كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي
وفيها كالت حرب بين خليل الطرفي وبين خليل بن دلغادر على أبلستين، انتصر فيها ابن دلغادر. فانتمى الطرفي إلى نائب الشام. ووعد على نيابة الأبلستين بألفي إكديش، وإقامة ثلاثين أمير طبلخاناه. فعني به نائب الشام حتى قدم إلى قلعة الجبل، وخلع عليه، وكتب له ثلاثون منشوراً بإمريات جماعة عينهم، وخلع على جميع من معه، وسار.
وقدم الخبر بأن القان موسى لما فر بعد قتل علي بادشاه لحق بخراسان، فقام معه طغاي تمر أميرها، وجمع له. فسار إليه الشيخ حسن الكبير وأولاد دمردادش، ولقوه بالقرب من سلطانية، فانكسر موسى وقتل من أصحابه. فاختل في هذه الفتن حال بغداد والموصل وديار بكر، وقوي أرتنا نائب المغل ببلاد الروم، لشغل المغل عنه بما هم فيه.
وفيها بعث النشو من كشف عن أرباب دواليب القند، فوجد لأولاد فضيل كثير من القند، ومنه أربعة عشر ألف قنطار قند عملت في هذه السنة، وبلغت زراعتهم في كل سنة ألف وخمسمائة فدان من القصب، كانوا فيما سلف يصالحون المباشرون على أن قندهم ألف قنطار يؤدون ما عليها للديوان. فلما علم النشو ذلك أوقع الحوطة على حواصلهم، وحمل القند إلى دار القند، وكتب عليهم حججاً بثمانية ألاف قنطار للسلطان. فلما تخلصوا منه وجدوا لهم حاصلاً لم يظفر به النشو، وفيه عشرة ألاف قنطار قند. وصادر النشو شاد دواليب الخاص بالصعيد، وأخذ منه مائة وستين ألف درهم حملها للسلطان.
وفيها أنعم السلطان في يوم واحد على أربعه من مماليكه بمائتي ألف دينار مصرية، وهم قوصون وألطنبغا وملكتمر الحجازي وبشتاك، وأنعم على موسى بن مهنا بضيعة بألف ألف درهم، وكان قد قدم له فرساً. فشق دلك على النشو، وقال: " خاطرت بروحي في تحصيل الأموال، وهو يفرقها.
وفيها قدم أمير أحمد ابن السلطان من الكرك باستدعاء، وكان قد بلغه عنه أنه يعاشر أوباش الكرك، فعقد له السلطان على ابنة الأمير سيف الدين طايربغا، وعقد لابنه يوسف على ابنة الأمير جنكلي بن البابا، وذلك في العشرين من ربيع الآخر. وسير السلطان لكل أمير بألف وخمسمائة دينار وثوب أطلس.
وفيه سعى النشو بقاضي الإسكندرية عماد الدين محمد بن إسحاق البلبيسي شيخ خانكاه بهاء الدين أرسلان، من أجل أنه عارضه في أخذ أموال الأيتام، ورماه بأنه أخذ مالاً للأيتام اشترى بها عدة جواري. فطلب البلبيسي من الإسكندرية وسلم إلى ابن المرواني والي القاهرة ليخلص منه مال الأيتام، فقام بأمره الأمير جنكلي بن البابا والحاج آل ملك والأحمدي حتى توجه الضياء المحتسب وأقوش البريدي للكشف عنه، فلم يظهر لما رمي به صحة، وأكثر ما عيب عليه أنه مطرح الاحتشام يمشي في الأسواق لشراء حاجته، فأفرج عنه.
وفيه ولد للسلطان ابنه صالح من زوجته بنت الأمير تنكز، فعمل السلطان لها بشخاناه وداير بيت ونحو ذلك بمائة ألف وأربعين ألف دينار وعمل لها الفرح مدة أسبوع، حضره نساء الأمراء، وما منهن إلا من عين لها السلطان تعبية قماش على قدر رتبة زوجها. فحصل للمغاني شيء كثير، حتى أن مغنيات القاهرة جاء قسم كل واحدة منهن عشرة ألاف درهم، سوى التفاصيل الحرير والمقانع والخلع. وقدم من الأمير تنكز نائب الشام لابنته مقنعة وطرحة بسبعة آلاف دينار. وفي هذا المهم استعمل السلطان للخركاه الواصلة إليه من بلاد الشرق ثوباً من حرير أطلس وردي ورصعه باللؤلؤ والجواهر، وأسبل عليها ستراً، فبلغ مصروف ذلك مائة ألف دينار واثني عشر ألف دينار، فنامت فيها النساء. وبلغ مصروف خمسمائة ألف دينار، فكان شيئاً لم يسمع بمثله في الدولة التركية.
وفيه اتفق عدة من أرباب الجرائم بخزانة شمائل وقتلوا السحان، وخرجوا بعد المغرب من باب زويلة شاهرين السكاكين. فركب الوالي في طلبهم، فلم يظفر منهم سوى برجل أقطع، فشنقه.
وفيها استدعى السلطان من بلاد الصعيد بألفي رأس من الضأن، واستدعى من الوجه البحري بمثلها، وشرع في عمل حوش برسمها ويرسم الأبقار البلق، فوقع اختياره على موضع من قلعة الجبل مساحته أربعة أفدنة، قد قطعت منه بالحجارة لعمارة القاعات التي بالقلعة حتى صار غوراً عظيماً وطلب السلطان كاتب الجيش ورتب على كل من الأمراء المقدمين مائة رجل ومائة دابة لنقل التراب، وعلى كل من أمراء الطبلخاناه بحسبه، وأقام الأمير، قبغا عبد الواحد شادا، وأن يقيم معه من جهة كل أمير أستاداره بعدة من جنده، وألزم الأمراء بالعمل، ورسم لوالي القاهرة بتسخير العامة. فأقام الأمير أقبغا عبد الواحد في خيمته على جانب الموضع، واستدعى أستادارية الأمراء واشتد عليهم، فلم يمض ثلاثة أيام حتى حضرت إليه رجال الأمراء من نواحيهم، ونزل كل أستادار بخيمته ومعه دوابه ورجاله، فقسمت عليهم الأرص قطعاً معينة لكل واحد منهم، فجدا في العمل ليلاً ونهاراً. هذا وأقبغا داير بفرسه عليهم يستحثهم، ويخرق بأستادارية الأمراء، ويضرب بعضهم، ويضرب أكثر أجنادهم. ووكل المقدم عنبر السحرتي بالرجال، وكان ظالماً غشوماً بهم وكلفهم السرعة في أعمالهم، من غير أن يوجد لهم رخصة ولا مكنهم من الاستراحة. وكان الوقت صيفاً حاراً، فهلك كثير منهم في العمل لعجز قدرتهم عما كلفوه. ومع ذلك كله والولاة تسخر من تظفر به من العامة، وتسوقه إلى العمل، فيزل به البلاء ما لا قبل له به، ولا عهد له بمثله. وكان أحدهم إذا عجز وألقى بنفسه إلى الأرض، رمى أصحابه عليه التراب فمات لوقته، هذا والسلطان يحضر كل يوم حتى يرى العمل.
وكان الأمير ألطنبغا المارديني قد مرض، وأقام بالميدان على النيل أياماً حتى برئ وطلع إلى القلعة من باب القرافة. فاستغاث به الناس وسألوه أن يخلصهم من هذا العمل، فتوسط لهم عند السلطان حتى عفى السلطان الناس من السخرة، وأفرج عمن قبض عليه منهم. فأقام العمل سنة وثلاثين يوماً إلى أن فرغ منه، وأجريت إليه المياه، وأقيمت به الأغنام المذكورة والأبقار البلق. وبنيت به بيوت للأوز، فبلغ ثمن البقل المصروف من الديوان برسم أكل فراخها في كل يوم مائة وخمسين درهماً، وعند فراغ العمل من الحوش وترتيبه استدعى السلطان الأمراء وعمل لهم سماطاً جليلاً، وخلع على جماعة ممن باشر العمل وغيرهم.
وفيها وصل من متجر الخاص ستمائة قطعة قطران، طرحت على الزياتين وأصحاب المطابخ بمائتي درهم القطعة. ثم طرح النشو أيضاً ألف مقطع شرب بحساب ثلاثمائة درهم المقطع، وقيمته ما بين مائة وخمسين ومائة وستين درهماً المقطع. ثم طرح النشو ثياب المماليك الخلقة وأخفافهم العتيقة على أربابها بأغلى ثمن.
وفيها جد النشو في السعاية بالصفي كاتب قوصون عند السلطان، وأنه يلزمه في كل سنة للديوان عن متاجره وزراعاً نحو مائتي ألف درهم، حتى ألزم السلطان الأمير قوصون بمصادرته وأخذ ماله لنفسه فأوقع قوصون الحوطة على جميع ماله. وسعى النشو أيضاً بقطلو أستادار قوصون أنه لما توجه إلى الشام لزمه مال كثير بما أتلفه من مال معاصر الغور، وعما أخذه من المباشرين حتى تلفت الأقصاب، فقبض عليه قوصون، وألزمه بالحمل حتى باع داره وثيابه.
ثم بعث السلطان إلى قضاة القضاة ألا يثبت أحد منهم محضراً باستحقاق ميراث حتى يرسم لهم بذلك. وسببه أن صدر الدين الطيبي لما ولاه النشو نظر ديوان المواريث التزم له بحمل لأموال الكثيرة، وصار يحتاط على أموال التركات، ويحملها إلى النشو من غير أن يعطي الورثة منها شيئاً فإن كان للوارث جاه وكان له ولد معروف ألزمه أن يثبت نسبه من الميت واستحقاقه لميراثه، فإذا أثبت ذلك أحاله على ما يتحصل من المواريث، فيماطل بذلك مدة ولا ينال غرضه، فلما فحش الأمر في هذا بلغ السلطان، فأنكر على النشو ذلك، فدافع عن نفسه بأعذار قبلت منه، ثم رسم السلطان للقضاة ألا يثبتوا من ذلك شيئاً إلا بمرسومه، فاشتذ الأمراء على الناس، وصارت التركة تنهب بحضرة الوارث ولا يجد سبيلاً إليها فإن عجز الطيبي عن أخذ المال من التركة لقوة الوارث وشدة بأسه رماه عند النشو بأن مورثه لقي ووجد لقية مال في بيته، فيلزم الوارث بإحضار ذلك حتى يترك ميراثه.
وفيها كتب مرسوم بمساحة ضمان جهات دمشق بما عليهم من البواقي للديوان ومبلغه مائتان ألف درهم، فأهملت من الحساب.
وفيها أنعم السلطان على الأمير تنكز نائب الشام بثلاث ضياع من فتوح سيس، وهي قلعة كوارة وقلعة نجيمة وقلعة سرفندكار، ورسم أن يحمل إليها من حماة وحمص وطرابلس عشرون ألف غرارة غلة برسم تقاويها وتخضيرها، وعين لكل ضيعة ما يكفيها، وكتب مراسيم لكل حهة بما هو مقرر عليها.
وفيها أوقع الأمير تنكز بعلم الدين محمد بن القطب كاتب السر بدمشق، وضربه وصادره بمرافعة الأمير حمزة التركماني وأخذ منه عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم.
وفيها أعرس أحمد ابن السلطان بابنة الأمير طايربغا من غير عمل مهم. وأعرس كذلك يوسف ابن السلطان بابنة الأمير جنكلي بن البابا.
وفيها أنعم على قطلوبرس أستادار بكتمر الساقي بإمرة طبلخاناه، وتسلم أمير أحمد ابن السلطان وتوجه به إلى الكرك، فتوجه الأمير بيغرا إلى الكرك على النجب حتى أحضر جميع ما كان بها من المال.
وفيها اتضع سعر الغلال حتى أبيع الأردب القمح الصعيدي بعشرة دراهم، والبحري بثمانية دراهم، والفول والشعير كل أردب بستة دراهم، وكسدت الغلال. فكان رزق الله أخو النشو - وهو كاتب الأمير ملكتمر الحجازي وولي الدولة صهره - وهو كاتب المجدي - يطرحان القمح بزيادة درهمين الأردب ويأخذان ثمنه بعسف وظلم، فتوقفت أحوال الجند لرخص السعر. وسعى النشو بالضياء المحتسب أن الدقيق والخبز سعرهما بالنسبة إلى القمح غال، فرسم لوالي القاهرة أن يطلب المحتسب والطحانين ويعمل معدل القمح عنده، فلم يجد في الأسعار تفاوتاً بين القمح والخبز.
وفي سابع عشر صفر: قدم من بغداد الوزير نجم الدين محمود بن على بن شروان، وحسام الدين الحسن بن محمد بن محمد الغوري محتسب بغداد وفخر الدين محمود نائب الحلة. وعدة من الأعيان في خمسمائة عليقة. فقدم الوزير للسلطان هدية سنية. فيها حجر بلخش يزن سبعة وعشرين درهماً ،فخلع عليه وعلى الغور وأنعم على محمود نائب الحلة بإمرة طبلخاناه بدمشق، وعلى وزير بغداد بإمرة طبلخاناه بديار مصر، ثم أنعم عليه بتقدمة ألف بعد وفاة طايربغا.
وكان سبب قدومهم أن نجم الدين هذا كان تمكن ببغداد وكثر ماله، فلما قدم علي بادشاه إلى بغداد ومعه القان موسى وصادر أهلها، ثم جمع العساكر وخرج بعث بشمس الدين السهروردي نائب بغداد، وقد كتب له أسماء ليأخذ مالهم، منهم نجم الدين ابن شروان، فخر الدين محمود نائب الحلة. فلما بلغهم ذلك تواطئوا على قتله والخروج إلى مصر، وخرجوا إلى لقائه، واحتفوا به وساروا معه، ثم بدره نجم الدين بسيفه فضربه ضربة حلت عاتقه، فسقط إلى الأرض، وأخذت السيوس أصحابه، فارتجت بغداد بأهلها. وفي الوقت نادى نجم الدين بالأمان، ولا يتحرك أحد فقد كان لنا غريم قتلناه ، وأخرج هو وأصحابه حريمهم وأموالهم، ومروا بهم على حمية من بغداد، وكتبوا إلى الأمير تنكز نائب الشام يستأذنونه. فبعث تنكز البريد إلى السلطان بخبرهم، فأجيب بإكرامهم إلى القاهرة، فحمل إليهم من الإقامات ما يليق بهم حتى قدموا عليه، ثم سيرهم مكرمين.
وفيها أنعم على آقسفقر بخبز طنجي السلاح دار، وأنعم على قماري أمير شكار بتقدمة ألف.
وفيه أنشأ السلطان قصراً للأمير يلبغا اليحياوي وقصراً للأمير ألطبغا المارديني تجاه حمام الملك السعيد قريبا من الرميلة تحت القلعة، وأخذ لذلك من إسطبل الأمير أيدغمش قطعة ومن إسطبل الأمير طشتمر الساقي قطعة، ومن إسطبل الأمير قوصون قطعة، ونزل بنفسه حتى مرر أمره. وتقدم السلطان إلى الأمير قوصون أن يشتري الأملاك المجاورة لإسطبله بالرميلة تحت القلعة، ويضيفها إلى إسطبله، وأمر أن يكون باب الإسطبلين اللذين أنشأهما أيضاً للأميرين يلبغا وألنبغا تجاه حمام الملك السعيد، وأقام آقبغا عبد الواحد شادا بعمارة القصرين. فاشترى قوصون عدة أملاك وسع بمواضعها في اسطبله، وطرح النشو أنقاضها بأغلى الأثمان، وجعل قوصون باب إسطبله من الرميلة تجاه القلعة. وأنفق النشو على القصرين جميع ما يحتاج إليه في عمارتها.
وفيها قدمت عدة تجار من الشام بثياب بعلبكي كثيرة، فختم عليها وأخذ عنها ما جرت به العادة للديوان من المكس. ثم أمر النشو بأخذها جميعها بقيمة اختارها، ثم طرحها على تجار القاهرة بثلاثة أمثال قيمتها، وألزم مباشري الختم ألا يختموا قماشاً حتى يستأذنوه. فقدم قفل عقيب ذلك فيه تاجر من جهة الأمير بشتاك، فأخذ قماشه فيما أخذ، وطرح الجميع على التجار. فادعى ذلك التاجر أن قماشه إنما هو للأمير بشتاك، فضربه النشو ضرباً مبرحاً، فشق ذلك على بشتاك وشكا أمره إلى السلطان. وكان النشو قد بلغ السلطان أن تاجراً يحضر كل سنة القماش على اسم الأمير بشتاك بغير مكس، حتى وجب عليه للديوان مائة ألف درهم، وقد أكسر معاملة السلطان، وأنه قد أخذ ما أحضره من القماش ،فانفعل السلطان لكلامه.
وفيها عزل قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني. وسبب ذلك ولده جمال الدين عبدالله، وما كان عليه من كثرة اللهو والشره في المال، وأخذه الرشوة من القضاة ونحوهم، وتبسطه في الترف، حتى إنه قد اقتنى عدة كثيرة من الخيول ورتب لها عدة من الأجاقية والركابين وسابق بها. وكان جمال الدين شغف أيضاً بسماع الغناء ومعاشرة الأحداث من أولاد الأكابر ومماليك الأمراء، وتجاهر بالمنكرات. فرمعت فيه للسلطان تتضمن شعراً بما هو عليه، فأخرجه السلطان إلى الشام، ثم أعاده بسعي أبيه بعد مدة بسفارة الأمير بكتمر الساقي فلم يقم إلا نحو السنة، وزاد في قبح السيرة فأخرجه السلطان ثانياً، وأقام سنة. فلم يطلق أبوه غيبته عنه، وكان قد فتن به حتى أنه لشدة حبه إياه لا يكاد يصبر عنه ساعة واحدة، فسأل السلطان في عوده مشافهة، وضمن توبته، فأعاده السلطان إلى القاهرة، فأنشأ بجوار بيت أبيه على النيل داراً كلف قضاة الأعمال فيها لحمل الرخام وغيره، واستدعى لها الصناع من الشام، وبالغ في اتقانها، فبلغت النفقة عليها زيادة على خمسمائة ألف درهم. وبلغ السلطان ذلك، فحدث الأمراء. بما بلغه، وأنكر على القاضي بتمكين ولده من هذا، فبعث الأمير عز الدين أيدمر الخطيري إلى القاضي يعنفه ويشنع عليه، ويلومه على إنفاق ولده هذا المال الكبير، فاعتذر عنه بأنه اقترض ما عمر به هذه الدار فإن سكنى القاهرة لم توافقهم واحتاجوا إلى السكنى على النيل. ثم إنه أيضاً اشترى في القاهرة داراً، وجددها بما يزيد على مائتي ألف درهم، فكثر الكلام فيه. هذا مع جفائه للناس، وقوة نفسه، وسوء سيرته وسيرة إخوته أيضاً وتغافل أبيهم عنهم، وتصاممه عن الشكوى فيهم فكتب في القاضي عدة أوراق للسلطان، ونسب فيها إلى أنه لا يولي نائباً عنه في بلد حتى يجتمع بأولاده، وشنع فيها أن القضاة في أيامه إنما تلي بالبراطيل، وتتزايد في الولايات. و كان السلطان لا يرشى ويعاقب من يرتشي أشد العقوبة، فكان يراعي القضاة لما في نفسه من إجلالهم وتعظيمهم، إلى أن نعاط أمر أولاد القاضي جلال الدين القزويني وكثرت القصص فيهم وفي مملوكه. وعمل حسن الغزي الشاعر فيهم قصيدة شنيعة، وأوصلها إلى شهاب الدين أحمد بن فضل الله، فقصد نكاية القزويني وقال للسلطان عنها وقرأها عليه، فأثرت في السلطان وغيرته على القزويني ومنها، وهي طويلة:
قاض على الأيام سل صارماً ... بحده يلتقط الدراهما
وسن من أولاده لها دماً ... جردهم فانتهكوا المحارما
والشبل في المخبر مثل الأسد
وابنه البدري خطيب جلقي ... بامرأة الكامل مشغوف شقي
بادره بالعزل فليس يرتقي ... منابر الإسلام إلا متقي
متزر ثوب العفاف مرتد
يا ملك الإسلام يا ذا الهمة ... أزل عن الملة هذي الغمة
واحلل بعبد الله سيف النقمة ... فإنه حجاج هذي الأمة
واردعه ردع كل مفسد
فلما حضر القضاة إلى دار العدل على العادة لم يؤذن لهم في دخوله، وعندما نزلوا بعث السلطان إلى القزويني مع الدوادار بأن نائب الشام شكا من ابن المجد قاضي دمشق، وقد اقتضى رأية أن تسافر إلى دمشق قاضياً، كما كنت، فإنه استحى وجهه منك ومن الأمراء والناس، وكلما عرفك أن ترجع ابنك عما هو عليه لا ترجعه فإذا حضرت بدار العدل استعف من القضاء بحضرة الأمراء. واعلم أني آمر نائب الشام أنه إذا رأى أولادك على سيرة مرضية قابلهم بما يستحقونه.
فلما كان يوم الخميس: وحضر قاضي القضاة القزويني دار العدل، سأل الحاجب أن يسأل له السلطان في تمكينه من التوجه إلى دمشق، فإن مصر لم توافقه ولا وافقت أهله، فأذن له السلطان في ذلك. ونزل القزويني فأخذ في وفاء دينه، وكان عليه لجهة وقف التربة الأشرفية المجاورة لمشهد السيدة نفيسة مبلغ مائتي ألف درهم وثلاثين ألف درهم فباع أملاكه وأملاك أولاده وأثاثهم وتحفهم بربع ثمنها، وكانت نفيسة. فباعوا من صنف الأواني الصيني بمبلغ أربعين ألف درهم، وباع عبدالله إحدى عشرة جارية ما بين ثمانية ألاف درهم الجارية إلى أربعة ألاف، وباع من اللؤلؤ والجواهر والزركش ما قيمته زيادة على مائة وعشرين ألف درهم، وباع داره بالقاهرة بخمسة وثلاثين ألف درهم وأدوا ما عليهم من الدين للأيتام وغيرهم. وسار قاضي القضاة بأهله وأولاده إلى دمشق، وصحبته ستون زوج محاير على الجمال، في كل محارة امرأة. وتأسف الناس على فراقه، لمحبتهم له مع بغضهم لأولاده، فإنه كان كريماً جواداً سخياً، له صدقات ومراعاة لأرباب البيوت، يهب الألف درهم، ولم يعرف في دولة الأتراك بمصر قاض له مثل سعادته، ولا مثل حظوته من السلطان وقوة حرمته، وكان سفره في جمادى الآخرة.
وفي يوم الأحد ثامن عشره: استدعى عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي وخلع عليه، واستقر قاضي القضاة عوضاً عن الجلال القزويني. وكان السلطان قد جمع بين يديه القضاة والفقهاء وفيهم عز الدين وحدثهم فيمن يصلح للقضاء، وقد تعين عندهم شمس الدين محمد بن عدلان. فلم يلتفت إليه السلطان، وذكر لهم عز الدين فأثنوا عليه خيراً. وكان السلطان من أيام بدر الدين محمد بن جماعة يلهج بذكر ابنه عز الدين، ويقول: " لولا أنه شاب لوليته القضاء " .
وخلع فيه أيضاً على حسام الدين الحسن بن محمد الغوري القادم من بغداد، واستقر في قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن برهان الدين إبراهيم بن علي بن عبد الحق، ونزلا في موكب جليل. وكان سبب عزل ابن عبد الحق أولاده، فإنهم ساروا سيرة أولاد القزويني، فكان السلطان يقول: ولينا قضاة جياداً أفسدهم، ورسم بسفر ابن عبد الحق وأولاده أيضاً إلى الشام، فسافروا. وكانت قد وقعت الشكوى في ابن القاضي الحنبلي من بيعه أوقاف الأيتام وأخذ أثمانها، وإتلافه في المحرمات، فطلب والده تقي الدين أحمد بن عز الدين عمر بن محمد المقدس وسئل عن مال الأوقاف التي باعها، فاعتذر بما لا يقبل، وسأل المهلة. فأمر السلطان متولي القاهرة بتسليمه وضربه حتى يحضر المال جميعه، فأهانه ورسم عليه. وأخذ السلطان يقول للأمراء. " انظر ماذا جرى علينا من أولاد القضاة، وذكر ابن القاضي الحنبلي وما كان منه، وهم أن يوقع به وبابنه المكروه، فتلطفوا به في أمرهما. والستر على القاضي لكبر سنه وشهرته. فعين الأمير جنكلي بن البابا لولاية الحنابلة موفق الدين عبدالله بن محمد بن عبد الملك المقدسي فطلبه السلطان وخلع عليه مع رفيقه.
وفي يوم الإثنين ثاسع عشره: طلع القضاة الأربعة وقبلوا يد السلطان، واستأذن قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة الشافعي في عزل نواب الحكم، فإنهم جيعهم إنما ولوا ببذلهم المال الجزيل لولد القزوين وأنهم قد أفسدوا في الأعمال فساداً كبيراً، فأجابه السلطان بأن يفعل ما فيه خلاصه من الله تعالى. فنزل ابن جماعة وكتب بعزل قضاة الوجه القبلي والبحري بأسرهم، وعزل فخر الدين محمد بن محمد بن مسكين من نيابة الحكم بمصر، وولي عرضه بهاء الدين عبد الله بن عقيل، وعين لقضاء الأعمال جماعة ممن وقع اختياره عليهم، فلم يجسر أحد على معارضته ولا مخالفته، واستخلف عنه في القضاء تاج الدين محمد بن إسحاق المناوي وضياء الدين محمد بن إبراهيم المناوي، وعزل الضياء المحتسب من نظر الأوقاف حتى لم يدع أحداً بالقاهرة ومصر وأعمالها ممن ولاه القزويني. فانكف عن الناس بدلك شر كبير وفساد كثير. وسار رفقاؤه الحنفي والحنبلي مثل سيرته في النزاهة والصيانة.
وفيها فوض نظر الوقف الشافعي للشيخ برهان الدين إبراهيم الصائغ.
وعقيب ذلك قدم البريد من الشام بألفين وخمسمائة دينار من وقف الأشرفية. فأخذها النشو وعرف السلطان بها، وأنه تعوض عنها لجهة الوقف فيما بعد فأخذها السلطان منه.
وفيها جمع النشو الطحانين وعرفاء الجمالة، وطرح عليهم ما زرع بناحية قليوب من الفول الأخضر والبرسيم، بحساب ثلاثمائة درهم الفدان الفول، والبرسيم بمائتي درهم، وضرب جماعه منهم بالمقارع، لأجل شكواهم إياه للسلطان. وطرح النشو مبلغ مائتي ألف درهم فلوساً نحساً ضرب إسكندرية وتروجة وفوة وبلاد الصعيد على التجار وأرباب المعاملات، فوقفت الأحوال. وذلك أن الفلوس كانت تؤخذ بالعدد، وقد كثر فيها الزغل من الرصاص ونحوه، وصار الفلس الكبير يقص ثلاث قطع ويخرج بثلاثة فلوس، فصارت الباعة تردها، وتحسن سعر الغلة دراهم الأردب. فقام والي القاهرة في ذلك وضرب جماعة ونودي أن يرد الفلس المقصوص والرصاص، ولا يتعامل به، فمشت الأحوال.
وفيه قدم البريد من الأمير تنكز نائب الشام. ومعه مبلغ عشرين ألف دينار الذي أخذ من علم الدين بن القطب كاتب السر بدمشق، فخلع السلطان على جمال الدين عبد الله بن الكمال محمد بن العماد إسماعيل بن الأثير، واستقر في كتابة السر بدمشق عوضاً عن ابن القطب.
وفيها اتفق بدمشق أن قاضيها شهاب الدين محمد بن المجد عبد الله بن الحسين بن علي الأربلي كان غير مرضي الطريقة، فلما عزل واستقر القزويني عوضه، ركب ابن المجد قبل أن يبلغه العزل يريد مكاناً، فنقرت بغلته من كلب خرج عليها في الطريق، وألقته عن ظهرها، فاندق عنقه، وسر الناس بذلك.
وفيها عزل الضياء من حسبة القاهرة، بسعاية النشو به ورميه له بمحبة الأحداث، وخلع على الشريف شرف الدين علي بن حسين بن محمد نقيب الأشراف، واستقر عوضه، بعدما أقامت القاهرة أياماً بغير محتسب.
وفيها أفرج عن الأمير آقسنقر شاد العمائر من حبسه بحلب، وأنعم عليه بطلبخاناه في دمشق، بعناية الأمير قوصون.
وفيها قدم البريد بأن جبار بن مهنا توجه في جماعته إلى بلاد الشرق، وصار في جملة الشيخ حسن الكبير، بسبب أنه لما قدم بهديته إلى السلطان لم يجد منه إقبالاً فكتب إلا إخوته بترجيعه إلى البلاد.
وفيها قدم البريد بأن الشيخ حسن الكبير قد جمع العساكر لمحاربة أرتنا صاحب بلاد الروم، وأن جبار بن مهنا التزم له بجمع العرب، وأنه كتب له تقليداً بالإمرة على العرب. فقدم بعد ذلك كتاب أرتنا ومعه هدية، ويسأل فيه أن يكون نائب السلطان في بلاد الروم، وأنه يضرب السكة باسمه، ويقيم دعوته على منابره. فخلع على رسله وأنعم عليهم، وكتب له تقليد بنيابة الروم من انشاء الشريف شهاب الدين الحسين ابن قاضي العسكر. وكان الحامل لابن أرتنا على ذلك أنه عظم شأنه ببلاد الروم، وكثف جمعه حتى خافه الشيخ حسن الكبير أن ينفرد بمملكة الروم، فأخذ في التأهب لمحاربته. وكان ابن دلغادر قد تمكن بأراضي أبلستين، وكثرت زراعاته بها، وأخذ يتخطف من أطراف الروم، فخشى أرتنا منه أن ينازعه في مملكة الروم، أو يكون مع الشيخ حسن الكبير فرأى الاتجاه إلى السلطان أقوى له وأسلم، فإنه إما يمده بعسكر يتقوى به على أهل الشرق، أو يأوي إلى بلاده إن انهزم.
وفيها بلغ النشو أن الناس يجتمعون إلى الوعاظ بالجامع الأزهر وجامع الحاكم وغير ذلك، ويدعون الله عليه. فلم يزل النشو بالسلطان حتى منع الوعاظ بأجمعهم من الوعظ، وأخرج رجلاً كردياً كان للناس فيه اعتقاد إلى الشام.
وفيها قدم المجد السلامي من الشرق صحبة رسل الشيخ حسن الكبير باستدعاء السلطان له، وقد كلفه الشيخ أن يقوم له بالصلح بينه وبين السلطان، وجهز معه هدية جليلة.
وفيها قدم ناصر الدين خليفة بن خواجا علي شاه وزير أبي سعيد، فأكرمه السلطالن وأنعم عليه، وأخرج له راتباً بدمشق، ثم أنعم عليه بتقدمة ألف بها، عوضاً عن برسبغا العادل وأنعم على برسبغا بتقدمة آقول الحاجب بعد موته.
وفيها ندب النشو أحد مباشري العمائر السلطانية لمرافعة الأمير آقبغا عبد الواحد، فأنهى للسلطان عنه أنه عمر جميع عمائر من مال السلطان، وثبت لمحاققته، فلم يجد آقبغا جواباً.
وفيها استقر الأمير أخو ظلظية في كشف الوجه البحري عوضاً عن الأمير سيف الدين أبي بكر بن سليمان البابيري وأخرج البابيري إلى دمشق بطلب الأمير تنكز له، وكانت إقامته في كشف الوجه البحري سنة، سار فيها سيرة سيئه.
وفي ليلة الإثنين ثاني عشرى ربيع الآخر: سقط بمصر والقاهرة مطر عظيم مدة ستة أيام، فتهدم منه عدة أماكن، وسال الجبل وأعقب المطر رياحاً عاصفة، واشتد البرد بخلاف العادة، وسقط الثلج بسبخة بردويل حتى جهلت الطريق، وسقط بمصر ثلج كثير وحصا فيه ما يزن ستة عشر درهماً وأكثر إلى ثمانية وعشرين درهماً. واشتد الريح بناحية دمياط في بحر الملح حتى غلب على النيل، ووصل الماء إلى شار مساح وفارس كور.
وفيها كثر تسخير الناس للعمل في عمائر السلطان بالقلعة، وقبض عليهم من بين القصرين وهم نيام، ومن أبواب الجوامع عند خروحهم من صلاة الصبح، فابتلي من ذلك ببلاء عظيم، وكثرت الغاثة، فلم يجسر أحد من الأمراء يكلم السلطان فيه.
وفي يوم الإثنين رابعه: خلع علي علاء الدين علي بن محيي الدين يحيى بن فضل الله، واستقر في كتابة السر عوضاً عن أبيه بعد وفاته، وركب معه الحاجب أمير مسعود والدواداو طاجار إلى داره.
وفي ثاني عشرى رمضان: قدمت الحرة بنت السلطان أبي الحسن علي بن عثمان ابن يعقوب المريني صاحب فاس تريد الحج، ومعها جمع كبير وهدية جليلة إلى الغاية، نزل لحملها من الإسطبل السلطاني ثلاثون قطاراً من بغال النقل سوى الجمال، وكان من جملتها أربعمائة فرس منها مائة حجرة ومائة فحل ومائتان بغل، وجميعها بسروج ولجم مسقطة بالذهب والفضة، وبعضها سروجها وركبها من الذهب وكذلك لجمها، وكان جملتها أيضاً أبقار عدتها اثنان وأربعون رأساً، ومنها سرجان من ذهب مرصع بجوهر، وفيها اثنان وثلاثون بازاً، وفيها سيف قرابه من ذهب مرصع، وحياصة ذهب مرصع، وفيها ستمائة كساء وغير دلك من القماش الغالي. وكان قد خرج المهمندار إلى لقائهم، وأنزلهم بالقرافة قرب مسجد الفتح، وهم جمع كبير جداً . وكان يوم طلوع الهدية من الأيام المذكورة، ففرق السلطان الهدية على الأمراء بأسرهم على قدر مراتبهم حتى نفدت كلها، سوى الجوهر واللؤلؤ، فإنه اختص به فقدرت قيمة هذه الهدية بما يزيد على مائة ألف دينار.
ثم نقلت الحرة إلى الميدان بمن معها، ورتب لها من الغنم والدجاج والسكر والحلوى والفاكهة في كل يوم بكرة وعشية ما عمهم وفضل عنهم. فكان مرتبهم في كل يوم عدة ثلاثين رأساً من الغنم، ونصف أردب أرزاً، وقنطار حب رمان، وربع قنطار سكراً، وثماني فانوسيات شمع، وتوابل الطعام وحمل إليها برسم النفقة مبلغ خمسة وسبعين ألف درهم، وكانت أجرة حمل أثقال ركبها قد بلغت ستين ألف درهم. ثم خلع على جميع من قدم مع الحرة، فكانت عدة الخلع مائتين وعشرين خلعة على قدر طبقاتهم، حتى على الرجال الذين قادوا الخيول. وحمل إلى الحرة من الكسوة ما يجل قدره، وقيل لها أن تملي ما يحتاج إليه، فقالت إنه لا يعوزها شيء، إنما تريد عناية السلطان بإكرامها وإكرام من معها حيث كانوا.
فتقدم السلطان إلى النشو والي الأمير آقبغا بتجهيزها اللائق بها، فقاما بذلك، واستخدما لها السقائين والضوية، وهيئا كل ما تحتاج إليه في سفرها من أصناف الحلوى والسكر والدقيق والبشماط، وطلبا الجمالة لحل جهازها وأزودتها. وندب السلطان معها جمال الدين متولي الجيزة، وأمره أن يرحل بها في ركب لها بمفردها قدام المحمل، ويمتثل كل ما تأمر به، وكتب لأميري مكة والمدينة بخدمتها أتم خدمة.
وفيه تجهز الأمير بشتاك، والأمير ألطنبغا المارديني وخوند طغاي زوجة السلطان وست حدق، وعدة من الدور ومن الخدام، لسفر الحجاز.
وفيه قرر الأمير علم الدين سنجر الجاولي شهاب الدين أحمد العسجدي في تدريس الحديث بالقبه المنصورية بين القصرين، بعد وفاة زين الدين عمر بن الكتاني. فتعصب عليه القضاة وجماعة من شيوخ العلم، وطعنوا في أهليته، ورفعوا قصة للسلطان بالقدح فيه. فلما قرئت على السلطان بدار العدل سأل السلطان من القضاة عنه، فثلبه قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، فقام الجاولي بمعارضة القاصي وأثنى عليه، فرسم السلطان أن يعقد له مجلس ويطالع بأمره. فاجتمع القضاة وكثير من الفقهاء بالمدرسه المنصورية، وجبه بعضهم الجاولي بالغض من العسجدي ورماه ركن الدين محمد بن محمد بن القوبع بأنه لحن في قراءة الفاتحة ثلاث مرات فقام قاضي القضاة حسام الدين الغوري في نصرة العسجدي وأثنى عليه، وقال: أنا أحكم بأهليته لهذه الوظيفه، فدار بينه وبين ابن جماعة مقاولة فيها فحش، وانفضوا على ذلك. فأعلم الغوري طاجار الدوادار بأن القوم تعصبوا على العسجدي وأنه يحكم بأهليته، فبلغ ا!سلطان ذلك. فلما حضرا سأل السلطان عما جرى في المجلس من ابن جماعة والجاولي فتفاوضا وعارض كل منهما الآخر،فمال السلطان إلى قول ابن جماعة، ومنع العسجدي من التدريس. فشق ذلك على الجاولي وهم بعزل نفسه من نظر المارستان، فحذره الأمراء عاقبة ذلك. وفيها عمل جسر بالنيل على حكر ابن الأثير، وسببه أن الميل قوي على ناحية بولاق خارج القاهرة، وهدم جامع الخطيري حتى احتيج إلى تجديده، وحتى احتيج إلى أن رسم السلطان للسكان على شاطئ النيل بعمل الزرابي لجميع تلك الدور، وألا يؤخذ عليها حكر. فبنى صاحب كل دار زربية تجاه داره فلم يفد ذلك شيئاً. فكتب بإحضار مهندسي البلاد القبلية وبلاد الوجه البحري، فلما تكاملوا ركب السلطان النيل وهم معه، وكشف البحر. فاتفق الرأي على أن يحفر الرمل الذي بالجزيرة حتى يصير خليجاً يجري فيه الماء، ويعمل جسر في وسط النيل يكون سداً يتصل بالجزيرة، فإذا كانت زيادة النيل جرى الماء في الخليج الذي حفر، وكان قدامه سد عال يرد الماء إليه حتى يتراجع النيل عن سد القاهرة إلى بر ناحية منبابة،وعاد السلطان إلى القلعة. وخرجت البرد من الغد إلى الأعمال بإحضار الرجال للعمل صحبة المشدين، وطلبت الحجارون بأجعهم لقطع الحجارة من الجبل - وكانت تلك الحجارة تحمل إلى الساحل وتملأ بها المراكب، وتغرق المراكب وهي ملأنة بالحجارة حيث يعمل الجسر - . فلم يمض عشرة أيام حتى قدمت الرجال من النواح فتسلمهم الأمير آقبغا عبد الواحد والأمير برسبغا الحاجب. ورسم لوالي القاهرة ووالي مصر بتسخيرهم للعمل، فركبا وقبضا على عدة كثيرة منهم، وزادا في ذلك حتى صارت الناس تؤخذ من المساجد والجوامع في السحر، ومن الأسواق، فتستر الناس ببيوتهم خوفاً من السخرة.
ووقع الاجتهاد في العمل، واشتد الاستحثاث فيه حتى إن الرجل كان يخر إلى الأرض وهو يعمل لعجزه عن الحركة، فتردم عليه الرمال، فيموت من ساعته. واتفق هذا لخلائق كثيرة جدا وآقبغا راكب في الحراقة يستعجل المراكب المشحونة بالحجارة، والسلطان ينزل إليهم ويباشرهم، ويغلظ على آقبغا ويحمله على السرعة واستنهاض العمل حتى أكمل في مدة شهرين. وغرق فيه اثنا عشر مركباً وسق كل مركب ألف أردب. وكانت عدة المراكب التي أشحنت بالحجارة المقطوعة من الجبل - ورميت في البحر حتى صار جسراً يمشي عليه ثلاثة وعشرين ألف مركب حجر، سوى ما عمل فيه من آلات الخشب والسرياقات والحلفاء ونحو ذلك.
وحفر الخليج بالجزيرة، فلما زاد النيل جرى في الخليج الذي حفر، وتراجع الماء حتى قوي على بر منبابة وبر بولاق التكرور، فسر السلطان بذلك.
وفيها استأذن الأمير ملكتمر الحجازي والأمير يلبغا اليحياوي السلطان في المسير إلى الإسكندرية بطيور السلطان الجوارح، ليتصيدا في البرية. فرسم للنشو بتجهيزهما، فخاف من دخولهما إلى الإسكندرية أن يبلغهما عنه من أعدائه ما إذا نقلاه للسلطان تغير عليه. فعرف النشو السلطان أن مراكب التجار قد وصلت، وأنه يحتاج إلى السفر حتى يأخذ ما عليها للديوان ويقوم أيضاً بخدمة الأميرين، فأذن له في السفر، فسافر من ليلته. وبدا للسلطان أن يبعث الأمير بشتاك بالطيور - ومعه الأمير قماري أمير شكار، والأمير ألطبغا المارديني - ويعوض يلبغا والحجازي بركوب النيل في عيد الشهيد، فسافر الأمراء الثلاثة. وكان عيد الشهيد بعد يومين، فركب يلبغا والحجازي المراكب في النيل للفرجة، وخرجت مغاني القاهرة ومصر بأسرها، وتهتكوا بما كان خافياً مستوراً من أنواع اللهو، وقد حشر الناس للفرجة من كل جهة. وألقى الأمراء للناس في مراكبهم من أنواع الأشربة والحلاوات وغيرها ما يتجاوز الوصف، فمرت ثلاث ليال بأيامها كان فيها من اللذات وأنواع المسرات ما لا يمكن شرحه.
ولما قدم الأمراء بالطيور إلى ظاهر الإسكندرية أخرج النشو إلى لقائهم عامة أهلها بالعدد والآلات الحربية، وركب إليهم حتى عبروا المدينة، فكان يوماً مشهوداً. ثم خرجوا بعد يومين، وقد قدم النشو لهم من الأسمطة وأنواع القماش ما يليق بهم. وأخذ النشو في مصادرة أهل الإسكندرية، وطلب عشرة ألاف دينار من الصيارفة قرضاً في ذمته، وطلب من ثلاثة تجار عشرة ألاف دينار، ثم إنه غرم ابن الربعي المحتسب بها خمسة آلاف دينار، سوى ما ضرب عليه الحوطة من موجوده، وضربه ضرباً مبرحاً وسجنه، فمات بعد قليل في السجن، ثم عاد النشو إلى القاهرة.
وقدم الخبر من ماردين بكثرة جمع الشيخ حسن الصغير وأولاد دمرداش، وأنهم على حركة لحرب طغاي بن سونتاي بديار بكر، فإذا بلغوا مرادهم منه عدوا الفرات إلى أخذ حلب.
وفيها طلب الأمير طرغاي الطباخي واستقر في نيابة حلب عوضاً عن ألطنبغا.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرى شوال: قدم موسى بن مهنا طائعاً، وقدم عدة خيول، وورد صحبته طائفة من عرب البحرين بخيول قومت بمبلغ خمسمائة ألف وستين ألف درهم وقومت خيل موسى بخمسمائة ألف درهم، سوى ما جرت العادة به من الإنعام عليه، وأنعم عليه بعشرين آلف دينار أيضاً. وقومت من جهة أهل برقة بأربعمائة ألف درهم، وقومت مماليك وجواري قدم بها التجار بستمائة ألف درهم. وكانت جملة ذلك كله، ما عدا ما أنعم به على موسى بن مهنا ألفا ألف درهم وستون ألف درهم، منها مائة ألف دينار مصرية ونيف وعشرين ألف دينار، وأحيل بذلك على النشو.
ولما كمل قصر يلبغا وقصر المارديني جاءا في أحسن هيئة، فإن السلطان كان ينزل إليهما بنفسه ويرتب عمارتهما. فعمل أساس قصر يلبغا أربعين ذراعاً وبسطه حصيراً واحداً، فجاء مصروفه أربعمائة ألف درهم. وكان جملة المصروف على هذا القصر أربعمائة ألف ألف وستين ألف درهم، من ذلك لازورد خاصة بمائة ألف د رهم. فركب السلطان إليه يوم فراغه وأعجب به، وأنعم على يلبغا بتقدمة طرغاي الطباخي نائب حلب، وفيها عشرة أزواج بسط - منها زوج بسط حرير - وعدة أواني بلور وغيره، وعدة خيول، وجمال بخاتي. وتقدم السلطان إلى الأمير آقبغا عبد الواحد بعمل سماط في قصر يلبغا، فنزل إليه ونزل النشو أيضاً حتى تهيأ ذلك، وحضر الأمراء كلهم، فأكلوا وشربوا يومهم إلى العصر. ثم خلع السلطان على أحد عشر أميراً أحد عشر تشريفاً أطلس. وأركبوا الخيول بسروج الذهب، وخلع على بقية الأمراء ما بين خلع كاملة وأقبية، وأركبوا أيضاً الخيول المثمنة بسروج الذهب والفضة على قدر مراتبهم. وتولى السلطان تعبية ذلك بنفسه، فكان مهماً عظيماً: ذبح فيه ستمائة رأس من الغنم، وأربعون رأساً من البقر، وعشرون فرساً، وعمل فيه برسم المشروب ثلاثمائة قنطار من السكر.
