كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي

فلما كان يوم الجمعة سابع عشرة: خطب الخليفة المستنصر بالله في جامع القلعة، فاستفتح بقراءة صدر سورة الأنعام، ثم صلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وترضى عن الصحابة وذكر شرف بني العباس، ودعا للملك الظاهر، وقضي الخطبة، فاستحسن الناس ذلك منه، واهتم السلطان بأمره، ونثر عليه جملاً مستكثرة من الذهب والفضة. فلما شرع في الخطة تلكأ فيها، ثم نزل بعد تمامها وصلى بالناس الجمعة.
وكان منصب الخلافة شاغراً ثلاث سنين ونصف سنة، منذ قتل الخليفة المستعصم في صفر سنة ست وخمسين، فكان الخليفة المستنصر بالله هو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، وبينه وبين العباس أربعة وعشرون أباً. وكان أسمر اللون وسيماً، شديد القوى عالي الهمة، له شجاعة وإقدام. واتفق له ما لم يتفق لغيره، وهو أنه لقب بالمستنصر لقب أخيه باني المدرسة المستنصرية ببغداد، ولم يقع لغيره أن الخليفة لقب بلقب أخيه سواه.
في يوم الأحد تاسع عشره: ركب الخليفة والسلطان من قلعة الجبل إلى مدينة مصر، وركبا في الحراريق وسارا في النيل إلى قلعة الجزيرة، وجلسا فيها، وأحضرت الشواني الحربية، فلعبت في النيل على هيئة محاربتها العدو في البحر، ثم ركبا إلى البر وسار إلى قلعة الجبل، وقد خرج الناس لمشاهدتهما، فكان من الأيام المشهودة.
وفيه قلد السلطان الأمير علم الدين سنجر الحلبي - الذي ثار قبلا بدمشق - نيابة حلب، وجهز معه أمراء لكل منهم وظيفة وهم: الأمير شرف الدين قيران الفخري استادار، والأمير بدر الدين جماق أمير جاندار، والأمير علاء الدين أيدكين الشهابي شاد الدواوين. وسار الأمير علم الدين من القاهرة كما تسافر الملوك، فدخل حلب في ثالث شعبان فحضر إليه جماعة من العزيزية والناصرية وسألوا الأمان كانت العزيزية والناصرية قد اختلفوا وخرجوا إلى الساحل، فأقطعهم السلطان إقطاعات، وأحضر منهم عدة إلى مصر.
وفي يوم الاثنين رابع شعبان: ركب السلطان إلى خيمة ضربت له في البستان الكبير خارج القاهرة، ومعه أهل الدولة. وحملت الخلع صحبة الأمير مظهر الدين وشاح الخفاجي، وخادم الخليفة المستنصر بالله. فدخل السلطان إلى خيمة أخرى. وأفيضت عليه الخلع الخليفتية وخرج بها وهي: عمامة سوداء مذهبة مزركشة، ودراعة بنفسجية اللون، وطوق ذهب، وقيد من ذهب عمل في رجليه، وعدة سيوف تقلد منها واحداً وحملت البقية خلفه، ولواءان منشوران على رأسه، وسهمان كبيران وترس. فقدم له فرس أشهب، في عنقه مشدة سوداء وعليه كنبوش أسود. وطلب الأمراء واحداً بعد واحد وخلع عليهم، وخلع على قاضي القضاة تاج الدين، وعلى الصاحب بهاء الدين، وعلي فخر الدين بن لقمان صاحب ديوان الإنشاء. ونصب منير، فصعد عليه ابن لقمان بعدما جلل بثوب حرير أطلس أصفر، وقرأ تقليد الخليفة للسلطان، وهو من إنشائه، ونصه بعد البسملة: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام بملابس الشرف، وأظهر بهجة درره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف، وشيدها وهي من غلائه حتى أنسى ذكر ما سلف، وقيد لنصره ملوكاً اتفق على طاعتهم من اختلف. أحمده على نعمه التي رتعت الأعين منها في الروض الأنف، وألطافه التي وقف الشكر عليها فليس عنها منصرف. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة توجب من المخاوف أمناً، وتسهل من الأمور ما كان حزناً. وأشهد أن محمداً عبده الذي جبر من الدين وهنا، ورسوله الذي أظهر من المكارم فنوناً لا فناً، صلى الله عليه وعلى آله الذين أضحت مناقبهم باقية لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا في الدنيا فاستحقوا الزيادة من الحسنى.

وبعد فإن أولي الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم راكعاً وساجداً في تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى بسعيه الحميد متقدماً، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجداً ومتهماً، وما بدت يد من المكرمات إلا كان لها زنداً ومعصماً، ولا استباح بسيفه حمى وغي إلا أضرمه ناراً وأجراه دماً. ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرفه الله وأعلاه، ذكره الديوان العزيز النبوي الإمامي المستنصري أعز الله سلطانه، تنويهاً بشريف قدره، واعترافاً بصنعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره. وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية، بعد أن أقعدتها زمانة الزمان، وأذهبت ما كان من محاسن وإحسان، وأعتب دهرها المسيء لها فأعتب، وأرضي عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب. فأعاده لها سلماً بعد أن كان عليها حرباً، وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعاً رحباً، ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنواً وعطفاً، وأظهر من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاهتمام بأمر الشريعة والبيعة أمر لو رامه غيره لامتنع عليهن ولو تمسك بحبله متمسك لانقطع به قبل الوصول إليه. لكن الله تعالى ادخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه، ويخفف بها يوم القيامة حسابه، والسعيد من خفف من حسابه. فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه، ومكرمة قضت لهذا البيت الشريف بجمعه بعد أن حصل الإياس من جمعه.
وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع، ويعترف أنه لولا اهتمامك لاتسع الخرق على الواقع. وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية والديار البكرية والحجازية واليمنية والفراتية، وما يتجدد من الفتوحات غوراً ونجماً، وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت بالمكارم فرداً، ولا جعل منها بلداً من البلاد ولا حصناً من الحصون يستثنى، ولا جهة من الجهات تعد في الأعلى ولا في الأدنى.
فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملاً، وخلص نفسك من التبعات اليوم ففي غد تكون مسئولاً لا سائلاً، ودع الاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها طائلاً، وما رآها أحد بعين الحق إلا رآها خيالاً زائلاً، فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة. وابسط يدك بالإحسان والعدل، فقد أمر الله بالعدل وحث على الإحسان، وكرر ذكره في مواضع من القرآن، وكفر به عن المرء ذنوباً كتبت عليه وآثاماً، وجعل يوماً واحداً منها كعبادة العابد ستين عاماً. وما سلك أحد سبيل العدل إلا واجتنبت ثماره من أفنان، ورجح الأمر به بعد بعد تداعى أركانه وهو مشيد الأركان، وتحصن به من حوادث زمانه والسعيد من تحصن من حوادث الزمان، وكانت أيامه في الأيام أبهى من الأعياد، وأحسن في العيون من الغرر في أوجه الجياد، وأحلى من العقود إذا حلى بها عاطل الأجياد.
وهذه الأقاليم المنوطة بك محتاج إلى نواب وحكام. وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقب عليه تنقيباً، واجعل عليه في تصرفاته رقيباً. وسل عن أحواله ففي يوم القيامة تكون عنه مسئولاً وبما أجرم مطلوباً، ولا تول إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوباً. وأمرهم بالأناة. الأمور والرفق، ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلة الحق، وأن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق، وألا يعاملوا أحداً على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعايا إخواناً، وأن يوسعوهم براً وإحساناً، وألا يستحلوا حرماتهم إذا استحل الزمان لهم حرماناً، فالمسلم أخو المسلم ولو كان أميراً عليه وسلطاناً. والسعيد من نسج ولاته في الخير على منواله، واستنوا بسنته في تصرفاته وأحواله، وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله.

ومما تؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سيئ السنن، وجدد من المظالم التي هي من أعظم المحن، وأن يشترى بإبطالها المحامد فإن المحامد رخيصة بأغلى ثمن. رمهما جبي منها من الأموال فإنما هي باقية في الذمم حاصلة، وأجياد الخزائن وإن أضحت بها حالية فإنما هي على الحقيقة منها عاطلة، وهل أشق ممن احتقب إثماً، واكتسب بالمساعي الذميمة ذماً، وجعل السواد الأعظم له يوم القيامة خصماً، وتحمل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله وقد خاب من حمل ظلماً. وحقيق بالمقام الشريف المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعمله، وعزائمه تخفف ثقلاً لا طاقة لهم بحمله، فقد أضحى على الإحسان قادراً، وصنعت له الأيام ما لم تصنع لغيره ممن تقدم للملوك وإن جاء آخراً. فأحمد الله على أن وصل إلى جانبك أمام هدي أوجب لك مزية التعظيم، ونبه الخلائق على ما خصك الله به من هذا الفضل العظيم. وهذه أمور يجب أن تلاحظ وترعى، وأن توالي عليها حمد الله فإن الحمد يجب. عليه عقلاً وشرعاً، وقد تبين أنك صرت في الأمور أصلاً وصار غيرك فرعاً.
ومما يجب أيضاً تقديم ذكره أمر الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضاً، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضاً. وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم. وقد تقدمت لك في الجهاد بيضاء أسرعت في سواد الحساد، وعرفت منك عزمة هي أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد، وأشهى إلى القلوب من الأعياد. وبك صان الله حمى الإسلام من أن يتبدل، وبعزك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك أثر في قلوب الكافرين قروحا لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة إلى ما كان عليه في الأيام الأول. فأيقظ لنصرة الإسلام جفناً ما كان غافياً ولا هاجعاً، وكن في مجاهدة أعداء الله إماماً متبوعاً لا تابعاً، وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعاً سامعاً.
ولا تخل الثغور من اهتمام بأمرها تبسم له الثغور، واحتفال يبدل ما دجى من ظلماتها بالنور. واجعل أمرها على الأمور مقدماً، وشيد منها كل ما غادره العدو منهما، فهذه حصون بها يحصل الانتفاع، وهي على العدو داعية افتراق لا اجتماع. وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاوراً، والعدو له ملتفتاً ناظراً، لاسيما الديار المصرية، فإن العدو وصل إليها رابحاً وراح خاسراً، واستأصلهم الله فيها ما أقال منهم عاثراً.
وكذلك أمر الأسطول الذي تزجي خيله كالأهلة، وركائبه سابقة بغير سائق مستقلة. وهو أخو الجيش السليماني، فإن ذاك غدت الرياح له حاملة، وهذا تكلفت بحمله المياه السائلة. وإذا لحظها جارية في البحر كانت كالأعلام، وإذا شبهها قال هذه ليال تقلع بالأيام.
وقد سني الله لك من السعادة كل مطلب، وأتاك من أصالة الرأي الذي يريك المعيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتدياً إليهاً، وألزمك المراشد ولا تحتاج إلى تنبيه عليها. والله يمدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه، فإن النعمة ستتم بشكره.
ولما فرغ من قراءته، ركب السلطان بالخلعة والطوق الذهب والقيد الذهب، وكان الطالع برج السنبلة. وحمل التقليد الأمير جمال الدين التجيبي أستادار السلطان، ثم حمله الصاحب بهاء الدين وسار به بين يدي السلطان وسائر الأمراء ومن دونهم مشاة سوي الوزير. ودخل السلطان من باب النصر وشق القاهرة، وقد زينت وبسط أكثر الطريق بثياب فاخرة مشى عليها فرس السلطان. وضج الخلق بالدعاء. بإعزاز أيامه وإعزاز نصره وأن يخلعها خلع الرضى، إلى أن خرج من باب زويلة وسار إلى القلعة، فكان يوماً مشهوداً تقصر الألسنة عن وصفه.

وشرع السلطان في تجهيز الخليفة للسفر، واستخدم له عساكر، وكتب للأمير سابق الدين بوزنا أتابك العسكر الخليفتي بألف فارس، وجعل الطواشي بهاء الدين سندل الشرابي الصالحي شرابياً بخمسمائة فارس، والأمير ناصر الدين بن صيرم خازنداراً بمائتي فارس، والأمير الشريف نجم الدين أستاداراً بخمسمائة فارس، وسيف الدين بلبان الشمسي دواداراً بخمسمائة فارس، والأمير فارس الدين أحمد بن أزدمر اليغموري دواداراً أيضاً، والقاضي كمال الدين محمد بن عز الدين السنجاري وزيراً، وشرف الدين أبا حامد كاتباً، وأقام عدة من العربان أمراء، وحمل السلطان إلى الجميع الخزائن والسلاح وغيره من الصناجق والطبلخاناه، وانفق أموالاً كثيرة واشترى مائة ملوك كباراً وصغاراً، ورتبهم سلاح دارية وجامدراية، وأعطى كلاً منهم ثلاثة أرؤس من الخيل وجلا لعدته، ورتب سائر ما يحتاج إليه الخليفة: من صاحب ديوان وكاتب إنشاء ودواوين وأئمة، وغلمان وجرائحية وحكاء وبيوتات، وكملها كلها مما تحتاج إليه، ورتب الجنائب وخيول الإصطبلات، واستخدم الأجناد، وعين لخاص الخليفة مائة فرس وعشر قطر بغال وعشر قطر جمال، وطشتخاناه وحوائج خاناه، وكتب لمن وفد معه من العراق تواقيع ومناشر بالإقطاعات.
فلما تهيأ ذلك كله برز الدهليز الخليفتي والدهليز السلطاني إلى البركة ظاهر القاهرة، وركب الخليفة والسلطان من قلعة الجبل في السادسة من نهار الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان، وسار إلى البركة فنزل كل منهما في دهليزه، واستمرت النفقة في أجناد الخليفة، وفي يوم عيد الفطر ركب السلطان مع الخليفة تحت المظلة، وصليا صلاة العيد، وحضر الخليفة إلى خيمة السلطان بالمنزلة وألبسه سراويل الفتوة بحضرة الأكابر، ورتب السلطان الأمير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة بديار مصر، وأقام معه الصاحب بهاء الدين بن حنا.
وفي يوم السبت سادس شوال: رحل الخليفة وصحبته الملك الظاهر بجميع العساكر، فساروا إلى الكسوة ظاهر دمشق، وخرج إلى لقائهم عسكر دمشق في يوم الاثنين سابع ذي القعدة، فنزل الخليفة بالتربة الصالحية في سفح قاسيون، ونزل السلطان بقلعة دمشق.
وفي يوم الجمعة عاشره: دخل الخليفة الجامع الأموي بدمشق من باب البريد، وجاء السلطان من باب الزيادة، واجتمعا بمقصورة الجامع حتى فرغا من صلاة الجمعة، وخرجا إلى باب الزيادة فمضى الخليفة وعاد السلطان.
وكان قد قدم إلى السلطان وهو بقلعة الجبل الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وولده الملك السعيد علاء الملك وأهله، في شعبان إلى القاهرة فأقبل السلطان عليه وأحسن إليه، وأمر له ولمن معه بالإقامات والأموال من دمشق إلى القاهرة، وتلقاه وأنزله بدار تليق به. ثم وصل أخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة، فتلقاه السلطان كما تلقى أخاه. وكان أخوهما الملك السعيد علاء الدين على صاحب سنجار قد رتبه الملك المظفر قطز في نيابة حلب، فقبضه العزيزية واعتقلوه، فسأل إخوته الملك الظاهر فيه فأفرج عنه، وبالغ في إكرامهم وعطائهم. وكان السلطان لما نزل بالبركة خارج القاهرة، قد جهز إليهم خيل النوبة والعصاب والجدمارية والخلع، وكتب لهم التقاليد ببلادهم التي فوضت إليه من الخليفة، فكتب للملك الصالح بالموصل ونصيبين وعقر وشوش وداراً والقلاع العمادية، وكتب للمجاهد بالجزيرة، وكتب للمظفر بسنجار. فقبلوا الأرض عند لبس الخلع، وسير السلطان إليهم الكوسات والسناجق والأموال، وأعفوا من الحضور والخدمة. فساروا إلى دمشق، وحضروا مجلس الشام بقلعة دمشق، ولبسوا الخلع وقبلوا الأرض، وخرجوا والأتابك في خدمتهم بشعار السلطنة، وأعطاهم السلطان في لعب الكرة شيئاً كثيراً.
ووصل إلى دمشق الملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب حمص، والملك المنصور صاحب حماة. فوصل السلطان كلا منهما بثمانين ألف درهم وحملين من الثياب وخيول، وركب كل منهما بدمشق والأمراء مشاة في خدمته بشعائر السلطنة، وكتب السلطان لهما التقاليد باستقرارهما على ما بأيديهما وزادهما، ثم عادا إلى بلادهم.

وكان السلطان قد عزم أن يبعث مع الخليفة عشرة آلاف فارس حتى يستقر ببغداد ويكون أولاد صاحب الموصل في خدمته. فخلا أحدهم بالسلطان وأشار عليه ألا يفعل: فإن الخليفة إذا استقر أمره ببغداد نازعك وأخرجك من مصر. فرجع إليه الوسواس، ولم يبعث مع الخليفة سوي ثلاثمائة فارس. وجرد السلطان الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، والأمير شمس الدين سنقر الرومي إلى حلب، وأمرهما بالمسير إلى الفرات، وإذا ورد عليهما كتاب الخليفة بأن يسير أحدهما إليه سار.
وركب السلطان لوداع الخليفة، وسافر الخليفة في ثالث عشر ذي القعدة، ومعه أولاد صاحب الموصل الثلاثة ففارقوه في أثناء الطريق وتوجه كل منهم إلى مملكته فوصل الخليفة إلى الرحبة، وأتاه الأمير علي بن حذيفة من آل فضل بأربعمائة فارس من العرب، وانضاف إليه من مماليك المواصلة نحو الستين مملوكاً، ولحق به الأمير عز الدين بركة من حماة في ثلاثين فارساً ورحل الخليفة من الرحبة إلى مشهد علي، فوجد رجلاً ادعى أنه من بني العباس قد اجتمع إليه سبعمائة فارس من التركمان، كان الأمير شمس الدين أقومش البرلي قد جهزهم من حلب. فبعث الخليفة إلى التركمان واستمالهم ففارقوه وأتوا الخليفة، فبعث إليه الخليفة يستدعيه وأمنه ورغبه في اجتماع الكلمة على إقامة الدولة العباسية، ولاطفه حتى أجاب وقدم إليه، فوفى له وأنزله معه. وسار الخليفة إلى عانة ثم إلى الحنيشة، وخرج يريد هيت، وكتب إلى الملك الظاهر بيبرس بذلك.
وأما حلب فإن الأمير سنجر الحلبي فارقها وسار إلى دمشق، فاستولى عليها الأمير شمس الدين أقوش البرلي وبعث بالطاعة إلى السلطان، فأبى إلا حضوره، فلما سار الأمير سيف الدين الرشيدي والأمير سنقر الرومي من دمشق رحل أقوش عن حلب، فدخلاها، وسارا منها إلى الفرات، وأغارا على بلاد أنطاكية، وكسب العسكر وغنم، وحرق غلال الفرنج ومراكبهم وعاد. فولى السلطان الأمير علاء الدين بندقدار نيابة حلب، فأقام بها في شدة من غلاء الأسعار وعدم القوت، ثم رحل عنها.
وقدمت الإقامات من الفرنج إلى السلطان، وسألوا الصلح فتوقف وطلب منهم أموراً لم يجيبوا إليها، فأهانهم. وكان العسكر قد خرج للغارة على بلادهم من جهة بعلبك، فسألوا رجوعه. واتفق الغلاء ببلاد الشام، فتقرر الصلح على ما كان الأمر عليه إلى آخر أيام الملك الناصر، وإطلاق الأسارى من حين انقضت الأيام الناصرية. فسارت رسل الفرنج لأخذ العهود وتقرير الهدنة لصاحب يافا ومتملك بيروت، فكاسر الفرنج في أمر الأسارى، فأمر السلطان بنقل أسرى الفرنج من نابلس إلى دمشق واستعملهم في العمائر. فتعلل الفرنج بالعوض عن زرعين، فأجيبوا: بأنكم أخذتم العوض عنها في الأيام الناصرية مرج عيون، وقايضتم صاحب تبنين والمقايضة في أيديكم. فكيف تطلبون العوض مرتين. فإن بقيتم على العهد وإلا فما لنا شغل إلا الجهاد. وخرج الأمير جمال الدين المحمدي في عسكر، وأغار على بلاد الفرنج وعاد غانماً سالماً.
وسارت عدة من العسكر فأوقعوا بعرب زبيد لكثرة فسادهم، وقتلوا منهم جماعة وعادوا غانمين. واحضر السلطان أمراء العربان، وأعطاهم وأقطعهم الإقطاعات، وسلمهم درك البلاد وألزمهم حفظ الحروب إلى حدود العراق، وكتب منشور الإمرة على جميع العربان للأمير شرف الدين عيسى بن مهنا.
وفوض السلطان إلى الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الوزيري نيابة دمشق، وفوض قضاءها للقاضي شمس الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان - وكان قد خرج معه من مصر - عوضاً عن نجم الدين أبي بكر محمد بن أحمد بن يحيى ابن السني، ووكل به وسفره إلى القاهرة. وقرئ تقليد ابن خلكان يوم الجمعة تاسع ذي الحجة، وفوض إليه الحكم من العريش إلى الفرات، والنظر في جميع أوقاف الشام من الجامع والمارستان والمحارس والأحباس وتدريس سبع مدارس.
وخرج السلطان من دمشق يوم السبت سابع عشره يريد مصر. وصرف قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز في سلخ شوال عن قضاء مصر والوجه القبلي، واستقر مكانه قاضي القضاة برهان الدين السنجاري، وبقي قضاء القاهرة والوجه البحري بيد ابن بنت الأعز. وأمر السلطان ببناء مشهد على عين جالوت.
وفيها كتب السلطان إلى الملك بركة خان يغريه بقتال هولاكو ويرغبه في ذلك، وسببه تواتر الأخبار بإسلام بركة.

وفيها أغار التتار الذين تحلفوا على أعمال حلب وعاثوا، ونزل مقدمهم بيدرا على حلب، وضايقها حتى غلت أسعارها وتعتر وجود القوت، فلما بلغهم توجه عسكر السلطان إليهم رحلوا.
وفيها استولى الأمير شمس الدين أقوش البرلي العزيزي على حلب، وجمع معه التركمان والعرب، فأقام نحو أربعة أشهر. ثم توجه إلى البيرة وأخذها ومضى إلى حران فأقام بها، وصار يقرب من حلب ويبعد عنها خوفاً من السلطان وفيها عدى بنو مرين العدوة لقتال الفرنج فظفروا. وفيها حج الملك المظفر يوسف بن عمر رسول ملك اليمن، وكسا الكعبة وتصدق بمال.
ومات في هذه السنة من الأعيانالملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي، صاحب حلب ودمشق - وهو آخر ملوك بني أيوب - ، بعد أربعة وعشرين عاماً من ملكه، واثنتين وثلاثين سنة من عمره، مقتولاً بأمر هولاكو.
ومات الملك الصالح إسماعيل بن المجاهد شيركوه بن القاهر محمد بن المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي، صاحب حمص، مقتولاً بأمر هولاكو أيضاً.
وتوفي الأديب مخلص الدين أبو العرب إسماعيل بن عمر بن يوسف بن قرناص الحموي.
سنة ستين وستمائةفي ثاني المحرم: وصل السلطان من دمشق. واشتد الغلاء بدمشق، فبلغت الغرارة القمح أربعمائة وخمسين درهماً فضة، وهلك خلق كثير من الجوع.
وفيه سار قرابغا مقدم التتار من بغداد - وكان قد استخلفه هولاكو عليها عند عوده إلى بلاد الشرق - يريد لقاء الخليفة المستنصر بالله ومحاربته، فنهب الأنبار وقتل جميع من فيها، وتلاحقت به بقية التتار من بغداد. ولقبهم الخليفة وقد رتب عسكره: فجعل التركمان والعرب جناحي العسكر، واختص جماعة جعلهم في القلب، وحمل بنفسه على التتار فكسر مقدمتهم، وخذله العرب والتركمان فلم يقاتلوا، وخرج كمين للتتار ففر العرب والتركمان، وأحاط التتار بمن بقي معه فلم يفلت منهم سوى الأمير أبي العباس أحمد الذي قدم إلى مصر وتلقب بالحاكم بالله، والأمير ناصر الدين بن مهنا، والأمير ناصر الدين بن صيرم، والأمير سابق الدين بوزبا الصيرفي، والأمير أسد الدين محمود، في نحو الخمسين من الأجناد. ولم يعرف للخليفة خبر: فيقال قتل بالمعركة في ثالث المحرم، ويقال بل نجا مجروحاً في طائفة من العرب فمات عندهم. وكانت هذه الواقعة في العشر الأول من المحرم، فكانت خلافته دون السنة، وبلغت نفقة الملك الظاهر على الخليفة والملوك المواصلة ألف ألف دينار وستين ألف دينار عيناً. واستقر الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ في مملكته بالموصل، وسار أخواه إسحاق وعلي إلى الشام خوفاً من التتار، وقدما على السلطان بقلعة الجبل فأبر مقدمهما، وسألاه في تجهيز نجدة لأخيهما، فرسم السلطان بتجريد الأمير شمس الدين سنقر الرومي في جماعة من البحرية والحلقة، وساروا من القاهرة في رابع جمادى الأولى. وكتب إلى دمشق بخروج عسكرها صحبة الأمير علاء الدين الحاج طيبرس، فسار العسكران من دمشق في عاشر جمادى الآخرة.
وفوض السلطان وزارة دمشق لعز الدين عبد العزيز بن وداعة. وتسلم نواب السلطان قلعة البيرة. ووقع الصلح بين السلطان وبين الملك المغيث صاحب الكرك. وباشر السلطان عرض عساكر مصر بنفسه، وحلفهم لولي عهده الملك السعيد ناصر الدين خاقان بركة خان.
وفي يوم الأحد ثاني عشري صفر: وصل الأمير أبو العباس أحمد الذي تلقب بالحاكم بأمر الله إلى دمشق، وخرج يريد مصر يوم الخميس سادس عشريه فوصل إلى ظاهر القاهرة في سابع عشري شهر ربيع الأول، فاحتفل السلطان للقائه، وأنزله في البرج الكبير داخل قلعة الجبل، ورتب له ما يحتاج إليه.
وفي نصف رجب: قدم جماعة من البغاددة مماليك الخليفة المستعصم، الذين تأخروا بالعراق بعد قتل الخليفة، ومقدمهم الأمير سيف الدين سلار. فأكرمهم السلطان، وأعطى الأمير سلار إمرة خمسين في الشام ونصف مدينة نابلس، ثم نقله إلى إمرة طبلخاناه بمصر. وفيها أطلق السلطان الأمير سيف الدين قلج البغدادي المستنصري من الاعتقال، وكان قد اعتقله، فمن عليه وأذن له في لعب الكرة معه.

وفي شعبان: قدم الأمير سيف الدين الكرزي، والقاضي أصيل الدين خواجا إمام، من عند الأنبرو ملك الفرنج بكتابه. ثم قدم رسوله بهدية ومعه نفران من البحرية، فاعتقلا بقلعة الجزيرة تجاه مصر. وقدم الأمير شرف الدين الجاكي، والشريف عماد الدين الهاكي، من عند صاحب الروم وهو السلطان عز الدين كيكاوس بن كيخسرو، ومعهما رسل المذكور وهما الأمير ناصر الدين نصر الله بن كوح رسلان أمير حاجب، والصدر صدر الدين الأخلاطي، وكتابه المتضمن أنه نزل عن نصف بلاده للسلطان، وسير دروجاً فيها علائم بما يقطع من البلاد لمن يختاره السلطان ويؤمره، وسأل أن يكتب له السلطان منشوراً قرين منشوره. فأكرمهم السلطان، وشرع في تجهيز جيش نجدة لصاحب الروم، وأمر بكتابة المناشير. وعين السلطان الأمير ناصر الدين أعلمش السلاح دار الصالحي لتقديمه العسكر ومعه ثلاثمائة فارس، وأقطعه إقطاعاً ببلاد الروم منه آمد، بلادها.
وفي شهر رجب: قدم الأمير عماد الدين بن مظفر الدين صاحب صهيون، رسولاً من جهة أخيه الأمير سيف الدين، وصحبته هدية. فأكرمه السلطان وكتب له منشوراً بإمرة ثلاثين في حلب، ومنشوراً آخر بإمرة مائة في بلاد الروم. وفي هذا التاريخ ورد كتاب ملك الروم، بأن العدو هولاكو لما بلغه اتفاق الروم مع السلطان خاف من هيبته وولى هارباً، وأنه سير إلى قونية يحاصرها ليأخذها من أخيه.
وفي هذا التاريخ قدم كتاب الملك المنصور صاحب حماة، وصحبته قصاد من التتار معهم فرمان له، فشكره السلطان على ذلك، واعتقل التتار.
وفي هذا التاريخ سار الأمير عز الدين الأقرم أمير جاندار بعسكر إلى بلاد الصعيد وأوقع بالعربان وبدد شملهم، وذلك أنهم كثر طمعهم وهموا بتغيير الممالك، ووثبوا على الأمير عز الدين الهواش والي قوص وقتلوه.
وفي شعبان: كثر قدوم العزيزية والناصرية الذين كانوا صحبة الأمير البرلي. فأكرمهم السلطان وعفا عنهم.
وفي هذه المدة وصل الأمير فارس الدين أقوش المسعودي الذي كان قد توجه رسولاً إلى الأشكري. وكان الأشكري قد بعث يطلب من السلطان بطركا النصارى الملكية، فعين الرشيد الكحال لذلك، وسيره إليه مع الأمير فارس الدين أقوش المسعودي في عدة من الأساقفة. فلما وصلوا إليه أكرمهم وأعطاهم، وواقف الأمير أقوش على جامع. بناه بالقسطنطينية ليكون في صحيفة السلطان ثوابه. وعاد الأمير، قوش وصحبته البطرك المذكور، فقدم البطرك ما ورد على يده من هدية الأشكري للسلطان، وقدم أيضاً ما حصل له من المال، فرد السلطان ذلك عليه. وجهز السلطان برسم جامع قسطنطينية الحصر العبداني، والقناديل المذهبة والستور المرقومة، والمباخر والسجادات إلى غير ذلك من البسط الرومية، والعود والعنبر والمسك وماء الورد.
وفيها أغار الأمير شمس الدين سنقر الرومي على أنطاكية، ونازل صاحبها البرنس وأحرق الميناء بما فيها من المراكب، وكان معه الملك الأشرف موسى صاحب حمص والملك المنصور صاحب حماة. ثم حاصر السويداء، واستولى عليهما وقتل وأسر وعاد موصل إلى القاهرة يوم الخميس لليلة بقيت من شهر رمضان، وصحبته من الأسرى مائتين وخمسين أسيراً. فأكرمه السلطان، وأحسن إلى الأمراء، وسير الخلع إلى الملكين المذكورين.
وفي ثالث شهر رمضان: عزل السلطان قاضي القضاة برهان الدين السنجاري عن قضاء مصر والوجه القبلي، وأعاد قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، فصار بيده قضاء القضاة بديار مصر كلها. وكان متشدداً في أحكامه، فرسم له في ذي القعدة أن يستنيب عنه مدرسي المدرسة الصالحية من الحنفية والمالكية والحنابلة، فاستنابهم في الحكم عنه، ولم يعرف ذلك عصر قبل هذا الوقت: فجلس القاضي صدر الدين سليمان الحنفي، والقاضي شرف الدين عمر السبكي المالكي، والقاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم الحنبلي، في أول ذي القعدة وحكموا بين الناس بمذاهبهم.
وفي رابعه: قبض على الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الوزيري نائب الشام، وحمل إلى مصر فاعتقل بقلعة الجبل، وكانت مدة نيابته سنة وشهراً. وحكم في دمشق بعده الأمير علاء الدين أيدغدي الحاج الركني إلى أن يحضر نائب.

وفيها كثر الإرجاف في دمشق بحركة التتار، فكتب السلطان برحيل أهل الشام بأهليهم إلى مصر. فحضر من تلك البلاد خلق كثير، بعدما كتب السلطان إلى الولاة بتخميرهم، وألا يؤخذ منهم مكس ولا زكاة، ولا يتعرض لما معهم من متجر ولا غيره، ولا تغش تجارة، فاعتمد ذلك. وكتب السلطان إلى حلب بتحريق الأعشاب، فسيرت جماعة إلى بلاد آمد وغيرها وحرقت الأعشاب التي كانت بالمروج التي جرت عادة هولاكو أن ينزلها. فعمت النار مسيرة عشرة أيام حتى صارت كلها رماداً، وهم الحريق بلاد خلاط، وقطع السنبل وهو أخضر.
وفيها خرجت الكشافة من دمشق وغيرها، فظفروا بكثير من التتار يريدون القدوم إلى مصر مستأمنين. وقد كان الملك بركة بعثهم نجدة إلى هولاكو، فلما وقع بينهما كتب يستدعيهم إليه، ويأمرهم أن تعذر عليهم اللحاق به أن يصيروا إلى عساكر مصر. وكان سبب عداوة بركة وهولاكو أن وقعه كانت بينهما، قتل فيها ولد هولاكو وكسر عسكره وتمزقوا في البلاد، وصار هولاكو إلى قلعة بوسط بحيرة أذربيجان محصورا بها. فلما بلغ ذلك السلطان سر به، وفرح الناس باشتغال هولاكو عن قصد بلاد الشام. وكتب السلطان إلى النواب بإكرام الوافدية من التتار، والإقامة لهم ما يحتاجون إليه من العليق والغنم وغيره، وسيرت إليهم الخلع والإنعامات والسكر ونحوه. وساروا إلى القاهرة، فخرج السلطان إلى لقائهم في سادس عشري ذي الحجة ولم يتأخر أحد عن مشاهدتهم، فتلقاهم وأنزلهم في دور بنت لهم في اللوق ظاهر القاهرة، وعمل لهم دعوة عظيمة هناك وبعث إليهم الخلع والخيول والأموال. وأمر السلطان أكابرهم، ونزل باقيهم في جملة البحرية، وكانوا مائتي فارس بأهاليهم، فحسنت حالهم، ودخلوا في الإسلام. وكتب السلطان إلى الملك بركة كتاباً، وسيره مع الفقيه مجد الدين والأمير سيف الدين كسريك.
وفيها سار صندغون مقدم التتار إلى الموصل، ونصب عليها خمسة وعشرين منجنيقاً، ولم يكن بها سلاح ولا قوت فاشتد الغلاء. وحاصرها صندغون حتى خرج إليه الملك الصالح إسماعيل بن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الأتابكي، في يوم الجمعة النصف من شعبان، فقبض عليه وعلى من معه. ووقع التخريب في سور المدينة وقد اطمأن أهلها، ثم اقتحموها ووضعوا السيف في الناس تسعة أيام، ووسطوا علاء الدين ابن الملك الصالح، ونهبوا المدينة وقتلوا الرجال وأسروا النساء والذرية، وهدموا المباني وتركوها بلاقع، ورحلوا بالملك الصالح إسماعيل، ثم قتلوه وهم في طريقهم إلى هولاكو. وفيها خرج الأمير شمس الدين أقوش البرلي من حلب نجدة للملك الصالح، فأدركه التتار بسنجار وواقعوه، فانهزم منهم إلى البيرة في رابع عشر جمادى الآخرة. ثم استأذن الأمير شمس الدين السلطان في العبور إلى مصر، فأذن له وسار إلى القاهرة فدخلها أول ذي القعدة، فأنعم عليه السلطان وأقطعه إمرة سبعين فارساً. وولى السلطان بعده نيابة حلب الأمير عز الدين أيدمر الشهابي، فواقع أهل سيس وأخذ منهم جماعة، وبعثهم إلى مصر فوسطوا.
وفيها وفد على السلطان بعيد كسرة المستنصر شيوخ عبادة وخفاجة، من هيت والأنبار إلى الحلة والكوفة، وكبيرهم خضر بن بدران بن مقلد بن سليمان بن مهارش العبادي، وشهري بن أحمد الخفاجي، ومقبل بن سالم، وعياش بن حديثة، ووشاح وغيرهم. فأنعم السلطان عليهم وكانوا له عيناً على التتار.
ومات في هذه السنة من الأعيانالخليفة أمير المؤمنين المستنصر بالله أبو القاسم أحمد بن الظاهر بالله أبي نصر محمد ابن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد العباسي، قتيلاً في المعركة قريباً من هيت.
وتوفي شيخ الإسلام عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم ابن الحسن المهذب السلبي الشافعي، عن اثنتين وستين سنة في .....،.
وتوفي الصاحب كمال الدين أبو القاسم عمر بن نجم الدين أبي الحسن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن العديم الحنفي بالقاهرة. عن نيف وستين سنة.
وتوفي الأديب محيى الدين أبو العز يوسف بن يوسف بن يوسف بن شبرمة بن زبلاق الهاشمي الموصلي الأديب الشاعر الكاتب، قتيلاً بالموصل، عن سبع وخمسين سنة.
سنة إحدى وستين وستمائة

في الخميس ثامن المحرم: جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً جمع فيه الناس. وحضره التتار الذين وفدوا من العراق والرسل المتوجهون إلى الملك بركة. وجاء الأمير أبو العباس أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر بن أحمد بن المسترشد بالله العباسي، وهو راكب إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجلس إلى جانب السلطان، وقرئ نسبه على الناس بعدما ثبت على قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، ولقب بالإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، وتولى قراءة نسبه القاضي محيى الدين بن عبد الظاهر كاتب السر. فلما ثبت ذلك مد السلطان يده وبايعه على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أعداء الله وأخذ أموال الله بحقها وصرفها في مستحقها، والوفاء بالعهود وإقامة الحدود، وما يجب على الأمير فعله في أمور الدين وحراسة المسلمين. فلما تمت البيعة أقبل الخليفة على السلطان وقلده أمور البلاد والعباد، وجعل إليه تدبير الخلق، وإقامه قسيمه في القيام بالحق، وفوض إليه سائر الأمور، وعلق به صلاح الجمهور. ثم أخذ الناس على اختلاف طبقاتهم في مبايعته، فلم يبق ملك ولا أمير ولا وزير ولا قاض ولا مشير ولا جندي ولا فقيه إلا وبايعه. فلما تمت البيعة تحدث السلطان معه في إنفاذ الرسل إلى الملك بركة، وانفض الناس.
فلما كان يوم الجمعة ثاني هذا اليوم: اجتمع الناس وحضر الرسل المذكورون، وبرز الخليفة الحاكم بأمر الله وعليه سواده، وصعد المنبر لخطة الجمعة فقال: الحمد لله الذي أقام لكل العباس ركناً وظهيراً، وجعل لهم من لديه سلطاناً ونصيراً. أحمده على السراء والضراء، وأستنصره على دفع الأعداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمة الاقتداء الأربعة الخلفاء، وعلى العباس عمه وكاشف غمه أبي السادة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين، وعلى بقية الصحابة التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها الناس اعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام، والجهاد محتوم على جميع الأنام، ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سببت الحرم إلا بإنتهاك المحارم، ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب المآثم. فلو شاهدتم أعداء الإسلام حين دخلوا دار السلام، واستباحوا الدماء والأموال، وقتلوا الرجال والأبطال والأطفال، وهتكوا حرم الخليفة والحريم، وأذاقوا من استبقوا العذاب الأليم، فارتفعت الأصوات بالبكاء والعويل، وعلت الضجات من هول ذلك اليوم الطويل. فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه، وكم طفل بكا فلم يرحم لبكائه. فشمروا عن ساق الاجتهاد في أحياء فرض الجهاد " واتقوا الله ما استطعتم وأسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " ، فلم تبق معذرة عن أعداء الدين، والمحاماة عن المسلمين.
وهذا السلطان الملك الظاهر، السيد الأجل العالم العادل المجاهد الرابط ركن الدنيا والدين، قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار. فأصبحت البيعة باهتمامه منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود. فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة، وأخلصوا نياتكم تنتصروا، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا ولا يروعنكم ما جرى، فالحرب سجال والعاقبة للمتقين، والدهر يومان والأخرى للمؤمنين. جمع الله على التقوى أمركم، وأعز بالإيمان نصركم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وجلس الخليفة جلسة الاستراحة، ثم قام للخطة الثانية وقال: الحمد لله حمداً يقوم بشكر نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عدة للقائه، وأشهد أن محمداً سيد رسله وأنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه عدد ما خلق في أرضه وسمائه. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، إن أحسن ما وعظ به الإنسان كلام الديان: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلكم خير لكم وأحسن تأويلا " ، نفعنا الله وإياكم بكتابه، وأجزل لنا ولكم من ثوابه، وغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين. ثم نزل الخليفة. وصلى بالناس صلاة الجمعة، وانصرف.
وفي هذا اليوم خطب على منابر القاهرة ومصر بالدعاء للخليفة الحاكم بأمر الله، وكتب إلى الأعمال بذلك، فخطب له بدمشق في يوم الجمعة سادس عشره. وقد قيل في نسبه أنه أبو العباس أحمد بن الأمير محمد بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي القبي بن الحسن بن أمير المؤمنين الراشد بن المسترشد، وهو الخليفة التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس، وليس فيهم بعد السفاح والمنصور من ليس أبوه وجده خليفة غيره، وأما من ليس أبوه خليفة فكثير.
وتجهز الفقيه مجد الدين والأمير سيف الدين كش تك، وكتب على يدهما كتب بأحوال الإسلام ومبايعة الخليفة، واستمالة الملك بركة وحثه على الجهاد، ووصف عساكر المسلمين وكثرتهم وعدة أجناسهم، وما فيها من خيل وتركمان وعشائر وأكراد، ومن وافقها وهاداها وهادنها، وأنها كلها سامعة مطيعة لإشارته، إلى غير ذلك من الإغراء بهلاون وتهون أمره والإشلاء عليه وتقبيح فعله، ونحو ذلك. وجهز السلطان معهما أيضاً نسخة نسبة الخليفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذهبت وكتب فيها الإسجال بثبوتها. وجمعت الأمراء والمفاردة وغيرهم وقرئت عليهم الكتب، وسلمت إلى الرسل. وسير معهما نفران من التتر أصحاب الملك بركة ليعرفاهما بالطرق، وساروا في الطرائد ومعهم زوادة أشهر. فوصلوا إلى الأشكري فقام بخدمتهم، واتفق وصول رسل الملك بركة إليه فسيرهم صحبته وعاد الفقيه مجد الدين لمرض نزل به، ومعه كتاب الأشكري بمسير الأمير سيف الدين ورفقته. وسار الأمير جمال الدين أقوش النجيبي الصالحي إلى نيابة دمشق، ومعه الصاحب عز الدين عبد العزيز بن وداعة وزير دمشق، وعلى يده تذاكر شريفة بعدما خلع عليهما.
وفي سابع ربيع الآخر: سار السلطان من قلعة الجبل إلى بلاد الشام، ونزل خارج القاهرة. ورحل في حادي عشره، ودام الصيد إلى أن دخل غزة، بعدما ضرب حلقة بثلاث آلاف فارس في العريش، فوقع فيها صيد كثير جداً، وتقنطر الأمير شمس الدين سنقر الرومي عن فرسه، فسار السلطان إليه ونزل عنده، وجعل رأسه على ركبته وأخرج من خريطته الموميا وسقاه، وأخذه معه إلى خيمته. وتقنطر الأمير سيف الدين قلاوون، فاعتمد السلطان معه مثل ذلك.
وقدم عليه في غزة جماعة منهم أم الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب صاحب الكرك، فأنعم عليها إنعاماً كثيراً وأعطى سائر من كان معها، وحصل الحديث في حضور ولدها إلى السلطان، وعادت إلى ابنها بالكرك. من جملة ما زودها به السلطان من صيده خمسة عشر حملاً، وسار معها الأمير شرف الدين الجاكي المهمندار، برسم تجهيز الإقامات للملك المغيث إذا حضر. ونظر السلطان في أمر التركمان، وخلع على أمرائهم وعلى أمراء العربان من العابد وجرم وثعلبة، وضمنهم البلاد وألزمهم القيام بالعداد، وشرط عليهم خدمة البريد وإحضار الخيل برسمه وكتب إلى ملك شيراز وأهل تلك الديار، وإلى عرب خفاجة، يستحثهم على قتال هولاكو ملك التتار، وأن الأخبار قد وردت من البحر بكسر الملك بركة له غير مرة.

