كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي
{ والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم } [ محمد : 4 ] ، ولهذا كان سفيان بن عيينة يقول : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الغزو .
ولما كان المحسن كلما توفر حظه في مقام الإحسان نقص حظه من الدنيا ، فظن الأغبياء أنه ليس لله به عناية ، عظم التأكيد في قوله ، لافتاً الكلام عن أسلوب الجلال إلى أجلّ عنه بما زاد من الجمال { وإن الله } أي بعظمته وجلاله وكبريائه وجميع كماله لمعهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه أراد الإعلام بإحسابهم وتعليق الحكم بالوصف والتعميم فأظهر قائلاً : { لمع المحسنين* } أي كلهم بالنصر والمعونة في دنياهم ، والثواب والمغفرة في عقباهم ، بسبب جهادهم لأنه شكر يقتضي الزيادة ، ومن كان معه سبحانه فاز بكل مطلوب ، وإن رأى الجاهل خلاف ذلك ، فإنه يجعل عزهم من وراء ذل ويستر غناهم بساتر فقر ، حماية لهم مما يجر إليه دائم العز من الكبر ، ويحمل عليه عظيم الغنى من الطغيان ، وما أحسن ما نقل الأستاذ أبو القاسم القشيري في الرسالة عن الحارث المحاسبي أنه قال : من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة ، والآية من الاحتباك : أثبت أولاً الجهاد دليلاً على حذفه ثانياً ، وثانياً أنه مع المحسنين دليلاً على حذف المعية والإحسان أولاً ، فقد عانق أول السورة هذا الآخر ، وكان إليه أعظم ناظر ، فنسأل الله العافية من الفتن ، والمجاهدة إن كان لا بد من المحن ، وإليه المآب .
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
لما ختم سبحانه التي قبلها بأنه مع المحسنين قال : { الاما* } مشيراً بألف القيام والعلو ولام الوصلة وميم التمام إلى أن الملك الأعلى القيوم أرسل جبرائيل عليه الصلاة والسلام - الذي هو وصلة بينه وبين أنبيائه عليهم الصلاة والسلام - إلى أشرف خلقه محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق ، يوحي إليه وحياً معلماً بالشاهد والغائب ، فيأتي الأمر على ما أخبر به دليلاً على صحة رسالته ، وكمال علم مرسله ، وشمول قدرته ، ووجوب وحدانيته .
ولما أشير في آخر تلك بأمر الحرم إلى أنه سبحانه يعز من يشاء ويذل من يشاء ، وختم بمدح المجاهدين فيه ، وأنه سبحانه لا يزال مع المحسنين ، وكانت قد افتتحت بأمر المفتونين ، فكان كأنه قيل : لنفتننكم ولنعمين المفتين ولنهدين المجاهدين ، وكان أهل فارس قد انتصروا على الروم ، ففرح المشركون وقالوا للمسلمين : قد انتصر إخواننا الأميون على إخوانكم أهل الكتاب ، فلننصرن عليكم ، فأخبر الله تعالى بأن الأمر يكون على خلاف ما زعموا ، فصدق مصدق وكذب مكذب ، فكان في كل من ذلك من نصر أهل فارس وإخبار الله تعالى بإدالة الروم فتنة يعرف بها الثابت من المزلزل ، وكان من له كتاب أحسن حالاً في الجملة ممن لا كتاب له ، افتتحت هذه بتفصيل ذلك تصريحاً بعد أن أشار إليه بالأحرف المقطعة تلويحاً غيباً وشهادة ، دلالة على وحدانيته وإبطال الشرك ، فأثبت سبحانه أن له جميع الأمر وأنه يسرُّ المؤمنين بنصرة من له دين صحيح الأصل ، وخذلان أهل العراقة في الباطل والجهل ، وجعل ذلك على وجه يفيد نصر المؤمنين على المشركين ، فقال مبتدئاً بما أفهمه كونه مع المحسنين مع أنه ليس مع المسيئين : { غلبت الروم* } أي لتبديلهم دينهم غلبهم - الفرس في زمن أنوشروان أو بعده { في أدنى الأرض } أي أقرب أرضهم إلى أرضكم أيها العرب ، وهي في أطراف الشام ، وفي تعيين مكان الغلب - على هذا الوجه - بشارة للعرب بأنهم يغلبونهم إذا وافقوهم ، فإن موافقتهم لهم تكون في مثل ذلك المكان . وقد كان كذلك بما كشف عنه الزمان ، فكأنه تعالى يقول لمن فرح من العرب بنصر أهل فارس على الروم لنكاية المسلمين : اتركوا هذا السرور الذي لا يصوب نحوه من له همة الرجال ، وأجمعوا أمركم وأجمعوا شملكم ، لتواقعوهم في مثل هذا الوضع فتنصروا عليهم ، ثم لا يقاومونكم بعدها أبداً ، فتغلبوا على بلادهم ومدنهم وحصونهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أعتب سبحانه أهل مكة ، ونفى عليهم قبح صنيعهم في التغافل عن الاعتبار بحالهم ، وكونهم - مع قلة عددهم - قد منع الله بلدهم عن قاصد نهبه ، وكف أيدي العتاة والمتمردين عنهم مع ( تعاور ) أيدى المنتهين على من حولهم ، وتكرر ذلك واطراده صوناً منه تعالى لحرمه وبيته ، فقال تعالى :
{ أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت : 67 ] أي ولم يكفهم هذا في الاعتبار ، وتبينوا أن ذلك ليس عن قوة منهم ولا حسن دفاع ، وإنما هو بصون الله إياهم بمجاورة بيته وملازمة أمنه مع أنهم أقل العرب ، أفلا يرون هذه النعمة ويقابلونها بالشكر والاستجابة قبل أن يحل بهم نقمة ، ويسلبهم نعمه ، فلما قدم تذكارهم بهذا ، أعقب بذكر طائفة هم أكثر منهم وأشد قوة وأوسع بلاداً ، وقد أيد عليهم غيرهم ، ولم يغن عنهم انتشارهم وكثرتهم ، فقالت : { الم غلبت الروم في أدنى الأرض } الآيات ، فذكر تعالى غلبة غيرهم لهم ، وأنهم ستكون لهم كرة ، ثم يغلبون ، وما ذلك إلا بنصر الله من شاء من عبيده { ينصر من يشاء } فلو كشف عن إبصار من كان بمكة من الكفار لرأوا أن اعتصام بلادهم وسلامة ذرياتهم وأولادهم مما سلط على من حولهم من الانتهاب والقتل وسبي الذراري والحرم إنما هو بمنع الله وكرم صونه لمن جاور حرمه وبيته ، وإلا فالروم أكثر عدداً وأطول مدداً ، ومع ذلك تتكرر عليهم الفتكات والغارات ، وتتوالى عليهم الغلبات ، أفلا يشكر أهل مكة من أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف؟ وأيضاً فإنه سبحانه لما قال : { وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } [ العنكبوت : 64 ] أتبع ذلك سبحانه بذكر تقلب حالها ، وتبين اضمحلالها ، وأنها لا تصفو ولا تتم ، وإنما حالها أبداً التقلب وعدم الثبات ، فأخبر بأمر هذه الطائفة التي هي من أكثر أهل الأرض وأمكنهم وهم الروم ، وأنهم لا يزالون مرة عليهم وأخرى لهم ، فأشبهت حالهم هذه حال اللهو واللعب ، فوجب اعتبار العاقل بذلك وطلبه الحصول على تنعم دار لا ينقلب حالها ، ولا يتوقع انقلابها وزوالها ، { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } ومما يقوي هذا المأخذ قوله تعالى « يعلمون » ظاهراً من الحياة الدنيا أي لو علموا باطنها لتحققوا أنها لهو ولعب ولعرفوا أمر الآخرة « من عرف نفسه عرف ربه » ومما يشهد لكل من المقصدين ويعضد كلا الأمرين قوله سبحانه : { أولم يسيروا في الأرض } الآيات ، أي لو فعلوا هذا وتأملوا لشاهدوا من تقلب أحوال الأمم وتغير الأزمنة والقرون ما بين لهم عدم إبقائها على أحد فتحققوا لهوها ولعبها وعلموا أن حالهم سيؤول إلى حال من ارتكب مرتكبهم في العناد والتكذيب وسوء البياد والهلاك - انتهى .
ولما ابتدأ سبحانه بما أوجبه للروم من القهر بتبديلهم ، معبراً عنهم بأداة التأنيث مناسبة لسفولهم ، أتبعه ما صنعه معهم لتفريج المحسنين من عباده الذين ختم بهم الأمم ونسخ بملتهم الملل ، وأدالهم على جميع الدول ، فقال معبراً بما يقتضي الاستعلاء من ضمير الذكور العقلاء : { وهم } أي الروم ، ودل على التبعيض وقرب الزمان بإثبات الجار فقال ، معبراً بالجار إشارة إلى أن استعلاءهم إنما يكون في بعض زمان البعد ولا يدوم : { من بعد غلبهم } الذي تم عليهم من غلبة فارس إياهم ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول { سيغلبون* } فارساً ، فأكد وعده بالسين - وهو غني عن التأكيد - جرياً على مناهيج القوم لما وقع في ذلك من إنكارهم { في بعض سنين* } وذلك من أدنى العدد لأنه في المرتبة الأولى ، وهي مرتبة الآحاد ، وعبر بالبضع ولم يعين إبقاء للعباد في ربقة نوع من الجهل ، تعجيزاً لهم ، وتحدياً لمن عاند بنفي ما أخبر به أو يعلم ما ستر منه ، وتشريعاً للتعمية إذا قادت إليها مصلحة ، وشرح ذلك أنه كان بين فارس والروم حروب متواصلة ، وزحوف متكاثرة ، في دهور متطاولة ، إلى أن التقوا في السنة الثامنة من نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في زمن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان ، فظفرت فارس على الروم ، أخرج سنيد بن داود في تفسيره والواحدي في أسباب النزول والترمذي في تفسير سورة الروم من جامعه وغيرهم ، وقد جمعت ما ذكروه ، وربما أدخلت حديث بعضهم في بعض .
قال سنيد عن عكرمة : كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الأبطال ، فدعاها كسرى فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشاً ، وأستعمل عليهم رجلاً من بنيك ، فأشيري عليَّ أيهم أستعمل ، فأشارت عليه بولد يدعى شهربراز ، فاستعمله على جيش أهل فارس وقال الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد بن مسكوية في كتابه تجارب الأمم وعواقب الهمم ، فقالت تصف بنيها : هذا فرحان أنفذ من سنان ، هذا شهربراز أحكم من كذا ، هذا فلان أروغ من كذا ، فاستعمل أيهم شئت . فاستعمل شهربراز - انتهى . وبعث قيصر رجلاً يدعى قطمير بجيش من الروم ، فالتقى مع شهربراز بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب فغلبت فارس الروم وظهروا عليهم فقتلوهم وخربوا مدائنهم وقطعوا زيتونهم ، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وهم بمكة فشق ذلك عليهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم ، لأن فارس لم يكن لهم كتاب ، وكانوا يجحدون البعث ، ويعبدون النار والأصنام ، وفرح كفار مكة وشمتوا . قال الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما : وكان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب - انتهى . فلقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون وأهل فارس أميون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ، فإن قاتلتمونا لنظهرن عليكم . فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أما إنهم سيغلبون في بضع سنين » .
قال الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما : فذكره أبو بكر رضي الله عنه لهم فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلاً ، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا ، فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : « ألا جعلته إلى دون » يعني دون العشرة ، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ، ثم ظهرت الروم بعد ذلك ، وروى الترمذي أيضاً عن نيار بن مكرم الأسلمي رضي الله تعالى عنه وقال : حديث حسن صحيح غريب ، قال : لما نزلت : { الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل الكتاب ، وفي ذلك قول الله تعالى : { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم } وكانت قريش « تحب » ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل الكتاب ولا إيمان ببعث ، فلما نزلت هذه الآية خرج أبو بكر رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة { الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } ! قال ناس من قريش لأبي بكر رضي الله عنه : فذلك بيننا وبينكم ، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارساً في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر رضي الله عنه : كم تجعل البضع من ثلاث سنين إلى تسع سنين ، فسم بيننا وبينك وسطاً تنتهي إليه ، فسموا بينهم ست سنين ، فمضت الست سنون قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر رضي الله عنه ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس ، فعاب المسلمون على أبي بكر رضي الله عنه تسمية ست سنين ، لأن الله تعالى قال : { في بضع سنين } . قال ابن الجوزي في زاد المسير : وقالوا : هلاّ أقررتها على ما أقرها الله ، لو شاء أن يقول : ستاً ، لقال . قال الترمذي في روايته : وأسلم عند ذلك ناس كثير . وروى الترمذي أيضاً والواحدي في أسباب النزول عن أبي سعيد رضي الله عنه أن ظهور الروم عليهم كان يوم بدر . وقال الزمخشري فيما ذكره من عند سنيد أنه كان يوم الحديبية فإنه قال بعد أن ساق نحو ما مضى : فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه - يعني للمشركين : لا يقرنّ الله أعينكم! فوالله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أبي بن خلف : كذبت يا أبا فضيل! اجعل بيننا وبينك أجلاً أناحبك عليه .
- والمناحبة : المراهنة - فناحبه على عشر قلائص - من كل واحدة منهما ، وجعل الأجل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده في الخطر ومادّه في الأجل ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ، ومات أبي من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الذي جرحه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد ، فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين . وقيل : كان النصر يوم بدر للفريقين ، فأخذ ابو بكر رضي الله عنه الخطر من ذرية أبي ، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « تصدق به » - انتهى . وربما أيد القول بأنه سنة الحديبية سنة ست ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي سفيان رضي الله عنهم في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وسؤال هرقل لأبي سفيان رضي الله عنه ، وفيه أن ذلك لما كشف الله عن قيصر جنود فارس ومشى من حمص إلى إيلياء شكراً لما أبلاه الله ، ومن المعلوم أن كتاب النبي صلى الله عليه و سلم إليه وإلى غيره من الملوك كان بعد الرجوع من الحديبية ، وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة الصادقة على صحة النبوة ، وأن القرآن من عند الله نزل بالحق المبين ، لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى فطابقه الواقع . وقال ابن الجوزي : وفي الذي تولى وضع الرهان من المشركين قولان : أحدهما أبي بن خلف - قاله قتادة ، والثاني أبو سفيان بن حرب - قاله السدي - انتهى . وذكر القصة أبو حيان في تفسيره البحر وزاد عن مجاهد أن التقاءهم لما ظهرت فارس كان في الجزيرة ، وعن السدي أنه كان بأرض الأردن وفلسطين ، وأن أبا بكر رضي الله عنه لما أراد الهجرة طلب منه أبي بن خلف كفيلاً بالخطر الذي كان بينهما في ذلك ، فكفل به ابنه عبد الرحمن رضي الله عنه ، فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل ، فأعطاه كفيلاً وهلك أبي من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن الفرات في تأريخه : كان بين كسرى أنوشروان وبين ملك الروم هدنة ، فوقع بين رجلين من أصحابهما فبغى الرومي على الفارسي ، فأرسل كسرى إلى ملك الروم بسببه ، فلم يحفل برسالته ، فغزاه كسرى في بضع وسبعين ألف مقاتل فأخذ مدينة دارا والرها ومنبج وقنسرين وحلب وأنطاكية - وكانت أفضل مدينة بالشام - وفامية وحمص ومدناً كثيرة ، واحتوى على ما كان فيها . وسبى أهل أنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد ، وكان ملك الروم يؤدي إليه الخراج ، ولم يزل مظفراً منصوراً ، تهابه الأمم ، ويحضر بابه من وفودهم عدد كثير من الترك والصين والخزر ونظائرهم ، وقال أيضاً في ملك أبرويز بن هرمز بن أنوشروان : وكان شديد الفطنة ، قوي الذكاء ، بعث الأصبهبذ - يعني شهربراز - مرة إلى الروم فأخذ خزائن الروم ، وبعث بها إلى كسرى ، فخاف كسرى أن يتغير عليه الأصبهبذ ، لما قد نال من الظفر فبعث بقتله ، فجاء الرجل إليه فرأى من عقله وتدبيره ما منعه من قتله وقال : مثل هذا لا يقتل ، وأخبره ما جاء لأجله ، فبعث إلى قيصر ملك الروم : إني أريد أن ألقاك ، فالتقيا فقال له : إن الخبيث قد هم بقتلي ، وإني أريد إهلاكه ، فاجعل لي من نفسك ما أطمئن إليه ، وأعطيك من بيوت أمواله مثل ما أصبت منك .
فأعطاه المواثيق ، وسار قيصر في أربعين ألف مقاتل ، فنزل بكسرى ، فعلم كسرى كيف جرى الحال ، فدعا قساً نصرانياً ، يعني وكتب معه كتاباً . وقال ابن مسكويه : وكان أبرويز وجه رجلاً من جلة أصحابه في جيش جرار إلى بلاد الروم ، فأنكى فيهم وبلغ منهم ، وفتح الشامات وبلغ الدروب في آثارهم ، فعظم أمره وخافه أبرويز فكاتبه بكتابين يأمره في أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به ويقبل إليه ، ويأمره في الآخر أن يقيم بموضعه ، فإنه لما تدبر أمره وأجال الرأي لم يجد من يسد مسده ، ولم يأمن الخلل إن غاب عن موضعه ، وأرسل بالكتابين رسولاً من ثقاته وقال له : أوصل الكتاب الأول بالأمر بالقدوم فإن خف لذلك فهو ما أردت ، وإن كره وتثاقل عن الطاعة فاسكت عليه أياماً ثم أعلمه الكتاب الثاني ورد عليك وأوصله إليه ليقيم بموضعه . فخرج رسول كسرى حتى ورد على صاحب الجيش ببلاد الشام ، فأوصل الكتاب الأول إليه ، فلما قرأه قال : إما أن يكون كسرى قد تغير لي وكره موضعي ، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلي وأنا في نحر العدو ، فدعا أصحابه وقرأ عليهم الكتاب فأنكروه ، فلما كان بعد ثلاثة أيام أوصل إليه الكتاب الثاني بالمقام ، وأوهمه أن رسولاً ورد به ، فلما قرأه قال : هذا تخليط ولم يقع منه موقعاً ، ودس إلى ملك الروم من ناظره في إيقاع صلح بينهما على أن يخلي الطريق لملك الروم حتى يدخل بلاد العراق على غرة من كسرى ، وعلى أن لملك الروم ما يغلب عليه من دون العراق ، وللفارسي ما وراء ذلك إلى بلاد فارس ، فأجابه ملك الروم إلى ذلك وتنحى الفارسي عنه في ناحية من الجزيرة ، وأخذ أفواه الطرق ، فلم يعلم كسرى حتى ورد خبر ملك الروم عليه من ناحية قرقيسيا وكسرى غير معد وجنده متفرق في أعماله ، فوثب من سريره مع قراءة الخبر وقال : هذا وقت حيلة ، لا وقت شدة ، وجعل ينكت في الأرض ملياً ، ثم دعا برقّ وكتب فيه كتاباً صغيراً بخط دقيق إلى صاحبه بالجزيرة يقول فيه : قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم وإطماعه في نفسك وتخلية الطريق له حتى إذا تولج في بلادنا أخذته من أمامه ، وأخذته أنت ومن ندبناه لذلك من خلفه ، فيكون ذلك بواره ، وقد تم في هذا الوقت ما دبرناه ، وميعادك في الإيقاع به يوم كذا وكذا ، ثم دعا راهباً كان في دير بجانب مدينته وقال : أيّ جار كنت لك؟ قال : أفضل جار ، قال : فقد بدت لنا إليك حاجة ، فقال الراهب : الملك أجلّ من أن يكون له حاجة إلى مثلي ، ولكن عندي بذل نفسي في الذي يأمر به الملك ، قال كسرى : تحمل لي كتاباً إلى فلان صاحبي - وقال ابن الفرات : إلى الأصبهبذ - ولا تطلعن على ذلك أحداً .
وأعطاه ألف دينار ، قال : نعم! قال كسرى : فإنك تجتاز بإخوانك النصارى فأخفه ، قال : نعم ، فلما ولى عنه الراهب قال له كسرى : أعلمت ما في الكتاب؟ قال : لا ، قال : فلا تحمله حتى تعلم ما فيه ، فلما قرآه أدخله في جيبه ثم مضى ، فلما صار في عسكر الروم نظر إلى الصلبان والقسيسين وضجيجهم بالتقديس والصلوات فاحترق قلبه لهم وأشفق مما خاف أن يقع بهم وقال في نفسه : أنا شر الناس إن حملت بيدي حتف النصرانية وهلاك هؤلاء القوم ، فصاح : أنا لم يحملني كسرى رسالة ولا معي له كتاب ، فأخذوه فوجدوا الكتاب معه ، وقد كان كسرى وجّه رسولاً قبل ذلك اختصر الطريق حتى مر بعسكر الروم كأنه رسول إلى كسرى من صاحبه الذي طابق ملك الروم ومعه كتاب فيه أن الملك قد كان أمرني بمقاربة ملك الروم وأن أختدعه وأخلي له الطريق فيأخذه الملك من أمامه وآخذه أنا من خلفه ، وقد فعلت ذلك ، فرأى الملك في إعلامي وقت خروجه إليه ، فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال : عجبت أن يكون هذا الفارسي أدهن على كسرى ، ووافاه أبرويز فيمن أمكنه من جنده ، فوجد ملك الروم قد ولى هارباً ، فأتبعه يقتل وياسر من أدرك ، وبلغ الأصبهبذ هزيمة الروم فأحب أن يخلي نفسه ويستر ذنبه لما فاته ما دبر ، فخرج خلف الروم الهاربين فلم يسلم منهم إلا قليل . وقال ابن الفرات : وخرج القس بالكتاب وأوصله إلى قيصر فقال : ما أراد إلا هلاكنا ، وانهزم فاتبعه كسرى فنجا في شرذمة يسيرة ، وافتتح كسرى أبرويز عدة من بلاد أعدائه ، وبلغت خيله القسطنطينية وإفريقية . وقد ذكر ابن مسكويه أيضاً ما يمكن أن يكون المراد بالآية ، وشرح أسباب ذلك فذكر أن هرمز بن أنوشروان لما بعث بهرام بن بهرام الملقب جوبين إلى ملك الترك وظفر به ثم بابنه ، أساء السيرة فيه ولم يأذن له في الرجوع ، بل أمره بالتقدم فيما لم يره بهرام صواباً وخاف مخالفته ، وقد كان هرمز حسن السيرة جداً أديباً أريباً ، داهياً إلا عرقاً قد نزعه أخواله من الترك ، فكان لذلك مقصياً للأشراف وأهل البيوتات والعلماء ، ولم يكن له رأي إلا في تألف السفلة واستصلاحهم ففسدت عليه نيات الكبراء من جنده ، فلما خافه بهرام جمع وجوه عسكره ، وخرج عليهم في زي النساء وبيده مغزل وقطن ثم جلس في موضعه ووضع بين يدي كل واحد منهم مغزلاً وقطناً ، فامتعضوا لذلك ، فقال : إن كتاب الملك ورد عليّ بذلك ، فلا بد من امتثال أمره إن كنتم طائعين ، فأبوا وخلعوا هرمز ، وأظهروا أن ابنه أبرويز أصلح للملك منه ، فلما سمع أبرويز بذلك خاف أباه على نفسه ، فهرب إلى أذربيجان ، ولما بلغ الجند الذين بحضرة هرمز خلعه أعجبهم ، فضعف أمره ، ثم أجمعوا على خلعه فخلعوه وسلموه ، فكوتب أبرويز بذلك فبادر بهراماً فسبقه وجلس على سرير الملك ، فأطاعه الناس ودخل على أبيه ، وأعلمه أنه نائبه ، واعتذر إليه بأن ما حصل له لم يكن عن رأيه ولا برضاه ولا كان حاضره حتى يذب عنه ، فعذره ، وقصده بهرام فجرت بينهما أمور طويلة ، وحروب هائلة ، ضعف فيها أبرويز ، وأحس من أصحابه فتوراً ، وتبين فيهم فشلاً ، فسار إلى أبيه وشاوره فرأى له المصير إلى ملك الروم ، فنهض إلى ذلك في عدة يسيرة فيهم بندويه وبسطام خالاه ، وكردي أخو بهرام ، وكان ماقتاً لأخيه بهرام ومناصحاً لأبرويز ، فقطعوا الفرات وصاروا إلى دير في أطراف العمارة ، فلحقتهم خيل بهرام فقال بندويه لأبرويز : أعطني بزتك وزينتك لأحتال لك وأبذل نفسي دونك ، ففعل فأمره بالنجاة بمن معه ، وأقام هو في الدير ، فلما أحيط به اطلع بندويه من فوق الدير فأوهمهم أنه أبرويز بما عليه من البزة والزينة ، فظنوه وسألهم الإمهال إلى غد ليسلمهم نفسه فأمسكوا ، وحفظ الدير بالحرس ، فلما أصبحوا اطلع عليهم وقال : إن عليَّ وعلى أصحابي بقية شغل من استعداد لصلوات وعبادات فأمهلونا ، ولم يزل يدافع حتى مضى عامة النهار وعلم أن أبرويز قد فاتهم ، ففتح حينئذ وأعلم قائدهم بأمرهم ، فانصرف به إلى بهرام جوبين فحبسه .
ولما وصل أبرويز إلى أنطاكية كاتب ملك الروم وسأله نصرته ، فأجابه وتوادا إلى أن زوجة ابنته مريم وحملها إليه ، وبعث إليه ستين ألف مقاتل فيهم أخوه تياذوس وسأله ترك الأتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم إذ هو ملك ، فاغتبط به أبرويز وسار بهم ، فلما وصل إلى أداني أرضهم انضم إليه كثير من أهل فارس فاستظهر على بهرام ، فقصد بهرام بلاد الترك فأكرمه ملكها ، ولم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم الذي نصره حتى وثبت الروم عليه في شيء أنكروه منه فقتلوه وملكوا غيره ، ولجأ ابنه إلى أبرويز فملكه على الروم وأرسل معه جنوداً كثيفة عليهم شهربراز ، فدوخ عليهم البلاد ، وملك صاحب كسرى بيت المقدس وقصد قسطنطينية ، فأناجوا على ضفة الخليج القريب منها ، ولم يخضع لابن الملك الذي توجه كسرى أحد من الروم ، وكانوا قد قتلوا الذي ملكوه بعد أبيه لما ظهر من فجوره وسوء تدبيره ، وملكوا عليهم رجلاً يقال له هرقل .
وقال ابن الفرات : إن أبرويز بعث مع ابن الملك الذي كان نصره ثلاثة من قواده في جنود كثيرة كثيفة ، أما أحدهم فإنه كان يقال له زميرزان وجهه إلى بلاد الشلام فدوخها حتى انتهى إلى بلاد فلسطين ، وورد مدينة بيت المقدس ، وأخذ أسقفها ومن كان فيها من القسيسين وسائر النصارى بخشبة الصليب ، وكانت قد دفنت في بستان في تابوت من ذهب وزرع فوقها مبقلة فدلوه عليها فحفر واستخرجها وبعث بها إلى كسرى في سنة أربع وعشرين من ملكه ، وأما القائد الثاني - وكان يقال له : شاهير - فسار حتى احتوى على مصر والإسكندرية وبلاد النوبة وبعث إلى كسرى بمفاتيح مدينة الإسكندرية في سنة ثمان وعشرين من ملكه ، وأما القائد الثالث - وكان يقال له : فرهان - فإنه قصد قسطنطينية حتى أناخ قريباً من ماء وخيم هنالك فأمره كسرى فخرب بلاد الروم غضباً مما انتهكوا من موريق - يعني الملك الذي كان نصره ، وفعل هذا لأجل ابنه ، وانتقاماً له منهم ، ولم ينقد لابن الملك الذي فعل هذا لأجله أحد من الروم ، لأنهم لما قتلوا الملك قوفا ملكوا عليهم رجلاً يقال له هرقل ، ثم اتفق ابن الفرات وابن فتحون فقالا : فلما رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إياها وقتلهم مقاتلتهم ، وسبيهم ذراريهم ، واستباحتهم أموالهم ، تضرع إلى الله تعالى ، وأكثر الدعاء والابتهال فيقال : إنه رأى في منامه رجلاً ضخم الجثة رفيع المجلس عليه ، فدخل عليهما داخل ، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل : إني قد سلمته في يدك ، فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته حتى توالت عليه أمثالها ، فرأى في بعض لياليه كأن رجلاً دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة فألقاها في عنق صاحب المجلس الرفيع عليه ثم دفعه إليه وقال له : ها قد دفعت إليك كسرى برمته ، وقال ابن الفرات : فاغزه فإنك مدال عليه ، ونائل أمنيتك في غزاتك ، فلما تتابعت عليه هذه الأحلام قصها على عظماء الروم وذوي العلم منهم ، فأشاروا عليه أن يغزوه ، فاستعد هرقل واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية ، وأخذ غير الطريق الذي فيه شهربراز صاحب كسرى ، وسار حتى دخل في بلاد أرمينية ونزل بنصيبين بعد سنة ، وقد كان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه ، وأما شهربراز فكانت كتب كسرى ترد عليه في الجثوم على الموضع الذي هو به ، وترك البراح ، ثم بلغ كسرى تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين فوجه لمحاربة هرقل رجلاً من قواده يقال له : راهزاد في اثني عشر ألفاً من الأنجاد ، وأمره أن يقيم بنينوى وهي التي تدعى الآن الموصل - على شاطىء دجلة ، ويمنع الروم أن يجوزوها ، وكان كسرى بلغه خبر هرقل وأنه مغذ وهو يومئذ مقيم بدسكرة الملك ، فتعذر راهزاد لأمر كسرى وعسكر حيث أمره فقطع هرقل دجلة من موضع آخر إلى الناحية التي كان فيها جند فارس ، فأذكى راهزاد العيون عليه فانصرفوا إليه فأخبروه أنه في سبعين ألف مقاتل ، فأيقن راهزاد أنه ومن معه من الجند عاجزون عن مناهضته ، فكتب إلى كسرى غير مرة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم ، لكثرتهم وحسن عدته ، قال ابن الفرات : فكتب كسرى إنكم إن عجزتم عن الروم لم تعجزوا عن بذل دمائكم في طاعتي ، فلما تتابعت على راهزاد جوابات كسرى بذلك عبى جنده ، وناهض الروم بهم ، فقتل الروم راهزاد وسته آلاف رجل ، وانهزمت بقيتهم ، وهربوا على وجوههم ، وبلغ كسرى قتل الروم راهزاد وستة آلاف وما نال هرقل من الظفر فهدّه ذلك وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن ، وتحصن به لعجزه كان عن محاربة هرقل ، وسار هرقل حتى كان قريباً من المدائن .
قال ابن الفرات : فاستعد كسرى لقتاله ثم خالف كسرى ملك الروم فرجع إلى بلاده فحمل خزائنه في البحر . فعصفتا الريح فألقتها بالإسكندرية ، فظفر بها أصحابه من الروم ، وذكر المسعودي هذا فخالف بعض المخالفة : فقال : وثب بطريق من بطارقة الروم يقال له قوقاس فيمن اتبعه على تموريقس ملك الروم حمو أبرويز ومنجده ، فقتلوه وملكوا قوقاس ، ونمى ذلك إلى أبرويز فغضب لحموه وسيّر إلى الروم جيوش وكانت له في ذلك أخبار يطول ذكرها ، وسيّر شهريار مرزبان المغرب إلى حرب الروم فنزل أنطاكية وكانت له مع ملك الروم وأبرويز أخبار و مكاتبات وحيل إلى أن خرج ملك الروم إلى حرب شهريار ، وقدم خزائنه في البحر في ألف مركب ، فألقتها الريح إلى ساحل أنطاكية فغنمها شهريار فحملها إلى أبرويز فسميت خزائن الريح ، ثم فسدت الحال بين أبرويز وشهريار ، ومايل شهريار ملك الروم فسيره شهريار نحو العراق إلى أن انتهى إلى النهروان فاحتال أبرويز في كتب كتبها مع بعض أساقفة النصرانية ممن كان في ذمته حتى رده إلى القسطنطينية ، وأفسد الحال بينه وبين شهريار . وقال أبو حيان : وسبب ظهور الروم أن كسرى بعث إلى شهربراز وهو الذي ولاه على محاربة الروم أن اقتل أخاك فرخان - انتهى . وهذا هو تتمة ما تقدم في خبر المرأة التي كانت لا تلد إلا الأبطال ، وأن كسرى بعث ابنها شهربراز إلى حرب الروم فظهر عليهم .
قال ابن مسكوية : فلما ظهرت فارس علىلروم جلس فرخان يشرب فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت مقالته كسرى فكتب إلى شهربراز : إذا أتاك كتابي هذا فابعث إليَّ برأس فرخان ، فكتب إليه : أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان ، فإن له نكاية في العدو وصوتاً فلا تفعل ، فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفاً منه فعجل إليّ برأسه ، فراجعه فغضب كسرى وبعث بريداً إلى أهل فارس : إني قد نزعت عنكم شهربراز واستعملت فرخان ، ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وقال : إذا ولى الفرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه ، فلما قرأ شهربراز الكتاب قال : سمعاً وطاعة ، ونزل عن سريره ، وجلس فرخان ودفع البريد الصحيفة إليه فقال : ائتوني بشهربراز ، فقدمه ليضرب عنقه فقال : لا تعجل حتى أكتب وصيتي ، قال : افعل . فدعا بسفط وأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد ، فرد الملك على أخيه ، فكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم : إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين رومياً ، فإني أيضاً ألقاك في خمسين فارساً ، فأقبل قيصر في خمسائة رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق ، وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلاً ، ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، واجتمعا ومع كل واحد منهما سكين ، ودعوا ترجماناً بينهما ، فقال شهربراز : إن الذين خربوا مدائنك ، وبلغوا منك ومن جندك ما بلغوا أنا وأخي بشجاعتنا وكيدنا ، وأن كسرى حسدنا فأراد أن أقتل اخي فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني فقد خلعناه جميعاً فنحن نقاتله معك ، فقال : قد أصبتما ووفقتما ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر إنما يكون بين اثنين ، فإذا جاوز اثنين فشا ، قال صاحبه : أجل ، فقاما جميعاً إلى الترجمان بسكينيهما فقتلاه ، واتفقا على قتال كسرى ، فتعاون شهربراز وهرقل على كسرى ، فغلبت الروم فارسَ . وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في أوائل فتوح مصر نحو هذا الحديث من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع ابن عمر رضي الله عنه يسأل الهرمزان عن سبب ظهور الروم على كسرى فأخبره به ، وكان مما تمكن الخلاف عليه أيضاً أنه كان طلب الذين هربوا بعد قتل قائدهم راهزاد ، وأمر بأن يعاقبوا على انهزامهم ، فأحوجهم بهذا إلى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه ، فإن كانت الوقعة التي غلبت الروم فيها بأذرعات أو الأردن فهي أدنى أرض الروم - أي أقربها - إلى مكة المشرفة ، وإن كانت بالجزيرة فهي أدنى بالنظر إلى كسرى - هذا ما حقت فيه الآية في ظاهر العبارة وصريحها مع ما انضم إلى ذلك من إداله العرب على الفرس أيضاً في هذا الوقت في وقعة ذي قار - كما بينته في شرحي لنظمي للسيرة النبوية المسمى « نظم الجواهر من سيرة سيد الأوائل والأواخر » وسيأتي ملخصه قريباً - حتى يقال : إن نصرة الروم والعرب ونصرة المسلمين في بدر كانت في آن واحد .
ومن أعاجيب ما دخل تحت مفهوم الآية من لطائف المعجزات في باطن الإشارة وتلويحها أن زماننا هذا كان قد غلب فيه على ملك مصر جندها الغرباء من الترك وغيرهم ثم اختص به الشراكسة منهم من نحو مائة سنة ، وهم ممن ليس له كتاب في الأصل وإن كان إسلامهم قد جب ما كانوا عليه من قبل وكانوا إذا مات أحدهم وله ابن ولوا ابنه لأجل مماليكه واتباع ابيه إلى أن يعملوا الحيلة في خلعه ، وكان أكثر أولادهم يكون صغيراً أو في حكمه حتى كانت سنة خمس وستين وثمانمائة ، فصادف أن المتولي بها من أولادهم المؤيد أحمد بن الأشرف إينال العلائي ، وكان قد ناهز الأربعين ، وكان عنده حزم ودهاء ، وزادت مدة ولايته بعد أبيه على أربعة أشهر فثقل عليهم جداً ، وكان الأمير الكبير خشقدم أحد مماليك المؤيد شيخ وهو رومي ، وكانت عادتهم أنهم إذا خلعوا أحداً من أبناء الملوك ولو الملك من كان في الإمرة الكبرى ، فاختار الشراكسة ولايته وإن كان من غيرهم على ولاية من ولد في الإسلام في بلاد العرب ، فأعملوا الحيلة في أمره إلى أن أجمع أمرهم ورأيهم كلهم على خلعه حتى مماليكه ومماليك أبيه ، فقاموا في ذلك قومة رجل واحد في أواخر شهر رمضان من السنة المذكورة ، فلما لم يجد له ناصراً أسلم نفسه في اليوم الثاني من وثوبهم عليه ، فعرضوا الولاية على شخص منهم فلم ير التقدم على أكبر منه في الرتبة فأشار إلى الأمير الكبير فولوه ، ثم اجتهد بعضهم في نزعه فلم يقدرهم الله على ذلك ولم يجمع كلمتهم على أحد ، وقام هو في الأمر بجد عظيم وحزم ، ولين في شدة وعزم ، حتى استحكم أمره ، وعظم قدره ، وحسب عدد « بضع » بالجمل فإذا هو اثنان وسبعون وثمانمائة ، وهو مقدار ما مضى من السنين من حين نزول الآية إلى حين ولايته ، وذلك أن نصر أهل فارس على الروم كما مضى كان في السنة الثامنة من النبوة ، وحينئذ نزلت الآية ، فإذا قلنا : إن نزولها كان في شهر رمضان من تلك السنة ، كان قبل الهجرة بست سنين إذا جعلنا كسر الثامنة سنة ، وقد كانت وقعة بدر في سابع عشر شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة في الشهر السابع ، فيكون نصر الروم إذا صححنا كما هو الذي ينبغي أن لا يعتقد غيره لدلالة القرآن العظيم عليه كما تأتي الإشارة إليه أنه في سنة غزوة بدر في آخر السنة السابعة من حين نزوال الآية ، ويكون ولاية السلطان خشقدم لكونها في أواخر شهر رمضان في ابتداء سنة ست وستين من الهجرة ، فإذا ضممت إليها الست التي كانت قبل الهجرة كانت الجملة ثمانمائة واثنين وسبعين على عدد « بضع » المنظوم في الآية سواء ، وإن صححنا كما أيده ما في الصحيح عن أبي سفيان أن نصر الروم كان وقت الحديبية وذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، وكما قلنا : كان نزول الآية قبل الهجرة بشهرين ونحوهما ، صح أن نصر الروم كان عند دخول السنة السابعة من نزول الآية كما في رواية الترمذي عن نيار رضي الله عنه ، وكان الموافق لعدد البضع سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة من الهجرة ، وفيها غلب شخص من الروم ، وذلك أن الظاهر خشقدم مات في ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة من الهجرة ، فولى بعده الأمير الكبير يلبية وهو من الشراكسة ، فلم ينتظم له الأمر ، فخلع في جمادى الأولى منها ، وولى الأمير الكبير تمربغا ولقب الظاهر وهو رومي ، فكان ذلك من الآيات الباهرات إن وافق هذا الأمر العدد المذكور على كلتا الروايتين : رواية من قال : إن التصر كان يوم بدر ، ورواية من قال : كان يوم الحديبية ، ولولا ولاية يلبية ما صح إلا أحدهما ، إن في ذلك لعبرة ، هذا إن عددنا آحاد السنين ، وإن عددناها مئات فهو في بضع منها ، فإنه في المائة التاسعة كما أشار إليه الأستاذ أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره فقال : حكمة الله جل ذكره في دوائر التقدير أن يرجع فيها أواخر الكلم عن أوائلها ، ومن الدوائر مقدرة ، ومنها موسعة على مقدار مشيئة الله فيها وبها ، ولما أخبر الله تعالى عن الروم أنهم غلبوا في أدنى الأرض وهي بلد الشام ، كان إخباراً منه عما يكون - والله أعلم - وبشارة بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن ذلك سيكون ، يعني أن معنى « غلبت » مبنياً للمفعول إن كان بالنسبة إلى فارس كان المعنى وقع غلبها ، وإن كان بالنسبة للمسلمين كان المعنى : قرب زمان غلبها على أيدي المسلمين ، ثم قال : فكان ذلك في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، غلبهم في بلاد الشام ، و استخرج بيت المقدس عن أيديهم .
والبضع من الثلاث إلى التسع ، وكان نزول هذه السورة بمكة فكان ذلك داخل بضع أسابيع سنين على رأس عشرين إلى ثمان وعشرين سنة ، ثم لم يزل الفتح بعد ذلك يتصل ويتسع إلى نهاية سبقت في التقدير ، ثم ذكر عود التقدير باستيلاء الروم على بعض أطراف الشام ثم باستنقاذ المسلمين ذلك منهم ، ونظر إلى ذلك تارة بحسب الأسابيع وتارة بحسب آحاد المئات ، وتارة بغير ذلك ، وصحح وقوعه في البضع بالغالبية والمغلوبية مرة بعد أخرى ، وهو من بدائع الأنظار ، ودقائق الأسرار الكبار .
ولما كان تغليب ملك على ملك من الأمور الهائلة ، وكان الإخبار به قبل كونه أهول ، ذكر علة ذلك فقال : { لله } أي وحده { الأمر } ولما أفهم السياق العناية بالروم ، فكان ربما توهم أن غلب فارس لهم في تلك الواقعة وتأخير نصرهم إلى البضع ربما كان لمانع لم يقدر على إزالته ، نفى ذلك بإثبات الجار المفيد لأن أمره تعالى مبتدىء من الزمن الذي كان قبل غلبهم حتى لم تغلبهم فارس إلا به ، وهو مبتدىء من الزمن الذي بعده ، فالتأخير به لا بغيره ، لحكمة دبرها سبحانه فقال : { من قبل } أي قبل دولة أهل فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس ، لا إلى غاية تكون مبدأ لاختصاصه بالأمور فيه سبحانه غلبوهم { ومن بعد } أي بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم لا إلى غاية فيه أيضاً غلبهم الروم ، فحذف المضاف إليه هو الذي أفهم أن زمن غلبة فارس لهم وما بعده من البضع مذكور دخوله في أمره مرتين .
