كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك
المؤلف : المقريزي
وفيه قدم الأمير بكتمر الحسامي من دمشق، فولي الإسكندرية وتوجه إليها، فأراق الخمور بها، ومنع من بيعها، وجعل أجرة النقيب نصف درهم، وتثبت في البينات، وحمل الناس على الأمور الشرعية. فاستخفوا به وطمعوا فيه، وكثر فسادهم، فأحدث عليهم غرامات يقومون بها إذا تبين الحق عليه، فكان الرجل إذا شكا يجبى منه من مائتي درهم إلى ما دونها، وضرب جماعة منهم فخضعوا له.
وفيه توجه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة والأمير آل ملك إلى الحج، في سادس شوال. وتوجه الأمير بيبرس الدوادار نائب السلطنة في حادي عشره، ومعه حاج كثير، ورحل المحمل ببقية الحاج في ثامن عشره من البركة. وتوجه الفخر ناظر الجيش في ثاني عشريه إلى القدس، ليتوجه منه إلى الحج. وكانت عدة ركوب الحاج من مصر ستة ركوب، على كل ركب أمير.
وفيه استقر بلبان العتريس في ولاية البحيرة، عوضاً عن أسندمر القلنجقي.
وفيه استقر قدادار مملوك برلغي في ولاية الغربية.
وفي أول ذي الحجة: خرج الأمير علاء الدين علي بن قراسنقر، والأمير سيف الدين أيدمر الكبكي، والأمير طقصباي المرتبة فديته بقوص، وخمسمائة من أجناد الحلقه إلى بلاد النوبة، ومعهم كرنبس. فانتهوا إلى دمقلة وكان قد تغلب كنز الدولة عليها، ونزع كرنبس، ففر كنز الدولة منهم، وجلس كرنبس على سرير ملكه وعادوا، فحارب كنز الدولة كرنبس بعد عود العسكر، وملك منه البلاد.
وفيه صرف معين الدين بن حشيش عن ديوان الجيش، ونقل إلى دمشق، وأشرك بينه وبين القطب ابن شيخ السلامية في نظر الجيش بها.
وفيه ابتدأ السلطان بعمارة القصور بناحية سرياقوس في أخر ذي الحجة.
وكان قاع النيل في هذه السنة ستة أذرع ونصف، وكان الوفاء يوم الأربعاء سادس شعبان، وسابع عشر مسري ، وانتهت الزيادة في سابع عشر رمضان إلى ثمانية عشر ذراعاً وستة أصابع. وخرق الماء ناحية بستان الخشاب، ودخل إلى بولاق، وغرق بساتين. وانقطعت الطريق من جهة اللوق، وغرق الخور، وانهدمت عدة بيوت، وغرقت المنية وجزيرة الفيل، فركب السلطان بنفسه لعمل جسر. ثم قويت الزيادة، وفاض الماء على منشاة المهراني ومنشاة الكتبة، وصار ما بين بولاق ومصر بحراً واحداً. وأمر الناس برمي التراب في ناحية بولاق، وكثر الخوف من غرق القاهرة، واشتد الاحتراس. وطلب الفقراء للعمل، فبلغت أجرة الرجل في كل يوم مابين درهم إلى ثلاثة دراهم، لعزة وجود الرجال واشتغالهم عند الناس في نقل التراب. ونزت أماكن كثيرة، وغرقت الأقصاب ببلاد الصعيد، وتلف القلقاس والنيلة وعدة مطاير بها الغلال. وكتب لسائر الولاة بكسر جميع الترع والجسور وتصريفها إلى البحر الملح، فثبت الماء ثلاثة وأربعين يوماً، ثم نزل قليلاً قليلاً. فاستدعى السلطان المهندسين، ورسم بعمل جسر يحجز الماء عن القاهرة لئلا تغرق في نيل أخر، وألزم أرباب الأملاك المطلة على النيل بعمارة الزرابي، فعمل كل أحد تجاه داره زربية. واستدعى الأمراء فلاحيهم من النواحي، فحضروا بالأبقار والجراريف. وعمل الجسر من بولاف إلى منية الشيرج، ووزع بالأقصاب على الأمراء، فنصب كل أمير خيمة وخرج برجاله للعمل. ونصبت لهم الأسواق، حتى كمل الجسر في عشرين يوماً، وكان ارتفاعه أربع قصبات في عرض ثمانية.
وفيه قدم البريد بموت تكفور متملك سيس، وإقامة ولده بعده، ثم قدمت رسله بالهدية.
وفيه قدم الشريفان عطيفة أمير مكة وقتادة أمير ينبع.
ومات في هذه السنة من الأعيانالمجاهد أنص ابن العادل كتبغا، بعد ما عمي من سهم أصابه، في يوم الإثنين ثاني المحرم، وكان سمحاً ذكياً متقدماً في رمي البندق.
ومات تاج الدين أحمد بن مجد الدين علي بن وهب بن مطيع بن دقيق العيد الشافعي، في عشرى ذي الحجة، ومولده في ربيع سنة ست وثلاثين وستمائة. وكان فقيهاً فاضلاً في مذهبي الشافعي ومالك، سمع الحديث وحدث، وولي الحكم بغرب قمولا وبقوص، وكان كثير العبادة.
ومات قاضي القضاة بدمشق نجم الدين أبو العباس أحمد بن العماد محمد ابن الأمير سالم بن الحافظ بهاء الدين الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري التغلبي الدمشقي الشافعي، في ليلة السبت سادس عشرى ربيع الأول، ومولده في سابع عشرى ذي القعدة سنة خمس وخمسين وستمائة، وولي القضاء إحدى وعشرين سنة، وقدم القاهرة مراراً، وقرأ القراءات السبع، وسمع الحديث، وكتب الخط المليح، وبرع في الأدب والتاريخ، وقال الشعر، وشارك في فنون من فقه وتفسير وغيره.
ومات أحمد بن محمد بن علي بن أبي بكر بن خميس الأنصاري المغربي، في يوم الأحد سابع عشر شعبان بمصر، ومولده بالجزيرة الخضراء من الغرب، في المحرم سنة ست وأربعين وستمائة. وكان صاحب فنون وصلاح ودين وشعر جيد.
ومات نجم الدين محمد بن عثمان بن الصفي البصروي الحنفي الوزير الصاحب. ولي حسبه دمشق ثم وزارتها، ثم صار من الأمراء.
ومات كمال الدين عبد الرزاق بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الفوطي البغدادي المؤرخ، في المحرم ببغداد.
ومات تاج الدين ناهض بن مخلوف، أخو قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف المالكي، في يوم الأربعاء ثامن عشر المحرم بمصر.
ومات السني ابن ست بهجة، يوم الأحد خامس عشرى ذي الحجة، وكان من أعيان الكتاب بمصر.
ومات بهاء الدين القاسم بن مظفر بن محمود بن تاج الأمناء أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن عساكر، في خامس عشرى شوال، ومولده سنة تسع وعشرين وستمائة. سمع وحدث وصار مسند الشام.
سنة أربع وعشرين وسبعمائةأهل المحرم يوم الجمعة ثالث شهر طوبة: فقدم الفخر ناظر الجيش من الحجاز عشية الأحد ثالثه.
وفي يوم الأربعاء سادسه: نودي على الفلوس أن يتعامل الناس بها بالرطل، على أن كل رطل منها بدرهمين، ومن عنده منها شيء يحضره إلى دار الضرب، ويأخذ عنها فضة. ورسم بضرب فلوس زنة الفلس منها درهم وثمن، فضرب منها نحو مائتي ألف درهم فرقت على الصيارف. وكان سبب ذلك كثرة ما دخل في الفلوس من الزغل، حتى صار وزن الفلس نصف درهم. فتوقف الناس عن أخذ الفلوس، وكثر ردها وعقوبة الباعة على ذلك بالضرب والتجريس إلى أن فسد الحال، وغلقت الحوانيت، وارتفعت الأسعار، وبلغ القمح بعد عشرة دراهم الأردب إلى سبعة عشر درهماً.
وفي يوم السبت تاسعه: وصل الأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر الساقي من الحجاز، وصحبته جماعة وكان قد سافر بعد الإفراج عنه، وأنعم عليه بألفي دينار وغلال كثيرة، وعمل له السلطان عند قدومه اثنتي عشرة بدلة وثلاثة حوائض وطرز زركش، وأنعم عليه بمال جزيل، وتتابع قدوم الحاج حتى قدم المحمل في خامس عشريه وفيه توجه الأمير أرغون النائب إلى منية بني خصيب، فشكا أهلها من مباشريهم، فلم يسمع لهم وأمر بضربهم، فرجموه بالحجارة وأنكوا في مماليكه وغلمانه. فركب عليهم أرغون ليفتك بهم، ففروا من عند الوطاق خارج البلد إلى داخل البلد، فأخذ مماليكه من عمائم الهاربين نيفاً على ثلاثمائة وستين عمامة زرقاء من عمائم النصارى، فلما استكثر ذلك قيل له إن بها كثيراً من النصارى، ولهم خمس كنائس ، فهدمها في ساعة واحدة، ورسم ألا يستخدم نصراني في ديوانه، وكان النصارى قد جددوا عمارة ما خرب من الكنائس بالصعيد، فهدمت أيضاً.
وفي يوم الجمعة: هبت ريح والناس في الصلاة، حتى ظن الناس أن الساعة قامت، واستمرت بقية النهار وطول الليل، فهدم بها دور كثيرة، وامتلأت الأرض بتراب أسود.
وخرجت ريح شديدة ببلاد قوص إلى أسوان، واقتلعت في ليلة واحدة أربعة ألاف نخلة، وخربت الديار.
وفيه قدمت رسل المجاهد سيف الدين بن علي ملك اليمن بطلب نجدة من مصر، فلم يجب إلى ذلك.
وفيها قحطت بلاد الشرق، فقدمت طوائف إلى بلاد الشام، وكان الجراد قد أتلف زروعها، فبلغت الغرارة بدمشق إلى مائتي درهم. فجهز الأمراء من مصر الغلال الكثيرة في البحر إلى بيروت وطرابلس، فكان ما حمل من جهة السلطان والأمراء نحو عشرين ألف أردب سوى ما حمله التجار، فانحط السعر حتى أبيعت الغرارة بثمانين درهماً. وكتب بإبطال مكس الغلة بالشام، وهو على كل غرارة ثلاثة دراهم، وكانث تبلغ في كل سنة ألف ألف ومائتي ألف درهم، فبطل ذلك واستمر بطلانه.
وفيه عزل جمال الدين سليمان الزرعي عن قضاء القضاة بدمشق، واستمر عوضه جلال الدين محمد القزويني، بعد استدعائه إلى القاهرة في يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى، وقدومه في يوم الجمعة ثالث عشريه. فلما اجتمع القزويني بالسلطان أقبل عليه وصلى به الجمعة، ونزل إلى خانكاه سعيد السعداء، ثم ولاه قضاء القضاة بدمشق، وخلع عليه يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الآخرة وسافر القزويني على البريد يوم الإثنين رابع عشريه، فقدم دمشق خامس رجب، وكان عليه ديون اجتمعت عليه بسبب مكارمه، وهي ألف دينار ومائة وستون ديناراً، فأعطاه السلطان ما وفى به ديونه.
وفيه كتب باستقرار كمال الدين محمد بن علي الزملكاني في قضاء حلب، عوضاً عن زين الدين عبد الله بن محمد بن عبد القادر الأنصاري.
وفيه توجه السلطان إلى الصيد بالبحيرة، فاصطاد نحو المائتي غزال بالحياة سوى ما قتل، وجرح كثيراً منها وأطلقها.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأولى: توجه الأمير سيف الدين قطلوبغا المغربي، لإحضار كريم الدين الكبير وولده من المقدس، فلما كان يوم الخميس خامس عشريه حضرا على البريد تحت الحوطة، فسلما إلى الأمير قجليس، فأقاما كنده إلى يوم حادي عشر ربيع الآخر، ثم طلعا إلى قلعة الجبل، وطولبا بالمال.
وفيه تنكر الحال بين الأميرين تنكز نائب الشام والأمير ألطنبغا نائب حلب.
وفي يوم الخميس عاشر ربيع الآخر: حضر كريم الدين أكرم الصغير على خيل البريد من صفد إلى قلعه الجبل، فعوق ببرج باب القرافة.
وفي يوم الجمعة ثامن عشره: سفر كريم الدين بكتمر وولده إلى الوجه القبلي، صحبة والي قوص.
وفي يوم الإثنين ثامن عشريه: أفرج عن كريم الدين أكرم الصغير، ونزل إلى بيته.
وفي اليلة الأحد خامس عشر جمادى الأولى: طلع القمر مخسوفاً بالسواد.
وفيه قدم منسا موسى ملك التكرور يريد الحج وأقام تحت الأهرام ثلاثة أيام في الضيافة. عدى إلى بر مصر في يوم الخميس سادس عشرى رجب، وطلع إلى القلعة ليسلم على السلطان، وامتنع من تقبيل الأرض، فلم يجبر على ذلك، غير أنه لم يمكن من الجلوس في الحضرة السلطانية. وأمر السلطان بتجهيزه للحج، فنزل وأخرج ذهباً كثيراً في شراء ما يريد من الجواري والثياب وغير ذلك، حتى انحط الدينار ستة دراهم.
وفي يوم الخميس ثامن رمضان: عزل الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام عن الوزارة، ولزم بيته. واستقر عوضه الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي وزيراً، مع مابيده من الأستادارية، في يوم السبت عاشره.
وفيه استقر شهاب الدين بن الأقفهسي في نظر الدواوين، عوضاً عن الموفق، وعن شرف الدين بن زنبور. وولي مجد الدين إبراهيم بن لفيتة نظر البيوت، عوضاً عن الأقفهسي المذكور. ثم قدم شمس الدين غبريال من دمشق باستدعاء في أثناء شهر رمضان، فاستقر ناظر الدواوين ووزير الصحبة ونائب الوزارة، في يوم الجمعة ثاني عشرى رمضان يوم وصوله.
واستقر في يوم الجمعة ثالث عشرى رمضان الأمير سيف الدين قدادار في ولاية القاهرة، عوضاً عن علم الدين سنجر الخازن نقل إليها من ولاية البحيرة، ففتك في العامة، ومنع من الخمور وأراقها، فعظمت مهابته.
وفيه عزل علم الدين سنجر الحمصي من شد الدواوين، وولي الجيزة نحو شهرين، ثم أخرج إلى طرابلس شاد الدواوين بها.
وفيه استقر علاء الدين أيدغدي الباشقردي بمصر، عوضاً عن علاء الدين ابن أمير حاجب.
وفيه استقر ابن زنبور في نظر خزائن السلاح، عوضاً عن علاء الدين علي بن البرهان إبراهيم أحمد بن ظافر البرلسي. واستقر ابن البرلسي في نظر بيت المال، عوضاً عن تاج الدين بن السكري، واستقر ابن السكري شاهد الخزانة الكبرى.
وفيه استقر كريم الدين أكرم الصغير في نظر الشام، عوضاً عن غبريال، في يوم السبت رابع عشرى رمضان، وخرج على البريد يوم الإثنين سابع عشرى شوال.
وفي يوم السبت ثماني عشرى شوال. فتحت الحمام بقرب رحبة الأيدمري، وقد جددها الأمير الحاج آل ملك.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشريه: رحل الركب من بركة الحاج إلى الحجاز.
وفي يوم الإثنين ثامن ذي القعدة: قدمت رسل أبي سعيد بسبب المصاهرة مع السلطان، فأعيدوا بعد إكرامهم.
وفيه رسم بإغلاق دكاكين النشاب، وهدم مرامي النشاب.
وفيه فشت الأمراض في الناس بالشام ومصر والصعيد، وكثر الموت السريع، ومرض السلطان ثمانية عشر يوماً وعوفي، فعملت التهاني والأفراح سبعة أيام، وكتب بالبشاره إلى الأعمال على يد الأمير قطلوبغا المغربي، فحصل له ستة ألاف دينار وثلاثون فرساً وثلاثمائة قطعة قماش وست خلع كاملة بحوائص ذهب، فلما حضر أنعم عليه السلطان بعد ذلك بتشريف.
وفيها أخرج الأقوش المنصوري أميراً بدمشق. وسبب ذلك مرافعة ولده حتى قبض عليه يوم الجمعة سادس عشرى رجب، ثم أفرج عنه في سلخه، ورسم له بإمرة في حلب، فخرج على البريد في عشية نهاره.
وفي سادس عشرى رجب: استقر الأمير ألطنقش أستاداراً، عوضاً عن الأمير جمال الدين يغمور بعد موته، وكانت وفاة الأمير يغمور في خامس عشرى جمادى الآخرة.
وفي ثالث شعبان: قدم المجردون إلى النوبة، وقد غابوا ثمانية أشهر.
وفيه منع الأجناد من الاجتماع بسوق الخيل.
وفيه قدم الخبر بهبوب الريح في بلاد الصعيد، وأنها اقتلعت من ناحية عرب قمولة زيادة على أربعة ألاف نخلة في ساعة واحدة، وأخرحت عدة أماكن بأحميم وأسيوط وأسوان وبلاد السودان، وهلك منها كثير من الناس والدواب.
وفي ذي القعدة: طولب الصاحب أمين الدين والموفق ناظر الدولة بثمن كتان من خراج الجيزة قيمته مائة ألف درهم، خص الصاحب منها مبلغ خمسين ألفاً، وخص الموفق مبلغ خمسة وعشرين ألفاً، فاستخرج ذلك من جوامك المباشرين.
وكان قاع النيل في هذه السنة ستة أذرع وعشرين أصبعاً، وكان الوفاء في يوم الأربعاء تاسع شعبان وثامن مسرى. وانتهت الزيادة إلى ثمانيه عشر ذراعاً وتسعة عشمر أصبعاً، فغرقت الأقصاب والمعاصر وكثرة من شون الغلال، وصارت المراكب لا تجد براً تضرب فيه الوتد من قوص إلى القاهرة، وغرقت الفيوم لانقطاع جسرها، وتوجه الأمير بكتمر الحسامي لعمارته.
وفيها قرر السلطان أن تعمل له كل يوم أوراق بالحاصل والمصروف، فصارت تعرض عليه كل يوم، وتحدث في الأموال بنفسه.
ومات في هذه السنة من الأعيانبرهان الدين أبو اسحاق إبراهيم بن ظافر، يوم الخميس سادس جمادى الآخرة، كان فقيهاً شافعياً.
ومات الشيح نور الدين علي بن يعقوب بن جبريل البكري الفقيه الشافعي، في يوم الإثنين سادس ربيع الآخر.
ومات تقي الدين محمد الجمال عبد الرحيم بن عمر الباجر بقي الشافعي، في ربيع الآخر بدمشق، قدم القاهرة وأقام بها، وله الملحمة الباجر بقية، واتهم بالزندقة.
وماتت خوند أردكين بنت نوكاي الأشرفية ثم الناصرية، يوم السبت ثالث عشرى المحرم.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح الفخري، يوم الجمعة ثامن عشرى جمادى الآخرة، وكان أحد الأمراء الألوف.
ومات الأمير سيف الدين بزلار أمير علم.
ومات الطواشي عنبر الأكبر زمام الدور، في ليلة الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى.
ومات الأمير محمد بن عيس بن مهنا من آل فضل، يوم السبت سابع رجب، قدم القاهرة مراراً.
ومات الأمير قطليجا الزيني من أمراء مصر.
ومات الشيخ الصالح محمود الحيدري، خارج القاهرة.
ومات الأمير بدر الدين بكتمر بدرجك، أحد الأمراء بمصر.
ومات كريم الدين أبو الفضائل عبد الكريم بن العلم هبة الله بن السديد بثغر أسوان، ليلة الخميس العشرين من شوال، وعاد ابنه علم الدين عبد الله فاعتقل بالقلعة، وأخذ منه مال كثير جداً.
ومات نور الدين علي بن تقي الدين محمد بن مجد الدين حسن بن تاج الدين علي القسطلاني، خطيب جامع عمرو بمصر، في يوم الجمعة حادي عشر ربيع الآخر.
ومات ناصر الدين محمد بن علاء الدين النابلسي، يوم الجمعة سادس عشر جمادى الأولى.
ومات بهاء الدين ابن الشيخ جمال الدين بن صفي الدين بن أبي المنصور، يوم الخميس سابع عشرى جمادى الآخرة.
ومات الحسن بن علي الأسواني الفقيه الشافعي، في جمادى الأولى بالمدينة النبوية، وقد أم بها واشتغل ثماني عشرة سنة، وكان فقيهاً صالحاً.
سنة خمس وعشرين وسبعمائةالمحرم أوله الأربعاء ثالث عشرى كيهك: وفي يوم الجمعة عاشرة: قدم أوائل الحاج.
وفي يوم الخميس ثالث عشره: قدم السلطان من الوجه القبلي.
وفي يوم السبت خامس عشريه: وصل المحمل وبقية الحاج، مع الأمير أيتمش المحمدي أمير الركب.
وفيه اجتمع بمصر من رسل الملوك ما لم يجتمع مثلهم في الدولة التركية، وهم: رسل صاحب اليمن، ورسل صاحب إسطنبول، ورسل الأشكري، ورسل متملك سيس، ورسل أبي سعيد، ورسل ماردين، ورسل ابن قرمان، ورسل ملك النوبة، وكلهم يبذلون الطاعة. وسأل الملك المجاهد صاحب اليمن إنجاده بعسكر من مصر، وأكثر من ترغيب السلطان في المال الذي باليمن، وكان قدوم رسله في مستهل صفر. فرسم السلطان بتجهيز العسكر صحبة الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، وهو مقدم العسكر. وكان معه من أمراء الطبلخاناه خمسة: وهم آقول الحاجب، وقجمار الجوكندار ويعرف باسم بشاس، وبلبان الصرخدي، وبكتمر العلالي أستادار، وألجاي الساقي الناصري، ومن العشراوات عز الدين أيدمر الكوندكي ، وشمس الدين إبراهيم بن التركماني، وأربعة من مقدمي الحلقة، عليها الأمير سيف الدين طينال الحاجب، ومعه خمسة أمراء طبلخاناه، وهم: الأمير ططر الناصري، وعلاء الدين بن طغريل الإيغاني، وجرباش أمير علم، وأيبك الكوندكي، وكوكاي طاز، ومن العشراوات أيضاً بلبان الدواداري، وطرنطاي الإسماعيلي والي باب القلة، وأربعة أخرون من مقدمي الحلقة، ومن المماليك السلطانية ثلاثمائة فارس، ومن أجناد الحلقة تتمة الألف فارس. وفرقت فيهم أوراق السفر يوم الإثنين خامسه. وكتب بحضور العربان من الشرقية والغربية لأجل الجمال.
وفيه خرج السلطان إلى سرياقوس، وقبض على الأمير بكتمر الحاجب وجماعة، في يوم الخميس ثاني ربيع الأول.
وفيه قدم الأمير تنكز نائب الشام في عاشره، فأقام عند السلطان أياماً وعاد إلى دمشق مكرماً.
وفيه أنفق السلطان في الأمراء المتوجهين إلى اليمن فقط، فحمل لبيبرس ألف دينار، ولطينال ثمانمائة دينار، ولكل أمير طبلخاناه عشرة ألاف درهم، وللأمير من العشراوات مبلغ ألفي درهم، ولمقدم الحلقة ألف درهم. وحضرت العربان، فاستقر كرا الجمل إلى مكة بمائة وستين درهماً، وإلى ينبع بمائة وثلاثين، ورحل كل جندي على أربعة جمال، جملين إلى مكة، وجملين إلى ينبع، وتولى الأمير عز الدين أيدمر الكبكي أمر العربان وأخذ العسكر في التجهيز، وباعوا موجودهم، فانحط سعر الدنانير من خمسة وعشرين إلى عشرين درهماً، لكثرة ما باعوا من الحلي والمصاغ. وبرزوا من القاهرة إلى بركة الحاج يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر، واستقلوا بالمسير يوم الخميس ثالث عشره.
وفيه خرج السلطان إلى سرياقوس ومعه عدة من المهندسين، وعين موضعاً على نحو فرسخ من ناحية سرياقوس ليبتني فيه خانكاه بها مائة خلوة لمائة صوفي، وبجانبها جامع تقام فيه الجمعة، ومكان برسم ضيافة الواردين وحمام ومطبخ، وندب السلطان آقسنقر شاد العمائر لجمع الصناع. ورتب السلطان لها أيضاً قصوراً برسم الأمراء الخاصكية، وعاد، فوقع الإهتمام في العمل حتى كملت في أربعين يوماً.
ثم اقتضى رأي السلطان حفر خليج خارج القاهرة ينتهي إلى سرياقوس، ويرتب عليه السواقي والزراعات، وتسير فيه المراكب أيام النيل بالغلال وغيرها إلى القصور بسرياقوس، وفوض ذلك إلى الأمير أرغون النائب. فنزل الأمير أرغون بالمهندسين في النيل إلى أن وقع الاختيار على موضع بموردة البلاط من أراضي بستان الخشاب، ويقع الحفر في الميدان الظاهري الذي صار بستاناً، ويمر على بركة قرموط إلى باب البحر، ثم إلى أرض الطبالة، ويرمى في الخليج الكبير. فكتب إلى ولاة الأعمال بإحضار الرجال للحفير، وعين لكل واحد من الأمراء أقصاب يحفرها، وابتدأ الحفر مستهل جمادى الأولى إلى أن تم في سلخ جمادى الآخرة. وخربت فيه أملاك كثيرة، وأخذت قطعة من بستان الأمير أرغون النائب، وأعطى السلطان ثمن ما خرب من الأملاك لأربابها، وفيهم من هدم داره وأخذ أنقاضها. والتزم الفخر ناظر الجيش بعمارة قنطرة برأس الخليج عند فمه، والتزم قدادار والي القاهرة بعمل قنطرة تجاه البستان الذي كان ميداناً للظاهر، ورسم بعمل قنطرة الأوز وقناطر الأميرية فلما كانت أيام الزيادة في ماء النيل جرت السفن في هذا الخليج، وعمرت السواقي عليه، وأنشئت بجانبه البساتين والأملاك.
وفي يوم الإثنين سادس جمادى الآخرة: توجه السلطان إلى الخانكاه خارج ناحية سرياقوس، وقد خرجت القضاة والمشايخ والصوفية يوم الأربعاء، وعمل لهم سماط عظيم في يوم الخميس تاسعه بالخانكاه. واستقر مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي وهو شيح خانكاه كريم الدين الكبير بالقرافة في مشيخة هذه الخانكاه، ورتب عنده مائة صوفي وخلع السلطان عليه، وعلى قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وولده عز الدين عبد العزيز، وعلى قاضي القضاة تقي الدين الأخنائي المالكي، وعلى الشيخ علاء الدين القونوي شيخ خانكاه سعيد السعداء، ورسم للشيخ مجد الدين ببغلة، وأن يلقب بشيخ الشيوخ، وخلع على أرباب الوظالف، وفرق ستين ألف درهم، وخلع على الأمراء وأهل الدولة.
وفيها حبس شهاب الدين أحمد بن محمد بن مري البعلبكي الحنبلي أحد أصحاب ابن تيمية، مقيداً في سجن القاضي المالكي تقي الدين الأخنائي بالقاهرة، وضرب بالسياط ضرباً مبرحاً، وشهر في تاسع عشرى جمادى الأولى، بعدما أقام في السجن من سادس عشرى ربيع الأولى وكان قد عرض على السلطان في نصف ربيع الآخر، فأثنى عليه الأمير بدر الدين بن جنكلي بن البابا، والقاضي بدر الدين بن جماعة، وغيرهما من الأمراء، وعارضهم الأمير أيدمر الخطيري، حتى كادت تكون فتنة. ففوض السلطان الأمر لأرغون النائب، فآل الأمر إلى تمكين القاضي المالكي منه كما تقدم. ثم أعيد ابن مري إلى السجن، ثم شفع فيه، فآل أمره إلى أن أفرج عنه، وأخرج إلى القدس بعد يومين من سجنه، وكان مظلوماً. فاتفق عقيب ذلك أن الفقهاء شنعوا على تقي الدين ابن شاس بأنه كفر لتصويبه بعض أراء ابن مري، وشهدوا عليه، فدافع الأخنائي عنه وسكن القضية حتى خمدت، فقال الشيخ برهان الدين إبراهيم الرشيدي في ذلك:
يا قاضياً شاد أحكامه ... على تقى من الله وأقوى أساس
مقالة في ابن مرى لفقت ... تجاوزت في الحد حد القياس
وفى ابن شاس حققت ما أثرت ... فهل أباح الشرع كفر ابن شاس
وفيها بلغ السلطان عن دمرداش بن جوبان متملك الروم ما أغضبه، فكتب يشكوه إلى أبيه جوبان، فأنكر عليه فعله، فاعتذر عما وقع منه، وبلغ جوبان ذلك إلى السلطان، فجهز إلى دمرداش تشريفاً وهدية، وكتب إليه يستميله.
وفي آخر جمادى الآخرة: توجه الأمير الوزير مغلطاي الجمالي، ومكين الدين بن قروينة مستوفي الدولة، على البريد لكشف القلاع وحمل ما فيها من الحواصل، فراك الجمالي المملكة الحلبية، وعاد يوم الثلاثاء سادس شهر رمضان.
وفيه استقر بهادر البدري في نيابة الكرك، عوضاً عن بيليك الجمالي.
وفي يوم السبت العشرين من رمضان: قدم الأمير سيف الدين بكمش الجمدار الظاهري والأمير بدر الدين بيليك السيفي السلاري المعروف بأبي غدة من بلاد أزبك بهدية، ومعهما كتابه، وهو يسأل أن يجهز له كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول، وكتاب شرح السنة والبحر للروياني في الفقه، وعدة كتب طلبها، فجهزت له.
وفيه خرج السلطان إلى البحيرة، في ثالث عشر ذي الحجة، للصيد.
وفيه بعث السلطان الأمير مغلطاي الجمالي إلى الإسكندرية، فأفرج عن الأمراء المسجونين بها، وهم: طاجار المحمدي، وبلبان الشمسي، وكيتمر، وبهادر التقوى أمير جاندار، فقدموا إلى القاهرة في ثامن عشريه.
وفيها نزل سيل عظيم في النيل حتى اصفر ماؤه، وزاد ستة أصابع.
وأما العسكر المجرد لنجدة صاحب اليمن فإنه سار إلى مكة، وقد كتب السلطان إلى الشريف عقيل أمير ينبع، وإلى الشريفين عطيفة ورميثة أميري مكة، وإلى قوادهما، وإلى بني شعبة وعرب الواديين وسائر عربان الحجاز، بالقيام في خدمة العسكر. ووصل العسكر إلى مكة في السادس والعشرين من جمادى الأولى، ودخلها وأقام بها حتى قدمت المراكب بالغلال وغيرها من مصر إلى جدة، فأبيع الشعير بثلاثين درهماً الأردب، والدقيق بعشرين درهماً الويبة. وتقدم الخادم كافور الشبيلي خادم الملك المجاهد إلى زبيد ليعلم مولاه العساكر، وكتب الأمير ركن الدين بيبرس بن الحاجب، وهو مقدم العسكر إلى أهل حلى بني يعقوب بالأمان، وأن يجلبوا البضائع للعسكر.
ورحل العسكر في خامس جمادى الآخرة من مكة، ومعه الشريف عطفة والشريف عقيل، وتأخر الشريفي رميثة. فوصل العسكر إلى حلي بني يعقوب في اثني عشر يوماً، بعد عشرين مرحلة، فتلقاهم أهلها، ودهشوا لرؤية العساكر، وقد طلبت ولبست السلاح، وهموا بالفرار. فنودي فيهم بالأمان، وألا يتعرض أحد من العسكر لشيء إلا بثمنه، فاطمأنوا وحملوا إلى كل من بيبرس وطينال مقدمي الألوف مائة رأس من الغنم وخمسمائة أردب أذرة، فرداها ولم يقبلا لأحد شيئاً. ورحل العسكر بعد ثلاثة أيام في العشرين منه.
فقدمت الأخبار باجتماع رأي أهل زبيد على الدخول في طاعة الملك المجاهد خوفاً من معرة قدوم العسكر المصري، وأنهم ثاروا بالمتملك عليهم وهو الملك الظاهر، ونهبوا أمواله ففر عنهم، وكتبوا إلى المجاهد بذلك، فقوي ونزل من قلعة تعز يريد زبيد. فكتب أمراء العسكر المصري إليه، وهم قرب حدود اليمن، بأن يكون على أهبة اللقاء. ونزل العسكر على زبيد، ووافاهم المجاهد بجنده، فسخر منهم الناس من أجل أنهم عراة، وسلاحهم الجريد والخشب، وسيوفهم مشدودة على أذرعتهم، ويقاد للأمير فرس واحد مجلل، وعلى رأس المجاهد عصابة ملونة فوق العمامة. وعندما عاين المجاهد العساكر المصرية وهي لابسة ألة الحرب رعب، وهم أن يترجل عن فرسه حتى منعه الأميران بيبرس وآقول من ذلك. ومضى العسكر صفين والأمراء في الوسط حتى قربوا منه، فألقى المجاهد نفسه ومن معه إلى الأرض، وترجل له أيضاً الأمراء وأكرموه وأركبوه في الوسط، وساروا إلى المخيم، وألبسوه تشريفاً سلطانياً وكلفتاه زركش وحياصة ذهب. وركب المجاهد والأمراء في خدمته بالعساكر إلى داخل زبيد، ففرح أهلها فرحاً شديداً.
ومد المجاهد لهم سماطاً جليلاً، فامتنع الأمراء والعسكر من أكله خوفاً من أن يكون فيه ما يخاف عاقبته، واعتذروا إليه بأن هذا لا يكفي العسكر، ولكن في غد يعمل السماط. فأحضر المجاهد إليهم ما يحتاجون إليه، وتولى طباخو الأمراء عمل السماط. وحضر المجاهد وامراؤه، وقد مد السماط بين يدي كرسي جلس عليه المجاهد، ووقف السقاة والنقباء والحجاب والجاشنكيرية على العادة، ووقف الأمير بيبرس رأس الميمنة، والأمير طينال رأس الميسرة. فلما فرغ السماط صاحت الشاويشية على أمراء المجاهد وأهل دولته فأحضروهم، وقرئ كتاب السلطان، فباسوا بأجمعهم الأرض، وقالوا سمعاً وطاعة، وكتب الأمير بيبرس لممالك أليمن بالحضور، فحضروا.
و لم يجهز الملك المجاهد للعسكر شيئاً من الإقامات، وعنفه الأمير بيبرس على ذلك، فاعتذر بخراب البلاد، وكتب لهم على البلاد بغنم وأذرة، فتوجه إليها قصاد الأمراء. وسار المجاهد إلى تعز لتجهيز الإقامات، ومعه الأميران سيف الدين ططر العفيفي السلاح الدار وسيف الدين قجمار في مائتي فارس، وتأخر العسكر بزبيد، وعادت قصاد الأمراء بغير شي ء فرحل العسكر من زبيد في نصف رجب يريدون تعز، فتلقاهم المجاهد، ونزلوا خارج البلد، وشكوا ما هم فيه من قلة الإقامات، فوعد بخير. وكتب الأمراء إلى الملك الظاهر المقيم بدملوة، وبعثوا إليه الشريف عطفة أمير مكة وعز الدين الكوندكي، وكتب إليه المجاهد أيضاً يحثه على الطاعة.
وأقام العسكر في جهد، فأغاروا على الضياع، وأخذوا ما قدروا عليه، فارتفع سعر الأذرة من ثلاثين درهماً الأردب إلى تسعين، وفقد الأكل إلا من الفاكهة فقط، لقلة الجلب، واتهم أن ذلك بمواطأة المجاهد خوفاً من العسكر أن يملك منه البلاد.
ثم إن أهل جبل صبر قطعوا الماء عن العسكر، وتخطفوا الجمال والغلمان. وزاد أمرهم إلى أن ركب العسكر في طلبهم، فامتنعوا بالجبل، ورموا بالمقاليع على العسكر، فرموهم بالنشاب. وأتاهم المجاهد فخذلهم عن الصعود إلى الجبل، فلم يعبأوا بكلامه، ونازلوا الجبل يومهم، ففقد من العسكر ثمانية من الغلمان، وبات العسكر تحته. فبلغ بيبرس أن المجاهد قرر مع أصحابه بأن العسكر إذا صعد الجبل يضرمون النار في الوطاق وينهبون ما فيه، فبادر بيبرس وقبض على بهاء الدين بهادر الصقري وأخذ موجوده، ووسطه قطعتين وعلقه على الطريق، ففرح أهل تعز بمتله، وكان بهادر قد تغلب على زبيد، وتسمى بالسلطنة، وتلقب بالملك الكامل، وظل متسلطاً عليها، حتى طرده أهلها عند قدوم العسكر.
وقدم الشريف عطفة والكوندكي من عند الملك الظاهر صاحب دملوة، وأخبرا بأنه في طاعة السلطان. وطلب بيبرس من المجاهد ما وعد به السلطان، فأجاب بأنه لا قدرة له إلا بما في دملوة فأشهد عليه بيبرس قضاة تعز بذلك، وأنه أذن للعسكر في العود، لخراب البلاد وعجزه عما يقوم به للسلطان، وأنه امتنع بقلعة تعز.
ورحل العسكر إلى حلي بني يعفوب، فقدمها في تاسع شعبان. ورحلوا منها أول رمضان إلى مكة، فدخلوها في حادي عشره بعد مشقة زائدة. وساروا من مكة يوم عيد الفطر، وقدموا بركة الحاج أول يوم ذي القعدة.
وطلع الأمراء إلى القلعة، فخلع عليهم في يوم السبت ثالثه. وقدم الأمير بيبرس هدية، فأغرى الأمير طينال السلطان بالأمير بيبرس، وأنه أخذ مالاً من المجاهد وغيره، وأنه قصر في أخذ مملكة اليمن.
فلما كان يوم الإثنين تاسع عشره: رسم بخروجه إلى نيابة غزة، فامتنع لأنه كان قد بلغه ما قيل عنه، وأن السلطان قد تغير عليه، فقيد وسجن في البرج، وقبضت حواشيه، وعرقبوا على المال فلم يظهر شيء.
وفي ثالث ذي الحجة: قبض على إبراهيم ابن الخليفة أبي الربيع، وسجن بالبرج، لأنه تزوج بمغنية، وأشهد عليه بطلاقها.
وفي ثالث عشر ذي القعدة: قدم ألطبغا نائب حلب، وسافر أخر يوم الأحد.
وفي أول ذي الحجة: خلع على الأمير بهادر البدري السلاح دار، واستقر في لنيابة الكرك، عوضاً عن عز الدين أيبك الجمالي، ونقل الجمالي لنيابة غزة، فسار إليها في خامس عشره.
وفي ثالث عشره: توجه السلطان إلى الصيد نحو الجيزة، وأفرج عن بلبان الشمسي وبهادر التقوى وأمير جاندار، وطاجار المحمدي.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرحجاب بنت عبد الله شيخة رباط البغدادية في المحرم، وكانت صالحة خيرة، ملازمة للرباط، تعظ النساء.
ومات الأمير سيف الدين قطز عند عوده من اليمن، وحمل إلى مكة فدفن بها، وكان جواداً عفيفاً.
ومات الأمير ركن الدين بيبرس المنصور في ليلة الخميس خامس عشرى رمضان، وهو أحد مماليك المنصور قلاوون، واستنابه بالكرك، وعزله الملك الأشرف خليل بالأمير جمال الدين أقوش، ثم صار دوادار السلطان وناظر الأحباس، وولي نيابة السلطنة بديار مصر، وكان عاقلاً كثير البر، وإليه تنسب المدرسة الدوادارية بخط سويقة العزي خارج القاهرة، وله تاريخ سماه زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، يدخل في أحد عشر سفراً، أعانه على تأليفه كاتبه ابن كبر النصراني وكان يجلس رأس الميسرة، فأخذ إقطاعه الأمير مغلطاي الجمال وأخرج منه طبلخاناه لبلبان السناني وصار الأمير عز الدين أيدمر الخطيري بعده يجلس في رأس الميسرة.
ومات الشريف منصور بن جماز بن شيحة في حرب يوم الرابع والعشرين من رمصان، قتله حديثة ابن ابن أخيه، وكان له في الإمرة ثلاث وعشرون سنة وستة أشهر وأيام، واستقر عوضه في إمرة المدينة النبوية ابنه بدر الدين كبيشة بن منصور، وقدم منصور إلى القاهرة مراراً.
ومات الشهاب محمود بن سليمان بن فهد الحلبي كاتب السر، بدمشق في شعبان، عن إحدى وثمانين سنة، وقدم القاهرة مراراً.
ومات الشيخ تقي الدين محمد بن الجمال أحمد بن الصفي عبد الخالق الشهير بالتقي الصائغ شيخ القراء بمصر في ليلة الأحد ثامن عشر صفر.
ومات نجم الدين أبو بكر بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الشافعي بالقاهرة في ثالث ذي القعدة، وكان فاضلاً، إلا أنه رمي في عقله وعقيدته بأشياء.
ومات الأمير سيف الدين بلبان التتري المنصوري في ذي القعدة.
ومات الخطيب جمال الدين محمد بن تقي الدين محمد بن الحسن بن علي بن أحمد بن علي بن أحمد القسطلان في ليلة السبت مستهل ربيع الأول، واستقر ابن أخيه الخطيب تقي الدين بن نور الدين مكانه خطيباً بجامع القلعة، ورتب ولده زين الدين أحمد بن جمال الدين في خطابة جامع عمرو وإمامته ونظره.
ومات شرف الدين يونس بن أحمد بن صلاح القلقشندي الفقيه الشافعي في خامس عشرى ربيع الآخر.
سنة ست وعشرين وسبعمائةأهلت والسلطان في الصيد بالوجه البحري .
وفي يوم الإثنين سادس عشر المحرم: وردت رسل ملك الحبشة بكتابه يتضمن إعادة ما خرب من كنائس النصارى ومعاملتهم بالإكرام والاحترام، ويهدد بأنه يخرب ما عنده من مساجد المسلمين، ويسد النيل حتى لا يعبر إلى مصر، فسخر السلطان منه، ورد رسله.
وفي عشرى صفر: خلع على فخر الدين استادار ألطنبغا، واستقر والي المحلة بعد موت الشيخي.
وفي ثامن عشر صفر: صرف شمس الدين غبريال عن نظر النظار، وسفر إلى دمشق، فسار على البريد في حادي عشريه، وقدم دمشق في ثامن عشريه.
وفي يوم الإثنين سادس ربيع الأول: قدم كريم الدين أكرم الصغير من دمشق باستدعاء إلى ناحية سفط من الجيزة - والسلطان مخيم بها - ، فأنكر السلطان عليه إنكاراً شديداً، وأمره. بملازمة بيته. وكان قد سعى به الفخر ناظر الجيش وغيره، وأغروا به السلطان حتى أحضره من دمشق.
وفيه استقر شرف الدين الخطيري - المعروف بكاتب سلار، وكان قد خدم عند الأمير أرغون النائب - في نظر النظار، عوضاً عن غبريال.
وفيه رسم للوزير مغلطاي بقتل كريم الدين أكرم الصغير في خفية، فتقدم إلى والي القاهرة بذلك، فوضع له أعيناً يترقبون فرصة، إلى أن ركب من داره يريد الحمام بعد العشاء الآخرة من ليلة الإثنين رابع ربيع الآخر، فوثب عليه جماعة، وكان قد احترس على نفسه، فنجا بفرسه منهم، وقتلوا غلامه. وأصبح الناس وقد شاع خبره، وبلغ السلطان فرسم للوزير بإخراجه إلى أسوان، فقبض عليه في يوم السبت تاسعه هو وأولاده، وأحضرهم مجلس السلطان، وطولب بالمال، فلم يعترف بشي ء، فضرب ابنه سعد الدين أبو الفرج بالمقارع وسلم أكرم إلى والي القاهرة، فوجد في كمه أوراقاً فيها مرافعات في جماعة من أهل الدولة، فطلبها الوزير منه، فامتنع من ذلك حتى بعث السلطان من تسلمها منه وقرأها، فأفرج السلطان عن أولاده، ورسم بعقوبته فسعط بالخل والجير. وأخرج أكرم وابنه سعد الدين في ليلة الإثنين حادي عشره إلى جهة الصعيد، بعدما توجه الأمير بهاء الدين والي القلعة إلى الوزير يطلب له منه بساطاً ونفقة فأبى ذلك. ومضى أكرم وابنه في سلورة إلى أسوان، فقدما في ليلة الإثنين خامس عشريه، وقتل ليلة الثلاثاء سادس عشريه.
