كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي
« ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل » وفيها نزلت سورة الفتح ، فكان سبب الأمن العظيم والغنى ، وعقبها في سنتها كان البعث إلى ملوك الأمصار ، وفتح خيبر وانبساط ذكر الإسلام في جميع الأقطار ، وكذا كان عقبها قبل عمرة القضية إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي لما سأله أن يعطيه عمرو بن أميه الضمري رضي الله عنه ليقتله ، وذلك حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي رضي الله عنهما يدعوه إلى الإسلام فأنكر النجاشي ذلك على ابن العاص وشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأمره بأن يؤمن به ، ففعل فكان ملك الحبشة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ناجياً هادياً ، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم داعياً ، عكس ما كان لملك الحبشة بمولده صلى الله عليه وسلم من أنه كان هالكاً ، وإلى الجحيم هاوياً ، وإن حسبت من سنة بنيان الكعبة في الخامسة والعشرين من مولده صلى الله عليه وسلم كانت السنة التاسعة والخمسون هي الحادية والثلاثون بعد الهجرة ، وهي سنة استئصال ملك الفرس بقتل آخر ملوكهم يزدجرد ، والفرس هم الذين أزالوا الحبشة عن بلاد اليمن وطهروا منهم أرض العرب ، ولعل قسمة السورتين إلى ثلاث وعشرين وسبع عشرة إشارة إلى أن هذا المولد الشريف الذي حرست الكعبة بمولده صلى الله عليه وسلم وحصل الأمن والعز ببركته تبنى الكعبة وتجدد بعد بضع وعشرين سنة من مولده ، قالوا : كان بنيانها وسنه خمس وعشرون سنة ، فلعله كان في آخر الرابعة والعشرين ، ولعل قصة الفيل كانت وله نحو سنة من حين الولادة ، وبه حين البنيان ألف الله بين قريش بعد أن كانوا تنافروا أشد المنافرة وتعاقدوا على الحرب في أمر الحجر الأسود من يضعه في موضعه حتى أصلح الله بينهم به صلى الله عليه وسلم فوضعه بيده الشريفة في ثوب ، وأمرهم فأمسكت جميع القبائل بأطرافه ، ثم رفعوه حتى وازوا به موضعه فأخذه هو صلى الله عليه وسلم فوضعه في مكانه ، فكان الشرف له خاصة في الإصلاح والبنيان ، وتشير مع ذلك إلى أنه يبقى في النبوة ثلاثاً وعشرين سنة ، ثم يتوفاه الله سبحانه وتعالى بعد أن جعل الله كيد جميع الكفرة في تضليل من عباد الأوثان والفرس والروم وغيرهم بما فتح الله عليه من جزيرة العرب التي ألف الله بها بين كلمتهم حتى انسابوا على غيرهم فما وافقهم أحد ناوشوه القتال وساوموه النضال والنزال ، ولعل الإشارة بكون قريش سبع عشرة كلمة إلى أنه صلى الله عليه وسلم بعد سبع عشرة سنة من بنيان البيت يبعثه الله سبحانه وتعالى لأمر قريش بالعبادة التي أجلّها الصلاة التي أعظمها الفرائض التي هي سبع عشرة ركعة شكراً لنعمة من آمنهم من خوف وأطعمهم من جوع بأعظم العبادة ، وإلى أن ابتداء ألفة قريش بالقوة القريبة من الفعل بعد الشتات العظيم الظاهر وجعل كيد الكفار في تضليل يكون في السنة السابعة عشرة من النبوة ، وذلك سنة أربع من الهجرة فإن فيها كان إجلاء بني النضير من اليهود من المدينة الشريفة وإخلاف قريش الموعد في بدل الموعد وهناً منهم عن لقاء جيش النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت بعد بيسير غزوة الأحزاب ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافهم :
« الآن نغزوهم ولا يغزونا » يعني أن نخوة الشيطان منهم وحمية الجاهلية أخذت في الاضمحلال لانتهاء قوتهم في الباطل الذي كان سبب عزهم الظاهري الذي هو الذل في الباطن ، وكان ذلك ابتداء عزهم في الباطن الذي هو ذلهم لأهل الإسلام في الظاهر ، وفي أثر الأحزاب كانت غزوة بني قريظة ، فإذا ضممت إلى الكلمات الضمائر الأربعة كانت إحدى وعشرين توازيها سنة ثمان من الهجرة وهي سنة الفتح الأعظم الذي وقعت به الألفة العظمى بين قريش وأمنهم وغناهم الذي وعدهم الله به في السورة المناظرة لها - وهي براءة - باتئلاف جميع العرب وانبعاثهم لاجتماع كلمتهم إلى جهاد الفرس والروم والقبط وأخذهم لبلادهم ، وانتثالهم لكنوزهم وتحكمهم في نسائهم وأولادهم ، فسبحان من هذا كلامه ، وتعالى شأنه وعز مرامه .
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
لما أخبر سبحانه وتعالى عن فعله معهم من الانتقام ممن تعدى حدوده فيهم ، ومن الرفق بهم بما هو غاية في الحكمة ، فكان معرفاً بأن فاعله لا يترك الناس سدى من غير جزاء ، وأمرهم آخر قريش بشكر نعمته بإفراده بالعبادة ، عرفهم أول هذه أن ذلك لا يتهيأ إلا بالتصديق بالجزاء الحامل على معالي الأخلاق الناهي عن مساوئها ، وعجب ممن يكذب بالجزاء مع وضوح الدلالة عليه بحكمة الحكيم ، ووصف المكذب به بأوصاف هم منها في غاية النفرة ، وصوّره بأشنع صورة بعثاً لهم على التصديق وزجراً عن التكذيب ، فقال خاصاً بالخطاب رأس الأمة إشارة إلى أنه لا يفهم هذا الأمر حق فهمه غيره : { أرأيت } أي أخبرني يا أكمل الخلق { الذي يكذب } أي يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان { بالدين * } أي الجزائي الذي يكون يوم البعث الذي هو محط الحكمة وهو غاية الدين التكليفي الآمر بمعالي الأخلاق الناهي عن سيئها ، ومن كذب بأحدهما كذب بالآخر : ولما كان فعل الرؤية بمعنى أخبرني ، المتعدي إلى مفعولين ، كان تقدير المفعول الثاني : أليس جديراً بالانتقام منه .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت السور المتقدمة من الوعيد لمن انطوى على ما ذكر فيها مما هو جارٍ على حكم الجهل والظلم الكائنين في جبلة الإنسان ما تضمنت كقوله : { إن الإنسان لربه لكنود } { إن الإنسان لفي خسر } { يحسب أن ماله أخلده } وانجر أثناء ذلك مما تثيره هذه الصفات الأولية ما ذكر فيها أيضاً كالشغل بالتكاثر ، والطعن على الناس ولمزهم والاغترار المهلك أصحاب الفيل أتبع ذلك بذكر صفات قد توجد في المنتمين إلى الإسلام أو يوجد بعضها أو أعمال من يتصف بها وإن لم يكن من أهلها كدع اليتيم ، وهو دفعه عن حقه وعدم الرفق به ، وعدم الحض على طعام المسكين ، والتغافل عن الصلاة والسهو عنها ، والرياء بالأعمال والزكاة والحاجات التي يضطر فيها الناس بعضهم إلى بعض ، ويمكن أن يتضمن إبهام الماعون هذا كله ، ولا شك أن هذه الصفات توجد في المتسمين بالإسلام ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه من صفات من يكذب بيوم الدين ولا ينتظر الجزاء والحساب ، أي إن هؤلاء هم أهلها ، ومن هذا القبيل قوله عليه الصلاة والسلم « أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً » وقوله عليه الصلاة والسلام « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » وهذا الباب كثير في الكتاب والسنة ، وقد بسطته في كتاب « إيضاح السبيل من حديث سؤال جبريل » فمن هذا القبيل عندي - والله أعلم - قوله تعالى : { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم } أي أن هذه الصفات من دفع اليتيم وبعد الشفقة عليه ، وعدم الحض على إطعامه والسهو عن الصلاة والمراءاة بالأعمال ومنع الحاجات إن هذه كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء لأن نفع البعد عنها إنما يكون إذ ذاك ، فمن صدق به جرى في هذه الخصال على السنن المشكور والسعي المبرور ، ومن كذب به لم يبال بها وتأبط جميعها ، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها ، فليست من صفاتكم في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه ، فمن تشبه بقوم فهو منهم ، فاحذروا هذه الرذائل فإن دع اليتيم من الكبر الذي أهلك أصحاب الفيل ، وعدم الحض على إطعامه فإنما هو فعل البخيل الذي يحسب أن ماله أخلده ، والسهو عن الصلوات من ثمرات إلهاء التكاثر ، والشغل بالأموال والأولاد ، فنهى عباده عن هذه الرسائل التي يثمرها ما تقدم والتحمت السور - انتهى .
ولما كان المراد بهذا الجنس ، وكان من المكذبين من يخفي تكذيبه ، عرفهم بأمارات تنشأ من عمود الكفر الذي صدر به ويتفرع منه تفضحهم ، وتدل عليهم وإن اجتهدوا في الإخفاء وتوضحهم ، فقال مسبباً عن التكذيب ما هو دال عليه : { فذلك } أي البغيض البعيد من كل خير { الذي يدع } أي يدفع دفعاً عنيفاً بغاية القسوة { اليتيم * } ويظلمه ولا يحث على إكرامه لأن الله تعالى نزع الرحمة من قلبه ، ولا ينزعها إلا من شقي لأنه لا حامل على الإحسان إليه إلا الخوف من الله سبحانه وتعالى ، فكان التكذيب بجزائه سبباً للغلظة عليه .
ولما كانت رحمة الضعفاء علامة على الخير ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين » كانت القسوة عليهم علامة على الشر ، وكان من بخل باللين في قاله أشد بخلاً بالبذل من ماله ، قال معرفاً لأن المكذب ينزله تكذيبه إلى أسفل الدركات ، وأسوإ الصفات الحامل على شر الحركات : { ولا يحض } أي يحث نفسه وأهله ولا غيرهم حثاً عظيماً يحمى فيبعث على المراد { على طعام المسكين * } أي بذله له وإطعامه إياه بل يمقته ولا يكرمه ولا يرحمه ، وتعبيره عن الإطعام - الذي هو المقصود - بالطعام الذي هو الأصل وإضافته المسكين للدلالة على أنه يشارك الغني في ماله بقدر ما فرض الله من كفايته ، وقد تضمن هذا أن علامة التكذيب بالبعث - إيذاء الضعيف والتهاون بالمعروف ، والآية من الاحتباك : الدع في الأول يدل على المقت في الثاني : والحض في الثاني يدل على مثله في الأول .
ولما كان هذا حاله مع الخلائق ، أتبعه حاله مع الخالق إعلاماً بأن كلاًّ منهما دالّ على خراب القلب وموجب لمقت الرب ، وأعظم الإهانة والكرب ، وأن المعاصي شؤم مهلك ، تنفيراً عنها وتحذيراً منها ، فسبب عنه قوله معبراً بأعظم ما يدل على الإهانة : { فويل } ولما كان الأصل : له - بالإضمار والإفراد ، وكان المراد ب « الذي » الجنس الصالح للواحد وما فوقه .
وكان من يستهين بالضعيف لضعفه يعرض عما لا يراه ولا يحسه لغيبته ، وكان من أضاع الصلاة كان لما سواها أضيع ، وكان من باشرها ربما ظن النجاة ولو كانت مباشرته لها على وجه الرياء أو غيره من الأمور المحيطة للعمل ، عبر بالوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به وشقه من الصلاة تحذيراً من الغرور ، وإشارة إلى أن الذي أثمر له تلك الخساسة هو ما تقدم من الجري مع الطبع الرديء ، وأتى بصيغة الجمع تنبيهاً على أن الكثرة ليست لها عنده عزة لأن إهانة الجمع مستلزمة لإهانة الأفراد من غير عكس فقال : { للمصلين * } ولما كان الحكم إنما هو على ذات الموضع من غير اعتبار لوصفه بالفعل علم أن المقصود إنما هو من كان مكلفاً بالصلاة لأن من كان متلبساً بها مثل قوله صلى الله عليه وسلم « لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار » فلذلك وصفهم بقوله : { الذين هم } أي بضمائرهم وخالص سرائرهم . ولما كان المراد تضييعهم قال : { عن } دون في { صلاتهم } أي هي جديره بأن تضاف إليهم لوجوبها عليهم وإيجابها لأجل مصالحهم ومنافعهم بالتزكية وغيرها { ساهون * } أي عريقون في الغفلة عنها وتضييعها وعدم المبالاة بها وقلة الالتفات إليها ، ويوضح ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ « لاهون » وفائدة التعبير بالوصف الدلالة على ثبوته لهم ثبوتاً يوجب أن لا يذكروها من ذات أنفسهم أصلاً ، ولذلك كشفه بما بعده ، روى البغوي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الآية فقال : « هو إضاعة الوقت » وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا ويصلونها إذا حضروا مع الناس .
ولما كان من كان بهذه الصفة لا نظر له لغير الحاضر كالبهائم ، قال دالاًّ على أن المراد بالسهو ههنا تضييعها عند الانفراد بالترك حساً ومعنى وعند الاجتماع بالإفساد في المعنى : { الذين هم } أي بجملة سرائرهم { يرآؤن * } أي بصلاتهم وغيرها يرون الناس أنهم يفعلون الخير ليراهم الناس فيروهم الثناء عليهم والإحسان إليهم ولو بكف ما هم يستحقونه من السيف عنهم ، لا لرجاء الثواب ولا لمخوف العقاب من الله سبحانه وتعالى ، ولذلك يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس .
ولما كان من كان بهذه الصفة ربما فعل قليل الخير دون جليله رياء ، بين أنهم غلب عليهم الشح حتى أنهم مع كثرة الرياء منهم لم يقدروا على أن يراؤوا بهذا الشيء التافه ، فانسلخوا من جميع خلال المكارم ، فقال إبلاغاً في ذمهم إشعاراً بأن أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله : { ويمنعون } أي على تجدد الأوقات ، وحذف المفعول الأول تعمماً حتى يشمل كل أحد وإن جل وعظمت منزلته ولطف محله من قلوبهم تعريفاً بأنهم بلغوا من الرذالة دركة ليس وراءها للحسد موضع { الماعون } أي حقوق الأموال والشيء اليسير من المنافع مثل إعارة التافه من متاع البيت التي جرت عادة الناس أن يتعاوروه بينهم ، ويمنعون أهل الحاجة ما أوجب الله لهم في أموالهم من الحقوق ، والحاصل أنه ينبغي حمل ذلك على منع ما يجب بذله مثل فضل الكلأ والماء والزكاة ونحوه ليكون موجباً للويل ، وعلى الزكاة حمله علي وابن عمر رضي الله عنهما والحسن وقتادة ، قال العلماء : هو مأخوذ من المعن ، وهو في اللغة الشيء اليسير ، ولذلك فسره بعضهم بالماء وبعضهم بما يعار من المتاع نحو القدر والفأس .
والدلو ، وبعضهم بالزكاة لأنه لا يؤخذ من المال على وجه الزكاة إلا شيء يسير جداً بالنسبة إليه ، وقيل : هو كل عطية أو منفعة ، وقال قطرب : هو فاعول من المعن ، والمعن : المعروف ، وقال أبو عبيدة : الماعون في الجاهلية العطاء والمنفعة وفي الإسلام الزكاة ، وقال الهروي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو العارية - ذكر هذا الأستاذ عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي ، وقال ابن جرير : وأصل الماعون من كل شيء منفعته . فدل ذلك على أنهم بلغوا نهاية التكذيب باستهانتهم بأعظم دعائم الدين واستعظامهم لأدنى أمور الدنيا ، وهذا الآخر كما ترى هو الأول لأن الذي جر إليه هو التكذيب ، ومن منع هذه الأشياء التافهة كان جديراً بأن يمنع ورود الكوثر في يوم المحشر ، وكما التقى آخرها بأولها التقت السورة كلها مع مناظرتها في العدد من أول القرآن ، وذلك أنه قد علم أن حاصل هذه السورة الإبعاد عن سفساف الأخلاق ورديها ودنيها من التكذيب بالجزاء الذي هو حكمة الوجود المثمر للإعراض عن الوفاء بحق الخلائق وطاعة الخالق ، والانجذاب مع النقائص إلى الاستهانة بالضعيف الذي لا يستهين به إلا أنذل الناس وأرذلهم ، والرياء الذي لا يلم به إلا من كان في غاية الدناءة ، فكان ذلك موجباً للميل إلى أعظم الويل ، وفي ذلك أعظم مرغب في معالي الأخلاق التي هي أضداد ما ذكر في السورة وكلا الأمرين موجود في الأنفال المناظرة لها في رد المقطع على المطلع على أتم وجه ، ليكون ذلك إشارة إلى أنها شارحة لهذا ففيه الإيماء إلى ملاحظتها عند قراءتها ، انظر إلى قوله تعالى : { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً } [ الأنفال : 4 ] الآية { وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } [ الأنفال : 32 ] الآية { وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية } [ الأنفال : 35 ] { والذين كفروا إلى جهنم يحشرون } [ الأنفال : 36 ] الآية { فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ الأنفال : 41 ] الآية ولقد انطبقت السورة بمعانيها وتراكيبها العظيمة ونظومها ومبانيها على الأراذل الأدنياء الأسافل ، وأحاطت برؤوسهم بعد كلماتها مفردة قبل حروفها ، وأدارت عليهم كؤوس حتوفها من نوافذ الرماح بأيدي جنودها ومواضي سيوفها ، وذلك أن عدة كلماتها خمس وعشرون كلمة فإذا اعتبرتها من أول سني النبوة وازت السنة الثانية عشرة من الهجرة ، وذلك أواخر خلافة الصديق رضي الله عنه ، وفيها لم يبق على يده أحد من المصلين الذين ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أو منعوا الزكاة ، فتبين أنهم ما كانوا يصلون في حياته صلى الله عليه وسلم ويزكون إلا رياء الناس فعل الأدنياء الأنجاس حتى حل بهم الويل بأيدي جنود الصديق الذين جاؤوهم بالرجل والخيل فمزقوهم عن آخرهم ، ولم تمض تلك السنة إلا وقد فرغ منهم بالفراغ من بني حنيفة باليمامة وأطراف بلاد اليمن من أهل النجير ببلاد كندة والأسود العنسي من صنعاء ، وما مضت سنة ست عشرة الموازية لعدد الكلمات بالبسملة - وذلك في أوائل خلافة الفاروق - حتى زالوا من جميع جزيرة العرب وهم مشركو العرب ومتنصروهم ومتمجسوهم الذين كانوا بنواحي العراق والشام والبحرين فأسلم أكثرهم ، وذهب الباقون إلى بلاد الروم ، فحل الويل بالمرائين من أهل الصلاة فإنهم الذين أتى إليهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بالصلاة فأعرضوا عنها والناس لهم تبع ، ولم يصح في هذه السورة اعتبار الضمائر لأن الدين في هذا الحد كان قد ظهر على كل ظاهر ، إلى حد لا إضمار فيه بوجه ولا عائق له ولا ساتر ، وكما أنه لا حاجة إلى الرمز بالضمائر ، لما دقت له في الخافقين من البشائر ، على رؤوس المنابر والمنائر ، فكذلك لم يناسب بعد الوصول إلى هذا الحال المكشوف ، للإيماء بالدلالة بإعداد الحروف - والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
لما كانت سورة الدين بإفصاحها ناهية عن مساوىء الأخلاق ، كانت بإفهامها داعية إلى معالي الشيم ، فجاءت الكوثر لذلك ، وكانت الدين قد ختمت بأبخل البخلاء وأدنى الخلائق : المنع تنفيراً من البخل ومما جره من التكذيب ، فابتدئت الكوثر بأجود الجود . العطاء لأشرف الخلائق ترغيباً فيه وندباً إليه ، فكان كأنه قيل : أنت يا خير الخلق غير متلبس بشيء مما نهت عنه تلك المختتمة بمنع الماعون : { إنا } بما لنا من العظمة وأكد لأجل تكذيبهم : { أعطيناك } أي خولناك مع التمكين العظيم ، ولم يقل : آتيناك ، لأن الإيتاء أصله الإحضار وإن اشتهر في معنى الإعطاء { الكوثر * } الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين .
ولما كان كثير الرئيس أكثر من كثير غيره ، فكيف بالملك فكيف بملك الملوك ، فكيف إذا أخرجه في صيغة مبالغة فكيف إذا كان في مظهر العظمه ، فكيف إذا بنيت الصيغة على الواو الذي له العلو والغلبة فكيف إذا أتت إثر الفتحة التي لها من ذلك مثل ذلك بل أعظم ، كان المعنى : أفضنا عليك وأبحناك من كل شيء من الأعيان والمعاني من العلم والعمل وغيرهما من معادن الدارين ومعاونهما الخير الذي لا غاية له ، فلا يدخل تحت الوصف ، فأغنيناك عن أن تؤثر بذلك أو توفر مالك بجلب نفع أو دفع ضر ، ومنه النهر الذي في الجنة ويسقي المؤمنين من الحوض الممدود منه في المحشر الذي مثاله في الدنيا شريعته صلى الله عليه وسلم التي عراها وأسبابها عدد النجوم الذين هم علماء أمته المقتدى بهم ، فقد اجتمع لك الغبطتان : أشرف العطاء من أكرم المعطين وأعظمهم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما نهى عباده عما يلتذ به من أراد الدنيا وزينتها من الإكثار والكبر والتعزز بالمال والجاه وطلب الدنيا ، أتبع ذلك بما منح نبيه مما هو خير مما يجمعون ، وهو الكوثر وهو الخير الكثير ، ومنه الحوض الذي ترده أمته في القيامة ، لا يظمأ من شرب منه ، ومنه مقامه المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون عند شفاعته العامة للخلق وإراحتهم من هول الموقف ، ومن هذا الخير ما قدم له في دنياه من تحليل الغنائم والنصر بالرعب والخلق العظيم إلى ما لا يحصى من خيري الدنيا والآخرة مما بعض ذلك خير من الدنيا وما فيها إذ لا تعدل الدنيا وما فيها واحدة من هذه العطايا { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } [ يونس : 58 ] ومن الكوثر والخير الذي أعطاه الله كتابه المبين ، الجامع لعقل الأولين والآخرين ، والشفاء لما في الصدور .
ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها ، قال مبيناً له منبهاً على عظيم ما أعطاه
{ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا } [ الحجر : 88 ] إلى قوله { ورزق ربك خير وأبقى } فقد اضمحل في جانب نعمة الكوثر الذي أوتي كلُّ ما ذكره الله تعالى في الكتاب من نعيم أهل الدنيا وتمكن من تمكن منهم ، وهذا أحد موجبات تأخير هذه السورة ، فلم يقع بعدها ذكر شيء من نعيم الدنيا ولا ذكر أحد من المتنعمين بها لانقضاء هذا الغرض وتمامه ، وسورة الدين آخر ما تضمن الإشارة إلى شيء من ذلك كما تقدم من تمهيد إشاراتها ، وتبين بهذا وجه تعقيبها بها - والله تعالى أعلم - انتهى .
ولما أعطاه ما فرغه به للعبادة وأكسبه غنى لا حاجة معه ، سبب عنه قوله آمراً بما هو جامع لمجامع الشكر : { فصل } أي بقطع العلائق من الخلائق بالوقوف بين يدي الله في حضرة المراقبة شكراً لإحسان المنعم خلافاً للساهي عنها والمرائي فيها .
ولما أتى بمظهر العظمة لتكثير العطاء فتسبب عنه الأمر بما للملك من العلو ، وكان أمره صلى الله عليه وسلم تكوينياً لا إباء معه ، وقع الالتفات إلى صفة الإحسان المقتضي للترغيب والإقبال لما يفيد من التحبيب ، مع التصريح بالتوحيد ، وإفادة أن العبادة لا تقع إلا شكراً فقال تعالى : { لربك } أي المحسن إليك بذلك سراً وعلناً مراغماً من شئت فلا سبيل لأحد عليك { وانحر * } أي أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافاً لم يدعهم ويمنعهم الماعون لأن النحر أفضل نفقات العرب لأن الجزور الواحد يغني مائة مسكين ، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلى الإبل ، ولذا عبر عن هذا المراد بالنحر ليفهم الزجر عما كانوا يفعلونه من الذبح للأوثان ، ومن معناه أيضاً أظهر الذل والمسكنة والخشوع في الصلاة بوضع اليمنى على اليسرى تحت النحر هيئة الذليل الخاضع ، وقد قابل في هذا أربعاً من سورة الدين بأربع ، وهي البخل بالإعطاء ، وإضاعة الصلاة بالأمر بها ، والرياء بالتخصيص بالرب ، ومنع الزكاة بالنحر .
