كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي
ولم ندرك مثل ذلك، وهو أن يكون النائب حاجباً، فإن موضع الحاجب الوقوف بين يدي النائب والتصرف بأمره، هي الأيام كلها قد صرن عجائب حتى ليس فيها عجائب وقدم قلصد من بغداد كان قد توجه لكشف الأخبار، فأخبر أن أصبهان بن قرا يوسف لما أخذ بغداد من أخيه شاه محمد بن قرا يوسف أساء السيرة، بحيث أنه أخرج جميع من ببغداد من الناس بعيالاتهم وأخذ كل مالهم من جليل وحقير، فتشتتوا بنسائهم وأولادهم في نواحي الدنيا، وصارت بغداد وليس بها سوى ألف رجل من جند أصبهان، لا غير. وليس بها إلا ثلاثة أفران تخبز الخبز فقط، ولم يبق بها سكان ولا أسواق. وأنه أخرب الموصل حتى صارت يبابا، فإنه سلب نعم أهلها وأمر بهم فأخرجوا وتمزقوا في البلاد. واستولت عليها العربان، فصارت الموصل منازل العرب بعد التمدن الذي بلغ الغاية في الترف. وأنه أخذ أموال أهل المشهد، وأزال نعمهم، فتشتتوا بعيالهم. وصار من أهل هذه البلاد إلى الشام ومصر خلائق لا تعد ولا تحصى.
وفيه قدم جنيد - أحد أمراء أخورية - وقد توجه إلى أبي فارس عبد العزيز ملك المغرب، وعلى يده كتاب السلطان بمنع التجار من حمل الثياب المغربية المحشاة بالحرير من ملابس النساء، وأن يلزمهم بقود الخيول بدل ذلك. فوجده متوجها من بجاية إلى فاس، فأكرمه ونادى بذلك في عمله، وأجاب عن الكتاب. وبعث بهدية، هي ثلاثون فرساً، منها خمسة مسرجة ملجمة، ونحو مائتين وخمسين بعيراً وقدم صحبة جنيد ركب في نحو ألف بعير يريدون الحج.
وفي يوم الاثنين تاسع عشرينه: كسفت الشمس في آخر الساعة الرابعة، فتغير لونها تغيراً يسيراً، ولم يشعر بها أكثر الناس ولا اجتمعوا للصلاة بالجوامع على العادة؛ لقلة الشعور بذلك. ثم انجلى الكسوف سريعاً. وكان بعض من يزعم علم النجوم لقلة درايته وكثرة جرأته قد أرجف قبل ذلك بأيام، وشنع بأمر الكسوف، وما يدل عليه، حتى اشتهر إرجافه وتشنيعه، وداخل بعض الناس الوهم. فلما لم يكن من أمر الكسوف كبير شيء، طلب السلطان طائفة ممن يتحل هذا الفن من أهل التقويم، وأنكر عليهم وهددهم.
وفي هذه الأيام: قطعت أيضاً عدة مرتبات للناس من ديوان السلطان، ما بين عليق لخيولهم، ومبلغ دراهم في كل شهر.
وفيها ارتفع سعر الغلال قليلاً، فكان القمح من مائة وخمسين درهماً الأردب إلى ما دونها، فبلغ مائة وسبعين مع كثرته لزكاة الغلال وقت الدراس، ورخاء بلاد الشام والحجاز.
وفيها ظفر المجردون في البحر على بيروت بغراب للبنادقة، فيه صناديق مرجان ونقد وغير ذلك. وظفروا بمركب آخر للجنويين على طرابلس فيه بضائع، فأًحرقوه بما فيه، وأسروا سوى من غرق بضعاً وعشرين رجلاً.
وقتل من المماليك المجردين سبعة، فلم يحمد هذا من فعلهم، وذلك أن البنادقة والجنوية مسالمون المسلمين.
شهر ذي القعدة، أوله الأربعاء: فيه توجه الأمير جقمق أمير سلاح إلى مكة حاجاً، وسار معه كثير ممن قدم من المغاربة وغيرهم.
وفي ثالث عشره: ابتدئ بالنداء على النيل بزيادته، وقد أخذت القاعدة فكانت خمسة أذرع واثنين وعشرين إصبعاً، والنداء بزيادة ثلاثة أصابع.
شهر ذي الحجة: أهل بيوم الخميس، وسعر القمح قد ارتفع إلى مائتي درهم، والفول إلى مائتي درهم أيضاً. والشعير إلى مائة وسبعين لتكالب الناس على شرائه، مع استمرار زيادة النيل من غير توقف. لكنها عوائد سوء قد ألفوها منذ هذه الحوادث والمحن، أن يكثر إرجاف المرجفين بتوقف النيل، رغبة في بيع الغلال بأغلى الأثمان، فيأخذ كل أحد في شرائها، ويمسك أربابها ما بأيديهم منها، لا سيما أهل الدولة، يرتفع لذلك سعرها.
وفي يوم الأحد ثامن عشره: نودي بزيادة ماء النيل اثني عشر إصبعاً، لتتمة ثلاثة عشر ذراعاً، واثنتين وعشرين إصبعاً. ووافق هذا اليوم أول مسرى. وهذا القدر مما يستكثر من الزيادة في هذا الوقت، ويؤذن بعلو النيل وكثرة زيادته إن شاء الله تعالى.
وفي يوم السبت رابع عشرينه - وسابع مسرى - : نودي بزيادة عشر أصابع لتتمة ستة عشرة ذراعاً، وهي التي يقال لها أذرع الوفاء، وزيادة أربعة أصابع من سبعة عشر ذراعاً ويعد هذا من الأنيال الكبار، وفيه نادرتان، إحداهما زيادة عشر أصابع في يوم الوفاء، وقل ما يقع ذلك والنادرة الثانية وفاء النيل في هذا العام مرتين، إحداهما في ثاني المحرم كما تقدم، والأخرى هذا.
اليوم من ذي الحجة: ولا أذكر أني أدركت مثل ذلك. ونادرة ثالثة أدركنا مثلها مراراً، وهي الوفاء في سابع مسرى، بل أدركنا وفاه قبل ذلك من أيام مسرى، إلا أن ذلك قل ما وجد في الأنيال القديمة.
وفيه ركب المقام الجمالي يوسف ابن السلطان حتى خلق عمود المقياس بين يديه، ثم فتح الخليج على العادة، فكان يوماً مشهوداً.
وفي غده نودي على النيل بزيادة ثمانية أصابع لتتمة ستة عشر ذراعاً ونصف ذراع. ثم نودي من الغد بزيادة خمسة عشر إصبعاً لتتمة سبعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع، وهذه الزيادة بعد الوفاء من النوادر أيضاً. فالله يحسن العاقبة.
وفي سادس عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخروا بسلامتهم. وهذا أيضاً مما يندر وقوعه.
وفي هذه السنة: أخذ أفرنج ثماني عشرة مركباً من سواحل الشام، فيها من البضائع ما يجل وصفه، وقتلوا عدة ممن كان بها من المسلمين، وأسروا باقيهم.
وفيها طلق رجل من بني مهدي بأرض البلقاء امرأته وهي حامل، فنكحها رجل غيره، ثم فارقها، فنكحها رجل ثالث، فولدت عنده ضفدعاً في قدر الطفل، فأخذوه ودفنوه خوف العار.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرأحمد بن محمود بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن أبي العز قاضي القضاة، شهاب الدين أحمد بن قاضي القضاة محيي الدين المعروف بابن الكشك الحنفي، بدمشق في ليلة الخميس، سابع شهر ربيع الأول، وقد ولي قضاء القضاة الحنفية بدمشق مراراً. وجمع بينها وبين نظر الجيش. وكثر ماله، وصار عين دمشق، وعين لكتابة السر بديار مصر، فامتنع.
ومات الأمير مقبل نائب صفد بها، في يوم الجمعة تاسع عشرين ربيع الأول، وكان مشهوراً بالشجاعة. وهو أحد المماليك المؤيدية شيخ.
ومات قاضي مكة جمال الدين محمد بن علي أبي بكر الشيبي الشافعي بها، في ليلة الجمعة ثامن عشرين ربيع الأول، عن نحو سبعين سنة. وكان خيراً، ساكناً، سمحاً، مشكور السيرة، متواضعاً، ليناً؛ رحمه الله.
ومات الأمير أقبغا الجمالي الأستادار مقتولاً بالبحيرة، في حادي عشرين شهر ربيع الآخر، ومستراح منه.
ومات الشيخ أبو الحسن علي بن حسين بن عروة بن زكنون الحنبلي، الزاهد الورع، في ثاني عشر جمادى الآخرة، خارج دمشق، وقد أناف على الستين. وشرح مسند الإمام أحمد وكان في غاية الزهد والورع، منقطع القرين.
ومات الأمير شار قطلوا نائب الشام بها، في ليلة الاثنين تاسع عشر شهر رجب. وهو أحد المماليك الظاهرية. ومستراح منه.
ومات الشريف رميثة بن محمد بن عجلان مقتولاً خارج مكة، في خامس شهر رجب. وقد ولي إمارة مكة قبل ذلك ثم عزل. و لم يكن مشكوراً.
ومات تقي أبو بكر بن علي بن حجة - بكسر الحاء - الحموي، الأديب، الشاعر، في خامس عشرين شعبان، بحماة. ومولده سنة سبع وستين وسبعمائة. وقدم إلى القاهرة في الأيام المؤيدية، وصار من أعيانها.
ثم عاد بعد ذلك إلى حماة. وكان فيه زهو وإعجاب، وعلمه الأدب، فنظم كثيراً، وصنف شرحاً على بديعية نظمها بديع في بابه.
ومات ملك المغرب أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر ابن يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن عمر بن ونودين الهنتاتي الحفصي، عن ست وسبعين سنة، منها مدة ملكه إحدى وأربعين سنة وأربعة أشهر وأيام. في رابع عشر ذي الحجة، بعد ما خطب له بتلمسان وفاس وكان خير ملوك زمانه صيانة، وديانة، وجوداً، وأفضالا، وعزماً، وحزماً، وحسن سياسة، وجميل طريقة. وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي عبد الله محمد ابن السلطان أبي فارس.
ومات ملك بغداد شاه محمد بن قرا يوسف بن قرا محمد، في ذي الحجة، مقتولاً على حصن من بلاد شاه رخ بن تيمور، ويقال شنكان، فأقيم بدله أمير زاه علي ابن أخي قرا يوسف وكان شر ملوك زمانه لفسقه وجوره وعتوه، إبطاله شرائع الإسلام، فإنه ربي بمدينة إربد، وصحب نصاراها، فلقن منهم عقائد سوء. فلما أقامه أبوه في بغداد بعد قتل أحمد بن أويس أظهر فيها سيرة جميلة، وعفة عن القاذورات المحرمة مدة سنين. وكان الغالب على دولته نصراني يعرف بعبد المسيح، فأظهر بعد ذلك تعظيم المسيح وفضله على من عداه، وصرح باعتقاده النصرانية: وأخرج عساكره من بغداد. وبقي في طائفة، فكثر في الأعمال قطاع الطريق حتى فسدت السابلة، وجلت الناس عن بغداد، وانقطع ركب الحاج منها، إلى أن غلبه أخوه أصبهان، وأخرجه من بغداد، فقتل، وأراح ا لله الناس منه. والله يلحق به من بقي من أخوته، فإنهم شر عصابة، سلطت على الناس بذنوبهم.
ومات سلطان بنجالة من بلاد الهند، جلال الدين أبو المظفر محمد بن فندو ويعرف بكاس. كان كاس كافراً، فثار على شهاب الدين مملوك سيف الدين حمزة ابن غياث الدين أعظم شاه بن اسكندر شاه بن شمس الدين، وملك منه بنجالة وأعمالها، وأسره. فثار عليه ابنه وقد أسلم، وتسمى محمداً، وتكنى بأبي المظفر، وتلقب جلال الدين، وجدد مأثر جليلة، منها عمارة ما أخربه أبوه من المساجد، وإقامة شعائر الإسلام. وبعث بمال إلى مكة وهدية للسلطان بمصر في سنة اثنتين وثلاثين، على يد شميل ومرغوب وعلى يدهما كتابه بأن يفوض إليه الخليفة سلطة الهند، فجهز له التقليد عن الخليفة مع تشريف، فبعث عند وصول ذلك إليه هدية ثانية، في سنة أربع وثلاثين، فجهزت إليه هدية أخرى، فوصلت إليه. ومات في شهر ربيع الآخر من هذه السنة وأقيم بعده ابنه المظفر أحمد شاه، وعمره أربع عشرة سنة.
سنة ثمان وثلاثين وثمانمائةشهر اللّه الحرام، أوله السبت: في ثالثه: قدمت التجريدة المجهزة في البحر، بغير طائل.
وفي رابعه: قدم قاصد الأمير عثمان قرا يُلك بكتابه، وتسعة أكاديش تقدمة للسلطان، وبعث بدراهم، عليها سكة السلطان.
وفي حادي عشره: قبض على الأمير بردبك الإسماعيلي، أحد أمراء الطبلخاناه وحاجب ثاني، وأخرج إلى دمياط. وأنعم بإقطاعه على الأمير تغري بردي البكلمشي، المعروف بالمؤذي، أحد رءوس النوب. واستقر الأمير جانبك الذي عزل من نيابة الإسكندرية حاجبا، عوض الإسماعيلي.
وفي خامس عشره: قدم الأمير جقمق من الحج، بمن معه، على الرواحل.
وفيه شرع سودن المحمدي - المجهز لعمارة الحرمين - في هدم سقف الكعبة.
وفي ثاني عشرينه: - الموافق لآخر أيام النسئ نودي على النيل بزيادة إصبعين، لتتمة تسعة عشر ذراعاً ونصف ذراع.
وفيه خلع على الأمير دولات خجا وأعيد إلى ولاية القاهرة، عوضًا عن التاج الشويكي وكان أخوه عمر يتحدث عنه في الولاية، وقد ترفع عنها بمنادمته السلطان.
وفي ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحاج. ووافق هذا اليوم نوروز القبط. ونودي فيه بزيادة إصبعين لتتمة تسعة عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً. وهذه زيادة كبيرة يندر أن يكون يوم النوروز والنيل على ذلك.
وفي رابع عشرينه: قدم المحمل ببقية الحاج، وقد هلك جماعة من المشماة، وتلفت جمال كثيرة.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: عملت الخدمة السلطانية وأقيم الموكب بالإيوان المسمى دار العدل من قلعة الجبل، بعد ما هُجر مدة. وأحضر رسول شاه رخ بن تيمور ملك المشرق، وهو من أشراف شراز - يقال له السيد تاج الدين علي، فدفع ما على يده من الكتاب، وقدم الهدية، تتضمن كتابه وصول هدية السلطان المجهزة إليه. وأنه نذر أن يكسو الكعبة البيت الحرام، وطلب أن يبعث إليه من يتسلمها، ويعلقها من داخل البيت. واشتملت الهدية على ثمانين ثوب حرير أطلس، وألف قطعة فيروز ليست بذاك، تبلغ فيمة الجميع ثلاثة آلاف دينار. ولم يكلف الرسول أن يقبل الأرض رعاية لشرفه. ووجد تاريخ الكتاب في ذي الحجة سنة ست وثلاثين. وكان قدومه من هراة إلى هرمز، ومن هرمز إلى مكة. ثم قدم صحبة ركب الحاج، فأنزل وأجري له ما يليق به.
وفي ثامن عشرينه: وصل من القدس مائة وعشرة رجال من الفرنج الجرجان، وقد قدموا لزيارة قمامة على عادتهم، فاتهموا أن فيهم عدة من أولاد ملوك الكيتلان الذين كثر عيثهم وفسادهم في البحر، فأحضروا ليكشف عن حالهم، وهم بأسوأ حال فسجنوا مهانين. ثم أفرج عنهم بعد أيام، وقد مات منهم عدة.
شهر صفر، أوله الاثنين: في سادسه: رُسم باستقرار سراج الدين عمر بن موسى بن حسن الحمصي - قاضي طرابلس - في قضاء القضاة الشافعية بدمشق، عوضاً عن بهاء الدين محمد بن نجم الدين بن عمر بن حجي. وقد وَعد بأربعة آلاف دينار يقوم بها. واستقر عوضه في قضاء طرابلس صدر الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن محمد النويري، بمبلغ ألف وثلاثمائة دينار. وأُعيد القاضي شمس الدين محمد بن علي بن محمد الصفدي إلى قضاء القضاة الحنفية بدمشق، على أن يقوم بألفي دينار. وعزل شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن نجم الدين محمود بن الكشك.
وفي سادسه: عُقد بين يدي السلطان مجلس جمع فيه قضاة القضاة الأربع بسبب نذر شاه رخ أن يكسو الكعبة، فأجاب قاضي القضاة بدر الدين العيني بأن نذره لا ينعقد، فانفضوا على ذلك.
وفيه خلع على نكار الخاصكي، واستقر شاه جدة. وخُلع معه على علم الدين عبا الرزاق الملكي، واستقر عوضاً عن سعد الدين بن المرة. وساروا بعد أيام إلى مكة - شرفها الله تعالى - في البحر.
وفى تاسعه - الموافق لسابع عشر توت: وهو يوم عيد الصليب عند قبط مصر - نودي بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً وعشر أصابع.
وفي ثالث عشره: كتب إلى مكة - شرفها الله تعالى - بأن يتحدث الأمير سودن المحمدي المجرد هناك في نظر الحرم. وكتب أيضاً بألا يؤخذ من التجار الواردين إلى جدة من الهنود سوى العُشر فقط، وأن يؤخذ من التجار الشاميين والمصريين إذا وردوا جدة ببضائع اليمن عشران. وأنَّ من قدم إلى جدة من التجار اليمنيين ببضاعة تؤخذ بضاعته بأًجمعها للسلطان من غير ثمن يدفع له عنها.
وسبب ذلك أن تجار الهند في هذه السنين صاروا عند ما يعيرون من باب المندب يجوزون عن بندر عدن حتى يرسوا بساحل جدة كما تقدم، فأقفرت عدن من التجار، واتضع حال مَلِك اليمن لقلة متحصله. وصارت جدة هي بندر التجار، ويحصل لسلطان مصر من عشور التجار مال كبير. وصار نظر جدة وظيفة سلطانية، فإنه يؤخذ من التجار الواردين من الهند عشور بضائعهم. ويؤخذ مع العشور رسوم تقررت للناظر والشاد، وشهود القبان، والصيرفي، ونحو ذلك من الأعوان وغيرهم. وصار يحمل من قبل سلطان مصر مرجان ونحاس ويخر ذلك مما يحمل من الأصناف إلى بلاد الهند، فيطرح على التجار. وتشبه به في ذلك غير واحد من أهل الدولة. فضاق التجار بذلك ذرعاً، ونزل جماعة منهم في السنة الماضية إلى عدن، فتنكر السلطان بمصر عليهم؛ لما فاته من أخذ عشورهم، وجعل عقوبتهم أن من اشترى بضاعة من عدن وجاء بها إلى جدة، إن كان من الشاميين أو المصريين، أن يضاعف عليه العشر بعُشرَيْن، وإن كان من أهل اليمن أن تؤخذ بضاعته بأسرها. فمن لطف الله تعالى بعباده أنه لم يعمل بشيء من هذا الحادث، لكن قرئت هذه المراسيم تجاه الحجر الأسود، فراجع الشريف بركات ابن عجلان أمير مكة في أمرها للسلطان، حتى عفا عن التجار وأبطل ما رسم به.
وكانت العادة التي أدركناها أن الحرم يلي نظره فاضي مكة الشافعي، فبذل بعض التجار العجم المجاورين بمكة - وهو داود الكيلاني - مالا للسلطان حتى ولاه نظر الحرم، وعزل عنه أبا السعادات جلال الدين محمد بن ظهيرة قاضي مكة في السنة الماضية. فلما قدم مكة وقُرئ توقيعه تجاه الحجر الأسود على العادة، أنكره الشريف بركات، وراجع السلطان في كتابه إليه بأن الففراء وغيرهم من أهل الحرم لم يرضوا بولاية داود، وأنه منعه من التحدث، وأقام سودن المحمدي المجهز لعمارة الحرم يتحدث في النظر حتى يرد ما يعتمد عليه، فكتب لسودن المحمدي في التحدث في نظر الحرم، فباشر ذلك.
وفي يوم الخميس ثالث عشره: ثارت مماليك السلطان سكان الطباق بقلعة الجبل، وطلبوا القبض على المباشرين بسبب تأخر جوامكهم في الديوان المفرد، ففر المباشرون منهم، ونزلوا من القلعة إلى بيوتهم بالقاهرة، فنزل جمع كبير من المماليك إلى القاهرة، ومضوا إلى بيت القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، وهو يومئذ عظيم الدولة، وصاحب حلِّها وعقدها، فنهبوا ما قدروا عليه. وقصدوا بعده بيت الوزير أمين الدين إبراهيم بن الهيصم، وبيت الأمير كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ أستادار، فنهبوهما. ولم يقدروا على أحد من الثلاثة؛ لفرارهم منهم، فكان يوماً شنيعاً.
وفي يوم الثلاثاء غده: غُلقت أسواق القاهرة وماج الناس في الشوارع والأزقة، وفر الأعيان من دورهم لإشاعة كاذبة بأن المماليك قد نزلوا من القلعة للنهب. وكان ذلك من أشنع ما جرى، إلا أن الحال سكن بعد ساعة؛ لظهور كذب الإشاعة، وأن المماليك لم تتحرك.
وفي سابع عشره: ركب القاضي زين الدين عبد الباسط إلى القلعة بعد ما نزل له الأمراء في أمسه بأن يتوجه إلى الإسكندرية، فما زال حتى انصلح حاله. وركب بقية المباشرين إلى القلعة للخدمة السلطانية على العادة، فتقرر الأمر على أن يقوم عبد الباسط للوزير من ماله بخمسمائة ألف درهم مصرية، عنها نحو ألفي دينار أشرفية، تقوية له، وأن السلطان يساعد أستادار بعليق المماليك لشهر، ونزلوا وقد أمنوا واطمأنوا.
وفي يوم الأربعاء: هذا نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً وأحد عشر إصبعاً. وكان قد نقص بعد عيد الصليب عند ما فتحت جسور عديدة لري النواحي، فرد النقص في هذه المدة، وزاد إصبعاً، وقد طبق الماء جميع أراضي مصر، قبليها وبحريها، وشمل الري حتى الروابي؛ ولله الحمد.
وفي يوم الخميس - ثامن عشره: - نودي بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً ونصف.
وفي يوم الجمعة - تاسع عشره: - عين شمس الدين بن سعد الدين بن قطارة لنظر الدولة، وألزم بتكفية يومه. ورُسم بطلب الأمير أرغون شاه الوزير - كان - من دمشق، وهو أستادار بها؛ ليستقر في الوزارة، عوضاً عن أمين الدين إبراهيم بن الهيصم، بعد ما تنكر السلطان على أستادار كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ من أجل أنه عرض عليه الوزارة فلم يقبلها، فرسم بعقوبته، وضمنه ناظر الخاص سعد الدين إبراهيم ابن كاتب حكم.
وفيه بدأ النقص في ماء النيل، وهو سابع عشرين توت.
وفي يوم السبت عشرينه: خلع على أستادار كريم الدين على عادته. وخلع على الوزير أَمين الدين واستقر بعد الوزارة في نظر الدولة، كما كان قبل الوزارة.
وألزم بتكفية الدولة إلى حين قدوم الأمير أرغون شاه، فاختفى في ليلة الاثنين.
وفي يوم الاثنين ثاني عشرينه: قبض على الأمير كريم الدين أستادار، وألزم سعد الدين ناظر الخاص بولاية الوزارة، فلم يوافق على ذلك.
وفيه سار الشريف تاج الدين علي - رسول شاه رخ - وصحبته الأمير أقطوة المؤيدي المهمندار. وأُجيب شاه رخ عن طلبه كسوة الكعبة باًن العادة قد جرت ألا يكسوها إلا ملوك مصر، والعادة قد اعتبرت في الشرع في مواضع وجُهزت إليه هدية.
وفي خامس عشرينه: تغير السلطان علي سعد الدين ناظر الخاص لامتناعه من ولاية الوزارة، وأمر به فضرب - وقد بطح على الأرض - ضرباً مبرحاً. ثم نزل إلى داره.
وفي هذا الشهر: ارتفع سعر اللحم، وقلَّ وجوده في الأسواق. وارتفع سعر الأجبان وعدة أصناف من المأكولات، مع رخاء سعر الغلال.
وفيه طرح من شون السلطان عشرة آلاف أردب من الفول على أصحاب البساتين والمعاصر وغيرها من الدواليب، بسعر مائة وخمسة وسبعين درهماً من الفلوس كل أردب. ورسم ألا يحمي أحد ممن له جاه، فلم يعمل بذلك. ونجا من الطرح من له جاه، وابتلي به من عداهم. فنزل بالناس منه خسارات متعددة، لا من زيادة السعر، بل من كثرة الكُلف.
وفي يوم الخميس خامس عشرينه: ضُرب الوزير الصاحب أستادار كريم الدين ابن كاتب المناخ بالمقارع، وقد عري من ثيابه زيادة على مائة شيب. ثم ضُرب على أكتافه بالعصي ضرباً مبرحاً، وعصرت رجلاه بالمعاصر. وكان له - منذ قُبض عليه وهو مسجون ومقيد - عدةُ مرسمون عليه في موضع بالقلعة ثم أنزل في يوم الجمعة غد من القلعة، وأركب بغلاً، ومضى به إلى الأعوان الموكلون به، إلى بيت الأمير التاج وإلى القاهرة؛ ليورد ما ألزم به وقد حوسب، فوقف عليه خمسة وخمسون ألف دينار ذهباً، صولح عنها بعشرين ألف دينار، فشرع في بيع موجوده وإيراد المال.
شهر ربيع الأول، أوله الثلاثاء: فيه خُلع على سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص جبة. واستقر على عادته.
وخلع على أخيه جمال الدين يوسف، واستقر في الوزارة. وكانت منذ تغيب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم، وسعد الدين ناظر الخاص يباشرها، ويسدد أمورها من غير لبس تشريف، فغرم فيها جملة مال لعجز جهاتها عن مصارفها: وخلع أيضاً على ابن قطارة، واستقر في نظر الدولة.
وفي ليلة الجمعة رابعه: عمل المولد النبوي بين يدي السلطان بقلعة الجبل على العادة. وضبط الوزير أمور الدولة ونفذ أحوالها بقوة. وقطع عدة مرتبات من لحم ودراهم. ولم يفرج لأحد من أرباب الجهات عن شيء له عليه مقرر فهابه الناس وطلبت الغلال للبذر، فارتفع السعر قليلاً. وطرحت من الغلال على الناس ما بلغت جملته بما تقدم ذكره ثمانية عشر ألف أردب فولاً وثمانية آلاف أردب قمحاً، فنزل بالناس في هذا الشهر شدائد.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه: أفرج عن الصاحب كريم الدين من ترسيم التاج فسار إلى داره، بعد ما حمل نحو عشرين ألف دينار، وضمنه فيما بقي جماعة من الأعيان وفي هذا الشهر: انتهت عمارة سقف الكعبة - شرفها الله تعالى - على يد سودن المحمدي، وشرع في هدم المنارة التي على باب اليمني من المسجد الحرام، فهدمت وبنيت بناء عالياً.
شهر ربيع الآخر، أوله الخميس: في ثالثه - قبيل الظهر بقليل - : حدثت زلزلة بالقاهرة اهتزت لها الدور هزة، فلو قد طالت قليلاً لأخربت ما زلزلت.
وفي رابعه: قدم الأمير أرغون شاه المطلوب للوزارة من دمشق فأخذت تقدمته وفي خامسه: ركب السلطان من قلعة الجبل باكراً، وشق القاهرة، فمضى للصيد ورجع من آخر نهار يوم الأربعاء. وتكرر ركوبه لذلك مرتين أخريين، يبيت في كل مرة ثم يعود.
وفي هذا الشهر: كثرت الأمطار ببلاد غزة وعامة بلاد الشام، فانتفعوا بها.
وفيه ارتفع بالقاهرة سعر اللحم والخبز والجبن واللبن والعسل وعدة من الأقوات حتى بلغ بعضها مثلي ثمنه، مع رخاء سعر القمح والشجر، وغلاء الأرز أيضاً.
وفيه احترقت مركب بساحل الطور، تلف فيها بضائع كثيرة. وفيه منع التجار بالإسكندرية من بيع البهار على الفرنج، فأضرهم ذلك.
شهر جمادى الأولى، أوله الجمعة: في ثانيه: ركب السلطان إلى الصيد، وشق القاهرة وعاد آخر يوم الثلاثاء خامسه، وهذه رابع ركبة له للصيد.
وفي سابعه: سافر الأمير غرس الدين خليل بن شاهين نائب الإسكندرية وناظرها بعد ما حمل خمسة آلاف دينار ذهباً، سوى قماش وغيره بألف دينار. وكان قد قدم من الثغر في الشهر الماضي.
وفي هذه الأيام وقع الشروع في حركة سفر السلطان إلى الشام.
وفي خامس عشره: خلع على دولات خجا والي القاهرة، واستقر في ولاية منفلوط وكاشف القبض. وشغرت ولاية القاهرة إلى يوم الأحد سابع عشره، فخلع على علاء الدين علي بن ناصر الدين محمد بن الطلاوي، وأعيد إلى ولاية القاهرة على أن يحمل ألفاً ومائتي دينار وكان له منذ عزل من الولاية بضع عشرة سنة يتسخط في أذيال الخمول.
وفي هذه الأيام: حمل إلى مكة - شرفها الله تعالى - من الرخام ما ذرعه ستون ذراعاً لحرمة الحجر وشاذروان البيت. وحمل من الجبس خمسون حملا؛ لبياض أروقة المسجد الحرام، ومن الحديد عشرة قناطير لعمل مسامير، وأربعون قطعة خشب لشد أروقة المسجد الحرام.
وفي سلخه: برز الأمير تمراز رأس نوبة النوب، وصحبته عدة مائتي مملوك، وخجا سودن رأس نوبة من أمراء الطبلخاناه، وأمير أخر من أمراء العشرات؛ ليتوجهوا إلى الوجه القبلي، وذلك أن الأمير تغري برمش - أمير أخور - خرج إلى سرحة الوجه القبلي لأخذ تقادم العربان وغيرهم، فلقيه علي بن غريب على ناحية دهروط، وهو يومئذ يلي أمر هوارة البحرية؛ ليحضر تقدمته على العادة.
وحضر ملك الأمراء بالوجه القبلي - وهو محمد الصغير - وجاءت طائفة من محارب وطائفة من فزارة ليقدموا تقادمهم، فاقتضى الحال إرسال ملك الأمراء وعلي ابن غريب معهم لأخذ التقادم منهم، فغدروا بهم، وثاروا عليهم، فقاتلهم ملك الأمراء، وعاد مهزوماً، وقد جرح، وقتل عدة من جماعته. ثم إن السلطان عين لكشف الوجه القبلي الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ.
وفي هذا الشهر: قبض الأمير قرقماس نائب حلب على الأمير فياض ابن الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر بمرعش. وأقام بدله عليها حمزة باك بن علي باك بن دلغادر. هذا وأبوه ناصر الدين محمد بن دلغادر علي أبلستين وقيصرية الروم وهما بيده. وسبب ذلك أنه كان في نيابة مرعش الأمير حمزة بك بن الأمير علي بك بن دلغادر، فوثب عليه فياض المذكور، وولي مرعش بغير مرسوم.
شهر جمادى الآخرة، أوله السبت: فيه خلع على الأمير الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، واستقر كاشف الوجه القبلي. ورسم أن يستقر محمد الصغير المعزول عن الكشف دواداره، وأمير على الذي كان كاشفاً بالوجه القبلي والوجه البحري رأس نوبته. ونزل من القلعة إلى داره في موكب جليل.
وفي سادسه: خلع على الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم، واستقر شريكاً لعبد العظيم بن صدقة في نظر الديوان المفرد.
وقدم الخبر بأن الأمير عثمان قرا يلك صاحب آمد وماردين نزل على ظاهر الرها، وأخذ في جمع جمائعه، وأن ابنه نهب معاملة دوركي ومعاملة ملطية.
وفي يوم الأحد سادس عشره: قبض السلطان على سعد الدين ناظر الخاص، وأخيه الوزير جمال الدين يوسف، وأوقع الحوطة على دارهما، ثم أفرج عنهما من الغد. وخلع على ناظر الخاص باستمراره على عادته. وعزل أخوه عن الوزارة، وألزما بحمل ثلاثين ألف دينار فنزلا وشرعا في بيع موجودهما وإيراد المال المذكور وفيه ألزم تاج الدين عبد الرهاب بن الشمس نصر الله الخطير بن الوجيه توما ناظر الاصطبل بولاية الوزارة، وخلع عليه من الغد يوم الثلاثاء ثامن عشره.
وفيه قدم سيف الأمير أركماس الجلباني أحد مقدمي الألوف بدمشق، وقد مات.
وفيه خلع على الأمير التاج الشويكي، واستقر مهمنداراً عوضاً عن الأمير أقطوة المتوجه رسولاً إلى شاه رخ.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره: رسم بإقطاع أركماس الجلباني لتِمْراز المؤيدي. وأنعم بطبلخاناه تمراز على الأمير سنقر العزي نائب حمص، واستقر عوضه طغرق أحد أمراء دمشق.
وفي العشرين منه: خلع على شمس الدين أبي الحسن ابن الوزير تاج الدين الخطير، واستقر في نظر الاصطبل عوضاً عن أبيه.
وفي يوم الأحد ثالث عشرينه: توجه الأمير الكبير أينال الجكمي والأمير جقمق أمير سلاح، والأمير يشبك حاجب الحجاب والأمير قانباي الحمزاوب، في عدة من الأمراء إلى العرب بالوجه البحري، وذلك أن لبيد عرب برقة قدم منهم طائفة بهدية، وسألوا أن ينزلوا البحيرة، فلم يجابوا إلى ذلك وخلع عليهم، فعارضهم أهل البحيرة في طريقهم، وأخذوا منهم خلعهم. وكان السلطان يلهج كثيراً بإخراج تجريدة إلى البحيرة، فبلغهم ذلك فأخذوا حذرهم.
واتفق مع ذلك أن شتاء هذه السنة لم يقع فيه مطر ألبتة، لا بأرض مصر ولا بأرض الشام، فدفة دافة من لبيد إلى البحيرة لمحل بلادهم، وصالحوا أهل البحيرة، وساروا إلى محارب وغيرها من العرب بالوجه القبلي لرعي الكثير من الأراضي البور. وكان قد كتب إلى الكاشف بألا يمكنهم من المراعي حتى يأخذ منهم مالاً، فأنفوا من ذلك؛ لأنه حادث لم يعهد قبل ذلك، وأظهروا الخلاف، فخرجت إليهم هذه التجريدة.
وفي هذا الشهر: رسم أن يكشف عن شروط واقفي المدارس والخوانك، ويعمل بها. وندب لذلك قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر الشافعي، فبدأ أولا بمدرسة الأمير صرغتمش بخط الصليبة وقرأ كتاب وقفها. وقد حضر معه رفقاؤه الثلاث قضاة القضاة، فأجل في الأمر، فلم يعجب السلطان ذلك، وأراد عزل جماعة من أرباب وظائفها، فروجع في ذلك حتى أقرهم على ما هم عليه. وأبطل الكشف عما رسم به، فسر الناس بهذا لأنهم كانوا يتوقعون تغييرات كثيرة.
وفيه اشتد قلق الناس لقلة البرد في فصل الشتاء، وعدم المطر، وهبوب رياح حارة في أوقات عديدة، خوفاً على الزرع. ولله الأمر.
شهر رجب، أوله الاثنين: في ثامنه: أدير محمل الحاج بمصر والقاهرة، وكانت العادة ألا يدار إلا بعد النصف من رجب، فأدير في هذه الدولة قبله غير مرة.
وفي ثامن عشره: خلع على الأمير تمرباي الدوادار الثاني، واستقر أمَير الحاج، وخلع على الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله محتسب القاهرة، ليكون أمير الركب الأول.
وفي حادي عشرينه: ورد الخبر بأن العرب - من محارب - لما علموا نزول الأمير أينال الجكمي على الفيوم، ساروا إلى جهة الواحات. ثم بدا لهم فنزلوا بالأشمونين فركب الأمير كريم الدين الكاشف، والأمير تغري برمش أمير أخور، والأمير تمراز رأس نوبة النوب، وقاتلوهم وهزموهم، وظفروا منهم بستمائة جمل، غير ما نهب لهم وإن ذلك كان في يوم الثلاثاء سادس عشره.
وفي حادي عشرينه: قدم الأمير فياض ابن الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر تحت الحوطة، فسجن بقلعة الجبل.
وفي هذا الشهر: بعث الملك شهاب الدين أحمد بدلاي بن سعد الدين سلطان المسلمين بالحبشة، أَخاه خير الدين لقتال أمحرة الكفرة، ففتح عدة بلاد من بلاد الحطي ملك الحبشة، وقتل أميرين من أمرائه، وحرق البلاد، وغنم مالاً عظيماً، وأكثر من القيل في أمحرة النصارى، وخرب لهم ست كنائس.
هذا وقد شنع بعامة بلاد الحبشة الوباء العظيم، فمات فيه من المسلمين ومن النصارى عالم لا يحصى، حتى لقد بالغ القائل بأنه لم يبق ببلاد الحبشة أحد.
وهلك في هذا الوباء الحطي ملك الحبشة الكافر، وأقيم بدله صبي صغير.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: وفي سادسه: قدم بقية المماليك والأمراء المجردين إلى العرب بالوجه القبلي.
وفى سادس عشره: خلع على الأمير قانباي الحمزاوي أحد الأمراء الألوف. واستقر في نيابة حماه عوضاً عن الأمير جلبان. ونقل جلبان إلى نيابة طرابلس عوضاً عن الأمير طراباي بعد موته. وأنعم بإقطاع قانباي وإمرته على الأمير خجا سودن أحد أمراء الطبلخاناه. ووفرت امرأة خجا سودن وأُضيف إقطاعه إلى الدولة للوزير؛ تقوية للوزير تاج الدين.
وفي يوم الجمعة سابع عشره: نودي بمنع الناس من المعاملة بالفلوس، وألا يتعامل الناس إلا بالفلوس التي ضربها السلطان. وكان من خبر ذلك أن الفلوس الجدد لما ضُربْ في سنة تسع وخمسين وسبعمائة عمل زنة كل فلس منها مثقال، على أن الدرهم الفضة المعاملة يعد فيه منها أربعة وعشرون فلساً، فكانت زنة القفة الفلوس مائة وثمانية عشر رطلاً، عنها خمسمائة درهم من الفضة الظاهرية، معاملة مصر والشام. والمثقال الذهب الهرجة المضروب بسكة الإسلام يصرف بعشرين درهماً من هذه الدراهم، ويزيد تارة ثمن درهم على العشرين درهماً، وتارة ربع درهم عليها. ثم تزايد صرف الدينار في آخر الأيام الظاهرية برقوق، حتى بلغ نحو خمسة وعشرين درهماً. وكان النقد الرائج بديار مصر وأرض الشام الفضة المذكورة، ويعمل ثلثها نحاس، وثلثاها فضة. ثم يلي الفضة المذكورة في المعاملة الذهب المختوم الإسلامي، ولا يعرف دينار غيره. وكانت الفلوس أولاً إنما هي برسم شراء المحقرات، التي لا تبلغ قيمتها درهم. فلما كانت الأيام الظاهرية برقوق، وقام بتدبير الأموال الأمير جمال الدين محمود بن علي بن أصفر عينه أستادار، أكثر من ضرب الفلوس الجدد المذكورة، حتى صارت هي النقد الرائج بديار مصر، وقلت الدراهم. فلما كانت الأيام الناصرية فرج بن برقوق، تفاحش في دولته أمر نقود مصر، وكادت الدراهم الفضة المعاملة التي تقدم ذكرها أن تعدم، وصارت تباع كما تباع البضائع، فبلغت كل مائة درهم منها إلى ثلاثمائة وستين درهماً من الفلوس، التي يعد عن كل درهم منها أربعة وعشرون فلساً. وزاد سعر الذهب، وراج منه الدينار الأفرنتي، وهو ضرب الفرنج، حتى عدمت الدنانير الذهب الهرجه المختومة بسكة الإسلام، وبلغ الدينار الأفرنتي المذكور مائتين وستين درهماً من الفلوس المذكورة وفسدت مع ذلك هذه الفلوس، فعملت كل قنطار مصري - وهو مائة رطل مصرية - بستمائة درهم وصارت معاملة الناس بها في ديار مصر كلها بالوزن لا بالعدد، فيحسب في كل رطل منها ستة دراهم، وصارت قيم الأعمال وثمن المبيعات كلها - جليلها وحقيرها - وأجرة البيوت والبساتين، وسجلات الأراضي كلها، ومهور النساء، وسائر إنعامات السلطان، إنما هي بالفلوس، وصار النقدان - اللذان هما الذهب والفضة - ينسبان إلى هذه الفلوس، فيقال كل دينار بكذا أو كذا من الفلوس، وكل درهم من الفضة إن وجد - ولا يكاد يوجد - بكذا من الفلوس، فلم يبق للناس بديار مصر نقد سوى الفلوس. ثم بعد الفلوس، الذهب الأفرنتي أو الذهب السالمي أو الذهب الناصري، وهو بأنواعه إنما ينسب إلى الفلوس. وصار الذهب مع ذلك أصنافاً، الهرجة وهو قليل جداً، والأفرنتي وهو من الذهب النقد الرائج، والسالمي وهي دنانير ضربها الأمير يلبغا السالمي أستادار زنتها مثقال كل دينار، والناصري وهي دنانير ضربها الملك الناصر فرج بن برقوق.
فلما كانت الأيام المؤيدية شيخ ضرب دراهم عرفت بالمؤيدية، تعامل الناس بها عدداً مدة أيامه، وحسن موقعها من الناس، فصارت النقود بمصر الفلوس، والذهب بأنواعه والفضة المؤيدية. والنقد الرائج منها إنما هو الفلوس، وإليها تنسب قيم الأعمال وثمن المبيعات، كما تقدم.
فلما كانت الأيام الأشرفية برسباي رد الدراهم إلى الوزن، وأبطل المعاملة بها بالعدد، فإنه كثر قص المفسدين منها فتعنت الناس في أخذها. واستمرت المعاملة بالدراهم وزْناً. وضرب أَيضاً دراهم أشرفية، يصرف كل درهم وزناً بعشرين درهماً من الفلوس. ثم تزايد سعر الفلوس حتى بلغ كل قنطار منها ألفاً وثمانمائة، فتعمل الناس بها من حساب كل رطل بثمانية عشر درهمًا فلوسا. وما زالت تقل لكثرة ما يحمل التجار منها إلى بلاد الهند وغيرها، وما يضرب منها بالقاهرة أواني كالقدور التي يطبخ فيها ونحوها من آلات النحاس. وصار على من يتولى ضرب الفلوس أواني ضْماناً مقرراً لديوان الخاص، في كل شهر خمسة عشر ألف درهم. ثم زاد مبلغ الضمان عن ذلك، فاقتضى رأي السلطان بعد اختلاف واضطراب كثير في مدة أيام أن يضرب فلوساً، يعد في كل درهم من دراهم الدينار ثمانية فلوس، على أن الدينار الأشرفي بمائتين وخمسة وثمانين درهماً، والدينار الأفرنتي بمائتين وثمانين. فتكون هذه الفلوس
الأشرفية كل رطل منها بسبعة وعشرين درهماً. ويؤخذ في كل دينار أشرفي ألفان ومائتا فلس وثمانون فلساً. فلما ضربت الفلوس على هذا الحكم، نودي أن يتعامل الناس بها، وألا يتعاملوا. بما في أيديهم من الفلوس القديمة، بل يحملوها إلى دار الضرب على حساب كل رطل بثمانية عشر. وما أحسن هذا لو استَمر.
شهر رمضان، أوله الخميس: في خامسه: خلع على محمد الصغير، وأعيد إلى كشف الوجه القبلي، عوضاً عن الصاحب كريم الدين.
وفيه توجه الأمير قانباي إلى محل كفالته من نيابة حماة، بعد ما اقترض نحو خمسة آلاف دينار بفوائد حتى تجهز بها لقلة ذات يده. وهذا من نوادر ما يحكى عن أمراء مصر.
وفي خامس عشره: قدم الصاحب كريم الدين من الوجه القبلي، فنزل داره.
وفي هذه الأيام - وموافقتها من شهور القبط برمودة: - وقع بالقاهرة ومصر مطر كثير غزير، دلفت منه سقوف البيوت، وسال جبل المقطم سيلاً عظيما، أقام منه الماء بالصحراء عدة أيام. وهذا أيضاً في هذا الوقت مما يندر وقوعه بأرض مصر.