وفي يوم الخميس سابع جمادى الأولى سار الأمير أيتمش المحمدي رسولاً إلى القان بوسعيد، وصحبته هدايا جليلة، ليرغبه في مصاهرة السلطان. فبلغ أيتمش رسالته، وعاد إلى القاهرة يوم الثلاثاء ثامن عشرى شعبان.
وفي ثاني عشرى جمادى الأولى: خرجت تجريدة إلى برقة عليها من الأمراء أسندمر العمري وملكتمر الإبراهيمي وقطلوبغا الطويل، وجماعة من أجناد الأمراء. وسببها حضور فايد وسليمان أميري العربان ببرقة، وشكواهم من العرب أنهم منعوا أداء الزكاة عن الغنم.
وفي ليلة الجمعة ثامنه: وقت الغروب ركب أحمد ابن السلطان، ومعه الأمير قجليس والأمير طقتمر الخازن، ليتوجه إلى الكرك - وعمره يومئذ ثماني سنين - ، وسار معه عدة من المماليك وخزانة مال واستقر في نيابة الكرك الأمير سيف الدين بهادر البدر وتوجه معه ليقوم بأمره، ويودع المال بحزانة قلعة الكرك، ولا يمكن أحداً من التصرف، بل يمرنه على الصيد والفروسيه. فأوصله الأميران إلى الكرك، وعادوا في ثاني جمادى الآخرة.
وفيه قدم كتاب نائب الشام بأنه قبض على بكتوت القرمان لامتناعه من التوجه لإحضار حمل سيس، فأجيب بتقييده وسجنه بقلعة دمشق، وأن يستقر شهاب الدين قرطاي الصلاحي نائب طرابلس على خبزه.
وفيه رسم للأمير طينال الحاجب بنيابة طرابلس، فسار من القاهرة في يوم الخميس رابع جمادى الآخرة. وأمر السلطان بتقدمته على الأمير قوصون زيادة على إقطاعه، عقد له على إحدى بنات السلطان.
وفي يوم الثلاثاء ثامن رجب: ابتدأ جلوس الصوفية بخانقاه الأمير بكتمر الساقي بآخر القرافة مما يلي بركة الحبش.
وفي يوم الإثنين رابع عشر رجب: قدمت رسل جوبان حاكم دولة أبي سعيد، ومعهم طايربغا وابنه يحيى فخلع عليهم، وأنعم على طايربغا بإمرة طبلخاناه في سابع عشره، وعلى ابنه يحيى بإمرة عشرة، وأعيدت الرسل في رابع عشريه. وكان طايربغا هذا يلي نيابة خلاط، وبينه وبين السلطان قرابة، فكتب إلى الأمير جوبان ليستدعيه وأهله إلى مصر، فبعثهم.
وفي سابع عشره: أيضاً أنعم على أحمد بن بكتمر الساقي بإمرة.
وفي يوم الإثنين سادس شعبان: حبس تقي الدين أحمد بن تيمية، ومعه أخوه زين الدين عبد الرحمن بقلعة دمشق. وضرب شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، وشهر على حمار بدمشق. وسبب ذلك أن ابن قيم الجوزية تكلم بالقدس في مسألة الشفاعة والتوسل بالأنبياء، وأنكر مجرد القصد للقبر الشريف دون قصد السمجد النبوي فأنكر المقادسة مسألة الزيارة، وكتبوا فيه إلى قاضي جلال الدين محمد القزويني وغيره من قضاة دمشق. وكان قد وقع من ابن تيمية كلام في مسألة الطلاق بالثلاث أنه لا يقع بلفظ واحد، فقام عليه فقهاء دمشق. فلما وصلت كتب المقادسة في ابن القيم، كتبوا في ابن تيمية وصاحبه ابن القيم إلى السلطان، فعرف شمس الدين الحريري قاضي القضاة الحنفية بديار مصر ذلك، فشنع على ابن تيمية تشنيعاً فاحشاً حتى كتب بحبسه، وضرب ابن القيم.
وفيه أنشأ الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك قاعة بالمارستان المنصوري ونحت جدران المارستان والمدرسة المبنيه بالحجر كلها داخلاً وخارجاً، وطر الطراز الذهب من خارج القبة والمدرسة حتى صار كأنه جديد. وعمل أقوش خيمة يزيد طولها على مائة ذراع، وركبها لتستر على مقاعد الأقفاص، وتستر أهلها من الحر، ونقل الحوض من جانب باب المارستان، لكثرة تأذي الناس برائحة النتن، وعمل موضعه سبيل ماء عذب لشرب الناس، وكان مصروف ذلك كله من ماله دون مال الوقف.
وإلى يوم الإثنين سابع عشر شعبان: أفرج عن الأمير بلبان طرنا أمير جاندار، فكانت مدة اعتقاله إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر وسبعة أيام، فلما مثل بحضرة السلطان خلع عليه وأعطاه إمرة دمشق، وبعثه إليها.
وفيه نقل الأمير بدر الدين محمد بن التركماني من دمشق إلى شد الدواوين بطرابلس، وأنعم على أشقتمر من أمراء حلب بخبزه.
وفيه حمل بكتوت القرماني من قلعة دمشق إلى القاهرة مقيداً على البريد، وحمل منها إلى الإسكندرية هو والبوبكري والجاولي فسجنوا بها.
وفيه قدم بازان رسول جوبان حاكم بلاد أبي سعيد، وجوبان هو الذي أجرى العين من عرفة إلى مكة. فلما قدم إلى مصر واجتمع بالسلطان، وعرفه خبر العين، شق عليه ذلك، وقال له على أن النائب: " من أذن لك في هذا؟ ولم لا شاورتني؟ " ، فقال بازان للنائبء " عرف السلطان أن جوبان فعل ما فعل من الخبر، وبقي الأمر للسلطان إن شاء يخرب أو يعمر، فهذا شيء قد فعله من فعله وخرج عنه، والأمر إليكم " ، فلما بلع النائب قوله السلطان سكت.
وكان من خبر هذه العين أنه لما كثر ترداد الحاج من العراق إلى مكة في كل سنة شق عليهم قلة الماء بمكة، فإن الراوية كانت تبلغ في الموسم عشرة دراهم مسعودية، وفي غير الموسم من ستة دراهم إلى سبعة. فقصد الأمير جوبان حاكم مملكة أبي سعيد عمل خير بمكة، فدله بعض الناس على عين كانت تجري في القديم ثم تعطلت، فندب لذلك بعض ثقاته وأعطاه خمسين ألف دينار، وجهزه في موسم سنه خمس وعشرين فلما قضي حجه تأخر بمكة وشهر أمره بها، فأعلم بعين في عرفة، فنادى بمكة: " من أراد العمل في العين فله ثلاثة دراهم في كل يوم " . فهرع إليه العمال، وخرج بهم إلى العمل، فلم يشق على أحد منهم ولا استحثه، وإنما كانوا يعملون باختيارهم. أاتاه جمع كبير من العرب، وعمل حتى النساء، إلى أن جرى الماء بمكة بين الصفا والمروة، في ثامن عشرى جمادى الأولى من هذه السنة، فكانت مدة العمل أربعه أشهر وكثر النفع بهذه العين، وصرفه أهل مكة إلى مزارع الخضراوات.
وفيه قدم القاهرة الأمراء المجردون إلى برقة، وقد غابوا عنها ثلاثة أشهر وأربعة أيام.
وفيه قدم الخبر بأن الأمير تنكز نائب الشام جمع العامة بدمشق وألزمهم بإحضار الكلاب ورميها بالخندق، فأقاموا عشرة أيام في جمعها حتى امتلأ الخندق بها، وأكل بعضها بعضاً.
وفيه قدم الخبر بحصول سيل عظيم في الفرات، أعقبه مطر، وأنه حدث وخم وفناء عم الناس من الفرات إلى دمشق، فلم تبق مدينة فيما بين ذالك حتى كثر بها المرض والموت، وباع بعض عطاري دمشق في كل يوم أدوية للمرضى بنحو الألف درهم، وأبيع قدر فيه حسو شعير بزيادة على ثلاثين درهماً، وأخذ حجام في أجرة فصد وشراطة أذان في كل يوم أربعمائة درهم، فإنه كان فصلاً زموماً، وكان الموت فيه بالنسبة إلى المرض قليل.
وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان: قدم الملك الصالح صلاح الدين يوسف ابن الملك الكامل سيف الدين أبي بكر بن شادي ابن الملك الأوحد تقي الدين ابن الملك المعظم غياث الدين توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل بن أيوب بن شادي صاحب حصن كيفا " فأقبل عليه السلطان وأكرمه، وخلع عليه تشريفاً طرد وحش بحياصة، ورتب له ما يليق به من اللحم والدجاج والسكر والحلوى وغير ذلك، وبعث له عشرة ألاف درهم.
وأقام الصالح صلاح الدين إلى نصف شوال، وسار بعد ما جهزه السلطان بكل ما يحتاج إليه من خيل وجمال وسلاح وتحف، وأنعم عليه بألف دينار. فلما قدم دمشق بالغ الأمير تنكز في الإحسان إليه، وبعثه إلى بلده فقدمها، وسر به أهلها. فلما صعد الحصن وتوسط الدهليز، وثب عليه أخوه الملك العادل محيي الدين وقتله. وكان من خبر الصالح صلاح الدين أنه ملك حصن كيفا من أعمامه وأخوته بالقوة، فإنه كان شجاعاً جريئاً، فلما تمكن منع الخراج عن أبي سعيد، وتعرض لقصاد الأمير تنكز نائب الشام، وإلى بعض التجار. فكتب اليه تنكز يهدده بأنه يقتله وسط حصنه، فخاف سوء العاقبة، وأجاب بالاعتذار، وأنه من اليوم في خدمة السلطان ونائبه، وأنه يمتثل ما يرسم به، وجهز لتنكز هدية. فسر السلطان بذلك، وأكد على تنكز في مهاداته. فلما قدم الأمير أيتمش المحمدي عليه تلقاه، وقدم له تقدمة حسنة، وعرفه أنه صاحب السلطان في الحسن تحت أوامره " وكتب إلى نائب الشام بذلك. فكتب تنكز يعرف السلطان بذلك، فازداد رغبة فيه، ومازال به الأمير تنكز يستميله حتى قدم إلى مصر، ذلك بعد أن استناب أخاه الملك العادل محيي الدين على الحصن مدة غيبته. فطمع محيي الدين في الحصن وقتله بعد رجوعه من مصر، وكتب إلى جوبان وأبي سعيد أنه لم يقتله إلا لمخامرته وخروجه عن طاعتهما، وبعث إليهما بالخراج، فأجاباه بالشكر والثناء واستمراره على نيابة الحصن وكتب محيي الدين أيضاً لنائب الشام بأنه لم يقتله إلا لما ثبت عليه من شرب الخمر والفسق وقتل الأنفس واستباحة الأموال والتلفظ بالكفر غير مرة، وجهز إليه وترفق إليه هدية في كتبه، وأنه مملوك السلطان ونائبه. فعرف تنكز السلطان ذلك، فأجابه بقبول عذره ومهاداته واستجلاب خاطره، ففعل ذلك.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشر رمضان: تولى الأمير عماد الدين البحيرة، عوضاً عن بلبان العتريس.
وفي خامس شوال: توجه الأمير سيف الدين أرغون النائب، وولده ناصر الدين محمد، إلى الحجاز للحج.
وفيه أشيع أن قصاد الأمير تنكز وصلت من الشرق، وأخبرت بأن الأمير جوبان جمع من خيار عسكر الأردو عشرة ألاف فارس، وقصد الحج. فأظهر السلطان الخوف على نائبه الأمير أرغون أن يقبض عليه جوبان ويجعله إلى بلاده، وكتب إلى تنكز نائب الشمام أن يخرج بعسكر إلى جهة الكرك ليدرك الأمير أرغون. فبرز تنكز بعد أربعة أيام من قدوم البريد عليه، ونزل الصنمين. ثم كتب إليه السلطان بعوده إلى دمشق، فعاد. وباطن هذه الحركة أن السلطان بلغه أن الأمير مهنا بن عيسى يريد الحج، فندب الأمير أرغون للحج، أن يقبض عليه. فلما خرج أرغون بلغ السلطان أنه كتب إلى مهنا يحذره من الحج، فشق ذلك على السلطان، وأشاع ما تقدم ذكره، وأخرج نائب الشام بالعسكر ليقبض على أرغون، ثم بدا له فأشاع أن جوبان أبطل حركته للحج، وأعاد نائب الشام.
وفيها كثر الرخاء بمصر، فأبيع الأردب القمح بخمسة دراهم وبستة، وأبيع الشعير والفول من ثلاثة دراهم الأردب إلى أربعة.
وفي يوم الخميس تاسع عشر شوال: فرق السلطان الحوائص الذهب على الأمراء. وفيها بلغت زيادة ماء النيل تسعة عشر أصبعاً وسبعة عشر ذراعاً.
وفيها كتب مرسوم السلطان - وقرئ على المنابر - بألا يضرب أحد في ديار مصر والشام بالمقارع.
وفيها قدم بيبغا الحموي من مكة مبشراً بسلامة الحاج، في رابع عشرى ذي الحجة.
ومات فيها ممن له ذكرشيخ الضيعة جمال الدين حسين بن يوسف بن المطهر الحلي المعتزل شارح مختصر ابن الحاجب، في المحرم، وكان رضي الخلق حليماً، عالماً بالمعقولات، وله وجاهة عند خربندا، وله عدة مصنفات، ولابن تيمية عليه رد في أربع مجلدات، وكان يسميه ابن المنجس.
ومات شرف الدين أبو الفتح أحمد بن عز الدين أبي البركات عيسى بن مظفر بن محمد بن إلياس المعروف بابن الشيرجي - الأنصاري الدمشقي محتسب دمشق ومولده في سنة سبع وأربعين وستمائة. ومات بدر الدين حسن ابن الملك الأفضل صاحب حماة، أحد الأمراء بحماة، عن نيف وستين سنة. وكان من أهل العلم، وسعى في مملكة حماة.
ومات سراج الدين عمر بن أحمد بن خضر بن ظافر بن طراد الخزرجي الأنصاري المصري الشافعي خطيب المدينة النبوية.
ومات والي المحلة الشيخ في سابع عشرى المحرم.
سنة سبع وعشرين وسبعمائةأهل المحرم: وقد كثر مرض الناس بحميات حادة دموية فشت حتى لم يكد يسلم منها أحد، فكان المريض يتمادى مرضه أسبوعاً ويبرأ، وربح بياعو الأدوية والأطباء والحجامون مالاً كثيراً.
وفي يوم الأحد حادي عشره: قدم الأمير أرغون النائب وولده ناصر الدين محمد من الحجاز والسلطان بناحية سرياقوس فقبض عليهما وعلى الأمير طيبغا الحموي فأخذهم الأمير بكتمر الساقي عنده وسعى في أمرهم، فأخرج السلطان الأمير أيتمش في يوم الإثنين ثاني عشره بالأمير أرغون لنيابة حلب، عوضاً عن ألطنبغا.
وقد تقدم تغير السلطان على الأمير أرغون، فلما قدم بعث السلطان الأمير أيتمش المحمدي ليقف على باب القلة من قلعة الجبل، فإذا مر به أرغون في دخوله على السلطان منع مماليكه من العبور معه. وأمر السلطان الأمير قجليس أن يتلقاه إذا صعد القلعة، ولا يمكنه من العبور إلى داره، فتلقاه قجليس من باب القلعة، ومشى معه إلى أن جازا دار النيابة، فسمع أرغون صراخ أهله، وقد ماتت ابنة زوجته. ثم مر أرغون إلى باب القلة، فإذا أيتمش وغيره فأخذوا سيفه وسيف ابنه محمد، وفرق بينهما. فبعث السلطان إليه بكتمر الساقي يعدد عليه ذنوبه، فاستسلم لأمر الله. وطال ترداد بكتمر بينه وبين السلطان إلى أن أنعم عليه بنيابة حلب، وأخرج معه أيتمش ليوصله ويعود. وبعث السلطان الأمير ألجاي الدوادار على البريد إلى حلب ليحضر ألطنبغا نائبها، وقرر مع كل من أيتمش وألجاي أن يكونا بمن معهما في دمشق يوم الجمعة ثالث عشريه. ولم يعلم أحد منهما بما توجه فيه الآخر، حتى توافيا بدمشق في يوم الجمعة المذكوره وقد خرج الأمير تنكز في الساعة الرابعة إلى ميدان الحصا للقاء الأمير أرغون، فترجل كل منهما لصاحبه، وسارا إلى جامع بني أميه، فعندما توسطاه إذا بالجاي ومعه ألطنبغا نائب حلب، فسلم عليه أرغون بالإيماء. فلما قضيت صلاة الجمعة حمل لهما الأمير تنكز سماطاً جليلاً، وركب أرغون إلى حلب، فدخلها في سلخه.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشره: عزل شرف الدين الخطيري من نظر الدولة بمجد الدين إبراهيم بن لفيتة، واستقر الخطيري ناظر البيوت، فألزم ابن لفيتة المباشرين بعمل الحساب، وأراد توفير جماعة منهم، فلم يتمكن من ذلك.
وفيه سار ألطبغا إلى القاهرة، فقدمها يوم السبت مستهل صفر، فأكرمه السلطان وخلع عليه، وأسكنه بقلعة الجبل، وأنعم عليه بأمرة مائة من جملة إقطاع أرغون، وكمل السلطان منه لطايربغا إمرة مائة، فزادت التقادم تقدمة، وصارت الأمراء خمسة وعشرين مقدماً واتهم الفخر ناظر الجيش بأنه كان سبب تغير السلطان أرغون، لكثرة حطه عليه وإغرائه به، حتى قال له: " يا خوند! ما رأينا سلطاناً دخل عليه الدخيل من غير نائب السلطنة " ، وذكره بما وقع للمنصور لاجين بسبب نائبه منكوتمر، وقيام لاجين وهو نائب السلطنة على العادل كتبغا، وإفساد سلار نائب السلطنة مملكة المظفر بيبرس، وأشار عليه بإبطال النيابة والاستبداد بالأمور. وسبب ذلك ما كان بين الفخر وبين الأمير أرغون من المنافرة، وأهانة أرغون له وحطه من مقدار.
ولما قدم أيتمش سأله السلطان عن أرغون، فما ذكر إلا خيراً، فقال له الفخر بحضرة السلطان: " يا أيتمش كل ما قلت صحيح، لكن والله لو قام أرغون في النيابة شهراً واحداً ما رأيت السلطان على هذا الكرسي " . فأثر هذا القول في السلطان أثراً قبيحاً، وطلب شرف الدين الخطيري كاتبه وهدده بالشنق أن أخفي شيئاً من مال أرغون، وألزمه بكتابة حواصله، فلما تنجزت الأوراق أحاط السلطان بجميع حواصله، وأخذ بعضها وأنعم بالباقي.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشر صفر: قدم الشريف طفيل فاراً من ابن عمه الشريف ودي ابن جماز بن شيحة، وأخبر أنه حصر المدينة النبوية سبعة أيام، ودخلها عنوة لغيبة الشريف كبيشة أمير المدينة، وأخذ غلمانه وأهله وصادرهم، وعاقب جماعة حتى ماتوا تحت العقوبة، وقتل القاضي هاشم بن علي وعبد الله بن القائد علي بن يحيى. فلما بلغ ذلك الشريف كبيشة قدم، ففر منه ودى فغضب السلطان من ذلك، وعزم على تجريد عسكر يوم الجمعة.
وفي رابع ربيع الأخر: قدم الأمير تنكز نائب الشام باستدعاء، ومعه قليل من مماليكه، فخرج الأمير بكتمر الساقي إلى لقائه بسرياقوس وقدم به، فأكرمه السلطان وأنزله بدار الأمير بكتمر الساقي. وكان قد قدم معه الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير أحد حجاب دمشق، فشكا منه وسأل أن يكون بديار مصر، فأنعم عليه بأمرة طبلخاناه، وأن يكون حاجباً صغيراً رفيقاً للأمير ألماس الحاجب وأنعم بإقطاعه في دمشق على أخيه شرف الدين محمود بن الخطير، وسافر الأمير تنكز.
وفي يوم الأحد سادس ربيع الآخر: قبض على الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخر والأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر الساقي. وأخرج قطلوبغا على إقطاع أيدغدي التليلي بدمشق، في يوم السبت ثاني عشريه. وأفرج عن طشتمر، واستمر على حاله. وسبب مسكهما أن السلطان وجد ورقة فيها أنهما اتفقا على قتله، فقام الأمراء وكذبوا هذا القول، فإنه من فعل من يريد الفتنة، ومازالوا حتى أفرج عنهما.
وفيه استقر الأمير عز الدين دقماق نقيب الجيوش، عوضاً عن شمس الدين المهمندار، مضافاً لما بيده من نقابة المماليك. واستقر المهمندار على المهمندارية.
وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى : قبض على الأمير بهاء الدين أصلم، وعلى أخيه سيف الدين قرمجي وجماعة من القبجاقية. وسبب ذلك أن أصلم عرض سلاح خاناه وجلس بإصطبله، وألبس خيله عدة الحرب، وعرضها يومه كله، فوشي به إلى السلطان بعض أعدائه بأنه قد عزم هو وأخوه قرمجي وجماعة جنس القبجاق أن يهجموا على السلطان ويغيروا الدولة، وأنه أمس عرض عدده وألبس خيله ورتبهم للركوب. وكتب هذا في ورقة وألقاها أحدهم في الإصطبل السلطاني. فلما وقف السلطان عليها تغير تغيراً زائداً، وكانت عادته أنه لا يكذب في الشر خبرا، وبعث من فوره يسأل أصلم مع الحاجب ألماس عما كان يعمله أمس في إصطبله، فذكر أنه اشترى عدة أسلحة فعرضها على خيله لينظر ما يناسب كل فرس منها، فصدق السلطان ما نقل عنه، وقبض عليه وعلى أخيه وأهل جنسه، وعلى قيران صهر قرمجي وانكبار أخي آقول الحاحب، وسفروا إلى الإسكندرية مع صلاح الدين طرخان بن بدر الدين بيسري الشمسي وبرلغي قريب السلطان، وكانا مسجونين بقلعة الجبل. وأفرد أصلم في برج بالقلعة.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: قدم الأمير حسين بن جندر بك من الشام، فخلع عليه أطلس بطرز زركش وكلفتاه زرك!ش وحياصة مجوهرة، وأنعم عليه بإقطاع الأمير أصلم. وفيه سار الأمير حسام الدين حسين بن خربندا إلى الشام، وقد كان فر من بلاد التتار، وشمله الإنعام السلطاني وصار من جملة أمراء الطبلخاناه.
وفيه قدمت رسل اصطنبول، فأسلم منهم نفران، وهما آقسنقر وبهادر، وأنعم على آقسنقر بإمرة عشرة بديار مصر، وعلى بهادر بخبز جند وكانا أخوة.
وفي يوم الإثنين ثالث جمادى الآخرة: عقد على الأمير سيف الدين قوصون بالقلعة عقد ابنة السلطان بالقلعة، وتولى عقد النكاح قاضي القضاة شمس الدين محمد بن الحريري الحنفي.
وفيه سأل قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي في الإعفاء من القضاء، واعتذر بنزول الماء في إحدى عينيه وانحداره إلى الأخر وقلة نظره وكبر سنه. فسأل السلطان من ابنة عز الدين عبد العزيز بن جماعة عن وظائف والده، فأخبره بها، فلما حضر بدر الدين دار العدل في يوم الإثنين عاشره أعاد السؤال في طلب الإعفاء، فأجابه السلطان من غير تصريح، وقال له: " احكم بين الأمير بكتمر الحاجب وبين غرمائه " ، فنزل إلى المدرسة الصالحية وحكم بينهما، وقال لأهل مجلسه. " هذا أخر الحكم، ومضى إلى داره بمصر، فقرر له السلطان من مال المتجر في كل شهر ألف درهم فضة.
وفيه كتب بإحضار جلال الدين محمد القزويني قاضي دمشق، ليستقر في قضاء القضاة بمصر عوضاً عن بدر الدين بن جماعة، فقدم على البريد إلى سرياقوس يوم الجمعة ثامن عشريه، وخطب بجامع الخانكاه، وصلى بالناس صلاة الجمعة. وطلع القزويني قلعة الجبل يوم السبت تاسع عشريه، فخلع عليه في أول رجب، واستقر في قضاء القضاة، وأركب بغلة بزنار جوخ، وأضيف إليه تدريس المدرسة الصالحية، والمدرسة الناصرية، ودار الحديث الكاملية، وخطابة جامع القلعة شركة مع ابن القسطلاني وأعيد ابنه بدر الدين محمد على خطابة جامع بني أمية بدمشق. وكتب باستقرار شمس الدين أبي اليسر ابن الصائغ بتعيين الجلال القزوين فامتنع من ذلك.
وفي يوم الأربعاء رابع رجب: قدمت رسل القان أبي سعيد، ومعهم محمد بيه بن جمق قريب السلطان وابن أخت طايربغا، بهدية سنية. فأنعم السلطان على محمد بيه بإمره طبلخاناه عوضاً عن أيبك البكتوتي أمير علم، بحكم انتقاله على إقطاع فيروز بصمد.
فلما كمان يوم السبت: ركب السلطان إلى الميدان ومعه الرسل، ثم أركبهم في ثالث عشره معه إلى القاهرة، ونزل إلى زيارة قبر والده الملك المنصور، ومد سماط عظيم بإيوان المدرسة المنصورية القبلي وحضر الفقهاء بالإيوان البحري. ثم ركب السلطان بهم مرة ثانية إلى الميدان، وأعادهم في سادس عشره بهدية جليلة.
وفي يوم الخميس خامسه: كانت الفتنة بالإسكندرية: وملخصها أن بعض تجار الفرنج فاوض رجلاً من المسلمين وضربه، وذلك أن الفرنجي وقف بجانب صبي أمرد ليأخذه ويفعل به ذلك الفعل، فعناه بعض المسلمين وقال له: " هذا ما يحل " ، فضربه الفرنجي بخف على وجهه. فثار المسلمون بالإفرنج وثار الفرنج لتحميه، فوقع الشر بين الفريقين، واقتتلوا بالسلاح. فركب ركن الدين الكركي متولي الثغر، فإذا الناس قد ئعصبوا وأخرجوا السلاح، وشهدوا على الفرنجي. مما يوجب قتله، وحملوه إلى القاضي وغلقت أسواق المدينة وأبوابها.
فلما كان بعد عشاء الآخرة فتحت الأبواب ليدحل من كان خارج البلد، فمن شدة الزحام قتل عشرة أنفس، وتلفت أعضاء جماعة، وذهبت عمائم وغيرها لكثير منهم. وتبين للكركي تحامل الناس على الفرنج، فحمل بنفسه وأجناده عليهم ليدفعهم عن الفرنج، فلم يندفعوا وقاتلوه إلى أن هزموه، وقصدوا إخراج الأمراء المعتقلين بالثغر. بعد ما سفكت بينهما دماء كثيرة. فعند ذلك بادر الكركي بمطالعة السلطان بهذه الحادثة، فسرح الطائر بالبطائق يعلم السلطان، فاشتد غضبه. وخشي السلطان خروج الأمراء من السجن، وبادر إلى أخذ أولاد الأمير سيف الدين الأبو بكري الثلاثة - وهم على وأسنبغا وأحمد - في يوم الإثنين تاسعه، وجعلهم في دار الأمير ألماس الحاجب. وأخرج السلطان الوزير مغلطاي الجمال وطوغان شاد الدواوين، وسيف الدين ألدمر الركني أمير جندار، في جماعة من المماليك السلطانية، ومعهم ناظر الخاص إلى الإسكندرية، ومعهم تذاكر. مما يعمل من تتبع أهل الفساد وقتلهم، ومصادرة قوم بأعيانهم، وتغريم أهل البلد المال، والقبض على أسلحة الغزاة، ومسك القاضي والشهود، وتجهيز الأمراء المسجونين إلى قلعة الجبل؟ فساروا في عاشره، ودخلوا المدينة.
وجلس الوزير والناظر بديوان الخمس وفرض الوزير على الناس خمسمائة ألف دينار، وقبض على جماعة من أذلهم ووسطهم، وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، وتطلب ابن رواحة كبير دار الطراز ووسطه، من أجل أنه وشي به أنه كان يغري العامة بالفرنج ويمدهم بالسلاح والنفقة. فحل بالناس من المصادرة بلاء عظيم، وكتب السلطان ترد شيئاً بعد شيء تتضمن الحث على سفك دماء المفسدين وأخذ الأموال، والوزير يجيب بما يصلح أمر الناس. ثم استدعى الوزير بالسلاح المعد للغزاة، فبلغ ستة ألاف عدة، وضعها كلها في حاصل وختم عليها، واستمر نحو العشرين يوماً في سفك دماء وأخذ أموال، حتى جمع ما ينيف على مائتين وستين ألف دينار، وقدم الوزير عماد الدين محمد ابن اسحاق بن محمد البلبيسي قاضي الإسكندرية ليشنق، ثم أخره، وكاتب السلطان بأنه كشف عن أمره فوجد ما نقل عنه غير صحيح. وبعث الوزير المسجونين إلى قلعة الجبل في طائفة معهم لحفظهم، فقدموا في ثامن عشره، وهم البوبكري وتمر الساقي وسنجر الجاولي وبهادر المعز وطغلق، وأمير غانم، وقطلوبك الوشاقي وأيدمر اليونسي وكجلي نائب قلعة الروم. فأخرج البوبكري وتمر الساقي إلى الكرك، وسجن الجاولي وبهادر المعزي في البرج بالقلعة، وأنزل بطغلق وأمير غانم وقطلوبك وأيدمر وبلاط وبرلغي ولاجين زيرباج وبيبرس العلمي وطشتمر أخي بتخاص المنصوري إلى الجب بالقلعة، وأفرج عن فخر الدين أياس نائب قلعة الروم، في يوم الخميس سادس عشريه.
وقدم الوزير من الإسكندرية بالمال، وجلس في سلخ رجب بالمال بقاعة الوزارة المستجدة بالقلعة، وقد سكنها، وحفر النظار والمستوفون من خارج الشباك، وحضر طوغان الشاد أيضاً، فنفذ الوزير الأمور، وصرف أحوال الدولة.
وفي أول شعبان: قدمت رسل بابا الفرنج من مدينة رومة بهدية، وكتاب فيه الوصية بالنصارى وأنه مهما عمل مهم بمصر والشام عاملوا من عندهم من المسلمين بمثله، فأجيبوا وأعيدوا.
ولم تقدم رسل من عند الباب إلى مصر منذ أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وفيه قبض على أمير فرج بن قراسنقر، واعتقل بالجب في القلعه. وأخرج كجكن الساقي إلى صفد، فاعتقل بها.
وفي يوم الإثنين السادس والعشرين من شوال: استدعي الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل بن أبي الطلاء القونوي الشافعي شيخ خانكاه سعيد السعداء، وخلع عليه بقضاء القضاة بدمشق، ونزل فحكم بالقاهره، وأثبت كتبا تتعلق بدمشق، وسافر فقدم دمشق في خامس عشريه، وأضيف إليه مشيخة الشيوخ بها، عوضاً عن قاضي القضاة شرف الدين المالكي. واستقر في مشيخة سعيد السعداء شيخ الشيوخ مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي شيخ خانكاه سرياقوس، ورسم له أن يستنيب عنه بسعيد السعداء الشيخ جمال الدين الحويزاني. واستقر في مشيخة الخانكاه الركنية بيبرس افتخار الدين الخوارزمي عوضاً عن مجد الدين أبي بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز الزنكلوني، ونقل الزنكلوني إلى مشيخة تدريس الحديث النبوي بالقبة البيبرسية. وفيه قبض على الشريف ودي بن جماز عندما حضر من المدينة النبوية، وكان قد تحاقق هو وطفيل بن منصور بن جاز بين يدي السلطان، ففلح عليه طفيل في الخصومة. وسفر الأمير علاء الدين علي بن طغريل صحبة الشريف كبيشة، ليوصله إلى المدينة النبوية، ويقبض على أصحاب ودي . فلما قدما فر أصحاب ودي وملك كبيشة ابن منصور المدينة، ودعا للسلطان عقيب كل صلاة كما يدعي له بمكة.
وفي خامس عشر في ذي القعدة: استقر مغلطاي الخازن في نيابة قلعة دمشق، عوضاً عن سنجر الدميتري. وأنعم على سنجر بإمرة في دمشق.
وفيه استقر الأمير بلبسطي في نيابة حمص، بعد وفاة بلبان البدري. واستقر في نظر القدس والخليل إبراهيم الجاكي.
وفي ليلة الجمعة ثالث عشر ذي الحجة: دخل الأمير قوصون على ابنة السلطان، بعد ما حمل جهازها إليه، وكان شيئاً عظيماً: منه بشخاناه وداير بيت زركش، زنة البشخاناه بمفردها مائة ألف مثقال ذهباً. وعمل الفرح مدة سبعة أيام، ذبح فيه خمسة ألاف رأس من الغنم الضأن، ومائة رأس من البقر، وخمسون فرساً، ومن الدجاج، والأوز ما لا يحصى كثرة. واستعمل فيه من السكر برسم الحلاوات وتحالي الأطعمة والمشروب أحد عشر ألف أبلوجة، وبلغ وزن الشمع الذي أحضره الأمراء ثلاثمائة قنطار وأحد عشر قنطاراً. وبلغت تقادم الأمراء لقوصون خمسين ألف دينار. وعمل قجليس في القلعة برجا من بارود ونفط، غرم عليه ثمانين ألف درهم. وحصل للمغاني من النقوط عشرة ألاف دينار مصرية وقد جمع أمراء مصر والشام تقادم جليلة، منها تقدمة الملك صاحب حماة، ومن جملتها مشعل وطرطور ومخلاة مطرز ذهب بالف دينار. وفي صبيحة العرس عقد الأمير أحمد بن بكتمر الساقي علي قطلوملك بنت الأمير تنكز نائب الشام، وقد حضرت في أول ذي القعدة بجهاز عظيم، فيه داير بيت زنة زركشه ستون ألف مثقال من الذهب. وقدم الأمير تنكز عليه عليه السلطان خلعة كاملة، انصرف على القباء الفوقاني منها وحده مبلغ أربعة وخمسين ألف درهم فضة. فدخل أمير أحمد على ابنة تنكز في ليلة رابع عشره.
وفي هذه السنة: قدم إلى ميناء بيروت من سواحل الشام تجار الفرنج بمائة وأربعين من أسارى المسلمين، قد اشتروهم من الجزائر، فاشتراهم الأمير تنكز، وأفاد التجار في كل أسير مائة وعشرين درهماً على ما اشتراه به. وكسا تنكز الجميع وزودهم، وحملهم إلى مصر، فسر المسلمون بقدومهم، وجد تجار الفرنج في شراء الأسرى رغبة في الفائدة.
وفيه كتب لنائب الشام بجمع فقهاء الشام والعمل في أوقافها كلها بمقتض شروط واقفيها، وأن يجهز ضياء الدين يوسف بن أبي بكر بن محمد - المعروف بالضياء بن خطيب بيت الآبار - ، وكان قاضي القضاة جلال الدين القزويني قد عينه لنظر الأوقاف بديار مصر وأثني عليه. فلما قدم ضياء الدين خلع عليه بنظر الأوقاف، فباشرها مباشرة جيدة.
ونظر تنكز نائب الشام في أوقافها، ورسم بعمارة ما يحتاج إليه، ومنع الجوالك كلها أن يصرف منها لأحد حتى تفرغ عمارتها، فامتثل ذلك. ونظر تنكز في مقاسم المياه بدمشق التي تتصرف في دور الناس، وكسح ما فيها من الأوساخ، وفتح ما استد منها حتى صلحت كلها، فعم النفع بها. وكانت المياه قد تغيرت لما خالطها في طول السنين، وصار الوخم يعتاد أهل دمشق في كل سنة. فشكر الناس هذه الأفعال، ودعوا له، ويقال أنه بلغ المصروف في ذلك ثلاثمائة ألف درهم.
وفيها اهتم تنكز أيضاً بفتح العين بالقدس، فإن الماء قل به حتى بلغ شرب الفرس الماء مرة واحدة نصف درهم فضة، وكتب إلى ولاة الأعمال بإخراج الرجال، وندب قطلوبك بن الجاشنكير بالمال لنفقته عليها.
وفيها ندب السلطان الأمير علاء الدين علي بن هلال الدولة لعمارة حرم مكة، وقد بلغه أن سقوفه تشعثت، وتهدم فيه عدة جدر، وجهز ابن هلال الدولة بكل ما يحتاج إليه من المال والمصاغ والآلات، وكتب السلطان للشريف عطيفة بمساعدته. وحج بالناس من مصر الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك.
ومات في هذه السنة من الأعياننجم الدين أحمد بن محمد بن أبي الحزم مكي المخزومي ابن ياسين القمولي الشافعي محتسب مصر، في ثامن رجب.
ومات أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد بن يحيى بن عبد الواحد بن أحمد بن محمد اللحياني ملك تونس، بالإسكندرية. ومات كمال الدين محمد بن علاء الدين علي بن كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الزملكاني الشافعي بمدينة بلبيسي عند قدومه من حلب، في سادس شهر رمضان، ودفن بالقرافة. ومات شمس الدين محمد بن الشهاب محمود بن سليمان بن فهد الحلبي كاتب السر بدمشق، في عاشر شوال.
ومات نور الدين علي بن عمر بن أبي بكر بن عبدالله الخلاطي الواني الصوفي نزيل القاهرة، في المحرم، ومولده في سنة ست وثلاثين وستمائة، سمع من يونس بن محمود الشاوي وعبد الوهاب بن رواح وعبد الرحمن بن مكي سبط السلفي وخرج له الحافظ أبو الحسين بن أيبك جزءاً حدث به، فسمع منه قديماً البرزالي سنة خمس وثمانين وستمائة،وسمع منه شيخنا أبو الفرج بن الشيخة، وأبو علي الباصلي وعبد الوهاب البصروي.
ومات قاضي القضاة الحنفية بدمشق صدر الدين أبو الحسن علي بن صفي الدين أبي القاسم بن محمد بن عثمان البصراوي في شعبان، بعدما حكم بدمشق عشرين سنة. ومات الملك الكامل ناصر الدين محمد بن السعيد فتح الدين عبد الملك بن الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل أبي بكر محمد بن نجم الدين أيوب بن شاد بدمشق في حادي عشرى جمادى الآخرة، عن أربع وسبعين سنة.
ومات الطواشي ناصر الدين نصر الشمس شيخ الخدام بالحرم النبوي وكان خيراً يحفظ القرآن، ويكثر تلاوته بصوت حسن.
ومات الضياء المجدي بمصر، وكان مطبوعاً صاحب نوادر.
ومات الأمير سيف الدين بلبان البدري نائب حمص، في ليلة عيد الفطر.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن أرغون النائب بحلب، في ثالث عشر شعبان.
ومات الأمير سيف الدين قطلوبغا المغربي الحاجب، بالقاهرة في ثامن رجب.
ومات الأمير سيف الدين كوجري أمير شكار بالقاهرة في تاسع عشرى ذي الحجة. وهو مملوك عز الدين أيدمر نائب دمشق في الأيام الظاهرية.
ومات بكتوت بن الصائغ، في يوم السبت رابع عشرى جمادى الأولى.
ومات الأمير شمس الدين إبراهيم ابن الأمير بدر الدين محمد بن عيسى بن التركماني في جمادى الآخرة، بدار جوار باب البحر خارج الفاهرة. وكانت له مكارم وفيه مروءة.
سنة ثمان وعشرين وسبعمائةفي ثالث المحرم: أنعم بخبز الأمير كوجري أمير شكار على الأمير بشتاك.
وفي خامس عشريه: قدم الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك من الحجاز بالحجاج.
وفي سابع عشريه: قدمت رسل القان أبي سعيد، فأكرموا وأعيدوا في رابع صفر.
وفي المحرم: هذا وشى بالأمير شمس الدين آقسنقر شاد العمائر أن جميع عمائره وأملاكه التي استجدها مما يأخذه من الأسرى وأرباب الصنائع، فرسم عليه مالاً ألزم به، فاعتنى به الأمير قوصون وشفع فيه، فأفرج عنه وأخرج إلى الشام.
وفيه وردت مكاتبة الأمير تنكز نائب الشام بالشكوى من الأمير طينال نائب طرابلس وترفعه عليه، فكتب بالإنكار عليه، وألا يكاتب في المهمات وغيرها إلا نائب الشام، ولا يجهز بعدها مطالعة إلى مصر.
وفي سابع ربيع الأول. قدم دمرداش بن جوبان بن تلك بن تداون. وسبب ذلك أن القان أبا سعيد بن خربندا لما ملك أقبل على اللهو، فتحكم الأمير جوبان بن تلك على الأردو، وقام بأمر المملكة، واستناب ولده دمشق خواجا بالأردو، وبعث ابنه دمرداش إلى مملكة الروم. فانحصر أبو سعيد إلى أن تحرك بعض أولاد كبك بجهة خراسان، وخرج عن الطاعة، فسار جوبان لحربه في عسكر كبير، فما هو إلا أن بعد عن الأردو قليلاً حتى رجع العدو عن خراسان، وقصد جوبان العود.
وكان قد قبض بوسعيد على دمشق خواجا، وقتله بظاهر مدينة السلطانية، في شوال من السنة الماضية، وأتبع به إخوته ونهب أتباعهم، وسفك أكثر دمائهم، وكتب إلى من خرج من العسكر مع جوبان بما وقع، وأمرهم بقبضه، وكتب إلى دمرداش أن يحضر إلى الأردو، وعرفه شوقه إليه، ودس مع الرسول إليه عدة ملطفات إلى أمراء الروم بالقبض عليه أو قتله، وعرفهم ما وقع.
وكان دمرداش قد ملك بلاد الروم جميعها وجبال ابن قرمان، وأقام على كل دربند جماعة تحفظه، فلا يمر أحد إلا ويعلم به خوفاً على نفسه من السلطان الملك الناصر أن يبعث إليه فداويا يقتله، بسبب ما حصل بينهما من المواحشة التي اقتضت انحصار السلطان منه، وأنه منع التجار وغيرهم من حمل المماليك إلى مصر، وإذا سمع بأحد من جهة صاحب مصر أخرق به. فشرع السلطان يخادعه على عادته، ويهاديه ويترضاه، وهو لا يلتفت إليه، فكتب إلى أبيه جوبان في أمره حتى بعث ينكر عليه، فأمسك عما كان فيه قليلاً، ولبس تشريف السلطان، وقبل هديته وبعث عوضها، وهو مع هذا شديد التحرز.
فلما قدمت رسل أبي سعيد بطلبه فتشهم الموكلون بالدربندات، فوجدوا الملطفات، فحملوهم وما معهم إلى دمرداش. فلما وقف دمرداش عليهما لم يزل يعاقب الرسل إلى أن اعترفوا بأن أبا سعيد قتل دمشق خواجا وإخواته ومن يلوذ بهم، ونهب أموالهم، وبعث بقتل جوبان. فقتل دمرداش الرسل، وبعث إلى الأمراء أصحاب الملطفات فقتلهم أيضاً، وكتب إلى السلطان الملك الناصر يرغب في طاعته، ويستأذنه في القدوم عليه بعساكر الروم، ليكون نائباً عنه بها. فسر السلطان بذلك. وكان قد ورد على السلطان كتاب المجد السلامي من الشرق بقتل دمشق خواجا واخوته، وكتاب أبي سعيد بقتل جوبان، وطلب ابنه دمرداش، وأنه ما عاق أبا سعيد عن الحركة إلا كثرة الثلج وقوة الشتاء.
فكتب السلطان الناصر جواب دمرداش يعده بمواعيد كثيرة، ويرعبه في الحضور. فتحير دمرداش بين أن يقيم فيأتيه أبو سعيد، أو يتوجه إلى مصر فلا يدري ما يتفق له. ثم قوي عنده المسير إلى مصر، وأعلم أمراءه أن عسكر مصر سار ليأخذ بلاد الروم، وأنه قد كتب إليه الملك الناصر يأمره أن يكون نائبه، فمشى عليهم ذلك وسرهم. وأخذ دمرداش يجهز أمره، وحصن أولاده وأهله في قلعة منيعة، وبعث معهم أمواله، ثم ركب بعساكره حتى قارب بهسنا، فجمع من معه وأعلمهم أنه يريد مصر، وخيرهم بين العود إلى بلادهم وبين المسير معه، فعادوا إلا من يختص به.