ولما أخبر بهذه المعجزة ، تلاها بمعجزة أخرى ، وهو أن أهل الإسلام لا يكون لهم ما يهمهم فيسرون بنصره فقال : { ويومئذ } أي إذ تغلب الروم على فارس { يفرح المؤمنون } أي العريقون في هذا الوصف من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم { بنصر الله } أي الذي لا رادّ لأمره ، لأهل الكتاب عامة ، نصرهم على المشركين في غزوة بدر وهو المقصود بالذات ، ونصر الروم على فارس لتصديق موعود الله ونصر من سيصير من أهل الكتاب الخاتم من مشركي العرب على الفرس في وقعة ذي قار ، فقد وقع الفرح بالنصر الذي ينبغي إضافته إلى الله تعالى وهو نصر أهل الدين الصحيح أصلاً وحالاً ومالاً ، وسوق الكلام على هذا الوجه الذي يحتمل الثلاثة من بدائع الإعجاز ، وسبب وقعة ذي قار أنه كان أبرويز هذا - الذي غلب الروم ثم غلبته الروم - قد غضب على النعمان بن المنذر ملك العرب ، فأتى النعمان هذا هانىء بن مسعود بن عامر الشيباني ، فاستودعه ماله وأهله وولده - وألف شكة ، أو أربعة آلاف شكة - والشكة بكسر المعجمة وتشديد الكاف : السلاح كله - ووضع وضائع عند أحياء العرب ثم هرب فأتى طيئاً لصهره فيهم ، وكانت عنده فرعة بنت سعيد بن حارثة بن لأم وزينب بنت أوس بن حارثة بن لأم ، فأبوا أن يدخلوه حبلهم وأتته بنو رواحة بن ربيعة بن عبس فقالوا له : أبيت اللعن! أقم عندنا فإنا مانعوك مما نمنع منه أنفسنا ، فقال : ما أحب أن تهلكوا بسبب فجزيتم خيراً ، ثم خرج حتى وضع يده في يد كسرى فحبسه بساباط ، وقال ابن مسكويه : بخانقين ، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه ، قال : والناس يظنون أنه مات بساباط ، والصحيح ما حكيناه .
فلما مات النعمان جعلت بكر بن وائل تغير في السواد ، فغضب من ذلك كسرى ، ثم بعث إلى هانىء بن مسعود يقول له : إن النعمان إنما كان عاملي ، وقد استودعك ماله وأهله وحلقته فابعث إليّ بها ولا تكلفني أن أبعث إليك وإلى قومك بالجنود فتقتل المقاتلة وتسبي الذراري ، فبعث إليه هانىء أن الذي بلغك باطل ، وما عندي شيء ، وإن يكن الأمر كما قيل فإنما أنا أحد الرجلين : إما رجل استودع أمانة فهو حقيق أن يردها على من استودعها ولن يسلم الحر أمانته ، أو رجل مكذوب عليه وليس ينبغي للملك أن يأخذه بقول عدو أو حاسد . وكانت الأعاجم لهم قوة وحلم ، وكانوا قد سمعوا ببعض حلم العرب ، وأن الملك كائن فيهم ، فلما ورد عليه كتاب هانىء بهذا حملته الشفقة أن يكون ذلك قد اقترب على أن خرج بنفسه ، فأقبل حتى قطع الفرات فنزل غمر بني مقاتل ، وقد أحنقه ما صنعت بكر بن وائل في السواد ومنع هانىء إياه ما منعه ، ودعا كسرى إياس بن قبيصة الطائي وكان عامله على عين التمر وما والاها ، فاستشاره في الغارة على بكر بن وائل فقال له إياس : إن الملك لا يصلح أن يعصيه أحد من رعيته ، وإن تطعني لم يعلم أحد لأي شيء عبرت وقطعت الفرات ، فيرون أن أمر العرب قد كربك ، ولكن ترجع وتضرب عنهم وتبعث عليهم العيون حتى ترى منهم غرة ثم ترسل حينئذ كتيبة من العجم فيها بعض القبائل التي تليهم فيوقعون بهم وقعة الدهر ، ويأتونك بطلبك ، فقال له كسرى : أنت رجل من العرب وبكر بن وائل أخوالك ، فأنت تتعصب لهم لا تألوهم نصحاً ، فقال إياس : الملك أفضل رأياً ، فقام عمر بن عدي بن زيد العبادي وكان كاتبه وترجمانه بالعربية في أمور العرب فقال : قم أيها الملك وابعث إليهم بالجنود يكفوك! وقام إليه النعمان بن زرعة من ولد السفاح الثعلبي فقال له : أيها الملك! إن هذا الحي من بكر بن وائل إذا قاظوا تهافتوا على ماء لهم يقال له : ذو قار ، تهافت الفراش في النار ، فعقد لنعمان بن زرعة على تغلب والنمر ، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وأياد وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب ، ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر ، فكانت العرب ثلاثة آلاف ، وعقد للهامرز على ألف من الأساورة ، وعقد لخيارزين على ألف ، وبعث معهم باللطيمة وهي عير كانت تخرج من العراق فيها البن والعطر والألطاف ، توصل ذلك إلى باذان عامل كسرى على اليمن ، وقال : إذا فرغتم من عدوكم فسيروا بها إلى اليمين ، وأمر عمرو بن عدي أن يسير بها ، وكانت العرب تحقرهم حتى تبلغ اللطيمة اليمن ، وعهد كسرى إليهم إذا شارفوا بلاد بكر بن وائل أن يبعثوا إليهم النعمان بن زرعة ، فإن أتوكم بالحلقة ومائة غلام منهم يكونون رهناً بما أحدث سفهاؤهم فاقبلوا منهم وإلا فقاتلوهم .
فلما بلغ الخبر بكر بن وائل سار هانىء بن مسعود حتى نزل بذي قار ، وأقبل النعمان بن زرعة حتى نزل على ابن أخته مرة بن عبد الله العجلي ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنكم أخوالي وأحد طرفي ، وإن الرائد لا يكذب أهله ، وقد أتاكم ما لا قبل لكم به من أحرار فارس وفرسان العرب والكتيبتان الشهباء والدوسر ، وإن الشر خياراً ، ولأن يفدي بعضكم بعضاً خير من أن تصطلموا ، انظروا هذه الحلقة فادفعوها وادفعوا معها رهناً من أبنائكم إليه بما أحدث سفهاؤكم ، فقال له القوم : ننظر في أمورنا ، وبعثوا إلى من يليهم من بكر بن وائل وبرزوا ببطحاء ذي قار بين الجلهتين - وجلهة الوادي : مقدمه ، مثل جلهة الرأس إذا ذهب شعره - وجعلت بكر بن وائل حين بعثوا إلى من حولهم من قبائل بكر لا ترفع لهم جماعة إلا قالوا : سيدنا في هذه الجماعة ، إلى أن رفعت لهم جماعة فيها حنظلة بن ثعلبة بن سنان العجلي فقالوا : يا أبا معدان فقد طال انتظارنا وقد كرهنا أن نقطع أمراً دونك ، وهذا ابن أختك النعمان بن زرعة قد جاء والرائد لا يكذب أهله ، قال : فما الذي أجمع رأيكم عليه؟ قالوا : قلنا اللحي أهون من الوهي ، وإن في الشر خياراً ، ولأن نفدي بعضنا بعضاً خير من أن نصطلم جميعاً ، فقال حنظلة : قبح الله هذا رأياً ، لا تجر أحرار فارس غزلها ببطحاء ذي قار وأنا أسمع صوتاً ، ثم أمر بقبته فضربت بوادي ذي قار ونزل الناس فأطافوا به ثم قال لهانىء بن مسعود : يا أبا أمامة! إن ذمتكم ذمتنا عامة ، وأنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا ، فأخرج هذه الحلقة ففرقها بين قومك ، فإن تظفر فسترد عليك ، وإن تهلك فأهون مفقود ، فأمر بها فأخرجت ففرقها بينهم ، ثم قال حنظلة للنعمان : لولا أنك رسول لما أبت إلى أهلك سالماً ، فرجع النعمان إلى أصحابه ، فأخبرهم فباتوا ليلتهم يستعدون للقتال ، وبات بكر بن وائل يستعدون للحرب ، فلما أصبحوا أقبلت الأعاجم نحوهم وأمر حنظلة بالظعن جميعاً فوقفها خلف الناس ثم قال : يا معشر بني بكر بن وائل! قاتلوا عن ظعتنكم أو دعوا ، وأقبلت الأعاجم يسيرون إلى تعبئة ، وكان ربيعة بن غزالة السكوتي ثم التجيبي يومئذ هو وقومه نزولاً في بني شيبان فقال : يا بني شيبان! أما إني لو كنت منكم لأشرت عليكم برأي مثل عروة العلم قالوا : وأنت والله من أوسطنا ، أشر علينا ، قال : لا تستهدفوا هذه الأعاجم فتهلككم بنشابها ، ولكن تكردسوا لهم كراديس فيشد عليهم كردوس ، فإذا أقبلوا عليه شد الآخر ، قالوا : فإنك قد رأيت رأياً ، ففعلوا ، فلما التقى الزحفان وتقارب القوم قام حنظلة بن ثعلبة فقال : يا معشر بكر بن وائل! إن النشاب الذي مع الأعاجم يعرفكم ، فإذا أرسلوه لم يُخْطِكُمْ ، فعاجلوهم اللقاء وابدأوهم ، ثم قام هانىء بن مسعود فقال : يا قوم! مهلك معذور خير من منجى مفرور ، إن الحذر لا يدفع القدر ، وإن الصبر من أسباب الظفر ، المنية ولا الدنية ، واستقبال الموت خير من استدباره ، ياقوم : جدوا ، فما من القوم بد فتح لو كان رجال أجد ، أسمع صوتاً ولا أرى فوتاً ، يا لبكر! شدوا واستعدوا ، فإن لا تشدوا تردوا ، ثم قام شريك بن عمرو بن شراحيل فقال : ياقوم! إنما تهابونهم أنكم ترونهم عند الحفاظ أكثر منكم ، وكذلك أنتم في عيونهم فعليكم بالصبر ، فإن الأسنة تردي الأعنة ، يا لبكر! قدماً قدماً ، ثم قام عمرو بن جبلة اليشكري فقال :
يا قوم لا تغرركم هذي الخرق ... ولا وميض البيض في شمس برق
من لم يقاتل منكم هذي العنق ... فجنبوه اللحم واسقوه المرق
ثم قام حنظلة بن ثعلبة إلى ( وضين ) امرأته فقطعه ثم تتبع الظعن بقيع وضنهن ، لئلا يفر عنهن الرجال ، والوضين : بطان الناقة فسمي يومئذ : مقطع الوضن . وقال ابن مسكوية : إنه لما قطع الوضن وقع النساء إلى الأرض وإن بنت القرين الشيبانية نادت :
ويها بني شيبان صفاً بعد صف ... إن تهزموا يصبّغوا فينا القلف ... فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من قبل مناكبهم لتخف أيديهم بالضرب ، وتقدمت عجل فأبلت يومئذ بلاء حسناً ، واضطمت عليهم جنود العجم فقال الناس : هلكت عجل ، ثم حملت بكر فوجدت عجلاً ثابتة تقاتل وامرأة منهم تقول :
إن يظفروا يحرزوا فينا الغرل ... فدى لكم نفسي فدى بني عجل
وتقول أيضاً :
إن تقدموا نعانق ... ونفرش النمارق
أو تهربوا نفارق ... فراق غير وامق
فكانت بنو عجل في الميمنة بإزاء خيارزين وبنو شيبان في الميسرة بإزاء كتيبة الهامرز ، وأفناء بكر بن وائل في القلب فخرج أسوار من الأعاجم مسور مشنف في أذنيه درتان ، من كتيبة الهامرز يتحدى الناس للبراز ، فنادى في بني شيبان فلم يبارزه أحد حتى إذا دنا من بني يشكر برز له برد بن حارثة أخو بني ثعلبة فشد عليه بالرمح فطعنه فدق صلبه وأخذ حليته وسلاحه ، وقال ابن مسكويه : ونادى الهامرز لما رأى جد القوم وثباتهم للحرب وصبرهم للموت مرد ومرد ، فقال برد بن حارثة اليشكري : ما يقول؟ قيل : يدعو إلى البراز! يقول : رجل ورجل! فقال : وأبيكم لقد أنصف ، وبرز له فلم يلبث برد أن تمكن من الهامرز فقتله . وقال ابن مكرم في اختصاره للأغاني : ثم اقتتلوا صدر نهارهم أشد قتال رآه الناس إلى أن زالت الشمس ، فشد الحوقران واسمه الحارث ابن شريك على الهامرز فقتله وقتلت بنو عجل خيارزين ، وضرب الله وجوالفرس فانهزموا ، وتبعتهم بكر بن وائل يقتلونهم بقية يومهم حتى أصبحوا من الغد وقد شارفوا السواد ودخلوه فلم يلفت منهم كبير أحد ، وأقبلت بكر بن وائل على الغنائم فقسموها بينهم ، وقسموا تلك اللطائم بين نسائهم ، وكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة ، وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه ، فلما أتاه إياس سأله عن الخبر فقال : هزمنا بكر بن وائل ، وأتيناك بنسائهم ، فأعجب ذلك كسرى ، وأمر له بكسوه ، ثم إن إياساً استأذنه عند ذلك فقال : إن أخي مريض بعين التمر ، فأردت أن آتيه ، وإنما أراد أن ينتحي عنه ، فإذن له ، ثم أتى رجل من أهل الحيرة فسأل : هل دخل على الملك أحد؟ فقالوا : نعم! إياس ، فقال : ثكلت إياساً أمه! وظن أنه قد حدثه بالخبر ، فدخل عليه فحدثه بهزيمة القوم وقتلهم ، فأمر به فنزعت كتفاه؛ وكانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فلما بلغه ذلك قال : « هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا » .
روى ذلك الطبراني في المعجم الكبير ، وقيل : إن الوقعة مثلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة فرفع يده ، فدعا لبني شيبان أو لجماعة ربيعة بالنصر ، ولم يزل يدعو لهم حتى أرى هزيمة الفرس ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « أيها بني ربيعة اللهم انصرهم » فهم إلى الآن إذا حاربوا نادوا بشعار النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ، وقال قائلهم : يارسول الله! دعوتك ، فإذا دعوا بذلك نصروا . وروى ذلك الطبراني الكبير - قال الهيثمي : ورجاله الصحيح غير خلاد بن عيسى وهو ثقة - عن خالد ابن سعيد بن العاص عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : « قدمت بكر بن وائل مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : » ائتهم فاعرض عليهم! « فأتاهم فقال : من القوم؟ ثم عاد إليهم ثانية فقال : من القوم؟ فقالوا : بنو ذهل بن شيبان ، فعرض عليهم الإسلام ، قالوا : حتى يجيء شيخنا فلان - قال خلاد : أحسبه قال : المثنى بن خارجة - فلما جاء شيخهم عرض عليهم أبو بكر رضي الله عنه ، قال : إن بيننا وبين الفرس حرباً ، فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا ، فقال له أبو بكر : أرأيت إن غلبتموهم أتتبعنا على أمرنا؟ قال : لا نشترط لك هذا علينا ولكن إذا فرغنا فيما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما نقول ، فلما التقوا يوم ذي قار هم والفرس قال شيخهم : ما اسم الرجل الذي دعاكم إلى الله؟ قالوا : محمد ، قال : فهو شعاركم! فنصروا على القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » بي نصروا «
انتهى . ومن الأشعار في وقعة ذي قار قول أبي كلبة التميمي :
لولا فوارس لا ميل ولا عزل ... من اللهازم ما قظتم بذي قار
إن الفوارس من عجل هم أنفوا ... بأن يخلّوا لكسرى عرصة الدار
قد أحسنت ذهل شيبان وما عدلت ... في يوم ذي قار فرسان ابن سيار
هم الذين أتوهم عن شمائلهم ... كما تلبّس وراد بصدار
وقال الأعشى :
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... وصاحبها يوم اللقاء وفلت
هم ضربوا بالحنو حنو قراقر ... مقدمة الهامرز حتى تولت
ولما أخبر بإدالة الروم بعد الإدالة عليهم مع ما دخل تحت مفهوم الآية ، وكان ربما قيل : ما له لم يدم نصر أهل الكتاب؟ علل ذلك كله بقوله : { ينصر من يشاء } من ضعيف وقوي ، لأنه لا مانع له و لا يسأل عما يفعل { وهو العزيز } فلا يعز من عادى ، ولا يذل من والى ، ولما كان هذا السياق لبشارة المؤمنين قال : { الرحيم } أي يخص حزبه بما ينيلهم قربه من الأخلاق الزكية ، والأعمال المرضية .
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
ولما نزل هذا على قوم أكثرهم له منكر ، أكده سبحانه بما يقوي قلوب أصفيائه بتبيين المراد ، ويرد ألسنة أعدائه عن كثير من الناد ، ويعرفهم أنه كما صدق في هذا الوعد لأجل تفريح أوليائه فهو يصدق في وعد الآخرة ليحكم بالعدل ، ويأخذ لهم حقهم ممن عاداهم ، ويفضل عليهم بعد ذلك بما يريد ، فقال : { وعد الله } أي الذي له جميع صفات الكمال ، وهو متعال عن كل شائبة نقص ، فلذلك { لا يخلف } وأعاد ذكر الجلالة تنبيهاً على عظم الأمر فقال : { الله } أي الذي له الأمر كله . ولما كان لا يخلف شيئاً من الوعد ، لا هذا الذي في أمر الروم ولا غيره ، أظهر فقال : { وعده } كما يعلم ذلك أولياؤه { ولكن أكثر الناس } وهو أهل الاضطراب والنوس { لا يعلمون* } أي ليس لهم علم أصلاً ، ولذلك لا نظر لهم يؤدي إلى أنه وعد وأنه لا بد من وقوع ما وعد به في الحال التي ذكرها لأنه قادر وحكيم .
ولما كان من المشاهدة أن لهم عقولاً راجحة وأفكار صافية ، وأنظار صائبة ، فكانوا بصدد أن يقولوا : إن علمنا أكبر من علمكم ، كان كأنه قيل بياناً لأنه يصح سلب ما ينفع من العلم بتأديته إلى السعادة الباقية ، وتنبيهاً على أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا : نعم { يعلمون } ولكن { ظاهراً } أي واحداً { من } التقلب في { الحياة الدنيا } وهو ما أدتهم إليه حواسهم وتجاربهم إلى ما يكون سبباً للتمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، قال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ولا يخطىء وهو لا يحسن يصلي - انتهى . وأمثال هذا لهم كثير ، وهو وإن كان عند أهل الدنيا عظيماً فهو عند الله حقير ، فلذلك حقره لأنهم ما زادوا فيه على أن ساووا البهائم في إدراكها ما ينفعها فتستجلبه بضروب من الحيل ، وما يضرها فتدفعه بأنواع من الخداع ، وأما علم باطنها وهو أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها بالطاعة ، فهو ممدوح منبه عليه بوصفها بما يفهم الأخرى .
ولما ذكر حالهم في الدنيا ، أتبعه ذكر اعتقادهم في الآخرة ، مؤكداً إشارة إلى أن الحال يقتضي إنكار أن يغفل أحد عنها ، لما لها من واضح الدلائل أقربه أن اسم ضدها يدل عليها ، لأنه لا تكون إلا في مقابلة قصياً ، ولا أولى إلا بالنسبة إلى أخرى ، فقال : { وهم } أي هؤلاء الموصوفون خاصة { عن الآخرة } التي هي المقصود بالذات وما خلقت الدنيا إلا للتوصل بها إليها ليظهر الحكم بالقسط وجميع صفات العز والكبر والجلال والإكرام { هم غافلون* } أي في غاية الاستغراق والإضراب عنها بحيث لا يخطر في خواطرهم ، فصاروا لاستيلاء الغفلة عليهم إذا ذكرت لهم كذبوا بها ، واستهزؤوا بالمخبر ، ولم يجوزوها نوع تجير مع أن دلائلها تفوت الحصر ، وتزيد على العد ، فصاروا كأنهم مخصوصون بالغفلة عنها من بين سائر الناس ومخصصون لها بالغفلة من بين سائر الممكنات ، فلذلك لا يصدقون الوعد بإدالة الروم لما رسخ في نفوسهم من أن الأمور تجري بين العباد على غير قانون الحكمة ، لأنهم كثيراً ما يرون الظالم يموت ولم يقتص منه ، وهم في غفلة عن أنه أخر جزاؤه إلى يوم الدين ، يوم يكشف الجبار حجاب الغفلة ويظهر عدله وفضله ، وتوضع الموازين القسط ، فتطيش بمثاقيل الذر ، ويقتص للمظلومين من الظالمين ، ومن أريد القصاص منه عاجلاً فعل ، وقضية الروم هذه من ذلك ، وهذا السياق يدل على أنه لا حجاب عن العلم أعظم من التكذيب بالآخرة ، ولا شيء أعون عليه من التصديق بها والاهتمام بشأنها ، لأن ذلك حامل على طلب الخلاص في ذلك اليوم ، وهو لا يكون على أتم الوجوه إلا لمن وصل إلى حالة المراقبة ، وذلك لا يكون إلا لمن علم إما بالكشف أو الكسب كل علم فلم يتحرك حركة إلا بدليل يبيحها له ويحمله عليها ، وبهذا التقرير يظهر أن هاتين الجملتين بكمالهما علة لنفي العلم عنهم ، والمعنى أن العلم منفي عنهم لما شغل قلوبهم من هذا الظاهر في حال غفلتهم عن الآخرة ، فانسد عليهم باب العلم - والله الموفق .
ولما كان التقدير : أفلم يتدبروا القرآن وما كشف لهم عنه من الحكم والأمور التي وعد الله بها على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيه أو في السنة ، فكانت على حسب ما وعد ، أو لم يتأملوا مصنوعات الله عموماً فتدلهم عقولهم منها على أنه لا يصلح للإلهية إلا من كان حكيماً ، ولا يكون حكيماً إلا من صدق في وعده ، و أنه لا تتم الحكمة إلا بإيجاد الآخرة ، عطف عليه قوله منكراً عليهم موبخاً لهم : { أولم يتفكروا } أي يجتهدوا في إعمال الفكر ، ثم ذكر آلة الفكر زيادة في تصوير حال المتفكرين والتذكير بهيئة المعتبرين فقال : { في أنفسهم } ويجوز أن تكون هي المتفكر فيه فيكون المعنى : يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص ، فكيف بالإله الحق ، ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم في أطوار الصور ، وفاوت بينهم في القوى والقدر ، وبين آجالهم في الطول والقصر ، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر ، وأمات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر ، لا بد في حكمته البالغة من جمعهم للعدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر ، أو شكر أو كفر ، ثم ذكر نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم ، وعلى التقدير الأول يكون هذا هو المتفكر فيه { ما خلق الله } أي بعز جلاله ، وعلوه في كماله { السماوات والأرض } على ما هما عليه من النظام المحكم ، والقانون المتقن ، وأفرد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعددها بخلاف السماء { وما بينهما } من المعاني التي بها كمال منافعهما { إلا } خلقاً متلبساً { بالحق } أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأه الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منها للتصوير من الفاسد يطابق ذلك ، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً للأمر البعث ، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار ، وسير الكواكب الصغار والكبار ، وإمطار الأمطار ، وإجراء الأنهار ، ونحو ذلك من الأسرار ، رآه مطابقاً لكل ما يخطر في باله من الأقدار ، وإذا خطر له العلم ، فتبصر في جري هذه الأمور وغيرها على منهاج مستقيم ، ونظام واضح قويم ، وسير متقن حكيم ، علم أن ذلك في غاية المطابقة للخبر بالعلم الشامل والقدرة التامة على البعث وغيره ، أو إلا بالأمر الثابت والقضاء النافذ الذي لا يتخلف عنه المراد ، ولا يستعصي عليه حيوان ولا جماد ، وخلقكم من هذا الخلق الكبير الذي قام بأمره من بعض ترابه .
ثم جعلكم من سلالة من ماء مهين ، فالقدرة التي خلق بها ذلك كله وابتدأكم ثم يبيدكم ، بها بعينها يحييكم ويعيدكم ، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ، أو إلا بسبب إحقاق الحق وإبطال الباطل ، فلا بد من تصديق وعده بإدالة الروم لأخذ حقهم من الفرس ، ولا بد من أن يقيمكم بعد أن ينيمكم ويثبت كل حق رأيتموه قد أبطل ، ويبطل كل باطل رأيتموه قد أعمل ، لأنه أحكم الحاكمين ، فلو أقر على إماتة حق أو إحياء باطل لما كان كذلك .
ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد ، قال : { وأجل } لا بد أن ينتهي إليه { مسمى } أي في العلم من الأزل ، وذلك الأجل هو وقت قيام الساعة ، وذلك أنه كما جعل لهم آجالاً لأصلهم وفرعهم لم يشذ عنها أحد منهم فكذلك لا بد من أجل مسمى لما خلقوا منه ، فإذا جاء ذلك الأجل انحل هذا النظام ، واختل هذا الإحكام ، وزالت هذه الأحكام ، فتساقطت هذه الأجرام ، وصارت إلى ما كانت عليه من الإعدام ، وإلا كان الخلق عبثاً يتعالى عنه الملك العلام .
ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر ، أكد قوله : { وإن كثيراً من الناس } مع ذلك على وضوحه { بلقاء ربهم } الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب { لكافرون } أي لساترون ما في عقولهم من دلائل وحدانيته وحجج قدرته وحكمته ستراً عظيماً ، كأنه غريزة لهم ، فهم لذلك يكذبون بما وعدكم سبحانه من إدالة الروم على الفرس ، فلا يهولنكم ذلك لأنهم قد كذبوا بما هو أكبر منه ، وهو الآخرة على ما لها من الدلائل التي تفوت الحصر ، وإذا راجعت ما تقدم في آية الأنعام { وهو الذي خلقكم من طين } [ آية : 2 ] ازددت في هذا بصيرة .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
ولما أقام عليهم الدليل ، أتبعه التهديد والتهويل ، فقال عاطفاً على « أولم يتفكروا » { أولم يسيروا } ولما أحاطت آثار المكذبين بمكة المشرفة شرقاً وغرباً ، وجنوباً وشمالاً ، بديار ثمود وقوم فرعون وعاد وسبأ وقوم ولوط ، عرف وأطلق فقال : { في الأرض } أي سير اعتبار وتأمل وادكار من أي جهة أرادوا ، وفيه إشارة إلى أنهم واقفون عند النظر في ظاهر الملك بأبصارهم ، قاصرون عن الاعتبار في باطن الملكوت بأفكارهم ، وفيه هزٌّ لهم إلى امتطاء هذه الدرجة العلية ، بهذه العبارة الجلية { فينظروا } .
ولما كان ما حل بالماضين أمراً عظيماً ، نبه على عظمه بأنه أهل لأن يسأل عنه فقال : { كيف كان } أي كوناً لا قدرة على الانفكاك عنه ، وتذكير العمل يشير إلى عظم الأمر { عاقبة } أي آخر أمر { الذين } ولا كان حال من قرب من زمان الإنسان أوعظ له ، أثبت الجار فقال : { من قبلهم } في إهلاك العاصي وإنجاء الطائع ، ولما كان علم العاقبة مشروطاً بمعرفة البادئة قال مستأنفاً : { كانوا } أي كوناً هو في غاية المكنة .
ولما كان السياق للظهور والغلبة التي إنما مدارها على الشدة المقتضية للثبات ، لا الكثرة العارية عنها ، أعرض عنها وقال مسقطاً ضمير الفصل لأن هذا السياق لا يظهر فيه ادعاء العرب لعلوهم على فارس ولا الروم : { أشدَّ منهم } أي من العرب { قوة } أي في أبدانهم وعقولهم ، ولما كان التقدير : فنقبوا الجبال ، وعلوا من متقن الصنائع التي ترونها من الأعمال ما لم يدانيه أحد من الأجيال ، عطف عليه قوله : { وأثاروا } بالحرث وغيره { الأرض } فأخرجوا ما فيها من المنافع من المياه والمعادن والزروع وغير ذلك من المعادن { وعمروها } أي أولئك السالفون { أكثر مما عمروها } أي هؤلاء الذين أرسلت إليهم ، بل ليس لهم من إثارة الأرض وعمارتها كبير أمر ، فإن بلاد العرب إنما هي جبال سود وفيافي غبر ، فما هو إلا تهكم بهم ، وبيان لضعف حالهم في دنياهم التي لا فخر لهم بغيرها .
ولما كانوا قد وقفوا مثل هؤلاء مع السبب الأدنى ، ولم يرتقوا بعقولهم إلى المطلوب الأعلى ، أخبر أنه أرسل إليهم الدعاة ينبهونهم من رقدتهم ، وينقذونهم من غفلتهم ، فكان التقدير : فضلوا عن المنهج الواضح ، وعموا عن السبيل الرحب ، وزاغوا عن طريق الرب ، فأرسلنا إليهم الرسل ، فعطف عليه قوله مشيراً بتأنيث الفعل إلى ضعف عقولهم بتكذيبهم الرسل كما تقدم إيضاحه عند { تلك الرسل } [ البقرة : 253 ] : { وجاءتهم رسلهم } أي عنا { بالبينات } من المعجزات مثل ما أتاكم به رسولنا من وعودنا السابقة ، وأمورنا الخارقة ، كأمر الإسراء وما أظهر فيه من الغرائب كالإخبار بأن العير تقدم في يوم كذا يقدمها جمل صفته كذا وغرائره كذا ، فظهر كذلك ، وما آمنتم كما لم يؤمن من كان أشد منكم قوة { فما } أي بسبب أنه ما { كان الله } على ما له من أوصاف الكمال مريداً { ليظلمهم } بأن يفعل معهم فعل من تعدونه أنتم ظالماً بأن يهلكهم في الدنيا ثم يقتص منهم في القيامة قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل بالبينات { ولكن كانوا } بغاية جهدهم { أنفسهم } أي خاصة { يظلمون } أي يجددون الظلم لها بإيقاع الضر موقع جلب النفع ، لأنهم لا يعتبرون بعقولهم التي ركبناها فيهم ليستضيؤا بها فيعلموا الحق من الباطل ، ولا يقبلون من الهداة إذا كشفوا لهم ما عليها من الغطاء ، ولا يرجعون عن الغي إذا اضطروهم بالآيات الباهرات ، بل ينتقلون من الغفلة إلى العناد .
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
ولما كان انتكاسهم بعد هذا الأسباب المسعدة بعيداً ، أشار إليه بأداة التراخي ، أو هي إشارة إلى تطاول دعار الرسل لهم واحتمالهم إياهم فقال : { ثم كان } أي كوناً تعذر الانفكاك عنه ، وهو في غاية الهول كما اشار إليه تذكير الفعل { عاقبة } أي آخر أمر { الذين أساءوا } أظهر موضع الإضمار تعميماً ودلالة على السبب { السوأَى } أي الحالة التي هي أسوأ ما يكون ، وهي خسارة الأنفس بالدمار في الدنيا والخلود في العذاب في الأخرى ، جزاء لهم بجنس عملهم ، فنهم كما أساؤوا الرسل ساءهم الملك؛ ثم ذكر العلة بقوله : { أن كذبوا } أي لأجل تكذيبهم الرسل ، مستهينين { بآيات الله } أي الدلالات المنسوبة إلى الملك الأعلى الذي له الكمال كله الدالة عليه على عظمها بعظمه { وكانوا } أي كوناً كأنه جبلة لهم { بها } مع كونها أبعد شيء عن الهزء { يستهزءون } أي يستمرون على ذلك بتجديده في كل حين مع تعظيمه حتى كان استهزاؤهم بغيرها كأن عدم ، كما أنكم أنتم تكذبون بما وقع من الوعد في أمر الروم وتستهزئون به فاحذروا أن يحل بكم ما حل بالأولين ، ثم تردون إليه سبحانه فيعذبكم العذاب الأكبر ، ويجوز أن يكون هذا بدلاً من « السُّوأَى » أو بياناً لها بمعنى أنهم لما أساؤوا زادتهم إساءتهم عماوة حتى ارتكسوا في العمى فوصلوا إلى التكذيب والاستهزاء الذي هو أقبح الحالات ، عكس ما يجازي به المؤمن من أنه يزداد بإيمانه هدى .
ولما كان حاصل ما مضى أنه سبحانه وتعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، وكان للتصريح مع النفس حالة ليست لغيره ، قال ذاكراً نتيجة ما مضى ومحصله تصريحاً بالمقصود وتلخيصاً للدليل : { الله } أي المحيط علماً وقدرة { يبدأ الخلق } أي بدا منه ما رأيتم وهو يجدد في كل حين ما يريد من ذلك كما تشاهدون { ثم يعيده } بعد ما يبيده ، وترك توكيده إشارة إلى أنه غني عنه لأنه من القضايا المسلمة أن من اخترع شيئاً كان لا محالة قادراً على إعادته .
ولما كان الجزاء أمراً مهولاً ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : { ثم إليه } أي لا إلى غيره { ترجعون* } معنى في أموركم كلها في الدنيا وإن كنتم لقصور النظر تنسبونها إلى الأسباب ، وحسا بعد قيام الساعة ، وقراءة الجماعة بالالتفات إلى الخطاب أبلغ لأنها أنص على المقصود ، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بالياء التحتانية على النسق الماضي .
ولما ذكر الرجوع ، أتبعه بعض أحواله فقال : { ويوم تقوم الساعة } سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما فيهم من العظماء والكبراء والرؤساء { يبلس } أي يسكت ويسكن يأساً وتحيراً على غاية الذل - بما أشار إليه تذكير الفعل مع التجدد والاستمرار بما أومأ إليه المضارع { المجرمون* } الذين وصلوا من الدنيا ما من حقه أن يقطع لفنائه ، وقطعوا من أسباب الآخرة ما من حقه أن يوصل لبقائه ، وكانوا في غاية اللبس في الجدل ومعرفة كل ما يغيظ الخصم من القول والفعل والتمايل والتضاحك عند سكوت الخصم تعجباً من جريانهم في هذيانهم سروراً منهم بإسكاته ليظن بعض من رآه أنه انقطع وأن الحجة لهم .
ولما كان الساكت ربما أغناه عن الكلام غيره ، نفى ذلك بقوله محققاً له بجعله ماضياً : { ولم يكن } ولما كان المقام لتحقيرهم بتحقير شركائهم رتب نفي النفع الموجع لهم هذا الترتيب ، ويجوز أن يراد بترتيبه مع ذلك التخصيص فيقال : { لهم } أي خاصة في ذلك الوقت ولا بعده ، ولا كان في عداد ذلك من قبل لو كانوا يعقلون ، وأما غيرهم ممن يصح وصفه بالإجرام لكونه من أهل الشرك الخفي فقد يشفع فيه من رباه من الشهداء والعلماء وعامة المؤمنين { من شركائهم } الذي زعموهم خاصة ليتبين لهم خلطهم وجهلهم المفرط في قولهم : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وأما غيرهم فيقع منهم ما يسمى شفاعة تارة تصريحاً وأخرى تلويحاً كالشفاعة العامة من نبينا صلى الله عليه وسلم في الخلق عامة لفصل القضاء ، وقوله صلى الله عليه وسلم في ناس بأعيانهم : « أصحابي إليّ إليّ ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فيقول : فسحقاً سحقاً » وقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [ إبراهيم : 36 ] { شفعاء } ينقذونهم مما هم فيه وما يستقبلونه وإتيانه بصيغة جمع الكثرة يمكن أن يكون لا مفهوم له ، لأن مورده رد اعتقادهم في قولهم السالف ، ويمكن أن يفهم أنه قد يقع من بعض من عبدوه شفاعة ، أو تلويح بها كقول عيسى عليه السلام { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] .
ولما ذكر حال الشفعاء معهم ، ذكر حالهم مع الشفعاء فقال : { وكانوا } أي كوناً هو في غاية الرسوخ { بشركائهم } أي خاصة { كافرين* } أي متبرئين منهم ساترين لأن يكونوا اعتقدوهم آلهة وعبدوهم جرياً على عادتهم فيما لا يغنيهم من العناد والبهت .
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
ولما كانت النفس ربما تشوفت إلى أنه هل يكون بعد إبلاسهم شيء آخر ، قال مفيداً له مهولاً بإعادة ما مضى : { ويوم تقوم الساعة } أي ويا له من يوم ، ثم زاد في تهويله يقوله : { يومئذ يتفرقون } أي المؤمنون الذين يفرحون بنصر الله والكافرون فرقة لا اجتماع بعدها ، هؤلاء في عليين ، وهؤلاء في أسفل سافلين . حكى لي بعض القضاة من أصحابي - عفا الله عنه - وهو يبكي أنه رأى مناماً مهولاً ، وذلك أنه رأى القيامة قد قامت ، والناس يحشرون - على ما وصف في الأحاديث - في صعيد واحد عرايا خائفين حائرين ، يموج بعضهم في بعض ، فإذا شخص مما له أمر قد أشار بسوط معه وخط به في الأرض فقسمهم قسمين فقال : هؤلاء مطيعون ، وهؤلاء عصاة ، قال : فكنت في العصاة ، وفي الحال غاب عنا الطائعون ، فلم تر منهم أحداً ثم خط بذلك السوط مرة أخرى فقسمنا قسمين فقال : هؤلاء عصاة الأقوال ، وهؤلاء عصاة الأفعال ، قال : فكنت في عصاة الأفعال ، ثم غاب في الحال عنا عصاة الأقوال ، فلم نر منهم أحداً وبقينا نحن منا الجالس ومنا المضطجع ، ونحن قليل بالنسبة إلى عصاة الأقوال ، فبينا نحن كذلك إذ جاء آتٍ إلى شخص إلى جانبي فأخذه من كعبه ثم نشطه فأخرج جلده بمرة واحدة كأنه جراب نزع عن شيء فيه يابس ، فحصل لي من ذلك ذعر شديد فبينا أنا كذلك إذ آتٍ جاءني من ورائي ، فألقى عليّ جوخة فجعلها على أكتافي وأدارها على أفخاذي فسترني بها ولكن على غير هيئة لبس المخيط ، قال : واستيقظت وأنا على ذلك فقصصته على بعض الصالحين فقال : أحمد الله على كونك من عصاة الأفعال ، وأخذ من ستري بالجوخة على تلك الهيئة أني أحج ، فبشرني بذلك فحججت في ذلك العام - والله تعالى المسؤول في التوبة ، فإنه الفعّال لما يريد { فأما الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان بألسنتهم { وعملوا } تصديقاً لإقرارهم { الصالحات } أي كلها .
ولما تقدم هنا ذكر عمارة الأرض وإصلاحها للنبات ووعظ من جعلها أكبر همه بأنها لم تدم له ولا أغنت عنه شيئاً ، ذكر أنه جزى من أعرض عنها بقلبه لاتباع أمره سبحانه أعظم ما يرى من زهرتها ونضرتها وبهجتها على سبيل الدوام فقال : { فهم } أي خاصة { في روضة } أي لا أقل منها وهي أرض عظيمة جداً منبسطة واسعة ذات ماء غدق ونبات معجب بهج - هذا أصلها في اللغة وقال الطبري : ولا تجد أحسن منظراً ولا أطيب نشراً من الرياض . { يحبرون* } أي يسرون على سبيل التجدد كل وقت سروراً تشرق له الوجوه ، وتبسم الأفواه ، وتزهو العيون ، فيظهر حسنها وبهجتها ، فتظهر النعمة بظهور آثارها على أسهل الوجوه وأيسرها .
قال الرازي في اللوامع : وأصله - أي الحبرة - في اللغة أثر في حسن ، وقال غيره : حبره - إذا سره سروراً تهلل له وجهه ، وظهر فيه أثره . { وأما الذين كفروا } أي غطوا ما كشفته أنوار العقول ، { وكذبوا } عناداً { بآياتنا } التي لا تصدق منها ولا أضوأ من أنوارها ، بما لها من عظمتنا { ولقآءِ الآخرة } الذي لم يدع لبساً في بيانه { فأولئك } أي البعداء البغضاء { في العذاب } أي الكامل لا غيره { محضرون* } من أي محضر كان ، بالسوق الحثيث ، والزجر العنيف ، فإذا وصلوا إلى مقره وكل بهم من يديم كونهم كذلك - لإفادة الجملة الاسمية الدوام ، فلا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم .
ولما بين سبحانه المبدأ بخلق السماوات والأرض ، والمعاد بالجنة والنار ، وأنهم كذبوا به ، وكان تكذيبهم به مستلزماً لاعتقاد نقائص كثيرة منها العجز وإخلاف الوعد وترك الحكمة ، كان ذلك سبباً لأن ينزه سبحانه نفسه المقدسة ويأمر بتنزيهها ، لأن ذلك يدفع عن المنزه مضار الوعيد ، ويرفعه إلى مسار الوعد ، فقال ذاكراً من أفعاله العالية التي لا مطمع لغيره في القدرة على شيء منها ما يدل على خلاف ذلك الذي يلزم اعتقادهم ، لافتاً الكلام عن صيغة العظمة إلى أعظم منها بذكر الاسم الأعظم . { فسبحان الله } أي سبحوا الذي له جميع العظمة بمجامع التسبيح بأن تقولوا هذا القول الذي هو عَلَمه ، فهو منزه عن كل نقص؛ ثم ذكر أوقات التسبيح إشارة إلى ما فيها من التغير الذي هو منزه عنه وإلى ما يتجدد فيها من النعم ووجود الأحوال الدالة على القدرة على الإبداع الدال على البعث ، فقال دالاً على الاستغراق بنزع الخافض مقدماً المحو لأنه أدل على البعث الذي النزاع فيه وهو الأصل ، لافتاً الكلام إلى الخطاب لأنه أشد تنبيهاً : { حين تمسون } أي أول دخول الليل بإذهاب النهار وتفريق النور ، فيعتريكم الملل ، ويداخلكم الفتور والكسل ، على سبيل التجدد والاستمرار ، وأكد الندب إلى التسبيح بإعادة المضاف فقال : { وحين تصبحون* } بتحويل الأمر فتقومون أحياء بعد أن كنتم أمواتاً فتجدون نهاراً قد أضاء بعد ليل كان دجى ، فتفعلون ما هو سبحانه منزه عنه من الحركة والسعي في جلب النفع ودفع الضرر ، وأرشد السياق إلى أن التقدير : وله الحمد في هذين الجنسين .
ولما ذكر ما يدل على خصوص التنزيه ، اتبعه ما يعرف بعموم الكمال ، فقال ذاكراً لوقت كمال النهار وكمال الظلام ، وتذكيراً بما يحدث عندهما للآدمي من النقص بالفتور والنوم اعتراضاً بين الأوقات للاهتمام بضم التحميد إلى التسبيح : { وله } أي وحده مع النزاهة عن شوائب النقص { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال .
ولما قدم سبحانه أن تنزهه ملأ الأزمان ، وكان ذلك مستلزماً لملء الأكوان ، وكان إثبات الكمال أبين شرفاً من التنزيه عن النقص ، صرح فيه بالقبيلين فقال : { في السماوات } أي الأجرام العالية كلها التي تحريكها - مع أنها من الكبر في حد لا يحيط به إلا هو سبحانه - سبب للإمساء والإصباح وغيرهما من المنافع { والأرض } التي فيها من المنافع ما يجل عن إحاطتكم به مع أنها بالنسبة إلى السماء كحلقة ملقاة في فلاة ، ولولا ذلك لظهر لكم ذلك برؤية ما وراءها هو شأن كل مظل مع كل مقل كما تشاهدون السحاب ونحوه .
