع في الصوم لم يلزمه . ( قلت ) ومن هنا قالا : إن مذهب الخرقي أن الاعتبار بأعلى الحالين ، والذي يظهر أن الخرقي إنما نص على هذه المسألة للخلاف فيها . إذ مذهب الحنفية لزوم الانتقال والحال ما تقدم ، ومن هنا يقال : إنه لا مفهوم لقوله : ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج منه . والله سبحانه أعلم .
باب جامع الأيمان

ش : الأولى قراءة باب ، أي هذا باب جامع الأيمان ، لأن المقصود الحكم على أيمان مختلفة ، لا الحكم على من جمع أيمانا والله أعلم .
قال : ويرجع في الأيمان إلى النية .
ش : وذلك لما تقدم في المعاريض من حديث سويد بن حنظلة رضي الله عنه .
3731 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أقبل النبي وهو مردف أبا بكر ، وأبو بكر شيخ يعرف ، ورسول الله شاب لا يعرف ، قال فيلقى الرجل أبا بكر فيقول : يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك ؟ فيقول : هذا الرجل يهديني السبيل . فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق ؛ وإنما يعني سبيل الخير . رواه أحمد والبخاري .
3732 وفي حديث ركانة الذي في السنن أنه لما طلق امرأته ألبتة ، وقال للنبي : والله ما أردت إلا واحدة : فقال رسول الله : ( والله ما أردت إلا واحد ) : فقال رسول الله : ( والله ما أردت إلا واحدة ؟ ) فقال : والله ما أردت إلا واحدة . وأيضا قول النبي : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لامرئ ما نوى ) وأيضا فإن كلام الشارع ورد على لغة العرب ، ولا ريب أنه محمول على مراده الثابت بالدليل .
3733 كما في قوله تعالى : 19 ( { الذين قال لهم الناس } ) والمراد نعيم بن مسعود 19 ( { إن الناس قد جمعوا لكم } ) والمراد أبو سفيان وأصحابه ، وهو كثير لا يكاد يحصى ، فكذلك كلام غيره يحمل عغلى مراده ، إذا تقرر هذا فشرط الرجوع إلى النية احتمال اللفظ لها كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، أما إذا نوى باللفظ ما لا يحتمله أصلًا ، كأن حلف لا يكلم زيداً ، وأراد لا يدخل بيتا ونحو ذلك فهذه نية مجردة ، لا ارتباط لها باللفظ ، فوجودها كعدمها ، ثم النية تارة توافق ظاهر اللفظ ، كما إذا نوى بالعموم العموم ، وبالخصوص الخصوص ، وبالإطلاق الإطلاق ، ونحو ذلك ، فهذه مؤكدة للفظ ومقوية له ، كالشرط الموافق في العقد لمقتضاه ، وتارة تخالف ظاهره ، كأن يريد بعام خاصاً ، أو بمطلق مقيدا ، أو بخاص مثلا لا غيره ، أو ليعتقن عبدا ، ويريد عبدا بعينه ، أو لا يأوي مع امرأته في دارها مثلا ، ويريد جفاءها بترك اجتماعه معها في جميع الدور ونحو ذلك .
( تنبيه ) رجوع الحالف إلى نيته هو فيما بينه وبين الله تعالى ، بشرط احتمال اللفظ له كما تقدم ، وعدم ظلمه كما تقدم أيضاً ، أما عند الحاكم فإن قرب ما ادعاه أنه قصده من الظاهر سمع منه ، وإن بعد لم يسمع ، وإن توسط فروايتان ، والناظر الفهم في مظان ذلك لا يخفى عليه ما قلناه والله أعلم .
قال : فإن لم ينو شيئاً رجع إلى سبب اليمين وما هيجها .