ثم رحل السلطان من غزة إلى جهة الساحل، ونزل الطور في ثاني عشر جمادى الأولى، وقدم إليه هناك الملك الأشرف صاحب حمص في خامس عشره بإذن منه فتلقاه السلطان وأكرمه، وبعث إليه سبعين غزالاً في دفعة واحدة، وقال: هذا صيد يومنا هذا، جعلته لك،. وخرج إليه المغيث من الكرك بعدما كاتبه الملك الظاهر يستدعيه وهو يسوف به. فأظهر السلطان من الاحتفال له شيئاً كثيراً، وخدعه أعظم خديعة، وكتم أمره عن كل أحد. فلما وصل المغيث بيسان ركب السلطان إلى لقائه في سادس عشري جمادى الأولى، وافاه في أحسن زي. فعندما التقيا ساق الملك المغيث إلى جانب السلطان، فسار به إلى الدهليز السلطاني، ودخلا إلى خركاه، وللوقت قبض عليه. وأحضر السلطان الملوك والأمراء، وقاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان وكان قد استدعاه من دمشق، والشهود والأجناد ورسل الفرنج. وأخرج السلطان إليهم كتب الملك المغيث إلى التتار وكتب التتار إليه، وأخرج أيضاً فتاوى الفقهاء بقتاله، وأحضر أيضاً القصاد الذين كانوا يسفرون بينه، بين هولاكو. ثم قال الأمير الأتابك لمن حضر: السلطان الملك الظاهر يسلم عليكم، ويقول ما أخذت الملك المغيث إلا بها السبب، وقرئت الكتب المذكورة عليهم. فكتب بصورة الحال، وأثبت القضاة خطوطهم في المكتوب، وانفض الجمع. وجلس السلطان وأمر فكتب إلى من بالكرك يعدهم ويحذرهم، وسير الأمير بدر الدين بيسري، والأمير عز الدين الأستادار، بالكتب والخلع والأموال إلى الكرك. وأرسل الملك المغيث عشاء إلى مصر مع الأمير شمس الدين أقسنقر الفارقاني السلاح دار، فسار به إلى قلعة الجبل وسجنه بها، وأطلق السلطان حواشيه، وبعث بحريمه إلى مصر، وأطلق لهم الرواتب.
ولما خلا بال السلطان من هم الملك المغيث، توجه بكليته إلى الفرنج: فإنهم كانوا قد شرعوا في التعلل وطلبوا زرعين، فأجابهم السلطان بأنكم تعوضتم عنها في الأيام الناصرية ضياعاً من مرج عيون، وهم لا يزدادون إلا شكوى. وآخر الحال طلب الفرنج من والي غزة كتاباً بتمكين رسلهم إذا حضروا، فكتب لهم الكتاب، وتواصلت بعد ذلك كتبهم. ووردت كتب النواب بشكواهم، وأنهم اعتمدوا أموراً تفسخ الهدنة فلما صار السلطان في وسط بلادهم وردت عليه كتبهم، وفيها: ما عرفنا بوصول السلطان. فكتب إليهم: من يريد أن يتولى أمراً ينبغي أن يكون فيه يقظة، ومن خفي عنه خروج هذه العساكر، وجهل ما علمته الوحوش في الفلاة والحيتان في المياه، من كثرتها التي لعل بيوتكم ما فيها موضع إلا ويكنس منه التراب الذي أثارته خيل هذه العساكر، ولعل وقع سنابكها قد أصم أسماع من وراء البحر من الفرنج، ومن في موتان من التتار. فإذا كانت هذه العساكر تصل جميعها إلى أبواب بيوتكم ولا تدرون، فأي شيء تعلمون. وماذا تحطون به علماً ولم لا أعطيتم لوالي غزة الكتاب الذي كنا سيرناه لكم بتمكين رسولكم إذا حضر، قال الرسول: نسينا، وما علمنا كيف عدم. فكان الجواب: إذا نسيتم هذا فأي شيء تذكرون. وإذا ضيعتموه فأي شيء تحفظون. وانفعل الحال على هذا. ووصلت نواب يافا ونواب أرسوف بهدية، فأخذت منهم تطميناً لقلوبهم، وتسكينا لهم. هذا وقد أمر السلطان ألا ينزل أحد في زرع الفرنج ولا يسيب فرساً، ولا يؤذي لهم ورقة خضراء، ولا يتعرض إلى شيء من مواشيهم ولا إلى أحد من فلاحيهم.
وكانت كتبهم أولاً ترد بندمهم على الهدنة وطلبهم مسخها، فلما قرب السلطان منهم صارت ترد بأنهم باقون على العهد متمسكون بأذيال المواثيق.

وفي اليوم الذي قبض فيه على الملك المغيث، أمر السلطان بإحضار بيوت الفرنجية وقال: ما تقولون؟ قالوا: نتمسك بالهدنة التي بيننا. فقال السلطان: لم لا كان هذا قبل حضورنا إلى هذا المكان، وإنفاق الأموال التي لو جرت لكانت بحاراً؟ ونحن لما حضرنا إلى ها هنا ما آذيناكم زرعاً ولا غيره، ولا نهب لكم مال ولا ماشية، ولا أسر لكم أسير. وأنتم منعتم الجلب والميرة عن العسكر، وحرمتم خروج شيء من الغلات والأغنام وغير ذلك، ومن انفرد من غلمان العسكر أسرتموه. إلينا بدمشق نسخة يمين حلفنا عليها، وسيرنا نسخة يمين من عندنا لم تحلفوا عليها، وعلمتم أنتم نسخة عفتم عليها، وشرط اليمين الأولى تتعلق بالثانية. وسيرنا الأسارى إلى نابلس ومنها إلى دمشق، وما سيرتم أنتم أحد وكل بيت يحيل على الآخر، وما سيرنا الأسارى إلا وفاء بالعهد وإقامة الحجة عليكم وسيرنا كمال الدين بن شيث رسولاً يعلمكم بوصول الأسرى، فلم تبعثوا أحداً، ولم ترحموا أهل ملتكم الأسرى وقد وصلوا إلى أبواب بيوتكم، كل ذلك حتى لا تبطل أشغالكم من أسرى المسلمين عندكم. وأموال التجار شرطتم القيام بما أخذتموه منها، ثم قلتم ما أخذت من بلادنا وإنما أخذت في أنطرسوس وحمل المال إلى خزانة بيت الديوية والأسرى في بيت الديوية، فإن كانت أنطرسوس ما هي لكم فالله يحقق ذلك. ثم إنا شرنا رسلا إلى بلاد السلاجقة الروم، وكتبنا إليكم بتسفيرهم في البحر فأشرتم عليهم بالسفر إلى قبرص فسافروا بكتابكم وأمانكم، فأخذوا وقيدوا وضيق عليهم، وأتلف أحدهم على ما ذكر. فإن كان هذا برضاكم فقبيح أن يعتمدوا هذا الاعتماد. هذا مع إحساننا إلى رسلكم وتجاركم، والوفاء أحد أركان الملك. وجرت عادة الرسل أنها لا تؤذي، وما زالت الحرب قائمة والرسل تتردد، وما القدرة على الرسول بشيء يسكن غيظاً. فإن كان هذا بغير رضاكم فإنه نقص في حرمتكم، وإذا كان صاحب جزيرة قبرص من أهل ملتكم، يخرق حرمتكم ولا يفي بعهدكم ولا يحفظ ذمامكم ولا يقبل شفاعتكم، فأي حرمة تبقى لكم وأي ذمام يوثق به منكم، وأي شفاعة تقبل عند المسلمين والفرنجية، وهل كانت الملوك الماضية تقي النفوس والرجال والأموال إلا بحفظ الحرمة. وما صاحب جزيرة قبرص ملك عظيم، ولا صاحب حصن منيع، ولا قائد جيش كثير، ولا هو خارج عنكم. بل أكثر تعلقاته في عكا والساحل، وله عندكم المراكب والتجار والأموال والرسل، وليس هو منفرد بنفسه، وعنده الديوية وجميع البيوت والنواب مقيمون عنده، وعنده كند يافا وغيره. فلو كنتم لا تؤثرون ذلك كنتم قمتم جميعكم عليه، وأحطتم على كل ما يتعلق به وأصحابه، واسترحتم من هذه الفضيحة، وكتبتم إلى ملوك الفرنجية وإلى البابا بما فعله. وإذا قلتم صاحب قبرص لا يسمع منكم ولا يعطكم، فإذا لم يسمع منكم صاحب قبرص وهو من أهل ملتكم، فمن يسمع منكم؟ وهل لهذه التقدمة إلى الأمر والنهي؟ ولاسيما أنتم تقولون أن أموركم دينية، ومن ردها عصى المعبود، ويغضب عليه المسيح. فكيف لا يعصي المعبود ويغضب المسيح على صاحب قبرص، وقد رد أمركم وأغرى بكم وقبح قولكم. وكنا لو اشتهينا أخذنا حقنا منه، وإنما الحق عندكم نحن نطلب منكم، وأنتم تطلبون منه. وأنتم في أيام الملك الصالح إسماعيل أخذتم صفد والشقيف، على أنكم تنجدونه على السلطان الشهيد الملك الصالح نجم الدين أيوب. وخرجتم جميعكم في خدمته ونجدته، وجرى ما جرى من خذلانه، وقتلكم وأسركم وأسر ملوككم وأسر مقدميكم، وكل أحد يتحقق ما جرى عليكم من ذهاب الأرواح والأموال. وقد انتقضت تلك الدولة، ولم يؤاخذكم السلطان الشهيد عن فتوحه البلاد، وأحسن إليكم فقابلتم ذلك بأن رحتم إلى الريدافرنس، وساعدتموه وأتيتم صحبته إلى مصر، حتى جرى ما جرى من القتل والأسر. فأي مرة وفيتم فيها لمملكة مصر، أم أي حركة أفلحتم فيها. وبالجملة فأنتم أخذتم هذه البلاد من الملك الصالح إسماعيل لإعانة مملكة الشام، وطاعة ملكها ونصرته والخروج في خدمته، وإنفاق الأموال في نجدته. وقد صارت بحمد الله مملكة الشام وغيرها لي، وما أنا محتاج إلى نصرتكم ولا إلى نجدتكم، ولم يبق لي عدو أخافه. فردوا ما أخذتموه من البلاد، وفكوا أسرى المسلمين جميعهم، فإني لا أقبل غير ذلك.

فلما سمع رسل الفرنج هذه المقالة بهتوا، وقالوا: نحن لا ننقض الهدنة، وإنما نطلب مراحم السلطان في استدامتها، ونحن نزيل شكوى النواب، ونخرج من جميع الدعاوى ونفك الأسرى، ونستأنف الخدمة. فقال السلطان: كان هذا قبل خروجي من مصر، في هذا الشتاء وهذه الأمطار، ووصول العساكر إلى هنا. وانفصلوا على هذه الأمور، فأمر السلطان بإخراجهم وألا يبيتوا في الوطاق. ووجه الأمير علاء الدين طيبرس إلى كنيسة الناصرة، وكانت أجل مواطن عباداتهم ويزعمون أن دين النصرانية ظهر منها، فسار إليها وهدمها، فلم يتجاسر أحد من الفرنج أن يتحرك. ثم وجه السلطان الأمير بدر الدين الأيدمري في عسكر إلى عكا، فساروا إليها واقتحموا أبوابها وعادوا. ثم ساروا ثانياً، وأغاروا على مواشي الفرنج، وأحضروا منها شيئاً كثيراً إلى المخيم.
واستمر جلوس السلطان كل يوم على باب الدهليز بصفة عمرها، من غير احتجاب عن أحد، فمن وقف له أحضره وأخذ قصته وأنصفه وهو في أمر ونهي وعطاء وتدبير، واستجلاب قلوب أهل الكرك. وقدمت رسل دار الدعوة بالهدايا، فأحسن إليهم وعادوا. وأمر جماعة في الشام والساحل، وأعطي الأمير علاء الدين أيديكن البندقدار إقطاعا جيداً بمصر. وطلب أهل بلاد الساحل من الفلاحين، وقرر عليهم أموالاً سماها جنايات، وألزمهم بحملها إلى بيت المال، عن ديات من قتل وليس له وارث وهم ما نهبوه من مال جهل مالكه. فحملت من ذلك أموال كثيرة جداً من بلاد نابلس وبلاد الساحل، وانكسرت شوكة أهل العيث والفساد بذلك بعدما كان الضرر عظيماً بهم، من تسلطهم على الرعية ونقلهم الأخبار للفرنج. فرأى السلطان عقوبتهم بهذا الفعل أولى من قتلهم، فإنهم أصحاب زرع وضرع.
ركب السلطان وجرد من كل عشرة فارساً، واستناب الأمير شجاع الدين الشبلي المهمندار في الدهليز السلطاني، وساق من منزلة الطور نصف الليل. فصبح عكا وأطاف بها من جهة البر، وندب جماعة لحصار برج كان قريباً منه فشرعوا في نقبه، وأقام لسلطان على ذلك إلى قريب المغرب وعاد. وكان قصده بذلك كشف مدينة عكا، فإن الفرنج كانوا يزعمون أن أحداً لا يجسر أن يقرب منها، فصاروا ينظرون من أبواب المدينة ولا يستطيعون حركة. ولما عاد السلطان إلى الدهليز ركب لما أصبح، وأركب ناس معه، وساق إلى عكا. فإذا الفرنج قد حفروا خندقاً حول تل الفضول، وجعلوا معاثر في الطريق، ووقفوا صفوفاً على التل، فلما أشرف السلطان عليهم رتب العسكر بنفسه، وشرع الجميع في ذكر الله وتهليله وتكبيره، والسلطان يحثهم على ذلك حتى ارتفعت أصواتهم. وللوقت ردمت الخنادق بأيدي غلمان العساكر وبمن حضر من الفقراء المجاهدين، وصعد المسلمون فوق تل الفضول، وقد انهزم الفرنج إلى المدينة.

وامتدت الأيدي إلى ما حول عكا من الأبراج فهدمت، وحرقت الأشجار حتى انعقد الجو من دخانها. وساق العسكر إلى أبواب عكا، وقتلوا وأسروا عدة من الفرنج ، ساعة واحدة، والسلطان قائم على رأس التل يعمل في أخذ رأي المدينة، والأمراء تحمل على الأبواب واحداً بعد واحد. ثم حملوا حملة واحدة ألقوا فيها الفرنج في الخنادق، وهلك منهم جماعة في الأبواب. فلما كان آخر النهار ساق السلطان إلى البرج الذي نقب، وقد تعلق حتى رمي بين يديه، وأخذ منه أربعة من الفرسان ونيف وثلاثون راجلاً، وبات السلطان على ذلك. فلما أصبح عاد على بلاد الفرنج وكشفها مكاناً مكاناً، وعبر على الناصرة حتى شاهد خراب كنيستها وقد سوى بها الأرض، وصار إلى الصفة التي بناها قبالة الطور، فوافاها ليلاً وجلس عليها. وأحضر الشموع التي بالمنجنيقات ونصب عليها خمسة، وأحضر الصاحب فخر الدين محمد بن حنا وزير الصحبة. وجماعة كتاب الدرج وهم سبعة: الصاحب فخر الدين بن لقمان، والصدر بدر الدين حسن الموصلي، والصدر كمال الدين أحمد بن العجمي، والصدر فتح الدين ابن القيسراني، والصدر شهاب الدين أحمد بن عبيد الله، والصدر برهان الدين. واحضر كتاب الجيش، وأمر الأمير سيف الدين الزيني أمير علم أن يجلس مع كتاب الجيش، لأجل كتابة المناشير وتجهيز الطبلخانا، وأن يكون الأتابك بين يدي السلطان. واستدعى من الجشارات بخمسمائة فرس لأجل الطبلخاناه وخيول الأمراء وأحضرت خلع كثيرة، وأمر السلاح دارية أن يستريحوا بالنوبة ويحضروا. فلم تزل المثالات والمناشير تكتب وهو يعلم، فكتب بين يديه تلك الليلة ستة وخمسون منشوراً كباراً يخطب لأمراء كبار. وظل الصاحب فخر الدين يعلم، وفتح الدين بن سناء الملك صاحب ديوان الجيش وصاحب ديوان الخزائن يعلم، والأمير بدر الدين الخازندار واقف، والمستوفي ينزل، حتى كملت بين يديه. وأصبح السلطان فخلا بنفسه، وجهز الطبلخاناه والسناجق والخيل والخلع إلى الأمراء، وجعل الأمير ناصر الدين القيمري نائب السلطة بالفتوحات الساحلية.
ورحل السلطان من الطور يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة، وسار إلى القدس فوافاه يوم الجمعة عشره، وكشف أحوال البلد وما يحتاج إليه المسجد من العمارة، ونظر في الأوقاف وكتب بحمايتها، ورتب برسم مصالح المسجد في كل سنة خمسة آلاف درهم وأمر ببناء خان خارج البلد، ونقل إليه من القاهرة باب القصر المعروف بباب العيد، ونادى بالقدس ألا ينزل أحد في زرع.

لم سار السلطان إلى الكرك فنزله يوم الخميس ثالث عشريه بعساكره، وأحضر السلالم الخشب من الصلت وغيره، والحجارين والبنائين والنجارين والصناع من مصر ودمشق. وكتب إلى من في الكرك فخافوا، وترددت الرسل بينهم وبينه، حتى استقر الحال على أنه يعطى الملك العزيز عثمان بن الملك المغيث إمرة مائة فارس، فأنعم بذلك. ونزل أولاد المغيث، وقاضي المدينة وخطبها وعدة من أهلها ومعهم مفاتيح المدينة والقلعة، فحلف لهم السلطان وأرضاهم، وسير الأمير عز الدين أيدمر الأستادار، والصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن حنا في ليلة الجمعة رابع عشريه، فتسلما القلعة. وفي بكرة الجمعة دعي للسلطان على الأسوار، ونصبت سناجقه على الأبراج، وركب في الساعة الثالثة وطلع إلى القلعة ورتب أمر جيش الكرك، وأنفق فيهم ثلاثة أشهر من خزائنه واهتم السلطان ببلادها وعين لها خاصاً، وزاد جماعة، وأنعم على أولاد الملك المغيث بجميع ما كان في القلعة من مال وقماش وأثاث. وصلى بها صلاة الجمعة، ونزل قريب المغرب، ولم يتعرض أحد من العسكر لأهلها بسوء. وأصبح السلطان فبعث إلى العزيز بن المغيث الخلع والقماش، وإلى الطواشي بهاء الدين صندل، والأمير شهاب الدين صعلوك أتابكة. كتب بالبشارة إلى مصر والشام بأخذ الكرك، وأن تحمل إليه الغلات والأصناف طلع السلطان إليها يوم الاثنين، وأحضر الدواوين ورتب الإقطاعات للعربان الأجناد، فكتب بين يديه زيادة على ثلاثمائة منشور، وسلمت لأربابها بعدما حلفوا بين يدي السلطان، وكتبت أيضاً تواقيع لأهل الكرك بمناصب دينية وديوانية. وجرد سلطان بها عدة من البحرية والظاهرية، وحلف مقدمي الكرك وأنصارها، وقال لأهل كرك: اعلموا أنكم قد أسأتم إلى في الأيام الماضية، وقد اغتفرت لكم ذلك لكونكم ما خامرتم على صاحبكم. وقد ازددت فيكم محبة فتناسوا الحقود. وأحضر الأمير عبية وغيره عن هرب من بني مهدي، وألزمهم أدراك البلاد وخفرهم إلى أرض الحجاز، وأمر بعمارة ما يحتاج إليه في السور وحصنه وحفر الخندق وأحاطه بالحصن، ولم يكن قبل ذلك كذلك. وأشحن الحصن بالأسلحة والغلال وآلات الحرب والأقوات، ووضع فيه مبلغ سبعين ألف دينار عيناً ومائة وخمسين درهم نقرة. واستناب بالكرك الأمير عز الدين أيدمر من مماليكه، وأضاف إليه الشوبك وأعطاه ثلاثين ألف درهم وكثيراً من القماش.
ورحل السلطان إلى مصر، ومعه أولاد الملك المغيث وحريمه، في يوم الأربعاء تاسع عشريه. فدخل القاهرة في سابع عشر رجب وقد زينت أحسن زينة، فشق القصبة إلى قلعة الجبل على شقق الحرير الأطلس والعتابي، وخلع على الأمراء والمفاردة والمقدمين وجميع حاشيته وغلمانه ومباشريه، وأعطى العزيز بن الملك المغيث إمرة مائة فارس وخلع عليه وأعطاه طبلخاناه، وأطلق لأخويه وحرم أبيه سائر ما يحتاجون إليه هم وغلمانمهم، وأنزلهم بدار القطبية بين القصرين من القاهرة.

وأصبح السلطان فقبض على الأمير سيف الدين الرشيدي واعتقله. وفي تاسع عشره قبض على الأمير عز الدين أيبك الدمياطي والأمير شمس الدين أقوش البرلي واعتقلهما فكان آخر العهد بأقوش البرلي. ولما قبض السلطان عليهما أحسن إلى مماليكهما وحواشيهما، ولم يغر على أحد منهم ولا تعرض إلى بيوت الأمراء. وكان سبب تنكره على هذه الأمراء أنه كان قد فوض إلى الرشيدي أمر المملكة حتى تصرفت يده في كل شيء، وأطلق له في كل جمعة خوانين من عنده يمدان له حتى ماء الورد، ورتب له كل شهر كلونتين زركش قيمة كل منهما مبلغ خمسين ديناراً عيناً وقيمة كلبندها مبلغ أربعين ديناراً ورتب له برسم مشروبه اثني عشر ألف دينار في كل سنة. هذا سوى ما له من الاقطاعات الجليلة والمرتبات الكثيرة، وسوى الإنعامات وجوامك البزدارية والفهادة وعليق الخيل. فأقبل الرشيدي على اللهو وشرب الخمر، وحمت حواشيه عدة بلاد، وحدثت منه أمور لا تسر، فأغضى عنه السلطان. فلما كان بالطور بلغه أن الرشيدي قد فسدت نيته، فأقام عليه عيوناً تحفظ كل ما يجري منه: فبلغه عنه أنه كان يكاتب المغيث بالكرك ويحذره من القدوم على السلطان ويشير عليه ألا يسلم نفسه، وأنه كتب إلى أهل الكرك أيضاً بعد القبض على المغيث يأمرهم بألا يسلموا الكرك، فأسر السلطان ذلك في نفسه إلى أن سار إلى الكرك فبلغه عنه أنه يريد المبادرة إلى أخذ الكرك، فسارع إليه ولاطفه وركب معه إلى الكرك وأخذها. وبلغ السلطان عنه أيضاً عدة أمور من هذا النحو.
وقدمت رسل الملك بركة تطلب النجدة على هولاكو - وهم الأمير جلال الدين ابن القاضي، والشيخ نور الدين علي، في عدة - ويخبرون بإسلامه وإسلام قومه، وعلى يدهم كتاب مؤرخ بأول رجب سنة إحدى وستين وستمائة. وقدم أيضاً رسول الأشكري، ورسول مقدم الجنوية، ورسول صاحب الروم السلاجقة، فأحسن السلطان إلى الرسل وعمل لهم دعوة بأراضي اللوق، وواصل الإنعام عليهم في يومي الثلاثاء والسبت عند اللعب في الميدان.
وفي يوم الجمعة ثامن عشري شعبان: خطب الخليفة الحاكم بأمر الله بحضور رسل الملك بركة، ودعا للسلطان وللملك بركة في الخطبة، وصلى بالناس صلاة الجمعة، واجتمع بالسلطان وبالرسل في مهمات أمور الإسلام.
وفي ليلة الأربعاء ثالث شهر رمضان: سأل السلطان الملك الظاهر الخليفة الحاكم بأمر الله: هل لبس الفتوة من أحد من أهل بيته الطاهرين أو من أوليائهم المتقين، فقال: لا، والتمس من السلطان أن يصل سببه بهذا المقصود. فلم يمكن السلطان إلا طاعته المفترضة، وأن يمنحه ما كان ابن عمه رضي الله عنه قد افترضه. ولبس الخليفة في الليلة المذكورة بحضور من يعتبر حضوره في مثل ذلك، وباشر اللبس الأتابك فارس الدين أقطاي بطريق الوكالة عن السلطان، بحق لبسه عن الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين ولد الإمام الظاهر - وأبوه لجده الناصر لدين الله - والناصر لعبد الجبار، لعلي ابن دغيم لعبد الله بن القير، لعمر بن الرصاص، لأبي بكر بن الجحيش، لحسن بن الساريار، لبقاء بن الطباخ، لنفيس العلوي، لأبي هاشم بن أبي حية، لعمر بن ألبس، لأبي علي الصوفي، لمهنا العلوي، للقائد عيسى، لأمير وهران، لرؤية الفارسي، للملك أبي كاليجار، لأبي الحسن النجار، لفضل القرقاشي، للقائد شبل بن المكدم، لأبي الفضل القرشي، للأمير حسان، لجوشن الفزاري، للأمير هلال النبهاني، لأبي مسلم الخراساني، لأبي العز النقيب، لعوف الغساني، لحافظ الكندي، لأبي علي النوبي، لسلمان الفارسي، للإمام الطاهر النقي التقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحمل السلطان إلى الخليفة من الملابس لأجل ذلك ما يليق بجلاله.

وفي الليلة الثانية: حضر رسل الملك بركة إلى قلعة الجبل، وألبسهم الخليفة بتفويض الوكالة للأتابك، وحمل إليهم من الملابس ما يليق بمثلهم. وجهز السلطان هدية جليلة للملك بركة، وكتب جواب كتابه في قطع النصف في سبعين ورقة بغداية بخط محيى الدين بن عبد الظاهر، وهو الذي قرأه على السلطان بحضور الأمراء. وسلمت الهدية للأمير فارس الدين أقوش المسعودي، والشريف عماد الدين الهاشمي، فسارا في يده طريدة فيها عدة رماة وجرخية وزراقين، وأشحنت الأزودة لمدة سنة، وسارا سابع عشره. وخرجت النجابة إلى مكة والمدينة بأن يدعى للملك بركة ويعتمو عنه، وأمر الخطاء أن يدعوا له على المنابر بمكة والمدينة والقدس وبمصر والقاهرة، وبعد الدعاء للسلطان الملك الظاهر.
وفي سادس شوال: توجه السلطان إلى جهة الإسكندرية، فأقام بتروجة أيام ودخل البرية وضرب حلقة فوقع فيها كثير من الصيد. واهتم السلطان بأمر المياه وولى أمرها الأخير شجاع الدين الزاهدي أحد الحجاب، وأحضر من الإسكندرية الرجال لحفر الآبار. ثم سار السلطان من تروجة إلى الإسكندرية، وكان الصاحب بهاء الدين ابن حنا قد سبق إليها وحصل جملاً كثيرة من المال: منها حمل بلغ خمسة وتسعين لفة من القماش السكندري، ولم يعامل أحد من أهلها بغير العدل، ولم يضرب بها أحداً بمقرعة. فضرب السلطان خيامه ظاهر المدينة، ونادي ألا يقيم بالثغر جندي ولا ينزل أحد في دار.
وفي يوم الخميس مستهل ذي القعدة: دخل السلطان إلى المدينة من باب رشيد، فتلقاه الناس بالسرور والفرح والدعاء. واستدعى السلطان بالخزائن والأمتعة، وشرع في تعبئة ما يعبيه للأمراء على قدر مراتبهم، ورسم بمكتوب يرد مال السهمين وصلة أرزاق الفقراء، وسامح بما كان يؤخذ من أهل الإسكندرية وهو ربع دينار عن كل قنطار يباع من ...، ولعب بالكرة وخلع على الأمراء، وأعطي الأتابك ثلاثة آلاف دينار وأعطى الأمراء على حسب مراتبهم، وركب لزيارة الشيخ المعتقد محمد بن منصور بن يحيى أبي القاسم القباري، فلم يمكنه من الطلوع إليه ولم يكلمه إلا وهو في البستان والشيخ في عليته، ثم مضى لزيارة الشيخ الشاطبي.
وحضر إلى السلطان رجلان من أهل الثغر: أحدهما يقال له ابن البوري والآخر يعرف بالمكرم بن الزيات، ومعهما أوراق تتضمن استخراج أمول ضائعة فاستدعى السلطان في يوم الثلاثاء سادسه الأتابك والصاحب والقضاة والفقهاء وأمرت فقرئت وصار كلما ذكر له باب مظلمة سده ويعود على المذكورين بالإنكار، حتى انتهت القراءة. فقال: اعلموا أني تركت لله تعالى ستمائة ألف دينار من التصقيع والتقويم والراجل والعبد والجارية وتقويم النخل فعوضني الله من الحلال أكثر من ذلك، وطلبت جرائد الحساب فزادت بعد حط المظالم جملة، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً وأمر بإشهار ابن البوري.
وفي سابعه: قدم البريد من البيرة وحلب بأن جماعة مستأمنة وردت إلى الباب العزيز، عدتها فوق الألف وثلاثمائة فارس من المغل والبهادرية، فكتب بالإحسان إليهم.
وفي يوم الخميس ثامنه: جلس السلطان بدار العدل، وأمر بتطهير الثغر من الخواطي الفرنجيات.
وفي ثامن عشره: سار السلطان من الإسكندرية يريد القاهرة، فنزل تروجة وأمر عربانها بالسباق بين يديه، فاجتمه ألف فارس من عرب تروجة، وانضم إليها جملة من خيل العسكر. وعين السلطان لهم المدى، ووقف على تل، وأوقف الرماح وعليها الثياب الأطلس والعتابي وفيها المال. فأقبلت الخيل، وأخذ كل راكب سبق ما فرض له. ثم سار السلطان إلى قلعة الجبل، فلما وصل فوض قضاء الثغر للفقيه برهان الدين إبراهيم بن محمد علي البوشي المالكي، وكان زاهداً عابداً يأوي إلى مسجد بمصر، وفوض الخطابة للقاضي زين الدين أبي الفرج محمد بن القاضي الموفق بن أبي الفرج الإسكندري الذي كان حاكماً بالثغر.
وفي آخر ذي العقدة: نزل السلطان إلى القاهرة، وعاد الأمير سيف الدين قلاون الألفي، والأمير علاء الدين الحاج أيدغدي الركني، والأمير حسام الدين بن بركة خان.
وفي ليلة الأربعاء خامس ذي الحجة: توفي الأمير حسام الدين بن بركة خان، فحضر السلطان جنازته ومشى فيها مع الناس.

وفي سادسه: وصلت التتار المستأمنة، وأعيانهم كرمون وأمطغية ونركيه وجبرك وقيان وناسيسة وطيشور ونبتو وصبحي وجرجلان واجقرقا وارقرق وكراي وصلاغيه ومتقدم وصراغان. فركب السلطان إلى تلقيهم فنزلوا عند مشاهدته عن خيولهم وقبلوا الأرض وهو راكب فأكرمهم وعادوا إلى القلعة.
وفي ثامنه: خلع عليهم السلطان، ونزل إلى تربة ابن بركة خان. ثم وردت الكتب بقدوم طائفة أخرى، فاحتفل بهم وركب لتلقيهم. ثم وردت طائفة ثالثة، فاعتمد معهم مثل ذلك وأمر أكابرهم، وعرض عليهم الإسلام فأسلموا وختنوا بأجمعهم.
واتفق أن الأمير بهاء الدين أمير أخور ضرب بعض دلالي سوق الخيل، فمات قلاوون واستتر عنده فدخل قلاوون على الأتابك في أمره، وأخرج لأولاد الميت من ماله خمسة آلاف درهم ومائة أردب غلة وكسوة، فأبرؤه وأقروا أن أباهم مات بقضاء الله وقدره.
ودخل الأتابك إلى السلطان وحدثه في ذلك، فاشتد غضبه، فقال له الأتابك: تغضب والشرع معنا، فإن كان قد قتله عمداً أو خطاً فقد أبرأ الأولياء. وتحدث الأمراء في العفو عنه فعفه، وأمر بعمل جامع من الثياب المفصلة بضرب على يمنة الخيمة السلطانية فعمل ونصبت وأبرأيه وعملت فيه مقصورة برسم السلطان.
وفي هذه السنة: جمدت دار العدل تحت قلعة الجبل، وجلس بها السلطان في يومي الخميس والاثنين لعرض العساكر. وفيها وردت هدية من بلاد اليمن.
وفيها أمر بتنصيب أربعة قضاه نواباً لقاضي القضاة تاج الدين. ابن بنت الأعز، فاستناب حنفياً ومالكياً وشافعياً ولم يجد من يستنيبه من الحنابلة فولى نائباً حنبلياً.
وفيها جهز السلطان عرب خفاجة بالخلع إلى أكابر أهل العراق، وكتب إلى صاحب شراز وغيره يغويهم بهولاكو، وألبس عدة من أمراء خفاجة الفتوة، وجهز معهم الأمير عز الدين إلى شراز.
وفيها جهز السلطان في البحر جماعة من البنائين والنجارين والنشارين والعتالين، وعدة أخشاب وغيرها من الآلات، برسم عمارة الحرم النبوي. وعملت كسوة الكعبة على العادة، وحملت على البغال وطيف بها في القاهرة ومصر، وركب معها الخواص وأرباب الدولة والقضاة، والفقهاء والقراء والصوفية والخطاء والأئمة. وسفرت إلى مكة في العشر الأوسط من شوال، وفوضت عمارة الحرم لزين بن البوزي.
وفيها جمع الفرنسيس ملك الفرنج عساكره يريد أخذ دمياط، فأشار عليه أصحابه يقصد تونس أولاً، ليسهل أخذ دمياط بعدها. فسار إلى تونس ونازلها حتى أشرف على أخذها، فبعث الله في عسكره وباء هلك فيه هو وعدة من أكابر أصحابه، وعاد من بقي منهم.
ومات في هذه السنةالأمير الكبير مجير الدين أبو الهيجاء بن عيسى بن خشترين الأركسي الكردي بدمشق.
وتوفي عز الدين أبو محمد عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف الرسغي الحنبلي، شيخ البلاد الجزرية، بسنجار عن اثنتين وسبعين.
وتوفي علم الدين أبو محمد بن أحمد بن موفق جعفر المرسي اللوري بدمشق، وقد انتهت إليه مشخية الإقراء، عن ستين سنة.
//سنة اثنتين وستين وستمائة استفتح السلطان هذه السنة بالجلوس في دار العدل فأحضرت إليه ورقة مختومة مع خادم أسود تتضمن مرافعة في شمس الدين شيخ الحنابلة، إنه يبغض السلطان ويتمني زوال دولته، لأنه ما جعل للحنابلة نصيبا في المدرسة التي أنشأها بجوار قبة الملك الصالح، ولا ولي حنبليا قاضيا، وذكر أشياء فادحة فيه. فبعث السلطان بها إلى الشيخ، فأقسم إنه ما جري منه شيء، وإنما هذا الخادم طردته من خدمتي. فقال السلطان: ولو شتمتني أنت في حل وأمر فضرب الخادم. مائة عصا.
وفي المحرم: نودي بالقاهرة ومصر أن امرأة لا تتعمم بعمامه ولا تتزيا بزي الرجال، ومن فعلت ذلك بعد ثلاثة أيام سلبت ما عليها من الكسوة وطلب الطواشي شجاع الدين مرشد الحموي إلى قلعة الجبل، وأنكر عليه السلطان اشتغال مخدومه صاحب حماة باللهو، وقرر معه إلزام الأجناد بإقامة البزك وتكميل العدد، وكتب له تقليدا وسافر إلى حماة. وقدم للأمير جلال الدين يشكر ابن الدوادار المجاهد دوادار الخليفة ببغداد وكان قد تأخر حضوره فأحسن إليه السلطان وأعطاه إمرة طبلخاناه.

وفي يوم الأحد الخامس من صفر: اجتمع أهل العلم بالمدرسة الظاهرية بين القصرين عند تمام عمارتها، وحضر القراء وجلس أهل كل مذهب في إيوانهم. وفوض تدريس الحنفية للصدر مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين بن العديم، وتدريس الشافعية للشيخ تقي الدين محمد بن الحسن بن رزين، والتصدير لإقراء القرآن للفقيه كمال الدين المحلي، والتصدير لإفادة الحديث النبوي للشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي. وذكروا الدروس ومدت الأسمطة، وأنشد جمال الدين أبو الحسين الجزار يومئذ:
ألا هكذا يبني المدارس من بني ... ومن يتغالى في الثواب وفي الثنا
لقد ظهرت الظاهر الملك همة ... بها اليوم في الدارين قد بلغ المني
تجمع فيها كل حسن مفرق ... فراقت قلوبا للأنام وأعينا
ومذ جاورت قبر الشهيد فنفسه ... النفيسة منها في سرور وفي هنا
وما هي إلا جنة الخلد أزلفت ... له في غد فاختار تعجيلها هنا
وأنشد عدة من الشعراء أيضاً ومنهم السراج الوراق، والشيخ جمال الدين يوسف بن الخشاب، فخلع عليهم وكان يوما مشهودا. وجعل السلطان بهذه المدرسة خزانة كتب جليلة، وبني بجانبها مكتبا للسبيل، وقرر لمن فيه من أيتام المسلمين الخبز في كل يوم والكسوة في فصل الشتاء والصيف.
وفيه ورد الخبر مع الحاج بأنه خطب للسلطان. بمكة، وأن الصدر جمال الدين حسين ابن الموصلي، كاتب الإنشاء المتوجه إلى مكة، تسلم مفتاح الكعبة وقفله بالقفل المسير صحبته، وأباح الكعبة للناس مدة ثلاثة أيام بغير شيء يؤخذ منهم. وفيه قرئ كتاب وقف الخان. بمدينة القدس في مجلس السلطان بقلعة الجبل، وحضر قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز قراءته، وكتب به عدة نسخ. ووقف السلطان أيضاً اصطبلين تحت القلعة، يعرف أحدهما بجوهر النوبي، على وجوه البر.
وفيه ورد الخبر بأنه رتب. بمدينة الخليل السماط والرواتب للمقيمين والواردين، وكان قد بطل ذلك من مدة أعوام كثيرة.
وفيه سار السلطان إلى وسيم ومضى إلى الغربية، فصار يسير منفردا في خفية ويسال عن وإلى الغربية الأمير بن الهمام وعن سيرة نوابه وغلمانه ومباشريه، فذكرت له عنه سيرة سيئة، فقبض عليه وأدبه وأقام غيره، وشكى إليه من ظلم بعض المباشرين النصارى، فأمر به فشنق من أجل إنه تكلم. بما يوجب ذلك. ودخل السلطان دمياط، ثم عاد إلى أشموم، وسار من المنزلة إلى الشرقية. وفيه سأل الفرنج أن يؤذن لهم في زراعة ما بيدهم من بلاد الشام وتقويتها بجملة من الغلال، فتقررت الهدنة معهم إلى أيام، وأذن لهم ذلك فزرعوا.
وفي يوم الجمعة حادي عشريه: مات الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور أبو إبراهيم بن الملك المجاهد شيركوه بن الأمير ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي بن مروان صاحب حمص، عن غير ولد ولا أخ ولا ولي عبد. فبعث السلطان إلى الأمير عز الدين بيليك العلائي أحد الأمراء، فتسلمها في سابع عشريه وحلف الناس بها للملك الظاهر، وتسلم الرحبة أيضاً، وبعث السلطان إليها عشرين ألف دينار عينا، وولي مدينة حران الأمير جمال الدين الجاكي، وولي مدينة الرقة أميرا آخر. وورد الخبر بأن متملك جزيرة دهلك ومتملك جزيرة مواكن، يتعرضان إلى أموال من مات من التجار فسير السلطان إليها أحد رجال الحلقة رسولا، ينكر عليهما.
وفي هذه السنة: بلغ ثمن القرط الذي قضمته الخيول السلطانية وجمال المناخات بأرض مصر، ما مبلغه خمسون ألف دينار.
وفي هذه السنة: ارتفعت الأسعار. بمصر، فبلغ الأردب القمح نحو المائة درهم نقرة، فأمر السلطان بالتسعير فاشتد الحال وعدم الخبز.
وبلغ القمح مائة درهم وخمسة دراهم الأردب، والشعير إلى سبعين درهما الأردب، والخبز ثلاثة أرطال بدرهم، واللحم كل رطل بدرهم وثلث، وبلغ بالإسكندرية الأردب القمح ثلاثمائة وعشرين درهما من الورق.
ثم اشتد الحال بالناس حتى أكلوا ورق اللفت والكرنب ونحوه، وخرجوا إلى الريف فأكلوا عروق الفول الأخضر.
فلما كان يوم الخميس سابع ربيع الآخر. نزل السلطان إلى دار العدل وأبطل التسعير، وكتب إلى الأهراء ببيع خمسمائة أردب كل يوم لضعفاء الناس، ويكون البيع من ويبتين إلى ما دون ذلك حتى لا يشتري من يخزن.