ولما أمره باستغراق الزمان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلائق بأعلى الخلائق ، علله بما حاصله أنه لا شاغل له ولا حاجة أصلاً تلم به فقال : { إن شانئك } أي مبغضك والمتبرىء منك والمستهين بك مع ما أوتيت من الجمال ، والخصال الفاضلة والكمال { هو } أي خاصة { الأبتر * } أي المقطوع من أصله والمقطوع النسل والمعدم والمنقطع الخير والبركة والذكر ، لا يعقبه من يقوم بأمره ويذكر به وإن جمع المال ، وفرغ بدنه لكل جمال ، وأنت الموصول الأمر ، النابه الذكر ، المرفوع القدر ، فلا تلتفت إليهم بوجه من الوجوه ، فإنهم أقل من أن يبالي بهم من يفرغ نفسه للفوز بالمثول في حضراتنا الشريفة ، والافتخار بالعكوف في أبوابنا العالية المنيفة ، لك ما أنت عليه ، ولهم ما هم فيه ، فالآية الأخيرة النتيجة لأن من الكوثر علو أمره وأمر محبيه وأتباعه في ملكوت السماء والأرض ونهر الجنة وسفول شأن عدوه فيهما ، فقد التف كما ترى مفصلها بموصلها ، وعرف آخرها من أولها ، وعرف أن وسطاها كالحدود الوسطى معانقة للأولى بكونها من ثمارها ، ومتصلة بالأخرى لأنها من غايات مضمارها ، وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلاً ، لم يبق لأحد من مبغضيه ذكر بولد ولا تابع ، ولا يوجد لهم شاكر ولا مادح ولا رافع ، وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد ملأت ذريته من فاطمة الزهراء الأرض ، وهم الأشرف مع مبالغة الملوك في قتلهم ، وإخلاء الأرض من نسلهم ، خوفاً من شرفهم العالي على شرفهم ، ورفعتهم بالتواضع الغالب لصلفهم ، وإذا راجعت آية
{ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله } [ الأحزاب : 40 ] من الأحزاب علمت أن توفي بنيه عليهم السلام قبله من إعلاء قدره ومزيد تشريفه بتوحيد ذكره ، وأما اتباعه فقد استولوا على أكثر الأرض وهم أولو الفرقان ، والعلم الباهر والعرفان ، ويؤخذ منها أن من فرغ نفسه لربه أهلك عدوه وكفاه كل واحد منهم ، وقد علم أن حاصل هذه السورة المن عليه صلى الله عليه وسلم بالخير العظيم الذي من جملته النهر المادّ من الجنة في المحشر المورود لمن اتبعه ، الممنوع ممن تأبى عنه وقطعه ، وأمره بالصلاة والنحر للتوسعة على المحاويج ، والبشارة بقطع دابر أعدائه ونصر جماعة أوليائه ، كما أن من مقاصد الأعراف المناظرة لها في رد المقطع على المطلع تهديد الظالمين بالإهلاك في قوله { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] ، وتصوير ذلك بذكر مصارع الماضين لمخالفتهم الرسل عليهم الصلاة والسلام والأمر بالصلاة وستر العورة وما يقصد بالنحر بقوله : { خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا } الآيات [ الأعراف : 31 ] ، وذكر من يمنح ماء الجنة ومن يمنعه بقوله تعالى : { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أو أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } الآيات [ الأعراف : 50 ] ، وقوله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم } [ الأعراف : 157 ] هذا ما يتعلق بتفسير تراكبيها وجملها ، وتأويل تفاصيلها ومجملها ، وكذا نظيرتها في مبادىء أمرها ومكملها ، ثم إن هذه السورة عشر كلمات في الكتابة إشارة إلى أن تمام بتر شانئه يكون مع تمام السنة العاشرة من الهجرة ، وكذا كان ، لم تمض السنة الحادية عشر من الهجرة وفي جزيرة العرب إلا من يرى أشرف أحواله بذل نفسه وماله في حبه ، وإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت اثنتا عشرة ، وفي السنة الثانية عشرة من النبوة بايعه صلى الله عليه وسلم الأنصار على منابذة الكفار ، وإذا أضيف إلى العشرة الضمائر البارزة الخمسة كانت خمس عشرة ، فتكون إشارة إنه صلى الله عليه وسلم عند تمام السنة الخامسة عشر من نبوته يبسط يده العالية لبتر أعدائه وكذا كان في وقعة بدر الرفيعة القدر ، ففي ضمائر الاستتار كانت البيعة وهي مستترة ، وفي الضمائر البارزة كانت بدر وهي مشتهرة ، وإذا أضيف إلى ذلك الضميران المستتران كانت سبع عشرة ، وفي السنة السابعة عشرة من نبوته كانت غزوة بدر الموعد ، وفى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالوعد في الإتيان إلى بدر للقاء قريش للقتال ومقارعة الأبطال ، فآذنهم الله فلم يأتوا ، وإنما اعتبر ما بعد الهجرة من أحوال النبوة عندما عدت الكلمات الخطية العشر لكونها أقوى أحوال النبوة كما أن الكلمات الخطية أقوى من الضمائر وإن اشترك الكل في اسم الكلمات ، فلذلك أخذ تمام البتر للشانىء وهو ما كان في السنة الحادية عشرة من هلاك أهل الردة وثبات العرب في صفة الإسلام ، ولما ضمت الضمائر البارزة الخمسة - التي هي أقرب من المستترة - إلى الكلمات الخطية وأضعف من الكلمات الخطية اعتبر من أول السورة لمناسبة ما كان من ضعف الحال فيما كان قبل الهجرة ، فوازى ذلك السنة الثانية من الهجرة التي كانت فيها غزوة بدر الكبرى ، وهي وإن كانت من العظم على أمر بالغ جداً لكنها كانت على وجه مخالف للقياس ، فإن حال الصحابة رضي الله عنهم كان فيها في غاية الضعف ، ولكونها أول ما وقع فيه النصر من الغزوات لم تكن نفوس المخالفين مذعنة لأن ما بعدها يكون مثلها ، فإذا ضم إلى ذلك الضميران المستتران - وهما أضعف من البارز - انطبق العدد على سنة غزوة بدر الموعد في سنة أربع ، وهي وإن كانت قوية لكون قريش ضعفوا عن اللقاء لكن كان حالها أضعف من بدر التي وقع فيها القتال وأستر ، وكون كلماتها الخطية والاصطلاحية التي هي أبعاض الكلمات الخطية سبع عشرة مؤذن بأن الأمر في { فصلِّ } مصوب بالذات بالقصد الأول إلى الصلوات الخمس التي هي سبع عشرة ركعة ، وأن من ثابر عليها كان مصلياً خارجاً من عهدة الأمر ، فإذا قصدت في السفر بما اقتضته صفة التربية بالإحسان نقصت بقدر عدة الضمائر سوى الذي وفى الأمر بها لأن الأمر الناشىء عن مظهر العظمة لا يليق فيه التخفيف بنفسه كلمة الأمر ، وإذا أضفنا إليها كلمات البسملة الأربعة كان لها أسرار كبرى من جهة أخرى ، وذلك أن الكلمات الخطية تكون أربع عشرة إشارة إلى أن ابتداء البتر للأضداد يكون بالقوة القريبة من الفعل بالتهييء له في السنة الرابعة عشرة من النبوة ، وذلك عام الهجرة ، فإذا أضفنا إليها الضمائر البارزة التي هي أقرب إلى الكلمات الخطية وهي خمسة كانت تسع عشرة ، وفي السنة التاسعة عشرة من النبوة وهي السادسة من الهجرة كان الفتح المبين على الشانئين الذي أنزل الله فيه سورة الفتح ، فإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت إحدى وعشرين وهي سنة ثمان من الهجرة سنة الفتح الأكبر الذي عم العلم فيه بأن الشانىء هو الأبتر ، وإذا اعتبرت حروفها المتلفظ بها كانت أربعة وأربعين حرفاً ، فإذا ناظرتها بالسنين من أول حين النبوة كان آخرها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة ، وهي سنة البتر الأعظم لشانئه الأكبر الذي مزق كتابه ، وكان مالكاً لبلاد اليمن ، وهو قدر كبير من بلاد العرب وكذا لغيرهم مما قارب بلاده ، وكانت قريش تجعله من عدادهم كما مضى بيانه في سورة الروم وهو كسرى ملك الفرس ، ففيها كان انقراض ملكهم بقتل آخر ملوكهم يزدجرد ، كما أنك إذا اعتبرت كلماتها الخطية مع الضمائر البارزة التي هي كلمات اصطلاحية دون ما استتر - فإن وجوب استتاره منع من عده - كانت تسع عشرة كلمة ، فإن اعتبرت بها ما بعد الهجرة وازت وقت موت قيصر طاغية الروم في سنة تسع عشرة من الهجرة أهلكه الله ، وقد تجهز إلى قتال العرب بالإسكندرية بنفسه ، وأمر ألا يتخلف عنه أحد من الروم فكسر الله بموته شوكة الروم ، واستأسدت العرب عند ذلك ، فكانت الأحرف مشيرة إلى بتر الشانىء من الفرس ، والكلمات مشيرة إلى بتر الشانىء من الروم والفرس أولى بإشارة الأحرف لأنهم ليسوا بذوي علم ، والروم بالكلمات لأنهم أهل علم ، والكلمات أقرب إلى العلم ، وإذا اعتبرت أحرف البسملة اللفظية كانت ثمانية عشر حرفاً ، فإذا جعلتها سنين من أول النبوة كان آخرها سنة خمس من الهجرة ، وفيها كانت غزوة الأحزاب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافهم منها
« الآن نغزوهم ولا يغزونا » فهو أول أخذ الشانىء في الانبتار ، وإذا اعتبرت الأحرف بحسب الرسم كانت تسعة عشر آخرها سنة ست ، وهي عمرة الحديبية سنة الفتح السببي وهو الصلح الذي نزلت فيه سورة الفتح وسماه الله فتحاً ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنه أعظم الفتح » فكان سبب الفتح الأعظم بخلطة الكفار لأهل الإسلام بالصلح ، فأسرعوا إلى الإسلام بالدخول فيه لما رأوا من محاسن الدين وإعجاز القرآن ، فكانوا يوم الفتح عشرة آلاف بعد أن كانوا قبل ذلك بسنتين يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة - والله الموفق ، هذا يسير من أسرار هذه السورة وقد علم منه من إعجازها ما يشرح الخواطر ويبهج النواظر ، لأنه يفوق حسناً على الرياض النواضر ، وعلم أيضاً جنون الخبيث المسخرة مسيلمة الكذاب - عليه اللعنة والتباب ، وله سوء المنقلب والمآب ، حيث قال في معارضتها : إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وهاجر ، إنا كفيناك المكابر أو المجاهر ، لأنه كلام ، مع أنه قصير المدى ، ركيك اللحمة والسدى ، غريق الساحة والفنا في الهلك والفنا ، ليس فيه غنى ، بل كله نصب وعنا ، هلهل النسج رث القوى ، منفصم العرى ، مخلخل الأرجا ، فاسد المعنى والبنا ، سافل الألفاظ مر الجنى ، لأن العلل منافية للمعلولات ، والشوامل منافرة للمشمولات ، ثم رأيت في دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني أن الوسطى من قال : العاهر وجاهر فإن كان بالدين لم يمنع الصدح بالباطل ، وذلك لا يرضى به عاقل ، وإن كان بالحرب كان على النصف لكل من تدبر فعرف ، ولا نص فيه على الغلب بمطلوبيه ، ولا طلب مع نقص الجود على كل تقدير ، الذي هو المقصود للغني والفقير ، والمأمور والأمير ، هذا مع الإغارة على الأسلوب والحذو على المعهود غير محاذ
{ في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] في إسقاط « القتل أنفى للقتل » بالرشاقة مع الوجازة ، والعذوبة مع البلاغة ، في إصابة حاق المعنى بما يقود إلى السماح بالنفس ، ويحمل على المبادرة إلى امتثال الأمر ، والأولى من سخيف عقل الخسيف ، وأكله؟ إلى الخلق مع نقصان المعنى السار للإسرار والأخرى مهملة لذوي الشبه والستر مع ما فاتها من قصر الخسار وخصوص التبار إلى ما حوت من بيان الكذب البتار للأعمار المخرب للديار تصديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم البار بأيدي صحابته الأخيار ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار - فسبحان من علا فعلا كلامه كل كلام والسلام والحمد لله على كل حال .
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
لما أخبره في الكوثر أن العريق في شنآنه عدم ، وجب أن يعرض عنه ويقبل بكليته على من أنعم عليه بذلك ، فقال معلماً له ما يقول ويفعل : { قل } ولما كان شائنه أعرق الخلق في الضلال والبعد من الخير ، قال منادياً له بأداة البعد وإن كان حاضراً معبراً بالوصف المؤذن بالرسوخ : { يا أيها الكافرون } أي الذين قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه فستروا ما تدل عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردوها من أدناس الحظ ، وهم كفرة مخصوصون وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع ، وبما دل عليه التعبير بالوصف دون الفعل ، واستغرقت اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان ، وإنما عبر بالجمع الذي هو أصل في القلة وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى حقارة الكافر وذلته وإن كان كثيراً - كما يشير إليه جعل كل كلمة منها بحرف من الكوثر كما سيأتي ، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدتهم ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علماً من أعلام النبوة .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما انقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم ، وأعني بالفريقين من أشير إليه في قوله سبحانه وتعالى : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } فهذا طريق أحد الفريقين ، وفي قوله : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } إشارة إلى طريق من كان في الطرف الآخر من حال أولئك الفريق إذ ليس إلا طريق السلامة أو طريق الهلاك { فريق في الجنة وفريق في السعير } [ الشورى : 7 ] { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } [ التغابن : 2 ] والسالكون طريق السلامة فأعلى درجاتهم مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ثم يليهم أتباعهم من صالحي العباد وعلمائهم العاملين وعبادهم وأهل الخصوص منهم والقرب من أحوال من تنسك منهم ، ورتبتهم مختلفة وإن جمعهم جامع وهو قوله : { فريق في الجنة } وأما أهل التنكب عن هذا الطريق وهم الهالكون فعلى طبقات أيضاً ، ويضم جميعهم طريق واحد فكيفما تشعبت الطرق فإلى ما ذكر من الطريقين مرجعهما ، وباختلاف سبل الجميع عرفت آي الكتاب وفصلت ، ذكر كله تفصيلاً لا يبقى معه ارتياب لمن وفق ، فلما انتهى ذلك كله بما يتعلق به ، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] إلى قوله : { إن شانئك هو الأبتر } أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل فقال تعالى : { قل يا أيها الكافرون } فبين سبحانه أن من قضي عليه بالكفر والوفاة عليه لا سبيل له إلى خروجه عن ذلك ، ولا يقع منه الإيمان أبداً
{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } [ الأنعام : 111 ] ولو أنهم بعد عذاب الآخرة ومعاينة العذاب والبعث وعظيم تلك الأهوال وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا وقولهم : { ربنا فارجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل } [ السجدة : 12 ] فلو أجيبوا إلى هذا ورجعوا لعادوا إلى حالهم الأول { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 128 ] تصديقاً لكلمة الله وإحكاماً لسابق قدره { أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار } [ الزمر : 19 ] فقال لهم : { لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } إلى آخرها ، فبان أمر الفريقين وارتفع الإشكال ، واستمر كل على طريقه { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] { إن عليك إلا البلاغ } [ الشورى : 48 ] فتأمل موقع هذه السورة وأنها الخاتمة لما قصد في الكتاب يلح لك وجه تأخيرها - والله أعلم - انتهى .
ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه ، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم ، قال مؤذناً بصدق خبره تعالى آخر الكوثر من حيث إنه مع الجزم بالمنابذة لا يستطيعون له نوع مكابدة نافذة ، بادئاً بالبراءة من جهته لأنها الأهم : { لا أعبد } أي الآن ولا في مستقبل الزمان لأن { لا } للمستقبل و { ما } للحال ، كذا قالوا ، وظاهر عبارة سيبويه في قوله : { لن } نفي لقوله { سيفعل } { ولا } لقوله : { يفعل } ، ولم يقع : أنها تقع للمضارع الذي لم يقع سواء كان في غاية القرب من الحال أم لا ، كما نقلته عنه في أول البقرة عند { ولن تفعلوا } [ البقرة : 24 ] على أن نطقنا بهذا الكلام لا يكاد يتحقق حتى يمضي زمن فيصير مستقبلاً ، فلذا عبر ب « لا » دون « ما » بشارة بأنه سبحانه يثبته على الصراط المستقيم ، ولا يظفرهم به - علماً من أعلام النبوة .
ولما كان في معبوداتهم ما لا يعقل ، وكان المقصود تحقير كل ما عبدوه سوى الله ، عبر ب « ما » فقال : { ما تعبدون * } أي الآن وفي آتي الزمان من دون الله من المعبودات الظاهرة والباطنة بوجه من وجوه العبادة في سر ولا علن لأنه لا يصلح للعبادة بوجه .
ولما بدأ بما هو الأحق بالبداءة وهو البراءة من الشرك ، والطهارة من وضر الإفك ، لأنه من درء المفاسد ، فأبلغ في ذلك بما هو الحقيق بحاله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا هم يعبدون الله تعالى على وجه الإشراك ، وكانت العبادة مع الشرك غير معتد بها بوجه ، نفى عبادتهم له في الجملة الاسمية الدالة على الثبات لا في الفعلية الدالة على نفي كل قليل وكثير من حيث إن الفعل نكرة في سياق النفي فقال : { ولا أنتم عابدون } أي عبادة معتداً بها بحيث يكون أهلاً لأن تكون وصفاً ثابتاً .
ولما كانوا لا نزاع لهم في أن معبوده عالم ، وكانت « ما » صالحة للإطلاق عليه سبحانه وتعالى ، عبر فيه أيضاً بها لأن ذلك - مع أنه لا ضرر فيه - أقرب إلى الإنصاف ، فهو أدعى إلى عدم المراء أو الخلاف - فقال : { ما أعبد * } أي الآن وما بعده لأن معبودي - وله العلم التام والقدرة الشاملة - أبعدكم عنه فلا مطمع في الوفاق بيننا .
ولما كان ما نفى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه الماضي ، وكان عدم المشاركة بوجه من الوجوه في زمن من الأزمان أدل على البراءة وأقعد في دوام الاستهانة ، وكانوا يعدون سكوته صلى الله عليه وسلم عنهم فيما قبل النبوة عبادة ، وكانوا غير مقتصرين على عبادة أصنامهم التي اتخذوها ، بل إذا خرجوا من الحرم فنزلوا منزلاً نظروا لهم حجراً ليستحسنوه فيعبدونه ، فإن لم يروا حجراً جمعوا شيئاً من تراب وحلبوا عليه شيئاً من لبن وعبدوه ما داموا في ذلك المنزل ، وكان ذلك من أشد ما يعاب به من جهة عدم الشباب وأنه لا معبود لهم معين ، قال منبهاً على ذلك كله : { ولا أنا عابد } أي متصف بعبادة { ما عبدتم * } أي فيما سلف ، لم يصح وصفي قط بعبادة ذلك من أول زمانكم إلى ساعاتنا هذه ، فكيف ترجون ذلك مني وأنا لم أفعله ولا قبل النبوة ولا كان من شأني قط .
ولما كان هو صلى الله عليه وسلم ثابتاً على إله واحد لم يعبد غيره ولم يلتفت يوماً لفت سواه ، وكان قد انتفى عنه بالجملتين هذه الماضية التي أول السورة أن يعبد باطلهم حالاً أو مآلاً ، وأن يكون عبده قبل ذلك ، وكان ربما ظن ظان أن النفي عنهم إنما هو لعبادة معبوده في الحال ، نفى ذلك في الاستقبال أيضاً علماً من أعلام النبوة مع تأكيد ما أفادته الجملة الماضية جرياً على مناهيج العرب في التأكيد قطعاً لآمالهم منه على أتم وجه وآكده لأنه على وجه لا يقدرون عليه لما تفيده كل جملة مع التأكيد من فائدة جديدة مهمة ، فقال : { ولا أنتم عابدون } أي عبادة هي لكم وصف معتد به في الحال أو الاستقبال .
ولما لم يكن قبل البعث مشهوراً عندهم بعبادة الله سبحانه وتعالى ، عبر بما لا يتوجه لهم إليه إنكار ، وهو المضارع الذي ظاهره الحال أو الاستقبال مراداً به ما يشمل الماضي لما ذكر أبو حيان وغيره في سورة الحج عند { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } [ الحج : 25 ] من أنه يطلق المضارع مراداً به مجرد إيقاع الفعل من غير نظر إلى زمان معين ، فقال : { ما أعبد * } أي وجدت مني عبادته واتصفت بها الآن وفي ماضي الزمان ومستقبله اتصافاً يعتد به .
ولما كان ذلك كله ، وبدأ النفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه صلى الله عليه وسلم إيذاناً بالاهتمام ببراءته منهم ، أنتج قطعاً مقدماً لما يتعلق بهم على وجه اختصاصهم به تأكيداً لما صرح به ما مضى من براءته منهم : { لكم } أي خاصة { دينكم } أي الذي تعلمون أنه لا أصل له يثبت عليه ، ولا دليل يرجع بوجه إليه ، لا أشارككم فيه بوجه ولا ترجعون عنه بوجه بل تموتون عليه موتاً لبعضكم حتف الأنف والآخرين قتلاً على يدي بالسيف { ولي } أي خاصة { دين * } من واسع روضة الإسلام إلى أعلى مقام : مقام الإيقان والإحسان ، وأنتم تعلمون - لو جردتم عقولكم عن الهوى وأخلصتم أفكاركم من الحمية والإبا - أنه كله دليل وفرقان ونور وحجة وبرهان ، لا تشاركونني فيه بوجه ، ولا تقدرون على ردّي عنه أصلاً ، فكانت هذه علماً من أعلام النبوة من حيث إنه مات منهم ناس كثير بعد ذلك على الكفر وأتم الله له هذا الدين ، فصدق سبحانه فيما قال ، وثبت مضمون الكوثر بأكمل استدلال ، وأما من آمن بعد ذلك فليس مراداً لأنه لم يكن عريقاً في وصف الكفران ، ولا راسخاً في الضلال والطغيان ، فأسعده وصف الإسلام والإيمان ، وساق الجمل كلها غير مؤكد إشارة إلى أنها من الوضوح في حد لا خفاء به أصلاً ، ولا شك أن آخرها الذي هو اختصاص كل بدينه هو أولها الذي أفاد أنه لا يعبد معبودهم ولا يعبدون معبوده فصار آخرها أولها ، ومفصلها موصلها - هذا هو الذي دل عليه السياق ، وليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليحتاج إلى نسخ ، ومن أعظم الدلائل إعجازها وجمعها للمعاني في إشارتها وإيجازها أن حاصلها قطع رجاء أهل الكفران من أن يقاربهم النبي صلى الله عليه وسلم في أن يعدل بربه أحداً في زمن من الأزمان ، وذلك من أعظم مقاصد المناظرة لها في رد الآخر على أول الأنعام لأنها السادسة في العد من الأول ، كما أن هذه السادسة في العد من الآخر { أغير الله اتخذ ولياً } [ الأنعام : 14 ] { أفغير الله ابتغي حكماً } [ الأنعام : 114 ] { أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء } [ الأنعام : 164 ] إلى غير ذلك من الآيات ، والفواصل والغايات ، هذا ما يتعلق بمعاني تراكيبها ونظومها على ما هي عليه وتراتيبها وسياقاتها وأساليبها ، وكلماتها الخطية سبع وعشرون إلى أربع كلمات البسملة إحدى وثلاثون إلى أربعة ضمائر مستترة خمس وثلاثون إلى تسعة بارزة ، فتلك أربع وأربعون كلمة الضمائر منها ثلاثة عشر هي مدة الإقامة بمكة المشرفة قبل الهجرة لأنها في الخفاء كالضمائر في خزائن السرائر ، ولا سيما الأربع الأول منها الموازية لضمائر الاستتار وغير الضمائر إحدى وثلاثون المناظر لها من السنين سنة إحدى وثلاثين ، وهي سنة قتل يزدجرد ملك الفرس أكفر الكفرة من أهل ذلك الزمان وأعتاهم ، وموافقة كلماتها في العدة لأحرف الكوثر مشيرة إلى أن اليسير من أتباعه صلى الله عليه وسلم أكثر وأكبر من كثير شانئيه وأضداده وحاسديه ، وقد دل على ذلك شاهد الوجوه في يوم الفتح والمسلمون عشرة آلاف ، والكفار من قريش وممن حولهم لا يحصون كثرة ، وقد كان فعلهم في ذلك اليوم ما شهد به اعتذار حماس الذي كان يعد امرأته أن يخدمها بعض المسلمين في قوله وقد فر هارباً ولم يستطع أن يغلق وراءه ، بل قال لها : أغلقي بابي ، فقالت له : أين ما كانت تعدني به؟ فقال :
إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
واستقبلتهم بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه ... بهم تهيب خلفنا وهمهمه
لم تنطقي باللوم أدنى كلمه ... هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أوصاهم ألا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال . وهذا مع ما كان من أهل الإسلام حين قصدهم الكفار يوم الخندق والمشركون في عشرة آلاف وهم لا يبلغون ربعهم ولا مدد لهم ممن حولهم ولا ناصر إلا الله ، بل جاءتهم الأعداء - كما قال الله تعالى : { من فوقهم ومن أسفل منهم } [ الأحزاب : 10 ] { وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً } [ الأحزاب : 22 ] وإلى هذا أيضاً أشار بلوغ عدد كلمات النصر خطيها واصطلاحيها ظاهرها ومستترها إلى عدد كلمات الكافرون الخطية ، فذلك رمز إلى أن أضعف أهل الإسلام لا يضعف عن مقاومة أهل الكفر وأرسخهم في كل صفة يريدها - والله هو الموفق .
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
لما دلت التي قبلها على أن الكفار قد صاروا إلى حال لا عبرة بهم فيه ولا التفات ولا خوف بوجه منهم ما دام الحال على المتاركة ، كان كأنه قيل : فهل يحصل نصر عليهم وظفر بهم بالمعاركة ، فأجاب بهذه السورة بشارة للمؤمنين ونذارة للكافرين ، ولكنه لما لم يكن هذا بالفعل إلا عام حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين كان كأنه لم يستقر الفتح إلا حينئذ ، فلم ينزل سبحانه وتعالى هذه السورة إلا في ذلك الوقت وقبل منصرفه من غزوة حنين ، فقال تعالى تحقيقاً لأنه ينصر المظلوم ويعلي دينه ويمهل ولا يهمل ، فإنه لا يعجزه شيء ، حثاً على التفويض له والاكتفاء به ، مقدماً معمول « سبح » تعجيلاً للبشارة : { إذا } .
ولما كانت المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها ، يسوقها إليها سائق القدرة ، فتقرب منها شيئاً فشيئاً ، كانت كأنها آتية إليها ، فلذلك حصل التجوز بالمجيء عن الحصول فقال : { جاء } أي استقر وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل ، وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها اسم الذات فقال : { نصر الله } أي الملك الأعظم الذي لا مثل له ولا أمر لأحد معه على جميع الناس في كل أمر يريده .
ولما كان للنصر درجات ، وكان قد أشار سبحانه بمطلق الإضافة إليه ثم بكونها إلى الاسم الأعظم إلى أن المراد أعلاها ، صرح به فقال : { والفتح * } أي المطلق الصالح لكل فتح الذي نزلت فيه سورته بالحديبية مبشرة له بغلبة حزبه الذين أنت قائدهم وهاديهم ومرشدهم ، لا سيما على مكة التي بها بيته ومنها ظهر دينه ، وبها كان أصله ، وفيها استقر عموده ، وعز جنوده ، فذل بذلك جميع العرب ، وقالوا : لا طاقة لنا بمن أظفره الله بأهل الحرم ، فعزوا بهذا الذل حتى كان ببعضهم تمام هذا الفتح ، ويكون بهم كلهم فتح جميع البلاد ، وللإشارة إلى الغلبة على جميع الأمم ساقه تعالى في أسلوب الشرط ، ولتحققها عبر عنه ب { إذا } إعلاماً بأنه لا يخلف الوعد ولا ينقص ما قدره وإن توهمت العقول أنه فات وقته ، وإيذاناً بأن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء ليحصل لمن علم ذلك الإخلاص والخوف والرجاء ، فأشعرت العبارة بأن الوقت قد قرب ، فكان المعنى : فكن مترقباً لوروده ومستعداً لشكره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما كمل دينه واتضحت شريعته واستقر أمره صلى الله عليه وسلم وأدى أمانة رسالته حق أدائها عرف عليه صلى الله عليه الصلاة والسلام نفاد عمره وانقضاء أجله ، وجعلت له على ذلك علامة دخول الناس في دين الله جماعات بعد التوقف والتثبط { حكمة بالغة فما تغني النذر } [ القمر : 5 ] { لو شاء الله لجمعهم على الهدى }
[ الأنعام : 35 ] وأمر بالإكثار من الاستغفار المشروع في أعقاب المجالس وفي أطراف النهار وخواتم المآخذ مما عسى أن يتخلل من لغو أو فتور ، فشرع سبحانه وتعالى الاستغفار ليحرز لعباده من حفظ أحوالهم ورعي أوقاتهم ما يفي بعليّ أجورهم كما وعدهم { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته } [ الأنعام : 115 ] وقد بسطت ما أشارت إليه هذه السورة العظيمة - وكل كلام ربنا عظيم - فيما قيدته في غير هذا ، وأن أبا بكر رضي الله عنه عرف منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيت إليه نفسه الكريمة على ربه وعرف بدنو أجله ، وقد أشار إلى هذا الغرض أيضاً بأبعد من الواقع في هذه السورة قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } [ المائدة : 3 ] وسورة براءة وأفعاله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع لكن لم يبلغنا استشعار أحد من الصحابة رضي الله عنهم تعيين الأمر إلا من هذه السورة . وقد عرفت بإشارة براءة وآية المائدة تعريفاً شافياً ، واستشعر الناس عام حجة الوداع وعند نزول براءة ذلك لكن لم يستيقنوه وغلبوا رجاءهم في حياته صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من توفي ، فلما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } استيقن أبو بكر رضي الله عنه ذلك استيقاناً حمله على البكاء لما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم - انتهى .
ولما عبر عن المعنى بالمجيء ، عبر عن المرئي بالرؤية فقال : { ورأيت } أي بعينيك { الناس } أي العرب الذين كانوا حقيرين عند جميع الأمم ، فصاروا بك هم الناس - كما دلت عليه لام الكمال ، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعاً ، وبالنسبة إليهم رعاياً ، حال كونهم { يدخلون } شيئاً فشيئاً متجدداً دخولهم مستمراً { في دين الله } أي شرع من لم تزل كلمته هي العليا في حال إباء الخلق - بقهره لهم على الكفر الذي لا يرضاه لنفسه عاقل - ترك الحظوظ ، وفي حال طواعيتهم بقسره لهم على الطاعة ، وعبر عنه بالدين الذين معناه الجزاء لأن العرب كانوا لا يعتقدون القيامة التي لا يتم ظهور الجزاء إلا بها { أفواجاً * } أي قبائل قبائل وزمراً زمراً وجماعات كثيفة كالقبيلة بأسرها أمة بعد أمة كأهل مكة والطائف وهوازن وهمدان وسائر القبائل من غير قتال في خفة وسرعة ومفاجأة ولين بعد دخولهم واحداً واحداً ونحو ذلك لأنهم قالوا : أما إذا ظفر بأهل الحرم وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل الذين لم يقدر أحد على ردهم فليس لنا بهم يدان . فتبين أن هذا القياس المنتج هذه النتيجة البديهية بقصة أصحاب الفيل ما رتبه الله إلا إرهاصاً لنبوته وتأسيساً لدعوته فألقوا بأيديهم ، وأسلموا قيادهم حاضرهم وباديهم .
ولما كان التقدير : فقد سبح الله نفسه بالحمد بإبعاد نجس الشرك عن جزيرة العرب بالفعل ، قال إيذاناً بأنه منزه عن النقائص التي منها إخلاف الوعد ، وأن له مع ذلك الجلال والجمال ، معبراً بما يفيد التعجب لزيادة التعظيم للمتعجب منه ليثمر ذلك الإجلال والتعظيم والتذلل والتقبل لجميع الأوامر ، ويفهم أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بالاشتغال بخاصة نفسه بدنو أجله ، وأن اشتغاله بالناس قد انتهى ، لأن الدين قد كمل فلم يبق له صلى الله عليه وسلم شغل في دار الكدر : { فسبح } أي نزه أنت بقولك وفعلك بالصلاة وغيرها موافقة لمولاك فيما فعل ، وزد في جميع أنواع العبادة ، تسبيحاً متلبساً { بحمد } أي بكمال وإجلال وتعظيم { ربك } أي الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين وقمع المعتدين ، المحسن إليك بجميع ذلك ، لأنه كله لكرامتك ، وإلا فهو عزيز حميد على كل حال ، تعجباً لتيسير الله من هذا الفتح مما لم يخطر بالبال ، وشكراً لما أنعم به سبحانه وتعالى عليه من أنه أراه تمام ما أرسل لأجله ، ولأن كل حسنة يعملها أتباعه له مثلها .
