كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي
وفي هذه الأيام: رسم بعقوبة الأمير جكم خال العزيز في سجنه بالإسكندرية حتى يعترف. بمتحصل العزيز في أيام أبيه من إقطاعه ومن حماياته ومستأجراته، ومن الهدايا والتقادم التي كانت تأتيه، فأجابهم عن ذلك، ورسم بعقوبة الأمير يخشي بك بالسجن أيضًا، وذلك أنه لما كان في التجريدة ببلاد الصعيد أيام الأشرف، ضبط عليه أنه سب بعض من يدعي أنه شريفًا، فلما مات الأشرف، وأنزل بالأشرفية من القلعة كما تقدم أرادوا أن يدعوا على يخشي بك عند القاضي المالكي بأنه سب أبا الشريف ليريق دمه، فبادر حتى حكم قاضي شافعي بحقن دمه، فإطمأن لذلك فلم يتركوه بعد سجنه، وأرادوا قتله، فأوصلوا القضية بالمالكي، وسمع البينة عليه، فلم يمض قتله ثناء على أن هذه الدعوى هي التي حكم فيها بحقن دمه، ونازعه في ذلك قوم، وزعموا أن الدعوى التي حكم فيها بحقن دمه يخر هذه، وكثر الإختلاف في ذلك، وعقد فيه مجالس والغرض قتله، والحكم الشرعي بذلك، فلم يتجه، وتمادى الحال في ذلك عدة أشهر، ثم تحركوا لقتله، وإستمالوا بعض من تمشيخ وتمصلح من المالكية، حتى أفتي بقتله، وأريد من القاضي العمل بفتياه، فلم يتجاسر على الحكم بالقتل، وجرت أمور آخرها أن قيل يفوض الحكم لهذا المفتي حتى يحكم كما أفتي بقتله، فبكي لما قيل له ذلك، ولم يقدم عليه، فلما وقع اليأس من قتله بيد قضاة الشرع، رسم بعقوبته حتى يعترف بماله من الأموال، فعوقب أشد عقوبة، بحيث لم يبق إلا إرهاق نفسه.
وفي يوم الأحد ثاني عشره: كتب بقتل أينال الجكمى بسجنه من قلعة دمشق بعد تقريره على أمواله وذخائره، وبقتل جماعه ممن قبض عليه في الوقعة.
وفي ثالث عشره: خلع على الأمير سودون المغربي، وأعيد إلى ولاية دمياط عوضًا عن محمد الصغير. وفيه ورد الخبر بأن الفأر مكثر بأراضي الزراعات، وأن في ناحية البهنسى كانت للفيران حرب شهدها الناس، وقد إجتمع من الفيران عدد عظيم، إقتتلوا قتالاً كبيرًا، ثم تفرقوا، فوجدوا في معتركهم من الفيران شيء كثير ما بين مقتول ومجروح ومقطوع بعض الأعضاء وأنه بلغهم أن ذلك كان بين الفيران في موضع آخر. وعندي أن هذا منذر بحادث ينتظر.
وفي يوم الأحد تاسع عشره: وصل محمد بن الأمير قنصوه، فعفي عنه بشفاعات وقعت فيه.
وقدم الخبر بأن العساكر توجهت من دمشق في حادي عشره إلى حلب، بعد أن عاد الأمير طوغان نائب القدس إليها، وتأخر الأمير أقبغا التَمرازي نائب الشام بدمشق، وأن المتوجه إلى حلب الأمير جلبان نائب حلب، والأمير أينال نائب صفد، والأمير طوخ نائب غزة، والأمير قراقجا الحسنى، والأمير تمرباي، والمماليك السلطانية، وأنه قبض بدمشق على الأمير طرعلي الدكري، وشنق بها، وأن تغري برمش نزل على حلب وصحبته الأمير طرعلي بن سقل سيز، والأمير على بار بن أينال بجمائعهما من التركمان، والأمير غادر بن نعير بعربه من آل مهنا، والأمير فرج وأخيه إبراهيم ولدي صوجي، والأمير محمود بن الدكري بجمائعهم من التركمان وعدة الجميع نحو ثلاثة آلاف فارس، في يوم الإثنين حادي عشرين شوال، وأن تغرى برمش خيم بالجوهري وبعث عدة كبيرة إلى خارج باب المقام، فخرج إليهم الأمير برد بك نائب حماة، ومعه جماعة من أمراء حلب، ومن تركمان الطاعة، ومن العامة، فكانت بينهم وقعة قتل فيها وجرح جماعة من الفريقين، وعاد كل منهما إلى موضعه، ثم إلتقي الجمعان في يوم الجمعة خامس عشرينه على باب النيرب وإقتتلوا يومًا وليلة قتالاً شديدًا، قتل فيه عدة من الناس، وجرح نائب حماة وطائفة من أمراء حلب وجمع كبير من العامة، ورجع كل فريق إلى موضعه، فرحل تغرى برمش في يوم الأحد سابع عشرينه من موضعه، ونزل بالميدان، والحرب مستمرة، والعامة تبذل جهدها في قتاله إلى أن كان يوم الخميس ثاني ذي القعدة أحضر تغرى برمش آلات الحرب في مكاحل النفط ، والجنويات والسلالم إلى خارج باب الفرج ونصب صيوانه تجاه السور، وزحف زحفًا قويًا.
وأهل حلب يدًا واحدة على محاربته طول ذلك النهار مع ليلة الجمعة بطولها، والناس يتضرعون ويدعون اللّه تعالى، فرحل تغرى برمش في يوم الجمعة، وعاد إلى الميدان بعدما كانت القضاة وشيوخ العلم والصلاح وقوفًا بالمصاحف والربعات على رؤوسهم، وهم ينادون من فوق الأسوار " الغزاة معاشر الناس في العدو، فإنه من قتل منكم كان في الجنة، ومن قتل من العدو صار إلى النار " في كلام كثير يحرضون به العامة على القتال، ويقوون عزائمهم على الثبات، إلى أن رحل تغرى برمش بمن معه من الميدان إلى الجهة الشمالية، في يوم الأحد خامسه، بعدما رعت مواشيهم زروع الناس وبساتينهم وكرومهم وقطعوا ونهبوا القرى التي حول المدينة، وخربوا غالب العمارات التي هي خارج السور وقطعوا القناة التي تعبر المدينة من ثلاثة أماكن وكان أشد الناس قتالاً أهل بانقوسا والحوارنة، فحرق العدو أسواق بانقوسا وبيوتها، وفتحوا جباب الغلال وغيرها، ونهبوها، فداخل الناس من الخوف والرعب ما لا يوصف وطلب الأعيان بحرمهم وأموالهم إلى القلعة، وقطع تغرى برمش أيدي جماعة كثيرة من عامة حلب، وبالغ في الإضرار بالناس، فكانت هذه النوبة من شنائع الحوادث، وللّه عاقبة الأمور.
وفي يوم الخمس ثالث عشرينه: خلع على علاء الدين علي بن يوسف المعروف بالناسخ قاضي المالكية بحلب، وإستقر في قضاء المالكية بدمشق عوضًا عن محيى الدين يحيى بن حسن بن محمد الحيحاني المغربي بعد موته، وإستقر شرف الدين يعقوب بن يوسف على المكناسي المغربي أحد نواب الحكم بالقاهرة في قضاء المالكية بحلب عوضًا عن علاء الدين الناسخ.
وفي يوم الخميس المبارك خامس عشرينه: دقت البشائر لورود الخبر بأن العساكر لما سارت من دمشق في حادي عشره كما تقدم ذكره لقيهم تغرى برمش قريبًا من حماة في جموعه التي كانت معه على حلب، فلقوه في يوم الجمعة سابع عشره وقاتلوه، وكانت بينهم وقعة كبيرة، قتل فيها وجرح خلق كثير فإنهزم بمن معه، وحازت العساكر منهم غنائم لا تحصى، منها مائتي ألف رأس من الغنم، سوى ما تمزق، وهو قريب من ذلك.
وفي يوم الإثنين سابع عشرينه: قدم النجاب برأس الأمير أينال الجكمى، فشهرت على رمح، ثم علقت على باب زويلة، وكان قتله في ليلة الإثنين ثاني عشرينه، بعدما قرر على أمواله، ونودي عليه هذا جزاء من حارب اللّه ورسوله، وقتل معه بقلعة دمشق الأمير تنم العلاي.
وفي هذه الأيام: بعث السلطان إلى قاضي القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني بألف دينار ذهبًا، فإنه كان قدم له كتبًا وغيرها قبل ذلك. وفيها حكم بقتل الأمير يخشي بك، وقد تَقدم أنه أدعي عليه أنه سب شريفاً، ولعن والديه، فالتجأ إلى قاضي القضاة الشافعي، فحكم بعض نوابه بحقن دمه، وسكن الحال مدة أشهر، ثم تحركوا عليه بعد سجنه، وراودوا القاضي المالكي على قتله، فإحتج بحكم الشافعي بحقن دمه، فعورض بأن المطلوب الآن من الدعوى عليه غير المحكوم فيه بحقن الدم، فصمم على أنهما قضية واحدة، ووافقه غير واحد من المالكية على ذلك، فسكنت الثائرة مدة، ثم تحركوا لإراقة دمه، وأفتي بقتله بعض المالكية، ممن يظهر للناس نسكًا على وظيفة وعد بولايتها، وأرادوا قاضي القضاة المالكي أن يحكم بمقتضى الفتوى فإمتنع، فعرضت على غير واحد من نواب المالكي، فلم يقدم أحد على الحكم، وكان منهم واحد لم يوله القاضي نيابة الحكم، وأقام مدة بطالاً، فأذن له السلطان في الحكم فأقدم على ما أحجم عنه غيره، وحكم بقتل يخشي بك.
وفي يوم الخميس سلخه: خلع على ناصر الدين محمد ابن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبى الفرج، وإستقر نقيب الجيش، عوضاً عن ناصر الدين محمد ابن أمير طبر.
شهر ذي الحجة الحرام، أوله الجمعة: فيه دقت البشائر بقلعة الجبل لورود خبر من غزة بأن التركمان الصوجية قبضوا على تغرى برمش، وعلى طرعلي بن سقل سيز.
وفي يوم الأحد ثالثه: وردت مطالعة الأمير جلبان نائب حلب، وقرينها مطالعات بقية النواب، وأمراء العساكر، تتضمن أن تغرى برمش لما إنهزم على حماة مضي نحو الجبل الأقرع، وقد فارقه الغادر بن نعير، فقبض عليه أحمد وقاسم ولدي صوجي، وقبضا معه على دواداره كمشبغا، وعلى خازنداره يونس، وعلى الأمير طرعلي بن سقل سيز، والأمير صارم الدين إبراهيم بن الهذباني نائب قلعة صهيون ، وكتبوا بذلك إلى نائب حلب، فورد الخبر على العسكر وهم على خان طومان في يوم الإثنين من ذي القعدة، فجهز الأمير جلبان عند ذلك الأمير برد بك العجمي نائب حماة، والأمير أينال الأجرود نائب صفد، والأمير طوخ مازي نائب غزة، والأمير قطج أتابك حلب، والأمير سودون النوروزي حاجب الحجاب بحلب، بإخطار المذكورين ورحل بمن بقي معه يريد حلب، فدخلها في يوم الثلاثاء حادي عشرينه وتسلم نائب حماة ومن معه من النواب تغرى برمش ومن قبض عليه معه، وأتوا بهم، فسمر طرعلي بن سقل سيز تسمير سلامة، وسمر الهذباني ورفيقه تسمير العطب وساروا بهم، وتغرى برمش راكب في الحديد، حتى دخلوا مدينة حلب، وهو ينادي عليهم في يوم الخميس ثالث عشرينه، وقد إجتمع من الناس عدد لا ينحصر، حتى أوقفهم تحت القلعة ، ثم وسط الهذباني ورفيقه، وتسلم نائب القلعة تغرى برمش وطرعلي بن سقل سيز، وتسلم كمشبغا ويونس الأمير قراقجا الحسني، فدقت البشائر بقلعة الجبل لورود هذا الخبر، وكتب بقتل تغرى برمش وطرعلي.
وفي يوم الأربعاء: جهز رجلان من موقعي الحكم بالقاهرة، وعلى يدَهما الحكم بقتل يخشي بك. ودفع لهما ثلاثون دينارًا، فمضيا إلى الإسكندرية، وأوصلا الحكم بقاضيها، فاستدعي يخشي بك من السجن، وضربت عنقه بعد صلاة الجمعة ثامنه، في جمع عظيم وافر لرؤيته، وحسابه وحسابهم على الله، الذي يوفي كل عامل عمله.
وفي يوم الأحد سابع عشره: إبتدأ قاضي القضاة علم الدين صالح في عمل الميعاد بين يدي السلطان. وفيه قتل تغرى برمش بقلعة حلب بعدما عوقب على أمواله، فظفر منها بخمسين ألف دينار عينًا، وقتل معه طرعلي بن سقل سيز.
وفي يوم الأربعاء عشرينه: قبض على سودون المغربي متولي دمياط، وحمل مقيدًا حتى سجن بالإسكندرية. ورسم أن يعطي المسفر به مائة ألف درهم.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه: خلع على ناصر الدين محمد بن شهاب الدين أحمد ابن سلام، وإستقر في ولاية دمياط، عوضًا عن سودون المغربي.
وفي يوم الخميس ثامن عشرينه: قبض على عظيم الدولة زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، وعلى ولده أبى بكر، وعلى زوجته شكربيه، وعلى دواداره أرغرن، وعلى مباشره شرف الدين موسى بن البرهان، في عدة من ألزامه. وقبض معه على الأمير جانبك أستادار، وأحيط بدورهما.
وأخذت خيولهما فكانت زيادة على سبعين فرساً، وأخذت بغالهما وجمالهما، وكتب بإيقاع الحوطة على ماله بالشام والإسكندرية والحجاز، من مال والبضائع، فكان بسبب ذلك إنزعاج في الناس بالقاهرة.
وفي يوم السبت سلخه: خلع على شيخ الشيوخ محب الدين محمد بن الأشقر وإستقر في نظر الجيش، عوضًا عن عبد الباسط، وخلع على الأمير ناصر الدين محمد بن أبى الفرج نقيب الجيش، وإستقر أستادازا، عوضًا عن جانبك الزيني عبد الباسط .
وفيه قدم رأس تغرى برمش، فطيف به على رمح، ثم علق بباب زويلة فتوالى على السلطان في مدة أيام يسيرة الظفر بالملك العزيز، وبالمماليك الأشرفية الذين قاموا مع العزيز بالصعيد، وبأينال الجكمى نائب الشام، وبتغرى برمش نائب حلب، وهذا من النوادر الغريبة، وللّه عاقبة الأمور. فكانت هذه السنة ذات حوادث عظيمة، زالت فيها نعم خلائق بمصر والشام، فذلوا بعد عزهم، وأهينوا بعد تعاظمهم، جزاء بما كسبت أيديهم " ومَا ربك بظَلامَ لِلْعَبِيد " .
ووقع في هذه السنة بعدن وغيرها من بلاد اليمن وباء هلك فيه خلق كثير. وفيها جمع الإمام صلاح بن محمد الناس بصعدة ليحارب قاسم بن سنقر المتولي على صنعاء، فخافه ابن سنقر، وكتب إلى الظاهر عبد اللّه صاحب زبيد وتعز، يستنجده ليملكه صنعاء فبعث إليه عسكرا وصل إلى ذمار على مرحلتين من صنعاء، فبلغهم أن الظاهر أشرف على الموت فعادوا، فإذا هو قد مات، وصلاح هذا يعرف بالهدوي نسبة إلى الهادي من أئمتهم .
ومات في هذه السنة من الأعيان
محدث الشام شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن أبى بكر بن عبد اللّه بن محمد بن أحمد بن مجاهد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن علي، المعروف بإبن ناصر الدين القيسي الدمشقي الشافعي، في ثامن عشرين شهر ربيع الآخر بدمشق، ومولده في المحرم سنة سبع وسبعين وسبعمائة ، سمع على شيخنا أبو بكر بن المحب وغيره، وطلب الحديث، فصار حافظ بلاد الشام غير منازع، وصنف عدة مصنفات، و لم يخلف في الشام بعده مثله.
ومات الطواشي صفي الدين جوهر الحبشي الزمام. وأصله من خدام الأمير بهادر المشرف، قدم به من مكة صغيرًا، وأعطاه لأخته زوجة الأمير جلبان الحاجب، فربى عندها، وأعتقته، ثم خدم الأمير برسباي الدقماقي، في أيام المؤيد شيخ وخرج معه لما ولي نيابة طرابلس، وخدمه لما سجن بقلعة المرقب.
وصار يكاتب الطواشي جوهر، وهو إذ ذاك في خدمة علم الدين داودَ بن الكويز ناظر الجيش، فيقضي له حوائجه إلى أن خلص برسباى، وعاد إلى القاهرة، صحبة الظاهر ططر، ثم تسلطن وتلقب بالملك الأشرف، فجعل جوهر هذا لالا ولده، فعرف بجوهر اللالا مدة، وإشتهر ذكره لتمكنه من السلطان، ورعي حق أخيه جوهر، فتحدث له مع السلطان حتى عمله خازندارًا وتعاضدًا وتعاونًا، ثم ولاه السلطان زمام الدار، فصار من جملة الأمراء الألوف حتى مات، فعظم في أيام ولده الملك العزيز، وصار هو المشار إليه إلي أن خلع، وقام في السلطنة الأمير الكبير جقمق، وتلقب بالملك الظاهر، قبض عليه وسجنه، ثم صادره على مال كبير، وهو مريض، حتى مات في يوم الأربعاء ثالث عشرين جمادي الأولي عن ستين سنة أو نحوها، وكان متدينا، يحب أهل الخير، ويحسن إليهم ويعتقدهم .
ومات الأمير قرقماس الشعباني، وأصله من مماليك الظاهر برقوق، إشتراه صغرًا وأعطاه لولده الأمير فرج، فلما تسلطن بعد أبيه، وتلفب بالملك الناصر، رقاه في خدمته، ثم خدم بعده المؤيد شيخ، وصار دوادارا، ثم أمير مائة في أيام الأشرف، وعظم في إيامه، وولاه حاجب الحاجب ، ثم ولاه نيابة حلب مدة، وأقدمه منها إلى ديار مصر، وعمله أمير سلاح، وأخرجه إلى التجريدة، وعمله مقدم العسكر، فسار وأخذ أرزنكان وغيرها فمات الأشرف وهو في التجريدة، فقدم بعد موته، وبالغ في خلع الملك العزيز يوسف بن الأشرف، برسباي، فلما خلع وتسلطن الملك الظاهر جقمق، ركب عليه وقاتله، فلم يثبت وفر، فقبض عليه، وسجن بالإسكندرية، ثم ضربت عنقه بها في يوم الإثنين ثاني شهر جمادي الآخرة، وقد بلغ الخمسين أو تجاوزها وكان يوصف بعفة عن القاذورات المحرمة، وبمعرفة، وخبرة، وفروسية، وشجاعة، إلا أنه أفسد أمره بزهوه وتعاظمه، وفرط رقاعته، وشدة إعجابه بنفسه، وإحتقار الناس، والمبالغة في العقوبة، وقلة الرحمة، لا جرم أن اللّه تعالى عامله في محنته من جنس أعماله " وَلا يَظْلِمُ ربكَ أَحَدَاً " ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان البساطي المالكي. قدم من الريف وطلب العلم، وعرف بعلوم العجم في المنطق ونحوه. وعاش دهراً في بؤس وقلة، بحيث أخبرني أنه ينام على قش القصب، ثم تحرك له الحظ فولاه الأمير جمال الدين يوسف أستادار تدريس المالكية بمدرسته ، ثم ولى مشيخة التربة الناصرية فرج بالصحراء ، وإستنابه ابن عمه الجمال يوسف البساطي في الحكم مدة ثم عزله، فلما مات الجمال عبد اللّه الأقفهسي قاضي المالكية، ولي المؤيد شيخ البساطي صاحب الترجمة قضاء القضاة المالكية بديار مصر، رغبة في أنه فقير متعفف، فباشر ذك نحو عشرين سنة، حتى مات ليلة الجمعة ثالث عشر شهر رمضان. ومولده في محرم سنة ستين وسبعمائة، ولم يخلف بعده في المالكية مثله، فيما نعلم.
