كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
ولما كان المتمادي بعد نزول هذا الهدي موجداً للكفر مجدداً له ، نبه على إغراقه في البعد بغضبه سبحانه وتعالى لتماديه معلماً أن الثبات على الكفر عظيم جداً ، وصوّره بأقبح صورة ، وفي ذلك ألطف استعطاف إلى النزوع عن الخلاف فقال : { إن الذين ءامنوا } أي بما كانوا مهيئين له من الإيمان بالفطرة الأولى { ثم كفروا } أي أوقعوا الكفر فعوَّجوا ما أقامه الله من فطرهم { ثم ءامنوا } أي حقيقة أو بالقوة بعد مجيء الرسول بما هيأهم له بإظهار الأدلة وإقامة الحجج { ثم كفروا } أي بذلك الرسول أو برسول آخر بتجديد الكفر أو التمادي فيه { ثم ازدادوا } أي بإصرارهم على الكفر إلى الموت { كفراً لم يكن الله } أي الذي له صفات الكمال { ليغفر لهم } أي ما داموا على هذا الحال لأنه لا يغفر أن يشرك به { ولا ليهديهم سبيلاً * } أي من السبل الموصلة إلى المقصود .
ولما كانت جميع صور الآية منطبقة على النفاق ، بعضها حقيقة وبعضها مجازاً ، قال جواباً لمن كأنه سأل عن جزائهم متهكماً بهم : { بشر المنافقين } فأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف { بأن لهم عذاباً أليماً * } ثم وصفهم بما يدل على أنهم المساترون بالكفر بقوله تعالى : { الذين يتخذون الكافرين } أي المجاهرين بالكفر { أولياء } أي يتعززون بهم تنفيراً من مقاربة صفتهم ليتميز المخلص من المنافق ، وبياناً لأن مرادهم بولايتهم إنما هو التعزز بهم فإن محط أمرهم على العرض الدنيوي ، ونبه على دناءة أمرهم على أن الغريق في الإيمان أعلى الناس بقوله : { من دون المؤمنين } أي الغريقين في الإيمان ، ثم أنكر عليهم هذا المراد بقوله : { أيبتغون } أي المنافقون يتطلبون ، تطلباً عظيماً { عندهم } أي الكافرين { العزة } فكأنه قال : طلبهم العزة بهم سفه من الرأي وبُعد من الصواب ، لأنه لا شيء من العزة عندهم .
ولما أنكر عليهم هذا الابتغاء علله بقوله : { فإن العزة لله } أي الذي لا كفوء له { جميعاً * } أي وهم أعداء الله فإنما يترقب لهم ضرب الذلة والمسكنة ، وما أحسن التفات هذه الآية إلى أول الآيات المحذرة من أهل الكتاب { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } [ النساء : 44 ] المختتمة بقوله : { وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } [ النساء : 45 ] { وقد } أي يتخذونهم والحال أنه قد { نزل عليكم } أي أيتها الأمة ، الصادقين منكم والمنافقين { في الكتاب } أي في سورة الأنعام النازلة بمكة المشرفة النهي عن مجالستهم فضلاً عن ولايتهم ، أفلا تخافون عزة من نهاكم عن ذلك أن يضربكم بذل لا تخلصون منه أبداً ، لأنهم لا ينفكون عن الكفر بآيات الله فإنه لا تباح ولايتهم في حال من الأحوال إلا عند الإعراض عن الكفر ، وذلك هو المراد من قوله : { أنْ } أي إنه { إذا سمعتم آيات الله } أي ذي الجلال والإكرام .
ولما كان السماع مجملاً بين المراد بقول : { يكفر بها } أي يستر ما أظهرت من الأدلة من أي كافر كان من اليهود وغيرهم { ويستهزأ بها } أي يطلب طلباً شديداً أن تكون مما يهزأ به { فلا تقعدوا معهم } أي الذين يفعلون ذلك بها { حتى يخوضوا } وعبر عن الشروع بالخوض إيماء إلى أن كلامهم لا يخلو عن شيء في غير موضعه ، رمزاً إلى عدم مجالستهم على كل حال { في حديث غيره } فهذا نهي من مجرد مجالستهم فكيف بولايتهم .
ولما كانت آية الأنعام مكية اقتصر فيها على مجرد الإعراض وقطع المجالسة لعدم التمكن من الإنكار بغير القلب ، وأما هذه الآية فمدنية فالتغيير عند إنزالها باللسان واليد ممكن لكل مسلم ، فالمجالس من غير نكير راض ، فلهذا علل بقوله : { إنكم إذاً } أي إذا قعدتم معهم وهم يفعلون ذلك { مثلهم } أي في الكفر لأن مجالسة المظهر للإيماء المصرح بالكفران دالة على أن إظهاره لما أظهر نفاق ، وأنه راض بما يصرح به هذا الكافر والرضى بالكفر كفر ، فاشتد حسن ختم الآية بجمع الفريقين في جهنم بقوله مستأنفاً لجواب السؤال عما تكون به المماثلة : { إن الله } أي الذي أحاط علمه فتمت قدرته { جامع } .
ولما كان حال الأخفى أهم قدم قوله : { المنافقين } أي الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر فيقعدون مع من يسمعونه بكفر { والكافرين } أي الذين يجاهرون بكفرهم لرسوخهم فيه { في جهنم } التي هي سجن الملك { جميعاً } كما جمعهم معهم مجلس الكفر الذي هو طعن في ملك الملك ، والتسوية بينهم في الكفر بالقعود معهم دالة على التسوية بين العاصي ومجالسه بالخلطة من غير إنكار؛ ثم وصفهم سبحانه وتعالى بما يعرف بهم فقال : { الذين يتربصون بكم } أي يثبتون على حالهم انتظاراً لوقوع ما يغيظكم { فإن كان لكم فتح } أي ظهور وعز وظفر ، وقال : { من الله } أي الذي له العظمة كلها - تذكيراً للمؤمنين بما يديم اعتمادهم عليه وافتقارهم إليه { قالوا } أي الذين آمنوا نفاقاً لكم أيها المؤمنون { ألم نكن معكم } أي ظاهراً بأبداننا بما تسمعون من أقوالنا فأشركونا في فتحكم { وإن كان للكافرين } أي المجاهرين ، وقال : { نصيب } تحقيراً لظفرهم وأنه لا يضر بما حصل للمؤمنين من الفتح { قالوا } للكافرين ليشركوهم في نصيبهم { ألم نستحوذ عليكم } أي نطلب حياطتكم والمحافظة على مودتكم حتى غلبنا على جميع أسراركم واستولينا عليها ، وخالطناكم مخالطة الدم للبدن ، من قولهم : حاذه ، أي حاطه وحافظ عليه { ونمنعكم من المؤمنين } أي من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به ، ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرغبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد ، لتصديقهم لنا لأظهارنا الإيمان ، ورضانا من مداهنة من نكره بما لا يرضاه إنسان .
ولما كان هذا لأهل الله سبحانه وتعالى أمراً غائظاً مقلقاً موجعاً؛ سبب عنه قوله : { فالله } أي بما له من جميع صفات العظمة { يحكم بينكم } أي أيها المؤمنون والكافرون المساترون والمجاهرون .
ولما كان الحكم في الدارين بين أنه في الدار التي لا يظهر فيها لأحد غيره أمر ظاهراً ولا باطناً ، وتظهر فيها جميع المخبئات فقال : { يوم القيامة } ولما كان هذا ربما أيأسهم من الدنيا قال : { ولن يجعل الله } عبر بأداة التأكيد وبالاسم الأعظم لاستبعاد الغلبة على الكفرة لما لهم في ذلك الزمان من القوة والكثرة { للكافرين } أي سواء كانوا مساترين أو مجاهرين { على المؤمنين } أي كلهم { سبيلاً * } أي بوجه في دنيا ولا آخرة ، وهذا تسفيه لآرائهم واستخفاف بعقولهم فكأنه يقول : يا أيها المتربصون بأحباب الله الدوائر ، المتمنون لأعدائه النصر - وقد قامت الأدلة على أن العزة جميعاً لله -! ما أضلكم في ظنكم أنه يخذل أولياءه! وما أغلظ أكبادكم! ويدخل في عمومها أنه لا يقتل مسلم بذمي ، ولا يملك كافر مال مسلم قهراً؛ ثم بين أن صورتهم في ضربهم الشقة بالوجهين صورة المخادع ، وما أضلهم حيث خادعوا من لا يجوز عليه الخداع لعلمه بالخافيا ، فقال معاللاً لمنعهم السبيل .
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
{ إن المنافقين } لإظهارهم لكل من غلب أنهم منه { يخادعون الله } أي يفعلون بإظهار ما يسر وإبطان ما يضر فعل المخادع مع من له الإحاطة الكاملة بكل شيء لأنه سبحانه وتعالى يستدرجهم من حيث لا يشعرون ، وهم يخدعون المؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر { وهو } الذي أمر المؤمنين بما أمرهم فكأنهم يفعلون ذلك معه وهو { خادعهم } باستدراجهم من حيث لا يعلمون ، لأنه قادر على أخذهم من مأمنهم وهم ليسوا قادرين على خدعه بوجه { وإذا } أي يخادعونه والحال أنهم قد فضحوا أنفسهم بما أظهر مكرهم للمستبصرين وهو أنهم إذا { قاموا إلى الصلاة } أي المكتوبة { قاموا كسالى } متقاعسين متثاقلين عادة ، لا ينفكون عنها ، بحيث يعرف ذلك منهم كل من تأملهم ، لأنهم يرون أناه تعب من غير أرب ، فالداعي إلى تركها - وهو الراحة - أقوى من الداعي إلى فعلها وهو خوف الناس؛ ثم استأن في جواب من كأنه قال : ما لهم يفعلون ذلك؟ فقال : { يرآءون الناس } أي يفعلون ذلك ليراهم الناس ، ليس إلا ليظنوهم مؤمنين ، ويريهم الناس لأجل ذلك ما يسرهم من عدهم في عداد المؤمنين لما يرون هم المؤمنين حين يصلون { ولا يذكرون الله } أي الذي له جميع صفات الكمال في الصلاة وغيرها { إلا قليلاً * } أي حيث يتعين ذلك طريقاً لمخادعتهم ، يفعلون ذلك حال كونهم { مذبذبين } أي مضطربين كما يضطرب الشيء الخفيف المعلق في الهواء ، وحقيقة : الذي يذب عن كلا الجانبين ذباً عظيماً .
