كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي
وفيه قدم محمل سيس بحق النصف، لخراب البلاد من كثرة الفناء بها.
وفيه كتب بولاية حياد بن مهنا إمرة العرب.
وفيه قدم الخبر بخروج عشير الشام عن الطاعة، وكثرة الحروب بينهم، وقتل بعضهم بعضا، ونهب الغرد ونابلس، وكثرة فساد عرب الكرك وقطعهم الطرقات، وكسرهم الأمير جركتمر نائب الكرك.
وفيه أخرج يلجك قريب لنيابة غزة عوضاً عن أحمد الساقي؛ وقدم أحمد الساقي إلى مصر.
وفيه انحلت إقطاعيات كثيرة لموت الناس، فوفر الوزير جوازك الحاشية ورواتبها؛ وقطعت مثالات لجميع أرباب الوظائف وأصحاب الأشغال، والمرتبين في الصدقات، والكتاب والموقعين، والمماليك السلطانية، على قدر ما بأسمائهم.
وفيه توقفت الأحوال بالقاهرة ومصر، وغلقت أكثر الحوانيت بسبب زغل الفلوس بالرصاص والنحاس. فنودي ألا يأخذ من الفلوس إلا ما عليه سكة، وبرد الرصاص والنحاس الأصفر، فمشت الأحوال.
وفيه رسم أن يجلس الأمير بيغرا أمير جندار رأس الميسرة، واستقر الأمير أيتمش الناصري عوضاً أمير جندار، واستقر الأمير قبلاوي حاحب الحجاب عوضا عن أيتمش. وفيه استقر ابن الأطروش في قضاء العسكر على مذهب أبى حنيفة، ولم يعرف أحدا قبله ولي هذا.بمصر؛ واستقر تاج الدين محمد بن إسحاق المناوي في قضاء العسكر على مذهب الشافعي.
وفيه استقر خاص ترك بن طغيه الكاشف في ولاية منفلوط، واستقر مجد الدين موسى بن الهذباني والي الأشمونين في كشف الوجه القبلي، بعد قتل طغيه بم ونقل محمد ابن أياس الدويداري من ولاية أشموم إلى ولاية البهنساوية.
وفيه استقر نجم الدين عبد القاهر بن عبد الله بن يوسف في قضاء الشافعية بحلب عوضا عن نور الدين محمد بن محمد بن محمد بن الصابغ، بعد وفاته. واستقر زين الدين عمر بن يوسف بن عبد الله بن أبي السفاح كاتب السر بحلب، عوضا عن جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود.
وفيها وجد للشيخ حسن متولي بغداد بدار الخلافة دفينا في خربة مبلغ نحو عشرة قناطير دمشقية ذهباً.
فكانت سنة كثيرة الفساد في عامة أرض مصر والشام، من كثرة النفاق، وقطع الطريق، وولاية الوزير منجك جميع أعمال المملكة بالمال، وانفراده وأخيه الأمير بيبغا روس النائب بالتدبير، دون كل أحد.
ومع ذلك فكان فيها الوباء الذي لم يعهد في الإسلام مثله، فإنه ابتدأ بأرض مصر آخر أيام التخضير وذلك في فصل الخريف في أثناء سنة ثمان وأربعين. وما أهل محرم سنة تسع وأربعين حتى انتشر الوباء في الإقليم بأسره، واشتد بديار مصر في شعبان ورمضان وشوال، وارتفع في نصف ذي القعدة.
وكان يموت بالقاهرة ومصر ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف إلى عشرين ألف نفس في كل يوم. وعملت الناس التوابيت والدكك لتغسيل الموتى للسبيل بغير أجره، وحمل أكثر الموتى على ألواح الخشب وعلى السلالم والأبواب، وحفرت الحفائر وألقوا فيها. وكانت الحفرة يدفن فيها الثلاثون والأربعون، وأكثر. وكان الموت بالطاعون يبصق الإنسان دماً، ثم يصيح ويموت؛ وعم مع ذلك الغلاء الدنيا جميعها.
ولم يكن هذا الوباء كما عهد في إقليم دون إقليم، بل عم أقاليم الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا جميع أجناس بني أدم، وغيرهم حتى حيتان البحر وطير السماء ووحش البر.
وأول ابتدائه من بلاد القان الكبير حيث الإقليم الأول، وبعدها من توريز إلى أخرها ستة أشهر، وهى بلاد الخطا والمغل، وأهلها يعبدون النار والشمس والقمر، وتزيد عدتهم على ثلاثمائة جنس. فهلكوا بأجمعهم من غير علة، في مشاتيهم ومصايفهم، وفي مراعيهم، وعلى ظهور خيولهم، وماتت خيولهم، وصاروا كلهم جيفاً مرمية فوق الأرض، وذلك في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، على ما وصلت به الأخبار من بلاد أزبك ثم حملت الريح نتنتهم إلى البلاد، فما مرت على بلد ولا خركاه ولا أرض، إلا وساعة يشمها إنسان أو حيوان مات لوقته وساعته. فهلك من زوق القان الكبير خلائق لا يحصى عددها إلا الله، ومات القان وأولاده الستة، و لم يبق بذاك الإقليم من يحكمه.
ثم اتصل الوباء ببلاد الشرق جميعها، وبلاد أزبك وبلاد اسطنبول وقيصرية الروم؛ ودخل إلى أنطاكية حتى باد أهلها. وخرج جماعة من جبال أنطاكية فارين من الموت، فماتوا بأجمعهم في طريقهم؛ وبدت فرس منهم بعد موتهم عائدة إلى جبالهم، فأخذ بقية من تأخر بها في تتبع آثارهم حتى تعرف خبرهم، فأخذوا ما تركوا من المال وعادوا، فأخذهم الموت أيضاً في طريقهم، ولم يرجع إلى الجبل إلا القليل، فماتوا مع أهاليهم جميعاً إلا قليلا نجوا إلى بلاد الروم، فأصابهم الوباء.
وعم الوباء بلاد قرمان وقيصرية وجميع جبالها وأعمالها، ففني أهلها ودوابهم ومواشيهم. فرحلت الأكراد خوفاً من الموت، فلم يجدوا أرضاً إلا وفيها الموتى، فعادوا إلى أرضهم، وماتوا جميعاً.
وعظم الموتان ببلاد سيس، ومات من أهل تكفور في يوم واحد.بموضع واحد مائة وثمانون نفساً؛ وخلت سيس وبلادها.
ووقع في بلاد الخطا مطر لم يعهد مثله في غير أوانه، فماتت دوابهم ومواشيهم عقيب ذلك المطر حتى فنيت، ثم مات الناس والطيور والوحوش حتى خلت بلاد الخطا؛ وهلك ستة عشر ملكاً في مدة ثلاثة أشهر. وباد أهل الصين، و لم يبق منهم إلا القليل؛ وكان الفناء ببلاد الهند أقل منه ببلاد الصين.
ووقع الوباء ببغداد أيضاً، وكان الإنسان يصبح وقد وجد بوجهه طلوعاً، فما هو إلا أن يمر بيده عليه مات فجأة. وكان أولاد دمرداش قد حصروا الشيخ حسن بها، ففجأهم الموت في عسكرهم من وقت المغرب إلى باكر النهار من الغد، حتى مات عدد كثير فرحلوا وقد مات منهم ستة أمراء ونحو ألف ومائتا رجل. ودواب كثيرة؛ فكتب الشيخ حسن بذلك إلى سلطان مصر.
وفي أول جمادى الأولى: ابتدأ الوباء بأرض حلب، فعم جميع بلاد الشام وبلاد ماردين وجبالها، وباد أهل الغور وسواحل عكا وصفد، وبلاد القدس ونابلس والكرك، وعربان البوادي وسكان الجبال والضياع. و لم يبق في بلدة جينين سوى عجوز واحدة خرجت منها فارة. ولم يبق.بمدينة لد أحد، ولا بالرملة؛ وصارت الخانات وغيرها ملآنة بجيف الموتى. ولم يدخل الوباء معرة النعمان من بلاد الشام، ولا بلد شيزر، ولا حارم. وأول ما بدأ الوباء بدمشق كان يخرج خلف أذن الإنسان بثرة فيخر صريعاً ثم صار يخرج بالإنسان كبة تحت إبطه، فلا يلبث ويموت سريعا. ثم خرجت بالناس خيارة، فقتلت قتلا كثيراً. وأقاموا على ذلك مدة، ثم بصقوا الدم، فاشتد الهول من كثرة الموت حتى أنه أكثر من كان يعيش بعد نفث الدم نحو خمسين ساعة.
وبلغ عدد من يموت بحلب في كل يوم خمسمائة إنسان، ومات بغزة من ثاني المحرم إلى رابع صفر - على ما ورد في كتاب نائبها - زيادة على اثنين وعشرين ألف إنسان، حتى لقت أسواقها.
وشمل الموت أهل الضياع بأرض غزة، وكان أواخر زمان الحرث. فكان الرجل يوجد ميتا والمحراث في يده، ويوجد أخر قد مات وفي يده ما يبذره، وماتت أبقارهم. وخرج رجل بعشرين نفرا لإصلاح أرضه، فماتوا واحداً بعد واحد، وهو يراهم يتساقطون قدامه. فعاد إلى غزة، وسار منها إلى القاهرة. ودخل ستة نفر لسرقة دار بغزة فأخذوا ما في الدار ليخرجوا به فماتوا كلهم. وفر نائبها إلى ناحية بدعرش، وترك غزة خالية.
ومات أهل قطا، وصارت جثثهم تحت النخيل وعلى الحوانيت، حتى لم يبق بها سوى الوالي وغلامين من أصحابه وحاربة عجوز. وبعث الوالي يستعفي، فولى الوزير عوضه مبارك أستادار طغجى.
وعم الوباء بلاد الفرنج، وابتدأ في الدواب، ثم الأطفال والشباب. فلما شنع الموت فيهم جمع أهل قبرص من في أيديهم من الأسرى المسلمين، وقتلوهم جميعاً من بعد العصر إلى المغرب، خوفا أن يبيد الموت الفرنج، فتملك المسلمون قبرص. فلما كان بعد عشاء الآخرة هبت ريح شديدة، وحدثت زلزلة عظيمة، وامتد البحر من المينة نحو مائة قصبة فغرق كثير من مراكبهم وتكسرت. فظن أهل قبرص أن الساعة قامت، فخرجوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، ثم عادوا إلى منازلهم، فإذا أهاليهم قد ماتوا، وهلك لهم ثلاثة ملوك واستمر الوباء فيهم مدة أسبوع، فركب فيهم ملكهم الذي ملكوه عليهم رابعاً بجماعته في مركب يريدون جزيرة بقرب منهم، فلم يمض عليهم في البحر سوى يوم وليلة حتى مات أكثرهم في المركب؛ ووصل باقيهم إلى الجزيرة، فماتوا بها عن أخرهم. ووافى هذه الجزيرة بعد موتهم مركب فيها تجار، فماتوا كلهم وتجارتهم إلا ثلاثة عشر رجلا، فمروا إلى قبرص وقد بقوا أربعة نفر، فلم يجدوا بها أحداً؛ فساروا إلى طرابلس الغرب، وحدثوا بذلك، فلم تطل إقامتهم بها وماتوا.
وكانت المراكب إذا مرت بجزائر الفرنج لا تجد ركابها بها أحدا، وإن صدفت أحدا في بعضها يدعوهم أن يأخذوا من أصناف البضائع بالصبر بغير ثمن؛ لكثرة من كان يموت عندهم صاروا يلقون في البحر. وكان سبب الموت عندهم ريح تمر على البحر، فساعة يشمها الإنسان سقط، ولا يزال يضرب برأسه الأرض حتى يموت.
وقدمت مركب إلى الإسكندرية فيها اثنان وثلاثون تاجراً وثلاثون رجل، ما بين تجار وعبيد؛ فماتوا كلهم، و لم يبق منهم غير أربعة من التجار وعبد واحد، ونحو أربعين من البحارة؛ فماتوا جميعاً بالثغر، وعم الموت أهل حزيرة الأندلس، إلا مدينة غرناطة، فإنه لم يصب أهلها منه شيء وباد من عداهم حتى لم يبق للفرنج من يمنع أموالهم. فأتتهم العرب من إفريقية تريد أخذ الأموال إلى أن صاروا على نصف يوم منها، مرت بهم ريح، فمات منهم على ظهور الخيل جماعة كثيرة. ودخلها باقيهم، فرأوا من الأموات ما هالهم، وأموالهم ليس لها من يحفظها، فأخذوا ما قدروا عليه، وهم يتساقطون موتى. فنجا من بقي منهم بنفسه، وعادوا إلى بلادهم، وقد هلك أكثرهم؛ والموت قد فشا بأرضهم، بحيث مات منهم في ليلة واحدة عدد عظيم، وماتت مواشيهم ودوابهم كلها.
وعم الموتان إفريقية بأسرها، جبالها وصحاريها ومدنها، وجافت من الموتى، وبقيت أموال العربان سائبة لا تجد من يرعاها. ثم أصاب الغنم داء، فكانت الشاه إذا ذبحت وجد لحمها منتنا قد اسود. وتغير أيضاً ريح السمن واللبن، وماتت المواشي بأسرها. وشمل الوباء أيضاً أرض برقة إلى الإسكندرية، فصار يموت بها في كل يوم مائة. ثم مات بالإسكندرية في اليوم مائتان، وشنع ذلك حتى أنه صلى في يوم الجمعة بالجامع الإسكندري دفعة واحدة على سبعمائة جنازة. وصار يحملون الموتى على الجنويات والألواح. وغلقت دار الطراز لعدم الصناع، وغلقت دار الوكالة لعدم الواصل إليها، وغلقت الأسواق وديوان الخمس؛ وأريق من الخمر ما يبلغ ثمنه زيادة على خمسمائة دينار. وقدمها مركب فيه إفرنج، فأخبروا أنهم رأوا بجزيرة طرابلس مركبا عليه طير يحوم في غاية الكثرة، فقصدوه فإذا جميع من فيه من الناس موتى، والطير تأكلهم، وقد مات من الطير أيضاً شيء كثير، فتركوهم ومروا، فما وصلوا إلى الإسكندرية حتى مات زيادة على ثلثيهم.
وفشى الموت.بمدينة دمنهور، وتروجه، والبحيرة كلها حتى عم أهلها؛ وماتت دوابهم فبطل من الوجه البحري سائر الضمانات، والموجبات السلطانية.
وكل الموت أهل البرلس ونستراوه، وتعطل الصيد من البحرة لموت الصيادين. وكان يخرج بها في المراكب عدة من الصيادين لصيد الحوت، فيموت أكثرهم في المراكب ويعود من بقي منهم فيموت بعد عوده من يومه هو وأولاده وأهله. ووجد في حيتان البطارخ شيء منتن، وفيه على رأس البطرخة كبه قدر البندقة قد اسودت. ووجد في جميع زراعات البرلس وبلحها وقثائها دود، وتلف أكثر ثمر النخل عندهم.
وصارت الأموات على الأرض في جميع الوجه البحري، ولا يوجد من يدفنها وعظم الوباء بالمحلة حتى أن الوالي كان لا يجد من يشكو إليه؛ وكان القاضي إذا أتاه من يريد الإشهاد على وصيته لا يجد من العدول أحداً إلا بعد عناء لقلتهم؛ وصارت الفنادق تجد من يحفظها.
وعم الوباء جميع تلك الأراضي، ومات الفلاحون بأسرهم، فلم يوجد من يضم الزرع وزهد أرباب الأموال في أموالهم، وبذلوها للفقراء. فبعث الوزير منجك إلى الغربية كريم الدين مستوفي الدولة ومحمد بن يوسف مقدم الدولة في جماعة، فدخلوا سنباط وسمنود وبوصير وسنهور وأبشيه ونحوها من البلاد، وأخذوا مالاً كثير لم يحضروا منه سوى ستين ألف درهم.
وعجز أهل بلبيس وسائر البلاد الشرقية عن ضم الزرع، لكثرة موت الفلاحين. وكان ابتداء الوباء من أول فصل الصيف، وذلك في أثناء ربيع الآخر. فجافت الطرقات بالموتى، ومات سكان بيوت الشعر ودوابهم وكلابهم وتعطلت سواقي ألحنا، وماتت الدواب والمواشي وأكثر هجن السلطان والأمراء. وامتلأت مساجد بلبيس وفنادقها وحوانيتها بالموتى، ولم يجدوا من يدفنهم، وجافت سوقها فلم يقدر أحد على القعود فيه؛ وخرج من بقي من باعتها إلى ما بين البساتين. ولم يبق بها مؤذن، وطرحت الموتى بجامعها، وصارت الكلاب فيه تأكل الموتى، ورحل كثير من أهلها إلى القاهرة وتعطلت بساتين دمياط وسواقيها، وجفت أشجارها، لكثرة موت أهلها ودوابهم، وصارت حوانيتها مفتحة والمعايش بها لا يقربها أحد، وغلقت دورها. وبقيت المراكب في البحيرة، وقد مات الصيادون فيها والشباك بأيديهم مملوءة سمكاً ميتاً، فكان يوجد في السمكة كبة. وهلكت الأبقار الخيسية والجاموس في المراحات والجزائر، ووجد فيها أيضاً الكبة.
وقدم الخبر من دمشق بأن الوباء كان بها أخف مما كان بطرابلس وحماة وحلب، فلما دخل شهر رجب والشمس في برج الميزان أوائل فصل الخريف هبت ريح في نصف الليل شديدة جداً، واستمرت حتى مضى من النهار قدر ساعتين، واشتدت الظلمة حتى كان الرجل لا يرى من بجانبه؛ ثم انجلت، وقد علت وجوه الناس صفرة ظاهرة في وادي دمشق كله. وأخذ فيهم الموت منه شهر رجب، فبلغ في اليوم ألفا ومائتي إنسان. وبطل إطلاق الموتى من الديوان، فصارت الأموات مطروحة في البساتين وعلى الطرقات. فقدم على قاضي دمشق تقي الدين السبكي رجل من جبال الروم، وأخبره أنه لما وقع الفناء ببلاد الروم رأى رسول صلى الله عليه وسلم، فشكا إليه ما نزل بالناس من الفناء، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: " اقرأوا سورة نوح ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستين مرة، واسألوا الله أن يرفع عنكم ما أنتم فيه " ؛ فعرفهم قاضي دمشق ذلك. فاجتمع الناس في المساجد، وفعلوا ما ذكر لهم، وتضرعوا إلى الله، وتابوا من ذنوبهم، وذبحوا أبقاراً وأغناما كثيرة للفقراء مدة سبعة أيام، والفناء يتناقص كل يوم حتى زال. فنودي في دمشق باجتماع الناس بالجامع الأموي، فصاروا إليه جميعاً، وقرأوا به صحيح البخاري في ثلاثة أيام وثلاث ليال؛ ثم خرج الناس كافة بصبيانهم إلى المصلى، وكشفوا رءوسهم وضجوا بالدعاء، وما زالوا على ذلك ثلاثة أيام، فتناقص الوباء حتى ذهب بالجملة.
وابتدأ الوباء في القاهرة ومصر بالنساء والأطفال، ثم في الباعة، حتى كثر عدد الأموات. فركب السلطان إلى سرياقوس، وأقام بها من أول رجب إلى العشرين منه وقصد العود إلى القلعة، وأشير عليه بالإقامة بسرياقوس وصوم شهر رمضان بها. فبلغت عدة من يموت ثلاثمائة نفر كل يوم بالطاعون موتاً وجباً في يوم أو ليلة، فما فرغ شهر رجب حتى بلغت العدة زيادة على الألف في كل يوم. وصار إقطاع الحلقة ينتقل إلى ستة أنفس في أقل من أسبوع؛ فشرع الناس في فعل الخير، وتوهم كل أحد أنه ميت وقدم كتب نائب حلب بأن بعض أكابر الصلحاء بحلب رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه، وشكا إليه ما نزل بالناس من الوباء، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالتوبة والدعاء وهو: " اللهم سكن هيبة صدمى قهرمان الحروب، بألطافك النازلة الواردة من فيضان الملكوت، حتى نتشبث بأذيال لطفك، و نعتصم بك عن إنزال قهرك. ياذا القوة والعظمة الشاملة، والقدرة الكاملة، يا ذا الجلال والإكرام " ، وأنه كتب بها عدة نسخ بعث بها إلى حماة وطرابلس ودمشق.
وفي شعبان: تزايد الوباء في القاهرة، وعظم في رمضان، وقد دخل فصل الشتاء فرسم بالاجتماع في الجوامع للدعاء.
وفي يوم الجمعة سادس رمضان نودي أن يجتمع الناس بالصناجق الخليفية، والمصاحف عند قبة النصر، فاجتمع الناس بعامة جوامع مصر والقاهرة، وخرج المصريون إلى مصلى خولان بالقرافة، واستمرت قراءة البخاري بالجامع الأزهر وغيره عدة أيام، والناس يدعون الله تعالى ويقنتون في صلواتهم، ثم خرجوا إلى قبة النصر، وفيهم الأمير شيخو والوزير منجك والأمراء، بملابسهم الفاخرة من الذهب ونحوه، في يوم الأحد ثامنه.
وفيه مات الرحل الصالح عبد الله المنوفي، فصلى عليه ذلك الجمع العظيم. وعاد الأمراء إلىسرياقوس، وانفض الجمع. واشتد الوباء بعد ذلك حتى عجز الناس عن حصر الأموات. فلما انقضى شهر رمضان قدم السلطان من سرياقوس، وحدث في شوال بالناس نفث الدم، فكان الإنسان يحس في بدنه بحرارة، ويجد في نفسه غثيان، فيبصق دماً ويموت عقيبه، ويتبعه أهل الدار واحد بعد واحد حتى يفنوا جميعاً بعد ليلة أو ليلتين؛ فلم يبق أحد إلا وغلب على ظنه أنه يموت بهذا الداء. واستعد الناس جميعاً، وأكثروا من الصدقات، وتحاللوا وأقبلوا على العبادة.
ولم يحتج أحد في هذا الوباء إلى أشربة ولا أدوية ولا أطباء، لسرعة الموت. فما تنصف شوال إلا والطرقات والأسوق قد امتلأت بالأموات، وانتدبت جماعة لمواراتهم، وانقطع جماعة للصلاة عليهم في جميع مصليات القاهرة ومصر. وخرج الأمر عن الحد، ووقع العجز عن العدو، وهلك أكثر أجناد الحلقة؛ وخلت أطباق القلعة من المماليك السلطانية لموتهم.
وما أهل ذو القعدة: إلا القاهرة خالية مقفرة، لا يوجد في شوارعها مار، بحيث إنه يمر الإنسان من باب زويلة إلى باب النصر فلا يرى من يزاحمه، لكثرة الموتى والاشتغال بهم وعلت الأتربة على الطرقات، وتنكرت وجوه الناس، وامتلأت الأماكن بالصياح، فلا تجد بيتا إلا وفيه صبحة، ولا تمر بشارع إلا وفيه عدة أموات وصارت النعوش لكثرتها تصطدم، والأموات تختلط.
وصل في يوم الجمعة بعد الصلاة على الأموات بالجامع الحاكمي من القاهرة، فصفت التوابيت اثنين اثنين من باب مقصورة الخطابة إلى الباب الكبير. ووقف الإمام على العتبة، والناس خلفه خارج الجامع.
وخلت أزقة كثيرة وحارات عديدة، وصارت حارة برجوان اثنين وأربعين داراً خالية. وبقيت الأزقة والدروب. مما فيها من الدور المتعددة خالية، وصارت أمتعة أهلها لا تجد من يأخذها، وإذا ورث إنسان شيئاً انتقل في يوم واحد عنه إلى رابع وخامس. وحصرت عدة من صلى عليه بالمصليات خارج باب النصر وخارج باب زويلة، وخارج باب المحروق وتحت القلعة، ومصلى قتال السبع تجاه باب جامع قوصون، في يومين، فبلغت ثلاثة عشر ألفا وثمانمائة، سوى من مات في الأسواق والأحكار، وخارج باب البحر وعلى الدكاكين، وفي الحسينية وجامع ابن طولون، ومن تأخر دفنه في البيوت ويقال بلغت عدة الأموات في يوم واحد عشرين ألفا، وأحصيت الجنائز بالقاهرة فقط في مدة شعبان ورمضان تسعمائة ألف، سوى من مات بالأحكار والحسينية والصليبة وباقي الخطط خارج القاهرة، وهم أضعاف ذلك. وعدمت النعوش، وبلغت عدتها ألفا وأربعمائة نعش. فحملت الأموات على الأقفاص ودراريب الحوانيت وألواح الخشب؛ وصار يحمل الإثنان والثلاثة في نعش واحد على لوح واحد.
وطلبت القراء إلى الأموات، فأبطل، كثير من الناس صناعاتهم، وانتدبوا للقراءة أمام الجنائز. وعمل جماعة من الناس مدراء، وجماعة تصدوا لتغسيل الأموات، وجماعة لحملهم؛ فنالوا بذلك سعادة وافرة. وصار المقرئ يأخذ عشرة دراهم وإذا وصل الميت إلى المصلى تركه وانصرف لآخر. وصار الحمال يأخذ ستة دراهم بعد الدخلة عليه إذا وجد، ويأخذ الحفار أجرة القبر خمسين درهماً؛ فلم يمتع أكثرهم بذلك، وماتوا.
ودخلت غاسلة مرة لتغسل امرأة، فلما جردتها من ثيابها، ومرت بيدها على موضع الكبة صاحت وسقطت ميته؛ فوجد في بعض أصابعها كبة بقدر الفولة.
وامتلأت المقابر من باب النصر إلى قبة النصر طولا، وإلى الجبل عرضاً. وامتلأت مقابر الحسينية إلى الريدانية، ومقابر خارج باب المحروق والقرافة. وصار الناس يبيتون بموتاهم على الترب، لعجزهم عن تواريهم. وكان أهل البيت يموتون جميعا وهم عشرات، فما يوجد لهم سوى نعش واحد، ينقلون فيه شيئاً بعد شيء. وأخذ كثير من الناس دوراً وأثاثاً وأموالا من غير استحقاق، لموت مستحقيها؛ فلم يتمل أكثرهم.مما أخذ ومات، ومن عاش منهم استغنى به.
وأخذ كثير من العامة إقطاعات الحلقة، وقام الأمير شيخو والأمير مغلطاي أمير آخور بتغسيل الناس وتكفينهم ودفنهم.
وبطلت الأفراح والأعراس من بين الناس، فلم يعرف أن أحداً عمل فرحاً في مدة الوباء، ولا سمع صوت غناء. وتعطل الأذان من عدة مواضع، وبقي في الموضع المشهور بأذان واحد.
وبطلت أكثر طبلخاناه الأمراء، وصار في طبلخاناه المقدم ثلاثة نفر، بعدما كانوا خمسة عشر.
وغلقت أكثر المساجد والزوايا. واستقر أنه ما ولد أحد في هذا الوباء إلا ومات بعد يوم أو يومين، ولحقته أمه.
وشمل في آخر السنة الفناء بلاد الصعيد بأسرها، وتعطلت دواليبها. ولم يدخل الوباء ثغر أسوان، فلم يمت به سوى أحد عشر إنساناً. وطلب بناحية بهجورة شاهد فلم يوجد، وخرج من مدينة أخميم شاهد مساحة مع قاضيها بقياسين، لقياس بعض الأراضي؛ فعندما وضعت القصبة للقياس سقط أحد القياسين فحمله رفيقه إلى البلد، فسقط بجنبه ومات؛ وأخذت الشاهد الحمى.
واجتمع ثلاثة بناحية أبيار، وكتبوا أوراقاً بأسمائهم ومن يموت منهم قبل صاحبه؛ فطلعت الأوراق.بموت واحد بعد آخر، فمات الثلاثة على ما طلع في الأوراق، وكتب بذلك محضر ثابت قدم إلى القاهرة.
وكانت البزداريه إذا رمت طيراً من الجوارح على طائر ليصيده، وجد الصيد وفيه كبة كالبندقة؛ ولم تذبح أوزة ولا شيء من الطيور إلا وجد فيه كبة. ووجدت طيور كثيرة في الزروع ميتة، ما بين غربان وحدأة وغيرها من سائر أصناف الطيور؛ فكانت إذا نتفت وجد فيها أثر الكبة. وماتت القطاط حتى قل وجودها.
وتواترت الأخبار من الغور وبيسان وغير ذلك من النواحي أنهم كانوا يجدون الأسود والذئاب والأرانب والإبل وحمر الوحش والخنازير وغيرها من الوحوش ميتة، وفيها أثر الكبة.وكانت العادة إذا خرج السلطان إلى سرحة سرياقوس يقلق الناس من كثرة الحدأة والغربان، وتحليقها على ما هناك من اللحوم الكثيرة؛ فلم يشاهد منها شيء مدة شهر رمضان، والسلطان هناك، لفنائها.
وكانت بحيرات السمك بدمياط ونستراوة وسخا توجد أسماكها الكثيرة طافية على الماء، وفيها الكبة. وكذلك كلما يصطاد منها، بحيث امتنع الناس من أكله. وكثر عناء الأجناد وغيرهم في أمر الزرع، فإن الوباء ابتدأ في آخر أيام التخضير، فكان الحراث يمر ببقره وهى تحرث في أراضي الرملة وغزة والساحل، وإذا به يخر ميتا والمحراث في يده، ويبقى بقره بلا صاحب.
ثم كان الحال كذلك بأراضي مصر، فما جاء أوان الحصاد حتى فني الفلاحون، ولم يبقى منهم إلا القليل فخرج الأجناد وغلمانهم لتحصد، ونادوا من يحصد ويأخذ نصف ما يحصده. فلم يجدوا من يساعدهم على ضم الزروع، ودرسوا غلالهم على خيوهم، وذروها بأيديهم؛ وعجزوا عن كثير من الزرع، فتركوه.
وكانت الإقطاعات قد كثر تنقلها من كثرة موت الأجناد، بحيث كان الإقطاع الواحد يصير من واحد إلى آخر حتى يأخذه السابع والثامن. فأخذ إقطاعات الأجناد أرباب الصنائع من الخياطين والإسكافية والمنادمين، وركبوا الخيول، ولبسوا تكلفتاه والقباء.
ولم يتناول أحد من إقطاعه مغلا كاملا، وكثير منهم لم يحصل له شيء. فلما كان أيام النيل، وجاء أوان التخضير تعذر وجود الرجال، فلم يخضر إلا نصف الأراضي. و لم يوجد أحد يشتري القرط الأخضر، ولا من يربط عليه خيوله فانكسرت بلاد الملك من ضواحي القاهرة، مثل المطرية والخصوص وسرياقوس وبهتيت. وتركت.ألف وخمسمائة فدان براسيم بناحية ناي وطنان، فلم يوجد من يشتريها لرعي دوابه، ولا من يعملها دريسا.
وخلت بلاد الصعيد مع اتساع أرضها، بحيث كانت مكلفة مساحي أرض سيوط تشتمل على ستة آلاف نفر يجيء منهم الخراج، فصارت في سنة الوباء هذه تشتمل على مائة وستة عشر نفرا، ومع ذلك فكان سعر القمح لا يتجاوز خمسة عشر درهماً الأردب.
وتعطلت أكثر الصنائع، وعمل كثير من أرباب الصنائع أشغال الموتى، وتصدى كثير منهم للنداء على الأمتعة. وانحط سعر القماش ونحوه، حتى أبيع بخمس ثمنه وأقل و لم يوجد من يشتريه وصارت كتب العلم ينادى عليها بالأحمال، فيباع الحمل منها بأبخس ثمن، واتضعت أسعار المبيعات كلها، حتى كانت الفضة النقرة التي يقال لها.بمصر الفضة الحجر، تباع العشرة منها بتسعة دراهم كاملية. وبقي الدينار بخمسة عشر درهما، بعدما كان بعشرين.
وعدمت جميع الصنائع، فلم يوجد سقاء ولا بابا، ولا غلام. وبلغت جامكية غلام الخيل ثمانين درهماً في كل شهر، بعد ثلاثين درهماً. فنودي بالقاهرة من كانت له صنعة فليرجع إلى صنعته، وضرب جماعة منهم. وبلغ ثمن راوية الماء إلى ثمانية دراهم، لقلة الرحال والجمال؛ وبلغت أجرة طحن الأردب القمح خمسة عشر درهماً.
ويقال إن هذا الوباء أقام على أهل الأرض مدة خمس عشرة سنة، وقد أكثر الناس من ذكره في أشعارهم، فقال الأديب زين الدين عمر بن الوردي من مقامة عملها:
إسكندرية ذا الوبا ... سبع يمد إليك ضبعه
صبراً لقسمتك التي تركت ... من السبعين سبعه
وقال:
أصلح الله دمشقاً ... وحماها عن مسبه
نفسها خست إلى أن ... تقتل النفس بحبه
وقال:
إن الوبا قد غلبا ... وقد بدا في حلبا
قالوا له عي الورى ... كاف ورا قلت وبا
وقال:
الله أكبر من وباء قد سبا ... ويصول في العقلاء كالمجنون
سنت أسنته لكل مدينة ... فعجبت للمكروه في المسنون.
وقال:
حلب والله يكفي ... شرها أرض مشقه
أصبحت حبة سوء ... تقتل الناس ببزقه
وقال:
قالوا فساد الهواء يردى ... فقلت يردى هوى الفساد
كم سيئات وكم خطايا ... نادى عليكم بها المنادي
وقال:
فهذا يوصى بأولاده ... وهذا يودع إخوانه
وهذا يهيئ أشغاله ... وهذا يجهز أكفانه
وهذا يصالح أعداءه ... وهذا يلاطف جيرانه
وهذا يوسع إنفاقه ... وهذا يخالل من خانه
وهذا يحبس أملاكه ... وهذا يحرر غلمانه
وهذا يغير أخلافه ... وهذا يغير ميزانه
ألا إن هذا الوبا قد سبا ... وقد كاد يرسل طوفانه
ولا عاصم اليوم من أمره ... سوى رحمة الله عبدانه
وقال الصلاح خليل بن أيبك الصفدي:
قد قلت الطاعون وهو بغزة ... قد جال من قطيا إلى بيروت
أخليت أرض الشام من سكانها ... وحكمت يا طاعون بالطاغوت
وقال:
لما افترست صحابي ... يا عام تسع وأربعينا
ما كنت والله تسعاً ... بل كنت سبعاً يقينا
وقال:
دارت من الطاعون كاس الفنا ... فالنفس من سكرته طافحة
قد خالف الشرع وأحكامه ... لأنه يثبت بالرائحة
وقال:
أسفي على أكناف جلق إذ غدا ... الطاعون فيها ذا زناد وارى
الموت أرخص ما يكون بحبة ... والظلم زاد فصار بالقنطار
وقال:
أما دمشق فإنها قد أوحشت ... من بعد ما شهد البرية أنسها
تاهت بعجب زائد حتى لقد ... ضربت بطاعون عظيم نفسها
وقال:
تعجبت من طاعون جلق إذ غدا ... وما فاتت الآذان وقعة طعنه
فكم مؤمن تلقاه أذعن طائعا ... على أنه قد مات من خلف أذنه
وقال:
رعى الرحمن دهرا قد تولى ... يحاذي بالسلامة كل شرط
وكان الناس في غفلات أمر ... فجا طاعونهم من تحت إبط
وقال:
يا رحمتا لدمشق من طاعونها ... فالكل مغتبق به أو مصطبح
كم هالك نفث الدما من حلقه ... أو ما تراه بغير سكين ذبح
وقال:
مصيبة الطاعون قد أصبحت ... لم يخل منها في الورى بقعه
يدخل في المنزل لو أنه ... مدينة أخلاه في جمعه
وقال الأديب بدر الدين الحسن بن حبيب الحلبي:
إن هذا الطاعون يفتك في العالم ... فتك امرئ ظلوم حقود
ويطوف البلد شرقاً وغرباً ... ويسرق العباد نحو اللحود
قد أباح الدما وحرم جمع الش ... مل قهراً وحل نظم العقود
كم طوى النشر من أخ عن أخيه ... وسبا عقل والد بوليد
وقال:
أيتم الطفل أنكل الأم أبكى ال ... عين أجرى الدموع فوق الخدود
بسهام يرمي الأنام خفيا ... ت تشق القلوب قبل الجلود
كما قلب زدت في النقص أقصر ... وتلبث يقول هل من مزيد
إن أعش بعده فإني شكور ... مخلص الحمد للولي الحميد
وإذا مت هنئوني وقولوا ... كم قتيل كما قتلت شهيد
وقال الأديب جمال الدين محمد بن نباتة المصري:
سر بنا عن دمشق ياطالب العيش ... فما في المقام للمرء رغبه
رخصت أنفس الخلائق بالطاعون ... فيها كل نفس بحبه
وقال الصلاح خليل بن أيبك الصفدي أيضاً:
قد نغص الطاعون عيش الورى ... وأذهل الوالد والوالده
كم منزل كالشمع سكانه ... أطفأهم في نفخة واحده
وقال:
لا تثق بالحياة طرفة عين ... في زمان طاعونه مستطير
فكأن القبور شغلة شمع ... والبرايا لها فراش يطير
وقال الأديب إبراهيم المعمار:
يا طالب الموت أفق وانتبه ... هذا أوان الموت ما فاتا
قد رخص الموت على أهله ... ومات من لا عمره ماتا
وقال:
قبح الطاعون داء ... فقدت فيه الأحبة
بيعت الأنفس فيه ... كل نفس بحبيبه
ومات في هده السنة خلائق من الأعيان، منهم برهان الدين إبراهيم بن لاجين بن عبد الله الرشيدي الشافعي، يوم الثلاثاء تاسع عشري شوال؛ ومولده سنة ثلاث وسبعين وستمائة، أخذ القراءات على التقي الصائغ، وسمع الحديث من الأبرقوهي، وأخذ الفقه عن العلم العراقي، وبرع فيه، وفي الأصول والنحو وغيره؛ ودرس وأقرأ، وخطب بجامع أمير حسين، واشتهر بالصلاح.
وتوفي برهان الدين إبراهيم بن عبد الله بن علي الحكري، شيخ الإقراء، في يوم عيد النحر. أخذ القراءات عن التقي الصائغ، ونور الدين علي بن يوسف بن حرير الشنطوفي.
وتوفي الأديب إبراهيم بن علي بن إبراهيم المعمار.
ومات شهاب الدين أحمد بن عز الدين أيبك بن عبد الله الحسامي المصري الدمياطي، نسبة إلى جده لأمه الشافعي الجندي.
ومات الأديب المادح شهاب الدين أحمد بن مسعود بن أحمد بن ممدود السنهوري أبو العباس الضرير؛ كانت له قدرة زائدة على النظم، وشعره كثير.
ومات الأمير أحمد بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضية بن فضل ابن ربيعة، أمير آل فضل بسلمية، عن نيف وخمسين سنة.
وتوفي كاتب السر بدمشق شهاب الدين أحمد بن محيى الدين بن فضل الله بن علي العمري، في تاسع ذي الحجة بدمشق؛ ومولده بها في ثالث شوال سنة سبعمائة. عرف الفقه على مذهب الشافعي، ودرس العربية؛ وبرع في الإنشاء والتاريخ، وقال الشعر الجيد، وصنف عدة كتب في التاريخ والأدب، وباشر كتابة السر بديار مصر عن أبيه في حياته، ثم استقل في كتابة السر بدمشق.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن محمد بن قيس بن ظهير الأنصاري المصري الشافعي، يوم عيد النحر بالقاهرة. درس بالخشابية والمشهد الحسيني، وبرع في الفقه؛ وعظمت شهرته ومات أحمد بن الأمير آقبغا عبد الواحد.
ومات الأمير أحمد بن الأمير أصلم.
ومات شهاب الدين أحمد بن الوجيه المحدث.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن ميلق الشاذلي.
ومات الأمير أحمد بن الأمير جنكلى بن البابا، قريبا من عقبة أيلة، بعد عوده من الحج وتوفي شهاب الدين أحمد بن الغزاوي، ناظر الأوقاف المارستان، بطريق الحجاز.
وتوفي المسند زين الدين أبو بكر بن قاسم بن أبي بكر الرحبي الحنبلي، بدمشق؛ ومولده سنة ست وستين وستمائة.
وتوفي الشيخ المعتقد أبو بكر بن النشاشيبي ومات الأمير آقبغا أخو الأمير طقزدمر الحموي.
ومات الأمير أسندمر القلنجقي، والي القاهرة.
ومات الأمير إسماعيل الوافدي، والي قوص، مقتولا.
ومات الأمير إلمش الجمدار، الحاجب بدمشق، وكان مشكورا.
ومات الأمير بلك المظفري الجمدار، أحد أمراء الألوف، في يوم الخميس رابع عشرى شوال.
ومات الأمير برلغي الصغير، قريب السلطان الملك المنصور قلاوون. قدم إلى القاهرة صحبة القازانية سنة أربع وسبعمائة، فأنعم عليه بإمرة، وتزوج ابنة الأمير بيبرس الجاشنكير قبل سلطنته، وعمل له مهم عظيم، أشعل فيه ثلاثة آلاف شمعة. ثم قبض عليه بعد زوال المظفر بيبرس، وامتحن، وحبس عشرين سنة. ثم أفرج عنه، وأنعم عليه بتقدمة ألف فمات بعد أيام.
ومات الأمير بلبان الحسيني أمير جاندار، وهو من المماليك المنصورية قلاوون، وقد أناف على الثمانين.
ومات الأمير بكتوت الفرماني أحد المماليك المنصورية قلاوون، وكان أحد الأمراء البرجية، ثم ولي شد الدواوين بدمشق، وحبس؛ ثم أنعم عليه بطبلخاناه في ديار مضر؛ وكانت به حدبة فاحشة، وولع بتتبع المطالب وعمل الكيميا.
ومات الأمير تخمان.
ومات الأمير تمربغا العقيلي نائب الكرك، في جمادى الآخرة؛ وكان مشكور السيرة وتوفي كمال الدين جعفر بن ثعلب بن جعفر بن علي الإدفوي الفقيه الشافعي الأديب الفاضل، له كتاب الطالع السعيد في تاريخ الصعيد، وغيره؛ وشعره جيد.
ومات الأمير وداد بن الشيباني، متولى إياس؛ وكان مشكور السيرة.
ومات الأمير سنقر الرومي المستأمن. قدم رسولا من الفرنج في الأيام الناصرية محمد قلاوون، فأسلم وأنعم عليه بإمرة عشرة. ثم اختص بالصالح إسماعيل وأخيه شعبان الكامل، واتهم بأنه ركب لهما السموم؛ فقبض عليه بعد انقضاء أيام المظفر حاجي؛ ونفي. ثم أحضر، وأنعم عليه بإمرة.
ومات الأمير ناصر الدين خليفة، وزير البلاد القانية علي شاه، في سادس عشرى جمادى الأولى، بدمشق؛ وكان قد قدم من بلاد المشرق، وأعطي إقطاعاً.
وتوفي نجم الدين سعيد بن عبد الله الدهلي بكسر الدال المهملة، الفقيه الحنبلي الحافظ، خامس عشرى ذي القعدة؛ وله كتاب تفتيت الأكباد في واقعة بغداد. ولد سنة سبع عشرة وسبعمائة، وقدم من بغداد إلى القاهرة، وسمع ودأب وصنف، فبرع في الحديث ومعرفة التراحم.
وتوفي جمال الدين أبو الربيع سليمان بن أبي الحسن بن سليمان بن ريان الحلبي، ناظر الجيش بها وبدمشق.
ومات شيرين بن شيخ الخانكاه الركنية بيبرس، فولى بعده نجم الدين الملطي فمات عن قريب.
ومات الأمير طشتمر طلليه، أحد الأمراء المقدمين، في شوال؛ وقيل له طلليه لأنه كان إذا تكلم قال في أخر كلامه طلليه وهو من المماليك الناصرية.
ومات الأمير طغاي الكاشف مقتولا، فقدم الخبر بقتله يوم الخميس ثالث عشرى ذي القعدة.
وماتت خوند طغاي أم آنوك، وتركت مالا كبيراً وألف جارية وثمانين طواشيا؛ وأعتقت الجميع؛ ولها تنسب تربة خوند بالصحراء.
وتوفي الصفي عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم بن أحمد بن نصر بن أبي العزيز سرايا بن ناقا بن عبد الله السنبسي الحلي الأديب الشاعر، آخر يوم من ذي الحجة؛ ومولده خامس ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وستمائة؛ قدم القاهرة مرتين.
وتوفي تاج الدين عبد الرحيم بن قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن ابن محمد بن أحمد بن محمد عبد الكريم القزويني الشافعي، خطيب الجامع الأموي بدمشق، وتوفي معه أخوه صدر الدين عبد الكريم.
وتوفي الرجل الصالح عبد الله المنوفي المالكي، في يوم الأحد ثامن رمضان، وقبره خارج القاهرة يقصد للتبرك به.
وتوفي المسند بهاء الدين علي بن عمر بن أحمد المقدسي الصالحي الدمشقي وقد أناف على الثمانين؛ حدث عن ابن البخاري وغيره.
ومات أمير علي بن طغريل الإيغاني، أحد أمراء الألوف.
ومات أمير علي بن الأمير أرغون النائب.
وتوفي شيخ الشيوخ بدمشق علاء الدين علي بن محمود بن حميد القونوي الحنفي، في رابع رمضان.
وتوفي زين الدين عمر بن داود هارون بن يوسف بن علي الحارثي الصفدي، أحد موقعي الدست - وقد أناف على الستين - بالقاهرة برع في الفقه على مذهب الشافعي، وفي العربية والإنشاء، ونظم الشعر.