ولما خص الإمساء والإصباح ، عمّ فقال معبراً بما يدل على الدوام ، لأن وقت النوم الدال على النقص أولى بإثبات الكمال فيه : { وعشياً } أي من الزوال إلى الصباح { وحين تظهرون* } أي تدخلون في شدة الحر ، وسبحانه الله في ذلك كله ، فالآية من الاحتباك : ذكر التسبيح أولاً دليلاً على إرادته ثانياً ، والحمد ثانياً دليلاً على إرادته أولاً ، ولعل المراد بالإظهار هنا ما هو أعم من وقت الظهر ليكون المراد به من حين يزول اسم الصباح من وقت ارتفاع الشمس إلى أن يحدث اسم المساء ، وهو من الظهر إلى الغروب - قاله ابن طريف في كتابه الأفعال ونقله عن الإمام عبد الحق في كتابه الواعي ، وذلك حين استبداد النهار فيكون كماله فيما دون ذلك من باب الأولى ، وهذا مع هذه الدقائق إشارة إلى الصلوات الخمس ، أي سبحوه بالخضوع له بالصلاة في وقت المساء بصلاة العصر والمغرب ، وفي وقت الصباح بالصبح ، وفي العشى بالعشاء ، وفي الإظهار بالظهر ، وفي هذا التخريج من الحسن بيان الاهتمام بالصلاة الوسطى ، فابتدأ سبحانه بالعصر التي قولها أصح الأقوال ، ودخول المغرب في حيزها بطريق التبعية والقصد الثاني ، وثنى بالصبح وهي تليها في الأصحيّة وهما القريبتان ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من صلى البردين دخل الجنة » - رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه ، « من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وجبت له الجنة » - أسنده صاحب الفردوس عن عمارة بن روبية رضي الله عنه ورواه مسلم وغيره عنه بلفظ : « لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » - يعني الفجر والعصر « كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : » إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا لا تفوتنكم « ، ثم قرأ { فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } رواه البخاري عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح » يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر « يدخل هنا .
ولما ذكر دلالة على البعث المستلزم للوحدانية مطلق التحويل الذي هو إحياء في المعنى بعد إماتة ، أتبعه الإحياء والإماتة حقيقة ، صاعداً من ذكر البعث تصريحاً بما كان ألقاه تلويحاً فقال : { يخرج الحي } كالإنسان والطائر { من الميت } كالنطفة والبيضة { ويخرج الميت } كالبيضة والنطفة { من الحي } عكس ذلك { ويحيي الأرض } باخضرار النبات .
ولما كان من الأراضي ما لا ينبت إلا بعد مدة إنزال المطر ، ومنها ما ينبت من حين إنزال المطر عقب تحطم ما كان بها من النبات سواء ، أسقط الجار هنا تنبيهاً على الأمر الثاني لأنه أدل على القدرة ، فهو أنسب لهذا السياق ولمقصود السورة ، ولأنه جعل فيه قوة إحيائها على الدوام فقال : { بعد موتها } بيبسه وتهشمه . ولما كان التقدير : كذلك يفعل على سبيل التكرر وأنتم تنظرون ، عطف عليه قوله : { وكذلك } أي ومثل فعله هذا الفعل البديع من إخراجه لهذا الحي حساً ومعنى من الميت { تخرجون } بأيسر أمر من الأرض بعد تفرق أجسامكم فيها من التراب الذي كان حياً بحياتكم - هذا على قراءة الجماعة البناء للمفعول . وبناه حمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه للفاعل إشارة إلى أنهم لقوة تهيئهم لقبول البعث صاروا كأنهم يخرجون بأنفسهم - روى عبد الله ابن الإمام أحمد في زيادات المسند عن لقيط بن عامر رضي الله عنه أنه خرج وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق رضي الله عنه ، قال : فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لانسلاخ رجب ، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من صلاة الغداة فقام في الغداة خطيباً إلى أن قال : « ألا اسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا ألا اجلسوا ، قال : فجلس الناس فقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت : يا رسول الله! ما عندك من علم الغيب ، فضحك لعمر الله وهز رأسه فقال : ضن ربك بمفاتيح الخمس من الغيب فذكره حتى ذكر البعث قال : فقلت : يا رسول الله ، كيف يجمعنا بعد ما تفرقنا الرياح والبلى والسباع؟ قال : أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله ، الأرض أشرفت عليها وهي مدرة بالية فقلت : لا تحيا أبداً ، ثم أرسل ربك عز وجل عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياماً حتى أشرقت عليها وهي شرفة واحدة ، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء كما أنه يجمع نبات الأرض فتخرجون » . ولما كان التقدير : هذا من آيات الله التي تشاهدونها كل حين دلالة على بعثكم ، عطف عليه التذكير بما هو أصعب منه في مجاري العادات فقال : { ومن آياته } أي على قدرته على بعثكم . ولما كان المراد إثبات قدرته سبحانه على بعثهم بعد أن صاروا تراباً بإيجاده لأصلهم من تراب يزيد على البعث في الإعجاب بأنه لم يكن له أصل في الحياة ، وكان فعله لذلك إنما مكان مرة واحدة ، قال معبراً بالماضي : { أن خلقكم } بخلق أبيكم آدم { من تراب } لم يكن له أصل اتصاف ما بحياة .
ولما كان ابتداء الإنسان من التراب في غاية العجب ، أشار إلى ذلك بأداة البعد فقال : { ثم } أي بعد إخراجكم منه { إذا أنتم بشر } أي فاجأتم كونكم لكم بشرة هي في غاية التماسك والاتصال مع اللين عكس ما كان لكم من الوصف إذا كنتم تراباً ، وأسند الانتشار إلى المبتدأ المخاطب لا إلى الخبر لأن الخطاب أدل على المراد فقال : { تنتشرون } أي تبلغون بالنشر كل مبلغ بالانتقال من مكان إلى مكان مع العقل والنطق ، ولم يختم هذه الآية بما ختم به ما بعدها دلالة على أنها جامعة لجميع الآيات ، ودلالة على جميع الكمالات ، وختم ما بعدها بذلك تنبيهاً على أن الناس أهملوا النظر فيها على وضوحها ، وكان من حقهم أن يجعلوها نصب أعينهم ، دلالة على كل ما نزلت به الكتب ، وأخبرت به الرسل ، وكذلك أكد في الإخبار إعلاماً بأنهم صاروا لإهمالها في حيز الإنكار .
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
ولما كان أعجب من ذلك أن هذا الذي خلقه التراب ذكراً خلق منه أنثى ، وجعلهما شبهي السماء والأرض ماء ونبتاً وطهارة وفضلاً ، قال : { ومن آياته } أي على ذلك؛ ولما كان إيجاد الأنثى من الذكر خاص لم يكن إلا مرة واحدة كالخلق من التراب ، عبر بالماضي فقال : { أن خلق لكم } أي لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد ، وفي تقديم الجار دلالة على حرمة التزوج من غير النوع ، والتعبير بالنفس أظهر في كونها من بدن الرجل في قوله : { من أنفسكم } أي جنسكم بعد إيجادها من ذات أبيكم آدم عليه السلام { أزواجاً } إناثاً هن شفع لكم { لتسكنوا } مائلين { إليها } بالشهوة والألفة ، من قولهم : سكن إليه - إذا مال وانقطع واطمأن إليه ، ولم يجعلها من غير جنسكم لئلا تنفروا منها .
ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الألفة قال : { وجعل } أي صير بسبب الخلق على هذه الصفة { بينكم مودة } أي معنى من المعاني يوجب أن لا يحب واحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه مع ما طبع عليه الإنسان من محبة الأذى ، وإنما كان هذا معناه لأن مادة « ودد » مستوياً ومقلوباً تدور على الاتساع والخلو من الدو والدوية بتشديد الواو وهي الفلاة ، والود والوداد قال في القاموس : الحب ، وقال أبو عبد الله القزاز ونقله عنه الإمام عبد الحق في واعيه : الأمنية ، تقول وددت أن ذاك كان ، وذاك لاتساع مذاهب الأماني ، وتشعب أودية الحب ، وفي القاموس : ودان : قرية قرب الأبواء وجبل طويل قرب فيد ، والمودة : الكتاب - لاتساع الكلام فيه . وقال الإمام أبو الحسن الحرالي في شرح الأسماء الحسنى : الود خلو عن إرادة المكروه ، فإذا حصل إرادة الخير وإيثاره كان حياً ، من لم يرد سواه فقد ود ومن أراد خيراً فقد أحب ، والود أول التخلص من داء أثر الدنيا بما يتولد لطلابها من الازدحام عليها من الغل والشحناء ، وذلك ظهور لما يتهياً له من طيب الحب ، فمن ود لا يقاطع ، ومن أحب واصل وآثر ، والودود هو المبرأ من جميع جهات مداخل السور ظاهره وباطنه .
ولما كان هذا المعنى الحسن لا يتم إلا بإرادة الخير قال : { ورحمة } أي معنى يحمل كلاًّ على أن يجتهد للآخر في جلب الخير ، ودفع الضير ، لكن لما كانت إرادة الخير قد تكون بالمن ببعض ما يكره جمع بين الوصفين ، وهما من الله ، والفرك - وهو البغض - من الشيطان .
ولما كان ذلك من العظمة بمكان يجل عن الوصف ، أشار إليه بقوله مؤكداً لمعاملتهم له بالإعراض عما يهدي إليه معاملة من يدعي أنه جعل سدى من غير حكمة ، مقدماً الجار إشارة إلى أن دلالته في العظم بحيث تتلاشى عندها كل آية ، وكذا غيره مما ان هكذا على نحو
{ وما نريهم من آية إلا وهي أكبر من أختها } [ الزخرف : 48 ] : { إن في ذلك } أي الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع { لآيات } أي دلالات واضحات على قدرة فاعله وحكمته .
ولما كان هذا المعنى مع كونه دقيقاً يدرك بالتأمل قال : { لقوم } أي رجال أو في حكمهم ، لهم قوة وجد ونشاط في القيام بما يجعل إليهم { يتفكرون* } أي يستعملون أفكارهم على القوانين المحررة ويجتهدون في ذلك .
ولما ذكر سبحانه الذكر والأنثى ، المخلوقين من الأرض ، وكانت السماء كالذكر للأرض التي خلق منها الإنسان ، وكان خلقهما مع كونهما مخلوقين من غير شيء أعجب من خلقه فهو أدل على القدرة ، وكان خلق الأرض التي هي كالأنثى متقدماً على عكس ما كان في الإنسان ، أتبعه ذكرهما بادئاً بما هو كالذكر فقال مشيراً - بعد ما ذكر من آيات الأنفس - إلى آيات الآفاق : { من آياته } أي الدالة على ذلك ، ولما كان من العجب إيجاد الخافقين من العدم إيجاداً مستمراً على حالة واحدة ، عبر بالمصدر فقال : { خلق السماوات } على علوها وإحكامها { والأرض } على اتساعها وإتقانها .
ولما كان من الناس من ينسب الخلق إلى الطبيعة ، قال تعالى ذاكراً من صفات الأنفس ما يبطل تأثير الآفاق بأنفسها من غير خلقه وتقديره ، وتكوينه وتدبيره : { واختلاف ألسنتكم } أي لغاتكم ونغماتكم وهيئاتها ، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة ، لا حد ولا رخاوة ، ولا لكنة ولا فصاحة ، ولا إسهاب ولا وجازة ، وغير ذلك من صفات النطق وأحواله ، ونعوته وأشكاله ، وأنتم من نفس واحدة ، فلو كان الحكم للطبيعة لم يختلف لأنه لا اختيار لها مع أن نسبة الكل إليها واحدة .
ولما كان لون السماء واحداً ، وألوان الأراضي يمكن حصرها ، قال : { وألوانكم } أي اختلافاً مع تفاوته وتقاربه لا ضبط له مع وحدة النسبة ، ولولا هذا الاختلاف ما وقع التعارف ، ولضاعت المصالح ، وفاتت المنافع ، وطوي سبحانه ذكر الصور لاختلاف صور النجوم باختلاف أشكالها ، والأراضي بمقادير الجبال والروابي وأحوالها ، فلو كان الاختلاف لأجل الطبيعة فإما أن يكون بالنظر إلى السماء أو إلى الأرض ، فإن كان للسماء فلونها واحد ، وإن كان للأرض فلون أهل كل قطر غير مناسب للون أرضهم . وأما الألسنة فأمرها أظهر .
ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه { لآيات } أي دلالات عدة واضحة جداً على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار وبطلان ما يقوله أصحاب الطبائع من تلك الاحتمالات التي هي مع خفائها واهية ، ومع بعدها مضمحلة متلاشية { للعالمين* } كلهم لا يختص به صنف منهم دون آخر من جن ولا إنس ولا غيرهم ، وفي رواية حفص عن عاصم بكسر اللام حث للمخاطبين على النظر ليكونوا من أهل العلم ، وفي قراءة الباقين بالفتح إيماء إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لو نطق الجماد لأخبر بمعرفته ، ففيه إشارة إلى أنهم عدم ، فلا تبكيت أوجع منه .
ولما ذكر المقلة والمظلة ومن فيهما ، وبعض صفاتهم اللازمة ، ذكر ما ينشأ عن كل من ذلك من الصفات المفارقة فقال : { ومن آياته } أي على ذلك وغيره من أنواع القدرة والعلم { منامكم } أي نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعاً .
ولما كان الليل محل السكن والراحة والنوم ، ذكر ما جعل من نوم النهار أيضاً لأن ذلك أدل على الفعل بالاختبار فقال : { بالّيل والنهار } أي الناشئين عن السماوات والأرض باختلاف الحركات التي تنشأ إلا عن فاعل مختار وانقطاعكم بالنوم عن معاشكم وكل ما يهمكم وقيامكم بعد منامكم أمراً قهرياً لا تقدرون على الانفكاك عن واحد منهما أصلاً { وابتغاؤكم } أي طلبكم بالجد والاجتهاد { من فضله } بالمعاش فيهما ، فالآية من الاحتباك : دل ذكر النوم على القيام منه ، ودل الابتغاء على الانقطاع عنه ، حذف نهاية الأول وبداية الثاني { إن في ذلك } أي الأمر العظيم العالي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط ، والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر ، وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما ، والجد في الابتغاء مع المفاوتة في التحصيل { لآيات } أي عديدة على القدرة والحكمة لا سيما البعث .
ولما كانت هذه الآيات في دلالتها على ما تشير إليه من البعث والفعل بالاختيار دقيقة لا يستقل العقل بها دون توقيف من الدعاة لأنه قد يسند النوم والابتغاء إلى العباد والا يتجاوز عن ذلك إلى الخالق إلا الأفراد من خلص العباد ، وكان النائم يقوم صافي الذهن فارغ السر نشيط البدن . قال : { لقوم يسمعون* } أي من الدعاة النصحاء سماع من انتبه من نومه فجسمه مستريح نشيط وقلبه فارغ عن مكدر للنصح مانع من قبوله ، أو المعنى : لقوم هم أهل للسمع بأن يكونوا قد تنبهوا من رقادهم ، فرجعوا عن عنادهم ، إشارة إلى أن من لم يتأمل في هذه الآيات فهو نائم لا مستيقظ . فهو غير متأهل لأن يسمع .
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
ولما ختم بالسمع آية جمعت آيات الأنفس والآفاق لكونها نشأت من أحوال البشر والخافقين ، افتتح بالرؤية آية أخرى جامعة لهما لكونها ناشئة عنهما مع كونها أدل على المقصود جامعة بين الترغيب والترهيب فقال : { ومن آياته } ولما كان لمعان البرق جديراً بالتماع البصر عند أول رؤية ، وكان يتجدد في حين دون حين ، عبر بالمضارع حاذفاً الدال على إرادة المصدر للدلالة على التجدد المعجب منه فقال : { يريكم البرق } أي على هيئات وكيفيات طالما شاهدتموها تارة تأتي يما يضر وتارة بما يسر ، ولذلك قال معبراً بغاية الإخافة والإطماع لأن الغايات هي المقصودة بالذات : { خوفاً } أي للإخافة من الصواعق المحرقة { وطمعاً } أي وللاطماع في المياه الغدقة ، وعبر بالطمع لعدم الأسباب الموصلة إليه .
ولما كان البرق غالباً من المبشرات بالمطر ، وكان ما ينشأ عن الماء أدل شيء على البعث ، أتبعه شرح ما أشار إليه به من الطمع فقال : { وينزّل } ولما كان إمساك الماء في جهة العلو في غاية الغرابة ، قال محققاً للمراد بالإنزال من الموضع الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه { من السماء ماء } .
ولما جعل سبحانه ذلك سبباً لتعقب الحياة قال : { فيحيي به } أي الماء النازل من السماء خاصة لأن أكثر الأرض لا تسقى بغيره { الأرض } أي بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان ، ولما كانت الأرض ليس لها من ذاتها في الإنبات إلا العدم ، وكان إحياؤها به متكرراً ، فكان كأنه دائم ، وكان ذلك أنسب لمقصود السورة حذف الجار قائلاً : { بعد موتها } أي بيبسه وتهشمه { إن في ذلك } أي الأمر العظيم العالي القدر { لآيات } لا سيما على القدرة على البعث . ولما كان ذلك ظاهراً كونه من الله الفاعل بالاختيار لوقوعه في سحاب دون سحاب وفي وقت دون آخر وفي بلد دون آخر ، وعلى هيئات من القوة والضعف والبرد والحر وغير ذلك من الأمر ، وكان من الوضوح في الدلالة على البعث بمكان لا يخفى على عاقل قال : { لقوم يعقلون* } .
ولما كان جميع ما مضى من الآيات المرئيات ناشئاً عن هذين الخلقين العظيمين المحيطين بمن أنزلت عليهم هذه الآيات المسموعات بياناً لمن أشكل عليه أمر الآيات المرئيات ، ذكر أمراً جامعاً للكل وهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من العقل المختوم به ما قبل فقال : { ومن آياته } أي على تمام القدرة وكمال الحكمة .
ولما كانت هذه الآية في الثبات لا في التجدد ، أتى بالحرف الدال على المصرف ليسلخ الفعل عن الاستقبال ، وعبر بالمضارع لأنه لا بد من إخراجهما عن هذا الوضع فقال : { أن تقوم } أي تبقى على ما تشاهدون من الأمر العظيم بلا عمد { السماء } أفرد لأن السماء الأولى لا تقبل النزاع لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ للكل لأنه جنس { والأرض } على ما لهما من الجسامة والثقل المقتضي للهبوط { بأمره } لا بشيء سواه .
ولما لم يبق في كمال علمه وتمام قدرته شبهة ، قال معبراً بأداة التراخي لتدل - مع دلالتها على ما هي له - على العظمة ، فقال دالاً على أن قدرته على الأشياء كلها مع تباعدها على حد سواء ، وأنه لا فرق عنده في شمول أمره بين قيام الأحياء وقيام الأرض والسماء { ثم إذا دعاكم } وأشار إلى هوان ذلك الأمر عنده بقوله : { دعوة من الأرض } على بعد ما بينها وبين السماء فضلاً عن العرش ، وأكد ذلك بكونه مثل لمح البصر أو هو أقرب فقال معبراً بأداة الفجاءة : { إذا أنتم تخرجون* } أي يتجدد لكم هذا الوصف بعد اضمحلالكم بالموت والبلى ، ويتكرر باعتبار آحادكم من غير تلبث ولا مهلة أصلاً ، إلا أن يترتب على الأفضل فالأفضل لقوله صلى الله عليه وسلم : « أنا أول من تنشق عنه الأرض » كما دعاكم منها أولاً إذا خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ، وأعرى هذه مما ختم به الآيات السالفة تنبيهاً على أنها مثل الأولى قد انتهت في الظهور ، ولا سيما بانضمامها إلى الأولى التي هي أعظم دال عليها إلى حد هو أضوأ من النور ، كما تأتي الإشارة إليه في آية « وهو أهون عليه » .
ولما ذكر تصرفه في الظرف وبعض المظروف من الإنس والجن ، ذكر قهره للكل فقال : { وله } أي وحده بالملك الأتم { من في السماوات والأرض } أي كلهم ، وأشار إلى الملك بقوله : { كلٌّ له } أي وحده . ولما كان انقياد الجمع مستلزماً لانقياد الفرد دون عكسه جمع في قوله : { قانتون* } أي مخلصون في الانقياد ليس لأنفسهم ولا لمن سواه في الحقيقة والواقع تصرف بوجه ما إلا بإذنه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : مطيعون طاعة الإرادة وإن عصوا أمره في العبادة - نقله عنه البغوي وغيره ورجحه الطبري وهو معنى ما قلت .
ولما كان هذا معنى يشاهده كل أحد في نفسه مع ما جلى سبحانه من عرائس الآيات الماضيات ، فوصل الأمر في الوضوح إلى حد عظيم قال : { وهو } أي لا غيره { الذي يبدأ الخلق } أي على سبيل التجديد كما تشاهدون ، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال : { ثم يعيده } أي بعد أن يبيده .
ولما كان من المركوز في فطر جميع البشر أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه قال : { وهو } أي وذلك الذي ينكرونه من الإعادة { أهون عليه } خطاباً لهم بما الفوه وعقلوه ولذلك أخر الصلة لأنه لا معنى هنا للاختصاص الذي يفيده تقديمها .
ولما كان هذا إثماً هو على طريق التمثيل لما يخفى عليهم بما هو جلي عندهم ، وكل من الأمرين بالنسبة إلى قدرته على حد سواء لا شيء في علمه أجلى من آخر ، ولا في قدرته أولى من الآخر ، قال مشيراً إلى تنزيه نفسه المقدسة عما قد يتوهمه بعض الأغبياء من ذلك : { وله } أي وحده { المثل الأعلى } أي الذي تنزه عن كل شائبة نقص ، واستولى على كل رتبة كمال ، وهو أمره الذي أحاط بكل مقدور ، فعلم به إحاطته هو سبحانه بكل معلوم ، كما تقدم في البقرة في شرح المثل
{ ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] .
ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال : { في السماوات والأرض } اللتين خلقهما ولم تستعصيا عليه ، فكيف يستعصي عليه شيء فيهما ، وقد قالوا : إن المراد بالمثل هنا الصفة ، وعندي أنه يمكن أن يكون على حقيقته تقريباً لعقولنا ، فإذا أردنا تعرفه سبحانه في الملك مثلنا بأعلى ما نعلم من ملوكنا فنقول : الاستواء على العرش مثل للتدبير والتفرد بالملك كما يقال في ملوكنا : فلان جلس على سرير الملك ، بمعنى : استقل بالأمر وتفرد بالتدبير وإن لم يكن هنا سرير ولا جلوس ، وإذا ذكر بطشه سبحانه وأخذه لأعدائه في نحو قوله تعالى : { يد الله فوق أيديهم } [ الفتح : 10 ] { إن بطش ربك لشديد } [ البروج : 12 ] مثلناه بما لو قهر سلطان أعدائه بحزمه وصحة تدبيره وكثرة جنوده فقلنا « محق سيفه أعداءه » فأطلقنا سيفه على ما ذكر من قوته ، وإذا قيل : تجري بأعيننا ، ونحو ذلك علمنا أنه مثل ما نقول إذا رأينا ملكاً حسن التدبير لا يغفل عن شيء من أحوال رعيته فقلنا « هو في غاية اليقظة » فأطلقنا اليقظة التي هي ضد النوم على حسن النظر وعظيم التدبير وشمول العلم ، وهذه تفاصيل مما قدمت أنه مثله ، وهو أمره المحيط الذي انجلى لنا به غيب ذاته سبحانه ، وهكذا ما جاء من أمثاله نأخذ من العبارة روحها فنعلم أنه المراد ، وأن ذلك الظاهر ما ذكر إلا تقريباً للأفهام النقيسة على ما نعرف من أعلى الأمثال ، والأمر بعد ذلك أعلى مما نعلم ، ولذلك قال تعالى : { وهو } أي وحده { العزيز } أي الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان { الحكيم* } أي الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره على التوصل إلى نقص شيء منه ، ولا تتم حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث ، بل هو محط الحكمة الأعظم ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير على ما نتعارفه وإلا لكان الباطل أحق من الحق وأكثر ، فكان عدم هذا الموجود خيراً من وجوده وأحكم .
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
ولما بان من هذا أنه المتفرد في الملك بشمول العلم وتمام القدرة وكمال الحكمة ، اتصل بحسن أمثاله وإحكام مقاله وفعاله قوله : { ضرب لكم } أي بحكمته في أمر الأصنام وبيان إبطال من يشرك بها وفساد قوله بأجلى ما يكون من التقرير : { مثلاً } مبتدئاً { من أنفسكم } التي هي أقرب الأشياء إليكم ، فأنتم لما تذكرون به أجدر بأن تفهموه .
ولما كان حاصل المثل أنه لا يكون مملوك كمالك ، وكان التقرير أقرب إلى التذكير وأبعد عن التنفير ، قال منكراً موبخاً مقرراً : { هل لكم } أي يا من عبدوا مع الله بعض عبيده { من ما } أي من بعض ما { ملكت أيمانكم } أي من العبيد أو الإماء الذين هم بشر مثلكم ، وعم في النفي الذي هو المراد بالاستفهام بزيادة الجار بقوله : { من شركاء } أي في حالة من الحالات يسوغ لكم بذلك أن تجعلوا لله شركاء ، ونبه على ما في إيجاد الرزق ثم قسمته بين الخلق وغير ذلك من شؤونه بقوله : التفاتاً بعد طول التعبير بالغيبة التي قد يتوهم معها بعد - إلى التلكم بالنون الدال مع القرب على العظمة ولذة الإقبال بالمخاطبة : { فيما رزقناكم } أي لما لنا من العظمة من مال أو جاه مع ضعف ملككم فيه .
ولما كانت الشركة سبباً لتساوي الشريكين في الأمر المشترك قال : { فأنتم } أي معاشر الأحرار والعبيد . ولما كان ربما توهم أن « من شركاء » صفة لأولاد من سراريهم ، قدم الصلة دفعاً لذلك فقال : { فيه } أي الشيء الذي وقعت فيه الشركة من ذلك الرزق خاصة لا غيره من نسب أو حسب ونحوهما أو خفة في بدن أو قلب أو طول في عمر ونحوها ، وأما أولادهم من السراري فربما ساووهم في ذلك وغيره من النسب ونحوه ، والعبيد ربما ساووهم في قوة البدن وطول العمر أو زادوا { سواء } ثم بين المساواة التي هي أن يكون حكم أحد القبيلين في المشترك على السواء كحكم الآخر لا يستبد أحدهما عن الآخر بشيء بقوله : { تخافونهم } أي معاشر السادة في التصرف في ذلك الشيء المشترك .
ولما كانت أداة التشبيه أدل ، أثبتها فقال : { كخيفتكم أنفسكم } أي كما تخافون بعض من تشاركونه ممن يساويكم في الحرية والعظمة أن تتصرفوا في الأمر المشترك بشيء لا يرضيه وبدون إذنه ، فظهر أن حالكم في عبيدكم مثل له فيمن أشركتموهم به موضح لبطلانه ، فإذا لم ترضوا هذا لأنفسكم وهو أن يستوي عبيدكم معكم في الملك فكيف ترضونه بخالقكم في هذه الشركاء التي زعمتموها فتسوونها به وهي من أضعف خلقه أفلا تستحيون؟ .
ولما كان هذا المثال ، في الذروة من الكمال ، كان السامع جديراً بأن يقول : جل ألله! ما أعلى شأن هذا البيان! هل يبين كل شيء هكذا؟ فقال : { كذلك } أي مثل هذا البيان العالي { نفصل } أي نبين ، لأن الفصل هو الميز وهو البيان ، وذلك على وجه عظيم - بما أشار إليه التضعيف مع التجديد والاستمرار : { الآيات } أي الدلالات الواضحات .
ولما كان البيان لا ينفع المسلوب قال : { لقوم يعقلون* } إشارة إلى أنهم إن لم يعملوا بمقتضى ذلك كانوا مجانين ، لأن التمثيل يكشف المعاني بالتصوير والتشكيل كشفاً لا يدع لبساً ، فمن خفي عليه لم يكن له تمييز .
ولما كان جوابهم قطعاً : ليس لنا شركاء بهذا الوصف ، كان التقدير ، فلم تتبعوا في الإشراك بالله دليلاً ، فنسق عليه : { بل } وكان الأصل : اتبعتم ، ولكنه أعرض عنهم ، إيذاناً بتناهي الغضب للعناد بعد البيان ، وأظهر الوصف الحامل لهم على ذلك تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال : { اتبع } أي بتكليف أنفسهم خلاف الفطرة الأولى { الذين ظلموا } أي وضعوا الشيء في غير موضعه فعل الماشي في الظلام { أهواءهم } وهو ما يميل إليه نفوسهم .
ولما كان اتباع الهوى قد يصادف الدليل ، وإذا لم يصادف وكان من عالم رده عنه علمه قال : { بغير علم } إشارة إلى بعدهم في الضلال لأن الجاهل يهيم على وجهه بلا مرجح غير الميل كالبهيمة لا يرده شيء ، وأما العالم فربما رده علمه .
ولما كان هذا ربما أوقع في بعض الأوهام أن هذا يغير إرادته سبحانه ، دل بفاء السبب على أن التقدير : وهذا ضلال منهم بإرادة الله ، فلما أساؤوا بإعراقهم فيه كانت عاقبتهم السوء والخذلان ، لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى : { فمن يهدي } أي بغير إرادة الله ، ولفت الكلام من مظهر العظمة إلى أعظم منه بذكر الاسم الأعظم لاقتضاء الحال له فقال : { من أضل الله } الذي له الأمر كله ، ودل بواو العطف على أن التقدير : ليس أحد يهديهم لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى فبعدوا عن أسباب النصر لأنهم صاروا على جرف هار في كل أمورهم ، فلذا حسن موضع تعقيبه بقوله : { وما لهم } وأعرق في النفي فقال : { من ناصرين* } أي من الأصنام ولا غيرها يخلصونهم مما هم فيه من الخذلان وأسر الشيطان ، ومما يسببه من النيران ، ونفى الجميع دون الواحد لأن العقل ناصر لهم بما هو مهيأ له من الفهم واتباع دليل السمع لو استعملوه ، أو لأنه ورد جواباً لنحو { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً لعلهم ينصرون } [ مريم : 81 ] أو للإشارة إلى أن تتبع الهوى لا ينفع في تلافي أمره إلا أعوان كثيرون ودل على نفي الواحد { لا تجزي نفس عن نفس } [ البقرة : 123 ] ، و { أن الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] و { فما له من قوة ولا ناصر } [ الطارق : 10 ] في أمثالها .
ولما تحررت الأدلة ، وانتصبت الأعلام ، واتضحت الخفايا ، وصرحت الإشارات ، وأفصحت ألسن العبارات ، أقبل على خلاصة الخلق ، إيذاناً بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره ، فقال مسبباً عن ذلك ممثلاً لإقباله واستقامته وثباته : { فأقم وجهك } أي قصدك كله { للدين } أي نصباً بحيث تغيب عما سواه ، فلا تلتفت عنه أصلاً فلا تنفك عن المراقبة ، فإن من اهتم بشيء سدد إليه نظره ، وقوم له وجهه .
ثم عرض بجلافة أهل الضلال وغشاوتهم ، وكثافتهم وغباوتهم ، وجمودهم وقساوتهم ، بقوله : { حنيفاً } أي حال كونك ميالاً مع الدليل هيناً ليناً نافذ الصبر نير البصيرة ساري الفكر سريع الانتقال طائر الخاطر ، ثم بين أن هذا الأمر في طبع كل أحد وإن كانوا فيه متفاوتين كما تراهم إذا كانوا صغاراً أسهل شيء انقياداً ، ولكنه لما يكشف لهم الحال في كثير من الأشياء عن أن انقيادهم كان خطأ يصيرون يدربون أنفسهم على المخالفة دائماً حتى تصير لبعضهم طبعاً تجريبياً فيصير أقسى شيء وأجمده بعد أن كان أسهل شيء وأطوعه ، وأكثر ما يكون هذا من قرناء السوء الذين يقولون ما لا يفعلون ، ولهذا نهى أن يوعد الطفل بما لا حقيقة له : روى أحمد وابن أبي الدنيا من طريق الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال المنذري : ولم يسمع منه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من قال لصبي : تعال هاك! ثم لم يعطه فهي كذبة » ، ولأبي داود والبيهقي وابن أبي الدنيا عن مولى عبد الله بن عامر - قال ابن أبي الدنيا : زياد عن عبد الله بن عامر - أن أمه رضي الله عنها قالت له : تعالَ أعطيك ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أردت أن تعطيه؟ قالت : تمراً ، فقال : أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة » ، فقال مبيناً لهم صحة دينه بأمر هو في أنفسهم ، كما بين بطلان دينهم بأمر هو في أنفسهم : { فطرت الله } أي الزم فطرة الملك الذي لا رادَّ لأمره ، وهي الخلقة الأولى التي خلق عليها البشر والطبع الأول ، وقال الغزالي في آخر كتاب العلم من الإحياء في بيان العقل في هذه الآية : أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله تعالى بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه ، أعني أنها كالمتضمنة فيه لقرب استعداده للإدراك - انتهى ، ثم أكد ذلك بقوله : { التي فطر الناس } أي كل من له أهلية التحرك { عليها } كلهم الأشقياء والسعداء ، وهي سهولة الانقياد وكرم الخلق الذي هو في الصورة فطرة الإسلام ، وتحقيق ذلك أن المشاهد من جميع الأطفال سلامة الطباع وسلاسة الانقياد لظاهر الدليل ، ليس منهم في ذلك عسر كما في الكبار إن تفاوتوا في ذلك ، فالمراد بالفطرة قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه ، كما تجد الأخرس يدرك أمر المعاد إدراكاً بيناً ، وله فيه ملكة راسخة ، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد بن منيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« كل مولود يولد على الفطرة » - وفي رواية للبخاري : « ما من مولود إلا يولد على الفطرة - فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها » فلذلك الجدع والوسم وشق الأذن ونحو ذلك مثالٌ للأخلاق التي يتعلمها الطفل ممن يعامله بها من الغش والكذب وغير ذلك ، وكذا حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه في مسلم في صفة النار والنسائي في فضائل القرآن وأبي داؤد الطالسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كل مال نحلته عبداً حلال ، وإني خلقت عبادي » حنفاء كلهم « وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وآمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانه » ولكن الشيطان لا يتمكن إلا بإقدار الله له في الحال بما يخلق في باطن المخذول من الباعث وفي الماضي من الطبائع التي هيأه بها لمثل ذلك كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه في الصحيح عن علي رضي الله تعالى عنه : « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » وآية سبحان { كل يعمل على شاكلته } [ الإسراء : 84 ] وذلك أنه لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قد كتب أهل الجنة وأهل النار ، فلا يزاد فيهم ولا ينقص ، قالوا : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فالكتاب حجة عليهم ، لأن مبناه على أن فلاناً من أهل النار لكونه لم يعمل كذا وكذا ، فأرادوا أن يجعلوه حجة لهم فاعلموا أن في ذلك أمرين لا يبطل أحدهما الآخر : باطن هو العلة الموجبة في حكم الربوبية وهو العلم ، وظاهر هو السمة اللازمة في حق العبودية وهو العمل ، وهو أمارة مخيلة غير مفيدة حقيقة العلم ، عولموا بذلك ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم ، ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم ، والخوف والرجاء مدرجتا العبودية ليستكملوا بذلك صفة الإيمان ، ونظير ذلك أمران : الرزق المقسوم مع الأمر بالمكسب ، والأجل المحتوم مع المعالجة بالطب ، فالمغيب فيهما علة موجبة والظاهر سبب مخيل ، وقد اصطلح خواصهم وعوامهم على أن الظاهر منهما لا يترك بالباطن - ذكر معناه الرازي في اللوامع عن الخطابي .
ولما كانت سلامة الفطرة الأولى أمراً مستمراً ، قال : { لا تبديل } ولعظم المقام كرر الاسم الأعظم فقال : { لخلق الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ، لا يقدر أحد أن يجعل طفلاً في أول أمره خبيث الفطرة لا ينقاد لما يقاد إليه ولا يستسلم لمن يريبه ، وكلما كبر وطعن في السن رجع لما طبع عليه من كفر أو إيمان ، أو طاعة أو عصيان ، أو نكر أو عرفان ، قليلاً قليلاً ، حتى ينساق إلى ذلك عند البلوغ أو بعده ، فإن مات قبل ذلك الجوزي بما كان الله يعلمه منه أنه يعمله طبعياً ويموت عليه كالغلام الذي قتله الخضر عليه السلام صح الخبر بأنه طبع على الكفر ، ولا يعذب بما يكون عارضاً منه ويعلم أنه سيكون لو كان كأبوي الغلام لما وقع التصريح به من أنه لو عاش لأرهقهما ظغياناً وكفراً ، فقد علم منهما الكفر حينئذ فلم يؤاخذا به لأنه عارض لا طبعي ، فالعبرة بالموت ، ومن طبع على شيء لم يمت على غيره ، فحقق هذا تعلم أنه لا تنافي بين شيء من النصوص لا من الكتاب ولا من السنة - والله الهادي .
ولما كان الميل مع الدليل كيفما مال أمراً لا يكتنه قدره ولا ينال إلا بتوفيق من الله ، أشار إلى عظمته بقوله : { ذلك } أي الأمر العظيم وهو الاهتزاز للدليل واتباع ما يشير إليه ويحث عليه { الدين القيِّم } الذي لا عوج فيه { ولكن أكثر الناس } قد تدربوا في اتباع الأهوية لما تقدم من الشبه فصاروا بحيث { لا يعلمون } أي لا علم لهم أصلاً حتى يميزوا الحق من الباطل لما غلب عليهم من الجفاء .
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
ولما كان من الناس من منّ الله عليه بأن كان في هذا الميدان ، وسمت همته إلى مسابقة الفرسان ، فلما رأى أنه لم يلتفت إليه ، ولم يعول أصلاً عليه ، كادت نفسه تطير ، وكانت عادة القوم أن يخاطبوا القوم لمخاطبة رئيسهم تعظيماً له وحثاً لهم على التحلي بما خص به ، جُبرت قلوبهم وشرحت صدورهم فبينت لهم حال من ضمير « أقم » أو من العامل في « فطرت » إعلاماً بأنهم مرادون بالخطاب ، مشار إليهم بالصواب ، فقال : { منيبين } أي راجعين مرة بعد مرة بمجاذبة النفس والفطرة الأولى { إليه } تعالى بالنزوع عما اكتسبتموه من رديء الأخلاق إلى تلك الفطرة السليمة المنقادة للدليل ، الميالة إلى سواء السبيل .
ولما لم يكن بعد الرجوع إلى المحبة إلا الأمر بلزومها خوفاً من الزيغ عنها دأب المرة الأولى . قال عاطفاً على { فأقم } : { واتقوه } أي خافوا أن تزيغوا عن سبيله يسلمكم في أيدي أولئك المضلين ، فإذا خفتموه فلزمتموها كنتم ممن تخلى عن الرذائل { وأقيموا الصلاة } تصيروا ممن تحلى بالفضائل - هكذا دأب الدين أبداً تخلية ثم تحلية : أول الدخول إلى الإسلام التنزيه ، وأول الدخول في القرآن الاستعاذة ، وهو أمر ظاهر معقول ، مثاله من أراد أن يكتب في شيء إن مسح ما فيه من الكتابة انتفع بما كتب ، وإلا أفسد الأول ولم يقرأ الثاني - والله الموفق .
ولما كان الشرك من الشر بمكان ليس هو لغيره ، أكد النهي عنه بقوله : { ولا تكونوا } أي كوناً ما { من المشركين } أي لا تكونوا ممن يدخل في عدادهم بمواددة أو معاشرة أو عمل تشابهونهم فيه فإنه « من تشبه بقوم فهو منهم » وهو عام في كل شرك سواء كان بعبادة صنم أو نار أوغيرهما ، أو بالتدين بما يخالف النصوص من أقوال الأحبار والرهبان وغير ذلك .
ولما كانوا يظنون أنهم على صواب ، نصب لهم دليلاً على بطلانه بما لا أوضح منه ، ولا يمكن أحداً التوقف فيه ، وذلك أنه لا يمكن أن يكون الشيء متصفاً بنفي شيء وإثباته في حالة واحدة فقال مبدلاً : { من الذين فرقوا } لما فارقوا { دينهم } الذي هو الفطرة الأولى ، فعبد كل قوم منهم شيئاً ودانوا ديناً غير دين من سواهم ، وهو معنى { وكانوا } أي بجهدهم وجدهم في تلك المفارقة المفرقة { شيعاً } أي فرقاً متحالفين ، كل واحدة منهم تشايع من دان بدينها على من خالفهم حتى كفر بعضهم بعضاً واستباحوا الدماء والأموال ، فعلم قطعاً أنهم كلهم ليسوا على الحق .
ولما كان هذا أمراً يتعجب من وقوعه ، زاده عجباً بقوله استئنافاً : { كل حزب } أي منهم { بما لديهم } أي خاصة من خاص ما عندهم من الضلال الذي انتحلوه { فرحون* } طناً منهم أنهم صادفوا الحق وفازوا به دون غيرهم .
ولما حصل من هذا القطع من كل عاقل أن أكثر الخلق ضال ، فكان الحال جديراً بالسؤال ، عن وجه الخلاص من هذا الضلال ، أشير إليه أنه لزوم الاجتماع ، وبين ذلك في جملة حالية من فاعل « فرحون » فقال تعالى : { وإذا } وكان الأصل : مسهم ، ولكنه قيل لأنه أنسب بمقصود السورة من قصر ذلك على الإنسان كما هي العادة في أكثر السور أو غير ذلك من أنواع العالم : { مس الناس } تقوية لإرادة العموم إشارة إلى كل من فيه أهلية النوس وهو التحرك ، من الحيوانات العجم والجمادات لو نطقت ثم اضطربت لتوجهت إليه سبحانه ولم تعدل عنه كما أنها الآن كذلك بألسنة أحوالها ، فهذا هو الإجماع الذي لا يتصور معه نزاع { ضر دعوا ربهم } أي الذي لم يشاركه في الإحسان إليهم أحد في جميع مدة مسهم بذلك الضر - بما أشار إليه الظرف حال كونهم { منيبين } أي راجعين من جميع ضلالاتهم التي فرقتهم عنه { إليه } علماً منهم بأنه لا فرج لهم عند شيء غيره ، هذا ديدن الكل لا يخرم عنه أحد منهم في وقت من الأوقات ، ولا في أزمة من الأزمات ، قال الرازي في اللوامع في أواخر العنكبوت : وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان ، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء .
ولما كان كل واقع في شدة مستبعداً كل استبعاد الخلاص منها قال : { ثم } بأداة العبد { إذا أذاقهم } مسنداً الرحمة إليه تعظيماً للأدب وإن كان الكل منه . ولما كان السياق كله للتوحيد ، فكانت العناية باستحضار المعبود باسمه وضميره أتم قال : { منه } مقدماً ضميره دالاً بتقديم الجار على الاختصاص وأن ذلك لا يقدر عليه غيره ، وقال : { رحمة } أي خلاصاً من ذلك الضر ، إشارة إلى أنه لو أخذهم بذنوبهم أهلكهم ، فلا سبب لإنعامه سوى كرمه ، ودل على شدة إسراعهم في كفران الإحسان بقوله معبراً بأداة المفاجأة : { إذا فريق منهم } أي طائفة هي أهل لمفارقة الحق { بربهم } أي المحسن إليهم دائماً ، المجدد لهم هذا الإحسان من هذا الضر { يشركون* } بدل ما لزمهم من أنهم يشكرون فعلم أن الحق الذي لا معدل عنه الإنابة في كل حال إليه كما أجمعوا في وقت الشدائد عليه ، وأن غيره مما فرقهم ضلال ، لا يعدله قبالاً ولا ما يعدله قبال .
