كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي
ثم ولي ابنه موسى بن يوسف بن يوسف بن الكامل مملكة مصر، ولقب بالأشرف، شركة مع المعز أيبك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فاشتد حزن الملك الكامل على ولده يوسف، وتسلم مماليكه وخزائنه وأولاده، ولبس لشدة حزنه البياض، وكان المسعود قد استخلف على اليمن نور الدين علي بن رسول التركماني، فتغلب عليها، وبعث إلى الملك الكامل عدة هدايا، وقال: أنا نائب السلطان على البلاد، فاستمر ملك اليمن في عقبه بعد ذلك.
سنة سبع وعشرين وستمائةأهلت والملك الكامل بحران، والخوارزمي على خلاط، والأشرف محاصر بعلبك.
وفيها قدم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ من بغداد.
وفيها ورد رسول الإمبراطور، ملك الفرنج، بكتابه إلى الملك الكامل بحران، ومعه أيضاً كتاب للأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ. وفيها سار الكامل من حران إلى الرقة.
وفيها استولى الأشرف بن العادل على بعلبك، بعدما أقام على حصارها عشرة أشهر، وعوض الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي، عوضاً من بعلبك وأعمالها، قصير دمشق والزبداني، فكانت مدة ملكه بعلبك تسعاً وأربعين سنة، فبعث الكامل الأمير فخر الدين عثمان الأستادار إلى الأشرف، في مهمات تتعلق به، وولي كمال الدين بن شيخ نائباً بالجزيرة.
وفيها قدم رسول السلطان علاء الدين كيقباد السلجوقي - صاحب الروم - على الملك الكامل، وأخبره بأنه جهز خمسة وعشرين ألفا إلى أرزنجان وعشرة آلاف إلى ملطية، وأنا حيث تأمر. فطاب قلب السلطان الكامل بذلك، وكان مهتماً من أمر الخوارزمي.
وفيها سار الأشرف، صاحب دمشق، من الشام إلى جهة الشرق، فوصل إلى الكامل وهو بالرقة، ووصل أيضاً مانع بن حديثة أمير العرب.
وفيها ملك الخوارزمي مدينة خلاط بحد حصار طويل وقتال شديد في ثامن عشري جمادى الأولى فوضع السيف في الناس، وأسرف في القتل والنهب، فرحل الملك الكامل يريد مصر، لأمور منها أنه بلغه موت ولده الملك المسعود صاحب اليمن، فكتمه وكان قد ورد عليه أيضاً من أم ولده العادل كتاب تشكو فيه من ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأنه قد عزم على التوثب على الملك، واشترى جماعة كبيرة من المماليك الأتراك، وأنه أخذ مالاً جزيلاً من التجار، وأتلف جملة من مال بيت المال، ومتى لم تتدارك البلاد وإلا غلب عليها، وأخرجني أنا وابنك الملك العادل منها، فانزعج الكامل لذلك، وغضب غضباً شديداً، ثم ورد عليه الخبر بان ابنه الصالح اشترى ألف مملوك فعزم على الرحيل إلى مصر، فرتب الطواشي شمس الدين صواب العادلي نائباً في أعمال المشرق، وأعطاه إقطاع أمير مائة فارس، زيادة على ما بيده من الديار المصرية، وهي أعمال أخميم بكمالها، وقاي والقايات ودجوة بإمرة مائتين وخمسين فارساً، فصار أمير ثلاثمائة وخمسين فارساً، ورتب الملك الكامل كمال الدين ابن شيخ الشيوخ وزيرا، وتوجه الكامل إلى مصر، فدخلها في رجب، وتغير على ابنه الملك الصالح تغيراً كثيراً، وقبض على جماعة من أصحابه وسجنهم، وألزمهم إحضار الأموال التي فرط فيها الملك الصالح، وخلع الصالح من ولاية العهد.
وفيها واقع الملك علاء الدين كيقباد السلطان جلال الدين خوارزم شاه وكسره، وقتل كثيراً ممن كان معه، وخلص جلال الدين في عدة من أصحابه إلى تبريز، وكان ذلك في سابع عشري رمضان، فملك الأشرف - صاحب دمشق - مدينة خلاط.
وفيها بلغ قاع النيل بمقياس مصر ذراعين، وانتهت زيادة ماء النيل ثلاثة عشر ذراعاً وثلاثة عشر إصبعا لا غير، فارتفعت الأسعار.
وفيها قصد الفرنج حماة، فأوقع بهم المظفر تقي الدين، وقتل عدة منهم، وأسر كثيراً، وذلك في رمضان.
وفيها مات الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب - صاحب بعلبك - ليلة الأربعاء ثامن عشر شوال، وكانت مدة ملكه تسعاً وأربعين سنة، وكان أديباً شاعراً. ومات الملك الظافر خضر بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان يعرف بالمشمر.
سنة ثمان وعشرين وستمائةفيها عاد الأشرف إلى دمشق.
وفيها انفرد العزيز صاحب حلب بالملك، وقد بلغ ثماني عشرة سنة، وتسلم الخزائن من أتابكه شهاب الدين طغريل، ففام بتدبير الملك قياماً مشكوراً، وسير القاضي بهاء الدين بن شداد إلى الملك الكامل، بسبب إحضار صفية خاتون ابنة الكامل - وهي زوجة العزيز - فأقام بالقاهرة حتى سنة تسع وعشرين وستمائة.
وفيها قدم الأشرف من دمشق على الملك الكامل ومعه الملك المعظم - صاحب الجزيرة - في عاشر جمادى الأولى، فسر السلطان بقدومهما.
وفيها سار الملك الكامل إلى الإسكندرية، وترك الأشرف بالقاهرة، واستصحب معه صاحب الجزيرة بعدما أنعم عليه إنعاماً موفوراً. وفيها تحرك التتر.
وفيها قدم الملك مجير الدين بن العادل إلى القاهرة، وكان مأسوراً عند الخوارزمي، فسر به الكامل، وأكرمه هو وأخوه تقي الدين عباس.
وفيها مات السلطان جلال الدين خوارزم شاه، بعدما هزمه التتر ببعض قرى ميافارقين قتله بعض الأكراد.
وفيها وصل التتر إلى إربل، وقتلوا من المسلمين ما لا يحصى عددهم إلا خالقهم.
وفيها شرع الملك الكامل في حفر بحر النيل، الذي فيما بين المقياس وبر مصر، وعمل فيه بنفسه، واستعمل الملوك والأمراء والجند، فلما فرغ من الحفر صار في أيام احتراق النيل يمشي من المقياس والروضة إلى بر الجيزة، واستمر الماء فيما بين مصر والروضة لا ينقطع في زمن الاحتراق البتة، وكان السلطان قد قسط حفر هذا البحر على الدور التي بالقاهرة، ومصر والروضة، بالمقياس، واستمر العمل فيه - من مستهل شعبان إلى آخر شوال - مدة ثلاثة أشهر.
وفيها قدم رسول الخليفة المستنصر بالله بالخلع والتقليد للملك الكامل، وميز بزيادات كثيرة، لم تفعل في حق غيره، من السلجوقية وغيرهم، ووردت خلع للملك الأشرف أيضاً. وفيها تسلطن عمر بن علي بن رسول باليمن، ونشر دعوته.
سنة تسع وعشرين وستمائةفيهما تكمل استيلاء التتر على إقليم أرمينية وخلاط وسائر ما كان بيد الخوارزمي. فاهتم الخليفة المستنصر بالله غاية الاهتمام، وسير عدة رسل يستنجد الأشرف من مصر، ويستنجد العربان وغيرهم، وأخرج الخليفة الأموال، فوقع الاستخدام في جميع البلاد لحركة التتر.
وفيها خرج الملك الكامل من القاهرة في جمادى الآخرة، واستخلف على مصر ابنه الملك العادل أبا بكر، وأسكنه قلعة الجبل مع أمه، واخرج الصالح أيوب معه، وقدم الأشرف - والمعظم صاحب الجزيرة - بالعساكر، ومضى الكامل جريدة إلى الشوبك والكرك، وسار إلى دمشق، ومعه الناصر داود صاحب الكرك بعساكره، وقد زوجه بابنته عاشوراء خاتون، وعقد عقده عليها بمنزلة اللجون، وأقام الكامل بدمشق يسرح العساكر، وجعل في مقدمتها ابنه الملك الصالح أيوب، وورد الخبر بدخول التتر بلاد خلاط، فأسرع الكامل في الحركة، وخرج من دمشق، فنزل سليمة - وقد اجتمع فيها بعساكر يضيق بها الفضاء - وسار منها في أخريات رمضان على البرية، وتفرقت العساكر في عدة طرق لكثرتها، فهلك منها عدة كثيرة من الناس والدواب، لقلة الماء، وأتته رسل ملوك الأطراف، وهم عز الدين بيقرا، وفخر الدين بن الدامغاني، رسل الخليفة المستنصر بالله، وألبسوه خلعة السلطنة، فاستدعي الكامل عند ذلك رسل الخوارزمي، ورسول الكرج، ورسل حماة وحمص، ورسول الهند ورسل الفرنج، ورسل أتابك سعد صاحب شيراز، ورسل صاحب الأندلس ولم تجتمع هذه الرسل عند ملك في يوم واحد قط غيره، وقدم عليه بهاء اللين اليزدي - شيخ رباط الخلاطية - من بغداد وجماعة من النخاس، يحثونه على الغزاة.
فرحل التتر عن خلاط، بعد منازلتها عدة أيام، وجاء الخبر برحيلهم والكامل بحران، فجهز عماد الدين بن شيخ الشيوخ رسولاً إلى الخليفة، وسار إلى الرها، وقدم العساكر إلى آمد، وسار بعدهم، فنزل على آمد، ونصب عليها عدة مجانيق، فبعث إليه صاحبها يستعطفه، ويبذل له مائة ألف، وللأشرف عشرين ألف دينار، فلم يقبل، ومازال عليها حتى أخذها، في سادس عشري ذي الحجة، وحضر صاحبها إليه بأمان، فوكل به حتى سلم جميع حصونها، فاعطى السلطان حصن كيفا لابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب - وفيها وردت هدية من ماردين.
وفيها سار ابن شداد من القاهرة بالستر العالي الصاحبة غازية خاتون، ابنة الكامل وزوجة الملك المظفر، صاحب حماة، والستر العالي الصاحبة فاطمة، ابنة الكامل وزوجة الملك العزيز، صاحب حلب، وخرج معها أيضا الأمير فخر الدين البانياسي، والشمريف شمس الدين قاضي العسكر.
وفيها مات الأمير فخر الدين عثمان بن قزل أستادار الملك الكامل، و صاحب المدوسة الفخرية بالقاهرة، في ثامن عشر ذي الحجة بحران.
وفيها بعث الملك المنصور عمر بن علي بن رسول، صاحب اليمن، عسكراً إلى مكة، فيه الشريف راجح بن قتادة، فملكها من الأمير شجاع الدين طغتكين، نائب الملك الكامل، في ربيع الآخر. وفر شجاع الدين إلى نخلة ثم إلى ينبع، وكتب يعلم الملك الكامل بذلك، فبعث إليه الكامل عسكراً سار هم إلى مكة، فقدموها في شهر رمضان، وملكوها بعدما قتلوا جماعة، وكان مقدم العسكر الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ.
سنة ثلاثين وستمائةفيها أنعم الكامل على ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب بحصن كيفا، وسيره إليها، وعاد هو إلى الديار المصرية، ومعه الملك المسعود، صاحب آمد، فلما وصل قلعة الجبل أفرج عنه، وأحسن إليه، وأعطاه إمرة بديار مصر.
وفيها قبض الكامل على جماعة من الأمراء المصرية.
وفيها استولى الملك المظفر، صاحب حماة على حصن بارين، وانتزعه من أخيه الناصر قلج أرسلان، فسار قلج أرسلان إلى خاله الكامل، فقبض عليه، واعتقله في قلعة الجبل حتى مات.
وفيها جهز الملك الكامل عسكراً من الغز والعربان إلى ينبع، من أرض الحجاز - عليهم علاء الدين آق سنقر الزاهدي - في شوال وعدتهم سبعمائة، وسبب ذلك ورود الخبر بمسير الشريف راجح من اليمن بعسكر إلى مكة، وأنه قدمها في صفر، وأخرج من بها من المصريين بغير قتال، فقدم الزاهدي في الموسم، وتسلم مكة، وحج بالناس، وترك بمكة ابن محلي، ومعه خمسون فارساً، ورجع إلى مصر.
وفيها توفي الفخر سليمان بن محمود بن أبي غالب الدمشقي، كاتب الإنشاء. فاستحضر الملك الكامل ناسخاً يقال له الأمين الحلبي، كان عند الأمير عز الدين أيبك - أستادار الملك المعظم - في خدمته يكتب له، فلما حضر الأمين ليكتب بين يديه خلع عليه، وأعاده إلى صاحبه، فتزهد استحياء من الناس، وبعث الكامل إلى ميافارقين، فأحضر الجلال بن نباتة ليستكنبه، فلما حضر خلع عليه، وأعاده ولم يستكتبه الأشرف صاحب دمشق.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشر رمضان: سلطن الملك الكامل ولده الملك العادل سيف الدين أبا بكر، وأركبه بشعار السلطنة، وشق به القاهرة، وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة، وكان الكامل يحبه، ويحب أمه حبا زائداً.
وفي ذي القعدة: وصل محيي الدين يوسف بن الجوزي من بغداد، بالتقليد من الخليفة المستنصر بالله للملك الكامل.
وفيها أبطل السلطان المعاملة بالفلوس في القاهرة ومصر، فتلف مال كثير للناس.
وفيها مات الأمير حسام الدين مانع بن حديثة، أمير العربان من آل فضل، فأمر الأشرف بعده ابنه مهنا.
وفيها قدم الناصر داود صاحب الكرك إلى مصر، فنزل بدار الوزارة من القاهرة، وركب في خدمة عمه الملك الكامل.
وفيها مات العزيز فخر الدين عثمان بن العادل بدمشق، يوم الاثنين عاشر رمضان. فيها مات الملك المعظم مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي كوجك، ملك إربل، في تاسع عشري شعبان عن أربع وثمانين سنة، وكان يهتم بعمل المولد النبوي في كل سنة اهتماماً زائداً، فتسلم إربل من بعده نواب الخليفة، وصارت مضافة إلى مملكة بغداد.
سنة إحدى وثلاثين وستمائةفيها قصد السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو السلجوقي، صاحب بلاد الروم، مدينة خلاط، فخرج الملك الكامل من القاهرة بعسكره، ليلة السبت خامس شعبان، واستناب ابنه الملك العادل، فوصل إلى دمشق، وكتب إلى ملوك بني أيوب يأمرهم بالتجصز، للمس!ر بعساكرهم إلى بلاد الروم، وخرج الكامل من دمشق، فنزل على سليمة في شهر رمضان، ورتب عساكره، وسار إلى منبج، فقدم عليه عسكر حلب، وغيره من العساكر، فسار وقد صار معه ستة عشر دهليزاً، لستة عشر ملكاً - وقيل بل كانوا ثمانية عشر ملكاً، فعرضهم الكامل على إلبيرة أطلابا بأسلحتهم، فلكثرة ما أعجب بنفسه قال: هذه العساكر لم تجتمع لأحد من ملوك الإسلام.
وأمر بها فسارت شيئاً بعد شيء نحو الدربند، وقد جد السلطان علاء الدين في حفظ طرقاته بالمقاتله، ونزل الكامل على النهر الأزرق، وهو بأول بلد الروم، ونزل عساكر الروم فيما بينه وبين الدربند وأخفوا عليه رأس الدربند وبنوا علمه سوراً يمنع العساكر من الطلوع، وقاتلوا من اعلاه، فقلت الأقوات عند عسكر الكامل، واتفق - مع قلة الأقوات وامتناع الدربند - نفور ملوك بني أيوب من الملك الكامل، بسبب أنه حفظ عنه أنه لما أعجبته كثرة عساكره بالبيرة، قال لخواصه: إن صار لنا ملك الروم فإنا نعوض ملوك الشام والشرق مملكة الروم، بدل ما بأيديهم، ونجعل الشام والشرق مضافاً إلى ملك مصر. فحذر من ذلك المجاهد صاحب حمص، وأعلم به الأشرف موسى صاحب دمشق، فأوجس في نفسه خيفة موسى، وأحضر بني عمه وأقاربه من الملوك وأعلمهم ذلك، فاتفقوا على الملك الكامل، وكتبوا إلى السلطان علاء الدين بالميل معه وخذلان الكامل، وسيروا الكتب بذلك، فاتفق وقوعها في يد الملك الكامل، فكتمها ورحل راجعاً، فأخذ السلطان علاء الدين طيقباد - ملك الروم - قلعة خرتبرت وست قلاع أخر كانت مع الملوك الأرتقية، في ذي القعدة، فاشتد حنق الملك الكامل، لما حصل على أمرائه وعساكره من صاحب الروم في قلاع خرتبرت، ونسب ذلك إلى أهله من الملوك، فتنكر ما بينه وبينهم.
وفيها مات الملك المفضل قطب الدين موسى بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، في ذي الحجة.
وفيها بعث المنصور عمر بن على بن رسول - ملك اليمن - عسكراً، وخزانة مال إلى الشريف راجح بن قتادة، فأخرج من بمكة من المصريين.
وفيها حضر الشيخ أبو عبد الله محمد بن عمر القرطبي جماعاً، بزقاق الطباخ بمدينة مصر، في أول يوم من شهر رجب، وكان هناك الشيخ أبو عبد الله القرشي، وأبو عباس القسطلاني، وجماعة غيرهما، فلما أنشد القوال صفق أبو يوسف الدهماني بيديه، وارتفع عن الأرض متربعا، إلى أن بلغ إلى أنبدارية المجلس، ودار ثلاث دورات، ثم نزل إلى مكانه، فقام الشيخ القرطبي، وقدر ارتفاع الأنبدارية، فكان أطول من قامته رافعاً يديه.
سنة اثنتين وثلاثين وستمائةفيها عاد الملك الكامل إلى قلعة الجبل من بلاد الشرق - في جمادى الأولى - وقد توحش ما بينه وبين أخيه الأشرف - صاحب دمشق - وغيره من الملوك.
فقبض الكامل على المسعود صاحب آمد واعتقله في برج هو وأهله، يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى، لممالأته لهم، فملك صاحب الروم وحران بالسيف، وعاد إلى بلاده، بعد ما استولى على ما كان بهما من الأموال، فلما بلغ الكامل ذلك أمر العساكر أن تتجهز للمسير إلى الشرق، وأقطع ابن الأمير صلاح الدين الإربلي صنافير بالقليوبية، وجعل أقارب والده ومماليكه معه، وعدتهم سبعة عشر رجلاً.
وفيها بعث ابن رسول إلى الشريف راجح بن قتادة بخزانة مال، ليستخدم عسكراً، فلم يتمكن من ذلك، لأنه بلغه أن السلطان الملك الكامل بعث الأمير أسد الدين جغريل، أحد المماليك الكاملية، إلى مكة بسبعمائة فارس، وحضر جغريل إلى مكة، ففر منه الشريف راجح بن قتادة إلى اليمن، وملك جغريل مكة في شهر رمضان، وأقام العسكر بها.
وفيها مات الملك الزاهر أبو سليمان مجير الدين داود بن صلاح الدين يوسف بن أيوب - صاحب البيرة - في سابع صفر، فاستولى العزيز - صاحب حلب - عليها من بعده.
وفيها مات الأمير شمس الدين صواب - الطواشي الكاملي - بحران في أواخر شهر رمضان.
سنة ثالث وثلاثين وستمائةفيها استمر وباء كثير بمصر مدة ثلاثة أشهر، فمات بالقاهرة ومصر خلق كثر، بلغت عدتهم زيادة على اثني عشر ألفاً، سوى من مات بالريف.
وفيها سار التتر إلى جهة الموصل، فقتلوا ونهبوا وسبوا.
وفيها سار الناصر داود - صاحب الكرك - إلى الخليفة المستنصر بالله، خوفاً من عمه الملك الكامل، فإنه كان قد ألزمه حتى طلق ابنة الكامل، فخشي أن ينتزع منه الكرك فوصل إلى بغداد، فأكرمه الخليفة، ومنعه من الاجتماع به، رعاية للملك الكامل، ثم اجتمع به سراً، وخلع عليه، وبعث معه رسولاً مشربشاً، من خواصه إلى الكامل، يشفع فيه، فلما وصل الرسول إلى الكامل تلقاه وقبل الشفاعة.
وفيها سار الملك الكامل من القاهرة بعساكره يريد بلاد الشرق، فنازل الرها حتى أخذها، يوم الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى، وأسر منها زيادة على ثمانمائة من الأمراء، وهدم قلعتها، ونازل حران، وأخذها بعد حصار وقتال في رابع عشر جمادى الآخر، وأسر من كان بها من أجناد السلطان علاء الدين، وأمرائه ومقدميه الصوباشية، وكانوا سبعمائة وخمسة وعشرين رجلاً، فمات كثير منهم في الطرقات، ثم نزل الكامل على دنيسر وخربها. فورد عليه الخبر بأن التتر قد وصلوا إلى سنجار، في مائة طلب، كل طلب خمسمائة فارس، وأخذ الكامل قلعة السويداء عنوة، وأسر من بها في سابع عشر جمادى الآخر، وهدمها، وأخذ قطينا، وأسر من بها في رجب.
وفي تاسع عشره: بعث الكامل جميع الأسرى إلى ديار مصر، وعدتهم تزيد على الثلاثة آلاف، وعاد إلى دمشق، وسلم الشرق لابنه الملك الصالح أيوب.
وفيها هدمت دنيسر، وعدة بلاد كثيرة من بلاد صاحب ماردين.
وفيها خرج عسكر الروم، بعد عود الكامل، وحاصر آمد وأخرب داراً في خامس ذي القعدة.
وفيها استولى الفرنج على مدينة قرطبة بالأندلس.
وفيها قدم أنبا كيرلس داود بن لقلق بطركا على الإسكندرية لليعاقبة، في يوم الأحد ثالث عشري بؤونة، سنة إحدى وخمسين وتسعمائة للشهداء، الموافق لتاسع عشري رمضان، فأقام في البطركية سبع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، وكان عالماً، محباً للرياسة، وجمع المال، وأخذ الشرطونية، وكانت أرض مصر قد خلت من الأساقفة، قبل اعتلائه كرسي البطركية، فقدم جماعة من الأساقفة بمال كبير، ومرت به شدائد كثيرة، فإن الراهب عماد المرشار كان قد سعى في ولايته البطركية، وشرط عليه ألا يقدم أسقفا إلا برأيه، فلم يف له، ولا التفت إليه، فانحرف عنه ورافعه، فوكل عليه وعلى عدة من أقاربه وألزامه، وقام أيضاً عليه الشيخ السني بن التعبان الراهب، وعانده وذكر مثالبه، وأنه إنما تقدم بالشوة، وأنه أخذ الشرطونية، فلا تصح له كهنوتية، على حكم القوانين، ومال معه جماعة، وعقدوا له مجلساً بحضور الصاحب - معين الدين بن شيخ الشيوخ، في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأثبتوا عليه أموراً شنعة، وعزموا على خلعه، فقام معه الكتاب المستوفون بديار مصر، وتحدثوا مع الصاحب معين الدين، فقرر مالاً حمله البطريك إلى السلطان، واستمر أنبا كيرلس على بطركيته حتى مات يوم الثلاثاء رابع عشر برمهات، سنة تسعمائة وتسع وخمسين للشهداء، الموافق لسابع رمضان سنة أربعين وستمائة وخلا الكرسي بعده سبع سنين وستة أشهر وستة وعشرين يوماً.
وفيها بعث الملك المنصور عمر بن علي بن رسول - ملك اليمن - عسكراً إلى مكة، مع الشهاب بن عبد الله، ومعه خزانة مال، فقاتله المصريون وأسروه، وحملوه إلى القاهرة مقيداً.
سنة أربع وثلاثين وستمائةفيها سار الملك الكامل من دمشق يريد القاهرة، فوصل إليها، وصعد قلعة الجبل في ثم خرج إلى دمياط، فقدم عليه محيي الدين يوسف بن الجوزي رسولاً من الخليفة، وهو بها، وسافر محيي الدين إلى السلطان علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان - صاحب الروم - ومعه الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنفري، رسولاً من جهة الملك الكامل.
وفيها مات الملك العزيز غياث الدين محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب - صاحب حلب - يوم الأربعاء رابع عشري شهر ربيع الأول، عن ثلاث وعشرين سنة وأشهر، وقام من بعده ابنه الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف، وعمره نحو السبع سنين، وقام بتدبير أمره الأميران لؤلؤ الأميني، وعز الدين عمر بن محلي، وبينهما وزير الدولة جمال الدين الأكرم، يراجع الستر الرفيع صفية خاتون ابنة الملك العادل، على لسان جمال الدولة إقبال، وحضر الأمير بدر الدين بدر بن أبي الهيجاء وزين الدين قاضي حلب، إلى الملك الكامل، بزردية العزيز وكزا غنده، وخوذته ومركوبه، فأظهر الكامل الألم لموته، وقصر في إكرامهما، وحلف للناصر، وشرط أشياء، وأعاد الرسولين، ثم أرسل خلعة للناصر بغير مركوب، ومعها عدة خلع للأمراء الحلبيين، وخلعة للصالح صلاح الدين أحمد بن الظاهر غازي، صاحب عينتاب، فاستوحشت أم الظاهر من أخيها الكامل، ولم توافق على لبس أحد من الأمراء الخلع، فلبس الناصر وحده خلعة الكامل، ورد الرسول الوارد إلى الصالح صلاح الدين بخلعته.
وفيها تنكر الأشرف - صاحب دمشق - على الملك الكامل، وراسل أهل حلب، فوافقوه على منع الكامل من بلاد الشام، ومكاتبة السلطان علاء الدين، صاحب الروم، ليكون معهم، فانتظمت كلمة ملوك الشام على مخالفة الملك الكامل، فانزعج الملك الكامل، وعز ذلك عليه، وكان حيي بلغه الخبر بالإسكندرية، فخرج منها ليلاً، وسار إلى قلعة الجبل، وشرع في تدبير أمره، فاتفق موت السلطان علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان - ملك الروم - وقيام ولده غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين كيقباد من بعده، في سابع شوال، قبل اجتماعه بالحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري رسول السلطان فبعث ملوك الشام رسلهم إلى السلطان غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقي - صاحب الروم - يعزونه في أبيه، ويحلفونه على ما اتفقوا عليه من مخالفة الملك الكامل، وشر الكامل أفضل الدين محمد الخونجي يعزي غياث الدين بأبيه، ومعه ذهب برسم الصدقة عنه، وثياب أطلس برسم أغشية القبر.
وفيها كان الوباء أشد من السنة الماضية. وفيها ضرب الملك الكامل الفلوس.
وفيها بعث الملك الكامل القاضي الأشرف بن القاضي الفاضل إلى الملك الناصر داود - صاحب الكرك - يدعوه إلى موافقته. فرحل الملك الناصر إلى القاهرة مع القاضي الأشرف، فسر الكامل بقدومه، وركب إلى لقائه، وأنزله بحار الوزارة، وقدم له أشياء كثيرة، وخلع عليه، وقلده الكامل دمشق، وأمر من عنده من الأمراء والملوك الأيوبية، فحملوا الغاشية بين يديه بالنوبة، فكان أول من حملها الملك العادل أبو بكر بن الكامل، ثم البقية واحداً بعد واحد، إلى أن صعد قلعة الجبل، وجدد الناصر عقده على مطلقته عاشوراء خاتون ابنة الكامل، في تاسع عشر ذي الحجة، فلما بلغ الأشرف ذلك أوقع الحوطة على نابلس، وأخذ ما كاد فيها للناصر داود.
وفيها سير الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، صاحب حصن كيفا، يستأذن أباه في استخدام من خالف السلطان غياث الدين كيخسرو - صاحب الروم - من الخوارزمية، فأذن له في ذلك، واستخدمهم عنده بالبلاد الجزرية، فتقوى بهم.
وفيها استولى التتار على إربل، وقتلوا كل من فيها، وسبوا ونهبوا، حتى نتنت من كثرة القتلى، ثم رحلوا عنها.
وفيها قدم من جهة ملوك الشام إلى الملك الكامل رسول، فبلغه عنهم أنهم قالوا: إنا اتفقت كلمتنا عليك، فلا تخرج من مصر إلى الشام، واحلف لنا على ذلك. فاتفق مرض الأشرف بالقرب، فكان لا يستقر بباطنه طعام البتة، حتى انقضت السنة وهو مريض، من شهر رجب. وفيها قدم عسكر من اليمن إلى مكة، فحاربهم الأمير أسد الدين جغريل، وكسرهم، فقدم الملك المنصور عمر بن رسول، وملك مكة بغير قتال، وتصدق بمال، وترك بها جماعة، فقدم الشريف شيحة بن قاسم - أمير المدينة - وملك مكة منهم ونهبهم، ولم يقتل أحداً.
سنة خمس وثلاثين وستمائة
فيها مات الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب - صاحب دمشق بها - يوم الخميس رابع المحرم، وعمره نحو من ستين سنة، ومدة ملكه بدمشق ثماني سنين وأشهر، ولم يترك سوى ابنة، تزوجها الملك الجواد يونس بن مودود بن الملك العادل، فقام من بعده بدمشق أخوه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، صاحب بصرى، بعهد من أخيه له، فاستوفى الملك الصالح عماد الدين على دمشق وبعلبك، وبعث ابنه الملك المنصور محموداً إلى الشرق، ليتسلم سنجار ونصيبين والخابور من نواب الشرق، وبعث إلى المجاهد صاحب حمص، والي المظفر صاحب حماة، وإلى الحلبيين أيضاً، ليحلفوا له ويتفقوا معه - على القاعدة التي تقررت بينهم وبين الأشرف - على مخالفة الكامل، فأجابوا إلا صاحب حماة، فإنه مال مع الكامل، وبعث إليه يعلمه بميله إليه، فسر الكامل بذلك، ثم إن الملك الصالح عماد الدين صادر جماعة من الدماشقة، الذين قيل عنهم إنهم مع الملك الكامل، منهم العلم تعاسيف، وأولاد مزهر، وحبسهم في بصرى، فتجهز الكامل، وخرج من قلعة الجبل بعساكره، بكرة يوم الخميس ثالث عشري صفر، واستناب على مصر ابنه الملك العادل، وأخذ معه الناصر داود، وهو لا يشك أن الملك الكامل يسلم إليه دمشق، لما كان قد تقرر بينهما. فكاتب الكامل نائب قلعة عجلون حتى سلمها، ونزل على دمشق بمسجد القدم، في ثالث عشري ربيع الأول، وقد تخصنت وأتتها النجدات، فحاصرها وقطع عنها المياه، وضايقها حتى غلت بها الأسعار، وأحرق العقيبة والطواحين، وألح على أهلها بالقتال، وكان الوقت شتاء فأذن الصالح إسماعيل، وسلم دمشق لأخيه الكامل، فعوضه عنها بعلبك والبقاع، وبصرى والسواد.
وكان السفير بينهما الصاحب محيي الدين أبو المظفر يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي - رسول الخليفة - الوارد ليوقع الصلح بين ملوك بني أيوب، فتسلم الكامل دمشق في عاشر جمادى الأولى، وسار الصالح إسماعيل إلى بعلبك، لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى، فنزل الملك الكامل بالقلعة، وأمر بنصب الدهليز بظاهر دمشق، وسير المظفر صاحب حماة إلى حمص، وأطلق الفلك المسيري من سجن قلعة دمشق - وكان قد سجنه الملك الأشرف - ونقل الأشرف إلى تربته، وأمر الكامل في يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة ألا يصلي أحد من أئمة الجامع المغرب، سويى الإمام الكبير فقط، لأنه كان يقع بصلاتهم تشويش كبير على المصلين، وورد الخبر باستيلاء الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل على سنجار ونصيبين والخابور، وقدم رسول الخليفة بمال إلى الملك الكامل، ليستخدم به عسكراً للخليفة، فإنه بلغه توجه التتر إلى بغداد، فقام الملك الكامل لما سلم إليه كتاب الخليفة، ووضعه على رأسه، وكان جملة ما حضر من المال مائة ألف دينار مصرية، فأمر الملك الكامل أن يخرج من بيت المال مائتا ألف دينار، ليستخدم بها العساكر، وأن يجرد من عساكر مصر والشام عشرة آلاف، نجدة للخليفة، وأن يكون مقدم العساكر الناصر داود، وألا يصرف مما حضر من المال شيء، بل يعاد بكماله إلى خزانة الخليفة، فتولى استخدام الأجناد الأميران ركن الدين الهيجاوي، وعماد الدين بن موسك، وأن يكونا مع الناصر داود في خدمته، فاستخدم الناصر العسكر، وسار إلى بغداد، وهم نحو ثلاثة آلاف فارس، وشرع الكامل يتجهز لأخذ حلب، فخاف المجاهد صاحب حمص، وبعث ابنه المنصور إبراهيم فتقرر الأمر على أن يحمل المجاهد كل سنة للملك الكامل ألفي ألف درهم، فعفا عنه.
وكان منذ دخل الكامل إلى قلعة دمشق قد حدث له زكام، فدخل في ابتدائه إلى الحمام، وصب على رأسه الماء الحار، فاندفعت المراد إلى معدته، فتورم وعرضت له حمى، فنهاه الأطباء عن القيء، وحفروه منه، فاتفق أنه تقيا لوقته، في آخر نهار الأربعاء حادي عشري شهر رجب، بقاعة الفضة من قلعة دمشق، فحفن بها بكرة الغد وعمره نحو من ستين سنة، وذلك بعد موت أخيه الأشرف بنحو ستة أشهر، فكانت مدة ملكه دمشق هذه المرة أحداً وسبعين يوماً، ومدة مملكته بمصر - بعد موت أبيه - عشرين سنة وثلاثة وأربعين يوماً - وقيل وخمسة وأربعين يوماً - وكانت في أيام أبيه نحوها فحكم مصر قريباً من أربعين سنة، ومولده في الخامس والعشرين من ربيع الأول، سنة ست وسبعين وخمسمائة.
وكان يحب أهل العلم، ويؤثر مجالستهم، وشغف بسماع الحديث النبوي، وحدث بالإجازة من أبي محمد بن بري، وأبي القاسم البوصيري، وعدة من المصريين، وغيرهم، وتقدم عنده أبو الخطاب بن دحية، وبني له دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وجعل عليهما أوقافاً، وكان يناظر العلماء وعنده مسائل غريبة من فقه ونحو يمتحن بها، فمن أجاب عنها قدمه وحظي عنده، وكانت تبيت عنده بالقلعة جماعة من أهل العلم: كالجمال اليمني النحوي، والفقيه عبد الظاهر، وابن دحية، والأمير صلاح الدين الإربلي - كان أحد الفضلاء - فينصب لهم أسرة ينامون عليها بجانب سريره، ليسامروه، فنفقت العلوم والآداب عنده، وقصده أرباب الفضائل، فكان يطلق لمن يأتيه منهم الأرزاق الوافرة الدارة، فممن قصده التاج بن الأرموي، وأفضل الدين الخونجي، والقاضي الشريف شمس الدين الأرموي - قاضي العسكر - وهؤلاء أئمة وقتهم في المنقول والمعقول، وكان مهيباً، حازماً سديد الآراء، حسن التدبير لمماليكه، عفيفاً عن الدماء، وبلغ من مهابته أن الرمل - فيما بين العريش ومصر - كان يمر فيه الواحد بالذهب الكثير والأحمال من الثياب، من غير خوف، وسرق مرة فيه بساط، فاحضر الكامل العربان الذين يخرون الطريق، وألزمهم بإحضاره وإحضار سارقه، فبذلوا عوضه شيئاً كثيراً، وهو يأبى إلا إحضار السارق، أو إتلاف أنفسهم وأموالهم بدله، فلم يجدوا بداً من إحضار السارق والبساط، وكان يباشر أمور الملك بنفسه، من غير اعتماد على وزير ولا غيره، واستوزر أولا الصاحب صفى الدين بن شكر ست سنين، وانكف بصره وهو يباشر الوزارة حتى مات، وكان الأمير فخر الدين عثمان الأستادار يتردد إليه في الأشغال، فلما مات الصاحب صفي الدين لم يستوزر الكامل بعده أحداً، بل كان يستنهض من يختار في تدبير الأشغال: فأقام معين الدين بن شيخ الشيوخ مدة، وسماه نائب الوزارة، ومرة أقام تاج الدين يوسف بن الصاحب صفي الدين، ومرة جمال الدين البوري، وصار يباشر أمور الدولة بنفسه، ويحضر عنده الدواوين، فيحاقهم ويحاسبهم، وإذا ابتدأت زيادة النيل خرج بنفسه وكشف الجسور، ورتب في كل جسر من الأمراء من يتولاه، ويجمع الرجال لعمله، ثم يشرف على الجسور بعد ذلك، فمتى اختل جسر عاقب متوليه أشد العقوبة، فعمرت أرض مصر في أيامه عمارة زائدة.
وأخرج الكامل من زكوات الأموال - التي كانت تجبى - سهمي الفقراء والمساكين، وجعلهما مصروفين، ورتب عليهما جامكيات الفقهاء والفقراء والصلحاء وكان يجعل في كل ليلة جمعة مجلساً لأهل العلم عنده، ويجلس معهم للمباحثة، وكانت كثير السياسة، وأقام في كل طريق خفراء تحفظ المسافرين، إلا أنه كان معري بجمع المال، مجتهداً في تحصيله وأحدث في البلاد حوادث سماها الحقوق، لم تكن في أيام من تقدمه، وله شعر، منه قوله:
إذا تحققتم ما عند صاحبكم ... من الغرام فذاك القدر يكفيه
أنتم سكنتم فؤادي وهو منزلكم ... وصاحب البيت أثري بالذي فيه
وفيه يقول البهاء زهير بن محمد، من قصيدة عند فتح دمياط:
هو الكامل المولى الذي إن ذكرته ... فيا طرب الدنيا ويا فرح العصر
به ارتجعت دمياط قهراً من العدى ... وطهر بالسيف والملة الطهر
لك الله من ملك إذا جاد أوسطا ... فناهيك من عرف وناهيك من نكر
يقصد عنه المدح من كل مادح ... ولو جاء بالشمس المنيرة والبدر
وكان أولاد الشيخ صدر الدين بن حمويه هم أكابر دولته وأعيانها، وهم الأمير فخر الدين يوسف، وعماد الدين عمر، وكمال الدين أحمد، ومعين الدين حسن، وكان فخر الدين قد ترك لبس العمامة، ولبس الطربوش والقباء ونادم السلطان، وكان فاضلاً أديباً، يشارك في فنون، وإخوته لهم فضائل، وإليهم مشيخة الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء وتدريس المدرسة الناصرية، بجوار قبر الشافعي من القرافة، وتدريس المشهد الحسيني بالقاهرة، وما منهم إلا من تقدم على الجيوش، وباشر الحرب، وأرضعت أمهم - وهي ابنة القاضي شهاب الدين ابن عصرون - الملك الكامل، فصاروا إخوته من الرضاع.
فلما مات السلطان الكامل اتفق أولاد الشيخ، والأمير سيف الدين علي بن قلج، وأخوه الأمير عماد الدين، والملك الناصر داود، وأرباب الدولة، على تحليف الأجناد للملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل - وهو يومئذ يخلف أباه بقلعة الجبل - على ديار مصر، وأن يرتب الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن العادل أبي بكر بن أيوب، في نيابة دمشق، وكتموا ذلك الأمر الثاني عن الناصر داود، وحلفوا على ذلك في يوم الخميس ثاني عشري رجب، وبعثوا الأمير نور الدين علي بن الأمير فخر الدين عثمان الأستادار إلى الناصر داود، فأخرجه من دمشق إلى الكرك، واستقر الجواد بدمشق، نائباً لابن عمه الملك العادل، وسار العسكر من دمشق إلى مصر، وتأخر بدمشق أمراء عدة - في جمع من عسكر مصر ومماليك الأشرف - لحفظها، ومقدمهم عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ، فبذل الجواد الأموال، وطمع في الاستبداد بملك دمشق، وألزم الخطيب بذكره في الخطبة بعد العادل.
السلطان الملك العادل الثانيسيف الدين أبو بكر بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. أمه الست السوداء، المعروفة ببنت الفقيه نصر، ومولده في سنة سبع عشرة وستمائة. استقر الأمر له بسلطنة مصر و دمشق في يوم الخميس ثاني عشري رجب، سنة خمس وثلاثين وستمائة، الموافق لسادس عشر برمهات. وخطب له بالقاهرة ومصر في رابع شعبان، وهو السلطان السابع من بني أبوب بديار مصر، فقدمت عليه القصاد من دمشق بوفاة أبيه واستقراره من بعده، فشرع الأمير سيف الدين قلج في تحليف الأمراء للملك العادل في داره، وحط الملك العادل المكوس، ووسع في العطاء وفي الرزاق على كل أحد.
وفي رابع شعبان: خطب له بمصر، وأعلن بموت الملك الكامل.
وفي رابع عشر شعبان: ضربت السكة باسمه.
وفي ثامن عشر رمضان: نقش الدينار والدرهم باسمه.
وفي عشريه: قرئ توقيعه على المنبر، بإبطال جميع المكوس.
وفي سابع عشري شوال: وصل محيي الدين أبو محمد يوسف بن الجوزي، رسولاً من بغداد، بتعزية الملك العادل، وهنأه بالملك من قبل الخليفة، وكان العادل قد بعث إلى دمشق بالخلع والسنجق، فركب الجواد بالخلع في تاسع عشر رمضان. وفيها أنفق العادل على العساكر.
وفي ثاني ذي القعدة: استحلف ابن الجوزي الملك العادل للخليفة المستنصر.
وفيه ورد الخبر بأن الناصر داود تحالف هو والجواد وقد اتفقا وخرجا عن طاعة العادل ووصل الناصر داود إلى غزة، وخطب بها لنفسه، ثم وقع بينه وبين الجواد خلف، فأظهر الجواد أنه عاد إلى طاعة الملك العادل، ولما قربت العساكر الواردة من دمشق إلى القاهرة ركب العادل إلى لقائهم وأكرمهم، وسير إليهم في منازلهم الأموال والخلع والخيول، فجددوا له الأيمان والعهود، فاستقر أمره، وأخرج العادل الأموال، وبذلها في الأجناد، وأكثر من العطاء والبذل، حتى بدد في مدة يسيرة ما جمعه أبوه في مدد متطاولة، وأخذ في إبعاد أمراء الدولة عنه، وقطع رواتب أرباب الدولة، واختص بمن أنشأه فنفرت قلوب الأكابر منه، واشتغل هو عنهم لانهماك شرب الخمر، وكثرة اللهو والفساد، وسار الناصر وأبو داود من الكرك، واستولى على غزة والسواحل، واستجد عسكراً كبيراً، وبرز عن غزة، وبعث إلى الملك العادل يريد منه المساعدة على أخذ دمشق.