ش : إذا لم ينو شيئاً لا ظاهر اللفظ ولا غير ظاهره كما تقدم رجع إلى سبب اليمين وما هيجها ، أي أثارها ، فإذا حلف مثلًا أن لا يأوي مع امرأته في هذا الدار وكان سبب يمينه غيظاً من جهة الدار ، لضرر لحقه من جيرانها ، أو منة حصلت عليه بها ونحو ذلك اختصت يمينه بها كما هو مقتضى اللفظ ، وإن كان لغيظ من المرأة يقتضي جفاءها ، ولا أثر للدار فيه ، تعدى ذلك اختصت يمينه بها ، كما هو مقتضى اللفظ ، وإن كان لغيظ من المرأة يقتضي جفاءها ، ولا أثر للدار فيه ، تعدى ذلك إلى كل دار ، المحلوف عليها بالنص ، وما عداها بعلة الجفاء التي اقتضاها السبب ، ( وكذلك ) إذا حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه ، أو لا يكلم زيداً لشربه الخمر مثلًا ، فزال الظلم ، وترك زيد شرب الخمر ، جاز له الدخول والكلام ، لزوال العلة المقتضية لليمين ، وذلك لأن السبب يدل على النية . لأنه الداعي للحالف على الحلف ، والداعي إلى الشيء تتعلق الإرادة به فيصير مراداً ، ولهذا لما قال الحطيئة يهجو بني عجلان :
ولا يظلمون الناس حبة خردل .
كان ذلك هجاء قبيحاً ، ولو قاله في مقام المدح كان مدحاً حسناً ، وما ذاك إلا لاختلاف المقام .
وكلام الخرقي يشمل ما إذا كان اللفظ خاصاً والسبب يقتضي التعميم كما مثلناه أولًا ، أو عاماً والسبب يقتضي التخصيص كما مثلناه ثانياً ، ولا نزاع بين الأصحاب فيما علمت في الرجوع إلى السبب المقتضي للتعميم لما تقدم ، واختلف في عكسه فقيل فيه وجهان ، وقيل روايتان ، وبالجملة فيه قولان أو ثلاثة ( أحدها ) وهو المعروف عن القاضي في التعليق . وفي غيره ، واختيار عامة أصحابه ، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما يؤخذ بعموم اللفظ وهو مقتضى نص أحمد في رجل حلف لا صدت من هذا النهر . وكان سبب يمينه ظلم السلطان فزال السلطان ، لم يصطد فيه ، وكذلك قال فيمن حلف لا يدخل بلداً لظلم رآه فيه فزال الظلم ، فقال : النذر يوفى به ، وقال أيضاً في رواية المروذي فيمن قالت له زوجته : قد تزوجت علي ، فقال : كل امرأة لي طالق ، فإن المخاطبة تطلق مع نسائه مع أن دلالة الحال تقتضي إخراجها ، إذا القصد إرضاؤها ، ووجه ذلك الاعتماد على ظاهر اللفظ وهو العموم ، والسبب لا ينافيه ولا معارضة بينهما ، وصار هذا كألفاظ الشارع العافة ، على المعرف عندنا وعند الأصوليين ، تحمل على مقتضاها من العموم ، ولا تخصص بأسبابها ، وبنى أبو الخطاب ذلك على ما إذا اجتمع التعيين والإضافة .
والقول الثاني وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد ، وحكي عن القاضي في موضع : يحمل اللفظ العام على السبب ، ويكون ذكر السبب مبنياً على أن العام أريد به خاص ، لما تقدم ، وأيضاً فإن السبب هو العلة المقتضية للحكم ، فيزول الحكم بزوالها ، وخرج عن ذلك ألفاظ الشارع ، فإن العلة في وجودها ليس السبب ، ثم المقصود في ألفاظ الشارع تقرير الحكم وتعميمه لجميع المكلفين وفي جميع الصور ، بخلاف غيره .