ونودي للفقراء فاجتمعوا تحت القلعة، ونزل الحجاب إليهم فكتبوا أسمائهم، ومضى إلى كل جهة حاجب فكتب ما بقي في القاهرة ومصر من الفقراء، وأحضروا عدتهم فبلغت ألوفا.
فقال السلطان: والله لو كانت عندي غلة تكفي هذا العالم لفرقتها.
ثم أخذ ألوفا منهم، وأعطي لنواب ابنه الملك السعيد مثل ذلك، وأمر في ديوان الجيش فكتب باسم كل أمير جماعة على قدر عدته، وأعطي الأجناد والمفاردة من الحلقة والمقدمين والبحرية، وعزل التركمان ناحية والأكراد ناحية. وأمر أن يعطي كل فقير كفايته مدة ثلاثة أشهر، وأعطي للتجار طائفة من الفقراء، وأعطي الأغنياء على اختلاف طبقاتهم كل أحد بقدر حاله. وأمر أن يفرق من الشون السلطانية على أرباب الزوايا في كل يوم مائة أردب، بعد ما يعمل خبزا بجامع ابن طولون.
ثم قال السلطان: هؤلاء المساكين قد جمعناهم اليوم وانقضي نصف النهار، فادفعوا لكل منهم نصف درهم يتقوت به خبزا، ومن غد يتقرر الحال ففرق فيهم جملة كبيرة. وأخذ الصاحب بهاء الدين طائفة العميان، وأخذ الأتابك جماعة التركمان، فلم يبق أحد من الخواص ولا من الطاشي ولا من الحجاب، ولا من الولاة وأرباب المناصب وذوي المراتب وأصحاب المال، حتى أخذ جماعة من المساكين. وقال السلطان للأمير صارم الدين السعودي وإلى القاهرة: خذ مائة فقير أطعمهم لله. فقال الأمير: قد فعلت ذلك، وأخذتهم دائماً. فقال السلطان: ذلك فعلته ابتداء من نفسك، وهذه المائة خذها لأجلي فأخذ مائة مسكين أخرى.
وشرع الناس في فتح المخازن وتفرقة الصدقات، فانحط السعر عشرين درهما الأردب، وقلت الفقراء. واستمر الحال إلى شهر رمضان، فدخل المغل الجديد وانحل السعر في يوم واحد أربعين درهما الأردب.
وفي اليوم الذي جلس فيه السلطان بدار العدل، رفعت إليه قصة ضمان دار الضرب فيها بوقف الدراهم، وسألوا إبطال الدراهم الناصرية، وأن ضمانهم مبلغ مائتي ألف وخمسين ألف درهم، فأمر السلطان أن يحط من ضمانهم مبلغ خمسين ألف درهم، وقال: لا نؤذي الناس في أموالهم " .
وفي العشرين من ربيع الآخر: كانت زلزلة عظيمة هدمت عدة أماكن.
وفي ثالث عشريه: رسم بمسامحة بنات الأمير حسام الدين لاجين الجوكندار العزيزي. بما وجب للديوان في تركة أبيهن وكان قد مات بدمشق في رابع عشر المحرم وهو مبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة، خارجا عن ماله من الأملاك والغلال والخيل. وكتب السلطان بذلك إلى الشام، وقصد بدلك أن يفهم أمراءه أن من مات في خدمته وحفظ يمينه، ينظر في أمر ورثته ويبقي عليهم ما يخلفه.
ومات الأمير شهاب الدين القيمري نائب السلطنة بالفتوحات الساحلية، فأعطي ابنه إقطاعه وهو مائة طواش.
ولما أسر الفرنج الأمير شجاع الدين والي سرمين أبقي السلطان إقطاعه بيد إخوته وغلمانه، كل ذلك استجلابا للقلوب.
وفيه ورد الخبر أن هيتوم ملك الأرمن جمع وسار إلى هرقلة، ونزل على قلعة صرخد. فخرج البريد من قلعة الجبل إلى حماة وحمص بالمسير إلى حلب، فخرجوا وأغاروا على عسكر الأرمن، وقتلوا منهم وأسروا. فانهزم الأرمن واستنجدوا بالتتار، فقدم منهم من كان في بلاد الروم وهم سبعمائة فارس فلما وصلوا إلى حارم رجعوا من كثرة الثلج، وقد هلك منهم كثير.
وورد الخبر بأن خليج الإسكندرية قد انسد وامتلأت فوهته بالطين، وقل الماء في ثغر الإسكندرية بهذا السبب، فسير السلطان الأمير عز الدين أمير جاندار فحفره، وبعث الأمير جمال الدين موسى بن يغمور الأستادار لحفر بحر جزيرة بني نصر عند قلة ريها.

وفي جمادى الأول: سافر الأمير سيف الدين بلبان الزيني أمير علم إلى الشام برسم تجهيز مهمات القلاع، وعرض عساكر حماة وحلب ورجال الثغور، وإلزام الأمراء بتكميل العدد والعدة، وإزاحة الأعذار بسبب الجهاد. وكتب على يده عدة تذاكر. بما يعتمده، وأن يحمل من دمشق خزانة كبيرة إلى البيرة برسم نفقاتها. ورحلت جماعة من عرب خفاجة كانوا قد وردوا بكتب من جماعتهم بالعراق، يخبرون فيها بأنهم أغاروا على التتار حتى وصلت غاراتهم باب مدينة بغداد، ويخبرون بأحوال مدينة شيراز، فأجيبوا وأحسن إليهم. وفيه توجه قصاد إلى الملك بركة، وأسلم عالم كبير على يد السلطان من التتار الواصلين ومن الفرنج المستأمنين والأسري ومن النوبة القادمين من عند ملكها، ففرق فيهم في يوم واحد الأمير بدر الدين الخازندار مائة وثمانين فرسا.
وفي جمادى الآخرة: قبض على جاسوسين من التتار. وتنجز البرج الذي بناه السلطان في قارة، وشرع في بناء برج أكبر منه لحفظ الطرقات من عادية الفرنج. واهتم ملك الأرمن بالمسير إلى بلاد الشام، وأعد ألف قياء تتري وألف سراقوج، ألبسها الأرمن ليوهم إنهم نجدة من التتر ولما ورد الخبر بذلك خرج البريد إلى دمشق بخروج عسكرها إلى حمص، وخروج عسكر حماة، وألا يخرج عربان الشام في هذه السنة إلى البرية. فخرجت العساكر، ووالت الغارات من كل جهة، فانهزم الأرمن، ونزل العسكر على أنطاكية فقتل وأسر وغنم، وأغار العسكر أيضاً ببلاد الساحل على الفرنج حتى وصل إلى أبواب عكا.
وشرع السلطان البناء في شقيف تيرون، وكان قد خرب من سنة ثمان وخمسين وستمائة، فلما تم بناؤه حمل إليه زردخاناه وذخائر، وبعث إلى عسكر الساحل مائتي ألف درهم فرقت فيهم. وورد البريد بأن جماعة من شيراز، ومن أمراء العراق وأمراء خفاجة، وصلوا وافدين إلى الأبواب السلطانية.
وفي أول رجب: رفعت قصة بأن على باب المشهد الحسيني مسجدا إلى جانبه موضع من حقوق القصر قد بيع بستة آلاف درهم حملت إلى الديوان. فأمر السلطان بردها وعمل الجميع مسجدا، وأمر بعمارته، ووقف أحد الجند بيتيم معه ذكر إنه وصيه، فقال السلطان لقاضي القضاة. إن الأجناد إذا مات أحدهم استولي خشداشيته على موجوده، ويجعل اليتيم من الأوشاقية، فإذا مات اليتيم أخذ الوصي موجوده، أو يكبر اليتيم فلا يجد شيئا ولا تقوم له حجة على موجوده، أو يموت الوصي فيذهب مال اليتيم في ماله، والرأي أن أحدا من الأوصياء لا ينفرد بوصية، وليكن نظر الشرع شاملا، وأموال اليتامى مضبوطة، وأمناء الحكم يحاققون على المصروف. وطلب السلطان نواب الأمراء ونقباء العساكر وأمرهم بذلك، فاستمر الحال عليه.
وفي ثالثه: قدم الوافدون من شيراز، ومقدمهم الأمير سيف الدين بكلك، ومعهم سيف الدين اقتبار الخوارزمي جمدار جلال الدين خوارزم شاه، وغلمان أتابك سعد، وهم شمس الدين سنقرجاه ورفقته. ووصل صحبتهم مظهر الدين وشاح بن شهري، والأمير حسام الدين حسين بن ملاح أمير العراق، وكثير من أمراء خفاجة. فتلقاهم السلطان بنفسه، وأعطي سيف الدين بكلك إمرة طبلخاناه، وأحسن إلى سائرهم.
وفي شعبان: أمر السلطان الأمراء والأجناد والمماليك بعمل العدد الكاملة، فوقع الاهتمام من كل أحد بعمل ذلك، وكثر الازدحام بسوق السلاح، وارتفع سعر الحديد وأجر الحدادين وصناع آلات السلاح، و لم يبق لأحد شغل إلا ذلك، حتى صار العسكر لا ينفق متحصله في شيء سوي السلاح، ولا يشتغل أحد منهم إلا بنوع من أنواع الحرب كالرمح ونحوه، وتفننوا في أنواع الفروسية. وورد كتاب أمير المدينة النبوية إنه سار مع كسوة الكعبة حتى علقها في البيت.
وفي شهر رمضان: تنجزت كسوة قبر النبي صلي الله عليه وسلم، وتعين سفرها مع الطواشي جمال الدين محسن الصالحي. ووقع الشروع في تجهيز الشمع والبخور والزيت والطيب. وخرج البريد إلى الأمير ناصر الدين القيمري بالغارة على قيسارية وعثليث فساق إلى باب عثليث ونهب وقتل وأسر، ثم ساق إلى قيسارية ففعل مثل ذلك بالفرنج. وكان الفرنج قد قصدوا يافا، فخافوا ورجعوا عنها.

وفيه جري السلطان على عادته في إجراء الصدقات مطابخ القاهرة ومصر برسم الفقراء، فكان يصرف في كل ليلة من ليالي رمضان جملة كبيرة من الخبز واللحم المطبوخ، وجري أيضاً على عادته في عتق ثلاثين نسمة على عادة ملوك الماضين، سوي من أعتقه من مماليكه. وورد الخبر بأن الفرنج أخذوا أخيذة كبيرة للمسلمين، فكتب إلى نواب الشام بالاجتهاد في ردها، فورد كتاب الأمير ناصر الدين القيسري بأن الفرنج ردوها، وكانت تشتمل على عالم كبير من الناس وجملة من المواشي. فسمع في ساعة ردها من اختلاف الأصوات بدعاء الرجال والنساء وبكاء الأطفال، ما تكاد ترق له الحجارة.
وقدم البريد من البيرة أن صارم الدين بكتاش الزاهدي أغار على باب قلعة الروم مرارا.
وورد كتاب الملك شارل أخي الفرنسيس ملك الفرنج، ومعه هدية وكتاب أستاداره: بأن مندوبه أمره أن يكون أمر الملك الظاهر نافذا في بلاده،. وأن أكون نائب الملك الظاهر كما أنا نائبه.
وفي يوم الجمعة خامس عشريه: قرئ مكتوب في جامع مصر بإبطال ما قرر على ولاية مصر من الرسوم، وهي مائة ألف درهم وأربعة آلاف درهم نقرة. وورد الخبر بأن الأشكري عوق الرسل إلى الملك بركة بالهدية عن المسير إليه، حتى هلك أكثر ما معهم من الحيوان، فأحضر السلطان البطاركة والأساقفة، وسألهم عمن خالف الأيمان وما كتب به الأشكري، فأجابوا بأنه يستحق أن يحرم من دينه، فأخذ السلطان خطوطهم بذلك، وأخرج لهم حينئذ نسخ أيمان الأشكري، وقال: إنه قد نكث بإمساك رسلي، ومال إلى جهة هولاكو. ثم جهز إليه الراهب الفيلسوف اليوناني، ومعه قسيس وأسقف، بحرمانه من دينه، وكتب له كتابا أغلظ فيه. وكتب السلطان أيضاً إلى الملك بركة كتابا وسيره إلى الأمير فارس الدين أقوش السعودي المتوجه بالهدية إلى الملك بركة. فلما وصلوا إلى الأشكري أطلقهم لوقته، فساروا إلى الملك بركة.
وقدم البريد من البلاد الشامية بأن عدة من التتار ومن الأتراك والبغاددة قد قصدوا البلاد مستأمنين، فأمر السلطان بجمع الأمراء وأعلمهم بذلك، وقال: أخشى أن يكون في مجيئهم من كل جهة ما يستراب منه، والرأي أن نخرج إليهم، فإن كانوا طائعين عاملناهم. بما ينبغي، وإلا فنكون على أهبة. ومن احتاج من العسكر إلى شيء أعطيته، وما أنا إلا كأحدكم يكفيني فرس واحد، وجميع ما عندي من خيل وجمال ومال كله لكم ولمن يجاهد في سبيل الله.
فأشار الأمراء عليه بسلطنة ولده، ليكون مقيما بديار مصر في غيبته.
فلما كان يوم الخميس ثالث عشر شوال: أركب السلطان ابنه الملك السعيد بشعار السلطنة، وخرج بنفسه في ركابه وحمل الغاشية راجلا بين يديه، فأخذها منه الأمراء، ورجع إلى مقر ملكه ولم تزل الأمراء والعساكر في خدمته إلى باب النصر، ودخلوا به من القاهرة رجالة يحملون الغاشية، وقد زينت المدينة أحسن زينة، واهتم الأمراء بنصب القباب: فسار الملك السعيد، والأمير عز الدين أيدمر الحلي راكب إلى جانبه وقد تقرر أن يكون أتابكه، والنياب الأطلس والعتابي تفرش تحت فرسه، حتى عاد إلى قلعة الجبل ولم يبق أمير حتى فرش من جهته الثياب الحرير، فاجتمع من ذلك أحمال تفرقها المماليك السلطانية. وكتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر تقليد الملك السعيد، بتفويض عهد السلطنة له.
وفي يوم الإثنين سابع عشره: اجتمع الأمراء والقضاة والفقهاء، وقرئ التقليد المذكور، وشرع في ختان الملك السعيد، فأمر السلطان الناس بالتأهب للعرض عليه بالأسلحة وآلات الحرب. وقدمت طائفة من جهة التتار المستأمنة، فكتب السلطان إلى أمراء خفاجة بخدمتهم. وظهر كوكب الذؤابة بالشرق وذؤابته نحو الغرب. وصار يطلع قبيل الفجر، ويتقدم قليلا قليلا حتى صار يطلع مرتفعا، وأضاء ذنبه كثيرا ولم يتغير عن منزلة الهقمة وبعده منها إلى جهة المشرق نحو رمح طويل. واستمر من آخر رمضان إلى أول ذي القعدة، وكان يظهر له قبل بروزه شعاع عظيم في الجو، وظهر أيضاً في الغرب مما يلي الشمال، بعد عشاء الآخرة في ليال عديدة من أخريات رمضان وأوائل شوال، خطوط مضيئة شبه الأصابع مرتفعة في جو السماء. واحمرت الشمس في رابع شوال قبيل الغروب، وذهب ضؤها حتى صارت كأنها منكسفة إلى أن غربت، فلما كان بعد عشاء الآخرة أصاب القمر مثل ذلك.

وأحضر من المقس ظاهر القاهرة طفل ميت، له رأسان وأربع أعين وأربع أرجل وأربع أيدي، وجد بساحل المقس.
وفيه قتل الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل صاحب الكرك، وورد الخبر بوصول الرسل إلى الملك بركة، وإكرامه إياهم وتجهيزه لهم.
وفي أول ذي القعدة: جلس السلطان لعرض العساكر عند طلوع الشمس، وقد ملأوا الدنيا، فساق كل أمير في طلبه وهو لابس لامة حربه، وجروا الجنائب وعليها عدد الحرب، وأمر السلطان ألا يلبس أحد في هذا اليوم إلا شعار الحرب. مما زال السلطان جالسا على الصفة التي بجانب دار العدل، والعساكر تسوق وهي لابسة، وديوان الجيش بين يديه، والعساكر تعبر خمسة، ثم عبرت عشرة عشرة. وكاد الناس يهلكون من الزحام وحمو الحديد، فعبروا بغير حساب. وهلك عدة من الناس في الزحام، منهم أيبك مملوك الأمير عز الدين أيدمر الحلي، فدفن ثم نبش ودفن في قبر آخر. فقال في ذلك القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر:
ما نقلوا أيبك من قبره ... لحادث كلا ولا عن ثبور
لكنه في يوم عرض قضى ... والعرض لابد له من نشور
وأراد السلطان بركوب العسكر في يوم واحد حتى لا يقال إن أحدا استعار شيئاً، فكان من يعرض يدخل من باب القرافة، ويخرج من جهة الجبل إلى باب النصر إلى الدهليز المضروب هناك. فلما قرب غروب الشمس ركب السلطان بقباء أبيض لا غير، وساق في وسط العساكر اللابسة ومعه يسير من سلاح داريته وخواصه إلى الدهليز، فنزل به ورتب المنازل، ثم عاد إلى القلعة وقت المغرب. ثم إن الناس اهتموا باللعب، ولبسوا خيولهم النشاهير والبرلسم البحرية، والمراوات والأهلة الذهب والفضة، والأطلس الخطابي.
ونزل السلطان وجانبه تجر، فكان منظرا يبهر العيون حسنه. وكان الذي دخل في المراوات من البنود الأطلس الأصفر قيمته عشرة آلاف دينار، وما تجدد بعد ذلك لا يحصي. وساق السلطان إلى ميدان العيد وقدامه جنائبه، وشرط لكل أمير يصيب القبق فرسا من الجنائب بما عليه من التشاهير، وخلعة لكل مفردي أو مملوك أو جندي. وساق هو والأمراء، ثم المفاردة والبحرية والظاهرية والحلقة والأجناد، ودخل الناس بالرماح بكرة النهار. ونزل السلطان وقت الصلاة للصلاة وإطعام الطعام، ثم ركب الناس ولبسوا، وركب السلطان لرمي النشاب وأعطي وخلع.
وفي هذا اليوم: حضر رسل الملك بركة، فشاهدوا من كثرة العساكر وحسن زيهم واهتمام السلطان وبهجة الخيول وجلالة الفرسان ما بهر عقولهم، ووقفوا بجانب السلطان يشاهدون حركات العساكر وإصابة رميها. واستمر ذلك أياما.
وفي تاسعه: خلع السلطان على الملوك والأمراء والبحرية والحجاب والحلقة، وأرباب العمائم والوزراء والقضاة وذوي البيوت، وحضروا بالخلع، واستمر اللعب بقية النهار. فسألت الرسل عن العساكر، هل هي عساكر مصر والشام، فقيل لهم: هذا عسكر مصر فقط، غير من في الثغور مثل إسكندرية ودمياط ورشيد وقوص، والمجردين والذين سافروا في إقطاعاتهم. فكثر تعجبهم من ذلك.
وفي عاشره: عمل السماط بقلعة الجبل، وحضر الملك السعيد وفي خدمته أولاد الملوك وأولاد الأمراء. فختن الملك السعيد، ثم ختن ابن الأمير عز الدين الحلي الأتابك، وابن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر الرومي، وابن الأمير سيف الدين سكز، وابن حسام الدين ابن بركة خان، وابن الملك المجاهد ابن صاحب الموصل، ثم أولاد الملك المغيث صاحب الكرك الثلاثة، وابن فخر الدين الحمصي، وعدة من أولاد الأمراء.
وكان ذلك بعدما عمل لعدة من الأيتام وأبناء الفقراء بمصر والقاهرة كسوة، فاحضروا في هذا اليوم وختنوا. ومنع السلطان الأمراء والخواص من التقدمة التي جرت العادة بها للملوك في مثل هذا المهم، فلم يقدم أحد من الخاصة شيئا ألبتة.

ولما انقضي هذا المهم خرج السلطان إلى الطرانة وسار إلى وادي هبيب ونزل الأديرة التي هناك، ومضى إلى تروجة وسار منها إلى الحمامات، وسلك إلى العقبة وضرب الحلقة برسم الصيد، وأدركه عيد النحر هناك. وجرد جماعة لأخذ عربان بلغه كثرة فسادهم، وأحضر هوارة وعرب سليم، وألزمهم بإشهاد كتب عليهم بعمارة البلاد، وألا يؤوا أحدا من أهل الفساد. ثم عاد إلى ثغر الإسكندرية، وعم المفاردة والأمراء والخواص بتفرقة المال والقماش، ولعب الكرة بالميدان، وزار الشاطبي. ثم سار إلى القاهرة، فنزل تروجة، ورسم بتقديم سيف الدين عطا الله بن عزار على عرب برقة، وألزمه بجباية زكاة المواشي وأخذ عشر الزروع والثمار بفريضة الله، فالتزم بذلك. وأنعم عليه بسنجق ونقارات، وتوجه لحفظ البلاد واستخرج الزكاة والعشور من العربان ببرقة.
ووصل السلطان إلى قلعة الجبل، فقدم شحنة تكريت بجماعة. وجهز السلطان الأمير أمين الدين موسى بن التركماني، ومعه عدة من الرماة والمقاتلة. وخزانة مال وعدة خلع، وكثير من أمراء عربان الكرك وبحريتها، ومبلغ من الغلال والذخائر. فساروا إلى خيبر واستولوا على قلعتها.
وكثر في هذه السنة قتل الناس في الخليج، وفقد جماعة، والتبس الأمر في ذلك. ثم ظهر بعد شهر أن امرأة جميلة يقال لها غازية كانت تخرج بزينتها ومعها عجوز، فإذا تعرض لها أحد قالت له العجوز: لا يمكنها المصير إلى أحد، ولكن من أرادها فليأت منزلنا، فإذا وافي الرجل إليها خرج إليه رجال فقتلوه وأخذوا ما معه. وكانت المرأة في كل قليل تنتقل من منزل إلى منزل، حتى سكنت خارج باب الشعرية على الخليج. فأتت العجوز إلى ماشطة مشهورة بالقاهرة واستدعتها إلى فرح، فسارت الماشطة معها بالحلي على العادة ومعها جاريتها، ودخلت الماشطة وانصرفت جاريتها، فقتل الجماعة الماشطة وأخذوا ما كان معها. وجاءت جاريتها إلى الدار تطلب مولاتها فأنكروها، فمضت إلى الوالي وعرفته الخبر، فركب إلى الدار وهجمها فإذا بالصبية والعجوز، فقبض عليهما وعرضهما على العذاب، فأقرتا فحبسهما. واتفق أن رجلا خارجا لفقد أحوالهما، فقبض عليه وعوقب فدل على رفيقه، فإذا هو صاحب أقمنة طوب فعوقب أيضاً. فوجد إنهم كانوا إذا قتلوا أحدا ألقوه في القمين حتى تحترق عظامه، وأظهروا من الدار حفائر قد ملئت بالقتلى، فسمروا جميعا. ثم انطلقت المرأة بعد يومين، فأقامت قليلا وماتت، ثم عملت الدار التي كانوا بها مسجدا، وهو المعروف. بمسجد الخناقة. وفي هذه السنة: وقف السلطان عدة قري بأعمال الشام والقدس، لصرف ريعها في خبز ونعال لمن يرد إلى القدس من المشاة، ومبلغ فلوس. وأنشأ خانا وفرنا وطاحونا، وجعل النظر في ذلك للأمير جمال الدين محمد بن نهار.
وفيها قبض الأشكري صاحب قسطنطينية على عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن كيقباد صاحب بلاد الروم. وسبب وجود عز الدين عند الأشكري هو اختلافه مع أخيه ركن الدين قلج أرسلان، حتى غلبه أخوه ففر منه، وملك أخوه ركن الدين قلج أرسلان بلاد الروم. فمضى عز الدين إلى الأشكري، فأواه وأنزله ومن معه من الأمراء، وقام بأمرهم مدة، حتى بلغه إنهم قصدوا قتله وأخذ المملكة منه، فقبض عليهم واعتقل عز الدين، وكحل أصحابه كلهم فأعماهم.
وفيها ولي محيي الدين أبو المكارم محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن الأستاذ الأسدي الشافعي قضاء حلب، عوضاً عن ابن عمه كمال الدين أبي بكر أحمد المتوفي.
ومات في هذه السنة من الأعيانالملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ابن شادي صاحب الكرك، مقتولا بقلعة الجبل، عن ثلاثين سنة.
ومات الملك الأشرف موسى بن المنصور بن إبراهيم بن المجاهد شيركوه بن القاهر محمد بن المنصور بن شيركوه بن شادي صاحب حمص، عن خمس وثلاثين سنة بها، وهو آخر من ملك حمص من أولاد شيركوه.
ومات الأمير حسام الدين لاجين العزيزي الجوكندار بدمشق، عن نحو خمسين سنة. وتوفي قاضي قضاة دمشق عماد الدين أبو الفضائل عبد الكريم بن جمال الدين أبي القاسم عبد الصمد بن محمد بن الفضل. بن الحرستاني الدمشقي الشافعي، وهو معزول وبيده خطابة الجامع وتدريس الحديث بالأشرفية، عن خمس وخمسين سنة بدمشق.

وتوفي قاضي القضاة بحلب كمال الدين أبو بكر أحمد بن زين الدين أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن علوان الأسدي الشافعي، المعروف بابن الأستاذ، عن إحدى وخمسين سنة.
وتوفي شيخ الشيوخ بحماة شرف الدين أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري عن ست وسبعين سنة، في ثامن رمضان، ومولده في جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة.
وتوفي الرجل الصالح أبو القاسم بن منصور بن يحيي القباري بالإسكندرية، عن خمس وسبعين سنة.
سنة ثالث وستين وستمائةفي المحرم توجه الملك الظاهر من قلعة الجبل إلى الصيد فأقام برسيم، ثم صار إلى العباسية ورمي البندق، وادعي له جماعة منهم الأمير فخر الدين عثمان ابن الملك المغيث صاحب الكرك. فورد الخبر بنزول التتر على البيرة، فجهز السلطان من فوره الأمير بدر الدين الخازندار على البريد، ليخرج أربعة آلاف فارس من بلاد الشام.
وركب السلطان من موضعه وساق إلى القلعة، وكانت الخيول على الربيع، فلم يقم بقلعة الجبل بعد عوده من الصيد غير ليلة. وعين الأمير عز الدين إيغان المعروف بسم الموت لتقدمة العساكر، ومعه من الأمراء فخر الدين الحمصي، والأمير بدر الدين بيليك الأيدمري، والأمير علاء الدين كشتغاي الشمسي، وعدة من الأمراء والحلقة تبلغ أربعة آلاف فارس، فخرجوا من القاهرة جرائد في رابع شهر ربيع الأول. ثم عين الأمير جمال الدين المحمدي، والأمير جمال الدين أيدغدي الحاجي، ومعهما أربعة آلاف أخرى، فبرزوا ثاني يوم خروج الأمير عز الدين إيغان إلى ظاهر القاهرة، وساروا في عاشره.
وفي يوم السبت رابع ربيع الآخر: شرع السلطان في السفر، وخرج بنفسه في خامس شهر ربيع الآخر ومعه عساكر كثيرة، فوقع فناء في الدواب هلك منها عدد كثير، وصارت الأموال مطروحة، والسلطان لا يقصر في المسير. فلما شكي إليه قلة الظهر قال: ما أنا في قيد الجمال، أنا في قيد نصرة الإسلام.
ونزل السلطان غزة في العشرين منه، فورد الخبر بأن العدو نصب على البيرة سبعة عشر منجنيقا، فكتم ذلك ولم يعلم به سوي الأمير شمس الدين سنقر الرومي والأمير سيف الدين قلاوون فقط.
وكتب السلطان للأمير إيغان: " متى لم تدركوا قلعة البيرة وإلا سقت إليها بنفسي جريدة،، فساق الأمير إيغان العسكر، ورحل السلطان من غزة، ونزل قريبا من صيداء، فركب للصيد فتقطر عن فرسه وتهشم وجهه، فتجلد ورحل، وأتاه قسطلان يافا بتقادم.
ونزل السلطان بيبني في سادس عشريه، فورد البريد من دمشق وهو في الحمام بالدهليز، فلم يمهل وقرئ عليه الكتاب وهو عريان: فإذا هو يتضمن بأن بطاقة الملك المنصور صاحب حماة سقطت بأنه وصل إلى البيرة بالعساكر، صحبة الأمير عز الدين إيغان وجماعة الأمراء يوم الإثنين، وأن التتار عندما شاهدوهم هربوا، ورموا مجانيقهم وغرقوا مراكبهم، وكان من حين كتابتها بالبيرة إلى حين وصولها يبني أربعة أيام، ثم توالت كتب الأمراء بالبشارة، فكتب بذلك إلى القاهرة وغيرها. واستشهد على البيرة الأمير صارم الدينبكناش الزاهدي، وترك موجودا كبيرا وبنتا واحدة، فرسم السلطان أن يكون جميع الإرث لها لا يشاركها فيه أحد وكتب السلطان بعمارة ما خرب من البيرة، وحمل آلات القتال والأسلحة إليها من مصر والشام، وأن يعبأ فيها كل ما يحتاج إليه أهلها في الحصار لمدة عشر سنين. وكتب للأمراء ولصاحب حماة بالإقامة على البيرة، حتى ينظف الخندق من الحجارة التي ردمها العدو فيه، فكانت الأمراء تنقل الحجارة على أكتافها مدة. وبعثوا بخبر ذلك إلى السلطان وهو واقف على سور قيسارية ليهدمه بنفسه، وفي يده القطاعة وقد تجرحت يده. فكتب جوابهم: إنا بحمد الله ما تخصصنا عنكم براحة ولا دعة، ولا أنتم في ضيق ونحن في سعة. ما هنا إلا من هو مباشر الحروب الليل والنهار، وناقل الأحجار ومرابط الكفار. وقد تساوينا في هذه الأمور، وما ثم ما تضيق به الصدور.

وكتب السلطان إلى القاهرة باستدعاء مائتي ألف درهم ومائتي تشريف، وإلى دمشق بتجهيز مائة ألف درهم ومائة تشريف، وحمل جميع ذلك إلى البيرة. وكتب إلى الأمير إيغان بأن يحضر أهل قلعة البيرة ويخلع على سائر من فيها من أمير ومأمور وجندي وعامي، وينفق فيهم المال. حتى الحراس وأرباب الضوء، فاعتمد ذلك كله وكتب إلى الديار المصرية بتبطيل المزر، وأن تعفي أثاره وتخرب بيوته وتكسر مواعينه، وأن يسقط ارتفاعه من الديوان، ومن كان له على هذه الجهة شيء نعوضه من مال الله الحلال، فاعتمد ذلك، وعوض المقطعون بدل ما كان لهم على جهة المزر.
ثم ركب السلطان من العوجاء بعد ركوب الأطلاب للتصيد في غابة أرسوف، ورسم للأمراء من أراد منهم الصيد فليحضر، فإن الغابة كثيرة السباع وساق إلى أرسوف وقيسارية، فشاهدهما وعاد إلى الدهليز، فوجد أخشاب المنجنيقات قد أحضرت بصحبة زرد خاناه، فأمر بنصب عدة مجانيق وعملها. وجلس السلطان مع الصناع يستحثهم، فعمل في يوم واحد أربع منجنيقات كبار سوي الصغار. وكتب إلى القلاع بطلب المجانيق والصناع والحجارين، ورسم للعسكر بعمل سلالم. ورحل السلطان إلى قريب عيون الأساور من وادي عارة وعرعرة، فلما كان بعد عشاء الآخر أمر العسكر كله فلبسوا آلة الحرب، وركب آخر الليل وساق إلى قيسارية، فوافاها بكرة نهار الخميس تاسع جمادى الأولى على حين غفلة من أهلها، وضرب عليها بعساكره. وللوقت ألقي الناس أنفسهم في خندقها، وأخذوا السكك الحديد التي برسم الخيول مع المقاود والشبح، وتعلقوا فيها من كل جانب حتى صعدوا، وقد نصبت المجانيق ورمي بها. فحرقوا أبواب المدينة واقتحموها، ففر أهلها إلى قلعتها، وكانت من أحصن القلاع وأحسنها وتعرف بالخضراء وكان قد حمل عليها الفرنج العمد الصوان، وأتقنوها بتصليب العمد في بنيانها، حتى لا تعمل فيها النقوب ولا تقع إذا علقت، فاستمر الزحف والقتال عليها بالمجانيق والدبابات والزحافات ورمي النشاب. وخرجت تجريدة من عسكر السلطان إلى بيسان مع الأمير شهاب الدين القيمري، فسير جماعة من التركمان والعربان إلى أبواب عكا، فاسروا جماعة من الفرنج. هذا والقتال ملح على قلعة قيسارية، والسلطان مقيم بأعلى كنسية تجاه القلعة ليمنع الفرنج من الصعود إلى علو القلعة، وتارة يركب في بعض الدبابات ذوات العجل التي تجري حتى يصل إلى السور ليري النقوب بنفسه. وأخذ السلطان في يده يوما من الأيام ترسا وقاتل، فلم يرجع إلا وفي ترسه عدة سهام.
فلما كان في ليلة الخميس النصف من جمادى الأولى: سلم الفرنج القلعة. بما فيها، فتسلق المسلمون من الأسوار، وحرقوا الأبواب ودخلوها من أعلاها وأسفلها، وأذن بالصبح عليها. وطلع السلطان ومعه الأمراء إليها، وقسم المدينة على الأمراء والمماليك والحلقة، وشرع في الهدم ونزل وأخذ بيده قطاعة وهدم بنفسه. فلما قارب الفراغ من هدم قيسارية بعث السلطان الأمير سنقر الرومي والأمير سيف الدين المستعرب في جماعة، فهدموا قلعة كانت للفرنج عند الملوحة قريب دمشق وكانت عاتية حتى دكوها دكا.
وفي سادس عشريه: سار السلطان جربذة إلى عثليث، وسير الأمير سنقرا السلاح دار، والأمير عز الدين الحموي، والأمير سنقرا الألفي إلى حيفا. فوصلوا إليها، ففر الفرنج إلى المراكب وتركوا قلعتها، فدخلها الأمراء بعد ما قتلوا عدة من الفرنج وبعد ما أسروا كثيرا، وخربوا المدينة والقلعة وأحرقوا أبوابها في يوم واحد، وعادوا بالأسري والرءوس والغنائم سالمين. ووصل السلطان إلى عثليث فأمر بتشعيثها وقطع أشجارها، فقطعت كلها وخربت أبنيتها في يوم واحد. وعاد إلى الدهليز بقيسارية، وكمل هدمها حتى لم يدع لها أثرا، وقدمت منجنيقات من الصبيبة وزرد خاناه من دمشق، وورد عدة من الفرنج للخدمة، فأكرمهم السلطان وأقطعهم الإقطاعات.

وفي تاسع عشريه: رحل السلطان من قيسارية، وسار من غير أن يعرف أحد قصده فنزل على أرسوف مستهل جمادى الآخرة، ونقل إليها من الأحطاب ما صارت حول المدينة كالجبال الشاهقة وعمل منها ستائر، وحفر سربين من خندق المدينة إلى خندق القلعة وسقفه بالأخشاب. وسلم أحدهما للأمير سنقر الرومي، والأمير بدر الدين بيسري، والأمير بدر الدين الخازندار، والأمير شمس الدين الذكر الكركي، وجماعة غيرهم. وسلم الآخر للأمير سيف الدين قلاوون، والأمير علم الدين الحلبي الكبير، والأمير سيف الدين كرمون، وجماعة غيرهم. وعمل السلطان طريقا من الخندقين إلى القلعة، وردمت الأحطاب في الخندق، فتحيل الفرنج وأحرقوها كلها. فأمر السلطان بالحفر من باب السربين إلى البحر، وعمل سروبا تحت الأرض يكون حائط خندق العدو ساترا لها، وعمل في الحائط أبوابا يرمي التراب منها وينزل في السروب حتى تساوي أرضها أرض الخندق. وأحضر المهندسين حتى تقرر ذلك، وولي أمره للأمير عز الدين أيبك الفخري. فاستمر العمل، والسلطان بنفسه ملازم العمل بيده في الحفر وفي جر المنجنيقات ورمي التراب ونقل الأحجار، أسوة لغيره من الناس. وكان يمشي. بمفرده وفي يده ترس، تارة في السرب وتارة في الأبواب التي تفتح، وتارة على حافة البحر يرامي مراكب الفرنج. وكان يجر في المجانيق، ويطلع فوق الستائر يرمي من فوقها، ورمي في يوم واحد ثلاثمائة سهم بيده. وحضر في يوم إلى السرب وقد في رأسه خلف طاقة يرمي منها، فخرج الفرنج بالرماح وفيها خطاطيف ليجبذوه فقام وقاتلهم يدا بيد وكان معه الأمير سنقر الرومي، والأمير بيسري، والأمير بدر الدين الخازندار، فكان سنقر يناوله الحجارة حتى قتل فارسين من الفرنج، ورجعوا على أسوأ حال. وكان يطوف بين العساكر في الحصار بمفرده، ولا يجسر أحد ينظر إليه ولا يشر إليه بإصبعه. وحضر في هذه الغزاة جمع كبير من العباد والزهاد والفقهاء وأصناف الناس، و لم يعهد فيها حمر ولا شيء من الفواحش. بل كانت النساء الصالحات يسقين الماء في وسط القتال، ويعملن في جر المجانيق. وأطلق السلطان الرواتب من الأغنام وغيرها لجماعة من الصلحاء، وأعطي الشيخ على البكا جملة مال. ولا سمع عن أحد من خواص السلطان إنه اشتغل عن الجهاد في نوبته بشغل، ولا سير أمير غلمانه في نوبته واستراح. بل كان الناس فيها سواء في العمل، حتى أثرت المجانيق في هدم الأسوار، وفرغ من عمل الأسربة التي بجانبي الخندق، وفتحت فيها أبواب متسعة. فلما تهيأ ذلك وقع الزحف على أرسوف في يوم الخميس ثامن رجب، ففتحها الله في ذلك اليوم عندما وقعت الباشورة. فلم يشعر الفرنج إلا بالمسلمين قد تسلقوا وطلعوا القلعة، ورفعت الأعلام الإسلامية على الباشورة، وحفت بها المقاتلة وطرحت النيران في أبوابها.
هذا والفرنج تقاتل، فدفع السلطان سنجقه للأمير سنقر الرومي وأمره أن يؤمن الفرنج من القتل، فلما رآه الفرنج تركوا القتال. وسلم السنجق للأمير علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط الحاجب، ودليت له الحبال من القلعة فربطها في وسطه والسنجق معه، ورفع إليها فدخلها وأخذ جميع سيوف الفرنج وربطهم بالحبال وساقهم إلى السلطان والأمراء صفوف وهم ألوف.
وأباح السلطان القلعة للناس، وكان بها من الغلال والذخائر والمال شيء كثير، وكان فيها جملة من الخيول والبغال لم يتعرض السلطان لشيء منه، إلا ما اشتراه ممن أخذه بالمال ووجد فيها عدة من أسري المسلمين في القيود فأطلقوا، وقيد الفرنج بقيودهم، وعين السلطان جماعة مع الأسري من الفرنج ليسيروا بهم، وقسم أبراج أرسوف على الأمراء، وأمر أن يكون أسري الفرنج يتولون هدم السور، فهدمت بأيديهم.
وأمر السلطان بكشف بلاد قيسارية وعمل متحصلها، فعملت بذلك أوراق، وطلب قاضي دمشق وعدوله ووكيل بيت المال، وتقدم بأن يملك الأمراء المجاهدون من البلاد التي فتحها الله عليه ما يأتي ذكره. وكتبت تواقيع كل منهم من غير أن يطلعوا على ذلك، فلما فرغت التواقيع فرقت على أربابها، وكتب بذلك مكتوب جامع بالتمليك، ونسخته:

أما بعد حمد الله على نصرته المتناسقة العقود، وتمكينه الذي رفلت به الملة الإسلامية في أصفى البرود، وفتحه الذي إذا شاهدت العيون مواقع نفعه وعظيم وقعه علمت لأمر ما يسود من يسود، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جاهد الكفار بالسيف البتار، وأعلمهم لمن عقبي الدار، وعلى آله وصحبه صلاة تتواصل بالعشي والإبكار، فإن خير النعمة وردت بعد اليأس، وأقبلت على فترة من تخاذل الملوك وتهاون الناس، فأكرم بها نعمة وصلت للأمة المحمدية أسبابا، وفتحت للفتوحات الإسلامية أبوابا، وهزمت من التتار والفرنج العدوين، ورابطت من الملح الأجاج والعذب الفرات بالبرين والبحرين، وجعلت عساكر الإسلام تذل الفرنج بغزوهم في عقر الدار، وتجوس من حصونهم المانعة خلال الديار والأمصار، وتقود من فضل عن شبع السيف الساغب إلى حلقات الإسار، ففرقة منها تقتلع للفرنج قلاعا وتهدم حصونا، وفرقة تبقي ما هدم للتتار بالمشرق وتعليه تحصينا، وفرقة تتسلم بالحجاز قلاعا شاهقة وتقسم هضابا سامقة. فهي بحمد الله البانية الهادمة، والقاسمة الراحمة. كل ذلك بمن أقامه الله وجرد سيفا ففري، وحملت رباح النصرة ركابه تسخيرا فسار إلى مواطن الظفر وسري، وكونته السعادة ملكا إذا رأته في دستها قالت تعظيما له ما هذا بشرا. وهو السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين أبو الفتح بيبرس، جعل الله سيوفه مفاتح البلاد، وأعلامه أعلاما من الأسنة على رأسها نار بهداية العباد، فإنه أخذ البلاد ومعطيها، وواهبها بما فيها. وإذا عامله الله بلطفه شكر، وإذا قدر عفي وأصلح فوافقه القدر، وإذا أهدت إليه النصرة فتوحات قسمها في حاضريها لديه متكرما وقال لمن حضر، وإذا خوله الله تخويلا وفتح على يديه قلاعا جعل الهدم للأسوار، والدماء للبتار، والرقاب للإسار، والبلاد المزروعة للأولياء والأنصار. ولم يجعل لنفسه إلا ما تسطره لملائكة في الصحائف لصفاحه من الأجور، وما تطوي عليه طربات السير التي غدت بما فتحه الله من الثغور باسمه باسمة الثغور.
فتي جعل البلاد من العطا ... فأعطي المدن واحتقر الضياعا
سمعنا بالكرام وقد أرانا ... عيانا ضعف ما فعلوا سماعا
إذا فعل الكرام على قياس ... جميلا كان ما فعل ابتداعا

ولما كان بهذه المثابة، وقد فتح الفتوحات التي أجزل الله بها أجره وضاعف ثوابه، وله أولياء النجوم ضياء، وكالأقدار مضاء، وكالعقود تناسقا، وكالوبل تلاحقا إلى الطاعة وتسابقا، رأي ألا ينفرد عنهم بنعمة، ولا يتخصص ولا يستأثر. بمنحة غدت بسيوفهم تستنقذ، وبعزائمهم تستخلص، وأن يؤثرهم على نفسه، ويقسم عليهم الأشعة من أنوار شمسه، ويبقي للولد منهم وولد الولد، ما يدوم إلى آخر الدهر ويبقي على الأبد، ويعيش الأبناء في نعمته كما عاش الآباء، وخير الإحسان ما شمل وأحسنه ما خلد. فخرج العالي لا زال يشمل الأعقاب والذراري، وينير إنارة الأنجم الدراري، أن يملك أمراؤه وخواصه الذين يذكرون، وفي هذا المكتوب يسطرون، ما يعين من البلاد والضياع، على ما يشرح ويبين من الأوضاع، وهو الأتابك فارس الدين أقطاي الصالحي عتيل بكمالها، الأمير جمال الدين إيدغدي العزيزي النصف من زيتا، الأمير بدر الدين بيسري الشمسي الصالحي نصف طور كرم، الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نصف طوركرم، الأمير شمس الدين الذكر الكركي ربع زيتا، الأمير سيف الدين قلج البغدادي ربع زيتا، الأمير ركن الدين بيبرس خاص ترك الكبير الصالحي أفراسين بكمالها، الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار الصالحي باقة الشرقية بكمالها، الأمير عز الدين أيدمر الحلبي الصالحي نصف قلنسوة، الأمير شمس الدين سنقر الرومي نصف قلنسوة، الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي نصف طيبة الاسم، الأمير عز الدين إيغان سم الموت نصف طيبة الاسم، الأمير جمال الدين أقوش النجيبي نائب سلطة الشام أم الفحم بكمالها من قيسارية، الأمير علم الدين سنجر الحلبي الصالحي بتان بكمالها، الأمير جمال الدين أقوش المحمدي نصف بورين، الأمير فخر الدين ألطنبا الحمصي نصف بورين، الأمير جمال الدين أيدغدي الحاجبي الناصري نصف بيزين، الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري الصالحي نصف بيزين، الأمير فخر الدين عثمان ابن الملك المغيث ثلث حلبة، الأمير شمس الدين سلار البغدادي ثلث حلبة، الأمير صارم الدين صراغان ثلث حلبة، الأمير ناصر الدين القيمري نصف البرج الأحمر، الأمير سيف الدين بلبان الزيني الصالحي نصف البرج الأحمر، الأمير سيف الدين إبتامش السعدي نصف يما، الأمير شمس الدين آقسنقر السلاح دار نصف يما، الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة نصف دنابة، الملك المظفر صاحب سنجار نصف دنابة، الأمير بدر الدين محمد بن ولد الأمير حسام الدين بركة خان دير القصون بكمالها، الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار نصف الشويكة، الأمير سيف الدين كرمون أغا التتري نصف الشويكة، الأمير بدر الدين الوزيري نصف طبرس، الأمير ركن الدين منكورس الديداري نصف طبرس، الأمير سيف الدين قشتمر العجمي علار بكمالها، الأمير علاء الدين أخو الدويدار نصف عرعرا، الأمير سيف الدين قفجق البغدادي نصف عرعرا، الأمير سيف الدين دكجل البغدادي نصف فرعون، الأمير علم الدين سنجر الأزكشي نصف فرعون، الأمير علم الدين طرطج الأسدي أقتابة بكمالها، الأمير حسام الدين إيمتش بن أطلس خان سيدا بكمالها، الأمير علاء الدين كندغدي الظاهري أمير مجلس الصفرا بكمالها، الأمير عز الدين أيبك الحموي الظاهري نصف أرقاح، الأمير شمس الدين سنقر الألفي نصف أرقاح، الأمير علم الدين طيبرس الظاهري نصف باقة الغربية، الأمير علاء الدين التنكري نصف باقة الغربية، الأمير عز الدين الأتابك الفخري القصير بكمالها، الأمير علم الدين سنجر الصيرفي الظاهري أخصاص بكمالها، الأمير ركن الدين بيبرس المغربي نصف قفين، الأمير شجاع الدين طغربل الشبلي أمير مهمندار نصف كفر راعي، الأمير علاء الدين كندغدي الحبيشي مقدم الأمراء البحرية نصف كفر راعي، الأمير شرف الدين بن أبي القاسم نصف كسفا، الأمير بهاء الدين يعقوب الشهرزوري نصف كسفا، الأمير جمال الدين موسى بن يغمور أستادار العالية نصف برنيكية، الأمير علم الدين سنجر الحلي الغزاوي نصف برنيكية، الأمير علم الدين سنجر نائب أمير جاندار نصف حانوتا من أرسوف، الأمير سيف الدين بيدغان الركني فرديسيا بكمالها من قيسارية، الأمير عز الدين أيدمر الظاهري نائب الكرك ثلث حبلة من أرسوف، الأمير جمال الدين أقوش السلاح دار الرومي ثلث حبلة، الأمير شمس الدين سنقر جاه الظاهري ثلث حبلة، الأمير

بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح ثلث جلجولية، الأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي ثلث جلجولية، الأمير بدر الدين بكتوت بجكا الرومي ثلث جلجولية.ر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح ثلث جلجولية، الأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي ثلث جلجولية، الأمير بدر الدين بكتوت بجكا الرومي ثلث جلجولية.
وكتب من كتاب التمليك الشرعي الجامع نسخ، وفرقت على كل أمير نسخة، وخلع على قاضي دمشق وعاد إلى بلده. ونقلت المنجنيقات إلى القلاع، وهي الكرك وعجلون ونحوهما.
ورحل السلطان من أرسوف بعد استكمال هدمهما في يوم الثلاثاء ثالث عشري شهر رجب إلى غزة وسار منها إلى مصر، فخرج الملك السعيد والأتابك عز الدين الحلي نائب السلطة إلى لقائه ببركة الحجاج، فلقوه هناك. ودخل السلطان من القاهرة في يوم الخميس حادي عشر شعبان والأسري بين يديه حتى خرج من باب زويلة، وصمد إلى قلعة الجبل فاستراح. وعرض ما حصله الأمير عز الدين الحلي، والصاحب بهاء الدين بن حنا من الخزائن، ولم يترك أحدا من أمير ولا وزير ولا مقدم ولا مفردي، ولا أحدا من خواصه ولا بزداريته، وبردداريته وسائر حواشيه، حتى عم الجميع بالخلع وأحسن إلى رسل الملك بركة، وكتب إلى اليمن وإلى الأنبرور بالبشارة، وأخرج جملة من الدراهم والغلة الكساوي تصدق بها على الفقراء.
وكان قد كثر الحريق بالقاهرة ومصر في مدة سفر السلطان، وأشيع أن ذلك من النصاري. ونزل بالناس من الحريق في كل مكان شدة عظيمة، ووجد في بعض المواضع التي احترقت نفط وكبريت. فأمر السلطان بجمع النصارى وإليهود، وأنكر عليهم هذه الأمور التي تفسخ عهدهم وأمر بإحراقهم. فجمع منهم عالم عظيم في القلعة، وأحضرت الأحطاب والحلفاء، وأمر بإلقائهم في النار، فلاذوا بعفوه وسألوا المن عليهم. وتقدم الأمير فارس الدين أقطاي أتابك العساكر فشفع فيهم، على أن يلتزموا بالأموال التي احترقت، وأن يحملوا إلى بيت المال خمسين ألف دينار. فأفرج عنهم السلطان، وتولي البطرك توزيع المال، والتزموا ألا يعودوا إلى شيء من المنكرات، ولا يخرجوا عما هو مرتب على أهل الذمة، وأطلقوا.
وكان الأمير زامل بن على لا تزال الفتنة بينه وبين الأمير عيسي بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضبة بن فضل بن ربيعة. فلما طلعت العساكر إلى الشام مع الأمير طيبرس قبضوا على زامل بالبلاد الحلبية، وحمل إلى قلعة عجلون. ثم نقل إلى القاهرة واعتقل، ثم أفرج عنه وصار يلعب مع السلطان في الميدان، وحضر الأمير شرف الدين عيسي ابن مهنا وأحمد بن حجي والأمير هارون، وأصلح السلطان بينهم وبين زامل، ورد على زامل إقطاعه وإمرته، وأذن لهم في السفر. فساروا حتى دخلوا إلى الرمل، فساق زامل وهجم على بيوت عيسي وأفسد، وقبض على قصاد السلطان المتوجهين إلى شيراز، وأخذ منهم الكتب وسار بها إلى هولاكو وأطمعه في البلاد، فأعطاه هولاكو إقطاعا بالعراق.
وسافر زامل إلى الحجاز فنهب وقتل، وعاد إلى الشام، وكان السلطان قد أعطي إقطاعه لأخيه أبي بكر، فضاقت عليه الأرض، وكتب يطلب من السلطان العفو، فقرر السلطان معه الحضور إلى مدة عينها له، وإنه متى تأخر عنها فلا عهد له ولا أيمان فلما تأخر عن المدة المعينة وحضر بعدها قبض عليه، واعتقل بقلعة الجبل.
وفي خامس عشريه: جلس السلطان بدار العدل، وطلب تاج الدين بن القرطي، فلما حضر قال السلطان له: أضجرتني مما تقول. عندي مصالح لبيت مال المسلمين، فتحدث الآن بما عندك فتكلم القرطي في حق قاضي القضاة، وفي حق صاحب سواكن، وقال: إن الأمراء الذين ماتوا أخذ ورثتهم أكثر من حقوقهم. فأمر السلطان بإحضار زيار، وأراه لمن حضر وقال: من يصبر على هذا الزيار يستكثر عليه إقطاع، أو يستكثر على ورثته موجود يخلفه لهم؟ وأنكر عليه وأمر به فحبس وتحدث السلطان في أمر الجند، وإنهم إذا كانوا في البيكار وفي مواطن الجهاد لا يصل إليهم شاهد، فيشهد أحدهم أصحابه عند موته، فإذا حضروا لا تقبل شهادتهم، وتضيع أموال الناس بهذا السبب. وقال: الرأي أن كل أمير يعين من جماعته من فيه دين وخير ليسمع قوله، وكل مقدم وكل جماعة من الجند يعين من فيها ممن هو من أهل الخير والصلاح، لتسمع أقوالهم، حتى تحفظ أموال الناس. فسر الأمراء بذلك، وشرع قاضي القضاة في اختيار الناس الجياد من الجند لذلك.

وجلس السلطان في تاسع عشريه بدار العدل، فوقف شخص وشكا أن من سكن في شيء من الأملاك الديوانية لا يمكن من الخلو، فأنكر السلطان ذلك وأمر بتمكين الساكن من الخلو عند انقضاء الإجارة. ووردت رسل الأنبرور، ورسل الملك الأشكري، بالهدايا.
وفي سابع شهر رمضان: قدمت العساكر من البيرة، مع الأمير جمال الدين المحمدي، والأمير عز الدين إيغان. وقدمت هدية ملك الكرج. وورد الخبر باستيلاء عز الدين الكندري نائب الرحبة على قرقيسياء، وقتلوا من كان فيها من التتر والكرج، وأسروا نيفا وثمانين رجلا في نصف شهر رمضان.
وفيه رسم بتحصيل المراكب لتفرق في بحر أشموم، فلما كان ثاني شوال سار السلطان إلى أشموم بنفسه، وقسم عمل البحر على الأمراء، وعمل بنفسه وحمل القفة مملوءة بالتراب على كتفه، والناس تشاهده فوقع الاجتهاد في الحفر، واستمر السلطان على العمل بنفسه في كل يوم، وصار يركب في المراكب وتفرق المراكب قدامه. فتنجز العمل في ثمانية أيام، وتكامل الحفر في بحر أشموم، وفي الجهة التي من ناحية جوجر وسار السلطان إلى منزلة ابن حسون، وعاد إلى قلعة الجبل في حادي عشريه.
ورسم بإبطال حراسة النهار بالقاهرة ومصر وكانت جملة كبيرة، وكتب توقيع بإبطالها، وكتب أيضاً بمسامحة الأعمال الدقهلية والمرتاحية أربعة وعشرين ألف درهم نقرة عن رسوم الولاية والمال المستخرج برسم النقيدي وتوجه شجاع الدين بن الداية الحاجب إلى الملك بركة رسولا، ومعه ثلاث عمر اعتمر بها عنه بمكة، عملت في أوراق مذهبة، وشيء من ماء زمزم ودهن بلسان وغيره.
وفي آخره: نزل بالسلطان وعك، فدارى بالصدقة وأعطى الفقراء مالا جزيلا.

وفي ذي القعدة: قدم الراهب كرنانوس بكتاب الملك الأشكري. وكان الأمير جمال الدين أيدفدي العزيزي يكره قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز ويضع من قدره ويحط عليه عند السلطان، بسبب تشدده في الأحكام وتوقفه في القضايا التي لا توافق مذهبه. فاتفق جلوس السلطان بدار العدل في يوم الإثنين ثاني عشر ذي الحجة، فرفع إليه بنات الملك الناصر قصة فيها أن ورثة الناصر اشتروا دار قاضي القضاة بدر الدين السنجاري في حياته، فلما مات ذكر ورثته إنها وقف. فعندما قرئت أخذ الأمير أيدغدي يحط على الفقهاء وينقصهم، فقال السلطان للقاضي تاج الدين: يا قاض! هكذا تكون القضاة؟ " . فقال تاج الدين: " يا مولانا! كل شاة معلقة بعرقوبها! قال " فكيف الحال في هذا؟ قال إذا ثبت الوقف يعاد الثمن من الورثة فقال السلطان. فإذا لم يكن مع الورثة شيء؟ قال القاضي: يرجع الوقف إلى أصله، ولا يستعاد الثمن. فغضب السلطان من ذلك، وما تم الكلام حتى تقدم رسول أمير المدينة النبوية وقال: يا مولانا السلطان سألت هذا القاضي أن يسلم إلى مبلغ ربع الوقف الذي تحت يده، لينفقه صاحب المدينة في فقراء أهلها، فلم يفعل. فسأل السلطان القاضي عما قاله، فقال: نعم. قال السلطان: أنا أمرته بذلك فكيف رددت أمري؟ قال: " يا مولانا هذا المال أنا متسلمه وهذا الرجل لا أعرفه، ولا يمكنني أن أسلمه لمن لا أعرفه، ولا يتسلمه إلا من أعرف إنه موثوق بدينه وأمانته، فإن كان السلطان يتسلمه مني أحضرته إليه. فقال السلطان: تنزعه من عنقك وتجعله في عنقي قال: نعم. قال السلطان: لا تدفعه إلا لمن تختاره. ثم تقدم بعض الأمراء وقال: شهدت عند القاضي فلم تسمع شهادتي في ثبوت الملك وصحته، فسأل السلطان القاضي عن ذلك فقال: ما شهد أحد عندي حتى أثبته، فقال الأمير: إذا لم تسمع قولي فمن تريد؟ قال السلطان: لم لا سمعت قوله؟ فقال: لا حاجة في ذكر ذلك. فقال الأمير أيدغدي: يا قاضي مذهب الشافعي لك، ونولي من كل مذهب قاضيا. فصغي السلطان لقول أيدغدي وانقضى المجلس، إلى أن كان يوم الإثنين تاسع عشره، ولي السلطان القاضي صدر الدين سليمان بن أبي العز بن وهيب الأذرعي الحنفي مدرس المدرسة الصالحية، والقاضي شرف الدين عمر بن عبد الله بن صالح ابن عيسي بن عبد الملك بن موسى بن خالد بن على بن عمر بن عبد الله بن إدريس ابن إدريس بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب السبكي المالكي، والقاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم الحنبلي ليكونوا قضاة القضاة بديار مصر، وجعل السلطان لهم أن يولوا في سائر الأعمال المصرية، مضافا لقاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، وأبقى على ابن بنت الأعز النظر في مال الأيتام والمحاكمات المختصة ببيت المال، وكتب لكل منهم تقليدا وخلع عليهم. فصار بديار مصر قضاة القضاة من حينئذ أربعة، يحكم كل منهم بمذهبه، ويلبس كل منهم الطرحات في أيام الخدمة السلطانية. ورسم السلطان أيضاً لمجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر ابن العديم بخطابة القاهرة.
وفي رابع عشري ذي الحجة: قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الرومي واعتقل، وتقدم إلى الخليفة الحاكم بأمر الله ألا يجتمع بأحد، فاحتجب عن الاجتماع بالناس، وفيها تولي الأمير نور الدين على بن مجلي المكاري نيابة حلب، عوضاً عن أيدكين الشهابي.
وفيها نزل السلطان من قلعة الجبل بالليل متنكرا، وطاف بالقاهرة ليعرف أحوال الناس، فرأى بعض المقدمين وقد أمسك امرأة وعراها سروالها بيده، و لم يجسر أحد ينكر عليه. فلما أصبح السلطان قطع أيدي جماعة من نواب الولاة والمقدمين، والخفراء وأصحاب الرباع بالقاهرة.
وفيها ولي السلطان إمرة عرب آل فضل لعيسى بن مهنا، فسار وطرد التتار عن البيرة وحران، وفيها هلك القان هولاكو بن طولوخان بن جنكيزخان في تاسع عشر شهر ربيع الأول بالقرب من كورة مراغة بالصرع، عن نيف وستين سنة، منها مدة سلطته عشر سنين. وقام من بعده ابنه أباغا، وجهز جيشا لحرب الملك بركة خان، فانهزم هزيمة قبيحة.
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير جمال الدين موسى بن يغمور الباروقي، نائب السلطة بديار مصر ودمشق، وهو معزول بالقصير من عمل مصر، عن أربع وستين سنة.

وتوفي قاضي القضاة بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن الحسن بن على السنجاري الشافعي، وهو معروف، بالقاهرة عن نيف وستين سنة.
وتوفي نجم الدين أبو المظفر فتح بن موسى بن حماد القصري المغربي، قاضي سيوط بها.
سنة أربع وستين وستمائةفي المحرم: عقد الأمير سيف الدين قلاوون عنده على ابنة الأمير سيف الدين كرمون التتري الوافد. فنزل السلطان من قلعة الجبل، وضرب الدهليز بسوق الخيل، عندما دخل الأمير قلاوون عليها. وقام السلطان بكل ما يتعلق بالأسمطة، وجلس على الخوان، و لم يبق أحد من الأمراء حتى بعث إلى قلاوون الخيل وبقج الثياب، وأرسل إليه السلطان تعابى قماش وخيلا وعشرة مماليك، فقبل قلاوون المتقدمة واستعفى من المماليك، وقال: هؤلاء خوشداشيتي في خدمة السلطان فأعفي.
وفيه كتب إلى دمشق بثلاثة تقاليد: أحدها بتقليد شمس الدين عبد الله محمد بن عطا الحنفي قاضي القضاة، والآخر بتقليد زين الدين أبي محمد عبد السلام بن على بن عمر الزواوي المالكي قاضي القضاة المالكية، والثالث بتقليد شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي قاضي القضاة الحنابلة. فصار بدمشق أربعة قضاة، وكان قاضي القضاة الشافعي شمس الدين أحمد بن خلكان، فصار الحال كما هو بديار مصر، واستمر ذلك. واتفق إنه لما قدمت عهود القضاة الثلاثة لم يقبل المالكي ولا الحنبلي، وقبل الحنفي فورد مرسوم السلطان بإلزامهما بذلك، وأخذ ما بأياديهما من الوظائف إن لم يفعلا، فأجابا. ثم أصبح المالكي وعزل نفسه عن القضاء والوظائف، فورد المرسوم بإلزامه فأجاب، وامتنع هو والحنبلي من تناول جامكية على القضاء. وقال بعض أدباء دمشق لما رأي اجتماع قضاة كل واحد منهم لقبه شمس الدين:
أهل دمشق استرابوا ... من كثرة الحكام
إذا هم جميعا شموس ... وحالهم في ظلام
وقال الآخر:
بدمشق آية قد ظهرت ... للناس عاما
كلما ولي شمس قاضيا ... زادت ظلاما
وكان استقلالهم بالقضاء في سادس جمادى الأولى.
وفيه وردت رسل الأنبرور، ورسل الفنش، ورسل ملوك الفرنج، ورسل ملك اليمن، ومعهم هدايا إلى صاحب قلاع الإسماعيلية. فأخذت منهم الحقوق الديوانية عن الهدية، إفسادا لنواميس الإسماعيلية، وتعجيزا لمن اكتفي شرهم بالهدية.
وفي ثامن صفر. كانت وقعة بين الأمير علم الدين سنجر الباشقردي نائب حمص، وبين البرنس بيمند بن بيمند ملك الفرنج بطرابلس، انهزم فيها الفرنج. وفيه كتب إلى دمشق بعمل مراكب، فعملت وحملت إلى البيرة. وفيه توجه السلطان إلى الإسكندرية، واهتم بحفر خليجها وباشر الحفر بنفسه، فعمل فيه الأمراء وسائر الناس، حتى زالت الرمال التي كانت على الساحل بين النقيدي وفم الخليج، ثم عدى السلطان إلى بر أبيار، وغرق هناك عدة مراكب، وألقى فوقها الحجارة، ثم عاد إلى قلعة الجبل، وحفر بحر مصر بنفسه وعسكره، ما بين الروضة والمنشاة بجوار جرف الروضة، وجهز المحمل وخلع على المتوجه به إلىالحجاز، وهو الأمير جمال الدين نائب دار العدل، وسير معه مبلغ عشره آلاف درهم لعمارة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرت الغلال لجرايات الصناع.
وفي جمادى الأولى: قدم فخر الدين بن جلبان من بلاد الفرنج بعدة من الأسرى، قد افتكهم. بمال الوقف المسير من جهة الأمير جمال الدين النجيبي نائب دمشق. فحضر عدة من النساء والأطفال، فسيرت النساء إلى دمشق ليزوجهن القاضي من أكفائهن. وفيه سافر الأمير جمال الدين بن نهار المهمندار الصالحي لبناء جسر على نهر الشريعة، ورسم لنائب دمشق بحمل كل ما يحتاج إليه من الأصناف. وفيه كل بناء الدار الجديدة عند باب السر المطل على سوق الخيل من قلعة الجبل، فعمل بها دعوة للأمراء.
وفي جمادى الآخرة: سار الأمير أقوش السفيري، ومعه أربعون ديوانا لاستخراج زكاة عرب بلاد المغرب، فوصل إليهم وأخذ منهم الزكاة التي فرضها الله وأخذ منهم الحقوق.
وفي ثالث رجب: اهتم السلطان بأمر الغزو، وسير إلى أعمال مصر بإحضار الجند من إقطاعاتهم، فتأخروا. فأرسل سلاح داريته إلى سائر الأعمال، فعلقوا الولاة بأيديهم ثلاثة أيام تأديبا، لكونهم ما سارعورا إلى إحضار الأجناد، فحضروا بأجمعهم.

وخرج السلطان في مستهل شعبان، ورحل في ثالثه وسار إلى غزة. وقدم الأمير أيدغدي العزيزي، والأمير قلاوون، في عدة من العسكر إلى العوجاء. ومضى السلطان إلى الخليل ثم إلى القدس، ومنع أهل الذمة من دخول مقام الخليل، وكانوا قبل ذلك يدخلون ويؤخذ منهم مال على ذلك، فأبطله واستمر منعهم. وسار السلطان إلى عين جالوت ووصل العسكر إلى حمص، وأغاروا على الفرنج ونزلوا على حصن الأكراد، وأخذوا قلعة عرقة وحلباء والقليعات وهدموها، فلما ورد الخبر بذلك جرد السلطان الأمير علاء الدين البندقدار، والأمير عز الدين أوغان، في عدة من العسكر إلى صور فأغاروا على الفرنج، وغنموا وأسروا كثيرا. وتوجه الأمير إيتامش إلى صيداء، وصار السلطان إلى مدينة عكا، وبعث الأمير بدر الدين الأيدمري، والأمير بدر الدين بيسري إلى جهة القرن، وأرسل الأمير فخر الدين الحمصي إلى جبل عاملة. فأغارت العساكر على الفرنج من كل جهة، وكثرة المغانم بأيديهم حتى لم يوجد من يشتري البقر والجاموس وصارت الغارات من بلاد طرابلس إلى أرسوف. ونزل عسكر السلطان على صور، وأقام السلطان في جهة عكا، والأمر ناصر الدين القيمري في عثليث، فطلب أهل عكا من الأتابك التحدث في الصلح. فاهتم السلطان بأمر صفد، وأحضر العساكر المجردة، ورحل الأمير بكتاش الفخري أمير سلاح بالدهليز السلطاني ونزل على صفد، وتبعه الأمير البندقدار والأمير عز الدين أوغان في جماعة، وحاصروها.
هذا والسلطان مقيم على عكا حتى وافته العساكر، وعمل عدة مجانيق. ثم رحل والعساكر لابسة، وساق إلى قرب باب عكا، ووقف على تل الفضول. ثم سار إلى عين جالوت، ونزل على صفد يوم الإثنين ثامن شهر رمضان وحاصرها، فقدم عليه رسول متملك صور ورسل الفداوية، ورسول صاحب بيروت ورسول صاحب يافا، ورسل صاحب صهيون. وصار السلطان يباشر الحصار بنفسه، وقدمت المجانيق من دمشق إلى جسر يعقوب وهو منزلة من صفد وقد عجزت الجمال عن حملها، فسار إليها الرجال من الأجناد والأمراء، لحملها على الرقاب من جسر يعقوب، وسار السلطان بنفسه وخواصه، وجر الأخشاب مع البقر هو وخواصه، فكان غيره من الناس إذا تعب استراح ثم يعود إلى الجر، وهو لا يسأم من الجر ولا يبطله، إلى أن نصبت المجانيق رمي بها في سادس عشريه، وصار السلطان يلازم الوقوف عندها وهي ترمي.
وأتت العساكر من مصر والشام، فنزلوا على منازلهم إلى أن كانت ليلة عيد الفطر فخرج الأمير بدر الدين الأيدمري للتهنئة بالعيد، فوقع حجر على رأسه، فرسم السلطان بألا يجتمع أحد لسلام العيد، ولا يبرح أحد من مكانه خشية انتهاز العدو غرة العسكر ونودي يوم عيد الفطر في الناس. من شرب خمرا أو جلبها شنق.
وفي ثانيه: وقع الزحف على صفد، ودفع الزراقون النفط. ووعد السلطان الحجارين إنه من أخذ أول حجر كان له مائة دينار، وكذلك الثاني والثالث إلى العشرة. وأمر حاشيته بألا يشتغلوا بخدمته. فكان بين الفريقين قتال عظيم استشهد فيه جماعة، وكان الواحد من المسلمين إذا قتل جره رفيقه ووقف موضعه، وتكاثرت النقوب ودخل النقابون إليها، ودخل السلطان معهم، وبذل السلطان في هذا اليوم من المال والخلع كثيرا، ونصب خيمة فيها حكماء وجرائحية وأشربة ومآكل، فصار من يجرح من العربان والفقهاء والفقراء وغيرهم يحضر إليها.
وفي ثامنه: كانت بين الفريقين أيضاً، مقاتل.
وفي ليلة رابع عشره: اشتد الزحف من الليل إلى وقت القائلة، فتفرق الناس من شدة التعب، فغضب السلطان من ذلك وأمر خواصه بالسوق إلى الصاواوين وإقامة الأمراء والأجداد بالدبابيس، وقال. المسلمون عل هذه الصورة، وأنتم تستريحون؟، فأقيموا، وقبض السلطان على نيف وأربعين أميرا، وقيدهم وسجنهم بالزردخاناه، ثم شفع فيهم فأطلقهم وأمرهم بملازمة مواضعهم، وضربت الطبلخاناه واشتد الأمر إلى أن طلب الفرنج الأمان، فأمنهم السلطان على ألا يخرجوا بسلاح ولا لامة حرب ولا شيء من الفضيات، ولا يتلفوا شيئا من ذخائر القلعة بنار ولا هدم، وأن يفتشوا عند خروجهم، فإن وجد مع أحد منهم شيء من ذلك انتقض العهد.

ولم تزل الرسل تتردد بينهم إلى يوم الجمعة ثامن عشره، ثم طلعت السناجق الإسلامية، وكان لطلوعها ساعة مشهودة. هذا والسلطان راكب على باب صفد حتى نزل الفرنج كلهم، ووقفوا بين يديه فرسم بتفتيشهم، فوجد معهم ما يناقض الأمان من السلاح والفضيات، ووجد معهم عدة من أسري مسلمين أخرجوهم على إنهم نصارى. فأخذ ما وجد معهم وأنزلوا عن خيولهم، وجعلوا في خيمة ومعهم من يحفظهم. وتسلم المسلمون صفد، وولي السلطان قلعتها الأمير مجد الدين الطوري، وجعل الأمير عز الدين العلائي نائب صفد، فلما أصبح حضر إليه الناس، فشكر اجتهادهم واعتذر إليهم مما كان منه إلى بعضهم، وإنه ما قصد إلا حثهم على هذا الفتح العظيم، وقال: من هذا الوقت نتحالل، وأمرهم فركبوا. وأحضرت خيالة الفرنج وجميع من صفد، فضربت أعناقهم على تل قرب صفد حتى لم يبق منهم سوي نفرين. أحدهما الرسول، فإنه اختار أن يقم عند السلطان ويسلم، فاسلم وأقطعه السلطان إقطاعا وقربه، والآخر ترك حتى يخبر الفرنج. مما شاهده. وصعد السلطان إلى قلعة صفد، وفرق على الأمراء العدد الفرنجية والجواري والمماليك، ونقل إليها زردخاناه من عنده، وحمل السلطان على كتفه من السلاح إلى داخل القلعة، فتشبه به الناس ونقلوا الزردخاناه في ساعة واحدة. واستدعى السلطان الرجال من دمشق للإقامة بصفد، وقرر نفقة رجال القلعة في الشهر مبلغ ثمانين ألف درهم نقره واستخدم على سائر بلاد صفد، وعمل بها جامعا في القلعة وجامعا بالربض ووقف على المجنون نصف وربع الحباب، وللربع الآخر على الشيخ إلياس، ووقف قرية منها على قبر خالد بن الوليد بحمص.
وفي سابع عشريه: رحل السلطان من صفد إلى دمشق، فنزل الجسورة وأمر ألا يدخل أحد من العسكر إلى دمشق، بل يبقي العسكر على حاله حتى يسير إلى سيس ودخل السلطان إلى دمشق جريدة، فبلغه أن جماعة من العسكر قد دخلوا إلى دمشق، فأخرجهم مكتفين بالحبال. وأقام الملك المنصور صاحب حماة مقدما على العساكر وسيرهم معه، وفيهم الأمير عز الدين أوغان، والأمير قلاوون، فسارو في خامس ذي القعدة إلى سيس.
وفي ثالث ذي القعدة: مات كرمون أغا.
وفي ثامنه: أنعم السلطان على أمراء دمشق وقضاتها وأرباب مناصبها بالتشاريف، ونظر في أمر جامع دمشق، ومنع الفقراء من المبيت فيه، وأخرج ما كان به من الصناديق التي كانت للناس.
وفي عاشره: جلس الأتابك هو والأمير جمال الدين النجيبي نائب دمشق لكشف ظلامات الناس والتوقيع على القصص، بدار السعادة. وخرج السلطان للصيد فضرب عدة حلق، وسار إلى جرود ثم إلى أفامية، وجهز السلطان إلى مصر شخصا كان قد حضر إلى دمشق وادعي إنه مبارك بن الإمام المستعصم وصحبته جماعة من أمراء العربان، فلم يعرفه جلال الدين بن الدوادار ولا الطواشي مختار، وتبين كذبه فسير إلى مصر تحت الاحتياط، وجهز السلطان بعده شخصا آخر أسود إلى مصر، ذكر إنه من أولاد الخلفاء، فسير إلى مصر أيضاً، وكان قد وصل إلى دمشق في ذي القعدة.
وفيه استولي السلطان على هونين وتبنين وعلى مدينة الرملة، فعمرها وصير لها عملا وولي فيها. وفيه أبطل السلطان ضمان الحشيشة الخبيثة، وأمر بتأديب من أكلها، وقدم رسول الاسبتار ملك الفرنج، يسأل استقرار الصلح على بلادهم من جهة حمص وبلاد الدعوة، فقال السلطان: لا أجيب إلا بشرط إبطال ما لكم من القطائع على مملكة حماة وهي أربعة آلاف دينار، وما لكم من القطيعة على بلاد أبي قبيس وهي ثمانمائة دينار، وقطيعتكم على بلاد الدعوة وهي ألف ومائتا دينار ومائة مد حنطة وشعير نصفين. فأجابوا إلى إبطال ذلك، وكتبت الهدنة وشرط فيها الفسخ للسلطان متى أراد، ويعلمهم قبل بمدة. وورد الخبر بأن فرنج عكا وجدوا أربعة من المسلمين في طين شيحا فشنقوهم، فرسم السلطان بالإغارة على بلاد الفرنج، فقتلت العساكر منهم فوق المائتين، وساقوا جملة من الأبقار والجواميس وعادوا. وورد كتاب والي قوص إنه وصل إلى عيذاب، وبعث عسكرا إلى سواكن، ففر صاحب سواكن، ففر صاحب سواكن، وعادوا إلى قوص وقد تمهدت البلاد، وصارت رجال السلطان بسواكن.

وفي يوم الإثنين النصف من ذي الحجة: جلس الأمير عز الدين الحلي نائب السلطنة بديار مصر، ومعه الصاحب بهاء الدين والقضاة، بدار العدل على العادة: وإذا بإنسان يخرق الصفوف وبيده قصة حتى وقف قدام الأمير، ووثب عليه بسكين أخرجها من تحت ثيابه، وطعنه في حلقه. فأمسك الأمير بيده فجرحها، ورفسه برجله ونام على ظهره، فوقع المجرم وقصد أن يضرب الأمير ضربة أخرى، أو يضرب الصاحب، فرجعت السكين في فؤاد الأمير صارم الدين المسعودي، فمات من ساعته، فقام الأمير فخر الدين والي الجيزة وقبض عليه ورماه، فوقع على قاضي القضاة، وأخذته السيوف حتى هلك. وحمل الأمير عز الدين الحلي إلى داره بالقلعة، وحضر المزينون إليه فوجدوا الجرح بين البلعوم والمنحر، وكان الذي ضربه جندار به شعبة من جنون، وتعاطي أكل السمنة فقوي جنه وكتب بهذا الحادث إلى السلطان، فوافاه الخبر وهو راجع من أفامية، فشق عليه ذلك وقال: والله يهون على موت ولدي بركة، ولا يموت الحلي. فقال له الأتابك: يا خوند والله طيبت قلوبنا إذا كنت تشتهي لو فديت غلاما من غلمانك بولدك وولي عهدك. ثم ورد الخبر بعافية الحلي مع مملوكه، فخلع عليه السلطان وأعطاه ألف دينار، وأعطي رفيقه ثلاثة آلاف درهم نقرة، وأحسن إلى ورثة الصارم المسعودي.
وأما الملك المنصور ومن معه، فإنهم ساروا إلى حصن دير بساك ودخلوا الدربند، وقد بني التكفور هيتوم بن قسطنطين بن باساك ملك الأرمن على رءوس الجبال أبراجا وهو الذي تزهد فيما بعد، وترك الملك لولده ليفون فاستعد ووقف في عسكره، فعندما التقى الفريقان أسر ليفون ابن ملك سيس، وقتل أخوه وعمه، وانهزم عمه الآخر، وقتل ابنه الآخر، وتمزق الباقي من الملوك وكانوا اثني عضو ملكا وقتلت أبطالهم وجنودهم. وركب العسكر أقفيتهم وهو يقتل ويأسر ويحرق، وأخذ العسكر قلعة حصينة للديوية، فقتلت الرجال وسبيت النساء وفرقت على العسكر وحرقت القلعة بما فيها من الحواصل. ودخلوا سيس فأخرجوها وجعلوا عاليها سافلها، وأقاموا أياما يحرقون ويقتلون ويأسرون. وسار الأمير أوغان إلى جهة الروم، والأمير قلاوون إلى المصيصة وأذنة وأياس وطرسوس، فقتلوا وأسروا وهدموا عدة قلاع وحرقوا هذا وصاحب حماة مقيم بسيس، ثم عادوا إليه وقد اجتمع معهم من الغنائم ما لا يعد ولا يحصى، حتى أبيع رأس البقر بدرهمين و لم يوجد من يشتريه.
فورد الخبر بذلك والسلطان في الصيد بجرود، فأعطي المبشر ألف دينار وإمره طبلخاناه. ودخل السلطان إلى دمشق، وتجهز وخرج للقاء العسكر في ثالث عشر ذي الحجة فشكي إليه وهو بقارا من أهلها وهم نصارى: إنهم يتعدون على أهل الضياع، ويبيعون من يقع إليهم إلى الفرنج بحصن عكا، فأمر العسكر بنهبهم فنهبوا، وقتل كبارهم وسبي النساء والأولاد، وقدم عليه العسكر المجهز إلى سيس، وقدموا له نصيبه من الغنائم ففرق الجميع على عساكره، وأحسن إلى متملك سيس ومن معه من الأسري. وعاد السلطان إلى دمشق في رابع عشريه ومتملك سيس بين يديه وخلع على الأمراء والملوك والأجناد، فامتلأت بالمكاسب، وأبيع من الجواهر والحلي والدقيق والحرير ما لا يحصي كثرة، و لم يتعرض السلطان لشيء من ذلك، وعاد صاحب حماة إلى مملكته، بعد ما أنعم عليه السلطان بكثير من الخيول والأموال والخلع. وفيها قدمت رسل الملك أبغا بن هولاكو بهدايا وطلب الصلح وفيها أمر السلطان بجمع أصحاب العاهات، فجمعوا بخان السبيل ظاهر باب الفتوح من القاهرة، ونقلوا إلى مدينة الفيوم وأفردت لهم بلدة تغل عليهم ما يكفيهم، فلم يستقروا بها وتفرقوا ورجع كثير منهم إلى القاهرة وفيها اشتد إنكار السلطان للمنكر، وأراق الخمور وعفي آثار المنكرات، ومنع الحانات والخواطىء بجميع أقطار مملكته. بمصر والشام، فطهرت البقاع من ذلك. وقال القاضي ناصر الدين أحمد بن محمد بن منصور بن أبي بكر بن قاسم بن محتار بن المنير قاضي الإسكندرية، لما وردت إليه المراسيم بالإسكندرية وعفي متوليها أثر المحرمات:
ليس لإبليس عندنا أرب ... غير بلاد الأمير مأواه
حرمته الخمر والحشيش معا ... حرمته ماءه ومرعاه
وقال أبو الحسين الجزار:
قد عطل الكوب من حبابه ... وأخلي الثغر من رضابه
وأصبح الشيخ وهو يبكي ... على الذي فات من شبابه

وفيها قدم على بن الخليفة المستعصم من الأسر عند التتار.
؟؟

ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي، بعد فتح صفد.
وتوفي الصاحب شرف الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أمين الدين أبي الغنائم سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري التغلبي الدمشقي، ناظر الدواوين بها، عن تسع وستين سنة.
وتوفي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الجليل بن عبد الكريم الموقاني المقدسي الشافعي، المحدث الأديب.
سنة خمس وستين وستمائةفي المحرم: بعث السلطان الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، والأمير شهاب الدين بوزيا، في عدة من العسكر ورجال جبلية فقطعوا أقصاب الفرنج، وعادوا إلى صفد. وفيه قدمت نجدة للفرنج من قبرص، وعدتها نحو ألف ومائة فارس، وأغاروا على بلد طبرية، فخرج العسكر إلى عكا، وواقع الفرنج فقتلوا منهم كثيراً، وانهزم الباقي إلى عكا وعمل فيها عزاء من قتل.
وفي ثانية: خرج السلطان من دمشق بعساكره إلى الفوار يريد الديار المصرية، وسار منه جريدة إلى الكرك ونزل ببركة زيزاء، وركب ليتصيد فتقطر عن فرسه في ثامنه، وتأخر هناك أياما حتى صلح مزاجه، وأكثر من الإنعام على جميع عساكره وأمرائه بجميع كلفهم من غلات الكرك، وعم بذلك الخواص والكتاب، وفرق فيهم جملا كثيرة من المال. واستدعى السلطان أمراء غزة وأحسن إليهم، وطلب الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك وأعطاه ألف دينار وخلع عليه، وسير الخلع إلى أهل الكرك ثم سار في محفة على أعناق الأمراء والخواص إلىغزة، وسار منها إلى بلبيس، فتلقاه ابنه بركة في ثالث صفر ومعه الأمير عز الدين الحلي، وزينت القاهرة، فلم يزل السلطان موعوكا إلى غرة شهر ربيع الأول، فركب الفرس وضربت البشائر لعافيته، وسار إلى باب النصر فأقام هناك إلى خامسه.
وصعد السلطان إلى القلعة، وقدم عليه رسول التكفور هيتوم صاحب سيس يشفع. في ولده للسلطان، ففك قيده في ثاني عشريه وكتب له موادعة على بلاده إلى سنة، وركب مع السلطان لرماية البندق في بركة الجب.
وفي آخر ربيع الأول: بعث السلطان الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب، والصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين بن حنا، لكشف مكان يعمله جامعا بالحسينية. فسارا واتفقا على مناخ الجمال السلطانية، فلما عادا قال السلطان: لا والله لا جعلت الجامع مكان الجمال، وأولى ما جعلت ميداني الذي ألعب فيه الكرة وهو نزهتي جامعً وركب السلطان في ثامن ربيع الآخر ومعه الصاحب بهاء الدين والقضاة إلى ميدان قراقوش، ورتب بناءها جامعا، وأن يكون بقية الميدان وقفا عليه. عاد إلى المدرسة التي أنشأها بين القصرين، وقد اجتمع بها الفقهاء والقراء، فقال: هذا مكان جعلته لله تعالى، فإذا مت لا تدفنوني هنا، ولا تغيروا معالم هذا المكان. وصعد إلى القلعة.
وفيه وردت مكاتبة المنصور صاحب حماة، يستأذن في الحضور إلى مصر ليشاهد عافية السلطان، فأجيب إلى ذلك وقدم في سابع عشريه. فخرج السلطان إلى لقائه بالعباسية، وبعث إليه وإلى من معه التشاريف، وعاد إلى القلعة. فسأل المنصور الإذن بالمسير إلى الإسكندرية فأذن له، وسار معه الأمير سنقرجاه الظاهري، وحملت له الإقامات حتى عاد.

وفي يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر: أقيمت الجمعة بالجامع الأزهر من القاهرة، وكانت قد بطلت منه منذ ولي قضاء مصر صدر الدين عبد الملك بن درباس، عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد ظل كذلك إلى أن سكن الأمير عز الدين أيدمر الحلي بجواره، فانتزع كثيرا من أوقاف الجامع كانت مغصوبه بيد جماعة، وتبرع له بمال جزيل، واستطلق له من السلطان مالا، وعمر الواهي من أركانه وجدرانه وبيضه وبلطه ورم سقوفه، وفرشه واستجد به مقصورة وعمل فيه منبرا، فتنازع الناس فيه هل تصح إقامة الجمعة فيه أم لا، فأجار ذلك جماعة من الفقهاء، ومنع منه قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز وغيره، فشكي الحلي ذلك إلى السلطان، فكلم فيه قاضي القضاة فصمم على المنع، فعمل الحلي بفتوى من أجاز ذلك وأقام فيه الجمعة. وسأل السلطان أن يحضر فامتنع من الحضور ما لم يحضر قاضي القضاة، فحضر الأتابك والصاحب بهاء الدين وعدة من الأمراء والفقهاء، ولم يحضر السلطان ولا قاضي القضاة تاج الدين. وعمل الأمير بدر الدين بيليك الخازندار بالجامع مقصورة، ورتب فيها مدرسا وجماعة من الفقهاء على مذهب الشافعي، ورتب محدثا يسمع بالحديث النبوي والرقائق، ورتب سبعة لقراءة القرآن العظيم، وعمل على ذلك أوقافا تكفيه.
وفي جمادى الآخرة: وصلت رسل الدعوة بجملة من الذهب، وقالوا: هذا المال الذي كنا نحمله قطيعة للفرنج قد حملناه لبيت مال المسلمين، لينفق في المجاهدين. وقد كان أصحاب بيت الدعوة فيما مضى من الزمان يقطعون مصانعات الملوك، ويجبون القطعة من الخلفاء، ويأخذون من مملكة مصر القطعة في كل سنة، فصاروا يحملون القطيعة لذلك الظاهر لقبامه بالجهاد في سبيل الله.
وفيه عمرت قلعة قاقون عوضاً عن قيسارية وأرسوف، وعمرت الكنيسة التي كانت للنصارى هناك جامعا. وسكن هناك جماعة فصارت بلدة عامرة بالأسواق، وفيه أمر السلطان باستخراج الزكاة من سائر الجهات: فاستخرج من بلاد المغرب زكاة مواشيهم وزكاة زروعهم، واستخرج من جهات سواكن وجزائرها الزكاة. وبعث السلطان إلى الحجاز الأمير شكال بن محمد، فطلب العداد من الأمير جماز أمير المدينة النبوية، فدافعه فمضى إلى بني خالد يستعين بهم على عرب جماز، ثم خاف وبعث إلى السلطان يطلب إرسال من يستخلفه على استخراج حقوق الله.
وفي سابع عشريه: توجه السلطان في جماعة من أمرائه إلى الشام، وترك أكثر العساكر بالديار المصرية. و كان معه المنصور صاحب حماة، فنزل السلطان غزة، ومضى صاحب حماة إلى مملكته بعد زيارة القدس فقدمت رسل الفرنج على السلطان بغزه، ومعهم الهدايا وعدة من أسري المسلمين، فكسا الأسري وأطلقهم. ورحل السلطان إلى صفد، فورد الخبر عليه هناك بتوجه التتار إلى الرحبة، فسار إلى دمشق مسرعا فدخلها في رابع عشر رجب، وجاء الخبر بقدوم التتار إلى الرحبة، وأن أهلها قتلوا وأسروا منهم كثيرا وهزموهم، فأقام بدمشق خمسة أيام، وعاد إلى صفد في رابع عشريه. ورتب السلطان أمر عمارة صفد، وقسم خندقها على الأمراء، وأخذ لنفسه نصيبا وافرا عمل فيه بنفسه، فتبعه الأمراء والناس في العمل ونقل الحجارة ورمي التراب وصاروا يتسابقون، فوردت عليه رسل الفرنج يطلبون الصلح، فرأوا الاهتمام في العمارة.
ثم إنه بلغه في بعض تلك الأيام أن جماعة من الفرنج بكما تخرج منها غدوة وتبقي ظاهرها إلى صحوة، فسري ليلة ببعض عسكره و أمر بالركوب خفية فركب وقد اطمأن الفرنج، فلم يشعروا به إلا وهو على باب عكا، ووضع السيف في الفرنج، وصارت الرءوس تحمل إليه من كل جهة، وكان الحر، فعملت عباءة على رمح ليستظل بها، وبات تلك الليلة وأصبح على حاله، ثم عاد إلى صفد، وقدمت رسل سيس بالهدية، فرأوا رسل الفرنج ورأوا رءوس القتلى على الرماح. وقدمت الأسري من هذه الغارة فضربت أعناقهم، وطلب السلطان رسل الفرنج وقال لهم: هذه الغارة في مقابلة غارتكم على بلاد الشقيف وردهم من غير إجابتهم إلى الصلح.