وفي يوم الإثنين سابع عشرى رمضان: هبت ريح سوداء معتمة بناحية الغربية، وأظلم الجو منها، وسقطت دور كثيرة. ثم سقط برد أسود مر الطعم، حاءت به الريح من نحو البحر حتى ملأ الطرقات، ووزنت منه واحدة فكانت مائة وثمانين درهماً، ووجد فيه واحدة على قدر النارنجة، وعلى قدر بيض النعام، وما دون ذلك إلى قدر البندقة. وكان الزرع قد قرب حصاده، فرمى سنبله، وحصد كثير منه من أصله، وهلكت منه أغنام كثيرة. ورؤيت شجرة جميز في غاية الكبر وقد سقط في وسطها برده على هيئة الرغيف وهي سواء - فشقتها نصفين كما يشق المنشار، ووجدت بقرة مطروحة قد قطع ظهرها ببردة شقته نصفين. وتلفت زروع ثمانية وعشرين بلداً، فجمع زرعها وحمل إلى السلطان مع فلاحيها، واستغاثوا بالسلطان، فرسم لمتولي الغربية أن يكشف تلك النواح ويحرر ما أصابتها الجائحة منها، ويحط خراجه عن الفلاحين، فامتثل ذلك.
وفيه قدم البريد من قوص بأن السماء احمرت في شهر رمضان هذا حتى ظهرت النجوم متلونة، فكانت تحمر ساعة وتسود ساعة وتبيض ساعة، إلى أن طلع الفجر، فجاء مطر لم يعهد في تلك البلاد. وقدم البريد أيضاً بأنه هبت ريح بأسوان ألقت عامة البيوت وكثيراً من النخل، وهبت أيضاً بعرب قمولة، فألقت ألفين وخمسمائة نخلة مثمرة، وقدم بذلك محضر ثابت على قاضيها.
وخرج ببلاد منفلوط فأر عظيم جداً فحصد الزرع حصداً، وأتلف جرون الغلال، بحيث كان يذهب ربع الجرن في ليلة واحدة. فصار الناس يبيتون بالمشاعل على طول الليل، وهم يقتلون الفأر ثم يتولى أمر النهار طائفة أخر وهم لا يفترون عن قتله، ثم يحمل ما قتل منه في شباك، ويحرق بالنار على بعد، وفيهم من يلقيه إلى النيل، فأفاموا مدة شهرين يحملون في الشباك كل يرم نو مائة حمل. وشوهد منه عجب: وهو أن جمعاً عظيماً من فيران بيض خرجوا حتى ملاوا الأرض، فخرج مقابلهم فيران سود، واصطفوا صفين في أرض مساحتها فدنان، ثم تصايحوا وحمل بعضهم على بعض واقتتلوا ساعة، وانكسرت الفيران السود، وتبعهم البيض يقتلونهم حتى مزقوهم في تلك الأراضي ،وكان بمحضر عالم كبير من الناس فكتب بذلك إلى السلطان والأمراء، فانكسر للسلطان بناحية منفلوط بسبب الفأر نحو ستين ألف أردب فول.
وفيها رفعت قصة إلى السلطان تتضمن أن الأمير ملكتمر الحجازي يركب النيل ومعه أرباب الملاهي في عدة من المماليك السلطانية، وأنهم يفعلون كل فاحشة ويأخذون حرم الناس. فاشتد غضب السلطان، وطلب الحجازي وأخرق به، وهدده بالقتل إن عاد يركب النيل، وأخرج السلطان ممن كان يعاشره من المماليك ستة وثلاثين رجلاً إلى البلاد الشامية على البريد من يومهم، وأخرج من الغد أربعين مملوكاً من أصحابه بسبب شربهم الخمر، وفيها تقدم السلطان إلى ولي القلعة ألا يمكن أميراً من النزول إلا بمرسوم، وأمر نقيب الجيش فدار على الأمراء كلهم وأعلمهم ألا ينزل أحد منهم من القلعة إلا بمرسوم السلطان، ومن نزل فلا يبيت إلا بالقلعة. وركب أمير مسعود الحاجب - ومعه والي القاهرة - وهدم مرامي النشاب التي بناها الأمراء لرمي النشاب خارج القاهرة، وطلب جميع صناع النشاب ومنعهم من عمل النشاب الميداني وبيعه لسائر الناس، وأمر بدكاكين البندقانيين فغلقت، ومنع من عمل أقواس البندق وبيعها، وقصد السلطان بذلك كف أسباب اللهو، فإنه كان يكره من يلعب ويلهو عن شغله وخدمته.
وفيها شفع الأمير موسى بن مهنا في لؤلؤ وغيره من المصادرين، فرسم السلطان لشاد الدواوين بكتابة أسمائهم - وكانوا خمسة وثلاثين رجلاً، ومنهم قرموط وأولاد التاج، فأفرج عنهم، أما خلا قرموط وأولاد التاج.
وفيها أنشأ الأمير أقبغا عبد الواحد مدرسة بجوار الجامع الأزهر، وكان موضعها دار الأمير ابن الحلي وألزم الصناع بالعمائر السلطانية أن يعملوا فيها يوماً من الأسبوع بغير أجرة، فكان يجتمع في كل أسبوع بها كل صانع بالقاهرة ومصر، ويعملون نهارهم. وحمل لها أقبغا جميع ما يحتاج إليه من عمائر السلطان، وأقام بها من مماليكه شادا لم ير أظلم منه، فعسف الصناع وضربهم.
وفيها توقفت زيادة النيل عندما قرب الوفاء، ثم نقض، فارنفع سعر الغلال حتى بلغ القمح عشرين درهماً الأردب. ثم تراجع النيل ووفي ستة عشر ذراعاً، بعدما زاد ثلاثة أيام متوالية أربعة أذرع ونصف ذراع. وتلفت بسبب ذلك غلال كثيرة في الأجران، فإنه زاد زيادة متتابعة على حين غفلة. وكانت سنة شديدة، واتفق فيها من الأمطار والفأر والمصادرات وغير ذلك عدة محن.
ومات فيها من الأعيانمجد الدين إبراهيم بن الأجل أبي هاشم علي بن الصدر الأديب أبي طالب محمد بن محمد بن محمد الفامغار - المعروف بابن الخميمي - في سادس عشر جمادى الأولى، ومولده سنة تسع وأربعين وستمائة، وحدث عن أبيه والرشيد العطار وغيره.
ومات الأمير إبراهيم ابن السلطان في رابع عشرى ذي القعدة، ودفن بتربة عمه الصالح علي بن قلاوون، بالقرب من المشهد النفيسي.
وتوفي الطيب الأديب شهاب الدين أحمد بن يوسف بن هلال الصفدي بالفاهرة عن سبع وسبعين سنة، وله نظم حيد.
وتوفي الشيخ زين الدين عمر بن الجمالي أبي الحزم بن عبد الرحمن بن يونس المعروف بابن الكتاني الدمشقي شيخ الشافعية، بالقاهره في يوم الأربعاء سادس عشر رمضان.
وتوفي قاضي القضاة الشافعي بدمشق شهاب الدين محمد بن المجد عبدالله بن الحسين بن علي الأربلي الشافعي بعد ما ألقته بغلته بأسبوع، في جمادى الأولى بدمشق.
وتوفي الشيخ زكي الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الرحمن ابن عبد الجليل المعروف بابن القوبع - القرشي التونسي المالك صاحب الفنون الكثيرة، بالقاهرة عن أربع وسبعين سنة.
توفي شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن النقجواني في حادي عشرى المحرم، ودفن بالقرافة.
وتوفي شيخ الإسلام شرف الدين هبة الله ابن قاضي حماة نجم الدين عبد الرحيم بن أبي الطاهر إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد بن منصور بن أحمد المعروف بابن البارزي الشافعي قاضي حماة، في نصف ذي القعدة، ومولده في خامس رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة.
ومات الأمير طغجي.
ومات الأمير أقول الحاجب.
ومات الأمير ظلظية كاشف الوجه القبلي .
ومات كاتب السر محيي الدين بن يحيى ابن فضل الله بن مجلي العمري في يوم الأربعاء تاسع رمضان.
وتوفي جمال الدين يوسف بن إبراهيم بن جملة، وكان قد ولي قضاء دمشق بعد علم الدين الأخنائي ثم عزل.
سنة تسع وثلاثين وسبعمائةفي أول المحرم: قبض على امرأة خناقة، وقتلت.
وفيها قدم رسل الملك أزبك صحبة الأمير سرطقطاي مقدم البريدية بهدية وكتاب يطلب فيه مصاهرة السلطان، فجهزت إليه هدية، وأنعم على رسله وأعيدوا وكان سرطقطاي قد توجه رسولاً إلى أزبك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
وفيها قدم الخبر بأن القان الكبير عزم على المسير إلى العراقين، وقدم أمامه عسكراً ليسير إذا أخذ العراق إلى الشام. فسار ثماني مراحل، وبعث الله على ذلك العسكر ريحاً سوداء، ثم صارت زرقاء تشتعل ناراً، فيسقط الفارس وفرسه ميتين عند هبوبها، وتمادى هبوبها يومين، وكانوا زيادة على مائة ألف فارس، فلم يرجع منهم إلى القان إلا نحو عشرة آلاف وهلك باقيهم. فسر السلطان بذلك.
وفيها قدم الملك الأفضل محمد بن المؤيد إسماعيل صاحب حماة باستدعاء السلطان، وقد كثرت شكاية الناس له من شغفه باللهو وأخذه أموال الرعية، وقد شفع فيه الأمير تنكز نائب الشام فقدم الأفضل للسلطان والأمراء تقادم جليلة، ثم سافر إلى بلده بعد ما وصاه السلطان بحضرة القضاة، وعدد ذنوبه، وأخبره أنه قبل فيه شفاعة نائب الشام، ثم خلع عليه وسفره.
وفيها اشترى بدر الدين أمين الحكم ملكاً لبعص الأيتام، فحضر إليه العلم القراريطي
شاد القراريط يطلب منه موجب الديوان عن الملك المذكور، فأفضي الحال بينهما إلى مفاوضة. بمجلس قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، أطلق فيها العلم لسانه بما أوجب تعزيره، فانصرف إلى النشو وعرفه أنه لما طالب أمين الحكم بالقراريط عزره ابن جماعة وكشف رأسه، فحرك ذلك منه كامناً كان في نفسه من ابن جماعة، وبلغ السلطان ذلك، وشنع عليه بأن أمين الحكم لما امتنع من دفع القراريط عن الملك أخرج إليه العلم مرسوم السلطان وعليه محمد بن قلاوون، فأخذه منه ورماه بالأرض عند النعال، وقال: أتجعل في مجلس الحكم الباطل حقاً لتأخذ أموال الأيتام، ثم كشف رأسه وضربه بالدرة. فغضب السلطان وطلب أمين الحكم، وأمر طاجار الدوادار بضربه، فضربه على باب القصر بالقلعة والنشو جالس ضرباً مؤلماً وقطع أكمامه، وشهره بالقلعة ونودي عليه: هذا جزاء من يمنع الحقوق السلطانية، وألزم بحمل عشرين ألف درهم، ورسم عليه، فقام بخمسة عشر ألف درهم.
وفي شهر ربيع الأول: قبض على أوحد الدين شيخ خانكاه بيبرس وهو بالروضة تجاه مصر على حال غير مرض، وأخرج إلى القدس منفياً.
وفيها قدم الخبر بأن ابن دلغادر استولى على قلعة طرندة من بلاد الروم، وأخذ ما فيها من الأموال، وأن الأمير تنكز بعث إليها الأمير علاء الدين علي بن صبح. فسر السلطان بذلك، وبعث بتشريف لابن دلغادر، وشكره وأثنى عليه.
وفيه استقر الأمير بكتمر العلائي الأستادار في نيابة حمص، بعد وفاة الأمير جركتمر.
وفيه أخرج الأمير منكلي بغا الفخري إلى دمشق، واستقر من مقدمي الألوف بها.
وفيه أنعم على كل من قطليجا الحموي وطاجار الدوادار بإمرة طبلخاناه.
وفي ربيع الآخر: قدم الأمير ألطنبغا نائب حلب، وصحبته تقدمة جليلة، وأخلع جليلة عليه عند وصوله، وعزل عن نيابة حلب، واستقر من كبار الأمراء بالديار المصرية.
وفي تاسعه: سارت الحرة المغربية عائدة إلى بلادها، بعد قضاء حجها.
وفي حادي عشر جمادى الأول: قدم الأمير تنكز نائب الشام. وذلك أن ابنته التي تحت السلطان قرب وضع حملها، فكتب السلطان يستدعيه - ومعه أهله وأولاده - لأجل مهم ابنته وتقدم السلطان إلى النشو بعمل بشخاناه وداير بيت من حرير مخمل، ويزركشهما بمائة ألف دينار، وأمره أن يجهز خمسين تشريفاً للأمراء، منها ثلاثة وعشرين تشريفاً أطلس بحوائص ذهب كاملة، وبقيتها ما بين طرد وحش ومصمط، و طلب إليه أيضاً أن يجهز ما تحتاج إليه النفساء، وما يحتاج إليه من السروج ونحوها، وما يحتاج إليه المهم مما يبلغ زيادة على ثلاثمائة ألف دينار.
فأخذ النشو في التدبير لذلك، ورتب جهاته من ثمن سكر وعسل وقندر وقماش وخشب يطرحه على الناس، وعمل أوراقاً بمظالم اقترحها بلغت جلتها خمسمائة ألف دينار ومائة ألف أردب غلة، وأعلم بها السلطان من الغد. وطرح النشو ما عنده من البضائع على الناس بمصر والقاهرة، حتى زلزلهما بكثرة العقوبة، ولم يراع أحداً فخنق من ذلك الأمير الحاج، آل ملك، وبلغ السلطان ما نزل بالرعية من الظلم، فلولا ما كان من ملاطفة الأمراء في الحال لكان له وللسلطان شأن غير مرضي.
فلما قدم البريد بتوجه الأمير تنكز من غزة إلى القاهرة، بعث السلطان بالأمير قوصون إلى لقائه ومعه المطبخ، وركب السلطان إلى قصوره بسرياقوس ومعه أولاده فنزل قوصون السعيدية، وهيأ الأسمطة الجليلة، وتلقى الأمير تنكز وترجل إليه، فنزل الأمير تنكز أيضاً، ومشيا خطوات حتى تعانقا، وركبا إلى الخيمة التي نصبها السلطان للأمير تنكز. فلما انقضى السماط ركب تنكز فتلقاه أولا أولاد السلطان، فترجل لهم، ثم سار وهم معه، فتلقاه السلطان وأكرمه غاية الكرامة. ثم سار السلطان من الغد وطلع قلعة الجبل، وخلع عليه وعلى أولاده وأمرهم، فدخلوا وأهليهم إلى الدور.
وفيه رسم بخروج الأمير ألطنبغا نائب حلب إلى نيابة غزة وخلع عليه، فاتهم الأمير تنكز بأنه حمل السلطان على ذلك.
ونزل الأمير تنكز من القلعة إلى بيته بخط الكافوري من القاهره، وجهز به تقادم السلطان وتقادم الأمراء، وحملها من الغد، وكانت شيئاً يجل عن الوصف: فيها من صنف الجوهر ما قيمته ثلاثون ألف دينار، ومن الزركش عشرون ألف دينار، ومن أواني البلور وتعابي القماش والخيل والسروج والجمال البخاتي ما قيمته مائتان وعشرون ألف دينار. فلما انقضت نوبة التقادم أدخله السلطان إلى الدور حتى رأى ابنته، وقبلت يده. ثم أخرج السلطان إليه جميع بناته وأمرهن بتقبيل يده، وهو يقول لهن واحدة بعد واحدة: " بوسي يد عمك، ثم عين منهن اثنتين لولدي تنكز. فقبل تنكز الأرض وخرج والسلطان يحادثه.
وتقدم السلطان إلى النشو بتجهيز تنكز إلى الصعيد للصيد، ثم ركب وتوجه إلى بلاد الصعيد وتنكز معه، فكان من إكرامه له في هذه السفرة ما لا عهد من ملك مثله. فلما عاد السلطان أمر النشو بتجهيز كلفة عقد ابني تنكز على ابنتيه، وكلفة سفر تنكز إلى الشام. فأخذ النشو أموال التجار وغيرهم، وجمع أربعة عشر ألف دينار، حمل منها برسم المهر أربعة ألاف دينار وجهز تنكز باثني عشر ألف دينار. وعقد لولدي تنكز على ابنتي السلطان في بيت الأمير قوصون، بحضرة القضاة والأمراء.
ثم ولدت ابنة تنكز من السلطان بنتاً، فسجد تنكز لله شكراً بحضرة السلطان، وقال: وا لله يا خوند! كنت أتمنى أن تكون المولودة بنتاً، فإنها لو وضعت ذكراً كنت أخشى من كمال السعادة. فإن السلطان تصدق علي بما غمرني به من السعادة، فخشيت من كمالها.
وأخذ السلطان مع النشو في تجهيز تنكز على عادته، وأمره أن يضاعف له ما جرت به عادته من الخيل والتعابي، ورتب السلطان ذلك بنفسه، فكانت قيمته مائة وخمسين ألف دينار عيناً، وكان تنكز قد أقام مدة شهرين، وراتبه السلطاني في كل يوم أربعة آلاف درهم.
فلما وادع تنكز السلطان سأله في إعفاء الأمير كجكن من الخدمة، وأن ينعم عليه بسفر لؤلؤ الحلبي إلى الشام ليستقر في شد عداد الأغنام، وأن ينقل الأمير بيبرس الحاجب من حلب إلى دمشق، وأن ينعم على قرمشي بإمرة ويستقر حاجباً بدمشق عوضاً عن علاء الدين بن صبح فأجابه السلطان إلى ذلك كله، وكتب له تقليداً بتفويض الحكم في جميع المماليك الشامية بأسرها، وأن جميع نوابها تكاتبه بأحوالها، وأن تكون مكاتبته: أعزالله أنصار المقر الشريف، بعدما كانت " أعزالله أنصار الجناب، وأن يزاد في ألقابه: الزاهدي العابدي العالمي كافل الإسلامي أتابك الجيوش. وأنعم السلطان على مغنية قدمت معه من دمشق بعشرة ألاف درهم، وحصل لها من الدور ثلاث بدلات زركش وثلاثون تعبيه قماش وأربع بدلات مقانع، وخمسمائة دينار، مبلغ متحصلها نحو سبعين ألف درهم. ثم كان آخر ما قال له السلطان: " أيش بقى لك حاجة، أو في نفسك شيء أقضيه قبل سفرك؟ فقبل تنكز الأرض، وقال: والله يا خوند ما بقي شيء أطلبه الا أن أموت في أيامك، فقال السلطان: لا إن شاء الله. يا أمير تعيش أنت وأكون أنا فداك، أو أكون بعدك بقليل.
فقبل تنكز الأرض وانصرف، وقد حسده جميع الأمراء، وكثر حديثهم فيما حصل له من الكرامة والمعزة. واتفق ما قاله السلطان، فإنه لم يقم بعد موت تنكز إلا قليل، ومات كما سيأتي ذكره.
وفيها أنعم على الأمير يلبغا اليحياوي بالمنزلة من أعمال أشوم، فركب إليها النشو وحفر لها ترعة، وأخرق بمتولي أشوم، وألزم أقبغا السيفي متولي الغربية بمائة ألف درهم.
وفيه استقر علاء الدين علي بن الكوراني في ولاية الغربية عوضاً عن آفبغا السيفي واستقر شهاب الدين بن الأز كشي في ولاية الأشمونين عوضاً عن ابن الكوراني واستقر نجم الدين أيوب في ولاية الشرقية، عوضاً عن ابن الأزكشي.
وفي مستهل جمادى الأولى: صلى صلاة الغائب بمصر والقاهرة على قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني فاستقر عوضه الشميخ تقي الدين علي بن السبكي.
وفيه أخرج آقوش الزيني إلى حلب.
وفبه أخرج الأمير عز الدين أيدمر العمري إلى صهيون، وأنعم بإقطاعه على ولده أبي بكر، فأحاط النشو بموجوده، وأخذ له ثمانين ألف دينار.
وفيه قدم البريد بأن التركمان ساقوا إلى دمشق عشرين ألف رأس من الغنم ليبيعوها بالقاهرة، فلما حضرت رسم ألا يؤخذ منهم المقرر وهو أربعة دراهم الرأس يؤخذ عن كل مائة درهم خمسة دراهم. وكان التركمان قد شكوا من أزدمر والي بهنسا فكشف عنه فوجد أنه كثر ظلمه وأخذه لأموال الرعية، فأحيط بضياعه وأمواله، وأنعم ببعض ضياعه على الأمير تنكز نائب الشام، ووقف بعضها على قلعة طرندة ببلاد الروم.
وفيها قدم الشريف مبارك بن عطيفة بخيله، فسجن مع أبيه، لكثرة إفساده بالحجاز وفيها اتفق موت ابنة الأمير الكبير شمس الدين إلدكز المنصوري - زوجة الأمير ناصر الدين بن المحسني بعد عودها من طرابلس، عن بنت وأخت وزوج، فأخذ النشو جميع مخلفها، وكان شيئاً كثيراً.
وفيها مات بعض الكتاب وترك بيتاً على الخليج، فلم يجسر أحد يشتريه إلى أن قلبته ابنة الأمير قطز بن الفارقاني لتشتريه فلم يعجبها، فألزمها النشو أن تشتريه بمائة ألف درهم، فمازالت به حتى صالحها على شيء حملته وتركها.
وفيها هلك بطريق النصارى الأقباط، فنزل النشو في الكنيسة وأخذ كل ما فيها كل حاصل ذهب وفضة وشمع وغيره.
وفيها ماتت امرأة ظلظية الكاشف، وقد تزوجت بعده وخلفت ولداً ذكراً، فأخذ النشو موجودها كله بحجة أن ظلظية أخذ مال السلطان وتركه بعد موته عندها.
وفيها ظفر النشو بحلي لنساء أمين الدين قرموط، فأغري به السلطان حتى سلم ولده وصهره وأهله لوالي القاهرة.
وفيها جدد النشو الطلب على أولاد التاج إسحاق، وعوقب نساءهم حتى مات بعضهن من العقوبة.
وفيها طلب النشو المال الحاصل بالمارستان المنصوري فقام الأمير سنجر الجاولي في ذلك، حتى أن ابتيع للوقف من أراضي بهتيت من الضواحي مائتان وخمسون فداناً وأربعمائة ألف درهم، وحملت إلى النشو.
وفيها قبض على شهاب الدين أحمد بن محيي الدين يحيى بن فضل الله، في رابع عشرى شعبان. وسببه أن الأمير تنكز لما سأل السلطان أن يولي علم الدين محمد ابن القطب أحمد بن مفضل كاتب السر بدمشق، وأحابه السلطان وخلع عليه، حدث شهاب الدين السلطاني في أمره، وقال: هدا رجل قبطي لا يدري هذه الصناعة، فلم يعبأ بقوله. ثم رسم السلطان أن تكثر ألقاب علم الدين ويزاد في معلومه، فامتنع شهاب الدين من ذلك واحتد خلقه، وفاجأ السلطان بقوله كيف يكون رجل أسلمى ملته كاتب السر، وتزيد في حامكيته، ما يفلح من يخدمك، وخدمتك علي حرام، ونهض من بين يدي السلطان قائماً. فما شك الأمراء في أن السلطان يضرب عنقه، فرعى فيه حق أبيه و لم يؤاخذه. ودخل شهاب الدين على أبيه محيي الدين وعرفه ما كان منه، فخاف خوفاً شديداً، وقام مع الأمراء في ترقيع هذا الخرق، ودخل إلى السلطان فقبل الأرض وطلب العفو، فعرفه السلطان أنه لأجله حلم عليه وصفح عنه، ورسم أن يدخل ابنه علاء الدين علي في المباشرة عنه، عوضاً عن شهاب الدين. فاعتذر محيي الدين بأن ابنه علاء الدين صغير لا ينهض أن يقوم بأعباء الوظيفة، فقال: السلطان: أنا أربيه كما أعرف. فباشر علاء الدين عن أبيه إلى أن مات أبوه، وشهاب الدين منقطع بداره طول تلك المدة من الغبن.
فلما كان في يده هذه السنة شكا قاضي القضاة عز الدين بن جماعة أنه كتب توقيع لابن الأنصاري برجوعه إلى مباشرته، ورماه بقوادح. فطلب السلطان الأمير طاجار وأنكر عليه، فأحال على علاء الدين بن فضل الله أنه أعطاه قصته. فطلب السلطان علاء الدين وأنكر عليه، فاعتذر بأن أخاه شهاب بعث بها إليه فاستقبح ردها عليه فقال له السلطان: لا تكن تسمع من أخيك، فإنه نحس وما يقعد حتى أفعل به وأفعل به فلم تمض إلا أيام حتى رفع شهاب الدين قصة يشكو فيها كثرة كلفه، ويطلب الإذن بالتوجه إلى دمشق، فذكر السلطان بنفسه، وأمر به فقبض عليه، وحمل إلى القلعة. ورسم السلطان لطاجار والدوادار أن يعريه في قاعة الصاحب، ويضربه حتى يلزم بحمل عشرة ألاف دينار، أو يموت تحت العقوبة، فعندما عراه طاجار رجف فؤاده وارتعدت مفاصله، فإنه كان ترفاً ذا نعمة لم تمر به شدة قط، فكتب خطه بعشرة ألاف دينار. ووقعت الحوطة على موجوده، وأخذ له نحو خمسين ألف درهم، وباع قماشه وأثاثه وأملاكه بدمشق حتى حمل مائة وأربعين ألف درهم، وسكن الطلب منه.
وفيها وشى النشو بالأمير أقبغا عبد الواحد أن له خمسة ألاف رأس من الغنم، قدمت من بلاد الصعيد ورعت براسيم الجيزة، ومضت إلى الغربية فرعت الزرع فطلبه السلطان وأخرق به، فلولا شاء الله أن يتلطف الأمير بشتاك في أمره وألا أوقع به المكروه.
وفيها خلع على الأمير عز الدين أيدمر كاشف الوجه القبلي واستقر في كشف الوجه البحري.
وفيها أنشأ السلطان القناطر بجسر شيبين. وذلك أن بلاد الشرقية كانت لا تروى إلا من بحر أبي المنجا، وفي أكثر السنين تشرق بلاد العلو منها، مثل مرصفا وسنيت وكان للأمير بشتاك بها ناحية شرقت، فركب السلطان للنظر في ذلك وصحبته المهندسون، وكشف عدة مواضع، وكان له بصر جيد وحدس صحيح، فوقع اختياره على عمل جسر من شيبين إلى بنها العسل، وتعمر عليه قناطر لتحبس الماء، فإذا فتح بحر أبي المنجا امتلأت المخازن رجع الماء إلى هذا الجسر ووقف عليه، فوافقه المهندسون على ذلك. ورجع السلطان إلى القاهرة، فكتب إلى الأعمال بجمع اثني عشر ألف راجل وتجهيز مائتي قطعة جراريف. فلم تمض إلا أيام حتى قدم مشدو البلاد بما عليهم من الرجال، وشرعوا في العمل حتى تم في ثلاثة أشهر، وكان يصرف في كل يوم أجرة رجال وثمن كلف مبلغ أربعين ألف درهم من مال النواحي التي للأجناد. فلما كانت أيام النيل أبطل السلطان وفتح عوضه سد شيبيني، فرويت البلاد كلها، وروي ما لم يكن يروى قبل ذلك واستنجزت عدة أماكن.
وفيها قدم أمير أحمد ابن السلطان من الكرك باستدعاء، للعبه وشغفه ببعض شباب أهل الكرك، وإسرافه في العطاء لواحد منهم اسمه الشهيب، وكان جميل الصورة، وقد هام به أمير أحمد غراماً وتهتك فيه. فلم يخرج أحد من الأمراء إلى لقائه، فطلع مع بكتاش النقيب وحده، فتلقاه طاجار من باب القلة، ودخل به حتى قبل الأرض، ووقف واسعة، ثم رسم له بتقبيل اليد، ومضى إلى الدور من غير أن يقبل السلطان عليه. وأمر السلطان بعقوبة الشاب الذي كان يهواه حتى يحضر المال الذي وهبه له، فبعث أحمد إلى الأمراء بسببه حتى عفى عنه ومازال يجد في أمره إلى أن أذن له أن يدخل عليه ويقيم عنده.
وفيها أنعم السلطان على الأمير ملكتمر الحجازي بإقطاع بهادر المعزي بعد موته، وزاده النحراوية وكانت عبرتها في الشهر سبعين ألف درهم.
وفيها توجه الأمير تنكز نائب الشام من دمشق يريد بلاد سيس، لكشف البلاد التي أنعم بها عليه، فمر على حماة، ونادى بها ألا يقف أحد لملك الأمراء بقصة، ومن كانت له حاجة فعليه بصاحب حماة، وخلع على صاحب حماة. ومضى تنكز إلى حلب ودخل بلاد سيس، فأهدى إليه تكفور هدية سنية مع أخيه، فقبلها وخلع عليه، وعمر تنكز تلك الضياع بالرجال والأبقار والغلال، وعاد.
وفيها عملت أوراق بما على الدولة من الكلف، فبلغت نحو مائتين وثمانين ألف درهم في الشهر، فوفر السلطان منها ما يصرف للمباشرين والأمراء من التوابل، ووفر شيئاً من مصروف العمائر، ووفر الدجاج المرتب برسم السماط والمخافي الخاصة بالسلطان، والمخافي التي تحمل الطيور المطبوخة؟ كل يوم إلى الأمراء وعدتها سبعمائة طائر في كل يوم، فكانت جملة ما توفر في كل شهر مبلغ تسعين ألف درهم. واتفق بعد ذلك أن السلطان طلب أربعة أطيار دجاج، فكتب بها وصول من بيت المال، فاستقبح الناس ذلك، ونسب توفير ما توفر إلى النشو.
وفيها التزم النشو بتدبير الدولة، على أن يتسلم الجهات، فأجيب إلى ذلك. فطلب السلطان الشمس نصر الله وخلع عليه، واستقر به نظر الجهات عوضاً عن، وخلع على تاج الدين أحمد بن الصاحب أمين الدين عبدالله بن الغنام، واستقر به نظر الدولة، عوضاً عن العلم بن فخر الدولة، وولي استيفاء الصحبة كريم الدين أخو تاج الدين المذكور. وجلس النشو في قاعة الصاحب بالقلعة، وضرب يعقوب مستوفي الجهات بالمقارع، وألزمه بمال كثير، وألزم جميع مباشري الدولة من الكتاب والشهود والشادين بحمل معالميهم المقررة لهم عن أربعة أشهر، واحتج عليهم بأنهم أهملوا مال السلطان، فاستعاد من الجميع جوامك أربعة أشهر وقطع عليق جميع الأمراء والدواوين وبعض الخاصكية، وطلب أرباب الأموال من أهل النواح وأوقع الحوطة على موجودهم، ولم يدع من يشار إليه بغني أو زراعة إلا وألزمه بمال. حتى مشى على والي المحلة، فإنه بلغه عنه أنه جمع مالاً كثيراً فعاقبه وأخذ منه ثلاثين ألف درهم. وكتب النشو لجميع الولاة بشراء الشعير، ودفع عنه ثلاثة دراهم الأردب، وعن الحمل التبن درهماً. فشكا الجند ذلك، فلم يلتفت السلطان إليهم.
وفيها استقر المخلص أخو النشو مباشر ديوان الأمير آنوك ابن السلطان، وخلع عليه تشريف من الخزانة بألف وستمائة درهم، وجهز له حمار بألف درهم، وعدته بخمسمائة درهم.
وفيها كانت وقعة بين ابن دلغادر نائب أبلستين وبين الروم، قتل فيها خمسمائة نفس، ونهب ابن دلغادر من أموال الروم شيئاً كثيراً رد منه بعدما اصطلحا نحو عشرين ألف رأس ما بين غنم وخيل وحمال.
وفيها كثرت مصادرة النشو للناس من أهل مصر والقاهرة والوجه القبلي والوجه البحري حتى خرج في ذلك عن الحد، وادغر الناس على اختلاف طبقاتهم.
وفيها استقر زين الدين عمر بن محمد بن عبد الحاكم البلقيائي في قضاء القضاة الشافعية بحلب، عوضاً عن فخر الدين عثمان بن علي بن عثمان المعروف بابن خطيب جبرين.
وفيها استقر شهاب الدين أحمد بن فخر الدين أحمد بن قطب الدين إسماعيل بن يحيى الأنصاري المصري في كتابه السر بحلب، عوضاً عن تاج الدين محمد بن الزين خضر.
وفيها حدثت زلزلة بطرابلس في رجب، هلك فيها ستون إنساناً.
وفيها انتهت زيادة النيل ستة عشر ذراعاً وعشر أصابع، فلم ترو الأراضي كلها، وغرق كثير منها، وتحسنت أسعار الغلال، وكانت سنة كثيرة الحوادث.
ومات فيها من الأعيانجمال الدين أحمد بن شرف الدين هبة الله بن المكين الإسنائي الفقيه الشافعي بإسنا وقد جاوز السبعين في شوال.
وتوفي الأديب أبو المعالي خضر بن إبراهيم بن عمر بن محمد بن يحيى الرفا الخفاجي المصري عن تسع وسبعين سنة.
وتوفي خطيب القدس زين الدين عبد الرحيم ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي.
وتوفي قاضي الشافعيه بحلب فخر الدين عثمان بن زين الدين علي بن عثمان المعروف بابن خطيب جبرين الفقيه الشافعي بالقاهرة في المحرم، وله مصنفات في الفقه والأصول.
وتوفي علاء الدين علي بن بلبان الفارسي الجندي الفقيه الحنفي بالقاهرة عن أربع وستين سنة.
ومات أمير علي بن أمير حاجب، كان والي مصر، وأحد أمراء العشرات، وكانت وفاته وهو معزول، وقد عني بجمع القصائد النبوية، حتى كمل عنده منها خمسة وسبعون مجلداً.
ومات الأمير سيف الدين بهادر المعزي أحد أمراء الألوف، في ليلة الجمعة تاسع شعبان، وبلغت تركته مائة ألف دينار، أخذها النشو.
ومات علم الدين عبدالله بن كريم الدين الكبير.
ومات ناظر الجيش بدمشق فخر الدين محمد بن بهاء الدين عبد الله بن نجم الدين أحمد بن علي المعروف بابن الحلي بالقدس، وكان قد قدم إليها، فولي عوضه نظر الجيش بدمشق جمال الدين سليمان بن ريان الحلبي .
وتوفي قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن محمد ابن عبد الكريم القزويني الشافعي بدمشق في يوم الأحد خامس عشر جمادى الآخرة، ومولده بالموصل في سنة ست وستين وستمائة.
ومات الحافظ علم الدين القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد البرزلي بخليص وهو محرم في رابع ذي الحجة، عن أربع وسبعين سنة.
ومات الأمير علم الدين بن هلال الدولة بقلعة شيزر بعدما ولي بالقاهرة شد الخاص وشد الأوقاف وشد المارستان وشد الدواوين، وصار يضاهي الوزراء.
ومات السعيد بن الكردوش، وأخذ له النشو بعد موته خمسة عشر ألف دينار.
ومات الأمير بدر الدين بيليك المحسني بطرابلس، بعدما كان والي القاهرة.
وتوفي المؤرخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن أبي بكر الجزري الدمشقي عن إحدى وثمانين سنة.
وتوفي بدر الدين محمد بن عز الدين محمد بن عبد القادر ابن الصائغ الأنصاري الدمشقي الشافعي.
سنة أربعين وسبعمائةفي يوم السبت مستهل المحرم: قدم رسول الأمير يوسف بن أتابك الكردي صاحب الجبال ووطاة نصيبين يخبر بكثرة جموعه من الأكراد وأنه رغب في الانتماء إلى السلطان وضرب السكة في بلاده باسمه، وطلب نجدته بعسكر يتسلم ما بيده من البلاد ليكون نائب السلطنة بها، وأن يشرف بصناجق سلطانية عليها اسم السلطان لتعينه في غاراته، فأحيب بالشكر، وجهزت له هدية وخيول وسلاح.
وفيه: قدم الخبر بكثرة الفتن والغارات والاختلاف ببلاد المشرق، من نحو الصين وبلاد الخطا إلى ديار بكر.
وفيه: قدم مبشرو الحاج برخاء الأسعار وسلامة الحاج.
وفي يوم الأحد ثانيه: قدم الأمير بشتاك من الحج، وطلع القلعة بعد الظهر في اثني عشر رجلاً منهم أربعة نجابة وصحبته الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتمر الحاجب. وكان السلطان والأمراء أجيبوا لنواب قد قدموا له عند سفره شيئاً يجل عن الوصف، فبعث السلطان له مائتي ألف درهم ومائة هجين وأربعين بختياً وستين جملاً. فلما قدم مكة فرق في الأمراء مالاً كثيراً، فبعث إلى كل من الأمراء المقدمين ألف دينار، وإلى كل من أمراء الطبلخاناه خمسمائة دينار، وفرق في الأجناد، وبعث إلى بيوت الأمراء بمال كثير، ثم استدعى المجاورين جميعهم والأشراف وغيرهم من أهل مكة والزيالعة، وفرق فيهم المال، و لم يبق بمكة أحد حتى أسدى إليه معروفاً، فكان جملة ما فرق بشتاك ثلاثين ألف دينار وأربعمائة ألف درهم، سوى ما وصل إليه في المراكب من الغلال. فلما قدم بشتاك المدينة النبوية بعد قضاء نسكه فعل بها خيراً كثيراً ومضى منها إلى الكرك فتلقاه الأمير شطى بن عبية أمير آل عقبة في أربعمائة فارس من عربه وأضافه، ثم سار بشتاك ومعه الأمير شطى ومن معه من العرب إلى العقبة وقدم إلى القاهرة ثاني المحرم كما تقدم.
وفي رابع عشريه: قدم ركب الحاج.
وفيه انقطع مقطع بالقناطر التي أنشأها السلطان على جسر شيبين، فركب إليه الأمير برسبغا الحاحب، وجمع له من النواحي أربعة ألاف رجل، واستدعى بالأخشاب والصواري من دار الصناعة بمصر، وغرق فيه عدة مراكب. فأقام برسبغا اثنين وعشرين يوماً حتى سد المقطع، وبلغ المصروف عليه في ثمن مراكب غرقت وثمن صواري وحجارة وجير وجبس وحلفاً وأجرة رجال ثلاثين ألف دينار، غير سخر البلاد.
وفيها قدم زين الدين عمر بن محمد بن عبد الحاكم البلفيائي قاضي حلب باستدعاء، فولى عوضه برهان الدين إبراهيم بن خليل بن إبراهيم الرسعني.
وفي هذا الشهر: وضعت الست طولو قرطقا زوجة الأمير يلبغا اليحياوي وأخت خوند زاد وزوجة السلطان، فعمل لها السلطان مهما عظيماً، أقامت الأفراح سبعة أيام بلياليها، ولم يبق أحد من الأمراء إلا وبعث بزوجته، ففرق السلطان في نساء الأمراء جميعهن ما بين خمسمائة دينار إلى أربعمائة دينار إلى ثلاثمائة الواحدة. وكان السلطان قد عمل للنفساء قبل ولادتها داير بيت وبشخاناه ونحو ذلك بعشرين ألف دينار، وعمل لها عصابة مرضعة بأنواع الجواهر قومت بخمسين ألف دينار، وأنعم على زوحها بثلاثة ألاف دينار.
وفي يوم الإثنين ثاني صفر: قبض على النشو، وعلى أخيه شرف الدين رزق الله، وعلى أخيه المخلص، ورفيقه مجد الدين، وعلى صهره ولي الدولة.
وسبب ذلك أنه لما أسرف النشو في الظلم بحيث قل الجالب للبضائع، وذهب أكثر أموال التجار لطرح الأصناف عليهم بأغلى الأثمان، وطلب السلطان منه يتزايد، خاف النشو العجز، فرجع عن ظلم العامة إلى التعرض إلى الخاصة، ورتب مع أصحابه ذلك. وكانت عادته في كل ليلة أن يجمع إخوته وصهره ومن يثق به للنظر فيما يحدثه من المظالم فيدله ظل منهم على آبدة، ثم يفترقون وقد أبرم للناس بلاء يعذبهم الله به من الغد على يده، فكان مما اقترحه أن رتب أوراقاً تشتمل على فصول يتحصل فيها ألف ألف دينار عيناً، وقرأها على السلطان: ومنها التقاوي السلطانية المخلدة بالنواحي من الدولة الظاهرية بيبرس والمنصورية قلاوون في إقطاعات الأمراء والأجناد، وجملتها مائة ألف وستون ألف أردب، سوى ما في بلاد السلطان من التقاوي ومنها الرزق الأحباسية على الجوامع والمساجد والزوايا وغير ذلك، وهي مائة ألف فدان وثلاثون آلف فدان وقرر النشو مع السلطان أن يأخذ التقاوي السلطانية المذكورة، بأن يلزم متولي كل إقليم باستخراجها وحملها، وأن يقيم شادا يختاره لكشف الرزق الأحباسية، فما كان منها على موضع عامر بذكر الله يعطه نصف ما هو وقف عليه، ويأخذ من مزارعه عن النصف الآخر بحساب مائة درهم الفدان، ويلزمه بخراج ثلاث سنين، وما كان من الرزق على موضع خراب أو على أهل الأرياف من الخطباء الجهال ونحوهم أخذ واستخرج من مزارعه خراج ثلاث سنين من حساب مائة درهم الفدان، ومنها أراضي الروضة تجاه مدينة مصر، فإنها بيد أولاد الملوك، ويستأجرها منهم الدواوين وينشئون بها سواقي الأقصاب ونحوها مما بلغ قيمة الفدان منه ألف درهم، ومنها ما باعه أولاد الملوك بأبخس الأثمان - وقرر النشو مع السلطان أخذ أراضي الروضة للخاص، وأن يقاس ما أبيع منها، ويؤخذ ممن هي بيده تفاوت قيمتها، أو تجدد عليه إجارة للسلطان بالقيمة، ومنها أرباب الرواتب السلطانية، فإن أكثرهم عبيد الدواوين وغلمانهم ونساؤهم، ويكتبونها باسم زيد وعمرو، ومنها ما هو مرتب لجماعة من النصارى والرهبان سكان الديارات - وقرر النشو مع السلطان عرض جميع أرباب الرواتب والنظر في تواقيعهم، وإبقاء أرباب البيوت ومن يستحق على ما بيده، وأخذ تواقيع من عداهم وإلزامه بحل جميع ما استأداه من تاريخ توقيعه إلى أخر وقت، ومنها ذكر حواصل الأمير أقبغا عبد الواحد، وتفصيل ماله من أملاك وأراضي ومتاجر ومرتبات ورسوم على أرباب الوظائف السلطانية وعلى صناع العمائر، وتفصيل ما حمل إليه من العمائر السلطانية من الأصناف - وذكر النشو العمائر التي عمرها أقبغا من ديوان السلطان وما له لبلاد الشام، وجملتها وحدها خمسمائة ألف دينار، سوى ما له بديار مصر، ومنها ذكر ما أخذه الأمير طاجار الدوادار من البلاد الشامية ومن أهل مصر على قضاء أشغالهم، وتفصيل أملاكه. وقرر النشو مع السلطان القبض على آقبغا وطاجار، فوافقه السلطان على ذلك.
وكان أول ما بدأ به النشو أن ندب جماعة لقياس الروضة جميعها من مذدرعها وأراضي دورها، وألزم أرباب الدور التي بها بإحضار كتب دورهم، وأن يقوموا عن أراضيها بقيمتها من تاريخ شرائها، ووكل ابن صابر باستخراج ذلك منهم، وأخذ عن البروز في الدور خاصة مائة ألف وعشرين ألف درهم.
وأمر النشو مباشري الجوالي بقطع ما عليها من المرتبات عن جوامك القضاة والشهود ومشايخ العلم ونحوهم وكتب إلى جميع الأعمال يحمل مال الجوالي إلى خزانة الخاص، ومن تعجل منها شيا يستعاد منه، فجمع من ذلك مالاً كبيراً. فانزعج الناس كلهم، ولم يتجاسرأحد من الأمراء على السلطان في الحديث معه في ذلك، حتى ذكر السلطان لهم أن له نحو آلف أردب غلة في البلاد وأنه يريد أخذها، فتلطف به الحاج آل ملك وبيبرس الأحمدي وجنكلي بن البابا حتى سمح بأن يتمهل بطلبها حتم يفرغ الحرث ويقبض المغل.
فلما فرغ النشو من قياس الروضة ألزم أرباب الرواتب أن يحضروا إلى القلعة ومعهم تواقيعهم، وألزم المباشرين بعمل الحساب وحمل ما تحت أيدهم من ذلك، وألزم جميع أرباب الرزق الأحباسية بإحضار تواقيعهم، وبعث البريد إلى الأعمال بذلك، وألزم ديوان الأحباس بكتابة الرزق كلها، فزلزل أرض مصر قبليهما وبحريها، و لم يقبل لأحد شفاعة حتى الأميرين بشتاك وقوصون، فإنهما كانا إذا بعثا إليه في شفاعة رد عليهما رداً جافياً وأغلظ على رسلهما.