وتوفي زين الدين عمر بن المظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس بن علي المغربي الحلبي، المعروف بابن الوردي، الفقيه الشافعي، وهو ناظم الحاوي؛ وقد جاوز الستين، وكانت وفاته بحلب، في تاسع عشرى ذي الحجة.
وتوفي زين الدين عمر بن عامر بن الخضر بن عمر بن ربيع العامري الغري الشافعي،. بمدينة بلبيس، عن إحدى وسبعين، باشر بالكرك وعجلون وقوص وبلبيس، وبرع في الفقه.
وتوفي زين الدين عمر بن محمد بن عبد الحاكم بن عبد الرزاق البلقيائي الشافعي، قاضي حلب وصفد، وبها مات عن نحو سبعين سنة.
ومات الأمير ركن الدين عمر بن طقصو؛ وكان فاضلا، صنف في الموسيقا وغيره. ومات الطواشي عنبر السحرتي اللالا مقدم المماليك، منفياً بالقدس.
ومات الأمير قطز أمير آخور ونائب صفد، وهو من جملة الأمراء بدمشق، يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة ومات الأمير قرونه من الأويراتية.
ومات الأمير قطليجا السيفي البكتمري، متولي الإسكندرية، ووالي القاهرة.
ومات الأمير كوكاي السلاح دار المنصوري؛ وترك زيادة على أربعمائة ألف دينار.
وتوفي قاضي الشافعية بحلب نور الدين محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد بن جابر بن الصائغ الأنصاري، وقد أناف على السبعين.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن إبراهيم بن عدلان، الفقيه الشافعي عن ست وثمانين سنة، بالقاهرة.
وتوفي شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد المؤمن بن اللبان الأسعردي الفقيه الشافعي، عن تسع وستين سنة.
وتوفي شمس الدين محمد المعروف بابن الكتاني الشافعي.
وتوفي عماد الدين محمد بن إسحاق بن محمد البلبيسي الشافعي، قاضي الإسكندرية في الأيام الناصرية، وهو معزول، في يوم الثلاثاء حادي عشر شعبان.
ومات شمس الدين محمد بن مسكين ناظر الأحباس.
ومات شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عمر الأسيوطي، وناظر بيت المال، وهو باني جامع الأسيوطي بخط جزيرة الفيل.
وتوفي الشيخ شمس الدين محمد الأكفاني الحكيم، صاحب التصانيف، في يوم الأربعاء ثالث عشرى شوال.
وتوفي شمس الدين محمد بن محمد بن عبد الله بن صغير الطيب؛ وله شعر جيد.
ومات الشيخ شمس الدين محمود بن أبي القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أبي بكر الأصفهاني، الفقيه الشافعي ذو الفنون، بالقاهرة، في ذي القعدة؛ ومولده سنة أربع وسبعين وستمائة.
ومات الأمير شرف الدين محمود بن خطير، أخو أمير مسعود.
ومات نكباي البريدي أحد المماليك المنصورية قلاوون؛ ولي قطيا وإسكندرية، ثم أنعم عليه بطبلخاناه، واستقر مهمنداراً، وإليه تنسب دار نكباي خارج مدينة مصر على النيل، وعني بعمارتها، فلم يمتع بها.
وتوفي الشيخ المعتقد يوسف المرحلي.
ومات نور الدين الفرج.
وتوفي نور الدين الفرج بن محمد بن أبي الفرج الأردبيلي الشافعي: شارح منهاج البيضاوي، في ثالث عشر جمادى الآخرة، بدمشق.
سنة خمسين وسبعمائةأهل شهر الله المحرم: وقد تناقص الوباء.
وفيه أخرج الأمير قبجق إلى دمشق، على إمرة طبلخاناه.
وفيه اجتمع رأي كثير من طائفة الفقهاء الحنفية على أن يكون قاضيهم جمال الدين عبد الله بن قاضي القضاة علاء الدين بن عثمان التركماني، بعد موت والده في تاسعه وطلبوا ذلك من الأمير شيخو وغيره، فأجيبوا إليه. وطلب جمال الدين، وخلع عليه، واستقر قاضي القضاة الحنفية، ونزل إلى المدرسة الصالحية؛ وعمره دون الثلاثين سنة.
وفيه قدم الحاج، وفهم قاضي القضاة زين الدين عمر البسطامي. فترك قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن التركماني تدريس الحنفية بجامع أحمد بن طولون، فشكره الناس على هذا.
وفيه وقدم أيضاً قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، فزوج قاضى القضاة عز الدين بن جماعة جمال الدين عبد الله بن التركماني بابنته.
وفيه وقدم أيضاً الأمير فارس الدين، وقد نازعه عرب بني شعبة في عمارة عين جوبان، فجمع لهم وقاتلهم، وقتل منهم جماعة، وجرح كثيراً وهزمهم؛ وقتل له مملوكان؛ وأصلح الأمير فارس الدين العين حتى جرى ماؤها بقلة وكان الغلاء.بمكة شديداً بلغت الويبة من الشعير إلى سبعين درهما، فهلك كثير من الجمال؛ ووقع.بمكة والمدينة وعامة بلاد الحجاز وبواديها وباء عظيم حتى جافت البوادي.
وفيه خلع على تاج الدين محمد بن علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى الأخنائي واستقر في قضاء القضاة المالكية، عوضاً عن عمه تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى الأخنائي، بعد موته.
وفيه تقدم الوزير منجك لعلاء الدين علي بن الكوراني والي القاهرة بطلب الخفراء أصحاب الرباع، وإلزامهم بكتابة أملاك القاهرة ومصر وظواهرهما، وأسماء سكانها وملاكها؛ فكتبوا ذلك. وكان يوجد في الزقاق الواحد من كل حارة وخط عدة دور خالية، لا يعرف لها ملاك، فختم عليها. وتتبع الوالي الفنادق والمخازن ودار الوكالة والحواصل والشون وفعل فيها كذلك وفيه قدم الخبر بنفاق العشير وعرب الكرك، وذلك أن عشير بلاد الشام فرقنان - قيس، ويمن - لا ينفقان قط، وفي كل قليل يثور بعضهم على بعض ويكثر قتلاهم، فيأتي إليهم من السلطان من يجبيهم الأموال الكثيرة. فلما وقع الفناء في الناس ثاروا على عادتهم، وطالت حروبهم لاشتغال الدولة عنهم، فعظم فسادهم وقطعهم الطرقات على المسافرين. فجرد إليهم النائب - أعني الأمير أرغون شاه نائب الشام - ابن صبح مقدم الجبلية في عدة من الأمراء، فلم يظفر بهم، وأقام بالعسكر على اللجون وأخذ العشير في الغارات على بلاد القدس والخليل ونابلس، فكتب نائب غزة.بمساعدة العسكر.
وفيه اشتدت الفتنة أيضاً في بلاد الكرك بين بني نمير وبني ربيعة، فإن الملك الناصر محمد بن قلاوون كان لما أعياه أمرهم وتحصنهم بجبالهم المنيعة أخذ في الحيلة عليهم، وتقدم إلى شطي أمير بني عقبة، وإلى نائب الشام ونائب غزة ونائب الكرك، بأن يدخلوا إلى البرية كأنهم يصطادون ويوقعون بهم؛ فقبضوا على كثير منهم، وقتلوا في جبالهم خلقا كثيراً منهم، وحبسوا باقيهم حتى ماتوا. فسكن الشر بتلك الجهات إلى أن كانت فتنة الناصر أحمد بالكرك، عاد بنو نمير وبنو ربيعة إلى ما كانوا عليه من الفساد، وقوي أمرهم. فركب إليهم الأمير جركتمر نائب الكرك، وطلع إليهم فقاتلوه، وقتلوا من أصحابه عشرة، وكسروه أقبح كسرة؛ فكتب لنائب الشام الأمير أرغون شاه بتجهيز عسكر لقتالهم.
وفي صفر: أنعم على عرب بن ناصر الدين الشيخي بإمرة طبلخاناه، وعلى شاورشي دوادار قوصون بإمرة عشرة.
وفي أول ربيع الأول: قدم قود الأمير جبار بن مهنا، صحبة ولده نعير.
وفيه قدم البريد من غزة بركوب نائبها على العشير، وكبسهم ليلا، وأسر أكثرهم، وقتل ستين منهم، وتوسيط الأسرى بغزة.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشريه: شنقت جارية رومية الجنس خارج باب النصر، عند مصلى الأموات. وسبب ذلك أنها كانت جارية أم الأمير يلبغا اليحياوي فاتفقت مع عدة من الجواري على قتل سيدتها، وقتلوها ليلا بأن وضعن على وجهها مخدة، وحبس نفسها حتى ماتت، وأقمن من الغد عزاءها، وزعمن أنها ضربت بدم. فمشت حيلتهن على الناس أياماً، إلى أن تنافسن على قسمة المال الذي سرقنه، وتحدثن.بما كان، وأعترفن على الجارية التي تولت القتل، فأخذت وشنقت، وهى بإزارها ونقابها. وأخذ من الجواري ما معهن من المال، وكان جملة كثيرة. و لم يعهد.بمصر امرأة شنقت سوى هذه.
وقد وقع في أيام المنصور قلاوون أن امرأة كانت تستميل النساء وترغبهن حتى تمضي بهن إلى موضع توهمن أن به من يعاشرهن بفاحشة، فإذا صارت المرأة إليها قبضها رجال قد أعدتهم، وقتلوها وأخذوا ثيابها. فاشتهر بالقاهرة خبرها، وعرفت بالخناقة؛ فما زال بها الأمير علم الدين سنجر الخياط والي القاهرة حتى قبص عليها، و سمرها.
ووقع أيضاً في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون أن امرأة بأرض الطبالة كانت عند طائفة البزادرية تفعل ذلك بالنساء، فقبض عليها، وسمروا وسمرت معهم؛ فكانت تقول - وهي مسمرة يطاف بها على الجمال في القاهرة - إذا رأت النساء وهن يتفرجن عليها: " أه يا قحاب، لو عشت لكن لأفنيتكن، ولكن ما عشت " .
وفي يوم الأربعاء تاسع عشريه: قدم الخبر بقتل الأمير أرغون شاه نائب الشام، وكان شأنه مما يستغرب.
وذلك أنه لما كان نصف ليلة الخميس ثالث عشريه لم يشعر الأمير أرغون شاه، وقد نزل بالقصر الأبلق من الميدان خارج مدينة دمشق، ومعه أهله، وإذا بصوت قد وقع في الناس بدخول العسكر، فثاروا بأجمهم. ودارت النقباء على الأمراء بالركوب ليقفوا على مرسوم السلطان. فركبوا جميعاً إلى سوق الخيل تحت القلعة، فوجدوا الأمير ألجيبغا المظفري نائب طرابلس، وإذا بالأمير أرغون شاه ماش، وعليه بغلوطاق صدر وتخفيفة على رأسه، وهو مكتف بين مماليك الأمير فخر الدين أياس.
وذلك أن ألجيبغا لما قدم من طرابلس سار حتى طرق دمشق على حين غفلة، وركب معه الأمير فخر الدين أياس السلاح دار، ثم ركب أياس بأصحابه، وأحاط بالقصر الأبلق، وطرق بابه وعلم الخدام بأنه قد حدث أمر مهم، فأيقظوا الأمير أرغون شاه؛ فقام من فرشه، وخرج إليهم، فقبضوا عليه، وقالوا حضر مرسوم السلطان بمسكه، والعسكر واقف. فلم يحسر أحد يدفع عنه، وأخذه أياس وأتى به ألجيبغا. فسلم أمراء دمشق على ألجيبغا، وسألوه عن الخبر، فذكر لهم أن مرسوم السلطان ورد عليه بركوبه إلى دمشق بعسكر طرابلس، وقبض أرغون شاه وقتله والحوطة على موجوده؛ وأخرج لهم كتاب السلطان بذلك؛ فأجابوا بالسمع والطاعة، وعادوا إلى منازلهم؛ ونزل ألجيبغا بالميدان.
وأصبح يوم الخميس: فأوقع ألجيبغا الحوطة على موجود أرغون شاه؛ وأصبح يوم الجمعة أرغون شاه مذبوحا. فكتب ألجيبغا محضراً بأنه وجد مذبوحاً والسكين في يده، فأنكر الأمراء ذلك عليه، و كونه لما قبض أموال أرغون شاه لم يرفعها إلى القلعة على العادة، واتهموه فيما فعل، وركبوا لحربه يوم الثلاثاء ثامن عشريه. فقاتلهم ألجيبغا، وجرح الأمير مسعود بن خطير، وقطعت يد الأمير ألجيبغا العادلي، وقد جاوز تسعين سنة.
وولي ألجيبغا نائب طرابلس، ومعه خيول أرغون شاه وأمواله؛ وتوجه نحو المزة، وصحبته الأمير أياس الذي كان نائب حلب، ومضى إلى طرابلس.
وسبب ذلك أن أياس لما عزل من نيابة حلب بأرغون شاه، وأخذت أمواله وسجن، ثم أفرج عنه واستقر من جملة أمراء دمشق وأرغون شاه نائبها. وكان أرغون شاه يهينه ويخرق به. واتفق أيضاً إخراج ألجيبغا المظفري من القاهرة إلى دمشق أميراً بها، فترفع عليه أرغون شاه وأذله، فاتفق مع أياس على مكيدة. وأخذ ألجيبغا في السعي لخروجه من دمشق عند الأمراء، وبعث إلى الأمير بيبغا روس نائب السلطان وإلى أخيه الوزير منجك هدية سنية، فولوه طرابلس كما تقدم، وأقام بها إلى أن كتب يعرف السلطان والأمراء أن أكثر عسكر طرابلس مقيم بدمشق، وطلب أن يكتب لنائب الشام يردهم إلى طرابلس، فكتب له بدلك. فشق على أرغون شاه أن ألجيبغا لم يكتب إليه يسأله، وإنما كتب إلى السلطان والأمراء دونه، وكتب إلى ألجيبغا بالإنكار عليه، وأغلظ له في القول، وحمل البريد إليه مشافهة شنيعة؛ فقامت قيامة ألجيبغا عند سماعها، وفعل ما فعل.
ولما قدم خبر قتل الأمير أرغون شاه ارتاع الأمراء، واتهم بعضهم بعضا. فخلف كل من شيخو والنائب بيبغا روس على البراءة من قتله، وكتبوا إلى ألجيبغا بأنه قتل أرغون بمرسوم من، وإعلامهم. بمستنده في ذلك؛ وكتب إلى أمراء دمشق بالفحص عن هذه الواقعة.
وكان ألجيبغا وأياس قد وصلا إلى طرابلس، وخيما بظاهرها فقدمت في غد وصولهما كتب أمراء دمشق إلى أمراء طرابلس بالاحتراز على ألجيبغا حتى يرد مرسوم السلطان، فإنه فعل فعلته بغير مرسوم السلطان، " ومشت حليته علينا " ، وكتبوا إلى نائب حماة ونائب حلب وإلى العربان.بمسك الطرقات عليه. فركب عسكر طرابلس بالسلاح، ووقفوا تجاه ألجيبغا، وأحاطوا به. فوافاهم كتاب السلطان بمسكه، وقد صار عن طرابلس، فساروا خلفه إلى نهر الكلب عند بيروت، فإذا أمراء العربان، وأهل بيروت واقفون في وجهه. فوقف ألجيبغا نهاره، ثم كر راجعاً، فقابله عسكر طرابلس، فقبض عليه وفر أياس، فلم يقدر عليه. ووقعت الحوطة على مماليك ألجيبغا وأمواله، وأخذ الذي كتب الكتاب بقتل أرغون شاه، فاعتذر بأنه أكره على ذلك، وأنه غير الألقاب وكتب أوصال الكتاب مقلوبة حتى يعرف أنه مزور. وحمل ألجيبغا مقيد إلى دمشق. فقبض نائب بعلبك على أياس، وقد حلق لحيته ورأسه واختفي عند بعض البصارى، وبعث إلى دمشق فحبسا بقلعتها، وكتب بذلك إلى السلطان والأمراء.
وكان قد ركب الأمير قجا السلاح دار البريد إلى دمشق بأمر السلطان، فأخرج أياس وألجيبغا ووسطهما، وعلقهما على الخشب يوم الخميس حادي عشري ربيع الآخر. وكان عمر ألجيبغا نحو تسع عشرة سنة، وهو ما طر شاربه.
وفيه كتب باستقرار الأمير أرقطاى نائب حلب في نيابة الشام، عوضا عن أرغون شاه. واستقر الأمير قطليجا الحموي نائب حماة في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرقطاى واستقر أمير مسعود بن خطير في نيابة طرابلس، عوضا عن ألجيبغا المظفري.
وفيه قدم طلب أرغون شاه ومماليكه وموجوده، ثم وصل طلب ألجيبغا ومماليكه وأمواله وأموال أياس؛ فتصرف الوزير منجك في الجميع.
وفيه قدم الخبر.بموت الأمير أرقطاي نائب الشام، فكتب باستقرار الأمير قطليجا نائب حلب في نيابة الشام، وتوجه ملكتمر المحمدي بتقليده. فقدم الخبر بأن ملكتمر المحمدي قدم حلب وقطليجا متغير المزاج، فأخرج ثقله بريد دمشق، وأقام بظاهر حلب مدة أسبوع ومات، فأراد بيبغا روس النائب منجك إخراج الأمير طاز لنيابة الشام، والأمير مغلطاي أمير آخور لنيابة حلب؛ فلم يوافقا على ذلك، وكادت الفتنة أن تقع. فخلع على الأمير أيتمش الناصري واستقر في نيابة الشام، عوضاً عن قطليجا، في يوم الجمعة سادس عشرى جمادى الأولى، وتوجه إليها وخرج الأمير قماري الحموي إلى دمشق، وجمع أمراءها، وقبض على كثير منهم، وقيدهم وسجنهم.
وفي هذه الأيام: توقفت أحوال الدولة، وقطعت مرتبات الناس من اللحم والشعير، وصرف للماليك السلطانية عن كل أردب شعير خمسة دراهم، وقيمته اثنا عشر درهما.
وفي عاشر جمادى الآخر: خرحت التجريدة إلى قتال العشير والعربان. وسببه كثرة فسادهم ببلاد القدس ونابلس. وكان قد قبض على أدى بن فضل أمير جرم، وسجن بقلعة الجبل، ثم أفرج عنه بعناية الوزير منجك. فجمع أدى وقاتل سنجر بن علي أمير ثعلبة فمالت حارثة مع أدى، ومالت بنو كنانة مع سنجر، وجرت بينهم حروب كثيرة، قتل فيها خلائق، وفسدت الطرقات على المسافرين. فخرحت إليهم عساكر دمشق، فلم يعبئوا بهم. فلما ولي الأمير يلجك غزة استمال أدى بعد أيام، وعضده على ثعلبة؛ واشتدت الحروب بينهم، وفسدت أحوال الناس. فركب يلجك بعسكر غزة ليلا، وطرق ثعلبة، فقاتلوه وكسروه كسرة قبيحة، وألقوه عن فرسه إلى الأرض، وسحبوه إلى بيوتهم فقام سنجر بن علي أمير ثعلبة عليهم حتى تركوا قتله، بعد أن سلبوا ما عليه، وبالغوا في إهانته، ثم أفرجوا عنه بعد يومين فعاد يلجك إلى غزة، وقد اتضع قدره وتقوى العشير.بما أخذوه من عسكره، وعز حانبهم، فقصدوا الغور، وكبسوا القصير المعيني، وقتلوا به جماعة كثيرة من الجبلية وعمال المعاصر، ونهبوا جميع ما فيه من القنود والأعمال والعسكر وغيره، وذبحوا الأطفال على صدر الأمهات. وقطعوا الطرقات، فلم يدعوا أحداً يمر من الشام إلى مصر حتى أخذوه. وقصدوا القدس، فخلى الناس منه ومن الخيل ثم قصدوا الرملة ولد فانتهبوها؛ وزادوا في التعدي، وخرحوا عن الحد، والأخبار ترد بذلك.
فوقع الاتفاق على ولاية الأمير سيف الدين دلنجي نيابة غزة، وأبقى على إقطاعه بمصر، وخلع عليه وأخرج إليها وكتب بخروج ابن صبح من دمشمق على ألفي فارس، وتجهز الوزير منجك ومعه ثلاثة أمراء من المقدمين، وهم المحمدي وأرغن الكاملي وطقتمر فسار قبلهم لاجين أمير آخور في جماعة من طريق عقبة أيلة، في يوم السبت رابع عشره.
وبينما الوزير ومن معه في أهبة السفر إذ قدم الخبر أن الأمير قطيلجا توجه من حماه إلى نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرقطاي فوحد طلب أرقطاى وقد برز خارج حلب يريد القاهرة، فأعاقه لعمل محاسبة إقطاع النيابة بحلب، وركب بحلب موكبا. ثم ركب الأمير قطليجا الموكب الثانى، ونزل وفي بدنه تغير؛ فلزم الفراش أسبوعاً ومات. فسأل أرغون الكاملي أن يستقر عوضه في نيابة حلب، فأجيب إلى ذلك، وخلع عليه في يوم الخميس؛ وأنعم بتقديمة على الأمير قطلوبغا الذهبي، ورسم بسفره في يوم الخميس المذكور.
وخرج الوزير منجك في تجمل عظيم، وقد كثرت القالة في أنقضاء مدته ومدة أخيه الأمير بيبغا روس، وأن الأمير شيخو وطاز ومغلطاي وغيرهم من الأمراء قد اتفقوا عليهما حتى بلغهما ذلك، وأن الوزير منجك قصد إبطال التجريدة.
وهذا وقد قدم الوزير النجابة لكشف أخبار العشيرة، فلما رحل عن بلبيس عادت نجابته بأن ثعلبة ركبت بأجمعها، ودخلت برية الحجاز، لما بلغهم مسير العسكر إليهم، فنهب أدى كثيراً منهم، وانفرد في البلاد بعشيرة. فعاد الوزير.بمن معه، وعبر القاهرة في ثاني عشريه بعد أربعة أيام. وكان قد حصل للوزير في هذه الحركة من تقادم الكشاف والولاة والأمراء والمباشرين ما ينيف على مائة ألف دينار، فتلقته العامة بالشموع، وابتهجوا بقدومه، وأتته الضامنة بجميع أرباب الملاهي، وكان من الأيام المشهورة.
وفي مستهل رجب: قدم الخبر بأن الأمير دلنجي نائب غزة بلغه كثرة جميع العشير، وقصدهم نهب لد والرملة؛ فركب إليهم ولقيهم قريباً من لد، منزل تجاههم، وما زال يراسلهم ويخدعهم حتى قدم إليه نحو المائتين من أكابرهم، فقبضهم وعاد إلى غزة، وقد تفرق جمعهم، فوسطهم كلهم.
وفيه توحه طلب الأمير أرغون الكاملي إلى حلب.
وفيه قدم طلب الأمير أرقطاى مع ولده وفي يوم الخميس مستهل شعبان: خرج الأمير قبلاي الحاجب.بمضافيه من الطبلخاناه والعشرات إلى غزة، لأحد شيوخ العشر.
وفي هذا الشهر: غير الوزير ولاة الوجه القبلي، وكتب بطلبهم، وعزل مازان من الغربية بابن الدواداري.
وفيه أضيف كشف الجسور إلى ولاة الأقاليم.
وفيه أعيد فار السقوف إلى ضمان جهات القاهرة ومصر بأجمعها، وكان قد سجن في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، وكتب على قيده مخلد، بعد ما صودر وضرب بالمقارع لقبح سيرته. فلم يزل مسجونا إلى أن أفرج عن المحابيس في أيام الصالح إسماعيل، فافرج عنه في جملتهم، وانقطع إلى أن اتصل بالوزير منجك واستماله، فسلمه الجهات بأسرها، وخلع عليه، ومنع مقدمي الدولة من مشاركته في التكلم في الجهات، ونودى له في القاهرة ومصر، فزاد في المعاملات ثلاثمائة ألف درهم في السنة.
وفيه قدم الأمير قبلاي غزة، فاحتال على أدى حتى قدم عليه، فأكرمه وأنزله، ثم رده بزوادة إلى أهله فاطمأنت العشرات والعربان لذلك، وبقوا على ذلك إلى أن أهل رمضان. حضر أدى في بنى عمه لتهنئة قبلاي بشهر الصوم فساعة وصوله اليه قبض عليه وعلى بني عمه الأربعة، وقيدهم وسجنهم، وكتب إلى على بن سنجر: " بأني قد قبضت على عدوك ليكون لي عندك يد بيضاء، فسر سنجر بذلك، وركب إلى قبلاى، فتلقاه وأكرمه، فضمن له سنجر درك البلاد. ورحل قبلاى من غده ومعه أدى وبنو عمه يريد القاهرة، فقدم في يوم الإثنين حادي عشره، فضربوا على باب القلة بالمقارع ضرباً مبرحاً وألزم أدى بألف رجل ومائتي ألف درهم، فبعث إلى قومه بإحضارها، فلما أخذت سمر هو وبنو عمه في يوم الإثنين خامس عشريه وقت العصر، وسيروا إلى غزة صحبة جماعة من أجناد الحلقة، فوسطوا بها. فثار أخو أدى، وقصد كبس غزة، فخرج إليه الأمير دلنجى ولقيه على ميل من غزة، وحاربه ثلاثة أيام، وقتله في اليوم الرابع بسهم أصابه، وبعث دلنجي بذلك إلى القاهرة، فكتب بخروج نائب صفد ونائب الكرك لنجدته، وفي مستهل شوال: توجه السلطان إلى الأهرام على العادة.
وفيه كثر الإنكار على الوزير منجك، فإنه أبطل سماط العيد، واحتج بأنه يقوم بحملة كبيرة تبلغ خمسين ألف في درهم، وتنهبه الغلمان، وكان أيضا قد أبطل سماط شهر رمضان.
وفي هذا الشهر: فرغت القيسارية التي أنشأها تاج الدين المناوي، بجوار الجامع الطولوني، من مال وقفه، وتشتمل على ثلاثين حانوتا.
وفيه خرج ركب الحاج على العادة، صحبة الأمير فارس الدين، ومعه عدة من مماليك الأمراء. وحمل الأمير فارس الدين معه مالا من بيت المال، ومن مودع الحكم، لعمارة عين جوبان.بمكة، ومبلغ عشرة آلاف درهم للعرب بسبب العين المذكورة، ورسم أن تكون مقررة لهم في كل سنة. وخرج معه حاج كثير جداً، وحمل الأمراء من الغلال في البحر إلى مكة عدة آلاف أردب.
وفي مستهل ذي القعدة: قدم كتاب الأمير دلنجى نائب غزة بتفرق العربان، ونزول أكثرهم بالشرقية والغربية من أرض مصر، لربط إبلهم على البرسيم. فكبست البلاد عليهم، وقبض على ثلاثمائة رجل، وأخذ لهم ثلاثة آلاف جمل. ووحد عندهم كثير من ثياب الأجناد وسلاحهم وحوائصهم، فاستعمل الرجال في العمائر حتى هلك أكثرهم.
وفي نصفه: خرج الأمراء لكشف الجسور، فتوجه الأمير أرنان للوحه القبلي، وتوجه أمير أحمد قريب السلطان للغربية، وتوحه الأمير آقجبا للمنوفية، وتوجه أراى أمير آخور للشرقية، وتوجه أحد أمراء العشرات لأشمون.
وفيه توقف حال الدولة، فكثر الكلام من الأمراء والمماليك السلطانية والمعاملين والخوشكاشية
وفيه طلب الأمير مغلطاي أمير آخور زيادة على إقطاعه، فكشف عن بلاد الخاص، فدل ديوان الجيش على أنه لم يتأخر منها سوى الإسكندرية ودمياط وقوة وفارس كور، وخرج باقيها للأمراء، وخرج أيضاً من الجيزة ما كان لديوان الخاص للأمراء. وشكا الوزير من كثرة الكلف والإنعامات، وأن الحوائج خاناه في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون مرتبها في كل يوم ثلاثة عشر ألف درهم، وهو اليوم اثنان وعشرون ألف درهم. فرسم بكتابة أوراق. بمتحصل الدولة ومصروفها، فبلغ المتحصل في السنة عشرة آلاف ألف درهم، والمصروف بديوان الوزارة وديوان الخاص أربعة عشر ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم، وأن الذي خرج من بلاد الجيزة على سبيل الإنعام زيادة على إقطاعات الأمراء نحو ستين ألف دينار. فتغاضى الأمراء عند سماع ذلك إلا مغلطاي أمير آخور، فإنه غضب وقال: " من يحاقق الدواوين على قولهم؟ " .
وفيه قدم طلب الأمير قطليجا الحموي من حلب، فوضع الوزير منجك يده عليه، وتصرف بحكم أنه وصي.
وفيه قدم الأمير عز الدين أزدمر الزراق من حلب، باستدعائه، بعد ما أقام بها مدة سنة من جملة أمراء الألوف، فأجلس مع الأمراء الكبار في الخدمة.
وفيه أخرج ابن طقزدمر إلى حلب؛ لكثرة فساده وسوء تصرفه.
وفيه خرج الأمير طاز لسرحة البحيرة، وأنعم عليه من مال الإسكندرية بألفي دينار.
وخرج الأمير صرغتمش أيضاً، فأنعم عليه منها بألف دينار.
ثم توجه الأمير بيبغا روس النائب للسرحة، وأنعم عليه بثلاثة آلاف دينار. وتوجه الأمير شيخو أيضا، ورسم له بثلاثة آلاف دينار.
وفيه أنعم على الأمير مغلطاي أمير آخور إرضاء لخاطره بناحية صهرجت زيادة على إقطاعه، وعبرتها عشرون ألف دينار في السنة فدخل الأمير شيخو في سرحته إلى الإسكندرية، فتلقته الغزاة بآلات السلاح، ورموا بالجرخ بين يديه، ونصبوا المنجنيق ورموا به. ثم شكوا له ما عندهم من المظلمة، وهي أن التاج إسحاق ضمن دكاكين العطر، وأفرد دكانا لبيع النشا فلا تباع بغيرها، وأفرد دكانا لبيع الأشربة فلا تباع بغيرها، وجعل ذلك وقفا على الخانكاه الناصرية بسرياقوس. فرسم بإبطال ذلك، وأطلق للناس البيع حيث أحبوا، وكتب مرسوم بإبطال ذلك وفي مستهل ذي الحجة: عوفي علم الدين عبد الله بن زنبور، وخلع عليه، بعد ما أقام أربعين يوماً مريضاً، تصدق فيها بثلاثين ألف درهم، وأفرج عن جماعة من المسجونين.
وفيه كتب الموفق ناظر الدولة أوراقا بما استجد على الدولة، من وفاة السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى المحرم سنة خمسين وسبعمائة، فكانت جملة ما أنعم به وأقطع - من بلاد الصعيد وبلاد الوحه البحري وبلاد الفيوم، وبلاد الملك، وأراضي الرزق - للخدام والجواري وغيرهن سبعمائة ألف الف أردب، وألف ألف وستمائة ألف درهم، معينة بأسماء أربابها من الأمراء والخدام والنساء، وعبرة البلد ومتحصلها، وجملة عملها وقرئت على الأمراء، ومعظم ذلك بأسمائهم، فلم ينطق أحد منهم بشىء.
وفيه أبطل الوزير منجك سماط عيد النحر أيضاً.
وفيها أبطل ما أحدثه النساء من ملابسهن. وذلك أن الخواتين نساء السلطان وجواريهن أحدثن قمصانا طوالا تخب أذيالها على الأرض، بأكمام سعة الكم منها ثلاثة أذرع، فإذا أرخته الواحدة منهن غطى رجلها، وعرف القميص منها فيما بينهن بالبهطلة، ومبلغ مصروفه ألف درهم فما فوقها. وتشبه نساء القاهرة بهن في ذلك، حتى لم يبق امرأة إلا وقميصها كذلك. فقام الوزير منجك في إبطالها، وطلب والي القاهرة ورسم له بقطع أكمام النساء، وأخذ ما عليهن.
ثم تحدث منجك مع قضاة القضاة بدار العدل يوم الخدمة بحضرة السلطان والأمراء فيما أحدثه النساء من القمصان المذكورة، وأن القميص منها مبلغ مصروفه ألف درهم، ؛ وأنهن أبطلن لبس الإزار البغدادي، وأحدثن الإزار الحرير بألف درهم، وأن خف المرأة وسرموزتها بخمسمائة درهم. فأفتوه جميعهم بأن هذا من الأمور المحرمة التى يجب منعها، فقوى بفتواهم، ونزل إلى بيته، وبعث أعوانه إلى بيوت أرباب الملهى، حيث كان كثير من النساء، فهجموا عليهن، وأخذوا ما عندهن من ذلك.
وكبسوا مناشر الغسالين ودكاكين البابية، وأخذوا ما فيها من قمصان النساء، وقطعها الوزير منجك. ووكل الوزير مماليكه بالشوارع والطرقات، فقطعوا أكمام النساء، ونادى في القاهرة ومصر.بمنع النساء من لبس ما تقدم ذكره، وأنه متى وجدت امرأة عليها شىء مما منع أخرق بها وأخذ ما عليها.
واشتد الأمر على النساء، وقبض على عدة منهن، وأخذت أقمصتهن. ونصبت أخشاب على سور القاهرة بباب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، وعلق عليها تماثيل معمولة على صور النساء، وعليهن القمصان الطوال، ارهابا لهن وتخويفا.
وطلبت الأساكفة، ومنعوا من بيع الأخفاف والسراميز المذكورة، وأن تعمل كما كانت أولا تعمل، ونودي من باع إزاراً حريراً أخذ جميع ماله للسلطان. فانقطع خروج النساء إلى الأسواق، وركوبهن حمير المكارية، وإذا وجدت امرأة كشف عن ثيابها. وامتنع الأساكفة من عمل أخفاف النساء وسراميزهن المحدثة، وانكف التجار عن بيع الأزر الحرير وشرائها، حتى إنه نودي على إزار حرير بثمانين درهماً فلم يلتفت له أحد، فكان هذا من خير ما عمل.
وفيه استقر جمال الدين يوسف المرداوي في قضاء الحنابلة بدمشق، بعد وفاة علاء الدين على بن أبي البركات بن عثمان بن أسعد بن المنجا.
وفيه استقر نجم الدين محمد الأزرعي في قضاء الشافعية بحلب، بعد وفاة نجم الدين عبد القاهر بن أبي السفاح.
وفيه توقف النيل، ثم زاد حتى كان الوفاء في جمادى الآخرة. ثم نقص نحو ثلثي ذراع، وبقى على النقص إلى النوروز، وهو ستة عشر ذراعا وإحدى وعشرين اصبعاً. ثم رد النقص وزاد إصبعين، فبلغ ستة عشر ذراعاً وثلاثاً وعشرين اصبعاً في يوم عيد الصليب.
وفيه أضاع الولاة عمل الجسور، وباعوا الجراريف حتى غرق كثير من البلاد.
ومع ذلك امتدت أيديهم إلى الفلاحين، وغرموهم ما لم تجر به عادة؛ فشكى من الولاة للوزير، فلم يلتفت لمن شكاهم.
ومات فيها من الأعيانشيخ الإقراء شهاب الدين أحمد بن موسى بن موسك بن جكو الهكاري بالقاهرة، عن ست وسبعين سنة، في ثاني عشر جمادى الأولى. وكتب بخطه كثيراً، ودرس القراءات والحديث ومات النحوى شهاب الدين أحمد بن سعد بن محمد بن أحمد النشائي الأندرشي بدمشق، وله شرح سيبويه في أربعة أسفار.
ومات مكين الدين إبراهيم بن قروينة بعد ما ولي استيفاء الصحبة ونظر البيوت، ثم ولي نظر الجيش مرتين، وصودر ثلاث مرات، وأقام بطالا حتى مات ومات الأمير أرغون شاه الناصري نائب الشام، مذبوحا، في ليلة الخميس رابع ربيع الأول رباه السلطان الناصر محمد بن قلاون حتى عمله أمير طبلخاناه رأس نوبة الجمدارية؛ ثم استقر بعد وفاته أستادارا أمير مائة مقدم ألف، فتحكم على المظفر شعبان حتى أخرجه لنيابة صفد، وولي بعدها نيابة حلب، ثم نيابة الشام. وكان جفيفاً قوي النفس شرس الأخلاق، مهابا جائراً في أحكامه، سفاكا للدماء غليظاً فحاشاً كثير المال وأصله من بلاد الصين، حمل إلى أبو سعيد بن خربندا، فأخذه دمشق خواجا بن جوبان، ثم ارتجعه أبو سعيد بعد قتل جربان، وبعث به إلى مصر هدية، ومعه ملكتمر السعيدى ومات الأمير أرقطاى المنصورى بظاهر حلب، وهو متوجه إلى دمشق، عن نحو ثمانين سنة، في يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى. وأصله من مماليك المنصور قلاوون، رباه الطواشي فاخر أحسن تربية، إلى أن توجه الناصر محمد بن قلاوون إلى الكرك كان معه. فلما عاد إليه ملكه جعله من جملة الأمراء، ثم سيره صحبة الأمير تنكز نائب الشام، وأوصاه ألا يخرج عن رأيه، وأقام عنده مدة. ثم تنكر عليه السلطان الناصر محمد، فولاه نيابة حمص مدة سنتين ونصف، ثم نقله لنيابة صفد، فأقام بها ثماني عشر سنة. وقدم مصر، فأقام بها عدة سنين، وجرد إلى أياس. ثم ولي نيابة طرابلس، ومات الناصر محمد وهو بها. ثم قدم مصر، وقبض عليه، ثم أفرج عنه، وأقام مدة. ثم ولي نيابة حلب، ثم طلب إلى مصر، فصار رأس الميمنة. ثم ولى نيابة السلطنة نحو سنتين، ثم أخرج لنيابة حلب، فأقام بها مدة. ثم نقل لنيابة الشام، فمات في طريقه لدمشق، فدفن بحلب، وكان مشكور السيرة ومات الأمير ألجيبغا المظفري نائب طرابلس، موسطاً بدمشق، في يوم الإثنين ثامن عشر ربيع الآخر.
وقتل معه أيضاً الأمير أياس وأصله من الأرمن، أسلم على يد الناصر محمد بن قلاوون، فرقاه حتى عمله شاد العمائر، ثم أخرحه إلى الشام، ثم أحضره غرلو، وتنقل إلى أن صار شاد الدواوين. ثم صار حاجباً بدمشق، ثم نائبا بصفد، ثم نائبا بحلب، ثم أميراً بدمشق، حتى كان من أمره ما تقدم ذكره ومات بدمشق الأمير طقتمر الشريفي بعد ما عمى.
ومات قاضى الشافعية بحلب نجم الدين عبد القاهر بن عبد الله بن يوسف بن أبي السفاح.
وتوفي نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن علي القرشي الأصفوني الشافعي،.بمنى في ثالث عشر ذي الحجة. ودفن بالعلاء، وله مختصر الروضة وغيره.
وتوفي قاضي القضاة علاء الدين علي بن الفخر عثمان بن إبراهيم بن مصطفى المارديني، المعروف بابن التركماني الحنفي في يوم الثلاثاء عاشر المحرم بالقاهرة. وله كتاب الرد النقي في الرد على البيهقي وغيره، وله شعر، وكان الناصر محمد بن قلاون يكره منه اجتماعه بالأمراء، وكان يغلو في مذهبه غلواً زائداً.
وتوفي قاضي الحنابلة بدمشق، علاء الدين علي بن الزبن أبي البركات بن عثمان ابن أسعد بن المنجا التنوخي، عن ثلاث وسبعين سنة.
ومات الأمير قطليجا الحموي أصله المملوك المؤيد صاحب حماة، فبعثه إلى الناصر محمد بن قلاون، وترقى صار من جملة الأمراء. ثم ولي نيابة حماة، ونقل إلى نيابة حلب، فأقام بها أياما ومات، وكان سيىء السيرة.
وتوفي قاضى القضاة تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي الأخنائي المالكي، في ليلة الثالث من صفر ومات الأمير نوغيه البدري والي الفيوم.
وماتت خوند بنت الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهي زوجة الأمير طاز. وتركت.مالا عظيماً، أبيع موجودها بباب القلة من القلعة بخمسمائة ألف درهم، من جملته فبقاب مرصع بأربعين ألف درهم، ثمنها ألف دينار مصرية.
ومات علم الدين بن سهلول. كان أبوه كاتباً عند بعض الأمراء، فخدم بعده أمير حسين بن جندر، ثم ولي الإستيفاء ونظر الدولة، شركة للموفق. ثم صودر ولزم بيته، وعمر دارا جليلة بحارة زويلة من القاهرة وفيها قام بتونس أبو العباس الفضل بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الواحد ابن أبي حفص في ذي القعدة، وكان فد قدم إلى تونس السلطان أبو الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن.يعقوب بن عبد الحق ملك بني مرين صاحب فاس، وملك تونس وإفريقية ثم سار منها للنصف من شوال، واستخلف ابنه أبا العباس الفضل؛ فقام أبو العباس المذكور وملك تونس ملك أبيه.
سنة إحدى وخمسين وسبعمائةأهل المحرم والناس في بلاد عظيم من فأر السقوف ضامن الجهات، فإنه أحدث حوادث قبيحة في دار البطيخ ودار السمك وسائر المعاملات، وزاد في ضرائب المكوس، وتمكن من الوزير منجك تمكنًا زائداً، حتى كان يقول: " هذا أخي " وكثرت الشكاية منه، ووقفت العامة فيه للسلطان، فلم يتغير الوزير عليه وفيه أوقع الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بكاتب سرها زين الدين عمر بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أبي السفاح وضربه وسجنه. فاستقر عوضه فيكتابة السر بحلب الشريف شهاب الدين الحسين بن محمد بن الحسين، المعروف بابن قاضي العسكر.
وفيه أوقع الشيخ حسن نائب بغداد والأمير حيار بن مهنا بطائفة من العرب، وقتل منهم نحو المائتين، وأسر كثيراً منهم، ففر عدة منهم إلى الرحبة. فطلب الأمير حيار من أزدمر النوري نائب الرحبة تمكينه منهم، فأبى عليه، فكتب فيه الأمير حيار إلى السلطان، فعزله، وفيه اقتتل موسى بن مهنا وسيف بن فضل، فانهزم سيف، ونهبت أمواله.
وفيه ابتدأت الوحشة بين الأمير مغلطاي أمير آخور وبين الوزير منحك، بسبب الفار الضامن، وقد شكى منه. فطلبه مغلطاي من الوزير عندما احتمى به، فلم يمكنه منه وفيه قدم صاحب حصن كيفا، والخواجا عمر بن مسافر، بعد غيبة طويلة. فسر به الأمير شيخو، لأنه هو الذي جلبه من بلاده، ونسب إليه، فقيل له شيخو العمري. وأكرم صاحب حصن كيفا، وروعي في متجره، وكان من جملته ثلاثمائة ألف جلد سنجاب. فقدم صاحب حصن كيفا عدة تقادم للأمراء، فبعثوا إليه.بمال كثير، و بعث إليه الأمير شيخو ألف دينار، وتعبئة قماش، وبعث إليه الوزير منجم بألفي دينار وقماش كثير، وأنزله في بيته، وبعث إليه الأمير بيبغا روس وغيره، ثم عاد بعد شهر إلى بلاده.
وفيه كمل صهريج الوزير منجك على الثغرة تحت القلعة، واشترى له من بيت المال ناحية بلقينة من الغربية بخمسة وعشرين ألف دينار، أنعم عليه بها، ووقفها على صهريجه. وكانت بلقينة مرصدة لجوامك الحاشية، فعوضوا عنها.
وفي رابع عشريه: قدم الأمير فارس الدين بالحجاج، وكانوا لما قدموا مكة نزلت ربهم شدة من غلاء الأسعاء وقلة الماء، بحيث أبيعت الراوية بعشرين درهما، حتى هموا بالخروج منها ونزول بطن مرو. فبعث الله في تلك الليلة مطرا استمر يومين وليلة، حتى امتلأت الآبار والبرك، وقدم عدة قوافل؛ فانحل السعر قليلا. وحصل لهم خود من عبور المدينة النبوية؛ وذلك أن الشريف أدى لما عزل بالشريف سعد، جمع العربان، وهجم المدينة قبل قدوم سعد إليها، وأخذ أموال الخدام وودائع الشاميين وقناديل الحجرة الشريفة وأموال الأغنياء وغيرهم، وخرج.
وفيه أفرج عن عيسى بن حسن الهجان، وكان قد قبض عليه وسجن، بسبب أنه مالا هو وعربه جماعة العايد المفسدين من العربان، وأحيط بأمواله. وكان فد كثرت سعادته، فإنه كان مع الناصر محمد بن قلاوون في الكرك، فلما عاد إليه ملكه سلمه الهجن وحكمه فيها، فطالت أيامه وكثرت أمواله. وتسلم بعده الهجن جمال الدين نفر، فقام الوزير حتى أفرج عنه، ورد عليه إقطاعه، وأنعم على جماعة من عربه بإقطاعات.
وفي مستهل صفر: قدمت رسل أرتنا نائب الروم، وسأل أن يكتب له تقليد نيابة الروم على عادته، فكتب له، وأكرم رسوله.
وفيه تنافس الوزير منجك والأمير مغلطاي، واستعد كل منهما بأصحابه للآخر، فقام الأمير شيخو حتى أخمد الفتنة.