ثم ركب السلطان في حادي عشري شعبان وساق من صفد إلى عكا، فلما علم به الفرنج حتى وقف على أبوابها، فقسم البنائين والحجارين والناس على البساتين والأبنية والآبار لهدمها، فاقتسموا ذلك وشرعوا في الهدم وقطع الأشجار. وعمل السلطان اليزك بنفسه على باب عكا، وصار واقفا على فرسه وبيده رمح مدة أربعة أيام، حتى تكامل الإحراق والهدم وقطع الأشجار. ثم رجع إلى صفد، فوردت رسل سيس ورسل بيروت فأجيبوا عن مقاصدهم.
وفي شهر رمضان: وردت رسل صور يطلبون استمرار الهدنة، فأجيبوا إلى الصلح، وكتبت هدنة لمدة عشر سنين لصور وبلادها وهي مائة قرية إلا قرية بعد ما أحضروا دية السابق شاهين الذي قتلوه لأولاده وهي خمسة عشر ألف دينار صورية، قاموا بنصفها وأمهلوا بالباقي وأحضروا أيضاً عدة أسري مغاربة. وقدمت رسل بيت الاسبتار من الفرنج يطلبون الصلح على حصن الأكراد والمرقب، فأجيبوا وتقررت الهدنة لعشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات، وبطلت القطائع عن بلاد الدعوة وعن حماة وشيزر وأفامية وعن أبي قبيس، وقد تقدم ذلك، وبطل أيضاً ما كان على عيناب، وهو خمسمائة دينار صورية وعن كل فدان مكوكان غلة وستة دراهم.
وقدم الشريف بدر الدين ملك بن منيف بن شيحة من المدينة النبوية يشكو من الشريف جماز أمير المدينة، وأن الإمرة كانت نصفين بين أبيه ووالده جماز. فكتب لجماز أن يسلمه نصف الإمرة، وكتب له تقليد بذلك وبنصف أوقاف المدينة النبوية التي بالشام ومصر وسلمت إليه، فامتثل جماز ما رسم به.
وفي ذي الحجة: نزحت بئر السقاية التي بالقدس حتى اشتد عطش الناس بها، فنزل شخص إلى البئر فإذا قناة مسدودة، فأعلم الأمير علاء الدين الحاج الركني نائب القدس، فأحضر الأمير بنائين وكشف البناء، فأفضي بهم في قناة إلى تحت الصخرة، فوجدا هناك بابا مقنطرا قد سد، ففتحوه فخرج منه ماء كاد يغرقهم، فكتب بذلك إلى السلطان، وإنه لما نقص ماء السقاية دخل الصناع فوجدوا سدا نقب فيه الحجارون قدر عشرين يوما، ووجد سقف مقلفط فنقب فيه قدر مائة وعشرين ذراعا بالعمل، فخرج الماء وملأ القناة.
وفي هذه السنة: أنشأ السلطان قنطرة على بحر أبي المنجا بناحية ببسوس وتولي عملها الأمير عز الدين أيبك الأفرم، فجاءت من أعظم القناطر. وفيها أنشأ السلطان القصر الأبلق بدمشق بالميدان الأخضر على نهر بردي، فتولي عمل ذلك الأمير أقوش النجيبي نائب دمشق، فعمره بالرخام الأبيض والأسود، وجعل جانبا عظيما منه تحف به البساتين والأنهار من كل ناحية، ولم يعمل بدمشق قبله مثله. ومازال عامرا تنزله الملوك إلى أن هدمه تيمورلنك في سنة ثلاث وثمانمائة، عند حريق دمشق وخرابها.
وفيها جلس منكوتمر بن طغان بن باتوتان بن دوشي خان بن جنكيزخان على كرسي مملكة القفجاق صراي، عوضاً عن الملك بركة خان بن دوشي خان بن جنكيزخان، بعد وفاته هذه السنة. وكان بركة خان قد مال إلى دين الإسلام، وهو أعظم ملوك التتر، وكرسي مملكته مدينة صراي.
وفيها مات قاضي القضاة تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم العلامي الشافعي، المعروف بابن بنت الأعز، في سابع عشري شهر رجب، من إحدى وخمسين سنة، فولي قضاء القاهرة والوجه البحري تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعي، وولي قضاء مصر محيي الدين عبد الله بن شرف الدين محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن على بن صدقة بن حفص، المعروف بابن عين الدولة، في يوم الخميس تاسع شعبان،. بمرسوم ورد عليه عقيب وفاة تاج الدين ابن بنت الأعز، بأن يتولى قضاء مصر والوجه القبلي. وفيها حج الأمير الحلي، وتصدق بمال بعثه به السلطان الملك الظاهر، وحج الصاحب محيي الدين بن الصاحب بهاء الدين بن حنا.
ومات في هذه السنة الأمير ناصر الدين حسن بن عزيز القيمري، نائب السلطنة بالساحل.
وتوفي شهاب الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان المعروف بأبي شامة المقدسي الشافعي، بدمشق عن ست وستين سنة.
؟

سنة ست وستين وستمائة

في صفر: وردت الزكاة والعشر من المدينة النبوية، وعدتها مائة وثمانون جملا ومبلغ عشرة آلاف درهم، فاستقل السلطان ذلك وأمر برده، فورد بنو صخر وبنو لام وبنو عنزة من عرب الحجاز، والتزموا بزكاة الغنم والإبل، فبعث السلطان معهم شادين لاستخراج ذلك. وفيه قسمت عمارة صفد على الأمراء، وأخذ السلطان لنفسه نصيبا وافرا، وأقيم في عمارة القلعة وأبراجها الأمير سيف الدين الزيني، وعمل لها أبواب سر إلى الخندق، فلما كملت كتب على أسوارها: " ولقد كتبنا في الزبور من الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " " ألا إن حزب الله هم المفلحون " أمر بتجديد هذه القلعة وتحصينها، وتكميل عمارتها، وبعد ما خلصها من أسر الفرج الملاعين، وردها إلى يد المسلمين ونقلها من حوزة الدنيوية إلى حوزة المؤمنين، وأعادها إلى الإيمان كما بدا بها أول مرة، وجعلها للكفار خسارة وحسرة، واجتهد وجاهد حتى بدل الكفر بالإيمان والناقوس بالأذان والإنجيل بالقرآن، ووقف بنفسه حتى حمل تراب خنادقها وحجارتها منه بنفسه وبخواصه على الرءوس، السلطان الملك الظاهر أبو الفتح بيبرس، فمن صارت إليه هذه القلعة من ملوك الإسلام، ومن سكنها من المجاهدين، فليجعل له نصيبا من أجره، ولا يخله من الترحم في سره وجهره، فقد صار يقال عمر الله صرحها، بعد ما كان يقال عجل الله فتحها، والعاقبة للمتقين إلى يوم الدين.
وفيه كتب السلطان إلى الملك منكوتمر القائم مقام الملك بركة، بالتعزية والإغراء بولد هولاكو وفيه رسم السلطان بعمارة مسجد الخليل عليه السلام، فتوحه الأمير جمال الدين بن نهار لعمل ذلك، حتى أنهي عمارته. وفيه سار السلطان من صفد إلى القاهرة، فدخل قلعة الجبل سالما في وقدمت رسل السلطان المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن رسول الملك اليمني، بعشرين فرسا عليها لامة الحرب، وفيلة وحمارة وحشية عنابية اللون وعدة تحف وطرف، فجهزت له خلعة وسنجق، وهدية فيها قميص من ملابس السلطان كان قد سأل فيه ليكون له أمانا، وسير إليه أيضاً جوشن وغيره من آلة الحرب، وقيل له: قد سيرنا إليك آلة السلم وآلة الحرب مما لاصق جسدنا في مواطن الجهاد وكتب له المقام العالي المولوي السلطاني، وكتب له السلطان بخطه المملوك.
وفيه اجتاز السلطان على السدير قرب العباسية، فأعجبه فاختار منه مكانا بني فيه قرية سماها الظاهرية، وعمر بها جامعا. وبينا هو في الصيد هناك إذ بلغه حركة التتار على حلب، فعاد إلى القلعة وأمر بخروج الخيام. فلم يعجبه خيام جماعة فأدبهم وجرسهم. وخرج البريد إلى الشام بتجهيز العساكر، فلما خرجوا وساروا إلى بانياس أخرج البريدي كتبا مختومة باسم الأمير علم الدين الحصني والأمير بدر الدين الأتابكي، وفيها منازلتهم للشقيف، فلم يشعر الفرنج إلا بالعساكر على قلعة الشقيف.
وسار السلطان من مخيمه بباب النصر في ثالث جمادى الآخرة إلى غزة، فبلغه عن جماعة من الجمالين إنهم تعرضوا إلى زرع فقطع أنوفهم، وبلغه عن الأمير علم الدين سنجر الحموي إنه ساق في زرع، فأنزله عن فرسه وأعطاه بما عليه من السرج واللجام لصاحب الزرع ثم رحل السلطان إلى العوجاء.
فلما كان يوم العشرين منه: ساق السلطان من العوجاء إلى يافا، وحاصرها حتى ملكها من يومه، وأخذ قلعتها وأخرج من كان فيها، وهدمها كلها وجمع أخشابها ورخامها وحمله في البحر إلى القاهرة، فعمل من الخشب مقصورة الجامع الظاهري بالحسينية، ومن الرخام بحرابه. وأمر السلطان ببناء الجوامع بتلك البلاد، وأزال منها ومن قرية المنكرات، ورتب الخفراء على السواحل وألزمهم بدركها. ورسم أن المال المتحصل من هذه البلاد لا يخلط بغيره، وجعله لمأكله ومشربه. وأعطي الأمير علاء الدين الحاج طيبرس منها قرية، وأعطي الأمير علم الدين سنجر الحموي قرية، وملكهما إياهما وأنزل التركمان بالبلاد الساحلية لحمايتها، وقرر عليهم خيلا وعدة، فتجدد له عسكر بغير كلفة، وفيه رسم بتجديد عمارة الخليل عليه السلام، ورسم أن يكون عمل الخوان الذي يمد ناصية عن مسجد الخليل.

وجهز السلطان عسكرا إلى الشقيف، ثم سار إليها بنفسه فنزل عليها في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب، وقدم الفقهاء للجهاد، ونصب السلطان عليها ستة وعشرين منجنيقا، وألح عليها حتى أخذها يوم الأحد سلخ رجب، وأخرج منها نساء الفرنج وأولادهم إلى صور، وقيد الرجال كلهم وسلمهم للعساكر. وهدم السلطان قلعة استجدها الفرنج هناك، واستناب على القلعة الأخرى الأمير صارم الدين قايماز الكافري، ورتب بها الأجناد والرجالة، وقرر فيها قاضيا وخطيبا، وولي أمر عمارتها الأمير سيف الدين بلبان الزيني. وفيه وردت كتب من الكرج.
وفي شعبان: وصل رسول صاحب بيروت بهدية وتجار كانوا قد أخذوهم في البحر من سنين، فما زال السلطان حتى خلصهم وخلص أموالهم.
وفي عاشره: رحل السلطان من الثقيف إلى قرب بانياس، وبعث الأثقال إلى دمشق وجهز الأمير عز الدين أوغان بجماعة لجهة، وجهز الأمير بدر الدين الأيدمري في جماعة إلى جهة أخرى، فحفظت العساكر الطرقات.
ثم سار السلطان إلي، طرابلس وخيم عليها في النصف منه، وناوش أهلها القتال وأخذ برجا كان هناك، وضرب أعناق من كان من الفرنج، وأغارت العساكر على من في تلك الجبال، وغنموا شيئا كثيرا وأخذوا عدة مغاير بالسيف، وأحضروا المغانم والأسري إلى السلطان فضرب أعناق الأسري، وقطع الأشجار وهدم الكنائس، وقسم الغنائم في العسكر.
ودخل السلطان عن طرابلس في رابع عشريه، فتلقاه صاحب صافيتا وأنطرسوس بالخدمة، وأحضر ثلاثمائة أسير كانوا عنده، فشكره السلطان ولم يتعرض لبلاده، ونزل السلطان على حمص، وأمر بإبطال الخمر والمنكرات. ثم دخل إلى حماة ولا يعرف أحد أي جهة يقصد، فرتب العسكر ثلاث فرق: فرقة صحبة الأمير بدر الدين الخازندار، وفرقة مع الأمير عز الدين إيغان، وفرقة مع السلطان، فتوجه الخازندار إلى السويدية، وتوجه إيغان إلى درب بساك، فقتلوا وأسروا، ونزل السلطان أفامية، ووافاه الجميع على أنطاكية.
وأصبح أول شهر رمضان: والسلطان مغير على أنطاكية، وأطاقت العساكر بها من كل جانب، فتكملوا بخيامهم في ثالثه. وبعث السلطان إلى الفرنج يدعوهم وينذرهم بالزحف عليهم، وفاوضهم في ذلك مدة ثلاثة أيام وهم لا يجيبون، فزحف عليها وقاتل أهلها قتالا شديدا، وتسور المسلمون الأسوار من جهة الجبل بالقرب من القلعة، ونزلوا المدينة ففر أهلها إلى القلعة، ووقع النهب والقتل والأسر في المدينة، فلم يرفع السيف عن أحد من الرجال وكان بها فوق المائة ألف، وأحاط الأمراء بأبواب المدينة حتى لا يفر منها أحد، واجتمع بالقلعة من المقاتلة ثمانية آلاف سوي النساء والأولاد، فبعثوا يطلبون الأمان فأمنوا، وصعد السلطان إليهم ومعه الحبال، فكتفوا وفرقوا على الأمراء، والكتاب بين يدي السلطان ينزلون الأسماء.
وكانت أنطاكية للبرنس بيموند بن بيموند، وله معها طرابلس، وهو مقيم بطرابلس وكتبت البشائر بالفتح إلى الأقطار الشامية والمصرية والفرنجية، وفي الجملة كتاب إلى صاحب أنطاكية وهو يومئذ مقيم بطرابلس وهو من إنشاء ابن عبد الظاهر رحمه الله تعالي.
وسلم السلطان القلعة إلى الأمير بدر الدين بيليك الخازندار والأمير بدر الدين بيسري الشمسي، وأمر بإحضار المغانم لتقتسم، وركب وأبعد عن الخيام وحمل ما غنمه وما غنمته مماليكه وخواصه، وقال: والله ما خبأت شيئا مما حمل إلى ولا خليت مماليكي يخبئون شيئا، ولقد بلغني أن غلاما لأحد مماليكي خبأ شيئا لا قيمة له فأدبته الأدب البالغ، ويتبقى لكل أحد منكم أن يخلص ذمته، وأنا أحلف الأمراء والمقدمين، وهم يحلفون أجنادهم ومضافيهم. فأحضر الناس الأموال والمصاغ الذهب والفضة حتى صارت تلا بها، وقسمت في الناس، وطال الوزن فقسمت النقود بالطاسات، وقسمت الغلمان على الناس، فلم يبق غلام إلا وله غلام، وتقاسم النساء والبنات والأطفال، وأبيع الصغير باثني عشر درهما والجارية بخمسة دراهم، وأقام السلطان يومين وهو يباشر القسمة بنفسه، وقصر الناس في إحضار الغنائم فعاد السلطان مغضبا، فلم تزل الأمراء به يلتزمون بالاجتهاد والاحتراز ويعتذرون إليه، حتى وقف على فرسه وما ترك شيئا حتى قسمه.

ثم ركب السلطان إلى القلعة وأحرقها، وعم بالحريق أنطاكية، فأخذ الناس من حديد أبوابها ورصاص كنائسها ما لا يوصف كثرة، وأقيمت الأسواق خارج المدينة، فقدم التجار من كل جهة. وكان بالقرب من أنطاكية عدة حصون، فطلب أهلها الأمان، فتوجه إليهم الأمير بيليك الأشرفي وتسلمها في حادي عشره، وأسر من فيها من الرجال.
وكان التكفور هيتوم ملك سيس لم يزل يسأل في إطلاق ولده ليفون، ويعرض في فدائه الأموال والقلاع، وكان التتر قد أسروا الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من حلب، لما ملكوها من الملك الناصر، فاقترح السلطان على سيس إحضار سنقر عوضاً عن ولده ورد القلاع التي أخذها من مملكة حلب، وهي بهسنا ودربساك ومرزبان ورعبان وشبح الحديد، فسأل هيتوم المهلة سنة إلى أن يبعث إلى الأرذو فلما كان في هذه الأيام، بعث هيتوم إلى السلطان بأنه وجد سنقر، وأنه أجيب إلى إطلاقه، فكتب إليه بإحضاره. فأحضر هيتوم كتاب سنقر إلى السلطان بأماير، إلا إنه غير قوله في تسليم القلاع، فكتب إليه. إذا كنت تقسو على ولدك وولي عهدك، فأنا أقسو على صديق ما بيني وبينه نسب، ويكون الرجوع منك لا مني. ونحن خلف كتابنا، فمهما شئت افعل بسنقر الأشقر " فلما وصلت إليه الكتب من أنطاكية خاف، وتقرر الصلح على تسليم قلعة بهسنا ودر بساك وكل ما أخذه من بلاد الإسلام، وأن يرد الجميع بحواصلها كما تسلمها، ويطلق سنقر الأشقر، ويطلق السلطان ولده وابن أخيه وغلمانهما، وأنه يحضر رهينة حتى يتسلم السلطان القلاع، فكتبت الهدنة بأنطاكية، وتوجه الأمير بلبان الرومي للدوادار، والصدر فتح الدين بن القيسراني كاتب الدرج. لاستحلافه، وتوجه الأمير بدر الدين يحكا الرومي لإحضار الملك ليفون من مصر على البريد في ليلة الثالث عشر من رمضان، فوصل إلى القاهرة وخرج منها ثاني يوم دخوله بالملك ليفون، فوصل إلى دمشق ليلة الإثنين سادس عشريه، فكان بين خروجه من أنطاكية وعوده إلى دمشق ثلاثة عشر يوما، وحلف التكفور هيتوم صاحب سيس في سابع عشريه، فانتظم الصلح.
ورحل السلطان من أنطاكية إلى شيزر، وسار منها على البرية إلى حمص وهو يتصيد فدخل حماة في ثلاثة نفر: وهم الأمير بيسري، والأمير بدر الدين الخازندار، والأمير حسام الدين الدوادار، ونزل العسكر حماة. ثم سار السلطان من حمص إلى دمشق، فدخلها في سادس عشريه، والأسري بين يديه و ليفون ابن صاحب سيس في خدمته، فأحسن إليه، وحلف ليفون للسلطان في ثالث شوال على النسخة التي حلف عليها أبوه، وهو قائم مكشوف الرأس، وسار إلى بلاده في حادي عشره صحبة الأمير بجكا على البريد، حتى قرره في مملكته. ووصلت الرهائن فأحسن السلطان إليهم وأكرمهم، ومازالوا إلى أن تسلم نواب السلطان القلاع من أهل سيس، فأعيدت الرهائن إليهم بما أنعم عليهم، وعندما وصل ليفون إلى سيس أطلق سنقر الأشقر، وبعث به إلى السلطان فتلقاه السلطان وهو في الصيد من غير أن يعرف أحد بقدومه، وقدم به وهو مختف وأنزله عنده في الدهليز، وبات معه. فلما أصبح، واجتمع الناس في الخدمة، خرج السلطان ومعه سنقر الأشقر، فبهت الناس لرؤيته، وأخرج له السلطان المال والخلع والحوائص، والخيل والبغال والجمال والمماليك، وسائر ما يحتاج إليه، وحمل إليه الأمراء التقادم، وبالغ السلطان في الإحسان إليه، وبني له دارا بقلعة الجبل ولما حضر سنقر إلى القاهرة أعطاه السلطان إمرة، وعمله من خواصه.

وفي ثالث عشره: تسلم الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقاني أستادار السلطان حصن بفراس من الفرنج الداويه و كانوا قد فروا عنها وتركوا الحصن خاليا حتى لم يبق بها سوي عجوز واحد، فوجدها الأمير شمس الدين عامرة بالحواصل والذخائر، وفيه وردت رسل صاحب عكا بهدية فحصل الاتفاق على أن تكون حيفا للفرنج ولها ثلاث ضياع، وأن تكون مدينة عكا وبقية بلادها مناصفة هي وبلاد الكرمل، وأن بلاد صيدا الوطاة للفرنج والجبليات للسلطان، وأن الهدنة لعشر سنين، وأن الرهائن تطلق وبعث السلطان لصاحب عكا هدية فيها عشرون نفسا من أسري أنطاكية، وتوجه القاضي محيي الدين عبد الظاهر والأمير كمال الدين بن شيت لاستحلافه، فدخلا عكا في عشري شوال، وقد وصاهما السلطان ألا يتواضعا له في جلوس ولا مخاطبة، فلما دخلا كان الملك على كرسي، فلم يجلسا حتى وضع لهما كرستين جلسا عليهما قبالته، ومد الوزير يده ليأخذ الكتاب فلم يرضيا حتى مد الملك يده وأخذه، و لم يوافق على أشياء فتركوه ولم يحلف.
وفي ثامن عشر ذي القعدة: خرج السلطان من دمشق وسار إلى القاهرة، فخرج الملك السعيد إلى أم الباردة وهي السعيدية، وعيد مع السلطان بها. وسارا إلى قلعة الجبل في حادي عشر ذي الحجة، وحمل السلطان عن الناس كلفة الزينة. وفيها مات السلطان ركن الدين قلج أرسلان بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان قطلومش بن أرسلان بيغو بن سلجوق، ملك الروم. وقام من بعده ابنه غياث الدين كيخسرو وعمره أربع سنين، فقام بأمر المملكة معين الدين سليمان البرواناه وكان موت ركن الدين خنقا بالوتر، وذلك أن معين الدين البرواناه اتفق مع التتر المقيمين معه على قتل ركن الدين فخنقوه.
ومات في هذه السنة من الأعيانكمال الدين أبو العباس أحمد بن عبد العزيز بن محمد بن الشهيد أبي صالح عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن العجمي الحلبي كاتب الإنشاء، ظاهر صور من الساحل.
وتوفي الصاحب عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن منصور بن محمد بن وداعة الحلبي وزير دمشق، بالقاهرة.
وتوفي الأديب عفيف الدين أبو الحسن على بن عدلان بن حماد بن على الموصلي بدمشق، عن ثلاث وثمانين سنة. ومات الأمير عماد الدين أبو حفص عمر بن هبة الله ابن صديق الخلاطي الأديب الفاضل بحماة، عن ثمان وستين سنة.
وتوفي الشيخ المعتقد أبو داود مسلم السلمي شيخ الطائفة المسلمية، في يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الأول، ودفن بالقرافة، وكان في ابتداء أمره قاطع طريق، وأخذ عن الشيخ مروان أحد أصحاب الشيخ مرزوق، وقدم القاهرة، وعني به الصاحب بهاء الدين محمد بن على بن حنا.
سنة سبع وستين وستمائةفي أول المحرم: ركب السلطان حتى شاهد جامعه بظاهر القاهرة، وسار لفتح بحر أبي المنجا، وعاد إلى القلعة. وفيه احتفل السلطان برمي النشاب وأمور الحرب، وبني مسطبة. بميدان العيد خارج باب النصر من القاهرة، وصار ينزل كل يوم من الظهر ويرمي النشاب، فلا يعود من الميدان إلى عشاء الآخرة، وأخذ السلطان يحرض الناس على الرمي والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلا وهذا شغله تحريض الناس على لعب الرمح ورمي النشاب.
وفيه قدمت الرسل من جميع الأقطار تهنئ السلطان بما فتحه الله عليه.
وفي يوم الخميس تاسع صفر. جلس الملك بركة في مرتبة الملك، وحضر الأمير فقبلوا الأرض، وجلس الأمير عز الدين الحلي والأمير فارس الدين الأتابك بين يديه، والصاحب بهاء الدين وكتاب الإنشاء والقضاة والشهود، وحلف له الأمراء وسائر العساكر.
وفي ثالث عشره. ركب الملك السعيد الموكب كما يركب والده وجلس في الإيوان وقرئت عليه القصص.
وفي العشرين منه: قرئ بالإيوان تقليده بتفويض السلطة إليه، واستمر جلوسه في الإيوان مكان والده لقضاء الأشغال، وصار يوقع ويطلق ويركب في الموكب، وأقام السلطان الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نائبا عنه، عوضاً عن الأمير عز الدين الحلي.

وفي ثاني عشر جمادى الآخرة. خرج السلطان، ومعه الأمير عز الدين الحلي وأكابر الأمراء في عدة من العسكر يريد بلاد الشام، وترك أكثر العسكر عند الملك السعيد، فلما وصل إلى غزة أنفق في العسكر، ونزل أرسوس لكثرة مراعيها، فقدم عليه كتاب متملك سيس بأن رسول رسول أبغا بن هولاكو قدم ليحضر إلى السلطان، فبعث إليه الأمير ناصر الدين بن صيرم مشد حلب ليتسلمه من سيس، ويحترز عليه بحيث لا يمكنه أن يتحدث مع أحد فسار به إلى دمشق، و لم يحتفل به عند وصوله إلى دمشق، وأنزل في قلعتها، فورد الخبر بذلك، فركب السلطان من أرسوف وترك الأثقال بها، وأخذ معه الأمراء ودخل إلى دمشق، وأحضر الرسول إليه، فكان من جملة كتابه: إن الملك أبغا لما خرج من الشرق تملك جميع العالم وما خالفه أحد، ومن خالفه هلك وقتل. فأنت لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلصت منا، فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحا.
وكان في المشافهة: أنت مملوك وأبعت في سيواس، فكيف تشاقق الملوك ملوك الأرض؟ فأجيب وأعيد الرسول.
وفي أول شعبان: مات الأمير عز الدين الحلي بدمشق.
وفيه خرج السلطان من دمشق، وودع الأمراء كلهم وسيرهم إلى مصر، ولم يتأخر عنده من الأمراء الكبار سوي الأمير الأتابك، والمحمدي، والأيدمري، وابن أطلس خان، وأقوش الرومي. فسار بهم إلى قلعة الصبيبة ثم إلى الشقيف وصفد، وكتب بحضور الأثقال إلى خربة اللصوص من أرسوف، فأحضرها الأمير آقسنقر الفارقاني الأستادار، وقدم السلطان إليها فأقام بها أياما. وخطر للسلطان أن يتوجه إلى ديار مصر خفية، فكتم ذلك وكتب إلى النواب. بمكاتبة الملك السعيد والاعتماد على أجوبته، ورتب إنه كلما جاء بريد يقرأ عليه وتخرج علائم على بياض تكتب عليها الأجوبة.
فلما كان في رابع عشره: أظهر السلطان أنه تشوش في بدنه، واستدعى الحكماء إلى الخيمة، ووقع احتفال في الظاهر بتوعكه، وأصبح الأمراء فدخلوا عليه وشاهدوه مجتمعا على هيئة متألم، وكتب إلى دمشق باستدعاء الأشربة. وتقدم السلطان إلى الأمير بدر الدين الأيدمري، والأمير سيف الدين بكتوت جرمك الناصري، بالتوجه إلى حلب على خيل البريد وصحبتهما بريدي، فتوجهوا إليه السبت سادس عشره، و كان السلطان قد أوصاهم إنهم إذا ركبوا يأتوا خلف الدهليز، حتى يتحدث معهم مشافهة، وجهز السلطان الأمير آقسنقر الساقي على البريد إلى مصر، وأعطاه تركاشه وأمره أن يقف خلف خيمة الجمدارية من وراء الدهليز، فوقف حيث أمر، ولبس السلطان جوخة مقطعة، وتعتم بشاش دخاني عتيق، وقصد أن يخرج به الحراس، فوجد قماش نوم لبعض المماليك، فاستدعى خادما من خواصه وقال: أنا خارج بهذا القماش، احمله وامش قدامي فإن سألك أحد فقل هذا بعض معه قماش بعض الصبيان، حصل له مرض وما يقدر يحضر الخدمة الليلة، وخارج إليه بقماشه. فخرج السلطان بهذه الليلة ولم يفطن به أحد، وكان قد أسر إلى الأمير شمس الدين الفارقاني أنه يغيب مدة أيام عينها.

ولما خرج السلطان من الدهليز مشي إلى الجهة التي واعد آقسنقر الساقي إليها، وكان قبل ذلك قد أقام هناك أربعة أرؤس من الخيل سيرها مع الأمير بهاء الدين أمير أخور، وأمره أن يقف بها في مكان فأخذ أقسنقر الخيل، وسير بهاء الدين أمير آخور إلى التل، فوجد الأيدمري ورفقته، فصار إليهم السلطان واختلط بهم في السوق وهم لا يعرفونه، فلما طال سوقهم قال السلطان للأيدمري: تعرفني فقال: إي والله، وأراد أن ينزل عن فرسه ليقبل الأرض، فمنعه. وقال السلطان لجرمك: تعرفني فقال: إيش هذا يا خوند فقال له: لا تتكلم. وكان معهم الأمير علم الدين شقير مقدم البريدية، فصارت جملتهم خمسة أنفس، ومعهم أربعة جنائب من خيل السلطان الخاص، فساقوا إلى القصير المعيني ووافوه نصف الليل، فدخل السلطان إلى الوالي ليأخذ فرسه، فقام إليه بنحو خمسين راجلا إليها وقال: الضيعة ملك السلطان، ما يقدر أحد يأخذ منها فرسا، تروحوا وإلا قتلناكم. فتركوه وساقوا إلى بيسان، وأتوا دار الوالي وقالوا: نريد خيلا للبريد، فأنزلهم وقعد السلطان عند رجلي الوالي وهو نائم، ثم التفت إلى الأيدمري وقال: الخلائق على بابي، وأنا على هذا الوالي لا يلتفت إلي، ولكن الدنيا نوبات. وطلب السلطان من الوالي كوزا، فقال: ما عندنا كوز إن كنت عطشان أخرج واشرب من برا فأحضر إليه الأيدمري كرازا شرب منه. وركبوا وصبحوا بجينين، فوجدوا بها خيلا للبريد عرجا معقرة، فركب السلطان منها فرسا لم يكد يثبت عليه من رائحة عقوره. وساروا فلما نزلوا تل العجول بقي كل منهم ماسكا فرسه، فلما وصلوا إلى العريش قام السلطان والأمير جرمك ونقيا الشعير، وقال السلطان لجرمك: ابن السلطة والأستادار وأمير جاندار، وأين الخلق الوقوف في الخدمة هكذا تخرج الملوك من ملكهم، وما يدوم إلا الله سبحانه.
ولم يبق معهم من الجنائب الأربعة إلا الذي على يد السلطان يقوده، ووصل معه إلى الصالحية، وصعدوا إلى القلعة ليلة الثلاثاء الثلث الأول من الليل، فأوقفهم الحراس حتى شاوروا الوالي، ونزل السلطان في باب الإسطبل وطلب أمير آخور، وكان قد رتب مع زمام الأمر ألا يبيت إلا خلف باب السر، فدق السلطان باب السر وذكر للزمام العلائم التي بينه وبينه، ففتح الباب ودخل السلطان ورفقته. وأقاموا يوم الثلاثاء والأربعاء، وليلة الخميس الحادي والعشرين من شعبان، ولا يعلم بالسلطان أحد إلا الزمام فقط، وصار السلطان يتفرج بالأمراء بسوق الخيل، فلما قدم الفرس للملك السعيد يوم الخميس على العادة قدم أمير آخور للسلطان فرسا آخر، وعندما خرج الملك السعيد ليركب ما أحس إلا والسلم قد خرج إليه، فرعب وقبل له الأرض، وركب السلطان وخرج على غفلة وبغلس، فأنكر الأمراء ذلك وأمسكوا قبضات سيوفهم، ونظروا في وجه السلطان حتى تحققوه، فقبلوا له الأرض، وساق السلطان إلى ميدان العيد، وعاد إلى القلعة وأقام بقية يوم الخميس ويوم الجمعة ولعب بالكرة يوم السبت. وتوجه يوم الأحد إلى مصر، ورمي الرجال بالشواني قدامه، وركب في الحراريق وعاد إلى القلعة، فلما كان ليلة الإثنين خامس عشري شعبان، ركب السلطان خيل البريد من القلعة، وعاد إلى معسكره بخربة اللصوص.

وأما ما جري في معسكر السلطان بالخربة، فإن الأمير شمس الدين الفارقاني لما أصبح، وقد فارق السلطان الدهليز، أظهر الأمراء أن السلطان منقطع لضعف حصل له، واستدعى الأطباء وسألهم عما يصلح للمتوعك الذي يشكو صداعا وخدرا وعطشا، وأوهمهم أن السلطان يشكو دلك، فوضعوا له ما يوافق. وأمر الأمير شمس الدين الشراب دارية فاحضروا الشراب، ودخل إلى الدهليز بنفسه ليوهم العسكر صحة ذلك، إلى أن وصل ليلة الجمعة تاسع عشريه إلى قرب الدهليز، فأمر السلطان الأيدمري وجرمك بالتوجه إلى خيامهما، وأخذ على يده جراب البريد وفي كفه فوطة، ومشي على قدميه إلى جهة الحراس، فمانعه حارس وأمسك طوقه، فانجذب منه السلطان ودخل باب الدهليز. وبات السلطان، فلما أصبح أحضر الأمراء وأعلمهم أنه كان متغير المزاج، وركب فضربت البشائر لعافية السلطان، ومشي كل ما وقع على العسكر، ولم يعلم به سوي الأتابك والأستادار والدوادار وخواص الجامدارية وكانت في هذه المدة ترد المكاتبات وتكتب أجوبتها كما رتب السلطان، والأحوال جميعها ماشية كأنه حاضر لم يختل شيء من الأمور، وقصد بما فعل أن يكشف حال مملكته ويعرف أحوال ابنه الملك السعيد في مصر، فتم له ما أراد.
وكتب السلطان بإزالة الخمور وإبطال الفساد والخواطئ من القاهرة ومصر وجميع أعمال مصر فطهرت كلها من المنكر، ونهبت الحانات التي جرت عادة أهل الفساد الإقامة بها، وسلبت جميع أحوال المفسدات وحبسن حتى يتزوجن، وفي كثير من المفسدين، وكتب السلطان إلى جميع البلاد بمثل ذلك، وحط المقرر على هذه الجهة من المال، وعوض المقطعين جهات حلالا.
وورد الخبر بحصول زلزلة في بلاد سيس خرب منها قلعة سرفقد وعدة قلاع، وهلك كثير من الناس حتى سال النهر دما، وتلفت عدة جهات. وورد الخبر بأن الفرنج شنعوا. بموت السلطان، وحضر رسولهم يطلب المهادنة: وكان قد هرب من المماليك السلطانية أربعة وصاروا إلى عكا، فبعث السلطان بإحضارهم فامتنع الفرنج من إحضارهم إلا بعوض، فأنكر السلطان ذلك وأغلظ عليهم، فسيروا المماليك وقد نصروهم، فعند ذلك قبص السلطان على رسل الفرنج وقيدهم، وكتب إلى النواب بوقوع الفسخ، وأغار عليهم الأمير أقوش الشمسي وقتل وأسر منهم جماعة. وركب السلطان في العشرين من رمضان وساق إلى صور، وقتل وأسر جماعة، وعاد إلى المخيم وأمهل مدة، ثم جرد طائفة لأخذ المغل وقطع الميرة عن صور.
وفي سادس عشريه. تسلم نواب السلطان بلاطنس من عز الدين عثمان صاحب صهيون، وهي حصن عظيم، وفيه سارت العساكر من البيرة إلى كركر فأحرقوا وغنموا، وأخذوا قلعة كانت بينها وبين كختا، وقتلوا رجالها وغنموا كثيرا، وأخرجوا منه الخمس للديوان.
وفيه كان خلف في مكة بين الشريف نجم الدين أبي نمي وبين عمه الشريف بهاء الدين إدريس أميري مكة، ثم اتفقا فرتب لهما السلطان عشرين ألف درهم نقرة في كل سنة، ألا يؤخذ بمكة من أحد مشمس، ولا يمنع أحد من زيارة البيت ولا يتعرض لتاجر، وأن يخطب باسم السلطان في الحرم والشارع، وتضرب السكة باسمه، وكتب لهما تقليد بالإمارة، وسلمت أوقاف الحرم التي بمصر والشام لنوابهما.
وفيه سلم السلطان للشريف شمس الدين قاضي المدينة النبوية وخطيبها ووزيرها وقد حضر في، رسالة الأمير عز الدين، جماز أمير المدينة الجمال التي نهبها أحمد بن حجي لأشراف المدينة، وهي نحو الثلاثة آلاف جمل، وأمره أن يوصلها لأربابها وفيها قدم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي شيخ خدام الحجرة النبوية، فأكرمه السلطان وضرب له خيمة بشقة على باب الدهليز، وناله زيادة على مائتي ألف درهم نقرة، وسافر صحبة القاضي والجمال مع الركب الشامي، وجهز من الكسوة لمكة والمدينة.
وفيه قدم رسول الفرنج من بيروت بهدية وأساري مسلمين، فأطلقوا بباب الدهليز، وكتبت لهم هدنة. وفيه وصل الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا إلى الدهليز ومعه جماعة من أمراء العرب، فأوهمه السلطان إنه يريد الحركة إلى العراق، وأمره بالتأهب ليركب إذا دعي، وأمره فانصرف إلى بلاده، وكان السلطان في الباطن إنما يريد بحركته الحجاز.

وفيه أعطي السلطان ناصر الدين محمد ولد الأمير عز الدين أيدمر الحلي إمرة أربعين فارسا، ورسم للأمير قلاوون والأمير أوغان والأمير بيسري والأمير بكتاش الفخري أمير سلاح أن يباشروا الحوطة على رمال الحلي لورثته، و لم يتعرض السلطان لشيء من موجوده مع كثرته.
ودخل شوال: والسلطان على عزم الحركة للحجاز، فأنفق في العساكر جميعها، وجرد عدة مع الأمير أقوش الرومي السلاح دار ليسيروا مع السلطان، وجرد البقية مع الأمير آقسنقر الفارقاني الأستادار إلى دمشق، فنزلوا بظاهرها وأقاموا بها، ثم توجه السلطان إلى الحج ومعه الأمير بدر الدين الخازندار، وقاضي القضاة صدر الدين سليمان الحنفي، وفخر الدين بن لقمان، وتاج الدين بن الأثير، ونحو ثلاثمائة مملوك وأجناد من الحلقة إلى الحجاز، وذلك أن الأمير جمال الدين ابن الداية الحاجب كتب إلى السلطان: إني أشتهي التوجه بصحبة السلطان إلى الحجاز فأمر بقطع لسانه، فما تفوه أحد بعدها بذلك.
وسار السلطان من الفوار يوم الخميس خامس عشريه، إلى الكرك مستهل ذي القعدة، وكان قد دبر أموره خفية من غير أن يطلع أحد على ذلك، حتى إنه جهز البشماط والدقيق والروايا والقرب والأشربة، والعربان المتوجهين معه والمرتبين في المنازل، ولا يشعر الناس بشيء من ذلك، فلما وصل الكرك وجد الأمور كلها مجهزة، فأعطي المجردين معه بقدر الشعير كفايتهم. وسار الثقل في رابعه، وتبعهم السلطان في سادسه ومعه المجردون، فنزل الشوبك ورسم بإخفاء خبره، وتوجه في حادي عشره، وسار البريد إلى مصر، فجهزت الكتب إليه مع العربان من جهة الكرك فكتبت أجوبتها من هناك.
ووصل السلطان إلى المدينة النبوية في خامس عشريه، فلم يقابله جماز ولا مالك أميرا المدينة وفرا منه، ورحل منها في سابع عشريه، وأحرم فدخل مكة في خامس ذي الحجة، وأعطي خواصه جملة من المال ليفرقوها سرا، وفرق كساوي على أهل الحرمين وصار كواحد من الناس، لا يحجبه أحد ولا يحرسه إلا الله، وهو منفرد يصلي ويطوف ويسعى، وغسل البيت، وصار في وسط الخلائق، وكل من رمي إليه إحرامه غسله وناوله إياه. وجلس على باب البيت، وأخذ بأيدي الناس ليطلعهم إلى البيت، فتعلق بعض العامة بإحرامه ليطلع فقطعه، وكاد يرمي السلطان إلى الأرض، وهو مستشر بجميع ذلك، وعلق كسوة البيت بيده وخواصه، وتردد إلى من بالحرمين من الصالحين. هذا وقاضي القضاة صدر الدين سليمان بن عبد الحق الحنفي مرافقه طول الطريق، يستفتيه ويتفهم منه أمر دينه، و لم يقفل السلطان مع ذلك تدبير الممالك، وكتاب الإنشاء تكتب عنه في المهمات، وكتب إلى صاحب اليمن كتابا ينكر عليه أمورا، ويقول فيه: سطرتها من مكة المشرفة، وقد أخذت طريقها في سبع عشرة خطوة يعني بالخطوة المغزلة ويقول له: الملك هو الذي يجاهد في الله حق جهاده، ويبذل نفسه في الذب عن حوزة الدين، فان كنت ملكا فأخرج التتار.
وأحسن السلطان إلى أميري مكة، وهما الأمير نجم الدين أبي نمي والأمير إدريس بن قتادة، وإلى أمير ينبع وأمير خليص وأكابر الحجاز وكتب منشورين لأميري مكة، فطلبا منه نائبا تقوي به أنفسهما، فرتب الأمير شمس الدين مروان نائب أمير جاندار بمكة، يرجع أمرهما إليه ويكون الحل والعقد على يديه، وزاد أميري مكة مالا وغلالا في كل سنة بسبب تسبيل البيت للناس، وزاد أمراء الحجاز إلا جماز ومالك أميرا المدينة، فإنهما انتزحا من بين يديه.
وقضي السلطان مناسك الحج وسار من مكة في ثالث عشره، فوصل إلى المدينة في العشرين منه، فبات بها وسار من الغد، فجد في السير ومعه عدة يسيرة حتى وصل إلى الكرك بكرة يوم الخميس سلخه، و لم يعلم أحد بوصوله إلا عند قبر جعفر الطيارة بمؤتة، فالتقوه هناك. ودخل السلطان مدينة الكرك وهو لابس عباءة، وقد ركب راحلة، فبات بها ورحل من الغد.
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير عز الدين أيدمر الحلي الصالحي نائب السلطنة، عن نيف وستين سنة، بدمشق في أول شعبان. ومات الأمير أسد الدين سليمان بن داود بن موسك الهذباني، بعد ما ترك الخدمة تعففا، وله فضل ونظم جيد.
وتوفي مجد الدين أبو محمد عبد المجيد بن أبي الفرج بن محمد الروذراوري بدمشق. وتوفي نور الدين أبو الحسن على بن عبد الله بن إبراهيم، الشهير بسيبويه المغربي النحوي، عن سبع وستين سنة بالقاهرة، وله شعر جيد.