وسار دمرداش إلى بهسنا في نحو ثلاثمائة فارس، فتلقاه نائبها، ومازال حتى قدم دمشق يوم الأحد خامس عشرى صفر، فركب الأمير تنكز إلى لقائه، وأنزله بالميدان، وقام له بما يجب، وجهزه إلى مصر بعد ما قدم بين يديه البريد بخبره. فبعث إليه السلطان بالأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير، ومعه المهمندار بجميع الآلات الملوكية من الخيام والدهليز والبيوتات كلها إلى غزة، فلقوه بها وأقام فيها يومين وسافر إلى القاهرة، فركب الأمراء إلى لقائه، وخرج السلطان إلى بر الجيزة، ورسم أن يعدي النيل إليه.
فلما قدم دمرداش إلى القاهرة في سابع ربيع الأول أتاه الأمير طايربغا وأحضره إلى السلطان بالجيزة، فقبل الأرض ثلاث مرات. فترحب السلطان به وأجلسه بالقرب منه، وباسطه وطيب خاطره، وسأله عن أحواله، وألبسه تشريفاً عظيماً، وركب معه للصيد، وعدى به النيل إلى القلعة، وأسكنه بها في بيت الجاولي ورتب له جميع ما يحتاج إليه، ورسم للأمير طوغان أن يدخل صحبة طعامه بكرة وعشيا.
وفي عاشره: قدم دمرداش مائة إكديش وثمانين بختيا وخمسة مماليك وخمس بقج فيها الثياب الفاخرة، منها بقجة بها قباء أطلس مرصع بعدة جواهر ثمينة، فلم يقبل السلطان غير القباء وإكديشاً واحداً وقطار بخات ورد البقيه إليه ليتقوى بها.
وتقدم السلطان إلى الوزير أن يرتب لدمرداش ما يليق به، وطلب إلى الحاجب أن يجلسه في الميمنة تحت الأمير سيف الدين آل ملك الجوكندار. فشق عليه ذلك، إلى أن بعث السلطان إليه الأمير بدر الدين جنكلي يعتذر إليه أنه ما جهل قدره، ولكن الشهيد والد السلطان له مماليك كبار قد ربوا السلطان، فهو يريد تعظيم قدرهم، " فلهذا أجلسك بجانبهم؟ فطاب خاطره.
واجتمع دمرداش بالسلطان وفاوضه في أمر بلاد الروم، وأن يجهز إليها عسكراً. فأشار السلطان بالمهلة حتى يرد البريد بخبر أبيه جوبان مع أبي سعيد، وكتب إلى ابن قرمان أن ينزل على القلعة التي فيها أولاد دمرداش وحواصله ويرسلهم مكرمين إلى مصر. فاستأذن دمرداش في عود من قدم معه إلى بلادهم، فأذن له في ذلك، فسار كثير منهم.
وأنعم السلطان على دمرداش بأمرة سنجر الجمقدار، بحكم إخراجه إلى الشام.
وهي يوم الإثنين حادي عشره: ركب دمرداش بالقماش الإسلامي على هيئة الأمراء.
وفي تاسع عشره: قدم الأمير شاهنشاه ابن عم جوبان، فخلع عليه، وأنزل عند دمرداش.
وفي ثامن عشريه: وصل طلب دمرداش وثقله، فأنزلوا بدار الضيافة، وهم نحو ستمائة فارس.
وفي يوم الأحد أول ربيع الآخر: عرض السلطان أصحاب دمرداش، وفرق أكثرهم على الأمراء، واختار نحو التسعين منهم العود إلى بلادهم، فعادوا.
وفيه قدمت رسل أبي سعيد بكتابه، وفيه بعد السلام والاستيحاش وذكر الود إعلام السلطان بأمر جوبان وتحكمه وقلة امتثاله الأمر، وأنه قصد قتله والتحكم بمفرده، فلما تحقق ذلك لديه بعثه إلى خراسان، وسير بالقبض عليه، وهو يأخذ رأي السلطان في ذلك، وقد سير أبو سعيد مع رسله هدية فقبلت. وسألهم السلطان عن دمرداش، فذكروا أنهم لم يعرفوا خبره حتى قدموا دمشق، فبعثهم إليه فلم يعبأ بهم.
وفي يوم الثلاثاء عاشره: توجه السلطان إلى الوجه البحري ومعه دمرداش، وحسن له الفخر ناظر الجيش والأمير بكتمر الساقي زيارة الشيخ محمد المرشد فتوقف في زيارته ثم عزم عليها. فرسم للأمير علم الدين سنجر الخازن كاشف الغربية بطلب جميع العربان وتقديمهم الخيل والهجن، وأن يجهز الإقامات. واستناب السلطان في غيبته الأمير قجليس. وعاد السلطان في سادس عشريه، بعد ما قدم الأمير تنكز في رابع عشريه. وفي تاسع شوال: خلع على الطواشي ناصر الدين نصر الساقي. واستقر مقدم المماليك، عوضاً عن الطواشي صواب الركني.
وفيه بعث السلطان الأمير سيف الدين أروج مملوك قبجق إلى أبي سعيد يشفع في دمرداش، ومعه الرسل بهدية جليلة، فساروا في تاسع جمادى الأولى.
وفي يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة: سار برهان الدين إبراهيم بن عبد الحق الحنفي على البريد إلى القاهرة، وقد طلب، فقدم يوم السبت خامس عشريه، واستقر في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، عوضاً عن شمس الدين محمد بن عثمان. محمد بن عثمان الحريري بعد وفاته.
وفي يوم السبت عاشر رجب: عاد أطوجي من بلاد أزبك ملك القبجاق بتقادم جليلة، فأنزل بالميدان، وأنعم عليه وعلى جماعته بشيء كثير.
وفي حادي عشره: حضر أطوجي إلى بين يدي السلطان فخلع عليه، وسار في عشريه.
وفي خامس عشريه: عقد نكاح ابنة السلطان على الأمير سيف الدين طغاي تمر العمري الناصر وأعفي الأمراء من حمل الشموع وغيرها، وأنعم عليه من الخزانة بأربعة ألاف دينار عوضاً عن ذلك.
وفيه عاد جواب ابن قرمان بأنه ركب إلى القلعة التي فيها أهل دمرداش، وعرفهم أنه حفر. بمرسوم السلطان، وبعث إليهم بكتاب دمرداش أنهم يقدمون عليه بمصر، فردوا جوابه: " لا حاجة لنا في مصر " . وذكر ابن قرمان أن هذا بمباطنة دمرداش لهم، وحط عليه بأنه سفك دماء كثرة، وقتل من المسلمين عالماً عظيماً، وأنه جسور وما قصد بدخوله مصر إلا طمعاً في ملكها. وبعث ابن قرمان الكتاب صحبة نجم الدين إسحاق الرومي أنطالية، وهي القلعة التي أخذها منه دمرداش وقتل والده، وأنه قدم ليطالبه بدم أبيه. فلما وقف السلطان على الكتاب تغير، وطلب دمرداش وأعلمه بما يه. وجمع السلطان بينه وبين إسحاق، فتحاققا بحضرة الأمراء، فظهر أن كلا منهما قتل لصاحبه قتيلاً، فكتب جواب ابن قرمان معه وأعيد. وقد تبين للسلطان خبث نية دمرداش، فقبضه وأمسك من معه من الأعيان، وهم محمود شاهنشاه وعدة أخر في يوم الخميس العشرين من شعبان، واعتقل دمرداش ببرج السباع من القلعة، وفرق البقية في الأبراج، وفرقت مماليكه على الأمراء، ورتب له ما يكفيه.
وكان للقبض على دمرداش أسباب: منها أنه كان له بالروم مائة ألف رأس من الغنم، فلما وصلت قطيا أطلق منها للأمير بكتمر الساقي عشرين ألفاً، ولقوصون وبقية الأمراء كل واحد شيئاً حتى فرق الجميع، فلم يعجب السلطان ذلك. ودخل دمرداش يوماً الحمام فأعطي الحمامي ألف درهم، والحارس ثلاثمائة، فزاد حنق السلطان منه. ثم أخذ دمرداش يوقع في الأمراء والخاصكية، ويقول: هذا كان كذا، وهذا كان كذا، وهذا ألماس الحاجب كان حمالاً، فما حمل السلطان هذا منه.
وفي شوال: حسن جماعة للسلطان توفير كثير من الجوامك، فعمل فيه استيمار، وفرق فيه ما قطع من جوامك المباشرين والغلمات وهي جملة، ووفر منهم عدة، ثم قرئ عليه. وأحضر الصاحب أمين الدين عبدالله بن الغنام، وخلع عليه وعلى مجد الدين إبراهيم بن لفيتة بغير طرحات، واستقرا في نظر النظار والصحبة في يوم الإثنين نصف شوال.
وفيه نقل شمس الدين إبراهيم بن قروينة إلى نظر البيوت، وخلع عليه معهما.
وفي تاسع عشريه: عقد نكاح الخاتون طلباي الواصلة من بلاد أزبك على الأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار، بعدما طلقها السلطان وانقضت عدتها، وبنى عليها الأمير سيف الدين في ثامن ذي القعدة.
وفي يوم الأربعاء ثاسع عشريه: عزل الصاحب أمين الدين بن الغنام عن نظر الدولة. وكان قد كتب قصة يطلب الإعفاء من المباشرة، فلم يجب إلى ذلك، فكتب قصة ثانية فأجيب، فكانت مدة مباشرته أربعة وأربعين يوماً تحريراً.
وفي يوم الخميس ثامن ذي الحجة: أفرج عن الأمير حسام الدين لاجين العمري الملقب زيرباج الجاشنكير، أحد المماليك المنصورية المشهورين بالشجاعة والقوة، بعدما أقام في الاعتقال من يوم الإثنين ثالث ربيع الآخر سنة ثنتى عشرة مدة ست عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام، وهو يغزل الصوف المرعز ويعمله كوافي بديعة الزي وللناس فيها رغبة، ويتصدق بثمنها.
وفيه أفرج عن الأمير علم الدين سنجر الجاولي وكانت مدة اعتقاله ثماني سنين وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً، وكان فيها ينسخ القرآن وكتب الحديث ونحوه. وأفرج عن أمير فرج بن قراسنقر في يوم عرفة، ثم أعيد إلى سجنه في يومه.
وفيه سافر الأمير سيف الدين أيتمش إلى بوسعيد برسالة تتضمن ما قام به السلطان مع دمرداش بن جوبان، وكان قد وصل إلى الأبواب السلطانية في يوم الأربعاء حادي عشر شهر رمضان رسل من عند أبي سعيد، وهم ثلاثة نفر، والمشار إليه منهم أياجي أمير جندار الملك أبي سعيد. فلما مثلوا بين يدي السلطان، وكلهم الإنعام بالتشاريف على عادة أمثالهم، أرسلهم السلطان إلى دمرداش في معتقله، صحبة الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح، فاجتمعوا به وتحدثوا معه. وقيل كان مضمون رسالتهم طلب دمرداش من السلطان، وأنه إذا سلم إليهم أرسل الملك أبو سعيد في مقابلة ذلك الأمير شمس الدين سنقر المنصوري. فمال السلطان إلى ذلك، ورسم للأمير أيتمش المحمدي أن يتوجه إلى الملك أبي سعيد برسالة السلطان لتقرير الحال في ذلك، وتوجه طلب دمرداش في يوم الإثنين سادس عشر شهر رمضان، ثم عدل السلطان عن هذا الأمر، وترحح عنده أنه لا يرسله إلى الملك أبي سعيد.
فلما كان في ليلة الخميس رابع شوال: من هذه السنة أخرج دمرداش من معتقله بالبرج، وفتح باب السر من جهة القرافة وأخرج منه وهو مقيد مغلول، وشاهده رسل الملك أبي سعيد وهو على هذه الحال. ثم خنق دمرداش، وشاهده الرسل بعد موته، وقطع رأسه و سلخ وصبر وحشي وأرسل السلطان الرأس إلى أبي سعيد، ودفن الجسد بمكان قتله. وحضر الرسل إلى الخدمة السلطانية في يوم الخميس رابع شوال، وركبوا مع السلطان إلى الميدان في يوم السبت سادسه، ثم حضروا إلى الخدمة السلطانية في يوم الإثنين ثامنه، وكلهم الخلع والإنعام، وأعيدوا إلى مرسلهم في هذا اليوم، وتوجه معهم الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي برسالة السلطان إلى الملك أبي سعيد، كما تقدم وفيها وقع في زروع أرض مصر أفة من الدودة عند أوان الزرع عقيب حر شديد، حتى عم ذلك أكثر الزرع، فكتب إلى الولاة بكتابة ما تلف، فوجد قد تلف في بعض البلاد نصف الزرع وما دونه في غيرها. وتحسن السعر، فبلغ القمح إلى عشرين الأردب بعد ثلاثة عشر.
وفيها هبت ريح سوداء بعدما أرعدت السماء وأبرقت، حتى كان الإنسان لا يبصر رفيقه، وحتى ردت وجوه الحيل إلى ورائها، و لم يستطع أحد أن يثبت فوق فرسه، ولا أن يقف على رجليه فوق الأرض، بل تلقيه الريح، وكان ذلك ببلاد فوة بحر الغرب وسائر الوجه البحري. وغرق بها من المراكب شي ء كثير، وتقصفت عدة من النخل، واقتلعت شجرة جميزه كبيره من أصلها بناحية فوه، ومرت بها قدر مائتي قصبة، فلما قطعت حمل خشبها تسعة أحمال جمال. ومر من ذلك في البرين الغربي والشرقي عجائب، وهدمت عدة دور ثم أمطرت بعد أيام مطراً عظيماً سال منه إلى مدينة بلبيس حتى خرب كثير منها، وجرى السيل إلى المطرية وأمطرت بالقاهرة ومصر ثلاثة أيام مطراً لم يعهد مثله، تلف منه عامة السقوف.
وفيها اشتد بأس الأمير قدادار والي القاهرة، وتسلط على العامة بكثرة سفلك الدماء.
وكان قد رسم لجميع الولاة ألا يقتلوا أحداً ولا يقطعوا يده إلا بعد مشاورة السلطان، خلا قدادار، فإنه لا يشاور على مفسد ولا غيره. فانطلقت يده في سائر الناس، وأقام عنه نائباً من بطالي الحسينية ضمن المسطبة منه في كل يوم بثلاثمائة درهم، وأتت الطائفة المعروفة بالمستصنعين في المدينة، وعملوا أعمالاً شنيعة، وكتبوا لأرباب الأموال أوراقاً بالتهديد، فاشتد خوف أهل الرتب منه. ونادى قدادار ألا يفتح بعد عشاء الآخرة أحد دكاناً في مدة غيبة السلطان في الوجه البحري ولا يمشي أحد بالليل في الأسواق، ولا يخرج أحد من بيته بعد عشاء الآخرة، فكان من يوجد يؤخذ، فإن وجدت منه رائحة الخمر لقي شدة. فانكف الناس عن الخروج ليلاً، وصارت الشوارع موحشة. وأقام قدادار على كل حارة درباً ألزم أهلها بعمله، ورتب الخفراء تدور في الليل بطبول في جميع الحارات والخطط، فظفر أحدهم برجل قد سرق من بيت ولبس ثياب النساء، فسمره قدادار بباب زويلة.
وفيها قدم البريد من صفد، ومعه مبلغ أربعين ألف درهم حملاً للموقعين، فأخذ قريباً من بلبيس. فألزم السلطان واليها علم الدين قصير - مملوك العلائي - بها، بعدما رسم بشنقه، ثم عفا عنه وعزله.
وفيها ولي ظلظيه الشرقية، نقله السلطان إليها من البهنسا، وولي عوضه شجاع الدين قنغلي.
وفيها ولي عز الدين أيدمر السلامي المنوفية، فتفنن في إتلاف الأنفس، وأوقف رجلاً بين خشبتين ونشره من رأسه، وصلق أخر في دست، وسلخ أخر وهو حي.
وفيها عزم السلطان على أن يجري النيل تحت القلعة، ويشق له من ناحية حلوان، فبعث الصناع صحبة شاد العمائر إلى حلوان، وقاسوا منها إلى الجبل الأحمر المطل على القاهرة، وقدروا العمل في بناء الواطي حتى يرتفع، وحفر العالي ليجري الماء وينتفع به في داخل قلعة الجبل، من غير معاناة ولا كلفة. ثم عادوا وعرفوا السلطان ذلك، فركب لكشفه، وقاسوا الأرض بين يديه. فكان قياس ما يحفر اثنين وأربعين ألف قصبة حاكمية، ليبقى خليجاً فيه ماء النيل شتاءً صيفاً بسفح الجبل. وعاد السلطان وقد أعجب بمشروعه، وشاور الأمراء فيه، فلم يعارضه منهم أحد إلا الفخر ناظر الجيش، فإنه قال: بمن يحفر السلطان هذا الخليج؟ " ، فقال السلطان: " بالعسكر، فقال الفخر: " والله لو اجتمع عسكر أخر فوق عسكر السلطان، وأقام سنين، ما قدروا على حفر هذا العمل. ومع ذلك فإنه يحتاج إلى ثلاث خزائن من المال. ثم هل يصح أو لا، فالسلطان لا يسمع كلام كل أحد، ويتعب الناس ويستجلب دعاءهم " . ونحو هذا من القول حتى رجع السلطان عن عمله.
وفيها كملت العين التي أجراها الأمير تنكز بالقدس، بعد ما أقام الصناع فيها مدة سنة، وبنى لها مصنعاً سعته نحو مائتي ذراع، وركب في الجبل مجاري نقب لها في الحجر حتى دخل الماء إلى الفدس، فكان لها يوم شهود. وأنشأ تنكز بالقدس أيضاً خانكاه وحمام وفيسارية، فعمرت القدس.
وفيها أفرج عن تقي الدين أحمد بن تيمية، بشفاعة الأمير جنكلي بن البابا وغيره من الأمراء.
وفيها أجري ابن هلال الدولة عيناً بمكة تعرف بعين ثقبة، فصار بمكة عين جوبان وعين ثفبة هذه.
وانحلت الأسعار بها حتى نزل القمح من ستين درهماً الغرارة إلى أربعين، وزرع بها البطيخ والذرة والخضروات وغيرها، وامتلأت البرك وكملت عمارة الحرم. وجدد ابن هلال الدولة. بمكة عدة ميض باسم السلطان، وأجري لها ما يقوم بكلفتها.
وفيها ورد الخبر بقتل حوبان نائب أبي سعيد. وذلك أن العسكر المجهز معه لما وصل إليهم خبر قتل أولاده بأمر أبي سعيد، ووصلت إليهم كتب أبي سعيد بقتله أيضاً، ركبوا عليه، ففر ومعه ابنه جلوخان وطائفة من خواصه إلى قلعة هراة، وامتنع بها، فدس إليه أبو سعيد من قتله وابنه، وحملا إلى أبي سعيد، فكان لدخولها الأردوا يوماً عظيماً.
وفيها حج بالركب المصري شهاب الدين أحمد بن المهمندار.
وحج في هذه السنة أيضاً الأمير سيف الدين طقزدمر الناصري وست حدق، وعلمت معروفاً كبيراً.
وفيها قدم ابن هلال من مكة فخلع عليه، وأعيد إلى شد الخاص.
وفيها طلب صلاح الدين يوسف دوادار فبجق من طرابلس، وولي شد الدواوين.
وفيها تنكر السلطان على الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير. وسببه عمل الفخر ناظر الجيش عليه بموافقة التاج إسحاق، وقد كتبت فيه مرافعة غضب السلطان بسببها عليه، وقصد الإيقاع به. فاعتني به الأمير بكتمر الساقي واعتذر عنه بأنه رجل غتنمي.
وفي يوم عرفة وهو يوم الجمعة: أفرج عن الأمير علم الدين سنجر الجاولي ومدة سجنه ثماني سنين وثلاثة أشهر وتسعة أيام.
ومات في هذه السنة من الأعيانشيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني بدمشق ليلة الإثنين العشرين من ذي القعدة، في سجنه بالقلعة. ومولده يوم الإثنين عاشر ربيع الأول، سنة احدى وستين وستمائة. ومات الأمير سيف الدين جوبان المنصور أحد أمراء دمشق الأكابر، بها في العشرين من صفر.
ومات الأمير سيف الدين بكتمر البوبكري بسجنه من قلعة الجبل، يوم الخميس نصف شعبان.
ومات الأمير جوبان بن تلك بن تداون نائب القان أبي سعيد بن خربندا مقتولاً بهراة، وحمل إلى بغداد، فقدمها في سابع عشرى شوال، وصلي عليه وحمل إلى مكة مع ركب الحاج العراق وطيف به الكعبة، ومضي به إلى المدينة النبوية، فدفن بالبقيع. ومات الشريف كبيشة بن منصور بن جماز بن شيحة أمير المدينة، في أول شعبان قتيلاً. وكانت ولايته بعد قتل أبيه منصور في رابع عشر رمضان سنة خمس وعشرين وسبعمائة، قتله أولاد ودي وكان ودي قد حبس بقلعة الجبل، فولي بعده أخوه طفيل.
ومات الأمير جمال الدين خضر بن نوكاي أخو خوند أردوكين، في ليلة الرابع عشر من رمضان.
ومات الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري بالمراغة من آذربيجان، يوم السبت سابع عشرى شوال، وورد الخبر بموته في حادي عشرى ذي القعدة، فأنعم على ولده أمير علي بن قراسنقر بإمرة طلبلخاناه على عادته بدمشق، وعلى أخيه أمير فرج بن قراسنقر بأمرة عشرة، ورسم بسفرهما من القاهرة إليها.
وتوفي دمرداش بن جوبان بن تلك بن تدوان، ليلة الخميس رابع شوال، وحمل رأسه إلى بوسعيد بن خربندا.
ومات ببغداد مفتي العراق كمال الدين عبدا لله بن محمد بن علي حماد بن ثابت الواسطي العاقولي مدرس المستنصرية، في ذي القعدة. ومولده في سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
سنة تسع وعشرين وسبعمائةأهلت والسلطان بسرياقوس.
وفي يوم السبت ثاني المحرم: قدم الفخر ناظر الجيش من الحجاز.
وفيه قدم بدر الدين بن علاء الدين بن الأثير كاتب السر، وقد اشتد بأبيه مرض الفالج وانقطع عن الخدمة، فخلع عليه وجلس في رتبة أبيه، وباشر وفي ظنه أنه يستقر عوضه. فخرج البريد بطلب محيي الدين بن فضل الله كاتب سر دمشق، فقدم ومعه ولده شهاب الدين أحمد وشرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود، وخلع على محيي الدين خلعة كتابة السر بديار مصر، عوضاً عن ابن الأثير، وعلى شرف الدين بكتابة السر بدمشق، عوضاً عن محيي الدين، في يوم الأحد سابع عشره.
وفي ثالث عشره: استقر بيبرس الجمدار في ولاية إسكندربة، عوضاً عن الركن الكركي.
وفي يوم الأحد رابع عشريه: قدم الأمير أيتمش المحمدي من بلاد العراق، بجواب القان أبي سعيد.
وفيه أنعم على الأمير علم الدين سنجر الجاولي بإمرة أمير علي بن قراسنقر المنتقل إلى دمشق، وكان الجاولي منذ خرج من السجن بطالاً.
وفيه أنعم على لاحين الخاصكي بإمرة طبلخاناه، عوضاً عن محمد بيه بن جمق بحكم عوده إلى بلاد التتار.
وفي يوم السبت سابع صفر: قدمت رسل أبي سعيد، وجهزوا إلى المنوفية للقاء السلطان، فأدوا رسالتهم وعادوا إلى قلعة الجبل.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره: قدم السللطان من الصيد سالماً.
وفي يوم الإثنين أول شهر ربيع الأول: أعيد شمس الدين بن قزوينة إلى نظر الدواوين على عادته، وأضيف ما كان بيده من نظر البيوت إلى مجد الدين إبراهيم بن لفيتة، مع ما بيده من نظر الدواوين، وخلع عليهما.
وفيه رسم بخروج علي وفرج ولدي قراسنقر، فسارا إلى دمشق، وقدماها في ثالث ربيع الآخر.
وفي خامس ربيع الآخر: استقر صلاح الدين يوسف بن داود بن قبجق شاد الدواوين، ثم عزل في سادس عشر شعبان، واستقر في ولاية الجيزة عوضاً عن بلبان الحسني. ونقل بلبان إلى ولاية دمياط، عوضاً عن الكركي.
وفي يوم الإثنين سابع عشر جمادى الأولى : رسم بردم الجب الذي بقلعة الجبل، لما بلغ السلطان أنه شنيع المنظر شديد الظلمة كثير الوطاويط كره الرائحة، وأنه يمر بالمحابيس فيه شدائد عظيمة، فردم وعمر فوقه طباق للمماليك، وكان عمل هذا الجب في سنة احدى وثمانين وستمائة في الأيام المنصورية قلاوون.
وفيه قدمت رسل الشيخ حسن بن الجلايري، وكان الشيخ حسن هذا قد أصبح نائب القان أبي سعيد، وهو ابن عمته وزوج بغداد خاتون بنت جوباني.
وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الآخرة: قدم الأمير سيف الدين أرغون نائب حلب باستدعاء، مخرج الأمير ألمالس الحاجب وتلقاه من قبة النصر خارج القاهرة، وصعد به قلعة الجبل، فأكرمه السلطان وعزاه في ولده، وخلع عليه وأنزله في داره على الكبش. وطلب أرغون شرف الدين الخطير ناظر ديوانه، وسأله عن أمواله وغلاله وحواصله، فأسر له بأن السلطان لم يبق له منها إلا القليل، فسكت ثم استدعاه السلطان يوم الخميس سادس عشريه، وخلع عليه وأعاده إلى حلب.
وفي يوم الأحد تاسع عشريه: قدمت رسل أبي سعيد في طلب المصاهرة ومعهم اثنا عشر إكديشاً بجلال جوخ، واثنان عري.
وفي عاشر شهر رجب: قدم الأمير سيف الدين طينال الحاجب نائب طرابلس بسؤاله ليحاقق شكاته، ومعه هدية، فوقف وحاققهم، وساعده الأمراء إلى أن عاد إلى طرابلس في خامس عشريه.
وفي يوم الأحد حادي عشريه: رسم بعزل المجد بن لفيتة، فعزل من نظر الدواوين ونظر الصحبة ونظر البيوت، وعزل أيضاً ابن قروينة من نظر الدواوين. واستقر عوضهما في نظر الدولة علم الدين إبراهيم بن التاج إسحاق، وتقي الدين عمر بن الوزير شمس الدين محمد بن السلعوس وكان يلي صحابة ديوان دمشق، فأحضر منها في ثامن عشره، وخلع عليهما. واستقر في نظر خزانة تاج الدين موسى بن التاج اسحاق، عوضاً عن أخيه علم الدين. فباشر العلم وتقي الدين بن السلعوس النظر مع الأمير مغلطاي الجمالي الوزير - وكان أمره في الوزارة ضعيفاً - إلى يوم الأحد ثاني شوال، ثم رسم بتوفير الوزارة فتوفرت، واستمر الجمالي في الأستادارية على عادته. وسبب ذلك توقف حال الدول من قلة الواصل، وكثرة إغراء الفخر ناظر الجيش والتاج إسحاق بن القماط ناظر الخاص السلطان بالجمالي لكراهتهما في المجد بن لفيتة، فإنه كان قد استولى على الجمالي حين صار أمر الوزارة إليه، وكتبت فيه مرافعات أنه أخذ مالاً كثيراً وتولى الأمير أيتمش الكشف عليه. فلما ولي العلم بن التاج النظر، وباشر موسى الخاص نيابة عن أبيه، صار العلم يكتب كل يوم أوراقاً بالجاري ثم يرفعها للسلطان مما تحصل وانصرف، ويدخل بها إليه ومعه ابن السلعوس رفيقه، وابن هلال الدولة الشاد. فانحصر المباشرون، ومشت أمور الدولة بمرسوم السلطان على ما يقرره، وحمل مال الجيزة بكماله إلى خزانة الخاص، ولم يصرف منه شيء.
وفي ثاني عشريه: تولى قشتمر المحلة.
وفي خامس عشريه: أنعم على آقبرس بن علاء الدين طيبرس بإقطاع الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي الحاجب، بعد موته بدمشق، فتوجه إليها.
وفي يوم الإثنين ثالث شوال: استقر علاء الدين أيدمر العلائي عرف بالزراق وفي ولاية القاهرة، عوضاً عن قدادار عند توحهه إلى الحجاز.
وفيه أيضاً استقر علاء الدين ابن هلال الدولة شاد الدواوين، مضافاً لشد الخاص.
وفي سادسه: عزل صلاح الدين الدوادار عن الجيزة، واستقر من جملة الأمراء وولي الجيزة جمال الدين يوسف الجاكي والي الشرقية، واستقر في الشرقية عوضه الحسام طرنطاي القلنجقي.
وفي يوم الأحد نصف ذي القعدة: جلس السلطان بالميدان تحت القلعة، وعرض الكتاب بدواوين الأمراء. وطلب السلطان المجد بن لفيتة وابن قزوينة الناظرين المنفصلين، والمكين بن قزوينة مستوفي الصحبة، وأمين الدين موط مستوفي الخزانة، ورسم عليهم وسلمهم إلى الأمير الدمر حاندار ليخلص منهم ستمائة ألف درهم انساقت باقيا بالجيزة.
فحمل ألدمر من جهة قشتمر والي الجيزة مبلغ مائتي درهم، ومن ابن سقرور مستوفي الجيزة زيادة على سبعين ألف درهم. ورسم السلطان بقطع أخباز المشدين على الجهات بأسرهم، وقرر عوضهم. وأحضر السلطان مشايخ الجيزة، وكتب عليهم سجلات أراضيها بحضوره، ولم يسمع بهذا فيما سلف. ثم أفرج السلطان عن الناظرين المنفصلين والمستوفين، بعدما استخرج منهم بعض ما قرر عليهم.
وفيها رسم للحاجب أن يتقدم بألا يباع مملوك تركي لكاتب ولا عامي ومن وجد عنده منهم مملوك فليبعه، ومن عثر عليه بعد ذلك أن عنده مملوكا طولع به السلطان، فباع الناس مماليكهم، وأخفوا بعضهم.
وفيها عرض السلطان مماليك الطاق والبرانيين، وقطع منهم مائة وخمسين وأخرجهم من يومهم، ففرقوا بقلاع الشام.
و فيها صرف شهاب الدين أحمد بن المهمندار عن نقابة الجيش، بالأمير عز الدين أيدمر دقماق.
وفيها قتل الأمير تنكز نائب الشام الكلاب بدمشق، فتجاوز عدد ما قتل منها خمسة
ومات في هذه السنة من الأعيانالأمير سعد الدين سعيد بن أمير حسين، في ثامن عشر المحرم، وأنعم بإمرته على تكلان.
ومات الأمير غرس الدين خليل بن الإربدي أحد أمراء العشرات، في سادس صفر، وأنعم بإمرته على أياجي الساقي.
ومات الأمير الكبير شرف الدين حسين بن أبي بكر بن إسماعيل بن جندو باك الروم في سادس المحرم، قدم صحبة أبيه إلى مصر في سنة خمس وسبعين وستمائة في الأيام الظاهرية بيبرس في جملة من قدم من أهل الروم، بعد ما كان أبوه أمير جندار متملك الروم فترقى حتى نادم الأفرم نائب دمشق، فأنعم عليه بإمرة فلما قدم الناصر محمد بن قلاون دمشق من الكرك، وتحرك لأخذ السلطنة كان الأمير شرف الدين حسين ممن سار في خدمته إلى مصر، فنوه به وأعطاه أمرة، ثم قرره أمير شكار بعد وفاة كشرى وأعجب به، وإليه ينسب جامع أمير حسين وقنطرة أمير حسين على الخليج خارج القاهرة، قريباً من بستان العدة.
ومات الأمير علاء الدين علي بن الكافري والي قوص وولي عوضه غرس الدين خليل أخو طقصباي الناصري.
ومات سنجر الأيدمري أحد العشرات، في ثالث عشر ربيع الأول، وأنعم بإمرته على ساطلمش الناصري.
ومات الأمير سيف الدين بكتمر الحسامي المعروف بالحاحب، في يوم الأربعاء حادي عشريه ربيع الآخر، فأنعم على ولده ناصر الدين محمد بإمرة عشرة، وسنه يومئذ ثلاث عشرة سنة، وفرق إقطاعه بين جماعة: فكمل منه للامير طرغاي الجاشنكير تقدمة ألف. وأنعم منه على صلاح الدين يوسف بن الأسعد بناحية جوجر واستقر شاد الدواوين وأنعم منه على الأمير قوصون بمنية زفتا وكان بكتمر هذا من جملة مماليك الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة المنصورية قلاوون، أخذه في سنة خمس وسبعين وستمائة فيما أخذ من مماليك السلطان غياث الدين كيخسرو متملك الروم، عندما دخل الظاهر بيبرس إلى مدينة قصرية الروم واستولى عليها، فصار بكتمر إلى طرنطاي وهو حينئذ مملوك الأمير سيف الدين قلاوون فرباه وأعتقه، فلما قتل طرنطاي صار بكتمر إلى الأشراف خليل بن قلاوون، فرتبه في جملة الأوشاقية بالإصطبل السلطاني، ثم نقله المنصور لاجين وعمله أمير أخور صغيراً، ثم أنعم عليه بإمرة عشرة بعد وفاة الفاخري ومازال بكتمر يترقى حتى ولي الوزارة والحجوبية ونيابة غزة ونيابة صفد في الأيام الناصرية، وإليه تنسب مدرسة الحاجب، ودار الحاجب، خارج باب النصر من القاهرة، وكان بكتمر من أغنياء الأمراء الكثري المال المعروفين بالشح.
وتوفي ضياء الدين أحمد بن إبراهيم بن فلاح بن محمد الإسكندراني المصري في يوم الأربعاء تاسع عشر شعبان، ومولده في نصف ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وستمائة سمع من ابن عبد الدائم والمجد بن عساكر وابن أبي اليسر وجماعة.
وتوفي عز الدين أبو يعلى حمزة بن المؤيد أبي المعالي بن المظفر بن أسعد بن حمزه بن أسد بن علي بن محمد بن القلانسي، بدمشق، سمع الحديث وصار رئيس الشام، وولى وزارة دمشق.
وتوفي الأديب سعد الدين سعيد بن منصور بن إبراهيم الحراني المصري بمصر وله شعر جيد.
وتوفي الشيخ جلال الدين أبو بكر عبدا لله بن يوسف بن إسحاق بن يوسف الأنصاري الدلاصي إمام الجامع الأزهر، بالقاهرة عن بضع وثمانين سنة وكان يعتقد فيه الخير ويتبرك بدعائه.
وتوفي قاضي القضاة بدمشق علاء الدين أبو الحسن علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي الشافعي في يوم السبت رابع عشر ذي القعدة، ودفن بسفح قاسيون، قدم من بلاد الروم إلى دمشق في سنة ثلاث وتسعين وستمائة، فدرس بها مدة، ثم توجه إلى القاهرة فسكنها، وولي مشيخة الشيوخ بخانكاه سعيد السعداء، وتصدى للاشتغال بالعلم، وصنف شرح الحاوي في الفقه وغيره، ثم ولي قضاء دمشق فباشره حتى مات بها، وولي بعده قضاء دمشق علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى الأخنائي.
وتوفي نجم الدين محمد بن عقيل بن أبي الحسن بن عقيل البالسي الشافعي بمصر، ناب في القضاء، ودرس وشرح التنبيه في الفقه، وكان معتقداً فيه الخير.
وتوفي جمال الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الواسطي الأشموني المولد والدار عرف بالوجيزي لقراءته كتاب الوجيز في الفقه، ولي قضاء الجيزة وقليوب، ومات في رجب، وهو أحد مشايخ الفقهاء الشافعية.
وتوفي معين الدين هبة الله بن علم الدين مسعود بن عبدالله بن حشيش صاحب ديوان الجيش. بمصر يوم الإثنين سادس عشر جمادى الآخرة، كان بارعاً في الفقه والنحو واللغة والأدب، كريماً له شعر جيد، ومولده سنة ست وستمائة.
وتوفي الأمير حسام الدين لاجين الصغير، بقلعة البيرة، ولي نيابة غزة، ثم نيابة البيرة، وبها مات.
وتوفي الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الكريم بن أبي المعالي المصري بحماة، تنقل في عدة ولايات، وكان جواداً كريماً كثيرا المال ممدوحاً.
وتوفي فتح الدين أبو النون يونس بن إبراهيم بن عبد القوي بن قاسم الكناني العسقلاني المعروف بالدبوسي المسند المعمر، بالقاهرة في جمادى الأولى وقد جاوز التسعين سنه حدث عن جماعة تفرد بالرواية عنهم.
وتوفي الأمير عز الدين أيبك الخطيري أمير أخور، في ثالث عشري ذي القعدة.
وتوفي الأمير غرلوا الركني بقوص في ثالث ربيع الآخر.
وتوفي الأمير ساطلمش الفاخر في ثالث ذي الحجة، وأنعم بإمرته على كوجبا الساقي.
وتوفي الأمير لاجين الإبراهيمي أمير جاندار، في تاسع عشرى ذي الحجة، وأنعم بإمرته على برسبغا.
وتوفي ناصر الدين محمد بن حنا في يوم السبت حادي عشر ذي الحجة.
وتوفي الطواشي نصر شيخ الخدام بالمدينة النبوية ومقدم المماليك السلطانية، يوم الخميس عاشر رجب واستقر عوضه في المشيخة وتقدمة المماليك الطواشي عنبر السحرتي وكانت مدة تقدمته تسعة أشهر.
ومات عز الدين القيمري في يوم السبت حادي عشرى ذي القعدة.
سنة ثلاثين وسبعمائةأهلت بيوم الأربعاء، والسلطان بناحية سرياقوس، وكان مسيرة إليها في سابع عشرى ذي الحجة.
وفيه قدم الأمير تنكز نائب الشام، فبالغ السلطان في إكرامه ورفع منزلته على عادته وفي يوم السبت: رابعه استقر علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدر بن رحمة الأخناني قاضي الإسكندرية في قضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن علاء الدين على القونوي واستقر عوضه في قضاء الإسكندرية علم الدين الإسنوي.
وفي سادسه: استقر الأمير بكتمر العلائي الأستادار في نيابة غزة، وسار إليها، عوضاً عن عز الدين أيبك الجمالي، ونقل أيبك إلى نيابة قلعة البيرة، عوضاً عن لاجين الحسامي المنصوري بحكم وفاته. وأنعم على بهادر الدمرداش بإقطاع الأمير بكتمر نائب غزة.
وفي رابع عشره: توجه الأمير تنكز إلى دمشق، بعدما أنعم عليه السلطان بمائة ألف درهم، وكتب له على الأعمال السامية بمائة ألف أخرى.
وفي عشريه: قدم الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة، فأكرمه السلطان وخلع عليه وعلى ولده.
وفي تاسع صفر: توجه السلطان إلى جهة الصعيد، وصحبته صاحب حماة، فخيم قريباً من الأهرام، وعاد في ثالث عشره، من أجل وعك بدنه، لظهور دمل في جسده. وأقام السلطان بقلعة الجبل إلى حادي عشريه، ثم سار فمر ببلاد الصعيد.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول: جمع الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك القضاة والفقهاء، بسبب عمل منبر بالمدرسة الصالحية بين القصرين من القاهرة لإقامة الجمعة بها، فأفتوه بجواز ذلك، فرتب آقوش خطيباً قرر له في كل شهر خمسين درهماً، ورتب ستة نفر عملهم مؤذنين، لكل واحد عشرة درهم في كل شهر، ولقارئ يقرأ القرآن الكريم يوم الجمعة في مصحف أعده له مبلغاً سماه، وأقيمت الخطبة بها في يوم الجمعة حادي عشريه، فكان يوماً مشهوداً.
وجعل آقوش المعاليم المذكورة من عقار وقفه على ذلك. وفي هذا الشهر تصدق الأمير المذكور بنحو ثلاثة ألاف أردب من الغلال.
وفي خامس ربيع الآخر: عاد السلطان إلى قلعة الجبل، بعد أن انتهى في مسيره إلى هدينة هو من الصعيد الأعلى.
وفي ثامنه: سار المؤيد صاحب حماة من ظاهر القاهرة عائداً إلى حماة.
وفي خامس عشريه: سار السلطان إلى نواحي قليوب يريد الصيد، فبينا هو في ذلك اذ تقنطر عن فرسه وانكسرت يده وغشي عليه ساعة وهو ملقى على الأرض، ثم أفاف وقد نزل إليه الأمير أيدغمش أمير أخور والأمير قماري أمير شكار وأركباه، فأقبل الأمراء بأجمعهم إلى خدمته وعاد السلطان إلى قلعة الجبل في عشية الأحد ثامن عشريه، فجمع الأطباء والمجبرين لمداواته، فتقدم رجل من المحبرين يعرف بابن بوستة وقال بجفاء وعامية طباع: " تريد تفيق سريعاً اسمع مني. فقال له السلطان: " قل ما عندك " ، فقال: " لا تخل أحداً يداويك غيري بمفردي وإلا فسد حال يدك مثل ما سلمت رجلك لابن السيسي أفسدها. وأنا ما أخلي شهراً يمضي حتى تركب وتلعب بيدك الأكرة. فأغضى السلطان عن جوابه، وسلم إليه يده، فتولى علاجه بمفرده، فبطلت الخدمة مدة سبعة وثلاثين يوماً.
ثم عوفي السلطان، فزينت القاهرة ومصر في يوم الأحد رابع جمادى الآخرة، وتفاخر الناس في الزينة بحيث لم تعهد زينة مثلها، وأقامت أسبوعاً تفنن أهل البلدين فيه بأنواع الترف. ونزلت ست حدق في عدة من الخدام والجواري حتى رأت الزينة، وقد اجتمع أرباب الملاهي في عدة أماكن بجميع آلات المغني. هذا والأفراح بالقلعة وسائر بيوت الأمراء مدة الأسبوع، ومع هذا فالبشائر من ضرب الكوسات مستمرة، وكذلك طبلخاناه الأمراء، فلم يبق أمير إلا وعمل في بيته فرحاً. وأنعم السلطان وخلع على كثيرين من أرباب الوظائف من الأمراء والمماليك السلطانية.
ثم خرج السلطان إلى القصر الأبلق، وفرق مثالات على الأيتام، وعمل سماطاً جليلاً، وخلع على جميع أرباب الوظائف. وأنعم السلطان على المجبر بعشرة ألاف درهم، ورسم له أن يدور على جميع الأمراء، فلم يتأخر أحد من الأمراء عن إفاضة الخلع عليه وإعطائه المال، فحصل له ما يجل وصفه، وكانت هذه الأيام مما يندر وقوع مثله.
وفي خامس عشره: قدمت رسل ريدافرنس في طلب القدس وبلاد الساحل، وعدتهم مائة وعشرون رجلاً، فأنكر السلطان عليهم وعلى مرسلهم وأهانهم، ثم رسم بعودهم إلى بلادهم.
وفيه: سار الأمير أقبغا عبد الواحد إلى البلاد الشامية يبشر بعافية السلطان، فدقت في جميع ممالك الشام البشائر، وعملت بها الأفراح وحصل لأقبغا من سائر أصناف المال ما يجل وصفه، بحيث بلغت قيمته نحو مائة ألف دينار.
وفيه: عزل علم الدين الإسنائي عن قضاء الإسكندرية، لمضادته الأمير ييربر الجمدار نائب الثغر.
وفي يوم الإثنين سادس عشريه: أفرج عن الأمير سيف الدين بهادر المعزى وأنعم عليه بخيل وثياب، بعدما أقام في الاعتقال خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً. فلما ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين بهادر آص، وأنعم بتقدمته بدمشق على الأمير علم الدين سنجر الجمقدار، وأخرج إلى دمشق، وأنعم على بهادر المعزى بإقطاع سنجر المذكور.
وفي هذه المدة وقع بدمشق اضطراب في عيار الذهب، فإنه تغير ونقص، وغرم الناس فيه جملة كثيرة. وصادر الأمير تنكز أهل دار الضرب، وأخذ منهم خمسائة ألف درهم، وتقرر سعر الدينار من تسعة عشر درهماً إلى أحد وعشرين درهماً، وأن يكون صرف الدينار الجديد بخمسة وعشرين درهماً.
وفي العشرين من شهر رجب: قدمت رسل أبي سعيد بن خربند للهناء بعافية السلطان، فأكرموا وأعيدوا في سابع عشريه. وقدمت أيضاً رسل الشيخ حسن الجلايري نائب أبي سعيد بعد رحيل المذكورين، فأدوا رسالتهم وأعيدوا في آخره.
وفي هذا الشهر: أحرقت كنيسه الممكية بمصر، حتى صارت عمدها الرخام جيراً، وكان بجانبها مسجد لم تصبه النار، فرسم للنصارى بإعادتها، فأعيدت.