ولما كان هذا الفعل مما لا يفعله إلا شديد الغباوة أو العناد ، وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس ، ربا بهم عن منزلة البله إلى ما الجنون خير منه تهكماً بهم فقال : { ليكفروا بما } ولفت الكلام إلى مظهر العظمة فقال : { آتيناهم } أي من الرحمة التي من عظمتها أنه لا يقدر عليها غيرنا أمناً من أن يقعوا في شدة اخرى فنهلكهم بما أغضبونا ، أو توسلاً بذلك إلى أن نخلصهم متى وقعوا في أمثالها ، فلما أضل عقولهم وأسفه آراءهم! .
ولما كان فعلهم هذا سبباً لغاية الغضب ، دل عليه بتهديده ملتفتاً إلى المخاطبة بقوله : { فتمتعوا } أي بما أردتم فيه بالشرك من اجتماعكم عند الأصنام وتواصلكم بها وتعاطفكم ، وسبب عن هذا التمتع قوله : { فسوف تعلمون* } أي يكون لكم بوعد لا خلف فيه علم فتعرفون إذا حل بكم البلاء وأحاط بكم جميعاً المكروه هل ينفعكم شيء من الأصنام أو من اتخذتم عنده يداً بعبادتها ووافقتموه في التقرب إليها .
ولما بكتهم بقوله : { هل لكم مما ملكت أيمانكم } ووصل به ما تقدم أنه في غاية التواصل ، عاد له ملتفتاً إيذاناً بالتهاون بهم إلى مقام الغيبة إبعاداً لهم عن جنابه حيث جلى لهم هذه الأدلة واستمروا في خطر إغضابه بقوله : { أم أنزلنا } بما لنا من العظمة { عليهم سلطاناً } أي دليلاً واضحاً قاهراً { فهو } أي ذلك السلطان لظهور بيانه { يتكلم } كلاماً مجازياً بدلالته وإفهامه ، ويشهد { بما } أي بصحة الذي { كانوا } أي كوناً راسخاً { به } أي خاصة { يشركون * } بحيث لم يجدوا بدّاً من متابعته لتزول عنهم الملامة ، وهذه العبارة تدل على أنهم لازموا الشرك ملازمة صيرته لهم خلقاً لا ينفك .
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
ولما بان بهذين المتعادلين أنه لم يضطرهم إلى الإشراك عرفٌ في أنفسهم مستمر دائم ، ولا دليل عقلي ظاهر ، ولا أمر من الله قاهر ، فبان أنهم لم يتبعوا عقلاً ولا نقلاً ، بل هم أسرى الهوى المبني على محض الجهل ، وكان قد صرح بذلك عقب العديل الأول ، لمح هنا ، وترك التصريح به لإغناء الأول عنه ، واستدل عليه بدليل خالفوا فيه العادة المستمرة ، والدلالة الشهودية المستقرة ، فقال عاطفاً على { وإذا مس } دالاً على خفة أحلامهم من وجه آخر غير الأول : { وإذا } معبراً بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من النقمة ، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال : { أذقنا } وجرى الكلام على النمط الماضي في العموم لمناسبة مقصود السورة في أن الأمر كله له في كل شيء فقال : { الناس رحمة } أي نعمة من غنى ونحوه لا سبب لها إلا رحمتنا { فرحوا بها } أي فرح مطمئن بطر آمن من زوالها ، ناسين شكر من أنعم بها ، وقال : { وإن } بأداة الشك دلالة على أن المصائب أقل وجوداً ، وقال : { تصبهم } غير مسند لها إليه تأديباً لعباده وإعلاماً بغزير كرمه { سيئة } أي شدة تسوءهم من قحط ونحوه .
ولما كانت المصائب مسببة عن الذنوب ، قال منبهاً لهم على ذلك منكراً قنوطهم وهم لا يرجعون عن المعاصي التي عوقبوا بسببها : { بما قدمت أيديهم } أي من المخالفات ، مسنداً له إلى اليد لأن أكثر العمل بها { إذا هم } أي بعد ما ساءهم وجودها مساءة نسوا بها ما خولوا فيه من النعم وجملوا له من ملابس الكرم { يقنطون* } أي فاجاؤوا البأس ، مجددين له في كل حين من أحيان نزولها وإن كانوا يدعون ربهم في كشفها ويستعينونه لصرفها مع مشاهدتهم لضد ذلك في كلا الشقين في أنفسهم وغيرهم متكرراً ، ولذلك أنكر عليه عدم الرؤية دالاً بواو العطف أن التقدير : ألم يروا في أنفسهم تبدل الأحوال ، قائلاً : { أولم يروا } أي بالمشاهدة والإخبار رؤية متكررة ، فيعلموا علماً هو في ثباته كالمشاهد المحسوس ، وعبر بالرؤية الصالحة للبصر والبصيرة لأن مقصود السورة إثبات الأمر كله لله ، ولا يكفي فيه إلا بذل الجهد وإمعان النظر ، والسياق لذم القنوط الذي يكفي في بقية المشاهدة لاختلاف الأحوال ، بخلاف الزمر التي مقصودها الدلالة على صدق الوعد الكافي فيه مطلق العلم .
ولما كان في البسط والقبض جمع بين جلال وجمال ، لفت الكلام بذكر الاسم الجامع فقال : { أن الله } بجلاله وعظمته { يبسط الرزق } أي يكثره { لمن يشاء } أي من عباده منهم ومن غيرهم { ويقدر } أي يضيق ، وإن هذا شأنه دائماً مع الشخص الواحد في أوقات متعاقبة متباعدة ومتقاربة ، ومع الأشخاص ولو في الوقت الواحد ، فلو اعتبروا حال قبضه سبحانه لم يبطروا ، ولو اعتبروا حال بسطه لم يقنطوا ، بل كان حالهم الصبر في البلاء ، والشكر في الرخاء ، والإقلاع عن السيئة التي نزل بسببها القضاء ، فقد عرف من حالهم أنهم متقيدون دائماً بالحالة الراهنة .
يغلطون في الأمور المتكررة المشاهدة ، فلا عجب في تقيدهم في إنكار البعث بهذه الحياة الدنيا .
ولما لم يغن أحد منهم في استجلاب الرزق قوته وغزارة عقله ودقة مكره وكثرة حيله ، ولا ضره ضعفه وقلة عقله وعجز حيلته ، وكان ذلك أمراً عظيماً ومنزعاً مع شدة ظهوره وجلالته خفياً دقيقاً كما قال بعضهم :
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً
أشار سبحانه إلى عظمته بقوله ، مؤكداً لأن عملهم في شدة اهتمامهم بالسعي في الدنيا عمل من يظن تحصيلها إنما هو على قدر الاجتهاد في الأسباب : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم من الإقتار في وقت والإغناء في آخر والتوسيع على شخص والتقتير على آخر ، والأمن من زوال الحاضر من النعم مع تكرر المشاهدة للزوال في النفس والغير ، واليأس من حصولها عند المحنة مع كثرة وجدان الفرج وغير ذلك من أسرار الآية { لآيات } أي دلالات واضحات على الوحدانية لله تعالى وتمام العلم وكمال القدرة ، وأنه لا فاعل في الحقيقة إلا هو لكن { لقوم } أي ذوي همم وكفاية للقيام بما يحق لهم أن يقوموا فيه { يؤمنون } أي يوجدون هذا الوصف ويديمون تجديده كل وقت لما يتواصل عندهم من قيام الأدلة ، بإدامة التأمل والإمعان في التفكر ، والاعتماد في الرزق على من قال { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } [ القمر : 17 ] أي من طالب علم فيعان عليه فلا يفرحون بالنعم إذا حصلت خوفاً من زوالها إذا أراد القادر ، ولا يغتمون بها إذا زالت رجاء في إقبالها فضلاً من الرازق ، لأن « أفضل العبادة انتظار الفرج » بل هم بما عليهم من وظائف العبادة واجبها ومندوبها معرضون عما سوى ذلك ، وقد وكلوا أمر الرزق إلى من تولى أمره وفرغ من قسمه وقام بضمانه ، وهو القدير العليم .
ولما أفهم ذلك عدم الاكتراث بالدنيا لأن الاكتراث بها لا يزيدها ، والتهاون بها لا ينقصها ، فصار ذلك لا يفيد إلا تعجيل النكد بالكد والنصب ، وكان مما تقدم أن السيئة من أسباب المحق ، سبب عنه الإقبال على إنفاقها في حقوقها إعراضاً عنها وإيذاناً بإهانتها وإيقاناً بأن ذلك هو استيفاؤها واستثمارها واستنماؤها ، فقال خاصاً بالخطاب أعظم المتأهلين لتنفيذ أوامره لأن ذلك أوقع في نفوس الأتباع ، وأجدر بحسن القبول منهم والسماع : { فآت } يا خير الخلق! { ذا القربى حقه } بادئاً به لأنه أحق الناس بالبر ، صلة للرحم وجوداً وكرماً { والمسكين } سواء كان ذا القربى أو لا { وابن السبيل } وهو المسافر كذلك ، والحق الذي ذكر لهما الظاهر أنه يراد به النفل لا الواجب ، لعدم ذكر بقية الأصناف ، ودخل الفقير من باب الأولى .
ولما أمر بالإيتاء ، رغب فيه فقال : { ذلك } أي الإيتاء العالي الرتبة { خير } ولما كان سبحانه أغنى الأغنياء فهو لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه لا رياء فيه ، قال معرفاً أن ذلك ليس قاصراً على من خص بالخطاب بل كل من تأسى به نالته بركته { للذين يريدون } بصيغة الجمع ، ولما كان الخروج عن المال في غاية الصعوبة ، رغب فيه بذكر الوجه الذي هو أشرف ما في الشيء المعبر به هنا عن الذات وبتكرير الاسم الأعظم المألوف لجميع الخلق فقال : { وجه الله } أي عظمة الملك الأعلى ، فيعرفون من حقه ما يتلاشى عندهم على كل ما سواه فيخلصون له { وأولئك } العالو الرتبة لغناهم عن كل فان { هم } خاصة { المفلحون* } أي الذين لا يشوف فلاحهم شيء من الخيبة ، وأما غيرهم فخائب ، أما إذا لم ينفق فواضح ، وأما من أنفق على وجه الرياء بالسمعة والرياء فإنه خسر ماله ، وأبقى عليه وباله ، وأما من أنفق على وجه الرياء الحقيقي فقد صرح به تعريفاً بعظيم فحشه صارفاً الخطاب عن المقام الشريف الذي كان مقبلاً عليه ، تعريفاً بتنزه جنابه عنه ، وبعد تلك الهمة العلية والسجايا الطاهرة النقية منه ، إلى جهة من يمكن ذلك منهم فقال : { وما آتيتم } أي جئتم أي فعلتم - في قراءة ابن كثير بالقصر ليعم المعطي والآخذ والمتسبب ، أو أعطيتم - في قراءة غيره بالمد { من ربا } أي مال على وجه الربا المحرم أو المكروه ، وهو أن يعطي عطية ليأخذ في ثوابها أكثر منها ، وكان هذا مما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له ، وكره لعامة الناس . وعلى قراءة ابن كثير بالقصر المعنى : وما جئتم به من إعطاء بقصد الربا { ليربوا } أي يزيد ويكثر ذلك الذي أعطيتموه أو فعلتوه ، أو لتزيدوا أنتم ذلك - على قراءة المدنيين ويعقوب بالفوقانية المضمومة ، من : أربى { في أموال الناس } أي تحصل فيه زيادة تكون أموال الناس ظرفاً لها ، فهو كناية عن أن الزيادة التي يأخذها المربي من أموالهم لا يملكها أصلاً { فلا يربوا } أي يزكوا وينمو { عند الله } أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق وكل صفات الكمال ، وكل ما لا يربو عند الله فهو غير مبارك بل ممحوق لا وجود له ، فإنه إلى فناء وإن كثر { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } [ البقرة : 276 ] .
ولما ذكر ما زيادته نقص ، أتبعه ما نقصه زيادة فقال : { وما آتيتم } أي أعطيتم للإجماع على مدة لئلا يوهم الترغيب في أخذ الزكاة { من زكاة } أي صدقة ، وعبر عنها بذلك ليفيد الطهارة والزيادة ، أي تطهرون بها أموالكم من الشبه ، وأبدانكم من مواد الخبث ، وأخلاقكم من الغل والدنس . ولما كان الإخلاص عزيزاً ، أشار إلى عظمته بتكريره فقال : { تريدون } أي بها { وجه الله } خالصاً مستحضرين لجلاله وعظمته وكماله ، وعبر عن الذات بالوجه لأنه الذي يجل صاحبه ويستحي منه عند رؤيته وهو أشرف ما في الذات .
ولما كان الأصل : فأنتم ، عدل به إلى صيغة تدل على تعظيمه بالالتفات إلى خطاب من بحضرته من أهل قربه وملائكته ، لأن العامل يجب أن يكون له بعمله لسان صدق في الخلائق فكيف إذا كان من الخالق ، وبالإشارة إليه بأداة البعد إعلاماً بعلو رتبته ، وأن المخاطب بالإيتاء كثير ، والعامل قليل وجليل ، فقال : { فأولئك } ولعل إفراد المخاطب هنا للترغيب في الإيتاء بأنه لا يفهم ما لأهله حق فهمه سوى المنزل عليه هذا الوحي صلى الله عليه وسلم { هم } أي خاصة { المضعفون* } أي الذين ضاعفوا أموالهم في الدنيا بسبب ذلك الحفظ والبركة ، وفي الآخرة بكثرة الثواب عند الله من عشرة أمثال إلى ما لا حصر له كما يقال : مقو وموسر ومسمن ومعطش - لمن له قوة ويسار وسمن في إبله وعطش ونحو ذلك .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
ولما وضح بهذا أنه لا زيادة إلا فيما يزيده الله ، ولا خير إلا فيما يختاره الله ، فكان ذلك مزهداً في زيادة الاعتناء بطلب الدنيا ، بين ذلك بطريق لا أوضح منه فقال : { الله } أي بعظيم جلاله لا غيره { الذي خلقكم } أي أوجدكم على ما أنتم عليه من التقدير لا تملكون شيئاً .
ولما كان الرزق موزعاً بين الناس بل هو ضيق على كثرته عن كثير منهم ، فكان رزق من تجدد - لا سيما إن كان ابناً لفقير - مستبعداً ، أشار إليه بأداة البعد فقال : { ثم رزقكم } ولما كانت إماتة المتمكن من بدنه وعقله وقوته وأسباب نبله عجيبة ، نبه عليها بقوله : { ثم يميتكم } ولما كان كل ذلك في الحقيقة عليه هيناً ، وكان الإحياء بعد الإماتة إن لم يكن أهون من الإحياء أول مرة كان مثله وإن استبعدوه قال : { ثم يحييكم } .
ولما استغرق بما ذكر جميع ذواتهم وأحوالهم ، وكان الشريك من قام بشيء من العمل أو المعمول فيه ، وكان من المعلوم أنه ليس لشركائهم في شيء من ذلك نوع صنع ، قال منكراً عليهم : { هل من } ولما كان إشراكهم بما أشركوا لم تظهر له ثمرة إلا في أنهم جعلوا لهم جزءاً من أموالهم ، عبر بقوله : { شركائكم } أي الذين تزعمونهم شركاء { من يفعل من ذلكم } مشيراً إلى علو رتبته بأداة البعد وخطاب الكل . ولما كان الاستفهام الإنكاري التوبيخي في معنى النفي ، قال مؤكداً له مستغرقاً لكل ما يمكن منه ولو قل جداً : { من شيء } أي يستحق هذا الوصف الذي تطلقونه عليه .
ولما لزمهم قطعاً أن يقولوا : لا وعزتك! ما لهم ولا لأحد منهم في شيء من ذلك من فعل ، أشار إلى عظيم ما ارتكبوه بما أنتجه هذا الدليل ، فقال معرضاً عنهم زيادة في التعظيم والعظمة ، منزهاً لنفسه الشريفة منها على التنزيه ببعد رتبته الشماء من حالهم : { سبحانه } أي تنزه تنزهاً لا يحيط به الوصف من أن يكون محتاجاً إلى شريك ، فإن ذلك نقص عظيم . ولما كان من أخبر بأنه فعل شيئاً أو يفعله كالإماتة والإحياء بالبعث وغيره لا يحول بينه وبينه المقاوم من شريك ونحوه ، قال : { وتعالى } أي علواً لا تصل إليه العقول ، كما دلت عليه صيغة التفاعل ، وجرت قراءة حمزة والكسائي بالخطاب على الأسلوب الماضي ، وأذنت قراءة الباقين بالغيب بالإعراض للغضب في قوله معبراً بالمضارع إشارة إلى أن العاقل من شأنه أنه لا يقع منه شرك أصلاً ، فكيف إذا كان على سبيل التجدد والاستمرار : { عما يشركون* } في أن يفعلوا شيئاً من ذلك أو يقدروا بنوع من أنواع القدرة على أن يحولوا بينه وبين شيء مما يريد ليستحقوا بذلك أن يعظموا نوع تعظيم ، فنزهوه وعظموه بالبراءة من كل معبود سواه .
ولما بين لهم سبحانه من حقارة شركائهم ما كان حقهم به أن يرجعوا ، فلم يفعلوا ، أتبعه ما أصابهم به على غير ما كان في أسلافهم عقوبة لهم على قبيح ما ارتكبوا ، استعطافاً للتوبة فقال : { ظهر الفساد } أي النقص في جميع ما ينفع الخلق { في البر } بالقحط والخوف ونحوهما { والبحر } بالغرق وقلة الفوائد من الصيد ونحوه من كل ما كان يحصل منه قبل . وقال البغوي : البر البوادي والمفاوز ، والبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية ، قال عكرمة : العرب تسمي المصر بحراً . ثم بين سببه بقوله : { بما } ولما أغنى السياق بدلالته على السيئات عن الافتعال قال : { كسبت } أي عملت من الشر عملاً هو من شدة تراميهم إليه وإن كان على أدنى الوجوه بما أشار إليه تجريد الفعل كأنه مسكوب من علو ، ومن شدة إتقان شره كأنه مسبوك .
ولما كان أكثر الأفعال باليد ، أسند إليها ما يراد به الجملة مصرحاً بعموم كل ما له أهلية التحرك فقال : { أيدي الناس } أي عقوبة لهم على فعلهم . ولما ذكر علته البدائية ، ثنى بالجزائية فقال : { لنذيقهم } أي بما لنا من العظمة في رواية قنبل عن ابن كثير بالنون لإظهار العظمة في الإذاقة للبعض والعفو عن البعض ، وقراءة الباقين بالتحتانية على سنن الجلالة الماضي؛ وأشار إلى كرمه سبحانه بقوله : { بعض الذي عملوا } أي وباله وحره وحرقته ، ويعفو عن كثير إما أصلاً ورأساً ، وإما المعاجلة به ويؤخره إلى وقت ما في الدنيا ، أو إلى الآخرة ، والمراد الجزاء بمثل أعمالهم جزاء لها تعبيراً عن المسبب بالسبب الذي أتوه إلى الناس فيعرفوا إذا سلبوا المال مقدار ما ذاق منهم ذلك الذي سلبوه ، وإذا قتل لهم حميم حرارة ما قاسى حميم ما قتلوه ، ونحو ذلك مما استهانوه لما أتوه إلى غيرهم من الأذى البالغ وهم يتضاحكون ويعجبون من جزعه ويستهزؤون غافلين عن شدة ما يعاني من أنواع الحرق هو ومن يعز عليه أمره ، ويهمه شأنه ، ويده قد غلها عن المساعدة العجز ، وقصرها الضعف والقهر؛ ثم ثلث بالعلة الغائية فقال : { لعلهم يرجعون* } أي ليكون حالهم عند من ينظرهم حال من يرجى رجوعه عن فعل مثل ذلك خوفاً من أن يعاد لهم بمثل ذلك من الجزاء .
ولما كان الإنسان - لنقصه في تقيده بالجزئيات - شديد الوقوف مع العقل التجربي ، وكان علمهم بأيام الماضين ووقائع الأولين كافياً لهم في العظة للرجوع عن اعتقادهم ، والتبري من عنادهم ، وكانوا - لما لم يروا آثارهم رؤية اعتبار ، وتأمل وادكار ، عدوا ممن لم يرها ، فنبه سبحانه على ذلك بالاحتجاب عنهم بحجاب العزة ، أمراً له صلى الله عليه وسلم بأن يأمرهم بالسير للنظر ، فقال تأكيداً لمعنى الكلام السابق نصحاً لهم ورفقاً بهم : { قل } أي لهؤلاء الذي لا همّ لهم إلا الدنيا ، فلا يعبرون فيما ينظرون من ظاهر إلى باطن : { سيروا } وأشار إلى استغراق ديار المهلكين كل حد ما حولهم من الجهات كما سلف فقال : { في الأرض } فإن سيركم الماضي لكونه لم يصحبه عبرة عدم .
ولما كان المراد الانقياد إلى التوحيد ، وكان قد ذكرهم بما أصابهم على نحو ما أصاب به الماضين قال : { فانظروا } بفاء التعقيب ، ولما كان ما أحله بهم في غاية الشدة ، عرفهم بذلك ، فساق مساق الاستفهام تخويفاً لهم من إصابتهم بمثله فقال : { كيف } ولما كان عذابهم مهولاً ، وأمرهم شديداً وبيلاً ، دل عليه بتذكير الفعل فقال : { كان عاقبة } أي آخر أمر { الذين } ولما كان المراد طوائف المعذبين ، وكانوا بعض من مضى ، فلم يستغرقوا الزمان ، بعض فقال : { من قبل } أي من قبل أيامكم أذاقهم الله وبال أمرهم ، وأوقعهم في حفائر مكرهم .
ولما كان هذا التنبيه كافياً في الاعتبار ، فكان سامعه جديراً بأن يقول : قد تأملت فرأيت آثارهم عظيمة ، وصنائعهم مكينة ، ومع ذلك فمدنهم خاليه وبيوتهم خاوية ، قد ضربوا بسوط العذاب ، فعمهم الخسار والثياب ، فما لهم عذبوا ، فأجيب بقوله : { كان أكثرهم مشركين* } فلذلك أهلكناهم ولم تغنِ عنهم كثرتهم ، وأنجينا المؤمنين وما ضرتهم قلتهم .
ولما كانوا مع كثرة مرورهم على ديارهم ، ونظرهم لآثارهم ، وسماعهم لأخبارهم ، لم يتعظوا ، أشير إلى أنهم عدم ، بصرف الخطاب عنهم ، وتوجيهه إلى السامع المطيع ، فقال مسبباً عما مضى من إقامة الأدلة والوعظ والتخويف : { فأقم } أي يا من لا يفهم عنا حق الفهم سواه ، لأنا فضلناه على جميع الخلق { وجهك } أي لا تلفته أصلاً { للدين القيِّم } الذي لا عوج فيه بوجه ، بل هو عدل كله ، من التبري من الأوثان إلى التلبس بمقام الإحسان ، فالزمه واجعله بنصب عينك لا تغفل عنه ولا طرفة عين ، لكونه سهلاً فيما تسبب الإعانه عليه في الظاهر بالبيان الذي ليس معه خفاء ، وفي الباطن بالجبل عليه حتى أنه ليقبله الأعمى والأصم والأخرس ، ويصير فيه كالجبل رسوخاً .
ولما كان حفظ الاستقامة عزيزاً ، أعاد التخويف لحفظ أهلها ، فقال ميسراً الأمر بعدم استغراق الزمان بإثبات الجار ، إشارة إلى الرضا باليسير من العمل ولو كان ساعة من نهار ، بشرط الاتصال بالموت : { من قبل } وفك المصدر للتصريح فقال : { أن يأتي يوم } أي عظيم ، وهو يوم القيامة ، أو الموت ، وأشار إلى تفرده سبحانه في الملك بقوله : { لا مرد له } ولفت الكلام في رواية قنبل من مظهر العظمة إلى أعظم منه لاقتضاء المقام ذلك وأظهر في رواية الباقين لئلا يتوهم عود الضمير إلى الدين فقال : { من الله } وإذا لم يرده هو لوعده بالإتيان به ، وهو ذو الجلال والإكرام ، فمن الذي يرده .
ولما حقق إتيانه ، فصل أمره مرغباً مرهباً ، فقال : { يومئذ } أي إذ يأتي { يصدعون* } أي تتفرق الخلائق كلهم فرقة قد تخفى على بعضهم - بما أشار إليه الإدغام ، فيقولون : ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار .
ولما كان المعنى أنهم فريق في الجنة وفريق في السعير ، بين ذلك ببيان عاقبة سببه في جواب من كأنه قال : إلى أين يتفرقون؟ قائلاً : { من كفر } أي منهم فعلم شيئاً { فعليه } أي لا على غيره { كفره } أي وباله ، وعلى أنفسهم يعتدون ولها يهدمون فيصيرون في ذلك اليوم إلى النار التي هم بها مكذبون ، ومن كان عليه كفره الذي أوبقه إلى الموت ، فلا خلاص له فيما بعد الفوت ، ووحد الضمير رداً له على لفظ من نصاً على أن كل واحد مجزيّ بعمله لا المجموع من حيث هو مجموع ، وإفهاماً لأن الكفرة قليل وإن كانوا أكثر من المؤمنين ، لأنهم لا مولى لهم ، ولتفرق كلمتهم { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } [ الحشر : 14 ] ولأنه لا اجتماع بين أهل النار ليتأسى بعضهم ببعض ، بل كل منهم في شغل شاغل عن معرفة ما يتفق لغيره { ومن عمل صالحاً } أي بالإيمان وما يترتب عليه ، وأظهر ولم يضمر لئلا يتوهم عود الضمير على { من كفر } وبشارة بأن أهل الجنة كثير وإن كانوا قليلاً ، لأن الله مولاهم فهو يزكيهم ويؤيدهم ، وفي جمع الجزاء مع إفراد الشرط ترغيب في العمل من غير نظر إلى مساعد بأنه ينفع نفسه وغيره ، لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، وأقل ماينفع والديه وشيخه في ذلك العمل ، وعبر بالنفس ليدل - بعد الدلالة على إرادة العامل ومن شايعه حتى كان بحكم اتحاد القصد إياه - على أن العمل الصالح يزكي النفوس ويطهرها من رذائل الأخلاق ، فقال : { فلأنفسهم } أي خاصة أعمالهم ولهم خاصة عملهم الصالح ولأنفسهم { يمهدون } أي يسوون ويوطئون منازل في القبور والجنة ، بل وفي الدنيا فإن الله يعزهم بعز طاعته ، والآية من الاحتباك : حذف أولاً عدوانهم على أنفسهم لما دل عليه من المهد ، وثانياً كون العمل خاصاً بهم لما دل عليه من كون الكفر على صاحبه خاصة ، وأحسن من هذا أن يقال : ذكر الكفر الذي هو السبب دليلاً على الإيمان ثانياً ، والعمل الصالح الذي هو الثمرة ثانياً دليلاً على العمل السيء أولاً .
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
ولما فرغ من بيان تصدعهم ، ذكر علته فقال : { ليجزي } أي الله سبحانه الذي أنزل هذه السورة لبيان أنه ينصر أولياءه لإحسانهم لأنه مع المحسنين ، ولذلك اقتصر هنا على ذكرهم فقال : { الذين آمنوا } أي ولو على أدنى الوجوه { وعملوا } أي تصديقاً لإيمانهم { الصالحات } ولما كانت الأعمال نعمة منه ، فكان الجزاء محض إحسان ، قال : { من فضله } .
ولما كان تنعيمهم من أعظم عذاب الكافرين الذين كانوا يهزؤون بهم ويضحكون منهم ، علله بقوله على سبيل التأكيد لدعوى من يظن أن إقبال الدنيا على العصاة لمحبة الله لهم : { إنه لا يحب الكافرين* } أي لا يفعل مع العريقين في الكفر فعل المحب ، فلا يسويهم بالمؤمنين ، وعلم من ذلك ما طوى من جزائهم ، فالآية من وادي الاحتباك ، وهو أن يؤتي بكلامين يحذف من كل منهما شيء ويكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كل على ما حذف من الآخر ، فالتقدير هنا بعد ما ذكر من جزاء الذين آمنوا أنه يحب المؤمنين ويجزي الذين كفروا وعملوا السيئات بعدله لأنه لا يحب الكافرين ، فغير النظم ليدل مع دلالته كما ترى على ما حذف على أن إكرام المؤمنين هو المقصود بالذات ، وهو بعينه إرغام الكافرين ، وعبر في شق المؤمنين بالمنتهى الذي هو المراد من محبة الله لأنه أسرّ . وفي جانب الكافرين بالمبدأ الذي هو مجاز لأنه أنكأ وأضر .
ولما ختم في أول السورة الآيات الدالة على الوحدانية المستلزمة للبعث لأن به تمام ظهور الحكمة ، وانكشاف غطاء القلوب عن صفات العظمة ، بأن قيام السماء والأرض بأمره وأتبع ذلك ما اشتد التحامه به ، وختمه ببعض الكافرين بعد ذكر يوم البعث ، أتبعه ذكر ما حفظ به قيام الوجود ، وهو الرياح ، يجعلها سبباً في إدرار النعم التي منها ما هو أعظم أدلة البعث وهو النبات ، وهي بجملتها دليل ذلك وسبب القرار في البر والسير في البحر الموصل لمنافع بعض البلاد إلى بعض ، وبذلك انتظم الأمر لأهل الأرض ، فاستعمل المؤمن منهم ما رزقه سبحانه من العقل في النظر في ذلك حتى أداه إلى شكره فأحبه ، واقتصر الكافر على الدأب فيما يستجلب به تلك النعم ويستكثرها ، فأبطره ذلك فأوصله إلى كفره فأبغضه ، والرياح أيضاً أشبه شيء بالناس ، منها النافع نفعاً كبيراً ، ومنها الضار ضراً كثيراً ، فقال : { ومن آياته } أي الدلالات الواضحة الدالة علم كمال قدرته وتمام علمه الدال على أنه هو وحده الذي أقام هذا الوجود ، وكما أنه أقامه فهو يقيم وجوداً آخر هو زبدة الأمر ، ومحط الحكمة ، وهو أبدع من هذا الوجود ، يبعث فيه الخلق بعد فنائهم ، ويتجلى لفصل القضاء بينهم ، فيأخذ بالحق لمظلومهم من ظالمهم ، ثم يصدعهم فيجعل فريقاً منهم في الجنة دار الإعانة والكرامة ، وفريقاً في السعير غار الإهانة والملامة { أن يرسل الرياح } على سبيل التجدد والاستمرار ، وهي ما عدا الدبور المشار في الحديث الشريف إلى الاستعاذة منها
« اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » وقد تقدم من شرحي لها عند { من يرسل الرياح بشراً } في [ النمل : 63 ] ما فيه كفاية ، وفي جمعها المجمع عليه هنا لوصفها بالجمع إشارة إلى باهر القدرة ، فإن تحويل الريح الواحدة من جهة إلى أخرى أمر عظيم لا قدرة لغيره عليه في الفضاء الواسع ، وكذا إسكانه ، فكيف إذا كانت رياح متعاكسة ، ففي إثارتها كذلك ثم إسكانها من باهر القدرة ما لا يعلمه إلا أولو البصائر { مبشرات } أي لكم بكل ما فيه نفعكم من المطر والروح وبرد الأكباد ولذة العيش .
ولما كان التقدير : ليهلك بها من يشاء من عباده ، أو ليدفع عنكم ما يحصل بفقدها من نقمته من الحر ، وما يتبعه من انتشار المفسدات ، واضمحلال المصلحات ، وطواه لأن السياق لذكر النعم ، عطف عليه قوله مثبتاً اللام إيضاحاً للمعطوف عليه : { وليذيقكم } وأشار إلى عظمة نعمة بالتبعيض في قوله : { من رحمته } أي نعمه من المياه العذبة والأشجار الرطبة ، وصحة الأبدان ، وخصب الزمان ، وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها ، ولا يتصورها حق تصورها إلا من فقد الرياح ، من وجود الروح وزكاء الأرض وإزالة العفونة من الهواء والإعانة على تذرية الحبوب وغير ذلك ، وأشار إلى عظمة هذه النعمة وإلى أنها صارت لكثرة الإلف مغفولاً عنها بإعادة اللام فقال : { ولتجري الفلك } أي السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها .
ولما أسند الجري إلى الفلك نزعه منها بقوله : { بأمره } أي بما يلائم من الرياح اللينة ، وإذا أراد أعصفها فأغرقت ، أو جعلها متعاكسة فحيرت ورددت ، حتى يحتال الملاحون بكل حيلة على إيقاف السفن لئلا تتلف .
ولما كان كل من مجرد السير في البحر والتوصل به من بلد إلى بلد نعمة في نفسه ، عطف على { لتجري } قوله ، منبهاً بإعادة اللام إيضاحاً للمعطوف عليه على تعظيم النعمة : { ولتبتغوا } أي تطلبوا طلباً ماضياً بذلك السير ، وعظم ما عنده بالتبعيض في قوله : { من فضله } مما يسخر لكم من الريح بالسفر للمتجر من بلد إلى بلد والجهاد وغيره { ولعلكم } أي ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم { تشكرون* } ما أفاض عليكم سبحانه من نعمه ، ودفع عنكم من نقمه .
ولما كان التقدير : فمن أذاقه من رحمته ، ومن كفر أنزل عليه من نقمته ، وكان السياق كله لنصر أوليائه وقهر أعدائه ، وكانت الرياح مبشرات ومنذرات كالرسل ، وكانت موصوفة بالخير كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها « فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة » وكانت في كثرة منافعها وعمومها إن كانت نافعة ، ومضارها إن كانت ضارة ، أشبه شيء بالرسل في إنعاش قوم وإهلاك آخرين ، وما ينشأ عنها كما ينشأ عنهم .
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه : البخاري في العلم ، ومسلم في المناقب « مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ، فكانت طائفة منها طيبة فقبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاء ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به » ولما كان الأمر كذلك ، عطف على قوله : « ينصر من يشاء » وقوله : { ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى } أو على ما تقديره تسبيباً عن قوله : { فأقم وجهك للدين القيم } : فلقد أرسلناك بشيراً لمن أطاع بالخير ، ونذيراً لمن عصى بالشر ، قوله مسلياً لهذا النبي الكريم ، عليه أفضل الصلاة والتسليم ، وأتباعه ، ولفت الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء سياق الانتقام لها ، وأكد إشارة إلى أن الحال باشتداده وصل إلى حالة اليأس ، أو لإنكار كثير من الناس إرسال البشر : { ولقد أرسلنا } بما لنا من العزة .
ولما كانت العناية بالإخبار بأن عادته ما زالت قديماً وحديثاً على نصر أوليائه ، قال معلماً بإثبات الجار أن الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل ، أو أن الكلام في خصوص الأمم المهلكة : { من قبلك } مقدماً له على { رسلاً } أوللتنبيه على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه ، وقال : { إلى قومهم } إعلاماً بأن بأس الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد ، وزاد في التسلية بالتذكير إشارة إلى شدة أذى القوم لأنبيائهم حيث لم يقل « إلى قومها » .
ولما كان إرسال الله سبباً لا محالة للبيان الذي لا لبس معه قال : { فجاءوهم بالبينات } فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين { فانتقمنا } أي فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة { من الذين أجرموا } لأجرامهم ، وهو قطع ما أمرناهم بوصله اللازم منه وصل ما أمروا بقطعه ، فوصلوا الكفر وقطعوا الإيمان ، فخذلناهم وكان حقاً علينا قهر المجرمين ، إكراماً لمن عادوهم فينا ، وأنعمنا على الذين آمنوا فنصرناهم .
ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به ، قدمه تعجيلاً للسرور وتطييباً للنفوس فقال : { وكان } أي على سبيل الثبات والدوام { حقاً علينا } أي بما أوجبناه لوعدنا الذي لا خلق فيه { نصر المؤمنين* } أي العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة ، فلم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر ، فإن هذا من الحكمة التي لا ينبغي إهمالها ، فليعتد هؤلاء لمثل هذا ، وليأخذوا لذلك أهبته لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء؟ والآية من الاحتباك : حذف أولاً الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه ، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه .
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
ولما أقام سبحانه الدليل على البعث وإقامة الوجود بتصريفه الرياح كيف يشاء وأتبعه آية التسلية والتهديد ، وكان عذاب المذكورين فيها بالريح أو ما هي سببه أو لها مدخل فيه ، أتبع ذلك الإعلام بأنه مختص بذلك سبحانه تنبيهاً على عظيم آية الرياح للخص على تدبرها ، مؤكداً لأمر البعث ومصرحاً به ، فقال ثانياً الكلام عن مقام العظمة الذي اقتضته النقمة إلى الاسم الأعظم الجامع الذي نظره إلى النعمة أكثر من نظره إلى النقمة : { الله } أي وحده { الذي يرسل } مرة بعد أخرى لأنه المتفرد بالكمال فلا كفوء له : { الرياح } مضطربة هائجة بعد أن كانت ساكنة ، وفي قراءة الجمهور بالجمع خلافاً لابن كثير وحمزة والكسائي تنبيه على عظيم الصنع في كونه يفعل ما ذكره بأي ريح أراد { فتثير سحاباً } لم يكن له وجود .
ولما أسند الإثارة إلى الرياح ، نزع الإسناد إليها في البسط والتقطيع فإنه لم يجعل فيه قوة شيء من ذلك ليعلم أن الكل فعله فقال : { فيبسطه } بعد اجتماعه { في السماء } أي جهة العلو .
ولما كان أمر السحاب في غاية الإعجاب في وجوده بعد أن لم يكن وأشكاله وألوانه وجميع أحواله في اجتماعه وافتراقه وكثافته وما فيه من مطر ورعد وبرق وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى ، أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الاستفهام وإن كانوا قد عدوها هنا شرطية فقال : { كيف } أي كما { يشاء } أي في ناحية شاء قليلاً تارة كمسيرة ساعة أو يوم ، وكثيراً أخرى كمسيرة أيام على أوضاع مختلفة تدلك قطعاً على أنه فعله وحده باختياره لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها .
ولما كان المراد بذلك كونه على هيئة الاتصال ، دل عليه بقوله : { ويجعله } أي إذا أراد { كسفاً } أي قطعاً غير متصل بعضها ببعض اتصالاً يمنع نزول الماء { فترى } أي بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامٌ وفرج يا من أهلية الرؤية ، أو يا أشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه { الودق } أي المطر المتقاطر القريب الواسع { يخرج من خلاله } أي السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال .
ولما كان سبحانه قد سبب عن ذلك سرور عباده لما يرجون من أثره وإن كانوا كثيراً ما يشاهدون تخلف الأثر لعوارض ينتجها سبحانه ، قال مسبباً عن ذلك مشيراً بأداة التحقق إلى عظيم فضله وتحقق إنعامه : { فإذا أصاب } أي الله { به من } أي أرض من { يشاء } ونبه على أن ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد أصلاً شيء بقوله : { من عباده } أي الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم ، وهم جديرون بملازمة شكره ، والخضوع لأمره ، خاصاً لهم بقدرته واختياره ، وبين خفتهم بإسراعهم إلى الاستبشار مع احتمال العاهات ، جامعاً رداً على معنى « من » أو على « العباد » لأن الخفة من الجماعة أفحش فقال : { إذا هم يستبشرون* } أي يظهر عليهم البشر ، وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهوراً بالغاً عظيماً بما يرجونه مما يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين؛ ثم بين طيشهم وعجزهم بقوله : { وإن } أي والحال أنهم { كانوا } في الزمن الماضي كوناً متمكناً في نفوسهم ، وبين رب يأسهم من استبشارهم دلالة على سرعة انفعالهم وكثرة تقلبهم بالجار ، فقال : { من قبل أن ينزل } أي المطر بأيسر ما يكون عليه سبحانه { عليهم } ثم أكد عظم خفتهم وعدم قدرتهم بقوله : { من قبله } أي الاستبشار سواه من غير تخلل زمان يمكن أن يدعي لهم فيه تسبب في المطر { لمبلسين* } أي ساكتين على ما في أنفسهم تحيراً ويأساً وانقطاعاً ، فلم يكن لهم على الإتيان بشيء من ذلك حيلة ، ولا لمعبوداتهم صلاحية له باستقلال ولا وسيلة .
ولما انكشف بذلك الغطاء ، وزاحت الشبه ، أعرض سبحانه عنهم على تقدير أن يكون « ترى » لمن فيه أهلية الرؤية إيذاناً بأنه لا فهم لهم ملتفتاً إلى خلاصة الخلق الصالح للتلقي عنه قائلاً مسبباً عن ذلك : { فانظر } ولما كان المراد تعظيم النعمة ، وأن الرزق أكثر من الخلق ، عبر بحرف الغاية إشارة إلى تأمل الأقصى بعد تأمل الأدنى فقال : { إلى آثار } ولما لم يكن لذلك سبب سوى سبق رحمته لغضبه قال : { رحمت الله } للجامع لمجامع العظة ، وأظهر ولم يضمر تنبيهاً على ما في ذلك من تناهي العظمة في تنوع الزروع بعد سقيا الأرض واهتزازها بالنبات واخضرار الأشجار واختلاف الثمار ، وتكون الكل من ذلك الماء .
ولما كان هذا من الخوارق العظيمة ، ولكنه قد تكرر حتى صار مألوفاً ، نبه على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عنه فقال : { كيف يحيي } أي هذا الأثر أو الله مرة بعد أخرى { الأرض } بإخراج ما ذكر منها .
ولما كانت قدرته على تجديد إحيائها دائة - على ما أشار إليه المضارع ودعا إليه مقصود السورة ، أشار إلى ذلك أيضاً بترك الجار فقال : { بعد موتها } بانعدام ذلك .
ولما كان هذا دالاً على القدرة على إعادة الموتى ولا بد لأنه مثله سواء ، فإن جميع ما لا ينبته الآدميون يتفرق في الأرض بعد كونه هشيماً تذروه الرياح ، ويتفتت بحيث يصير تراباً ، فإذا نزل عليه الماء عاد كما كان أو أحسن قال : { إن ذلك } أي العظيم الشأن الذي قدر على هذا { لمحيي الموتى } كلها من الحيوانات والنباتات ، أي ما زال قادراً على ذلك ثابتاً له هذا الوصف ولا يزال { وهو } مع ذلك { على كل شيء } من ذلك وغيره { قدير* } لأن نسبة القدرة منه سبحانه إلى كل ممكن على حد سواء .