فاتفق الخاصكية جميعاً عليه، وندبوا للحديث مع السلطان الأمير يلبغا اليحياوي والأمير ملكتمر الحجازي وغيرهما، فصار كل منهم يسمع السلطان قبح سيرة النشو وهو يتغافل، إلى أن حدثه يلبغا وهو يومئذ أخص الخاصكية عنده، وقال عنه: " يا خوند والله النشو يضرك أكثر ما ينفعك فتخيل السلطان من كلامه.
واتفق وصول الأمير قرمجي الحاجب من دمشق، فأعاده السلطان سريعاً ليستشير الأمير تنكز نائب الشام في أمر النشو، وأنه قد بعضه أهل الدولة كلهم، مع كثرة نفعه لي ثم وجد السلطان عدة أوراق في حق النشو قد رميت له من غير أن يعرف رافعها، منها رقعة فيها:
أيا ملكا أصبح في نشوة ... من نشوة الظالم في نشيه
أنشيته فلتنشئن ضغائنا ... سترى غباوتها بصحبة غيه
حكمته فحكمت أمراً فاسداً ... وتوحشت كل القلوب لفحشه
سترى بوارقها إذا ما أظلمت ... وتحكمت أيدي الزمان ببطشه
ودستندمن ندامة كسعية ... يوما إذا ذبح الخروف بكبشه
فلما قرأها السلطان تغير لونه ومزقها. ووجد السلطان ورقة أخرى فيها.
أمعنت في الظلم وأكثرته ... وزدت يا نشو على العالم
ترى من الظالم فيكم لنا ... فلعنة الله على الظالم
وعن قريب عاد قرمجي في سادس عشرى المحرم، وأخبر عن نائب الشام بأنه قد استفيض ما ذكره السلطان من بغض مماليكه للنشو، وأن التجار وأرباب الأموال في خوف شديد من ظلمه، ورأى السلطان فيه أعلى. وكان يوم وصوله بالقلعة منظراً مهولاً، فإنه اجتمع بها أرباب الرواتب والصدقات، وفيهم الأرامل والأيتام والزمناء والعميان، وصاروا في بكاء ونحيب، فتقطعت القلوب حسرات رحمة لهم. وشغل الله النشو عنهم بنفسه، فحد له قولنج وهو بخزانة الخاص.
فأمر السلطالن الناس أن ينصرفوا ويحضروا أول الشهر، ومن تأخر شطب على اسمه. فنزل بعد الظهر من القلعة، وتفرقوا تلك الليلة بالجوامع في القاهرة ومصر، وهي ليلة سابع عشرى المحرم، للدعاء بسبب توقف النيل عن الزيادة، فإنه كان قد توقف توقفاً زائداً فلما قرب الوفاء نقص واستمر على نقصه أياماً، فصرفوا دعاءهم على النشو طول ليلتهم، وكانوا جموعاً كثيرة إلى الغاية. فأصبح النشو مريضاً، وانقطع بداره حتى فرغ المحرم، فحذره الفاضل شمس الدين محمد بن الأكفاني مع قطع مخوف في أول صفر، يخشى منه إراقة دمه.
فلما كان يوم الأحد أول صفر: ركب النشو إلى القلعة، وبه أثر المرض في وجهه، فقرر مع ا!سلطان إيقاع الحوطة على أقبغا عبد الواحد من الغد. فتقرر الحال على أنه يجلس على باب الخزانة، فإذا خرج الأمير بشتاك من الخدمة جلس معه على باب الخزانة ثم قاما إلى بيت آقبغا وحاطا بموجوده كله.
فلما عاد النشو إلى داره عبر إلى الحمام ليلة الإثنين، ومعه ابن الأكفان فأمر بعض عبيده السود أن يحلق رأسه ويجرحه بحيث يسيل الدم على جسمه، ليكون ذلك حظه من القطع المخوف، ففعل به ذلك، وتباشروا بما دفع الله عنهم بهذا، وباتوا ليلتهم في لذات ومسرات.
هذا وقد كان الأمير يلبغا اليحياوي قد وعك جسمه، فقلق السلطان لمرضه، وأقام عنده لكثرة شغفه به. فقال له يلبغا فيما قال: " يا خوند قد عظم إحسانك لي ووجب نصحك علي والمصلحة القبض على النشو، وإلا دخل عليك الدخيل، فإنه ما عندك أحد من مماليكك إلا وهو يترقب غفلة منك، وقد عرفتك ونصحتك قبل أن أموت، وبكى. فبكى السلطان لبكائه، وقام وهو لا يعقل لكثرة ما داخله من الوهم لثقته بيليغا وطلب بشتاك وعرفه أن الناس قد كرهوا النشو، وأنه عزم على الإيقاع به، فخاف بشتاك أن يكون ذلك امتحاناً من السلطان، فوجد عزمه قوياً في القبض. واقتضى الحال إحضار الأمير قوصون أيضاً، فقوي عزم السلطان على ذلك، ومازال به حتى قرر معهما أخذه.
وأصبح النشو يوم الإثنين ثاني صفر وفي ذهنه أن القطع الذي خوف منه قد زال عنه بما دبره له ابن الأكفاني من إسالة الدم، فعلق عليه عدة من العقود والطلسمات والحروز، وركب إلى القلعة. وجلس النشو بين يدي السلطان على عادته وأخذ معه في القبص على أقبغا عبد الواحد كما قرره، فأمره السلطان أن يجلس على باب خزانة القصر حتى يخرج إليه الأمير بشتاك، ثم يمضيا لإيقاع الحوطة على موجوده، فقام. وطلب السلطان المقدم ابن صابر، وأسر إليه أن يقف بجماعته على باب القلعة وباب القرافة، ولا يدعوا أحداً من حواشي النشو وأقاربه وإخوته أن ينزلوا، وأن يقبضوا عليهم كلهم. وأمر السلطان الأمير بشتاك والأمير برسبغا الحاجب أن يمضيا إلى النشو، ويقبضا عليه وعلى أقاربه. فخرج بشتاك وجلس على باب الخزانة، وطلب النشو من داخلها، فظن النشو أنه جاء لميعاده مع السلطان حتى يحتاطا على موجود أقبغا عبد الواحد، فساعة ما وقع بصره عليه أمر مماليكه بأخذه إلى بيته من القلعة، وبعث إلى الأمير ملكتمر الحجازي فأخذ أخاه رزق الله وأخذ أخاه المخلص وسائر أقاربه. فطار الخبر إلى القاهرة ومصر، فخرج الناس كأنهم جراد منتشر.
وركب الأمير آقبغا عبد الواحد والأمير طيبغا المجدي والأمير بيغرا والأمير برسبغا لإيقاع الحوطة على بيوت النشو وأقاربه وحواشيه، ومعهم جمال الكفاة كاتب الأمير بشتاك، وشهود الخزانة.
وأخذ السلطان للأمراء: وكم تقولون النشو نهب أموال الناس الساعة ننظر المال الذي عنده، وكان السلطان يظن أنه يؤديه الأمانة، وأنه لا مال له. فندم الأمراء على تحسينهم مسك النشو خوفاً من أن لا يظهر له مال، سيما قوصون وبشتاك من أجل أنهما كانا قد بالغا في الحط عليه وإغراء السلطان به، فكثر قلقهما ولم يأكلا طعاماً، وبعثا في الكشف عن الخبر. فلما أوقع الأمراء الحوطة على دور الممسوكين بلغهم أن حريم النشو في بستان بجزيرة الفيل، فساروا إليه وهجموه، فوجدوا ستين جارية وأم النشو وامرأته وأخته وولديه وسائر أهله، وعندهم مائتا جنبة عنب وقند كثير ومعاصر، وهم في عصر العنب. فختموا على الدور والحواصل، ولم يتهيأ لهم نقل شيء منها.
هذا وقد غلقت أسواق القاهرة ومصر، واجتمع الناس بالرميلة تحت القلعة ومعهم النساء والأطفال، وقد أشعلوا الشموع، ورفمعوا على رءوسهم المصاحف ونشروا الأعلام، وهم يضجون ويصيحولن استبشاراً وفرحاً بقبض النشو، والأمراء تشير لهم أن يكثروا مما هم فيه، واستمروا ليلة الثلاثاء على ذلك.
فلما أصبحوا وقع الصوت داخل باب القلة من القلعة بأن رزق الله أخو النشو قد ذبح نفسه. وذلك أنه لما قبض عليه تسلمه الأمير قوصون، ووكل به أمير شكار، فسجنه أمير شكار في بعض خزائن بيته، وبات يحرسه حتى طلع الفجر، ثم قام أمير شكار للصلاة.
فاستغفله رزق الله وأخذ من حياصته سكيناً ووضعها في نحره حتى نفذت منه وقطعت وريده، فلم يشعر أمير شكار إلا وهو يشخر وقد تلف. فصاح أمير شكار حتى بلغ صياحه قوصون، فانزعج لذلك وضرب أمير شكار ضرباً مبرحاً إلى أن علم السلطان بالخبر، فلم يكترث به.
وفي يوم الإثنين: المذكور أفرج عن الصاحب شمس الدين موسى بن التاج إسحاق وأخيه، ونزلا من القلعة إلى الجامع الجديد خارج مصر، فقال الكمال جعفر الأدفوي في يوم الإثنين هذا، وفي معنى مسك النشو وغيره هذه الأبيات:
إن يوم الإثنين يوم سعيد ... فيه لاشك البرية عيد
أخذ الله فيه فرعون جهراً ... وغدا النيل في رباه يزيد
وقال شمس الدين محمد بن الصائغ المصري في معنى مسك النشو والإفراج عن شمس الدين موسى وزيادة النيل، هذه الأبيات:
لقد ظهرت في يوم الإثنين آية ... أزالت بنعماها عن العالم البوسا
تزايد بحر النيل فيه وأغرقت ... به آل فرعون وفيه نجا موسى
وفيه زاد النيل بعد توقفه، فقال في ذلك علاء الدين بن فضل الله كاتب السر:
في يوم الإثنين ثاني الشهر من صفر ... نادى البشير إلى أن أسمع الفلكا
يا أهل مصر نجا موسى ونيلكم ... طغا وفرعون وهو النشو قد هلكا
وذلك أنه كان قد نقص، فلما قبض على النشو زاد ستة أصابع ثم ثمانية أصابع.
وفي يوم الثلاثاء ثالث صفر: نودي بالقاهرة ومصر: بيعوا واشتروا واحمدوا الله على خلاصكم من النشو.
وفيه أخرج رزق الله أخو النشو في هيئة تابوت امرأة حتى دفن في مقابر النصارى خوفاً عليه من العامة.
وفيه أدخل الأمير بشتاك على السلطان وطلب الإعفاء من تسليم النشو إليه، خشية مما جرى على أخيه. فأمره السلطان أن يهدده على إخراج المال، ثم يسلمه لابن صابر. فأوقفه بشتاك وأهانه. فالتزم أنه إن أفرج عنه جمع للسلطان من أقاربه خزانة مال، فسبه ثم سلمه لابن صابر. فأخذه ابن صابر ليمضي به إلى قاعة الصاحب، فتكاثرت العامة تؤيد رجمه حتى طردهم نقيب الجيش وأخرجه ابن صابر في زنجير بعنقه حتى أدخله قاعة الصاحب، والعامة تحمل عليه حملة بعد حملة، والنقباء تطردهم.
وفيه طلب السلطان جمال الكفاة إبراهيم كاتب الأمير بشتاك، وخلع عليه واستقر في نظر الخاص عوضاً عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله المعروف بالنشو، بعد تمنعه. ورسم له أن ينزل للحوطة على النشو وأقاربه، ومعه الأمير آقبغا والأمير برسبغا وشهود الخزانة. فنزل جمال الكفاة بتشريفة وركب بغلة النشو، حتى أخرج حواصله. وقد أغلق الناس الأسواق وتجمعوا من كل موصع، ومعهم الطبول والشموع وأنواع الملاهي وأرباب الخيال، بحيث لم يوجد حانوت مفتوح نهارهم كله. ثم ساروا مع الأمراء على حالهم إلى تحت القلعة، وصاحوا صيحة حتى انزعج السلطان، وأمر الأمير أيدغمش بطردهم.
ودخل الأمراء على السلطان بما وجدوه للنشو، وهو من العين خمسة عشر ألف دينار مصرية، والفان وخمسمائة حبة لؤلؤ قيمة كل حبة ما بين ألفي درهم إلى ألف درهم، وسبعون فص بلخش قيمة كل فص ما بين خمسة ألاف درهم إلى ألفين، وقطعتان زمرد فاخر زنتهما رطل ونيف، وستون حبلاً من لؤلؤ كبار زنة ذلك أربعمائة مثقال، ومائة وسبعون خاتم ذهب وفضة بفصوص مثمنة، وكف مريم مرصع بجوهر، وصليب ذهب مرصع، وعدة قطع زركش سوى حواصل لم تفتح. فخجل السلطان لما رأى ذلك، وقال للأمراء: لعن الله القبط ومن يأمنهم أو يصدقهم.
وذلك أن النشو كان يظهر الفاقة بحيث يقترض الخمسين درهماً والثلاثين درهماً حتى ينفقها. وبعث في بعض الليالي إلى جمال الدين إبراهيم بن المغربي رئيس الأطباء يطلب منه مائة درهم، ويذكر له أنه طرقه ضيف ولم يجد ما يعشيه به.
وقصد بذلك أن يكون له شاهداً بما يدعيه من الفقر. فلما كان في بعض الأيام شكا النشو للسلطان الفاقة وابن المغربي حاضر، فذكر أنه اقترص منه في ليلة كذا مائة درهم، فمشى ذلك على السلطان، وتقرر في ذهنه أنه فقير لا مال له، وصار السلطان يذكر ذلك كل قليل للأمراء.
واستمر الأمراء ينزلون كل يوم لإخراج حواصل النشو، فوجد له من الأواني الصيني والبلور والتحف السنية شيء كثير.
وفيه ولي الموفق نظر البيوت.
وفيه ولي المجد بن المعتمد ديوان الأمير ملكتمر الحجازي.
وفي يوم الخميس خامسه: زينت القاهرة ومصر زينة عظيمة مدة سبعة أيام، وعملت بها أفراح كثيرة، ونظم فيه العامة عدة أزجال وبلاليق وأظهروا من الخيال واللهو ما يجل وصفه.
ووجدت مآكل كثيرة في حواصل النشو: منها نحو مائتي مطر مملوءة ملوحة وثمانين مطر جبن، وأحمال كثيرة من سواقة الشام، ولحم كثير من لحم الخنزير، وأربعة ألاف جرة خمر، سوى ما نهب. ووجد له أربعمائة بدلة قماش جدد، وثمانون بدلة مستعملة، وزراكش ومفرجات كثيرة. ووجد له ستون بغلطاق نسائي مزركش، ومناديل زركش عدة كثيرة. ووجد له عدة صناديق بها قماش سكندري مما عمل برسم الحرة جهة ملك المغرب قد اختلسه، وكثير من قماش الأمراء الذين ماتوا والذين قبض عليهم. ووجد له مملوك تركي وكان النشو قد خصاه هو واثنين معه ماتا، وكان قد خصى أيضاً أربعة عبيد فماتوا. فطلب الذي خصاهم، وضرب بالمقارع وجرس. وتتبعت أصحاب النشو، وضرب منهم جماعة وشهروا.
وفي يوم الإثنين تاسعه: خلع على نجم الدين أيوب الكردي أستادار الأكز وهو يومئذ والي الشرقية، واستقر والي القاهرة عوضاً عن علاء الدين علي بن المروان وأحيط بموجود ابن المرواني وصودر.
وفيه خلع أيضاً على عز الدين ممدود بن علاء الدين علي بن الكوران واستقر في ولاية مصر.
وفيه خرج البريد بطلب الصاحب أمين الدين وزير الشام من دمشق.
وفيه وجد لأخوة النشو ذخائر نفيسة: منها لصهره ولي الدولة صندوق فيه مائة وسبعون فص بلخش، وستة وثلاثون مرملة مكلة بالجواهر الرائعة، وإحدى عشر عنبرية مكللة بلؤلؤ كبار، وعشرون طراز زركش، وغير ذلك ما بين لؤلؤ منظوم وزمرد وكوافي زركش، قوم الجميع بأربعة وعشرين ألف دينار.
وفيه ضرب المخلص اخو النشو ومفلح عبده بالمقارع، فأظهر المخلص الإسلام.
وفي يوم الأربعاء رابعه وثالث عشرى مسرى: وفي وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليج من الغد على العادة.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره: قدم أمين الدين من دمشق على البريد وطلع إلى بين يدي السلطان من الغد. وأجلسه السلطان وحادثه، وخلع عليه خلعة الوزارة، بطرحة خبعة القدوم، فنزل أمين الدين إلى داره، وتردد الناس إليه.
وفيه أفرج عن الصفي كاتب الأمير قوصون، وأعيدوا إلى ديوان قوصون عوضاً عن علاء الدين ابن الحراني.
وفيه خلع على ابن الحران واستقر في نظر الشام، عوضاً عن أمين الدين.
وفي هذه السنة: لم يركب السلطان إلى الميدان للعب الأكرة، فإن الأمراء لما تأخرت عقوبة النشو تنكروا السلطان وتنكر لهم.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشرى ربيع الأول: وجدت ورقة بين فرش السلطان، فيها: المملوك بيرم الناصح للسلطان يقبل الأرض، وينهى أنني أكلت رزقك، وأنت قوام المسلمين، ويجب على كل أحد نصحك، وأن بشتاك وآقبغا قد اتفقا على قتلك مع جماعة من المماليك، فاحترس على نفسك.
وكان الأمير بشتاك في هذا اليوم قد توجه بكرة النهار إلى جهة الصعيد، فطلب السلطان الأمير قوصون والأمير آقبغا، وأوقفهما على الورقة فكان عقل آقبغا ان يختلط من شدة الرعب، وأخذ قوصون يعرف السلطان أن هذا فعل من يريد التشويش على السلطان وتغيير خاطره على مماليكه. فأخرج السلطان البريد في الحال لرد الأمير بشتاك، فأدركه بإطفيح وقد مد سماطه، فقام ولم يمد يده إلى شيء منه، وجد في سيره حتى دخل على السلطان. فأوقفه السلطان على الورقة، فتنصل مما رمي به كما تنصل آقبعا، واستسلم وقال: هذه نفسي ومالي بين يدي السلطان وإنما حمل من رماني بذلك الحسد على قربي من السلطان وعظيمم إحسانه إلي، ونحو هذا حتى رق له السلطان، وأمره أن يعود إلى طلبه ويتوجه إلى جهة قصده، فسار.
ثم طلب السلطان ديوان الجيش، ورسم له أن يكتب كل من اسمه بيرم ويحضره إلى الأمير آقبغا. فارتجت القلعة والقاهرة لطلب المذكورين وعرضهم وتهديدهم وأخذ خطوطهم، ليقابل بها كتابة الورقة. فلما أعيا آقبغا الظفر بالغريم وهو يراجع السلطان في أمرهم، اتهم النشو أنها من مكايده. واشتد قلق السلطان وكثر انزعاجه، بحيث لم يستطع أن يقر بمكان واحد.
ثم طلب السلطان والي القاهرة لالا، وأمره أن يهدم ما بالقاهرة من حوانيت صناع النشاب، وينادي: من عمل نشاباً شنق، فامتثل ذلك. وخرجت أيضاً جميع مرامي النشاب، وغلقت حوانيت القواسين. ونزل الأمير برسبغا الحاجب إلى الأمراء جميعهم، وعرفهم عن السلطان أن من رمي بالنشاب من مماليكهم أو حمل قوساً كان أستاذه عوضاً عنه في التلاف، وألا يركب احد من الأمراء بسلاح ولا تركاش نشاب.
وبينا الناس في هذا الهول الشديد، إذ دخل شخص يعرف بابن الأزرق كان أبوه ممن مات في عقوبة النشو له عند مصادرته لجمال الكفاة - وطلب الورقة ليعرفهم من كتبها. فقام والي القاهرة، إلى السلطان ومعه الرجل، فلما وقف عليها قال: يا خوند هذه خط محمد الخطاب وهو رجل عند ولي الدولة صهر النشو، يلعب معه النرد ويعاقره الخمر فطلب المذكور، وحاققه الرجل محاققة طويلة، فلم يعترف، فعوقب عقوبات مؤلمة إلى أن أقر بأن ولي الدولة أمره بكتابتها، فجمع بينه وبين ولي الدولة، فأنكر ذلك. وطلب ولي الدولة أن يرى الورقة، فلما رأها حلف جهد أيمانه أنها خط ابن الأزرق لينال عرضه من أجل أن النشو قتل أباه، وحاققه على ذلك. فاقتضى الحال عقوبة ابن الأزرق، فاعترف أنها كتابته، وأنه أراد أن يأخذ بثأر أبيه من النشو وأهله. فعفا السلطان عن ابن الأزرق، وأمر بحبس الخطابي.
ورسم السلطان لبرسبغا الحاجب وابن صابر المقدم أن يعاقبا النشو وأهله حتى يموتوا وأذن للأجناد في حمل النشاب في السفر لا غيره.
ويقال إن سبب عقوبة النشو أن أمراء المشورة تحدثوا مع السلطان في يوم الخميس رابع عشريه في أمر النشو، فابتدأ الأمير علم الدين سنجر الجاولي وقبل الأرض وقال: حاشا مولانا السلطان من شغل الخاطر وضيق الصدر فقال السلطان: يا أمراء، هؤلاء مماليكي أنشأتهم وأعطيتهم العطاء الجزيل، وقد بلغني عنهم ما لا يليق.
فقال الجاولي: حاشا لله أن يبدو من مماليك السلطان شيء من هذا غير أن علم مولانا السلطان محيط بأن ملك الخلفاء ما زال إلا بسبب الكتاب، وغالب السلاطين ما دخل عليهم الدخيل إلا من جهة الوزراء. ومولانا السلطان ما يحتاج في هذا إلى أن يعرفه أحد بما جرى لهم، ومن المصلحة قتل هذا الكلب وإراحة الناس منه، فوافقه الجميع على ذلك. فضرب في هذا اليوم المخلص أخو النشو بالمقارع مع ليلة الجمعة حتى هلك يوم الجمعة العصر، ودفن بمقابر اليهود، ثم ماتت أمه عقيبه.
وقتل بعدها ولي الدولة عامل المتجر ورمي إلى الكلاب.
هذا والعقوبة تتنوع للنشو حتى هلك في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، فوجد بغير ختان. وكتب به محضر، ودفن في مقابر اليهود بكفن قيمته أربعة دراهم، ووكل بقبره من يحرسه مدة أسبوع خوفاً من العامة أن تخرجه وتحرقه. فكانت مدة ولايته وجوره سبع سنين وسبعة أشهر.
ثم أحضر ولي الدولة صهر النشو ليعاقب، وهو بخلاف ولي الدولة عامل المتجر الذي تقدم، فدل على ذخائر للنشو ما بين ذهب وأواني في صندوق كبير. وطلبت جماعة بسبب ودائع اتهموا بها عندهم للنشو، وشمل الضرر غير واحد منهم.
وكان موجود النشو سوى الصندوق المذكور شيئاً كثيراً وعمل لمبيعه تسع وعشرون حلقة، أخرها حلقة لا يوجد لها مثل، إذ بلغت خمساً وسبعين ألف درهم، فكان جملة ما أخذ منه سوى الصندوق نحو مائتي ألف دينار. ووجد لولي الدولة عامل المتجر ما قيمته خمسون ألف دينار، ولولي الدولة صهر النشو زيادة على ثمانين ألف دينار وبيعت للنشو دور بمائة ألف درهم ثم ركب الأمير آقبغا إلى دور أل النشو بالمصاصة من مصر ومعه الأسر وخربها كلها حتى سوى بها الأرض، وحرثها بالمحاريث في طلب الخبايا، وحملت أنقاضها ورخامها، فلم يوجد بها من الخبايا إلا القليل.
وفي ثالث عشره: أفرج عن القاضي شهاب الدين أحمد بن يحيي بن فضل الله العمري من سجنه بقلعة الجبل، بعدما أقام مسجوناً سبعة أشهر وثمانية عشر يوماً.
وسبب الإفراج عنه أنه كان في السجن كاتب قد سجن على تزوير خط السلطان وكان قد قبض عليه في أيام مباشرة شهاب الدين لوظيفة كاتب السر، ورسم السلطان بقطع يده، فمازال شهاب الدين يتلطف في أمره حتى عفي من قطع يده وسجن.
فاتفق في هذا الوقت أنه رفع قصة ينهي فيها توبته، ويسأل العفو عنه، فلم يتذكر السلطان شيئاً من خبره، فقيل له إن شهاب الدين يعرف خبره، فبعث إليه في ذلك وطالعه بأمره، فأفرج عن الكاتب وعن شهاب الدين، ونزل شهاب الدين إلى داره.
وفيه خلع على الأمير عز الدين أيدمر الزراق، واستقر في ولاية ثغر الإسكندرية عوضاً عن بيبرس الجمدار الركني.
وفيه توجه جمال الكفاة ناظر الخاص، والأمير نجم الدين وزير بغداد، والأمير بيغرا، والأمير طيبغا المجدي لإيقاع الحوطة على موجوده. وذلك أن ابن الصاوي شاد معدن الزمرد رفع فيه أن يربح في سنة من صنف الخمر وحده ثلاثين ألف دينار، وأن له بالإسكندرية عقاراً كثيراً من جملته ثلاثون بستاناً أقلها بألف دينار. فوجد أكثر ما قيل عنه صحيح، فحمل إلى القاهرة، وتعصب له عدة من الأمراء حتى تقرر عليه حمل عشرين ألف دينار، فحملها وأفرج عنه.
وفيه نودي بالقاهرة أن يكون صرف الدينار بخمسة وعشرين درهماً بعدما كان بعشرين درهماً وسبب ذلك أن جمال الكفاة ناظر الخاص عمل أوراقاً بما على السلطان للتجار، فكان مبلغ ألف ألف دينار. فأجاب السلطان بأن النشو ذكر أنه وفى التجار ما لهم، وقصد ألا يعطهم شيئاً، فأشار عليه جمال الكفاة بوفاء جماعة منهم، وأن يحسب عليهم الدينار بخمسة وعشرين درهماً وما عدا هذه الجماعة لا يدفع لهم شيء، فتوقفت أحوال الناس لزيادة سعر الذهب. ولما نزل جمال الكفاة إلى دار القند بمصر ابتهج الناس به، فطرح السكر بأقل مما كان يطرحه النشو على السكريين بعشرة دراهم القنطار.
ووقع ببلاد البحيرة والغربية مطر عظيم فيه برد كبار، تلف به عدة مزارع وكثير من الأغنام، وهبت مع ذلك رياح عاصفة ألقت النخل.
وفيها فرغت مدرسة الأمير آقبغا عبد الواحد، بجوار الجامع الأزهر. وبلي الناس في عمارتها ببلايا كثيرة: منها أن الصناع كان قد قرر عليهم آقبغا أن يعملوا بهذه المدرسة يوماً في الأسبوع بغير أجرة، فكانوا يتناوبون بها العمل سخرة، ومنها أنه حمل لها الأصناف من الناس ومن العمائر السلطانية، فكانت ما بين غضب وسرقة. ومع ذلك فإنه ما نزلها قط إلا وضرب وفيها من الصناع عدة ضرباً ومؤلماً فيصير ذلك الضرب زيادة على شدة عسف مملوكه الذي أقامه شادا بها. فلما تمت جمع بها القضاة والفقهاء، ولم يول بها أحداً، وكان الشريف المحتسب قد عمل لها بسطا بنحو ستة آلاف درهم، على أن يلي تدريسها، فلم يتم له ذلك.
وفيه قدم رسول الشيخ حسن بن الأمير حسين بن آقبغا بن أيدكين سبط القان أرغون أبغا بن هولاكو بن طولي بن جنكزخان متولي العراق، بكتابه يتضمن طلب عسكر يتسلم بغداد والموصل وعراق العجم ليقام بها الدعوة للسلطان، وسأل أن يبعث السلطان إلى طغاي بن سونتاي في الصلح بينه وبين الشيخ حسن فأجيب إلى ذلك، ووعد بتجهيز العسكر. وركب أمير أحمد قريب السلطان إلى طغاي ومعه هدية لينظم الصلح بينه وبين الشيخ حسن.
وفيه فرغت عمارة الخان الذي أنشأه الأمير طاجار الدوادار بجينين من طريق الشام، وعمل به حوض ماء للسبيل يجري إليه الماء، وعمل به حماماً وعدة حوانيت يباع بها ما يحتاج إليه المسافر، فكثر النفع به.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرى ربيع الآخر: ركب السلطان إلى قصوره بسرياقوس ومضى إلى خانكاته، وقد تقدمه إليها الشيخ شمس الدين محمد الأصفهاني والقوام الكرماني وجماعة من صوفية سعيد السعداء. فوقف السلطان على الباب بفرسه، وخرج إليه جميع صوفيتها، ووقفوا بين يديه، فسألهم من يختاروه شيخاً لهم بعد وفاة الشيخ مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي فلم يعينوا أحداً. فولى السلطان مشيخة الشيوخ بها الركن الملطى خادم المجد الأقصرائي.
وفيها قدم الخبر بأن أرتنا لم يقم الخطبة ببلاد الروم للسلطان ولا ضرب السكة، فكتب بالغارة على أطراف بلاده. فقدم رسوله بهدية فيها خركاة كسوتها من داخلها، ومن خارجها حرير أطلس، ودايرها فرو سمور، وبسطها حرير قومت بثلاثين ألف درهم، ومعها ثلاثون إكديشاً، وأربعة سناقر، وعشرة بزاة وعشرة صقور، وستون تفصيلة حرير، ومع ذلك كتاب يتضمن الشكوى من غارة التركمان على أطراف بلاده. فأجيب بأن ذلك بسبب أنه لم يقم الخطبة ولا ضرب السكة باسم السلطان في بلاده، كما أخبر به.
وفيها انقطع السلطان عن الخروج إلى دار العدل نحو عشرين يوماً، لشغل خاطره بمرض الأمير يلبغا اليحياوي وملازمته له.
وفيها ادعى صلاح الدين يوسف بن المغربي الحكيم على أولاد الملوك بمبلغ عشرة آلاف درهم عند قاضي القضاة حسام الدين الغوري تعجلوها منه عن أرض بروضة مصر. وكان النشو قد أخذها منهم وأدخلها في ديوان الخاص، فوجب حقه على أولاد الملوك فلم يوافق القاضي على سجنهم وجرت بينه وبين ابن المغربي مفاوضة جرى فيها على عادته من السفه، فلم يرخص له ابن المغربي. وآل الأمر إلى أن خرج الغوري من المدرسة الصالحية ماشياً، وجمع الحنفية ليطلعوا إلى السلطان ويشكوا من ابن المغربي. ومشى الغوري بالشارع وبيده عكاز وكان يوماً مطيراً - والعامة تنظر به وبجماعته، وقد سبقه ابن المغربي وشكاه إلى السلطان. فبعثت السلطان إليه الأمير طاجار، فوجده قد طلع إلى القلعة ماشياً ليمين حلف بها، فبلغه طاجار الرسالة، وأراده أن يرجع، فأبى أن ينصرف حتى يجتمع بالسلطان. فلم يمكنه السلطان من ذلك، وواعده إلى دار العدل، فلما لم يجد سبيلاً إلى الاجتماع به عاد، وطلع يوم الخدمة إلى دار العدل. واستدعى السلطان أولاد الملوك، وادعى عليهم ابن المغربي فألزمهم بالمال، وتسلمهم برسبغا الحاجب، حتى أدوه لابن المغربي بعد إخراق وإهانة بالغة.
وفيه عمل سماط جليل بالميدان لعافية الأمير يلبغا اليحياوي فيه من الأطعمة والأشربة والحلاوات ومشروب السكر ما يجل وصفه. واستدعى السلطان لحضوره جميع صوفية الخوانك والزوايا وأهل الخير وسائر الطوائف، وأخرج من الخزانة السلطانية ثلاثين ألف درهم أفرج بها عن المسجونين على دين، وأخرج للأمير يلبغا ثلاث حجورة بمائة ألف درهم، وحياصة ذهب مرصعة بالجواهر، وأفرج عن شعبان قريب ألماس.
وفيه خلع على الأمير علاء الدين علي بن الكوراني والي الغربية، واستقر كاشف الوجه القبلي عوضاً عن أخي ظلظيه، لشكوى الجند منه.
واستقر أسندمر مملوك القنجقي في ولاية الغربية عوضاً عن ابن الكوراني، بتعيين الأمير برسبغا الحاجب.
وفيها جهزت التعابي من الخزانة لنائب الشام ونائب حلب ونائب حماة ونائب طرابلس، على العادة في كل سنة. ورسم بتجهيز تعبئة للأمير ألطنبغا نائب غزة وأنعم عليه من مال دمشق بخمسين ألف درهم وألف درهم وألف غرارة من غلة وحمل إليه ألف دينار وتعبئة قماش وتشريف كامل.
وفيها خلع على الأمير نكبيه البريدي متولي قطيا، واستقر في ولاية الإسكندرية عوضاً عن الزراق لاستعفائه منها.
وفيه قدم أمير أحمد من بلاد الشرق، وقد عقد الصلح بين طغاي بن سونتاي وبين الشيخ حسن الكبير.
وفيها طلبت النساء المغاني وصودرن ما بين ثلاثة ألاف درهم و ألف درهبم الواحدة، وسجن بالحجرة أياماً حتى تاب بعضهن عن الغناء، وتزوج بقيتهن. وسبب ذلك أن الأمير آنوك بن السلطان كان يركب إلى جهة بركة الحبش، وعمر له بها حوشاً لطيوره وموضعاً يتنزه به، وأحضر إليه مغنية تعرف بالزهرة، فشغف بها حتى بلغ السلطان ذلك. فأسر السلطان للأمير آقبغا عبد الواحد أن يلزم شاد المغاني والضامنة بالإنكار على المغاني حضورهن مجالس الخمر وإقامة الفتن، وإلزامهن بمال يقمن به عقوبة لهن على ذلك، وأكد عليه في أن يكون ذلك من غير أن ينسب إلى السلطان أنه أمر به رعاية لآنوك.
فلما وقع ذلك شق على آنوك امتناع الزهرة عنه عدة أيام، ومازال حتى أتته سراً، ولهى بها عن زوجته ابنة الأمير بكتمر الساقي ، حتى علمت أمه بذلك، فلشفقتها عليه ترخصت له، وأمكنته من هواه. فخاف آنوك من السلطان، ودبر هو وبعص مماليكه حيلة أشغل بال السلطان عنه، وكتب ورقة يخيله فيها من الأمير بشتاك والأمير آقبغا، وألقيت إلى السلطان. فنم بعض مماليكه للأمير آقبغا بذلك، فبلغه السلطان، فدخل إلى الدور واستدعى آنوك وهم بقتله بالسيف، فمنعته أمه وجواريه. فأرعد آنوك من الخوف، ولزم الفراش، وتغير السلطان على لالاه أرغون العلالي، وأقام طيبغا المجدي عوضه، ورسم ببيع الدار التي عمرها آنوك ببركة الحبش.
وفيه قدم أبو بكر ابن السلطان من الكرك باستدعاء، ومعه هدية قيمتها نحو مائتي ألف درهم، بعد ما أخذ أموال الناس بها على سبيل القرض، وكان يقتل من يمتنع عليه ويصادره، فمات جماعة من الناس تحت العقوبة.
وفيه توجه جمال الدين الكفاة ناظر الخاص إلى الإسكندرية وأوقع الحوطة على دور بيبرس الجمدار الركني نائب الإسكندرية بعد موته، فوجد له عدة دور وحوانيت وعشرين بستاناً باعها بخمسمائة ألف وستين ألف درهم، وعاد.
وفيها قوى الماء على الجسر الذي استجده السلطان بناحية شيبين، وصارت البلاد الواطئة تستبحر. فاقتضى رأي السلطان عمل زريبة كالجسر ترد قوة الماء، فندب لعملها الأمير بيبغا حارس الطير. وفرض السلطان لذلك على البلاد عن كل دينار ثمن درهم، فجبي نحو أربعمائة ألف درهم. وجمعت البناة والفعلة، وعملت أقمنة الجير والجبس والطوب حتى تمت الزريبة في طول زيادة على ثلاثين آلف قصبة. فعظم النفع بها، وشمل الري عدة أراض ما كانت تروى قبل ذلك إلا في الأنيال العالية، وزاد ارتفاع النواحي بري الأراضي. وبطل سد بحر أبي المنجا، وتأخر فتحه بعد أوانه بعشرة أيام، وقام مقامه سد قناطر شيبين، وبطل ما كان من ركوب الناس وفرجهم في فتح أبي المنجا، وأراح الله تعالى مما كان يعمل فيه يوم فتحه من المنكرات والفواحش.
وفيه توجه الأمير بشتاك بآنوك وأبي بكر ولدي السلطان إلى العباسة، وحضر بهما بعد أيام.
ثم توجه الأمير يلبغا اليحياوي والأمير بشتاك بطيور السلطان إلى البحيرة، وصحبة يلبغا عشرة أمراء طبلخاناه. فدخلوا إلى الإسكندرية، وقد تقدمهم جمال الكفاة إليها وجهز لهم الإقامات والتعابي والإنعامات، فأقاموا ثلاثة أيام وعادوا. فأنعم السلطان على يلبغا يوم وصوله بناحية سوهاي من الصعيد، وعبرتها خمسة عشر ألف دينار، وكتب بتمكين أهل الاسكندرية من فتح دكاكين الرماة على العادة، والإفراج لهم عن السلاح، وذلك بشفاعة يلبغا.
وفيه قدم البريد بموت الأمير طقتمر الخازن نائب قلعة حلب، وأنه وجد له عشرة ألاف دينار ومائة وستون ألف درهم.
وفيها توقفت الأحوال بسبب صرف الذهب، وعدم وجود الفضة من بين الناس في الأسواق. فأخرج السلطان من الخزانة ألف درهم فضة فرقت مدة شهر في الصيارف، وأخذ عنها ذهب، فمشت الأحوال قليلاً ثم توقفت.
وفيها قدمت طائفة من العجم لهم زي غريب، على رءوسهم أقباع طوال جداً، من فوقها عمائم مضلعة كهيئة الطرطور، ولهم شيخ يعرف بالشيخ زاده. فاحتفل بهم الأمير قوصون وأنزلهم بخانكاته، وعمل لهم فيها عدة أوقات، ثم تحدث قوصون مع السلطان في أمرهم، فولي زاده مشيخة الخانكاه الركنية بيبرس، فباشرها وعمل بها في كل ليلة جمعة سماعاً قام به الأمير قوصون.
وفي رابع عشرى شوال: رحل ركب الحاج من بركة الحاج، صحبة الأمير بكا الخضري. وكانت العادة أن يرحل الركب في سادس عشره، فقصد السلطان ألا تطول إقامة الحاج بمكة رفقاً بالها، فأخر الرحيل في رابع عشريه، ليوافي الحجاج بمكة أول ذي الحجة، واستمر ذلك فيما بعد. وسار أيضاً الأمير أقبغا عبد الواحد إلى الحج بأهله.
وفيها تسلم الأمير زين الدين قراجا بن دلغادر قلعة طرندة وأقام بها الدعوة للسلطان. وذلك أن مرجان الخادم نائب طرندة من قبل أرتنا توجه منها إلى مخدومه في مهم له، فنزل عليها من أمراء التركمان أمير علي بن الكركري، وإبراهيم كندلكي، وقرأ خليل بن البكي، وابن قرا، في زهاء أربعين رجلاً وقد باطنهم رجل من أهل القلعة وجذب الأربعين بجبال إليها، فقتلوا من بها من جماعة أرتنا، واستولوا عليها وأسلموها لابن دلغادر.
فكتب إلى السلطان بذلك، فأنعم بها على الأمير تنكز نائب الشام، فبعث إليها تنكز وعمرها، ولم تزل قلعة طرندة بأيدي سلاطين مصر إلى أن مات الظاهر برقوق.
وفيها هبت سموم ورياح عاصفة بجبل طرابلس، وسقط نجم اتصل نوره بالأرض مع رعد قوي إلى الغاية، وعلقت منه نار في أراضي الجون أحرقت عدة أشجار ومنازل فكان ذلك آية. ونزلت من السماء نار بقرية الفيجة من عمل دمشق على قبة خشب أحرقتها، وأحرقت ثلاثة بيوت بجانبها.
وفي ليلة الثلاثاء سادس عشريه: وقع بدمشق في أول الليل حريق بالدهشة شرقي الجامع الأموي، فعظم الأمر حتى وصل إلى الجامع، وتعلق بالمنارة الشرقية وسقط على الجملون الرصاص. فبادر الناس جميعاً إليه، وأطفأوه بحضرة الأمير تنكز في مدة يومين بلياليها.
ثم وقع أيضاً في ليلة السبت أول ذي القعدة: حريق أخر بقيسارية القواسين والكفتيين وسوق الخيل من دمشق، وكان أمراً مهولاً مدة يومين بلياليها. فعدم فيها نحو خمسة وثلاثين ألف قوس، وعدمت أموالاً عظيمة، منها للتجار خاصة ما مبلغة ألف وستمائة ألف دينار، وخربت أماكن كثيرة.
فبينا الناس في ذلك إذ وجدت ورقة فيها: المملوك الناصح تتضمن أن أمر الحريق يظهر إذا أمسك يعقوب غلام المكين كاتب الجيش، فقبض على المذكور وعوقب، فاعترف على أستاذه عدة من كتاب النصارى، وأحضروا بين يدي الأمير تنكز، فأقروا جميعاً بذلك.
فأوقع تنكز الحوطة على موجودهم، وكتب عليهم محضراً ملخصه: أن الرشيد سلامة بن سليمان بن مرجا النصراني كاتب الأمير علم الدين سنجر البشمقدار أشهد عليه أنه حضر إليه منتصف شوال المكين يوسف بن مجلي كاتب الأمير بهادر آص والمكين يوسف عامل الجيش وصحبتهما راهبان أحدهما اسمه ميلاني والآخر اسمه عازر، وفدما من القسطنطينية ليجاهدا في الملة الإسلامية ومعابدها وقد باعا نفسيهما على ذلك، وأنهما يعلمان صناعة النفط.
فاجتمعوا في بستان المكين يوسف، وأحضر لهم ما يحتاجون إليه من النفط، وعملوا كعكات، وتنكروا في لباسهم، ونزلوا إلى الدهشة وتفرقوا في جوانبها، وابتاعوا منها قماشاً ودفعوا ثمنه لصاحبه، وجعلوا القماش عنده وديعة، وقد دسوا فيه تلك الكعكات المصنوعة، فوقع منها ذلك الحريق، ثم دفعوا إلى الجرائحي النصراني الذي على باب قيسارية القواسين خمسمائة درهم وكعكة من تلك الكعكات، فرمي بها في دكان داخل القيسارية، فكان منها الحريق الثاني، وأن الراهبين المذكورين خرجا بعد ذلك بكتب الجماعة إلى بيروت حتى سيرهم العامل بها في مركب إلى قبرص وأرخ المحضر بعشرى ذي القعدة، وحمل إلى السلطان.
ثم سمر الجماعة في يوم السبت ثاني عشرى ذي القعدة، بعدما عوقبوا عقوبات عظيمة، وعددهم أحد عشر رجلاً: وهم المكين يوسف بن مجلي عامل الجيش وأخوه، والمكين جرجس كاتب الحوطات، والمكين كاتب بهادر آص، وسمعان، وأخوه بشارة، والرشيد سلامة بن سليمان كاتب سنجر البشمقدار، والعلم عامل بيروت، والجرائحي، وجزاران نصرانيان، وشخص يعرف بسبيل الله، وكان هذا الرجل بالقاهرة سنة خمس وعشرين بزي غريب يلبس جلداً، ويحمل على كتفه زيراً نحاساً أندلسياً، وبيده شربات كذلك، ويقول بلسان غتمي: سبيل الله، ويسقي الناس بغير جعل، فمن الناس من اعتقده، ومنهم من اتهم أنه جاسوس، ثم خرج هذا الرجل حاجاً، وقدم دمشق وأقام بها يسقي الماء، حتى دخل مع النصارى فيما قاموا فيه من أمر الحريق ولما سمروا وسطوا بعد يومين، ووجد لهم ما ينيف على آلف درهم، أنفق منها في عمارة منارة الجامع والدهشة.
فكتب السلطان إلى تنكز ينكر عليه قتل النصارى، وأن في ذلك إغراء لأهل القسطنطينية بمن يرد إليهم من التجار المسلمين وقتلهم، ويأمر بحمل ما وجد من الماء، وأن يجهز بناته اللاتي عقد لأولاد السلطان عليهن.
فأجاب تنكز بالاعتذار عن تجهيز بناته بما شغله من عمارة ما أحرق، وأن المال الذي وجد للنصارى قد جعله لعمارة الجامع، وجهر قرمجي بذلك فلم يرض السلطان، وتغير على قرمجي، وكتب معه إليه بأنه لابد من تجهيز بناته. تم أر كب السلطان الأمير طاجار الدوادار على البريد إلى دمشق بملطفات، في يوم الجمعة ثاني عشرى ذي الحجة، وكان طاجار قد ثقل عليه أمر تنكز، وأخذ في زواله، وجعل توجهه إنما هو لعتب تنكز على تأخيره حمل بناته.