وفيها اشترى الأمير قوصون دار الأمير آقوش الموصلي الحاحب عرفت بدار آقوش نميلة ثم عرفت بدار الأمير جمال الدين آقوش قتال السبع من أربها، واشترى قوصون أيضاً ما حولها، وهدم ذلك وشرع في بناء جامع فبعث إليه السلطان بشاد العمائر والأسرى لنقل الحجارة ونحوها، فتنجزت عمارته. وجاء الجامع من أحسن المبان وهو بحارة المصامدة خارج باب زويلة، قريباً من بركة الفيل وولي بناء منارتيه رجل من أهل توريز، أحضره معه الأمير أيتمش، فعملهما على منوال مأذن توريز. ولما كمل بناء الجامع أقيمت الجمعة به في يوم الجمعة حادي عشر شهر رمضان، وخطب به يومئذ قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني وخلع عليه الأمير قولون بعد فراغه وأركبه بغلة، ثم استقر في خطابته فخر الدين محمد بن شكر. وفيها قصد الأمير قوصون أن يتملك حمام قتال السبع وهي الحمام المجاورة في وقتنا هذا لباب الجامع الذي يدخل إليه من الشارع، وكانت من وقف قتال السبع فاحتالوا لحل وقفها بأن هدموا جانباً منها، وأحضروا شهوداً قد بينوا معهم ذلك ليكتبوا محضراً بأن الحمام خراب لا ينتفع به، وهو يضر بالدار والمار والخط، والمصلحة في بيع أنقاضه، ليؤدي هذه الشهادة عند قاضي القضاة تقي الدين أحمد بن عمر الحنبلي حتى يحكم بيعه على مقتضي مذهبه فعندما شرع الشهود في كتابة المحضر المذكور امتنع أحدهم من وضع خطه فيه، وقال: والله ما يسعني من الله أن أدخل باكر النهار في هذا الحمام وأتطهر فيه وأخرج وهو عامر، ثم أشهد بعد ضحوة نهار أنه خراب " ، وانصرف، فاستدعي غيره، فكتب وأثبت المحضر على الحنبلي. فابتاع الأمير قوصون الحمام المذكور من ولد قتال السبع، وجدد عمارته.
وفي ذي الحجة: استقر الأمير بدر الدين بيلبك المحسني في ولاية القاهرة، عوضاً عن أيدمر الزراق.
وفي يوم الخميس سابع عشر رمضان: قدم يوسف الكيمياوي إلى مصر. وكان من خبر هذا الرجل أنه كان نصرانياً من أهل الكرك فأسلم، ومضى إلى دمشق بعدما خدع بمدينة صفد الأمير بهادر التقوى حتى انخدع له وأتلف عليه مالاً جزيلاً، فلما ظهر له أمره سجنه مدة، ثم أفرج عنه. فاتصل يوسف بالأمير تنكز نائب الشام، وقصد خديعته فلم ينخدع له، وأمر والي دمشق بشنقه، فصاح وقال: " أنا جيت للسلطان حتى أملأ خزانته ذهباً وفضة " . فلم يجد تنكز بداً من إرساله إلى السلطان، فقيده وأركبه البريد مع بعض ثقاته، وكتب بخبره وحذر منه. فلما اجتمع يوسف بالسلطان مال إلى قوله، وفك قيده، وأنزله عند الأمير بكتمر الساق وأجري عليه الرواتب السنية، وأقام له عدة من الخدم يتولون أمره، وخلع عليه، وأحضر له ما طلب من الحوائج لتدبير الصنعة، حتى تم ما أراده. فحضر يوسف بين يدي السلطان، وقد حضر الفخر ناظر الجيش والتاج اسحاق وابن هلال الدولة والأمير بكتمر الساقي في عدة من الأمراء، والشيخ إبراهيم الصائع وعدة من الصواغ، فأوقدوا النار على بوطقة قد ملئت بالنحاس والقصدير والفضة حتى ذاب الجميع، فألقي عليه يوسف شيئاً من صنعته، وساقوا بالنار عليها ساعة، ثم أفرغوا ما فيها فإذا سبيكة ذهب كأجود ما يكون، زنتها ألف مثقال فأعجب السلطان ذلك إعجاباً كثيراً، وسر سروراً زائداً، وأنعم على يوسف بهذه الألف مثقال، وخلع عليه خلعة ثانية، وأركبه فرساً مسرجاً ملجماً بكنبوش حرير، وبالغ في إكرامه، ومكنه من جميع أغراضه. فاتصل به خدام السلطان، وقدموا له أشياء كثيرة مستحسنة، فاستخف عقولهم حتى ملكها بكثرة خدعه، فبذلوا له مالاً جزيلاً. ثم سبك يوسف للسلطان سبيكة ثانية من ذهب، فكاد يطير به فرحاً، وصار يستحضره بالليل ويحادثه، فيزيده طمعاً ورغبة فيه، فأذن له أن يركب من الخيول السلطانية ويمضي حيث شاء من القاهرة ومصر، فركب وأقبل على اللهو، وأتاه عدة من الناس يسألونه في أخذ أموالهم، طمعاً في أن يفيدهم الصنعة أو يغنيهم منها، فمرت له أوقات لا يتهيأ لكل أحد مثلها من طيبتها. ثم إنه سأل أن يتوجه إلى الكرك، لإحضار نبات هناك، فأركبه السلطان البريد، وبعث معه الأمير طقطاي مقدم البريدية، بعدما كتب إلى نائب عزة ونائب الكرك بخدمته وقضاء ما يرسم به والقيام بجميع ما يحتاج إليه من ديوان الخاص، فمضى يوسف إلى الكرك وأبطأ خبره، ثم قدم وقد ظهر كذبه للسلطان، فضيق عليه.
وفي تاسع عشر شوال: قدمت رسل الملك المجاهد على من اليمن بهدية، وفيها فيلان، فأنكر السلطان عليهم من أجل أن المجاهد قبض على رسول ملك الهند وأخذ هدية السلطان ثم قتله، وأمر بهم فسجنوا.
وفي ليلة السبت سادس عشر ذي القعدة: أخرج السلطان من في القاهرة ومصر من الجذمى والبرصان، وأمرهم بسكنى الفيوم.
وفيه: أخرب الأمير تنكز نائب الشام الحوانيت المجاورة لباب النصر خارج دمشق من ضيق الطريق، حتى وصل الهدم إلى الجسر تجاه البحر، وحفر حتى أخرج الأساسات، فصار فضاء.
وفيه: جدد الأمير قوصون خطته بالجامع بخط المصلى.
وفيه: ابتدأ الأمير ألماس الحاجب بعمارته الجامع الذي عرف باسمه، بخط حوض ابن هنس خارج باب زويلة من القاهرة.
وفيه: ابتدأ الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي في عمارة مدرسة بجوار داره، قريباً من درب ملوخيا بالقاهرة، ووقف عليها أوقافاً جليلة.
وفيه ابتدا علاء الدين طقطاي أحد مماليك السلطان في عمارة جامع بين السورين من القاهرة، وسماه جامع التوبة، لكثرة ما كان هناك من الفساد، وأقام به خطبة للجمعة.
وفي يوم الأربعاء خامس ذي الحجة: استقر ناصر الدين بن المحسني في ولاية القاهره، وقد نقل إليها من ولاية المنوفية، عوضاً عن عز الدين الزراق.
وفي يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة، قتل الأمير الدمر أمير جندار بمكة وكان من خبر ذلك أن أمير الركب العراقي في هذه السنة كان من أهل توريز يعرف بمحمد الحجيج، وكان يتقرب من أولاد جوبان، فترقى بهم إلى معرفة السلطان بورسعيد، فعظم أمره وجعله من ندمائه، وبعثه رسولا إلى مصر غير مرة. فأعجب به السلطان الناصر ولاق بخاطره إلى أن بلغه عنه أنه تعرض في مجلس أبي سعيد لشيء ذكر مما يكرهه السلطان فتنكر له وأسر ذلك في نفسه، فلما بلغه أنه سار أمير الركب العراقي كتب إلى الشريف عطفة بن أبي نمى سر ان يتحيل في قتله، فلم يجد عطيفة بداً من امتثال ما أمر به، وأطلع ولده مبارك بن عطيفة ومن يثق به على ذلك، وتقدم إليهم بأعمال الحيلة فيه.
فلما قضى الحاج النسك عاد منهم الأمير علم الدين سنجر الجاولي إلى مصر، ومعه جماعة، في يوم الأربعاء ثاني عشر ذي الحجة. وتأخر الأمير سيف الدين خاص ترك أمير الحاج، والأمير الدمر جاندار، والأمير أحمد ابن خالة السلطان، ليصلوا بمكة صلاة الجمعة، ومعهم بقية حجاج مصر. فلما حضروا للجمعة وصعد الخطيب المنبر، أراد الشريف عمل ما رسم له به، وأخذ العبيد في إثارة الفتنة بين الناس ليحصل الغرض بذلك. وأول ما بدأوا به أن عبثوا ببعض حاج العراق، وخطفوا شيئاً من أموالهم. وكان الشريف عطيفة جالساً إلى جانب الأمير خاص ترك أمير الركب، فصرخ الناس بالأمير ألدمر وليس عنده علم بما كتب به السلطان إلى الشريف عطيفة، وكان مع ذلك شجاعاً حاد المزاج قوي النفس، فنهض ومعه من المماليك، وقد تزايد صراخ الناس، وأتى الشريف وسبه، وقبض بعض قواده و أخرق به، فلاطفه الشريف فلم يلن. واشتد صياح الناس، فركب الشريف مبارك بن عطيفة في قواد مكة بآلة الحرب، وركب جند مصر. فبادر خليل ولد الأمير ألدمر وضرب أحد العبيد، فرماه العبد بحربة قتله، فاشتد حنق أبيه وحمل بنفسه لأخذ ثأر ولده فقتل. ويقال بل صدف الشريف مبارك بن عطيفة، وقد قصد ركب العراق وعليه آلة حربه، فقال له. " ويلك تريد أن تثير فتنة، وهم أن يضربه بالدبوس، فضربه مبارك بحربة كانت في يده أنفذها من صدره فخر صريعاً، وقتل معه رجلان من جماعته. فركب أمير الركب عند ذلك ونجا بنفسه، ورمي مبارك بن عطيفة بسهم في يده فشلت. واختبط الناس بأسرهم، وركب أهل مكة سطح الحرم، ورموا أمير أحمد ابن خالة السلطان ومن معه بالحجارة، وقد أفرغ نشابه بين يديه هو ومن معه، ورمي بها حتى خلص أيضاً، وفر أمير ركب العراق وتحير الشريف عطيفة في أمره، ومازال يداري الأمر حتى خرج الحاج بأجمعهم من مكة، وتوجهوا إلى بلادهم.
وكان من غريب الاتفاق أن في يوم الجمعة الذي قتل فيه ألدمر كأنما نودي في القاهرة ومصر وقلعة الجبل بقتل ألدمر في فتنة كانت بمكة في هذا اليوم، وتحدث الناس بذلك حديثاً فاشياً إلى أن بلغ السلطان وأمراء الدولة. فلم يعبأوا به وجعلوه من ترهات العامة.
وأغرب من ذلك أن الأمير علم الدين سنجر كان كاشفاً بالغربية من نواحي القاهرة، فلما عاد منزله بعد صلاة عيد الأضحى وافاه أحد غلمانه وقد حضر اإيه من القاهرة، فأخبره أنه أشيع بالقاهرة أن فتنة كانت بمكة قتل فيها الأمير ألدمر أمير جندار، فسخر من قوله وقال: " هذا كلام لا يقبله عاقل، وأخذ الخبر ينتشي حتى تحدث به كل أحد.
واتفق في هذه السنة أنه وصل صحبة حاج العراق فيل من جهة الملك أبي سعيد يحمل محملهم، فتشاءم الناس به وقالوا: " هذا عام الفيل، فكان من الفتنة بمكة وقتل ألدمر ما كان. فلما قارب حاج العراق ذا الحليفة من المدينة النبوية وقف الفيل وتقهقر، فضربوه ليسير، فصار كلما أكره على أن يتقدم إلى جهة المدينة تأخر إلى ورائه. هذا وهم يضربونه وهو يتأخر إلى أن سقط ميتاً، وذلك في ثالث عشرى ذي الحجة. ويقال إنه بلغت الثفقة على هذا الفيل منذ خرج من العراق إلى أن هلك زيادة على ثلاثين ألف درهم، ولم يعرف مقصد أبي سعيد في بعثه الفيل إلى مكة.
وفيها نقل شمس الدين محمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن نجد بن حمدان الشهير بابن النقيب الشافعي من قصاء طرابلس إلى قضاء القضاة بحلب، عوضاً عن فخر الدين عثمان بن محمد بن عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله بن المسلم المعروف بابن البارزي بعد وفاته، واستقر في قضاء طرابلس شمس الدين محمد بن المجد. وفيها بلغت زيادة ماء النيل عشرة أصابع من ثمانية عشر ذراعاً. وكان وفاؤه يوم الأحد خامس عشرى شوال، وهو تاسع عشر مسرى.
ومات في هذه السنة ممن له ذكرأحمد بن أبي طالب بن أبي النعم بن نعمة بن الحسن بن علي المعروف بابن السحنة الحجار الصالحي الدمشقي في خامس عشرى صفر، ومولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وقد صار مسند الدنيا، وتفرد بالرواية عن ابن الزبيدي وابن الليثي مدة سنتين لا يشاركه فيها أحد، وسمع الناس عليه صحيح البخاري أكثر من سبعين مرة، وقدم القاهرة مرتين وحدث بها.
وتوفي الأمير سيف الدين بهادر آص أحد أمراء الألوف، بدمشق في تاسع عشر صفر، وأنعم بإقطاعه على الأمير سنجر الجمقدار، وكان شجاعاً مقداماً في الحرب، ولي نيابة صفد، وكان له أربعة أولاد، منهم اثنان أمراء، فكان يضرب على بابه ثلاث طبلخاناه.
وتوفي الأمير سيف الدين بلبان الكوندي المهمندار الدوادار بدمشق في نصف جمادى الأولى وكان أحد الأمراء العشروات.
وتوفي الأمير سيف الدين بلبان الصرخدي الظاهري أحد أمراء الطبلخاناه، بالقاهرة في العشرين من جمادى الآخرة، وقد تجاوز الثمانين، وكان خيراً.
وتوفي الأمير قلبرص بن الحاج طيبرس الوزيري بدمشق ليلة الجمعة ثامن ذي القعدة.
وتوفي الأمير سيف الدين بلبان الجمقدار المعررف بالكركند، في سابع ربيع الآخر، كان من كبار الأمراء.
وتوفي الأمير سيف الدين بلبان الكوندكي أحد أمراء دمشق، في سابع عشرى شعبان، وخرج طيبغا حاجي على إقطاعه، وكان جواداً.
وتوفي الأمير سيف الدين ألدمر أمير جندار مقتولاً، بمكة في يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة، وله خارج باب زويلة من القاهرة حمامات، وكانت أمواله جزيلة.
وتوفي القاضي علاء الدين علي ابن القاضي تاج الدين أحمد بن محمد بن سعيد بن الأثير كاتب السر، في يوم الأربعاء خامس عشر المحرم، بعدما أصابه مرض الفالج مدة سنة كاملة، وهو ملازم بيته، وكان ذا سعادة جليلة وحرمة وافرة وجاه عريض، ويضرب به المثل في الحشمة.
وتوفي الوزير شمس الدين أبو القاسم محمد بن سهل بن أحمد بن سهل الأسدي الغرناطي الأندلسي بالقاهرة قافلاً من الحج، وكان صاحب فنون من قراءات وفقه ونحو وأدب وتاريخ.
وتوفي ناصر الدين شافع بن محمد بن علي بن عباس بن اسماعيل الكناني العسقلاني، سبط ابن عبد الظاهر، في سابع عشري شعبان بعدما عمي، وكان أديباً مشاركاً في عدة علوم، وله عدة مصنفات ونظم جيد ونثر مليح، وهو أحد كتاب الإنشاء.
وتوفي سعد الدين محمد بن محمد بن عطايا، في يوم السبت سابع عشرى رمضان، ولي نظر البيوت ونظر الرواتب، ثم ولي الوزارة في أيام بيبرس وسلار، ثم صرفه الملك الناصر لما قدم من الكرك وصادره، فلزم بيته حتى مات.
وتوفي الأمير سيف الدين قدادار والي القاهرة، في سادس عشر صفر وأنعم بإمرته على الأمير طاجار القبجاقي، وأصله من مماليلك الأمير برلغي وترقى إلى أن ولي ولاية الغربية وولاية البحيرة وولاية القاهرة، وتمكن فيها تمكناً زائداً، وكان جريئاً على الدماء، ثم صرف عن ولاية القاهرة بناصر الدين محمد بن المحسن وأقام في داره إلى أن خرج إلى الحج وهو ضعيف، ثم قدم فلزم الفراش حتى مات.
وتوفي الأمير بلبان الديسني في خامس عشر ربيع الأول، وأنعم بأمرته على برلغي. وتوفي الأمير كجكن الساقي في سادس صفر، وأنعم بإقطعاعه على سنقر الخازن. وتوفي الأمير ناصر الدين محمد بن ملكشاه في ثاني عشر صفر، وأنعم بإقطاعه على بكمان.
وتوفي الشيخ شمس الدين محمد بن الروم شيخ خانكاه بكتمر الساقي في يوم الأحد ثالث عشرى ذي الحجة، وولي عوضه الشيخ زاده الدوقاني.
وتوفي الشيخ زين الدين أيوب بن نعمة الكحال البالسي في ذي الحجة، وقد أناف على التسعين، حدث بمصر ودمشق عن المرسي والرشيد العراقي في آخرين، وانفرد في الرواية.
وتوفي ركن الدين عبد السلام بن قطب الدين عبد القادر بن محمد بن أبي صالح نصر بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الكيلاني في أخر جمادى الآخرة بدمشق، قدم القاهرة مراراً، وخالط الأمراء، وكانت له مكارم.
وتوفي فخر الدين أبو عمرو عثمان بن الجمال أحمد بن محمد بن عبدالله الظاهر في رجب، ودفن بزاوية أبيه خارج باب البحر من القاهرة، ومولده سنة سبعين وستمائة سمع الحديث من جماعة كثيرة وحدث.
سنة إحدى وثلاثين وسبعمائةأهلت بيوم الإثنين: وفي ثالث المحرم: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بما وقع بمكة من الفتنة وقتل الأمير ألدمر أمير جندار وولده، فتعجب الناس من صحة ما أشيع بالقاهرة من قتل ألدمر في يوم قتله. فشق على السلطان ذلك، وكتب بإحضار الشريف عطفة أمير مكة وولده وقواده.
وفي ثاني عشره: خلع على الأمير عز الدين أيدمر العلائي الجمقدار المعروف بالزراق، المستقر في ولاية القاهرة، ورسم له أن يكون أمير جندار ثم خلع على الأمير سيف الدين أرنبغا السلحدار، واستقر أمير جندار عوضاً عن ألدمر.
وفي تاسع عشريه: استقر فخر الدين محمد تاج الدين محمد بن مؤتمن الدين الحارث ابن مسكين الشافعي في قضاء الإسكندرية، وتوجه إليها في عاشر ربيع الأول.
وفي المحرم هذا: قدم الحاج، وأخبروا بكثرة الفتن بمكة بين الشريفين عطيفة ورميثة وقوة رميثة على عطيفة ونهبه مكة وخروجه عن الطاعة، وأنه لم يلق ركب الحجاج، فكتب بحضوره. فلما ورد المرسوم بطلب الشريفين إلى مصر اتفقا وخرجا عن الطاعة، فشق ذلك على السلطان، وعزم على إخراج بني حسن من مكة. وتقدم السلطان إلى الأمير سيف الدين أيتمش أن يخرج بعسكر إلى مكة، وعين معه من الأمراء الأمير طيدمر الساقي والأمير أقبغا آص، والأمير أقسنقر، والأمير طرقش والأمير طقتمر الأحمد والأمير طقتمر الصلاح وأربعة عشر من مقدمي الحلقة، وعدة من أعيان أجناد الحلقة. استدعى السلطان الأمير أيتمش بدار العدل، وقال له بحضرة القضاة: " لا تدع في مكة أحداً من الأشراف ولا من القواد ولا من عبيدهم، وناد بها من أقام منهم حل دمه. ثم أحرق جميع وادي نخلة، وألق في نخلها النار حتى لا تدع شجرة مثمرة ولا دمنة عامرة، وخرب ما حول مكة من المساكن، وأخرج حرم الأشراف منها، وأقم بها بمن معك حتى يأتيك عسكر أخر " . فقام في ذلك قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني ووعظ السلطان وذكره بوجوب تعظيم الحرم، إلى أن استقر الأمر على أن كتب لرميثة أمان وتقليد بإمرة مكة. وسار العسكر من ظاهر القاهرة في نصف صفر، وعدتهم سبعمائة فارس.
وفي سابع ربيع الأول: توجه السلطان إلى سرياقوس، فأقام بها أياماً، ثم سار إلى البحيرة والمنوفية، ومضى على الجيزة إلى البهنساوية، وعاد إلى قلعة الجبل في حادي عشر ربيع الآخر.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرى ربيع الأول. استقر شرف الدين أبو محمد عبدالله ابن الحسن بن عبدالله بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي المقدسي الحنبلي في قضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن عز الدين محمد بن سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر بعد وفاته.
وفي مستهل ربيع الآخر: تولى علاء الدين الطويل المنوفية، ثم بطل ذلك، وتولى فخر الدين أياس الدواداري المنوفية في اليوم المذكور.
وفي جمادى عشريه: خلع على ركن الدين الكركر واستقر في ولاية قوص " عوضاً عن غرس الدين خليل أخي طقصبا.
وفي ثالث عشريه: سار السلطان إلى ناحية طنان، وأقام هناك أياماً، ثم عاد إلى الجيزة، فأقام بها عدة أيام. ثم توجه السلطان إلى الحمامات، ثم رجع فدخل قلعة الجبل في رابع جمادى الأولى. وقدم عليه في سفره هذا رسل الملك أبي سعيد بن خربندا.
وفي حادي عشريه أيضاً: استقر الأمير عز الدين أيدمر العلائي المعروف بأستادار ألطبغا الحاجب في ولاية الوجه البحري وكان والي أسيوط ومنفلوط.
وفي يوم الإثنين سابع عشريه: مات الأمير أرغون الدوادار نائب حلب، فخلع على الأمير علاء الدين ألطبغا الصالحي بنيابة حلب في يوم الخميس أخره، وتوجه إليها.
وفي جمادى الأولى: مرض القاضي تاج الدين إسحاق ناظر الخاص.
وتوفي يوم الإثنين أول جمادى الآخر. وترك القاضي تاج الدين من الأولاد علم إبراهيم ناظر الدولة، وشمس الدين موسى وسعد الدين ماجد، بعدما وصي بهم الفخر ناظر الجيش، فتوسط الفخر لهم مع السلطان إلى أن استدعي من الغد شمس الدين موسى وخلع عليه وقرره في نظر الخاص ووكالة السلطان عوضاً عن أبيه، وقد كان ينوب عنه في حياته، وأقر السلطان أخاه علم الدين إبراهيم في نظر الدولة، وأقر علاء الدين بن هلال الدولة في شد الدواوين وشد الخاص، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.
و فيه استقر علاء الدين محمد بن نصر الله الجوحري شاهد الخزانة فيما كان بيد شمس الدين موسى قبل ولايته نظر الخاص.
و فيه استقر جمال الدين يوسف أخو قنغلي في ولاية الشرقية، بسفارة الأمير بكتمر الساقي، واستقر أخوه شجاع الدين قنغلي في ولاية البهنساوية.
وفي يوم السبت سادسه: خلع على عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، واستقر في وكالة السلطان عوضاً عن التاج إسحاق ناظر الخاص بعد وفاته.
وفي سابع جمادى الآخرة: قدم الأمير أيتمش بالعسكر المجرد إلى مكة، فكانت مدة غيبتهم أربعة أشهر تنقص ثمانية أيام. وكان من خبرهم أنهم لما قدموا مكة كان الشريف رميثة قد جمع عرباً كثيرة يريد محاربتهم، فكتب إليه الأمير أيتمش يعرفه بأمان السلطان له وتقليده إمرة مكة، ويحثه على الحضور إليه ويرغبه في الطاعة، ويحذره عاقبة الخلاف ويهدده على ذلك، ويعرفه بما أمر به السلطان من إجلاء بني حسن وأتباعهم عن مكة. فلما وقف رميثة على ذلك اطمأن إلى الأمير أيتمش وأجابه بما كان قد عزم عليه من الحرب لو أن غيره قام مقامه، وطلب منه أن يحلف هو ومن معه ألا يغدره، وأن يقرضه مبلغ خمسين ألف درهم يتعوضها من إقطاعه. فتقرر الحال على أن يبعث إليه الأمير أيتمش عشرة أحمال من الدقيق والشعير والبقسماط وغيره، ومبلغ خمسة ألاف درهم، فقدم حينئذ.
فلما قارب رميثة مكة ركب الأمير أيتمش بمن معه إلى لقائه، فإذا عدة من قواده مع وزيره قد تقدموه ليحلفوا له العسكر، فعادوا بهم إلى الحرم وحلفوا له أيماناً مؤكدة، ثم ركبوا إلى لقائه وقابلوه بما يليق به من الإكرام، فلبس رميثة تشريف السلطان، وتقلد إمارة مكة، وعزم على تقدمة شي ء للأمراء، فامتنعوا أن يقبلوا منه هدية، وكتبوا إلى السلطان بعود الشريف إلى الطاعة، وخرجوا من مكة يريدون القاهرة. فلما وصلوا دخل الأمير أيتمش على السلطان، فشكره على ما كان منه.
وكان قاضي القضاة جلال الدين القزويني حاضراً، فأكثر من الثناء على أيتمش، وقال: هذا الذي فعله هو الإسلام " .
وفيه قدم الأمير تنكز نائب الشام في يوم الإثنين سادسه، ومعه الأمير سيف الدين أرقطاي نائب صفد. فأكرم السلطان الأمير أرقطاي وقربه، وتقدم إلى جميع الأمراء أن يقدموا له التقادم، فقدم له كل أحد على قدر همته، وأنعم السلطان على أحد ولديه بإمرة طبلخاناه، وعلى الآخر بإمرة عشرة. وكان سبب قدومه من صفد أن الأمير تنكز لما توجه في السنة الخالية من دمشق يريد القدوم على السلطان على عادته، ركب الأمير أرقطاي من صفد ليلقاه من رأس اللجون، ومد له سماطاً جليلاً، وركب إلى لقائه، فلم ينصفه الأمير تنكز في السلام عليه، وسار حتى قرب من السماط فلم يلتفت إليه ولا نزل له، ومر من غير أن يأكل منه. فشق ذلك على أرقطا وقيل لتنكز إنه قد انكسر خاطره من الأمير، فقال: " ومن قال له يعمل هذا،؟ فبلغ ذلك السلطان، فعتبه عند حضوره على ما كان منه لأرقطا وقال له: وماذا كان يصيبك لو أكلت طعامه؟ وأمره ان يحضره صحبته إذا قدم في السنة الآتية، وكتب لأرقطاي أن يحضر مع الأمير تنكز فلما خرج الأمير تنكز من دمشق في هذه السنة، وتلقاه أرقطا أكرمه تنكز ومضى به إلى مصر، ثم سافرا إلى محل كفالتهما في يوم الثلاثاء سادس عشرة.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشر شهر رجب: توجه الأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير، والأمير بيغرا، والأمير ملكتمر السرجواني. وقد استقر في نيابة الكرك، بإبراهيم ولد السلطان إلى مدينة الكرك ليقروه بها، فوصلوا به إليها، وعادوا منها ومعهم أحمد ابن السلطان، وكان قد توجه قبل ذلك إلى الكرك، فقدموا به قلعة الجبل في يوم السبت سادس عشر شعبان، ومعه الأمير بهادر البدري نائب الكرك. فختن الأمير أحمد ابن السلطان يوم الإثنين ثامن عشرة، بعد وصوله بيومين.
وفيه قدمت رسل ملك الهند، وكان مجيؤهم من جهة بغداد، فأكرموا وخلع عليهم، وساروا في أخره.
وفي يوم الأربعاء خامس رمضان: أفرج عن الشريف ودي أمير المدينة النبوية، وعن خرص ابن أخيه وكانا قد اعتقلا بقلعة الجبل في أول شوال سنة تسع وعشرين، فرتب لهما راتب حسن مدة، ثم أنعم عليهما بإقطاع في الشام، وسارا إليها، فمات خرص، ثم ولي ودي إمرة المدينة.
وفي هذا الشهر: فر يوسف الكيمياوي من سجنه، فنودي عليه بالقاهرة ومصر، وسرحت البطائق على أجنحة الحمام لولاة الأعمال بتحصيله.
وفي عاشره: خلع على الأمير ملكتمر السرجواني واستقر في نيابة الكرك، عوضاً عن بهادر البدر وسافر من يومه.
وفي يوم السبت خامس عشره. حمل من خزانة الخاص بالقلعة مهر آنوك ولد السلطان إلى بنت الأمير بكتمر الساقي: وهو عشرة ألاف دينار، ومائتان وخمسون تفصيلة حرير مثمنة، ومائة نافجة مسك، وألف مثقال عنبر خام، ومائة شمعة موكبية، وثلاثة أرؤس من الخيل مسرجة ملجمة، وخمسة مماليك على يد كل مملوك بقجة.
وسلم ذلك إلى الأمير أيدغمش أخور، والأمير طقتمر الخازن دوادار القاضي شمس الدين موسى ناظر الخاص، وألبس الثلاثة تشاريف جليلة، وتوجهوا بذلك إلى بيت الأمير بكتمر الساقي فكان يوماً مشهوداً. وعقد العقد، وعملت المهمات والأفراح الملوكية.
وفي يوم الإثنين نصف شوال: رسم بعزل نواب قضاة القضاة الأربعة بالقاهرة ومصر، وكانت عدتهم قد بلغت نحو الخمسين نائباً، فعزلوا بأجمعهم.
وفي أول ذي القعدة: سار الأمير صلاح الدين يوسف دوادار قبجق، رسولاً إلى أبي سعيد ملك العراق.
وفي يوم الأحد ثالث عشره: كتب كتاب الأمير ملجك ابن أخت الأمير قوصون على بنت الأمير تنكز نائب الشام. وحملت إليه من دمشق، وصحبتها أموال جزيلة وتحف جليلة، فعملت أفراح سنية مدة أيام.
وفيه أيضاً كان وفاء النيل وهو خامس عشرى مسري.
وفي سابع عشره: استقر شهاب الدين الإقفهسي في نظر الدولة، عوضاً عن تقي الدين عمر بن محمد بن السلعوس.
وفي يوج الإثنين خامس ذي الحجة: أسلم من الكتاب النصارى المهذب كاتب الأمير بكتمر الساقي والنشو مستوفي الدولة، والعلم بن فخر الدولة مستوفي الدولة أيضاً.
وفي يوم السبت سابع عشره: ركب السلطان إلى الميدان الذي استجده، وقد كملت عمارته. وكان قد رسم في أول هذه السنة بهدم مناظر الميدان الظاهري وتجديد عمارته، وفوض ذلك إلى الأمير ناصر الدين محمد بن المحسن فهدمها وباع أخشابها بمائة ألف درهم وألفي درهم، واهتم في عمارة جديدة، فكمل البناء في مدة شهرين، وجاء كأحسن شي ء يكون. فخلع عليه السلطان، وفرق على الأمراء الخيول المسرجة الملجمة.
وفي هذا الشهر: قبض على يوسف الكيمياوي بمدينة أحميم، وحمل مقيداً، فوصل إلى قلعة الجبل في رابع عشريه. ومثل يوسف بين يدي السلطان، فسأله عن المال، فقال: عدم مني. فسأله السلطان عن صناعته فقال: كل ما كنت أفعله إنما هو خفة يد فعوقب عقوبة شديدة بالضرب، ثم حمل إلى خزانة شمائل سجن أرباب الجرائم بجوار باب زويلة من القاهرة، فمات ليلة الأحد خامس عشريه، فسمر وهو ميت وطيف به القاهرة على جمل في يوم الأحد.
وكان قد عزم السلطان على أن يؤمر ولده أحمد المحضر من الكرك، فركب الأمير بكتمر الساقي وسائر الأمراء وجميع الخاصكية إلى القبة المنصورية بين القصرين في خدمة الأمير أحمد وهو بشربوش وعلى رأسه سنجق، وأمر معه أيضاً ثلاثة أمراء عشراوات في يوم الإثنين سادس عشريه. وألزم الأمير ناصر الدين بن المحسني والي القاهرة جميع أرباب الحوانيت بالقاهرة أن يوقدوا الشموع والقناديل ويزينوا القاهرة، زينوا الأسواق وأشعلوا الشموع والقناديل، وجلس أرباب الملهى في عدة أماكن يضربون بألاتهم فرحاً بتأمير أحمد ابن السلطان.
واتفق في هذه السنة توالي الأفراح، لأجل عافية السلطان، وتزويج ولده أنوك، وتزويج ملجك ابن أخت قوصون، وتأمير أحمد بن السلطان.
وفيه ورد الخبر بإفساد العرب ببلاد الصعيد قطعهم الطريق، فاستدعي ظلظية متولي الشرقية، وخلع عليه، واستقر في كشف الوجه القبلي، فسار في تجمع كبير، وأوقع بأهل الصعيد، وقتل كثيراً من العربان، و لم يراع أحداً من الأمراء في بلاده، فعظمت مهابته، وخاف كل أحد بادرته.
وفي سابع عشره: نزل السلطان إلى الميدان تحت القلعة، وعين الأمير أرنبغا أمير جندارا، للسفر مع الأمير أحمد ابن السلطان. وخرج طلب الأمير أحمد ومعه الأمراء والحجاب، فسار إلى الكرك، وسلمه الأمير ملكتمر السرحواني نائبها، وأمر بتربيته وتأديبه.
وفيه قدمت رسل ملك البلغار بكتابه يترامى على مراحم السلطان، ويسأل أن يبعث إليه سيفاً وسنجقاً ليقهر به أعداءه. فأكرمت رسله، وجهزت له خلعة طرد وحش مقصب بفرو سنجاب، مقندس على مفرج سكندري وكلفتاه زركش وشاش بطرفين رقم وحياصة ذهب، وكلاليب ذهب، وسيف محلى وسنحق سلطاني أصفر مذهب.
وفيها كثرت الشكاية من جمال الدين عبدا لله ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني بكثرة لعبه، ورفعت فيه عدة قصص للسلطان. فبعث السلطان إلى أبيه على لسان الفخر ناظر الجيش يأمره بكفه عن ذلك، فلم ينته عن لعبه، فرسم بسفره من القاهرة إلى الشام، فسار على خيل البريد.
وفيها ولي عز الدين بن عبد العزيز ابن قاضي القضاه بدر الدين محمد بن جماعة وكالة بيت المال ونظر جامع أحمد بن طولون ونظر المدرسة الناصرية.
وفيها وصل إلى حلب نهر الساجور، بعد ما أنفق عليه مال كبير، فسر به أهل حلب سروراً زائداً.
وفيها ملك أبو الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني مدينة فاس من بلاد المغرب، بعد موت أبيه.
ومات فيها من الأعيانشهاب الدين صمغار ابن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، في ثالث عشر المحرم، فأنعم بإمرته وهي طبلخاناه على بهادر بن قرمان.
وفي يوم السبت ثامن عشره: توفي الشيخ صبيح التكروري بدمشق، وقد حدث بالقاهرة ودمشق مراراً عن النجيب الحراني وغيره.
وتوفي الشيخ عفيف الدين عبدالله بن محيي الدين عبدالله بن الصاحب صفي الدين إبراهيم بن هبة الله العسقلاني بطريق مكة الخميس ثاني عشره، ومولده بمصر، وكان يشهد بدمشق على الحكام وفي الأملاك بغير أجرة، ولا يقبل هدية لأحد.
وتوفي أمير علي أخو قطلوبك أحد أمراء العشراوات، في سابع عشريه، فأنعم بإمرته على أمير جمال بن طقزدمر.
وتوفي الشيخ تاج الدين أبو عبدالله محمد بن العماد محمد بن التاج أبي الحسن علي ابن أحمد بن علي القسطلاني بالقاهرة في يوم الجمعة تاسع عشريه.
وتوفي شمس الدين عبد اللطيف بن خليفة العجمي أخو الوزير نجيب الدولة وزير قازان غريقاً ببركة الفيل خارج القاهرة، في سلخه، وكان يعرف العلوم العقلية.
وتوفي محيي الدين محمد عبد العزيز بن علي بن محمد الحراني الحنبلي ابن أخي قاضي القضاة شرف الدين الحراني بالقاهرة في حادي عشره.
وتوفي الأمير بكتمر بن كرأي في خامس صفر.
وتوفي الأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار، في يوم الأحد سادسه، ودفن خارج باب النصر من القاهره، وكان أحد أمراء الألوف، وتزوج خوند دلنبية بنت طاجي مطلقة السلطان، وأنعم بإمرته على تمربغا السعدي، وكان كثير الأكل كثير النكاح.
وتوفي زين الدين محمد بن محمد بن أبي بكر محمد بن علي القسطلاني في سابعه.
وتوفي قاضي القضاة عز الدين أبو عبدالله محمد بن تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن أحمد بن قدامة الحنبلي بدمشق في يوم الأربعاء، وولي قضاء الحنابلة بدمشق بعده شرف الدين أبو محمد عبدالله بن الحسن بن عبدالله بن عبد الغني المقدسي.
وتوفي الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح، في يوم الثلاثاء خامس عشر صفر، وأنعم على ساطلمش الجلالي بإقطاعه.
وتوفي الأمير سيف الدين طرجي الساقي أمير مجلس، في يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر، وأنعم بطبلخاناته على أولاجا، واستقر الأمير طقزدمر عوضه أمير مجلس. في سادس عشر ربيع الآخر.
وتوفي المسند بدر الدين المحاسن يوسف بن عمر بن حسان بن أبي بكر علي الحنفي في يوم الثلاثاء خامس عشر صفر بالقاهرة، وهو أخو من حدث عن سبط ابن السلفي.
وتوفي الأمير حسام الدين لاجين زيرباج الجاشنكير، في يوم الإثنين رابع عشر صفر.
وتوفي الأمير بغجار الساقي في رابع ربيع الأول، وأنعم بطلبخاناته على أمير عمر بن أرغون النائب.
وتوفي سنجر البرواني أحد أمراء الطبلخاناه، في الحمام فجأة يوم السبت ثامن ربيع الآخر، فأنعم بإمرته على أيدمر العلائي.
وتوفي ضياء الدين أبو الحسن علي بن سليمان بن ربيعة الأذرعي الشافعي بالرملة في ثالث عشريه، ومولده بنابلس في سنة ست وأربعين وستمائة، وكان قاضياً ستين سنة، ونظم كثاب التنبيه في الفقه، فبلغ ستة عشر ألف بيت، وله أزجال ومو شحات.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري يوم الأربعاء ثامن رجب، وهو أحد مقدمي الألوف.
وتوفي الآمير نور الدين محمود بن هلال الدولة الريداني أحد أمراء العشرات، بدمشق.
وتوفي الأمير أرغون الدوادار نائب حلب، بها في ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر، ومات ابنه ناصر الدين محمد قبله، وقدم إلى القاهرة أربعة من أولاده.
وتوفي جمال الدين أبو عبدالله بن عبد الواحد بن الخضر المعروف بابن السابق الحلبي في ليلة الأحد رابع عشريه فجأة بحلب ومولده بالإسكندرية سنة خمس وستين وستمائة، ولي نظر بعلبك ونظر بيت المال بدمشق.
وتوفي الشيخ المسند شرف الدين أبو العباس أحمد بن فخر الدين عبد المحسن بن الرفعة بن أبي المجد العدوي في ليلة الأربعاء ثامن عشريه، ومولده سنة أربع وأربعين وستمائة، وأبوه عبد المحسن ينسب جامع ابن الرفعة بين القاهرة ومصر.
وتوفي القاضي عز الدين الخضر بن عيسى بن عمر بن الخضر الهكاري بالأشمونين في عاشره، بعد عزله من قضائها، وقد نيف على التسعين.
وتوفي القاضي تاج الدين علي بن نظام الدين يوسف ابن القاضي الموفق فخر الدين ابن علي ابن القاضي الأمين مفضل بن مقدام بن محمود بن يعقوب اللخمي في تاسع عشريه، بعدما كف بصره، ولي نظر الخزانة الكبرى ودرس بمدرسة الصاحب صفي الدين بن شكر بالقاهرة والمدرسة، وكان مقدام قاضي دمياط وناظرها أيام خلفاء القاهرة، وهو أخو شكر.
وتوفي الأمير علاء الدين علي بن آل ملك المجاهد إسحاق ابن السلطان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في ثامنه خارج مدينة مصر، ومولده يوم الجمعة ثامن عشرى المحرم سنة سبع وخمسين وستمائة.
وتوفي الأمير ظلظيه والي الولاة بالوجه القبلي في يوم الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة، واستقر عوضه الأمير غرس الدين خليل أخو طقصبا الناصري.
وتوفي مجد الدين إبراهيم بن لفيتة ناظر الدولة، بعد عزله في ثامن عشره، فجأة بعدما خرج من الحمام ولبس ثيابه وشرب قدح شراب.
وتوفي المقرئ نور الدين أبو الحسن علي بن المقرئ شرف الدين محمد بن مجاهد المعروف بابن الوارب أمام الجامع الحاكمي في سادسه، وهو أحد مشايخ القرءات السبع.
وتوفي الشيخ الزاهد موفق الدين أبو الفتح عيسى بن عبد الرحيم بن جعفر بن محمد ابن إبراهيم بن ثعلب الجعفري المالكي بمصر ليلة الأحد ثانيه، ودفن بالقرافة، وكان لا يتناول نصيبه من ديوان الأشراف.
وتوفي تاج الدين إسحاق ويدعى عبد الوهاب ناظر الخاص، في يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة، وولي نظر الخاص بعد القاضي كريم الدين الكبير وباشر بسكون زائد وانجماع وسياسة، وقام بمهمات عظيمة، وولي بعده وكالة بيت المال عز الدين عبد العزيز بن جماعة، وولي نظر خزانة الخاص علاء الدين محمد بن نصرالله بن محمد بن عبد الوهاب الجوهري وولي المكين بن قزوينة استيفاء الصحبة والخاص.
وتوفي الأمير سيف الدين أبو بكر بن المهراني في سادسه.
وتوفي ضياء الدين أحمد بن الشيخ قطب الدين محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي الشافعي في ليلة الثلاثاء تاسعه، وبيده تدريس الزاوية الخشابية بجابع مصر.
وتوفي تاج الدين أبو بكر بن معين الدين محمد بن الدماميني رئيس التجار الكارمية، في ثالث عشرى جمادى الآخرة، وقد قارب ثمانين سنة، وترك مائة ألف دينار عينا.
وتوفي الأمير حسام الدين طرنطاي دوادار كتبغا، ليلة الأحد ثامن عشريه فجأة، وكان له ثراء واسع جداً.
وتوفي نور الدين علي بن محمد بن عبد الواحد الحنفي أمين الحكم، بالحسينية ظاهر القرافة في سلخه.
وتوفي فخر الدين عثمان إبراهيم بن مصطفى التركماني الحنفي في حادي عشر شهر رجب، وهو يلي نيابة النظر بالمارستان المنصوري.
وتوفي القاضي جمال الدين أبو عبدالله محمد بن عثمان بن عبد الرزاق المالك أحد نواب القضاة المالكية، في ثامن عشريه.
وتوفي تقي الدين عمر بن السلعوس ناظر الدولة، بعد عزله في سادس عشرى ذي القعدة.
وتوفي الأمير ركن الدين عمر بن الأمير سيف الدين بهادر آص المنصوري في تاسع عشر ذي الحجة بدمشق.
وتوفي زين الدين عمر بن نجم الدين البالسي الشافعي مدرس المدرسة الطيبرسية، في سلخه، فولي عوضه أخوه نور الدين علي.
ومات بلبان المهمندار عتيق الدواداري في يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر.
ومات ملك المغرب صاحب فاس أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو ابن أبي بكر بن حمامة، في ذي الحجة، وقام من بعده ابنه السلطان أبو الحسن علي فكانت مدته إحدى وعشرون سنة.
سنة اثنين وثلاثين وسبعمائةالمحرم أوله الجمعة: فيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا برخاء الأسعار وسلامة الحجاج، وأن الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي على خطة.