ولما كان تكرار مشاهدتهم لمثل هذا الاقتدار لا يفيدهم علماً بالله تعالى ، دل على ذلك بقوله ، لافتاً الكلام إلى سياق العظمة تنبيهاً على عظيم عفوه سبحانه مع تمام القدرة ، مؤكداً له غاية التأكيد ، تنبيهاً على أنه ليس من شأن العقلاء عدم الاستفادة بالمواعظ ، معبراً بأداة الشك ، تنبيهاً على أن إنعامه أكثر من انتقامه ، مؤكداً بالقسم لإنكارهم الكفر : { ولئن أرسلنا } بعد وجود هذا الأثر الحسن { ريحاً } عقيماً { فرأوه } أي الأثر ، ويجوز أن يكون الضمير للريح من التعبير بالسبب عن المسبب { مصفراً } قد ذبل وأخذ في التلف من شدة يبس الريح إما بالحر أو البرد { لظلوا } أي لداموا وعزتنا لها يجددون الكفر أبداً وإن كان « ظل » معناه : دام نهاراً ، وعبر بالماضي موضع المستقبل نحو « ليظللن والله » تأكيداً لتحقيقه ، ولعله عبر بالظلول لأن مدة النوم لا تجديد فيها للكفر ، ولذلك أتى فيها بحرف التبعيض حيث قال : { من بعده } أي بعد اصفراره { يكفرون* } بيأسهم من روح الله وجحودهم لما أسلف إليهم من النعم بعد ما تكرر من تعرفه سبحانه إليهم بالإحسان ، بعد ما التقت حلقتا البطان ، وكان وكان فلا هم عند السراء بالرحمة شكروا ، ولاعند الضراء بالنقمة صبروا ، بل لم يزيدوا هناك على الاستبشار ، ولا نقصوا هنا شيئاً من تجديد الكفر والإصرار ، فلم يزالوا لعدم استبصارهم على الحالة المذمومة ، ولم يسبقوا في إزاله النقم ، ولا إنالة النعم ، فكانوا أضل من النعم .
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
ولما كان هذا كله من حالهم في سرعة الحزن والفرح في حالتي الشدة والرخاء وإصرارهم على تجديد الكفر دليلاً على خفة أحلامهم ، وسوء تدبرهم ، فإنهم لا للآيات المرئية يعون ، ولا للمتلوة عليهم يسمعون ، سبب عن ذلك التعريف بأن أمرهم ليس لأحد غيره سبحانه وهو قد جعلهم أموات المعاني ، فقال ممثلاً لهم بثلاثة أصناف من الناس ، وأكده لأنهم ينكرون أن يكون حالهم كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم شديد السعي في إسماعهم والجهد في ذلك : { فإنك } أي استدامتهم لكفرهم هذا تارة في الرخاء وتارة في الشدة وقوفاً مع الأثر من غير نظر ما إلى المؤثر وأنت تتلو عليهم آياته ، وتنبههم على بدائع بيناته بسبب أنك { لا تسمع الموتى } أي ليس في قدرتك إسماع الذين لا حياة لهم ، فلا نظر ولا سمع ، أو موتى القلوب ، إسماعاً ينفعهم ، لأنه مما اختص به سبحانه ، وهؤلاء منهم من هم مثل الأموات لأن الله تعالى قد ختم على مشاعرهم { ولا تسمع } أي أنت في قراءة الجماعة غير ابن كثير { الصم } أي الذين لا سمع لهم أصلاً ، وذكر ابن كثير الفعل من سمع ورفع الصم على أنه فاعل ، فكان التقدير : فإن من مات أو مات قلبه ولا يسمع ولا يسمع الصم { الدعاء } إذا دعوتهم ، ثم لما كان الأصم قد يحس بدعائك إذا كان مقبلاً بحاسة بصره قال : { إذا ولوا } وذكر الفعل ولم يقل : ولت ، إشارة إلى قوة التولي لئلا يظن أنه أطلق على المجانبة مثلاً ، ولذا بنى من فاعله حالاً هي قوله : { مدبرين* } .
ولما بدأ بفاقد حاسة السمع لأنها أنفع من حيث إن الإنسان إنما يفارق غيره من البهائم بالكلام ، أتبعها حاسة البصر مشيراً بتقديم الضمير إلى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في هدايتهم اجتهاد من كأنه يفعله بنفسه تدريباً لغيره في الاقتصاد في الأمور فقال : { وما أنت بهاد العمي } أي بموجد لهم هداية وإن كانوا يسمعون ، هذا في قراءة الجماعة غير حمزة ، وجعله حمزة فعلاً مضارعاً مسنداً إلى المخاطب من هدى ، فالتقدير : وما أنت تجدد هداية العمي { عن ضلالتهم } إذا ضلوا عن الطريق فأبعدوا وإن كان أدنى ضلال - بما أشار إليه التأنيث ، وإن أتعبت نفسك في نصيحتهم ، فإنهم لا يسلكون السبيل إلا وأيديهم في يدك ومتى غفلت عنهم وأنت لست بقيوم رجعوا إلى ضلالهم ، فالمنفي في هذه الجملة في قراءة الجمهور ما تقتضيه الاسمية من دوام الهداية مؤكداً ، وقراءة حمزة ما يقتضيه المضارع من التجدد وفي التي قبلها ما تقتضيه الفعليه المضارعة من التجدد ما دام مشروطاً بالإدبار ، وفي الأولى تجدد السماع مطلقاً فهي أبلغ ثم التي بعدها ، فممثول الصنف الأول من لا يقبل الخير بوجه ما مثل أبي جهل وأبيّ بن خلف ، والثاني من قد يقارب مقاربة ما مثل عتبة بن ربيعة حين كان يقول لهم : خلو بين هذا الرجل وبين الناس ، فإن أصابوه فهو ما أردتم وإلا فعزه عزكم ، والثالث المنافقون ، وعبر في الكل بالجمع لأنه أنكأ - والله الموفق .
ولما كان ذلك كناية عن إيغالهم في الكفر ، بينه ببيان أن المراد موت القلب وصممه وعماه لا الحقيقي بقوله : { إن } أي ما { تسمع إلا من يؤمن } أي يجدد إيمانه مع الاستمرار مصدقاً { بآياتنا } أي فيه قابلية ذلك دائماً ، فهو يذعن للآيات المسموعة ، ويعتبر بالآيات المصنوعة ، وأشار بالإفراد في الشرط إلى أن لفت الواحد عن رأيه أقرب من لفته وهو مع غيره ، وأشار بالجمع في الجزاء إلى أن هذه الطريقة إن سلكت كثر التابع فقال : { فهم } أي فتسبب عن قبولهم لذلك أنهم { مسلمون } أي منقادون للدليل غاية الانقياد غير جامدين مع التقليد .
ولما دل سبحانه على قدرته على البعث بوجوه من الدلالات ، تارة في الأجسام ، وتارة في القوى ، وأكثر على ذلك في هذه السورة من الحجج البينات ، وختم لأنه لا يبصر هذه البراهين إلا مَنْ حسنت طويته ، فلانت للأدلة عريكته ، وطارت في فيافي المقادير بأجنحة العلوم فكرته ورويته ، وصل بذلك دليلاً جامعاً بين القدرة على الأعيان والمعاني إبداء وإعادة ، ولذلك لفت الكلام إلى الاسم الجامع ولفته إلى الخطاب للتعميم والاستعطاف بالتشريف ، فقال مؤكداً إشارة إلى أن ذلك دال على قدرته على البعث ولا وهم ينكرونها ، فكأنهم ينكرونه ، فإنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر : { الله } أي الجامع لصفات الكمال وحده .
ولما كان تعريف الموصول ظاهراً غير ملبس ، عبر به دون اسم الفاعل فقال : { الذي خلقكم } أي من العدم . ولما كان محط حال الإنسان وما عليه أساسه وجبلته الضعف ، وأضعف ما يكون في أوله قال : { من ضعف } أي مطلق - بما أشارت إليه قراءة حمزة وعاصم بخلاف عن حفص بفتح الضاد ، وقوى بما أشارت إليه قراءة الباقين بالضم ، أو من الماء المهين إلى ما شاء الله من الأطوار ، ثم ما شاء الله من سن الصبي .
ولما كانت تقوية المعنى الضعيف مثا إحياء الجسد الميت قال : { ثم جعل } عن سبب وتصيير بالتطوير في أطوار الخلق بما يقيمه من الأسباب ، ولما كان ليس المراد الاستغراق عبر بالجار فقال : { من بعد } ولما كان الضعف الذي تكون عنه القوة غير الأول ، أظهر ولم يضمر فقال : { ضعف قوة } بكبر العين والأثر من حال الترعرع إلى القوة بالبلوغ إلى التمام في أحد وعشرين عاماً ، وهو ابتداء سن الشباب إلى سن الاكتمال ببلوغ الأشد في اثنين وأربعين عاماً فلو لا تكرر مشاهدة ذلك لكان خرق العادة في إيجاده بعد عدمه مثل إعادة الشيخ شاباً بعد هرمه { ثم جعل من بعد قوة } في شباب تقوى به القلوب ، وتحمى له الأنوف ، وتشمخ من جرائه النفوس { ضعفاً } رداً لما لكم إلى أصل حالكم .
ولما كان بياض الشعر يكون غالباً من ضعف المزاج قال : { وشيبة } وهي بياض في الشعر ناشىء من برد في المزاج ويبس يذبل بهما الجسم ، وينقص الهمة والعلم ، وذلك بالوقوف من الثالثة والأربعين ، وهو أول سن الاكتهال وبالأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين ، وهو أول سن الشيخوخة ، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى .
ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها ، وكان من الناس من يطعن في السن وهو قوي ، أنتج ذلك كله - ولا بد - التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة فقال : { يخلق ما يشاء } أي من هذا وغيره { وهو العليم } أي البالغ العلم فهو يسبب ما أراد من الأسباب لما يريد إيجاده أو إعدامه { القدير* } فلا يقدر أحد على إبطال شيء من أسبابه ، فلذلك لا يتخلف شيء أراده عن الوقت الذي يريده فيه أصلاً ، وقدم صفة العلم لاستتباعها للقدرة التي المقام لها ، فذكرها إذن تصريح بعد تلويح ، وعبارة بعد إشارة .
ولما ثبتت قدرته على البعث وغيره ، عطف على قوله أول السورة { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } أو على ما تقديره : فيوم يريد موتكم تموتون ، لا تستأخرون عن لحظة الأجل ولا تستقدمون ، قوله : { ويوم تقوم الساعة } أي القيامة التي هي إعادة الخلائق الذين كانوا بالتدريج في ألوف من السنين لا يعلم مقدارها إلا الله تعالى في أقل من لمح البصر ، ولذا سميت بالساعة إعلاماً بيسرها عليه سبحانه { يقسم المجرمون } أي العريقون في الإجرام جرياً منهم على ديدن الجهل في الجزم بما لم يحيطوا به علماً : { ما } أي إنهم ما { لبثوا } في الدنيا والبرزخ { غير ساعة } أي قدر يسير من ليل أو نهار .
ولما كان هذا أمراً معجباً لأنه كلام كذب بحيث يؤرث أشد الفضيحة والخزي في ذلك الجمع الأعظم مع أنه غير مغنٍ شيئاً ، استأنف قوله تنبيهاً على أنه الفاعل له : فلا عجب { كذلك } أي مثل ذلك الصرف عن حقائق الأمور إلى شكوكها { كانوا } في الدنيا كوناً هو كالجبلة { يؤفكون* } أي يصرفون عن الصواب الذي منشأه تحري الصدق والإذعان للحق إلى الباطل الذي منشأه تحري المغالبة بصرفنا لهم ، فإنه لا فرق في قدرتنا وعلمنا بين حياة وحياة ، ودار ودار ، ولعله بنى الفعل للمجهول إشارة إلى سهولة انقيادهم إلى الباطل مع أيّ صارف كان .
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
ولما وصف الجاهلين ، أتبعه صفة العلماء فقال : { وقال الذين } وعبر بقوله : { أوتوا العلم } تنبيهاً على شكر من آتاهموه ، وبناه للمجهول إشارة إلى تسهيل أخذه عليهم من الجليل والحقير ، وأتبعه ما لا يشرق أنواره ويبرز ثماره غيره ، فقال : { والإيمان } إشارة إلى تفكرهم في جميع الآيات الواضحة والغامضة مقسمين كما أقسم أولئك محققين مقالهم مواجهين للمجرمين تبكيتاً وتوبيخاً مؤكدين ما أنكر أولئك : { لقد لبثتم في كتاب الله } أي في إخبار قضاء الذي له جميع الكمال الذي كتبه في كتابه الذي كان يخبر به الدنيا { إلى يوم البعث } كما قال تعالى : { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } [ المؤمنون : 100 ] وأما تعيين مدة اللبث فأخفاه عن عباده ، ولما أعلم القرآن أن غاية البرزخ البعث ، وصدق في إخباره ، سببوا عن ذلك قوله : { فهذا } أي فتسبب ما كنا نقوله وتكذبوننا فيه ، نقول لكم الآن حيث لا تقدرون على تكذيب : هذا { يوم البعث } أي الذي آمنا به وكنتم تنكرونه ، قد كان طبق ما كنا نقوله لكم ، فقد تبين بطلان قولكم ، وكنتم تدعون الخلاص فيه بأنواع من التكاذيب قصداً للمغالبة ، فما كنتم صانعين عند حضوره فاصنعوه الآن ، تنبيهاً لهم على أنه لا فائدة في تحرير مقدار اللبث في الدنيا ولا في البرزخ ، وإنما الفائدة في التصديق بما أخبر به الكتاب حيث كان التصديق نافعاً . ولما كان التقدير : قد أتى كما كنا به عالمين ، فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن ، عطف عليه قوله : { ولكنكم كنتم } أي كوناً هو كالجبلة لكم في إنكاركم له { لا تعلمون* } أي ليس لكم علم أصلاً ، لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه ، والتوصل إليه بأسبابه ، فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك اليوم .
ولما كان قوله تعالى : { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ النساء : 173 ] في أشكالها من الآيات دالاً على أن هذه الدنيا دار العمل ، وأن دار الآخرة دار الجزاء ، وأن البرزخ هو حائل بينهما ، فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى ، سبب عن ذلك قوله : { فيومئذ } أي إذ تقوم الساعة ، وتقع هذه المقاولة { لا ينفع } أي نفعاً ما { الذين ظلموا } أي وضعوا الأمور في غير مواضعها { معذرتهم } وهي ما تثبت عذرهم ، وهو إيساغ الحلية في وجه يزيل ما ظهر من التقصير لأنهم لا عذر لهم وإن بالغوا في إثباته ، والعبارة شديدة جداً من حيث كانت تعطي أن من وقع منه ظلم ما يوماً ما كان هذا حاله ، وهي تدل على أنه تكون منهم معاذير ، وترقق كثير ، وتذلل كبير ، فلا يقبل منه شيء - هذا على قراءة الجماعة بتأنيث الفعل وهي أبلغ من قراءة الكوفيين بتذكيره بتأويل العذر ، لأنه إذا لم ينفع الاعتذار الكثير لم ينفع القليل الذي دل عليه المجرد ولا عكس ، ويمكن أن يكون قراءة الجمهور متوجهة للكفرة وقراءة الكوفيين للعصاة من المؤمنين ، فإن منهم من ينفعه الاعتذار فيعفى عنه ، ويشهد لهذا ما ورد في آخر أهل النار خروجاً منها أنه يسأل في صرف وجهه عنها ويعاهد ربه سبحانه أنه لا يسأله غير ذلك ، فإذا صرفه عن ذلك رأى شجرة عظيمة فيسأل أن يقدمه إلى ظلها فيقول الله : ألست أعطيت العهود والمواثيق أن لا تسال؟ فيقول : بلى! يارب! ولكن لا أكون أشقى خلقك - الحديث ، وفيه « وربه يعذره » فهذا قد قبل عذره في الجملة ، ولا يطلب منه أن يزيل العتب لأن ذلك لا يمكن إلا بالعمل ، وقد فات محله ، فأتت المغفرة من وراء ذلك كله .
ولما كان العتاب من سنة الأحباب قال : { ولا هم } أي الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها { يستعتبون* } أي يطلب منهم ظاهراً أوباطناً بتلويح أو تصريح أن يزيلوا ما وقعوا فيه مما يوجب العتب ، وهو الموجدة عن تقصير يقع فيه المعتوب ، لأن ذلك لا يكون إلا بالطاعة وقد فات محلها بكشف الغطاء لفوات الدار التي تنفع فيها الطاعات لكونها إيماناً بالغيب ، والعبارة تدل على أن المؤمنين يعاتبون عتاباً يلذذهم .
ولما أبانت هذه السورة طرق الإيمان أيّ بيان ، وألقت على وجوه أهل الطغيان غاية الخزي والهوان ، وكان التقدير : لقد أتينا في هذه السورة خاصة بعد عموم ما في سائر القرآن بكل حجة لا تقوم لها الأمثال ، ولم نبق لأحد عذراً ولا شيئاً من إشكال ، لكونها ليس لها في وضوحها مثال ، عطف عليه قوله صارفاً الكلام إلى مقام العظمة تقبيحاً لمخالفتهم لما يأتي من قبله وترهيباً من الأخذ مؤكداً لأنهم ينكرون أن يكون في القرآن دلالة ، ومن أقر منهم مع الكفر فكفره قائم مقام إنكاره : { ولقد ضربنا } .
ولما كانت العناية فيها بالناس أكثر ، قال : { للناس } فقدمهم في الذكر { في هذا القرآن } أي عامة هذه السورة وغيرها { من كل مثل } أي معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال ، في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال .
ولما كان المختوم على مشاعرهم منهم لا يؤمنون بشيء . وكان ذلك من أدل دليل على علمه تعالى وقدرته ، قال مقسماً تكذيباً لقولهم في الاقتراحات خاصاً من أهل العلم والإيمان رأسهم ، دلالة على أن التصرف في القلوب من العظم بمكانة تجل عن الوصف ، معبراً بالشرط إعلاماً بأنه سبحانه لا يجب عليه شيء ، عاطفاً على نحو : فلم ينفعهم شيء من ذلك : { ولئن جئتهم } أي الناس عامة { بآية } أي دلالة واضحة على صدقك معجزة ، غير ما جئتهم به مما اقترحوه ووعدوا الإيمان به مرئية كانت أو مسموعة { ليقولن الذين كفروا } أي حكمنا بكفرهم غلظة وجفاء ، ودل على فرط عنادهم بقوله : { إن } أي ما ولما كان التخصيص بالغلظة أشد على النفس ، ضم إليه أتباعه تسلية وبياناً لعظيم شقاقهم فقال : { أنتم } أي أيها الآتي بالآية وأتباعه { إلا مبطلون* } أي من أهل العرافة في الباطل بالإتيان بما لا حقيقة له في صورة ما له حقيقة ، وأما الذين آمنوا فيقولون : نحن بهذه الآية مؤمنون .
ولما كان من أعجب العجب أن من يدعي العقل يصر على التكذيب بالحق ، ولا يصغي لدليل ، ولا يهتدي لسبيل ، قال مستأنفاً في جواب من سأله : هل يكون مثل هذا الطبع؟ ومرغباً في العلم : { كذلك } أي مثل هذا الطبع العظيم جداً ، ولما كان كون الشيء الواحد لناس هداية ولناس ضلالة جامعاً إلى العظمة تمام العلم والحكمة ، صرف الخطاب عنها إلى الاسم الأعظم الجامع فقال : { يطبع الله } أي الذي لا كفوء له ، فمهما أراد كان ، عادة مستمرة ، ونبه على كثرة المطبوع عليهم بجمع الكثرة فقال : { على قلوب الذين لا يعلمون* } أي لا يجددون - أي لعدم القابلية - العلم بأن لا يطلبوا علم ما يجهلونه مما حققه هذا الكتاب من علوم الدنيا والآخرة رضىً منهم بما عندهم من جهالات سموها دلالات ، وضلالات ظنوها هدايات وكمالات .
ولما كان هذا مذكراً بعظيم قدرته بعد الإياس من إيمانهم ، سبب عنه قوله : { فاصبر } أي على إنذارهم مع هذا الجفاء والرد بالباطل والأذى ، فإن الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا .
ولما كان قد تقدم إليه بأنه لا بد أن يظهر أمره على كل أمر ، علله بقوله مؤكداً لأن إنفاذ مثل ذلك في محل الإنكار لعظم المخالفين وكثرتهم مظهراً غير مضمر لئلا يظن التقييد بحيثية الطبع : { إن وعد الله } أي الذي له الكمال كله في كل ما وعدك به الذي منه نصرك وإظهار دينك على الدين كله ونصر من قارب أتباعك في التمسك بكتاب من كتب الله وإن كان قد نسخ على من لا كتاب له { حق } أي ثابت جداً يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان ، وتأتي به مطايا الحدثان .
ولما كان التقدير : فلا تعجل ، عطف عليه قوله : { ولا يستخفنك } أي يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفاً من عواقب تأخيره أو بتفتيرك عن التبليغ ، بل كن بعيداً منهم بالغلظة والجفاء والصدع بمر الحق من غير محاباة ما ، بعداً لا يطمعون معه أن يحتالوا في خفتك في ذلك بنوع احتيال ، وقراءة « يستحقنك » من الحق معناها : أي لا يطلب منك الحق الذي هوالفصل العدل بينك وبينهم أي لا تطلبه أنت ، فهو مثل : لا أرينك ههنا تنهى نفسك وأنت تريد نهيه عن الكون بحيث تراه ، والنهي في قراءة الجماعة بالثقيلة أشد منه في رواية رويس عن يعقوب بالخفيفة ، فقراءة الجماعة مصوبة إلى أصل الدين ، أي لا تفعل معهم فعلاً يطمعهم في أن تميل إليهم فيه ، وقراءة رويس إلى نحو الأموال فإنه كان يتألفهم بالإيثار بها ، ولا شك أنه إذا آثرهم على أكابر المسلمين أطمعهم ذلك في أن يطلبوا أن يميل معهم ، وما أفاد هذا إلا تحويل النهي ، ولو قيل : لا تخفن معهم ، لم يفد ذلك ، ولا يقال عكس هذا من أن النهي في الثقيلة أخف لأنه نهي عن الفعل المؤكد فيبقى أصل الفعل .
وكذا ما صحبه تأكيد خفيف ، وفي الخفيفة غير المؤكد تأكيداً خفيفاً فلا يبقى غير أصل الفعل فهو أبلغ ، لأن النون لم تدخل إلا بعد دخول الناهي فلم تفد إلا قوة النهي لا قوة المنهي عنه - والله أعلم . { الذين لا يوقنون } أي أذى الذين لا يصدقون بوعودنا تصديقاً ثابتاً في القلب بل هم إما شاكون فأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف ، أو مكذبون بنصر الله لأوليائه المؤمنين ولمن قاربهم في التمسك بكتاب أصله صحيح ، فهم يبالغون في العداوة والتكذيب حتى أنهم ليخاطرون في وعد الله بنصر الروم على فارس ، كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أن ذلك لا يكون ، فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهار عن قريب علموا كذبهم عياناً ، وعلموا - إن كان لهم علم - أن الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهو صاغرون ، ويحشرون وهو داخرون ، { وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون } [ الشعراء : 227 ] ، فقد انعطف آخرها على أولها عطف الحبيب على الحبيب ، واتصل به اتصال القريب بالقريب ، والتحم التحام النسيب بالنسيب .
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
ولما أثبت في آل عمران أنه أنزل بالحق ، أثبتت في السجدة تنزيله ونفي الريب عن أنه من عنده ، وأثبت أنه الحق ، واستمر فيما بعد هذا من السور مناظراً في الأغلب لما مضى كما يعرف ذلك بالإمعان في التذكر والتأمل والتدبر : { بسم الله } الذي وسع رحمة وعلماً { الرحمن } الذي بث بعموم حكمته شامل نعمته في سائر بريته { الرحيم * } الذي أنار لخاصته طريق جنته ، فداموا وهاموا في محبته .
لما ختمت الروم بالحث على العلم ، وهو ما تضمنه هذا الكتاب العظيم ، والأمر بالصبر والتمسك بما فيه من وعد ، والنهي عن الإطماع لأهل الاستخفاف في المقاربة لهم في شيء من الأوصاف ، وكان ذلك هو الحكمة ، قال أول هذه : { آلم } مشيراً بها إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل - لأنه ظاهر مع أن الباطن - جبرائيل عليه السلام إلا محمد عليه الصلاة والسلام بوحي ناطق من الحكم والأحكام بما لم ينطق به من قبله إمام ، ولا يلحقه في ذلك شيء مدى الأيام ، فهو المبدأ وهو الختام ، وإلى ذلك أو ما تعبيره بإداة البعد في قوله : { تلك } أي الآيات التي هي من العلو والعظمة بمكان لا يناله إلا من جاهد نفسه حتى هذبها بالتخلي عن جميع الرذائل ، والتحلي بسائر الفضائل { آيات الكتاب } الجامع لجميع أنواع الخير { الحكيم } بوضع الأشياء في حواق مراتبها فلا يستطاع نقض شيء من إبرامه ، ولا معارضة شيء ومن كلامه ، الدال ذلك على تمام علم منزله وخبرته ، وشمول عظمته وقدرته ، ودقيق صنائعه في بديع حكمته ، فلا بد من نصر المؤمنين ومن داناهم في التمسك بكتاب له أصل من عند الله .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تكرر الأمر بالاعتبار والحض عليه والتنبيه بعجائب المخلوقات في سورة الروم كقوله سبحانه : { أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [ الروم : 8 ] وقوله : { أو لم يسيروا في الأرض } [ الروم : 9 ] وقوله : { الله يبدؤا الخلق ثم يعيده } [ الروم : 11 ] وقوله : { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } [ الروم : 19 ] إلى قوله : { كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } [ الروم : 28 ] وهي عشر آيات تحملت من جليل الاعتبار والتنبيه ما لا يبقى معه شبهة ولا توقف لمن وفق إلى ما بعد هذا من آيات التنبيه وبسط الدلائل وذكر ما فطر عليه العباد وضرب الأمثال الموضحة سواء السبيل لمن عقل معانيها وتدبر حكمها إلى قوله : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [ الروم : 58 ] وهي إشارة إلى ما أودع الله كتابه المبين من مختلف الأمثال وشتى العظات وما تحملت هذه السورة من ذلك ، أتبع سبحانه ذلك بقوله الحق : { الم تلك آيات الكتاب الحكيم } أي دلائله وبراهينه لمن وفق وسبقت له الحسنى وهو المحسنون الذين ذكرهم بعد ، ووصف الكتاب بالحكيم يشهد لما مهدناه ، ثم أشار سبحانه إلى من حرم منفعته والاعتبار به ، واستبدل الضلالة بالهدى ، وتنكب عن سنن فطرة الله التي فطر الناس عليها فقال : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } - الآيات ، ثم أتبع ذلك بما يبكت كل معاند ، ويقطع بكل جاحد ، فذكر خلق السماوات بغير عمد مرئية مشاهدة لا يمكن في أمرها امتراء ، ثم ذكر خلق الأرض وما أودع فيها ، ثم قال سبحانه { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } ثم اتبع ذلك بذكر من هداه سبيل الفطرة فلم تزغ به الشبه ولا تنكب سواء السبيل فقال : { ولقد آتينا لقمان الحكمة } - الآية ، لتأسيس من اتبع فطرة الله التي تقدم ذكرها في سورة الروم ، ثم تناسق الكلام وتناسج - انتهى .
ولما كان الإحسان ما دعت إليه سورة الروم من الإيمان بلقاء الله ، منزهاً عن شوائب النقص ، موصوفاً بأوصاف الكمال ، معبوداً بما شرعه على وجه الإخلاص ، والانقياد مع الدليل كيفما توجه ، والدوران معه كيفما دار ، وكان ذلك هو عين الحكمة ، قال تعالى : { هدى } أي حال كونها أو كونه بياناً متقناً { ورحمة } أي حاملاً على القيام بكل ما دعا إليه ، والتقدير على قراءة حمزة بالرفع : هي أو هو ، وقال : { للمحسنين } إشارة إلى أن من حكمته أنه خاص في هذا الكمال وضعاً للشيء في محله بهذا الصنف ، وهم الذين لزموا التقوى فأدتهم إلى الإحسان ، وهو عبادته تعالى على المكاشفة والمراقبة فهي له أو هو لها آخر ، ثم وصفهم في سياق الرحمة والحكمة والبيان بالعدل بياناً لهم بما دعت إليه سورة الروم من كمال الإحسان في معاملة الحق والخلق اعتقاداً وعملاً فقال : { الذين يقيمون الصلاة } أي يجعلونها كأنها قائمة بفعلها بسبب إتقان جميع ما آمر بعد فيها وندب إليه ، وتوقفت بوجه عليه ، على سبيل التجديد في الأوقات المناسبة لها والاستمرار ، ولم يدع إلى التعبير بالوصف كالمقيمين داع ليدل على الرسوخ لأن المحسن هو الراسخ في الدين رسوخاً جعله كأنه يرى المعبود ودخل فيها الحج لأنه لا يعظم البيت في كل يوم خمس رات إلا معظم له بالحج فعلاً او قوة { ويؤتون الزكاة } أي كلها فدخل فيها الصوم لأنه لا يؤدي زكاة الفطر إلا من صامه قوة أو فعلاً .
ولما كان الإيمان أساس هذه الأركان ، وكان الإيمان بالبعث جامعاً لجميع أنواعه ، وحاملاً على سائر وجوه الإحسان ، وكان قد ختم الروم بالإعراض أصلاً عمن ليس فيه أهلية الإيقان ، قال : { وهم } أي خاصة لكمالهم فيما دخلوا فيه من هذه المعاني { بالآخرة } التي تقدم أن المجرمين عنها غافلون { هم يوقنون } أي مؤمنون بها إيمان موقن فهم لا يفعل شيئاً الإيمان بها ، ولا يغفل عنها طرفة عين ، فهو في الذروة العليا من ذلك ، فهو يعبد الله كأنه يراه ، فآية البقرة بداية . وهذه نهاية .
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
ولما كانت هذه الخلال أمهات الأفعال ، الموجبة للكمال ، وكانت مساوية من وجه لآية البقرة ختمها بختامها ، بعد أن زمها بزمامها ، فقال : { أولئك } أي العالوا الرتبة الحائزون منازل القربة أعظم رتبة { على هدى } أي عظيم هم متمكنون منه تمكن المستعلي على الشيء ، وقال : { من ربهم } تذكيرا لهم بأنه لولا إحسانه ما وصلوا إلى شيء . ليلزموا تمريغ الجباه على الأعتاب ، خوفاً من الإعجاب { وأولئك هم } أي خاصة { المفلحون * } أي الظافرون بكل مراد .
ولما كان فطم النفس عن الشهوات . أعظم هدى قائد إلى حصول المرادات ، وكان اتباعها الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات ، وكان في ختام الروم أن من وقف مع الموهومات عن طلب المعلومات مطبوع على قلبه ، وكان ما دعا إليه الكتاب هو الحكمة التي نتيجتها الفوز ، وما دعا إليه اللهو هو السفه المضاد للحكمة ، بوضع الأشياء في غير مواضعها ، المثمر للعطب ، قال تعالى معجباً ممن يترك الجد إلى اللهو ، ويعدل عن جوهر العلم إلى صدق السهو ، عاطفاً على ما تقديره : فمن الناس من يتحلى بهذا الحال فيرقى إلى حلبة أهل الكمال : { ومن } ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإشارة . أي أشير إلى آيات الكتاب الحكيم حال كونه هدى لمن ذكر والحال أن من { الناس } الذين هم في أدنى رتبة الإحساس ، لم يصلوا إلى رتبة أهل الإيمان ، فضلاً عن مقام أولي الإحسان .
ولما كان التقدير : من يسير بغير هذا السير ، فيقطع نفسه عن كل خير ، عبر عنه بقوله : { من يشتري } أي غير مهتد بالكتاب ولا مرحوم به { لهو الحديث } أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه ، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع البهيمي فيدعوها إلى العبث من اللعب كالرقص ونحوه مجتهداً في ذلك معملاً الخيل في تحصيله باشتراء سببه ، معرضاً عن اقتناص العلوم وتهذيب النفس بها عن الهموم والغموم ، فينزل إلى أسفل سافلين كما علا الذي قبله بالحكمة إلى أعلى عليين - قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلاً ونهاراً ، وقال مجاهد : في شرى القيان والمغنين والمغنيات ، وقال ابن مسعود : اللهو الغناء ، وكذا قال ابن عباس وغيره .
ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال ، بانهماك النفس في ذلك ، لما طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة ، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة ، فتصير أسيرة الغفلة عن الذكر ، وقبيلة الإعراض عن الفكر ، وكان المخاطب بهذا الكتاب قوماً يدعون العقول الفائقة ، والأذهان الصافية الرائقة قال تعالى : { ليضل } من الضلال والإضلال على القراءتين ، ضد ما كان عليه المحسنون من الهدى { عن سبيل الله } أي الطريق الواضح الواسع الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها ، منبهاً لهم على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد ، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم ، فإن كان مقصوداً لهم فهو ما لا يقصده من له عداد البشر ، وإلا كانوا من الغفلة سوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل .
ولما كان المراد : من قصد الضلال عن الشيء ، ترك ذلك الشيء ، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا وهو عالم بأنه لا خير فيه قال : { بغير علم } ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم ، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها ، علماً يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحاً أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا ، فإن هذا حال من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى .
ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه ولا يروج له حال بحال قال معجباً تعجيباً آخر أشد من الأول بالنصب عطفاً على « يضل » في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، وبالرفع للباقين عطفاً على { يشتري } : { ويتخذها } أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته الأولى أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل الطلق { هزواً } .
ولما أنتج له هذا الفعل الشقاء الدائم . بينه بقوله ، جامعاً حملاً على معنى « من » بعد أن أفرد حملاً على لفظها ، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول ، والتعجيب من الواحد أبلغ { أولئك } أي الأغبياء البعيدون عن رتبة الإنسان ، وتهكم بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم فقال : { لهم عذاب مهين * } أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين من الرحمة .
ولما كان الإنسان قد يكون غافلاً ، فإذا نبه انتبه ، دل سبحانه على أن هذا الإنسان المنهمك في أسباب الخسران لا يزداد على مر الزمان إلا مفاجأة لكل ما يرد عليه من البيان بالبغي والطغيان ، فقال مفرداً للضمير حملاً على اللفظ أيضاً لئلا يتعلق متمحل بأن المذموم إنما هو الجمع صارفاً الكلام إلى مظهر العظمة لما اقتضاه الحال من الترهيب : { وإذا تتلى عليه آياتنا } أي يتجدد عليه تلاوة ذلك مع ما له من العظمة من أيّ تال كان وإن عظم { ولى } أي بعد السماع ، مطلق التولي سواء كان على حالة المجانبة أو مدبراً { مستكبراً } أي حال كونه طالباً موجداً له بالإعراض عن الطاعة تصديقاً لقولنا آخر تلك { ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون } [ الروم : 58 ] .
ولما كان السامع لآياته سبحانه جديراً بأن تكسبه رقة وتواضعاً ، قال تعالى دالاً على أن هذا الشقي كان حاله عند سماعه وبعده كما كان قبل : { كأن } أي كأنه ، أي مشبهاً حالة بعد السماع حاله حين { لم يسمعها } فدل ذلك على أنه لم يزل على حالة الكبر لآنه شبه حاله مع السماع بحاله مع عدم السماع ، وقد بين أن حاله مع السماع الاستكبار فكان حاله قبل السماع كذلك .
ولما كان من لم يسمع الشيء قد يكون قابلاً للسمع ، فإذا كلم من قد جرت العادة بأن يسمع منه سمع ، بين أن حال هذا كما كان مساوياً لما قبل التلاوة فهو مساو لما بعدها ، لأن سمعه مشابه لمن به صم ، فالمضارع في « يتلى » مفهم لأن الحال في الاستقبال كهي في الحال فقال تعالى : { كأن في أذنيه وقراً } أي صمماً يستوي معه تكليم غيره له وسكوته .
ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل نخوته وكبره وعظمته ، وكان استمرار الألم أعظم كاسرٍ لذوي الشمم ، وكان من طبع الإنسان الاهتزاز لوعد الإحسان كائناً من كان نوع اهتزاز قال : { فبشره } فلما كان جديراً بأن يقبل - لا يولّي لظنه البشري - على حقيقتها لأن من يعلم أنه أهل للعذاب بأفعاله الصعاب لا يزال يتوالى عليه النعم مرة بعد مرة حتى يظن أو يكاد يقطع بأن المعاصي سبب لذلك وأنه - لما كان عند الله من عظيم المنزلة - لا يكره منه عمل من الأعمال ، قرعة بقوله : { بعذاب } أي عقاب مستمر { أليم * } .
ولما كانت معرفة ما لأحد الجزءين باعثة على السؤال عما للحزب الآخر ، وكانت إجابة السؤال عن ذلك من أتم الحكمة ، استأنف تعالى قوله مؤكداً لأجل إنكار الكفرة : { إن الذين آمنوا } أو اوجدوا الإيمان { وعملوا } أي تصديقاً له { الصالحات } وضعاً للشيء في محله عملاً بالحكمة { لهم جنات } أي بساتين { النعيم } فأفاد سبحانه بإضافتها إليه أنه لا كدر فيها أصلاً ولا شيء غير النعيم . ولما كان ذلك قد لا يكون دائماً . وكان لا سرور بشيء منقطع قال : { خالدين فيها } أي دائماً .
ولما كانت الثقة بالوعد على قدر الثقة بالواعد ، وكان إنجاز الوعد من الحكمة ، قال مؤكداً لمضمون الوعد بالجنات : { وعد الله } الذي لا شيء أجل منه؛ فلا وعد أصدق من وعده ، ثم أكده بقوله : { حقاً } أي ثابتاً ثباتاً لا شيء مثله ، لأنه وعد من لا شيء مثله ولا كفوء له .
ولما كان النفس الغريب جديراً بالتأكيد ، أتى بصفتين مما أفهمه الإتيان بالجلالة تصريحاً بهما تأكيداً لأن هذا لا بد منه فقال : { وهو } أي وعد بذلك والحال أنه { العزيز } فلا يغلبه شيء { الحكيم* } أي المحكم لما يقوله ويفعله ، فلا يستطاع نقضه ولا نقصه .
ولما ختم بصفتي العزة - وهي غاية القدرة - والحكمة - وهي ثمرة العلم - دل عليها باتقان أفعاله وإحكامها فقال : { خلق السماوات } أي على علوها وكبرها وضخامتها { بغير عمد } وقوله : { ترونها } دال على الحكمة ، إن قلنا إنه صفة لعمد أو استئناف ، إما أن قلنا بالثاني فلكون مثل هذا الخلق الكبير الواسع يحمل بمحض القدرة ، وإن قلنا بالأول فتركيب مثله على عمد تكون في العادة حاملة له وهي مع ذلك بحيث لا ترى أدخل في الحكمة وأدق في اللطافة والعظمة ، لأنه يحتاج إلى عملين : تخفيف الكثيف وتقوية اللطيف .
ولما ذكر العمد المقلة ، اتبعه الأوتاد المقرة فقال : { وألقى في الأرض } أي التي أنتم عليها ، جبالاً { رواسي } والعجب من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت ، تثبتها عن { أن تميد } أي تتمايل مضطربة { بكم } كما هو شأن ما على ظهر الماء .
ولا ذكر إيجادها وإصلاحها للاستقرار . ذكر ما خلقت له من الحيوان فقال : { وبث فيها } أي فرق { من كل دابة } ولما ذكر ذلك ذكر ما يعيش به ، فقال منبهاً لمظهر العظمة على أن ذلك وإن كان لهم في بعضه تسبب لا يقدر عليه إلا هو سبحانه : { وأنزلنا } أي بما لنا من العزة اللازمة للقدرة ، وقدم ما لا قدرة لمخلوق عليه بوجه فقال : { من السماء ماء } ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات ، وكان من آثار الحكمة التابعة للعمل ، دل عليه بقوله : { فأنبتنا } أي بما لنا من العلو في الحكمة { فيها } أي الأرض بخلط الماء بترابها { من كل زوج } أي صنف من النبات متشابه { كريم* } بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور والمنفعة والكثرة الحافظة لتلك الدواب .
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
ولما ثبت بهذا الخلق العظيم على هذا الوجه المحكم عزته وحكمته ، ثبتت ألوهيته فألزمهم وجوب توحيده في العبادة كما توحد بالخلق ، لأن ذلك عين الحكمة ، كما كان خلقه لهذا الخلق على هذا النظام ليدل عليه سبحانه سر الحكمة ، فقال ملقناً للمحسنين من حزبه ما ينبهون به المخالفين موبخاً لهم مقبحاً لحالهم في عدو لهم عنه مع علمهم بما له من التفرد بهذه الصنائع : { هذا } أي الذي تشاهدونه كله { خلق الله } أي الذي له جميع العظمة فلا كفوء له .
ولما كان العاقل بل وغيره لا ينقاد لشيء إلا أن رأى له فعلاً يوجب الانقياد له ، نبه على ذلك بقوله جواباً لما تقديره : فإن ادعيتم لما دونه مما عبدتموه من دونه خلقاً عبدتموه لأجله : { فأروني ماذا خلق الذين } زاد اسم الإشارة زيادة في التقريع بتأكيد النفي المقصود من الكلام ، ونبه على سفول رتبتهم بقوله مضمراً لأنه ليس فيما أسند إلى الاسم الأعظم حيثية يخشى من التقييد بها نقص : { من دونه } فسأله في رؤية ما خلقوا غبنه أحد أصلاً بأن انقدتم لما لا ينقاد له حيوان فضلاً عن إنسان بكونه لا فعل له أصلاً ، فكان من حقكم - إن كانت لكم عقول - أن تبحثوا اولاً هل لهم أفعال أم لا؟ ثم إذا ثبت فهل هي محكمة أم لا ، ثم إذا ثبت فهل شاركهم غيرهم أم لا ، وإذا ثبت أن غيرهم شاركهم فأيهما أحكم وأما أنكم تنقادون لهم ولا فعل لهم أصلاً ثم تقدرون أن لهم أفعالاً ترجونهم بها وتخشونهم ، فهذا ما لا يتصوره حيوان أصلاً ، ولذلك قال تعالى : { بل } منبهاً على أن الجواب : ليس لهم خلق ، بل عبدتهم أو أنتم في جعلهم شركاء ، هكذا كان الأصل ، ولكنه قال : { الظالمون } أي العريقون في الظلم ، تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم كونهم { في ضلال } عظيم جداً محيط بهم { مبين } أي في غاية الوضوح ، وهو كونهم يضعون الأشياء عنهم بجبال الهوى فلا حكمة لهم .
ولما ثبتت حكمته سبحانه وأنه أبعدهم عنها بما قضى عليهم من الجهل وغباوة العقل وآتاها من تاب ، واعتصم بآيات الكتاب ، توقع السامع الإخبار عن بعض من آتاه الحكمة من المتقدمين الذين كانوا من المحسنين ، فوضعوا الأشياء في مواضعها بأن آمنوا على قوله : « وهو العزيز الحكيم » أو على مقدر تقديره : لأنا أضللناهم بحكمتنا وآتينا الحكمة الذين قبلوا آياتنا وأحسنوا التعبد لنا فما عبدوا صمناً ولا مالوا إلى لهو ، لأن ذلك عين الحكمة لكونه وضعاً للشيء في محله ، فهو تقدير لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم .
بالرسالة : { ولقد آتينا } بما لنا من العظمة والحكمة { لقمان } وهو عبد من عبيدنا { الحكمة } وهو العلم المؤيد بالعمل والعمل المحكم بالعلم ، وقال الحرالي : هي العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم ، والحكم الحمل على جميع أنواع الصبر والمصابرة ظاهراً بالإيالة العالية ، ولا يتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم ، وقال ابن ميلق : إن مدارها على إصابة الحق والصواب في القول والعمل ، ولهذا قال ابن قتيبة : لا يقال لشخص حكيماً حتى تجتمع له الحكمة في القول والفعل ، قال : ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيماً حتى يكون عاملاً بها - انتهى .