وفي هذا الشهر: الأمير قرقماس نائب حلب منها بالعسكر، ونزل العمق، وجمع تركمان الطاعة؛ وسبب ذلك أن الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان قصد أخذ مدينة قيصرية من الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر نائب أبلستين في الأيام المؤيدية شيخْ. وكان ابن دلغادر قد تغلب عليها، وانتزعها من بني قرمان، وولي عليها ابنه سليمان، فترامى ابن قرمان على السلطان في هذه الأيام أن يِملكه - بإعانته بعسكر حلب - بمدينة قيصرية، ووعد بمال، وهو عشرة آلاف دينار في كل سنة، وثلاثون بختيا، وثلاثون فرساً، سوى خدمة أركان الدولة. فكتب السلطان إلى نائب حلب أن يخرج إلى العمق ويجمع العساكر لأخذ قيصرية. وبعث بذلك الأمير خش كلدي مقدم البريدية، فخرج في ثاني عشر رمضان هذا، ونزل العمق، وجمع تركمان الطاعة، وكتب إلى ابن قرمان بأن يسير بعسكره إلى قيصرية.
وفي هذا الشهر: أيضاً ورد الخبر بأن أصبهان بن قرا يوسف حاكم بغداد توجه لأخذ الموصل، فبعث زينال الحاكم بها إلى الأمير عثمان قرا يلوك صاحب آمد بمفاتيح الموصل، وحثه على المسير إليها، فبعث نائبه محمود بن قرا يلوك، ومعه بشلمش أحد أمرائه في مائتي فارس، فلما قدموا على زينال، جعلهم في الموصل كالمسجونين، مدةَ، فجهز محمود إلى أبيه قرا يلوك يعلمه بحاله، فأمده بأخيه محمد بيك بن قرا يلوك على ألف فارس، فنزل على الموصل مدة ولم يتمكن من رؤية أخيه محمود، فسار قرا يلوك بنفسه من مشتاه برأس عين، ونزل على نصيبين، فبلغه توجه اسكندر بن قرا يوسف إليه، وقد فر من شاه رخ ملك المشرق، وكان الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر لما بلغه خروج العساكر من حلب لأخذ قيصرية منه بعث بامرأته الحاجة خديجة خاتون بتقدمة للسلطان، ومعها مفاتيح قيصرية، وأن يكون زوجها المذكور نائب السلطنة بها، وأن يفرج عن ولدها فياض المسجون بقلعة الجبل. وكتب على يدها بذلك كتاباً، ووعد بمال، فقدمت حلب في سابع عشرينه.
شهر شوال، أوله يوم السبت: في رابعه: قدم كتاب الخان شاه رخ ملك المشرق، يتضمن أنه عازم على زياد القدس الشريف وأرعد فيه وأبرق، وأنكر أخذ المكوس من التجار بجدة.
في رابع عشره: خلع على علاء الدين علي بن التلواني أحد أجناد الحلقة، واستقر في نيابة دمياط، عوضاً عن سودن المغربي أحد المماليك الظاهرية برقوق.
وفي خامس عشره: خلع على الأمير تاج الدين الشويكي أحد ندماء السلطان وجلسائه، وأعيد إلى ولاية القاهرة عوضاً عن ابن الطبلاوي، بحكم عزله. فأقام أخاه الأمير عمر يتحدث في الولاية عنه.
وفي ثامن عشره: خرج محمل الحاج صحبة الأمير تمرباي الدوادار، فنزل بركه الحاج. ورحل في ثاني عشرينه الركب الأول صحبة الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله وفيهم خوند فاطمة بنت الملك الظاهر ططر زوجة السلطان. وقد أذن لوالده الصاحب بدر الدين أن يتحدث في الحسبة، حتى يقدم من الحج. ورحل الأمير تمرباي بالمحمل وبقية الحاج في يوم الأحد ثالث عشرينه.
وفي هذا الشهر: زاد ماء النيل نحو أربعة أذرع قبيل أوان الزيادة، فأغرق كثيرًا من مقاتي البطيخ. واستمرت الزيادة إلى ثالث بؤونة، وهذا مما يستغرب وقوعه، فتلف للناس مال عظيم بسبب ذلك.
وفي هذا الشهر: قدمت خديجة خاتون امرأة الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر إلى القاهرة، فأنزلت، وأقيم لها بما يليق بها. وقبلت هديتها لما صعدت قلعة الجبل. وأفرج لها عن ولدها فياض، وخلع عليه وولي نيابة مرعش وكان الأمير إبراهيم بن قرمان قد بلغه توجه خديجة خاتون إلى القاهرة، فبعث يسأل أن تكون قيصرية له. فقدم قاصده إلى حلب في ثامن عشرين شهر شوال هذا، ووعد بالمال المذكور وقد رحل الأمير قرقماس نائب حلب في رابع عشرينه من مرج دابق يريد عينتاب، بعد ما أقام بالعمق خمساً وثلاثين ليلة.
وفي هذا الشهر: ظهر الأمير جانبك الصوفي، بعد ما أقام منذ خرج من سجن الإسكندرية في شهر شعبان سنة ست وعشرين لا يوقف له على خبر، حتى قدم في يوم الثلاثاء حادي عشر شوال هذا إلى مدينة حلب تركماني يقال له محمد، قد قبض عليه الأمير قرقماس نائب حلب بالعمق، ومعه كتاب جانبك الصوفي في سابعه، فسجن بقلعة حلب، وجهز الكتاب إلى السلطان.
شهر ذي القعدة، أوله يوم الاثنين: فيه نزل الأمير قرقماس نائب حلب بمن معه عينتاب، وقد جمع التركمان على كينوك، فأتاه الخبر بأن حمزة بن دلغادر خرج عن الطاعة، وتوجه إلى ابن عمه سليمان ابن ناصر الدين محمد بن دلغادر، بعد ما بعث إليه، وحلفه له. وأن دوادار الأمير جانبك الصوفي ومحمد بن كندغدي بن رمضان التركماني وصلا إلى الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر بأبلستين، وحلفاه أنه إذا قدم عليه جانبك الصوفي لا يسلمه، ولا يخذله، وأن جانبك كان عند أسفنديار، فسار من عنده يريد سليمان بن دلغادر، فخرج إليه، وتلقاه هو وأمراؤه التركمان، وكان السلطان قد جهز خديجة خاتون - كما تقدم ذكره - فسارت بابنها فياض في أوائل هذا الشهر. وقد جمع الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان، ونزل على قيصرية، فوافقه أهلها، وسلموها له. ففر سليمان بن ناصر الدين محمد بن دلغادر، فبلغه ظهور جانبك الصوفي، وأنه اجتمع عليه الأمير أسلماس بن كبك، ومحمد بن قطبكي، وهما من أمراء التركمان، ونزلوا على ملطية. فقدم على أبيه بأبلستين، و لم يبلغهما خبر الإفراج عن ولده فياض، وخروجه مع أمه خديجة من القاهرة، فأراد أن يتخذ يدًا عند السلطان؛ ليفرج عن ابنه فياض، وينعم له بقيصرية، فجهز في ذلك ابنه سليمان، بعد عوده منهزماً من قيصرية، بكتابه.
وقدم الخبر بأن اسكندر بن قرا يوسف مشى على قرا يلوك وغزا على مدينة أرزن الروم وأخذها. فعاد قرا يلوك إلى آمد، وخرج منها بعد ليلة إلى أرقنين خوفاً من اسكندر. وأن كتاب الأمير جانبك الصوفي ورد على الأمير بلبان نائب درنده، فقبض على قاصده، وسجنه، وحمل كتابه إلى السلطان.
وفى سابع عشرينه: عاد الأمير قرقماس نائب حلب إليها، بعد غيبته عنها بالعمق ومرج دابق وعينتاب خمسة وسبعين يوماً، وقد فات أخذ قيصرية؛ لاستيلاء إبراهيم بن قرمان عليها. وكان القصد أخذها واستنابة أحد أمراء السلطان بها، ولظهور جانبك لصوفي، وانتمائه إلى ابن دلغادر، ووصلت خديجة خاتون وابنها فياض إلى زوجها ناصر الدين محمد بن دلغادر فبلغ مراده، وترك مداة السلطان، وأشغل فكر الدولة؛ لأنه قد جاء من خروج جانبك ما هو أدهى وأمر.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرينه - وهو سابع عشرين بؤونة: - ابتدأ بالنداء على النيل، فزاد إصبعين، وجاءت القاعدة أحد عشر ذراعاً وعشر أصابع، وهذا مما يندر وقوعه، ولم ندرك مثله.
وفي سادس عشرينه: لم يناد على النيل إلى سلخه، ونقص ستة عشر إصبعا.
شهر ذي الحجة، أوله الأربعاء: في سادسه: نودي بزيادة إصبع من النقص، واستمرت الزيادة في كل يوم.
وفي تاسعه: أضيف إلى زين الدين عمر بن شهاب الدين أحمد بن صلاح الدين محمد بن السفاح كاتب السر بحلب نظر الجيش بها، عوضاً عن جمال الدين يوسف بن أبي أصيبعة، بمال وعد به.
وفي سابع عشره: خرج على مبشري الحاج طائفة من عنزة، فأخذت جميع ما معهم، وقتلوا منهم مملوكاً، وتركوهم حفاة عراة، بادية عوراتهم، فمشوا إلى أن لقوا أرباب الأدراك من جهينة بأرض السماوة فآووهم، وذبحوا لهم الأغنام، وأضافوهم، وكسوهم من ملابسهم، وحملوهم إلى القاهرة، وقد قلق الناس بهذا لتأخرهم عن عادة قدومهم عدة أيام.
وحج في هذه السنة الملك الناصر حسن بن أبي بكر بن حسن بن بدر الدين متملك ديوة - التي تسميها العامة دينة، وهي جزائر في البحر تجاور سيلان.
وفيها وقع وباء عظيم ببلاد كرمان. وأبتدأَ في مدينة هراة من بلاد خراسان، في شهر ربيع الأول، وشنع، فمات فيه عالم عظيم، يقول المكثر ثمانمائة ألف.
وخرج شاه رخ منها في ثاني عشر شهر ربيع الأول هذا، وقد جمع عسكراً عظيماً يريد قتال اسكندر بن قرا يوسف. وتأهب ومن معه لمدة أربع سنين، وسبب ذلك أن اسكندر نزل على شماخي من مملكة شروان، وقاتل ملكها خليل بن إبراهيم شيخ الدربندية مدة. فلما كان في بعض الأيام توجه اسكندر من معسكره للصيد، فهجم خليل في غيبته على المعسكر، وقتل وأسر ابن اسكندر وابنَه وزوجتَه، وبعث بالابن إلى شاه رخ، فأكرمه وتركه يركب معه أياماً. ثم حمله إلى سمرقند وأوقف خليل بنت اسكندر وزرجته في الخرابات للزنا بهما. فلما رجع اسكندر من متصيده ألح في القتال، حتى أخذ شماخي وخربها، حتى جعلها دكاً، ونهب أموال أهلها، وأفحش في قتلهم، وسبيهم، وفد فر خليل وبعث يستنجد بشاه رخ، ويترامى على الخاتون امرأته، فما زالت به حتى خرج لقتاله. وكان اسكندر في سماحي بابنة خليل وامرأته، فأوقفهما تزنا بهما، وألزمهما أن يزني بكل واحدة، خمسون رجلاً في كل يوم؛ نكاية في خليل.
وفيها كانت بينِ إفرنج حروب سببها أن ألفن الذي يقال له ألفنه صاحب مملكة أرغون، وهو الذي غزا مدينة أغرناطة من الأندلس وأخذ من المسلمين الخميرة وغيرها، وكان وصياً على ولد أخيه بقتالة، فلما هلك قام من بعده ابنه بترو بن ألفنه صاحب برشلونة وبلنسية، وغير ذلك من مملكة أرغون، حتى هلكت ملكة نابل فاستضاف الجنويون مملكة نابل إلى مملكتهم، فشق ذلك على بترو بن ألفنت، وسار إليهم في أربعين قطعة في البحر، ونزل على قلعة كايات، وحصرها إلى أن أخذها عنوة وخرجها بعد أن صلب ثلاثة من رؤسائها على السور وأسر جميع من فيها، وتوجه إلى جزيرة غيطلة، وهي من أجل مملكة نابل، وأقام عليها مدة، فبعث الجنويون إلى المنتصر أبي عبد اللهّ محمد صاحب تونس ومملكة إفريقية رجلاً من أخواله، أمه جنوية، يستنجدونه على بترو، فأمدهم بمال، وجهز لهم اثني عشر مركبة حربية. فلما قدمت عليهم مع رسولهم نجدة صاحب تونس، ساروا في خمسة وأربعين مركبا - منها ثمانية عشر كباراً وخمسة عشر غرابا - وقد اشتد الأمر على أهل غيطلة وكثرت محاربتهم لبترو، فلقوه وحاربوه، فانتخب ألفاً من عسكره، ونزل في مركب عظيم ليخالفهم إلى بلادهم. ففطنوا به، فأدركوه، وحاربوه حتى غلبوه وأسروه وأخويه، ومن معه في آخر يوم من ذي الحجةَ. وعادوا بهم إلى بلادهم، وسجنوه وأخويه وردوا إلى المنتّصر مراكبه الخمسة عشر.
وفيها قوي عرب إفريقية وحصروا مدينة تونس. وذلك أن المنتصر أبا عبد الله محمد ابن الأمير أبي عبد الله محمد ابن السلطان أبي فارس عبد العزبز، لما قام في سلطنة أفريقية بعد موت جده عبد العزيز بن أبي العباس أحمد في سفره بنواحي تلمسان، قدم إلى مدينة تونس دار ملكه في يوم عاشوراء، وأقام بها أياماً، ثم خرج إلى عمرة، ونزل بالدار التي بناها جده أبو فارس، وضيق على العرب ومنعهم من الدخول إلى بلاد إفريقية. وكان مريضاً، فاشتد به المرض، وفر من عنده الأمير زكريا ابن محمد ابن السلطان أبي العباس وأمه ابنة السلطان أبي فارس عبد العزيز بن أَبي العباس، ونزل عند العرب المخالفين على المنتصر.
فسار عند ذلك المنتصر من عمرة عائدا إلى تونس، وقد تزايد مرضه، فتبعه زكريا ومعه العرب حتى نزلوا على مدينة تونس، وحصروها عدة أيام، فخرج عثمان أخو المنتصر من قسنطينة، وقدم تونس فسر به المنتصر هذا، والفقيه أبو القاسم البرزلي مفتي البلد وخطيبها يجول في الناس بالمدينة، ويحرضهم على قتال العرب، ويخرجهم فيقاتلون العرب، ويرجعون مدة أيام، إلى أن حمل العرب عليهم حملة منكرة، هزموهم، وقتَل من الفريقين عدد كبير. كل ذلك والمنتصر ملقى على فراشه لا يقدر أن ينهض للحرب، من شدة المرض.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرالحطي ملك الحبشة
ومات ملك كربرجة - من بلاد الهند - وهو السلطان شهاب الدين أبو المغازي أحمد شاه بن أحمد بن حسن شاه بن بهمن، في شهر رجب، بعد ما أقام في المملكة أربع عشرة سنة. وقام من بعده ابنه ظفر شاه، واسمه أحمد. وكان من خير ملوك زمانه. وقد ذكرت ترجمته في كتاب درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة.
ومات الأمير سيف الدين طراباي نائب طرابلس، بكرة نهار السبت، رابع شهر رجب، من غير وعك ولا تقدم مرض، بل صلى الجمعة، وصلى الصبح، فمات في مصلاه فجأة. وهو أحد المماليك الظاهرية برقوق وممن نبغ بعد موته، واشتهر ذكره. ثم خرج عن طاعة الناصر فرج فيمن خرج، وتنقل في أطوار من المحن، اٍ لي أن صار من أعظم الأمراء بديار مصر. ثم سجن عدة سنين بالإسكندرية في الأيام الأشرفية، ثم أفرج عنه وعمل في نيابة طرابلس، وكان عفيفاً عن القاذورات، متديناً.
وقتل الشريف زهير بن سليمان بن زيان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني في محاربة أمير المدينة النبوية مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيحة في شهر رجب. وقتل معه عدة من بني حسين، منهم ولد عزيز بن هيازع بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة، وكان زهير هذا فاتكاً، يسير في بلاد نجد، وبلاد العراق، وأرضالحجاز، في جمع كبير فيه نحو ثلاثمائة فرس، وعدة رماة بالسهام، فيأخذ القفول، وخرج في سنة أربع وثلاثين وثمانمائة على ركب عُمَّار، توجهوا إلى مكة من القاهرة، وكنت فيهم، ونحن محرمون بعد رحيلنا من رابغ، فحاربنا، وقتل منا عدة رجال، ثم صالحناه بمال تجابيناه له، حتى رحل عنا.
ومات أمير زاه إبراهيم بن القان معين الدين شاه رخ سلطان ابن الأمير تيمور كوركان، متولي شيراز، في شهر رمضان. وكان قد جهز جيشاً إلى البصرة في شعبان، فملكوها له. ثم وقع بينهم وبين أهل البصرة خلاف، واقتتلوا ليلة عيد الفطر، فهزم أهل البصرة أصحاب إبراهيم، وقتلوا منهم عدة. فورد عليهم خبر موته، فسروا به. وكان من أجلّ الملوك، وله فضيلة، ويكتب الخط الذي لا أحسن منه في خطوط أهل زماننا.
ومات صاحب مملكة كرمان، بأي سنقر بن شاه رخ بن تيمور لنك، في العشر الأول من ذي الحجة، وكان ولي عهد، وعنده جرأة وشجاعة وإقدام، فعظم مصابه على أبيه.
سنة تسع وثلاثين وثمانمائةشهر اللّه المحرم، أوله يوم الخميس: في خْامسه - الموافق ثامن مسرة: - كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وأربعة أصابع، فركب المقام الجمالي يوسف ابن السلطان حتى خلق المقياس، وفتح الخليج على العادة.
وقدم الخبر بأن شاه رخ، لما خرج من مدينة هراة - كرسي مُلكه - في ثاني عشر شهر ربيع الأول من السنة الماضية نزل على مدينة قزوين في شهر رجب منها. ورسم لأمير الأمراء فيروز شاه أن يتوجه إلى بغداد. ونادى في معاملة قزوين إلى السلطانية تبريز وسائر ممالك العراقيين، بعمارة ما خُرب، وزراعة ما تعطل من الأراضي، وغراسة البساتين. وأن من زرع أرضاً لا يؤخذْ منه خراجها مدة خمس سنين، ومن عجز عن العمارة دفع إليه ما يقوي به على ذلك. وأن أصبهان بن قرا يوسف حاكم بغداد كتب بدخوله في طاعة شاه رخ، فكفَّ عن تجهيز العسكر إليه، وسار حتى نزل على تبريز في عساكر كثيرة جداً؛ لقتال اسكندر بن قرا يوسف، وأن جانبك الصوفي بكماخ عند ابن قرا يلوك، وقد أمده قرا يلوك بخيل ومال. وجهز شاه رخ ابنه أحمد جوكي إلى نحو ديار بكر على عسكر في ذي الحجة من السنة الحالية، ونزل هو على قرا باغ، وبعث إلى بلاده بحمل الميرة إليه، فأتته من كل جهة. وأخذ في عمارة مدينة تبريز في محرم هذا. ونادى في مملكة أذربيجان بالعدل. وتقدم إلى جميع عساكره بألا يؤخذ لأحد قمح فما فوقها إلا بثمنه، ومن خالف ذلك قتل.
شهر صفر، أوله السبت:
فيه كانت وقعة بين اسكندر بن قرا يوسف وعثمان قرا يلوك، لقتال اسكندر، وقد فر منه. فجمع عثمان فلقي اسكندر فاقتتلا، فخرج كمين لاسكندر على عثمان، فانهزم وقصد أرزن الروم، والخيل في طلبه. فلما خاف أن يؤخذ باليد رمى نفسه في خندق المدينة فغرق ثم أخرجه أولاده، ودفن في مسجد هناك. فقدم اسكندر وهو يسأل عن عثمان، فدلّه بعضهم على قبره، فأخرجه بعد ثلاثة أيام من دفنه وقطع رأسه، وحمله إلى السلطان بمصر، ومعه خمسة رءوس منها رءوس بعض أولاده. وكان شاه رخ قد بعث بولده أحمد جوكي والأمير بابا حاجي على عسكر في أثر إسكندر؛ نجدة لقرا يلوك، فقدما بعد هزيمته وقتله، فلقي اسكندر مقدمة هذا العسكر على ميافارقين وقاتلهم، وقتل منهم. ثم انهزم إلى جهة بلاد الروم، وكتب بخبره إلى السلطان. فملك أحمد جوكي بن شاه رخ أرزن، ونزلها، وفرض على أهلها مالا عظيماً، وتزوج بابنة عثمان قرا يلوك، وأخذ منها نحو ألف حمل دقيق وشجر ونحو ذلك، وعاد إلى أبيه شاه رخ، وقد نزل على قرا باغ ليشتي هناك، كما كان أبوه يشتي بها.
وأما اسكندر بن قرا يوسف فإنه نزل على آقشهر، فقام متوليها بخدمته، وبعث في السر يُعرّف أحمد جوكي به، فلم يشعر إلا وقد طرقه العسكر بغتة، ففر في جماعة، وغنم جوكي ما كان معه، وعاد فمضى اسكندر يريد القدوم على ملك الروم مراد بن محمد كرشجي بن عثمان، حتى نزل توقات، فكتب حاكمها أركُج إلى مراد، يعلمه بقدوم اسكندر. فجهز له عشرة آلاف دينار، وعدة من الخيل والمماليك والجواري والثياب. هذا وقد عاث اسكندر - هو ومن معه - في معاملة توقات، ونهبوا وخربوا، فجرت بينه وبين أركج بسبب ذلك مقاولات، آلت إلى أن كتب إلى مراد يعرفه بما حلَّ ببلاده من النهب والتخريب، فشق عليه ذلك، وجهز من رد الهدية، وبعث بعسكر، وكتب إلى ابن قرمان وغيره بإخراج اسكندر وقتاله، ففر منهم إلى جهة البلاد الفراتية.
وفي هذا الشهر: بعث القان شاه رخ إلى مراد بن عثمان ملك الروم، وإلى صارم الدين إبراهيم بن قرمان، وإلى قرا يلوك وأولاده، وإلى الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر بخلع.
شهر ربيع الأول أوله يوم الأحد: الموافق لسابع عشر توت، ابتدأ نقص ماء النيل، وذلك قبل انقضاء أيام الزيادة، ثم رد في ثالثه، واستمرت الزيادة إلى يوم الخميس خامسه، وهو أول بابه، وقد بلغت الزيادة إلى عشرين ذراعاً وعشرين إصبعاً، فثبت أياماً ثم انحط بخير. ولله الحمد.
وفي يوم الاثنين ثانيه: خلع على شرف الدين أبي بكر الأشقر نائب كاتب السر، واستقر كاتب السر بحلب، عوضاً عن عمر بن أحمد بن السفاح، بعد ما امتنع من ذلك أشد الامتناع، وهُدد بالقتل. وسبب ذلك أن ابن السفاح كتب مراراً بالحط على الأمير قرقماس نائب حلب وأنه يريد الخروج عن الطاعة ويخامر على السلطان، وآخر ما ورد كتابه في ذلك في نصف صفر، وتوجه النجاب بذلك، وقد حصل القلق خوفاً من عدم حضوره؛ لامتناعه، فلم يكن بأسرع من مجيء نجاب نائب حلب في خامس عشرينه، يستأذن في القدوم، وقد بلغه شيء مما رمى به من المخامرة. فغضب السلطان على ابن السفاح، ورسم بعزله، واستقرار شرف الدين المذكور عوضه؛ لأنه علم أنه لو كان قرقماس مخامراً لما استأذن في الحضور، وسر بذلك، وكتب بحضوره. وكان هو عندما ورد عليه المثال الأول خرج على الفور من حلب، فقدم خارج القاهرة في سادس ربيع الأول هذا.
وفيه ورد الخبر بقتل قرا يلوك، كما تقدم.
وفي ثامنه: خلع على الأمير جقمق أمير سلاح، واستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر. عوضاً عن الأمير أينال الجكمي. واستقر الأمير أينال المذكور في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير قرقماس. واستقر قرقماس أمير سلاح، عوضاً عن جقمق هذا.
وفيه قدم الأمير طوغان حاجب غزة، وقد عين أن يستقر في نظر القدس الخليل، فقام الأمير تغري برمش أمير أخور في الاعتناء بمتوليها، فأعيد طوغان إلى غزة على حجوبيته.
وفي عاشره: خُلع على معين الدين عبد اللطف ابن القاضي شرف الدين أبي بكر ابن العجمي المعروف بالأشقر كاتب السر بحلب، واستقر في وظائف أبيه.
وفي ثالث عشره - الموافق لثامن بابة: - ابتدأ نقص ماء النيل، وقد انتهت زيادته كما تقدم إلى عشرين ذراعاً وعشرين إصبعاً. وقد بلغ الله به المنافع على عوائد لطفه بخلقه.
وفيه برز الأمير أينال الجمكي نائب حلب ليتوجه إلى محل كفالته، وصحبته القاضي شرف الدين كاتب السر بحلب.
وفي سابع عشره: خلع على الأمير الكبير جقمق بنظر المارستان المنصوري، على العادة في ذلك.
وفي رابع عشرينه: خلع على الأمير عمر، واستقر في ولاية القاهرة بعد موت أخيه التاج.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بمدينة بروسا - التي يقال لها برصا - من مملكة الروم، واستمر بها وبأعمالها نحو أربعة أشهر.
وفي هذا الشهر: قُبض على جانبك الصوفي، وكان من خبره أنه ظهر بمدينة توقات في أوائل شوال من السنة الماضية، فقام متوليها أركج باشا بمعاونته، حتى كتب إلى الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر نائب أبلستين، وإلى أَسْلَماس بن كُبَك، ومحمد ابن قُطبكي، وعثمان قرا يلوك، ونحوهم من أمراء التركمان، فانضم إليه جماعة. وخرج من توقات، فأتاه الأمير قَرْمش الأعور وابن أَسْلَماس وابن قُطبكي، ومضوا إلى الأمير محمد بن عثمان قرا يلك صاحب قلعة جمُركَسَك فقواهم. وشنوا منها الغارات على قلعة دوركي، وضايقوا أهلها ونهبوا ضواحيها.
فاتفق ورود كتاب القان شاه رخ ملك المشرف على قرا يلك، يأمره بالمسير بأولاده وعسكره لقتال إسكندر بن قرا يوسف سريعاً عاجلاً، فكتب إلى ولده محمد بالقدوم عليه لذلك، فترك محمد جانبك ومن معه على دوركي، وعاد إلى أبيه. فسار جانبك بابن أَسْلَماس وابن قُطبكي حتى نزلوا على ملطية وحصروها، فكادهم سليمان بن ناصر الدين محمد بن دلغادر وكتب إلى جانبك بأنه معه فكتب إليه أن يقدم عليه، وبعث بكتابه فرمش الأعور، فأكرمه وسار معه في مائة وخمسين فارساً. فتلقاه جانبك وعانقه، ثم عادا، وحصرا ملطية، فأظهر سليمان من المناصحة ما أوجب ركون جانبك إليه، فأخذ في الحيلة على جانبك، وخرج هو وإياه في عدة من أصحابه ليسيرا إلى مكان يتنزهوا به. ورتبا قَرْمِش وبقية العسكر على الحصار، فلما نزل سليمان وجانبك للنزهة، وثب به أصحاب سليمان، وقيدوه، وسرى به سليمان على أكديش ليلته ومن الغد، حتى وافى به بيوته على أبلستين، وكتب يعلم السلطان بذلك. وكان القبض على جانبك في سابع عشر شهر ربيع الأول هذا.
شهر ربيع الآخر، أوله يوم الاثنين: فيه قدم جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي ناظر الجيش بدمشق مطلوباً، وهو مريض بضربان المفاصل، ومعه تقدمة حليلة، فقبلت تقدمته، وأمر بالإقامة في منزله حتى يبرأ.
وفيه ورد إلى السلطان كتاب شاه رخ إلى جانبك الصوفي وقد قبض على حامله وحبس بحلب، فتضمن الكتاب تحريضه على أخذ البلاد الشامية، وأنه سيقدم عليه أحمد جوكي وبابا حاجي، نجدة له. فكتب إلى نواب الشام بالتأهب والاستعداد، لنجدة نائب حلب، إذا أستدعاهم.
وفي ثالثه: ورد الخبر بالقبض على جانبك الصوفي، كما تقدم.
وفي يوم السبت سادسه: خلع على ولي الدين أبي اليمن محمد بن تقي الدين قاسم ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد القادر الشيشيني ثم المحلي، مضحك السلطان ونديمه وجليسه، واستقر في نظر الحرم الشريف بمكة، عوضاً عن سودن المحمدي، وفي مشيخة الخدام الطواشية بالمسجد النبوي، عوضاً عن الطواشي بشير التنمي. ولم نعهد مشيخة المسجد النبوي يليها دائماً - منذ عهد السلطان صلاح الدين في يوسف بن أيوب - إلا الخدام الطواشية. فكانت ولاية ابن قاسم هذا حدثاً من الأحداث، وبلية تساق إلى أهل الحرمين.
وفي حادى عشره: قدم سيف الأمير قصروه نائب الشام بعد موته، على يد أمير علي بن أينال باي، أحد الحجاب بدمشق.
وفي ثاني عشره: قدم الأمير ناصر الدين محمد بن قَصْروه، وقَراجا دواداره، فقرر عليهما مالا يحملاه من تركة قَصْروه، وهو من النقد مائة ألف دينار، وغلال، وبضائع، وخيل، وغير ذلك ما قيمته نحو مائة ألف دينار، وعاد إلى دمشق.
وفي ثالث عشره: نودي بعرض أجناد الحلقة، ليستعدوا للسفر إلى الشام، ولا يُعفي أحد منهم.
وفيه جمع قضاة القضاة بين يدي السلطان وسئلوا في أخذ أموال الناس للنفقة على العساكر المتوجهة لقتال شاه رخ، فكثر الكلام، وانفضوا. هذا، وقد تزايد اضطراب الناس وقلقهم.
وفي يوم الإثنين خامس عشره: ابتدئ بعرض أجناد الحلقة، فجمع المشايخ والأطفال وعدة عميان في الحوش من قلعة الجبل، وعرضوا على السلطان، فقال لهم: أنا ما أعمل كما عمل الملك المؤيد من أخذ المال منكم، ولكن اخرجوا جميعكم، فمن قدر منكم على فرس، ركب فرساً، ومن قدر على حمار ركب حماراً. فنزلوا على ذلك إلى بيت الأمير أركماس الدوادار، فكان يوماً شنعاً.
وفي هذا اليوم ورد كتاب أصبهان بن قرا يوسف حاكم بغداد، على يد قاصده حسن بيك، يشتمل على التودد، وأنه هو وأخوه اسكندر يقاتلون شاه رخ وتاريخه قبل قدوم أحمد جوكي وبابا حاجي بعساكر شاه رخ، وقبل موت.
وفي سادس عشره: أصيب القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش بضربة فرس على ركبته اليمنى، وهو سائر مع السلطان إلى الرماية عند جامع المارديني خارج باب زويلة، فتجلد حتى وصل ناحية كوم أشفين من البلاد الفليوبية. ثم عجز فألقى نفسه عن الفرس، فأركب في محفة إلى داره، ولزم الفراش ثلاثة عشر يوماً.
وفي سابع عشره: قدم قصاد اسكندر بن قرا يوسف صحبة الأمير شاهين الأيد كاري، برأس الأمير عثمان قرا يلوك، ورأسي ولديه، وثلاثة رءوس أخره وكان السلطان قد توجه للرماية بالجوارح على الكراكي، فقدم من الغد يوم الخميس ثامن عشره، فطيف بالرءوس الستة على رماح، وقد زينت القاهرة لذلك فرحاً بقتل قرا يلوك. ثم علقت على باب زويلة ثلاثة أيام، ودفنت. ولقد أخبرني من له معرفة بأحوال قرا يلوك أنه كان في ظنه أنه يملك - مصر. وذلك أن شخصاً منجماً قال له إنك تدخل القاهرة، فدخل ولكن برأسه وهي على رمح يطاف بها، وينادي عليها، " نكالا من الله والله عزيز حكيم " " المائدة، 38 " .
وفي يوم السبت عشرينه: خلع على الأمير تغري برمش أمير أخور، واستقر في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أينال الجكمي. وكتب بانتقال الجكمي إلى نيابة الشام، عوضاً عن قصروه بحكم وفاته، وجهز له التشريف والتقليد.
وفيه حضر فصاد اسكندر بن قرا يوسف بين يدي السلطان بكتابه، فقرئ، وأجيب بالشكر والثناء. وحمل إليه مال وغيره بنحو عشرة آلاف دينار. ووعد بمسير السلطان إلى تلك البلاد.
وفيه عرض السلطان الاصطبل بنفسه.
وفي حادي عشرينه: سار الأمير تغري برمش إلى محل كفالته بحلب.
هذا وقد ارتفعت الأسعار بالقاهرة، فبلغ الأردب القمح ثلاثمائة وستين، والبطة الدقيق مائة وعشرة، والخبز نصف رطل بدرهم، والأردب من الشعير أو الفول مائتي درهم وعشرة دراهم، ولحم الضأن ثمانية دراهم، ولحم البقر خمسة دراهم ونصف، وكل ذلك من الفلوس، وبلغ الزيت الطيب - وهو زيت الزيتون - أربعة عشر درهماً الرطل. وبلغ الشيرج اثني عشر درهماً الرطل. وقد حكر الفلفل، فلا يباع إلا للسلطان فقط، ولا يشترى إلا منه خاصة.
وفي رابع عشرينه: ركب السلطان للرماية، فضج العامة واستغاثوا من قلة وجود الخبز في الأسواق، مع كثرة وجود القمح بالشون، فلم يلتفت إليهم.
وفي ثامن عشرينه: ركب القاضي زين الدين عبد الباسط إلى القلعة، وقد عوفي مما كان به.
وفي تاسع عشرينه: توجه شادي بك، أحد رءوس النوب، بمال وخيل وغير ذلك إلى الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر نائب أبلستين، وإلى والده الأمير سليمان، وكتب لهما بأن يسلما شادي بك جانبك الصوفي، ليحمله إلى قلعة حلب.
وفي هذا الشهر: قدمت طائفة من أعيان التجار بدمشق إلى القاهرة، وقد طُلبوا، فإنه بلغ السلطان أنهم حملوا مما اشتروه من جدة من البهار عدة أجمال إلى دمشق.
وقد تقدم مرسوم السلطان من سنين بأن من اشترى بهاراً من جدة لا بد أن يحمله إلى القاهرة، سواء كان المشتري شاميُاً أو عراقياً أو عجمياً أو رومياً. وأنكر على المذكورين حملهم بضائعهم من الححاز إلى دمشق. وختم على حواصلهم بالقاهرة وغيرها. ثم أفرج لهم عنها بعد ما صالحوا ناظر الخاص بمال قاموا به.
شهر جمادى الأولى، أوله يوم الثلاثاء: فيه قدم الحمل من جزيرة قبرس على العادة.
وفي ثالثه: خلع على الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، واستقر في نظر جدة. وخلع على الأمير يَلْخُجا أحد رءوس النوب من أمراء الطبلخاناه، واستقر شاد جَدّة. ونودي بسفر الناس إلى مكة صحبتهما، فسروا بذلك، وتأهبوا له.
وفي خامسه: خلع على الجمال يوسف بن الصفي واستقر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن يحيى بن المدني، ورسم لقاضي القضاة بهاء الدين محمد بن حجي بنظر الجيش بدمشق، عوضاً عن الجمال المذكور، وجهز له التشريف والتوقيع في يوم الإثنين سابعه.
وفيه رسم باستقرار السيد الشريف بدر الدين محمد بن علي بن أحمد الجعفري في قضاء القضاة الحنفية بدمشق، عوضاً عن الشريف ركن الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد المعروف بالدخان، وكان قد شغر قضاء الحنفية بدمشق من حين توفي الدخان في سابع عشر المحرم مدة ثلاثة أشهر وخمسة وعشرين يوماً، وكانت ولايته بغير مال.
وفي خامس عشره: خلع على الطواشي جوهر اللالا واستقر زمام الدار عوضاً عن الأمير زين الدين خُشْقَدم بعد موته، وكانت شاغرة منذ مات.
وفي تاسع عشرينه: استعفى الوزير الصاحب تاج الدين الخطير على عادته، وقوي بمال إعانة له.
وفي هذه الأيام: رسم بإخراج الفرنج المقيمين بالإسكندرية ودمياط وسواحل الشام، فأخرجوا بأجمعهم.
شهر جمادى الآخرة، أوله يوم الأربعاء: في ثالثه: عرض أرباب السجون ليفرج عنهم، من كثرة شكواهم بالجوع.
ثم أعيدوا إلى سجونهم لما يترتب على إطلاقهم من المفاسد، ورسم لأرباب الديون أن يقوموا. بمؤونة مسجونهم، حتى تنقضي أيام الغلاء، هذا إن كان الدين مبلغاً كبيراً فإن كان الدين يسيراً أُلزم رب الدين بتقسيطه عن المدين أو الإفراج عن الديون، فاتفق أن رجلا ادعى عند بعض نواب القاضي الحنفي على رجل بدين، واقتضْى الحال أن يُسجن، فكتب القاضي المدعي عنده، على ورقة اعتقال المدين، يعتقل بشرط أن يفرض له رب الدين ما يكفيه من المؤًونة.
ثم في ثالث عشره: عرض السلطان جميع من في السجون، وأفرج عنهم بأسرهم حتى أرباب الجرائم من السراق وقطاع الطريق ورسم ألا يسجن القضاة والولاة أحداً وأن من قبض عليه من السراق يقتل ولا تقطع يده، فغلقت السجون، و لم يبق بها مسجون. ثم نقض ذلك بعد قليل، وسجن من استحق السجن.
وفي هذه الأيام: اشتد البرد بالقاهرة وضواحيها، حتى جمدت برك الماء ومقطعات النيل ونحوها، وأُبيع الجليد في الأسواق مدة أيام، ولم نعهد هذا، ولا سمعنا به.
وفي ثامنه. كان آخر عرض أجناد الحلقة.
وفي حادي عشره: قدم الأمير غرس الدين خليل بن شاهين نائب الإسكندرية بهدية، فخلع عليه من الغد يوم الإثنينْ ثاني عشره. ونزل من القلعة، فأدركه من خلع عنه الخلعة، وأعادها إلى ناظر الخاص، وذلك أنه بلغ السلطان عنه أنه أفرج للتجار عدة أحمال فلفل، حتى باعوها للفرنج بمال أخذه منهم، وكان قد تقدم مرسوم السلطان بمنع التجار من بيع الفلفل، وأن الفرنج لا تشتريه إلا من الديوان السلطاني.
وفي تاسع عشره: خلع على رجل أَسود من المغاربة - يقال له سرور - لم يزل يدخل فيما لا يعنيه، ويناله سبب ذلك المكروه، فاستقر في قضاء الإسكندرية ونظرها على أن يكفي أجناد الثغر معاليمهم، ويقوم للمرتبين بمرتباتهم، ويقوم بالكسوة السلطانية، ويقوم بعد ذلك كله بمائة وثلاثين ديناراً في كل يوم. وكتب عليه بذلك تقرير قرره على نفسه. ونزل بالقلعة، فلم يقم سوى أياماً، وطلع في يوم الثلاثاء حادي عشرينه، واستعفى من وظيفة النظر، فضرب. ورسم بنفيه، فأخرج في الترسيم من القاهرة في ثالث عشرينه.
وفي يوم السبت ثامن عشره: برز الصاحب كريم الدين والأمير يلخجا بمن معهم من المعتمرين إلى ظاهر القاهرة، ثم ساروا في تاسع عشره إلى مكة.
وفيه فتحت السجون، وسجن بها.
وفي عشرينه: خلع على أقباي البشْتكَي أحد الدوادارية، واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن خليل وجهزت خلعة إلى جمال الدين عبد الله بن الدمامينى، باستقراره على عادته في قضاء الإسكندرية. وخلع على شرف الدين بن مفضَّل، واستقر في نظر الإسكندرية، عوضاً عن خليل المذكور.
وفي ثامن عشرينه: وصل الأمير أَقْطَوة المتوجه في الرسالة إلى شاه رخ. وقدم من الغد شيخ صفا رسول شاه رخ بكتابه فأنزل، وأجرى له ما يليق به.
وفيه ورد الخبر بأن جانبك الصوفي قد أفرج عنه ناصر الدين محمد بن دُلغادر نائب أبلستين، وصار في جمع، بعد ما أخذ من شاد بك ما على يده من المال وغيره، فكثر القلق بسبب ذلك.
وفي هذا الشهر: قدمت رسل أصبهان بن قرا يوسف حاكم بغداد إلى القان معين الدين شاه رخ، وهو على قرا باغ، بدخوله في الطاعة، وأنه من جلة الخدم. فأقامت رسله ثلاثين يوماً لا تصل إلى القان. ثم أجابه ينكر عليه خراب بلاده، ويأمره بعمارتها، وأنه إن لم يعمرها وإلا، وأهمله سنة. وكان أصبهان قد بعث بهدية، فلم يعوضه عنها شيئاً، وإنما جهز له خلعة وتقليداً، وخلع على رسله.
شهر رجب، أوله الجمعة: في ثانيه: أحضر صفا رسول شاه رخ ومن معه، وقرئ كتابه، فإذا هو يتضمن أن يخطب وتضرب السكة باسمه، وأخرج صفا خلعة بنيابة مصر ومعها تاج ليلبس السلطان ذلك. وخاطب السلطان بكلام لم يسمع معه صبر، فضرب صفا ضرباً مبرحاً، وألقي في بركة ماء. وكان يوماً شديد البرد ثم أنزلوا، ورسم بنفيهم، فساروا في البحر إلى مكة، فوصلوها، وأقاموا بها بقية السنة، وحجوا.
وفي رابعه: كتب إلى مراد بن عثمان - متملك بلاد الروم - بأن يكون مع السلطان على حرب شاه رخ. وكتب إلى بلاد الشام بتجهيزهم الإقامات للسفر.
وفي سابعه: خُلع على شيخ الشيوخ محب الدين ابن قاضي العسكر شرف الدين عثمان الأشقر بن سليمان بن رسول بن الأمير يوسف بن خليل بن نوح الكراني التركماني الحنفي، واستقر في كتابة السر، عوضاً عن القاضي كمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن البارزي. وخلع على ولده شهاب الدين أحمد، واستقر شيخ الشيوخ، وخلع على الأمير غرس الدين خليل بن شاهين، الذي ولي نيابة الإسكندرية، واستقر في نظر دار الضرب، وكان بيد ابن قاسم المتوجه إلى الحجاز، وقد أقام فيه أخاه، واستقر أيضاً أمير الحاج.
وفي حادي عشره: قدم الأمير شاد بك المتوجه لأخذ جانبك الصوفي من عند الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر، وقد أخذ ما على يده من المال وغيره، و لم يمكن من جانبك الصوفي، فشق على السلطان ذلك، وعزم على السفر، وجمع الأمراء، وحلفهم على طاعته. وعين سبعة أمراء للسفر، وألفاً من المماليك السلطانية، وألفاً من أجناد الحلقة، فأخذوا في أهبة السفر.
وفي ثاني عشره: رسم بأن القضاة لا تحبس من عليه من دين إلا بالمقشرة حيث تحبس أرباب الجرائم. وألا يحبس إلا من عليه من الذين مبلغ ثلاثمائة درهم فصاعداً، لا أقل من ذلك. ثم انتقض هذا بعد قليل، كما هي عادة الدولة في تناقض ما ترسم به.
وفي ليلة الأربعاء ثالث عشره: بعث الشريف زين الدين أبو زهر بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة، بعثاً لمحاربة بشر، من بطون حرب، إحدى قبائل مدحج: ومنازلهم حول عسفان نزلوها من نحو ستة عشر وثمانمائة، وقد أخرجهم بنو لام من أعمال المدينة النبوية، فكثر عبثهم وأخذهم السابلة من المارة إلى مكة بالميرة. وجعل على هذا البعث أخاه الشريف علي بن حسن بن عجلان، ومعه من بني حسن الشريف ميلب بن علي بن مبارك بن رميثة، وغيره. والوزير شكر في عدة من الناس. وسار معهم الأمير أرنبغا أمير الخمسين المركزين بمكة من المماليك السلطانية، وصحبته منهم عشرون مملوكاً، فنزلوا عسفان يوم الخميس رابع عشره، وقطعوا الثنية التي تعرف اليوم بمدرج علي، حتى أتوا القوم، وقد أنذروا بهم، فتنحوا عن الأرض، وتركوا بها إبلاً مع خمسة رجال. فأول ما بدأوا به أن قتلوا الرجال الخمسة، وامرأة حاملاً كانت معهم، وما فى بطنها أيضاً، واستاقوا الإبل حتى كانوا في نحو النصف من الثنية المذكورة، وركب القوم عليهم الجبلان يرمونهم بالحراب والحجارة، فانهزم الأمير أرنبغا في عدة من المماليك، وقد قتل منهم ثمانية، ومن أهل مكة وغيرهم زيادة على أربعين رجلاً، وجرح كثير ممن بقي. وغنم القوم منهم اثنين وثلاثين فرساً، وعشرين درعاً، ومن السيوف والرماح والتجافيف ونحو ذلك من الأسلحة. ومن الأسلاب والأمتعة ما قيل أنه بلغ قيمته خمسة آلاف دينار، وأكثر. فلما طلعت شمس يوم الجمعة النصف منه دخل أرنبغا - بمن بقي معه من المماليك - مكة، وهم يقولون قتل جميع من خرج من العسكر. فقامت عند ذلك صرخة بمكة من جميع نواحيها، لم نر مثلها شناعة. وأقبل المنهزمون إلى مكة شيئاً بعد شيء في عدة أيام. وحمل الشريف ميلب في يوم السبت ميّتاً. ومات بعده بأيام شريف آخر من جراحة شوهت وجهه، بحيث ألقته كله من أعلا جبهته إلى أسفل ذقنه.