وفي يوم الجمعة ثاني عشريه: وقت الصلاة وقعت نار بخط البندقانيين من القاهرة، فأحرقت دار هناك. فركب الأمير علاء الدين علي بن الكوراني لإطفائها على العادة، وكان الهواء شديداً، والدور متلاصقة، فاشتد لهب النار بحيث رؤى من القلعة. فركب الوزير منجك، والأمير بيبغا روس النائب، والأمير شيخو، والأمير طاز، والأمير مغلطاى، والأمير قبلاى حاجب الحجاب، وغيرهم من الأمراء بمماليكهم، وأتوا إلى الحريق، ونزلوا عن خيولهم، ومنعوا العامة من النهب فامتدت النار من دكاكين البندقانيين إلى دكاكين الرسامين ودكاكين الفقاعين والفندق المجاور لها، والربع علوة. وتعلقت.بما نجاه ذلك من الدور المجاورة لبيت المظفر بيبرس الجاشنكير، فأحرقت الربع، واتصلت بزقاق الكنيسة إلى بيت كريم الدين بن الصاحب أمين الدين، إلى بير الدلاء التي كانت تعرف قديما ببئر زويلة فأحرقت النار الدكاكين والربع المجاور لدار الجوكندار، ولم يبق إلا أن تصل إلى دار علاء الدين على بن فضل الله كاتب السر وعظم الأمر، والأمراء جميعهم على أرجلهم.بمن معهم، والمقيدون بالمساحي بين أيديهم تهدم الدور وتطفي النار، والناس في أمر مريج.
وبينا أصحاب الدار في نقلة متاعهم خوفا من وصول النار إليهم، إذا بالنار قد ظهرت عندهم، فينجون بأنفسهم، ويتركون أموالهم، حتى شمل الهدم والحريق ما هنالك من العمائر. ولم يبق بالقاهرة سقاء إلا وأحضر لإطفاء الحريق، وكانت الجمال تحمل الروايا بالماء من باب زويلة إلى البندقانيين. واستمرت النار يومين وليلتين، وجميع الأمراء وقوف حتى خف اللهب. فوكل بالحريق بعض الأمراء مع الوالي، ومضى بقيتهم إلى بيوتهم، وبهم من التعب ما لا يوصف. فأقامت النار بعد انصرافهم ثلاثة أيام وهي تطفا، فكان حريقا مهولا، ذهب فيه من الأموال ما لا ينحصر.
وامتد الحريق إلى قيسارية طشتمر وربع بكتمر، ثم صارت النار توجد بعد ذلك في مواضع عديدة من القاهرة وظواهرها. ووجد في بعض المواضع التي بها الحريق كعكات زيت ومطران، ووجد في بعضها نشابة في وسطها نفط. وكان أكثر الأماكن تقع النار بسطحها، و لم يعرف من فعل ذلك فنودي باحتراس الناس على أملاكهم من الحريق، فلم يبق جليل ولا حقير حتى اتخذ عنده أوعية ملأها ماء. و لم يزل الحريق في الأماكن إلى أثناء شهر ربيع الأول، فقبض في هذه المدة على كثير من أوباش العامة، وقيدوا ليكونوا عونا على إطفاء الحريق، ففر معظمهم من القاهرة. ثم نودي ألا يقيم بالقاهرة غريب، ورسم للخفراء تتبعهم وإحضارهم.
وتعب والي القاهرة في مدة الحريق تعباً لا يوصف، فإنه أقام مدة شهر لا يكاد ينام هو وحفدته، فإنه لا يخلو وقت من صيحة تقع بسبب الحريق، فذهبت دور كثيرة. ثم وقع بعد شهر. بمصر حريق في شونة حلفاء، بجوار مطابخ السلطان وبعدة أماكن.
وفي يوم السبت حادي عشرى ربيع الأول: سمر حمام وعبده الذي كان يحمل سلاحه، وثلاثة نفر. وكان قد عظم فساده، وكثر هجومه على الدور وأخذ ما فيها وقتل من يمنعه، وأعيا الولاة أمره حتى أوقعه الله وكفى شره.
وفي أول ربيع الآخر: قبض على أحمد بن أبي ريد، ومحمد بن يوسف، مقدمي الدولة. وسبب ذلك أن ابن يوسف حج في السنة الماضية على ستة قطر جمال، وثلاثة قطر هجن بطبل وبيزه كما حج الأمراء، بحيث كان معه نحو مائتي عليقة. ولما قدم ابن يوسف إلى القاهرة أهدى للوزير منجك، والنائب بيبغا روس، والأمير طاز والأمير صرغتمش، الهدايا الجليلة القدر، و لم يهد إلى الأمير شيخو، ولا إلى الأمير مغلطاي شيئا. فعاب عليه الناس ترك مهاداة شيخو، فحمل إليه بعد مدة هدية سنية، فردها عليه وقال: " هذا ماله حرام " . ثم يعد أيام وقف جماعة من الأجناد، وشكوا في الولاة طمعهم وفساد البلاد، فأنكر الأمراء على الوزير منج سيرة ولاة الأعمال، وتعرضوا لهم بأنهم ولوا بالبر أطيل، فاحتاجوا إلى نهب أموال الناس وأخذ الأمير شيخو في الحط على مقدمي الدولة، وأنكر كثرة ما أنفقه ابن يوسف في حجته، وأن ذلك جميعه من مال السلطان فقام الأمراء في مساعدة شيخو، وعددوا ما يشتمل عليه ابن يوسف من لعبه ولهوه وانهماكه في اللذات، فلم يجد الوزير بدا من موافقتهم على عزل الولاة، ومسك المقدمين أحمد بن أبي زيد ومحمد بن يوسف، فقبض عليهما، وألزما بحمل المال وطلب ابن سلمان متولي المنوفية، وألزم.بمال، واستقر عوضه ابن فنغلي واستقر في ولاية الشرقية ابن الجاكي، وعزل أسندمر منها.
وفي يوم الخميس رابع عشريه: خرج إلى الأطفيحية سبعة أمراء ألوف، وعشرون أمير طبلخاناه، وقت العصر بأطلابهم، فيهم الوزير منجك والأمير طاز وسبب ذلك أن الأمير بيبغا روس فأمر بهم، فقيدوا وحبسوا وأعاده النائب إلى الأطفيحية، فقبض الأمير.
عرب بن الشيخي كان بالإطفيحية مقيماً بها، فاستمال العرب حتى وثقوا به، وأتاه منهم نحو عشرين رجلا، فقبض عليهم وركب بهم إلى القاهرة، وأوقفهم بين يدي النائب الأمير عرب بن الشيخي على خمسة أخر وقيدهم، فأتاهم ليلا عدة من العربان وفكوا قيودهم، وكبسوا خيمته، ففر إلى القاهرة، ومالوا على موجوده وانتهبوه. فعظم ذلك على الأمراء، وخرجوا إلى الأطفيحية. وقد بلغ العرب خبرهم، فارتفعوا إلى الجبال، فقبض الأمراء على نحو مائة من الأوباش وأهل البلاد، وقطعوا جميع ما هناك من شجر المغل، وخربوا السواقي، وعادوا بعد ثلاثة أيام، في يوم الثلاثاء تاسع عشريه. فعادت العربان بعد رجوع العسكر، وأكثروا من قطع الطريق.
وفي نصف جمادى الأولى: وصلت أم الأمير بيبغا روس النائب، وأم الأمير أرغون الكاملي نائب حلب وأبوه، وعدة من أقاربهم. فركب النائب وتلقاهم من سرياقوس، وسر بهم.
وفيه أخرج أمير أحمد الساقي إلى حلب؛ لسوء سيرته في كشف الجسور بالغربية.
وفيه قدم قود جبار بن مهنا، وقود سيف بن فضل صحبته. ثم قدم الأمير جبار بعده، فأقام أياما وعاد إلى بلاده.
وفيه قدم كتاب الملك الأشرف دمرداش بن جوبان صاحب توريز، يتضمن السلام والتودد. فأكرم رسوله، وأعيد بالجواب، وأرسل السلطان بعده إليه والي الشيخ حسن صاحب بغداد رسولين.
وفيه قدم الخبر بان الأمير أرغون الكاملي نائب حلب ركب إلى التركمان، وقد كثر فسادهم، فقبض على كثير منهم، وأتلفهم، وأوقع بالعرب حتى عظمت مهابته ثم بعث موسى الحاجب على ألفي فارس في طلب نجمة أمير الأكراد، فلما قرب منه بعث صاحب ماردين يشير بعود العسكر، خوفاً من كسر حرمة السلطة. فعاد موسى الحاجب بهم إلى حلب، من غير لقاء. فتنكر الأمير أرغون على موسى الحاجب، وكتب يشكو منه وفيه قدم الخبر بأن الهذباني الكاشف واقع عرب عرك وبني هلال، فهزموه أقبح هزيمة، وجرحوا فرسه، وقتلوا عدة من أصحابه، وأخذوا الطلب.بما فيه من خيل وغيرها، وأنه نزل بسيوط، وطلب تجريد العسكر إليه؛ فاقتضى الرأي تأخير التجريدة حتى يفرغ تأخير الأراضي بالزرع.
وفي رجب:.سار ركب الحجاج الرجبية، فلقوا الشريف عجلان بالعقبة، وقد أخرجه أخوه ثقبة من مكة. فقدم عجلان إلى القاهرة، ودخل على السلطان، وطلب منه تجريد عسكر معه فلم يجب إلى ذلك. ورسم له بشراء مماليك، واستخدام الأجناد البطالين، فشرع في ذلك. وقدم كتاب أخيه ثقبة يشكو منه، فكتب لعجلان توقيع بإمرة مكة.بمفردة، واشترى أربعين مملوكا، واستخدم عشرين جندياً، وأنفق فيهم خمسمائة درهم كل واحد، ثم استجد عجلان طائفة أحرى حتى صار في مائة فارس. وحمل معه حملين نشاباً وقسياً ونحوها، وسافر إلى مكة مستهل رمضان، فأخذ الأمير بيبعا روس والأمير طاز في الحركة للحج.
وفيه توجه السلطان لسرحة سرياقوس.
وفيه أنعم على الأمير قطلوبغا الذهبي بإقطاع الأمير لجحين أمير آخور، بعد إمرته، وأنعم لإمرته وتقدمته على عمر بن أرغون النائب.
وفيه أخرج بكلمش أمير شكار لنيابة طرابلس، عوضا عن أمير مسعود بن خطير، وكتب بإحضار أمير مسعود.
وفيه هجم ابن معين بعربه على الأطفيحية، فقاتله أهلها، فكسرهم بعد أن قتل منهم عدة قتلى كبيرة تبلغ المائتي رجل.
وفيه قدم حمل سيس بحق النصف؛ لخراب بلادهم.
وفيه قدم كتاب الشريف ثقبة، وصحبته محضر ثابت يتضمن الشكر من سيرته، وتكذيب عجلان فيما نقل عنه، فكتب باستقراره شريكا لأخيه عجلان.
وفيه كتب بعود أمير مسعود إلى دمشق بطالا، حتى ينحل من الإقطاع ما يليق به. فعاد من الرملة إلى دمشق، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه، ورسم بجلوسه فوق الأمراء المقدمين.
وفيه خلع على الأمير فارس الدين ألبكي، واستقر في نيابة غزة، بعد موت دلنجي وأنعم بإمرته على أخيه، وأنعم على قطليجا الدوادار بإمرة طبلخاناه.
وفيه قدم قرا وأشقتمر المتوجهين إلى الشيخ حسن، وإلى الأشرف دمرداش بن جوبان، بكتابيهما. وذكر الشيخ حسن في كتابه أن دمرداش إنما طلب الود مكراً منه، فإن رسوله إنما قدم مصر لكشف أمر عسكرها، فإنه طمع في أخذ البلاد.
وفيه توجه الأمير طاز لسرحة البحيرة، وأنعم عليه بعشرة آلاف أردب شعير وخمسين ألف درهم بناحية طموه من الجيزية، زيادة على إقطاعه.
وفيه توجه السلطان إلى بر الجيزة؛ ليتم صوم شهر رمضان بها.
وفيه تواردت تقادم نواب الشام والأمراء بديار مصر على الأمير بيبغا روس؛ لحركته للحج.
وفي شوال: قدم السلطان من بر الجيزة إلى القلعة.
وفي خامس عشره: خرج محمل الحاج إلى بركة الحاج، صحبة الأمير بزلار أمير سلاح.
وخرج طلب الأمير بيبغاروس النائب بتجمل زائد، وفيه مائة وخمسون مملوكا معدة بالسلاح، وخرج طلب الأمير طاز، وفيه ستون فارسا. فرحل النائب قبل طاز بيومين، ثم رحل الأمير طاز بعده، ثم رحل بزلار بالحجاج ركباً ثالثاً في عشريه وفي يوم السبت رابع عشره: عزل الأمير منجك من الوزارة، وكان الأمير شيخو قد خرج إلى العباسة. وذلك أن السلطان بعد توجه الأمير شيخو طلب القضاة والأمراء، فلما اجتمعوا بالخدمة قال لهم: " يا أمراء هل لأحد على ولاية حجر، أو أنا حاكم نفسي؟ " . فقال الجميع: " يا خوند ما ثم أحد يحكم على مولانا السلطان، وهو مالك رقابنا. فقال: " إذا قلت لكم قولا ترجعوا إليه؟ " فقالوا جميعاً: " نحن في طاعة السلطان، وممتثلون ما يرسم به " . فالتفت إلى الحاجب، وقال: " خذ سيف هذا " . وأشار إلى منجك، فأخذ سيفه، وأخرج وقيد ونزلت الحوطة على أمواله مع الأمير كشلى السلاح دار، فوجد له خمسون حمل جمل زردخاناه، و لم يوجد له كثر مال، فرسم بعقوبته، ثم أخرج إلى الإسكندرية فسجن بها. وساعة قبض عليه رسم بإحضار الأمير شيخو من العباسة، على لسان بعض الجمدارية، وإعلامه.بمسك منجك. فقام الأمير منكلى بغا والأمير مغلطاي في منعه من الحضور، ومازالا يخيلان السلطان منه حتى كتب له مرسوم بنيابة طرابلس، على يد طينال الجاشنكير فلقيه طينال قريب بلبيس، وقد عاد صحبة الجمدارية، وأوقفه على المرسوم، فأجاب بالسمع والطاعة وبعث شيخو يسأل في الإقامة بدمشق، فكتب له بخبز الأمير بلك بدمشق وحضور بلك، فتوجه شيخو إليها وفيه قبض على الأمير عمر شاه الحاجب، وأخرج إلى الإسكندرية وفيه أنعم على الأمير طنيرق باستقراره رأس نوبة كبيراً
وفيه قبص على حواشي منجك، وعلى عبده عنبر البابا، وصودر. وكان عنبر البابا قد أفحش في سيرته مع الناس، وشره في قطع المصانعات، وترفع ترفعا زائدا. فضرب ضرباً مبرحا، وأخذ منه نحو سبعين ألف درهم وفيه ضرب بكتمر شاد الأهراء، فاعترف للوزير باثني عشر ألف أردب غلة، اشتراها منجك من أرباب الرواتب والصدقات، على حساب ستة دراهم الأردب وسبعة دراهم.
وفي مستهل ذي القعدة: قبض على ناظر الدولة والمستوفين، وألزموا بخمسمائة ألف دينار. فترفق في أمرهم الأمير طنيرق حتى استقرت خمسمائة ألف درهم، وزعها الموفق ناظر الدولة على جميع المباشرين، من الكتاب والشهود والشادين ونحوهم، وألزم كل منهم بحمل معلومه عن ستة أشهر. فاشتد شاد الدواوين في استخراحها، وأخرق بجماعة منهم والتزم علم الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاص والجيش بتكفية جميع الأمراء والمقدمين بالخلع من ماله، وقيمتها خمسمائة ألف درهم، وفصلها وعرضها على السلطان. فبعث السلطان بها إلى الأمراء، وركبوا بها الموكب، وقبلوا الأرض، فكان موكباً جليلا وفيه قبض على أسندمر كاشف الوجه القبلي، وناصر الدين محمد بن الدوادارى متولي المحلة والغربية، وألزم ابن الدواداري بحمل مائة ألف درهم.
وفيه قبض على الفأر الضامن، وضرب بالمقارع، وأخذ منه جملة مال، وسجن.
وفي يوم السبت ثامنه: خلع على الأمير بيبغا ططر حارس الطير، واستقر في نيابة السلطنة عوضا عن بيبغا روس، بعد ما عرضت على أكابر الأمراء، فلم يقبلها أحد. وتمنع بيبغا ططر تمنعاً كبيراً، ثم قبلها.
وفيه استقر الأمير مغلطاي رأس نوبة، عوضاً عن طينرق. وأطلق له التحدث في أمور الدولة كلها، عوضاً عن الأمير شيخو، مضافا إلى ما بيده من التحدث في الإصطبل.
وفيه استقر الأمير منكلى بغا الفخري رأس المشورة أتابك العساكر، وأنعم على ولده بإمرة. ودقت الكوسات وطبلخاناه الأمراء بأجمعها، وزينت القاهرة ومصر يوم الأحد تاسعه، واستمرت ثمانية أيام وفيه قدم الخبر صحبة الأمير طشبغا الدوادار من دمشق، بأن الأمير شيخو لما قدم دمشق ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة، أظهر طينال كتابا بأن يستقر شيخو على إمرة بلك السلامي، وتجهز بلك إلى القاهرة. فقدم من الغد الأمير أرغون التاجي بإمساكه، فقيد وأخرج من دمشق. وكان شيخو لما قدم تلقاه النائب وأخرج له كتاب السلطان.بمكة، وإرساله صحبة الأمير طيلان. فحل شيخو سيفه بيده، وقال: " وأي حاجة إلى غدونا إلى الشام، كفي هتكنا في مصر. ثم قال للنائب: " والله يا أمير ما أعرف لي ذنباً غير أني كنت جسرا بينهم، أمنع بعضهم من الوصول إلى بعض " ، فقيد، وتسلمه طيلان ليسير به إلى مصر، وسلم سيفه لطشبغا وفيه قبض على ملك آص شاد الدواوين، وعلى شهاب الدين أحمد بن علي بن صبح؛ وتسلم سيفهما طشبغا.
وفيه أركب قطلوبغا، فخرج أخوه مغلطاي رأس نوبة إلى لقائه.
وفيه قدم الأمير شيخو إلى قطيا، فتوجه به متسلمه منها إلى الطينة وأوصله إلى الإسكندرية، فسجن بها.
وفيه خلع على طشبغا، واستقر على ما كان عليه دواداراً. وتصالح هو وعلاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر بحضرة الأمراء، وبعث كل منهما إلى الآخر هدية. وكان لما أمسك منجك خرج الأمير قردم إلى الأمير طاز وأمير بزلار أمير الركب بكتاب السلطان، يتضمن القبض على الوزير منجك، وأنهما يحترسان على الأمير بيبغاروس.وكتب يبغا روس بتطييب خاطره وإعلامه بتغير السلطان على أخيه لأمور صدرت منه اقتضت مسكه، وأنه مستمر على نيابة السلطنة، فإن أراد العود عاد، وان أراد الحج حج. فركب الأمير قردم يوم القبض على الوزير منجك الهجن وقت العصر، وأوصل طاز وبزلار كتابيهما، ومضى إلى بيبغاروس وقد نزل سطح العقبة. فلما قرأ بيبغاروس الكتاب وجم، ثم قال: " كلنا مماليك السلطان " ، وخلع على الأمير قردم، وكتب جوابه بأنه ماض لأداء الحج. ثم إن السلطان رسم للأمير صرغتمش أن يدخل الخدمة مع الأمراء، بعد أن عزله من وظيفة الجمدارية، هو وأمير على، وكانا من جملة حاشية شيخو.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشره: أمسك الأمير عمر شاه الحاحب، والأمير آقبغا البالسي. وأخرج عمر شاه إلى الإسكندرية، ونفي أقبغا البالسي وطشتمر القاسمي إلى طرابلس. وأخرج أمير على إلى الشام، وأخرج الأمير صرتمش لكشف الجسور بالصعيد.
وفيه ألزم أستادار بيبغا روس بكتابة حواصله، وندب الأمير؛ آقجبا الحموي لبيع حواصل منجك. وأخذت جواري النائب بيبغا روس ومماليكه، وجواري منجك ومماليكه، إلى القلعة. وطلع من مماليك منجك خمسة وسبعون مملوكاً صغاراً، وطلع من جواري بيبغا روس خمس وأربعون جارية، فلما وصلن إلى دار النيابة بالقلعة صحن صيحة واحدة، وبكين فأبكين من هناك.
وفي يوم الجمعة رابع عشره: نفي ابن العرضي إلى حماة، بعد ما صورد.
وفيه خلع على بابان السناني نائب البيرة، وقد حضر منها، واستقر أستادارا، عوضا عن الأمير منجك الوزير.
وفيه قدم الخبر أن الأمير أحمد الساقي نائب صفد خرج عن الطاعة. وسببه أنه لما قبض على الوزير منجك، خرج الأمير قمارى الحموي، وعلى يده ملطفات لأمراء صفد بالقبض على أحمد، فبلغه ذلك من هجان جهزه إليه أخوه فندب الأمير أحمد الساقي طائفة من مماليكه لتلقى قمارى. وطلب نائب قلعه صفد وديوانه، وأمره أن يقرأ عليه كم له بالقلعة من غلة، فأمر لمماليكه منها بشيء فرقه عليهم إعانة لهم على ما حصل من المحل في البلاد، وبعثهم ليأخذوا ذلك، فعندما طلعوا القلعة شهروا سيوفهم وملكوها فقبض الأمير أحمد الساقي على عدة من الأمراء، وطلع بحريمه إلى القلعة وحصنها، وأخذ مماليكه قمارى، وأتوه به فكتب السلطان لنائب عزه ونائب الشام تجريد العسكر إليه، ورسم بالإفراج عن فياض بن مهنا وعيسى بن حسن الهجان أمور العايد، وخلع عليه وجهز، وأخذت الهجن من جمال الدين بقر أمير عرب الشرقية، وأعيدت إلى علي بن حسن. وكانت الأراجيف قد كثرت بأن الأمير طاز قد تحالف هو والأمير بيبغا روس بعقبة أيله، فخرج الأمير فياض وعيسى بن حسن أمير العايد؛ ليقيما على عقبة أيلة، بسبب بيبغا روس. وكتب لعرب شطي وبني عقبة وبني مهدي بالقيام مع الأمير فضل، وكتب لنائب غزة بإرسال السوقة إلى العقبة.
وفيه خلع على شهاب الدين أحمد بن قزمان بنيابة الإسكندرية، عرضاً عن بكتمر المؤمني.
وفيه خلع على الأمير أرلان أمير آخور، واستقر في نيابة الكرك، عوضا عن جركتمر. وأنعم على جركتمر باستقراره حاجباً بحلب، عوضاً عن موسى الحاجب، لشكوى نائب حلب منه.
وفي يوم الأربعاء سادس عشريه: قدم سيف الأمير بيبغا روس، وقد قبض عليه.
وذلك أنه لما وردعليه الكتاب.بمسك أخيه منجك اشتد خوفه، وطلع إلى العقبة، ونزل المنزلة فبلغه أن الأمير طاز والأمير بزلار ركبا للقبض عليه، فركب.بمن معه من الأمراء والمماليك بآلة الحرب. فقام الأمير عز الدين إزدمر الكاشف. بملاطفته، وأشار عليه ألا يعجل، وأن يكشف عن الخبر أولا فبعث الأمير بيبغا روس نجاباً في الليل لذلك، فعاد وأخبروا أن الأمير طاز مقيم بركبه، وأنه سار بهم وليس فيهم أحد لابس عدة الحرب، فقلع الأمير بيبغا روس السلاح هو ومن معه، وتلقى طاز وسأله عما تخوف منه، فأوقفه طاز على كتاب السلطان إليه. فلم ير بيبغا روس فيه ما يكره فاطمأن، ورحل كل منهما بركبه من العقبة. فأتت الأخبار إلى الأمراء باتفاف طاز وبيبغا روس، فكتب السلطان إلى طاز بزلار أمير الركب بالقبض على بيبغا روس قبل دخول مكة، وتوجه إليهما طيلان الجاشنكير، وقد رسم له أن يتوجه مع بيبغا روس إلى الكرك
وجرد فياض وعيسى بن حسن إلى العقبة، ثم خرج الأمير أرلان.بمضافية تقوية لهما. فلما قدم طيلان على طاز وبزلار كتبا إلى أزدمر الكاشف يعلمانه.بما رسم به لهما من مسك بيبغا روس، ويؤكدان عليه في استمالة الأمير فاضل والأمير محمد بن بكتمر الحاجب وبقية من مع بيبغاروس، وتعجيزهم عن القيام معه، فأخذ أزدمر الكاشف في تنفيذ ذلك. ثم كتب طاز وبزلار لبيبغا روس أن يتأخر لسماع مرسرم السلطان، حتى يكون دخولهم مكة جميعاً فأحس بيبغا روس بالشر، وهم بالتوجه إلى الشام، فمازال أزدمر الكاشف به حتى رجعه عن ذلك. وعند نزول بيبغا روس المويلحة قدم طاز وبزلار، فتلقاهما وأسلم نفسه من غير ممانعة، فأخذوا سيفه، وأرادا تسليمه لطيلان حتى يحمله إلى الكرك. فرغب بيبغا روس إلى طاز أن يحج معه، فأخذه صحبته محتفظا به، وكتب بذلك إلى السلطان فتوهم السلطان ومغلطاى أن طاز قد مال مع بيبغاروس. وتشوشا تشوشاً زائداً ثم أكد ذلك ورود الخبر بعصيان أحمد في صفد، وظنوا أنه مناظر لبيبغا روس فأخرج طيلان ليقيم على الصفراء حتى يرد الحجاج إليها، فيمضي بيبغا إلى الكرك وفي يوم الخميس سابع عشريه: خلع على علم الدين عبد الله بن زنبور، خلعة الوزارة، مضافاً لما معه من نظر الخاص ونظر الجيش، بعد ما امتنع، وشرط شروطاً كثيرة وخرج ابن زنبور في موكب عظيم، فركب بالزنارى الحرير الأطلس إلى داره.بمصر، فكان يوما مذكوراً.
وفيه خلع على الأمير طنيرق بنياية حماة، عرضا عن أسندمر العمري.
وفي يوم السبت تاسع عشريه: جلس الوزير علم الدين بن زنبور بشباك قاعة الصاحب من القلعة، وفي دست الوزارة. وجلس الموفق ناظر الدولة قدامه، ومعه جماعة المستوفين. فطلب ابن زنبور جميع المباشرين، وقرر معهم ما يعتمدونه، وطلب محمد بن يوسف، وشد وسطه على عادته، وطلب المعاملين، وسلفهم على اللحم وغيره. وأمر فكتبت أوراق من بيت المال والأهراء، فإنه لم يكن بهما درهم واحد ولا أردب غلة، وقرأها على السلطان والأمراء. وشرع في عرض الشادين والكتاب وسائر أرباب الوظائف، وتقدم إلى المستوفين بكتابة أوراق المتأخر في النواحي، واهتم بتدبير الدولة. ورسم على بدر الدين ناظر البيوت، وألزمه.بمال لشيء كان في نفسه منه، وولى عوضه فخر الدين ماجد بن قرونه صهره نظر البيوت. ورسم لأولاد الخروبي النجار. بمصر بتجهيز راتب السكر لشهر المحرم، وأنفق في بيت السلطان جامكية شهر، فطلع إلى الحوائج خاناه السكر والزيت والقلوبات وسائر الأصناف.
وفيه أفرج ابن زنبور عن الفأر الضامن بسفارة الأمير ملكتمر المحمدي، وضمنه الجهات بزيادة خمسين ألف درهم وضمن الفأر معاملة الكيزان من الأمير طيبغا المجدي، بزيادة ثلاثين ألف درهم.
وفيه حمل علاء الدين بن فضل الله كاتب السر تقليد الوزارة إلى الصاحب علم الدين عبد الله بن زنبور، ونعت فيه بالجناب العالي. وكان جمال الكفاة قد سعى أن يكتب له ذلك زمن السلطان الصالح إسماعيل، فلم يرض كاتب السر، وشح به. فخرج الصاحب وتلقى كاتب السر، وبالغ في إكرامه، وبعث إليه تقدمة سنية.
وفي مستهل ذي الحجة: خلع على بكتمر المؤمني نائب الإسكندرية، واستقر شاد الدواوين.
وفيه خلع على سعد الدين رزق الله، ولد الوزير علم الدين، واستقر بديوان المماليك. وفيه التزم الوزير علم الدين بين يدي السلطان والأمراء أنه يباشر الوزارة بغير معلوم، ويباشر ابنه أيضا بغير معلوم، ويوفر ذلك للسلطان.
وفيه قدم الخبر بأن هند وأحد الأكراد استولى على بلاد الموصل، وصار في جمع كبير يقطع الطريق، والتحق به نجمة التركماني، فاستنابه وتقوى به وركب من مندر إلى سنجار وتحصن بها، وأغار على الموصل ونهب وقتل، ومضى إلى الرحبة وأفسد بها، ومشى على بلاد ماردين ونهبها. فخرجت إليه عساكر الشام، وحصروه بسنجار ومعهم عسكر ماردين، ونصبوا عليها المنجنيق مدة شهر حتى طلب هند الأمان، على أنه يقيم الخطبة للسلطان، ويبعث بأخيه ونجمة في عقد الصلح، وبقطع قطيعة يقوم بها كل سنة، فأمنه العسكر، وسروا عنه بأخيه ونجمة إلى حلب؛ فحمل نجمة ورفيقه إلى مصر، فلما نزلا منزلة قانون هرب نجمة.
وفي خامسه: رسم بعرض أجناد الحلقة، وخرجت البريدية إلى النواحي لإحضار من بها منهم، فحضروا، وابتدئ بعرضهم بين يدي النائب بيبغا ططر حارس الطير في يوم السبت حادي عشره. وسبب ذلك دخول جماعة كبيرة من أرباب الصنائع في جملة أجناد الحلقة، وأخذ جماعة كثيرة من الأطفال الإقطاعات، حتى فسد العسكر. فرسم لنقيب الجيش بطلب المقدمين ومضافيهم، وإحضار الغائبين، وحذروهم من إخفاء أحد منهم. وتقرر العرض بين يدي السلطان في كل يوم مقدمين. بمضافيهما، ثم رسم للنائب بيبغا ططر حارس الطير أن يتولى ذلك، فطلع إليه عدة أيتام مع أمهاتهم، ما بين أطفال تحمل على الأكتاف وصغار وشباب، وجماعة من أرباب الصنائع. فساءه ذلك، وكره أن يقطع أرزاقهم، ومضى يومه بالتغاضي، وصرفهم جميعاً على أن يحضروا من الغد. وتحدث بيبغا ططر حارس الطير مع الأمراء في إبطال العرض، فعارضه منكلى بغا الفخري، وأشار بأن العرض فيه مصلحة، فإن القصد من إقامة الأجناد إنما هو الذب عن المسلمين، فلو تحرك العدو ما وجد في عسكر مصر من يدفعه فلم توافقه الأمراء على دلك، وخرج الأمير قبلاى الحاجب على لسان السلطان بإبطال العرض، وقد اجتمع بالقلعة عالم كبير، فكان يوماً مهولا من كثرة الدعاء والبكاء والتضرع.
وفيه قدم الخبر بنزول عسكر دمشق وطرابلس على صفد، وزحفهم عليها عدة أيام، جرح فيها كثير من الأجناد، ولم ينالوا من القلعة غرضا، إلى أن بلغهم القبض على بيبغا روس. وعلم بذلك الأمير أحمد الساقي نائب صفد من هجانته، فانحل عزمه، فبعث إليه بكلمش نائب طرابلس يرغبه في الطاعة، ودس إلى من معه في القلعة حتى حاصروا عليه، وهموا. بمسكه. فوافق الأمير أحمد الساقي على الطاعة، وحلف لنائب طرابلس، ونزل إليه.بمن معه. فسر السلطان بذلك، وكتب بإعانته وحمله.
وفي عاشره: كانت الوقعة.بمنى، وقبض على المجاهد على بن المؤيد داود بن المظفر أبو سعيد المنصوري عمر بن رسول صاحب اليمن فكان من خبر ذلك أن ثقبة لما بلغه استقرار أخيه عجلان في إمرة مكة، توجه إلى اليمن، وأغرى المجاهد بأخذ مكة وكسوة الكعبة. فتجهز المجاهد، وسار يريد الحج في جحفل كبير بأولاده وأمه حتى قرب من مكة، وقد سبق حاج مصر. فلبس عجلان آلة الحرب، وعرف أمراء مصر ما عزم عليه صاحب اليمن، وحذرهم غائلته. فبعثوا إليه بأن " من يريد الحج إنما يدخل مكة بذلة ومسكنة، وقد ابتدعت من ركوبك والسلاح حولك بدعة لا يمكنك أن تدخل بها، وابعث إلينا ثقبة ليكون عندنا حتى تنقضي أيام الحج، ثم نرسله إليك " فأجاب المجاهد إلى ذلك، وبعث ثقبة رهينة، فأكرمه الأمراء، وأركبوا الأمير طقطاي في جماعة إلى لقاء المجاهد، فتوجهوا إليه ومنعوا سلاحداريته من المشي معه بالسلاح، ولم يمكنوهم من حمل الغاشية. ودخلوا به مكة، فطاف وسمى، وسلم على الأمراء واعتذر إليهم، ومضى إلى منزله وصار كل منهم على حذر حتى وقفوا بعرفة، وعادوا إلى الحيف من منى، وقد تقرر الحال بين الشريف ثقبة وبين المجاهد على أن الأمير طاز إذا سار من مكة أرقعاهما بأمير الركب ومن معه، وقبضا على عجلان، وتسلم ثقبة مكة. فاتفق أن الأمير بزلار رأى وقد عاد من مكة إلى منى خادم المجاهد سائراً، فبعث يستدعيه فلم يأته، وضرب مملوكه - بعد مفاوضة جرت بينهما - بحربة في كتفه فماج الحاج، وركب بزلار وقت الظهر إلى طاز فلم يصل إليه حتى أقبلت الناس جافلة تخبر بركوب المجاهد بعسكره للحرب، وظهرت لوامع أسلحتهم، فركب طاز وبزلار والعسكر. وأكثرهم. بمكة.
فكان أول من صدم أهل اليمن الأمير بزلار وهو في ثلاثين فارساً، فأخذوه في صدورهم إلى أن أرموه قرب خيمة. ومضت فرقة منهم إلى جهة طاز، فأوسع لهم، ثم عاد عليهم وركب الشريف عجلان والناس، فبعث طاز لعجلان " أن احفظ الحاج، ولا تدخل بيننا في حرب، ودعنا مع غريمنا " ؛ واستمر القتال بينهم إلى بعد العصر. فركب أهل اليمن الذلة، والتجأ المجاهد إلى دهليزه، وقد أحيط به وقطعت أطنابه، وألقوه إلى الأرض. فمر المجاهد على وجهه ومعه أولاده، فلم يجد طريقاً، ولديه إلى بعض الأعراب، وعاد.بمن معه وهم يصيحون: " الأمان يا مسلمين " فأخذوا وزيره، وتمزقت عساكره في تلك الجبال، وقتل منهم خلق كثير، ونهبت أموالهم وخيولهم حتى لم يبق لهم شيء، وما انفصل الحال إلى غروب الشمس. وفر ثقبة بعربه، وأخذ عبيد عجلان جماعة من الحجاج فيما بين مكة ومنى، وقتلوا جماعة. فلما أراد الأمير طاز الرحيل من منى سلم أم المجاهد وحريمه لعجلان، وأوصاه بهن وركب الأمير طاز ومعه المجاهد محتفظاً به، وبالغ في إكرامه، وصحب معه أيضا الأمير بيبغا روس مقيداً، وبعث الأمير طنطاي مبشراً. ولما قدم الأمير طاز المدينة النبوية قبض على الشريف طفيل وكان قاع النيل في هذه السنة أربعة أذرع ونصف ذراع. وتوقفت الزيادة حتى ارتفع سعر الأردب القمح من خمسة عشر درهماً إلى عشرين درهماً، ثم زاد النيل في يوم واحد أربعا وعشرين إصبعا، ونودي من الغد بزيادة عشرين إصبعاً، ثم بزيادة خمسة عشر إصبعا، ثم ثماني أصابع. واستمرت الزيادة حتى بقي من ذراع الوفاء ثلاثة أصابع، فتوقف ستة أيام، ثم وفى الستة عشر ذراعاً في يوم الإثنين ثاني عشرين مسرى. وزاد بعد ذلك إلى خامس توت، فبلغ سبعة عشر ذراعاً، وهبط فشرقت بلاد كثيرة، وتوالى الشراقي ثلاث سنين شق الأمر فيها على الناس من عدم الفلاحين وخيبة الزرع بخلاف ما يعهد، وكثرة المغارم والكلف، وظلم الولاة وعسفهم، وزيادة طمعهم في أخذ ما بذلوا مثله حتى ولوا، مع نفاق عرب الصعيد، وطمعهم في الكشاف والولاة، وكسر المغل، وعنتقهم في إعطائه الأجناد، ورمي الشعير على البلاد من حساب سبعة دراهم الأردب، وحمله إلى الأهراء، فحمل نحو الأربعين ألف أردب شعيراً، ونحو خمسة آلاف أردب برسيما.
وفيه خلع على ملك تونس أبو العباس الفضل بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الواحد بن أبي حفص، في ثامن عشر جمادى الأولى، فكانت مدته ستة أشهر، فقام بعده أخوه أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بكر.
ومات في هذه السنة من الأعيان الأمير سيف الدين دلنجى نائب غزة. قدم القاهرة سنة ثلاثين وسبعمائة، فأنعم عليه بإمرة عشره، ثم إمرة طبلخاناه، وولي غزة بعد يلجك فأوقع بالعشير، وقويت حرمته.
ومات الأمير لاجين أمير آخور.
وتوفي فخر الدين محمد بن على بن إبراهيم بن عبد الكريم المصري الفقيه الشافعي بدمشق، في ثالث عشر ذي القعدة، ومولده سنة إحدى وتسعين وستمائة، وخرج من القاهرة سنة اثنتين وسبعمائة، وسكن دمشق، وبرع في الفقه والعربية وغير ذلك. وكان يتوقد ذكاء، بحيث أنه حفظ مختصر ابن الحاجب مع تعقد ألفاظه في تسعة عشر يوماً، ودرس وأفتى وأفاد وتوفي العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية الزرعي الدمشقي في ثالث عشر رجب، ومولده سنة إحدى وتسعين وستمائة. وبرع في عدة علوم، ما بين تفسير وفقه وعربية، وغير ذلك. ولزم شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية بعد عوده من القاهرة سنة اثنتي عشرة وسبعمائة حتى مات، وأخذ عنه علماً جماً، فصار أحد أفراد الدنيا، وتصانيفه كثيرة، وقدم القاهرة غير مرة ومات ابن قرقمان صاحب جبال الروم ومات الحسين بن خضر بن محمد بن حجي بن كرامة بن بختر بن على بن إبراهيم ابن الحسين بن إسحاق بن محمد الأمير ناصر الدين، المعروف بابن أمير الغرب التنوخى، في نصف شوال. وولى عوضه ابنه زين الدين صالح، وولايته ببلاد الغرب من بيروت. وأول من وليها منهم كرامة بن بختر في أيام نور الدين محمود بن زنكي، فسمي كرامة أمير الغرب.
سنة اثنتين في خمسين وسبعمائةفي يوم الخميس رابع المحرم: قدم الأمير أسندمر العمري من حماة.
وفي يوم الجمعة خامسه: قدم الأمير أرغون الكاملي من حلب بغير مرسوم، فخلع عليه، وأنزل بالقلعة وسبب ذلك أنه كان قد أشيع بحلب القبض عليه، وأشيع.بمصر أنه خامر، فكره تمكن موسى حاجب حلب، لما بينهما من العداوة، ورأى أن وقوع المكروه به في غير حلب أخف عليه؛ فركب من حلب وقدم مصر ففرح السلطان بقدومه، لما كان عنده من إشاعة عصيانه وفيه قدم عيسى بن حسن الهجان من العقبة، بكتاب الأمير فياض يتضمن حضور طقطاى ورفيقه مبشرين، وأنه عوقهما بالعقبة، وبعث ما على يديهما من الكتب، وأن طيلان لفي الحاج ينبع، فكتب بإحضار طقطاى ورفيقه.
وفيه قدم الخبر بأن طيلان تسلم الأمير بيبغا روس من الأمير طاز، وتوجه به إلى الكرك من بدر. فسر السلطان والأمراء بذلك، وكتب بإعادة العسكر من العقبة.
وفيه توجه الأمير فياض بن مهنا إلى أهله، وسير إليه منشوره بإمرة العرب، عوضاً عن جبار، صحبة قطلوبغا أخي الأمير مغلطاى؛ ليسافر به إلى بلاده.
وفي رابع عشره: خلع على الضياء يوسف الشامي، وأعيد إلى حسبة القاهرة ونظر المارستان، عوضا عن ابن الأطروش، بسفارة النائب الأمير بيبغا ططر حارس الطير، لكلام نقله ابن الأطروش للوزير ابن زنبور، فسبه وأهانه، وتحدث في عزله وعود الضياء.
فعرض الضياء حواصل المارستان، فلم يجد بها شيئاً، وكتب بذلك أوراقاً، وأوقف الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب عليها. فنزل النائب معه إلى المارستان، واستدعى القضاة وأرباب الوظائف بالمارستان، وأحضر ابن الأطروش، وطلب كتاب الوقف وقرأه، حتى وصل فيه القارئ إلى قوله: " عن الناظر التعمم، ويكون عارفاً بالحساب وأمور الكتابة " . فقال الضياء لابن الأطروش: " قد سمعت ما شرطه الواقف فيك، وأنت عامي مشهور ببيع الخرائط لا تدري شيئاً مما شرطه الواقف " . وناوله ورقة حساب ليقرأها، فقام إليه بعض الفقهاء، وقال: " هذا معه تدريس وإعادة، وأنا أسأله عن شيء، فإن أجاب استحق المعلوم " . وأخذته الألسنة من كل جانب، فقال النائب: " يا قوم! هذا رجل عامي، وقد أخطأ، وما بقي إلا الستر عليه فاعترف ابن الأطروش أنه لا يدري الحساب، وأنه عاجز عن المباشرة، وألزم نفسه ألا يعود إليها أبداً، بإشهاد كتب فيه قضاة القضاة ونوابهم يتضمن قوادح شنيعة، ومازال النائب بأخصامه حتى كفوا عنه ثم قام النائب لكشف أحوال المرضى، فوجدت فرشهم قد تلفت، ولها ثلاث سنين لم تغير، فسد النائب خلله وانصرف.
وفيه قبض على مستوفي الدولة الأسعد حربة، وكريم الدين أكرم بن شيخ وسلما لشاد الدواوين فضرب شاد الدواوين ابن شيخ، وعاقبه حتى وزن مائة وستين ألف درهم، تتمة ثلاثمائة ألف درهم، ووزن حربة مالا جزيلا. واستقر عوضهما تاج الدين ابن ريشة، والعلم كاتب آل ملك.
وفي يوم السبت عشريه: قدم الأمير طاز من الحجاز.بمن معه، وصحبته الملك المجاهد، والشريف أدى أمير المدينة، بعد ما سافر ولحق باليمن، وقدم مع المجاهد إلى مكة. فخرج الأمير مغلطاي إلى البركة ومعه الأمراء، ومد له سماطاً جليلا، وقبض على من معه من الأمراء الذين كانوا من جماعة الأمير بيبغا روس، وقيدوهم، وهم فاضل أخو بيبغا روس وناصر الدين محمد بن بكتمر الحاجب. وأما الأمير أزدمر الكاشف فإنه أخرج عنه إقطاعه، ولزم بيته وفي يوم الإثنين عشريه: طلع الأمير طاز بالمجاهد إلى القلعة، فقيد عند باب القلعة، ومشى بقيده حتى وقف مع العموم بالدركاه - تجاه النائب، والأمراء جلوس - وقوفاً طويلا، إلى أن خرج أمير جاندار يطلب الأمراء على العادة، فدخل معهم وخلع السلطان على الأمير طاز، ثم أخذ المجاهد، وأمر به مقبل الأرض ثلاث مرات. وطلب السلطان الأمير طاز وسأل عنه، فمازال طاز يتشفع في أمر المجاهد إلى أن أمر بقيده ففك، وأنزل بالأشرفية من القلعة عند الأمير مغلطاى، وأجريت له الرواتب السنية، وأقيم له من يخدمه.
وفيه أنعم على الأمير طاز.بمائتي ألف درهم وفيه قبض على الأمير حسين الططرى وولده، وأخرج مع الأمراء الممسوكين إلى الإسكندرية.
وفيه خلع على الأمير أرغون الكاملي، واستقر في نيابة حلب على عادته، ورسم أن يكون موسى الحاجب بحلب نائباً بقلعة الروم.
وفي يوم الإثنين خامس عشريه: حضر المجاهد الخدمة، وأجلس تحت الأمراء.
وفيه ألزم المجاهد بحمل أربعمائة ألف دينار يقترضها من الكارم، ثم بعد ذلك ينعم له بالسفر إلى بلاده.
وفيه قدم المجردون من العقبة بسبب بيبغا روس.