وفي سابع عشرة: توفي مغلطاي المذكور عند نزوله بسطح عقبة أيله، فصبر وحمل إلى القاهرة، فوصلها ليلة الخميس حادي عشريه، ودفن من غده بمدرسته قريباً من درب ملوخيا. واستقر عوضه في الأستادارية الأمير علاء الدين أقبغا عبد الواحد وخلع عليه يوم الثلاثاء سادس عشريه، وأقر ألطقش مملوك الأفرم على نيابة الأستادارية. ثم بعد أيام أضيف إلى الأمير أقبغا تقدمة المماليك السلطانية مع الأستادارية، من أجل أنه وجد بعض المماليك وقد نزل من القلعة إلى القاهرة، إذ تنكر السلطان لما حدث من نزول بعض المماليك من القلعة إلى القاهرة، وضرب كثيراً من طواشية الطاق، وطرد جماعة منهم، وأنكر على المقدم الكبير وهو يومئذ الطواشي شجاع الدين عنبر السحرتي تهاونه حتى وقع ما وقع، وصرفه بالأمير أقبغا. فضبط أفبغا طباق المماليك بالقلعة، وضرب عدة منهم ضرباً مبرحاً، وبالغ في إهانة الخدام أيضاً، فلم يجسر أحد من المماليك أن يتجاوز طبقته.
وفيها استقر الأمير سيف الدين بهادر الدمرداشي رأس نوبة الجمدارية، عوضاً عن الأمير أقبغا عبد الواحد، بحكم انتقاله إلى الأستدارية، وكان الأمير بهادر قد حظي عند السلطان حظوة مكينة.
وفي يوم الجمعة ثاني عشريه: دار نقيب الجيش والحاجب بجامع القلعة على الأمراء وهم ينتظرون الصلاة، وقبضوا على من معهم من مماليك دمرداش بن جوبان وسجنوهم. وذلك أن الأمير طرغاي الجاشنكير كان عنده جماعة، فبلغه من بعض مماليكه أنه سمع أحد مماليك دمرداش يقول لآخر: أقد درنا على الصبيان الجميع، واتفقنا على كلمة واحدة، فقم والبس قماشك، فميعادنا باب القلة عند خروجهم من الجامع. فنقل ذلك لمخدومه الأمير طرغاي فبادر وقبض على من عنده من مماليك دمرداش، ونهض إلى السلطان وأعلمه بالخبر، فسر بذلك. واستدعى السلطان نقيب الجيش والحاجب، وأسر إليهما أن يقبضا على من حضر من مماليك دمرداش بالجامع، ويتتبعا من غاب منهم، فقبض على الجميع قبل إقامة الصلاة. ثم جمع الأمراء بعد الصلاة عند السلطان، وعرفهم السلطان ما نقله الأمير طرغاي، وأمر السلطان أمير جندار بعقوبة من قبص عليه فعوقبوا، ثم قتل بعضهم وسجن باقيهم، فإنهم اعترفوا وهم في العقوبة بأنهم أرادوا أخذ ثأر استاذهم دمرداش وقتل الأمراء، لتصير لهم بذلك سمعة في بلاد المشرق. فخالف على نفسه الأمير بهادر الدمرداش وتحرز من السلطان.
شهر صفر أوله يوم الأحد: وفي يوم الإثنين، ثالث عشريه: استدعى السلطان الأمراء وأعلمهم أنه يريد أن يعهد إلى ولده الإمير ناصر الدين أنوك فأذعنوا لذلك كلهم، فرسم بركوبه بشعار السلطنة، وأحضرت الخلع لأرباب الوظالف. ثم انثنى عزم السلطان عن ذلك، وأبطل الجميع، ورسم أن يلبس آنوك شعار الأمراء، ولا يطلق عليه اسم السلطنة، فركب آنوك وعليه خلعة أطلس أحمر بطرز ذهب وشربوش مكلل مزركش. وخرج آنوك من باب القرافة والأمراء في خدمته حتى مر بسوق الخيل تحت القلعة، فباس الأرض، وطلع من باب الإسطبل إلى باب السر فطلع منه، ونثرت عليه الدنانير والدراهم. وخلع على الأمير ألماس الحاجب، والأمير بيبرس الأحمد والأمير أيدغمش أمير أخور خلع أطلس، وخلع أيضاً على بقية أرباب الوظائف، ومد لهم سماط عظيم، وعملت الأفراح الجليلة مدة أيام.
وكان قد رسم بعمل المهم لعقد الأمير آنوك على زوجته بنت بكتمر الساقي فعقد العقد بالقصر على صداق مبلغه من الذهب اثنا عشر ألف دينار، المقبوض منه عشرة ألاف دينار.
وفيه تقدم السلطان إلى الأمير علاء الدين بن هلال الدولة بجمع الدواوين، ليختار منهم من يستخدمه لآنوك، فإنه أنعم عليه بإقطاع الأمير مغلطاي الجمالي، فحضر من الغد عدة من الدواوين، فأخذ السلطان يسأل كلاً منهم ويتعرف خبره إلى أن وقع اختياره على شرف الدين النشو فإنه كان قد وقف بين يديه غير مرة في محاققة في خدمة الأمراء، فأعجبه كلامه ومحاققته، ورسم أن يكون من جلة المستوفين. فلما حضر النشو في هذا اليوم أشار السلطان لابن هلال الدولة أن يستخدمه بديوان الأمير آنوك، ويكون الأمير سيف الدين ألطنقش أستادارا له، وخلع عليهما ونزلا.
شهر ربيع الأول أوله يوم الإثنين: في سادسه: قدم الحاج أحمد بن سنقر رسولاً من الملك أبي سعيد، وعلى يده كتاب بسبب الخطة والمصاهرة. فأجيب بأن ذلك يحتاج إلى مهلة، وأخذ ما معه من الهدية. وهي جمال بخاتي ثلاثة قطر، وعشرة أرؤس من الخيل، وعشرة مماليك، وعشر جوار جنكيات، وعشرة دبابيس، وأعيد في ثاني عشريه.
وفيه كتب إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يحضر ومعه نائب حماة، لحضور مهم الأمير أنوك على الأمير بكتمر الساقي، فشرع الأمراء في الاحتفال للمهم، وبعثوا إلى دمشق لعمل التحف.
شهر ربيع الآخر، أوله يوم الإثنين: في عاشره: قدم الملك الأفضل ناصر الدين محمد ابن الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة بعد وفاة أبيه بها، وله من العمر نحو العشرين عاماً، فأكرمه السلطان وأقبل عليه. وكان والده لما توفي بحماة أخفى أهله موته، وسارت أم الأفضل إلى دمشق وترامت على الأمير تنكز نائب الشام، وقدمت له جوهراً رائعاً، وسألته في إقامه ولدها الأفضل مكان أبيه، فقبل تنكز هديتها، وكتب في الحال إلى السلطان بوفاة المؤيد، وتضرع إليه في إقامة ابنه مكانه. فلما قدم البريد بذلك تأسف السلطان على المؤيد، وكتب إلى الأمير تنكزلإجابة سؤاله وتجهيز ابن المؤيد إلى مصر، فجهزه تنكز إلى السلطان، فقابله من الإنعام وإدرار الأرزاق بنظير ما كان لأبيه.
وفي يوم الخميس خامس عشريه. ركب الأفضل من المدرسة المنصورية بين القصرين، وهو بشعار السلطنة وبين يديه الغاشية، وفد نشرت على رأسه الأعلام الثلاثة، منها واحد خليفتي أسود، واثنان سلطانيان أصفران، وعليه خلعة أطلس بطرز ذهب، وعلى رأسه شربوش، وفي وسطه حياصة ذهب بثلاثة بيكارات. وسار الأفضل في موكب جليل بالقاهرة إلى باب زويلة، وصعد إلى قلعة الجبل، وقبل الأرض بين يدي السلطان بالقصر. ثم جلس الأفضل فخلع على الأمراء الذين مشوا في خدمته: وهم الأمير ألماس الحاجب، والأمير بيبرس الأحمد والأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور، والأمير طغجي أمير سلاح، والأمير تمر رأس نوبة، وقد لبس كل منهم أطلسين. وخلع الأفضل، على الأمير شجاع الدين عنبر مقدم المماليك طرد وحش وخلع على جميع أرباب الوظائف أيضاً، وكان يوماً مشهوداً.
ولقبه السلطان يومئذ بالملك الأفضل وجهزه إلى بلاده.
وفي يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى: خرجت التجريدة لكبس الإطفيحية، وفيها نحو خمسة عشر أميراً.
وفي أول شعبان: قدم تنكز نائب الشام، لحضور عرس الأمير آنوك ابن السلطان.
وفيه رسم بإحضار جميع من بالقاهرة ومصر من أرباب الملهى إلى الدور السلطانية. ووقع الشروع في عمل الإخوان فأقام المهم سبعة أيام بلياليها. واستدعى السلطان حريم جميع الأمراء إليه، فكان أمراً عظيماً.
فلما كمانت ليلة السابع منه: جلس السلطان على باب القصر، وتقدم الأمراء على قدر مراتبهم واحد بعد واحد، ومعهم الشموع، فإذا قدم الواحد ما أحضره من الشمع قبل الأرض وتأخر. ومازال السلطان بمجلسه حتى انقضت تقادمهم، فكانت عدتها ثلاثة ألاف وثلاثين شمعة، زنتها ثلاثة ألاف وستون قنطاراً، فيها ما عني به ونقش نقشاً بديعاً تنوع في تحسينه، فكان أبهجها وأحسنها شمع الأمير علم الدين سنجر الجاولي فإنه اعتنى بأمرها وبعث إلى عملها بدمشق، فجاءت من أبدع شيء.
ثم جلس السلطان في ليلة الجمعة حادي عشر شعبان وهي ليلة العرس على باب القصر، وأشعلت تلك الشموع بأسرها. وجلس ابنه الأمير آنوك تجاهه، وأقبل الأمراء جميعاً وكل أمير يحمل بنفسه شمعه وخلفه مماليكه تحمل الشمع، فتقدموا على قدر رتبهم، وقبلوا الأرض واحداً بعد واحد طول ليلهم، حتى إذا كان أخر الليل نهض السلطان وعبر إلى حيث مجتمع النساء، فقامت نساء الأمراء بأسرهن، وقبلن الأرض واحدة بعد أخر وهي تقدم ما أحضرت من التحف الفاخرة والنقوط حتى انقضت تقادمهن جميعاً. ورسم السلطان برقصهن عن آخرهن، فرقصن حسن أيضاً واحدة بعد واحدة، والمغاني تضربن بدفوفهن، وأنواع المال من الذهب والفضة وشقف الحرير يلقى على المغنيات، فحصل لهن ما يحل وصفه، ثم زفت العروس.
وجلس السلطان من بكرة الغد، وخلع على جميع الأمراء وأرباب الوظائف وأكابر الأمراء، ورسم لإمرأة كل أمير من الأمراء بعبية قماش على قدر منزلة زوجها، وخلع على الأمير تنكز نائب الشام، وجهز صحبته الخلع لأمراء الشام.
فكان هذا العرس من الأعراس المذكورة، ذبح فيه الغنم والبقر والخيل والأوز والدجاج ما يزيد على عشرين ألفاً، وعمل فيه من السكر برسم الحلوى والمشروب ثمانية عشر ألف قنطار، وبلغت قيمة ما حمله الأمير بكتمر الساقي مع ابنته من الشورة ألف ألف دينار مصرية.
وفي يوم الأربعاء رابع رجب: استقر الأمير صلاح الدين يوسف دوادار قبجق مهمندار، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن آقوش العزيزي بعد وفاته.
وفي يوم الإثنين سابع عشره: استقر شرف الدين موسى بن التاج اسحاق في نظر الجيش، بعد وفاة الفخر محمد بن فضل الله واستقر شرف الدين عبد الوهاب النشو في نظر الخاص، عوضاً عن شرف المذكور، في يوم الخميس تاسع عشره.
وكان الفخر لما اشتد به المرض بلغه عن موسى بن التاج إسحاق أنه سعى في نظر الجيش فشق عليه ذلك، وركب وقد انتهك من شدة المرض، ودخل على السلطان وقال: " ما أزعجت نفسي إلا لنصحك، ولأوصيك بعائلتي وأولادي وعندي ذخيرة للسطان، فأما نصيحتى فهي أن أولاد التاج إسحاق تواصوا على أكل مال آل آص والدولة، والعمل على السلطان. وبالغ الفخر في الوقيعة فيهم، وعرف السلطان أنه ادخر عشرة ألاف دينار وشيئاً من الجواهر، وجميع ذلك للسلطان، فشكره السلطان، وأثر فيه كلامه في أولاد التاج إسحاق.
ثم قام الفخر وعاد إلى داره، ثم طلب بعد ثلاثة أيام الأمير علاء الدين بن هلال الدولة، ودفع إليه ورقة مختومة وأوصاه أن يدفعها إلى السلطان بعد موته، فأوقف ابن هلال الدولة السلطان عليها وتركها عنده. فمات الفخر من الغد، فنزل ابن هلال الدولة وأولاد التاج إسحاق وعدة من الأمراء إلى بيت الفخر وأحاطوا به. فوجدا فيه عشرة ألاف دينار، وهي التي عين الفخر، وموضعها للسلطان، ووجدوا معها جواهر.
فعادوا بذلك إلى السلطان، ومعهم لؤلؤ مملوك الفخر، فأمره السلطان أن يعرفه بما لأستاذه من الأموال، وهدده تهديداً كبيرا، فالتزم أنه لا يخفي شيئاً. ونزل لؤلؤ فكتب عدة أوراق اشتملت على أصناف من البضائع للتجارة، وعلى عدد بساتين ودواليب ومعاصر بأرض مصر وضياع بالشام كدمشق وحماة وحلب وغزة والقدس وغيرها منها ما وقفه ومنها ما هو غير وقف. فأوقع السلطان الحوطة على جميع موجوده بديار مصر، وكتب إلى نواب الشام بمثل ذلك، ورسم بيع الأصناف، فبلغت قيمة ما وجد له ألف ألف درهم سوى ما تركه السلطان لأولاده.
وكان النشو في ابتداء أمره يتخدم لابن هلال الدولة شاد الدواوين، ويتردد إليه كثيراً ويبالغ في خدمته، فاستخدمه ابن هلال الدولة في الأشغال، وقدمه إلى السلطان، وشكر من كتابته، إلى أن استخدمه السلطان مستوفياً، فصار النشو يعد من إنشاء ابن هلال الدولة. ثم إنه لما أسلم تسمى بعبد الوهاب، وتلقب بشرف الدين، فعندما استقر عند الأمير آنوك ابن السلطان صار يخلو بالسلطان ويحادثه في أمر الدولة. ويكثر من الوقيعة في الدواوين، حتى أثر كلامه في نفس السلطان، وتصور في ذهنه منه أنه يحصل له مالاً كثيراً فما هو إلا أن استقر في نظر الخاص حتى أخذ يغري السلطان بأولاد التاج إسحاق حتى غيره عليهم، فعزل السلطان شرف الدين موسى من نظر الجيش في نصف شعبان بعد عشرين يوماً من توليته، وولي مكين الدين إبراهيم بن قزوينة عوضه، وأمر بالقبض على شرف الدين موسى وعلم الدين إبراهيم ولدي التاج ومصادرتهما، فقبض عليهما في يوم الخميس سابع عشر شعبان.
وذلك أنه اتفق أن السلطان. استدعى ابن هلال الدولة، وأسر إليه أن الأمراء اذا دخلو إلى الخدمة وخرجوا يمضي ومعه الشهود وناظر بيت المال، ويحاط على بيوت أولاد التاج إسحاق. فلما جلس القضاة، ووقف الأمراء وأرباب الدولة بالخدمة وشرف الدين موسى بن التاج إسحاق فيهم - التفت السلطان إلى القضاة وأخذ في الثناء على شرف الدين، وقال في أخر كلامه: " أنا ربيت هذا وعملته كاتبي " فانفض أهل الخدمة وهم يستعظمون هذا من السلطان في حق ناظر الجيش، وحل موسى في أعينهم. فما هو إلا أن جلس موسى بديوان الجيش من القلعة حتى بلغه أن الحوطة قد وقعت على بيته، وأن رسل الديوان على باب ديوان الجيش، وبلغ الخبر أيضاً إلى أخيه علم الدين إبراهيم وهو جالس والدواوين بين يديه، فنظر فإذا جماعة من الرسل قد وقفوا مرسمين عليه، فأغلق كل منهما دواته، وجلس ينتظر الموت إلى العصر. ثم صعد ابن هلال الدولة بأوراق الحوطة، وهي تشتمل على شيء كثير جداً منها لزوحة علم الدين إبراهيم أربعمائة سروال. فسلم شرف الدين موسى وعلم الدين لإبراهيم بن هلال الدولة، وأحضرت المعاصير، وسئل موسى عن صندوق ذكر أنه أخذه من تركة أبيه، فيه من الجواهر والذهب ما يبلغ مائة ألف دينار صارت إلى أبيه من جهة المكين الترجمان بعد موته، فأنكر موسى ذلك وحلف عليه. فرق له ابن هلال الدولة و لم ينله بمكروه، فأنكر عليه شرف الدين النشو عبد الوهاب ترك عقوبته، فما زال ابن هلال الدولة يدافع عنه وهو يحمل المال من قبله ومن قبل أخيه شيئاً بعد شيء.
وفي ثاني شعبان: خلع السلطان على شرف الدين أبي بكر بن شمس الدين محمد بن الشهاب محمود، كاتب سر في كتابة السر بديار مصر، عوضاً عن القاضي محيي الدين ابن فضل الله. واستقر ابن الشهاب محمود محيي الدين في كتابة السر بدمشق، وخلع عليه بذلك بعدما طيب السلطان خاطره وأثنى عليه وشكره. وكان ابن الشهاب محمود قد قدم مع الأمير تنكز، ومثل بين يدي السلطان، فأعجب بشكله، وأخذ تنكز يثني عليه بأنه أمين مأمون الغائلة. وكان محيي الدين بن فضل الله قد ثقل سمعه، فوقع اختيار السلطان أن ينقله إلى دمشق، ويولي بين يديه عوضه ابن الشهاب محمود، فحدث السلطان الأمير تنكز في ذلك، فما وسعه إلا موافقة غرض السلطان فيما أحب.
وفيه رسم للأمير تنكز بالعود إلى دمشق، فتوجه من القاهرة يوم الثلاثاء خامس عشر شعبان.
وفي يوم الأحد عشريه: خلع السلطان على القاضي مكين الدين بن قزوينة واستقر في نظر الجيش، عوضاً عن شرف الدين موسى بن التاج ناظر الخاص، وقد نقل ابن قزوينة إليها من استيفاء الخاص ونظر ديوان ابن السلطان ونظر ديوان الأمير بشتاك.
وفيه أمر النشو ناظر الخاص وابن هلال الدولة شاد الدواوين بتجهيز السلطان إلى سفر الحجاز، فشرعا في طلب العربان وإعداد الإقامات من البقسماط والدقيق والشعير وغير ذلك.
وفيه رسم للملك الأفضل صاحب حماة بالتوجه إلى بلده صحبة الأمير تنكز.
وفي يوم الأربعاء ثاني شعبان: استدعى السلطان الأمير صلاح الدين يوسف المهمندار وخلع عليه، واستقر دوادارا عوضاً عن الأمير يوسف الجاي بعد موته، واستقر عوضه في المهمندارية الأمير سيف الدين جاريك مملوك قفجق الجوكندار.
وفيه وقع الجد في أمر السفر إلى الحجاز، وكتبت أوراق بأسماء الخواتين وبعض السراري وبعض الأمراء ليكونوا صحبة السلطان في سفره. وكتب إلى نواب الشام باستدعاء ما يحتاج إليه، فشرعوا في عمل ذلك وحملوه، وهو عدة أصناف وكثير من الهجن بسلاسل الذهب والفضة، وعدة من الخيول، وقدم أيضاً عامة أمراء مصر والشام تقادم جليلة على قدر مراتبهم وقدمت تقادم أمراء العربان من آل فضل وآل مهنا وآل عيسى وتنافسوا بأجمعهم في تقادمهم، وقصد كل أحد أن يمتاز على الآخر. واستدعى السلطان الأمير موسى بن مهنا ليسافر في الصحبة، وحشر جميع الصناع من القاهرة ومصر للعمل في هذا المهم.
وفيه نقل موسى بن التاج إسحاق وأخوه إبراهيم من عند ابن هلال الدولة إلى الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني والي القاهرة. ورسم له بعقوبة موسى حتى يحضر الصندوق. فأمره النشو أن يبسط عليهما أنواع العذاب، ويضرب موسى بالمقارع، فاستأذن السلطان على ذلك، وعرفه ما أمره به النشو " فمنعه السلطان من ضربه بالمقارع، لكنه يهدده ويضربه تحت رجليه نحو خمس عشرة ضربة. فبعث النشو عندما نزل من القلعة من يحضر ضرب موسى بالمقارع، غير أن ابن المحسني عمل بما أشار به السلطان، فأحضر موسى وهدده، وأمر به فبطح وضرب بالعصي نحو عشرين ضربة، فتنكر عليه النشو واشتد حنقه عليه.
وفي سادس رمضان: أفرج عن الأمير مغلطاي بعدما سجن عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام.
وفي شوال: خرج محمل الحاج إلى البركة على العادة، مع الأمير عز الدين أيدمر الخطيري أمير الركب، ورحل في عشريه. وكان السلطان قد ركب في ثامن عشره، تزل بسرياقوس ثم استقبل بالمسير إلى الحجاز في الإثنين خامس عشريه بعدما قدم حرمه صحبة الأمير طقتمر في عدة من الأمراء. واستناب السلطان على ديار مصر سيف الدين ألماس الحاجب، ورسم له أن يقيم في داره، وجعل الأمير أقبغا عبد الواحد داخل باب القلة، برسم حفظ الدور، وجعل الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك بالقلعة وأمره ألا ينزل منها حتى يحضر، وأخرج كل أمير من الأمراء المقيمين إلى إقطاعه، وتقدم إليهم ألا يعودوا منها حتى يرجع من الحجاز.
وتوجه مع السلطان إلى الحجاز الملك الأفضل صاحب حماة، وكان قد قدم يوم الأحد سادس عشرى شعبان ومن الأمراء جنكلي بن البابا، والحاج آل ملك وبيبرس الأحمد وبهادر المعزي وأيدغمش أمير أخور، وبكتمر الساقي وطقزدمر، وسنجر الجاولي وقوصون، وطايربغا، وطغاي تمر، وبشتاك، وأرنبغا، وطغجي وأحمد بن بكتمر الساقي وصوصون، وبهادر الناصر وجركتمر بن بهادر، وطيدمر الساقي وأقبغا آص الجاشنكير، وطقتمر الخازن، وطوغان الساقي وسوسن السلحدار، وبلك، وبيبغا الشمسي وبيغرا، وقماري وتمر الموسوي وأيدمر أمير جاندار وبيدمر البدري وطقبغا الناصري وأيتمش الساقي وأياز الساقي وألطقنش وأنس، وأيدمر ددقمان، وطبيغا المحمدي وجاريك، وقطز أمير آخور، وبنيدمر، وأيبك، وأيدمر العمري ويحيي ابن طايربغا، ومسعود الحاجب، ونوروز، وكجلي وبرلغي وبكجا ويوسف الدوادار، وقطلقتمر السلحدار، ونانق، وساطلمش وبغاتمر، ومحمد بن جنكل وعلي بن أيدغمش، وألجاي وأقسنقر الناصر وقرا، وعلاء الدين علي بن هلال الدولة، وتمربغا العقيلي وقماري الحسن وعلي بن أيدمر الخطيري وطقتمر اليوسفي وكل هؤلاء مقدمون وطبلخاناه، ومن أمراء العشرات علي بن السعيد وصاروجا النقيب، وآقسنقر الرومي وأياجي الساقي وسنقر الخازن، وأحمد بن كجكن، وأرغون العلائي وأرغون الإسماعيلي وبغا، ومحمد بن الخطير وأحمد بن أيدغمش، وطشبغا، وقليجي. وحج مع السلطان أيضاً قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني، وحج أيضاً عز الدين عبد العزيز بن جماعة، وموافق الدين الحنبلي وعز الدين بن الفرات الحنفي وفخر الدين النويري المالكي، وكانوا أربعتهم ينزلون في خيمة واحدة، فإذا تقدمت إليهم فتوي كتبوا عليها، وهذا من غريب الاتفاق. وقدم السلطان الأمير أيتمش إلى عقبة أيلة، ومعه مائة رجل من الحجارين حتى وسعها وأزال وعرها، ومن يومئذ سهل صعودها.
وفيها بلغ ماء النيل عشرة أصابع من تسعة عشر ذراعاً.
وفيها طلب الشيخ شمس الدين الأصفهاني من دمشق على البريد إلى القاهرة.
وفيها كملت عمارة جامع الأمير سيف الدين الحاج آل ملك، بالحسينية خارج القاهرة.
وفيها استقر علاء الدين علي بن منجا في قضاء الحنابلة بدمشق.
وفيها قبض على الصاحب شمس الدين غبريال، وأحيط بأمواله وأسبابه.
وكان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وذلك في يوم الأربعاء حادي عشر ذي القعدة وهو ثاني عشر مسرى. وبلغ ثمانية عشر ذراعاً وإحدى عشر أصبعاً.
ومات فيها من الأعيانالأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي ويلقب خرز الوزير، عند نزوله من سطح العقبة، في يوم الأحد سابع عشر المحرم، وحمل إلى القاهرة، فدفن بخانكاته، في يوم الخميس حادي عشريه، وهو من المماليك الناصرية، نقله السلطان وهو شاب من الخاصكية إلى أمرة بهادر الإبراهيمي المعروف بربرابة نقيب المماليك، وبعثه في مهماته، ثم ولاه أستاداراً ووزيراً، وحكمه في جميع المملكة، وكان جواد عارفاً يميل إلى الخير حشماً، وانتفع به جماعة كثيرة في ولايته، لأنه كان يأخذ على ولاية المباشرات المال، فقصده الناس لذلك، وكان إذا ولي أحداً وجاء من يزيد عليه عزله وولي الذي زاد بعدما يعلم أنه قد استوفى ما قام له به من المال، ومن لم يستوف ذلك لا يعزله، ولم يصادر أحداً في مدة ولايته، ولا عرف أنه ظلم أحد، بل كانت أيامه مشكورة، وكان المستولي عليه مجد الدين إبراهيم بن لفيتة، وترك عدة أولاد من ابنة الأمير أسندمر كرجي نائب طرابلس، وإليه تنسب مدرسة الجمالية بالقرب من درب ملوخيا بالقاهرة.
وتوفي الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل بن الملك الأفضل علي بن المظفر محمود بن المنصور محمد بن المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي صاحب حماة، في سابع عشرى المحرم، عن نحو ستين سنة، كان أولاً بدمشق من جملة أمرائها، ثم أعطاه السلطان مملكة حماة ولقبه بالملك الصالح، ثم لقبه بالملك المؤيد، وأركبه في القاهرة بشعار السلطنة والأمراء مشاة في خدمته حتى الأمير أرغون النائب وقام بجميع ما يحتاج إليه، وأمر نواب الشام أن يكاتبوه بتقبيل الأرض، وكتب هو إليه: " أخوه محمد بن قلاوون " ، وكان كريماً فاضلاً في الفقه والطب وغير ذلك، وله عدة مصنفات، منها تاريخ جيد، وله شعر بديع.
وتوفي برهان الدين إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الربيعي الجعبري شيخ القراءات في شهر رمضان.
وتوفي صدر الدين أحمد بن محمد بن عبدالله الدندري الشافعي في ليلة الجمعة ثامن جمادى الآخر. وكان من شيوخ القراءات وفضلاء الفقهاء بقوص.
وتوفي الأمير سيف الدين الجاي الدوادار، يوم الإثنين مستهل شعبان.
ومات الديستي والكنجار في يوم الأحد خامس شهر ربيع الأول.
وتوفي القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش، يوم الأحد سادس عشر رجب.
وتوفي سونتاي نوين حاكم ديار بكر، عن نحو المائة سنة، وحكم بعده علي بادشاه خال بوسعيد.
و توفي ياقوت بن عبدالله الحسني الشاذلي تلميذ أبي العباس المرسي ليلة الثامن عشر من جمادى الآخرة، وكان شيخاً صالحاً مباركاً ذا هيئة ووقار، لم يخلف في الإسكندرية مثله.
وتوفي الشيخ عبد العال خليفة أحمد البدوي بطنطا في ذي الحجة، وله شهرة بالصلاح، ويقصد للزيادة والتبرك به.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاي المسعودي يوم السبت سابع ذي القعدة، بعد خروجه من السجن بقليل.
سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائةفي ثامن المحرم: قدم الأمير بلك الجمدار المظفري مبشراً بسلامة السلطان، فدقت البشائر، وخلعت عليه خلع كثيرة، واطمأن الناس بعدما كانت بينهم أراجيف، وعينت الإقامات للسلطان والأمراء.
وكان السلطان لما قرب في مسيره من عقبة أيلة بلغه اتفاف الأمير بكتمر الساقي على الفتك به مع عدة من المماليك، فتمارض وعزم على الرجوع إلى مصر، فوافقه الأمراء على ذلك إلا بكتمر الساقي فإنه أشار بإتمام السفر، وشنع عوده قبل الحج. فسير السلطان ابنه آنوك وأمه إلى الكرك، صحبة الأمير ملكتمر السرجواني نائب الكرك وكان قدم إلى العقبة، ومعه ابنا السلطان أبو بكر وأحمد ثم مضى السلطان في يوم هو محترز غاية التحرز، بحيث أنه ينتقل في الليل عدة مرات من مكان إلى أخر، ويخفي موضع مبيته من غير أن يظهر أحداً على ما نفسه مما بلغه، إلى أن وصل إلى ينبع. فتلقاه الأشراف من أهل المدينة بحريمهم، وقدم عليه الشريف أسد الدين رميثة من مكة ومعه قواده وحريمه، فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وساروا معه إلى أن نزل خليص في ثلاثين مملوكاً إلى جهة العراق.
فلما قدم السلطان مكة أكثر بها من الإنعام على الأمراء، وأنفق في جميع من معه من الأجناد والمماليك ذهباً كثيراً وعم بصدقاته أهل الحرم. فلما قضي النسك عاد يريد مصر، فلما وصل إلى المدينة النبوية هبت بها في الليل ريح شديدة جداً ألقت الخيم كلها، وتزايد اضطراب الناس، وفر منهم عدة من المماليك، واشتدت ظلمة الجو، فكان أمراً مهولاً. فلما كان النهار سكن الريح، فظهر أمير المدينة بمن فر من المماليك، فخلع السلطان عليه، وأنعم عليه بجميع ما كان مع المماليك من مال وغيره. وبعث السلطان بالمماليك إلى الكرك، وكان أخر العهد بهم.
وقدم السلطان إلى القاهرة في يوم السبت ثامن عشر المحرم، بعدما ورد الخبر بموت بكتمر الساقي وولده وكثرت الإشاعات. وقد خرج معظم الناس في لقائه، بحيث غلقت أسواق القاهرة ومصر، وخرج شرف الدين النشو، فبسط الشقاق الحرير والزر بفت التي جباها من الأمراء المقيمين وأرباب الدولة من بين العروستين إلى باب الإصطبل. فلما توسط السلطان بين الجبلين صاحت العامة: هوإياه؟ ما هوإياه؟ بالله اكشف لثامك وأرنا وجهك. وكان السلطان قد تلثم، فحسر اللثام عن وجهه، فصاحوا بأجمعهم: " الحمد لله على السلامة " ، وبالغوا في إظهار الفرج به والدعاء له، فسره ذلك منهم. وصعد السلطان القلعة، فدقت البشائر وعملت الأفراح ثلاثة أيام. وكانت حجة السلطان هذه يضرب بها الأمثال: أبيع بمكة فيها الأردب من الشعير من عشرة دراهم إلى عشرين درهماً، وأبيع البقسمات بالعدل، فكان يقف كل رطل منه بفلس واحد، وأبيع السكر كل رطل بدرهمين، والعلبة الحلوى بثلاثة دراهم. وقدمت تنكز نائب الشام افي خليص، فعمت الناس وأنعم السلطان على جميع أهل مكة، وكان إنعامه على الشريف رميثة بخمسة ألاف دينار، وعلى زوجته بخمسمائة دينار، وذلك سوى ما أنعم به على البنات وغيرها. فقدم له رميثة مائة فرس، وألف رأس من الغنم، فرد الجميع وأخذ منها فرسين لا غير.
وفي يوم الإثنين عشريه: جلس السلطان بدار العدل، وخلع على جميع الأمراء والمقدمين، وأنعم عليهم إنعامات كثيرة.
وفيه منع السلطان النشو من التعرض لمباشري بكتمر الساقي وسائر ألزامه، وطلب المهذب كاتب بكتمر، وألزمه بكتابة ما خلفه، فوجد له ستة وثلاثون ألف أردب غلة، ومن السلاح والجوهر وغيره ما زادت قيمته على مائة ألف دينار، واتهم موسى الصير في أنه خصه مما سرقه مباشروه خمسة وعشرون ألف دينار. ثم عرض السلطان مماليك بكتمر، وأخذلهم جماعة، وأنعم على الأمير بشتاك بإقطاع بكتمر وجميع حواصله ومغله، ثم زوجه زوجته بعد وفاء عدتها.
وفي ثالث عشريه: سافر الأفضل صاحب حماة.
وفيه قدم البريد من تنكز نائب الشام بتهنئة السلطان بقدومه سالماً، وطلب الإذن له في القدوم إلى القاهرة، وشكا تنكز من الأمير طينال نائب طرابلس، لترفعه عليه وخرق حرمته، وإعراضه عما يكاتبه فيه. فأجيب بالشكر والإذن له بالحضور، وعزل طينال واستقر الأمير قرطاي عوضه، ونقل طينال إلى نيابة غزة إهانة له. وركب الأمير يبغرا البريد لتقليد المذكورين، وقد أوصاه السلطان إلى رأي من طينال كراهة لنيابة غزة يقبضه ويحضر به مقيداً.
وفيه كتب بإضافة غزة إلى نيابة الشام، وأن نائبها يكاتب نائب الشام فيما يعن له من الأمور، ولا يكاتب السلطان.
وفي يوم الإثنين خامس صفر: قدم الصاحب أمين الدين عبدالله بن الغنام باستدعاء، وخلع عليه واستقر في نظر الشام ونظر الخاص بها وذظر الأوقاف، عوضاً عن الشمس غبريال، وكتب توقيعه من إنشاء الصلاح خليل بن أيبك الصفدي وسافر في حادي عشره.
وفيه أنعم على الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير جنكلي بن البابا بإمرة طبلخاناه، وأنعم بعشرة على أخيه.
وفي هذا الشهر: كثرت مصادرات النشو للناس: فأقام من شهد على التاج إسحاق أنه تسلم من المكين الترجمان صندوقاً فيه ذهب وزمرد وجوهر مثمن، فرسم لابن المحسني بعقوبة موسى بن التاج إسحاق حتى يحضر الصندوق. وطلب النشو ولاة الأعمال وألزمهم بحمل المال، وبعث أخاه لكشف الدواليب بالصعيد وتتبع حواشي ابن التاج إسحاق، فقدم قنغلي والي البهنسا وقتشمر والي الغربية، وفخر الدين إياس متولي المنوفية، وعدة من المباشرين، فتسلمهم ابن هلال الدولة ليستخلص منهم الأموال.
وفي يوم الثلاثاء رابع ربيع الأول: توجه الأمير سيف الدين بيغرا لتقليد الأمير شهاب الدين قرطاي نيابة طرابلس، عوضاً عن طينال، وقد نقل قرطاي إليها من أمرة بدمشق، واستقر طينال في نيابة غزة.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرى جمادى الأولى : قدم الأمير تنكز نائب الشام، فأكرمه السلطان إكراماً زائداً على عادته.
وفيه تفاوض شرف الدين أبو بكر محمد بن الشهاب محمود كاتب السر والأمير صلاح الدين يوسف الدوادار، حتى توحش ما بينهما، وارتفعا إلى السلطان. فسأل كاتب السر أن يعود إلى الشام، فأجيب إلى ذلك، وكتب بطلب محيي الدين يحيى بن فضل الله كاتب السر بدمشق، ليستقر في كتابة السر.
وفيه قدم البريد بموت قطب الدين موسى ابن شيخ السلامية ناظر الجيش بدمشق، فتروى السلطان أياماً فيمن يولى عوضه، إلى أن تعين فخر الدين محمد بن بهاء الدين عبدالله بن أحمد بن علي بن الحلي، فخلع عليه في أول صفر، وسافر إليها في تاسع عشر صفر.
وفي تاسع جمادى الآخرة: خلع على الأمير تنكز خلعة السفر، وتوجه إلى دمشق، وصحبته ابن الحلي ناظر الجيش، وشرف الدين بن الشهاب محمود كاتب السر.
وفي سلخ جمادى الآخرة: قدم محيي الدين يحيى بن فصل الله العمري من دمشق بأولاده، فخلع عليه، واستقر في كتابة السر عوضاً عن ابن الشهاب محمود، وخلع على أولاده.
وفيه قدم ناظر حلب وعامة مباشريها، فتسلمهم ابن هلال الدولة لعمل الحساب وسبب ذلك أنه لما مات فندش ضامن دار الطعم وعداد الأغنام بحلب، قام بعده من ضمن الجهتين فسعى بدر الدين لؤلؤ الحلبي مملوك فندش في الضمان، فلم يجب إليه لسوء سيرته، فكتب إلى السلطان بأنه يعين في جهة مباشري حلب أموالاً عظيمة أهملوها وصالحوا عليها فطلبوا لذلك. وكان لؤلؤ قد حضر إلى القاهرة، فعينه السلطان شاد الدواوين بحلب، فسافر إليها صحبه الأمير سيف الدين جركتمر الناصر وأخذ في كشف أحوال المباشرين ومحاققتهم بناء عن أمر السلطان.
وفيه قدم المخلص أخو النشو من كشف الدواليب والزراعات بالوجه القبلي فأغرى النشو السلطان بمباشري الوجه القبلي وأنهم فرطوا في مباشراتهم، وأتلفوا عدة أموال للسلطان. فكتب بالحوطة على جميع مباشري الوجه القبلي شاديه وعماله وشهوده والمتحدثين، وحملهم وحمل الأمير أحمر عينه وإيقاع الحوطة على موجوده كله وكان قديم المباشرة في الدواليب، وله سعادة جليلة وحمل عز الدين أيبك شاد الدواليب وكان أيضاً صاحب أموال جزيلة فأوقعت الحوطة على أموال الجميع، وحملوا إلى القاهرة.
وفيه طلب النشو تجار القاهرة ومصر، وطرح عليهم عدة أصناف من الخشب والجوخ والقماش بثلاثة أمثال قيمته، وركب إلى دار القند، واعتبر أوزان القنود الواصلة إلى الأمراء من معاصرهم وغيرها، وكانت شيئاً كثيراً. وكان السلطان قد رسم للأمراء بمسامحتهم بمما عليها للديوان، فألزم النشو مباشريهم بما عليهم للديوان عنها، و لم يمتثل ما في المراسيم السلطانية من مسامحتهم. ثم ركب النشو إلى السلطان، وعرفه بأن الذي للديوان على القنود التي اعتبرها في يومه مبلغ ستة ألاف دينار، وأنه كل قليل يرد للأمراء من القنود مثل ذلك وأكثر منه، وأن مال السلطان يذهب في هذا وأمثاله، فإن الدواوين تسرق بحجة مسامحة الأمراء شيئاً كثيراً. فأثر ذلك في نفس السلطان، ومكن النشو من عمل ما يختاره، وألا يسامح أحداً بشيء مما عليه للديوان فشق ذلك على الأمير قوصون، وحدث السلطان في إمضاء ما رسم له به من المسوح عن القند فلم يجبه السلطان إلى ذلك، ووعده أنه يعوضه عليه بأكثر منه. فانكفت الأمراء عن السؤال، وعظم النشو بهذا في أعين الناس.
واستدعى النشو ابن الأزرق ناظر الجهات وكان ظلوماً غشوماً فكتب له أسماء أرباب الأموال من التجار، وطرح عليهم قماشاً استدعي به من الإسكندرية بثلاثة أمثال قيمته، وأخرق بمن عارضه منهم، وحمل النشو للسلطان من هذا وشبهه أموالاً عظيمة.
وفيه قدم الصاحب شمس الدين عبدالله غبريال بن أبي سعيد بن أبي السرور من دمشق فألزم بحمل أربعين ألف دينار وضعها كريم الدين عنده ليتجر له بها، وحمل ما أخذه في مباشرته من مال السلطان، وكان ذلك بإغراء النشو. فقام في أمره الأمير بتشاك والأمير قوصون حتى يقرر عليه ما يحمله من غير أهنة، فحمل ألف ألف درهم.
وعمت مضرة النشو الناس جميعاً، وانتمى إليه عدة من الأشرار، ونموا على الكافة من أهل القبلي والوجه البحري ودلوه على من عنده شيء من الجواري المولدات لشغف السلطان بهن، فحملت إليه عدة منهن بطلبهن من أربابهن، وسعوا عنده بأرباب الأموال أيضاً، فدهى الناس منه بلاء عظيم.
وفى سلخ شوال: أخرج صلاح الدين الدوادار على البريد منفياً إلى صفد، وخلع على سيف الدين بغا الدوادار الصغير عوضه، وسبب ذلك أنه كان مترفعاً، يعامل رفقاءه بشمم وتكبر. وكان شهاب الدين أحمد بن محيي الدين يحيي بن فضل الله كاتب السر يباشر عن أبيه وعن جده في مزاحة وقوة نفس فسلك صلاح الدين معه مسلكه مع ابن الشهاب محمود، فلم يحتمل شهاب الدين ذلك منه، وصار بينهما شنان، إلى أن اتفق في بعض الأيام ذكر السلطان الفخر ناظر الجيش، فترحم عليه، فقال صلاح الدين: " يا خوند لا تترجم على ذلك، فإنه ما كان مسلماً. فغضب السلطان من معارضته له، وقال: " والله يا صلاح الدين هو أيضاً كان يقول عنك أنك لست بمسلم، وتبين في وجه السلطان الغضب، وانفض المجلس. فذكر بعد ذلك صلاح الدين عند السلطان فقال عنه: " ذاك ما يتحدث عن أحد بخير " ، فانتهز ابن فضل الله الفرصة في صلاح الدين، ومازال به حتى أبعده السلطان وعزله في يوم الأربعاء حادي عشر رمضان، وأقام سيف الدين بغا دوادارا عوضه، ثم أخرج صلاح الدين أميراً بصفد في سلخ شوال.
وفي هذه السنة: أخذ الأمير قوصون دار الأمير بيسري بالقاهرة وكانت وقفاً فعمل محضر بشهود القيمة أن قيمتها مبلغ مائة وتسعين ألف درهم وتكون الغبطة للأيتام عشرة ألاف درهم، فكملت مائتان ألف فحكم القاضي شرف الدين الحراني الحنبلي ببيعها وشراء عقار بثمنها. وهذا بعد أن كان كتاب وقف بيسري لها فيه من الشهود عدة اثنين وسبعين عدلاً، منهم تقي الدين ابن دقيق العيد، وتقي الدين بن رزين، وتقي الدين ابن بنت الأعز، وذلك قبل بلوغهم درجة القضاء، فكان هذا مما شنع ذكره، فإنها دار يجل وصفها ويتعذر وجود مثلها.
وفيها عمل السلطان باب من خشب السنط الأحمر، وصفحه بفضة زنتها خمسة وثلاثون ألف درهم وثلاثمائة درهم ومضى به الأمير سيف الدين، برسبغا الساقي إلى مكة، فقلع باب الكعبة العتيق، وركب هذا الباب وأخذ بنو شيبة الباب العتيق، وكان من خشب الساسم المصفح بالفضة، فوجدوا عليه ستين رطلاً من فضة تقاسموها، وترك خشب ذلك داخل الكعبة، وعليه اسم صاحب اليمن في الفردتين، واحدة عليها: اللهم يا ولي يا علي اغفر ليوسف بن عمر بن علي.
وفي يوم الأربعاء حادي عشرى ذي القعدة وحادي عشر مسرى : كان وفاء النيل، وبلغ سبعة عشر ذراعاً وثماني أصابع.
وفيها هدمت قاعة الصاحب وقاعة الإنشاء بقلعة الجبل، ورسم أن تكون دار الوزارة وقاعة الإنشاء بدار التيابة. وكانت دار الوزارة قد عمرت في الأيام الأشرفية برسم ابن السلعوس.
وفي عشرى ذي الحجة: قبض الأمير ألماس الحاجب وأخوه قرا، وسجنا مقيدين، ثم أخرج قرا إلى الإسكندرية في رابع عشريه.