ولما أمره صلى الله عليه وسلم بتنزيهه عن كل نقص ، ووصفه تنزلاً عن غيب الغيب إلى الغيب بكل كمال مضافاً إلى الرب تدلياً إلى مشاهدة الأفعال ، وصل إلى نهاية التنزل من الخالق إلى المخلوق مخاطباً لأعلى الخلائق كلهم فأمره بما يفهم العجز عن الوفاء بحقه لما له من العظمة المشار إليها بذكره مرتين بالاسم الأعظم الذي له من الدلائل على العظم والعلو إلى محل الغيب الذي لا مطمع في دركه ما تنقطع الأعناق دونه ليفهم عجز غيره من باب الأولى ، فقال معلماً بأن من كماله أن يأخذ بالذنب إن شاء ويغفر إن شاء وإن عظم الذنب ، ليحث ذلك على المبادرة إلى التوبة وتكثير الحسنات وحسن الرجاء : { واستغفره } أي اطلب غفرانه إنه كان غفاراً إيذاناً بأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات لتقتدي بك أمتك في المواظبة على الأمان الثاني لهم ، فإن الأمان الأول - الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى والمحل الأقدس الأولى ، وكذا فعل صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » ودخل يوم الفتح مكة مطأطئاً رأسه حتى إنه ليكاد يمس واسطة الرحل تواضعاً لله سبحانه وتعالى إعلاماً لأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أن ما وقع إنما هو بحول الله ، لا بكثرة مع معه من الجمع ، وإنما جعلهم سبباً لطفاً منه بهم ، ولذلك نبه من ظن منهم أو هجس في خاطره أن للجمع مدخلاً بما وقع من الهزيمة في حنين أولاً ، وما وقع بعد من النصرة بمن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم لا يبلغون ثلاثين نفساً ثانياً ، فالتسبيح الذي هو تنزيه عن النقص إشارة إلى إكماله الدين تحقيقاً لما كان تقدم به وعده الشريف .
والاستغفار إشارة إلى أن عبادته صلى الله عليه وسلم التي هي أعظم العبادات قد شارفت الانقضاء ، ولا يكون ذلك إلا بالموت ، فلذلك أمر بالاستغفار لأنه يكون في خاتمة المجالس والأعمال جبراً لما لعله وقع فيها على نوع من الوهن واعترافاً بذل العبودية والعجز .
ولما أمر بذلك فأرشد السياق إلى أن التقدير : وتب إليه ، علله مؤكداً لأجل استبعاد من يستبعد مضمون ذلك من رجوع الناس في الردة ومن غيره بقوله : { إنه } أي المحسن إليك غاية الإحسان بخلافته لك في أمتك ، ويجوز أن يكون التأكيد لأجل دلالة ما تقدم من ذكر الجلالة مرتين على غاية العظمة والفوت عن الإدراك بالاحتجاب بإرادته الكبرياء والعز والتجبر والقهر مع أن المألوف أن من كان على شيء من ذلك كان بحيث لا يقبل عذراً ولا يقبل نادماً { كان } أي لم يزل على التجدد والاستمرار { تواباً * } أي رجاعاً بمن هذب به الشيطان من أهل رحمته فهو ، الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف والعداوات فأيدك بدخولهم في الدين شيئاً فشيئاً حتى أسرع بهم بعد سورة الفتح إلى أن دخلت مكة في عشرة آلاف ، وهو أيضاً يرجع بك إلى الحال التي يزداد بها ظهور رفعتك في الرفيق الأعلى ويرجع عن تخلخل من أمتك في دينه بردة أو معصية دون ذلك إلى ما كان عليه من الخير ، ويسير بهم أحسن سير ، فقد رجع آخر السورة إلى أولها لأنه لولا تحقق وصفه بالتوبة لما وجد الناصر الذي وجد به الفتح والتحم مقطعها أي التحام بمطلعها ، وعلم أن كل جملة منها مسببة عما قبلها ، فتوبة الله على عبده نتيجة توبته باستغفاره الذي هو طلب المغفرة بشروطه ، وذلك ثمرة اعتقاده الكمال في ربه ، وذلك ما دل عليه إعلاؤه لدينه ، وقسره للداخلين فيه على الدخول مع أنهم أشد الناس شكائم وأعلاهم همماً وعزائم ، وقد كانوا في غاية الإباء له والمغالبة للقائم به ، وذلك هو فائدة الفتح هو آية النصر ، وقد علم أن الآية الأخيرة من الاحتباك : دل بالأمر بالاستغفار على الأمر بالتوبة ، وبتعليل الأمر بالتوبة على تعليل الأمر بالاستغفار ، وعلم أن السورة أشارة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم بالحث على الاستغفار الذي هو الأمان الثاني ، ومن شأنه أن تختم به الأعمال والمجالس بعد ما أشار إليه إعلامها بظهور الدين على الدين كله ونزولها في أوسط أيام التشريق من حجته عليه أفضل الصلاة والسلام سنة عشر كما ذكرته في كتابي « مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور » وكتابي « الاطلاع على حجة الوداع » وذلك بعد نزول آية المائدة - التي هي نظيرتها في رد المقطع على المطلع - في يوم عرفة
{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } [ المائدة : 3 ] ومن المعلوم أنه لا يكون في هذه الدار كمال إلا بعده نقصان ، ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وخطب الناس فيها ، فعلّمهم أمور دينهم وأشهدهم على أنفسهم وأشهد الله عليهم بأنه بلغهم ، وودعهم وقال : لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، وأشار إلى ذلك أيضاً بالتوبة وإلى وقوع الردة بعده صلى الله عليه وسلم ورجوع من ارتد إلى أحسن ما كانوا عليه من اعتقادهم في الدين وثباتهم عليه بقتل من كان مطبوعاً على الكفر المشار إليهم بقوله تعالى : { ولو أسمعهم } [ الأنفال : 23 ] - أي إسماع قهر وغلبة وقسر - { لتولوا وهم معرضون } [ الأنفال : 23 ] فكان وجودهم ضرراً صرفاً من غير منفعة وقتلهم نفعاً لا ضرر فيه بوجه ، ولأجل إفهامها حلول الأجل للإيذان بالتمام بكى العباس رضي الله تعالى عنه - وفي رواية : ولده عبد الله - عند نزولها فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « نعيت إليك نفسك » فقال : إنه لكما تقول . كما بكى عمر رضي الله عنه عند نزول آية المائدة ، وعلل بهذا - والله الهادي ، وقد ظهر بهذا أن حاصلها الإيذان بكمال الدين ودنو الوفاة لخاتم النبيين ، والنصر على جميع الظالمين الطاغين الباغين ، وذلك من أعظم مقاصد المائدة ، المناظرة لهذه في التطبيق بين البادئة والعائدة ، كما أشار إليه قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ الأنعام : 3 ] وقوله تعالى : { ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } [ المائدة : 56 ] وقوله تعالى : { لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير } [ المائدة : 120 ] ومن أعظم لطائف هذه السورة ودقيق بدائعها ولطيف منازعها أن كلماتها تدل بأعدادها على أمور جليلة وأسرار جميلة ، فإنها تسع عشرة كلمة ، وقد كان في سنة تسع عشرة من الهجرة موت قيصر طاغية الروم ، وذلك أن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح الإسكندرية قال قيصر : لئن غلبونا على الإسكندرية لقد هلكت الروم ، فتجهز ليباشر قتالهم بنفسه ، فعندما فرغ من جهازه صرعه الله فمات وكفى الله المسلمين شره ، وذل الروم بذلك ذلاً كبيراً ، واستأسدت العرب ، وفي هذه السنة أيضاً فتح الله قيسارية من بلاد الشام فلم يبق بالشام أقصاها وأدناها عدو ، وفرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً ، وكان فيها أيضاً فتح جلولاء ، من بلاد فارس ، وكان فتحها يسمى فتح الفتوح ، لأن الفرس لم ينجبروا بعده ، هذا إن عددنا ما يوازي كلماتها من سنة الهجرة ، وإن عددنا من سنة نزول السورة في سنة عشر فقد فتحت سنة تسع وعشرين من الهجرة - وهي التاسعة عشرة من نزولها - مدينة اصطخر ، واشتد ضعف الفرس ، وأمر ملكهم يزدجرد واجتهاده في الهرب من العرب حتى قتل سنة إحدى وثلاثين من الهجرة بعد ذلك بسنتين ، وذلك هو العد الموازي لعد كلماتها ظواهر وضمائر مع كلمات البسملة ، وإذا نظرت إلى ما هنا من هذا وطبقت بينه وبين ما ذكر في سورة الفتح من مثله زاد عجبك من باهر هذه الآيات - والله الموفق ، ثم إنك إذا اعتبرت اعتباراً آخر وجدت هذه السورة كا دلت بجملتها على انقضاء زمن النبوة بموت النبي صلى الله عليه وسلم دلت بمفردات كلماتها على انقضاء خلافة النبوة لتمام ثلاثين سنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه عن سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنه
« خلافة النبوة ثلاثون ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء » وذلك أنك إذا عددت كلماتها مع البسملة كانت باعتبار الرسم ثلاثاً وعشرين كلمة ، وذلك مشيراً إلى انقضاء الخلافة التي لم تكن قط خلافة مثلها ، وهي خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه باستشهاده في ذي الحجة سنة ثلاثة وعشرين من الهجرة ، فإذا ضممت إلى ذلك الضمائر البارزة وهي خمسة ، والمستترة وهي ثلاثة ، فكانت أحداً وثلاثين ، وحسبت من حين نزول السورة على النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة سنة عشر كان ذلك مشيراً إلى انقضاء خلافة النبوة كلها بإصلاح أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنهما في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ، وذلك عند مضي ثلاثين سنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة عشر من الهجرة لا تزيد شهراً ولا تنقصه ، وإن أخذت الضمائر وحدها بارزها ومستترها دلت على فتح مكة المشرفة بعينه ، فإنها - كما مضى - ثمانية وقد كان الفتح سنة ثمان من الهجرة ، ومن لطائف الأسرار وبدائع الأنظار أنها تدل على السنين بحسب التفصيل ، فالبارز يدل على سنة النصر والظهور على قريش لأنهم المقصودون بالذات لأن العرب لهم تبع ، والمستتر يدل على ضد ذلك ، وشرح هذا أنه لما كانت قد خفقت في السنة الأولى من الهجرة رايات الإسلام في كل وجه ، وانتشرت أسده في كل صوب ، وانبثت سراياه في كل قطر ، أشار إليها التاء في { ورأيت } التي هي ضميره صلى الله عليه وسلم إشارة إلى ما يختص بفهمه من البشارة . ولما كان في السنة الثانية بغزوة بدر من واضح الظفر وعظيم النصر ما هدّ قلوب الكفار ، وشد قلوب الأنصار في سائر الأمصار ، وأعلى لهم القدر ، أشار إلى ذلك واو { يدخلون } ، ولما حصل في السنة الثالثة ما لم يخف من المصيبة في غزوة أحد التي ربما أوهمت بعض من لم يرسخ نقصاً ، أشار إلى ذلك الضمير المستتر في { فسبح } ، ولما كان الخبر في الرابعة بأجلاء بني النضير وإخلاف قريش للوعد في بدر جبناً وعجزاً حيث وفى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم شجاعة وقوة بحول الله وانقلبوا ، منها بنعمة من الله وفضل لم يمسهم سوء ، أشار إلى ذلك الكاف في { ربك } ولما كان في الخامسة غزوة الأحزاب أشار إليها المستتر في { واستغفره } ولما كان في السادسة عمرة الحديبية التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم فتحاً ، أنزل الله فيها سورة الفتح لكونها كانت سبباً للفتح ، فكان ذلك علماً من أعلام النبوة ، ولبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى الملوك يدعوهم إلى الله تعالى أشار إلى ذلك الضمير البازر في { واستغفره } وأكد قوته كونه للرب تعالى ، ولما كان في السابعة غزوة خيبر وعمرة القضاء أشار إليها الضمير الظاهر في { إنه } ولما كان ضمير { كان } لله ، وكان له سبحانه حضرتان : حضرة غيب وبطون ، وحضرة شهادة وظهور ، وكانت حضرة الغيب هي حضرة الجلال والكبرياء والعظمة والتعالي ، وحضرة الشهادة حضرة التنزل بالأفعال والاستعطاف بالأقوال ، كانت الحضرتان للنصر ، وكانت حضرة الغيب أعظمهما نصراً وأشدهما أزراً ، فلذلك كان ضمير الاستتار دالاًّ على الفتح الأكبر بالانتصار على السكان والديار بسطوة الواحد القهار ، على أنا إذا نظرنا إليه من حيث كونه جائز البروز كان البارز فله حكمه - فسبحان من شمل علمه ، ودقت حكمته فنفذ حكمه .
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
لما قدم سبحانه وتعالى في سورة النصر القطع بتحقيق النصر لأهل هذا الدين بعد ما كانوا فيه من الذلة ، والأمر الحتم بتكثيرهم بعد الذي مر عليهم مع الذلة من القلة ، وختمها بأنه التواب ، وكان أبو لهب - من شدة العناد لهذا الدين والأذى لإمامة النبي صلى الله عليه وسلم سيد العالمين مع قربه منه - بالمحل الذي لا يجهل ، بل شاع واشتهر ، وأحرق الأكباد وصهر ، كان بحيث يسأل عن حاله إذ ذاك هل يثبت عليه أو يذل ، فشفى غلَّ هذا السؤال ، وأزيل بما يكون له من النكال ، وليكون ذلك بعد وقوع الفتح ونزول الظفر والنصر ، والإظهار على الأعداء بالعز والقهر ، مذكراً له صلى الله عليه وسلم بما كان أول الأمر من جبروتهم وأذاهم وقوتهم بالعَدد والعُدد ، وأنه لم يغن عنهم شيء من ذلك ، بل صدق الله وعده في قوله سبحانه وتعالى { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جنهم وبئس المهاد } [ آل عمران : 12 ] وكذبوا فيما كانوا فيه من التعاضد والتناصر والتحالف والتعاقد ، فذكر تعالى أعداهم له وأقربهم إليه في النسب إشارة إلى أنه لا فرق في تكذيبه لهم بين القريب والبعيد . وإلى أنه لم ينفعه قربه له ليكون ذلك حاملاً لأهل الدين على الاجتهاد في العمل من غير ركون إلى سبب أو نسب غير ما شرعه سبحانه ، فقال تعالى معبراً بالماضي دلالة على أن الأمر قد قضى بذلك وفرغ منه ، فلا بد من كونه ولا محيص : { تبت } أي حصل القطع الأعظم والحتم الأكمل ، فإنها خابت وخسرت غاية الخسارة ، وهي المؤدية إلى الهلاك لأنه لا نجاة إلا نجاة الآخرة ، وجعل خطاب هذه السورة عن الله ولم يفتتحها ب « قل » كأخواتها لأن هذا أكثر أدباً وأدخل في باب العذر وأولى في مراعاة ذوي الرحم ، ولذلك لم يكرر ذكرها في القرآن ، وأشد في انتصار الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى التخويف وتجويز سرعة الوقوع .
ولما كانت اليد محل قدرة الإنسان ، فإذا اختلت اختل أمره ، فكيف إذا حصل الخلل في يديه جميعاً ، قال مشيراً بالتثنية إلى عموم هلاكه بأن قوته لم تغن عنه شيئاً ، ولأن التثنية يعبر بها عن النفس ، ومشيراً بالكنية وإن كان يؤتى بها غالباً للتشريف إلى مطابقة اسمه لحاله ، ومجانسته الموجبة لعظيم نكاله : { يدا أبي لهب } فلا قدرة له على إعطاء ولا منع ، ولا على جلب ولا دفع ، وإشارة إلى أن حسن صورته لم تغن عنه شيئاً من قيبح سيرته لقوله صلى الله عليه وسلم « إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم »
لأنه إنما كني بهذا لإشراق وجهه وتوقد وجنتيه ، ولأنها أشهر ، فالبيان بها أقوى وأظهر ، والتعبير بها - مع كونه أوضح - أقعد في قول التي هي أحسن . لأن اسمه عبد العزى وهو قبيح موجب للعدول عنه غيرة على العبودية أن تضاف إلى غير مستحقها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : هذه السورة وإن نزلت على سبب خاص وفي قصة معلومة فهي مع ما تقدمها واتصل بها في قوة أن لو قيل : قد انقضى عمرك يا محمد ، وانتهى ما قلدته من عظيم أمانة الرسالة أمرك ، وأديت ما تحملته وحان أجلك ، وأمارة ذلك دخول الناس في دين الله أفواجاً ، واستجابتهم بعد تلكؤهم ، والويل لمن عاندك وعدل عن متابعتك وإن كان أقرب الناس إليك . فقد فصلت سورة { قل يا أيها الكافرون } بين أوليائك وأعدائك ، وبان بها حكم من اتبعك من عاداك ، ولهذا سماها عليه الصلاة والسلام المبرئة من النفاق ، وليعلم كفار قريش وغيرهم أنه لا اعتصام لأحد من النار إلا بالإيمان ، وأن القرابات غير نافعه ولا مجدية شيئاً إلا مع الإيمان { لكم دينك ولي دين } { أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } [ يونس : 41 ] ، { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } [ التوبة : 71 ] وههنا انتهى الكتاب بجملته - انتهى .
ولما كان ربما خص التباب بالهلاك ، وحمل على هلاك اليدين حقيقة ، وكان الإنسان لا يزول جميع منفعته بفوات يديه وإن كان قد يعبر بهما عن النفس ، قال مصرحاً بالمقصود : { وتب } أي هو بجملته بتمام الهلاك والخسران ، فحقق بهذا ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده ، والظاهر أن الأول دعاء والثاني خبر ، وعرف بهذا أن الانتماء إلى الصالحين لا يغني إلا إن وقع الاقتداء بهم في أفعالهم لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم .
ومادة « تب » و « بتّ » - الجامعة بجمع التاء والباء للسببين الأدنى الباطني والأعلى الظاهري - تدور على القطع المؤدي في أغلب أحواله إلى الهلاك ، لأن من انقطع إلى الأسباب معرضاً عن مسببها كان في أعظم تباب ، وربما كان القطع باستجماع الأسباب ، فحصل العوز بالمقاصد والمحابّ ، قال ابن مكتوم في الجمع بين المحكم والعباب : التب والتباب : الخسار ، وتباً له - على الدعاء ، وتباً تبيباً - على المبالغة ، قال الإمام أبو عبد الله القزاز : كأنك قلت : خسراناً له ، وهو المصدر ، نصب نصب سقياً له ، قال ابن دريد : وكأن التب المصدر والتباب الاسم ، والتبب والتباب والتبيب : الهلاك ، والتتبيب النقص والخسار ، وكل هذا واضح في القطع عن الخير والفوز ، قال : والتابّ : الكبير من الرجال ، والأنثى تابة ، وقال القزاز : إذا سألت الرجل عن المرأة قلت : أشابة هي أم تابة ، أي أم عجوز فانية ، ومعلوم أن كبر السن مقرب من القطع والهلاك ، والتاب : الضعيف ، والجمع أتباب - هذلية ، وحمار تاب الظهر - إذا دبر ، وجمل تاب كذلك نادرة ، ولا شك أن الدبر والضعف هلاك في المعنى .
وتب : قطع مثل بت ، أي بتقديم الموحدة ووقعوا في تبوب منكرة ، وهو بتبة أي بحالة شديدة ، والتبي - بالفتح والكسر : ضرب من تمر البحرين ، قيل : هو رديء يأكله سقاط الناس ، وأتب الله قوته : أضعفها ، وتببوهم تتبيباً : أهلكوهم ، وتبتب : شاخ ، وكل ذلك واضح في القطع بالهلاك والخسار ، والتبوب يعني بالضم : ما انطوت عليه الأضلاع كالصدر والقلب ، وهذا يحتمل الخير والشر ، فإن القلب إذا فسد فسد الجسد كله ، وإذا صلح صلح الجسد كله ، فيكون حينئذ القطع ، بالفوز والنجاة ، أو لأن انطواء الأضلاع عليه قطعة عن الخارج ، واستتب الأمر : تهيأ واستوى . وقال القزاز : ويقال : هذه العلة لا تستتب في نظار هذا القول ، أي لا تجري في نظائره ، كأنه من باب الإزالة إذ إن السين لما جامعت حرف السببين آذنت بالنجاح والفوز والفلاح ، فإنها حرف تدل على الاستيفاء في الإنباء عن الشيء والتتمة والألفة ، وأحسن من هذا أنها إذا جرت في النظائر أوضحتها وكشفت معانيها ففصلتها وأبانتها وقطعتها عن غير النظائر بما أزالت من الإلباس بها ، والذي يحقق معاني التب ويظهر أنه يؤول إلى القطع مقلوبه ، وهو البت - بتقديم الموحدة التي هي السبب الظاهر الذي هو أقوى من حيث إنه لا يتحقق إلا بكمال السبب الباطني ، يقال : بت الشيء يبته بتاً ، وأبته : قطعه قطعاً مستأصلاً ، وبت هو يُبت وبيِت بتاً وانبت ، ولعله استوى فيه المجرد والمزيد في التعدية دلالة على أن ما حصل بالمجرد من القطع هو من الكمال بحيث لا مزيد عليه ، وكذا استوى القاصر مجرداً ومطاوعاً مع المتعدي في أصل المعنى . وصدقه بتة : بتلة باينة من صاحبها ، وطلقها ثلاثاً بتة وإبتاتاً ، أي قطعاً لا عود فيه ، ولا أفعله البتة - كأنه قطع فعله ، قال سيبويه : وقالوا : قعد البتة - مصدر مؤكد ، ولا يستعمل إلا بالألف واللام ، وبت عليه القضاء بتاً وأبته : قطعه ، وسكران ما يُبت كلاماً وما يُبت أي ما يقطعه ، قال القزاز : يُبت من أبت ، ويبَت من بَتَّ ، وسكران باتّ : منقطع عن العمل بالسكر ، وأبت يمينه : أمضاها ، أي قطعها عن الحنث ، وبتت هي : وجبت وحلت بتاً وبتة وبتاتاً ، وكل ذلك من القطع ، وأبت بعيره ، أي قطعه بالسير ، والمنبت في الحديث : الذي أتعب دابته حتى عطب ظهره فبقي منقطعاً به ، وقال القزاز : هو الذي أتعب دابته حتى قطع ظهرها فبقي منبتاً به ، أي منقطعاً به ، وبت عليه الشهادة وأبتها : قطع عليه بها وألزمه إياها ، وبت عليه القضاء وأبته ، قطعه ، والبات : المهزول الذي لا يقدر أن يقوم - كأنه قد انقطعت قوته ، وفي الحديث « لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل »
فمعناه : يوجبه ، أي يقطعه على نفسه قبل الفجر ، من أبت عليه الحكم - إذا قطعه ، وروي : يبت ، من بت - إذا قطع ، وكلاهما بمعنى ، وهما لغتان فصيحان . وروي في حديث « من لم يبت » من البيات ، وأحمق بات : شديد الحمق - كذا قاله الليث ، وقال الأزهري : هو تاب - بتأخير الموحدة ، والبت : كساء غليظ مهلهل مربع أخضر ، وقيل : هو من وبر وصوف ، والجمع بتوت ، والبتات أي بالتخفيف : متاع البيت والزاد ، كأن ذلك يقطع صاحبه عن الحاجة ، وبتتوه : زودوه ، أو أن ذلك من الإزالة لأنه صلة لصاحبه ورفد لأن الاستقراء حاصل بأن كل مادة لها معنى غالب تدور عليه وفيها شيء لإزالة ذلك المعنى ، وفلان على بتات أمر - إذا أشرف على فراغه ، فإنه ينقطع حينئذ ، وتقول : طحنت بالرحى بتاً - إذا ابتدأت الإدارة عن يسارك ، كأنه دال على القطع بتمام العزيمة لأن ذلك أقوى للطاحن وأمكن ، وانبت الرجل : انقطع ماء ظهره ، ويقال : هذا حبل بتّ : إذا كان طاقاً واحداً ، كأنه لما كان كذلك فكان سهل القطع أطلق عليه القطع مبالغة مثل عدل ، وقد انبت فلان عن فلان - إذا انقطع وانقبض .
ولما أوقع سبحانه الإخبار بهلاكه على هذا الوجه المؤكد لما كان لصاحب القصة وغيره من الكفار من التكذيب بلسان حاله وقاله لما له من المال والولد ، وما هو فيه من القوة بالعَدد والعُدد ، زاد الأمر تحققاً إعلاماً بأن الأحوال الدنيوية لا غناء لها فقال مخبراً ، أو مستفهماً منكراً { ما أغنى } أي أجزى وناب وسد { عنه } أي عن أبي لهب الشقي الطريد المبعود عن الرحمة مع العذاب { ماله } أي الكثير الذي جرت العادة بأنه ينجي من الهلاك .
ولما كان الكسب أعم من المال ، وكان المال قد يكسب منافع هي أعظم منه من الجاه وغيره ، وكان الإنسان قد يكون فائزاً ولا مال له بأمور أثلها بسعيه خارجة عن المال ، قال مفيداً لذلك مبيناً أنه لا ينفع إلا ما أمر الله به { وما كسب * } أي وإن كان ذلك على وجه هائل من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يرضيها باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في المحافل يؤذيه ويكذبه وينهى الناس عن تصديقه مع أنه كان قبل ذلك يناديه بالصادق الأمين ، وكان ابنه عتبة شديد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم « اللهم سلط عليه كلباً من كلابك » فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة لا بد أن تدركه ، فلما حان الأمر وكان قد آن ما أراد صاحب العز الشامخ ، سبب له أن سافر إلى الشام فأوصى به أبوه الرفاق لينجوه رغم من هذه الدعوة ، فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم ، والحمول محيطة به وهم محيطون بها والركاب محيطة بهم ، فلم ينفعه ذلك بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه فاقتلع رأسه ولم ينفع أباه ذلك ، بل استمر على ضلاله لما سبق في علم الله تعالى حتى كانت وقعة بدر فلم يخرج فيها فلما جاء الفلال كان منهم ابن أخيه أبو سفيان بن الحارث فقال : هلم يا ابن أخي فعندك الخبر : فقال نعم! فوالله ما هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يفتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا ، ومع ذلك والله مللت الناس لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئاً - أي ما تبقيه - ولا يقوم لها شيء ، قال أبو رافع غلام العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكان جالساً في حجرة في المسجد يبري نبلاً ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وكنا نكتم إسلامنا ، فما ملكت نفسي أن قلت : تلك والله الملائكة ، قال : فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة ، قال : وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك عليّ يضربني وكنت رجلاً ضعيفاً ، فقامت أم الفضل - يعني سيدته - زوجة العباس رضي الله عنها إلى عمود الحجرة - أي الخيمة - فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة وقالت : استضعفته أي عدو الله إن غاب عنه سيده ، فقام مولياً ذليلاً فوالله ما عاش إلا سبع ليال أو ستاً حتى رماه الله بالعدسة فقتله وما نفعه إبعاده عن الخطر بتخلفه عن بدر ، والعدسة بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد من جنس الطاعون تقتل غالباً ، قال القزاز : كانت تعدي في الجاهلية قلما يسلم منها أحد ، تقول : عدس الرجل فهو معدوس ، كما تقول : طعن فهو مطعون - إذا أصابه الطاعون - انتهى .
ولأجل تشاؤم العرب بها ترك أبو لهب من غير دفن ثلاثاً حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه ، ويقال : إنهم حفروا له حفرة بعيدة عنه من شدة نتنه ثم دفعوه بخشب طوال حتى رموه فيها ورجموه بالحجارة والتراب من بعيد حتى طموه ، فكان ذلك سنة في رجمه فهو يرجم إلى الآن ، وذلك من أول إعجاز هذه الآيات أن كان سبة في العرب دون أن يغني عنه شيء مما يظن أنه يغني عنه .
ولما أخبر سبحانه وتعالى بوقوع هذا التبار الأعظم به ، وكان لا عذاب يداني عذاب الآخرة ، بينه بقوله : { سيصلى } أي عن قرب بوعد لا خلف فيه { ناراً } أي فيدس فيها وتنعطف عليه وتحيط به .
ولما كان المقصود شدة نكايته بأشد ما يكون من الحرارة كما أحرق أكباد الأولياء ، وكانت النار قد تكون جمراً ثم تنطفىء عن قرب قال : { ذات لهب * } أي لا تسكن ولا تخمد أبداً لأن ذلك مدلول الصحبة المعبر عنها ب « ذات » ، وذلك بعد موته وليس في السورة دليل قاطع على أنه لا يؤمن لجواز أن يكون الصلي على الفسق ، فلا دليل فيها لمن يقول : إن فيها التكليف بما علم أنه محال ليكون قد كلف بأن يؤمن وقد علم أنه حكم بأنه لا يؤمن ، وإن كان الله قد حقق هذا الخبر بموته كافراً في الثانية من الهجرة عقب غزوة بدر وهي الخامسة عشرة من النبوة ، لكن ما عرف تحتم كفره إلا بموته كافراً لا بشيء في هذه السورة ولا غيرها ، ومن الغرائب أن الكلمات المتعلقة به في هذه السورة خمس عشرة كلمة ، فكانت مشيرة إلى سنة موته بعد أن رأى تبابه في وقعة بدر وغيرها بعينه ، فإذا ضممنا إليها كلمات البسملة الأربع وازت سنة ست من الهجرة ، وهي سنة عمرة الحديبية سنة الفتح السببي التي تحقق فيها تبابه وخساره عند كل من عنده إيمان بالغيب ودفع للريب ، فإذا ضممت إليها الضميرين البارزين اللذين هما أقرب إلى الكلمات الاصطلاحية من المستترة وازت سنة ثمان من الهجرة التي كان فيها الفتح الحقيقي ، فتحقق عند قريش كافة ما أنزل فيه في هذه السورة ، فإذا ضممت إليها الضمائر الثلاثة المستترة وازت سنة إحدى عشرة على أنك إذا بدأت بالضمائر المستترة حصلت المناسبة أيضاً ، وذلك أنها توازي سنة تسع وهي سنة الوفود التي دخل الناس فيها في الدين أفواجاً وحج فيها بالناس أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أميراً ، ونودي في الموسم ببراءة ، وأن لا يحج بعد العام مشرك ، فتحققت خيبة أبي لهب عند كل من حضر الموسم لا سيما من كان يعلم دورانه وراء النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه له من مسلم وغيره ، فإذا ضممنا إلى ذلك الضميرين البارزين وازت سنة إحدى عشرة أول سني خلافة الصديق رضي الله عنه التي فتحت فيها جميع جزيرة العرب بعد أن لعب الشيطان بكثير من أهلها .