ومات علم الدين أحمد بن تاج الدين محمد بن علم الدين عمد بن كمال الدين محمد ابن قاضي القضاة علم الدين محمد بن أبى بكر بن عيسى بن بدران الأخناي المالكي، أحد نواب الحكم بالقاهرة في يوم الأربعاء خامس عشرين شهر رمضان. وكان فقيهًا حشمًا من بيت علم ورياسة ومات الشريف أحمد بن حسن بن عجلان، وقد فارق أخاه أمير مكة شرفها اللّه بركات بن حسن، وسار إلى اليمن، فمات بزبيد .
ومات محيى الدين يحيى بن حسن بن محمد الحيحاني المغربي المالكي، قاضي المالكية بدمشق، في يوم الأربعاء حادي عشر ذي القعدة، وكان عفيفًا في أحكامه مهابًا. ومات أبو عبد اللّه ابن الفقيه على بن أحمد بن عبد العزيز بن القسم العقيلي النويري المكي المالكي، قاضي المالكية بمكة شرفها اللّه تعالى في سابع عشر ذي القعدة بمكة، ومولده سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة بمكة، وهو من بيت علم ورياسة، وكان عفيفًا في قضائه، حشماً، جميل الهيئة، له مروءة وباشر حسبة مكة مدة .
ومات محمد ويعرف ببلبان شيخ كرك نوح قتله عامة دمشق وولده في يوم الجمعة ثالث ذي القعدة، وقتلوا معه من قومه جماعة كبيرة بغيًا وعدوانًا، وكان يتهم بأنه رافضي، ولذلك قتلوه، وكان صاحب همة عالية ومروءة غزيرة، وأفضال وكرم من حال واسعة ومال جم.
ومات الأمير أينال الجكمى، وأصله من مماليك الأمير جكم، وإنتقل بعده إلى الأمير شيخ المحمدي ، وهو صغير، فربي عنده ورقاه في خدمته لما تسلطن وعمله شاد الشرابخاناه، ثم صار بعد المؤيد شيخ من أمراء الألوف، وولاه الأشرف برسباي نيابة الشام، فمات وهو على نيابتها ، فلما خلع العزيز من برسباي، خرج عن طاعة السلطان الملك الظاهر جقمق ودعا بدمشق للملك العزيز، فبعث إليه السلطان العساكر فحاربته وهزمته، ثم قبض عليه وقتل بقلعة دمشق، في ليلة الاثنين ثاني ذي القعدة، وكان مشهوراً بالشجاعة، مشكور السيرة ، إلا أنه لم يسعده جده.
ومات الأمير يخشي بك، أصله من المماليك المؤيدية، وصار من الأشرفية فرقاه الأشرف برسباى حتى صار من أمراء الطبلخاناه وعمله أمير أخور ثانيًا، فلما مات الأشرف قبض عليه، وسجن بالإسكندرية، ثم ضرب عنقه في يوم الجمعة ثامن ذي الحجة، بحكم بعض نواب قاضي المالكية بقتله من أجل أنه سب والدي بعض الأشراف، وكان جبار ظالمًا شريرًا.
ومات الأمير تغرى برمش، وهو من أهل مدينة بهسني، واسمه حسين لم يمسه رق قط، وإنما قدم القاهرة وهو صبي، فحافظ بالأجرة في الخط المعروف بالمصنع تحت قلعة الجبل، عند بعض الخياطين في حانوت، وتسمى تغرى برمش، ثم خدم تبعًا عند قراسنقر من المماليك الظاهرية برقوق مدة طويلة، وخدم بعده بعض الأمراء وصار معه إلى حلب، ثم خدم جقمق، فلما صار دوادار المزيد شيخ، عمله دواداره إلى أن خرج لنيابة الشام، خرج معه، فلما مات المؤيد وقبض جقمق على الأمير برسباي الدقماقي وسجنه يريد قتله، قام تغرى برمش هذا في مدافعة جقمق عنه، ومنعه من قتله، حتى كان من سلطنة الأمير ططر ما كان، وقدم من دمشق وقد عمل الأمير برسباي دوادار السلطان، رعى لتغرى برمش حق مدافعة جقمق عن قتله، وقربه، فلما تسلطن رقاه وجعله من جملة أمراء مصر، ثم ولاه أمير أخور كبيراً، ومكنه من التصرف، وإعتمد عليه، ثم ولاه نيابة حلب، فمات الأشرف برسباي وتغرى برمش عليها، وخرج مع العساكر في التجريدة إلى أرزنكان، فإختلف مع الأمراء، وقدم حلب، فلما خلع العزيز بن برسباي خرج عن طاعة السلطان الملك الظاهر جقمق، فلم ينجح وقاتله أهل حلب وأخرجوه، ثم قاتلته عساكر السلطان وهزمته، ثم قبض عليه، وقتل بحلب في يوم الأحد سابع عشر ذي الحجة، بعد عقوبات شديدة، وقد أخرب في حروبه هذه حلب وما حولها، وأكثر من الفساد، وقتل العباد، وقتل معه الأمير طرعلي بن سقل سيز من أمراء التركمان.
ومات بالقاهرة الأمير حسام الدين حسن، في يوم الأحد ثالث عشرين ذي الحجة، وقد قدم من القدس وولى في الأيام الناصرية فرج وما بعدها عدة نيابات بغزة والقدس و غيرهما.
ومات ملك اليمن الملك الظاهر هزبر الدين عبد اللّه بن الأشرف إسماعيل بن على ابن داود بن يوسف بن عمر بن على بن رسول، يوم الخميس سلخ شهر رجب وله في الملك نحو إثنتي عشر سنة، وضعفت مملكة اليمن في أيامه لقلة مجابي أموالها، وإستيلاء العربان على أعمالها، وأقيم بعده ابنه الأشرف إسماعيل، وله من العمر نحو العشرين سنة، فأكثر من سفك الدماء، وأخذ الأموال، وغير ذلك من أنواع الفساد، فقتل برقوق القائم بدولتهم في عدة من الأتراك .
ومات باليمن الرئيس شرف الدين موسى بن نور الدين على بن جميع الصنعاني الأصل، العدني المولد والمنشأ، وقد جاوز الخمسين، وكان قد إستقر في منصب أخيه وجيه الدين عبد الرحمن، وختم به بيت ابن جميع. وكان حاذقًا عارفًا بالأمور، كثير الإستحضار للنوادر، حسن المعاشرة، بعيد الغور.
ومات بعدن أيضًا قاضيها الفقيه الفاضل الشافعي جمال الدين محمد بن سعيد بن كبن الطبري الأصل، العدني، في سابع شهر رمضان، وقد جاوز الستين. وكان فاضلاً في الفقه وغره حسن التأني، لين الجانب.
ومات بزبيد الفقيه الشافعي المفتي موفق الدين على بن محمد بن فخر، في شوال، ومولده سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وقد إنتهت إليه رياسة العلم والفتوى بزبيد.
ومات بزبيد الفقيه الحنفي الفاضل جمال الدين محمد بن على المعروف بالمطيب، في عشر رمضان. وهو في عشر السبعين. وقد إنتهت إليه رياسة الحنيفية بزبيد.
سنة ثلاثين وأربعين وثمانمائةشهر الله المحرم الحرام، أوله يوم الأحد: فيه أفرج عن زوجة القاضي زين الدين عبد الباسط، وعن أرغون دواداره.
وفيه حمل عبد الباسط الخزانة السلطانية ثلاثين ألف دينار ذهبًا، وأحيط له بخمسين ألف أردب من الغلة، وبمائة هجين فيها ما تبلغ قيمة الواحد منها آلاف، وبهار قيمته خمسون ألف دينار، وبعدة كثيرة من الجمال.
وفي ثانيه: خلع على ولى الدين محمد السفلي مفتي دار العدل، وأحد خواص السلطان، وإستقر في نظر الكسوة المحمولة إلى الكعبة المشرفة، عوضًا عن زين الدين عبد الباسط، مضافًا لما بيده من وكالة بيت المال، فإن شرط الواقف أن يكون وكيل بيت المال ناظر الكسوة.
وخلع على فتح الدين محمد بن أبى بكر بن أيوب المحرقي ، وإستقر في نظر الجوالي، عوضًا عن عبد الباسط. وكانت بيده قديمًا فأعيدت إليه.
وفي ثالثه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامة الحجاج، ورخاء الأسعار.
وفي خامسه: أفرج عن أبى بكر بن عبد الباسط، وعن شرف الدين موسى بن البرهان إبراهيم الكازروني مباشر ديوان عبد الباسط على مال يقوم به. هذا وعبد الباسط يورد المال شيئًا بعد شيء، والسلطان مصمم على أنه لا يقنع منه بأقل من ألف ألف دينار، ويتهدد بعقوبته، ويعدد له ذنوبًا يحقدها عليه.
وفي يوم الأحد ثامنه: أبتدأ بالنداء على النيل، وقد بلغت القاعدة وهي الماء القديم في القياس أربعة أذرع وعشرة أصابع، وأنه زاد ثلاثة أصابع.
وفي تاسعه: نقل الأمير جانبك الزيني أستادار من سجنه بقلعة الجبل إلى بيت الأمير تغرى بردى المؤذى الدوادار ليحاسبه عما في جهته للديوان المفرد، وألزم بحمل عشرة آلاف دينار، فلم يتأخر في القلعة سوى زين الدين عبد الباسط بمفرده في مقعد بالحوش من القلعة، وقد رسم عليه عدة من المماليك السلطانية، وأتباع تبيع أصناف أمواله وعقاره، وتورد أثمانها ذهبًا إلى الخزانة السلطانية.
وفي جمادي عشره: أفرج عن الأمير جانبك الزيني، ونزل من بيت الأمير تغري بردى الدوادار إلى بيته، وقد شطب عليه بمبلغ ألف ألف درهم وثلاثمائة ألف درهم، وجبت عليه لديوان، أكثرها تحامل عليه، فإنها بواق في جهات متسحبين وغير ذلك، مما لو أنصف لم تلزمه، وذلك سوى العشرة آلاف دينار التي ألم بها .
وفي رابع عشره: قدم القاضي معين الدين عبد اللطيف ابن القاضي شرف الدين أبى بكر كاتب السر بحلب، وحمل التقديمة في خامس عشره، ما بين ثياب حرير، وفرو سمور وثياب صوف، وثياب بعلبكي وخيل، وبغال، قومت بألف وخمسمائة دينار. وفيه رسم بنقل سودن المغربي من سجن الإسكندرية إلى القدس ليقيم به بطالاً، ورسم بسجن الخواجا شمس الدين محمد بن المزلق كبير تجار الشام في قلعة دمشق، حتى يحمل ثلاثين ألف دينار للخزانة السلطانية، وعشرة آلاف دينار للديوان الخاص، فقدم ولده وصالح عن ذلك بخمسة آلاف دينار للخزانة وألف دينار للخاص، وخلع عليه.
وفي ثاني عشرينة: قدم الركب الأول من الحاج ثم قدم محمل الحاج ببقية الحجاج في غده، وأخبروا برخاء الأسعار في بلاد الحجاز وأمنها من الفتن. وأن وميان أمير المدينة النبوية عزل بسليمان بن عزير، وأن جماعة من الحجاج لما قدموا المدينة الشريفة مضوا لزيارة البقيع فخرج عليهم عدة من العربان وقاتلوهم، فقتل ثلاثة نفر من المماليك المجردين .
وفي هذه الأيام: كثرت القالة بإختلاف أمراء الدولة والمماليك السلطانية، فنودي في يوم الخميس سادس عشرينه بألا يخرج أحد في الليل وأن يصلح الناس دروب الحارات ونحوها.
وفي سلخه: قدم الأمير يشبك من بلاد الصعيد بمن معه من الأمراء والمماليك المجردين، فخلع عليه، وإستقر أميرًا كبيرًا أتابك العساكر، وخلع على من قدم معه من الأمراء.
وفي هذا الشهر: وقع الصلح بين الفنش ملك أشبيلية وقرطبة وغيرهما من ممالك الفرنج، وبين محمد بن الأحمر ملك المسلمين بغرناطة من بلاد الأندلس، بعدما إمتدت الفتنة بين الفريقين عدة سنين، وللّه الحمد.
شهر صفر، أوله يوم الإثنين: فيه قدم الأمير قانبيه البهلوان أتابك العساكر بدمشق، فأكرم وخلع عليه لنيابة صفد، عوضًا عن الأمير أينال الأجرود المستقر في جملة أمراء الألوف بديار مصر، ورسم بإستقرار الأمير أينال الششمانى أحد أمراء الألوف بدمشق في الأتابكية بها، عوضًا عن الأمير قانبيه البهلوان.
وفي يوم الخميس رابعه: طبق السحاب أفاق السماء بالقاهرة وما حولها، ثم أمطرت مطرًا غزيرًا كثيرًا، فكان هذا مما يستغرب، فإن الزمان صيف، والشمس في برج الأسد، والنيل ينادي عليه، وقد بلغ نحو عشرة أذرع، ونحن في شهر أبيب أحد شهور القبط " وَلكِن الله يفعل مَا يُرِيد " .
وفي سادسه: قدم الأمراء المجردين إلى الشام بمن معهم من المماليك السلطانية فخلع على الأمير قراقجا الحسنى أمير أخربر، ونزل بباب السلسلة من القلعة، وعلى الأمير تمرباي رأس نوبة النوب .
وفي حادي عشره: نقل زين الدين عبد الباسط من المقعد بالحوش من القلعة إلى برج بها، وكانت حاله في مدة سجنه بالمقعد على أجمل ما عهد ممن نكب، فإنه أنزل بهذا المقعد وهو أحد المواضع المعدة لجلوس السلطان ورتب له في كل يوم سماط من أول النهار، وسماط في أخره يحمل إليه من المطبخ السلطاني، مع الحلوى والفاكهة، ولم يمنع أحد من التردد إليه، فكان أمراء الدولة ومباشروها وأعيان الناس وجميع أتباعه وألزامه لا يزالون يتناوبون مجلسه، ويكونون بين يديه، كما هي عادتهم في أيام دولته، بحيث لم يفقد مما كان عليه سوى الحركة والركوب، وهو مطلوب بألف ألف دينار، والسلطان مصمم على ذلك.
وقد توسط بينه وبين السلطان المقر الكمالى محمد بن البارزي كاتب السر، وراجع السلطان في أمره مرارًا وعبد الباسط يورد من أثمان ما يباع له من ثيابه وأثاثه وحلي نسائه وأمتعتهم ومن عقاراته، حتى وقف طلب السلطان بعد اللتيا والتي على أربعمائة ألف دينار، وأبى أن يضع عنه منها شيئًا، إلى أن كان يوم الخميس هذا، تحدث كاتب السر مع السلطان في الحططة من الأربعمائة ألف دينار، وأعانه عدة من أعيان الدولة في التلطف بالسلطان، وسؤاله في ذلك، فغضب، وأمر أن يخرج إلى البرج على حالة ردية، وأشار لبعض خواصه بالمضي لما رسم به، فأخرج في الحال من المقعد، لكن على حالة غير ردية، ومضوا به ماشيًا حتى سجنوه بالبرج، ورسم له أن يدفع إلى المرسمين عليه بالمقعد وهم ثمانية من خاصكية السلطان مبلغ ألفي دينار ومائتي دينار، فدفعها إليهم، وإذا بوالي القاهرة قد دخل عليه بالبرج، وأمره أن يخلع جميع ما عليه من الثياب، فإنه نقل للسلطان أن معه الاسم الأعظم، ولذلك كلما هم بعقوبته صرفه اللّه عن ذلك. فخلع جميع ما كان عليه من الثياب والعمامة، ومضى بها الوالي، وبما في أصابع يديه من الخواتيم، فواجد في عمامته قطعة أديم، ذكر لما سئل أنها من نعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ووجدت فيها أوراق بها أدعية ونحوها.
وفي يوم السبت ثالث عشره: وهو أَول مسرى نودي على النيل بزيادة خمسين إصبعًا، لتتمة أربعة عشره ذراعًا وإصبعين، وهذا المقدار مما يستكثر مثله في أول مسرى، ولله الحمده
وفي هذا الشهر: إرتفع سعر الغلال، فإرتفع سعر القمح من مائة وأربعين درهمًا الأردب إلى مائة وتسعين، والشعير من ثمانين درهمًا الأردب إلى مائة وخمسين، وبلغ القول نحو مائتي درهم الأردب، وشره الناس في خزن الغلال، ظنًا منهم أن أسعارها تعلو من أجل أن أكثر أراضي الزرع كانت شراقي، ومع ذلك فتولد من الفأر شيء عظيم أفسد في الزروع فسادًا كبيرًا، ووقعت ببلاد الصعيد فتن كبيرة، رعى فيها من الزروع ما شاء اللّه، فلذلك نقص متحصل غلال النواحي حتى أرجف المشنعون بوقوع الغلاء، ولهجوا بذكره، فأغاث اللّه العباد والبلاد، وأجرى النيل سريعًا غزيرًا، فضعفت قلوب خزان الغلال، وإطمأنت قلوب الكفاية، فإنكفوا عن كثرة الطلب لها " إن الله بالناسِ لرؤوف رَحِيْم " .
وفي هذا اليوم: قدم الأمير أينال الأجرود من صفد، والأمير طوغان نائب القدس، والأمير طوخ أتابك العسكر بغزة، وقد صار من جملة مقدمي الألوف بدمشق على تقدمة مغلبية الجقمقي، فخلع عليهم وأركبوا خيولاً بقماش ذهب، ونزلوا إلى دورهم. وفي هذه الأيام: ندب السلطان من جرف جميع الأتربة التي كانت بالرميلة تحت القلعة، ونقلها إلى الكيمان، وجرف الأتربة التي كانت بالصوة تحت القلعة إلى قريب مدرسة الأمير أيتمش بطرف التبانة.
وفي رابع عشره: رسم بإحضار من في سجن الإسكندرية، وهم جانم أمير أخور، وأينال البوبكرى ، وعلى باى الدوادار، وحكم، وبيبرس خالي العزيز وتنم ويشبك الدواداران، وتنبك القيسي، ويشبك الخاصكيان، وبيرم خجا أمير مشوي، وأزبك خجا رأس نوبة، وأن يترك الأمير قراجًا بالسجن، فسار الأمير أسنبغا الطيارى لذلك. وفيه توجه الأمير قانبيه البهلوان إلى محل كفالته بصفد بعد ما أنعم عليه بمال جزيل .
وفي يوم الخميس ثامن عشره: الموافق له سادس مسرى: نودي على النيل بزيادة عشر أصابع، فوفاه اللّه تعالى ستة عشر ذراعًا وإصبعين من سبعة عشره ذراعًا، وهذا أيضًا من النوادر في وقت الوفاء، فركب الأمير الكبير يشبك الأتابك حتى خلق المقياس بين يديه، ثم فتح الخليج على العادة.