والقول الثالث : لا يقتضي التخصيص فيما إذا حلف لا يدخل البلد لظلم رآه فيه ، ويقتضي التخصيص فيما إذا دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى ، أو حلف لا يخرج عبده أو زوجته إلا بإذنه والحال يقتضي ما داما كذلك ، وقد أشار القاضي إلى هذا في التعليق ، فقال بعد ذكر صورة الغداء ، وفيما إذا تأهبت امرأته للخروج فقال : إن خرجت فأنت طالق : لا يعرف الرواية عن أصحابنا في هذا ، وقياس المذهب أن يمينه لا تقصر على الخروج الذي تأهبت له ، ولا على الغداء عنده ، لعموم اللفظ ، ولقول أحمد وذكر مسألة الصيد من النهر قال : وقيل تقصر يمينه على الغداء عنده ، وعاى الخروج الذي تأهبت له لأنه لا عموم لهذا اللفظ إذ قوله : إذا خرجت ، يقتضي خروجاً واحداً ، وكذلك : إن تغديت ، يقتضي غداءً واحداً ، فيختص ذلك الواحد المنكر بدلالة الحال .
تنبيهان ( أحدهما ) هذا الذي قاله الخرقي من تقديم النية على السبب هو الذي اعتمده عامة الأصحاب ، وعكس ذلك الشيرازي ، فقدم السبب على النية .
( الثاني ) إذا اختلف السبب والنية ، كأن تمن امرأته عليه بغزلها ، فحلف : لا لبست ثوباً من غزلها . وقصده اجتناب اللبس خاصة ، دون الانتفاع بالثمن ، قدمت النية على السبب وجهاً واحداً ، لموافقتها مقتضى اللفظ ، وإن قصد ثوباً واحداً فكذلك في ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد ، إذ السبب إنما اعتبر لدلالته على القصد ، فإذا خالف حقيقة القصد كان وجوده كعدمه ، وقدم القاضي والحال هذه السبب لموافقته العموم ، فيجتمع ظاهران على مخالفة النية ، قلت : وهذا متوجه في الحكم .
( الثالث ) بحث شهاب الدين القرافي بحثاً ملخصه الفرق بين النية المخصصة والمؤكدة ، وقال : إن أهل العصر لا يكادون يفرقون بينهما ، فالحالف إذا حلف لا يلبس ثوباً ونوى الكتان لا يحنثوه بغيره ، قال : وهو خطأ بالإجماع ، إذ العام إذا أريدت به أفراده حصل التحنيث بها في اللفظ والنية المؤكدة ، وإن لم ترد حنث باللفظ ، وإن نوى بعض الأفراد غافلاً عن البعض الآخر حنث في المنوى واللفظ والنية المؤكدة وفي البعض الآخر باللفظ أطلق العام ونوى إخراج بعض أفراده لم يحنث بالمخرج ، ثم بين ذلك بقاعدة ، وهي أن من شرط المخصص أن يكون منافياً للمخصص ومعارضاً له ، وقصد البعض مع الغفلة عن الباقي لا معارضة فيه ، ونظر ذلك ب ( اقتلوا الكفار ، اقتلوا اليهود ) فاقتلوا اليهود ، لا يعارض الأول ، بل يؤكد بعض أنواعه ، ولو قال : لا تقتلوا أهل الذمة . لخصص لحصول المنافاة ، ثم أورد على نفسه أن العلماء يستعملون العام في الخاص وهو ما تقدم ، وأنه لو قال : لا لبست ثوباً كتاناً . اختصت يمينه بالكتان ، وأجاب عن الأول بأن معنى قولهم ، إطلاق اللفظ ، وإخراج بعض مسمياته عن الحكم المسند للعموم ، لا قصد بعض العموم ، وعن الثاني بأن المستقل إذا لحقه غير مستقل صيره غير مستقل ، والصفة هنا وهي ( كتاناً ) لا تستقل ، فإذا لحقت مستقلًا وهو الموصوف قبلها صيرته غير مستقل فأبطلت عمومه ، وأورد على هذا لم لا تجعل الصفة لفظ له مفهوم مخالفة ، وهو دلالته على العدم عن غير المذكور ، والمفهوم من دلالة الالتزام ، والنية لا دلالة لها ، لا مطابقة ولا تضمناً ولا التزاماً ، لأنها من المعاني والمعاني مدلولات ، فليس فيها ما يقتضي إخراج غير المنوي ، فبقي الحكم للعموم ، وهذا البحث الذي قاله حسن ، إلا أن ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يخالفه ، والظاهر أن مثل هذا من باب إطلاق العام وإرادة الخاص ، وقوله : إن معنى ذلك إطلاق اللفظ وإخراج بعض مسمياته ؛ منازع فيه ، بل هو إطلاق العام مريداً لخاص ، كإطلاق الثوب مريداً به الكتان ، وقد وقع للقاضي من أصحابنا أن اللفظ في نفسه لا يتصف بعموم ولا خصوص إلا بقصد المتكلم ، فإذا قال الحالف : لا لبست ثوباً . يقصد الكتان ، فقصده لا يتناول غير الكتان ، فلا يحنث إلا به ، وقد حكى القاضي عبد الوهاب وناهيك به أن العموم هل يقصر على مقصوده ، أو يحمل على عموم لفظه ؟ على قولين لأصحابه وغيرهم ، ونصر قصره ، وهذا هو هذه المسألة بعينها والله أعلم .