فرجعوا بعد أن قتل الله منهم من علم أنه مخلوق لجهنم ، وتحقق حينئذ ما لأبي لهب من التباب والنار ذات الالتهاب عند العرب كافة بإيمانهم عامة في السنة الحادية عشرة من الهجرة بعد مضي ثلاث وعشرين سنة من النبوة ، واستقر الأمر حينئذ ، وعلم أن الدين قد رسخت أوتاده وثبت عماده ، وأن الذي كان يحميه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قد حماه بعده وهو سبحانه حي لا يموت وقادر لا يعجزه شيء ، وعدد كلمات السورة ثلاث وعشرون وهي توازي سنة حجة الوداع سنة عشر ، فإنها السنة الثالثة والعشرون من المبعث وفيها كمل الدين ونزلت آية المائدة . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرض العرب ، فتحقق كل الناس لا سيما من حضر الموسم تباب أبي لهب الذي كان يدور في تلك المشاهد وراء النبي صلى الله عليه وسلم يكذبه ويؤذيه
{ إن في ذلك لعبرة } [ آل عمران : 13 - والنور : 44 ] .
ولما أخبر سبحانه وتعالى عنه بكمال التباب الذي هو نهاية الخسار ، وكان أشق ما على الإنسان هتك ما يصونه من حريمه حتى أنه يبذل نفسه دون ذلك لا سيما العرب ، فإنه لا يدانيهم في ذلك أحد ، زاده تحقيراً بذكر من يصونها معبراً عنها بما صدرها بازراً صورة وأشنعها ، فقال مشيراً إلى أن خلطة الأشرار غاية الخسار ، فإن الطبع وإن كان جيداً يسرق من الردىء ، فكيف إذا كان رديئاً وإن أرضى الناس بما يسخط الله أعظم الهلاك { وامرأته } أي أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي مثل زوجها في التباب والصلي من غير أن يغني عنها شيء من مال ولا حسب ولا نسب ، وعدل عن ذكرها بكنيتها لأن صفتها القباحة وهي ضد كنيتها ، ومن هنا تؤخذ كراهة التلقيب بناصر الدين ونحوها لمن ليس متصفاً بما دل عليه لقبه ، ثم وصفها بما أشار إليه ذنبها وأكمل قبيح صورتها فقال : { حمالة الحطب } أي الحاملة أقصى ما يمكن حمله من حطب جهنم بما كانت تمشي به وتبالغ فيه من حمل حطب البهت والنميمة الذي تحمل به على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وشدة أذاه وإيقاد نار الحرب والخصومة عليه صلى الله عليه وسلم ، من قول الشاعر :
من البيض لم تصطد على ظهر لأمه ... ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
أراد النميمة ، وعبر بالرطب للدلالة على زيادة الشر بما فيه من التدخين وشبهت النميمة بالحطب لأنها توقد الشر فتفرق بين الناس كما أن الحطب يكون وقوداً للنار فتفرقه ، وكذا بما كانت تحمل من الشوك وتنثره ليلاً في طريق النبي صلى الله عليه وسلم لتؤذيه ، وكانت تفعله بنفسها من شدة عداوتها وتباشره ليلاً لتستخفي به لأنها كانت شريفة ، فلما نزلت سورة صوّرتها بأقبح صورة فكان ذلك - أعظم فاضح لها ، وقراءة عاصم بالنصب للقطع على الشتم تؤدي أن امرأته مبتدأ وأن الخبر { في جيدها } أي عنقها وأجود ما فيها - هو حال على التقدير الأول { حبل } كالحطابين تخسيساً لأمرها وتحقيراً لحالها { من مسد } أي ليف أو ليف المقل أو من شيء قد فتل وأحكم فتله ، من قولهم : رجل ممسود الخلق ، أي مجدوله - وقد رجع آخرها على أولها ، فإن من كانت امرأته مصورة بصورة حطابة على ظهرها حزمة حطب معلق حبلها في جيدها فهو في غاية الحقارة ، والتباب والخساسة والخسارة وحاصل هذه السورة أن أبا لهب قطع رحمه وجار عن قصد السبيل واجتهد بعد ضلاله في إضلال غيره ، وظلم الناصح له الرؤوف به الذي لم يأل جهداً في نصحه على ما تراه من أنه لم يأل هو - جهداً في أذاه واعتمد على ماله وأكسابه فهلك وأهلك امرأته معه ومن تبعه من أولاده ، ومن أعظم مقاصد سورة النساء المناظرة لها في رد المقطع على المطلع التواصل والتقارب والإحسان لا سيما لذوي الأرحام ، والعدل في جميع الأقوال والأفعال ، فكان شرح حال الناصح الذي لا ينطق عن الهوى ، وحال الضال الذي إنما ينطق عن الهوى - قوله تعالى :
{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } [ النساء : 26 ] وختمها إشارة إلى التحذير من مثل حاله ، فكأنه قيل : يبين الله لكم أن تضلوا فكونوا كأبي لهب في البوار ، وصلي النار - كما تبين لكم ، فكونوا على حذر من كل ما يشابه حاله وإن ظهر لكم خلاف ذلك ، فأنا أعلم منكم ، والله بكل شيء عليم « والحمد لله رب العالمين » .
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
ولما كان المقصود من القرآن دعوة العباد إلى المعبود ، وكان المدعو إلى شيء أحوج ما يكون إلى معرفته ، وكان التعريف تارة للذات وتارة للصفات وتارة للأفعال ، وكانت هذه الأمة - أشرف الأمم لأن نبيها أعلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكان هي الختام ، أشبع الكلام في تعريفه سبحانه في القرآن ، وأنهى البيان في ذلك إلى حد لا مزيد عليه ولم يقاربه في ذلك كتاب من الكتب السالفة ، ولكنه لما كان الكبير إذا تناهى كبره عزت معرفة ذاته ، وكان الله تعالى هو الأكبر مطلقاً ، وكانت معرفة ذاته - كما أشار إليه الغزالي في الجواهر ، والفخر الرازي في كتبه - أضيق ما يكون مجالاً وأعسره مقالاً ، وأعصاه على الفكر منالاً ، وأبعده عن قبول الذكر استرسالاً لأن القرآن لا يشتمل من ذلك إلا على تلويحات وإشارات أكثرها رجع إلى ذكر التقديس المطلق كقوله تعالى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [ الشورى : 112 ] وإلى التعظيم المطلق كقوله { سبحانه وتعالى عما يصفون } فكام القياس أن يقتصر على ذلك مع التعريف بالصفات والأفعال ، لكن لما كانت هذه الأمة في الذروة من حسن الأفهام مع ما نالته من الشرف ، حباها سبحانه وتعالى بسورة الإخلاص كاملة ببيان لا يمكن أن تحتمل عقول البشر زيادة عليه ، وذلك ببيان أنه ثابت ثباتاً لا يشبهه ثبات على وجه لا يكون لغيره أصلاً ، وأنه سبحانه وتعالى منزه عن الشبيه والنظير والمكافىء والمثيل ، فلا زوجة له ولا ولد ، ولا حاجة بوجه إلى أحد ، بل له الخلق والأمر ، فهو يهلك من أراد ويسعد من شاء ، فقال آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم ليكون أول كلمة فيها دالة على رسالته رداً على من كذبه في خاصة نفسه وعلى البراهمة القائلين : إن في العقل غنى عن الرسل . ويكون البيان جارياً على لسانه صلى الله عليه وسلم ليكون إلى فهم الخلق عنه لتلك الصفات العلى أقرب لما لهم به من المجانسة : { قل } أي يا أكرم الخلائق ومن لا يفهم عن مرسله حق الفهم سواه ، وإطلاق الأمر بعدم التقييد بمقول له يفهم عموم الرسالة ، وأن المراد كل من يمكن القول له سواء كان سائلاً عن ذلك بالفعل أو بالقوة حثاً على استحضار - ما لرب هذا الدين - الذي حاطه هذه الحياطة ورباه هذه التربية - من العظمة والجلال ، والكبرياء والكمال ، ففي الإطلاق المشير إلى التعميم رد على من أقر بإرساله صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة ، ويدل على أن مقول القول لا ضرر فيه على أحد فإن ظواهره مفهومة لكل أحد لا فتنة فيها بوجه ، وإنما تأتي الفتنة عند تعمق الضال إلى ما لا - يحتمله عقله .
ولما كان أهم المقاصد الرد على المعطلة الذين هم ضرب ممن يقول { نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] أثبت وجوده سبحانه على أتم الوجوه وأعلاها وأوفاها وأجلاها بما معناه أن حقيقته ثابتة ثباتاً لا يتوجه نحوه شك بوجه من الوجوه ، فقال مكاشفاً للأسرار - فإنه لا يمكن غيبته عنها أصلاً - وللوالهين : { هو } فابتدأ بهذا الاسم الشريف الذي هو أبطن الأسماء إشارة إلى أنه غيب الغيب بالنظر إلى ذاته كالألف ، وإلى أنه واجب الوجود لذاته - وأن هويته ليست مستفادة من شيء سواها ولا موقوفة على شيء سواها ، فإن كل ما كانت هويته مستفادة من غيره أو موقوفة عليه فمتى لم يتعبر غيره فلم يكن هو هو ، وما كانت هويته لذاته فهو هو سواء اعتبر غير أو لم يعتبر ، فإذاً لا يستحق هذا الاسم غيره أصلاً على أن الهاء بمفردها مشيرة - بكونها من أبطن - الحلق إلى أنه هو الأول والباطن المبدع لما سواه ، والواو - بكونها من أظهر حروف الشفة - إلى أنه الآخر والظاهر ، وأن إليه المنتهى ، وليس وراءه مرمى ، وأنه المبدىء المعيد - كما يشير إلى ذلك تكرير الواو في اسمها ، وإلى أنه محيط بكل شيء لما فيها من الإحاطة .
ولما كان وجوده سبحانه لذاته ، ولم يكن مستفاداً من غيره ، فإن ما استفيد وجوده من غيره كان ممكناً ، كان لا يمكن شرح اسمه الذي هو هو ، لا اسم لحقيقة غيره يقوم من جنس ولا نوع ولا فصل لأنه لا جنس له ولا نوع له ولا سبب يعرف به ، والذي لا سبب له لا يمكن معرفته إلا بلوازمه ، واللوازم منها سلبية ومنها إضافية ومنها قريبة ومنها بعيدة ، والتعريف بالإضافية وبالقريبة أتم من التعريف بالسلبية وبالبعيدة ، لأن البعيد كالضاحك الذي هو بعد المتعجب بالنسبة إلى الإنسان لا يكون معلولاً لشيء بل معلولاً لمعلوله ، وبالجمع بين السلبية والإضافية أتم من الاقتصار على أحدهما ، فلذلك اختير اسم جامع للنوعين ليكون التعريف أتم ، وذلك هو كون تلك الهوية إلهاً ، فاختير لذلك اسم دال عليها وهو مختص غير مشترك ، وهو أول مظاهر الضمير كما أن الهمزة أول مظاهر الألف ، ولهذا قال بعضهم : الاسم الأعظم آخر الظواهر من الأسماء ، ولهذا كانت كلها صفات له وهو أول البواطن ، فقال مكاشفاً للأرواح وللموحدين : { الله } أي الموجود الذي لا موجود في الحقيقة سواه! هو المسمى بهذا الاسم ، واختير هذا الاسم للإخبار عنه لدلالته على جميع صفات الكمال : الجلال والجمال ولأنه اسم جامع لجميع معاني الأسماء الحسنى ، وهو أقرب اللوازم إلى الهوية الهوية لأنه لا لازم لها أقرب من وجوب الوجود الذي هو مقتضى الذات على ما هي عليه من الصفات ، لا بواسطة شيء آخر ، وبواسطة وجوب وجوده كان مفيضاً باختياره الإيجاد على كل شيء أراده ، ومجموع الوجوب الذي هو سلب وحده الإيجاد الذي هو اختيار للجود بإضافة الوجود وإضافة للإلهية التي جمعتها الجلالة ، وهي أقرب اللوازم إلى الذات الأقدس ، ودل التعبير به على أنه لا مقوم للهوية من جنس ولا غيره ولا سبب ، وإلا لكان العدول عنه إلى التعريف باللازم قاصراً ، وعلى أن إلهيته على الإطلاق لجميع الموجدات ، فكان شرح تلك الهوية باللازم أبلغ البلاغة وأحكم الحكمة ، لأنه - مع كونه هو الحق - مشيراً إلى ما ذكر من الدقائق .
ولما ذكرت الذات التي لا سبب لها ولا مقوم من جنس ونوع وغيره أصلاً بل هي مجرد وحدة وتنزه عن تركب لا كثرة لها ولا اثنينية بوجه ، وعرفها باسم جامع الأنواع السلوب والإضافات اللازمة له هو أقرب اللوازم إليها ، فانشرح وجودها المخصوص على ما هو عليه ، فكان ذلك تعريفاً كاملاً لأن تعريف ما لا تركب فيه باللوازم القريبة في الكمال كتعريف المركبات بمقوماتها ، فإن التعريف البالغ هو أن يحصل في النفس صورة مطابقة للمعقول ، وكانت الزيادة في الشرح مطلوبة لأنها أكمل لا سيما في الأمور الباطنة الخفية ، أتبع ذلك باسم سلبي إشارة إلى أن النظر في هذه الدار إلى جانب الجلال ينبغي كونه أعظم ، وذلك الاسم قربه من الجلالة كقربتها من الهوية ، فإنه دال على الوحدة الكاملة المجردة وهو متنزل الجلالة كما أنها متنزل الهوية ، وهو كما أن الجلالة لم يقع فيها شركة أصلاً قد ضاهاها في أنه لا شركة لغيره تعالى فيه عند استعماله مفرداً بمعناه الحقيقي إلا أن في النفي إشارة إلى أن كل ما عداه سبحانه عدم ، فقال مكاشفاً للقلوب وللعارفين مكذباً للنصارى القائلين بالأب والابن وروح القدس ، ولليهود القائلين بأنه جسم ، وللمجوس الذين يقولون بأنه اثنان : نور يخلق الخير ، وظلام يخلق الشر ، وللصابئة الذين يعبدون النجوم ، وللمشركين القائلين بإلهية الأصنام ، مخبراً خبراً آخر ، أو مبدلاً من الجلالة ، أو مخبراً عن مبتدأ محذوف : { أحد } وهو لأجل كونه خاصة في الإثبات حال الانفراد به تعالى معرفة غني عن « آل » المعرفة ، وهو أعرق في الدلالة على صفات الجلال كما أن الجلالة أعرق في الدلالة على صفات الكمال لأن الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الكاملة والحكمة التامة المقتضية للألوهية من غير لزوم دور ولا تسلسل من جهة تركب أو غيره ، وقرىء بإسقاط « قل » هنا وفي المعوذتين مع الاتفاق على إثباتها في الكافرون ونفيها في تبت ، ولعل الحكمة أن الكافرون مخاطبة للكفار بما بين مشاققة ومتاركة ، فناسب الحال أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم ، وتبت معاتبة عم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوبيخه فلا يناسب أن يكون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ، والباقيات ما بين توحيد وتعوذ ، فناسب أن يؤمر بتبليغه وأن يدعو به ، ورتب الأحدية على الإلهية دون العكس ، لأن الإلهية عبارة عن استغنائه عن الكل ، واحتياج الكل إليه ، وكل ما كان كذلك كان واحداً مطلقاً ، وإلا لكان محتاجاً إلى أجزائه ، فالإلهية من حيث هي تقتضي الوحدة ، والوحدة لا تقتضي الإلهية ، وعبر به دون « واحد » لأن المراد الإبلاغ في الوصف بالوحدة إلى حد لا يكون شيء أشد منه ، والواحد - قال ابن سينا - مقول على ما تحته بالتشكيك ، والذي لا ينقسم بوجه أصلاً أولى بالواحدية مما ينقسم من بعض الوجوه ، والذي ينقسم انقساماً عقلياً أولى مما ينقسم بالحس والذي ينقسم بالحس وهو بالقوة أولى من المنقسم بالحس بالفعل ، وإذا ثبت أن الوحدة قابلة للأشد والأضعف .
وأن الواحد مقول على ما تحته بالتشكيك كان الأكمل في الوحدة الذي لا يمكن أن يكون شيء آخر أقوى منه فيها ، وإلا لم يكن بالغاً أقصى المرام ، والأحد جامع لذلك دال على الواحدية من جميع الوجوه ، وأنه لا كثرة هناك أصلاً ، لا معنوية من المقومات من الأجناس والفصول ولا بالأجزاء العقلية كالمادة والصورة ، ولا حسية بقوة ولا فعل كما في الأجسام ، وذلك لكونه سبحانه منزهاً عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر وجوه التثنية التي تثلم الوحدة الكاملة الحقة اللائقة بكرم وجهه وعز جلاله أن يشبهه شيء أو يساويه لأن كل ما كانت هويته إنما تحصل من اجتماع أجزاء كانت هويته موقوفة على حصول تلك الأجزاء ، فلا يكون هو هو لذاته بل لغيره ، فلذا كان منزهاً عن الكثرة بكل اعتبار ، ومتصفاً بالوحدة من كل الوجوه ، فقد بلغ هذا النظم من البيان أعظم شأن ، فسبحان من أنزل هذا الكلام ما أعظم شأنه وأقهر سلطانه ، فهو منتهى الحاجات ، ومن عنده نيل الطلبات ، ولا يبلغ أدنى ما استأثره من الجلال والعظم والبهج أقصى نعوت الناعتين وأعظم وصف الواصفين ، بل القدر الممكن منه الممتنع أزيد منه هو الذي ذكره في كتابه العزيز ، وأودعه وحيه المقدس الحكيم ، وبالكلام على معناه ومعنى الواحد تحقق ما تقدم ، قال الإمام أبو العبا الإقليشي في شرح الأسماء : فمن أهل اللسان من ساوى بينهما جعلهما مترادفين ، فمنهم من قال : أصل أحد واحد سقطت منه الألف ثم أبدلت الهمزة من الواو المفتوحة ، ومنهم من قال : ليس أصله واحد وإن كانا بمعنى واحد ، بل أصله وحد - من الوحدة - يحد فهو وحد - مثل حسن يحسن فهو حسن - من الحسن ، أبدلت الواو همزة ، وأما من فرق بينهما فمنهم من قال : أحد اسم على حياله لا إبدال فيه ولا تغيير ، ومنهم من قال : أصله وحد ، أبدلت الواو همزة - انتهى ، وقد استخلصت الكلام على الاسمين الشريفين من عدة شروح للأسماء الحسنى وغيرها منها شرح الفخر الرازي والفخر الحرالي وغيرهما ، قالوا : الواحد الذي لا كثرة فيه بوجه لا بقسمة ولا بغيرها مع اتصافه بالعظمة ليخرج الجوهر الفرد وهو أيضاً الذي لا يتثنى ، أي لا ضد له ولا شبيه ، فهو سبحانه واحد بالمعنيين على الإطلاق لا بالنظر على حال ولا شيء ، قال الإمام أبو العباس الاقليشي في شرح الأسماء : هذه حقيقة الوحدة عند المحققين ، فلا يصح أن يوصف شيء مركب بها إلا مجازاً ، كما تقول : رجل واحد ، ودرهم واحد ، وإنما يوصف بها حقيقة ما لا جزء له كالجوهر الفرد عند الأشعرية غير أنك إذا نظرت فوجدت وجوده من غيره علمت أن استحقاقه لهذا الوصف ليس كاستحقاق موجده له ، وهو أيضاً إنما يوصف به لحقارته ، وموجده سبحانه موصوف به مع الاتصاف بالعظمة ، فاتصافه بالوحدة على الإطلاق ، واتصاف الجوهر بالنظر إلى عدم التركب من الجسم مع أن صحة اتصافه بأنه جزء يزيل عنه حقيقة ذلك ، والوحدة أيضاً بالنظر إلى المعنى الثاني وهو ما لا نظير له لا تصح بالحقيقة إلا له سبحانه ، وكل ما نوعيته في شخصيته كالعرش والكرسي والشمس والقمر يصح أن يقدر لها نظائر ، وله معنى ثالث وهو التوحد بالفعل والإيجاد ، فيفعل كل ما يريد من غير توقف على شيء ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول ناظر إلى نفي إله ثان ، وهذا ناف لمعين ووزير ، وكلاهما وصف ذاتي سلبي ، والحاصل أن النظر الصحيح دل على أن لنا موجداً واحداً بمعنى أنه لا يصح أن يلحقه نقص القسمة بوجه من الوجوه وبمعنى أنه معدوم النظير بكل اعتبار ، وبمعنى أنه مستبد بالفعل مستقل بالإيجاد ومتوحد بالنصع متفرد بالتدبير ، قضى بهذا شاهد العقل المعصوم من ظلمة الهوى وكثافة الطبع ، وورد به قواطع النقل ونواطق السمع ، ولهذا كان من أعظم الحق دعاؤه سبحانه لجميع الخلق ، وكانت دعوة رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم للخلق كافة ، وقال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في آخر شرحه للأسماء في بيان رد الأسماء الكثيرة إلى ذات واحدة وسبع صفات : الأحد المسلوب عنه النظير ، وقال في الشرح المذكور : الواحد هو الذي لا يتجرى ولا يتثنى ، أما الذي لا يتجزى فكالجوهر الواحد الذي لا ينقسم فقال : إنه واحد - بمعنى أنه لا جزء له ، ولذلك النقطة لا جزء لها ، والله تعالى واحد - بمعنى أنه يستحيل تقدير الانقسام في ذاته ، وأما الذي لا يتثنى فهو الذي لا نظير له كالشمس مثلاً فإنها وإن كانت قابلة للانقسام بالوهم متحيزة في ذاتها لأنها من قبيل الأجسام فهي لا نظير لها إلا أنه يمكن أن يكون لها نظير ، وليس في الوجود موجود يتفرد بخصوص وجوده تفرداً لا يتصور أن يشاركه فيه غيره أصلاً إلا الواحد المطلق أزلاً وأبداً ، والعبد إنما يكون واحداً إذا لم يكن له في أبناء جنسه نظير في خصلة من خصال الخير ، وذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه وبالإضافة إلى الوقت إذ يمكن أن يكون في وقت آخر مثله ، وبالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع ، فلا وحدة على الإطلاق إلا لله تعالى ، وقال الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة كتابه الملل والنحل : واختلفوا في الواحد أهو من العدد أم هو مبدأ العدد وليس داخلاً في العدد ، وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اشتراك لفظ الواحد ، فالواحد يطلق ويراد به ما يتركب منه العدد ، فإن الاثنين لا معنى له إلا واحد ، تكرر أول تكرير ، وكذا الثلاثة والأربعة ، ويطلق ويراد به ما يحصل منه العدد ، أي هو علته ولا يدخل في العد أي لا يتركب منه العدد ، وقد تلازم الواحدية جميع الأعداد لا على أن العدد تركب منها بل وكل موجود فهو جنسه أو نوعه أو شخصه واحد يقال : إنسان واحد ، وشخص واحد ، وفي العدد كذلك فإن الثلاثة في أنها ثلاثة واحدة ، فالواحدة بالمعنى الأول داخلة في العدد ، وبالمعنى الثاني علة العدد ، وبالمعنى الثالث ملازمة للعدد ، وليس من الأقسام الثلاثة قسم يطلق على البارىء تعالى معناه : فهو واحد لا كالأحاد أي هذه الوحدات والكثرة منه وجدت ويستحيل عليه الانقسام بوجه من وجوه القسمة - انتهى ، وهو واحد أيضاً بنفسه لا بالنسبة إلى ثان بوجه من الوجوه ، وقال بعضهم : الواحد يدل على الأزلية والأولية ، لأن الواحد في الأعداد ركنها وإظهار مبدئها ، والأحد يدل على بينونته من خلقه في جميع صفاته ونفي أبواب الشرك عنه ، فالأحد بني لنفي ما ذكر معه من العدد ، والواحد اسم لمفتتح العدد ، وقال الإمام أبو حاتم محمد بن مهران الرازي في كتابه الزينة ، قال بعض الحكماء : إنما قيل له سبحانه « واحد » لأنه عز وجل لم يزل قبل الخلائق متوحداً بالأزل لا ثاني معه ولا خلق ، ثم أبدع الخق ، فكان الخلق كله مع احتياجه إليه سبحانه محتاجاً بعضه إلى بعض ممسكاً بعضه بعضاً متعادياً ومتضاداً ومتشاكلاً ومزدوجاً ومتصلاً ومنفصلاً ، واستغنى عز وجل عن الخلائق فلم يحتج إلى شيء فيكون ذلك الشيء مقروناً به لحاجته إليه ولا ناواه شيء فيكون ذلك الشيء ضداً له نصراً به ، فيكون ذلك الضد والقرين له ثانياً ، بل توحد بالغنى عن جميع خلقه لأنه كان قبل كل شيء ، والأولية دلت على الوحدانية ، فالواحد اسم يدل على نظام واحد يعلم باسمه أنه واحد ليس قبله شيء :
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
والواحد من العدد في الحساب ليس قبله شيء ، بل هو قبل كل عدد وهو خارج عن العدد ، والواحد كيفما أدرته لم يزد فيه شيء ولم ينقص منه شيء ، تقول : واحد في واحد بواحد - فلم يزد على الواحد شيء ، فدل على أنه لا شيء قبله ، وإذا دل على أنه لا شيء قبله دل على أنه محدث الشيء ، فإذا دل على أنه محدث الشيء دل على أنه مغني الشيء ، وإذا كان مغني الشيء دل على أنه لا شيء بعده ، فإذا لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء فهو المتوحد بالأزل ، يعني فهو الواحد الذي لا نظير له فهو الأحد ، قال : فلذلك قيل : هو واحد وأحد ، وقلنا : إن الأحد هو اسم أكمل - أي أعم - من الواحد ، ألا ترى أنك إذا قلت : فلان لا يقوم له واحد ، جاز في المعنى أن يقوم له اثنان أو ثلاثة فما فوقها ، وإذا قلت : فلان لا يقوم له أحد ، فقد جزمت بأنه لا يقوم له واحد ولا اثنان ولا ما فوقهما ، فصار الأحد أكمل من الواحد ، وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد ، تقول : ليس في الدار واحد ، يجوز أن يكون واحداً من الدواب أو الطير أو الوحش أو الإنس ، فكان الواحد يعم الناس وغير الناس ، وإذا قلت : ليس في الدار أحد ، فهو مخصوص للآدميين دون سائرهم ، والأحد ممتنع من الدخول في الضرب وفي العدد وفي القسمة وفي شيء من الحساب ، وهو منفرد بالأحدية ، والواحد منقاد للعدد والقسمة وغيرها داخل في الحساب ، تقول : واحد واثنان وثلاثة ، فهذا وإن لم يكن من العدد فهو علة العدد ، وداخل في العدد ، لأنك إذا ضربت واحداً في واحد لم يزد ، واثنان هو جذر الحساب ، وتقول في القسمة ، واحد بين اثنين أو ثلاثة ، لكل واحد من الاثنين نصف ، ومن الثلاثة ثلث ، فهذه القسمة ، والأحد ممتنع من هذا ، لا يقال : أحد واثنان ولا أحد في أحد ولا أحد في واحد ولا في اثنين أو ثلاثة ، والواحد وإن لم يتجزأ من الواحد فهو يتجزأ من الاثنين والثلاثة فما فوقهما ، تقول : جزء واحد من جزأين أو ثلاث فما فوقها ، ولا يجوز : جزء أحد من جزأين فما فوقهما ، وقد سمى الله نفسه واحداً أحداً ووصف نفسه بالوحدانية والأحدية ، فالواحد نعت يلزمه على الحقيقة لأنه كان قبل ولا ثاني معه ، والثاني خلال الواحد ، فهو واحد لاتحاده في القدم ، والخلق اثنان لاقترانه بالحدث لأن الحدث ثان للقدم ، وبه ظهرت التثنية ، فالواحد هو الأحد في ذاته فهو لا شيء قبله ولا من شيء ولا في شيء ولا على شيء ولا لشيء ولا مع شيء ، فيكون ذاك الشيء ثانياً معه بل هو الواحد منشىء والأشياء كلها له ، وهو المتحد بذاته ممتنع من أن يكون له شيء ثانياً بوجه من الوجوه والخلق كله له ، وإن كان يسمى بالواحد ، أو كانت هذه الصفة قد لزمت جميع الأشياء في وجه فإنها تزول عنها في وجه .