وقوي المجاهد أسد الدين صاخب حمص بعد موت الكامل، وأغار على حماة وحصرها واستعد أهل حلب، واستجدوا عسكرا من الخوارزمية، وعسكراً من الزكمان، كان قد صار إليهم عدة من أصحاب الملك الكامل، فأكرموهم، وبعثوا إلى السلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباد، ملك الروم، يسألونه إرسال نجدة، فأمدهم بخيار عسكره، وخرجوا فملكوا المعرة، ونازلوا حماة، وقاتلوا المظفر صاحبها، فثبت لهم، وامتنع عليهم وقاتلهم، وكان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل على الرحبة، منازلاً لها، فلما بلغه موت أبيه الملك الكامل رحل عنها، فطمع فيها من معه من الخوارزمية، وخرجوا عن طاعته، وهموا بالقبض عليه، فقصد سنجار، وامتنع بها مدة، وترك خزائنه وأثقاله، فأنتهبها الخوارزمية، وتحكموا في البلاد الجزرية، وطمع فيه السلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباد - ملك الرومية - وبعث إلى الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف صاحب حلب توقيعاً بالرها وسروج، وكانا مع الصالح نجم الدين أيوب، وأقطع المنصور ناصر الدين الأرتقي، صاحب ماردين، مدينة نجار ومدينة نصيبين، وهما من بلاد الصالح أيضاً، وأقطع المجاهد أسد الدين شيركوه، صاحب حمص بلدة عانة وغيرها من بلاد الخابور، وعزم السلطان غياث الدين كيخسرو على أن يأخذ لنفسه من بلاد الصالح أيضا آمد وسميساط وصار الملك الصالح محصوراً بسنجار، فطمع فيه الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - وحصره بسنجار في ذي القعدة، وأراد حمله إلى بغداد في قفص جديد، كراهة فيه، لما كان عنده من التجبر والظلم والمكبر، فلما أشرف بدر الدين لؤلؤ على أخذ سنجار بعث الصالح إليه القاضي بدر الدين يوسف بن الحسن الزرزاري قاضي سنجار، بعد ما حلق لحيته، ودلاه من السور.
وكان القاضي الزرزاري متقدماً في الدولة الأشرفية، ولاه الملك الأشرف موسى قضاء بعلبك ثم بعد موت الملك الأشرف ولاه الصالح نجم الدين أيوب قضاء سنجار، وكان كثير التجمل جداً، واسع البر والمعروف، وله مماليك وغلمان وحواشي، لهم من التجمل ما ليس لغيرهم، فصار كأحد الأمراء الأكابر، وصار يقصد لسائر من يرد عليه من أهل العلم وذوي البيوتات، فتوجه القاضي في خفية إلى الخوارزمية، واستمالهم وطيب خواطرهم، بكثرة ما وعدهم به فمالوا إليه، بعد ما كانوا قد اتفقوا مع صاحب ماردين، وقصدوا بلاد الملك الصالح نجم الدين أيوب، واستولوا على العمال، ونازلوا حران وكان الملك الصالح قد ترك بها ولده المغيث فتح الدين عمر بن الصالح فخاف من الخوارزمية، وسار مختفياً حتى فرد إلى قلعة جعبر، فساروا خلفه، ونهبوا ما كان معه، وأفلت منهم في شرذمة يسيرة إلى منبج، فاستجار بعمة أبيه، الصاحبة ضيفة خاتون، أم الملك العزيز، صاحب حلب، فلم تقبله، فر إلى حران، وفيها أتاه كتاب أبيه يأمره بموافقة الخوارزمية، والوصول بهم إليه لدفع بحر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فاجتمع المغيث عمر، والقاضي بدر الدين قاضي سنجار بالخوارزمية، والتزم لهم القاضي أن يقطعوا سنجار وحران والرها، فطابت قلوبهم، وحلفوا للملك الصالح، وقاموا في خدمة ابنه الملك المغيث، وساروا معه إلى سنجار، فأفرج عنها عسكر الموصل، يريدون بلادهم. وادركهم الخوارزمية، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة، فر فيها بدر الدين لؤلؤ بمفرده على فرس سابق، ثم تلاحق به عسكره. واحتوت الخوارزمية على سائر ما كان معه، فاستغنوا بذلك، وقوي الملك الصالح بالخوارزمية وبها الفتح قوة زائدة، وعظم شأنه، وسير الخوارزمية إلى آمد، وعليها عسكر السلطان غياث الدين كيخسرو صاحب الروم، وبها المعظم غياث الدين تورانشاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب وهو محصور منهم، فأوقعوا بهم ورحلوهم عن آمد فخرج الصالح من سنجار إلى حسن كيفا، وبعث الملك العادل من مصر إلى أهل حلب يريد منهم أن يجروا معه على ما كانوا عليه مع أبيه الملك الكامل - من إقامة الخطبة له على منابر حلب، وأن تضرب له السكة - فلم يجب إلى ذلك، وقدم رسول غياث الدين كيخسرو ملك الروم، فزوج غازية خاتون ابنة العزيز السلطان غياث الدين، وأنكح الملك الناصر - صاحب حلب - أخت السلطان غياث الدين، وتولى العقد الصاحب كمال الدين بن أبي جرادة بن العديم، وخرج في الرسالة إلى بلاد الروم، وعقد للملك الناصر صاحب حلب على ملكة خاتون أخت السلطان غياث الدين، فبعث غياث الدين رسولاً إلى حلب، فأقيمت له بها الخطبة، وخرج الملك الجواد من دمشق في أول ذي الحجة، يريد محاربة الناصر داود صاحب كرك، بأذنبا بالقرب من نابلس فانكسر الناصر كسرة قبيحة، في يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة، وانهزم إلى الكرك. فغنم الجواد ما كان مه، وعاد إلى دمشق، وفرق ستمائة ألف دينار وخمسة آلاف خلعة، وأبطل المكوس والخمور، ونفى المغاني. وعاد من كان في دمشق من عسكر مصر ومعهم الأمير عماد الدين بن شيخ الشيوخ إلى القاهرة، بسناجق الناصر، في سادس عشري ذي الحجة، فلم يعجب الملك العادل ذلك، وخاف من تمكن الملك الجواد. وفيها قصد التتار بغداد، فبعث إليهم الخليفة جيشاً، قتل كثيراً منه، وفر من بقي.
وفيها مات قاضي القضاة بدمشق وهو شمس الدين أبو البكرات يحيي بن هبة الله ابن الحسن بن بني الدولة الشافعي، في خامس ذي القعدة فأعيد في سابعه قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن الخليل الخويي، ورتب مراكز الشهود - وكانوا أولاً بدمشق وراقين يورقون المكاتيب وغيرها، فإذا فرغوا من الوراقة مشوا إلى بيوت العدول، فيشهدونهم على ما يريدون، واقتدى بعد ذلك أهل القاهرة ومصر بهم.
وفيها تولى الشريف شمس الدين محمد بن الحسن الأرموي قضاء العسكر ونقابة الأشراف بديار مصر، وقرئ سجله بجامع مصر، بحضرة الأمير جمال الدين موسى ابن يغمور والملك المسيري. وفيها بطلت الفلوس.
وفيها سار الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول من اليمن يريد مكة، أحرق الأمير أسد الدين جغريل ما كان معه من الأثقال، وخرج هو رمن معه من مكة في سابع شهر رجب، قبل وصول ملك اليمن بيومين، فالتقوا بين مكة والسرين، انهزم العرب أصحاب الشريف راجح، وأسر الأمير شهاب الدين بن عدان من أمراء اليمن، فقيده الأمير جغريل، وحث به إلى القاهرة، وسار هو إلى المدينة النبوية فبلغه موت السلطان الملك الكامل، فسار بمن معه إلى القاهرة، فدخلوها أثناء شهر شعبان متفرقين، وأقام عسكر اليمن بمكة.
سنة ست وثلاثين وستمائةفيها قبض الملك الجواد على صفي الدين بن مرزوق، وأخذ منه أربعمائة ألف دينار، وسجنه بقلعة حمص، فمكث ثلاث سنين لا يرى الضوء، وأقام الجواد بدمشق خادماً لزوجته يقال له الناصح، فصادر الناس، وأخذ منهم مالاً كثيراً، وقبض الملك الجواد على عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ، ثم خاف من أخيه فخر الدين، وقلق من ملك دمشق، وقال: إيش أعمل بالملك باز؟ وكلب أحب إلى من هذا، ثم خرج إلى الصيد، وكاتب الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، على أن يعوضه عن دمشق بحصن كيفا وسنجار، فسر الصالح بذلك وتحرك للمسير إلى دمشق. وفيها قدم رسول ملك الروم إلى القاهرة بالعزاء للملك العادل.
وفيها أفرج أهل حلب عن حصار حماة، بعد ما ضاق الأمر على المظفر صاحب حماة، عنه رحلوا عناهم قلعة بارين وكانت حصينة.
وفيها استوحش الأمراء الأكابر من الملك العادل، لتقريبه الشباب والترابي، وإعطائهم الأموال والإقطاعات، والاقتداء بآرائهم، ولكثرة تحجبه، واشتغاله باللهو عن مصالح الدولة. فطمع الناصر داود صاحب الكرك في ملك مصر، فسار إليها ومعه تقادم فاخرة: ما بين جواري جنكيات، وعوديات ورقاصات، وأواني للشرب بديعة، فخرج العادل إلى لقائه في ثامن شوال، وأكرمه، وقدم له الناصر ما انتخبه من الجواري والأواني وغيرها، فصادف منه الغرض، ووضه عنه بأمثاله. ولازم الناصر القيام بخدمه العادل والإقامة في بابه: فتارة يعمل حاجب الباب، وتارة أستاداراً، وتارة دواداراً، ليدخل في كل وقت عليه، ويتوصل متى شاء إليه، وهو يظن أنه يستميل الأمراء عن العادل إلى جهته، فلما تمكن الناصر داود منه أوهمه من الأمير فخر الدين ابن شيخ الشيوخ، بأنه قد اتفق مع الملك المعز مجير الدين يعقوب، وأمال إليه عدة من الأمراء وحسن له القبض عليه، فانخدع له الملك العادل، وقبض على فخر الدين واعتقله بقلعة الجبل، وأخرج عمه الملك المعز من أرض مصر، ومعه أخوه الأمجد تقي الدين عباس، فلما تم للناصر ما أراد خيل العادل من الملك الجواد نائبه على دمشق، بأن الأمراء قد مالت إليه، وقام بأمره الأمير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ، فبلغ ذلك العماد، فخاف أن يتفق عليه ما اتفق على أخيه، واجتمع بالملك العادل، والتزم له بإحضار الملك الجواد إلى طاعته عصر، فسيره العادل من القاهرة، ليحضر الملك الجواد من دمشق، فأكرمه الجواد، وأخذ العماد في التحدث معه في المسير إلى الملك العادل، فسوف به وماطله، حتى فطن العماد بامتناعه، فاحضر حينئذ الولاة والمشدين والنواب والدواوين بدمشق وأعمالها، وقال لهم: قد عزل السلطان الملك العادل الجواد عن نيابة دمشق، فلا تدفعوا إليه مالا، ولا تقبلوا له قولاً، فعز ذلك على الملك الجواد، ووكل بعماد الدين، وسجنه بقلعة دمشق، وتقرر الأمر بين الملك الجواد وبين المجاهد صاحب حمص، أن يكونا يداً واحدة، ووافقهما الأمير عماد الدين بن قلج، نائب الملك الجواد بدمشق، فرأوا أن أمرهم لا يتم إلا قتل العماد بن شيخ الشيوخ فبعثوا إلى نواب الإسماعيلية في ذلك، ودفعوا إليهم مالاً وقربة، فسيروا فدائيين قتلاه على باب الجامع، في سادس عشري جمادى الأولى، وأشيع أنهما غلطا في قتله، وإنما كانا يريدان قتل الملك الجواد، فإنه كان كثير الشبه به فبلغ ذلك الملك العادل فشق عليه.
وفي العشرين من شوال: ورد الخبر بوصول عسكر الملك الصالح نجم الدين أيوب، صحبة ولده الملك المغيث جلال الدين عمر، إلى جينين فجمع الملك العادل والملك الناصر الأمراء وتحالفوا على قتال الصالح، وخرج الناصر داود من القاهرة، في تاسع ذي القعدة، لقتال الصالح، وجهز العادل جماعة من الأمراء، وعدة من العساكر بديار مصرة لتأخذ دمشق، وقدم الملك العادل إلى الملك الجواد رسولاً بكتاب فيه أنه يعطه قلعه الشوبك وبلادها، وثغر الإسكندرية، وأعمال البحيرة وقيلوب، وعشر قرى من بلاد الجيزة بديار مصر، لينزل عن نيابة السلطة بدمشق، ويحضر إلى قلعة الجبل، ليعمل برأيه في أمور الدولة، فلما ورفى ذلك أوهمه نائبه عماد الدين قلج من أنه متى دخل مصر، قبض عليه الملك العادل، وسلبه أولاد عماد الدين بن شيخ الشيوخ بدمه، فامتنع من تسليم دمشق، برز الملك العادل من القاهرة يريد دمشق، يوم الثلاثاء سلخ ذي الحجة، ونزل بلبيس، فخاف الجواد، وعلم عجزه عن مقاومة العادل، فبعث كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله المشهور بابن العديم العقيلي، وابن طلحة خطيب جامع دمشق إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب - صاحب حصن كيفا وديار بكر وغررها من بلاد الشرق - يطلب منه أن يتسلم دمشق، ويعرضه عنها سنجار والرقة وعانة، فوقع ذلك من الملك الصالح أحسن موقع، وأجابه إليه، وزاده الجديدة، وحلف له على الوفاء، ورتب الملك الصالح ابنه الملك المعظم توران شاه على بلاد الشرق، وألزمه بحصن كيفا، وأقام نواباً بآمد وديار بكر، وسلم حران والرها وجميع البلاد للخوارزمية الذين في خدمته، وطلب نجدة من الأمير بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وكان قد صالحه - فبعث إليه بدر الدين نجدة، وسار الملك الصالح من الشرق يريد دمشق، فقطع الجواد اسم الملك العادل من الخطة، وخطب للملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وضرب السكة باسمه، ودخل الصالح إلى دمشق، في مستهل جمادى الأولى، ومعه الجواد بين يديه بالناشية، وقد ندم الجواد على ما كان منه، وأراد أن يستدرك الفائت فلم يقدر، وخرج من دمشق والناس تلعنه في وجهه، لسوء أثره فيهم، وبعث الصالح إليه برد أموال الناس إليهم، فأبي وسار.
وكان قد وصل مع الصالح أيضاً الملك المظفر صاحب حماة، وقد تلقاه الجواد، فكان دخوله يوماً مشهوداً، فاستقر في قلعة دمشق، وخرج الجواد إلى بلاده، فكانت مدة نيابته دمشق عشرة أشهر وستة عشر يوماً، صرف فيها الأموال التي كانت في خزائن الملك الكامل كلها، وكانت تزيد على ستمائة ألف دينار مصرية، سوى القماش وغيره، وسوى ما ظلم فيه الناس من التجار والكتاب، وسوى ما أخذه من صفي الدين ابن مرزوق لما صادره، وكان ينيف على خمسمائة ألف دينار، فلما استقر الملك الصالح بدمشق سار المظفر إلى حماة، وقدمت الخوارزمية، فنازلوا مدينة حمص - وهو معهم - مدة ثم فارقوها بغير طائل، وعادوا إلى بلادهم بالشرق. وقد زوج الملك الصالح أخته من أمه، وأبوها الفارس قليب مملوك أبيه الملك الكامل، لمقدم الخوارزمية الأمير حسام الدين بركة خان، وفي أثناء ذلك تواترت رسل المظفر صاحب حماة إلى الملك الصالح يستحثه على قصد حمص، وكتب الأمر من مصر تستدعيه إلى القاهرة، وتعده بالقيام بتصرفه، فبرز الملك الصالح من دمشق إلى البثنية، وكانت الخوارزمية، وصاحب حماة، على حصار حمص، فأرسل المجاهد أسد الدين شيركوه مالاً كثيراً فرقه في الخوارزمية، فرحلوا عنه إلى الشرق، ورحل صاحب حماة إلى حماة، وعاد الملك الصالح إلى دمشق طالباً مصر، وخرج منها إلى الخربة وعيد بها عيد الفطر، وعسكر تحت ثنية العقاب، وقد تحير فلا يدري أيذهب إلى حمص أم إلى مصر، وما زال بمعسكره إلى أول شهر رمضان فعاد إلى دمشق وتقدم إلى الأمير حسام الدين أبي علي بن محمد بن أبي علي الهذباني، أستاداره بدمشق، أن يرحل بطائفة من العسكر إلى جينين، فرحل، ولم يزل هو تحت عقبة الكرسي، على بحيرة طبربة، إلى آخر رمضان.
فلما وردت الأخبار بحركة الملك الصالح إلى القاهرة، خرج من أمراء مصر سبعة عشر أميراً - منهم الأمير نور الدين علي بن فخر الدين عثمان الأستادر، والأمير علاء الدين ابن شهاب أحمد، الأمير عز الدين أيبك الكربدي العادلي والأمير عز الدين بلبان والأمير حسام الدين لؤلؤ المسعودي، والأمير سيف الدين بشطر الخوارزمي، والأمير عز الدين قضيب البان العادل، والأمير شمس الدين سنقر الدنيسري - في عدة كبيرة من أتباعهم وأجنادهم، وخلق من مقدمي الحلقة والمماليك السلطانية، وساروا يريدون الملك الصالح بدمشق.
وذلك أن الملك العادل تقدم بتوجه العسكر إلى الساحل، وقدم عليه الركن الهيجاري وأنفق فيهم، فلما نزلوا بلبيس اختلفوا، وخامر جمعة من الأمراء على العادل، وعزموا على المسير إلى الملك الصالح، فبعث العادل إليهم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ وبهاء الدين مليكيشو، ليطيب خواطرهم، فلم يجيبوا، وخرج من القاهرة عدة من الحلقة، ومعهم طائفة، ومنعوا من غلق باب النصر، وساروا طائفة بعد طائفة على حمية، فبطق العادل إلى من بقي معه من الأمراء الأكراد بمحاربة من خامر عليه ببلبيس، قبل قدوم هؤلاء عليهم، فاقتتل الأكراد مع الأتراك ببلبيس، وانكسر الأتراك المخامرون وأخذ منهم أمير، وانهزم باقيهم وهم في طلبهم إلى ناحية سنيكسة. فلحق بهم من خرج من الحلقة ومضوا جميعاً إلى تل العجول، وعادت الخزانة التي كانت معهم سالمة إلى القاهرة، ثم بعثوا يطلبون من العادل العفو، فأمنهم وحلف لهم، فلم يرجعوا، وساروا إلى الملك الصالح، فلما بلغوا غزة أمر الملك الصالح أستاداره بالعود إلى خوبة اللصوص، وخرج هو ببقية عسكره من دمشق، لليلتين بقيتا من شهر رمضان، ونزل الملك الصالح الخربة، ووصل الأمير نور الدين بن فخر الدين بمن معه، فسر بهم سروراً كثيراً، وأخذوا في تقوية عزمه على قصد مصر، فرحل واستولى على نابلس والأغوار. وأعمال القدس والسواحل، وبعث ابنه الملك المغيث فتح الدين عمر إلى دمشق، وأقطع من قدم عليه من أمراء مصر نابلس وأعمالها، ليتقووا بمغلها، فخرج الناصر داود من مصر، وصار إلى الكرك، فانزعج الملك العادل وأمه لقدوم الصالح انزعاجاً عظيماً، وخافاه خوفاً كبيراً، واضطربت مصر اضطراباً زائداً، وخرج فخر القضاة في الدين بن بصاقة في الرسالة إلى الملك الصالح من الكرك عن الناصر داود بأنه في نصرة الملك الصالح ومعاونته، ويسأله دمشق وجميع ما كان لأبيه، فلم تقع موافقة على ذلك فسار الناصر إلى الملك العادل، ونزل بدار الوزراة من القاهرة، ليعينه على محاربة أخيه الملك الصالح، فقدم في ذي الحجة الصاحب محيي الدين بن الجوزي برسالة الخليفة إلى الملك الصالح، لصالح أخاه الملك العادل فأجل الملك الصالح قدومه إجلالاً كثيراً ومع ذلك فإن كتب الأمراء - وغيرهم - ترد في كل قليل على الملك الصالح من مصر، تعده بالقيام معه، وأن البلاد في يده، لاتفاق الكلمة على سلطنته.
وفيها مات المنصور ناصر الدين أرتق بن أرسلان التركماني الأرتقي، صاحب ماردين، قتله ابنه وهو سكران، واستولى بعده على ماردين.
وفيها وقعت بين جرم وجذام وثعلبة بالشرقية حروب قتل فيها كثير منهم، وقتل شيخهم شمخ بن نجم فجرد الملك العادل إليهم الأمير بهاء الدين بن ملكيشو، ليصلح بينهم، وكان السلطان في بلبيس، قد خرج في سلخ ذي الحجة من قلعة الجبل، بعساكر مصر.
سنة سبع وثلاثين وستمائةأهلت والملك العادل على بلبيس بعساكره يريد الشام، لمحاربة أخيه الملك الصالح، فأقام على بلبيس، فقصد الأمراء القبض عليه، وعمل بعضهم دعوة، وحضر إليه العادل، ففطن بما هم عليه، فقام و دخل الخريشته لقضاء الحاجة، وخرج من ظهر الحريشته، وركب فرساً وساق إلى القلعة فبعث إليه الأمراء يطلبونه، فأظهر أنه ما دخل القاهرة إلا لكسرة الخليج، وأنه سيعود إليهم ثم ألجاته الضرورة حتى خرج إلى العباسة في رابع عشري المحرم، وقبض على جماعة من الأمراء.
وفي نصف صفر: توجه الناصر داود من العباسة إلى الكرك، وصحبته الأمير سيف الدين علي بن قلج، وجماعة من أمراء مصر، فبلغ العادل عن فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ أنه يكاتب الصالح، فقبض عليه واعتقله، هذا ومحيي الدين أبو المظفر يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي أخذ في الإصلاح بين الملوك على أن تكون دمشق للصالح نجم الدين أيوب، ومصر للعادل، وأن يرد إلى الناصر داود ما أخذ من بلاده، وكان محيي الدين بن الجوزي مقيماً عند الصالح، وابنه شرف الدين يتردد من نابلس إلى مصر في السفارة، حتى تقارب الأمر. ثم قدم محيي الدين إلى مصر، ومعه جمال الدين يحيى بن مطروح، ناظر ديوان الجيوش للملك الصالح، فأديا الرسالة، وأقاما عند الملك العادل، وكان قد أخذ الصالح يكاتب عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل في الوصول إليه بنابلس، وبعث إليه الطيب سعد الدين الدمشقي، ومعه حمام ليسرح إليه بالبطائق على جناحها ما يتجدد فاتفق أمر عجيب: وهو أنه لما وصل سعد الدين إلى قلعة بعلبك أنزل الصالح عماد الدين إسماعيل بدار، وبدل عرض الحمام الذي في قفص سعد الدين بحمام آخر، من حمام القلعة ببعلبك وأخذ الصالح عماد الدين في التدبير على أخذ دمشق، وانتزاعها من يد ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأرسل جواسيسه سراً إلى ابن أخيه الملك العادل، بما عزم عليه من أخذ دمشق، وأنه منتم إليه وفي طاعته، وإذا ملك دمشق خطب له على منابرها، وضرب السكة باسمه، وكتب الصالح عماد الدين إسماعيل أيضاً إلى المجاهد - صاحب حمص - في معاونته، وهو يواصل كتبه مع ذلك إلى الملك الصالح نجم الدين، يعده بالوصول إلى نصرته، وشرع الصالح عماد الدين في جمع الرحال، ففطن بذلك الطبيب سعد الدين، وكتب البطائق على أجنحة الحمام بهذا الأمر إلى الملك الصالح نجم الدين، فكان كلما سرح سعد الدين منها طائراً وقع في برجه بقلعة بعلبك فأتى به البراج إلى الملك الصالح عماد الدين، ثم إن الصالح عماد الدين زور بطاقة عن الطبيب سعد الدين، فيها إن المولى الملك الصالح عماد الدين في الاهتمام للمسير إلى المعسكر المنصور، وإنه باق على الطاعة وسرح هذه البطاقة المزورة على جناح طائرة من الطور التي وصلت مع الطبيب سعد الدين، فلما وقف عليها الملك الصالح نجم الدين، ظن أنها من عند رسوله، فطاب قلبه، ووالى الصالح عماد الدين إرسال البطائق المزورة، وكلما سرح الطيب طائرا ببطاقة وقع في قلعة بعلبك، فيصل إلى الصالح عماد الدين.
واتفق مع ذلك أمر آخر من عجيب ما يجري: وهو أن المظفر صاحب حماة كان منتمياً إلى الصالح نجم الدين، ومهتما بنصرته، ويخطب له في بلاده، وكان الحلبيون والمجاهد صاحب حمص معاندين له، ومساعدين عليه فعلم المظفر صاحب حماة ما عليه خاله الصالح عماد الدين - صاحب بعلبك - من قصد دمشق، وموافقة المجاهد صاحب حمص له، وكانت عساكر دمشق مع الصالح نجم الدين أيوب على نابلس، وهم خمسة آلاف، وليس بدمشق من يحفظها، فخاف الملك المظفر صاحب حماة على دمشق، وباطن الأمير سيف الدين علي بن أبي علي الهذباني على أنه يظهر الحرد عليه وفارقه، ويوهم أكابر البلد بأن المظفر قد عزم على تسليم حماة إلى الفرنج، لما حصل عنده من الغبن من المجاورين له، وأخذ بلاده منه، وقصد المظفر بهذه الحيلة مكيدة صاحب حمص، وأن الأمير سيف الدين إذا ذهب بالعسكر وأكابر الرعية إلى دمشق أقاموا بها وحفظوها، حتى يتوجه الملك الصالح إلى مصر، أو يعود إلى دمشق، فأظهر سيف الدين الغضب على المظفر، وأخذ قطعة من العسكر، ومن أكابر حماة، وخرج فسار حتى نزل على حمص، عند بحيرة قدس فلم يخف على المجاهد صاحب حمص ما دبره المظفر من مكيدته، وخرج من حمص، وبعث إلى الأمير سيف الدين يريد الاجتماع به، فأتاه سيف الدين منفرداً، واعلمه بأنه كره مجاورة المظفر، لما هو عليه من الميل للفرنج، والعزم على تسليمهم حماة، فأظهر له الملك المجاهد البشر ولاطفه، واستدعاه إلى ضيافته بداخل حمص، فلما صار به إلى القلعة، استدعى أصحابه لينزلوا في البلد، فدخل بعضهم وامتنع بعضهم من الدخول إلى حمص، فلما تمكن المجاهد من الأمير سيف الدين قبض عليه، واعتقله هو ومن دخل من أصحابه، وفر الباقون، فعاقب المجاهد من صار في قبضته أشد العقوبة، واستصفى أموالهم، ومازال بسيف الدين حتى هلك فضعف المظفر لتلف رجال عسكره.
وسار الصالح عماد الدين - ومعه المجاهد - إلى دمشق في جمع كبير، وأخذاها وأظهرا طاعة الملك العادل صاحب مصر، وكان ذلك في سابع عشري صفر، ثم ملكا قلعه دمشق، واعتقلا المغيث بن الصالح نجم الدين، فبلغ ذلك الصالح وهو بنابلس، فكتم الخبر، وقدم الأمير حسام الدين محمد بن أبي علي الهذاباني أستاداره في جماعة، وسار بعده يريد دمشق، فلما وصل ابن أبي علي إلى الكسوة علم بأخذ دمشق من يدهم، فرجع إلى الصالح - وقد نزل بيسان - فاعلمه الخبر، وسار معه حتى وصل القصير اللعيني من النور فاشتهر عند العسكر أخذ دمشق، فورود مكاتبات الصالح عماد الدين إليهم، باستمالتهم إليه، ففسدت نياتهم، وطمعوا في الملك الصالح نجم الدين، لتلاشي أمره، وفارقوه، فبقي الصالح نجم الدين في دون المائة من أمرائه وأجناده، وتركه من كان معه من أهل بيته وأقاربه، وتركه أيضاً بدر الدين قاضي سنجار - وكان أخص أصحابه، وصاروا كلهم إلى دمشق، وقد أيسوا من أن يقوم بعدها الصالح نجم الدين قائمة، وثبت معه الأمير حسام الدين بن أبي علي أستادراه، وزين الدين أمير جانداره، وشهاب الدين بن سعد الدين كوجبا - وكان أبوه سعد الدين ابن عمة الملك الكامل - والأمير شهاب الدين البواشقي، ونحو الثمانين من مماليكه، وثبت معه أيضاً كاتبه بهاء الدين زهير، وهرب الطواشي شهاب الدين فاخر، وأخذ معه شيئاً كثيراً من قماش الصالح، وعدة من مماليكه الصغار وغلمانه، وصار مع من لحق بدمشق، ففت في عضد الصالح مفارقة العسكر له، وأيقن بزوال أمره ورحل في الليل، فلقيه طائفة من العربان يريدون أخذه، فحاربهم بمن معه، حتى خلص منهم إلى نابلس، فنزل بظاهرها، ولما وصل العسكر المخامر على الصالح نجم الدين إلى دمشق، قبض الملك الصالح عماد الدين على أخويه الملك المعز مجير الدين يعقوب والملك الأمجد تقي الدين عباس، واعتقل الأمراء المصريين أيضاً: وهم عز الدين أيبك الكردي، وعز الدين قضيب البان، وسنقر الدينسري، وبلبان المجاهدي، وتوجه نور الدين بن عثمان إلى بغداد، واتفق تغير الملك العادل على الناصر داود، فقارقه من بلبيس - وصحبته الأمير سيف الدين علي بن قلج - وسار إلى الكرك، وكاتب الصالح نجم الدين ووعده النصرة، وكان ذلك خدعة منه ثم سار الناصر إلى نابلس بعساكره، وقبض على الملك الصالح نجم الدين، ويقال بل بعث إليه من أخذه بعد ما صار وحده، وأركبه على بلغة في إهانة، بغير مهماز ولا مقرعة، في ليلة السبت ثاني عشر ربيع الأول، وبعث الناصر به إلى الكرك ولم يزل معه غير مملوك واحد، يقال له ركن الدين بيبرس، وبعث معه جاريته شجر الدر أم ولده خليل، وأنزله بالقلعة، وقام له بجميع ما يحتاج إليه بحيث لم يحتل من حاله سوى أنه فقد الملك فقط، وأقام بهاء الدين زهير عند الناصر داود هو وجماعة الممالك، بعد ما خيرهم فاختاروا الإقامة عنده وطلب الأمير حسام الدين بن أبي علي، وزين الدين أمير جاندار من الناصر المسير إلى دمشق فسيرهما، وعندما قدما دمشق اعتقلهما الصالح عماد الدين.
وفي سابع عشر ربيع الأول: عاد الملك العادل إلى القاهرة، بعد ما بعث الركن الهبجاوي على جماعة، لحفظ الساحل، فلما بلغ الملك العادل ما جرى على أخيه - من أخذه ذليلاً، ونهب أحر، وسجنه بالكرك - سره ذلك سروراً كثيراً، وظن أنه قد أمن، ونودي بزينة القاهرة ومصر فزينتا، وعمل سماطاً عظيماً في الميدان الأسود تحت قلعة الجبل، وعمل قصوراً من حلوى، وأحواضاً من سكر وليمون، وألفاً وخمسمائة رأس شواء، ومثلها طعاماً، فكان ما عمل من السكر ألف وخمسمائة أبلوجة، ونادى الملك العادل في العامة بالحضور إلى السماط، فحضر الجليل والحقير، وبلغ ذلك الصالح نجم الدين، وهو معتقل بالكرك.
ولم يقنع الملك العادل بسجن أخيه، حتى أنه بعث الأمير علاء الدين بن النابلس إلى الناصر داود، يطلب منه أن يبعث إليه بأخيه الصالح في قفص حديد تحت الاحتفاظ، ويبذل له في مقابلة إرساله أربعمائة ألف دينار ودمشق، وحلف على ذلك أيماناً عظيمة، فلما وصل الكاتب إلى الناصر أوقف عليه الملك الصالح، وأدخل إليه بالقاصد الذي أحضره، ثم كتب الناصر إلى الملك العادل: وصل كتاب السلطان، وهو يطلب أخاه إلى عنده في قفص حديد، وأنك تعطيني أربعمائة ألف دينار مصرية، وتأخذ دمشق ممن هي بيده، وتعطني إياها، فأما الذهب فهو عندك كثير، وأما دمشق فإذا أخذتها ممن هي معه، وسلمتها إلي، سلمت أخاك إليك، وهنا جوابي والسلام. فلما ورد هنا الجواب على الملك العادل أمر بتجهيز العساكر، ليخرج إلى الشام، وخرج محيي الدين بن الجرزي من القاهرة، ومعه جمال الدين بن مطروح رسول الصالح نجم الدين، وكان قد استجار به بعدما قبض على الصالح نجم الدين وسجن بالكرك وكتب الناصر داود إلى ابن عمه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو محبوس عنده بالكرك:
وإذا مسك الزمان بضر ... عظمت عنده الخطوب وجلت
وتوالت منه نوائب أخرى ... سئمت عندها النفوس وملت
فاصطبر وانتظر بلوغ الأماني ... فالرزايا إذا توالت تولت
وهذه الأبيات لغيره، فكتب إليه الصالح نجم الدين أيوب يشكره، وكتب فيما كتب أبيات شمس المعالي قابوس وشمكير:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا ... هل حارب الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر تطفو فوقه جيف ... ويستقر بأقصى قعره الدرر
وإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... وما لنا من تمادى بوسه ضرر
ففي السماء نجوم لا عماد لها ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
وازداد فيها الرشيد النابلسي:
وكم على الأرض من خضراء مورقة ... وليس يرجم إلا ما له ثمر
وفي أثناء هذا الاختلاف بين الملوك عمر الفرنج في القدس قلعة، وجعلوا برج داود أحد أبراجها، وكان قد ترك لما خرب الملك المعظم أسوار القدس، فلما بلغ الناصر داود عمارة هذه القلعة سار إلى القدس، ورمى عليها بالمجانيق حتى أخذها، بعد أحد وعشرين يوماً - في يوم تاسع جمادى الأولى - عنوة بمن معه من عسكر مصر، وتأخر أخذ برج داود إلى خامس عشرة فأخذ من الفرنج صلحاً على أنفسهم دون أموالهم، وعمر الناصر برج داود واستولى على القدس، وأخرج منه الفرنج. فساروا إلى بلادهم، واتفق يوم فتح القدس وصول محيي الدين بن الجوزي إلى الملك الناصر داود، ومعه جمال الدين بن مطروح، فقال جمال الدين بن مطروح يمدح الملك الناصر داود، ويذكر مضاهاته لعمه الناصر صلاح الدين يوسف في فتح القدس، مع اشتاركهما في اللقب والفعل، وهو معنى لطيف مليح:
المسجد الأقصى له عادة ... سارت فصارت مثلاً سائراً
إذا غدا بالكفر مستوطنا ... أن يبعث الله له ناصرا
فناصر طهره أولا ... وناصر طهره آخرا
وفي يوم الأحد رابع عشر ربيع الأول: ومع بين الفرنج وبين العسكر المصري المقيم بالساحل حرب، انحسر فيها الفرنج، وأخذ من الفرنج ملوكهم وأكنادهم، وثمانون فارساً، ومائتان وخمسون راجلاً - وصلوا إلى القاهرة، وقتل منهم ألف وثمانمائة، ولم يقتل من المسلمين غير عشر، ثم سار ابن الجوزي إلى دمشق، وحاول إصلاح الحال بين الصالح عماد الدين وبين الناصر داود وبن الملك العادل، فلم يتأت له ذلك، فعاد إلى القاهرة في رمضان، وقد وصل الملك ابن سنقر بخلعة الملك العادل وابنه، وأمه وامرأته وكاتبه، ونزل ابن مطروح عند المظفر بحماة، فبعثه في الرسالة إلى الخوارزمية بالشرق، يستحثهم على القيام بنصرة الملك الصالح نجم الدين، واستصحب معه أيضاً رسالة الناصر داود، ومنه: إني لم أترك الملك المصالح بالكرك إلا صيانة لمهجته، خوفاً عليه من أخيه الملك العادل، ومن عمه الملك الصالح عماد الدين، وسأخرجه وأملكه البلاد، فتحركوا على بلاد حلب، وبلاد حمص. فسار إليهم ابن مطروح وقضي الأمر معهم، وعاد إلى حماة، فاتفق موت الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه - صاحب حمص - يوم التاسع عشر من شهر رجب، فكانت مدة ملكه بحمص نحوا من ست وخمسين سنة، وقام من بعده ابنه الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم، واتفق مع الصالح عماد الدين على المعاضدة، فصار الناصر داود مواحشاً للملك العادل، بسبب أنه لم يوافقه على أخذ دمشق، والملك العادل مواحشه، لأنه لم يسلمه الملك الصالح نجم الدين، والناصر أيضاً مواحش للصالح عماد الدين، ويهدده بأنه يطلق الملك الصالح نجم الدين، ويقوم معه في أخذ البلاد والمظفر صاحب حماة لا يخطب للعادل من حين قطع الخطبة للصالح نجم الدين، لميله الملك الصالح نجم الدين.
فلما دخل شهر رمضان: سير المظفر القاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن أبي الدم - قاضي حماة - رسولاً إلى الملك العادل بمصر، وحمله في الباطن رسالة إلى الناصر داود بالكرك، أن يطلق الصالح نجم الدين، ويساعده على أخذ البلاد، فبلغ القاضي شهاب الدين الملك الناصر ذلك وتوجه إلى مصر، فأفرج الناصر داود عن الملك الصالح نجم الدين، في سابع عشر من رمضان، واستدعاه إليه وهو بنابلس، فلما قدم عليه التقاه وأجله، وضرب له دهليز السلطة، واجتمع عليه مماليكه وأصحابه الذين عنوا عند الناصر: منهم الأمير شهاب الدين بن كعب كوجبا، وشهاب الدين الغرس، وكاتبه بهاء الدين زهير، وتقدم الناصر للخطيب بنابلس في يوم عيد الفطر، فدعا الملك الصالح، وأشاع ذكره، وسار الناصر داود والصالح نجم الدين إلى القدس وتحالفا على أن تكون ديار مصر للملك الصالح، والشام والشرق للناصر، وأن يعطه مائتي ألف دينار، فكانت مدة اعتقال الملك الصالح سبعة أشهر وأياماً، ثم سارا إلى غزة، فورد الخبر بذلك على الملك العادل بمصر، فانزعج وأمر بخروج الدهليز السلطاني والعساكر، وبرز إلى بلبيس في نصف ذي العقدة، وكتب إلى الصالح عماد الدين أن يخرج بعساكر دمشق، فخرج الصالح عماد الدين بعساكره إلى الغوار، فخاف الملك الصالح والملك الناصر من التقاء عساكر مصر والشام عليهما، ورجعا من غزة إلى نابلس، ليتحصنا بالكرك وكان الملك العادل قد شره في اللعب، وأكثر من تقديم الصبيان والمساخر وأهل اللهو، حتى حسبت نفقاته في هذا الوجه خاصة، فكانت ستة آلاف ألف وعشرين ألف ألف درهم، وأعطى العادل عبداً أسوداً، عمله طشت داره، يعرف بابن كرسون منشوراً بخمسين فارساً، فلما خرج به من باب القلة بقلعة الجبل وجده الأمير ركن الدين الهيجاري، أحد الأمراء الأكابر، فأراه المنشور، فحنق ومكة في وجهه، وأخذ منه المنشور، وصار بين الأمراء وبين الملك العادل وحشة شديدة، ونفرة عظيمة، واتفق ما تقدم ذكره إلى أن نزل العادل ببلبيس، فقام الأمير عز الدين أيبك الأسمر - مقدم الأشرقية - وباطن عدة من الأمراء والمماليك الأشرفية على خلع العادل والقبض عليه، ووافقهم على هذا جوهر التوبي وشمس الخواص - وهما من الخدام الكاملية، وجماعة أخر من الكاملية، وهم مسرور الكاملي، وكافور الفائزي، وركبوا ليلاً وأحاطوا بدهليز الملك العادل، ورموه وقبضوا عليه، ووكلوا به من يحفظه في خيمة، فلم يتحرك أحد لنصرته، إلا أن الأكراد هموا بالقيام له، فمال عليهم الأتراك والخدام ونهبوهم، فانهزم الأكراد إلى القاهرة، ويقال إنه بلغ أيبك الأسمر أن الملك العادل سكر مع شبابه وخواصه، وقال لهم: عن قليل تشربون من دم أيبك الأسمر وهؤلاء العبيد السوء فلان وفلان وسماهم فاجتمعوا على خلعه، لاسيما لما طلب ابن كرسون منه أن يسلمه الأمير شجعاع الدين بن بزغش - وإلى قوص - فأمكنه منه وعاقبه أشد عقوبة وتنوع في عذابه، ولم يقبل فيه شفاعة أحد من الأمراء، وكان الملك العادل قد قربه تقريباً زائداً، حتى كان يقضي عنده الحوائج الجليلة، فأنفت الأنفس من ذلك، وخلع العادل في يوم الجمعة تاسع شوال، فكانت مدة ملكه سنتين وشهرين وثمانية عشر يوماً، أولها يوم الخميس، وآخرها يوم الخميس تاسع شوال سنة سبع وثلاثين وستمائة، أسرف فيها إسرافاً أفرط فيه، بحيث أن أباه الملك الكامل ترك ما ينيف على ستة آلاف ألف دينار مصرية، وعشرين ألف ألف درهم فرقها كلها، وكان العادل يحمل المال إلى الأمراء وغيرهم على أقفاص الحمالين، ولم يبق أحد في دولته إلا وشمله إنعامه، فكانت أيامه بمصر كلها أفراح ومسرات للذين جانبه، وكثرة إحسانه، قال الأديب أبو الحسين الجزار في الملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب:
هو الليث يخشى بأسه كل مجتر ... هو الغيث يرجوه كل مجتدي
لقد شاد ملكاً أسسه جدوده ... فأصبح ذا ملك أثيل مشيد
وصح به الإسلام حتى لقد غدت ... بسلطانه أهل الحقائق تقتدي
فقل للذي قد شك في الحق إنما ... أطعنا أبا بكر بأمر محمد
يشير بذلك إلى أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، فإن أباهما الكامل محمداً أقام العادل هذا بمصر، وبعث الصالح أيوب إلى الشرق، وقال البرهان بن الفقيه نصر، لما استقر العادل في السلطنة بعد أبيه.