وفي حادي عشريه: خلع على الأمير بدر الدين مسعود بن خطير، واستقر حاجباً عوضاً عن ألماس.
ومات فيها من الأعيانناظر الجيش بدمشق قطب الدين بن موسى بن أحمد بن الحسن المعروف بابن شيخ السلامية عن اثنتين وتسعين سنة.
ومات الأمير شمس الدين سنقر المرزوقي في يوم الأربعاء ثامن عشر رمضان.
وتوفي قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعدالله بن جماعة الحموي الشافعي في حادي عشر جمادى الأولى وهو معزول، بعدما عمي.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الوهاب بن عبادة البكري النويري الشافعي صاحب كتاب التاريخ، في الحادي والعشرين من رمضان.
ومات الأمير أحمد بن بكتمر الساقي بوادي عنتر من طريق الحجاز في المحرم، واتهم السلطان بأنه سمه، فحمل مصبراً.
ومات الآمير بكتمر الساقي بعد موت ولده بثلاثة أيام، وكان موت ولده الأمير أحمد في ليلة الثلاثاء سابع المحرم ورحل إلى نخل فدفن بها وموت الأمير بكتمر يوم الجمعة عاشر المحرم وقد حمل إلى عيون القصب، فدفن بها ثم نقل بكتمر وولده إلى خانكاته من القرافة بالقاهرة، فدفنا بها يوم الأحد سابع ربيع الآخر واتهم السلطان بأنه سم بكتمر أيضاً، وذلك أنه كان قد عظم أمره بحيث أن السلطان في هذه الحجه كان معه ثلاثة ألاف ومائة عليقة، وكان مع بكتمر ثلاثة ألاف عليقة، وبلغت عدة خيوله مائة طوالة بمائة سايس بمائة سطل، وكان عليق خيله دائماً ألفاً ومائة عليقة كل يوم. فلما توجه مع السلطان إلى الحج وشي به أنه يريد قتل السلطان، فتحرز السلطان على نفسه غاية التحرز، وكان فيه من الدهاء والمكر ما لا يوصف، فأخذ يدبر على بكتمر ويلازمه بحيث عجز بكتمر أن ينظر إلى زوجته، فإنه كان إذا ركب أخذ يسايره بجانبه، وإذا نزل جلس معه، فإن مضى إلى خيامه بعث في طلبه، بحيث إنه استدعي به وهو يتوضأ بواحد بعد الآخر من الجمدارية، حتى كمل عنده عدة اثنى عشر جداراً. فلما ثارت الريح بالمدينة قصد السلطان في تلك الليلة اغتيال بكتمر وولده، وأعد لذلك جماعة، فهجموا على أحمد بن بكتمر فلم يتمكنوا منه، واعتذروا بأنهم رأوا حرامية وقد أخذوا لهم متاعاً، فمروا في طلبهم فداخل الصبي منهم فزع كثير غشي عليه منه. وزاد احتراز السلطان على نفسه، وتقدم بأن تنام الأمراء بمماليكهم على بابه. وسار السلطان من المدينة، فيقال إنه سقى الصبي ماء باردا في مسيره كانت فيه منيته، ثم بعد قليل سقي بكتمر بعد موت ولده مشروباً، فلحق به. واشتهر ذلك، حتى أن زوجة بكتمر لما مات صاحت، وقالت للسلطان بصوت سمعه كل من حضر: " ياظالم أين تروح من الله، ولدي وزوجي، زوجي كان مملوكك، ولدي إيش كان بينك وبينه، وكررت هذه مراراً، فلم يجبها. وقد ذكرنا ترجمته في كتابنا الكبير المقفي بما فيه كفاية، إذ هو كتاب تراجم ووفيات، كما أن هذا كتاب حوادث وماجريات.
ومات علم الدين المشطوب، يوم الأحد تاسع عشرى ذي القعده.
ومات جمال الدين أبو الحسين بن محمود بن أبي الحسين محمود بن أبي سعيد بن أبي الفضل بن أبي الرضا الربعي البالسي إمام السلطان، في سابع عشر رمضان، ومولده سابع عشر رجب سنة ست وأربعين وستمائة، واسمه كنيته، وكان فاضلا، كتب بخطه كتباً كثيرة.
ومات جدي الشيخ محيي الدين أبو محمد عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن تميم بن عبد الصمد بن أبي الحسن بن عبد الصمد بن تميم المقريزي بدمشق في ثامن عشرى ربيع الأول وكان فقيهاً حنبلياً محدثاً جليلاً، سمع بعلبك من زينب بنت كندي وبدمشق من عمر بن القواس وجماعة وحدث وكتب بخطه كثيراً وقرأ كثيراً وقدم القاهرة، وعد من أعيان الفقهاء المحدثين.
سنة أربع وثلاثين وسبعمائة
في أول المحرم: أحيط بحواصل الأمير ألماس الحاحب، وكان قبض عليه وعلى أخيه الأمير قرا وسبب التغير على ألماس أنه كان نائب الغيبة مدة سفر السلطان بالحجاز، وسكن في دار النيابة بالقلعة، وسكن الأمير أقبغا عبد الواحد داخل باب القلة من القلعة، فحفظ أقبغا عليه أشياء غير بها قلب السلطان لوجدة كانت بينه وبين ألماس: منها أنه كان يتراسل هو والأمير جمال الدين آقوش المعروف بنائب الكرك، لميل كل منهما إلى الآخر، ومنها كثرة أفعال ألماس للأمور القبيحة، من انهماكه في الميل إلى الأحداث وإسرافه في ذلك، حتى إنه كان بجوار دار النيابة مسجد ففتح منه باباً وصار يعبر بالأحداث من ذلك إليه، واشتد شغفه بغلام يدعى عمير من أولاد الحسينية، وأكثر من النزول من القلعة وجمع الأويراتية مع المذكور للشرب، هذا مع ما حفظ عليه من الكلام السيء في وقت الإرجاف بالسلطان وهو مسافر، وكثرة ماله وتنميته من وجوه منكرة، فإنه غرس بساتين بناحيتي بهواش والنعناعية من المنوفية، وجلب عدداً كثيراً من الخنازير وسمنهم بها، وباعهم على الفرنج ببضائع، وحمل سلاحاً كثيراً إلى بلاد الشرق تعوض به أصنافاً للمتجر، فاتسعت أمواله وتكثر بها، وقال غير مرة للأمراء: " عندي الذهب والدراهم ومن فيكم مثلي، وزاد في هدا المعنى وأقبغا عبد الواحد يضبط عليه مساوئه، ويسعى به إلى السلطان حتى غيره عليه. ويقال أن السلطان وجد فيما خلفه الأمير بكتمر الساقي جزدان فيه كتب من جملتها كتاب ألماس إليه يتضمن أنني أحفظ لك القلعة حتى يرد على لك ما أعتمده فلم يصبر له السلطان على هذا.
ولما قبضه السلطان، وقبض على أخيه قرا وكان ظالماً غشوماً خماراً نزل النشو وابن هلال الدولة وشاهد الخزانة لضبط موجوده، فوجد له ستمائة ألف درهم فضة، ومائة ألف درهم فلوس، وأربعة ألاف دينار مصرية، وثلاثون حياصة ذهب كاملة بكلفتاتها الذهب وخلعها الحرير، وبعض جوهر، وعدة أشياء ثمينة، وقبض على عبد له رباه صغيراً، فعاقبه السلطان حتى اعترف على كل من كان يحضر إليه من الأحداث وغيرهم.
وفيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بقتل ياسور أحد ملوك المغل وقت رمي الجمرات. وكان من خبره أن ملك الشرق أبا سعيد بن خربندا لما قتل جوبان أراد إقامة ياسور لأنه من عظماء القان، فخوف من شجاعته، وأن جوبان كان يريد إقامته في الملك، فنفر منه أبو سعيد، ثم إنه استأذنه في الحج فأذن له، وقام له بما يليق به. ثم طلب أبو سعيد المجد السلامي وكتب إلى السلطان يعرفه بأمر ياسور، ويخوفه منه أن يجتمع عليه المغل، ويسأله قتله. فدفع السلامي كتاب أبي سعيد إلى مملوكه قطلوبك السلامي فقدم على السلطان أول ذي القعدة من السنة الماضية، فأركبه السلطان النجيب في عاشره إلى مكة، ومعه كتاب إلى الأمير برسبغا الحاجب وقد حج من مصر بطلب الشريف رميثه وموافقته سراً على قتل ياسور فقدم قطلوبك مكة أول ذي الحجة، فلم يوافق رميثة على ذلك، واعتذر بالخوف. فأعد برسبغا بعض نجابته من العربان لذلك، ووعده بما ملأ عينه. فلما قضى الحاج النسك من الوقوف والنحر، وركب ياسور في ثاني يوم النحر لرمي الجمار، ركب برسبغا أيضاً فعندما قارب ياسور الجمرة وثب عليه النجاب، وضربه فألقاه إلى الأرض، وهرب نحو الجبل، فتبعه مماليك برسبغا وقتلوه أيضاً، خشية من أن يعترف عليه. فاضطرب حجاج العراق وركبت فرسانهم وأخذوا ياسور قتيل في دمائه، وساروا إلى برسبغا منكرين ما حل بصاحبهم، فتبرأ برسبغا من ذلك وأظهر الترغم له، وقرر عندهم. " أن هذا الذي قتل هو من له عليه ثأر أو أحد غرمائه، وإنكم كفيتم أمره، فإني أخذت لكم بثأره وقتل قاتله " . فانصرفوا عنه وفي نفوسهم منه شيء، ومازالو له بالمرصاد وهو منهم محترز منهم حتى افترق ركب الحاج العراقيين من المصريين بالمدينة النبوية، فأمن برسبغا على نفسه، وتقدم الحاج إلى السلطان مع المبشرين.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرى ربيع الآخر: خلع على الأمير سيف الدين جاريك المهندار، واستقر حاجباً وترتب عوضه مهمندارا الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي شاد الشراب خاناه.
وفي عشرى رجب: خلع على الأمير سيف الدين محمود بن خطير أخو الأمير بدر الدين مسعود الحاجب واستقر حاجباً، وكان قد قدم من دمشق في سابع عشرى ربيع الآخر.
وفي يوم الخميس ثامن عشرى جمادى الآخرة: قدم الأمير تنكز نائب الشام إلى غزة، وقدم مملوكه يستأذن في دخوله كما هي عادته، فرسم له بسرعة الحضور، وألا يتحدث في شيء من أمر ابن هلال الدولة، فإن السلطان قد تغير عليه، فقدم.
وفي هذه الأيام: شفع الأمير قوصون في عود جمال الدين عبدالله ابن قاضي القضاة جلال الدين من دمشق، بدخلة أبيه عليه في ذلك، فأجابه السلطان. وقدم جمال الدين إلى القاهرة على البريد، فأقبل على عادته من اللهو، وعثر داراً على النيل بجوار دار أبيه، وتجاهر بما لا يليق. فتقدم أمر السلطان إلى ابن المحسني والي القاهرة أن يتحيل في كبسه وإشهاره، وأحس عبدالله بذلك، فكف عما كان يعانيه من اللعب.
وفي يوم السبت نصف رجب: قدم بدر الدين لؤلؤ الحلبي مملوك فندش بفاء مفتوحة ونون ساكنة، ثم دال مهملة مفتوحة بعدها شين معجمة وسيف الدين الأكز من الشام. فأحضرهما السلطان، وطلب مباشري حلب وهم النقيب بدر الدين محمد بن زهرة الحسين والقاضي جمال الدين بن ريان ناظر الجيش وناصر الدين محمد بن قرناص عامل الجيش، وعمه المحبي عبد القادر عامل المحلولات، والحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي، والحاج علي بن السقا، وغيرهم. فحاققهم لؤلؤ والي في رميهم بأخذ الأموال السلطانية، وجاهرهم بالسوء من القول بين يدي السلطان، والتزم بأنه إن مكن منهم استخلص منهم مائة ألف دينار. فطلب النشو بعد إخراجه، ووقع الكلام بينه وبين السلطان في ذلك وأمثاله من تحصيل الأموال، فأخذ النشو يقرر معه أن الأمراء قد أخذوا مساميح بمتاجرهم، ويتحصل من هذا إذا ضبطت عليها في كل سنة للديوان زيادة على مائتي ألف دينار، وأنه لا يتمكن مع قيام الأمير قوصون والأمير بشتاك أن يجمع للسلطان شيئاً من ذلك المال، فإنهما وأمثالهما قد اعتادوا من المباشر للسلطان أن ينفق المباشرون عليهم نصف متحصل الديوان برطيلاً وأنه فقير ليس له مال يبرطل به له ولا هو ممن يبرطل بمال السلطان، وأنه لو سلم منهم لملأ خزانة السلطان وحواصله أموالاً، لكنه يخشاهم أن يغيروا السلطان عليه. ورمى النشو المباشرين مع ذلك بعظائم من كثرة أموالهم ونعمهم، مما أخذوه في مباشراتهم من مال السلطان. فأذن له السلطان في عمل ما يختاره، وأن يتصرف في الدولة ولا يبالي بأحد، ووعده بتقوية يده وتمكينه ومنع من يعارضه.
ثم استدعى السلطان بالمخلص أخي النشو، ورتبه مباشراً عند الأمير سيف الدين ألناق، واستخدم أخاه رزق الله عند الأمير ملكتمر الحجاز واستخدم صهره ولي الدولة عند الأمير أرغون شاه وخلع عليهم.
وانبسطت يد النشو، واشتدت وطأته، وأخذ في التدبير على ابن هلال الدولة، ورتب عليه أنه أخذ من مال السلطان جملة، وأنه أهمل في المحافظة على أمور السلطان، وأن ما ضاع بسببه من مال السلطان كثير، وأنه تواطأ مع أولاد التاج إسحاق على مال السلطان. وندب النشو لتحقق ذلك أمين الدولة بن قرموط المستوفي والشمى بن الأزرق ناظر الجهات، وقرر مع السلطان إقامة لؤلؤ لاستخلاص الأموال، وطلب المباشرين للمحاققة، فجمعهم السلطان. فبرز قرموط وواجهه ابن هلال الدولة بأنه أهمل الأمور، وبرطل بالأموال، ونحو هذا من القول، فأثر كلامه في نفس السلطان، وصرف المباشرين، وبعث إلى ابن هلال الدولة يأمره بأن يلزم بيته. وخلع على الأكز واستقر شاد الدواوين عوضاً عن ابن هلال الدولة، وخلع على بدر الدين لؤلؤ الحلبي ليكون مستخلص الأموال، وخرجا إلى دار الوزارة بالقلعة، وطلبا الضمان والكتاب والمعاملين وأرباب الوظائف. ورتبت على ابن هلال الدولة أوراق. مما أهمله وفرط فيه، وطلب وصودر هو وجميع ألزامه، وقبص على مقدم الدولة خالد بن الزراد ومن يلوذ به، فحملوا الأموال. وخلع على ابن صابر واستقر مقدم الدولة. واشتد لؤلؤ على أهل حلب وأهل مصر، وعسفهم وتجاوز المقدار في عقوبة المصادرين خصوصاً أولاد التاج إسحاق.
وفي يوم الخميس ثالث رجب: سافر الأمير تنكز نائب الشام، بعدما أنعم عليه السلطان بمائة ألف درهم، وتوجه صحبته الأمير آقول الحاجب، ليستقر حاجب الحجاب بدمشق.
وفي يوم الأحد خامس المحرم: استقر الأمير تجماس الجوكندار المنصوري الملقب بشاش في نيابة حمص، عوضاً عن بهادر السنجري بحكم وفاته.
وفي يوم الأحد أول المحرم: أفرج عن الأمير بهاء الدين أصلم، وعن أخيه الأمير قرمجي.
وفيه أيضاً أفرج عن الأمير بكتوت القرماني. وكانت مدة اعتقال أصلم وقرمجي سته سنين وثمانية أشهر، ومدة اعتقال القرماني سبع سنين وسبعة شهور.
وفي سادس المحرم: رسم للأمير جمال الدين آقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك بنيابة طرابلس، بعد موت قرطاي وخلع عليه في تاسعه، وسافر في تاسع عشره. وكان ذلك لأمور: منها صحبته مع الأمير ألماس الحاجب، ومنها ثقله على السلطان، فإن السلطان كان يجله ويحترمه ويقوم له كلما دخل إلى الخدمة، ومنها معارضته للسلطان في أغراضه، لاسيما في أمر النشو، فإنه كان يبلغ السلطان كثرة ظلمه وقبح سيرته في الناس. فأراد السلطان أن يستريح منه، فخلع عليه وبعث له بألف دينار، وأخرج برسبغا مسفراً له على العادة. فلما وصل برسبغا به إلى طرابلس وعاد، خلع السلطان عليه واستقر حاجباً صغيراً. وفيه خلع على الأمير مسعود بن خطير، واستقر حاجباً كبيراً عوضاً عن الأمير ألماس.
وفي يوم الخميس ثاني شعبان: استقر أيدكين الأزكشي البريدي في ولاية القاهرة، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن المحسني بسفارة النشو. فعظمت مهابته، وكبس عدة بيوت من بيوت الناس، صار يتنكر في الليل ويمشي في أزقة القاهرة، فإذا سمع صوت غناء أو ريح خمر في بيت كبسه وأخذ من أهله مالاً كثيراً بحسب حالهم. واعتنى به النشو، ومكنه من عمل أغراضه، فنال به مقاصد كثيرة. منها أن بعض تجار قيسارية جهاركس بالقاهرة تأخر له في الخزانة السلطانية عن ثمن مبيع نحو تسعين ألف درهم. وألح على النشو في المطالبة بها مع كثرة انهماكه في اللهو، فقبضه أيدكين وهو غير حاضر الذهن، وسجنه في دار الولاية، واستدعى بالعدول ليكتب عليه مشروحاً بأنه سكران ويشهره، فافتدى منه بأن أشهد عليه أنه أبر بيت المال مما له عليه، موقع هذا الإبراء من النشو ومن السلطان بمكان ولما شنع أمر أيدكين شكاه الأمير قوصون إلى السلطان، فتغير السلطان على قوصون وقال له: " أنتم كلما وليت أحداً ينفعني أردتم إخراجه ولو أنه من جهتكم لشكرتم منه كل وقت، وأسمعه مع ذلك ما يكره. ثم أضيفت إليه ولاية مصر في تاسع شعبان، ولم يجمع الولايتين أحد قبله.
وفي يوم الأحد عشرى ذي الحجة: قدم الأمير مهنا بن عيسى وسبب قدومه أن السلطان كان يحرص على قدومه إليه، ويبذل لأولاده الأموال العظيمة، فيرغبونه في القدوم على السلطان، وهو يأتي ذلك عليهم. فكان إذا أعيا السلطان أمره طرده من البلاد، حتى طرده أربع مرات، وكانت تجرد له العساكر فتخرجه، ثم تحضر أولاده وتصلح أمره، فيعود إلى البلاد، ثم يأخذ السلطان في استجلابه فلا يأتي له. فيعود إلى إخراجه، و كان السلطان يبعث في طلب الخيول منه، فيرسلها إلى السلطان، فتحمل إليه أثمانها بزيادة كثيرة وما زال أمره على هذا الحال إلى أن قدم موسى وأحمد وفياض أولاده إلى القاهرة، وبالغ السلطان في الإنعام عليهم، فحلفوا له على إحضار أبيهم إليه. فلما أتوا أباهم اجتمعوا عليه مع عمومتهم، وأرادوه على الحضور إلى السلطان بجهدهم فلم يوافقهم، فكاتبوا السلطان بأمرهم معه، فكتب السلطان إلى نائب حلب بإخراجه من البلاد فسار مهنا إلى أبي سعيد بالعراق، فأكرمه وأجله عند قدومه، فتعمد وزيره مع المجد السلامي عليه حتى فارق بلادهم رعاية لخاطر السلطان، وكتبا بذلك إلى السلطان، فسره ذلك ولما عاد مهنا من العراق تلقاه ابنه موسى فوجد أنه قد أزمع أمره على القدوم على السلطان، فلم يشعر الأمير تنكز نائب الشام إلا ومهنا قد قدم عليه هو والملك الأفضل محمد صاحب حماة، فركب إلى لقائه وأنزله بالقصر الأبلق. وقدم البريدي إلى السلطان بخبر قدومه فكاد يطير فرحاً به. ثم أركبه الأمير تنكز والملك الأفضل خيل البريد، وسيرهما إلى السلطان. فحملت للأمير مهنا الإقامات، وجنبت له الخيول، وضربت له الخيم، وخرج أمير: اندار والمهمندار إلى لقائه، وركب الأمير بشتاك له إلى قبة النصر خارج القاهرة، وسار به إلى باب السر من القلعة، فإذا الأمير قوصون قد وقف به في انتظاره، فأخذ بيده حتى عبر إلى السلطان فرحب به السلطان وأكرمه، وعتبه على فراره منه، فاعتذر مهنا وذكر أن قدومه بسبب رؤياه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وأمره له بالقدوم. فسر السلطان بذلك وخلع عليه وعلى من معه مائة خلعة، ورد إليه أمرته، وزاد في إقطاعه. وأنزله السلطان بالميدان وأمر له بسماط جليل فسم له فيه، فلم يأكل منه شيئاً، واعتذر بأن عادته أكل لبن الجمال وقرص الملة لا غير. ثم طلع مهنا إلى السلطان في خامس يوم من قدومه، فأنعم عليه بقرية دومة من عمل دمشق، لتكون له ولأولاده من بعده واتفق موت أسندمر العمري فوجد له تسعة ألاف دينار مصرية، وطلع بها النشو فسلمها لحاجب منها إنعاماً على مهنا برسم زوادته. وكتب له القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله منشوراً بدومة، ثم سافر.
وفي ذي الحجة: ركب أيدكن والي القاهرة إلى النجيلة خارج القاهرة وهي يومئذ متنزه العامة، وبدايرها أخصاص للفرجة وكبسها وقت المغرب، فما قبض على أحد إلا وسلبة ثيابه وتركه عارياً، فجمع من ذلك شيئاً كثيراً وجمع الباعة من الغد بثمنه، فبلغ خمسة عشر ألف درهم.
وفي هذه السنة: جاء بالمدينة النبوية سيل عظيم أخذ جمالاً كثيرة وعشرين فرساً، وخربت عدة دور.
وفيها استقر جمال الدين عبدالله بن كمال الدين محمد بن العماد إسماعيل بن أحمد ابن سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن شرف الدين أبي بكر بن محمد بن الشهاب محمود.
وفي يوم عرفة: استقر نجم الدين بن أبي الطيب في الوكالة بدمشق، واستقر عز الدين، بن منجا في نظر جامع بني أمية، واستقر في حسبة دمشق عماد الدين بن الشيراز وخلع عليهم جميعاً.
وفيها ورد الخبر من بغداد بان صاحبها ألزم النصارى ببغداد أن يلبسوا العمائم الزرق، واليهود أن يلبسوا العمائم الصفر اقتداء بالسلطان الملك الناصر بهذه السنة الحسنة.
وفيها ولى تدريس الشافعي بالقرافة شمس الدين محمد بن القماح بعد وفاة المجد حرمي، واستقر عوضه في وكالة بيت المال النجم الأسعردي المحتسب، وفي تدريس المدرسة القطبية بهاء الدين بن عقيل.
وفيه استقر علاء الدين مغلطاي في تدريس الحديث بالمدرسة الظاهرية، بعد موت فتح الدين محمد بن سيد الناس، بعناية قاضي القضاة جلال الدين محمد بن القزويني فاستعظم الناس ذلك، وقالوا: " ويه ويه تولى درس الحديث مغلطية " .
وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى ستة عشر ذراعاً.
ومات فيها من الأعيان
الأمير ألماس الحاجب الناصري، كان جاشنكيرا، وتنقل حتى صار حاجب الحجاب في محل النائب، لشغور منصب النيابة بعد الأمير أرغون، وكان أكابر الأمراء يركبون معه في خدمته، ويجلس في باب القلة، ويقف الحجاب بين يديه، فلما قبض عليه وحبس، قطع عنه الطعام ثلاثة أيام، ثم خنق في ليلة الثاني عشر من صفر، حمل من الغد حتى دفن بجامعه، وكان أغتم لا يعرف بالعربية شيئاً.
وتوفي وكيل بيت المال ومدرس الشافعي مجد الدين حرمي بن هاشم بن يوسف العامري الفاقوسي الفقيه الشافعي عن محو سبعين سنة، في يوم الثلاثاء ثاني ذي الحجة، ولي وكالة بيت المال ونيابة الحكم، وبرع في الفقه والأصول، ودرس بالشافعي.
وتوفي قاضي القضاة جمال الدين سليمان بن الخطيب مجد الدين عمر بن سالم بن عمر عثمان الأذرعي المعروف بالزرعي في سادس صفر بالقاهرة، عن مرض السكتة، وهو يومئذ قاضي العسكر، مولده بأذرعات سنة خمس وأربعين وستمائة. ومات الأمير علم الدين سليمان بن مهنا بن عيسى أمير آل فضل، في خامس عشرى ربيع الأول، فرسم بعده بالإمرة لسيف بن فضل.
ومات الملك الظاهر أسد الدين عبدالله بن المنصور نجم الدين أيوب بن المظفر يوسف ابن عمر بن علي بن رسول متملك اليمن، بعدما قبض عليه الملك المجاهد بقلعة دملوه، وصار يركب في خدمته، ثم سجنه مدة شهرين، ثم خنقه بقلعة تعز.
وتوفي قاضي الحنفية بحماة نجم الدين عمر بن محمد بن عمر بن أحمد بن هبة الله ابن أحمد بن يحيى المعروف بابن العديم، عن خمسة وأربعين سنة.
ومات الأمير طغاي تمر العمري زوج ابنة السلطان، ليلة الثلاثاء ثامن عشرى ربيع الأول.
ومات الأمير صوصون أخو الأمير قوصون أحد الألوف، في ليلة الجمعة رابع جمادى الأولى.
وتوفي الحافظ فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس اليعمري الأشبيلي العلامة المتقن المصنف الأديب البارع، في يوم السبت الحادي عشر من شعبان.
ومات الأمير قرطاي الأشرفي نائب طرابلس، وقد جاوز ستين سنة، بها في ثامن عشرى صفر.
ومات أمير طبر جمال الذين يوسف بن علم الدين، في ليلة السبت ثالث عشر جمادى الآخرة، وكان من أمراء العشراوات.
ومات الأمير بدر الدين بيليك أبو غدة وكان أحد أستادارية السلطان، ومن أمراء الطبلخاناه، في ليلة الأربعاء سابع عشر جمادى الآخرة.
ومات الأمير يوسف الدين خاص ترك الناصري أحمد مقدمي الألوف، في عاشر وجب بدمشق.
ومات الأمير عز الدين أيدمر دقماق العلائي نقيب الجيش، وكان أحد المماليك الأشرفية، ليلة الأحد سادس رجب، واستقر عوضه في نقابة الجيش الأمير صار وجانقيب المماليك، واستقر المماليك عوضاً عن صاروجا محمد بن لاجين المحمدي.
ومات الأمير قجماس الجوكندار المعروف بشاش نائب حمص أحد أمراء البرجية.
ومات الأمير بلبان طرنا أمير جاندار وكان نائب صفد، في حادي عشرين الأول، وهو من أمراء الألوف بدمشق. ومات القاضي صدر الدين سليمان بن إبراهيم ابن سليمان بن دواد بن عتيق بن عبد الجبار المالك قاضي الشرقية والغربية، في حادي عشرى شعبان، وبعثه السلطان رسولاً إلى بغداد.
سنة خمس وثلاثين وسبعمائةفي يوم الأحد رابع المحرم: قبض على الطواشي شجاع الدين عنبر السحرتي مقدم المماليك، بسعاية النشو، وأنعم بطبلخاناته علي الطواشي سنبل قلي واستقر نائب المقدم. وخلع على الأمير آقبغا عبد الواحد باستقراره في تقدمة المماليك، مضافاً إلى الأستادارية. فعرض آقبغا الطباق، وأخرج من كان من الأتباع الأويراتية في خدمة المماليك، وضرب جماعة من المماليك السلاح دارية والجمدارية لامتناعهم من إخراج أتباعهم، ونفوا إلى صفد.
وفي يوم الأربعاء حادي عشرى جمادى الأولى: عزل أيدكين والي القاهرة، لتغير الأمير قوصون عليه، وأخرج إلى الشام منفياً.
وفيه طلب بلبان الحسامي البريدي أحد مماليك طرنطاي النائب إلى حضرة السلطان، فلم يجد فرساً يركبه، فركب حماراً إلى القلعة، فخلع عليه واستقر والي القاهرة عوضاً عن أيدكن، وأخرج له فرس.
و فيه أفرج عن الأمراء المعتقلين، فركب على البريد الأمير بيبرس السلاح دار إلى الإسكندرية، وقدم بهم في يوم الإثنين ثاني عشرين رجب: وهم الأمير بيبرس الحاجب، وله في السجن من سنة خمس وعشرين، والأمير طغلق التتري أحد الأمراء الأشرفية، وله في السجن ثلاث وعشرون سنة، من سنة اثنتي عشرة، فمات بعد أسبوع من قدومه، والأمير غانم بن أطلس خان، وله في السجن من سنة عشر، مدة خمس وعشرون سنة، والأمير برلغي الصغير، وله في السجن من سنة اثنتى عشره، والأمير بلاط الجوكندار، والأمير أيدمر اليونسي أحد الأمراء البرجية المظفرية، والأمير لاجين العمري والأمير طشتمر أخو بتخاص، والأمير بيبرس العلمي من أكابر الأمراء البرجية، وقطلوبك الأوجاقي والشيخ علي مملوك الأمير سلار، والأمير تمر الساقي نائب طرابلس، أحد المنصوريه، وكان قد قبض عليه سنة أربع عشرة، فكانت مدة سجنه إحدى وعشرين سنة. فأنعم على تمر الساقي بطبلخاناه في الشام، وأنعم على بيبرس الحاجب بأمرة في حلب، عوضاً عن أقسنقر شاد العمائر، فسافر في سابع شعبان وكان قد رسم بالقبض على آقسنقر، فقبض عليه وسجن بقلعة حلب، وأحيط بموجوده ورسم للأمير غانم أن يقيم بالقاهرة.
وفي هذه السنة: قدمت رسل أزبك بكتابه يعتب فيه بسبب طلاق خاتون طولبية بنت تقطاي أخي أزبك، التي قدمت من جهته، وتزويجها من بعض المماليك، وطلب أزبك عودها إليه فأجيب بأنها قد ماتت، وسير إليه بهدية. وكانت قد مات زوجها الأمير صوصون، فزوجها السلطان للأمير عمر بن أرغون النائب، في يوم الإثنين تاسع عشر المحرم، ودخل عليها ليلة الجمعة حادي عشرى صفر. وقد كانت تحت السلطان ثم طلقها، فتزوجها الأمير منكلي بغا، ثم الأمير صوصون، ثم تزوجت بعمر هذا.
وفي ثاني عشر ربيع الآخر: خلع على الأمير سيف الدين جركتمر رأس نوبة الجمدارية بنيابة غزة، عوضاً عن الأمير طينال، وسافر في عشريه.
وفيه نقل طينال لنيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير آقوش نائب الكرك، وهي ولايته الثانية.
وفي سادس عشره: توجه الأفضل صاحب حماة إلى محل ولايته، بعدما خلع عليه، وكان قد قدم صحبة مهنا، وتأخر بسبب الصيد مع السلطان.
وفي يوم الخميس رابع ربيع الأول: أنعم السلطان على ولده أبي بكر بإمرة، فركب بالشربوش من إصطبل الأمير قوصون، وسار في الرملية إلى باب القرافة، وطلع إلى القلعة من الباب المعروف بباب القرافة، والأمراء والخاصكية بخدمته، وعمل الأمير قوصون يومئذ لهم مهما عظيماً في إصطبله.
وفي يوم الخميس نصف جمادى الآخره: قبض على الأمير جمال الدين آقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك، وهو يومئذ نائب طرابلس وسجن بقلعة صرخد، ثم نقل في مستهل شوال إلى الإسكندرية فسجن بها، ونزل النشو إلى بيته بالقاهرة، وأخذ موجوده كله وموجود حريمه، وعاقب أستادراه.
واستقر عوضه في نيابة طرابلس الأمير طينال على عادته، ونقل بكتمر العلائي إلى نيابة حمص، عوضاً عن بشاش المتوفي.
وسبب ذلك أنه تراءى بطرابلس مركب للفرنج في البحر، فركب العسكر إلى الميناء، فدفعت الريح المركب عن الميناء ثم أخذ الأمير آقوش في تجديد عمارة مركب هناك، وأنفق فيه من ماله أربعين ألف درهم، فقدمت مركب الفرنج، فركب العسكر في المركب المستجد، وقاتلوا الفرنج، فقتلوا منهم جماعة وغنموا مركبهم بما فيها. فادعى صاحبها أنه تاجر قدم بتجارته. فنهبت أمواله وقتلت رجاله، وذكر عنه بعض التجار أنه متحرم لا تاجر، وأنه قدم في السنة الماضية إلى ميناء طرابلس وأخذ منها مركباً. فكتب آقوش بذلك إلى السلطان، فأجيب بالشكر وحمل الفرنجي إلى السلطان، فحمله آقوش مقيداً على البريد. فأكثر الفرنجي من التظلم، وتبرأ من التحرم في البحر، وأنه قدم بتجارة وهدية للسلطان، فظلمه نائب طرابلس وأخذ ما كان معه من التحف وغيرها، فصدقه السلطان، وكتب بإعادة مركبه إليه وجميع ما أخد له، فأجاب النائب بأن المذكور حرامي يقطع الطريق على المسلمين، فلا يسمع السلطان قوله، وكتب إليه بالتأكيد في رد المركب عليه، فردها النائب عليه، وشق ذلك عليه. ثم طلب آقوش الإعفاء من نيابة طرابلس فأجيب بتخييره بين نيابة صرخد وبعلبك، وبعث السلطان إليه الأمير برسبعا الحاجب، فسار به إلى دمشق، فقبص عليه تنكز بدار السعادة، وحمله إلى صرخد.
وفي صفر: هدم السلطان الجامع بقلعة الجبل، وهدم المطبخ أيضاً. وجدد السلطان عمارة الجامع، وصار يقف بنفسه كل يوم، وندب لذلك الأمير آقبغا عبد الواحد. فحمل إليه العمد العظيمة من الأشمونين ووسع موضعه، فأدخل فيه قطعة من حارة مختص والطشتخاناه، ورخمه جميعه، وظل العمل جارياً في هذا الجامع حتى كمل في أخر شعبان على أكمل هندام وأبدع ترتيب. ووقف عليه السلطان حوانيت القلعة وغيرها، ورتب فيه القراء والمؤذنين والقومة، وانتخبهم بنفسه بعدما عرض طوائفهم، فصلى فيه أول شهر رمضان.
وفيه جدد السلطان عمارة المطبخ بالحجر، وزاد في سعته.
وفيها خرج البريد بطلب بدر الدين محمد بن التركماني من طرابلس، ليباشر مع النشو، فأفرج عنه يوم السبت رابع عشر رجب، وكان له سنة وتسعة أيام موسم عليه بالقلعة، وهو يحمل المال.
وسبب ذلك أن الأمير تنكز نائب الشام لما قدم على عادته في عاشر رجب، وعرفه السلطان همة النشو ولؤلؤ في تحصيل الأموال التي كانت مهملة ضائعة ورطل بها، ذكر له تنكز نائب الشام ما تجدد من المظالم، وحسن له طلب ابن التركماني لضبط ما عساه يخفي عن السلطان من الأموال التي تؤخذ، ووضع من لؤلؤ بأنه مملوك ضامن وكان الأكز ولؤلؤ تسلما الولاة والمباشرين والكتاب وأولاد التاج إسحاق وابن هلال الدولة وأقاربه كما تقدم، وأخرقا بهم: فحمل قشتمر والي الغربية ثمانين ألف درهم، وأفرج عنه بعناية سنجر الخازن، فإنه صهره، وضرب قنغلي والي البهنسا عدة مرار حتى حمل خمسة وسبعين ألف درهم، وضرب فخر الدين أياس الدويداري بالمقارع، فحمل ثلاثمائة ألف درهم، وهلك تحت العقوبة أيضاً شاد سوق الغنم، بعدما أخد منه نحو مائتي ألف درهم، وأخذ من خالد المقدم مبلغ ثلاثمائة وثلانين ألف درهم، بعدما ضرب بالمقارع ضرباً مبرحاً، ثم أفرج عنه على أن يحمل كل يوم عشرة ألاف درهم، فحمل في مدة شهر مائة ألف درهم، وأخذ من بكتوت الصائغ مائة ألف درهم، ومن عبد الرزاق وولده نحو مائة ألف درهم، وأخذ من ألزام ابن هلال الدولة نحو مائة وخمسين ألف درهم. وحمل ابن خلال الدولة ثلاثماثة ألف وعشرة ألاف درهم من غير أن يضرب، واتهمه النشو بأنه أخذ من الأهراء أربعة ألاف أردب فولا، وأخذ من مخلف الأمير ألماس الحاجب حياصة، فظهرت براءته من ذلك. وشق على النشو سلامته من الضرب، وبذل جهده في ضربه، والله يدفع عنه بما كان فيه من كثرة الصدقة. فرماه النشو بعد ذلك بأنه كان يتحدث مع الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك بأنه يتسلطن، ويجتمع معه على ذلك، ومعه منجم قدم به من دمشق، واستخدمه في بيت السلطان، فطلب المنجم وقتل في السجن، ومنع متولي القاعة جميع الذين يجلسون بالطرقات ويضربون بالرمل من التكسب بذلك. ورسم بضرب ابن هلال الدولة حتى يقر على نائب الكرك بما قيل عنه، فرفق به الأكز وضربه مقرعه واحدة، ثم ضربه بالعصا قليلاً وهو يحلف بالطلاق الثلاث أنه ليس عنده علم بما رمي به.
ثم إن النشو تنكر على مستوفي الدولة أمين الدين قرموط، وعلى رفيقه ابن أبي الزين، من أجل أن قرموط أكثر من الاجتماع بالسلطان، فخاف عاقبته. وأغرى النشو به السلطان وقرر في دهنه أنه جمع كثيراً من مال السلطان لنفسه، وأن خالداً المقدم يحاققه ورفيقه على أنه أخذ مائة ألف دينار. فقبض عليهما في رابع ربيع الأول، وقبض معهما على الشمس ابن قزوينة، والعلم المستوفي والنشو كاتب الرواتب، والبرهان ابن البرلسي ورفيقه ابني الأقفاصي ناظر الدولة. وقام خالد المقدم بمحاققتهم، والتزم أنه يستخلص من قرموط أربعين ألف دينار، فعوقب وضرب بالمقارع. فقال خالد للأكز ولؤلؤ: " هذا جلد ما يقر، اضربوا ولده قدامه حتى يزن المال، فإنه ما يهون به ضرب ولده. فلما ضرب قرموط أمر الأكز بإحضار ولده وضربه، فضرب وهو يتحسر عليه جزاء بما تقدم منه. فلما اشتد به البلاء ضرب نفسه بسكين في حلقومه ليهلك، فبادر الأعوان وأخذوها منه وقد جرحت حلقه، فأسرف الأكز في عقوبته وعقوبة رفقائه، وضرب القصب في أظفار ابن أبي الزين. ثم خرج النشو إلى الإسكندرية.
فقدم الأمير تنكز نائب الشام يوم الأربعاء حادي عشر رجب، وهو مقدمه العاشر، فقام في خلاص ابن هلال الدولة، وساعده الأمير قوصون حتى أفرج عنه. ثم قدم النشو من الإسكندرية، فشق عليه أن ابن هلال الدولة قد أفرج عنه، وأغرى به السلطان حتى أمر الوالي بإحضاره إلى القلعة، وخرج إليه الأكز وأخرق به، وبلغه عن السلطان أنه متى اجتمع به أحد شنقه، فنزل وأقام بالقرافة منجمعاً بها عن الناس. وأفرج عن أقاربه وألزمه وعن تجار الشرابشيين، بعدما كتب النشو عليهم إشهادات بأنهم لا حق لهم في جهة بيت المال، وكان قد تجمع لهم عن ثمن تشاريف مبلغ بخمسمائة ألف درهم على الخزانة، فذهب عليهم وصودروا مع ذلك واحتج عليهم النشو بأنهم ربحوا على السلطان فيما تقدم أموالاً جمة، وضرب منهم جماعة بالمقارع، واستأصل أموال كثير منهم.
وفيه كتب إلى نائب الشام بعد سفره في يوم السبت حادي عشر رجب بحمل علاء الدين علي بن حسن المرواني والي بر دمشق، لستقر في كشف الشرقية بتعيين الأمير مسعود بن خطير. فقدم المرواني وخلع عليه بكشف الوجه البحري، فكبس البلاد، وجمع ستين رجلاً من المفسدين، ووسطهم بمدينة بلبيس. وعلقهم على الخشب وأحدث عقوبات مشنعة: منها أنه كان ينعل الرجل في قدميه كما ينعل الفرس، ويمشيه حتى يشهره، ومنها أنه كان يعلق الرجل في خطاف من حديد يحتكه حتى يموت فأرهب الناس بالشرقية والغربية والبحيرة والمنوفية وأشوم بكثرة أثاره المهولة فيها.
وفيها صرف شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشهاب محمود كاتب السر بدمشق، وكتب نائب الشام يطلب غيره، فعين السلطان لكتابة السر بدمشق جمال الدين عبد الله بن كمال الدين محمد بن العماد إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن الأثير، من حملة الموقعين بعد عرضهم، وخلع عليه ووصاه وصايا كثيرة.
وفي خامس رمضان: قدم الأمير بدر الدين محمد بن التركماني فلم يقبل عليه السلطان، وذلك بسعاية النشو عليه أنه جمع من المباشرات أموالاً جمة، وأن متاجره الآن بطرابلس تنيف على مائة ألف دينار، وأن عنده من الكتاب من يحقق في جهته مبلغ مائتي ألف وستين ألف دينار أخذها من مال السلطان، فنزل ابن التركماني ولزم بيته. وفي تاسع عشر شوال. خلع علي بالشريف عطيفة بن أبي نمي الحسني وكان قد قدم وشكا من أخيه رميثة أمير مكة، فأشرف بينهما في الإمرة.
وفيها اشتدت العقوبة على أولاد التاج إسحاق، وعلى قرموط ورفيقه، حتى أظهروا مالاً كثيراً . وأنعم على لؤلؤ بإمرة طبلخاناه، وكثرت الخلع عليه من السلطان، وعظم البلاء به.
وفيها أقام النشو رجلاً لمرافعة الأمير شهاب الدين أحمد بن المحسني والي دمياط، بأنه أخرب أساساً قديماً في البحر بين البرجين، كانت عليه طلسمات تمنع بحر الملح عن النيل، حتى تلفت طلسمات وغلب البحر على النيل، فتلفت البساتين، وأنه نال من ثمن حجارة هذا الأساس مالاً كثيراً. فأحضر وتسلمه لؤلؤ، فضرب بالمقارع واستخرج منه جملة مال.
وفيها قبض النشو على زوجة موسى بن التاج إسحاق، وعوقبت وهي حامل عقوبة شديدة على إحضار المال، حتى طرحت ما في بطنها ولداً ذكراً، وقبض أيضاً على أولاد ابن الجيعان كتاب الإسطبل. وذلك أن النشو كانت له عجائز يتجسسن في بيوت الكبار، فبلغنه عن أولاد ابن الجيعان أن نساءه يذكرن كثرة ظلمه وعسفه، وأنهن يدعون عليه، وبلغنه أيضاً أن أحد أولاد ابن الجيعان يسعى في نظر الجيش، والآخر يسعى في نظر الخاص. فطلب النشو كاتب الإسطبل منهم، وألزمه بكتابة حساب الإسطبل، فامتنع عليه وخاشنة في القول. فسعى به النشو إلى السلطان حتى قال له مشافهة من شباك القصر: " لم لا تعمل حساب الإسطل، وتعطيه الناظر؟، يعني النشو، فقال: " يا خوند بدل ما تطلب حساب العبي والمقاود، اطلب حساب الذهب الذي يدخل في خزائنك " ، وأغلظ في حق النشو حتى قال له: " ونعمة مولانا السلطان أظهر في جهتك مائتي ألف دينار " ، فقامت قيامة النشو، وانفض المجلس على ذلك. فمازال النشو بأولاد ابن الجيعان حتى سلمهم إلى لؤلؤ، فعاقبهم حتى هلكوا وأخذ موجودهم، فلم يكتف بذلك، فقبض على أقاربهم وألزامهم، وصودر جماعة بسببهم.