كما قيل : إنسان واحد وفرس واحد وبعير واحد ، وكذلك يقال لسائر الأشياء ، وهذه صفة تلزمها في اللفظ ، والمسمى لا يخلو من معان كثيرة مجتمعة فيه كالجسم والعرض ، وهو واحد مجموع من أشياء متفرقة ، وكل شيء لا يخلو من ازدواج وتضاد وتشاكل وحد وعد ، وهذه الصفات كلها تنفي عنه معنى الأحدية والواحدية ، وفي الواحد عن العرب لغات كثيرة ، يقال : واحد وأحد ووحد ووحيد وحاد وأحاد وموحد وأوحد - وهذا كله راجع إلى معنى الواحد ، وإن كان في ذلك معان لطيفة ولم يجىء في صفة الله عز وجل إلا الواحد والأحد ، قلت : والوحيد على بعض الإعرابات في المدثر ، قال : وكلها مشتقة من الواحد ، وكأن ذلك مأخوذ من الحد . كأن الأشياء كلها إليه انتهاؤها وهي محدودة كلها غيره عز وجل وهو محدود ، بل هو غاية المحدودين وغاية الغايات لا غاية له ، والأحد يجيء في الكلام بمعنى الأول وبمعنى الواحد ، فإذا جاء بمعنى الأول وبمعنى الواحد جاز أن يتكلم به في الخبر كقولك : هذا واحد أحد ، والعرب كانت تسمي يوم الأحد في الجاهلية أولاً ، وقولك « يوم الأحد » دليل على أنه اليوم الأول من الأسبوع ، والاثنين دليل على أنه اليوم الثاني ، وفي التوراة أن الله عز وجل أول ما خلق من الأيام « يوم الأحد » قلت : يمكن أن يكون معنى يوم الأحد يوم الله ، أضيف إليه لكونه أول مخلوقاته من الأيام ، فلما أوجد الثاني سمي يوم الاثنين ، لأنه ثاني يوم الأحد ، قال : وضد الواحد اثنان ، وضد الأحد الآخر ، قال الله تعالى : { قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً } [ يوسف : 36 ] ثم قال في ضده « وقال الآخر » فهذا دليل على أن معنى قولهم « يوم الأحد » اليوم الأول : لأنهم قالوا لما بعده اثنان ، ولم يقولوا : الآخر ، لأن الأحد إذا لم يكن بمعنى الأول فضده الآخر ، وإذا كان الأحد بمعنى الأول جاز الخبر والجحد ، وإذا لم يكون بمعنى الأول وكان بمعنى الواحد جاز في الخبر وجاز في الجحد ، قال الله تعالى : { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه } [ الكهف : 19 ] فهذه من الخبر ، فإذا لم يكن أحد بمعنى الأول وبمعنى الواحد لم يجز أن يتكلم به إلا في الجحد ، تقول : ما جاءني أحد ، ولا يجوز : جاءني أحد ، وكلمني أحد ، قال الله تعالى في معنى الجحد { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [ البلد : 5 ] وأحد يستوي فيه المذكر والمؤنث ، قال الله تعالى : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء }
[ الأحزاب : 32 ] وواحد لا يستوي فيه المذكر والمؤنت حتى يدخل فيه الهاء فيقال « واحدة » لا يجوز « كواحد من النساء » وأحد يكون بمعنى الجمع ، تقول العرب : يظل أحدنا الأيام لا يأكل ، بمعنى كلنا لا يأكل ، فاحتمل معنى الواحد والجماعة - انتهى ، فالواحد من الأسماء الثبوتية الإضافية ، يكون في أصل اللغة بالنسبة إلى ثان هو نصفه ، وثالث هو ثلثه ، وهكذا هو صفة الله تعالى بمعنى المتوحد في الاتصاف بالألوهية حتى لا يقبلها غيره بوجه ، فلا شريك له ، والأحد من النعوت السلبية ، بل هو مجمعها ، هو أحد في نفسه لا يقبل العدد ولا التركيب بوجه لا بالقسمة ولا بغيرها سواء نظر إليه بالنسبة إلى الغير أو لا ، فهو متمحض للسلب ، فهو وصف راجع إلى نفس الذات بمعنى أنه كامل في ذاته لا يؤثر في مفهومه النظر إلى شيء أصلاً ، والفرد ناظر إلى نفي العدد ، فافترقت الأوصاف الثلاثة وإن كانت متقاربة في المعنى .
وقال الإمام أبو الخير القزويني الشافعي في كتابه « العروة الوثقى في أصول الدين » ناقلاً عن بعض من فرق بينه وبين الواحد : إن الأحد اسم لنفي ما يذكر معه ، وعن بعضهم أنه الذي لا يجوز له التبعيض لا فعلاً ولا وهماً ، فهو أحد بذاته وأحد بصفاته ، وتوحيد الله تعالى لنفسه علمه بأنه واحد ، وإخباره بذلك وتوحيد العبد له علمه بذلك مع إقراره به ، وقال الإمام فخر الدين الرازي في شرح الأسماء الحسنى : فالله سبحانه وتعالى أحد في ذاته ، أحد في صفاته ، أحد في أفعاله ، أحد لا عن أحد غير متجزىء ولا متبعض ، أحد غير مركب ولا مؤلف ، أحد لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئاً ، أحد غني عن كل أحد - انتهى ، وهذا معنى ما نقله المعربون عن ثعلب أنه فرق بينهما بأن واحداً يدخله العدد ، وأحد لا يدخله ذلك ، يقال : الله أحد ، ولا يقال : زيد أحد ، لأن الأحد خصوصية الله تعالى ، زيد يكون منه حالات ، ونقض عليه بالعدد المعدد المعطوف ، يقال : أحد وعشرون واثنان وعشرون ، ورد بأن أحداً فيه بمعنى واحد ، وقال الإمام فخر الدين في شرح الأسماء : إنه اختص به البارىء سبحانه ، أما الواحد فيحصل فيه المشاركة ، ولهذا السبب أعري من لام التعريف لأنه صار نعتاً لله عز وجل على الخصوص ، فصار معرفة ، وقال الأزهري : سئل أحمد بن يحيى عن الأحاد هل هي جمع أحد ، فقال : معاذ الله ليس للأحد جمع ، ولا يبعد أن يقال إنه جمع واحد كالأشهاد جمع شاهد - انتهى ، وقال الإقليشي في شرح الأسماء : الأحد هو الذي ليس بمنقسم ولا متجزىء ، فهو على هذا اسم لعين الذات ، فيه سلب الكثرة عن ذاته ، فتقدس بهذا الوصف عن صفات الأجسام القابلة للتجزي والانقسام ، والنقطة والجوهر الفرد عن مثبته - يعني من المتكلمين ، والجوهر البسيط عند مدعيه - يعني من الفلاسفة ، وإن كانت هذه لا تتجزى ولا تنقسم وإنها مخالفة للبارىء تعالى في أحديته ، أما النقطة فعرض عند بعضهم إذ هي عبارة عن طرف الخط ، وإذا كان الخط عرضاً فالنقطة أولى بالعرضية ، وأما الجوهر الفرد فإنه وإن كان لا ينقسم فهو مقدر بجزء ، وكل ما قدر بجزء فلا يخلو من الأكوان وهو كيفما كان على رأي من أثبته من المتكلمين وإن كانوا في أوصافه متنازعين فلا يخلو من الأعراض ، وأما الجوهر البسيط عند من أثبته فوجوده عندهم ليس عينه إذا اثنينيته غير ماهيته ، وما هو بهذا الوصف عندهم ففيه اثنينية ، ففارق البارىء سبحانه وتعالى بأحديته هذه الموجودات كما فارق بذاته الأجسام ، فوجوده عن ذاته وليست صفاته تعالى مغايرة لذاته ، وأما الواحد فهو وصف لذاته ، فيه سلب الشريك والنظير عنه ، فافترقا - يعني بأن الأحد ناظر إلى نفس الذات ، والواحد إلى أمر خارج عنها ، وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات : الأحد فيما يدعوه المشركون إلهاً من دونه لا يجوز أن يكون إلهاً إذ كانت إمارات الحدث من التجزي والتناهي قائمة فيه لازمة له ، والبارىء سبحانه وتعالى لا يتجزى ولا يتناهى ، فقد مر أن الأحد خاص بالله سبحانه وتعالى : إنه لا فرق في إطلاقه عليه سبحانه وتعالى بين تعريفه وتنكيره لأنه معرفة في نفسة ، فطاح اعتراض من قال من الملحدين : الجلالة معرفة وأحد نكرة لا ينعت به .
وعلى تقدير التسليم يجوز جعله بدلاً كما تقدم ولا مانع من إبدال النكرة من المعرفة مثل لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة ، قال صاحب كتاب الزينة : وعلى هذه القراءة - أي قراءة التنكير - أجمعت الأمة ، وروى قوم عن أبي عبد الله بن جعفر بن محمد الصادق أنه قرأ قل هو الله أحد الله الواحد الأحد الصمد ، وقال الإمام أبو الحسن الحرالي في شرح الأسماء الحسنى : الأحد اسم أعجز الله العقول عن إدراك آيته في الخلق إثباتاً فلم تستعمله العرب مفرداً قط أي وهو بمعناه الحقيقي لا بمعنى واحد ولا بمعنى أول مثلاً إلا في النفي لما علموا أنه مفصح عن إحاطة جامعة لا يشذ عنها شيء ، وذلك مما تدركه العقول والحواس في النفي ولا تدركه في الإثبات فيقولون : ما في الدار أحد - نفياً لكل ولا يسوغ في عقولهم أن يقولوا : في الدار أو في الوجود أحد - ، إذ لا يعقل عندهم ذات إنسان هي جامعة لكل إنسان ، فلما ورد عن الله اسمه في القرآن تلقاه المؤمنون بالإيمان وأحبت قلوبهم سورة ذكره لجمعها لما لا يحصى من ثناء الرحمن وهي أحد الأنوار الثلاثة في القرآن ، القرآن - نور
{ ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } [ الشورى : 52 ] ونور نوره سورة ذكر الأحد في ختمه وآية الكرسي في ابتدائه وسورة يس التي هي قبله في محلها منه واحد مبين عن اسم الله الذي هو بكل شيء محيط ، لا يتطرق إليه شرك في حق ولا باطل ، وهو واحد مبين عن اسم الإله الذي لا يصح فيه الشرك حقاً ، وقد يتطرق إليه باطلاً { واتخذوا من دون الله آلهة } [ يس : 74 ] وذلك لأن الواحد يضائف الثاني ، وأحد جامع محيط لم يبق خارج عنه فيضايفه يعني أن مفهومه ناظر إلى كونه سبحانه وتعالى الآن كما كان في الأزل وحده ، فإن الخلق فانٍ فهو في الحقيقة عدم ، وكأنه ما كان لإحاطته به وكونه في قبضته وطوع مشيئته ، فلا خارج يكون مضايفاً له لأنه لا يضايف الشيء إلا مناظر لمساواة أو مباراة بمعاندة أو غيرها ، فالكل بالنسبة إليه عدم { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] { كل من عليها فان } [ الرحمن : 26 ] { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] هذا مراده بدليل سابقه ولاحقه فلا شبهة فيه لأهل الوحدة عليهم الخزي واللعنة ، قال : والوحدة من الواحد هي حد النهاية ، والغاية مما هي وحدته ، وما دون الوحدة التي هي الغاية ثانية ودونه وجماع إحاطات كل ذلك أعلى وأدنى هي الأحدية التي لا يشذ عنها شاذ ولا يخرج عنها خارج ، فمن الأسماء معلوم لخليفة من خليقته بما أتاهم منه كالرحيم والعليم ، ومنها ما يعجز عنه خلافتهم كالأسماء المتقدمة من اسمه المحصي ، ولكن ينال مثلاً من قولهم ، ومنها ما لم ينله العلم ولا أدركت مثله العقول وهو اسمه الأحد ، فالله هو الأحد الذي لا أحد إلا هو - انتهى ، وقال الإمام أبو الحكم بن برجان في شرح الأسماء الحسنى : وهو - أي الأحد - أصل لباب الوحدة ، يدل على محض الوحدة ، ألا ترى أنه نافٍ يأتي معه ، إذا قلت : لم يأتني أحد ، انتفى الاثنان ، ولا تقول : جاءني أحد كما تقول! جاءني واحد ، لأن واحداً تزول عنه الواحدية بضم ثان إليه بخلاف الأحدية فإنها لازمة الواحد لا يفارقه حكمها بعد ضم الثاني بل لها من جهة محفوظة عليها يظهر ذاك بالأشفاع والأوتار ، فإنك تقول ما جاءني أحد ، فتنتفي الأشفاع كما تنتفي الأوتار ، وهذا دليل على زيادة شرفه فإن الاسم كلما غمضت دلالته وتعذرت معرفته عن الأفهام وعزب عن العقول علمه كان ذلك دليلاً على قربه من الاسم الأعظم - انتهى ، وقال بعض العارفين في كشف معنى الأحد ورتبته : إن الذات الأعظم غيب محض والأحد أول تعيناتها ، ولذلك بدىء بالهمزة التي هي أول تعينات الألف التي هي لهيب محض وذلك سر مخالفتها للأحرف في أن كل حرف يدل على مسماه أول حروف اسمه إلا الألف لكونها غيباً ، فكان أول اسمها الهمزة التي هي أول تعيناتها ، والهمزة لكونها مرقى إلى غيب الألف كان أول اسمها أيضاً غير دال على مسماها .
ثم بعد التعيين بالأحدية الشاملة المستغرقة يتنزل إلى الإلهية ثم منها إلى الواحدية ، ولذلك ابتدىء الواحد بالواو التي هي وصلة إلى ما فيه من الألف الذي هو غيب ، فإن الواحد مرقى إلى فهم الإله ، والإله مرقى إلى تعقل الأحد ، والأحد مرقى إلى التعبد للذات الأقدس الأنزه ، ومن اعتقد أحديته سبحانه وتعالى ، أنتج له ذلك حبه وتعظيمه ، وهو توحيد الألوهية لأن التفرد بذلك يقتضي الكمال والجمال - والله الموفق .
قال الإمام جعفر بن الزبير : لما انقضى مقصود الكتاب العزيز بجملته عاد الأمر إلى ما كان ، وأشعر العالم بحالهم من ترددهم بين عدمين { ثم الله ينشىء النشأة الآخرة } [ العنكبوت : 20 ] فوجودهم منه سبحانه وتعالى وبقاؤهم به وهم وجميع ما يصدر عنهم من أقوالهم وأفعالهم كل ذلك خلقه واختراعه ، وقد كان سبحانه وتعالى ولا عالم ولا زمان ولا مكان ، وهو الآن على ما عليه كان ، لا يفتقر إلى أحد ولا يحتاج إلى معين ، ولا يتقيد بالزمان ، ولا يتحيز بالمكان ، فالحمد لله رب العالمين ، أهل الحمد ومستحقه مطلقاً ، له الحمد في الأولى والآخرة ، وله الحكم وإليه المصير { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد } هو الموجود الحق ، وكلامه الصدق ، { وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب والدار الآخرة خير للذين يتقون } [ العنكبوت : 64 ] فطوبى لمن استوضح آي كتاب الله ، وأتى الأمر من بابه وعرف نفسه ودنياه ، وأجاب داعي الله ولم ير فاعلاً في الوجود حقيقة إلا هو سبحانه وتعالى والحمد لله رب العالمين ، ولما كمل مقصود الكتاب ، واتضح عظيم رحمة الله به لمن تدبر واعتبر وأناب ، كان مظنة الاستعاذة واللجأ من شر الحاسد وكيد الأعداء فختم بالمعوذتين من شر ما خلق وذرأ وشر الثقلين - انتهى .
ولما تم البيان لهويته سبحانه وتعالى على هذا الوجه الذي أنهاه بالأحدية المعلمة بالتنزه عن القسمة والنظير ، وكان بيان القرآن بالغاً أقصى نهايات البيان ، وكان الأحد من النعوت المتوغلة في السلب ، وكانت الشركة تقع في التعبير به في النفي وهو بمعناه الحقيقي وتقع فيه بالإثبات والسلب على حد سواء ، أو دلالته على الكمال والإضافة أكمل ، وبناه على الاسم الأعظم الذي هو آخر الأسماء الظاهرة وأول الأسماء الباطنة ، ولم يقع فيه شركة بوجه دفعاً لكل تعنت ، وإشعاراً بأن لم يسم به لم يستحق الألوهية ، وأخلى الجملة عن عاطف لأنها كالنتيجة للأولى والدليل عليها ، فقال مكاشفاً لنفوس المؤمنين وللعلماء معيداً الاسم ولم يضمر لئلا يظن تقيد بحيثية غيب أو غيرها : { الله } أي الذي ثبتت إلهيته وأحديته ، لا غيره { الصمد } الذي تناهى سؤدده المطلق في كل شيء إلى حد تنقطع دونه الآمال ، فكان بحيث لا يحتاج إلى شيء وكل شيء إليه محتاج ، وتنزه عن الجوفية فلم تدن من جنابه بفعل ولا قوة لأنه تنزه عن القسمة بكل اعتبار مع العظمة التي لا يشببها عظمة ، فكان واحداً بكل اعتبار ، وذلك هو مفهوم الأحدية عبارة وإشارة ، فكان مصموداً إليه في الحوائج أي مقصوداً لأجلها ، فهو الموصوف بهذا الاسم على الإطلاق ، وبكل اعتبار ، فكان موجداً للعالم لأن العالم مركب بدليل المشاهدة فكان ممكناً فكان محدثه واجباً قديماً ، نفياً للدور والتسلسل المحالين ، وخلقه له بالقدرة والاختيار لأنه لو كان بالطبع والإيجاب لكان وجوده مع وجوده لأن العلة لا تنفك عن المعلول ، فيلزم من قدم البارىء عز وجل قدم العالم ، ومن حدوث العالم حدوث البارىء جل وعز ، وذلك جمع بين النقيضين وهو محال ، وقصر الصمدية عليه لأن اشتداد الألف لحاجة الشيء إلى غيره ربما كان موجباً لخفاء اختصاصه به ، ولم يقصر الأحدية إما للتنبيه على أن ذلك لشدة ظهوره غني عن التأكيد ، وإما استئلافاً لهم لئلا ينفروا قبل سماع تمام السورة على أنه بظهور قصر الصمدية التي أحد معنييها لازم الأحدية ظهر الاختصاص بالأحدية ، قال العلماء رحمهم الله تعالى : والصمد من صمد إليه - إذا قصده ، وهو كالأحد ، بني على هذا الوزن لأنه لا تلحقه المضارعة ولا تدن منه المشابهة لأنه اسم خاص فهو السيد المصمود إليه ، وهو أيضاً الذي لا جوف له ولا رخاوة بوجه فيه ، لأن الأجواف وعاء ، وكل وعاء محتاج إلى موعيه ، يقال : شيء مصمد ، أي صلب ، وحجر صمد : أملس لا يقبل الغبار ولا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء ، قال ابن قتيبة : وهو على هذا الدال فيه مبدله من التاء وهو المصمت ، وهو أيضاً العالي الذي تناهى علوه ، تقول العرب لما أشرف من الأرض : صمد - بإسكان الميم ، وبناء صمد أي معلى ، فهو على التفسير الأول من الصفات الإضافية بمعنى أنه سيد لكل موجود ، والكل محتاجون إليه في ابتداء إيجادهم وفي تربيتهم ، فهم يصمدون إليه في الحوائج ويقصدون إليه في جميع الرغائب ، وهو غني على الإطلاق ، وذلك هو اتصافه بصفات الإلهية ، قال الإقليشي فعلى هذا أي أنه الذي يلجأ إليه ويعتمد عليه لتناهي سؤدده - يتشعب من صفة الصمد صفات السؤدد كلها من الجود ، والحلم وغير ذلك وإذا قلنا : إن الصمد العالي تشعبت منه صفات التعالي كلها من العزة والقهر والعلو ونحوها - انتهى ، وقد روى البيهقي رحمة الله تعالى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله « الصمد » قال : هو السيد الذي كمل في سؤدده ، والشريف الذي كمل في شرفه ، والعظيم الذي كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والغني الذي كمل في غناه ، والجبار الذي كمل في جبروته ، والعالم الذي قد كمل في علمه ، والحكم الذي قد كمل في حكمه ، وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله عز وجل ، هذه صفته لا تنبغي إلا له ، ليس له كفوء ، وليس كمثله شيء ، فسبحان الله الواحد القهار وقال أبو العباس بن تيمية الحنبلي في كتابه « الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان » : أجمع سلف الأمة وأئمتها أن الرب سبحانه وتعالى بائن من مخلوقاته ، يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل بوصف من صفات الكمال دون صفات النقص ، ونعلم أنه ليس كمثله شيء ولا كفوء له في شيء من صفات الكمال كما قال الله تعالى : { قل هو الله أحد الله الصمد } - إلى آخرها ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الصمد إلى آخر ما مضى عنه ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره : هو الذي لا جوف له ، والأحد الذي لا نظير له .
فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه ، واسمه الأحد يتضمن أنه لا مثل له ، وقال الحرالي : الصمد - يعني بالسكون : - التوجه بالحاجات إلى مليّ بقضائها لا يحتاج إلى سواه ، فلذلك يكون الصمد سيداً لا يساد ، السيد الله - انتهى ، وعلى التفسير الثاني : هو من النعوت السلبية ، فهو دال على نفي الماهية التي تعنت بها فرعون لاقتضائها المقومات المستلزمة للحاجة إلى ما به التقويم ، وعلى إثبات الهوية المنزهة عن كل شائبة نقص ، فإن كل ما له ماهية كان له جوف وباطن ، وهو تلك الماهية ، وهو ما لا باطن له ، وهو موجود فلا جهة ولا اعتبار في ذاته إلا الوجود ، فهو واجب الوجود غير قابل للعدم ، وقد علم بهذا أنه جامع لما ذكر فيما قبله ، فإن هذا التفسير الثاني يتشعب منه من الأسماء ما ينظر إلى نفي التركيب كالأحد ونحوه وهذان التفسيران الأول والثاني جامعان لجميع ما فسر به ولما عسى أن يقال فيه سبحانه من صفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال ، فمن كان مصموداً إليه في جميع الحاجات ومتعالياً عن كل سمت حدث وشائبة نقص كان موجداً لكل ما يريد من نفع وضر ونافع وضار قادراً على حفظ ما يريد ، وكان معلوماً كالشمس أنه لا شريك له ، وأنه هو وحده المستحق للعبادة لاحتياج الكل إليه الاحتياج المطلق وغناه عنهم الغنى المطلق ، وتفرده بصفات الكمال والانقطاع عن قرين وإلى الصمدانية ينتهي التوجه وهو الإقبال بالكلية ، وهي ترد على الفلاسفة القائلين بتدبير القول ، والصابية القائلين بتدبير النجوم ، وعلى غيرهم من كل من ادعى تدبيراً لغير الله سبحانه وتعالى ، ومن اعتقد صمديته المقتضية لكمال الذات والصفات وشمول التدبير ، أنتج له كمال التفويض والتوكل وهو توحيد الربوبية ، وهذه الأسماء الأربعة مشيرة إلى مقامات السائرين ومرامات الحائرين والجائرين ، فالمقربون نظروا إلى الأشياء فوجدوا كل ما سواه سبحانه وتعالى معدوماً بالذات ، فكان ذكرهم « هو » وأصحاب اليمين نظروا إلى وجود الممكنات فعينوا مرادهم وميزوا مذكورهم بالجلالة ، وأصحاب الشمال جوزوا الكثرة في الإله فاحتاجوا في تذكيرهم إلى الوصف بالأحدية والصمدية وهي رادة على أهل الاتحاد أعظم رد ، فإنهم يقولون : إن الإله هو هذا العالم ، وهو منقسم بالحس فضلاً عما عداه ومحتاج أشد احتياج .
ولما انتهى بيان حقيقته سبحانه وتعالى ، وأنه غير مركب أصلاً ، وبين سبحانه بصمديته المستلزمة لوحدانيته أن الكل مستند إليه ومحتاج إليه ، وأنه المعطي لوجود جميع الموجوات ، والمفيض للجود على كل الماهيات فلا يجانس شيئاً ولا يجانسه شيء ، ولا يكون له نظير في شيء من ذلك . وكان ربما تعلق بوهم واهم أن تولد غيره عنه يكون من تمام سؤدده المعبر به عن قدرته ، بين أن ذلك محال لاقتضائه الحاجة مما لا تعلق له بالقدرة لأن القدرة من شأنها أنها لا تتعلق بالمحال ، وهذا محال ، لأنه سبحانه صمد ، فكان ذاك بياناً للصمدية في كلا معنييها ، فقال من غير عاطف دالاًّ على انتفاء الجوف الذي هو أحد مدلولي « صمد » مكاشفاً للعقلاء شارحاً لأنه لا يساويه شيء من نوع يتولد عنه ولا جنس يولد هو عنه ، ولا غير ذلك يوازيه في وجود ولا غيره { لم يلد } أي يصح ولم ينبغ بوجه من الوجوه أن يقع تولد الغير عنه مرة من المرات ، فكيف بما فوقها لأن ذلك مستلزم للجوف وهو صمد لا جوف له ، لأن الجوف من صفات النفس المستلزم للحاجة وهو مستغن بدوامه في أبديته عمن يخلفه أو يعينه لامتناع الحاجة والفناء عليه ، فهو رد على من قال : الملائكة بنات الله أو عزير أو المسيح أو غيره .
ولما بين أنه لا فصل له ، ظهر أنه لا جنس له ، فدل عليه بقوله : { ولم يولد } لأنه لو تولد عنه غيره تولد هو عن غيره كما هو المعهود والمعقول ، فهو قديم لا أول له بل هو الأول الذي لم يسبقه عدم ، أن الولادة لا تكون ولا تتشخص إلا بواسطة المادة وعلاقتها ، وكل ما كان مادياً أو كان له علاقة بالمادة ، كان متولداً عن غيره فكان لا يصح أن يتولد عنه شيء لأنه لا يصح أن يكون هو متولداً عن غيره لأنه لا ماهية له ولا اعتبار لوجوده سوى أنه هو ، فهويته لذاته ، ومن كانت هويته لذاته لم يصح بوجه أن يتولد عن غيره لأنه لو تولد عن غيره لم يكن هو هو لذاته ، ولا يكون أحداً حقيقياً ولا صمداً ، فينتفي من أصله ، ولا يكون له من ذاته إلا العدم ، فقد تبين أنه واجب الوجود ، فوضح كالشمس أنه ليس مادياً لأنه غير محتاج بوجه ، فلا يصح أن يتولد عنه غيره ، لأنه لم يصح أن يتولد هو عن غيره ، ومن كان كذلك لم يكن له مثل ، فلا يصح بوجه أن يساويه شيء ليصح أن يقوم مقامه فيما بين ما انتفى في الأول والآخر ، فدل على ذلك إتماماً لشرح حقيقته المعبر عنها بهو بقوله : { ولم يكن } أي لم يتحقق ولم يوجد بوجه من الوجوه ولا بتقدير من التقادير { له } أي خاصة { كفواً } أي مثلاً ومساوياً { أحد } على الإطلاق ، أي لا يساويه في قوة الوجود لأنه لو ساواه في ذلك لكانت مساواته باعتبار الجنس والفصل ، فيكون وجوده متولداً عن الازدواج الحاصل من الجنس الذي يكون كالأم ، والفصل الذي يكون كالأب ، وقد ثبت أنه لا يصح بوجه أن يكون في شيء من الولادة ، لأن وجوب وجوده لذاته ، فانتفى أن يساويه شيء في قوة وجوده ، فانتفى قطعاً أن يساويه أحد في شيء من قوة أفعاله ، فعطف هاتين الجملتين على الجملة التي قبلها لأن الثلاث شرح الصمدية النافية لأقسام الأمثال ، فهي كالجملة الواحدة ، وقدم الظرف في الثالثة لأن المقصود الأعظم نفي المكافأة عن الذات الأعظم ، فكان أهم « وكفواً » حال من أحد .
ويجوز أن يكون « كان » ناقصة ويكون « كفواً » خبرها ، وسوغ خبريته تخصيصه ب « له » كما قالوا في « إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله » وقد وضح أن هذه السورة أعظم مبين للذات الأقدس بترتيب لا يتصور في العقل أن يكون شيء يساويه ، وكلمات لا تقع في الوهم أن يكون شيء يساويها أو يساوي شيئاً منها ، فأثبت أولاً حقيقته المحضة وهويته بأنه هو ، لا اسم لتلك الحقيقة من حيث هي إلا ذلك ، فعلم أنه واجب الوجود لذاته لا لشيء آخر أصلاً ، ثم عقب ذلك بياناً له بذكر الإلهية التي هي أقرب اللوازم لتلك الحقيقة وأشدها تعريفاً .