وفي هذا الشهر: طرح على التجار بالقاهرة ودمشق ألف حمل فلفل بماشة ألف دينار، حساباً عن كل حمل مائة دينار، نزل بهم منها بلاء لا يوصف.
وفي يوم الإثنين خامس عشرينه: أدير محمل الحاج. ورسم أنه إذا وصل إلى الجامع الجديد خارج مدينة مصر، يرجع به والقضاة أمامه، إلى الخانكاه الشيخونية بالصليبة خارج القاهرة فقط، ويمضي الفقراء معه إلى تحت قلعة الجبل، ثم منها إلى الجامع الحاكمي، وأبطلت الرماحة من الركوب مع المحمل في هذه السنة.
وفي هذا الشهر: كملت عمارة القان شاه رخ لمدينة تبريز. وقد تقدم لأهل البلاد بزراعة أراضيها، فتراجع الناس إليها. وولي شاه رخ على تبريز شاه جهان بن قرا يوسف، عوضاً عن اسكندر.
شهر شعبان، أوله يوم الأحد: في أوله: قدم ركب العمار إلى مكة - شرفها الله تعالى - وفيهم ولي الدين محمد ابن قاسم، مضحك السلطان، والصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ والأمير يَلْخجا ومعه عدة مماليك، بدل من بمكة من المماليك الذين صحبة أَرَنبغا وبلغ ركبهم نحو ستمائة جمل.
وفي ثالثه: أنفق السلطان في الأمراء المجردين من القاهرة إلى الشام ومن معهم سبعة عشر ألف دينار.
وفي يوم الخميس خامسه: قدم الشريف بركات إلى مكة، فقرئ بحضوره في الحجر الأسود توقيع ابن قاسم باستقراره في نظر الحرم الشريف وعمارته، وتوقيع باستقرار الصاحب كريم الدين في نظر جدة، وأن إليه أمر قضائها وحسبتها. وتوقيع باستقرار الأمير يَلْخُجا في شد جدة.
وفي سابعه: رسم بفتح سجن الرحبة بالقاهرة، فصار يسجن فيه وفي المقشرة فقط.
وفي ليلة الأربعاء حادي عشره: توجه الصاحب كريم الدين من مكة إلى جدة ومعه الأمير يلخجا. ومضى الشريف بركات لمحاربة حرب. ثم خرج الأمير أرنبغا بمن بقي من المماليك المركزين معه من مكة يريد القاهرة، وقد تأخر منهم - سوى من قتل أربعة؛ لعجزهم من شدة جراحاتهم عن الحركة. فنزل جدة، ثم مضي منها على الساحل، خوفاً من العرب.
وفي سابع عشرينه: سار الأمراء المجردون إلى الشام، بمن معهم. وقد كانوا برزوا خارج القاهرة في خامس عشرينه. وهم الأمير جقمق الأتابك، والأمير أركماس الدوادار الكبير، والأمير يَشْبك حاجب الحجاب، والأمير تنبك نائب القلعة، والأمير قراجا، والأمير تغري بردي المؤذي، والأمير خُجا سودن.
وكان قد وقع بعدن - من بلاد اليمن وباء استمر أربعة أشهر، آخرها شعبان. هذا بعد ما طبق بلاد الحبشة بأسرها، وامتد إلى بربرة.
وقد شنع ببلاد الزنج. ثم كان بعدن فمات بها - أعني عدن - عالم عظيم قدم علينا منها بمكة كتاب موثوق به يخبر أنه مات بعدن في هذه الأربعة أشهر - خاصة ممن عرف اسمه - سبعة آلاف وثمانمائة. وفي كتاب آخر أنه مات بها ثلاثة أرباع الناس، ولم يبق إلا نحو من الناس. وفي كتاب آخر أنه خلا بعدن نحو ثلاثمائة دار مات من كان بها، وأن الوباء ارتفع منها آخر شهر شعبان، وأنه انتقل من عدن إلى نحو صعدة.
وفي سابع عشرينه: ورد كتاب اسكندر بن قرا يوسف يستأذن في القدوم، فوعد بخير.
شهر رمضان، أوله يوم الثلاثاء: فيه تسلم الشريف أميّان بن مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيِحة الحسيني ٍ امرأة المدينة النبوية عوضاً عن أبيه بعد قتله. وقد قدم تشريف ولايته، وتوقيع استقراره.
وفي رابعه: خلع على رسول اسكندر بن قرا يوسف، وأعيد إليه بجوابه.
وفي سابعه: خلع على الأمير غرس الدين خليل بن شاهين، واستقر في الوزارة، عوضاً عن تاج الدين بن الخطير؛ وسبب ذلك أن ممالك الطباق بالقلعة رجموا في رابعه الوزير تاج الدين حتى كاد أن يهلك، فسأل أن يعفي من المباشرة، فرسم بطلب كريم الدين ابن كاتب المناخ من جدة ليلة الوزارة، فتهيأت لغرس الدين هذا.
وفيه جهز لطوغان حاجب غزة خلعة بنيابة القدس، ونظر الخليل، وكشف الرملة ونابلس، عوضْاً عن حسن التركماني، وعمل حسن حاجباً بحلب عوضْاً عن الأمير قنصوه. وأنعم على قنصوه بتقدمة ألف بدمشق عوضاً عن جانبك المؤيدي، بحكم وفاته.
وفي رابع عشرينه: قدم الأمير أسلماس بن كبك التركماني مفارقاً جانبك الصوفي، فأكرم وأنعم عليه.
وفي هذا الشهر: وقع الوباء بمدينة تعز من بلاد اليمن، وعم أعمالها.
شهر شوال، أوله يوم الخميس: فيه خلع على الأمير أَسلَماس فيمن خلع عليه، ورسم بتجهيزه.
وفي ثامنه: عزل الوزير غرس الدين خليل عن الوزارة، وألزم الصاحب أمين الصاحب إبراهيم بن الهيصم ناظر الدولة لسد أمور الدولة، ومراجعة القاضي زين الدين عبد الباسط في جميع أحوال الدولة، فتمشت الأحوال، وتوجه النجاب في تاسعه بطلب الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ ليلة الوزارة بعد فراغه من أمر جدة.
وفي سابع عشرينه: رسم بطلب الأمير أينال الأجرود نائب الرها. واستقر الأمير شاد بك الذي توجه لأخذ الأمير جانبك الصوفي من ابن دلغادر عوضه.
وعزل الأمير أينال الششماني من نيابة صفد، وإقامته بطالاً بالقدس. وأن يستقر عوضه في نيابة صفد الأمير تمراز المؤيدي.
وفي هذا الشهر: شنع الوباء بمدينة تعز من بلاد اليمن، فورد علينا منها كتاب مكة بأنه صلى في يوم واحد بجامع تعز على مائة وخمسين جنازة. وفي كتاب آخر أنه مات بها في ثلاثة أيام ألفان، وخلت عدة قرى من سكانها. فشمل الوباء جميع بلاد الحبشة، كافرها ومسلمها، وسائر بلاد الزنج، ومقدشوه إلى بربرا وعدن وتعز وصعدة والجبال.
وفي هذا الشهر: رحل القان شاه رخ عن مملكة أذربيجان، بعدما زوج نساء إسكندر بن قرا يوسف لشاه جهان الذي استنابه على تبريز في شهر رمضان شهر ذي القعدة، أوله يوم الجمعة.
في ثاني عشره: رسم باستقرار شمس الدين محمد بن علي بن عمر الصفدي في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن بدر الدين الجعفري، بمال وعد به.
وفي رابع عشره: منع الناس بالقاهرة من ضرب أواني الفضة وآلاتها، وأن يحمل ذلك إلى دار الضرب ليضرب دراهم.
وفي تاسع عشرينه: قبض بمكة على رسل ملك بنجاله من بلاد الهند، وسبب ذلك أن السلطان جهز في سنة خمس وثلاثين هدية من القاهرة إلى السلطان جلال الدين أبي المظفر محمد بن فندوا صحبة بعض الطواشية، فوصل بها إلى بنجالة، وقدمها إلى السلطان جلال الدين فقبلها، وعوض عنها بهدية قيمتها عندهم اثنا عشر ألف تنكة حمراء، ومات في أثناء ذلك، وقام من بعده ابنه المظفر أحمد، فأمضى هدية أبيه، وزادها من عنده هدية أخرى، فيها ألفا شاش، وعدة ثياب بيرم، وخدام طواشيه، وطرف. وجهز الجميع، وبعث معهم عدة من خدامه الطواشية، وعلى أيديهم خمسة آلاف شاش ليبيعوها ويشتروا له بها أمتعة. فركبوا في البحر، فحيرهم الريح وألقاهم إلى بعض جزائر ذيبة، بها الطواشي المجهز من مصر. وبلغ صاحب ذيبة أنه عتيق غير السلطان، فأخذ ما تركه، ولم يتعرض لشيء من الهدية فاتفق مع ذلك قتل ملك بنجالة أحمد الذي جهز الهدية الثانية، وقام آخر بعده. فلما اعتدل الريح، ساروا عن ذيبة إلى أن قاربوا جدة، غرق مركبهم بما فيه عن آخره. فنهض الصاحب كريم الدين من مكة، وقد بلغه الخبر، حتى نزل جدة، وندب الناس، فأخرج من تحت الماء الشاشات والثياب البيرم، بعد مكثها في الماء ستة أيام. وتلفت المراطبينات التي بها الزنجبيل المربا والكابلي المربا، ونحو ذلك. فسلم الشاشات والبيارم إلى القصَّارين حتى أعادوا جدتها. وكتب إلى السلطان بذلك. فكتب بالقبض على طواشية ملك بنجالة، وأخذ الخمسة آلاف شاش منهم، ومنعهم من المجيء إلى القاهرة. وأن من ورد ببضاعة إلى جدة من ذيبة أخذت للديوان بأسرها، فندب أبو السعادات ابن ظهيرة قاضي مكة الشافعي، معه أبو البقاء بن الضياء قاضي الحنفية لإيقاع الحوطة على الشاشات. ورسم على الطواشية، حتى أخذت منهم بأسرها، بعضها صنفاً، وثمن ما باعوه منها، وضمت إلى مال الديوان.
وفي هذا الشهر: نزل القان شاه رخ على سلطانية، وعزم على أنه لا يرحل عنها إلى هراة دار ملكه، حتى يبلغ غرضه من اسكندر بن قرا يوسف.
شهر ذي الحجة، أوله يوم السبت: في يوم الخميس سادسه وسابع عشرين بؤونة: نودي على النيل بزيادة خمسة أصابع. وقد جاءت القاعدة ستة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، واستمرت الزيادة. ولله الحمد.
وفي سابع عشرينه: وصل الأمير حمزه بك بن علي بك بن دلغادر، فأنزل. ثم وقف بين يدي السلطان في تاسع عشرينه، فقبض عليه، وسجن في البرج بالقلعة.
وفي هذه السنة: غزت العساكر السلطانية الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر غير مرة، فسار الأمير تغري برمش نائب حلب، ومعه الأمير قانباي الحمزاوى نائب حماة بعساكر حلب وحماة، في أول شهر رمضان إلى عينتاب، وقد نزل جانبك الصوفي على مرعش فتوجهوا إليه من الدربند، ونزلوا بَزرْجُق، وأقاموا يومين، وقد عدوا نهر جيحان، وقطعوا الجسر من ورائهم، وقصدوا الأمير ناصر الدين محمد بن خليل بن قراجا بن دلغادر من جهة دربند كينوك، فلم يقدروا أن يسلكوه من كثرة الثلوج التي ردمته، فْمضوا إلى دربند أَترنيت من عمل بهنسي، وقد ردمته الثلوج أيضاً، فقدم نائب حلب بين يديه عدة رجال ممن معه، ومن أهل البلاد المجاورة للدربند لفتح الطريق، ودروس الثلج بأرجلهم، حتى يحمل مسير العسكر ثم ركب في يوم الاثنين ثامن شهر رمضان، وعبر الدربند المذكور بمن معه، وسار يومه. ثم نزل تحت جبل بزقاق وقدَّم أربعين فارس كشافة، فظفروا في خان زليِّ بدمرداش مملوك ناصر الدين محمد بن دلغادر، وقد بعثه في ثلاثة لكشف خبر العساكر، ففر الثلاثة، وقبض على دمرداش وأتوا به، فأخبر أن القوه على أبلستين. فركب نائب حلب بمن معه في الحال، وجد في سيره حتى طرق أبلستين يوم الثلاثاء تاسعه، وقد رحل ابن دلغادر بمن معه عند عودة رفقة دمرداش إليه بخبر قبض كشافة العساكر عليه، فسار في أثره يومه، وقد عبر بمن معه نهر جيحان فلم يدركهم ثم عاد نائب حلب وجماعته ونزل ظاهر أبلستين، وأمر بأهلها، فرحلوا إلى جهة درنده وأضرم النار في البلد حتى احترقت بأجمعها، بعد ما أباحها للعسكر فنهبوها وسائر معاملاتها، فحازوا من الخيول والبغال والأبقار والجواميس والأغنام والحمير والأقمشة والأمتعة ما لا نهاية له، بحيث أنه لم يبق أحد من العسكر إلا وأخذ من ذلك ما قدر عليه. وعاد نائب حلب بمن معه، والغنائم تساق بين يديه على طريق بهسني، ثم عم عينتاب، فلم يبق بأبلستين ولا معاملتها قدح واحد من الغلال. وحرقت ونهبت - هي وبلادها - فبقيت قاعاً صفصفاً. وعبر بالعسكر إلى حلب بعد غيبتهم عنها خمسين يوماً، ثم إن ابن دلغادر جمع جمائعه ورحل ببيوته إلى أولخان، بالقرب من كينوك وكانت الأمراء المجردة من مصر نازلة بحلب، فجهز الأمير تغري برمش نائب حلب الأمير حسام الدين حسن خجا حاحب الحجاب بحلب، ومعه مائة وخمسون فارساً، إلى عينتاب تقوية للأمير خجا سودن، وقد نزل بها.
فلما كان يوم الاثنين رابع عشرين ذي الحجة: وصل الصوفي ومعه الأمير قرمش الأعور وكمشبغا أمير عشرة - من أمراء حلب - وقد خامر منها، وصار من جلة جانبك الصوفي، وأولاد ناصر الدين محمد بن دلغادر - سوى سليمان - يريدون لقاء الأمير خجا سودن، فنزلوا على مرج دلوك، ثم ساروا منه إلى عينتاب، فقابلهم الأمير خجا سودن في آخر النهار وباتوا ليلتهم، وأصبحوا يوم الثلاثاء خامس عشرينه. فقدم الأمير حسن خجا حاجب حلب في جمع كبير من تركمان الطاعة، فتقدم إليهم جانبك الصوفي بمن معه، وهم نحو الألفي فارس، فقاتلهم عسكر السلطان المذكور، وقد انقسموا فرقة عليها الأمير خُجا سودن حاجب حلب، وفرقة عليها الأمير تمرباي الدوادار بحلب، وتركمان الطاعة، كل فرقة في جهة فكانت بينهم وقعة انجلت عن أخذ الأمير قُرمش الأعور، وكمشبغا أمير عشرة، وثمانية عشر فارساً، فانهزم جانبك الصوفي ومن معه، وتبعهم العسكر إلى انجاصوا. ثم عادوا، وحمل المأخوذون إلى حلب، فسجنوا بقلعتها في الحديد، وكتب بذلك إلى السلطان.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرعبد الرحمن بن علي بن محمد، الشريف ركن الدين، عرف بالدخان قاضي القضاة الحنفية بدمشق، ليلة الأحد سابع عشر المحرم، وقد أناف على ستين سنة، وكان فقيهاً حنفياً، ماهراً في معرفة فروع مذهبه، وله مشاركة في غير ذلك، ولد بدمشق، ونشأ بها، ثم مات في الحكم عن قضاتها، ودرس. وهو ممن ولي القضاء بغير رشوة، فشكرت فيه سيرته. ومات قاضياً. وهو من بني أبي الحسن الحسينيين.
ومات ملك تونس وبلاد إفريقية من الغرب، السلطان المنتصر أبو عبد الله محمد بن أبي عبد الله محمد بن أبي فارس، في يوم الخميس حادي عشرين صفر بتونس. ولم يتهن في ملكه لطول مرضه وكثرة الفتن، وسفكت في أيامه - مع قصرها - دماء خلق كثير. وقام بمملكة تونس من بعده أخوه شقيقه عثمان، فقتل عدة من أقاربه وغيرهم. وكان من خبر المنتصر أنه ثقل في مرضه، حتى أقعد، وصار إذا سار يركب في عمَّاريّه على بغل. وتردد كثيراً إلى قصر بخارج تونس للتنزه به، إلى أن خرج يوماً ومعه أخوه أبو عمرو عثمان صاحب قسنطينه. وقد قدم عليه وولاه الحكم بين الناس. ومعه أيضاً القائد محمد الهلالي، وقد رفع منه حتى صار هو وأبو عمرو عثمان المذكور - مرجع أمور الدولة إليهما، وحجباه عن كل أحد. فلما صارا معه إلى القصر المذكور تركاه به، وقد أغلقا عليه، يوهما أنه نائم. ودخلا المدينة، وعبرا إلى القصبة واستولى أبو عمرو على تخت الملك، ودعا الناس إلى بيعته، والهلالي قائم بين يديه. فلما ثبتت دولته، قبض على الهلالي، وسجنه، وغيبه عن كل أحد. ثم التفت إلى أقاربه، فقتل عم أبيه الأمير الفقيه الحسين بن السلطان أبي العباس. وقتل معه ابنيه وقد فر بهما إلى العرب، فنزل عندهم، فاشتراه منهم بمال جم. وقتل ابني عم أبيه الأمير زكريا بلد العناب ابن أبي العباس.
وقتل ابني الأمير أبي العباس أحمد صاحب بجاية، فنفرت عنه قلوب الناس. وخرج عليه الأمير أبو الحسن بن السلطان بن أبي فارس عبد العزيز، متولي بجاية.
ومات الأمير تاج الدين التاج بن سيفا القازاني، ثم الشويكي الدمشقي في ليلة الجمعة حادي عشرين شهر ربيع الأول، بالقاهرة. وكان أبوه قد قدم دمشق من بلاد حلب، وصار من جملة أجنادها، وممن قام مع الأمير منطاش، فأخرج عنه الملك الظاهر برقوق إقطاعه، وولد له التاج بناحية الشريكة التي تسميها العامة الشويكة، خارج دمشق، ونشأ بدمشق في حال خمول، وطريقة غير مرضية، إلى أن اتصل بالأمير شيخ وهو يلي نيابة الشام، فعاشره على ما كان مشهوراً به من أتباع الشهوات، وتقلب معه في أطوار تلك الفتن. وولاه وزارة حلب، لما ولي نيابتها، فلما قدم القاهرة بعد قتل الناصر فرج بن برقوق، قدم معه من جملة أخصائه وندمائه، فولاه في سلطنته ولاية القاهرة مدة أيامه، فسار فيها سيرة ما عف فيها عن حرام، ولا كف عن إثم، وأحدث من أخذ الأموال ما لم يعهد قبله، ثم تمكن في الأيام الأشرفية وارتفعت درجته، وصار جليساً نديماً للسلطان، وأضيفت له عدة وظائف، حتى مات من غير نكبة. ولقد كان عاراً على جميع بني أدم، لما اشتمل عليه من المخازي التي جمعت سائر القبائح، وأرست بشاعتها على جميع الفضائح.
ومات الأمير قَصرَوه نائب الشام بدمشق، ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر، وهو على نيابتها، وترك من النقد والخيول والسلاح والثياب والوبر وأنواع البضائع والمغلات ما يبلغ نحو ستمائة ألف دينار، وكان من أقبح الناس سيرة وأجمعهم لمال من حرام. ومات الأمير عثمان قَرَا يلوك بن الحاج قُطْلوبَك بن طُرْ على التركماني، صاحب مدينة آمد ومدينة ماردين، في خامس صفر، وقد انهزم من اسكندر ابن قرا يوسف، وألقى نفسه في خندق أرزن الروم فغرق، وقد بلغ نحو المائة سنة، وكان من المفسدين في الأرضْ. وهو وأبوه من جملة أمراء التركمان، أتباع الدولة الأرْتَقية أصحاب ماردين. وله أخبار كثيرة، وسير قبيحة. وقد ذكرته في كتاب درر العقود الفريده في تراجم الأعيان المفيدة.
ومات الأمير الطواشي خُشْقَدم زمام الدار، في يوم الخميس عاشر جمادى الأولى بالقاهرة، وترك مالاً جماً، منه نقداً ستون ألف دينار ذهباً، إلى غير ذلك من الفضة والقماش والغلال والعقار، ما يتجاوز المائتي ألف دينار. وكان شحيحاً بذيء اللسان، فاحشاً.
ومات الشريف مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني، أمير المدينة النبوية. وقد خرج يتصيد خارج المدينة، فوثب عليه حيدر بن دوغان بن جعفر ابن هبة بن جماز بن منصور بن شيحة، قتله بدم أخيه خَشْرم بن دوغان أمير المدينة، في عاشر جمادى الآخرة. وكان مشكور السيرة.
ومات بدر الدين محمد بن أحمد بن عبد العزيز، عرف بابن الأمانة، أحد نواب القضاة بالقاهرة، في ليلة الثلاثاء ثالث عشر شعبان، ومولده في سنة اثنتين وستين وسبعمائة تخميناً. وكان فقيهاً شافعياً بارعاً في الفقه والأصول والعربية، وغير ذلك، ذكياً متقناً لما يعرف، عارفاً بالقضاء، كثير الاستحضار. ناب في الحكم وأفنى عدة سنين. رحمه الله.
ومات الشريف كبش بن جماز من بني حسين. وكان قد مالأ حيدر بن دوغان على قتل أمير المدينة مانع بن علي، ومضى يريد القاهرة ليلة إمرة بالمدينة حتى لم يبق بينه وبين القاهرة إلا نحو يوم واحد، صدفه جماعة من بني حسين، لهم عليه دم، فقتلوه في أخريات جمادى الآخرة.
وماتت خوند جلبَان الجركسية، زوجة السلطان، وأم ولده المقام الجمالي يوسف، في يوم الجمعة ثاني شوال. ودفنت بتربة السلطان التي أنشأها بالصحراء خارج باب المحروق. وكانت قد تصدت لقضاء الحوائج، فقصدها أرباب الدولة لذلك وكثر مالها، فأبيعت تركتها بمال كبير.
ومات السلطان أبو العباس أحمد بن أبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمر أسن بن زيان بن ثابت بن محمد بن زكداز بن بيدوكس بن طاع الله بن علي بن القاسم. وهو عبد الواد متملك مدينة تلمسان والمغرب الأوسط، في يوم شوال. وكان السلطان أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس أحمد الحفضي صاحب تونس وبلاد إفريقية - رحمه الله - وقد سار إلى تلمسان مرة ثالثة، وبها محمد بن أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو المعروف بابن الزكاغية ففر منه، فما زال حتى ظفر به، وقتله، وأقام على تلمسان عوضه أحمد هذا في أول شهر رجب سنة أربع وثلاثين وثمانمائة، وهو أصغر أولاد أبي حمو، فلم يزل على تلمسان حتى مات بها، وولي بعده أخوه أبو يحيى بن أبي حمو.
ومات أحمد جُوكي بن القان معين الدين شاه رخ سلطان بن الأمير تيمور كوركان، بعد قتل قرا يلوك وعوده من أرزن الروم، في شعبان، بمرض عدة أيام، فاشتد حزن أبيه عليه، وعظم مصابه، فإنه فقد ثلاثة أولاد في أقل من سنة.
ومات ملك بنجالة من بلاد الهند، السلطان الملك المظفر شهاب الدين أحمد شاه بن السلطان جلال الدين أبي المظفر أحمد شاه بن فندو كاس، في شهر ربيع الآخر، ثار عليه مملوك أبيه كالوا الملقب مصباح خان، ثم وزير خان. وقتله واستولى على بنجاله. ومات الشيخ الملك زين الدين أبو بكر بن محمد بن علي الخافي ثم الهروي، في يوم الخميس ثالث شهر رمضان، بهراة في الوباء الحادث بها.
نادرة قلَّ ما وقع مثلها، وهي أن ثماني عشر دولة من دول العالم بأقطار الأرض زالت في مدة بضعة عشر شهراً، وأكثر أرباب هذه الدول الزائلة مات، وهم الحطي ملك أمحرة، وسلطان الحبشة.
ومات ملك كلبرجه من بلاد الهند السلطان شهاب الدين أبو المغازي أَحمد شاه بن أحمد بن حسين شاه بن بَهْمن. كلاهما مات في شهر رجب سنة ثمان وثلانين وثمانمائة. ومات الأمير سيف الدين طرباي نائب طرابلس، في رجب هذا.
ومات الشريف زهير بن سليمان بن زيان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني، في رجب أيضاً.
ومات أمير زاده إبراهيم سلطان بن القان الأعظم معين الدين شاه رخ ابن الأمير الكبير تيمور لنك. صاحب شيراز، في شهر رمضان.
ومات ملك دله مدينة الهند، وهو الملك بن مبارك خان بن خضر خان.
ومات صاحب مملكة كرمان، باي سنقر سلطان بن القان شاه رخ.
ومات ملك تونس وبلاد إفريقية، المنتصر أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي عبد الله محمد بن السلطان أبي فارس عبد العزيز، في حادي عشرين صفر سنة تسع وثلاثين.
ومات الأمير قصروه نائب الشام، في ليلة الثالث من شهر ربيع الآخر، وهو أعظم مملكة من كثير من ملوك الأطراف.
ومات الأمير عثمان قرايلوك بن الحاج قطلوبك بن طر على صاحب مدينة آمد ومدينة ماردين وأرزن الروم وغير ذلك، في صفر.
وقتل أمير المدينة النبوية الشريف مانع بن على بن عطة بن منصور بن جماز بن شيحة الحسينى، في جمادى الآخرة، و لم تطل مدته بعد قتل ابن عمه زهير بن سليمان، وكان ينازعه في الإمرة.
ومات متملك مدينة تلمسان وصاحب المغرب الأوسط أحمد بن أبى حمو العبد وادى، في شوال ومات أحمد جوكى سلطان بن القان شاه رخ.
ومات قطب الدين فيروز شاه بن محمد شاه بن تَهَم ْ تَم ْ بن جردُن شاه بن طُغْلق بن طِبْق شاه، ملك هرمز والبحرين والحسا والقطف .
وفر إسكندر بن قرايوسف عن مملكته بتبريز وتشتت في الآفاق.
وأسر بترو بن ألفنت صاحب برشلونة وبلنسية وغير ذلك من مملكة أرغون ، وزالت دولته.
سنة أربعين وثمانمائةأهلت وخليفة الوقت والزمان أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على اللّه أبى عبد اللّه محمد، وسلطان الإسلام بديار مصر وبلاد الشام وأراضى الحجاز مكة والمدينة وينبع وجزيرة قبرس، السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباى الدقماقى. والأمير الكبير أتابك العساكر جقمق السيفى رأس الميمنة. والمقام الجمالى يوسف ولد السلطان رأس الميسرة. وأمير سلاح الأمير قرقْماس الشعبانى. وأمير مجلس أقبغا التمرازى. والدوادار الأمير أَرْكُماس الظاهرى. ورأس نوبة النوب الأمير تمراز القَرْمِشى .
وحاجب الحجاب الأمير يشبَك. وأمير آخور جاثم أخو السلطان. وبقية المقدمين الأمير تغرى بردى البكلمشى المؤذْى، وخُجا سودن، وقراقُجا الحسنى، وأينال الأجرود نائب الرها، والأمير تنبك، فهم ثلاثة عشر، بعدما كانوا أربعة وعشرين مقدما.
ونواب السلطنة بالممالك الأمير أينال الجمكى نائب الشام. والأمير تغرى برمش الجقمقى نائب حلب والأمير قانباى الحمزاوى نائب حماة. والأمير جلبَان المؤيدى نائب طرابلس، والأمير تمراز المؤيدى نائب صفد، والأمير يونسْ نائب غزة والأمير عمر شاه نائب الكرك، والأمير أقباى البْشبَكى نائب الإسكندرية. والأمير أَسَنْدمر الأسعردى نائب الوجه القبلى، والأمير حسن بيك الدكرى التركمانى نائب الوجه البحرى، و لم يعد في الدول الماضية أن يستقر أحد من النواب تركمانيا، إلا فيما بعد عن بلاد حلب، فاستجد في هذه الدولة الأشرفية ولاية عدة من التركمان ولايات ونيابات وإمريات . بمصر والشام.
وأمير مكة المشرفة الشريف زين الدين أبو زهير بركات بن حسن بن عجلان الحسنى. وبالمدينة النبوية الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام الشريف، وميان ابن مانع بن على بن عطة بن منصور بن جاز بن شيحة الحسينى، وبالينبع الشريف عقيل بن وبير بن نخبار بن مقبل بن محمد بن راجح بن إدريس بن حسن بن أبى عزيز قتاده الحسنى. وهؤلاء الأشراف الثلاثة نواب عن السلطان.
وفي بقية ممالك الدنيا القان معين الدين شاه رخ سلطان ابن الأمير تيمور كوركان صاحب ممالك ما وراء النهر، وخراسان وخوارزم وجرجان وعراق العجم، ومازندران، وقندهار، ودله من بلاد الهند، وكرمان ، وجميع بلاد العجم إلى حدود أذربيجان، التي منها مدينة تبريز، ومتملك تبريز إسكندر بن قرايوسف بن قرا محمد، وهو مشرد عنها خوفا من القان شاه رخ.
وحاكم بغداد أخو أصبهان بن قرايوسف، وقد خرجت بغداد ولم يبق بها جمعة ولا جماعة، ولا أذان، ولا أسواق. وجف معظم نخلها، وإنقطع أكثر أنهارها، بحيث لا يطلق عليها اسم مدينة بعدما كانت سوق العلم. وعلى حصن كيفا الملك الكامل خليل بن الأشرف أحمد بن العادل سليمان بن المجاهد غازى بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن الموحد عبد اللّه ابن السلطان الملك المعظم توران شاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب بن شادى وعلى بلاد قرمان من بلاد الروم إبراهيم بن قرمان. وملك الإسلام ببلاد الروم خوندكار مراد بن محمد بن كُرْشجى بن بايزيد يلدَريم بن مراد بن أُرخان بن أرِدن على ابن عثمان بن سليمان بن عثمان، صاحب برصا وكالى بولى. وبجانب من بلاد الروم أسفنديار بن أبى يزيد، وعلى ممالك إفريقية من بلاد المغرب أبو عمرو عثمانين أبى عبد اللّه محمد بن أبى فارس عبد العزيز الحفصى صاحب تونس وبجاية وسائر إفريقية. وعلى مدينْة تلمسادْ والمغرب الأوسط أبو يحيى بن أبى حمو، وبمملكة فاس ثلاثة ملوك أجلهم صاحب مدينة فاس، وهو أبو محمد عبد الحق بن عثمان بن أحمد بن إبراهيم ابن السلطان أبى الحسن المرينى، وليس له أمر ولا نهى ولا تصرف في درهم، فما فوقه. والقائم بالأمر دونه أبو زكريا يحيى بن أبى جميل زيان الوِطَاسى وبعد صاحب فاس صاحب مكناسة الزيتون على نحو نصف يوم من فاس. والآخر بأصِيلا على نحو خمسة أيام من فاس، وهما أيضا تحت الحجر، ممن تغلب عليهما. وقد ضْعفت مملكة بنى مرين هذه، ويزعم أهل الحدثان أن الشاوية تملكها، وقد ظهرت إمارات صدق ذلك. وبالأندلس أبو عبد اللّه محمد بن الأيسر ابن الأمير نصر ابن السلطان أبى عبد اللّه بن نصر المعروف بابن الأحمر، صاحب أغرناطة. وببلاد اليمن الملك الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل صاحب تعز وزبيد وعدن. وعلى صنعاء وصعدة الإمام على بن صلاح الدين محمد بن على الزينى. وبممالك الهند الإسلامية عدة ملوك. ومماليك الفرنج بها أيضًا نحو سبعة عشر ملكا، يطول علينا إيرادهم. وببلاد الحبشة الحطى الكافر، ويحاربه ملك المسلمين شهاب الدين أحمد بدلاى ابن سعد الدين أبى البركات محمد بن أحمد بن على بن صبر الدين محمد بن ولخوى بن منصور بن عمر بن ولَسْمَع الجبرتى.
وأرباب المناصب بالقاهرة الأمير جانبك أستادار. والقاضي محب الدين محمد بن الأشقر كاتب السر. وناظر الجيش عظيم الدولة زين الدين عبد الباسط، ولا يبرم أمر ولا يحل ولا يولى أحد ولا يعزل إلا بمشورته. وناظر الخاص سعد الدين إبراهيم بن كاتب حكم. وقاضى القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن على ابن حجر، وإليه المرجع في عامة الأمور الشرعية لسعة علمه وكثرة إطلاعه، لاسيما علم الحديث ومعرفة السنن والآثار فإنه أعرف الناس بها فيما نعلم. وقاضى القضاة الحنفي بدر الدين محمود العيني. وقاضى القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي. وقاضي القضاة الحنبلي محب الدين أحمد بن نصر اللّه البغدادى. والمحتسب الأمير صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللة. ووالى القاهرة عمر الشويكى.
شهر الله المحرم، وأوله يوم الاثنين: في عاشره: وصل العسكر المجرد إلى مدينة حلب ونزلها.
وفي رابع عشرينه: قدم المحمل الحاج مع الأمير طوخ مازى أحد أمراء الطبلخاناه، وأحد رؤوس النوب، وكنتُ صحبة الحاج، فساءت سيرته في الحاج، وفي ذات نفسه.
وفي ثامن عشرينه: جمعت أجناد الحلقة الماًخوذ منهم المال كما تقدم ذكره فى بيت الأمير تَمِرْباى الدوادار، وأعيد لهم ما كان أُخذ منهم من المال، من أجل أن التجريدة بطلت. وللّه الحمد.
وفيه قبض على الصاحب تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير أستادار المقام الجمالى يوسف ولد السلطان، ثم أُفرج عنه. وخُلع من الغد على الصاحب جمال الدين يوسف ابن كريم الدين بن عبد الكريم بن سعد الدين بركة، المعروف والده بابن كاتب جكم. واستقر عوضه في الأستادارية.
وفى يوم الأحد تاسع عشرينه الموافق لتاسع عشر مسرى: نودى على النيل بزيادة عشر أصابع فوفى ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع، وركب المقام الجمالى يوسف ولد السلطان حتى خُلق المقياس وفتح الخليج بينيديه على العادة. وقدم الخبر.بمسير العسكر المجرد من حلب فى عشرينه إلى جهة الأبلستين.
وأنه في حادى عشرينه: طرق ميناء بوقير خارج مدينة الإسكندرية ثلاثه أغربة من الفرنج الكيتلان وأخذوا مركبين للمسلمين، فخرج إليهم أقباى اليشبكى الدوادار نائب الثغر، ورماهم حتى أخذ منهم أحد المركبنِ، وأحرق الفرنج المركب الآخر، وساروا.
وأن في ثاني عشرينه : غد هذه الوقعة طرق ميناء الإسكندرية مركب آخر للكيتلان، وكان بها مركب للجنوية، فتَحاربا، وأعان المسلمون الجنوية حتى إنهزم الكيتلان.
وفي هذا الشهر: خرج من مدينة بجاية بإفريقية أبو الحسن على ابن السلطان أبى فارس عبد العزيز، حتى نزل على قسنطينة، وحصرها.
شهرصفر، أوله يوم الثلاثاء : في رابعه: قدم قاصد نائب حلب برأس الأمير قَرْمش الأعور. وكان من خبره أنه من جملة المماليك الظاهرية برقوق، وترقى فى الخدم حتى صار من الأمراء وأُخرج إلى الشام. فلما خامر الأمير تَنْبَك البجاسى على السلطان كان معه، ثم هرب بعد قتله فلم يعرف خبره، إلى أن ظهر الأمير جانبك الصوفى، إنضم عليه. فلما قدم العسكر المجرد إلى حلب، ومن جملته الأمير خجا سودن نزل. ممن معه على عنتاب، فطرقه قَرْمش المذكور، وهو في مقدمة جانبك الصوفى فكانت بينهما وقعهْ أُخذ فيها قَرْمش وكمُشبغا من أمراء حلب المخامر إلى جانبك الصوفى فى جماعة، فقطعت رأس قرمش وكمشبغا وجهزتا إلى السلطان، ووسط الجماعة، فشهرت الرأسان بالقاهرة ، ثم أُلقيتا فى سراب مملوء بالأقذار والغدرة .
وفي خامسه: استقر خُشكَلْدى أحد الخاصكية فى نيابة صهيون، عوضا عن الأمير غرس الدين خليل الهذْبانى بحكم وفاته. ثم عزل بعد يومين بأخى المنوفى.
وفي ثامن عشرينه: قدم الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ من جدة وصحبته الأمير يلخجا والمماليك المركزة بمكة.
وفي هذا الشهر: سار أبو عمرو عثمان بن أبى عبد اللّه محمد ابن السلطان أبى فارس عبد العزيز من مدينة تونس يريد قسنطينه لقتال عمه أبى الحسن على.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الخميس: فيه عاد العسكر المجرد إلى أبلستين بعدما وصلوا إلى مدينة سيواس، فى طلب جانبك الصوفى وابن دلغادر، حتى بلغهم لحاقهما. بمن معهما ببلاد الروم، والإنتماء إلى ابن عثمان صاحب برصا، فنهبوا ما قدروا عليه، وعادوا.
وفيه رسم بعزل الأمير تمراز المؤيدى عن نيابة صفد، واستقراره فى نيابة غزة، عوضا عن الأمير يونس الأعور، واستقرار يونس فى نيابة صفد، وتوجه بذلك دولت بيه أحد رؤوس النوب .
وفيه قدم الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ تقدمة قدومه من حدة، فخلع عليه فى يوم السبت ثالثه، ونزل إلى داره، فسأل فى يوم الأحد رابعه القاضى زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش والسلطان فى إستقرار الصاحب كريم الدين المذكور فى الوزارة على عادته. وكان السؤال على لسان الأمير صفى الدين جوهر الخازندار، فأجيب باًن " هذا الأمر متعلق بك، فإن شئت إستمريت على مباشرتك للوزارة، وإن شئت تعين من تريد " . فتكلم من الغد يوم الإثنين مع السلطان مشافهة في ذلك، فتوقف السلطان خشيهْ ألا يسد لقصور يده. فمازال بالسلطان حتى أجاب إلى ولايته، ونزل إلى داره، فاستدعى الصاحب كريم الدين وقرر معه ما يعمل. وأسعفه باًن عين له جهات يسد منها كلفة شهرين. وأنعم له بألفى رأس من الغنم، وأذن له أن يوزع على مباشرى الدولة كلفة شهرين آخرين.
فلما كان الغد يوم الثلاثاء سادسه: خلع على الصاحب كريم الدين، واستقر في الوزارهْ على عادته، ونزل إلى داره فى موكب جليل. وسر الناس به، فصَّرف الأمور، ونفذ الأحوال. وخلع معه على الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم ناظر الدولة خلعة استمرار، فنزل في خدمته، وجلس بين يديه كما كان أولا، وكانت الوزارة منذ عزل الأمير غرس الدين خليل عنها في شوال سنة تسع وثلاثين لم يستقر فيها أحد، وإنما كان القاضى زين الدين عبد الباسط ينفذ أمور الوزارة، وقررها على ترتيب عمله، وهو أنه أحال مصروف كل جهة من جهات المصروف على متحصل جهة من جهات المتحصل ، فإن لم تف تلك الجهة. مما أحيل به عليها قام بالعوز من ماله. وندب للمباشرة عنه الصاحب أمين الدين بن الهيصم، وهو يلى نظر الدولة، فتمشت أحوال الدولة فى هذه المدة على هذا.
وفي ليلة الاثنين خامسه: فقد سليمان بن أَرْخُن بك بن محمد كُرشجى بن عثمان، وأخته شاه زاده، وجاعته، وكانوا يسكنون بقلعة الجبل، وتمشى سليمان هذا فى خدمة المقام الجمالى ولد السلطان. ومن خبره أن مراد بن كُرشحى صاحب برصا ويخرها من بلاد الروم، قبض على أخيه أَرْخُن بك، وكحله، وسجنه مدة، فكان يقوم بخدمته وهو فى السجن مملوك من مماليكه يقال له طوغان. فأدخل إليه جارية إلى السجن، وهى متنكرة، فاشتملت من أَرْخن على هذا الولد وغيره. ومملوكه هذا يخفى أمرهم حتى مات أرخُن فى سجنه. ففر المملوك بهذين الولدين، وهما سليمان وأخته شاه زاده وأمهما إلى مدينة حلب، وأقاموا بها حتى قدم السلطان حلب فى سنة ست وثلاثين، وقف بهما إليه، فاًكرمهم وأنزلهم بقلعة حلب، ثم سيرهم إلى القاهرة وأسكنهم فى الدار التى كانت قلعة الصاحب من قلعة الجبل، وكساهم، ورتب لهم فى كل شهر إثنين وعشرين ألف درهم من معاملة القاهرة، و لم يحجر عليهم فى النزول إلى القاهرة. وأضاف هذا الصبى سليمان بن أرخُن إلى خدمة ولده المقام الجمالى، فكان يركب معه إذا ركب، ويظل بين يديه، ويبيت إذا شاء عنده إلى أن فقدوا.
وفي ليلة الإثنين: المذكور قُتل جاسوس معه كتب من جانبك الصوفى .
وفي اليلة الجمعة عاشره: عُمل المولد النبوى بين يدى السلطان، على العادة فى كل سنة.
وفي يوم الجمعة: المذكور عدا رجل من الهنود على رجلين، فقتلهما بعد صلاة الجمعة تجاه شبابيك المدرسة الصالحية بين القصرين،. بمشهد من ذلك الجمع الكثير. فأخذ وقطعت يده، ثم قُتل، فكانت حادثة شنعة.
وفي يوم السبت حادى عشرة: توجه الأمير قُرْقماس أمير سلاح، والأمير جانم أمير أخور، في جماعة إلى الوجه البحرى، من أجل أن أولاد بكار بن رحاب وعمهم عيسى من أهل البحيرة إنضم إليهم الطائفة التي يقال لها محارب، وأفسدوا.
وفي ثالث عشرة: وصل الأروام الهاربون، وعدتهم خمسة وستون شخصا، منهم ثمانيهْ من مماليك السلطان، فوسطوا الثمانية تحت المقعد السلطانى بالإصطبل من القلعة بين يدى السلطان. ووسط طوغان لالا سليمان بن أرخن، ورجل آحْر لتتمة عشرة. وقطعت أيدى سبعة وأربعين رجلا وضرب رجل بالمقارع. فكانت حادثة شنعة. وكان من خبرهم أن طوغان المذكور قصد أن يفر. بموسى إلى بلاد الروم. ونزل فى غراب قدم فى البحر، ومعه جماعة، منهم المماليك الثمانية، وعدة من الأروام. ورافقهم فى المركب جماعة من الناس ليسوا مما هم فيه في شىء، إنما هم ما بين تاجر وصاحب معيشة ومسافر لغرض من الأغراض. وانحدروا فى النيل ليلا يريدون عبور البحر، فأدركهم الطلب من السلطان، وقد قاربوا رشيد. وكانت بينهم محاربة في المراكب على ظهر النيل، قتل فيها عدة. وتخلصوا حتى عبروا بغرابهم من النيل إلى بحر الملح، فخرجت عليهم ريح ردتهم حتى نزلوا على وحلة، فلم يقدروا أن يحركوا غرابهم من شدة الوحل، فأدركهم الطلب، وهم كذلك، فقاتلوا ليدافعوا عن أنفسهم، وقد جاءهم نائب الإسكندرية في جمع موفور. فمازالوا يقاتلون حتى غلبوا وأخذوا، فسيقوا في الحديد إلى أن نزل من البلاء ما نزل. وسجن سليمان بن أرخن مدة ثم أفرج عنه، ونودى في الشوارع بخروج الهنود من القاهرة، فلم يخرج أحد.
وفي يوم الجمعة سادس عشرة: رحل العسكر من أبلستين، بعد أن أقاموا بها عشرة أيام، وهم ينهبون أعمالها، ويخربون ويحرقرن، فمازالوا سائرين حتى نزلوا تجاه مدينة سيواس، وقد رحل العدو المطلوب إلى جبل آق طاغ، ومعناه الجبل الأبيض، ثم مضوا منه إلى أنكورية.