وفي يوم الخميس ثامن عشريه: قدم الأمير قطلوبغا الكركي، ومعه أمير أحمد الثائر بصفد، فأرسل إلى الاسكندرية، فسجن بها.
وفي يوم الإثنين تاسع عشريه: خلع على الأمراء اليمنيين المقيدين، وعلى المجاهد صاحب اليمن بالإيوان وقبل الأرض عدة مرار. وكان الأمير طاز والأمير مغلطاي تلطفا في أمره حتى أعفى من حمل المال، وقربه السلطان ووعده بالسفر إلى بلاده مكرهاً فقبل المجاهد الأرض، وسر بذلك، فأذن له أن ينزل من القلعة إلى إصطبل الأمير مغلطاى، ويتجهز للسفر. وأفرج عن وزيره وخادمه وحواشيه، وأنعم عليه.بمال. فبعث له الأمراء مالا جزيلا، وشرع في القرض من الكارم تجار مصر واليمن فبعثوا له عدة هدايا، وصار يركب حيث شاء، وفيه خلع على ابن بورقية، واستقر في حسبة مصر عوضاً عن ولي الدين.
وفي يوم الخميس ثاني صفر: ركب المجاهد في الموكب بسوق الخيل تحت القلعة، وطلع مع الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب إلى القلعة، ودخل إلى الخدمة بالإيوان مع الأمراء والنائب فكان موكباً عظيماً، ركب فيه جماعة من أجناد الحلقة مع مقدميهم وخلع السلطان على المقدمين، وطلعوا إلى القلعة، وأجناد الحلقة معهم. واستمر المجاهد يركب في الخدمة مع النائب في سوق الخيل، ويطلع إلى الخدمة بالقلعة وفيه خلع على الأمير صرغتمش، واستقر رأس نوبة على ما كان عليه، بعناية الأمير طاز والأمير مغلطاي وفيه قبض على محمد بن يوسف مقدم الدولة، وسلم لشاد الدواوين، وأفرد محمد ابن زيد بالتقدمة.
وفي يوم السبت ثامن عشره: برز المجاهد صاحب اليمن بثقله إلى الريدانيه؛ ليسافر إلى بلاده، وصحبته الأمير قشتمر شاد الدواوين. وكتب السلطان إلى الشريف عجلان أمير مكة بتجهيزه إلى بلاده، وكتب لبنى شعبة وغيرهم من العربان بالقيام في خدمته، وخلع عليه أطلس، فوعد المجاهد بإرسال الدية والمال، وقرر على نفسه حملا في كل سنة وأسر السلطان إلى قشتمر أنه إن رأى منه ما يريبه.بمنعه من المضي، ويطالع بأمره. فرحل المجاهد من الريدانية خارج القاهرة، في يوم الخميس ثالث عشريه، ومعه عدة مماليك اشتراها، وكثر من الخيل والجمال وفي مستهل ربيع الأول: قدم الأمير قطلوبغا مستقر الأمير فياض بن مهنا، وقد أنعم عليه. بمائة ألف درهم، وثلاثين فرساً، وخمسين جملا، وقماش كثير.
وفيه قدم الخبر بلين الأمير أيتمش المصري نائب الشام، وضياع أحوال الشام، وكثرة قطع الطرقات، وأن أهل الشام سموه " ايش كنت أنا " ، وأن أحوال شمس الدين موسى بن التاج إسحاق الناظر توقفت. ووقع جراد مضر بالزرع، أفسد أكثرها، وأن الغرارة القمح ارتفعت من ثمانين إلى مائة وعشرين درهماً.
ووقع بحماة سيل لم يعهد مثله، وخرب السيل أماكن كثيرة.
وفيه قدم الأمير قطلوبغا الذهبي من الوجه القبلي، وقد عجز عن مقاومة الأحدب.
وفيه قدم الخبر بقتل الشريف سعد بن ثابت أمير المدينة النبوية. وسببه أن الشريف أدى لما نهب المدينة وفر إلى اليمن، وصار عند صاحبها المجاهد حتى قدم مكة، ترامى على الأمير طاز إلى أن أخذ له أمانا من السلطان وقدم معه ومثل بين يدي السلطان وفي عنقه منديل الأمان فقيل له: " إنما أمنك على نفسك، وأما الأموال التى أخذتها من أهل المدينة ومن الحجج فلابد من ردها إلى أربابها " .
فجمع أدى ولده وطرق سعد بن ثابت ليلا وحاربه فقتل سعد وكتب باستقرار فضل ابن قاسم عوضه.
وفي مستهل ربيع الآخر. كان عرس خوند زهراء ابنة السلطان الملك الناصر محمد وهي زوجة آقسنقر الناصري المقتول زمن المظفر حاجي على الأمير طاز، ثم كان بعد ذلك عرس الأمير تنكز بغا، وأعرس جماعة من الأمراء و عمل السلطان لكل منهم مهما يليق به، فأقامت الأفراح طول الشهر، وأنعم السلطان على طاز وعلى تنكز بغا بثلاثمائة ألف درهم، وأنعم على كل من الأمير مغلطاي رأس نوبة، والأمير منكلى بغا الفخري. وفيه أخرج الأمير نوروز على إمرة طبلخاناه، بدمشق. وسببه أنه لما قدم من الشام أنعم عليه بتقدمة ألف، فصار يتحدث مع السلطان في المشور، وترفع على الأمراء.
وفيه قدم سيف بن فضل، بقوده.
وفي ليلة الثلاثاء رابعه: قدم الخبر بأن الأمير قشتمر أمسك المجاهد صاحب اليمن بينبع، بعد ما فر بنفسه، وترك ثقله. ثم قدم قشتمر في يوم السبت خامس عشره، وأرسل المجاهد إلى الكرك، فسجن بها.
وفي أول جمادى الأولى: قدمت رسل الأشرف دمرداش بن جوبان بسبب الصلح، فأنزلوا بصهريج منجك ثلاثة أيام، و لم يمكن أحد من الاجتماع بهم. ثم مثلوا بين يدي السلطان، وأعيدوا بجوابهم.
وفيه خلع على الأمير أرغون الإسماعيلي، واستقر في نيابة غزة، عوضاً عن فارس الدين ألبكي. وقدم فارس الدين فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.
وفيه خرجت العرب المعروفة ثعلبة من أماكنها، وتفرقوا في البلاد.
فوقفت أحوال مراكز البريد، فإن درك البريد عليهم فسعى ابن طلدية في ولاية الشرقية وتكفل برد ثعلبة، فخلع عليه بولايتها.
وفيه ركب الأمير طاز لكبس عرب الأطفيحية، وقد اشتد ضررهم وكثر قطعهم الطريق، فلم يظفر منهم بأحد، وتعلقوا بالجبال.
وفيه توعك السلطان ولزم الفراش أياما، فبلغ طاز ومغلطاى ومنكلى بغا أنه أراد بإظهار توعكه القبض عليهم إذا دخلوا إليه، وأنه قد اتفق مع قشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر المارديني وتنكز بغا على ذلك، وأن ينعم عليهم بإقطاعاتهم وإمراتهم. فواعدوا أصحابهم، واتفقوا مع الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب، والأمير طيبغا المجدي والأمير رسلان بصل، وركبوا يوم الأحد سابع عشري جمادى الآخرة بأطلابهم، ووقفوا عند قبة النصر.
فخرج السلطان إلى القصر الأبلق، وبعث يسألهم عن سبب ركوبهم، فقالوا: " أنت اتفقت مع مماليكك على مسكنا، ولابد من إرسالهم إلينا. فبعث السلطان إليهم تنكز بغا وقشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر، فعندما وصلوا إليهم قيدوهم، وبعثوهم إلى خزانة كايل، فسجنوا بها. فشق ذلك على السلطان، وبكى، وقال: " قد نزلت عن السلطنة " ، وسير إليهم النجاة، فسلموها للأمير طيبغا المجدي. وقام السلطان إلى حريمه، فبعث الأمراء الأمير صرغتش، ومعه الأمير قطلوبغا الذهبي وجماعة؛ ليأخذه ويحبسه. فطلعوا إلى القلعة راكبين إلى باب القصر الأبلق، ودخلوا إلى الناصر حسن وأخذوه من بين حرمه، فصرخ النساء صراخاً عظيما، وصاحت ست حدق على صرغتمش صياحاً منكراً، وسبته، وقالت: " هذا جزاؤه منك " . فأخرجه صرغتمش وقد غطى وجهه إلى الرحبة، فلما رأه الخدام والمماليك تباكوا عليه بكاءاً كثيراً. وطلع صرغتمش به إلى رواق فوق الإيوان، ووكل به من يحفظه، وعاد إلى الأمراء. وكانت مدته ثلاث سنين وتسعة أشهر وأربعة عشر يوماً، منها مدة الحجر عليه ثلاث سنين، ومدة استبداده تسعة أشهر، وكان القائم بدولته الأمير شيخو رأس نوبة، وإليه أمر خزانة الخاص - ومرجع ذلك إلى علم الدين بن زنبور ناظر الخاص - والأمير بيبغاروس نائب السلطة، وإليه حكم العسكر وتدبره والحكم بين الناس، والأمير منجك الوزير الأستادار مقدم المماليك، وإليه التصرف في أموال الدولة، والمتولي لتربيته خوند طغاي أم آنوك، وفي خدمته ست حدق. ورتب له في كل يوم مائة درهم تصرف لخدامه من خزانة الخاص، فكان كذلك في طوع الأمراء، يصرفونه على حسب اختيارهم، إلى أن نفرت نفوس الأمراء الخاصكية من الوزير منجك، وحسدوه على ما هو فيه، وكان أشدهم عليه حقدا الأمير مغلطاي والأمير طاز. وكان الأمير شيخو يفهم عنه إلى أن خرج الأمير بيبغا روس إلى الحج، وخرج الأمير شيخو إلى السرحة بالعباسة، وقع الاتفاق على ترشيد السلطان، ومسك منجك كما تقدم. فاستبد السلطان بالتصرف، وأخذ أموال الأمراء المقبوض عليهم، وفرقها في خواصه. ثم اختص بطاز، وبالغ في الإنعام عليه، واستخص قشتمر وألطنبغا وملكتمر وتنكز بغا، وجعلهم ندماءه في الليل ومشيريه في النهار، فلم يكن يفارقهم أبداً ليلا ولا نهاراً، وسوغهم من الأملاك، وأنعم عليهم من الجواهر والأموال بشيء جليل إلى الغاية، وأعرض عن الأمراء، فلم يلتفت إليهم حتى كان ما كان من خلعه.
وكانت أيامه شديدة، كثرت فيها المغارم بالنواحي، وخربت عدة أملاك على النيل، واحترقت مواضع كثيرة بالقاهرة ومصر، وخرحت عربان العايد وثعلبة وعشير الشام وعرب الصعيد عن الطاعة، واشتد فسادهم وكثر قطعهم الطرقات. وكان الفناء العظيم الذي لم يعهد مثله، وتوالي شراقي الأراضي، وتلاف الجسور، وقيام ابن واصل الأحدب ببلاد الصعيد والعجز عنه، وقتل عرب الصعيد طغية الكاشف، وهزيمتهم الهذباني وأخذ ثقله. فاختلت أرض مصر وبلاد الشام بسبب ذلك خللاً فاحشاً، إلا أن الناصر حسن كان في نفسه مفرط الذكاء، ضابطاً لما يدخل إليه ويصرفه كل يوم، عارفاً متديناً شهماً، لو وجد ناصراً ومعيناً لكان أجل الملوك.
السلطان الملك الصالحصلاح الدين صالح بن الناصر محمد بن قلاون أمه بنت الأمير تنكز نائب الشام، أقيم سلطانا بعد خلع أخيه الناصر حسن، في يوم الإثنين ثامن عشرى جمادى الآخرة، سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة. وذلك أن الأمراء لما حملت إليهم النمجاة، باتوا ليلة الإثنين بإصطبلاتهم، وبكروا يوم الإثنين إلى القلعة، واجتمعوا بالرحبة داخل باب النحاس، وطلبوا الخليفة والقضاة وسائر أهل الدولة، واستدعوا به. فلما خرج إليهم ألبسوه شعار السلطنة، وأركبوه فرس النوبة من داخل باب الستارة، ورفعت الغاشية بين يديه. وكان الأمير طاز والأمير منكلى بغا الفخري آخذين بشكيمة الفرس حتى جلس على التخت. وحلفوا له، وحلفوه على العادة، ولقبوه بالملك الصالح، ونودي بسلطنته في القاهرة ومصر.
وكان النيل قد نقص عندما كسر، فرد نقصه، ونودي عليه هذا اليوم بزيادة ثلاثة أصابع من سبعة عشر ذراعاً، فتباشر الناس بولايته.
وفيه نقل السلطان أخاه حسن الناصر إلى حيث ساكنا، ورتب في خدمته جماعة وطلب أخاه أمير حسين وأكرمه، ووعده بتغيير إقطاعه وزيادة راتبه.
وفيه توجه الأمير بزلار أمير سلاح إلى الشام، ومعه التشريف والبشارة بولاية السلطان وتحليف العساكر له على العادة.
وفيه دقت البشائر، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فزينتا.
وفيه طلب الأمير مغلطاي والأمير طاز مفاتيح الذخيرة، ليعتبروا ما فيها، فوجد شيء يسير.
وفيه رسم للوزير علم الدين عبد الله بن زنبور بتجهيزه تشاريف الأمراء وأرباب الوظائف على العادة، فجهزها.
وفيه وقف الأمير طاز، وسأل الأمراء والسلطان في الإفراج عن الأمير شيخو، فرسم به.وكتب كل من مغلطاي وطاز إليه كتاباً، فبعث مغلطاي بكتابه، أخاه قطلوبغا رأس نوبة، وبعث طاز الأمير طقطاي صهره. وجهزت الحراقة لإحضار شيخو من الإسكندرية، في يوم الثلاثاء تاسع عشرينه.
وكان ذلك بغير اختيار الأمير مغلطاى، فإن الأمير طاز دخل عليه في ذلك، ومضى إلى بيته، فاعتذر إليه بأنه يخشى من خلاصه على نفسه، فحلف له طاز أيمانا مغلظة أنه معه على كل ما يريد، ولا يصيبه من شيخو ما يكره، وأن شيخو إذا حضر ما يعارضه من في شيء من أمر المملكة، " وإني ضامن له في هذا " ؛ وما زال به حتى وافق على الإفراج عنه، وكتب إليه مع أخيه. فشق ذلك على الأمير منكلى بغا الفخري، وعتب مغلطاي على موافقته لطاز، وأوهمه أن بحضور شيخو يزول عنهم ما هم فيه، حتى تقرر ذلك في ذهنه، وندم على ما كان منه، إلى أن كان يوم الخميس أول شهر رحب، وركب الأمراء في الموكب على العادة، أخذ منكلى بغا يعرف الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب والأمراء الكبار ما دار بينه وبين مغلطاى، وخيلهم من حضور شيخو إلى أن وافقوه، وطلعوا إلى القلعة ودخلوا إلى الخدمة. فابتدأ الأمير بيبغا حارس الطير النائب بحديث شيخو، وأنه رجل كبير، ويحتاج إلى إقطاع كبير وكلف كبيرة. فتكلم منكلى بغا ومغلطاي والأمراء، وطاز ساكت قد اختبط لتغير مغلطاي ورجوعه عما وافقه عليه. وأخذ طاز يتلطف به، فصمم مغلطاي على ما هو عليه، وقال: " ما لى وجه أنظر به شيخو، وقد أخذت منصبه بعد ما مسكته، وسكنت بيته " . فوافقه الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب، وقال لناظر الجيش: " اكتب له مثالا بنيابة حماه، وانتقال طنبرق لنيابة حلب " ، وقال لكاتب السر. " اكتب كتابا بعوده من طريقه إلى نيابة حماه " فكتب ذلك، وتوجه به أيدمر الدوادار من وقته وساعته في حراقته. وعين لسفر شيخو إلى حماة عشرون هجينا ليركبها ويسير عليها، وانفضوا، وفي نفس طاز ما لا يعبر عنه. فاجتمع هو وصرغتمش وملكتمر وجماعة، واتفقوا جميعاً وبعثوا إلى مغلطاي بأن " منكلى بغا رجل فتنى، وما دام بيننا لا نتفق أبداً " . فلم يصغ مغلطاي إلى قولهم، واحتج بأنه إن وافقهم لا يأمن على نفسه. فدخل عليه طاز ليلا بالأشرفية من القلعة حيث سكنه، وخادعه حتى أجابه إلى إخراج منكلى بغا، وتحالفا على ذلك. فما هو إلا أن خرج عنه طاز أخذ دوادار مغلطاي يفتح ما صدر منه، ويهول عليه الأمر بأنه متى أبعد منكلى بغا وحضر شيخو أخذ لا محالة، فمال إليه. وبلغ الخبر منكلى بغا، بكرة يوم الجمعة ثانيه، فواعد الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب والأمراء على الاجتماع في صلاة الجمعة؛ ليقع الاتفاق على ما يكون. فلم يخف عن طاز وصرغتمش رجوع مغلطاي عما تقرر بينه وبين طاز ليلا، فاستعد للحرب، وواعد الأمير ملكتمر المحمدي والأمير قردم الحموي ومن هوى هواهم، واستمالوا مماليك بيبغا روس ومماليك منجك حتى صاروا معهم رجاء الخلاص أستاذيهم وشد الجميع خيولهم.
فلما دخل الأمراء لصلاة الجمعة اجتمع منكلى بغا بالنائب بيبغا ططر حارس الطير وجماعة، وقرر معهم أن يطلبوا طاز وصرغتمش إلى عندهم في دار النيابة، ويقبضوا عليهما. فلما أتاهم الرسول بطلبهما أحسا بالشر، وقاما ليتهيئا للحضور، وصرفا الرسول على أنهما يكونان في أثره، وبادر إلى باب الدور ونحوه من الأبواب فأغلقاها، واستدعوا من معهم من المماليك السلطانية، ولبسوا السلاح. ونزل صرغتمش بمن معه من باب السر، ليمنع من يخرج من إصطبلات الأمراء، ودخل طاز على السلطان حتى يركب به للحرب، فلقى الأمير صرغتمش في نزوله الأمير أيدغدي أمير آخور، فلم يطق منعه، وأخذ بعض الخيول من الإصطبل، وخرج فوجد خيله وخيل من معه في انتظارهم. فركبوا إلى الطبلخاناه، فإذا طلب منكلى بغا مع ولده ومماليكه يريدون قبة النصر، فألقوه عن فرسه وجرحوه في وجهه، وقتلوا حامل الصنجق، وشتتوا كل الجميع. فما استتم هذا حتى ظهر طب مغلطاي مع مماليكه، ولم يكن لهم علم.بما وقع على طلب منكلى بغا. فصدمهم صرغتمش.بمن معه صدمة بددهم، وحرح جماعة منهم، وهزم بقيتهم. ثم عاد صرغتمش ليدرك الأمراء قبل نزولهم من القلعة، وكانت خيولهم واقفة على باب السلسلة تنتظرهم، فمال عليها ليأخذها. وامتدت أيدي أصحابه إليها، فقتلوا الغلمان، وقد عظم الصياح، وانعقد الغبار، وإذا بالنائب بيبغا ططر حارس الطير ومغلطاى ومنكلى بغا وبيغرا ومن معهم قد نزلوا، وركبوا خيولهم. وكانوا لما أبطأ عليهم مجيء طاز وصرغتمش بعثوا في استعجالهما، فإذا الأبواب مغلقة، والصيحة داخل باب القلة، فقاموا من دار النيابة يريدون الركوب، فما توسطوا القلعة حتى سمعوا ضجة الغلمان وصياحهم. فأسرعوا إليهم وركبوا، فشهر مغلطاي سيفه، واقتحم.بمن معه على صرغتمش ومن معه؛ ومر النائب بيبغا ططر حارس الطير وبيغرا ورسلان بصل يريد كل منهم اصطبله. فلم يكن غير ساعة حتى انكسر مغلطاي كسرة قبيحة، وجرح كثير من أصحابه، وفر إلى جهة قبة النصر وهم في أثره، وانهزم منكلى بغا أيضاً وكان طاز لما دخل على السلطان عرفه أن الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب والأمراء اتفقوا على إعادة الناصر حسن إلى السلطنة، وأخذه في مماليكه، ونزل به من باب السر إلى الإصطبل. واستدعى السلطان بالخيل ليركب، فقعد به أيدغدي أمير آخور، واحتج بقلة السروج، فإنه كان ممالئاً لمغلطاي؛ فأخذ المماليك ما وجدوه، وخرجوا بالسلطان، ودقت الكوسات. فاجتمع إليه الأمراء والأجناد والمماليك السلطانية من كل جهة، حتى عظم جمعه، فلم تغرب الشمس إلا والمدينة قد غلقت، والرميلة قد امتلأت بالعامة. وسار طاز بالسلطان يريد قبة النصر حتى يعرف خبر صرغتمش، فوافى قبة النصر بعد المغرب.
وأما صرغتمش فإنه تمادى في طلب مغلطاي ومنكلى بغا حتى أظلم الليل، فلم يشعر إلا.بمملوك الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب قد أتاه برسالة النائب أن مغلطاي عنده في بيت آل ملك بالحسينية، فبعث جماعة لأخذه. ومر صرغتمش في طلب منكلى بغا، فلقيه الأمير محمد بن بكتمر الحاحب، وعرفه أن منكلى بغا نزل قريباً من قناطر الأميرية، ووقف يصلي، وأن طلب الأمير مجد الدين موسى الهذباني كان قد جاء من جهة كوم الريش. ولحق بالأمير منكلى بغا الأمير أرغون المكي في جماعة، فقبضوا عليه وهو قائم يصلي، وكتفوه بعمامته، وأركبوه بعد ما نكلوا به. فلم يكن غير قليل حتى أتوا به وبمغلطاي، فقيدا وسجنا بخزانة شمائل، ثم أخرجا إلى الإسكندرية، ومعهما ابن منكلى بغا، فسجنوا بها، وأقبل صرغتمش ومن معه إلى السلطان بقبة النصر، وعرفه بمسك الأميرين، فسر سروراً كبيراً، ونزل هو والأمراء وباتوا عند قبة النصر.
وركب السلطان بكرة يوم السبت ثالثه إلى القلعة، وجلس بالإيوان، ودخل الأمراء فهنأوه السلامة، ونودي بالزينة. وفي الحال كتب باستدعاء الأمير شيخو، وخرج جماعة من الأمراء ومماليكه إلى لقائه. ونزلت البشائر إلى بيوت شيخو وبيبغا روس ومنجك، وكان يوما مذكورا، وبات الأمراء على تخوف.
وأما شيخو، فإن حراقة أخي طاز وطقطاي وافت الاسكندرية يوم الخميس أول رجب، فخرج شيخو من السجن وهو ضعيف، وركب الحراقة في الخليج، وأهل الإسكندرية في فرح وسرور بخلاصه. فوافاه كتاب صرغتمش بأنه " إذا أتاك أيدمر بمرسوم توجهك إلى حماة لا ترجع، وأقبل إلى القاهرة، فأنا معك " ، فتغير لقراءته، وعلم أنه قد حدث في أمره حادث. فلم يكن غير ساعتين حتى لاحت له حراقة أيدمر، فمر وهو مقلع، وأيدمر منحدر إلى أن تجاوزه، وهو يصيح ويشير.بمنديله، فلا يلتفتون إليه. واستمرت حراقة شيخو طول الليل وأيدمر في أثره، فلم يدركه إلا بكرة يوم السبت. فعندما طلع إليه أيدمر، وعرفه ما رسم له من عوده إلى حماة، وقرأ المرسوم الذي على يده، وإذا بالخيل على البر تتبع بعضها بعضاً، والمراكب قد ملأت وجه الماء تبادر لبشارته وإعلامه.بما وقع من الركوب، ومسك مغلطاي ومنكلى بغا فسر شيخو بذلك سروراً كثيراً، وسار إلى أن أرسى بساحل بولاق، في يوم الأحد رابعه.
وكان الناس قد خرجوا يوم السبت إلى لقائه، وأقاموا ببولاق ومنبابه. ووصلت المشاة إلى منية السيرج تنتظر قدومه. فلما رأوا الحراقة صاحوا ودعوا له، وتلقته مراكب أصحابه. وخرج الناس للفرجة، فبلغ كراء المراكب إلى مائة درهم، وما وصلت الحراقة إلا وحولها فوق الألف مركب. وركب الأمراء إلى لقائه، وزينت الصليبة، وأشعلت الشموع، وخرج مشايخ الصوفية بصوفيتهم إلى لقائه. فسار شيخو في موكب عظيم إلى الغاية، لم ير مثله لأمير، إلى أن صعد القلعة. ودخل شيخو على السلطان، فأقبل عليه، وخلع عنه ثياب السجن، وألبسه تشريفاً جليلا، وخرج شيخو إلى منزله والتهاني تتلقاه.
وفيه فرقت الخلع على الأمراء، وركبوا بها إلى الخدمة، في يوم الإثنين خامسه.
وفي يوم الأربعاء سابعه: رسم بإخراج الأمير بيبغا ططر حارس الطير نائب السلطنة، والأمير بيغرا. فنزل الحاحب إلى بيت آل ملك بالحسينية، وأخرج منه النائب؛ ليسير إلى نيابة غزة. وأخرج بيغرا من الحمام إخراجاً عنيفاً؛ ليتوجه إلى حلب. فركبا من فورهما، وسارا وفيه قبض على الطيب أحد أمراء الطبلخاناه من أصحاب مغلطاي، وقيد وسجن.
وفيه أخرج أيدغدي أمير آخور إلى طرابلس، بطالا وفيه كتب بالإفراج عن المسجونين بالإسكندرية والكرك وفي عاشره: ركب السلطان والأمراء إلى الميدان على العادة، ولعب فيه بالكرة، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه وقف الناس في الفأر الضامن، ورفعوا فيه مائة قصة. فقبض عليه، وضربه الوزير بالمقارع ضرباً كثيراً، وهو يحمل المال، فوجدت له خبية فيها نحو مائتي ألف درهم حملت إلى بيت المال.
وفيه قبض على النائب بيبغا ططر حارس الطير في طريقه، وسجن بالإسكندرية.
وفي يوم الأحد حادي عشره. وصل الأمراء من سجن الإسكندريه، وهم سبعة. منجك الوزير، وفاضل أخو بيبغا روس، وأحمد الساقي نائب صفد، وعمر شاه الحاجب، وأمير حسين التتري وولده، ومحمد بن بكتمر الحاجب. فركب الأمير طاز ومعه الخيول المجهزة لركوبهم حتى لقيهم، وطلع بهم إلى القلعة، فخلع عليهم بين يدي السلطان. ونزلوا إلى بيوتهم، فامتلأت القاهرة بالأفراح والتهاني ونزل الأمير شيخو والأمير طاز والأمير صرغتمش إلى إصطبلاتهم، وبعثوا إلى الأمراء القادمين من السجن التقادم السنية، من الخيول والتعابي القماش والبسط وغيرها، فكان الذي بعثه الأمير شيخو لمنجك خمسة أفراس، ومبلغ ألفي دينار وفي يوم الإثنين ثاني عشره: خلع على الأمير قبلاي الحاجب، واستقر في نيابة السلطنة عوضاً عن بيبغا ططر حارس الطير.
وفيه قدم الخبر بنفاق عرب الصعيد، ونهبهم الغلال ومعاصر السكر، وكبسهم البلاد، وكثره حروبهم، بحيث قتل منهم ألف رجل، وأن ابن مغنى حشد وركب في البر والبحر. وامتنع الناس من سلوك الطرقات، وأنه متى لم يبادر الأمراء إلى حربه لا يحصل للأراضي تخضير، وكان زمن النيل. فطلب عز الدين أزدمر الأعمى الكاشف، وأعيد له إقطاعه من الأمير قندس أمير آخور، وخلع عليه، واستقر في كشف الوجه القبلي. وخلع على مملوك أسندمر، واستقر في كشف الإطفيحية، وأنعم عليه بإقطاع ابن بيبغا ططر حارس الطير النائب. وأنعم على فارس الدين ألبكي نائب غزة بتقدمة ألف، ورسم بخروجه صحبة أزدمر الأعمى الكاشف، وعين معه ستة أمراء طبلخاناه.
وفي يوم الخميس خامس عشره: قدم الأمير بيبغا روس من سجن الكرك، فركب الأمراء إلى لقائه، وطلع إلى السلطان، فخلع عليه ونزل بيبغا روس إلى بيته، فلم يبق أحد من الأمراء حتى قدم له تقدمة تليق به.
وفي يوم السبت سابع عشره: ركب السلطان إلى الميدان، ومعه الأمير بيبغا روس، وعليه التشريف، وصحبته الأمراء. فلعب السلطان بالكرة، وعاد إلى القلعة آخر النهار.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: خلع على الأمير بيبغا روس، واستقر في نيابة حلب عوضا عن أرغون الكاملي. واستقر أرغون الكاملي في نيابة الشام، عوضا عن أيتمش الناصري وفيه خلع أيضا على أمير أحمد الساقي شاد الشرابخاناه ونائب صفد، واستقر في نيابة حماة، عوضا عن طنبرق. ورسم طنبرق إلى حلب أمير طبلخاناه، ثم رسم أن يكون بطالا بدمشق وفيه خلع على الوزير علم الدين بن زنبور خلعة الاستمرار، وركب قدام المحمل بالزناري في موكب عظيم. ولم يركب أحد من الوزراء قدام المحمل سوى ابن السلعوس، في أيام الأشرف خليل، وأمين الملك بن الغنام في أيام الناصر محمد، مرة واحدة.
وفيه أحيط بموجود ست حدق، ووكل بها. وكتب موجودها، وألزمت.بمال كبير سوى موجودها، ثم أفرج عنها، ولم يؤخذ لها شيء.
وفي يوم الجمعة أول شعبان: خلع على محمد بن الكوراني بولاية مصر والصناعة، عوضا عن بلاط.
وفي يوم الأحد ثالثه: سافر الأمير بيبغا روس إلى نيابة حلب، وأمير أحمد إلى نيابة حماة وفيه كتب باستقرار منجك في نيابة صفد، فسأل الإعفاء، وأن يقيم بجامعه بطالا؛ فأجيب إلى ذلك بسفارة الأمير شيخو. فاسترد أملاكه التي أنعم بها على المماليك والخدام والجواري، ورم ما تشعت من صهريجه، واستجد به خطبة، وولي زين الدين البسطامي في خطابته وفيه خلع على عمر شاه، واستقر حاحب الحجاب، عوضاً عن النائب قبلاي وفيه أنعم على طشتمر القاسمي بتقدمة ألف، واستقر حاجباً ثانياً.
وفيه أنعم على جماعة من المماليك السلطانية، بإمرات.
وفي يوم الخميس سابعه: قدم أمير على المارديني، وأنعم عليه بتقدمة بيغرا.
وفيه أخرج أقجبا الحاحب الحموي، وطينال الجاشنكير، وملكتمر السعيدي، وقطلوبغا أخو مغلطاى، وطشنبغا الدوادار، وفرقوا ببلاد الشام.
وفي يوم السبت تاسعه: وصل المجاهد صاحب اليمن من سجن الكرك، فخلع عليه من الغد، ورسم له بالعود إلى بلاده من جهة عيذاب فبعث إليه الأمراء تقادم كثيرة، وتوجه.وكانت أمه رجعت من مكة بعد مسكه، وأقامت في مملكة اليمن ابنه الملك الصالح، وكتبت إلى تجار الكارم توصيهم بابنها المجاهد صاحب اليمن أن يقرضوه ما يحتاج إليه، وختمت على مالهم من أصناف المتجر بعدن وزبيد وتعز فقدم قاصدها، وقد قبض على المجاهد ثانيا، وسجن بالكرك.
وفي يوم الإثنين ثاني عشره: وصل الأمير أيتمش الناصري من الشام، فقبض عليه من الغد وفي يوم الجمعة ثاني عشريه: خرج الأمير فارس الدين ألبكي، ومعه الأمير آينبك، وأربعة أمراء طبلخاناه، صحبة الأمير أزدمر الأعمى الكاشف إلى الوجه القبلي، بسبب نفاق العربان، في تجمل كبير.
وفي مستهل شهر رمضان: قدم الشريف ثقبة، بعد ما قدم قوده وقود أخيه عجلان، فخلع عليه، واستقر في إمارة مكة.بمفرده. أنعم عليه الأمير طاز بقرض ألف دينار، وأقرضه الأمير شيخو عشرة آلاف درهم. واقترض ثقبة من التجار مالا كثيراً، واشترى الخليل والسلاح والمماليك، واستخدم عدة مماليك.
وفيه رسم بسفر الحسام لاجين العلائي مملوك آقبغا الجاشنكير وأستادار العلائي صحبة ثقبة؛ ليقلده.بمكة.
وفيه رسم بإبطال رمى والبرسيم والشعير على أهل النواحي، ونقش المرسوم على رخامة بجانب باب القلة، وكتب بذلك إلى الولاة.
وفيه خلع على ابن الأطرش، وأعيد إلى حسبة القاهرة ونظر المارستان، عوضا عن الضياء، بعناية جماعة من الأمراء به؛ لكثرة مهاداته لهم.
وفيه أخرج أيدمر الدوادار وعدة من المماليك إلى الشام.
وفيه قدم الخبر بخروج عيسى بن حسن الهجان عن الطاعة، وامتنع بجماعته في الوادي.
وفي شوال: قدم كتاب الأمير أرغون الكاملي نائب الشام بالحط على قاضي القضاة تقي الدين السبكي وأنه حكم بنزع وقف من أصحابه وأعاده ملكا، وطلب الأمير أرغون الكاملي أن يعقد لذلك مجلس فيه قضاة مصر وعلماؤها بين يدي السلطان.
وكان من خبر ذلك أن أرغون لما ولى نيابة الشام خرج علاء الدين الفرع إلى لقائه قريب حلب، وأغراه بالسبكي، وقدح فيه وفى ولده بقوادح حتى غير خاطره. فلما لقيه السبكي لم يجد منه إقبالا، وبقي على ذلك إلى أن وقف جماعة بدار العدل يشكون من السبكي أن لهم وقفا من عهد أجدادهم، وأقطع للأجناد ثم استرجعوه منهم، وثبت وقفه على قاضي القضاة المالكي بدمشق، فانتزعه السبكي منهم، وسلمه لمن كان قديماً في يده بالملكية، وسألوا عقد مجلس. فلما اجتمع القضاة والفقهاء لذلك، قام الفرع وجماعة في العصبية على السبكي، وشنعوا عليه. فأجاب السبكي بأنه " ثبت عندى أن يكون في يد مالكه، وقد حكم بذلك. وهأنا، ومن ينازعني فيما حكمت؟ " ، فلم ينازعه أحد. فطلب الأمير أرغون الكاملي قضاة القضاة، فحضروا إلا عز الدين بن جماعة، فإنه تعذر حضوره. وقرئ عليهم كتاب النائب بحضرة الشيخ بهاء الدين أحمد إبن السبكي، فأظهر كتاب أبيه بصورة الواقعة، وهى أن أجداد الشكاة ادعوا الوقفية في ضيعة كذا، فوقفها أبناءهم من بعدهم، ثم أقطعت بعد وفاتهم لجماعة من الجند فادعى الشيخ تقي الدين البوسي لما قدم من بعلبك أنها ملكه وبيده، وأنه ابتاعها من أهلها قبل وفاتهم، وأثبت كتاب مشتراه وتسلمها، وأن الشراء كان سنة اثنتين وثمانين وستمائة، وبقي إلى سنة أربع وتسعين. فأظهر قوم كتاب وقفها وأثبتوه وتسلموها، فسمي البوسي في سنة أربع وسبعمائه واستعاد الضيعة منهم، بعد منازعا عقد فيها عدة مجالس. فأخذها تنكز منهم، ثم استردها البوسى، فلم يزل إلى هذا الوقت وقف أهل الوقف، وأثبتوه على قاضي المالكية جمال الدين المسلاتى. فأثبت الآخرون أن المسلاتي كانت بينه وبين البوسي عداوة لا يجوز معها أن يحكم كل وأخذوا الضيعة. فتحاكم الفريقان إلى السبكي، فحكم باستقرار يد الملاك، وأبقى كل ذي حجة على حجته. فتنازع ابن السبكي والتاج المناوي طويلاً وانقضوا، وأخذ السبكي خطوط جماعة من المفتين بصحة حكم أبيه. ثم اجتمعوا ثانياً، وحضر قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، وانتدب للنظر في ذلك.بمفرده. فادعى قوام الدين أمير كاتب الحنفي فساد حكم السبكي، وتعصب عليه تعصبا زائداً. وذلك أنه لما قدم قوام الدين دمشق، وبها يلبغا اليحياوي نائبا اختص به، وأخذ ينهاه عن رفع يديه في الركوع، وأن هذا لا يجوز، وصلاته التي صلاها كذلك باطلة يجب عليه إعادتها فسأل يلبغا ابن السبكي عن ذلك، فأنكر مقالة القوام.
واشتهر بين الأمراء والأجناد مقالة القوام، وكثرت القالة فيها. فطلب السبكي القوام ومنعه من الإفتاء، واقتضى رأي ابن جماعة النظر في من شهد بالعداوة، وفيمن، شهد بالوقفية، فكتب بذلك لنائب الشام.
وفيه ارتفع سعر اللحم، ووقف حال المعاملين بحيث أخذوا الأغنام من أربابها بغير ثمن. فأبطل الوزير المعاملين، واشترى الأغنام بالثمن الناض وكانت عادة اللحم من أربعين درهما إلى خمسين درهما القنطار، وأكثر ما عهد بستين درهما القنطار. فبلغ في هذه الأيام بتعريف الحسبة إلى مائة وأربعين، ومائة وخمسين درهماً، وأبيع في الحوانيت كل رطل بخمسة دراهم سوداء، عنها درهم وثلث درهم كاملية.
وتعذر وجود الغنم، فكتب في البلاد الشامية بتجهيز التركمان بالأغنام، وحمل نحو الخمسمائة ألف درهم لشراء الأغنام. وكتب إلى ولاة الوجه القبلي والوجه البحري بحمل الأغنام، فحملت أغنام كثيرة من أعمال مصر. وقدم من الشام نحو العشرين ألف رأس، فانحط سعر اللحم.
وفي خامس عشره: سار محمل الحاج، صحبة الأمير طيبغا المجدي. وقدم الحج عالم كثير من أهل الصعيد والفيوم والوجه البحري، وقدم من أهل المغرب جماعة كثيرة، وقدم التكرور ومعهم رقيق كثير، وفيهم ملكهم.فسأل ملكهم الإعفاء من الدخول على السلطان، فأعفي، وسار بقومه إلى الحج، مستهل ذي القعدة.
وفيه قدم البريد بقتل نجمة الكردي بحيلة عملها عليه صاحب ماردين حتى قدم عليه، فتلقاه وأكرمه، ثم قبض عليه، وضرب عنقه بيده، وقتل من معه.
وفيه قدم الخبر بان الأمير أزدمر الأعمى الكاشف رتب من معه من الأمراء في عدة مواضع، وركب ومعه الأمير آينبك ليلا، وصاح العربان من عرك صباحاً، وقتل منهم جماعة، وامتنع باقيهم بالجبل. فعاد الأمير أزدمر وطلب بني هلال أعداء عرك، فأتاه منهم ومن غيرهم خلق كثير. وكتب الأمير أزدمر لأولاد الكنز.بمسك الطرقات على عرك، وركب ومعه الأمير فارس الدين والأمراء، وأسندمر المتوفي الإطفيحية، إلى الجبل؛ وقد لقيه الأحدب في حشد كبير، فلم بثبت الأحدب وانهزم من رمي النشاب، وترك أثقاله وحريمه. ونادى الأمير أزدمر. " يا بنى هلال دونكم أعداءكم " ، فمالوا عليهم يقتلون، وينهبون الواشي والغلال والدقيق والقرب والروايا، وسلبوا الحريم، حتى امتلأت أيدي بني هلال وأيدي الأجناد والغلمان من النهب. وكتب بذلك إلى السلطان، وأن البلاد قد خضرت أراضيها، وأطاع عربانها العصاة، وتوطن أهلها. فسر السلطان والأمراء بذلك، وحمل إلى كل من الكاشف والأمراء خلعة.
وفيه ألزمت ست حدق ألا تجتمع بأحد، فإنها كانت من جملة أنصار الناصر حسن.
وفيه ضيق على الناصر حسن، وسدت عنه أماكن كثيرة كان ينظر منها ويحدث من يريد؛ واحتفظ به احتفاظاً زائداً.
وفيه توجه السلطان والأمراء إلى السرحة قريباً من الأهرام.
وفي أول ذي الحجة قدم عيسى بن حسن الهجان طائعاً بأمان، فخلع عليه.
وفيه ارتفع سعر القمح من عشرين إلى سبعة وثلاثين درهماً الأردب؛ وانحط سعر اللحم، فأبيع بدرهم الرطل.
وفيه قدم كتاب الأمير أرغون الكاملي نائب الشام يطلب الإعفاء من النيابة.
وفي هذه السنة: استقر في قضاء المالكية بحلب زين الدين عمر بن سعيد بن يحيى التلمساني، عوضاً عن الشهاب أحمد بن ياسين الرياحي. واستقر في قضاء الحنفية بها جمال الدين إبراهيم بن ناصر الدين محمد بن الكمال عمر بن العز عبد العزيز بن العديم، بعد وفاة أبيه. واستقر في كتابة السر بحلب جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود، عوضاً عن الشريف شهاب الدين بن قاضي العسكر، وقدم الشريف إلى القاهرة.
ومات فيها من الأعيان قطب الدين أبو بكر بن محمد بن مكرم، كاتب الإنشاء، في أواخر شعبان، عن اثنتين وثمانين سنة وأشهر؛ وكان كثير العبادة.
وتوفي الشريف أدى صاحب المدينة النبوية، في السحن.
ومات الأمير طشبغا الدوادار، بدمشق؛ وكان فاضلا ديناً.
وتوفي قاضى الحنفية بحلب ناصر الدين محمد بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الحسن ابن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن أبى جرادة المعروف بابن العديم، عن ثلاث وستين سنة، منها في قضاء حماة عشر سنين، وفي قضاء حلب اثنتان وثلاثون سنة.
وتوفي تاج محمد بن إبراهيم بن يوسف بن حامد المراكشي الفقيه الشافعي، بدمشق، في يوم الأحد ثالث عشرى جمادى الآخرة عن اثنتين وخمسين سنة، نشأ بالقاهرة، واستوطن بدمشق.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بيبرس الأحمدي أحد الطبلخاناه، وهو مجرد بالصعيد. فحمل ميتا إلى القاهرة، وقدم في يوم الإثنين ثاني عشري رمضان.
ومات علاء الدين على بن محمد بن مقاتل الحراني، ناظر الشام، في عاشر رمضان بالقدس.
وتوفي شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن محمد خالد بن محمد بن نصر المعروف بابن القيسراني موقع الدست، وصاحب المدرسة بسويقة الصاحب من القاهرة، وبها قبره.
ومات الشيخ.ابن بدلك في يوم الأحد سابع عشرى شوال.
ومات تاج الدين محمد بن أحمد بن الكويك، في داره ليلة السبت سادس عشرى ذي الحجة، ذبحه الحرامية.
ومات آقبغا والي المحلة، يوم الخميس تاسع عشرى ذي الحجة.
ومات ملك المغرب أبو الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق ابن محيو بن أبي بكر بن حمامة، في ثالث عشري ربيع الآخر. وقام بعده ابنه أبو عنان فارس، وكانت مدته احدى وعشرين سنة.
سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة
في أول المحرم: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا أن الشريف ثقبة لما نزل بطن مر، وتدم إلى مكة متسفر الحاج حسام الدين لاجين، وعرف الشريف عجلان بانفراد أخيه ثقبة بالإمرة، امتنع الشريف عجلان من تسليمه مكة. وعاد حسام الدين إلى ثقبة، فأقاما حتى قدم الحاج صحبة الأمير طيبغا المجدى. فتلقاه ثقبة، وطلب منه أن يحارب معه عجلان، فلم يوافقه على محاربته، فأسمعه ما لا يليق، وهدده أنه لا يمكن الحاج من دخول مكة. وقام ثقبة عنه وقد اشتد غضبه، وألبس من معه من العربان وغيرهم السلاح. فاجتمع أمير الركب، وقاضي القضاة عز الدين بن جماعة - وكان قد توجه صحبة الركب للحج - واتفقا على إرسال الحسام إلى عجلان ومعه ابن جماعة. فجرت لهم معه منازعات، آخرها أن تكون الإمرة شركة بينه وبين أخيه ثقبة. وعادا إلى بطن مر، وقررا ذلك مع ثقبة حتى رضي، وساروا جميعاً إلى مكة. فتلقاهم عجلان على العادة، وأنصف ثقبة، وأنعم عليه بسبعين ألف درهم. وكانت الوقفة بعرفة يوم الجمعة، وجاور قاضي القضاة عز الدين بن جماعة. ولقي الحاج من عبيد مكة شراً كثيراً.
وفيه قدم الخبر أن المجاهد قدم إلى تعز في ثامن عشري ذي الحجة الماضية، واستولى على ملكه. وكانت أمه قد ضبطت البلاد في غيبته، وأنفقت عند قدومها مائة ألف دينار للشريف الزيدي صاحب صنعاء، ولأهل الجبال ولأكابر المملكة، حتى أقامت ابن المجاهد، واسمه الصالح. ثم قبضت عليه، وساست الأمور، ووفت ما اقترضه المجاهد من التجار.بمصر.