وفيه خلع علي علاء الدين علي بن حسن المرواني الكاشف، واستقر في ولاية القاهرة عوضاً عن بلبان المحسني. وتولى المرواني هدم قناطر السباع التي عمرها الظاهر بيبرس على الخليح بين القاهرة ومصر وزيدت في سعتها عشرة أذرع، وأعيدت أحسن ما كانت، وركبت السباع التي كانت عليها من عهد الظاهر على حالها.
وفيها كثر شغف السلطان بمملوكه ألطنبغا المارديني شغفاً زائداً وقاه، فأحب أن ينشئ له جامعاً تجاه ربع الأمير سيف الدين طغي خارج باب زويلة، واشترى عدة دور من ملاكها برضاهم. فانتدب السلطان لذلك النشو، فطلب أرباب الأملاك وقال لهم: " الأرض للسلطان ولكم قيمة البناء ومازال بهم حتى ابتاعها منهم بنصف ما في مكاتيبهم من الثمن، وكانوا قد أنفقوا في عمارتها بعد مشتراها جملة، فلم يعتد لهم منها بشيء. وقام المارديني في عمارة الجامع حتى تم في أحسن هندام، فجاء مصرفه ثلاثمائة ألف درهم ونيف، سوى ما أنعم به عليه السلطان من الخشب والرخام وغيره. وخطب به الشيخ ركن الدين عمر بن إبراهيم الجعبري من غير أن يتناول له معلوماً. وفيها عمرت قلعة جعبر المعروفة قديماً بدوسر وكانت قد تلاشت بعد أخذ المغل لها، فلما كملت رتب في نيابتها الأمير صارم الدين بكتوت السنجري نائب الرحبة وفيها وقعت قصة بدار العدل تتضمن الوقيعة في النشو، وتذكر ظلمه وتسلط أقاربه على الناس وكثرة أموالهم، وتعشق صهره ولي الدولة لشاب تركي. وكان قبل ذلك قد ذكر الأمير قوصون للسلطان أن عميراً الذي شغف به الأمير ألماس قد ولع به أقارب النشو، وأنفقوا عليه الأموال الكثيرة، فلم يقبل السلطان فيه قول قوصون أو غيره من الأمراء لمعرفته بكراهتهم له. فلما قرئت عليه القصة قال: " أنا أعرف من كتبها وأستدعي النشو ودفعها إليه، وأعاد له ما رماه به الأمير قوصون. فحلف النشو على براءة أقاربه من هذا الشاب، وإنما هذا ومثله مما ينقله حواشي الأمير قوصون إليه، ليبلغه قوصون إلى السلطان حتى يتغير خاطره، ويوقع به وبأقاربه، وبكى وانصرف. فطلب السلطان الأمير قوصون وأنكر عليه إصغاءه لما يقال في النشو، ونقله للسلطان حتى يتغير عليه مع منفعته به، وأخبره بحلف النشو. فحلف قوصون أن النشو يكذب في حلفه، ولئن قبض على هذا الشاب وعوقب ليصدقن السلطان في تعيينه من يعاشره من أقارب النشو.
فغضب السلطان، وطلب الأمير بدر الدين مسعود بن خطير الحاجب، وأمره بطلب الشاب وضربه بالمقارع حتى يعترف بجميع من يصحبه وكتابة أسمائهم، وألزمه ألا يكتم عنه شيئاً منهم، فطلبه ابن خطير وأحضر إليه المعاصير، فأملى عليه عدة كثيرة من الأعيان، منهم ولي الدولة، فخشي مسعود على الناس من الفضيحة، وقال للسلطان: " هذا الكذاب ما ترك أحد في المدينة حتى أعترف عليه، وإنني أعتقد أنه يكذب عليهم. وكان السلطان حشم النفس يكره الفحش فقال: " يا بدر الدين من ذكر من الدوارين؟ فقال: " والله يا خوند! ما خلى من خوفه أحداً حتى ذكره. فرسم السلطان بإخراج عمير وأبيه إلى غزة وكتب إلى نائبهما أن يقطعهما خبزاً هناك.
واتفق أيضاً أن طيبغا القاسمي من المماليك الناصرية كان يسكن بجوار النشو، وله مملوك جميل الصورة، فاعتشر به ولي الدوله من إخوة النشو، فترصده أستاذه حتى هجم يوماً عليهم وهو معهم، فأخد منهم وخرج فبلغوا النشو ذلك، فبادر بالشكوى إلى السلطان بأن طيبغا القاسمي يعشق مملوكه، ويتلف عليه ماله ثم إنه هجم وهو سكران على بيتي وحريمي وقد شهر سيفه، وبالغ في السب.
وكان السلطان يمقت على السكر، فأمر في الحال باخراج طيبغا ومملوكه إلى الشام منفياً.
وفيها قدم إبراهيم ابن السلطان من الكرك، يوم الإثنين ثالث ذي الحجة.
وفيها أمر السلطان بإنشاء قناطر بناحية شيبين القصر على بحر أبي المنجا، فأنشئت تسع قناطر في شعبان، وتقدم السلطان إلى الأمراء بحمل الحجارة إليها، فحمل كل من الأمراء ما وظف عليه من ذلك وفيها وقع بالمدينة النبوية وباء، فكان يموت في كل يوم خمسه عشر بمرض الخوانيق، ولم يعهد مثل هذا بالمدينة الشريفة.
وفيها بلغت زيادة النيل ثمانية عشر ذراعاً وإحدى عشر أصبعاً، فعم نفعه عامة الأراضي، وكان الوفاء يوم الأربعاء تاسع عشر ذي الحجة، وهو سادس عشر مسرى.
ومات فيها من الأعيان
بهاء الدين أبو بكر بن محمد بن سليمان بن حمايل المعروف بابن غانم كاتب السر بطرابلس، في ثامن صفر بها.
وتوفي الواعظ شمس الدين حسين بن أسد بن مبارك بن الأثير.بمصر يوم الخميس سادس جمادى الآخرة، عن أربع وثمانين سنة، حدث عن الحافظ عبد العظيم وغيره. ومات الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، وهو معزول، يوم السبت ثامن جمادى الآخرة، عن نحو تسعين سنة، أصله من الممالك المنصورية قلاوون، وترقى حتى صار خازناً ثم شاد الدواوين ثم والي، ثم استقر والي القاهرة وشاد الجهات، فأقام عدة سنين، وإليه ينسب حكر الخازن خارج القاهرة على بركة الفيل، وكان حسن السيرة، ومات عن نحو تسعين سنة، وتربته بالقرب من قبة الشافعي بالقرافة.
ومات الأمير صلاح الدين طرخان ابن الأمير بدر الدين بيسري بسجنه في الإسكندرية في جمادى الأولى بعد ما أقام به أربع عشرة سنة.
وتوفي الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور بن منير بن عبد الكريم الحنفي، وله تاريخ مصر مقفى وشرح البخاري وشرح السيرة النبوية للحافظ عبد الغني ومشيخة في عدة أجزاء اشتملت على ألف شيخ.
وتوفي زين الدين عبد الكافي بن الضياء علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري الخزرجي السبكي بالمحلة الكبرى وهو على قضائها، وهو والد التقي السبكي.
ومات الملك العزيز عثمان بن المغيث عمر ابن العادل أبي بكر ابن الكامل محمد ابن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي بالقاهرة ومولده سنة اثنين وخمسين وستمائة.
ومات الأمير طغلق الأشرفي السلاح دار، بالقاهرة، بعد الإفراج عنه بأسبوع.
ومات الصاحب شمس الدين عبد الله واسمه غبريال أبي سعيد بن أبي السرور الأسلمي ناظر الشام، بعدما صودر اتضع حاله حتى استجدى من الأمراء ونحوهم،و كان النشو يغري به السلطان بأنه يكذب، وأن تسلمه أظهر له مالاً كبيراً، فاشتملت تركته على ألف درهم، وبسببها استطال النشو على السلطان، وصار قوله عنده لا ينقض.
وتوفي المسند أمين الدين محمد بن إبراهيم بن محمد الخلاطي الوان المؤذن بالجامع الآموي في حادي عشرى ربيع الأول بدمشق، سمع بمصر والشام والحجاز، وحدث عن جماعة.
ومات محمد بن بكتوت الظاهري القلندري بطرابلس في خامس عشر ربيع الأول، كان كاتباً مجوداً ويذكر أنه كتب على ابن الوحيد، وكان يضع المحبرة في يده اليسرى والمجلد من كتاب الكشاف للزمخشري على زنده، ويكتب منه ما شاء الله وهو يغني ولا يغلط، وكان عند المؤيد بحماة مده، ثم طرده.
وتوفي شيخ الكتابة بهاء الدين محمود بن الخطيب محيي الدين محمد بن عبد الرحيم ابن عبد الوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل السلمي المعروف بابن خطيب بعلبك الدمشقي بها في سلخ ربيع الأول، عن سبع وأربعين سنة.
ومات الأمير مهنا بن عيسى بن مهنا، في يوم الإثنين ثامن عشر ذي القعدة بسلمية ودفن بها، عن ثمانين سنة، وترك ستة عشر ولداً وكان عفيفاً مشكور السيرة.
وتوفيت ناصرية إبنة إبراهيم بن الحسين السبكي والدة التقي بعد زوجها زين الدين عبد الكافي السبكي بأربعين يوماً، حدثت عن علي بن الصواف، ودفنت بالقرافة.
وتوفيت زينب بنت الخطيب يحيى ابن الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، عن سبع وثمانين سنة، وقد تفردت بالرواية عن جماعة و قتل ترمشين بن دوار المغل صاحب بلخ وبخارا وسمرقند ومرو وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وأبطل المكوس وعدل في رعيته، وملك بعده بزان.
سنة ست وثلاثين وسبعمائة
في المحرم: قدم مملوك المجد السلامي من العراق بكتاب أستاذه وصحبته بيرم رسول بوسعيد، فنزلا بدار الضيافة، وسافرا يوم الخميس خامس عشريه. وكان الكتاب يتضمن أن بوسعيد مرض، فتصدق بمال كثير، وكتب بإسقاط المكوس من توريز وبغداد والموصل، بواسطة الوزير محمد بن الرشيد، وأن سديد الدولة ديان اليهود مر بقارئ يقرأ قوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً " فوقف واستعاده قراءتها، وبكى بكاء شديدا، وقد اجتمع عليه الناس، ثم أعلن بكلمة الإسلام، فارتجت بغداد لإسلامه، وغلقت أسواقها، وخرج النساء والأولاد، فأسلم بإسلامه ستة من أعيان اليهود، وسارعت العامة ببغداد إلى كنائس اليهود، فخربوها ونهبوا ما فيها.
وفيها تم بناء خانكاه الأمير قوصون بجوار جامعه من داخل باب القرافة، وتمت عمارة حمامها أيضاً. فقرر قوصون في مشيختها الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصفهاني في يوم الخميس ثاني صفر، وعمل بها سماط جليل.
وفي يوم الخميس تاسع عشر ربيع الآخر: توجه السلطان إلى الوجه القبلي حتى وصل إلى دندرا، وعاد فطلع القلعة في يوم الخميس خامس جمادى الأولى، وكانت غيبته خمسة وأربعين يوماً.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأول: عزل الأمير سيف الدين بغا عن الدوادارية، واستقر عوضه سيف الدين طاجار المارديني، ثم أخرج بغا عن إمرة عشرة بصفد، في ليلة الجمعة سادس ربيع الآخر. وسببه أن بعض تجار قيسارية جهاركس طرح عليه النشو ثياباً بضعفي قيمتها كما هي عادته، فرفع قصة للسلطان على يد بغا، وأحضره بغا بين يديه فشكا حاله. فاستدعى السلطان النشو بحضور التاجر، وقال له: " كم تشكو الناس منك اسمع ما يقول هذا عنك من طرح القماش عليه بأغلى الأثمان. فقال: " يا خوندا هذا ما يشتكي من أمر القماش، لكنه عليه للسلطان مبلغ ثلاثين ألف دينار، وقد هرب مني وأنا أتطلبه. وهذا المبلغ من إرث جارية تزوجها التاجر - وهي من جواري الشهيد الملك الأشرف خليل - ماتت عنده، وخلفت نحو مائة ألف دينار وما بين جواهر وغيرها، فأخد الجميع و لم يظهر السلطان على شيء. ثم التفت النشو إلى التاجر وقال له: " بحياة رأس السلطان ما كنت متزوجاً بفلانة؟ " - يعني الجارية المذكورة - فقال: " نعم!. " فأمره السلطان أن يسلمه لابن صابر المقدم حتى يستخلص منه المال، فأخذه ابن صابر وشهره بالقاهرة، وعاقبه بالقيسارية مراراً حتى أخذ منه مبلغ خمسين ألف درهم. ثم تحول النشو على بغا وسعى به أنه يأخذ البراطيل، وكان السلطان لا يرتشي ويمقت من يرتشي ويعاقبه أشد العقوبة، فأثر كلامه عند السلطان حتى أخرجه. وسعى النشو أيضاً بطقتمر الخازن حتى غير السلطان عليه، وأخرجه إلى قلعة حلب نائباً بها في تاسع عشرى رجب. وفي يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة: رسم للأمير سيف الدين أيتمش المحمدي بنيابة صفد، عوضاً عن أرقطاي المرسوم بنقله إلى مصر، فخلع عليه يوم السبت حادي عشره، وودع السلطان يوم الإثنين ثاني عشر رجب. وخرج أيتمش إلى الريدانية، ثم رحل منها يوم الخميس خامس عشره، فقدم صفد يوم السبت ثامن شعبان. وقدم الأمير أرقطاي إلى قلعة الجبل يوم الأحد سادس عشرى جمادى الآخرة، وأنعم عليه بإقطاع أيتمش وتقدمته، وأكرمه السلطان.
وفيه أخرج بلبان الحسامي والي القاهرة كان - إلى ولاية دمياط ثامن عشره، واستقر عوضه في ولاية القاهرة علاء الدين بن حسن المرواني وهو والي الولاة بالوجه البحري يومئذ.
وفي ليلة ثالث عشر رجب: قبض على ابن هلال الدولة، وعلى ناصر الدين محمد ابن المحسن وأخرجا إلى الإسكندرية بسعاية النشو عليهما.
وسببه أن الناس توقفت أحوالهم في القاهرة من جهة الفلوس، وتحسنت أسعار الغلال، وتعذر شراء الخبز إلا بمشقة. فوجد النشو سبيلاً إلى القول، ورمي ابن هلال الدولة بأنه تحول من القرافة إلى جوار ناصر الدين بن المحسني بخط البندقانيين من القاهرة، وأنهما يجتمعان ليلاً ويندبان عدة من العامة لإغلاق دكاكين القاهرة والتعنت في أمر الفلوس، وأن ناصر الدين بن المحسني قد باطن جماعة من الحرامية على الفتك بي وأن إقامة الإثنين بالقاهرة توجب فساداً كبيراً. ومازال النشو بالسلطان حتى إخرجهما بعدما قبض عليهما، وكان ابن هلال الدولة من ثالث عشر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين في الترسيم بالقلعة، ثم أخرج بدر الدين والد ابن المحسني وإخوته إلى طرابلس.
وفي يوم الثلاثاء ثالث رمضان: دخل الأمير الشريف بدر الدين ودي بن جماز ابن شيحة الحسني أمير المدينة النبوية، شاكياً من ابن أخيه طفيل بن منصور بن جماز أنه لم يوافق على ما رسم به من شركتهما في الإمرة. وكان قد رسم في سادس عشر المحرم لودي بنصف الإمرة شركة بينه وبين ابن أخيه طفيل، وخلع عليه وكتب له توقيع بواسطة الأمير شرف الدين موسى بن مهنا عند قدومه، فقدم طفيل من المدينة في جمادى الأولى ليكون بمفرده في الإمرة، فلم يجب إلى ذلك. ثم آل الأمر إلى أن استقر ودي بمفرده في الإمرة بغير شريك، وخلع عليه في عاشر شوال، وتوجه مع الركب، ورسم لطفيل بإقطاع في بلاد حوران بالشام، فسكنها بعياله.
وفي تاسع شهر رمضان: أنعم على إبراهيم ابن السلطان بإمره، ونزل الأمير قوصون والأمير بشتاك به إلى المدرسة المنصورية بين القصرين، وعمل مهم عظيم. وألبس الأمير إبراهيم الشربوش على العادة، وشق القاهرة في موكب جليل، وقد زينت بالشموع والقناديل حتى صعد القلعة.
وفيها رافع التاج كاتب الأمير بكتوت التاج محيي الدين بن فضل الله كاتب السر وولده شهاب الدين أحمد بورقة قرأها السلطان، تتضمن أنهما عزلاه بغير علم السلطان. فطلبهما السلطان وأوقفهما عليهما، فعرفاه أن هذا كان يكتب الإنشاء بغزة، فكتب تواقيع بغيره بذلك بمقتضى قصة مشمولة بالخط الشريف، وأحضرا القصة، فأخرج الرجل، ووجد النشو طريقاً للوقوع في ابن فضل الله، فتسلط عليه بالكلام السيئ.
وفيها اشتدت وطأة النشو على الناس، وابتكر مظلمه لم يسبق إليها. وهي أنه ألزم الصاغة ودار أهل الضرب ألا يبتاع أحد منهم ذهباً، بل يحمل الذهب جميعه إلى دار الضرب، ليصك بصكة السلطان ويضرب دنانير هرجة، ثم تصرف بالدراهم، فجمع من ذلك مالاً كبيراً للديوان. ثم تتبع النشو الذهب المضروب في دار الضرب، فأخذ ما كان منه للتجار والعامه، وعوضهم عنه بضائع، وحمل ذلك كله للسلطان. وانحصر ذهب مصر بأجمعه في دار الضرب، فلم يجسر أحد على بيع شيء منه في الصاغة ولا غيرها. ثم إن السلطان استدعى منه بعشرة ألاف دينار، فاعتذر عنها فلم يقبل عذره ونهره، فنزل النشو وألزم أمين الحكم بكتابة ما تحت يده من مال الأيتام، وطلب منه عشرة ألاف دينار قرضاً في ذمته، فدله على مبلغ أربعمائة ألف درهم لأيتام الدواداري تحت ختم بهاء الدين شاهد الجمال، فأخذها منه وعوضه عنها بضائع. ثم بعث النشو إلى قاضي القضاة تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى الإخنائي المالكي في تمكينه من مال أولاد الأمير أرغون النائب، وهو ستة ألاف دينار، وكانوا تحت حجره فامتنع وقال: " السلطان ما يجل له أخذ مال الأيتام فرد عليه: بأن السلطان إنما يطلب المال الذي سرقه أخوك من خزانة الخاص حيث كان ناظرها، فإن الحساب يشهد علي بما سرقه من الخزانة،،وقام في فورة إلى السلطان، ومازال به حتى بعث إلى القاضي يلزمه يحمل المال الذي سرقه أخوه من الخزانة، ويقول له: أنت إيش كنت من مملوكي؟ فلم يجد قاضي القضاة بداً من تمكين النشو من أخذ المال.
وفيها أمر السلطان أيضاً بتشديد العقوبة على أولاد التاج إسحاق وألزامهم.
وفيها تحركت أسعار الغلال من نصف جمادى الآخرة، وارتفع القمح من خمسة عشر درهماً الأردب إلى عشرين درهماً، ثم إلى ثلاثين درهماً، فوقفت أحوال الناس. وارتفع القمح إلى أربعين درهماً، فأمسك الأمراء وغيرهم من البيع طلباً للفائدة، فخاف السلطان عاقبة ذلك، فطلب نجم الدين محمد بن حسين بن على الأسعردي المحتسب وقد بلغ الأردب خمسين درهماً وأنكر عليه، وأقام معه والي القاهرة علاء الدين علي بن حسن المرواني وكان ظالماً غشوماً. فضرب الوالي عدة من الطحانين والخبازين بالمقارع، فاشتد الأمر، وغلقت الحوانيت بالقاهرة ومصر، وتعذر شراء الخبز إلا بمشقة عظيمة.
فكتب السلطان بحمل الغلال من غزة والكرك والشوبك وبلاد دمشق، وألا يترك بها غلة مخزونة حتى تحمل إلى القاهرة. ونودي بالقاهرة ومصر ألا يباع القمح بأكثر من ثلاثين درهماً الأردب، ومن باع بأكثر من ثلاثين نهب ماله، وتقدم السلطان إلى الأمراء بألا يخالفوا ذلك. فأمسك مباشرو الأمراء أيديهم عن البيع، وصاروا يجلسون بأبواب الشون ولا يبيعون منها شيئاً، فاشتد الأمر. وباع السماسرة الأردب بستين وبسبعين خفية، وصار الأمراء يخرجون الغلة من الشون على أنها جراية لمخاديمهم، وما هي إلا مبيع بما ذكر.
فاهتم السلطان بالغلاء، وشق عليه ما بالناس من ذلك، وعلم أن أكثر الغلال إنما هي للأمراء، فطلب ضياء الدين يوسف أبي بكر بن محمد الشهير بالضياء ابن خطيب بيت الآبار الشامي ناظر المارستان وناظر الأوقاف، وقد اشتهرت نهضته وكفايته وأمانته، وفوض إليه الحسبة بمصر بعد امتناعه منهما، وأكد عليه في القيام بما ندبه إليه، وخلع عليه في ثالث جمادى الآخرة. ونزل الضياء ومعه الأكز شاد الدواوين إلى مصر، فكان يوماً مشهوداً. وأول ما بدأ به الضياء أن ختم شون الأمراء كلها، بعد أن كتب ما فيها من عدة الأرادب، وكتب ما يحتاج إليه الأمير من الجراية لمئونته والعليق لدوابه إلى حين قدوم المغل الجديد،ثم طلب الشماسرة والأمناء والكيالين، وأشهد عليهم ألا تفتح شونة إلا بإذنه.
وصار الضياء يركب في كل يوم إلى شونة، ويخرج ما فيها، فيبدأ بتكفية الطحانين، ولا يبيع الأردب إلا بثلاثين درهماً، فلم يقدر أحد على بيعه بأكثر من ذلك. ثم بلغ الضياء أن سمساري الأميرين قوصون وبشتاك باعا بأكثر من ذلك، فاستدعي الأمير الأكز إلى مصر فضربهما بالمقارع واشهرهما. ثم عرف الضياء السلطان بأمرهما، فاشتد غضبه، وطلب الأمير قوصون حضرة الأمراء، وصرخ عليه: " ويلك أنت تريد أن تخرب على مصر؟ وتخالف مرسومي؟ وسبه ولعنه، وشهر عليه السيف وضربه على أكتافه ورأسه، وصار يقول: هاتوا أستاداره فسارع النقباء لإحضاره ومن شره غضب السلطان صار يقوم ويقعد ويقول هاتوا أستاداره، حتى خرج أمير مسعود الحاجب بنفسه إلى باب القلعة والحاجب الآخر. وارتجت القلعة بأسرها، وخاف الأمراء كلهم، فلم ينطق أحد منهم لشدة ما رأوا من غضب السلطان. فلم يكن أسرع من حضور قطلو أستادار قوصون، فأمر السلطان الأكز بضربه بالمقارع، ثم أمر به فبطح بين يديه وضرب، خوفاً عليه من إفحاش الأكز في ضربه، فلم يتجاسر أحد بعدها من الأمراء أن يفتح شونته إلا بأمر المحتسب.
ثم بلغ الضياء أن الأمير طشتمر الساقي أخرج من شونته أربعمائة أردب، فأنكر على ديوانه، وحلف أنهم إن لم يعيدوا الأربعمائة أردب إلى الشونة، وإلا عرف السلطان ذلك، فلما بلغ الأمير طشتمر هذا رد الغلة إلى الشونة.
وكتب السلطان إلى ولاة الأعمال أن يركبوا بأنفسهم إلى جميع النواح ويحملوا ما بها من الغلال، بحيث لا يدعون غلة في مطمورة ولا مخزن، ولا أحد عنده غلة حتى يحمل ذلك كله إلى مصر، وتحضر أربابها لأخذ أثمانها عن كل أردب مبلغ ثلانين درهماً ونودي بالقاهرة ومصر: من كان عنده غلة ولا يبيعها نهبت.
وكان قد بلغ السلطان أن الأجناد عندهم غلال، وهم يبيعونها بالويبة، فباع بعضهم بعد النداء، وتهاون طائفة منهم فلم يبيعوا شيئاً. فنم عليهم جيرانهم حتى كان منهم من تهجم السوقة الحرافيش عليه وتنهبه، ومنهم من يغمز عليه فيأتيه الوالي ويخرج غلته حتى تفرق على الطحانين. وأقيم في كل فرن شاهد لحصر ما يحمل إليه من الدقيق المرتب له، وعمل معدل كفاية البلد في كل يوم، وفرق القمح فيهم على قدر كفايتهم، فسكن ما كان بين الناس من العناء في طلب الخبز، ومن ضرب الطحانين والخبازين.
فلما كان في آخر شهر رجب: قدم من الشام أربع ألاف غرارة قمح. ثم قدم في أخر شعبان أحمال كثيرة من بلاد الصعيد، وتبعها الحمل في البر والبحر من الشرقية والغربية والبحيرة. وخاف أرباب الغلال على أنفسهم، فأخرجوها للبيع، حتى إذا أهل شهر رمضان قدمت التراويج في أوائل الحصاد. ووافق ذلك النداء على النيل بالزيادة، فعبرت المراكب فيه بالغلال إلى ساحل مصر، وزفت بالمغاني ،وكان الخبز يباع ستة أرطال بدرهم، فبيع من الغد ثمانية أرطال بدرهم. فلم ينسلخ لشهر رمضان حتى فرج الله عن عباده، ونزل السعر قليلاً قليلاً، بعدما ظن كثير من الناس أنه نظير غلاء العادل كتبغا، فسلم الله بمنه.
وفي يوم الأربعاء رابع عشر شوال: قدم رسل الملك موسى الذي ملك بعد أربا كاؤن ورسول علي بادشاه. فخلع عليهما وأنعم على جماعته بمال كثير.
فلما كان يوم الجمعة: ركبوا من القلعة بعد الصلاة، ومضوا فزاروا الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، وعادوا إلى التربة المنصورية بين القصرين، فزاروا قبر السلطان الملك المنصور قلاوون، وعدوا المارستان وطلعوا إلى القلعة، ودقت الكوسات عند نزولهم منها ثم عند عودهم إليها، وسافروا في تاسع عشريه. وملخص كتبهم الخبر بموت ملك الشرق القان بوسعيد ابن القان محمد خربندا بن أرغون أبغا ابن عدو الله هولاكو بن طلوخان ابن عدو الله جنكز خان، بالباب الحديد وهو متوجه إلى لقاء أزبك خان، وأنه قام من بعده أربا كاؤن بن صوصا بن سنجقان بن ملكتمر بن أريغبغا أخي هولاكو بمساعدة الوزير غياث الدين بن رشيد الدين. فلم يوافقه علي بادشاه حاكم بغداد في الباطن، واستمال أولاد سونتاي فلم يوافقوه، فجمع على بادشاه المغل عليه، وكتب إلى السلطان الناصر يعده بأنه يسلم بغداد ويكون نائباً عنه بها، وسأله في إعانته بنجدة على أولاد سونتا تكون مقيمة على الفرات. ففرح السلطان بذلك وأجابه بالشكر، وبعث إليه خمسة قواقل وخمسة سيوف. فقوي عزم علي بادشاه، وركب إلى أولاد سونتاي ،فاجتمعوا على الشيخ حسن بن أقبغا أيلخان سبط أرغون بن أبغا بن هولاكو المعروف بالشيخ حسن بك الكبير النوين - بالأردو، وعرفوه انتماء علي بادشاه لصاحب مصر ونصرته له. فكتب الشيخ حسن الكبير إلى السلطان يرغبه في نصرته على علي بادشاه، ويمت إليه بقرابته من أمه، فمطل بالجواب رجاء حضور خبر علي بادشاه. فقدم الخبر بأن علي بادشاه لما ركب لحرب أولاد سونتاي بلغه اجتماعهم والشيخ حسن مع عدة من الأمراء، وأن أربا كاؤن هرب لتفلل أصحابه عنه، وأشيع عنه أنه قتل. وقوي علي بادشاه بمن أنضم إليه من المغل، فسار أولاد سونتاي والشيخ حسن إلى جهة الروم، وانفرد علي بادشاه بالحكم في الأردو، وأقام موسى بن علي بن بيدو بن طرغاي بن هولاكو على تخت الملك.
وفي يوم الأربعاء سابع شوال: تغير السلطان على الأمير الأكز شاد الدواوين، وضربه وحبسه مقيداً. وسبب ذلك أن الأمير قوصون غضب على الأكز من أجل أنه أخرق بقطلو أستاداره، عندما باع شماسرة القمح بأزيد من ثلاثين درهماً الأردب، فعندما رأه في الخدمة السلطانية سبه، فرد عليه الأكز رداً فاحشاً سبه فيه كما سبه، فاشتد حنق قوصون منه و هم أن يلكمه، فبدر إليه وهم في ذلك، وإذا بالسلطان قد جلس وسمع الجلبة، فتقدم إليه الأكز وعرف بما فعله سمسار قوصون وضربه له، وأن قوصون غضب علي بسبب ذلك، وشتمني. فكان من السلطان في حق قوصون ما تقدم ذكره، وصار يقول: " إذا كان مملوكي يفعل شيئاً بغير مرسومي ويعترض على أي حرمة تبقي لي؟ وحط على قوصون. فتأخر قوصون عن الخدمة آخر النهار، فاستدعاه السلطان بجمدار، فوجده محموماً، وأقام بالحمى ثلاثة أيام، فبعث إليه الأمير بشتاك وطيب خاطره، وهو يشكو مما جرى عليه، فما زال به حتى دخل إلى الخدمة، فأقبل السلطان عليه، ووعده بالإيقاع بالأكز. ثم طلب السلطان النشو بعد ذلك، وحدثه في أمر الأكز وغض منه، فعين النشو له لؤلؤا عوض الأكز وقام عنه، وطلب لؤلؤا وعرفه ما دار بينه وبين السلطان وكان لؤلؤ خفيفاً أحمق، فوضع من الأكز ودخل من الغد إلى السلطان مع الأكز، وأخذ يجبهه بالكلام ويرافعه وينكيه، حتى حرج منه وسبه. فغضب السلطان بسبب ذلك، وأمر به فضرب بين يديه، وقيد وسجن بالزردخاناه، وخلع على لؤلؤ عوضه في شد الدواوين، وخلع على شمس الدين إبراهيم بن قزوينة، ورسم لهما أن يمتثلا ما يرسم به النشو، ولا يعملا شيئاً إلا بمشورته، ونزلا. فأول ما بدأ به لؤلؤ أن أوقع الحوطة على موجود الأكز، وقبض على مباشريه، وعاقب موسى ابن التاج اسحاق، ونوع عذابه تقرباً لخاطر النشو، وعاقب قرموط وطالبه بحمل المال.
وفي ثاني عشر ذي القعدة: استقر علاء الدين كندغدي العمري في ولاية القلعة، عوضاً عن بيبرس الأوحدي.
وفيها سقط طائر حمام بالميدان، وعلى جناحه ورقة تضمنت الوقيعة في النشو وأقاربه، والقدح في السلطان بأنه قد أخرب دولته. فغضب السلطان من ذلك غضباً شديداً، وطلب النشو وأوقفه على الورقة، وتنمر عليه لكثرة ما يشكى منه فقال: " ياخوند الناس معذورون وحق رأسك لقد جاءني خبر هذه الورقة ليلة كتبت وهذه فعلة العلم أبي شاكر بن سعيد الدولة ناظر البيوت، كتبها في بيت الصفي كاتب الأمير قوصون، وقد اجتمع هو وأقاربه. وأخذ النشو يعرف السلطان بما كان من أمر سعيد الدولة في أيام بيبرس الجاشنكير، وأغراه به حتى طلبه، وسلمه إلى الوالي علاء الدين علي بن حسن المرواني فعاقبه عقوبة مؤلمة. وطلب السلطان الأمير قوصون وعنفه على فعل الصفي كاتبه، فطلبه قوصون وهدده، فحلف بكل يمين على براءته مما رمي به فتتبع النشو عدة من الكتاب وجماعة من الباعة، وقبص عليهم بسبب أبي شاكر، ونوع العذاب عليهم بيد الوالي وخرب دورهم وحرثها بالمحراث. وقبض النشو على الموفق هبة الله بن سعيد الدولة، ثم أفرج عنه بعناية الأمير أقبغا عبد الواحد، وعذب ابن الأزرق ناظر الجهات.
واشتدث وطأة النشو على الناس جميعاً، وأوحش ما بينه وبين الأمراء كلهم، وثلب أعراضهم عند السلطان، حتى غيره عليهم.
ثم رتب النشو ضامن دار الفاكهه في أن وقف للسلطان، وسأل أن يسامح بما تأخر عليه، فإن دار الفاكهة أوقف حاله فيها، من أجل أن الأعناب الواصلة من ناحية مرصفا وغيرها عصرت خمرا بناحية شبرا، فتعطل ما كان يؤخذ منها للديوان. فطلب السلطان النشو ولؤلؤاً، وسألهما عن ذلك وعن ناحية شبرا، فقالا: " هي للأمير بشتاك، وديوانه إبراهيم جمال الكفاة هو الذي يعصر فيها " . فرسم للوالي ولؤلؤ أن يكسرا جميع ما بشبرا من جرار الخمر، وإحضار من هي عنده، فطلب لؤلؤ أستادار بشتاك وأخرق به، فشق ذلك على، بشتاك وشكاه للسلطان، فلم يلتفت إلى شكواه، وقال: " أستادارك وديوانك يعصران الخمر ويتجوهان بك؟ ونحو هذا ومضى الوالي ولؤلؤ إلى شبرا، وكسرا فيها ألف جرة خمر، ووجدت جرار كثيرة عليها ختم المخلص أخي النشو، ووجد له أيضاً قند وستمائة جرة فيها خمر عتيق، وكان معهم أستادار الأمير بشتاك، فاشتد عليهم واستطال، فداريا الحال حتى بلغا السلطان ما أرضاه، وسكت عن ذلك.
ثم ندب النشو بكتوت من مماليك الخازن وهو يومئذ شاد شونة الأمير بشتاك لمرافعة إسماعيل أستادار بشتاك وإبراهيم جمال الكفاة ديوانه، فخلا بكتوت ببشتاك وعرفه أن المذكورين أخذا من الخصوص خمسة ألاف أردب، ومبلغ خمسين ألف درهم، وأخذا من الشونة مائة ألف درهم عندما رسم السلطان ببيع الأردب بثلاثين درهماً، فباعوه بستين وبسبعين درهماً، وذكر به أشياء من هذا النوع. فانفعل له بشتاك وبلغ السلطان ذلك، وأحضر بكتوت معه، فطلب السلطان حمال الكفاة وإسماعيل، وطلب النشو أيضاً وذكر له ما قال بكتوت، وأثنى عليه وشكره، فاشتد بأسه وأخذ يجبه مباشري بشتاك بما رماهم به. فثبت جمال الكفاة لمحاققته، وكان مقداماً طلق العبارة، وقال للسلطان: أنا المطلوب بكل ما يقوله هذا فبدأ النشو يذكر من أوراق المرافعة ما يتعلق بالخصوص، فأجاب بأن الذي تولى قبضها الأستادار وممالكيه مع مباشري الناحية، وهذه أوراقهم مشمولة بخطوط العدول، والمقبوض منها أزيد مما كان يقبض في أيام الأمير بكتمر الساقي بكذا وكذا. ثم ذكر جمال الكفاة حديث مبيع الشونة، فقال: منذ باشرت عند الأمير ما تنزلت إلى الشونة، والذي أبيع منها كذا وكذا أردب، بحضور شاهد ديوان الأمير، ومعه شاهداً إضافة وأربعة أمناء وسماسرة من جهة المحتسب. والسلطان يحضرهم ويكشف من دفاترهم عما قلته، فإن وجده بخلاف ما قلته كان في جهة وكان جزائي الشنق. فلما فلج جمال الكفاة بالحجة، قال بكتوت: ياخوند هذا يعصر أربعة ألاف جرة خمر في شبرا فنهره السلطان وقال له. إيش صح من كلامك حتى يصح هذا، وأمر به فأخرج، وعرف بشتاك بأن النشو قد ندبه لذلك، فأسرها في نفسه.
فالتفت النشو بعد ذلك إلى جهة الأمير أقبغا عبد الواحد، ونم عليه للسلطان بأن معامل ناحيتي أبيار والنحراوية قد انكسر عليه مال نحو ثمانين ألف درهم، من جهة أن الأمير أقبغا صار يأخذ من قزازي ناحية طوخ مزيد التي في إقطاعه عن التفاصيل التي تعمل بها ما كان يؤخذ عليها إذا حملت إلى أبيار والنحراوية، وأنه عمل ختما باعه بدل ختم السلطان يختم به التفاصيل المذكورة، وذكر له عنه أشياء تشبه هذا، وأحضر بالحسام العلائي شاد أبيار والنحراوية ليحاقق آقبغا. فأمر السلطان بإحضار آقبغا وأغلظ له، وأمر الشاد بمحاققته، فجبهه بما رماه به النشو واستطال عليه، فخاف آقبغا ولم يأت بعذر يقبل، فطرده السلطان عنه، وأخذ يضع منه والأمير بشتاك يسد خلله حتى كف عن القبض عليه. فشق ذلك على الخاصكية ووقعوا في النشو، وقد علموا أن ذلك من أفعاله.
وفيها قدم كتاب الأمير تنكز نائب الشام يشكو من الأمير أيتمش نائب صفد، من أجل أنه ما يمتثل أمره، ويستبد بغير مراجعته فأجيب بمراعاته وإكرامه. فلم تطل مدة أيتمش بعد ذلك سوى اثنين وثلاثين يوماً ومات، فخلع على الأمير طشتمر الساقي واستقر في نيابة صفد، وزيد على إقطاع النيابة، وأنعم على ولديه بإمرتين.
وفيها خلع على الأمير طيبغا حاجي واستقر في نيابة غزة عوضاً عن جركتمر في سابع عشرى ذي الحجة، ونقل جركتمر إلى نيابة حمص.
وفيها أخرج الأكز على إمرة طبلخاناه بدمشق، في يوم الثلاثاء حادي عشرى ذي القعدة، فكانت مدة اعتقاله شهراً ونصف شهر.
وفيها عزل الجمال ابن الأثير من كتابة السر بدمشق إلى القاهرة، واستقر عوضه علم الدين محمد بن القطب.
وفي ثالث عشر ذي القعدة: نقل الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان من سكنه بمناظر الكبش إلى قلعة الجبل، وأنزل حيث كان أبوه الحاكم نازلاً، فسكن برج السباع دائماً بعياله، ورسم على الباب جاندار بالنوبة، وسكن ابن عمه إبراهيم في برج بجواره ومعه عياله، ورسم عليه جاندار الباب، ومنعا من الاجتماع بالناس.
وفي ثالث عشرى ذي القعدة: استقر عز الدين أيبك الحسامي البريدي أحد مقدمي الحلقة في ولاية قطيا، عوضاً عن الأمير علاء الدين ألطبرس الدمشقي الزمردي ، واستقر ألطبرس من جملة أمراء العشرات.
وفي أول ذي الحجة: قدم الملك الأفضل صاحب حماة، وحصل من الاحتفال به أكثر من كل مرة.
وفي ثالثه: استقر الشيخ محمد القدسي في مشيخة خانكاه الأمير بشتاك، وعملت فيها وليمة عند فراغ بنائها.
وفي يوم عيد النحر: أقيم على مملكة العراق محمد يلقطلو بن تيمور بن عنبرجي ابن منكوتمر بن هولاكو، وقام بأمره الشيخ حسن بك الكبير، فحاربه الملك موسى في رابع عشره، فانهزم موسى بعدما قتل بينهما خلائق، وقتل علي بادشاه مدبر دولة موسى وكانت هذه الوقعة قريباً من توريز عند بلدة ناوشهر على جبل الأداغ.
وفيها استقر الأمير بكتاش في نقابة الجيش، بعد وفاة صاروجا.
وفيها انتهت زيادة الميل إلى ثمانية عشر ذراعاً.
ومات فيها من الأعيانالقان بوسعيد بن القان محمد خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو المغلي ملك التتار، صاحب العراق والجزيرة وأذربيحان وخراسان والروم، في ربيع الآخر بأذربيحان، وقد أناف على الثلاثين، وكانت دولته عشرين سنة، كان جلوسه على التخت في أول جمادى الأولى سنة سبع عشر بمدينة السلطانية، وعمره إحدى عشرة سنة، وكان جميلاً كريماً، يكتب الخط المنسوب، ويجيد ضرب العود، وصنف مذاهب في النغم، وأبطل عدة مكوس، وأراق الخمور ومنع من شربها، وهدم كنائس بغداد وورث ذوي الأرحام، فإنه كان حنفياً، ولم تقم بعده للمغل قائمة.
ومات أحمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن يوسف المرادي القرطبي العشاب، وزير أبي يحيى زكريا اللحياني متملك تونس بالإسكندرية في شهر ربيع الأول، وقد برع في النحو، وحدث.
وتوفي عز الدين أحمد بن محمد بن أحمد القلانسي محتسب دمشق بها.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن برق، والي دمشق بها.
وتوفي عماد الدين إسماعيل بن محمد بن الصاحب فتح الدين عبدالله بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر بن القيسراني كاتب الدست بقلعة الجبل، ثم كاتب السر بحلب، في ذي القعدة، ومولده سنة إحدى وسبعين وستمائة.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك مسجوناً بالإسكندرية، في يوم الأحد سابع جمادى الأولى.
ومات الأمير أيتمش المحمدي نائب صفد، في ليلة الجمعة سادس عشر ذي القعدة. ومات الأمير بلبان الحسامي والي دمياط الذي كان والي القاهرة، وهو أخو بدر الدين المحسني في نصف شهر رمضان، وهو في الاعتقال.
ومات الأمير علاء الدين الشيخ علي التتري مملوك سلار، في يوم الخميس خامس ربيع الآخر.
ومات نقيب الجيش الأمير شهاب الدين أحمد بن صاروجا، فجأة وهو في الصيد فحمل إلى القاهرة، ودفن يوم الثلاثاء.
ومات الأمير سيف الدين ألناق الناصري هو أحد مقدمي الألوف، في ثامن عشرى شوال.
وتوفي الشيخ سيف الدين عبد اللطيف بلبان بن عبدالله البيسري شيخ زاوية أبي السعود، ليلة الثلاثاء سابع عشر ربيع الآخر، وكان يلي مشيخة زاوية أبي السعود، ثم عزل عنها، وهو أحد مماليك الأمير بدر الدين بيسري الشمسي الصالحي فلما قبض على بيسري أقام الشيخ سيف الدين بهذه الزاوية مدة خمس وخمسين سنة.
وتوفي علاء الدين بن نصر الله بن محمد بن عبد الوهاب بن الجوجري ناظر الخزانة، في تاسع المحرم.
وتوفي أمين الدين عبد المحسن بن أحمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن الصابوني بمصر، وقد بلغ ثمانين سنة، وانفرد برواية أشياء.
وتوفي شيخ الكتابة عماد الدين محمد بن العفيف محمد بن الحسن بالقاهرة عن إحدى وثمانين سنة.
وتوفي نقي الدين سليمان سليمان بن موسى بن بهرام السمهودي الفقيه الشافعي الفرضي العروضي الأديب عن ثمانين سنة بناحية سمهود.
ومات الأمير سنقر النوري نائب بهسنا، وترك اثنين وعشرين ذكراً وأنثى وستين سرية.
وتوفي الشيخ الصالح المعمر الرحلة شمس الدين محمد ابن المحدث محب الدين محمد بن ممدود بن جامع البندنيجي البغدادي في سابع المحرم بدمشق، عن اثنتين وتسعين سنه.
ومات علم الدين قيصر العلائي في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة، وقتل أربا كاؤن سلطان العراق وأذربيجان والروم،وكان القان بوسعيد لما مات أقام الوزير غياث الدين محمد أربا كاؤن هذا لأنه من ذرية جنكز خان، وقد قتل أبوه ونشأ في غمار الناس، فقتل أربا كاؤن بغداد خاتون، وجبي الأموال، وقصد أن يأخذ بلاد الشام، فهلك دون ذلك بعد شهيرات من جلوسه على التخت، وكان يتهم بأنه كافراً، وأقيم بعده موسى بن علي بن بيدو بن طوغاي بن هولاكو.
سنة سبع وثلاثين وسبعمائةالمحرم أوله السبت:
في سابعه: رسم بنيابة صفد للأمير طشتمر البدري أحد مقدمي الألوف، عوضاً عن أيتمش المحمدي وتوجه ومعه طاجار الدوادار في ثالث عشره.