وكان قد بلغ تنكز تغير السلطان عليه، فجهز أمواله ليحملها إلى قلعة جعبر ويخرج إليها بحجة أنه يتصيد. فقدم عليه طاجار قبل ذلك في يوم الأحد رابع عشره، وعتبه وبلغه عن السلطان ما حمله، فتغير الأمير تنكز وبدا منه ما حفظه عليه طاجار.
وعاد طاجار إلى السلطان في يوم الجمعة تاسع عشر ذي الحجة قبل الصلاة، فأغرى السلطان به، وأنه قد عزم على الخروج من دمشق. فطلب السلطان بعد الصلاة الأمير بشتاك والأمير بيبرس الأحمدي والأمير جنكلي بن البابا والأمير أرقطاي والأمير طقزدمر في آخرين، وعرفهم أن تنكز قد خرج عن الطاعة، وأنه يبعث إليه تجريدة مع الأمير جنكلي والأمير بشتاك والأمير أرقطاي والأمير أرنبغا أمير جندار والأمير قماري أمير شكار والأمير قماري أخو بكتمر الساقي والأمير برسبغا الحاجب.
ومع هذه الأمراء السبعة ثلاثون أمير طبلخاناه وعشرون أمير عشرة، ومن الطبلخاناه ملكتمر السرجواني وقباتمر الجمدار المظفري وبلك الجمدار المظفري وبكا الخصري ومحمد بن الأمير جنكلي وأمير علي بن صغريل وأمير أحمد الساقي قريب السلطان ونيررز وطقتمر قلي وبيغرا السلاح دار وقراجا السلاح دار وطيبغا المجدي وطاجار الدوادار وبغاتمر وتمربغا العقيلي وطقتمر الصلاحي وجركتمر بن بهادر وسيف الناصري وطقبغا الناصري وبيبغا حارس الطير وأيتمش الناصري وأباجي الوافد وأرلان التتري الوافد وملكتمر السعيدي وأمير محمود بن خطير وخمسون نفراً من مقدمي الحلقة، وأربعمائة من المماليك السلطانية، وجلس السلطانية، وجلس السلطان وعرضهم. ثم جمع السلطان في يوم السبت عشريه الأمراء جميعهم، وحلف المجردين والمقيمين له ولولده الأمير أبي بكر من بعده، وطلب الأجناد من النواحي للحلف، فكانت بالقاهرة حركات كثيرة.
وحمل السلطان لكل مقدم آلف مبلغ آلف دينار ولكل أمير طبلخاناه أربعمائة دينار، ولكل مقدم حلقة آلف درهم، ولكل مملوك خمسمائة درهم وفرس وقرقل وخوذة وغير ذلك.
فاتفق قدوم الأمير موسى بن مهنا في يوم السبت هذا، فقرر معه السلطان القبض على تنكز وكتب إلى العربان بأخذ الطرقات من كل جهة على تنكز.
وبعث السلطان بهادر حلاوة من طائفة الأوجاقية على البريد إلى ألطنبغا الصالحي نائب غزة وسيف الدين طشتمر نائب صفد والي أمراء دمشق، بملطفات كثيرة، وأخرج موسى بن مهنا لتجهيز العربان وإقامته على حمص، واهتم بأمر تنكز اهتماماً زائداً، وكثر قلقه وتنغص عيشه. وخرج العسكر إلى دمشق في يوم الثلاثاء ثالث عشرى ذي الحجة، وكان حلاوة الأوجاقي قد قدم على الأمير ألطنبغا الصالحي نائب غزة بملطفه، وفيه أنه قد استقر في نيابة الشام عوضاً عن تنكز، وأن العسكر واصل إليه ليسيروا به إلى دمشق، وأن الأمير طشتمر نائب صفد قد كتب إليه بالركوب إلى دمشق، ليركب هو والأمير قطلوبغا الفخري ، ويقبضا على تنكز، فسر ألطنبغا بذلك ووجه حلاوة إلى صفد، فقدمها ليلة الإثنين ثالث عشريه أول الليل، وأوقف الأمير طشتمر على ملطفه فركب في ساعته في ثمانين فارساً، وساق إلى دمشق.
واجتمع طشتمر مع قطلوبغا الفخري وسنجر البشمقدار وبيبرس السلحدار، وكان قد قدم حلاوة إلى أمراء دمشق بكرة يوم الثلائاء وهو متنكر، وأوصل الملطفات إلى أصحابها، وقد سبقته ملطفات الأمير ألطنبغا من غزة.
فاتفق ركوب الأمير تنكز في ذلك اليوم إلى قصره فوق ميدان الحصا في خواصه للنزهة، وبينما هو في ذلك إذ بلغه قدوم الخيل من صفد فعاد إلى دار السعادة، وألبس مماليكه السلاح، فلم يكن بأسرع من أن أحاط به أمراء دمشق. ووقع الصوت بوصول طشتمر نائب صفد، فخرج العسكر إلى لقائه، وقد نزل مسجد القدم. فأمر طشتمر جماعة من الأمراء أن يعودوا إلى تنكز ويخرجوه إليه، فدخل عليه منهم تمر الساقي وطرنطاي والبشمقدار وبيبرس السلاح دار، وعرفوه مرسوم السلطان وأخذوه وأركبوه إكديشاً، وساروا به إلى نائب صفد، وهو واقف بالعسكر في ميدان الحصا، وقبض على جنغيه وطعيه مملوكي تنكز وسجنا بالقلعة. وأمر طشتمر بتنكز فأنزل عن فرسه على ثوب سرج وقيده قرمجي مملوكه، وأخده الأمير بيبرس السلاح دار، وتوجه به إلى الكسوة، فحدث له إسهال ورعدة خيف عليه منه الموت، وأقام بها يوماً وليلة، ثم مضى به بيبرس إلى القاهرة، ونزل الأمير طشتمر نائب صفد بالمدرسة النجيبية.
وتقدم بهادر حلاوة عندما قبض على تنكز ليبشر السلطان فقدم ليلاً بلبيس والعسكر نازل عليها، وعرف الأمير بشتاك ثم سار إلى السلطان، فقدم ومعه أحد مماليك السلطان ومملوك طاجار الدوادار في خامس عشريه وأخبره الخبر، فسر سرورا كثيراً. وكتب السلطان بعود العسكر من بلبيس خلا الأمير بشتاك والأمير أرقطاي والأمير برسغبا الحاجب وجماعة، فإنهم يتوجهون إلى دمشق، وأن يقيم الأمير بيغرا أمير جندار والأمير قماري أمير شكار بالصالحية إلى أن يقدم الأمير تنكز، فيدخلا به.
فعاد العسكر من بلبيس، وتوجه بشتاك ورفيقاه إلى دمشق، فركب معهم الأمير ألطنبغا من غزة، فلقوا الأمير تنكز على بيسان.
وفيها فرغ قصر الأمير سيف الدين بشتاك الناصري، بخط بين القصرين من القاهرة. وذلك أن الأمير قوصون لما أخذ قصر بيسري وجدد عمارته، أحب الأمير بشتاك أن يعمل له قصراً تجاه قصر بيسري، فدل على دار الأمير بكناش الفخري الصالحي أمير سلاح، وهي أحد قصور الخلفاء الفاطميين التي اشتراها بكتاش من ذريتهم، وأنشأ بها دوراً وإسطبلات، وأبقى ما وجد فيها من المساجد، فشاور بشتاك السلطان على أخدها، فرسم له بذلك، فأخذها من أولاد بكتاش وأرضاهم، وأنعم له السلطان بأن كانت داخلها برسم الفراشخاناه السلطانية، وأخذ دار أقطوان الساقي بجوارها وهدم الجميع، وأنشأ قصراً مطلاً على الطريق ارتفاعه أربعون ذراعاً وأساسه أربعون ذراعاً، وأجرى إليه الماء ينزل من شادروان إلى بركة. وأخرب بشتاك في عمل هذا القصر أحد عشر مسجداً وأربعة معابد أدخلها فيه، ولم يجدد منها سوى مسجد الفجل وقد سمي هذا المسجد بذلك الاسم من أجل أن قيمه يعرف بالفجل، وأنشأ خاناً تجاه خان الزكاة، ثم باع بشتاك هذا القصر لزوجته التي كانت تحت بكتمر الساقي. وفيها خطب للخليفة الواثق بالله إبراهيم بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بأمر الله.
وذلك أن الخبر قدم في يوم الجمعة ثاني عشر شعبان بموت الخليفة المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بقوص في مستهل شعبان، بعد موت ابنه صدقة بقليل، وأنه اشتد جزعه عليه، وأنه قد عهده لولده أحمد بشهادة أربعين عدلاً وأثبت قاضي قوص ذلك. فلم يمض السلطان عهده، وطلب إبراهيم في يوم الإثنين خامس عشرى شعبان، وأجلسه بجانبه وحادثه، ثم قام إبراهيم وخرج معه الحجاب بين يديه، ثم طلع إلى السلطان في يوم الإثنين ثالث عشر رمضان، وقد اجتمع القضاة بدار العدل على العادة، فعرفهم السلطان بما أراد من إقامة إبراهيم في الخلافة وأمرهم بمبايعته، فأجابوا بعدم أهليته، وأن المستكفي عهد إلى ولده أحمد بشهادة أربعين عدلاً وحاكم قوص، ويحتاج إلى النظر في عهده. فكتب السلطان بطلب أحمد وعائلة أبيه، وأقام الخطباء بديار مصر والشام نحو أربعة أشهر لا يذكرون في خطبهم الخليفة. فلما قدم أحمد من قوص لم يمض السلطان عهده، وطلب إبراهيم وعرفه قبح سيرته، فأظهر التوبة منها والتزم بسلوك طريق الخير، فاستدعى السلطان القضاة في يوم الإثنين وعرفهم أنه أقام إبراهيم في الخلافة، فأخذ قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة يعرفه سوء أهليته للخلافة، فأجاب بأنه قد تاب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد وليته فاشهدوا علي بولايته.
ورتب له السلطان ما جرت به العادة، وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة وستون درهماً وتسعة عشر أردب شعيراً في كل شهر، فلم يعارضه أحد. وخطب له في يوم الجمعة سادس ذي القعدة. ولقب بالواثق بالله أبي اسحاق، فكانت العامة تسميه المستعطي فإنه كان يستعطى من الناس ما ينفقه، وشهر بارتكاب أمور غير مرضية.
وفيها استقر في قضاء الشافعية برهان الدين إبراهيم بن الفخر خليل بن إبراهيم الرسعني، عوضاً عن زين عمر بن محمد بن عبد الحاكم البلفيائي.
وفيها استقر ناصر الدين محمد بن الصاحب شرف الدين يشوب بن عبد الكريم بن أبي المعالي الحلبي في كتابة السر بحلب، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن القطب المصري.
وفيها استقر الشيخ حسن الكبير بن الأمير حسين بن آقبفا بن أيدكين وهو سبط القان أرغون بن أبغا بن هولاكو، في مملكة بغداد، قدم إليها من خراسان، وكان الشيخ حسن الصغير بن دمرداش إذ ذاك حاكم توريز.
وكان قاع النيل في هذه السنة أربعة أذرع وخمسة أصابع، وانتهت زيادته إلى سبعة عشر ذراعاً وتسعة عشر أصبعاً.
ومات فيها من الأعيان شهاب الدين أحمد بن عيسى بن جعفر الأرمنتي المصري عرف بابن الكمال في جمادى الأولى، سمع من الأبرقوهي، وكان ثقة.
وتوفي الشيخ مجد الدين أبو بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز الزنكلوني الشافعي ليلة الثلاثاء رابع ربيع الأول، وله شرح التنبيه في الفقه وغيره، وولي مشيخة خانكاه بيبرس.
وتوفي الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان ابن الخليفة الحاكم بأمرالله أبو العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي بن الحسن العباسي، بمدينة قوص، عن ست وخمسين سنة وستة أشهر وأحد عشر يوماً، وفي خامس شعبان، وكانت خلافته تسعاً وثلاثين سنة وشهرين وثلاثة عشر يوماً، وكان حشماً كريماً فاضلاً.
وتوفي خطيب أحميم علم الدين علي، وكان له مال كثير وإفضال كثير. أضاف السلطان مرتين وكفاه بجميع ما يحتاج إليه، وأهدى إلى جميع الأمراء، وعمر مدرسة بمدينة أحميم ومات الأمير ركن الدين بيبرس الأوحدي والي القلعة، أحد المماليك المنصورية، في يوم السبت تاسع عشر ربيع الأول. ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير عز الدين أيدمر الخطيري، وكان خيراً.
ومات بدمشق الأمير آقسنقر مشد العمارة، المنسوب إليه قنطرة آقسنقر على الخليج خارج القاهرة، والجامع بسويقة السباعين على البركة الناصرية فيما بين القاهرة ومصر ومات الأمير علم الدين علي بن حسن المرواني والي القاهرة، في ثاني عشر رجب بعد مقاساة أمراض شنيعة مدة سنة، وكان سفاكاً أفاكاً ظلوماً غشوماً، اقترح في ولايته عقوبات مهولة: منها نعل الرجل في رجليه بالحديد كما تنعل الخيل، ومنها تعليق الرجل بيديه وتعليق مقابرات العلاج في رجليه، فتنخلع أعضاؤه ويموت، وقتل خلقاً كثيراً من الكتاب وغيرهم في أيام النشو، ولما حملت جنازته وقف عالم عظيم لرجمه، فركب الوالي وابن صابر المقدم حتى طردهم.
ومات الأمير عز الدين أيدمر الدوادار الناصري بدمشق، وكان خيراً فاضلاً.
ومات الأمير بهادر البدري نائب الكرك، وهو منفي بطرابلس.
وتوفي شرف الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عسكر بن مظفر القيراطي الشافعي، بالقاهرة عن سبعين سنة، تصدر بالجامع الأزهر، وباشر قضاء دمياط.
وتوفي جمال الدين عبد القاهر بن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن إبراهيم التبريزي الحراني الشافعي قاضي دمياط، كان فقيهاً أديباً شاعراً خطيباً.
وتوفي الشيخ مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي شيخ الشيوخ، في يوم الجمعة سابع عشر ربيع الآخر وقد أناف على السبعين بخانكاه سرياقوس.
ومات الأمير ركن الدين بيبرس الركني المظفري، كاشف البحيرة ووالي ثغر الإسكندرية، عن مال كثير.
ومات شرف الدين عبد الوهاب بن التاج فضل الله المعروف بالنشو ناظر الخاص، في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، كان أبوه يكتب عند الأمير بكتمر الحاحب وهو ينوب عنه، ثم انتقل إلى مباشرة ديوان الأمير أركتمر الجمدار، ثم ولي استيفاء الدولة، ثم باشر ديوان الأمير آنوك ابن السلطان، وأكره حتى أظهر الإسلام، وولي نظر الخاص السلطاني، فبلغ ما لم يبلغه أحد من الأقباط في دولة الترك، وتقدم عند السلطان على كل أحد، وخدمه جميع أرباب الأقلام، وكان محضر سوء لم يشتهر عنه شيء من الخير، وجمع من الأموال ما لم يجمعه وزير للدولة التركية، وكان مظفراً، ما ضرب على أحد إلا ونال غرضه منه بالإيقاع به وتخريب دياره، وقتل على يديه عدة من الولاة والكتاب، واجتهد غاية جهده في قتل موسى بن التاج إسحاق، وعاقبة ستة أشهر بأنواع العقوبات، من الضرب بالمقارع والعصر في كعابه وتسعيطه بالماء والملح وبالخل والجير وغير ذلك مع نحافة بدنه ومرضه بالربو والحمى، فلم يمت، وعاش التاج موسى هذا ثلاثين سنة بعد هلاك النشو.
ومات مجد الدين رزق الله بن فضل الله أخو النشو، خدم وهو نصراني في استيفاء الخاص أيام أخيه، ثم أسلم على يد السلطان في سنة ست وثلاثين كرهاً، وخدم عند الأمير ملكتمر الحجازي، فعظم شأنه وفعل خيراً، فلما قبض على أخيه قبض عليه معه، فذبح نفسه في ثالث صفر.
سنة إحدى وأربعين وسبعمائةفي يوم الثلاثاء سابع المحرم: وصل الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام وهو متضعف، صحبة الأمير بيبرس السلاح دار، وأنزل من القلعة بمكان ضيق حرج. وقصد السلطان ضربه بالمقارع فقام الأمير قوصون في الشفاعة له حتى أجيب إلى ذلك وبعث إليه السلطان يهدده حتى يعترف بما له من المال، ويذكر من كان موافقاً على العصيان من الأمراء.
فأجاب تنكز بأنه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعة عنده لأيتام بكتمر الساقي، وأنكر أن يكون خرج عن الطاعة. فأمر السلطان في الليل فأخرج مع ابن صابر المقدم وأمير جندار، وحمل في حراقة بالنيل إلى الإسكندرية، فقتله بها إبراهيم بن صابر المقدم، في يوم الثلاثاء خامس عشره.
وفي يوم الإثنين سادسه: قدم الأمير بشتاك والأمير ألطنبغا الصالحي إلى دمشق فيمن معهما من الأمراء وقد خرج الناس إلى لقائهم، فكان يوماً مشهوداً. ونزل الأمير ألطنبغا بدار السعادة، ونزل الأمير بشتاك بالميدان. ثم قبض على الأمير صاروجا المظفري ألجيبغا العادلي، وطلب من ألزام تنكز مملوكاه جنغيه وطغيه، وسلما للأمير برسبغا، فعاقبهما أشد عقوبة على المال، وقبض على أولادهما وحواشيهما، وأوقع الحوطة على موجوديهما وموجود صاروجا وألجيبغا، ثم وسط جنغيه وطغيه بسوق الخيل، وأكحل صاروجا.
وتتبعت أموال تنكز، فوجد له ما يجل وصفه، وعملت لبيع حواصلة عدة حلق، تولى البيع فيها الأمير ألطنبغا نائب الشام والأمير أرقطاي، وهما أعدى عدو له، وكان في ذلك عبرة لمن اعتبر.
وظهر له من التحف السنيه ما يعز وجود مثله. منها مائتا منديل زركش، ومائة حياصة مرصعة بالجوهر، وأربعمائة حياصة ذهب، وستمائة كلفتاه، وثمانية وستون بقجه بها بدلات ثياب زركش، وألفا ثوب أطلس ومائتا تخفيفة زركش وذهب مختوم أربعمائة ألف مثقال. واشتملت جملة ما أبيع له على مائتي ألف دينار، فكان جملة العين ستمائة ألف دينار وأربعمائة دينار.
ووجد له من الهجن والخيل والجمال البخاتي وغيرها نحو أربعة ألاف ومائتي رأس وذلك سوى ما أخذه الأمراء ومماليكهم، فإنهم كانوا ينهبون ما يخرج به نهباً. ووجد له من الثياب الصوف ومن النصافي ما لا ينحصر، وظفر الأمير بشتاك بجوهر له ثمين اختص به. وحملت حرمه وأولاده إلى مصر صحبة الأمير بيغرا، بعدما أخذ. لهم من الجوهر واللؤلؤ والزركش شيء كثير.
ووجد لألجيبغا العادلي مبلغ مائة وعشرين ألف درهم، وألف ومائتي دينار وأصناف كثيرة، فبلغت تركته ستمائة ألف درهم. ولم يؤخذ لصاروجا غير أربعين ألف درهم، وصودر جماعه من ألزام تنكز فأخذ منهم نحو الألفي ألف درهم.
ثم توجه الأمير بشتاك من دمشق، وقدم قلعه الجبل، فخلع عليه وأكرم إكراماً زائداً.
ثم قدم الأمير قطلوبغا الفخري باستدعاء، فخلع عليه، وأنعم عليه بتقدمة ألف، ثم قدم الأمير طشتمر حمص أخضر نائب صفد، فخلع عليه بنيابة حلب، عوضاً عن طرغاي الجاشنكير.
وخلع على الأمير مسعود بن خطير الحاجب بنيابة غزة، وأنعم على برسبغا بتقدمته وحجوبيته، وكتب بحضور طرغاي من حلب.
وفيها استقر الأمير أرقطاي في نيابة طرابلس عوضاً عن طينال، وأقام طينال بدمشق.
وفيها استقر الأمير أقسنقر السلاري في نيابة صفد، عوضاً عن الأمير طشتمر. ولما قدم حريم تنكز أنزلوا في داره بخط الكافوري، وكان قد أخرج جمال الكفاة ناظر الخاص منها حواصل جليلة، ما بين أواني صيني ومسك وعود وغير ذلك، أقام في بيعه مدة أربعة أشهر، وبلغت قيمتها نحو ثمانين ألف درهم وألفي دينار، سوى ما أنعم به على الأمراء.
ووجد لتنكز بقلعة جعبر مبلغ ثلاثين ألف دينار، وثلاثين حمل سلاح، ووجد له حاصل سروج ولجم وسلاسل ذهب وفضة وعدة سلاح بما ينيف على مائة ألف دينار، وقومت أملاكه بما ينيف على مائة ألف دينار.
وكان لتغير السلطان على تنكز أسباب: منها أنه كتب يستأذن في سيره إلى ناحية جعبر، فمنعه السلطان من ذلك، لما في تلك البلاد من الغلاء، وألح تنكز في الطلب والجواب يرد بمنعه حتى حنق من السلطان وقال: والله لقد تغير عقل أستاذنا، وصار يسمع من الصبيان الذين حوله ووالله لو سمع مني لكنت أشير عليه بأن يقيم أحد أولاده، وأقوم أنا بتدبير أمره، ويبقى هو مستريحاً. فكتب بذلك جركتمر للسلطان، وكان يتخيل بدون هذا، فأسر في نفسه منه شيئاً.
واتفق أن أرتنا نائب الروم بعث رسولاً إلى السلطان بكتابه، ولم يكتب معه كتاباً إلى تنكز، فخنق تنكز لعدم مكاتبته، ورد رسوله من دمشق.
فكتب أرتنا يعرف السلطان بذلك، ويسال ألا يطلع تنكر على ما بينه وبين السلطان، ورماه بأمور أوجبت شدة تغيره عليه، واتفق أيضاً أن غضب تنكز على جماعة من مماليكه، وضربهم وسجنهم بالكرك والشوبك فكتب منهم جوبان وكان أكبر مماليكه الأمير قوصون يشفع به في الإفراج عنه من سجن الشوبك. فكلم قوصون السلطان في ذلك فكتب إلى تنكز يشفع في جوبان فلم يجب عن أمره بشيء، فكتب إليه ثانياً وثالثاً، فلم يجب، فاشتد غضب السلطان حتى قال للأمراء: ما تقولون في هذا الرجل؟ هو شفع عندي في قاتل أخي فقبلت شفاعته، وأخرجته من السجن وسيرته إليه يعني طشتمر آخا بتخاص وأنا أشفع في مملوكه ما يقبل شفاعي وكتب لنائب الشوبك بالإفراج عن جوبان فأفرج عنه.
وكان تنكز رحمه الله في نيابة دمشق قد أزال المظالم، وأقام منار الشرع وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأزال ما كان بدمشق وأعمالها من الفواحش والخانات والخمارات، وبالغ في العقوبة على ذلك حتى قتل فيه. وأنصف العامة والتجار بخلاص حقوقهم من الأمراء، وحملهم مع أخصامهم إلى الشرع. واحتجب عن الاجتماع بالشاميين وغيرهم، وامتنع من قبول التقادم والهدايا جملة. وتتبع المدارس والمساجد والأوقاف فعمرها جميعها، ومنع مستحقيها من تناول ريعها حتى كملت عمارتها. وحدد عدة أماكن قد دثرت أوقافها، وأعاد فيها وظائف العبادات بعدما بطلت وجدد عمارة الجامع الأموي ، وعمر أوقافه، وأصلح تقاسيم المياه بعد ما كانت فاسدة ونظف مجاريها ووضح طرقها، وهدم الأملاك التي استجدها الناس وضيقوا بها الشوارع والطرقات المسلوكة. وألزم والي المدينة أن يعلمه. ممن يشرب الخمر من الأمراء وأولادهم، فتعذر وجود الخمر في أيامه، و لم يكن يوجد. واستجد ديواناً للزكاة، وصرفها للفقراء والمساكين وأرباب البيوت. وانكفت الولاة في أيامه عن الظلم، وأحبته العامة ومنع الأمراء من تسخير الفلاحين والمزارعين في أعمالهم، ومنعهم أيضاً من الاجتماع في الفرج والمتنزهات وغيرها، فصاروا إذا وكبوا في المواكب لا يقدر أحد منهم يكلم رفيقه وإذا صاروا إلى بيوتهم لا يستطيع الواحد أن يجتمع بالآخر، وإذا اخرج تنكز إلى سفر لا يتأخر منهم أحد، سواء قال له: أخرج أو لم يقل له. ومنع أكابر الأمراء أن تترجل له أو تمشي في خدمته، فأقام الله له من الحرمة ما لا حصل لأحد من نواب الدولة التركية وكتب لنواب البلاد الشامية ألا يكاتبوا السلطان إلا ويكاتبوه، وأن ترد مكاتباتهم للسطان عليه بغير ختم ليقف عليها، فإن أرضته بعث بها إلى السلطان وإلا ردها. وأضيف إليه أمر صفد وغزة وكان مغرماً بالصيد، بحيث يركب له في السنة ثلاث مرات، أخرها تعدية الفرات في الشتاء، فإذا ضرب الحلقة لشتمل على ثلاثمائة غزال ونيف، وعلى مائتي رأس من بقر ونعام، وغير ذلك.
وعمر قلعة جعبر بعد خرابها من عهد غازان، وشحنها بالرجال والسلاح والغلال وعدى الفرات مراراً، فاتفق أنه عدى مرة، فحمل إليه الشيخ حسن الكبير وابن سونتاي الهدايا الجليلة، وخافه أهل بغداد والموصل، فجلا كثير منهم، وخافته الأكراد والتركمان والعربان بأجعهم.
وكانت أولاد دمرداش في أعمال توريز، ماذا بلغهم مسيره رحلوا خوفاً منه، حتى يبلغهم عوده إلى دمشق.
فلما كانت أخر أيامه صادر جماعة كثيرة من كتاب السر وغيرهم، ومن الضمان والعرفاء. واتخذ الأملاك، وأخذ عدة أوقاف من أولاد الملوك، حتى كانت غلة أملاكه كل سنة مائة ألف درهم. وسخر الفلاحين، وقطع الزكاة. وأخرق بكثير من الأمراء، وأخرج منهم جماعة عن دمشق، وبالغ في العقوبة، وساء خلقه كثيراً. وكانت مدة نيابته ثمانياً وعشرين سنة وأشهراً.
وفيه طلب شهاب الدين أحمد بن فضل الله، وخلع عليه بكتابة السر بدمشق، بعدما خلفه السلطان عوضاً عن شهاب الدين يحيى بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن خالد بن محمد بن نصر بن القيسراني. فقدم ابن فضل الله إلى دمشق، وقد كاد الأمير برسبغا الحاجب أن يقطع يد ابن القيسراني بمرسوم السلطان، بعدما صادره، فقام في ذلك ابن فضل الله حتى أفرج عنه.
وفيه طلب أيضاً شمس الدين موسى بن التاج إسحاق، وخلع عليه، واستقر في نظر الجيش بدشق، عوضاً عن فخر الدين محمد بن الحلي بعد موته.
وأخرجت له بغلة النشو التي كان يركبها، وجهز من الخزانة حتى سافر، فباشر الجيش بعفة زائدة، وأبطل ما كان يستهديه من قبله.
وفيه قبض على الأمير مكين الدين إبراهيم بن قروينة ناظر الجيش، وسلم للأمير برسبغا الحاجب، وطلب جمال الكفاة ناظر الخاص، وخلع عليه لنظر الجيش مع نظر الخاص، ولم يجمعهما أحد قبله، ثم أفرج عن ابن قروينة بعدما حمل مائة وثلاثين ألف درهم، بشفاعة الأمير بشناك.
وفيه قبض على الصاحب أمين الدين أبي سعيد عبدالله بن تاج الرياسة بن الغنام وسلم إلى الأمير برسبغا، ورسم له بعقوبته من أجل أنه اتهم بأنه كان من جهة تنكز فعاقبه برسبغا، وعاقب ولده تاج الدين أحمد ناظر الدولة، وأخاه كريم الدين أبا شاكر مستوفي الصحبة، وأخذ أموالهم، ثم خنق أمين الدين.
وفي يوم الجمعة حادي عشرى ربيع الآخر: مات الأمير آنوك ابن السلطان بعد مرض طويل، فدفن بالتربة الناصرية بين القصرين، وكان يوماً مهولاً، نزل في جنازته جميع الأمراء. وباعت أمه ثيابه وتصدقت بها على الفقراء، ورتبت القراء على قبره بجار لهم في كل شهر من وقف وقفته على قبره، وأقامت سنة تعمل في كل ليلة جمعة على قبر مجتمعاً يحضره القراء لقراءة ختمة كريمة، وتمد لهم الأسمطة الجليلة.
وفيه أنعم على الأمير قطلوبغا بإقطاع آنوك.
وفي هذه السنة: كثر وقوع الحريق بالنواحي في أجران الغلال بنواحي قليوب وسنديون وبلاد الغربية والبحيرة ولم يعلم من أين هو. ثم وقع بالقاهرة في أماكن منها ربع طقزدمر بدار التفاح، فاستعد الناس لذلك.
وفي أخريات جمادى الآخرة: هبت ريح شديدة من بحر الإسكندرية، فاقتلعت نخلاً كثيراً، وهدمت دوراً عديدة، ثم أعقبها مطر غزير هلك به أغنام كثيرة وعظم اضطراب النيل حتى غرق فيه أحد وعشرون مركباً، وصار يقذف المركب إلى البر حتى يبعده نحو عشر قصبات عن الماء. وكل ذلك جميع أراضي مصر قبليها وبحريها وأرض برقة.
وفيه نقل الأمير عز الدين أزدمر الكاشف من كشف الوجه البحري إلى كشف الوجه القبلي، وفيه نقل علاء الدين علي بن الكوراني إلى ولاية الغربية.
وفيه ركب السلطان إلى جهة بركة الحبش، وصحبته عدة من المهندسين، وأمر أن يحفر خليج من البحر إلى حائط الرصد، ويحفر في وسط الشرق المعروف بالرصد عشرة أبار عمق كل بئر نحو أربعين ذراعاً يركب عليها السواقي حتى يجري الماء من النيل إلى القناطر التي تحمل الماء إلى القلعة، ليكثر بها الماء.
وأقام السلطان الأمير آقبغا عبد الواحد على هذا العمل فشق الخليج من بحري رباط الآثار، ومروا به وسط بستان الصاحب تاج الدين بن حنا المعروف بالمعشوق، وهدمت عدة بيوت كانت هناك، وجعل عمق الخليج أربع قصبات. وجمعت عدة من الحجارين للعمل فكان مهماً عظيماً.
وفيه قدم الشيخ أحمد بن موسى الزرعي، فركب الأمراء والقضاة للسلام عليه. ثم عاد الشيخ إلى الشام بعد أيام، ولم يجتمع بالسلطان.
وفيه تغير السلطان على ولده أحمد بسبب بينات عنده، وأخرجه منفياً إلى صرخد وباع خيله. فلم يزل به الأمراء حتى أمر برده، فرجع من سرياقوس.
وفيه كتب السلطان بطلب ابنه أبي بكر من الكرك، فقدم ومعه هدية بمائة ألف درهم، فتوجه الأمير طيبغا المجدي إلى الكرك، وأحضر طلب أبي بكر ومماليكه وخواصل الكرك كلها.
وفيه خلع على الأمير ملكتمر السرجواني، واستقر في نيابة الكرك، وتوجه إليها ومعه أحمد ابن السلطان، وأوصاه السلطان ألا يدع لأحمد حديثاً ولا حكماً بين اثنين. وفيه قدم البريد بأن الغلاء شديد ببلاد المشرق، وأنه ورد من أهله عالم عظيم إلى شط الفرات وبلاد حلب، فكتب إلى نائب حلب بتمكينهم من العبور إلى حيث شاءوا من البلاد وأوصاه السلطان بهم، فملأوا بلاد حلب وغيرها.
وقدم منهم إلى القاهرة صحبة قاصد نائب حلب نحو المائتي نفر، فاختار السلطان منهم طائفة نحو ثمانين شخصاً، جعل بعضهم في الطباق، وأسكن منهم عدة القلعة، وأمر منهم جماعة وفرق في الأمراء منهم جماعة.
وفيها جدد السلطان جامع راشدة، وقد تهدم أكثر جدرانه.
وفيها ابتاع الأمير قوصون من الأمير مسعود بن خطير قصر الزمرد بخط رحبة باب العيد من القاهرة، وكان سعته نحو عشر فدادين، وشرع قوصون في عمارته سبع قاعات، لكل قاعة إصطبل. وفيها قدم الخبر بخروج ابن دلغادر عن الطاعة.
وفيها استقر ركن الدين بيبرس السلاح دار أحد أمراء الألوف بدمشق في نيابة أياس، عوضاً عن مغلطاي الغزي بعد موته.
وفيها شنعت القالة بسوء سيرة الطائفة الأقباعية بخانكاه بيبرس، فرسم السلطان بنفيهم ونفي شيخهم، فأخرجوا منها بأجمعهم. واستقر في المشيخة بها الشيخ شيرين. وفيه خرج الأمير بشتاك إلى البلاد الشامية ليتصيد، وقد كتب إلى النواب بملاقاته وتعبية الإقامات له.
وفيها توجه بكلمش المارديني على البريد بهدية لصاحب ماردين فيها عشر ألاف دينار، وعشرة رءوس من الخيل ومائتا قطعة قماش، وأربعة فهود.
وفيها قدم الخبر باختلال حال البريد، من كثرة ركوب التجار والعرب البريد، فرسم ألا يركب البريد إلا من يأذن له السلطان في ركوبه، ويكون معه ورقة بتمكينه من ذلك، وأن يفتش بقطيا كل من ورد، فمن وجد معه ورقة وكتب لغير السلطان أخذت منه وحملت إلى السلطان.
وفيها ركب أمير أحمد الساقي قريب السلطان البريد إلى بلاد الشرق لمهمات سلطانية: منها طلب رهائن طغاي سونتاي والشيخ حسن بك الكبير، وكانا قد سألا أن يجهز السلطان عسكراً ليسلماه بلاد الشرق، فأجيبا إلى ذلك على أن يبعثا بأولادهما رهناً على العسكر، فجهز ابن سونتاي ولده برهشين، وجهز الشيخ حسن ابن أخيه ابراهيم شاه إلى حلب.
وفيه استقر الأمير بهاء الدين أصلم في نيابة صفد، عوضاً عن أقسنقر السلاري، ونقل آقسنقر إلى نيابة غزة، عوضاً عن أمير مسعود بن خطير، ونقل أمير مسعود إلى دمشق، وأنعم عليه بإقطاع بيبرس السلاح دار المستقر في نيابة أياس.
وفيه أنعم على الأمير أبي بكر ابن السلطان بإقطاع الأمير أصلم، ورسم للأمير بشتاك أن يتولى أمره، فاستخدم له الوافدية من حلب وغيرهم، حتى أكمل عدته. وعمل السلطان الأمير ألطنقش مملوك الأفرم أستاداره، وزوجه بابنة الأمير ملكتمر الساقي التي كانت تحت أخيه آنوك، وبنى عليها.
وفيه رسم بطلب أجناد الحلقة من الأعمال، فلما تكامل حضورهم تقدم السلطان إلى الأمير برسبغا بعرضهم، فكتبت أوراق بعبرة كل خبز. ثم جلس السلطان بالإيوان، وعرض عليه جماعة كبيرة من المشايخ ومن المحارفين، فقطع الجميع وكتب بإقطاعاتهم مثالات المماليك السلطانية أرباب الجوامك. وعرض برسبغا بقية الأجناد بالقلعة وفتش عن ثيابهم التي هي عليهم، وقد كتبت أوراق بأرباب المرتبات الذين على مدينة بلبيس وبساتينها وحوانيتها، وأوراق بمتحصل المعادي ببولاق، وأوراق بجهات النطرون، وأوراق بأسماء الأجناد المقطعين على الحكورة. فرسم السلطان أن يوفر الجميع، وأن يؤخذ من الجند المقطعة على الحكر أخبارهم، وينعم بها على الأمير ألطنبغا المارديني، ليكون وقفاً على جامعه خارج باب زويلة، وعلى الأمير بشتاك ليكون وقفاً على جامعه المطل على بركة الفيل.
فلما تم عرض الأجناد قطع السلطان منهم الزمنى والعميان والضعفاء وأرباب العاهات، وفرق إقطاعاتهم على المماليك السلطانية، وأخرج بعضها للوافدية الذين يفدون من البلاد، فكانت مدة العرض شهرين، أولها مستهل رمضان وأخرها سلخ شوال.
وكتب إلى الأعمال بحمل ما توفر عن الأجناد من الإقطاعات لبيت المال.
وفيه كتبت أوراق بأسماء المجردين إلى بلاد الشرق: وهم الأمير برسبغا الحاجب والأمير كوكاي السلاح دار، والأمير طوغاي الجاشنكير، والأمير قماري أمير شكار، ومعهم جماعة كثيرة، ورسم أن يكون خرجهم إلى توريز في نصف ذي الحجة. فاشتد ذلك على الناس، وكثر الدعاء على السلطان بسبب قطع أرزاق الجند.
وفيه كتب بتجهيز عساكر دمشق وحلب وغيرهما للتجريدة إلى توريز، صحبة الأمير طشتمر نائب حلب، ويكون معه عامة أمراء التركمان والعربان.
فتجهز الأمراء والأجناد بمماليك الشام، وبرز نائب حلب بمخيمه إلى ظاهر المدينة وأقام ينتظر قدوم عساكر مصر. فأصبح السلطان في مستهل ذي الحجة وبه وعك من قرف حدث عنه إسهال لزم منه الفراش خمسة أيام، فتصدق بمال جزيل، وأفرج عن المسجونين بسجن القضاة والولاة بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال.
وفي يوم الأربعاء سادسه: قدم برهشين بن طغاي بن سونتاي وإبراهيم شاه ابن أخي الشيخ حسن الكبير، في مائتي فارس، فأنزلوا بالميدان، وأجريت لهم الرواتب السنية.
ثم أحضروا بين يدي السلطان في يوم الجمعة ثامنه وفيهم قاضي بغداد وقاضي الموصل وقاضي ديار بكر، فقدموا كتاب طغاي وكتاب الشيخ حسن الكبير، ونسخة أيمانهما وأيمان عامة أهل بلادهم من الأمراء والأجناد وأرباب المعايش بطاعة السلطان، وأنهم من جنده ومقاتلة من عاداه، وقدموا الخطبة التي خطب بها للسلطان في بغداد والموصل وديار بكر.
فقرئ ذلك كله على السلطان، فعرفهم السلطان أنه رسم بتجهيز العسكر إليهم، وبعد عشرة أيام يستقل بالسفر نحو بلادهم ثم خلع السلطان على الجميع، ورسم لنقيب الجيش باستعجال الأمراء والأجناد في الحركة للسفر، فشرعوا في تجهيز أمرهم. وكانت الأحوال متوقفة لقلة وجود الدراهم ورد الباعة من التجار والمتعيشين الذهب لغلو صرفه، فشق ذلك على الناس مشقه زائدة.
وفيه قوي الإسهال بالسلطان، ومنع الأمراء من الدخول إليه، فكانوا إذا طلعوا إلى الخدمة خرج لهم السلام من أمير جندار عن السلطان فانصرفوا.
وكثر الكلام إلى يوم الإثنين ثاني عشر، فخف عن السلطان الإسهال فجلس للخدمة وطلع للأمراء، ووجهه متغير.
فلما انقضت الخدمة نودي بزينة القاهرة ومصر، وجمعت أرباب الملاهي بالقلعه وجمع الخبز الذي بالأسواق، وعمل ألف قميص، وتصدق السلطان بذلك مع جملة مال.
وقام الأمراء بعمل الولائم والأفراح سروراً بعافية السلطان، وعمل الأمير ملكتمر الحجازي نفطاً كثيراً في سوق الخيل تحت القلعة، والسلطان قاعد لنظره، فاجتمع الناس من كل جهة لرويته.
وقدمت عربان الشرقية بخيولها وقبابها المحمولة على الجمال، ولعبوا بالرماح تحت القلعة. وخرجت الركابة والكلابزية وطائفة العتالين والحجارين إلى سوق الخيل للعب، ثم داروا على بيوت الأمراء وأخذوا الخلع هم والطبلكية فحصل لهم شيء كثير جداً، بحيث جاء نصيب مهتار الطبلخاناه ما قيمته ثمانون ألف درهم، وحصل لأرباب الملاهي مالا ينحصر.
وفيه رسم بعرض الجند المجردين في غد، فطلعوا إلى القلعة. وبينا هم في انتظار العرض إذ قدم إدريس القاصد صحبة مملوك صاحب ماردين بكتابه يتضمن أن أولاد دمرداش لما بلغهم طلب الشيخ حسن الكبير وطغاي بن سونتاي من السلطان أن يجهز لهم عسكراً ليأخذ البلاد، وأنهما حلفاً له وحلفاً أهل البلاد وخطباً باسمه على منابر بغداد والموصل، ركبوا إلى محاربتهما، فطلب منهم الشيخ حسن الكبير الصلح، وحلف لهم وسار إليها طائعاً، فأكرموه وكتبوا لطغاي بن سونتاي أماناً، واتفقوا على أن يعدوا الفرات إلى الشام.
وأشار صاحب ماردين ألا تخرج التجريدة إلى توريز، فإنه ليس لسيرها فائدة. فتفرقت الأجناد من القلعة بغير عرض، وبعث السلطان من ليلته بجواب صاحب ماردين، واقتضى رأيه أن يكشف عما ذكره، فإن برهشين بن طغاي اتهمه في ذلك.
فالما كان نصف ليلة: العيد هبت ريح عاصفة ألقت الزينة، ثم أمطرت مطراً عظيماً أتلف كثيراً من الزينة.
وكانت عامة ببلاد الشرقية والغربية والمنوفية، ونزل بتلك الأعمال برد كبار قتل من الغنم والدجاج كثيراً، وتلفت غلال كثيرة كانت بالأجران، فإنه كان في شهر بشنس.
وأصبح يوم الأحد: يوم العيد، وقد اجتمع الأمر لخروج السلطان إلى صلاة العيد، وقد قوي به الإسهال وأجمع رأيه على ألا يشهد صلاة العيد، فمازال به الأمير قوصون والأمير بشتاك حتى ركب ونزل إلى الميدان. وأمر السلطان قاضي القضاة عز الدين عز الدين عبد العزيز بن جماعة أن يوجز في خطته، مما هو إلا أن صلى السلطان وجلس لسماع الخطبة تحرك باطنه، فقام وركب إلى الفصر، وأقام يومه. ثم قدم البريد من حلب بصحة الخبر بصلح الشيخ حسن الكبير وطغاي مع أولاد دمرداش، فانزعج السلطان لذلك انزعاجاً شديداً، واضطرب مزاجه، فحدث له إسهال دموي.
وأصبح يوم الإثنين: وقد منع الناس من الاجتماع به ثم أشاع الأمير قوصون والأمير بشتاك أن السلطان قد أعفى الأجناد من التجريدة إلى توريز، ونودي بذلك في يوم الخميس رابع عشره، ففرح الناس فرحاً زائداً، إلا أنه انتشر بين الناس أن السلطان انتكس، فساءهم ذلك. وأخذ الأمراء في إنزال حرمهم وأموالهم من القلعة حيث سكنهم إلى القاهرة، فارتجت المدينة وماجت بأهلها.
واستعد الأمراء لاسيما قوصون وبشتاك، فإن كلاً منهم أحترز من الآخر وجمع عليه أصحابه، وأكثروا من شراء الأزيار والدنان وملأوها ماء، وأخرجوا القرب والروايا والأحواض، وحملوا إليهم البشماط والرقاق والدقيق والقمح والشعير، خوفاً من وقوع الحرب ومحاصرة القلعة. فكان يوماً مهولاً، ركب فيه الأوجاقية وهجموا الطواحين لأخذ الدقيق، ونهبوا الحوانيت التي تحت القلعة وسوق صليبة جامع ابن طولون. فارتفع سعر الأردب القمح من خمسة عشر درهماً إلى ثلاثين درهماً، وغلق التجار وأرباب المعايش حوانيتهم خوفاً من وقوع الفتنة.
هذا وقد تنكر ما بين قوصون وبشتاك، واختلفا حتى كادا يقتتلان. وبلغ ذلك السلطان فزاده مرضاً على مرضه، وكثر تأوهه وتقلبه من جنب إلى أخر، وتهوس بذكر قوصون وبشتاك نهاره. ثم استدعى السلطان بهما، فتنافسا بين يديه في الكلام فأغمي عليه، وقاما من عنده على ما هما عليه.