وفيه قدم الأمير أزدمر الأعمى الكاشف والأمراء من بلاد الصعيد، فركب الأحدب وكبس ناحية طما على بني هلال، وقتل منهم جماعة، ونهب ما وجد. فتوجه إليهم الأمير بلبان السناني الأستادار. بمضافيه، والأمير قمارى الحموي الحاحب، وعدة من أولاد الأمراء في مستهل صفر؛ ليقيموا حتى يتم قبض المغل.
وفيه استقر ابن عقيل في ولاية البهنسي، واستقر بيبغا الشمسي في ولاية إطفيح. وكانتا مع أسندمر مملوك أزدمر الأعمى الكاشف، فعادت العربان بعد عزل أسندمر إلى ما كانت عليه من الفساد.
وفي يوم الخميس حادي عشر ربيع الأول: قدم الأمير أيتمش الناصري من سجن الإسكندرية، وخرج من القاهرة في يوم السبت ثالث عشره إلى صفد بطالا.
وفي حادي عشريه: نفي الأمير قردم أمير آخور إلى صفد، ثم أنعم عليه بإقطاع يلك الحسني الأرغوني الحاجب، وأن يحضر يلك إلى مصر، فلما حضر يلك هذا - ويعرف بيلك الشحنة - أنعم عليه بإقطاع قردم.
وفيه استقر يلك الحسني الأرغوني الحاحب أمير آخور، عوضاً عن قردم على إقطاعه، وهو حاحب.
وفي يوم الخميس رابع عشريه: أخرج الأمير ألطنبغا العلائي شاد الشرابخاناه، إلى حلب.
وفي هذا الشهر: شرع الأمير طاز في عمارة قصر وإسطبل تجاه حمام الفارقاني، بجوار المدرسة البندقدارية، وأدخل فيه عدة أملاك. وتولى عمارته الأمير منجك، وحمل إليها الأمراء وغيرهم من الرخام وآلات العمارة شيئاً كثيراً.
وفيه ابتدأ الأمير صرغتمش عمارة إصطبل الأمير بدرجك، بجوار بئر الوطاويط، قريباً من الجامع الطولوني، وأدخل فيه عدة دور، وحمل إليه الناس ما يحتاج اليه من الرخام وغيره.
وفيه عوفي الأمير قبلاي النائب، وركب الموكب. وكان منذ استقر في النيابة مريضا بوجع المفاصل، لم يركب فرسا، وإنما يجلس في شباك النيابة للحكم بين الناس. ومشت في ولايته المقايضات والنزولات عن الإقطاعات، فزاد فساد الأجناد بكثرة دخول أرباب الصنائع فيهم. وفحش ذلك حتى نزل مقدمو الحلقة عن التقدمة، وقام جماعة نحو الثلاثمائة رجل عرفوا بالمهيسين على الإقطاعات، وصاروا يطوفون على الأجناد، ويبذلون لهم الرغبات في النزول عن إقطاعاتهم.
وفيه خلع على الأمير صرغتمش، واستقر رأس نوبة كبير، في رتبة الأمير شيخو باختياره. وجعل إليه التصرف في أمور الدولة كلها من الولاية والعزل والحكم، ما عدا مال الخاص، فإن الأمير شيخو متحدث فيه، وما عدا أمور الوزارة. فقصده الناس، وكثرت مهابته، وعارض الأمراء في جميع أفعالهم. وأراد صرغتمش ألا يعمل شيء إلا من بابه وبإشارته، فان تحدث غيره في عزل أو ولاية غضب، وأبطل ما تحدث فيه، وأخرق بصاحبه.
وفيه اجتمع الأمراء على استبداد السلطان بالتصرف، وأن يكون ما يرسم به على لسان الأمير صرغتمش رأس نوبة.
وفيه قدم الخبر من مكة بأن الأسعار بها غلت حتى بلغ الأردب القمح ثلاثمائة درهم، والشعير مائتي درهم، والراوية الماء بأربعة دراهم مسعودية فأغاثهم الله تعالى في أول يوم من المحرم.بمطر استمر ثلاثة أيام، فانحل السعر، وأبيع الأردب القمح بمائة وخمسين درهماً، والراوية الماء بنصف وربع مسعودي؛ لجريان ماء عين جوبان.
وفيه قدم الخبر بنفاق عرب الصعيد ونهبهم سقط ميدان وقتل أهلها، ونهب بلاد سودى بن مانع، وأن أهل منفلوط رجموا الوالي. فألزم الأمير أزدمر الأعمى الكاشف بالخروج إليهم، وأنعم عليه بألف أردب شعير وأربعين ألف درهم، قبضها وسافر.
وفيه قدم الخبر أن طائفة الزيلع كانت عادتهم حمل قطيعة في كل سنة إلى ملك الحبشة، من تقادم السنين. فقام فيها عبد صالح ومنعهم من الحمل، وشنع عليهم إعطاءهم الجزية وهم مسلمون لنصراني، ورد رسول ملك الحبشة. فشق ذلك على ملك الحبشة، وخرج بعساكره ليقتل الزيلع عن آخرهم. فلما صار على يوم منهم قام العبد الصالح تلك الليلة يسأل الله تعالى كفاية أمر الحبشي، فاستجاب دعاءه. وعندما ركب ملك الحبشة بكرة النهار أظلم الجو - حتى كاد الرجل لا يرى صاحبه - مقدار ساعة، ثم انقشع الظلام، وأمطرت السماء عليهم ماء متغير اللون بحمرة، وأعقبه رمل أحمر امتلأت منه أعينهم ووجوههم، ونزل من بعده حيات كبيرة جداً، فقتلت منهم عالماً كثيراً. فعاد بقيتهم من حيث أتوا، وهلك في عودهم معظمهم دوابهم، وكثير منهم.
وفيه تزايد تسلط الأمير صرغتمش رأس نوبة، وكثر ترفعه. فتنكر له الأمراء، وكثرت الأراجيف بوقوع الفتنة بينهم، وإعادة الناصر حسن، ومسك شيخو وطاز، وانفرد صرغتمش بالكلمة فقلق طاز - وكان حاد الخلق - وهم بالركوب، فمنعه شيخو، فاحترز طاز وشيخو. وأخذ صرغتمش في التبرئ مما رمى به، وحلف للأمير شيخو والأمير طاز، فلم يصدقه طاز وهم به. فقام شيخو قياماً كبيراً حتى أصلح بينهما، وأشار على طاز بالركوب إلى عمارة صرغتمش، فركب إليه وتصافيا.
وفيه خلع على جرجى الدوادار، واستقر حاجبا، عوضا عن طشتمر القاسمي باستعفائه.
وفيه ركب الأمير ضروط البريد؛ لطلب جمال وهجن للسلطان من الأمير فياض بن مهنا، فإن جمال السلطان قلت، بحيث أنه لما خرج إلى السرحة اكترى له جمالا كثيرة لحمل ثقله، ومنع أمير آخور الكتاب والموقعين وغيرهم مما جرت به عادتهم من حمل أثقالهم على جمال السلطان.
وفيه قدم الخبر بفتنة الفرنج الجنوية والبنادقة، وكثرة الحروب بينهم، من أول المحرم إلى آخر ربيع الآخر. فقل الواصل من بلاد الفرنج، إلى الإسكندرية، وعز وجود الخشب، وغلا وتعذر وجود الرصاص والقصدير والزعفران. وبلغ المن بعد مائتي درهم إلى خمسمائة، ولم يعهد مثل ذلك فيما سلف. ثم قدم الخبر بأن البنادقة انتصرت على الجنوية، وأخذت لهم واحداً وثلاثين غراباً بعد قتل من بها.
وفيه قدم الشيخ أحمد الزرعي من الشام، فبالغ الأمير شيخو والأمير طاز في إكرامه.
وفيه قدمت رسل الأشرف دمرداش بن جوبان صاحب توريز بكتابه، يخبر أنه قد حسن إسلامه هو وأخوته وأقاربه، والتزم سيرة العدل في رعيته، وترك ظلمهم. وشكا الأشرف دمرداش من كثرة الاختلاف بينهم حتى هلك رعيته، وطلب أن يبعث إليه. ممن نزح عن بلاده من التجار، وكتب إليهم أمانا، وأن أرتنا نائب الروم قد أفسد بلاده، ومنع التجار أن تسير إليهم، وطلب ألا يدخل السلطان بينهما. وكان قد قدم إلى مصر والشام في هذه السنة وما قبلها كثير من تجار العجم؛ لسوء سيرة الولاة فيهم، فعرض عليهم أمان الأشرف دمرداش، فلم يوافقوا على العود إلى بلاده.
وفيه رسم للأمير جرجي الحاجب أن يتحدث في أمر أرباب الديوان، ويفصلهم من غرمائهم بأحكام السياسة ولم يكن عادة الحجاب فيما تقدم أن يحكموا في الأمور الشرعية، فاستمر ذلك فيما بعد. وكان سبب ذلك وقوف تجار العجم بدار العدل، وذكروا أنهم لم يخرجوا من بلادهم إلا لما نزل بهم من جور التتار، وأنهم باعوا بضائعهم لعدة من تجار القاهرة، فأكلوها عليهم، وأرادوا إثبات إعسارهم على القاضي الحنفي، وهو في سجنه، وقد فلس بعضهم. فرسم لجرجي بإخراج غرماء التجار من السجن، وخلاصهم مما في قبلهم، وأنكر على القاضي الحنفي ما عمله، ومنع من التحدث في أمر التجار والمديونين. فأخرج جرجي التجار من السجن، وأحضر لهم أعوان الوالي، وضربهم، وخلص منهم المال شيئاً بعد شيء ومن حينئذ صارت الحجاب بالقاهرة وبلاد الشام تتصدى للحكم بين الناس، فيما كان من شأن القضاة الحكم فيه. وفيه ركب عرب إطفيح على بيبغا الشمسي، ونهبوا ما معه وهزموه، وخرجوا عن الطاعة، فجرد إليهم طائفة من الأمراء.
وفي هذه السنة: رتب الأمير شيخو في كل ليلة جمعة وقتاً يجتمع عنده فيه الفقهاء للمذاكرة، ويقوم الشيخ علي بن الركبدار المادح، فينشد من مدائح الصرصري ونحوه ما يطربهم، وينصرفون بعد أكلهم.
وفيه كثرت الإشاعة بمدينة حلب أن الأمير بيبغا روس نائبها يريد الفرار منها إلى بلاد العدو حتى ساءه ذك، وقبض على عدة من العامة سمرهم وشهرهم، ثم أفرج عنهم.
وفيها رتب الأمير شيخو في الجامع الذي أنشأه للشيخ أكمل الدين محمد الرومي الحنفي مدرساً وشيخ صوفية، وقرر له في كل شهر أربعمائة درهم، وجعل عنده عشرين فقيهاً. وجعل خطيبه جمال الدين خليل بن عثمان الزولي، ونقله من مذهب الشافعي إلى مذهب الحنفي. وجعل به درساً للمالكية أيضاً، وولي تدريبه نور الدين السخاوي، وقرر له ثلاثمائة درهم في كل شهر. ورتب به قراء ومؤذنين، وغير ذلك من أرباب الوظائف، وقرر لهم معاليم بلغت جملتها في الشهر ثلاثة آلاف درهم.
وفيه قدم الشريف طفيل بن أدى من المدينة النبوية، يطلب تركة سعد في الإمارة.
وفيه قدم صدر الدين سليمان بن محمد بن قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن عبد الحق، فخلع عليه، واستقر في توقيع الدست.
وفي عاشر جمادى الآخرة: خلع على الأمير شيخو، وأعيد رأس نوبة، عوضاً عن صرغتمش. فعند لبسه التشريف قدم البشير بولادة بعض سراريه ولداً ذكراً، فسر به سروراً زائداً؛ لأنه لم يكن له ذكر.
وهنأه الأدباء بعدة قصائد، منها أبيات فخر الدين عبد الوهاب كاتب الدرج، قال:
بأيمن ساعة قدم الوليد ... تحف به النجابة والسعود
مبارك غرة ميمون وجه ... فيوم وروده بشرى وعيد
لقد كادت سروج الخيل تأتى ... إليه قبل أن تأتى المهود
هلال سوف تستجليه بدراً ... تماما يستنير به الوجود
وشبل سوف يبدو وهو ليث ... تروع من بسالته الأسود
وزهرعن قريب منه تجنى ... ثمار كلها كرم وجود
وفجر سوف يظهر منه صبح ... وجوهرة تزان بها العقود
وأبناء الكرام هم الكرام ... كذلك فرعك الزاكي يسود
أيا من نفعه عم البرايا ... ويا من سعيه سعي حميد
ومن للملك منه أجل ذخر ... إلى أبوابه يأوى الطريد
ومن لولاه لم تسكن خطوب ... ولم تكتم مواضيها الغمود
ومن قد شد للإسلام أزرا ... وأيده وإن رغم الحسود
لقد وافاك مولود كريم ... يسرك فيه ذو العرش المجيد
وفي هذا اليوم: قدم البريد من صفد بأن في يوم الجمعة سلخ جمادى الأولى ظهر بقرية حطين، من عمل صفد، شخص ادعى أنه السلطان أبو بكر المنصور ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومعه جماعة تقدير عشرة أنفار فلاحين فبلغ ذلك الأمير علاء الدين ألطنبغا برناق نائب صفد، فجهز إليه دواداره شهاب الدين أحمد، وناصر الدين محمد بن البتخاصي الحاجب، فأحضره. فجمع له النائب الناس والحكام، فادعى أنه كان في قوص، وأن واليها عبد المؤمن لم يقتله، وأنه أطلقه، وركب في البحر، ووصل إلى قطيا، وبقي مخفياً في بلاد غزة إلى الآن، وأن له دادة مقيمة في غزة، عندها النمجاة والقبة والطير فقال النائب: " إذا كنت في تلك الأيام جاشنكيراً، وكنت أمد السماط بكرة وعشياً، وما أعرفك؟ " . فأقام مصرا على حاله، وانفسدت له عقول جماعة، وما شكوا في ذلك. فكشف أمره من غزة، فوجدت المرأة التي ذكر أنها دادته، واعترفت أنها أمه، وأنه يعتريه جنون منذ سنن في كل سنة مرتين وثلاثا. وذكر أهل غزة أنه يعرف بأبي بكر بن الرماح، وله سيرة قبيحة، وأنه ضرب غير مرة بالمقارع. فكتب بحمله، فخشبه نائب صفد في يديه ورجليه، وجعل الحديد في عنقه، وحمله إلى السلطان. فقدم قلعة الجبل في يوم الثلاثاء ثامن عشره، فسئل بحضرة الأمراء، فخلط في كلامه، وهذي هذياناً كثيراً. ثم قدم بين يدي السلطان، فتكلم.مما سولت له نفسه. فسمر في يوم الخميس عشريه تسمير سلامة، وشهر بالقاهرة ومصر. فكان في تلك الحالة يتحدث أنه كان سلطانا، ويقول: " اشفقوا على سلطانكم، فعن قليل أعود إليكم " . فاجتمع حوله عالم كثير، وأتوه بالشراب والحلوى، وحادثوه. فكان إذا أتى اليه أحد بالماء حتى يشربه يقول له: " اشرب ششني، وإذا رأى أميراً قال: " هذا مملوكي ومملوك أبي " . ويقول: " لي أسوة بأخي الناصر أحمد، وأخي الكامل شعبان وأخي المظفر حاجي الكل قتلوهم " . وأقام على الخشب يومين، ثم حبس في ثالثه، فاستمر في الحبس على حاله، فقطع لسانه.
وفيه ادعى شخص بالقاهرة النبوة، وأن معجزته أن ينكح امرأة فتلد من وقتها ولداً ذكراً يخبر بصحة نبوته. فقيل له: " إنك لبئس النبي " . فقال: " لكونكم لبئس الأمة " . فسجن، وكشف عن أمر؛ فوجد له اثنا عشر يوماً منذ خرج من عند الممرورين بالمارستان، وأنه أخذ غير مرة وهو مجنون، فعمل عند الممرورين وفي يوم الإثنين رابع عشريه: سمر ابن مغنى، ومعه جماعة قبض عليهم الأمير مجد الدين بن موسى الهذباني. الكاشف، من معدية زفتية.
وفي مستهل رجب: قدم الأمير أزدمر الأعمى الكاشف، وقد كمل تحضير أراضي الوجه القبلي، واطمأن أهله. وطلب أزدمر الإعفاء من كشف الوجه القبلي، فخلع عليه واستقر في كشف الوجه البحري، عوضاً عن مجد الدين بن موسى الهذباني.
وفيه قدم كتاب الملك المجاهد على من اليمن بوصوله إلى بلاده، وأنه جهز تقدمته، وأوفي التجار أموالهم التي اقترضها، وأنه أطلق مراكب التجار لتسير، إلا أنه منعها أن ترسى بجدة وتعبر إلى مكة كراهة في أمرائها.
وفي يوم الأربعاء عاشر رجب: قدم كتاب الأمير أرغون الكاملي نائب الشام، يتضمن أنه قبض على قاصد الأمير منجك الوزير، بكتابه إلى أخيه الأمير بيبغا روس نائب حلب، يحسن له الحركة. وقد أرسله الأمير أرغون الكاملي، فإذا فيه أنه قد اتفق مع سائر الأمراء على الأمر، " وما بقي إلا أن تركب وتتحرك " . فاقتضى الرأى التأني حتى يحضر الأمراء والنائب من الغد إلى الخدمة، ويقرأ الكتاب عليهم، ليدبروا الأمر على ما يقع عليه الاتفاق.
فلما طلع الجماعة من الغد إلى الخدمة لم يحضر منجك، فطلب فلم يوجد، وذكر أتباعه أنه من عشاء الآخرة لم يعرفوا خبره. فركب الأمير صرغتمش في عدة من الأمراء، وكبس بيوت جماعة، فلم يوقف له على خبر. وافتقدوا مماليكه، ففقد منهم اثنان. فنودي عليه في القاهرة، وهدد من أخفاه. وأخرج عيسى بن حسن الهجان في جماعته من عرب العايد على النجب لأخذ الطرقات عليه، وكتب إلى العربان ونواب الشام وولاة الأعمال على أجنحة الطيور بتحصيله، فلم يقدر عليه، فكبست بيوت كثيرة. وكان قد خرج في يوم الخميس حادي عشره الأمير فارس الدين ألبكي بألفه، والأمير طشتمر القاسمي بألفه إلى غزة، فأخر أمرهم
وفي يوم الأربعاء رابع عشريه: قدم البريد من دمشق بعصيان الأمير بيبغا روس نائب حلب، واتفاقه مع الأمير أحمد الساقى نائب حماة، والأمير بكلمش نائب طرابلس فجرد في يوم السبت سابع عشريه جماعة من الأمراء وأجناد الحلقة إلى الصعيد، منهم عمر شاه الحاجب، وقماري الحاجب، ومحمد بن بكتمر الحاجب، وشعبان قريب يلبغا. وكتب لبيبغا روس نائب حلب بالحضور إلى مصر، على يد سنقر وطيدمر من مماليك الحاج أرقطاي وكتب معهما ملطفات لأمراء حلب تتضمن أنه إن امتنع عن الحضور فهو معزول، ورسم لهما أن يعلما بيبغا بذلك أيضا مشافهة بحضرة الأمراء فقدم البريد من دمشق.بموافقة ابن دلغادر لبيبغا روس، وأنه تسلطن يحلب، وتلقب بالملك العادل، وأظهر أنه يريد مصر لأخذ غرمائه، وهم طاز وشيخو وصرغتمش وبزلار وأرغون الكاملي نائب الشام. فرسم للنائب بيبغا ططر حارس الطير بعرض مقدمي الحلقة، وتعيين مضافيهم من عبرة أربعمائة دينار الإقطاع فما فوقها؛ ليسافروا. فقدم البريد بأن قراجا بن دلغادر قدم حلب في جمع كبير من التركمان، فركب بيبغا روس وقد واعد نائب حماة ونائب طرابلس على مسيرة أول شعبان، وأنهم تلقوه بعساكرهم على الدستن.
فركب الأمير أرقطاى الدوادار الكبير البريد.بملطفات لجميع أمراء حلب وحماة ونائب طرابلس، فقدم دمشق وبعث بالمطلفات لأصحابها، فوجد أمر بيبغا روس قد قوي، ووافقه النواب والعساكر وابن دلغادر تركمانه وكسابته، وجبار بن مهنا بعربانه فكتب الأمير أرغون الكاملي نائب الشام بأن سفر السلطان لابد منه، " وإلا خرح عنكم جميعه " . فاتفق رأي الأمراء على ذلك، وطلب الوزير علم الدين عبد الله ابن زنبور، ورسم له بتهيئة بيوت السلطان وتجهيزه الإقامات في المنازل، فذكر أنه ما عنده مال لذلك، فرسم له بقرض ما يحتاج اليه من التجار، فطلب الكارم وباعهم غلالا من الأهراء بالسعر الحاضر، وعدة أصناف أخرى، وكتب إلى مغلطاي بالإسكندرية بقرض أربعمائة ألف درهم، فأجاب إليها. وأخذ من ابن منكلى بغا ستمائة ألف درهم، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه. وأخذ من الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب مائة ألف درهم قرضاً، ومن الأمير بلبان السناني أستادار مائة ألف درهم. فلم يمضي أسبوع حتى جهز الوزير جميع ما يحتاج اليه، وحمل الشعير إلى العريش، وحمل في الخزانة أربعمائة تشريف، منها خمسون أطلس بحوائص ذهب وخرج الأمير طاز في يوم الخميس ثالث شعبان، ومعه الأمير بزلار، والأمير كلتاي أخو طاز، وفارس الدين ألبكي ثم خرج الأمير طيبغا المجدي وابن أرغون النائب، في يوم السبت خامسه وخرج الأمير شيخو في يوم الأحد سادسه في تجمل عظيم، فبينا الناس في التفريج على طلبه إذ قيل قبض على منجك. وسبب ذلك أن الأمير طاز رحل في يوم السبت، فلما وصل بلبيس قيل له إن رجلا من بعض أصحاب منجك صحبة شاروشي مملوك قوصون، فطلبهما طاز، وفحص عن أمرهما، فرأى به بعض شيء فأمر بالرجل ففتش، فإذا معه كتاب منجك لبيبغا روس تضمن أنه قد فعل كل ما يختاره، وجهز أمره مع الأمراء كلهم، وأنه أخفي نفسه، وأقام عند شاورشى أياما، ثم خرج من عنده إلى بيت الحسام القصرى أستاداره، وهو مقيم حتى يكشف خبره، وهبر يستحثه على الخروج من حلب. فبعث الأمير طاز بالكتاب إلى الأمير شيخو، فوافى والأطلاب خارجة. فطلب الأمير شيخو الحسام القصرى، وسأله فأنكر، فأخذ الأمير صرغتمش وعاقبه، ثم ركب إلى بيته بجوار الجامع الأزهر وهجمه، فإذا منجك ومملوكه، فأركبه مكتوف اليدين إلى القلعة؛ فسفر إلى الإسكندرية.
وفي يوم الإثنين سابعه: ركب السلطان إلى الريدانية، وجعل الأمير قبلاي نائب الغيبة ورتب أمير علي المارديني في القلعة، ومعه الأمير كشلي السلاح دار؛ ليقيما داخل القلعة، ويكون على باب القلعة الأمير أرنال والأمير قطلوبغا الذهبي، ورتب الأمير مجد الدين موسى الهذباني مع والي القاهرة لحفظها. واستقل السلطان بالمسير من الريدانية يوم الثلاثاء ثامن شعبان بعد الظهر، فقدم البريد بأن الأمير طقطاي الدوادار خرج من دمشق يريد مصر، وأن الأمير أرغون الكاملي نائب الشام لما بلغه خروج بيبغا روس من حلب في ثالث عشر رجب، ومعه قراجا بن دلغادر وجبار بن مهنا، وقد نزل بكلمش نائب طرابلس وأمير أحمد نائب حماه على الرستن في انتظاره، عزم أرغون كذلك على لقائه. فبلغه مخامرة أكابر أمراء دمشق عليه، فاحترس على نفسه، وصار يجلس بالميدان وهو لابس آلة الحرب. ثم اقتضى رأي أمير مسعود بن خطير أن النائب لا يلقى القوم، وأنه ينادى بالعرض للنفقة في منزلة الكسوة، ويركب اليها، فإذا خرج العسكر إليه.بمنزلة الكسوة منعهم من عبور دمشق، وسار بهم إلى الرملة في انتظار قدوم السلطان. ففعل أرغون ذلك، وأنه مقيم على الرملة بعسكر دمشق، فإن ألطنبغا برناق نائب صفد سار إلى بيبغا روس في طاعته، وأن بيبغاروس وصل إلى حماه، واجتمع مع نائبها أحمد، وبكلمش نائب طرابلس، وسار بهم إلى حمص، فلقيه مملوك أرقطاى بكتاب السلطان ليحضر، فقبض عليهما وقيدهما، وسار يريد دمشق، فبلغه مسير السلطان بعساكره، واشتهر ذلك في عسكره، وأنه قد عزل من نيابة حلب، فانحلت عزائم كثير ممن معه، وأخذ في الاحتفاظ بهم والتحرر منهم، إلى أن قدم دمشق يوم الخميس خامس رجب، فإذا أبواب المدينة مغلقة والقلعة محصنة. فبعث بيبغا روس إلى الأمير أياجي نائب القلعة يأمره بالإفراج عن الأمير وقردم، وأن يفتح أبواب المدينة.
ففتح أياجي أبواب دمشق، و لم يفرج عن قردم. فركب أمير أحمد نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس من الغد، ليعبرا على الضياع، فواقى نجاب بخبر مسك منجك، ومسير السلطان من خارج القاهرة. وعاد أحمد وبكلمش في يوم الإثنين رابع عشره، وقد نزل الأمير طاز بمن معه المزيرب فارتج عسكر بيبغا روس، وتواعد فراجا بن دلغادر وجبار ابن مهنا على الرحيل، فما غربت الشمس يومئذ إلا وقد خرحا بأثقالهما وأصحابهما، وسارا فركب بيبغا روس في أثرها، فلم يدركهما، وعاد بكرة يوم الثلاثاء فلم يستقر قراره حتى دقت البشائر بالقلعة، وأعلن أهلها بأن الأمير طاز والأمير أرغون نائب الشام وافيا، وأن الأمير شيخو والسلطان ساقه. فبهت بيبغاروس، وتفخد عنه من معه، وركب عائداً إلى حلب في تاسع عشر شعبان فكانت إقامته أربعة وعشرين يوماً، أثر أصحابه فيها بدمشق وأعمالها آثاراً قبيحة، من النهب والسبي والحريق والغارات على الضياع من حلب إلى دمشق، كما فعل المغول أصحاب غازان. فبعث السلطان الأمير أسندمر العلائي والي القاهرة ليبشر بذك، فقدم إلى القاهرة يوم الجمعة خامس عشريه. فدقت البشاثر وطبلخاناه الأمراء، وزينت القاهرة سبعة أيام. وجبى من الأمراء والدواوين والولاة ومقدمي الحلقة الذين لم يسافروا ثمن الشقق الحرير التى تفرش إذا قدم السلطان، وكان قدم إليه من صفد الأمير أيتمش الناصري، فكان يرجعه عن كثير من ذلك وأما السلطان فإنه التقى مع الأمير أرغون الكاملي نائب الشام على بدعرش من عمل غزة، وقد تأخر معه الأمير طاز.بمن معه. فدخل السلطان بهم إلى غزة؛ وخلع على نائب الشام، وأنعم عليه بأربعمائة ألف درهم، وأنعم على أمير مسعود بألف دينار، وأنعم على كل من أمراء الألوف بدمشق بألفي دينار، وعلى كل من أمراء الطبلخاناه بعشرة آلاف درهم، وعلى كل من أمراء العشرات بخمسة آلاف درهم، فكانت جملة ما أنفق فيهم ستمائة ألف درهم.
وتقدم الأمير شيخو والأمير طاز والأمير أرغون الكاملي نائب الشام.بمن معهم إلى دمشق، وتأخر الأمير صرغتمش صحبة السلطان ليدبر العسكر. وتبعهم السلطان، فكان دخوله دمشق في يوم الخميس مستهل رمضان، وقد خرج الناس إلى لقائه، وزينت المدينة زينة حفلة، فكان يوماً مشهوداً. ونزل السلطان بالقلعة، ثم ركب منها في غده يوم الجمعة ثانيه إلى الجامع الأموي في موكب جليل، حتى صلى به الجمعة. وكان الأمراء قد مضوا في طلب بيبغا روس، فقدم خبرهم في يوم الإثنين خامسه بنزول الأمير شيخو والأمير طاز على حمص، وأنه قد بلغهم مسك بيبغا روس وأمير أحمد نائب حماه وجماعة. فدقت البشائر بالقلعة، ثم تبين كذب هذا الخبر وفي يوم الأربعاء سابعه: رسم بعود أجناد الحلقة ومقدميها وأطلاب الأمراء إلى القاهرة، فخرحوا فيه من دمشق أرسالا. وكانت جماعة من العسكر قد تخلفوا بغزة، فقدموا القاهرة في رابعه، وقدم الأجناد وأطلاب الأمراء إلى القاهرة في خامس عشريه وأما بيبغا روس فإنه قدم حلب في تاسع عشري شعبان، وقد حفرت خنادق تجاه أبوابها، وغلقت الأبواب وامتنعت القلعة، ورمته رجالها بالمنجنيق والحجارة، وتبعهم من فوق الأسوار من الرجال بالرمي عليه. وصاحوا عليه فبات.بمن معه، وركب من الغد يوم الخميس أول شهر رمضان للزحف على المدينة، وإذا بصياح عظيم، والبشائر تدق في القلعة، والرجال يصيحون: " يا منافقين ! العسكر وصل " . فالتفت بيبغا روس بمن معه، فإذا البيارق والصناجق نحو جبل جوشن فانهزموا بأجمعهم نحو البر. ولم يكن ما رأوه على حبل جوشن عسكر السلطان، ولكنه جماعة من جند حلب وطرابلس وحماة كانوا مختفين من عسكر بيبغا روس عند خروحه من دمشق، فساروا في أعقابه رجاء أن يدركهم عسكر السلطان. فلما حضر بيبغا روس إلى حلب أجمعوا على كبسه، وراسلوا أهل جبل بانقوسا بموافاتهم، وجمعوا عليهم كثيراً من العربان. وركبوا أول الليل، وترتبوا بأعلا جبل حوشن، ونشروا الصناجق. فعندما أشرقت الشمس ساروا، وهم يصرخون صوتاً واحداً، فلم يثبت بيبغا روس ولا أصحابه، وولوا ظناً منهم أنه عسكر السلطان. فإذا أهل بانقوسا قد أمسكوا عليهم طرق المضيق، وأدركهم العسكر، فتبددوا وتمزقوا، وقد انعقد عليهم الغبار حتى لم يكن أحد ينظر رفيقه. فأخذهم العرب وأهل حلب قبضاً باليد، ونهبوا الخزائن والأثقال، وسلبوهم ما عليهم من آلة الحرب.
ونجا بيبغا روس بنفسه، وامتلأت الأيدي بنهب ما كان معه، وهو شيء يجل عن الوصف؛ لكثرته وعظم قدره. وتتبع أهل حلب أمراءه ومماليكه، وأخرجوهم من عدة مواضع، فظفروا بكثير منهم، فيهم أخوه الأمير فاضل، والأمير ألطنبغا العلائي مشد الشرابخاناه، وألطنبغا برناق نائب صفد، وملكتمر السعيدي وشادي أخو أمير أحمد نائب حماة، وطيبغا حلاوة الأوجاقي، وابن أيدغدي الزراق أحد أمراء حلب، ومهدي شاد الدواوين بحلب، وأسنباى قريب بن دلغادر، وبهادر الجاموس، وقلج أرسلان أستادار بيبغا روس، ومائة من مماليك الأمراء؛ فقيد الجميع وسجنوا. وتوجه مع بيبغا روس أمير أحمد نائب حماة، وبكلمش نائب طرابلس، وطشتمر القاسمي نائب الرحبة، وآقبغا البالسي، وصصمق، وطيدمر، وجماعة تبلغ عدتهم نحو مائة وستة عشر فدخل الأمراء حلب، وبعثوا بالمماليك إلى دمشق، وتركوا الأمراء المقيدين بسجن القلعة. وركب الحسام العلائي إلى طرابلس، فأوقع الحوطة على موجود نائبها، بكلمش؛ وتم إيقاع الحوطة بحماة على موجود أمير أحمد.
وكتب الأمراء إلى قراجا بن دلغادر بالعفو عنه، والقبض على بيبغا روس ومن معه، وكان بيبغا روس قد قدم عليه، فركب وتلقاه، وقام له.بما يليق به. فلما وقف قراجا بن دلغادر على كتب الأمراء أجاب بأنه ينتظر في القبض عليه مرسوم السلطان به، وارسال الأمان لبيبغا روس، وأنه مستمر على إمرته، فلما حهز له ذلك امتنع من تسليمه. فطلب رمضان من أمراء التركمان، وخلع عليه بإمرة قراجا بن دلغادر وإقطاعه. وعاد الأمراء من حلب، واستقر بها الأمير أرغون الكاملي نائباً، عوضاً عن بيبغا روس وقدموا دمشق ومعهم الأمراء المسجونون، يوم الجمعة سلخ رمضان، وركبوا مع السلطان لصلاة العيد، والأمير مسعود بن خطير حامل الجتر على السلطان حتى عبر الميدان فصلى بهم تاج الدين محمد بن إسحاق المناوي قاضي العسكر صلاة العيد، وخطب ومد السماط بالميدان، فكان يوماً مذكوراً.
وفي يوم الإثنين ثالثه: جلس السلطان بطارمة قلعة دمشق، ووقف الأمير شيخو وطاز وسائر الأمراء بسوق الخيل تحت القلعة. وأخرج الأمراء المسجونون في الحديد، ونودي عليهم: " هذا جزاء من يخامر على السلطان، ويخون الإسلام " ووسطوهم واحداً بعد واحد، وهم ألطنبغا برناق، وطيبغا حلاوة، ومهدي شاد الدواوين بحلب، وأسنبغا التركماني، وألطنبغا الثلاثي شاد الشرابخاناه، وشادي أخو أمير أحمد نائب حماه، وأعيد ملكتمر السيدي إلى السجن وفيه قبض على ملك آص شاد الدواوين بدمشق، وساطلش الجلالي، ومصطفى، والحسام مملوك أرغون شاه، وأمير علي بن طرنطاي البشمقدار، وابن جودى، وقردم أمير آخور، وأخرجوا إلى الإسكندرية، ومعهم ملكتمر السعيدي، ونفي مقبل نقيب الجيش إلى طرابلس وفيه خلع على الأمير أيتمش الناصري، واستقر في نيابة طرابلس، عوضاً عن بكلمش. وأنعم على أمير مسعود بن خطير بإقطاع قردم، وأنعم على كل من ولديه بإمرة طبلخاناه واستقر الأمير طنيرق في نيابة حماة، عوضاً عن أمير أحمد الساقى. واستقر شهاب الدين أحمد بن صبح في نيابة صفد، ورسم بإقامة الأمير طيبغا المجدي بدمشق، على إمرة.
وتوجه الأمير يلبك والأمير نوروز إلى مصر.
وفي يوم الجمعة سابعه: صلى السلطان الجمعة، وخرج من دمشق يريد مصر. فكانت إقامته بها سبعة وثلاثين يوماً.
وأما القاهرة فإن مماليك الأمراء وأجنادهم كانت تركب في مدة غيبة السلطان كل ليلة من عشاء الآخرة، وتتفرق في نواحي المدينة وظواهرها، لحفظ الناس فإذا رأوا أحدا يمشى ليلا حبسوه، حتى يتبين أمره، ولم يبق حانوت ولا زقاق إلا وعليه قنديل يشمل طول الليل. وطلب الأمير قبلاي النائب مقدمي الوالي، وألزمهم أن يقوموا بجميع ما يصرف في القاهرة وظواهرها. وانتدب الأمير مجد الدين موسى الهذباني، والأمير ناصر الدين محمد بن الكوراني؛ لحفظ مدينة مصر. ورتب جماعة لحفظ بيوت المتجر، في البر والبحر. فلم يعدم لأحد شيء سوى سرقة متاع من حانوت يهودي، فضرب الأمير قبلاى النائب مقدمي الوالي بالمقارع حتى أحضروا متاع اليهودي له.
واتفق أن ابن الأطروش محتسب القاهرة مر بسوق الشرابشيين، وابن أيوب الشرابيشي في حانوته. وكان أيوب هذا يعتريه جنون في بعض الأحيان، فأخذ يسب المحتسب ويهزأ به، ثم وثب اليه وألقاه عن بغلته، وركب صدره. فما خلصه الناس منه إلا بعد جهد، وأقاموه من تحت ابن أيوب، وقد تباعدت عمامته وانكشف رأسه. فطلع ابن الأطروش إلى الأمير قبلاي النائب، وأخبره.بما جرى عليه، فأحضر الأمير قبلاى ابن أيوب، وضربه وحبسه.
وفيه حدثت زلزلة في رمضان، والناس في صلاة العشاء الآخرة.
وفي سابع عشره: خرج الأمير أرنان والأمير قطلوبغا الذهبي، والأمير علم دار إلى الصعيد في البر والبحر، بسبب نفاق العربان، وقطع الطرقات على المسافرين، وتشليح الأجناد.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشرى شوال: قدم السلطان، ومشى بفرسه على شقاق الحرير التي فرشت له، وخرج الناس إلى لقائه ورويته، فكان يوماً مشهوداً لم يتفق مثله لأحد من أخوة السلطان الذين تسلطنوا.
وعندما طلع السلطان القلعة تلقته أمه وجواريه وأخوته، ونثر عليه الذهب والفضة، وقد فرشت له طريقه بشقاق الحرير الأطلسي، ولم يبق بيت من بيوت الأمراء إلا وفيه الأفراح والتهاني. وفيه يقول الأديب شهاب الدين أحمد بن أبي حجلة:
الصالح الملك العظيم قدره ... يطوى له الأرض البعيد النازح
لاتعجبوا من طيها لمسيره ... فالأرض تطوى دائماً للصالح
وعم الموت أهل جزيرة الأندلس، إلا مدينة غرناطة، فإنه لم يصب أهلها منه شيء، وباد من عداهم حتى لم يبق للفرنج من يمنع أموالهم. فأتتهم العرب من إفريقية تريد أخذ الأموال إلى أن صاروا على نصف يوم منها، مرت بهم ريح، فمات منهم على ظهور الخيل جماعة كثيرة. ودخلها باقيهم، فرأوا من الأموات ما هالهم، وأموالهم ليس لها من يحفظها، فأخذوا ما قدروا عليه، وهم يتساقطون موتى فنجا من بقى منهم بنفسه، وعادوا إلى بلادهم، وقد هلك أكثرهم، والموت قد فشا بأرضهم، بحيث مات منهم في ليلة واحدة عدد عظيم، وماتت مواشيهم ودوابهم كلها.
وعم الموتان أرض إفريقية بأسرها، جبالها وصحاريها ومدنها، وجافت من الموتى، وبقيت أموال العربان سائبة لا تجد من يرعاها. ثم أصاب الغنم داء، فكانت الشاة إذا ذبحت وجد لحمها منتناً قد اسود. وتغير أيضاً ريح السمن واللبن، وماتت المواشي بأسرها.
وشمل الوباء أيضاً أرض برقة إلى الإسكندرية، فصار يموت بها في كل يوم مائة. ثم مات بالإسكندرية في اليوم مائتان، وشنع ذلك حتى أنه صلى في يوم الجمعة بالجامع الاسكندري دفعة واحدة على سبعمائة جنازة. وصاروا يحملون الموتى على الجنويات والألواح وغلفت دار الطراز لعدم الصناع، وغلقت دار الوكالة لعدم الواصل إليها، وغلقت الأسواق وديوان الخمس، وأريق من الخمر ما يبلغ ثمنه زيادة على خمسمائة دينار. وقدمها مركب فيه إفرنج، فأخبروا أنهم رأوا بجزيرة طرابلس مركباً عليه طير يحوم في غاية الكثرة، فقصدوه، فإذا جميع من فيه من الناس موتى، والطير تأكلهم، وقد مات من الطير أيضاً شيء كثير، فتركوهم ومروا، فما وصلوا إلى الإسكندرية حتى مات زيادة على ثلثيهم.
وفشى الموت.بمدينة دمنهور، وتروجة، والبحيرة كلها حتى عم أهلها، وماتت دوابهم فبطل من الوجه البحري سائر الضمانات، والموجبات السلطانية. وشمل الموت أهل البرلس نستراوه، وتعطل الصيد من البحيرة لموت الصيادين. وكان يخرج بها في المركب عدة من الصيادين لصيد الحوت، فيموت أكثرهم في المركب، ويعود من بقي منهم، فيموت بعد عوده من يومه هو وأولاده وأهله. ووجد في حيتان البطارخ شيء منتن، وفيه على رأس البطرخة كبة قدر البندقة قد اسودت ووجد في جميع زراعات البرلس وبلحها وقثائها دود، وتلف أكثر ثمر النخل عندهم. وصارت الأموات على الأرض في جميع الوجه البحري، لا يوحد من يدفنها. وعظم الوباء بالمحلة حتى أن الوالي كان لا يجد من يشكو إليه، وكان القاضي إذا أتاه من يريد الإشهاد على وصيته لا يجد من العدول أحداً إلا بعد عناء لقلتهم، وصارت الفنادق لا تجد من يحفظها. وعم الوباء جميع تلك الأراضي، ومات الفلاحون بأسرهم، فلم يوجد من يضم الزرع.
وزهد أرباب الأموال في أموالهم، وبذلوها للفقراء. فبعث الوزير منجك إلى الغربية كريم الدين مستوفي الدولة ومحمد بن يوسف مقدم الدولة في جماعة فدخلوا سنباط وسمنود وبوصير وسنهور وأبشيه ونحوها من البلاد، وأخذوا مالا كثيراً لم يحضروا منه سوى ستين ألف درهم.
وعجز أهل بلبيس وسائر بلاد الشرقية عن ضم الزرع؛ لكثرة موت الفلاحين. وكان ابتداء الوباء عندهم من أول فصل الصيف، وذلك في أثناء ربيع الآخر. فجافت الطرقات وغير ذلك. وألزم محمد بن الكوراني والي مصر بتحصيل بنات ابن زنبور، فنودي عليهن. ونقل ما في دور صهري ابن زنبور، وسلما لشاد الدواوين. وعاد الأمير صرغتمش إلى القلعة. فطلب السلطان جميع الكتاب وعرضهم، وعين الموفق هبة الله بن إبراهيم للوزارة، وبدر الدين كاتب يلبغا لنظر الخاص، وتاج الدين أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن الغنام لنظر الجيش، وأخاه كريم الدين لنظر البيوت، وابن السعيد لنظر الدولة، وقشتمر مملوك طقزدمر لشد الدواوين.
وفي يوم الأحد تاسع عشريه: خلع عليهم. فأقبل الناس إلى طلب الأمير صرغتمش للسعي في الوظائف، فولي أسعد حربة استيفاء الدولة، وولي كريم الدين أكرم بن شيخ ديوان الجيش. وسلم الأمير صرغتمش المقبوض عليهم لشاد الدواوين، وهم الفخر بن قزوينة ناظر البيوت، والفخر بن مليحة ناظر الجيزة، والفخر مستوفي الصحبة، والفخر ابن الرضي كاتب الإصطبل، وابن معتوق كاتب الجهات، وأكرم الملكي. وطلب التاج ابن لفيتة ناظر المتجر وناظر المطبخ، وهو خال ابن زنبور، فلم يوجد، وكسبت بسببه عدة بيوت حتى أخذ. وصار الأمير صرغتمش ينزل ومعه ناظر الخاص وشهود الخزانة، وينقل حواصل ابن زنبور من مصر إلى حارة زويلة بالقاهرة فأعياهم كثرة ما وجدوا له. وتتبعت حواشي ابن زنبور، وهجمت دور كثيرة بسببهم، عدم لأربابها مال عظيم.
وفي يوم الإثنين مستهل ذي القعدة: قدم البريد من نائب حلب بمائة وعشرين منشوراً للتركمان، ويستأذن في تجريد عسكر حلب إلى ابن دلغادر.
وفيه نزل الأمير صرغتمش إلى بيت ابن زنبور بالمصاصة وعدم منه ركغاً دل عليه، فوجد فيه خمسة وستين ألف دينار حملها إلى القلعة. وطلب الأمير صرغتمش ابن زنبور، وضربه عرياناً، فلم يعترف بشىء، فنزل إلى بيته، وضرب ابنه الصغير وأمه تراه في عدة أيام حتى أسمعته كلاماً جافياً؛ فأمر بها، فعصرت.