وفي ثاني عشرينه: قدم الأمير أسنبغا الطيارى بمن معه من المسجونين بالإسكندرية إلى بلبيس، وكلهم في الحديد، وعدتهم أربعة عشر، فأفرج منهم عن بيرم خجا أمير مشوى، ونفي إلى طرابلس، وأخرج من البرج بقلعة الجبل رجلان أضيفا مع الثلاثة عشر، فصاروا خمسة عشر، فرسم أن يتوجه منهم سبعة نفر إلى قلعة صفد ليسجنوا بها، وهم: أينال، وعلى بيه، وتنبك القيسي، وأزبك حجا، وجرباش، وحزمان، وقانبيه اليوسفي، ومتسفرهم الأمير سمام ، وأن يتوجه ثلاثة منهم إلى قلعة الصبيبة ليسجنوا بها، وهم جانم أمير أخور، وبيبرس خال العزيز، ويشبك بشقشي ومتسفرهم، هم ومن يمضي إلى المرقب، وهم خمسة نفر: أزبك البواب، وجكم خال العزيز، وتنم الساقي، ويشبك الفقيه، وجانبك قلقسيز، والأمير أينال أخو قشتمر، فساروا في حالة سيئة " ولا يظلم ربك أحدًا " .
وفي سابع عشرينه: قدم الأمير طوخ مازى نائب غزة فخلع عليه، وأنزل في بيته.
وفي تاسع عشرينه: نقل زين الدين عبد الباسط من البرج إلى موضع يشرف على باب القلعة، ووعد بخير بعد ما كان يوعد بالعقوبة.
وفي سلخه وهو ثامن عشر مسرى: نودي بزيادة ثلاثة أصابع لتتمة عشرة ذراعًا وإصبعين من عشرين، وهذا مقدار يندر وقوع مثله في ثامن عشر مسرى ولله الحمد.
شهر ربيع الأول ، أوله يوم الأربعاء: في سادسه: خلع على الأمير طوخ مازى، وتوجه عائدًا إلى محل كفالته بغزة. وقد أنعم عليه، وأكرم.
وفي عاشره: نودي بتجهيز الناس للسفر إلى مكة شرفها اللّه في شهر رجب، فسر النار بذلك وأخذوا في أسباب السفر. وفيه توجه الكاشف عمد الصغير ومعه جماعة لأخذ سواكن بعد ما أنفق فيهم.
وفي ليلة السبت حادي عشره: أخرج بالعزيز يوسف من محبسه بالقلعة، وأركب فرساً، وقد وكل به جماعة، حتى أنزل في الحراقة، ومضوا به إلى الإسكندرية، ومعه جانبك القرماني أحد أمراء العشرات ليودعه بالبرج، محتفظًا به، ورسم أن يصرف له من مال أوقاف الأشرف ألف دينار، وحمل مع العزيز ثلاث جوارى لخدمته، وجهز من أوقافه بما لابد منه بحسب الحال، ورتب له في كل يوم ألف درهم من أوقافه، وخرج عدة من جوارى أبيه يبكين، وعدن بعد إنحداره في النيل، فجمعن من رفاقهن وصواحباتهن كثيرًا، وعملن عزاء في تربة الأشرف برسباي ، وتربة جلبان أم العزيز.
وفي جمادى عشره: خلع على شمس الدين أبى المنصور نصر الله كاتب اللالا، وإستقر في نظر الإصطبل، عوضًا عن زين الدين يحيى قريب بن أبى الفرج .
وفي يوم الأحد ثاني عشره: عمل المولد النبوي بين يدي السلطان بالحوش من القلعة.
وفي سابع عشره وهو خامس أيام النسيء: نودي بزيادة إصبع واحد تكملة عشرين ذراعًا، وهذا المقدار من زيادة النيل قبل النوروز مما يندر وقوعه، وربنا المحمود على جزيل نعمائه.
وفي هذه الأيام أخرج بجماعة من الأشرفية منفيين.
وفي ثامن عشره: أخرج عز الدين محمد بن قاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطي المالكي أحد نواب القضاة المالكية، وناصر الدين محمد الشنشي أحد نواب القضاة الحنفية في الترسيم إلى بلاد الصعيد منفيين. ثم أعيد البساطي بشفاعة وقعت فيه، ومضي الشنشي وإبنه إلى قوص، ونفى أيضًا أربعة من المماليك الأشرفية.
وفي تاسع عشره: سارت تجريدة في النيل، تريد ثغر رشيد، وقد ورد الخبر بأن أربع شواني للفرنج قاربت رشيد، وأخذت أبقاراً أو غيرها، فأخرج لذلك الأمير شادي بك الظاهري ططر، والأمير أسنبغا الطيارى، وهما من أمراء الألوف، وحمل لكل منهما خمسمائة دينار، فما هو إلا أن إنحدرت سفنهم إحترق مركب الطيارى من مدفع نفط رموا به، فعاد عليهم، وأحرق كثيرًا مما معهم، وأصاب بعضهم، فألقي الطيارى بنفسه في النيل حتى نجا، ثم ركب في السفينة وساروا.
وفي عشرينه: صعد الخليفة المعتضد أبو الفتح داود إلى السلطان، ومعه الأمير بيبرس ابن بقر، وقد إستجار به، فقبل السلطان شفاعته، وأمنه، ونزل مع الخليفة، ولم يتعرض له بعد ذلك وفي العشر الثالث من هذا الشهر: إتفق حادث شنيع، وهو أن طباخًا خارج باب الفتوح من القاهرة يطبخ كروش البقر ويبيعها مدة سنين في كل يوم، فباع على عادته في بعض أيام هذا العشر، فما دخل الليل إلا وعدة كثيرة ممن إشترى منه وأكل قد مرضوا، وتتابع الموت فيهم، بحيث أنه مات في يومين سبعة نفر، وبقي نحو الأربعين مرضى، لم ينضبط لي ما جرى لهم، ثم بلغني أنه مات منهم جماعة.
وفي سادس عشرينه: رسم بتوجه القاضي زين الدين عبد الباسط إلى الحجاز بأهله وأولاده، فأخذ يتجهز للسفر. وفيه وردت مطالعة الأمير أقبغا التمرازي نائب الشام، يشكو فيها من بهاء الدين محمد بن حجي قاضي القضاة وكاتب السر بدمشق، فرسم بعزله وإخراجه من دمشق إلى القدس، ثم رسم له بتدريس الصلاحية بالقدس ونظرها، عوضًا عن عز الدين القدسي، وتوجه الأمير يلبغا الجركسى رأس نوبة وأحد خواص السلطان لذلك، وأن يكشف عن شكوى نائب الشام من أرباب الوظائف بدمشق . وفيه ورد الخبر بأن الأمير أقبغا التركماني الناصري نائب الكرك، لما قدم عليه من الأبواب السلطانية جائرًا من بني عقبة ابن منجد أمير بني عقبة، وعليه الخلعة السلطانية، ونزعها عنه وقتله.
وفي سابع عشرينه: رسم بسفر خمسين من المماليك السلطانية صحبة زين الدين عبد الباسط، وأقيم عليهم منهم رأس باش.
وفي تاسع عشرينه: جهز إلى الأمير أركماس الظاهري الدوادار كان فرس وبغل بقماش من الإصطبل السلطاني، وأذن له أن يركب من دمياط، ويسير حيث شاء من أقطار البلد، فقط.
شهر ريبع الآخر، أوله يوم الجمعة:
فيه خلع على شهاب الدين أحمد العجلوني موقع الأمير أركماس الدوادار كان وإستقر في كتابة السر بدمشق، عوضًا عن بهاء الدين محمد بن حجى، ورسم بإستمرار عز الدين عبد السلام القدسي على عادته في تدريس الصلاحية بالقدس ونظرها، وأن يحضر إبن حجى إلى القاهرة، ورسم بنقل صلاح الدين خليل بن محمد ابن محمد بن محمود بن سابق من كتابة السر بحماة إلى نظر الجيش بحلب، عوضًا عن سراج الدين عمر بن شهاب الدين أحمد بن السفاح.
وفي ثانيه: خلع على ابن السفاح المذكور، وإستقر في نظر الجيش بدمشق، عوضًا عن جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي، وكان قد قدم القاهرة.
وفيه وهو رابع عشر مسرى:. بلغ النيل عشرين ذراعًا وعشرة أصابع.
وفيه ادعي رجل على بعض نواب القاضي الشافعي أنه سجن غريمًا له على دين ثبت له عليه، فأثبت الغريم إعساره على آخر من نواب القاضي، فأخرجه من السجن، كأنكر السلطان إخراج الغريم من السجن بغير إعذار رب الدين وأمر بالقاضي الذي أخرجه من السجن أن يسجن حتى يدفع لرب الدين دينه وهو ثمانية آلاف درهم فسجن بالبرج من قلعة الجبل، حتى دفع ذلك إليه من ماله، وهذا من نوادر الأحكام.
وفيه رسم بعزل نواب القضاة الأربع بأجمعهم. وألا يستنيب الشافعي سوى أربعة فقط، وكل من الثلاثة لا يستنيب إلا إثنين لا غير.
وفي سابعه: أنفق في المماليك المجردين إلى مكة صحبة زين الدين عبد الباسط وهم خمسون فارسًا مبلغ خمسين دينارًا لكل واحد، سوى الخيل والجمال.
وفيه خلع على شمس الدين محمد بن إسماعيل بن محمد الونائي وإستقر في قضاء الشافعية بدمشق، عوضًا عن ابن حجى، وأنعم عليه السلطان بخيل وجمال، ورسم بتجهيزه. والونائي هذا مولده في شعبان سنة ثمان وثمانين وسبعمائة بقرية ونا من عمل الفيوم، وقدم القاهرة، وإشتغل بها من سنة سبع وثمانمائة، فبرع في الفقه والعربية، وتكسب بتحمل الشهادة مدة، ثم إشتهر وتصدى للأشغال، فقرأ عليه جماعة، وصحب عدة من أعيان الدولة الأشرفية برسباى، منهم الأمير جقمق فلما تسلطن جقمق لزم الترداد إلى مجلسه حتى ولاه مسئولاً بالولاية، ونعم الرجل هو علمًا ودينًا.
وفي عاشره: استدعى السلطان بأولاد القاضي زين الدين عبد الباسط الثلاثة، وخلع عليهم كوامل حرير بفرو سمور وقاقم، ونزلوا إلى دورهم مكرمين.
وفي حادي عشره: ورد الخبر من دمياط بأن العامة قتلوا رجلا نصرانيًا إسمه جرجس إبن ضو الطرابلسي بعد ما أظهر الإسلام ثم نهبوا كنائس النصارى.
وفي ثاني عشره: استدعى السلطان بزين الدين عبد الباسط من محبسه " ، فدخل في جماعة من أعيان الدولة إلى السلطان، فبالغ في إكرامه، وخلع عليه وعلى عتيقه الأمير جانبك، ونزل من القلعة وفي خدمته أعيان الدولة، وقد إجتمع خلائق لرؤيته فرحًا به، حتى نزل بمخيمه قريبًا من قبة النصر ليتوجه إلى الحجاز بأولاده ونسائه وأتباعه، بعد ما حمل إلى الخزانة السلطانية مائتي ألف دينار وخمسين ألف دينار ذهبًا، سوى ما أخذ له من الخيول والجمال وغير ذلك وسوى تحفًا جليلة قدمها، فحماه الله في محنته فلم يسمع فيها ما يكره، بل كان في هذه المدة يتردد إليه أمراء الدولة ومباشروها، وهو من العز والكرامة على حاله في أيام دولته، ولا أعلم أحدا رأى من الإجلال والإحترام في أيام نكبته ما رآه، ورأى ذلك بما كان يجريه اللّه على يديه من الصدقات، سرًا وجهرًا.
وفي ثالث عشره: عزل أبو المنصور من نظر الإصطبل، بعد ما حمل مما التزم به نحو سبعمائه دينار، وإستقر عوضه تاج الدين محمد بن نور الدين على بن القلاقسي الفوي، على مال إلتزم به.
وفي سحر يوم الجمعة خامس عشره: رحل زين الدين عبد الباسط من منزلته بقبة النصر، حتى أناخ ببركة الحجاج، ورافقه في سفره جماعات من الرجال والنساء، فصار في ركب من الحجاج، وكان يتردد إليه في منزلته هذه عامة الأمراء، والمقام الناصري محمد ولد السلطان، وجميع مباشري الدولة، من الوزير، وكاتب السر، وناظر الجيش، وناظر الخاص، ومعظم أعيان القاهرة من القضاة، ومشايخ العلم، والتجار، وغيرهم من سائر طبقات الناس، فأقام ببركة الحجاج وهم يترددون إليه، ويحملون له المبالغ الكثيرة من الذهب والثياب والخيول والأغنام وغير ذلك، حتى إستقل بالمسير في ليلة الإثنين ثامن عشره، فما زادته هذه المحنة إلا رفعة وعزًا، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم.
وفي خامس عشرينه: عزل ناصر الدين محمد بن أحمد بن سلام عن ولاية دمياط، ولعزله خبر يذكر، وهو أن جماعة من المطوعة بدمياط ركبوا البحر يريدون جهاد الفرنج، فمضوا من دمياط حتى أرسوا بميناء بيروت، وهم في ثلاثة مراكب، فإجتمع عليهم عدة من الغزاة، وساروا غير بعيد، وإذا بطائفة كبيرة من الفرنج في أربعة مراكب قد أقبلوا فإحتربوا معهم حربًا شديدة، حتى إستشهدوا بأجمعهم، إلا طائفة من البحارة فإنهم ألقوا أنفسهم في البحر، وأخذ الفرنج مراكب المسلمين بما فيها وأقلعوا، فما هو إلا أن وصل الخبر بذلك إلى دمياط وإذا بالعزاء والمأتم قد أقيمت على من فقد من الغزاه حيث عم ذلك أهل البلد بأسرهم، إلا رجلا من نصارى دمياط يقال له جرجس بن ضو، فإنه في وقت عزاء الناس عمل فرحًا، وجمع على طعامه عدة أناس، وأظهر الشماتة والمسرة بما أصاب المسلمين، وكان قبل يتهمه الناس بدمياط أنه يكاتب الفرنج ويدلهم على عورات المسلمين، ويحضهم على محاربتهم، فلما عمل هذا المجتمع، لم تصبر العامة على ذلك، وثاروا به وأخرجوه، وادعوا عليه عند القاضي بقوادح، قامت عليه بها بينات أوجبت قتله، فلما أيقن بالهلاك أظهر الإسلام، وتلفظ بالشهادتين، فقام ابن سلام على العامة، وتخلصه من بين أيديهم على مال فيما زعموا أنه وعده به، فتعصبت العامة، وقتلت النصراني الأسلمي، وأحرقوه بالنار، ونهبوا كنائس النصارى، فحنق ابن سلام، وكتب إلى السلطان وإلى ناظر الخاص، وهو يشنع الأمر، ويذكر أن حرمة السلطان قد إنكسرت، وضاع مال السلطان، وتعطل إستخراجه، فاشتد غضب ناظر الخاص، وأغرى السلطان بأهل دمياط، حتى غضب عليهم، وبعث ثلاثين مملوكًا صحبة بعض الأمراء ليقبضوا على التجار بدمياط، وعلى أعيانها، فدخلوا دمياط وقد طار الخبر إليها، فرحل جمهور أهلها، وتركوا دورهم وضعفة أهاليهم.
هذا، وكتب ابن سلام تتواتر مرة بعد أخرى لإغراء السلطان بأهل دمياط، وقد طار الخبر إليها، والسلطان يشتد غضبه على العامة، ويهم أن يفتك بهم، فأخذ جماعة من أعيان الدولة في تسكين غضبه، وبالغوا في تقبيل يديه، وسألوه. العفو عنهم، حتى تمهل عن قتلهم، ورسم بعزل ابن سلام، وقد إتضح أمره.
وفي خامس عشرينه: قدم أحد حجاب دمشق بسيف الأمير أقبعْا التمرازي نائب الشام، وقد مات فجأة، في سادس عشره، فرسم لنائب حلب الأمير جلبان بإستقراره في نيابة الشام، وأن ينتقل نائب طرابلس الأمير قانباى الحمزاوي إلى نيابة حلب، وينتقل الأمير برسباى الناصري حاجب الحجاب إلي بدمشق إلى نيابة طرابلس، ويستقر عوضه في الحجوبية الكبرى بدمشق الأمير سودون النوروزي حاجب حلب، وينتقل حاجب حماة الأمير سودون المؤيدي إلى الحجوبية الكبرى بحلب، وأن يستقر الأمير جمال الدين يوسف بن قلندور نائب خرت برت في نيابة ملطية، عوضًا عن الوزير الأمير غرس الدين خليل، ويستقر خليل المذكور أحد أمراء الألوف بدمشق، عوضًا عن الأمير ألطبغا الشريفي ، ويستقر الشريفي المذكور أميراً كبيرًا بحلب، عوضًا عن الأمير قطج وأن يحضر الأمير قطج إلى القاهرة، وجهزت تقاليدهم ومناشيرهم في سابع عشرينه، ورسم للأمير دولات باى المريدي الدوادار أن يكون متسفر الأمير جلبان نائب الشام، وأن يكون الأمير أرنبغا اليونسي رأس نوبة متسفر الأمير قانباى الحمزاوي نائب حلب، وأن يكون الأمير سودون المحمدي المعروف بأتمكجي رأس نوبة متسفر الأمير برسباى نائب طرابلس ، وخلع عليهم في تاسع عشرينه خلع السفر، فسافروا.
وثبتت زيادة النيل إلى يوم الثلاثاء سابع عشرينه الموافق له ثامن بابة على أصابع من عشرين ذراعًا، وقد إنقضت أيام الزيادة وشمل الري أراضي الزراعات بالنواحي، ولم نعهد منذ سنين أن زيادة النيل ثبتت إلى هذا التاريخ من شهور القبط على هذا المقدار، إلا أن أسعار الغلال إرتفعت عما كانت عليه، لا سيما الفول، فإنه تجاوز المائتي درهم الأردب، بعد ثمانين، وقل وجود اللحم الضأن من قلة مراعي بلاد الصعيد، ولما وقع بها من الفتن.
وفي يوم الخميس ويوم الجمعة سلخه: طبق الأفق بالقاهرة جراد منتشر، فأضرب ببعض الزروع، وهلك سريعًا. وفيه أعيد محمد الصغير إلى ولاية دمياط، عوضًا عن ابن سلام.
شهر جمادي الأولى، أوله يوم السبت: فيه نودي من أراد السفر في رجب إلى الحجاز فليتجهز على المسير في نصفه، فسر الناس، وجدوا في أمر سفرهم.
وفي عاشره: برز الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير أينال أحد خواص السلطان، ليتوجه وصحبته أربعين مملوكًا لقتال بلى من عرب الحجاز.
وفي خامس عشره: إستقر الأمير مازي أحد الأمراء الألوف بدمشق في نيابة الكرك، عوضًا عن أقبغا التركماني، وقد قبض عليه وسجن بقلعة الكرك . وفيه إستقر محمد الصغر والى قوص في كشف الوجه القبلي، عوضًا عن أركماس الجاموس، وجهز له التشريف.
وفي عشرينه: خلع على الأمير أسنبغا الطياري، وإستقر في نيابة الإسكندرية، عوضًا عن يلبغا البهائي بعد وفاته، وأقر إقطاعه بيده.
ومضي في هذا الشهر عدة أيام من هتور أحد شهور القبط: والنيل ثابت على تسعة عشر ذراعًا، وهذا من النوادر.
وفي خامس عشرينه: رسم بالإفراج عن الأمير قراجا الأشرفي برسباى، وحضروه ليستقر أميرًا كبيرًا بحلب.