ولما اقتضت الإلهية الوحدة لأنها عبارة عن الاستغناء المطلق واحتياج الغير إليه الاحتياج المطلق ، دل عليها بالأحد ، ودل على تحقيق معنى الإلهية والواحدة معاً بالصمدية لما لها من المعنيين : وجوب الوجود بعدم الجوف وجوداً أو تقديراً والسيادة المفيضة لكل وجود على كل موجود وجوداً لا يشبه وجوده سبحانه :
« وأين الثريا من يد المتناول » ... « الأمر أعظم من مقالة قائل »
وبين المعنيين كليهما بعدم صحة التوليد منه وله وعدم المساوي ، فمن أول السورة إلى آخر الأسماء في بيان حقيقته سبحانه وتعالى ولوازمها الأقرب فالأقرب ووحدتها بكل اعتبار ، ومن ثم إلى آخرها في بيان أن لا مساوي له لأنه لا جنس له ولا نوع حتى يكون هو متولداً عن شيء أو يكون متولداً عنه شيء ، أو يكون شيء موازياً له في الوجود ، وبهذا القدر حصل تمام معرفة ذاته ، وأنه لا يساويه شيء في قوة وجوده فلا يساويه في تمام أفعاله بدلالة شاهد الوجود الذي كشف عنه والشهود بنصر نبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو أبا لهب وجميع الكافرين الشانئين وحده وهم ملء الأرض ويخبرهم مع تحاملهم كلهم عليه أنهم مغلوبون ، وأنه أتاهم بالذبح لأن لمن أرسله الإحاطة الكاملة بجميع الكمال ، وقد كان الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم ، فقد صدقت مقالاته ، فثبتت إلى الخلق كافة رسالاته ، وثبت مضمون جميع السورة بما ثبت من هذه الأدلة المشهورة ، والبراهين القاطعة المنصورة ، وقد ثبت أنه صمد بما دل على أحد معنييه الذي هو انتفاء الجوفية بعدم التولد ، وعلى المعنى الآخر الذي هو بلوغ المنتهى من السيادة بعدم المكافىء فبان أنه هو لذاته فلا إله غيره ، فانطبق آخرها على أولها ، والتحم أيّ التحام مفصلها بموصلها ، فعلم أنه هو هو لا غيره بزيادة أنه الأحد ولا أحد حقاً غيره ، ومن تحقق آخرها أقبل بكليته إليه سبحانه ، فلم يلتفت إلى غيره لأن الكل في قبضته ، وقد نقلت في كتابي مصاعد النظر عن الإحياء للإمام الغزالي رحمة الله تعالى عليه في شيء من أسرار هذه السورة كلاماً هو في غاية النفاسة .
وروى الترمذي عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أن المشركين قالوا : يا محمد انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى : قل هو الله أحد إلى آخرها ، قال : لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وأن الله تعالى لا يموت ولا يورث ، ولم يكن له كفواً أحد - انتهى . ومن كان كذلك فهو الجامع للأسماء الحسنى والصفات العلى كلها ، وعلم أن حاصلها تنزيه المعبود عن أن يكون له مجانس ، أو يكون له مكافىء ، والرد على كل من يخالف في شيء من ذلك ، وأعظم مقاصد آل عمران المناظرة لها في رد المقطع على المطلع ، المفتتحة بالحي القيوم ، المودعة أوضح الأدلة على كفر من كفر بالله سبحانه وتعالى لا سيما من ادعى أن عيسى عليه الصلاة والسلام إله أو أنه ولد له سبحانه وتعالى وكذا غيره الدلالةُ على بطلان مذهب من ادعاه إلها وعلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام عبد من عبيده أوجده على ما أراد كما أوجد من هو أغرب حالاً منه وإبطال قول من ادعى فيه غير ذلك . ولما عرفت هذه السورة حقيقة الذات أتم تعريف ، وكان الغرض الأقصى من طلب العلوم بأسرها معرفة ذاته سبحانه وتعالى وصفاته وكيفية صدور الأفعال عنه وكان القرآن العظيم كفيلاً بجميع هذه العلوم ، وكانت هذه السورة منه قد تكفلت بجميع ما يتعلق بالبحث عن الذات على سبيل التعريض والإيماء ، وكانت معادلة لثلث القرآن وهي ثلث أيضاً باعتبار آخر وهو أن الدين اعتقاد ، وفعل لساني يترجم عن الاعتقاد ، وفعل يصحح ذلك ، وهي وافية بأمر الاعتقاد بالوحدانية الذي هو رأس الاعتقاد ، وباعتبار أن مقاصده كلها محصورة في بيان العقائد والأحكام والقصص ، وهذه السورة على وجازتها قد اشتملت على جميع المعارف الإلهية والرد على من ألحد فيها ، ولأجل أن هذا هو المقصود بالذات الذي يتبعه جميع المقاصد عدلت في بعض الأقوال بجميع القرآن ، وحاصل شرح هذه السورة العظمى أنه سبحانه وتعالى دل على الذات الأقدس بالهوية ، وعبر عنها بالضمير إشارة إلى نفي الماهية التي غلظ أو غالط فيها الكفور الأعظم فرعون - لعنة الله عليه وعلى أتباعه أهل الإلحاد ، وأنصاره وأشياعه من أهل الاتحاد ، ودل على ذلك بالاسم الأعظم المجمع عليه ودل عليه بالوحدة الجامعة للغنى ، النافية للكثرة الموجبة لحاجة ، ودل عليها بالصمدية النافية للجوفية المثبتة للسيادة الخفية ، ودل على أول معنييها بانتفاء الولادة منه وله ، الدالان على نفي الجنس للقوم والفصل المقسم ، ودل على الثاني بعدم المكافىء ، ودل على هذا العدم بأفعاله العظيمة المشاهدة التي أشار قطعاً ترتيب السور بما انتهى إليه وضع هذه السورة في هذا الموضع إلى استحضارها .
وتأمل ما كان منها من تربية هذا الدين بنصر نبيه الذي أرسله صلى الله عليه وسلم لإقامته ، وسلط الكافرين - وهم ملء الأرض - على أذاه ، وجعل أعظمهم له أذى أقربهم إليه نسباً عمه أبا لهب الذي كان يتبعه في تلك المشاهد والقبائل ، ويلزمه في تلك المواسم والمعاهد والمحافل ، يصرح بتكذيبه كلما دعى الناس إلى الحق ، ويواجه بما هو أشد الأشياء على النفس كراهة وأشق ، فكانت تلك الشهرة عين الرفعة والنصرة ، لأن الشيء ، إذا خرج عن حده انقلب إلى ضده ، فإنه إذا تناهت شهرته ثم بان بطلانه أو صحته رجعت شهرته بكونه باطلاً أو صحيحاً أعظم منها لو لم يتقدمها شهرة بغير ذلك ، فانقلبت النصرة ، وعظمت الكثرة ، فجلت المعاونة ، وزالت المباينة ، وحصل الوفاق ، وزال الشقاق ، فدل هذا الفعل الأعظم من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وحده ، وكذب المعاندين وهم من لا يحصيهم إلا الله في كل ما قال ، وجميع ما قالوا على عزته سبحانه وتعالى بكونه نصر عبده على ذلك الوجه الخارق للعادة وعلى حكمته بما سلطهم به عليه حتى أسرعت الشهرة وعمت النصرة ، فعلم بتلك المشاهدة أنه العزيز الحكيم كما دلت عليه سورة التوحيد المناظرة لهذه في رد المقطع على المطلع ، وهي آل عمران المناظرة لهذه في الدلالة على التوحيد والمحاججة لمن ادعى أن له صاحبة وولد ، فعلم قطعاً أنه لا كفوء له ، فعلم أنه لا يصح أصلاً أن يلد ولا أن يولد ، فبطلت قطعاً دعوى إلهية عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره ممن ادعى فيه الولدية بالأحدية لما تقتضيه الولادة من المادة المقتضية للكثرة ، الموجبة للحاجة ، وعظم البيان بما دل عليه الاسم الأعظم من الإجماع بما تقتضي الإلهية ، ولا إجماع على غيره ، وجل الأمر وانقطع النزاع بما دل عليه الضمير من وجوب الوجود النافي لما سواه من كل موجود - والله الهادي ، فلقد أبانت السورة على أعظم الوجوه أن مرسله صلى الله عليه وسلم أجل موجود وأشرف حقيقة وأنفس معلوم ، وأعظم ذات ، وذلك يستلزم نفي كل ما لا ينبغي ، وحصول كل ما ينبغي استلزاماً لا يقبل الانفكاك ، كالفردية في الوتر ، والزوجية في الشفع ، وتفصيل ذلك بعشرة أشياء تبسط على كلمات السورة على الترتيب : الأول أنه تعالى له الوجود الذي ما مثله فليس هو كالممكنات المسبوقة بالعدم والمنقطعة بالانعدام ، والمنصرمة في الدوام ، بل هو أزلي لا أول له أبدي لا آخر له ، قيوم لا انصرام له ، الثاني أن له السبوحية الآبية على نفع كل نقص وعيب ، الثالث أن له القدوسية المشتملة على الاتصاف بكل كمال ، من جلال وجمال وتعال ، الرابع أن له العظمة والجلالة عن أن يكون عرضاً أو كالأعراض ، أو جوهراً أو كالجواهر ، أو جسماً أو كالأجسام ، الخامس أن له العلو عن أن يحل في شيء أو يحل فيه شيء أو يتحد بشيء أو يتحد به شيء ، السادس أنه تعالى له الغنى عن الموجد كالرب والموجب كالأب والمفيد أي لشيء من الكمالات ، السابع أنه تعالى له الوحدانية التي ليس فيها شبيه أي في صفاته ، ولا مثيل أي في نوع ولا نسب أي كالقرابة ، الثامن أنه تعالى له الفردانية التي لا يصح فيها شرك ، لا في الملك - بكسر الميم ، ولا في الملك - بضمها ، ولا في التدبير ، ولا في التأثير ، التاسع أنه تعالى له الكبرياء المنافية لفوت كمال أو كمال كمال ، العاشر أنه تعالى له العزة المنافية لأن يكون له ضد - وهو المفسد لما يفعله ، أو ند - وهو الموجد لمثل ما يوجده ، وتنزل هذه العشرة على السورة واضح لمن تأمل الكلام وتدبره ، وابتدأ سبحانه السورة بالضمير قبل الظاهر بعد التصريح بالنصر والفتح وخسارة أهل الكفر بخسارة أبي لهب الذي هو أعلاهم وأعزهم إشارة إلى أن من صحح باطنه باسم الله تعالى نصر وفتح له - كما يشير إليه تعقيب الأمر في آخر سورة البقرة بالرغبة إليه في النصر على الكافرين بقوله
{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة : 255 ] فإنه ترجمة أول هذه السورة التالية للنصر والكافرون سواء بالضمير والاسم الأعظم والتوحيد الأعظم المقرون بدليل وهو القيومية ، فقد بين آخر السورة الذي هو نتيجتها ورد مقطعها على مطلعها أنه أحد حاضر في كل زمن لا يغيب أصلاً ، ولا أحد يكافئه أو يشابهه ، لأنه لم يتولد عنه شيء ولا تولد هو عن شيء ، لأنه صمد لا جوف له مطلقاً لا في ذاته بالفعل ، ولا بحيث يجوّزه الوهم لأنه أحد محيط بكل شيء لأنه هو الله المحيط بجميع صفات الكمال والجمال ، وهو غيب محض لأنه لا يقوى غيره على معرفته إلا باللوازم من الصفات المعقولة تقريباً ، والأفعال المشاهدة آثارها ، وهو هو الذي هو - مع كونه غيب الغيب - مستحضر في كل لب ، لا يظهر بغيب عن أحد بما له من الآثار ، التي ملأت الأقطار ، ولذلك استحق التسمية ب « هو » ولم يستحقها غيره لحضوره لكل قلب وغيبة غيره بكل اعتبار ، لأنه ليس للغير من ذاته إلا الغيبة بالعدم ، وأما هو فهو الواجب وجوده ، وهو الذي أوجد غيره ، وركز في كل قطرة ذكره ، لما له سبحانه من الكمال ، ولغيره من شدة الحاجة إليه والاحتلال ، فكان سبوحاً قدوساً جامعاً بين الوصفين لأنه ممدوح بالفضائل والمحاسن ، التقديس مضمر في صريح التسبيح ، والتسبيح مضمر في صريح التقديس ، وقد جمع الله سبحانه وتعالى بينهما في هذه السورة بالأسماء التي جلاها أولها ، فهو صريح التقديس ، ومن ثم إلى آخرها صريح التسبيح ، والأمران راجعان إلى إفراده وتوحيده ونفي التشريك والتشبيه عنه ، وذلك هو الجمع بين الإثبات والنفي على تهييج ما وقع في كلمة الإخلاص ليعلم أن الإثبات لا يكمل إلا بصيانته عن كل ما يتضمن مخالفته ، لكن كلمة الإخلاص تركبت من نفي ثم إثبات ، وسورة الإخلاص من إثبات ثم نفي ، فأولها إثبات وآخرها نفي ، وآخر الإثبات الصمد ، فهو جامع بين الأمرين فإنه جمع كل صفة لا يتم الخلق إلا بها « لأن أحد مدلوليه » في اللغة : السيد الذي يرجع إليه ، فاقتضى ذلك إثبات صفات الكمال التي بها يتم اتساق الأفعال ونفي كل صفة ينزه عنها ، لأن ثاني مدلوليه في اللغة : الذي لا جوف له ، وذلك يتضمن نفي النهاية ونفي الحد والجهة والجسم والجوهر ، لأن من اتصف بشيء من ذلك لم يستحل اتصافه بالتركيب ووجود الجوف ، فقررت هذه الكلمة وجوب المعرفة بالنفي والإثبات ليميز بين الحق والباطل ، لأن من لم يتحقق صفاء الباطل لم يتقرر له المعرفة بالحق ، ولذلك كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الحق لصحة الاعتقاد والمعرفة ، وعن الباطل والشر للتمكن من مجانبته حتى قال حذيفة رضي الله تعالى عنه
« وكان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر » وذلك لأن من لم يعرف الشر يوشك أن يقع فيه ، وأن ما خالفت كلمة الشهادة في الترتيب لأن تلك أتت للإدخال في الدين ، والأليق بمن كان خارجاً أو ضعيفاً - وهم الأكثر - نفي الباطل أولاً ومحوه من لوح القلب ليأتي إثبات الحق فيه وهو فارغ فيقر فيه ، فلما نفت أولاً كل غير كان سبباً للمجانبة والبعد عن حضرات القدس ، ثم أثبتت الذات الأقدس والمسمى الأشرف الأنفس ، أكدت سورة الإخلاص لأنها للكمل الذين تخلقوا بما قبلها من السور ، هذا الإثبات عند استحضاره ، وشهود الجميل من آثاره ، ثم ختمت بنفي الأغيار ، ليكون بذلك تجلى ختام الأعمار ، عند الرجوع إلى الآثار ، بالعرض على الواحد القهار ، وقد بين بهذه السورة أنه طريق بين الخلق والأمر ، فلما فتح الخلق بمتشابه خلق آدم عليه الصلاة والسلام لأن المتشابه ما خرج عن أشكاله ، وختمت أقسامه الأربعة بمتشابه خلق عيسى عليه الصلاة والسلام - كما تقدم عند
{ إن الله اصطفى } [ آل عمران : 33 ] في آل عمران المناظرة لهذه السورة ، لذلك فتح الأمر بعد أم الكتاب بمتشابه الحروف المقطعة ، وختم دون المعوذتين اللتين هما في الحال المرتحل كالمقدمة ، والافتتاح بالتعوذ لأم الكتاب بمتشابه هو سورة الإخلاص ، وكان متشابه أوله متشابهاً من جميع وجوهه ، لا يمكن أحداً أن يقول فيه قولاً مقطوعاً به أو مظنوناً ظناً راجحاً ، ومتشابه آخره لا يقنع فيه بدون القطع في أوله فيما كلفنا أمره في هذه الدار وهو أصول الدين ، ووراء ذلك ما لا يدركه أحد من الأبرار ولا المقربين ، وهو الذات الأقدس ، فمن رجع متشابه الخلق فوق منزلته كفر ، ومن وضع متشابه الأمر عن رتبته العلية كفر ، وجعل آخره أجلى من أوله من بعض الوجوه إشارة إلى ترقية الموفق في أمره ، وأنه في الآخر يكون أجلى انكشافاً وأوضح معرفة ، وتلاه بالتعوذ إشارة إلى سؤال الاعتصام في شأنه ، والحفظ التام في مضمار عرفانه ، وكرر بالتثنية لأجل الإحاطة بأمري الظاهر والباطن ، والتأكيد تنبيهاً على صعوبة المرام ، وخطر المقام .
ولما افتتح القرآن بسورة مشتملة على جميع معانيه ، ختم بسورتين يدخل معناهما ، وهو التعوذ ، ويندب ذكره في جميع أجزائه ومبانيه ، وفي ذلك لطيفة أخرى عظيمة جداً ، وهي أنه لما علم بالإخلاص تمام العلم وظهور الدين على هذا الوجه الأعظم ، فحصل بذلك غاية السرور ، وكان التمام في هذه الدار مؤذناً بالنقصان ، جاءت المعوذتان لدفع شر ذلك ، وقد انقضى الكلام على ما يسره الله تعالى من كنوز معاني سورة الإخلاص بحسب التركيب والنظم والترتيب ، وبقي الكلام على ما فتح الله به من أسرارها في الدلالة على مقصود السورة بالنظر إلى كلماتها مفردة ظواهر وضمائر ثم حروفها ، ففيها من الأسماء الحسنى والصفات العلى ، التي أسس عليها بنيانها ، وانبنت عليها أركانها ، خمسة هي العشر من كلمات آية الكرسي كما أن الصلوات المكتوبات خمس وهي خمسون في أم الكتاب « الحسنة بعشر أمثالها » فمن لطائف إشاراتها أنها كدعائم الدين الخمس ، فالضمير مشير إلى تصحيح ضمير القلب بالإيمان ، وصحة القصد والإذعان ، حتى يقوم بناء العبادة ، والاسم الأعظم إشارة إلى أن ذلك التصحيح لأجل التأله بالخضوع للإله الحق باستحضار اسمه الأعظم كما أن الصلاة أعظم عبادات البدن ، هذا للتهيئة في الدخول في العبادة ، ثم إن الدخول فيها شرطه أحدية التوجه تحقيقاً للصدق في صحة العزم عليها كما أن الزكاة تكون مصدقة للإيمان ، وذلك التوحيد في التوحيد يكون لأجل الصدق في التأله بما يشير إليه إعادة الاسم الأعظم كما هو شأن الحاج الأشعث الأغبر المتجرد ، ويكون ذلك التأله باستحضار افتقار العابد إلى المعبود وتداعيه إلى الهلاك بكل اعتبار لأنه أجوف ، وغنى المعبود على الإطلاق بما يشير إليه الاسم الإضافي الصمد كما هو شأن الصائم في عبادته ، واستحضاره لحقارته وشدة حاجته ، ولجلالة مولاه ، وتعاليه في غناه ، فمن صحت له هذه الدعائم الخمس كانت عبادته في الذروة العليا من القبول ، وإلا كان لها اسم الحصول من غير كثير محصول - والله الموفق ، وكونها خمس عشرة كلمة إشارة إلى أنهم في السنة الخامسة عشرة من النبوة يعلمون - بغلبة قهره وسطوة سلطانه وتأييده للمستضعفين من حزبه ، وتقويته لهم في وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة - أن مرسله لا كفوء له بعلم شهودي لا يقدر أحد على تكذيبه ودفعه ، فيقوم به دليل الإخلاص ، ولات حين مناص ، وإذا ضممت إليها الضمير الواجب الاستتار في { قل } كانت ست عشرة إشارة إلى أنه في السنة السادسة عشرة من النبوة وهي الثالثة من الهجرة في غزوة أحد يكون الظاهر فيها اسمه تعالى الباطن ، فإنه كان فيها من المصيبة ما هو مذكور في السير تفصيله من قتل سبعين من الصحابه رضي الله تعالى عنهم منهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد أن ظهر فيها النبي صلى الله عليه وسلم في أول النهار ، ظهوراً بيناً حتى كانت هزيمة الكفار ، لا شك فيها - كما قال الله تعالى
{ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم } [ آل عمران : 152 ] - الآيات ، ثم أخفى الله ذلك في إزالة الكفار في أثناء النهار ، فهزم الصحابة رضي الله تعالى عنهم حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم إلا نفر يسير جداً أكثر ما ورد في عددهم أنهم يقاربون الأربعين وهو ثابت بهم - صلى الله عليه وسلم - في نحر العدو وهم نحو من ثلاثة آلاف فيهم مائتا فارس يحاولهم ويصاولهم يشتملون عليه مرة ويفترقون عنه أخرى ليعلم أن الناصر إنما هو الله سبحانه وتعالى وحده ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن من المواطن ما نصر في غزوة أحد ، وقال أبو سفيان ابن حرب يوم إسلامه في عام الفتح للنبي صلى الله عليه وسلم : ما قاتلتك من مرة إلا ظهرت عليّ ، أظن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً .
ولكن الذي ظهر منها ما كان في آخر النهار من ظهور الكفار ، فأخفى الله تعالى نصره لنبيه صلى الله عليه وسلم فيها باسمه الباطن إلا على أرباب البصائر ، فما علم ذلك إلا بوجه خفي جداً مناسبة للضمير الباطن الواجب الاستتار ، وإذا ضممت إلى ذلك الضميرين المستترين الجائزي الظهور ، فكانت الكلمات بذلك ثماني عشرة ، كان إشارة إلى أن في السنة الثامنة عشرة من النبوة - وهي الخامسة من الهجرة دلالة عظيمة على أنه لا كفوء له يوجب الإخلاص على وجه هو أجلى مما كان في غزوة أحد وإن كان فيه نوع خفاء ، وذلك في غزوة الأحزاب وبني قريظة حين رد الله الكفار بغيظهم لم ينالوا خيراً بعد أن كانوا في عشرة آلاف مقاتل غير بني قريظة ، يقولون : إنه لا غالب لهم ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قوياً عزيزاً قاهراً لهم بريح وجنود لم يروها ، وأمكن من بني قريظة ، وكان الله قوياً عزيزاً ، وذلك في شوال وذي القعدة سنة خمس من الهجرة ، فإذا ضممت إليها الضمير الآخر البارز بالفعل في « له » فكانت تسع عشرة ، كانت إشارة إلى مثل ذلك على وجه أجلى في عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، فإنه كان فيها الفتح السببي الذي أنزل الله سبحانه وتعالى فيه سورة الفتح ، وكان فيها من دلائل الوحدانية أمور كثيرة توجب الإخلاص ، وإن كان في ذلك نوع خفاء مناسبة للضمير وإن كان بارزاً بالفعل ، فقد خفي على كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين حتى نبههم النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا ضممت إليها كلمات البسملة الأربع كانت ثلاثاً وعشرين توازي السنة العاشرة من الهجرة ، وهي الثالثة والعشرون من النبوة ، وفيها كان استقرار الفتح الأكبر والإخلاص الأعظم بنفي الشرك وأهله من جزيرة العرب لحجة الوداع التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها : « إن الشيطان - قد أيس أن يعبد في أرض العرب » ولذلك توفى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عقبها بعد إظهار الدين وإذلال الكافرين وإتمام النعمة ، وقام سبحانه بنصر الأمة وحده بعد أن مهد أسباب النصر بنبيه صلى الله عليه وسلم حتى علم قطعاً في الردة وأحوالها ، وموج الفتنة وأهوالها ، وغلبة رعبها على القلوب وزلزالها ، في ذلك الاضطراب الشديد ، أنه الإله وحده الذي لا كفوء له لحفظ الدين في حياة نبيه صلى الله عليه وسلم وبعده ، وكذا فيما بعد ذلك من فتوح البلاد ، وإذلال الملوك العتاة الشداد ، مع ما لهم من الكثرة والقوة بالأموال والأجناد ، والتمكن العظيم في البلاد ، وجعل النصر عليهم بأهل الضعف والقلة آية في آية ، ودلالة بالغة في ظهورها الغاية ، وإذا سلكت طريقاً آخر في الترتيب في الكلمات الخطية والاصطلاحية دلّك على مثل ذلك بطريق آخر ، وذلك أن تضم إلى الكمات الخمس عشرة كلمات البسملة الأربع لتكون تسع عشرة فنوازي سنة ست من الهجرة ، وذلك سنة عمرة الحديبية التي سماها الله تعالى فتحاً ، وأنزل فيها سورة الفتح لكونها كانت سبب الفتح الذي هو عمود الإخلاص ، فإذا ضممت إليها الضمير المستتر كانت عشرين ، فوازت سنه سبع التي كانت فيها عمرة القضاء ، فأظهر الله فيها الإخلاص على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم بين أظهر المشركين في البلد الذي كان بعثه منه وفيه على وجه ظهر فيه أنه لا كفوء له ، ولكن كان ذلك بوجه خفي ، فإذا ضممت إليها الضميرين المستترين الجائزي البروز كانت اثنتين وعشرين موازية لسنة تسع سنة الوفود ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، فالإلهية من حيث هي تقتضي الوحدة ، والوحدة لا تقتضي الإلهية ، وعبر به دون الواحد لأن المراد الإبلاغ في الوصف بالوحدة إلى حد لا يكون شيء أشد منه ، والواحد - قال ابن سينا - مقول على ما تحته من التشكيك ، والذي لا ينقسم بوجه أصلاً أولى بالوحدانية مما ينقسم من بعض الوجوه ، والذي ينقسم انقساماً عقلياً أولى مما ينقسم بالحس ، والذي ينقسم بالحس وهو بالقوة أولى من المنقسم بالحس بالفعل ، وإذا ثبت أن الوحدة قابلة للأشد والأضعف وأن الواحد مقول على ما تحته بالتشكيك كان الأكمل في الفعل الذي لا يمكن أن يكون شيء آخر أقوى منه فيها وإلا لم يكن بالغاً أقصى المرام ، والأحد جامع لذلك دال عل الواحدية من جميع الوجوه ، وأنه لا كثرة هناك أصلاً ، لا معنوية من المقولات من الأجناس والفصول ولا بالأجزاء العقلية كالمادة والصورة ، ولا حسية بقوة ولا فعل كما في الأجسام ، وذلك لكونه سبحانه وتعالى منزهاً عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر الوجوه وجوه التشبيه التي تثلم الوحدة الكاملة الحقة اللائقة بكرم وجهه وعز جلاله أن يشبهه شيء أو يساويه شيء لأن كل ما كانت هويته أن تحصل من اجتماع آخر كانت هويته موقوفة على تلك الأجزاء فلا يكون هو هو لذاته بل لغيره ، فلذا كان منزهاً عن الكثرة بكل اعتبار ومتصفاً بالوحد من كل الوجوه ، فقد بلغ هذا النظم من البيان أعظم شأن ، فسبحان من أنزل هذا الكلام ما أعظم شأنه وأقهر سلطانه! فهو منتهى الحاجات ، ومن عنده نيل الطلبات ، ولا يبلغ أدنى ما استأثره من الجلال والعظمة والبهجة أقصى نعوت الناعتين ، وأعظم وصف الواصفين ، بل القدر الممكن منه الممتنع أزيد منه هو الذي ذكره في كتابه العزيز ، وأودعه وحيه المقدس الحكيم ، وبالكلام على معناه والمعنى الواحد تحقق ما تقدم ، قال الإمام أبو العباس الاقليشي في شرح الأسماء الحسنى ، فمن أهل اللسان من ساوى بينهما جعلهما مترادفين ، ومنهم من قال : أصل « أحد » واحد ، أسقطت منه الألف ، ثم أبدلت الهمزة من الواو المفتوحة مثل حسن يحسن فهو حسن - من الحسن ، أبدلت الواو همزة ، وأما من فرق بينهما فمنهم من قال : « أحد » على حياله ، لا إبدال فيه ولا تغيير ، ومنهم من قال : أصله وحد - أبدلت الواو همزة - انتهى .