وأخذ ناظر الخاص في كشف حواصل ابن زنبور.بمصر، فوجد له من الزيت والشيرج والنحاس والرصاص والكبريت والعكر والبقم والقند والسكر والعسل وسائر أصناف المتجر ما أذهله، فشرع في بيع ذلك. هذا، والأمير صرغتمش ينزل بنفسه وينقل قماش ابن زنبور وأثاثه إلى حارة زويلة، ليكون ذخيرة للسلطان. فبلغت عدة الحمالين الذين حملوا النصافي والتفاصيل، وأواني الذهب والفضة، والبلور والصيني والكفت، والسنجاب والملابس الرجالية والنسائية، والزراكش والجواهر واللالىء، والبسط الحرير والصوف، والفرش والمقاعد، وأواني الذهب والفضة زنة ستين قنطاراً، ومن الجوهر زنة ستين رطلا، ومن اللؤلؤ كيل أردبين، ومن الذهب الهرجة مبلغ ثلاثين ألف دينار وأربعة آلاف دينار، ومن الحوائص ستة آلاف حياصة، ومن الكلفتاه الزركش ستة آلاف كلفتاه، ومن ملابس ابن زنبور نفسه عدة ألفين وستمائة فرجية، ومن البسط ستة آلاف بساط، ومن الصنج لوزن الذهب والفضة بقيمة خمسين ألف درهم، ومن الشاشات ثلاثمائة شاش. ووجد له من الخيل والبغال ألف رأس، ودواب عاملة ستة آلاف رأس، ودواب حلابة ستة آلاف رأس، ومن معاصر السكر خمسة وعشرون معصرة، ومن الإقطاعات سبعمائة إقطاع، كل إقطاع متحصله خمسة وعشرون ألف درهم في السنة. ووجد له مائة عبد، وستون طواشي وسبعمائة جارية، وسبعمائة مركب في النيل، وأملاك قومت بثلاثمائة ألف دينار، ورخام.بمائتي ألف درهم، ونحاس بأربعة آلاف دينار، وسروج وبدلات عدة خمسمائة. ووجد له اثنان وثلاثون مخزناً، فيها من أصناف المتجر ما قيمته أربعمائة ألف دينار. ووجد له سبعة آلاف نطع وخمسمائة حمار، ومائتا بستان، وألف وأربعمائة ساقية، وذلك سوى ما نهب، وسوى ما اختلس، على أن موجوده أبيع بنصف قيمته. ووجد له في حاصل بيت المال مبلغ مائة ألف وستين ألف درهم، وفي الأهراء نحو عشرين ألف أردب وكان مبدأ أمره أنه باشر استيفاء الوجه القبلي، وتوجه إليه صحبة الأمير علم الدين أيدمر الزراق، وهو كاشف. فنهض فيه، وشكرت سيرته، إلى أن عرض السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الكتاب في أيام النشو ليختار منهم من يوليه كاتب الإصطبل؛ وكان ابن زنبور من جملتهم، وهو شاب، فأثنى عليه الفخر ناظر الجيش، وساعده الأكوز. فخلع عليه السلطان الناصر محمد، واستقر به كاتب الإصطبل، عوضاً عن ابن الجيعان فنال في مباشرة الإصطبل سعادة طائلة. وأعجب به السلطان لفطنته، وشكره من تحت يده، حتى مات السلطان الناصر محمد.
ثم استقر ابن زنبور مستوفي الصحبة في أيام المنصور أبي بكر، وانتقل منها في وزارة نجم الدين محمود وزير بغداد إلى نظر الدولة. ثم أخرجه جمال الكفاة لكشف القلاع، فقدم إلى مصر بعد موته. ثم استقر في نظر الخاص بعناية الأمير أرغون العلائي؛ ثم أضيف إليه نظر الجيش، وجمع بعد مدة إليهما الوزارة. ولم يتفق لأحد قبله بالجمع بين الوظائف الثلاث
وعظم ابن زنبور إلى الغاية، حتى أنه كان إذا خرجت الخيول لأرباب الوظائف من إصطبل السلطان، يخرج له ثلاثة أرؤس، وإذا خلع عليه خلع عليه ثلاث خلع. ونفذت كلمته، وقويت مهابته، وفخمت سعادته، واتجر في جميع الأصناف حتى في الملح والكبريت، وربح في سنة واحدة من المتجر زيادة على ألف ألف درهم، منها في صنف الزيت الحار خاصة مائة ألف وعشرة آلاف. فكثرت حساده، وعادته الكتاب لضبطه، وأحصوا عليه جميع ما يتحصل له.
فلما ولى الأمير صرغتمش بعد الأمير شيخو رأس نوبة، أغروه به، فإنه كان يحمل لشيخو مال الخلص، وهو الذي عمر له العمارة التي على النيل من ماله، وكان يقوم له بما يفرقه من الحوائص على مماليكه ونحو ذلك، حتى تغير صرغتمش وصار صرغتمش يسمع شيخو الكلام. الكثير بسببه، فيقول له: " قد كثرت القالة فيك بسبب ابن زنبور، وأنه يحمل إليك كل ما يتحصل من الخاص، وأنه قد كثر ماله. فلو مكنتني أخدت للسلطان مالا ينقصه " . فيدافع شيخو عنه، ويعتذر له بأنه إذا قبض عليه لا يجد من يسد مسده، وإن كان ولابد فيقرر عليه النشو مال يحمله، وهو على وظائفه. وبينما هو في ذلك إذ قدم خبر مخامرة بيبغا روس، فاشتغل عنه صرغتمش، وخرج إلى الشام، وفي نفسه منه ما فيها. وصار صرغتمش يتجهم لابن زنبور، ويسمعه ما يكره، إلى أن أرجف.بمسكه، وهو يسترضيه، ويحمل له أنواع المال فلا يرضى، حتى أعيى ابن زنبور أمره. وحدث ابن زنبور شيخو بدمشق.بما هو فيه مع صرغتمش، فطب شيخو خاطره بأنه مادام حياً لا يتمكن منه أحد؛ فركن لقوله. وأخذ صرغتمش يغري الأمير طاز بابن زنبور حتى وافقه على مسكه، فقوى به على شيخو؛ ووكل يثقله لما توجه من دمشق من يحرسه، وهو لا يشعر فلما وصل السلطان خارج القاهرة أشيع أنه يعبر من باب النصر ويشق القاهرة، فاجتمع لرؤيته عالم عظيم، وأشعلوا له الشموع والقناديل. فدخل ابن زنبور على بغلة رائعة بزناري أطلس، في موكب جليل إلى الغاية، وبين يديه جميع المتعممين من القضاة والكتاب، وقد أعجب بنفسه إعجاباً كثيراً، والناس تشير إليه بالأصابع. فكانت تلك نهايته، وقبض عليه كما تقدم.
وانتدب جماعة بعد مسك ابن زنبور للسعي في هلاكه، وأشاعوا أنه وجد في بيته عدة صلبان، وأنه لما دخل إلى القدس في سفرته هذه بدأ بكنيسة القيامة، فقبل عتبتها، وتعبد فيها، ثم خرج إلى المسجد الأقصى فأراق الماء في بابه، و لم يصل فيه، وكانت صدقته على النصارى بكنيسة القيامة، ولم يتصدق على أحد من فقراء المسلمين بالقدس. فأثبتوا في ذهن صرغتمش أنه باق على النصرانية، ورتبوا فتاوى تتضمن أنه ارتد عن الإسلام. وكان أحل من قام عليه الشريف شرف الدين نقيب الأشراف، والشريف أبو العباس الصفراوي، وبدر الدين ناظر الخاص، والصواف تاجر صرغتمش. فأول ما بدأوا به من نكايته أن حسنوا لصرغتمش حتى بعث إليه الصدر عمر وشهود الخزانة، فشهدوا عليه في مكتوب، أن جميع ما بيده من الدور والبساتين والأراضي ما وقفه منها وما هو طلق - جميعه اشتراه من مال السلطان دون ماله، وأنه ملك للسلطان ليس فيه شيء قل أو جل. ثم حسنوا له ضر به، فأمر به فأخرج بكرة يوم وفي عنقه باشة وجنزير، وضرب عرياناً قدام باب قاعة الصاحب من القلعة. ثم أعيد إلى موضعه، وعصر، وسقى الماء والملح. ثم سلم لشاد الدواوين، وأمر بقتله، فنوع عقوبته. فمنع الأمير شيخو من قتله، فأمسك عنه، ورتب له الأكل والشرب، وغيرت عنه ثيابه، ونقل من قاعة الصاحب إلى بيت الأمير صرغتمش.
وفي يوم الأحد رابع عشر ذي القعدة: قبض على الأمراء قمارى الحموي، وشعبان قريب يلبغا، ومحمد بن بكتمر الحاحب، ومأمور، وحملوا إلى الإسكندرية، فسجنوا بها، ماعدا شعبان فإنه أخرج إلى دمشق.
وفيه قدمت رسل الأشرف بن جوبان أنه يريد محاربة أرتنا نائب الروم، وطلب ألا يدخل السلطان بينهما، فأجيب عن ذلك.
وفي يوم الإثنين خامس عشره: قدم الأمير ناصر الدين بن المحسني.
وفي أول ذي الحجة: قرر على أتباع ابن زنبور مال، وأفرج عنهم، فكانت جملة ذلك ستمائة وسبعين ألف درهم.
وفي خامسه: وصل أمير علي المارديني نائب الشام إلى دمشق، صحبة الأمير عز الدين أزدمر الخازاندر متسفره، وركب أمير على الموكب على العادة.
وفي يوم الإثنين ثامن عشريه: قدم البريد من حلب بأخذ أحمد الساقي نائب حماة، وبكلمش نائب طرابلس، من عند ابن دلغادر، وقد قبضهما. فدخلا حلب في حادي عشريه، وسجنا بقلعتها، فأجيب الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بالشكر والثناء، وأنه يشهر المذكورين بحلب، ويقتلهما، وجهز لنائب حلب خلعة.
وفيه قدم الخبر من غزة بكثرة الأمطار التي لم يعهد بغزة مثلها، وأنه هدم عدة بيوت كثيرة منها على أهاليها، وسقط نصف دار النيابة، وسكن النائب بجامع الجاولي، وتلف ما زرع من كثرة المياه. ثم سقط ثلج كثير حتى تعدى العريش.
وفيه كانت الأمطار بأراض كثيرة جداً، وسقط الثلج بناحية بركة الحبش وعلى الجبل، وبأراضي الجيزة.
وأما النيل فان القاع جاء ثلاثة أذرع وثلث، وتوقفت الزيادة أياماً. ثم زاد في كل يوم ما بين أربعين وثلاثين وعشرين إصبعاً، حتى كان الوفاء، في يوم الثلاثاء حادي عشري جمادى الآخرة، وثالث عشر مسرى، ونودي بزيادة عشر أصابع من سبعة عشر ذراعا، وانتهت زيادته إلى ثمانية عشر ذراعاً وتسعة عشر أصبعاً.
وفيها وقع بدمشق حريق عظيم، عند باب جيرون، عدم فيه الباب النحاس الأصفر الذي لم ير مثله، ويزعم أهل دمشق أنه من بناء جيرون بن سعيد بن عاد بن أرم بن سام بن نوح.
وفيها ولي الأمير بكتمر المؤمني شاد الدواوين، عوضاً عن الأمير يلك أمير آخور بعد موته بغزة. وكان قد توجه إلى الحجاز، فتوجه النجاب لإحضاره حتى قدم، واستقر بعناية الأمير شيخو وتعيينه له.
وفيه تولى نظر خزانة الخاص قاضي القضاة تاج الدين محمد بن محمد بن أبي بكر الأخنائي، ثم استعفي منها بعد القبض على ابن زنبور، فولى عوضه تاج الدين الجوجري.
ومات فيها من الأعيان أرتنا نائب الروم من قبل بوسعيد.
وتوفي بدر الدين حسن بن علي بن أحمد الغزي، المعروف بالزغاري، الدمشقي الأديب الشاعر، عن نيف وخمسين سنة بدمشق، في ليلة الخميس حادي عشر رجب، ومولده سنة ست وسبعمائة.
وتوفي العضد عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار العراقي، شارح المختصر والمواقف. ولي قضاء مملكة أبي سعيد.
وتوفي الأمير فاضل أخو بيبغا روس بحلب، وكان عسوفاً.
ومات الأمير يلك أمير آخور بغزة، وهو عائد إلى القاهرة وتوفي شمس الدين محمد بن سليمان القفصي، أحد نواب المالكية بدمشق.
وتوفي بهاء الدين محمد بن علي بن سعيد، والمعروف بابن إمام المشهد، الفقيه الشافعي بدمشق، في ثامن عشرى رمضان، وقد أناف على الستين، وولي حسبة دمشق، وقدم القاهرة.
وتوفي شهاب الدين يحيى بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر، المعروف بابن القيسراني، كاتب السر لدمشق، وهو بطال، عن نيف وخمسين سنة.
وتوفي ناظر الخزانة تاج الدين ابن بنت الأعز.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد بن بيليك الحسني، والي دمياط. وكان فقيهاً شافعياً، شاعراً أديباً، نظم كتاب التنبيه في الفقه، وكتب عدة مصنفات ومات الأمير منكلى بغا الفخري، قدم الخبر بوفاته مستهل جمادى الأولى.
ومات الحاج عمر مهتار السلطان، يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى.
ومات سيف الدين خالد بن الملوك بالقدس، في أول رمضان.
ومات الأمير تمر بغا، ليلة الأربعاء رابع عشري رحب.
سنة أربع وخمسين وسبعمائةشهر الله المحرم، أوله الخميس: فيه قدم الخبر من متولي مدينة قوص بقدوم رسل الملك المجاهد على بن المؤيد داود ابن المظفر يوسف بن منصور عمر بن علي بن رسول متملك اليمن، إلى عيذاب، بهدية. فتوحه الأمير آقبحا الحموي لملاقاتهم، وصحبته الإقامات من الأنزال والعلوفات والطبائخ، ونحو ذلك.
وفي يوم الأربعاء سابعه: قدم البريد من حلب بالقبض على الأمير قراجا بن دلغادر مقدم التركمان، فسر أهل الدولة بذلك.
وفيه قدم الأمير جنتمر أخو طاز برأسي الأمير بكلمش والأمير أحمد الساقي، وقد قتلا بحلب.
وفي هذا الشهر: حملت رمتا والد الأمير طاز، وأخيه جركس. وكان أبوه قدم إلى مصر من بلاد الترك في سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، فتلقاه وأكرمه، وأدخله في دين الإسلام وختنه. ثم توجه أبوه هذا بعد مدة عائداً إلى بلاده، بحجة أن يسوق بقية أهله، فهلك بالمعرة، ودفن بها، فبنى نائب حلب على قبره تربة. ثم لما توجه الأمير طاز بالعسكر إلى حلب، هلك أخوه جركس، فدفنه بالمعرة مع أبيه، ثم بدا له في نقلهما إلى مصر، فنقلهما في هذا الشهر، ودفنهما خارج باب المحروق، ظاهر القاهرة، في تربة أنشأها هناك، ورتب بها القراء وغير ذلك من أرباب الوظائف، وجعل لها أوقافاً دارة، وعمل لقدومهما عدة مجتمعات ختم فيها القرآن الكريم على قبريهما. وحصر تلك المجتمعات معه الأمراء والأعيان، فاحتفل لذلك احتفالا زائداً.
وفي ثامن عشره: قدم شيخ الشيوخ زكي الدين الملطي من بلاد الهند، فتلقاه طوائف الناس، وطلع قلعة الجبل. فخلع عليه بين يدي السلطان، وحمل على بغلة رائعة بزنارى، واستقر على ما كان عليه في مشيخة الخانكاه الناصرية بسرياقوس. وقد تقدم سفره في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين، فكانت غيبته بالهند عشر سنين وتسعة أشهر، وعاد بغير طائل. ولم يرض الأمير صرغتمش بولايته.
وفي يوم السبت سابع عشريه: أعيد الوزير ابن زنبور إلى تسليم قشتمر شاد الدواوين، وأمر بقتله، فعاقبه بقاعة الصاحب من قلعة الجبل أشد عقوبة. فشق ذلك على الأمير شيخو، وعتب الأمير طاز والأمير صرغتمش، وأغلظ في القول، ومنع من التعرض لابن زنبور، وأخرجه بعد المغرب من ليلة الإثنين تاسع عشريه، وحمله في النيل إلى قوص. وكانت مدة شدته ثلاثة أشهر.
ولما قدم الحاج أخبروا أن الشريف عجلان مضى قبل قدوم الحاج إليه من مكة يريد جدة؛ لأخذ مكس التجار الواردين في البحر. فبعث اليه أخوه ثقبة يطلب نصيبه من ذلك، فأبى عجلان أن يدفع له شيئاً، فركب إليه ولقيه. فلما نزلا غدر ثقبة بعجلان، وقبص عليه وقيده، وأسلمه لمن يحفظه، وركب ليأخذ أموال عجلان من وادي نخلة. فلما أبعد ثقبة في السير أفرج الموكلون بعجلان عنه، وأطلقوه، فرمى نفسه على عرب بالقرب منه، وتذمم منهم. فأنزلوه عندهم، وأركبوه ليلا، وصاروا به إلى بني حسن وبني شعبة؛ وأقام عجلان معهم خارج مكة حتى قدم الحاج. وكان قد بلغ ذلك ثقبة، فعاد يريد عجلان، ففاته.
ومن الأخبار كذلك أن الحاج لما قدم مكة لم يجد بها أحداً من بني حسن ولا من العبيد، وأن أسعار مكة رخية، وأن المجاهد باليمن منع التجار من المجيء إلى مكة غيظا من أمرائها.
وفي أول صفر: قام الأمير صرغتمش في أمر أوقاف ابن زنبور يريد حلها وبيعها، وقد حسن له ذلك الشريف شرف الدين علي بن الحسين بن محمد نقيب الأشراف، والشريف أبو العباس الصفراوي، ولقناه في ذلك أموراً يحتج بها، منها أن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون لما قبض على كريم الدين الكبير أراد أخذ أوقافه، فلم يوافقه على ذلك قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، فندب السلطان من شهد على كريم الدين بإشهاده له على نفسه أن جميع ما ملكه من العقار وغيره - وقفه وطلقه - هو من مال السلطان دون ماله. فلما ثبت ذلك بطريقة صارت أملاك كريم الدين بأجمعها للسلطان، فأقر ما كان منها وقفاً على حاله، وسعاه الوقف الناصري، وتصرف فيما ليس بوقف.
فلما اجتمع القضاة الأربعة بدار العدل من قلعة الجبل في يوم الخدمة السلطانية على العادة، كلمهم الأمير صرغتمش في حل أوقاف ابن زنبور، فاشتد عليه قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة في الإنكار لذلك، وساعده قاضي القضاة موفق الدين عبد الله الحنبلي، وجبه صرغتمش بكلام خشن، وقال له: " أخربت البلد بشرك يا صبي " . هذا وصرغتمش يحاججهم، ويذكر قضية أوقاف كريم الدين، فأجاباه بأن كريم الدين كانت بيده جميع أموال السلطان كلها، ما بين خزانته وحواصله ومتاجره، يتصرف فيها برأيه، فلهذا ساغ أن يثبت الإشهاد عليه بأن جميع أملاكه وعقاراته وغيرها إنما هي من مال السلطان دون ماله. وأما من له مال من متجر، أو اكتسبه من مباشرة ونحوها، فليس لأحد أن يتعرض لماله، ولا يجوز نقض شىء وقفه من ذلك، ولا أخذ ما ملكه أو وهبه من يد من هو في أيديهم، فإن جميع تصرفاته في ماله سائغة بطريقها. فذكر لهم صرغتمش أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر عماله، ومال الوزير جميعه إنما هو مال السلطان. فعرض له قاضي القضاة عز الدين بذكر الشريفين علي بن حسين وأبي العباس الصفراوي، وقال يا أمير: " إن كنت تبحث معنا في هذه المسألة بحثنا معك، وإن كان أحد ذكرها لك فليحضر حتى نناظره فيها، فإنه ما قصد بذكر هذه المسألة إلا مصادرة سائر الناس، وأخذ أموالهم " ، وقاموا على الامتناع والإنكار على من يريد هذا ونحوه.
وكان صرغتمش قد وعد أم السلطان بالدار المعروفة بالسبع قاعات من أوقاف ابن زنبور، فبعث لقاضي القضاة عز الدين في ذلك، فخوفها عاقبة ذلك، ومازال بها حتى أعرضت عن طلبه. فشق ذلك على الأمير صرغتمش، واشتد حنقه حتى مرض عدة أيام مرضا خيف عليه منه، فتصدق بأموال جزيلة على الفقراء، وافتك أهل السجون. وفي أثناء ذلك اتفق الأميران شيخو وطاز على عزل صرغتمش من وظيفة رأس نوبة، ليقل شره وتنحط رتبته، ويعود الأمير شيخو رأس نوبة. فلما عوفي صرغتمش نزل من القلعة إلى إصطبله المجاور لمدرسته، فأشعلت له الشموع، وفرح به سكان الصليبة، وتصدق صرغتمش.بمال كبير.
وفيه اجتمع الأمراء بالقصر بين يدي السلطان، في الخدمة على العادة، وذكروا أمر توقف حال الدولة من قلة حاصل بيت المال وخزانة الخاص، وأن الوقت محتاج إلى نظر الأمير شيخو. وكان الأمير شيخو منذ خرج من وظيفة رأس نوبة، ووليها الأمير صرغتمش، ترك التحدث في أمر الدولة لصرغتمش، وصار كالمشير. فلما عينه الأمراء في هذا اليوم للتحدث كما كان امتنع عليهم، فمازالوا به حتى ألبوه التشريف، وولي على عادته، بعد ما شرط عليهم ألا يتحدث أحد في أمر جليل ولا حقير غيره، فأجابوا إلى ذلك.
وفيه خلع أيضاً على الأمير ناصر الدين محمد بن بدر الدين بيليك المحسني، واستقر مشير الدولة، رفيقا للصاحب موفق الدين، على قاعدة الأكوز في الدولة الناصرية.
وفيه استقر سيف الدين قطلو شاد الدواوين أمير طبلخاناه، كما كان لؤلؤ مع الأكوز، وقيل للوزير ألا يفصل أمراً دونهما، وخرحوا من الخدمة. فجلس ابن المحسني من داخل الشباك بدار الوزارة من القلعة تجاه الوزير، وأمر بكتابة كلف الدولة. وأقبل الناس إلى باب الأمير شيخو، فصارت أمور الدولة كلها تصدر عنه حتى الإقطاعات. وفيه رسم بإبطال المقايضات والنزولات في الإقطاعات، فبطل ذلك بعد ما كان قد فحش الأمر فيه، وأخذ كتاب الجيش منه مالا جزيلا. فتعطل كتاب الجيش بسبب ذلك ولاسيما بعد أن رسم لهم ألا يأخذوا رسماً في كل منشور أو محاسبة سوى ثلاثة دراهم، وكان رسم ذلك عشرين درهماً.
وفيه استقر أن الوزير والمشير ونحوهما يحضرون كل يوم إلى مجلس الأمير شيخو، ويطالعونه.بما تحصل وانصرف، ويحضر إليه ناظر الجيش من الأشغال ما شاء، حتى تعطل حكم الأمير قبلاي نائب السلطنة.
وفي ربيع الأول: ورد الخبر بوصول الصاحب علم الدين بن زنبور إلى قبرص سالما، وقد نفي إليها.
وفيه رفعت يد ناظر الخاص من وقف الصالح إسماعيل وفوض نظره إلى الأمير عز الدين أزدمر الخازندار.
وفيه قدم الخبر بوصول الأمير بيبغا روس إلى حلب وقتله، فكتب إلى الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بالشكر والثناء، وعمل وحمل اليه تشريف، وأمر أن يعمل الحيلة في إحضار قراجا بن دلغادر، وجهز إليه تشريف برسمه، وتقليد تقدمة التركمان فاستدعاه الأمير أرغون الكاملي نائب حلب ليلبس التشريف السلطاني، ويقرأ عليه التقليد بحضرة أمراء حلب، فاعتذر عن حضوره.
فلما قدم كتاب الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بذلك، كتب له بالركوب اليه ومحاربته، فاعتذر بأنه قد حلف له قبل ذلك بأنه إن سير إليه بيبغا روس لا يحاربه. فشق ذلك على الأمراء، وكتبوا إليه بالإنكار عليه، وجهز له الأمير عز الدين طقطاي الدوادار، ومعه الكتب إلى نواب الشام بنجدة الأمير أرغون الكامل نائب حلب على قتال ابن دلغادر، فسار طقطاي في يوم الإثنين مستهل شهر ربيع الآخر.
وفيه انحطت رتبة الشريف أبي العباس الصفراوي،.بمنع الأمير شيخو له من عبوره إلى داره وصعوده إلى القلعة. فثار عليه أعداؤه، ونفوه من الشرف، وشنعوا عليه؛ فالتجأ الشريف أبو العباس إلى الأمير طاز حتى كف عنه من يقاومه.
وفي يوم الخميس رابعه: سمر عيسى بن حسن شيخ العايد.
وفيه أعرس الأمير أخو طاز بابنة الأمير آقسنقر، أنعم عليه بسبعة آلاف دينار ومائتي قطعة قماش، وعمل له مهم جليل.
وفيه قدم من المدينة النبوية جماعة يشكون من قاضيها شمس الدين محمد بن سبع، فعين عوضه بدر الدين ابراهيم بن أحمد بن عيسى الخشاب، فلم يجب حتى اشترط ألا يقيم بها سوى سنة واحدة، وأن تستقر وظائفه التي بالقاهرة بيد نوابه؛ فأجيب بدر الدين إلى ذلك، وولي قضاء المدينة.
وعزل أيضا عن قضاء الإسكندرية لسوء سيرته، وولي عوضه الربعي.
وفيه استقر صدر الدين سليمان بن عبد الحق في نظر الأحباس، عوضاً عن شمس الدين بن الصاحب.
وفي يوم السبت حادي عشر ربيع الآخر: قدمت رسل المجاهد صاحب اليمن، ومعهم ابنه الملك الناصر، وعمره إحدى عشرة سنة. فأنزلوا بالميدان، ونزل اليهم الأمير طاز حتى عرضت عليه الهدية، ثم تمثلوا بين يدي السلطان بهديتهم، قدر ستين رأساً من الرقيق بقية ثلاثمائة ماتوا، ومائتي شاش، وأربعمائة قطعة صيني، ومائة وخمسين نافجه مسك وقرن زباد وعدة تفاصيل، ومائة وخمسين قنطاراً من الفلفل وأشياء ما بين زنجبيل وعنبر وأفاويه، وفيل واحد؛ وذلك سوى هدية لكل من الأمير شيخو، وطاز، وقبلاي نائب السلطنة، وللوزير علم الدين بن زنبور. فحملت الهدية السلطانية إلى الصاحب موفق الدين؛ فلم يرض الأمراء بذلك، فإن هدية المؤيد للملك الناصر محمد بن قلاوون كان فيها قدر ألفي شاش.
ومع ذك فإنه أنفق على الرسل منذ قدموا عيذاب إلى وصلوا إلى الميدان نحو مائتي ألف درهم، وخلع على الجميع وتقرر لهم في كل يوم خمسمائة درهم، و لم يبق أحد من الأمراء، حتى عمل لهم ضيافة.
وفي يوم الجمعة سابع عشره: صلى قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة بالسلطان الجمعة على العادة، ثم اجتمع بالسلطان وعنده الأمير شيخو، واستعفي من القضاء، فإنه عزم على الحج والمحاورة، واعتذر بكبر سنه. فلم يجب إلى ذلك، فما زال يتلطف ويترفق حتى - أجيب، بشرط أن يعين للقضاء من يختاره. فعين صهره وخليفته على الحكم قاضي العسكر تاج الدين محمد بن إسحاق المناوي، فولاه السلطان القضاء، وأشهد عليه بذلك في غيبته؛ وانفضوا على ذلك. فامتنع المناوي من القبول، فما زال به قاضي القضاة عز الدين حتى قبل، في يوم السبت ثامن عشره. وولي المناوي سهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد الحلبي المعروف بالسين وغيره، فبادر الناس للسعي في وظائفه، وكانت جليلة، وكتب المناوي لبهاء الدين أحمد بن تقي الدين بن علي بن السبكي بقضاء العسكر.
وما أذن عصر يوم السبت حتى اجتمع عند الأمير شيخو نحو ستين قصة رفعت اليه بالسعي في وظائف المناوي، فقام قاضي القضاة جمال الدين عبد الله الحنفي، وقاضي القضاة موفق الدين عبد الله الحنبلي، في عود ابن جماعة إلى القضاء؛ ومازالا بالأمير شيخو حتى بعث بالأمير عز الدين أزدمر الخازندار إليه، فتلطف به إلى أن أجاب إلى استقراره في القضاء على عادته، وأنه يتوجه إلى الحجاز، ويستخلف على الحكم والأوقاف إلى أن يعود أو تدركه الوفاة. فاستدعي ابن جماعة في يوم الإثنين خامس عشريه، وجددت له ولاية ثانية، وخلع عليه، ونزل في موكب عظيم إلى داره.
وفي يوم السبت: المذكور توجه عز الدين أيدمر السناني إلى الشام، وقدم الأمير طقطاى الدوادار من حلب، وقد ألزم الأمير أرغون الكاملي نائب حلب حتى سار لحرب ابن دلغادر وأتاه نواب القلاع حتى صار في عشرة آلاف فارس، سوى الرجالة والتركمان. ونزل الأمير أرغون الكاملي على الأبلستين، فنهبها وهدمها، وتوجه إلى قراجا بن دلغادر، وقد امتنع بجبل عال، فقاتلوه عشرين يوماً، فقتل فيها وجرح عدد كثير من الفريقين. فلما طال الأمر نزل إليهم قراجا بن دلغادر، وقاتلهم صدرا من النهار قتالا شديداً، فاستمر القتل في تركمانه، وانهزم إلى جهة الروم، فأخذت أمواله ومواشيه. وصعد العسكر إلى جبل، فوجدوا فيه من الأغنام والأبقار ما لا يكاد ينحصر، فاحتووا عليها، بحيث ضاقت أيديهم عنها، وأبيع الرأس من البقر بعشرين إلى ثلاثين درهماً، والرأس من الضان بثلاثة دراهم، والإكديش من أربعين إلى خمسين درهماً. وسبيت نساؤه ونساء تركمانه وأولاده، وبيعوا بحلب وغيرها بالهوان، فكانت خيار بناته تباع بخمسمائة درهم؛ وظفروا بدفائن فيها مال كبير.
وفي هذا الشهر: أعلن بعض النصارى الواردين من الطور بالقدح في الملة الإسلامية، فأحضر إلى القاضي تاج الدين المناوي، وسأله المناوي عن سبب قدومه، فقال: " جئت أعرفكم أنكم لستم على شيء، ولا دين الا دين النصرانية، وما قلت هذا إلا لكي أموت شهيداً " فضربه المناوي بالمقارع ضرباً مبرحاً مدة أسبوع، وهو يقول: " عجل على القتل حتى ألحق بالشهداء " ، فيقول له: " ما أعجل عليك غير العقوبة ثم ضربت عنقه، وأحرقت جثته.
وفيه قدم البريد من حلب بأن ابن دلغادر لما انهزم تبعه العسكر، وأسروا ولديه ونحو الأربعين من أصحابه، ونجا بخاصة نفسه إلى ابن أرتنا، وقد سبق الكتاب إليه بإعمال الحيلة في قبضه. فأكرمه ابن أرتنا وأواه، ثم قبض عليه وحمله إلى حلب، فدخلها وسجن بقلعتها في ثاني عشرى شعبان. فكتب إلى الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بحمله إلى مصر، وأنعم عليه بخمسمائة ألف درهم، منها ثلاثمائة ألف من مال دمشق، وباقيه من مال حلب. وأعفي الأمير أرغون من تسيير القود الذي جرت عادة نواب حلب بحمله إلى السلطان من الخيل والجمال البخاتي والهجن والعراب ومن البغال والقماش والجواري والمماليك، وقيمته خمسمائة ألف درهم. فعظم بذلك شأن الأمير أرغون الكاملي نائب حلب، فإنه مع صغر سنه كان له أربعة مماليك أمراء، وله ولد عمره ثلاث سنين أمير مائة مقدم ألف، فلما مات هذا الولد أضيفت تقدمته إلى إقطاع النيابة، وكان لأربعة من أخوته القادمين من البلاد وأقاربه أربع إمرات.
وفي ثالث جمادى الآخرة: سافر الأمير حسام الدين طرنطاي إلى البلاد الشامية، بعدة خيول لنواب الشام.
وفي خامسه: عزل الأمير بكتمر المؤمني أمي آخور، واستقر عوضه الأمير قندس.
وكان من خير آل مهنا أنهم قووا وفخم أمرهم، حتى صار من أولاد مهنا بن عيسى وأولادهم نحو مائة وعشرة، ما منهم إلا ومن له إمرة وإقطاع. فبطروا، وشنوا الغارات على البلاد، وقطعوا الطرقات على التجار حتى امتنعت السابلة، وذلك بعد موت السلطان الملك الناصر محمد فقبض على فياض وسجن، واستقرت الإمرة لأخيه جبار، فسكن الشر، وسافرت القوافل. ثم خلص فياض من السجن، بشفاعة الأمير مغلطاي أمير آخور، وركب من القاهرة، ولحق بأهله، فلما خامر بيبغا روس كتب له بالإمرة، فبعث أولاده بتقدمته. ثم قدم سيف بن فضل، فولى الإمرة، وعزل فياض، فلم يحرك ساكناً حتى توجه الأمير أرغون الكاملي نائب حلب لقتال ابن دلغادر، فكثر طمعه وفساده. ثم ركب جبار وفياض ابنا مهنا إلى إقطاعاتهم التي خرجت عنهم لسيف بن فضل وبريد بن تتر، وقسموها ورفعوا مغلاتها. فلم يطق سيف معارضتهم، لقوتهم وكثرة جمعهم، فبعث يعرفهم أن هذه البلاد قد أقطعها له السلطان، فردا عليه جواباً جافياً. فكتب إليهما الأمير أرغون الكاملي نائب حلب يعتب عليهما، فلم يذعنا له، فكتب إلى السلطان والأمراء بذلك، فكتب إليهما بالقدوم إلى الحضرة، فاعتذرا عن الحضور. فتوجه الأمير قشتمر الحاحب لإحضار الجميع على البريد في نصف شعبان، فلم يوافقاه، وأجابا بالاعتذار، فعاد قشتمر. وقدم عمر بن موسى بن مهنا به بقوده، وسعى في الإمرة، فأدركه سيف بن فضل بعد حضور الأمير قشتمر، وسعى حتى استقر على إمرته شريكا لعمر بن موسى.
وفيه أيضاً كثر عبث العربان ببلاد الصعيد، وقووا على المقطعين، وقام من شيوخهم رجل أحدب، فجمع جمعاً كبيراً، وتسمى بالأمير. فقدم الخبر في شعبان بأنهم كبسوا ناحية ملوى، وقتلوا بها نحو ثلاثمائة رجل، ونهبوا المعاصر، وأخذوا حواصلها وذبحوا أبقارها، وأن عرب منفلوط والمراغة وغيرهم قد نافقوا، وقطعوا بعض الجسور بالأشمونين. فوقع الاتفاق على الركوب عليهم بعد تخضير الأراضي بالزراعة، وكتب إلى الولاة بتجهيز الإقامات.
وفي يوم السبت سابع عشرى جمادى الآخرة: عمل الأمير طاز وليمة عظيمة بداره التي عمرها برأس الصليبة عندما كملت، حضرها السلطان وجميع الأمراء، فلما انقضى السماط قدم الأمير طاز للسلطان أربعة أرؤس خيل مسرجة ملجمة بسروج ذهب وكنابيش ذهب مطرز، ولكل من الأميرين شيخو وصرغتمش فرسين، ولمن عداهما من الأمراء كل واحد فرساً، ولم يعهد قبل ذلك أن أحداً من ملوك الترك.بمصر نزل إلى بيت أمير.
وفيه ورد كتاب الأمير أيتمش نائب طرابلس، ومعه محضر ثابت على قاضيها، يتضمن أن امرأة من أهل طرابلس اسمها نفيسة جميلة الصورة تزوجت بثلاثة أزواج و لم يقدر واحد منهم على بكارتها، من غير مانع منهم، وظنوا أنها رتقاء وطبقوها واحداً بعد واحد. فلما بلغت خمس عشرة سنة غر ثدياها، واعتراها النوم ليلا ونهاراً، وصار يخرج من فرجها شيء قليلا قليلا إلى أن تشكل منه ذكر صغير وأنثيين فكتمت أمرها إلى أن خطبها رجل رابع، و لم يبق إلا العقد عليها، فأطلعت أمها على أمرها، فاشتهر ذلك بطرابلس، وأعلم به الأمير أيتمش النائب، فكتب به محضراً وجهزه إلى السلطان.
وبرز المذكور بين الناس، وتسمى عبد الله، وسار إلى دمشق، ووقف بين يدي نائبها أمير علي، فسأله عن حاله فأخبره.بما ذكر فأخذه الحاجب كجكن عنده، وأخبر أنه احتلم ثلاث مرات منذ صار ذكراً، في مدة ستة أشهر. ثم نبتت له لحية سوداء، وصار من جملة الأجناد، ولم تبق فيه من سمات النساء شيء سوى كلامه، فإن فيه أنوثة فكتب بإحضاره إلى مصر، فكان هذا من عجائب صنع الله. وقد ذكر شيخنا عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير في تاريخه أنه اجتمع به.
وفيه وقف السلطان الملك الصالح ناحية سردوس من القليوبية على كسوة الكعبة، وكانت تعمل بدار الطراز، فيؤخذ حريرها من التجار بغير ثمن يرضيهم. وأضيف إليها أراضي أخر مما تغل في السنة مبلغ ستين ألف درهم واستقر نظرها لوكيل بيت المال فاستمر ذلك فيما بعد.
وفيه قدم الأمير طيبغا المجدي من دمشق، فلزم بيته، وبقي على إقطاعه الذي بدمشق.
وفي يوم الخميس خامس عشرى رمضان: وصل مقدم التركمان قراجا بن دلغادر، وهو مقيد في زنجير، فأقيم بين يدى السلطان، وعددت ذنوبه. ثم أخرج إلى الحبس، فلم يزل به إلى أن قدم البريد من حلب بأن جبار بن مهنا استدعى أولادا بن دلغادر في طائفة كبيرة من التركمان،. لينجدوه على سيف. وكان سيف قد التجأ إلى بني كلاب، فالتقى الجمعان على تعبئة، فانكسر التركمان وقتل منهم نحو سبعمائة رجل، وأخذ منهم ستمائة إكديش. فكتب السلطان من سرياقوس - وكان بها - إلى النائب قبلاي بقتل ابن دلغادر، فأخرجه من السجن إلى تحت القلعة ووسطه، في يوم الإثنين رابع عشر ذي القعدة، بعد ما أقام مسجوناً ثمانية وأربعين يوماً.
وفيه عزل ركن الدين عن مشيخة الشيوخ بخانكاه سرياقوس، وأعيد.
وأما العربان، فإن الأمراء عقدوا مشورا بين يدي السلطان في أمرهم، فتقرر الحال على التجريد إليهم، فرسم للأمير سيف الدين بزلار العمري أن يتوجه إلى قوص بمضافيه، وللأمير سيف الدين أرلان والأمير قطلوبغا الذهبي أن يتوجها. بمضافيهما إلى ألواح، وتتمة ثلاثة عشر مقدماً. بمضافيهم من أمراء الطبلخاناه، وأن يكون مقدمهم الأمير شيخو، وجهزت الإقامات براً وبحراً. فأخذ العرب حذرهم، فتفرقوا واختفوا، وقدمت طائفة منهم إلى مصر، فأخذوا، وكانوا عشرة. فقبض ما وجد معهم من المال، وحمل لأمير جندار، فإنهم كانوا فلاحيه، وأتلفوا.
فلما برز الحاج إلى بركة الحجاج ركب الأمير شيخو، وضرب حلقة على الركب، ونادى من كان عنده بدوي وأخفاه حل دمه، وفتش الخيام وغيرها، فقبض على جماعة، فوسط بعضهم وأفرج عن بعض. ثم لما عاد السلطان إلى الجيزة كبست تلك النواحي، وحذر الناس من إخفاء العربان، فأخذ البحري والبري، وقبضت خيول تلك النواحي وسيوف أهلها بأسرها. وعرضت الرجال، فمن كان معروفا أفرج عنه، ومن لم يعرف أقر في الحديد، وحمل إلى السجن. ورسم أن الفلاحين تبيع خيولهم بالسوق، ويوردون أثمانها مما عليهم من الخراج فبيعت عدة خيول، وأورد أثمانها للمقطعين، والفرس الذي لم يعرف له صاحب حمل إلى إصطبل السلطان.
وكتب للأمير عز الدين أزدمر، الكاشف بالوجه البحري، أن يركب ويكبس البلاد التي لأرباب الجاه، والتي يأويها أهل الفساد فقبض على جماعة كثيرة ووسطهم، وساق منهم إلى القاهرة نحو ثلاثمائة وخمسين رجلا، ومائة وعشرين فرساً، وسلاحاً كثيراً. ثم أحضر الأمير أزدمر من البحيرة ستمائة وأربعين فرساً، فلم يبق بالوجه البحري فرس، ورسم لقضاة البر وعدوله بركوب البغال والأكاديش.
ثم كبست البهنسا وبلاد الفيوم، فركب الأميران طاز وصرغتمش.بمن معهما إلى البلاد، وقد مر أهلها، واختفى بعضهم في حفائر تحت الأرض. فقبضوا النساء والصبيان، وعاقبوهم حتى دلوهم على الرجال، فسفكوا دماء كثيرين، وعوقب كثير من الناس بسبب من اختفي، وأخذت عدة أسلحة.
واتفق لناحية النحريرية أنه شهد على بعض نصاراها أن جده كان مسلما، فحكم قاضيها بإسلامه، وحبسه حتى يسلم. فاجتمع النصارى إلى الوالي، وأخرجوا الحبيس ليلا، فتصايحت العامة من الغض بالقاضي فغضب الوالي من ذلك، وطلب القاضي لينكر عليه ما فعله فقامت العامة مع القاضى، وأغلقوا الحوانيت، واجتمعوا ليرجموا الوالي. فجمع لهم الوالي أيضاً ليوقع بهم، فحملوا عليه وهزموه حتى خرج من البلد، وهدموا كنيسة كانت بها حتى لم يبق بها جدار قائم، وأحرقوا ما بها من الصلبان والتماثيل، وعمروها مسجداً ونبشوا قبور النصارى، وأحرقوا رممهم، وهموا يأخذون النصارى، فهربوا منهم، وكان يوماً مهولا. فكتب الوالي إلى الأمراء والوزير بالشكاية من القاضي، وأنه ضيع مال السلطان، وهو خمسمائة ألف درهم، بتعرضه للنصراني حتى ثارت بسببه الفتنة. وكتب النصارى أيضا إلى الحسام أستادار العلائي - وقد ترقى حتى صار أمير طبلخاناه - ، فقام مع النصارى، وحدث الأمير شيخو، وشنع على القاضي، وسعى في إلزامه لإعادة الكنيسة من ماله. فطلب القاضي والوالي فحضرا، وعقد مجلس حضره القضاة الأربعة بجامع القلعة، ومعهم الوزير وغيره من أهل الدولة، فانتصب الحسام لمخاصمة قاضي النحريرية، ومازالوا حتى انفضوا على غير رضى فأغرى الأمير شيخو بقيام القضاة مع قاضي النحريرية، وهول الأمر، فانعقد المجلس بين يديه، وقد امتلأ غضبا على القاضي. فعندما استقر بهم المجلس أغلظ شيخو على القاضي، وأخذ الحسام ينهره ويخزيه بالقول، وساعده على هذا الأمير عز الدين أزدمر كاشف الوجه البحري حتى يتبين الغرض. فامتعض لذلك الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود بن أحمد شيخ الجامع الشيخوني يومئذ، وله اختصاص زائد بالأمير شيخو، وأخذ يتكلم معه بالتركية في إنكار ما قام فيه الحسام من إعادة الكنيسة، وتعصبه على القاضي للنصارى، وخوف الأمير عاقبة ذلك. فشاركه الحسام في الكلام مع الأمير، وجرى على عادته في إعادة الكنيسة، فصدعه الأكمل بالإنكار، وزجره ومنعه من الكلام في هذا، وقال له: " ما يحل السلام عليك، فإنك فد خرحت من الإسلام بتعصبك للنصارى " . ومازال الشيخ أكمل الدين يلح في الكلام حتى رسم الأمير شيخو بالكشف عن الواقعة، لينظر من تعدى من الرجلين - القاضي أو الوالي، ووكل بهما من يحفظهما حتى يحضر الكشف عن أمرهما. فلما حضر الكشف من والي المحلة، وكان قد حسن أمرهما بأن ذكر أن كلا منهما أساء التدبير، رسم بعزل الوالى والقاضي.
وفيه رسم بتجريد أجناد الحلقة إلى بلاد الصعيد، فعرض النائب قبلاي مقدمي الحلقة وعين منهم تسعين مقدماً، اختار منهم خمسة وعشرين مقدماً، مع كل مقدم عشرون من أجناد الحلقة؛ لتكون عدة الجملة خمسمائة فارس، فبينما هم في تجهيز أمرهم إذ ورد كتاب الأمير بأنه لا يحتاج إلى ذلك، فبطلت تجريدتهم.