شهر جمادي الآخرة، أوله يوم الأحد: في خامسه: إتفقت بالقاهرة حادثة شنيعة، وهي أن بعض التجار تردد إليه قباني لوزن بضائعه مرارًا وسافر معه إلى الحجاز، فعرف بكثرة ملازمته له كثيرًا من ماله، وداخله الطمع، بحيث عزم على أنه يقتله ويأخذ ماله. ثم جاء إليه في الليل ومعه سكين ماضية قد أعدها لقتله، وأخفاها بين ثيابه، وقال. قد وقع بيني وبين زوجتي مخاصمة، وجئت لأبيت عندكم " . فأقام يحادث عبيده طائفة من الليل، وكان قد ورد إلى التاجر رجل مغربي من أصحابه وبات عنده، فلما ناموا، وهو يراقبهم حتى جن الليل، دخل على التاجر وذبحه، فإنتبه من نومه، وقد مضت السكين على حلقه، ولم تفري وديجيه، ودافعه عن نفسه، ومر لينجو وهو يصيح، فخرج البائس وذبح المغربي وهو نائم فقتله، ومال على عبد صغير فذبحه أيضًا، فثار به، وهذا البائس يضربه بالسكين مرارًا حتى مات، هذا وقد قام التاجر ودماؤه تشخب حتى صعد سطح الدار، وصاح بالجيران يغيثوه، فخرج إليه منهم طائفة، وإذا هم بهذا البائس قد خرج من بيت التاجر لينجو بنفسه، فقبضوا عليه، وأخذوا منه السكين، فقال إن عبد التاجر قام وذبح أستاذه وأراد ذبحي فدافعته عني وقتلته ، فرابهم أمره لكثرة ما رأوه عليه من دماء، ودخلوا به إلى بيت التاجر، فرأوا المغربي والعبد مذبوحين، والتاجر قد قطع خده وبعض رقبته، وكانوا قد بعثوا في طلب والى القاهرة، فأدركهم سريعًا، ورأى ما هنالك، وأعلمه التاجر بما جرى عليه من القباني، فتسلمه وأوثقه بالحديد، وطلع به بكرة إلى السلطان، فبعث على أنه إنما قتل العبد دفعًا عن نفسه، وأن العبد هو الذي قتل المغربي، وفعل بالتاجر ما فعل " وأني صرخت في العبد لما إنحط علي، فأخطأت يده حلقي، وقام عني، فثرت به عند ذلك ، فأمر السلطان أن ينظر القضاة في أمره، فحكم بعضهم نواب الحنفية بقتله، لأنه إعترف أنه قتل عبد التاجر ومذهبهم أن الحر يقتل بالعبد.
فسمره عند ذلك الوالي، وشهره على جمل، ثم وسطه، وقد إجتمع لرؤيته عالم لا يحصيهم إلا الذي خلقهم، فأكدت هذه الحادثة قول الأول أو إذا كان الغدر في الناس طباعًا فالثقة بكل أحد عجز، وكان هذا القباني شابًا عمره نحو العشرين سنة، وهو نحيف الجسم، وهو وأبوه وأمه وزوجته معروفون، فتكشف عن جرأة عظيمة، وتهور زائد، نعوذ باللّه من سوء عاقبة القضاء.
وفي هذا اليوم: قدم رسول القان معين شاه رخ ملك المشرق.
وفي ثانيه: قدم الأمير قراجا فخلع عليه، وإستقر أميرًا كبيرًا بحلب وسار إليها في ثاني عشره
وفيه أحضر رسول القان وقت الخدمة السلطانية بالقصر، فقدم كتابه، فإذا فيه أنه بلغه موت الأشرف وجلوس السلطان على تخت الملك، فأراد أن يتحقق علم ذلك فأكرم وأنزل، ورسم بكتابة جوابه.
وفي هذا الشهر والذي قبله: إرتفعت أسعار كثير من المأكولات، وقل وجود الأجبان والألبان والسمن واللحم، وعاشت الدودة في الزروع فأكلتها، وأعيد البذر مرة، وفي بعض النواحي أكلت الدودة ما زرع ثانيًا، فزرع ثالث مرة، وغلا أيضًا سعر التبن والفول والشعير، ثم إنحل في هذا الشهر سعر الغلال.
وفي هذا الشهر: كان بين أصبهان بن قرا يوسف التركماني متملك بغداد وبين عليان أمير عرب العراق قتال إنهزم فيه أصبهان أقبح هزيمة، ولحق ببغداد وقد خرجت بأجمها، ولم يبق بها من أهلها إلا من لا يؤبه له، وهم قليل جدًا. وتعطلت منها الأسواق جلة، وحف معظم نخلها وإنقطعت مياه أنهارها، وصارت دون أقل القرى، بعد أَن أربت في العمارة على جميع مدائن الدنيا، حقا على اللّه ما رفع شيئًا من هذه الدنيا إلا وضعه.
شهر رجب، وأوله يوم الثلاثاء: فيه خرج ثقل الأمير قانبك المحمدي أمير الرجبية ومقدم المجردين إلى مكة، وأناخ ببركة الحجاج، وتلاحق به المسافرين طائفة بعد طائفة، ثم إستقلوا بالمسير من البركة في خامسه وفي يوم الإثنين رابع عشره: أدير محمل الحاج بالقاهرة ومصر على العادة في كل سنة، وزاد السلطان في عدة الصبيان الذين يلعبون بالرمح عما كانوا عليه في الأيام الأشرفية، وأنفق في الفرسان الذين ركبوا في هذا اليوم قدام المحمل مالاً، ولم تجر بذلك عادة، وكان الحال في هذا اليوم، وفي ليلته الماضية جميلاً، ولم يقع فيه شيء من الشناعات التي كانت تقع في الأيام الأشرفية، من فساد المماليك، وللّه الحمد. وفيه إستقر في نيابة غزة الأمير طوخ المؤيدي أحد أمراء الألوف بدمشق.
وفي عشرينه: قدم الأمير دولات باى الدوادار من دمشق، وقد كثرت أمواله مما حصل له في هذه السفرة، فإستقر على ما هو عليه من الدوادارية.
وفي حادي عشرينه: قدم ابن أينال من التجريدة إلى عرب بلى بالحجاز، ومعه أحد عشر رجلاً، سمورًا على الجمال، ثم طيف بهم القاهرة، ووسطوا، وكان من خبر ابن أينال معهم أنه لما سار من القاهرة لقيه الشريف عقيل المعزول عن إمرة ينبع، وقد كتب له بمساعدة المجردين على قتال بلى، فبعث أخاه ليأتي بأكابرهم إليه، وكتب يرغبهم في طاعة السلطان، فلم يطمئنوا إليه، فسار هو وابن أينال بمن معهم من المماليك والعرب، حتى طرقوا بلى، وقبضوا منهم على الجماعة المذكورين، وفر باقيهم، فنهبوا من بيوت بلى ما قدروا عليه، وخرجوا من أوديتهم، ومضي من المماليك ثلاثون فارسًا إلى المدينة النبوية، بدلاً من المماليك المجردة إليها صحبة الأمير خشقدم المقدم، وقدم من المماليك المتوجهة صحبة الأمير سودون المحمدي إلى مكة خمسون فارسًا، وعادوا إلى القاهرة.
وفي هذا الشهر والذي قبله: قل وجود اللحم بأسواق القاهرة، وإرتفع سعر أكثر المأكولات، وتوالى هبوب الرياح المريسية أيامًا كثيرة، خيف على الزرع منها أن يجف ليبسها، وعدم وقوع المطر، هذا مع إتلاف الدودة كثيرًا مما زرع. وفيه أيضًا غرق في البحر ما بين طرابلس الشام من دمياط بضعة عشر مركبًا موسرقة دبسًا وزبيبًا وغير ذلك، فإرتفع سعر الدبس من سبعة دراهم الرطل إلى عشرة، وغرق أيضًا فيما بين جدة والسويس عدة مراكب، هلك فيها خلق من الحجاج، وتلف بها من الدقيق وغيره شيء كثير، وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
شهر شعبان، أوله يوم الأربعاء: في يوم الجمعة عاشره: تعذر وجود الخبز بأسواق القاهرة ومصر، وتمادى على ذلك من الغد وبعده.
وفي حادي عشره: خلع على بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجى، وكان قدم إلى القاهرة وإستقر في نظر الجيش بدمشق، عوضًا عن سراج الدين عمر بن أحمد ابن السفاح الحلبي، ورسم لإبن السفاح بنظر الجيش بحلب على ما كان عليه في الأيام الأشرفية، عوضًا عن صلاح الدين بن سابق. وفيه خلع أيضًا على جمال الدين يوسف بن أحمد الباعوني وإستقر في قضاء طرابلس، وكان ولي منذ أيام رجل من أهل دمشق يعرف بابن الزهري وتوجه من القاهرة، فعزل بابن الباعوني قبل وصوله إلى طرابلس، وكلاهما تكلف مالاً، ولا قوة إلا باللّه.
وقدم الخبر بان دوكات ميلان يعني صاحب ميلان وهي طائفة من الفرنج، تجاوز مملكة البندقية، ولم يزالوا يحاربونهم، ولدوكات هذا مملكة متسعة، وله سطوة، ويوصف بعقل ومعرفة، وكان قد ملك جنوه مدة، ثم إنتزعت منه في سنة أربعين وثمانمائة، فلما كان في هذه الأيام كتب إلى البابا برومية يسائه ويرغب إليه في أن يجتمع به في محفل يجتمع فيه القسيسون والرهبان وأعيان الروم والفرنج، ليتفقوا جميعًا على أمر ديني يعقدوه، فأجابه إلى ذلك، فساروا جميعًا حتى توافوا على فرارة وهى في طرف مملكة دوكات ميلان يجوار مملكة فرنتين، وكان ذلك جمعًا عظيمًا بحيث ضاق بهم الفضاء، فساروا بأجمعهم ونزلوا أرض مدينة فرنتين، وذلك في فصل الصيف وفصل الخريف، ثم إفترقوا، وعاد كل منهم إلى وطنه، فبينما الدوك سائر إذ طرقه البنادقة على حين غفلة، فكانت بينهما وقعة عظيمة، قتل فيها ما شاء اللّه، وإنهزم دوكات أقبح هزيمة، وقد فني معظم عسكره ونهبت أمواله، وللّه الحمد، فإنه يقال إن إجتماعه بالبابا كان بسبب محاربته للمسلمين، وأن يفوض إليه التصرف والحكم، فكفي اللّه أمره.
وفي ثالث عشره: خلع على القاضي علاء الدين على بن محمد بن سعد المعروف بابن خطب الناصرية، وأعيد إلى قضاء حلب، وكان قدم القاهرة وعزل ابن الجزري.
وفي يوم الجمعة: إستقر وجود الخبز بحوانيت الأسواق بعد ما كان تعذر وجوده خمسة عشر يومًا بعامة أسواق القاهرة ومصر والجيزة، وتكالب الناس على طلبَ الدقيق من الطواحين، وكثر إزدحامهم على أبوابها، وقل وجود الغلال، وإرتفع سعرها، حتى بلغ سعر القمح ثلاثمائة درهم الأردب. وتجاوزت البطة من الدقيق مائة درهم، وقل مع ذلك وجود الشعير والفول والتبن، فقلق أرباب الدواب، وعزت المأكولات، لاسيما الألبان، فإنا لم نعهد فيما أدركناه من الغلوات أن اللبن قل كما قل في هذه السنة، وللّه عاقبة الأمور.
شهر رمضان، أهل بيوم الجمعة: والقمح بثلاثمائة وثلاثين درهمًا الأردب، والبطة من الدقيق بمائة عشرة دراهم، والخيول مرتبطة على البراسيم، وقد بلغ الفدان البرسيم زيادة على ألفي درهم، وقل وجود اللحم من الضأن بالأسواق عدة أيام في هذا الشهر، ولم يكد يوجد السمن ولا عسل النحل، هذا مع علو النيل وطول مكثه، ومع ذلك فلم تنجب عدة أنواع من الزروع، كاللفت، والفجل، والكزبرة، ونحو ذلك.
وفي حادي عشره: رسم بعزل معين الدين عبد اللطف بن شرف الدين أبى بكر الأشقر من كتابة السر بحلب، وأضيفت لإبن السفاح مع نظر الجيش، على مبلغ ستة آلاف دينار يقوم بحملها.
وفي ثامن عشره: رسم لوالى القاهرة أن يستخدم مائة ماش يسعون في ركابه، وبين يديه إذا ركب، ونودي بألا يخرج أحد من المماليك السلطانية بالليل، وكانت الإشاعة بين الناس قد قويت بإختلاف أهل الدولة. وقدم الخبر بأن الأمير جلبان نائب الشام ركب في الموكب يوم السبت تاسعه على العاده، فوقفت العامة له تستغيث من غلاء اللحم، فإنه بلغ الرطل سبعة دراهم بعد ثلاثة دراهم، فلم يلتفت لهم، بل أمر مماليكه بضربهم، وكان جمع العامة كثيرًا فما هو إلا أن ضرب بعضهم إذا هم قد رجموا النائب ومن معه رجمًا متتابعًا، فإنهزم منهم من باب الجابية وقد ركبوا قفاه، وأقفية أصحابه، حتى عبروا من باب النصر إلى دار السعادة، وأغلق أبوابها، فتسوروا الحيطان، وعبثوا بطلخاناته يدقوها، وجمعوا الأحطاب وألقوها ليضرموا النار فيها، فأدركه الأمراء والقضاة، وكتبوا محضراً بصورة الحال، وبعثوا به إلى السلطان، وتلطفوا بالعامة حتى تفرقوا، فورد المحضر في يوم الجمعة ثاني عشرينه، فإشتد غضب السلطان على عامة دمشق، وجمع في يوم الأحد رابع عشرينه أمراء الدولة، واستدعي بالقضاة الأربع فحضر قاضي القضاة سعد الدين سعد الديري الحنفي، وقاضي القضاة بدر الدين محمد التنسي المالكي، وتأخر حضور قاضي القضاة شيخ الإسلام شهاب الدين أبى الفضل أحمد بن حجر الشافعي، وقاضي القضاة محب الدين أحمد الحنبلي، حتى حنق السلطان، وأمر فقرىء المحضر الوارد من دمشق، وأخذ يعدد لعامة دمشق ذنوبًا، منها قيامهم مع أينال الجكمى مدة عصيانه، ونهبهم بيوت الأمراء، وقتلهم جلبان شيخ كرك نوح، وصمم على وضع السيف فيهم، وإستلحامهم عن آخرهم، فكثرت مراجعة الأمراء في طلب العفو عنهم، والتأني بهم، إلى أن تقررت الحال على أن يجهز للنائب تشريف وفرس بقماش ذهب، وتقوى يده، وأن يكتب بالإنكار على العامة وتهديدهم، وبينما هم في ذلك إذ إستوذن على القاضيين أحمد بن حجر ومحب الدين البغدادي، فلم يؤذن لهما، وأظهر السلطان الغضب لبطئهما، وإنفض الجمع.
وفيه رسم بعزل الونائى، وإستقرار ابن قاضي شهبة في قضاء دمشق عوضه، ورسم بحضور الأمير أينال الششماني والأمير ألطنبغا الشريفي، وجهزت المراسيم بذلك، وأن يقرأ كتاب العامة في يوم الجمعة بجامع بنى أمية.
وفي هذا الشهر: ختمت قراءة صحيح البخاري بالقصر من قلعة الجبل بحضرة السلطان، وخلع على قضاة القضاة الأربع، ومشايخ العلم الحاضرين، وفرقت صرر الدراهم في جميع من حضر، وزادت عدتهم في هذه السنة عن عدة الحاضرين عن السنين الماضية زيادة كبيره وفي ثامن عشرينه: خلع على الأمير علاء الدين على بن محمد بن الطبلاوي والي القاهرة كان وإستقر نقيب الجيش، بعد موت ناصر الدين محمد أمير طبر. وفيه ورد كتاب الأمير ناصر الدين محمد بن منجك من دمشق، يخبر بورود كتاب القاضي زين الدين عبد الباسط إليه من مكة يشكو من ثقل الإقامة عليه بمكة، وأنها لم توافقه ولا أهله، وأنه يرغب في النقلة من مكة إلى القدس، فمازال القاضي كمال الدين محمد بن البارزي يتلطف بالسلطان حتى سمح بذلك، فكتب لابن منجك بأنه إذا توجه للحج في الموسم ينقله بأهله وولده ومملوكه الأمير جانبك إلى القدس، على أنه يكون في ضمانه، وكتب إلى الشريف بركات أمير مكة بذلك، وجهزت الكتب إلى ابن منجك.
وفي هذا الشهر والذي قبله: وقع بالطائف ووج ولية وعامة بلاد الحجاز، وباء عظيم، هلك من ثقيف وغيرهم من العرب عالم لا يحصيهم إلا خالقهم، بحيث صارت أنعامهم هملًا، وأخذها من ظفر بها. وإمتد الوباء إلى نخلة على يوم من مكة.
شهر شوال، أوله السبت: في هذا الشهر: انحل سعر الغلة، وكثر وجودها، وأبيع القمح من مائتي درهم إلى مائتين وخمسين درهمًا الأردب.
في هذا الشهر: إنحلت أسعار الغلال، ودخلت الغلة الجديدة، ثم بعد أيام تحرك سعر الغلال وإرتفع ثم اتضع.
وفي يوم الخميس رأبعه: عقد السلطان على الخاتون بنت الأمير ناصر الدين محمد بيك بن دلغادر، بعد أن حمل لها المهر ألف دينار وشقق حرير وغير ذلك، وكانت تحت الأمير جانجك الصوفي، وأتت منه بإبنة لها من العمر نحو الثلاث سنين. وفيه خلع على الشيخ على بن العجمي أحد خواص السلطان كاملية بفرو سمور، وإستقر في حسبة مصر، فسار فيها سيرة حسنة، بعفة ونهضة. وفيه نودي بعرض أجناد الحلقة، فإبتدىء بعرضهم على السلطان في يوم السبت سادسه، فإمتحنهم في رمي النشاب، وأكد عليهم في تعليمه، ولم يبد لهم منه إلا الجميل، ثم فوض عرضهم إلى الأمير تغرى بردى الدودار.
وإتفق في هذا الشهر حادث شنيع، وهو أن السلطان يريد أن تكون تصرفاته على مقتضى أهل العلم، وهو يعلم أن القان معين الدين شاه رخ ملك المشرق كان يبعث بالإنكار على الأشرف برسباى لأخذه بجدة ساحل مكة من التجار الواردين إليها من الهند والصين، وهو من عشور أموالهم. وأن ذلك من المكس المحرم أخذه، فنمق بعض الفقهاء سؤالا يتضمن أن التجار المذكورين كانوا يردون إلى عدن من بلاد اليمن فيظلمون بأخذ أكثر أموالهم، وأنهم رغبوا في القدوم إلى جدة ليحتموا بالسلطان، وسألوا أن يدفعوا عشر أموالهم، فهل يجوز ذلك منهم فإن السلطان يحتاج إلى صرف مال كبير في عسكر يبعثه إلى مكة، فكتب قضاة القضاة الأربع بجواز أخذه وصرفه في المصالح، وتمحلوا لذلك ما قووا به فتواهم.
فإنطلقت الألسنة بالرقيعة في القضاة، وأنهم إعتادوا إتباع أهواء الملوك، خوفًا على مناصبهم أن يعزلوا منها، وأن هذه الفتوى بهذه الحادثة من جنس ما تقدم من الفتاوي في قرقماس يخشي بك وإيمان المماليك وأي فرق بين ما يؤخذ بقطيًا من التجار الواردين من بلاد الشام والعراق، وما يؤخذ بالإسكندرية من التجار، وما يؤخذ بالقاهرة ومصر ودمشق وسائر بلاد الشام من الناس عند بيعهم العبيد والإماء والخيل والبغال والحمير والجمال وغير ذلك، وبين ما يؤخذ من أموال التجار الواردين إلى جدة فإن كل أحد يعلم أن ذلك كله مكس لا يحل تناوله ولا الأكل منه، وأن الآكل منه فاسق، لا تقبل شهادته لسقوط عدالته، ولكن الهوى يعمي ويصم، وما كفتهم وما أغنتهم هذه الحالة حتى بعثوا بالفتاوي، فقرئت بالمسجد الحرام على رؤوس الأشهاد، ليقضى اللّه أمرا كان مفعولا.