وفي ثاني عشرة: قدم الخبر بالواقعة التي كانت قرب توريز على ما تقدم ذكره.
ثم قدم في سابع عشره: مضر بن خضر رسول الشيخ حسن بك الكبير ابن أمير حسين، وهو ابن أخت غازان، وهو القائم بأمر محمد بن يلقطون بن عنبرجي فخلع عليه، وسافر في ثالث صفر.
وفي سابع عشر المحرم: عقد عقد الأمير أبي بكر ابن السلطان على ابنة الأمير سيف الدين طقزدمر أمير مجلس، بدار الأمير قوصون.
وفي يوم الخميس عشريه: وهو يوم النوروز كان وفاء النيل. وانتهت الزيادة في سابع عشر بابه إلى سبعة عشر ذراعاً وستة عشر إصبعاً.
وفي سادس عشرى المحرم: قدم الأمير سيف الدين طينال نائب طرابلس، وأخلع عليه عند وصوله، وسافر سلخ صفر، فكانت إقامته ثلاثة وثلاثين يوماً.
وفيها كتب بأخبار آل مهنا وآل فضل لعدة من أمراء الشام تنكز والأمير نائب الشام، وذلك من أجل أن العرب قطعوا الطريق على قافلة وأخذوا ما فيها، فلما ألزم آل مهنا بذلك اعتذروا بأن الذي فعل هذا عرب زبيد، وليسوا من عرب الطاعة. وفيها كانت واقعة الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد المؤمن بن اللبان، في شهر المحرم، وذلك أنه نسبت إليه عظائم: منها أنه قال في ميعاده بجامع مصر إن السجود للصنم غير محرم، وأنه يفضل الشيخ ياقوت العرش شيخه على بعض الصحابة، وشهد عليه بها. واستؤذن السلطان عليه فمكن منه، فترامى على الأمير جنكلي بن البابا، والأمير الحاج آل ملك، والأمير أيدمر الخطير حتى حكم بتوبته، ومنع من الوعظ، هو والشيخ زكي الدين إبراهيم بن معضاد الجعبري وجماعة من الوعاظ.
وفيه قدم ركب الحاج على العادة، وأخبروا بأن الشريف رميثة كان قد أقام ببطن مر، وأقام أخوه الشريف عطيفة بمكة، فتسلط ولده مبارك على المجاورين، وأخذ مال التجار، فركب إليه رميثة وحاربه، فقتل بينهم جماعة، وفر رميثة، ودلك في ثامن عشرى رمضان من السنة الماضية.
وفيها قبض على الأمير بهادر البدري بدمشق، وضرب وسجن، لجرأته على الأمير قطلوبغا الفخري وعلى الأمير تنكز نائب الشام وإفحاشه لهما.
وفيها أجدبت زراعة الفول، فألزم النشو سماسرة الغلال ألا يباع الفول إلا للسلطان فقط، فتضرر أرباب الدواليب.
وفيها صادر النشو جماعة من أرباب الدواليب بالوجه القبلي وأخذ من محتسب البهنسا وأخيه مائتي ألف درهم وألف أردب غلة. فرافع ابن زعازع من أمراء الصعيد أولاد قمر الدولة عند النشو، فاقتضى رأيه فصادره ابن زعازع لكثرة ماله، وأوقع الحوطة على موجوده، وكتب إلى متولي البهنسا ليعاقبه أشد العقوبة. فلف والي البهنسا على أصابعه الخروق وغمسها في القطران، وأشعل فيها النار، ثم عراه ولوحه على النار، حتى أخذ منه ما قيمته ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، ووجد له أربعمائة مرجية بفرو، ومائة وعشرين جارية، وستين عبداً، ثم كتب عليه حجة بعد ذلك بمبلغ مائة درهم، واحتج النشو لمصادرته بأنه وجد كنزاً.
وفيها كتب بطلب الأمير سنجر الحمصي.
وفيها ارتفع سعر اللحم لقلة حلب الأغنام حتى أبيع الرطل بدرهم وربع، وسبب ذلك أن النشو كان يأخذ الغنم بنصف قيمتها، فكتب إلى نائب الشام ونائب حلب بجلب الأغنام. ثم إن النشو أستجد للسواقي التي بالقلعة أبقاراً، وأحضر أبقارها التي قد ضعفت وعجزت مع الأبقار التي ضعفت بالدواليب، وطرحها على التجار والباعة بقياسر القاهرة ومصر وأسواقها، حتى لم يبق صاحب حانوت حتى خصه منها شيء على قدر حاله، فبلغ كل رطل منها درهمين وثلثاً، ورميت تلك الأبقار على الطواحين والحمامات كل رأس بمائة درهم، ولا تكاد تبلغ عشرين درهماً، فبلي الناس من ذلك بمشقة وخسارة كبيرة.
واتفق أن النشو أغرى السلطان بموسى بن التاج إسحاق، حتى رسم بضربه إلى أن يموت، فضرب زيادة على مائتين وخمسين شيباً حتى سقط كالميت، ثم ضرب من الغد أشد من ذلك، وحمل على أنه قد مات، فسر النشو بذلك سروراً زائداً، وذهب ليرى موسى وهو ميت، فوجد به حركة. وفي أثناء طلب السلطان إحضار الأمير لؤلؤاً، فأخبره بأن موسى قد بدأ يئن وبعد ساعة يموت، فرسم ألا يضرب بعد ذلك، فشق هذا على النشو.
وفي سابع عشرى صفر: ابتدئ بهدم الطبقة الحسامية المجاورة لدار النيابة بالقاهرة، وكانت قد عمرت سنة ثمان وثمانين وستمائة وفي رابع عشر ربيع الأول: قدم حمزة رسول الملك محمد بن بلقطلو بن عنبرجي وصحبته عماد الدين السكري نائب علي بادشاه بالموصل، فأدوا رسالتهم وسافروا أول ربيع الآخر.
وفي ثامن عشر ربيع الأول. سافر الأفضل صاحب حماة إلى محل ولايته بحماة، وكان قد حضر في مستهل ذي الحجة من السنة الحالية.
وفي تاسع عشريه: وصلت رسل الملك موسى وسافروا في نصف ربيع الآخر.
وفي سلخ ربيع الأول: عزل بدر الدين بن التركماني عن الكشف بالوجه البحري. وفي ثالث ربيع الآخر: قدم رسول ملك الحبشة.
وفي خامس عشره: قدم الأمير سيف الدين أبو بكر البابيري وخلع عليه بولاية القاهرة عوضاً عن ابن التركماني.
وفي سادس عشره: استقر نكبيه البريدي في ولاية قطيا، عوضاً عن أيبك الحسامي بإمره عشرة.
وفي سلخ جمادى الأولى: قدم مراد قجا رسول أزبك ملك الترك، فأقام خمسة أشهر ونصف شهر، وسافر في رابع عشر ذي القعدة، ومن ثالث ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وسبعمائة لم يحضر من عند أزبك إلا هذا.
وفي سادس عشرى جمادى الآخرة: استقر بهاء الدين قراقوش الجيشي في ولاية البهنساوية، عوضاً عن علي بن حسن المرواني.
وفيها هدمت دار النيابة بالقلعة، وهي التي عمرت في الأيام المنصورية قلاوون، سنة سبع وثمانين وستمائة، وأزيل ألشباك الذي كان يجلس فيه طرنطاي النائب، وذلك في يوم الأحد ثامن ربيع الآخر.
وفيها أغرى النشو السلطان بالصفي كاتب الأمير قوصون، بأنه يظهر في جهته للديوان عما كان يحضر إليه من أصناف المتجر أيام مباشرته بديوان الأمير قجليس، وهو جملة كثيرة، وإن بعض الكتاب يحاققه على ذلك. فطلب السلطان الأمير قوصون وأغلظ في مخاطبته، وقال: " كاتبك يأكل مالي وحقوقي وينجوه بك " ، وذكر له ما قال عنه النشو، فتخلى عنه قوصون ولم يساعده. فأمر السلطان النشو ولؤلؤاً والمستوفين أن يمضوا إلى عند الأمير قوصون، ومعهم الرجل المحاقق للصفي ويطالعوا السلطان بما يظهر، فاجتمعوا لذلك، وقام المرافع للصفي فلم يظهر لما ادعاه صحة.
وفي يوم الثلاثاء ثاني رجب: قدم الأمير تنكز نائب الشام والسلطان بسرياقوس، فطلع وهو معه في يومه إلى القلعة، وهي القدمة الحادية عشرة، وسافر في ثاني عشريه.
وفي يوم عشريه: عزل شهاب الدين بن الأقفهسي وعلاء الدين البرلسي عن نظر الدولة، وولي شمس الدين بن قزوينه النظر بمفرده، وكان بطالاً، ورسم له ألا يتصرف في شيء إلا بعد مشاورة شرف الدين النشو ناظر الخاص.
وفي تاسع عشريه: استقر علاء الدين بن الكوراني في ولاية الأشمونين، عوضاً عن أبي بكر الردادي نقل إليها من ولاية أشموم الرمان.
وفيها عدم فرو السنجاب، فلم يقدر على شيء منه لعدم جلبه. فأمر النشو بأخذ ما على التجار من الفرجيات المفراة، فكبست حوانيت التجار والبيوت، حتى أخذ ما على الفرجيات من السنجاب. فبلغ النشو وقوع التجار فيه ودعاؤهم عليه، فسعى عند السلطان عليهم، ونسب جماعة منهم إلى الربا في المقارضات، وأنهم جمعوا من ذلك ومن الفوائد على الأمراء شيئاً كثيراً وأن عنده أصناف الخشب والحديد وغيره واستأذنه في بيعها عليهم. فأذن له السلطان، فنزل وطلب تجار القاهرة ومصر وكثيراً من أرباب الآموال، ووزع عليهم من ألف دينار كل واحد إلى ثلاثة ألاف دينار، ليحضروا بها ويأخذوا عنها صنفاً من الأصناف، فبلغت الجملة خمسين ألف دينار، عاقب عليها غير واحد بالمقارع حتى أخذها.
وقام عدة من الأمراء الأكابر في حق جماعة من التجار فلم يسمع السلطان لأحد منهم قولاً. وقامت ست حدق وأم آنوك ابن السلطان في رفع الخشب عن تاجر ألزمه النشو بألفي دينار، وعرفتاه بظلم النشو، وهو أن هذا الخشب قيمته مبلغ ألفي درهم. فطلب السلطان النشو وأنكر عليه ذلك وتجهم له، فانصرف على غير رضى ثم ندب النشو رجلاً مضى إلى ذلك التاجر وسأله في قرض مبلغ مال، فأخذ التاجر في الشكوى مما به من إلزامه بألفي دينار عن ثمن خشب طرحه عليه النشو، فقال له الرجل: " أرني الخشب فإني محتاج إليه " ، فلما رأه أعجبه واشتراه منه بفائدة ألف درهم إلى شهر، فامتلأ التاجر فرحاً، وأشهد عليه بذلك. ومضى الرجل ليأتي بثمن الخشب، فدخل على النشو وأخبره الخبر، ودفع إليه نسخة المبايعة، فقام من فوره إلى السلطان وأعلمه أنه نزل ليرفع الخشب من حاصل التاجر فوجده قد باعه بفائدة ألف درهم. فطلب السلطان التاجر وسأله عما رماه عليه النشو، فاغتر البائس وأخذ يقول: " ظلمني وأعطاني خشباً بألفي دينار يساوي ألفي درهم. فقال له السلطان: " وأين الخشب،؟ قال: بعته بالدين، فقال النشو: " قل الصحيح فإن هذه معاقدتك ببيعه فلم يجد بداً من الاعتراف. فحنق عليه السلطان، وقال " ويلك تقيم الغاثة وأنت تبيع بضاعتي بفائدة، ثم أمر النشو بضربه وأخذ الألفي دينار منه مع مثلها، وعظم النشو عند السلطان ثم عبر السلطان إلى نسائه وسبهن، وعرفهن ما جرى وقال: " مسكين النشو ما وجدت له أحداً يحبه كونه ينصحني ويحصل مالي.
وفيها ترافع يعقوب الأسلمي مستوفي الجهات والأمير بن المجاهدي والي دمياط فرسم بمصادرتهما، فعوقبا عقوبة شديدة، وغرما مالاً جزيلاً.
وفيها كثر ضبط علم الدين سنجر الجاولي لأوقاف المارستان، وتوقفه فيما يصرف منه للصدقات. فأنكر السلطان عليه ذلك، وقال له: " المارستان كله صدقة " ، و لم يقبل له عذراً.
وفيها امتنع ابن الأقفهسي ناظر الدولة من الكتابة على توقيع الضياء المحتسب، وقد عمل معلومة على الجوالي فشق ذلك على السلطان، وأمر الأمير طاجار الدوادار أن يبطحه ويضربه، ويقول له: " كيف يعلم السلطان على شي ء وتأبى أن تكتب عليه!!، فضربه ضرباً مؤلماً. وكان السلطان لا يتغاضي في خرق حرمته، ويعاقب من فعل ذلك. وفيها شكا المماليك السلطانية من تأخر كسوتهم، فطلب النشو وألزمه بحمل كسوتهم من الغد، ومعها مبلغ عشرين ألف دينار. فنزل النشو وألزم الطيبي ناظر المواريث بتحصيل خمسة ألاف دينار، وبعث المقدمين إلى الأسواق، ففتحوا حوانيت التجار، وأخذوا كسوة المماليك وحوائصهم وأخفافهم ونعالهم وغير ذلك، وأخذوا مركباً لبعض الكارم فيه عدة بضائع طرحوها على الناس بثلاثة أمثال قيمتها. وأحيط بتركة نجم الدين محمد الأسعردي - وقد مات وترك زوجة وابنة ابن - وأخذت كلها.، وأخذت وديعة من تركته لأولاد أيتام تحت حجره، مبلغها نحو خمسين ألف درهم، وأنفقت في يومها على المماليك والخدام. وفتحت قيسارية جهاركس، وأخذ منها مقاطع الشرب برسم الكسوة.
فارتجت المدينة بأهلها، وترك كثير من التجار حوانيتهم وغيبوا، فصارت مفتحة والأعوان تنهب لأنفسها ما أرادت، فلم ير يومئذ بالقاهرة ومصر إلا باك أو شاك أو صائح أو نائح، فكانا يومين شنعين. وعول أرباب الحوانيت على وقع ما فيها وخلوها، فعرف النشو السلطان ذلك، فنودي: " من أغلق حانوته أخذ ماله وشنق ففتحوها. ثم أخرج النشو من الأهراء عشرة ألاف أردب قمحاً، وطرحها على أصحاب الطواحين والأبازرة، وقبض على ابن فخر السعداء ناظر قليوب، وأخذ منه نحو ثمانين ألف درهم.
وفي جمادى الأولى: استدعى الضياء ابن خطيب بيت الآبار محتسب مصر، وخلع عليه واستقر في حسبة القاهرة، مضافاً لما بيده من نظر الأوقاف ونظر المارستان عوضاً عن نجم الدين محمد بن حسين بن علي الأسعردي. وكان الشهاب أحمد بن الحاج علي الطباخ قد سعى في حسبة القاهرة، وقام معه الأمير بشتاك والأمير قوصون والأمير أقبغا عبد الواحد، فلما ولي السلطان الضياء رسم أن يستقر ابن الطباخ في حسبة الدخان على الطباخين والحلاويين ونحوهم، وخلع عليه وجلس في دكة الحسبة، وعرض أرباب الدخان. وأنزل الضياء الحلاويين والفكاهين ألا يشعلوا سرجهم في الليل بالزيت الحار، وألزم حواس الحمامات بعمل فوط سابغة طويلة، ورتب القبانيين في جهات معينة، بجلس كل قباني في موضع من البلد.
وفيه قدم خليل بن الطرفي من أمراء التركمان بناحية أبلستين، وقدم سبعمائة إكديش وعدة تحف وسأل أن يستقر في نيابة الأبلستين بألف فارس وعشرة أمراء، فقبلت تقدمته وخلع عليه، وكتب منشوره بذلك.
وفيه قدم من جهة بدر الدين لؤلؤ الفندشي الحلبي شاد الدواوين ثلاثة ألاف رأس من الغنم الضأن، فمشت حال الدولة، وصارت سبباً للوقيعة بين لؤلؤ وبين النشو. وتحدث لؤلؤ مع الأمير بشتاك أنه إن أسلم إليه النشو وحاشيته قام بأربعمائة ألف دينار منهم، فقامت قيامة النشو ومازال بالسلطان حتى غيره عليه. واتفق مع ذلك وصول سنجر الحمصي من حلب باستدعاء، فأجلسه السلطان وعرض عليه شد الدواوين، فقبل الأرض وطلب الإعفاء منها، وكان أميناً ناهضاً، فلم يزل السلطان به حتى خلع عليه، واستقر عوضاً عن لؤلو في رابع جمادى الآخرة. فأول ما بدأ به سنجر أن قبض على لؤلو، وأوقع الحوطة على بيته وألزمه بالحمل، وأخذت حواصله وهو يورد شيئاً بعد شيء.
وفي يوم الأربعاء جمادى عشرى ربيع الأول: أفرج عن الخليفة من سجنه بالقلعة، فكانت مدة اعتقاله خمسة أشهر وسبعة أيام. ثم أمر به فأخرج إلى قوص، ومعه أولاده وابن عمه، وكتب لوالي قوص أن يحتفظ بهم. وكان سبب ذلك أن السلطان لما نزل عن الملك في سنة ثمان وسبعمائة، وحصل الاجتماع على المظفر بيبرس وقلده المستكفي بالسلطنة، نقمها عليه السلطان الناصر وأسرها له ثم لما قام السلطان لاسترجاع ملكه، جدد المستكفي للمظفر الولاية، ونسبت في السلطان أقوال إليه حملت السلطان على التحامل عليه. فلما عاد السلطان إلى الملك في سنة تسع وسبعمائة أعرض عن المستكفي كل الإعراض، و لم يزل يكدر عليه المشارب حتى تركه في برج بالقلعة، في بيته وحرمه وخاصته، فقام الأمير قوصون في أمره، وتلطف بالسلطان إلى أن أنزله إلى داره. ثم نسب إلى ابنه صدقة أنه تعلق ببعض خاصة السلطان، وأن ذلك الغلام يتردد إليه، فنفي الغلام وبلغ السلطان أنه هو يكثر من اللهو في داره التي عمرها على النيل بخط جزيرة الفيل، وأن أحد الجمدارية يقال له أبو شامة جميل الوجه ينقطع عنده ويتأخر عن الخدمة، فقبض على الجمدار وضرب، ونفي إلى صفد، وضرب رجل من مؤذني القلعة - اتهم أنه كان السفير بين الجمدار وبين الخليفة - حتى مات، واعتقل الخليفة كما تقدم. ثم لما أفرج عنه اتهم أنه كتب على قصة رفعت إليه " يحمل مع غريمه إلى الشرع " ، فأحضره السلطان إلى القلعة ليجتمع به بحضرة القضاء، فخيله قاضي القضاة جلال الدين القزويني من حضوره أن يفرط منه كلام في غضبه يصعب تداركه. فأعجب السلطان ذلك، وأمر به أن يخرج إلى قوص، فسار صحبة الأمير سيف الدين قطلوا تمرقلي في يوم السبت تاسع عشر ذي الحجة، بجميع عياله وهم مائة شخص. وكان مرتبه في كل شهر خمسة ألاف درهم، فعمل له بقوص ثلاثة ألاف درهم، ثم استقر ألف درهم، فاحتاج حتى باع نساؤه ثيابهن.
وفيها كتب إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يحضر بأولاده وأهله لعمل عرس الأمير أبي بكر ابن السلطان على ابنة الأمير طقزتمر، واحتفل السلطان لقدومه احتفالاً زائداً. وكانت عادته أن يصرف عليه إذا قدم مبلغ خمسين ألف دينار، ما بين خلع وإنعام، فرسم أن يكون في هذه السنة مبلغ سبعين ألف دينار. ثم خرج السلطان لملاقاته، ونزل قصور سرياقوس حتى سقط الطائر بنزول الأمير تنكز إلى الصالحية، فركب الأمير قوصون إلى لقائه، وصحبته جميع ما يليق من الأطعمة والمشروب، فلما لقيه مد بين يديه سماطاً جليلاً إلى الغاية، وأقبل به حتى دنا من سرياقوس. فركب السلطان إليه ومعه أولاده، وقدم إليه الحاحب ليخبره بأنه لا يترجل عن فرسه حتى يرسم له، وتقدمت أولاد السلطان إليه أولاً. فلما قرب تنكز نزل السلطان عن فرسه إلى الأرض على حين غفلة من الأمراء، فألقوا أنفسهم عن خيولهم، وألقي تنكز نفسه إلى الأرض، وعدا في مشيه جهد قدرته، وهو يقبل الأرض ويقوم إلى أن قبل رجلي السلطان، وقد دهش ، فقال له السلطان: اركب فرسك. وركب السلطان والأمراء وسايره وهو يحادثه، فلم يسمع عن ملك أنه فعل مع مملوكة من التعظيم ما فعله السلطان في هذا اليوم مع الأمير تنكز. وكان العرس يوم الإثنين سلخ صفر، والدخول ليلة الثلاثاء أول ربيع الأول.
وفي خامس عشر شعبان: توجهت التجريدة إلى بلاد سيس وخراب مدينة.
وسبب ذلك وصول رسول القان موسى وعلي بادشاه بطلب النجدة على الشيخ حسن الكبير وطغاي بن سونتاي وأولاد دمرداش ليكون علي بادشاه نائب السلطنة ببغداد. فاستشار السلطان نائب الشام والأمراء، واستقر الرأي على تجريد العسكر نحو سيس فإن تكفور نقض الهدنة بقبضه على عدة مماليك وإرسالهم إلى مدينة آياس فلم يعلم خبرهم وقطع الحمل المقرر عليه، ويكون في ذلك إجابة علي بادشاه إلى ما قصده من نزول العسكر قريباً من الفرات، مع معرفة الشيخ حسن " بأنا لم نساعد علي بادشاه عليه، وإنما بعثنا العسكر لغزو سيس. وعمل مقدم العسكر الأمير أرقطاي ويكون في الساقة، ويتقدم الجاليش صحبة الأمير طوغاي الطباخ ومعهما من الأمراء قباتمر وبيدمر البدري وتمر الموساري وقطلوبغا الطويل، وجوكتمر بن بهادو وبيبغا تتر حارس الطير، ومن أمراء الشام قطلوبغا الفخري مقدم الجيش الشامي. وكتب بخروج عسكر دمشق وحماة وحلب وحمص وطرابلس إلى ناحية جعبر، فإذا وصل عسكر مصر إلى حلب عادت عساكر الشام ثم مضوا جميعاً إلى سيس، فيكون في ذلك صدق ما وعد به علي بادشاه، وبلوغ الغرص من غزو سيس فسار العسكر من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وتوجه الأمير تنكز إلى محل ولايته.
وفيها أفرج عن طرنطاي المحمدي بعدما أقام في السجن سبعاً وعشرين سنة وأخرج إلى دمشق، وأفرج عن علاء الدين بن هلال الدولة، وأخرج إلى الشام، وأفرج عن ابن المحسني وأخرج إلى طرابلس، وذلك في يوم الجمعة ثاني رمضان. وكان ابن هلال الدولة وابن المحسني معتقلين بالإسكندرية من ثالث عشر رجب سنة ست وثلاثين، فخلع السلطان عليهما، ورسم أن يقيم ابن المحسني مع أبيه بطرابلس، ويقيم ابن هلال الدولة بدمشق، فسار كل منهما في حادي عشريه صحبة بريدي وكان هذا كله بشفاعة نائب الشام.
وفيها كتب سنجر الحمصي شاد الدواوين أوراقاً بما على السلطان من القرض للتجار، فبلغ ألفي درهم، فلم يعترف السلطان بها، وقال: " هذه أخذها الدواوين على اسمي " ، ورسم أن توزع على المباشرين فنزل بهم من ذلك شدة، وحملوا المبلغ شيئاً بعد شيء، وكان هذا من فعلات النشو بهم.
وفيها رسم ألا يضرب أحد بالمقارع، وطردت الرسل والأعوان من باب شد الدواوين، وكانوا قد كثرت مضرتهم، واشتد تسلطهم على الناس، وحصلوا من ذلك مالاً كبيراً. وكان هذا بسفارة سنجر الحمصي فكثر الثناء عليه.
وفيه توجه النشو ليتفقد ناحية فارس كور والمنزلة ودمياط، فقبض على علاء الدين بن توتل والي أشوم، وعلى أقبغا والي المحلة، وصادرهما فأخذ من والي أشوم خمسين ألف درهم، ومن والي المحلة مائة ألف درهم.
وفيه كتب النشو بالحوطة على مباشري المعاصر والدواليب، وجميع أعمال الصيد والفيوم وألزم ابن المشنقص مدولب مطبغ الأمير قوصو بمائة ألف درهم، واحتج بأنه يعمل الزغل في السكر والعسل، فحنق من ذلك قوصون، وقام مع السلطان في أمره حتى أفرج عنه. فشق هذا على النشو، وأثبت محضراً على القاضي ابن مسكين بأن أبا الدراليب مات على غير الملة، وأن ابنه لا يستحق إرثه، بحكم أنه لبيت المال، وطلع بالمحضر إلى السلطان.، فطلب السلطان قوصون وأغلظ عليه، فاحتد قوصون وهال. " أنا ما أسلم مالي الذي عنده. فوهب السلطان قوصون ما أثبته النشو، فأوقع الحوطة على جميع موجوده، وأخذه.
وفيها وقفت العامة للسلطان في الفار ضامن المعاملات، وشكوا ما أحدثه على القصب والمقاثي وصاحوا: " يكفينا النشو، فلا تسلط علينا الفار وتحبسه وتكتب على قيده مخلد، وتضمن غيره بناقص عشرة ألاف درهم، فطلب السلطان النشو وأنكر عليه، ورسم لسنجر الحمصي أن يضرب الفار، ويحبسه ويكتب على قيده مخلد، ويضمن غيره بناقص عشرة ألاف درهم، ففعل ذلك، ومشت أحوال الناس.
وفيها طرح النشو الفدان القلقاس على القلاقسية بألف ومائتي درهم، وصادر الشماسرة، وأخذ عدة مخازن للتجار، وأخرج ما فيها من البضائع وطرحها بثلاثة أمثال قيمتها، وعوض أربابها سفانج على الخشب والبوري فكان منها مخزن فيه حديد قومه بخمسين ألف درهم على المارستان، فأبى الأمير سنجر الجاولي ناظر المارستان أن يأخذه، فألزمه السلطان بأخذه للوقف فأخذه، ووزن ثمنه.
وفي ئالث عشر شوال. قدمت مفاتيح القلاع التي كانت بيد صاحب سيس. وهي آياس الجوانية، وآياس البرانية، والهارونية، وكوارة وحميضة ونجيمة وسرفندكار، فرسم بخراب بعضها، وأقامت النواب بباقيها.
وفي تاسع ذي القعدة: أضيف شد الصيارف للأمير نجم الدين بن الزيبق عوضاً عن بهادر البكتمري ، ثم أضيف إليه مع ذلك ولاية مصر، عوضاً عن شمس الدين جنغر ابن بكجري.
وفي تاسع عشره: خلع علي شهاب الدين محمد بن علاء الدين أحمد ابن قاضي القضاه تاج الدين ابن بنت الأعز، واستقر في حسبه مصر، عوضاً عن القاضي ضياء الدين محتسب القاهرة.
وفي سادس ذي الحجة: استقر نجم الدين أيوب في ولاية الفيوم، عوضاً عن بهادر أستادار الجمالي، وكان أيوب هذا أستادر الأكز.
وفيه قدم الخبر بأن القان موسى لما كانت الواقعة بينه وبين الشيخ حسن الكبير، وانكسر هو وعلي بادشاه، صار إلى بغداد وصادر الناس بها، ثم خرج علي بادشاه إلى الموصل، فسار إليه الشيخ بمن معه ولقبه شمالي توريز، فكانت حرب شديدة فر منها القان موسى وقتل علي بادشاه وخلق كثير، فكانت دولتهما ثلاثة أشهر. ولما انكسرت عساكرهما مضى الشيخ الكبير إلى بغداد فملكها، وقد أقام سلطاناً محمد بن يلقطلو بن هلاكو بن عنبرجي وبعث الشيخ حسن إلى السلطان بهدية، فأكرم رسله وجهزهم بهدية سنية، وكتب بتهنئة.
وفيه خلع علي نجم الدين داود بن أبي بكر محمد بن الزبيق، واستقر في ولاية الصناعة والأهراء، وخلع علي صلاح الدين محمد بن علي بن صورة، واستقر في نظر الأهراء رفيقاً له.
وفي يوم الإثنين ثاني عشر رمضان: ركب النشو على عادته في السحر، فاعترضه في طريقه فارس هو عبد المؤمن بن عبد الوهاب السلامي الذي ولي قوص وقيل أبو بكر بن الناصري محمد وضربه، فأخطأ سيفه رأس النشو، وسقطت عمامة النشو عن رأسه، وقد جرح كتفه، ثم خر إلى الأرض ونجا الفارس، وفي ظنه أن رأس النشو قد سقطت عن بدنه. فغضب السلطان من ذلك، ولم يحضر السماط، وبعث إلى النشو بعدة من الجمدارية بالجرائحية، فقطب ذراعه بست إبر وجبينه باثنتي عشرة إبرة. وألزم السلطان والي القاهرة ومصر بإحضار غريم النشو، وأغلظ على الأمراء بالكلام، ومازال يشتد ويحتد حتى عادت القصاد بسلامة النشو فسكن ما به، ثم بعث النشو مع أخيه رزق الله يخبر السلطان بأن هذا من فعل الكتاب بموافقة لؤلؤ، فطلب السلطان ابن المرواني والي القاهرة، ورسم بمعاقبة الكتاب الذين في المصادرة على الاعتراف بغريم النشو وعقوبة لؤلؤ معهم. فضرب لؤلؤ ضرباً مبرحاً، وعوقب العلم أبو شاكر وعلق والمقايرات في يديه، وعوقب قرموط وعدة من الكتاب، وحرثت بيوتهم وأخذ رخامها، وخرجت بالمحاريث لإظهار ما فيها من الخبايا. ثم أن النشو عوفي من جراحه، وطلع إلى القلعة، فخلع عليه ونزل وقد رتب السلطان المقدم إبراهيم بن أبي بكر شداد بن صابر أن يمشي في ركابه، ومعه عشرة من رجاله، وكان لا يطلع الفجر إلا وهم على بابه، فإذا ركب كانوا معه حتى يدخل القلعة، فإذا نزل مشوا في ركابه حتى يدخل بيته. وعندما نزل النشو إلى القاهرة كان أول ما بدأ به أن عاقب المقدمين وغيرهم، حتى مات عدة منهم تحت العقوبة.
وفي حادي عشرى ذي الحجة: سافر خواجا عمر وسرطقطاي مقدم البريدية بهدية إلى أزبك، ومعهما مبلغ عشرين ألف دينار لشراء مماليك وجواري من بلاد الترك. وفيها كملت عمارة جامع الأمير عز الدين أيدمر الخطيري على شاطئ النيل بمنية بولاق، وكان موضعه ساقية لشرف الدين موسى بن زنبور. وأصل بناء هذا الجامع أنه لما أنشئت العمائر ببولاق عمر الحاج محمد بن عز الفراش بجوار الساقية المذكوره داراً على النيل، ثم انتقلت تلك الدار بعد موته إلى ابن الأزرق، فعرفت بدار الفاسقين من كثرة اجتماع النصارى بها على ما لا يرضى الله، فلما صادره النشو باعها فيما باعه. فاشتراها الأمير أيدمر الخطيري بثمانية ألاف درهم، وهدمها وبنى مكانها ومكان الساقية جامعاً أنفق فيه مالاً جزيلاً، وأخذ أراضي حوله من بيت المال، وأنشأ عليها الحوانيت والرباع والفنادق، وأنعم السلطان عليه بعدة أصناف من خشب وغيره. فلما تم بناء الجامع قوي عليه النيل، فهدم جانباً منه، فأنشأ الخطيري تجاهه زريبة رمى بها ألف مركب موسوقة بالحجارة، وسماه جامع النوبة، فجاء من أحسن مباني مصر وأبدعها وأنزهها. فلما أفرج عن ابن الأزرق ادعي أنه كان مكرهاً في بيعه، فأعطاه الخطيري ثمانية ألاف درهم أخرى ، فمازال به النشو حتى قبض عليه مرة ثانية، وحبسه، فمات بعد قليل في حبسه.
وفيها فرغ بناء جامع الأمير سيف الدين بشتاك، بخلاف قبو الكرماني على بركة الفيل خارج القاهرة، وكان موضعه مساكن للفرنج والنصارى ومسالمة الكتاب. وعمر بشتاك تجاه هذا الجامع خانكاه على الخليج، ورتب فيها شيخاً وصوفية، وقرر لهن المعاليم الجارية، ونظم ما بين الجامع والخانكاه بساباط على الطريق المسلوك، فجاء من أحسن شيء بنى، وتحول كثير من النصارى من هناك.
وفيها أعيدت إلى عربان آل فضل وآل مهنا إقطاعاتها التي أقطعت للأمراء.
وفيها خلع علي عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة يوم الثلاثاء تاسع شعبان، واستقر في وكالة بيت المال، عوضاً عن نجم الدين الأسعردي مضافاً لما بيده من وكالة الخاص.
وفيه استقر جمال الدين بن العديم في قضاء الحنفية بحماة، عوضاً عن التقي محمود ابن محمد بن الحكيم.
وفيها مات متملك تلمسان أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن من عبد الواد الزياني قتيلاً في محاربة سلطان المغرب أبي الحسن المريني أخر شهر رمضان، بعدما ملك نيفا وعشرين سنة.
وفيها وقع الغلاء في جمادى الأولى، وأبيع الأردب القمح بأربعين درهماً . والشعير بثمانية وعشرين درهماً ، والفول باثنين وثلاثين درهماً، والبرسيم الأخضر كل فدان بنحو مائة وسبعين درهماً، والحمص المسلوق بثلاثة دراهم القدح.
وفيها كبست الفيوم في أخريات جمادى الأولى وأحضر منها ألف ومائتان فرس. ثم قدم والي الفيوم وأمراء العربان، وأحضروا ستين حمل سلاح، ومائة فرس وغير ذلك. وفي سابع ذي الحجة: وردت الفصاد بأن الملك موسى قدم إليه من خراسان طغاي تمر، وسارا لمحاربة محمد بن عنبرجي، فانكسرا في رابع عشر ذي القعدة، واستقل محمد بالملك، وكانت الوقعة قريبا من السلطانية بموضع يقال له صولق.
وفي رابع عشريه: استقر الجمالي عبدالله أخو ظلظية في ولاية البحيرة، عوضاً عن الغرس خليل.
ومات فيها من الأعيانقطب الدين إبراهيم بن محمد بن علي بن مطهر بن نوفل التغلبي الأدفوي بعد كف بصره، في يوم عرفة بأدفو، وله شعر.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن محمد بن سليمان بن حمائل بن غانم، بدمشق في ثالث عشر المحرم، وله شعر ونثر، ورحل إلى مصر وغيرها.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن علي بن أحمد بن الخولي القوصي الشافعي بقوص. ومات الأمير سيف الدين الأكز بدمشق، في نصف رمضان.
وتوفي الشيخ الإمام القدوة أبو عبدالله محمد بن محمد بن محمد بن الحاج الفاسي المغربي العبدري الفقيه المالكي عرف بابن الحاج في العشرين من جمادى الأولى، ودفن بالقرافة وقد علت سنه، وكانت جنازته عظيمة، وحدث، وكان زاهداً صالحاً، وأخذ عن جماعة منهم الشيخ أبو عبدالله محمد بن سعيد بن أبي جمرة، وصنف كتاب المدخل، جامع في بابه.
ومات الأمير عز الدين أيدمر الخطيري أحد الأمراء مقدمي الألوف المنسوب إليه جامع الخطيري في أول رجب، كان مملوك الخطير الرومي والد الأمير مسعود بن خطير ثم انتقل إلى الملك المنصور قلاوون، فرقاه حتى صار من أجل الأمراء البرجية، وكان جواداً كبير الهمة فيه خير كثير.
ومات الأمير أزبك الحموي في يوم الأربعاء خامس عشرى ذي القعدة على أياس، وقد بلغ مائة سنة، فحمل إلى حماة ودفن بها، وكان مهاباً كثير العطاء.
ومات الأمير بغا الدوادار بصفد منفياً، وكان مشكور السيده.
وتوفي عمر بن الشيخ برهان الدين أبو اسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن تميم بن عبد الصمد بن أبي الحسن بن عبد الصمد بن تميم المقريزي البعلى الصوفي، ببعلبك في ذي القعدة، ومولده في ثاني عشر رمضان سنة ثمان وستين وستمائة سمع من المسلم بن عدلان، وحدث، وسمع منه الأمير الواني وابن الفخر وغيرهما. ومات الشيح حسين بن إبراهيم بن حسين خطيب جامع الحاكمي من سويقة لاريش في يوم الخميس العشرين من شوال، فكانت جنازته عظيمة جداً لكثرة صلاحه، وقبره يزار خارج باب النصر.
وتوفي المحدث محب الدين عبدالله بن أحمد بن المحب المقدسي في ربيع الأول بدمشق، حدث عن الفخر وغيره.
وتوفي شيخ الحنابلة بنابلس شمس الدين عبدالله بن العفيف محمد بن يوسف، في ربيع الآخر.
ومات أسد الدين عبد القادر بن عبد العزيز بن المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي في ثاني شوال برملة، فدفن بالقدس، ومولده في ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وستمائة، حدث بالسيرة النبوية عن خطيب مردا.
وتوفي علاء الدين علي بن محمد بن سليمان بن حمائل بن غانم الدمشقي المنشأ، في ثالث المحرم بتبوك، وهو عائد من الحج.
وتوفي الشيخ محمد بن عبدالله بن المجد إبراهيم المرشدي صاحب الأحوال والمكاشفات، بناحية منية المرشد في ثامن رمضان.
وتوفي ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد الجعبري الواعظ، في يوم الإثنين رابع عشرى المحرم.
وتوفي شيخ الخانكاه الناصرية سعيد السعداء كمال الدين أبو الحسين علي بن حسن بن علي الحويزاني في خامس عشر صفر، واستقر عوضه شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن النقجواني.
وتوفي محتسب القاهرة ووكيل بيت المال نجم الدين محمد بن حسين بن علي الأسعردي، في يوم الجمعة خامس عشر شعبان.
وتوفي نجم الدين أحمد بن العماد إسماعيل بن الأمير، أحد كتاب الدرج، في يوم الثلاثاء رابع عشرى المحرم.
وتوفي سعد الدين سعيد بن الشيخ محيي الدين محمد بن محمد بن عبدالله بن محمد ابن عبد الله عرف جده بابن أكنس البغدادي المنجم كاتب التقاويم، وكانت له إصابات في النجامة عجيبة، وكانت وفاته في خامس عشر صفر.
وتوفي مسند مصر شرف الدين يحيى بن يوسف المقدسي والمعروف بابن المصري عن نيف وسبعين سنة بمصر.
سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة
أول المحرم: قدم مبشرو الحاج بسلامة الحجاج ورخاء الأسعار وحسن سيرة الأمير شمس الدين، آقسنقر السلاح دار أمير الحاج.وفي يوم الخميس ثالث عشريه: قدمت عساكر التجريدة من بلاد سيس. وكان من خبر ذلك أنهم لما ساروا من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وقدموا دمشق تلقاهم الأمير تنكز، ولم يعبأ تنكز بالأمير أرقطاي مقدم العسكر لما في نفسه منه. ومضوا إلى حلب. فقدموها في رابع عشرى رمضان، وأقاموا بها يومين فقدم الأمير قطلوبغا الفخري بعساكر الشام، وقد وصل إلى جعبر ثم ساروا جميعاً يوم عيد الفطر، ومعهم الأمير علاء الدين ألطبغا نائب حلب، وهو مقدم على العسكر جميعاً، حتى نزلوا على الإسكندرونة أول بلاد سيس، وقد تقدمهم الأمير مغلطاي الغزي إليها بشهرين حتى جهز المجانيق والزحافات والجسور الحديد والمراكب وغير ذلك لعبور نهر جهان. فقدم عليهم البريد من دمشق بأن تكفرر وعد بتسليم القلاع للسلطان، فلترد المجانيق وجميع ألات الحصار إلى بغراس. وليقم العسكر على مدينة أياس حتى يرد مرسوم السلطان بما يعتمد في أمرهم وكانت التراكمين قد أغاروا على بلاد سيس، ومعهم عسكر ابن فرمان فتركوها أوحش من بطن حمار، فبعث تكفور رسله في البحر إلى دمياط، فلم يأذن السلطان لهم في القدوم عليه، من أجل أنهم لم يعلموا نائب الشام بحضورهم، فعادوا إلى تكفور. فبعث تكفور بهدية إلى تنكز نائب الشام، وسأله منع العسكر من بلاده، وأنه يسلم القلاع التي من وراء نهر جهان جميعاً للسلطان. فكاتب تنكز السلطان بذلك، وبعث أوحد المهمندار إلى الأمير علاء الدين ألطبغا نائب حلب وهو المقدم على العسكر جميعاً بمنع الغارة ورد الآلات إلى بغراس، فردها ألطبغا وركب بالعسكر إلى آياس، فقدمها يوم الإثنين ثاني عشر شوال. وكانت آياس قد تحصنت، فبادر العسكر وزحف عليها بغير أمره فكان يوماً مهولاً، جرح فيه جماعة كثيرة. واستمر الحصار إلى يوم الخميس خامس عشره، وأحضر نائب حلب خمسن نجاراً وعمل زحافتين وستارتين ونادى في الناس بالركوب للزحف. فاشتد القتال حتى وصلت الزحافات والرجال إلى قريب السور، بعدما استشهد جماعة كثرة. فترجل الأمراء عن الخيول لأخذ السور، وإذا بأوحد المهمندار ورسل تكفور قد وافوا برسالة نائب الشام، فعادوا إلى مخيمهم فبلغهم أوحد المهنمدار أن يكفوا عن الغارة، فلم يوافقوه على ذلك، واستقر الحال على أن تسلموا أياس بعد ثمانية أيام.
فلما كان اليوم الثامن أرسل تكفور مفاتيح القلاع، على أن يرد ما سبي ونهب من بلاده، فنودي برد السب فأحضر كثير منه، وأخرب الجسر الذي نصب على نهر جهان. وتوجه الأمير مغلطاي الغزي فتسلم قلعة كوارة وكانت من أحصن قلاع الأرمن، ولها سور مساحته فدان وثلث وربع فدان، وارتفاعه اثنان وأربعون ذراعاً بالعمل، وأنفق تكفور على عمارته أربعمائة ألف وستين ألف دينار.
وتسلم العسكر آياس، وهدم البرج الأطلس في ثمانية أيام، بعدما عمل فيه أربعون حجاراً يومين وليلتين حتى خرج منه حجر واحد. ثم نقب البرج وعلق على الأخشاب، وأضرمت فيه النار، فسقط جميعه، وكان برجاً عظيماً، بلغ ضمانه في كل شهر لتكفور مبلغ ثلاثين ألف دينار حساباً عن كل يوم ألف دينار سوى خراج الأراضي. وكان ببلدة آياس أربعمائة خمارة وستمائة بغى وكان بها في ظاهرها ملاحة تضمن كل سنة بسبعمائة ألف درهم، ولها مائتي وستة عشر بستاناً تغرس فيها أنواع الفواكه، ودور سورها فدانان وثلثا فدان.
ثم رحل العسكر عن آياس بعدما، قاموا عليها اثنين وسبعين يوماً، فمر نائب حلب على قلعة نجيمة وقلعة سرفندكار وقد أخربهما مغلطاي الغزي حتى عبر بالعسكر إلى حلب في رابع عشرى ذي الحجة.
فعاد العسكر إلى مصر، وقد مرض كثير منهم، ومات جماعة. فأكرم السلطان الأمير أرقطاي وخلع عليه، وبعث تشريفاً إلى نائب حلب. وأقطع السلطان أراضي سيس لنائب حلب ونائب الشام وغيرهما من أمراء الشام، وأمر فيها جماعة من التركمان والأجناد، فاستعملوا الأرض في الفلاحة، وحطوا عنهم من الخراج، فعمرت ضياعها. وضمت بعض عجائز الأرمن ألف درهم كل يوم، فلم يوافق السلطان على ذلك. وعمل في كل قلعة من قلاع الأرمن نائب، ورتب فيها عسكر. ثم قدمت رسل تكفور فخلع عليهم، وكتب بترك الخراج عنهم ثلاث سنين، ومهادنتهم عشر سنين.