قل للذي خاف من مصر وقد أمنت ... ماذا يؤمله منها وخيفته
إن كان قد مات عن مصر محمدها ... فقد أقام أبا بكر خليفته
السلطان الملك الصالحأبو الفتوح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، لما قبض على أخيه الملك العادل، كان الأمير عز الدين أيبك الأسمر يميل إلى الملك الصالح عماد الدين إسماعيل - صاحب دمشق - وكانت الخدام والمماليك الكاملية تميل إلى الملك الصالح نجم الدين - وهم الأكثر - فلم يطق عز الدين مخالفتهم، فاتفقوا كلهم، وكتبوا إلى الملك الصالح نجم الدين يستدعونه فأتته كتبهم، وقد بلغ هو والناصر داود الغاية من الخوف وزلزلاً زلزالاً شديداً، لضعفهما عن مقاومة عساكر مصر والشام، فأتاهما من الفرج ما لم يسمع بمثله، وقاما لوقتهما، وسارا إلى مصر، فلما دخلا الرمل لم ينزلا منزلة إلا وقدم عليهما من أمراء مصر طائفة، حتى نزلا بلبيس، يوم الاثنين تاسع، بعدما خطب له بالقاهرة ومصر يوم الجمعة خامس عشرة، ومنذ فارقا غزة تغير الناصر داود على الملك الصالح نجم الدين أيوب، وتحدث في قتله، فلما نزلا بلبيس، سكر الملك الناصر، ومضى إلى العادل، وقال له: كيف رأيت ما أشرت به عليك، ولم تقبل مني؟ فقال له العادل: يا خوندا التوبة، فقال الناصر: طيب قلبك، الساعة أطلقك ثم جاء الناصر، ودخل على الملك الصالح، ووقف فقال له الصالح: بسم الله اجلس، قال: ما أجلس حتى تطلق العادل، فقال له: أعد، وهو يكرر الحديث، فما زال به حتى نام، فقام من فوره الملك الصالح، وسار في الليل ومعه العادل في محفة، ودخل به إلى القاهرة، واستولى على قلعة الجبل، يوم الجمعة ثالث عشري شوال، بغير تعب، وجلس الملك الصالح نجم الدين أيوب على سرير الملك، واعتقل العادل ببعض دوره، واستحلف الأمراء، وزينت القاهرة ومصر وظواهرهما، وقلعة الجبل زينة عظيمة، وسر الناس به سروراً كثيراً، لنجابته وشهامته، ونزل الناصر داود بدار الوزارة من القاهرة، ولم يركب الملك الصالح يوم عيد النحر، لما بلغه من خلف العسكر.
وفي ذي الحجة: أحضر الملك الصالح إليه الملك العادل، وسأله عن أشياء، ثم كشف بيت المال والخزانة السلطانية، فلم يجد سوى دينار واحد وألف درهم. وقيل له عما أتلفه أخوه، فطلب القضاة والأمراء الذين قاموا في القبض على أخيه، وقال لهم: لأي شيء قبضتم على سلطانكم؟ فقالوا: لأنه كان سفيهاً فقال: يا قضاة السفيه يجوز تصرفه في بيت مال المسلمين، قالوا: لا قال: أقسم بالله متى لم تحصروا ما أخذتم من المال، كانت أرواحكم عوضه. فخرجوا وأحضروا إليه سبعمائة ألف وخمسة وثمانين ألف دينار، وألفي ألف وثلاثمائة ألف درهم، ثم أمهلهم قليلاً، وقبض عليهم واحد بعد واحد، واستدعى الملك الصالح بالقاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن علي بن محمد المعروف بابن أبي الدم - وكان بمصر منذ قام من عند المظفر صاحب حماة، وبعث به مكرماً إلى حماة وخلع علي ابن الجوزي رسول الخليفة، وكتب معه إلى الديوان العزيز يشكو منه، وكانت الخلع الخليفتية قد وصلت إلى القاهرة، فلبسهما الملك الصالح، ونصب منبراً صعد عليه ابن الجوزي، وقرأ تقليد الملك الصالح، والملك الصالح قائم بين يدي المنبر على قدميه، حتى فرغ من قراعته، وشيع الملك الصالح أيضاً الصاحب كمال الدين بن العديم رسول حلب، وتخوف السلطان من الناصر داود، لكثرة ما بلغه عنه من اجتماعه بالأمراء سراً، ولأنه سأله أن يعطه قلعة الشوبك، فامتنع السلطان من ذلك، واستوحش الناصر فطلب الأذن بالرحيل إلى الكرك، فخرج من القاهرة وهو متغيظ، وقد بلغه أن الصالح إسماعيل خرج من دمشق، ووافق الفرنج على أن يسلمهم الساحل، ووصل الفرنج إلى النابلس، وتأول السلطان أنه ما حلف للناصر بالقدس إلا مكرها، لأنه كان إذ ذاك تحت حكمه وفي طاعته، فلما وصل الناصر إلى الكرك طلب من السلطان ما التزم له به من المال، فحمله إليه، وماطله بتجريد العساكر معه لفتح دمشق، مستنداً لما تأوله، وفي أثناء ذلك تحدث الأشرفية بالوثوب على السلطان، فخافهم وامتنع من الركوب في الموكب مدة، واستوزر السلطان الصاحب معين الدين الحسن بن الشيخ، وسلم إليه أمور المملكة كلها، وهو ببركة الحاج، في يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة قبل الظهر، فشرع الصاحب معين الدين في تدبير المملكة، والنظر في مصالح البلاد.
وولدت شجر الدر من الملك الصالح ولداً سماه خليلاً، ولقبه بالملك المنصور، وعندما نزل الملك الصالح العباسة، في يوم الحج سابع عشر ذي القعدة، قبض على الركن الهيجاري العادلي في يوم الاثنين ثامن عشره، وبعثه إلى القاهرة.
وفيها زار الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم خطابة دمشق، في يوم الأربعاء ثالث ربيع الآخر، ولاه الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل، وخطب لصاحب الروم.
وفيها قتل عثمان بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة، أمير بني مرين، وأول من عظم أمره منهم، وغلب على ريف المغرب، ووضع على أهله المغارم، فبايعه أكثر القبائل، وامتدت يده إلى أمصار المغرب، مثل فاس وتازا ومكناسة، وفرض عليها ضرائب تحمل إليه، وقام بعد عثمان أخوه محمد بن عبد الحق.
وفيها قدم الشريف شيحة بن قاسم أمير المدينة إلى مكة، في ألف فارس من عسكر مصر، فبعث ابن رسول ملك اليمن بالشريف راجح وعسكر، ففر شيحة من مكة، وملكها عسكر اليمن.
سنة ثمان وثلاثين وستمائة
فيها شرع السلطان الملك الصالح أيوب في النظر في مصالح دولته، وتمهيد قواعد مملكته، ونظر في عمارة أرض مصر، وبعث زين الدين بن أبي زكري على عسكر إلى الصعيد، لقتال العرب، وتتبع من قام في قبض أخيه الملك العادل، فقبض عليهم، واستصفى أموالهم وقتل عدة منهم، وفر عدة من الأشرفية، وقبض على الأمير عز الدين أيبك الأسمر الأشرفي بالإسكندرية، ونودي بالقاهرة وظواهرها: من أخفى أحداً من الأشرفية نهب ماله. وأغلقت أبواب القاهرة كلها ثلاثة أيام، ما خلا باب زويلة. حرصاً على أخذ الأشرفية، فأخذوا وأودعوا السجون، وقبض على جوهر النوبي، وشمس الحواص مسرور بدمياط - وكان من الخدام الكاملية، وممن أعلن على خلع العادل، وقبض على شبل الدولة كافور الفائزي بالشرقية، وسجن بقلعة الجبل، وقبض على جماعة من الأتراك ومن أجناد الحلقة، وعلى عدة من الأمراء الكاملية. وصار السلطان الملك الصالح أيوب كلما قبض على أمير أعطى خبره لمملوك من مماليكة وقدمه، فبقي معظم أمراء الدولة مماليكه، لثقته بهم، واعتماده عليهم، فتمكن أمره وقوي جأشه.
وفي سلخ ربيع الآخر وهو يوم السبت: ولد للملك الصالح نجم الدين أيوب من حظيته ولد ذكر وأحب الصالح أن يبقي له ذكراً، فأمر ببناء قلعة الجزيرة - المعروفة بالروضة - قبالة مصر الفسطاط وشرع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان، وابتدئ ببنائها في آخر الساعة الثالثة من يوم الجمعة سادس عشره.
وفي عاشر ذي القعدة: وقع الهدم في الدور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة، وتحول الناس من مساكنهم التي كانت بها، وبنى الملك الصالح فيها الحور السلطانية، وشيد أسوراها، وأنفق فيها أموالاً تتجاوز الوصف، فلما تكامل بناؤها تحول السلطان من قلعة الجبل إليها، وسكنها بأهله وحرمه ومماليكه، وكان مغرى بالعمائر.
وفيها عاد العسكر الذي قصد المسير إلى اليمن في رمضان، خوفاً من المماليك الأشرفية وأتباعهم، وذلك أنهم كانوا قد عزموا على الخروج من القاهرة، ونهب العسكر ببركة الجب فبطل سفرهم، وبعث السلطان منهم ثلاثمائة مملوك إلى مكة، لأخذها من أهل اليمن وعليهم الأمير مجد الدين بن أحمد بن التركماني والأمير مبارز الدين علي بن الحسن بن برطاس، وذلك أن الخير ورد بأن ملك اليمن بعث جيشاً لأخذ مكة، فساروا آخر شهر رمضان، ودخلوا مكة في أثناء ذي القعدة، ففر من كان بها من أهل اليمن.
وفيها عاد القاضي بدر الدين قاضي سنجار من بلاد الروم، وكان قد توجه إليها برسالة الملك الصالح عماد الدين صاحب دمشق، فبلغه أن الملك الصالح نجم الدين ملك مصر، فخرج من بلاد الروم، وقد عزم ألا يدخل دمشق، فمضى إلى مصياف من بلاد الإسماعيلية، وأخذ يتحيل في الوصول إلى مصر، فبلغ ذلك الصالح إسماعيل، فأرسل إليه ليحضر، فامتنع من الحضور وأستجار بالإسماعيلية، فأجاروه ومنعوا الصالح إسماعيل منه، وأوصلوه إلى حماة فأكرمه المظفر، وأنزله عنده، وكان قد نزل عنده أيضاً جمال الدين بن مطروح، فصارت حماة ملجأ لكل من انتمى للسلطان الصالح نجم الدين، ومنها يرد إليه عصر كل ما يتجدد بالشام والشرق.
وفيها أيس الناصر داود من إعطاء الملك الصالح نجم الدين له دمشق، فانحرف عنه، ومال إلى الصالح إسماعيل والمنصور صاحب حمص، واتفقوا جميعاً على الصالح نجم الدين.
وفيها أغار الخوارزمية على بلاد قلعة جعبر وبالس ونهبوها، وقتلوا كثيراً من الناس، ففر من بقي إلى حلب ومنبج، واستولى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على شجار، وأخرج منها الملك الجواد يونس بن مودود بن العادل بن نجم الدين أيوب، فسار الجواد إلى الشام، حتى صار في يد الناصر داود، فقبض عليه بغزة يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة، وبعث به إلى الكرك، وانضمت الخوارزمية على صاحب الموصل، فصاروا نحو الاثني عشر ألفاً، وقصدوا حلب، فخرج إليهم من حلب، فانكسر وقتل أكثره، وغنم الخوارزمية ما معهم، فامتنع الناس بمدينة حلب، وانتهبت أعمال حلب، وفعل فيها كل قبيح من السبي والقتل والتخريب، ووضعوا السيف في أهل منبج، وقتلوا فيها ما لا يحصى عدده من الناس، وخربوا وارتكبوا الفواحش بالنساء في الجامع علانية، وقتلوا الأطفال وعادوا وقد خرب ما حول حلب، وكان الخوارزمية يظهرون للناس أنهم يفعلون ما يفعلون خدمة لصاحب مصر، فإن أهل حلب وحمص ودمشق كانوا حزباً على الصالح صاحب مصر. فسار المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد صاحب حمص، عساكره وعساكر حلب ودمشق، وقطع الفرات إلى سروج والرها، وأوقع بالخوارزمية، وكسرهم واستولى على ما معهم، ومضوا هاربين إلى عانة.
وفيها خاف الصالح عماد الدين من الملك الصالح نجم الدين، فكاتب الفرنج، واتفق معهم على معاضدته ومساعدته، ومحاربة صاحب مصر، وأعطاهم قلعة صفد وبلادها، وقلعة الشقيف وبلادهما، ومناصفة صيداً وطبرية وأعمالها، وجبل عاملة وسائر بلاد الساحل، وعزم الصالح عماد الدين على قصد مصر لما بلغه من القبض على المماليك الأشرفية والخدام ومقدمي الحلقة وبعض الأمراء وأن من بقي من أمراء مصر خائف على نفسه من السلطان، فتجهز وبعث إلى المنصور صاحب حمص، وإلى الحلبيين وإلى الفرنج يطلب منهم النجدات، وأذن الصالح إسماعيل للفرنج في دخول دمشق وشراء السلاح، فأكثروا من ابتياع الأسلحة وآلات الحرب من أهل دمشق، فأنكر المسلمون ذلك، ومشي أهل الدين منهم إلى العلماء واستفتوهم، فأفتى الشيخ عز الدين بن عبد السلام بتحريم بيع السلاح للفرنج، وقطع من الخطبة بجامع دمشق الدعاء للصالح إسماعيل، وصار ويدعو في الخطبة بدعاء منه: اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد تعز فيه أولياءك، وتذل فيه أعداءك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهي فيه معصيتك، والناس يضجون بالدعاء. وكان الصالح غالباً عن دمشق، فكوتب بذلك، فورد كتابه بعزل بن عبد السلام عن الخطابة، واعتقاله هو والشيخ أبي عمرو بن الحاجب، لأنه كان قد أنكر، فاعتقلا، ثم لما قدم الصالح أفرج عنهما، وألزم بن عبد السلام بملازمة داره، وألا يفتى، ولا يجتمع بأحد البتة، فاستأذنه في صلاة الجمعة، وأن يعبر إليه طبيب أو مزين إذا احتاج إليهما، وأن يعبر الحمام، فأذن له في ذلك، وولي خطابة دمشق بعد عز الدين عبد السلام، علم الدين داود بن عمر بن يوسف بن خطيب بيت الآبار، وبرز الصالح من دمشق، ومعه عساكر حمص وحلب وغيرها، وسار حتى نزل بنهر العوجاء، فبلغه أن الناصر داود قد خيم على البلقاء، فسار إليه، وأوقع به، فانكسر الناصر، وانهزم إلى الكرك وأخذ الصالح أثقاله، وأسر جماعة من أصحابه، وعاد إلى العوجاء وقد قوي ساعده واشتدت شوكته، فبعث يطلب نجدات الفرنج، على أنه يعطيهم جميع ما فتحه السلطان صلاح الدين يوسف ورحل، ونزل تل العجول فأقام أياماً، ولم يستطع عبور مصر، فعاد إلى دمشق، وذلك أن الملك الصالح نجم الدين، لما بلغه حركة الصالح إسماعيل من دمشق ومعه الفرنج، جرد العساكر إلى لقائه، فألقاهم. وعندما تقابل العسكران ساقت عساكر الشام إلى عساكر مصر طائعة، ومالوا جميعاً على الفرنج، فهزموهم وأسروا منهم خلقاً لا يحصون، وبهؤلاء الأسرى عمر السلطان الملك الصالح نجم الدين قلعة الروضة، والمدارس الصالحية بالقاهرة.
وفيها تم الصلح مع الفرنج، وأطلق الملك الصالح الأسرى بمصر من الجنود والفرسان والرجالة.
وفي ذي القعدة: كانت وقعة بين أمراء الملك الصالح أيوب المقيمين بغزة، وبين الجواد والناصر، وكسر أصحاب الملك الصالح، وكسر كمال الدين بن الشيخ. وفيها استقر الصلح بين الملك الصالح والناصر، ورحل الناصر عن غزة بعد قبضه على الجواد.
وفي ذي القعدة: وصل الجواد إلى العباسة ومعه الصالح بن صاحب حمص، فأنعم عليهما الملك الصالح نجم الدين أيوب، ولم يمكنهما من دخول القاهرة فعاد الجواد، ولجأ إلى الناصر، فقبض عليه. وفيها عزل القاضي عبد المهيمن عن حسبة القاهرة، في تاسع المحرم، واستقر فيها القاضي شرف الدين محمد بن الفقيه عباس، خطيب القلعة.
وفي رابع عشره: شرع السلطان الملك الصالح نجم الدين في بناء القنطرة التي على الخليج الكبير، المجاور لبستان الخشاب، التي تعرف اليوم بقنطرة السد، خارج مدينة مصر.
وفي سادس عشره: أمر السلطان الملك الصالح أيوب بتجهيز زرد خاناه وشواني وحراريق إلى بحر القلزم لقصد اليمن، وجرد جماعة من الأمراء والأجناد بسبب ذلك.
وفي خامس عشريه: نزل خمس نفر في الليل من الطاقات الزجاج إلى المشهد النفيسي، وأخفوا من فوق القبر ستة عشر قنديلاً من فضة، فقبض عليهم من الفيوم، وأحضروا في رابع صفر، فاعترف أحدهم بأنه هو الذي نزل من طاقات القبة الزجاج وأخذ القناديل، وبرأ بقية أصحابه، فشنق تجاه المشهد في عاشره، وترك مدة متطاولة على الخشب، حتى صار عظاماً.
وفي سابع عشري وبيع الأول: ولي الملك الصالح الأمير بدر الدين باخل الإسكندرية، ونقله إليها من ولاية مصر.
وفي شهر ربيع الآخر: رتب السلطان نواباً عنه بدار العدل، يجلسون لإزالة المظالم. فجلس لذلك افتخار الدين ياقوت الجمالي، وشاهدان عدلان، وجماعة من الفقهاء: منهم الشريف شمس الدين الأرموي، نقيب الأشراف وقاضي العسكر ومدرس المدرسة الناصرية بمصر، والقاضي فخر الدين بن السكري، والفقيه عز الدين عباس، فهرع الناس لدار العدل من كل جانب، ورفعوا ظلاماتهم، فكشفت، واستراح السلطان من وقوف الناس إليه، واستمر هذا عصر.
وفي ذي الحجة: سار القاضي بدر الدين أبو المحاسن يوسف السنجاري على الساحل إلى مصر، فلما قدم على السلطان أكرمه غاية الإكرام، وكان قضاء ديار مصر بيد القاضي شرف الدين ابن عين الدولة الإسكندري، فصرفه السلطان عن قضاء مصر والوجه القبلي، وفوض ذلك للقاضي بدر الدين السنجاري، وأبقي مع ابن عين الدولة قضاء القاهرة والوجه البحري.
وفيها ظهر ببلاد الروم رجل ادعى النبوة، يقال له البابا، من التركمان. وصار له اتباع، وحمل اتباعه على أن يقولوا: لا اله إلا الله، البابا رسول الله، فخرج إليه جيش صاحب الروم، فقاتلهم وقتل بينه وبينهم أربعة آلاف نفر، ثم قتل البابا فانحل أمره.
وفيها وصل رسول التتار من ملكهم خاقان إلى الملك المظفر شهاب الدين غاري بن العادل، صاحب ميافارقين، ومعه كتاب إليه وإلى ملوك الإسلام، عنوانه: من نائب رب السماء، سامح وجه الأرض، ملك الشرق والغرب، قاقان. فقال الرسول لشهاب الدين صاحب مياقارفين: قد جعلك قاقان سلاح داره، وأمرك أن تخرب أسوار بلدك فقال له شهاب الدين: أنا من جملة الملوك، وبلادي حقيرة بالنسبة إلى الروم والشام ومصر، فتوجه إليهم، وما فعلوه فعلته.
وفي يوم الجمعة حادي عشر ذي القعدة: رسم الصالح إسماعيل أن يخطب على منبر دمشق للسلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباد بن كيخسرو، ملك الروم، فخطب له، ونثر على ذلك الدنانير والدارهم، وكان يوماً مشهوداً، وحضر رسل الروم وأعيان الدولة، وخطب الملك في جوامع البلد، وأنعم على الرسول وخلع عليه.
سنة تسع وثلاثين وستمائةفيها شرع الملك الصالح في عمارة المدارس الصالحية بين القصرين. وفيها غلت الأسعار بمصر، وأبيع القمح كل أردب بدينارين ونصف، وقدم جمال الدين بن مطروح من طرابلس - في البحر - إلى القاهرة، وكثرت قصاد المظفر صاحب حماة إلى مصر.
وفي يوم الأحد تاسع عشري ربيع الأول: كسف جميع جرم الشمس، وأظلم الجو، وظهرت الكواكب، وشغل الناس السرح بالنهار.
وفيها قدم الشيخ عز الدين بن عبد السلام إلى مصر، وقد أخرجه الصالح إسماعيل من دمشق، فأكرمه الملك الصالح نجم الدين، وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص بمصر، وقلده قضاء مصر والوجه القبلي يوم عرف عوضاً عن قاضي القضاة شرف الدين ابن عين الدولة، عندما كتب السلطان بخطه إلى ابن عين الدولة، في يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر ما نصه: إن القاهرة لما كانت دار المملكة، وأمراء الدولة وأجنادها مقيمون بها، وحاكمها مختص بحضور دار العدل، تقدمنا أن يتوفر القاضي على القاهرة وعملها لا غير. وفوض السلطان قضاء القضاة بمصر وعملها - وهو الوجه القبل - لبدر الدين أبي المحاسن يوسف السنجاري: المعروف بقاضي سنجار. فلما مات ابن عين الدولة استقر البدر السنجاري في قضاء القاهرة، وفوض قضاء مصر والوجع القبلي لابن عبد السلام.
وفيها كثر تردد الناس إلى فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ، بعدما أطلقه السلطان في السجن فكره السلطان ذلك، وأمره أن يلازم داره.
وفيها بلغ السلطان أن الناصر داود صاحب الكرك قد وافق الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والمنصور إبراهيم صاحب حمص، وأهل حلب، على محاربته، فسير السلطان كمال الدين بن شيخ الشيوخ على عسكر إلى الشام، فخرج إليه الناصر وقاتله ببلاد القدس، وأسره في عدة من أصحابه، ثم أطلقهم، وعادوا إلى القاهرة. وكان من خبر ذلك أنه في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر، وقع عسكر الناصر داود على الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد، وقد نزل على الغوار، فكسره وأخذ الأثقال، وكان معه الأمير شمس الدين شرف - المعروف بالسبع مجانين - وشمس الدين أبو العلاء الكرديان، وشرف الدين بن الصارم صاحب بنين، وكان مقدم عسكر الناصر سيف الدين بن قلج، وجماعة من الأيوبية من عسكر مصر.
وفيها سار الخوارزمية إلى الموصل، فسالمهم صاحبها بحر الدين لؤلؤ نصيبين، ووافقهم المظفر شهاب الدين غازي بن العادل، صاحب ميافارقين، ثم ساروا إلى آمد فخرج إليهم عسكر حلب، عليه المعظم فخر الدين توران شاه بن صلاح الدين، فدفعوهم عنها، ونهبوا بلاد ميافارقين، وجرت بينهم وبين الخوارزمية وقائع ثم عاد العسكر إلى حلب، فغار الخوارزمية على رساتيق الموصل.
وفيها فلج المظفر صاحب حماة في شعبان وهو جالس بغتة، فأقام أياماً ملقي لا يتحرك ولا يتكلم، ثم أفاق وبطل شقه الأيمن فسير إليه الملك الصالح نجم الدين أيوب من مصر بطبيب يعرف بالنفيس بن طليب النصراني، فلم ينجح فيه دواء، واستمر كذلك سنين وشهوراً حتى مات.
وفي خامس عشر ذي القعدة: قدم الأمير ركن الدين ألطونبا الهيجاري من القاهرة إلى دمشق، وكان الملك الصالح نجم الدين قد بعثه في شهر رمضان إلى الناصر داود، ليصلح بينه وبين الملك الجواد، حتى بقى على طاعة الصالح نجم الدين، فلما وصل إلى غزة هرب إلى دمشق، وأخذ معه جماعة من العسكر ولحق الجواد بالفرنج، وأقام عندهم.
وفيها وصل الملك المنصور نور الدين عمر بن علي رسول من اليمن في عسكر غير إلى مكة، في شهر رمضان، ففر المصريون بعدما أحرقوا دار الإمارة بمكة، حتى تلف ما كان بها من سلاح وغيره.
سنة أربعين وستمائةفي ربيع الأول: أبطلت خطة ملك الروم من دمشق، وخطب للملك الصالح نجم الدين أيوب.
وفي يوم الجمعة رابع جمادى الأولى: دخل الفرنج من عكا إلى نابلس، ونهبوا وقتلوا وأسروا، وأخذوا منبر الخطيب، وخرجوا يوم الأحد بعد ما أفسدوا أموالاً كثيرة.
وفي يوم السبت ثامن عشر المحرم: وصل إلى القاهرة الشريف علاء الدين عالم بن الأمير السيد علي.
وفيها وصل التتار إلى أرزن الروم، وأوقع الملك المظفر غازي، صاحب ميلادقين بالخوارزمية. وفيها ماتت ضيفة خاتون ابنة العادل أبي بكر بن أيوب، ليلة الجمعة لإحدى عشرة خلت من جمادى الأولى فاستبد ابن ابنها الناصر يوسف بن الظاهر غازي بمملكة حلب بعدها، وقام بتدبيره بعد جدله الأمير شمس الدين لؤلؤ الأتابك، والأمير جمال الدين العادل الأسود الحسن، الخاتون، والوزير الأكرم جمال الدين بن النفطي، وخرج إقبال من حلب بعسكر، وحارب الخوارزمية، ثم عاد.
وفيها مات الخليفة المستنصر بالله جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد ابن الناصر لدين الله أحمد العباس أمير المؤمنين بكرة يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة، وكاد سبب موته أنه فصد بمبضع مسموم. فكانت خلافته سبع عشرة سنة وشهر، وقيل مات في ثاني عشريه، وكانت مدته خمس عشرة سنة وأحد عشر شهراً وخمسة أيام، وله من العمر إحدى وخمسون سنة وأربعة أشهر وسبعة أيام. وكان حازماً عادلاً، وفي أيامه عمرت بغداد عمارة عظيمة، وبني بها المحرسة المستنصرية، وفي أيامه قصد التتر بغداد، فاستخدم العساكر حتى قيل إنها زادت عدتها على مائة ألف إنسان. فقام من بعده في الخلافة ابنه المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله، وقام بأمره أهل الدولة، وحسنوا له جمع الأموال، وإسقاط أكثر الأجناد، فقطع كثيراً من العساكر، وسالم التتر، وحمل إليهم المال.
وفيها بني بعض غلمان الصاحب معين الدين ابن شيخ الشيوخ، وزير الملك الصالح نجم الدين أيوب، بناء بأمر مخدومه على سطح مسجد بمصر، وجعل فيه طبلخاناه عماد الدين ابن شيخ الشيوخ، فأنكر ذلك قاضي القضاة عز الدين بن عبد السلام، ومضى بنفسه وأولاده، حتى هدم البناء، ونقل ما على السطح، ثم أشهد قاضي القضاة على نفسه أنه قد أسقط شهادة الوزير معين الدين، وأنه قد عزل نفسه من القضاء فلما فعل ذلك ولي الملك الصالح عوضه قضاء مصر صدر الدين أبا منصور موهوب ابن عمر بن موهوب بن إبراهيم الجزري الفقيه الشافعي، وكان ينوب عن ابن عبد السلام في الحكم، في ثالث عشري ذي القعدة.
وفيها قدم مكة الحاج من بغداد، بعدما انقطع ركب العراق سبع سنين عن مكة وكان من خبر مكة - شرفها الله تعالى - أن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بعث ألف فارس عليهم الشريف شيحة بن قاسم أمير المدينة، في سنة سبع وثلاثين، فبعث الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول من اليمن بابن النصيري، ومعه الشريف راجح، إلى مكة في عسكر كبير، ففر الشريف شيحة بمن معه، وقدم القاهرة، فجهز السلطان الملك الصالح معه عسكراً قدم بهم مكة، في سنة ثمان وثلاثين، وحجوا بالناس، فبعث ابن رسول من اليمن عسكراً كبيراً، فطلب عسكر مصر من السلطان الملك الصالح نجدة، فبعث إليهم بالأمير بارز الدين علي بن الحسين برطاس، والأمير مجد الدين أحمد بن التركماني، في مائة وخمسين فارساً، فلما بلغ ذلك عسكر اليمن أقاموا على السرين، وكتبوا إلى ابن رسول بذلك، فخرج بنفسه في جمع كبير يريد مكة، ففر المصريون على وجوههم، وأحرقوا ما في دار السلطان بمكة من سلاح وغيره، فقدم الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول مكة، وصام بها شهر رمضان، سنة تسع وثلاثين، واستناب بمكة مملوكه فخر الدين الشلاح.
سنة إحدى وأربعين وستمائةفيها قدم التتر بلاد الروم، وأوقعوا بالسلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباد بن يخسرو بن قلج أرسلان، وهزموه وملكوا بلاد الروم وخلاط وآمد، فدخل غياث الدين في طاعتهم، على مال يحمله إليهم، وملكوا أيضاً سيواس وقيسارية بالسيف وقرروا على صاحبهما في كل سنة أربعمائة ألف دينار ففر غياث الدين منهم إلى القسطنطينية، وقام من بعده ركن الدين ابنه - وهو صغير - إلى أن قتل.
وفيها تكررت المراسلة بين الصالح نجم الدين أيوب، وبين عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق، وبين المنصور صاحب حمص، على أن تكون دمشق وأعمالها للصالح إسماعيل، ومصر للصالح أيوب، وكل من صاحب حمص وحماة وحلب على ما هو عليه، وأن تكون الخطة والسكة في جميع هذه البلاد للملك الصالح نجم الدين أيوب وأن يطلق الصالح إسماعيل الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك الصالح نجم الدين من الاعتقال، وأن يخرج الأمير حسام الدين أبو علي بن محمد بن أبي علي باشاك الهذباني، المعروف بابن أبي علي من اعتقاله ببعلبك، وأن ينتزع الصالح إسماعيل الكرك من الملك الناصر داود، فلما تقرر هذا خرج من القاهرة الخطب أصيل الدين الإسعردي - إمام السلطان - في جماعة، وسار إلى دمشق، فخطب للسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بجامع دمشق وبحمص، وأفرج عن المغيث ابن السلطان، وأركب ثم أعيد إلى القلعة، حتى يتم بينهما الحلف، وأفرج عن الأمير حسام الدين، وكان قد ضيق عليه وجعل في جب مظلم فلما وصل حسام الدين إلى دمشق خلع عليه الصالح إسماعيل، وسار إلى مصر، ومعه رسول الصالح إسماعيل، ورسول صاحب حمص - وهو القاضي عماد الدين بن القطب قاضي حماة - ورسول صاحب حلب، فقدموا على الملك الصالح نجم الدين، ولم يقع اتفاق، وعادت الفتنة بين الملوك، فاتفق الناصر داود صاحب الكرك، مع الصالح إسماعيل صاحب دمشق، على محاربة الملك الصالح نجم الدين وعاد رسول حلب، وتأخر ابن القطب بالقاهرة، فبعث الناصر داود والصالح إسماعيل، ووافقا الفرنج على أنهم يكونون عوناً لهم على الملك الصالح نجم الدين، ووعداهم أن يسلما إليهم القدس وسلماهم طبرية وعسقلان أيضاً فعمر الفرنج قلعتيهما وحصونهما، وتمكن الفرنج من الصخرة بالقدس، وجلسوا فوقها بالخمر، وعلقوا الجرس على المسجد الأقصى.
فبرز الملك الصالح نجم الدين أيوب من القاهرة، ونزل بركة الجب وأقام عليها، وكتب إلى الخوارزمية يستدعيهم إلى ديار مصرة لمحاربة أهل الشام، فخرجوا من بلاد الشرق.
وفي يوم عيد النحر: صرف الملك الصالح نجم الدين قاضي القضاة صدر الدين موهوب الجزري، وقلد الأفضل الخونجي قضاء مصر والوجه القبلي.
وفيها هرب الصارم المسعودي من قلعة الجبل، وقد صبغ نفسه حتى صار أسوداً، على صورة عبد كان يدخل إليه بالطعام، فأخذ من بلبيس، وأعيد إلى معتقله. وفيها أنشأ شهاب الدين ريحان - خادم الخليفة - رباط الشرابي بمكة، وعمر بعرفة أيضاً.
سنة اثنتين وأربعين وستمائةفيها ورد إلى دمشق كتاب بدر الدين لؤلؤ، صاحب الموصل، وفيه يقول: إني قررت على أهل الشام قطيعة التتر في كل سنة، من الغني عشرة دراهم، ومن المتوسط خمسة دراهم، ومن الفقير درهم فقرأ القاضي محيي الدين بن زكي الدين الكتاب على الناس، ووقع الشروع في جباية المال.
وفيها قطع الخوارزمية الفرات، ومقدموهم: الأمير حسام الدين بركة خان، وخان بردى، وصاروخان، وكشلوخان، وهم زيادة على عشرة آلاف مقاتل، فسارت منهم فرقة على بقاع بعلبك، وفرقة على غوطة دمشق، وهم ينهبون ويقتلون ويسبون، فانجفل الناس من بين أيديهم، وتحصن الصالح إسماعيل بدمشق، وضم عساكره إليه، بعدما كانت قد وصلت غزة وهجم الخوارزمية على القدس، وبذلوا السيف في من كان به من النصارى، حتى أفنوا الرجال، وسبوا النساء والأولاد، وهدموا المباني التي في قمامة، ونبشوا قبور النصارى، وأحرقوا رممهم، وساروا إلى غزة فنزلوها، وسيروا إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب - في صفر - يخبرونه بقدومهم، فأمرهم بالإقامة في غزة، ووعدهم ببلاد الشام، بعدما خلع على رسلهم، وسير إليهم الخلع والخيل والأموال، وتوجه في الرسالة إليهم جمال الدين أقوش النجيبي، وجمال الدين بن مطروح، وجهز الملك الصالح نجم الدين أيوب عسكراً من القاهرة عليه الأمير ركن الدين بيبرس، أحد مماليكه الأخصاء الذين كانوا معه وهو محبوس بالكرك، فسار إلى غزة، وانضم إلى الخوارزمية جماعة من القميرية، كانوا قد قدموا معهم من الشرق، ثم خرج الأمير حسام الدين أبو علي - بن محمد بن أبي علي الهذباني بعسكر، ليقيم على نابلس.
وجهز الصالح إسماعيل عسكراً من دمشق، عليه الملك المنصور صاحب حمص، فسار المنصور جريدة إلى عكا، وأخذ الفرنج ليحاربوا معه عساكر مصر، وساروا إلى نحو غزة، وأتتهم نجدة الناصر داود صاحب الكرك مع الظهير بن سنقر الحلبي والوزيري، فالتقى القوم مع الخوارزمية بظاهر غزة، وقد رفع الفرنج الصلبان على عسكر دمشق، وفوق رأس المنصور صاحب حمص، والأقسة تصلب، وبأيديهم أواني الخمر تسقي الفرسان وكان في الميمنة الفرنج، وفي الميسرة عسكر الكرك، وفي القلب المنصور صاحب حماة، فساق الخوارزمية وعساكر مصر، ودارت بين الفريقين حرب شديدة، فانكسر الملك المنصور، وفر الوزيري، وقبض على الظهير وجرح. وأحاط الخوارزمية بالفرنج، ووضعوا فيهم السيف حتى أتوا عليهم قتلاً وأسراً، ولم يفلت منهم إلا من شرد، فكان عدة من أسر منهم ثمانمائة رجل، وقتل منهم ومن أهل الشام زيادة على ثلاثين ألفاً، وحاز الخوارزمية من الأموال ما يجل وصفه، ولحق المنصور بدمشق في نفر يسير.
وقدمت البشارة إلى الملك الصالح نجم الدين بذلك في خامس عشر جمادى الأولى، فأمر بزينة القاهرة ومصر وظواهرهما، وقلعتي الجبل والروضة، فبالغ الناس في الزينة، وضربت البشائر عدة أيام.
وقدمت أسرى الفرنج ورءوس القتلى، ومعهم الظهير بن سنقر وعدة من الأمراء والأعيان، وقد أركب الفرنج الجمال، ومن معهم من المقدمين على الخيول، وشقوا القاهرة، فكان دخولهم يوما مشهوداً، وعلقت الرءوس على أبواب القاهرة وملئت الحبوس بالأسرى، وسار الأمير بيبرس، والأمير ابن أبي علي بعساكرهما إلى عسقلان، ونازلاها فامتنعت عليهم لحصانتها فسار ابن أبي علي إلى نابلس، وأقام بيبرس على عسقلان، واستولت نواب الملك الصالح نجم الدين على غزة والسواحل، والقدس والخليل، وبيت جبريل والأغوار، ولم يبق بيد الناصر داود سوى الكرك والملقاء، والصلت وعجلون.
فورد الخير بموت الملك المظفر تقي الدين محمود بن المنصور بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، في يوم السبت ثامن جمادى الأول، فاشتد حزن الملك الصالح نجم الدين أيوب عليه، ثم ورد الخبر بموت ابنه الملك المغيث عمر بقلعة دمشق، فزاد حزنه، وقوي غضبه على عمه الصالح إسماعيل، وقدم إلى القاهرة الخطيب زين الدين أبو البركات عبد الرحمن بن موهوب من حماة، بسيف الملك المظفر، ومعه تقدمة من عند ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد، لتسع مضين من شوال.
وخرج الصاحب معين الدين الحسن بن شيخ الشيوخ على العساكر من القاهرة، ومعه الدهليز السلطاني والخزائن، وأقامه السلطان مقام نفسه، وأذن له أن يجلس على رأس السماط ويركب كما هي عادة الملوك وأن يقف الطواشي شهاب الدين رشيد أستادار السلطان في خدمته على السماط، ويقف أمير جاندار والحجاب بين يديه، كعادتهم في خدمة السلطان، وكتب إلى الخوارزمية أن يسيروا في خدمته. فسار الصاحب معين الدين من القاهرة بالعساكر إلى غزة، وانضاف إليه الخوارزمية والعسكر إلى غزة، وانضاف إليه الخوارزمية والعسكر، وسار إلى بيسان، فأقام بها مدة، ثم سار إلى دمشق فنازلها، وقد امتنع بها الصالح إسماعيل والمنصور إبراهيم صاحب حمص، وعاثت الخوارزمية في أعمال دمشق، فبعث الصالح إسماعيل إلى ابن شيخ الشيوخ بسجادة وإبريق وعكاز، وقال له: اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بقتال الملوك.
فلما وصل ذلك إليه جهز إلى الصالح إسماعيل جنكا وزمراً وغلالة حرير، وقال: السجادة والإبريق والعكاز يليقون بي، وأنت أولى بالجنك والزمر والغلالة، واستمر الصاحب معين الدين على محاصرة دمشق، فبعث الخليفة بمحيي الدين بن الجوزي إلى الملك الصالح نجم الدين ومعه خلعة، وهي عمامة سوداء، وفرجية مذهبة، وثوبان ذهب، وسيف بذهب، وطوق ذهب، وعلمان حرير، وحصان وترس ذهب، فلبس الملك الصالح نجم الدين الخلعة على العادة وكانت الأقاويل بمصر قد كثرت لمجيئه، وتأخر قدومه، فقال الصلاح بن شعبان الإربلي:
قالوا الرسول أتي قالوا إنه ... ما رام يوماً عن دمشق نزوحا
ذهب الزمان وما ظفرت بمسلم ... يروي الحديث عن الرسول صحيحا
وفيها قتل أمير بني مرين محمد بن عبد الحق محيو بن أبي بكر بن حمامة، في حربه مع عسكر الموحدين وولي بعده أخوه أبوه يحيي بن عبد الحق.
وفيها ورد كتاب بدر الدين لؤلؤ من الموصل بجباية قطعة التتر من دمشق، فقرأ كتاب القاضي محيي الدين من الزكي على العادة.
وفيها استوزر الخليفة أستاداره مؤيد الدين محمد بن العلقمي، في ثامن ربيع الأول، عوضاً عن نصير الدين أبي الأزهر أحمد بن محمد بن علي بن العاقد.
وفيها استولي التتر على شهر زور.
وفيها بلغ الأردب القمح بمصر أربعمائة درهم نقرة.
سنة ثالث وأربعين وستمائةفيها كثرت محاربة ابن شيخ الشيوخ لأهل دمشق ومضايقته للبلد إلى أن أحرق قصر حجاج في ثاني محرم، ورمي بالمجانيق وألح بالقتال.
فأحرق الصالح إسماعيل في ثالثه عدة مواضع، ونهبت أموال الناس، وجرت شدائد إلى أن أهل شهر ربيع الأول، ففيه خرج المنصور صاحب حمص من دمشق، وتحدث معه بركة خان مقدم الخوارزمية في الصفح، وعاد إلى دمشق فأرسل الوزير أمين الدولة كمال الدين أبو الحسن بن غزال المعروف بالسامري إلى الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ، يسأله الأمان ليجتمع به، فبعث إليه بقميص وفرجية وعمامة ومنديل، فلبس ذلك وخرج ليلاً، لأيام مضت من جمادى الأولى، فتحادثا ورجع إلى دمشق، ثم خرج في ليلة أخرى، وقرر أن الصالح إسماعيل يسلم دمشق، على أن يخرج منها هو والمنصور بأموالهم، ولا يعرض لأحد من أصحابهم ولا لشيء مما معهم، وأن يعوض الصالح عن دمشق ببعلبك وبصرى وأعمالها، وجميع بلاد السواد، وأن يكون للمنصور حمص وتدمر والرحبة، فأجاب أمين الدولة إلى ذلك، وحلف الصاحب معين الدين لهم، فخرج الصالح إسماعيل والمنصور من دمشق.