وفي يوم الخميس عاشره: كتب بإستقرار برهان الدين إبراهيم بن الباعوني في خطابة الجامع الأموي بدمشق، عوضًا عن ابن قاضي شهبة.
وفي سادس عشره: قدمت رسل ملك الروم خوند كار مراد بن محمد كرشجي بن بايزيد بن عثمان.
وفي ثامن عشره: قدم الأمير أينال الششماني، والأمير ألطنبغا الشريفي من دمشق. وفيه خلع على ناصر الدين محمد بيك بن دلغادر خلعة السفر، وسافر يوم الإثنين ثاني عشرينه، بعد أن بلغت النفقة عليه ثلاثين ألف دينار. وفيه حضرت رسل مراد بن عثمان وقت الخدمة بالقصر، وقدموا هديته، وهى عشرة مماليك، وثياب حرير، وفرو سمور، وغير ذلك مما تبلغ قيمته نحو خمسة آلاف دينار، وتضمن كتبه السلام، وتهنئة السلطان بجلوسه على تخت الملك، وإن تأخر إرساله بالتهنئة لإشتغاله بمحاربة بني الأصفر حتى ظفره اللّه بهم. وفيه رسم بفك قيد الأمير أينال و نفله من سجنه بصفد إلى موضع أوسع منه، وأن يتوجه إليه من جواريه من تخدمه.
شهر ذي الحجة الحرام، أوله يوم الثلاثاء: فيه خلع على نور الدين على بن أقبرس، أحد نواب الشافعية، وإستقر في نظر الأوقاف، عوضًا عن تقي الدين بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر اللّه، وهذا الرجل نشأ بالقاهرة في سوق العنبرانيين وطلب العلم، وناب في الحكم عن الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين أبى الفضل أحمد بن حجر، وصحب السلطان منذ سنين، وصار ممن يتردد إلى مجلسه أيام سلطته، فداخل الناس منه وهم كبير، ولم يبد منه إلا خيرًا.
وفي يوم الأربعاء سادس عشره: نودي بمنع المعاملة بالدراهم الأشرفية، وأن تكون المعاملة بالدراهم الظاهرية الجدد، وهدف من خالف ذلك، فإضطرب الناس لتوقف أحوال في المبيعات، فنودي آخر النهار بأن الفضه الأشرفية تدفع إلى الصيارف بسعرها، وهو كل درهم بعشرين درهمًا من الفلوس، وأن تكون المعاملة بالظاهرية الجدد، وهي دراهم ضربت بإسم السلطان، على أن يكون وزن كل درهم فضة بأربعة وعشرين درهمًا من الفلوس، وجعلت عددًا لا وزنًا، فمنها ما هو نصفي درهم عن إثنا عشر درهمًا ومنها ما هو ربع درهم فيصرف بستة دراهم، على أن كل دينار من الدنانير الأشرفية التي هي الآن النقد الرائج بمائتين وخمسة وثمانين درهمًا من الفلوس وكانت الصيارف قد جمعت، ودفع إليها من الدراهم الظاهرية المذكورة جملة ليفرقوها في الناس ، فجلسوا لذلك، وصاروا يأخذون الأشرفية على محادتها بعشرين درهمًا، كل درهم وزنًا، ويعوضون عنها من الظاهرية الجدد كل درهم بأربعة وعشرين، لكنها بالعدد لا بالوزن.
ثم يدخلون بالأشرفية إلى دار الضرب ويعيدونها ظاهرية، هذا والناس مع ذلك يتعاملون في بيعهم وشرائهم وقيم أعمالهم بالأشرفية على عادتهم وزنا، فصار للناس بالقاهرة ستة نقود، ثلاثة من الذهب، وإثنان من الفضة، وواحد من الفلوس، فأما الذهب فإنه هرجة، وهو قليل جدًا، وأفرنتي من ضرب الفرنج، وقد قل عما كان عليه منذ أخذ الأشرف برسباى في ضرب الأشرفية وسبك الأفرنتية وإعادتها أشرفية، والنقد الثالث من الذهب الدنانير الأشرفية وهي النقد الرائج، وقد كثرت بأيدي الناس لاسيما منذ أنفق السلطان ذخائر الأشرف في المماليك وغيرهم.
وأما الفضة فإن الدراهم الأشرفية دائرة في أيدي الناس على ما هي عليه وزنًا لعشرين درهما كل درهم، والدراهم الظاهرية الجدد يتعامل بها عددًا بحساب كل درهم بأربعة وعشرين درهمًا، وأما الفلوس الأشرفية والظاهرية، فإنها عددًا لا وزنًا، يعد في كل درهم ثمانية فلوس، فيصرف الدرهم الأشرفي بمائة وستين فلسًا، ويصرف الدرهم الظاهري الجديد بمائة وإثنين وتسعين فلسًا، وإذا، إعتبرت بالوزن كان كل رطل منها بستة وثلاثين درهمًا من الفلوس، ولا أعلم أنه وقع في تعدد النقود المتعامل بها مثل ذلك، وإنما كان الناس قديمًا وحديثًا نقدهم الرائج الذي تنسب إليه أثمان المبيعات وقيم الأعمال الذهب الهرجة المضروب بالسكة الإسلامية، ومع هذا الذهب الدراهم والفلوس، ثم كثرت الدراهم الكاملية أو الظاهرية بمصر والشام والحجاز في الدولة التركية، حتى صارت هي النقد الرائج، وإليها ينسب سعر الدينار الرجة وأثمان المبيعات كلها وقيم الأعمال بأسرها، والفلوس مع ذلك إنما هي لشراء المحقرات من المبيعات .
فلما أكثر الأمير محمود الأستادار في الأيام الظاهرية برقوق من ضرب الفلوس، صارت الفلوس هي النقد الرائج دون الذهب والفضة ، ونسب إليها سعر الدينار الذهب والدرهم الفضة، وجميع أثمان المبيعات بأسرها، وعامة قيم الأعمال إلى أن ضرب المؤيد شيخ الدراهم، صار للناس ثلاثة نقود: وهي الذهب والفضة والفلوس.
وكان الذهب أربعة أقسام. هرجة وهو قليل جدًا، وسالمي وهو قليل لا يوجد منه إلا في النادر، وأفرنتي وهو كثير جدًا قد طبق الأرض وكثر بعامة بلاد الله، والدينار الناصري وهو أقل من الأفرنتي، والنقد الثاني الدراهم المؤيدية وتعامل الناس بها عددًا لا وزنًا، والنقد الثالث الفلوس، ويتعامل بها وزنًا كل رطل بستة دراهم، وربما زاد الرطل عن الستة دراهم، وهذه الفلوس هي النقد الرائج المنسوب إليه أثمان المبيعات وقيم الأعمال، وأراد المؤيد شيخ أن يجعل قيم الأعمال وأثمان المبيعات منسوبة إلى الدراهم المؤيدية، فعمل ذلك مدة يسيره، ثم عادت الفلوس هي المنسوب إليها قيم الأعمال وثمن المبيعات فلما كانت الأيام الأشرفية برسباى، وضرب الدراهم الأشرفية عملها وزنًا كل درهم بعشرين درهمًا من الفلوس، فبطلت الدراهم المؤيدية.
وضرب أيضا الدنانير الأشرفية، وجد في إبطال الدنانير الأفرنتية، حتى قلت، وجدد أيضًا ضرب الفلوس الأشرفية عددًا، ومات والنقود على هذا، فمازالت كذلك حتى جدد السلطان الآن هذه الدراهم الظاهرية الجدد، وقد تقدم في هذا الكتاب تفصيل هذه الجملة في أوقاتها.
وفي ثاني عشرينه: خلع على غرس الدين خليل بن أحمد بن على السخاوي أحد خواص السلطان وإستقر في نظر القدس والخليل عوضًا عن الأمير طوغان نائب القدس، وهذا الرجل قدمت به وبأخيه أمهما إلى القدس صبيان، فنشأ بها، ثم قدم القاهرة وإستوطنها مدة وعانى المتجر وتعرف بالأمير جقمق وصحبه سنين، وتحدث في إقطاعه وما يليه من نظر الأوقاف، فعرض بالنهضة، وشهر بالخير والديانة، فلما تسلطن الأمير جقمق لازم حضور مجلسه حتى ولاه نظر القدس والخليل.
وفي هذا اليوم: توجه الأمير علاء الدين على بن أينال أحد خواص السلطان إلى ملك الروم مراد بن عثمان بهدية جليلة. وفيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامة الحجاج، وأن كراء الجمال بلغ الغاية لكثرة من بمكة من المجاورين، بحيث بلغ كراء الجمل أربعين دينارًا. وأن الشريف بركات بن حسن بن عجلان أعفى من تقبيل خف جمل المحمل، فشكر هذا من فعل السلطان، وأن الفتاوي الذي تقدم ذكرها بسبب أخذ العشور من التجار بجدة قرئت بالمسجد الحرام على رؤوس الأشهاد، وقرىء المرسوم السلطاني أيضًا بألا يؤخذ من التجار الواردين في البحر إلى جدة سوى العشر فقط، ويؤخذ صنفا لا مالاً من كل عشرة واحد، وأن يبطل ما كان يؤخذ سوى العشر من رسوم المباشرين ونحوهم، فكان هذا من جميل ما فعل، ورسم أيضًا بأن تمنع الباعة من المصريين الذين سكنوا مكة وجلسوا بالحوانيت في المسعى وحكروا المعايش ، وتلقوا الجلب من ذلك، وأن يخرجوا من مكة، فشكر ذلك أيضًا، فإن هؤلاء الباغين كثر ضررهم، وإستقووا بحماية المماليك لهم، فغلوا الأسعار وأحدثوا بمكة ما لم يعهد بها، وعجز الحكام عن منعهم لتقوية المماليك المجردين لهم بما يأخذونه منهم من المال.
وفي تاسع عشرينه: أفرج عن ابن أبي الفرج أستادار، وخلع عليه.
وفي هذا العام: جرت حروب بأفريقية من بلاد المغرب، وذلك أنه لما مات أبو فارس عبد العزيز، وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد اللّه محمد بن أبى عبد الله ولى عمه أبا الحسن على بن أبي فارس بجاية وأعمالها، فلما مات المنتصر، وقام من بعده أخوه أبو عمرو عثمان بن أبي عبد الله، إمتنع عمه أبو الحسن من مبايعته، ورأى أنه أحق منه، ووافقه فقيه بجاية منصور بن على بن عثمان وله عصبة وقوة فإستبد بأمر بجاية وأعمالها، فسار أبو عمرو من تونس في جمع كبير لقتاله، فالتقيا قريبًا من تبسة وتحاربا، فإنهزم أبو الحسن إلى بجاية، ورجع أبو عمرو إلى تونس، ثم خرج أبو الحسن من بجاية، وضم إليه عبد الله بن صخر من شيوخ إفريقية، ونزل بقسطنطينة وحصرها وقاتل أهلها مدة، فسار إليه أبو عمرو من تونس في جمع كبير، فلما قرب منه سار أبو الحسن عائدًا إلى جهة بجاية، فتبعه أبو عمرو حتى لقيه وقاتله، فإنهزم منه بعد ما قتل أبو الحسن عدة من أصحابه، وعاد كل منهما إلى بلده، فلما كان في هذه السنة أعمل أبو عمرو الحيلة في قتل عبد الله بن صخر حتى قتله، وحملت رأسه إليه بتونس، ففت ذلك في عضد أبي الحسن، ثم جهز أبو عمرو العساكر من تونس في إثر ذلك، فنازلت بجاية عدة أيام، حتى خرج الفقيه منصور بن على إلى قائد العسكر، وعقد معه الصلح ودخل به إلى بجاية، وعبر الجامع وقد أجتمع به الأعيان.
وجاء أبو الحسن ووافق على الصلح وأن تكون الخطبة لأبي عمرو، ويكون هو ببجاية في طاعته، وترجع العساكر عن بجاية إلى تونس، فلما تم عقد الصلح أقيمت الخطة باسم أبي عمرو، وعادت العساكر تريد تونس فبلغهم أن أبا عمرو خرج من تونس نحوهم لقتال أبي الحسن، فأقاموا حتى وافاهم، ووقف على ما كان من أمر الصلح، فرضي به، وأخذ في العود إلى جهة تونس، فورد عليه الخبر بأن أبا الحسن خاف على نفسه من أهل بجاية، فخرج ليلاً حتى نزل جبل عجيسة فأقر عساكره حيث ورد عليه الخبر، وسار جريدة في ثقاته، ودخل مدينة بجاية، فسر أهلها بقدومه، وزينوا البلد، فرتب أحوالها وإستخلف بها أصحابه، وعاد إلى معسكره، واستدعي شيوخ عجيسة فأتاه طائفة منهم فأرادهم على تسليم أبى الحسن إليه، وبذل لهم المال، فأبوا أن يسلموه، فتركهم وعاد إلى توذس فكثر جمع إلى الحسن بالجبل، وأقام به مدة، ثم خاف من عجيسة أن تغدر به، ولم يأمنهم على نفسه، فسار ونزل جبل عياض قريبًا من الصحراء، وللّه عاقبة الأمور.
وفي هذا الشهر: قدم عسكر من مدينة طرابلس، فنازلوا قلعة الكهف ومدينتها وبها إسماعيل بن العجمي أمير الإسماعيلية مدة أيام، حتى أخذوها، وهدموا القلعة حتى سووا بها الأرض، وأنعم على إسماعيل المذكور بإمرة في طرابلس، فزالت قلعة الكهف، وكانت أحد الحصون الإسماعلية المنيعة وذلك بسعاية ناصر الدين محمد، وحجي، وفرج، أولاد عز الدين الداعي.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرالأمير أقبغا التمرازى نائب الشام وهو من مماليك الأمير تمراز أحد مماليك الظاهر برقوق، تّرقى بعد موت أستاذه حتى صار من الأمراء، وولى نيابة الإسكندرية مدة، ثم عاد إلى القاهرة، حتى ولي نيابة الشام فلم تطل مدته بها حتى مات في يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الآخر من غير تقدم مرض، بل ركب ولعب بالكرة في الميدان، ثم لعب بالرمح، وإذا به مال عن سرحه، فتلقوه ووضعوه في بيت، ثم حملوه وهو غائب إلى دار السعادة فمات في أخر النهار، وكان مشهورًا بالفروسية، معروفًا بالديانة، وقيام الليل، والعقل، والتؤدة.
ومات الأمير يلبغا البهائي نائب الإسكندرية، في يوم الخميس ثالث عشر جمادي الأولي.
ومات الأمير طوخ مازي نائب غزة، وأحد المماليك الناصرية فرج، في ليلة السبت خامس شهر رجب، ومستراح منه، فقد كان من شرار خلق اللّه، فسقًا، وظلمًا، وطمعًا ومات الأمير قطج الناصري في يوم الإثنين ثامن عشر شهر رمضان، وهو أحد المماليك الناصرية فرج، ترقي في الخدم حتى صار من الأمراء مقدمي الألوف ثم أخرج إلى الشام فتنقل في إمريات بحلب ودمشق، ثم قدم القاهرة ووعد بإمرة، فلم تطل إقامته حتى مات، وترك مالاً جزيلاً، وكان من الشح المفرط والطمع الزائد في غاية يستحي من ذكرها. ومات الأمير ناصر الدين محمد أمير طبر ونقيب الجيش، ليلة الخميس ثامن عشرين رمضان، وكان مشكوراً.
ومات قاضي حلب علاء الدين على بن محمد بن سعد بن محمد بن على بن عثمان المعروف بإبن خطيب الناصرية الحلبي الشافعي، في ليلة الثلاثاء تاسع ذي القعدة بحلب، ومولده سنة أربع وسبعين وسبعمائة، وكان بارعًا في الفقه والأصول والعربية، مشاركًا في الحديث والتاريخ، وغير ذلك مع الرياسة، وشهرة الذكر، وكثرة المال. قدم القاهرة غير مرة، وبلونا منه علمًا جمًا وإستحضارًا كثيرًا، مع الإتقان وحسن المحاضرة، ولم يخلف بعده بحلب مثله، وكتب تاريخًا لحلب، ذيل به على تاريخ ابن العديم.
ومات جمال الدين محمد بن أحمد بن عمد بن محمود بن إبراهيم بن أحمد بن روزبة الكازروني الأصل، المدني المولد والمنشأ والوفاة، الشافعي، في يوم الأربعاء عاشر ذي القعدة، بالمدينة النبوية، ودفن بالبقيع، مولده في ليلة الجمعة سابع عشر ذي القعدة، سنة سبع وخمسين وسبعمائة بالمدينة. برع في الفقيه وغيره ، وولي قضاء المدينة مدة يسيرة، ثم عزل، ولم يعد إلى ولايتها وقدم القاهرة مرارًا، وصحبني سنين، رحمه اللّه.
ومات مجد الدين ماجد بن النحال كاتب المماليك، في ليلة السبت سادس ذي الحجة، وكان من نصارى مصر، وتخرج في الحساب على الأسعد البحلاق، وخدم بديوان الأمير نوروز الحافظي بدمشق، ثم بديوان الأمير جقمق الدوادار في أيام المؤيد شيخ، وأظهر الإسلام، ثم ولي كتابة المماليك، ولا دين ولا دنيا. ومات نائب الكرك الأمير أقبغا التركماني، وهو في السجن بالكرك. ومات سودون المغربي متولي دمياط بالقاهرة بطالاً، وقد أعيد من النفي في ذي الحجة، وكان عفيفًا عن الفواحش.
سنة أربع في أربعين وثمانمائة
أهلت هذه السنة، والخليفة المعتضد باللّه أبو الفتح داود بن المتوكل ، وسلطان الإسلام الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق، والأمير الكبير يشبك الظاهري ططر، وأمير سلاح الأمير تمراز القرمشي، وأمير مجلس الأمير حرباش الكريمي قاشق، والمقام الناصري محمد ابن السلطان أحد مقدمي الألوف، والدوادار الكبير الأمير تغرى بردى البكلمشي ويعرف بالمؤذى، وأمير أخور كبير الأمير قراجًا الحسني الناصري، وحاجب الحجاب الأمير تنبك بن تنبك ، ورأس نوبة الأمير تمرباى الظاهري ططر، وبقية الأمراء المقدمين الأمير أينال العلاي الأجرود، والأمير شادي بك الظاهري ططر، والأمير ألطنبغا المرقبي، والأمير أسنبغا الطياري وهو نائب الإسكندرية، ونائب الشام الأمير جلبان المؤيدي، ونائب حلب الأمير قانباى الحمزاوي ونائب طرابلس الأمير برسباي والناصري، ونائب حماة الأمير برد بك العجمي، ونائب صفد الأمير قانبيه البهلولان، ونائب غزة الأمير طوخ المؤيد، ونائب القدس الأمير طوغان السيفي ألطبغا العثماني، ونائب الكرك الأمير مازي، ونائب الوجه القبلي من ديار مصر الأمير محمد الصغير ونائب البحيرة الأمير قشتمر المؤيدي، وكاتب السر القاضي كمال الدين محمد بن البارزي، وناظر الجيش شيخ الشيوخ محب الدين محمد بن الأشقر، والوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ، وناظر الخاص الصاحب جمال الدين يوسف ابن كاتب حكم، وأستادار الأمير ناصر الدين محمد بن أبي الفرج، وقضاة القضاة على حالهم، والمحتسب الأمير تنم المؤيدي، والوالي الأمير قراجا البواب، والأسعار رخية بحمد الله.