وفي يوم الإثنين تاسع عشرة: نودى ألا يلبس أحد زمط أحمر ، ثم نودى من الغد لا يحمل أحد سلاحًا.
وفي رابع عشرينه: خلع على سعد الدين إبراهيم بن المرة، وإستقر فى نظر جدة على عادته من قبل .
وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير جانبك الناصرى رأس نوبة الأمير إبراهيم ابن المؤيد، وحاجب ميسرة. وإستقر أمير المجردين إلى مكة ويتحدث مع إبن المرة في أمر جدة، وتعين معه مائة وعشرة مماليك، السبتوى ثلاثين مملوكًا في خدمته. وأنعم عليه بألف دينار أشرفية وقطارى جمال، وخمس عشرة ألف فردة نشاب، وأربعة أفراس.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه: أعيد يونس خازندار نائب حلب الوارد بعود العسكر المجرد إلى أبلستين. وجهز على يده لنائب حلب فرس بقماش ذهب، وقباء فوقانى، وخمسة آلاف دينار أشرفية. وأنعم على الأمير الكبير جقمق الأتابك بألف دينار. وعلى كل من أمراء الألوف المجردين وعدتهم ستة أمراء خمسمائة دينار. وعلى أمراء حلب المقدمين الذين خرجوا في التجريدة بألف وخمسمائة دينار، وعدتهم ثلاثة أمراء، وعلى أمير من طبلخاناه حلب. بمائتى دينار. وعلى سبعة من أمراء العشرين بحلب لكل أمير منهم. بمائة وخمسة وعشرين دينارا، جملتها ثمانمائة وخمسة وسبعين دينارا وأنعم على ستة عشر من أمراء العربان بحلب بألف وستمائة دينار. وأنعم على خمسة عشر من أمراء الجهات لكل أمير خمسين دينارا. وأنعم على أمراء التركمان ونواب القلاع ممن كان فى التجريدة بخمسة ألاف دينار. وبلغت جملة هذه الإنعامات تسعة عشر ألف دينار ومائة دينار وخمسة وسبعين ديناراً، سوى ثلاثين قرطية ، وثلاثين ثوب صوف، وعشرة أقبية سنجاب، كل قباء خمس شقات . وفْيه نودى في الناس بالإذن في السفر إلى مكة، صحبة المجردين.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: في سادس عشرة: ركب السلطان من قلعة الجبل، وشق القاهرة، وخرج من باب القنطرة للصيد. وهذه أول ركبة ركبها فى هذه السنة للصيد. وفيه جمع الأمير جوهر الخازندار الجزارين، وأشهد عليهم ألا يشتروا اللحم إلا من أغنام السلطان التي تذبح. وصار يذبح لهم من الأغنام ما يبيعوا لحمه للناس، و لم يسمع بمثل ذلك.
وفي غده: عاد السلطان من الصيد، وخرج ثانيا فى حادى عشرينه.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت: فيه قدمت رسل مراد بن محمد كرشجى بن بايزيد بن عثمان ملك الروم، بهدية.
وفي سادسه: برز الأمير جانبك وإبن المرة إلى ظاهر القاهرة، وتلاحق بهما جماعة، إلى أن إستقلوا بالمسير إلى مكة في عاشرة.
وفى ثالث عشرة : خلع على دمرداش ، وأعيد إلى نيابة الوجه البحرى، عوضًا عن حسن بيك التركمانى.
وفي سابع عشرة : قدم الأمراء المجردون لقتال جانبك الصوفى، وناصر الدين محمد إبن دلغادر. وهم الأمير الكبير جقمق العلاى، والأمير أركماس الظاهرى الدوادار، وأمير يشبك الظاهرى ططر حاجب الحجاب ، والأمير قراخجا الحسنى، والأمير تنبك السيفى، والأمير تغرى بردى البكلمشى المعروف بالمؤذى، ومثلوا بين يدى السلطان، وقبلوا الأرض، فخلع على الأمير الكبير متمر ، ومن فوقه قباء فوقانى. وخلع على كل من بقية الأمراء المذكورين فوقانى بطرز ذهب. وأركبوا جميعهم خيولا سلطانية بقماش ذهب. وتأخر من الأمراء الأمير خجا سودن لبطئه في المسير.
وفيه أيضا قدم الأمير قرقماس الشعبانى أمير سلاح، والأمير جانم أمير أخور، والأمير قراجا شاد الشرابخاناه، والأمير تمرباى الدوادار الثانى من تجريدة البحيرة، وصحبتهم الأمير حسن بك بن سالم الدكرى التركمانى، وقد عزل ومحمد بن بكار إبن رحاب، وقد دخل فى الطاعة.
وفي هذا الشهر: كثر ركوب السلطان للصيد.
وفيه رفعت يد قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى الحنفى عن وقت الطرحاء من الأموات، وفوض إلى الأمير صفى الدين جوهر الخازندار، ورسم له أن يسترفع حساب الوقف فْيما مضى، ثم نقصْ ذلك، وإستمر بيد قاضى القضاة على العادة.
وفي سابع عشرينه: نودى بأن من كانت له ظلامة فعليه بالوقوف إلى السلطان. ورسم أن تجتمع قضاة القضاة الأربع. بمجلس السلطان للحكم في يومي الثلاثاء والسبت. ثم إنتقض ذلك، ولم يعمل به. وجلس السلطان للحكم في يوم السبت تاسع عشرينه. وحضروا عنده. ثم بطل وإستمر على عادته من غير حضور القضاة.
شهر جمادى الآخرة، أوله يوم الإثنين: في ثالثه : ركب الأمير تمرباى الدوادار النيل إلى الإسكندرية، حتى يبيع الفلفل المحمول من جدة على الفرنج الواردين الثغر ببضائعهم، بعدما عين لذلك القاضى زين الدين عبد الباسط، ثم أعفى منه.
وفي ثامنه: قدم الأمير خجا سودن أحد المجردين، فخلع عليه.
وفي ثاني عشرة: ورد كتاب الأمير إبراهيم بن قرمان، يتضمن أن ناصر الدين محمد ابن دلغادر وجانبك الصوفى نزلا بعد توجه العسكر قريبا من أنكوريه.
وجهز الأمير سليمان بن ناصر الدين محمد بن دلغادر إلى مراد بن عثمان، فلقيه على مدينة كالى بولى، وترامى عليه. وكان ابن قرمان المذكور قد قاتل حاكم مدينة أماية فقتله، فغضب ابن عثمان وتحركت كوا من العداوة التى بين القرمانية والعثمانية، وعزم على المسير إلى أخذ ابن قرمان. وبرز من كالى بولى يريد مدينة برصا فلما قدم عليه سليمان بن دلغادر جهز معه عسكراً، وأنعم عليه بالمال والسلاح، وندب معه حاكم مدينة توقاته لمحاصرة مدينة قيصرية، وأخذها من ابن قرمان. وجهز أيضا الأمير عيسى أخا إبراهيم بن قرقمان على عسكر آخر، وبعثه إلى بلاد قرمان ليسير هو من وراء العسكرين، فأهم السلطان هذا الخبر، وجهز إلى كل من عنتاب وملطية وكختا وكركر المال والسلاح، وكتب إلى تركمان الطاعة.بمعاونة إبراهيم بن قرقمان على عدوه .
وفي هذا الشهر: رسم أن يشترى من الغلال ثلاثون ألف أردب ليخزن، فأخذ الناس في شراء الغلة من القمح والشعير والفول، خوفا من غلاء السعر.
وفي ثامن عشرة: قدم الأمير تمرباى الدوادار من الإسكندرية، بعدما باع بها ألف حمل من الفلفل، بحساب مائة دينار الحمل، وقيمته دون ذلك بكثير، بلغ ممن ذلك مائة ألف دينار.
وفي تاسع عشرة: قدم القاضى شرف الدين أبو بكر الأشقر المعروف بابن العجمى، كاتب سر حلب، وقدم من الغد السلطان تقدمة جليلة، ما بين ثياب حرير ووبر وخيل وبغال.
وفي عشرينيه: رسم للأًمير يشبك حاجب الحجاب والأمير أينال الأجرود الوارد من الرها بالتوجه لحفر خليج الإسكندرية. وتوجه القاضى زين الدين عبد الباسط ليرتب الأحوال في ذلك، ثم يعود. فتوجه في رابع عشرينه وسار الوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ أيضا للنظر في أمر الحفير.
وفي هذا الشهر: اتفقت نادرة لم نر ولا سمعنا بمثلها، وهى إستقرار الأمير صفى الدين جوهر الخازندار فى قضاء دمياط، وكانت العادة أن يفوض قاضى القضاة الشافعى قضاء دمياط لمن يقع اختياره عليه من الفقهاء، فلما إتصل ولى الدين محمد بن قاسم المحلاوى بالسلطان، شره في المال، وأخذ قضاء عدة بلاد، منها دمياط. وقرر على من أقامه فى قضاء البلاد التى وليها مالا يحمله على سبيل الفريضة في كل شهر أو كل سنة، كما هى ضرائب المكوس، سوى ما يتبع ذلك من هدايا الريف. وكان الجاه عريضا، فما عفت نوابه ولا كفت، فلما ذهب إلى الحجاز، نزل عن قضاء دمياط للقاضى جلال الدين عمر والقاضى كمال الدين محمد بن البارزى كاتب السر. بمبلغ خمسين ألف درهم مصرية. فجرى على عادة ابن قاسم في ذلك إلى أن عين السلطان القاضى كمال الدين لقضاء دمشق، سأله الأمير صفى الدين جوهر الخازندار أن ينزل له عن قضاء دمياط، فلم يجد بدًا من إجابته، ونزل له عن ذلك. فأمضى قاضى القضاة النزول رغمًا، وصار أحد نواب الحكم العزيز بدمياط، فإستناب عنه على العادة في هذا، وإستمر. وصار يكتب في مكاتبته إلى نائبه بدمياط " الداعى جوهر الحنفى " ، كما كان قاضى القضاة يكتب. وحمد أهل البلد سيرته بالنسبة لمن كان قد ابتدأ ذلك.
ولم يعهد فى مثل ذلك نزول ، ولا ما يشبهه فلله الأمر.
شهر رجب ، أهل بيوم الثلاثاء: وفيه خلع على القاضى كمال الدين محمد ابن القاضى ناصر الدين محمد بن البارزى. وأعيد إلى قضاء القضاة بدمشق، عوضا عن سراج الدين عمر الحمصى بغير مال يحمله، ولا سعى منه. وإنما كثرت القالة السيئة في الحمصى، فعين السلطان عوضه القاضى كمال الدين ثم ولاه.
وفي ثالثه: أدير محمل الحاج بالقاهرة ومصر، ولم نعهد فيما تقدم أنه أدير قبل النصف من شهر رحب إلا فى هذه الدولة الأشرفية، فإنه أدير غير مرة قبل النصف منه. ونْزل بالناس في ليلة إدارته من المماليك السلطانية بلاء كثير من صفع أقفية المارة في الشارع، ومن حرق لحاهم بالنار، وخطف عمائمهم، إلى غير ذلك مما لا نستجيز ذكره.
وفيه خلع على الأمير الوزير غرس الدين خليل، وإستقر أمير الركب.
وفي يوم السبت خامسه: توجه القاضي زين الدين عبد الباسط لكشف قناطر اللاهون من عمل الفيوم، وقد خربت.
وفي سادسه: قدم الأمير يشبك الحاجب، والصاحب كريم الدين، والأمير أينال الأجرود، وقد قاسوا خليج الإسكندرية، فإذا عرضه عاشرة قصبات فى طول ثلاث وعشرين ألف قصبة، منها ستة آلاف وأربعمائة قصبة تحتاج إلى أن تحفر، وبقيتها تحتاج إلى الإصلاح.
وفي سابعه: توجه جكم خازندار المقام الجمالى، وخاله إلى طرابلس، بإنتقال الأمير الكبير بها. وهو تمربغا المحمودى إلى الحجوبية الكبرى بها. وإنتقال الأمير آق قجا العلاى من الحجوبية إلى الإمرة الكبرى. وأن يقوم تمربغا بأربعة آلاف دينار وللمسفر المذكور بألف دينار. ورسم لجكم المذكور أن يكون مسفر قاضى القضاة كمال الدين ابن البارزى، فبعد جهد حتى أخذ منه في يومه ثلاثمائة دينار. ولم تجر العادة بمثل ذلك.
وفي عاشرة : خلع على الأمير أينال العلاى الأجرود، وإستقر في نْيابة صفد، عوضا عن الأمير يونس، ورسم ليونس أن يقيم بالقدس بطالا وخلع على الأمير طوخ بن بازق الجكمى رأس نوبة ليخرج مسفر الأمير أينال إلى صفد .
وفي رابع عشرة: أنعم بإقطاع الأمير أينال الأجرود وإمرته على الأمير قراجا شاد الشرابخاناه. وإستقر أينال الخازندار أحد الأمراء الطبلخاناه شادا، عوضا عن قراجا، وإستقر على باى الأشرفى الساقى الخاصكى خازندارا، عوضا عن أينال. وخلع على الأمير أقبغت التمرازى ليلى حفر خليج الإسكندرية .
وفي تاسع عشرة: خلع على حسن بيك بن سالم الدكرى التركمانى، وأعيد إلى كشف البحيرة، عوضا عن دمرداش.
وفي سابع عشرينه: ركب الأمير جانبك أستادار إلى ناحية شبرا الخيام من ضواحى القاهرة، وهدم كنيسة النصارى بها، ونهبت حواصلها، وأحرقت عظام رمم كانت بها، يزعمون أنها رمم شهداء منهم.
وفي هذا الشهر: جبى ما فرض على نواحى الغربية والمنوفية والبحيرة، برسم حفر خليج الإسكندرية، وهو عن عبرة كل ألف دينار نصف راجل، يؤخذ عنه مبلغ ألفين وخمسمائة درهم من معاملة القاهرة. وندب للحفر ثلاثمائة رجل، تصرف أجورهم من هذا المتحصل، وعمل بالميدان تحت القلعة بين يدى السلطان من الجراريف والمقلقلات مائتي قطعة، وعشر قطع. وعين من البقر ستمائهْ وعشرين رأسًا. وجهز ذلك لحفر الخليج المذكور.
شهر شعبان، أهل بيوم الخميس: في ثانيه: توجه قاضى القضاة كمال الدين محمد بن البارزى إلى محل ولايته بدمشق.
وفي ثالثه: خلع على القاضى معين الدين عبد اللطف، أحد موقعى الدست، وشيخ خانكاة قوصون. وإستقر في كتابة السر بحلب، عوضًا عن والده القاضى شرف الدين أبى بكر الأشقر المعروف بإبن العجمى الحلبى، وخلع على القاضى شرف الدين المذكور ليكون نائب كاتب السر على ما كان عليه قبل إنتقاله إلى كتابة السر بحلب. وأنعم على الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك بتقدمة أرغون شاه وإقطاعه بدمشق. وأضيف إلى الأمير طوغان العثمانى نائب القدس أستادارية الشام، والتحدث في الأغوار، عوضًا عن أرغون شاه.
وفي يوم الأربعاء رابع عشرة: نودى بإحتماع الجماعة التى قطعت أيديهم عندما أخذوا من الغراب ، ليفرق فيهم السلطان مالًا. فلما إجتمعوا جىء بهم ليأخذوا صدقات السلطان حتى صاروا بقلعة الجبل، قبض عليهم، وساقهم أعوان الظلمة بأسوأ حال. وأنزلوا في مركب ليسيروا إلى بلاد الروم، وقد جعل كل إثنين منهم في قرمة خشب، فكان هذا من شنيع الحوادث ولو شاء ربك ما فعلوه.
شهر رمضان، أهل بيوم الجمعة:
في عاشرة: عقد السلطان المشور. وقد ورد الخبر بأن ناصر الدين محمد بن دلغادر ونزيله جانبك الصوفى زْحفا. بمن معهما على بلاد قرمان، فقوى العزم على السفر إلى بلاد الشام، وأخذ الأمراء في أهبة السفر، ثم إنتقض ذلك فى ثامن عشرة. وكتب بمسير نواب الشام إلى نحو بلاد قرمان نجدة لإبراهيم بن قرمان، فإن القوم أخذوا مدينة أقشهر، ونازلوا قلاعًا أخر.
وفي هذا الشهر: كثر عبثالمماليك السلطانية بالناس في الليل.
شهر شوال أوله الأحد: في خامسه: خلع على قاضى القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى، وأعيد إلى قضاة القضاة، عوضًا عن الحافظ شهاب أحمد بن حجر .
وفي سادسه: خلع على القاضى نور الدين عمر بن مفلح ناظر المارستان، وإستقر وكيل بيت المال، عوضًا عن شمس الدين محمد بن يوسف بن صالح الحلاوى بعد موته.
وفي تاسع عشرة : خرج محمل الحاج صحبة الأمير غرس الدين خليل. ورحل من بركة الحاج في ثالث عشرينه، بعدما رحل الركب الأول في أمسه صحبة الأمير ناصر الدين محمد ولد الأمير أركماس.
وفي هذا الشهر: نزلت صاعمّة بجدة بندر مكة فأتلفت شيئا كثيرا، وهلك نحو المائة نفس.
وفيه كانت بجدة أيضًا وقعة بين القواد والأمير جانبك، قتل فيها وجرح عدة. ثم قدم الشريف بركات بن حسن بن عجلان، فساس الأمر حتى سكنت الفتنة.
شهرذى القعدة، أوله الثلاثاء: فيه قدم سيف الأمير تمرباى الدوادار بحلب، وسيف الأمير أقباى نائب الإسكندرية، وقد ماتا. فتقررت ولاية زين الدين عبد الرحمن ابن كاتب السر علم الدين داود بن الكويز أحد دوادارية السلطان نيابة الإسكندرية، وخلع عليه في ثانيه .
وفي عشرينه: قدم نائب حلب إليها، وكان قد سار عندما ورد الخبر. بمشى مراد بن عثمان ملك الروم على بلاد ابن قرمان، فلما تقرر الصلح بينه وبين إبراهيم بن قرمان عاد نائب حلب من مرعش. وقدم الخبر بأن أصبهان بن قرايوسف متملك بغداد جمع لحرب حمزة بن قرايلك حاكم ماردين، فجمع له حمزة وحاربه، فهزم أصفهان، بعدما قتل عدة من أمرائه وجنده، وأن من بقى معه أرادوا قتله، فإمتنع منهم بقلعة فولاد.
شهر ذى الحجة، أوله الخميس: في حادى عشرة الموافق له سابع عشرين بوؤنة: نودى على النيل بزيادة ثلاثة أصابع وإستقر الماء القديم على خمسة أذرع وإثنين وعشرين أصبعا وتسميها الناس اليوم القاعدة. وإستمرت زيادة النيل ، ولله الحمد.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: خلع على الأمير صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه، وإستقر كاتب السر عوضًا عن شيخ الشيوخ محب الدين محمد بن شرف الدين الأشقر، مضافًا لما بيده من حسبة القاهرة ونظر دار الضرب ونظر الأوقاف ومنادمة السلطان، فنزل في موكب حليل، وقد لبس العمامة المدورة، والفرجية، هيئة أرباب الأقلام، فسر الناس به، وكان من خبره أنه نشاً من صغره بزى الأجناد، وبرع في الحساب، وكتب الخط المنسوب، وصار أحد الحجاب في الأيام الناصرية فرج بن برقوق. وتقلب مع والده في مباشرة نظر الجيش، ونظر الخاص، والوزارة . وشكرت مباشرته لذلك،. مما طبع عليه من لين الجانب، وطيب الكلام، وبشاشة الوجه، وحسن السياسة، فصار في الأيام المؤيدية شيخ من جلة الأمراء، وولى أستادارية السلطان فى الأيام الظاهرية ططر، وملك الأمراء. ثم عزل عن ذلك، وأعيد إليه في الأيام الأشرفية برسباى، وكان ما كان من مصادرته ومصادرة والده الصاحب بدر الدين، على مال كبير، أخذ منهما حتى ذهب مالهما، إلا أنه لم يمسهما بحمد الله سوء، ولا أهينا، فلزما دارهما عدة سنين. ثم شَبه لهما الإقبال، فولى الحسبة، ومازال يترقى حتى عينه السلطان لمنادمته بعد ابن قاسم بن المحلاوى، وصار يبيت عنده، وشكرت خصاله، و لم يسلك من الطمع وأخذ الأموال من الناس ما سلكه غيره، بل عف وكف، وأفضل وزاد في الأفضال، إلى أن سعى بعض الناس في كتابة السر بمال كبير جدًا، وأرجف بولايته، فاقتضى رأى السلطان ولاية الأمير صلاح الدين، وعرض عليه ذلك ليلا، وهو مقيم عنده على عادته، فاستعفى من ذلك، فلم يعفه، وصمم عليه، ورسم بتجهيز التشريف له، ثم أصبح فخلع عليه، وأقره على ما بيده. وإستمر به في منادمته، والمبيت عنده، فضبط أمره، وصار يكتب المهمات السلطانية بخطه بين يدى السلطان، لما هو عليه من قوة الكتابة وجودتها، ومعرفة المصطلح، والدربة بمعاشرة الملوك، وتدبير الدول، ومقالبة الأحوال. فتميز بذلك عمن تقدمه من كتاب السر، بعد ابن فضل الله، فإنهم منذ عهد فتح اللّه صارت المهمات السلطانية إنما يتولى كتابتها الموقعونْ بإملاء كاتب السر، حتى باشر هو، فاستبد بالكتابة، وحجب كل أحد عن الاطلاع على أحوال المملكة بحسن سياسته، وتمام معرفته..
وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج.
وفي هذه السنة: شنع الموات بصعدة وصنعاء من بلاد اليمن، بحيث ورد إلى مكة كتاب موثوق به أنه مات بصعدة وصنعاء وأعمالهما زيادة على ثمانين ألف إنسان. وفيها أيضا وقع الوباء بنواحى ديار بكر وآمد، وملك الديار، فمات منها بشر كثير. وفيها كانت حروب ببلاد الروم وديار بكر وما يليها وللّه عاقبة الأمور.
ومات فيها ممن له ذكرزين الدين عبد الرحمن بن محمد بن سليمان بن عبد اللّه المعروف بابن الخراط المروزى الأصل، ثم الحموى، الأديب، الشاعر، أحد موقعى السلطان، في ليلة الإثنين أول المحرم، عن نحو ستين سنة، بالقاهرة، ودفن من الغد. ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبى بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان بن عمر الكنانى. شهاب الدين البوصيرى الشافعى، أحد مشايخ الحديث، في ليلة الأحد ثامن عشرين المحرم.
ومات الأمير قرمش الأعور أحد المماليك الظاهرية برقوق، ترقى في الخدم حتى صار أحد الأمراء، وأخرج بعد قتل الناصر فرج بن برقوق إلى الشام. فلما خرج الأمير تنبك البجاسى على السلطان ثار معه، حتى قتل تنبك ففر وتشتت مدة، حتى ظهر الأمير جانبك الصوفى إنضم إليه، فقوى به وسار في جماعة يريد عنتاب، وبها من أمراء السلطان الأمير خجا سودن، فقاتله بمن معه وأخذه، وأخذ معه من أمراء حلب المخامرين كمشبغا في طائفة ممن معهم. وحمل هو وكمشبغا إلى حلب، فقتلا بها. وحملت رؤوسهما إلى قلعة الجبل، فألقتا في قناة ، بعد إشهارهما. وكان قتلهما في المحرم.
ومات بدمشق قاضى القضاة شمس الدين محمد ابن قاضى القضاة شهاب الدين أحمد ابن محمود، المعروف بابن الكشك، الحنفى، بدمشق، في يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر ربيع الأول، عن نحو ثلاثين سنة، وهو معزول.
ومات قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن محمد بن صلاح، المعروف بابن المحمرة ، الشافعى، بالقدس، في ليلة السبت سادس عشر شهر ربيع الآخر. ومولده في صفر سنة تسع وستين وسبعمائة، خارج القاهرة. وقد ناب في الحكم بالقاهرة، وولى مشيخة خانكاة سعيد السعداء، وقضاء القضاة بدمشق، ثم مشيخة الصلاحية بالقدس حتى مات بها.
ومات الأمير بردى بك الإسماعيلى أحد العشرات، في سابع عشر جمادى الأولى، بقلعة الجبل، وهو مسجون. ومات مقتولًا الأمير حمزة بك بن على بك بن دلغادر، في ليلة الخميس سابع عشرين جمادى الأولى، بقلعة الجبل، وهو مسجون.
ومات الأمير أرغون شاه بدمشق، في حادى عشرين رجب. وكان قد ولى الوزارة والأستادارية بديار مصر، ثم أخرج إلى الشام على إمرة، وباشر بها للسلطان. وكان ظلوما غشوما. وهو من مماليك الأمير نوروز الحافظي.
ومات شمس الدين محمد بن يوسف بن صالح الحلاوى الدمشقى، وكيل بيت المال، في ليلة الجمعة سادس شوال. ومولده في سنة خمس وستين وسبعمائة بدمشق.
ومات أمير الملأ قرقماس بن عذرا بن نعير بن حيار بن مهنا.
وماتت المرأة الفاضلة أم عبد اللّه عائشة، بنت قاضى القضاة بدمشق علاء الدين أبى الحسن على بن محمد بن على بن عبد اللّه بن أبى الفتح العسقلانى الحنبلى، في يوم الأربعاء سادس عشرين ذى القعدة. ومولدها سنة إحدى وستين وسبعمائة، حدثت عن غير واحد، فسمع عليها جماعة. وهى من بيت علم ورياسة. وذكرت منهم في هذا الكتاب وغيره أباها وأخاه جمال الدين عبد اللّه، وزْوجها قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم بن نصر اللة الحنبلى ، وولدها عز الدين أحمد ابن قاضى القضاة برهان الدين.
ومات صاحب صنعاء اليمن الإمام المنصور نجاح الدين أبو الحسن على ابن الإمام صلاح الدين أبى عبد اللّه محمد بن على بن محمد بن على بن منصور بن حجاج بن يوسف، من ولد يحيى بن الناصر أحمد بن الهادى يحيى بن القاسم الرسى بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب رضى اللّه عنهم، في سابع صفر، بعدما أقام في الإمامة بعد أبيه ستا وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وأضاف إلى صنعاء وصعدة عدة من حصون الإسماعيلية أخذها منهم، بعد حروب وحصار، فقام من بعده إبنه الإمام الناصر صلاح الدين محمد بعهده إليه وبيعة الجماعة له. فمات بعد ثمانية وعشرين يومًا في خامس عشرين شهر ربيع الأول، فأجمع الزيدية بعده على رجل منهم يقال له صلاح بن على بن محمد بن أبى القاسم وبايعوه، ولقبوه بالمهدى. وهو من بنى عم الإمام المنصور. وقام بأمره أبن سنقر على أن يكون الحكم له، فعارضه الإمام، وصار يحكم بما يؤدى إليه إجتهاده، ولا يلتفت إلى ابن سنقر، فثار عليه بعد ستة أشهر رجل يقال له محمد بن إبراهيم الساودى. وأعانه قاسم ابن سنقر، وقبضا عليه وسجناه في قصر صنعاء. ووكل به محمد بن أسد الأسدى. وقام قاسم بالأمر. فدبرت زوجة الإمام المهدى في خلاصه، ودفعت إلى الأسدى الموكل به ثلاثة آلاف أوقية، فأفرج عنه، وخرج به من القصر. وسار إلى معقل يسمى ظفار، وفيه زوجة المهدى. ومضى الأسدى إلى معقل يسمى دمر، وهو من أعظم معاقل الإسماعيلية التى إنتزعها الإمام المنصور على بن صلاح. وأقام المهدى مع زوجته بظفار. ثم جمع الناس، ويسار إلى صنعاء، فوقع بينه وبين ابن سنقر وقعة، إنكسر فيها الإمام، وتحصن بقلعة يقال لها تلى، فلما بلغ ذلك زوجته، ملكت صعدة ، وأطاعها من بها من الناس، فاضطرب أمر قاسم. وكان الناس مخالفين عليه، فأقام ولدًا صغيرًا وهو ابن بنت الإمام المنصور على، وأبوه من الأشراف الرسية، فازداد الناس نفورا عنه وإنكارا عليه. وإستدعوا الإمام المهدى إلى صعدة، فقدمها وبايعه الأشراف بيعة ثانية، حتى تم أمره. وبعث إلى أهل الحصون يدعوهم إلى طاعته، فأجابوه، وإنفرد قاسم بصنعاء وحدها على كره من أهلها، وبغض له.
سنة إحدى وأربع وثمانمائةشهر المحرم، أوله يوم السبت:
في ليلة الأحد تاسعه: بلغ القاضى زين عبد الباسط، والوزير كريم الدين، وسعد الدين ناظر الخاص، أن المماليك السلطانية على عزم نهب دورهم، فوزعوا ما عندهم، واختفوا. ثم صعدوا إلى الخدمة السلطانية على تخوف، وعادوا إلى دورهم، والإرجاف مستمر إلى يوم الأحد سادس عشرة، فنزل عدة من المماليك، فاقتحموا دار عبد الباسط ودار الأمير جانبك أستادار ودار الوزير، ونهبوا ما وجدوا فيها .
وفي ثانى عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج. وقدم من الغد المحمل ببقية الحاج.
وقدم الخبر بأن نائب دوركى توجه في خامس عشرة في عدة من نواب تلك الجهات وغيرهم، وعدتهم نحو الألفى فارس، حتى طرقوا بيوت الأمير ناصر الدين محمد ابن دلغادره وقد نزل هو والأمير جانبك الصوفى على نحو يومين من مرعش، فنهبوا ما هنالك، وحرقوا. ففر ابن دلغادر وجانبك الصوفى في نفر قليل. وذلك أن جموعهما كانت مع الأمير سليمان بن ناصر الدين بن دلغادر على حصار قيصرية الروم .
شهر صفر، أوله يوم الأحد: فيه توجه الأمير أينال الجكمى نائب الشام من دمشق يريد حلب. وقد سارت نواب الشام حتى يوافوا قيصرية، مددًا لإبن قرمان على سليمان بن دلغادر.
وفي رابعة الموافق له رابع عشرى مسرى: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعا، فركب المقام الجمالى يوسف ابن السلطان حتى خلق عمود المقياس بين يديه، ثم فتح خليج القاهرة على العادة، وعاد إلى القلعة.
وفي سابعه: قدمت تقدمة الأمير أينال الجكمى نائب الشام، وهى ذهب عشرة آلاف دينار، وخيول مائتا فرس، منها ثلاثة أرؤس بسروج ذهب وكنابيش ذهب، وسمور عشرة أبدان، ووشق عشرة أبدان، وقاقم عشرة أبدان، وسنجاب مائة بدن، وثياب بعلبكى خمسمائة ثوب، وأقواس حلقة مائة قوس، وجمال بخاتى ثلاث قطر، وجمال عراب ثلاثمائة جمل، وصوف مربع مائة ثوب، ذات ألوان.
وفي يوم الإثنين سادس عشرة: خلع على جلال الدين أبى السعادات محمد بن ظهيرة قاضى مكة خلعة الإستمرار. وكان قد قدم من مكة صحبة الحاج بطلب. وأرجف بعزله، فقام بأمره القاضى صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر، حتى رضى عنه السلطان، وأقره على قضاء مكة، على مال قام به للسلطان، وهو نحو خمسمائة دينار، فكان ذلك من المنكرات التى لم ندرك مثلها قبل هذه الدولة.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه: كان نوروز القبط. بمصر، وهو أول توت رأس سنتهم، مْنودى على النيل بزيادة أصبعين لتتمة تسعة عشر ذراعًا وأصبع من عشرين ذراعا. وهذا في زيادة النيل مما يندر وقوعه، و للّه الحمد.
وفي هذا الشهر: والذى قبله كثر الوباء بحلب وأعمالها، حتى تجاوزت عدة الأموات. بمدينة حلب في اليوم مائة.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الثلاثاء: فيه إستقر القاضى بدر الدين محمد ابن قاضى القضاة شيخ الإسلام شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر في نظر الجامع الطولونى ونظر المدرسة بين القصرين، نيابة عن قاضى القضاة علم الدين صالح بن البلقينى، بسؤال القاضى زين الدين عبد الباسط له في ذلك، فأذن له حتى إستنابه عنه .
وفي خامسه: خلع الأمير غرس الدين خليل الذى ولى الوزارة بعد نْيابة الإسكندرية، وإستقر في نيابة الكرك وسار بطلبه وأثقاله من ساعته . وفيه توجه قاضى مكة الجلال أبو السعادات يريد مكة.
وفي يوم السبت ثاني عشرة: وهو يوم عيد الصليب عند قبط مصر نودى على النيل بزيادة أصبعين لتتمة عشرين ذراعًا وثمانية أصابع. هذا وقد فتحت السدود الصليبية في يوم الجمعة أمسه. وكان هذا أيضًا من نوادر زيادات النيل. ومازال يزيد حتى إنتهت زيادته في سادس عشرة، الموافق له حادى عشرين بابه، إلى عشرين ذراعًا وثلاثة عشر أصبعًا.
وفي يوم السبت تاسع عشرة : خلع على الصاحب جمال الدين يوسف بن كريم الدين عبد الكريم بن بركة المعروف بإبن كاتب حكم وإستقر في نظر الخاص، بعد موت أخيه سعد الدين إبراهيم .
وفي سادس عشرينه وهو أول بابة: بلغ ماء النيل عشرين ذراعًا وخمسة عشر أصبعًا شهر ربيع الآخر، أوله يوم الأربعاء:
في هذا الشهر: ثبت ماء النيل إلى نحو النصف من شهر بابة فكمل رى الأراضى والحمد للّه. ثم إنحط ، فضرع الناس في الزرع. وفيه كملت عمارة الجامع الذى أنشأه السلطان بناحية خانكاة سرياقوس على الدرب المسلوك، وذرعه خمسون ذراعًا في خمسين ذراعًا. ورتب فيه إماما للصلوات الخمس، وخطيبًا وقراء يتناوبون القراءة في مصاحف .
وفي هذا الشهر: والذى قبله فْشا الموت في الناس. بمدينة حماة وأعمالها، حتى تجاوز عدة من يموت في كل يوم مائة وخمسين إنسانًا. وقدم الخبر بأن عدن من بلاد اليمن إحترقت بأًجمعها، وأحرقت دار الملك بزبيد مع جانب من المدينة، وأن الملك الظاهر يحيى ملك اليمن كانت بينه وبين المعازبة من عرب اليمن وقعة، وقتل فيها عدة من عسكره، ونجا بنفسه إلى تعز. وأن العرب اليمانية إنتقضت عليه من باب عدن إلى الشحر، وأنه قبض على كبير دولته الأمير سيف الدين برقوق وسلبه ماله وسجنه، ثم أفرج عنه. وفيه أيضًا كانت بين المسلمين وبين ملك البرتغال وقعة على مدينة طنجة من أعمال المغرب.
شهر جمادى الأولى، أوله يوم الخميس: في ثالثه: ركب السلطان من قلعة الجبل، وشق القاهرة من باب زويلة، وخرج من باب القنطرة، فمضى إلى القليوبية لصيد الكراكى وهذه أول ركبة ركبها في هذه السنة للصيد .
وفيه قدم الأمير تمراز المؤيدى نائب غزة.
وفي خامسه: قدم السلطان من الصيد، وعبر من باب القنطرة، وشق القاهرة حتى خرج من باب زويلة إلى القلعة، ولم يقع له صيد ألبتة.
وفي سادسه: قبض على الأمير تمراز نائب غزة، وحمل مقيدًا إلى الإسكندرية فسجن بها. وإستدعى الأمير جرباش قاشق من دمياط، وهو مسجون بها ليلى نيابة غزة، فلم يتم له ذلك. ورجع إلى دمياط.
وفي ثامنه: ركب السلطان ليصطاد من بركة الحجاج ومضى إلى جامعه بخانكاة سرياقوس، وعاد من يومه. ثم ركب في ليلة السبت عاشرة يريد أطفيح. فاصطاد، وعاد في يوم الإثنين ثانى عشرة.
وفي سابع عشرة: خلع على الأمير آقبردى القجماسى ، وإستقر في نيابة غزة. وفيه قدم مملوك نائب حلب برأس الأمير جانبك الصوفى ويده، فطيف بالرأس على رمح شارع القاهرة، ثم ألقيت في قناة، وكان من خبره أنه لما كبسه نائب دوركى في شهر اللّه المحرم كما تقدم ذكره فر هو وابن دلغادر، فمضى ابن دلغادر على وجهه يريد بلاد الروم، وقصد الأمير جانبك الصوفى أولاد قرايلك ونزل على محمد ومحمود ابنى قرايلك، وأقام عندهم، فأخذ الأمير تغرى برمش نائب حلب في إستمالة محمد ومحمود حتى مالا إليه، وواعداه أن يقبضا على جانبك على أن يحمل إليهما خمسة آلاف دينار، فنقل ذلك لجانبك، فبادر، وخرج ومعه بضعة وعشرون فارسًا لينجو بنفسه، فأدركوه، وقاتلوه، فأصابه سهم، سقط منه عن فرسه، فأخذوه وسجنوه عندهم. وذلك في يوم الجمعة خامس عشرين شهر ربيع الآخر. فمات من الغد، فقطع رأسه، وحمل إلى السلطان، فكاد يطير فرحًا، وظن أنه قد أمن، فأجرى اللّه على الألسنة أنه قد إنقضت أيامه، وزالت دولته. فكان كذلك كما سيأتى هذا. وقد قابل نعمة اللّه تعالى عليه في كفاية عدوه بأن تزايد عتوه وكثر ظلمه، وساءت سيرته، فأخذه اللّه أخذًا وبيلا، وعاجله بنقمته ولم يهنيه.
وفي تاسع عشرة: ركب السلطان إلى الصيد بالقليوبية، وعاد من الغد. وفيه ورد كتاب الحطى ملك الحبشة، وهو الناصر يعقوب بن داود ابن سيف أرعد، ومعه هدية، ما بين ذهب وزباد وغير ذلك، فتضمن كتابه السلام والتودد، والوصية بالنصارى وكنائسهم.
وفي هذا الشهر: شنع الوباء بحماة، حتى تجاوزت عدة الأموات عندهم في كل يوم ثلاثمائة إنسان، و لم يعهدوا مثل ذلك في هذه الأزمنة.
شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة: فيه رسم بنقل جمال الدين يوسف بن الصفى الكركى كاتب السر بدمشق إلى نظر الجيش بها، عوضًا عن بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجى، على أن يحمل أربعة آلاف دينار. وأن يستقر بن حجى في كتابة السر، عوضًا عن ابن الصفى، على أن يحمل ألف دينار.
وفي ثانيه: توجه السلطان إلى الصيد في بركة الحجاج. وقدم الخبر بوقوع الوباء في مدينة طرابلس الشام.
وفي هذا الشهر: كثر ركوب السلطان إلى الصيد. وفيه وقع الوباء بدمشق، وفْشا الموت بالطاعون الوحى. وقدم الخبر بأن إسكندر بن قرايوسف نزل قريبا من مدينة تبريز فبرز إليه أخوه جهان شاه، المقيم بها من قبل القان معين الدين شاه رخ بن تيمور لنك ملك المشرق، فكانت بينهما وقعة إنهزم فيها إسكندر إلى قلعة يلنجا من عمل تبريز، فنازله جهان شاه، وحصره بها. وأن الأمير حمزة بن قرايلك متملك ماردين وأرزنكان أخرج أخاه ناصر الدين على باك من مدينة آمد، وملكها منه. فقلق السلطان من ذلك. وعزم على أن يسافر بنفسه إلى بلاد الشام، وكتب بتجهيز الإقامات بالشام ثم أبطل ذلك.
شهر رجب، أوله الأحد: في خامسه: أدير محمل الحاج. وقد تقدم أنه إنما كادْ يدار بعد النصف من شهر رجب، وأنه أدير في هذه الدولة قبل النصف، فجرت في ليلة الإثنين ويوم الإثنين خامسه شنائع. وذلك أن مماليك السلطان سكان الطباق بالقلعة نشأوا على مقت السلطان لرعيته، مع ما عندهم من بغض الناس، فنزل كثير منهم في أول الليل، وأخذوا في نهب الناس، وخطف النساء والصبيان للفساد. وإجتمع عدد كثير من العبيد السود، وقاتلوا المماليك فقتل من العبيد خمسة نفر، وجرح عدة من المماليك، وخطف من العمائم وأخذ من الأمتعة شىء كثير، فكان ذلك من أقبح ما سمعنا به. وفْيه قْدم ولد محمود بن قرايلك بسيفْ الأمير جانبك الصوفْي، الذى قتل.
وفي يوم السبت سابعه: رسم بخروج تجريدة إلى بلاد الشام، وعين من الأمراء المقدمين ثمانية، وهم الأمير قرقماس الشعبانى أمير سلاح، والأمير أقبغا التمرازى أمير مجلس، والأمير أركماس الظاهرى الدوادار، والأمير تمراز الدقماقى رأس نْوبة النوب، والأمير يشبك حاجب الحجاب، والأمير جانم أمير أخور، والأمير خجا سودنْ، والأمير قراجا الأشرفي.
وفي تاسعه: نودى بألا يحمل أحد من العبيد السلاح، ولا سيفًا ولا عصى، ولا يمشي بعد المغرب. وأن المماليك لا تتعرض لأحد من العبيد. وذلك أنه لما وقع بين المماليك والعبيد في ليلة المحمل ما وقع، أخذ المماليك في تتبع العبيد، فقتلوا منهم جماعة، ففر كثير منهم من القاهرة، وإختفى كثير منهم. فلما نودى بذلك سكن ذلك الشر، وأمن الناس على عبيدهم، بعد خوف شديد. وفيه رسم. بمنع المماليك من النزول من طباقهم بالقلعة إلى القاهرة، وذلك أنهم صاروا ينزلون طوائف طوائف إلى المواضع التى يجتمع بها العامة للنزهة، ويتفننوا في العبث والفساد، من أخذ عمائهم الرجال وإغتصاب النساء والصبيان، وتناول معايش الباعة، وغير ذلك، فلم يتم منعهم، ونزلوا على عادتهم السيئة.
وفي عاشرة: حمل إلى الأمراء الثمانية نفقة السفر، وهى لكل أمير ألفا دينار أشرفية .
وفي يوم الأربعاء ثامن عشرة: ركب السلطان إلى خليج الزعفران من الريدانية خارج القاهرة وعاد من يومه. فأصبح موعك البدن، ساقط الشهوة للغذاء، ولزم الفراش .
وفي هذا الشهر: وقع الوباء ببلاد الصعيد من أرض مصر وكثر بدمشق، وشنع بحلب وأعمالها، فأظهر أهلها التوبة، وأغلقوا حانات الخمارين، ومنعوا البغايا الواقفات للبغاء، والشباب المرصدين لعمل الفاحشة، بضرائب تحمل لنائب حلب وغيره من أرباب الدولة فتناقص الموت وخف الوباء، حتى كاد يرتفع. ففرح أهل حلب بذلك، وجعلوا شكر هذه النعمة أن فتحوا الخمارات، وأوقفوا البغايا والأحداث للفساد بالضرائب المقررة عليهم، فأصبحوا وقد مات من الناس ثمانمائة إنسان. وإستمر الوباء الشنيع، والموت الذريع فيهم، رجب، وشعبان، وما بعده.
شهر شعبان أَوله، يوم الإثنين: أهل هذا الشهر والسلطان مريض، وقد أخرج مالا فرق في جماعة من الناس على سبيل البر والصدقة، فمازال إلى يوم الثلاثاء تاسعه، فخلع فيه على الأطباء لعافية السلطان. وركب من الغد، فزار القرافة، وفرق مالاً في الفقراء، وعاد والمرض بين في وجهه .
وفي هذا اليوم: أعنى يوم الأربعاء عاشره حدثت ريح شديدة في معاملة طرابلس واللاذقية وحماة وحلب وحمص وأعمالها، وإستمرت عدة أيام، فألقت من الأشجار ما لا يدخل تحت حصر.
وفي يوم السبت ثالث عشرة : برز سعد الدين إبراهيم بن المرة إلى ظاهر القاهرة ليسير إلى الطور ويركب البحر إلى حدة، وكان قدم من مكة، وصادره السلطان على مال حمله، ثم خلع عليه، وإستقر في نظرالخاص بجدة على عادته. وخلع معه على التاجر بدر الدين حسين بن شمس الدين محمد بن المزلق الدمشقى، ليكون عوضًا عن الأمير المجرد إلى جدة.
وفيه ركب السلطان إلى خارج القاهرة، وعبر من باب النصر، ثم نزل بالجامع الحاكمى، وقد ذكر له أن بهذا الجامع دعامة قد ملئت ذهبًا، فشره لذلك، وطمع في أخذه. فقيل له. " إنك تحتاج إلى هدم جميع هذه الدعائم حتى تظفر بها، ثم لابد لك من إعادة عمارتها " . فعلم عجزه عن ذلك، وخرج، فركب عائدا إلى القلعة .