ودخل الصاحب معين الدين في يوم الاثنين ثامن جمادى الأولى، ومنع الخوارزمية من دخول دمشق ودبر الأمير أحسن تدبير، وأقطع الخوارزمية الساحل بمناشير كتبها لهم، ونزل في البلد، وتسلم الطواشي شهاب الدين رشيد القلعة، وخطب بها وبجامع دمشق وعامة أعمالها للملك الصالح نجم الدين، وسلم أيضاً الأمير سيف الدين علي بن قلج قلعة عجلون لأصحاب الملك الصالح، وقدم إلى دمشق، فلما وردت الأخبار بذلك على السلطان أنكر على الطواشي شهاب الدين والأمراء كيف مكنوا الصالح إسماعيل من بعلبك، وقال: إن معين الدين حلف له، وأما أنتم فما خلفتم، وأمر الملك الصالح نجم الدين أن يسير ركن الهيجاوي، والوزير أمين الدولة السامري، تحت الحوطة إلى قلعة الروضة، فسيرا من دمشق إلى مصر، واعتقلا بقلعة الجبل فاتفق مرض الصاحب معين الدين ووفاته بدمشق، في ثاني عشري شهر رمضان، فكتب السلطان إلى الأمير حسام بن أبي علي الهذباني، وهو بنابلس، أن يسير إلى دمشق ويتسلمها، فسار إليها وصار نائباً بدمشق، والطواشي رشيد بالقلعة، وأفرج السلطان عن الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ - وكان قد لزم بيته - وخلع عليه وأمره وقدمه، وبالغ في الإحسان إليه، وكان لم يبق من أولاد شيخ الشيوخ غيره.
وأما الخوارزمية، فإنهم ظنوا أن السلطان إذا انتصر على عمه الملك الصالح إسماعيل يقاسمهم البلاد، فلما منعوا من دمشق، وصاروا في الساحل وغيره من برد الشام، تغيرت نياتهم، واتفقوا على الخروج عن طاعة السلطان، وساروا إلى داريا وانتهبوها، وكاتبوا الأمير ركن الدين بيبرس وهو على غزة بعسكر جيد من عساكر مصر، وحسنوا له أن يكون معهم يداً واحدة ويزوجوه منهم، فمال إليهم، وكاتبوا الناصر داود صاحب الكرك، فوافقهم ونزل إليهم واجتمع بهم وتزوج منهم، وعاد إلى الكرك واستولى على ما كان بيد الأمير حسام الدين بن أبي علي، من نابلس والقدس والخليل، وبيت جبريل والأغوار.
وخاف الصالح إسماعيل، فكاتب الخوارزمية وقدم إليهم، فحلفوا له على القيام بنصرته، ونازلوا دمشق، فقام الأمير حسام الدين بن أبي علي بحفظ البلد أحسن قيام، وألح الخوارزمية - ومعهم الصالح إسماعيل - في القتال ونهب الأعمال، وضايقوا دمشق، وقطعوا عنها الميرة، فاشتد الغلاء بها، وبلغت الغرارة القمح إلى ألف وثمانمائة درهم فضة، ومات كثير من الناس جوعاً، وباع شخص داراً قيمتها عشرة آلاف درهم، بألف وخمسمائة درهم اشتري بها غرارة قمح، فقامت عليه في الحقيقة بعشرة آلاف درهم، وأبيع الخبز كل أوقية وربع بدرهم، واللحم كل رطل بسبعة دراهم، ثم عدمت الأقوات بالجملة، وأكل الناس القطط والكلاب والميتات، ومات شخص بالسجن، فأكله أهل السجن، وهلك عالم عظيم من الجوع والوباء، واستمر هذا البلاء ثلاثة أشهر، وصار من يمر من الجبل يشتم ريح نتن الموتى، لعجز الناس عن مواراة موتاهم، ولم تنقطع مع هذا الخمور والفسوق من بين الناس.
وأخذ الملك الصالح نجم الدين مع ذلك في أعمال الحيل والتدبير، وما زال بالمنصور إبراهيم صاحب حمص حتى مال إليه، واتفق أيضاً مع الحلبيين على محاربة الخوارزمية، فخرج الملك الصالح نجم الدين من القاهرة بعساكر مصر، ونزل العباسة، فوافاه بها رسل الخليفة، وهما الملك محمد ابن وجه السبع، وجمال الدين عبد الرحمن بن محيي الدين أبي محمد يوسف بن الجوزي في آخر شوال، ومعهما التقليد والتشريف الأسود: وهو عمامة سوداء وجبة وطوق ذهب، وفرس بمركوب بحلية ذهب، فنصب المنبر، وصعد عليه جمال الدين عبد الرحمن محيي الدين بن الجوزي الرسول، وقرأ التقليد بالدهليز السلطاني، والسلطان قائم على قدميه، حتى فرغ من القراءة، ثم ركب السلطان بالتشريف الخليفتي، فكان يوماً مشهوداً. وكان قد حضر أيضاً من عند الخليفة تشريف باسم الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ، فوجد أنه قد مات، فأمر السلطان أن يفاض على أخيه الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، فلبسه.
فلما بلغ الخوارزمية مسير السلطان من مصر، ومسير الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص بعساكر حلب، رحلوا عن دمشق يريدون لقاء المنصور. فوجد أهل دمشق برحيلهم فرجاً، ووصلت إليهم الميرة، وانحل السعر.
سنة أربع وأربعين وستمائةفيها أرسل الملك الصالح نجم الدين أيوب القاضي نجم الدين محمد بن سالم النابلسي، المعروف بابن قاضي نابلس - وكان متقدماً عنده - إلى مملوكه الأمير ركن الدين بييرس، فما زال يخدعه ويمنيه، حتى فارق الخوارزمية، وقدم معه إلى ديار مصر، فاعتقل بقلعة الجبل، وكان آخر العهد به.
وفيها عظمت مضرة الخوارزمية ببلاد الشام، وكثر نهبهم للبلاد، وسفكهم للدماء وانتهاكهم للحرمات، والتقوا مع الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص وعساكر حلب، وقد انضم إليهم عرب كثير وتركمان، نصرة للملك الصالح نجم الدين، وذلك بظاهر حمص أول يوم من المحرم، وقيل ثانيه فكانت بينهم وقعة عظيمة انهزم فيها الخوارزمية هزيمة قبيحة، تبدد منها شملهم، ولم يقم لهم بعدها قائمة وقتل مقدمهم بركة خان وهو سكران، وأسر كثير منهم واتصل من فر منهم بالتتار، وفيهم من مضى إلى البلقاي وخدم الملك الناصر داود صاحب الكرك، فتزوج الناصر منهم، واختص بهم، وقويت شوكته وسار بعضهم إلى نابلس، فاستولوا عليها، ووصل بعض من كان معهم ممن انهزم إلى حران، ولحق أيبك المعظمي بقلعة صرخد وامتنع بها، وسار الصالح إسماعيل إلى حلب في عدة من الخوارزمية، فأنزله الملك الناصر صاحب حلب وأكرمه، وقبض على من قدم معه من الخوارزمية ووردت البشرى بهذه الهزيمة إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب في المحرم، فزينت القاهرة ومصر والقلعتان.
وسار الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني من دمشق، واستولى على بعلبك بغير حرب في رجب، وحمل منها الملك المنصور نور الدين محمود بن الملك الصالح إسماعيل، وأخذه الملك السعيد عبد الملك إلى الديار المصرية تحت الاحتياط، فاعتقلوا وزينت القاهرة لفتح بعلبك زينة عظيمة، هي ومصر، وكان أخذ بعلبك عند السلطان أحسن موقعاً من أخذه لدمشق، حنقا منه على عمه الصالح إسماعيل، وانصلحت الحال بين السلطان وبين المنصور صاحب حمص والناصر صاحب حلب، واتفقت الكلمة وبعث السلطان إلى حلب يطلب تسليم الصالح إسماعيل، فلم يجب إلى تسليمه وأخرج السلطان عسكراً كبيراً، قدم عليه الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ وسيره لمحاربة الكرك، فسار إلى غزة، وأوقع بالخوارزمية، ومعهم الناصر داود صاحب الكرك في ناحية الصلت، وكسرهم وبدد شمالهم، وفر الناصر إلى الكرك في عدة.
وكانت الكسرة على الصلت في سابع عشري ربيع الآخر، وسار فخر الدين عنها بعد ما حرقها واحتاط على سائر بلاد الناصر، وولي عليها النواب ونازل فخر الدين الكرك، وخرب ما حولها، واستولى على البلقاء، وأضعف الناصر حتى سأله الأمان، فبعث فخر الدين يطلب منه من عنده من الخوارزمية، فسيرهم الناصر إليه، فسار عن الكرك وهم في خدمته ثم نازل فخر الدين بصرى، حتى أشرد على أخذها، فنزل به مرض أشفى منه على الموت وحمل في محفة إلى القاهرة، وبقي العسكر حتى استولوا عليها، وقدم المنصور إبراهيم صاحب حمص إلى دمشق منتمياً إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب فنزل به مرض مات به في صفر، فخزن عليه السلطان حزناً كثيراً، لأنه كان يتوقع وصوله إليه فقام من بعده بحمص ابنه الأشرف مظفر الدين موسى.
وفيها تسلم الملك الصالح نجم الدين عجلون، بوصية صاحبها سيف الدين بن قلج عند موته. وفيها سير الصاحب جمال الدين أبو الحسن يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن مطروح إلى دمشق وزيراً وأميراً، وأنعم عليه بسبعين فارساً بدمشق، وصرف الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني عن نيابة دمشق، وولى مكانه الأمير مجاهد الدين إبراهيم، وأقر الطواشي شهاب الدين بالقلعة على حاله، فلما دخل ابن مطروح إلى دمشق خرج منها الأمير حسام الدين، وسار إلى القاهرة، فلما قدم على السلطان، وهو بقلعة الجبل، أقره في نيابة السلطنة بديار مصر، وأنزله بدار الوزارة من القاهرة.
وخرج السلطان بالعساكر في شوال يريد دمشق من قلعة الجبل، واستناب بديار مصر الأمير حسام الدين بن أبي علي، فدخل إلى دمشق في سابع عشر ذي القعدة، وكان دخوله يوماً مشهوداً، فأحسن إلى الناس، وخلع على الأعيان، وتصدق على أهل المدارس والربط وأرباب البيوت بأربعين ألف درهم، وسار بعد خمسة عشر يوماً إلى بعلبك، فرتب أحوالها، وأعطى لأهل المدارس والربط وأرباب البيوت عشرين ألف درهم، وسار إلى بصرى، وقد تسلمها نواب السلطان من الأمير شهاب الدين غازي، تائب الملك الصالح إسماعيل، فتصدق على مدارس بصرى وربطها وأرباب البيوت بعشرين ألف درهم وجهز السلطان الأمير ناصر الدين القيمري، والصاحب الدين بن مطروح، إلى صلخد وبها الأمير عز الدين أيبك المعظمي، فمازالا به حتى سلم صلخد، وسار إلى مصر، وتصدق السلطان في القدس بألفي دينار مصرية، وأمر بذرع سور القدس، فكاد ذراعه ستة آلاف ذراع بالهاشمي، فأمر بصرف مغل القدس في عمارته، وإن احتاج إلى زيادة حملت من مصر. وفيها سار الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بعسكر إلى طبرية، فنازلها حتى أخذها من يد الفرنج، وهدم الحصون.
وفيها مات الملك العادل أبو بكر بن الكامل محمد خنقا، بقلعة الجبل. وقيل كان خنقه قبل هذه السنة، وقيل بل كان في ستة خمس وأربعين، والقول الثاني أثبت. وسبب قتله أنه كان معتقلاً في برج العافية من قلعة الجبل، فلما عزم السلطان على المسير إلى الشام، بعث يأمره أن يتوجه إلى قلعة الشوبك ليعتقل بها، فامتنع من ذلك، فبعث السلطان إليه من خنقه، وأشاع أنه مات، ثم ظهر أمره وأخرج ابنه المغيث عمر إلى الشوبك، فاعتقل بها، ولما مات العادل دفن خارج باب النصر، ولم يجسر أحد يبكي عليه ولا يذكره، وترك العادل ولداً يقال له الملك المغيث عمر، أنزل إلى القاهرة عند عماته، ثم أخرج إلى الشوبك. وكان عمر العادل يوم مات نحو ثلاثين سنة، وأقام مسجوناً نحو ثماني سنين. وفيها وقع الاختلاف بين الفرنج.
سنة خمس وأربعين وستمائةفيها عاد السلطان الملك الصالح من دمشق إلى ديار مصر، بعد ما أخذ عسقلان وخربها في جمادى الآخرة، وبعد أن تسلم أيضاً قلعة بارزين من عمل حماة، في رمضان، وفي عوده إلى مصر عرض له - وهو بالرمل - وجع في حلقه، أشفى منه على الموت، ثم عوفي ودخل إلى قلعته سالماً، وزينت البلدان والقلعتان فرحاً به وكتب السلطان إلى الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ أن يشر من بلاد الفرنج بالساحل إلى دمشق، فسار إليهما بمن معه من العسكر،، وأنعم على من بها من الأمراء وغيرهم، وخلع عليهم، وأخذت عسقلان، يوم الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة بعساكر السلطان.
وفيها تسلم نواب السلطان قلعة الصبيبة وحضر إلى حلب من حماة الطواشي شجاع الدين مرشد المنصوري، والأمير مجاهد الدين أمير جاندار، لإحضار سيدة الخواتين عصمة الدنيا والدين عائشة خاتون، ابنة الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب فسارت ومعها أمها الستر الرفيع فاطمة خاتون، ابنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، في رمضان وهي في تجمل زائد، ومحفتها ملبسة ثوب حرير بذهب مكلل بالجواهر فتلقاها زوجها الملك المنصور صاحب حماة.
وفيها حكر الناس البستان الكافوري بالقاهرة، وعمروا فيه الدور.
وفيها قبض على الأمير عز الدين أيبك المعظمي بدمشق، وحمل إلى القاهرة تحت الحوطة، فاعتقل بها في دار صواب ورافعه ولده أن الذي حمله من صلخد كان مبلغ ثمانين خرجا أودعها، فلما بلغه ذلك سقط إلى الأرض، وقال: هذا آخر العهد بالدنيا، ولم يتكلم بعدها حتى مات.
وفيها سار السلطان من قلعة الجبل، ونزل بقصره في أشموم طناح.
وفيها خنق الملك العادل أبو بكر بن محمد الكامل، في ثاني عشر شوال.
سنة ستة وأربعين وستمائةفيها كتب السلطان من أشموم طناح إلى نائبه بديار مصر الأمير حسام الدين بن أبي علي، أن يرحل بالحلقة السلطانية والدهليز السلطاني إلى دمشق، وأقام السلطان بدله في نيابة السلطنة بالقاهرة الأمير الجواد جمال الدين، وأبا الفتح موسى بن يغمور بن جلدك. فسار الأمير حسام الدين، ونزل بالقصور التي أنشأها السلطان الملك الصالح أيوب، وجعلها مدينة بالسانح في أول الرمل، وجعل فيها سوقاً جامعاً، ليكون مركز العساكر عند خروجهم من الرمل، وسماها الصالحية. وأقام حسام الدين بالصالحية مقام السلطان، وطال مقامه بها نحو أربعة أشهر، ثم سار ليحرك الملك الأشرف صاحب حمص، فإن الأخبار وردت بمسير عساكر حلب مع الأمير شمس الدين لؤلؤ الأسيفي، والملك الصالح إسماعيل، لأخذ حمص. فلم يدركه حسام الدين، وسلم الأشرف حمص، وصارت للناصر صاحب حلب، وتعوض الأشرف عن حمص تل باشر.
فلما بلغ السلطان ذلك عاد من أكوم طناح إلى القاهرة، وخرج منها إلى عسكره بالصالحية، وسار في محفة لما به من المرض، بسبب ورم مأبضه وكان قد اشتد به حتى حصل منه ناصور. وحدث قرحة في الصدر، إلا أن همته كانت قوية، فلم يلق نفسه وسار السلطان إلى دمشق، ونزل بقلعتها.
وبعث السلطان بالأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، ومعه الأمراء والعساكر، وفيهم الأمير ابن أبي علي الهذباني، إلى حمص، فنازلها ورمى عليها بمنجنيق زنة حجره مائة وأربعون رطلاً، ومعه ثلاثة عشر منجنيقاً آخر، وسخر الناس في حمل هذه المجانيق من دمشق، حتى كان يحمل كل عود ثمنه نحو عشرين درهماً بألف درهم، فإن الوقت كان شتاء صعباً. وألح الأمير فخر الدين في الحصار إلى أن قدم من بغداد الشيخ نجم الدين البادرائي، رسولاً من الخليفة المستعصم بالله، بالصلح بين الحلبيين وبين السلطان، فتقرر الصلح، ورحل العساكر عن حمص، بعدما أشرف على أخذها.
وقدم من حلب الشيخ شمس الدين الخسروشاهي، فسأل السلطان على لسان الملك الناصر داود صاحب الكرك، أن يسلم الكرك إلى السلطان، ويعتاض عنها بالشوبك، فأجيب الناصر داود إلى ذلك، وتوجه من يتسلم منه الكرك، ثم رجع الناصر عن ذلك، لما بلغه من شدة مرض السلطان، وتحرك الفرنج لأخذ ديار مصر فخرج السلطان من دمشق في محفة، وسار إلى الغور، وقدم الأمير حسام الدين بن أبي علي إلى القاهرة، لينوب عنه بها، واستدعي بالأمير جمال الدين بن يغمور من القاهرة لينوب بدمشق، وعزل الصاحب جمال الدين بن مطروح عن دمشق، وعزل الطواشي شهاب الدين رشيد عن قلعة دمشق، وفوض ما كان بيدهما للأمير جمال الدين بن يغمور.
وفيها احترق المشهد الحسيني بالقاهرة، واحترقت المنارة الشرقية بجامع دمشق. وفيها مات قاضي القضاة أفضل الدين الخونجي، في شهر رمضان، فولي من بعده ابنه قاضي القضاة جمال الدين يحيى.
وفيها مات الملك المظفر شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب الرها، وقام من بعده ابنه الكامل محمد في سلطة الرها وميافارقين.
وفيها عزل الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن الأمير فخر الدين بن الشلاح عن مكة وأعمالها، وولي عوضه محمد بن أحمد بن المسيب، على مال يقوم به، وقود عدده مائة فرس كل سنة فقدم ابن المسيب مكة، وخرج الأمير فخر الدين فسار بنفسه ابن المسيب، وأعاد الجبايات والمكوس بمكة، وأخذ الصدقة الواردة من اليمن، عن مال السلطان وبنى حصناً بنخلة يسمى العطشان وحلف هذيلا لنفسه، ومنع الجند النفقة فوثب عليه الشريف أبو سعد بن علي بن قتادة، وقيده وأخذ ماله، وقال لأهل الحرم: إنما فعلت به هذا لأني تحققت أنه يريد الفرار بالمال إلى العراق، وأنا غلام مولانا السلطان والمال عندي محفوظ والخيل والعدد، إلى أن يصل مرسومه، فلم يكن غير أيام، وورد الخبر بموت السلطان نور الدين عمر بن رسول.
سنة سبع وأربعين وستمائةفيها قدم السلطان من دمشق، وهو مريض في محفة، لما بلغه من حركة الفرنج. فنزل بأشموم طناح في المحرم، وجمع في دمياط من الأقوات والأسلحة شيئاً كثيراً، وبعث إلى الأمير حسام الدين بن أبي على نائبه بالقاهرة، أن يجهز الشواني من صناعة مصر، فشرع في تجهيزها، وسيرها شيئاً بعد شيء. وأمر السلطان الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ أن ينزل على جيزة دمياط بالعساكر ليصير في مقابلة الفرنج إذا قدموا فتحول الأمير فخر الدين بالعساكر، فنزل بالجيزة تجاه دمياط، وصار النيل بينه وبينها، ولم يقدر السلطان على الحركة لمرضه، ونودي في مصر: من كان له على السلطان أو عنده له شيء، فليحضر ليأخذ حقه، فطلع الناس وأخذوا ما كان لهم.
وفي الساعة الثانية من يوم الجمعة لتسع بقين من صفر: وصلت مراكب الفرنج البحرية، وفيها جموعهم العظيمة صحبة ريدافرنس - ويقال له الفرنسيس، واسمه لويس ابن لويس. وريدافرنس لقب بلغة الفرنج، معناه ملك أفرنس - وقد انضم إليهم فرنج الساحل كله، فأرسوا في البحر بازاء المسلمين. وسير ملك الفرنج إلى السلطان كتاباً، نصه بعد كلمة كفرهم: أما بعد فإنه لم يخف عنك أني أمين الأمة العيسوية، كما أني أقول أنك أمين الأمة المحمدية. وإنه غير خاف عنك أن أهل جزائر الأندلس يحملون إلينا الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر ولقتل منهم الرجل ونرمل النساء، ونستأسر البنات والصبيان، ونخلي منهم الديار، وقد أبديت لك ما فيه الكفاية، ونجلت لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الأيمان، ودخلت على القسوس والرهبان، وحملت قدامي الشمع طاعة للصلبان، ما ردني ذلك عن الوصول إليك وقتلك في أعز البقاع عليك، فإن كانت البلاد لي، فيا هدية حصلت في يدي، وإن كانت البلاد لك والغلبة علي، فيدك العليا ممتدة إلي. وقد عرفتك وحذرتك من عساكر قد حضرت في طاعتي، تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضا.
فلما وصل الكتاب إلى السلطان وقرئ عليه، اغرورقت عيناه بالدموع واسترجع. فكتب الجواب بخط القاضي بهاء الدين زهير بن محمد، كاتب الإنشاء، ونسخته بعد البسملة وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين: أما بعد فإنه وصل كتابك، وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك. فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا قرن إلا جددناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمرناه. فلو رأت عيناك - أيها المغرور - حد سيوفنا وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وأخرابنا منكم ديار الأواخر والأوائل، لكان لك أن تعض على أناملك بالندم، ولابد أن تزل بك القدم، في يوم أوله لنا و آخره عليك. فهنالك تسيء بك الظنون، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " . فإذا قرأت كتابي هذا، فكن فيه على أول سورة النحل: " أتى أمر الله فلا تستعجلوه " ، وكن على آخر سورة ص: " ولتعلمن نبأه بعد حين " ونعود إلى قول الله تبارك وتعالى، وهو أصدق القائلين: كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله والله مع الصابرين " ، وإلى قول الحكماء: إن الباغي له مصرع وبغيك يصرعك، وإلى البلاء يقلبك، والسلام.
وفي يوم السبت: نزل الفرنج في البر الذي عسكر المسلمين فيه، وضربت للملك ريدافرنس خيمة حمراء. فناوشهم المسلمون الحرب، واستشهد يومئذ الأمير نجم الدين ابن شيخ الإسلام وكان رجلاً صالحاً، ورتبه الملك داود مع الملك الصالح نجم الدين لما سجن بالكرك، لمؤانسته، وممن استشهد أيضاً الأمير صارم الدين أزبك الوزيري. فلما أمسى الليل رحل الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ ممن معه من عساكر المسلمين، وقطع بهم الجسر إلى الجانب الشرقي، الذي فيه مدينة دمياط. وخلا البر الغربي للفرنج، وسار فخر الدين بالعسكر يريد أشموم طناح.
فلما رأى أهل دمياط رحيل العسكر، خرجوا كإنما يسحبون على وجوههم طول الليل، ولم يبق بالمدينة أحد البتة، وصارت دمياط فارغة من الناس جملة. وفروا إلى أكوم مع العسكر، وهم حفاة عراة جياع فقراء حيارى بمن معهم من الأطفال النساء وساروا إلى القاهرة، فنهبهم الناس في الطريق، ولم يبق لهم ما يعيشون به فعدت هذه الفعلة من الأمير فخر الدين من أقبح ما يشنع به. وقد كانت دمياط في أيام لملك الكامل، لما نازلها الفرنج، أقل ذخائر وعدداً منها في هذه النوبة، ومع ذلك لم قدر الفرنج على أخذها إلا بعد سنة، عندما فني أهلها بالوباء والجوع، وكان فيها هذه المرة أيضاً جماعة من شجعان بني كنانة، فلم يغن ذلك شيئاً.
وأصبح الفرنج يوم الأحد لسبع بقين من صفر، سائرين إلى مدينة دمياط. فعندما رأوا أبوابها مفتحة ولا أحد يحميها، خشوا أن تكون مكيدة، فتمهلوا حتى ظهر أن ناس قد فروا وتركوها. فدخلوا المدينة بغير كلفة ولا مؤنة حصار، واستولوا على ما فيها من الآلات الحربية، والأسلحة العظيمة والعدد الكثيرة، والأقوات والأزواد والذخائر، والأموال والأمتعة وغير ذلك، صفواً عفواً.
وبلغ ذلك أهل القاهرة ومصر، فأنزعج الناس انزعاجاً عظيماً، ويئسوا من بقاء كلمة الإسلام بديار مصر. لتملك الفرنج مدينة دمياط، وهزيمة العساكر، وقوة الفرنج بما صار إليهم من الأموال والأزواد والأسلحة، والحصن الجليل الذي لا يقدر على أخذه بقوة، مع شدة مرض السلطان، وعدم حركته.
وعندما وصلت العساكر إلى أشموم طناح، ومعهم أهل دمياط، اشتد حنق السلطان على الكنانيين، وأمر بشنقهم، فقالوا: وما ذنبنا إذا كانت عساكره جميعهم وأمراؤه هربوا، وأحرقوا الزردخاناه، فأي شيء لعمل نحن؟ فشنقوا لكونهم خرجوا من المدينة بغير إذن، حتى تسلمها الفرنج، فكانت عدة من شنق زيادة على خمسين أميراً من الكنانيين. وكان فيهم أمير حشيم، وله ابن جميل الصورة. فقال أبوه: بالله اشنقوني قبل ابني. فقال السلطان: لا بل اشنقوه قبل أبيه. فشنق الابن، ثم شنق الأب من بعده، بعد أن استفتى السلطان الفقهاء فأفتوا بقتلهم.
وتغير السلطان على الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، وقال: أما قدرتم تقفون ساعة بين يدي الفرنج. هذا وما قتل منكم إلا هذا الضيف الشيخ نجم الدين. وكان الوقت لا يسع إلا الصبر والتغاضي، وقامت الشناعة من كل أحد على الأمير فخر الدين، فخاف كثير من الأمراء وغيرهم سطوة السلطان، وهموا بقتله، فأشار عليهم فخر الدين بالصبر، حتى يتبين أمر السلطان: فإنه على خطة، وإن مات كانت الراحة منه، وإلا فهو بين أيديكم.
ولما وقع ما ذكر السلطان بالرحيل إلى المنصورة، وحمل في حراقة حتى أنزل بقصر المنصورة على بحر النيل في يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر، فشرع كل أحد من العسكر في تجديد الأبنية للسكنى بالمنصورة، ونصبت بالأسواق، وأبراج السور الذي على البحر وستر بالستائر. وقدمت الشواني المصرية بالعدد الكاملة والرجالة، وجاءت الغزاة والرجال من عوام الناس الذين يريدون الجهاد، من كل النواحي، ووصلت عربان كثيرة جداً، وأخذوا في الغارة على الفرنج ومناوشتهم. وحصن الفرنج أسوار دمياط، وشحنوها بالمقاتلة.
فلما كان يوم الاثنين سلخ شهر ربيع الأول: وصل إلى القاهرة من أسرى الفرنج الذين تخطفهم العرب ستة وثلاثون أسيراً، منهم فارسان، وفي خامس شهر ربيع الآخر وصل سبعة وثلاثون أسيراً، وفي سابعه وصل اثنان وعشرون أسيراً، وفي سادس عشره وصل خمسة وأربعون أسيراً، منهم ثلاثة من الخيالة. ولما بلغ أهل دمشق أخذ الفرنج لمدينة دمياط ساروا منها، وأخذوا صيداء من الفرنج، بعد حصار وقتال فورد الخبر بذلك لخمس بقين من شهر ربيع الآخر، فسر الناس بذلك.
هذا والأسرى من الفرنج تصل في كل قليل إلى القاهرة، ووصل في ثامن عشر جمادى الأولى خمسون أسيراً. ومع ذلك والمرض يتزايد بالسلطان، وقواه خط، حتى وقع بأمر الأطباء من برئه وعافيته، لاجتماع مرضين عظيمين، هما الجراحة الناصورية في مأبضه والسل.
وأما الناصر داود صاحب الكرك فإنه لما ضاقت به الأمور استخلف ابنه الملك المعظم شرف الدين عيسى، وأخذ معه جواهره، وسار في البر إلى حلب مستجيراً بالملك الناصر يوسف بن الملك العزيز فأنزله وأكرمه وسير الناصر بجواهره إلى الخليفة المستعصم بالله، لتكون عنده وديعة، فقبض الخليفة ذلك، وسير إليه الخط بقبضه وأراد الناصر بذلك أن يكون الجوهر في مأمن، فإذا احتاج إليه طلبه، وكانت قيمته ما ينيف على مائة ألف دينار. فحنق ولدا الناصر - وهما الملك الظاهر شادي والملك الأمجد حسن - على أبيهما، لكونه قدم عليهما المعظم، وقبضا على المعظم، واستوليا على الكرك وأقام الملك - الظاهر شادي وهو أسن اخوته - بالكرك وسار الملك الأمجد حسن إلى الملك الصالح نجم الدين، فوصل إلى العسكر بالمنصورة، يوم السبت لتسع مضين من جمادى الآخرة، وبشره بأنه هو وأخوه الظاهر أخذا الكرك له، وسأله في خبز بديار مصر يقوم بهما. فأكرمه السلطان، وأعطاه مالاً كثيراً، وسير الطواشي بدر الدين الصوابي إلى الكرك نائباً بها وبالشوبك، فتسلمها بدر الدين، وسير أولاد الناصر داود جميعهم، وأخويه الملك القاهر عبد الملك، والملك المغيث عبد العزيز، ونساءهم وعيالاتهم كلها. إلى المعسكر بالمنصورة، فأقطعهم السلطان إقطاعاً جليلاً، ورتب لهم الرواتب، وأنزل أولاد الناصر في الجانب الغربي قبالة المنصورة.
وكان استيلاء نائب السلطان على الكرك يوم الاثنين، لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وسر السلطان بأخذ الكرك سروراً عظيماً، وأمر فزينت القاهرة ومصر، وضربت البشائر بالقلعتين، وجهز السلطان إلى الكرك ألف ألف دينار مصرية، وجواهر وذخائر وأسلحة، وشيئاً كثيراً مما يعز عليه.
وفي ثالث عشر شهر رجب: وصل إلى القاهرة سبعة وأربعون أميراً من الفرنج، وأحد عشر فارساً منهم، وظفر المسلمون بعد أيام بمسطح للفرنج في البحر، فيه مقاتلة، بالقرب من نستراوة.
فلما كان ليلة الاثنين نصف شعبان: مات السلطان الملك الصالح بالمنصورة، وهو في مقابلة الفرنج، عن أربع وأربعين سنة، بعدما عهد لولده الملك المعظم تورانشاه، وحلف له فخر الدين بن الشيخ ومحسن الطواشي، ومن يثق به، وبعدما علم قبل موته عشرة آلاف علامة. يستعان بها في المكاتبات على كتمان موته، حتى يقدم ابنه تورانشاه من حصن كيفا وكانت أم السلطان الملك الصالح أم ولد، اسمها ورد المنى. وكانت مدة ملكه بمصر عشر سنين إلا خمسين يوماً، فغسله أحد الحكماء الذين تولوا علاجه، لكي يخفى موته. وحمل في تابوت إلى قلعة الروضة، وأخفى موته، فلم يشتهر إلى ثاني عشري رمضان، ثم نقل بعد ذلك بمدة إلى تربته بجوار المدارس الصالحية بالقاهرة.
والملك الصالح هو الذي أنشأ المماليك البحرية بديار مصر: وذلك أنه لما مر به ما تقدم ذكره، في الليلة التي زال عنه ملكه، بتفرق الأكراد وغيرهم من العسكر عنه حتى لم يثبت معه سوى مماليكه، رعي لهم ذلك. فلما استولى على مملكة مصر أكثر من شراء المماليك وجعلهم معظم عسكره، وقبض على الأمراء الذين كانوا عند أبيه وأخيه، واعتقلهم وقطع أخبازهم، وأعطى مماليكه الإمريات، فصاروا بطانته والمحيطين بدهليزه، وسماهم بالبحرية لسكناهم معه في قلعة الروضة على بحر النيل.
وكان ملكا شجاعاً حازماً مهيباً، لشدة سطوته وفخامة، مع عزة النفس وعلو الهمة، وكثرة الحياء والعفة وطهارة الفيل عن الخنا، وصيانة اللسان من الفحش في القول، والإعراض عن الهزل والعبث بالكلية، وشدة الوقار ولزوم الصمت، حتى أنه كان إذا خرج من عند حرمه إلى مماليكه، أخذتهم الرعدة عندما يشاهدونه - خوفاً منه - ولا يبقى أحد منهم مع أحد. وكان إذا جلس مع ندمائه كان صامتاً، لا يستفزه الطرب ولا يتحرك، وجلساؤه كأنما على رءوسهم الطير. وإذا تكلم مع أحد من خواصه، كان ما يقوله كلمات نزرة وهو في غاية الوقار، وتلك الكلمات لا تكون إلا في مهم عظيم، من استشارة أو تقدم بأمر من الأمور المهمة، لا يعدو حديثه قط هذا النحو، ولا يجسر أحد يتكلم بين يديه إلا جواباً. وما عرف أبداً عن أحد من خواصه أن تكلم في مجلسه ابتداء البتة، ولا أنه جسر على شفاعة ولا مشورة ولا ذكر نصيحة، ما لم يكن ذلك بابتداء من السلطان، فإذا انفرد بنفسه لا يدنو منه أحد. وكانت القصص ترد إليه مع الخدام فيوقع عليها، ويخرج بها الخدام إلى كاتب الإنشاء، ولا يستقل أحد من أرباب الدولة بانفراد بأمر، بل يراجع القصص مع الخدام. ومع هذه الشهامة والمهابة لا يرفع بصره إلى من يحادثه، حياء منه وخفراً، ولم يسمع منه قط في حق أحد من خدمه لفظة فحش، وأكثر ما يقول إذا شتم أحداً: متخلف، ولا يزيد على هذه الكلمة، ولا عرف قط من النكاح سوى زوجته وجواريه.
وكانت البلاد في أيامه آمنة مطمئنة والطرق سابلة، إلا أنه كان عظيم الكبر زائد الترفع بلغ من كبره وترفعه أن ابنه الملك المغيث عمر، لما حبسه الملك الصالح إسماعيل عنده، لم يسأله فيه ولا طلبه منه، حتى مات في حبسه. وكان يحب جمع المال، بحيث أنه عاقب عليه أم أخيه الملك العادل، إلى أن أخذ منها مالاً عظيماً وجواهر نفيسة.
وقيل السلطان الملك الصالح أيوب أخاه الملك العادل، ومن حين قتله ما انتفع بالحياة لا تهنى بها: فنزل به المرض، وطرقه الفرنج، وقبض على جميع أمراء الدولة، وأخذ أموالهم وذخائرهم. ومات في حبوسه ما ينيف على خمسة آلاف نفس، سوى من قتل غرق من الأشرفية في البحر ولم يكن له مع ذلك ميل إلى العلم ولا مطالعة الكتب، إلا أنه كان يجري على أهل العلم والصلاح المعاليم والجرايات، من غير أن يخالطهم. لم يخالط غيرهم. لمحبته في العزلة ورغبته في الانفراد، وملازمته للصمت ومداومته على الوقار والسكون.
وكان يحب العمارة ويباشر الأبنية بنفسه، وعمر بمصر ما لم يعمره أحد من ملوك بني أيوب: فأنشأ قلعة الروضة تجاه مدينة فسطاط مصر، وأنفق فيها أموالاً جمة، وهدم كنيسة كانت هناك لليعاقبة من النصارى، وأسكن بهذه القلعة ألف مملوك من الترك - وقيل ثمانمائة - سماهم البحرية وكان الماء حينئذ لا يحيط بها. فلم يزل يغرق السفن، ويرمي الحجارة فيما بين الجيزة والروضة، إلى أن صار الماء في طول السنة محيطاً الروضة وأقام جسراً من مصر إلى الروضة، يمر عليه الأمراء. وغيرهم إذا جاءوا إلى الخدمة، و لم يكن أحد يمر على هذا الجسر راكباً، احتراماً للسلطان فجاءت هذه القلعة من أجل مباني الملوك وبني أيضاً على النيل بناحية اللوق قصوراً بلغت الغاية في الحسن، جعلها إلى جانب ميدانه الذي يلعب فيه بالكرة، وكان مغرم بلعبها وبني قصراً عظيماً فيما بين القاهرة ومصر، سماه الكبش، على الجبل بجوار جامع ابن طولون. وبني قصراً بالقرب من العلاقمة في أرض السانح، وجعل حوله مدينة سماها الصالحية، فيها جامع وسوق، لتكون مركزاً للعساكر بأول الرمل الذي بين الشام ومصر.
وكان له من الأولاد الملك المغيث فتح الدين عمر، وهو أكبر أولاده، مات في سجن قلعة دمشق، والملك المعظم غياث الدين تورانشاه، وملك مصر بعده، والملك القاهر، ومات في حياته أيضاً وولد له أيضاً من شجر الدر ولد سماه خليلاً، مات صغيراً.
ولما طال مرضه من الجراحة الناصورية - وفسد مخرجه، وامتد الجرح إلى فخذه اليمين، وأكل جسمه - اجتهد في مداواتها، وحدث له مرض السل من غير أن يفطن به. فورد كتابه إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي بالقاهرة: إن الجراحة قد صلحت وجفت رطوباتها، ولم يبق إلا ركوبي ولعبي بالصولجة، فتأخذ حظك من هذه البشرى. وفي الحقيقة لم تجف الجراحة إلا لفراغ المواد، وتزايد عليه بعد ذلك المرض حتى مات.
وقيل إنه لم يعهد إلى أحد بالملك، بل قال للأمير حسام الدين بن أبي علي: إذا مت لا تسلم البلاد إلا للخليفة المستعصم بالله، ليرى فيها رأيه، فإنه كان يعرف ما في ولده المعظم تورانشاه من الهوج فلما مات السلطان أحضرت زوجته شجر الدر الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والطواشي جمال الدين محسن - وكان أقرب الناس إلى السلطان، وإليه القيام بأمر مماليكه وحاشيته - وأعلمتهما بموت السلطان، ووصتهما بكتمان موته، خوفاً من الفرنج. وكان الأمير فخر الدين عاقلاً مدبراً، خليقاً بالملك، جواداً محبوباً إلى الناس، فاتفقا مع شجر الدر على القيام بتدبر المملكة، إلى أن يقدم الملك المعظم تورانشاه، فأحضرت شجر الدر الأمراء الذين بالمعسكر، وقالت لهم: إن السلطان قد رسم بأن تحلفوا له، ولابنه الملك المعظم غياث الدين تورانشاه صاحب حصن كيفا أن يكون سلطاناً بعده، وللأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بالتقدمة على العساكر والقيام بالأتابكية وتدبير المملكة، فقالوا كلهم سمعاً وطاعة، ظناً أن السلطان حي، وحلفوا بأسرهم، وحلفوا سائر الأجناد والمماليك السلطانية.
وكتب على لسان السلطان إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني بالقاهرة، أن يحلف أكابر الدولة وأجنادها بالقاهرة، فحضر إلى دار الوزارة قاضي القضاء بدر الدين يوسف بن الحسن قاضي سنجار، والقاضي بهاء الدين زهير بن محمد كاتب الإنشاء - وكان الملك الصالح قد أبعده لأمر نقمه عليه - وحلفا من حضر من الأعيان على ما تقدم ذكره، وكان ذلك في يوم الخميس ثامن عشر شعبان. واستدعى القاضي بهاء الدين زهير من القاهرة إلى المعسكر بالمنصورة.
وقام الأمير فخر الدين بتدبير المملكة، واقطع البلاد بمناشيره، وأعاد إليها زهيراً إلى منصبه فكانت الكتب ترد من المعسكر وعليها علامة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، فقيل إنها كانت بخط خادم يقال له سهيل، ولا يشك من رآه أنه خط السلطان ومشى هذا على الأمير حسام الدين نائب السلطة محق، إلى أن أوقفه بعض أصحابه على اضطراب في العلامة، يخالف علامة السلطان ففحص عن خبر السلطان من بعض خواصه الذين بالمعسكر حتى عرف موته، فاشتد خوفه من الأمير فخر الدين، وخشي أن يتغلب على الملك، فاحتاط لنفسه.
وأخذ الأمير فخر الدين يطلق المسجونين، ويتصرف في إطلاق الأموال والخلع علم خواص الأمراء، وأطلق السكر والكتان إلى الشام فعلم الناس بموت السلطان من حينئذ غير أن أحداً لا يجسر أن يتفوه به.
وسار من المعسكر الفارس أقطاي، وهو يومئذ رأس المماليك البحرية، لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا، وبعث الأمير حسام الدين محمد بن أبي علي، نائب السلطنة بالقاهرة، من عنده قاصداً من قبله أيضاً. فلما كان يوم الاثنين لثمان بقين من شعبان، أمر الأمير حسام الدين الخطباء بأن يدعوا يوم الجمعة للملك المعظم، بعد الدعاء لأبيه، وأن ينقش اسمه على السكة، بعد اسم أبيه وتوهم الأمير حسام الدين من الأمير فخر الدين أن يقيم الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل، ويستولي على الأمر، فنقله من عند عمات أبيه بنات الملك العادل أبي بكر بن أيوب، من القاهرة إلى قلعة الجبل، ووكل به من يحتاط عليه، ولا يسلمه لأحد.
هذا والمكاتبات ترد من الأمير فخر الدين، وعنوانها من فخر الدين الخادم يوسف فيجيب عنها الأمير حسام الدين، ويجعل العنوان المملوك أبو علي، فيتجاملان في ظاهر الأمر، وأما في الباطن فإن الأمير فخر الدين أخذ في الاستبداد والاستقلال بالمملكة، واختص بالصاحب جمال بن مطروح، وبالقاضي بهاء الدين زهيرة وصار يركب في موكب عظيم، وجميع الأمراء في خدمته، ويترجلون له عند النزول ويحضرون سماطه.