شهر الله المحرم الحرام، أهل بيوم الخميس: ففي يوم الخميس ثامنه: خلع على طوغان السيفي علان ويقال له رقز، أحد أمراء العشرات، ومن جملة أمراء أخورية، وإستقر أستادار السلطان عوضًا عن ابن أبي الفرج، وقبض على ابن أبي الفرج، وعوق بالقلعة إلى يوم الأحد حادي عشره، تسلمه الصاحب الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ، ونزل به إلى بيته.
وفي يوم الإثنين ثاني عشره: خلع على سراج الدين عمر الحمصي وأعيد إلى قضاء القضاة بدمشق، عوضًا عن ابن قاضي شهبة. وكان قد قدم إلى القاهرة، وعني به بعض أهل الدولة، حتى أعيد إلى وظيفة القضاء، وسار من القاهرة إلى محل ولايته بدمشق في عشرينه.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: نودي على النيل بزيادة ثلاثة أصابع، وجاءت القاعدة وهي الماء القديم ست أذرع وأربع أصابع.
وفي يوم الأربعاء حادي عشرينه : قدم الأمير جرباش الكريمي قاشق من الحج، ومعه إبنته زوجة السلطان في ركب من الحجاج، وحكيت عنه أمورًا، منها أنه رسم على قاضي المدينة النبوية ليحضر لخوند إبنته خمسين صاعًا من تمر، فبعد لأي أخذ منه ثلاثين صاع تمر وأشياء من هذا، مع المال الجم والشيخوخة. ثم قدم من الغد ركب ثان، وقدم محل الحاج بركب ثالث في يوم الجمعة ثالث عشرينه، تتمة أربع ركوب، وقد مات جماعة كثيرة في الطريق من حر بسموم محرق، وهلك معظم الجمال، بحيث مشي من لم يعتد بالمشي، ورمي الناس أمتعهم لعجزهم عن حملها، مع عسف أرماء الركب، فكانت رجعتهم مشقة لما نزل بهم من أنواع البلاء.
وفي يوم السبت رابع عشرينه: خلع على زين الدين يحيى الأشقر قريب بن أبى الفرج، وإستقر في نظر الديوان المفرد رفيقًا للأمير طوغان قز، عوضًا عن عبد العظيم بن صدقة وقد قبض عليه ونقل ابن أبي الفرج من تسليم الوزير، وسلم هو وعبد العظيم للأمير طوغان قز الأستادار، فعاقب ابن أبي الفرج، وأفحش في عقوبته من غير تجمل ولا إحتشام.
وفي يوم الإثنين سادس عشرينه: قبض على بهاء الدين أبي البركات الهيتمي، أحد نواب قاضي القضاة الشافعي، وسجن في البرج بالقلعة، بغير موجب يقتضي ذلك ثم أفرج عنه .
وفي يوم الجمعة سلخه: أمر شيخ الإسلام قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجو الشافعي أن يلزم بيته، واستدعي برهان الدين إبراهيم بن شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن الشيخ شهاب الدين أحمد بن ميلق أحد نواب القاضي الشافعي حتى خطب بجامع القلعة، وصلى السلطان صلاة الجمعة.
ونقل ابن أبي الفرج من بيت الأمير طوغان قز أستادار إلى تسليم الصاحب برهان الدين إبراهيم ابن كاتب جكم ناظر الخاص، بعدما حمل عشرة آلاف دينار وتأخر عليه أربعة آلاف دينار، مما ألزم به، وأسلم عبد العظيم إلى الوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ، ليحمل ألفي دينار.
وفي هذه الأيام: وقع الإهتمام بتجهيز تجريدة في البحر لغزو الفرنج. وفيها قدم القاضي زين الدين عبد الباسط بأهله وعتيقه الأمير جانبك أستادار من مكة إلى بيت المقدس، ليقيم به حسب ما رسم له به، فنزل بمدرسته التي أنشأها على مسجد بيت المقدس، فسكن جأشه، لأنه كان كثير القلق وهو بمكة.
شهر صفر، أوله يوم السبت: في يوم الإثنين ثالثه: خلع على الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين أبي الفضل أحمد ابن على بن حجر الشافعي وإستمر على عادته ، بعد أن عين شمس الدين محمد الونائي لولاية قضاء القضاة، فقام المقام الناصري محمد ابن السلطان في إستقرار الحافظ شهاب الدين حتى إستقر، وللّه الحمد، فو الله ما يبلغ أحدهم في العلم مده ولا نصيفه، وكان سبب هذه الحادثة أن رجلاً أسند وصيته بعد موته لإمرأتيه، وأقام عليهما ناظرًا سماه في وصيته. ومات الموصي، فأقام القاضي رجلاً يتحدث مع الناظر، فإختلفا وترافعا إلى السلطان فأنكر السلطان إقامة الرجل المتحدث مع الناظر، وسجن أبا البركات الهيتمي من أجل أنه أثبت أهلية المذكور، وأذن له في التحدث مع الناظر في تركة الموصي. وأمر بالرجل المتحدث مع الناظر، فعمل في الحديد، وسجن أيضًا فكثرت الشناعة على ابن حجر بلا موجب، إلى أن فوض السلطان أمر تركة الموصي إلى من يثق به من أمرائه، فجمع الناظر على التركة والرجل الذي أقامه القاضي يتحدث معه وحسابهما، فلم يجد في جهة المتحدث مع الناظر شيئًا من التركة، وظهر أن تلك الشناعات كلها كذب. فلما تبين للسلطان حقيقة الأمر سكنت حدة غضبه، وأفرج عن الهيتمي وعن الرجل المتحدث مع الناظر، وأقر قاضي القضاة على عادته.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشره: قدمت تقدمة القاضي زين الدين عبد الباسط من القدس، على يد دوادره أرغون أحد مماليكه، وهي فرسان، وعشرون جملاً، وشاشات، وأزر وصيني، وثياب حرير، وتخت يماني، وغير ذلك مما تبلغ قيمة الجميع نحو الألفي دينار، فقبل السلطان ذلك، وقرئ عليه كتابه، فشكره، وخلع على أرغون. وفيه أفرج عن ابن أبي الفرج، فلزم داره.
وفي يوم الإثنين خامس عشرينه وهو أول مسرى: نودي على النيل بزيادة ثلاثين إصبعًا، لتتمة أربع عشرة ذراعًا وإصبعين، وهذا القدر من الزيادة ومبلغ الأذرع مما يستكثر في أول مسرى ولله الحمد.
وفيه خلع على الأمير عيسى بن يوسف بن عمر الهواري أمير هوارة بالصعيد، وقد رضي السلطان عن بني عمر بن عبد العزيز أمراء هوارة ورسم بإحضار أخيه الأمير إسماعيل من سجنه بمدينة الكرك، ليستقر على عادته في إمرة هوارة، على أن يحمل سبعين ألف دينار، يعجل منها أربعين ألف دينار.
وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه: رضي السلطان على الأمير أيتمش الخضري، وخلع عليه بشفاعة بعض الأمراء.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه ورابع مسرى: نودي بوفاء النيل ست عشرة ذراعًا وإصبعين، من سبع عشره، فركب المقام الناصري محمد إلى المقياس حتى خلق العامود بين يديه على العادة، ثم فتح الخليج، وكان وفاء النيل في رابع مسرى من النوادر التي يجب الحمد للّه عليها.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الأحد: وفي هذا الشهر والذي قبله: كثرت الفواكه والبطيخ، بزيادة في الطيب والخصب ورخص السعر، وللّه الحمد.
وفي يوم الإثنين تاسعه: إنحدر من ساحل بولاق ظاهر القاهرة خمسة عشر غرابًا لغزو الفرنج، بأحسن هيئة، وأكمل عدة، وأتم زاد، وفيها من الأجناد والمطوعة جماعة. فعلى الأجناد وعدتهم مائتان تغرى برمش الزردكاش من أمراء العشرات، ويونس المحمدي أمير أخور من العشرات أيضًا، وسبب هذه التجريدة كثرة عبث المتجرمة من الفرنج، وأخذها مراكب التجار بما فيها، فأنشأ السلطان هذه الأغربة وشحنها بما تحتاج إليه من العدد والأسلحة والمقاتلة، وسيرها، عسى اللّه أن يظفرهم، فانضم إليهم طوائف من أوغاد العامة، وأراذل المفسدين، ومن الزعر المجرمين، حتى بلغوا ألفًا أو يزيدون. و لم ينفق في المماليك مال.
وفي يوم الأربعاء حادي عشرينه: ضربت رقبة رجل من سقاط العجم وسفلتهم، وقد ثبت عليه بشهادة جماعة فوادح وعظائم أوجبت إراقة دمه شرعًا، وكان من جملة أشياع الأمير قرقماس المقتول، وتكلم في السلطان وفي الأنبياء وغيرهم تعجل به العقوبة " ومن ورائه عذاب غليظ " .
وفي يوم الخميس ثماني عشره: خلع على الأمير إسماعيل بن يوسف بن عمر بن عبد العزيز الهواري، وإستقر في إمرة هوارة على عادته، وكان قد عزل بيوسف بن محمد بن إسماعيل بن مازن، وسجن وأشيع أنه يقتل، وخرجت العساكر إلى بلاد الصعيد لقتال هوارة، ثم نفي إلى الكرك ، وسجن بها، فلم تطع هوارة ابن مازن، وجرت مفاسد ببلاد الصعيد آلت إلى فرار ابن مازن وعوده خائبًا إلى السلطان، فقام عدة من الأمراء في عود بني عمر، حتى أجابهم السلطان بعد ما إختلت أحوال البلاد خللاً فاحشًا، وللّه عاقبة الأمور.
وفي هذه الأيام: رسم بتتبع من في القاهرة وظواهرها من العجم الذين يطوفون بالأسواق وفي الطرقات، يستجدون الناس تارة، ويظهرون الصلاح تارة، فقبض على عدة منهم، فضرب قوم نفي جماعة، وضرر هذه الطائفة كثير جدًا فإن كثيرًا منهم ينتحلون مذهب الإلحاد، ويصرحون بتعطل الصانع تعالى ، وينكرون شرائع الأنبياء، ويجهرون بإباحة المحرمات، فاللّه يبيدهم، ويعجل بعقوبة من ينصرهم.
وفي يوم الأحد سادس عشره: عمل المولد النبوي بقلعة الجبل بين يدي السلطان على العادة في مثل ذلك.
وفي خامس عشرينه: جهزت كاملية حرير بفرو سمور للقاضي زين الدين عبد الباسط ، على يد مملوكه أرغون، وكتب بشكره على تقدمته. وفيه تأخر المقر الكمالي محمد بن البارزي عن الركوب إلى الخدمة السلطانية، تبرمًا بثقل مقالبة الخدمة السلطانية، وطلبًا للإعفاء من المباشرة، فأتاه عظماء الدولة يتلافوا خاطره، وهو مصمم على ترك المباشرة، فما زالوا به حتى ركب من الغد يوم الأربعاء سادس عشرينه إلى الخدمة، فخلع عليه، ونزل في موكب جليل إلى داره، وأعيان الدولة وأماثلها بين يديه، فباشر الأمور، ونفذ أحوال الناس على عادته.
وفي يوم الأحد سلخه وهو آخر أيام النسيء : نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعًا إلا إصبعًا واحدًا، وهذا القدر من الزيادة في مثل هذا الوقت من الشهور القبطة كثير جدًا، وهو مما يندر وقوعه، وللّه الحمد. وفيه كتب بإستقرار صلاح الدين خليل بن محمد بن محمد بن محمد بن سابق الحموي في كتابة السر بدمشق، عوضًا عن شهاب الدين أحمد بن زين الدين عبد الرحمن العجلوني .
شهر ربيع الآخر، أوله يوم الثلاثاء: فيه وقع الشروع في الاهتمام بملاقاة رسل القان معين الدين شاه رخ بن تيمور كركان ملك المشرق.
وفي يوم الإثنين سابعه: خلع على قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي وأعيد إلى حسبة القاهرة، وكان منذ عزل عن قضاء القضاة الحنفية متوافرًا على مباشرة نظر الأحباس.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه: وردت تقدمة ثانية من زين الدين عبد الباسط من القدس، وهي ثمانية أفراس، ومائة درهم مينًا فضة.
وفي يوم الخميس رابع عشرينه وخامس عشرين توت : إنتهت زيادة النيل إلى أحد وعشرين إصبعًا من أحد وعشرين ذراعًا، فشمل الري الأراضي وعم به النفع، وللّه الحمد.
وفي يوم السبت سادس عشرينه : قدم رسل شاه رخ إلى القاهرة، وقد زينت الشوارع لقدومهم، وخرج المقام الناصري ولد السلطان وعدة أمراء إلى لقائهم. وأجتمع الناس لرؤيتهم، فكان يومًا مشهودًا، لم نعهد مثله لقدوم الرسل في الدول المتقدمة، ثم أنزلوا في دار أعدت لهم، ثم توجهوا من دارهم بخط بين القصرين إلى القلعة في يوم الإثنين ثامن عشرينه، والمدينة مزينة بأحسن زينة، والشموع وغيرها تشعل، وقد اجتمع عالم عظيم لرؤيتهم، وأوقفت العساكر من تحت القلعة إلى باب القصر في وقت الخدمة، فلما مثل الرسل بين يدي السلطان بالقصر، قرئ كتاب القان، فإذا هو يتضمن السلام والتهنئة بجلوس السلطان على تخت الملك وسرير السلطنة، ثم
قدمت الهدية، وهى مائة فص فيروزج، وإحدى وثمانون قطعة من الحرير، وعدة ثياب، وفرو، ومسك، وثلاثون بختيًا من الجمال، وغير ذلك ، مما تبلغ قيمته خمسة آلاف دينار، ثم قدمت هدية جوكى بن القان وكتابه وأعيد الرسل إلى منزلهم، وأجري لهم من المأكل والحلوى والفاكهة والمال ما عمهم، ثم قلعت الزينة في يوم الثلاثاء سلخه، وكان الناس قد تفننوا في أمور بديعة، أبدوها من أعمالهم في الزينة، ونصبوا قلاع وفي ظنهم أنها تتمادى أيام، فانقضى أمرها بخير.
شهر جمادى الأولى، أهل بيوم الأربعاء: وماء النيل أخذ في النقص، والناس قد شرعوا في زراعة الأراضي.
وفي يوم الإثنين سادسه: نودي بمنع النساء من الخروج إلى الشوارع والأسواق إلا العجائز والجواري، فإمتنعن، ثم نودي لهن بالخروج إلى الأسواق والشوارع من غير تبرج بزينة.
وفي يوم الخميس تاسعه: خلع علي شمس الدين أبي المنصور كاتب اللالا، وأعيد إلى نظر الاصطبل، عوضًا عن ابن القلانسي.
وفي يوم الجمعة عاشره: ورد الخبر بنصرة الغزاة المجردين على الفرنج.
وفي يوم الأحد ثاني عشره: جمع السلطان الرسل الواردين من القان بين يديه على وليمة عملها لهم، ثم خلع عليهم، ونزلوا في تجمل زائد.
وفي يوم الإثنين عشرينه: خلع على القاضي بدر الدين أبى المحاسن محمد بن ناصر الدين محمد بن الشيخ شرف الدين عبد المنعم البغدادي ، أحد نواب الحنابلة، وإستقر قاضي القضاة الحنابلة، عوضًا عن محب الدين أحمد بن نصر اللّه بعد موته .
وفي يوم الثلاثاء حادي عشرينه : قدم الغزاة في البحر، وكان من خبرهم أنهم إنحدروا في النيل من ساحل بولاق إلى دمياط، ثم ركبوا بحر الملح من دمياط وساروا في جزيرة قبرس فقام لهم متملكها بزوادتهم، ومروا إلي العلايا فأمدهم صاحبها بطائفة في غرابين. ومضوا إلي رودس، وقد إستعد أهلها لقتالهم، فكانت بينهم محاربة طول يومهم، لم يكن فيها نصفه. وقتل من المسلمين إثنا عشر من المماليك، وجرح كثير، وقتل وجرح من الفرنج كثير فلما خلص المسلمون بعد جهد، مروا بقرية من قرى رودس، فقتلوا وأسروا ونهبوا ما فيها، وقدموا دمياط، ثم ركبوا النيل الى القاهرة، وأسفر وجه الأمراء أنهم لم يكن لهم طاقة بأهل رودس.
وفي ليلة الخميس ثالث عشرينه: سقطت قنطرة باب البحر خارج القاهرة، وهلك طائفة ممن كان عليها.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: ورد جواب السيد الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة المشرفة، الذي جهز إليه بحضوره، يتضمن أنه تجهز للقدوم، ودخل المسجد الحرام ليطوف طواف الوداع، فتعلق به التجار، وجماعة المجاورين، وأهل مكة، يسألونه ويرغبون إليه في أن يقيم ولا يسافر، فإنه حتى سافر لا يأمنون على أنفسهم، وأنه بعرض ذلك على الآراء الشريفة فإن إقتضت أن يحضر حضر، وإن إقتضت أن يقيم أقام، وورد قرين مطالعته مطالعة الأمير سودون المحمدي المقيم بمكة، يشير بأن المصلحة في إقامة الشريف وعدم سفره، فبعد اللتيا واللتي أذن له في الإقامة، وأعفي من الحضور، على أن يحمل عشرة آلاف دينار، وجهز له تشريف.
وقي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه: خلع على خواجا كلال رسول القان شاه رخ خلعة السفر، وقد إعتني بها عناية لم تتقدم مثلها لرسول، وهي حرير مخمل بوجهين، وطراز زركش فيه خمس مائة مثقال من الذهب، وأركب فرسًا بسرج ذهب وكنفوش ذهب فيها ألف دينار ذهبًا، وجهزت صحبته هدية، ما بين ثياب حرير سكندري، وسرج وكنفوش ذهب وسيوف مغلفة بذهب وغير ذلك مما تبلغ قميته سبعة آلاف دينار، سوى الهدية المذكورة.
وفي هذا الشهر: ادعي على يهودي متزوج أنه زنى ليهودية، فعني به بعض خواص السلطان حتى حكم له بعض نواب القضاء الحنفية برفع الرجم عنه. ونفذ حكمه من عداه من القضاة الذين مذهبهم رجمه، فكان هذا من شنيع ما حكم به زمنًا. وهو وإن كان مذهب الحنفية أن الكتابي المتزوج لا يرجم، فإنه لم يحكم به قاض فيما أدركناه، لكن حكم بعض نواب القضاة الحنفية في الأيام الأشرفية برسباى بشنعاء ، وقد ضرب العفيف النصراني بحضرة السلطان حتى أظهر الإسلام. وكان له أولاد بالغون، فكره إسلامهم، وخاف أن يكرهوا عليه، فرغب إلى من حكم له ببقائهم على النصرانية، وأن لا يدخلوا في دين الإسلام، فجاء من حكمه بطامة لم يعص الله بأقبح منها، وعدت مع ذلك أنها حكم شرعي، فيا للّه، ما أخوفني من سوء عاقبة هذه الأحكام، ولله در القائل:
إذا جار الأمير وصاحباه ... وقاض الحكم داهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
شهر جمادي الآخرة، أهل بيوم الجمعة: وأهل النواحي مشغولون بزراعة الأراضي.