قال : ولو حلف لا يسكن داراً هو ساكنها خرج من وقته ، فإن تخلف عن الخروج حنث .
ش : لأن يمينه اقتضت المنع من السكنى ، فمتى تأخر عن الخروج حنث ، لأنه يصدق عليه أنه ساكن ، ( وظاهر ) إطلاق الخري يقتضي أنه لو أقام لنقل متاعه وأهله ، أو لخوف من الخروج ، ونحو ذلك أنه يحنث ، والمعروف خلاف هذا ، إذ الانتقال عرفا إنما يكون بالأهل والمال وعلى وجه يمكنه ، فهو غير داخل في اليمن ، ( وظاهر ) إطلاقه أيضاً أنه لو خرج دون أهله ومتاعه أنه لا يحنث ، والمعروف حنثه أيضاً في الجملة ، اعتماداً على العرف كما تقدم ، إذ العرف أن السكنى تكون بالأهل والمال ، ألا ترى أنه يقال : فلان ساكن في كذا . وهو غائب عنه ، وفرق أبو محمد في المغني ، فحنثه بالأهل دون المتاع ، واتفق هو والأصحاب فيما علمت أنه لو أودع متاعه أو أعاره ، أو أزال ملكه عنه ، أو أبت امرأته من الخروج ولم يمكنه إكراهها أنه لا يحنث بالخروج وحده .
( تنبيه ) هذا مع عدم النية والسبب ، أما مع وجود أحدهما فالاعتماد عليه كما تقدم ، وكذلك في كل صورة تأتي والله أعلم .
قال : ولو حلف لا يدخل داراً فحمل وأدخلها ولم يمكنه الامتناع لم يحنث .
ش : لأن الفعل غير منسوب إليه ولا موجود منه ، وخرج من كلامه ما إذا دخلها من غير حمل فإنه يحنث مطلقاً ، حتى لو دخلها في ماء أو من ظهرها ، لوجود المحلوف عليه ، نعم يستثنى من ذلك ما إذا دخلها ناسياً على المذهب ، إلا في الطلاق والعتاق ، أو مكرهاً على أشهر الروايتين ، وخرج التفرقة بين الطلاق والعتاق وغيرهما وخرج أيضاً ما إذا أمكنه الامتناع ولم يمتنع فإنه يحنث ، وهو أحد الوجهين ، واختيار أبي محمد ، لأن له نوع اختيار ، أشبه ما لو كان الدخول بأمره ( الوجه الثاني ) وحكي عن القاضي لا يحنث ، لأن الفعل منسوب إلى غيره ، وحيث لم نحنثه بالدخول ففي حنثه بالاستدامة وجهان ، والله أعلم .
قال : ولو حلف لا يدخل داراً فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئاً منه حنث .