ولما كان ما تقدم يدل على إيمانهم تارة وكفرهم أخرى قال : { بين ذلك } أي الإيمان والكفر؛ ولما كان الإيمان يدل على أهله والكفر كذلك قال : { لا إلى } أي لا يجدون سبيلاً مفر إلى { هؤلاء } أي المؤمنين { ولا إلى هؤلاء } أي الكافرين؛ ولما كان التقدير! لأن الله أضلهم ، بنى عليه قوله : { ومن يضلل الله } أي الشامل القدرة الكامل العلم { فلن تجد } أي أصلاً { له سبيلاً * } أي طريقاً إلى شيء يريده .
ولما انقضى ما أراد من الإنكار على من ادعى الإيمان في اتخاذ الكافرين أولياء ، المستلزم للنهي عن ذلك الاتخاذ ، صرح به مخاطباً للمؤمنين فقال : { يا أيها الذين ءامنوا } أي أقروا بالإيمان بألسنتهم صدقاً أو كذباً { لا تتخذوا } أي تكلفوا أنفسكم غير ما تدعوا إليه الفطرة الأولى السليمة فتأخذوا { الكافرين } أي المجاهرين بالكفر الغريقين فيه { أولياء } أي أقرباء ، تفعلون معهم من الود والنصرة ما يفعل القريب مع قريبه .
ولما كان الغريق في الإيمان أعلى الناس ، وكان تحت رتبته رتب متكاثره ، نبه على ذلك وعلى دناءة مقصدهم بالجار فقال : { من دون المؤمنين } أي الغريقين في الإيمان ، وهذا إشارة إلى أنه لا يصح لمن يواليهم دعوى الإيمان ، ولذلك قال منكراً : { أتريدون } أي بموالاتهم { أن تجعلوا لله } أي الذي لا تطاق سطوته لأن له الكمال كله { عليكم } أي في النسبة إلى النفاق { سلطاناً } أي دليلاً اضحاً على كفركم باتباعكم غير سبيل المؤمنين { مبيناً * } واضحاً مسوِّغاً لعقابكم وخزيكم وجعلكم في زمرة المنافقين .
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
ولما نهاهم عن فعل المنافقين استأنف بيان جزائهم عنده فقال : { إن المنافقين في الدرك } أي البطن والمنزل { الأسفل من النار } لأن ذلك أخفى ما في النار وأستره وأدناه وأوضعه كما أن كفرهم أخفى الكفر وأدناه ، وهو أيضاً أخبث طبقات النار كما أن كفرهم أخبث أنواع الكفر ، وفيه أن من السلطان وضع فاعل ذلك في دار المنافقين لفعله مثل فعلهم ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ، وسميت طبقات النار أدراكاً لأناه متداركة متتابعة إلى أسفل كما أن الدرج متراقية إلى فوق .
ولما أخبر أنهم من هذا المحل الضنك ، أخبر بدوامه لهم على وجه مؤلم جداً فقال : { ولن تجد } أي أبداً { لهم نصيراً * } وأشار بالنهي عن موالاتهم وعدم نصرهم إلى ختام أول الآيات المحذرة من الكافرين { وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } [ النساء : 45 ] .
ولما كان فيما تقدم أن الغفران للكافر - أعم من أن يكون منافقاً أولاً - متعذر ، وأتبعه ما لاءمه إلى أن ختم بما دل على أن النفاق أغلظ أنواع الكفر استثنى منه دلالة على أن غيره من الكفرة في هذا الاستثناء أولى ، تنبيهاً على أن ذلك النفي المبالغ فيه إنما هو لمن مات على ذلك ، ولكنه سيق على ذلك الوجه تهويلاً لما ذكره في حيزه وتنفيراً منه فقال تعالى : { إلا الذين تابوا } أي رجعوا عما كانوا عليه من النفاق بالندم والإقلاع { وأصلحوا } أي أعمالهم الظاهرة من الصلاة التي كانوا يراؤون فيها وغيرها بالإقلاع عن النفاق { واعتصموا بالله } أي اجتهدوا في أن تكون عصمتهم - أي ارتباطهم - بالملك الأعظم في عدم العود إلى ما كانوا عليه .
ولما كان الإقلاع عن النفاق الذي من أنواعه الرياء - أصلاً ورأساً في غاية العسر قال حثاً على مجاهدة النفس فيه : { وأخلصوا دينهم } أي كله { لله } أي الذي له الكمال كله ، فلم يريدوا بشيء من عبادتهم غير وجهه لا رياء ولا غيره { فأولئك } أي العالو الرتبة { مع المؤمنين } أي الذي صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً في الجنة ، وإن عذبوا على معاصيهم ففي الطبقة العليا من النار { وسوف يؤت الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { المؤمنين } أي بوعد لا خلف فيه وإن أصابهم قبل ذلك ما أصابهم وإن طال عذابهم ، تهذيباً لهم من المعاصي بما أشار إليه لفظ « سوف » { أجراً عظيماً * } أي بالخلود في الجنة التي لا ينقضي نعيمها ، ولا يتكدر يوماً نزيلها ، فيشاركهم من كان معهم ، لأنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم .
ولما كان معنى الاستثناء أنه لا يعذبهم ، وأنهم يجدون الشفيع بإذنه؛ قال مؤكداً لذلك على وجه الاستنتاج منكراً على من ظن أنه لا يقبلهم بعد الإغراق في المهالك : { ما يفعل الله } أي وهو المتصف بصفات الكمال التي منها الغنى المطلق { بعذابكم } أي أيها الناس ، فإنه لا يجلب له نفعاً ولا يدفع عنه ضراً .
ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا قال : { إن شكرتم } أي نعمه التي من أعظمها إنزال الكتاب الهادي إلى الرشاد ، المنقذ من كل ضلال ، المبين لجميع ما يحتاج إليه العباد ، فأداكم التفكر في حالها إلى معرفة مسديها ، فأذعنتم له وهرعتم إلى طاعته بالإخلاص في عبادته وأبعدتم عن معصيته .
ولما كان الشكر هو الحامل على الإيمان قدمه عليه ، ولما كان لا يقبل إلا به قال : { وآمنتم } أي به إيماناً خالصاً موافقاً فيه القلب ما أظهره اللسان؛ ولما كان معنى الإنكار أنه لا يعذبكم ، بل يشكر ذلك قال عاطفاً عليه : { وكان الله } أي ذو الجلال والإكرام أزلاً وأبداً { شاكراً } لمن شكره بإثابته على طاعته فوق ما يستحقه { عليماً * } بمن عمل له شيئاً وإن دق ، لا يجوز عليه سهو ولا غلط ولا اشتباه .
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من تقبيح حال المجالسين الخائضين في آياته بما هي منزهة عنه ، ومما يتبعه من وصفهم وبيان قصدهم بتلك المجالسة من النهي عن مثل حالهم ، ومن جزاء من فعل مثل فعلهم - إلى أن ختم بأشد عذاب المنافقين ، وحث على التوبة بما ختمه بصفتي الشكر والعلم؛ أخبر أنه يبغض خوض الكافرين الذين قبح مجالستهم حال التلبس به ، وكذا كل جهر بسوء إلا ما استثناه ، فمن أقدم على ما لا يحبه لم يقم بحق عبوديته ، فقال معللاً ما مضى قبل افتتاح أمر المنافقين من الأمر بإحسانه التحية : { لا يحب الله } أي المختص بصفات الكمال { الجهر } أي ما يظهر فيصير في عداد الجهر { بالسوء } أي الذي يسوء ويؤذي { من القول } أي لأحد كائناً من كان ، فإن ذلك ليس من شكر الله تعالى في الإحسان إلى عباده وعياله ولا من شكر الناس في شيء ولا يشكر الله من لا يشكر الناس { إلا من } أي جهر من { ظلم } أي كان من أحد من الناس ظلم إليه كائناً من كان فإنه يجوز له الجهر بشكواه والتظلم منه والدعاء عليه وإن ساءه ذلك بحيث لا يعتدي .
ولما كان القول مما يسمع ، وكان من الظلم ما قد يخفي ، قال مرغباً مرهباً : { وكان الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { سمعياً } أي لكل ما يمكن سماعه من جهر وغيره { عليماً * } أي بكل ما يمكن أن يعلم فاحذروه لئلا يفعل بكم فعل الساخط ، وجهر ومن ظلم - وإن كان داخلاً فيما يحبه الله تعالى على تقدير كون الاستثناء متصلاً - لكن جعله من جملة السوء وإن كان من باب المشاكلة فإن فيه لطيفة ، وهي نهي الفطن عن تعاطيه وحثه على العفو ، لأن من علم أن فعله بحيث ينطلق اسم السوء - على أي وجه كان إطلاقه - كف عنه إن كان موفقاً .
ولما كانت معاقد الخيرات على كثرتها منحصرة في قسمين : إيصال النفع إبداء وإخفاء ، ودفع الضرر ، فكان قد أشار سبحانه وتعالى إلى العفو ، وختم بصفتي السمع والعلم؛ قال مصرحاً بالندب إلى العفو والإحسان ، فكان نادباً إليه مرتين : الأولى بطريق الإشارة لأولى البصارة ، والثانية بطريق العبارة للراغبين في التجارة ، حثاً على الأحب إليه سبحانه والأفضل عنده والأدخل في باب الكرم : { إن تبدوا خيراً } أي من قول أو غيره { أو تخفوه } أي تفعلوه خفية ابتداء أو في مقابلة سوء فعل إليكم؛ ولما ذكر فعل الخير أتبعه نوعاً منه هو أفضله فقال : { أو تعفوا عن سوء } أي فعل بكم .
ولما كان التقدير : يعلمه بما له من صفتي السمع والعلم فيجازي عليه بخير أفضل منه وعفو أعظم من عفوكم؛ سبب عنه قوله : { فإن } أي فأنتم جديرون بالعفو بسبب علمكم بأن { الله كان } أي دائماً أزلاً وأبداً { عفواً } ولما كان ترك العقاب لا يسمى عفواً إلا إذا كان من قادر وكان الكف - عند القدرة عن الانتقام ، ممن أثر في القلوب الآثار العظام - بعيداً ، شاقاً على النفس شديداً؛ قال تعالى مذكراً للعباد بذنوبهم إليه وقدرته عليهم : { قديراً * } أي بالغ العفو عن كل ما يريد العفو عنه من أفعال الجانين والقدرة على كل ما يريد ومن يريد ، فالذي لا ينفك عن ذنب وعجز أولى بالعفو طمعاً في عفو القادر عنه وخوفاً من انتقامه منه وتخلقاً بخلقه العظيم والاقتداء بسنته .