وفي يوم السبت ثانيه: ضرب شهاب الدين أحمد بن إسماعيل بن عثمان الكوراني الشافعي، ورسم بنفيه. وكان من خبره أنه قدم إلى القاهرة قبيل سنة أربعين وثمانمائة وهو في فاقة، فاستدناه المقر الكمالي محمد بن البارزي كاتب السر، ووالي إحسانه عليه، فتعرف بالناس، وتردد إلى الأمراء، وإختص بالقاضي زين الدين عبد الباسط، وصارت له وظائف ومرتبات، وتردد إلى السلطان، وعرف بالفضيلة، فصار له أعداء، وإتفق أن كانت بينه وبين شخص من الحنفية تعصب بسببها على الكوراني جماعة، وكأنه طاش في رياسته، ونقم السلطان وغيره عليه أشياء، ساعدهم فيها سوء المقدور عليه، حتى أهين في مجلس السلطان بحضرة القضاة، وأخرجت وظائف لغيره، ونفي إلى دمشق ثم أخرج منها، وقد عزم على الحج إلى جهة حلب، فلم يشعروا به إلا وقد وصل إلى الطور، فرسم عليه، وأخرج من الطور إلى الشام، ورسم أن يعدى به من الفرات، وكثر ذامه لسوء حظه، ولا قوة إلا باللّه .
وفي ثالثه: إستقلت رسل شاه رخ بالمسير إلى بلادهم، بجواب كتابه، والهدية المذكورة.
وفيه نودي من كانت له مظلمة فعليه بالوقوف للسلطان في يومي الثلاثاء والسبت.
وفي يوم الإثنين رابعه: خلع على الأمير تمرباى رأس نوبة النوب، وإستقر أمير الحاج.
وفي يوم الثلاثاء خامسه: إبتدأ السلطان بالجلوس للحكم بين الناس.
وفي يوم الخميس سابعه: خلع على الشريف بدر الدين حسين بن أبي بكر الفراء الحسيني وإستقر نقيب الأشراف ، عوضًا عن الشريف حسن بن علي بن أحمد بن علي بن حسين الحسني المعروف بإبن قاضي العسكر الأرموي.
وفي يوم الخميس رابع عشره: قدم الأمير سيف الدين جلبان المؤيدي نائب الشام، فركب السلطان من القلعة إلى لقائه، ومنذ تسلطن لم ينزل من القلعة إلا هذا اليوم، فلقيه بمطعم الطور طرف الريدانية خارج القاهرة ، وعاد والنائب في خدمته ، حتى أنزل في بيت أعد له.
وفي يوم السبت سادس عشره: أحضر نائب الشام تقدمته، وهي ثمانون فرسًا بغير سروج، وثلاثون بختيًا، وعدة بغال، وقماش ما بين ثياب حرير وثياب بعلبكي وثياب صوف مربع، وفرو ما بين وشق وسمور وقاقم وسنجاب ، وغير ذلك مما قيمة الجميع نحو عشرة آلاف دينار، وجلبان هذا من جملة مماليك الأمير تنبك أمير أخور الظاهري برقوق، رباه صغيرًا، ثم صار من بعد موته في خدمة الأمير جركس المصارع، وإنتقل من بعده إلى خدمة الأمير شيخ المحمودي، وتقلب معه في أطوار تلك الفتن حتى تسلطن شيخ وتلقب بالملك المؤيد، فأنعم عليه بإمرة، ثم عمله أمير آخور، وولى نيابة حماة في الأيام الأشرفية برسباى عدة سنين، كثر فيها شكاته، ثم نقل بعد موت الأشرف إلى نيابة حلب، ثم إلى نيابة الشام.
وفي ليلة الإثنين ثامن عشره: قدم قاضي القضاة الحنفية بدمشق ، شمس الدين محمد ابن علي بن عمر الصفدي في الترسيم، فسلم إلى المقر الكمالي محمد بن البارزي كاتب السر، وقد رسم للذي أحضره من دمشق أن يأخذ تسفيره ألف دينار، توزعها وناظر الجيش وكاتب السر بدمشق، وسبب ذلك أن رجلاً بغداديًا من فقهاء الحنفية يذكر أنه من ولد الإمام أبي حنيفة رحمه اللّه قدم من دمشق، وتردد إلى مجلس السلطان، فكانت محنة أحمد الكوراني بسببه كما هو مذكور في ترجمته من كتاب " درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة ثم أفرغ سمه ثانيًا في شمس الدين الصفدي ، ووشي به إلى السلطان أنه سئل عن الحكمة في كثرة جماع النبي صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقال: " ليحصنهن من الزنا " وأن هذا كفر يوجب إراقه دمه، وشنع، وأبدى وأعاد " وأعانه عليه قوم آخرون " فرسم بإحضاره، وفي الذهن أنه يقتل.
وفي هذه الأيام: مرت سحابة، فأصبح كثير من المزروعات وقد صقع وأسود، كالخيار والفول والجزر، فلم ينتفع به، وأفسدت الدودة كثيرًا من البرسيم المزورع بالوجه البحري، فأعيد بذره.
وفيه أيضًا غلا سعر اللبن والجبن واللحم، وقل وجود ذلك بالأسواق.
وفي يوم الإثنين خامس عشرينه: خلع علي تقي الدين عبد الرحمن بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر اللّه، أحد موقعي الدست، وناظر دار الضرب، وإستقر في نظر جده، عوضًا عن تاج الدين بن حتى السمسار، وخلع على شاهين أحد المماليك وإستقر شاد جده، وخلع على الأمير جلبان نائب الشام خلعة السفر، وتوجه من الغد يوم الثلاثاء سادس عشرينه إلى محل كفالته.
وفيه أنعم بإقطاع الأمير ممجق بعد موته على تغرى برمش بن جركس. ثم خلع في يوم الإثنين ثالثه، وإستقر نائب القلعة، عوضًا عن ممجق وتغرى برمش من محاسن هذه الدولة، لمعرفته الحديث ورجاله المعرفة الجيدة إلى غير ذلك من الفضائل.
شهر رجب أوله يوم السبت: في يوم الإثنين ثالثه: ركب السلطان بثياب جلوسه، ومضي من القلعة، فمر من صليبة جامع ابن طولون إلى الميدان الكبير بخط موردة الحبس وقد خرب فكشف ما يحتاج إليه من العمارة، ورسم بمرمته، وعاد سريعًا وهذه ثاني ركبة ركبها في سلطته .
وفي يوم الإثنين عاشره: أنعم بإقطاع الأمير ألطنبغا المرقبي بعد موته على الأمير طوخ الجمكي رأس نوبة ثانيًا، وأنعم بإقطاع الأمير طوخ على الأمير قانبيه الجركسي شاد الشراب خاناه، وأنعم بإقطاع قانبيه على ثلاثه نفر: الأمير تغري برمش وإستقر نائب القلة عوضًا عن الأمير ممجق، وعلى الأمير يوسف بن محمد بن الأمير إسماعيل بن مازن وإستقر شيخ لهانة بالبهنساوية، وعلى تغرى بردي دوادار قراسنقر وهو كاشف الجيزة.
وفي هذه الأيام: أيضًا برزت التجريدة المتوجهة إلى المدينة النبوية، حتى أناخت بالريدانية خارج القاهرة، وعدتها خمسون مملوكًا، عليهم الأمير جانبك المعروف بنائب بعلبك، أحد أمراء العشرات ، وإستقلت بالمسير في يوم الجمعة رابع عشره وتوجه صحبتهم ناظر جدة وشادها، وعدة ممن يريد الحج والعمرة، وتوجه أيضًا أحد خاصكيه السلطان لإحضار ولي الدين محمد بن قاسم مضحك السلطان الملك الأشرف برسباى وكان قد رسم بإحضاره غير مرة آخرها أن كتب للأمير سودون المحمدي بتجهيزه من مكة في البحر إلى القاهرة، فأخرجه من مكة وأركبه البحر من جدة ، فنزل ينبع، ومضي إلى المدينة النبوية. ثم عاد إلى ينبع، وإعتذر عن الحضور، فلم يقبل عذره، وجهز له الخاصكي، ورسم به أن يأخذه تسفيره من ابن قاسم ألف دينار.
وفي يوم الأحد سادس عشره : عقد مجلس بن يدي السلطان ، حضرة قضاة القضاة الأربع، وجيء بشمس الدين محمد الصفدي قاضي الحنفية بدمشق من منزله بجوار كاتب السر، فأوقف، وأدعي عليه غريمه حميد الدين بن أبي حنيفة عند قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر بأنه قال: أنا أتخير في الحكم، فتارة أحكم بقول أبي حنيفة، وتارة بمذهب الشافعي أو مالك " فأجاب: " بأني إنما قلت أتخير من قول أبي حنيفة وأصحابه أبي يوسف ومحمد وزفر، وأحكم. بما أختاره من ذلك " ، فأجاب القضاة الأربع بأنه لا شيء عليه في ذلك، ودفعوا خصمه بحجاج وجدال طويل، وهو يأبى إلا أن يعزر، حتى قال الشافعي للسلطان: وأي تعزير حمله من دمشق إلى مصر، وغرمه للمسفر ما غرم، ثم ها هو قائم على رجليه يدعي عليه فإنفضوا على ذلك، وجلس بين يدي السلطان وقبل يده، وإنصرف منصورًا بعناية القاضي الشافعي وكاتب السر به، وإلا فما كان ظن المتعصبين مع حميد الدين إلا أنه ينكل بالصفدي، ويحكم بفسقه، وتخرج وظائفه، إلى غير ذلك، وكان قد كتب إلى دمشق بالكشف عما نسب إليه من قوله في أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحصنهن من الزنا فكتب جماعة من قضاتها وأعيان فقهائها بأنهم فحصوا عن ذلك فلم يجدوا له أصلاً، وأبدوا مخاصمة وقعت بينهما، فلما سكن غضب السلطان عند قراءة ذلك عليه، علم حميد الدين وعصبته أنه قد نجا غريمهم من القتل برغمهم، فعدلوا إلى ما يوجب بزعمهم النكال به فكان ما كان، ورد الله حاسده بغيظه، لم ينل بسعيه عرضًا.
وفي يوم الإثنين سابع عشره: عزل سراج الدين عمر الحمصي عن قضاء القضاة بدمشق وقد وشي به شخص إلى السلطان من خواصه أنه أخذ على حكمه في قضية ذكرها مبلغًا من المال، وكان السلطان لما ولي الحمصي لم يكلفه لمال، وشرط عليه أن لا يرتشي في أحكامه. وعين السلطان شمس الدين محمد بن الونائى لقضاء دمشق.
وفيه خلع على الأمير يوسف بن محمد بن إسماعيل بن مازن، وإستقر أمير هوارة البحرية، عوضًا عن علي بن غريب، وذلك أنه كانت في هذه الأيام فتن بين فزارة ومحارب، وبين هوارة البحرية بناحية البهنساوية، فقبض الكاشف على ابن غريب، فولي السلطان عوضه ابن مازن، وعين معه تجريدة.
وفي يوم الخميس عشرينه : خلع علي شمس الدين محمد بن علي بن عمر الصفدي، وإستقر على عادته في قضاء الحنفية بدمشق.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه: ورد كتاب الغالب باللّه عبد اللّه بن محمد بن الأمير أبي الجيوش نصر بن أمير المسلمين أبى عبد اللّه بن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أبي الوليد إسماعيل بن نصر، متملك أغرناطة من الأندلس، يتضمن ما فيه المسلمون بغرناطة من الشدة مع النصارى أهل قرطبة وأشبيلية، ويسأل النجدة.
شهر شعبان، وأوله يوم الإثنين: فيه ركب السلطان إلى الرصد المطل على بركة الجيش، خارج مدينة مصر الفسطاط، ومعه الأمراء ومباشرو الدولة، وعمل لهم مدة، فأكلوا وعادوا في أثناء نهارهم. وفيه توجه الأمير سيف الدين طوغا قز السيفي أستادار إلى ناحيتي الشرقية والغربية، لأخذ ضيافات أهلها التي أحدثوها على أهل النواحي، فيحل بالناس من ذلك بلاء لا يوصف. وفيه أضيف نظر دار الضرب إلى نظر الخاص كما هي العادة القديمة، عوضًا عن جوهر الخازندار والزمام بعد موته.
وفي يوم الأربعاء ثالثه: سارت التجريدة مع ابن مازن إلى بلاد البهنساوية، وعدتها ثلاثمائة مملوك وعليهم بايزيد، أحد أمراء العشرات.
وفي يوم السبت سادسه: خلع على الطواشي زين الدين هلال شاد الحوش ونائب الزمام، وهو أحد خواص خدام السلطان الملك الظاهر برقوق، ربي في داره بين حرمه، وإستقر زمام الدار، عوضًا عن جوهر السيفي قناق باى بعد موته .
وفي يوم الأحد سابعه: خلع على الأمير زين الدين عبد الرحمن ابن القاضي علم الدين داود بن زين الدين عبد الرحمن بن الكويز، وإستقر أستادار الذخيرة عوضًا عن الجوهر المذكور وخلع على الطواشي جوهر التمرازي الحبشي ، وإستقر خازندارا عوضًا عن جوهر السيفي المتوفي وفي تاسعه: هبت ريح شرقية بطرابلس الشام وأعمالها، وإشتدت، فهدمت الدور والموادن وصعقت أقصاب السكر بإجمعها.
وفي هذه الأيام: إشتد البرد بالقاهرة، حتى جمدت المياه بعدة مواضع، وأبيع الجليد بالأسواق في يوم الخميس حادي عشره، وجمدت بركة من مستنقع ماء النيل في بعض الضواحي بحيث صارت قطعة واحده ، ومشي فوقها الأوز، وأصبحت زروع كثيرة من الفول وقد إسودت وحفت، فحملت وأوقدت في الأفران، وإسود ورق كثير من شجر الجميز وغيره.
وفي يوم الأربعاء سابع عشره: ولي شمس الدين محمد الونائي قضاء القضاة بدمشق، عوضًا عن الحمصي، ولم يخلع عليه، وحملت له الخلعة ليلبسها إذا قدم دمشق بسؤاله ذلك، وأمهل بالسفر إلى أثناء شوال، وأضيف إليه عدة وظائف، منهما خطابة الجامع الأموي، عوضًا عن البرهان إبراهيم بن الباعوني ، ونظر الأسوار، ونظر الأسرى، وأخرج له من الاصطبل السلطاني بغلة بقماش كامل وزناري، وهذا شيء قد بطل منذ سنين، فجدده عناية من السلطان يه.
وفي يوم السبت عشرينه: ركب السلطان من القلعة ونزل بخليج الزعفران، كعادة المؤيد شيخ والأشرف برسباى، ومدت للأمراء أسمطة جليله بحسب الوقت، وحمل جماعة من المباشرين أنواعًا من الحلوى والفواكه وغيرها، ثم ركب بعد صلاة الظهر، ودخل من باب القصر، فشق شارع القاهرة، وخرج من باب زويلة إلى القلعة، وهذه أول مرة شق فيها القاهرة بعد سلطنته، وكان هذا وهو بثياب جلوسه، ولم يكن هذا في القديم، وأول من ترخص فيه الناصر فرج، فإنه ركب بثياب جلوسه، ثم إقتدي به في ذلك الملك المؤيد شيخ، ومن بعده، وعد هذا مما ضيع من قوانين المملكة، وبطل من رسومها .
وفي هذا الشهر: هم السلطان بإخراج الرزق الأحباسية عمن هي بيده. ثم إستقر الحال على أن جبي من الرزق الأحباسية التي بأراضي الجيزة التي ببلاد الملك من ضواحي القاهرة ، عن كل فدان مائة درهم من الفلوس، فجبيت، وأنعم بما يجبي من الجيزة على الوزير إعانة له، وما يجبي من الضواحي يصرف في عمل الجسور. وفيه أيضًا رسم بفك قيد الأمير جانم أَمير أخور الأشرفي، بفك وبقي في سجنه بالمرقب بغير قيد.
وفي ثامن عشره: قبض بمكة على أمين الدين محمد بن قاسم، فألزمه المتسفر لإحضاره ألف دينار، فأورد له منها، ونزلا في البحر يريدان القاهرة.
شهر رمضان، أوله يوم الثلاثاء: فيه ورد الخبر بأنه قبض على الأمير قانصوه بدمشق ، فرسم بسجنه في القلعة.
وفي يوم الخميس عاشره: خلع علي شمس الدين محمد بن عامر أحد نواب الحكم المالكية، وإستقر في قضاء الإسكندرية، عوضًا عن جمال الدين عبد اللّه الدماميني.
وفي يوم السبت ثاني عشره: خلع على القاضي معين الدين عبد اللطف بن شرف الدين أبي بكر الأشقر، وإستقر في نيابة كتابة السر وغيرها من وظائف أبيه بعد موته .
وفي هذه الأيام: ألزم القاضي زين الدين عبد الباسط بحمل خمسة آلاف دينار. وذلك أنه وجد في تركة جوهر الخازندار الزمام أنه حمل إلى عبد الباسط في أيام مصادرته خمسة آلاف دينار، فتوجه القاصد إليه بحملها فعوض عنها قماشًا، وأذن أن يباع من عقاره بالقاهرة ما يكمل تتمة ذلك، فسامحه السلطان بألف دينار، فأورد إلى الخزانه أربعة آلاف دينار.
وفيها أيضًا فوض السلطان نظر الجامع الحاكمي بالقاهرة إلى الأمير دولت بيه الدوادار. وأنعم برسم عمارته بألف دينار، وحملت إليه من الخزانة السلطانية فركب وكشف أحواله، فوجد سقوفه قد سقط منها مواضع، وفيها مواضع ساقطة، وبلاطه قد تلف منه كثير، ومقاصيره الخشب قد تلف كثير منها، وميضات الجامع متهدمة، وأحوال الجامع بمرور النساء والصبيان وغيرهم ملعبة فمنع دخول النساء الجامع وألزم بوابيه أن لا يمكنوا إمرأة ولا صغيرًا من الجلوس فيه، ولا المرور منه، وكان هذا الجامع قد فسدت أحواله، فأصلحه اللّه على يد هذا الأمير، وغلقت أبوابه عدة أيام، سوى بابين، ثم فتحت أبوابه كلها، وامتنع الناس كافة من المرور في صحن الجامع بنعالهم، وشرع في عمارة السقوف والمقاصير والبلاط، وهدم الميضأة بأسرها، وأنشأها إنشاء جديدًا وتشدد في جباية ريعه، واستولى على جميع ما هو موقوف عليه، وهو ثلاث جهات: إحدها الوقف القديم، وهو ما بين مساكن وأحكار، وكان من القديم إلى آخر وقت بيد قضاة القضاة الشافعية، ومنه تصرف معاليم المؤذنين، والإمام والخطب، والقومة ونحو ذلك، وهو وقف ضعيف متهدم، والجهة الثانية: وقف المظفر بيبرس الجاشنكير على أرباب وظائف سماها في كتاب وقفة ما بين دروس فقه وحديث وقراء وملء صهريج بالجامع، ونظره أيضًا للقاضي الشافعي، والجهة الثالثة: رزقة وقفها الناصر حسن، على الرماس وذريته، وأن يشترى منها حصر وزيت للجامع، ونظرها لهم، فاستوى دولت بيه على جمع ذلك.
وفي هذا الشهر: أيضًا رسم بنفل الطواشي خشقدم المقدم من المدينة النبوية إلى القدس، وإقامته هناك بطالاً.
وفي سلخه: قدم الأمير طوغان قز أستادار من الوجه البحري، وقد جبي من أموال أهله الضيافات التي أحدثوها، وحمل تقدمته ما بين خيل وجمال وغير ذلك مما تبلغ قيمته زيادة على عشرة آلاف دينار.
شهر شوال، أوله يوم الخميس: فيه صلى السلطان صلاة العيد بجامع القلعة على العادة، وعندما سلم الإمام في آخر الصلاة، وثب كثير من المماليك يدًا واحدة يريدون المبادرة لدخول القصر حتى تلبس أرباب الخلع خلعهم، وقام بقيامهم جماعة، فاشتد زحام الناس بحيث مات والي باب القلة، وسقط جماعة أشفوا على الموت مغمي عليهم، فأفاق أكثرهم، ومات بعضهم.
وفي يوم الجمعة ثانيه: كتب بعزل ابن عامر عن قضاء الإسكندرية، وطلب ابن الدماميني.