وفيه قدم الخبر بأن الرباء شنع بدمشق، وأنه مات من الغرباء الذين قدموا من بغداد وتبريز والحلة والمشهد وتلك الديار فرارا من الجور والظلم الذى هنالك وسكنوا حلب وحماة ودمشق عالم عظيم، لا يحصرهم العاد لكثرتهم.
وفي سابع عشرة: خلع على الأمير أركماس الجاموس أمير شكار ، وأعيد إلى كشف الوجه القبلى، وإستقر ملك الأمراء ليحكم من الجيزة إلى أسوان.
وفيه أيضا حدثت بالقاهرة زلزلة عند أذان العصر، إهتز بى البيت مرتين، إلا أنها كانت خفيفة جدًا و للّه الحمد.
وفي يوم الجمعة تاسع عشرة: هبت بدمشق ريح شديدة في غاية من القوة. وإستمرت يوم الجمعة ويوم السبت، فاقتلعت من شجر الجوز الكبار ما لا يمكن حصره لكثرته. وألقت أعالى دور عديدة، وألقت بعض المنارة الشرقية بالجامع الأموى، فكان أمرًا مهولا، وعمت هذه الريح بلاد صفد والغور، وأتلفت شيئا كثيرا.
وفي عشرينه: إستقل ابن المزلق وابن المرة بالمسير إلى الطور ليركبوا البحر من هناك إلى جدة. وبعث السلطان على يد ابن المزلق خمسة آلاف دينار، بسبب عمارة عين عرفة.
وفي يوم الخميس: خرج الأمير قرقماس أمير سلاح مقدم العسكر المجرد إلى الشام، وصحبته الأمراء، من غير أن يرافقهم في سفرهم أحد من الممالك السلطانية، لسوء سيرتهم. فنزلوا بالريدانية خارج القاهرة، إلى أن إستقلوا بالمسير في يوم السبت سابع عشرينه. وكتب لنائب الشام الأمير أينال الجكمى، أن يتوجه. ممن معه صحبة الأمراء إلى حلب، ويستدعوا حمزة باك ابن قرايلك صاحب ماردين وأرزن كان، فإن قدم إليهم خلع عليه بنيابة السلطة فيما يليه، وإلا مشوا بأجمعهم عليه وقاتلوه وأخذوه .
وقدم الخبر بأنْ محمد بن قرايلك توجه إلى أخيه حمزة بالك باستدعائه، وقد حقد عليه قتله جانبك الصوفي، فإنه لما بلغه نزول جانبك على أخويه محمد ومحمود، كتب إلى أخيه محمد بأًن يبعث به إليه ليرهب به السلطان، فمال محمد إلى ما وعده به نائب حلب من المال، وقتل جانبك، فمازال حمزة يعد أخاه ويمنيه، حتى سار إليه، وفي ظنه أنه يوليه بعض بلاده، فما هو إلا أن صار في قبضته، قتله وظهر عاجل عقوبة الله له على بغْيه .
وفي هذا الشهر: وقع في كثير من الأبقار داء طرحت منه الحوامل عجولاً وفيها الطاعون، وهلك كثير من العجاجيل بالطاعون أيضاً.
شهر رمضان، أوله يوم الثلاثاء: وفيه كانت عدة الأموات التى رفعت بها أوراق مباشرى ديوان المواريث بالقاهرة ثمانية عشر إنساناً، وتزايدت عدتهم في كل يوم حتى فشا في الناس الموت بالطاعون في القاهرة ومصر، لاسيما في الأطفال والإماء والعبيد، فإنهم أكثر من يموت موتاً وحيًا سريعًا. هذا وقد عم الوباء بالطاعون بلاد حلب ، وحماة ، وطرابلس ، وحمص ، ودمشق، وصفد ، والغور ، والرملة وغزة ، وما بين ذلك، حتى شنعت الأخبار بكثرة من يموت، وسرعة موتهم. وشناعة الموتان أيضًا ببلاد الواحات من أرض مصر، ووقوعه قليلا بصعيد مصر .
وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه: ختمت قراءة صحيح البخارى بين يدى السلطان بقلعة الجبل ، وقد حضر قضاة القضاة الأربع، وعدة من مشايخ العلم وجماعة من الطلبة، كما جرت العادة من الأيام المؤيدية شيخ. وهو منكر في صورة معروف، ومعصية في زى طاعة. وذلك أنه يتصدى للقراءة من لا عهد له بمارسة العلم، لكنه يصحح ما يقرأه، فيكثر مع ذلك لحنه وتصحيفه وخطاه وتحريفه. هذا، ومن حضر لا ينصتون لماعه، بل دائما دأبهم أن يأخذوا في البحث عن مسأله يطول صياحهم فيها، حتى يمْضى بهم الحال إلى الإساءات التى تؤول أشد العداوات. وربما كفر بعضهم بعضًا، وصاروا ضحكة لمن عساه يحضرهم من الأمراء والمماليك. وإتفق في يوم هذا الختم أن السلطان لما كثر الوباء قلق من مداخلة الوهم له، فسأل من حضر من القضاة والفقهاء عن الذنوب التى إذا إرتكبها الناس عاقبهم اللّه بالطاعون، فقال له بعض الجماعة: إن الزنا إذا فشا في الناس ظهر فيهم الطاعون، وأن النساء يتزين ويمشين في الطرقات ليلًا ونهارًا في الأسواق. فأشار آخر أن المصلحة منع النساء من المشى في الأسواق. ونازعه آخر فقال لا يمنع إلا المتبرجات، وأما العجائز ومن ليس لها من يقوم بأمرها لا تمنع من تعاطى حاجتها. وجروا في ذلك على عادتهم في معارضة بعضهم بعضاً، فمال السلطان إلى منعهن من الخروج إلى الطرقات مطلقًا، ظناً منه أن بمنعهن يرتفع الوباء. وأمر بإجتماعهم عنده من الغد، فاجتمعوا في يوم الخميس، وإتفقوا على ما مال إليه السلطان. فْنودى بالقاهرة ومصر وظْواهرهما. بمنع جميع النساء بأسرهن من الخروج من بيوتهن، وألا تمر إمرأة في شارع ولا سوق ألبتة، وتهدد من خرجت من بيتها بالقتل، فامتنع عامة النساء، فتياتهن وعجائزهن وإمائهن من الخروج إلى الطرقات. وأخذ والى القاهرة وبعض الحجاب في تتبع الطرقات، وضرب من وجدوا من النساء، وأكدوا من الغد يوم الجمعة في منعهن، وتشددوا في الردع والتهديد، فلم تر إمرأة في شىء من الطرقات. فنزل بعدة من الأرامل وربات الصنائع، ومن لا قيم لها يقوم بشأنها، ومن تطوف على الأبواب تسأل الناس، ضيق وضرر شديد. ومع ذلك فتعطل بيع كثير من البضائع والثياب والعطر، فإزداد الناس وقوف حال، وكساد معايش، وتعطل أسواق، وقلة مكاسب.
وفي يوم السبت سادس عشرينه: أمر السلطان بإخراج أهل السجون من أرباب الجرائم، ومن عليه دين، فاًخرجوا بأجمعهم، وأطلقوا بأسرهم. ورسم بغلق السجون كلها، وألا يسجن أحد، فأغلقت السجون بالقاهرة ومصر. وأنتشرت السراق والمفسدون في البلد. وإمتنع من له مال على أخر أن يطالبه به .
وفي سابع عشرينه: عزم السلطان على ولاية الحسبة لرجل ناهض، فذكر له جماعة، فلم يرضهم. ثم قال: عندى واحد ليس بمسلم، ولا يخاف اللّه وأمر فأحضر إليه الأمير دولت خجا، فخلع عليه وإستقر به محتسب القاهرة، عوضًا عن المقر الصلاحى محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه، رغبة من السلطان في جبروته، وقسوته، وشدة عقوبته وقلة رحمته وفيه نودى بخروج الإماء لشراء حوائج مواليهن من الأسواق، وألا تنتقب واحدة منهن، بل يكن سافرات عن وجوههن، وأن تخرج العجائز لقضاء أشغالهن، وأن تخرج النساء إلى الحمامات، ولا يقمن بها إلى الليل، فكان في ذلك نوع من أنواع الفرج. وفيه قدم الأمراء المجردون إلى البحيرة بغير طائل، وقد أتلفوا كثيرًا من زروع النواحي. وفيه إبتدأ إنتشار الجراد الكثير بالقاهرة وضواحيها، وإستمر عدة أيام. وفيه أقيم بعض سفلة العامة الأشرار في التحدث على مواريث اليهود والنصارى، وخلع عليه، وكانت العادة أن بطرك النصارى ورئيس اليهود يتولى كل منهما أمر مواريث طائفته، فتوصل هذا السفلة إلى السلطان، والتزم له أن يحصل من هذه الطائفتين مالًا كبيراً، فجرى السلطان على عادته في الشره في جمع المال، وولاه. وفيه كشف عن بيوت اليهود والنصارى، وأحضروا ما فيها من جرار الخمر لتراق.
وفي هذا الشهر: هدم للنصارى دير المغطس عند الملاحات، قريب من بحيرة البرلس وكانت نصارى الإقليم قبليا وبحريا تحج إلى هذا الدير كما يحجون إلى كنيسة القيامة بالقدس، وذلك في عيده من شهر بشنس، ويسمونه عيد الظهور، وقد بسطت الكلام على هذا عند ذكر الكنائس والديارات من كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار .
وفي هذا الشهر: شنع الموت بالطاعون في بلد عانة من بلاد العراق، بحيث لم يبق بها أحد. وإستولى أمير الملا عاذر بن نعير على موجودهم جميعه. وشنع الموت أيضاً في أهل الرحبة، حتى عجزوا عن مواراة الأموات، وألقوا منهم عددًا كثيراً في الفرات. وشنع الموت أيضًا في أزواق التركمان، وبيوت العربان بنواحي بلاد الفرات، حتى صار الفريق من العرب، أو الزوق من التركمان، ليس به إنسان. ودوابهم مهملة، لا راعى لها. وأحصى من مات بمدينة غزة في هذا الشهر، فبلغوا إثني عشر ألفًا ونيف، ووردت الأخبار بخلو عدة مدن ببلاد المشرق لموت أهلها، وبكثرة الوباء ببلاد الفرنج.
شهر شوال، أهل بيوم الخميس: وقد كل الناس بالقاهرة ومصر من القبض والأنكاد ما لا يوصف، وذلك من تزايد عدة الأموات في كل يوم، فكانت عدة من رفع ذكره من ديوان المواريث في هذا اليوم وهو يوم العيد من القاهرة مائة إنسان، ومن مصر إثنان وعشرون. هذا، وقد تعطل بيع كثير من البضائع وأمتعة النساء لإمتناعهن من المشي في الطرقات وإستوحش نساء الأمراء المجردين وأولادهم لغيبتهم عنهم، وقلق الناس من عسف متولى الحسبة، وشدة بطشه، ومن كثرة ما داخل الناس من الوهم خوفًا على أولادهم وخدمهم من الموت الوحى السريع بالطاعون، ومن نزول أنواع المكاره بالذمة من اليهود والنصارى، بحيث أنى لم أدرك في طول عمرى عيدًا كان أنكد على الناس من هذا العيد .
وفي ليلة هذا العيد: إشتد برد الشتاء في بلاد الشام، فأصبح الناس من صفد إلى دمشق وحماة وحلب وديار بكر، إلى أرزن كان، وقد صقعت أشجارهم، بحيث لم يبق عليها ورقة خضراء إلا إسودت، ما عدا شجر الصفصاف، والجوز فتلفت الباقلاء المزروعة، والشعير والبيقياء والهليون وعامة الخضروات، فزادهم ذلك بلاء على بلائهم بكثرة الموتان الفاشى في الناس وهبت مع ذلك بصفد ريح باردة، هلك بعدها من الناس والدواب ما شاء اللّه. وتلفت بها الزروع والأشجار. وإتفق أيضًا في ليلة عيد الفطر أن هجم على مدينة فاس من بلاد المغرب الأقصى، سيل عظيم جداً، فأخذ خلائق وهدم عدة مساكن، فكان أمرًا مهولاً وحادثًا شنيعًا. وفي رابعه: قدم الأمراء المجردون إلى حلب. وفيه خلع السلطان على الأمور أسنبغا الطيارى، وإستقر حاجب ميسرة، عوضاً عن جانبك الناصرى المتوفى بمكة، فأراق الخمور من دور النصارى وغيرهم.
وفي يوم الثلاثاء سادسه: خلع على الإمام الحافظ شهاب الدين أبى الفضل أسد ابن على بن حجر، وأعيد إلى قضاء الشافعية بديار مصر، عوضاً عن قاضى القضاة علم الدين صاع البلقينى. وألزم أن يقوم لعلم الدين صالح بما حمله إلى الخزانة. هذا، وقد أظهر السلطان أنه لا يولى أحدًا من القضاة بمال، فإنه داخله وهم عظيم من كثرة تزايد الموت الوحى السريع في الناس، وموت كثر من المماليك السلطانية سكان الطباق من القلعة، وموت الكثير من خدام السلطان الطواشية، ومن جواريه وحظاياه وأولاده، فحمل إلى البلقينى من مال شهاب الدين بن حجر، لا من مال السلطان.
وفيه ركب السلطان من القلعة، وأقام يومه بخليج الزعفران خارج القاهرة. وعاد من آخره بعد أن فرق مالاً في الفقراء، فتكاثروا على متولى تفرقة ذلك، حتى سقط عن فرسه، فغضب السلطان من ذلك، وطلب سلطان الحرافيش، وشيخ الطوائف، وألزمهما بمنع الجعيدية أجمعين من السؤال في الطرقات، وإلزامهم بالتكسب، وأن من شحذ منهم يقبض الوالى عليه، وأخرج ليعمل في الحفير. فإمتنعوا من الشحاذة، وخلت الطرقات منهم، و لم يبق من السؤال إلا العميان والزمناء وأرباب العاهات، و لم نسمع بمثل ذلك. فعم الضيق كل أحد، وإنطلقت الألسنة بالدعاء على السلطان، وتمنى زواله، فأصبح في يوم الأربعاء سابعه مريضًا قد إنتكس، ولزم الفراش.
وفي هذه الأيام: إشتد البلاء بأهل الذمة من اليهود والنصارى ، وألزمهم الذى ولى أمر مواريثهم أن يعملوا له حساب من مات منهم من أول هذه الدولة الأشرفية، وإلى يوم ولايته. وأخرق بهم وأهانهم. وألزمهم أيضًا أن يوقفوه على مستنداتهم في الأملاك التى بأيديهم، فكثرت الشناعة عليه، وساءت القالة في الدولة.
وإتفق مع ذلك كله حوادث مؤلمة منها أن امرأة مات ولدها بالطاعون، ولم يكن لها سواه فلما غسل وكفن وأخرج به ليوضع في التابوت ليدفن في الصحراء أرادت أمه أن تخرج وراء جنازته، فمنعت من ذلك لأن السلطان رسم ألا تخرج امرأة من منزلها. فشق عليها منعها من تشنيع جنازة ولدها، وألقت نفسها من أعلى الدار إلى الأرض، فماتت. وخرجت امرأة أخرى من دارها لأمر مهم طرأ لها، فصدفها دولت خجا متولى الحسبة، فصاح بأعوانه بأن يأتوه بها ليضربها، فما هو إلا أن قبضوا عليها، إذ ذهب عقلها وسقطت مغشيًا عليها من شدة الخوف، فشفع فيها بعض من حضر ألا يعاقبها، فتركها، وانصرف عنها. فحملت إلى دارها وقد إختلت وفسد عقلها فمرضت مع ذلك مدهْ.
وفي يوم الجمعة تاسعه: إتفقت حادثه لم ندرك مثلها، وهو أن الخطيب بالجامع الأزهر رقي المنبر فخطب، وأسمع الناس الخطبة وأنا فيهم حتى أتمها على العادة. وجلس للإستراحة بين الخطبتين، فلم يقم حتى طال جلوسه. ثم قام وجلس سريعًا، وإستند إلى جانب المنبر ساعة قدر ما يقرأ القارىء ربع حزب من القرآن، والناس في إنتظار قيامه، وإذا برجل من الحاضرين يقول: مات الخطيب. فإرتج الجامع وضج الناس، وضربوا أيديهم بعضها على بعض أسفًا وحزلًا، وأخذنى البكاء وقد إختلت الصفوف، وقام كثير من الناس يريدون المنبر، فقام الخطب على قدميه، ونزل عن المنبر، فدخل المحراب وصلى من غير أن يجهر بالقراءة، وأوجز في صلاته حتى أتم الركعتين، وقدمت عدة جنائز فلم أدر من صلى بنا عليها. وإذا بالناس في حركة وإضطراب، وعدة منهم يجهرون بأن الجمعة ما صحت. وتقدم رجل فأقام وصلى الظهر أربعًا، وجماعة يأتمون به. فما هو إلا أن قضي هؤلاء صلاتهم إذا بجماعة أخر قد وثبوا وأمروا فأذن المؤذنين على سدة المؤذنين بين يدى المنبر، ورقي رجل المنبر، فخطب خطبتين، ونزل ليصلى فمنعوه من التقدم إلى المحراب، وأتوا بإمام الخمس، فقدموه حتى صلى بالناس جمعة ثانية. فلما إنقضت صلاته بالناس ثار آخرون وصاحوا بأن هذه الجمعة الثانية لم تصح، وأقاموا الصلاة، وصلى بهم رجل صلاة الظهر أربع ركعات، وكان في هذا اليوم بالجامع الأزهر إقامة خطبتين وصلاة الجمعة مرتين، وصلاة الظهر مرتين، وإنصرف الناس، وكل طائفة تخطىء الأخرى، وتطير كثير منهم على السلطان بزواله من أجل إقامة خطتين في موضع واحد هذا، وقد كان الناس عندما قيل: مات الخطيب، قد ملكهم الوهم، فأرعد بعضهم، وبكى جماعة منهم، ودهش آخرون. وهبت عند ذلك ريح باردة، فظنوا أنهم جميعًا ميتون حتى أنه لو قدر اللّه موت الخطيب على المنبر لهلك جماعة من الوهم. وللّه عاقبة الأمور.
وفي هذه الأيام: تزايد بالسلطان مرضه. ومنذ إبتدأ به المرض، وهو أخذ في التزايد، إلا أنه يتجلد، ويظهر أنه عوفي. ويخلع على الأطباء، ويركب وسحنته متغيرة، ولونه مصفراً، إلى أن عجز عن القيام من ليلة الأربعاء سابعه. هذا، وقد شنع الموت بالدور السلطانية في أولاد السلطان الذكور والإناث، وفي حظاياه وجواريه، وجوارى نسائه، وفي الخدام الطواشية، وفي المماليك السلطانية سكان الطباق بالقلعة. وشنع الموت أيضاً في الناس بالقاهرة ومصر وما بينهما، وفي سكان قلعة الجبل، سوى من ذكرنا، وفي بلاد الواحات والفيوم، وبعض بلاد الصعيد، وبعض الحوف بالشرقية .
وفي يوم الإثنين تاسع عشرة: خرج محمل الحاج مع الأمير أقبغا الناصرى أحد الطبلخاناه ونزل بركة الحجاج على العادة، فمات عدة ممن خرج بالطاعون، منهم ابن أمير الحاج وأبيه، في هذا اليوم ومن الغد بعده .
وفي هذا الشهر: ثار عشير بلاد الشام قيسها ونميها وتحاربوا في سادسه، فقتل من الفريقين جماعات يقول المكثر زيادة على ألف، ويقول المقل دون ذلك، فنزل بأهل الشام الخوف الشديد، مع ما بهم من البلاء العظيم بكثرة الموتان عندهم، حتى لا يكاد يوجد بها إلا حزين على ميت. ومع ما أصابهم من تلاف فواكههم عن آخرها.
وفي يوم الأربعاء حادى عشرينه: رفعت أوراق ديوان المواريث بعدة من مات في هذا اليوم بالقاهرة، فكانوا ثلاثمائة وأربعًا وأربعين ميتًا. وضبطت عدة من صلى من الأموات في المصليات، فبلغوا ما ينيف على ألف ميت.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه:. خلع على الأطباء لعافية السلطان.
وفي ثالث عشرينه: إستقل الحاج من البركة بالمسير.
وفي يوم السبت رابع عشرينه: وسط السلطان طبيبيه اللذين خلع عليهما بالأمس، وهما العفيف وزين خضر، وذلك أنه حرص على الحياة، وصار يستعجل في طلب العافية، فلما لم تحصل له العافية ساءت أخلاقه، وتوهم أن الأطباء مقصرون في مداواته، وأنهم أخطأوا التدبير في علاجه، فطلب عمر بن سيفا والى القاهرة، فلما مثل بين يديه، وهو جالس وبين يديه جماعة من خواصه، منهم صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر، والأمير صفى الدين جوهر الخازندار في خرف، وفيهم العفيف وخضر أمره أن يأخذ العفيف ويوسطه بالقلعة. فأقامه ليمضي فيه ما أمر به، وإذا الخضر فأمره أن يوسط خضر أيضًا، فأخذ الآخر وهو يصيح. فقام أهل المجلس يقبلون الأرض، ومنهم من يقبل رجل السلطان، ويضرعون إليه في العفو، فلم يقبل، وبعث واحدًا بعد أخر يستعجل الوالى في توسيطهما وهو يتباطاً، رجاء أن يقع العفو عنهما. فلما طال الأمر بعث السلطان من أشد أعوانه من يحضر توسيطهما فخرج وأغلظ للوالى في القول. فقدم لعفيف فاستسلم، وثبت حتى وسط قطعتين بالسيف. وقدم خضر، فجزع جزعا شديداً، ودافع عن نفسه، وصاح، فتكاثروا عليه فوسطوه توسيطًا شنيعا، لتلويه وإضطرابه. ثم حملاً إلى أهليهما بالقاهرة. فساء الناس ذلك، ونفرت قلوبهم من السلطان، وكثرت قالتهم، فكانت حادثة لم ندرك مثلها. ومن حينئذ تزايد البلاء بالسلطان إلى يوم الخميس تاسع عشرينه، فاستدعى السلطان الأمير الكبير جقمق العلاى الأتابك ومن تأخر من الأمراء المقدميِن، وقال لهم: " انظروا في أمركم " ، وخوفهم مما جرى بعد المؤيد شيخ من الإختلاف وإ تلاف أمرائه، فطال الكلام، وإنفضوا عنه، على غير شىء عقدوه، ولا أمرًا أبرموه.
شهر ذى القعدة، أهل بيوم السبت: والناس في أنواع من البلاء الذى لم نعهد مثله مجتمعًا، وهو أن السلطان تزايدت أمراضه، وأرجف بموته غير مرة، وشنع الموت في مماليكه سكان الطباق، حتى لقد مات منهم في هذا الوباء نحو آلاف. ومات من الخدام الخصيان مائة وستون طواشي، ومات من الجوارى بدار السلطان زياده على مائة وستين جارية، سوى سبع عشرة حظية وسبعة عشر ولدًا، ذكورا وإناثًا.
وشمل عامة دور القاهرة ومصر وما بينهما الموت أو المرض، وكذلك جميع بلاد الشام من الفرات إلى غزة، حتى أن قفلًا توجه من القاهرة يريد دمشق، فما نزل بالعريش حتى مات ممن كان سائرًا فيه زيادة على سبعين إنسانًا، منهم عدة من معارفنا. ومع هذا كساد المبيعات وتعطل الأسواق، إلا من بيع الأكفان وما لابد للموتى منه، كالقطن ونحوه، إلا أنه منذ أهل هذا الشهر أخذت عدة الأموات تتناقص في كل يوم.
وفي أوله: وصل العسكر المجرد إلى مدينة أبلستين.
وفي يوم الثلاثاء رابعه: عهد السلطان إلى ولده المقام الجمالى يوسف، وذلك أنه لما تزايد به المرض، حدث عظيم الدولة القاضى زين الدين عبد الباسط الأمير صفى الدين جوهر الخازندار في أمر المقام الجمالى، وأشار له أن يفاوض السلطان في وقت خلوته به، أن يعهد إليه بالسلطة من بعد وفاته، ويحسن له ذلك، فإتفق أن السلطان أمر الأمير جوهر أن يحرر له جملة ما يتحصل من أوقافه على أولاده، فلما أوقفه على ذلك، وجد السبيل إلى الكلام، فأعلمه. بما أشار به القاضى زين الدين عبد الباسط من العهد إلى المقام الجمالى، فأعجبه ذلك، وأمر بإستدعائه ه فلما مثل بين يديه، سأله عما ذكر له جوهر عنه، فأخذ يحسن ذلك، ويقول: " في هذا إجتماع الكلمة، وسد باب الفتن، وعمارة بيت السلطان، ومصلحة العباد، وعمارة البلاد " ونحو ذلك من القول. فأجاب السلطان إلى ذلك، ورسم له باستدعاء الخليفة والقضاة والأمراء والمماليك وأهل الدولهْ، وحضورهم في غد، فمضى عنه القاضى زين الدين ونزل إلى داره بالقاهرة، وبعث إلى المذكورين أن يحضروا غدًا بين يدى السلطان بكرة النهار، وتقدم إلى القاضى شرف الدين أبى بكر الأشقر نائب كاتب السر بكتابة عهد المقام الجمالى، وذلك أن القاضى صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر من حين وسط العفيف وخضر تغير مزاجه، وإشتد جزعه إلى أن حم في ليلة الجمعة، ونزل من القلعة، ولزم الفراش ومرضه يتزايد، وقد ظهر به الطاعون في مواضع من بدنه، فبادر القاضى شرف الدين، وكتب العهد ليلاً. وأصبح الجماعة في يوم الثلاثاء رابعه وهم بالقلعة، فأخرج السلطان إلى موضع يشرف على الحوش، وقد وقف به الأمير خشقدم الطواشى مقدم المماليك، ومعه جميع من بقى من المماليك السلطانية سكان الطباق بالقلعة، وجميع من هو أسفل القلعة، من المشتروات والمستخدمين. وجلس الخليفة أمير المؤمنين المعتضد باللّه أبو الفتح داود، وقضاة القضاة الأربع على مراتبهم، والأمير الكبير جقمق العلاى أتابك العساكر، ومن تأخر من أمراء الألوف والمباشرون، ماعدا كاتب السر فإنه شديد المرض. ثم قام القاضى زين الدين عبد الباسط وفتح باب الكلام في عهد السلطان من بعد وفاته لإبنه المقام الجمالى بالسلطنة وقد حضر أيضًا مع أبيه، فاستحسن الخليفة ذلك وأشار به. فتقدم القاضى شرف الدين الأشقر بالعهد إلى بين يدى السلطان، فأشهد السلطان على نفسه بأنه عهد إلى ولده الملك العزيز جمال الدين أبى المحاسن يوسف من بعد وفاته بالسلطة فأمضى الخليفة العهد، وشهد بذلك القضاة. ثم إن السلطان التفت إلى مقدم المماليك وكلمه بالتركية والمماليك تسمعه كلاما طويلا ليبلغه عنه إلى المماليك، حاصله أنه إشتراهم ورباهم، وأنهم أفسدوا فسادًا كبيرًا، عدد فيه ذنويهم، وأنه تغير من ذلك عليهم ومازال يدعو اللّه عليهم حتى هلك منهم من هلك في طاعون سنة ثلاث وثلاثين، ثم إنه إشترى بعدهم طوائف ورباهم، فشرعوا أيضًا في الفساد، كما فعل أولئك الهالكون بدعائه: وأنه قد وقع فيكم الطاعون فمات منكم من مات، وقد عفوت عنكم، وأنا ذاهب إلى اللّه وتارك ولدى هذا وهو وديعتي عندكم، وقد إستخلفته عليكم، فإدعوا له وأطيعوه، ولا تختلفوا، فيدخل بينكم غيركم فتهلكوا . وأوصاهم ألا يغيروا على أحد من الأمراء وأن يبقوا الأمراء المجردين على أمرياتهم، ولا يغيروا نواب الممالك. فإشتد عند ذلك بكاؤهم، وبكى الحاضرون أيضاً ثم أقسم السلطان وأعيد إلى فراشه، وقد كتب الخليفة بإمضاء عهد السلطان، وشهد عليه فيه القضاة بذلك، ثم كتب القاضى شرف الدين الأشقر إشهادًا على السلطان بأنه جعل الأمير الكبير جقمق العلاى قائما بتدبير أمور الملك العزيز، وأخذ فيه خط الخليفة بالإمضاء، وشهادة القضاة عليه بذلك، فألصقه بالعهد، وإنفضوا جميعهم.
وفي هذا اليوم: أنفق في المماليك السلطانية كل واحد مبلغ ثلاثين دينارا، فكانت جملتها مائة وعشرون ألف دينار. وفيه خلع على تغرى بردى أحد أتباع التاج الشويكى وإستقر في ولاية القاهرة، عوضًا عن عمر بن سيفا أخى التاج، فإنه مرض بالطاعون من آخر نهار الجمعة.
وفي يوم الجمعة سادسه: إستدعى الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه إلى القلعة. فلما مثل بين يدى مولانا السلطان أمر به، فخلع عليه، وإستقر به في كتابة السر، عوضًا عن ولده صلاح الدين محمد، وقد توفي. فنزل في موكب جليل على فرس رائع بقماش ذهب، أخرج له من الاصطبل السلطانى . وخلع معه أيضاً على نور الدين على بن السويفي، وإستقر في حسبة القاهرة، عوضًا عن دولت خجا، وقد مات في أول الشهر وفي هذا الشهر: أتلف الجراد بضواحى القاهرة كثيرًا من المقاتى، كالخيار والبطيخ والقثاء والقرع. ووقع الطاعون في الغنم والدواب. ووجد في النيل سمك كثير طاف قد مات من الطاعون. وأما الطاعون فإنه كما تقدم إبتدأ بالقاهرة من أول شهر رمضان، وكثر في شوال حتى تجاوز عدة من يصلى عليه في مصلى باب النصر كل يوم أربعمائة ميت، سوى بقية المصليات وعدتها بضع عشرة مصلى. ومع ذلك فلم تبلغ عدة من يرفع في أوراق ديوان المواريث قط أربعمائة. وسببه أن الناس أعدوا توابيت للسبيل، ومعظم من يموت إنما هم الأطفال والإماء والعبيد، فلا يحتاج أهلهم إلى إطلاقهم من الديوان .
ومن أعجب ما وقع في هذه الأيام أن رجلاً نادى على قباء في عدة أسواق، فلم يجد من يشتريه لكساد الأسواق. وكان سوق الرقيق قد أغلق وتعطل بيع الرقيق فيه لكثرة من يموت منهم، فإحتاج رجل إلى بيع عبد له، فأخذه بيده وصار ينادى عليه في شارع القاهرة: من يشترى هذا العبد فلم يجبه أحد، مع كثرة الناس بالشارع، وإنما تركوا شراءه خوفًا من سرعة موته بالطاعون.
وفي حادى عشرة: رحل الأمراء المجردون من أبلستين، ومعهم نواب الشام وعساكرها من غزة إلى الفرات، وجميع تركمان الطاعة، وتوجهوا في جمع كبير يريدون مدينة آقشهر، حتى نزلوا عليها وحصروها.
ومن يوم السبت خامس عشرة: إشتد مرض السلطان، ثم حجب عن الناس، فلم يدخل إليه أحد من الأمراء والمباشرين عدة أيام، سوى الأمير أينال شاد الشربخاناه، والأمير على بيه، والأمير صفى الدين جوهر الخازندار، والأمير جوهر الزمام. فإذا صعد القاضى زين الدين عبد الباسط والمباشرون إلى القلعة، أعلمهم هؤلاء بحال السلطان. هذا، والإرجاف يقوى، والأمراء والمماليك السلطانية في حركة، وقد صاروا فرقًا مختلفة الآراء. والناس على تخوف من وقوع الحرب، وقد وزعوا في دورهم، وأخفى أهل الدولة أولادهم ونساءهم خوفًا من النهب، وأهل النواحى بالصعيد والوجه البحرى قد نجم النفاق فيهم، وخيفت السبل، شامًا ومصراً. وقد تناقصت عدة الأموات بالقاهرة ومصر منذ أهل هذا الشهر، كما تقدم.
وفي أخريات هذا الشهر: هجم على المسجد على الحرام بمكة سيل عظيم، ملأ الحرم من غير تقدم مطر بمكة.
شهر ذى الحجة، أهل بيوم الإثنين:. والناس بديار مصر من قلة الخدم في عناء وجهد، فإنه مات بالقاهرة ومصر وما بينهما في مدة شهر رمضان وشوال وذى القعدة زيادة على مائة ألف إنسان، معظمهم الأطفال، وأكثر الأطفال البنات، ويلي الأطفال في كثرة من مات الرقيق، وأكثر من مات من الرقيق الإماء، بحيث كادت الدور أن تخلو من الأطفال والإماء والعبيد. وكذلك جميع بلاد الشام بأسرها.
وأما السلطان فحدث له مع سقوط شهوة الغدْاء مدة أشهر، ومع إنحطاط قواه، ما ليخوليا فكثر هذيانه وتخليطه، ولولا أن اللّه تعالى أضعف قوته لما كان يؤمن مع ذلك من إفساد شىء كثير بيده، إلا أنه في أكثر الأوقات غائب، فإذا أفاق هذى وخلط. وصِار العسكر في الجملة قسمين: قسم يقال عنهم أنهم قرانصة، وهم الظاهرية والناصرية والمؤيدية، وكلمتهم متفقة على طاعة الملك العزيز، وأن يكون الأمير الكبير جقمق العلاى نظام الملك، كما قرره السلطان، وأنهم لا يصعدون إلى القلعة خوفًا على أنفسهم من المماليك الأشرفية. والقسم الآخر المماليك الأشرفية سكان الطباق بالقلعة ورأيهم أن يكون الملك العزيز مستبدًا بالأمر وحده، وأعيانهم الأمير أينال شاد الشرابخاناه، والأمير يخضى باى أمير أخور ثاني، والأمير على بيه الخازندار، والأمير مغلباى الجقمقى أستادار الصحبة، والأمير قرقماس قريب السلطان. وهذه الطائفة الأشرفية مختلفة بعضها على بعض. فلما إشتهر أمر هذين الطائفتين وشنعت القالة عنهما، قام عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط في لم هذا الشعث، وإخماد نار الفتنة ليصلح بين الفريقين. ووافقه على ذلك الأمير أينال الشاد، فإستدعى سكان الطباق من الممالك إلى جامع القلعة، وأرسل إلى القضاة .
فلما تكامل الجمع مازال بهم حتى أذعنوا إلى الحلف، فتوفى تحليفهم القاضي شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر، على الإقامة على طاعة الملك العزيز، والإتفاق مع الأمير الكبير جقمق، وألا يتعرض أحد منهم لشر ولا فتنة، ولا يتعرضوا لأحد من الأمراء المقيمين بديار مصر، ولا إلى الأمراء المجردين ولا إلى كفلاء ممالك الشام في نفس ولا مال ولا رزق. فلما حلف الأمير أينال والأمير على بيه، والأمير تمرباى الدوادار، وعامة المماليك، حلف القاضي زين الدين عبد الباسط أن يكون مع الفريقين، ولا يباطن طائفة على الأخرى، ثم قام الجميع، وقصد القاضي زين الدين دار الأمير الكير جقمق، ومعه عدة من أعيان الأشرفية، حتى حلفه، وحلف بعده من بقى بديار مصر من الأمراء. ثم نزل بعد ذلك الأمير أينال ثم الأمير على بيه إلى الأمير الكبير جقمق، وقبل كل منهما يده، فإبتهج بهما، وبالغ في إكرامهما. وسكنت تلك الثائرة. وللّه الحمد.
وفي يوم الأربعاء عاشره : وهو يوم عيد النحر خرج الملك العزيز، فصلى صلاة العيد بجامع القلعة، وقد صعد إلى خدمته بالجامع الأمير الكبير جقمق، ومن عداه من الأمراء. ثم مشوا في الخدمة بعد الصلاة، حتى جلس على باب الستارة. وخلع على الأمير الكبير، وعلى من جرت عادته بالخلع في يوم عيد النحر. ونزلوا إلى دورهم. فقام الملك العزيز، ودخل، وذبح، ونحر الضحايا بالحوش هذا، وقد توالت على السلطان نوب الصرع مرارًا، وتخلت قواه، حتى صار كما قيل.
ولم يبق إلا نفس خافت ومقلة إنسانها باهتيرثى له الشامت مما به ياويح من يرثى له الشامت.
حتى مات عصر يوم السبت ثالث عشره. تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته .
السلطان الملك العزيز جمال الدينأبو المحاسن يوسف ابن الأشرف برسباى .
أقيم في الملك بعد أبيه، وذلك أن السلطان برسباى لما مات بادر القاضي زين الدين عبد الباسط، والأمير أينال الشاد، والأمير على بيه، والأمير تمرباى الدوادار، وقد اجتمعوا بالقلعة، وبعثوا في الحال القاضي شرف الدين الأشقر في إستدعاء الخليفة، وبعث القاضي زين الدين بعض غلمانه في طلب القضاة، فأتوا جميعًا. ودخل الأمير جوهر الزمام، فأخرج بالملك العزيز إلى باب الستارة، وأجلس هناك، وطلب الأمير الكبير جقمق وبقية الأمراء، ونزل الممالك من الطباق. فلما تكامل جمعهم، وحضر الوزير وكاتب السر، وناظر الخاص، فوض الخليفة السلطة للملك العزيز، وأفاض عليه التشريف الخليفتى، وقلده السيف وقد بقي لغروب الشمس نحو ساعة. وعمر السلطان يومئذ أربع عشرة سنة وسبعة أشهر، فقام من باب الستارة، وركب فرسه، ورفعت القبة والطير على رأسه، وقد حملها الأمير الكبير وسار، والكل مشاة في ركابه، حتى عبر إلى القصر، فجلس على تخت الملك وسرير السلطنة، وقبل الأمراء وغيرهم الأرض له. وقرأ العهد بالسلطنة الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه كاتب السر، فخلع على الخليفة، وعلى الأمير الكبير، وعلى كاتب السر. وخرجوا من القصر، وقد غسل السلطان الملك الأشرف برسباى وكفن، وأخرج بالجنازة من الدور إلى باب القلة فوضعت هنالك. وتقدم قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن حجر الشافعى فصلى بالناس عليها قبيل الغروب ، وشيع الأمراء والمماليك وغيرهم الجنازة حتى دفنت بالتربة التى أنشأها رحمه اللّه خارج باب المحروق بالصحراء، تحت القبة. وقد إجتمع من الناس ما لا يحصيهم إلا خالقهم، سبحانه. والناس بالقاهرة في بيعهم وشرائهم بالأسواق في أمن ودعة وسكون. ونودى في القاهرة بالأمان والإطمئنان والبيع والشراء، وأن يترحموا على الملك الأشرف، والدعاء للسلطان الملك العزيز جمال الدين، أبى المحاسن. وأن النفقة في يوم الإثنين مائة دينار، لكل واحد من المماليك، فإزداد الناس طمأنينة. ولم يكن شىء مما كان يتوقع من الشر، والحمد للة.
وفي يوم الأحد رابع عشره: إجتمع أهل الدولة للصبحة عند قبر السلطان. وقد بات القراء يتناوبون القراءة، عند قبره ليلتهم، فختموا القرآن الكريم، ودعوا، ثم إنفض الجمع. وأقام القراء للقراءة عند القبر سبعة أيام. وفيه عملت الخدمة السلطانية بالقصر، وحضر الأمير الكبير وسائر أهل الدولة على العادة، فزاد السلطان الخليفة جزيرة الصابونى زيادة على ما بيده.
وفيه كتبت البشائر إلى البلاد الشامية وأعمال مصر، بسلطة الملك العزيز.
وفى يوم الإثنين خامس عشره: جلس السلطان بالحوش من القلعة، وعنده الأمراء والمباشرون، وابتدئ في النفقة على المماليك، فأنفق فيهم مائة دينار لكل واحد. وفيه توجه الأمير أينال الأحمدى المعروف بالفقيه بالبشارة إلى البلاد الشامية، وعلى يده مع الكتب للنواب، الكتب للأمراء المجردين.
وفي سادس عشره: أنفق فيمن بقى من المماليك. وفيه قدم مراد بك رسول الأمير حمزه بن قرايلك صاحب ماردين وأرزن كان، وصحبته شمس الدين القطماوى، ومعهما هدية، وكتاب يتضمن دخوله في طاعة السلطان، وأنه أقام الخطة وضرب السكة بإسم السلطان الملك الأشرف، وجهز الدنانير والدراهم بالسكة السلطانية. وعلى يد شمس الدين القطماوى كتب الأمراء المجردين. وكان سبب ذلك أن الأمراء لما قدمت حلب، كاتبوا حمزة المذكور يدعوه إلى طاعة السلطان وقدومه إليهم، فأجاب بالسمع والطاعة، وأقام الخطة، وضرب السكة بإسم السلطان، وجهز هديته وما ضربه من المال، فلم يتفق قدوم ذلك إلا بعد موت السلطان، فأكرم الرسولان وأنزلا ثم أعيدا بالجواب، ومعهما هدية وتشريف للأمير حمزة.
وفيه خلع على الأمير طوخ مازى، وإستقر في نيابة غزة، وكانت شاغرة منذ مات نائبها.
وفي يوم السبت عشرينه: وقع بين حكم الخاصكى خال السلطان وبين الأمير أينال مفاوضة، آلت إلى شر وسبب ذلك أن الكلام والتحدث فى أمور المملكة صار بين ثلاثة الأمير الكبير نظام الملك جقمق، والقاضي زين الدين عبد الباسط، والأمير أينال. ولزم السلطان السكوت، فلا يتكلم فأنكر جكم على أينال أمره ونهيه فيما يتعلق بأمر الدولة، وكونه أقام بالقلعة وصار يبيت بها، فغضب منه أينال، ونزل من القلعة إلى داره، فكان هذا ابتداء وقرع الخلف الذى آل إلى ما سيأتى ذكره، إن شاء اللّه تعالى.
وفيه تجمع كثير من المماليك تحت القلعة، وأرادوا أن يفتكوا بالقاضي زين الدين عبد الباسط فلما نزل من القلعة أحاطوا به، وجرت بينهم وبينه مقاولات، أغلظوا فيها عليه، ولم يقدروا على غير ذلك، وخلص منهم إلى بيته.
وفي هذا الشهر: والذى قبله فشا الموت بالطاعون في الإسكندرية، ودمياط، وفوه، ودمنهور، وما حول تلك الأعمال، فمات بها عالم كبير. وتجاوزت عدة من يموت بالإسكندرية في كل يوم مائة إنسان.
وفي يوم السبت سابع عشرينه: إبتدىء بالنداء على النيل، فزاد خمسة أصابع.
وجاءت القاعدة خمسة أذرع وثلاثة وعشرين أصبعًا، وإستمرت الزيادة في كل يوم. و للة الحمده. وفيه أنعم بإقطاع السلطان على الأمير نظام الملك جقمق، بعدما سئل السلطان في ذلك فأبى، ثم غلب عليه حتى أخرجه له. وأنعم بإقطاع الأمير جقمق على الأمير تمراز القرمشىي أس نوبه أحد المجردين. وأنعم بإقطاع الأمير تمرار على الأمير تمرباى الدوادار، وأنعم بإقطاع الأمير تمرباى على الأمير على بيه. وأنعم بإقطاع الأمير طوخ مازى نائب غزة على الأمير يخشى بيه أمير أخور ثاني، وأنعم بإقطاع يخشى بيه على يل خجا الساقي رأس نوبة، وأنعم بإقطاع يل خجا وإمرته وهى إمرة عشرة على قانبيه الجركسى، وخلع على الأمير أينال، وإستقر دوادارًا عوضاً عن الأمير تمرباى.
وفي يوم الأحد ثامن عشرينه : خلع على على بيه، وإستقر شاد الشرابخاناه، عوضاً عن الأمير أينال الدوادار.
وفي يوم الإثنين تاسع عشرينه: خلع على سيف الدين دمرداش أحد المماليك الأشرفية وإستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن تغرى بردى التاجى. وفيه تجمع كثير من المماليك تحت القلعة، وأحاطوا بالأمير الكبير نظام الملك عند نزوله من الخدمة السلطانية بالقلعة إلى جهة بيته، ليوقعوا به، فتخلص منهم من غير سوء، هذا والقاضى زين الدين عبد الباسط من المماليك في عناء شديد.