ش : إذا حلف لا يفعل شيئاً ففعل بعضه كما إذا حلف لا يأكل هذا الرغيف ، أو لا يشرب ماء هذا الإناء ، فأكل أو شرب بعضهما ففيه روايتان مشهورتان ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي والقاضي وغيره وأبي بكر ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا ، وابن عقيل في التذكرة ، وغيرهم يحنث بفعل البعض ، لأنه منع نفسه من فعل المحلوف عليه ، فوجب أن يمتنع من كل جزء منه كالنهي والجامع المنع فيهما .
ودليل الأصل قول النبي : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) ، وقد رد هذا بأن النهي عن الشيء ليس نهياً عن أجزائه ، كالنهي عن خمس ركعات في الظهر ، نعم النهي عن الشيء نهي عن أجزائه ، كالنهي عن الحرير ، نهي عن الأسود والأبيض منه ، فالقياس على النهي غير صحيح ، ( والرواية الثانية ) واختارها أبو الخطاب فيما قاله أبو محمد لا يحنث إلا بفعل الجميع .
3734 لأن النبي كان يخرج رأسه إلى عائشة رضي الله عنها وهو معتكف فتغسله وهي حائض ، والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد .
3735 ويروى أنه قال لأبي بن كعب : ( لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة من القرآن ) فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها ، ولأن اليمين تناولت الجميع فلم يحنث بالبعض كالإثبات ، وبهذا استدل 16 ( أحمد ) فقال : الكل لا يكون بعضاً ، والبعض لا يكون كلا ، وقد يجاب عن هذا بأن الاعتكاف عبارة عن ملازمة المسجد للطاعة ، ومن أخرج بعضه يصدق عليه أنه ملازم للمسجد ، لا أنه مفارق له ، على أن هذه واقعة عين ، فيحتمل أن الرسول استثنى هذا القدر ، وهذا هو الجواب عن قصة أبي بن كعب إذ هي واقعة عين ، فيحتمل أن الرسول ترك ذلك ناسياً ، ولعله الظاهر ، فلما ذكر حين خرج استدرك فعلمه في الحال .
إذا تقرر هذا ( فمن صور ) الخلاف إذا حلف لا يلبس ثوباً من غزلها أو نسجها أو شرائها فلبس ثوباً شوركت في غزله أو نسجه أو شرائه ، أو لا يبيع أمته أو لا يهبها فباع بعضها ووهب بعضها ، وما أشبه ذلك ، واختلف الأصحاب فيما إذا قال : لا ألبس من غزلها ، فلبس ثوباً فيه منه ، فقال القاضي و أبو الخطاب في الهداية : إنه على الروايتين ، لأن المعنى لا ألبس ثوباً من غزلها لأن الغزل لا يلبس بمفرده ، واختار الشيخان تحنيثه على الروايتين ، لأنه يصدق أنه لبس من غزلها ، ( ومن صور ) المسألة عند الأكثرين والقاضي وغيره مسألة الخرقي ، وهو ما إذا حلف لا يدخل داراً فأدخلها بعض جسده ، يده أو رجله ونحو ذلك ، لأنه منع نفسه من الدخول ، وإذا تساويا معنى حكماً ، كمنع نفسه من أكل الرغيف مثلًا ، ولا ريب أن المسألة يها روايتان منصوصتان ، والأكثرون على التحنيث كالمسألة السابقة ، تسوية بينهما ، وأبو بكر وأبو الخطاب في الهداية اختارا عدم التحنيث ، بخلاف المسألة السابقة ، فإن أبا بكر يختار فيها الحنث كالجماعة ، وكأن الفرق أن الحالف لا يدخل داراً إذا أدخلها بعض جسده لا يصدق عليه أنه دخل ، وإنما أدخل يده أو رجله مثلًا ، فلا يكون مخالفاً ليمينه .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) محل الخلاف كما تقدم في اليمين المطلقة ، أما إن نوى الجميع أو البعض اعتمدت نيته ، وكذلك إذا قامت قرينة تقتضي أحد الأمرين كما إذا حلف لا يشرب النهر ، أو : لا أكلت الخبز ، أو لا كلمت المشركين ، أو لا أهنت الفقراء . ونحو ذلك ، فإن يمينه تتعلق ببعض ذلك وجهاً واحداً ، وعكس هذا إذا حلف لا يصوم يوماً ، أو لا يصلي صلاة ، أو علق طلاق امرأته على وجود حيضة ونحو ذلك ، فإن يمينه تتعلق بالجميع .