ووصل قاصد الأمير حسام الدين إلى حصن كيفا، وطالع الملك المعظم بأن المصلحة في السرعة، ومتى تأخر فات الفوت، وتغلب الأمير فخر الدين على البلاد، ثم وصل إليه بعد ذلك قصاد فخر الدين وشجر الدر. فخرج المعظم من حصن كيفا ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شهر رمضان في خمسين فارساً من إلزامه. وقص عانه ليعدي الفرات، وقد أقام له بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل جماعة، وأقام له الحلبيون أيضاً جماعة، يقبضون عليه فنجاه الله منهم وعدى الفرات من عانة، وسلك البرية، فخاطر بنفسه وكاد يهلك من العطش.
هذا وشجر الدر تدبر الأمور حتى لم يتغير شيء، وصار الدهليز السلطاني على حاله، والسماط في كل يوم يمد، والأمراء تحضر الخدمة، وهي تقول: السلطان مريض، ما يصل إليه أحد.
وأما الفرنج فما هم إلا أن فهموا أن السلطان قد مات حتى خرجوا من دمياط، فارسهم وراجلهم، ونزلوا على فارسكور، وشوانيهم في بحر النيل تحاذيهم، ورحلوا من فارسكور يوم الخميس لخمس بقين من شعبان فورد في يوم الجمعة إلى القاهرة من المعسكر كتاب، فيه حض الناس على الجهاد، أوله: " انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " ، وكان كتابا بليغاً فيه مواعظ جمة، فقرئ على الناس فوق منبر جامع القاهرة وحصل عند قراءته من البكاء والنحيب وارتفاع الأصوات بالضجيج ما لا يوصف. وارتجت القاهرة ومصر، لكثرة انزعاج الناس وحركتهم للمسير، فخرج من البلاد والنواحي لجهاد الفرنج عالم عظيم، وقد اشتد كرب الخلائق من تمكن الفرنج وقوتهم وأخذهم البلاد، مع موت السلطان.
فلما كان يوم الثلاثاء أول يوم من شهر رمضان: واقع الفرنج المسلمين، فاستشهد العلامي أمير مجلس، وجماعة من الأجناد، وقتل من الفرنج عدة ونزل الفرنج بشارمساح.
وفي يوم الاثنين سابعه: نزلوا البرمون، فاشتد الكرب وعظم الخطب، لدنوهم وقربهم من المعسكر. وفي يوم الأحد ثالث عشره وصلوا إلى طرف بر دمياط، ونزلوا تجاه المنصورة، وصار بينهم وبين المسلمين بحر أشموم. وكان معظم عسكر المسلمين في المنصورة بالبر الشرقي، وفي البر الغربي أولاد الملك الناصر داود صاحب الكرك: وهم الملك الأمجد، والملك الناصر، والملك المعظم، والملك الأوحد، وفي عدة من العسكر وكان أولاد الملك الناصر داود، الأكابر منهم والأصاغر الذين قدموا القاهرة، اثني عشر ولداً ذكراً. وكان بالبر الغربي أيضاً أخو الملك الناصر داود: وهما الملك القاهر عبد الملك، والملك المغيث عبد العزيز، فاستقر الفرنج بمنزلتهم هذه، وخندقوا عليهم خندقاً، وأداروا أسواراً وستروه بالستائر، ونصبوا المجانيق ليرموا بها على معسكر المسلمين، ونزلت شوانيهم بازائهم في بحر النيل، ووقفت شواني المسلمين بازاء المنصورة، ووقع القتال بين الفريقين براً وبحراً.
وفي يوم الأربعاء سادس عشره: قفز إلى عند المسلمين ستة خيالة، وأخبروا بضائقة الفرنج.
وفي يوم عيد الفطر: أسر كند كبير من الفرنج، له قرابة من الملك ريدافرنس. واستمر القتال، وما من يوم إلا ويقتل من الفرنج ويؤسر، وقد لقوا من عامة المسلمين وسوالهم نكاية عظيمة، وتخطفوا منهم وقتلوا كثيراً وكانوا إذا شعروا بالفرنج ألقوا أنفسهم في الماء، وسبحوا إلى أن يصيروا في بر المسلمين. وكانوا يتحيلون في خطفهم بكل حيلة حتى أن شخصاً أخذ بطيخة أدخل فيها رأسه، وغطس في الماء إلى أن قرب من الفرنج فظنوه بطيخة، فما هو إلا أن نزل أحدهم في الماء ليتناولها إذ اختطفه المسلم، وعام به حتى قدم به إلى المسلمين.
وفي يوم الأربعاء سابع شوال: أخذ المسلمون شينيا، فيه نحو مائتي رجل من الفرنج وكند كبير.
وفي يوم الخميس النصف منه: ركب الفرنج والمسلمون، فدخل المسلمون إليهم البر الذي هم فيه، وقاتلوهم قتالاً شديداً، قتل فيه من الفرنج أربعون فارساً، وقتلت خيولهم.
وفي يوم الجمعة تاليه: وصل القاهرة سبعة وستون أسير من الفرنج، منهم ثلاثة من أكابر الداوية.
وفي يوم الخميس ثاني عشريه: أحرقت للفرنج مرمة عظيمة في البحر، واستظهر عليهم استظهاراً عظيماً.
وما زال الأمر على ذلك إلى أن كان يوم الثلاثاء خامس ذي القعدة، دل بعض منافقي أهل الإسلام الفرنج على مخاض في بحر أشمون، فلم يشعر الناس إلا والفرنج معهم في المعسكر، وكان الأمير فخر الدين في الحمام، فأتاه الصريخ بأن الفرنج قد هجموا على العسكر، فخرج مدهوشاً وركب فرسه في غير اعتداد ولا تحفظ، وساق لينظر الخبر ويأمر الناس بالركوب، وليس معه سوى بعض مماليكه وأجناده فلقيه طلب الفرنج الحاوية وحملوا عليه، ففر من كان معه وتركوه وهو يدافع عن نفسه، فطعنه واحد برمح في جنبه، واعتورته السيوف من كل ناحية. فمات رحمه الله ونزل الفرنج على جديلة، وكانوا ألفاً وأربعمائة فارس ومقدمهم أخو الملك ريدافرنس.
وما هو إلا أن قتل الأمير فخر الدين، وإذا بالفرنج اقتحموا على المنصورة فتفرق الناس وانهزموا يميناً وشمالاً، وكانت الكسرة أن تكون، فإن الملك ريدافرنس وصل بنفسه إلى باب قصر السلطان إلا أن الله تدارك بلطفه، وأخرج إلى الفرنج الطائفة التركية، التي تعرف بالبحرية والجمدارية، وفيهم ركن الدين بيبرس البندقداري الذي تسلطن بعد هذه الأيام فحملوا على الفرنج حملة زعزعوهم بها، وأزاحوهم عن باب القصر فلما ولوا أخذتهم السيوف والدبابيس، حتى قتل منهم في هذه النوبة نحو ألف وخمسمائة من أعيانهم وشجعانهم. وكانت رجالة الفرنج قد أتوا الجسر ليعدوا منه، فلولا لطف الله لكان الأمر يتم لهم بتعديتهم الجسر. وكانت المعركة بين أزقة المنصورة، فانهزموا إلى جديلة منزلتهم، وقد حال بين الفريقين الليل، وأداروا عليهم سوراً وخندقوا خندقاً. وصارت منهم طائفة في البر الشرقي، ومعظمهم في الجزيرة المتصلة بدمياط فكانت هذه الواقعة أول ابتداء النصر على الفرنج.
وعندما هجم الفرنج على المعسكر سرح الطائر بذلك إلى القاهرة، فانزعج الناس انزعاجاً عظيماً، وقدم المنهزمون من السوقة والعسكر، فلم تغلق أبواب القاهرة في ليلة الأربعاء لتوارد المنهزمين.
وفي صبيحة يوم الأربعاء: وقعت البطاقة تبشر بالنصرة على الفرنج، فزينت القاهرة وضربت البشائر بقلعة الجبل، وكثر فرح الناس وسرورهم وبقي العسكر يدبر أمره شجر الدر، فكانت مدة تدبير الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، بعد موت الملك الصالح لمملكة مصر خمسة وسبعين يوماً، وفي يوم قتله نهب مماليكه وبعض الأمراء داره، وكسروا صناديقه وخزائنه، وأخذوا أمواله وخيوله وأحرقوا داره.
السلطان الملك المعظم غياث الدين تورانشاهابن الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي ابن مروان، سار من حصن كيفا إلى دمشق، لإحدى عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، فنزل عانة في خمسين فارساً من أصحابه، يوم الخميس النصف من شهر رمضان سنة سبع وأربعين، وخرج منها يوم الأحد يريد دمشق على طريق السماوة في البرية فنزل القصير في دهليز ضربه له الأمير جمال الدين موسى بن يغمور نائب دمشق يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر رمضان.
ودخل المعظم تورانشاه من الغد - وهو يوم السبت سلخه - إلى دمشق، ونزل بقلعتها، فكان يوماً مشهوداً وقام الأمير جمال الدين بخدمته، وحلف له الأمراء، وتسلطن في يومئذ. وخلع المعظم على الأمراء وأعطاهم أموالاً جزيلة، بحيث أنه أنفق ما كان في قلعة دمشق، وهو ثلاثمائة ألف دينار. واستدعى من الكرك مالاً آخر حتى أنفقه، وأفرج عمن كان بدمشق في حبس أبيه، وأتته الرسل من حماة وحلب تهنئه بالقدوم.
ولأربع مضين من شوال: سقطت البطائق إلى العسكر والقاهرة، بوصول الملك المعظم إلى دمشق وسلطته بها فضربت البشائر بالمعسكر وبالقاهرة.
وسار السلطان من دمشق يوم الأربعاء سابع عشريه يريد مصر، بعدما خلع علي الأمير جمال الدين، وأقره على نيابة السلطة بدمشق. وقدم معه القاضي الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، وكان مقيماً بدمشق عند الأمير جمال الدين. وقدم معه أيضاً هبة الله بن أبي الزهر بن حشيش الكاتب النصراني وقد وعده السلطان بوزارة مصر، فأسلم وتلقب بالقاضي معين الدين. وسيره السلطان أول يوم من ذي القعدة إلى قلعة الكرك ليحتاط على خزائنها، فأنهى أشغاله بها ولحقه في الرمل، وأسلم على يده هناك.
وعندما تواترت الأخبار في القاهرة بقدوم السلطان، خرج قاضي القضاة بدر الدين السنجاري، فلقيه بغزة وقدم معه وخرج الأمير حسام الدين بن أبي علي نائب السلطان إلى الصالحية، فلقيه بها يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، ونزل السلطان المعظم تورانشاه في قصر أبيه، ومنه يومئذ أعلن بموت الملك الصالح نجم الدين أيوب ولم يكن أحد قبل هذا اليوم ينطق بموته، بل كانت الأمور على حالها - والدهليز الصالحي والسماط ومجيء الأمراء للخدمة، على ما كان عليه الحال في أيام حياته، وشجر الدر تدبر أمور الدولة كلها، وتقول: السلطان مريض، ما إليه وصول - فلم يتغير عليها شيء، إلى أن استقر الملك المعظم بالصالحية.
فتسلم السلطان المعظم مملكة مصر، وخلع على الأمير حسام الدين بن أبي علي خلعة سنية، ومنطقة وسيفا فيهما ثلاثة آلاف دينار مصرية، وأنشده الشعراء عدة تهاني، وجرت بين يديه مباحثات ومناظرات في أنواع من العلوم وكان السلطان المعظم قد مهر في العلوم، وعرف الخلاف والفقه والأصول، وكان جده الملك الكامل يحبه لميله إلى العلم، ويلقي عليه من صغره المسائل المشكلة، ويأمره بعرضها وامتحان الفقهاء بها في مجلسه. ولازم المعظم الاشتغال إلى أن برع، إلا أنه فيه هوج وخفة، مع غرامه بمجالسة أهل العلم من الفقهاء والشعراء.
ثم إنه رحل من الصالحية ونزل تلبانة، ثم نزل بعدها منزلة ثالثة، وسار منها إلى المنصورة. وقد تلقاه الأمراء المماليك، فنزل في قصر أبيه وجده يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة. فأول ما بدأ أن أخذ مماليك الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ الصغار، وكثيراً من مخلفه، بدون القيمة، ولم يعط ورثته شيئاً، وكان ذلك بنحو الخمسة عشرة ألف دينار. وأخذ يسب فخر الدين ويقول: أطلق السكر والكتان، وأنفق المال وأطلق المحابيس إيش ترك لي.
وكانت الميرة ترد إلى الفرنج في منزلتهم من دمياط في بحر النيل، فصنع المسلمون عدة مراكب، وحملوها وهي مفصلة على الجمال إلى بحر المحلة، وطرحوها فيه وشحنوها بالمقاتلة، وكانت أيام زيادة النيل، فلما جاءت مراكب الفرنج لبحر المحلة، وهذه المراكب مكمنة فيه، خرجت عليها بغتة وقاتلتها وللحال قدم أسطول المسلمين من جهة المنصورة، فأخذت مراكب الفرنج أخذاً وبيلاً، وكانت اثنتين وخمسين مركباً، وقتل منها وأسر نحو ألف إفرنجي، وغنم سائر ما فيها من الأزواد والأقوات، وحملت الأسرى على الجمال إلى العسكر. فانقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقع الغلاء عندهم، وصاروا محصورين لا يطيقون المقام ولا يقدرون على الذهاب، واستضرى المسلمون عليهم وطمعوا فيهم.
وفي أول ذي الحجة: أخذ الفرنج من المراكب التي في بحر المحلة سبع حراريق، ونجا من كان فيها من المسلمين. وفي ثاني ذي الحجة تقدم أمر السلطان إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي بالسير إلى القاهرة، والإقامة بدار الوزارة على عادته في نيابة السلطة. وفيه وصل إلى السلطان جماعة من الفقهاء: منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وبهاء الدين بن الجميزي، الشريف عماد الدين، والقاضي عماد الدين القاسم ابن إبراهيم بن هبة الله بن إسماعيل بن نبهان بن محمد بن المقنشع الحموي - قاضي مصر، وكان قد ولي القضاء بعد موت الجمال يحيى، في جمادى الأولى - ، وسراج الدين الأرموي فجلس السلطان المعظم معهم وناظرهم.
وفي يوم عرفة: وصلت مراكب فيها الميرة للفرنج، فالتقت بها شواني المسلمين عند مسجد النصر، فأخذت شواني المسلمين منها اثنتين وثلاثين مركباً، منها تسع شواني. فاشتد الغلاء عند الفرنج، وشرعوا في مراسلة السلطان يطلبون منه الهدنة، فاجتمع برسلهم الأمير زين الدين أمير جاندار، وقاضي القضاة بدر الدين السنجاري، فسألوا أن يسلموا دمياط، ويأخذوا عوضاً عنها مدينة القدس وبعض الساحل، فلم يجابوا إلى ذلك.
وفي يوم الجمعة، لثلاث بقين من ذي الحجة: أحرق الفرنج ما عندهم من الخشب، وأتلفوا مراكبهم ليفروا إلى دمياط، وخرجت السنة وهم في منزلتهم.
وفي هذه السنة: قدم إلى بغداد طائفة من التتر على حين غفلة، فقتلوا ونهبوا وجفل منهم الناس.
وفيها استولى علي بن قتادة على مكة، في ذي القعدة.
وفيها قتل الشريف شيخة أمير المدينة النبوية، وقام من بعده ابنه عيسى.
وفيها قتل المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن، وملك بعده ابنه المنصور شمس الدين يوسف.
وفيها مات متملك تونس أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، في آخر جمادى الآخرة، عن تسع وأربعين سنة. وكان أبو زكريا يحيى قد قام وملك تونس، واستبد بأمرها ودعا لنفسه، وقد ضعف أمر ملوك الموحدين من بني عبد المؤمن بن علي. فأقام أبو زكريا يحيى على مملكة إفريقية ثلاثاً وعشرين سنة، وامتدت مملكته إلى تلمسان وسجلمامة وسبته، وبايعه أهل إشبيلية وشاطبة والمرية ومالقة وغرناطة، وخلف مالاً جماً، فبويع بعده ابنه محمد المستنصر. وأبو زكريا هذا هو أول من ملك تونس من الملوك الحفصيين، وأما من كان قبله منهم فإنما كانوا عمالاً لبني عبد المؤمن.
وفيها قبض الشريف أبو سعد بن علي بن قتادة على الأمير أحمد بن محمد بن المسيب بمكة في آخر شوال، كما تقدم في السنة الخالية، وقام هو بإمرة مكة.
سنة ثمان وأربعين وستمائةفي ليلة الأربعاء ثالث المحرم: رحل الفرنج بأسرهم من منزلتهم يريدون مدينة دمياط، وانحدرت مراكبهم في البحر قبالتهم. فركب المسلمون أقفيتهم، بعد أن عدوا برهم واتبعوهم. فطلع صباح نهار يوم الأربعاء وقد أحاط بهم المسلمون، وبلوا فيهم سيوفهم، واستولوا عليهم قتلاً وأسراً، وكان معظم الحرب في فارسكور، فبلغت عدة القتلى عشرة آلاف في قول المقل، وثلاثين ألفاً في قول المكثر. وأسر من خيالة الفرنج ورجالتهم المقاتلة، وصناعهم وسوقتهم، ما يناهز مائة ألف إنسان، وغنم المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى كثرة، واستشهد من المسلمين نحو مائة رجل، وأبلت الطائفة البحرية - لاسيما بيبرس البندقداري - في هذه النوبة بلاء حسناً، وبان لهم أثر جميل.
والتجأ الملك ريدافرنس - وعدة من أكابر قومه - إلى تل المنية، وطلبوا الأمان فأمنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي، ونزلوا على أمانه. وأخذوا إلى المنصورة، فقيد الملك ريدافرنس بقيد من حديد واعتقل في دار القاضي فخر الدين إبراهيم ابن لقمان كاتب الإنشاء، التي كان ينزل بها من المنصورة ووكل بحفظه الطواشي صبيح المعظمي واعتقل معه أخوه، وأجرى عليه راتب في كل يوم. وتقدم أمر الملك المعظم لسيف الدين يوسف بن الطودي - أحد من وصل معه من بلاد الشرق - بقتل الأسرى من الفرنج، وكان سيف الدين يخرج كل ليلة منهم ما بين الثلاثمائة والأربعمائة ويضرب أعناقهم ويرميهم في البحر، حتى فنوا بأجمعهم.
ورحل السلطان من المنصورة، ونزل بفارسكور وضرب بها الدهليز السلطاني، وعمل فيه برجاً من خشب، وأقام على لهوه. وكتب إلى الأمير جمال الدين بن يغمور نائب دمشق كتاباً بخطه نصه: من ولده تورانشاه الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، " وما النصر إلا من عند الله " ، " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله " ، " وأما بنعمة ربك فحدث " ، " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ، نبشر المجلس السامي الجمالي، بل نبشر المسلمين كافة، بما من الله به على المسلمين من الظفر بعدو الدين، فإنه استفحل أمره واستحكم شره، ويئس العباد من البلاد والأهل والأولاد، فنودوا لا تيأسوا من روح الله. ولما كان يوم الاثنين مستهل السنة المباركة، تمم الله على الإسلام بركتها، فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال وفرقنا السلاح، وجمعنا العربان والمطوعة وخلقاً لا يعلمهم إلا الله، فجاءوا من كل فج عميق ومكان سحيق. فلما كان ليلة الأربعاء تركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم، وقصدوا دمياط هاربين. وما زال السيف يعمل في أدبارهم عامة الليل، فيوحل بهم الخزي والويل. فلما أصبحنا يوم الأربعاء، قتلنا منهم ثلاثين ألفاً، غير من ألقى نفسه في اللجج، وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج. والتجأ الفرنسيس إلى المنية، وطلب الأمان فأمناه وأخذناه وأكرمناه، وتسلمنا دمياط بعون الله وقوته، وجلاله وعظمته، وذكر كلاماً طويلاً. وبعث المعظم مع الكتاب غفارة الملك الفرنسيس، فلبسها الأمير جمال الدين بن يغمور وهي أشكرلاط أحمر بفرو سنجاب، فيها بكلة ذهب فقال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل:
إن غفارة الفرنسيس التي ... جاءت جباء لسيد الأمراء
كبياض القرطاس لوناً ولكن ... صبغتها سيوفنا بالدماء
وقال آخر:
أسيد أملاك الزمن بأسرهم ... تنجزت من نصر الإله وعوده
فلا زال مولانا يبيح حمى العدى ... ويلبس أسلاب الملوك عبيده
وأخذ الملك المعظم في أبعاد رجال الدولة، فأخرج الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل من قلعة الجبل إلى الشوبك، واعتقله بها. وأخرج الملك السعيد فخر الدين حسن بن الملك العزيز عثمان بن العادل أبي بكر بن أيوب من مصر إلى دمشق، فلما وصل دمشق قبض عليه ابن يغمور واعتقله.
وفي يوم الجمعة لخمس من المحرم: ورد إلى القاهرة كتاب السلطان إلى الأمير حسام الدين أبي علي نائب السلطنة بالقدوم عليه، وأقام بدله في نيابة السلطة بالقاهرة الأمير جمال الدين أقوش النجيبي ووصل الأمير أبو علي إلى المعسكر، فنزل به مطرح الجانب، بعدما كان عدة الملك الصالح وعمدته، وبعث المعظم إلى شجر الدر يتهددها، ويطالبها بمال أبيه وما تحت يدها من الجواهر فداخلها منه خوف كثير، لما بدا منه الهوج والخفة، وكاتبت المماليك البحرية بما فعلته في حقه، من تمهيد الدولة وضبط الأمور حتى حضر وتسلم المملكة، وما جازاها به من التهديد والمطالبة بما ليس عندها. فأنفوا لها، وحنقوا من أفعال السلطان. وكان السلطان المعظم قد وعد الفارس أقطاي لما أتاه في حصن كيفا بأن يؤمره، فلم يف له بذلك، فتنكر له أقطاي وكتم الشر، فحرك كتاب شجر الدر منه ساكناً.
وانضاف إلى هذه الأمور، أن السلطان المعظم أعرض عن مماليك أبيه الذين كانوا عنده لمهماته، واطرح الأمراء والأكابر أهل الحل والعقد، وأبعد غلمان أبيه، واختص بجماعته الذين قدموا معه، وولاهم الوظائف السلطانية. وقدم الأراذل: وجعل الطواشي مسروراً - هو خادمه - أستادار السلطان، وأقام صبيحاً - وكان عبداً حبشياً فحلاً - أمير جاندار، وأنعم عليه بأموال كثيرة وإقطاعات جليلة، وأمر أن يصاغ له عصا من ذهب. وأساء السلطان إلى المماليك وتوعدهم، وصار إذا سكر في الليل جمع ما بين يديه من الشمع، وضرب رءوسها بالسيف حتى تتقطع، ويقول: هكذا أفعل بالبحرية،، ويسمى كل واحد منهم باسمه. واحتجب أكثر من أبيه، مع الانهماك على الفساد بمماليك أبيه، ولم يكونوا يألفون هذا الفعل من أبيه وكذلك فعل بحظايا أبيه.
وصار مع هذا جميع الحل والعقد، والأمر والنهي لأصحابه الذين قدموا معه، فنفرت قلوب البحرية منه، واتفقوا على قتله، وما هو إلا أن مد السماط بعد نزوله بفارسكور، في يوم الاثنين سادس عشري المحرم، وجلس السلطان على عادته، تقدم إليه واحد من البحرية - وهو بيبرس البندقداري، الذي صار إليه ملك مصر - وضربه بالسيف: فتلقاه المعظم بيده فبانت أصابعه، والتجأ إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور وهو يصيح: من جرحني. قالوا: الحشيشة، فقال: لا والله إلا البحرية! والله لا أبقيت منهم بقية، واستدعى المزين ليداوي يده. فقال البحرية بعضهم لبعض: تمموه وإلا أبادكم، فدخلوا عليه بالسيوف. ففر المعظم إلى أعلى البرج وأغلق بابه، والدم يسيل من يده، فأضرموا النار في البرج، ورموه بالنشاب فألقى نفسه من البرج، وتعلق بأذيال الفارس أقطاي، واستجار به فلم يجره، وفر المعظم هارباً إلى البحر، وهو يقول: ما أريد ملكاً، دعوني أرجع إلى الحصن يا مسلمين ما فيكم من يصطعني ويجيرني، هذا وجميع العسكر واقفون، فلم يجبه أحد والنشاب يأخذه من كل ناحية. وسبحوا خلفه في الماء، وقطعوه بالسيوف قطعاً، حتى مات جريحاً حريقاً غريقاً، وفر أصحابه واختفوا.
وترك المعظم على جانب البحر ثلاثة أيام منتفخاً، لا يقدر أحد أن يتجاسر على دفنه، إلى أن شفع فيه رسول الخليفة، فحمل إلى ذلك الجانب وفي فن، فكانت مدة ملكه أحداً وسبعين يوماً. وقيل مرة لأبيه في الإرسال إليه، ليحضر من حصن كيفا إلى مصر، فأبى، وألح عليه الأمير حسام الدين أبو علي في طلب حضوره، فقال: متى حضر إلى هنا قتلته. وكان المباشر لقتله أربعة من مماليك أبيه، وكان الملك الصالح نجم الدين لما أراد أن يقتل أخاه العادل، قال الطواشي محسن: اذهب إلى أخي العادل في الحبس، وخذ معك من المماليك من يخنقه، فعرض محسن ذلك على جماعة من المماليك، وكلهم يمتنع إلا أربعة منهم، فمضى بهم حتى خنقوا العادل. فقدر الله أن هؤلاء الأربعة هم الذين باشروا قتل ابنه المعظم أقبح قتلة. وروي في النوم الملك الصالح نجم الدين بعد قتل ابنه الملك المعظم تورانشاه، وهو يقول:
قتلوه شر قتله ... صار للعالم مثله
لم يراعوا فيه إلا ... لا ولا من كان قبله
ستراهم عن قريب ... لأقل الناس أكله
فكان ما يأتي، ذكره من الواقعة بين المصريين والشاميين، بين المعز أيبك والناصر صلاح الدين يوسف بن عبد العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف، وهو صاحب حلب وعدم فيها عدة من الأعيان. وبقتل المعظم انقرضت دولة بني أيوب من أرض مصر، وكانت مدتهم إحدى وثمانين سنة، وعدة ملوكهم ثمانية، كما مر ذكرهم. فسبحان الباقي، وما سواه يزول.
الملكة عصمة الدين أم خليل شجر الدركانت تركية الجنس، وقيل بل أرمنية، اشتراها الملك الصالح نجم الدين أيوب، وحطت عنده بحيث كان لا يفارقها سفراً ولا حضراً. وولدت منه ابنا اسمه خليل، مات وهو صغير. وهذه المرأة شجر الدر، هي أول من ملك مصر من ملوك الترك المماليك، وذلك أنه لما قتل الملك المعظم غياث الدين تورانشاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، كما تقدم ذكره، اجتمع الأمراء المماليك البحرية، وأعيان الدولة وأهل المشورة، بالدهليز السلطاني، واتفقوا على إقامة شجر الدر أم خليل زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب في مملكة مصر، وأن تكون العلامات السلطانية على التواقيع تبرز من قبلها، وأن يكون مقدم العسكر الأمير عز الدين أيبك الزكماني الصالحي أحد البحرية. وحلفوا على ذلك في عاشر صفر، وخرج عز الدين الرومي من المعسكر إلى قلعة الجبل، وأنهى إلى شجر الدر ما جرى من الاتفاق، فأعجبها، وصارت الأمور كلها معقودة بها، والتواقيع تبرز من قلعة الجبل، وعلامتها عليها والدة خليل. وخطب لها على منابر مصر والقاهرة، ونقش اسمها على السكة، ومثاله المستعصمة الصالحية، ملكة المسلمين، والدة الملك المنصور خليل أمير المؤمنين، وكان الخطباء يقولون في الدعاء: اللهم أدم سلطان الستر الرفيع، والحجاب المنيع، ملكة المسلمين، والدة الملك الخليل، وبعضهم يقول، بعد الدعاء للخليفة: واحفظ اللهم الجبة الصالحية، ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية صاحبة الملك الصالح.
ولما حلف الأمراء والأجناد واستقرت القاعدة، ندب الأمير حسام الدين - محمد بن أبي علي للكلام مع الملك ريدافرنس في تسليم في دمياط، فجرى بينه وبين الملك مفاوضات ومحاورات ومراجعات، آلت إلى أن وقع الاتفاق على تسليمها من الفرنج، وأن يخلى عنه ليذهب إلى بلاده، بعدما يؤدي نصف ما عليه من المال المقرر. فبعث الملك ريدافرذس إلى من بها من الفرنج يأمرهم بتسليمها، فأبوا وعاودهم مراراً، إلى أن دخل العلم الإسلامي إليها، في يوم الجمعة لثلاث مضين من صفر، ورفع على السور وأعلن بكلمة الإسلام وشهادة الحق. فكانت مدة استيلاء الفرنج عليها أحد عشر شهراً وتسعة أيام.
وأفرج عن الملك ريدافرنس، بعدما فدى نفسه بأربعمائة ألف دينار، وأفرج عن أخيه وزوجته ومن بقي من أصحابه، وسائر الأسرى الذين بمصر والقاهرة، ممن أسر في هذه الواقعة، ومن أيام العادل والكامل والصالح وكانت عدتهم اثني عشر ألف أسير ومائة أسير وعشر أسارى، وساروا إلى البر الغربي، ثم ركبوا البحر في يوم السبت تاليه، وأقلعوا إلى جهة عكا. فقال الصاحب جمال الدين بن مطروح في ذلك:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال نصح من قؤول فصيح
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يسوع المسيح
أتيت مصراً تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك الحسين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظرتك الفسيح
وكل أصحابك أودعتهم ... بحسن تدبيرك بطن الصريح
سبعون ألفا لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح
ألهمك الله إلى مثلها ... لعل عيسى منكم يستريح
إن يكن الباب بذا راضياً ... فرب غش قد أتى من نصيح
فاتخذوه كاهناً إنه ... أنصح من شق لكم أو سطيح
وقل لهم إن أزمعوا عودة ... لأخذ ثأر أو لفعل قبيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح
واتفق أن الفرنسيس هذا بعد خلاصه من أيدي المسلمين، عزم على الحركة إلى تونس من بلاد أفريقية، لما كان فيها من المجاعة والموتان. وأرسل يستنفر ملوك النصارى، وبعث إلى البابة خليفة المسيح بزعمهم. فكتب البابة إلى ملوك النصارى بالمسير معه، وأطلق يده في أموال الكنائس يأخذ منها ما شاء. فأتاه من الملوك الإنكتار، وملك اسكوسنا، وملك ثورل، وملك برشلونة واسمه ريداركون، وجماعة أخر من ملوك النصارى، فاستعد له السلطان أبو عبد الله محمد المستنصر بالله بن الأمير أبي زكريا يحيى بن الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص عمر، ملك تونس، وبعث إليه رسله في طلب الصلح، ومعهم ثمانون ألف دينار، فأخذها الفرنسيس ولم يصالحهم، وسار إلى تونس آخر ذي القعدة سنة ثمان وستين وستمائة، ونزل بساحل قرطاجنة في ستة آلاف فارس وثلاثين ألف راجل. وأقام الفرنسيس هناك ستة أشهر، فقاتله المسلمون - للنصف من محرم سنة تسع وستين - قتالاً شديداً قتل فيه من الفريقين عالم عظيمة وكاد المسلمون أن يغلبوا، فأتاهم الله بالفرج وأصبح ملك الفرنجة ميتاً، فجرت أمور آلت إلى عقد الصلح ومسير النصارى. ومن الغريب أن رجلاً من أهل تونس اسمه أحمد بن إسماعيل الزيات، قال:
يا فرنسيس هذه أخت مصر ... فتأهب لما إليه تصير
لك فيها دار ابن لقمان قبراً ... وطواشيك منكر ونكير
فكان هذا فألا عليه ومات، وكان ريدافرنس هذا عاقلاً داهياً خبيثاً مفكراً.
ولما استولى المسلمون على دمياط، سارت البشائر إلى القاهرة ومصر وسائر الأعمال، فضربت البشائر وأعلن الناس بالسرور والفرح، وعادت العساكر إلى القاهرة في يوم الخميس تاسع صفر.
فلما كان يوم الاثنين ثالث عشره: خلعت شجر الدر على الأمراء وأرباب الدولة، وأنفقت فيهم الأموال وفي سائر العسكر.
ووصل خبر قتل الملك المعظم وإقامة شجر الدر في السلطنة إلى دمشق، بمسير الخطيب أصيل الدين محمد بن إبراهيم بن عمر الإسعردي، لاستخلاف الأمراء بها. وكان فيها الأمير جمال الدين بن يغمور نائب السلطنة، والأمراء القيمرية، فلم يجيبوه وأخذوا في مغالظته. واستولى الملك السعيد حسن بن العزيز عثمان بن العادل أبي بكر ابن أيوب على مال مدينة غزة، وصار إلى قلعة الصبيبة فملكها. فلما ورد الخبر بذلك إلى قلعة الجبل، في يوم الاثنين لثلاث ليلة خلت من صفر، أحيط بداره من القاهرة، وأخذ ما كان له بها. وثار الطواشي بدر الدين لؤلؤ الصوابي الصالحي - نائب الكرك والشوبك، وركب إلى الشوبك، وأخرج الملك المغيث عمر بن العادل بن الكامل الصغير من الحبس، وملكه الكرك والشوبك وأعمالها وحلف له الناس، وقام يدبر أمره لصغر سنه.
وكتب الأمراء القيمرية من دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب، يحذرونه بامتناعهم من الحلف لشجر الدر، ويحثونه على المسير إليهم حتى يملك دمشق. فخرج من حلب في عساكره مستهل شهر ربيع الآخر، ووصل إلى دمشق يوم السبت ثامنه، ونازلها إلى أن كان يوم الاثنين عاشره زحف عليها. ففتح الأمراء القيمرية له أبواب البلد وكان القائم بذلك من القيمرية الأمير ناصر الدين أبو المعالي حسين بن عزيز بن أبي الفوارس القيمري الكردي. فدخلها الناصر صلاح الدين هو وأصحابه بغير قتال، وخلع على الأمراء القيمرية، وعلي الأمير جمال الدين بن يغمور، وقبض على عدة من الأمراء المماليك الصالحية وسجنهم. وملك الناصر صلاح الدين قلعة دمشق، وكان بها مجاهد الدين إبراهيم أخو زين الدين أمير جندار، مسلمها إلى الناصر، وبها من المال مائة ألف دينار وأربعمائة ألف درهم سوى الأثاث. ففرق الناصر جميع ذلك على الملوك والأمراء، وأعطى شمس الدين لؤلؤ من خزائنه عشرة آلاف دينار، وخلعة وفرساً وثلاثمائة ثوب، فرد شمس الدين ذلك، إلا الخلعة والفرس.
وكان الخبر قد ورد إلى قلعة الجبل - في سادس ربيع الآخر - بخروج الناصر من حلب، فجمد الأمراء والمماليك وغيرهم الأيمان لشجر الدر، ولعز الدين أيبك بالتقدمة على العساكر، ودارت النقباء على الأجناد، وأمروهم بالسفر إلى الشام. وفي يوم الأربعاء ثاني عشره رسم أن يسير الأمير أبو علي بالعسكر. وفي رابع عشره ورد الخبر بمنازلة الناصر لدمشق، فوقع الحث على خروج العسكر. وفي حادي عشريه ورد الخبر بأن الناصر ملك دمشق، بتسليم القيمرية البلد له، فقبض على عدة من أمراء مصر الذين ليسوا من الترك ووقع اضطراب كثير في القاهرة، وقبض على القاضي نجم الدين ابن قاضي نابلس، وعدة ممن يتهم بالميل إلى الناصر وتزوج الأمير عز الدين أيبك بشجر الدر، في تاسع عشري شهر ربيع الآخر، وخلعت شجر الدر نفسها من مملكة مصر، ونزلت له عن الملك، فكانت مدة دولتها ثمانين يوماً.
الملك المعز عز الدين أيبك
الجاشنكير التركماني الصالحي
كان تركي الأصل والجنس، فانتقل إلى ملك السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب من بعض أولاد التركماني، فعرف بين البحرية بأيبك التركماني، وترقي عنده في الخدم، حتى صار أحد الأمراء الصالحية، وعمله جاشنكيرا، إلى أن مات الملك الصالح، وقتل بعده ابنه الملك المعظم. فصار أيبك أتابك العساكر، مع شجر الدر، ووصل الخبر بذلك إلى بغداد، فبعث الخليفة المستعصم بالله من بغداد كتاباً إلى مصر، وهو ينكر على الأمراء ويقول لهم: إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نسير إليكم رجلاً.واتفق ورود الخبر باستيلاء الملك الناصر على دمشق، فاجتمع الأمراء والبحرية للمشور، واتفقوا على إقامة الأمير عز الدين أيبك مقدم العسكر في السلطنة، ولقوه بالملك المعزة وكان مشهوراً بينهم بدين وكرم وجودة رأي.
فأركبوه في يوم السبت آخر شهر ربيع الآخر، وحمل الأمراء بين يديه الفاشية نوباً واحداً بعد آخر إلى قلعة الجبل، وجلسوا معه على السماط، ونودي بالزينة فزينت القاهرة ومصر.
فورد الخبر في يوم الأحد تاليه تسليم الملك المغيث عمر الكرك والشوبك، وبتسلم الملك السعيد قلعة الصبيبة فلما كان بعد ذلك تجمع الأمراء، وقالوا: لابد من إقامة شخص من بيت الملك مع المعز أيبك ليجتمع الكل على طاعته ويطيعه الملوك من أهله. فاتفقوا على إقامة الملك شرف مظفر الدين موسى بن الملك المسعود - ويقال له الناصر صلاح الدين - يوسف بن الملك المسعود يوسف - المعروف باسم القسيس - ابن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وله من العمر نحو ست سنين، شريكاً للملك المعز أيبك، وأن يقوم الملك المعز بتدير الدولة.
فأقاموه سلطاناً في ثالث جمادى الأولى، وجلس على السماط وحصر الأمراء في خدمه يوم الخميس خامس جمادى الأولي. فكانت المراسيم والمناشير تخرج عن الملكين الأشرف والمعز، إلا أن الأشرف ليس له سوى الاسم في الشركة لا غير ذلك، وجميع الأمور بيد المعز أيبك.
وكان بغزة جماعة من العسكر، عليهم الأمير ركن الدين خاص ترك فرجعوا إلى الصالحية واتفقوا مع عدة من الأمراء على إقامة الملك المغيث عمر بن العادل الصغير، صاحب الكرك وخطوا له بالصالحية، يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة.
فلما ورد الخبر بذلك نودي في القاهرة ومصر أن البلاد للخليفة المستعصم بالله العباسي، وأن الملك المعز عز الدين أيبك نائبه بها، وذلك في يوم الأحد سادسه.
ووقع الحث في يوم الاثنين على خروج العساكر، وجددت الأيمان للملك الأشرف موسى والملك المعز أيبك، وأن يبرز اسهما على التواقيع والمراسيم، وينقش اسهما على السكة، ويخطب لهما على المنابر، وأقيم شرف الدين أبو سعيد هبة الله بن ساعد الفائزي المنعوت بالأسعد في الوزارة.
وتسحب من الصالحية الطواشيان شهاب الدين رشيد الكبير، وشهاب الدين الصغير، وركن الدين خاص ترك، وأقش المشرف فقبض على الطواشي شهاب الدين رشيد الصغير، وأحضر إلى القاهرة فاعتقل بها، ونجا الباقون. وسارت الخلع لمن بقي بالصالحية، وعفي عنهم وأمنوا، وأرسل إليهم بنفقة.
وفي يوم الخميس عاشره: ركب الملكان الأشرف والمعز بالصناجق السلطانية، وشقا القاهرة، والمعز يحجب الأشرف، والأمراء تتناوب في حمل الغاشية واحداً بعد واحد. وقدمت عساكر الملك الناصر إلى غزة، فخرج الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار - وكانت إليه تقدمة المماليك البحرية - من القاهرة، في يوم الخميس خامس شهر رجب، بألفي فارس وسار إلى غزة، وقاتل أصحاب الناصر وهزمهم.
وفي يوم الخميس لخمس بقين من رجب: اتفق أهل الدولة على نقل تابوت الملك الصالح نجم الدين أيوب من قلعة جزيرة الروضة، إلى تربته التي بنيت له بجوار مدارسه الصالحية من بين القصرين. فخرج الناس يوم الجمعة إلى قلعة الروضة، وحملوا السلطان منها، وصلوا عليه بعد صلاة الجمعة وجميع العسكر قد لبسوا البياض، وقطع المماليك شعورهم، وأقيم عزاؤه ودفن ليلاً. ونزل الملكان الأشرف والمعز من قلعة الجبل إلى التربة الصالحية في يوم السبت، ومعهما سائر المماليك البحرية والجمدارية، والأمراء والقضاء والأعياد. وغلقت الأسواق بالقاهرة ومصر، وأقيم المأتم بالدفوف بين القصرين، واستمر الحضور للعزاء إلى يوم الاثنين. وجعل عند القبر سناجق السلطان وبقجه وقوسه وتركاشه، وترتبت القراء يقرءون عند قبره.
وفي هذه السنة: عزل بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن الحسن السنجاري عن قضاء القاهرة، وولي بعده عماد الدين أبو القاسم بن المقنشع بن القطب الحموي. فلما مات أفضل الدين الخونجي، ولي ابن القطب الحموي بعده قضاء مصر. ثم ولي صدر الدين موهوب الجزري قضاء مصر، عند انتقال ابن القطب إلى قضاء القاهرة.
وفي آخر شهر رجب: أعيد البدر السنجاري إلى قضاء القاهرة، وابن القطب إلى قضاء مصر. ثم جمع قضاء مصر والقاهرة للسنجاري، وصرف ابن القطب عن مصر. وعاد الفارس أقطاي من غزة إلى القاهرة، في رابع شعبان. وفي خامسه قبض على الأمير زين الدين أمير جاندار الصالحي، وعلى القاضي صدر الدين قاضي آمد - وكان من كبراء الدولة الصالحية، واعتقلا.
ولاثنتي عشرة بقيت من شعبان: وقع الهدم في مدينة دمياط، باتفاق أهل الدولة على ذلك، وخرج الحجارون والصناع والفعلة من القاهرة، فأزيلت أسوارها ومحيت آثارها، ولم يبق منها سوى الجامع. وسكن طائفة من ضعفاء الناس في أخصاص على شاطئ النيل من قبليها، وسموها المنشية وهو موضع دمياط الآن. ولست بقين قبض على الأمير جمال الدين النجيبي واعتقل وبعده بيوم قبض على أقش العجمي.