وقدم الخبر بأن العسكر المجرد لما قصد مدينة آقشهر تلقاهم سلطان أحمد بن قليج أرسلان صاحب تلى صار وقد رغب في الطاعة السلطانية وسار معهم حتى نازلوا مدينة أقشهر في أول ذى الحجة، فهرب متملكها حسن الأيتاقى في ليلة الثلاثاء ثانيه إلى قلعة برداش، فملك العسكر المدينة وقلعتها، وقبضوا على عدة من أعيانها، وبعثوا بسلطان أحمد بن قليج أرسلان على عسكر، فملك قلعتي فارس وتمشلى، فأقروه على نيابة السلطة بهما. وساروا لمحاصرة حسن بقلعة برداش ففر منها إلى قلعة بزطلش، فنزل من العسكر عليها حتى أخذها في ثامن عشره الأمير قرقماس أمير سلاح، بعد أن قاتل أهلها بضعة عشر يوماً. ثم هدمها حتى سوى بها الأرض، وقد فر منها حسن أيتافى. ثم سار الأمير قرقماس. ممن معه مع بقية العساكر يريدون أرزنكان، فقدم عليهم الأمير مرزا إبن الأمير يعقوب ابن الأمير قرايلك رسولاً من أبيه يعقوب صاحب أرزنكان وكماخ وقد خرج عن أرزنكان ونزل كماخ، وقدم مع مرزا زوجة أبيه وعدة من القضاة والأعيان بأرزنكان، يسألون العفو عن الأمير يعقوب وإعفائه من قدومه إليهم وأن يجهز لنيابة السلطنة بأرزنكان الأمير جهان كير ابن الأمير ناصر الدين على باك بن قرايلوك، فأجيبوا إلى ذلك كله، وخلع على الأمير مرزا، ودفع إليه خلعة لأبيه الأمير يعقوب، وفرس بقماش ذهب. وأعيد وصحبته الأمير جهان كير، وقد خلع عليه بنيابة أرزنكان. وساروا وقد جهز إلى أرزنكان بالأمير سودون النوروزى دوادار نائب حلب، ومعه نائب دوركى ونائب بهنسنى، فتسلموا أرزنكان بلا مانع، وأقاموا بها. ثم توجه القاضي معين الدين عبد اللطف ابن القاضي شمسْ الدين الأشقر كاتب السر بحلب، حتى حلف أهل أرزنكان بالإقامة على طاعة السلطان، ثم سارت العساكر من أقشنهر في ثاني عشرينه حتى نزلت على أرزنكان، وعسكروا هناك، فخرج إليهم أهلها، وباعوا عليهم ما أرادوا منهم، وفتحت أبواب المدينة، والعساكر يدخل منها المدينة من أراد ذلك، من غير ضرر ولا نهب، وإستمروا على ذلك إلى آخر الشهر.
وقدم الخبر بأن ملك البرتغال صاحب مدينة شلب من الأندلس سار يريد مدينة طنجة، فنزل على سبتة في المحرم، ومضى منهما وهى بيده في البر والبحر، ومعه فيما يقال ثمانية عشر ألف رام، وستة آلاف فارس، حتى نزل على طنجة فحصرها مدة شهر إلى أن أتته جموع المسلمين من فاس ومكناسة وأصيلاً في شهر ربيع الآخر، فكانت بينهم وبين البرتغال من النصارى حروب عظيمة، نصر اللّه فيها المسلمين، وقتل نحو الثلثين من النصارى. والتجأ باقيهم إلى محلتهم فضايقهم المسلمون حتى طلبوا الأمان على أن يسلموا المسلمين مدينة سبتة، ويفرجوا عن سبعمائة أسير من المسلمين، ويدفعوا ما بأيديهم من آلات الحرب للمسلمين فأمنوهم، وبعثوا برهائنهم على ذلك، فصار المسلمون يأخذون النصارى ويوصلونهم إلى أسطولهم بالبحر. فحسد أحمد اللحيانى القائم بتدبير مكناسة الأزرق وهو أبو زكريا حى بن زيان بن عمر الوطاسى القائم بتدبير مدينة فاس وقتل عدة من النصارى، ورحل، فحنق النصارى، من ذلك، وحطموا على المسلمين حطمة قتل فيها جماعة، وخلصوا إلى أصطولهم وبقى ابن ملكهم في يد المسلمين، فلما وصلوا إلى بلادهم، لم يرض أكابرهم بتسليم سبتة للمسلمين، وبعثوا في فداء ابن الملك بمال، فلم يقع بينهم وبين الرسول إتفاف، وسجنوه مع ابن الملك المرتهن عند صالح بن صالح بن حمو، بطنجة فيقول المكثر أن الذى قتل من النصارى في هذه الواقعة خمسة وعشرون ألفًا، وغنم المسلمون منهم أموالاً كثيرة. وللّه الحمده
ومات في هذه السنةبالطاعون وفي الحرب عالم عظيم جدًا من أهل الأرض، فممن له ذكر وشهرة: سعد الدين إبراهيم بن كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة ، المعروف بإبن كاتب جكم ناظر الخاص ابن ناظر الخاص، في يوم الخميس سابع عشر شهر ربيع الأول، عن نحو ثلاثين سنة. وكان من المترفين، المنهمكين في اللذات المنغمسين في الشهوات، ونزل السلطان فصلى عليه تحت القلعة، ودفن عند أبيه بالقرافة.
ومات الأمير تمراز المؤيدى خنقا بالإسكندرية، في ثالث عشرين جمادى الآخرة، وهو أحد المماليك المريدية شيخ، رباه صغيرًا إلى أن تغير عليه، وضربه، ونفاه إلى طرابلس، فتنقل بعد موت المريد إلى أن ركب مع الأمير قانباى، فقبض عليه، وسجن بقلعة الروم مدة. ثم أفرج عنه، وأنعم عليه بإمرة عشرة بحلب، ثم نقل بعد مدة على إمرة بدمشق ثم ولى نيابة صفد، ونقل منها لنيابة غزة، ثم قبض عليه لما قدم على السلطان وسجن بالإسكندرية وبها قتل، ولم يكن مشكورا.
ومات الأمير جانبك الصوفي في يوم الجمعة خامس عشر شهر ربيع الآخر، وهو أحد المماليك الظاهرية برقوق. ترقى في الخدم، وصار من أمراء الألوف، وتنقلت به الأحوال حتى قبض عليه الأشرف برسباى، وسجنه، ففر من سجنه بالإسكندرية، وأعيا السلطان تطلبه، وإمتحن جماعة بسببه، إلى أن ظهر عند ابن دلغادر، وحاول ما لم يقدر عليه، فهلك دون بلوغ مراده. وحمل رأسه إلى السلطان، كما مر ذكره مشروحًا. وكان ظالمًا، عاتيًا، جبارًا، لم يعرف بدين ولا كرم.
ومات شمس الدبن محمد بن الخضر بن داود بن يعقوب، المصرى شهرة، الحلبى الشافعى في يوم الأحد النصف من شهر رجب، وكان خيرًا دينًا كثير التلاوة للقرآن، فاضلاً، حسن المحاضرة وتصرف في الكتابة بديوان الإنشاء مدة. ثم توجه إلى القدس بعدما أقام بالقاهرة سنين، فمات هناك. رحمه اللة . ومات بمكة شرفها اللّه الأمير جانبك الحاجب، المجرد على المماليك إلى مكة، في حادى عشر شعبان. ومستراح منه.
ومات بدمشق الشيخ علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخارى الحنفى في خامس شهر رمضان. وكان ورعًا بارعًا في علوم، من عربية ومعان وبيان وغير ذلك، وله في الدولة مكانة. سكن بلاد الهند، وعظم عند ملكها، ثم قدم القاهرة، وتصدر لإفادة العلم فقرأ عليه جماعة، وعظم قدره. ثم سكن دمشق حتى مات بها.
ومات بالقاهرة الشيخ علاء الدين على بن موسى بن إبراهين الرومى الحنفى في يوم الأحد عشرين شهر رمضان، وكان قدم من بلاد الروم، وولى تدريس المدرسة الأشرفية برسباى، ومشيخة التصوف بها مدة، ثم عزل عنها، وكان فاضلًا في عدة علوم، مع طيش وخفة، وجرأة بلسانه على ما لا يليق، وفحش في مخاطبته عند البحث معه. عفا اللّه عنه.
ومات الأمير آق بردى نائب غزة، فأراح اللّه بموته من جوره وطمعه.
ومات ناصر الدين محمد بن بدر الدين حسن بن سعد الدين محمد الفاقوسى موقع الدست، في ليلة الإثنين تاسع عشر شوال، عن بضع وسبعين سنة. وكان حشمًا، رئيساً، له مروءة وفيه أفضال وبر وصدقات. رحمه اللّه.
ومات الأمير دولات خجا، أحد المماليك الظاهرية. ولى ولاية القاهرة ثم حسبتها. وكان عسوفًا جبارًا كثير الشر، يصفه من يعرفه بأنه ليس بمسلم، وأنه لا يخاف اللّه، وكان موته يوم السبت أول ذى القعدة، وقد شاخ .
ومات الأمير القاضي صلاح الدين محمد ابن الصاحب الأمير الوزير بدر الدين حسن بن نصر اللّه في ليلة الأربعاء خامس ذى القعدة، وقد أناف على الخمسين، وكان جميل الصورة عاقلاً، رزينًا، يكتب الخط المنسوب، ويعرف الحساب معرفة جيدة. ولى الحجوبية من صغره مدة، ثم باشر أستادارية السلطان مرتين، وولى حسبة القاهرة ثم صار جليس السلطان وسميره. وولاه مع مجالسته كتابة السر مسئولًا بها فباشرها مع الحسبة، ونظر دار الضرب، ونظر الأوقاف، وغير ذلك حتى مات. رحمه اللة. فلقد أحزننا فقده. ومولده في رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة.
ومات شهاب الدين أحمد ابن الأمير علاء الدين على ابن الأمير سيف الدين قرطاى، المعروف بابن بنت الأمير بكتمر الساقى سبى جده قرطاى من بلاد الروم، وجىء به إلى الديار المصرية فترقى في الخدم، حتى صار من جملة الأمراء. وولى ابنه على بن قرطاى نقابة الجيش وتزوج بإبنة الأمير ناصر الدين عمد ابن الأمير بكتمر الساقى، فولد له منها أحمد في يوم الأحد ثالث عشرين شعبان سنة ست وثمانين وسبعمائة. ونشأ في عز وترف وحشمة ورياسة وسعة دنيا. فمال إلى الفضائل، وكتب على شيخنا علاء الدين عصفور، فبرع في الكتابة وفنونها، حتى فاق في كتابة المنسوب أبناء عصره. ونظم الشعر المليح، وأتقن صنائع عديدة. ونظر في عدة علوم حتى مات، في ليلة الإثنين عاشر ذى القعدة. وكان مجموعًا حسنًا، ذا فضائل جمة، ووجه جميل، وشكل مليح، وخلق رضي، ونفس سمحة، وذكاء، وحسن تصور، وثراء واسع، وحشمة وافرة. رحمه اللّه، فلقد كان لى به أنس، ومنه نفع. كتب إلى وقد قدمت من الحجاز من شعره:
أيا مولاى دم أبدًا بخير ... وعزمًا جرت شمس النهار
لرؤيتك السنية مت شوقًا ... وقد دنت الديار، من الديار
ومات الأمير سليمن بن أورخان بك بن محمد كرشجى بن عثمان. ملك جدة محمد كرشجى بلاد الروم، وقبض عمه مراد بن محمد كرشجى ملك الروم على أبيه أورخن بك، وسجنه حتى مات، وقد ولد سليمان ففر به مملوك أبيه، حتى قدم على السلطان الأشرف برسباى فأكرمه ورباه. ثم فر به مملوك أبيه، يريد بلاد الروم، فقبض عليه برسباى وسجنه، ثم أفرج عنه، وتزوج السلطان بأخته شاه زاده .
ومات إسكندر بن قرايوسف ملك تبريز، بعدما تشتت مدة، ثم إنهزمٍ الى قلعة يلنجا، فذبحه إبنه شاه قوماط، في شهر ذى القعدة. وكان شجاعًا مقدامًا جريئًا، أهوج، لا يرجع إلى دين ولا عقل، بل خرب البلاد، وأكثر في الأرض الفساد.
ومات نور الدين على بن مفلح، وكيل بيت المال وناظر المارستان، في يوم الجمعة ثاني عشر ذى الحجه. كان أبوه عبدًا أسود للطواشى كافور الهندى، فأعتقه، وقرأ إبنه على القرآن، وخدم عدة من أهل الدولة، حتى تقرر يقرىء الممليك في الطباق السلطانية بالقلعة. وأكثر من مداخلتهم، إلى أن تردد إلى القاضي زين الدين عبد الباسط، فإرتفع به قدره، وولى الوكالة ونظر المارستان. وعد من رؤساء الناس، وكانت له مروة، وفيه عصبية، وتقعير في كلامه من غير إعراب ولا علم، إنما هو الحظ لا غيره.
ومات السلطان الملك الأشرف برسباى الدقماقى الظاهرى في يوم السبت ثالث عاشر ذى الحجة، وقد أناف على الستين. كان أبوه من أوضع أهل بلاده قدرًا، وأشدهم فقرًا، فأسلم إبنه هذا لحداد، فكان ينفخ عنده بالكير ثم مات، فتزوجت إمرأته برجل، فباع برسباى هذا وهو صغير من رحل يهودى إسمه صادق. فخدمه مدة، وتلقن أخلاقه، وتطبع بطباعه، حتى جلبه إلى ديار مصر، فإبتاعه الأمير دقماق. ثم بعث به في جملة تقدمه لما إستقر في نيابة ملطية. فأنزله السلطان الملك الظاهر برقوق في جملة مماليك الطباق. ثم أخرج له قبل موته خيلًا، وأنزله من الطباق، وقد أعتقه. فلما كانت الأيام الناصرية فرج، خرج فيمن خرج إلى الشام، وإنتمى إلى الأمير نوروز، ثم إلى الأمير شيخ، فلما قدم الأمير شيخ بعد قتل الناصر إلى مصر، كان فيمن قدم معه، فرقاه، وصار من جملة أمراء الألوف، وعمل كشف التراب. ثم ولاه نيابة طرابلس، وعزله، وسجنه بقلعة المرقب. ثم أنعم عليه بإمرة في دمشق. فلما مات المؤيد شيخ، قبض عليه الأمير جقمق نائب الشام، وسجنه. ثم أفرج عنه الأمير ططر لما توجه بإبن المؤيد إلى الشام. ثم أنعم عليه بإمرة ألف، وعمله دوادار السلطان، لما تسلطن، وقدم به إلى القاهرة، فلما مات الظاهر ططر قام بأمر ولده، ثم خلعه وتسلطن، فدانت له البلاد وأهلها، وخدمته السعود حتى مات. وكانت أيامه هدوء وسكون، إلا أنه كان له في الشح والبخل والطمع، مع الجبن والجور وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب في الأمور وقلة الثبات، أخبار لم نسمع بمثلها، وشمل بلاد مصر والشام في أيامه الخراب، وقلة الأموال بها. وإفتقر الناس وساءت سير الحكام والولاة، مع بلوغه آماله ونيله أغراضه، وقه أعدائه وقتلهم بيد غيره لتعلموا أن اللّه على كل شىء قدير.
ومات الأمير سودون بن عبد الرحمن وهو مسجون بثغر دمياط، في يوم السبت العشرين من ذى الحجة. وهو من جملة المماليك الظاهرية برقوق. ترقي في الخدم حتى صار نائب الشام، ثم عزل، وسجن حتى مات، وكان مصرًا على ما لا تبيحه الشريعة من شهواته الخسيسة، وأحدث في دمشق أيام نيابته بها عدة أماكن لبيع الخمر ووقوف البغايا والأحداث، وضمنها. بمال في كل شهر، فإستمرت من بعده. وإقتدى به في ذلك غير واحد، فعملوا في دمشق خمارات مضمنة بأموال، من غير أن ينكر عليه أحد ذلك، ليقضى اللّه أمرًا كان مفعولا.
سنة إثنتين وأربعين وثمانمائةأهلت هذه السنة ومعظم عساكر مصر والشام في التجريدة، وبقيتهم بالقاهرة وظواهرها في إختلاف.
شهر اللّه المحرم، أوله الثلاثاء فيه رجل العسكر المجرد عن مدينة أرزنكان، عائدًا إلى حلب.
وفي رابعه: توجه الأمير تغرى بردى المؤذى على عدة من المماليك السلطانية إلى البحيرة، بسبب قرب لبيد عرب برقة من البلاد. وفيه خلع على جكم الخاصكى خال السلطان، وإستقر خازندارً، عوضًا عن على بيه.
وفي يوم الإثنين سابعه: قدم مبشرو الحاج.
وفي ثامنه: خلع على شهاب الدين أحمد بن شمس الدين محمد المعروف بإبن النسخة شاهد القيمة. وإستقر في وكالة بيت المال، وكانت شاغرة منذ وفاة نور الدين على بن مفلح. وخلع على نظام الدين بن مفلح الدمشقى الواعظ، وأعيد إلى قضاء الحنابلة بدمشق، عوضًا عن عز الدين عبد العزيز البغدادى.
وفي يوم الإثنين ثالث عشره: إستدعى الشيخ سعد الدين سعد ابن قاضي القضاة شمس الدين محمد الديرى المقدسى شيخ الجامع المؤيدى ،. وخلع عليه. وقد فوض إليه قضاء الحنفية بديار مصر، عوضًا عن بدر الدين محمود العينى، بعدما سئل بذلك مرارًا وهو يمتنع، ثم أجاب، وشرط على الأمراء أنه لا يقبل رسالة أحد منهم، وأن لا يتجوه عليه في شىء.
وفيه أنعم على سبعة من المماليك بأمريات عشرة، وهم قانبك الساقى، وقانم التتاجر، وجانم الدوادار، وجانبك الساقى، وجكم المجنون، وجكم خال السلطان، وجرباش رأس نوبة الجمدارية.
وفي خامس عشره: أعيد مراد بك قاصد الأمير حمزة بن قرايلك صاحب ماردين وآمد، والقاضي شمس الدين القطماوى موقع الدست بحلب. وجهز صحبتهما مبارك شاه البريدى، وعلى يده جواب كتاب الأمير حمزه، بشكره والثناء عليه، وتشريف له بنيابة السلطنة، وفرس بقماش ذهب، وهدية ما بين ثياب سكندرى وغيره، وسلاح، ونسخة يمين ليحلف بها على طاعة السلطان ومناصحته. وأجيب الأمراء المجردون أيضًا عن كتبهم، وأن يسارعوا بالحضور.
وفي يوم السبت تاسع عشره: خلع على أزبك خجا المؤيدى رأس نوبة، وعين لتقليد الأمير الجكمى نائب الشام، وإستقراره على عادته. وخلع على قانصوه الخاصكى، وعين لتقليد الأمير تغرى برمش نائب حلب، وإستقراره على عادته. وعين لتقليد الأمير جلبان نائب طرابلس الأمير أينال الخاصكى، وعين دولات باى الخاصكى لتقليد الأمير قانياى الحمزاوى نائب حماة، ولتقليد على بن طغرق بن دلغادر التركمانى نائب حمص. وعين يشبك الخاصكى لتقليد الأمير أيناْل الأجرود نائب صفد. وخلع عليهم. هذا، والنواب المذكورين في التجريدة. وكتب إليهم جميعًا بسرعة قدومهم.
وفيه حل بالقاضى زين الدين عبد الباسط حالة غير مرضية من بعض المماليك في وقت الخدمة السلطانية، بعدما نزل به من المماليك في هذه الأيام أنواع من المكاره، ما بين تهديد وإساءة، إحتاج من أجل ذلك إلى بذل الأموال لهم ليكفوا من شرهم عنه.
وفي يوم الإثنين عشرينه: قدم المماليك المجردون في السنة الماضية إلى مكة، وقد مات أميرهم بها. وكثر شرهم بمكة، وإفسادهم، وإستخفافهم بحرمة الكعبة.
وفي ثاني عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج، وقدم المحمل في يوم الخميس ثالث عشرينه ببقية الحجاج، بعدما نزل بالحاج بلاء عظيم، وهو أن ركب الغزاويين، ومن إنضم إليهم من أهل الرملة، ومن أهل القدس، وبلاد الساحل، وأهل ينبع، لما " نزلوا في عودهم من مكة بوادى عنتر قريب من أزلم خرج عليهم من عرب بلى نحو أربعين فارسًا، ومائة وعشرين راجلًا، يطلبون منهم مالاً، فأما الينابعة فإنهم جبوا لهم مبلغًا من الذهب دفعوه إليهم، فكفوا عنهم، وتركوهم، فلحقوا الركب، وأما الغزاويون فإستعد مقدمهم ورمى العرب بالنشاب، وقتل منهم ثلاثة، فحملوا عليه حملة منكرة،، أخذوه فيها، ومالوا على الركب يقتلون ويأسرون وينهبون، فما عفوا ولا كفوا، فيقول المكثر إنهم أخذوا ثلاثة آلاف جمل بأحمالها، وعليها من المال ما بين ذهب وفضة وبضائع وأزودة الحاج ما لا يقدر قدره كثرة. وخلص من تفلت من الركب، وهم عراة حفاة، يريدون اللحاق بالمحمل، فمات منهم عدة، ولحق بالمحمل عدة، وتأخر بالبرية منهم عدة. قدم منهم إلى القاهرة من تأخرت منيته فيما بعد من البر والبحر، بأسوأ حال، وفقد الناس من الرجال والنساء والصبيان والبنات عددًا كبيرًا، فكانت هذه الحادثة من شنائع ما أدركناه. و لم يمتعض لها أحد لإهمال أهل الدولة الأمور، وإعراضهم عن عمل المصالح. ولا قوة إلا باللّه.
ولى يوم السبت خامس عشرينه: خلع على الطواشى شاهين الساقي، وإستقر في مشيخة الخدام بالمسجد النبوي، عوضًا عن ولى الدين محمد بن قاسم المحلى، مضحك السلطان.
وفى يوم الثلاثاء ثامن عشرنيه: قدم مماليك نواب الشام، وعلى أيديهم المطالعات، تتضمن أنهم ملكوا مدينة أرزكنان على ما تقدم ذكره، ومن العجب أن مدينة أقشهر وقلاعها، ومدينة أرزنكان، أخذت للسلطان الملك الأشرف برسباى، وباعه وهو ميت، وسطوته ومهابته في قلوب أهل تلك البلاد، مع بعدها عنه، وأوامره نافذة في تلك الرعايا، ولو علموا أنه قد مات لما أمكن العسكر السلطانية فعل شىء من ذلك ولكن الله يفعل ما يريد، وإذا أراد اللّه بقوم سوءًا فلا مرد له.
وفي هذا الشهر: بعد رحيل العساكر السلطانية عن أرزنكان سار الأمير حمزة ابن قرايلك من ماردين لأخذ أرزنكان. وقد تنكر على أخيه يعقوب من أجل أنه سالم العساكر السلطانية، حتى دخلوا المدينة، فخرج إليه جهان كير إبن أخيه، وأقام جعفر إبن أخيه يعقوب بمدينة أرزنكان، فعندما التقى الجمعان خامر أكثر من مع حمزة، وصاروا إلى جهان كر، فإنهزم بعد وقعة كانت بينهما، وقد جرح.
شهر صفر، أوله الخميس: فيه تجمع عدة من الممالك على القاضي زين الدين عبد الباسط عند نزوله من القلعة. وهموا به، فولى يريد القلعة وهم في طلبه، حتى إمتَنع منهم بدخوله القلعة، وقد حماه جماعة، فأقام يومه وبات بها، وهو يطلب الإعفاء من نظر الجيش والأستادارية . فلما أصبح يوم الجمعة طلع الأمير الكبير نظام الملك جقمق، وجميع أهل الدولة، وخرج السلطان إلى الحوش، فإستدعى بالقاضي عبد الباسط. وجرت بينه وبين الأمير الكبير مخاطبات في إستمراره على محادته، وهو يطلب الإعفاء من المباشرة، إلى أن خلع عليه، وعلى مملوكه الأمير جانبك أستادار. ونزلا من القلعة على فرسين أخرجا لهما من الاصطبل، بقماش ذهب، وقد ركب معه إلى داره عظماء الدولة.
وفي يوم الأحد رابعه: وردت مطالعة الأمير أينال الجمكى نائب الشام، بقدومه حلب، هو والعساكر المجردة، في العشرين من المحرم، إلا الأمير تغرى برمش نائب حلب، فإنه لما بلغه وفاة السلطان الملك الأشرف عزم أن يكبس الأمراء المصريين، فبلغهم ذلك، فإستعدوا له حتى دخلوا حلب، فبلغهم أنه كتب إلى نائب الغيبة ألا يمكنهم من المدينة، هذا وقد جمع عليه عدة من طوائف التركمان وأن الأمير أينال نائب الشام أخذ في تخذيلهم عنه، وأرسل إليه يعتبه على إنفراده عنهم، فاعتذر بتخوفه من الأمراء المصريين .
وفي يوم السبت عاشره: رسم أن يقتصر في حضور الخدمة السلطانية على أربعة أيام في الأسبوع، وأن تكون الخدمة بالقصر فقط. ويتوفر حضور أهل الدولة إلى القلعة في يوم الأحد ويوم الأربعاء ويوم الجمعة، وهى الأيام التي عمل فيها الخدمة بالحوش. ثم إنتقض ذلك بعد قليل .
وفي يوم الإثنين ثاني عشره: قدم مملوك الأمير تغرى برمش نائب حلب بكتابه، يتضمن رحيل الأمراء ونائب الشام جميعًا عن حلب إلى جهة دمشق في سادس عشرين المحرم، وأنه قدم بعدهم إلى حلب في ثامن عشرينه.
وفي ثاني عشره: تجمع المماليك الأشرفية بالقلعة يريدون قتل خشداشيهم الأمير أينال الدوادار، ففر منهم بحماية بعضهم له، ونزل إلى داره، فوقفوا خارج القصر وسألوا الأمير الكبير جقمق أن يكون هو المستبد بالحكم، وأن تكف يد أينال وغيره عن الحكم والتصرف، فوعدهم ذلك، فإنفضوا، ووقف من الغد يوم الثلاثاء جماعة منهم تحت القلعة بغير سلاح، فكانت بينهم وبين جماعة الأمير أينال وقعة بالدبابيس. ثم عادوا بكرة يوم الأربعاء إلى مواقفهم تحت القلعة، وقد صار العسكر قسمين: إحداهما مع الأمير الكبير نظام الملك جقمق، ويقال لهم القرانصة، وهم الأمراء، والمماليك الظاهرية برقوق والناصرية فرج بن برقوق، والمؤيدية، والنوروزية، والجكمية، ومعهم طائفة من الأشرفية قد فارقوا إخوتهم وصاروا مع هؤلاء. وكل من الأمير الكبير وممن معه يظهر أنه في طاعة السلطان، وإنما يريد أن تنزل طائفة من الأشرفية سموهم إلى عند الأمير الكبير جقمق، فإنهم هم الذين يثيرون الفتنة. والقسم الآخر المماليك الأشرفية وهم بالقلعة مع السلطان، وعندهم الخليفة، وبأيديهم في القلعة خزائن الأموال وحواصل السلاح الكثير، إلا أنهم أغمار جهال، لم يجربوا الأمور، ولا أدربتهم الأيام، فلا ينقاد صغيرهم لكبيرهم. والقرانصة وإن كانوا أقل مالًا ورحالاً، إلا أنهم أقعد من الأشرفية بأعمال الحرب، وأعرف بتصاريف الأمور، وقد إجتمعوا على الأمير الكبير جقمق، وإنقادوا له، وأجمعوا على الحرب معه. فلما أصبحوا يوم الخميس، لم يصعد الأمير الكبير جقمق إلى القلعة، وتحول من داره المطلة على بركة الفيل، ونزل في بيت قوصون تجاه باب السلسلة، وجمع عليه من وافقه من القرانصة، ومن الزعر وأوغاد العامة. وقد وعدهم بالنفقة فيهم. فإستعد الأشرفية في القلعة، وباتوا على ذلك. وظلوا نهار الجمعة سادس عشره على تعبئتهم إلى بعد صلاة العصر. ثم زحف أتباع الأمير جقمق على القلعة، وقد لبسوا أسلحتهم، وهم فيما يظهر دون أهل القلعة في العَدد والعِدد، فرماهم الأشرفية بالنشاب حتى أبعدوهم، فمالوا نحو باب القرافة، وهدموا جانبًا من سور الميدان وعبروه. فنزل طائفة من الأشرفية وقاتلوهم حتى أخرجوهم منه. فحال بينهم الليل، وباتوا على حذر، وقد طرق الأشرفية الزردخاناه بالقلعة، وأخذوا من السلاح شيئًا كثيرَا، ونصبوا مكاحل النفط على سور القلعة، وغدوا على حربهم يوم السبت، فهلك ببنهم من العامة بالنشاب والأسهم الخطائية جماعة. هذا، والقضاة وغيرهم تردد بينهم في إخماد الفتنة بإرسال أربعة نفر إلى الأمير الكبير منهم جكم خال السلطان إلى أن أذعنوا لذلك بعد إمتناع كثير، فنزل حكم ومعه الثلاثة المطلوبون بعد عصر يوم السبت، ظنًا من الأشرفية أنه لا يصيب جكم وأصحابه سوء، سوى أنهم يمنعون من سكنى القلعة فقط. فما هو إلا أن عبروا إلى الأمير جقمق، أحيط بهم، وسجنوا، ثم رحل بهم وبمن معه من بيت قوصون عائدًا إلى دار سكنه على بركة الفيل، فكان هذا أول وهن وقع في الأشرفية .
وأصبحوا يوم الأحد ثامن عشره: والرسل تتردد من الأمير جقمق إلى الأشرفية بالقلعة، في طلب جماعة أخرى حتى نزل إليه منهم الأمير على بيه الخازندار، والأمير يخشباى أمير أخور، وهما من عظماء الأشرفية وأعيانهم. فللحال طلب الأمير جقمق الأمير خشقدم مقدم المماليك، وألزمه بإنزال جميع الأشرفية من الطباق بالقلعة، فاستسلموا بأجمعهم، ونزلوا طبقة أبعد طبقهَ، وقد حضر القضاة وأهل الدولة، فحلفوا للأمير الكبير جقمق، وحكم قاضى القضاة سعد الدين سعد الديرى الحنفي بسفك دم من خالف منهم هذا اليمين. وزعم أن في مذهبه نقلاً بذلك. فكان هذا الحكم أيضًا مما لم نعهد مثله. ثم أمر جميع المماليك الأشرفية بإخلاء طباقهم من القلعة إلا المماليك الكتابية فقط فما منهم إلا من بادر وحول ما كان له بطقته من القلعة من أثاث وغيره، حتى خلت منهم، فكان هذا من أعجب ما سمعنا به في الخذلان، فإن عددهم يبلغ ألف وخمسمائة وعندهم خزائن الأموال الجمة العدد، وحواصل الأسلحة العظيمة القدر في الكثرة والقيمة، وهم بالقلعة دار الملك وسرير السلطنة، ومعهم السلطان، ولهم من الأمتاع والأموال والنعم ما لا يقدر قدره، إلا أنهم أغمار جهال، متفرقون في إجتماعهم " تحَسْبَهُمْ جمَيْعًا وَقلُوبُهم َشتى، ذلِكَ بِأنهُمْ قومُ لا يَعْقلون " .
ومن حينئًذ تبين إدبار أمر الأشرفية ، وزوال عزهم، وإقبال جد الأمير جقمق، وتجديد سعادته.
وسبب هذه الكائنة أن جكم خال السلطان إتفق هو وعدة من الأشرفية على، أن يقبضوا على الأمير جقمق ومن معه من الأمراء، وعلى أَخدْ عبد الباسط وناظر الخاص، فلم يوافقهم الأمير أينال، ومنعهم من ذلك مرارًا. فلما علم جكم بمخالفة أينال له أخذ يدبر مع أصحابه في قتل أينال، فعندما أرادوا الإيقاع به، أعلمه بعض أصحابه بذلك، ففر منهم، وقد حماه منهم بعضهم كما تقدم ذكره، وإلتجأ إلى الأمير جقمق، وقص عليه الخبر. ومازال يوضحه للأمير حتى تبين له صحة مقالته، فأختص به، وبإين من حينئذ أينال الأشرفية، وصار في جملة الأمير جقمق، هو وجماعته، فكان هذا أول زوال دولة العزيز، وصار أينال يبكى في خلواته ويقول: " ما كان جزاء الملك الأشرف منى أنه إشترانى ورباني وعلمني القرآن، وخولني في نعمه، أن أخرب بيته بيدي ولقد بلغني من جهة صحيحة أن الأشرف برسباى نظر إلى أينال هذا في مرض موته ثم قال لمن حضره عنده وأينال قائم على قدميه " هذا مخرب بيتي . وقد قيل قديمَاً: " إتق شر من أحسنت إليه " .
وفي يوم الأحد هذا: قدم الأمير تغرى بردى المؤذى، ومن معه من التجريدة إلى البجرة، بعدما عاثوا وأفسدوا كما هي عادتهم. وفيه قدم الخبر بأن العسكر المجرد قدم إلى دمشق في خامسه.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: أفرج عن جكم خال السلطان، ومن سجن معه، وخلع عليه بشفاعة السلطان فيهم.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: صعد الأمير الكبير جقمق، وسائر الأمراء والمباشرون، إلى الخدمة السلطانية. ومنع المماليك الأشرفية من العبور إلى القصر في وقت الخدمة، وذلك أن الأمير الكبير لما ظهر عليهم، وأنزلهم من الطاق التي بالقلعة، كان مما حلفهم عليه ألا يدخل إلى القصر في الخدمة منهم أحد إلا من له نوبة، في يوم نوبتة لا غير.
وفيه خلع على الأمير الكبير جقمق تشريف جليل، ونزل من القصر بعد إنقضاء الخدمة إلى الحراقة بباب السلسلة، وسكنها على أنه على أمور الدولة وتدبير المملكة، وتخرج الإقطاعات على ما يريد ويختار، ويولى ويعزل، ومعنى هذا أن السلطان لا يبقى له أمر ولا نهى، ويقتصر من السلطنة على مجرد الإسم فقط. فشق ذلك على الأشرفية، وركب عدة منهم، ووقفوا تحت القلعة بالرميلة، وأكثروا من الكلام في الإنكار، لما كان من سكنى الأمير الكبير بباب السلسلة. ثم إنفضوا فأخذ الأمير الكبير يحصن الإصطبل، ويستعد بالسلاح والرحال، ونزل الخدمة السلطانية بالقلعة. فمال الناس بأجعهم من الأمراء والقضاة والمباشرين إلى جهته، وترددوا إلى مجلسه، وتلاشى أمر السلطان، وأخذ في الإنحلال.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشرينه وسادس عشرى مسرى: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعًا وفتح فيه الخليج على العادة، وقد نزل لذلك الأمير أسنبغا الطيارى الحاجب. وكان الناس لما أبطأً عليهم الوفاء أخذوا في شراء الغلال، فإرتفع سعرها قليلاً.
شهر ربيع الأول، أوله السبت:
في يوم الأربعاء خامسه: قدم الأمراء المجردون ما عدا الأمير سودون خجا فصعد منهم ستة أمراء إلى الحراقة بباب السلسلة، وتأخر منهم الأمير يشبك حاجب الحجاب، فإنه قدم ليلًا في محفة، ونزل داره، وهو موعوك البدن. وكان قد كتب إليهم الأمير الكبير نظام الملك جقمق. مما قصده الأشرفية من القبض على الأمراء، وحذرهم منهم، فدخلوا مستعدين بأطلابهم، ولم تجر بذلك عادة، وكان الأمير نظام الملك قد ألزم السلطان أن يقعد للأمراء القادمين في شباك القصر المطل على الإصطبل، فلم يجد بدًا من جلوسه، لأنه سلب جميع تعلقات السلطة، حتى لم يبق له سوى مجرد الاسم، وبطل عمل الخدمة السلطانية بالقصر، وصارت عند الأمير نظام الملك. فلما قدم الأمراء من التجويدة بأطلابهم وطبولهم تدق حربيًا، صعدوا من باب السلسلة، حتى نزلوا عن خيولهم على درج الحراقة، وأطلابهم واقفة . فقام الأمير نظام الملك يسعى مهرولاً إليهم، وهو في جمع كبير جدًا من الأمراء والمماليك، حتى سلم عليهم، وهم وقوف على أرجلهم، وسار بهم يريد الإصطبل السلطاني. وقد جلس السلطان في شباك القصر، فوقفوا على بعد من موضعه، وأومأوا برءوسهم كأنهم يقبلون الأرض، ففي الحال أحضرت التشاريف، فألبسوها وأمأوا ثانيا برؤوسهم، عوضًا عن تقبيل الأرض. وقدمت إليهم الخيول التي أخرجت من الإصطبل بالقماش الذهب، فأومأوا برؤوسهم مرة ثالثة، وولوا راجعين، بلا زيادة على ذلك. وقد رجع معهم الأمير نظام الملك، حتى صعدوا معه إلى الحراقة، فسلموا عليه خدمة له، ثم ركبوا الخيول السلطانية بتشاريفهم، ومضوا نحو دورهم. فإزداد الأمير نظام الملك بهذا المحفل عزًا إلى عزه، وكثرت مهابته، وتضاعفت في القلوب مكانته وحرمته. وتلاشى أمر السلطان، وظهر إنحلال أمره.
وفي يوم الخميس سادسه: إجتمع الأمراء والمباشرون وأرباب الوظائف بالحراقة، في خدمة الأمير الكبير نظام الملك. وقد تعين من الجماعة الأمير قرقماس أمير سلاح بجرأته وإقتحامه على الرياسة بالتهور. وشارك الأمير نظام الملك في مجلسه، وجلس من عداه على مراتبهم يمينًا وشمالاً .
ونزل الطلب بمجىء جماعة من الأشرفية، فأحضروا سريعًا فأشار قرقماس إلى جماعة قد أعدهم أن إقبضوا على هؤلاء، فقبض على الأمير جانم أمير أخور أحد من قدم أمس من التجريدة، وعلى الأمير الطواشى خشقدم مقدم المماليك، وعلى الطواشى فيروز الزينى نائب المقدم، وعلى الأمير على بيه شاد الشرابخاناه، وعلى الأمير جكم الخازندار خال السلطان، وعلى أخيه أبى يزيد، وعلى الأمير يخشى بك أمير أخور، وعلى الأمير دمرداش والى القاهرة، وعلى تانى بك الجقمقى نائب القلعة، وعلى جرباش أمير عشرة، وعلى خش كلدى رأس نوبة، وعلى أزبك البواب، وبيبرس الساقي، وتم الساقي، ويشبك الفقيه، وبيرم خجا أمير مشوى، وجانبك قلقسيرز وأرغون شاه الساقي، وتنبك الفيسى، وأوثقوهم، جميعهم بالحديد، وأمر الأمير تمرباى الدوادار أن يتوجه لنيابة الإسكندرية، فلم يجد بدًا من الموافقة فخلع عليه عوضًا عن الأمير زين الدين عبد الرحمن إبن القاضي علم الدين داود بن الكويز. وطلب بعض أتباعه وهو قراجا العمرى الخاصكى الناصري وخلع عليه بولاية القاهرة، عوضًا عن دمرداش. وندب من الأمراء الأمير تنبك السيفى أحد أمراء الألوف، ومعه الأمير أقطوه من العشرات في عدة من المماليك، فصعدوا إلى القلعة لحفظها، فكان يومًا مهولاً، أظهر فيه الأمير قرقماس من الخفة والتسرع إلى الشر، وكثرة الحماقة والرعونة، ما أبان به كمائن ما كان في نفسه من محبة الوثوب على الأمير، ومنع اللّه لنظام الملك، فإنه أخذ أعاديه بيد غيره، فجنى قرقماس ثمرات ذلك.
وفي يوم الجمعة سابعه: توجه الأمير تمرباى سائراً إلى الإسكندرية.
وفي يوم السبت ثامنه: أخرج بمن ذكرنا من الممسوكين في الحديد إلى الإسكندرية، وقد إجتمع لرؤيتهم من الناس عالم كبير، فمن باك رحمة لهم، ومن شامت بهم، ومن معتبر بتقلب الدهر، وتصاريف الأمور، ومن ساه لاه. وفيه أنفق على الأمراء القادمين من التجريدة مال كبير.
وفي يوم الأحد تاسعه: أحضر الطواشى عبد اللطيف العثماني وهو ممن كان مسخوطًا عليه في الأيام الأشرفية برسباى، وأمر أن يصعد به إلى بين يدي السلطان ليخلع عليه، ويستقر مقدم المماليك، عوضًا عن خشقدم فخلع عليه.
وفي يوم الإثنين عاشره: ركب السلطان من الحوش بالقلعة، وركب معه القاضي زين الدين عظيم الدولة عبد الباسط ناظر الجيمق، ونزلا إلى الميدان، وجميع المباشرين والأمير أينال الدوادار مشاة وراءهما، فركب الأمير نظام الملك جقمق، وفي خدمته الأمراء، من الحراقة بباب السلسلة، خلا الأمير قرقماس أمير سلاح، والأمير أركماس الدوادار، ودخلوا إلى السلطان بالميدان فعندما رآهم القاضي عبد الباسط ترجل عن فرسه إلى الأرض، ونزل الأمراء أيضًا عن خيولهم. وقد وقف السلطان على فرسه، فقبلوا الأرض ووقفوا، فتقدم الأمير نظام الملك، فقبل رجل السلطان في الركاب، وحادثه. ثم خلع بين يدي السلطان على الأمير يشبك حاجب الحجاب، فإنه كان يوم قدوم الأمراء ملازمًا الفراش في داره لوعك به . وإنصرف الجميع عائدين في خدمة الأمير نظام الملك. وكان سبب تأخر الأمير قرقماس عن هذه الخدمة أنه بلغه ما غير خاطره . وذلك أنه كان في نفسه أن يتسلطن، فلما فهم هذا عنه، تقرب إليه عدة من الذين يوهمون جهلة الناس أنهم أولياء اللّه، ولهم إطلاع على علم الغيب وصاروا يعدوه بأنه لابد له من السلطة، وتخبره جماعة أخرى بمنامات تدل له على ذلك، ويزعم له آخرون بأنهم إطلعوا على ذلك من علم الرمل ومن علم النجوم، فتقرر ذلك في ذهنه، و لم يقدر على إظهار ذلك، حتى بلغه وهو مسافر في التجريدة موت الأشرف برسباى، فرأى أن دولته قد طلعت، فأخذ يترفع على من معه من الأمراء ترفعًا زائدًا. هذا مع ما يعرفونه من تكبره وإفراط جبروته، وشدة بطشه، فزادهم ذلك نفورًا منه، وداروه، حتى قدموا ظاهر القاهرة، وهو وهم على تخوف من الأشرفية، لما بلغهم عنهم من أنهم على عزم الإيقاع بهم. فأذْ قرقماس يطلق القول، ويبدى شيئًا مما في نفسه، وفعل ما لم يسبقه أمير لفعله من قلة الأدب في دخوله مطلبًا، وعدم مثوله بين يدي السلطان بالقلعة. بل وقف في الإصطبل على بعد، كما تقدم، كل ذلك لرعونته وفرط رقاعته، ثم كان من فحشه وجرأته في القبض على الأمراء ما كان، وأخذ مع ذلك يجلس في داره ويأتيه من المماليك ما شاء اللّه، حتى تملأ داره بهم. والأخبار تنقل إلى الأمير نظام الملك، ويقال ذلك لقرقماس. فتأخر عن الركوب في هذا اليوم. فلما خرج الأمير نظام الملك من بين يدي السلطان، أرسل الأمير تمراز رأس نوبة النوب والأمير قراجا، والقاضي زين الدين عبد الباسط إلى الأمير قرقماس، فأبدى لهم ما عنده من تغير خاطره، لما نقل عنه، فمازالوا به حتى ركب معهم، وطلع للأمير نظام الملك بالحراقة، فدخلا في جماعة من ثقاتهما خلوة وتعاتبًا وتحالفًا، ثم خرجا فأركبه الأمير نظام الملك فرسًا بقماش ذهب. ونزل إلى داره، وفي خدمته الأمير تمراز، وقراجا. فأركب كل منهما من داره فرسًا بقماش ذهب، وأخذ من حينئذ يسلك طريقًا تضاد ما كان عليه من طلب الأمر لنفسه، وألح على الأمير نظام الملك في جلوسه على تخت الملك، ليحقق قول الحكيم الجاهل " لا يقع إلا طرفًا " . بينما قرقماس لزهوه وإعجابه بنفسه يريد أن يتسلطن، إذ خدعه من خدعه، فمشت عليه خدعه، حتى أفرط به الإنخداع، وصار يريد أن من خدعه يتسلطن، ويصير هو من أتباعه تمضى فيه أوامره، بعد أن كانا كحليف يتصاولان، فيخشى قرنه صولته ليقضي اللّه أمرًا كان مفعولا.
وفي هذا اليوم: كتب عن السلطان وعن الأمير نظام الملك وعن الأمير قرقماس، بإستدعاء المقر الكمالى محمد بن البارزى قاضي القضاة بدمشق ليستقر في كتابة السر، وجهز القاصد لإحضاره.
وفي يوم الخميس رابع عشره: عملت الخدمة السلطانية بالقصر بين يدي السلطان، وحضرها الأمير نظام الملك جقمق، والأمير قرقماس، وعامة الأمراء والمباشرين وكانت الخدمة السلطانية قد تركت من مدة، وأطرح جانب السلطان، فتنبه له ذلك في هذا اليوم المبارك.
وفي يوم الجمعة خامس عشره: صلى الأمير قرقماس في المقصورة مع السلطان صلاة الجمعة، ومضى و لم يكلم واحد منهما الآخر، وتأخر نظام الملك عن حضور الجمعة مع السلطان .
وفي يوم السبت سادس عشره: عملت الخدمة بالقصر على العادة.