وتوفي شيخ الأطباء بدمشق شرف الدين أبو الحسن على بن يوسف بن حيدرة الرحبي وله شعر جيد.
سنة ثمان وستين وستمائةفيها صلي الملك الظاهر صلاة الجمعة غرة المحرم بالكرك، وركب في مائة فرس وبيد كل فارس فرس، وساق إلى دمشق. هذا والناس. بمصر والشام لا يعرفون شيئا من خبر السلطان: هل هو في الشام أو الحجاز أو غيره، ولا يستطع من مهابته والخوف منه أحد أن يتكلم، فلما قارب السلطان دمشق سير أحد خواصه على البريد بكتب إلى دمشق، وفيها البشارة بسلامته وقضاء الحج، فأحضر الأمير جمال الدين النجيبي نائب دمشق الناس لسماع كتب البشارة، فبينا هم في القراءة إذ بلغهم أن السلطان في الميدان، فساروا إليه فإذا هو بمفرده، وقد أعطي فرسه لبعض منادية سوق الخيل، فقبل النائب له الأرض وحضر الأمير آقسنقر الأستادار والأمراء المصريون، فأكل السلطان شيئا وقام يستريح، وانصرف الناس، فركب السلطان في نفر يسير وتوجه إلى حلب، وحضر أمراء دمشق للخدمة فلم يجدوا السلطان، ودخل السلطان إلى حلب والأمراء في الموكب، فساق إليهم وبقي ساعة ولا يعرفه أحد، حتى فطن به بعضهم فنزلوا وقبلوا الأرض. ودخل السلطان دار نائب السلطنة وكشف القلعة، وخرج من حلب و لم يعرف به أحد، فوصل دمشق في ثالث عشره، ولعب فيها بالكرة، وركب في الليل وسار إلى القلس، وزار الخليل وتصدق. وكان العسكر المصري قد صار به الأمير آقسنفر الفارقاني من دمشق ونزل بتل العجول، فخرج السلطان من القدس إلى تل العجول. وكل ذلك في عشرين يوما، ما غير السلطان فيها عباءته التي حج فيها.
ثم سار السلطان من تل العجول بالعساكر في حادي عشريه إلى القاهرة، فخرج الملك السعيد إلى لقائه بالصالحية، وعاد معه إلى قلعة الجبل، فأقام السلطان بها إلى ثاني عشر صفر، ثم خرج منها ومعه الأمراء والمقدمون، فركب في الحراريق إلى الطرانة، ودخل السلطان البرية وضرب حلقة، فأحضر إلى الدهليز ثلاثمائة غزال وخمس عشرة نعامة: أعطي عن كل غزال بغلطاق بسنجاب، وعن كل نعامة فرسا ثمينا بسرجه ولجامه.
ودخل السلطان إلى الإسكندرية في حادي عشريه، وكان الصاحب بهاء الدين بن حنا قد سبق إليها وحصل الأموال والقماش، فخلع السلطان على الأمراء، وحمل إليهم التعابي والنفقة، ولعب الكرة ظاهر الإسكندرية، وتوجه إلى الحمامات ونزل بالليونة وابتاعها من وكيل بيت المال، فبلغه هناك حركة التتار، وأنهم واعدوا فرنج الساحل، فعاد إلى قلعة الجبل، فورد الخبر بغارة التتار على الساجور بالقرب من حلب، فجرد السلطان الأمير علاء الدين البندقدار في جماعة من العسكر، وأمره أن يقيم في أوائل البلاد الشامية على أهبة.
وسار السلطان من قلعة الجبل في ليلة الإثنين حادي عشري ربيع الأول ومعه نفر يسير فوصل إلى غزة، ثم دخل دمشق في سابع ربيع الآخر، ولحق الناس في الطريق مشقة عظيمة من البرد، فخيم على ظاهر دمشق. ووردت الأخبار بانهزام التتار عندما بلغهم حركة السلطان، وكأن قد ألقي الله في أنفس الناس أن السلطان وحده يقوم مقام العساكر الكثيرة في هزيمة الأعداء، وأن اسمه يرد الأعداء من كل جانب، فورد الخبر بأن جماعة من الفرنج خرجوا من الغرب، وبعثوا إلى أبغا بن هولاكو بأنهم واصلون لمواعدته من جهة سيس في سفن كثيرة، فبعث الله على تلك السفن ريحا أتلفت عدة منها، ولم يسمع بعدها لمن بقي في الأخرى خبر. وورد الخبر أنه قد خرج فرنج عكا وخيموا بظاهرها، وركبوا وأعجبتهم أنفسهم بمن قدم إليهم من فرنج الغرب، وتوجهت طائفة منهم إلى عسكر جينين وعسكر صفد، فخرج السلطان من دمشق على أنه يتصيد في مرج برغوث وبعث من أحضر إليه العدد ومن أخرج العساكر كلها من الشام، فتكاملوا عنده بكرة يوم الثلاثاء حادي عشريه بمرج برغوث، وساق بهم إلى جسر يعقوب فوصل آخر النهار، وشاق بهم في الليل فأصبح في أول المرج.

وكان السلطان قد سير إلى عساكر عين جالوت وعساكر صفد بالإغارة في ثاني عشريه، فإذا خرج إليهم الفرنج انهزموا منهم، فاعتمدوا ذلك، ودخل السلطان الكمين، فعندما خرج جماعة من الفرنج لقتال عسكر صفد تقدم إليهم الأمير إيغان، ثم بعده الأمير جمال الدين الحاجبي، ومعهما أمراء الشام. ثم ساق الأمير أيتمش السعدي، والأمير كندغدي أمير مجلس، ومعهما مقدمو الحلقة، فقاتل الأمراء الشاميون أحسن قتال، وتبع السلطان مقدمي الحلقة، فما أدركهم إلا والعدو قد انكسر، وصارت الخيالة بخيلها مطرحة في المرج. وأسر السلطان كثيرا من أكابرهم، و لم يعدم من المسلمين سوي الأمير فخر الدين ألطونبا الفائزي، فسارت البشائر إلى البلاد.
وعاد السلطان إلى صفد والرءوس بين يديه، وتوجه منها إلى دمشق فدخلها في سادس عشريه، والأسري ورءوس القتلى قدامه، وخلع على الأمراء، ثم سار إلى حماة وخرج منها إلى كفر طاب، و لم يعلم أحد قصده، وفرق العساكر وترك النقل، وأخذ خيار عسكره وساق إلى جهة المرقب فأصابته مشقة زائدة من كثرة الأمطار، فعاد إلى حماة وأقام بظاهرها تسعة عشر يوما، وتوجه على جهة المرقب، فانتهى إلى قريب بلاد الإسماعيلية، وعاقته الأمطار والثلوج فعاد.
ثم ركب السلطان في ثالث جمادى الآخرة. بمائتي فارس من غير سلاح، وأغار على حصن الأكراد وصعد الجبل الذي عليه حصن الأكراد ومعه قدر أربعين فارسا، فخرج عليه عدة من الفرنج ملبسين، فحمل عليهم وقتل منهم جماعة، وكسر باقيهم وتبعهم حتى وصل إلى خنادقهم، وقال يستخف بهم: خلوا الفرنج يخرجوا، فما نحن أكثر من أربعين فارسا بأتبية بيض، وعاد إلى مخيمه، ورعي الخيول مروجها ورعى الخيول مروجها وزروعها.
وفي أثناء ذلك حضر إلى خدمة السلطان كثير من أصحاب البلاد المجاورة، فلم يبق أحد إلا وقدم على السلطان مثل: صاحب حماة، وصاحب صهيون، إلا نجم الدين حسن بن الشعراني صاحب قلاع الإسماعيلية، فإنه لم يحضر بل بعث يطلب تنقيض القطعة التي حملوها لبيت المال، بدلا مما كانوا يحملونه إلى الفرنج. وكان صارم الدين مبارك بن الرضي صاحب العليقه قد تغير السلطان عليه من مدة، فدخل صاحب صهيون بينه وبين السلطان في الصلح، وأحضره إلى الخدمة، فقلده السلطان بلاد الدعوة استقلالا، وأعطاه طبلخاناه، وعزل نجم الدين حسن بن الشعراني وولده من نيابة الدعوة، وتوجه صارم الدين إلى مصياف كرسي بلاد الإسماعيلية في سابع عشرى جمادى الآخرة، وصحبته جماعة لتقرير أمره.
ويقال: بل الذي قام في حقه الملك المنصور صاحب حماة، وإنه شفع فيه إلى أن عفي عنه السلطان، وحضر بهدية فأكرمه السلطان، وكتب له منشورا بالحصون كلها: وهي قلعة الكهف وقلعة الخوابي والدينقه والعليقة والقدموس والرصافة ، ليكون نائبا عن السلطان، وكتب له بأملاكه التي كانت بالشام على أن تكون مصياف وبلادها خاصا للسلطان. وبعث السلطان معه نائبا بمصياف، وهو الأمير بدر الدين العديمي أحد مفاردة الشام، وجرد معه جماعة من شيزر وغيرها، فلما وصلوا إلى مصياف امتنع أهلها من تسليمها لصارم الدين، وقالوا: لا نسلمها إلا لنائب السلطان، فقال العديمي: أنا نائب السلطان. فلما فتحوا هجم صارم الدين عليهم وقتل منهم جماعة، وتسلم الحصن في نصف رجب، فلم يجد نجم الدين وولده بدا من الدخول في الطاعة، فسألا في الحضور فأجيبا، وحضر نجم الدين حسن وعمره تسعون سنة، فرق له السلطان وولاه النيابة شريكا لصارم الدين بن الرضي، وقرر عليه حمل مائة وعشرين ألف درهم نقرة في كل سنة، وتوجه نجم الدين وترك ابنه شمس الدين في الخدمة. وتقرر على صارم الدين بن مبارك بن الرضي في كل سنة ألفا دينار، فصارت الإسماعيلية يؤدون المال بعد ما كانوا يجبون من ملوك الأرض القطائع.
ثم رحل السلطان من حصن الأكراد إلى دمشق، فدخلها في ثامن عشريه وقدم الخبر بأن الفرنسيس وعدة من ملوك الفرنج قد ركبوا البحر ولا يعلم قصدهم، فاهتم السلطان بالثغور والشواني، وسار إلى مصر فدخلها في ثاني شوال. وفيه تمت عمارة الجامع الظاهري بالحسينية خارج القاهرة، فرتب السلطان أوقافه، وجعل خطيبه حنفي المذهب، ووقف عليه حكر ما بقي من الميدان. وفيه بعث السلطان عدة رسل بهدايا إلى بلاد الفرنج.

وفي هذه السنة: قتل الشريف إدريس بن قتادة بخليص، بعد أن ولي مكة منفردا أربعين يوما، فاستبد ابن أخيه أبو نمي بإمرة مكة وحده.
وفيها مات الطواشي جمال الدين محسن الصالحي النجمي، شيخ الخدام بالمسجد النبوي.
وفيها تنكر الخان منكوتمر بن طغان، ملك التتر ببلاد الشمال، على الأشكري ملك قسطنطنية، فبعث الخان جيشا من التتر حتى أغاروا على بلاده، وحملوا عز الدين كيقباد بن كيخسرو وكان محبوسا كما تقدم في القلعة وساروا به وبأهله إلى منكوتمر، فأكرمه وزوجه وأقام معه حتى مات في سنة سبع وسبعين، فسار ابنه مسعود ابن عز الدين وملك بلاد الروم، كما سيأتي ذكره إن شاء الله.
وفيها انقرضت دولة بني عبد المؤمن بقتل الواثق أبي العلاء إدريسي المعروف بأبي دبوس بن عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي، في محرم على يد بني مرين. وبنو مرين قبيلة من البربر يقال لهم حمامة كان مقامهم قبلي تازا، فخرجوا عن طاعة الموحدين بني عبد المؤمن، وتابعوا الغارات حتى ملكوا مدينة فاس، سنة بضع وثلاثين وستمائة: وأول من اشتهر منهم أبو بكر بن عبد الحق ابن محبو بن حمامة، ومات سنة ثلاث وخمسين. فملك بعده يعقوب بن عبد الحق، وقوي أمره وحصر مراكش وبها أبو دبوس، وملكها وأزال ملك بني عبد المؤمن في أول سنة ثمان وستين هذه، وملك مراكش.
ومات في هذه السنة من الأعيانقاضي القضاة بدمشق محيي الدين أبو الفضل يحيي بن محيي الدين أبي المعالي محمد ابن زكي الدين أبي الحسن على بن المجد أبي المعالي محمد بن زكي الدين أبي الفضل يحيى بن على بن عبد العزيز العثماني المعروف بابن الزكي القرشي الأموي الشافعي، عن اثنتين وسبعين سنة بالقاهرة.
وتوفي الوزير الصاحب زين الدين أبو يوسف يعقوب بن عبد الرفيع بن بكر بن مالك القرشي الزبيري، عن اثنتين وثمانين سنة بالقاهرة، بعد عزله ومحنته، وله شعر جيد.
وتوفي زين الدين أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعدة المقدسي الحنبلي وقد انتهي إليه علو الإسناد، عن ثلاث وتسعين سنة بدمشق.
وتوفي الولي العارف داود الأعزب بناحية تفهنا، في ليلة الجمعة سابع عشرى جمادى الآخرة، وبها دفن، وقبره مشهور يتبرك الناس بزيارته، ومناقبه وكراماته شهيرة قد جمعت في مجلد.
وتوفي الولي العارف تقي الدين أبو المكارم عبد السلام بن سلطان بن، الماجري من هوارة، في يوم الأحد ثامن ذي الحجة، بناحية قليب. وله كرامات كثيرة، وأخذ الطريق عن الشيخ أبي الفتح الواسطي عن الشيخ أحمد بن أبي الحسن الرفاعي، وقبره يزار بقليب ويتبرك به.
سنة تسع وستين وستمائةفي المحرم: ورد كتاب بيسو نوغاي قريب الملك بركة ملك التتار، وهو أكبر مقدمي جيوشه، يخبر فيه أنه دخل في دين الإسلام، فأجيب بالشكر والثناء عليه. وفيه ورد الخبر. بمسير الفرنسيس وملوك الفرنج إلى تونس ومحاربة أهلها، فكتب السلطان إلى صاحب تونس بوصول العساكر إليه نجدة له على الفرنج، وكتب إلى عربان برقة وبلاد الغرب بالمسير إلى نجدته، وأمرهم بحفر الآبار في الطرقات برسم العساكر، وشرع في تجريد العساكر، فورد الخبر. بموت الفرنسيس وابنه وجماعة من عسكره، ووصول نجدات العربان إلى تونس وحفر الآبار، وأن الفرنج رحلوا عن تونس في خامس صفر.
وفي سابعة: توجه السلطان إلى عسقلان،ليهدم ما بقي منها خوفا من مجيء الفرنج إليها، فنزل عليها وهدم بنفسه ما تأخر من قلعتها وأسوار المدينة حتى سوي بها الأرض وعاد إلى قلعة الجبل في ثامن ربيع الأول.
وفي حادي عشريه: هلك الملك المجير هيتوم بن قنسطنطين متملك سيس.
وفي عاشر جمادى الآخرة. سار السلطان من القاهرة ومعه ابنه الملك السعيد إلى الشام، فدخل دمشق في ثامن رجب، وخرج إلى طرابلس فقتل وأسر. واتصلت الغارات إلى صافيتا وتسلم السلطان صافيتا من الفرنج الديوية وأنزلهم منها، وعدتهم سبعمائة رجل سوي النساء والأطفال، وتسلم الحصون والأبراج المجاورة لحصن الأكراد مثل تل خليفة وغيره.
وفي تاسع رجب: نازل السلطان حصن الأكراد، وقدم عليه صاحب حماة وصاحب صهيون، وصاحب دعوة الإسماعيلية الصاحب نجم الدين.

وفي آخره: نصب السلطان عدة مجانيق على الحصن، إلى أن أخذ القلعة عنوة في سادس عشر شعبان فطلب أهلها الأمان فأمنهم السلطان على أن يتوجهوا إلى بلادهم، فخرج الفرنج منها في رابع عشريه، ورتب السلطان الأمير صارم الدين الكافري نائبا بحصن الأكراد، وأمر بعمارته.
وبعث صاحب أنطرسوس وهو مقدم بيت الداوية يطلب الصلح من السلطان، فصولح على أنطرسوس خاصة، خارجا عن صافيتا وبلادها. واسترجع السلطان منهم جميع ما أخذوه في الأيام الناصيرية، وعلى أن جميع ما لهم من المناصفات والحقوق على بلاد الإسلام يتركونه، وعلى أن تكون بلاد المرقب ووجوه أمواله مناصفة بين السلطان وبين الإسبتار، وعلى ألا تجدد عمارة في المرقب، فتم الصلح، وأخلي الفرنج عدة حصون تسلمها السلطان.
وفي سابع عشر رمضان: نازل السلطان حصن عكار ونصب عليه المجانيق، وجد أهله في المناضلة وقاتلهم السلطان قتالا شديدا، فقتل الأمير ركن الدين منكورس الدواداري وهو يصلي في خيمته بحجر منجنيق أصابه.
ولما كان في تاسع عشريه: سأل الفرنج الأمان، ورفعت السناجق السلطانية على الأبراج، وخرجوا منه في سلخه، وعيد السلطان بالحصن، ورحل إلى مخيمه بالمرج، وكتب إلى متملك طرابلس يحذره وينذره.
وفي رابع شوال: ركب السلطان بجميع عساكره جريدة من غير ثقل يريد طرابلس، وساق إليها، فبينا هو عازم على ذلك، إذ ورد عليه الخبر بأن ملك الإنكتار وصل إلى عكا في أواخر رمضان، بثلاثمائة فارس وثماني بطس وشواني ومراكب تكملة ثلاثين مركبا، غير ما سبقه صحبة أستاداره، وإنه يقصد الحج إلى القدس، فغير السلطان عزمه ونزل قريبا من طرابلس، وبعث إليهم الأتابك والأمير الدوادار فاجتمعا بصاحبها، وجرت أمور آخرها إنهم سألوا السلطان الصلح فكتبت الهدنة لمدة عشر سنين، وجهز الأمير فخر الدين بن جلبان، والقاضي شمس الدين الإخنائي شاهد الخزانة، بثلاثة آلاف دينار مصرية لفكاك الأسري، وعاد السلطان إلى مخيمه، وسار إلى حصن الأكراد فدبر أمر عمارته، ورتب أحوال تلك الجهات.
وفي حادي عشره: استولي السلطان على حصن العليقة من حصون الإسماعيلية، واستخدم به الرجال، ورحل إلى دمشق فدخلها للنصف منه، ورحل منها في رابع عشريه، فنزل صفد وحمل منها المجانيق إلى القرين وساق إليه ونازله حتى أخذه في ثاني ذي القعدة، وركب منه فما أصبح إلا على أبواب عكا مطلبا، فما تحرك أحد من الفرنج، فعاد إلى مخيمه بالقرين، وهدم القلعة في رابع عشري ذي القعدة، ورحل منه إلى قريب عكا، ونزل اللجون.
وكان السلطان قد كتب إلى مصر بتسفير الشواني لقصد قبرص، فسارت في شوال حتى قاربت قبرص، فانكسرت كلها. وشعر بهم أهل قبرص فأسروا جميع من كان فيها من الرجال، وبعث صاحب قبرص كتابا إلى السلطان يقرعه فيه بأن شواني مصر وهي أحد عشر شينيا خرجت إلى قبرص فكسرها الريح، وأخذتها وأسرت من فيها فلما قرأه السلطان قال: الحمد لله منذ ملكني الله تعالى الملك ما خذلت لي راية، وكنت أخاف من إصابة عين، فبهذا ولا بغيره وكتب إلى القاهرة بإنشاء عشرين شينيا، وإحضار خمس شواني كانت بقوص، وكتب إلى قبرص جوابا أرعد فيه وأبرق. وقدمت رسل صاحب صور تطلب الصلح، فوقع الاتفاق على أن يكون للفرنج من بلاد صور عشرة بلاد فقط، ويكون للسلطان خمسة بلاد يختارها، وبقية البلاد تكون مناصفة، ووقع الحلف على ذلك. وسار السلطان إلى القاهرة، ودخل قلعة الجبل في ثاني عشر ذي الحجة، فبلغه أن الشهرزورية قد عزموا على سلطنة الملك العزيز عثمان بن صاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وكان السلطان قد جعله أحد أمراء مصر، فقبض عليه وعلى عدة أمراء منهم الأمير بهاء الدين يعقوبا: وقبض أيضاً على عدة أمراء كانوا قد اتفقوا على قتله وهو بالشقيف. منهم الأمير علم الدين سنجر الحلبي، والأمير أقوش المحمدي، والأمير أيدغدي الحاجبي، والأمير إيغان سم الموت، والأمير سنقر المساح، والأمير بيدغان الركني، والأمير طرطح الأمدي وسجنهم بقعلة الجبل.
و فيه جهز السلطان الأمير آقسنقر الفارقاني بعسكر إلى الشام، وفيه وردت هدية صاحب اليمن، وفيها تحف ودب أسود وفيل. وفيه أكثر السلطان من الركوب إلى مصر لمباشرة عمل الشواني، حتى كملت ضعفي ما انكسر.

وفي سابع عشريه: أمر السلطان بإهراق الخمور، وأبطل ضمانها وكان في كل سنة ألف دينار، وكتب بذلك ترقيما قرئ على المنابر.
وفيه خلع السلطان بالميدان، وفرق على ألف وسبعمائة شخص لثمان خيل، وفرق ألف وثمانمائة فرس، كل ذلك وهو جالس حتى فرغ وفيه لازم السلطان الصناعة. بمصر عدة أيام لرمي النشاب. وفيه ورد الخبر بأن الفرنج أغاروا على جهة الشاغور، وأخذوا غلة وخربوا وأحرقوا غلالا.
وفيها عزل شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان عن قضاء الشافعية بدمشق، وأعيد عز الدين أبو المفاخر محمد بن عبد القادر بن عبد الباقي بن خليل بن مقلد بن جابر، الشهير بابن الصائغ.
وفيها وصل سيل عظيم إلى دمشق، فأخذ كثيرا من الناس والدواب، وقلع الأشجار وردم الأنهار، وخرب الدور وارتفع حتى نزل مرامي السور، وذلك زمن الصيف.
وفيها ولي قضاء المالكية بمصر نفيس الدين أبو البركات محمد المخلص ضياء الدين أبي الفخر هبة الله بن كمال الدين أبي السعادات أحمد بن شكر المالكي. ولم يحج أحد في هذا العام من مصر، لا في البر ولا في البحر. وهجم مكة سيل عظيم في شعبان حتى دخل الكعبة.
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير علم الدين سنجر الصيرفي، في سادس صفر بدمشق.
وتوفي قاضي القضاة المالكي شرف الدين عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسي بن عبد الملك بن موسى بن خالد بن على بن عمر بن عبد الله بن إدريس بن إدريس بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب السبكي، في ليلة الخامس والعشرين من ذي القعدة، عن أربع وثمانين سنة. وولي بعده قضاء المالكية بالقاهرة نفيس الدين أبو البركات محمد بن القاضي المخلص ضياء الدين هبة الله أبو الفخر بن كمال الدين أبي السعادات أحمد بن شكر.
وتوفي الشريف إدريس بن على بن قتادة بن إدريس الحسني أمير مكة، قتيلا بظاهر مكة، فانفرد بعده أبو نمي بن أبي سعد.
وتوفي قاضي حماة شمس الدين أبو الظاهر إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن حسان ابن محمد بن منصور البارزي الجهني الحموي الشافعي، عن تسع وثمانين سنة بحماة.
وتوفي الأديب تاج الدين أبو المكارم محمد بن عبد المنعم بن نصر الله بن جعفر بن شقير المغربي الحنفي بدمشق، عن ثلاث وستين سنة.
وتوفي قطب الدين أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن سبعين المرسي الصوفي بمكة، عن نحو خمسين سنة.
سنة سبعين وستمائةأهلت والسلطان متشدد في إراقة الخمور وإزالة المنكرات، فكان لذلك يوما مشهودا. وفيه أفرج السلطان عن الأمير سيف الدين بيدغان الركني، وأعطاه إقطاعا بالشام، ثم أحضره بعد قليل، هو وسيف الدين ملاجا الركني، واشتراهما ورتبهما سلاح دارية وورد الخبر باختلاف الحال بين عيسي بن مهنا وبين العربان، وإنه يريد التوجه إلى التتار. فخشي السلطان إنه إن استدعاهم لا يحضروا، وإن توجه إلى الشام تسحبوا، فكتم أمره.
ونزل السلطان إلى الميدان في سابعه، وفرق في خواصه مبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة، واثني عشر ألف دينار عينا، ونيفا وستين حياضة، وأمر بتحهيز العساكر إلى عكا بعد الربيع، ولازم النزول إلى الصناعة في كل يوم حتى تنجزت الشواني، ونزل الأمير آقسنقر الفارقاني. بمن معه من العسكر على جينين.
فلما كان ليلة السابع عشر: منه توجه السلطان بعد المغرب، ومعه جماعة يسيرة من خواصه، وأخفي حركته ورسم بأن أحدا من المجردين معه لا يشتري عليقا ولا مأكولا، وقرر لهم ما يحتاجون إليه. وسار إلى الزعقة، ثم عرج منها في البرية إلى الكرك، ودخلها من غير أن يعلم به أحد في سادس صفر، ونزل قلعتها. وقرر السلطان في نيابة الكرك علاء الدين أيدكين الفخري، ونقل الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك إلى نيابة الشام، ولم يظهر السلطان ذلك حتى نسلم أيدكين نيابة الكرك في ثامنه، واستدعى عز الدين أيدمر وأفهمه أنه طلبه لنيابة حصن الأكراد.
وسار السلطان إلى دمشق فدخلها في ثالث عشره من غير أن يعلم أحد بحضوره، وكان قبل دخوله إلى دمشق قد كتب القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر بين يديه ثمانين كتابا في يوم وليلة، إلى النواب والأمراء بتفويض نيابة الشام لعز الدين أيدمر الظاهري، عوضاً عن أقوش النجيبي، وسير السلطان تشريفا للنجيبي نائب دمشق، وأمره أن يتوجه إلى مصر ويسلم الأمر لعز الدين أيدمر، فاعتمد ذلك.

وأنفق السلطان فيمن خرج معه مالا وافرا وخيولا، وركب بهم في ليلة السادس عشر منه، ونزل خارج حماة بالجوسق، ونزل صاحب حماة في خيمة. ورتب السلطان أستادارا وأمير جاندار وحاشية السلطة، فإنه كان قد خرج من مصر جريدة، وقام له صاحب حماة بالأسمطة، وقدم عليه وهو بحماة جماعة من أكابر العرب فأكرمهم، وكتم عنهم أمره وما أظهر لهم شيئا، وكتب إلى عيسى بن مهنا يطلب منه خيولا عينها له ليطمنه، وكتب إليه: إنك بعثت وأنا. بمصر تطلب الحضور، فكتبت إليك لا تحضر حتى أطلبك، وقد حضرت إلى حماة فإن أردت الحضور فاحضر. فحضر عيسي وسأله السلطان عما نقل عنه، فقال. نعم والصدق أنجي من الكذب فأحسن السلطان إليه وإلى أكابر العرب.
وفي سادس عشريه: قدم شمس الدين بن نجم الدين صاحب الدعوة الإسماعيلية، فقبض عليه وعلى أصحابه وسيروا إلى مصر، واستمرت مضايقة حصونهم حتى تسلم نواب السلطان حصن الخواني وحصن العليقة.
وفي أول شهر ربيع الأول: ركب السلطان من ظاهر حماة بعد عشاء الآخرة، من غير أن يعلم أحد قصده، وسار على طريق حلب، ثم عرج من شيزر وأصبح على حمص، وتوجه إلى حصن الأكراد وحصن عكار وكشف أمورهما، وسار إلى دمشق، وكتب إلى مصر كتابا يقول فيه لأكابر الأمراء: ولدكم - ولبقيتهم أخوكم - ووالدكم يسلم عليكم ويتشوق إليكم، وإيثاره ألا يفارقكم. وإنما قدمنا راحتكم على راحتنا،. فطالما تعبوا واسترحنا ونعلمهم بالمتجددات ليكونوا لا كالمشاهدين وكمشاركينا في أكثر المجاهدين: فمنها حديث الإسماعيلية وحديث العربان، وقد ورد الخبر بحركة التتار، ولو عدنا لجفلت أهل البلاد. وأما الفرنج فعملوا سلالم من حديد، وعزموا على مهاجمة صفد ووردوا بيروت، فلما وصلنا البلاد انعكست آمالهم ومما يدل على التمكين تارة بالسيف وتارة بالسكين، أن صاحب مرقية الذي أخذنا بلاده توجه إلى التتار مستصرخا، وسيرنا وراءه فداوية، وقد وصل أحدهم وذكر إنهم قد قفزوا عليه وقتلوه، وبلغتنا حركة التتار وأنا والله لا أبيت إلا وخيلي مشدودة، وأنا لابس قماشي حتى المهماز " .
وورد الخبر بأن التتار أغاروا على عين تاب، وتوجهوا على العمق في نصف ربيع الأول، فكتب إلى مصر بتجريد الأمير بيسري بثلاثة آلاف فارس. وخرج البريد من دمشق في الثالثة من يوم الأحد ثامن عشره، فدخل القاهرة الثالثة من ليلة الأربعاء حادي عشريه، فخرج بيسري والعسكر بكرة يوم الأربعاء المذكور. وقدم التتار إلى حارم وقتلوه جماعة، وتأخر العسكر الحلبي إلى حماة، ووصل آقسنقر بالعسكر من جينين، فجفل أهل دمشق، وبلغ ثمن الجمل ألف درهم، وأجرته إلى مصر مائتي درهم. ودخل الأمير بيسري بالعسكر المصري إلى دمشق في رابع ربيع الآخر، فخرج السلطان بالعساكر إلى حلب، وجرد الأمير آقسنقر ومعه عدة من العربان إلى مرعش، وجرد الحاج طيبرس الوزيري والأمير عيسي بن مهنا إلى حران والرها. فوصل العسكر إلى حران وقتل من فيها من التتار، وهزم باقيهم.
فورد الخبر بأن الفرنج قد أغاروا على قاقون. بمواعدة التتار، وقتل الأمير حسام الدين الأستادار، وجرح الأمير ركن الدين الجالق، ورحل يجكا العلائي والي قاقون، فخرج السلطان من حلب، ومنع أحدا أن يتقدم حتى لا يعلم الفرنج خبره، ودخل إلى دمشق وبين يديه عدة من التتار المأسورين من حران، وسار الأمير أقوش الشمسي بعسكر عين جالوت، فولي الفرنج منهزمين من قاقون، وتبعهم العسكر فاسترجعوا منهم عدة من التركمان، وقتلوا كثيرا حتى أنه عد ما تلف من خيل الفرنج وبغالهم فكان خمسمائة رأس.
وخرج السلطان من دمشق في ثالث جمادى الأولى، ومعه عساكر مصر والشام للغلوة على عكا، فتكاثرت الأمطار عليه في مرج برغوث، وزاد الأمر عن الوصف، فكاد الناس يهلكون لعدم ما يستظلون به، فرد السلطان عسكر الشام وسار إلى مصر، فدخل قلعة الجبل في ثلث عشريه.
وقدمت هدية صاحب تونس، وفي مكاتبته تقصير في المخاطبة، ففرقت هديته على الأمراء، وكتب إليه بالإنكار عليه في التظاهر بالمنكرات واستخدام الفرنج، وكونه لم يخرج لما نازلوه، وكان مستخفيا، وقيل له: مثلك لا يصلح أن يلي أمور المسلمين، وخوف وأنذر، وقدمت رسل رجار وهو يشفع في صاحب عكا، والسلطان في الصناعة جالس بين الأخشاب والصناع، والأمراء تحمل بأنفسهم آلات الشواني وهي تمد فراعهم ما شاهدوا.

وفي رجب: خرج السلطان متصيدا بجهة الصالحية، فورد الخبر بحركة التتار فعاد إلى القلعة، وخرج في ثالث شعبان إلى الشام، وأتته رسل الفرنج بعكا - وهو بالسواد - تطلب الهدنة، فسار وبعث إليهم الأمير فخر الدين أغار القرى، والصدر فتح الدين ابن القيسراني كاتب الدرج، في حادي عشري رمضان، ونزل السلطان. بمروج قيسارية فعقد الهدنة مع الفرنج لمدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة ساعات من التاريخ المذكور وخرج أهل عكا لمشاهدة العسكر، فركب السلطان ولعب هو وجميع العسكر بالرمح.
ورحل السلطان إلى دمشق فدخلها ثاني شوال، وحضرت رسل التتار في طلب الصلح. فجهز السلطان إليهم الأمير مبارز الدين الطوري أمير طبر، والأمير فخر الدين القري الحاجب، ومعهما الرسل وهدية لأبغا بن هولاكو وغيره، فساروا في خامس عشره، فلما قدما على أبغا أكرمهما وأخلع عليهما وأعادهما.
وفيه كثر اشتغال السلطان بعمل النشاب بيده، فاقتدي به جميع الأمراء والخواص، وكتب إلى الملك السعيد وسائر النواب بذلك، فلم يبق أحد إلا وهو متوفر على العمل. وعمل السلطان جملة نشاب بيده، نحتها وريشها ونصلها.
فلما صحي السلطان توجه إلى حصن الأكراد، ووصل إليه في حادي عشري ذي الحجة، وشاهد العمارة به، وأمر جميع من معه من الأمراء بنقل حجارة المنجنيق إلى داخل القلعة، ونقل معهم بنفسه، ثم نزل وعمل بيده في مرئة مكان بالخندق، وحفر بنفسه، ثم سار إلى حصن عكار، وعمل في عمارته بيده أيضاً، وأمر برمي المنجنيقات ليعرف مواضع سقوط أحجارها، وعاد إلى حصن الأكراد، وخلع على من به من الأمراء وأرباب الوظائف، وخرج يتصيد، فكان الذي خلعه خمسمائة تشريف على من أحضر إليه الصيد.
وفي هذه السنة: امتحن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد ابن على بن سرور بن واقع بن حسن بن جعفر المقدسي الحنبلي: وذلك أن القضاة الأربعة الذين ولاهم السلطان الملك الظاهر بديار مصر، كان كل منهم يستنيب قضاة عنه في النواحي، وكان لتقي الدين شبيب الحراني أخ ينوب عن قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي بالمحلة فعزله، فغضب شبيب لذلك، وكتب ورقة للسلطان بأن عند القاضي القضاة شمس الدين الحنبلي ودائع للتجار من أهل بغداد وحران والشام، بجملة كبيرة وقد ماتوا، فاستدعاه السلطان وسأله عن ذلك، فأنكر وحلف ووري في يمينه، فأمر السلطان بالهجم على داره، فوجد فيها كثير مما ادعاه شيب: بعضه قد مات أهله، وبعضه لقوم أحياء فأخذ السلطان مما وجد لمدة الزكاة سنين، وسلم لمن كان حيا وداعته وغضب السلطان عليه واعتقله، وأوقع الحوطة على داره في يوم الجمعة ثاني شعبان.
وسار السلطان إلى الشام قاضي شمس الدين الحنبلي في الاعتقال. ممصر، فتسلط شبيب عليه وادعي أنه حشوي، وأنه يقدح في السلطان، وكتب بذلك محضراً، فأمر الأمير بدر الدين بيليك نائب السلطنة بعقد مجلس، فعقد في يوم الإثنين حادي عشره، وحضر الشهود، فنكل بعضهم وأقام بعضهم على شهادته فأحرق النائب. بمن شهد وجرسهم، وذلك إنه تبين له تحامل تقي الدين شبيب على القاضي، واعتقل شبيب ووقعت الحوطة على موجوده، وأعيد القاضي إلى اعتقاله بقلعة الجبل، فأقام معتقلا سنتين، ولم يول السلطان بعده قضاء الحنابلة أحدا.
وفيها قدم الشريفان جماز وغانم بن إدريس مكة، وملكاها أربعين يوما، ثم قدم أبو نمي فملكها منهما. وفيها ولدت زرافة بقلعة الجبل في جمادى الآخرة، فأرضتها بقرة، وليها ولدت امرأة بدمشق في بطن واحد سبعة بنين وأربع بنات، وكانت مدة حملها أربعة أشهر وعشرة أيام، فماتوا كلهم وعاشت الأم.
ومات في هذه السنة من الأعيانتاج الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن رضي الدين أبي عبد الله محمد بن عماد الدين أبي حامد محمد بن يونس الموصل الشافعي، عن اثنتين وسبعين سنة ببغداد.
وتوفي كمال الدين أبو الفضل سلار بن الحسن بن عمر بن سعيد الإربلي الشافعي، بدمشق عن سبعين سنة.
وتوفي عماد الدين أبو عبد الله محمد بن سني الدين أبي الغنائم سالم بن الحسن بن هبة الله محفوظ بن صصرى التغلبي الدمشقي، بها عن، سبعين سنة.
وتوفي أمين الدين أبو الحسن على بن عثمان بن على بن سليمان الإربلي الأديب الشاعر، وقد ترك الجندية وتنتك، عن ثمان وستين سنة، بطريق الفيوم.

ومات ببلد الخيل عليه السلام الشيخ على البكا، الرحل الصالح، في أول شهر رجب، وله كرامات كثيرة.
سنة إحدى وسبعين وستمائةفي خامس المحرم: دخل السلطان إلىدمشق، وقد تواترت الأخبار بحركة التتار، فركب خيل البريد من دمشق في ليلة سادسه بعد عشاء الآخرة، ومعه الأمير بيسري، والأمير أقوش الرومي، وجرمك السلاح دار، وجرمك الناصري، وسنقر الألفي السلاح دار، وعلم الدين شقير مقدم البريد. وساق فدخل قلعة الجبل في يوم السبت ثالث عشره على حين غفلة، و لم يشعر الناس إلا وقد دخل باب القلعة راكبا، ثم ركب إلى الميدان ولعب بالكرة، وأمر بتجهيز العساكر إلى الشام. وكتب السلطان إلى الأمراء المقيمين بدمشق، وذكر في الكتب أنه سطرها من البيرة بحكم أنه توجه لتدبير أمورها، وسير علائم بخطه ليكتب عليها من دمشق أجوبة البريد للأطراف، وكان الأمير سيف الدين الدوادار قد أقام بقلعة دمشق ليجهز الكتب والبريدية.
وفي يوم الإثنين خامس عشره: ركب السلطان إلى مصر، وركب في البحر ولعبت الشواني قدامه.
وفي ليلة الأربعاء سابع عشره: جهز العسكر المجرد إلى الشام.
وفي ليلة تاسع عشرة: توجه السلطان إلى الشام بمن حضر معه على البريد، فدخل قلعة دمشق ليلا.
وفي صفر: قدمت رسل الملك أبغا ورسل الروم، فلم يحتفل بهم، وأمروا أن يضربوا جوكا قدام نائب حلب وقدام صاحب حماة. وكان مجيؤهم بأن يحضر سنقر الأشقر حتى يمشي في الصلح، ثم غيروا كلامهم وقالوا: يمشي السلطان أو من يكون بعده في المنزلة إلى أبغا لأجل الصلح فقال السلطان للرسل: بل أبغا إذا قصد الصلح يمشي هو فيه أو أحد من إخوته وأمر السلطان بلبس العساكر فلبسوا عدد الحرب ولعبوا في الميدان خارج دمشق، والرسل تشاهد ذلك، ثم سفروا في رابع ربيع الأول. وفيه تسلم السلطان سهيرن من سابق للدين وفخر الدين ولدي سيف الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكبرس بعد موته، وكان هذا بوصيته لهما بذلك، فأمرهما السلطان وأحسن إليهما، وقدم أهلهما إلى دمشق.
وفي خامس جمادى الأولى: ورد الخبر بنزول التتار على البيرة ونصبهم المجانيق عليها وإنهم قد حفظوا محاوض الفرات ونزلوا عليها، ليعوقوا من يصل إليهم. فجهز السلطان الأمير فخر الدين الحمصي بعدة من عسكر مصر والشام إلى جهة حارم، وجهز الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الرزبري في جماعة، ورحل هو من ظاهر دمشق في ثامن عشر جمادى الأولى، ومعه مراكب مفصلة محمولة. وجد للسلطان في المسير حق وصل إلى الفرات، فوجد التتار على الشط، فألقى المراكب التي حملها معه في الفرات وأشحنها بالمقاتلة، فتراموهم والتتار. واقتحم الأمير قلاوون الألفي الصالحي الفرات، فخاض ومعه عدة وافرة، وصدم التتار صدمة فرقهم بها ومزقهم، فألقت الأطلاب أنفسها في الفرات، وساقوا فيها عوما الفارس إلى جانب الفارس، وهم متماسكون بالأعنة ومجاديفهم ورماحهم، وعليهم وعلى خيولهم الحديد، وازدحموا في الماء، فكان لقعقعة السلاح وأمواج الماء هول مفزع وطلع السلطان في أولهم، وصلي في منزلة العدو ركعتين شكراً لله تعالي، وبث العساكر يميناً وشمالا، فقتلوا وأسروا عدداً كثيراً.
وبات العسكر ليلة الإثنين، فورد الخبر بهزيمة التتار من البيرة مع مقدمهم درباي، وتركهم الأثقال والأزواد، وأن أهل البيرة أخذوا ذلك فتقووا به وأقام السلطان ينتظر من يلاقيه من التتار فلم يأت أحد، فعدي بجميع عساكره في الفرات كما فعلوا أول مرة ونزل بهم في ذلك ما لا يوصف من كثرة المشقة، وعظم الهول حتى طلعت العساكر إلى البر وسار السلطان إلى البيرة، وخلع على نائبها وأعطاه ألف دينار، وعم بالتشاريف والأنعام أهل البيرة، وفرق فيهم مائة ألف درهم فضة، وجرد هناك عدة من العسكر زيادة على من كان فيها، وسار إلى دمشق فدخلها في ثالث جمادى الآخر والأسري بين يديه. وخرج السلطان إلى مصر، فوصل قلعة الجبل في خامس عشريه، وأفرج عن الأمير عز الدين الدمياطي، وأنزله بدار الوزارة وأجري عليه الرواتب، ثم استدعاه وشرب معه القمز، وقد حضر أكابر الأمراء لذلك، فلما ناوله السلطان الهناب بيده وهو مملوء قال عز الدين: يا خوند لقد شبنا وشاب نبيذنا. وعم السلطان بالخلع الأمراء والوزراء والقضاة والمقدمين، وجهز رسل الملك منكوتمر ورسل الملك الأشكري ورسل الدعوة، فساروا في شعبان.