وفي ثالثه: قدم الأمير بايزيد ومن معه من المجردين بالبهنساوية، وقد قرروا على هوارة ما لا يقومون به.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشره: قدم قود الشريف بركات أمير مكة، وأخبر قاصده بوصول ما رسم به وهو فلفل بعشرة آلاف دينار إلى الطور، فبطل الأرجاف بعزله وولاية أخيه، وقدم أيضًا القاضي جمال الدين عبد اللّه بن الدماميني من الإسكندرية، فخلع عليه في يوم الخميس نصفه، وإستقر في قضاء الإسكندرية على عادته، وعاد بن عامر إلى منزله، فلزمه بطالاً، لا حاجتك قضيت ولا صديقك أبقيت.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: خرج محمل الحاج مع الأمير تمرباى رأس نوبة النوب . وخرج في هذه السنة للحج ثلاثة من أمراء الألوف: تمرباى هذا، وطوخ، وتمراز أمير سلاح، وسبعة أمراء ما بين عشرات وطبلخاناه ، منهم والي القاهرة، ومنهم سودون قرقاش النوروزي أحد رؤوس النوب، وأمير عشرة وهو أمير الركب الأول، فرحل من بركة الحجاج الأمير تمراز في حادي عشرينه، وتبعه كثير من الحجاج، ورحل سودون قرقاش في ركب كبير من الغد، ورحل الأمير تمرباى بمحمل الحاج في ثالث عشرينه، وكتب إلى الشريف بركات، وإلى أمير المدينة النبوية، وإلى أمير ينبع بإعفائهم مما كانوا يقومون به من المال لأمير الركب في كل سنة، وأكد السلطان على الأمراء عندما وادعوه أن لا يأخذوا من المذكورين شيئًا، فما أجمل هذا وأحسنه إن عمل به .
وفي حادي عشرينه: قدم بن قاسم من مكة، فسلم إلى الأمير دولت بيه الدوادار.
وفي هذا للشهر: خربت مدينة الفيوم، وجلا أهلها عنها، لغلبة ماء بحر يوسف .
شهر ذي القعدة أوله يوم الجمعة: في ثالثه: ركب مولانا السلطان لهدم ميضأتين ودور في زيادة الجامع الطولوني، كما هدم دار ابن النقاش، فصرف اللّه قلبه عن ذلك، ومضي من الجامع، بعدما كشف أحواله إلى الميدان الكبير، فنظر ما عمر في سورة، وعاد سريعًا.
وفي يوم السبت تاسعه: قدم الأمير قانباى الحمزاوي نائب حلب بإستدعاء، فركب السلطان إلى مطعم الطيور ونزل به، وتقدم الأمير الكبير الأتابك في عدة من الأمراء حتى قدموا به، فخلع عليه، وعاد السلطان وهو في الخدمة، فصعد السلطان إلى القلعة، ومضي النائب إلى دار أعدت له، فنزلها، وقدم من الغد تقدمته، وهي مماليك، وخيول، وجمال، وقماش، وفرو، وغير ذلك مما قيمته نحو عشرة آلاف دينار.
وفي يوم الإثنين حادي عشره: توجه الأمير أينال الأجرود مجرداً في جماعه من المماليك نحو بلاد الصيد، لقتال محارب.
وفي هذه الأيام: أفرج عن ولي الدين محمد بن قاسم من عاقته ببيت الأمير دولت بيه، على أن يحمل خمسة عشر ألف دينار، ضمنه فيها جماعة. وفيها زاد النيل نحو ذراعين ونصف، حتى صار في إثني عشر ذراعًا ونصف، والوقت زمن الربيع، والشمس في برج الحمل، ويوافق من شهور القبط برمودة ، وجرت العادة أن في مثل هذا الزمان يأخذ النيل في النقصان، ويسمى الإحتراق ، وهذا من النوادر، إلا أنه وقع مثل ذلك في سنة تسع وثلاثين وثمانمائة. وكثر في هذا الزمان تخاصم الناس، وتعدي بعضهم على بعض، وتزايد وقوع الشر فيما بينهم، وشنع جهرهم بالسوء ، وتناجيهم بالإثم والعدوان، فاللّه تعالى يكفي شر ذلك. وقدم الخبر بأن صاحب قشتيلة من بلاد الفرنج عمر أربعين بيوني وعشرة أغربة يريد رودس ، ليأخذ بثأرهم من المسلمين . وفيها منع الأمير أيتمش الخضري من الإجتماع بالسلطان، وأمر بلزوم بيته، وهذا ثاني مرة منع فيها.
وفي حادي عشرينه: إستقل نائب حلب بالمسير عائدًا إلى محل كفالته على عادته، بعد أن خلع عليه.
وفي رابع عشرينه : قدم الخبر أيضًا من طرابلس بأن أهل رودس قد إستعدوا للحرب، وهم في إنتظار عمارة الفنش صاحب قشتيلة، وأن كثيرًا من المسلمين سكان الساحل قد أخلوا ضياعهم، وصعدوا إلى الجبال.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه: ورد الخبر بأن عشرة أغربة من عمارة الفنش وصلت إلى ساحل بيروت ، فأخذت مركبًا مشحونًا بالبضائع ، وأنهم باعوا ممن أسروا منه من المسلمين أربعين رجلاً، وأقلعوا من غير أن يقاتلهم أحد، فأمر بعرض أجناد ليخرجوا إلى السواحل، فبدأ الأمير تغري بردي الدوادار.
في يوم السبت سلخه: بعرضهم، على أيخرج منهم مائة جندي إلى رشيد والطينة.
شهر ذي الحجة، أوله يوم الأحد: في يوم الأربعاء رابعه: عرض الأمير تغري بردي الدوادار أجناد الحلقة المجردين، ولم يعين إلا من كان سجل إقطاعه بثلاثين ألف درهم فما فوقها ، ثم عفوا من التجريدة لما جرت به عادتهم من تداول كلمة ألقاها الشيطان بينهم ، أن من تعرض لأجناد الحلقة زالت دولته.
وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبرت كتبهم بكثرة المراعى ورخاء الأسعار وأمن الحجاج وسلامتهم، وأن الشريف بركات أمير مكة قابل الأمراء ولبس التشريف السلطاني على العادي، إلا أنه كانت وقعة قريب خليص بين أمير ركب الكركيين وبين حجاج ينبع، قتل فيها من الينابعة زيادة على عشرين رجلاً، ونهبت أموالهم، وبلغت نفقات السلطان في نفقات المماليك وصلات الأمراء والتراكمين وغيرهم وفي أثمان مماليك إشتراهم ونفقات تجاريد جردها وغير ذلك، في مدة أولها موت الأشرف برسباى وأخرها سلخ هذه السنة، وذلك مدة ثلاث سنين، مبلغ ثلاثة آلاف ألف دينار ذهبًا، وهي ما خلفه الأشرف برسباى من الذهب والدراهم والبهار، والجمال، والخيل، وثياب الحرير، والبعلبكي، وأنواع الفرو، ومن الغلال والقنود، والأعسال، والسلاح، وغير ذلك، مع ما دخل إلى الخزانة في أيام سلطنته وهو نحو خمسمائة ألف دينار، نفذ ذلك كله، وعلى الله العوض.
وفي هذا الشهر: زاد النيل بعد نقصه حتى تجاوز إثني عشر ذراعان وذلك في بشنس.
وفيه وردت تقدمة أربعة من القاضي زين الدين عبد الباسط ، بعد ما وصلت له كاملية بفرو سمور، وحجرة بقماش كامل، فكانت تقدمته هذه خيلاً وفرواً وثياب وحرير.
وفي هذه السنة : تجددت عمارة مواضع عديدة، منها مشهد السيدة رقية قريبًا من المشهد النفيسي كان قد إتخذه بعض الناس سكنًا ، وتعطلت زيارته مدة سنين، فجدد عمارته السيد بدر الدين حسين بن الفراء نقيب الأشراف، في أول شعبان.
وفي هذا الشهر: أيضًا جددت عمارة جامع الصالح طلائع بن رزيك خارج باب زويلة، وقام بذلك رجل من الباعة وجدد أيضًا جامع الفاكهيين بالقاهرة، وجامع الفخر بخط سويقة الموفق قريب من بولاق وجدد أيضًا عمارة جامع الصارم قريب من بولاق .
وفي يوم الجمعة رابع شهر رمضان: أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه في هذه السنة الطواشي جوهر نائب مقدم المماليك بالرميلة تحت القلعة.
وفي أول شوال: أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه الأمير تغري بردي البكلمشي الدوادار المعروف بالمؤذي، بخط الصليبة. وأما اليمن فقد خرج عن متملكها ضياع تعز ، وحسبه أنه يحفظها، فإن البلاد خرجت عنه من زبيد إلى بيت حسين، وصارت العرب المعازبة تركب في نحو ألف فارس .
ومات في هذه السنة مما له ذكرموفق الدين علي بن أبي بكر الناشري، قاضي القضاة ببلاد اليمن، في خامس عشرين صفر بمدينة تعز عن تسعين سنة. ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير صارم الدين إبراهيم بن الأمير منجك اليوسفي ، في يوم الأحد خامس عشر شهر ربيع الأول، عن نحو سبعين سنة بدمشق، وكان يوصف بدين وعفة، وحظي في الدولة المؤيدية شيخ، والدولة الأشرفية برسباي، وكان يقدم في كل سنة إلى السلطان بهدية، ويشاور في الأمور، وكان له غنى وثراء، وأفضال على قوم يعتقدهم بدمشق.
ومات سعد الدين إبراهيم بن المرة في يوم الخميس عاشر شهر ربيع الآخر بالقاهرة، وقد أناف على الستين سنة بعد ما تعطل من المباشرة، ولزمه دين كبير، حبس من أجله مدة، إحتاج فيها إلى سؤال الناس، وكان له بر وأفضال، وكان حشمًا، يحب الفخر ويكثر من إتلاف المال، فاللّه يعفو عنه.
ومات مبارك شاه رسول القان شاه رخ مات بغزة في يوم الأحد ثالث عشر ربيع الآخر، وكان يوصف بمعرفة وفضيلة وعقل. ومات الخواجا كلان بن مبارك شاه المذكور، قام بعد موت أبيه، وقدم بالهدية والكتاب إلى السلطان وهو متمرض، فمثل بين يدي السلطان حتى ثقل مرضه، ومات في يوم الثلاثاء تاسع جمادي الأولى، فدفن خارج باب النصر من القاهرة ثم نقل هو وأَبوه إلى القدس، فدفنا هناك ومات القاضي شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن رسلان البلقيني، المعروف بالعجمي الشافعي قاضي المحلة، في يوم الثلاثاء رابع عشر جمادي الأولى، وكان من فضلاء الشافعية.
ومات قاضي القضاة محب الدين أبو الفضل أحمد ابن شيخنا جلال الدين نصر اللّه ابن أحمد بن محمد بن عمر الششتري الأصل ، البغدادي المولد والمنشأ، الحنبلي، في يوم الأربعاء خامس عشر جمادي الأولى، ومولده ببغداد في شهر رجب سنة خمس وستين وسبعمائة، وقدم القاهرة في سنة ثمان وثمانين، ولزم شيخنا صلاح الدين محمد بن الأعمى الحنبلي، وتفقه به، وواظب شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وشيخنا سراج الدين عمر بن الملقن، وبرع في الفقه والأصول والحديث والعربية، وقرأ بنفسه وسمع على شيوخنا عدة كتب، وناب في الحكم عن ابن المغلي، ثم ولي القضاء مستقلاً عدة سنين حتى مات ، ودرس في عدة مواضع، ولم يخلف في الحنابلة بعده مثله، ولا أعلم فيه ما يعاب به، لكثرة نسكه ومتابعته للسنة، إلا أنه ولي القضاء، فاللّه تعالى يرضى عنه أخصامه.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن بوالي بدمشق في سابع عشره، وقد ولي أستاداراً في الأيام المؤيدية شيخ ، ثم إستمر أستادارًا بدمشق، وهو معدود من الظلمة.
ومات القاضي شهاب الدين أحمد بن عيسى الحنبلي، أحد نواب الحكم بالقاهرة، في يوم الخميس ثالث عشر جمادي الأولى، وقد رأس، وشكرت سيرته، وإشتهر بالعفة.
ومات أمين الدين عبد اللّه بن سعد الدين أبي الفرج بن تاج الدين موسى، في يوم الأحد ثالث جمادي الآخرة وكانت له رياسة ضخمة في أيام أبيه سعد الدين ناظر الخاص، وتولى بعده نظر الإصطبل، ثم إنحط قدره، وتكسح، وعرف بصحبة جماعة من أهل الدول، فإذا دخل إليهم خدمه حتى يجلس ثم يحملوه إذا ركب، وحج غير مرة، وشاهدته وهو محمول يطوف بالبيت، وبلوت منه مروءة وخفة روح، عفي اللّه عنه.
ومات الأمير سيف الدين الطنبغا المرقبي في يوم الإثنين عاشر شهر رجب، وهو من جملة المؤيدية، عمله المؤيد شيخ في أيام تلك الفتن بقلعة المرقب من عمل طرابلس، فأقام بها مدة فعرف بينهم بالمرقبي، فلما تسلطن، رقاه حتى صار أمير مائة مقدم ألف حاجب الحجاب، ثم حمل بعد موت المؤيد طول الأيام الأشرفية، وتلاشت أحواله. فلما كانت أيام السلطان الملك الظاهر جقمق ، إنتعش وصار من جملة الأمراء الألوف حتى مات بها.
ومات زين الدين قاسم بن البشتكي، في يوم السبت ثامن رجب، بناحية يبنا من عمل فلسطين، ولم يدفن إلا في يوم الإثنين عاشره، وكان حشمًا سريًا فخوراً، له ثراء واسع ومال جم، ورثه، وأفضال كثير، وفضيلة ، ثم تردد إلى مجلس السلطان الملك المؤيد، واختص به مدة ، إلى أن تنكر له وضربه وشهره ، فاتضع جانبه، وصار يكثر من الترداد إلى يبنا، حتى مات بها، فاللّه يرحمه، فلقد شاهدنا منه كرمًا جمًا، وإفضالاً زائدًا، ومروءة غزيرة، ونعمة ضخمة.
ومات الأمير ممجق نائب قلعة الجبل في أول يوم من رجب، وهو ممن إنتشأ في الأيام الظاهرية جقمق.
ومات الأمير الطواشي صفي الدين جوهر السيفي قنقباي اللالا زمام الدور خازندار السلطان في ليلة الإثنين أول شعبان عن نحو سبعين سنة، وصلى عليه السلطان، ودفن بمدرسته، بجوار الجامع الأزهر. وكان من جملة هدية الحطي داود بن سيف أرعد ملك بلاد الحبشة إلى السلطان الملك الظاهر برقوق، فأنعم به على الأمير قنقباى اللالا، لالا المقام الناصري محمد ولد السلطان، فرباه وهو صغير، وأقرأه القرآن العظيم، ثم خدم من بعد قنقباي جماعة من الأمراء، زمامًا لدورهم، وعارك خطوب الدهر ألوانًا، حتى إستدعاه الأشرف برسباى، وعمله خازندارَا، فتمكن منه ممكنًا زائدًا، وإنبسطت يده في تحصيل الأموال للذخيرة بقوة وشهامة وضبط، فلما مات الأشرف أضيفت إليه أزمة الدور، فباشر ذلك حتى مات، ولم يخلف في أبناء جنسه بعده مثله ، وكان عفيفًا، له بر وأفضال مع رصانة عقل، وجد من غير هزل، وكان مهابًا يتلو القرآن بالسبع، إلا أنه فتن بصحبة السلطان، فحرص على رضاه، وإقتحم المهالك، بحيث أنه لم يكن في الدولة الأشرفية أحد أخص منه بالسلطان ولا أقوى تمكنًا، فاللّه يعفو عنه. بمنه.
ومات القاضي شرف الدين الأشقر، وإسمه أبو بكر بن سليمان، المعروف بابن العجمي الحلبي، نائب كاتب السر، في يوم الأربعاء تاسع رمضان، وقد أناف على الستين، قدم من حلب في أيام الأمير جمال الدين يوسف أستادار، وعنده يومئذ بنت أخي جمال الدين، فنوه به، وأقره في توقيع الدوادار الكبير، فيعد من رؤساء القاهرة، حتى زالت دولة جمال الدين، فنكب في جملة من نكب من ألزامه نكبة نجاه الله منها، بعدما أشفى على الهلاك، فلما كانت الأيام المؤيدية شيخ عاد إلى ما كان عليه من مباشرة الترقيع عند الأستادارية مدة سنين ثم رغب عن ذلك، وباشر في ديوان الإنشاء مع ابن مزهر كاتب السر ومن بعده، وصار نائب كاتب السر، به حل الديون وعقده، ثم ولي كتاب السر بحلب مدة، وتركها لولده معين الدين، وعاد إلى نيابة كتابة السر حتى مات، وكان ماهرًا بصناعة الإنشاء، جميل المحاضرة، بشوشًا، متوددًا، حشمًا، فخورًا، له فضيلة، وسيرته مشكورة.
ومات العبد الصالح شهاب الدين أحمد بن حسين بن حسن بن رسلان الفقيه الشافعي المحدث المفسر بمدينة القدس، في يوم الإثنين عشرين شهر رمضان عن إحدى وسبعين سنة، ولم يخلف بتلك الديار بعده مثله علمًا ونسكًا.
ومات القاضي شمس الدين محمد بن شعبان في حادي عشرين شوال عن نيف وستين سنة وولي حسبة القاهرة مرارًا عديدة، ولا فضل ولا فضيلة.
ومات الشيخ نور الدين على بن عمر بن حسن بن حسين التلواني، في يوم الإثنين ثالث عشرين ذي القعدة، وقد أناف على الثمانين، وأصل آبائه من بلاد المغرب، وسكن أبوه ناحية جروان، وأقرأ الأطفال القرآن. ثم تحول إلى تلوانه وولد له بها علي وغيره، ثم قدم على القاهرة وتفقه على مذهب الإمام الشافعي رحمه اللّه حتى درس وأفتى، وولي مشيخة الخانقاه الركنية بيبرس ثم عزل عنها و ولي تدريس المدرسة الناصرية بجوار قبة الإمام الشافعي من القرافة مدة سنين. وكان دينًا خيرًا، له مروءة وفيه قوة، وله أفضال، رحمه اللّه.
ومات الشيخ شمس الدين محمد بن عمار محمد المالكي في يوم السبت رابع عشر شهر ذي الحجة عن نيف وثمانين سنة، وقد كتب على الفتوى ودرس، وصار ممن يعتقد فيه الخبر.
ومات الرئيس إبراهيم بن فرج اللّه بن عبد الكافي الإسرائيلي اليهودي الداودي العافاني، في يوم الجمعة عشرين ذي الحجة، وقد أناف على السبعين ولم يخلف بعده من يهود مصر مثله في كثرة حفظ نصوص التوارة، وكتب الأنبياء ، وفي تنسكه في دينه، مع حسن علاجه لمعرفته بالطب وتكسبه به. وكان يقر بنبوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويجهر بأنه رسول إلى العرب، ويقول في المسيح عيسى بن مريم عليه السلام إنه صدق، وهذا خلاف ما يقوله اليهود لعنهم اللّه وخزاهم فما أكثر طعنهم في أنبياء اللّه ورسله، على ما وقفت عليه من أقوالهم من كتبهم.
ومات شهاب الدين أبى العباس أحمد بن صالح بن تاج الدين المحلي الشافعي ، في يوم الأربعاء ثامن عشر ذي الحجة، وكان فاضلاً في الفقه والفرائض والنحو وله سلوك ونسك، وللناس فيه إعتقاد، ودرس وخطب مدة، رحمه اللّه تعالى.