ولما انقضى ذلك على أتم وجه وأحسن سياق ونحو ، وختم بصفتي العفو والقدرة؛ شرع في بيان أحوال من لا يعفى عنه من أهل الكتاب ، وبيان أنهم هم الذين أضلوا المنافقين بما يلقون إليهم من الشبه التي وسَّعَ عقولهم لها ما أنعم به عليهم سبحانه وتعالى من العلم ، فأبدوا الشر وكتموا الخير ، فوضعوا نعمته حيث يكره ، ثم كشف سبحانه وتعالى بعض شبههم ، فقال مبيناً لما افتتح به قصصهم من أنهم اشتروا الضلالة بالهدى ، ويريدون ضلال غيرهم ، بعد أن كان ختم هناك ما قبل قصصهم بقوله عفواً قديراً : { إن الذين يكفرون } أي يسترون ما عندهم من العلم { بالله } أي الذي له الاختصاص بالجلال والجمال { ورسله } .
ولما ذكر آخر أمرهم ذكر السبب الموقع فيه فقال : { ويريدون أن يفرقوا بين الله } أي الذي له الأمر كله ، ولا أمر لأحد معه { ورسله } أي فيصدقون بالله ويكذبون ببعض الرسل فينفون رسالاتهم ، المستلزم لنسبتهم إلى الكذب على الله المقتضي لكون الله سبحانه وتعالى بريئاً منهم .
ولما ذكر الإرادة ذكر ما نشأ عنها فقال : { ويقولون نؤمن ببعض } أي من الله ورسله كاليهود الذين آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام وغيره إلا عيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم فكفروا بهما { ونكفر ببعض } أي من ذلك وهم الرسل كمحمد صلى الله عليه وسلم { ويريدون أن يتخذوا } أي يتكلفوا أن يأخذوا { بين ذلك } أي الإيمان والكفر { سبيلاً * } أي طريقاً يكفرون به ، وعطف الجمل بالواو - وإن كان بعضها سبباً لبعض - إشارة إلى أنهم جديرون بالوصف بكل منها على انفراده ، وأن كل خصلة كافية في نسبة الكفر إليهم ، وقدم نتيجتها ، وختم بالحكم بها على وجه أضخم ، تفظيعاً لحالهم ، وأصل الكلام : أرادوا سبيلاً بين سبيلين ، فقالوا : نكفر ببعض ، فأرادوا التفرقة ، فكفروا كفراً هو في غاية الشناعة على علم منهم ، فأنتج ذلك : { أولئك } أي البعداء البغضاء { هم الكافرون } أي الغريقون في الكفر { حقاً } ولزمهم الكفر بالجميع لأن الدليل على نبوة البعض لزم منه القطع بنبوة كل من حصل منه مثل ذلك الدليل ، وحيث جوز حصول الدليل بدون المدلول تعذر الاستدلال به على شيء كالمعجزة ، فلزم حينئذ الكفر بالجميع ، فثبت أن من كذب بنبوة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لزمه الكفر بجميع الأنبياء ، ومن لزمه الكفر بهم لزمه الكفر بالله وكل ما جاء به .
ولما كان التقدير : فلا جرم أنا أعتدنا - أي هيأنا - لهم عذاباً مهيناً ، عطف عليه تعميماً : { وأعتدنا للكافرين } أي جميعاً { عذاباً مهيناً * } أي كما استهانوا ببعض الرسل وهم الجديرون بالحب والكرامة ، والآية شاملة لهم ولغيرهم ممن كان حاله كحالهم ، وإيلاء ذلك بيان أحوال المنافقين أنسب شيء وأحسنه للتعريف بأنهم منافقون ، من حيث أنهم يظهرون شيئاً من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويبطنون غيره وإن كان ما يظهرونه على الضد مما يظهره المنافقون ، وبأنهم هم الذين أضلوا المنافقين ، وللتحذير من أقوالهم وتزييف ما حرفوا من محالهم ، وفي ذلك التفات إلى أول هذه القصة { يا أيها الذين ءامنوا ءامِنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] .
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
ولما بين سبحانه وتعالى ما أعد لهم بيّن ما أعد لأضدادهم من أهل طاعته بقوله : { والذين ءامنوا بالله } أي الذي له الكمال والجمال { ورسله } ولما جمعوهم في الإيمان ضد ما فعل أهل الكفران ، صرح بما أفهمه فقال : { ولم يفرقوا } أي في اعتقادهم { بين أحد منهم } أي لم يجعلوا أحداً منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه بأن كفروا ببعض وآمنوا ببعض - كما فعل الأشقياء ، والتفرقة تقتضي شيئين فصاعداً ، و « أحد » عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما ، فلذلك صح التعبير به بمعنى : بين اثنين أو جماعة ، وكأنه اختير للمبالغة بأن لو أن الواحد يمكن فيه التفرقة فكان الإيمان بالبعض دون البعض كفراً { أولئك } أي العالو الرتبة في رتب السعادة .
ولما كان المراد تأكيد وعدهم ، وكان المشاهد فيه غالباً التأخر قال : { سوف نؤتيهم } أي بما لنا من العظمة بوعد لا خلف فيه وإن تأخر ، فالمراد تحقيقه ، لا تحقيق تأخره ، ولكنه أتى بالأداة التي هي أكثر حروفاً وأشد تنفيساً ، لأن هذا السياق لأهل الإيمان المجرد ، الشامل لمن لم يكن له عمل ، ولذا أضاف الأجور إليهم ، وختم بالمغفرة لئلا يحصل لهم بأس وإن طال المدى { أجورهم } أي كاملة بحسب نياتهم وأعمالهم .
ولما كان الإنسان محل النقصان قال : { وكان الله } أي الذي لا يبلغ الواصفون كنه ما له من صفات الكمال { غفوراً } لما يريد من الزلات { رحيماً * } أي بمن يريد إسعادة بالجنات .
ولما أخبر تعالى بما على المفرقين بين الله ورسله وما لأضدادهم أتبعه بعض ما أرادوا به الفرقة ، وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا من اليهود قالا كذباً : إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء نعاينه حين ينزل - كما أتى موسى عليه الصلاة والسلام بكتابه كذلك ، فأنزل الله تعالى موبخاً لهم على هذا الكذب مشيراً إلى كذبهم فيه موهياً لسؤالهم محذراً من غوائله مبيناً لكفرهم بالله ورسله : { يسألك } .
ولما كانت هذه من أعظم شبههم التي أضلوا بها من أراد الله ، وذلك أنهم رأوا أن هذا الكتاب المبين أعظم المعجزات ، وأن العرب لم يمكنهم الطعن فيه على وجه يمكن قبوله ، فوجهوا مكايدهم نحوه بهذه الشبهة ونحوها ، زيفها سبحانه وتعالى أتم تزييف ، وفضحهم بسببها غاية الفضيحة ، وزاد سبحانه في تبكيتهم بقوله : { أهل الكتاب } إشارة إلى أن العالم ينبغي له أن يكون أبعد الناس من التمويه فضلاً عن الكذب الصريح { أن تنزل عليهم } أي خاصاً بهم بإثبات أسمائهم { كتاباً من السماء } ؛ وما أوهموا به في قولهم هذا من أن موسى عليه الصلاة والسلام أتى بالتوراة جملة كذبة تلقفها منهم من أراد الله تعالى من أهل الإسلام ، ظناً منهم أن الله تبارك وتعالى أقرهم عليها وليس كذلك - كما يفهمه السياق كله ، ويأتي ما هو كالصريح فيه في قوله : { إنا أوحينا إليك } - الآية كما سيأتي بيانه ، واليهود الآن معترفون بأنها لم تنزل جملة ، وقال الكلبي في قصة البقرة التي ذبحوها لأجل القتيل الذي تداروا فيه : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة .
ولما كان هذا مما يستعظمه النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك مبيناً تسلية له صلى الله عليه وسلم أن عادتهم التعنت ، وديدنهم الكفر وأنهم أغرق الناس في غلظ الأكباد وجلافة الطبائع ، وأن أوائلهم تعنتوا على من يدعون الإيمان به الآن ، وأنهم على شريعته ، وأحب شيء فيه ما أراهم من تلك الآيات العظام التي منها استنقاذهم من العبودية بل من الذبح وأن ذلك تكرر منهم مع ما يشاهدونه من القوارع والعفو فقال : { فقد } أي إن تستعظم ذلك فقد { سألوا } أي آباؤهم ، أي وهم على نهجهم في التعنت فهم شركاؤهم { موسى } لغير داع سوى التعنت { أكبر } أي أعظم { من ذلك } أي الأمر العظيم الذي واجهوك به بعد ما ظهرت من المعجزات ما أوجبنا على كل من علمها الإيمان بك والتأديب معك ، ثم بينه بقوله : { فقالوا أرنا الله } أي الملك الأعلى الذي لا شبيه له وتقصر العقول عن الإحاطة بعظمته { جهرة } أي عياناً من غير ستر ولا حجاب ولا نوع من خفاء بل تحيط به أبصارنا كما يحيط السمع بالقول الجهر ، وهذا يدل على أن كلاً من السؤالين ممنوع لكونه ظلماً ، لأدائه إلى الاستخفاف بما نقدمه من المعجزات ، وعده غير كاف مع أن إنزا الكتاب جملة غير مناسب للحكمة التي بنيت عليها هذه الدار من ربط المسببات بالأسباب وبنائها عليها ، لأن من المعلوم أن تفريق الأوامر سبب لخفة حملها ، وذلك أدعى لامتثالها وايسر لحفظها وأعون على فهمها ، وأعظم تثبيتاً للمنزل عليه وأشرح لصدره وأقوى لقلبه وأبعث لشوقه ، والرؤية على هذا الوجه الذي طلبوه - وهو الإحاطة - محال فسؤالهم لذلك استخفاف مع أنه تعنت ، ولذلك سبب عن سؤالهم قوله : { فأخذتهم } أي عقب هذا السؤال وبسببه من غير إمهال أخذ قهر وغلبة { الصاعقة } أي نار نزلت من السماء بصوت عظيم هو جدير بأن لا يسمى غيره - إذا نسب إليه - صاعقة ، فأهلكتهم { بظلمهم } أي بسبب ظلمهم بهذا السؤال وغيره ، لكونه تعنتاً من غير مقتض له أصلاً ، وبطلب الرؤية على وجه محال وهو طلب الإحاطة { ثم } بعد العفو عنهم وإحيائهم من إماتة هذه الصاعقة { اتخذوا العجل } أي تكلفوا أخذه وعتوا أنفسهم باصطناعه .