فاجتمع في يوم الإثنين ثامن عشره الأمير جنكلي والأمير آل ملك والجاولي والأحمدي وأكابر الأمراء للمشورة فيما يدبرونه، حتى اجتمعوا على أن بعث كل منهم مملوكا إلى قوصون وبشتاك ليأخذا لهم الإذن على العبور على السلطان، فأخذوا لهم الإذن. فلما أخذ الأمراء مجالسهم قال الأمير الجاولي وآل ملك للسلطان كلاماً حاصله أن يعهد أن أحد أولاده، فأحاب إلى ذلك، وطلب ولده أبا بكر، وطلب قوصون وبشتاك، وأصلح بينهما. ثم جعل السلطان ابنه أبا بكر سلطانا بعده، وأوصاه بالأمراء، وأوصي الأمراء به، وعهد إليهم ألا يخرجوا ابنه أحمد من الكرك وحذرهم من إقامته سلطاناً، وجعل قوصون وبشتاك وصييه، وإليهما تدبير ابنه أبي بكر وحلفهما.
ثم حلف السلطان الأمراء والخاصكية، وأكد على ولده في الوصية بالأمراء، وأفرج عن الأمراء المسجونين بالشام، وهم طيبغا حاجي وألجيبغا العادلى وصاروجا، ثم قام الأمراء. فبات السلطان ليلة الثلاثاء، وأصبح وقد تخلت عنه قوته، وأخذ في النزع يوم الأربعاء، فاشتد عليه كرب الموت حتى مات أول ليلة الخميس حادى عشريه، وله من العمر سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهراً وخمسة أيام. وأمه أشلون بنت سكناي بن قراجين بن جيغان، وقدم سكناي هو وأخوه قرمشي بن قراجين في سنة خمس وسبعين وستمائة، صحبة سنجر الرومي في أيام الظاهر بيبرس، فتزوج الأمير قلاوون بابنة سكناي، في سنة ثمانين وستمائة بعد موت أبيها. زوجه إياها عمها قرمشى، فولدت الناصر محمدا على فراش الملك المنصور قلاوون في الساعة السابعة من يوم السبت سادس عشر المحرم سنة أربع وثمانين وستمائة. وأقيم الناصر في السلطنة بعد أخيه الملك الأشرف خليل سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وعمره تسع سنين ثم خلع في سادس عشر المحرم سنة أربع وتسعين، وجري له ما تقدم ذكره إلى أن حضر من الكرك، وأعيد إلى الملك ثانيا. فأقام في الملك إلى سنة ثمان وسبعمائة، وخرج يريد الحج، فتوحه إلى الكرك غيظاً من حجر سلار وبيبرس عليه. فقام بيبرس في السلطة ثم اضطربت أموره، وقدم الناصر من الشام إلى مصر، فملك مرة ثالثة في شوال سنة تسع وسبعمائة واستبد الناصر من حينئذ بالأمر من غير معارض مدة اثنتين وثلانين سنة وشهرين وخمسة وعشرين يوماً، كانت له فيها سير وأنباء كما تقدم. وكان الناصر أطول ملوك زمانه عمراً وأعظمهم مهابة: فإنه أول ما بدأ به بعد قدومه من الكرك القبض على الأمراء البرجية وغيرهم في يوم واحد، وعدتهم زيادة على ثلاثين أميراً.
وأوقع مهابته في القلوب بالقتل وأخذ الأموال، فمنهم من قتله جوعاً وعطشاً، ومنهم من أتلفه بالخنق، ومنهم من غرقه، ومنهم من نفاه، ومنهم من سجنه فأقام مسجوناً العشرين سنة فما دونها. وأكثر الناصر من جلب المماليك والجواري، وطلب التجار إليه وبذل لهم المال، ووصف لهم حلي المماليك والجواري وسيرهم إلى بلاد أزبك وتوريز والروم وبغداد وغير ذلك من البلاد. فكان التاجر إذا أتاه بالجلبة من المماليك بذل له فيها أغلى القيم، وأنعم على تلك المماليك في يومهم بالملابس الفاخرة والحوائص الذهب والخيول والعطايا حتى يدهشهم. و لم تكن هذه عادة من تقدمة من الملوك، فإنهم كانوا إذا قدم لهم المملوك عرفوا جنسه، ثم أسلموه إلى الطواشي المقدم فيضيفه إلى جنسه من المماليك، ويرتبه عند الفقيه فيربيه بالآداب والحشمة والحرمة، ويمرنه في الرمي بالنشاب واللعب بالرمح وركوب الخيل وأنواع الفروسية، وتكون كسوته من الثياب القطن البعلبكي، ومن الثياب الكتان الخام المتوسط. ثم يدرج المملوك في الجامكية من ثلاثة دنانير إلى خمسة إلى سبعة إلى عشرة دنانير، فإذا التحق بالرحال أقيم ذلك الوقت في وظيفة من الوظالف اللائقة به، فيقوم بها على ما ينبغي من الأدب الذي تأدب به في صغره، ثم يترقى المملوك، فإذا وصل إلى منزلة كبيرة ورتبة عالية عرف مقدارها، وما كان فيه من الشقاء وما صار إليه من النعيم فأعرض الملك الناصر عن هذا وكان يسفه رأي الملوك فيه، ويقول إذا عرض له بشيء من ذلك وبقي يبلغ المملوك قصده من أستاذه أو أستاذه منه إذا فعل معه هذا، بل إذا رأي المملوك سعادة تملأ عينه وقلبه نسي بلاده، ورغب في أستاذه.
فأكثر التجار من جلب الممالليك إليه، فطار في البلاد فعل السلطان معهم، فأعطى المغل أولادهم وبناتهم وأقاربهم للتجار، وباعوهم منهم رغبة في سعادة مصر، فبلغ ممن المملوك على التاجر ما بين عشرين ألف درهم إلى ثلالين ألف درهم إلى أربعين ألف درهم، ففسد بذلك حال المغل فيما بينهم وقدموا إلى مصر. فكان السلطان يدفع في المملوك للتاجر المائة ألف درهم فما دونها، واقتدي به الأمراء في ذلك، حتى إن بعض أمرائه كان له مملوك حظي كان له في كل يوم ثمانون عليقة وكان لأمير أخر مملوك حظي له في كل يوم أربعون عليقة. وكان في الأمراء من يبلغ خاصة في كل سنة زيادة على مائتي ألف دينار، مثل بكتمر وقوصون وبشتاك، ومن عداهم يزيد خاصه على مائة ألف دينار في السنة، ومنهم من ينقص عن دلك.
وشغف السلطان الناصر أيضاً بالخيل، فجلبت له من البلاد، لاسيما خيول العرب آل منها وآل فضل، فإنه كان يقدمها على غيرها، ولهذا كان السلطان يكرم العرب ويبذل لهم الرغائب في خيولهم، ويتغالى في أثمانها.
وكان إذا سمع العربان بفرس عند بدوي أخدوها منه بأغلى القيم، وأخذوا من السلطان مثلى ما دفعوه فيها. وكان له في كل طائفة من طوائف العرب عين يدله على من عنده منهم الفرس السابق أو الأصيل حتى يأخذها بأكثر مما في نفس صاحبها من الثمن. فتمكنت منه بذلك العربان، ونالوا المنزلة العلية، وحظوا بأنواع السعادات في أيامه. وكان يكره خيول برقة فلا يأخذ منها إلا ما بلغ الغاية في الجودة، وما عدا ذلك منها إذا حملت إليه فرقه بخلاف خيول العرب آل مهنا وآل فضل، فإنه كان لا يسمح بها إلا للخاصكية.
وكانت له معرفة بالخيل وأنسابها وذكر من أحضرها ومبلغ ثمنها، بحيث يفوق فيها من عداه. وكان إذا استدعى بفرس يقول لأمير أخور: هات الفرس الفلانية التي أحضرها فلان واشتريناها بكذا وكذا " . ولما اشتهرت رغبته فيها بين العرب جلبت له من بلاد العراق ومن البحرين والحسا والقطيف وبلاد الحجاز، وتقرب بها إليه عامة طوائف العرب، وجلبوها له. وكان إذا جاءه شيء منها عرضه، ودفع في الفرس العشرة آلاف والعشرين ألف والثلاثين آلف درهم، سوى الإنعام على مالكها، وكان صاحب الفرس إذا اشتد عليه زاده حتى يرضيه، فإذا أخذ ثمن فرسه وأراد السفر إلى بلاده أنعم عليه بتفاصيل ثياب تصلح له ولعياله، سوى السكر ونحوه. وطالما وزن كريم الدين الكبير في أثمان خيول العربان التي جلبت للسلطان دفعة واحدة مبلغ ألف ألف درهم، ومبلغ خمسمائة ألف درهم، ودون ذلك.
وكانت خيول مهنا وأولاده فيها ما بلغ الفرس منها إلى ستين ألف وسبعين ألف درهم وفي حجورتهم ما بلغ ثمانين ألف وتسعين ألفاً ومائة ألف درهم. وبلغ ثمن بنت الكرتا التي أحضرها محمد بن عيسى أخو الأمير مهنا للسلطان، سنة خمس عشرة وسبعمائة مائة ألف درهم وضيعة بثمانين ألف درهم. وأقطع السلطان الناصر عرب آل مهنا وآل فضل بسبب الخيل عدة ضياع بأراضي حماة وحلب، سوى أثمانها.
فكان أحدهم إذا أراد من السلطان شيئاً له قدم عليه في معنى أنه جاء ليدله على فرس عند فلان يقال إلا كذا، ويعظم أمرها عنده، فيكتب السلطان من فوره بطلب تلك الفرس، فيشتد صاحبها ويمتنع من قودها، ثم يقترح ما شاء من الضياع، ولايزال حتى يبلغ غرضه، وصار ذلك معروفاً فيما بينهم. وكان السلطان الناصر أول من اتخذ من ملوك الأتراك ديواناً للإصطبل، عمل له ناظر وشهوداً وكتاباً لضبط أسماء الخيل وشياتها وأوقات ورودها وأسماء أربابها. ومبلغ ثمنها ومعرفة سواسها، وغير ذلك من أحوالها وكان لايزال يتفقد الخيول، فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنه بعث به مع أحد الأوجاقية إلى الجشار بعد ما يحمل عليها حصاناً يختاره، ويأمر بضبط تاريخ نزوه، فتوالدت عنده خيول كثيرة حتى أغنته عن جلب ما سواها، ومع ذلك فإنه كان يرغب في الفرس الذي يجلب إليه أكثر مما توالد عنده. فعزت العرب من آل مهنا وآل فضل وآل مرا في أيامه، وكثرت سعادتها واتسعت أحوالها بالأموال والضياع، وحملتهم الدالة حتى طلبوا من السلطان الناصر بلاد أمراء حلب وحماة ودمشق، فأنعم بها عليهم، وعوض الأمراء عنها، حتى صاروا من القوة والكثرة بحيث يخافهم من عداهم من سائر العرب. وشمل الغنى عامتهم، فكانوا إذا رحلوا إلى مشاتيهم أو مصائفهم تكون أموالهم من الذهب والفضة ملء رقاب الجمال، إلى غير ذلك من الإبل والغنم والخيل التي لا تدخل تحت حصر. ولبسوا في أيامه الحرير الأطلس المعدني بالطرز الزوكشي والشاشات المرقومة بالطرز، ولبسوا القرصيات بالطرز الزركشي والداير الباولي والإسكندري المطرز بالذهب وصاغ السلطان لنسائهم الأطواق الذهب المرصع، وعمل لهن الشنابر المشهرة بأكر الذهب، والأساور المرصعة بالجوهر واللؤلؤ، وبعث لهن القماش السكندري والشرب والشمع، وعمل لهن البراقع المزركشة والمسك وأنواع الطيب.
وذلك بعدما كان لبس أمرائهم إلى آخر الأيام المنصورية قلاوون الطراطير الحمر من تحت العمائم الشامية من القطن، وكانت خلعهم إما مسمط أو كنجي.
وأول من لبس منهم طرد وحش مهنا بن عيسى في أيام المنصور لاجين لموده بينهما، فأنكر الأمراء ذلك، فاعتذر لهم لاجين بتقدم صحبته له وأياديه عنده، وأنه أراد أد يكافئه على ذلك. وقدم مهنا وأخوه في أيام تحكم بيبرس وسلار في الدولة، فسألا أن يقطعا ضيعة من بلاد حلب، وينزلا عما بأيديهما عوضاً عنها، فغضب الأمين سلار من ذلك، وقال: يا عرب وصلتم إلى أن تأخذوا ضياع القلاع والأجناد وتعملوها لكم إقطاعا، ونهرهما، فخرجا من عنده على حالة غير مرضية. ولما عدى الظاهر بيبرس الفرات، وكسر المغل، وكان معه مهنا بن مانع بن حذيفة في ألفين من عربه وكانوا يقفون على مخائص الفرات، ويتقدمون بين يدي العسكر خوفاً من غرقهم.
فلما قدم السلطان الظاهر بيبرس إلى حلب سأل مانع أبو مهنا الأمير قلاوون أن يكون لابنه مهنا أرض على سبيل الرزقة، ويقوم عليها أربعة أفراس وعشرة جمال. فلما تحدث قلاوون في ذلك مع السلطان بيبرس لم يجبه بشيء حتى حضر مانع في الخدمة مع الأمراء، فقال له: ويلك يا بدوي نحس وصلت أن تطلب زيادة على إقطاع ولدت، وتبرطل السلطان على ملكه، والله لئن سمعت عنكم شيئاً من هذا لأخرجنكم من البلاد خروجاً نحساً وأكثر من هذا وشبهه، فما زال به قلاوون والأمراء حتى سكن غيظه. فخالف السلطان الناصر سيرة من تقدمه من الملوك في أمر العرب حتى قال له صفرة بن سليمان بن مهنا: لقد أفسدت علينا نسواننا، يريد لكثرة ما غمرهن السلطان بالمال. وأرسل له مرة بن مهنا مع قاصده يقول له: خف الله في المسلمين وبيت المال، فإنك تفرقه على العرب ونسائهم وصغارهم. فكيف يحل لك هذا، ومتى سمعت عن بدوية أنها تلبس غير الثوب من القطن والبرقع المصبوغ وفي يدها سوار من حديد، وإن شمت طيباً فمن زاد بهذا لها؟ فو الله لقد أفسدت حال العرب وحال نسائهم وأطمعتهم في شيء لم يكونوا يطمعون فيه قبلك. ونحو ذلك من العتب.
ومات السلطان الناصر وفي الجشارات ثلاثة آلاف فرس، يعرض في كل سنة عليه فيدفعها ويسلمها للركابين من العربان لرياضتها، ثم ينعم بأكثرها على الأمراء والخاصكية، ويفرح بذلك، ويقول: هذه فلانة بنت فلانة أو فلان ابن فلانة، عمرها كذا وشراء أمها كذا، وشراء أبيها كذا وكان يتقدم إلى الأمراء أن يضمروا الخيول، ويرتب على كل أمير من أمراء الألوف أربعة أرؤس في كل سنة يضمرها، ويسير للأمير أيدغمش أمير أخور أن يضمر خيلاً من غير أن يعلم الأمراء أنها للسلطان بل يشيع أنها له، ويرسلها للسباق مع خيل الأمراء في كل سنة.
وكان عند الأمير قطلوبغا الفخري حصان أدهم سبق خيل مصر كلها ثلاث سنين متوالية. وكان السلطان يرسل إلى مهنا وأولاده أن يحضروا بالخيل السبق عندهم للسباق ثم يركب إلى ميدان القبق ظاهر القاهرة فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر، ويرسل الخيل وعدتها دائماً ما ينيف على مائة وخمسين فرساً، إلى أن بعث، مهنا مع ولديه سليمان وموسى حجرة شهباء على أنها إن سبقت كانت للسلطان، وإن سبقت ردت عليه، بشرط ألا يركبها للسباق إلا بدويها الذي قادهاه فلما ركب السلطان والأمراء، ووقفوا على العادة ومعهم أولاد مهنا بالميدان، وأرسلت الخيل من البركة كما جرت به العادة، ركب البدوي حجرة مهنا الشهباء عريا بغير سرج، وقد لبس قميصاً ولاطية فوق رأسه. فأقبلت الخيل تتبع بعضها بعضاً، وهي قدام الجميع وبعدها على قرب منها حصان لأيدغمش يعرف بهلال. فلما وقف البدوي بالشهباء بين يدي السلطان صاح بصوت ملأ الخافقين. السعادة لك اليوم يا مهنا، لا شقيت وألقى نفسه إلى الأرض من شدة التعب، ثم قدم الحجرة للسلطان.
فكان هذا دأب السلطان الناصر في كل سنة. وترك السلطان الناصر أيضاً بالإسطبلات أربعة آلاف فرس وثمانمائة فرس، ما بين حجورة ومهارة وفحولة وأكاديش ، وترك من الهجن الأصائل والنياق خمسة ألاف ونيف، سوى أتباعها. وكان يحب الصيد، فلم يدع أرضاً تعرف بصيد الطير إلا وأقام بها صيادين مقيمين في البرية أوان الصيد.
وجلب طيور الجوارح من الصقورة والشواهين والسناقر والبزاة، حتى كثرت السناقر في أيامه، فصار كل أمير عنده منها عشرة سناقر وأقل وأكثر. وجعل لها بازدارية جوندارية وأقطع عدة منهم الإقطاعات، وأجرى لهم الرواتب من اللحم والعليق والكساوي وغير ذلك.
وترك بعد موته مائة وعشرين سنقراً لخاصه، ولم يعهد مثل هذا لملك قبله بمصر، بل كان في الأيام المنصورية سنقر واحد، فإذا ركب السلطان في الموكب كان بازداره أيضاً راكباً والسنقر على يده.
ولما توجه الأمير حسام الدين طرنطاي لحصار سنقر الأشقر بصهيون سأل أن يكون هذا السنقر في طلبه، ليتجمل به من غير أن يتصيد به ولا يرميه على صيد.
وترك من الصقورة والشواهين ونحوها ما لا ينحصر، وترك ثمانين جوقة كلاب الصيد بكلابزيتها، وكان قد اتخذ لها موضعاً بالجبل.
وعني السلطان الناصر أيضاً بجمع الأعنام، وأقام لها خولة وكان يبعث في كل سنة الأمير آقبغا عبد الواحد في عدة من المماليك السلطانية ليكشف المراحات من قوص إلى الجزيرة، ويأخذ منها ما يتخيره من الأغنام، وكان يجرد أيضاً إلى عيذاب وبلاد النوبة لجلب الأغنام. وعمل السلطان لها حوشاً بقلعة الجبل، وأقام لها خولة نصارى من الأسرى.
وعني أيضاً بالإوز، وأقام لها عدة من الخدم والجواري، وجعل لها جايرا بحوش الغنم. فبلغت عدة الأغنام التي تركها بعد موته نحو الثلاثين ألف رأس، سوى أتباعها. فاقتدى به الأمراء وصارت لهم أغنام عظيمة جداً في عامة أرض مصر قبليها وبحريها.
وكان السلطان الناصر كثير العنايه بأرباب وظائفه وحواشيه من الأمير آخورية والأوجاقية، وغلمان الإصطبل والبزدارية، والفراشين والخولة والطباخين. فكان إذا جاء أوان تفرقة الخيول على الأمراء بعث إلى الأمير بما جرت به عادته مع أمير أخور وأوجاقي وسايس وركبدار، وترقب عودتهم حتى يعرف ما أنعم به ذلك الأمير عليهم، فإن شج الأمير عليهم في عطائه تنكر له وبكته بين الأمراء ووبخه.
وقرر أن يكون أمير أخور الكبير بينهم بقسمين، ومن عداه بقسم واحد. وكان أيضاً إذا بعث إلى أحد من الأمراء طيراً مع أمير شكار أو أحد من البزدارية يحتاج الأمير أن يلبسه خلعة كامله بحياصة ذهب وكفلتاه زركش، فيعود بها ويقبل الأرض بين يدي السلطان، فيستدنيه ويفتش خلعته.
وكانت عادته أن يبعث يوم النحر أغنام الضحايا إلى الأمراء مع الأبقار والنوق، فبعث مرة صحبة بعض الخولة النصارى إلى الأمير بيبغا حارس الطير ثلاثة كباش، فأعطاه بيبغا عشرة دراهم فلوساً، فعاد الخولي إلى السلطان فقال له: " وأين خلعتك فطرح الفلوس بين يديه وعرفه بها، فغضب وأمر بعض الخدام أن يسير بالخولي إلى بيبغا، ويقول له: قال لك السلطان: لا فتح الله عليك برزق. ويلك أما كان عندك قباء ترميه على غلامي؟. وخله يلبسه طرد وحش. فلما بلغه الخادم ذلك ندم وأخذ يعتذر، وألبس الخولي قباء طرد وحش.
وكانت حرمته ومهابته قد تجاوزت الحد، حتى إن الأمراء إذا وقفوا بالخدمة لا يجسر أحد منهم أن يتحدث منهم رفيقه بكلمة واحدة، ولا يلتفت نحوه، خوفاً من مراقبة السلطان لهم.
وكان لا يجسر أن يجتمع مع خشداشه في نزهة ولا غيرها، من رمي النشاب ونحوه، فإذا بلغه اجتماع أحد مع أخر أسر ذلك في نفسه، وأمسكه أو نفاه.
وخرب السلطان الناصر عدة مرار مرامي النشاب، ومنع المماليك من الرمي، وأغلق حوانيت البندقانيين وصناع قسي النشاب وقسي البندق، ونادى من عمل قوس بندق شنق. وخرب مرة دكاكينهم، من أجل أن مملوكاً رمي بالبندق فوقعت في عين امرأة قلعتها. ولقي غازان عهلي فرسخ من حمص، ثم كانت له وقعة شقحب المشهورة ودخل بعساكره بلاد سيس، وقرر على أهلها الخراج أربعمائة ألف درهم في السنة كما كان، بعد امتناعهم من حمله. وغزا ملطية وأخذها، وغزا بلاد سيس بعسكر مصر ثلاث مرات بعدما أمر التركمان بالغارة عليها - وخرب بلادهما حتى قرر عليهم الخراج ستمائة ألف درهم في كل سنة، ومنعوا الخراج مرة، فبعث العسكر وأخذ مدينه أياس، وخرب البرج الأطلس وسبعة حصون، وأقطع أراضيها للأمراء والأجناد. وأخذ جزيرة أرواد من الفرنج، وغزا بلاد اليمن وبلاد عانة والحديثة في طلب مهنا. وبعث العساكر في طلب الشريف حميضة نحو الحسا والقطيف وجرد إلى مكة والمدينة العساكر لتمهيدها، ومنع أهلها من حمل السلاح بها.
وعمر قلعة جعبر بعد خرابها، وأجرى نهر حلب إلى المدينة، وعمر دمشق. وولى بلاد الروم نيابة لأرتنا، وخطب له بها وبماردين وبجبال الأكراد وحصن كيفا وبغداد وغيرها من بلاد الشرق، وهو بكرسي ملك مصر. وأتته هدية ملوك المغرب والهند والصين والحبشة والتكرور والنوبة والترك والروم والفرنج.
وكان السلطان الناصر على غاية من الحشمة ورياسة النفس وسياسة الأمور، فلم يضبط عليه أحد أنه أطلق لسانه بكلام فاحش في شدة غضبه ولا في انبساطه وكان يدعو الأمراء وأرباب الولايات وأصحاب الأشغال بأحسن أسمائهم وأجل ألقابهم، وإذا غضب على أحد لا يذكر له ذلك. وكان يقتصد في لباسه، فيلبس كثيراً البعلبكي والنصافي المتوسط، ويعمل حياصته فضة نحو مائة درهم بغير ذهب ولا جوهر، ويركب بالسرج المسقط بالفضة التي زنتها دون المائة درهم، وعباءة فرسه إما تدمري أو شامي ليس فيها حرير.
وكان مفرط الذكاء، يعرف جميع مماليك أبيه وأولادهم بأسمائهم، ويعرف بهم الأمراء، وكذلك مماليكه لا يغيب عنه اسم أحد منهم ولا شغله عنده ولا مبلغ جامكيته.
وكان يعرف أيضاً غلمانه وحاشيته على كثرة عددهم، ولا يفوته معرفة أحد من الكتاب، فإذا أرد أن يولي أحداً مكاناً أو يرتبه في وظيفة استدعى جميع الكتاب إلى بين يديه، واختار منهم واحد أو أكثر من غير أن يرجع فيهم إلى أحد، ثم يقيمه فيما يريد من الوظائف.
وكان فيه تؤدة، فإذا غضب على أحد من أمرائه أو كتابه أسر ذلك في نفسه، وتروى فيه مدة طويلة، وهو ينتظر له ذنباً يأخذه به، كما وقع له في أمر كريم الدين الكبير والأمير أرغون النائب والأمير طغيه وغيرهم، فإنه أقام عدة سنين يريد القبض عليهم وهو يتأنى ولا يعجل، إلى أن عثر لهم على ذنوب توجب له أخذهم بها، حتى لا ينسب إلى ظلم ولا حيف، فإنه كان يعظم عليه أن يذكر عنه أنه ظالم أو جائر أو فيه حيف أو وقع في أيامه خراب أو خلل، ويحرص على حسن القالة فيه وذكره بالجميل.
وكان يستبد بأمور مملكته، ويتفرد بالأحكام، حتى أنه أبطل نيابة السلطنة ليشتغل بأعباء الدولة وحده. وكان يكره أن يقتدي بمن تقدمه من الملوك، ولا يحتمل أن يذكر عنده ملك. وكان يكره شرب الخمر ويعاقب عليه، ويبعد من يشربه من الأمراء عنه.
وبلغ السلطان الناصر من الكرم والجود والأفضال وسعة العطاء غاية تخرج عن الحد، فوهب في يوم واحد ما يزيد على مائة ألف دينار ذهباً، ولم يزل مستمر العطاء لخاصكيته ما بين عشرة ألاف دينار ونحوها.
وسئل النشو: هل أطلق السلطان يوماً ألف ألف درهم؟ قال: نعم كثيراً. وأنعم في يوم على بشتاك بألف ألف درهم في ثمن قرية، وأنعم على موسى بن مهنا بألف ألف درهم في ثمن القريتين. واشترى من الرقيق في مدة أولها شعبان سنة اثنين وثلاثين إلى سنة سبع وثلاثين بأربعمائة ألف دينار وسبعين ألف دينار.
وكان ينعم على تنكز في كل سنة يتوجه إليه بما يزيد على ألف ألف درهم، وأنعم يوماً على قوصون بزردخاناه بكتمر الساقي، وقيمة ما فيها ستمائة ألف دينار، أخذ السلطان من الجميع سرجاً واحداً وسيفاً واحداً.
ولما تزوج قوصون بابنته حمل إليه الأمراء شيئاً كثيراً، ثم بعد ذلك زوج ابنته الأخرى بطغاي تمر وقال: ما نعمل له عرساً، لأن الأمراء يقولون هذه مصاردة بحسن عبارة، ونظر إلى طغاي تمر فرأه وقد تغير. فقال للقاضي تاج الدين إسحاق ناظر الخاص: يا قاضي اعمل لي ورقة بمكارمة الأمراء في عرس قوصون، فعمل ورقة وأحضرها، فقال: كم الجملة؟، فقال: خمسون ألف دينار، فقال: أعط نظيرها من الخزانة لطغاي تمر، وهذا سوى ما دخل مع الزوجة من الجهاز.
وجرى يوماً عند السلطان ذكر عشرين ألف دينار، فقال يلبغا اليحياوي: يا خوند أنا والله عمري ما رأيت عشرين ألف دينار، فلما راح من عنده طلب النشو وقال له. احمل الساعة إلى يلبغا عشرين ألف دينار، وجهزها مع الخازندارية، وجهز خمسة تشاريف أحمر أطلس بكلفات زركش وطرز زركش وحوائص ذهب ليخلع ذلك عليهم.
وكان راتب مطبخه، ورواتب الأمراء والكتاب الذين هم على مطبخه، في كل يوم ستة وثلاثين ألف رطل لحم. وكانت نفقات العمائر الراتب لها في كل يوم ألفا درهم، سوى ما يطرأ.
وبالغ السلطان الناصر أخيراً في مشترى المماليك: فاشترى صرغتمس بخمسة وثمانين ألف درهم، سوى تشريف أستاذه، وغير ما كتب له من المسامحة، وأما العشرة والعشرين والثلاثين فكثير. وغلا الجواهر واللؤلؤ في أيامه. وبذل في أثمان الخيل ما لم يسمع بمثله. وجمع من المال والجواهر واللؤلؤ ما لم يجمعه ملك من ملوك الترك قبله.
وعرفت رغبته في الجواهر، فجلبها إليها التجار من الأقطار، وشغف بالسراري، فحاز منهن كل بديعة الجمال. وجهز إحدى عشرة ابنة له بالجهاز العظيم، فكان أقلهن جهازا بثمانمائة ألف دينار: منها قيمة بشخاناه وداير بيت وما يتعلق به بمائة ألف دينار، وبقية ذلك ما بين جواهر ولألئ وأواني ونحو ذلك. ثم إنه زوجهن من مماليكه: مثل الأمير قوصون، والأمير بشتاك، والأمير ألطنبغا المارديني، والأمير طغاي تمر، والأمير عمر بن النائب وغيرهم، وجهز سراريه وجواريه ومن يحسن بخاطره من النساء كل واحدة بنحو ذلك وبأكثر منه. واستجد النساء في أيامه المقنعة والطرحة بنحو عشرة ألاف دينار، وبما دون ذلك إلى خمسة، ألاف درهم، والفرجيات بمثل ذلك. واستجد أيضاً في أيامه للنساء الخلاخيل الذهب، والأطواق المرصعة بالجواهر الثمينة، والقباقيب الذهب المرصعة بالجواهر، والأوطية المرصعة، والأزر الحرير، فكانت قيمة إزار المرأة من أحاد النساء ألف درهم، عنها نحو الخمسين ديناراً مصرية.
وكان السلطان الناصر يحمل إلى ملوك الشرق من المال ما لا ينحصر، وبذلك كان ينال مقاصده منهم ويبلغ أغراضه فيهم، فإنه كان يعم نواب الملك والخواتين بما يبهرهم به من المصاغ والجواهر والقماش الإسكندري المناسب لهم.
واتفق أنه جهز مرة لأبي سعيد بن خربندا صحبة الأمير أيتمش المحمدي هدية عظيمة جداً، فقال له الفخر ناظر الجيش: قد اغنى الله السلطان عن هؤلاء فإنهم في طاعته عن أن يبعث لهم بهذا المال. فقال له: اسكت يا قاضي فخر الدين والله لو علمت الذي أعلمه ما قلت هذا. اعلم يا قاضي أن المال الذي أسيره إليه ما يجي ء قدر ثمن الروايا وكلف السقايين الذين يذهبون معي في البيكار، وأكون قد وفرت نفسي وعسكري.
ولم يعهد في أيام ملك قبله ما عهد في أيامه من مسالمة الأيام له، وعدم حركة الأعداء براً وبحراً وخضوع جميع الملوك له ومهاداتهم إياه وكان يصل إلى قتل من يريد قتله بالفداوية، لكثرة بذله لهم الأموال.
وكان يحب العمارة، فلم يزل من حين قدم من الكرك إلى أن مات مستمر العمارة، فجاء تقدير مصروفه كل يوم مدة هذه السنين ثمانية آلاف درهم. وكان ينفق على العمارة المائة ألف درهم، فإذا رأى فيها ما لا يعحبه هدمها كلها وجددها على ما يختار.
و لم يكن من قبله من الملوك في الإنفاق على العمارة كذلك، بل أراد المنصور قلاوون مرة أن يبني مصطبة عليها رفرف يقيه حر الشمس ليجلس عليها، فكتب له الشجاعي على تقدير مصروفها أربعة ألاف درهم، فتناول الورقة من يد الشجاعي ومزقها وقال: أقعد في مقعد بأربعة ألاف انصبوا لي صيواناً إذا نزلت، ولا أخرج من بيت المال لمثل هذا شيئاً. وكذلك كان الظاهر بيبرس ومن قبله لا يستهون بالمال، وإنما يدخرونه صيانة وخوفاً، و لم يعرف لآحد منهم أنه أنعم بألف دينار جملة واحدة.
وراك السلطان الناصر أرض مصر والشام، وأبطل عدة مظالم من المكوس والضمانات: مثل ساحل الغلة، وكان عليه ستمائة جندي، ما منهم إلا من له في كل سنة ما بين ثمانية ألاف درهم إلى ستة ألاف درهم، سوى ما عليه للأمراء، ومثل الحقوق التي كانت على الأسربة إذا كسحت، وعليها أيضاً عدة أجناد فرتب لهم في كل سنة جملة لكل منهم، ومثل جهات ابن البطوني، وكان هذا الرجل يأخذ على رد العبيد والجواري الآبقين ضريبة، ويقيم من تحت يده رجالاً على الطرقات لرد الهاربين، ويقوم للديوان في كل سنة بمال. وأبطل السلطان غير ذلك من المكوس، كما تقدم عند عمل الروك.
وكان السلطان الناصر متسع الحال. بلغ راتبه من اللحم في كل يوم لمطبخه ومرتب مماليكه ستة وثلاثين ألف رطل لحم.
واستجد في أيامه عمائر كثيرة: منها حفر خليج الإسكندية من بحر فوة في مدة أربعين يوماً، عمل فيه فوق المائة ألف رجل من أهل النواحي، فاستجد عليه عدة سواقي، وبساتين في أراضي كانت سباخا، فصارت مزارع قصب السكر والسمسم، وعمرت هناك الناصرية، ونقل إليها مقداد بن شماس بأولاده وعدتهم مائة ولد ذكر، واستمر الماء طول السنة بخليج الإسكندرية. وأنشأ الميدان تحت القلعة، وأجرى له المياه، وغرس فيه النخل والأشجار، ولعب فيه بالكرة في كل يوم ثلاثاء مع الأمراء والخاصكية، وعمر فوقه القصر الأبلق. وأخرب البرج الذي عمره أخوه الأشرف خليل على الإصطبل، وجعل فوقه رفرفا، وترك أصله من أسفله، وعمر بجانبه برجاً نقل إليه المماليك. وغير باب النحاس بالقلعه، ووسع دهليزه. وعمر في الساحة قدام الإيوان طباقاً للأمراء والخاصكية، وغير الإيوان مرتين، وفي المرة الثالثة أقره على ما هو عليه الآن، وحمل إليه العمد الكبار من بلاد الصعيد، فجاء من أعظم المباني الملوكية. وعمر بالقلعة دوراً للأمراء الذين زوجهم ببناته، وأجرى إليها المياه، وعمل بها الحمامات، وزاد في باب القلة من القلعة باباً ثانياً. وعمر حارة مختص، وعمر الجامع بالقلعة والقاعات السبع التي تشرف على الميدان وباب القرافة لأجل سكنى سراريه. وعمر المطبخ، وجعل عمائره كلها بالحجارة خوفاً من الحريق. وعزم أن يغير باب القلعة المعروف بالمدرج، ويعمل له دركاه، فمات قبل ذلك. وعمل في القلعة حوش الغنم وحوش البقر وحوش المعزى وجاير الأوز، وغير ذلك، فأوسع فيها نحو خمسين فداناً. وعمر الخانكاه بناحية سرياقوس ورتب بها مائة صوفي لكل منهم الخبز واللحم والطعام والحلوى وسائر ما يحتاج إليه. وعمر القصور بالقرب منها، وعمل لها بستاناً حمل إليها الأشجار من دمشق وغيرها، فصار به عامة فواكه الشام. وحفر الخليج الناصري خارج القاهرة حتى أوصله إلى سرياقوس، فعمر على هذا الخليج عدة قناطر: منها قنطرة بفمه عند الميدان أنشأها الفخر ناظر الجيش، وقنطرة قدادار والي القاهرة، وغير ذلك، فصار بجانبي الخليج عدة بساتين، وعمرت به أرض الطبالة بعد خرابها من أيام العادل كتبغا. وعمرت في أيام السلطان الناصر جزيرة الفيل وناحية بولاق بعدما كانت رمالاً ترمي بها المماليك النشاب، وتلعب الأمراء فيها بالكرة، فصارت كلها دوراً وقصوراً وجوامع وأسواق وبساتين.
وبلغت البساتين بجزيرة الفيل زيادة على مائة وخمسين بستاناً، بعدما كانت نحو العشرين بستاناً. واتصلت العمارة على ساحل النيل من منية الشيرج إلى جامع الخطيري، إلى حكر ابن الأثير وزريبة قوصون، إلى منشأة الكتبة ومنشأه المهراني، إلى بركة الحبش، حتى كان الإنسان يتعجب لذلك، فإنه كان يعهد هذا كله تلال رمل وحلفاء، فصار لا يرى فيه قدر ذراع إلا وفيه بناء.
وعمرت في أيامه أيضاً القطعة التي فيما بين قبة الإمام الشافعي إلى باب القرافة، بعدما كانت فضاء لسباق خيل الأمراء والأجناد والخدام، فتحصل به اجتماعات جليلة للتفرج عليهم، إلى أن أنشأ السلطان تربة الأمير بيبغا التركماني.
فعمر ذلك كله ترباً وخوانك، حتى صارت العمائر متصلة من باب القرافة إلى بركة الحبش، لا يوجد بها قدر ذراع بغير عمارة، وتنافس الأمراء في ذلك حتى بلغوا في عمارته مبلغاً عظيماً إلى الغاية وعمر في أيامه أيضاً الصحراء التي فيما بين القلعة وخارج باب المحروق إلى قبة النصر وكان هناك ميدان القبق من عهد الظاهر بيبرس، برسم ركوب السلطان وعمل الموكب به، وبرسم سباق الخيل.
وأول من عمر فيه الأمراء قراسنقر تربة، وعمل لها حوض ماء للسبيل يعلو مسجد، ثم اقتدى به الأمراء والأجناد وغيرهم حتى امتلأ الميدان من كثيرة العمائر.
وعمر السلطان لمماليكه عدة قصور: منها قصر الأمير طقتمر الدمشقي بحدرة البقر، وبلغ مصروفه ثمانمائة ألف درهم، فلما مات طقتمر أنعم به السلطان على الأمير طشتمر حمص أخضر، فزاد فيه.
ومنها قصر الأمير بكتمر الساقي على بركة الفيل، فعمل أساسه أربعين ذراعاً، وارتفاعه عن الأساس مثلها، فزاد مصروفه على ألف ألف درهم. ومنها الكبش حيث كانت عمارة الملك الصالح نجم الدين أيوب فعمله السلطان سبع قاعات برسم نزول بناته وسراريه فيها للتفرج على ركوب السلطان إلى الميدان الكبير، ولم ينحصر ما أنفق فيها لكثرته. ومنها إصطبل الأمير قوصون بسوق الخيل تحت القلعة، حيث كان إصطبل الأمير سنجر البشمقدار، وإصطبل سنقر الطويل. ومنها قصر بهادر الجوباني، بجوار زاوية البرهان الصائغ بالجسر الأعظم تجاه الكبش. ومنها قصر قطلوبغا الفخري، وقصر ألطنبغا المارديني وقصر يلبغا اليحياوي وهو أجل ما عمره من القصور، انصرف على أساسه خاصة عن ثمن جير وحجر وأجرة مائة وثلاثين ألف درهم، وعمل نزوله في الأرص ثلاثين ذراعاً، واحتيج فيه إلى زنة عشرة آلاف درهم لازورد لدهان سقوفه، ثمنها مائة ألف درهم.
وعمر الأمراء في أيام السلطان الناصر عدة دور: منها دار الأمير أيدغمش أمير آخور، ودار آقبغا، ودار طقزدمر، ودار بشتاك على النيل وهي تشتمل على ربع كبير فوق زريبة بجوار جامع طيبرس، وقصر بشتاك بالقاهرة، وقد ذكرت هذه القصور والدور في كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والأمطار ذكراً مستوعباً لأخبارها.
وكانت للسلطان عناية كبيرة ببلاد الجيزة، وعمل على كل بلد بها جسراً أو قنطرة وكانت أكثر بلادها تشرق لعلوها، فعمل جسر أم دينار في ارتفاع اثنتي عشرة قصبة، أقام العمل فيه مدة شهرين، فحبس الماء حتى رويت تلك الأراضي كلها، وعم النفع بها. وقوي بسبب هذا الجسر الماء حتى حفر بحراً يتصل بالجيزة وخرج في أراضيها عدة مواضع زرعت بعدما كانت شاسعة، أخذ منها قوصون وبشتاك وغيرهما عدة أراضي عمروها ووقفوها، واستجد السلطان على بقيتها ثلاثمائة جندي.
واستجدت في أيامه عدة أراضي بنواحي الشرقية وفوة وشباس، أقطعت لعدة أجناد وعمل أيضاً جسر شيبين، فزاد بسببه خراج الشرقية. وعمل جسراً خارج القاهرة حتى رد النيل على منية الشيرج وغيرها، وعمرت بسببه بساتين جزيرة الفيل، وكثر عددها. وأحكم السلطان عامة أرض مصر قبليها وبحريها بالترع والجسور، حتى أتقن أمرها، وكان يوكب إليها برسم الصيد في كل قليل، ويتفقد أحوالها، وينظر في جسورها وتراعها وقناطرها بنفسه، بحيث أنه لم يدع في أيامه موضعاً منها حتى عمل فيه ما يحتاج إليه. وكان له سعد في جميع أعماله، فكان يقترح المنافع من قبله بعد أن كان يزهده فيما يأمر به حذاق المهندسين، ويقول بعضهم.يا خوند الدين جاءوا من قبلنا لو علموا أن هذا يصح لفعلوه، فلا يلتفت إلى قولهم، ويفعل ما بدا له من مصالح البلاد، فتأتيه أغراضه على ما يحب ويختار، فزاد في أيامه خراج مصر زيادة هائلة في سائر الأقاليم.
وكان إذا سممع بشراقي بلد أو قرية من القرى أهمه ذلك، وسأل المقطع بها عن أحوال القرية المذكورة غير مرة، بل كلما وقع بصره عليه، ولا يزال يفحص عن ذلك حتى يتوصل إلى ريها بكل ما تصل قدرته إليه. كل ذلك وصاحبها لا يسأله في شيء من أمرها، فيكلمه بعض الأمراء في ذلك فيقول: هذه قريتي، وأنا الملزوم بها والمسؤل عنها، فكان هذا دأبه، وكان يفرح إذا سأله بعض الأجناد في عمل مصلحة بلده بسبب عمل جسر أو تقاوي أو غير ذلك، وينبل ذلك الرجل في عينه، ويفعل له ما طلبه من غير توقف ولا ملل في إخراج المال، فإن كلمه أحد في ذلك فيقول: فلم نجمع المال في بيت المسلمين إلا لهذا المعنى وغيره، فهذه كانت عوائده.
وكذلك فعل بالبلاد الشامية، حتى إن مدينة غزة هو الذي مصرها وجعلها على هذه الهيئة، وكانت قبل كآحاد قرى البلاد الشامية، وجعل له نائباً، وسمي بملك الأمراء، و لم تكن قبل ذلك إلا ضيعة من ضياع الرملة، ومثلها فكثير من قرى الشام وحلب والساحل يطول الشرح في ذكر ذلك.
وأنشأ السلطان الناصر الميدان الكبير على النيل وخرب ميدان اللوق الذي أنشأه الظاهر بيبرس، وعمله بستاناً حملت إليه الأشجار من دمشق وغيرها، فكانت فواكه تحمل إلى الشراب خاناه السلطانية. ثم أنعم به على الأمير قوصون، فبنى تجاهه على الزريبة المعروفة بزريبة قوصون، ووقفهما. واقتدى به الأمراء في العمارة، فأخذ قوصون بستان بهادر رأس نوبة ومساحته خمسة عشر فداناً وحكر للناس، فبنوه دوراً، وعرف بحكر قوصون.
وحكر السلطان حول البركة الناصرية أراضي البستان، فعمره الناس وسكنوا فيه. وحكر الأمير طقزدمر بجوار الخليج بستاناً مساحته ثلاثون فدانا، وبني له قنطرة عرفت به وعمل هناك حماماً وحوانيت، فصار حكراً عظيماً للمساكين. وحكر الأمير آقبغا عبد الواحد بستاناً بجوار بركة الفيل، فعمر عمارة محميرة بعدما كان مقطع طريق، فصار قدر مدينة كبيرة، وأخذ بقية الأمراء جميع ما كان من البساتين والجنينات ظاهر القاهرة وحكروها. وحكرت الدادة حدق - وهي المعروفة باسم ست مسكة القهرمانة - حكرين عرفاً بها، فجاءا من أحسن الأحكار، وأنشات لكل واحد منهما جامعاً تقام به الجمعة. فأنافت الأحكار التي استجدت في أيامه على ستين حكراً، حتى لم يوجد موضع بحكر، واتصلت العمارات من خارج القاهرة إلى جامع ابن طولون والمشاهد، وقد ذكرنا أيضاً هذه الأحكار في كتاب المواعظ والاعتبار ذكراً شافياً.
وفي أيامه عمر الأمير قوصون بالقاهرة وكالة حيث كانت دار تعويل البوغاني .
وعمر الأمير طشتمر حمص أخضر ربعاً بجوار حدرة البقر، وهو الذي عمر قيسارية الحريريين بجوار الوراقين من القاهرة.