( الثاني ) مما مثل به أبو محمد في الكافي ، وابن عقيل في التذكرة للمسألة : إذا حلف لا يأكل رغيفاً فأكل بعضه ، وترجمها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما : إذا حلف لا يفعل شيئاً ففعل بعضه ، وظاهر هذا أنه لا فرق بين أن تكون اليمين على شيء معين أو مبهم ، والله أعلم .
قال : ولو حلف أن يدخل لم يبر حتى يدخل جميعه .
ش : لا نزاع في هذا فيما نعلمه ، إذ اليمين تناولت فعل الجميع ، فلم يبر إلا به ، كما لو أمر بشيء فإنه لا يخرج عن عهدة الأمر إلا بفعل الجميع بلا ريب ، ومثل هذا إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف ونحوه ، فإنه لا يبر إلا بأكل جميعه والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يلبس ثوباً هو لابسه ، نزعه من وقته ، فإن لم يفعل حنث .
ش : أما نزعه من وقته فليمتثل ما حلف على تركه ، وأما تحنيثه إذا لم ينزع في الحال فلأن استدامة ذلك يسمى لبساً ، ولذلك يقال : لبست هذا الثوب شهراً ويرشح هذا منع الشارع من استدامة المخيط في الإحرام كابتدائه ، وحكم : لا يركب دابة هو راكبها كذلك ، بخلاف : لا يتزوج ، ولا يتطيب ، ولا يتطهر ، فإنه لا يحنث باستدامة ذلك على المذهب ، لأنه لا يقال : تزوج شهراً . إنما يقال : منذ شهر ، وكذلك في التطيب والتطهير ، وحنثه القاضي في كتاب إبطال الحيل ، والله أعلم .
قال : وإن حلف أن لا يأكل طعاماً اشتراه زيد ، فأكل طعاماً اشتراه زيد وبكر ، حنث إلا أن يكون أراد أن لا ينفرد أحدهما بالشراء .
ش : أما مع النية فواضح ، وأما مع عدمها فا ختلف الأصحاب في ذلك ، فعن بعضهم أنه خرجها على الروايتين في فعل بعض المحلوف عليه ، لأن الضمير في : اشتراه . يرجع إلى الطعام ، والطعام لم ينفرد زيد بشرائه ، إنما اشترياه معاً . واختار الشيخان أنه يحنث على الروايتين ، لأن زيداً مشتر لنصفه ، ونصفه طعام ، فوجب أن يحنث به لوجود المحلوف عليه ، كما لو انفرد زيد بشرائه ، وهذا مقتضى قول القاضي في جامعه ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن البنا وغيرهم ، فإنهم جزموا في هذه الصورة بالحنث ، مع حكايتهم الخلاف في الصورة السابقة ، وكذلك قطع هؤلاء بالحنث فيما إذا قال : لا آكل مما طبخه زيد ، أو لا ألبس ثوباً خاطه زيد ، أو لا أدخل داراً لزيد ، مع حكايتهم الخلاف في الأصل السابق ، ووافقهم أبو محمد في الأولى ، وخالفهم في اللتين بعدها ، فأجرى فيهما الخلاف ، والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يكلمهما أو لا يزورهما ، فكلم أو زار أحدهما حنث ، إلا أن يكون أراد أن لا يجتمع فعله بهما .