وأخذ الملك الناصر صاحب الشام في الحركة لأخذ مصر، بتحريض الأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني له على ذلك. وخرج الناصر من دمشق بعساكره، يوم الأحد النصف من شهر رمضان، ومعه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل أبي بكر بن أيوب والملك الأشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن شيركوه، والملك المعظم تورانشاه بن السلطان صلاح الدين الكبير وأخوه نصرة الدين الظاهر شادي بن الناصر داود وأخوه الملك الأمجد حسن، والملك الأمجد تقي الدين عباس بن العادل، وعمه ملوك.
فلما ورد الخبر بذلك اضطربت الدولة، ورسم بجمع العربان من الصعيد وقبض على جماعة من الأمراء اتهموا بالميل مع الملك الناصر في ثاني شوال، عندما ورد الخبر بوصوله إلى غزة. وفي غده كثر الإرجاف ووقع التهيؤ للحرب، وأحضرت الخيول من الربيع.
وفي يوم الاثنين ثامنه: برز الأمير حسام الدين أبو علي من القاهرة، وكان الوقت شتاء. وفي تاسعه برز الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار - مقدم البحرية - في جمهور العسكر من الترك. وسارت العساكر في حادي عشره، واجتمعت بالصالحية.
وفي يوم السبت ثالث عشره: استناب الملك المعز أيبك بديار مصر الأمير علاء الدين البندقدار، فواظب الجلوس بالمدارس الصالحية مع نواب دار العدل، لترتيب الأمور وكشف المظالم ونودي يوم السبت العشرين منه بإبطال الخمور، والجهة المفردة. وفيه كثر الإرجاف بوصول الناصر الداروم.
وفي تاسع عشريه: خلع الملك المعز على الملك المنصور محمود، وعلى أخيه الملك السعيد عبد الملك، ولدي الملك الصالح إسماعيل عماد الدين - وكانا في حبس الملك الصالح نجم الدين أيوب - وأركبهما في القاهرة، ليوهم الناس أن الملك الصالح أباهما مباطن له على الملك الناصر، حتى يقع بينهما.
وفي يوم الثلاثاء أول ذي القعدة: نودي بالقاهرة أن الصلح انتظم بين الملك المعز والبحرية، وبين الملك المغيث عمر بن العادل صاحب الكرك ولم يكن لما نودي به حقيقة، وإنما قصد بذلك أن يقف الملك الناصر عن الحركة.
وفي يوم الخميس ثالثه: نزل الملك المعز من قلعة الجبل فيمن بقي عنده من العساكر، وسار إلى الصالحية وبها العساكر التي خرجت قبله، وترك بقلعة الجبل الملك الأشرف موسى فاستقرت عساكر مصر بالصالحية إلى يوم الاثنين سابعه، فوصل الملك الناصر بعساكره إلى كراع - وهي قريبة من العباسية، فتقارب ما بين العسكرين وكان في ظن كل أحد أن النصرة إنما تكون للملك الناصر على البحرية، لكثرة عساكره ولميل أكثر عسكر مصر إليه. فاتفق أنه كان مع الناصر جمع غير من ممالك أبيه الملك العزيز، وهم أتراك يميلون إلى البحرية لعلة الجنسية، ولكراهتهم في الأمير شمس الدين لؤلؤ مدير المملكة.
فعندما نزل الناصر بمنزلة الكراع، قريباً من الخشبي بالرمل، رحل المعز أيبك بعساكر مصر من الصالحية، ونزل اتجاهه بسموط إلى يوم الخميس عاشره. فركب الملك الناصر في العساكر، ورتب ميمنة وميسرة وقلباً، وركب المعز، ورتب أيضاً عساكره. وكانت الوقعة في الساعة الرابعة، فاتفق فيها أمر عجيب قل ما اتفق مثله، فإن الكرة كانت أولاً على عساكر مصر، ثم صارت على الشاميين: وذلك أن ميمنة عسكر الشام حملت هي والميسرة على من بازائها حملة شديدة، فانكسرت ميسرة المصريين وولوا منهزمين، وزحف أبطال الشاميين وراءهم، وما لهم علم بما جرى خلفهم. وانكسرت ميمنة أهل الشام، وثبت كل من القلبين واقتتلوا. ومر المنهزمون من عسكر مصر إلى بلاد الصعيد، وقد نهبت أثقالهم. وعندما مروا على القاهرة خطب بها للملك الناصر، وخطب له بقلعة الجبل ومصر، وبات الأمير جمال الدين بن يغمور بالعباسية، وأحمي الحمام للملك الناصر وجهز له الإقامة. هذا والناصر على منزلة كراع ليس عنده خبر، وإنما هو واقف بسناجقه وخزائنه وأصحابه. وأما ميمنة أهل الشام فإنها لما كسرت قتل منهم عسكر مصر خلقاً كثيراً في الرمل، وأسروا أكثر مما قتلوا.
وتعين الظفر للناصر وهو ثابت في القلب، واتجاهه المعز أيبك أيضاً في القلب فخاف أمراء الناصر منه أن لمجنيهم إذا تم له الأمر، وخامروا عليه وفروا بأطلابهم إلى الملك المعز وهم، الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي، والأمير جمال الدين أقوش الحامي، والأمير بدر الدين بكتوت الظاهري، والأمير سليمان العزيزي، وجماعة غيرهم. فخارت قوى الناصر من ذهاب المذكورين إلى الملك المعز، فحمل المعز بمن معه على سناجق الناصر، ظناً منه أن الناصر تحتها. وكان الناصر - لما فارقه الأمراء إلى عند المعز - قد خرج من تحت السناجق في شردمة قليلة، فخاب ما أمله المعز أيبك، وعاد إلى مركزه خائباً وقد قوى الشاميون بذلك، وتبعوه يقتلون منه وينهبون.
وسر الأمراء القيمرية بذلك وقصدوا الحملة على المعز ليأخذوه، فوجدوا أصحابهم قد تفرقوا في طلب الكسب والنهب. فحمل المعز عليهم وثبتوا له، ثم انحاز إلى جانب يريد الفرار إلى جهة الشوبك. ووقف الناصر في جمع من العزيزية وغيرهم تحت سناجقه وقد اطمأن، فخرج عليهم المعز - ومعه الفارس أقطاي - في ثلاثمائة من البحرية، وقرب منه فخامر عدة ممن كان مع الناصر عليه، ومالوا مع المعز والبحرية، فولى الناصر فاراً يريد الشام في خاصته وغلمانه. واستولى البحرية على سناجقه، وكسروا صناديقه ونهبوا أمواله.
وساق المعز يريد الأطلاب، فوقع بطلب الأمير شمس الدين لؤلؤ، والأمير حسام الدين القيمري، والأمير ضياء الدين القيمري، وتاج الملوك بن المعظم، والأمير شمس الدين الحميدي، والأمير بدر الدين الزرزاري، وجماعة غيرهم. فبدد الملك المعز كلهم، وأسر المعظم تورانشاه بن صلاح الدين، وأخاه نصرة الدين محمد، والملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل، والملك الأشرف صاحب حمص، والملك الزاهر، والأمير شهاب الدين القيمري، والأمير حسام الدين طرنطاي العزيزي، والأمير ضياء الدين القيمري، والأمير شمس الدين لؤلؤ مدبر المملكة الحلبية، وأعيان الحلبيين وخلقاً كثيراً وقتل الأمير شمس الدين الحميدي، والأمير بدر الدين الزرزاري، وجماعة غيرهم.
وكان الأمير حسام الدين أبو علي الهذباني على ميسرة عسكر المصرين، فلما وقعت الكسرة على الميسرة تفرق عنه أصحابه، وتقنطر عن فرسه وكاد يؤخذ، لولا أنه وقف معه من أركبه، فلحق بالمعز أيبك، فأمر الملك بضرب عنق الأمير شمس الدين لؤلؤ، فأخذته السيوف حتى قطع، وضربت عنق الأمير ضياء الدين القيمري وأتي بالملك الصالح إسماعيل وهو راكب، فسلم عليه الملك المعز وأوقفه إلى جانبه، وقال للأمير حسام الدين أبي علي: ما تسلم على المولى الصالح، فدنا منه الأمير حسام الدين وعانقه وسلم عليه. وجرح الملك المعظم، وابنه تاج الملوك وضرب الشريف المرتضي في وجهه ضربة عظيمة، وهموا بقتله ثم تركوه.
وتمزق أهل الشام كل ممزق، ومشوا في الرمل أياماً، وصار الملك الناصر ومعه نوفل الزبيدي وعلي السعدي إلى دمشق. وأما العسكر الشامي الذي كسر ميسرة المصريين، فإنه وصل إلى العباسية ونزل بها، وضرب الدهليز الناصري هناك، وفيهم الأمير جمال الدين بن يغمور نائب السلطنة بدمشق وعدة من أمراء الناصر، وهم لا يشكون أن أمر المصريين قد بطل وزال، وأن الملك الناصر مقدم عليهم ليسيروا في خدمته إلى القاهرة. فبينا هم كذلك إذ وصل إليهم الخبر بهروب الملك الناصر، وقتل الأمراء وأسر الملوك وغيرهم. فهم طائفة منهم أن يسيروا إلى القاهرة ويستولوا عليها، ومنهم من رأى الرجوع إلى الشام، ثم اتفقوا على الرجوع.
وأما من انهزم من عسكر مصر أولاً، فإنهم وصلوا إلى القاهرة في يوم الجمعة حادي عشره، غد يوم الوقعة، فما شك في أن الأمر تم للملك الناصر، وأن أمر البحرية قد زال. وكان بقلعة الجبل الأمير ناصر إسماعيل، بن يغمور، أستادار الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، في جب وهو أمين الدولة أبو الحسن بن غزال - المتطبب المعروف بالسامري وزير الصالح المذكور، والأمير سيف الدين القيمري، وجماعة غيرهم أيضاً، لهم من أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب في الاعتقال. فلما بلغهم ذلك خرجوا من الجب، وأظهروا الفرح والاستبشار، وأرادوا أخذ القلعة. فلم يوافق الأمير سيف الدين القيمري على ذلك، وتركهم وقعد على باب دار الملك المعز أيبك التي فيها عياله، وحماها وصد الناس عنها. وصاح البقية: الملك الناصر يا منصور.
وخطب للناصر بالقلعة ومصر، وسائر البلاد التي بلغها خبر نصرته. وكان بجامع القاهرة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقام على قدميه وخطب خطتن خفيفتين، وصلى بجماعة الجمعة، وصلى قوم صلاة الظهر. فما هو إلا أن انقضت صلاة الجمعة، حتى وردت البشارة بانتصار الملك المعز وهزيمة الناصر، فدقت البشائر. وقدم جماعة ومعهم نصرة الدين بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فاعتقلوه بقلعة الجبل. وقبض على الأمير ناصر الدين بن يغمور، والوزير أمين الدولة أبي الحسن بن غزال، ومن كان معهما، وأعيدوا إلى الجب. ونودي آخر النهار في القاهرة ومصر بالزينة.
وأما الملك المعز فإنه ساق - بعدما تقم ذكر من قتله الأمراء - إلى العباسية، فلما رأى دهليز الملك الناصر توهم، وعرج عن الطريق على العلاقمة إلى بلبيس، ظناً أن واقعة وقعت بالقاهرة. فبلغ من كان بالدهليز الخبر فهدموه في الليل، وساروا إلى الشام. فبلغ ذلك الملك المعز وهو في بلبيس، فرحل يريد القاهرة وقد اطمأن، ودخلها يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة بالأسرى بين يديه، وسناجقهم مقلبة وطبولهم مشققة، وخيولهم وأموالهم بين يديه، إلى أن وصل إلى بين القصرين، فلعبت المماليك بالرماح وتطاردوا، والملك المعز في الموكب، وإلى جانبه الأمير حسام الدين أبي علي، وقدامه الملك الصالح إسماعيل تحت الاحتياط، فعندما وصل إلى تربة الملك الصالح نجم الدين أحدق المماليك البحرية بالصالح إسماعيل، وصاحوا: يا خوند أين عينك ترى عدوك إسماعيل ثم ساروا إلى قلعة الجبل، واعتقل الصالح إسماعيل بها وبقية الملوك، وألقى الأسرى من الشاميين في الجباب. وعندما دخل الملك المعز إلى القلعة، تلقاه الملك الأشرف موسى وهنأه بالظفرة فقال الأمير فارس الدين أقطاي للأشرف: كلنا حصل بسعادتك، وما سعينا إلا في تقرير ملكك، وكان يؤثر بقاء الأشرف خوفاً من استبداد المعز أيبك وكان هذا اليوم من أعظم أيام القاهرة، واستمرت الزينة بالقاهرة ومصر وقلعة الجبل وقلعة الروضة عدة أيام.
وفي يوم الاثنين رابع عشره: شنق الأمير ناصر الدين إسماعيل بن يغمور، أستادار الصالح إسماعيل، وشنق بكجا ملك الخوارزمي وأمين الدولة أبو الحسن السامري الوزير، على باب قلعة الجبل، ومعهم المجير بن حمدان من أهل دمشق. وظهر لأمين الدولة من الأموال والتحف والجواهر ما لا يوجد مثله إلا عند الخلفاء، بلغت قيمة ما ظهر له سوى ما كان مودوعاً ثلاثة آلاف ألف دينار، ووجد له عشرة آلاف مجلدة، كلها بخطوط منسوبة، وكتب نفيسة.
وفي ليلة الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة: قتل الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بقلعة الجبل، وعمره نحو الخمسين سنة. قال ابن واصل: من أعجب ما مر بي أن الملك الجواد مودوداً، لما كان في حبس الملك الصالح إسماعيل، سير إليه الملك الصالح إسماعيل من خنقه، وفارقه ظناً أنه قد مات، فأفاق فرأته امرأة هناك، فأخبرتهم أنه قد أفاق، فعادوا إليه وخنقوه حتى مات. وفر هذه الليلة لما أخرجوا لذلك الصالح إسماعيل بأمر المعز أيبك إلى ظاهر القلعة، وكان معهم ضوء فأطفأوه، وخنقوه وفارقوه ظناً أنه قد مات، فأفاق فرأته امرأة هناك، فأخبرتهم أنه أفاق، فعاثوا إليه وخنقوه حتى مات. فانظر ما أعجب هذه الواقعة! ودفن هناك، وكانت أمه رومية، وكان رئيس النفس نبيل القدر، مطاعاً، له حرمة وافرة، وفيه شجاعة.
وفي ثامن عشريه: أخرج الملك المعز كل من دخل القاهرة من عسكر الملك الناصر، إلى دمشق على حمير، هم وأتباعهم، ولم يمكن أحداً منهم أن يركب فرساً، إلا نحو الستة أنفس فقط، وكانوا نحو الثلاثة آلاف رجل.
وفيها وصل إلى الملك الناصر من قبل القان ملك التتر طمغا صورة أمان فصار يحملها في حياصته، وسير إلى القان هدايا كثيرة، فلما خرج هولاكو واستولى على الممالك، تغافل الناصر عنه ولم يبعث إليه شيئاً، فعز ذلك عليه، وصار في كل قليل ينكر تأخر تقديمة الناصر الهدايا والتحف إليه.
وفيها كثر ضرر المماليك البحرية بمصر، ومالوا على الناس وقتلوا ونهبوا الأموال وسبوا الحريم وبالغوا في الفساد، حتى لو ملك الفرنج ما فعلوا فعلهم.
وفي سابع عشر ذي الحجة: سار الأمير فارس الدين أقطاي من القاهرة في ثلاثة آلاف إلى عزة، واستولى عليها.
وفي هذه السنة: قدم البطرك أثنامبوس بن القس أبي المكارم، في يوم الأحد رابع شهر رحب، الموافق الخامس بابه سنة سبع وستين وتسعمائة للشهداء. فأقام في البطركية إحدى عشرة سنة وخمسة وخمسين يوماً، ومات يوم الأحد أول كيهك سنة ثمان وسبعين وتسعمائة للشهداء، الموافق لثالث المحرم سنه ستين وستمائة هجرية، وخلا الكرسي بعده خمسة وثلاثين يوماً. وفيها مات الإمبراطور ملك الفرنج الألمانية بصقلية، وقام من بعده ابنه.
وخرجت هذه السنة والناصر يوسف بدمشق، وبيده ملك الشام والشرق، ومملكة مصر بيد الملك المعز عز الدين أيبك التركماني، ويخطب معه للأشرف موسى، والمعتمد عليه في أمور الدولة من البحرية ثلاثة أمراء: وهم الأمير فارس الدين أقطاي، وركن الدين بيبرس البندقداري، وسيف الدين بلبان الرشيدي.
ومات في هذه السنة من الأعيانالملك المعظم غياث الدين تورانشاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، قتيلاً في يوم الاثنين تاسع عشري المحرم. ومات الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، قتيلاً في ليلة الأحد سابع عشري ذي القعدة، عن نحو خمسين سنة، ومات الأمير شمس لؤلؤ الأميني، مقدم عسكر حلب، قتيلاً في يوم الخميس عاشر ذي القعدة وتوفي رشيد الدين أبو محمد عبد الوهاب بن طاهر بن علي بن فتوح بن رواج الإسكندري المالكي، عن أربع وتسعين سنة، في وتوفي الحافظ شمس الدين أبو الحجاج يوسف بن خليل بن قراجا بن عبد الله الدمشقي بحلب، عن ثلاث وتسعين سنة.
سنة تسع وأربعين وستمائةفيها استولى الأمير فارس الدين أقطاي على الساحل ونابلس إلى نهر الشريعة، وعاد إلى القاهرة. فسير الملك الناصر عسكراً من دمشق إلى غزة ليكون بها، فأقاموا على تل العجول. فخرج المعز أيبك، ومعه الأشرف موسى والفارس أقطاي وسائر البحرية، ونزل بالصالحية. فأقام العسكر المصري بأرض السانح قريباً من العباسة، والعسكر الشامي قريباً من سنتين، وترددت بينهما الرسل. وأحدث الوزير الأسعد الفائزي ظلامات عديدة على الرعية.
وفيها أمر الملك المعز أيبك بإخلاء قلعة الروضة، فتحول من كان فيها من المماليك والحرسيه وغيرهم. وفيها عزل قاضي القضاة عماد الدين أبو القاسم بن أبي إسحاق ابن المقنشع - المعروف بابن القطب الحموي، عن قضاء مصر، وأضيف ذلك إلى قاضي القضاة بدر الدين السنجاري. وسافر الأمير حسام الدين أبو على إلى الحجاز - وترك طلبه بالسانح وفيه من ينوب عنه من البحر إلى قوص، ثم ركب البحر الملح إلى مكة. وفيها أشيع وصول البادرائي رسول الخليفة، ليصلح بين الناصر والمعز. فلما أبطأ قدومه، وكثرت الأقاويل، قال الأمير شهاب الدين غازي ابن أيار المعروف بابن المعمار - أحد المجودين صحبة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور:
يذكرنا زمان الزهد ذكرى ... زمان اللهو في تل العجول
ونطلب مسلماً يروي حديثاً ... صحيحاً من أحاديث الرسول
وفيها وقع بمكة غلاء عظيم.
ومات في هذه السنة من الأعيان
قاضي القضاة ببغداد، واسمه كمال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إبراهيم اللمفاني الحنفي.وفيها توفي بهاء الدين أبو الحسن علي بن هبة الله بن سلامة الجميزي الشافعي، خطيب القاهرة وقد انتهت إليه مشيخة العلم عن تسعين سنة، في يوم. وفيها توفي الصاحب جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن مطروح - الوزير بالشام، والشاعر أيضاً - عن سبع وخمسين سنة، في ..
وفيها توفي رشيد الدين أبو محمد عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر السعدي شيخ القراءات 000 وفيها توفي علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر - المعروف بتعاسيف، الفقيه الحنفي، بدمشق في 0000 رجب، ومولده بأصفون من صعيد مصر سنة أربع وسبعين وخمسمائة، وهو أحد الأئمة في العلوم الرياضية.
سنة خمسين وستمائةفيها قدم الأمير حسام الدين أبو علي من الحجاز، فنزل في المعسكر من أرض السانح بالصالحية، وقدم من بغداد الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد بن الحسن أبي سعد البادرائي، رسولاً من الخليفة للإصلاح بين الملك المعز أيبك والملك الناصر. فتلقاه القاضي بدر الدين الخضر بن الحسن السنجاري من قطا، ومعه جماعة، وتحدث معه في ذلك. فأراد الناصر أن تقام له الخطة بديار مصر، فلم يرض الملك المعز، وزاد بأن طلب أن يكون بيده - مع مصر - من غزه إلى عقبة فيق.
وفيها وردت الأخبار بأن منكوخان ملك التتر سير أخاه هولاكو لأخذ العراق فسار وأباد أهل بلاد الإسماعيلية قتلاً ونهباً، وأسراً وسبياً، ووصلت غاراته إلى ديار بكر وميافارقين، وجاءوا إلى رأس عين وسروج، وقتلوا ما ينيف على آلاف، وأسروا مثل ذلك، وصادفوا قافلة سارت من حران تريد بغداد، فأخذوا منها أموالاً عظيمة، من جملتها ستمائة حمل سكر من عمل مصر، وستمائة ألف دينار. وقتلوا الشيوخ والعجائز، وساقوا النساء والصبيان معهم فقطع أهل الشرق الفرات، وفروا خائفين.
فعند ذلك أزال الملك المعز اسم الملك الأشرف موسى من الخطة، وانفرد باسم السلطة، وسجن الأشرف، واستولى على الخزائن، وشرع في تحصيل الأموال فأحدث الوزير الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد بن وهيب الفائزي حوادث، وقرر على التجار وعلى أصحاب العقار أموالاً، ورتب مكوساً وضمانات سماها الحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية، وأخذ الجوالي من الذمة مضاعفة، وأحدث التصقيع والتقويم وعدة أنواع من المظالم، ورتب الملك المعز مملوكه الأمير سيف الدين قطز نائب السلطة بديار مصر، وأمر عدة من مماليكه فقويت شوكة البحرية وزاد شرهم، وصار كبيرهم، الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار الصالحي ملجأ لهم، يسألونه في حوائجهم، ويكون هو المتحدث مع الملك المعز.
وفيها أقطع الفارس أقطاي ثغر الإسكندرية، وكتب له به منشور. وتعدى شر البحرية، وكثر تمردهم وطغيانهم.
وخرجت السنة والملك المعز والعساكر بالسانح، وعساكر الشام بغزة، والملك الناصر مقيم بدمشق، والملك المغيث عمر بالكرك. وكان النيل عالياً: بلغ ثمانية عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً، وسد باب البحر عند المقس.
وفيها وقع بمدينة حلب حريق عظيم ظهر أنه من الفرنج، وتلف فيه أموال لا تحصى، واحترقت ستمائة دار. وحج في هذه السنة ركب العراق.
؟ومات في هذه السنة من الأعيان
العلامة رضي الدين أبو الفضائل الحسن بن محمد الحسن بن حيدر العمري الهندي الصنعاني الحنفي اللغوي، مات ببغداد، ودفن بمكة عن ثلاث وسبعين سنة.
وتوفي فخر القضاة أبو الفتح نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن هبة الله بن الحسيني بن يحيى بن بصاقة الكناني، الكاتب الوزير للناصر داود، والأديب المنشئ، في 00000 وتوفي شمس الدين أبو عبد الله بن سعد الله بن عبد الله بن سعد الأنصاري القدسي، الفقيه الشافعي المحدث المقرئ، النحوي الأديب الكاتب المجودة مات بدمشق عن تسع وسبعين سنة.
وتوفي مسند العراق المؤتمن أبو القاسم يحيى بن نصر بن أبي القاسم بن الحسن بن قميرة التميمي، التاجر السفار، عن خمس وثمانين سنة، حدث بمصر وغيرها.
وتوفي نقيب الأشراف - وقاضي العسكر، ومدرس المدرسة الشريفية بمصر - الشريف شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد العلوي الحسيني الأرموي، على ما حدثنا الأشراف، في ثالث عشر شوال خمسين وستمائة. وكان إماماً في الفقه والأصول مناظراً، تفقه على الصدر بن حمويه، وشرح المحصول، ومات عن نيف وسبعين سنة.
سنة إحدى وخمسين وستمائةفيها تقرر الصلح بين الملك المعز أيبك وبين الملك الناصر صاحب دمشق، بسفارة نجم الدين البادرائي. وقد قدم نجم الدين إلى القاهرة، وصحبته عز الدين أزدمر، وكاتب الإنشاء بحلب نظام الدين أبو عبد الله محمد بن المولى الحلبي، لتمهيد القواعد، فلي يبرحا إلى أن انفصلت القضية: على أن يكون للمصريين إلى الأردن، وللناصر ما وراء ذلك، وأن يدخل فيها للمصريين غزة والقدس ونابلس والساحل كله، وأن المعز يطلق جميع من أسره من أصحاب الملك الناصر. وحلف كل منهما على ذلك، وكتبت به العهود، وعاد الملك المعز وعسكره إلى قلعة الجبل في يوم الثلاثاء سابع صفر، ونزل البادرائي بالقاهرة، وأطلق الملك المعز الملك المعظم تورانشاه بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأخاه نصرة الدين، وسائر أولاد الملوك والأمراء، وأحضرهم دار الوزارة ليشهدوا حلفه للملك الناصر. ثم قدم الملك المعز أيبك للملك المعظم تقدمة سنية، وأعطى نظام الدين بن المولى، ورفيقه عز الدين أزدمر، عشره آلاف دينار.
وفيها قويت البحرية - وكبيرهم فارس الدين أقطاي - على المعز، وكثر قبضتهم واستطالتهم وتوثبهم على الملك المعز، وهموا بقتله.
وفيها تسلم المصريون قلعة الشوبك، فلم يبق مع الملك المغيث سوى الكرك والبلقاء وبعض الغور. وفيها قطع المعز خبز الأمير حسام الدين بن أبي علي، فلزم داره، ثم خرج إلى بلاد الشام بإذن الملك المعز له، فأكرمه الملك الناصر وأقامه في خدمته بمائة فارس.
وفيها ثارت العربان ببلاد الصعيد وأرض بحري، وقطعوا الطريق براً وبحراً، فامتنع التجار وغيرهم من السفر. وقام الشريف حصن الدين ثعلب بن الأمير الكبير نجم الدين علي بن الأمير الشريف فخر الدين إسماعيل بن حصن الدولة مجد العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن أبي جميل الجمدي، وقال: نحن أصحاب البلاد، ومنع الأجناد من ناول الخراج، وصرح هم وأصحابه: بأنا أحق بالملك من المماليك وقد كفى أنا خدمنا بني أيوب، وهم خوارج خرجوا على البلاد. وأنفوا من خدمة الترك، وقالوا إنما هم عبيد للخوارج، وكتبوا إلى الملك الناصر صاحب دمشق يستحثونه على القدوم إلى مصر.
واجتمع العرب - وهم يومئذ في كثرة من المال والخيل والرجال، إلى الأمير حصن الدين ثعلب، وهو بناحية دهروط صربان، وأتوه من أقصى الصعيد، وأطراف بلاد البحيرة والجيزة والفيوم، وحلفوا له كلهم. فبلغ عدة الفرسان اثني عشر ألف فارس، وتجاوزت عدة الرجالة الإحصاء لكثرتهم. فجهز إليهم الملك المعز أيبك الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار، والأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، في خمسة آلاف فارس. فساروا إلى ناحية ذروة، وبرز إليهم الأمير حصن الدين ثعلب، فاقتتل الفريقان من بكرة النهار إلى الظهر. فقدر الله أن الأمير حصن الدين تقنطر عن فرسه، فأحاط به أصحابه وأتت الأتراك إليه، فقتل حوله من العرب والعبيد أربعمائة رجل، حتى أركبوه. فوجد العرب قد تفرقوا عنه، فولى منهزماً. وركب الترك أدبارهم، يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل، فحووا من الأسلاب والنسوان والأولاد والخيول والجمال والمواشي، ما عجزوا عن ضبطه، وعادوا إلى المخيم ببلبيس. ثم عدوا إلى عرب الغربية والمنوفية من قبيلتي سنبس ولواتة، وقد تجمعوا بناحية سخا وسنهور، فأوقعوا بهم وسبوا حريمهم وقتلوا الرجال، وتبدد كل عرب مصر وحمدت جمرتهم من حينئذ.
ولحق الشريف حصن الدين من بقي من أصحابه، وبعث يطلب من الملك المعز الأمان، فأمنه ووعده بإقطاعات له ولأصحابه، ليصيروا من حملة العسكر وعوناً له على أعدائه. فانخدع الشريف حصن الدين، وظن أن الترك لا تستغني عنه في محاربة الملك الناصر، وقدم في أصحابه وهو مطمئن إلى بلبيس. فلما قرب من الدهليز نزل عن فرسه ليحضر مجلس السلطان، فقبض عليه وعلي سائر من حضر معه، وكانت عدتهم نحو ألفي فارس وستمائة راجل. وأمر الملك المعز فنصبت الأخشاب من بلبيس إلى القاهرة وشنق الجميع، وبعث بالشريف حصن إلى ثغر الإسكندرية، فحبس بها وسلم لواليها الأمير شمس الدين محمد بن باخل. وأمر المعز بزيادة القطعية على العرب، وبزيادة القود المأخوذ منهم، ومعاملتهم بالعنف والقهر. فذلوا وقلوا، حتى صار أمرهم على ما هو عليه الحال في وقتنا.
وفيه صاهر الأمير فارس الدين أقطاي الملك المظفر صاحب حماة، وشر إليه فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن حنا - قبل أن يتقلد أبوه الوزارة، وإنما كان قد ترشح لها - لإحضار ابنة المظفر من حماة، فحملها إلى دمشق في تجمل عظيم. فطلب أقطاي من الملك المعز أن يسكن قلعة الجبل بالعروس، فشق ذلك عليه وأخذ يتحيل في قتله، وكان قد ثقل عليه، وصار ليس له مع البحرية أمر ولا نهي ولا حل ولا عقد، ولا يسمع أحد منهم له قولاً فإن رسم لأحد بشيء لا يمكن من إعداده وإن أمر لأحد منهم بشيء أخذ أضعاف ما رسم له به. واجتمع الكل على باب الأمير فارس الدين أقطاي، وقد استولى على الأمور كلها. وبقيت الكتب إنما ترد من الملك الناصر وغيره إليه، ولا يقدر أحد يفتح كتاباً، ولا يتكلم بشيء ولا يبرم أمراً، إلا بحضور أقطاي لكثرة خشداشيته.
وفي هذه السنة: حج من البر والبحر عالم كبير، فإنها كانت وقفة الجمعة، وفيها أخذ الشريف جماز بن حسن مكة، وأقام بها إلى آخر ذي الحجة.
ومات في هذه السنة من الأعيانالشريف أبو سعد الحسن بن علي بن قتادة بن إدريس الحسني أمير مكة، واستقر بعده في الإمارة ابنه أبو نمى، وأخوه إدريس بن علي.
ومات الصالح أحمد بن الظاهر غازي بن الناصر يوسف بن أيوب بن شادي بن مروان، صاحب عينتاب، عن إحدى وخمسين سنة.
وتوفي كمال الدين أبو محمد عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الأنصاري الزملكاني الدمشقي الشافعي، بدمشق.
وتوفي جمال الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي بن عبد الرحمن الإسكندري، سبط الحافظ أبي الطاهر السلفي، وقد انتهى إليه علو الإسناد.
سنة اثنتين وخمسين وستمائةفيها استفحل أمر الفارس أقطاي الجمدار وانحازت إليه البحرية، بحيث كان أقطاي إذا ركب من داره إلى القلعة شعل بين يديه جماعة بأمره، ولا ينكر هو ذلك منهم وكانت أصحابه تأخذ أموال الناس ونساءهم وأولادهم بأيديهم، فلا يقدر أحد على منعهم، وكانوا يدخلون الحمامات ويأخذون النساء منها غصباً، وكثر ضررهم.
هذا والمعز يحصل الأموال، وقد ثقل عليه أقطاي، فواعد طائفة من مماليكه على قتله: وبعث المعز إليه وقت القائلة من يوم الأربعاء ثالث شعبان، ليحضر إليه بقلعة الجبل في مشور يأخذ رأيه فيه. فركب أقطاي على غير أهبة ولا اكتراث فعندما دخل من باب القلعة، وصار في قاعة العواميد، أغلق باب القلعة، ومنع مماليكه من العبور معه. فخرج عليه جماعة بالدهليز قد أعدوا لقتله: وهم قطز وبهادر وسنجر الغنمي، فهبروه بالسيوف حتى مات. فوقع الصريخ في القلعة والقاهرة بقتله، فركب في الحال من أصحابه نحو السبعمائة فارس ووقفوا تحت القلعة، وفي ظنهم أنه لم يقتل وإنما قبض عليه، وأنهم يأخذونه من المعز، وكان أعيانهم بيبرس البندقداري، وقلاوون والألفي، وسنقر الأشقر، وبيسرى، وسكز، وبرامق. فلم يشعروا إلا ورأس أقطاي قد رمي بها المعز إليهم، فسقط في أيديهم وتفرقوا بأجمعهم. وخرجوا في الليل من القاهرة وحرقوا باب القراطين فعرف بعد ذلك بالباب المحروق إلى اليوم فمنهم من قصد الملك المغيث بالكرك، ومنهم من سار إلى الملك الناصر بدمشق، ومنهم من أقام ببلاد الغور والبلقاء والكرك والشوبك والقدس، يقطع الطريق ويأكل بقائم سيفه.
واتفق أن اثني عشر من البحرية مروا في تيه بني إسرائيل، فأقام به خمسة أيام حائرين، فلاح لهم في اليوم السادس سواد على بعد فقصدوه، فإذا مدينة عظيمة، ذات أسور وأبواب حصينة، كلها من رخام أخضر. فطافوا بداخل المدينة، وقد غلب عليها الرمل في أسواقها ودورها، وصارت أوانيهم وملابسهم إذا أخذت تتفتت وتبقى هباء. فوجدوا في صواني بعض البزارين تسعة دنانير، قد نقش عليها صورة غزال حوله كتابة عبرانية. وحفروا مكاناً، فإذا بلاطة، فلما رفعوها وجدوا صهريجاً فيه ماء أبرد من الثلج، فضربوا وساروا ليلتهم. فإذا بفريق عرب فحملوهم إلى الكرج، فعرضوا تلك الدنانير على الصيارف، فقال بعضهم هذه ضربت في أيام موسى عليه السلام. وسألوا عن المدينة، فقيل هذه المدينة الخضراء، بنيت لما كان بنو إسرائيل في التيه، ولها طوفان من رمل يزيد تارة وينقص أخرى، ولا يقع عليها إلا تائه. وصرفوا كل دينار بمائة درهم.
وسار منهم قشتمر العجمي، وشارباش العجمي، وسنجر الحاووك والركن الفارقاني وسنقر الجبيلي، وسنقر المجيشي الكبير، والحبيشي الصغير الحاجب، والصقلي، والغتمي وبلبان النجمي، وبكمش المسعودي، وأبو عبية، والنميسي، وفخر الدين ماما، وأيدمر، الجمدار الرومي، وسنقر الركني، والحسام قريب سكز، وإيدغدي الفارسي، وبلبان الزهيري، وسنجر البحري، وإزدمر السيفي وإزدمر البواشقي مملوك الرشيدي الكبير، والعنتابي، والمستعربي وسنقر البديوي، وأيبك الشقاري، وإيدغدي فتنة، وسيف الدين الأشل، والخولاني، وسنجر الشكاري، والمطروحي، وأيبك الفارسي، وأياس المقري، في جماعة كبيرة من المماليك الصغار الجمدارية الصالحية. وكان الحاكم المقدم على هؤلاء الأمير علم الدين سنجر الباشقردي - وهو أعقلهم وأعرفهم - ، والأمير شمس الدين سنقر الجبلي - وهو أفرسهم وأشهرهم بالشطارة. فمضي هؤلاء إلى السلطان علاء الدين ملك السلاجقة الروم. فلما أصبح الملك المعز أيبك، وعلم بخروج الجماعة من القاهرة، قبض على من بقي منهم، وقتل بعضهم وحبس باقيهم، وأوقع الحوطة على أملاكهم وأموالهم ونسائهم وأتباعهم، واستصفى أموالهم وذخائرهم وشونهم. وظفر للفارس أقطاي بأموال عظيمة. ونودي في القاهرة ومصر بتهديد من أخفى أحد من البحرية، وتمكن عند ذلك الملك المعز، وارتجع الإسكندرية إلى الخاص السلطاني، وخفف بعض ما أحدث من المصادرات والجبايات.
فلما وصل البحرية إلى غزة، وفيهم ركن الدين بيبرس البندقداري، وسيف الدين بلبان الرشيدي وعز الدين إزدمر السيفي، وشمس الدين سنقر الأشقر، وسيف الدين سكز، وسيف الدين قلاوون، وبدر الدين بيبرس - كتبوا إلى الملك الناصر بأنهم قد وصلوا إلى خدمته، فأذن لهم وعروا على بلاد الفرنج بالساحل، فقتلوا ونهبوا حتى قاربوا دمشق. فخرج إلى لقائهم الملك الناصر، وخلع عليهم وأعطاهم. هذا وهم يحثونه على قصد مصر وهو يدافعهم.
فخاف المعز غائلتهم، وكتب إلى الناصر يوهمه منهم، ويخوفه عاقبة شرهم وطلب منه الناصر البلاد التي كان قد أخذها بالساحل لأجل البحرية، وأنها في إقطاعتهم. فأعادها المعز إلى الملك الناصر، فأقر كل إقطاع منها بيد من كان له، وكتب مناشرها عنه للبحرية.
وكتب الملك المعز إلى سلطان الروم بأن البحرية قوم مناحيس أطراف، لا يقفون عند الأيمان، ولا يرجعون إلى كلام من هو أكبر منهم، وإن استأمنتهم خانوا، وإن استحلفتهم كذبوا، وإن وثقت بهم غدروا. فتحرر منهم على نفسك، فإنهم غدارون مكارون خوانون، ولا أمن أن يمكروا عليك،. فخاف سلطان الروم منهم، وكانوا مائة وثلاثين فارساً، فاستدعاهم وقال: يا أمراء ما لكم ولأستاذكم، فتقدم الأمير علم الدين سنجر الباشقردي، وقال: يا مولانا من هو أستاذنا، قال: الملك المعز صاحب مصر، فقال الباشقردي: يحفظ الله مولانا السلطان إن كان الملك المعز قال في كتابه أنه أستاذنا فقد أخطأ، إنما هو خوشداشنا ونحن وليناه علينا، وكان فينا من هو أكبر منه سناً وقدراً وأفرس وأحق بالمملكة، فقتل بعضنا وحبس بعضنا وغرق بعضنا، فمر بنا منه وتشتتنا في البلاد، ونحن التجأنا إليك فأعجب سلطان الروم بهم، واستخدمهم عنده.
وفيها وقع الصلح بين الملك الناصر وبين الفرنج أصحاب عكا، لمدة عشر سنين وستة أشهر وأربعين يوماً أولها مستهل الحرم، على أن يكون للفرنج من نهر الشريعة مغرباً، وحلف الفريقان على ذلك.
وفيها أقطع الملك المعز أيبك الأمير علاء الدين أيدغدي العزيزي دمياط زيادة على إقطاعه، وارتفاعها يومئذ ثلاثون ألف دينار، وفيها خرج الملك المعز من قلعة الجبل بالعساكر وخيم بالباردة قرب العباسية خوفاً من البحرية لنزولهم بالموجاء.
وفيها سفر الملك المعز أيبك الأشرف موسى بن الناصر يوسف بن الملك المسعود إلى بلاد الأشكري منفياً، وفيها درس الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بالمدرسة الصالحية بين القصرين. وفيها وصل الشريف عز الدين أبو الفتوح مرتضى ابن أبي طالب أحمد بن محمد بن جعفر الحسيني إلى دمشق، ومعه الخونده ملكة خاتون بنت السلطان علاء الدين كيقباد ملك السلاجقة الروم، وزوجة الملك الناصر يوسف. فزفت إليه، وقد احتفل بقدومها، وبالغ في عمل الوليمة لها.
وفيها ظهرت نار بعدن روعت القلوب. وفيها ولى المنصور قضاء حماه شمس الدين إبراهيم بن هبة الله البارزي، بعد المحبي حمزة بن محمد.
وفيها مات ملك التتر طرطق خان بن دوشي خان بن جنكز خان، فكانت مدته سنة وشهوراً. فقام بعده بركة خان بن جوشي خان بن جنكز خان، وأسلم وأظهر شعائر الإسلام في مملكته واتخذ المحارس وأكرم الفقهاء. وأسلمت زوجته ججك واتخذت لها مسجداً من الخيم، وذلك على يد الشيخ نجم الدين كبرا.
وفيها توفي مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي عن اثنتين وستين سنة.
وتوفي كمال الدين أبو سالم محمد بن أحمد بن هبة الله بن طلحة النصيبيني الشافعي خطب دمشق بحلب، وقد قدم القاهرة.
وفيها أخذ مكة الشريف راجح بن قتادة من الشريف جماز بن حسن، بغير قتال، ثم أخذها ابنه غانم بن راجح في ربيع الأول بغير قتال، فقام عليه الشريف أبو نمى بن أبي سعيد بن علي بن قتادة في شوال ومعه الشريف إدريس، وحارباه وملكا مكة. فقدم في خامس عشري ذي القعدة مبارز الدين الحسين بن علي بن برطاس من اليمن، وقاتلهما وغلبهما، وحج بالناس.
سنة ثالث وخمسين وستمائةفيها سار الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحي إلى بلاد الصعيد، وأظهر الخروج عن طاعة الملك المعز، وجمع العربان. فسير إليه الملك المعز الوزير الصاحب الأسعد شرف الدين الفائزي، ومعه طائفة من العسكر، حتى سكن الأمور. وأخرج الملك الناصر عسكراً إلى جهة ديار مصر، ومعهم البحرية: وهم الأمير سيف الدين بلبان الرشيد، وعز الدين أزدمر، وشمس الدين سنقر الرومي، وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسري، وسيف الدين قلاوون، وسيف الدين بلبان المسعودي، وركن الدين بيبرس البندقداري، وعدة من مماليك الفارس أقطاي.