وعمر الأمير بكتمر الساقي . بمدينة مصر ربعين وحوانيت على النيل ودار وكالة ومطابخ سكر. وعمر الأمير طقزدمر دار التفاح خارج باب زويلة، والربع الذي فوقه. وتجددت عدة جوامع في أيامه أنافت على ثلاثين جامعاً، منها الجامع الناصري بقلعة الجبل جدده السلطان الناصر وأوسعه، والجامع الجديد الناصري ظاهر من على النيل، وجامع المشهد النفيسي، وجامع الأمير كراي المنصوري بآخر الحسينية، وجامع الأمير طيبرس نقيب الجيش على النيل بجوار خانكاته، - وهو الذي عمر أيضاً مدرسة بجوار الجامع الأزهر بالقاهرة، وجامع الأمير بدر الدين محمد بن التركماني بالقرب من باب البحر وجامع الفخر ناظر الجيش على النيل فيما بين بولاق وجزيرة الفيل، وهو الذي عمر جامعاً آخر خلف خص الكيالة ببولاق، وجامعاً ثالثاً بالروضة، وجامع كريم الدين خلف الميدان، وجامع شرف الدين الجاكي بسويقة الريش، وجامع أمير حسين بالحكر، - وقد بني له قنطرة على الخليج - وجامع الأمير قيدان الرومي بقناطر الوز، وجامع دولت شاه مملوك العلائى بكوم الريش، وجامع الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك بطرف الحسينية، وجامع ناصر الدين الحراني الشرابيشي بالقرافة، وجامع الأمير آقسنقر شاد العمائر قريباً من الميدان، وجامعاً خارج باب القرافة عمره جماعة من العجم، وجامع النوبة بباب البرقية - عمره مغلطاي أخو الأمير ألماس، وجامع بنت الملك الظاهر بيبرس بالجزيرة المستجدة وعمر ما حوله أملاكاً كثيرة - ، وجامع الأمير ألماس بالقرب من حوض ابن هنس، وجامع الأمير قوصون خارج القاهرة، وجامعه خارج باب القرافة، وجامع الأمير عز الدين أيدمر الخطيري على النيل ببولاق، وجامع أخي صاروجا بشون القصب، و جامع الحاج آل ملك بالحسينية، وجامع الأمير بشتاك على بركة الفيل تجاه خانكاته، وجامع ست حدق فيما بين قنطرة السد وقناطر السباع، وجامع ست مسكة قريباً من قنطرة آقسنقر، وجامع الأمير ألطبغا المارديني خارج باب زويلة، وجامع مظفر الدين بن الفلك بسويقة الجميزة من الحسينية وجامع جوهر السحرتي قريباً من باب الشعرية، وجامع فتح الدين محمد بن عبد الظاهر بالقرافة.
واستجد بدمشق في أيام السلطان الناصر أيضاً جامع كريم الدين وجامع شمس الدين غبريال، وجامع الأفرم، وجامع تنكز، وجامع يلبغا.
وجددت الخطب في أيامه بعدة مواضع: فجدد نائب الكرك خطبة بالمدرسة الصالحية، وجدد طقزدمر خطة بالمعزية بمصر. وتجددت خطة بزاوية فخر الدين بن جوشن خارج باب النصر، وجدد نجم الدين أبو بكر بن غازي دلال المماليك خطبة بمسجد فيما بين باب البحر وبولاق، وجددت خطة بجامع محمود بالقرافة بعدما كان تربة. وأخر ما عمره السلطان السواقي بالرصد، فمات و لم يكمل عملها، إلا أنه في أخر أيامه أقام النشو، فأفرط في الظلم.
وشغف السلطان الناصر أيضاً بحب الجواري ، فكتب إلى أعمال مصر ببيع الجواري
المولدات وحملهن إليه، وأخذهن حتى من المغنيات، فزادت عدتهن عنده على ألف ومائتي وصيفة. وكان يكره ممالك أبيه وأخيه، ومازال بهم حتى فنوا في أيامه. وكان لا يمكن مماليكه بالاجتماع بالفقهاء، وتعنت على أجناد الحلقة وعرضهم وقطع منهم جماعة، فمات عقيب ذلك. ورسم بعد موته بغلق حوانيت بين القصرين، وطردت الناس بأجعهم من هناك. وحمل في محفة، وأخرج من القلعة، ومروا به من وراء السور إلى باب النصر، ومعه من الأمراء بشتاك وملكتمر الحجازي وأيدغمش وعدة من الخاصكية.
ثم شقوا به من باب النصر إلى المدرسة المنصورية، وقدامه بعض الحراس تضيء عليه بمسرجة زيت حار، ثم لحقه فانوس فشيعه إلى المدرسة المنصورية. وحمل إلى القبة بها وغسل وحنط، وكفن من المارستان، وقد اجتمع الفقهاء والقراء، ثم دفن على أبيه.
وترك السلطان الناصر من الأولاد محمداً وابراهيم، وعليا، وأحمد، وأبا بكر، وكجك، ويوسف، و شعبان، ورمضان، وإسماعيل، وحاجي وحسيناً، وحسناً وصالحاً، وسبع بنات، فولي السلطة من أولاده ثمانية: وهم أبو بكر، وكجك، وأحمد، وإسماعيل، وشعبان، وحاجي ، وصالح و حسن.
وكانت نوابه بديار مصر كتبغا وسلار، وبيبرس الدوادار، وبكتمر الجوكندار وأرغون الدوادار، و لم يستنب بعد أرغون أحد.
وكانت وزراؤه سنجر الشجاعي، وتاج الدين محمد بن حنا، وفخر الدين عمر بن الخليلي، وسنقر الأعسر، وعز الدين أيبك البغدادي، ومحمد بن الشيخي ، وأيبك الأشقر - وسمي المدبر، وسعد الدين محمد بن عطايا، وضياء الدين أبو بكر بن عبد الله النشائي ، وبدر الدين محمد بن التركماني وأمين الدين عبد الله بن الغنام، وبكتمر الحاجب، ومغلطاي الجمالي. و لم يستوزر بعد الجمالي أحداً.
وكانت قضاته تقي الدين محمد بن دقيق العيد وبدر الدين محمد بن جماعة وجمال الدين سليمان الزرعي وجلال الدين محمد بن القزويني وعز الدين عيد العزيز بن جماعة.
وكان كتاب سره شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله، وعلاء الدين علي بن الأثير، ومحي الدين يحيى بن فضل الله، وعلاء الدين علي بن فصل الله.
كان دواداريته عز الدين أيدمر، وأرغون، وأرسلان، وألجاي، ويوسف بن الأسعد، وبغا، وطاجار.
وكان نظار جيشه بهاء الدين عبد الله بن أحمد الحلي، والفخر محمد بن فضل الله القبطي، وقطب الدين مرسي بن شيخ السلامية، وشمس الدين موسى بن التاج إسحاق، والمكين إبراهيم بن قروينة، وجمال الكفاة إبراهيم. تم ذلك.
السلطان أبو بكر بن الملك الناصرالسلطان الملك المنصور أبو بكر بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون جلس على تخت السلطنة بالإيوان من قلعة الجبل بعهد أبيه له صبيحة توفي والده، من يوم الخميس حادي عشرى ذي الحجة، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. ولقبه الأمراء الأكابر بالملك المنصور، وجلسوا حوله، واتفقوا على إقامة الأمير سيف الدين طقزدمر الحموي - زوج أمه - نائب السلطة بديار مصر، وأن يكون الأمير قوصون مدبر الدولة ورأس المشورة، ويشاركه في الرأي الأمير بشتاك.
ورسم بتجهيز التشاريف والخلع، وعين الأمير قطلو بغا الفخري لتعزية نواب الشام بالسلطان الناصر محمد، والبشارة بسلطنة ابنه وتحليفهم. ويكون صحبته تقاليدهم فتوجه من يومه.
وفيه نودي بالقاهرة ومصر أن يتعامل الناس بالفضة والذهب بسعر الله، فسر الناس ذلك، فإنهم كانوا منعوا من المعاملة بالفضة، وألا يكون معاملتهم إلا بالذهب.
وفيه أفرج عن بركة الحبش وقف الأشراف، وكان النشو قد أخذها منهم، وصار ينفق فيهم من بيت المال.
وفيه كتب إلى ولاة الأعمال برفع المظالم، وألا يرمي على بلاد الأجناد شعير ولا تبن.
وفي يوم الخميس ثامن عاشريه: أنعم على عشرة بإمريات طبلخاناة.
وفي يوم السبت سلخه: جمع القضاة بجامع القلعة للنظر في أمر الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد بن أبي الربيع سليمان وإعادته إلى الخلافة، وحضر معهم الأمير طاجار الدوادار وغيره.
فاتفقوا على إعادته، لعهد أبيه إليه بالخلافة،. بمقتضي مكتوب ثابت على قاضي قوص.
وفيه، فرقت التشاريف والخلع على الأمراء. ليلبسوها في يوم الخدمة من العام المقبل. وفيه أقيم الأمير قرصون في تدبير أمور الدولة.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير سيف الدين الحاج قطز الظاهري ، أحد أمراء الطبلخاناة، وقد أناف على مائة سنة وهو أخر من بقي من المماليك الظاهرية بيبرس وكان مشكوراً.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين حنكلي بن البابا، في يوم الرابع والعشرين من رجب. وكان فقيهاً أديباً شاعراً جواداً.
وتوفي الصاحب أمين الدين أمين الملك أبو سعيد عبد الله بن تاج الرياسة بن الغنام تحت العقوبة مخنوقا، يوم الجمعة رابع جمادى الأولى. ووزر الصاحب أمين الدين ثلاث مرات، وباشر نظر الدولة واستيفاء الصحبة والدولة، وخدم من الأيام الأشرفية فولي. بمصر ودمشق وطرابلس، وحسن إسلامه وكان رضي الخلق.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاي العزي نائب أياس والفتوحات الأندلسية بها وكان مشكور السيرة.
ومات طوغان الشمسي سنقر الطويل وإلى الأشمونين وشاد الدواوين بمصر والشام، وهو منفي بالشام وكان ظالماً غشوماً مذموم السيرة.
ومات الأمير آنوك ابن السلطان الناصر محمد، في يوم الجمعة سابع ربيع الأول، فاشتد حزن والده السلطان عليه.
وتوفي الشيخ المعتقد عز الدين عبد المؤمن بن قطب الدين أبي طالب عبد الرحمن بن محمد بن الكمالي أبي القاسم عمر بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن المعروف بابن العجمي الحلبي الشافعي بمصر. تزهد بعد الرياسة والاشتغال بالعلم وكتابة الخط المنسوب، وحج ماشياً من دمشق، وجاور بمكة مراراً، وقدم مصر سنة اثنتين وثلاثين، وأقام بها حتى مات. وكان لا يقبل لأحد شيئاً، ويقيم حاله من وقف أبيه بحلب، وتزيا بزي الصوفية، وكان فيه مروءة، وله مكارم وصدقات، وله شعر جيد.
وتوفي افتخار الدين جابر بن محمد بن محمد الخوارزمي الحنفي شيخ المدرسة الجاولية بالكبش، في يوم الخميس السادس عشر المحرم. وكان بارعاً في النحو شاعراً.
وتوفي عز الدين عبد الرحيم بن نور الدين علي بن الحسن بن محمد بن عبد العزيز ابن محمد بن الفرات، أحد نواب القضاة الحنفية، في ليلة الجمعة ثاني عشرى ذي الحجة.
وتوفي أوحد الدين بالقدس في رابع عشرى شعبان.
ومات الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب حلب، ببلاد المراغة، وقد أقطعه إياها ابو سعيد بن خربندا. وكان موته بمرض الإسهال وقد أعيا الملك الناصر قتله، وبعث إليه كثيراً من الفداوية، فصانه الله منهم، بحيث قتل من الفداوية بسببه نحو مائة وأربعة وعشرين فداوياً. ولما بلغ السلطان الناصر محمد موته قال: وا لله ما كنت أشتهي موته إلا من تحت سيفي، وأكون قد قدرت عليه وبلغت مقصودي ولكن الأجل حصين.
وكانت له مع الفداوية أخبار طويلة: منها أن السلطان الناصر محمد أعطى يونس التاجر مالاً كثيراً، وبعثه إلى توريز ليتخذ له بها أصحاباً يثق بهم حتى يرد إليه الفداوية فيأووا عنده، وعرف يونس بمقاصده. ثم إن السلطان تلطف مع صاحب مصياف، وبذل له مالاً كثيراً حتى ندب له من الفداوية طائفة. فبعثهم السلطان إلى يونس فأواهم وأعلمهم بالغرض، فانتظروا وقتاً يصلح للوثوب مدة أيام إلى أن ركب النوين الكبير جوبان يريد مدينة توريز، وركب آقوش الأفرم وقراسنقر إلى جانبيه. فخرج اثنان من الفداوية، أحدهما للأفرم والآخر لقراسنقر، فبدر أحدهما وضرب آقوش الأفرم، فاتقى الضربة بيده، وكان عليه قرضية، فانشق كمه وجرحت يده، وجبن الآخر عن قراسنقر، لقتل الفدواي. ووقع الحذر، وكبست الفنادق والخانات بتوريز، وقبض على يونس، فقام الوزير ناصر الدين خليفة بن خواجا علي شاه معه حتى تخلص من القتل. ولم يصب قراسنقر بسوء، وعولج الأفرم حتى برئ من جراحته واحترسا على أنفسهما
ومن غرائب الاتفاق فيما سبق أنه كان لقراسنقر فراش من العليقة، وله معرفة بأهل مصياف، فتتبع نواحي توريز حتى ظفر بفداوي رسله السلطان الناصر محصد لقتل قراسنقر، فإذا هو أخوه، فاستماله وقربه من قراسنقر. فأعطاه قراسنقر مائة دينار ورتب له في كل شهر ثلاثمائة درهم، وخدم عنده فراشاً رفيقاً لأخيه، وزاد في الإنعام عليه حتى بلغت عطيته له خمسمائة دينار. فأعلم هذ الفداوي قراسنق بما ندب إليه من قتله، وضمن له أنه يعرفه بجميع من يرد من الفداوية. فسر قراسنقر بذلك وأعلم جوبان والوزير ناصر الدين خليفة، فكبسوا على جماعة ممن دلهم عليهم، فظفروا، بواحد، وفر بعضهم، وقتل بعضهم نفسه، وجيء بالفداوي المقبوض عليه، فعوقب حتى مات ولم يعترف بشيء.
واشتد الأمر بتوريز وغيرها على الغرباء، وقصاد السلطان تطالعه بذلك في كل وقت، إلى أن كتبوا إليه نائب بغداد بلغه عن تاجر أنه اشترى مملوكين للسلطان بمائة وعشرين ألف درهم، فأحضر نائب بغداد التاجر وألزمه بإحضارهما، فافتدى بأربعمائة دينار حتى تركه، وأخرجه من بغداد. فبعث التاجر بطائفة من الفداوية لقتله، وقتل قراسنقر، فتفرقوا بالأردو وتوريز وبغداد، وأقاموا في الانتظار لانتهاز الفرصة. فبينا نائب بغداد يوماً وقد مر في الشارع، إذا وثب عليه أحد الفداوية وصاح. ياللملك الناصر، وضربه بالخنجر في صدره، ومر يعدو فلم يقدر عليه. وعاد الفداوي إلى مصياف، وكتب إلى السلطان الناصر محمد بما جرى وقتل نائب بغداد. فلما بلغ ذلك قراسنقر وجوبان اشتد حذرهما، وألزم قراسنقر فراشه وأخاه الفداوي حتى دلاه على أربعة من الفداوية، فقبض عليهم، فاعترف أحدهم، وحكى له المنبر بنصه فقتلوا وشهروا. وأقام رجال جوبان مدة في طلب الفداوية، فلم يدخل منهم أحد إلا ظفر به. فلما قدم المجد السلامي إلى القاهرة وصحب كريم الدين الكبير، واتصل بالسلطان، أقامه السلطان عيناً له ببلاد الشرق، وبعثه بالهدايا والتحف. فصحب المجد السلامي جوبان والوزير، ولزمهما، وطالع السلطان بالأحوال. ثم بعث السلطان إليه بعدة من الفداوية، وكان من لطف الله به أنه يوم قدم المجد السلامي توريز قبض بها على ثلاثة من أربعة من الفداوية، وفر الرابع الذي معه كتاب السلطان إليه. فعوقب الثلاثة حتى ماتوا، ولم يعترفوا بشيء ووصل الذي فر إلى مصياف وكتب إلى السلطان بما جرى. فمازال السلامي يقرر الصلح بين الوزير خواجاً علي شاه وجوبان وبين السلطان إلى أن تم، وشرطوا فيه ألا يدخل إليهم فداوي.
ثم حدث أنه بينما قراسنقر في عدة من أمراء الساحل يتصيد إذ وثب عليه من خلفه فداوي وضربه، فوقعت الضربة في خاصرة الفرس، ألقى قراسنقر نفسه إلى الأرض فسلم، وقتل أصحابه الفداوي. ثم لما توجه الأمير أيتمش بن عبدالله المحمدي الناصري في المرة الثانية إلى أبي سعيد بعث السلطان الناصر في أثره فداويين قبض على أحدهما، وقتل الأخر نفسه، فلم يعترف المقبوض عليه بشيء حتى مات قتلاً بحضور أيتمش. وعتب جوبان على أيتمش بسبب ذلك، وأنه وقع الصلح على ألا يدخل أحد من هؤلاء إلينا، فاعتذر أيتمش بأن هؤلاء إلينا كانوا فداوية فقد كانوا في البلاد من قبل تقرير الصلح، وضمن أن السلطان لا يعود إلى إرسال أحد منهم فمشى ذلك على جوبان، وأعيد أيتمش إلى مصر.
فلما عاد المجد السلامي أيضاً بعث السلطان إلى مصياف بالإنكار على الفداوية في تأخر قضاء شغله، فأرسلوا إليه رجلاً منهم ليقوم بما يؤمر به، فخلا به السلطان وعرفه مقاصده، وأنزله عند كريم الدين بحيث لا يراه أحد، فكان راتبه في كل يوم خروفاً يأكله كله في كشك من أول النهار، ثم يأكل في وسط النهار دجاجاً أو أوزاً أو لحماً مشوياً، ثم يتعشى بثلاثة ألوان من الطعام، ويشرب في كل يوم ستين رطلاً من الخمر. فأقام الرجل الفداوي على ذلك أربعة وثلاثين يوماً، ثم سافر لقصده. وتسلم القاصد الذي يدله على الغريم السكين ليعطها للرجل الفداوي، وقد ختمت. وتوجه السلامي أيضاً بهدية جليلة، فوصل الجميع إلى البلاد. وخفي أمر الفداوي حتى كان يوم عيد الفطر، ودخل الناس يهنؤن أبا سعيد وجوبان، وفيهم قراسنقر، ثم انصرفوا بعد أكلهم إلى الوزير خواجا علي شاه، وأكلوا طعامه. ثم بعث السلامي إلى الفداوي فأحضره، وأوقفه بطريق قراسنقر، ودخل رفيقه حتى ينظر وقت فراغ قراسنقر من الطعام ليعرف به الفداوي. فاتفق أن قراسنقر قام ومشى إلى أثنا الدهاليز، وقد سبقه القاصد وعرف به الفداوي، وأعطاه السكين ووصف له شكله وزي ثيابه، وقال له هو أول من يركب. فعندما وضع قراسنقر رجله في الركاب استدعاه الوزير، فعاد، وقد قام دمرداش نائب الروم من المجلس، وكان فيه شبه من قراسنقر وخلعته التي عليه حمراء مثل خلعة قراسنقر فعندما ركب دمرداش وتوسط الطريق مر بالفداوي، فظنه قراسنقر، فألقى نفسه من سطح كان فوقه، فصار على كفل الفرس وصاح بسعادة السلطان الملك الناصر محمد، وضربه في رقبته ألقاه عن فرسه قتيلاً. وقام الفداوي يعدو، فأدركه القوم وأحضروه إلى جوبان، فاتهم بأنه كان مع السلامي، فلولا لطف الله به وعناية الوزير لقتل السلامي شر قتلة وقتل الفداوي بعد ما عوقب أشد العقوبة، ولم يعترف بشيء.
ومما حدث كذلك أنه بينا قراسنقر في بعض الأعياد، وقد خرج مع أمراء المغل من حضرة أبي سعيد إلى عند جوبان، إذ وثب عليه فداوي، فألقى قراسنقر نفسه إلى الأرض فوقع الفداوي عليه وضربه بالسكين فأخطأه، ووقعت السكين في الأرض. فقطع الفداوي فوق صدر قراسنقر قطعاً، وأقيم قراسنقر وقد خرب شاشه، وطاحت الكلفتاه عن رأسه، وكان عقله أن يذهب.
وكان قراسنقر أحد مماليك المنصور قلاوون، عمله كوكندار، ثم ترقى حتى ولي نيابة حلب، ونيابة دمشق. وكان كبير القدر، بشوش الوجه، صاحب رأي وتدبير ومعرفة، وبلغت عدة مماليكه ستمائة مملوك. وكان كثير العطاء لا يستكثر على أحد شيئاً، وكان مهاباً كثير المال، وترك ولدين هما أمير علي، وأمير فرج، وإليه تنسب المدرسة القراسنقرية بخط رحبة باب العيد من القاهرة، ودار قراسنقر بحارة بها الدين.
ومات الأمير تنكز نائب الشام، يوم الثلاثاء نصف المحرم.
سنة اثنتين وأربعين وسبعمائةأهل المحرم بيوم الأحد: ففي يوم الإثنين ثانيه: خلع على جميع الأمراء والمقدمين في الموكب بدار العدل، وذلك أن الأمراء طلعوا بخلعهم التي فرقت عليهم كما تقدم، وطلع القضاة فاجتمعوا بدار العدل. وجلس الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن أبي الربيع سليمان على الدرجة الثالثة من تحت السلطنة، وعليه خلعة خضراء وفوق عمامته سوداء مرقومة. ثم خرج السلطان من باب السر على العادة، فقام الخليفة والقضاة ومن كان جالساً هناك من الأمراء. وجلس السلطان على الدرجة الأولى دون الخليفة، فقام الخليفة وافتتح الخطة بقوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربي، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهد ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما ثفعلون. ثم أوصى السلطان بالرفق بالرعية، وإقامة الحق وتعظيم شعائر الإسلام ونصرة الدين، ثم قال: " فوضت إليك جميع أحكام المسلمين، قلدتك ما تقلدته من أمور الدين، ثم تلا قوله تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً.
وجلس الخليفة فجيء في الحال بخلعة سوداء فألبسها الخليفة للسلطان بيده، وقلده سيفاً عربياً. وأخذ علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر في قراءة عهد الخليفة للسلطان حتى فرع منه، ثم قدمه للخليفة، فكتب عليه، ثم كتب بعده القضاة بالشهادة عليه. ثم قدم السماط، فأكل الأمراء وانفضت الخدمة.
وفي يوم الأربعاء رابعه: كان ابتداء زيادة النيل.
وفي يوم الخميس خامسه: قدم الأمير بيغرا من عند أمير أحمد بن الناصر محمد بن قلاوون وقد حلف بمدينة الكرك لأخيه السلطان الملك المنصور.
وفيه أنعم على الأمير بيلك العلالي الساقي بإمرة البرواني، وأنعم بعشرته على مغلطاي أمير شكار، وأنعم على بزلار الساقي بطبلخاناة أمير حاج ملك بن أيدغمش.
وفي عصر يوم الأحد ثامنه: قبض على أمير بشتاك الناصري وذلك أنه طلب أن يستقر في نيابة الشام، ودخل على الأمير قوصون وسأله في ذلك، وأعلمه أن السلطان الناصر محمد كان قبل موته وعده بها وألح بشتاك في سؤاله، وقوصون يدافعه ويحتج عليه أنه قد كتب إلى ألطنبغا الصالحي نائب الشام تقليداً باستقراره في نيابة الشام على عادته، فلا يليق عزله سريعاً. فقام بشتاك عنه وهو غير راض، فإنه كان قد توهم من قوصون، وخشي منه لما كان بينهما قديماً من المنافرة، ولأنه قد صار المتحكم في الدولة، فطلب أن يخرج من مصر، ويبعد عنه. فلما لم يوافقه قوصون على ذلك سعى فيه بخاصكية السلطان، وحمل إليهم مالاً كثيراً في السر، وبعث إلى الأمراء الكبار يطلب منهم المساعدة على قصده، فمازالوا بالسلطان حتى أنعم له بنيابة الشام. وطلب السلطان الأمير قوصون وأعلمه بذلك، فلم يوافقه وغض من بشتاك، وأخر ما قرره مع، السلطان أنه يحدث الأمراء في ذلك، ويعده بأنه يولي بشتاك إذا قدم الأمير قطلوبغا الفخري بنسخة اليمين من الشام. فلما دخل الأمراء عرفهم السلطان طلب بشتاك نيابة الشام، فأخذوا في الثناء عليه والشكر، فاستدعاه السلطان وطيب خاطره، ووعده بها عند قدوم قطلوبغا، وتقدم إليه بان يتجهز للسفر.
فظن بشتاك أن ذلك صحيح، وقام مع الأمراء من الخدمة، وأخذ في عرض خيوله، وبعث لكل من أكابر الأمراء المقدمين ما بين ثلاثة أرؤس إلى رأسين من الخيل بالقماش. الفاخر، وبعث معها أيضاً الهجن المهرية.
ثم بعث بشتاك إلى الأمراء الخاصكية، مثل ملكتمر الحجازي، وطاجار بن عبدالله الناصري الدوادار، ويلبغا اليحياوي، وألطبغا المارداني، وتنكز بغا بن عبد الله المارديني، شيئاً كثيراً من الذهب والجوهر واللؤلؤ والتحف، وفرق عدة من الجواري في الأمراء، بحيث لم يبق أحد من الأمراء إلا وأرسل إليه، ثم فرق بشتاك على مماليكه وأجناده وأخرج ثمانين جاريه من جواريه أعتقهن وزوجهن من مماليكه، بعد ما شورهن باللؤلؤ والزركش، وغير ذلك مما له قيمة كبيرة جداً. وفرق بشتاك من شونته على الأمراء اثني عشر ألف أردب غلة، وزاد حتى وقع الإنكار عليه، واتهمه السلطان والأمير قوصون بأنه يريد التوثب على الملك وعملوا هذا من فعله حجة للقبض عليه وكان ما خص الأمير قوصون من تفرقته هذه حجرين من حجارة معاصر قصب السكر، بما فيها من القنود والأعمال والأبقار والأغلال والآلات، وخمسمائة فدان من القصب مزروعة في أرض ملك له، فأدهش الأمراء بكثرة عطائه، واستغنى منه جماعة من مماليكه.
ولما كثرت القالة فيه بأنه يريد إفساد الدولة خلا به بعض خواصه وعرفه ذلك، وأشار عليه بإمساك يده عن العطاء، فقال لهم: إذا قبضوا على أخدوا مالي، وأنا أحق به منهم أن أفرقه وأسر به إذا بذلته، ويبقى لي مكارم على الناس أذكر بها، وإذا سلمت فالمال كثير. هذا وقد قام قوصون في أمر بشتاك، ومازال بالسلطان حتى قرر معه القبض عليه عند قدوم قطلوبغا الفخري. وأشاع قوصون أن بشتاك يريد القبض على قطلوبغا، فبلغ ذلك بعض خواص قطلوبغا، فبعث إليه من تلقاه وعرفه ما وقع من تجهيز بشتاك، وأنه على عزم من أن يلقاك في طريقك ويقتلك، فكن على حذر، فأخذ قطلوبغا من الصالحية يحترز على نفسه حتى نزل سرياقوس.
واتفق من الأمر العجيب أن بشتاك خرج إلى حوشه بالريدانية خارج القاهرة، ليعرض هجنه وجماله، فطار الخبر إلى قطلوبغا الفخري بأن بشتاك قد خرج إلى الريدانية " في انتطارك، فاستعد ولبس السلاح من تحت ثيابه، وسار وقد تلقاه عدة من مماليكه وهو على أهبة الحرب. وعرج قطلوبغا عن الطريق، وسلك من تحت الجبل لينجو من بشتاك، وكان عند بشتاك علم من قدومه. فلما قرب قطلوبغا من الموضع الذي فيه بشتاك لاحت له غبرة خيله، فحدس أنه قطلوبغا قد قدم، فبعث إليه أحد مماليكه يبلغه السلام، ويعرفه أن يقف حتى يأتيه ليجتمع به. فلما بلغ قطلوبغا ذلك زاد خوفه من بشتاك، وقوي عنده صحة ما بلغه عنه، فقال للمملوك: سلم على الأمير، وقل له لا يكن اجتماعي به ولا بأحد حتى أقف قدام السلطان، ثم بعد ذلك اجتمع به. فمضى مملوك بشتاك، وفي ظن قطلوبغا أنه إذا بلغه مملوكه الجواب ركب إليه، فأمر مماليكه أن يسيروا قليلاً قليلاً، وساق بمفرده مشواراً واحداً إلى القلعة. ودخل قطلوبغا على السلطان وبلغه طاعة النواب وفرحهم بأيامه. ثم أخذ يعرف السلطان والأمير قوصون وسائر الأمراء ما اتفق له مع بشتاك، وأنه كان يريد معارضته في طريقه وقتله، فأعلمه السلطان وقوصون بما اتفقا عليه من القبض على بشتاك.
فلما كان عصر هذا اليوم، دخل الأمراء إلى الخدمة على العادة بالقصر، وفيهم الأمير بشتاك، وأكلوا السماط، تقدم الأمير قطلوبغا الفخري والأمير طقزدمر الناصري الساقي إلى بشتاك، وأخذا سيفه وكتفاه. وقبض معه على أخيه أيوان وعلى طولوتمر ومملوكين من المماليك السلطانية كانا يلوذان به. وقيدوا جميعاً. وسفروا إلى الإسكندرية في الليل صحبة الأمير أسندمر العمري. وقبض على جميع مماليكه، وأوقعت الحوطة على دوره وإصطبلاته، وتتبعت غلمانه وحاشيته.
وأنعم من إقطاع بشتاك على الأمير قوصون بخصوص الشرق زيادة على إقطاعه، وأخذ السلطان المطرية ومنية ابن خصيب وشبرا. وفرق السلطان بقية إقطاع بشتاك على ملكتمر الحجازي وغيره من الأمراء.
فلما أصبحوا يوم الإثنين تاسعه قبض على المجد السلامي، واتهم بأن لبشتاك عنده جواهر مودعة.
وفيه حملت حواصل بشتاك، وهي من الذهب مائتا ألف دينار مصرية، ومن اللؤلؤ والجواهر والحوائص الذهب والكلفتاه الزركش شيء كثير جداً. ومن الغلال أحد عشر ألف أردب، سوى ما تقدم ذكره مما أنعم به شتاك وفرقه.
وفيه أخرج أحمد شاد الشراب خاناه إلى طرابلس، لنقله كلاماً بين الأمراء، ولميلة مع شتاك.
وفي الخميس ثاني عشره أنعم على كل من شعبان ورمضان أخوي السلطان بإمرة وفيه قبض على الأمير ناصر الدين محمد بن بكتمر الحاجب وأنعم من الغد بإمرته على أخيه جمال الدين عبد الله بن الحاجب.
وفي يوم الإثنين ثالث عشريه: خلع على الأمير طقزدمر، واستقر في نيابة السلطانة، فجلس في دست النيابة، وحكم وسرف الأمور.
وفيه أيضاً خلع على الأمير نجم الدين محمود بن علي بن شروين المعروف بوزير بغداد، واستقر في الوزارة.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشريه: قدم محمل الحاج من الحجاز، صحبة ملكتمر الحجازي وفيه أيضاً قدم الأمير ناصر الدين محمد بن بيلبك الحسني من دمشق على البريد بالاستدعاء.
وفيه أنعم الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بكتمر الساقي أحد العشرات، بإمرة طبلخاناة وقدم البريد من حلب بأن الأمير بن فياض وسليمان بن مهنا وأخوتهما قطعوا الطريق على التجار، عندما بلغهم أن أميرهم موسى بن مهنا قد قبض عليه، بعد موت السلطان الناصر محمد، وكان موسى قد خلع عليه وسافر.
وفي يوم الإثنين سلخه: قبض على الأمير أقبغا عبد الواحد وأولاده، وخلع على الأمير طقتمر الأحمدي، وأستقر أستادار عوضه. وسبب ذلك أنه في أيام السلطان الملك الناصر قد ولي الأستادارية وتقدمة المماليك وشد العمائر، وتحكم في سائر الأمور وأرباب الأشغال، وعظمت مهابته. فاتفق أنه غضب على فراش له، وضرباً مبرحا كما هي عادته. فخدم الفراش عند أبي بكر ابن السلطان، ليحميه من آقبغا، فبعث آقبغا في طلبه، فمنعه أبو بكر، وأرسل مع مملوكه يقول له: أريد أن تهبني هدا الفراش فأغلظ آقبغا على المملوك وسبه، وقال قل له يرسل الفراش وهو جيد له وكان أبو بكر قبل ذلك خرج من الخدمة السلطانية إلى بيته، وآقبغا يضرب مملوكاً، فوقف وشفع فيه، فلم يعبأ به آقبغا، ولا قبل شفاعته، وسار واقفاً وآقبغا قاعد، فانصرف أبو بكر وقد خجل. فلما أعاد مملوكه جواب آقبغا غضب وحلف لئن صار سلطاناً ليصادرنه وليضربنه بالمقارع، وحمى الفراش من آقبغا. فلما أفضت السلطة إليه بعد موت أبيه، عرف الأمير قوصون والأمير طقزدمر النائب بيمينه، فأجابه قوصون إلى مصادرته أولاً قبل ضربه، وأراد بذلك مدافعة عنه، فقبض عليه ورسم للأمير طيبغا المجدي والأمير نحم الدين بلبان الحسامي البريدي والي القاهرة بإيقاع الحوطة على موجوده، وسلم ولده الكبير للمقدم إبراهيم بن صابر. فبات آقبغا ليلته بغير أكل وأصبح يوم الثلاثاء أول صفر، فتحدث له الأمراء أن ينزل في ترسيم طيبغا المجدي ليتصرف في أموره، فنزل صحبته، وأخذ في بيع موجوده. وكان مما أبيع له سراويل لزوجته بمائتي ألف درهم فضه، وقبقاب وخف نسائي وسرموجة لامرأته بخمسة وسبعين ألف درهم فثار به جماعة ممن ظلمهم في أيام تحكمه، وطلبوا حقوقهم منه، وشكوه. فأقسم السلطان لمن لم يرضهم ليسمرنه على جمل ويشهره بالقاهرة، ففرق فيهم مائتي الف درهم حتى سكتوا عنه.
وفي يوم الأحد سادسه: خلع على الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن نجم الدين بلبان الحسامي البريدي لقلة حرمته. وخلع على نجم الدين واستقر في ولاية مصر.
وفيه قدم الأمير بدر الدين أمير مسعود بن خطير من الشام على البريد، باستدعاء.
وفيه رسم لابن المحسني والي القاهرة أن يستخلص من خالد وابن معين مقدمي دار الوالي مالاً، من أجل طمعهما وكثرة تحكمهما.
وفيه أيضاً قبض على الصدر الطيبي ناظر المواريث، وسلم إلى الوالي على مال يحمله، فعاقبه الوالي حتى حمل مالاً جزيلاً.
وفي يوم الإثنين سابعه: خلع على الأمير بدر أمير مسعود، واستقر حاجبا عوض عن الأمير برسبغا على إمرته بغير وظيفة.
وفي يوم الأربعاء تاسعه: قبض على مقدم الدولة إبراهيم بن صابر، وسلم لمحمد بن شمس الدين المقدم، وأحيط بأمواله. فوجد له نحو تسعين حجرة في الجشار، ومائة وعشرين بقرة في الزرايب، ومائتي كبش، وجوقتين كلاب سلوقية، وعدة طيور جوارح مع بزدارية، ووجد له من الغلال وغيرها شيء كثير، فعوقب وحمل المال شيئاً بعد شيء.
وفيه جهز ابن طغيه وقريب الشيخ حسن كجك، وسفرا وكتب إلى نواب الشام بإكرامهما.
وفيه وقع بين قاضي القضاة حسام الدين الغوري الحنفي وبين موفق الدين ناظر الدولة، بسبب معلومه، وقد توقف صرفه، فكتب قاضي القضاة حسام الدين إليه ورقة يذكر فيها مساوئ الكتاب، وأفحش القول فيهم. فشق ذلك على موفق الدولة وعلى بقية الكتاب، وبلغوا السلطان عنه تسلطه على أعراض الناس وسفه قوله.
فلما كان الغد يوم الخميس عاشره: وحضر القضاة بدار العدل على العادة تكلم القاضي الغوري مع السلطان بالتركي في الكتاب بقوادح، وطعن في إسلامهم. فغضب السلطان منه، واستدعى الوزير بعد الخدمة، وأنكر عليه ما وقع من الغوري، وقال: لولا أنه من بلدك وإلا كنت ضربته بالمقارع، لكن إكرامه لك، فاطلبه وحذره ألا يعود لمثلها. فطلبه الوزير وعتبه عتباً شديداً.
وفيه قدم البريد من الأمير طشتمر حمص أخضر الساقي نائب حلب بخروج زين الدين قراجا بن دلغادر عن الطاعة، وموافقته لأرتنا متملك الروم على المسير لأخذ حلب، وأنه قد قوي بالأبلستين وجمع جمعاً كثيراً، وسأل الأمير طشتمر أن ينجد بعسكر من مصر.
وفيه رسم السلطان بضرب أقبغا عبد الواحد بالمقارع، فلم يمكنه الأمير قوصون من ذلك فاشتد حنقه، وأطلق لسانه بحضرة خاصكيته.
وفيه شفع الأمير ملكتمر الحجازي في ولي الدولة أبي الفرج بن الخطير صهر النشو، فأفرج عنه، واستسلمه الحجازي، وخلع عليه، وجعله صاحب ديوانه.
وفيه عقد السلطان نكاحه على جاريتين من المولدات اللاتي في بيت السلطان، وكتب علاء الدين كاتب السر صداقهما، فخلع عليه وأنعم عليه بعشرة ألاف درهم. ورسم السلطان لجمال الكفاة ناظرات أن يجهزهما بمائة ألف دينار، وشرع في عمل المهم للعرس.
وفي يوم السبت تاسع عشره: ركب الأمير قوصون والأمراء على الملك المنصور أبي بكر، وخلعوه من الملك في يوم الأحد عشريه، وأخرج أبو بكر هو وإخوته إلى قوص صحبة الأمير بهادر بن جركتمر.
وسبب ذلك أن السلطان قرب الأمير يلبغا اليحياوي، وشغف به شغفاً كثيراً، ونادم الأمير ملكتمر الحجازي، واختص به وبالأمير طاجار الدوادار وبالشهابي شاد العمائر وبالأمير قطليجا الحموي، وجماعة من الخاصكية، وعكف على اللهو وشرب الخمور وسماع الملاهي. فشق ذلك على الأمير قوصون وغيره، لأنه لم يعهد من ملك قبله شرب حمر. فحملوا الأمير طقزدمر النائب على محادثته في ذلك وكفه عنه، فزاده لومه إغراء، وأفحش في التجاهر باللهو حتى تحدث به كل أحد من الأمراء والأجناد والعامة. وصار السلطان يطلب الغلمان في الليل، ويبعثهم لإحضار المغاني، فغلب عليه الشراب في بعض لياليه، فصاح من الشباك على الأمير أيدغمش يا أمير آخور هات لي ابن عطعط فقال أيدغمش: يا خوند ما عندي فرس بهذا الاسم فنقل ذلك السراخورية والركابية، فتداولته الألسنة. فطلب قوصون الأمير طاجار والشهابي شاد العمائر، وعنفهما وقال: سلطان الإسلام يليق به أن يعمل مقامات، ويحضر إليها البغايا والمغاني، وعرفهم أن الأمراء قد بلغهم هذا. فبلغوا السلطان كلام قوصون، وزادوا في القول، فأخذ جلساؤه من الأمراء في الوقيعة في قوصون والتحدث في القبض عليه، وعلى الأمير قطلوبغا الفخري والأمير بيبرس الأحمدي والأمير طقزدمر النائب. فنم عليهم الأمر يلبغا اليحياوي لقوصون وكان قد استماله بكثرة العطاء فيمن استمال من المماليك السلطانية، وعرفه أن الاتفاق قد تقرر على القبض عليه في يوم الجمعة وقت الصلاة.
فانقطع قوصون عن الصلاة، وأظهر أن برجله وجعاً، وبعث في ليلة السبت يعرف الأمير بيبرس الأحمدي بالخبر، ويحثه على الركوب معه. وطلب قوصون المماليك السلطانية، وواعدهم على الركوب صحبته، وملأهم بكثرة مواعيده إياهم، وبعث إلى الأمير الحاج آل ملك، والأمير جنكلي بن البابا. فلم يطلع الفجر حتى ركب قوصون من القلعة من باب السر في مماليكه ومماليك السلطان، وسار نحو الثغرة، وبث مماليكه في طلب الأمراء. فأتاه جركتمر بن بهادر في إخوته، وبرسبغا بيبرس، والأحمدي، وقطلوبغا الفخري. وأخذوا أقبغا عبد الواحد من ترسيم طيبغا المجدي، فسار معه المجدي أيضاً. ووقفوا بأجمعهم عند قبة النصر، ودقوا طبلخاناتهم، فلم يبق أحد من الأمراء حتى أتاهم.
هذا والسلطان وندماؤه في غفلة الوهم وغيبة سكرهم، إلى أن دخل عليهم أرباب الوظائف وأيقظوهم من نومهم، وعرفوهم ما دهوا به. فبعث السلطان طاجار إلى طقزدمر النائب يسأله عن الخبر، ويستدعيه، فوجد عنده جنكلي بن البابا والوزير وعدة من الأمراء المقيمين بالقلعة. فامتنع طقزدمر من الدخول إلى السلطان، وقال: أنا مع الأمراء حتى أنظر عاقبة هذا الأمر، وقال لطاجار: أنت وغيرك سبب هذا حتى أفسدتم السلطان بفسادكم ولعبكم، قل للسلطان يجمع مماليكه ومماليك أبيه حوله فعاد طاجار وبلغ السلطان ذلك، فخرج السلطان إلى الإيوان وطلب المماليك، فصارت كل طائفة تخرج على أنها تدخل إليه فتخرج إلى باب القلة حتى صاروا نحو الأربعمائة مملوك، وصاروا يداً واحدة من باب القلة إلى باب القلعة، فإذا هو قد أغلق فرجعوا إلى النائب طقزدمر بعد ما أخرقوا بوالي باب القلعة، وأنكروا عليه وعلى من عنده من الأمراء. فقال لهم طقزدمر: السلطان ابن أستاذكم جالس على الكرسي وأنتم تطلبون غيره، فقالوا. ما لنا أستاذ إلا قوصون. ابن أستاذنا مشغول عنا لا يعرفنا، ومضوا إلى باب القرافة، وهدموا منه جانباً وخرجوا، فإذا خيول بعضهم واقفة. فركب بعضهم، وأردف عدة منهم، ومشى باقيهم إلى قبة النصر. ففرح بهم قوصون والأمراء، وأمر لهم بالخيول والأسلحة، واوقفهم مع أصحابه. وبعث الأمير مسعود بن خطير الحاجب إلى السلطان يطلب منه ملكتمر الحجازي ويلبغا اليحياوي وطاجار وغيره، ويعرفه أنه أستاذهم وابن استاذهم، وأنهم على طاعته، وأنهم إنما يريدون هؤلاء، لما صدر عنهم من الفساد ورمي الفتن وطلع الأمير مسعود إلى القلعه، فوجد السلطان في الإيوان، وهؤلاء الأمراء حوله في طائفة من المماليك، فقبل الأرض، وبلغه الرسالة. فقال السلطان: لا كيد ولا كرامة لهم، ولا أسير مماليكي ومماليك أبي لهم، وقد كذبوا فيما نقلوه عنهم، ومهما قدروا عليه يفعلوه. فما هو إلا أن خرج عنه أمير مسعود حتى اقتضى رأيه أن يركب بمن معه، وينزل من القلعة ويطلب النائب طقزدمو ومن عنده من الأمراء، ويدق كوساته. فتوجه إلى الشباك وأمر أيدغمش أمير آخور أن يشد الخيل للحرب، فأعلمه أنه لم يبق بالإصطبل غلام ولا سايس ولا سراخوري يشد فرساً واحداً فبعث إلى النائب طقزدمو يستدعيه، فامتنع عليه.
ثم بعث قوصون الأمير بلك الجمدار والأمير برسبغا إلى النائب طقزدمر يعلمانه بأنه متى لم يحضر الغرماء إليه وإلا زحف على القلعة وأخذهم غصبا. فبعث طقزدمر إلى السلطان يشير عليه بإلرسالهم، فعلم السلطان أن النائب وأمير أخور قد خذلاه، فقام ودخل على أمه. فلم يجد الغرماء بداً من الإذغان، وخرجوا إلى النائب طقزدمر، وهم ملكتمر الحجازي وآلطنبغا المارديني ويلبغا اليحياوي وطاجار الدوادار والشهابي شاد العمائر وبكلمش المارديني وقطليجا الحموي، فبعثهم طقزدمر النائب إلى قوصور صحبة بلك وبرسبغا. فلما رأهم قوصون صاح في الحاجب أن يرجلهم عن خيولهم من بعيد، فأنزلوا منزلاً قبيحاً، وأخذوا حتى وقفوا بين يديه، فعنفهم ووبخهم، وأمر بهم فقيدوا، وعملت الزناجير في رقابهم والخشب في أيديهم.