ولما كان الضال بعد فرط البيان أجدر بالتبكيت قال : { من بعد } وأدخل الجار إعلاماً بأن اتخاذهم لم يستغرق زمان البعد ، بل تابوا عنه { ما جاءتهم البينات } أي بهذا الإحياء وغيره من المعجزات { فعفونا } أي على ما لنا من العظمة { عن ذلك } أي الذنب العظيم بتوبتنا عليهم من غير استئصال لهم { وآتينا } أي بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة { موسى سلطاناً } أي تسلطاًَ واستيلاء قاهراً { مبيناً * } أي ظاهراً فإنه أمرهم بقتل أنفسهم فبادروا الامتثال بعد ما ارتكبوا من عظيم هذا الضلال ، وفي رمز ظاهر إلى أنه سبحانه وتعالى يسلط محمداً صلى الله عليه وسلم على كل من يعانده أعظم من هذا التسليط .
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
ولما بيَّن هذا من عظمته أتبعه أمراً آخر أعظم منه فقال : { ورفعنا } أي بعظمتنا؛ ولما كان قد ملأ جهة الفوق بأن وارى جميع أبدانهم ولم يسلم أحد منهم من ذلك؛ نزع الجار فقال : { فوقهم الطور } أي الجبل العظيم ، ثم ذكر سبب رفعه فقال : { بميثاقهم } أي حتى التزموه وأذعنوا له وقبلوه .
ولما ذكر الميثاق على هذا الوجه العجيب أتبعه ما نقضوا فيه على سهولته دليلاً على سوء طباعهم فقال : { وقلنا لهم } أي بما تكرر لهم من رؤية عظمتنا { ادخلوا الباب } أي الذي لبيت المقدس { سجداً } أي فنقضوا ذلك العهد الوثيق وبدلوا { وقلنا لهم } أي على لسان موسى عليه الصلاة والسلام في كثير من التوراة { لا تعدوا } أي لا تتجاوزوا ما حددناه لكم { في السبت } أي لا تعملوا فيه عملاً من الأعمال - تسمية للشيء باسم سببه سمي عدواً لأن العالم للشيء يكون لشدة إقباله عليه كأنه يعدو { وأخذنا منهم } أي في جميع ذلك { ميثاقاً غليظاً * } وإنما جزمت بأن المراد بهذا - والله تعالى أعلم - على لسان موسى عليه الصلاة والسلام ، لأنه تعالى كرر التأكيد عليهم في التوراة في حفظ السبت ، وأوصاهم به ، وعهد إليهم فيه ما قل أن عهده في شيء من الفروع غيره ، قال بعض المترجمين للتوراة في السفر الثاني في العشر الآيات التي أولها « أنا إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق ، لا يكون لك إله غيري » ما نصه : اذكر حفظ يوم السبت وطهره ستة أيام ، كد فيها واصنع جميع ما ينبغي لك أن تصنعه ، واليوم السابع سبت الله ربك ، لا تعملن فيه شيئاً من الأعمال أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك ودوابك والساكن في قراك ، لأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام والبحور وجميع ما فيها ، واستراح في اليوم السابع ، ولذلك بارك الله اليوم السابع وقدسه ، أكرم أباك - إلى آخر ما مر في سورة البقرة؛ ثم عاد العشر الآيات في أوائل السفر الخامس وقال في السبت : احفظوا يوم السبت وظهوره كما أمركم الله ربكم ، واعملوا الأعمال في ستة أيام كما أمركم الله ربكم ، واعملوا الأعمال في ستة أيام ، فاصنعوا ما أردتم أن تصنعوا فيها ، فأما يوم السبت فأسبوع ربكم ، لا تعملوا فيه عملاً أنتم وبنوكم وعبيدكم وإماؤكم وثيرانكم وحميركم وكل بهائمكم والساكن الذي في قراكم ليستريح عبيدكم - إلى آخر ما في أوائل هذه السورة عند { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } وقال في الثاني بعد ذلك : وقال الرب لموسى : وأنت فأمر بني إسرائيل أن تحفظوا السبوت ، لأنها أمارة العهد وعلامة فيما بيني وبينكم لأحقابكم ، فتعلموا أني أنا الرب إلهكم مقدسكم ، احفظوا يوم السبت فإنه مطهر مخصوص لكم ، ومن نقصه وأخذ العمل فيه فليقتل ، ومن عمل عملاً فليهلك ذلك الإنسان من شعبه ، اعملوا أعمالكم ستة أيام ، واليوم السابع فهو يوم سبت قدس للرب ، لأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام والبحور وما فيها ، وهذا في اليوم السابع ودفع إلى موسى عليه الصلاة والسلام لما فرغ كلامه له في طور سيناء لوحي الشهادة ، وأبلغ في تأكيد حفظه عليهم في غير ذلك من المواضع ، حتى أنه شرع لهم أسباب الأرض ونحوها ، فقال في السفر الثاني أيضاً : ازرع أرضك ست سنين واحمل أثقالها وفي السنة السابعة ابذرها ودعها فيأكل مسكين شعبك ، وما يبقى بعد ذلك يأكله حيوان البر وكذلك فافعل بكرومك وزيتونك ، اعمل عملك في ستة أيام وفي اليوم السابع تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك ، وتستريح أمتك وابن أمتك والساكن في قراك ، ثم ذكر الأعياد في السفر الثالث ، وحرم العمل فيها؛ وقال في بعضها : وكل نفس يعمل عملاً في هذا اليوم تهلك تلك النفس من شعبها ، فلا تعملوا فيه عملاً ، لأنه سنة جارية لكم إلى الأبد في جميع مساكنكم ، فليكن هذا اليوم سبت السبوت؛ ثم أمرهم بعيد المظال سبعة أيام وقال : ليعلم أحقابكم أنني أجلست بني إسرائيل في المظال حيث أخرجتهم من أرض مصر ، ثم ذكر بعض القرابين وقال : ويصف هارون الخبز صفين في اليوم السادس وهو يوم الجمعة ، ويكون ذلك من عيد بني إسرائيل؛ وكلم الرب موسى وقال له في طور سيناء كلم بني إسرائيل وقل لهم : إذا دخلتم الأرض التي أعطيكم ميراثاً تسبت الأرض سبتاً للرب ، ازرعوا مزارعكم ست سنين واكسحوا كرومكم ست سنين ، واستغلوا غلاتكم ست سنين ، فأما السنة السابعة فلتكن سبت الراحة للأرض ، لا تزرعوا مزارعكم ، ولا تكسحوا كرومكم ، ول تحصدوا ما ينبت في أرضكم في تلك السنة من غير أن يزرع ، ولا تقطعوا عنب كرومكم ، بل يكون سبت الراحة للأرض لكم ولبنيكم ولإمائكم ولإخوانكم وللسكان الذين يسكنون معكم ، وأحصوا سبع مرات سبعاً سبعاً : تسعاً وأربعين سنة ، وقدسوا سنة خمسين ، وليكن رد الأشياء إلى أربابها ، ولا تزرعوا أرضكم في تلك السنة ، ولا تحصدوا ما نبت فيها ، ولا تقطعوا عشبها لأنها سنة الرد ، واتقوا الله لأني أنا الله ربكم ، احفظوا وصاياي واعملوا بها ، واحفظوا أحكامي واعملوا بها ، واسكنوا أرضكم بالسكون والطمأنينة لتغل لكم الأرض غلاتها ، وتأكلوا وتشبعوا وتسكنوها مطمئنين ، وإن قلتم : من أين نأكل في السنة السابعة التي لا نزرع فيها فلا تهتموا! أنا منزل لكم بركاتي في السادسة ، وتغل لكم أرضكم في تلك السنة غلة ثلاث سنين ، حتى إذا زرعتم في السنة الثامنة لم تحتاجوا إلى غلتها ، لأنكم تأكلون من السنة السادسة إلى التاسعة ، وأما الأرض فلا تباع بيعاً صحيحاً أبداً ، لن الأرض لي ، وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا نسبة الاستراحة إليه سبحانه هذا مع أنه أكد سبحانه العهود عليهم في التوحيد وحفظ الأحكام في جميع التوراة على نحو ما تراه فيما أنقله منها في هذا الكتاب .
فلما بين سبحانه أنه أكد عليهم الميثاق ، وأكثر من التقدم في حفظ العهد؛ بين أنهم نقضوا ، فأقبهم بسبب ذلك ما هددوا به في التوراة من الخزي وضرب الذلة مع ما ادخر لهم في الآخرة فقال : { فبما } مؤكداً بإدخال « ما » { نقضهم ميثاقهم } أي فعلنا بهم بسبب ذلك جميع ما ذكرنا في التوراة من الخزي ، وقد تقدم كثير منه في القرآن ، ولا يبعد عندي تعليقه بقوله الآتي « حرمنا عليهم طيبات - واعتدنا » ويكون من الطيبات العز ورغد العيش ، وذلك جامع لنكد الدارين وعطف على هذا الأمر العام ما اشتدت به العناية من إفراده عطف الخاص على العام فقال : { وكفرهم بآيات الله } مما جاءهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم واقتضت حكمته سبحانه أن يكون عظمتها مناسبة لعظمة اسمه الأعظم الذي هو مسمى جميع الأسماء ، فاستلزم كفرهم به كفرهم بما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أعظم ما نقضوا فيه وأخص من مطلق النقض { وقتلهم الأنبياء } وهو أعظم من مطلق كفرهم ، لأن ذلك سد لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم ، لأن الأنبياء سبب الإيمان وفي محو السبب محو المسبب .
ولما كان الأنيباء معصومين من كل نقيصة ، ومبرئين من كل دنية ، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه؛ قال : { بغير حق } أي كبير ولا صغير أصلاً . وهذا الحرف - لكونه في سياق طعنهم في القرآن الذي هو أعظم الآيات - وقع التعبير فيه أبلغ مما في آل عمران الذي هو أبلغ مما سبق عليه ، لأن هذا مع جمع الكثرة وتنكير الحق عبر فيه بالمصدر المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقاً وصفة راسخة ، بخلاف ما مضى ، فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض؛ ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال : { وقولهم قلوبنا غلف } أي لا ذنب لنا لأن قلوبنا خلقت من أصل الفهم بعيدةً عن فهم مثل ما يقول الأنبياء ، لكونها في أغشية ، فهي شديدة الصلابة ، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم ، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم ، ويشهدون له بالرسالة وبأنه خاتم الأنبياء ، ويصفون بأشهر صفاته ، ويترقبون إتبانه ، لا جرم رد الله عليهم بقوله عطفاً على ما تقديره : وقد كذبوا لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان ، فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفاً : { بل طبع الله } أي الذي له معاقد العز ومجامع العظمة { عليها } طبعاً عارضاً { بكفرهم } بل إنه خلقها أولاً على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر ، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقض - عن الخير ، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم ، وترك ما تدعو إليه عقولهم ، طبع سبحانه وتعالى عليها .