وفيها قتل الملك المعز الأمير علاء الدين أيدغدي العزيزي، بعدما قبض عليه، وكان قد قبض أيضاً على الفارس أقطاي العزيزي، والفارسي أقطاي الأتابك، وهرب منه أقش الركني، وأمر الملك المعز ألا تخرج امرأة من بيتها، ولا يمشي رجل بلا سراويل. فقال أبو الحسين الجزار في ذلك:
حنا الملك المعز على الرعايا ... وألزمهم قوانين المروة
وصان حريمهم من كل عار ... وألبسهم سروايل الفتوة
وفيها توجه الناصر داود بن المعظم عيسى إلى بغداد، يطلب ما أودعه عند الخليفة من الجوهر، وقيمته مائة ألف دينار. فمطل مدة، فتوجه إلى الحجاز، واستشفع إلى الخليفة في رد وداعته، وعاد إلى العراق. فعوض عن جوهره بما لا يذكر، ورد إلى الشام، وفيها قدم مكة أبو نمى وإدريس، ومعهما جماز بن شيحة أمير المدينة، فقاتلوا المبارز بن برطاس، وأخذوا مكة.
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير شرف الدين يوسف بن أبي الفوارس بن موسك القيمري بنابلس، ودفن بدمشق. وتوفي نقيب الأشراف بحلب، وهو الشريف عز الدين أبو الفتوح مرتضى بن أبي طالب أحمد بن أحمد بن أبي الحسن محمد بن جعفر بن زيد بن جعفر بن إبراهيم محمد بن ممدوح أبي العلاء، عن أربع وسبعين سنة بحلب.
وتوفي نظام الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عثمان البلخي الحنفي البغدادي، بحلب عن تسع وسبعين سنة.
وتوفي ضياء الدين أبو محمد جعفر بن يحيى بن سالم بن يحيى بن عيسى بن صقر المحلي الشافعي، عن نيف وتسعين سنة بحلب، قدم مصر وحدث بها.
سنة أربع وخمسين وستمائةفيها ورد الشيخ نجم الدين علم عبد الله بن محمد بن الحسن البادرائي، من قبل الخليفة المستعصم بالله، ليجدد الصلح بين الأول وبين الملك الناصر والملك المعز، فبعث السلطان إلى القائد برهان الدين خضر السنجاري، فسار إلى قطبا، ومعه جماعة من أعيان الفقهاء، حتى قدم به. فقرر الصلح على أن يكون للملك المعز ما كان للملك الصالح نجم الدين أيوب من الساحل ببلاد الشام، مع ملك مصر، وأن الملك الناصر لا يأوي عنده أحداً من البحرية، فمضوا إلى المغيث بالكرك. وتولى الصلح قاضي القضاة بدر الدين السنجاري، فلما تم الصلح عاد البادرائي، ورحل الملك الناصر عن تل العجول إلى دمشق، وعاد المعز من العباسية - بعد إقامته عليها ثلاث سنين - إلى قلعة الجبل.
وسار الأمير شمس الدين سنقر الأقرع رسولاً إلى الخليفة ببغداد، وصحبه الشيخ نجم الدين البادرائي، يلتمس تشرفه بالتقلد والخلع والأولوية للملك المعز، أسوة من تقدمه من ملوك مصرة فسار إلى بغداد. وبعث الملك المعز إلى الملك المنصور بن المظفر صاحب حماة وإلى الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، يخطب ابنتيهما لنفسه. فشق ذلك على زوجته شجر الدر وتغيرت عليه، فتنكر لها وفسد ما بينهما، فأخذت تدبر في قتله.
وفي خامس جمادى الآخرة: ظهرت نار بأرض الحجاز، واستمرت شهراً في شرقي المدينة النبوية، بناحية وادي شظا تلقاء جبل أحد، حتى امتلأت تلك الأودية منها وصار يخرج منها شرر يأكل الحجارة، وزلزلت المدينة بسببها. وسمع الناس أصواتاً مزعجة قبل ظهورها بخمسة أيام، أولها يوم الاثنين أول الشهر، فلم تزل الأصوات ليلاً ونهاراً، حتى ظهرت النار يوم الجمعة. وقد انبجست الأرض عن نار عظيمة عند وادي شظا، وامتدت أربعة فراسخ في عرض أربعة أميال وعمق قامة ونصف، وسال الصخر منها، ثم صار فحماً أسود. وأضاءت بيوت المدينة منها في الليل، حتى كان في كل بيت مصباحاً، ورأى الناس سناها بمكة، فالتجأ أهل المدينة إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا واستغفروا الله تعالى، وأعتقوا عبيدهم وتصدقوا، وقال بعضهم:
يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا رب بأساء
نشكو إليك خطوباً لا نطق لها ... حملاً ونحن لها حقاً أحقاء
زلازلاً تخشع الصم الصلاب لها ... وكيف لقوي على الزلزال شماء
بحراً من النار تجري فوقه سفن ... من الهضاب لها في الأرض إرساء
ترى لها شرراً كالقصر طائشة ... كأنهما ديمة تنصب هطلاء
تحدث النيرات السبع ألسنها ... بما تلاقي به تحت الثرى الماء
منها تكاثف في الجو الدخان إلى ... أن عادت الشمس منها وهي دهماء
فيالها أية من معجزات رسول ... الله يعقلها القوم الألباء
فاسمح وهب ولفضل وامح واعف وجد ... واصفح فكل لفرط الحلم خطاء
وذكر غير واحد من الأعراب الذين كانوا بحاضرة بلدة بصرى من أرض الشام، أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء هذه النار. وفي ليلة الجمعة مستهل شهر رمضان، احترق مسجد محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسرجه القيم، وذهبت سائر صفوفه، وبعض عمده، واحترق سقف الحجرة الشريفة.
وفيها غرقت بغداد وهلك بها عالم عظيم، وسارت السفن في أزقتها. وفيها قوي أمر هولاكو بن طولو خان بن جنكز خان، وظهر اسمه، وفتح عمق قلاع بالشرق وفيها دخل مقدم من التتار إلى أرض الروم السلاجقة، ففر منه السلطان غياث الدين كيخسرو ومات في فراره، فقام من بعده أولاده الثلاثة، وأخذ التتار قيسارية وما حولها، فصار لهم من بلاد الروم مسافة شهر.
وفيها وصلت جواسيس هولاكو إلى الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي ببغداد، وتحدثوا معه ووعدوا جماعة من أمراء بغداد مواعيد، والخليفة في لهوه لا يعبأ بشيء من ذلك.
وفيها ولي تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم ابن بنت الأعز قضاء القضاة، عوضاً عن بدر الدين يوسف السنجاري. وفيها سار إدريس إلى راجح، وأخذ مكة أبو نمى، فجاء راجح مع إدريس وأصلح بينه وبين أبي نمى. وفيها قدم مكة ركب الحاج من العراق، ولم يحج بعدها ركب من العراق.
ومات في هذه السنة من الأعيانشمس الدين يوسف بن قزغلي بن عبد الله أبو المظفر - هو سبط الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي - الفقيه الحنفي الواعظ.
وتوفي شرف الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن هبة الله بن قرناص الخزاعي الحموي الفقيه الشافعي الأديب.
وتوفي زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد الوحد بن ظافر بن أبي الإصبع الفقيه الشافعي النحوي الأديب، عن خمس وستين سنة.
وتوفي الشيخ أبو الروح عيسى بن أحمد بن الياس البونيني ببعلبك.
ومات ملك الروم غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، وقد ملك التتر قيصرية وميسرة معها، فقام بعده ابنه عز الدين كيقباد بن كيخسرو.
سنة خمس وخمسين وستمائةفيها تزايدت الوحشة بين الملك المعز أيبك وبين شجر الدر، فعزم على قتلها. وكان له منجم قد أخبره أن سبب قتلته امرأة، فكانت هي شجر الدر. وذلك أنه كان قد غير عليها، وبعث يخطب ابنة صاحب الموصل.
وأتفق أن المعز قبض على عدة من البحرية، وهو على أم البادر، وسيرهم ليعتقلوا بقلعة الجبل، وفيهم أيدكين الصالحي. فلما وصلوا تحت الشباك الذي تجلس فيه شجر الدر علم أيدكين أنها هناك، فخدم برأسه وقال التركي: المملوك أيدكين بشمقدار والله يا خوند ما علمنا ذنباً يوجب مسكنا إلا أنه لما سير يخطب بنت صاحب الموصل، ما هان علينا لأجلك، فإنا تربية نعمتك ونعمة الشهيد المرحوم، فلما عتبناه تغير علينا وفعل بنا ما ترين فأومأت شجر الدر إليه بمنديل، يعني: لقد سمعت كلامك، فلما نزلوا بهم إلى الجب قال أيدكين: إن كان حبسنا فقد قتلناه.
وكانت شجر الدر قد بعثت نصراً العزيزي بهدية إلى الملك الناصر يوسف، وأعلمته أنها قد عزمت على قتل المعز، والتزوج به وممليكه مصر. فخشي الملك الناصر يوسف أن يكون هذا خديعة، فلم يجبها بشيء.
وبعث بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يحذر الملك المعز من شجر الدر وأنها باطنت الملك الناصر يوسف، فتباعد ما بينهما، وعزم على إنزالها من القلعة إلى دار الوزارة. وكانت شجر الدر قد استبدت بأمور المملكة ولا تطلعه عليها، وتمنعه من الاجتماع بأم ابنه وألزمته بطلاقها، ولم تطلعه على ذخائر الملك الصالح.
فأقام الملك المعز بمناظر اللوق أياماً، حتى بعثت شجر الدر من حلف عليه. فطلع القلعة وقد أعدت له شجر الدر خمسة ليقتلوه: منهم محسن الجوجري، وخادم يعرف بنصر العزيزي، ومملوك يسمى سنجر. فلما كان يوم الثلاثاء رابع عشري شهر ربيع الأول، ركب الملك المعز من الميدان بأرض اللوق، وصعد إلى قلعة الجبل آخر النهار. ودخل إلى الحمام ليلاً، فأغلق عليه الباب محسن الجوجري، وغلام كان عنده شديد القوة ومعهما جماعة. وقتلوه بأن أخذه بعضهم بأنثييه وبخناقه، فاستغاث المعز بشجرة الدر فقالت اتركوه، فأغلظ لها محسن الجوجري في القول، وقال لها: متى تركناه لا يبقي علينا ولا عليك، ثم قتلوه.
وبعثت شجر الدر في تلك الليلة إصبع المعز وخادمة إلى الأمير عز الدين أيبك الحلبي الكبير، وقالت له: قم بالأمر، فلم يجسر وأشيع أن المعز مات فجأة في الليل، وأقاموا الصائح في القلعة، فلم تصدق مماليكه بذلك: وقام الأمير لهم الدين سنجر الغتمي - وهو يومئذ شوكة البحرية وشديدهم - ، وبادر هو والمماليك إلى الدور السلطانية، وقبضوا على الخدام والحريم وعاقبوهم، فأقروا بما جرى. وعند ذلك قبضوا على شجر الدر، ومحسن الجوجري، ناصر الدين حلاوة، وصدر الباز، وفر العزيزي إلى الشام.
فأراد مماليك المعز قتل شجر الدر، فحماها الصالحية، ونقلت إلى البرج الأحمر بالقلعة ثم لما أقيم ابن المعز في السلطنة، حملت شجر الدر إلى أمه في يوم الجمعة سابع عشريه فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت في يوم السبت. وألقوها من سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سراويل وقميص، فبيت في الخندق أياماً، وأخذ بعض أراذل العامة تكتة سراويلها. ثم دفنت بعد أيام - وقد نتنت، وحملت في قفة - بتربتها قريب الشهد النفيسي. وكانت من قوة نفسها، لما علمت أنها قد أحيط بها، أتلفت شيئاً كثيراً من الجواهر واللآلئ، كسرته في الهاون. وصلب محسن الجوجري على باب القلعة، ووسط تحت القلعة أربعون طواشياً وصلبوا من القلعة إلى باب زويلة. وقبض على الصاحب بهاء الدين بن حنا، لكونه وزير شجر الدر، وأخذ خطة بستين ألف دينار.
فكانت مدة سلطنة الملك المعز سبع سنين تنقص ثلاثة وثلاثين يوماً، وعمره نحو ستين سنة وكان ملكاً حازماً شجاعاً سفاكاً للدماء: قتل خلقاً كثيراً، وشنق عالماً من الناس بغير ذنب ليوقع في القلوب مهابته، وأحدث مظالم ومصادرات عمل بها من بعده ووزر له الصاحب تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، ثم صرفه، واستوزر القاضي الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، فتمكن منه ممكناً زائداً وأحدث القاضي الأسعد حوادث شنيعة من المظالم، واستناب في الوزارة القاضي زين الدين يعقوب بن الزبير - كان يعرف اللسان التركي - ، ليحفظ له مجالس أمراء الدولة، ويطالعه ما يقال عنه.
الملك المنصور نور الدين علي
بن الملك المعز أيبك
أقامه أمراء الدولة سلطاناً بقلعة الجبل، يوم الخميس سادس عشري شهر ربيع الأول، سنة خمس وخمسين وستمائة، وعمره خمس عشرة سنة تقريباً، وحلفوا له واستحلفوا العسكر، ماخلا الأمير عز الدين أيبك الحلبي المعروف بأبيك الكبير، فإنه توقف وأراد الأمر لنفسه، ثم وافق خوفاً على نفسه. فركب الأمير قطز - هو والأمراء - وقبض على الأمير سنجر الحلبي، يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر، واعتقله فركب الأمير أيبك الحلبي الكبير في الأمراء الصالحية فلم توفق، وتقنطر عن فرسه خارج باب زويلة، فأدخل إلى القاهرة ميتاً. وأقيم الأمير سيف الدين قطز نائب السلطة على عادته، وصار مدبر الدولة الملك المنصور علي.وأقيم الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب الصالحي أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الحلبي واستمر الوزرة شرف الدين الفائزي على عادته فنقل عنه الأمير سابق الدين بوزيا الصيرفي، والأمير ناصر الدين محمد بن الأطروش الكردي أمير جاندار، أنه قال: المملكة ما تمشى بالصبيان، والرأي أن يكون الملك الناصر. فتوهمت أم المنصور من أنه يرسل إلى الملك الناصر، وقبضت عليه وأدخلته إلى الدور، وأخذ خطة بمائة ألف دينار. واستقر في الوزارة بعده قاضي القضاة بدر الدين يوسف بن الحسن السنجاري، مضافاً إلى القضاء وقد أعيد إليه. وأحيط بأموال الفائزي، وقبض على جماعة بسببه. ثم إن السنجاري استعفى من الوزارة وتركها في ربيع الآخر، فتقلد الوزارة قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن خلف العلائي، المعروف بابن بنت الأعز، بعد السنجاري.
وفي ليلة الخامس عشر من جمادى الآخرة: خسف القمر بحمرة شديدة، وأصبحت الشمس حمراء، فأقامت كذلك أياماً وهي ضعيفة اللون متغيرة.
وفيها بلغ البحرية الذين كانوا ببلاد السلاجقة الروم موت الملك المعز، فساروا في البر والبحر، ووصلوا إلى القاهرة. فلم تطل مدتهم حتى كرهوا المنصور بن المعز، لكثرة لعبه بالحمام ومناقرته بالديوك ومعالجته بالحجارة وركوبه الحمير الفرء في القلعة، ومناطحته بالكباش.وفيها دخل الصارم أحمد عينه الصالحي بجماعة، فقتلوا الوزير الفائزي في جمادى الأولى. وأخرج في نخ قال ابن واصل: حكي القاضي برهان الدين أخو الصاحب بهاء الدين بن حنا قال: دخلت على شرف الدين الفائزي وهو معتقل، فسألني أن أتحدث في إطلاقه، بحكم أنه يحمل في كل يوم ألف دينار علينا. فقلت له: وكيف تقدر على ذلك. فقال: أقدر عليه إلى تمام السنة، وإلى أن تمضي سنة يفرج الله تعالى. فلم يلتفت مماليك الملك المعز إلى ذلك وعجلوا بهلاكه وخنقوه، وحمل إلى القرافة ودفن بها.
وفيها وقعت الوحشة بين الملك الناصر وبين من عنده من البحرية، ففارقوه في شوال، وقصدوا الملك المغيث صاحب الكرك. فأخرج الأمير سيف الدين قطز العسكر الصالحية، فواقعوهم في يوم السبت خامس عشر ذي القعدة، وأسروا الأمير سيف الدين قلاوون، والأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، وقتل الأمير سيف الدين بلغان الأشرفي. وانهزم عسكر الكرك وفيهم بيبرس البندقداري الذي ملك مصر. وعاد العسكر إلى القاهرة، فضمن الأمير شرف الدين قيران - المعزي وهو أستادار السلطان - الأمير قلاوون وأطلقه. فأقام قلاوون بالقاهرة قليلاً، ثم اختفى بالحسينية عند سيف الدين قطليجا الرومي، فزوده وسار إلى الكرك.
وفيها بعث الخليفة إلى الناصر يوسف بدمشق خلعة وتقليداً وطوقاً، وفيها حسن البحرية للملك المغيث أخذ ملك مصر، فكاتب عدة من الأمراء ووعدهم. وفيها قوي هولاكو بن طولو بن جنكزخان، وقصد بغداد وبعث يطلب الضيافة من الخليفة فكثر الإرتجاف ببغداد، وخرج الناس منها إلى الأقطار. ونزل هولاكو تجاه دار الخلافة وملك ظاهر بغداد، وقتل من الناس عالماً كبيراً.
وفيها قدم إلى دمشق الفقراء الحيدرية، وعلى رءوسهم طراطير، ولحاهم مقصوصة وشواربهم بغير قص. وذلك أن شيخهم حيدر، لما أسره الملاحدة قصوا لحيته وتركوا شاربه. فاقتدوا به في ذلك وبنوا لهم زاوية خارج دمشق، ومنها وصلوا إلى مصر.
ومات في هذه السنة من الأعياننجم الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن الحسن بن أبي سعد البادرائي البغدادي الشافعي، رسول الخلافة وقاضي بغداد، عن إحدى وستين سنة.
وتوفي الوزير الصاحب الأسعد شرف الدين أبو سعيد هبة الله بن صاعد الفائزي.
وتوفي عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن أبي الحديد المدائني، مؤلف كتاب الفلك الدائر على المثل السائر.
ومات متملك الروم علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيسرو بن علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان. وقام بعده أخوه عز الدين كيكاوس ابن غياث كيخسرو، فملك الططر قونية منه، قفز منها إلى العلايا.
سنة ست وخمسين وستمائةفيها وقع الغلاء بسائر البلاد، وارتفعت الأسعار بدمشق وحلب وأرض مصر، وأبيع المكوك القمح بحلب بمائة درهم، والشجر بستين درهماً، والبطيخة الخضراء بثلاثين درهماً، وبقية الأسعار من هذه النسبة.
وفي رابع شهر رمضان: سقطت إحدى مسان فرعون التي بعين شمس، فوجد فيها نحو المائتي قنطار نحاس، وأخذ من رأسها عشرة آلاف دينار.
وفيها ملك هولاكو بغداد، وقتل الخليفة المستعصم بالله عبد الله في سادس صفر، فكانت خلافته خمس عشرة سنة وسبعة أشهر وستة أيام. وانقرضت بمهلكه دولة بني العباس من بغداد، وصار الناس بغير خليفة إلى سنة تسع وخمسين وستمائة، فصح حديث حبيب بن أبي ثابت، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن رسول الله قام فقال: " يا معشر قريش، إن هذا الأمر لا يزال فيكم، وأنتم ولاته حتى تحدثوا أعمالاً تخرجكم منه. فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شر خلقه، فالتحوكم كما يلتحي القضيب " .
وقتل الناس ببغداد وتمزقوا في الأقطار، وخرب التتر الجوامع والمساجد والمشاهد، وسفكوا الدماء حتى جرت في الطرقات، واستمروا على ذلك أربعين يوماً. وأمر هولاكو بعد القتلى، فبلغت نحو الألفي ألف قتيل، وتلاشت الأحوال بها. وملك التتار أربل، ودخل بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في طاعتهم.
وفيها كثر الوباء ببلاد الشام، فكان يموت من حلب في كل يوم ألف ومائتا إنسان. ومات من أهل دمشق خلق كثير، وبلغ الرطل التمر هندي ستين درهماً.
وفيها أنفذ الملك الناصر صاحب دمشق ابنه الملك العزيز إلى هولاكو، ومعه تقادم وعدة من الأمراء فلما وصل الملك العزيز إلى هولاكو قدم إليه ما معه، وسأله على لسان أبيه في نجدة ليأخذ مصر من المماليك، فأمر هولاكو أن يتوجه إليه بعسكر فيه قدر العشرين ألف فارس. فطار هذا الخبر إلى دمشق، فرحل من كان بها من المماليك البحرية، وصاروا إلى الملك المغيث عمر بالكرك وحرضوه على أخذ مصر، فجمع الملك المغيث وسار.
فتجهز الأمير قطز، وخرج من القلعة بالعساكر في..، فلما وصل الصالحية تسلل إلى الملك المغيث من كان كاتبه من الأمراء وصاروا إليه، فلقيهم قطز وقاتلهم. فانهزم الملك المغيث في شرذمة إلى الكرك، ومضى البحرية نحو الطور، واتفقوا مع الشهرزورية من الشرق. واستولى المصريون على من بقي من عساكر المغيث وأثقاله، وأسروا جماعة، وعادوا إلى قلعة الجبل. وقد تغير قطز على عدة من الأمراء، لميلهم إلى الملك المغيث: فقبض على الأمير عز الدين أيبك الرومي الصالحي، والأمير سيف الدين بلبان الكافوري الصالحي الأشرفي، والأمير بدر الدين بكتوت الأشرفي، والأمير بدر الدين بلغان الأشرفي، وجماعة غيرهم، وضرب أعناقهم في سادس عشري ربيع الأول، وأخذ أموالهم كلها.
وفيها فر طائفة حمن الأكراد من وجه عسكر هولاكو، يقال لهم الشهرزورية، وقدموا دمشق وعدتهم نحو ثلاثة آلاف، ومعهم أولادهم ونساؤهم. فسر بهم الملك الناصر واستخدمهم ليتقوى بهم، فزاد عنتهم وكثر طلبهم حتى خافهم، وأخذ يداريهم وما يزيدهم ذلك إلا تمرداً عليه، إلى أن تركوه وساروا إلى الملك المغيث بالكرك، فسر بهم وتاقت نفسه إلى أخذ دمشق، فخاف الناصر وتخيل من الأمراء القيمرية اللذين في دمشق فاضطرب وتحير.
وفمها مات أمير بني مرين أبو محيى بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة، في رجب. وقام من بعده ابنه عمر، ونازعه عمه يعقوب بن عبد الحق وأبو محيى هو الذي فتح الأمصار، وأقام رسوم المملكة، وقسم بلاد المغرب بين عشائر بني مرين، وقام بدعوة الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب تونس. وأبو يحيى أول من اتخذ الموكب الملكي منهم، وملك مدينة فاس. وقد استبد أبو يحيى بملك المغرب الأقصى، وبنو عبد الواحد بملك المغرب الأوسط، وبنو أبي حفص بإفريقية. وهذا وقد أشرفت دولة الموحدين بني عبد المؤمن على الزوال.
وفي سنة ست خمسين هذه: قدم أولاد حسن مكة، وقبضوا على إدريس وأقاموا ستة أيام، فجاء أبو نمى وأخرجهم ولم يقتل بينهم أحد.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الخليفة العباسي المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور ابن الظاهر بالله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد، آخر خلائف بني العباس مقتولاً في سادس صفر، بعدما أتلف عساكر بغداد لنهمته في جمع المال فدهي الإسلام وأهله بلينه وإسناده الأمر إلى وزيره ابن العلقمي، فإنه قطع أرزاق الأجناد، واستجر التتار حتى كان ما كان ومات الملك الناصر داود بن المعظم عيسى ابن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، صاحب دمشق والكرك بعدما مرت به خطوب كثيرة، عن ثلاث وخمسين سنة خارج دمشق. وله شعر بديع.
وتوفي الحافظ زكي الدين أبو عبد الله عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة المنذري الشافعي الإمام الحجة عن خمس وسبعين سنة.
ومات محيى الدين أبو المظفر يوسف بن الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن محمد بن علي بن محمد بن جعفر بن الجرزي البكري البغدادي الحنبلي، محتسب بغداد ورسول الخلافة، عن ست وسبعين سنة.
وتوفي الصاحب محيى الدين أبو عبد الله محمد بن نجم الدين أبي الحسن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زيد بن هارون بن موسى بن عيسى ابن عبد الله بن محمد بن عامر أبي جرادة العقيلي بن العديم الحنفي، عن ست وستين سنة بحلب.
وتوفي نظام الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عبد المجيد بن المولى الأنصاري الحلبي، صاحب الإنشاء بحلب.
وتوفي ناظر الجيش بحلب، واسمه عون الدين أو المظفر بن البهاء أبي القاسم عبد الحميد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن العجمي الحلبي، عن خمسين سنة وتوفي الصاحب عز الدين أبو حامد محمد بن محمد بن خالد بن محمد نصر بن القيسراني الحلبي، ناظر الدواوين بدمشق.
وتوفي الصاحب بهاء الدين زهير بن محمد بن علي بن يحيى الأزدي المكي الكاتب الشاعر الماهر، صاحب الإنشاء بديار مصر، عن خمس وسبعين سنة.
وتوفي الأمير سيف الدين علي بن سابق الدين عمر بن قزل - المعروف بالمشد عن أربع وخمسين سنة، وشعره غاية في الجودة.
وتوفي شاعر بغداد جمال الدين أبو زكريا يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور الصرصري الحنبلي شهيداً، عن ثمان وستين سنة.
وتوفي الأديب شرف الدين أبو الطيب أحمد بن محمد بن أبي الوفاء بن الحلاوي الموصلي، عن ثلاث وخمسين سنة بالموصل.
وتوفي الأديب سعد الدين أبو سعد محمد بن محيى الدين محمد بن علي بن عربي، بدمشق.
وتوفي الأديب نور الدين أبو بكر محمد عبد العزيز بن عبد الرحيم بن رستم الأسعردي، بدمشق.
وتوفي الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الحق بن يوسف الشاذلي الزاهد، بصحراء عيذاب.
وتوفي أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفتح، خطب مردا، التركي الحنبلي عن سبعين سنة، بمردا من عمل دمشق، وكان قد حدث بالقاهرة.
سنة سبع وخمسين وستمائةفيها نازل التتار ماردين فلم ينالوا منها شيئاً، فرحلوا عنها إلى ميافارقين وحاصروا أهلها، حتى أكلوا من عدم الأقوات جلود النعال التي تلبس في الرجلين.
وفيها خرج الملك المغيث من الكرك بعساكره يريد دمشق، فخرج الملك الناصر من دمشق إلى محاربته، ولقيه بأريحا وحاربه، فانهزم المغيث إلى الكرك. وسار الناصر إلى القدس فأقام بعد أياماً، ثم رحل إلى زيراء فخيم على بركتها. وأقام هناك مدة ستة أشهر، والرسل تتردد بينه وبين المغيث إلى أن وقع الاتفاق بينهما، على أن الناصر يتسلم الطائفة من المغيث البحرية جميعهم، وأن المغيث يبعد عنه الشهرزورية، صارت الشهرزورية من بلاد الكرك إلى الأعمال الساحلية.
وسير الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري إلى الملك الناصر يلتمس منه الأمان، فحلف له وحضر ركن الدين بيبرس إليه على بركة زيزاء، ومعه بدر الدين بيسري، وإيتمش المسعودي، وطيبرس الوزيري، وبلباي الرومي الدوادار، وأقوش الرومي ولاحين الدرفيل الدوادار، وكشتغدي المشرف، وأيدغمش الشيخي، وأيبك الشيخي، وبلبان المهراني، وخاص ترك الكبير، وسنجر المسعودي، وأياز الناصري، وسنجر الهمامي، وأيبك العلائي، وطمان الشقيري، ولاجين الشقيري، وسلطان الإلدكزي، وبلبان الإقسيسي، وعز الدين بيبرس. فأكرمه الملك الناصر، وأقطعه نصف نابلس وجينين وأعمالها، بمائة وعشرين فارساً. وبعث المغيث سائر البحرية إلى الملك الناصر، فرحل عن زيزاء إلى دمشق، وقبض على البحرية واعتقلهم.
وفيها قدم الملك العزيز بن الملك الناصر من عند هولاكو، وعلى يده كتابه ونصه: الذي يعلم به الملك الناصر صاحب حلب أنا نحن قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى، وقتلنا فرسانها وهدمنا بنيانها وأسرنا سكانها، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: " قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " ، واستحضرنا خليفها وسألناه عن كلمات فكذب، فواقعه الندم واستوجب منا العدم. وكان قد جمع ذخائر نفيسة، وكانت نفسه خسيسة فجمع المال ولم يعبأ بالرجال. وكان قد نمى ذكره وعظم قدره، ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال.
إذا تم أمر دنا نقصه ... توق زوالا إذا قيل تم
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
وكم من فتى بات في نعمة ... فلم يدر بالموت حتى هجم
إذا وقفت على كتابي هذا، فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض شاهنشاه روي زمين، تأمن شره وتنل خيره، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى " ، ولا تعوق رسلنا عندك كما عوقت رسلنا من قبل، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم انهزموا بأموالهم وحريمهم إلى كروان سراي فإن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها.
أين النجاة ولا مناص لهارب ... ولى البسيطان الثرى والماء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت ... في قبضتي الأمراء والوزراء
فانزعج الناصر وسير حريمه إلى الكرك وخاف الناس بدمشق خوفاً كثيراً لعلمهم أن التتر قد قطعوا الفرات، وسار كثير منهم إلى جهة مصر، وكان الوقت شتاء فمات خلائق بالطريق، ونهب أكثرهم. وبعث الناصر، عندما بلغه توجه هولاكو نحو الشام بالصاحب كمال الدين عمر بن العديم إلى مصر، يستنجد بعسكرها.
فلما قدم ابن العديم إلى القاهرة، في يوم 000، عقد مجلس بالقلعة عند الملك المنصور، وحضر قاضي القضاة بدر الدين حسن السنجاري، والشيخ عز الدين بن عبد السلام: وسئلا في أخذ أموال العامة ونفقتها في العساكر، فقال ابن عبد السلام: إذا لم يبق في بيت المال شيء أو أنفقتم الحوائض الذهب ونحوها من الزينة، وساويتم العامة في الملابس سوى آلات الحرب، ولم يبق للجندي إلا فرسه التي يركبها، ساغ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء. إلا أنه إذا دهم العدو، وجب على الناس كافة دفعه بأموالهم وأنفسهم، وانفضوا. فوجد الأمير سيف الدين قطز سبيلاً إلى القول، وأخذ ينكر على الملك المنصور وقال: لابد من سلطان ماهر قاهر يقاتل هذا العدو، والملك المنصور صبي صغير لا يعرف تدبر المملكة. وكانت قد كثرت مفاسد الملك المنصور علي بن المعز أيبك، واستهتر في اللعب وتحكمت أمه فاضطربت الأمور. وطمع الأمير يوسف الدين قطز في أخذ السلطنة لنفسه، وانتظر خروج الأمراء للصيد: فلما خرج الأمير علم الدين سنجر الغتمي، والأمير سيف الدين بهادر، وغيره من المعزية لرمي البندق - وكان يوم السبت رابع عشري ذي القعدة - قبض قطز على المنصور وعلى أخيه قاقان وعلى أمهما، واعتقلهم في برج بقلعة الجبل. فكانت مدة المنصور سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام.
الملك المظفر سيف الدين قطزجلس على سرير بقلعة الجبل يوم السبت، الرابع والعشرين من ذي القعدة، سنة سبع وخمسين وستمائة. وهو ثالث ملوك الترك بمصر.
وفي خامسه: ولي الوزراء زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن يزيد بن الزبير، وصرف تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، فبلغ ذلك الأمراء فقدموا إلى قلعة الجبل، وأنكروا ما كان من قبض قطز على الملك المنصور، وتوثبه على الملك. فخافهم واعتذر إليهم بحركة التتار إلى جهة الشام ومصر، والتخوف مع هذا من الملك الناصر صاحب دمشق، وقال: وإني ما قصدت إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير ملك. فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو فالأمر لكم، أقيموا في السلطنة من شئتم، فتفرقوا عنه، وأخذ يرضيهم حتى تمكن. فبعث بالمنصور وأخيه وأمه إلى دمياط، واعتقلهم في برج عمره وسماه برج السلسلة، ثم سيرهم إلى بلاد الأشكري وقبض على الأمير علم الدين سنجر الغنمي المعظمي، والأمير عز الدين أيدمر النجيبي الصغير، والأمير شرف الدين قيران المعزي، والأمير سيف الدين بهادر، والأمير شمس الدين قراسنقر، والأمير عز الدين أيبك النجمي الصغير، والأمير سيف الدين الدود خال الملك المنصور علي بن المعز، والطواشي شقبل الدولة كافور لالا الملك المنصور، والطواشي حسام الدين بلال المغيثي الجمدار. واعتقلهم وحلف الأمراء والعسكر لنفسه، واستوزر الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير في خامس ذي القعدة، واستمر بالأمير فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي المعروف بالمستغرب أتابكا، وفوض إليه وإلى الصاحب زين الدين. تدبير العساكر واستخدام الأجناد وسائر أمور الدولة، واحتفل باستخدام الجنود والاستعداد للجهاد.
وورد الخبر بقدوم نجدة من عند هولاكو إلى الملك الناصر بدمشق، فكتب إليه الملك المظفر قطز وقد خافه كتاباً يترقق فيه، ويقسم بالأيمان أنه لا ينازعه في الملك ولا يقاومه، وأنه نائب عنه بديار مصر، ومتى حل بها أقعده على الكرسي، وقال فيه أيضاً: وإن اخترتني خدمتك، وإن اخترت قدمت ومن معي من العسكر نجدة لك على القادم عليك، فإن كنت لا تأمن حضوري سيرت إليك العساكر صحبة من تختاره،. فلما قدم على الملك الناصر كتاب قطز اطمأن.
وفيها سار هولاكو من بغداد بنفسه إلى ديار بكر، ونزل على آمد يريد حلب، ونازل حران ونصب عليها المجانيق - وكانت في مملكة الناصر يوسف - حتى أخذها. وقطع بعض جيشه الفرات وعاثوا في البلاد، فأجمع أهل حلب على الرحلة منها، وخرجوا جافلين. فاحترز نائبها المعظم تورانشاه بن الناصر يوسف، وجمع أهل الأطراف. وتقدم التتار حتى دنوا من حلب، فقتلوا كثيراً من عسكرها الذين خرجوا إليهم، ثم رحلوا عنها عاجلاً. فاضطرب الناصر وعزم على لقاء هولاكو، وخيم على برزة. وكتب إلى الملك المغيث صاحب الكرك، وإلى الملك المظفر قطز، يطلب منهما نجدة. ومع هذا فكانت نفس الناصر قد ضعفت وخارت، وعظم خوف الأمراء والعساكر من هولاكو: فأخذ الأمير زين الدين الحافظي يعظم شأن هولاكو، ويشير بألا يقاتل وأن يداري بالدخول في طاعته. فصاح به الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وضربه وسبه وقال: أنتم سبب هلاك المسلمين وفارقه إلى خيمته فمضى زين الدين الحافظي إلى الملك الناصر، وشكا إليه ما كان من الأمير بيبرس. فلما كان الليل هجم طائفة من المماليك على الملك الناصر، ليقتلوه ويملكوا غيره، وكان في بستان، ففر هو وأخوه الملك الظاهر إلى قلعة دمشق. فبادر الأمراء القيمرية جمال الدين ابن يغمور والأكابر إلى القلعة، وأشاروا على الناصر بأن يخرج إلى المخيم، فخرج. وعندما خرج ركب بيبرس وسار إلى عزة، وبها الأمير نور الدين بدلان كبير الشهرزورية، فتلقاه وأنزله. وسير بيبرس إلى الملك المظفر، قطز علاء الدين طيبرس الوزيري ليحلفه، فكتب إليه الملك المظفر أن يقدم عليه. ووعده الوعود الجميلة. ففارق بيبرس الناصرية، ووصل في جماعة إلى مصر، فأنزله الملك المظفر بدار الوزارة، وأقبل عليه وأقطعه قليوب وأعمالها.
وبلغ الناصر أن هولاكو أخذ قلعة حران وسائر تلك النواحي، وأنه عزم على أخذ حلب، فاشتد جزعه وسير زوجته وولده وأمواله إلى مصر، وخرج معهم نساء الأمراء وجمهور الناس. فتفرقت العساكر، وبقي الناصر في طائفة من الأمراء. ونزل هولاكو على البيرة وأخذ قلعتها - وأخذ منها الملك السعيد بن العزيز عثمان بن العادل، وله بها تسع سنين في الاعتقال، وولاه الصبيبة وبانياس - ، ونزل على حلب.
ففر أهل دمشق وغيرها، وباعوا أموالهم بأبخس ثمن وساروا وكان الوقت شتاء، فهلك منهم خلق كثير، وسير الملك المغيث من بقي عنده من البحرية مقيدين على الجمال، وهم نحو الخمسين: منهم الأمير سنقر الأشقر. وسار أربعة من البحرية إلى مصر. وهم قلاوون الألفي، وبكتاش الفخري أمير سلاح، وبكتاش النجمي، والحاج طيبرس الوزيري.
وفيها كثرت الزلازل بأرض مصر.
وفي ثاني عشر جمادى الآخرة: جبي التصقيع من أملاك القاهرة ومصر.
وفي شعبان: قبض على رجل يعرف بالكوراني. وضرب ضرباً مبرحاً بسبب بدع ظهرت منه، وجد إسلامه الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأطلق من الاعتقال فأقام بالجبل الأحمر.
وفيها بني هولاكو الرصد بمدينة مراغة، بإشارة الخواجا نصير الدين محمد الطوسي، وهو دار للفقهاء والفلاسفة والأطباء، بها من كتب بغداد شيء كثير وعليها أوقاف لخدامها.
وفيها استقل يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة، ملك بني مرين، بملك فاس وعامة المغرب الأقصى.
وفيها سار عز الدين كيكاوس وركن الدين قلج أرسلان ابنا كيخسرو بن كيقباد من قونية إلى هولاكو، فأقاما عنده مدة ثم عادا إلى بلادهما.
ومات في هذه السنة من الأعيانالملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الأتابكي صاحب الموصل، في ثالث عشر شعبان عن ثمانين سنة، دبر فيها الموصل نحو خمسين سنة. وقام من بعده ابنه الصالح إسماعيل، وسار ابنه علاء الدين علي مفارقاً لأخيه إسماعيل إلى الشام.
وتوفي الشريف منيف بن شيحة الحسيني أمير المدينة النبوية.
وتوفي صدر الدين أبو الفتوح أسعد بن المنجا التنوخي الدمشقي الحنبلي، ناظر الجامع الأموي، عن ستين سنة بها.
وتوفي نجم الدين أبو الفتح مظفر بن محمد بن إلياس بن السيرجي الأنصاري الدمشقي الشافعي، محتسب دمشق ووكيل بيت المال بها.
وتوفي الأديب بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن مكي بن محمد بن الحسين بن الدجاجية القرشي الدمشقي بها عن ست وستين سنة.
سنة ثمان وخمسين وستمائةفي المحرم: نزل هولاكو على مدينة حلب وراسل متوليها الملك المعظم تورانشاه بن الملك الناصر يوسف، على أن يسلمه البلد ويرمنه ورعيته، فلم يجبه إلى طلبه وأبى إلا محاربته. فحصرها التتار سبعة أيام وأخذوها بالسيف، وقتلوا خلقاً كثيراً وأسروا النساء والذرية ونهبوا الأموال مدة خمسة أيام، استباحوا فيها دماء الخلق حتى امتلأت الطرقات من القتلى. وصارت عساكر التتر تمشي على جيف من قتل، فيقال إنه أسر منها زيادة على مائة ألف من النساء والصبيان. وامتنعت قلعة حلب، فنازلها هولاكو حتى أخذها في عاشر صفر، وخربها وخرب جميع سور البلد وجوامعها ومساجدها وبساتينها، حتى عادت موحشة. وخرج إليه الملك المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فلم يعترضه بسوء لكبر سنه، فمات بعد أيام. ووجد هولاكو من البحرية تسعة أنفس في حبس الملك الناصر، فأطلقهم وأكرمهم. منهم سنقر الأشقر، وسيف الدين سكز، وسيف الدين يرامق، وبدر الدين بكمش المسعودي، ولاجين الجمدار الصالحي، وكندغدي الصغير.
فلما وصل الخبر إلى دمشق بأخذ قلعة حلب اضطربت بأهلها. وكان الملك الناصر قد صادر الناس، واستخدم لقتال التتر، فاجتمع معه ما يناهز مائة ألف ما بين عرب وعجم فتمزق حينئذ الناس، وزهدوا في أمتعتهم وباعوها بأبخس الأثمان، وخرجوا على وجوههم. ورحل الملك الناصر عن برزه، يوم الجمعة منتصف صفر، عن بقي معه يريد غزة، وترك دمشق خالية، وبها عامتها قد أحاطت بالأسوار، وبلغت أجرة الجمل سبعمائة درهم فضة، وكان الوقت شتاء. فلم يثبت الناس عند خروج الناصر، ووقعت فيهم الجفلات حتى كأن القيامة قامت، وكانت مدة مملكة الناصر بحلب ودمشق ثلاثاً وعشرين سنة وسبعة أشهر، منها مدة تملكه لدمشق عشر سنين تنقص خمسين يوماً. ولحق الملك الأشرف موسى بن المنصور صاحب حمص بهولاكو، وسار الملك المنصور بن المظفر صاحب حماة إلى مصر بحريمه وأولاده، وجفل أهل حمص وحماة. وصار هولاكو إلى دمشق، بعد أخذ حلب بستة عشر يوماً، فقام الأمير زين الدين سليمان بن المؤيد بن عامر العقرباني المعروف بالزين الحافظي، وأغلق أبواب دمشق، وجمع من بقي بها وقرر معهم تسليم المدينة إلى هولاكو فتسلمها منه فخر الدين المردفائي وابن صاحب أرزن، والشريف علي، كان هؤلاء قد بعث بهم هولاكو إلى الملك الناصر وهو على برزة. فكتبوا بذلك إلى هولاكو، فسير طائفة من التتر وأوصاهم بأهل دمشق، ونهاهم أن يأخذوا لأحد درهماً فما فوقه.
فلما كان ليلة الاثنين تاسع عشر صفر: وصل رسل هولاكو صحبة القاضي محيى الدين بن الزكي، وكان قد توجه من دمشق إلى هولاكو بحلب، فخلع عليه وولاه قضاء الشام، وسيره إلى دمشق ومعه الوالي. فسكن الناس، وجمعوا من الغد بالجامع، فلبس ابن الزكي خلعة هولاكو وجمع الفقهاء وغيرهم وقرأ عليهم تقليد هولاكو. وقرئت فرمانات هولاكو بأمان أهل دمشق، فكثر اضطراب الناس واشتد خوفهم.