وفي ثاني عشر شوال: قبض على الشيخ خضر بن أبي بكر بن موسى شيخ السلطان، وكان السلطان قد استدعاه إلى القلعة، وأحضر جماعة ليحاققوه على أشياء كبيرة بدت منه كاللواط والزنا وغيره، فأمر السلطان باعتقاله، وسجن بقلعة الجبل.
وفي ثاني عشري ذي الحجة: استولي السلطان على بقية حصون الدعوة الإسماعيلية: وهي الدينقة والقدموس والكهف، وأقيمت هناك الجمعة وترضي عن الصحابة بها، وعفيت المنكرات منها، وأظهرت شرائع الإسلام وشعائره.
وفي هذه السنة: سار والي قوص من أسوان حتى قارب دنقلة من بلاد النوبة، وقتل وأسر ثم عاد. وفيها استولي السلطان على عامة مدن برقة وحصونها. وفيها حصل الاحتفال بأمر الشواني ونصب المجانيق على أسوار الإسكندرية، فكمل هناك نصب مائة منجنيق، وذلك لكثرة الإشاعة بحركة الفرنج لقصد ثغور ديار مصر. وفيها فتحت قلعة كينوك من بلاد الأرمن، على يد الأمير حسام الدين لاجين العنتابي. وفيها تنجزت عمارة صخرة بيت المقدس. وفيها نزل السلطان يعوم في النيل وهو لابس زردية مستبلة، وعمل بسطا كبيرة، وأركب فوقها الأمير حسام الدين الدوادار، والأمير علاء الدين أيدغدي الأستادار، وجرها وجر فرسين وهو يعوم لابس الزردية من البر إلى البر.
ومات في هذه السنة من الأعيانشهاب الدين أبو صاح عبيد الله بن الكمال أبي القاسم عمر بن الشهيد شهاب الدين أبي صالح عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن العجمي الحلبي، بها عن اثنتين وستين سنة.
وتوفي فخر الدين أبو محمد عبد القاهر بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الحنبلي، عن نحو ستين سنة بدمشق.
وتوفي الأديب مخلص الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن هبة الله بن قرناص الحموي.
وتوفي الشريف شرف الدين أبو عبد الله محمد بن رضوان الحسيني، الناسخ الكاتب المجود المؤرخ، عن تسع وستين سنة.
سنة اثنتين وسبعين وستمائةفي المحرم: نقض باب القصر المعروف بباب البحر تجاه المدرسة الكاملية بين القصرين لأجل نقل عمد منه لبعض العمائر السلطانية، فوجد فيه صندوق في داخله صورة من نحاس أصفر، مفرغ على كرسي شكل هرم ارتفاعه قدر شبر بأرجل نحاس، والصنم جالس عليه ويداه مرتفعتان تحملان صفحة دورها ثلاثة أشبار مكتوبة بالقبطي، وإلى جانب الكتابة في الصحيفة شكل له قرنان يشبه شكل السنبلة، وإلى الجانب شكل ثان وعلى رأسه صليب، وشكل ثالث في يده عكاز وعلى رأسه صليب. ووجد مع هذا الصنم في الصندوق لوح من ألواح الصبيان، قد تكشط أكثر ما فيه من الكتابة وبقي فيه بيبرس، فتعجب من ذلك.
وفيه وردت الأخبار بحركة الملك أبغا، فخرج السلطان من قلعة الجبل في ليلة سادس عشريه، ومعه الأمير سنقر الأشقر، والأمير بيسري، والأمير أنامش السعدي. فلما وصل السلطان عسقلان كتب إلى القاهرة بخروج العساكر جميعها والعربان من ديار مصر، صحبه الأمير بيليك الخازندار، ورسم بأن كل من في سائر مملكته له فرس فإنه يخرج إلى الغزاة، وأن تخرج كل قرية من قري الشام رجالة يركبون الخيل على قدر حالهم، ويقوم من بالقرية بكلفة من يتوجه، ودخل السلطان إلى دمشق في سابع عشر صفر.
فخرج من عساكر مصر في حادي عشره عدة أربعة آلاف فارس، صحبة مقدميهم: وهم الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري، وجمال الدين أقوش الرومي، وعلاء الدين قطليجا، وعلم الدين ططح. ثم خرج في ثامن عشره الأمير بيليك الخازندار بطائفة، فورد مرسوم السلطان على الأمير بيليك بالنزول قريبا من يافا، وعندما قارب عسكر مصر دمشق ركب السلطان من دمشق في نحو أربعين نفسا جرائد بغير ركيدار، وقد طلب العسكر وقارب المنزلة فاعترض السلطان العسكر، وكان قد تلثم هو وجماعته، فظنهم حجاب من بعض التركمان، فأمروهم بالترجل فأبوا، وساق السلطان بمفرده، وجاء خلف سناجق وحسر لثامه عن وجهه، فعرفه السلاح دارية، ودخل السلطان وساق في ركبه، فنزل الناس وقبلوا الأرض، وسار حتى نزل ورتب العسكر. وأصبح السلطان فركب في موكبه، وقضي أشغال الناس إلى أن أمسي، ثم ركب بمن حضر معه إلى دمشق، وأصبح راكبا في موكبه. وفي مدة غيبته كان الأمير سيف الدين الدوادار يرتب الأمور بدمشق، ويكتب الأجوبة على علائم فوق أوراق بيض.

وفيه فر الأمير شمس الدين بهادر بن الملك فرج من التتار إلى السلطان بيبرس. وكان الملك فرج في أول أمره أمير طشت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وكان له سميساط، وبعد وفاة جلال الدين سلك قلعة كيران وعدة قلاع بناحية تقجوان ثم وصل الملك فرج هذا إلى بلاد السلاجقة الروم، فقطع بها ناحية أفصرا. وكان بهادر قد كاتب السلطان بيبرس وراسله وتقرب إليه بإعلامه بحقيق؛ أخبار العدو فعلم به التتار فأمسكوه وحملوه إلى الأردو، فهرب وحضر إلى البيرة، ووصل إلى دمشق وبها الملك الظاهر، فأكرمه وأعطاه بمصر إمرة عشرين فارسا. وخرج السلطان من دمشق إلى مصر، فدخل قلع؛ الجبل في رابع عشري جمادى الآخرة. فتواترت الأخبار بحركة التتار، فرسم للأمير عيسي بن مهنا أمير العرب بالغارة، فأغار ووصل إلى الأنبار في ثامن عشر شعبان، فظن التتار أن السلطان قد قدم، فانهزموا إلى أبغا، فرجع إلى بلاده.
وفي نصف شعبان: أفرج عن قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي.
وفي شهر رمضان: رسم للعسكر بالتأهب للعب القبق ورمي النشاب، فيكب من كل عشرة فارسان في أحسن زيهم وقت الحرب، وركب السلطان في مماليكه ودخلوا في الطعن بالرماح، ثم أخذ السلطان الحلقة ورمى النشاب، وجعل لمن أصاب من الأمراء فرسا من خيله الخاص بتشاهيره، وقلسلقة والبحرية بغلطاق. فاستمر ذلك أياما، تارة يكون اللعب فيها بالرمح وتارة بالنشاب وتارة بالدبابيس، وفرق السلطان فيها من الخيل والبغالطق جملة. وساق السلطان يوما عادته في اللعب، وسل سيفه فسلت مماليكه سيوفها، وحمل هو ومماليكه الخواص حملة وحمل واحد واصطدموا، فكان منظرا مهولا، وأطلق السلطان من التشاريف ما عم به سائر من في خدمته: من ملك وأمير ووزير، ومقدمي الحلقة والبحرية، ومقدمي المماليك والمفردية، ومقدمي البيوتات السلطانية، وكل صاحب شغل وجميع الكتاب والقضاة، وسائر أرباب الوظائف.
وفي يوم عيد الفطر: ختن الأمير نجم الدين خضر ابن السلطان وعده من أولاد الأمراء، وجري السلطان على عادته في عدم تكليف الناس، فلم يقبل من أحد هدية ولا تقدمة، ولم يبق من لا شمله إحسانه من سائر الطوائف، إلا المغاني وأرباب الملاهي فإنه لم تنفق لهم في طول أيامه سلع؛، ولا نالهم منه رزق ألبتة.
وفي ثاني عشر شهر رمضان: سار الملك السعيد من قلعة الجبل في عدة من الأمراء جريدة إلى الشام، من غير أن يعلم به أحد، فدخل دمشق في سادس عشريه على حين غفلة من النائب، بحيث لم يشعر به العسكر إلا وهو بينهم في سوق الخيل، فقبلوا له الأرض، ودخل الملك السعيد إلى القلعة وأراد لعب القبق خارج دمشق، فمنعته كثرة الأمطار.
وفي ليلة عيد الفطر: خلع الملك السعيد على أمراء الشام والمعكمين والمفاردة والأكابر، وخرج يتصيد بالمرج، وسار إلى الشقيف وصفد، وتوجه إلى القاهرة فوصل قلعة الجبل في حادي عشري شوال.
وفي هذه السنة: كان بمصر وأريافها وباء، هلك فيه خلق كثير أكثرهم النساء والأطفال. وحصل في بلاد الرملة وبلاد القدس مرض وحميات، فقدم رجل نصراني إلى الأمير غرس الدين بن شاور والي الرملة، وقال له: هذه الآبار قد حاضت، كما جرى في السنة التي جاء فيها التتار فيها إلى الشام. وإن الفرنج بعثوا إلى قرية عابود في الجبل، وأخذوا من مالها وصبوه في الآبار فزال الوخم، وأشار بعمل ذلك فبعث والي الرملة إلى القرية المذكورة، وأخذ من مائها وصبه في الآبار التي بيافا، وكان الماء قد كثر فيها فنقصت إلى حدها المتعارف، وكتب إلىالسلطان بذلك وقيل له: إن هذه الآبار إناث تحيض، وآبار الجبل ذكور ومنها آبار قرية عابود المذكورة.
وفيها ولي تقي الدين أبو عبد الله محمد بن يحيي الرقي قضاء الشافعية بحلب، بعد وفاة محيي الدين محمد بن الأستاذ.
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير فارس الدين أقطاي الصغير المستعرب الصالحي النجمي، أتابك العساكر بديار مصر، عن سبعين سنة في تاسع جمادى الأولى.
ومات الأمير حسام الدين لاجين الأيدمري المعروف بالدرفيل، داودار السلطان.
وتوفي قاضي حلب محيي الدين أبو المكارم محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن الأستاذ الشافعي بها، وقدقدم القاهرة ودرس بالمسرورية.
وتوفي قاضي قضاة دمشق كمال الدين أبو الفتح عمر بن شداد بن علي التقايسي الشافعي، عن سبعين سنة بالقاهرة.

وتوفي مؤيد الدين أبو المعالي أسعد بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن القلانسي التميمي، خارج دمشق عن ثلاث وسبعين سنة بعد ما قدم القاهرة.
وتوفي النحوي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني بدمشق، عن بضع وسبعين سنة.
وتوفي تقي الدين أبو إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر بن أبي اليسر التنوخي المعوي، المحدث الأديب كاتب الإنشاء، عن ثلاث وثمانين سنة بدمشق.
وتوفي المسند نجيب الدين أبو الفرج عبد اللطف بن عبد المنعم بن علي بن نصر الحراني، مدرس دار الحديث الكاملية، عن خمس وثمانين سنة بالقاهرة وتوفي جمال الدين أبو عيسي عبد الله بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد بن علاقة الأنصاري، عن ست وثمانين سنة.
وتوفي أبو عبد الله محمد بن سليمان الشاطبي بالإسكندرية، عن بضع وثمانين سنة ومات ببغداد العلامة نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الإمام المشهور، في ذي الحجة. وقد خدم أولاد صاحب الألموت، ثم خدم هولاكو وحظي عنده، وعمل له رصدا. بمراغة، وصنف، كتبا عديدة. وقد توفي في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وخمسمائة.
سنة ثالث وسبعين وستمائةفي المحرم: قدم الملك المنصور محمد صاحب حماة إلى قلعة الجبل، ومعه أخوه الملك الأفضل علي، وولده المظفر تقي الدين محمود فأنزل بمناظر الكبش، وعندما حل بها وصل إليه الأمير آقسنقر الفارقاني الأستادار بالسماط، فمده بين يديه ووقف كما يقف بين يدي السلطان فلم يدعه الملك المنصور يقف وما زال به حتى جلس، فلما فرغ السماط قدمت الخلع والتعابي وغيرها.
وفي ثامن صفر: توجه السلطان من قلعة الجبل، وسار إلى الكرك فأقام بها ثلاثة عشر يوما، وكشف أحوال الشوبك، وعاد إلى قلعة الجبل ثاني عشري ربيع الأول. ثم توجه إلى العباسية ومعه الملك السعيد، فصرع الملك أوزة خبية. وقيل له: لمن تدعي فقال: لمن أدعو بحياته، ومن أتقرب إلى الله بدعواته، الذي حسبي افتخارا أن أقول والدي، ومن يتمرن لصرع أعدائه ساعدي، فقبله السلطان ووهبه من كل شيء.
وفيها تحيل السلطان على استخلاص رؤساء الشمواني الذين أسروا بقبرص ميناء نمسون، وكان الفرنج لما كسرت الشواني على قبرص وأسروا من فيها، السلطان الأمير فخر الدين المقري الحاجب إلى صور لابتياع الأسري، فتغالى الفرنج الرؤساء وباعوا القواد والرماة لطائفة منهم، فغادوا بهم أسرى أطلقهم السلطان، وبقي الاحتفاظ على الرؤساء وهم ستة: منهم رئيس الإسكندرية ورئيس دمياط، فحبسوهم بعكا في قلعتها. فبعث السلطان إلىالأمير سيف الدين خطابا وهو بصفد يأمره بالتحيل في سرقتهم، فأرغب الموكلين بهم بالمال حتى وصل إليهم بمبارد ومناشير، وسرقوا من جب قلعة عكا، وساروا في مركب إلى خيل قد أعدت لهم، فركبوها ووصلوا إلى القاهرة. ولم يشعر بهم الفرنج حتى قدموا على السلطان، فكانت بعكا لأجلهم فتنة بين الفرنج.
وقدم كتاب متملك الحبشة وهو الحطي يعني الخليفة، يخاطب السلطان فيه بعبارة: أقل المماليك يقبل الأرض وينهي، وسال فيه أن يجهز له مطران من عند البطرك، فأجيب. وسار السلطان إلى الإسكندرية، وأمر ببناء ما تهدم من المنار، وعاد إلى قلعته. وكتب السلطان بأن تخرج عساكر حلب للغارة، فخرجت وأغارت على بلاد سيس، وغنموا وقلعوا أبواب ربض مرعش.
وفي ثالث شعبان: توجه السلطان من قلعة الجبل إلى الشام، فدخل دمشق في سلخه، وخرج منها في سابع رمضان فدخل حماة، ثم صار منها بالعساكر والعربان. وجرد السلطان عيسي بن مهنا، والأمير حسام الدين العنتابي، بعسكر إلى البيرة، وجهز الأمير قلاوون الألفي والأمير بيليك الخازندار، بعسكر إلى بلاد سيس، فساروا وهجموا النصيصة على الأرمن، وقتلوا من بها، وكانت المراكب قد حملت معهم على البغال وهي مفصلة، ليعدوا فيها من نهر جهان والنهر الأسود، فلم يحتج إليها.

ووصل السلطان على الأثر بعد ما قطع بعساكره النهر الأسود وقاسوا مشقة، وملكوا الجبال وغنموا عنها ما لا يحصى كثرة، ما بين أبقار وجواميس وأغنام. فدخل السلطان إلى سيس وهو مطلب في تاسع عشريه وعيد بها، وانتهبها وهدم قصور التكفور ومناظره وبساتينه، وبعث إلى دربند الروم، فاحضر إليه من سبايا التتار عدة نساء وأولاد، وسير إلى طرسوس، فأحضر إليه منها ثلاثمائة رأس من الخيل والبغال، وبعث إلى البحر عسكرا فأخذ مراكب، وقتل من كان فيها. وانبثت الغارات في الجبال، فقتلوا وأسروا وغنموا. وبعث السلطان إلى أياس بالعساكر، وكانت قد أخليت، فنهبوا وحرقوا وقتلوا جماعة، وكان قد فر من أهلها نحو الألفين ما بين فرنج وأرمن في مراكب، فغرقوا بأجمعهم في البحر، واجتمع من الغنائم ما لا يحصره قلم لكثرته، ووصلت العربان والعسكر إلى البيرة وساروا إلى عين تاب وغنموا، فانهزم التتار منهم وعادوا. فرحل السلطان من سيس إلى المصيصة من الدربند، فلما قطعه جعل الغنائم بمرج أنطاكية حتى ملأته طولا وعرضا، ووقف بنفسه حتى فرقها، و لم يترك صاحب سيف ولا قلم حتى أعطاه، ولم يأخذ لنفسه منها شيئا. فلما فرغ من القسمة سار إلى دمشق، فدخلها في النصف من ذي الحجة.
وفيها ولي قضاء الحنفية بدمشق مجد الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم، بعد وفاة شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطاء الأذرعي.
ومات فيها من الأعيانقاضي القضاة الحنفي بدمشق شمس الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عطاء بن الحسن بن عطاء الأذرعي، عن ثمان وسبعين سنة.
وتوفي أمين الدين أبو بكر محمد بن علي بن موسى بن عبد الرحمن الخزوجي المحلي النحوي الأديب.
وتوفي الحافظ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد الأسدي الدمشقي المعروف باليغموري، بالمحلة من أعمال القاهرة، عن نيف وسبعين سنة.
وتوفي الحافظ وجيه الدين أبو المظفر منصور بن مسلم بن منصور بن فتوح بن العماد الهمداني، الإسكندري الملكي المؤرخ، عن ست وستين سنة بالإسكندرية.
سنة أربع وسبعين وستمائةفي ثامن المحرم: وصل الأمير سيف الدين بلبان الدوادار إلى طرابلس في تجمل كبير، ومعه كتاب السلطان إلى متملكها، فما زال حتى قرر عليه في كل سنة عشرين ألف دينار صورية وعشرين أسيراً.
وفي رابع عشريه: خرج الأمير بدر الدين الخازندار من دمشق لإحضار الملك السعيد، ومعه أولاد الأمراء، فوصل إلى قلعة الجبل وخرج بالملك السعيد على خيل البريد في سلخه، فوصل إلى دمشق في سادس صفر، وتلقاه السلطان ودخل به إلى قلعة دمشق.
وفي صفر: هذا توجه السلطان أبو يوسف بن عبد الحق ملك المغرب لجهاد الفرنج، فقتل الطاغية في المعركة في نحو ستة آلاف، ولم يقتل من المسلمين إلا نحو ثلاثين رجلا وبلغت الغنائم من البقر مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، وبلغ الأسرى سبعة آلاف أسير، وعجزت القدرة عن إحصاء الغنم، حتى أبيعت الشاة بدرهم، وحمل الكراع على أربعة عشر ألف وستمائة جمل.
وفيها نبش عمال بني مرين قبور خلفاء الموحدين، وأخرجوا عبد المؤمن بن على وابنه يعقوب المنصور من قبريهما، وقطعت رأسهما، وضربت أعناق من كان بجبل تينتمل وصلبوا. بمراكش وأخذت أموالهم. وفيها بنيت فاس الجديد وصارت دار ملك بني مرين.
وفي ثالث عشرى جمادى الأولى: أخذ السلطان القصير حصن أنطاكية وحمل أهله إلىالجهات التي قصدوها. وقدم الخبر بورود التتار إلىالبيرة، فجمع السلطان للعساكر وأنفق، وخرج من دمشق إلى حمص، فجاء الخبر برجوع التتار فعاد إلى دمشق.
وفي هذه الأيام: اختلفت أمراء الروم على البرواناه، ففارقه جماعة من قيسارية، وقدم منهم إلى السلطان الأمير ضياء الدين محمود بن الخطير، والأمير سنان الدين موسى بن طرنطاي، ونظام الدين أخو مجد الدين الأتابك بعيالاتهم يريدون الانتماء إليه، فجهزهم السلطان إلى القاهرة، ثم إن محمود بن الخطير سعي بهم، فاعتقلوا بقلعة الجبل مدة ثم أطلقوا.

وفي مستهل رجب: توجه السلطان من دمشق إلى مصر، فدخل قلعة الجبل في ثامن عشره، وقدمت هدية صاحب اليمن، ومن جملتها كركدن وفيل وحمار وحش عتابي، فسير السلطان إليه هدية مع رسله، وجهز السلطان هدية للملك منكوتمر مع الأمير عز الدين أيبك الفخري، وجهز رسل الأشكري، ورسل الملك الفنش ورسل جنوة.
وفيها حضر ابن أخت ملك النوبة واسمه مشكد متظلما من داود ملك النوبة، فجرد السلطان معه الأمير آقسنقر الفارقاني، بعده من العسكر وأجناد الولاة والعربان، ومعه الزراقون والرماة ورجمال الحراريق والزردخاناه، فخرج في مستهل شعبان حتى عدي أسوان، وقاتل الملك داود ومن معه من السودان، فقاتلوه على النجب، وهزمهم وأسر منهم كثيراً. وبث الأمير آقسنقر الأمير عز الدين الأفرم، فأغار على قلعة الدقم، وقتل وسبي، ثم توجه الأمير سنقر في أثره يقتل وياسر حتى وصل إلى جريرة ميكاليل وهي رأس جنادل النوبة فقتل وأسر وأقر الأمير آقسنقر قمر الدولة صاحب الجبل وبيده نصف بلاد النوبة على ما بيده، ثم واقع الملك داود حتى أفني معظم رجماله قتلا وأسرا، وفر داود بنفسه في البحر وأسر أخوه شنكو، فساق العسكر خلفه ثلاثة أيام، والسيف يعمل فيمن هناك حتى دخلوا كلهم في الطاعة، وأسرت أم الملك داود وأخته.
وأقيم مشكد في المملكة، وألبس التاج وأجلس في مكان داود، وقررت عليه القطعة في كل سنة وهي فيلة ثلاثة، وزرافات ثلاث، وفهود إناث خمس، وصهب جياد مائة، وأبقار جياد منتخبة مائة وقرر أن تكون البلاد مشاطرة، نصفها للسلطان ونصفها لعمارة البلاد وحفظها، وأن تكون بلاد العلى وبلاد الجبل للسلطان وهي قدر ربع بلاد النوبة لقربها من أسوان، وأن يحمل القطن والتمر مع الحقوق الجاري بها العادة من القديم وعرض عليهم الإسلام أو الجزية أو القتل فاختاروا الجزية، وأن يقوم كل منهم بدينار عينا في كل سنة. وعملت نسخة يمين بهذه الشروط، وحلف عليها مشكر وأكابر النوبة، وعملت أيضاً نسخة للرغبة بأنهم يطيعون نائب السلطان مادام طائعا، ويقومون بدينار عن كل بالغ. وخربت كنيسة سرس، التي كان يزعم داود أنها تحدثه بما يرديه، وأخذ ما فيها من الصلبان الذهب وغيرها، فجاءت مبلغ أربعة آلاف وستمائة وأربعين دينارا ونصف، وبلغت الأواني الفضة ثمانية آلاف وستمائة وستين دينارا. وكان داود قد عمرها على أكتاف المسلمين الذين أسرهم من عيذاب وأسوان، وقرر على أقارب داود حمل ما خلفه من رقيق وقماش إلى السلطان، وأطلقت الأسري الذين كانوا بالنوبة من أهل عيذاب وأسوان، وردوا إلى أوطانهم. من العسكر من الرقيق شيئاً كثيراً، حتى أبيع كل رأس بثلاثة دراهم، وفضل بعد القتل والبيع عشرة آلاف نفس، وأقام العسكر. بمدينة دمقلة سبعة عشر يوما، وعادوا إلى القاهرة في خامس ذي الحجة بالأسرى والغنائم، فرسم السلطان للصاحب بهاء الدين بن حنا أن يستخدم عمالا على ما يستخرج من النوبة من الخراج والجزية بدمقلة وأعمالا، فعمل لذلك ديوان.
وفي ثاني عشره: اجتمع القضاة والأمراء والأعيان بقلعة الجبل، وعقد للملك السعيد على غازية خاتون ابنه الأمير قلاوون الألفي، بوكالة الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نائب السلطة عن الملك السعيد. فقبل العقد عن الأمير قلاوون الأمير آقسنقر الفارقاني، على صداق مبلغه خمسة آلاف دينار، المعجل منها ألفا دينار، وكتب الصداق بخط القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وإنشائه، ومن جملته: هذا كتاب تحاسدت رماح الخط وأقلام الخط على تحريره، وتنافست مطالع الأنوار ومشارق الأنوار على تسطيره، وأضاء نوره بالجلالة وأشرق، وهطل نوره بالإحسان وأغدق، وتناسبت فيه أجناس تجنيس لفظ الفضل فقال الاعتراف هذا ما تصدق، وقال العرف هذا ما أصدق.
وفيه شنق السلطان الطواشي شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز وكان قد تمكن منه تمكنا عظيما من أجل أنه شرب الخمر، وعلقه تحت قلعة الجبل.

وعندما انقضي أمر العقد، ركب السلطان من يومه على الهجن في نفر يسير، وسار إلى الكرك فدخلها في ثالث عشريه، وهو يريد القبض على الأمير سابق الدين عبية، فلما بلغه حضور السلطان قدم عليه، فرعي له ذلك وزاد إقطاعه، ونظر السلطان في أمر أهل الكرك، وقطع أيدي ستة منهم اتهموا بأنهم قد عزموا على إثارة فتنة، ورتب رجالا بها عوضاً عمن كان فيها. وفيها أقام حجاج مصر بمكة ثمانية عشر يوما، وبالمدينة النبوية عشرة أيام، وهذا لم يعهد مثله.
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير ركن الدين خاص ترك الكبير، أحد الأمراء الأكابر بدمشق، في ثالث عشر ربيع الأول.
ومات الأمير حسام الدين قيماز الكافري، نائب حصن الأكراد والسواحل والفتوحات.
وتوفي سعد الدين أبو العباس الخضر بن التاج أبي محمد عبد الله بن العماد أبي الفتح عمر بن على بن محمد بن حمويه الجويني شيخ الشيوخ بدمشق، بها عن نيف وثمانين سنة.
وتوفي تاج الدين أبو الثناء محمود بن عابدين الحسين بن محمد بن على التميمي الصرخدي الحنفي، بدمشق عن ست وتسعين سنة.
وتوفي زين الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن جبريل، الإنشاء لقلعة الجبل في000.
وتوفي كمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحيم بن على بن إسحاق بن على شيث الأموي.
وتوفي الأديب أبو الحسن على بن أحمد بن العقيب العامري ببعلبك.
سنة خمس وسبعين وستمائةفي المحرم: سار السلطان من الكرك، فدخل إلى دمشق في رابع عشره، وقدم عليه عدة من أمراء الروم مغاضبين للبرواناه، وهو معين الدين سليمان بن على بن محمد بن حسن، وكان منهم الأمير حسام الدين بينجار الرومي، وبهادر ولده، وأحمد بن بهادر، واثنا عشر من أمراء الروم بأولادهم ونسائهم، من جملتهم قرمشي وسكتاي ابنا قراجين بن جيفان نوين، فأحسن السلطان إليهم، وبعث حريمهم إلى القاهرة، وأجري عليهم الأرزاق، ثم وصل الأمير سيف الدين جندر بك صاحب الأبلستين، والأمير مبارز الدين سوار بن الجاشنكير، في كثير من أمراء الروم، فتلقاهم السلطان بنفسه وأكرمهم ثم كتب السلطان إلى الأمراء بمصر يستشيرهم في بعث عسكر إلى الروم، وأن يحضر الأمير بيسري والأمير أقش. مما يتفق الرأي عليه، فحضرا على البريد، ووصل أيضاً الأمير سنقر الأشقر، وتتابع وصول حريم أمراء الروم، فأكرمهم السلطان وجهزهم إلى القاهرة، وسار السلطان إلى حلب، وجرد منها الأمير سيف الدين بلبان الزيني الصالحي في عسكر، فوصلوا إلى عين تاب.
وعاد السلطان من حلب إلى مصر، فدخل قلعة الجبل في رابع عشر ربيع الأول، ورسم بتجهيز مهمات العرض، فأخذ الناس في التجهيز، وغلت الخيول والأسلحة، وعدم صناع صقل العدد من القاهرة لاشتغالهم بالعمل عند الأمراء، وعز وجود صناع النشاب ومقومي الرماح.
وفي خامس جمادى الأولى: وقع العرض، فركبت العساكر بكمالها في يوم واحد وقد لبسوا أجمل العدد، وقصد السلطان بركوبهم في يوم واحد حتى لا يستعير أحد من أحد شيئا، وفرق السلطان على مماليكه العدد الجليلة، وركب الأمراء الروميون ومن حضر من الرسل، وعرض الجميع على السلطان، ونزلوا من الغد في الوطاقات للعب، وقد لبس المماليك السلطانية الجواشن والخوذ، وعملت الأبرجة الخشب على الفيلة، ودخلوا في الحلقة وساقوا. ثم نصب القبق بالميدان الأسود تحت القلعة ورموا النشاب، وأنعم السلطان على كل من أصاب القبق من الأمراء بفرس من الجنائب الخاص، بسرجه ولجامه وتشاهيره بالمراوات الفضة وغيرها، وأنعم على من أصاب من المماليك والأجناد بالخلع. كل ذلك والسلطان يسعى، وقد تنوع في لامات حربه، وصار يأخذ بقلوب الناس ويحسن إليهم وساق السلطان بالرمح أحسن سوق حتى تعجبوا من فروسيته، إلى أن انقضي النهار على هذا.
وفي اليوم الثالث: ركب السلطان، ولعب الناس ورموا في القبق، والسلطان يطاعن بالرمح. وفي الغد ترتب العسكر من جهتين، واصطدما وتطاعنت الفرسان، وكان السلطان بينا يراه الناس آخرا قد شاهدوه أولا، وهو لا يسأم من الكر والفر، وشاهد الناس منه ومن الملك السعيد ما يبهر العقول، وتواصل الطعن بغير جراح، والسلطان بين تلك الصفوف لا يخاف.

وكان قفجاقي الأصل، طويل القامة أسمر اللون، في عينيه زرقة وبإحدى عينيه نقطة صغيرة، صوته جهوريا، وكان شجاعا عسوفا عجولا. وكان قد حضر من البلاد مع تاجر إلى حماة ومعه مملوك آخر، فلما عرضا على الملك المنصور محمد صاحب حماة لم يعجبه، وأبيع بدمشق بثمانمائة درهم، فرد مشتريه لبياض في إحدى عينيه، فاشتراه الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار مملوك الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو بحماة معتقل بها، وأقام في خدمته مدة ثم أخذ منه الملك الصالح فترقي في الخلع، وتنقلت به الأحوال إلى ملك مصر والشام.
وكانت الأمراء تخافة مخافة شديدة، حتى إنه لما مرض لم يدخل أحد منهم عليه إلا بإذن. وكان مقداما خفيف الركاب طول أيامه يسير على الهجن وخيول البريد لكشف القلاع والنظر في الممالك، فركب للعب الكرة في الأسبوع يومين بمصر ويوما بدمشق، وفي ذلك يقول سيف الدولة المهمندار من أبيات يمدحه بها:
يوما بمصر ويوما بالحجاز وبالشام ... يوما ويوما في قري حلب
وكانت عدة عسكره اثني عشر ألفا، ثلثها بمصر وثلثها بدمشق وثلثها بحلب. وكان هؤلاء خاصته، فإذا غزا خرج معه أربعة آلاف يقال لهم جيش الزحف، فإن احتاج استدعى أربعة أخرى، فان اشتد به الأمر استدعى الأربعة آلاف الثالثة. وافتتح من البلاد قيسارية وأرسوف وهدمها، وفتح صفد وعمرها، وفتح طبرية ويافا والشقيف وأنطاكية وخربها. واستولي على بغراس والقصير وحصن الأكراد والقرين وحصن عكار وصافيتا ومرقية وحلبا، وناصف الفرنج المرقب وبانياس وأنطرسوس، وأخذ من متملك سيس دربساك ودركوش وتلميش وكفر دنين ورعبان ومرزبان، وملك دمشق وعجلون وبصري، وصرخد والصلت وحمص، وتدمر الرحبة وتل باشر، وصهيون وبلاطنس، وقلعة الكهف والقدموس والدينقة العليقة والخوابي والرصافة ومصياف، والكرك والشوبك وبلاد الحلب وشيزر وبلاد النوبة وبرقة، وسائر إقليم مصر والشام، وملك قيسارية من بلاد الروم. وقد قال فيه بعض الأدباء:
تدبر الملك من مصر إلى يمن ... إلى العراق وأرض الروم والنوبي
وله عدة أوقاف بمصر: منها وقف الطرحاء لتغسيل فقراء المسلمين وتكفينهم ودفنهم، وهو من أكثر الأوقاف نفعا، ومنها تربة الظاهرية بالقرافة، والمدرسة الظاهر بخط بين القصرين من القاهرة، والجامع الظاهري خارج باب الفتوح من القاهرة. وعمر السلطان بيبرس الجسر الذي يسلك عليه إلى دمياط، وأنشأ عليه ست عشرة قنطرة، وعمر قنطرة بحر انصباب السيل، ووقفوا وقفة رجل واحد. وقدم السلطان عدة من مماليكه وخواصه، فقاتلوا قتالا شديدا، ثم ردفهم بنفسه، وحمل وحملت العساكر معه حملة شديدة. فترجل التتار عن خيولهم، وقاتلوا قتال من يطلب الموت حتى عظم القتل فيهم، فولي طائفة منهم وأدركهم العسكر فأحاط بهم. ونجا معين الدين سليمان البرواناه زعيم الروم، فانهزم أصحابه، وصار هو إلى قيسارية فوصلها بكرة يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة، وأشار على سلطانها غياث الدين كيكاوس بن كيخسرو وجماعة الأمراء بالخروج منها، فإن التتر المنهزمين متى دخلوا قيسارية قتلوا كل من فيها حنقا على المسلمين، ثم أخذ البرواناه السلطان غياث الدين كيكاوس بن كيخسرون صاحب الروم، وجماعة من أعيان البلد، وصار بهم إلى توقات، وبينها وبين قيسارية مسيرة ثلاثة أيام.
وأما السلطان فإنه نزل بعد هزيمة التتار في منزلتهم، وأحضر إليه من أسر من أمراء المغول، فعفا عنهم وأطلقهم. وقتل في المعركة الأمير ضياء الدين بن الخطير، والأمير سيف الدين قيران العلائي أحد مقدمي الحلقة، وسيف الدين قفجاف الجاشنكير، وعدة من العسكر، وجرح جماعة. وقتل قتاوون مقدم التتار في المعركة، وأمر السلطان بقتل من أسر من التتار، وأبقي من أسر من أمراء الروم وأعيانهم معه، وفيهم أم البرواناه، وابنه مهذب الدين على وابن ابنته.
وجرد السلطان الأمير سنقر الأشقر في جماعة، لإدراك المنهزمين من التتر وللتوجه إلى قيسارية، وكتب معه كتابا إلى أهل قيسارية بالأمان وإخراج الأسواق والتعامل بالدراهم الظاهرية، فمر الأمير سنقر بفرقة من التتار معهم البيوت، فأخذ منهم جانبا، وأدركه الليل فتفرق من بقي منهم.

ورحل السلطان في يوم السبت حادي عشره يريد قيسارية الروم، فاستولي في طريقه على عدة بلاد. وفي يوم الأربعاء خامس عشرة تلقاه أهل قيسارية من العلماء والأكابر والنساء والأطفال، واحتف به الفقراء الصوفية وتواجدوا، إلى أن قرب من دهليز السلطان غياث الدين صاحب الروم وخيامه، وقد نصبت في وطاة بالقرب من المناظر التي كانت لملوك الروم، فترجل وجوه العساكر المصرية والشامية على طبقاتهم، ومشوا بين يديه إلى أن وصلها، وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل، وأقبل الروم من كل جهة، وضربت نوبة آل سلجوق على عادتها، وحضر أصحاب الملاهي كما هي عادة الروم، فنهوا عن الضرب بالآلت وعن الغناء أيضاً، وقيل لهم: هذه الهيئة لا تتفق عندنا، وما هذا موضع الغناء، بل موضع الشكر. وشرع السلطان في إنفاق المال، وعين لكل جهة شخصان وكتب إلى أولاد قرمان أمراء التركمان، وأكد عليهم في الحضور، واستمال النازحين، فما خرج البرواناخ عن المطاولة إلى أن علم السلطان منه إنه لا يحضر.
وركب السلطان في يوم الجمعة سابع عشريه وعلى رأسه جتر بني سلجوق، ودخل قيسارية دار السلطة، وعبر القصور وجلس على آل سلجوق، وأقبل الناس للهناء وقبلوا الأرض، وحضر القضاه والفقهاء والوعاظ والقراء والصوفية وأعيان قيسارية وذوو المراتب، على عادة الملوك السلجوقية في أيام الجمع، ووقف أمير المحفل - وهو عندهم ذو حرمة ومكانة، ويلبس أكبر ثوب وعمامة - فرتب المحفل على قدر الأقدار، وانتصب قائما بين يدي السلطان منتظرا ما يشير به. وقرأ القراء أحسن قراءة، ورفعوا أصواتهم بالتلحين العجيب إلى أن فرغوا، فانشد أمير المحفل بالعربية والعجمية مدائح في السلطان، ومد سماط الطعام فأكل من حضر، ثم أحضرت دراهم عليها السكة الظاهرية. وتهيأ السلطان لصلاة الجمعة، وقام السلطان إلى الجامع، وخطب الخطب بنعوته وصلي، وخطب له الخطباء بجوامع قيسارية وهي سبعة، فلما قضي السلطان صلاة الجمعة، حمل إليه ما تركته كرجي خاتون امرأة البرواناه من الأموال التي لم تقدر على حملها معها، وما خلفه سواها ممن انتزح معها، وظهر لها ولزوجها معين لدين البرواناه موجود نفيس، فأخذ السلطان ذلك.
وبعث البرواناه يهنئ السلطان بيبرس بجلوسه على تخت الملك، فكتب إليه أن يفد عليه ليقره مكانه، فبعث يسأل النظرة إلى خمسة عشر يوما. ورجا البرواناه بذلك أن يصل الملك أيضاً وكان قد أرسل يستحثه على القدوم بنفسه ليدرك الملك الظاهر وهو ببلاد الروم، فلما بلغ السلطان ذلك خرج من قيسارية في ثاني عشريه، بعد ما أعطي الأمراء والخواص الخيول والأموال. ولما وصل السلطان إلى خان كيقباد بعث إلى الأرمن بجهة الرمانة لأمير طيبرس الوزيري، فحرق وقتل وسبي من بها من الأرمن وعاد، وسبب ذلك أنهم كانوا قد أخفوا جماعة من التتر، فسار السلطان إلى الأبلستين، ومر على مكان المعركة ليري رمم القتلى من التتار، فذكر أهل الأبلستين إنهم عدوا من القتلى ستة آلاف وسبعمائة وستين، وضاع الحساب بعد ذلك، فأمر السلطان بجمع من قتل من عساكره ودفنوا، وترك منهم قليلا بغير دفن، وقصد بذلك نكاية التتار في إظهار كثرة من قتل منهم وقلة من قتل من عسكره، ثم رحل.
ودخل السلطان إلى الدربند في رابع ذي الحجة، وأصاب الناس فيه مشقة عظيمة، ونزل بحارم في سادسه وعيد هناك، فورد كتاب الأمير شمس الدين محمد بن قرمان أمير التركمان، يتضمن أنه جمع التركمان وحضر في عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل متركشة للخدمة، فوجد السلطان قد عاد، وحضر أيضاً أمراء بني كلاب، ووفود التركمان، ثم رحل السلطان طالبا دمشق.

وقدم الملك أبغا بن هولاكو بالتتار لمحاربة السلطان، فوافاه البرواناه في الطريق. وكان السلطان قد رحل فتبعه أبغا، وسار إلى الأبلستين حتى عاين القتلى بالمعركة وليس فيهم من الروم ولا من عساكر السلطان إلا القليل، مع كثرة رمم التتار التي هناك فشق عليه ذلك، وكان قد وشي إليه بالبرواناه إنه هو الذي كاتب الملك الظاهر حتى أقدمه إلى بلاد الروم، فخنق لقلة عدد قتلي الروم. وعاد أبغا إلى قيسارية، فنهبها وقتل من ببلاد الروم من المسلمين، وأغار التتار مسيرة سبعة أيام، فيقال إنه قتل من الفقهاء والقضاة والرعايا ما يزيد على مائتي ألف نفس، و لم يقتل أحدا من النصارى. وكل القتل من أرزن الروم إلى قيسارية، فيقال إن عدة القتلى كانت خمسمائة ألف، ثم سار أبغا ومعه السلطان غياث الدين صاحب الروم، ووكل بالبرواناه من يحفظه. وسار السلطان بيبرس من حارم إلى أنطاكية، ونزل بمروجها.
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير عز الدين إيغان المعروف بسم الموت، أيحد أمراء مصر، وهو بقلعة الجبل مسجونا، فدفن خارج باب النصر. وفيها حج الصاحب تاج الدين حنا، وكان بمكة غلاء عظيم.
وتوفي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن منصور الحراني الحنفي بدمشق، بعد ما أقام بالقاهرة عينا، وكان قد ولي قضاء بعض الأعمال.
وتوفي بدر أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن القويرة، الحنفي الفقيه الأديب، نحو أربعين سنة بدمشق.
وتوفي فخر الدين أبو الوليد محمد بن سعيد بن محمد بن هشام بن عبد الحق الكناني الشاطبي، الحنفي النحوي الأديب، عن ستين سنة بدمشق.
وتوفي قطب الدين أبو المعالي أحمد بن عبد السلام بن المطهر بن أبي سعد عبد الله ابن محمد بن هبة الله بن على بن المطهر بن أبي عصرون التميمي الموصلي الشافعي، عن ثلاث وثمانين سنة بحلب.
وتوفي الأديب شهاب الدين أبو المكارم محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة الشيباني التلمفري، عن اثنتين وثمانين سنة بحماة.
ومات الشيخ العباس خضر بن أبي بكر بن موسى المهراني العدوي الكردي، في محبسه بقلعة الجبل، في يوم الخميس سادس المحرم عن نيف وخمسين سنة، ودفن بزاويته خارج باب الفتوح.
وماس متملك تونس أبو عبد الله محمد المستنصر بن السعيد أبي زكريا يحيي بن عبد الواحد بن أبي حفص، في عاشر ذو الحجة، فكانت مدته ثمانيا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، وبويع بعده ابنه أبو زكريا يحيي الواثق.
سنة ست وسبعين وستمائةفي خامس المحرم: دخل السلطان من أنطاكية إلى دمشق بعساكره، ونزل بالقصر الأبلق، فكثرت الأخبار بقدوم أبغا إلى الأبلستين وأنه يريد بلاد الشام، فضرب الدهليز على القصر ليخرج السلطان إلى لقائه، فورد الخبر برجوع ألبغا إلى بلاده فرد الدهليز إلى دمشق.
ولما كان في يوم الخميس رابع عشره: جلس السلطان لشرب القمز، وقد عظم سروره وفرحه وتناهي سعده، فأكثر من الشرب، وانقضي المجلس فتوعك بدنه، وأصبح يشكو فتقيأ، وركب بعد الصلاة إلى الميدان، ثم عاد إلى القصر الأبلق آخر النهار وبات فيه، فلما أصبح وهو يشكو حرارة في باطنه، استعمل دواء لم يكن عن رأي طبيب، فلم ينجح وتزايد ألمه، فاستدعى الأطباء، فانكروا استعماله الدواء، واتفقوا على أخذ مسهل وسقوه فلم يفد، فحركوه بدواء آخر فأفرط به الإسهال، وتضاعفت الحمي ورمي دما يقال إنه كبده، فعولج بجواهر ومات.