وقد استخلصت الكلام على الاسمين الشريفين من عدة شروح للأسماء الحسنى وغيرها ، منها شرح الفخر الرازي والفخر الحرالي وغيرهما - قالوا : الواحد الذي لا كثرة فيه بوجه لا بقسمة ولا بغيرها مع اتصافه بالعظمة ليخرج الجوهر الفرد وهو الذي لا يتثنى ، أي لا ضد له ولا شبيه ، فهو سبحانه وتعالى واحد بالمعنيين على الإطلاق لا بالنظر إلى حال ولا شيء ، قال الإمام أبو العباس الاقليشي في شرح الأسماء الحسنى : هذه حقيقة الوحدة عند المحققين فلا يصح أن يوصف شيء مركب بها إلا مجازاً كما تقول : رجل واحد ودرهم واحد ، وإنما يوصف بها حقيقة ما حراك له كالجوهر عند الأشعرية غير أنك إذا نظرت فوجدت وجوده من غيره علمت أن استحقاقه لهذا الوصف ليس كاستحقاق موجده له ، وهو أيضاً إنما يوصف به لحقارته ، وموجده سبحانه وتعالى موصوف به مع اتصافه بالعظمة ، فاتصافه بالوحدة على الإطلاق ، والاتصاف بالجوهر بالنظر إلى عدم التركيب من الجسم مع صحة اتصافه بأنه جزء يزل عنه حقيقة ذلك ، والوحدة أيضاً بالنظر إلى المعنى الثاني - وهو ما لا نظر له - لا تصح بالحقيقة إلا له سبحانه وتعالى ، وكل ما نوعيته في شخصيته كالعرش والكرسي والشمس والقمر يصح أن يقدر لها نظائر ، ولها معنى ثالث وهو التوحيد بالفعل والإيجاد ، فيفعل كل ما يريد من غير توقف على شيء ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول ناظر إلى نفي إله ثان ، وهذا ناف لمعين ووزير ، وكلاهما وصف ذاتي سلبي ، والحاصل أن النظر الصحيح دل على أن لنا موجداً واحداً بمعنى أنه لا يصح أن يلحقه نقص لقسمته بوجه من الوجوه ، وبمعنى أنه معدوم النظير بكل اعتبار ، ومعنى أنه مستبد بالفعل مستقل بالإيجاد ومتوحد بالصنع منفرد بالتدبير ، قضى بهذا شاهد العقل المعصوم من ظلمة الهوى وكثافة الطبع ، وورد به قواطع النقل ونواطق السمع ، ولهذا كان من أعظم الخلق دعاؤه سبحانه وتعالى لجميع الخلق ، وكانت دعوة رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم للخلق كافة ، وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في آخر شرحه للأسماء الحسنى في شرحه في بيان رد الأسماء الكثيرة إلى ذات الواحد وسبع صفات الأحد المسلوب عنه النظير ، وقال في الشرح المذكور : الواحد هو الذي لا يتجزى ولا يتثنى ، أما الذي لا يتجزى فكالجوهر الذي لا ينقسم فيقال عنه : إنه واحد - بمعنى أنه لا جزء له ، وكذلك النقطة لا جزء لها ، والله تعالى واحد بمعنى أنه يستحيل تقدير الانقسام في ذاته ، وأما الذي لا يتثنى فهو الذي لا نظير له كالشمس مثلاً فإنها - وإن كانت قابلة للانقسام بالوهم - متحيزة في ذاتها لأنها من قبيل الأجسام فهي لا نظير لها إلا أنه يمكن لها نظير ، وليس في الوجود موجود يتفرد بخصوص وجوده تفرداً لا يتصور أن يشاركه فيه غيره أصلاً إلا الواحد المطلق أزلاً وأبداً ، والعبد إنما يكون واحداً إذا لم يكن له في أبناء جنسه نظير في خصلة من خصال الخير ، وذلك بالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع ، فلا وحدة على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى ، وقال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة كتاب الملل والنحل : واختلفوا في الواحد أهو من العدم أم مبدأ العدد وليس داخلاً في العدد ، وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اشتراط لفظ الواحد أيضاً ، فالواحد يطلق به ويراد به ما يتركب منه العدد ، فإن الاثنين لا معنى له إلا واحد تكرر أول تكرير وكذا الثلاثة والأربعة ، ويطلق ويراد به ما يحصل منه العدد الذي هو علة ، ولا يدخل في العدد الذي لا يتركب منه العدد ، وقد يلازم الواحدية جميع الأعداد لا على أن العدد يتركب بها بل وكل موجود فهو جنسه أو نوعه أو شخصه واحد ، يقال : إنسان واحد ، وفي العدد أنه لا كفوء له ولكن كان ذلك بوجه خفي ، فإذا ضممت إليها الضميرين المستترين الجائزي البروز كانت اثنين وعشرين موازية لسنة تسع سنة الوفود ودخول الناس في الدين أفواجاً ، وحجة أبي بكر رضي الله عنه وتطهير المسجد الحرام من نجس الإشراك بالبراءة من المشركين وزجرهم عن أن يحج بعد ذلك العام مشرك ، ونهيهم عن قربانهم المسجد الحرام لأنهم نجس ، وانتشار الإخلاص في أغلب بلاد العرب ، وذلك أجلى مما مضى مناسب لما دل عليه ، وفيه نوع خفاء عند من كان بقي من المشركين ، وإذا ضممت إليها الضمير الآخر البارز بالفعل كانت ثلاثاً وعشرين توازي سنة حجة الوداع سنة عشر ، وهي التي تم فيها الإخلاص ولم يحج بها مشرك ، وأيس الشيطان فيها أن يعبد في جزيرة العرب ، وفي ذلك - لكون الكلمة ضميراً - نوع يسير في الخفاء بما دل عليه بعد ذلك من الردة ، وكان ذلك أنسب الأشياء بالكلمة المتحملة لذلك الضمير وهي له ، هذا ما يسره الله من أسرار كلماتها بحسب الأعداد ، وأما حروفها فمن الأسرار العظيمة أنه صفة الله ، وأن حروفها مع البسملة بالنظر إليها من حيث اللفظ وكذا من حيث الرسم ستة وستون حرفاً ، وكذا عدة حروف الجلالة الملفوظة وكذا المرسومة بحساب الجمل ، فكل ما دعت إليه هو مدلول هذا الاسم الأعظم ، وهذه العدة إذا أخذت من أول مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان آخرها منطبقاً على سنة موت صديقه الأكبر الذي سبق غيره بما وقر في صدره وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، وذلك دلالة على أنه لا يوازيهما أحد في الإخلاص ، وأنهما وصلا فيه إلى الرتبة العليا ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الخلق فيه ، وفي ذلك أيضاً دلالة على أنه لا كفوء له لأنه نفى الإشراك بحذافيره من جميع جزيرة العرب بعد أن كانوا مطبقين عليه ، وأطلقهم سبحانه وتعالى على من يليهم من ملوك الأمم حتى أظهر الله بهم الدين - وقد كانوا أذل الأمم - على الدين كله ، ونفوا جبابرة الملوك صغرة بعد أن كان عندهم أنه لا غالب لهم ، وحروفها الملفوظة هي بعدد كلمات - آيات التوحيد ، وهي آية الكرسي أعظم آية في القرآن ، وذلك خمسون حرفاً إلا واحداً هو ألف { كفواً } الذي هو مرسوم غير ملفوظ ، وهو الدال على الضمير الذي هو غيب الغيب ، فهو غيب - من جهة عدم اللفظ به ، ووجود وظهور من جهة شاهد الرسم ومسموع الاسم ، كما أن الذات غيب محض من جهة الحقيقة يدرك بمشاهدة الأفعال ، ومسموع الأسماء العوال - والله الهادي من الضلال .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
أمر بالتعوذ برب هذا الدين ، موافقة لإياك نعبد وإياك نستعين ، من شر ما يقدح فيه بضرر في الظاهر أو في الباطن وهم الخلائق حتى على الفنا في الغنا ، وبدأ بما يعم شياطين الإنس والجن في الظاهر والباطن ، ثم اتبع بما يعم القبيلين ويخص الباطن الذي يستلزم صلاحه صلاح الظاهر ، إعلاماً بشرف الباطن على وجه لا يخل بالظاهر ، وفي ذلك إشارة إلى الحث على معاودة القراءة من أول القرآن كما يشير إليه قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن } [ النحل : 98 ] - أي أردت قراءته - { فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] فقال تعالى : { قل } أي لكل من يبلغه القول من جميع الخلائق تعليماً لهم وأمراً ، فإنهم كلهم مربوبون مقهورون لا نجاة لهم في شيء من الضرر إلا بعصمته سبحانه وتعالى ، فعلى كل منهم أن يفزع أول ما تصيبه المصيبة إلى مولاه القادر على كشفها تصحيحاً لتوكله فإنه يرتقي بذلك إلى حال الرضا بمر القضاء ، ولا يأخذ في الاعتماد على جلادته وتدبيره بحوله وقوته فإنه يشتد أسفه ولا يرد ذلك عنه شيئاً : { أعوذ } أي أستجير وألتجىء وأعتصم وأحترز .
ولما كان هذا المعنى أليق شيء بصفة الربوبية لأن الإعاذة من المضار أعظم تربية قال : { برب الفلق * } أي الذي يربيه وينشىء منه ما يريد ، وهو الشيء المفلوق بإيجاده ظلمة العدم كالعيون التي فلقت بها ظلمة الأرض والجبال ، وكالأمطار التي فلقت بها ظلمة الجو والسحاب ، وكالنبات الذي فلقت به ظلمة الصعيد ، وكالأولاد التي فلقت بها ظلمة الأحشاء ، وكالصبح الذي فلقت به ظلمة الليل ، وما كان من الوحشة إلى ما حصل من ذلك من الطمأنينة والسكون والأنس والسرور إلى غير ذلك من سائر المخلوقات ، قال الملوي : والفلق - بالسكون والحركة كل شيء انشق عنه ظلمة العدم وأوجد من الكائنات جميعها - انتهى . وخص في العرف بالصبح فقيل : فلق الصبح ، ومنه قوله تعالى : { فالق الإصباح } [ الأنعام : 96 ] لأنه ظاهر في تغير الحال ومحاكاة يوم القيامة الذي هو أعظم فلق يشق ظلمة الفنا والهلاك بالبعث والإحياء ، فإن القادر على ما قبله بما نشاهده قادر عليه ، لأنه لا فرق ، بل البعث أهون في عوائد الناس لأنه إعادة ، كذا سائر الممكنات ، ومن قدر على ذلك قدر على إعاذة المستعيذ من كل ما يخافه ويخشاه .
ولما كانت الأشياء قسمين : عالم الخلق ، وعالم الأمر ، وكان عالم الأمر خيراً كله ، فكان الشر منحصراً في عالم الخلق خاصة بالاستعاذة فقال تعالى معمماً فيها : { من شر ما خلق * } أي من كل شيء سوى الله تعالى عز وجل وصفاته ، والشر تارة يكون اختيارياً من العاقل الداخل تحت مدلول « لا » وغيره من سائر الحيوان كالكفر والظلم ونهش السباع ولدغ ذوات السموم ، وتارة طبيعياً كإحراق النار وإهلاك السموم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : قد أشير ، أي في الكلام على ارتباط الإخلاص - إلى وجه ارتباطها آنفاً ، وذلك واضح إن شاء الله تعالى - انتهى .
ولما كان عطف الخاص على العام يعرف بأن ذلك الخاص أولى أفراد العام بما ذكر له من الحكم ، وكان شر الأشياء الظلام ، فإنه أصل كل فساد ، وكانت شرارته مع ذلك وشرارة السحر والحسد خفية ، خصها بالذكر من بين ما عمه الخلق لأن الخفي يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان فيكون أضر . ولذا قيل : شر العداة المداجي ، وكانت مادة « غسق » تدور على الظلام والانصباب ، فالغسق - محركة : ظلمة أول الليل ، وغسقت العين : أظلمت أو دمعت ، واللبن : انصب من الضرع ، والليل : اشتدت ظلمته ، والغسقان - محركة : الانصباب ، والغاسق : القمر ، وكأنه سمي به لسرعة سيره وانصبابه في البروج ولأنه ليس له من نفسه إلا الإظلام ، والثريا - إذا سقطت - والله أعلم ، قال في القاموس : لكثرة الطواعين والأسقام عند سقوطها ، والذكر - إذا قام ، كما قاله جماعة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو سبب للجهل الذي هو ظلام كله ، فقال تعالى : { ومن شر غاسق } أي مظلم بارد منصب ظلامه وبرده سواء كان أصلاً في الظلام حسياً أو معنوياً أو كان حاملاً عليه مثل الذكر إذا قام لما يجر إليه من الوساوس الرديئة لغلبة الشهوة واستحكام سلطان الهوى ، ومثل القمر لما يحدث منه من الرطوبات المفسدة للأبدان وغير ذلك انصباباً له غاية القوة كانصباب ما يفيض عن امتلاء في انحدار ، ونكّره إشارة إلى أنه ليس كل غاسق مذموماً - والله أعلم .
ولما كان الشيء الذي اتصف بالظلام يكثف فيشتد انصبابه وأخذه في السفول إلى أن يستقر ويستحكم فيما صوب إليه مجتمعاً جداً كاجتماع الشيء في الوقبة وهي النقرة في الصخرة ، وكان الظلام لا يشتد أذاه إلا إذا استقر وثبت ، قال معبراً بأداة التحقق : { إذا وقب * } أي اعتكر ظلامه ودخل في الأشياء بغاية القوة كمدخول الثقيل الكثيف المنصب في النقرة التي تكون كالبئر في الصخرة الصماء الملساء ، وهذا إشارة إلى أنه يسهل علاجه وزواله قبل تمكنه ، وفي الحديث « لما رأى الشمس قد وقبت قال : هذا حين حلها » يعني صلاة المغرب ، وفيه عند أبي يعلى أنه قال لعائشة رضي الله تعالى عنها عن القمر : « تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب » وأكثر الأقوال أنه الليل ، خص بالاستعاذة لأن المضار فيه تكثر ويعسر دفعها ، وأصل الغسق الظلام ، ويلزم منه الامتلاء ، وقيل : إن الامتلاء هو الأصل ، وأصل الوقوب الدخول في وقبة أو ما هو كالوقبة وهي النقرة .
ولما كان السحر أعظم ما يكون من ظلام الشر المستحكم في العروق الداخل في وقوبها . لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ، ونحو ذلك ، وما فيه من ضنى الأجسام وقتل النفوس ، عقب ذلك بقوله تعالى : { ومن شر } .
ولما كان كل ساحر شريراً بخلاف الغاسق والحاسد ، وكان السحر أضر من الغسق والحسد من جهة أنه شر كله ، ومن جهة أنه أخفى من غيره ، وكان ما هو منه من النساء أعظم لأن مبنى صحته وقوة تأثيره قلة العقل والدين ورداءة الطبع وضعف اليقين وسرعة الاستحالة ، وهن أعرق في كل من هذه الصفات وأرسخ ، وكان ما وجد منه من جمع وعلى وجه المبالغة أعظم من غيره عرف وبالغ وجمع وأنث ليدخل فيه ما دونه من باب الأولى فقال تعالى : { النفّاثات } أي النفوس الساحرة سواء كانت نفوس الرجال أو نفوس النساء أي التي تبالغ في النفث وهو التفل وهو النفخ مع بعض الريق - هكذا في الكشاف ، وقال صاحب القاموس : وهو كانفخ وأقل من التفل ، وقال : تفل : بزق ، وفي التفسير عن الزجاج أنه التفل بلا ريق ، { في العقد * } أي تعقدها للسحر في الخيوط وما أشبهها ، وسبب نزول ذلك أن يهودياً سحر النبي صلى الله عليه وسلم فمرض كما ياتي تخريجه ، فإن السحر يؤثر بإذن الله تعالى المرض ويصل إلى أن يقتل ، فإذا أقر الساحر أنه قتل بسحره وهو مما يقتل غالباً قتل بذلك عند الشافعي ، ولا ينافي قوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] كما مضى بيانه في المائدة ، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه مسحور ، فإنهم ما أرادوا إلا الجنون أو ما يشبهه من فساد العقل واختلاله ، والمبالغة في أن كل ما يقوله لا حقيقه له كما أن ما ينشأ عن المسحور يكون مختلطاً لا تعرف حقيقته .
ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد ، وهو تمني زوال نعمة المحسود :
وداريت كل الناس إلا لحاسد ... مداراته عزت وشق نوالها
وكيف يداري المرء حاسد نعمة ... إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
قال تعالى : { ومن شر حاسد } أي ثابت الاتصاف بالحسد معرق فيه ، ونكّره لأنه ليس كل حاسد مذموماً ، وأعظم الحسدة الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات .
ولما كان الضار من الحسد إنما هو ما أظهر وعمل بمقتضاه بالإصابة بالعين أو غيرها قال مقيداً له : { إذا حسد * } أي حسد بالفعل بعينه الحاسدة ، وأما - إذا لم يظهر الحسد فإنه لا يتأذى به إلا الحاسد لاغتمامه بنعمة غيره ، وفي إشعار الآية الدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين لأن خير الناس من عاش محسوداً ومات محسوداً ، ولمن لم يلق بالاً للدعاء بذلك ويهتم بتحصيل ما يحسد عليه ضحك منه إبليس إذا تلا هذه الآية لكونه ليس له فضيلة يحسد عليها ، ولعله عبر بأداة التحقيق إشعاراً بأن من كان ثابت الحسد متمكناً من الاتصاف به بما أشعر به التعبير بالوصف تحقق منه إظهاره ، ولم يقدر على مدافعته في الأغلب إلا من عصم الله تعالى ، وقد علم بكون الحسد علة السحر - الموقع في القتل الذي هو أعظم المعاصي بعد الشرك وفي الشرك ، لأنه لا يصح غاية الصحة إلا مع الشرك - أن الحسد شر ما انفلق عنه ظلام العدم ، والشاهد لذلك غلبته على الأمم السالفة وتحذير الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس منه بشهادة هاديها صلى الله عليه وسلم ، أخرج الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم :
« دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، ألا والبغضاء هي الحالقة ، لا أقول : إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين » وفي الباب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن مسعود رضي الله عنه ، وأعظم أسباب الحالقة أو كلها الحسد ، فعلم بهذا رجوع آخر السورة على أولها ، وانعطاف مفصلها على موصلها ، ومن أعيذ من هذه المذكورات انفلق سماء قلبه عن شمس المعرفة بعد ظلام ليل الجهل ، فأشرقت أرجاؤه بأنوار الحكم ، إلى أن يضيق الوصف له عن بدائع الكشف :
هناك ترى ما يملأ العين قرة ... ويسلي عن الأوطان كل غريب
فينقطع التعلق عما سوى الله بمحض الاتباع والبعد عن الابتداع بمقتضى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] وقد بطل بالأمر بالاستعاذة قول الجبرية : إنا كالآلة لا فعل لنا أصلاً ، وإنما نحن كالحجر لا يتحرك إلا بمحرك ، لأنه لو كان هو المحرك لنا بغير اختيار لم يكن للأمر فائدة ، وقول القدرية : إنا نخلق أفعالنا ، وقول الفلاسفة : إنه - إذا وجد السبب والمسبب حصل التأثير من غير احتياج إلى ربط إلهي كالنار والحطب ، لأنه لو كان ذلك لكانت هذه الأفعال المسببات إذا وجدت من فاعليها الذين هم الأسباب ، أو الأفعال التي هي الأسباب ، والمسببات التي هي الأبدان المراد تأثيرها أثرت ولم تنفع الاستعاذة ، والشاهد خلافه ، وثبت قول الأشاعرة أهل السنة والجماعة أنه إذا وجد السبب والمسبب توقف وجود الأثر على إيجاد الله تعالى ، فإن أنفذ السبب وجد الأثر ، وإن لم ينفذه لم يوجد ، والسورتان معلمتان بأن البلايا كثيرة وهو قادر على دفعها ، فهما حاملتان على الخوف والرجاء ، وذلك هو لباب العبودية ، وسبب نزول المعوذتين على ما نقل الواحدي عن المفسرين رحمة الله عليهم أجمعين والبغوي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم « أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذه مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها ، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم اليهودي ، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر شعر رأسه ، ويرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، يذوب ولا يدري ما عراه ، فبينا هو نائم ذات يوم أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال الرجل؟ قال : طب ، قال : وما طب؟ قال : سحر ، قال : ومن سحره؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي ، قال : وبما طبه؟ قال : بمشط ومشاطة ، قال : وأين هو؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت راغوفة في بئر ذروان - بئر في بني زريق ، والجف : قشر الطلع ، والراغوفة : حجر في أسفل البئر يقوم عليه المائح ، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال لعائشة رضي الله عنها : » يا عائشة! أما شعرت أن الله أخبرني بدائي! ثم بعث علياً والزبير وعمار بن ياسر رضي الله عنهم فنزحوا البئر كأنه نقاعة الحناء ، ثم نزعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان مشطه ، وإذا وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر « فأنزل الله سبحانه وتعالى سورتي المعوذتين ، وهما إحدى عشرة آية : الفلق خمس والناس ست ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة فقام كأنما نشط من عقال ، وجعل جبرائيل عليه الصلاة والسلام يقول : » بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن حاسد وعين والله يشفيك « فقالوا : يا رسول الله! أفلا نأخذه فنقتله؟ فقال : » أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن أثير على الناس شراً « وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أتى البئر بنفسه ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال : » والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، لكأن نخلها رؤوس الشياطين ، فقلت له : يا رسول الله! « أهلا أخرجته؟ فقال : » أما أنا فقد شفاني الله ، وكرهت أن أثير على الناس شراً « ويجمع بأنه أتاها صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة فلم يخرجه ثم إنه وجد بعض الألم فأرسل إليه ، فأخرجه فزال الألم كله ، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه ، ثم قال : » أشعرت يا عائشة أن الله تعالى قد أفتاني فيما استفتيته فيه « ، قلت : وما ذاك يا رسول الله ، قال : » أتاني ملكان «
فذكره ، وروى النسائي في المحاربة من سننه وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع وعبد بن حميد وأبو يعلى الموصلي في مسانيدهم والبغوي في تفسيره كلهم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : كان رجل يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ له فسحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياماً فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال :
« إن رجلاً من اليهود سحرك ، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا ، أو قال : فطرحه في بئر رجل من الأنصار ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخرجوها فجيء بها فحلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال » فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ولا رآه في وجهه قط ، وفي رواية : فأتاه ملكان يعوذانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجله فقال أحدهما : أتدري ما وجعه؟ قال : كأن الذي يدخل عليه عقد له وألقاه في بئر ، فأرسل إليه رجلاً ، وفي رواية : علياً رضي الله عنه ، فأخذ العقد فوجد الماء قد اصفر ، قال : فأخذ العقد فحلها فبرأ ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر له شيئاً ولم يعاتبه فيه ، وهذا الفضل لمنفعة المعوذتين كما منح الله به رسوله صلى الله عليه وسلم فكذا تفضل به على سائر أمته ، وروى أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح - والنسائي مسنداً أو مرسلاً - قال النووي : بالأسانيد الصحيحة - عن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثة مرات - يكفيك كل شيء » والأحاديث في فضل هذه السور الثلاث كثيرة جداً ، وجعل التعويذ في سورتين إشارة إلى استحباب تكريره ، وجعلتا إحدى عشرة آية ندباً إلى تكثيره في تكريره ، وقدمت الفلق التي خمس آيات مع ما مضى المناسبات لأن اقترانها بسورة التوحيد أنسب ، وشفعها بسورة الناس التي هي ست آيات أنسب ، ليكون الشفع بالشفع ، والابتداء بالوتر بعد سورة الوتر ، وحاصل هذه السورة العظمى في معناها الأبدع الأسمى الاستعاذة بالله بذكر اسمه { الرب } المقتضي للإحسان والتربية بجلب النعم ودفع النقم من شر ما خلق ومن السحر والحسد ، كما كان أكثر البقرة المناظرة لها في رد المقطع على المطلع لكونها ثانية من الأول كما أن هذه ثانية من الآخر في ذكر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم الحاسدين له على ما أوتي من النعم ، وفي تذكيرهم بما منحهم من النعم التي كفروها ، وأكثر ذلك في بني إسرائيل الذين كانوا أشد الناس حسداً له صلى الله عليه وسلم ، وكان من أعظم ما ضلوا به السحر المشار إليه بقوله تعالى :
{ واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان } [ البقرة : 102 ] حتى قال : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } إلى أن قال : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم } [ البقرة : 109 ] وكان السحر من أعظم ما أثر في النبي صلى الله عليه وسلم من كيدهم حتى أنزل فيه المعوذتان ، وكان الساحر له منهم ، وقد انقضى ما يسر الله من الكلام على انتظام معانيها بحسب تركيب كلماتها ، وبقي الكلام على كلماتها من حيث العدد ، فيما تشير إليه من البركات والمدد ، هي ثلاث وعشرون كلمة إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة والعشرين من النبوة يأمن من أذى حاسديه ، وذلك بالوفاة عند تمام الدين ويأس الحاسدين من كل شيء من الأذى في الدين والدنيا ، وخلاص النبي صلى الله عليه وسلم من كل كدر ، فإذا ضممت إليها الضمائر وهي خمسة كانت ثماني وعشرين ، وهي توازي سنة خمس عشرة من الهجرة ، وذلك عند استحكام أمر عمر رضي الله عنه في السنة الثانية من خلافته ببث العساكر وإنفاذه إلى ملك الفرس والروم وتغلغل هيبته في قلوبهم وتضعضع الفرس بغلب العرب على رستم أكبر أمرائهم ، والروم بغلبهم على ماهان أعظم رؤسائهم ، فاضمحل أمر المنافقين والحاسدين ، وأيسوا من تأثير أدنى كيد من أحد من الكائدين ، فإذا ضم إليها أربع كلمات البسملة كانت اثنتين وثلاثين ، إذا حسبت من أول النبوة وازتها السنة التاسعة عشرة من الهجرة ، وفيها كان فتح قيسارية الروم من بلاد الشام ، وبفتحها كان فتح جميع بلاد الشام ، لم يبق بها بلد إلا وهي في أيدي المسلمين ، فزالت عنها دولة الروم ، وفيها أيضاً كان فتح جلولاء من بلاد فارس وكان فتحاً عظيماً جداً هدّ أجنادهم وملوكهم ، ولذلك سمي فتح الفتوح ، وحصل حينئذ أعظم الخزي للفرس والروم الذين هم أحسد الحسدة ، لما كان لهم من العزة والقوة بالأموال والرجال ، وإن حسبت من الهجرة وازتها سنة انقراض ملك أعظم الحسدة الأكاسرة الذين شقق ملكهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأرسل إلى عامله باذان - الذي كان استخلفه على بلاد اليمن - يأمره أن يغزو النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه يقتله سبحانه في ليلة سماها ، فلما أتت تلك الليلة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم رسل باذان بذلك ، فرجعوا إلى باذان فأخبروه فقال : إن كان صادقاً فسيأتي الخبر في يوم كذا ، فأتى الخبر في ذلك اليوم بصدقه صلى الله عليه وسلم فأسلم باذان ومن معه من الأبناء الذين كانوا في بلاد اليمن لم يتخلف منهم أحد ، وأوفد منهم وفداً على النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وتولى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم والله أعلم .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
لما جاءت سورة الفلق للاستعاذة من شر ما خلق من جميع المضار البدنية وغيرها العامة للإنسان وغيره ، وذلك هو جملة الشر الموجود في جميع الأكوان والأزمان ، ثم وقع فيها التخصيص بشرور بأعيانها من الفاسق والساحر والحاسد ، فكانت الاستعاذة فيها عامة للمصائب الخارجة التي ترجع إلى ظلم الغير ، والمعايب الداخلة التي ترجع إلى ظلم النفس ولكنها في المصائب أظهر ، وختمت بالحسد فعلم أنه أضر المصائب ، وكان أصل ما بين الجن والإنس من العداوة الحسد ، جاءت سورة الناس متضمنة للاستعاذة من شر خاص ، وهو الوسواس ، وهو أخص من مطلق الحاسد ، ويرجع إلى المعايب الداخلة اللاحقة للنفوس البشرية التي أصلها كلها الوسوسة ، وهي سبب الذنوب والمعاصي كلها ، وهي من الجن أمكن وأضر ، والشر كله يرجع إلى المصائب والمعايب ، فقد تضمنت السورة كالفلق استعاذة ومستعاذاً به ومستعاذاً منه وأمراً بإيجاد ذلك ، فالأمر : { قل } والاسعتاذة { أعوذ } والمستعاذ به هو الله سبحانه وتعالى ، لكن لما كانت صفة الربوبية من صفات كماله سبحان أليق بالحماية والإعانة والرعاية والخلق والتدبير والتربية والإصلاح ، المتضمن للقدرة التامة والرحمة الواسعة ، والإحسان الشامل والعلم الكامل ، قال تعالى : { برب الناس * } أي أعتصم به أي أسأله أن يكون عاصماً لي من العدو أن يوقعني في المهالك ، قال الملوي : والرب من له ملك الرق وجلب الخيرات من السماء والأرض وإبقاؤها ، ودفع الشرور ورفعها ، والنقل من النقص إلى الكمال ، والتدبير العام العائد بالحفظ والتتميم على المربوب ، وخص الإضافة بالمزلزلين المضطربين في الأبدان والأديان من الإنس والجان لخصوص المستعاذ منه ، وهو الأضرار التي تعرض للنفوس العاقلة وتخصها ، بخلاف ما في الفلق فإنه المضار البدنية التي تعم الإنسان وغيره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : وجه تأخرها عن شقيقتها عموم الأولى وخصوص الثانية ، ألا ترى عموم قوله { من شر ما خلق } وإبهام { ما } وتنكير { غاسق } و { حاسد } والعهد فيها استعيذ من شره في سورة الناس وتعريفه ونعته ، فبدأ بالعموم ثم أتبع بالخصوص ليكون أبلغ في تحصيل ما قصدت الاستعاذة منه ، وأوفى بالمقصود ، ونظير هذا في تقديم المعنى الأعم ثم إتباعه بالأخص بتناول الدقائق والجلائل قوله سبحانه وتعالى { بسم الله الرحمن الرحيم } في معنى الرحمن ومعنى الرحيم واحد لا في عموم الصفة الأولى وكونها للمبالغة ، وقد تعرض لبيان ذلك المفسرون ولذلك نظائر - انتهى .
ولما كان الرب الملك متقاربين في المفهوم ، وكان الرب أقرب في المفهوم إلى اللطف والتربية ، وكان الملك للقهر والاستيلاء وإظهار العدل ألزم ، وكان الرب قد لا يكون ملكاً فلا يكون كامل التصرف ، اقتضت البلاغة تقديم الأول وإتباعه الثاني ، فقال تعالى : { ملك الناس * } إشارة إلى أن له كمال التصرف ونفوذ القدرة وتمام السلطان ، وإليه المفزع وهو المستعان ، والمستغاث والملجأ والمعاد .