ثم نزل قوصون والأمراء في خيم ضربت لهم عند قبة النصر، واستدعى طقزدمر النائب، والأمير جنكلي بن البابا، وأيدغمش أمير أخور، والوزير، والأمراء المقيمين بالقلعة. واتففوا على خلع الملك المنصور وإخراجه وإخوته من القلعة، فتوحه برسبغا في جماعة إلى القلعة، وأخرج المنصور وأخوته، وهو سابع سبعة، ومع كل منهم مملوك صغير وخادم وفرس وبقجة قماش. وأركبهم برسبغا إلى شاطئ النيل، وأنزلهم في الحراقة، وسافر بهم جركتمر بن بهادر إلى قوص، و لم يترك برسبغا في القلعة من أولاد السلطان إلا كجك. وسلم قوصون الأمراء المقيدين إلى والي القاهرة، فمضى بهم إلى خزانة شمايل بالقاهرة، وسجنهم بها إلا يلبغا اليحياوي، فإنه أفرج عنه.
وكان يوماً عظيماً بالقلعة والقاهرة، من تألم الناس على أولاد السلطان والأمراء وكثرة البكاء والعويل.
وبات قوصون ومن معه ليلة الأحد بخيامهم عند قبة النصر، وركبوا بكرة يوم الأحد عشريه إلى القلعة، واتفقوا على إقامة كجك. فكانت مدة سلطنة المنصور أبي بكر تسعة وخمسين يوماً ومن حين قلده الخليفة أربعين يوماً.
ومن الاتفاق العجيب أن الملك الناصر أخرج الخليفة أبا الربيع سليمان وأولاده إلى قوص مرسماً عليهم، فقوصص بمثل ذلك، وأخرج الله أولاده مرسماً عليهم إلى قوص على يد أقرب الناس إليه، وهو قوصون مملوكه وثقته ووصيه على أولاده، فليعتبر العاقل ويتجنب أفعال السوء.
السلطان علاء الدين كجكالسلطان الملك الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر محمد بن قلاوون أقيم سلطاناً في يوم الإثنين حادي عشرى صفر، سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، ولم يكمل له من العمر خمس سنين، وأمه أم ولد اسمها أردو، تترية الجنس. ولقب كجك بالملك الأشرف، وعرضت نيابة السلطنة على الأمير أيدغمش أمير أخور فامتنع وامتنع منها، فوقع الاتفاق على إقامة الأمير قوصون في النيابة، فأجاب وشرط على الأمراء أن يقيم على حاله بالأشرفية من القلعة، ولا يخرج منها إلى دار النيابة خارج باب القلعة. فأجابوه إلى ذلك، فاستقر من يومه نائب السلطان، وتصرف في أمور الدولة فقال في ذلك بعض الشعراء:
سلطاننا اليوم طفل والأكابر في ... خلف وبينهم الشيطان قد نزغا
فكيف يطمع من مسته مظلمة ... ان تبلغ السؤل والسلطان مابلغا
وفي يومه: أفرج عن الأمير ألطنبغا المارديني، وخلع على الأمير مسعود بن خطير واستمر حاجباً على عادته.
وفي ليلة الأربعاء: أخرج بالأمير طاجار، والأمير قطلوبغا الحموي، والأمير ملكتمر الحجازي، والشهابي شاد العمائر، من خزانة شمايل، جملوا إلى ثغر الإسكندرية، فستجنوا بها وتوجه الأمير بلك الجمدار على البريد إلى حلب، لتحليف النائب والأمراء والأجناد وتوجه الأمير بيغرا إلى دمشق بسبب ذلك، والأمير جركتمر بن بهادر إلى طرابلس وجماه لتحليف من فيها، وكتب إلى الأعمال بإعفاء الجند من المغارم.
وفي يوم الخميس رابع عشريه: ركب الأمير قوصون في دست النيابة، وترجل له الأمراء، فكان موكباً عظيماً.
وفيه أنفق الأمير قوصون في العسكر لكل مقدم ألف من الأمراء ألف دينار، ولكل أمير طبلخاناة خمسمائة دينار، ولكل أمير عشرة مائتي دينار، ولكل مقدم حلقة خمسين دينار، ولكل جندي خمسة عشر دينار.
وفي يوم السبت سادسه عشرية: سمر والي الدولة أبو الفرج بن الخطير صهر النشو. وسببه أنه لما أفرج عنه كثرت الإشاعة بأن الأمير ملكتمر الحجازي يستقر به في نظر الخاص، وأنه ينهض بما ينهض به النشو، وأنه صار يخلو بالسلطان المنصور أبي بكر ويحادثه في أمور الدولة، وأنه كثر نزول ملكتمر الحجازي وغيره من الأمراء إلى بيته ليلاً، وحضوره عنده إلى مجالس اللهو. واتهم الملك المنصور أبي بكر بأنه نزل إليه أيضاً. فنقل ذلك أعداؤه من الكتاب إلى الأمير قوصون، وأغروه به إلى أن كان من قيامه على السلطان ما كان، فقبض على والي الدولة وسجنه، فقام الكتاب في قتله حتى أجابهم قوصون إلى ذلك، فطلب ابن المحسني والي القاهرة. طوائف من العامة وألزمهم ان يشعلوا الشموع من بعد صلاة الصبح خارج باب زويلة، وأخرج وإلى الدولة من خزانة شمايل، وسمره على جمل تسميراً فاحش بمسامير خافية، وأمر فنودي عليه: هذا جزاء من يرمي الفتن ويتحدث فيما لا يعنيه ويفسد عقول الملوك. وشهر والي الدولة والشموع بين يديه بالقاهرة ومصر، فطافوا به الأزقة والشوارع وهو ساكت يتجلد، فإذا مر بالشهود في الحوانيت أو بجمع من القضاة صاح: يا جماعة اشهدوا لي أنني مسلم، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنا أموت عليها فكان يوماً مشهوداً. ولم يزل والي الدولة على ذلك أياماً حتى مات وقال فيه بعصهم.
قد أخلف النسو صهر سوء ... قبيح فعل كما رأوه
أراد للشر فتح باب ... فأغلقوه وسمروه
وكانت عدة الشموع التي أشعلت يوم تسميره ألفا وخمسمائة شمعة.
وفي يوم الخميس مستهل ربيع الأول: أنعم الأمير قوصون على أحد وعشرين رجلاً من المماليك السلطانية بإمريات، منهم ستة طبلخاناة والبقية عشرات.
وفي يوم الجمعة تاسعه ويوافقه أ ول أيام النسيء: وفي النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح سد الخليج بكرة يوم السبت. فنقص الماء أربعة أصابع، ثم رد النقص وزاد أصبعاً من سبعة عشر ذراعاً في يوم الخميس خامس عشره، فسر الناس بذلك سروراً زائداً.
وفي يوم الأربعاء رابع عشره: توجه الأمير طوغان لإحضار أحمد ابن السلطان الناصر محمد من الكرك محتفظاً به، لينفى إلى أسوان وسبب ذلك ورود كتاب ملكتمر السرجواني نائب الكرك يتضمن أن أحمد قد خرج عن طوعه، وكثر شغفه بشباب أهل الكرك وانهماكه في معاقرة الخمر، وأنه يخاف على نفسه منه أن يوافق الكركيين على قتله، وطلب الإعفاء من نيابة الكرك.
وفي يوم السبت سابع عشره: خلع على الأمير طقزدمر النائب، واستقر في نيابة حماة عوضاً عن الملك الأفضل ابن الملك المؤيد الأيوبي، وأنعم على الأفضل بإمرة ألف في دمشق.
وفيه أنعم الأمير أقبغا عبد الواحد بإمرة في دمشق، ورسم بسفره إليها.
وفي يوم الخميس ثاني عشريه: خلع على جميع الأمراء وأهل الدولة بدار العدل وقد أجلس السلطان على التخت، وقبل الأمراء الأرص بين يديه، ثم تقدموا إليه على قدر مراتبهم، وقبلوا يده. فكانت عدة الخلع يومئذ ألف خلعة ومائتي خلعة، وكان يوماً مشهوداً.
وفيه توجه جركتمر بن بهادر إلى أسوان، للاحتفاظ على المنصور أبي بكر وإخوته وكان قد حضر إلى القاهرة هو وغيره ممن توجه لتحليف نواب الشام بنسخ حلفهم.
وفي تاسع عشريه: ورد البريد من الكرك بكتاب أحمد ابن السلطان يتضمن أنه لا يحضر حتى يأتيه الأمراء الأكابر إلى الكرك ويحلفهم، ثم تحضر إخوته من بلاد الصعيد إلى قلعة الكرك، ويحضر هو بعد ذلك وينتصب سلطاناً. فأجيب من الغد بأنه لم يطلب إلا لشكوى النائب منه، وجهزت له هدية سنية، وأنه يحضر إلى القاهرة حتى تعمل المصلحه وفيه أفرج عن الشريف مبارك بن عطيفة.
وفيه أنعم على عشرة من مماليك السلطان بإمريات، ونودي بالقاهرة بألا يرمى على أحد من التجار والباعة شيء من البضائع.
وفيه قبض على بدوي معه كتاب أمير يحيى بن ظهير بغا المغلي لأحمد ابن السلطان الناصر محمد يحذره من دخول مصر، وأنه متى دخل إليها قتل، فأنكر قوصون على أمير يحيى ذلك، فزعم أنه كتاب أخته زوجة أحمد.
وفيه ورد كتاب عبد المؤمن والي قوص يخبر بوصول المنصور أبي بكر وإخوته، وأنه ركب في خدمته. فلما عاد عبد المؤمن من خدمته بعث إليه المنصور بخمسمائة دينار، فكتب الأمير قوصون جوابه بالاحتراس عليه.
وفيه أخذت أمور قوصون تضطرب. وذلك أنه ألزم المماليك السلطانية بالمشي في خدمته، كما كانوا في الأيام الناصرية يمشون في خدمة السلطان الناصر محمد، فلم يوافقوه على ذلك، وكان قوصون مع كثرة إحسانه قد ألقى الله بغضته في قلوب الناس جميعاً حتى صاروا يلهجون بها.
وفي يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر: قدم من الكرك الأمير شرف الدين ملكتمر السرجواني نائبها، والأمير طرغاي الطباخي، وأخبرا بامتناع أحمد من الحضور، وأنه أقام على الخلاف.
وفي يوم الجمعة خامس عشره: اجتمع الأمراء للمشورة في أمر أحمد ابن السلطان حتى تقرر الأمر على تجريد العسكر لأخذه.
وفي يوم السبت سادس عشره: ابتدأت الفتنة بين الأمير قوصون وبين المماليك السلطانية. وذلك أنه أرسل يستدعي من الطواشي مقدم المماليك مملوكاً من طبقة الزمردية جميل الصورة، فمنعه خشداشيته أن يخرج من عندهم. فتلطف بهم الطواشي المقدم حتى أخذه، ومضى به إلى قوصون وبات عنده. وطلب قوصون من الغد نحو أربعة أو خمسة مماليك، ومنهم شيخو وصرغمتش وأيتمش عبد الغني فامتن خشداشيتهم من ذلك، وقام منهم نحو المائة مملوك، وقالوا: نحن مماليك السلطان ما نحن مماليك قوصون. وأخرجوا الطواشي المقدم على أقبح صورة. فمضى الطواشي المقدم إلى قوصون وعرفه ذلك، فأخرج إليهم الأمير برسبعا الحاجب وشاورشي دواداره في عدة من مماليكه ليأتوه بهم، فإذا بالمماليك السلطانية قد تعصبوا مع كبارهم، وخرجوا على حمية إلى باب القلة يريدون الأمير بيبرس الأحمدي، فإذا به راكب. فمضوا إلى بيت الأمير جنكلي بن البابا، فلقوه في طريقهم، فتقدموا إليه وقالوا له. نحن مماليك السلطان مشتري ماله، كيف نترك ابن أستاذنا ونخدم غيره، فينال غرضه منا، ويفضحنا بين الناس؟ وجهروا بالكلام الفاحش. فتلطف بهم جنكلي فلم يرجعوا عما هم عليه، فحنق منهم وقال لهم: أنتم الظالمون بالأمس لما خرجتم قلت لكم أنا ونائب السلطان طقزدمر ارجعوا إلى خدمة أستاذكم، قلتم ما لنا أستاذ غير قوصون، والآن تشكون منه فاعتذروا ومضوا، وقد حضر الأمير بيبرس الأحمدي فاجتمعوا به، وتوجهوا إلى منكلي بغا الفخري، فإذا قد وافاه برسبغا من عند قوصون، فأرادوا أن يوقعوا به، فكفهم الفحري عنه، ومازال يتلطف بهم.
هدا وقوصون قد بلغه خبرهم، فأراد أن يخرج ويجمع الأمراء، فمازال به من عنده من الأمراء حتى سكن إلى بكرة النهار، فكانت ليلة مهولة بالقلعة. ثم طلب قوصون جنكلي والأحمدي والفخري وبقية الأمراء إليه، وأغراهم بالمماليك السلطانية. فبعثوا بأمير مسعود إليهم ليحضرهم، فإدا جمعهم قد كثف وكثر، فلم يلتفتوا إليه، فعاد. وخرج إليهم ألطنبغا المارداني وقطلوبغا الفخري وهما أكبر الناصرية - ومازالا بهم حتى أخذا من وقع عليه الطلب، ودخلا بهم إلى قوصون، فقبلوا يده، فقام لهم وقبل رءوسهم وطيب خاطرهم ووعدهم بكل خير، وانصرفوا وفي الظن أنه قد حصل الصلح، وذلك يوم السبت المذكور.
فلما كانت ليلة الإثنين: وقت الغروب تحالف المماليك السلطانية على قتل قوصون وبعثوا إلى من بالقاهرة منهم، فبات قوصون وقد بلغه ذلك على حذر. وركب قوصون يوم الإثنين ثامن عشره الموكب مع الأمراء تحت القلعة، وطلب أيدغمتش أمير أخور وأخذ يلوم الأمراء على إقامته في نيابة السلطنة، وهم يترضونه ويعدونه بالقيام معه. فأدركه الأمير بيبرس الأحمدي، وأعلمه بان المماليك السلطانية قد اتفقوا على قتله، فمضى بالموكب مع الأمراء إلى جهة قبة النصر. فارتجت القلعة، وغلقت أبوابها، ولبست المماليك السلطانية السلاح بالقلعة، وكسروا الزردخاناه. وقد امتلأت الرميلة بالعامة، وصاحوا: يا ناصرية، فأجابهم المماليك من القلعة. ثم رجعوا إلى باب إصطبل قوصون وهجموا عليه، وكسروا من كان يرجمهم من أعلاه. فبلغ ذلك قوصون، فعاد بمن معه من الأمراء، فأوقعوا بالعامة حتى وصلوا إلى سور القلعة، فرماهم المماليك السلطانية بالنشاب لحماية العامة. فقتل أمير محمود صهر الأمير جنكلي بن البابا بسهم، وقتل معه أخر. ووصل الأمراء إلى إصطبل قوصون، وقد بدأ النهب فيه، فقتلوا من العامة جماعة كبيرة، وقبضوا على جماعة. فلم تطق المماليك السلطانية مقاومة الأمراء، وكفوا عن الحرب، وفتحوا باب القلعة. فطلع إليها الأمير برسبغا الحاجب، وأنزل ثمانية من أعيان المماليك إلى قوصون، وقد وقف بجانب زاوية تقي الدين رجب تحت القلعة. فوسط قوصون واحداً منهم اسمه صربغا، فإنه هو الذي فتح خزائن السلاح وألبس المماليك، وأمر به قوصون فعلق على باب زويلة وشفع الأمراء في البقية، فسجنوا بخزانة شمايل مقيدين. ورسم بتسمير عدة من العامة، فسمر منهم تسعة على باب زويلة، وأمر بالركوب على العامة وقبضهم، ففروا حتى لم يقبض منهم على حرفوش واحد. ثم طلع الأمير قوصون إلى القلعة قريب العصر، ومد له وللأمراء سماط، فأكلوا. وبقيت الأطلاب وأجناد الحلقة تحت القلعة إلى أخر النهار، فكان يوما مشهوداً، وكانت جملة من قتل فيه من الفئتين ثمانية وخمسين رجلاً.
وفي ليلة الثلاثاء: طلع الأمير برسبغا في جماعة إلى طباق المماليك بالقلعة، وقبضوا على مائة مملوك منهم، وعملوا في الحديد، وسجنوا بخزانة شمايل، فمنهم من قتل، ومنهم من نفي من مصر.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشره: سمر تسعة من العوام.
وفي يوم الأربعاء عشريه: سمر ثلاثة من الطواشية على باب زويلة، في عدة من الحرافيش. وسبب ذلك أن قوصون لما نزل من القلعة ومضى إلى قبة النصر، وقابلته المماليك أخذت الطواشية في الصياح على نسائه، وأفحشوا في سبهن. فمات أحدهم تحت العقوبة وأفرج عن الإثنين.
وفيه عرضت مماليك الطباق، وأنعم على مائتي مملوك منهم بإقطاعات كثيرة المتحصل، وعين جماعة منهم للإمريات. وأكثر قوصون من الإحسان إليهم، والإنعام عليهم.
وفيه قدم البريد من دمشق بكتب أحمد ابن السلطان إلى نائب الشام، وهي مختومة لم تفك، فإذا فيها أنه كاتب الأمير طشتمر حمص أخضر نائب حلب وغيره من النواب، وأنهم قد اتفقوا معه، وأكثر أحمد من الشكوى من قوصون. فأوقف قوصون الأمراء عليهما، ومازال بهم حتى وافقوه على تجريد العسكر إلى الكرك.
وفيه فرقت المماليك التي كانت الفتنة بسببهم على خشداشيتهم، فسلم صرغتمش إلى الأمير ألطنبغا المارداني، وسلم أيتمش لأيدغمش أمير آخور، وسلم شيخو إلى أرنبغا السلاح داره وفي يوم الجمعة ثاني عشريه: قدم البريد من الكرك بأن أحمد ابن السلطان لم يوافق طرغاي الطباخي على القدوم معه، وأن طرغاي توجه من الكرك عائداً بغير طائل. وكانت الإشاعة قد قويت بالقاهرة أن أحمد عزم على السير إلى مصر، وطلب السلطنة. فكثر الاضطراب، ووقع الشروع في تجهيز العساكر صحبة الأمير قطلوبغا الفخري، واستحلفه قوصون، وبعث إليه عشرة ألاف دينار، وعين معه الأمير قماري أخو بكتمر الساقي، ومعهما أربعة وعشرون أميراً، ما بين طبلخاناة وعشرات، وأنفق عليهم جميعاً ثم بعث قوصون إلى قطلوبغا الفخري بخمسة ألاف دينار عند سفره، وركب لوداعه صحبة الأمراء حتى أناخ بالريدانية في يوم الثلاثاء خامس عشريه.
ولم يكن الأمراء راضين بسفرهم، بل أشار الأمير آل ملك والأمير جنكلي بن البابا على قوصون بألا يحرك ساكناً فلم يقبل، فأشارا عليه بأن يكتب إلى أحمد يعتبه على مكاتبته نائب الشام، فكتب إليه بذلك، فأجاب بأن طرغاي الطباخي أسمعه كلاماً فاحشاً وأغلظ عليه في القول، فحمله على مكاتبة نائب الشام، وأن الأمير قوصون والده بعد والده، ونحو هذا من القول.
وفيه قدم الأمير أزدمر الكاشف، ومعه ابن حرجا خولي الأغنام السلطانية تحت الاحتفاظ، فأخذ منه ألف ألف درهم من غير أن يضرب، لكثرة أمواله وسعادته.
وفيه قدم الخبر من شطي بن عبية أمير العرب بأن أحمد ابن السلطان الناصر قد اختلفت عليه مماليكه، وقتلوا الشاب الذي كان يهواه ويعرف بشهيب، من أجل أنه كان يهينهم.
وفيه أفرج عن مماليك دمرداش الذين بعثهم السلطان الملك الناصر محمد إلى صفد ورسم بتفرقتهم على الأمراء.
وفي يوم الثلاثاء ثالث جمادى الأول: ركب الأمير نائب قوصون نائب السلطنة إلى سرياقوس وصحبته الأمراء على جاري العادة.
وفيه خلع على ضياء الدين يوسف. بن خطب بيت الآبار، وأعيد إلى حسبة القاهرة.
وفي هذا الشهر: ظهر لقوصون مخالفة الأمير طشتمر حمص أخضر نائب حلب عليه، وسببه أنه شق عليه إخراج أولاً السلطان الملك الناصر إلى الصعيد، ويجهز العسكر لقتال أحمد ابن السلطان. وكان قد بعث إليه أحمد يشكو من قوصون، وأنه يريد القبض عليه، ويطلب منه النصرة عليه. فكتب طشتمر حمص أخضر إلى الأمراء وإلى قوصون بالعتب، فقبض على قاصده بقطيا، وسجن. وكتب قوصون إلى الأمير ألطنبغا الصالحي نائب الشام بأن نائب حلب قد شرع يتكلم في الفتنة، وأنه لا يصغي إلى قوله، وحمل إليه أنعاماً كثيراً، فأجاب بالسمع والطاعة والشكر والثناء.
وفيه أيضاً تنكرت الأحوال بين الأمير قوصون وبين الأمير أيدغمش أمير أخور، وكادت الفتنة تقع بينهما. وذلك أن بعض مماليك أمير علي بن أيدغمش وشى إليه بأن قوصون قدر مع برسبغا أنه يبيت بالقاهرة، ويكبس في عدة من مماليك قوصون على أيدغمش. فأخذ أيدغمش في الاحتراز، وامتنع من طلوع القلعة أياماً بحجة أنه متوعك الجسم. وصار إذا سير قوصون في سوق الخيل يغلق أيدغمش باب الإصطبل، ويوقف طائفة الأوجاقية عليه. فاشتهر الخبر بين الناس، وكثرت القالة. وبلغ قوصون تغير أيدغمش عليه، فحلف للأمراء أنه لا يعرف لتغيره سبباً، فمازالت الأمراء بأيدغمش حتى طلع إلى القلعه، وعرف قوصون بحضرتهم ما بلغه، فحلف قوصون على المصحف أن هذا لم يقع منه ولا عنده منه خبر، وتصالحا. فبعث إليه أيدغمش بعد نزوله إلى الإصطبل بالناقل له، فرده إليه ولم يعاقبه.
وفيه قدم الخبر من الإسكندرية بوفاة الأمير بشتاك بحبسه، فاتهم قوصون بقتله.
وفيه قدم الخبر من جركتمر بن بهادر بأنه وصل إلى الملك المنصور أبي بكر، وشكى من ترفعه وتعاظمه عليه، فكتب بطلب عبد المؤمن والي قوص على البريد، فلما قدم خلع عليه قوصون، وأكثر من الإنعام عليه، وقرر معه ما يعمله، وأعاده على البريد وكتب إلى جركتمر بن بهاد بمساعدته على ما هو بصدده.
وفيه أنشأ الأمير قوصون قاعة لجلوس مع الأمراء من داخل باب القلعة، وفتح إلا شباكاً يطل على الدركاه، وجلس فيه مع أكابر الأمراء ومد السماط بها، وصار يدخل إليه الأمراء والمقدمون والأجناد. وزاد قوصون في راتب سماطه كثيراً من الحلوى والدجاج ونحو ذلك، وأكثر من الخلع والإنعامات إلى الغاية، بحيث لم يمنع أحداً من خير يصل إليه منه. وكان قوصون قبل ذلك يجلس بباب القلعة موضع النيابة، في موضع صنعه وأدار عليه درابزين يحجبه عن الزحمة من كثرة الناس.
وفيه قدم الخبر من عبد المؤمن والي قوص بأن المنصور أبا بكر وجد في نفسه تغيراً، وفي جسمه توعكاً، لزم الفراش منه أياماً، ومات. ثم قدم جركتمر بن بهادر وأخبر بذلك، فاتهم قوصون بأنه أمر بقتله.
وفيه قدم الخبر من العسكر المجرد إلى الكرك بغلاء السعر عندهم، وأن التبن بلغ أربعين درهماً الحمل. ثم قدم الخبر بنزول العسكر مع قطلوبغا الفخري على الكرك، وقد امتنعت واستعد أهلها للقتال، وكان الوقت شتاء، فأقام العسكر نحو العشرين يوماً في شدة من البرد والأمطار والثلوج وموت الدواب، وتسلط أهل الكرك عليهم بالسب واللعن، وكثرت غاراتهم في الليل عليهم، وتقطيع قربهم ورواياهم.
هذا وقوصون يمد قطلوبغا الفخري بالأموال، ويحرضه على لزوم الحصار.
وفيه قدم البريد من عند ألطبغا الصالحي نائب دمشق بأن تمر الموساوي قدم من حلب، واستمال جماعة من الأمراء إلى طشتمر حمص أخضر نائب حلب.
فكتب قوصون بالقبض عليه، وحمل تشريف لنائب حلب. وكتب قوصون إلى ألطبغا الصالحي نائب دمشق أن يطالع بالأخبار، وأعلم القاصد بأنه إنما أرسل لكشف أخباره. فلم يرض نائب حلب بالتشريف، وعابه، وكتب إلى قوصون يعتبه على إخراج أولاد السلطان، فأجابه بأعذار غير مقبولة.
ثم قدم الخبر من شطي بن عبية أمير العرب بأن قطلوبغا الفخري قد خامر بالكرك على قوصون، وحلف لأحمد هو ومن معه من الأمراء، وأنهم أقاموه سلطاناً ولقبوه بالملك الناصر، وذلك بمكاتبة طشتمر حمص أخضر نائب حلب له يعتبه على موافقة قوصون، وقد فعل بأولاد السلطان ما فعل، ويعزم عليه أن يدخل في طاعة أحمد، ويقوم معه بنصرته. فصادف ذلك من قطلوبغا الفخري ضجره من طول الإقامة على حصار الكرك، وشدة البرد وكثرة الغلاء، فجمع من معه وكتب إلى أحمد وخاطبه بالسلطنة وقرر الصلح معه، وكتب إلى طشتمر حمص أخضر نائب حلب بذلك، فأعاد جوابه بالشكر والثناء، وأعلمه بان الأمير طقزدمر نائب حماة وأمراء دمشق قد وافقوه على القيام بأمر أحمد.
وكان الأمير ألطنبغا الصالحي نائب الشام قد أحس بشيء من هذا، فاحترس على الطرقات حتى ظفر بقاصد طشتمر حمص أخضر نائب حلب على طريق بعلبك، ومعه كتب من هؤلاء الأمراء إلى أحمد، فبعث ألطنبغا بهذه الكتب إلى قوصون فقدمت ثاني يوم ورود كتاب شطي بمخامرة قطلوبغا الفخري، فإذا فيها لملكي الناصري فاضطرب قوصون وجمع الأمراء وعرفهم بما وقع وأوقفهم على الكتب، وذكر لهم أنه وصل منه إلى قطلوبغا الفخري في هذه السفرة أربعين ألف دينار، سوى الخيل والقماش والتحف.
وفيه رسم قوصون بإيقاع الحوطة على دور الأمراء المجردين إلى الكرك، فمازال به الأمراء حتى كف عن ذلك. وألزم مباشريهم بحمل حواصلهم وصار في أمر مريج. ثم كتب قوصون إلى ألطنبغا الصالحي نائب الشام بخروجه لقتال طشتمر حمص أخضر نائب حلب، ومعه نائب حمص، ونائب صفد، ونائب طرابلس، وكتب إليهم بالسمع والطاعة له، وحمل قوصون النفقات إلى العساكر الشامية. فخرج الأمير ألطنبغا الصالحي نائب الشام من دمشق بالعسكر في جمادى الآخرة، فتلقاه الأمير أرقطاي نائب طرابلس على حمص، وصار من جملته، وأخبره بكتاب طشتمر حمص أخضر نائب حلب يدعوه لموافقته، وأنه أبى عليه. ثم كتب الأمير ألطنبغا نائب الشام إلى الأمير طقزدمر نائب حماة ليحضر معه، فاعتذر بأنه من وجع رجله ما يقدر على الركوب، وكان قد وافق نائب حلب فبعث إليه نائب الشام بقبول عذه، وحلفه على طاعة السلطان الأشرف كجك، وألا يوافق طشتمر حمص أخضر نائب حلب ولا قطلوبغا الفخري، ولا يخرج من حماة حتى يعود ألطنبغا من حلب، فحلف الأمير طقزدمر على ذلك.
وعندما بلغ طشتمر حمص أخضر نائب حلب مسير ألطنبغا نائب الشام إليه بالعساكر، استدعى ابن دلغادر، فقدم عليه حلب، واتفق معه على الخروج إلى الأبلستين، وسار به ومعه ما خف من أمواله، وأخذ أولاده ومماليكه. فأدركه عسكر حلب، وقد وصل إليهم كتاب ألطنبغا نائب الشام بالاحتراس عليه ومنعه من الخروج عن حلب، وقاتلوه عدة وجوه، فلم ينالوا منه غرضاً، وقتل من الفريقين خمسة نفر، وعادوا وأكثرهم جرحى. فلما وصل طشتمر حمص أخضر إلى الأبلستين كتب إلى أرتنا يستأذنه في العبور إلى الروم، فبعث إليه أرتنا بقاضيه وعدة من ألزامه، وجهز له الإقامات. فمضى طشتمر حمص أخضر إلى قيصرية، وتوجه أرتنا لمحاربة دمرداش بعد أن رتب للأمير طشتمر في كل يوم ألفي درهم.
وأما الطنبغا الصالحي نائب الشام، فإنه قدم إلى حلب، وكتب إلى قوصون يعلمه بتسحب طشتمر حمص أخضر، وأنه استولى على حلب. فقدم كتابه في يوم الأربعاء ثاني رجب، صحبة أطلمش الكريمي، فأخرجه قوصون في رابعه إلى الشام لكشف الأخبار.
وفي خامسه: خلع على جميع الأمراء المقدمين والطبلخاناة والعشرات، ولبس معهم الأمير قوصون تشريف النيابة، وخلع على ثلاثمائة من المماليك السلطانية، فان يوماًمشهوداً.
وفي يوم الإثنين ثامنه: فرق قوصون إقطاعات الأمراء المجردين صحبة قطلوبغا الفخري، وعدتهم اثنان وثلاثون أميراً، منهم أمراء طبلخاناة ستة عشر، وأمراء عشرات سته عشر، وأميران مقدمان. وأعطى قوصون إمرياتهم لأربعة وثلاثين أميراً، عوضاً عن أولئك.
وفي يوم الأربعاء عاشره: نزل الوزير نجم الدين وناظر الخاص جمال الكفاة إلى بيوت الأمراء المجردين، وأخذوا ما قدروا عليه من أموالهم وخيولهم، ففرقها قوصون على الأمراء المستجدين. وأخرج قوصون أيضاً إقطاعات أولاد الأمراء المجردين، ومماليكهم ومن يلوذ بهم من أجناد الحلقة، لجماعة سواهم.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشريه: قدم الأمير الشيخ علي بن دلنجي القازاني أحد الأمراء العشرات المجردين، وأخبر بمسير قطلوبغا الفخري من الكرك إلى دمشق، ومواقعته مع ألطنبغا نائب الشام، وأنه فر منه في ليلة الوقعة، فخلع عليه قوصون خلعة كاملة بكلفتاه زركش وحياصة ذهب.
وكان من خبر ذلك أن ألطنبغا الصالحي نائب الشام لما دخل حلب استولى على حواصل طشتمر حمص أخضر وأسلحته وخيوله وجماله، وباع ذلك على أهل حلب. وبينا هو في ذلك إذ بلغه دخول قطلوبغا الفخري إلى دمشق بمن معه من العسكر، وأنه دعا للناصر أحمد، وقد وافقه أقسنقر السلاي نائب غزة، وأصلم نائب صفد، ومن تأخر بدمشق من الأمراء، وهم شيخو البشمقدار وتمر الساقي، وأن آقسنقر نائب غزة وقف لحفظ الطرقات حتى لا يصل أحد من مصر، واستولى على القصر المعيني بلد قوصون بالغور، وأخذ ما فيها من القند والسكر وغير ذلك، وقبض على نوابه وأمواله وغلاله وأن قطلوبغا الفخري أخذ في تحصيل الأموال من دمشق للنفقة على الأمراء والأجناد، وأن الأمير طقزدمر نائب حماة قدم عليه في غد دخوله، فركب وتلقاه وقوي به. واستخدم قطلوبغا الفخري جنداً كبيراً، ونادى بدمشق: من أراد الإقطاع والنفقة فليحضر، وأخذ مالاً كثيراً من التجار وأرباب الأموال، وأكره قاضي القضاة تقي الدين ابن السبكي حتى أخذ مال الأيتام، وأخذ أجر الأملاك والأوقاف لثلاث سنين، فلم يبق أحد بدمشق إلا وغرم المال على قدر حاله. فجمع قطلوبغا الفخري مالاً عظيماً، وأتته جماعات من الجند والتركمان أوراقاً من ديوان الجيش بأسماء الأجناد والبطالين لإقطاعات بالحلقة، فتجهزوا جميعهم بالخيل والأسلحة. وحلف قطلوبغا الجميع للسلطان الملك الناصر أحمد، وعمل برسمه العصائب السلطانية والسناجق الخليفتية ورقاب الخيل والكنابيش والسروج والغاشية والقبة والطير، وسائر ما يحتاج إليه من أبهة السلطنة وجهز الكوسات والبغال. وكتب قطلوبغا إلى الناصر أحمد يعرفه بذلك فأجابه بالشكر والثناء، وبعث إليه موسى بن التاج إسحاق بمال، وسأل أن يكون ناظر الخاص على ما كان عليه أبوه في أيام أبيه السلطان الملك الناصر محمد. فأحابه قطلوبغا إلى ذلك، وأقام بدمشق يدبر أمره، وطلب ابن صبح نائب صفد، وبعثه لجمع العشير والجبلية من بلاد صفد وطرابلس وغيرها، فأتاه منهم جمع كثير. وكتب قطلوبغا إلى سليمان بن مهنا أن يعرف بسير ألطنبغا الصالحي من حلب، فكتب الأمير ألطنبغا يعرف الأمير قوصون بذلك فازداد اضطرابه، وجمع الأمراء. فاتفق الرأي على تجريد أمراء إلى غزة، فتوجه برسبغا الحاحب وأمير محمود الحاجب وعلاء الدين علي بن طغريل في جماعة وأجيب الأمير ألطنبغا نائب الشام على يد أطلمش الكريمي بأن يسير من حلب إلى قتال قطلوبغا الفخري بدمشق، فتوجه أطلمش على البريد من البرية لانقطاع الدرب، ووصل إلى حلب، وعرف ألطنبغا الخبر، فسار ألطنبغا منها حتى قدم حمص، وقد خرج قطلوبغا الفخري من دمشق إلى خان لاجين وأمسك المضيق، وأقام الجبلية والعشير على الجبلين، ووقف هو بالعسكر في وسط الطريق.
وأما ألطنبغا الصالحي فإنه حلف من معه، وسار من حمص حتى قرب من قطلوبغا، وعدة الجمعين نحو ثلاثة عشر ألف فارس. فتمهل ألطنبغا كراهة لسفك الدماء، وراسل قطلوبغا مدة ثلاثة أيام، فلم يتم بينهما أمر، وبعث قطلوبغا إلى جماعة من أصحاب ألطنبغا يعدهم ويستميلهم حتى وافقوه.
فلما تعبت الرسل وملت العساكر من شدة البرد، بعث ألطنبغا في الليل عدة ممن معه على طريق المرج ليهجموا على قطلوبغا من ورائه، ويلقاهم هو من أمامه. وركب ألطنبغا من الغد، فمال كل أمير ممن معه إلى جهة قطلوبغا، وصاروا من جملته. فلم يبق مع ألطنبغا سوى أرقطاي نائب طرابلس، وأسنبغا بن بكتمر البوبكري وأيدمر المرقبي من أمراء دمشق، فانتهزوا على طرلق صفد إلى جهة غزة، والقوم في أثرهم، بعد أن كانت بينهم وقبة هائلة انهزم فيها ألطنبغا نائب الشام، وهرب فيها من معهم، وخلصوا هم بأنفسهم. وعاد قطلوبغا الفخري إلى دمشق منصوراً. وكتب مع البريد إلى الأمير طشتمر حمص أخضر يعرفه بنصرته ويدعوه إلى الحضور، وأنه في انتظاره بدمشق، وحلف قطلوبغا الفخري من معه للملك الناصر أحمد. وأمر الخطاء فدعوا له على منابر دمشق وضرب السكة باسمه وكتب يعرفه بذلك. وبعث قطلوبغا إليه تقدمة جليلة، واستحثه على المسير إلى دمشق ليسير في خدمته إلى مصر، وبعث بخطوط الأمراء إليه.
وأما ألطنبغا الصالحي نائب دمشق فإنه وصل إلى غزة ومعه أرقطاي وطرنطاي البشمقدار فيمن معهم، فتلقاهم الأمير برسبغا ومن معه. وكتب ألطنبغا إلى قوصون بذلك، فقامت، وقبض على أخوة أحمد شاد الشرابخاناة، وعلي قرطاي أستادار قطلوبغا الفخري.
ثم قدم على قوصون كتاب قطلوبغا الفخري يعنفه على إخراج أولاد السلطان الناصر محمد وقتل المنصور أبي بكر، وأن الاتفاق وقع على سلطنة الناصر أحمد، ويشير عليه بأن يختار بلداً يقيم بها حتى يسأل له السلطان الملك الناصر أحمد في تقليده إياها. فقام قوصون وقعد، وجمع الأمراء، فوقع الاتفاق على تجهيز التقادم للأمراء بغزة. فجهز قوصون لكل من ألطنبغا الصالحي نائب الشام وأرقطاي نائب طرابلس ثلاثين بدلة وثلاثين قباء مسنجبة بطرازات زركش، ومائتي خف ومائتي كلفتاه، وكسوة لجميع مماليكهما وغلمانهما وحواشيهما، وجهز لكل من الأمراء الذين معهما ثلاث بدلات وأقبية بسنجاب، وكسوة لمماليكهم وأتباعهم. وأخذ قوصون في الإنعام على المماليك السلطانية، وأخرج ثلاثمائة ألف دينار من الذخيرة لتجهيز أمره حتى يخرج بالعساكر إلى الشام. وأخرج أربعمائة قرقل وزرديات وخوذ وغيرها، وأنعم على جماعة من المماليك بإمريات، وغير إقطاعات جماعة منهم بإقطاعات المجردين، وكتب إلى الأمراء بمسيرهم من غزة، وهيأ لهم الإقامات والخيول، وبعث إليهم بالحلاوات والفواكه وسائر ما يليق بهم.
فبينا قوصون في ذلك إذ ركب الأمراء عليه، في ليلة الثلاثاء تاسع عشرى رجب وقت عشاء الآخرة. وسبب ذلك تنكر قلوب أكابر الأمراء عليه، لأمور بدت منه، منها قتل الأمير بشتاك، ثم قتل الملك المنصور أبي بكر، ثم وقوع الوحشة بينه وبين أيدغمش، فأخذ أيدغمش في التدبير عليه. ثم كان من انتصار قطلوبغا الفخري على ألطنبغا الصالحي نائب الشام ما كان، فكتب قطلربغا إلى أيدغمش سراً بأنه سلطن أحمد، وحرضه على الركوب إلى الكرك بمن قدر على استمالته.
وكان قوصون قد احتفل لقدوم ألطنبغا الصالحي نائب الشام ومن معه، وفتح ذخيرة السلطنة، وأكثر من النفقات والإنعامات حتى بلغت إنعاماته على الأمراء والخاصكية وما فرقه فيهم وفي العسكر ستمائة ألف دينار. فشاع بأنه يريد أن يتسلطن، فخاف أيدغمش وغيره من تحكمه في السلطنة، وحرض الخاصكية حتى وافقه الأمير ألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي، في عدة من المماليك السلطانية، وعدة من أكابر الأمراء منهم الحاج آل ملك وجنكلي بن البابا، أنهم يسيرون جميعاً إلى الكرك عند قدوم ألطنبغا الصالحي نائب الشام وخروجهم إلى لقائه.
فلما كان يوم الإثنين: ركب قوصون في المركب تحت القلعة على العادة، وطلب الأمير يلجك ابن أخته، وأخرج إلى لقاء نائب الشام - وقد ورد الخبر بنزوله على بلبيس - ليأتي به سريعاً. فوافى يلجك الأمير ألطنبغا الصالحي ومن معه على بلبيس، فلم يوافقه على السرعة، وقصد أن يكون حضوره في يوم الخميس أول شعبان. وبات ألطنبغا ليلة الثلاثاء على بلبيس وركب من الغد ونزل سرياقوس، فبلغه ركوب الأمراء على قوصون وأنه محصور بالقلعة، فركب بمن معه إلى بركة الحاج، وإذا بطلب قوصون وصنجقه في نحو مائة مملوك قد وافوه، وأعلموه أن في نصف الليل ركب الأمراء وأحاطت بإصطبل قوصون، وحصروه في القلعة، فخرجوا هم على حمية حتى وصلوا إليهم.
وكان من خبر ذلك أن قوصون لما بعث يلجك ليأتيه بنائب الشام سريعاً، تواعد أيدغمش ومن وافقه على أن يركبوا في الليل إلى الكوك. فجهز كل منهم حاله، حتى كان ثلث الليل فتح الأمراء باب السر، ونزلوا إلى أيدغمش بالإصطبل. ومضى كل واحد إلى إصطبله فلم ينتصف الليل إلا وعامة الأمراء بأطلابهم في سوق الخيل تحت القلعة، وهم ألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي وبهادر الدمرداشي والحاج آل ملك والجاولي وقماري الحسني أمير شكار وأرنبغا وآقسنقر السلاري. وبعثوا إلى إصطبلات الأمراء مثل جنكلي بن البابا وبيبرس الأحمدي وطرغاي الطاخي وقياتمر وغيرهم، فأخرجوا أطلاب الجميع إليهم. وخرج لهم أيدغمش بماليكه ومن عنده من الأوجاقية، فوقفوا جميعاً ينتظرون نزول قوصون إليهم، حتى يمضوا إلى الكرك. فأحسن قوصون بهم، وقد انتبه، فطلب الأمراء المقيمين بالقلعة، فأتاه منهم اثني عشر أميراً منهم جنكلي ابن البابا والأحمدي وطرغيه وقباتمر والوزير. ولبست ممالكيه التي كانت عنده بالقلعة، وسألته أن ينزل ويدرك إصطبله، ويجتمع بمن فيه من مماليكه وكان يعتز بهم، فإنهم كانوا سبعمائة مملوك، وطالما كان يقول: إيش أبالي بالأمراء وغيرهم عندي سبعمائة مملوك ألقى بهم كل من في الأرض، فلم يوافقهم قوصون لما أراد الله به، وأقام إلى أن طلع النهار. فلما لم تظهر له حركة أمر أيدغمش أن يطلع الأوجاقية إلى الطلخاناة السلطانية وأخرج لهم الكوسات. ودق أيدغمش حربياً، ونادى: معاشر أجناد الحلقة ومماليك السلطان وأجناد الأمراء والبطالين يحضروا، ومن ليس له لبس ولا فرس ولا سلاح يحضر يأخذ له الفرس والسلاح ويركب معنا فأتاه جماعة كثرة من أجناد الحلقة والمماليك، ما بين لابس السلاح راكب وبين ماش أو على حمار، وأقبلت العامة كالجراد المنتشر. فنادى أيدغمش: " ياكسابة عليكم بإصطبل قوصون، اتهبوه فأحاطوا به ومماليك قوصون من أعلاه ترميهم بالنشاب حتى أتلفوا منهم عدة كثرة. فركب مماليك يلبغا اليحياوي أعلا بيت يلبغا حيث مدرسة السلطان حسن الآن، ورموا مماليك قوصون بالنشاب مساعدة للعوام، وجرحوا منهم جماعة، وحالوا بينهم وبين العامة. فهجم العامة عند ذلك على إصطبل قوصون، ونهبوا ركب خاناته وحواصله، وكسروا باب قصره بالفئوس بعد مكايدة شديدة، وطلعوا إليه. فخرجت مماليك قوصون على حمية، وشقوا القاهرة، وصاروا إلى ألطنبغا الصالحي نائب الشام. فبعث أيدغمش في أثرهم إلى ألطنبغا نائب الشام ومن معه من الأمراء بالسلام عليهم، وأن يمنعوا مماليك قوصون من الاختلاط بهم، فإن الأمير يلبغا اليحياوي والأمير آقسنقر قادمان في جميع كبير لأخذ مماليك قوصون وحاشيه. فأمر ألطنبغا نائب الشام مماليك قوصون ويلجك وبرسبغا أن يكونوا على حدة. ولبس الجميع، وأخذ برسبغا وجماعته نحو الجبل، فلقيهم يلبغا اليحياوي ومن معه، وكان ذلك بعدما أمسك قوصون، فسار خلفهم إلى قرب إطفيح، وهم في جمع كبير.