وفيها كثرت المناسر بظاهر القاهرة في مدة غيبة السلطان، وكبسوا عدة دور، وركبوا الخيل، وضاقت بهم الرجالة، فعظم الضرر بهم. وتتبع الوالي آثارهم حتى ظهر أنهم في ناحية بلبيس، فكبس عليهم، وقبض منهم جماعة اعترفوا بعد - عقوبتهم على بقية أصحابهم؛ فتتبعهم الولاة بالنواحي حتى أخذوهم. ورتب في أثناء ذلك أربعة أمراء، وأضيف إليهم عدة من أجناد الحلقة، للطواف بالليل خارج القاهرة. وركب الوالي بجماعته طول الليل في القاهرة، وسمر عدد كثير من أهل الفساد بالقاهرة، ووسط خلق في النواحي. وكتب إلى جميع أعمال الوجه البحرى بألا يدعوا عندهم مفسداً، ولا أحداً ممن يتجمع إليهم من بلاد الصعيد والفيوم، ومن آواهم حل دمه. وحذر أيضاً من اقتناء الخيل بجميع الأعمال، وألزموا بإحضارها. فاشتد طلب الولاة لذلك، وقبض على جمع كبير، وأخذت خيول وأسلحة كثيرة.
وفيها استسقى أهل دمشق، لتأخر نزول المطر بعامة بلاد الشام، حتى بلغت الغرارة من القمح إلى مائة وعشرين درهماً، بعد ما كانت بثمانين درهماً. فأغيثوا من ليلتهم، وأمطروا كثيرا مدة أسبوع، فنزل سعر القمح في يومه عشرين درهما للغرارة.
وفيها كثرت تزويرات المساطير وغيرها، فقام في ذلك قاضي القضاة موفق الدين الحنبلي، وتحدث مع الأمير شيخو فيه حتى رسم له بالفحص عن ذلك، ومقابلة من يفعله.بما يستحقه. فكبس قاضي القضاة عدة بيوت، وأخرج منها تزاوير كثيرة، وقبض على جماعة وعاقبهم وسجنهم، ولم يقبل فيهم شفاعة أحد من الأمراء. واشتد الطلب على ابن أبي الحوافر، فإنه كان عجباً في محاكاة الخطوط، وكبست داره، فوجد فيها من تزويره كتب كثيرة، و لم يقدر عليه لاختفائه.
وفيها قدم نفيس الدواداري الداودي اليهودي التبريزي؛ لمعالجة الأمير قبلاى النائب من ضربان المفاصل، ومعه ولداه، وهو في خنزوانة وتعاظم. فادعى دعوى عريضة، وأراد أن يركب بغلة، فلم يمكن من ذلك.
وفيها ولدت امرأة طفلين ملتصقين، لكل منهما ثلاثة أيدي وثلاثة أرجل، وليس لهما قبل ولا دبره وفيها انحطت الأسعار بأرض مصر، حتى بيع الأردب من القمح من عشرة دراهم الى خمسة عشر درهماً.
وفيها فشت الأمراض في الناس بالاسكندرية والوجه البحري كله والقاهرة مدة شهرين، وبلغ عدة الموتى في كل يوم ما بين الخمسين إلى الستين.
وفيها ولد السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون وفيها توجه ركب الحجاج صحبة الأمير ركن الدين عمر شاه الحاحب، وحج من الأمراء الأمير سيف الدين كشلى، والأمير سيف الدين بزلار والأمير سيف الدين طقطاي، والأمير شهاب الدين أحمد بن آل ملك، والأمير ناصر الدين محمد بن بكتمر الساقي، والأمير ركن الدين عمر بن طقزدمر، وحج الخليفة المعتضد بالله أبو بكر، وحج قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، والشيخ بهاء الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عقيل. وأسر السلطان والأمراء مدبرو الدولة إلى أمير الحاج ومن صحبته من الأمراء أن يقبضوا على الشريف ثقبة، ويقرروا الشريف عجلان بمفرده على إمارة مكة. فلما قدم الحاج بطن مر، ومضى عجلان إلى لقائهم شكا إلى الأمراء من أخيه ثقبة، وذكر ما فعله معه، وبكى. فطمنوا قلبه، وساروا به معهم حتى لقيهم ثقبة في قواده وعبيده، فألبسوه خلعة على العادة، ومضوا حافين به نحو مكة، وهم يحادثونه في الصلح مع أخيه عجلان، ويحسنون له ذلك، وهو يأبى موافقتهم حتى أيسوا منه. فمد الأمير كشلى يده إلى سيفه فقبض عليه، وأشار إلى من معه فألقوه عن فرسه، وأخدوه ومعه ابن لعطيفة، وآخر من بني حسن، وكبلوهم بالحديد، ففر القواد والعبيد. وأحضر عجلان، وألبس التشريف؛ وعبروا به إلى مكة، فلم يختلف عليهم اثنان. وسلم ثقبة للأمير أحمد بن آل ملك، فسر الناس بذلك. وكثر حلب الغلال وغيرها، فانحل السعر عشرين درهما الأردب. وقبض على إمام الزيدية أبي القاسم محمد بن أحمد اليمني، وكان يصلي في الحرم بطائفته، ويتجاهر، ونصب له منبراً في الحرم يخطب عليه يوم العيد وغيره.بمذهبه. فضرب بالمقارع ضرباً مبرحاً ليرجع عن مذهبه، فلم يرجع وسجن، ففر إلى وادي نخلة، فلما انقضى موسم الحاج حمل الشريف ثقبة مقيداً إلى مصر وبلغ النيل في زيادته إلى ستة عشر أصبعاً من تسعة عشر ذراعاً، بعد ما توقف في ابتداء الزيادة. وكان الوفاء يوم الأحد تاسع رجب، وهو ثامن عشر مسرى، وفتح الخليج على العادة.
ومات في هذه السنة ممن لهم ذكر ومات فيها أمين الدين إبراهيم بن يوسف المعروف بكاتب طشتمر، وولي نظر الجيش في أيام الصالح إسماعيل، ثم عزل وتوجه إلى القدس حتى أقدم الأمير شيخو، وعمله ناظر ديوانه، فمات قتيلا بحلب في رابع عشر المحرم.
ومات الأمير بكلمش نائب طرابلس، في أول المحرم. وأصله من مماليك صاحب ماردين، بعثه إلى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، فترقى في خدمته، وأنعم عليه إلى أن ولى نيابة طرابلس في الأيام المظفرية، وكان من أمره ما ذكره.
ومات الأمير أحمد بن الساقي نائب حماة، في أول المحرم. وأصله من الأويرانية، وبعثه نائب البيرة في الأيام الناصرية، فأعطاه السلطان للأمير بكتمر الساقي، ثم أنعم عليه السلطان بعد موت بكتمر بإمرة عشرة، ولقبه بأحمد الساقى، ثم أنعم عليه بإمره طبلخاناه، وعمله شاد الشراب خاناه. وتنقل بعد موت السلطان، فعمل أمير شكار في الأيام المظفرية، ثم أخرج لنيابة صفد، ثم ولي نيابة حماة، حتى كان من أمره ما كان، وكان شجاعاً أهوج جهولا مقداماً.
ومات الأمير بيبغا روس القاسمي، أحد المماليك الناصرية. توفي السلطان الناصر محمد ابن قلاوون وهو من خاصكيته، فترقى حتى صار في الأيام الصالحية إسماعيل أمير طبلخاناه، وتمكن منه حتى كان الصالح لا يفارقه ساعة واحدة. ثم أنعم عليه في الأيام الكاملية شعبان بتقدمة ألف، ثم كان من قبضه على المظفر حاجي ما كان.
ثم ولي في الأيام الناصرية حسن نيابة السلطنة، فشكرت سيرته فيها، ثم قبض عليه بطريق الحجاز وسجن، ثم أفرج عنه. وولى نيابة حلب، وكان من عصيانه ما كان حتى لحق بقراجا بن دلغادر، فاخذه وبعث به إلى حلب، فقتل بها ومات الأمير ألجيبغا العادلي، في سابع ربيع الآخر بدمشق؛ وكان فارسا جواداً ومات الأمير شعبان قريب يلبغا اليحياوي. وكان من جلة خواص ألماس الحاحب، فسجن عند مسكه مدة، ثم نفي إلى صفد. وأنعم عليه بعد مدة بإمرة، وتوجه إلى حلب في نيابة يلبغا اليحياوي، ثم سجن بعد موت يلبغا اليحياوي مدة، ثم أفرج عنه، وأنعم عليه بإمرة، وقدم مصر، ثم توجه إلى دمشق، فمات بها.
ومات الأمير بيغرا المنصوري أحد أمراء الألوف بديار مصر، وهو بطال بحلب، وكان خيراً، ولى الحجوبية.بمصر، فشكرت سيرته لجودة عقله ومات الأمير بدر الدين مسعود بن أوحد بن مسعود بن الخطير الرومي، في سابع شوال، ومولده ليلة السبت سابع جمادى الأولى، سنة ثلاث وثمانين وستمائة بدمشق. ترقى في خدمة الأمير تنكز نائب الشام، وولي حاجباً بالقاهرة، ثم ولى نيابة غزة وطرابلس غير مرة؛ وكان مشكوراً.
ومات الشريف أمير ينبع عيسى بن حسن الهجان، في رابع ربيع الآخر.
ومات قراجا ين دلغادر في رابع عشر ذي القعدة.
ومات الشيخ إبراهيم بن الصائغ، في رابع عشرى رجب.
ومات عمر بن مسافر الخواجا ركن الدين، أستاذ الأمير شيخو وغيره من المماليك العمرية؛ في عشرى ربيع الآخر.
ومات الوزير علم الدين عبد الله بن تاج الدين أحمد بن إبراهيم بن زنبور بقوص، في يوم الأحد رابع عشر ذي القعدة.
ومات أسعد خربه، مستوفي الصحبة، وهو أحد مسالمة الكتاب، في عشرى ذي القعدة.
ومات شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن محمد بن الشهاب محمود بن سليمان الحلبي أحد موقعي الدست، بدمشق.
ومات شرف الدين عبد الوهاب الشهاب أحمد بن محيى الدين يحيى بن فضل الله العمري، أحد موقعي الدست، بدمشق.
ومات شرف الدين عمر بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أبي السفاح، كاتب سر حلب بها.
ومات صدر الدين محمد بن الشرف محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم الميدومي أبو الفتح الشيخ المسند المعمر. حدث عن النجيب وغيره. ومولده سنة أربع وستين وستمائة. حدثنا عنه شيخنا سراج الدين عمر بن الملقن وتوفي إمام الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد بن ميمون إمام الدين بن زين الدين بن المحدث أمين الدين أبي المعالي بن الإمام القدوة قطب الدين أبي بكر بن الفقيه أبي العباس القيسي القسطلاني، بالقاهرة في المحرم، ومولده بمكة سنة إحدى وسبعين وستمائة ومات جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الإمام شمس الدين أبي محمد أبي عبد الله ابن العفيف محمد بن يوسف بن عبد المنعم بن سلطان المقدسي النابلسي، ثم الدمشقي الحنبلي، في رجب. ومولده بنابلس، في سنة إحدى وتسعين وستمائة، حدث عن جماعة.
ومات الفقيه المحدث تقي الدين محمد بن عبد الله بن محمد بن عسكر بن مظفر نجم الطائي. ومات القيراطي المصري ثم الدمشقي الشافعي، في شوال. حدث بالقاهرة ودمشق ودرس بهما.
وقتل حسن بن هند، وهو الحاكم بمدينة سنجار، وبالموصل، قتله صاحب ماردين، وكانت عساكر الشام حاصرته، ثم عادت عنه.
الجزء الثالث
سنة خمس و خمسين وسبعمائة
شهر الله المحرم أوله يوم الأحد وفي ثامن عشره: قدم الحاج، و لم يتفق بمثل هذا فيما سلف، وهلك جماعة من المشاة، وقدم الشريف ثقبة مقيداً، فسجن.وفي ثامن عشريه: قدم الأمير شيخو، ممن معه من بلاد الصعيد وكان من خبره أن العربان بالوجه القبلى خرجوا عن الطاعة، وسفك بعضهم دماء بعض، وقطعوا الطرقات، وأخذوا أموال الناس، وكسروا مغل الأمراء والأجناد. وقتلوا الكاشف طغاى، وكسروا مجد الدين موسى الهذبانى، وأخذوا خامه وقماشه، وقتلوا بعض أجناده. وقام في البهنساوية ابن سودى، وحشد على بنى عمه، وقتل منهم نحو الالفي رجل، وأغار على البلاد، وأكثر من القتل والنهب. ونافق أيضاً ميسرة بالأطفيحية، واقتتل مع ابن مغنى قتالاً كبيراً فاستمر هذا البلاء بالصعيد سنة كاملة، هلك فيها من العربان خلائق كثيرة، فمازال السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون يسوس الأمر حتى سكنت تلك الفتن، وتتبع أهل الفساد، وحرث ديارهم بالأبقار، وأفناهم بالقتل. ثم ثاروا بعد ذلك، وركبوا على بيبغا الشمسى الكاشف، وحاربوه، وتجمعوا على الفساد، ثم تبع ذلك قيام الأحدب، واسمه محمد بن واصل، و لم يكن أحدب ولكن أقفص، فشهر لذلك بالأحدب، وقام الأحدب هذا في عرب عرك بناحية ، وقاتل بنى هلال. فلما تغافل أهل الدولة بعد موت السلطان الناصر محمد بن قلاوون عن أهل النواحي، قلت مهابة الكشاف والولاة عندهم، فخرجوا عن الحد، وقطعوا الطرقات براً وبحراً حتى تعذر سلوكها. ومالوا على المعاصر والسواقي، فنهبوا حواصلها من القنود والسكر والأعسال، وذبحوا الأبقار.
وادعى الأحدب السلطنة، وجلس في جتر أخذه من قماش الهذبانى، وجعل خلفه المسند، وأجلس العرب حوله، ومد السماط بين يديه، فنفذ أمره في الفلاحين. وصار الجندي إذا انكسر له خراج قصده، وساله في خلاصه من فلاحه، فيكتب لهورقة لفلاحه وأهل بلده، فيصل بها إلى حقه، ويرسل مع مماليك الكاشف والوالي بالسلام عليه، ويأمره أن يقول: إن كانت لك حاجة قضيتها لك. وحدثته نفسه بتملك الصعيد، وقويت نفسه بتأخر ولاة الأمور عنه، وأقام له حاجباً وكاتباً.
فلما عظم أمره عقد الأمراء المشور بين يدي السلطان الملك الصالح، في مستهل شوال سنة أربع وخمسين وسبعمائة، في أمر عرب الصعيد. وقرروا تجريد العسكر لهم، صحبة الأمير سيف الدين شيخو العمرى رأس نوبة، ومعه اثنى عشر مقدماً. بمضافيهم من أمراء الطبلخاناه والعشرات، وهم أسندمر العمرى وطشتمر القاسمي، وقطلوبغا الطرخانى، وأرلان، وبزلار أمير سلاح، وكلتاى أخو طاز، واصر على بن أرغون النائب، وتنكز بغا، وجركتمر، ويلجك قريب قوصون، وقطلوبغا الذهبى، وأن يتوجه كلتاى وابن أرغون النائب نحو الشرق بالإطفيحية، ويتوجه يلجك إلى الفيوم، وبزلار وأرلان نحو الواح، ويتوجه الأمير شيخو ببقية الأمراء إلى جهة قوص، ويتأخر في صحبة السلطان عند سفره الأمير طاز، والأمير صرغتمش، والأمير قجا أمير شكار. فيتوجه السلطان نحو البهنسا كأنه يتصيد، وأن يكون السفر في ذي القعدة، فيتوجه الأمراء أولاً، ثم يركب السلطان بعدهم.
فطار الخبر إلى عامة بلاد الوجه القبلي، فأخذ العربان حذرهم، فمنهم من عزم على الدخول بأهله إلى بلاد النوبة، ومنهم من اختفي في موضع أعده ليأمن فيه على نفسه ومنهم من عزم على الحج وقدم إلى مصر، ففطن بهم أعداؤهم، ودلوا عليهم الأمراء. فقبض على جماعة ممن قدم مصر نحو العشرة، وأخذ ما معهم. ثم ركب الأمير شيخو إلى بركة الحاج في عدة وافرة، وأحاط بالركب، وتتبع الخيام وغيرها بعد ما حذر من أخفي العرب، فقبض على جماعة منهم، وقتل من عرف منهم بفساد، وأطلق من شكر حاله.
ثم توجه الأمراء في ذي القعدة، وعدى السلطان. ممن معه من بقية الأمراء إلى بر الجيزة، فكبست بلاد الجيزة، بعد ما كتب لمتوليها ومشايخها وأرباب أدراكها أنهم لا يخفون أحداً من العرب، ولا من أولادهم ونسائهم، فأخذ الصالح والطالح. وقبض الأمراء على الخيول والسيوف، حتى لم يبق ببلاد الجيزة فرس ولا سيف، وأحضروا أصحابها إلى الوطاق. واستدعى الوالي ومشايخ العربان، وعرض من قبض عليه، فمن عرفوه أنه من أهل البلاد أفرج عنه، ومن لم يعرفوه قيد وحمل إلى القاهرة فسجن بها. وعرضت الخيول، فمن عرف فرسه من الفلاحين رسم له ببيعها في سوق الخيل تحت القلعة، وحمل ثمنها إلى الديوان مما عليه من الخراج. ورسم بمثل ذلك فيما يحضر من خيول فلاحي بقية النواحي، أي أن الفلاح يبيعها ويورد ثمنها فيما عليه من الخراج، إما الأمير أو للجندي. فامتثل ذلك وعمل به، وسيقت خيول المفسدين، ومن لم يعرف له صاحب حمل إلى إصطبل السلطان.
وندب الأمير عز الدين أزدمر كاشف الوجه البحري للسفر إلى عمله، فكبس البلاد المتجوهة، والتي تعرف بأنها مأوى المفسدين في عامة الشرقية والوجه البحري بأجمعه. وأحسن أزدمر التدبير في ذلك، فإنه كتب لجميع الولاة أن يلاقوه في البر والبحر، وواعدهم يوماً عينه. وكان الوالي بالغربية في بره، والكاشف والولاة وأرباب الأدراك مقابله، ومنعوا الناس كلهم من ركوب النيل، فأخذ الوالي عرباً كثيراً، وكبس بلاداً عديدة، وأخذ منها المفسدين، فوسط وسمر جماعات منهم، وسير إلى القاهرة مائة وخمسين رجلاً في الحديد، ومائة وعشرين فرساً، وسلاحاً كثيراً. وأرسل متولي البحيرة من خيل عريها ستمائة وأربعين فرساً، فلم يتأخر في الوجه البحري فرس واحد من خيول العربان. ورسم لقضاة البر وعدوله بركوب البغال والأكاديش.
وتوجه السلطان بعد رحيل الأمراء من الجيزة إلى البهنسا، فتولى الكبسات الأمير طاز والأمير صرغتمش، وتتبعوا الرجال، وعاقبوا النساء والصبيان حتى دلوهم على أماكنهم، فأخرجوهم من المطامير، وسفكوا دماء كثيرة. وقبضوا على عدة رجال، فأودعوهم الحديد، وحازوا من الخيل والسلاح شيئاً كثيراً.
فحشد الأحدب بن واصل شيخ عرك جموعه، وصمم على لقاء الأمراء، وحلف أصحابه على ذلك. وقد اجتمع معه عرب منفلوط، وعرب المراغة وبني كلب وجهينة وعرك، حتى تجاوزت فرسانه عشرة آلاف فارس تحمل السلاح، سوى الرجالة المعدة، فإنها لا تعد ولا تحصى لكثرتها. وجمع الأحدب مواشي أصحابه كلهم وأموالهم وغلالهم وحريمهم وأولادهم، وأقام ينتظر قدوم العسكر.
فقدم الأمير شيخو بمن معه حتى نزل سيوط، ومعه الولاة والكشاف، فتلقها أهلها وعرفوه أمور العرب، وما هم عليه من العزم على اللقاء والمحاربة، وكثرة جمعهم. فاستراح الأمير شيخو، وقدمت عليه عرب الطاعة، وهولوا عليه بكثرة جمع المارقين حتى داخله الوهم، وبعث يستدعي بالعسكر من القاهرة. فعرض الأمير سيف الدين قبلاى نائب السلطنة مقدمي الحلقة ومضافيهم، وعين منهم تسعين مقدماً، وأضاف إلى كل مقدم جماعة. وعرضت أوراق بأسمائهم على السلطان والأمراء، فاختاروا منهم خمسة وعشرين مقدماً، مع كل مقدم من مضافيه عشرون جندياً، فتكون عدتهم خمسمائة فارس؛ ورسم بتجهيزهم. وأعيد جواب الأمير شيخو بذلك، فرد جوابه بأن في حضور نجدة من القاهرة ما يوجب طمع العربان في العسكر، وظنهم أن ذلك من عجزهم عن اللقاء، وأشار بإبطال تجريد النجدة، فبطلت.
ثم رحل الأمير شيخو عن سيوط، وبعث الأمير مجد الدين الهذبانى ليؤمن بنى هلال أعداء عرك، ويحضرهم ليقاتلوا عرك أعداءهم. فانخدعوا بذلك، وفرحوا به، وركبوا بأسلحتهم، وقدموا في أربعمائة فارس، فما هو الا أن وصلوا إلى الأمير شيخو فأمر بأسلحتهم وخيولهم فأخذت بأسرها، ووضع فيهم السيف، فأفناهم جميعاً. وركب الأمير شيخو من فوره، وصعد عقبة أدفو في يوم وليلة، فلما نزل إلى الوطاة قدم عليه نجاب من أمراء أسوان بأن العرب قد نزلوا في برية بوادي الغزلان، فالبس العسكر الة الحرب.
وقدم الأمير سودون أحد أمرأء الطبلخاناه في مائة من مماليك الأمراء طليعة، وساروا. فلما كان قبيل العصر التقت الطليعة بفئة من طلائع العرب، فبعث سودون يخبر الأمير شيخو بذلك، وقاتلهم فانهزموا، ثم عادوا للحرب مراراً حتى كلت خيول الترك، و لم يبق الا أن تأخذهم العرب. فأدركهم الأمير شيخو، وقد ساق لما أتاه الخبر سوقاً عظيماً ممن معه، وامتلأ الجو من غبارهم. وهبت ريح، فحملت الغبار والقته في وجوه العرب حتى صار أحدهم لا يرى رفيقه، مع رؤيتهم بريق الأسنة ولمعان السيوف. فخارت قواهم، وانهزموا بأجمعهم، بعد ما استعدوا للقاء استعداداً محكماً. فقدموا الرجالة بالدرق أمام الفرسان، لتلقى عنهم السهام، وقامت الفرسان من ورائهم بأسلحتها، وأوقفوا حريمهم من ورائهم. وصار الرجل منهم يصدم ابنه وأخاه وهو لا يلوى على شيء. فركب الترك أقفيتهم، ومن وقت الغروب عند الهزيمة، يقتلون ويأسرون حتى أعتم الليل، وباتوا متحارسين، فلم يعد أحد من العرب اليهم. وعند ارتفاع النهار جرد الأمير شيخو طائفة في طلبهم، فأحاطوا بمال كثير ما بين مواشي وقماش، وحلى ونقود، وعروض وأقوات، وأزواد وروايا ماء. وسبوا حريمهم وأولادهم، فاسترقوا كثيراً منهم، وصار إلى الأجناد والغلمان منهم شيء كبير، باعوا منه عدداً كثيراً بالقاهرة، بعد عودهم.
وهلك من العرب خلائق بالعطش، ما بين فرسان ورجالة وجدهم المجردون في طلبهم، فسلبوهم. وصعد كثير منهم إلى الجبال، واختفوا في المغائر، فقتل العسكر وأسر، وسبا عدداً كثيراً، وارتقوا إلى الجبال في طلبهم، وأضرمرا النيران في أبواب المغائر فمات بها خلق كثير من الدخان. وخرج اليهم جماعة، فكان فيهم من يلقى نفسه من أعلى الجبل ولا يسلم نفسه، ويرى الهلاك أسهل من أخذ العدو له. فهلك في الجبال أمم كثيرة وقتل منهم بالسيف ما لا يحصى كثرة، حتى عملت عدة حفائر وملئت من رممهم، وبنى فوقها مصاطب ضربت الأمراء رنوكها عليها، وأنتنت البرية من جيف القتلى ورمم الخيل.
ثم فرق الأمير شيخو الأمراء في البلاد لكبسها، فطرقوا عامة النواحي، وقبضوا على جماعة كثيرة قتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأحضروا خلقاً إلى الأمير شيخو فأقاموا على هذا عدة أيام، حتى لم يبق ببلاد الصعيد بدوي. ثم نصبت الأخشاب على الطرقات، وعلق فيها أعداد وافرة ممن شنق ووسط من العرب، فكان أولها طما وأخرها منية ابن خصيب. ثم عاد الأمير شيخو. ممن معه، وصحبته نحو الالفي رجل في الحديد، فلم يصل إلى القاهرة منهم سوى ألف ومائتين، وهلك باقيهم بالجوع والتعب. فلما نزل طموة خرج اليه الأمراء بأجمعهم، وعملوا له الولائم العظيمة مدة أيام. ثم سافر الأمير شيخو منها في موكب جليل، والأسرى بين يديه، والخيول والجمال والسلاح، حتى صعد القلعة، وكان يوماً مشهوداً. وأثنى عليه من كان معه، بإحسانه اليهم ونفقاته فيهم، فكانت مدة غيبته نحو ثلاثة أشهر، وأقل ما قيل إنه قتل في هذه الواقعة زيادة على عشرة الاف رجل.
ثم قدمت الأسرى التي أحضرت مع الأمير شيخو، أو من بعث به الكشاف والولاة، وفيهم ابن ميسرة الثائر بالأطفيحية، فأفرج عن جماعة منهم. وسمو ابن ميسرة وثلاثة عشر من أكابر العربان، ومائة وأربعون رجلاً من شرارهم، وشهروا. وقيد جماعة وسخروا في العمل. وعرضت الدواب، فكانت الفا وثلاثمائة فرس، والفا وخمسمائة جمل، وسبعمائة حمار، وأغناماً كثيرة، سوى ما نهبه العبيد وأكلوه. وعرض السلاح، فكان مائة حمل رماح، وثمانين حمل سيوف، وثلاثين حمل درق. وكتب لجميع ولاة الأعمال وكشافها الا يدعوا في جميع النواحي فرساً لبدوي ولا لفلاح سوى أرباب الأدراك، فإنه يترك لكل واحد منهم فرس. فركب الولاة إلى البلاد، وأخذوا ما بها من الخيول، وسيروها إلى اصطبل السلطان. فكان الرجل إذا حضر وادعى ملك شيء سلم اليه، بعد ما تظهر صحة دعواه، والزم بعد تسليمه بأن يبيعه ويعطى ثمنه مما عليه من الخراج، فكثرت الخيول بالقاهرة، واستوفى الأجناد خراجهم قبل أوانه.
فكانت هذه الواقعة من أعظم حوادث الصعيد، وأشنع محنها، ولذلك سقتها في هذا الموضع كما هي، وإن كان قد تقدم في السنة الحالية طرف منها، لأن حكايتها متوالية أبين لها، وأكثر فائدة لمن وقف عليها.
وقد مدح الأمير شيخو غير واحد عند قدومه، منهم ناصر الدين النشائي أحد كتاب الإنشاء، فقال قصيدة أولها:
صعودك للصيد له سعود ... به نجزت من النصر الوعود
وأرسل نحوهم فرسان حرب ... ضراغمة تحافهم الأسود
فخاضوا فيهم بالسيف حتى ... غدوا وهم قتيل أو شريد
ومهدت البلاد فزال عنها ... ظلام الظلم وابتهج الوجود
وقال الفخر عبد الوهاب كاتب الدرج، من أبيات:
قدوم سعيد مبهج وإياب ... به حف للنصر العزيز ركاب
مضيت مضى السهم في غزو عصبة ... بغاة وغازى المفسدين يتاب
ومن كان قتل النفس بعض ذنوبه ... فليس له الا السيوف عتاب
فلم تنجهم أرض ولا عصمتهم ... مغائر ما بين الصخور صعاب
وقال الأمير عز الدين أزدمر الكاشف قصيدة منها:
حسام عزمك بردى الأسد في الأجم ... ونور رأيك يهدى الناس في الظلم
وحين أصبح أمر العرب مختلفاً ... فليس يعرف منه خلف من أمم
سالت عليهم جيوش الله يقدمها ... شيخو لمؤبد بالصمصامة الخدم
سعى اليهم ونصر الله يقدمه ... في بحر جيش بموج الخيل منتظم
والأرض ترجف تحت الخيل من فرق ... والخيل تمشى على الأشلاء والرمم
فأوقع السيف في الأعداء منتصراً ... لله حتى غدوا لحما على وضم
ولم يدع دار بغى غير دائرة ... ولا منار شقاق غير منهدم
وكان الأحدب قد نجا بنفسه، فلم يقدر عليه، ومن حينئد أمنت الطرقات براً وبحراً، فلم يسمع بقاطع طريق بعدها. ووقع الموت فيمن تأخر في السجون من العربان، فكاد يموت منهم في اليوم من عشرين إلى ثلاثين، حتى فنوا الا قليلاً.
وقدم الخبر من المدينة النبوية أن الشريف مانع بن على بن مسعود بن جماز وأولاد طفيل جمعوا ونازلوا المدينة، يريدون قتل الشريف فضل بن قاسم بن قاسم بن جماز فامتنع بها، وهم يحارصرونه اثني عشر يوماً مرت بينهم فيها حروب، فانهزموا ومضو من حيث أتوا.
وفيه أخرج الأمير ساطلمش تركاش منفياً، لسوء سيرته.
وفيه ضربت عدة من شهود الزور، وحلقت لحاهم، وشهروا في القاهرة، وكان يوماً شنيعاً.
وفيها أخرج ابن طشتمر الساقي منفياً إلى طرابلس، لانهماكه في اللعب.
وفي شهر ربيع الأول: قدم محمد بن واصل الأحدب، شيخ عرك من بلاد الصعيد، طائعاً. وكان من خبره أنه لما نجا وقت الهزيمة. وأخذت أمواله وحرمه، ترامى بعد عود العسكر على الشيخ المعتقد أبى القاسم الطحاوى فكتب الشيخ في أمره إلى الأمير شيخو، يسال العفو عنه وتأمينه. على أنه يقوم بدرك البلاد، ويلتزم بتحصيل جميع غلالها وأموالها، وما يحدث بها من الفساد فإنه مواخذ به، وأنه يقابل نواب السلطان من الكشاف والولاة فكتب له أمان سلطاني، وكوتب بتطييب خاطره وحضوره أمناً، فسار ومعه الشيخ أبو القاسم. فأكرم الأمراء الشيخ، وأكرموا لأجله الأحدب، وكان دخوله يومًا مشهوداً.
وتمثل الأحداب بين يدي السلطان. وأنعم عليه السلطان والبسه تشريفاً وناله من الأمراء إنعام كثير، وضمن منهم درك، البلاد على ما تقدم ذكره، فرسم له بإقطاع. وعاد الأحدب إلى بلاده بعد ما أقام نحو شهر، وقد البسه السلطان تشريفاً ثانياً ثم توجه الشيخ أبو القاسم الطحاوي أيضاً بعد أيام، وكان نزوله بزاوية العربان من القرافة، فجددها الأمير شيخو تجديداً حسناً.
وفيه توجه الناصر بن المجاهد صاحب اليمن عائداً إلى أبيه بمن معه، بعد أربعة أشهر من قدومه. وأخذ معه كثير من الصناع والمخايلين والشعبذين والمساخر وأرباب الملاهى، وتحفا عديدة قامت عليه بأموال جزيلة وأنعم عليه السلطان والأمراء بغير نوع من الهدايا والتحف السنية، والبسوه الخلع الجليلة، وبالغوا في إكرامه. وجهروا له ما يحتاج اليه من المراكب، وكتب إلى ولاة الأعمال بإكرامه، فسار في البحر.
وفي حادي عشر رجب: أفرج عن الأمير سيف الدين منجك، والأمير علاء الدين مغلطاي أمير أخور. وكان المعتنى بالأمير منجك الأمير شيخو، والمعتنى بالأمير مغلطاي الأمير طاز. فتوجه اليهما الأمير جنتمر أخو طاز، وحملهما من الإسكندرية، فكان دخولهما يوماً مشهوداً، بعد ما أقاما بسرياقوس عشرة أيام، والتقادم ترد اليهما، وتمد لهما الأسمطة العظيمة بالهمة الجليلة، فانعما على متسفرهما الأمير جنتمر بسبعة الاف دينار.
وفيه قدم البريد من حلب بتعذر مسير القوافل من كثرة فساد العرب وقطعهم، الطريق، وأن سيف بن فضل تعجز عن مقاومة عرب فياض بن مهنا، وأن الأمير أرغون الكاملي نائب حلب أخرج مقدماً من مقدميه في تجريدة لحفظ الطريق مع بعض الأمراء، فكبسه العرب وقاتلوه، فقتل في المعركة، وأن سيف بن فضل عمر بن موسى ابن مهنا لما الزمهما الأمير أرغون الكاملى نائب حلب بتحصيل من قتل المذكور ادعوا أنهم من غير عربهم.
وكان فياض لما كتب اليه بالحضور اعتذر عن ذلك، والتزم بدرك البلاد وكف أسباب الفساد، وبعث ابنه إلى السلطان رهينة بمصر. فحضر سيف وعمر بقود كبير، من جمال وخيل، فاعتنى الأمير طاز بسيف، ومازال حتى خلعه عليه وعلى عمر، وأستقرا في الإمرة. فتوجه ولد فياض من مصر إلى أبيه، وأخبره بذلك، فاشتد حنقه، وكثر قطعه الطريق، وعزم على المسير إلى أولاد قراجا بن دلغادر وإحضارهم بجمائعهم لأخذ حلب. فانحصر الأمير أرغون الكاملي نائب حلب، وضاق ذرعه. فلما قدم كتابه اقتضى الرأي إرسال الأمير جنتمر أخي طاز إلى الأمير فياض، وكتبت على يده عدة كتب من السلطان والأمراء، بتطمين خاطره والحلف له الا يتعرض له بسوء. فركب الأمير جنتمر في عشرة سروج على البريد، ولقى فياضاً، ومازال به حتى أذعن له ووكب معه، بعد ما بالغ في إكرامه، وأكثر من التقادم السنية له، وقدم إلى القاهرة في عاشر جمادى الآخرة.
وفيه أخذ الأمير صرغتمش من دار ابن زنبور بالقاهرة ما كان بها من الرخام، فوجد في زواياها من أواني الصيني والنحاس ومن القماش وغيره شيئاً كثيراً.
وفيه قدم عدة من النصارى بالغربية، ووقفوا بدار العدل من القلعة للسلطان، وسالوا إعادة كنيسة النحريرية التي هدمها العامة وعملوها مسجداً. فلم يجابوا لذلك، وطردوا بعد ضربهم، وكتب إلى متولى الناحية أن يعمل لهذا المسجد مناراً يؤذن فيه للصلوات الخمس، وتجدد عمارة المسجد، فامتثل ذلك.
وفي شهر ربيع الآخر: وقفت أحوال ديوانى الخاص والدولة، حتى إن السلطان كان إذا استدعى بشيء من الخاص يقول بدر الدين ناظر الخاص: ما تم حاصل، وليس لي مال. وتأخر من الدولة ما يصرف للحوالج كاشية وأرباب المرتب ونفقات مماليك السلطان. فكثر الإنكار على بدر الدين ناظر الخاص، وأسمعه الأمراء ما يكره، فالتجأ إلى الأمير صرغتمش وكان يعضده، وذكر له ما هو فيه من العجز. فوعده الأمير صرغتمش بتخليصه، وأسر اليه أن يتمارض في بيته أياماً حتى يدبر أمره مع السلطان والأمراء. فانقطع بدر الدين عن الخدمة، وأظهر أنه مريض، فلم يبق أحد من أهل الدولة حتى عاده على العادة. ثم بعد أيام انقطع الوزير الصاحب موفق الدين أبو الفضل عبد الله بن سعيد الدولة لوعك أصابه؟؟؟؟؟، فتعطلت أشغال السلطنة. وأخذ الأمير صرغتمش يحدث الأمراء في إعفاء بدر الدين ناظر الخاص، فاستدعى تاج الدين أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن غنام، وعرض عليه السلطان نظر الخاص، فتمنع تمنعاً زائداً، فلم يوافقه الأمير طاز، والبسه التشريف في يوم الخميس رابع عشره، فولي الخاص عوضاً عن بدر الدين.
ثم كان موت الوزير موفق الدين في يوم الجمعة ثاني عشريه، فتعين الأمير ناصر الدين محمد بن بيليك المحسنى وطلب الأمير ناصر الدين لذلك، فامتنع أشد الامتناع، وجرت بينه وبين تاج الدين ناظر الخاص مفاوضة في مجلس السلطان، سببها أنه قال: أما ثم من يصلح للوزارة الا الأمير ناصر الدين، فحنق منه، وقال له: ما يصلح الا أنت، فتكون الوزارة مضافة للخاص كما كان من قبلك. فامتنع تاج الدين من ذلك، وانفض المجلس، فأخذ الأمير طاز بحسن لناظر الخاص التحدث في الوزارة، ويعده بمساعدته، وهو يأبى.
وفي أثناء ذلك استعفى الأمير شيخو من التحدث في أمر الدولة، فتقرر الحال على أن ينفرد السلطان بتدبير دولته، من غير أن يعارضه أحد في ذلك، ويستبد بالمملكة وحده، كما كان أبوه وحده. واجتمع الأمراء وسائر أهل الدولة بين يدي السلطان، وفاوضوه في ذلك، فوافق غرضه، فإنه كان في حصر شديد، ليس له أمر ولا نهى ولا تصرف في شيء من أمور الدولة، وهو محجور عليه مع الأمير شيخو. فقلدوه الأمور، والتزموا بطاعته فيما يرسم به. فصار مباشرو الدولة يدخلون على السلطان، وينهون له الأحوال، فيمضيها بأمره ونهيه.
واختص السلطان بالأمير طاز، وتقدم اليه أن ينظر في أمور الدولة من غير أن يظهر ذلك. فاشتهر بين الأمراء وغيرهم أن استعفاء الأمير شيخو من التحدث في أمور الدولة، واستقلال السلطان بالأمر، إنما هو بتدبير طاز وقيامه فيه مع السلطان، فإن السلطان كان له ميل كبير إلى الأمير طاز، وشغف بحب أخيه جنتمر وفتن به وكان ذلك مما لا يخفي على شيخو، فرأى أن ترك التحدث في الدولة من تلقاء من نفسه خير من عزله عنه. فلما استبد السلطان بأمره منع الأمير شيخو الوزير وناظر الخاص وأمثالهما من الدخول اليه، واستأذن السلطان في الإقامة بإصطبله عدة أيام ليشرب دواء. فخلا تاج الدين ناظر الخاص بالأمير طاز، وعرفه كثرة ما على الدولة من الكلف، وأنها لا تفى بذلك، وقرر معه أن يوفر من المصاريف جلة. وكتب تاج الدين ما على الدولة من المصروف، فكانت جملة ما أطلقه الصاحب موفق الدين لزوجته اتفاق وخدامها ومن يلوذ بها سبعمائة ألف درهم في كل سنة. ثم كتب تاج الدين استيمارا بما يترتب صرفه، وأخذ عليه خط السلطان، وعين صهره فخر الدين ماجد بن قزوينة لنظر الدولة، فطلب وخلع عليه شريك فخر الدين بن السعيد. فكان المتوفر من معاليم المباشريين جملة كثيرة، فإنه لم يدع مباشراً الا وفر من معلومه نصفه أو ثلثيه، ولم يراع منهم أحداً، لا من مباشرى الدولة، ولا مباشرى الخاص، ولا مباشرى الإسكندرية ودمياط، وجيع أعمال الوجه القبلى والوجه البحرى. ثم عزل تاج الدين كثيراً من مباشرى المعاملات، فإنه كان في كل معاملة ستة مباشرين وأكثر، فجعل في كل معاملة ثلاثة مباشرين، ورتب لكل منهم نصف معلوم. ووفر تاج الدين معلومه على نظر الخاص، وباشر الخاص بمعلوم الجيش. فشمل هذا كل من له معلوم في بيت السلطان، من متجر وغيره، ما خلا الموقعين والأطباء، فإن الموقعين عنى بهم كاتب السر علاء الدين على بن فضل الله، وكان عظيماً في الدولة، فلم يتعرض تاج الدين لشيء من معاليمهم، وأقرها بكمالها. وأما الأطباء فاعتنى بهم الأمير طاز، فانه أمير مجلس، وهم من تعلقه. وأما من عدا هؤلاء، فإنه حاصصه على مباشرى صرغتمش وطاز وشيخو، فجاء جملة المتوفر نحو سبعمائة ألف درهم، في كل سنة. فشق ذلك على الأمراء، وكرهوا قطع الأرزاق، وتشاءموا بهذا الفعل. واشتهر ذلك بين الناس، فتنكرت قلوبهم، وكثر دعاؤهم وابتهالهم إلى الله تعالى.
ثم إن تاج الدين اتهم بدر الدين ناظر الخاص بأنه حوى مالاً كثيراً من جهة تركة ابن زنبور، ومازال به حتى حمل من بيته وهو مريض إلى القلعة، والزم بحمل مال كبير، فحمل بدر الدين المال مدة أيام، ومات يوم الثلاثاء رابع عشرى جمادى الأولى في قاعة الصاحب بالقلعة، بعد موت الصاحب موفق الدين بشهر ويومين. فقام الأمير صرغتمش في مساعدته، ومنع من الحوطة على موجوده، وكان بدر الدين قد خلف سعادة جليلة مما حصله من جهة ابن زنبور.
وفي سادس عشر جمادى الأولى: قدم ابن رمضان التركمانى، المستقر عوضاً عن قراجا بن دلغادر، وقدم للسلطان والأمراء ألف أكديش. فرسم له بالإمرة على التركمان، وأنعم له بالإقطاع، وأنعم على عدة من أصحابه بإمرات، ما بين عشرات وطبلخاناه، وعاد إلى بلاده.
وفيه رسم بعمل أوراق بالرزق الأحباسيه التي في إقطاعات الأمراء، وفي غير ذلك من أراضي مصر، مما هي موقوفة على الكنائس والديارات، فجاءت خمسة وعشرين ألف فدان. فأنعم على كل أمير بما في إقطاعه من ذلك، ورسم لجماعة من الفقهاء بشىء من هذه الرزق.
وفي هذه السنة: كانت واقعة النصارى، وذلك أنهم كانوا قد تعاظموا، وتباهوا بالملابس الفاخرة، ومن الفرجيات المصقولة والبقيار الذي يبلع ثمنه ثلاثمائة درهم، والفرط التي تلفها عبيدهم على رؤوسهم. بمبلغ ثمانين درهماً الفوطة. وركبوا الحمير الفره ذات الأثمان الكثيرة، ومن ورائهم عبيدهم على الأكاديش. وبنوا الأملاك الجليلة في مصر والقاهرة ومتنزهاتها، واقتنوا الجواري الجميلة من الأتراك والمولدات، واستولوا على دواوين السلطان والأمراء، وزادوا في الحمق والرقاعة، وتعدوا طورهم في الترفع والتعاظم. وأكثروا من أذي المسلمين وإهانتهم، إلى أن مر بعضهم يوماً على الجامع الأزهر بالقاهرة، وهو راكب بخف ومهماز وبقيار طرح سكندرى على رأسه، وبين يديه طرادون يبعدون الناس عنه، وخلفه عدة عبيد على أكاديش، وهو في تعاظم كبير. فوثب به طائفة من المسلمين، وأنزلوه عن فرسه، وهموا بقتله، فخلصه الناس من أيديهم.
وتحركت الناس في أمر النصارى وماجوا، وانتدب عدة من أهل الخير لذلك، وصاروا إلى الأمير طاز الشريف أبى العباس الصفراوي، وبلغوه ما عليه النصارى مما يوجبه نقض عهدهم، وانتدبوه لنصرة الإسلام والمسلمين. فانتفض الأمير طاز لذلك، وحدث الاصرين شيخو وصرغتمش وبقية الأمراء في ذلك بين يدي السلطان، فوافقوه جميعاً، وكان لهم يومئذ بالإسلام وأهله عناية. ورتبوا قصة على لسان المسلمين، قرئت بدار العدل على السلطان بحضرة الأمراء والقضاة وعامة أهل الدولة. فرسم بعقد مجلس للنظر في هذا الأمر، ليحمل النصارى واليهود على العهد الذي تقرر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وطلب بطرك النصارى ورئيس اليهود، وحضرت قضاة القضاة وعلماء الشريعة، وأمراء الدولة، وجىء بالبطرك والرئيس، فوقفا على أرجلهما وقرأ العلائى على ابن فضل الله كاتب السر نسخة العهد الذي بيننا وبين أهل الذمة، بعد ما الزموا بإحضاره، وهو الا يحدثوا في البلاد الإسلامية وأعمالها ديراً ولا كنيسة ولا صومعة، ولا يجددوا منها ما خرب، ولا يمنعوا من كنائسهم التي عاهدوا عليها أن ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونه. ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يمنعوهم من الإسلام إن أرادوا، وإن أسلم أحدهم لا يردوه. ولا يتشبهوا بشيء من ملابس المسلمين ويلبس النصراني منهم العمامة الزرقاء عشر أذرع فما دونها، واليهودي العمامة الصفراء كذلك، ويمنع نساؤهم من التشبه بنساء المسلمين. ولا يتسموا بأسماء المسلمين، ولا يكتنوا بكناهم، ولا يتلقبوا بالقابهم، ولا يركبوا على سرج، ولا يتقلدوا سيفاً، ولا يركبوا الخيل والبغال، ويركبون الحمير عرضاً بالكف من غير تزيين ولا قيمة عظيمة لها. ولا ينقشوا خواتمهم بالعربية، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، والمرأة من النصارى تلبس الإزار المصبوغ أزرق، والمرأة من اليهود تلبس الإزار المصبوغ بالأصفر. ولا يدخل أحد منهم الحمام الا بعلامة مميزة عن المسلم في عنقه، من نحاس أو حديد أو رصاص أو غير ذلك، ولا يستخدموا مسلماً في أعمالهم. وتلبس المرأة السائرة خفين أحدهما أسود والآخر أبيض، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يرفعوا بناء قبورهم، ولا يعلوا على المسلمين على المسلمين في بناء، ولا يضربوا بالناقوس الا ضرباً خفيفاً، ولا يرفعوا أصواتهم في كنائسهم. ولا يشتروا من الرقيق مسلماً ولا مسلمة، ولا ما جرت عليه سهام المسلمين، ولا يمشوا وسط الطريق توسعة للمسلمين، ولا يفتنوا مسلماً عن دينه، ولا يدلوا على عورات المسلمين. ومن زنى بمسلمة قتل، ومن خالف ذلك فقد حل منه ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
وكل من مات من اليهود والنصارى والسامرة، ذكراً كان أو أنثى، يحتاط عليه ديوان المواريث الحشرية، بالديار المصرية وأعمالها وسائر الممالك الإسلامية، إلى أن يثبت ورثته ما يستحقونه بمقتضى الشرع الشريف. فإذا استحق يعطونه. بمقتضاه، وتحمل البقية لبيت مال المسلمين، ومن مات منهم ولا وارث له يحمل موجوده لبيت المال. ويجرى على موتاهم الحوطة من ديوان المواريث ووكلاء بيت المال مجرى من يموت من المسلمين، إلى أن تبين مواريثهم.