ومن بليغ حكمته ما أسنده صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : « حقاً أقول! لم يكن لقمان نبياً ، ولكن كان عبداً ضمضامة كثير التفكر حسن اليقين ، أحب الله فأحبه ، فمنّ عليه بالحكمة ، كان نائماً نصف النهار إذ جاءه نداء ، قيل : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق ، فأجاب : إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء ، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة ، فإني أعلم أنه أن فعل ذلك ربي عصمني وأعانني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاه الظلم من كل مكان ، إذ يعدل فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ، ومن تخير الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولا يصيب الآخرة ، فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها » وفي الفردوس عن مكارم الأخلاق لأبي بكر بن لال عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في العزلة وواحد في الصمت » ، وقال لقمان : لا مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس ، وقال : ضرب الوالد لولده كالسماء للزرع ، وقيل له : أيّ الناس شر؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً ، وقيل له : ما أقبح وجهك! فقال : تعيب النقش أو النقاش ، وقال البغوي : إنه قيل له : لم بلغت ما بلغت؟ قال : بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني - انتهى . فهو سبحانه من حكمته وحكمه أن يرفع ما يشاء بما يعلمه منه سلامة الطبع وإن كان عبداً فلا يدع أن يختص محمداً صلى الله عليه وسلم ذا النسب العالي والمنصب المنيف في كل خلق شريف بالرسالة من بين قريش وإن لم يكن من أهل الدنيا المتعظمين بها ، قال ابن ميلق : من حكمته سبحانه أن يجمع بين أثرى عدله وفضله ، وأن يعاقب بينهما في الظهور فيذل ويعز ويفقر ويغني ويسقم ويشفي ويفني ويبقي إلى غير ذلك ، فما من سابق عدل إلا له لاحق فضل ، ولا سابق فضل إلا له لاحق عدل ، غير أن أثر العدل والفضل قد يتعلق بالبواطن خاصة ، وقد يتعلق أحدهما بالظاهر والآخر بالباطن ، وقد يكون اختلاف تعلقمها في حالة واحدة ، وقد يكون على البدل ، وعلى قدر تعلق الأثر السابق يكون تعلق الأثر اللاحق .
ولما كانت الحكمة قاضية بذلك ، أجرى الله سبحانه آثار عدله على ظواهر أصفيائه دون بواطنهم ، ثم عقبت ذلك بإيراد آثار فضله على بواطنهم وظواهرهم حتى صار من قاعدة الحكمة الإلهية تفويض ممالك الأرض للمستضعفين فيها كالنجاشي حيث بيع في صغره ، وذلك كثير موجود بالاستقراء ، فمن كمال تربية الحكيم لمن يريد إعلاء شأنه أن يجري على ظاهره من أثر العدل ما فيه تكميل لهم وتنوير لمداركهم وتطهير لوجودهم وتهذيب وتأديب - إلى غير ذلك من فؤائد التربية ، ومن تتبع أحوال الأكابر من آدم عليه السلام وهلم جراً رأى من حسن بلاء الله سبحانه وتعالى لهم ما يشهد لما قررته بالصحة إن شاء الله تعالى - انتهى .
ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال : { أن اشكر } وهو وإن كان تقديره : قلنا له كذا ، يؤول إلى « آتيناه الشكر » وصرف الكلام إلى الاسم الأعظم الذي لم يتسم به غيره سبحانه دفعاً للتعنت ، ونقلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منها فقال : { لله } بأن وفقناه له بما سببناه له من الأمر به لأن الحكمة في الحقيقة هي القيام بالشكر لا الإيصاء به ، ويمكن أن تكون « أن » مصدرية ، ويكون التقدير : آتيناه إياها بسبب الشكر ، وعبر بفعل الأمر إعلاماً بأن شكره كان لامتثال الأمر ليكون أعلى .
ولما كان التقدير : فبادر وشكر ، فما نفع إلا نفسه ، كما أنه لو كفر ما ضر إلا نفسه ، عطف عليه معرفاً أنه غني عن شكر الشاكرين قوله معبراً بالمضارع الدال على أن من أقبل عليه - في أيّ زمان كان - يلقاه ويكون معروفه له دائماً بدوام العمل : { ومن يشكر } أي يجدد الشكر ويتعاهد به نفسه كائناً من كان { فإنما يشكر } أي يفعل ذلك { لنفسه } أي فإنما ينفع نفسه ، فإن الله يزيده من فضله فإن الله شكور مجيد { ومن كفر } فإنما يضر نفسه ، وعبر بالماضي إشارة إلى أن من وقع منه كفر ولو مرة جوزي بالإعراض عنه { فإن الله } عبر بالاسم الأعظم لأنه في سياق الحكمة ، والحكيم من أدام استحضار صفات الجلال والجمال فغلب خوفه رجاءه ما دام في دار الأكدار { غني } عن الشكر وغيره { حميد * } أي له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلائق ، فإن تقدير الكفر عليهم بحيث لا يقدرون على الانفكاك عنه من جملة محامدة بالقدرة والعزة والفهم والعظمة . ويجوز - وهو أقرب - أن يعود « غني » إلى الكافر و « حميد » إلى الشاكر ، فيكون اسم فاعل ، فيكون التقدير : ومن كفر فإنما يكفر على نفسه ، ثم سبب عن الجملتين وهما كون عمل كل من الشاكر والكافر لا يتعداه قوله « فإن الله غني » أي عن شكر الكافر « حميد » للشاكر ، والآية على الأول من الاحتباك : تخصيص الشكر بالنفس أولاً يدل على حذف مثله من الكفر ثانيا ، وإثبات الصفتين يدل على حذف مثلهما أولاً .
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
ولما كان الإنسان لا يعرف حكمة الحكيم إلا بأقواله وأفعاله ، ولا صدق الكلام وحكمته إلا بمطابقته للواقع ، فكان التقدير : اذكر ما وصفنا به لقمان لتنزل عليه ما تسمع من أحواله وأفعاله في توفية حق الله وحق الخلق الذي هو مدار الحكمة ، عطف عليه قوله : { وإذ } أي واذكر بقلبك لتتعظ وبلسانك لتعظ غيرك - بما أنك رسول - ما كان حين { قال لقمان لابنه } ما يدل على شكره في نفسه وامره به لغيره فإنه لا شكر يعدل البراءة من الشرك ، وفيه حث على التخلق بما مدح به لقمان بما يحمل على الصبر والشكر والمداومة على كل خير ، وعلى تأديب الولد ، بسوق الكلام على وجه يدل على تكرير وعظه فقال : { وهو يعظه } أي يوصيه بما ينفعه ويرقق قلبه ويهذب نفسه ، ويوجب له الخشية والعدل .
ولما كان أصل توفية حق الحق تصحيح الاعتقاد وإصلاح العمل ، وكان الأول أهم ، قدمه فقال : { يا بني } فخاطبه بأحب ما يخاطب به ، مع إظهار الترحم والتحنن والشفقة ، ليكون ذلك أدعى لقبول النصح { لا تشرك } أي لا توقع الشرك لا جليا ولا خفياً ، ولما كان في تصغيره الإشفاق عليه ، زاد ذلك بإبراز الاسم الأعظم الموجب لاستحضار جميع الجلال ، تحقيقاً لمزيد الإشفاق . فقال : { بالله } أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ، ثم علل هذا النهي بقوله : { إن الشرك } اي بنوعيه { لظلم عظيم* } أي فهو ضد الحكمة ، لأنه وضع الشيء في غير محله ، فظلمه ظاهر من جهات عديدة جداً ، أظهرها أنه تسوية المملوك الذي ليس له من ذاته إلا العدم نعمة منه أصلاً بالمالك الذي له وجوب الوجود ، فلا خير ولا نعمة إلا منه ، وفي هذا تنبيه لقريش وكل سامع على أن هذه وصية لا يعدل عنها ، لأنها من أب حكيم لابن محنو عليه محبوب ، وأن آباءهم لو كانوا حكماء ما فعلوا إلا ذلك ، لأنه يترتب عليها ما عليه مدار النعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية ، العاجلة والآجلة ، وهو الأمن والهداية { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } [ الأنعام : 82 ] فإنه لما نزلت تلك الآية كما هو صحيح البخاري في غير موضع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقالوا : أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنه ليس بذاك ، ألم تسمع إلى قول لقمان { إن الشر لظلم عظيم } » .
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه في إيجاده أحد ، وذكر ما عليه الشرك من الفظاعة والشناعة والبشاعة ، أتبعه سبحانه وصيته للولد بالوالد لكونه المنعم الثاني المتفرد سبحانه بكونه جعله سبب وجود الولد اعترافاً بالحق وإن صغر لأهله وإيذاناً بأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس ، وتفخيماً لحق الوالدين ، لكونه قرن عقوقهما بالشرك ، وإعلاماً بأن الوفاء شيء واحد متى نقص شيء منه تداعى سائره كما في الفردوس عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« لو أن العبد لقي الله بكمال ما افترض عليه ما خلا بر الوالدين ما دخل الجنة ، وإن بر الوالدين لنظام التوحيد والصلاة والذكر » ولذلك لفت الكلام إلى مظهر العظمة ترهيباً من العقوق ورفعاً لما لعله يتوهم من أن الانفصال عن الشرك لا يكون إلا بالإعراض عن جميع الخلق .
ولما قد يخيله الشيطان من أن التقيد بطاعة الوالد شرك ، مضمناً تلك الوصية إجادة لقمان عليه السلام في تحسين الشرك وتقبيح الشرك لموافقته لأمر رب العالمين ، وإيجاب امتثال ابنه لأمره ، فقال مبيناً حقه وحق كل والد غيره ، ومعرفاً قباحة من أمر ابنه بالشرك لكونه منافياً للحكمة التي أبانها لقمان عليه السلام ، وتحريم امتثال الابن لذلك ووجوب مخالفته لأبيه فيه تقديماً لأعظم الحقين ، وارتكاباً لأخف الضررين : { ووصينا } أي قال لقمان ذلك لولده نصحاً له والحال أنا بعظمتنا وصينا ولده به بنحو ما أوصاه به في حقنا - هكذا كان الأصل ، ولكنه عبر بما يشمل غيره فقال : { الإنسان } أي هذا النوع على لسان أول نبي أرسلنا وهلم جراً وبما ركزناه في كل فطرة من أنه ما جزاء الإحسان إلا الإحسان { بوالديه } فكأنه قال : إن لقمان عرف نعمتنا عليه وعلى أبناء نوعه لوصيتنا لأولادهم بهم فشكرنا ولقن عنا نهيهم بذلك عن الشرك لأنه كفران لنعمة المنعم ، فانتهى في نفسه ونهى ولده ، فكان بذلك حكيماً .
ولما كانت الأم في مقام الاحتقار لما للأب من العظمة بالقوة والعقل والكد عليها وعلى ولدها ، نوه بها ونبه على ما يختص به من أسباب وجود الولد وبقائه عن الأب مما حصل لها من المشقة بسببه وما لها إليه من التربية . فقال معللاً أو مستأنفاً : { حملته أمه وهناً } أي حال كونها ذات وهن تحمله في أحشائها ، وبالغ بجعلها نفس الفعل دلالة على شدة ذلك الضعف بتضاعفه كلما أثقلت { على وهن } أي هو قائم بها من نفس خلقها وتركيبها إلى ما يزيدها التمادي بالحمل ، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك لنفسه شيئاً بقوله : { وفصاله } أي فطامه من الرضاعة بعد وضعه .
ولما كان الوالدان يعدان وجدان الولد من أعظم أسباب الخير والسرور ، عبر في أمره بالعام الذي تدور مادته على السعة لذلك وترجية لهما بالعول عليه وتعظيماً لحقهما بالتعبير بما يشير إلى صعوبة ما قاسيا فيه باتساع زمنه فقال : { في عامين } تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا لله تعالى ، وفي التعبير بالعام أيضاً إشارة إلى تعظيم منتهاه بكونها تعد أيام رضاعه - مع كونها أضعف ما يكون في تربيته - أيام سعة وسرور ، والتعبير ب « في » مشيراً إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمامهما على حسب ما يحتمله حاله ، وتدعو إليه المصلحة من أمره .
ولما ذكر الوصية وأشار إلى أمهات أسبابها ، ذكر الموصى به فقال مفسراً ل « وصينا » : { أن اشكر } ولما كان الشكر منظوراً إليه أتم نظر ، قصر فعله ، أي أوجد هذه الحقيقة ولتكن من همك . ولما كان لا بد له من متعلق ، كان كأنه قال : لمن؟ فقال مقدماً ما هو أساس الموصى به في الوالدين ليكون معتداً به ، لافتاً القول إلى ضمير الواحد من غير تعظيم تنصيصاً على المراد : { لي } أي لأني المنعم بالحقيقة { ولوالديك } لكوني جعلتهما سبباً لوجودك والإحسان بتربيتك ، وذكر الإنسان بهذا الذكر في سورة الحكمة إشارة إلى أنه أتم الموجودات حكمة قال الرازي في آخر سورة الأحزاب من لوامعه : الموجودات كلها كالشجرة ، والإنسان ثمرتها ، وهي كالقشور والإنسان لبابها ، وكالمبادئ والإنسان كمالها ، ومن أين للعالم ما للإنسان؟ بل العالم العلوي فيه ، ليس في العالم العلوي ما فيه ، فقد جمع ما بين العالمين بنفسه وجسده ، واستجمع الكونين بعقله وحسه ، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً ، وسلم لمن له الخلق والأمر تسليماً اختيارياً طوعياً . ثم علل الأمر بالشكر محذراً فقال : { إليّ } لا إلى غيري { المصير* } أي فأسألك عن ذلك كما كانت منهما البداءة ظاهراً بما جعلت لهما من التسبب في ذلك ، فيسألانك عن القيام بحقوقهما وإن قصرت فيها شكواك إلى الناس وأقاما عليك الحجة وأخذا بحقهما .
ولما ذكر سبحانه وصيته بهما وأكد حقهما ، أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان عليه السلام من قباحة الشرك فقال : { وإن جاهداك } أي مع ما أمرتك به من طاعتهما ، وأشار بصيغة المفاعلة إلى مخالفتهما وإن بالغا في الحمل على ذلك { على أن تشرك بي } وأشار بأداة الاستعلاء إلى أنه لا مطمع لمن أطاعهما في ذلك ولو باللفظ فقط أن يكون في عداد المحسنين وإن كان الوالدان في غاية العلو والتمكن من الأسباب الفاتنة له بخلاف سورة العنكبوت فإنها لمطلق الفتنة ، وليست لقوة الكفار ، فعبر فيها بلام العلة ، إشارة إلى مطلق الجهاد الصادق بقويه وضعيفه ، ففي الموضعين نوع رمز إلى أنه إن ضعف عنهما أطاع باللسان ، ولم يخرجه ذلك عن الإيمان ، كما أخرجه هنا عن الوصف بالإحسان ، ولذلك حذر في الأية التي بعد تلك من النفاق لأجل الفتنة ، وأحال سبحانه على اتباع الأدلة على حكم ما وهب من العقل عدلاً وإنصافاً فقال : { ما ليس لك به علم } إشارة إلى أنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بنوع من أنواع الدلالات بل العلوم كلها دالة على الوحدانية على الوجه الذي تطابقت عليه العقول ، وتظافرت عليه من الأنبياء والرسل النقول ، وأما الوجه الذي سماه أهل الإلحاد بمذهب الاتحاد توحيداً فقد كفى في أنه ليس به علم إطباقهم على أنه خارج عن طور العقل ، مخالف لكل ما ورد عن الأنبياء من نقل ، وإن لبسوا بإدعاء متابعة بعض الآيات كما بينه كتابي الفارض ، فلا يمكن أن يتمذهب به أحد إلا بعد الانسلاخ من العقل والتكذيب بالنقل ، فلم يناد أحد على نفسه بالإبطال ما نادوا به على أنفسهم ولكن من يضلل الله فما له من هاد .
فلما قرر ذلك على هذا المنوال البديع ، قال مسبباً عنه : { فلا تطعهما } أي في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه ، بل خالفهما ، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به ، لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه ، ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك .
ولما كان هذا قد يفهم الإعراض عنهما رأساً في كل أمر إذا خالفا في الدين ، أشار إلى أنه ليس مطلقاً فقال : { وصاحبهما في الدنيا } أي في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دامت حياتهما .
ولما كان المبنى على النقصان عاجزاً عن الوفاء بجميع الحقوق ، خفف عليه بالتنكير في قوله : { معروفاً } أي ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والاحتمال وما يقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم ، قال ابن ميلق : ويلوح من هذه المشكاة تعظيم الأشياخ الذين كانوا في العادة سبباً لإيجاد القلوب في دوائر التوحيد العلمية والعملية - يعني ففي سوق هذه الوصية هذا المساق أعظم تنبيه على أن تعظيم الوسائط من الخلق ليس مانعاً من الإخلاص في التوحيد ، قال ابن ميلق : ومن هنا زلت أقدام أقوام تعمقوا في دعوى التوحيد حتى أعرضوا عن جانب الوسائط فوقعوا في الكفر من حيث زعموا التوحيد فإن تعظيم المعظم في الشرع تعظيم لحرمات الله ، وامتثال لأمر الله ، ولعمري إن هذه المزلة ليتعثر بها أتباع إبليس حيث أبى أن يسجد لغير الله ، ثم قال ما معناه : وهؤلاء قوم أعرضوا عن تعظيم الوسائط زاعمين الغيرة على مقام التوحيد ، وقابلهم قوم أسقطوا الوسائط جملة وقالوا : إنه ليس في الكون إلا هو ، وهم أهل الوحدة المطلقة ، والكل على ضلال ، والحق الاقتصاد والعدل في إثبات الخالق وتوحيده ، وتعظيم من أمر بتعظيمه من عبيده .
ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة ، نفى ذلك بقوله : { واتبع } أي بالغ في أن تتبع { سبيل } أي دين وطريق { من أناب } أي أقبل خاضعاً { إليّ } لم يلتفت إلى عبادة غيري ، وهم المخلصون من أبويك وغيرهما ، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله والإخلاص له ، وفي هذا حث على معرفة الرجال بالحق ، وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة ، فمن كان عمله موافقاً لها اتبع ، ومن كان عمله مخالفاً لهما اجتنب .
ولما كان التقدير : فإن مرجع أموركم كلها في الدنيا إليّ ، عطف عليه قوله : { ثم إليّ } أي في الآخرة ، لا إلى غيري مرجعك - هكذا كان الأصل ، ولكنه جميع لإرادة التعميم فقال معبراً بالمصدر الميمي الدال على الحدث وزمانه ومكانه : { مرجعكم } حساً ومعنى ، فأكشف الحجاب { فأنبئكم } أي أفعل فعل من يبالغ في التنقيب والإخبار عقب ذلك وبسببه ، لأن ذلك أنسب شيء للحكمة وإن كان تعقيب كل شيء بحسب ما يليق به { بما كنتم } بما هو لكم كالجبلة { تعملون* } أي تجددون عمله من صغير وكبير ، وجليل وحقير ، وما كان في جبلاتكم مما لم يبرز إلى الخارج ، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد ، فأعد لذلك عدته ، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله ، ولعله عبر عن الحساب بالتنبئة لأن العلم بالعمل سبب للمجازاة عليه أو لأنه جمع القسمين ، ومحاسبة السعيد العرض فقط بدلالة التضمن ومحاسبة الشقي بالمطابقية .
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
ولما فرغ من تأكيد ما قاله لقمان عليه السلام في الشكر والشرك فعلم ما أوتي من الحكمة ، وختمه بعد الوصية بطاعة الوالد بذكر دقيق الأعمال وجليلها ، وأنها في علم الله سواء ، حسن جداً الرجوع إلى تمام بيان حكمته ، فقال بادئاً بما يناسب ذلك من دقيق العلم ومحيطه المكمل لمقام التوحيد ، وعبر بمثقال الحبة لأنه أقل ما يخطر غالباً بالبال ، وهي من أعظم حاث على التوحيد الذي مضى تأسيسه : { يا بني } متحبباً مستعطفاً ، مصغراً له بالنسبة إلى حمل شيء من غضب الله تعالى مستضعفاً : { إنها } أي العمل ، وأنث لأنه في مقام التقليل والتحقير ، والتأنيث أولى بذلك ، ولأنه يؤول بالطاعة والمعصية والحسنة والسيئة { إن تك } وأسقط النون لغرض الإيجار في الإيصاء بما ينيل المفاز ، والدلالة على أقل الكون وأصغره { مثقال } أي وزن ، ثم حقرها بقوله : { حبة } وزاد في ذلك بقوله : { من خردل } هذا على قراءة الجمهور بالنصب ، ورفع المدنيان على معنى أن الشأن والقصة العظيمة أن توجد في وقت من الأوقات هنة هي أصغر شيء وأحقره - بما أشار إليه التأنيث .
ولما كان قد عرف أن السياق لماذا أثبت النون في قوله مسبباً عن صغرها : { فتكن } إشارة إلى ثباتها في مكانها . وليزداد تشوف النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم كل مذهب لما علم من أن المقصد عظيم بحذف النون وإثبات هذه ، وعسرّها بعد أن حقرها بقوله معبراً عن أعظم الخفاء وأتم الإحراز : { في صخرة } أي أيّ صخرة كانت ولو أنها أشد الصخور وأقواها وأصغرها وأخفاها .
ولما أخفى وضيق ، أظهر ووسع ، ورفع وخفض ، ليكون أعظم لضياعها لحقارتها فقال : { أو في السماوات } أي في أيّ مكان كان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها ، وأعاد « أو » نصاً على إرادة كل منهما على حدته ، والجار تأكيداً للمعنى فقال : { أو في الأرض } أي كذلك ، وهذا كما ترى لا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في إحداهما ، وعبر له بالاسم الأعظم لعلو المقام فقال : { يأتِ بها الله } بعظم جلاله ، وباهر كبريائه وكماله ، بعينها لا يخفى عليه ولا يذهب شيء منها ، فيحاسب عليها ، ثم علل ذلك من علمه وقدرته بقوله مؤكداً إشارة إلى أن إنكار ذلك لما له من باهر العظمة من دأب النفوس إن لم يصحبها التوفيق : { إنّ الله } فأعاد الاسم الأعظم تنبيهاً على استحضار العظمة وتعميماً للحكم { لطيف } أي عظيم المتّ بالوجوه الخفية الدقيقة الغامضة في بلوغه إلى أمر أراده حتى بضد الطريق الموصل فيهما يظهر للخلق { خبير * } بالغ العلم بأخفى الأشياء فلا يخفى عليه شيء ، ولا يفوته أمر .
ولما نبهه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب ، أمره مما يدخره لذلك توسلاً إليه ، وتخضعاً لديه ، وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه ، فقال : { يا بني } مكرراً للمناداة على هذا الوجه تنبيهاً على فرط النصيحة لفرط الشفقة { أقم الصلاة } أي بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها ، سعياً في نجاة نفسك وتصفية سرك ، فإن إقامتها - وهي الإيتان بها على النحو المرضي - مانعة من الخلل في العمل { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } لأنها الإقبال على من وحدته فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم ، ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثانية التوحيد ، وترك ذكر الزكاة تنبيهاً على أن من حكمته تخليه وتخلي ولده من الدنيا حتى مما يكفيهم لقوتهم .
ولما أمر بتكميله في نفسه بتكميل نفسه توفية لحق الحق ، عطف على ذلك تكميله لنفسه بتكميل غيره توفية لحق الخلق ، وذلك أنه لما كان الناس في هذه الدار سفراً ، وكان المسافر إن أهمل رفيقه حتى أخذ أوشك أن يؤخذ هو ، أمره بما يكمل نجاته بتكميل رفيقه ، وقدمه - وإن كان من جلب المصالح - لأنه يستلزم ترك المنكر ، وأما ترك المنكر فلا يستلزم فعل الخير ، فإنك إذا قلت : لا تأت منكراً ، لم يتناول ذلك في العرف إلا الكف عن فعل المعصية ، لا فعل الطاعة ، فقال : { وأمر بالمعروف } أي كل من تقدر على أمره تهذيباً لغيرك شفقة على نفسك بتخليص أبناء جنسك .
ولما كانت هذه الدار سفينة لسفر من فيها إلى ربهم ، وكانت المعاصي مفسدة لها ، وكان فساد السفينة مغرقاً لكل من فيها : من أفسدها ومن أهمل المفسد ولم يأخذ على يده ، وكان الأمر بالمعروف نهياً عن المنكر ، صرح به فقال : { وانه } أي كل من قدرت على نهيه { عن المنكر } حباً لأخيك ما تحب لنفسك ، تحقيقاً لنصيحتك ، وتكميلاً لعبادتك ، لأنه ما عبد الله أحد ترك غيره يتعبد لغيره ، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمه الله تعالى :
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
لأنه أمره أولاً بالمعروف ، وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر ، فإذا أمر نفسه ونهاها ، ناسب أن يأمر غيره ينهاه ، وهذا وإن كان من قول لقمان عليه السلام إلا أنه لما كان في سياق المدح له كنا مخاطبين به .
ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر ، لأنه يخالف المعظم فيرمونه عن قوس واحدة لا سيما أن أمرهم ونهاهم ، قال تعالى : { واصبر } صبراً عظيماً بحيث يكون مستعلياً { على ما } أي الذي ، وحقق بالماضي أنه لا بد من المصيبة ليكون الإنسان على بصيرة ، فقال : { أصابك } أي في عبادتك من الأمر بالمعروف وغيره سواء كان بواسطة العباد أو لا كالمرض ونحوه ، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنها ملاك الاستعانة
{ واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] واختلاف المخاطب في الموضعين أوجب اختلاف الترتيبين ، المخاطب هنا مؤمن متقلل ، وهناك كافر متكثر .
ولما كان ما أحكمه له عظيم الجدوى ، وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال والتروك كلها ، نبهه على ذلك بقوله على سبيل التعليل والاستئناف إيماء إلى التبجيل : { إن ذلك } أي الأمر العظيم الذي أوصيتك به لا سيما الصبر على المصائب : { من عزم الأمور } أي معزوماتها ، تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر ، أي الأمور المقطوع بها المفروضة أو القاطعة الجازمة بجزم فاعلها ، أي التي هي أهل لأن يعزم عليها العازم ، وينحو إليها بكليته الجازم ، فلا مندوحة في تركها بوجه من الوجوه في ملة من الملل .
ولما كان من آفات العبادة لا سيما الأمر والنهي - لتصورهما بصورة الاستعلاء - الإعجاب إلى الكبر ، قال محذراً من ذلك معبراً عن الكبر بلازمه ، لأن النفي الأعم نفي للأخص ، منبهاً على أن المطلوب في الأمر والنهي اللين لا الفظاظة والغلظة الحاملان على النفور : { ولا تصعر خدك } أي لا تمله معتمداً إمالته بإمالة العنق متكلفاً لها صرفاً عن الحالة القاصدة ، وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي : تصاعر ، والمراد بالمفاعلة والتفعيل تعمد فعل ذلك لأجل الكبر حتى يصير خلقاً ، والمراد النهي عما يفعله المصعر من الكبر - والله أعلم .
ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تذم ، أشار إلى المقصود بقوله تعالى : { للناس } بلام العلة ، أي لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم ، وذلك لا يكون إلا تهاوناً بهم من الكبر ، بل أقبل عليهم بوجهك كله مستبشراً منبسطاً من غير كبر ولا علو ، وأتبع ذلك ما يلزمه فقال : { ولا تمش } ولما كان في أسلوب التواضع وذم الكبر ، ذكره بأن أصله تراب ، وهو لا يقدر أن يعدوه فقال : { في الأرض } وأوقع المصدر موقع الحال أو العلة فقال : { مرحاً } أي اختيالاً وتبختراً ، أي لا تكن منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر وبطر وتكبر ، فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي ، بل امش هوناً فأن ذلك يفضي بك إلى التواضع ، فتصل إلى كل خير ، فترفق بك الأرض إذا صرت فيها حقيقة بالكون في بطنها .
ولما كانت غاية ذلك الرياء للناس والفخر عليهم المثمر لبغضتهم الناشئة عن بغضة الله تعالى ، علله بقوله مؤكداً لأن كثيراً من الناس يظن أن أسباغ النعم الدنيوية من محبة الله : { إن الله } أي الذي لا ينبغي الكبر إلا له لما له من العظمة المطلقة . ولما كان حب الله الذي يلزمه حب الناس محبوباً للنفوس ، وكان فوات المحبوب أشق على النفوس من وقوع المحذور ، وكانت « لا » لا تدخل إلا على المضارع المستقبل قال : { لا يحب } أي فيما يستقبل من الزمان ، ولو قال « يبغض » لاحتمال التقييد بالحال ، ولما كان النشر المشوش أفصح لقرب الرجوع تدليا فيما ترقى فيه المقبل قال : { كل مختال } أي مراء للناس في مشيه تبختراً يرى له فضلاً على الناس فيشمخ بأنفه ، وذلك فعل المرح { فخور } يعدد مناقبه ، وذلك فعل المصعر ، لأن ذلك من الكبر الذي تردى به سبحانه وتعالى فمن نازعه إياه قصمه .
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
ولما كان النهي عن ذلك امراً بأضداده ، وكان الأمر بإطلاق الوجه يلزم منه الإنصاف في الكلام ، وكان الإنصاف في الكلام والمشي لا على طريق المرح والفخر ربما دعا إلى الاستماتة في المشي والحديث أو الإسراع في المشي والسر والجهر بالصوت فوق الحد ، قال محترساً في الأمر بالخلق الكريم عما يقارب الحال الذميم : { واقصد } أي اعدل وتوسط { في مشيك } لا إفراط ولا تفريط مجانباً لوثب الشطار ودبيب المتماوتين ، وعن ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان - قال الرازي في اللوامع ، وهو المشي الهون الذب ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ولا بتكبر { واغضض } أي انقص ، ولأجل ما ذكر قال : { من صوتك } بإثبات « من » أي لئلا يكون صوتك منكراً ، وتكون برفع الصوت فوق الحاجة حماراً ، وأما مع الحاجة كالأذان فهو مأمور به .
ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها تماوتاً أو دلالاً وتكبراً ، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا ب « من » فأفهم أن الطرفين مذمومان ، علل النهي عن الأول دالاً بصيغة « أفعل » على اشتراك الرفع كله في النكارة ذاكراً أعلاها تصويراً له بأقبح صورة تنفيراً عنه فقال : { إن أنكر } أي أفظع وأبشع وأوحش { الأصوات } أي كلها المشتركة في النكارة برفعها فوق الحاجة ، وأخلى الكلام عن لفظ التشبيه فأخرجه مخرج الاستعارة تصويراً لصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حماراً ، مبالغة في التهجين ، وتنبيهاً على أنه من كراهة الله له بمكان فقال : { لصوت الحمير } أي هذا الجنس ، لما له من الغلو المفرط من غير حاجة ، وأوله زفير وآخره شهيق ، وهما فعل أهل النار ، وأفرده ليكون نصاً على إرادة الجنس لئلا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك ولذكر الحمار مع ذلك من بلاغة الذم والشتم ما ليس لغيره ولذلك يستهجن التصريح باسمه ، وهذا يفهم أن الرفع مع الحاجة غير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع ، ولقد دعت هذه الآيات إلى معالي الأخلاق ، وهي أمهات الفضائل الثلاث : الحكمة والعفة والشجاعة ، وأمرت بالعدل فيها ، وهي وظيفة التقسيط الذي هو الوسط الذي هو مجمع الفضائل ، ونهت عن مساؤى الأخلاق ، وهي الأطراف التي هي مبدأ الرذائل الحاصل بالإفراط والتفريط ، فإقامة الصلاة التي هي روح العبادة المبنية على العلم هي سر الحكمة والنهي ، أمر بالشجاعة ونهى عن الجبن ، وفي النهي عن التصعير وما معه نهي عن التهور ، والقصد في المشي والغض في الصوت أمر بالعفة ونهي عن الاستماتة والجمود والخلاعة والفجور ، وفي النهي عن الاستماتة نهي عما قد يلزمها من الجربزة ، وهي الفكر بالمكر المؤدي إلى اللعنة ، وعن الانحطاط إلى البله والغفلة ، والكافل بشرح هذا ما قاله الشيخ سعد الدين التفتازاني في الكلام على الإجماع من تلويحه ، قال : إن الخالق تعالى وتقدس قد ركب في الإنسان ثلاث قوى : إحداها مبدأ إدراك الحقائق ، والشوق إلى النظر في العواقب ، والتمييز بين المصالح والمفاسد ، ويعبر عنها بالقوة النطقية والعقلية والنفس المطمئنة الملكية ، والثانية مبدأ جذب المنافع وطلب الملاذ من المآكل والمشارب وغير ذلك ، وتسمى القوة الشهوية والبهيمية والنفس الأمارة ، والثالثة مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع ، وهي القوة الغضبية والسبعية والنفس اللوامة ، ويحدث من اعتدال الحركة الأولى الحكمة ، والثانية العفة ، والثالثة الشجاعة ، فأمهات الفضائل هي هذه الثلاث ، وما سوى ذلك إنما هو من تفريعاتها وتركيباتها ، وكل منها وكل منها محتوش بطر في إفراط وتفريط هما رذيلتان ، أما الحكمة فهي معرفة الحقائق على ما هي بقدر الاستطاعة ، وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة النفس ما لها وما عليها المشار إليه بقوله تعالى :
{ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [ البقرة : 269 ] وإفراطها الجربزة ، وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات ، وعلى وجه لا ينبغي ، كمخالفة الشرائع - نعوذ بالله من علم لا ينفع قلت : وهي بجيم ثم مهملة ثم موحدة ثم زاي مأخوذة من الجربز - بالضم ، وهو الخب ، أي الخداع الخبيث - والله أعلم ، وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية بالإرداة والوقوف عن اكتساب العلوم النافعة ، وأما الشجاعة فهي انقياد السبعية للناطقة ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الماثلة ، حتى يكون فعلها جميلاً ، وصبرها محموداً ، وإفراطها التهور ، أي الإقدام على ما لا ينبغي ، وتفريطها الجبن ، أي الحذر عما لا ينبغي ، وأما العفة فهي انقياد البهيمة للناطقة ، لتكون تصرفاتها بحسب اقتضاء الناطقة ، لتسلم عن استعباد الهوى إياها ، واستخدام اللذات ، وإفراطها الخلاعة والفجور ، أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما يجب ، وتفريطها الجمود ، أي السكوت عن طلب الذات بقدر ما رخص فيه العقل والشرع إيثاراً لا خلقة ، فالأوساط فضائل ، والأطراف رذائل ، وإذا امتزجت الفضائل الثلاث حصلت من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة ، فبهذا الاعتبار عبر عن العدالة بالوساطة ، أي في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] وإليه أشير بقوله عليه الصلاة والسلام « خير الأمور أوساطها » والحكمة في النفس البهيمية بقاء البدن الذي هو مركب النفس الناطقة ليصل إلى كمالها اللائق بها ، ومقصدها المتوجه إليه ، وفي السبعية كسر البهيمية وقهرها ودفع الفساد المتوقع من استيلائها ، واشترط التوسط في أفعالها لئلا تستعبد الناطقة هواهما وتصرفاها عن كمالها ومقصدها - انتهى .
ولما انقضت هذه الجمل ، رافعة أعناقها على المشتري وزحل ، قابلة لمن يريد عملها مع الكسل ، والضجر في الفكر والملل ، وأين الثريا من يد المتناول ، وكان قد أخبر سبحانه وتعالى في أول السورة أن الآيات المسموعة هدى لقوم وضلال لآخرين ، وكان من الغرائب أن شيئاً واحداً يؤثر شيئين متضادين ، وأتبع ذلك ما دل على أنه من بالغ الحكمة بوجوه مرضية مشرقة مضيئة ، لكنها بمسالك دقيقة وإشارات خفية ، إلى أن ختم بالنهي عن التكبر ، ورفع الصوت فوق الحاجة ، إشارة إلى أن فاعل ما لا حاجة إليه غير حكيم ، وكان التكبر على الناس والتعالي عليهم من آثار الفضل في النعمة ، وكانت العادة جارية بأن اللك يخضع له تارة لمجرد عظمته ، وتارة خوفاً من سطوته ، وتارة رجاء لنعمته ، أبرز سبحانه وتعالى غيب ما وصف به الآيات المسموعة من تأثير الضدين في حالة واحدة في شاهد الآيات المرئية على وجه يدل على استحقاقه ، لما أمر به لقمان عليه السلام من العبادة والتذلل ، وأن إليه المرجع ، وهو عالم على استحقاقه ، لما أمر به لقمان شيء ، وأن كل ما ترى خلقه مذكراً بأن النعمة إنما هي منه ، فلا ينبغي لأحد أن يفخر بما آتاه غيره ، ولو كل فيه إلى نفسه لم يقدر على شيء منه ، محذراً من سلبها عن المتكبر وإعطائها للذليل المحتقر ، فقال : { ألم تروا } اي تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة أيها المشترون لهو الحديث ، المتكبرون علي المقبلين على الله ، المتخلين عن الدنيا ، الذين قلنا لهم رداً عن الشرك وإبعاداً عن الهوى والإفك { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } { أن الله } أي الحائز لكل كمال { سخر لكم } أي خاصة { ما في السماوات } بالإنارة والإظلام ، والحر والبرد وغير ذلك من الإنعام ، وأكده بإعادة الموصول والجار ، لأن المقام حقيق به فقال : { وما في الأرض } بكل ما يصلحكم فتعلموا أن الكل خلقه ، ما لأحد ممن دونه فيه شيء ، وأنه محيط بكل شيء قدرة وعلماً ، فهو قادر على تعسيره فينبئكم بما كنتم تعملون ويحضره لكم وإن كان في أخفى الأماكن { وأسبغ } أي أطال وأوسع وأتم وأفضل عن قدر الحاجة وأكمل { عليكم } أيها المكلفون { نعمه } أي واحدة تليق بالدنيا - في قراءة الجماعة بإسكان العين وتاء تأنيث منصوبة منونة تنوين تعظيم ، مشيراً إلى أنها ذات أنواع كثيرة جداً ، بما دلت عليه قراءة المدنيين وأبي عمرو وحفص عن عاصم بجعل تاء التأنيث ضميراً له سبحانه مع فتح العين ليكون جمعاً { ظاهرة } وهي ما تشاهدونها متذكرين لها { وباطنة } وهي ما غابت عنكم فلا يحسونها ، أو تحسونها وهي خفية عنكم ، لا تذكرونها إلا بالتذكير ، وكل منكم يعرف ذلك على الإجمال ، فاعبدوه لما دعت إليه مجلة لقمان عليه السلام لتكونوا من المحسنين ، حذراً من سلب نعمه ، وإيجاب نقمه ، ويجوز أن تكون الآية دليلاً على قوله تعالى : { خلق السماوات بغير عمد ترونها } .
ولما كان التقدير : ومع كون كل منكم أيها الخلق يعرف أن ذلك نعمة منه سبحانه تعالى وحده فمن الناس من أذعن وأناب وسلم لكل ما دعا إليه كتابه الحكيم على لسان رسوله النبي الكريم فكان من الحكماء الحسنين فاهتدى عطف عليه قوله مظهراً موضع ضمير المخاطبين مما يشير إليه النوس : { ومن الناس } أي الذين هم أهل للاضطراب ، ويمكن أن يكون حالاً من { ألم تروا } ويكون { ألم تروا } دليلاً على أول السورة ، أي أشير إلى الآيات حال كونها هدى لمن ذكر والحال أن من الناس من يشتري اللهو ، ألم تروا دليلاً على أن من الناس المعاند بعد وضوح الدليل أن الله سخر لكم جميع العالم وأنعم عليكم بما أنعم والحال أن من الناس { من يجادل } فلا لهو أعظم من جداله ، ولا كبر مثل كبره ، ولا ضلال مثل ضلاله ، وأظهر لزيادة التشنيع على هذا المجادل ، وإشارة إلى قبح المجادلة من غير نظر إلى النعم فقال تعالى : { في الله } المحيط بكل شيء علماً وقدرة .
ولما كان سبحانه في ظهور وجوده وأوصافه بحيث لا يخفى بوجه ، وكان المجادل قد يكون فهماً ، قال : { بغير } أي بكلام متصف بأنه غير { علم } أي بل بألفاظ هي في ركاكة معانيها لعدم استنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العحم ، فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى .
ولما كان المعنى قد يظهر لبعض القاصرين ، لوروده على لسان من لا يعتبر ، فإذا أضيف إلى كبير ، تؤمل ولم يبادر إلى رده لاستعظامه ، فظهر على طول حسه ، قال معبراً بأداة النفي الحقيقة به ، لأن الموضع لها ، وعدل عنها اولاً لئلا يظن أن المذموم إنما هو المجادل إذا كان غير متصف بالعلم وإن كان جداله متصفاً بالعلم : { ولا هدى } أي وارد عمن عهد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات ، فوجب أخذ اقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها .
ولما كان القول قد يكون مقبولاً لاستناده إلى الله تعالى وإن لم يكن اصلاً معقولاً ، قال : { ولا كتاب } أي من الله؛ ووصفه بما هو لازمه لا ينفك عنه فقال : { منير* } أي بين غاية البيان ، مبين لغيره على عادة بيان الله سبحانه وتعالى ، أو يكون أريد بالوصف الإعجاز لإظهاره قطعاً أنه من الله ، فإنه ليس كل كتاب الله كذلك .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)
ولما كان المجادل بغير واحد من هذه الثلاثة تابعاً هواه مقلداً مثله قطعاً ، وكان حال المجادلين هذا لظهور أدلة الوحدانية عجباً ، عجب منهم تعجيباً آخر بإقامتهم على الضلال مع إيضاح الادلة فقال : { وإذا قيل } أي من أيّ قائل كان . ولما كان ضلال الجمع أعجب من ضلال الواحد ، وكان التعجيب من جدال الواحد تعجيباً من جدال الاثنين فأكثر من باب الأولى ، أفرد أولاً وجمع هنا فقال : { لهم } أي للمجادلين هذا الجدال : { اتبعوا ما } أي ابذلوا جهدكم في تبع الذي ، وأظهر لزيادة التشنيع أيضاً فقال : { أنزل الله } الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين ، وهو الذي لا عظيم إلا هو { قالوا } جموداً : لا نفعل { بل نتبع } وإن جاهدنا بالأنفس والأموال { ما وجدنا عليه آباءنا } لأنهم أثبت منا عقولاً ، وأقوم قيلاً ، وأهدى سبيلاً .
ولما كانوا لا يسلكون طريقاً حسياً بغير دليل ، كان التقدير : أتتبعونهم لو كان الهوى يدعوهم فيما وجدتموهم عليه إلى ما يظن فيه الهلاك ، لكونه بغير دليل ، فعطف عليه قوله : { أو لو كان الشيطان } أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة ، وهو أعدى اعدائهم ، دليللهم فهو { يدعوهم } إلى الضلال فيوقعهم فيما يسخط الرحمن فيؤديهم ذلك { إلى عذاب السعير* } وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم في ضلالهم وأنه مستمر ، وأطلق العذاب على سببه .