فجعلها قاسية محجوبة عن رحمته ، ولذا سبب عنه قوله : { فلا يؤمنون } أي يجددون الإيمان في وقت من الأوقات الآتية ، ويجوز أن يتعلق بما تقديره تتمة لكلامهم : طبع الله عليها فهي لا تعي ، وتكون « بل » استدراكاً للطبع بالكفر وحده ، لأنه ربما انضم إليه ، وأن يكون أضرب عن قولهم : إنها في غلف ، لكون ما في الغلاف قد يكون مهيئاً لإخراجه من الغلاف إلى الطبع الذي من شأنه الدوام { إلا قليلاً * } من الإيمان بأن يؤمنوا وقتاً يسيراً كوجه النهار ويكفروا في غيره ، ويؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض ، أو إلا إناساً قليلاً منهم - كما كان أسلافهم يؤمنون بما يأتي به موسى عليه الصلاة والسلام من الآيات ، ثم لم يكن بأسرع من كفرهم وتعنتهم بطلب آية أخرى كما هو مذكور في توراتهم التي بين أظهرهم ، ونقلت كثيراً منه في هذا الكتاب ، فقامت الحجة عليهم بأنهم يفرقون بين قدرتهم على الإيمان وقدرتهم على الطيران .
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
ولما بين كفرانهم بقتل الأنبياء بين كفرهم بالبهتان الذي هو سبب القتل ، والفتنة أكبر من القتل ، فقال معظماً له باعادة العامل : { وبكفرهم } أي المطلق الذي هو سبب اجترائهم على الكفر بنبي معين كموسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى القذف ، ليكون بعض كفرهم معطوفاً على بعض آخر ، ولذلك قال : { وقولهم على مريم } أي بعد علمهم بما ظهر على يديها من الكرامات الدالة على براءتها وأنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات { بهتاناً عظيماً * } ثم علمهم بما لم ينالوا من قتل أعظم من جاء من أنبيائهم بأعظم ما رأوا من الآيات من بعد موسى وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام ، ثم بادعائهم لقتله وصلبه افتخاراً به مع شكهم فيه فقال : { وقولهم إنا قتلنا المسيح } ثم بينه بقوله : { عيسى ابن مريم } ثم تهكموا به بقولهم { رسول الله } أي الذي له أنهى العظمة ، فجمعوا بين أنواع من القبائح ، منها التشيع بما لم يعطوا ، ومنها أنه على تقدير صدقهم جامع لأكبر الكبائر مطلقاً ، وهو الكفر بقتل النبي لكونه نبياً ، وأكبر الكبائر بعده وهو مطلق القتل ، ولم يكفهم ذلك حتى كانوا يصفونه بالرسالة مضافة إلى الاسم الأعظم استهزاء به وبمن أرسله عزَّ اسمه وجلت عظمته وتعالى كبرياؤه وتمت كلماته ونفذت أوامره لكونه لم يمنعه منهم على زعمهم { وما } أي والحالة أنهم ما { قتلوه وما صلبوه } وإن كثر قائلو ذلك منهم ، وسلمه لهم النصارى { ولكن } لما كان المقصود وقوع اللبس عليهم الضار لهم ، لا لكونه من معين قال : { شبه لهم } أي فكانوا في عزمهم بذلك متشيعين بما لم يعطوا .
ولما أفهم التشبيه الاختلاف ، فكان التقدير : فاختلفوا بسبب التشبيه في قتله ، فمنهم من قال : قتلناه جازماً ، ومنهم من قال : ليس هو المقتول ، ومنهم من قال : الظاهر أنه هو ، عطف عليه قوله دالاً على شكهم باختلافهم : { وإن الذين اختلفوا فيه } أي في قتله { لفي شك منه } أي تردد مستوى الطرفين ، كلهم وإن جزم بعضهم ، ثم أكد هذا المعنى بقوله : { ما لهم به } وأغرق في النفي بقوله : { من علم } .
ولما كانوا يكلفون أنفسهم اعتقاد ذلك بالنظر في شهادته ، فربما قويت عندهم شبهة فصارة أمارة أوجبت لهم - لشغفهم بآمالها - ظناً ثم اضمحلت في الحال لكونها لا حقيقة لها ، فعاد الشك وكان أبلغ في التحير؛ قال : { إلا } أي لكن { اتباع الظن } أي يكلفون أنفسهم الارتقاء من درك الشك إلى رتبة الظن ، وعبر بأداة الاستثناء دون « لكن » الموضوعة للانقطاع إشارة إلى أن إدراكهم لما زعموه من قتله مع كونه في الحقيقة شكاً يكلفون أنفسهم جعله ظناً ، ثم يجزمون به ، ثم صار عندهم متواتراً قطعياً ، فلا أجهل منهم .
ولما أخبر بشكهم فيه بعد الإخبار بنفيه أعاد ذلك على وجه أبلغ فقال : { وما قتلوه } أي انتفى قتلهم له انتفاء { يقيناً * } أي انتفاؤه على سبيل القطع ، ويجوز أن يكون حالاً من « قتلوه » أي ما فعلوا القتل متيقنين أنه عيسى عليه الصلاة والسلام ، بل فعلوه شاكين فيه والحق أنهم لم يقتلوا إلا الرجل الذي ألقى شبهه عليه ، والوجه الأول أولى لقوله : { بل رفعه الله } بما له من العظمة البالغة والحكمة الباهرة ، رفع عيسى عليه الصلاة والسلام { إليه } أي إلى مكان لا يصل إليه حكم آدمي ، وعن وهب أنه أوحى إليه ابن ثلاثين ، ورفع ابن ثلاث وثلاثين فكانت رسالته ثلاثاً وثلاثين سنة { وكان الله } أي الذي له جميع صفات الكمال في كل حال عند قصدهم له وقبله وبعده { عزيزاً } أي يغلب ولا يغلب { حكيماً * } أي إذا فعل شيئاً أتقنه بحيث لا يطمع أحد في نقض شيء منه ، وختمُ الآية بما بين الصفتين يدل على أن المراد ما قررته من استهزائهم ، وأنه قصد الرد عليهم ، أي إنه قد فعل ما يمنع من استهزائكم ، فرفعه إليه بعزته وحفظه بحكمته ، وسوف ينزله ببالغ قدرته ، فيردكم عن أهوائكم ، ويسفك دماءكم ، ويبيد خضراءكم ، وله في رفعه وإدخاله الشهبة عليكم حكمة تدق عن أفكار أمثالكم .
قصة رفعه عليه الصلاة والسلام من الإنجيل الموجود اليوم بين أظهر النصارى ، وهي تتضمن الإنذار بالدجال والإخبار بنزوله صعيد ، والبشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي وصفه بالفارقليط وبالأركون ، وأن إخبارهم بقتله وصلبه ليس مستنداً إلا إلى شك - كما قال الله تعالى ، وأحسن ما رد على الإنسان بما يعتقده ، قال مترجمهم في إنجيل متى : إنه عليه الصلاة والسلام دخل إلى الهيكل في يروشليم - وهي القدس - وجرت بينه وبين الأحبار محاورات كان آخرها أن قال لهم : إني أقول لكم : إنكم لا تروني الآن حتى تقولوا : مبارك الآتي باسم الرب ، ثم خرج من الهيكل ، فجاء إليه تلاميذه كي يُروه بناء الهيكل ، فأجاب وقال لهم : انظروا هذا كله ، الحق أقول لكم : إنه لا يترك هنا حجر على حجر إلا نقض ، ثم جلس على جبل الزيتون - قال مرقس : قدام الهيكل - فجاء إليه تلاميذه قائلين : قل لنا : متى هذا وما علامة مجيئك وانقضاء الزمان؟ فقال لهم : انظروا لا يضلنكم أحد - قال مرقس ولوقا : فإن كثيراً يأتون باسمي قائلين : إنما هو المسيح ، ويضلون كثيراً - فإذا سمعتم بالحروب وأخبار الحروب انظروا لا تقلقوا ، فلا بد أن يكون هذا كله ، تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة ، ويكون خوف عظيم واضطراب وجوع ووباء - قال لوقا : وعلامات عظيمة من السماء - وزلازل في أماكن ، وكل هذا أول المخاض - وقال مرقس : وهذه بداية الطلق ، انظروا أنتم! إنهم يسلمونكم إلى المجامع والمحافل وتضربون - وقال لوقا : وقبل هذا كله يضعون أيديهم عليكم ، ويطردونكم إلى المجامع والسجون وتقامون أمام الملوك والقواد شهادة عليهم وعلى كل الأمم ، ينبغي أولاً أن يكرز بالإنجيل ، فإذا قدّموكم وأسلموكم فلا تهتموا بما تقولون ولا ماذا تجيبون ، فإنكم تعطون في تلك الساعة الذي تتكلمون به ولستم المتكلمين ، لكن روح القدس؛ قال لوقا : فإني معطيكم فماً وحكمة لا يقدر الذين يناصبونكم يقاومونها ولا الجواب عنها ، ويسلم الأخ أخاه للموت ، والأب ابنه ، ويثب الأبناء على آبائهم؛ قال متى : حينئذ يسلمونكم إلى الضيق ويقتلونكم ، وتكونون مبغوضين من كل الأمم ، وحينئذ يشك كثير ، ويسلم بعضكم بعضاً ، ويبغض بعضكم بعضاً ، ويقوم كثير من المنتهى يخلص ، ويكرز بهذه البشارة في الملكوت في جميع المسكونة بشهادة لكل الأمم؛ قال مرقس : فإذا رأيتم فساد الحراب المذكور في دانيال النبي قائماً حيث لا ينبغي - فليفهم القارىء - حينئذ الذين تهودوا يهربون إلى الجليل ، والذي فوق السطح لا يقدر أن ينزل إلى بيته ليأخذ شيئاً ، والويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام؛ وقال لوقا : وحينئذ الذين في اليهودية يهربون إلى الجبال ، والذين في وسطها يفرون خارجاً ، والذين في الكورة لا يدخلونها ، لأن هذه في أيام الانتقام لكي يتم كل ما هو مكتوب ، يكون على الأرض ضر وشدة عظيمة ، وسخط على هذا الشعب ، ويقعون في فم السيف ، ويسبون في كل الأمم .