وقال الشيخ قطب الدين اليونيني في تاريخه: إن الظاهر كان مولعا بعلم النجوم، فقيل له أنه يموت بدمشق في سنة ست وسبعين هذه ملك بالسم، فاهتم من ذلك ويقال إنه كان فيه حد، فلما دخل معه إلى بلاد الروم الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن الملك المعظم عيسي بن العادل أبي بكر بن أيوب، أبلي في المصاف بلاءً عظيما أنكي به العدو، وتعجب الناس لعظم شجاعته، فأثر ذلك عند السلطان. واتفق أن السلطان كان منه ذلك اليوم فتور، وظهر عليه الخوف والندم على ما فعله من تورط نفسه وعساكره ببلاد الروم، فأنكر عليه الملك القاهر وقبح فعله، فأسر له السلطان ذلك إلى أن قدم في دمشق، فسمع السلطان الناس تلهج مما فعله الملك القاهر في وقت المصاف، فاشتد حنقه وأخذ يتحيل في سمه، ليصح فيه ما دلت عليه النجوم من موت ملك بالشام، فإنه يطلق عليه اسم الملك فعمل دعوة لشرب القمز حضرها الملك القاهر، وقد أعد السلطان سما من غير أن يشعر به أحد. وكان له ثلاث هنابات تختص به مع ثلاثة سقاة لا يشرب فيها غيره، أو من يكرمه فيناوله أحدها بيده، فلما قام الملك القاهر لقضاء حاجته، جعل السلطان السم الذي أعده في هناب وأمسكه بيده، فلما عاد الملك القاهر ناوله إياه، فقبل الأرض وشرب جميع ما فيه وقام السلطان لقضاء حاجة، وأخذ الساقي المناب من يد الملك القاهر، وملأه على العادة من غير أن يشعر بما عمله السلطان من السم فيه، وأمسكه بيده ووقف مع السقاة، فلما عاد السلطان من الخلاء تناول ذلك المناب بعينه، وشرب ما فيه وهو لا يعلم إنه المناب المسموم، فعندما شربه أحس بالتغير، وعلم إنه قد شرب بقايا السم الذي كان في المناب، فتقيا فلم يفد، وما زال به حتى مات.
وذكر ركن الدين بيبرس المنصوري المؤرخ أن القمر خسف جميع جرمه، ودل على موت رجل جليل القدر، فلما بلغ الملك الظاهر هذا خاف، وقصد صرف ذلك إلى غيره، فسم الملك القاهر في كأس قمز، وأحس الملك القاهر بالشر فقام، وغلظ الساقي فملأ الكأس وسقاه السلطان، فأحس بالنيران وأقام أياما يشكو ولا يعلم الأطباء، حتى تمكن منه ومات.
وكانت وفاته يوم الخميس سابع عشري المحرم بعد الزوال، فكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما، وقد تجاوز الخمسين سنة ومدة ملكه سبع عشرة سنة وشهران واثنا عشر يوما.
وفي يوم الثلاثاء: أنعم السلطان على جميع الأمراء والمقدمين والقضاة والمتعممين بالتشاريف، ولبس السلطان تشريفا كاملا بشربوش، ثم أنعم به على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي، ولعبوا على عادتهم. وحصل الاهتمام بأمر السماط، ونقل له من أصناف الحوائج ما لا يعد، وسيق من الأغنام ألوف كثيرة. ومدت الأسمطة، وحضر السلطان والناس في خدمته إلى أن أخذوا حاجتهم من الطعام والحلاوات، ثم نقل جميع ذلك وأخذ. وحضرت التقادم، فقبل السلطان منها اليسير مثل تقصيلة أو رمح أو شيء لطيف، وما قام من مجلسه حتى أنعم بذلك في وقته، ودخل الملك السعيد على ابنة الأمير قلاوون.
وشرع السلطان في السفر لأخذ بلاد الروم وبعث إلى الأمراء الروميين الخيول والخيام وكل ما يصلح من أمور السفر. وتقرر الأمير آقسنقر الفارقاني نائب الغيبة بقلعة الجبل، ومعه الصاحب بهاء الدين بن حنا، ليكونا في خدمة الملك السعيد. وتعين الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين لوزارة الصحبة.
وخرج السلطان من قلعة الجبل يوم الخميس العشرين من رمضان، ورحل في يوم السبت ثاني عشريه ومعه الأمراء والعساكر الإسلامية يريد البلاد الشامية، فدخل دمشق يوم الأربعاء سابع عشر شوال، وخرج منها إلى حلب في العشرين منه، فوصل إلى حلب مستهل ذي القعدة، وخرج منها يوم الخميس ثانيه إلى حيلان وجرد السلطان الأمير نور الدين على بن محلي نائب حلب ليقيم على الفرات بعسكر حلب ويحفظ معابر الفرات، لئلا يدخل أحد من التتار إلى بلاد الشام، ووصل إلى الأمير نور الدين الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا.

وكان السلطان منذ خرج من مصر إلى أن وصل إلى حلب، لم يمر بمملكة إلا أخذ معه عسكرها وخزائنها وأسلحتها، فترك بعض الثقل بحيلان، وصار منها يوم الجمعة ثالثه إلى عين تاب، وقطع الدربندربات في وطأة. وتوجهت العساكر جرائد على الأمر المعهود، وخففوا كل شيء وتقدم الأمير سنقر الأشقر جاليشا في عدة من العسكر، فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التتار ومقدمهم يسمى كراي، فانهزموا قدامه وأسر منهم جماعة وكان ذلك يوم الخميس تاسع الشهر، وبلغ ذلك الملك أبغا، فجهز جماعة من عرب خفاجة لينازلوا عسكر حلب على غرة، فبلغ ذلك نائب حلب وهو على الفرات، فركب إليهم وقاتلهم وهزمهم، وأخذ منهم ألفا ومائتي جمل.
وورد الخبر على السلطان بأن عسكر التتار ومقدمهم تتاوون وعسكر الروم ومقدمهم معين الدين البرواناه، قد اتفقوا جميعا على لقائه، فرتب عساكره وتأهب للقاء، وطلع بعساكره على جبال تشرف على صحراء هوتي من بلد أبلستين. وترتب المغول أحد عشر طلبا، كل طلب يزيد على ألف فارس، وعزلوا عسكر الروم عنهم وجعلوه طلبا بمفرده لئلا يكون محاصرا عليهم، وأقبلوا فانصبت الخيول الإسلامية عليهم من جبل أبي المنجا، وهي أجل قناطر أرض مصر. وعمل قناطر السباع بين القاهرة ومصر على الخليج الكبير، وحفر خليج الإسكندرية وبحر طناح وبحر الصماصم بالقليوبية، وحفر خليج سردوس، وأصلح بحر دمياط وردم فمه بالصخور.
ومن غريب أمره إنه أول ما فتح من البلاد قيسارية من بلاد الساحل وآخر ما فتح مدينة قيسارية من بلاد الروم. وأول جلوسه على مرتبه الملك يوم الجمعة سابع عشري ذي القعدة، وآخر جلوسه على تخت الملك بسلطنة آل سلجوق في قيسارية الروم يوم الجمعة سابع عشري ذي القعدة، وأول من بني مدينة أنطاكية اسمه بالعربية الملك الظاهر، والذي أخربها الملك الظاهر. وأول من قام بدولة الترك السلجوقية ركن الدين طغرلبك، والملك الظاهر ركن الدين بيبرس هو القائم في الحقيقة بدولة الترك من يوم وقعة المنصورة. وركن الدين طغرلبك هو الذي رد الخلافة على بني العباس في نوبة البساسيري، وركن الدين بيبرس هو الذي رد الخلافة على بني العباس في نوبة هولاكو. والخطبة بديار مصر كانت بعد الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي للظاهر لإعزاز دين الله وكذا وقع له، فقد كانت الخطبة بعد الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي للملك الظاهر بيبرس.
وكان راتب مخابزة وعليقة لخاصة نفسه ومماليكه، في كل سنة مائة ألف وعشرين ألف أردب، وكان يطعم في كل ليلة من ليالي شهر رمضان خمسة آلاف نفس، ويكسو في كل سنة ستمائة كسوة خارجا عما يطلقه من يده من الكساوي، وكان له من الخبز ألفا قنطار وخمسمائة في كل يوم. إلا إنه كان كثير المصادرات للدواوين، كثير الجباية للأموال من الرعية. وأحدث وزيره ابن حنا في أيامه حوادث جليلة، وقاس أملاك الناس بمصر والقاهرة، وصادر أرباب الأموال حتى هلك كثير منهم تحت العقوبة، وأخذ جوالي الذمة مضاعفة، وأمر بإحراقهم كلهم، وجمع لهم الأحطاب وحفر لهم حفرة عظيمة قدام دار النيابة بقلعة الجبل، ثم عفي عنهم وقرر عليهم أموالا أخذت منهم بالمقارع، ومات أكثرهم في العقوبة. ولما توجه السلطان بيبرس إلى بلاد الروم كلف أهل دمشق جباية مال لإقامة الخيل، وفرض عليهم ألف ألف درهم نقرة تجبي من المدينة ومن الضياع.

ولم يل الوزارة له سوي الصاحب بهاء الدين على بن محمد بن حنا، وقضاته بمصر قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب، بن بنت الأعز إلى أن أحدث القضاة الأربعة، واستمر ذلك من بعده. وروي السلطان بيبرس بعد موته في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ما رأيت شيئا أشد على من ولاة قضاة أربعة،. وقيل لي فرقت الكلمة. وكان كل من ولاه بيبرس في مملكة أو عمل أبقاه، و لم يغير عليه ولا يعزله. وتزوج بيبرس من النساء وهو ببلاد غزة، قبل أن يلي الملك امرأة من طائفة الشهر زورية، ثم طلقها بالقاهرة. وتزوج ابنه حسام الدين بركة خان بن دولة خان التتري، وابنة الأمير سيف الدين نوكلي التتري، وابنة الأمير سيف الدين كراي بن تماجي التتري، وابنة الأمير سيف الدين، التتري. وولد له من الأولاد عشرة، الذكور منهم ثلاثة وهم الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة قان، وولد في صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة بمنزلة العش، من بنت حسام الدين بركة خان الخوارزمي، والملك العادل بدر الدين سلامش، والملك المسعود نجم الدين خضر، والإناث سبع.
ولما مات السلطان بيبرس كتم الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نائب السلطة موته عن العساكر، وحمله في محفة من القصر الأبلق خارج دمشق إلى القلعة في الليل، وجعله في تابوت وعلقه في بيت، وأشاع إنه مريض ورتب الأطباء على العادة، ثم أخذ العساكر والخزائن، ومعه محفة محمولة وأوهم أن السلطان فيها مريض، وخرج من دمشق يريد مصر، فلم يجسر أحد أن يتفوه بموت السلطان. واستمر الحال على ذلك حتى وصلت العساكر إلى القاهرة، وصعدت الخزائن والمحفة إلى قلعة الجبل، فأشيع حينئذ موته. والجملة فلقد كان من خير ملوك الإسلام.
السلطان الملك السعيد ناصر الدينمحمد بركة قان بن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي النجمي. لما مات الملك الظاهر بدمشق، كتب الأمير بدر الدين بيليك الخازندار إلى الملك السعيد وهو بقلعة الجبل كتابا بموت أبيه، فأظهر الملك السعيد عند ورود الكتاب فرحا كبيرا، وأخلع على من أحضره، وأشاع أن الكتاب يتضمن البشارة بعود الملك الظاهر إلى ديار مصر، وأصبح فركب الأمراء على العادة تحت القلعة، من غير أن يظهر عليهم شيء من الحزن.
وسار الأمير بيليك بالمحنة والأطلاب، حتى قدم إلى القاهرة يوم الخميس سادس عشر صفر وهو تحت السناجق الظاهرية، وصعد قلعة الجبل. وجلس الملك السعيد بالإيوان، وسلم إليه الأمير بيليك الخزائن والعساكر ووقف بين يديه، فصاح الحجاب حينئذ. يا أمراء ترحموا على السلطان الملك الظاهر. فارتفع الضجيج والعويل، ووقع الأمراء إلى الأرض يقبلونها للملك السعيد، فجددت الأيمان، وحلف له سائر العسكر والقضاة والمدرسين والأعيان، وتولي تحليفهم الأمير بدر الدين بيليك الخازندار بحضرة القضاة. فأقر الملك السعيد الأمير بدر الدين بيليك على نيابة السلطنة، وأقر الصاحب بهاء الدين ابن حنا على وزارته، وخلع عليهما وعلى الأمراء والمقدمين والقضاة وأرباب الوظائف.
وفي يوم الجمعة سابع عشريه: دعا الخطباء على منابر الجوامع بمصر والقاهرة للملك السعيد، وصلي بها على الملك الظاهر صلاة الغائب. وخرج البريد إلى دمشق بموت الملك الظاهر، وتحليف العساكر للملك السعيد فحلفوا.
وفي يوم الأربعاء سادس عشر ربيع الأول: ركب الملك السعيد بالعصائب على عادة أبيه، ومعه الأمراء والأعيان وعليهم الخلع، وسير إلى تحت الجبل الأحمر، وعاد إلى القلعة من غير أن يشق القاهرة، وكان يوما مشهوداً.

وفي سادس ربيع الآخر: مات الأمير بدر الدين بيليك النائب، واتهم أن الملك السعيد سمه وذلك أنه اختص بجماعة من المماليك الأحداث، فأوهموه من الأمير بيليك، وكانت جنازته حفلة، ومن بعده اضطربت أمور الملك السعيد. وأقام الملك السعيد بعده في نيابة السلطنة الأمير شمس الدين آقنسنقر الفارقاني، وكان حازما، فضم إليه جماعة منهم شمس الدين أقوش، وقطليجا الرومي، وسيف الدين قلج البغدادي، وسيف الدين بيجو البغدادي، وعز الدين ميغان أمير شكار، وسيف الدين بكتمر السلاح دار فثقل الأمير آقسنقر على خاصكية السلطان، وحدثوا السلطان في أمره، واستعانوا بالأمير سيف الدين كوندك الساقي. وكان الملك السعيد. قد قدمه وعظمه لأنه ربي معه في المكتب، فقبض على آقسنقر وهو جالس في باب القلة، وسجن وأهين ونتفت لحيته وضرب، ثم أخرج بعد أيام يسيرة ميت. فاستقر بعده في النيابة الأمير شمس الدين سنقر الألفي المظفري، فكرهه الخاصكية وقالوا. هذا ما هو من الظاهرية وخيلوا الملك السعيد منه أنه يريد أن يثور بخشداشيته مماليك الملك المظفر قطز، فعزله سريعا. وولي الأمير سيف الدين كوندك الساقي نيابة السلطة وهو شاب، فعضده الأمير سيف الدين قلاوود الألفي ومال إليه.
وكان من جملة المماليك السلطانية الخاصكية شخص يعرف بلاجين الزيني، وقد غلب على الملك السعيد في سائر أحواله، وضم إليه عدة من الخاصكية، وأخذ لاجين لهم الإقطاعات والأموال الجزيلة، وصار كلما انحل خبز أخذه لمن يختار، وتنافر النائب والمذكور، فتورغرت بينهما الصدور، ودبت بينهما عقارب الشرور، وأعمل كل منهما مكره في أذية الآخر، وضم النائب إليه جماعة من الأمراء الكبار، وصار العسكر حزبين، فآل الأمير إلى ما آل إليه من الفساد.
وتغير السلطان على الأمراء، وقبض في سابع عشره على الأمير جودي القيمري الكردي فنفرت منه قلوب الأمراء لا سيما الصالحية: مثل الأمير سيف الدين قلاوون، والأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير علم الدين سنجر الحلبي، والأمير بدر الدين، بيسري، وأقرانهم فإنهم كانوا يأنفون من تملك الملك الظاهر عليهم، ويرون أنهم أحق منه بالملك، فصار ابنه الملك السعيد يضع من أقدارهم، ويقدم عليهم مماليك الأصاغر، ويخلو بهم وكانوا صباح الوجوه، ويعطهم مع ذلك الأموال الكثيرة، ويسمع من رأيهم ويبعد الأمراء الكبار.
واستمر الحال على هذا إلى أن كان يوم الجمعة خامس عشريه، وفيه قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسري، وسجنهما بالقلعة ثلاثة وعشرين يوما، فزادت الوحشة بينه وبين الأمراء، ودخل خاله الأمير بدر الدين محمد بركة خان إلى أخته أم السلطان، وقال لها: قد أساء ابنك التدبير بقبضه على مثل هؤلاء الأمراء الأكابر، والمصلحة أن ترديه إلى الصواب، لئلا يفسد نظامه وتقصر أيامه. فلما بلغ الملك السعيد ذلك قبض عليه. واعتقله، فلم تزل به أمه تعنفه وتتلطف به، حتى أطلقهم وخلع عليهم وأعادهم إلى ما كانوا عليه، وقد تمسكت عداوته من قلوبهم.
وتوهم منه بقية الأمراء، وخشوا أن يعاملهم كما عامل الأمير بيليك الخازندار، مع حفظة له الملك وتسليم الخزائن والعساكر إليه، فلم يكافئه إلا بأن قتله بالسم. فاجتمع الأمراء وهموا أن يخرجوا عنه إلى بلاد الشام، ثم اتفقوا وصعدوا إلى قلعة الجبل، ومعهم مماليكهم وألزامهم وأجنادهم وأتباعهم، ومن انضم إليهم من العساكر، فامتلأ منهم الإيوان ورحبة القصر، وبعثوا إلى الملك السعيد: بأنك قد أفسدت الخواطر، وتعرضت إلى أكابر الأمراء، فإما أن ترجع عما أنت عليه: وإلا كان لنا ولك شان. فلاطفهم في الجواب، وتنصل مما كان منه، وبعث إليهم التشاريف فلم يلبسوها، وترددت الأجوبة بينهم وبينه إلى أن تقرر الصلح، وحلف لهم إنه لا يريد بهم سوءا، وتولي تحليفه الأمير بدر الدين الأيدمري وفرضوا وانصرفوا.

وكتب السلطان الملك السعيد إلى دمشق أن يدفن الملك الظاهر داخل المدينة فاشتري الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام دار العقيقي داخل باب الفرج تجاه المدرسة العادلية بستين ألف درهم، وجعلها مدرسة وبني بها قبة، وابتدأ بالعمارة في يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى، وفرغ منها في آخر جمادى الآخرة. وخرج من القاهرة الأمير علم الدين سنجر المعروف بأبي خرص، والطواشي صفي الدين جوهر الهندي، وسار إلى دمشق فدخلاها في ثالث رجب فلما كان في ليلة الجمعة خامسه، حمل الملك الظاهر من قلعة دمشق ليلا على أعناق الرجال، ووضع في جامع بني أمية وصلي عليه، وحمل حتى دفن بالقبة من المدرسة التي بنيت له، بحضور نائب الشام، وألحده قاضي القضاة عز الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو المفاخر المعروف باب الصائغ، وترتب القراء من ثاني يوم، ثم وقف عز الدين بن شداد وكيل الملك السعيد هذه المدرسة، ووقف عليها قرية من شعرا بانياس، وغير ذلك.
وفي ثامن عشر ذي القعدة: صرف قاضي القضاة محيي الدين عبد الله بن عين الدولة عن قضاء مصر والوجه القبلي، وأضيف إلى قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين، فكمل له قضاء القضاة بديار مصر، وأعيد قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان إلى قضاء دمشق في سابع عشر ذي الحجة، فكانت مدة عزله سبع سنين.
وفيها ولي شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن شمس الدين أبي المعالي أحمد بن الخليل ابن سعادة الخوي قضاء القضاة الشافعية بحلب، بعد وفاة تقي الدين محمد بن حياة الرقي.
وفي هذه السنة عم ماء النيل أرض مصر كلها، ورخص سعر الغلة حتى أبيع الأردب القمح بخمسة دراهم، والأردب الشعير بثلاثة دراهم، والأردب من بقية الحبوب بدرهمين.
وفيها قتل الملك أبغا البرواناه في صفر، واسمه معين الدين سليمان بن على بن محمد بن حسن، ومعني البرواناه الحاجب، وكان شجاعا حازما كريما عارفا، فيه دهاء ومكر.
وفيها عزل نفسه قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز الحنفي من القضاء في سلخ المحرم، فشغر منصب قضاء الحنفية بعده.
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير بدر الدين بيليك الخازندار نائب السلطة، في سادس شهر ربيع الآخر، وكان جوادا عارفا بالتاريخ جيد الكتابة.
وتوفي قاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن عماد الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن عبد الواحد بن على بن سرور المقدسي الحنبلي وهو مصروف، في يوم السبت ثاني عشري المحرم، ودفن بالقرافة، وله من العمر ثلاث وسبعون سنة.
وتوفي قاضي القضاة بحلب تقي الدين أبو عبد الله محمد بن حياة بن يحيي بن محمد الرقي الشافعي بتبوك، وهو عائد من الحج.
وتوفي الشيخ محمي الدين أبو زكريا يحيي بن شرف بن محمد بن الحسن بن الحسين بن جمعة بن حرام النووي الشافعي، عن نيف وأربعين سنة، بقرية نوي.
وتوفي الواعظ نجم الدين أبو الحسن على بن على بن أسفنديار البغدادي بدمشق، عن ستين سنة.
وتوفي الشريف شهاب الدين أحمد بن أبي محمد الحسيني الواسطي الغرافي، بالإسكندرية.
وتوفي الشيخ نظام الدين أبو عمرو عثمان بن أبي القاسم عبد الرحمن بن رشيق المالكي.
وتوفي أبو الحسن على بن عدلان بن حماد بن على الربعي الموصلي النحوي المترجم، بالقاهرة.
سنة سبع وسبعين وستمائةفي سابع عشري المحرم: عمل عزاء الملك الظاهر، عند تمام سنة من وفاته، بالأندلس من قرافة مصر، ومدت هناك الأسمطة في الخيام للقراء والفقهاء، وفرقت الأطعمة على أهل الزوايا، وكان من الأرقات العظيمة، لكثرة من اجتمع فيه من الناس على اختلاف طبقاتهم، وعمل مجمع آخر بجامع ابن طولون، وفي الجامع الظاهري، والمدرسة الظاهرية، والمدرسة الصالحية، ودار الحديث الكاملية، والخابقاه الصلاحية سعيد السعداء، والجامع الحاكي وعمل للنكارزة والفقراء خوان حضره كثير من أهل الخير.
وفي عاشر جمادى الأولى ولي قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز بن وهيب الحنفي قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن مجد الدين عبد الرحمن بن عمر بن العديم بحكم وفاته. فلما مات صدر الدين بعد أربعة أشهر، ولي عوضاً عنه في تاسع عشري رمضان حسام الدين حسن بن أحمد بن حسن الرازي. قاضي الروم الواصل من قيسارية.

وفي، شوال خرج الملك السعيد من قلعة الجبل يريد التفرج في دمشق، ومعه أخوه نجم الدين خضر، وأمه وأمراؤه وعساكره، فدخل إلى دمشق في خامس ذي الحجة.
وفي سلخ ذي القعدة مات الصاحب بهاء الدين على بن محمد بن سليم بن حنا، فكتب من دمشق بالحوطة على وجوده. وقبض الملك السعيد على الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، وسيره على البريد إلى مصر، ليستخرج منه ومن أخيه تاج الدين محمد وابن عمه عز الدين محمد بن أحمد بن على تكملة ثلاثمائة ألف دينار واستقر في الوزارة عوضاً عن الصاحب بهاء الدين بن حنا قاضي القضاة وعز الدين الخضر بن الحسن السنجاري، وكان بينه وبين ابن حنا عداوة ظاهرة وجفون كامنة، فبلغ من التمكن في أولاده وأمواله ما كان يؤمله. وساعده على ذلك عدة من الأمراء: منهم عز الدين الأفرم، وبدر الدين بيسري، الحاقي تقومهم من بهاء الدين بن حنا. وولي وزراة الصحبة فخر الدين بن لقمان، عوضاً عن تاج الدين محمد بن حنا.
وفي سادس عشري ذي الحجة: جلس الملك السعيد بدار العدل في دمشق، وأسقط عن أهل الشام ما كان قد قرره الملك الظاهر عند سفره إلى بلاد الروم على البساتين في كل سنة، وفيه أشار خاصكية السلطان عليه بإبعاد الأمراء الأكابر عنه، فجهز الأمير قلاوون الألفي بعسكر، وجهز الأمير بيسري بعسكر، وأنفق فيهم الأموال، فساروا إلى جهة سيس، وفي نفوسهم من ذلك إحن.
وفيها ولي الأمير علاء الدين أيدغدي الكبكي نيابة حلب، عوضاً عن الأمير نور الدين على بن مجلي الهكاري. وفيها كثر الرخاء بمصر حتى أبيع ثلاثمائة أردب فولا بمبلغ تسعمائة درهم، انصرف منها حمولة ومكوس، بحيث لم يتأخر منها غير خمسة وثمانين درهما.
وفيها مات عز الدين كيكاوس ملك الروم، بعد ما جرت له خطوب فملك أبغا ابن هولاكو من بعده ابنه مسعود بن كيكاوس سبواس وأرزن الروم وأرزنكان وفيها حصلت زحمة عظيمة بباب العمرة من المسجد الحرام بين الحجاج عند خروجهم إلى العمرة بعد صلاة الصبح، فمات منهم ستة وثلاثون إنسانا، وذلك في ثالث عشر ذي الحجة.
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير جمال الدين أقوش النجيبي الصالحي نائب الشام، في خامس ربيع الأول بالقاهرة، عن نحو سبعين سنة. ومات الأمير شمس الدين آقسبقر القارقاني الصالحي قائد السلطنة، عن نحو خمسين سنة. ومات الأمير علاء الدين أيدكين الشهابي نائب حلب، وهو مصروف، عن نحو خمسين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي القضاة الحنفية بدمشق مجد الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله بن هبة الله بن أحمد بن يحيي بن العديم، عن أربع وستين سنة. ومات قاضي القضاة الحنفية بدمشق صدر الدين أبو الفضل سليمان ابن أبي العز ابن وهيب الأذرعي، بعد ثلاثة أشهر من ولايته، عن ثلاث وثمانين سنة. ومات الوزير الصاحب بهاء الدين أبو الحسن على بن محمد بن سليم بن حنا، سلخ ذي القعدة. وتوفي مجد الدين أبو عبد الله وتوفي نجم الدين أبو المعالي محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل الشيباني الدمشقي الصوفي الأديب، عن أربع وسبعين سنة بدمشق.
وتوفي الأديب جمال الدين عمر بن إبراهيم بن أبي بكر الهذباني الإربلي، بالقاهرة.
وتوفي الأديب موفق الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن نصر الله الأنصاري البعلبكي، بالقاهرة.
سنة ثمان وسبعين وستمائةفي المحرم: قرر الخاصكية مع الملك السعيد القبض على الأمراء عند عودهم من سيس، وعينوا إقطاعتهم لأناس منهم، وكان الأمير كوندك النائب مطلع على ذلك. واستغرق السلطان في لذاته، وبسط يده بعطاء الأموال الكثيرة لخاصكيته، وخرج عن طريقة أبيه، وفي أثناء ذلك حدث بين الأمير كوندك النائب وبين الخاصكية منافرة، بسبب أن السلطان أطلق لبعض السكة ألف دينار فتوقف النائب في إطلاقها، فاجتمع الخاصكية عند النائب وقاضوه في أمر المبلغ، وأسمعوه ما يكره، وقاموا على حرد، وتكلموا مع السلطان في عزله عن النيابة، فامتنع، وأخذ الخاصكية في الإلحاح عليه بعزل كوندك، وعجز عن تلافي أمرهم معه.

وأما الأمراء فإنهم غزوا سيس وقتلوا وسبوا، وسار الأمير بيسري إلى قلعة الروم، وعاد هو والأمراء إلى دمشق ونزلوا بالمرج، فخرج الأمير كوندك إلى لقائهم على العادة، وأخبرهم. مما وقع من الخاصكية في حقهم وحقه، فحرك قوله ما عندهم من كوامن الغضب، وتحالفوا على الاتفاق والتعاون، وبعثوا من المرج إلى السلطان يعلمونه إنهم مقيمون بالمرج، وأن الأمير كوندك شكي إليهم من لاجين الزيني شكاوى كثيرة، ولا بد لنا من الكشف عنها، وسألوا السلطان أن يحضر إليهم حتى يسمعوا كلامه وكلام كوندك.
فلما بلغ بذلك السلطان ذلك لم يعبأ بقولهم، وكتب إلى من معهم من الأمراء الظاهرية يأمرهم. بمفارقة الصالحية ودخول دمشق. فوقع القاصد الذي معه الكتب في يد أصحاب كوندك، فأحضر إلى الأمراء ووقفوا على الكتب التي معه، فرحلوا من فورهم ونزلوا على الجورة من جهة داريا، وأظهروا الخلاف، ورموا الملك السعيد بأنه قد أسرف وأفرط في سوء الرأي وأفسد التدبير.
فخاف السلطان عند ذلك سوء العاقبة، وبعث إليهم الأمير سنقر الأشقر، والأمير سنقر التكريتي الأستادار، ليلطفا بهم ويعملا الحيلة في إحضارهم، فلم يوافقوا على ذلك. وعادا إلى السلطان فزاد قلقه، وترددت الرسل بينه وبين الأمراء، فاقترحوا عليه إبعاد الخاصكية، فلم يوافق، وبعث السلطان بوالدته مع الأمير سنقر الأشقر لتسترضيهم، فحدثتهم وخضعت لهم فما أفاد فيهم ذلك شيئا، وعادت بالخيبة.
فرحل الأمراء بمن معهم من العساكر إلى مصر وتبعهم الملك السعيد ليلحقهم ويتلافى أمرهم فلم يدركهم فقاد إلى دمشق وبات بها. وأصبح الملك السعيد فجهز أمه وخزائنه إلى الكرك وجمع من بقي من عساكر مصر والشام واستدعى العربان وأنفق فيهم. وسار من دمشق بالعساكر يريد مصر فنزل بلبيس في نصف ربيع الأول وكان قد سبقه الأمير قلاوون بمن معه إلى القاهرة ونزلوا تحت الجبل الأحمر.
فبلغ ذلك الأمراء الذين بقلعة الجبل وهم الأمير عز الدين أيبك أمير جانذار والأمير أفطوان الساقي والأمير بلبان الزربقي فامتنعوا بها وحصنوها وتقدموا إلى متولي القاهرة فسد أبوابها فراسلهم قلاوون والأمراء في فتح أبواب القاهرة ليدخل العسكر إلى بيوتهم ويبصروا أولادهم فإن عهدهم بعد بهم ونزل الأمير لاجين البركخاي وأيبك الأفرم وأقطون إلى الأمراء لمعرفة الخبر فقبضوا عليهم وبعثوا إلى القاهرة ففتحت أبوابها ودخل كل أحد إلى داره وسجن الثلاثة الأمراء في دار الأمير قلاوون بالقاهرة وزحفوا إلى القلعة وحاصروها وقد امتنع بها بلبان الزريقي.
وأما السلطان فإنه لما نزل بلبيس وبلغه خبر الأمراء خامر عليه من كان معه من عسكر الشام وتركوه في بلبيس وعادوا إلى دمشق وبها الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام فصاروا إليه ولم يبق مع السلطان إلا مماليكه ومنهم الأمير لاجين الزيني ومغلطاي الدمشقي ومغلطاي الجاكي وسنقر التكريتي وأيدغدي الحراني والبكي الساقي وبكتوت الحمصي وصلاح الدين يوسف بن بركة خان ومن يجري مجراهم ولم يبق معه من الأمراء الكبار إلا الأمير سنقر الأشقر فقط فسار السلطان من بلبيس ففارقه الأشقر من المطرية وأقام بموضعه.
وبلغ الأمراء أن السلطان جاء من خلف الجبل الأحمر فركبوا ليحولوا بينه وبين القلعة وكان الضباب كثيرا فنجا منهم واستتر عن رؤيتهم وطلع إلى المقدمة فلما انكشف الضباب بلغ الأمراء أن السلطان بالقلعة فعادوا إلى حصارها وعندما استقر السلطان بالقلعة تشاجر لاجين الزيني مع الزربقي فنزل الزربقي إلى الأمراء وصار معهم وتبعه المماليك شيئا بعد شيء. وصار السلطان يشرف من برج الرفرف المطل على الإسطبل ويصيح بهم: يا أمراء أرجع إلى رأيكم ولا أعمل إلا ما تقولونه فليجبه أحد منهم وأظهروا كتبا عنه يطلب فيها جماعة من الفداوية لقتلهم وأحاطوا بالقلعة وحصروه، وكان الأمير سنجر الحلبي معتقلا بالقلعة، فأخرجه السلطان وصار معه، فاستمر الحصار مدة أسبوع.

وكان الذي قام في خلع السلطان جماعة كثيرة من الأمراء، وهم الأمير بيسري، والأمير قلاوون، والأمير أيتمش السعدي، والأمير أيدكين البندقدار، والأمير بكتاش الفخري أمير سلاح، والأمير بيليك الأيدمري، والأمير سنقر البكتوتي، والأمير سنجر طردج، والأمير بلبان الحبيشي، والأمير بكتاش النجمي، والأمير كشتغدي الشمسي، والأمير بلبان الهاروني، والأمير بجكا العلائي، والأمير بيبرس الرشيدي، والأمير كندغدي الوزيري، والأمير يعقوبا الشمهرزوري، والأمير أيتمش بن أطلس خان، والأمير بيدغان الركني، والأمير بكتوت بن أتابك، والأمير كندغدي أمير مجلس، والأمير بكتوت جرمك، والأمير بيبرس طقصو، والأمير كوندك النائب، والأمير أيبك الحموي، والأمير سنقر الألفي، والأمير سنقر جاه الظاهري، والأمير قلنج الظاهري، والأمير ساطلمش، والأمير قجقار الحموي، ومن انضاف إليهم من الأمراء الصغار ومقدمي الحلقة، وأعيان المفاردة والبحرية ولما طال الحصار بعث السلطان الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد، يقول: يا أمراء إيش غرضكم؟ فقالوا: يخلع الملك السعيد نفسه من الملك ونعطيه الكرك، فأذعن السعيد لذلك، وحلف له الأمراء، وحضر الخليفة والقضاة، الأعيان، وأنزل بالملك السعيد، وأشهد عليه أنه لا يصلح للملك.
وخلع السعيد نفسه، وحلف أنه لا يتطرق إلى غير الكرك، ولا يكاتب أحدا من النواب، ولا يستميل أحد من الجند، وسفر من وقته إلى الكرك مع الأمير بيدغان الركني، وذلك في سابع شهر ربيع الآخر، فكانت مدة ملكه من حين وفاة أبيه إلى يوم خلعه سنتين وشهرين وثمانية أيام، موصل إلى الكرك وسلمها في خامس عشري جمادى الآخرة، واحتوى على ما فيها من الأموال وكانت شيئا كثيرا.
ولم يقتل في هذه الحركة سيف الدين بكتوت الخمصي، فإنه كان بينه وبين سنقرجاه الظاهري مشاجرة، فلما طلع الملك السعيد إلى قلعة الجبل يوم وصوله من بلبيس صادفه سنقر جاه وهو من حزب الأمير قلاوون ومن معه، فطعنه في حلقه فحمل إلى قبة القلندرية فمات من يومه ودفن بها، وكانت أيامه رخية الأسعار.
السلطان الملك العادل بدر الدين سلامشوهو ابن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي النجمي. لما تم خلع الملك السعيد وسافر إلى الكرك، عرض الأمراء السلطنة على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي فامتنع وقال: أنا ما خلعت الملك السعيد طمعا في السلطنة، والأولى ألا يخرج الأمر عن ذرية الملك الظاهر. فاستحسن ذلك منه، لأن الفتنة سكنت فإن الظاهريه كانوا معظم العسكر، وكانت القلاع بيد نواب الملك السعيد، وقصد قلاوون بهذا القول أن يتحكم حتى يغير النواب ويتمكن مما يريد، فمال الجميع إلى قوله وصوبوا رأيه، واستدعوا سلامش، واتفقوا أن يكون الأمير قلاوون أتابكه، وأن يكون إليه أمر العساكر وتدبير الممالك، فحضر سلامش وله من العمر سبع سنين وأشهر، وحلف العسكر جميعه على إقامته سلطانا، وإقامة الأمير قلاوون أتابك العساكر، ولقبوه الملك العادل بدر الدين، فاستقر الأمر على ذلك. وأقيم الأمير عز الدين أيبك الأفرم في نيابة السلطنة، واستقر قاضي القضاة برهان الدين خضر بن الحسن السنجاري في الوزارة.
وأما عسكر الشام فإنه لما سار من بلبيس ودخل إلى دمشق، وكان بحلب الأمير عز الدين إزدمر العلائي، والأمير قراسنقر المعزي، والأمير أقوش الشمسي، والأمير برلغو، في نحو ألفي فارس، فساروا إلى دمشق ولقوا العسكر القادم من بلبيس، فاتفقوا مع الأمراء الذين بدمشق على إقامة الأمير أقوش الشمسي مقدما على الجيوش، والقبض على الأمير عز الدين أيدمر نائب دمشق، لأنه ترك ابن أستاذه وخامر عليه ورجع من بلبيس، فأخذه الأمير أقوش إلى داره، فجاء الأمير أزدمر العلائي وركن الدين الجالق إلى دار أقوش، وأخذ الأمير أيدمر وصعدا به إلى قلعة؟ دمشق، وسلماه إلى الأمير علم الدين سنجر الدواداري نائب القلعة.
فلما تقرر الحال على إقامة الملك. العادل سلامش والأمير قلاوون كتب إلى الشام بذلك، وسار الأمير جمال الدين أقوش الباخلي وشمس الدين سنقرجاه الكنجي بنسخة الإيمان، فحلف الناس بدمشق كما وقع الحلف بمصر.

وفي النصف من جمادى الأولى: استقر قاضي القضاة صدر الدين عمر ابن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، في قضاء القضاة بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن رزين بحكم عزله. وصرف أيضاً قاضي القضاة معز الدين النعمان الحسن بن يوسف الخطبي الحنفي، وقاضي القضاة نفيس الدين أبو البركات محمد بن مخلص الدين هبة الله بن كمال الدين أبي السعادات أحمد بن شكر المالكي، ثم أعيدا، وولي عز الدين عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدس الحنبلي قاضي القضاة الحنابلة، واستقر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر في نيابة السلطنة بدمشق، فدخلها في ثامن جمادى الآخرة ومعه جماعة من الأمراء والعسكر، فعامله الناس معاملة الملوك، وأنزل الأمير سنجر الدواداري من القلعة لمباشرة الشد، وقرئ تقليد النيابة يوم الجمعة بمقصورة الخطابة، ولم يحضر النائب قراءته.
وفي تاسع رجب: قبض على فتح الدين عبد الله بن محمد بن القيسراني، وزير دمشق. وفيه استقر الأمير جمال الدين أقوش الشمسي في نيابة السلطنة بحلب، عوضاً عن أيدغدي الكبكي.
وشرع الأمير قلاوون في القبض على الأمراء الظاهرية، فقبض على أعيانهم وبلغهم إلى الثغور فسحنوا بها، وأمسك أيضاً كثيرا من الظاهرية وملأ الحبوس بهم، وأعطي قلاوون ومنع وقطع، ووصل واستخدم وعزل، فكان صورة أتابك وتصرفه تصرف الملوك. واشتغل الأمير بيسري باللهو والشرب، فانفرد الأتابك قلاوون بالمملكة وأجد في تدير أحواله وفرق قلاوون على المماليك واستمالهم، وقرب الصالحية وأعطاهم الإقطاعات، وكبر منهم جماعة كانوا قد نسوا وأهملوا، وسير عدة منهم إلى البلاد الشامية واستنابهم في القلاع، وتتبع ذراريهم وأخذ كثيرا منهم كانوا قد تصنفوا بالصنائع والحرف، فرتب طائفة منهم في البحرية، وقرر لجماعة منهم جامكية، فعادت لهم السعادة، وقوي بهم جانبه وتمكنت أسبابه، ثم جمع قلاوون الأمراء في العشرين من رجب وتحدث معهم في صغر سن الملك العادل، وقال لهم: قد علمتم أن المملكة لا تقوم إلا برجل كامل، إلى أن اتفقوا على خلع سلامش فخلعوه، وبعثوا به إلى الكرك وكانت مدة ملكه مائة يوم، ولم يكن حظه من الملك سوي الاسم فقط، وجميع الأمور إلى الأتابك قلاوون.
السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوونالألفي الصالحي النجمي العلائي كان من جنس القبجاق، ومن قبيلة برج أغلي، فجلب إلى مصر وهو صغير، واشتراه الأمير علاء الدين آقسنقر الساقي العادلي أحد مماليك الملك العادل أبي بكر بن أيوب بألف دينار، فعرف من أحل ذلك بالألفي.
فلما مات أستاذه الأمير علاء الدين صار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب في عدة من المماليك، فعرفوا بالعلائية، وذلك في سنة سبع وأربعين وستمائة وجعل الملك الصالح قلاوون من جملة المماليك البحرية، ومازال حتى كانت وفاة الملك الصالح، ثم إقامة شجر الدر بعد الملك توران شاه بن الصالح. فلما قام المعز أيبك في سلطنة مصر، وقتل الفارس أقطاي، خرج قلاوون من مصر فيمن خرج من البحرية. وتنقلت به الأحوال حتى صار أتابك العساكر بديار مصر في سلطنة الملك العادل سلامش بن الظاهر، في سابع شهر ربيع الآخر، وصار يذكر اسمه مع اسم العادل على المنابر وتصرف تصرف الملوك مدة ثلاثة أشهر، إلى أن وقع الاتفاق على خلع العادل وإقامة قلاوون.
فأجلس قلاوون على تخت الملك في يوم الأحد العشرين من رجب، وحلف له الأمراء وأرباب الدولة، وتلقب بالملك المنصور، وأمر أن يكتب في صدر المناشير والتواقيع والمكاتبات لفظ الصالحي، فكتب بذلك في كل ما يكتب عن السلطان، وجعل عن يمين البسملة تحتها بشيء لطيف جداً. وخرج البريد بالبشائر إلى الأعمال، وجهزت نسخة اليمين إلى دمشق وغيرها، وزينت القاهرة ومصر وظواهرهما وقلعة الجبل، وأقيمت له الخطبة بأعمال مصر.
وأول ما بدأ به السلطان قلاوون إبطال زكاة الدولبة، وكانت مما أجحفت بالرعية، وأبطل مقرر النصارى، وكان له منذ أحدث ثمان عشرة سنة، وانحطت الأسعار.
ووصل البريد إلى دمشق، وعليه لاجين الصغير والأمير ركن الدين بيبرس الجالق، في ثامن عشريه، بعد يومين وسبع ساعات من مفارقة قلعة الجبل، و لم يعهد مثل هذا. فحلفت عساكر دمشق، وأقيمت الخطبة بها في يوم الجمعة ثاني شعبان، وزينت المدينة سبعة أيام.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21