وفي سادس عشر ربيع الأول: وصل نواب هولاكو، في جمع من التتر صحبة كتبغا نوين فقرئ فرمان بالأمان. وورد فرمان على القاضي كمال الدين عمر التفليسي، نائب الحكم عن قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سني الدولة، بأن يكون قاضي القضاة بمدائن الشام والموصل وماردين وميافارقين، وفيه تفويض نظر الأوقاف إليه من جامع وغيره، فقرئ بالميدان الأخضر.
وغارت جمائع التتر على بلاد الشام، حتى وصلت أطراف بلاد غزة وبيت جبريل والخليل وبركة زيزاء والصلت، فقتلوا وسبوا وأخفوا ما قشروا عليه، وعادوا إلى دمشق فباعوا بها المواشي وغيرها.
واستطال النصارى بدمشق على المسلمين، وأحضروا فرمانا من هولاكو بالاعتناء بأمرهم وإقامة دينهم: فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات، وصبوه على أبواب المساجد وألزموا أرباب الحوانيت بالقيام إذا مروا بالصليب عليهم، وأهانوا من امتنع من القيام للصليب وصاروا يمرون به في الشوارع إلى كنيسة مريم، ويقفون به ويخطبون في الثناء على دينهم، وقالوا جهراً: ظهر الدين الصحيح دين المسيح. فقلق المسلمون من ذلك، وشكوا أمرهم لنائب هولاكو وهو كتبغا فأهانهم وضرب بعضهم، وعظم قدر قسوس النصارى، ونزل إلى كنائسهم وأقام شعارهم. وجمع الزين الحافظي من الناس أموالاً جزيلة، واشترى بها ثياباً وقدمها لكتبغا نائب هولاكو، وليبيدرا وسائر الأمراء والمقدمين من التتر، وواصل حمل الضيافات إليهم كل يوم، ثم خرج كتبغا وبيدرا إلى مرج برغوث.
ووصل الملك الأشرف صاحب حمص من عند هولاكو، وبيده مرسوم أن يكون نائب السلطة بدمشق والشام، فامتثل ذلك كتبغا، وصارت الدواوين وغيرها تحضر إلى الأشرف. ثم بعد أيام ثار الأمير بدر الدين محمد بن قرمجاه والى قلعة دمشق، هو والأمير جمال الدين بن الصيرفي، وأغلقا أبوابها. فحضر كتبغا بمن معه من عساكر التتار، وحصروا القلعة في ليلة السادس من ربيع الآخر. فبعث الله مطراً وبرداً، مع ريح شديدة ورعود وبروق وزلزلة، سقط منها عدة أماكن، وبات الناس بين خوف أرضي وخوف عالي، فلم ينالوا من القلعة شيئاً، واستمر الحصار عليها بالمجانيق - وكانت تزيد على عشرين منجنيقاً - إلى ثاني عشري جمادى الأولى. عند ذلك اشتد الرمي، وخرب من القلعة مواضع، فطلب من فيها الأمان ودخلها التتر فنهبوا سائر ما كان فيها، وحرقوا مواضع كثيرة، وهدموا من أبراجها عدة، وأتلفوا سائر ما كان فيها من الآلات والعدد. وساروا إلى بعلبك فخربوا قلعتها، وسارت طائفة منهم إلى عزة، وخربوا بانياس وأسعروا البلاد خرباً وملأوها قتلاً ونهباً.
وفي يوم السبت ثاني عشري شهر ربيع الأول: قدم الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري إلى القاهرة، فركب الملك المظفر قطز إلى لقائه، وأنزله في دار الوزارة بالقاهرة، وأقطعه قصبة قليوب الخاصة. وفيها ملك هولاكو ماردين، وقتل أمراءها وخرب أسوار قلعتها.
وفيها وصل الملك الناصر إلى قطيا، فخافه قطز وبرز بالعسكر إلى الصالحية. ففارق الناصر عدة من أمرائه ومن الشهرزورية، ولحقوا بقطز وأقاموا ببلبيس: منهم حسام الدين طرنطاي، وبدر الدين طيدمر الأخوث، وبدر الدين أيدمر الدوادار، وأيدغدي الحاجي. فعاد الناصر من قطيا وقد تمزق ملكه وتفرق الناس عنه، فنزل البلقاء.
ورجع قطز إلى قلعة الجبل، وقبض على الأمير جمال الدين موسى بن يغمور، وأعتقه بقلعة الجبل وصادر كل من وصل إليه من غلمان الملك الناصر وكتابه وأخذ أموالهم، وألزم زوجة الملك الناصر بإحضار ما عندها من الجواهر، فأخذ منها جوهراً كثيراً، وأخذ من نساء الأمراء القيمرية أموالاً جمة، وعاقب بعضهن، وأما الملك الناصر، فإن شخصاً من غلمانه - يعرف بحسين الكردي الطبرادار - قبض عليه وعلى ولده الملك العزيز، وعلى أخيه غازي، وإسماعيل بن شادي ومن معه، وبعث بهم إلى هولاكو.
وفيها رحل هولاكو عن حلب يريد الرجوع إلى الشرق، وجعل كتبغا نوين نائباً عنه بحلب، وبيدرا نائباً بدمشق. وأخذ هولاكو معه من البحرية سبعة منهم: سنقر الأشقر، وسكز، وبرامق، وبكمش المسعودي.
وفيها وصلت رسل هولاكو إلى مصر بكتاب نصه: من ملك الملوك شرقاً وغرباً، القان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء يعلم الملك المظفر قطز، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بإنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك. يعلم الملك المظفر قطز، وسار أمراء دولته وأهل مملكته، بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه. فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ. فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكى، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم البلاد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب. فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم. فما من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص. فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال. فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ومطركم علينا لا يسمع فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عند الكلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان. فأبشروا بالمذلة والهوان، " فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون " ، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ، فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم. فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم. فقد حذر من أنذر، وقد ثبت عندكم أن نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة والأحكام المدبرة، فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، وبغير الأهنة لملوككم عندنا سبيل. فلا تطلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمى نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كافياً ولا حرزاً. وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية. فقد أنصفنا إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم. والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى.
ألا قل لمصرها هلاون قد أتى ... بحد سيوف تنتضى وبواتر
يصير أعز القوم منا أذلة ... ويلحق أطفالاً لهم بالأكابر
فجمع قطز الأمراء، واتفقوا على قتل الرسل والمسير إلى الصالحية: فقبض على الرسل واعتقلوا وشرع في تحليف من تخيره من الأمراء، وأمر بالمسير، والأمراء غير راضين بالخروج كراهة في لقاء التتر.
فلما كان يوم الاثنين خامس عشر شعبان: خرج الملك المظفر بجميع عسكر مصر، ومن أنضم إليه من عساكر الشام ومن العرب والتركمان وغيرهم، من قلعة الجبل يريد الصالحية.
وفيه أحضر قطز رسل التتر، وكانوا أربعة، فوسط واحداً بسوق الخيل تحت قلعة الجبل، ووسط آخر بظاهر باب زويلة، ووسط الثالث ظاهر باب النصر، ورسط الرابع بالريدانية. وعلقت رءوسهم على باب زويلة، وهذه الرءوس أول رءوس علقت على باب زويلة من التتار. وأبقى الملك المظفر على صبي من الرسل، وجعله من جملة مماليكه.
ونودي في القاهرة ومصر، وسائر إقليم مصر، بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله، ونصرة لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتقدم الملك المظفر لسائر الولاة بإزعاج الأجناد في الخروج للسفر، ومن وجد منهم قد اختفى يضرب بالمقارع. وسار حتى نزل بالصالحية وتكامل عنده العسكر، فطلب الأمراء وتكلم معهم في الرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا من الرحيل. فقال لهم: يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته. فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين. فتكلم الأمراء الذين تخيرهم وحلفهم في موافقته على المسير، فلم يسع البقية إلا الموافقة، وانفض الجمع.
فلما كان في الليل ركب السلطان، وحرك كوساته وقال: أنا ألقى التتار بنفسي، فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كره. وأمر الملك قطز الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري أن يتقدم في عسكر ليعرف أخبار التتر، فسار بيبرس إلى غزة وبها جموع التتر، فرحلوا عند نزوله، وملك هو غزة.
ثم نزل السلطان بالعساكر إلى غزة وأقام بها يوماً، ثم رحل من طريق الساحل على مدينة عكا وبها يومئذ الفرنج، فخرجوا إليه بتقادم وأرادوا أن يسيروا معه نجدة فشكرهم وأخلع عليهم، واستحلفهم أن يكونوا لا له ولا عليه، وأقسم لهم أنه متى تبعه منهم فارس أو راجل يريد أذى عسكر المسلمين رجع وقاتلهم قبل أن يلقى التتر.
وأمر الملك المظفر بالأمراء فجمعوا وحضهم على قتال التتر، وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحرير، وخوفهم وقوع مثل ذلك، وحثهم على استنقاذ الشام من التتر ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذرهم عقوبة الله. فضجوا بالبكاء، وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتر ودفعهم عن البلاد. فأمر السلطان حينئذ أن يسير الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري بقطعة من العسكر، فسار حتى لقي طليعة التتر. فكتب إلى السلطان يعلمه بذلك. وأخذ في مناوشتهم، فتارة يقدم وتارة يحجم، إلى أن وافاه السلطان على عين جالوت وكان كتبغا وبيدرا نائبا هولاكو، لما بلغهما مسير العساكر المصرية، جمعا من تفرق من التتر في بلاد الشام، وسارا يريدان محاربة المسلمين، فالتقت طليعة عسكر المسلمين بطليعة التتر وكسرتها.
فلما كان يوم الجمعة خامس عشري شهر رمضان: التقى الجمعان، وفي قلوب المسلمين وهم عظيم من التتر، وذلك بعد طلوع الشمس. وقد امتلأ الوادي وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين، وتتابع ضرب كوسات السلطان والأمراء، فتحيز التتر إلى الجبل، فعندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتفض طرف منه، فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته على رأسه إلى الأرض، وصرخ بأعلى صوته: وا إسلاماه، وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيده الله بنصره وقتل كتبغا مقدم التتر، وقتل بعده الملك السعيد حسن بن العزيز وكان مع التتر. وانهزم باقيهم، ومنح الله ظهورهم المسلمين يقتلون ويأسرون، وأبلى الأمير بيبرس أيضاً بلاء حسناً بين يدي السلطان.
ومما اتفق في هذه الوقعة، أن الصبي الذي أبقاه السلطان من رسل التتر وأضافه إلى مماليكه، كان راكباً وراءه حال اللقاء. فلما التحم القتال فوق سهمه نحو السلطان، فبصر به بعض من كان حوله فأمسك وقتل مكانه. وقيل بل رمى الصبي السلطان بسهمه فلم يخطئ فرسه وصرعه إلى الأرض، وصار السلطان على قدميه، فنزل إليه فخر الدين ماما وأركبه فرسه، حتى حضرت الجنائب فركب فخر الدين منها.
ومر العسكر في أثر التتر إلى قرب بيسان، فرجع التتر وصافوا مصافاً ثانياً أعظم من الأول، فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم. وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديداً فصرخ السلطان صرخة عظيمة، سمعه معظم العسكر وهو يقول: وا إسلاماه ثلاث مرات، يا لله انصر عبدك قطز على التتار. فلما انكسر التتار الكسرة الثانية، نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى ثم ركب، فأقبل العسكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم.
فورد الخبر بانهزام التتر إلى دمشق ليلة الأحد سابع عشريه، وحملت رأس كتبغا مقدم التتار إلى القاهرة، ففر الزين الحافظي ونواب التتار من دمشق، وتبعهم أصحابهم فامتدت أيدي أهل الضياع إليهم ونهبوهم، فكانت مدة استيلاء التتر على دمشق سبعة أشهر وعشرة أيام.
وفي يوم الأحد المذكور: نزل السلطان على طبرية، وكتب إلى دمشق يبشر الناس بفتح الله له وخذلانه التتر، وهو أول كتاب ورد منه إلى دمشق، فلما ورد الكتاب سر الناس به سروراً كثيراً، وبادروا إلى دور النصارى فنهبوها وأخربوا ما قدروا على تخريبه، وهدموا كنيسة اليعاقبة وكنيسة مريم وأحرقوها حتى بقيتا كوماً، وقتلوا عدة من النصارى، واستتر باقيهم. وذلك أنهم في مدة استيلاء التتر هموا مرارا بالثورة على المسلمين، وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم، وأعلنوا بضرب الناقوس وركبوا بالصليب، وشربوا الخمر في الطرقات ورشوه على المسلمين.
وفي ثامن عشريه: نهب المسلمون اليهود بدمشق حتى لم يتركوا لهم شيئاً، وأصبحت حوانيتهم بالأسواق دكاً، فقام طائفة من الأجناد حتى كفوا الناس عن حريق كنائسهم وبيوتهم. وفيه ثار أهل دمشق بجماعة من المسلمين كانوا من أعوان التتار وقتلوهم، وخربوا الدور المجاورة للكنائس، وقتلوا جماعة من المغل، فكان أمراً مهولاً.
وفي تاسع عشرينه: وصل بكرة النهار الأمير جمال الدين المحمدي الصالحي بمرسوم الملك المظفر قطز، منزل بدار السعادة، وأمن الناس ووطنهم.
وفي يوم الأربعاء آخر شهر رمضان: وصل الملك المظفر إلى ظاهر دمشق، فخيم هناك وأقام إلى ثاني شوال، فدخل إلى دمشق ونزل بالقلعة وجرد الأمير ركن الدين بيبرس إلى حمص، فقتل من التتر وأسر كثيراً، وعاد إلى دمشق.
واستولى الملك المظفر على سائر بلاد الشام كلها من الفرات إلى حد مصر، وأقطع الأمراء الصالحية والمعزية وأصحابه بقطاعات الشام، واستناب الأمير علم الدين سنجر الحلبي في دمشق، ومعه الأمير مجير الدين أبو الهيجاء بن عيسى بن خشتر الأزكشي الكردي. وبعث إليه الملك الأشرف موسى - صاحب حمص، ونائب هولاكو ببلاد الشام - يطلب الأمان فأمنه. وبعث السلطان أيضاً بالملك المظفر علاء الدين علي بن بدر الدين لؤلؤ صاحب سنجار إلى حلب نائباً بها، وأقطع أعمالها بمناشره. وأقر الملك المنصور على حماة وبارين، وأعاد عليه المعرة - وكانت بيد الحلبيين من سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأخذ سليمة منه وأعطاها الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب. ورتب الأمير شمس الدين أقوش البرلي العزيزي أميراً بالساحل وغزة، ومعه عدة من العزيزية - وكان قد فارق الناصر يوسف وسار إلى القاهرة فأكرمه السلطان، وخرج معه فشهد وقعة عين جالوت، وأمر بشنق حسين الكردي الطبرادار، فشنق من أجل أنه دل على الملك الناصر.
وثار عدة من الأوشاقية مماليك السلطان بالنصارى ونهبوا دورهم، وكان معهم عدة من عوام دمشق، فشنق منهم نحو الثلاثين نفساً. وأمر السلطان أن يقرر على نصارى دمشق مائة وستون ألف درهم، فجمعوها وحملت إلى السلطان، بسفارة الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابك العسكر.
وأما التتر فإنهم لما لحقهم الطلب إلى أرض حمص، ألقوا ما كان معهم من متاع وغيره وأطلقوا الأسرى، وعرجوا نحو طريق الساحل. فتخطف المسلمون منهم وقتلوا خلقاً كثيراً، وأسروا أكثر. فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره وقتل نائبه كتبغا عظم عليه، فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك، ورحل من يومه.
وكان هولاكو لما قدم عليه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز صاحب الشام أكرمه وأجرى له راتباً، واختص به وأجلسه على كرسي قريباً منه، وشرب معه، ثم كتب له فرماناً وقلده مملكتي الشام ومصر، وأخلع عليه وأعطاه خيولاً كثيرة وأموالاً، وسيره إلى جهة الشام. فأمر هولاكو لما ورد عليه خبر الكسرة برده، فأحضر وقتل بجبال سلماس في ثامن عشر شوال، وقتل معه أخوه الملك الظاهر غازي، والملك الصالح ابن شركوه، وعدة من أولاد الملوك، وشفعت طقز خاتون زوجة هولاكو في الملك العزيز بن الناصر، فلم يسلم من القتل غيره، ورجع هولاكو إلى بلاده.
وتراجع الناس إلى دمشق، وسارت الأسعار بها غالية جداً لقلة الأقوات. وعدمت الفلوس فيها، وتضرر الناس في المعاملة بسبب الدراهم وعز كل ما كان قد هان.
فلما رتب السلطان أحوال النواب والولاة والشادين ببلاد الشام، خرج من دمشق يوم الثلاثاء سادس عشري شوال يريد مصر بعدما كان قد عزم على المسير إلى حلب، فثناه عن ذلك ما بلغه من تنكر الأمير بيبرس وغيره عليه، فإنه قد عزم على القيام بمحاربته: وسبب ذلك أن الأمير بيبرس سأل السلطان أن يوليه نيابة حلب فلم يرض فتنكر عليه، ليقضي الله أمراً كان مفعولا. فخافه السلطان وأضمر له السوء، وسار إلى جهة مصر. وبلغ بيبرس، فاحترس كل منهما من الآخر، وعمل في القبض عليه. وحدث بيبرس جماعة من الأمراء في قتل السلطان: منهم الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، والأمير سيف الدين بهادر المعزي، والأمير بدر الدين بكتوت الجوكندار المعزي، والأمير بيدغان الركني، والأمير بلبان الهاروني، والأمير بدر الدين أنس الأصبهاني.
فلم يزل السلطان سائراً إلى أن خرج من الغرابي وقارب الصالحية، وانحرف في مسيره عن الدرب للصيد ومعه الأمراء. فلما فرغ من صيحه وعاد يريد الدهليز السلطاني، طلب منه الأمير بيبرس امرأة من سبي التتر، فأنعم بها عليه. فأخذ بيبرس يد السلطان ليقبلها، وكانت إشارة بينه وبين الأمراء: فبدره الأمير بدر الدين بكتوت بالسيف وضرب به عانقه، واختطفه الأمير أنس وألقاه عن فرسه، ورماه الأمير بهادر المعزي بسهم أتى على روحه، وذلك يوم السبت خامس عشر ذي القعدة، ودفن بالقصير فكانت مدة ملكه أحد عشر شهراً وسبعة عشر يوماً.
وحمل قطز بعد ذلك إلى القاهرة، فدفن بالقرب من زاوية الشيخ تقي الدين قبل أن تعمر، ثم نقله الحاج قطز الظاهري إلى القرافة ودفن قريباً من زاوية ابن عبود. ويقال إن اسمه محمود بن ممدود، وإن أمه أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وإن أباه ابن عم السلطان جلال الدين، وإنما سبي عند غلبة التتار، فبيع بدمشق ثم انتقل إلى القاهرة.
الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداويكان بيبرس تركي الجنس، فاشتراه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وترقى في خدمته واستفاد من أخلاقه. فلما مات الملك الصالح، قام بيبرس في خدمة ابنه الملك المعظم تورانشاه إلى أن قتل، فلم يزل يترقى إلى أن قتل الفارس أقطاي، فخرج من القاهرة وتنقل في بلاد الشام. ثم عاد إلى مصر، وخرج مع الملك المظفر قطز إلى قتال التتر. فلما قتل قطز، سار الأمراء الذين قتلوه إلى الدهليز السلطاني بالصالحية، واتفقوا على سلطنة الأمير بيبرس. فقام الأمير أقطاي المستعرب الأتابك - وكان بالدهليز - وقال للأمراء عند حضورهم: من قتله منكم. فقال الأمير بيبرس: أنا قتلته. فقال الأمير أقطاي: يا خوندا اجلس في مرتبة السلطنة مكانه. فجلس بيبرس، وبايعه أقطاي وحلف له، ثم تلاه الأمير بلبان الرشيدي، والأمير بدر الدين بيسري، والأمير سيف الدين قلاوون، والأمير بيليك الخازندار، ثم بقية الأمراء على طبقاتهم.
وتلقب بيبرس بالملك القاهر، وذلك في يوم السبت سابع عشر ذي القعدة المذكور. فقال له الأمير أقطاي الأتابك: لا تتم السلطنة إلا بدخولك إلى قلعة الجبل. فركب بيبرس لوقته، ومعه الأمير أقطاي، والأمير قلاوون، والأمير بيسري، والأمير بلبان، والأمير بيليك، ومماليكه. وتوجه إلى قلعة الجبل، فلقيه الأمير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة بديار مصر، وكان قد خرج إلى لقاء الملك المظفر قطز. فأعلمه بيبرس بما جرى فحلف له الحلي وتقدمه إلى القلعة، ووعد من فيها من الأمراء بمواعيد جيدة عن بيبرس، فلم يخالف منهم أحد. وجلس الأمير عز الدين أيدمر الحلي على باب القلعة حتى قدم بيبرس والأمراء في الليل، فتسلم القلعة ليلة الاثنين تاسع عشر ذي القعدة سنة ثمان وسين وستمائة، وحضر إليه الصاحب الوزير زين الدين يعقوب بن الزبير، وأشار عليه أن يجر اللقب بالملك القاهر، فإنه ما تلقب به أحد فأفلح، فاستقر لقبه الملك الظاهر.
وكانت القاهرة قد زينت لقدوم الملك المظفر قطز، والناس في فرح ومسرات بقتل التتر. فلما طلع النهار نادى المنادي في الناس: ترحموا على الملك المظفر، وادعوا لسلطانكم الملك القاهر ركن الدين بيبرس. ثم في آخر النهار أمر بالدعاء للملك الظاهر. فغم الناس ذلك، وخافوا من عودة دولة الممالك البحرية، وسوء مملكتهم وجورهم.
وكان قطز قد أحدث في هذه السنة حوادث كثيرة عند حركته لقتال التتر: منها تصقيع الأملاك وتقويمها، وأخذ زكاتها من أربابها، وأخذ من كل واحد من الناس من جميع أهل إقليم مصر ديناراً، وأخذ من الترك الأهلية ثلثها. فأبطل الملك الظاهر جميع ما أحدثه قطز، وكتب به توقيعاً قرئ على المنابر، فكان حملة ما أبطله ستمائة ألف دينار. فسر الناس ذلك، وزادوا في الزينة.
وفي يوم الاثنين: صبيحة قدوم السلطان، جلس الملك الظاهر بيبرس بالإيوان من القلعة، وحلف العساكر، واستناب الأمير بدر الدين بيليك الخازندار، واستقر الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابكاً على عادته، والأمير جمال الدين أقوش النجيبي الصالحي أستاداراً، والأمير عز الدين الأقرم الصالحي أمير جاندار، والأمير صيام الدين لاجين الدرفيل والأمير سيف الدين بلبان الرومي دوادارية، والأمير بهاء الدين أمير أخور على عادته. ورتب في الوزارة الصاحب زين الدين يعقوب ابن الزبير، والأمير ركن الدين إياجي والأمير سيف الدين بكجري حاجبين. وكتب لإحضار البحرية البطالين من البلادة وكتب إلى الملوك والنواب يخبرهم بسلطنته، فأجابوا كلهم بالسمع والطاعة، خلا الأمير سنجر الحلبي نائب دمشق، فإنه لما استقر في نيابة دمشق كان قد عمر سورها وحصنها، فورد عليه الخبر بقتل قطز وسلطنة بيبرس في أوائل ذي الحجة، فامتعض لذلك وأنف من طاعة بيبرس. ودعا لنفسه وحلف الأمراء وتلقب بالملك المجاهد، وخطب له يوم الجمعة سادس ذي الحجة، فدعا الخطيب للملك الظاهر أولاً ثم للملك المجاهد ثانياً، وضربت السكة باسمهما. ثم ارتفع المجاهد عن هذا، وركب بشعار السلطنة والغاشية بين يديه، وشرع في عمارة قلعة دمشق، وجمع لها الصناع وكبراء الدولة والناس، وعملوا فيها حتى عملت النساء أيضاً، وكان عند الناس بذلك سرور كبير. فقدم رسول الملك الظاهر بيبرس بكتابه بعد يومين، فوجد الأمير سنجر قد تسلطن، فعاد إلى مصر. فكتب الملك الظاهر إليه يعنفه ويقبح فعله، فغالطه في الجواب.
فولي دمشق في هذه السنة - من أولها إلى نصف صفر - الملك الناصر، ثم ملكها هولاكو إلى أن سار إلى الشرق، فاستناب بها كتبغا وبيدرا، فحكم فيها التتر إلى خامس عشري رمضان، ثم صارت في مملكة قطز إلى أن قتل في خامس عشري ذي القعدة، فملكها الملك المجاهد علم الدين سنجر الحلبي بقية السنة. وكان القضاء بها أولاً بيد القاضي صدر الدين أحمد بن يحيى بن هبة الله بن سني الدولة، ثم ولي التتر القاضي كمال الدين عمر بن بندار التفليسي، ثم بعده القاضي محيى الدين بن التركي، ثم القاضي صدر الدين أبو القاسم. ثم ولي القاضي صدر الدين بعلبك، فاستقل ابن التركي بالقضاء بدمشق إلى أن صرفه قطز بنجم الدين أبي بكر محمد بن صدر الدين أحمد بن سني الدولة.
وفيها ثار بحلب العزيزية والناصرية على الملك السعيد علاء الدين بن بدر الدين صاحب الموصل، وقبضوا عليه ونهبوا وطاقه، وقدموا عليهم الأمير حسام الدين لاجين العزيزي الجوكندار. وكان الأمير حسام الدين المذكور قد أخذ إذناً من الملك المظفر قطز - رحمه الله تعالى - وتوجه لاستخلاص ما بقي له من الإقطاع والودائع التي كانت له من أيام الملك الناصر. فلما أنفق ما اتفق وهو بحلب أجمع الحلبيون على تقديمه، فكتب إليه الملك المجاهد علم الدين سنجر الحلبي بأن يخطب له في حلب وأن يكون نائباً له، وأن يزيده على إقطاعه زيادات كثيرة. فامتنع لاجين من إجابة الملك المجاهد سنجر، وقال: أنا نائب ملك مصر، وأقام على طاعة الظاهر بيبرس، فبعث إليه الظاهر بالتقليد بنيابة حلب.
وفيها ثار جماعة من السودان والركبدارية والغلمان، وشنقوا بالقاهرة وهم ينادون يآل علي، وفتحوا دكاكين السيوفيين بين القصرين وأخذوا ما فيها من السلاح، واقتحموا اصطبلات الأجناد وأخذوا منها الخيول وكان الحامل لهم على هذا رجل يعرف بالكوراني، أظهر الزهد بيده سبحة وسكن قبة بالجبل، وتردد إليه الغلمان فحدثهم في القيام على أهل الدولة، وأقطعهم الإقطاعات وكتب لهم بها رقاعاً. فلما ثاروا في الليل ركب العسكر وأحاطوا بهم وربطوهم، فأصبحوا مصلبين خارج باب زويلة، وسكنت الثائرة. وخرجت السنة ولم يركب الملك الظاهر بيبرس بشعار السلطنة على العادة.
ومات في هذه السنة من الأعيانالملك المعظم تورانشاه بن الناصر يوسف بن العزيز شادي بن الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب كبير البيت الأيوبي، ونائب حلب، عن ثمانين سنة. ومات الملك الكامل محمد بن المظفر غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي صاحب ميافارقين، وكان عالماً عادلاً محسناً، قتله التتار وحملوا رأسه إلى دمشق.
وتوفي الملك السعيد حسن بن العزيز عثمان بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، صاحب قلعة الصبيبة وبانياس، بعد ما أخذتا منه وسار إلى البيرة، فأعاده التتار إلى ولايتهما، وحضر معهم عين جالوت، فأسر وضرب عنقه.
ومات الملك السعيد إيلغازي بن المنصور أرتق بن إبلغازي بن ألبي بن تمرقاش بن إيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين بها، وقام من بعده ابنه المظفر قرا أرسلان.
وتوفي قاضي القضاة بدمشق صدر الدين أبو العباس أحمد بن أبي البركات يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن سني الدولة التغلبي الدمشقي الشافعي ببعلبك، عن ثمان وستين سنة.
وتوفي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الحسين أحمد بن عبد الله ابن عيسى اليونيني الحنبلي، عن ست وثمانين سنة ببعلبك.
وتوفي الصاحب مؤيد الدين أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم القفطي الشيباني، وزير حلب، بها عن أربع وستين سنة.
وتوفي الأديب مخلص الدين أبو عبد الله المبارك يحيى بن المبارك بن فضيل الغساني الحمصي، بها في الجفلة.
وتوفي الأديب جلال الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن محمد بن عبد الله الصفار المارديني الشاعر، بها قتيلاً عن ثلاث وثمانين سنة.
وتوفي الشيخ أبو بكر بن قوام بن علي بن قوام البالسي الصالحي الزاهد، ببلاد حلب عن أربع وسبعين سنة.
سنة تسع وخمسين وستمائةفيها عظم الفأر في أرض حوران أيام البيادر حتى أكل معظم الغلال، فيقال إنه أكل ثلاثمائة ألف غرارة قمح.
وفيها اجتمع من التتار ستة آلاف فارس، وقاموا بحمص. فبرز إليهم الملك الأشرف موسى شيركوه صاحب حمص، والملك المنصور صاحب حماة، واجتمع إليهما قدر ألف وأربعمائة فارس. وقدم زامل بن علي أمير العرب في عدة من العربان وواقعوا التتر يوم الجمعة خامس المحرم على الرستن، فأفنوهم قتلاً وأسراً، ووردت البشارة إلى مصر بذلك. وكانت التتار في ستة آلاف، والمسلمون ألف وأربعمائة، وحملت رءوس القتلى إلى دمشق وفيها اشتد الغلاء بدمشق.
وفي يوم الاثنين سابع صفر: ركب الملك الظاهر بيبرس من قلعة الجبل بشعار السلطنة إلى خارج القاهرة، ودخل من باب النصر، فترجل الأمراء ومشوا بين يديه إلى باب زويلة، ثم ركبوا إلى القلعة، وقد زينت القاهرة، ونثرت الدنانير والدراهم على السلطان، وخلع على الأمراء والمقدمن وسائر أرباب الدولة، وكان هذا أول ركوبه، ومن حينئذ تابع الركوب إلى اللعب بالأكرة. وكتب إلى ملوك الغرب واليمن والشام والثغور بقيامه في سلطة مصر والشام.
وفيها بعث السلطان الملك الظاهر بيبرس الأمير جمال الدين المحمدي إلى دمشق، ومعه مائة ألف درهم وحوائص وخلع بألفي دينار عينا، ليستميل الناس على المجاهد سنجر.
فقدم دمشق ثالث صفر وعمل ما أمر به، فأجابه الأمراء القيمرية وخرجوا عن دمشق: ومعهم الأمير علاء الدين إيدكين البندقدار الصالحي، والأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي، والأمير قراسنقر الوزيري، وعدة من الأمراء. ونادوا باسم الملك الظاهر بيبرس، فارتجت دمشق.
وبعث المجاهد سنجر إليهم بعسكر فانهزم، فخرج بنفسه وحمل بأصحابه، ففروا عنه ثم عادوا عليه، فخرج وقتل عدة من جماعته، والتجأ هو إلى القلعة فامتنع بها يوم السبت حادي عشر صفر. فدخل الأمير أيدكين البندقدار - أستاذ الملك الظاهر - إلى المدينة وملكها، وحلف الناس للملك الظاهر وقام بأمرها. وخاف المجاهد على نفسه ففر من قلعة دمشق إلى بعلبك، فأرسل إليه الأمير إيدكين وأحضره محتفظاً به. فلما بلغ الملك الظاهر بيبرس ذلك قرر الأمير علاء الدين طيبرس الحاج الوزيري في القلعة، وجعل إليه التحدث في الأموال، واستدعى الأمير سنجر الحلبي، وأقام إيدكين مدة شهر في نيابة دمشق، ثم صرفه عنها بالأمير طيبرس الوزيري، وسار الأمير سنجر مع الأمير بدر الدين ابن رحال، وأحضر في سادس عشر صفر وهو مقيد إلى مصر. فندب الملك الظاهر إلى لقائه الأمير بيسري، وأدخله ليلاً من باب القرافة على خفية واعتقله بالقلعة، من غير أن يعلم به أحد من الناس.
وفيها جهز الملك الظاهر بيبرس الأموال والأصناف صحبة الأمير علم الدين اليغمري لعمارة الحرم النبوي بالمدينة، وبعث الصناع والآلات لعمارة قبة الصخرة بالقدس، وكانت هوت. وأخرج ما كان في اقطاعات الأمراء من أوقاف الخليل عليه السلام، ووقف عليه قرية تعرف باذنا. ورسم للأمير جمال الدين بن يغمور بعمارة ما تهدم من قلعة الروضة، فرم ما فسد منها ورتب بها الجندارية وأعاد لها حرمتها، وفرق أبراجها على الأمراء: وهم الأمير قلاوون، والأمير عز الدين الحلي والأمير عز الدين أوغان، والأمير بيسري، وغيرهم - لكل أمير منهم برج، وأمرهم أن تكون اصطبلاتهم وبيوتهم فيها، وسلمهم مفاتيح القلعة. وأمر بعمارة القناطر بجسر شبرامنت من الجيزية، لكثرة ما كان يشرق من الأراضي في كل سنة، فانتفعت البلاد بهذه القناطر. وأمر بعمارة أسوار الإسكندرية، ورتب لذلك جملة من المال في كل شهر. وبنى بثغر رشيد مرقباً لكشف البحر. وأمر بردم فم بحر دمياط، فخرج جماعة الحجارين وألقوا فيه القرابيص، حتى تمتنع السفن الكبار من دخوله، واستمر ذلك إلى اليوم.
وأمر السلطان بإخراج الأمير سيف الدين الرشيدي إلى بحر أشموم، فتوجه إليه وأحضر الولاة وحفر هذا البحر، وأزال منه ما تربى به من الأطيان، وغرق عدة مراكب حتى رد إليه الماء. وأمر بعمارة ما خربه التتر من قلاع الشام: وهي قلعة دمشق، وقلعة الضلت، وقلعة عجلون، وقلعة صرخد، وقلعة بصرى وقلعة شيزر، وقلعة الصبيبة، وقلعة شميميش وقلعة حمص. فعمرت كلها ونظفت خنادقها، ووسعت أبراجها وشحنت بالعدد، وجرد إليها المماليك والأجناد، وخزنت بها الغلات والأزواد وحملت كثيرة إلى دمشق، وفرقت في البلاد لتصير تقاوي الفلاحين. ورتب السلطان بدمشق بعدل، وبنى مشهداً في عين جالوت عرف بمشهد النصر.
ورتب السلطان البريد في سائر الطرقات، حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق في أربعة أيام ويعود في مثلها. فصارت أخبار الممالك ترد إليه في كل جمعة مرتين، ويتحكم في سائر المماليك من العزل وهو مقيم بقلعة الجبل، وأنفق في ذلك مالاً عظيماً حتى تم ترتيبه. ونظر في أمر الشواني الحربية، وكان قد أهمل أمر الأسطول بمصر وأخذ الأمراء رجاله واستعملوهم في الحراريق وغيرها، فأعادهم إلى ما كانوا عليه في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب. وأنشأ عدة شواني بثغري دمياط والإسكندرية، ونزل بنفسه إلى دار الصناعة ورتب ما يجب ترتيبه، وتكامل عنده ببر مصر ما ينيف على أربعين قطعة وعدة كثيرة من الحراريق والطرائد ونحوها.
فلما كان ذات يوم حضر إليه رجل من أجناد الأمير الصقلي، وأخبره أن أستاذه فرق مالاً على جماعة من المعزية وقرر معهم قتل السلطان: منهم الأمير علم الدين الغتمي، والأمير بهادر المعزي، والأمير شجاع الدين بكتوت، فقبض على الجميع في ثامن ربيع الأول.
وفيها قبض على الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، وعوق في قاعة الوزارة، فشفع فيه الأمير سيف الدين أنس، فخلع في يومه. ولم يقم سوى أيام وقبض السلطان على الأمير أنس، فقبض على الصاحب زين الدين بن الزبير في صبيحة مسكه. ثم طلب قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ليلى الوزارة فأبى، وأقام الأمير فارس الدين أقطاي يراوده زماناً وهو لا يقبل، ثم نزل إلى داره، فطلب السلطان بهاء الدين على سديد الدين محمد بن سليم بن حنا، فولى الوزارة، وفوض إليه تدبير المملكة وأمور الدولة بأسرها، وخلع عليه. فركب معه جميع الأعيان والأكابر، وعدة من الأمراء منهم سيف الدين بلبان الرومي الدوادار.
وورد الخبر عن عكا أن سبع جزائر من جزائر الفرنج في البحر خسف بها وبأهلها، بعدما نزل عليهم دم عشرة أيام، فهلك بها خلق كثير، وصار أهل عكا في خوف واستغفار وبكاء.
وجهز السلطان الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري في جماعة، ولم يعرف مقصده في ذلك أحد ممن جرده ولا غيرهم، فساروا إلى الشوبك وتسلموها من نواب الملك المغيث فتح الدين عمر في سادس عشري ربيع الآخر، واستقر في نيابتها الأمير سيف الدين بلبان المختصي واستخدم فيها النقباء والجنادرة، وأفرد بخاص القلعة ما كان في الأيام الصالحية. وفيه قبض على الأمير بهاء الدين بغدي، وحبس بقلعة الجبل حتى مات.
وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى: فوض قضاء القضاة بديار مصر للقاضي تاج الدين عبد الوهاب بن القاضي الأعز خلف، المعروف بابن بنت الأعز، عوضاً عن بدر الدين السنجاري، بعد عدة شروط اشترطها على السلطان أغلظ فيها. وقصد القاضي تاج الدين بكثرة الشروط أن يعفى من ولاية القضاء، فأجاب السلطان إلى قبول ما اشترط عليه رغبة فيه وثقة به، وصلى بالسلطان صلاة الظهر، وحكم بعد ذلك. وقبض السلطان على البحر السنجاري وعوقه عشرة أيام، ثم أفرج عنه.
وفيها سار الأمير أبو القاسم أحمد بن الخليفة الظاهر أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيئ بالله العباسي - الذي يقال له الزراتيقي لقب لقبه به العامة - مع جماعة من العرب بني مهتا، يريد دمشق. وكان قد فر من بغداد لما قتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله، ونزل عند عرب العراق في هذه المدة، ثم أراد أن يلحق بالملك الظاهر بيبرس بمصر. فوردت مكاتبة الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار، والأمير علاء الدين طيبرس الوزيري نائب دمشق: بأنه ورد إلى الغوطة رجل ادعى أنه أبو القاسم أحمد الأسمر بن الإمام الظاهر بن الإمام الناصر، وهو عم المستعصم وأخو المستنصر، ومعه جماعة من عرب خفاجة في قريب الخمسين فارساً، وأن الأمير سيف الدين قلج البغدادي عرف أمراء العرب المذكورين، وقال: بهؤلاء يحصل المقصود. فكتب السلطان إلى النواب بالقيام في خدمته وتعظيم حرمته، وأن يسير معه حجاب من دمشق فسار من دمشق بأوفر حرمة إلى جهة مصر. فخرج السلطان من قلعة الجبل يوم الخميس تاسع شهر رجب إلى لقائه، ومعه الوزير الصاحب بهاء الدين بن حنا، وقاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، وسائر الأمراء وجميع العسكر، وجمهور أعيان القاهرة ومصر، ومعظم الناس من الشهود والمؤذنين. وخرجت اليهود بالتوراة، والنصارى بالإنجيل. فسار السلطان به إلى باب النصر، ودخل إلى القاهرة وقد لبس الشعار العباسي، وخرج الناس إلى رويته، وكان من أعظم أيام القاهرة. وشق القصبة إلى باب زويلة، وصعد قلعة الجبل وهو راكب، فأنزل في مكان جليل قد هيئ له بها، وبالغ السلطان في إكرامه وإقامة ناموسه.
فلما كان يوم الاثنين ثالث عشره: حضر قاضي القضاة ونواب الحكم، وعلماء البلد وفقهاؤها وأكابر المشايخ وأعيان الصوفية، والأمراء ومقدمو العساكر، والتجار ووجوه الناس، وحضر أيضا الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فمثلوا كلهم بحضرة الأمير أحمد وجلس السلطان متأدباً بغير كرسي ولا طراحة ولا مسند. وشهد العربان وخادم من البغاددي بأن الأمير أحمد هو ابن الإمام الظاهر أمير المؤمنين بن الإمام الناصر أمير المؤمنين، وشهد بالاستفاضة القاضي جمال الدين يحيى بن عبد المنعم بن حسن المعروف بالجمال يحيى نائب الحكم بمصر، والفقيه علم الدين محمد بن الحسين ابن عيسى بن عبد الله بن رشيق، والقاضي صدر الدين موهوب الجزري، ونجيب الدين الحراني، وسديد الدين عثمان بن عبد الكريم بن أحمد بن خليفة، وأبو عمرو بن أبي محمد الصنهاجي التزمنتي، أنه أحمد بن الإمام الظاهر بن الإمام الناصر. فقبل قاضي القضاة تاج الدين شهادات القوم، وأسجل على نفسه بالثبوت، وهو قائم على قدميه في ذلك المحفل العظيم حتى ضم الإسجال والحكم.
فلما تم ذلك كان أول من بايعه القاضي تاج الدين، ثم بعده قام السلطان وبايع أمير المؤمنين المستنصر بالله أبا القاسم أحمد بن الإمام الظاهر، على العمل بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وأخذ أموال الله بحقها وصرفها في مستحقها. ثم بايعه بعد السلطان الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء وكبار الدولة. فلما تمت البيعة قلد الإمام المستنصر بالله السلطان الملك الظاهر البلاد الإسلامية وما ينضاف إليها، وما سيفتحه الله على يديه من بلاد الكفار، ثم قام الناس فبايعوا الخليفة المستنصر بالله على اختلاف طبقاتهم. وكتب في الوقت إلى الملوك والنواب بسائر الممالك أن يأخذوا البيعة على من قبلهم للخليفة المستنصر بالله أبي القاسم أحمد بن الإمام الظاهر، وأن يدعى له على المنابر ثم يدعى للسلطان بعده، وأن تنقش السكة باسمهما.