ويكون يروشليم موطىء الأمم حتى يكمل الزمان ، وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم ، وتخرج نفوس أناس من الخوف؛ وقال متى : وحينئذ يأتي الانفصال ، ثم قال : سيكون ضيق عظيم - قال مرقس : تلك الأيام - لم يكن مثله في أول العالم حتى الآن ولا يكون ، ولولا أن تلك الأيام قصرت لم يخلص ذو جسد - وقال مرقس : فلولا أن الرب أقصر تلك الأيام لم يحيى ذو جسد - لكن لأجل المتحببين قصرت تلك الأيام ، فإن قال لكم أحد : إن المسيح ها هنا فلا تصدقوا ، فسيقوم مسيحو كذب وأنبياء كذبة ، ويعطون علامات عظاماً وآيات ، ويضلون المختارين إن قدروا ، هو ذا قد تقدمت وأخبرتكم ، فإن قالوا لكم : إنه في البرية ، فلا تخرجوا ، أو فيّ المخادع ، فلا تصدقوا ، وكما أن البرق يخرج من المشرق فيظهر في المغرب ، كذلك يكون حضور ابن البشر ، لأنه حيث تكون الجثة تجتمع النسور وتلوف بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس ، والقمر لا يعطي ضوءه ، والكواكب تتساقط من السماء ، وقوات ترتج ، وحينئذ تظهر علامات ابن الإنسان في السماء ، وتنوح كل قبائل الأرض ، وترون ابن الإنسان آتياً في سحاب السماء مع قوات ومجد كثير ، ويرسل الملائكة مع صوت الناقور العظيم ، ويجمع مختاريه من الأربعة الأزياج من أقصى السماوات - وقال مرقس : من أطراف الأرض إلى أطراف السماء - فمن شجرة التينة - وقال لوقا : ومن كل الأشجار - تعلمون المثل ، إذا لانت أغصانها وفرعت أوراقها علمتم أن الصيف قد دنا .
كذلك أنتم إذا رأيتم هذا كله علمتم أنه قد قرب على الأبواب ، الحق أقول لكم! إن هذا الجيل لا يزول حتى يتم هذا كله ، والأرض والسماء تزولان وكلامي لا يزول ، لأجل ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفها أحد ولا ملائكة السماوات - وقال مرقس : ولا الابن - إلا الأب وحده ، وقال لوقا : سأله الفريسيون : متى يأتي ملكوت الله؟ فقال : ليس يأتي ملكوت الله برصد ولا يقولون : هوذا هاهنا أو هناك! ها هو ذا ملكوت الله؛ ثم قال لتلاميذه : ستأتي أيام تشتهون أن تروا يوماً واحداً من أيام ابن الإنسان ولا ترون ، فإن قالوا لكم : هوذا هاهنا أو هناك ، فلا تذهبوا ولا تسرعوا ، لأنه كمثل البرق الذي يضيء في السماء فيضيء تحت السماء ، كذلك تكون أيام ابن البشر - انتهى . وكما كان في أيام نوح عليه الصلاة والسلام كذلك يكون استعلاء ابن الإنسان ، لأنه كما كنوا قبل أيام الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح إلى السفينة ، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان فأدرك جميعهم ، كذلك يكون حضور ابن الإنسان؛ وقال لوقا : ومثل ما كان في أيام لوط يأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون ويغرسون ويبنون إلى اليوم الذي خرج فيه لوط من سدوم ، وأمطر من السماء ناراً وكبريتاً ، وأهلك جميعهم ، كذلك في اليوم الذي يظهر فيه ابن الإنسان ، وفي ذلك اليوم من كان في السطح وآلته في البيت لا ينزل كي يأخذها ، ومن كان في الحقل أيضاً لا يرجع هكذا إلى ورائه . انظروا إلى امرأة لوط ، من أراد أن يحيي نفسها فليهلكها ، ومن أهلكها أحياها ، أقول لكم : إن في هذه الليلة - وقال متى : حينئذ - يكون اثنان في الحقل ، يؤخذ واحد ، ويترك الآخر ، واثنتان تطحنان على رحى واحدة ، تؤخذ الواحدة ، وتترك الأخرى ، وقال مرقس : فانظروا واسهروا وصلّوا ، لأنكم لا تعلمون متى يكون الزمان! اسهروا فإنكم لا تعملون متى يأتي رب البيت ليلاً! يأتي بغتة فيجدكم نياماً ، والذي أقول لكم أقوله للجميع ، اسهروا! قال لوقا : في كل حين وتضرعوا لكي تقووا على الهرب في هذه الأمور الكائنة كلها ، وتقفوا قدام ابن الإنسان ، وقال متى : فاسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم ، واعلموا أنه لو علم رب البيت في أي هجعة يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب ، كذلك كونوا مستعدين لأن ابن الإنسان يأتي ساعة لا تظنونها ، من ترى هو العبد الأمين الحليم الذي يقيمه سيده على بيته ليعطيهم الطعام في حينه! طوبى لذلك العبد ، يأتي سيده فيجده يعمل هكذا ، الحق أقول لكم! إنه يقيمه على جميع ماله ، فإن قال ذلك العبد الرديء في قلبه : إن سيدي يبطىء ، فيبدأ يأكل ويشرب مع المسكرين فيأتي سيده في يوم لا يظنه وساعة لا يعرفها ، فيجعل نصيبه مع المرائين ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان .
يشبه ملكوت السماوات عشرة عذاراى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس ، خمس منهن جاهلات ، وخمس حليمات ، فأما الجاهلات فأخذن مصابيحهن ولم يأخذن زيتاً ، وأما الحليمات فأخذن زيتاً في إناء مع مصابيحهن ، فلما أبطأ العريس نعسن كلهن ونمن ، وانتصف الليل فُصرِخ : هذا العريس قد أقبل ، اخرجن للقائه! حينئذ قام جميع العذارى وزين مصابيحهن ، فقال الجاهلات للحليمات : أعطيننا من زيتكن ، فإن مصابيحنا قد طفئت! فقلن : ليس معنا ما يكفينا وإياكن ، فاذهبن إلى الباعة وابتعن لكنّ ، فلما ذهبن ليبتعن جاء العريس ، فالمستعدات ذهبن معه وأُغلِقَ ، فجاء بقية العذارا قائلات : يا رب! افتح لنا ، فأجاب وقال : الحق أقول لكنّ! إني لا أعرفكن؛ اسهروا الآن فإنكم لا تعرفون ذلك اليوم ولا تلك الساعة ، كمثل إنسان أراد السفر ، فدعا عبيداً له فأعطاهم ماله ، فأعطى خمس وزنات لواحد ، ووزنتين للآخر ، وواحداً وزنة ، كل منهم على قدر قوته ، وسافر للوقت ، فمضى الذي أخذ الخمس فاتجر فيها ، فربح خمس وزنات أخرى وهكذا الذي أخذ الوزنتين ربح فيهما وزنتين أخريين ، وأما الذي أخذ الوزنة فمضى وحفر في الأرض ودفن حصة سيده ، وبعد زمان كثير جاء سيد هؤلاء فحاسبهم ، فجاء الذي أخذ الخمس وزنات فأعطى خمس وزنات أخرى قائلاً : يا رب! خمس وزنات أعطيتني ، وهذه خمس وزنات أخرى ربحتها ، قال له سيده - قال لوقا- : حبذا أيها العبد الصالح! ألفيت أميناً على القليل ، وقال متى : نعم يا عبد صالح أمين! وجدت في القليل أميناً ، أنا أقيمك على الكثير أميناً ، ادخل إلى فرح سيدك ، وجاء الذي أخذ الوزنتين فقال : يا سيد! وزنتين دفعت إليّ وهذان وزنتان أخريان ربحتهما فقال له سيده : نعم يا عبد صالح أمين! وجدت في القليل أميناً ، أنا أقيمك على الكثير ، ادخل إلى فرح سيدك ، فجاء الغير مصيب الذي أخذ الوزنة فقال : يا سيد! عرفت أنك إنسان شديد ، تحصد ما لم تزرع ، وتجمع من حيث لا تبذر ، فخفت ومضيت فدفنت مالك في الأرض ، هذا مالك ، فأجاب سيده وقال : أيها العبد الشرير الكسلان! علمت أنني أحصد من حيث لا أزرع ، وأجمع من حيث لا أبذر ، كان ينبغي لك أن تجعل حصتي على مائدة ، فأنا آتي وآخذه إليّ مع أرباحه ، خذوا منه الوزنة ، وأعطوها للذي له عشر وزنات ، لأن من له يعطي ويزاد ، والذي ليس له يؤخذ منه ما معه ، والعبد الشرير الغير نافع ألقوه في الظلمة القصياء ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان؛ إذا جاء ابن الإنسان في مجده ، وجميع الملائكة المقدسين معه ، حينئذ يجلس على كرسي مجده ، ، ويجمع إليه كل الأمم ، فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء ، ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن شماله ، حينئذ يقول الملك للذين عن يمينه : تعالوا يا مباركي أبي رِثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم ، جعت فأطعمتموني ، وعطشت فسقيتموني ، وغريباً كنت فآويتموني ، وعرياناً فكسوتموني ، ومريضاً فعدتموني ، ومحبوساً فأتيتم إليّ ، حينئذ يجيب الصديقون ويقولون : يا رب! متى رأيناك جائعاً فأطعمناك؟ أو عطشاناً فسقيناك؟ ومتى رأيناك غريباً فآويناك؟ أو عرياناً فكسوناك؟ أو مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك؟ فيجيب الملك ويقول : الحق أقول لكم! الذي فعلتموه بأحد هؤلاء الحقيرين فبي فعلتم ، حينئذ يقول للذين عن يساره : اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدّة لإبليس وجنوده ، جعت فلم تطعموني - إلى آخره ، فيذهب هؤلاء إلى العذاب الدائم ، والصديقون إلى الحياة الأبدية .