ولما كان التقدير : فمن جادل في الله فلا متمسك له ، عطف عليه قوله في شرح حال أضدادهم : { ومن يسلم } أي في الحال أو الاستقبال { وجهه } أي قصده وتوجهه وذاته كلها . ولما كان مقصود السورة إثبات الحكمة ، عدى الفعل ب « إلى » تنبيهاً على إتقان الطريق بالوسائط من النبي أو الشيخ وحسن الاسترشاد في ذلك ، فقال معلقاً بما تقديره : ساتراً وواصلاً { إلى الله } الذي له صفات الكمال ، فلم يبق لنفسه أمر أصلاً ، فهو لا يتحرك إلا بأمر من أوامره سبحانه { وهو } أي والحال أنه { محسن } أي مخلص بباطنه كما أخلص بظاهره فهو دائماً في حال الشهود { فقد استمسك } أي أوجد الإمساك بغاية ما يقدر عليه من القوة في بادئه الأمور لترقية نفسه من حضيضها إلى أوج الروح على أيدي المسلكين الذين اختارهم لدينه ، العارفين بأخطار السير وعوائق الطريق { بالعروة الوثقى } التي هي أوثق ما يتمسك به فلا سقوط له أصلاً ، فليسررك شكره فإن ربه يعليه إلى كل مراد ما دام متمسكاً بها تمثيلاً لحال هذا السائر بحال من سقط في بئر ، أو أراد أن يرقى جبلاً ، فادعى له صاحبه حبلاً ذا عرى فأخذ بأوثقها ، فهو يعلو به إذا جره صديقه . وهو قادر على جره لا محالة من غير انفصام ، لأن متمسكه في غاية الإحكام .
ولما كان الكل صائرين إليه ، رافدين عليه : من استمسك بالأوثق ، ومن استمسك بالأوهى ، ومن لم يتمسك بشيء ، إلا أن الأول صائر مع السلامة ، وغيره مع العطب ، قال مظهراً تعظيماً للأمر ولئلا يقيد بحيثية عاطفاً على ما تقديره : فيصير إلى الله سالماً ، فإلى الله عاقبته لا محال : { وإلى الله } أي الملك الأعظم وحده تصير { عاقبة الأمور * } أي كما أنه كانت منه بادئتها ، وإنما خص العاقبة لأنهم مقرون بالبادئة .
ولا ذكر المسلم ذكر الكافر فقال : { ومن كفر } أي ستر ما أداه إليه عقله من أن الله لا شريك له ، وأنه لا قدرة لأحد سواه ، ولم يسلم وجهه إليه ، فتكبر على الدعاة وأبى أن ينقاد لهم ، اتباعاً لما قاده إليه الهوى . بأن جعل لنفسه اختياراً وعملاً فعل القوي القادر ، فقد ألقى نفسه في كل هلكة لكونه لم يتمسك شيء { فلا يحزنك } أي يهمك ويوجعك ، وأفرد الضمير باعتبار لفظ من لإرادة التنصيص على كل فرد فقال : { كفره } كائناً من كان فإنه لم يَفُتك شيء فيه خير ولا معجز لنا ليحزنك ، ولا تبعة عليك بسببه ، وفي التعبير هنا بالماضي وفي الأول بالمضارع بشارة بدخول كثير في هذا الدين ، وأنهم لا يرتدون بعد إسلامهم ، وترغيب في الإسلام لكل من كان خارجاً عنه ، فالآية من الاحتباك : ذكر الحزن ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً ، وذكر الاستسماك أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً .
ولما كان الحزن بمعنى الهم ، حسن التعليل بقوله التفاتاً إلى مظهر العظمة التي هذا من أخفى مواضعها ، وجمع لأن الإحاطة بالجمع أدل على العظمة : { إلينا } أي خاصة بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال { مرجعهم } أي رجوعهم وزمانه ومكانه أي معنى في الدنيا وحساً يوم الحساب ، لا إلى غيرنا ، ولما بين أنهم في قبضته ، وأنه لا بد من بعثهم ، بين أن السبب في ذلك حسابهم لتظهر الحكمة فقال : { فننبئهم } بسبب إحاطتنا بأمرهم وعقب رجوعهم { بما عملوا } أي ونجازيهم عليه إن أردنا .
ولما كان معنى التضعيف : نفعل معهم فعل منقب عن الأمور مفتش على جليها وخفيها ، جليلها ودقيقها ، فلا نذر شيئاً منها ، علله بقوله معبراً بالاسم الأعظم المفهم للعظمة وغيرها من صفات الكمال التي من أعظمها العلم ، لفتاً للكلام عن العظمة التي لا تدل على غيرها إلا باللزوم ، مؤكداً لإنكارهم شمول علمه { إن الله عليم } أي محيط العلم بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال { بذات الصدور* } أي بالأعمال التي هي صاحبتها ، ومضمرة ومودعة فيها ، فناشئة عنها ومن قبل أن تبرز إلى الوجود ، فكيف بذلك بعد عملها .
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
ولما تشوف المسلم إلى إهلاك من هذا شأنه وإلى العلم بمدة ذلك ، وكان من طبع الإنسان العجلة ، أجاب من يستعجل بقوله عائداً إلى مظهر العظمة التي يتقاضاها إذلال العدو وإعزاز الولي : { نمتعهم قليلاً } أي من الزمان ومن الحظوظ وإن جل ذلك عند من لا علم له ، فلا تشغلوا أنفسكم بالاستعجال عليهم فإن كل آت قريب .
ولما كان إلجاء المتجبرين إلى العذاب امراً مستبعداً ، أشار بأداة البعد إلى ما يحصل عنده من صفات الجلال ، التي تذل الرجال ، وتدك الجبال ، وفيه أيضاً إشارة إلى استطالة المحسنين من تمتيعهم وإن كان قليلاً في الواقع ، أو عند الله فقال : { ثم نضطرهم } أي نأخذهم اخذاً لا يقدرون على الانفكاك عنه بنوع حيلة ، وأشار إلى طول إذلالهم في مدة السوق بحرف الغاية ، فكان المعنى : فنصيرّهم بذلك الأخذ { إلى عذاب غليظ * } أي شديد ثقيل ، لا ينقطع عنهم أصلاً ولا يجدون لهم منه مخلصاً من جهة من جهاته ، فكأنه في شدته وثقله جرم غليظ جداً إذا برك على شيء لا يقدر على الخلاص منه .
ولما كان من أعجب العجب مجادلتهم مع إقرارهم بما يلزمهم به قطعاً التسليم في أنه الواحد لا شريك له وأن له جميع صفات الكمال فله الحمد كله ، قال : { ولئن } أي يجادلون أو يقولون : بل نتبع آباءنا والحال أنهم أن { سألتهم من خلق السماوات } بأسرها { والأرض } وجميع ما فيها { ليقولن } ولما كان الأنسب للحكمة التي هي مطلع السورة الاقتصار على محل الحاجة ، لم يزد هنا على المسند إليه بخلاف الزخرف التي مبناها الإبانة ، فقال لافتاً القول عن العظمة إلى أعظم منها فقال : { الله } أي « المسمى بهذا الاسم الذي جمع مسماه بين الجلال والإكرام » فقد أقروا بأن كل ما أشركوا به بعض خلقه ومصنوع من مصنوعاته .
ولما كانوا يعتقدون أن شركائهم تفعل لهم بعض الأفعال ، فلذلك كانوا يرجونهم ويخافونهم ، كما أن ذلك واضح في قصة عم أنس الصم وغيرها ، أمره صلى الله عليه وسلم بأن يعلمهم أنه لا خلق لغيره ولا أمر ، بل هو مبدع كل شيء في السماوات والأرض كما أبدعهما ، وأن من جملة ذلك مما يستحق به الحمد سبحانه قهرهم على تصديقه صلى الله عليه السلام بمثل هذا الإقرار وهم في غاية التكذيب ، فقال مستأنفاً : { قل الحمد } أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال { لله } أي الذي له الإحاطة الشاملة الكاملة من غير تقييد بخلق الخافقين ولا غيره « الأمر أعظم من مقالة قائل » كما أحاط بما تعلمونه من خلق السماوات والأرض ، فهو فاعل الإفعال كلها ، كما أنه خالق الذوات كلها ، ولا شريك له في شيء من الأمر ، كما أنه لا شريك له في شيء من الخلق .
ولما كانوا يظنون أن أصنامهم تصنع شيئاً كما قالت امرأة ذي النور الدوسي رضي الله عنه : هل يخشى على الصبية من ذي الشرى ، وكما قال قوم ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه لما سب آلهتهم : اتق الجذام اتق البرص ، وكما قال سادن العزى ، وكما قالت ثقيف في طاغيتهم ، حتى أنهم قالوا عندما سويت بالأرض ، والله ليغضبن الأساس ، حتى حمل ذلك المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على أن حفر الأساس ، وكانوا إذا مستهم الضراء لا سيما في البحر تبرؤوا منها ، وأسندوا الأمر إلى من هو له كما هو مضمون التوحيد ، فكان ربما قال قائل استناداً إلى ذلك : إنهم ليعلمون ما أثبت بالتحميد ، قال : { بل أكثرهم لا يعلمون * } أي إن الله هو المنفرد بكل شيء كما أنه تفرد بخلق السماوات والأرض ، وأنه لا يكون شيء ، إلا بإذنه لأنهم لا يعملون بما يعلمون من ذلك ، وعلم لا يعمل به عدم ، بل العدم خير منه ، وكان القليل هم المقتصدون عند النجاة من الشدة كما سيأتي آنفاً ، أو يكون المعنى أنه لا علم لهم أصلاً إذ لو كان لهم علم لنفعهم في علمهم بالله ، أو في أنهم لا يقرون بتفرده سبحانه بالخلق والرزق ، فيكون ذلك موجباً لتناقضهم وملزماً لهم بالإقرار بصدقك غي الحكم بوحدانيته على الإطلاق . ولما أثبت لنفسه سبحانه الإحاطة بأوصاف الكمال ، شرع يستدل على ذلك ، فقال مبيناً أن ما أخبر أنه صنعه فهو له : { لله } أي الملك الأعظم المحيط بجميع أوصاف الكمال خاصة دون غيره { ما في السماوات } كلها . ولما تحرر بما تقدم أنهم عالمون مقرون بما يلزم عنه وحدانيته ، لم يؤكد بإعادة { ما } والجار ، بل قال : { والأرض } أي كلها كما كانتا مما صنعه ، فلا يصح أن يكون شيء من ذلك له شريكاً .
ولما ثبت ذلك أنتج قطعاً قوله : { إن الله } أي الملك الأعظم { هو } أو وحده ، وأكد لأن ادعائهم الشريك يتضمن إنكار غناه ، ولذلك أظهر موضع الإضمار إشارة إلى أن كل ما وصف به فهو ثابت له مطلقاً من غير تقييد بحيثيته { الغني } مطلقاً ، لأن جميع الأشياء له ومحتاجة إليه ، وليس محتاجاً إلى شيء أصلاً . ولما كان الغني قد لا يوجب الحمد لله : { الحميد * } أي المستحق لجميع المحامد ، لأنه المنعم على الإطلاق ، المحمود بكل لسان ألسنة الأحوال والأقوال ، ولو كان نطقها ذماً فهو حمد من حيث إنه هو الذي أنطقها ، ومن قيد الخرس أطلقها .
ولما كان الغني قد يكون ماله محصوراً كما في السماوات والأرض الذي قدم أنه له ، والمحمود قد يكون ما يحمد عليه مضبوطاً مقصوراً أثبتت أنه على غير ذلك ، بل لا حد لغناه ، ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده ولا تناه ، فقال : { ولو } أي له الصفتان المذكورتان والحال أنه لو { أنّ ما في الأرض } أي كلها ، ودل على الاستغراق وتقصى كل فرد فرد من الجنس بقوله : { من شجرة } حيث وحدها { أقلام } أي والشجرة يمدها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات ، وأن ما في الأرض من بحر مداد لتلك الأقلام { والبحر } أي والحال أن البحر ، وعلى قراءة البصريين بالنصب التقدير : ولو أن البحر { يمده } أي يكون مدداً وزيادة فيه { من بعده } أي من ورائه { سبعة أبحر } فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة كلمات الله { ما نفدت } وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للمقام فقال مظهراً للإشارة مع التبرك إلى عدم التقيد بشيء وإن جل : { كلمات الله } وفنيت الأقلام والمداد ، وأشار بجمع القلة مع الإضافة إلى اسم الذات إلى زيادة العظمة بالعجز عن ذلك القليل فيفهم العجز عن الكلم من باب الأولى ، ويتبع الكلمات الإبداع ، فلا تكون كلمة إلا الأحداث شأن من الشؤون
{ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ يس : 82 ] وعلم من ذلك نفاد الأبحر كلها لأنها محصورة ، فهي لا تفي بما ليس بمحصور ، فيا لها من عظمة لا تتناهى! ومن كبرياء لا تجارى ، ولا تضاهى ، لا جرم كان نتيجة ذلك قوله مؤكداً لأن ادعاءهم الشريك إنكار للعزة ، وعدم البعث إنكار للحكمة : { إن الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من غير قيد أصلاً { عزيز } أي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء { حكيم * } يحكم ما أراده ، فلا يقدر أحد على نقضه ، ولا علم لأحد من خلقه إلا ما علمه ، ولا حكمة لأحد منهم إلا بمقدار ما أورثه ، وقد علم أن الآية من الاحتباك : ذكر الأقلام دليلاً على حذف مدادها ، وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلاً على حذفها في الأشجار ، وهو من عظيم هذا الفن ، وعلم أيضاً من السياق أن المراد بالسبعة المبالغة في الكثرة لا حقيقتها ، وأن المراد بجمع القلة في « أبحر » الكثرة ، لقرينة المبالغة ، وبجمع القلة في { كلمات } حقيقتها لينتظم المعنى ، وكل ذلك سائغ شائع في لغة العرب .
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
ولما ختم بهاتين الصفتين بعد إثبات القدرة على الإبداع من غير انتهاء ، ذكر بعض آثارهما في البعث الذي تقدم أول السورة وأثناءها ذكره إلى حذرهم به في قوله « إلينا مرجعهم » فقال : { ما خلقكم } أي كلكم في عزته وحكمته إلا كخلق نفس واحدة ، وأعاد النافي نصاًَ على كل واحد من الخلق والبعث على حدته فقال : { ولا بعثكم } كلكم { إلا كنفس } أي كبعث نفس ، وبين الأفراد تحقيقاً للمراد ، وتأكيداً للسهولة فقال : { واحدة } فإن كلماته مع كونها غير نافدة نافذة ، وقدرته مع كونها باقية بالغة ، فنسبه القليل والكثير إلى قدرته على حد سواء ، لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، ثم دل على ذلك بقوله مؤكداً لأن تكذيبهم لرسوله وردهم لما شرفهم به يتضمن الإنكار لأن يكونوا بمرأى منه ومسمع : { إن الله } أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الشاملة { سميع } أي بالغ السمع يسمع كل ما يمكن سمعه من المعاني في آن واحد لا يشغله شيء منها عن غيره { بصير* } بليغ البصر يبصر كذلك كل ما يمكن أن يرى من الأعيان والمعاني ، ومن كان كذلك كان المحيط العلم بالغه شامل القدرة تامها ، فهو يبصر جميع الأجزاء من كل ميت ، ويسمع كل ما يسمع من معانيه ، فهو بإحاطة علمه وشمول قدرته يجمع تلك الأجزاء ، ويميز بعضها من بعض ، ويودعها تلك المعاني ، فإذا هي أنفس قائمة كما كانت أول مرة في أسرع من لمح البصر .
ولما قرر هذه الآية الخارقة ، دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرتين ، مع دلالته على تسخير ما في السماوات والأرض ، وإبطال قولهم : { ما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] بأنه ، هو الذي أوجد الزمان بتحريك الأفلاك ، خاصاً بالخطاب من لا يفهم ذلك حق فهمه غيره ، أو عاماً كل عاقل ، إشارة إلى أنه في دلالته على البعث في غاية الوضوح فقال : { ألم تر } أي يا من يصلح لمثل هذا الخطاب ، ويمكن أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم ذلك من المخلوقين حق علمه غيره .
ولما كان كان البعث مثل إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه ، فكان إنكاره إنكارً لهذا ، نبه على ذلك بالتأكيد فقال : { أن الله } أي بجلاله وعز كماله { يولج } أي يدخل إدخالاً لا مرية فيه { الليل في النهار } فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه ، فإذا النهار قد عم الأرض كلها أسرع من اللمح { ويولج النهار } أي يدخله كذلك { في الليل } فيخفي حتى لا يبقى له أثر ، فإذا الليل قد طبق الآفاق : مشارقها ومغاربها في مثل الظرف ، فيميز سبحانه كلاً منهما - وهو معنى من المعاني - من الآخر بعد إضمحلاله ، فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره ، ولما كان هذا معنى من المعاني يتجدد في كل يوم وليلة ، عبر فيه بالمضارع .
ولما كان النيران جرمين عظيمين قد صرفنا على طريق معلوم بقدر لا يختلف ، عبر فيهما بالماضي عقب ما هما آيتاه فقال : { وسخر الشمس } آية للنهار بدخول الليل فيه { والقمر } آية لليل كذلك! ثم استأنف ما سخرا فيه فقال : { كل } أي منهما { يجري } أي في فلكه سائراً متمادياً وبالغاً ومنتهياً .
ولما كان محط مقصود السورة الحكمة ، وكانت هذه الدار مرتبطة بحكمة الأسباب والتطوير ، والمد في الإبداع والتسيير ، كان الموضع لحرف الغاية فقال : { إلى أجل مسمى } لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص ، هذا يقطعها في الشهر مرة وتلك في السنة مرة ، لا يقدر منهما أن يتعدى طوره ، ولا أن ينقص دوره ، ولا أن يغير سيره .
ولما بان بهذا التدبير المحكم ، في هذا الأعظم ، شمول علمه وتمام قدرته ، عطف على « أن الله » قوله مؤكداً لأجل أن أفعالهم أفعال من ينكر علمه بها : { وأن الله } أي بما له من صفات الكمال المذكورة وغيرها ، وقدم الجار إشارة إلى تمام علمه بالأعمال كما مضت الإشارة إليه غير مرة ، وعم الخطاب بياناً لما قبله وترغيباً وترهيباً فقال : { بما تعملون } أي في كل وقت على سبيل التجدد { خبير * } لا يعجزه شيء منه ولا يخفى عنه ، لأنه الخالق له كله دقه وجله ، وليس للعبد في إيجاده غير الكسب لأنه لا يعلم مقدار الحركات والسكنات في شيء منه ، ولو كان هو الموجد له لعلم ذلك لأنه لا يقدر على الإيجاد ناقص العلم أصلاً ، وكم أخبر سبحانه في كتبه وعلى لسان أنبيائه بأشياء مستقبلية من أمور العباد ، فكان ما قاله كما قاله ، لم يقدر أحد منهم أن يخالف في شيء مما قاله ، فتمت كلماته ، وصدقت إشاراته وعباراته ، وهذا دليل آخر على تمام القدرة على البعث وغيره باعتبار أن الخلائق في جميع الأرض يفوتون الحصر ، وكل منهم لا ينفك في كل لحظة عن عمل من حركة وسكون ، وهو سبحانه الموجد لذلك كله في كل أن دائماً ما تعاقب الملوان ، وبقي الزمان ، لا يشغله شأن منه على شأن ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم لما خوطبوا بهذا في غاية العلم به . لما ذكر من دليله ، ولما شاهدوا من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات تتعلق بأناس غائبين وأناس حاضرين ، منهم البعيد جداً والمتوسط والقريب ، وغير ذلك من أحوال توجب القطع لهم بذلك ، هذا علمهم فكيف يكون عالم المخصوص في هذه الآية بالخطاب صلى الله عليه وسلم ، مع ما يشاهد من آثاره سبحانه وتعالى ، ويطلع عليه من إبداعه في ملكوت السماوات والأرض وغير ذلك مما أطلعه عليه سبحانه وتعالى من عالم الغيب والشهادة .
ولما ثبت بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العلى أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله قال : { ذلك } أي ذكره لما من الأفعال الهائلة والأوصاف الباهرة { بأن } أي بسبب أن { الله } أي الذي لا عظيم سواه { هو } وحده { الحق } أي الثابت بالحقيقة وثبوت غيره في الواقع عدم ، لأنه مستفاد من الغير ، وليس له الثبوت من ذاته ، ومنه ما أشركوا به ، ولذلك أفرده بالنص ، فقال صارفاً للخطاب الماضي إلى الغيبة على قراءة البصريين وحمزة وحفص عن عاصم إيذاناً بالغضب ، وقراءة الباقين على الأسلوب الماضي { وأنَّ ما يدعون } أي هؤلاء المختوم على مداركهم ، وأشار إلى سفول رتبتهم بقوله : { من دونه } .
ولما تقدمت الأدلة الكثيرة على بطلان آلهتهم بما لا مزيد عليه ، كقوله { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } وأكثر هنا من إظهار الجلالة موضع الإضمار تنبيهاً على عظيم المقام لم تدع حاجة إلى التأكيد بضمير الفصل فقال : { الباطل } أي العدم حقاً ، لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه ، وإلا لمنع من شيء من هذه الأفعال مرة من المرات ، فلما وجدت على هذا النظام علم أنه الواحد الذي لا مكافئ له .
ولما كانوا يعلونها عن مراتبها ويكبرونها بغير حق ، قال : { وأن الله } أي الملك الأعظم وحده ، ولما كان النيران مما عبد من دون الله ، وكانا قد جمعاً علواً وكبراً ، وكان ليس لهما من ذاتهما إلا العدم فضلاً عن السفول والصغر ، ختم بقوله : { هو العلي الكبير } أي عن أن يداينه في عليائه ضد ، أو يباريه في كبريائه ند .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
ولما تضمنت الآية ثلاثة أشياء ، أتبعها دليلها ، فقال منبهاً على أن سيرنا في الفلك مثل سير النجوم في الفلك ، وسير أعمارنا في فلك الأيام حتى يولجنا في بحر الموت مثل سير كل من الليل والنهار في فلك الشمس حتى يولجه في الآخر فيذهب حتى كأنه ما كان ، ولولا تفرده بالحقية والعلو والكبر ما استقام ذلك ، خاصاً بالخطاب أعلى الناس ، تنبيهاً على أن هذه لكثرة الألف لها أعرض عن تأملها ، فهو في الحقيقة حث على تدبرها ، ويؤيده الإقبال على الكل عند تعليلها : { ألم تر أن الفلك } أي السفن كباراً وصغاراً { تجري } أي بكم حاملة ما تعجزون عن نقل مثله في البر ، وعبر بالظرفية إشارة إلى أنه ليس لها من ذاتها إلا الرسوب في الماء لكثافتها ولطافته فقال : { في البحر } أي على وجه الماء ، وعبر عن الفعل بأثره لأنه أحب فقال : { بنعمت الله } أي برحمة الملك الأعلى المحيط علماً وقدرة وإحسانه ، مجدداً ذلك على مدى الزمان عليكم في تعليمكم صنعها حتى تهيأت لذلك على يدي أبيكم نوح العبد الشكور عليه السلام { ليريكم من آياته } أي عجائب قدرته ودلائله التي تدلكم على أنه الحق الذي أثبت بوجوب وجوده ما ترون من الأحمال الثقال على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها ، وهي مساوية لغيرها في أن الكل من التراب ، فما فاوت بينها إلا هو بتمام قدرته وفعله بالاختيار .
ولما كان هذا أمراً إذا جرد النظر فيه عن كونه قد صار مألوفاً بهر العقول وحير الفهوم ، أشار إليه بقوله مؤكداً تنبيهاً مما هم فيه من الغفلة عنه ، لافتاً الخطاب بعد الجمع إلى الإفراد تنبيهاً على دقة الأمر وأنه - وإن كان يظن أنه ظاهر - لا يفهمه حق فهمه غيره صلى الله عليه وسلم : { إن في ذلك } أي الأمر الهائل البديع الرفيع { لآيات } أي دلالات واضحات على ما له من صفات الكمال في عدم غرقه وفي سيرة إلى البلاد الشاسعة ، والأقطار البعيدة ، وفي كون سيره ذهاباً وإياباً تارة بريحين ، وأخرى بريح واحدة ، وفي إنجاء أبيكم نوح عليه السلام ومن أراد الله من خلقه به وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض ، وفي غير ذلك من شؤونه ، وأموره وفنونه ، ونعمه وفتونه وإن كان أكثر ذلك قد صار مألوفاً لكم فجهلتم أنه من خوارق العادات ، ونواقض المطردات ، وعلم من ختام التي قبلها أن المراد - بقوله جامعاً لجميع الإيمان الذي هو نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر ، وذلك تمام صفة المؤمن مظهراً موضع لك أو لكم - ما أفاد الحكم بكل من شاركه صلى الله عليه وسلم في الوصفين المذكورين : { لكل صبار } إدامة الفكر في هذه النعم واستحضارها في الشدة والرخاء ، وأنها من عند الله ، وأنه لا يقدر عليها سواه ، والإذعان له في جميع ذلك ، حفظاً لما دل عليه العقل من أخذ الميثاق بالشكر ، وأن لا يصرف الحق إلى غير أهله ، فيلزم عليه الإساءة إلى المحسن { شكور * } عليه مبالغ في كل من الصبر والشكر ، وعلم من صيغة المبالغة في كل منهما أنه لا يعرف في الرخاء من عظمة الله ما كان يعرفه في الشدة إلا من طبعهم الله على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه بحفظ العهد وترك النقض جرياً مع ما تدعو إليه الفطرة الأولى السليمة ، وقليل ما هم ، وقال الرازي في اللوامع : وكيفما كان فالصبر هو الثبات في مراكز العبودية ، والشكر رؤية النعمة من المنعم الحق وصرف نعمه إلى محابّه .
ولما كانوا يسارعون إلى الكفر بعد انفصالهم من هذه الآية العظمية ، وإلباسهم ههذ النعمة الجسيمة ، التي عرفتهم ما تضمنته الآية السالفة من حقيته وحده وعلوه وكبره وبطلان شركائهم ، أعرض عنهم وجه الخطاب لأنهم لم يرجعوا بعد الوضوح إيذاناً باستحقاق شديد الغضب والعذاب ، فقال معجباً عاطفاً على ما تقديره : وأما غير الصبار الشكور فلا يرون ما في ذلك من الآيات في حال رخائهم : { وإذا غشيهم } أي علاهم وهم فيها حتى صار كالمغطى لهم ، لأنه منعهم من أن تمتد أبصارهم كما كانت { موج } أي هذا الجنس ، ولعله أفرده لأنه لشدة اضطرابه وإيتانه شيئاً في أثر شيء متتابعاً بركب بعضه كأنه شيء واحد ، وأصله من الحركة والازدحام { كالظلل } أي حتى كان كأطراف الجبال المظلمة لمن يكون إلى جانبها ، وللإشارة إلى خضوعهم غاية الخضوع كرر الأسم الأعظم فقال : { دعوا الله } أي مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله ، عالمين بجميع مضمون الآية السالفة من حقيته وعلوه وكبره وبطلان ما يدعون من دونه { مخلصين له الدين } لا يدعون شيئاً سواه بألسنتهم ولا قلوبهم لما اضطرهم إلى ذلك من آيات الجلال ، وقسرهم عليه من العظمة والكمال ، واقتضى الحال في سورة الحكمة حذف ما دعوا به لتعظيم الأمر فيه لما اقتضاه من الشدائد لتذهب النفس فيه كل مذهب .
ولما كان القتل بالسيف أسهل عندهم من أن يقال عنهم : إنهم أقروا بشيء هم له منكرون لأجل الخوف خوف السبة بذلك والعار حتى قال من قال : لولا أن يقال إني ما أسلمت إلا جزعاً من الموت فيسب بذلك بني من بعدي لأسلمت . بين لهم سبحانه أنهم وقعوا بما فعلوا عند خوف الغرق في ذلك ، وأعجب منه رجوعهم إلى الكفر عند الإنجاء ، لما فيه مع ذلك من كفران الإحسان الذي هو عندهم من أعظم الشنع ، فقال دالاً بالفاء على قرب استحالتهم وطيشهم وجهالتهم : { فلما نجّاهم } أي خلصهم رافعاً لهم ، تنجية لهم عظيمة بالتدريج من تلك الأهوال { إلى البر } نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين ، وتنكبوا سبيل المفسدين وانقسموا قسمين { فمنهم } أي تسبب عن نعمة الإنجاء وربط بها إشارة إلى أن المؤثر لهذا الانقسام إنما هو الاضطرار إلى الإخلاص في البحر والنجاة منهم أنه كان منهم { مقتصد } متكلف للتوسط والميل للإقامة على الطريق المستقيم ، وهو الإخلاص في التوحيد الذي ألجأه إليه الاضطرار ، وهم قليل - بما دل عليه التصريح بالتبعيض ، ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلباب الحياة في التصريح بذلك ، وهو الأكثر - كما مضت الإشارة إليه ودل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض ، وما يقتصد إلا كل صبار شكور ، إما حالاً وإما مالاً { وما يجحد } وخوّف الجاحد بمظهر العظمة التي من شأنها الانتقام ، فقال صارفاً القول إليه : { بآياتنا } أي ينكرها مع عظمها ولا سيما بعد الاعتراف بها { إلا كل ختار } أي شديد الغدر عظيمه لما نقض من العهد الهادي إليه العقل والداعي إليه الخوف { كفور * } أي عظيم الكفر لإحسان من هو متقلب في نعمه ، في سره وعلنه ، وحركاته وسكناته ، ولا نعمة إلا وهي منه ، ومن هنا جاءت المبالغة في الصفتين ، وعلم أنهما طباق ومقابلة لختام التي قبلها ، وأن الآية من الاحتباك : دل ذكر المقتصد أولاً على « ومنهم جاحد » ثانياً ، وحصر الجحود في الكفور ثانياً على حصر الاقتصاد في الشكور أولاً ، قال البغوي : قيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين هرب رضي الله عنه عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف - يعني : فقال الركاب على عادتهم : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم ههنا شيئاً - فقال عكرمة رضي الله عنه : لئن أنجاني الله من هذا لأرجعن إلى محمد ولأضعن يدي في يده فسكنت الريح ، فرجع عكرمة رضي الله عنه إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه ، وقال مجاهد : مقتصد في القول مضمر للكفر ، وقال الكلبي : مقتصد في القول أي من الكفار ، لأن بعضهم كان أشد قولاً وأعلى في الافتراء من بعض .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
ولما ظهرت بما ذكر في هذه السورة دقائق الحكمة ، وانتشرت في الخافقين ألوية العظمة ونفوذ الكلمة ، وأعربت ألسن القدرة عن دلائل الوحدانية ، فلم تدع شيئاً من العجمة ، فظهر كالشمس أنه لا بد من الصيرورة إلى يوم الفصل وختم بالمكذب ، أمر سبحانه عباده عامة عاصيهم ومطيعهم بالإقبال عليه ، وخوّفهم ما هم صائرون إليه ، منادياً لهم بأدنى أوصافهم لما لهم من الذبذبة كما عرف به الحال الذي شرح آنفاً فقال : { يأ أيها الناس } أي عامة ، ولفت الكلام إلى الوصف المذكر بالإحسان ترغيباً وترهيباً فقال : { اتقوا ربكم } أي والذي لا إله لكم غيره ، لأنه لا محسن إليكم غيره ، اتقاء يدوم وأنتم في غاية الاجتهاد فيه ، لا كما فعلتم عند ما رأيتم من أهوال البحر .
ولما كانت وحدة الأله الملك توجب الخوف منه ، لأنه لا مكافئ له ، وكان أن عهد منه أنه لا يستعرض عبادة لمجازاتهم على أعمالهم لا يخشى كما يخشى إذا علم منه أن يستعرضهم قال : { واخشوا يوماً } لا يشبه الأيام ، ولا يعد هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئاً بوجه .
ولما كان المجرم إذا علم أن له عند الملك من يدفع عنه فتر ذلك من خوفه ، وكان ما بين الوالد والولد من الحنو والشفقة والعطف والرحمة الداعية إلى المحاماة والنصرة والفداء بالنفس والمال أعظم مما بين غيرهما ، فإذا انتفى إغناء أحدهما عن الآخر انتفى غيرهما بطريق الأولى قال : { لا يجزي } أي يغني فيه ، ولعله حذف الصلة إشارة إلى أن هذا الحال لهم دائماً إلا أنه سبحانه أقام في هذه الدار أسباباً ستر قدرته بها ، فصار الجاهل يحيل الأمر ويسنده إليها ، وأما هناك فتزول الأسباب ، وينجلي غمام الارتياب ، ويظهر اختصاص العظمة برب الأرباب .
ولما كانت شفقة الوالد - مع شمولها لجميع أيام حياته - أعظم فهو يؤثر حياة ولده على حياته ويؤثر أن يحمل بنفسه الآلام والأموال بدأ به فقال : { والد } كائناً من كان { عن ولده } أي لا يوجد منه ولا يتجدد في وقت من الأوقات نوع من أنواع الجزاء وإن تحقق أن الولد منه ، والتعبير بالمضارع إشارة إلى أن الوالد لا يزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد ، وتجدد عنده العطف والرقة ، والمفعول إما محذوف لأنه أشد في النفي وآكد ، وإما مدلول عليه بما في الشق الذي بعده .
ولما كان الولد لا يتوقع منه الإغناء عن والده في الهزاهز إلا بعد بلوغه ، أخره في عبارة دالة على ثبات السلب العام فقال : { ولا مولود } أي مولود كان { هو جاز عن والده } وإن علم أنه بعضه { شيئاً } من الجزاء ، وفي التعبير ب « هو » إشعار بأن المنفي نفعه بنفسه ، ففيه ترجية بأن الله قد يأذن له في نفعه إذا وجد الشرط ، وعبر هنا بالاسم الفاعل لأن الولد من شأنه أن يكون ذلك له ديدناً لما لأبيه عليه من الحقوق ، والفعل يطلق على من ليس من شأنه الاتصاف بمأخذ اشتقاقه ، فعبر به في الأب لأنه لاحق للولد عليه يوجب عليه ملازمة الدفع عنه ، ويكون ذلك من شأنه ومما يتصف به فلا ينفك عنه ، وذلك كما أن الملك لو خاط صح أن يقول في تلك الحال : أنه يخيط ، ولا يصح « خياط » لأن ذلك ليس من صنعته ، ولا من شأنه .
ولما كان من المعلوم أن لسان حالهم يقول : هل هذا اليوم كائن حقاً؟ أجيب هذا السؤال بقوله مؤكداً لمكان إنكارهم ، لأفتاً القول إلى الاسم الأعظم لاقتضاء الوفاء له : { إن وعد الله } الذي له جميع معاقد العز والجلال { حق } يعني أنه سبحانه قد وعد به على جلال جلاله ، وعظيم قدرته وكماله ، فكيف يجوز أن يقع في وهم فضلاً عن أوهامكم أن يخلفه مع أن أدناكم - أيها العرب كافة - لا يرى أن يخلف وعده وإن ارتكب في ذلك الأخطار ، وعانى فيه الشدائد الكبار ، فلما ثبت أمره ، وكان حبهم لسجن هذا الكون المشهود ينسيهم ذلك اليوم ، لما جعل سبحانه في هذا الكون من المستلذات ، تسبب عنه قوله : { فلا تغرنكم } مؤكداً لعظم الخطب { الحياة الدنيا } أي بزخرفها ، ولا ما يبهج من لا تأمل له من فاني رونقها ، وكرر الفعل والتأكيد إشارة إلى أن ما لهم من الألف بالحاضر مُعم لهم عما فيه من الزور ، والخداع الظاهر والغرور ، فقال مظهراً غير مضمر لأجل زيادةً التنبيه والتحذير : { ولا يغرنكم بالله } الذي لا أعظم منه ولا مكافئ له مع ولايته لكم { الغرور * } أي الكثير الغرور المبالغ فيه ، وهو الشيطان الذي لا أحقر منه ، لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها ، ويلهيكم به من تعظيم قدرها ، وينسيكموه من كيدها وغدرها ، وتعبها وشرها ، وأذاها وضرها ، فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم ، فلا تعدونه معاداً ، فلا تتخذون له زاداً ، لما اقترن بغروره من حلم الله وإمهاله ، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : الغرة أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة .
ولما كان من الأمر الواضح أن لسان حالهم بعد السؤال عن تحقق ذلك اليوم يسأل عن وقته كما مضى في غير آية ، ويأتي في آخر التي بعدها ، إنا تعنتاً واستهزاء وإما حقيقة ، أجاب عن ذلك ضاماً إليه أخواته من مفاتيح الغيب المذكورة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي ، لما في ذلك من الحكمة التي سقيت لها السورة ، مرتباً لها على الأبعد فالأبعد عن علم الخلق ، فقال مؤكداً لما يعتقدون في كهانهم مظهراً الاسم الأعظم غير مضمر لشدة اقتضاء المقام له : { إن الله } أي بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال { عنده } أي خاصة ، ولو قيل له مثلاً ما أفاد الحضور ، ولو قيل « لديه » لأوهم التعبير بلدي التي هي للحضور أن ذلك كناية عن قربها جداً ، وأوهم أن علمه تعالى يتفاوت تعلقه بالأشياء بخصوص أو عموم لأجل أن « لدى » أخص من عند فكانت عند أوفق للمراد ، فإنها أفادت التمكن من العلم مع احتمال تأخرها وسلمت من تطرق احتمال فاسد إليها { علم الساعة } أي وقت قيامها ، لا علم لغيره بذلك أصلاً .
ولما كان سبحانه قد نصب عليها أمارات توجب ظنوناً في قربها ، وكشف بعض أمرها ، عبر تعالى بالعلم ، ولما كانوا قد ألحوا في السؤال عن وقتها ، وكانت أبعد الخمس عن علم الخلق ، وكانت شيئاً واحداً لا يتجزى { فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة } [ النازعات : 13 ] أبرزها سبحانه في جملة اسمية دالة على الدوام والثبوت على طريق الحصر ، وهذا هو المفتاح الأول من مفاتيح الغيب ينفتح به من العلوم ما يجل عن الحصر عن قيام الأنفس بأبدانها ، ماثلة على مذاقها بجميع أركانها ، وأشكالها وألوانها ، وسائر شأنها ، وطيران الأرواح بالنفخ إليها واحتوائها عليها على اختلاف أنواعهم ، وتغاير صورهم وأطوالهم ، وتباين ألسنتهم وأعمالهم ، إلى غير ذلك من الأمور ، وعجائب المقدور ، ثم سعيهم إلى الموقف ثم وقوفهم ، ثم حسابهم إلى استقرار الفريقين في الدارين ، هذا إلى موجهم من شدة الزحام ، والكروب العظام بعضاً في بعض . يطلبون من يشفع لهم في الحساب حتى يقوم المصطفى صلى الله عليه وسلم المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون إلى انتقاض السماوات ، وانكدار ما فيها من النيرات ، ونزول الملائكة بعد قيامهم من منامهم ، وهم من لا يحصى أهل سماء منهم ، كثرة ، كيف وقد أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم يصلي هذا إلى تبدل الأراضي وزوال الجبال ، ونسف الأبنية والروابي والتلال ، وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا هو سبحانه .
{ المفتاح الثاني } : آية الله في خلقه على قيام الساعة ، وأدل الأدلة عليه وهو إنزال المطر الذي يكشف عن الاختلاط في أعماق الأراضي بالتراب الذي كان نباتاً ثم إعادته نبتاً كما كان من قبل على اختلاف ألوانه ، ومقاديره وأشكاله ، وأغصانه وأفنانه ، وروائحه وطعومه ، ومنافعه وطبائعه - إلى غير ذلك من شؤونه ، وأحواله وفنونه ، التي لا يحيط بها علماً إلا خالقها ومبدعها وصانعها .
ولما كانوا ينسبون الغيث إلى الأنواء أسند الإنزال إليه سبحانه ليفيد الامتنان ، وعبر بالجملة الفعلية للدلالة على التجدد فقال : { وينزل الغيث } بلام الاستغراق القائمة مقام التسوير ب « كل » وقد أفاد ذلك الاختصاص بالعلم بوقته ومكانه ومقداره وغير ذلك من شؤونه ، فإن من فعل شيئاً حقيقة لم يعلم أحد وقت فعله وقوعه إلا من قبله .
{ المفتاح الثالث } : علم الأجنة وهو الرتبة الثانية في الدلالة على البعث الكاشف عن تخطيطها وتصويرها ، وتشكيلها وتقديرها ، على وصفي الذكورة والأنوثة ، مع الوضوح أو الإشكال ، والوحدة أو الكثرة ، والتمام أو النقص - إلى ما هناك من اختلاف المقادير والطبائع ، والأخلاق والشمائل ، والأكساب والصنائع ، والتقلبات في مقدار العمر والرزق في الأوقات والأماكن - وغير ذلك من الأحوال التي لا يحصيها إلا بارئ النسم ، ومحيي الرمم . ولما كانت للخلق في ذلك لكثرة الملابسات والمعالجات ظنون في وجود الحمل أولاً ، ثم في كونه ذكراً أو أنثى ثانياً ، ونحو ذلك بما ضرب عليه من الأمارات الناشئة عن طول التجارب ، وكثرة الممارسة ، عبر العلم فقال : { ويعلم ما في الأرحام } من ذكر أو أنثى حي أو ميت وغير ذلك ، وصيغة المضارع لتجدد الأجنحة شيئاً فشيئاً وقتاً بعد وقت ، والكلام في اللام والاختصاص بالعلم كالذي قبله سواء .
{ المفتاح الرابع } : الكسب الناشئ عما في الأرحام الفاتح لكنوز السعادة وآفات الشقاوة والمسفر عن حقائق الضمائر في صدقها عند البلاء وكذبها ، وعن مقادير العزائم ورتب الغرائز ، وعن أحوال الناس عند ذلك في الصداقة والعداوة والذكاء والغباوة والصفاء والكدر والسلامة والحيل ، وغير ذلك من الصحة والعلل ، في اختلاف الأمور ، وعجائب المقدور ، في الخيور والشرور ، مما لا يحيط به إلا مبدعه ، وغارزه في عباده وودعه ، ولكون الإنسان - مع أنه ألصق الأشياء وألزمه له - لا يعلمه مع إيساعه الحيلة في معرفته ، عبر فيه بالدراية لأنها تدل على الحيلة بتصريف الفكر وإجالة الرأي - كما تقدم في سورة يوسف عليه السلام - أن مادة « درى » تدور على الدوران ، ومن لوازمه إعمال الحيلة وإمعان النظر ، فهي أخص من مطلق العلم فقال : { وما تدري نفس } أي من الأنفس البشرية وغيرها { ما } وأكد المعنى ب « ذا » وتجريد الفعل فقال : { ذا تكسب غداً } أي في المستقبل من خير أو شر بوجه من الوجوه ، وفي نفي علم ذلك من العبد مع كونه ألصق الأشياء به دليل ظاهر على نفي علم ما قبله عنه لأنه أخفى منه ، وقد تقدم إثبات علمه له سبحانه وتعالى ، فصار على طريق الحصر ، وعلم أيضاً أنه لا يسند إلى العبد الأعلى طريق الكسب لأنه لو كان مخلوقاً له لعلمه قطعاً ، فثبت أنه سبحانه وتعالى خالقه ، فعلم اختصاصه بعلمه من هذا الوجه أيضاً .