وكان هذا العهد قد كتب في رجب سنة سبعمائة في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، فلما انتهى العلائى على بن فضل الله كاتب السر من قراءته تقلد بطرك النصارى وديان اليهود حكم ذلك، والتزما بما فيه، وأجابا بالسمع والطاعة.
ثم جال الحديث في أمر اليهود والنصارى وإعادة وقائعهم الماضية، وأنهم بعد التزامهم أحكام العهد يعودون إلى ما نهوا عنه. فاستقر الحال على أنهم يمنعون من الخدم في جميع الأعمال، ولا يستخدم نصراني ولا يهودي في ديوان السلطان، ولا في شيء من دواوين الأمراء، ولو تلفظ بالإسلام، على أن أحداً منهم لا يكره على الإسلام، فإن أسلم برضاه، لا يدخل منزله، ولا يجتمع بأهله، الا إن اتبعوه في الإسلام، ويلزم أحدهم إذا أسلم. بملازمة المساجد والجوامع. وأن تكون عمامة النصراني واليهودي عشر أذرع، ويلزموا بزيادة صبغها، والا يستخدموا مسلماً، وأن يركبوا الحمير بالآكل، وإذا مروا بجماعة من المسلمين نزلوا عن دوابهم، وأن يكون قيمة حمار أحدهم أقل من مائة درهم، وأن يلجأوا إلى أضيق الطرق، ولا يكرموا في مجلس، وأن تلبس نساؤهم ثياباً مغيرة الزي إذا مررن في الطرقات، حتى أخفافهن تكون في لونين، ولا يدخلن حمامات المسلمين مع المسلمات. وكتب بذلك كله مراسيم سلطانية سار بها البريد إلى البلاد الإسلامية، فكان تاريخها ثاني عشري جمادى الآخرة، وقرىء منها مرسوم. بمجلس السلطان في يوم الخميس خامس عشريه. وركب من الغد يوم الجمعة سادس عشريه الأمير سيف الدين قشتمر الحاجب، ومعه الشريف شهاب الدين المنشيء بالمراسيم السلطانية إلى البلاد الإسلامية.
وقرىء مرسوم بجامع عمرو من مدينة مصر، وآخر بجامع الأزهر من القاهرة، فكان يوماً عظيماً هاجت فيه حفاظ المسلمين، وتحركت سواكنهم، لما في صدورهم من الحنق على النصارى، ونهضوا من ذلك المجلس بعد صلاة الجمعة، وثاروا باليهود والنصارى، وأمسكوهم من الطرقات، وتتبعوهم في المواضع وتناولوهم بالضرب، ومزقوا ما عليهم من الثياب، وأكرهوهم على الإسلام، فيضطرهم كثرة الضرب والإهانة إلى التلفظ بالشهادتين خوف الهلاك. فإنهم زادوا في الأمر حتى أضرموا النيران، وحملوا اليهود والنصارى، والقوهم فيها. فاختفوا في بيوتهم، حتى لم يوجد منهم أحد في طريق ولا ممر، وشربوا مياه الآبار لامتناع السقائين من حمل الماء من النيل اليهم.
فلما شنع الأمر نودي في القاهرة ومصر الا يعارض أحد من النصارى أو اليهود، فلم يرجعوا عنهم. وحل بهم من ذلك بلاء شديد، كان أعظمه نكاية لهم أنهم منعوا من الخدم بعد إسلامهم، فإنهم كانوا فيما مضى من وقائعهم إذا منعوا من ذلك كادوا المسلمين لإظهار الإسلام، ثم بالغوا في إيصال الأذي لهم بكل طريق، بحيث لم يبق مانع يمنعهم لأنه صار الواحد منهم فيما يظهر مسلماً ويده مبسوطة في الأعمال، وأمره نافذ، وقوله ممتثل. فبطل ما كانوا يعملون، وتعطلوا عن الخدم في الديوان، وامتنع اليهود والنصارى من تعاطى صناعة الطب. وبدل الأقباط جهدهم في إبطال ذلك، فلم يجابوا اليه.
ثم لم يكف الناس من النصارى ما مر بهم حتى تسلطوا على كنائسهم ومساكنهم الجليلة التي رفعوها على أبنية المسلمين، فهدموها. فازداد النصارى واليهود خوفاً على خوفهم، وبالغوا في الاختفاء، حتى لم يظهر منهم أحد في سوق ولا في غير. ثم وقعت قصص على لسان المسلمين بدار العدل تتضمن أن النصارى استجدوا في كنائسهم عمال، ووسعوا بناءها، وتجمع من الناس عدد لا ينحصر، واستغاثوا بالسلطان في نصرة الإسلام، وذلك في يوم الاثنين رابع عشر رجب. فرسم لهم أن يهدموا الكنائس المستجدة، فنزلوا يداً واحدة وهم يضجون. وركب الأمير علاء الدين على بن الكوراني والى القاهرة ليكشف عن صحة ما ذكروه، فلم يتمهلوا بل هجموا على كنيسة بجوار قناطر السباع، وكنيسة للأسرى في طريق مصر، ونهبوهما وأخذوا ما فيهما من الأخشاب والرخام وغير ذلك، ووقع النهب في دير بناحية بولاق التكرور. وهجموا على كنائس مصر والقاهرة، وأخربوا كنيسة بحارة الفهادين من الجوانية بالقاهرة. وتجمعوا لتخريب كنيسة بالبندقانيين من القاهرة، فركب والي القاهرة، فركب والي القاهرة ومازال حتى ردهم عنها، وتمادى هذا الحال حتى عجزت الحكام عن كفهم.
فلما كان في أخريات رجب بلغ الأمير صرغتمش أن بناحية شبرا الخيام كنيسة فيها أصبع الشهيد التي ترمى كل سنة في النيل، فتحدث مع السلطان فيه. فرسم بركوب الحاجب والوالي إلى هذه الكنيسة وهدمها، فهدمت ونهبت حواصلها، وأخد الصندوق الذي فيه أصبع الشهيد، وأحضر إلى السلطان وهو بالميدان الكبير قد أقام به كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. فأضرمت النار، وأحرق الصندوق. بما فيه، ثم ذرى رماده في البحر.
وكان يوم رمى هذا الأصبع في النيل من الأيام المشهودة، فإن النصارى كانوا يجتمعون من جميع الوجه البحري ومن القاهرة ومصر في ناحية شبرا، وتركب الناس المراكب في النيل، وتنصب الخيم التي يتجاوز عددها الحد في البر، وتنصب الأسواق العظيمة، ويباع من الخمر ما يودون به ما عليهم من الخراج، فيكون من المواسم القبيحة. وكان المظفر بيبرس قد أبطله كما ذكره، فأكذب الله النصارى في قولهم أن النيل لا يزيد ما لم يرم فيه أصبع الشهيد، وزاد تلك السنة حتى بلغ إلى أصبع من ثمانية عشر ذراعاً. ثم سعت الأقباط حتى أعيد رميه في الأيام الناصرية، كما تقدم، فأراح الله منه بإحراقه. وأخذ عباد الصليب في الإرجاف بأن النيل لا يزيد في هذه السنة، فاظهر الله تعالى قدرته، وبين للناس كذبهم، بأن زاد النيل زيادة لم يعهد مثلها كما سيأتي ذكره.
وكثرت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بدخول النصارى في الإسلام، ومواظبتهم المساجد، وحفظهم للقرآن، حتى أن منهم من ثبتت عدالته وجلس مع الشهود. فإنه لم يبق في جميع أعمال مصر كلها قبليها وبحريها كنيسة حتى هدمت، وبنى مواضع كثير منها مساجد. فلما عظم البلاء على النصارى، وقلت أرزاقهم، رأوا أن يدخلوا في الإسلام. ففشا الإسلام في عامة نصارى أرض مصر، حتى أنه أسلم من مدينة قليوب خاصة في يوم واحد أربعمائة وخمسون نفراً، وممن أسلم في هذه الحادثة الشمس القسى، والخيصم. وحمل كثير من الناس فعلهم هذا على أنه من جملة مكرهم، لكثرة ما شنع العامة في أمرهم، فكانت هذه الواقعة أيضاً من حوادث مصر العظيمة.
ومن حينئذ اختلطت الأنساب بأرض مصر، فنكح هؤلاء الذين أظهروا الإسلام بالأرياف المسلمات، واستولدوهن، ثم قدم أولادهم إلى القاهرة، وصار منهم قضاة وشهود وعلماء، ومن عرف سيرتهم في أنفسهم، وفيما ولوه من أمور المسلمين، تفطن لما لا يمكن التصريح به.
وفي يوم السبت ثاني عشري رجب: ركب السلطان إلى الميدان الكبير المطل على النيل، بعد كسر الخليج من العادة، وعاد من أخره إلى القلعة. ثم ركب السلطان السبت الثاني إلى الميدان. وأقامبه ومعه الأمير شيخو، والأمير طاز، والأمير صرغتمش، وبقية الأمراء الخاصكية. وعمل السلطان به الخدمة في يومي الإثنين والخميس، كما تعمل بالإيوان في القلعة، ولم يتقدمه أحد إلى مثل هذا.
وكانت العامة في طول إقامته بالميدان لا يبرحون على الحيطان للفرجة هناك، وتجمع منهم عالم عظيم، ونصبت هناك أسواق كثيرة، فصاروا يخوضون فيما لا يعنيهم ويتكلمون في الليل بكل فاحشة، في حق كبراء الدولة، ويقولون ليسمع السلطان: قم اطلع قلعتك، ما جرت بذا عادة، واحترس على نفسك، وإياك تأمن لأحد. فلما كثر هذا وشبهه من كلامهم، وسمعه منهم الأمراء، اشتد حنقهم، وأمروا مماليكهم فركبوا، وأوقعوا بهم ضرباً بالدبابيس والعصى، ففروا هاربين، والقوا أنفسهم في البحر، وتفرقوا في كل جهة. فقبض منهم جماعة، وأسلموا لوالى القاهرة، ورسم له بأن يتتبع غوغاء العامة حيث كانوا، فهجم أماكنهم، وقبض على جماعة كثيرة وسجنهم. فاظهر النصارى الشماتة بهم، وتجاهروا بأن هذا عقوبة من الله لهم بما فعلوه معهم. فشق هذا على الأمراء، وأمروا بأن يفرج عنهم حتى لا يشمت بهم أهل الكفر، فأطلقوا، وخرج عدة منهم إلى الأرياف.
وركب السلطان في يوم السبت ثالث شعبان - بعد ما لعب بالكرة على عادته - إلى القلعة. فلما اسثقر بها حسن له ناظر الخاص أن ينقل ما بخزانة الخاص من التحف التي قدمها النواب وغيرهم إلى داخل الدار، فحملت كلها. ثم كتب ناظر الخاص أسماء جماعة لهم أموال، من جملتهم خالد بن داود مقدم الخاص، وأغرى السلطان به. فأخذ الأمير قجا أمير شكار في الدفع عن خالد، وكان يعنى به، ثم أعلم خالداً بما كان، فالتزم له خالد أن يحصل للسلطان أموالاً عظيمة من ودائع ابن زنبور أضعاف ما يطلب منه، على أن يعفى من تقدمة الخاص، وينعم عليه بإقطاع، ويبقى من جملة الأجناد فأتقن له أمير شكار ذلك مع السلطان، فأجاب السلطان سؤاله، واستدعى خالد والبسه الكلفتاه، ومكنه مما يريد. فنزل خالد وقبض على جماعة من الزام ابن زنبور، فدلوه على صندوق قد أودع عند قاضى الحنفية بالجيزة، فركب اليه، وأخذه منه، فوجد فيه مصاغاً وزراكش. فأخذ خالد في تتبع حواشي ابن زنبور حتى أخذ منهم ما ينيف على مائة ألف دينار، فاشتكى ناظر الخاص من فعله نكاية بالغة.
فلما كان في شهر رمضان خرج السلطان إلى ناحية سرياقوس على العادة، ومعه والدته وحريمه، وجميع الأمراء وغيرهم من أهل الدولة، وتأخر الأمير شيخو بإصطبله لوعك به. فكثر لهو السلطان ولعبه، وشغفه بالأمير جنتمر حتى أفرط، وجمع عليه الأمير قجا أمير شكار وأخوته.
ومال السلطان إلى جهة الأمير طاز وأعرض عن الأمير شيخو والأمير صرغتمش. وصار يركب النيل في الليل، ويستدعى أرباب الصنائع، من الطباخين والخراطين والقزازين، ونصب له نول قزازة، وعمل هذه الأعمال بيده، فكان إذا رأى صناعة من الصناعات عملها في أيسر زمن بيده. وعمل لخوند قطلوبك أمه مهما طبخ فيه الطعام بيده، وعمل لها جميع ما يعمل في الموكب السلطاني، ورتب لها الخدام والجواري، ما بين حمدارية وسقاة، ومنهم من حمل الغاشية والقبة والطريق وأركبها في الحوش بزي الملك وهيئة السلطنة. وخلع وأنفق، ووهب شيئاً كثيراً من المال. ثم شد في وسطه فوطة، ووقف فطبخ الطعام في هذا المهم بنفسه، ومد السماط بين يديها بنفسه، فكان مهما يخرج عن الحد في كثرة المصروف، فأنكر ذلك الأمير شيخو، وكتم ما في نفسه. فلما عاد السلطان في آخر الشهر من سرياقوس إلى القلعة، وقد بلغ شيخو أن السلطان قد اتفق مع إخوة طاز على أن يقبض عليه وعلى صرغتمش يوم العيد. وكان طاز قد توجه إلى البحيرة في هذه الأيام، بعد ما قرر مع السلطان ما ذكر، فركب السلطان في يوم الأحد أول شوال لصلاة العيد في الإصطبل على العادة، وقرر مع كلتاي وجنتمر واصر عمر ما يفعلونه، وأمر بمائة فرس فشدت وأوقفت، فلم يحضر شيخو صلاة العيد، وكان قد بلغه جميع ما تقرر، فباتوا ليلة الاثنين على حذر، وأصبحوا وقد اجتمع مع الأمير شيخو من الأمراء صرغمتش وطقطاى ومن يلوذ بهم، وركبوا إلى تحت الطبلخاناه، ورسموا للاصر علم بضرب الكوسات، فضربت حربياً. فركب جميع العسكر تحت القلعة بالسلاح وصعد الأمير تنكربغا والأمير أسنبغا المحمودي إلى القلعة، وقبضا على السلطان وسجناه مقيداً، فزال ملكه في أقل من ساعة وصعد الأمير شيخو ومن معه من الأمراء إلى القلعة، وأقامت أطلابهم على حالها تحت القلعة. وقبض الأمير شيخو على إخوة الأمير طاز، واستشار فيمن يقيمه للسسلطة، وصرح هو ومن معه بخلع الملك الصالح صالح، فكانت مدة سلطنته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، فسبحان من لا يزول ملكه.
السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون الالفي ولما قبض على الملك الصالح وخلع اقتضى رأى الأمير شيخو - وسائر الأمراء - إعادة السلطان حسن، لما كان يبلغهم عنه من ملازمته في مدة حبسه للصلوات الخمس والإقبال على الاشتغال بالعلم حتى إنه كتب بخطه كتاب دلائل النبوة للبيهقي.
فاستدعوا الخليفة وقضاة القضاة، وأحضروا السلطان من محبسه، وأركبوه بشعار المملكة، ومشى الأمراء كلهم، وسائر أرباب الدولة في ركابه، حتى جلس على تخت الملك، وبايعه الخليفة، فقبلوا له الأرض على العادة، وذلك في يوم الإثنين ثاني شهر شوال. وبات الأمراء في الأشرفية من القلعة. وأرسل الأمير صرغتمش، والأمير تقطاى الدوادار، إلى الأمير طاز ليخبراه. مما وقع، فصارا اليه، ولقياه بالطرانة، وقد رجع. وبلغه الخبر، فعرفاه ما كان في غيبته، وأقبلا معه إلى حيث أرادا تعدية النيل، فأرسل الله ريحاً عاصفاً منعت المعادى من المسير. فأقاموا على الشط - والريح قوية - إلى بعد العصر، ثم عدوا إلى مدينة مصر.
ونزل الأمير طاز بالمدرسة المعزية ليفطر، فإنه كان صائماً. وبلغ إخوته ومن يلوذ به مجيئه، فأخذوا في تدبير أمورهم، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا، لاحتراز الأمير شيخو منهم، والتوكيل بهم. الا أن الأمير كلتا ركب في عدة من مماليكه - ومماليك أخيه الأمير طاز - يريد ملتقاه، فأنكر شيخو ذلك.
واتفق أن مماليكه ظفروا. بمملوكين من أصحاب كلتا لابسين، وأحضروهما إلى شيخو. فركب الأمير بلجك في عدة من مماليكه، والتقاه بعد العصر عند باب اصطبل طاز، فلم يطق محاربته. لكثرة جمعه، فرجع، فرموه بالنشاب وساروا إلى لقاء طاز. وبعث الأمير شيخو. بمماليك كل من الاصرين صرغتمش وتقطاى ليلتقوهما، فجدوا في المسير حتى لقوهما عند الرصد بعد المغرب، وهما مع الأمير طاز. فما هو الا أن أتت أطلاب الاصرين، رفس كل منهما فرسه، ودكس من جانب طاز، وصار في طلبه بين مماليكه، فإنهما كانا لما رأيا مماليك كلتا قد أقبلوا إلى لقاء طاز وهم ملبسين، خافا على أنفسهما. وفي الحال وقعت الضجة و لم يبق الا وقوع الحرب. فتفرقت مماليك طاز عنه لقلة عددهم، فإن الأطلاب صارت تتلاحق من قبل الأمير شيخو شيئاً بعد شيء، فطلب طاز أيضاً نجاة نفسه وولى بفرسه، فلم يعرف أين يذهب. وأقبلت الأمراء إلى الأمير شيخو، فأركب الأمير قطلوبغا الطرخانى في جماعة من الأمراء لحراسة الطرقات، فتفرقوا في عدة جهات، وبات بقية الأمراء في الأشرفية من القلعة، ووقفت عدة وافرة تحت القلعة.
وبات السلطات والأمير شيخو على باب الإصطبل، فكانوا طول ليلتهم في أمر مريج وظلوا يوم الخميس وليلة الجمعة كذلك. ففي أثناء ليلة الجمعة حضر الأمير تقطاى الدوادار - وصحبته الأمير طاز - إلى عند الأمير شيخو. وكان طاز قد التجأ إلى بيت تقطاى، فإن أخت طاز كانت تحته، فقام اليه الأمير شيخو وعانقه، وبكى بكاء كثيراً، وتعاتبا، وأقام عنده ليلته تلك. وركب به يوم الجمعة إلى القلعة، فأقبل عليه السلطان، وطيب خاطره، ورسم له بنيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرغون الكاملى. فلبس طاز التشريف في يوم السبت سابعه، وسار من يومه ومعه الأمير شيخو وصرغتمش، وجميع الأمراء لوداعه، فسال أن تكون إخوته صحبته، فأجيب إلى ذلك، وأخرجوا اليه، بحيث لم يتأخر عنه أحد من حاشيته، وعاد الأمراء، ومضى لمحل نيابته. وسجن الملك الصالح صالح حيث كان أخوه الملك الناصر حسن مسجوناً.
ومن غريب ما وقع - مما فيه أعظم معتبر - أنه عمل الطعام للسلطان الملك الصالح ليمد بين يديه على العادة، وعمل الطعام للناصر حسن ليأكله في محبسه، فاتفق خلع الصالح في أق من ساعة وسجنه، وولاية أخيه حسن السلطنة عوضه، فمد السماط بالطعام الذي عمل ليأكله الصالح، فأكله حسن في دست مملكته، وأدخل الطعام - الذي عمل لحسن ليأكله في محبسه - على الصالح، فأكله في السجن الذي كان أخوه حسن فيه. فسبحان محيل الأحوال، لا اله الا هو.
وفيها كان القبض على تاج الدين أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن غنام، ناظر الخاص وناظر الجيش. وعددت له ذنوب، منها أنه لما ولى نظر الجيش - بعد علم الدين بن زنبور - تشدد فيه، مع سلوكه سبيل الأمانة على المعنى. بمنع المقايضات والنزولات، حتى قلت أرزاقهم. ثم لما ولى نظر الخاص بعد بدر الدين - مضافاً إلى الجيش - ثم مات الوزير موفق الدين، مالط إلى جهة طاز والملك الصالح، وأوقع في ذهنهما أنه لا يتمكن من عمل مصالح السلطان مع تحدث الأمير شيخو في أمور الدولة. فنقل ذلك إلى شيخو وصرغتمش، فقام صرغتمش على شيخو حتى استعفي من التحدث في أمور الدولة، وقلدوا السلطان أمرها، فاستقل بالتدبير وحده. وجعل الأمير طاز كأنه يتحدث عنه من غير إظهار ذلك، فاتفق مع الأمير طاز على توفير جملة من المعاليم المستقرة للمباشرين، فوفر منها ما تقدم ذكره، و لم يراع أحداً، فتنكرت القلوب له. ونقل مع هذا الأمير شيخو عنه أنه أغرى الملك الصالح به. وعرفه كثرة متاجره وأمواله، حتى تنكر عليه وعلى الأمير صرغتمش. فلما توطدت دولة الملك الناصر حسن، تفرغ الأمير شيخو لناظر الخاص. وعندما خرج من خزانة الخاص بالقلعة أخذ ووضع في رقبته باسة وجنزير، وكشف رأسه، وتناولته أيدي الناس يضربونه بنعالهم، وهم خدام السلطان ومماليكه بقتله، فلولا من هو موكل به، لأتوا على نفسه، ومازالوا به حتى أدخلوه قاعة الصاحب بالقلعة. وماجت القاهرة ومصر بأهلها لسرورهم بذلك، فكان يوماً معدوداً. ووقع الطلب عليه بحمل المال، وبسطت عليه العقوبات بأنواعها. وتولى تعذيبه عدوه خالد بن داود، فقبض على أخيه كريم الدين ناظر البيوت، وعلى الزامه وأصهاره وأتباعه. وولى مجد الدين موسى الهذبانى شاد الدواوين، فعظمت مصيبتهم وجلت بلاياهم، فإنه أدخل على تاج الدين. بمزين حلق رأسه ثم شق جلدة رأسه بالموسى، وحشى جراحاته من الخنافس. ثم البس رأسه طاسة من نحاس قد أوقد عليه بالنار، حتى اشتدت سخونتها، فعندما أحست الخنافس بالحرارة سعت لتخرج، فلم تجد سبيلاً، فجعلت تنقب في جراحات رأسه حتى هلك، بعد ما رأى في نفسه العبر من كثرة تنوع العذاب الاليم عليه. واعتزل بخبيئة في داره، فنزل الأمير قشتمر الحاحب، ومجد الدين الهذبانى - شاد الدواوين - وخالد بن داود اليها، فوجدوا ستة الاف دينار. وأبيع موجوده، وهدمت داره، فكانت جملة ما أخذ منه عشرة الاف دينار.
واستقر عوضه في نظر الخاص والجيش علم الدين عبد الله بن نقولا، كاتب الخزانة. واستقر كريم الدين أكرم بن شيخ في نظر الدولة ونظر البيوت. واستقر الفخر ابن السعيد - صاحب ديوان الجيش - في كتابة الخزانة عوضه.
وفي هذا الشهر: قدم الأمير أرغون الكاملى نائب حلب، فأكرم إكراماً زائداً، وخلع عليه، وأنعم عليه بإقطاع الأمير طاز من غير زيادة، وهي منية ابن خصيب وناحية أخرى.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة: أخرج الأمير أسندمر العمرى لنيابة حماة، ونقل الأمير سيف الدين طبيرق نائب حماة إلى إمرة بدمشق. ونقل الأمير منجك من صفد إلى نيابة طرابلس، عوضاً عن أيتمش الناصري بعد وفاته.
وفي هذا الشهر: ركب السلطان إلى جهة الأهرام، وعاد فدخل إلى بيت الأمير شيخو، يعوده وقد وعك، فقدم له تقدمة جليلة.
وفيه خلع على الأمير صرغتمش، واستقر في نظر المارستان المنصوري، وكان قد تعطل نظره من متحدث تركي، وانفرد بالكلام فيه القاضي علاء الدين على بن الأطروش وفسد حال وقفه، فإنه كان يكثر من مهاداة أمراء الدولة ومدبريها، ويمهل عمارة رباعه حتى تشعثت فنزل اليه الأمير صرغتمش، ودار فيه على المرضى، فساءه ما رأى من ضياعهم، وقلة العناية بهم، فاستدعى القاضي ضياء الدين يوسف بن أبى بكر بن محمد بن خطيب بيت الآبار وعرض عليه التحدث في المارستان كما كان، عوضاً عن ابن الأطروش. فامتنع من ذلك، فمازال به حتى أجاب. وركبا إلى أوقاف المارستان بالمهندسين، لكشف ما يحتاج اليه من العمارة، فكتب تقدير المصروف ثلاثمائة ألف درهم، فرسم بالشروع في العمارة، فعمرت الأوقاف حتى ترفع ما فسد منها، ونودى بحمايه من سكن فيها، فزاد ريع الوقف في الشهر نحو أربعين ألف درهم، ومنع من يتعرض اليهم، وانصلحت أحوال المرضى أيضاً.
وعرض الأمير صرغتمش جميع مستحقى الوقف من الفقهاء والقراء وغيرهم، وأكثر من سؤالهم، ونقب عن أمورهم، والزمهم بمواظبة وظائفهم.
وفيها انفتح باب السعي عند الأمير شيخو بالبراطيل في الولايات، فسعى جماعة بأموال في عدة جهات، فأجيبوا إلى ذلك، وقرروا فيما أرادوه، وأخذ منهم ما وعدوا به، منهم حاجي أستادار ظهير بغا، استقر في ولاية قوص بمائتين وخمسين ألف درهم، قام بها للسلطان والأمراء. واستقر أيضاً ناصر الدين عمد بن إياس بن الدويدارى في كشف الوجه البحري، عوضاً عن عز الدين أزدمر الأعمى بنحو ستة الاف دينار.
وكان أزدمر قد عمى من اثنتي عشرة سنة، وهو لا يظهر أنه أعمى، ويركب، ويكبس البلاد، ويحضر الخدمة السلطانية مع الأمراء، وله مملوك يكون معه حيث سلك، يعرفه ما يريد، وإذا رأى أحداً يقصده يعرفه به، فيستقبله من بعد ويسلم عليه كأنه يراه. وكذا إذا جلس للحكم أرشده سراً لما لابد منه. ومع ذلك فقد كان لطول مدته وتمرنه صار يعرف أكثر أحوال العربان، ويستحضر أسماءهم، فيقوى بذلك على تمشية أموره، بحيث يخفي على أكثر الناس عماؤه، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.
وفيها خرج ركب الحجاج الرجبية، صحبة الأمير عز الدين أزدمر الخازندار، ونزل بركة الجب على العادة في يوم الاثنين حادي عشرين رجب. وسافر فيه الطواشي شبل الدولة كافور الهندي، وقطب الدين هرماس وجماعة من الأعيان. فلما وصل الركب إلى بدر، لقيهم قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، وقد توجه من المدينة النبويه - وكان مجاوراً بها - يريد مكة ليصوم بها شهر رمضان. وعند نزولهم بطن مرو لقبهم الشريف عجلان أمير مكة. فخلع عليه، ومضوا إلى مكة، فدخلوها معتمرين يوم الخميس تاسع عشرين شعبان، فنودي من الغد مستهل رمضان الا يحمل أحد من بنى حسن والقواد والعبيد سلاحاً بمكة، فامتنعوا من حمله. وكان الرخاء كثيراً كل غرارة قمح - وهي سبع ويبات مصرية - بثمانين درهماً، والغرارة الشعير بخمسين درهماً. الا أن الماء قليل، بحيث نزحت الآبار وانقطعت عين جوبان ، فأغاثهم الله بمطر عظيم رووا منه. وحضر أبو القاسم محمد بن أحمد اليمنى - إمام الزيدية الذي ضربه عمر شاه أمير الركب في السنة الخالية - إلى قاضى القضاة عز الدين بن جماعة تائباً مما كان عليه من مذهب الزيدية، فعقد له مجلس بالحرم، حضره أمير الركب وعامة أهل مصر ومكة، وأشهدهم أنه رجع عن مذهب الزيدية، وتبرأ إلى الله تعالى من إباحة دماء الشافعية وأموالهم، وأنه يواظب على صلاة الجمعة والجماعة مع أئمة الحرم، وإن خرج عن ذلك فعل به ما تقتضيه الشريعة، وكتب خطه بذلك،. فقال بعضهم:
استتوبوا الزيدى عن مذهب ... قد كان من قبل به معجبا
لو لم يدارك نفسه بتوبة ... لعجل الله له مذهبا
وهبت الريح بمكة من قبل اليمن، أظلم عقبيها الحرم، وفشث الأمراض في الناس، حتى لم يكن أحد الا وبه وعك، الا أنه كان سليماً يحصل البرء منه بعد أسبوع. فلما كان شهر شوال ظهر بعد العشاء الآخرة من قبل جبل أبي قبيس، كوكب في قدر الهلال، وأكثر نوراً منه، ومر على الكعبة ثم اختفي بعد ثلاثة درج، فسمع من فقير يماني وهو يقول: لا اله الا الله، القادر على كل شيء، هذا يدل على رجل يكون في شدة، يفرج الله عنه، ورجل يكون في فرج يصير إلى شدة، والله يدبر الأمر بقدرته. وقدم الخبر في أخريات شوال بخلع الصالح وإعادة السلطان حسن، وكان اتفق أيضاً أن الشيخ المعتقد أبا طرطور قال يوماً: لا اله الا الله، اليوم جلس حسن في دست مملكة مصر. ولم يكن عنده سوى الشيخ قطب الدين أبى عبد الله محمد بن أبى الثناء محمود ابن هرماس بن ماضي القدسي، المعروف بالهرماس فقام من فوره إلى أمير الركب عز الدين أزدمر وقاضى القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة وهما بالحرم، فجلس اليهما، ثم أطرق ورفع رأسه وقال: لا اله الا الله، اليوم جلس الملك الناصر حسن في دست مملكة مصر عن الملك الصالح صالح، فور خوا ذلك عندكم. فورخه الأمير عز الدين أزدمر. وقدم الخبر بخلع الصالح وجلوس الناصر حسن في ذلك اليوم بعينه. فمن حينئذ ارتبط الأمير عز الدين أزدمر على الهرماس، وأوصله للسلطان حسن حتى بلغ ما بلغ، ظناً منه أن الكلام المذكور كان من قبله على جهة الكشف، وما كان الا مما تلقفه من الشيخ أبي طرطور، فنسبه إلى نفسه.
وفيها كان من زيادة النيل ما يندر وقوع مثله، فإنه انتهى في الزيادة إلى أصابع من عشرين ذراعاً، فقيل خمسة، وقيل سبعة، وقيل عشرون أصبعاً، من عشرين ذراعاً، ففسدت الأقصاب والنيلة ونحوها من الزراعات، وفسدت الغلال التي بالمطاصر والأجران والمخازن، وتقطعت الجسور التي بجميع النواحي، قبليها وبحريها، وتعطلت أكثر الدواليب وتهدمت دور كثيرة مما يجاور النيل والخلجان، وغرقت البساتين، وفاض الماء حتى بلغ قنطرة قديدار فكانت المراكب تصل من بولاق اليها، ويركب الناس في المراكب من بولاق إلى شبرا ودمنهور.
وغرقت كوم الريش، وسقطت دورها، فركب الأمير علاء الدين على بن الكوراني والي القاهرة، والأمير قشتمر الحاحب، وجماعة. وقطعت أشجار كثيرة، وعمل سد عظيم، حتى رجع الماء عن الحسينية بعد ما أشرفت على الغرق، فإن المطرية والاصرية والمنيا وشبرا مع جميع الضواحي بقوا ملقة واحدة متصلة بالنيل الأعظم، فعز التبن بالنواحي لتلفه كله، وبلغ كل حمل عشرين درهماً في الريف، ووصل في القاهرة كل حمل إلى خمسة وأربعين درهماً، ثم انحط إلى خمسة وعشرين درهماً. وتحسنت الأسعار، فبلغ الأردب القمح إلى ستة وثلاثين درهماً، والأردب الشعير إلى عشرين درهماً، والأردب الفول إلى ستة عشر درهماً. وشرق مع ذلك كثير من بلاد الفيوم، فإن جسرها انقطع، فتوجه الأمير ناصر الدين محمد بن المحسنى والأمير مجد الدين موسى الهذبانى، والأمير عمر شاه - كاشف الجسور - وغيره، حتى سدوه وجبوا من بلاد الفيوم ثلاثمائة ألف درهم، وبنوا زريبة حجر موضع الجسر، حتى أتقنوه، ثم عادوا. وغلا البرسيم الأخصر حتى بلغ الفدان بالضواحي إلى مائتين وخمسين درهماً، وفي غيرها إلى مائتين، من قلة الأتبان. وانحط سعر العسل والسكر، وتلفت الفواكه جميعها وهلكت أشجار أكثر البساتين.
ومات في هذه السنة من الأعيان ممن له ذكرالأمير سيف الدين أيتمش المحمدي الناصري نائب طرابلس في رمضان ترقى في الخدم إلى أمره الناصري قريباً من سنة أربع وعشرين، ثم ولى حاجباً في المحرم سنة أربع وأربعين، وانتقل منها إلى الوزارة في شهر رمضان منها، فاستمر إلى سنة خمس وأربعين وأعيد إلى الحجابة. فلما قتل أرغون شاه نائب دمشق استقر عوضه، فقدم دمشق في جمادى الآخرة سنة خمسين، وأقام بها إلى رجب سنة اثنتين وخمسين، فدعى إلى مصر، وقبض عليه بها، وسجن بالإسكندرية، ثم أفرج عنه بعد يسير، وأخرج إلى صفد، ومنها لحق بيبغ روس فأشار عليه بخبره. فلما قدم السلطان إلى دمشق، وعرفت سيرته الحسنة، ولى نيابة طرابلس، فمات بها. وكان لين العريكة، وطى الجانب.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاي - أمير شكار واصر أخور - بطالا بدمشق. كان من خواص الناصري، فترقى في خدمته، حتى صار رأس نوبة كبير أمير مايه، واستقر أمير شكار واصر آخور، ثم قبض عليه وأخرج إلى طرابلس، ثم نقل إلى دمشق، فمات بها في عاشر رمضان، وكان حاد الخلق.
ومات جمال الدين أبو الطب الحسين، ابن قاضى قضاة دمشق تقي الدين أبى الحسن على بن عبد الكافي بن على بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري السبكي، بدمشق، في يوم السبت ثاني شهر رمضان، ومولده. بمصر سنة إحدى وعشرين. كتب بديوان الإنشاء في وزارة أبيه، ثم ولى استيفاء الصحبة. وتقلد في سنة تسع وثلاثين إلى نظر الدولة، واستقر عوضه في استيفاء الصحبة أخوه كريم الدين، حتى أمسك مع أبيه في نوبة النشو وعوقبوا. ثم توجه بعد موت أبيه إلى القدس وأقام به مدة. ثم طلب وولى نظر البيوت، فاستعفى منها، وولى نظر النظار بالشام. ثم استعفى منها أيضاً وقدم القاهرة حتى ولى نظر الجيش بعد ابن زنبور، وأضيف اليه نظر الخاص وكان فاضلاً كريماً درس بعدة مواضع.
توفي تاج الدين أبو الفضايل أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن غنام في رابع شوال تحت العقوبة، كما تقدم. وهو أحد كتاب مصر المعدودة، وكان يخدم جريدته بيده، ولا يحتاج إلى كشف عامل ولا غيره، بل يكاد أن يعمل محاسبة كل أحد من ذهنه لفرط ذكائه وشدة فطنته، مع العفة والأمانة، أو التشدد على الناس، والتوفير من الأرزاق حتى لم يعهد أنه جرى على يده رزق لأحد، بل ما برح يومر المال للسلطان إلى أن كان من أمره ما كان. وكان لا يراعى أحداً، ولا يحابى، ويكثر من المحاققة والضبط.
توفي الأمير سيف الدين أياجى نائب قلعة دمشق وتوفى الشريف علاء الدين أبو الحسن على بن عز الدين حمزة بن الفخر على بن الحسن الحسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة الحسيني الحلبي، نقيب الأشراف بحلب. قدم القاهرة، وكتب بديوان الإنشاء مدة، ثم عاد إلى حلب، وولى وكالة بيت المال ونقابة الأشراف لها حتى مات، وقد أناف على السبعين.
وتوفي الوزير الصاحب، موفق الدين، أبو الفضل، هبة الله بن سعيد الدولة إبراهيم، في يوم الجمعة ثاني عشرين ربيع الآخر. وكان كاتباً مجيداً مشكور السيرة. له بر ومعروف. باشر أولاً نظر الدولة ثم تنقل إلى الوزارة فلم يزل وزيراً حتى مات، ودفن بتربته من القاهرة، وكانت جنازته حفلة.
وتوفي متملك الأندلس أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن الأحمر في صلاة عيد الفطر، طعن بخنجر وهو ساجد، فكانت منيته.
وتوفي قاضي القضاة المالكية ببلاد الشرق عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الإيجي المطرزي المعروف بالعضد الشيرازي الشافعي مسجوناً في سخط صاحب كرمان ومولده سنة ثمانين وستمائة. وله شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول صلى الله عليه وسلم المواقف، وكتاب القواعد الغياثية. وكان إماماً في المعقولات والنحو والأصول والمعاني والبيان، مشاركاً في الفقه. وله سعادة ضخمة، وكلمة نافذة. وولاه أبو سعيد القضاء وسكن سلطانية ثم شيراز. وبينه وبين فخر الدين أحمد بن الحسن الجاربردى مناظرات.
سنة ست وخمسين وسبعمائةفي المحرم: شرع الأمير شيخو في هدم أملاك ابتاعها بخط صليبة جامع ابن طولون. فكانت مساحتها زيادة على فدان، واختط موضعها خانكاه، وحمامين وحوانيت، يعلوها رباع. وجد في بنائها بحيث أنه عمل فيها بنفسه ومماليكه، حتى انتهت عمارتها، وأشهد عليه بوقفها. ووقف عليها عدة جهات بأرض مصر والشام. ورتب بها دروس الفقه للمذاهب الأربعة، وشيخاً للصوفية، ومدرساً للحديث النبوي، وشيخاً لإقراء القرآن الكريم بالقراءات السبع، وغير ذلك من الفراشين والقومة والمباشرين.
وشرط على الفقهاء والصوفية الا يتزوج منهم الا طائفة عينهم من كل مذهب، وأن يقيم العزاب بالخانكاه ليلاً ونهاراً. وشرط الا يكون فيهم ولا منهم قاض ولا شاهد، يتكسب بتحمل الشهادة. فلما كان يوم عرفة منها ركب في جماعة الأمراء وأعيان الدولة وقضاة القضاة ومشايخ العلم إلى هذه الخانكاه. وقد قرر في تدريس الشافعية بهاء الدين أحمد ابن الشيخ الإمام تقي الدين على بن عبد الكافي السبكي، والشيخ خليل الجندي في تدريس المالكية، والقاضي ناصر الدين نصر الله في تدريس الحنابلة، شريكاً لقاضي القضاة موفق الدين عبد الله الحنبلي. والقى المدرسون الثلاثة دروس الفقه على مذاهبهم، وطلبتهم قد تحلقوا بين أيديهم فيما بين الظهر إلى العصر. فلما صلوا العصر فرش الأمير شيخو سجادة مشيخة التصوف بيده، وأجلس الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود الحنفي عليها. ثم لما انقضى الحضور انفضوا. فكان يوماً مشهوداً. و لم يسخر في بنائها أحد من المقيدين الذين بالسجون، كما هي عادة أمراء الدولة في عمايرهم، ولا سخر من الناس أحداً بغير أجرة في شيء من أعمال هذه الخانكاه، بل كانت توفى للعمال أجرهم. وأنشد أدباء العصر في هذه الخانكاه عدة أشعار، منها قول الأديب صلاح الدين صلاح بن الزين لبيكم:
لقد شاد شيخو خانكاه بديعة ... تفوق على الروض المكلل بالندا
بناها ولم يعمل بها من مقيد ... ولكن على أهل الوظايف قيدا
وقال الأديب شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى بن أبي بكر بن عبد الواحد الشهير بابن أبي حجلة المغربي، من مقامه عملها في الخانكاه المذكورة:
ومدرسة للعلم فيها مواطن ... فشيخو بها فرد وإيثارة جمع
لئن بات فيها في القلوب مهابة ... فواقفها ليث وأشياخها سبع
وفي يوم الإثنين ثاني صفر: عزل تاج الدين محمد بن علم الدين محمد بن أبى بكر الأخنائي، عن قضاء المالكية بالقاهرة، واستقر في نظر خزانة الخاص، عوضاً عن ابن الجوجرى، وخلع عليه.
واستقر في قضاء المالكية الشيخ نور الدين أبو الحسن على بن عبد النصير بن علي السخاوي، فمرض بعد شهر ولزم الفراش حتى مات بعد اثنين وسبعين يوماً، بعد ما أفاق من مرضه إفاقة. وبلغه أنه لما أيس منه عزل، فسال الأمير شيخو أن بجدد السلطان له ولاية، فخلع عليه، وعمل الأمير شيخو وليمة لعافيته، فمات يوم الثامن من الوليمة، فاستدعى تاج الدين الإخنائي وخلع عليه، وأعيد إلى قضاء القضاة المالكية مع نظر خزانة الخاص، فاستناب في نظر الخاص أخاه برهان الدين إبراهيم.
وفيه كتب توقيع لتاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين على السبكي بأن يكون نائباً عن أبيه في قضاء القضاة بدمشق، ومستقلاً بعد وفاته. ورسم بحضور التقى إلى القاهرة، بسعى ولده بهاء الدين أحمد في ذلك، فكتم التقى عن أهل دمشق هذا وخرج - وهو مريض - في محفة ليزور القدس، فقدم القاهرة وقد اشتد مرضه، فمات بعد أيام. واستقر عوضه في قضاء القضاة بدمشق ابنه تاج الدين عبد الوهاب.
وفي يوم الإثنين تاسع صفر: قبض على الأمير أرغون الكاملي خوفاً من شره، وسجن بالإسكندرية. واستقر كريم الدين أكرم ابن شيخ في نظر الدولة، وأعيد شهاب الدين أحمد بن ياسين بن محمد الرياحي إلى قضاء المالكية بحلب، بعد وفاة زين عمر بن سعيد يحيى التلمستاني المغربي. واستقر خالد بن داود شاد الدواوين بأمرة عشرة، ولبس الشربوش في يوم عاشرة واستقر الحاج محمد بن يوسف مقدم الدولة عوضاً عن الحاج أحمد بن زيد. والزم ابن زيد بحمل ثلاثمائة ألف درهم، فحملها، فتتبع ابن يوسف أثاره حتى أظهر له من دفائن وودائع نحو أربعمائة ألف درهم. ثم صرف ابن يوسف وأعيد ابن زيد. وقبض على ابن يوسف، وعلى خالد بن داود شاد الدواوين وسلما لأحمد بن زيد، فعاقبهما والزمهما بحمل المال، فلم يزل خالد في العقوبة حتى مات وأنعم السلطان على ولده الأمير أحمد بإمرة مائة تقدمة الف، وأفرد له ديواناً.
وقدم الخبر بهجوم الفرنج على طرابلس الغرب، وأخذها، وقتل عامة أهلها. فلما بلغ ذلك أبو عنان فارس بن أبى الحسن علي بن يعقوب - متملك فاس - اشتراها من الفرنج. بمال كبير وعمرها.