ولما كان الملك قد لا يكون إلهاً ، وكانت الإلهية خاصة لا تقبل شركاً أصلاً بخلاف غيرها ، أنهي الأمر إليها وجعلت غاية البيان فقال : { إله الناس * } إشارة إلى أنه كما انفرد بربوبيتهم وملكهم لم يشركه في ذلك أحد ، فكذلك هو وحده إلههم لا يشركه في إلهيته أحد ، وهذه دائماً طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بتوحيدهم له في الربوبية والملك على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة ، فمن كان ربهم وملكهم فهم جديرون بأن لا يتألهوا سواه ولا يستعيذوا بغيره كما أن أحدهم إذا دهمه أمر استعاذ بوليه من أبناء جنسه واستغاث به ، والإله من ظهر بلطيف صنائعه التي أفادها مفهوم الرب والملك في قلوب العباد فأحبوه واستأنسوا به ولجؤوا إليه في جميع أمورهم ، وبطن احتجاباً بكبريائه عن أن يحاط به أو بصفة من صفاته أو شيء من أمره ، فهابته العباد ودعاهم الحب إلى الوله شوقاً إلى لقائه ، وزجرتهم الهيبة فجزعوا خوفاً من طرده لهم عن فنائه ، وكرر الاسم الظاهر دون أن يضمر فيقول مثلاً : { ملكهم } { إلههم } تحقيقاً لهذا المعنى وتقوية له بإعادة اسمهم الدال على شدة الاضطراب المقتضي للحاجة عند كل اسم من أسمائه الدال على الكمال المقتضي للغنى المطلق ، ودلالة على أنه حقيق بالإعادة قادر عليها لبيان أنه المتصرف فيهم من جميع الجهات وبياناً لشرف الإنسان ومزيد الاعتماد بمزيد البيان ، ولئلا يظن أن شيئاً من هذه الأسماء يتقيد بما أضيف إليه الذي قبله من ذلك الوجه ، لأن الضمير إذا أعيد كان المراد به عين ما عاد إليه ، فأشير بالإظهار إلى أن كل صفة منها عامة غير مقيدة بشيء أصلاً ، واندرج في هذه الاستعاذة جميع وجوه الاستعاذات من جميع وجوه التربية وجميع الوجوه المنسوبة إلى المستعيذ من جهة أنه في قهر الملك بالضم ، وجميع الوجوه المنسوبة إلى الإلهية لئلا يقع خلل في وجه من تلك الوجوه تنزيلاً لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات إشعاراً بعظم الآفة المستعاذ منها ، ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة ، والمقصود الاستعاذة بمجموع هذه الصفات الواقعة على ذات واحدة حتى كأنها صفة واحدة ، وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب على حد سواء ، فلا فعل لأحد إلا وهو خلقه سبحانه وتعالى وهو الباعث عليه ، وأخر الإلهية لخصوصها لأن من لم يتقيد بأوامره ونواهيه فقد أخرج نفسه من أن يجعله إلهه وإن كان في الحقيقة لا إله سواه ، ووسط صفة الملك لأن الملك هو المتصرف بالأمر والنهي ، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم فملكه من كمال ربوبيته ، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه ، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه ، وملكه يستلزم إلهيته وتقتضيها ، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان ، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى ، فإن الرب هو القادر الخالق إلى غير ذلك مما يتوقف الإصلاح والرحمة والقدرة التي هي معنى الربوبية عليه من أوصاف الجمال ، والملك هو الآمر الناهي المعز المذل - إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى العظمة والجلال ، وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال ، فيدخل فيه جميع الأسماء الحسنى ، فلتضمنها جميع معاني الأسماء كان المستعيذ جديراً بأن يعوذ ، وقد وقع ترتيبها على الوجه الأكمل الدال على الوحدانية ، لأن من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة ، علم أن له مربياً ، فإذا تغلغل في العروج في درج معارفه سبحانه وتعالى علم أنه غني عن الكل ، والكل إليه محتاج ، وعن أمره تجري أمورهم ، فيعلم أنه ملكهم ، ثم يعلم بانفراد بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها ، فقد أجمع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من { ملك } بخلاف الفاتحة كما مضى لأن الملك إذا أضيف إلى { اليوم } أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض ، وأنه لا أمر لأحد معه ولا مشاركة في شيء من ذلك ، وهو معنى الملك - بالضم ، وأما إضافة المالك إلى الناس فإنها تستلزم أن يكون ملكهم ، فلو قرىء به هنا لنقص المعنى ، وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه لأن المقصود بالسياق أنه سبحانه وتعالى يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء ، والملك - بكسر الميم - أليق بهذا المعنى ، وأسرار كلام الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تحيط بها العقول ، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه ، وأن باديه إلى الخافي يشير .
ولما أكمل الاستعاذة من جميع وجوهها التي مدارها الإحسان أو العظمة أو القهر أو الإذعان والتذلل ، ذكر المستعاذ منه فقال : { من شر الوسواس * } هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة ، والمراد بالموسوس ، سمي بفعله مبالغة لأنه صفته التي هو غاية الضراوة عليها كما بولغ في العادل بتسميته بالعدل ، والوسوسة الكلام الخفي : إلقاء المعاني إلى القلب في خفاء وتكرير ، كما أن الكلمة الدالة عليها « وس » مكررة ، وأصلها صوت الحلي ، وحديث النفس ، وهمس الكلاب ، ضوعف لفظه مناسبة لمعناه لأن الموسوس يكرر ما ينفثه في القلب ويؤكده في خفاء ليقبل ، ومصدره بالكسر كالزلزال كما قال تعالى : { وزلزلوا زلزالاً شديداً } [ الأحزاب : 11 ] وكل مضاعف من الزلزلة والرضرضة معناه متكرر ، والموسوس من الجن يجري من ابن آدم مجرى الدم - كما في الصحيح ، فهو يوسوس بالذنب سراً ليكون أجلى ، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يواقعه الإنسان ، فإذا واقعه وسوس لغيره أن فلاناً فعل كذا حتى يفضحه بذلك ، فإذا افتضح ازداد جرأة على أمثال ذلك لأنه يقول : قد وقع ما كنت أحذره من القالة ، فلا يكون شيء غير الذي كان ، وشره التحبيب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه حتى يشاكله في رذيلة الطبع وظلمة النفس ، فينشأ من ذلك شرور لازمة ومتعدية أضرها الكبر والإعجاب اللذان أهلكا الشيطان ، فيوقع الإنسان بها فيما أوقع نفسه فيه ، وينشأ من الكبر الحقد والحسد يترشح منه بطر الحق - وهو عدم قبوله ، ومنه الكفر والفسوق والعصيان ، وغمص الناس - وهو احتقارهم المعلوم من قول الشيطان
{ أنا خير منه } [ الأعراف : 12 ] ومنه تنشأ الاستهانة بأولياء الله تعالى بترك احترامهم ومنع حقوقهم والاعتداء عليهم والظلم لهم ، ويترشح من الحقد الذي هو العداوة العظيمة إمساك الخير والإحسان وبسط اللسان واليد بكل سوء وإيذاء ، ويترشح من الحسد إفساد ذات البين كما يشير إليه { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة } [ الأعراف : 20 ] الآية والكذب والمخادعة كما عرف به { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور } [ الأعراف : 21 ] ويترشح عن الإعجاب التسخط للقضاء والقدر كما آذن به { قال أأسجد لمن خلقت طيناً } [ الإسراء : 61 ] ومقابلة الأمر بالعلم بما أشعر به { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال } [ الحجر : 33 ] ، واستعمال القياس في مقابلة النص بما هدى إليه { أنا خير منه } [ الأعراف : 12 ] الآية ، واستعمال التحسين والتقبيح بما أفهمه { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون } والإذلال وهو الجرأة على المخالفات فينشأ عن ذلك شرور متعدية ، وهي السعي في إفساد العقائد والأخلاق والأعمال والأبدان والأرزاق ، ثم لا يزال يتحبب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه من هذه الخبائث وهو يوافقه فيها حتى يصير له أخلاقاً راسخة ، فيصير رديء الطبع فلا ينفع فيه العلاج ، بل لا يزيده إلا خبثاً كإبليس ، ومن كان أصله طيباً واكتسب ما يخالفه بسبب عارض كان ممكن الإزالة كالعلاج كما وقع لآدم عليه الصلاة والسلام .
ولما كان الملك الأعظم سبحانه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء ، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره سبحانه وتعالى ، فإنه يطرد الشيطان وينير القلب ويصفيه ، وصف سبحانه وتعالى فعل الموسوس عند استعمال الدواء إعلاماً بأنه شديد العداوة للإنسان ليشتد حذره منه وبعده عنه فقال : { الخناس * } أي الذي عادته أن يخنس أي يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرة بعد مرة ، كلما كان الذكر خنس ، وكلما بطل عاد إلى وسواسه ، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد ، فهو شديد النفور منه ، ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلاً كما ورد عن بعض السلف أن المؤمن ينفي شيطانه كما ينفي الرجل بعيره في السقر ، قال البغوي : له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، ويقال : رأسه كرأس الحية واضع رأسه على يمين القلب يحدثه ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا لم يذكر الله رجع ووضع رأسه - خزاه الله تعالى .
ولما ذكر صفة المستعاذ منه ، ذكر إبرازه لصفته بالفعل فقال : { الذي يوسوس } أي يلقي المعاني الضارة على وجه الخفاء والتكرير بحيث تصل مفاهيمها من غير سماع ، وأشار إلى كثرة وسوسته بذكر الصدر الذي هو ساحة القلب ومسكنه فقال : { في صدور الناس * } أي المضطربين إذا غفلوا عن ذكر ربهم ، فإنها دهاليز القلوب منها تدخل الواردات إليها ، وذلك كالقوة الوهمية فإن العقل يساعد في المقدمات الحقة المنتجة للأمر المقطوع به ، فإذا وصل الأمر إلى ذلك خنست الواهمة ريثما يفتر العقل عن النتيجة فترة ما ، فتأخذ الواهمة في الوسوسة وتقبل منها الطبيعة بما لها بها من مجانسة الظلمة الوهمية ، والناس - قال في القاموس : يكون من الإنس ومن الجن ، جمع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه أل - انتهى ، ولعل إطلاقه على هذين المتقابلين بالنظر إلى النوس الذي أصله الاضطراب والتذبذب فيكون منحوتاً من الأصلين : الانس والنوس ، ومن ثالث وهو النسيان .
ولما كان الذي يعلّم الإنسان الشر تارة من الجن وأخرى من الإنس ، قال مبيناً للوسواس تحذيراً من شياطين الإنس كالتحذير من شياطين الجن ، مقدماً الأهم الأضر ، ويجوز أن يكون بياناً ل « الناس » ولا تعسف فيه لما علم من نقل القاموس : { من الجنة } أي الجن الذين في غاية الشر والتمرد والخفاء { والناس * } أي أهل الاضطراب والذبذبة سواء كانوا من الإنس أو الجن ، فيكون المعنى أن الجن مسلط بعضهم على بعض كما هم مسلطون على الإنس أو الجن ، فيكون المعنى أن الجن مسلط بعضهم على بعض كما هم مسلطون على الإنس ، فيدخل شيطان الجن في الجني كما يدخل في الإنسي ويوسوس له - قاله البغوي عن الكلبي ، وقال : ذكر عن بعض العرب أنه قال : جاء قوم من الجن فوقفوا فقيل : من أنتم؟ قالوا : أناس من الجن ، قال : وهذا معنى قول الفراء .
وقد ختمت السورة بما بدئت به ، والمعنى الثاني أوفق برد آخرها على أولها فإنه يكون شرحاً للناس الذين أضيفت لهم الصفات العلى ، والخواطر الواردة على الإنسان قد تكون وسوسة ، وقد تكون إلهاماً ، والإلهام تارة يكون من الله بلا واسطة ، وتارة يكون بواسطة الملك ، ويكون كل منهما في القلب ، والوسوسة تارة من الشيطان ، وأخرى من النفس ، وكلاهما يكون في الصدر ، فإن كان الإنسان مراقباً دفع عن نفسه الضار ، وإلا هجمت الواردات عليه وتمكنت منه ويتميز خير الخواطر من شرها بقانون الشرع على أن الأمر مشكل ، فإن الشيطان يجتهد في التلبيس ، فإن وافق الشرع فلينظر ، فإن كان فعله ذلك الحين أولى من غير تفويت لفضيلة أخرى هي أولى منه بادر إليه وإن كان الخاطر دنيوياً وأدى الفكر إلى أنه نافع من غير مخالفة للشرع زاد على شدة تأمله الاستشارة لمن يثق بدينه وعقله ، ثم الاستخارة لاحتمال أن تتوافق عليه العقول ، ويكون فيه خلل لتقصير وقع في النظر ، وقد جعل بعضهم قانون الخاطر الرحماني أن ينشرح له الصدر ويطمئن إليه النفس ، والشيطاني والنفسي أن ينقبض عنده الصدر وتقلق النفس بشهادة الحديث النبوي في البر والإثم ، ويعرف الشيطاني بالحمل على مطلق المخالفة ، فإن الشيطان لا غرض له في مخالفة بعينها ، فإن حصل الذكر زال ذلك ، والنفساني ملزوم شيء بعينه سواء كان نفعاً أو ضراً ، ولا ينصرف عنه بالذكر ، وقد يكون الشيطان إنسياً من أزواج وأولاد ومعارف ، وربما كان أضر من شيطان الجن ، فدواؤه المقاطعة والمجانبة بحسب القدرة ، ومن أراد قانوناً عظيماً لمن يصاحب ومن يجانب فعليه بآية الكهف
{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً } [ الكهف : 28 ] وكما رجع مقطعها على مطلعها كذلك كان من المناسبات العظيمة مناسبة معناها للفاتحة ليرجع مقطع القرآن على مطلعه ، ويلتحم مبدؤه بمرجعه على أحسن وجه ، كما تقدم بيان ذلك من سورة قريش إلى هنا سورة سورة ، فنظر هذه السورة إلى الفاتحة والتحامها بها من جهة أن الفاتحة اشتملت على ثلاثة أسماء : الله والرب والملك ، وزادت بكونها أم القرآن بالرحمن الرحيم ، لاشتمالهما على جميع النعم الظاهرة والباطنة التي تضمنتها صفة الربوبية ، وسورة الناس على الرب والملك والإله الذي هو الأصل في اسم الجلالة ، واختصت الفاتحة بالاسم الذي لم يقع فيه شركة أصلاً ، فلما تقرر في جميع القرآن أنه الإله الحق ، وأنه لا شركة لغيره في الإلهية يحق بوجه من الوجوه كما أنه لا شركة في الاسم الأعظم الذي افتتح به القرآن أصلاً بحق ولا بباطل ، ختم القرآن الكريم به معبراً عنه بالإله لوضوح الأمر وانتفاء اللبس بالكلية ، وصار الاختتام مما كان به الافتتاح على الوجه الأجلى والترتيب الأولي ، وبقي الاسمان الآخران على نظمهما ، فيصير النظم إذا ألصقت آخر الناس بأول الفاتحة « إله ملك رب الله رب - رحمن رحيم ملك » إعلاماً بأن مسمى الأسم الأعظم هو الإله الحق ، وهو الملك الأعظم لأنه له الإبداع وحسن التربية والرحمة والعامة والخاصة ، وحاصل سورة الناس الاستعاذة بهذا الرب الموصوف من وسوسة الصدر المثمرة للمراقبة كما أن حاصل سورة الفاتحة فراغ السر من الشواغل المقتضي لقصر الهمم عليه سبحانه وتعالى والبقاء في حضرته الشماء بقصر البقاء عليه والحكم بالفناء على ما سواه ، وذلك هو أعلى درجات المراقبة ، فإذا أراد الحق إعانة عبد حمله على الاستعانة بالاستعاذة فيسر عليه صدق التوكل ، فحينئذ يصير عابداً صادقاً في العبودية فيكون إلهه سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وينبغي أنه كلما زاده سبحانه وتعالى تقريباً ازداد له عبادة حتى ينفك من مكر الشيطان بالموت كما قال تعالى لأقرب خلقه إليه محمد صلى الله عليه وسلم
{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] ومن نقص من الأعمال شيئاً اعتماداً على أنه وصل فقد تزندق ، وكان مثله مثل شخص في بيت مظلم أسرج فيه سراجاً فأضاء ، فقال : ما أوقدت السراج إلا ليضيء البيت فقد أضاء ، فلا حاجة لي الآن إلى السراج ، فأطفأه فعاد الظلام كما كان ، وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى افتتاح القرآن بعد ختمه كما أشار إليه اتصال المعنى بما بينته ، وسمي ذلك الحال المرتحل ، وكأن القارىء ذكر بالأمر بالاستعاذة إرادة افتتاح قراءته ، فكأنه قيل : استعذ يا من ختم القرآن العظيم لتفتتحه ، وكأنه لما استعاذ بما أمر به في هذه السورة قيل له : ثم ماذا تفعل؟ فقال : أفتتح ، أو أنه لما أمر بالاستعاذة قال : ماذا أفعل؟ فقيل : افتتح بسم الله الرحمن الرحيم الذي تجب مراقبته عند خواتم الأمور وفواتحها ، لأنه لا يكون أمر إلا به ، أو أن البسملة مقول القول في { قل } على سبيل من { أعوذ } أو بدل من { برب الناس } وكأنه أمر بالتعوذ ، والتسمية أمر بالدفع والجلب ، وذلك لأنه لما أمر بهذا التعوذ - وكان قد قال سبحانه { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] علم أن المراد ابتداؤه بالقرآن فنسبتها إلى الفاتحة نسبة المعلول إلى علته ، فكأنه قيل : استعذ بهذا الرب الأعظم الذي لا ملك ولا إله غيره لأن له الحمد ، وهو الإحاطة بكل شيء ، فهو القادر على كل شيء ، فهو القاهر لكل شيء في المعاد وهو الملجأ والمفزع لا إله إلا هو ، فإن الاسم هو الوصف والمراد به الجنس ، فمعنى بسم الله أي بوصفه أو بأوصافه الحسنى ، والحمد هو الثناء بالوصف الجميل ، فكأنه قيل : أعوذ برب الناس بأوصافه الحسنى لأن له الحمد وهو جميع الأوصاف الحسنى فإن البدء فيه يحتاج إلى قدرة ، فله القدرة التامة ، أو إلى علم فالعلم صفته ، أو كرم فكذلك ، والحاصل أنه كأنه قيل : تعوذ به من الشيطان بما له من الاسم الذي لم يسامه فيه أحد لكونه جامعاً لجميع الأسماء الحسنى أي الصفات التي لا يشوبها نقص خصوصاً صفة الرحمة العامة التي شملتني أكنافها ، وأقامني إسعافها ، ثم الرحمة الخاصة التي أنا أجدر الناس باستمطارها لما عندي من النقص المانع لي منها والمبعد لمن اتبع الحظوظ عنها ، فأسأله أن يجعلني من أهلها ، ويحملني في الدارين بوصلها ، لأكون من أهل رضاه ، فلا أعبد إلا إياه ، ولك أن تقرر الاتصال والالتحام بوجه آخر ظاهر الكمال بديع النظام فتقول : لما قرب التقاء نهاية الدائرة السورية آخرها بأولها ومفصلها بموصلها اشتد تشاكل الرأسين ، فكانت هذه السور الثلاثة الأخيرة مشاكلة للثلاث الأول في المقاصد ، وكثرة الفضائل والفوائد : الإخلاص بسورة التوحيد آل عمران ، وهو واحد ، والفلق للبقرة طباقاً ووفاقاً ، فإن الكتاب الذي هو مقصود سورة البقرة خير الأمر ، فهي للعون بخير الأمر ، والفلق للعوذ من شر الخلق المحصي لكل خير ، وفي البقرة
{ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] { يعلمون الناس السحر } [ البقرة : 102 ] - الآيات ، { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم } [ البقرة : 109 ] الآية ، والناس للفاتحة ، فإنه إذا فرغ الصدر الذي هو مسكن القلب الذي هو مركب الروح الذي هو معدن العقل كانت المراقبة ، فكان ذلك بمنزلة تقديس النفس بالتوحيد والإخلاص ، ثم الاستعاذة من كل شر ظاهر ومن كل سوء باطن للتأهل لتلاوة سورة المراقبة بما دعا إليه الحال المرتحل وما بعدها من الكتاب ، على غاية من السداد والصواب ، وكأنه اكتفى أولاً بالاستعاذة المعروفة كما يكتفي في أوائل الأمور بأيسر مأمور ، فلما ختم الختمة جوزي بتعوذ من القرآن ، ترقية إلى مقام الإحسان ، فاتصل الآخر بالأول أيّ اتصال بلا ارتياب ، واتحد به كل اتحاد - إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ، هذا ما يسره الله من مدلولات نظومها وجملها ، بالنسبة إلى مفهوماتها وعللها ، وبقي النظر إلى ما يشير إليه أعداد كلماتها ، بلطائف رموزها وإشاراتها ، فهي عشرون كلمة توازيها إذا حسبت من أول النبوة سنة عمرة القضاء وهي السابعة من الهجرة ، بها تبين الأمن مما وسوس به الشيطان سنة عمرة الحديبية من أجل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لدخول البيت والطواف به ، فإذا ضممت إليها الضمائر الثلاث كانت ثلاثاً وعشرين فوازت السنة العاشرة من الهجرة وهي سنة حجة الوداع وهي القاطعة لتأثير وسواس الشيطان الذي كان في أول السنة الحادية عشرة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرب بأمر الردة ، فأعاذ الله من شره بهمة الصديق رضي الله تعالى عنه حتى رد الناس إلى الدين وأنزل به وسواس الشياطين المفسدين ، فانتظمت كلمة المسلمين تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع « إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب بعد اليوم » فإذا ضممت إليها كلمات البسملة صارت سبعاً وعشرين توازي سنة استحكام أمر عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه الذي ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غيره ، وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة ، هذا بالنظر إلى كلماتها ، فإن نظرت إليها من جهة الحروف كانت لها أسرار كبرى من جهة أخرى ، منها أن كلماتها مع كلمات الفاتحة انتظمت من ستة وعشرين حرفاً وهي ما عدا الثاء المثلثة والزاء الظاء المعجة من حروف المعجم التسعة والعشرين كل واحدة منهما من اثنين وعشرين حرفاً اشتركتا في ثمانية عشر منها ، واختصت كل واحدة منهما بأربعة : الفاتحة بالحاء والطاء المهملتين ، والضاد والغين المعجمتين ، والناس بالجيم والخاء والشين المعجمتين والفاء ، وقال ابن ميلق : سقط من الفاتحة سبعة أحرف « ثج خز شظف » ، انتهى ، فلعل في ذلك - والله أعلم - إشارة إلى أن - تكامل نزول القرآن من أوله إلى آخره في عدد الحروف التي اشتمل عليها كل من سورتي أوله وآخره من السنين وذلك اثنان وعشرون ، والثالثة والعشرون سنة القدوم على منزله الحي القيوم سبحانه وتعالى ما أعظم شأنه ، وأعز سلطانه ، وأقوم برهانه .
وقال مؤلفه رحمه الله تعالى : وهذا تمام ما أردته من نظم الدرر من تناسب الآي والسور ، ترجمان القرآن مبدي مناسبات الفرقان ، التفسير الذي لم تسمع الأعصار بمثله ، ولا فاض عليها من التفاسير على كثرة أعدادها كصيب وبله ، فرغته في المسودة يوم الثلاثاء سابع شعبان سنة خمس وسبعين وثمانمائة ، بمسجدي من رحبة باب العيد بالقاهرة المغرية ، وكان ابتدائي فيه في شعبان سنة إحدى وستين ، فتلك أربع عشرة سنة كاملة ، وفرغته في هذه المبيضة عصر يوم الأحد عاشر شعبان سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة ، بمنزلي الملاصق للمدرسة البادرائية من دمشق ، فتلك اثنتان وعشرون سنة بعدد سني النبوة الزاهرة الأنيسة العلية الطاهرة المباركة الزكية ، ولولا معونة الله أضحى معدوماً ، أو ناقصاً مخروماً ، فإني بعد ما توغلت فيه واستقامت لي مبانيه ، فوصلت إلى قريب من نصفه ، فبالغ الفضلاء في وصفه بحسن سبكه وغزارة معانيه وإحكام رصفه ، دب داء الحسد في جماعة أولي النكد ، والمكر واللدد ، يريدون الرئاسة بالباطل ، وكل منهم من جوهر العلم عاطل ، مدّ ليل الجهل فيهم ظلامه ، وأثار نقع السفه على رؤوسهم سواده وقتامه ، صوبوا سهام الشرور ، والأباطيل وأنواع الزور ، فأكثروا التشييع بالتشنيع ، والتقبيح والتبشيع ، والتخطئة والتضليل ، بالنقل من التوراة والإنجيل ، فصنفت في ذلك الأقوال القويمة ، في حكم النقل من الكتب القديمة ، بينت فيه أن ذلك سنة مستقيمة ، لتأييد الملة الحنيفية العظيمة ، وأخرجت بذلك نص الشافعي ، وكلام النووي والرافعي ، واستكتبت على الكتاب : العلماء الأنجاب ، فكتبوا ما أودعته « مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور » فأطفأ الله نارهم ، وأظهر عوارهم ، وشهر خزيهم وعارهم ، ثم قاموا في بدعة دائم المعروف ، فصنفت فيها القول المعروف ، وبينت مخالفتهم للكتاب والسنة ، ووقوعهم في عين الفتنة ، وخرقهم لأعظم الجنة ، وصريح نص الشافعي ونقول العلماء ، فكانوا كمن ألقم الحجر أو ملىء فمه بالماء ، ثم قاموا في فتنة ابن الفارض ، وكلهم معاند معارض ، وألبوا عليّ رعاع الناس ، فاشتد شعاع البأس ، فكادوا أن يطبقوا على الانعكاس ، وصوبّوا طريق الإلحاد ، وبالغوا في الرفع من أهل الاتحاد ، ولجوا بالخصام في العناد ، وأفتوا بمحض الباطل ، وبثوا السم القاتل ، إلا ناساً قليلاً كان الله بنصرهم على ضعفهم كفيلاً ، فسألتهم سؤالاً ، جعلهم ضلالاً جهالاً ، فتداولوه فيما بينهم وتناقلوه وعجزوا عن جوابه بعد أن راموه أشد الروم ، وحاولوه فظهر لأكثر الناس حالهم ، واشتهر بينهم ضلالهم ، وغيهم الواضح ومحالهم ، وصنفت في ذلك عدة مصنفات ، بانت فيها مخازيهم وظهرت المخبآت ، منها « صواب الجواب للسائل المرتاب » ومنها « القارض لتكفير ابن الفارض » ومنها « تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض » ومنها « تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي » ومنها « تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد » أنفقت فيها عمراً مديداً ، وبددوا فيها أوقاتي - بددهم الله تبديداً ، وهدد أركانهم وأعضادهم تهديداً ، وقرعتهم بالعجز عن الجواب ، الكاشف للارتياب ، صباحاً ومساءً ، وإعادة وإبداء ، فحملهم التقريع ، والتوبيخ والتبخيع ، على كتابة جواب ، لم يخل من ارتجاج واضطراب ، وشك وارتياب ، بينت أن جامعه أخطأ في جميعه الصواب ، وكفر في أربعة مواضع كفراً صريحاً ، وكذب في ثمانية فصار بذلك جريحاً ، بل هالكاً طريحاً ، فأطلت بذلك التقريع ، والتوبيخ والتبشيع ، فذلت أعناقهم ، وضعف شقاقهم ، وخفي نفاقهم ، غير أنه حصل في كل واحدة من هذه الوقائع ، من الشرور وعجائب المقدور ، ما غطى ظلامه الشموس الطوالع .
قال ذلك منشبه أحوج الخلائق إلى عفو الخالق أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي الشافعي رحمه الله تعالى قائلاً : الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وكان الفراغ من هذا الجزء على يد أقل عبيد الله وأحوجهم إلى لطف الله وعفوه عبد الكريم بن علي بن محمد المحولي الشافعي نزيل بلد الله الحرام - غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وللمسلمين - . . . بمكة المشرفة في يوم السبت المبارك السادس والعشرين من شهر صفر الخير سنة أربع وأربعين وتسعمائة ، وقد تجاوز سني الآن خمسة وسبعين عاماً - أسأل الله حسن الخاتمة والثبات على دين الإسلام والوفاة بأحد حرميه بمنه ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وقال بعض تلامذة المصنف وهو العرس خليل بن موسى المقرىء مادحاً للكتاب المذكور المسمى ب « لما » :
برهان دين الله أضحى موضحاً ... أسرار قول الله في القرآن
وأتى بما ترك الورى من بعده ... تمشي الورا أبداً مدى الأزمان
فمن ادعى نسجاً على منواله ... فقد ادعى ما ليس في الإمكان
وإذا المفسر رام يوماً أنه ... بمثاله يأتي بلا إذعان
قلنا له فسر وقايس بعد ذا ... ولنا الدليل عليك بالبرهان
وكان الفراغ من نسخ هذا النصف الأخير من الكتاب المسمى ب « لما » مناسبات القرآن العظيم على من أنزل عليه أفضل الصلاة والسلام في الليلة الثالثة عشرة من شهر جمادى الأولى من شهور سنة سبع وتسعين وألف على يد أحقر العباد ، وأحوجهم إلى مغفرة ربه الجواد ، محمد بن أحمد البدرشيني بلداً ، الشافعي مذهباً ، مصلياً ومسلماً على أفضل وأكمل وأجمل خلق الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأهل بيته الطيبين الطاهرين صلاة وسلاماً دائمين متلازمين بدوام ملك الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل آمين آمين .
إن تلق عيباً فلا تعجل بسبك لي ... إني امرؤ لست معصوماً من الزلل