ش : أما إذا كانت له نية فلا إشكال في اعتمادها ، كما إذا قصد أن لا يجتمع فعله وهو الزيارة أو الكلام بأحدهما ، فإنه لا يحنث إلا بزيارتهما أو كلامهما ، ولو قصد ترك كلام أو زيارة كل منهما منفرداٍ حنث بكلام أو زيارة أحدهما ، وإن أطلق خرج على الروايتين في فعل بعض المحلوف عليه ، لأن الحالف على كلام شخصين أو زياراتهم إذا كلم أو زار أحدهما فعل بعض المحلوف عليه ، قال أبو محمد : ويمكن أن يقال : إن تقدير يمينه : لا كلمت هذا ، ولا كلمت هذا . لأن المعطوف يقدر له بعد حرف العطف فعل وعامل مثل العامل الذي قبل المعطوف عليه ، فيصير كقوله تعالى : 19 ( { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } ) أي وحرمت عليكم بناتكم ، وإذاً يصير كل واحد منهما محلوفاً عليه منفرداً ، كما لو صرح بذلك . قلت : هذا على القول الضعيف للنحاة من أنه يقدر للمعطوف عامل مثل عامل المعطوف عليه ، أما على القول المشهور من أن العامل فيهما واحد وهو الأول فلا يمشي ما قاله ، وحكم : لا آكل خبزاً ولحماً ونحو ذلك حكم ما تقدم ، أما : لا أدخل هاتين الدارين ، ولا أعصي الله في هذين البلدين ونحو ذلك ففيه الروايتان بلا ريب ، ولا يجري فيه تردد أبي محمد ، إذ لا عاطف ومعطوف ، أما إن كان تعليق على شيئين ، كأن قال لزوجته : إن كلمت زيداً وعمراً فأنت طالق ، أو قال لامرأتيه : إن حضتما فأنتما طالقتان . ونحو ذلك ، فعن بعض الأصحاب تخريجه على الخلاف ، واختار أبو محمد في المغني وهو احتمال له في الكافي أنه لا يحنث إلا بفعل الشيئين ، إذ المشروط لا يوجد إلا بتكامل مشروطه ، وجعل في الكافي مسألة : إن حضتما . مسألة اتفاق ، في أنه لا يحنث إلا بوجود الحيض منهما . والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يلبس ثوباً ، فاشترى به أو بثمنه ثوباً فلبسه حنث إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب ، وكذلك إن انتفع به أو بثمنه .
ش : هذه المسألة من فروع اعتبار سبب اليمين ، وأن الحكم قد يتعدى لغير الملفوظ به ، نظراً لسبب اليمين الجاري مجرى العلة الشرعية ، فإذا امتنت عليه زوجته بثوب ، فحلف أن لا يلبسه ، والباعث له على ذلك المنة ، فإن يمينه تتعدى سبب ذلك إلى غير الثوب ، فإذا اشترى به أو بثمنه ثوباً حنث ، وكذلك إن انتفع بثمنه ، لوجود المنة بالثوب ، إذ بدل الشيء يقوم مقامه ، وخرج ما إذا انتفع لها بثوب آخر ، لأن المعلوف عليه ثوب بعينه ، فتعلقت اليمين به .
وقول الخرقي : إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب . يحترز عما إذا لم يمتن عليه به ، ولا قصد هو أيضاً قطع منتها ، فإن يمينه تتعلق بلبسه خاصة ، اعتماداً على اللفظ المجرد .
قال : ولو حلف أن لا يأوي مع زوجته في دار ، فأوى معها في غيرها ، حنث إذا كان أراد بيمينه جفاء زوجته ، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه .
ش : هذا من فروع اعتبار النية ، فإذا حلف لا يأوي مع زوجته في دار عينها ، يقصد بذلك جفاءها ، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه ، فأوى معها في غيرها حنث ، لأن وجود الدار والحال هذه كعدمها ، لما اقتضته نيته من جفائها الموجود بالإيواء معها في كل دار ، وإن كان للدار سبب باعث على اليمين ، كأن امتن عليه بها ونحو ذلك ، لم يحنث بالإيواء معها في غيرها ، لعدم ما يقتضي التعدية إلى غيرها ، فصار ذلك كما لو عدمت النية والسبب ، فإن يمينه لا تتجاوز ما حلف عليه ، وهو الإيواء معها في تلك الدار .