وفي يوم الإثنين: عملت الخدمة أيضًا، و لم يحضرها الأمير نظام الملك .
هذا والأمير قرقماس وسائر الأمراء وأرباب الوظائف تحضر عند الأمير نظام الملك الخدمة بالحراقة، وتأكل على سماطه، إلى أن خلع العزيز في يوم الأربعاء تاسع عشره، فكانت مدته أربعة وتسعين يومًا، ومن الإتفاق الغريب أن عدة حروف عزيز بالجمل أربعة وتسعين.
السلطان الملك الظاهر أبو سعيد جقمقالعلائى الجركسى الظاهري : هذا الملك سبى صغيرًا من بلاد الجركس، وجلب إلى القاهرة، وربي في بيت الأمير أينال اليوسفي، وإنتقل إلى الملك الظاهر برقوق من على ولد الأمير أينال، فتنقل في الخدم إلى أن صار بعد الأشرف برسباى نظام الملك، كما تقدم ذكره.
فلما كان يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول: هذا، إستدعى الخليفة والأمراء والقضاة وجميع أرباب الدولة إلى الحراقة بالاصطبل، وأثبت عدم أهلية الملك العزيز يوسف لأنه لا يحسن التصرف، فخلعه الخليفة، وفوض السلطة للأمير نظام الملك جقمق في أخر الساعة الثانية، وتلقب بالملك الظاهر أبى سعيد، وأفيضت عليه الخلع الخليفتية، وقلد بالسيف. وركب من الحراقة، والجميع مشاة في خدمته، وقد دقت البشائر حتى صعد إلى القصر. وجلس على تخت الملك فقبل الأمراء الأرض وإنصرفوا. ونودى في القاهرة وظواهرها بالدعاء للملك الظاهر، وأن النفقة مائة دينار لكل مملوك.
وسجن العزيز في بعض دور القلعة، ونزل عنده دادته سر النديم الحبشية، وعدة من جواريه، ما بين سرارى وخدم، وطواشيه صندل الهندي. ومكنت مرضعته من الترداد إليه والمبيت عنده. وأجرى له من اللحم والدجاج والأوز في كل يوم ما يليق به، سوى عشرة آلاف درهم في كل شهر من وقف أبيه. ورسم على بابه جماعة من المماليك. ثم بعد أيام رفع الترسيم عن بابه.
وكان القائم في هذا الأمر قرقماس، فإنه لما قدم ترفع ترفعًا زائدًا إعجابًا بنفسه، وتكبرًا على غيره، وشرع يتصرف في أمور الدولة بعجلة. وجلس للحكم بين الناس في داره. وقام في القبض على أعيان الأشرفية قيامًا تبين فيه حمقه وطيشه. ثم إنقطع في داره وأظهر أنه بلغه عن نظام الملك أنه يريد مسكه، إلى أن خدعوه وساروا به إلى نظام الملك، فخادعه أشد المخادعة، حتى انفعل لما عنده من الخفة والحدة، وإستحال عما كان عليه من التعاظم والكبر إلى التواضع المفرط، إما مكرًا أو سرعة إستحالة. وأخذ يحث نظام الملك على أن يتسلطن وهو يأبى عليه في عدة مرار إلى أن حنق قرقماس وقام من مجلس نظام الملك مغضبًا، فتلافاه حتى جلس، وهو يلح في التأكيد عليه في السلطة، إلى أن أذعن، فبادر قرقماس وركب إليه سحر يوم الأربعاء، وألزمه بطلب الخليفة والقضاء والأمراء، ولم عندهم علم من ذلك. فلما إجتمعوا قام قرقماس بأعباء هذا الأمر وحده، حتى خلع العزيز وتسلطن نظام الملك، فكأنما سعى في هلاك نفسه.
وفي هذا اليوم:. قبض على الطواشى جرهر الزمام اللالا وهو مريض وسجن بالبرج من القلعة. وإستقر زمام الدار عوضه الطواشى فيروز الساقي وكان الأشرف قد سخط عليه وأمره بلزوم داره، فأقام يترقب الموت إلى أن مات الأشرف، فاستدعى الآن، وخلع عليه، وتولى سجن العزيز وخلع أيضًا على سودون الجكمى أخي الأمير أينال نائب الشام، ليتوجه بالبشارة إلى نواب الشام، وخلع على دمرداش العلاى ليتوجه بالقبض على الأمير خجا سودون المؤيدى أحد المجردين وحمله إلى القدس بطالاً.
وفي يوم الخميس عشرينه: خلع على الأمير قرقماس، وإستقر أميرًا كبيرًا أتابك العساكر، وأنعم عليه بإقطاع السلطان وهو نظام الملك، وزيد عليه بإمرة طبلخاناه بدمشق. وخلع على الأمير أقبغا التمرازى وإستقر أمير سلاح عوضًا عن الأتابك قرقماس. وخلع على الأمير تمراز، وإستقر أمير أخور، عوضاً عن الأمير جانم. وخلع على الأمير يشبك الحاجب، وإستقر أمير مجلس، عوضًا عن أقبغا التمرازى. وخلع على الأمير تغرى بردى المؤذى، وإستقر حاجب الحجاب، عوضًا عن الأمير يشبك، وخلع على الأمير أركماس، وإستقر على عادته دوادارا وخلع على الأمير تنبك نائب القلعة فوقانى، وخلع على الأمير قراجا أيضًا فوقانى، وخلع على الأمير قراقجا الحسنى وإستمْر رأس نوبة النوب، عوضًا عن الأمير تمراز أمير أخور .
وفي يوم السبت ثاني عشرينه: خلع على الأمير تنم المؤيدى الخازندار، وإستقر في حسبة القاهرة، عوضًا عن نور الدين على السويفى الإمام. وخلع على الأمير قانباى الجركسى رأس نوبة، وإستقر شاد الشرابخاناه، عوضًا عن على بيه. وخلع على قانبك الساقي، وإستقر خازندارًا، عوضًا عن جكم خال العزيز.
وفي هذا اليوم: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد، لتتمة ثمانية عشر ذراعًا وعشرين أصبعًا وهو سادس عشر توت، فأصبح يوم الأحد ثالث عشرينه، وسابع عشر توت ويقال له عند أهل مصر عيد الصليب وقد نقص ماء النيل، وإستقر في النقص، فلم يتم ري النواحي، وشرق كثير من الأراضي.
وكان قد إتفق في يوم الأربعاء تاسع عشره عندما تسلطن الملك الظاهر جقمق هبوب ريح شديدة عاصفة حارة أثارت غباراً ملأ آفاق السماء، حتى كادت الشمس تخفى عن الأبصار، أو إختفت، وتمادت هذه الريح يوم الخميس، وسكنت يوم الجمعة، وإشتد الحر طول النهار، وأقبل الليل وقد طبق السحاب الآفاق، وأمطرت يسيرًا غير مرة، حتى أصبح يوم السبت. فتطير الناس من ذلك، وزعم من عنده أثارة من علم أن هبوب هذه الرياح يؤذن بحدوث فتن، وأن المطر في هذا الوقت يخاف منه نقص النيل، فكان كذلك، ونقص النيل في يومه ويخاف عاقبة هذا النقص. إلا أن يشاء اللّه.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه: إبتدئ بالنفقة السلطانية، لكل واحد من المماليك مائهْ دينار وفي يوم الثلاثاء خامس عشرينه: قدم الأمير جرباش قاشق من دمياط، وقد أفرج السلطان عنه، وأنعم عليه بإمرة مائة تقدمة ألف، بعدما أقام عدة سنين مسجونًا .
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: عمل السلطان المولد النبوي بالقلعة على عادة من تقدمه من الملوك الجركسية، فكان وقتا حسنًا، وأعطة جليلة بالنسبة إلى الوقت. وانفض الجمع بعد صلاة المغرب.
وفي يوم الجمعة ثامن عشرينه: كسف من الشمس قريب من ثلثي جرمها، بعد نصف النهار، فاصفرت الأرض وما عليها، حتى انجلت، ولم تجتمع الناس ولا صلوا صلاة الكسوف. وزعم أهل علم الحدثان أن ذلك يدل على خروج أهل الشام وأهل صعيد مصر عن طاعة السلطان.
وفي يوم السبت تاسع عشرينه: تجمع تحت القلعة نحو الآلف فارس من مماليك الأمراء يريدون إثارة الفتنة، من أجل أنه أنقق في المماليك السلطانية ولم ينفق فيهم، ولم تجر العادة بالنفقة في مماليك الأمراء، فأنفق فيهم لكل نفر، شهر ربيع الآخر، أوله الأحد.
في يوم الثلاثاء ثالثه: خلع على شيخ الشيوخ القاضي محب الدين محب بن الأشقر وإستقر في نظر المارستان، عوضًا عن نور الدين على بن مفلح، وكانت شاغرة منذ مات.
وفيه قبض على الصاحب تاج الدين الخطير ناظر الاصطبل، وعلى ولده وأخذت خيولهما، وألزما بحمل عشرين ألف دينار لتغير خاطر السلطان عليه من حين كان أمير أخور .
وفيه ثارت عدة من المماليك القرانصة الذين قاموا مع السلطان قبل ذلك على الأشرفيه كما تقدم، وطلبوا الآن من السلطان الزيادة في جوامكهم ومرتب لحمهم ووقفوا تحت القلعة وأصبحوا يوم الأربعاء وقد كثر جمعهم، حتى نزل الأمراء من خلسه السلطان، فصاروا يجتمعون على واحد واحد منهم، ويذكرون له ما يريدون إلى أن نزل الأمير الكبير الأتابك قرقماس فأحاطوا به وحدثوه، فوعدهم أن يتحدث لهم مع السلطان، فأبوا أن يمكنوه من العود إلى القلعة، وأرادوه أن يوافقهم على محاربة السلطان وساروا معه بأجمعهم إلى داره، وتلاحق بهم جماعة فلم يزالوا به حتى وافقهم بعد جهد منهم وإمتناع منه، ولبسوا سلاحهم ولبس هو الآخر أيضًا، وأتاه كثير من الأشرفية وساروا به حتى وقف بالرميلة تجاه باب السلسلة، وهم في إجتماعهم مختلفة آراؤهم، فمنهم من يقول: " اللّه ينصر الملك العزيز " . فإذا سمع ذلك قرقماس منهم قال: " اللّه ينصر الحق " وآخرون سواهم يقولون اللّه ينصر السلطان " . وفي عزم الأشرفية إذا أخذوا السلطان بقرقماس قتلوا قرقماس في الحال، وأقاموا العزيز. وفي ظن قرقماس أن تكون السلطة له. وإتفق أنه لما خرج من داره، وسمعهم ينوهون بالدعاء للعزيز، كشف رأسه وقال: " اللّه ينصر الحق " . فتطير من له خبرة وتجارب بزوال أمره، لكشفه رأسه في الشارع خارج باب زويلة، بمرأى من العامة، ثم لما وقف بالرميلة سقطت ذرفته عن كتفه إلى الأرض، وأظلمت الدنيا في عينيه، فتأكدت الطيرة عليه بسقوط عزه وعماه عن الرشد، فكان كذلك. وعندما وقف تجاه باب السلسلة من القلعة سار بعض أتباعه ونادى في القاهرة على لسانه بمجيء الممالك إلى الأمير قرقماس، وأنه ينفق فيهم مائتي دينار لكل واحد، وبمجيء الزعر إليه وأنه يعطى كل واحد منهم عشرين دينارًا. فعظم جمعه، بحيث توهم كثير من الناس أن الأمر له.
وكان السلطان عند ذلك في نفر قليل، فبادر بنزوله من القصر إلى المقعد الذي بجانب باب السلسلة، ومعه المال، وبعث بجماعة للقتال، فوقعت الحرب بين الفريقين مراراً، والجراح فاشية فيهم، وقد قتل جماعة وتعين الغلب لقرقماس ومن معه، إلا أن عدة من الأمراء فروا عنه، وصعدوا من باب السلسلة إلى السلطان، فسر بهم، ثم أقبل أيضاً من جهة الصليبة عدة أمراء، ووقفوا تجاه قرقماس، في هيئة أنهم جاءوا ليقاتلوا معه ثم ساقوا خيولهم بمن معهم. ودخلوا باب السلسلة، وصاروا مع السلطان، فإزداد بهم قوة، هذا وقد دقت الكوسات السلطانية حربيًا بالطبلخاناه من القلعة، وقامت ثلاثة مشاعلية على سور القلعة تنادى من كان في طاعة السلطان فليحضر وله من النفقة كذا وكذا. ونثر مع ذلك السلطان من المقعد على العامة ذهبًا كثيرًا. وصار يقف على قدميه ويحرض أصحابه على القتال، فأقبلت الفرسان نحوه شيئًا بعد شىء داخلة في طاعته، وتركت قرقماس. والحرب مع هذا كله قائمة بين الفريقين ضرباً بالسيوف، وطعنًا بالرماح إلا أن الرمي من القلعة على قرقماس ومن معه بالنشاب كثير جداً، مع رمى العامة لهم بالحجارة في المقاليع لبغضها في قرقماس وفي الأشرفية، فتناقص جمعهم، وتزايد جمع السلطان إلى قبيل العصر، فتوجه بعض الأشرفية وأخذوا في إحراق باب مدرسة السلطان حسن ليتمكنوا من الرمي على القلعة من أعلاها. فلم يثبت قرقماس، وفر وقد جرح، فثبتت الأشرفيهَ وقاتلت ساعة، حتى غلبت بالكثرة عليها، فإنهزمت بعدما قتل من الفرسان والرجالة، جماعة، وجرح الكثير. فمن جرح من السلطانية الأمير تغرى بردى المؤذى حاجب الحجاب من طعنة برمح في شدقه، والأمير أسنبغا الطيارى الحاجب في آخرين فكانت هذه الوقعة من الحروب القوية بحسب الوقت، إلا أن قرقماس جرى فيها على عادته في العجلة والتهور، ففاته الحزم، وأخطأه التدبير من وجوه عديدة، ليقضى اللّه أمراً كان مفعولا " وَإذَا أرَادَ الله بقْوم سُوءًا فَلاَ مَرد لَهُ " .ًَ وعندما إنهزم القوم ندب السلطان لأمير أقبغا التمرازى أمير سلاح في جماعة لطلب المنهزمين، فتوجه نحو سرياقوس خشية أن يمضوا إلى الشام، فكانوا أعجز من ذلك، ولم يجد أحداً فعاد .
وفي يوم الخميس خامسه: جلس السلطان على تخت الملك بالقصر، وعملت الخدمة على العادة، فهنأه الناس بالظفر والنصر على أعدائه. وقد وقف على باب القلة من القلعة عدة لمنع من بقي من الأشرفيهَ من الدخول إلى الخدمة، فكان المملوك منهم إذا جاء منع من الدخول، فإن لم يمتنع ضرب على رأسه حتى يرجع من حيث أتى. ورسم بقطع مرتبهم من اللحم في كل يوم، ثم أعيد بعد ذلك .
وفيه إجتمع القضاة بجامع القلعة، وحكم قاضي القضاة شمس الدين محمد البساطى المالكي بهدم سلالم مأذنتى مدرسة السلطان حسن، وهدم سلالم سطحها وألزم الناظر في مجلس الحكم بهدم ذلك فمضى وهدمه، فكان هذا الحكم أيضًا من الأحكام التي لم نعهد من القضاة مثله .
وفيه خلع على علاء الدين على بن ناصر الدين محمد بن الطبلاوى، وأعيد إلى ولاية القاهرة، وكان قد بلغ الغاية من الفقر والفاقة والضعة.
وفي يوم الجمعة سادسه: قبض على الأمير قرقماس، وذلك أنه لما فر أوى إلى موضع بقية نهاره وليلة الخميس. ثم أصبح فبعث عشاء إلى القاضي زين الدين عبد الباسط يعلمه بمكانه وأنه يأخذ له الأمان، ففعل ذلك، وتوجه ومعه المقام الناصري محمد ولد السلطان فلما رأهما قرقماس، قام وإنحط يقبل قدمي ابن السلطان ويد عبد الباسط، فوضعا في عنقه منديل الأمان الذي قدما به من السلطان، وأركبوه فرسًا ومروا به، وقد اجتمع الخلائق لرؤيته فمنهم من يسبه ومنهم من يدعو عليه، حتى صعد القلعهْ، فعندما عاين السلطان خر على وجهه يقبل الأرض، ثم قام ومشى قليلاً، وخر يقبل الأرض، وقام فمشى ثم خر ثالث مرة يقبل الأرض، وقد قرب من السلطان. فوعده بخير، وأمر به فأدخل إلى مكان وقيد بالحديد وهو يشكو من الجوع، فأتى بطعام. هذا وقد لهجت العامة في الأسواق تقول " الفقر والإفلاس، ولا ذلتك يا قرقماس " .
وفيه قبض على جماعة من المماليك الأشرفية، وأخذت خيولهم وبغالهم، وسجنوا بالبرج من القلعة .
وفي يوم السبت سابعه: أخرج بقرقماس في الحديد، ومضوا به إلى ساحل النيل، وأركب في الحراقة حتى سجن بالإسكندرية. وسمع في مروره من القلعة إلى النيل من العامة مكروهًا كثيرًا، وحل به في هذه المحنة نكال شديد، وخزى زائد فإنه كان من الكبر والزهو والإعجاب وفرط الرقاعة على جانب كبير مع العسف والجبروت وشدة البطش، بحيث كان إذا عاقب يضرب الألف ضربة وأزيد، فعوقب من جنس فعله. وصار مع ذلك مثلا، فلقد أقامت العامة مدة، تجهر في الأسواق بقولها لمن تدعو عليه " لك ذله قرقماس " .
وفيه خلع على الأمير أقبغا التمرازى، وإستقر كبيرًا أتابك العساكر، عوضًا عن قرقماس. وأنعم عليه بإقطاع إحدى التقدمتين اللتين كانتا مع قرقماس.
وخلع على الأمير يشبك، وإستقر أمير سلاح، عوضًا عن الأتابك أقبغا التمرازى. وخلع على الأمير جرباش قاشق، وإستقر أمير مجلس، عوضًا عن الأمير يشبك.
وفي يوم الإثنين تاسعه: إجتمع الأمراء والقضاة والمباشرون وسائر أهل الدولة للخدمهْ في القصر على العادة، وقد جلس السلطان على التخت والخليفة والقضاة والأمراء على مراتبهم، وتقدم الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه كاتب السر فقرأ عهد أمير المؤمنين المعتضد باللّه للسلطان، وهو من إنشاء القاضي شرف الدين أبى بكر الأشقر نائب كاتب السر.
ثم خلع على الخليفة وقضاة القضاة الأربع، وكاتب السر ونائبه، بعدما جرى بين قاضي القضاة شهاب الدين أحمد ابن شيخ الإسلام بن حجر الشافعي، وبين قاضي القضاة سعد الدين سعد الديري الحنفي كلام اقتضى عزل ابن حجر نفسه من القضاة، فأعاده السلطان إلى وظيفة القضاة، وجدد له ولاية ثانية عنه. وأضاف إليه ما خرج عنه في الأيام الأشرفية من نظر الأوقاف ونظر وقف قراقوش، ونظر وقف بيبغا التركماني، ونظر وقف المدرسة الطيبرسية بجوار الجامع الأزهر، وأكد عليه في أنه لا يقبل رسالة متوجه، ولا يؤجر وقفًا لدى جاه، فما أحسن ذلك لو تم ودام .
وفيه جهز توقيع برهان الدين إبراهيم بن لباعوني بقضاء دمشق عوضًا عن المقر الكمالى محمد بن البارزى كاتب السر، وحمل له التشريف أيضًا بسفارة القاضي عبد الباسط.
وفي يوم السبت رابع عشره: أنعم على الأمير أينال بإقطاع إحدى تقدمتى قرقماس. وأنعم
بإقطاع أينال على الأمير أسنبغا الطيارى، وأنعم على الأمير ألطنبغا المرقبى بإقطاع قراجا، وإستقر من أمراء الألوف وكان قد حمل بعد موت المؤيد شيخ عدة سنين. وأنعم على الأمير قراجا بإقطاع الأتابك أقبغا التمرازى .
وفي يوم الثلاثاء سابع عشره: خلع على المقر الكمالى محمد بن البارزى، وإستقر في كتابة السر، وقد قدم من الشام. وهذه ولايته الثالثة بديار مصر.
وعزل الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، خلع عليه جبة بفرو سمور، فنزل المقر الكمالى على فرس سلطاني بقماش ذهب في موكب جليل إلى الغاية، وركب معه الأمير أركماس الدوادار، والصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وعامة أهل الدولة .
وفيه خلع على الأمير أسنبغا الطيارى، وإستقر دوادارًا ثانيًا، عوضًا عن الأمير أينال. وخلع على الأمير يلبغا البهائي أمير منزل أحد أمراء العشرات، وإستقر حاجبًا ثانيًا عوضًا عن أسنبغا الطيارى، وأنعم عليه بإمرته.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: خلع على الأمير أينال، وإستقر أمير الحاج. وأنعم عليه بعشرة آلاف دينار. وفيه جهز المقر الكمالى كاتب السر تقدمة سنية للسلطان، ما بين خيل وثياب حرير وثياب صوف وفرو، وغير ذلك، مما قيمته زيادة على ألف وخمسمائة دينار .
وفي هذا الشهر: شنع إفساد الدود للزروع، فإن الماء نزل سريعًا عن الأراضي قبل أوان نزوله، وإشتد الحر مع ذلك في هذه الأيام.
وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه: نفى عدة من المماليك الأشرفية إلى الواحات، فخرجت عيالاتهم وأصحابهم يصرخون، فكان شيئًا نكرًا. وفيه نفى أيضًا عز الدين عبد العزيز البغدادي قاضي الحنابلة بدمشق وقد قدم منها بعد عزله بإبن مفلح، وإجتمع بالسلطان، فما وفق في الخطاب فغضب منه ونفاه.
وفي هذا الشهر: هدم جانب من المعلقة إحدى معابد النصارى بمدينة مصر وقد حضر القضاة مع أمين من قبل السلطان. وفيه إدعى على بطرك اليعاقبة عند قضاة القضاة بين يدي السلطان. مما وضع عليه يده من أموال من مات من النصارى ولا وارث له، فأجاب بأن عنده مستندًا بأخذ ذلك، مْخرج في الترسيم على البيان، ثم إنحل أمره في ذلك. وفيه فشت الأمراض في الناس بالحميات إلا أنها في الأكثر سليمة تقلع في السابع.
وفي آخر هذا الشهر: أفرج عن الخطير، على مال يحمله بعد أن عوقب، وأخذت خيوله وجواريه.
شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء: في خامسه. رسم بنقل الأمير خشقدم الطواشي ونائبه من سجن الإسكندرية إلى دمياط على حمل خمسة عشر ألف دينار. وقدم كتاب الأمير تغرى برمش نائب حلب بأنه مقيم على الطاعة، وأنه لبس التشريف المجهز إليه، وقبل الأرض على العادة فلم يوثق بذلك منه، وأخذ في العمل في إمساكه والقبض عليه بملطفات كتب إلى أمراء حلب في الباطل خفية لكثرة الإشاعات بسلوكه طريق من هو خارج عن الطاعة، فإنه أكثر من إستخدام المماليك وإستمال عدة طوائف من التركمان، إلى غير ذلك.
وفي يوم الإثنين سابعه: خلع على ولى الدين محمد السفطى مفتى دار العدل وأحد خواص السلطان وإستقر في وكالة بيت المال، عوضًا عن ابن النسخة شاهد القيمة.
وفي ثامنه: خلع على الشريف صخرة بن مقبل بن نحبار، وإستقر في إمرة ينبع، عوضًا عن الشريف عقيل بن وبير بن نخبار .
وفي هذا الشهر: والذي قبله زالت نعم جماعة كثيرة من الأشرفية ما بين أمير ومملوك وكاتب وغير ذلك، فمنهم من قتل ومنهم من سجن، ومنهم من نهب، ومنهم من صودر، وآخرون يترقبون ما يحل بهم.
وفي يوم الخميس عاشره: خلع على زين الدين يحيى قريب ابن أبى الفرج، وإستقر في نظر الاصطبل على مال وعد به، وخلع على محمد الصغير معلم النشاب، أحد معارف السلطان، وإستقر في ولاية دمياط، عوضًا عن ناصر الدين محمد ابن الأمير فخر الدين بن أبى الفرج، وكان من قريب قد وليها فعزل بعد أيام .
وفي يوم السبت ثاني عشره: قبض على عمر آخى التاج والى القاهرة ورسم بنفيه إلى قوص. ثم أمر أن يلزم بيته على مال قرر عليه يقوم به.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشره: ضرب الشيخ حسن العجمي بالمقارع ضربًا مبرحًا، وشهر بالقاهرة، ثم سجن، وهذا الرجل قدم القاهرة، ودار في الأسواق يستجدى ويكدى، فيتصدق الناس عليه. ثم تعرف بالأشرف برسباى، وإختص به إختصاصًا زائدًا، بحيث يدخل خلواته متى شاء بغير إذن، ويقف فوق الأمراء، فتمكن من السلطان وعظم قدره. وبذل له الأكابر الأموال خشية منه. ثم بنى له السلطان قبة كبيرة بالصحراء، ووقف عليها وقفًا له متحصل كثير، فثقل على أهل الدولة لكثرة أخذه المال منهم، ولسوء أثره فيهم عند السلطان إلى أن زالت الدولة الأشرفية، وبدا لهم سيئات ما كسبوا. قبض على حسن هذا، وضربه السلطان، وسجنه، ثم ادعى عليه عند قاضي القضاة المالكي بما يوجب إراقة دمه، فلم يثبت ما ادعى به عليه فضرب هذا الضرب الثاني، ثم نفى بعد سجنه إلى قوص، وأخذ ما وجد له وفي هذه الأيام رسم بإستقرار تقي الدين أبى بكر بن أحمد بن محمد عرف بإبن قاضي شهبة في قضاء دمشق، وذلك أن البرهان إبراهيم ابن الباعونى لما توجه إليه التوقيع والتشريف بإستقراره في قضاء القضاة بدمشق، عوضًا عن المقر الكمال محمد بن البارزى كاتب السر، إمتنع من القبول، فأتاه الأمير أينال الجكمى نائب الشام إلى بيته، وسأله أن يقبل، فلم يجبه، وصمم على الإمتناع، فبعث النائب بذلك.
فرسم لإبن قاضي شهبة بالقضاء وجهز له التشريف والتوقيع، ورسم بإستقرار أبى اليمن أمين الدين محمد بن جمال الدين أبى الخير محمد ابن الفقيه على النويرى خطيب الحرم في قضاء مكة وخطابتها، عوضًا عن أبى السعادات محمد بن أبى البركات محمد بن أبى السعود ابن ظهيرة، وجهز له التشريف والتوقيع.
وفي يوم الأحد سابع عشرينه: أنفق في خمسائة من المماليك الأشرفية، كل واحد عشرة دنانير، ليخرجوا تجريدة لقتال هوارة، ببلاد الصعيد.
شهر جمادى الآخرة، أوله الخميس: فيه برز الأمير سودون المحمدي، ومن معه: وذلك أن السلطان عزم على غزو بلى، لما تقدم منهم من نهب الحجاب فندب سودون المحمدي لذلك، وعين معه مائة من المماليك الأشرفية، أنفق فيهم ثمانية آلاف دينار، سوى الخيل والجمال، حسابًا لكل مملوك ثمانون دينارًا، وأنعم على سودون المحمدي بثلاثة آلاف دينار، وولاه نظر الحرم بمكة، عوضًا عن ولى الدين محمد بن قاسم، ورسم بمسير عرب الكرك، وعرب ينبع معه. وخلع على تاج الدين محمد بن حتى السمسار، وإستقر في نظر جدة، عوضًا عن سعد الدين إبراهيبم بن المرة.
وفي يوم الجمعه ثانية : أخرجت خطابة الجامع الطولونى ومشيخة الميعاد عن أبى اليسر محمد بن زين الدين أبى هريرة عبد الرحمن بن النقاش، وخطب عوضه برهان " الدين إبراهيم بن ميلق، لشىء في نفس السلطان من أبيه.
وفي يوم الإثنين. خامسه: إستقل سودون المحمدي بالمسرر نحو الحجاز بمن معه، وسار بعده أمير أحمد بن على بن أينال في عدة من المماليك وغيرهم لإصلاح مناهل طريق الحجاج، وتوجهت المماليك الأشرفية إلى الصعيد لقتال هوارة، وخلع على الأمير أقبغا التركمانى وإستقر في نيابة الكرك، عوضًا عن الوزير الأمير غرس الدين خليل، ونقل خليل إلى صفد، وإستقر بها أميرًا كبيرًا.
وفي سابع عشره: ورد الخبر بأن جيهان شاه بن قرا يوسف ملك قلعة النجا من عمل توريز، وكانت ليد ابن أخيه إسكندر، فعوضه عنها قلعة أوفيك وأنه طلب أيضًا أرزن الروم من صاحبها، وأن حوكي ابن القان معين الدين شاه رخ بن تيمورلنك شتي على قراباغ، وأن القان شاه رخ أرسل ثلاث خلع وشطفه إلى مراد بك بن عثمان ملك الروم، فخرج الوزراء إلى لقاء القادم بها، وأخروا إظهار الشطفة، ودخلوا بالرسل في مجلس خاص، فلبس مراد الخلع، ودار بين الرسل وبينه حديث في مصاهرة القان، بأن تكون بنات كل منهما لأولاد الآخر.
شهر رجب، أوله الخميس: فيه أنفق المماليك نفقة الكسوة، وكانت عادتهم في أيام الأشرف برسباى أن يدفع لكل واحد منهم خمسائة درهم من الفلوس التي هي نقد مصر الآن، فوقفوا في يوم الإثنين الماضي، وطلبوا أن ينفق فيهم عن ثمن الكسوة عشرة دنانير لكل واحد، فمازالوا بهم حتى أنفق فيهم ألف درهم لكل مملوك، وألف وخمسائة لكل خاصكى.
وفيه رسم أن يكون نواب قاضي القضاة الشافعي خمسة عشر ونواب الحنفي عشرة، ونواب كل من المالكي والحنبلي أربعة، ثم ازدادت عدتهم بعد ذلك.
وفي يوم الأحد رابعه: إبتدىء بقراءة صحيح البخاري بين يدي السلطان بالقصر من القلعة، وزادت عدة من حضر ومنعوا من البحث، فإنه كان يقضي إلى خصام ومعاداة، فإنكفوا عنه، وللّه الحمد.
وفي يوم الخميس ثامنه: جمع القضاة والأمراء والمباشرون بالقصر وقت الخدمة وأقيم بعض نواب القاضي الشافعي وكيلاً، فادعى على نقيب الحكم، وقد أقيم وكيلاً عن الأمير قرقماس الشعبانى دعوى حسبة بين يدي قاضي شمس الدين محمد البساطى، المالكي، بأن الأمير قرقماس خرج عن طاعة السلطان، وحارب اللّه ورسوله، فقتل بسببه عدة أناس، وأن في بقائه في السجن مفسدة وإثارة فتن، وأن في قتله مصلحة، فشهد بذلك جماعة من الأمراء، وحكم البساطى بموجب ذلك، فقيل له ما موجبه، فقال: " القتل " ، فندب بعض الممالك لقتله، وجهز إلى الإسكندرية، فقتله في يوم الإثنين ثاني عشره قتلة شنعاء، وهو أنه أخرج في قيده من السجن إلى مجلس الأمير تمرباى نائب الإسكندرية، وقد جمع الناس، فأوقف على حكم البساطى بقتله، وقيل له " لك دافع أو مطعن فيما شهد به عليك " ، فأجاب بعدم الدافع والمطعن، فأقيم قيامًا عنيفًا وأخرج إلى ظاهر المدينة، وأقعد عريانًا، وتقدم المشاعلى، فضربه بالسيف، فأخطأ عنقه، ووقعت الضربة على الكتف، ثم ضربه ثانيًا فقدَّت تحت كتفه، حتى ظهر داخل صدره، ثم ضربه مرة ثالثة، فأصابت العنق، ولم تقطعه، فحزه غير مرة حتى إنفصل الرأس عن البدن، ونزل في موضعه حتى واراه بعض أتباعه، فكان في ذلك عبرة، و لم نعهد مثل ذلك، لا من حيث هذه الدعوى وهذا الحكم الذي زعموا أنه من الأحكام الشرعية، ولا من حيث أن أميرًا من عظماء الدولة ترشح للسلطة يقتل هذه القتلة الشنيعة ثم لا يحسن قتله، " وَإذا أرَادَ الله بِقَومٍ سُوءًا فَلا مَرد لَهُ " .
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: خلع على يلبغا البهائي أحد الحجاب، وإستقر في نيابة الإسكندرية، عوضًا عن الأمير تمرباى. وفيه ورد الخبر بأن الأمير سودون المحمى توجه هو والشريف صخرة أمير ينبع، وأمير بنى عقبة، في طلب بلى، حتى لقوهم بالقرب من أكره، فيما يلي الشرق عن يسار درب الحاج عند جبل الورد، في يوم السبت ثالث شهر رجب وحاربهم. بمن معه، وقتل منهم جماعة، وجرح كثيرًا، فإنهزموا، وقتل ممن معه جماعة وأنه مضى بجماعة يريد ينبع.
وفي يوم السبت رابع عشرينه: قدم الأمير على باك بن قرايلك، وكان ببلاد الروم، فوصل منها إلى أرزنكان، وبها ولده جهان شاه، وأخوه يعقوب بن قرايلك، فثار به أخوه يعقوب، وأخرجه هو وإبنه جهان كير، فقدما حلب. وأقام إبنه جهان شاه في حصن منصور قريبا من بهسنى ومعه جماعة ألاق من قبائل التركمان، ثم تحول حتى نزل بمن معه الساجور قريبًا من حلب وقدم هو راغبًا في طاعة السلطان، فخلع عليه، وأنزل، وأجرى عليه ما يليق به.
وفي سلخه: أقيم الملك الأشرف إسماعيل بن الظاهر عبد اللّه بن الأشرف إسماعيل ملكًا بزبيد وتعز وعدن من بلاد اليمن، بعد موت أبيه، وله من العمر نحو العشرين سنة.
شهر شعبان، أوله السبت:
في يوم الأربعاء خامسه: هدمت دار الشيخ زين الدين أبى هريرة عبد الرحمن ابن الشيخ شمس الدين أبى إمامة محمد بن النقاش، من زيادة الجامع الطولونى، وكان من خبر ذلك أن أبا هريرة بن النقاش أخذ خطابة الجامع الطولونى ومشيخة الميعاد من ابن السبكى مغالبة فأحب أن يكون سكنه بحذاء الجامع، فاستأجر قطعة أرض من زيادة الجامع وبنى بها دارًا بعد سنة ثمانين وسبعمائة، ثم فتح منها باب في جدار الجامع، وصار يعبر منه إلى الجامع في أوقات الصلوات وغيرها، ثم خرق في جدار الجامع طاقات تشرف على الجامع في مجلس عمله، وحفر في هذه الدار صهريجا، وعمل بها إصطبلا لدوابه، فثار عليه جماعة، فإنه كان كثير الأعداء، وأنكروا عليه ذلك، فأخذ خطوط أهل العلم بجواز ما عمله، وكانت له ولأخصامه بسبب هذه الدار وقائع كثيرة ومنازعات طويلة، عقد له ولهم فيها مجالس عديدة في كل دولة، وهو يستظهر عليهم فيها، وكان رحمه اللّه جلداً، صبورًا، لا يصد ولا يرد، فمرت به من أجلها خطوب وكروب، حتى مات. وقد جعل هذه الدار وقفًا على أولاده فجرى لهم بعده بسببها شرور كثرة ومخاصمات طويلة، والحكام لا تقدم على هدمها، لما بأيدي أولاد ابن النقاش من فتاوى شيوخ العلم، وأحكام القضاة الذين كانوا لا يدرهنون في الفتوى ولا في الحكم، إلى أن أظهر السلطان الوقيعة في أبى هريرة بن النقاش وولديه، وأخرج عن أبى اليسر الخطابة ومشيخة الميعاد كما تقدم ذكره.
وعزم على هدم هذه الدار، فندب القضاة غير مرة للنظر في أمرها، فلم يتجه لهم هدمها إلى أن أقدم البساطى على الحكم بذلك، فجمع هو وبقية القضاة بين يدي السلطان، وقام ولى الدين محمد السفطى وكيل بيت المال، وأدعى على أولاد أبى هريرة عند قاضي القضاة شمس الدين محمد البساطى بأن مدة إجارة الأرض الحاملة لبناء هذه الدار قد إنقضت، وسإل رفع البناء عنها، فحكم البساطى على أولاد أبى هريرة برفع البناء الموقوف، ونزل حتى حضر هدمهم لها في يوم الخميس غده. فكان هذا مع ما تقدم مما لم نسمع بمثله، غير أن في ذلك عبرة لأولى النهى، وذلك أن شمس الدين أبا أمامة محمد بن النقاش قام على قطب الدين محمد بن الهرماس حتى هدم السلطان الملك الناصر حسن داره من أجل أنه بناها في زيادة جامع الحاكم، فعوقب بعد نحو ثمانين سنة، بأن هدمت دار ولده أبى هريرة من أجل أنها بنيت في زيادة جامع ابن طولون، ولقد سمعت أمي أسماء إبنة محمد بن عبد الرحمن ابن الصايغ الحنفيوكان ابن الصايغ من الأفراد في أمور الدين والدنيا يقول عن اللّه تعالى أنه قال: يا داود أنا الرب الودود، أعاقب الأبناء بما تفعله الجدود، فلقد عوقب في هذه الحادثة أبو أمامة أبو اليسر، أبناء أبى هريرة بما فعله جدهما أبو أمامة شمس الدين " وَلا يَظْلِم ربكَ أَحَدَا " .
وفي يوم السبت ثامنه: جمع الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن حجر، أعيان الدولة، وفيهم المقام الناصري محمد ولد السلطان وغيره من الأمراء، وكاتب السر، وناظر الجيش، والوزير وناظر الجيش، والقضاة وشيوخ العلم في عامة طلبة العلم وغيرهم، فاجتمعوا بأعلا الخمس الوجوه من أرض التاج خارج القاهرة .
وكان الوقت شتاء والأرض مخضرة بأنواع الزراعات، والخيول على مرابط ربيعها، وقدم لهم من أنواع الحلاوات وألوان الأطعمة الفاخرة ما يجل وصفه ويكثر مقداره، وقد أكمل تصنيف كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخار في عشرين مجلدة، ثم قرىء من آخره مجلس خفيف، وقام بعده ختمه الشعراء، فقرأ عدة منهم قصائد في مدحه، هذا وقد اجتمع بهذه المنظرة وحولها من أسفلها عالم كبير من الرحال وغيرهم، ونصبت هناك سوق، وضربت خيام عديدة، فكان من الأيام المذكورة التي لم نعهد في معناه مثله، أنفق فيه مال جزيل على ما تقدم من المال، وما أجيز به الشعراء في هذا اليوم.
وفي يوم آخر بعده: إجتمعوا فيه بخانكاة بيبرس من القاهرة، قام فيه شعراء أخر بمدائحهم، فأجيزوا بجوائز سنية عديدة، وفرق أيضًا مال جم في جماعة كثيرة، كتبوا هذا الشرح، والحافظ المشار إليه يمليه عليهم بهذه الخانكاة، حتى أكملوا نسخه في أعوام، فكان هذا من المآثر السنية، والفضائل الجليلة التي زادت في رفعته.
وفي تاسع عشره: ورد الخبر بأن العسكر المجرد ببلاد الصعيد حارب هوارة عدة مرار، وأنهم محتاجون إلى نجدة.
وفي هذا الشهر: وقع الوباء بالوجه البحري من أرض مصر، وقدم الخبر أن الوباء وقع في فصل الصيف ببلاد إفريقية كلها.
شهر رمضان، أوله الأحد: في ثانيه: توجه الأمير يشبك أمير سلاح على عسكر، نجدة لقتال هوارة، بعدما أنفق فيهم وفيه.
وفي يوم الثلاثاء عاشره: خلع على من قدم من مشايخ بلى الذين أخذوا الحجاج، وقد سألوا العفو، والتزموا بحفظ الحاج. وفيه قدم الطواشي خشقدم ونائبه فيروز الركني الرومي من دمياط، فأمر بالتوجه إلى المدينة صحبة ركب الحاج، والإقامة بها.
وفي حادي عشره: قدم كتاب الأمير قانبيه الحمزاوى نائب حماة، يتضمن ورود الأمير بردبك العجمى حاجب حلب، وصحبته من أمراء حلب أميران إلى حماة، وذلك أن الأمير تغرى برمش نائب حلب، أراد من الأمير حطط نائب القلعة أن يمكنه منها، فلم يوافقه، ورمى عليه من القلعة، فركب وركب عليه الأمراء واقتتلوا، فإنهزم الأمير بردبك بمن معه في ليلة الجمعة ثامن عشرين شعبان. ودخلوا حماة، في أخر يوم السبت سلخه، فكتب بإستقرار بردبك المذكور في نيابة حماة، عوضًا عن الأمير قانباى الحمزاوى، وأن ينتقل قانباى إلى نيابة طرابلس، عوضًا عن الأمير جلبان المؤيدى، وأن ينتقل جلبان إلى نيابة حلب، عوضًا عن تغرى برمش، لخروجه عن الطاعة، وتوجه الأمير على باى رأس نوبة لنقل الأمير جلبان من طرابلس إلى حلب ومعه تقليده وتشريفه، وتوجه لتقليد قانباى نيابة طرابلس الأمير جانبك المحمودى رأس نوبة، وكلاهما من أمراء العشرات.
وفي يوم الإثنين سادس عشره: ورد الخبر من الأمير طوخ مازى نائب غزة بأن الأمير ناصر الدين محمد بن منجك لما وصل من عند السلطان بما على يده إلى جسر يعقوب، بعث ملك الأمراء الأمير أينال الجكمى نائب الشام ساعيًا بإستعجاله، وأردفه بأخر، حتى قدم يوم السبت سابع شهر رمضان، فخرج إلى لقائه، ولبس التشريف المجهز على يده، وركب الفرس المحضر معه، وقبل الأرض على العادة، ودخل في الموكب جليل حتى نزل دار السعادة، فإطمأن الناس، بعدما كانت الإشاعة قوية بمخامرته .
فلما كان يوم الإثنين تاسعه: ركب ملك الأمراء في الموكب على العادة، ودخل دار السعادة وجميع الأمراء وسائر المباشرين بين يديه، فما هو إلا أن إستقر في مجلسه، وإذا به قد قبض على الأمير برسباى حاجب الحجاب، وأغلق الباب، وقبض على الأمراء والمباشرين بأجمعهم، وأن جلبان وجانبك المتوجهين لتقليد نائب حلب ونائب طرابلس وصلا إلى غزة، وأقاما بها، فاضطرب السلطان لهذا الخبر وكثر قلقه، وجمع الأمراء، فأشاروا بسفره .
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره: ورد الخبر بأن الأمير قطج أتابك حلب قدم إلى حماة، فارًا من تغرى برمش، وأن تغرى برمش أخذ عنتاب وقلعتها، وأن عدة من قبض عليه أينال الجكمى بدمشق تسعة عشر أميرًا، وقبض أيضًا على جمال الدين يوسف بن الصفى الكركى ناظر الجيش، وعلى بهاء الدين محمد بن حجى كاتب السر، وأن جانبك وجلبان توجها من غزة إلى نحو صفد .
وفي يوم الخميس عشرينه: ورد كتاب الأمير تغرى برمش، مورخ بثاني شهر رمضان، يتضمن أنه في يوم الثالث والعشرين من شهر شعبان لبس الأمير حطط نائب قلعة حلب ومن معه بالقلعة السلاح، وقاموا على سور القلعة، ونصبوا المكاحل وغيرها، وأمروا من تحت القلعة من أرباب المعايش وسكان الحوانيت بالنقلة من هناك وأنه لما رأى ذلك بعث يسأل حطط عن سبب هذا، فلم يجبه. إلى أن كان ليلة التاسع والعشرين منه، ركب الأمير قطج الأتابك والأمير بردبك الحاجب في عدة من الأمراء لابسين السلاح، ووقفوا تحت القلعة، فبعث إليهم جماعة من عسكره، فكانت بين الفريقين وقعة إنهزم فيها قطج، وأنه باق على طاعة السلطان .
وأنه بعث يسأل نائب القلعة عن سبب هذه الحركة، فأجاب بأن الأمير بردبك الحاجب ورد عليه مرسوم السلطان " بالركوب عليك وأخذك ، وجهز أيضًا محضرًا ثابتًا على قضاة حلب بمعنى ما ذكر وأنه باق على طاعة السلطان، ولم يتعرض إلى القلعة، فلم يعول على ذلك لما تقرر من خروجه عن الطاعة، وورد أيضًا الخبر من الأمير فارس نائب قلعة دمشق بأن الأمير أينال الجكمى أجهر النداء بدمشق وأعمالها بالأمان والإطمئنان والدعاء للسلطان الملك العزيز يوسف بن برسباى، وأن تقي الدين أبا بكر ابن قاضي شهبة قاضي القضاة دعا للعزيز على منبر جامع بنى أمية في يوم الجمعة، وأن الخطة بقلعة دمشق للسلطان الملك الظاهر جقمق.