{ المفتاح الخامس } : مكان الموت الذي هو ختام الأمر الدنيوي وطي سجل الأثر الشهودي ، وابتداء الأمر الأخروي الظهر لأحوال البرزخ في النزول مع المنتظرين لبقية السفر إلى دائرة البعث وحالة الحشر إلى ما هنالك من ربح وخسران ، وعز وهوان ، وما للروح من الاتصال بالجسد والرتبة في العلو والسفول ، والصعود والنزول ، إلى ما وراء ذلك إلى ما لا آخر مما لا يعلم تفاصيله وجمله وكلياته وجزئياته إلا مخترعه وبارئه ومصطنعه .
ولما كان لا يعلمه الإنسان بنوع حيلة من شدة حذره منه وحبه لو أنفق جميع ما يمكله لكي يعلمه ، عبر عنه عن الذي قبله فقال مؤكداً بإعادة النافي والمسند : { وما تدري } وأظهر لأنه أوضح وأليق بالتعميم فقال : { نفس } أي من البشر وغيره { بأيّ أرض تموت } ولم يقل : بأي وقت ، لعدم القدرة على الانفكاك عن الوقت مع القدرة على الانفكاك عن مكان معين ، وإحاطة العلم بكراهة كل أحد للموت ، فكان ذلك أدل دليل على جهله بموضوع موته إذ علم به لبعد عنه ولم يقرب منه ، وقد روى البخاري حديث المفاتيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم قرأ { إن الله عنده علم الساعة } الآية » ، وله عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث سؤال جبرئيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة فأخبره ببعضها وقال : « خمس لا يعلمهن إلا الله { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب } » - إلى آخر السورة ، فقد دل الحديث قطعاً على أن الآية فيما ينفرد سبحانه وتعالى بعلمه ، وقد رتبها سبحانه هذا الترتيب لما تقدم من الحكمة وعلم سر إتيانه بها تارة في جملة اسمية وتارة في فعلية ، وتارة ليس فيها ذكر للعلم ، وأخرى يذكر فيها ، ويسند إليه سبحانه ، ولكن لا على وجه الحصر ، وتارة بنفي العلم من غيره فقط من غير إسناد للفعل إليه ، وعلم سر قوله « بأيّ أرض » دون أيّ وقت ، كما في بعض طرق الحديث .
ولما كان قد أثبت سبحانه لنفسه اختصاص العلم عن الخلق بهذه الأشياء ، أثبت بعدها ما هو أعلم لتدخل فيه ضمناً فيصير مخبراً بعلمه لها مرتين ، فقال على وجه التأكيد لأنهم ينكرون بعض ما يخبر به ، وذلك يستلزم إنكارهم لبعض علمه : { إنّ الله } أي المختص بأوصاف الكمال والعظمة والكبرياء والجلال { عليم } أي شامل العلم للأمور كلها ، كلياتها وجزئياتها ، فأثبت العلم المطلق لنفسه سبحانه بعد أن نفاه على الغير في هذه الخمس تارة نصاً وأخرى بطريق الأولى أو باللازم ، فانطبق الدليل على الدعوى - والله الموفق .
ولما أثبت العلم على هذا الوجه ، أكده لأجل ما سيقت له السورة بقوله : { خبير } أي يعلم خبايا الأمور ، وخفايا الصدور ، كما يعلم ظواهرها وجلاياها ، كل عنده على حد سواء ، فهو الحكيم في ذاته وصفاته ، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده ، لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحكم ، باختلاف هذا النظام ، على ما فيه من الإحكام ، فقد انطبق آخر السورة - بإثباته الحكمة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة - على أولها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها ، وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه لا سيما الإيقان بالآخرة ، كان حكيماً خبيراً عليماً مهذباً مهدياً مقرباً علياً ، فسبحانه من هذا كلامه ، وتعالى كبرياؤه وعز مرامه ، ولا إله غيره وهو اللطيف .
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
{ الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك } أي أيقع منهم هذا بعد وضوحه وجلاء وشواهده ، ثم أتبع ذلك بقوله : { مالكم من دونه من ولي ولا شفيع } وهو تمام لقوله : { ومن يسلم وجهه إلى الله } ولقوله : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } ولقوله : { وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين } ولقوله : { اتقوا ربكم ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون } بما ذكرتم ، ألا ترون أمر لقمان وهدايته بمجرد دليل فطرته ، فما لكم بعد التذكير وتقريع الزواجر وترادف الدلائل وتعاقب الآيات تتوقفون عن السلوك إلى ربكم وقد أقررتم بأنه خالقكم ، ولجأتم إليه عند احتياجكم؟ ثم أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم برجوع من عاند وإجابته حين لا ينفعه رجوع ، ولا تغني عنه إجابة ، فقال : { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } كما فعلنا بلقمان ومن أردنا توفيقه ، ثم ذكر انقسامهم بحسب السوابق فقال : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } ثم ذكر مصير الفريقين ومآل الحزبين ، ثم أتبع ذلك بسوء حال من ذكر فأعرض فقال : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } وتعلق الكلام إلى آخر السورة - انتهى .
ولما كان هذا الذي قدمه أول السورة على هذا الوجه برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً على أن هذا الكتاب من عند الله ، كان - كما حكاه البغوي والرازي في اللوامع - كأنه قيل : هل آمنوا به؟ { أم يقولون } مع ذلك الذي لا يمترئ فيه عاقل { افتراه } أي تعمد كذبه .
ولما كان الجواب : إنهم ليقولون : افتراه ، وكان جوابه : ليس هو مفتري لما هو مقارن له من الإعجاز ، ترتب عليه قوله : { بل هو الحق } أي الثابت ثباتاً لا يضاهيه ثبات شيء من الكتب قبله ، كائناً { من ربك } المحسن إليك بإنزاله وإحكامه ، وخصه بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم حقيقته حق الفهم سواه .
ولما ذكر سبحانه إحسانه إليه صلى الله عليه وسلم صريحاً ، أشار بتعليله إلى إحسانه به أيضاً إلى كافة العرب ، فقال مفرداً النذارة لأن المقام له بمقتضى ختم لقمان : { لتنذر قوماً } أي ذوي قوة جلد ومنعة وصلاحية للقيام بما أمرهم به { ما أتاهم من نذير } أي رسول في هذه الإزمان القريبة لقول ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد الفترة ، ويؤيده إثبات الجار في قوله : { من قبلك } أي بالفعل شاهدوه أو شاهده آباؤهم . وإما بالمعنى والقوة فقد كان فيهم دين إبراهيم عليه السلام إلى أن غيّره عمرو بن لحي ، وكلهم كان يعرف ذلك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يعبد صنماً ولا استقسم بالأزلام ، وذلك كما قال تعالى :
{ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] أي شريعته ودينه ، والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر - نبه على ذلك أبو حيان . ويمكن أن يقال : ما أتاهم من ينذرهم على خصوص ما غيروا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأما إسماعيل ابنه عليه السلام فكان بشيراً لا نذيراً ، لأنهم ما خالفوه ، وأحسن من ذلك كله ما نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل أن ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه قد نقل عيسى عليه السلام لما أرسل رسله إلى الآفاق أرسل إلى العرب رسولاً .
ولما ذكر علة الإنزال ، أتبعها علة الإنذار فقال : { لعلهم يهتدون* } أي ليكون حالهم في مجاري العادات حال من ترجى هدايته إلى كمال الشريعة ، وأما التوحيد فلا عذر لأحد فيه بما أقامه الله من حجة العقل مع ما أبقته الرسل عليهم الصلاة والسلام آدم فمن بعده من واضح النقل بآثار دعواتهم وبقايا دلالاتهم ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أبيه : « أبي وأبوك في النار » وقال : « لا تفتخروا بآبائكم الذين مضوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده لما تدحرج الجعل خير منهم » في غير هذا من الأخبار القاضية بأن كل من مات قبل دعوته على الشرك فهو للنار .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
ولما تقرر بما سبق في التي قبلها من اتصافه تعالى بكمال العلم أنه من عنده وبعلمه لا محالة ، وكان هذا أمراً يهتم بشأنه ويعتني بأمره ، لأنه عين المقصود الذي ينبني عليه أمر الدين ، وختم ما ذكره من أمره ههنا بإقامة اهتدائهم مقام الترجي بإنذاره صلى الله عليه وسلم ، أتبعه بيان ذلك بإيجاد عالم الأشباح والخلق ثم عالم الأرواح والأمر ، وإحاطة العلم بذلك كله على وجه يقود تأمله إلى الهدى ، فقال مستأنفاً شارحاً لأمر يندرج فيه إنزاله معبراً بالاسم الأعظم لاقتضاء الإيجاد والتدبير على وجه الانفراد له : { الله } أي الحاوي لجميع صفات الكمال وحده : { الذي خلق السماوات } كلها { والأرض } بأسرها { وما بينهما } من المنافع العينية والمعنوية .
ولما كانت هذه الدار مبنية على حكمة الأسباب كما أشير إليه في لقمان ، وكان الشيء إذا عمل بالتدرج كان أتقن ، قال : { في ستة أيام } كما يأتي تفصيله في فصلت ، وقد كان قادراً على فعل ذلك في أقل من لمح البصر ، ويأتي في فصلت سر كون المدة ستة .
ولما كان تدبير هذه وحفظه وتعهد مصالحه والقيام بأمره أمراً - بعد أمر إيجاده - باهراً ، أشار إلى عظمته بأداة التراخي والتعبير بالافتعال فقال : { ثم استوى على العرش } أي استواء لم يعهدوا مثله وهو أنه أخذ في تدبيره وتدبير ما حواه بنفسه ، لا شريك له ولا نائب عنه ولا وزير ، كما تعهدون من ملوك الدنيا إذا اتسعت ممالكهم ، وتباعدت أطرافها ، وتناءت أقطارها ، وهو معنى قوله تعالى استئنافاً جواباً لمن كأنه قال : العرش بعيد عنا جداً فمن استنابه في أمرنا ، ولذلك لفت الكلام إلى الخطاب لأنه اقعد في التنبيه : { مالكم من دونه } لأنه كل ما سواء من دونه وتحت قهره ، ودل على عموم النفي بقوله : { من ولي } أي يلي أموركم ويقوم بمصالحكم وينصركم إذا حل بكم شيء مما تنذرون به { ولا شفيع } يشفع عنده في تدبيركم أو في أحد منكم بغير إذنه ، وهو كناية عن قربه من كل شيء وإحاطته به ، وأن إحاطته بجميع خلقه على حد سواء لا مسافة بينه وبين شيء أصلاً .
ولما كانوا مقرين بأن الخلق خلقه والأمر أمره ، عارفين بأنه لا يلي وال من قبل ملك من الملوك إلا بحجة منه يقيمها على أهل البلدة التي أرسل إليها أو ناب فيها ، ولا يشفع شفيع فيهم إلا وله إليه وسيلة ، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في قوله : { أفلا تتذكرون } أي تذكراً عظيماً بما أشار إليه الإظهار ما تعلمونه من أنه الخالق وحده ، ومن أنه لا حجة لشيء مما أشركتموه بشيء مما أهلتموه له ولا وسيلة لشيء منهم إليه يؤهل بها في الشفاعة فيكم ولا أخبركم أحد منهم بشيء من ذلك ، فكيف تخالفون في هذه الأمور التي هي أهم المهم ، لأن عاقبتها خسارة الإنسان نفسه ، فضلاً عما دونها عقولكم وما جرت به عوائدكم ، وتتعللون فيها المحال ، وتقنعون بقيل وقال ، وتخاطرون فيه بالأنفس والأولاد والأموال .
ولما نفى أن يكون له شريك أو وزير في الخلق ، ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه في ستة أيام من عالم الأرواح والأمر ، فقال مستأنفاً مفسراً للمراد بالاستواء : { يدبر الأمر } أي كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه ، كما نظر في إقباله لإحكام فواتحه وعوازمه ، لا يكل شيئاً منه إلى شيء من خلقه ، قال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن استواءه على العرش بمعنى إظهار القدرة ، والعرش مظهر التدبير لا قعر المدبر .
ولما كان المقصود للعرب إنما هو تدبير ما تمكن مشاهدتهم له من العالم قال مفرداً : { من السماء } أي فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في أدبار ما يعلمه { إلى الأرض } غير متعرض إلى ما فوق ذلك ، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم .
ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد ، فكان بذلك مستبعداً ، أشار إلى ذلك بقوله : { ثم يعرج } أي يصعد الأمر الواحد - وهو من الاستخدام الحسن - إليه ، أي بصعود الملك إلى الله ، أي إلى المواضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى : { إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } [ النساء : 100 ] ونحو ذلك ، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير وهو السماء وكأنه صاعد في معارج ، وهي الدرج على ما تتعارفون بينكم ، في أسرع من لمح البصر { في يوم } من أيام الدنيا { كان مقداره } لو كان الصاعدين واحداً منكم على ما تعهدون { ألف سنة مما تعدون } من سنيكم التي تعهدون ، والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ ، أما اللفظ فالتعبير ب « كان » مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك ، وأما العرف فهو أن الإنسان المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلاً ، فإذا فرّغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل ، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه إلا جزءاً لا يعد ، هذا وهو خلق محتاج فما ظنك بمن خلق الخلق في ستة أيام وهو غني عن كل شيء قادر على كل شيء وظاهر العبارة أن هذا التقدير بالألف لما بين السماء والأرض بناء على أن البداية والغاية لا يدخلان ، فإذا أردنا تنزيل هذه الآية على أية سأل أخذنا هذا بالنسبة إلى صعود أحدنا مستوياً لو أمكن ، وجعلت الأرض واحدة في العدد ، وأول تعددها كما قيل باعتبار الأقاليم ، وزيد عليه مقدار ثخن السماوات وما بينهما ، وزيد على المجموع مثل نصفه لمسافة الانحناء في بناء الدرج والتعريج الذي هو مثل محيط الدائرة بالوتر الذي قسمها بنصفين ليمكن الصعود منا ، وهو مقدار نصف مسافة الاستواء وشيء يسير ، لأنك إذا قسمت دائرة بوتر كان ما بين رأسي الوتر من محيط نصف الدائرة بمقدار ذلك الوتر مرة ونصفاً سواء يزاد عليه يسير لأجل تعاريج الدرج ، فإذا فعلنا ذلك كان ما بين أحد سطحي الكرسي المحدب وما يقابله من السطح الآخر بحسب اختراقه من جانبيه واختراق أطباق السماوات السبع : الأربعة عشر ، اثنين وثلاثين ألف سنة ، لأنه يخص كل سماء ألفان ، لأنه فهم من هذا السياق أن من مقعر السماء إلى سطح الأرض الذي نحن عليه سيرة ألف سنة وبعد ما بين كل سمائين كبعد ما بين السماء والأرض ، وثخن كل سماء كذلك ، فيكون بعد ما بين أحد سطحي الأرض إلى سطح الكرسي الأعلى ستة عشر ألف سنة ، وبعد ما بين سطح الأرض إلى أعلى سطح الكرسي من الجانب الآخر كذلك ، ثم يزاد على المجموع وهو اثنان وثلاثون ألف سنة مسافة ثخن الأرض وهي ألف سنة ليكون المجموع ثلاثة وثلاثين ألف سنة يزاد عليه ما للتعريج ، وهو نصف تلك المسافة وشيء يكون سبعة عشر ألف سنة ، فذلك خمسون ألف سنة ، وإنما جعلت سطح الكرسي الأعلى النهاية ، لأن العادة جرت أن لا يصعد إلى عرش الملك غيره ، وأن الأطماع تنقطع دونه ، بل ولا يصعد إلى كرسيه ، وسيأتي اعتبار ذلك في الوجه الأخير ، وإن قلنا : إن الأراضي سبع على أنها كرات مترتبة متعالية غير متداخلة ، وأدخلنا العرش في العدد فنقول : إنه مع الكرسي والسماوات تسعة ، فجانباها الحيطان بالأرض ثماني عشرة طبقة ، والأراضي سبع ، فتلك خمس وعشرون طبقة ، فكل واحدة - مع ما بينها وبين الأخرى على ما هو ظاهر الآية - ألفان ، فضعف هذا العدد ، فيكون خمسين ألفاً ، وهذا الوجه أوضح الوجوه وأقربها إلى مفهوم الآية ، ولا يحتاج معه إلى زيادة لأجل انعطاف الدرج ، ويجوز أن نقول : إن السر - والله أعلم - في جعل ما مسيرته خمسمائة سنة - كما في الحديث - ألف سنة لأجل التعريج ، والحديث ليس نصاً في سير معين حتى يتحامى تأويله بل قد ورد بألفاظ متغايرة منها خسمائة ومنها اثنتان وسبعون سنة ومنها إحدى وسبعون إلى غير ذلك فلا بد أن يحمل كل لفظ على سير فنقول : الخمسمائة للصاعد في درج مستقيم كدرج الدقل مثلاً ، والاثنان وسبعون لسير الطائر والألف كما في الآية لدرج منعطف ، ويدل عليه ما رواه الترمذي - وقال : إسناده حسن - عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« لو أن رصاصة مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض ، وهي مسيرة خمسمائة سنة ، لبلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنها أرسلت السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها » ، أو تقول : إن الألف لجملة التدبير بالنزول والعروج - والله أعلم ، وإن جعلنا البداية داخلة فتكون الألف من سطح الأرض الذي نحن عليه إلى محدب السماء لتتفق الآية مع الحديث القائل بأن بين الأرض والمساء خمسمائة سنة ، وثخن السماء كذلك ، وكذا بقية السماوات والعرش ، أدخلنا العرش في العدد وقلنا : إن الأراضي سبع متداخلة كالسماوات ، كل واحدة منها في التي تليها ، فالتي نحن فيها أعلاها محيطة بها كلها ، فهي بمنزلة العرش للسماوات ، فتكون السماوات السبع من جانبيها بأربعة عشر ألفاً والأراضي كذلك فذلك ثمانية وعشرون ألفاً والعرش والكرسي من جانبيها بأربعة فذلك اثنان وثلاثون ألفاً يضاف إليها ما يزيد انحناء المعارج الذي يمكن لنا معه العروج ، وهو نصف مسافة الجملة وشيء ، فالنصف ستة عشر ألفاً ، ونجعل الشيء الذي لم يتحرر لنا ألفين ، فذلك ثمانية عشر ألفاً إلى اثنين وثلاثين ، فالجملة خمسون ألفاً ويمكن أن يكون ذلك بالنسبة إلى السماوات مع الأراضي ، والكل متطابقة متداخلة ، فتلك ثمان وعشرون طبقة من سطح السماء السابعة الأعلى إلى سطحها الأعلى من الجانب الآخر ، فذلك ثمانية وعشرون - ألف سنة ، لكل جرم خمسمائة ، ولما بينه وبين الجرم الآخر كذلك فذلك ألف فضعفه بالنسبة إلى الهبوط والصعود فيكون ستة وخمسين ألفاً حسب منه خمسون ألفاً والغى الكسر ، لكن هذا الوجه مخالف لظاهر الآية التي في سورة سأل ، وهي قوله تعالى : { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } [ المعارج : 5 ] فإنه ليس فيها ذكر الهبوط والله أعلم . وكل من هذه الوجوه أقعد مما قاله البيضاوي في سورته سأل ، وأقرب للفهم العرف ، فإن كان ظاهر حاله أنه جعل الثمانية عشر ألفاً من أعلى سرادقات العرش إلى أعلى سرادقاته من الجانب الآخر ولا دليل على هذا ولا عرف يساعد في صعود الخدم إلى أعلى السرادق ، وهو الأعلى منه ، والعلم عند الله تعالى ، وروى إسحاق بن راهويه عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول صلى الله عليه وسلم قال : « ما بين سماء الدنيا إلى الأرض خمسمائة سنة ، وما بين كل سماء إلى التي تليها خمسمائة سنة إلى السماء السابعة ، والأرض مثل ذلك ، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك » واعلم أن القول بأن الأراضي سبع هو الظاهر لظاهر قوله تعالى : { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن }
[ الطلاق : 12 ] ويعضده ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من ظلم قدر شبر من الأرض طوقه الله من سبع أرضين » ، وفي رواية للبغوي : خسف به إلى سبع أرضين ، وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن المؤمن إذا حضره الموت - فذكره إلى أن قال : وأما الكافر إذا قبضت نفسه ذهب به إلى الأرض فتقول خزنة الأرض : ما وجدنا ريحا أنتن من هذه ، فيبلغ بها إلى الأرض السفلى » - قال المنذري : وهو عند ابن ماجه بسند صحيح ، ويؤيد من قال : إنها متطابقة متداخلة كالكرات وبين كل أرضين فضاء كالسماوات ما روى الحاكم وصححه عند عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الأرضين بين كل أرض إلى التي تليها مسيرة خمسمائة سنة ، فالعليا منها على ظهر حوت » إلى آخره ، وهو في آخر الترغيب للحافظ المنذري في آخر أهوال القيامة في سلاسلها وأغلالها ، وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث عن مجاهد رحمه الله أنه قال : إن الحرم حرم مناه من السماوات السبع والأرضين السبع ، وأنه رابع أربعة عشر بيتاً ، في كل سماء بيت وفي كل أرض بيت لو سقطت لسقط بعضها على بعض - مناه يعني قصده وحذاءه ، وفي مجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي أن الإمام أحمد روى من طريق الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه إذا مرت سحابة فقال : هل تدرون ما هذه؟ قلنا : الله ورسوله أعلم! قال : العنان وزوايا الأرض يسوقه الله إلى من لا يشكره ، ولا يدعوه ، أتدرون ما هذه فوقكم؟ قلنا : الله ورسوله أعلم! قال : الرفيع موج مكفوف ، وسقف محفوظ ، أتدرون كم بينكم وبينها؟ قلنا : الله ورسوله أعلم! قال : مسيرة خمسمائة عام ، ثم قال : أتدرون ما الذي فوقها؟ قلنا : الله ورسوله أعلم! قال : سماء أخرى ، أتدرون كم بينكم وبينها؟ قلنا : الله ورسوله أعلم! قال : مسيرة خمسمائة عام - حتى عد سبع سماوات ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك؟ قلنا : الله ورسوله أعلم! قال : والعرش ، قال : أتدرون كم بينه وبين السماء السابعة؟ قلنا : الله ورسوله أعلم؟ قال : مسيرة خمسمائة عام ، ثم قال : ما هذه تحتكم؟ قلنا : الله ورسوله أعلم؟ قال : أرض قال : أتدرون ما تحتها؟ قلنا الله ورسوله أعلم! قال : أرض أخرى ، أتدرون كم بينهما؟ قلنا : الله ورسوله أعلم! قال : مسيرة سبعمائة عام حتى عد سبعين أرضين ، ثم قال : وأيم الله لو دليتم بحبل لهبط ، ثم قرأ :
{ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } [ الحديد : 3 ] قال : رواه الترمذي غير أنه ذكر أن بين كل أرض والأرض الأخرى خمسمائة عام ، وهنا سبعمائة ، وقال في آخره : « لو دليتم بحبل لهبط على الله » ولعله أراد : على عرش الله أو على حكمه وعلمه وقدرته ، يعني أنه في ملكه وقبضته ليس خارجاً عن شيء من أمره - والله أعلم ، ورأيت في جامع الأصول لابن الأثير بعد إيراده هذا الحديث ما نصه قال أبو عيسى قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد : لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ويكون مؤيداً للقول بأنها كرات متطابقة متداخلة - والله أعلم - ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما السماوات السبع والأرضون السبع في العرش إلا كحلقة ملقاة في فلاه » ولم يقل : كدرهم - مثلاً ، وكذا ما روى محمد بن أبي عمر وإسحاق بن راهويه وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه حديثاً طويلاً فيه ذكر الأنبياء ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تدري ما مثل السماوات والأرض في الكرسي؟ قلت : لا إلا أن تعلمني مما علمك الله عز وجل ، قال : مثل السماوات والأرض في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة ، وإن فضل الكرسي على السماوات والأرض كفضل الفلاة على تلك الحلقة » وأصله عند النسائي والطيالسي وأبي يعلى ، وكذا ما روى صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم : « ما السماوات السبع في عظمة الله إلا كجوزة معلقة » ، وقوله تعالى : { وسع كرسيه السماوات والأرض } [ البقرة : 255 ] يدل على أن الكرسي محيط بالكل من جميع الجوانب وقوله تعالى : { إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا } [ الرحمن : 33 ] صريح في ذلك ، فإن النفوذ يستعمل في الخرق لا سيما مع التعبير ب « من » دون « في » ، وكذا قوله في السماء { ومالها من فروج } والله الموفق .
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
ولما تقرر هذا من عالم الأشباح والخلق ، ثم عالم الأرواح والأمر ، فدل ذلك على شمول القدرة ، وكان شامل القدرة لا بد وأن يكون محيط العلم ، كانت نتيجته لا محالة : { ذلك } أي الإله العالي المقدار ، الواضح المنار { عالم الغيب } الذي تقدمت مفاتيحه آخر التي قبلها من الأرواح والأمر والخلق .
ولما قدم علم الغيب لكونه ، أعلى وكان العالم به قد لا يعلم المشهود لكونه لا يبصر قال : { والشهادة } من ذلك كله التي منها تنزيل القرآن عليك ووصوله إليك { العزيز } الذي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء . ولما كان ربما قدح متعنت في عزته بإهمال العصاة قال : { الرحيم } أي الذي خص أهل التكليف من عباده بالرحمة في إنزال الكتب على السنة الرسل ، وأبان لهم ما ترضاه الإلهية ، بعد أن عم جميع الخلائق بصفة الرحمانية بعد الإيجاد من الإعدام بالبر والإنعام .
ولما ذكر صفة الرحيمية صريحاً لأقتضاء المقام إياها ، أشار إلى صفة الرحمانية فقال : { الذي أحسن كل شيء } ولما كان هذا الإحسان عاماً ، خصه بأن وصفه - على قراءة المدني والكوفي - بقوله : { خلقه } فبين أن ذلك بالإتقان والإحكام ، كما فسر ابن عباس رضي الله عنهما من حيث التشكيل والتصوير ، وشق المشاعر ، وتهيئة المدارك ، وإفاضة المعاني ، مع المفاوتة في جميع ذلك ، وإلى هذا أشار الإبدال في قراءة الباقين ، وعبر بالحسن لأن ما كان على وجه الحكمة كان حسناً وإن رآه الجاهل القاصر قبيحاً .
ولما كان الحيوان أشرف الأجناس ، وكان الإنسان أشرفه ، خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام قبل بالآفاق ، فقال دالاً على البعث : { وبدأ خلق الإنسان } أي الذي هو المقصود بالخطاب بهذا القرآن { من طين } أي مما ليس له أصل في الحياة بخلق آدم عليه السلام منه .
ولما كان قلب الطين إلى هذا الهيكل على هذه الصورة بهذه المعاني أمراً هائلاً ، أشار إليه بأداة البعد في قوله : { ثم جعل نسله } أي ولده الذي ينسل أي يخرج { من سلالة } أي من شيء مسلول ، أي منتزع منه { من ماء مهين } أي حقير وضعيف وقليل مراق مبذول ، فعيل بمعنى مفعول ، وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله : { ثم سواه } أي عدله لما يراد منه بالتخطيط والتصوير وإبداع المعاني { ونفخ فيه من روحه } الروح ما يمتاز به الحي من الميت ، والإضافة للتشريف ، فيا له من شرف ما أعلاه إضافته إلى الله .
ولما ألقى السامعون لهذا الحديث أسماعهم ، فكانوا جديرين بأن يزيد المحدث لهم إقبالهم وانتفاعهم ، لفت إليهم الخطاب قائلاً : { وجعل } أي بما ركب في البدن من الأسباب { لكم السمع } أي تدركون به المعاني المصوتة ، ووحده لقلة التفاوت فيه إذا كان سالماً { والأبصار } تدركون بها المعاني والأعيان القابلة ، ولعله قدمها لأنه ينتفع بهما حال الولادة ، وقدم السمع لأنه يكون إذ ذاك أمتن من البصر .
ولذا تربط القوابل العين لئلا يضعفها النور ، وأما العقل فإنما يحصل بالتدريج فلذا أخر محله فقال : { والأفئدة } أي المضغ الحارة المتوقدة المتحرفة ، وهي القلوب المودعة غرائز العقول المتباينة فيها أيّ تباين؛ قال الرازي في اللوامع : جعله - أي الإنسان - مركباً من روحاني وجسماني ، وعلوي وسفلي ، جمع فيه بين العالمين بنفسه وجسده ، واستجمع الكونين بعقله وحسه ، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً ، وسلم الأمر لمن له الخلق والأمر تسليماً اختيارياً طوعياً . ولما لم يتبادروا إلى الإيمان عند التذكير بهذه النعم الجسام قال : { قليلاً ما تشكرون * } أي وكثيراً ما تكفرون .
ولما كانوا قد قالوا : محمد ليس برسول ، والإله ليس بواحد ، والبعث ليس بممكن ، فدل على صحة الرسالة بنفي الريب عن الكتاب ، ثم على الوحدانية بشمول القدرة وإحاطة العلم بإبداع الخلق على وجه هو نعمة لهم ، وختم بالتعجيب من كفرهم ، وكان استبعادهم للبعث - الذي هو الأصل الثالث - من أعظم كفرهم ، قال معجباً منهم في إنكاره بعد التعجيب في قوله : { أم يقولون افتراه } ، لافتاً عنهم الخطاب إيذاناً بالغضب من قولهم : { وقالوا } منكرين لما ركز في الفطر الأُوَل ، ونبهت عليه الرسل ، فصار بحيث لا يكره عاقل ألم بشيء من الحكمة : { أإذا } أي أنبعث إذا { ضللنا } أي ذهبنا وبطلنا وغبنا { في الأرض } بصيرورتنا تراباً مثل ترابها ، لا يتميز بعضه من بعض : قال أبو حيان تبعاً للبغوي والزمخشري وابن جرير الطبري وغيرهم : وأصله من ضل الماء في اللبن - إذا ذهب . ثم كرروا الاستفهام الإنكاري زيادة في الاستبعاد فقالوا : { إنا لفي خلق جديد } هو محيط بنا ونحن مظروفون له .
ولما كان قولهم هذا يتضمن إنكارهم القدرة ، وكانوا يقرون بما يلزمهم منه الإقرار بالقدرة على البعث من خلق الخلق والإنجاء من كل كرب ونحو ذلك ، أشار إليه بقوله : { بل } أي ليسوا بمنكرين لقدرته سبحانه ، بل { هم بلقاء ربهم } المحسن بالإيجاد والإبقاء مسخراً لهم كل ما ينفعهم في الآخرة للحساب أحياء سويين كما كانوا في الدنيا ، والإشارة بهذه الصفة إلى أنه لا يحسن بالمحسن أن ينغص إحسانه بترك القصاص من الظالم الكائن في القيامة { كافرون * } أي منكرون للبعث عناداً ، ساترون لما في طباعهم من أدلته ، لما غلب عليهم من الهوى القائد لهم إلى أفعال منعهم من الرجوع عنها الكبرُ عن قبول الحق والأنفة من الإقرار بما يلزم منه نقص العقل .
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
ولما ذكر استبعادهم ، وأتبعه عنادهم ، وكان إنكارهم إنما هو بسبب اختلاط الأجزاء بالتراب بعد إنقلابها تراباً ، فكان عندهم من المحال تمييزها من بقية التراب . دل على أن ذلك عليه هين بأن نبههم على ما هو مقرّون به مما هو مثل ذلك بل أدق . فقال مستأنفاً : { قل } أي جواباً لهم عن شبهتهم : { يتوفاكم } أي يقبض أرواحكم كاملة من أجسادكم بعد أن كانت مختلطة بجميع أجزاء البدن ، لا تميز لأحدهما عن الآخر بوجه تعرفونه بنوع حيلة { ملك الموت } ثم أشار إلى أن فعله بقدرته ، وأن ذلك عليه في غاية السهولة ، ببناء الفعل لما لم يسم فاعله فقال : { الذي وكل بكم } أي وكله الخالق لكم بذلك ، وهو عبد من عبيده ، ففعل ما أمر به ، فإذا البدن ملقى لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعي الخلل بسببه ، فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده صرفه في ذلك فقام به على ما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب لأنه ربما يستدل بعض الحذاق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه ، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين ، ومدير الخلائق أجمعين؟ .
فلما قام هذا البرهان القطعي الظاهر مع دقته لكل أحد على قدرته التامة على تمييز ترابهم من تراب الأرض ، وتمييز بعض تربهم من بعض ، وتمييز تراب كل جزء من اجزائهم جل أو دق عن بعض . علم أن التقدير : ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة ، فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره فعطف عليه قوله : { ثم إلى ربكم } أي الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ابتداء ، لا إلى غيره ، بعد إعادتكم { ترجعون } بأن يبعثكم كنفس واحدة فإذا أنتم بين يديه ، فيتم إحسانه وربوبيته بأن يجازي كلاًّ بما فعل ، كما هو دأب الملوك مع عبيدهم ، لا يدع أحد منهم الظالم من عبيده مهملاً .
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس ، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك ، فقال عادلاً عن خطابهم استهانة بهم وإيذاناً بالغضب ، وخطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية له ، أو لكل من يصح خطابه ، عاطفاً على ما تقديره : فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور ، وحصل ما في الصدور ، وهناك أمور أيّ أمور ، موقعاً المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي ، لأنه لتحقق وقوعه كأنه قد كان ، واختير التعبير به لترويح النفس بترقب رؤيته حال سماعه ، تعجيلاً للسرور بترقب المحذور لأهل الشرور : { ولو ترى } أي تكون أيها الرائي من أهل الرؤية لترى حال المجرمين { إذ المجرمون } أي القاطعون لما أمر الله به أن يوصل بعد أن وقفوا بين يدي ربهم { ناكسوا رؤوسهم } أي مطأطئوها خجلاً وخوفاً وخزياً وذلاً في محل المناقشة { عند ربهم } المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم ، قائلين بغاية الذل والرقة : { ربنا } أي أيها المحسن إلينا { أبصرنا } ما كنا نكذب به { وسمعنا } أي منك ومن ملائكتك ومن أصوات النيران وغير ذلك ما كنا نستبعده ، فصرنا على غاية العلم بتمام قدرتك وصدق وعودك { فارجعنا } بما لك من هذه الصفة المقتضية للإحسان ، إلى دار الأعمال { نعمل صالحاً } ثم حققوا هذا الوعد بقولهم على سبيل التعليل مؤكدين لأن حالهم كان حال الشاك الذي يتوقف المخاطب في إيقانه : { إنا موقنون * } أي ثابت الآن لنا الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك مما كشف عنه العيان أي لو رأيت ذلك لرأيت أمراً لا يحتمله من هوله وعظمه عقل ، ولا يحيط به وصف .
ولما لم يذكر لهم جواباً ، علم أنه لهوانهم ، لأنه ما جرأهم على العصيان إلا صفة الإحسان ، فلا يصلح لهم إلا الخزي والهوان ، ولأن الإيمان لا يصح إلا بالغيب قبل العيان .
ولما كان ربما وقع في وهم أن ضلالهم مع الإمعان في البيان ، لعجز عن هدايتهم أو توان ، قال عاطفاً على ما تقديره : إني لا أردكم لأني لم أضلكم في الدنيا للعجز عن هدايتكم فيها ، بل لأني لم أرد إسعادكم ، ولو شئت لهديتكم ، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء المقام لها : { ولو شئنا } أي بما لنا من العظمة التي تأبى أن يكون لغيرنا شيء يستقل به أو يكون في ملكنا ما لا نريد { لأتينا كل نفس } أي مكلفة لأن الكلام فيها { هداها } أي جعلنا هدايتها ورشدها وتوفيقها للإيمان وجميع ما يتبعه من صالح الأعمال في يدها متمكنة منها .
ولما استوفى الأمر حده من العظمة ، لفت الكلام إلى الإفراد ، دفعاً للتعنت وتحقيقاً لأن المراد بالأول العظمة فقال : { ولكن } أي لم أشأ ذلك لأنه { حق القول مني } وأنا من لا يخلف الميعاد ، لأن الإخلاف إما لعجز أو نسيان أو حاجة ولا شيء من ذلك يليق بجنابي ، أو يحل بساحتي ، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً : { لأملان جهنم } التي هي محل إهانتي وتجهم أعدائي بما تجهموا أوليائي { من الجنة } أي الجن طائفة إبليس ، وكأنه أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم لما دعا إلى تحقيرهم من مقام الغضب وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم { والناس أجمعين * } حيث قلت لإبليس : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ ص : 85 ] فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً ، وغيبت العاقبة عنهم ، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً ، والخلق في الحقيقة والمشيئة لي .
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص عن عذابهم ، قال مجيباً لترققهم إذ ذاك نافياً لما قد يفهمه كلامهم من أنه محتاج إلى العبادة : { فذوقوا } أي ما كنتم تكذبون به منه بسبب ما حق معي من القول { بما } أي بسبب ما { نسيتم لقاء يومكم } وأكده وبين لهم بقوله : { هذا } أي عملتم - في الإعراض عن الاستعداد لهذا الموقف الذي تحاسبون فيه ويظهر فيه العدل - عمل الناسي له مع أنه مركوز في طباعكم أنه لا يسوغ لذي علم وحكمة أن يدع عبيده يمرحون في أرضه ويتقلبون في رزقه ، ثم لا يحاسبهم على ذلك وينصف مظلومهم ، فكان الإعراض عنه مستحقاً لأن يسمى نسياناً من هذا الوجه أيضاً ومن جهة أنه لما ظهر له من البراهين ، ما ملأ الأكوان صار كأنه ظهر ، وروي ثمّ نسي . ثم علل ذوقهم لذلك أو استانف لبيان المجازاة به مؤكداً في مظهر العظمة قطعاً لأطماعهم في الخلاص ، ولذا عاد إلى مظهر العظمة فقال : { إنا نسيناكم } أي عاملناكم بما لنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي ، فأوردنا النار كما أقسمنا أنه ليس أحد إلا يردها ، ثم أخرجنا أهل ودنا وتركناكم فيها ترك المنسي .
ولما كان ما تقدم من أمرهم بالذوق مجملاً ، بينه بقوله مؤكداً له : { وذوقوا عذاب الخلد } أي المختص بأنه لا آخر له . ولما كان قد خص السبب فيما مضى ، عم هنا فقال : { بما كنتم } أي جبلة وطبعاً { تعملون * } من أعمال من لم يخف أمر البعث ناوين أنكم لا تنفكون عن ذلك .
ولما كان قوله تعالى : { بل هم بلقاء ربهم كافرون } قد أشار إلى أن الحامل لهم على الكفر الكبر ، وذكر سبحانه أنه قسم الناس قسمين لأجل الدارين ، تشوفت النفس إلى ذكر علامة أهل الإيمان كما ذكرت علامة أهل الكفران ، فقال معرفاً أن المجرمين لا سبيل إلى إيمانهم { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] : { إنما يؤمن بآياتنا } الدالة على عظمتنا { الذين إذا ذكروا بها } من أيّ مذكر كان ، في أيّ وقت كان ، قبل كشف الغطاء وبعده { خروا سجداً } أي بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد ، خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم له خضوعاً ثابتاً دائماً { وسبحوا } أي أوقعوا التنزيه عن كل شائبة نقص من ترك البعث المؤدي إلى تضييع الحكمة ومن غيره متلبسين { بحمد } ولفت الكلام إلى الصفة المقتضية لتنزيههم وحمدهم تنبيهاً لهم فقال : { ربهم } أي بإثباتهم له الإحاطة بصفات الكمال ، ولما تضمن هذا تواضعهم ، صرح به في قوله : { وهم لا يستكبرون } أي لا يجددون طلب الكبر عن شيء مما دعاهم إليه الهادي ولا يوجدونه خلقاً لهم راسخاً في ضمائرهم .
ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل ، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً بما تضمنته الآية السالفة من خوفهم : { تتجافى } أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء - بما أشار إليه الإظهار ، وبشر بكثرتهم بالتعبير بجمع الكثرة فقال : { جنوبهم } بعد النوم { عن المضاجع } أي الفرش الموطأة الممهدة التي هي محل الراحة والسكون والنوم ، فيكونون عليها كالملسوعين ، لا يقدرون على الاستقرار عليها ، في الليل الذي هو موضع الخلوة ومحط اللذة والسرور بما تهواه النفوس ، قال الإمام السهروردي في الباب السادس والأربعين من عوارفه عن المحبين : قيل : نومهم نوم الفرقى ، وأكلهم أكل المرضى ، وكلامهم ضرورة ، فمن نام عن غلبة بهمّ مجتمع متعلق بقيام الليل وفق لقيام الليل ، وإنما النفس إذا طعمت ووطنت على النوم استرسلت فيه ، وإذا أزعجت بصدق العزيمة لا تسترسل في الاستقرار ، وهذا الانزعاج في النفس بصدق العزيمة هو التجافي الذي قال الله ، لأن الهم بقيام الليل وصدق العزيمة يجعل بين الجنس والمضجع سواء وتجافياً .
ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة ، بين أنه لها ، فقال مبيناً لحالهم : { يدعون } أي على سبيل الاستمرار ، وأظهر الوصف الذي جرأهم على السؤال فقال : { ربهم } أي الذي عودهم بإحسانه : ثم علل دعاءهم بقوله : { خوفاً } أي من سخطه وعقابه ، فإن أسباب الخوف من نقائضهم كثيرة سواء عرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا ، فهم لا يأمنون مكره لأن له أن يفعل ما يشاء { وطمعاً } أي في رضاه الموجب لثوابه ، وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب ، وإذا كانوا يرجون رحمته بغير سبب فهم مع السبب أرجى ، فهم لا ييأسون من روحه .
ولما كانت العبادة تقطع عن التوسع في الدنيا ، فربما دعت نفس العابد إلى التسمك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عن الحاجة لتشوش الفكر والحركة لطلب الرزق ، حث على الإنفاق منه اعتماداً على الخلاق الرزاق الذي ضمن الخلف ليكونوا بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم ، وإيذاناً بأن الصلاة سبب للبركة في الرزق { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك } [ طه : 132 ] ، فقال لفتاً إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده : { ومما رزقناهم } أي بعظمتنا ، لا حول منهم ولا قوة { ينفقون * } من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم .
ولما ذكر جزاء المستكبرين ، فتشوفت النفس إلى جزاء المتواضعين ، أشار إلى جزائهم بفاء السبب ، إشارة إلى أنه هو الذي وفقهم لهذه الأعمال برحمته ، وجعلها سبباً إلى دخول جنته ، ولو شاء لكان غير ذلك فقال : { فلا تعلم نفس } أي من جميع النفوس مقربة ولا غيرها { ما أخفي لهم } أي لهؤلاء المتذكرين من العالم بمفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم بالصلاة في جوف الليل وغير ذلك ولا يراؤون بها ، ولعله بني للمفعول في قراءة الجماعة تعظيماً له بذهاب الفكر في المخفي كل مذهب أو للعلم بأنه الله تعالى الذي أخفوا نوافل أعمالهم لأجله ، وسكن حمزة الياء على أنه للمتكلم سبحانه لفتاً لأسلوب العظمة إلى أسلوب الملاطفة ، والسر مناسبته لحال الأعمال .