( تنبيه ) معنى الأيواء المبيت والله أعلم .
قال : ولو حلف أن يضرب عبده في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث عليه .
ش : لأن اليمين على الغد ، وفي الغد لم يكن الحالف مكلفاً ، فلم يتعلق به حنث ، وكذلك لو جن في اليوم واستمر به ذلك إلى فوات الغد ، لما تقدم من خروجه عن التكليف في وقت اليمين . ( قلت ) : وهذا بخلاف ما لو أغمي عليه ، فإنه يحنث ، لبقاء التكليف ، أما لو ارتد فينبغي بناؤه على تكليف الكفار بالفروع ، والمذهب التكليف .
ومقتضى كلامه أنه لو مات الحالف في غد أنه يحنث ، وهو يشمل وإن لم يتمكن من ضربه ، وهو المذهب ، لأنه أدرك وقت الفعل وهو من أهل التكليف ، ويشهد لهذا من قاعدتنا أن الوجوب في الصلاة والزكاة ونحوهما يتعلق بأول الوقت ، . وإن لم يتمكن من الفعل ، وقيل : لا يحنث مطلقاً ، وقيل : إن تمكن من الضرب في الغد حنث ، وإن لم يتمكن فلا ، لأن الترك لم يكن باختياره فهو كالمكره ، وهذه الأقوال الثلاثة لم أرها مصرحاً بها في هذه المسألة بعينها ، لكنها تؤخذ من مجموع كلام أبي البركات وغيره .
ومقتضى كلام الخرقي أيضاً أنه لو لم يمت الحالف في اليوم لكنه مرض فيه أو نحو ذلك ، بحيث تعذر عليه الفعل في الغد أنه يحنث ، وهو كذلك والله أعلم .
قال : فإن مات العبد حنث .
ش : لا نزاع في هذا إذا كان موت العبد باختيار الحالف ، كما إذا قتله ، أما إن كان بغير اختياره فلا يخلو إما أن يكون قبل الغد أو فيه ، فإن كان قبل الغد ففيه قولان ، المذهب المنصوص منهما الحنث أيضاً ، كما قاله الخرقي ، لعدم المحلوف عليه في وقته ، أشبه ما لو ترك الضرب مع بقاء العبد لصعوبته عليه ، ونحو ذلك . ( والثاني ) : لا يحنث ، لأن عدم ضربه بغير فعل منه ، أشبه المكره .
وحيث حنث فهل يحنث في الحال وهو المذهب المنصوص لأن يمينه منعقدة وقد تحقق عدم الفعل ، فأشبه ما لو لم يوقت بوقت ، أو لا يحنث إلا إذا جاء الغد ، أو لا يحنث إلا في آخر الغد ؟ على ثلاثة أقوال ، وإن كان في الغد بعد التمكن من ضربه حنث ، وكذلك قبله على المذهب ، ثم هل يحنث عقب التلف ، أو في آخر اليوم ؟ فيه القولان السابقان والله أعلم .
قال : وإذا حلف أن لا يكلمه حيناً ، فكلمه قبل ستة أشهر حنث .
ش : الحين عند الإطلاق يحمل على ستة أشهر ، نص عليه أحمد والأصحاب ، فإذا حلف لا يكلمه حيناً ، وكلمه قبل ستة أشهر حنث ، لمخالفته لما حلف عليه ، وإن كلمه بعدها لم يحنث ، لأنه وفى بمقتضى يمينه ، وهو عدم كلامه حيناً ، وإنما قلنا : الحين عند الإطلاق ستة أشهر وإن كان الحين في أصل الوضع زمناً مبهماً ، يطلق على القليل والكثير لأن الله سبحانه أطلقه وفسر بذلك في قوله تعالى : 19 ( { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } ) .
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15