وفي يوم السبت حادي عشرينه: خلع على القاضي بدر الدين محمد ابن شيخنا قاضي القضاة ناصر الدين أحمد التنسى أحد خلفاء الحكم، وإستقر في قضاء القضاة المالكية، عوضًا عن شمس الدين محمد البساطى، وقد مات .
وفي يوم الأحد ثاني عشرينه: نودي بعرض المماليك على السلطان.
وفيه عرضت الخاصكية على السلطان، فعين منهم للسفر إلى الشام ثلاثمائة وعشرين خاصكيًا.
وفي يوم الإثنين ثالث عشرينه: خلع على الأمير الكبير الأتابك أقبغا التمرازى، وإستقر في نيابة الشام، عوضًا عن أينال الجكمى لخروجه عن الطاعة .
وفيه قدم الخبر من الإسكندرية بأن طائفة القطلان عمروا إثني عشر غرابًا لتسير في البحر نحو سواحل الشام وسواحل الروم، وأن مراد بن عثمان ملك الروم عمر مائة غراب، وأن متملك انكرس من الفرنج مات.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشرينه: عرض السلطان المماليك، وعين منهم للسفر إلى الشام ثلاثمائة وثلاثين مملوكًا لتتمة ستمائة وخمسة وخمسين.
وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه. عين للسفر من الأمراء الألوف قراقجا الحسنى رأس نوبة النوب، وتمر باى الظاهري ططر، ومن الطبلخاناه طوخ التمرازى رأس نوبة ثاني، ومن أمراء العشرات عشرة، وهم أقطوه الموسوى ، وتنم بن عبد الرازق المحتسب بالقاهرة ورأس نوبة، ثم أعفى بعد ذلك من السفر، ويشبك بن أزوباى رأس نوبة وبايزير بن صفر خجا رأس نوبة، وأقبردى الأشرفى أمير أخور ثالث، وطوغان السيفى ألان، وسودون قرقاش الأينالى رأس نوبة، وسودون النوروزى السلاح دار رأس نوبة، وجانبك السيفى نوروز رأس نوبة، وخشكلدى الناصرى وفيه كتب بإستقرار الأمير موسى بن محمد بن حديثة في إمرة الملا، عوضًا عن الغادر ابن عذراء بن نعير وجهز له تشريف.
وقدم الخبر من الأمير طوغان نائب القدس بأن أينال الجكمى أطلق الأمراء الذين قبض عليهم وحلفهم للعزيز، فعلم أهل المعرفة أن أمر أينال هذا لا يتم لتضييعه الحزم في ركونه، وطمأنينته إلى الأمراء بعد أن أوحش ما بينه وبينهم بالقبض عليهم. وقد قيل:
إذا وترت أمرًا فإحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبًا
إن العدو وإن أبدى مسالمة ... إذا رأى منك يومًا فرصة وثبًا
وكان كذلك.
وفيه ورد الخبر بخروج الأمير أينال الأجرود ناب صفد منها، وأنه نزل بالرملة في سابع عشره، بعدما دعاه أينال الجكمى إلى موافقته، وأعلمه أنه ما قام في هذا الأمر حتى وافقه نواب الممالك وأركان الدولة بمصر، فلم يدخل في طاعته، وخشي أن يكبس بصفد فأنزل حريمه بقلعة صفد، ونزل بالرملة مع من بها من نائب القدس وغيره.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: أنفق في العسكر المجرد إلى الشام، وعدتهم ما بين خاصكى ومملوك ستمائة وإثنان وخمسون فارسًا. كل واحد ثمانون دينارًا .
وقدم الخبر من مكة بأن الوباء شنع بمدينة صنعاء وصعدة من بلاد اليمن، حتى خلت من كبير وحاكم، لإنقطاع الأئمة الزيدية منها بالفناء فبعث الملك الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل صاحب زبيد وتعز وعدن بعض أمرائه، فأخذ له صعدة بغير ممانع، وإستولى على ما فيهما من أموال من مات.
وقدم الخبر بأن الأمير جلبان المستقر في نيابة حلب وصل إلى الرملة، في يوم الإثنين
ثالث عشرينه، وسبب ذلك أن تغرى برمش إستدعى جماعة كثيرة من التركمان إلى حلب فأتوه، وعمل مكحلة عظيمة من نحاس ليرمى بها على القلعة، وإستمال من أهل القلعة جماعة. بمال كيبر بذله لهم ليمكنوه منها، وشرع في حصار القلعة، وأخذ ينقب مواضع من أسفلها، والقتال بينه وبين من فيها مستمر، إلى أن فطن الأمير حطط الدقماقى نائب القلعة بمن وافق تغرى برمش من القلية فقبض عليهم، ورمى ببعضهم عليه في المنجنيق، وقتل جماعة منهم، وعلق رؤوسهم على القلعة، ففات تغرى برمش قصده، وجد في النقب والحصار، حتى كاد يشرف على أخذ القلعة أو أشرف فاتفق أنه نادى في المدينة بالأمان، فكأنما ألقي في آذان الناس بالنهب، فثارت العامة عند ذلك بأسلحتها، وأحاطت بدار السعادة حيث سكن تغرى برمش، فلم يثبت، وخرج فارًا يريد أن يخرج من المدينة حتى وقف خارج السور في نحو الأربعين فارسًا، وقد نهبت العامة جميع ما كان بدار السعادة من المال والسلاح وغير ذلك، وإمتدت أيديهم إلى أتباع تغرى برمش يقتلونهم أفحش قتل، وينهبون ما تصل أيديهم إليه، وذلك في يوم الثلاثاء عاشر رمضان بعدما حوصرت القلعة ثلاثة عشر يومًا، وتلاحق عدة من أصحاب تغرى برمش به، فسار يريد طرابلس، وإنضم إليه الأمير طرعلى بن صقل سيز التركمانى، فلما قارب مدينة طرابلس لم يثبت الأمير جلبان، وخرج منها نحو الرملة، وقد جد في سيره حتى دخلها في سادس يوم، فدخل تغرى برمش طرابلس في عشرينه، وأخذ من أهلها مالاً كبيرًا، وأما جلبان فإنه إنضم إلى من بالرملة من الأمير أينال الأجرود نائب صفد والأمير طوغان نائب القدس، والأمير طوخ مازى نائب غزة، وكتبوا يستدعون السلطان للمسير بنفسه بعد تجهيز العساكر بين يديه سريعًا.
وكان الذي قدم بهذا الخبر صرغتمش دوادار الأمير جلبان، فخلع عليه في يوم الأحد تاسع عشرينه، وإستقر دوادارًا بحلب، عوضًا عن الأمير سودون النوروزى.
وفيه قدم الأمير جانبك المحمودى رأس نوبة المتوجه لتقليد قانباى الحمزاوى نيابة طرابلس، بعد أن وصل إلى الرملة، ولم يتمكن من الوصول إلى حماة، فأثارعند قدومه شرورًا لها ما بعدها، فإنه زعم أنه ظفر بكتب جماعة من الأمراء وغيرهم إلى الثائرين ببلاد الشام، أوقف عليها السلطان.
وفي يوم الإثنين سلخه: عملت الخدمهَ بالقصر على العادة، ونزل الناس إلى دورهم، فبلغ السلطان أن الملك العزيز فقد من داره بالقلعة، فاشتد قلقه وتزايد إضطرابه، وإستدعى الأمراء والمباشرين، وأعلمهم بذلك، فماج الناس، وكثرت أقاويلهم وترقبوا وقوع فتنة كبيرة، وكان سبب ذلك أن العزيز لما خلع أنزل في بعض دور القلعة من داخل باب الستارة حيث سكنى الحريم السلطانى، وأقرت عنده دادته التي ربته من صغره، ومعها عدة جوارى للعزيز، ما بين سرارى له وخدم، ومكنت مرضعته من التردد إليه، والإقامة عنده ما أَحبت، وكان القائم بأمره في قبض ما رتب له على السلطان من لحم ودجاج وأوز وحلوى في كل يوم، وما فرض له من أوقاف أبيه في كل شهر، طواشي من عتقاء أمه خوند جلبان هندي، لم يبلغ العشرين سنة، اسمه صندل، فيه يقظة وكيس، فإحتوى على جميع أحواله لإنفراده بخدمته، وكان يشاع غير مرة الإرجاف بكحل العزيز وبنقله إلى الإسكندرية وهو يخبر العزيز بذلك، فيرتاع له إلى أن إشتهر أن بعض القضاة أفتى بأن في قتل العزيز حقن الدماء وصيانة الأموال، فلم يطق صندل صبرًا على كتمان ذلك، وأكثر من إلقائه إلى العزيز وترويعه، وتحسين الفرار، إلى أن إنفعل له وكان للعزيز طباخ أيام أبيه فداخله صندل في إخراج العزيز فوافقه على أنه ينهض بإخراجه، وشرعت جوارى العزيز في نقب موضع من الدار بمساعدة الطباخ من خارج، حتى تهيأ هذا، وصندل يحدث جماعة من الأشرفية في القيام معه إذا خرج، وذلك أقصى مرادهم وغاية أملهم، فاتعدوا لذلك، حتى كان وقت الإفطار في ليلة الإثنين، والناس في شغل بأكلهم وقف الطباخ من خارج النقب، فخرج العزيز عريانا مكشوف الرأس، فألبسه الطباخ من خلقانه ثوبًا مملوءًا بالدهن، وسواد القدور وجعل على رأسه قدرًا، وحمله على يده وعاء فيه طعام، بعد أن غير محاسن وجهه وبياض يديه ورجليه بسواد القدور، وخرج وهو معه، كأنه من جملة صبيان المطبخ، فلم يفطن أحد له، حتى خرج من باب القلعة، وقد خرج الأمراء من الفطر من عند السلطان، فضرب الطباخ العزيز ضربة منكرة وصادى به، ليرد بذلك الوهم، فمشى بين الأمراء على تلك الهيئة إلى أن نزل من باب القلعة، فإذا صندل وطوغان الزردكاش، وأزدمر في آخرين من المماليك غير كثير، فقبلوا يده، ومضوا به إلى دار بعضهم.
وكان في ظن العزيز ودادته وجواريه أنه إذا نزل من القلعة يجد مماليكه ومماليك أبيه مستعدين له، فإما يحارب بهم وإما يتوجه إلى الشام، فلما لم ير منهم ما كان يؤمل أراد أن يعود إلى موضعه، وليته عاد، فلم يمكنوه، وقام طوغان في منعه من التوجه إلى الشام، وإلتزم أنه يمضي إلى بلاد الصعيد، ويأتى بمن هناك من المماليك الأشرفية، في التجريدة لقتال هوارة، وهم سبعمائة فارس، ومضي من ليلته، فكان من أمره ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
وإختفى العزيز هو وطواشيه صندل الهندي ومملوكه أزدمر وطباخه وصار ينتقل من موضع إلى موضع، والقوم في طلبه، فمرت به في مدة إختفائه أهوال وشدائد، حتى قبض عليه كما سنراه إن شاء الله تعالى .
شهر شوال، أوله الثلاثاء: في ليلة الثلاثاء: كانت بالقلعة حركات مزعجة، خرج فيها السلطان من الدور إلى القصر وإجتمع معه من ثقاته غير واحد، ومرج أيضًا أمر من كان تحت القلعة، فصلى السلطان صلاة العيد بالقصر وهو على تخوف، وقد وقف جماعة بالسلاح مصليتا على رأسه، حتى قضى صلاته، ثم صعد قاضي القضاة شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد بن حجر بعدما صلى إمامًا على كرسى، فخطب وأوجز في خطبته، كما أسرع في صلاته، فما هو إلا أن فوغ من الخطبة إذ جاء الخبر بأن الأمير أينال قد تسحب ليلا، فعظم الخطب وجل الأمر، وكان سبب ذلك أن الطائفة المؤيدية لم يكن لها في أيام الأشرف برسباى كبير حظ منه، فلما مات خافت المؤيدية من الأشرفية، وإنضموا إذ ذاك على الأمير نظام الملك جقمق، وقاموا بأمره، حتى كان من أمره ما تقدم ذكره، وأخرج الأشرفية إلى السجن بالإسكندرية، وإلى الحجاز، وإلى الصعيد، فأهينوا بعد عزمهم، وإتضع جانبهم بعد رفعتهم، وصار المؤيدية هي المشار إيها، وإليهم الحل والعقد، فجدوا في الإغراء بالعزيز، كي يستريحوا من الأشرفية، فإنهم غير آمنين من ثورتهم وإقامة العزيز.
فلما قام الأمير أينال الجكمى بدمشق، ودعا للعزيز، وحلف أمراء دمشق على طاعته وكان الأمير تغرى برمش أيضاًَ ممن يميل إلى العزيز شق ذلك على المؤيدية، وعلموا أنهم مقتولون شر قتلة، إن كانت للعزيز دولة، فأخذوا في التحريض على قتله، حتى إشتهر أنه إذا فرغ شهر رمضان أمضى فيه ما أرادوه، ففر العزيز لما خامر قلبه من الخوف الشديد، وخاف الأمير أينال أن يتهم به، وإجتمع عنده في ليلة العيد عدة من الأشرفية، فلم ينهض بشيء لخوره وضعفه، وتركهم وخرج من جانب داره على بغل في ظلام الليل، ثم نزل عن البغل، ومضى على قدميه، فلم يعلم خبره، فلما بلغ السلطان تسحبه، أمر فنودي بالقاهرة ألا يتخلف أحد من المماليك عن الخدمة، وهدد من تخلف بالقتل، وقبض على جماعة من المماليك الأشرفية، ثم نودي أيضًا بإصلاح الناس الدروب وغلقهم أبواب دورهم، وألا يخرج أحد إلى الشوارع بعد عشاء الآخرة، وغلقت أبواب القاهرة قبل عادة إغلاقها من الليل، فكانت ليلة هذا العيد ويومه من الأوقات النكدة، حتى كأنه ليس بعيد.
وفي يوم الخميس ثالثه : خلع على الأمير تنبك بن تنبك، وإستقر أمير الحاج، عوضًا عن أينال، وخلع على قراجا البواب، وإستقر في ولاية القاهرة، عوضًا عن علاء الدين على بن محمد بن الطبلاوى، فباشر الولاية بعسف، وخلع على الأمير ممجق وإستقر في نيابة القلعة .
وفيه قبض على عدة من الأشرفية. وفيه دقت البشائر عند ورود كتاب الأمير حطط نائب قلعة حلب بكسرة تغرى برمش، وخروجه من حلب، كما تقدم ذكره.
وفي يوم الجمعة: رابعه سار عسكر من القاهرة تزيد عدته على سبعين فارلسًا، يريدون المحلة الغربية، لمسك الأمير قراجا الأشرفي.
وفي يوم السبت خامسه: أخذت خيول الأمير أركماس الظاهري الدوادار، وعزل من الدوادارية الكبرى، وأخذ إقطاعه، وأخرج من داره، وأخذت خيول الأمير قراجا، وإقطاعه، وشون غلاله.
وفيه قبض العسكر المتوجه على الأمير قراجا، وحمل في الحديد إلى الإسكندرية، فسجن بها.
وفي يوم الإثنين سابعه: نودي بأن من وجد أحدًا من غرماء السلطان وطلع به فله خمسمائة دينار وإقطاع، ومن غمز عليه أنه أخفى أحدًا منهم حل ماله ودمه، هذا والمؤيدية قد تجردت للفحص عن العزيز وعن أينال، وعن المماليك الأشرفية في جميع الأماكن، وقبض على الغلمان، حتى دلوهم على أماكن بعضهم.
وصاروا يكبسون الدور، والترب، وديارات النصارى، والبساتين، وضواحي القاهرة ومصر، ويرون بالليل في الأزقة متنكرين إلى غير ذلك من أنواع الفحص والتفتيش، فإنهم صاروا هم الدولة في هذه الأيام الظاهرية، وللّه در القائل:
وإذا سخر الإله أناسًا ... لسعيد فإنهم سعداء
وفي يوم الثلاثاء ثامنه: أنعم بإقطاع الأمير قراجا على المقام الناصري محمد ابن السلطان وبإقطاع الأمير أركماس الدوادار على الأمير أسنبغا الطيارى، وبإقطاع الأمير أينال على الأمير جرباش قاشق من عبد الكريم أمير مجلس، وأنعم بإقطاع جرباش هذا على الأمير شادي بك الظاهري ططر، وبإقطاع شادي بك على الأمير جرباش كرت المحمدي ، وبإقطاع أسنبغا الطيارى على الأمير دولات باى الساقي المؤدي ، وهو جمرة من جمراتهم.
وفي يوم الأربعاء تاسعه: دقت البشائر لورود الخبر من نائب غزة بقدوم الأمير برسباى الحاجب بدمشق، والأمير أينال الششمانى إلى الرملة، مفارقين لأينال الجكمى. ثم ظهر كذب هذا الخبر. هذا والأشرفية يقبض عليهم وتساق خيولهم وبغالهم إلى الإصطبل السلطاني، ويكتب إلى الأعمال بأخذ الطرقات عليهم برًا وبحرًا.
وفي يوم الخميس عاشره: برز الأمير أقبغا التمرازى نائب الشام بمن معه إلى الريدانية خارج القاهرة. وفيه خلع على الأمير تمراز أمير أخور، وإستقر أمير سلاح، عوضًا عن الأمير يشبك المجرد إلى بلاد الصعيد، وأنزل من الاصطبل، وسكن بالحراقة مكانه المقام الناصري محمد ابن السلطان، وكتب للأمير يشبك بإستقراره أميرًا كبيرًا أتابك العساكر، عوضًا عن الأمير أقبغا التمرازى نائب الشام، وخلع على الأمير قراقجا الحسنى رأس نوبة النوب، وإستقر أمير أخور، عوضًا عن الأمير تمراز، وخلع على الأمير تمرباى نائب الإسكندرية كان وإستقر رأس نوبة النوب، عوضًا عن قراقجا الحسنى، وخلع على الأمير تغرى بردى المؤذى حاجب الحجاب، وإستقر دوادارًا كبيرًا، عوضًا عن أركماس الظاهري، فباشر الدوادارية بتجبر وترفع زائد، وخلع على الأمير دولات باى المؤيدي الساقي أحد أمراء الطبلخاناه، وأمير أخور ثاني، وإستقر دوادارًا ثانيًا، عوضًا عن أسنبغا الطياري، وخلع على الأمير جرباش كرت رأس نوبة وإستقر أمير أخور ثاني، عوضًا عن دولات باى. وفيه قدم الأمير يونس المؤيدي من دمشق، فارًا من أينال الجكمى، فأكرم وأنعم عليه.
وفي يوم السبت ثاني عشره: إستقل الأمير أقبغا التمرازى، نائب الشام بالمسير من الريدانية.
وفيه نفى نور الدين على بن أحمد السويفى إمام الأشرف برسباى إلى دمياط. وفيه دقت البشائر، لورود خبر سار.
وفي يوم الأحد ثالث عشره: كان مسير العساكر المخيمة بالرملة، إلى جهة دمشق. وفي يوم الإثنين رابع عشره: إستقل الأمير قراقجا الحسنى أمير أخور ومقدم العسكر بالمسير من الريدانية بمن معه من الأمراء والمماليك، وعدتهم ستمائة وخمسون فارسًا .
وفيه ورد الخبر بأن أينال الجكمى برز مخيمه إلى ظاهر مدينة دمشق فلما كان يوم الخميس ثالث شوال هذا، عزم على الخروج من المدينة إلى المخيم ليسير نحو القاهرة، فركب عليه من أمراء دمشق الأمير برسباى الحاجب، والأمير قانباى البهلوان الأتابك في عدة أمراء، وقاتلوه خارج المدينة، فقاتلهم وهزمهم، فوقفوا لحربه ثانيًا، فهزمهم بعد وقعة أخرى، فإمتنعوا بالقلعة، وقد جرح منهم جماعة فأخذ خيولهم وأموالهم، ونزل بالميدان وأبطل الحركة للسفر، وسبب هذه الحركة أنه كتبت ملطفات سلطانية إلى أمراء دمشق، وجهزت إلى الأمير خشكلدى نائب قلعة صفد، فبعث بها على يد نصراني إلى بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجى كاتب السر، ففرقها في الأمراء وإستمالهم حتى وافقوا على الركوب على أينال الجكمى وأخذه، ثم إختفي من ليلته، فركبوا هم من الغد، وكان من أمرهم ما ذكر.
ولما ورد هذا الخبر تفرس من له بصر بالأمور، وإطلاع على أحوال الوجود، بأن أمر أينال الجكمى لا يتم، فإنه أخطأ الرأي أولاً في القبض على الأمراء لظنه بهم السوء، ثم إطلاقهم والركوب إليهم، حتى إذا أمكنتهم الفرصة وثبوا عليه ليقتلوه، فكانت له عليهم، وأنى يفلح ملك لا توافقه أعوانه. هيهات ثم هيهات، لا يكون ذلك أبدًا.
وفيه ورد الخبر بأن الأمير يشبك المستقر أتابك العساكر إنتهى بمن معه من الأمراء والمماليك في طلب هوارة إلى مدينة إسنا فلم يقع بهم، وأنه رجع بالعسكر إلى مدينة هو فقدم عليه عدة من المشايخ الصلحاء ومعهم طائفة من مشايخ هوارة، راغبين في الطاعة، وحلفوا على ذلك، وأنه قدم على العسكر في يوم الأحد سادسه طوغان الزردكاش أحد الدوادارية، ودعا العسكر إلى طاعة الملك العزيز، والقيام بنصرته، فإنه أخرجه من حيث كان محبوسًا، ونزل من القلعة، وإجتمع عليه جماعة من مماليكه، فلم يوافقوا على ذلك، وحلفوا أنهم مقيمون على طاعة السلطان. فدقت البشائر لذلك، وخلع على الواصل بهذا الخبر، وأجيب بحمل طوغان في الحديد، وكان قد وصل الخبر قبل ذلك بتوجه طوغان هذا إلى بلاد الصعيد، وكتب بحمله.
وفيه كتب توقيع بإسثقرار أبى السعادات بن ظهيرة في خطابة الحرم، عوضًا عن أبى اليمن ابن النويري قاضي مكة، وجهز إليه، ثم بطل ذلك، وكتب بإستقرار أبى اليمن في الخطابة مع وظيفة القضاء.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: ورد الخبر من الأمير يشبك بأنه نازل على مدينة أسيوط وأن يونس الخاصكى ورد عليه بمرسوم شريف يتضمن القبض على طوغان قاصد العزيز، وأن المماليك لم يمكنوه من ذلك، فكثر القلق لورود هذا الخبر، وخشي الناس وقوع الفتنة، ظنًا بالأشرفية أنهم رجال وإذا هم أشبه بربات الحجال .
وفيه قدم قود الشريف بركان بن حسن بن عجلان أمير مكة شرفها اللّه وهو خمسة أفراس وطواشيان، وجاريتان، ومائتا شاش، وقطعتا ياقوت أحمر زنتهما خمسة عشر قيراطَا، وقطعة ماس زنتها تسعة عشر قيراطًا ونصف. وفيه قدم الشريف عقيل بن وبير بن نخبار أمير ينبع المعزول بصحرة يسعى في الإمرة، فوعد بخير. وفيه قبض على الأمير أركماس الظاهري المعزول عن الدوادارية الكبرى، وأخرج منفيًا إلى دمياط.
وفي هذا الشهر: وقع في الناس بالقاهرة الموت بالطاعون، وبلغت عدة من رفع اسمه من ديوان المواريث بالقاهرة في هذا اليوم أحد وعشرون إنسانًا.
وفي يوم الخميس سابع عشره: خلع على الأمير تنبك بن تنبك أحد الأمراء الألوف، وإستقر حاجب الحجاب، عوضًا عن الأمير تغرى بردى المؤذى المنتقل إلى الدوادارية الكبرى.
وفي هذه الأيام: كبست عدة أماكن في طلب العزيز، وقبض على جماعة من الأشرفية، لكثرة الإرجاف بخروج من في بلاد الصعيد من المماليك عن الطاعة، وأنهم عادوا يريدون القاهرة، فمنعت المراكب من التعدية في النيل بكثير من الناس، وكثر الفحص والتفتيش، حتى كبست البساتين والترب، وغلقت بعض أبواب القاهرة نهارًا، وأخذ أهل الدولة من الأمراء ومن بالقلعة في الاستعداد للحرب هذا مع ما في الوجه البحري من الوباء الشنيع في سرعة الموتان الوحي السريع، وكثرة عدة الأموات لا سيما في الأطفال والعبيد والإماء، بحيث مات من قرية واحدة مائتا صغير من أولاد أهلها، وحل بالتجار في الإسكندرية ضيق شديد وبلاء عظيم، بسبب رمى الفلفل السلطاني عليهم. ونزل بأهل القاهرة ومصر خوف شديد بسبب إختفاء الأشرفية وتطلبهم، فإذا طرقت جهة من الجهات حل بأهلها من أنواع البلاء ما لا يوصف من النهب والهدم والعقوبة والغرامة، سواء وجد المطلوب أو لم يوجد، فما بقى أحد إلا وخامر قلبه الخوف خشية أن يرميه عدو له أو حاسد لنعمته أنه أخفى أَحدًا من الأشرفية، فلا تتروى المؤيدية في أمره، ولا تتمهل، بل تطرقه بغتة وتنزل به فجأة، وقد تبعها من غوغاء العامة عدد كالجراد المنتشر، وتهجم داره ودور من حوله، فيكون شيئًا مهولاً، وكثيرًا ما فعلوا ذلك فلم يجدوا أحدًا، وكان من البلاء ما كان، حتى أنه هجم بعض المدارس، ونهبت، وكسر أبواب بيوتها، ونبش قبر كان بها، فلم يوجد بها أحد، ومع ذلك كله فالغلال ترمى على الناس من الديوان، فلا يقدر على ذي الجاه، ويهلك الضعيف من كثرة الغرامة .
وفي يوم السبت تاسع عشره: برز المحمل إلى الريدانية خارج القاهرة صحبة الأمير تنبك المستقر حاجب الحجاب في عدة من المماليك السلطانية، ثم تبعه الحجاج شيئًا بعد شيء .
وفيه ورد الخبر بالقبض على طوغان الزردكاش وحمله في الحديد، فقدم في آخر النهار، وكان من خبره أن الأشرفية من حين كانت وقعة قرقماس لم يزالوا في إدبار، وتقدمت المؤيدية عليهم كما تقدم ذكره فأخذوا في التدبير لأنفسهم بغير معرفة ولا حظ يسعدهم، فأخرجوا العزيز من موضعه، وأضاعوه، ثم قاموا مع الأمير أينال ليثوروا ليلاً، فلما فطن بهم لعدم تحفظهم وقلة دربتهم، تسللوا من دار أينال وقد كاد يدركهم الطلب من السلطان، فلما وصل طوغان من عند العزيز لم يحسن التصرف فيما إنتدب له، فإنه إشتهر في مسيره، ثم لما وصل إلى من قصدهم، أعلم المماليك بأن العزيز خرج من سجنه ونزل من القلعة، فإجتمع عليه القوم وأنه محاصر للقلعة فأدركوه، فهيج هذا القول منه حفائظهم وحرك كوامنهم، هذا وقد ضيع نفسه بشهرته في مدة توجهه من عند العزيز إلي أن وصل إلى المماليك.
وقد بلغ السلطان خبره ومروره بالبلاد التي نزل بها في سفره، فكتب بالقبض عليه، فلم يدركه الطلب حتى وصل وروج على أصحابه بما لا حقيقة له، فبادر الأمير يشبك بمطالعة السلطان بخبر طوغان ثم ترادفت كتب السلطان وأخبار المسافرين بما تبين به كذب طوغان، وأن العزيز مخفي والمواضع تكبس عليه، فإنحل ما عقده طوغان في أنفس المماليك، وأثبت ما كان قد أوثقه بأيديهم، هذا وقد توجهوا من أسيوط يريدون القاهرة ليدركوا العزيز بزعمهم، فمازال الأمير يشبك يستميلهم ويخوفهم حتى أسلموه طوغان بعد إباء وإمتناع، أفضى به وبهم أن جمع عليه الكاشف بالوجه القلبي وعدد كثيرة من عربان الطاعة وهم بمحاربتهم، فلم تكن لهم طاقة. بمحاربته ، وتبين لهم فساد ما بنوا عليه أمرهم، فأذعنوا عند ذلك، وقادوه برمته حتى حمل في الحديد، ورجعوا مع الأمير يشبك إلى ناحية جرجا، فبطل ما كانوا يعلمون، واللّه لا يصلح عمل المفسدين.
وعندما وصل طوغان تولى عقوبته المؤيدية، فما عفوا ولا كفوا، بل أنزلوا به أنواع العذاب المتلف، ما بين ضرب وعصر وغير ذلك، حتى أشفى على الموت، وعوقب معه ثلاثة نفر، فأجتمع من إقرارهم أن إبراهيم الطباخ لما أخرج العزيز بعد المغرب نزل من موضع بالمصنع تحت القلعة، وقد إجتمع عليه عدة من المماليك ليسرروا به إلى الشام، ثم إنصرفوا عن هذا الرأي وتوجه طوغان ليأتي بالمماليك من الصعيد.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشرينه: أخرج بطوغان محمولاً لعجزه عن الحركة من شدة العقوبة، حتى وسط عند باب السلسلة. ومن العجب أَن طوغان هذا، مات الأشرف وهو من جملة الزردكاشية، فإستحال على خشداشيته وصار من جملة الأمير أينال، وانتمى معه إلي السلطان، وهو إذا ذاك أمير، وإختص به فعمله من جملة الدوادارية، ثم إستحال على السلطان، وأخرج العزيز، فكانت منيته على يده. هذا، والبلاء يشتد على الناس بسبب العزيز، فقبض على جماعة وسجن جماعة، وعوقب كثير من الناس.
وفي هذا اليوم: إستقل الركب الأول بالمسير من بركة الحجاج بعدما فتش الحجاج. ثم إستقل المحمل بالمسير مع أمير الحجاج ببقية الحجاج في يوم الأربعاء ثالث عشرينه.
وفيه قبض على سر النديم الحبشية دادة العزيز، بعدما كبس عليها عدة بيوت، وعوقب جماعة، ثم قبض على الطواشي صندل الهندي، فتحقق منهما أن العزيز وأينال لم يخرجا من البلد، وأن الذي أشيع بين الناس من توجههما إلى الشام كذب، وأن العزيز لم يجتمع مع أينال، وأنه كان هو، وصندل هذا، وطباخه إبراهيم، ومملوكه أزدمر بغير زيادة على هؤلاء ينتقل وهم معه من موضع إلى موضع وأن صندل فارقه من أربعة أيام، وقد طرده أزدمر المذكور فدفع إليه العزيز خمسين دينارًا، فانصرف عنهم، وصار يتردد إلى بيوت معارفه في زي امرأة، فلم يؤوه أحد حتى دخل على بعض معارفه في الليل فأوته حتى أصبح، فدل زوجها عليه حتى أمسك وعوقب، ثم سجن.
وطلبت خوند مغل إبتة البارزي دادة العزيز، فسلمت لها من غير عقوبة، فأقامت عندها، وقبض على مرضعة العزيز، وعلى زوجها، وبعض أقارب زوجها، وعلى جماعات من الرجال، والنساء ممن كان من جواري الأشرف أو من معارفهن، وممن آتهم بأنه معرفة لإبراهيم الطباخ، وتعدىالحال إلى امرأة مسكينة تزعم أن لها تابعا من الجن يخبرها مما يكون، فتتكسب بذلك من النسوان ومن في معناهن من ضعفة الرجال، ما تقيم به بعض أودها: وذلك أنه وشي بها إلى أحد المؤيدية أن بعض الطواشية كان يتردد إليها فتخبره أن العزيز يعود إلى ملكه، فقبض على هذه المسكينة، وعلى عدة من يلوذ بها، وعوقبت، وكان الطواشي الذي قيل عنه أنه يأتي إليها فتخبره بعود ملك العزيز إليه، قد توجه للحج مع الركب، فكتب بضربه وحمله إلى القاهرة، فضرب ثم شهر في الركب، وكان قد كتب لإعفائه من الضرب والعود إلى القاهرة، فلم يدركه القاصد الثاني حتى ضرب وشهر، فتوجه بعد ذلك إلى الحج.
وفي يوم الخميس رابع عشرينه: وسط مملوك أخر من الأشرفية، عند باب السلسلة. وفيه عزل الأمير فيروز الجركسي زمام الدار، من أجل أنه فرط في الحرص على العزيز حتى كان من أمره ما كان. وعين عوضه الأمير صفي الدين جوهر الخازندار.
وفي ليلة الجمعة ويوم الجمعة خامس عشرينه: كبست المؤيدية على مواضع متعددة بالقاهرة ومصر وظواهرهما، وكبست دور الصاحب أمين الدين بن الهيصم ودور جيرانه في طلب العزيز، فلم يوجد، وهرب الصاحب ثم ظهر وخلع عليه بعد ذلك، وقد شمل الخوف كثيراً من الناس، وكادت الأسواق أن تتعطل لكثرة الإرجاف بأن بيوت الناس كافة تكبس، ويعاقبوا حتى يظهر العزيز.
وفيه قدم من الصعيد بضعة عشر رأسا، علقت على باب النصر، وذلك أن الأمير يشبك لما قبض على طوغان، وبعث به كما تقدم ذكره، رجع بمن معه من المماليك والأمراء لمحاربة هوارة فلقيهم على ناحية بوتيج في حادي عشرينه، وقاتلهم وهزمهم، بعدما قتل منهم مائه وستين رجلاً، وأخذ لهم مائة فرس، فجهز من رؤوس أعيانهم ستة عشر رأسا، هذا وقد خربت بلاد الصعيد، ورعيت زروعها، مع ما في أراضيها من الشراقي، وأكل الفأر الكثير جدًا معظم الزرع وهدم العرب الدواليب.
وفي يوم السبت سادس عشرينه: خلع على الأمير صفي الدين جوهر الخازندار، وإستقر زمام الآدر السلطانية، عوضًا عن الطواشي فيروز مضافاً للخازندارية.
وفي ليلة الأحد سابع عشرينه: قبض على الملك العزيز، وذلك أنه ضاقت عليه الأماكن لكثرة ما يكبس عليه، وهو يتنقل من موضع إلى موضع آخر ومعه أزدمر شاد شواب خاناته، وصندل طواشيه، وإبراهيم طباخه، فطرد أزدمر صندل الطواشي، ومازال به حتى فارقهم من أربع ليال، ثم طرد الطباخ وإنفرد هو والعزيز فيقال إن العزيز بعث إلى خاله أخي أمه، وإسمه بيبرس ليختفي عنده، فواعده على أنه يأتيه. وخاف عاقبة أمره، فأعلم جار له من المؤيدية يقال له يلبيه رأس نوبة، بأمر مجيء العزيز، وأنه يقبح به أن يكون مسكه على يديه، ولكن " إفعل أنت ذلك " .
فترصده يلبيه حتى مر به ومعه أزدمر بعد عشاء الآخره، في خط زقاق حلب وهما في هيئة مغربيين. فوثب يلبيه بأزدمر ليقبض عليه، فإمتنع منه، فضربه أدمى وجهه، وأعانه عليه أعوانه حتى أوثقوه وأخذوا العزيز وعليه جبة صوف، وقادوه وأزدمر إلى باب السلسلة وصعدوا بهما إلى السلطان، والعزيز حاف، وقد أخذ رجل بأطواقه، يسحبه وجماعة محيطة به. فأوقف بين يدي السلطان ساعة، وهو يؤنبه ثم سجن في موضع، حتى أصبح، وطلع الأمراء وغيرهم إلى الخدمة، فأعلموا بخبر العزيز ثم أدخله السلطان إلى قاعة العواميد، وأسلمه لزوجته خوند مغل بنت البارزي، وأمرها أن تجعله في المخدع المعد لمبيت السلطان، ولا تبرح على بابه، وأن تتولى أمر أكله وشربه وحاجاته بنفسها، فأقام على ذلك حتى نقل من المخدع، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى .
وأما أزدمر فإنه سجن بالبرج من القلعة، حيث كان صندل وغيره من الأشرفية، ولم يوقف للطباخ على خبر، ويقال إن العزيز دفع إليه مبلغ ستمائة دينار، ودفع لصندل خمسين دينارًا.
ووجد مع العزيز ثمانمائة دينار دفع السلطان منها إلى يلبيه خمسمائة دينار، ولمملوكه الذي عاونه في القبض على أزدمر مائة دينار، وفرق باقي ذلك، ونزع عن العزيز ما كان عليه من الثياب المغربية، وألبس من ثياب السلطنة ما يليق به، ووعد يلبيه بإمرة طلبخاناه.
وعندما صعد العزيز إلى القلعة دقت البشائر ليلاً ومن الغد، وركب الأعيان لتهيئة السلطان، فإنه وأتباعه من أهل الدولة كانوا في قلق زائد وخوف شديد لما داخلهم من عود دولة العزيز بخروج نائبي دمشق وحلب عن طاعة السلطان، وقيام الأشرفية ببلاد الصعيد، وكلهم جميعًا في طاعة العزيز، واللّه يؤيد بنصره من يشاء.
وفي يوم الأحد: هذا، توجه جانم المؤيدي إلى البلاد الشامية وعلى يده عدة مثالات سلطانية بالبشارة بالقبض على العزيز.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرينه: أحضر بالأمير أينال البوبكري الأشرفي وذلك أنه مازال مختفيًا حتى ظهر العزيز، فغرته الخدع التي خودع بها، من الثناء عليه وبسط عذره في إختفائه، ودخل عشاء على الأمير جرباش قاشق أمير مجلس، وإستجار به، فأجاره، وقد ظن أن السلطان يقبل شفاعته، ثم صعد به من الغد، وقد بعث يعلم السلطان به، فعندما وقع في قبضة السلطان، أمر به فقيد وسجن حتى يحمل إلى الإسكندرية، والأمير جرباش يكرر تقبيل يد السلطان ورحله في أن يشفعه فيه، فلم يفعل، وأخرج في يومه إلى الإسكندرية فسجن بها.
وفي هذا الشهر: قدم ركب التكرور برقيق كثير وتبر، فسار أكثرهم إلى الحج، بعدما باعوا الرقيق، فهلك أكثره عند من إشتراهم. وفيه ظهر في السماء كوكب له ذنب نحو الذراعين، وكان يرى عشاء بحذاء كواكب برج السرطان، فأقام أيامًا.
شهر ذي القعدة، أوله الأربعاء: في ثانيه: خلع على بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجى كاتب السر بدمشق، وإستقر في قضاء القضاة الشافعية بدمشق، عوضًا عن تقي الدين أبى بكر بن قاضي شهبة، مع ما بيده من كتابة السر، وذلك أن الأمير أينال الجكمى لما ثار بدمشق على ابن حجى، وأخذ منه مالاً، فكتب إلى ابن حجى حتى فرق الملطفات السلطانية في الأمراء فكان من ركوبهم على النائب ما كان، وفر ابن حجى وقدم القاهرة، فجوزي على ما كان منه بإضافة القضاء إليه بسفارة حميه المقر الكمالي محمد بن البارزي كاتب السر، وعناية عظيم الدولة زين الدين عبد الباسط به.
وفي يوم الأربعاء ثامنه: دقت البشائر عند ورود كتاب الأمير ألابغا حاجب غزة، يتضمن قتال عساكر السلطان الأمير أينال الجكمى، في يوم الأربعاء مستهله، بالقرب من الخزانة، وإنهزامه.
وفي ليلة الأربعاء: المذكور نقل العزيز من حبسه بالمخدع من قاعة العواميد إلى سجن ضيق في الحوش تحت الدهيشة، بعد أن سدت طاقاته، ووكل به من يحفظه، ومنع من جميع خدمه.
وفي يوم الأربعاء: هذا أخذ ما كان للعزيز بالقاهرة من الحواصل التي تشتمل على سروج وثياب وحلي وفرش وأواني وغير ذلك، مما حمل على نيف وسبعين حمالاً، ولها قيمة تزيد على خمسين ألف دينار سوى خمسة آلاف دينار وجدت له لتتمة ستين ألف دينار، وسوى جواهر لها قيمة عظيمة، وسوى حلي للنساء يجل وصفه وقيمته، مما كان للأمه.
وفي يوم الخميس تاسعه: دقت البشائر لورود الخبر بمسك الأمير أينال الجكمى، وإنبثت قصاد السلطان في أهل الدولة يبشرونهم بذلك، ويأخذون ممن يأتوه مالاً على هذه البشرى، فمنهم من يعطي البشير أربعين ديناراً، أو أقل من ذلك أو أكثر، وفعلوا مثل ذلك في الليلة التي قبض على العزيز فيها، فكسبوا مالاً جزيلاً.
وفي يوم الجمعة عاشره: وردت مطالعة الأمير أقبغا التمرازي نائب الشام، ومطالعات الأمراء بذكر واقعة أينال الجكمى. وملخصها أن العساكر المتوجهة من القاهرة، والمتجمعة بالرملة، نزلوا في يوم الأربعاء مستهله بمنزلة الخربة، وقد قدموا بين أيديهم جماعة لكشف الأخبار فجاءت الكشافة وأخبرت بقرب أينال الجكمى منهم، فركبوا وقد عبوا جموعهم ستة أطلاب، وهم الأمير أقبغا التمرازي نائب الشام والأمير جلبان نائب حلب ، والأمير أينال الأجرود نائب صفد، والأمير طوخ مازي نائب غزة، والأمير طوغان نائب القدس، والأمير غرس الدين خليل المستقر في نيابة ملطية، وساروا بمن معهم من العربان والعشران جاليشاً، حتى وصلوا إلى مضيق قرن الحرة، وإذا بجاليش أينال الجكمى، وهو الأمير قانصوه النوروزي، ومعه نائب بعلبك، وكاشف حوران، ومحمد الأسود بن القان، وشيخ العشير، وفرعلي الدكري أمير التركمان، وخليل بن طور على بن سقل سيز التركماني، وكثير من العربان، والجمع نحو ألف فارس، فكانت بين الفريقين وقعة كبيرة إنهزمت فيها الأطلاب الستة، وإذا بالأمير أينال الجكمى قد أقبل، فركب أقفية القوم حتى أوصلهم إلى السنجق السلطاني، وتحته الأمير قراقجا الحسنى أمير أخور، والأمير تمرباى رأس نوبة النوب، وبقية الأمراء المصريين والمماليك السلطانية فثبتوا له وقاتلوه، وهو يقاتلهم مقدار ساعة، فهزموه بعد أن قتل جماعة من الفريقين، يقول المكثر زيادة على خمسمائة رجل، منهم الأمير صرغتمش المستقر دوادار حلب وجرح خلق كثير، وقبض على محمد بن الأمير قانصوه، وعلى الأمير تنم العلاى، والأمير خاير بك القوامي، والأمير يبرم صوفي، في جماعة، وقد حال بينهم الليل، فلما أصبحوا يوم الخميس، ورد الخبر عليهم من دمشق بالقبض على أينالً الجكمى من قرية حرستا وقد إختفى بها في مزرعة، ومعه نفر يسير، وذلك أن رجلاً فطن به، فدل عليه نائب القلعة، فبعث في طلبه جماعة طرقوه، فدافع عن نفسه، حتى طعن في جنبه ودمي في وجهه، فأخذ وجيء به على فرسه، وقد وقف من العي، فلم يصل إلى القلعة إلا بعد العصر، والناس في جموع كثيرة لرؤيته، فسجن مقيدًا في القلعه، ودخل الأمير أقبغا التمرازي نائب الشام إلى دمشق أوائل نهار الجمعة ثالثه في العساكر، وهم بسلاحهم، فنزل دار السعادة بغير ممانع.
وفى هذا اليوم: قتل بدمشق محمد المعروف ببلبان شيخ كرك نوح، وولده محمد الخرباني، وكان من خبره أنه قدم بجموعه نصرة لعساكر السلطان، فلم يصل حتى إنقضت الوقعة، فدخل في خدمة النائب حتى عبر دار السعادة، وتفرق الأمراء وغيرهم في منازلهم، فتوجه بلبان فيمن توجه حتى كان عند المصلى، والعامة قد ملأت الطرقات، فصاح به وبمن معه من العشير جماعة من أراذل عامة دمشق قائلين " أبا بكر، أبا بكر " يكررون ذلك مرارًا، يريدون نكاية بلبان وجماعته، فإنهم يرمون بأنهم رفضة.
فلما كثر ذلك من العامة أخذ بعض العشير يضرب واحداً منهم، فوثبوا به، وألقوه عن فرسه ليقتلوه، فإجتمع أصحابه ليخلصوه من العامة، وقاتلوهم، فبادروا وذبحوا ذلك البائس وتناولوا الحجارة يرمون بها بلبان وقومه، ووضعوا أيديهم فقتلوا بلبان وإبنه وجماعته، وهم خمسمائة أو يزيدون، بغير سبب ولا أمر سلطان ولا حاكم، فلم ينتطح في قتلهم عنزان، ولا تحرك لهم إثنان، فكان ذلك من الحوادث الشنعة، وما أراه إلا أمرًا له ما بعده، ولله عاقبة الأمور.