ولم تمض إلا ساعات من النهار حتى نهب جميع ما في إصطبل قوصون من الخيل والسروج وألات الخيل والذهب وغير ذلك، وقوصون ينظر ويضرب يداً على يد، ويقول يا أمراء هذا تصرف جند؟ ينهب هذا المال جميعه؟ وكان أيدغمش قصد بذلك أن يقطع قلب قوصون. فبعث قوصون إلى أيدغمش بأن هذا المال عظيم، وهو ينفع المسلمين والسلطان، فكيف تفعل هذا وتنادي بنهبه؟ فرد جوابه: نحن قصدنا أنت، ولو راح هذا المال وأضعافه. هذا والقلعة مغلقة الأبواب، وجماعة قوصون يرمون الأشرفية بالنشاب إلى قرب العصر، والعامة تجمع نشابهم وتعطيه لأجناد الأمراء المحاصرين للقلعة. فألقى حينئذ قوصون بيديه، واستسلم ودخل عليه مماليكه وقد خذلوا، فدخل عليه بلك الجمدار وملكتمر السرجواني يأمرانه أن يقيم في موضع حتى يحضر ابن أستاذه من الكرك، فيتصرف فيه كما يختار، فلم يجد بداً من الإذعان، وأخذ يوصي الأمير جنكلي على أولاده. وأخذ قوصون وقيد، ومضوا به إلى البرج الذي كان به بشتاك، ورسم عليه جماعة من الأمراء. وكان الذي تولى مسكه وحبسه أرنبغا أمير جندار وجنكلي بن البابا وأمير مسعود حاجب الحجاب.
وأما ألطنبغا الصالحي نائب الشام ومن معه، فإن برسبغا ويلجك والقوصونية لما فارقوه سار هو وأرقطاي نائب طرابلس والأمراء يريدون القلعة. فأشار الأمير ألطنبغا نائب الشام على الأمير أرقطاي نائب طرابلس أن يرد برسبغا ويلجك والقوصونيه وبقالل أيدغمش، فإنه ينضم إليهم جميع حواشي قوصون ويأخذون أيدغمش، ويخرجون قوصون ويقيمونه كبيراً لهم ويخرجونه إلى حيث يختار، ويقيمون سلطاناً أو ينتظرون قدوم أحمد، فلم يرافقه أرقطاي لعفته عن سفك الدماء. فلما وافيا تحت القلعة وأيدغمش واقف في أصحابه، أقبل إليها أيدغمش وعانقهما، وأمرهما أن يطلعا إلى القلعة، فطلعا. وأمر أيدغمش فقبض على ابن المحسني والي القاهرة، وأحضره والأمراء واقفون تحت القلعة، فأنزله عن فرسه وسجنه بالقلعة، بعدما كادت العامة أن تقتله لكونه من جهة قوصون، ثم أرسل أيدغمش الأمير آقسنقر والأمير قازان في عدة مماليك وراء برسبغا ويلجك ومن معهما. وجلس أيدغمش مع ثقاته من الأمراء، وقرر معهم تسفير قوصون في الليل إلى الإسكندرية، والقبض على ألطنبغا الصالحي نائب الشام وأرقطاي نائب طرابلس ومن يلوذ بهما من الغد، وتسفير الأمير بيبرس الأحمدي والأمير جنكلي بن البابا لإحضار السلطان من الكرك.
وفي يوم الأربعاء، سلخه: خرج الحصني بواب المدرسة الصالحية تجاه باب المارستان وقت الصبح، بإعلام خليفتية ومصحف على رأسه، وهو ينادي بصوت عال: يا مسلمين قاض يفعل كذا بنساء المسلمين من غير كناية، ويأكل الحشيش، هذا لا يحل. فاجتمع الناس عليه، ومضى بهم إلى بيت قاضي القضاة حسام الدين الغوري الحنفي بالمدرسة الصالحية، وكسروا بابه ودخلوا عليه. ففر منهم حسام الدين إلى السطح وهو في أثره، وقد نهبوا جميع ما عنده حتى خشب الرفوف حتى وجدوه، فضربوه ونتفوا لحيته، وهو يعدو إلى أن خرج من البيت. واستجار حسام الدين بقاضي القضاة موفق الدين الحنبلي، فأجاره وأدخله داره، وأقام الحنابلة على بابه لمنع العامة منه وقد اقتحموا بابه، فقال لهم قاضي القضاة موفق الدين الحنبلي. معكم مرسوم بنهبي قالوا: لا لكن سلمنا الغوري فقيل لهم: هذا غريم السلطان قد صار عندي، وأنتم قد أخذتم ماله، ومازال بهم حتى انفضوا عنه وشنع الحال في النهب، وكان ذلك من سوء تدبير أيدغمش، فإنه جرأ العامة على نهب إصطبل قوصون لغرضه، فوجدوا فيه ما لا يكاد يوصف. وبلغ ذلك مماليك الأمراء والأجناد فأتوهم ووقفوا لانتظار من يخرج بشيء حتى يأخذوه، فإن امتنع من دفعه إليهم قتلوه. فوحد لقوصون أربع سراري نهب جميع مالهن، وحملت أكياس الذهب والفضة ونثرت بالدهليز والطرق. فأخذ مماليك أيدغمش وغيره شيئاً كثيراً من المال ونزلت مماليك يلبغا اليحياوي من سور إصطبله وقووا على الناس، واقتسموا الذهب وأخرجت النهابة من البسط الرومية والآمدية وعمل الشريف شيئاً كثير، قطعوها قطعاً وتقاسموها، وكسروا أواني البلور والصيني وسلاسل الخيل الفضة والذهب، ومن السروج واللحم ما لا يحد، وقطعوا الخيم وثياب الخركاوات ما بين حرير وزرنيب بحاصله.
وكان بحاصل قوصون لما نهب ما ينيف على أربعمائة ألف دينار ذهباً في أكياس، ومن الحوايص والزركش والأواني ما بين أطباق وخونجات زيادة على مائة ألف، ومن حلي النساء ما لا ينحصر، وثلاثة أكياس أطلس فيها جواهر بما ينيف على مائة ألف دينار، ومائة وثلاثين زوج بسط، منها ما طوله أربعون ذراعاً وثلاثون ذراعاً، كلها من عمل الروم وآمد وشيراز وستة عشر زوجاً من عمل الشريف بمصر، قيمة كل زوج اثنا عشر ألف درهم، وأربعة أزواج بسط حرير لا يقوم عليها، ونوبة خام جميعها أطلس معدني قص. فانحط لذلك سعر الذهب حتى كان صرفه بأحد عشر درهماً الدينار، من كثرة ما صار في الأيدي، بعدما كان الدينار بعشرين درهماً، ولأن أيدغمش نادى في القاهرة ومصر أن من أحضر من العامة ذهباً لتاجر أو صيرفي أو متعيش يقبض عليه ويحضر به إليه، فكان من معه منهم ذهب يأخذ فيه ما يدفع إليه من غير توقف. وكثرت مرافعة الناس بعضهم لبعض فيما نهب، فجمع أيدغمش شيئاً كثيراً من ذلك. ثم إن العامة بعد نهب إصطبل قوصون وقصره، حتى أخذوا سقوفه ورخامه وأبوابه، وتركوه خراباً مضوا إلى خانكاته بباب القرافة، فمنعهم أهلها من النهب، فمازالوا حتى فتحوها ونهبوها، وسلبوا الرجال والنساء ثيابهم، فلم يدعوا لأحد شيئاً، وقطعوا بسطها، وكسروا رخامها، وخربوا بركتها، وأخذو الشبابيك وخشب السقوف والمصاحف وشعثوا الجدر. ثم مضوا إلى بيوت مماليك قوصون، وهم حشد عظيم، فنهبوها وأحرقوها وما حولها حتى بيعت الغلة بستة دراهم كل أردب من القمح وتتبعوا حواشي قوصون بالقاهرة والحكورة وبولاق والزريبة وبركة قرموط وغير ذلك، وباعوا الأمتعة والأواني والثياب بأبخس ثمن، وصاروا إذا رأوا نهب أحد قالوا هو قوصوني فللحال يذهب جيع ماله. وزادت الأوباش حتى خرجوا عن الحد، وشمل الخوف كل أحد، فقام الأمراء على أيدغمش وأنكروا عليه تمكين العامة من النهب، فأمر بسبعة من الأمراء، فنزلوا إلى القاهره والعامة مجتمعة على باب الصالحية في نهب بيت قاضي القضاة حسام الدين الغوري، فقبضوا على عدة منهم، وضربوهم بالمقارع. وأشهروهم، فانكفوا عن النهب.
وفي ليلة الخميس: أخرج الأمير قوصون من سجنه بالقلعة، في مائة فارس حتى ركب النيل، ومضى إلى الإسكندرية.
وكان قوصون في أول أمره على حاله، وفي أوسطه وأخره من أعاجيب الزمان ومما قيل فيه:
قوصون قد كانت له رتبة ... تسمو على بدر السما الزاهر
فحطه في القيد أيدغمش ... من شاهق عال على الطائر
ولم يجد من ذلة صاحباً ... فأين عين الملك الناصر
صار عجيباً أمره كله ... في أول الأمر وفي الآخر
وفي يوم الخميس أول شعبان: خلع السلطان الملك الأشرف كجك من السلطة، وكانت مدته خمسة أشهر وعشرة أيام لم يكن له فيها أمر ولا نهي، وتدبير أمور الدولة كلها إلى قوصون. وكان إذا حضرت العلامة أعطى قلماً في يده، وجاء فقيهه الذي يقرئ أولاد السلطان، فكيف العلامة والقلم في يد السلطان.
السلطان شهاب الدين أحمدالسلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد بن الناصر محمد بن قلاوون الصالحي أمه اسمها بياض، كانت تجيد الغناء، وكانت من عتقاء الأمير بهادر آص رأس نوبة. وكانت شهرتها قوية، ولها بالناس اجتماعات في مجالس أنسهم. فلما بلغ السلطان الناصر محمد خبرها اختص بها، وحطت عنده، فولدت أحمد هذا على فراشه. ثم تزوجها الأمير ملكتمر السرجواني، وقد مضى من أخباره جملة. فلما استولى الأمير أيدغمش على الدولة بعد قوصون، وقرر مع الأمراء خلع الأشرف كجك في يوم الخميسي أول شعبان، بعث الأمير جنكلي بن البابا والأمير بيبرس الأحمدي والأمير قماري أمير شكار إلى السلطان أحمد بالكرك بكتب الأمراء يخبرونه بما وقع، ويستدعونه إلى تحت ملكه، وضربوا اسمه على أملاك قوصون جميعها، وأعلن بالدعاء له في خانكاه سعيد السعداء.
وفيه جلس أيدغمش وألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي وبهادر الدمرداش واستدعوا بقية الأمراء.
وفيه قبض على ألطنبغا الصالحي نائب الشام وعلى أرقطاي نائب طرابلس ومضى بهما أمير جندار إلى قاعة سجنهما. وأخذوا بعدهما سبعة عشر أمير طبلخاناة وقياتمر أحد مقدمي الألوف وجركتمر بن بهادر وغيره، حتى كانت عدة من قبض عليه في هذا اليوم خمسة وعشرين أميراً.
وفيه قبض على مزين مغربي كان حاقق جركتمر بن بهادر بأنه هو الذي قتل الملك المنصور، وكتب بذلك أيضاً إلى الأمير قطلوبغا الفخري.
وفيه طلب أيدغمش جال الدين يوسف والي الجيزة، وخلع عليه بولاية القاهرة، فنزل إلى القاهرة، فإذا بالعامة في نهب بيت بعض مماليك قوصون، فقبض على عشرين منهم، وضربهم بالمقارع وسجنهم، بعدما أشهرهم. فاجتمعت الغوغاء ووقفوا لأيدغمش، وصاحوا عليه: وليت على الناس قوصوني ما يخلي منا أحد، وعرفوه ما وقع. فبعث أيدغمش الأوجاقية إليه في طلبه، فوجدوه بالصليبة يريد القلعة، فصاحت عليه الغوغاء، قوصوني يا غيرية على الملك الناصر ورجموه من كل جهة. فقامت الجبلية والأوجاقية في ردهم، فلم يطيقوا ذلك، وجرت بينهم الدماء. فهرب الوالي إلى إصطبل ألطنبغا المارداني، وحمته مماليك ألطنبغا من العامة. فطلب أيدغمش الغوغاء، وخيرهم فيمن يلي، فقالوا نجم الدين الذي كان قبل ابن المحسني، فطلبه وخلع عليه، فصاحوا: بحياة الملك الناصر عزل عنا ابن رخيمة المقدم وحمامص رفيقه، ومكنا منهما. فأذن لهم في نهبهما، فشرع نحو الألف منهم إلى دار ابن رخيمة بجانب بيت الأمير كوكاي بالقاهرة، فنهبوه ونهبوا بيت رفيقه.
وفي يوم الجمعة ثانيه: دعي على منابر مصر والقاهرة للسلطان الملك الناصر أحمد.
وفي يوم الإثنين خامسه: تجمعت الغوغاء بسوق الخيل، ومعهم الرايات الصفر، وتصايحوا بأيدغمش: زودنا لنروح إلى أستاذنا الملك الناصر، ونجيء صحبته، فكتب لهم مرسوماً بالإقامة والراتب في كل منزلة، وتوجهوا مسافرين من الغد.
وفي يوم الأربعاء سابعه: وصل الأمراء الذين كان سجنهم قوصون من سجن الإسكندرية، وهم ملكتمر الحجازي وقطليجا الحموي، وأربعة وخمسون نفراً من المماليك السلطانية. ومن الغريب أن الحراقة التي سارت بهؤلاء الأمراء إلى الإسكندرية، لما قبض عليهم قوصون، هي الحراقة التي سار فيها قوصون إلى الإسكندرية حتى سجن بها. وكان قوصون لما دخل إلى الإسكندرية مقيداً خرج والي الثغر ليتسلمه وقد ركب بالأمراء عندما أفرج عنهم ليتوجهوا إلى القاهرة، فسلموا على قوصون، فبكى واعتذر لهم مما صدر منه في حقهم. وعندما قدموا إلى ساحل مصر ركب الأمراء إلى لقائهم، وخرجت العامة لرؤيتهم، بحيث غلقت الأسواق يومئذ حتى طلعوا إلى القلعة. فتلقت خوند الحجازية زوجها الأمير ملكتمر الحجازي بجواريها وخدامها، ومغانيها تضرب بالدفوف والشبابات فرحاً به، وجارتها أختها امرأة قوصون في عويل وبكاء وصياح هي وجواريها وخدامها، كما كان بالأمس لما انتصر قوصون على الحجازي والأمراء، في بيته الأفراح والتهاني، وفي بيت الحجازي البكاء والعويل، وكان في ذلك عبرة للمعتبر.
وفيه قدم كتاب الأمراء المتوجين إلى الكرك، وهم جنكلي بن البابا وبيبرس الأحمدي وقماري، بأنهم لما وصلوا إلى الكرك نزلوا بظاهرها، وبعث كل منه بملوكه يعرف السلطان أحمد بقدومه. فبعث إليهم السلطان رجلاً من نصارى الكرك فقال: يا أمراء، السلطان يقول لكم إن كان معكم كتب فهاتهوا، أو مشافهة قولوها: وفي الحال عادت مماليكهم، ولم يمكنوا من الاجتماع بالسلطان، وقيل لهم إن السلطان قد سير كتابه إلى الأمراء. فدفعت الكتب إلى النصراني فمضى بها، ثم عاد من أخر النهار بكتاب مختوم، وقال عن السلطان إنه قال: سلم على الأمراء، وعرفهم أن يقيموا بغزة إلى أن يرد لهم ما يعتمدوه كذا.
وحضر مملوك من قبل السلطان يأمر الأمير قماري بالإقامة على ناحية الصافية، وبعث إليه بخاتم.
وجاء في كتاب الأمراء المتوجهين إلى الكرك أنهم وجدوا الكتاب يتضمن إقامتهم على غزة، والاعتذار عن لقائهم، فعاد الأميران جنكلي بن البابا وبيبرس الأحمدي إلى غزة. فلما وقف الأمير أيدغمش على ذلك كتب من وقته إلى الأمير قطلوبغا الفخري يسأله أن يستحث السلطان في قدومه إلى تخت ملكه، وكتب إلى الأمراء بانتظار السلطان، وعرفه بمكاتبته للفخري. وأخذ أيدغمش في تجهيز أمور السلطنة، وأشاع قدوم السلطان خوفاً من إشاعة ما عامل به الأمراء، فيفسد عليه ما دبره.
فلما قدم البريد إلى دمشق بكتاب أيدغمش وافى قدوم كتاب السلطان أيضاً من الكرك يتضمن القبض على الأمير طرنطاي البشمقدار والأمير طينال، وحمل مالهم إلى الكرك.
وكان الأمير قطلوبغا الفخري قد ولى طينال نيابة طرابلس، وطرنطاي نيابة حمص فاعتذر في جوابه طينال في شغل بحركة الفرنج، وأشار بألا يحرك ساكن في هذا الوقت، وسأل سرعة حضور السلطان ليسير بالعسكر في ركابه إلى مصر، وأكثر الأمير فطلوبغا الفخري من مصادرة الناس بدمشق.
وفي يوم السبت حادي عشرة: كان حضور يلجك ابن أخت قوصون، وبرسبغا الحاجب صحبة آقسنقر الناصري من الصعيد.
وفي خامس عشره: استقر شمس الدين موسى بن التاج إسحاق في نظر الخاص.
وفيه أخرج الأمير قطلوبغا الفخري الإقطاعات بأسماء الأجناد، وعزل وولي، وكان دواداره يعلم عنه.
وفي هذه الأيام: قدم الأمير طشتمر حمص أخضر نائب حلب من بلاد أرتنا إلى دمشق، فتلقاه الأمير قطلوبغا الفخري وأنزله في مكان يليق به، وبعث قطلوبغا من يومه بالأمير آقسنقر السلاري نائب غزة ليتلقى الأمراء.
وفيه قدم كتاب السلطان من الكرك إلى قطلوبغا الفخري يتضمن قدوم الأمراء من مصر، وأنه لم يجتمع بهم، وأنه في انتظار قدوم الأمير طشتمر حمص أخضر من بلاد أرتنا إلى حلب، وأنه لا يخرج من الكرك قبل ذلك. فكتب قطلوبغا الفخري الجواب بقدوم طشتمر، وأشار على السلطان بسرعة الحركة إلى دمشق. وأخذ الفخري في تجهيز جميع ما يحتاج إليه السلطان، وفي ظنه أن السلطان يسير إليه بدمشق، فيركب في خدمته بالعساكر إلى مصر، فلم يشعر إلا وكتاب السلطان قد ورد عليه مع بعض الكركيين يتضمن أنه يركب من دمشق ليجتمح مع السلطان على غزة. فشق ذلك عليه، وسار من دمشق بعساكرها، وبمن استجده من أهل الطاعة حتى قدم غزة في عدد كبير، فلتقاه جنكلي بن البابا والأمير بيبرس الأحمدي والأمير قماري.
وكان قدوم قاصد السلطان من الكرك لكشف من في السجون من الأمراء، فمضى إلى الإسكندرية بسبب ذلك، وورد كتابه على الأمير أيدغمش بالشكر على ما فعله، وجعل له أن يحكم حتى يحضر السلطان.
وفيه قبض على خمسة وثمانين من مماليك قوصون، فقيدوا وسجنوا بخزانة شمايل.
وفي يوم الثلاثاء عشريه: قبض على ولد الأمير جركتمر بن بهادر وعمره نحو اثنتي عشرة سنة، إرضاء لأم المنصور أبي بكر.
وفي الخميس سلخه: وصل عبد المؤمن والي قوص مقيداً، صحبة شجاع الدين قنغلي المتوجه إلى قوص، وكان قد توجه لإحضاره، وكتب إلى الوافدية أجناد قوص، والي العربان بأخذ الطرقات عليه. فلما قدم قنغلي إلى قوص ركب ليلاً بالوافدية، وأحاط بدار الولاية، فلبس عبد المؤمن سلاحه، وألبس جماعته، وقاتل قنغلي ورجاله حتى نجا منهم، وهم في أثره يومين وليلتين، يأخدون من انقطع من أصحابه، حتى أمسكوه وقيدوه. وعندما وصل ابن المؤمن إلى القاهرة خرجت العامة إلى رؤيته، وقصدوا قتله، فأركب إليه الأمير أيدغمش جماعة حتى حموه، وأتوا به إلى القلعة، فلما طلعها أقامت أم المنصور أبي بكر العزاء، وأمر به فسجن.
وفي ليلة الجمعة أول شهر رمضان: نزلت أم المنصور أبي بكر من القلعة، ومعها مائة خادم ومائة جارية لعمل العزاء: فدخلت بيت جركتمر بن بهادر ونهبت ما فيه، وألقته إلى من تبعها من العامة، ففرت حرم جركتمر منها حتى نجت من القتل.
وفي يوم الثلاثاء خامسه: تفاوض الأميران ملكتمر الحجازي ويلبغا اليحياوي حتى خرجا إلى المخاصمة، وصار لكل منها طائفة، ولبسوا آلة الحرب. فتجمعت الغوغاء تحت القلعة لنهب بيوت من ينكسر من الفريقين، فلم يزل الأمير أيدغمش بهم حتى كفوا عن القتال، وبعث إلى العامة جماعة من الأوجاقية، فقبضوا على جماعة منهم، وأودعهم السجن.
وفي سادسه: قبض على جماعة من القوصونية.
وفي يوم الخميس سابعه: قدم أولاد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من قوص، وعدتهم ستة. فركب الأمراء إلى لقائهم، وهرعت العامة إليهم. فساروا من الحراقة على القرافة حتى حاذوا تربة جركتمر، فصاحت العامة: " هذه تربة الذي قتل أستاذنا الملك المنصور، وهجموها، وأخذوا ما فيها وخربوها حتى صارت كوم تراب. فلما وصل أولاد السلطان تحت القلعة أتاهم الأمير جمال الدين يوسف والي الجيزة الذي تولى القاهرة، وقتل ركبة رمضان ابن السلطان، فرفسه برجله وسبه، وقال: أتنسى ونحن في الحراقة عند توجهنا لقوص، وقد طلبنا مأكلاً من الجيزة، فقلت خذوهم وروحوا إلى لعنة الله، ما عندنا شيء؟ فصاحت به العامة: لله مكنا من نهبه، هذا قوصوني، فأشار بيده أن انهبوا بيته، فتسارعوا في الحال إلى بيته المجاور للجامع الظاهري من الحسينية، حتى صاروا منه إلى باب الفتوح. فقامت إخوته ومن يلوذ به في دفع العامة بالسلاح، وبعث الأمير أيدغمش أيضاً بجماعة ليردهم عن النهب، وخرج إليهم نجم الدين والي القاهرة، وكان أمراً مهولاً قتل فيه من العامة عشرة رجال، وجرح خلق كثير، ولم ينتهب شيء.
وفي يوم الأحد عاشره: قدم مملوك الأمير قطلوبغا الفخري ومملوك الأمير طقزدمر بوصول العساكر إلى غزة في انتظار قدوم السلالان إليهم من الكرك، وأن يحلف جميع أمراء مصر وعساكرها على العادة. فجمعوا بالميدان، وأخرجت نسخة اليمين المحضرة، فإذا هي تتضمن الحلف للسلطان، ثم للأمير قطلوبغا الفخري. فتوقف الأمراء عن الحلف لقطلوبغا حتى ابتدأ الأمير أيدغمش وحلف، فتبعه الجميع خوفاً من وقوع الفتنة، وجهزت نسخة اليمين إلى قطلوبغا.
وفيه قبض على عدة من العامة نهبوا بعض كنائس النصارى، وصلبوا تحت القلعة، ثم أطلقوا.
وأما العسكر الشامي فإنه أقام بغزة، وقد جمع لهم نائبها آقسنقر الإقامات من بلاد الشوبك وغيرها، حتى صار عنده ثلاثة آلاف غرارة من الشعير وأربعة ألاف رأس من الغنم، غير ذلك مما يحتاج عليه. وكتب الأمراء إلى السلطان بقدومهم صحبة مماليكهم مع الأمير قماري أمير شكار، فساروا إلى الكرك، وقد قدمها أيضاً الأمير يحيى بن طايربغا صهر السلطان برسالة الأمير أيدغمش يستحثه على المسير إلى مصر، فأقاموا جميعاً ثلاثة أيام لم يؤذن لهم في دخول المدينة. ثم أتاهم كاتب نصراني وبازدار يقال له أبو بكر ويوسف بن البصال، وهؤلاء الثلاثة هم خاصة السلطان من أهل الكرك، فسلموا عليهم وطلبوا ما معهم من الكتب. فشق ذلك على الأمير قماري، وقال لهم: معنا مشافهات من الأمراء للسلطان، ولابد من الاجتماع به. فقالوا: لا يمكن الاجتماع به، وقد رسم إن كان معكم كتاب أو مشافهة أن تعلمونا بها. فلم يجدوا بداً من دفع الكتب إليهم، وأقاموا إلى غد. فجاءتهم كتب مختومه، وقيل للأمير يحيى.اذهب إلى عند الأمراء بغزة، فساروا جميعاً عائدين إلى غزه، فإذا في الكتب الثناء على الأمراء، وأن يتوجهوا إلى مصر، فإن السلطان يقصد مصر بمفرده، ويسبقهم. فتغيرت خواطرهم، وقالوا وطالوا، وخرج قطلوبغا الفخري عن الحد وأفرط به الغضب، وعزم على الخلاف. فركب إليه الأمير طشتمر حمص أخضر نائب حلب والأمير جنكلي بن البابا والأمير بيبرس الأحمدي، ومازالوا به حتى كف عما عزم عليه، ووافق على المسير، وكتبو بما كان من ذلك إلى الأمير أيدغمش، وتوجهوا جميعاً من غزة يريدون مصر.
وكان أيدغمش قد بعث ولده بالخيل الخاص إلى السلطان، فلما وصل الكرك أرسل السلطان من أخذ منه الخيل، ورسم بعوده إلى أبيه. وأخرج السلطان من الكرك رجلاً يعرف بأبي بكر البزدار ومعه رجلان ليبشروا بقدومه، فوصلوا إلى الأمير أيدغمش في يوم الإثنين خامس عشريه، بلغوه السلام من السلطان، وعرفوه أنه قد ركب الهجن وسار على البرية صحبة العرب، وأنه يصابح أو يماسي، فخلع عليهم أيدغمش، وبعثهم إلى الأمراء فأعطاهم كل من الأمراء المقدمين خمسة ألاف درهم وأعطاهم بقية الأمراء على قدر حالهم، وخرج العامة إلى لقاء السلطان.
فلما كان يوم الأربعاء سابع عشريه: قدم قاصد السلطان إلى الأمير أيدغمش بأن السلطان يأتي ليلاً من باب القرافة، وأمره أن يفتح له باب السر حتى يعبر منه، ففتحه. وجلس أيدغمش وألطنبغا المارداني حتى مضى جانب من ليلة الخميس ثامن عشريه، أقبل السلطان في نحو العشرة رجال من أهل الكرك، وقد تلثم وعليه ثياب مفرجة، فتلقوه وسلموا عليه، فلم يقف معهم، وأخذ جماعته ودخل بهم. ورجع الأمراء وهم يتعجبون من أمره، وأصبحوا فدقت البشائر بالقلعة، وزينت القاهرة ومصر.
واستدعى السلطان الأمير أيدغمش في بكرة يوم الجمعة، فدخل إليه وقبل له الأرض فاستدناه السلطان وطيب خاطره، وقال له: أنا ما كنت أتطلع إلى الملك، وكنت قانعاً بذلك المكان، فلما سيرتم في طلبي ما أمكنني إلا أن أحضر كما رسمتم، فقام أيدغمش وقبل الأرض ثانياً.
ثم كتب أيدغمش عن السلطان إلى الأمراء الشاميين يعرفهم بقدومه إلى مصر، وأنه في انتظارهم، وكتب علامته بين الأسطر المملوك أحمد بن محمد، وكتب إليهم أيدغمش أيضاً. وخرج مملوكه بذلك على البريد، فلقيهم على الورادة، فلم يعجبهم هيئة عبور السلطان، وكتبوا إلى أيدغمش بأن يخرج إليهم هو والأمراء إلى سرياقوس، ليتفقوا على ما يفعلونه.
فلما كان يوم عيد الفطر منع السلطان السماط، ومنع الأمراء من طلوع القلعة، ورسم أن يعمل كل أمير سماطه في داره، و لم ينزل لصلاة العيد، وأمر الطواشي عنبر المسحرتي مقدم المماليك ونائبه الطواشي الإسماعيلي أن يجلسا على باب القلعة، ويمنعا من يدخل عليه. وخلا السلطان بنفسه مع الكركيين، فكان الحاج علي إخوان سلار إذا أتى مع الطعام على عادته خرج إليه يوسف وأبو بكر البزدار، وأطعماه ششني، وتسلما منه السماط، وعبرا به إلى السلطان، ووقف خوان سلار ومن معه حتى يخرج إليهم الماعون.
وحدث جمال الدين بن المغربي رئيس الأطباء أن السلطان استدعاه وقد عرض له وجع في رأسه، فوجده جالساً وإلى جانبه شاب من أهل الكرك جالس، وبقية الكركيين قيام، فوصف له ما يناسبه، وتردد إليه يومين وهو على هذه الهيئة.
وفي يوم الأحد تاسع شوال: قدم الأمير قطلوبغا الفخري والأمير طشتمر حمص أخضر، وجميع أمراء الشام وقضاتها، والوزراء ونواب القلاع، في عالم كبير حتى سدوا الأفق، ونزل كثير منهم تحت القلعة في الخيم. وكان قد خرج إلى لقائهم الأمير أيدغمش والحاج آل ملك والجاولي وألطنبغا المارداني، وأخذ قطلوبغا الفخري يتحدث مع أيدغمش فيما عمله السلطان من قدومه في زي العربان، واختصاصه بالكركيين، وإقامة أبي بكر البزدار حاجباً. وأنكر أيدغمش ذلك على السلطان غاية الإنكار، وطلب من الأمراء موافقته على خلعه ورده إلى مكانه، فلم يمكنه الأمير طشتمر حمص أخضر من ذلك، وساعده الأمراء أيضاً، ومازالوا به إلى أن أعرض عما هم به.
فلما كان يوم الإثنين عاشره: ألبس السلطان، وجلس على تخت الملك، وقد حضر الخليفة الحاكم بأمر الله وقضاة مصر الأربعة، وقضاة دمشق الأربعة، وجيع الأمراء والمقدمين. وعهد إليه الخليفة، وقبل الأمراء الأرض على العادة، ثم قام العالمان على قدميه، فتقدم الأمراء وباسوا يده واحداً بعد واحد، على مراتبهم، وجاء الخليفة بعدهم، وقضاة القضاة ما عدا الحسام حسن بن محمد الغوري، فإنه لما طلع مع القضاة وجلسوا بجامع القلعة حتى يؤذن لهم على العادة، جمع عليه صبي من صبيان المطبخ السلطاني جمعاً كبيراً من الأوباش، لحقد كان في نفسه عليه عندما تحاكم هو وزوجته عنده، فإنه أهانه، وضربه وهجم هذا الصبي على القضاة بأوباشه، ومد يده إلى الغوري من بينهم، فأقامه الأوباش وحرقوا عمامته، وقطعوا ثيابه، وهم يسحبونه ويصيحون عليه: يا قوصوني ثم ضربوه بالنعال ضرباً مؤلماً، وقالوا له: يا كافر يا فاسق فارتجت القلعة، وأقبل علم دار حتى خلصه منهم، وهو يستغيث: يا مسلمين! كيف يجري هذا على قاض من قضاة المسلمين. فأخذ المماليك جماعة من تلك الأوباش، وجروهم إلى الأمير أيدغمش فضربهم، وبعث طائفة من الأوجاقية فساروا بالغوري إلى منزله، ولم يحضر الموكب. فثارت العامة على بيته بالمدرسة الصالحية ونهبوه، وكان يوماً شنيعاً. وفي يوم الخميس ثالث عشره: خلع على جميع الأمراء الكبار والصغار ومقدمي الحلقة، وأنعم على الأمير طشتمر حمص أخضر بعشرة ألاف دينار، وعلى الأمير قطلوبغا الفخر بما حضر صحبته من الشام، وهو أربعة ألاف دينار ومائة ألف درهم فضة، ونزل في موكب عظيم. وكان قد قدم معه من أمراء الشام سنجر الجمقدار وتمر الساقي وطرنطاي البشمقدار وأقبغا عبد الواحد، وتمر الموساوي والجلالي وابن قراسنقر وأسنبغا ابن البو بكري، وبكتمر العلائي وأصلم نائب صفد.
وفيه طلب السلطان الوزير نجم الدين، ورسم له أن يكون يوسف البزدار ورفيقه مقدمي البزدارية ومقدمي الدولة، وخلع السلطان عليهما كلفتاه زركش وأقبية طرد وحش بحوائص ذهب فحكما في الدولة وتكبرا على الناس، وصارا فيهم بحمق زائد، وصارا لا يأتمران بأمر الوزير، ويمضيان ما أحبا. وصحبهما كثير من الأشرار، وعرفوهما بأرباب الأموال، فشملت مضرتهما كثيراً من الناس، وانهمكا في اللهو، فثقل أمرهما على الكافة.
وفي عصر يوم السبت خامس عشره: خلع على الأمير طشتمر حمص أخضر، واستقر في نيابة السلطنة بديار مصر، فجلس والحجاب قيام بين يديه، والأمراء في خدمته. فكان أول ما بدأ به أن قلع الشباك الذي كان يجلس فيه قوصون، وخلع الخشب الذي عمله في باب القلعة، وباشر النيابة بحرمة وافرة.
وفي يوم الخميس سابع عشره: أخرج السلطان محمل الحاج.
وفيه أخرج السلطان عبد المؤمن بن عبد الوهاب السلامي والي قوص من السجن، وسمر على باب المارستان المنصوري من القاهرة بمسامير جافية شنعة، وطيف به مدة ستة أيام، وهو يحادث الناس في الليل بأخباره. فمما حدثهم به أنه هو الذي ركب حتى ضرب النشو كما تقدم ذكره، وأنه لما سقطت عمامته ظنها رأسه. وكان إذا قيل له اصبر يا عبد المؤمن يقول أسأل الصبر، وينشد كثيراً.
يبكى علينا ولا نبكي على أحد ... ونحن أغلظ أكباداً من الإبل
فلما كان يوم السبت ثاني عشريه: شنق عبد المؤمن على قنطرة السد ظاهر مدينة مصر عند الكيمان، وترك حتى ورم وأكلته الكلاب.
وكان عبد المؤمن من السلامية بالعراق، فبعثه المجد السلامي إلى السلطان الناصر محمد مرارا حتى عرف عنده. ثم تنكر عبد المؤمن علي المجد السلامي ورافعه إلى السلطان حتى تغير عليه، وكتب إلى أبي سعيد بإحضاره. فأثبت المجد السلامي محضراً على عبد المؤمن بأنه رافضي كافر قتال الأنفس، وقدم به على السلطان وتحاقق معه. فتعصب قوصون لعبد المؤمن حتى بطلت حجة المجد السلامي عليه مع ظهورها، فاختص عبد المؤمن بقوصون، ولبس الكلفتاه، ثم ولي قوصون. وكان شجاعاً فاتكاً، يتجاهر بالرفض، ويقول إذا حلف على شيء: وحياة مولاي علي.
وفي هذه الأيام: أخرج بأحد وعشرين أميراً إلى الإسكندرية، صحبه الأمير طشتمر طلليه، منهم أرقطاي نائب طرابلس، وجركتمر بن بهادر، وابن المحسني والي القاهرة، وأسنبغا بن البوبكري، ويلجك ابن أخت قوصون، وبرسبغا الحاجب. فلما وصلوا إلى الثغر وسجنوا به، قتل قوصون وألطنبغا الصالحي نائب الشام، وجركتمر بن بهادر، وبرسبغا الحاجب.
وفيه رسم للأجناد الذين استخدمهم قطلوبغا الفخري بعودهم إلى دمشق بطالين، فكثر تشكيهم، ووقفوا للنائب فلم تسمع لهم شكوى.
وفيه أكثر السلطان من الإنعام على أهل الكرك حتى خرج عن الحد، وعزم على مسك بيبرس الأحمدي وغيره من الأمراء، فاحترزوا على أنفسهم إلى أن وقع الكلام مع السلطان في شيء من ذلك فاجتمع عنده الأمراء، وابتدأ الحاج آل ملك في طلب بلد يتوجه إليه، وسأل نيابة حماة، فخلع عليه في يوم الخميس عشريه واستقر في نيابة حماة، عوضاً عن طقزدمر. وخلع السلطان على بيبرس الأحمدي، واستقر في نيابة صفد، وعلى أقسنقر واستقر في نيابة غزة.
وفي يوم الإثنين مستهل ذي القعدة: سار الأمير الحاج آل ملك إلى نيابة حماة.
وفيه خلع السلطان على الأمير قطلوبغا الفخري، واستقر في نيابة الشام، وعلي الأمير أيدغمش بنيابة حلب.
وفي يوم الثلاثاء: استقر قماري أمير أخور، عوضاً عن أيدغمش أحمد شاد الشرابخاناه أمير شكار، عوضاً عن قماري، واستقر أقبغا عبد الواحد في نيابة حمص. وفيه رسم السلطان أن يستقر سنجر البشمقدار وتمر الساقي من جملة أمراء مصر.
وفيه أنعم السلطان على قراجا بن دلغادر، وقد قدم إلى مصر بإنعامات كثيرة، وكتب له بالأمرية على التركمان، وتوجه إلى نيابة الإبلستين.
وفي يوم الأحد سابعه: خرج الأمير أيدغمش متوجهاً إلى نيابة حلب.
وفي يوم الإثنين خامس عشره: خرج الأمير قطلوبغا الفخري متوجهاً إلى دمشق، ومعه من تأخر من عسكر الشام. وخرج الأمير طشتمر حمص أخضر النائب ومعه جميع الأمراء لوداعه، ومد له سماطاً عظيماً.
وفي يوم السبت عشريه: قبض على الأمير طشتمر حمص أخضر نائب السلطنة، وسبب ذلك أنه أكثر من معارضة السلطان بحيث تغلب عليه ورد مراسيمه، وصار يتعاظم ويظهر من الترفع على الأمراء والأجناد ما لا يحتمل مثله، وإذا شفع إليه أحد من الأمراء رد شفاعته ولم يقبلها، ولا يقف لأمير إذا دخل إليه، واذا أتته قصة عليها علامة السلطان بإقطاع أو غيره أخذ ذلك وطرد من هي باسمه، وأخرق به. وقرر طشتمر مع السلطان أنه لا يمضي من المراسيم السلطانية إلا ما يختاره، وتقدم إلى الحاجب بألا يقدم أحد قصة إلى السلطان حتى يكون حاضراً، ومنع ذلك، فلم يتجاسر أحد أن يقدم قصة للسلطان في غيبته وتقدم جماعة من المماليك لطلب ما يزيد في مراتبهم، فرسم طشتمر أن كل من خرج عن خبزه يعود إليه، ولم يمكن المماليك السلطانية من أخذ شيء. وأخذ طشتمر إقطاع الأمير بيبرس الأحمدي وتقدمته لولده، فكرهته الناس. وصارت أرباب الدولة وأصحاب الأشغال كلها في بابه، وتقربوا إليه بالهدايا والتحف. وانفرد طشتمر بأمور الدولة، وحط على الكركيين، وقصد منعهم من الدخول على السلطان، فلم يتهيأ له ذلك. وكان ناصر الدين المعروف بفأر السقوف قد توصل بالكركيين حتى استقر بفضل توصيتهم في وظيفة إمام السلطان يصلي به، وصار كذلك ناظر المشهد النفيسي، عوضاً عن تقي الدين علي بن القسطلاني خطيب جامع عمرو وجامع القلعة.
وخلع السلطان علي ناصر الدين بغير علم النائب طشتمر، فبعث إليه طشتمر عدة نقباء ونزع عنه الخلعة، وسلمه إلى المقدم إبراهيم بن صابر، وأمر بضربه وإلزامه بحمل مائة ألف درهم. فضربه ابن صابر عرياناً ضرباً مبرحاً، واستخرج منه أربعين ألف درهم، ثم أفرج عنه بشفاعة أيدغمش وقطلوبغا الفخري، بعد ما أشهد عليه أنه لا يطلع إلى القلعة.
وأخذ طشتمر قصر معين بالغور من مباشري قوصون، وأحاط بما فيه من القند والعسل والسكر، وغير ذلك. فكثر حنق السلطان منه وتغيره عليه، إلى أن قرر مع المقدم عنبر السحرتي والأمير أقسنقر السلاري في القبض عليه وعلى قطلوبغا الفخري، وأن يستدعي مماليك بشتاك وقوصون وينزلهم بالأطباق من القلعة، ويقطعهم إقطاعات بالحلقة، ليصيروا من جملة المماليك السلطانية، خوفاً من حركة طشتمر النائب فعارض طشتمر السلطان فيهم، فرتب السلطان عدة مماليك بداخل القصر للقبض عليه.
وكان مما جدد طشتمر في نيابته أن منع الأمراء أن تدخل إلى القصر بمماليكها، وبسط من باب القصر بسطاً إلى داخله، فكان الأمير لا يدخل القصر وقت الخدمة إلى مبفرده، فدخل هو أيضاً بمفرده ومعه ولداه إلى القصر، وجلس على السماط على العادة. فعندما رفع السماط قبض كشلي السلاح دار أحد المماليك وكان معروفاً بالقوة على كتفيه من خلف ظهره قبضاً عنيفاً، وبدر إليه جماعة فأخذوا سيفه، وقيدوه وقيدوا ولديه. ونزل أمير مسعود الحاحب في عدة من المماليك السلطانية، فأوقع الحوطة على بيته، وأخذ مماليكه جميعهم فسجنهم.
وخرج في الحال ساعة القبص على طشتمر الأمير ألطنبغا المارداني والأمير أروم بغا السلاح دار، ومعهما من أمراء الطبلخاناة والعشرات نحو من خمسة عشر أميراً، ومعهم من المماليك السلطانية وغيرهم ألف فارس، ليقبضوا على قطلوبغا الفخري نائب الشام. وكتب السلطان إلى الأمير أقسنقر الناصري نائب غزة بالركوب معهم بعسكره، فجمع من عنده ومن في معاملته من الجبلية. وكان قطلوبغا الفخري قد ركب من الصالحية فبلغه مسك طشتمر ومسير العسكر إليه من هجان بعث به إليه بعض ثقاته، فساق إلى قطيا وأكل بها شيئاً، ورحل وقد استعد حتى تعدى للعريش، فإذا أقسنقر بعسكر غزة في انتظاره على الزعقة. وكان ذلك وقت الغروب، فوقف كل منهما تجاه أصحابه حتى أظلم الليل فسار الفخر بمن معه وهم ستون فارساً على البرية. فلما أصبح آقسنقر علم أن الفخري فاته، فمال أصحابه على أثقال الفخري فنهبوها، وعادوا إلى غزة.
واستمر الفخري ليلته ومن الغد حتى انتصف النهار وهو سائق، فلم يتأخر معه إلا سبعة فرسان ومبلغ أربعة ألاف دينار، وقد وصل بيسان وعليها الأمير أيدغمش نازل. فترامى عليه الفخري وعرفه بما جرى، وأنه قطع خمسة عشر بريداً في مسير واحد. فطيب أيدغمش خاطره، وأنزله في خام ضرب له، وقام له بما يليق به، فلما جنه الليل أمر به فقيد وهو نائم، وكتب بذلك إلى السلطان مع بكا الخضري.
وكان السلطان لما بلغه هروب قطلوبغا الفخري تنكر على الأمراء، واتهمهم بالمخامرة عليه، وهم أن يمسكهم في يوم الإثنين تاسع عشريه، فتأخر عن الخدمة الجاولي وجماعة، فلما كان وقت الظهر بعث السلطان لكل أمير أربعين طائر أوز، وسأل عنهم، ثم بعث أخر النهار إليهم، بأمرهم أن يطلعوا من الغد. فقدم بكا عشية يوم الثلاثاء مستهل ذي الحجة ومعه سيف قطلوبغا الفخري فسر السلطان بذلك، وكتب بحمله إلى الكرك. فلما طلع الأمراء إلى الخدمة في يوم الثلاثاء ترضاهم، وبشرهم بمسك قطلوبغا الفخري، ثم أخبرهم أنه متوجه إلى الكرك، وأنه يعود بعد شهر. وكان السلطان قد تجهز إلى الكرك، فأخرج في ليلة الأربعاء طشتمر حمص أخضر في محارة بقيده، ومعه جماعة من المماليك السلطانية موكلون بحفظه، وعين مع المقدم عنبر السحرتي عدة من المماليك.
وتقدم السلطان إلى الخليفة بعدما ولاه نظر المشهد النفيسي، عوضاً عن ابن القسطلاني، أن يسافر معه إلى الكرك. ورسم لجمال الكفاة ناظر الخاص والجيش، ولعلاء الدين على بن فضل الله كاتب السر، أن يتوجها معه إلى الكرك، وركب معه الأمراء من قلعة الجبل يوم الأربعاء ثانيه، بعدما ألبس ثمانية من المماليك خلع الإمريات على باب الخزانة. وخلع السلطان على آقسنقر السلاري، وقرره نائب الغيبة، وخلع على شمس الدين محمد بن عدلان، واستقر قاضي العسكر، وخلع علي زين الدين عمر بن كمال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر البسطامي، واستقر به قاضي القضاة الحنفية، عوضاً عن حسام الدين الغوري.