ولما أكمل يسوع هذا الكلام كله قال لتلاميذه : علمتم أن بعد يومين يكون الفسح - وقال مرقس : وكان الفسح والفطير بعد يومين - واجتمع رؤساء الكيسر والكهنة ومشايخ الشعب في دار رئيس الكهنة الذي يقال له قيافاً ، فتشاوروا على يسوع ليمسكوه - قال مرقس : بمكر - ويقتلوه ، وقالوا : ليس في العيد لئلا يكون شجن؛ وقال مرقس : شغب في الشعب؛ وقال يوحنا : فجمع عظماء الكهنة والفريسيين محفلاً وقالوا : ماذا نصنع إذا كان هذا الرجل يعمل آيات كثيرة ، وإن تركناه هكذا فسيؤمن به جميع الناس ، وتأتي الروم فتتغلب على أمتنا ، وإن واحداً منهم اسمه قيافا كان رئيس الكهنة فقال : إنه خير لنا أن يموت رجل واحد عن الشعب من أن تهلك الأمة كلها ، لأن يسوع كان مزمعاً أن يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد؛ وفي تلك الساعة تشاوروا على قتله ، فأما يسوع فلم يكن يمشي بين اليهود علانية ، ولكنه انطلق من هناك إلى البرية إلى كورة تسمى مدينة أفريم ، وكان يتردد هناك مع تلاميذه ، وكان عيد فسح اليهود قد قرب فصعد كثير من القرى إلى يروشليم قبل الفسح ليطهروا أنفسهم ، فطلب اليهود يسوع ، وكانوا أمروا إن علم إنسان مكانه أن يدلهم عليه ، وإن يسوع قبل ستة أيام من الفسح قصد إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الميت الذي أقامه يسوع ، فصنعوا له هناك وليمة ، وجعلت مرتا تخدم ، وعلم جمع كثير من اليهود فجاؤوا إليه ، ولينظروا إلى لعازر الذي أقامه من بين الأموات ، وتشاور عظماء الكهنة أن يقتلوا لعازر ، لأن كثيراً من اليهود من أجله كانوا يؤمنون بيسوع ، وكان الجمع الذي معه يشهد له أنه دعا لعازر من القبر وأقامه ، ومن الغد سمعوا أن يسوع يأتي إلى يروشليم ، فخرجوا للقائه يصرخون : مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل! ووجد يسوع حماراً فركبه - كما هو مكتوب : لا تخافي يا بنت صيون! هوذا ملكك يأتيك راكباً على جحش - ابن أتان - ثم قال : وقال يسوع : قد قربت الساعة التي يمجد فيها ابن البشر ، الحق الحق أقول لكم! إنه حبة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتَمُتْ بقيت وحدها ، وإن هي ماتت أتت بثمار كثيرة ، من أحب نفسه فليهلكها ، ومن أبغض نفسه في هذا العالم فإنه يحفظها لحياة الأبد ، وقال : يا رباه! مجد اسمك ، فجاء صوت من السماء : قد مجدتُ وأيضاً أمجد ، فسمع الجمع الذي كان واقفاً فقال بعضهم : إنما كان رعداً ، وقال آخرون : إن ملاكاً كلمه ، قال يسوع : ليس من أجلي كان هذا الصوت ، ولكن من أجلكم ، وقد حضر الآن دينونة هذا العالم ، الآن يلقى رئيس هذا العالم إلى خارج ، وأنا إذا ارتفعت من الأرض جبيت إليّ كل واحد ، فأجاب الجمع : نحن سمعنا في الناموس أن المسيح يدوم إلى الأبد ، فكيف تقول أنت : يرتفع ابن البشر ، فقال لهم يسوع : إن النور معكم زماناً يسيراً ، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام ، إن الذي يمشي في الظلام ليس يدري أين يتوجه ، فما دام لكم النور آمنوا بالنور لتكونوا أبناء النور؛ تكلم يسوع بهذا ثم مضى وتوارى عنهم ، وقال : يا بني! أنا معكم زماناً قليلاً ، وتطلبوني فلا تجدوني ، وكما قلت لليهود : إن الموضع الذي امضي إليه أنا ، لستم تقدرون على المضي إليه ، قال يوحنا في محاورته ليهود في الهيكل : قال يسوع : أنا أمضى وتطلبوني وتموتون بخطاياكم ، وحيث أنا أذهب لستم تقدرون على إتيانه ، فقال اليهود : لعله يريد أن يقتل نفسه ، فقال لهم : أنتم من أسفل ، وأنا من فوق ، أنتم من هذا العالم ، وأما أنا فلست من هذا العالم ، قد أخبرتكم أنكم تموتون بخطاياكم ، فقالوا له : أنت من أنت؟ ثم قال : وقالوا له : إن أبانا هو إبراهيم ، قال : لو كنتم بني إبراهيم كنتم تعملون أعمال إبراهيم ، لكنكم تريدون قتل إنسان كلمكم بالحق الذي سمعه من الله تعالى ، ولم يفعل إبراهيم هذا ، أنتم تعملون أعمال أبيكم؟ فقالوا : أما نحن فلسنا مولودين من زنى ، فقال لهم : أنتم من أبيكم إبليس ، وشهوة أبيكم تهوون إن لم تعملوا ذلك ، الذي هو من البدء قتّال الناس ولم يلبث على الحق لأنه ليس فيه حق ، وإذا ما تكلم بالكذب فإنما يتكلم بما هو له ، وأما أنا فأتكلم بالحق ولستم تؤمنون بي ، من منكم يوبخني على خطيئة - انتهى ، وأقول لكم الآن أن يحب بعضكم بعضاً كما أحببتكم ، فبهذا يعرف كل أحد أنكم تلاميذي ، وقال يسوع : من يؤمن بي ليس من يؤمن بي فقط ، بل وبالذي أرسلني ، ومن رآني فقد رأى الذي أرسلني ، أنا جئت نور العالم لكي ينجو كل من يؤمن بي من الظلام ، ومن يسمع كلامي ولا يؤمن بي أنا لا أدينه ، لأني لم آت لأدين العالم ، بل لأحيي العالم ، من جحدني ولم يقبل كلامي فإن له من يدينه ، الكلمة التي نطقت بها هي تدينه في اليوم الآخر ، لأني لم أتكلم من نفسي ، لأن الرب الذي أرسلني هو أعطاني الوصية ، ثم قال : الحق الحق أقول لكم! من يؤمن بي يعمل الأعمال التي أعملها ، وأفضل منها يصنع ، إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب يعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد - روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه ، لأنهم لم يروه ولم يعرفوه ، وأنتم تعرفونه ، لأنه مقيم عندكم وهو فيكم ، لست أدعكم يتامى لأني سوف أجيئكم عن قليل ، من يحبّني يحفظ كلمتي ، ومن لا يحبني ليس يحفظ كلامي ، الكلمة التي تسمعونها ليست لي ، بل للرب الذي أرسلني ، كلمتكم بهذا لأني عندكم مقيم ، والفارقليط روح القدس الذي يرسله ربي باسمي هو يعلمكم كل شيء ، وهو يذكركم كل ما قلت لكم ، السلام استودعتكم ، سلامي خاصة أعطيكم ، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع ، قد سمعتم أني قلت لكم : إني منطلق وعائد إليكم ، لو كنتم تحبوني لكنتم تفرحون بمضيّي إلى الرب ، لأن الرب أعظم مني ، وها قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون ، ولست أكلمكم كثيراً لأن أركون العالم يأتي وليس له فيّ شيء ، ولكن ليعلم العالم أني أحب الرب ، وكما أوصاني الرب كذلك أفعل ، أنا هو الكرمة الحقيقية وربي الغارس ، كل غصن لا يأتي بثمار ينزعه ، والذي يأتي بثمار ينقيه ليأتي بثمار كثيرة ، أنتم لتيامن هذا الكلام الذي كلمتكم به اثبتوا فيّ وأنا فيكم ، كما أن الغصن لا يطيق أن يأتي بالثمار من عنده إن لم يثبت في الكرمة ، كذلك أنتم إن لم تثبتوا فيّ ، أنا هو الكرمة وأنتم الأغصان ، من ثبت فيّ وأنا فيه يأتي بثمار كثيرة ، وبغيري لستم تقدرون تعملون شيئاً ، فإن لم يثبت أحد فيّ طرح خارجاً مثل الغصن الذي يجني فيأخذونه ويطرحونه في النار فيحترق ، وإن أنتم ثبتم فيّ وثبت كلامي فيكم كان لكم كل ما تريدونه ، وبهذا يمجد ربي بأن تأتوا بثمار كثيرة ، وأنتم أحبابي إن علمتم كل ما وصيتكم به ، إنما وصيتكم بهذا لكي يحب بعضكم بعضاً ، فإن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم ، لو كنتم من العالم كان العالم يحب من هو منه ، لكنكم لستم من العالم ، بل اخترتكم من العالم ، من أجل هذا يبغضكم العالم ، لو لم آت وأكلمهم لم يكن لهم خطيئة ، والآن ليس لهم حجة في خطيئتهم ، لو لم أعمل أعمالاً لم يعملها أحد لم يكن لهم خطيئة ، لتتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني باطلاً ، إذا جاء الفارقليط الذي أرسله إليكم - روح الحق الذي من الرب بسق - هو يشهد وأنتم تشهدون ، لأنكم معي صفوة ، كلمتكم بهذا لكيلا تشكون ، فإنهم سوف يخرجونكم من مجامعهم ، ولم أخبركم بهذا من قبل لأني كنت معكم ، والآن فإني منطلق إلى من أرسلني ، أقول لكم الحق! إنه خير لكم أن أنطلق ، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط ، فإذا انطلقت أرسلته إليكم ، فإذا جاء ذاك فهو موبخ العالم على الخطيئة ، وإن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقول لكم ، ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن ، وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما يأتي ، وهو مجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم ، قليلاً ولا ترونني ، وقليلاً وترونني ، قالوا : ما هذا القليل الذي يقول؟ فقال لهم : أفي هذا يراطن بعضكم بعضاً ، الحق أقول لكم! إنكم تبكون وتنوحون والعالم يفرح ، وأنتم تحزنون لكن حزنكم يؤول إلى فرح ، كالمرأة إذا حضر ولادها تحزن لأن قد جاءت ساعتها ، فإذا ولدت ابناً لم تذكر الشدة من أجل الفرح ، لأنها ولدت إنساناً في العلم؛ تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء وقال : يا رب! قد حضرت الساعة فمجد عبدك ليمجدك عبدك ، كما أعطيته السلطان على كل ذي جسد ، ليعطي كل من أعطيته حياة الأبد ، وهذه هي حياة الأبد أن يعرفوك أنك أنت إله الحق وحدك ، والذي أرسلته يسوع المسيح ، أنا قد مجدتك على الأرض ، ذلك العمل الذي أعطيتني لأصنعه قد أكمت ، والآن مجدني أنت يا رباه بالمجد الذي عندك ، قد أظهرت اسمك للناس ، الآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك ، وعلموا حقاً أني من عندك أتيت ، وآمنوا أنك أرسلتني ، وأنا أجيء إليك أيها الرب القدوس! احفظهم باسمك الذي أعطيتني كي يكونوا واحداً كما نحن ، إذ كنت معهم في العالم أنا كنت أحفظهم باسمك ، ليس أسأل أن تنزعهم من العالم ، بل أن نحفظهم من الشرير ، لأنهم ليسوا من العالم ، كما أني لست من العالم ، قدسهم بحقك فإذا كلمتك خاصة هي الحق ، كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا أيضاً إلى العالم ، ولست أسأل في هؤلاء فقط ، بل وفي الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بأجمعهم واحداً ، كما أنك يا رباه فيّ وأنا فيك ليكونوا أيضاً فيناً واحداً ، ليؤمن العالم أنك أرسلتني؛ قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عين عمرة وادي الأرز ، وكان هناك بستان ، دخله هو وتلاميذه ، وكان يهودا الذي أسلمه يعرف ذلك المكان ، لأن يسوع كان يجتمع هناك مع تلاميذه كثيراً ، وقبل عيد الفسح كان يسوع يعلم أن قد حضرت الساعة التي ينتقل فيها من هذا العالم ، فلما حضر العشاء خامر الشيطانُ قلبَ يهودا شمعون الإسخريطي لكي يسلمه ، فقام يسوع عن العشاء وترك ثيابه وائتزر وسطه بمنديل ، وبدأ يغسل أقدام التلامذة وينشفها بمنديل كان مؤتزراً به ، فلما انتهى إلى شمعون الصفا قال له : أنت يا سيدي تغسل لي قدمي؟ فقال يسوع : إن الذي أصنعه لست تعرفه الآن ، ولكنك ستعرفه فيما بعده ، قال له شمعون الصفا : إنك لست غاسلاً لي قدمي الآن ، قال له يسوع : إن أنا لم أغسلهما فليس لك معي نصيب ، قال شمعون : يا سيدي! ليس تغسل لي قدمي فقط ، بل ويدي ورأسي ، قال له يسوع : إن الذي يطهر لا يحتاج إلا إلى غسل قدمي؛ فلما غسل أرجلهم تناول ثيابه واتكأ وقال لهم : تعلمون ما صنعت بكم؟ أنتم تدعونني معلماً ورباً ، وما أحسن ما تقولون! فإذا كنت أنا معلمكم وربكم قد غسلت أقدامكم فأنتم أحرى أن يغسل بعضكم أرجل بعض ، والحق الحق أقول لكم! ليس عبد أعظم من سيده ولا رسول أعظم ممن أرسله وقال : اتلحق والحق أقول لكم! إن واحداً منكم يسلمني؛ وقال متى : ولما كان يسوع في بيت عنيا في بيت شمعون الأبرص جاءت امرأة معها قارورة طيب كثير الثمن فأفاضته على رأسه وهو متكىء ، حينئذ مضى أحد الاثني عشر - أي الحواريين الذي سيذكرون في المائدة والأنعام بأسمائهم - وهو الذي يقال له يهودا الإسخريطي إلى رؤساء الكهنة وقال لهم : ماذا تعطوني حتى أسلمه إليكم؟ فأقاموا له ثلاثين من الفضة ، ومن ذلك الوقت جعل يطلب فرصة ليسلمه ، وفي أول يوم الفطير - قال مرقس : لما ذبحوا الفسح - قال له تلاميذه : أين تريد حتى نستعد لتأكل الفسح؟ فقال : اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له : المعلم يقول : زماني قد اقترب ، وعندك أصنع الفسح مع تلاميذي ، ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع وأعدوا الفسح ، وقال لوقا : وكان في النهار يعلم في الهيكل ، ويخرج في الليل ليستريح في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون ، وكان جميع الشعب يدلجون إليه ليسمعوا منه وكان لما قرب عيد الفطير المسمى بالفسح تطلّب الكهنة كيف يهلكونه ، وكانوا يخافون من الشعب ، فدخل الشيطان في يهودا الذي يدعى الإسخريطي الذي كان من الأثني عشرة ، فمضى وكلم رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم ، ففرحوا ووعدوه ، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم مفرداً عن الجمع ، فجاء يوم الفطير الذي يذبح فيه الفسح ، فأرسل بطرس ويوحنا وقال : امضيا وأعدا لنا الفسح ، ثم قال : فانطلقا وأعدا الفسح ، ولما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر تليمذاً ، قال : فقال لهم : شهوة اشتهيت أن آكل معكم الفسح ، فإني أقول لكم : إني أيضاً لا آكل منه حتى يتم في ملكوت الله؛ وقال متى : وفيما هم يأكلوا قال : الحق أقول لكم! إن واحداً منكم يسلمني ، فحزنوا جداً وشرع كل واحد منهم يقول : لعلي أنا هو؛ وقال يوحنا : وقال : الحق الحق أقول لكم! إن واحداً منكم يسلمني ، فنظر التلاميذ بعضهم إلى بعض ، وكان واحداً من تلاميذه متكئاً في حضن يسوع ، وهو الذي كان يسوع يحبه ، فأومأ شمعون الصفا إليه أن يعلمه مَن الذي قال لأجله؛ فوقع ذلك التلميذ على صدر يسوع وقال له : يا سيدي! من هذا؟ فقال يسوع : هو الذي أبلّ خبزاً وأناوله ، فبلّ خبزاً ودفعه إلى شمعون الإسخريوطي ، وقال متى : فقال : الذي يجعل يده معي في الصحفة هو يسلمني؛ وابن الإنسان ماضٍ كما كتب من أجله ، الويل لذلك الإنسان الذي يسلم ابن الإنسان ، حبذا له لو لم يولد ، أجابه يهودا مسلمه وقال : لعلي أنا هو يا معلم! قال : أنت ، قال : فسبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون؛ وقال لوقا : فقال لهم : إن ملوك الأمم هم ساداتهم ، والمسلطون عليهم يدعون المحسنين إليهم ، فأما أنتم فليس كذلك ، لكن الكبير منكم يكون كالصغير والمقدم كالخادم ، من أكبر؟ المتكىء أم الذي يخدم؟ أليس المتكىء فأما أنا في وسطكم فمثل الخادم ، وأنتم الذي صبرتم معي في تجاربي ، وأنا أعد لكم كما وعدني ربي الملكوت ، لتأكلوا وتشروبوا على مائدتي في ملكوتي ، وتجلسوا على كرسيّ ، وتدينوا اثني عشر سبط إسرائيل - إلى أن قال : ثم خرج كالعادة ومضى إلى جب الزيتون ، ومعه أيضاً تلاميذه ، فلما انتهى إلى المكان قال لهم : صلوا لئلا تدخلوا التجربة ، وانفرد عنهم كرمية حجر وخرَّ على ركبتيه فصلى؛ وقال متى : حينئذ قال لهم يسوع : كلكم تشكون في هذه الليلة ، لأنه مكتوب : أضرب الراعي ، تفرق خراف الرعية ، فأجاب بطرس وقال له : لو شك جميعهم لم أشك أنا ، قال له يسوع : الحق أقول لك! في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات؛ وقال يوحنا : الحق الحق أقول لكم! لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاثاً ، لا تضطرب قلوبكم ، آمنوا بالله وآمنوا بي؛ وقال متى : قال له بطرس : لو ألجئت إلى أن أموت معك ما أنكرت؛ وقال مرقس : فتمادى بطرس وقال : يا أبت! وإن اضطررت إلى أن أموت معك ليس أنكرك ، وهكذا قال جميع التلاميذ ، حينئذ جاء معهم إلى قرية تدعى جسمانية ، فقال للتلاميذ : اجلسوا ها هنا لأمضي أصلي هناك ، امكثوا واسهروا معي ، وبعد ذلك خرَّ على وجهه يصلي ، وجاء إلى التلاميذ فوجدهم نياماً ، قال مرقس : فقال البطرس : يا شمعون! أنت نائم؟ ما قدرت تسهر معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا التجارب ، أما الروح فمستبشرة ، وقال مرقس : فمستعدة ، وأما الجسد فضعيف ، ومضى أيضاً وصلى ، وجاء أيضاً فوجدهم نياماً ، لأن عيونهم كانت ثقيلة ، فتركهم؛ ومضى أيضاً يصلي ، قال لوقا : وظهر له ملاك من السماء ليقويه ، وكان يصلي تواتراً ، وكان عرفه كعبيط الدم نازلاً على الأرض! وقال متى : حينئذ جاء إلى التلاميذ وقال لهم : ناموا الآن واستريحوا! قد اقتربت الساعة ، وفيما هو يتكلم إذ جاء يهودا الإسخريوطي أحد الاثني عشر ، معه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب ، والذي أسلمه أعطاهم علامة وقال : الذي أقبّله هو هو فأمسكوه ، وجاء إلى يسوع وقال له : السلام يا معلم! وقبّله فقال له يسوع : يا هذا! ألهذا جئت؟ حينئذ جاؤوا فوضعوا أيديهم على يسوع وقبضوا عليه ، ثم قال : في تلك الساعة قال يسوع للجموع : كأنكم قد خرجتم إلى لص بالسيوف والعصيّ لتأخذوني ، في كل يوم كنت أجلس عندكم أعلِّم في الهيكل فما قبضتم عليّ ، وهذا كله كان لتكميل كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وقال يوحنا : إن يهودا أخذ جنداً من عند عظماء الكهنة والفريسيين وشرطاً ، وجاء إلى هناك بسرج ومصابيح وسلاح ، ويسوع كان عارفاً بكل شيء يأتي عليه ، فخرج وقال لهم : من تطلبون؟ قالوا : يسوع الناصري ، قال : أنا هون وكان يهودا واقفاً معهم ، فلما قال : أنا هو ، رجعوا إلى ورائهم وسقطوا على الأرض ، فقال يسوع : إن كنتم تطلبوني فدعوا هؤلاء يذهبوا ، لتتم الكلمة التي قالها : إن الذي أعطيتني لن يهلك منهم أحد؛ وقال متى : حينئذ تركه تلاميذه كلهم وهربوا ، والذين أخذوا يسوع اقتادوه إلى دار قيافا رئيس الكهنة ، وأما بطرس فأتبعه على بُعُد منه إلى دار رئيس الكهنة ، ودخل إلى داخلها وجلس مع الخدام لينظر التمام ، وقال مرقس : وجلس مع الخدام عند النار يصطلي؛ وقال يوحنا : وإن شمعون الصفا والتلميذ الآخر - يعني الذي تقدم أن عيسى كان يحبه - تبعا يسوع ، وكان عظيم الكهنة يعرف ذلك التلميذ ، فدخل يسوع إلى دار عظيم الكهنة ، فأما شمعون فكان واقفاً خارج الباب ، فخرج التلميذ الآخر الذي كان معارف رئيس الكهنة ، فقال للبوابة وأدخل شمعون بطرس ، فقالت الجارية البوابة لشمعون : أما أنت من تلاميذ هذا الرجل؟ فقال لها : لا! وكان العبيد والشرط قياماً يوقدون ناراً ليصطلوا ، لأنها كانت ليلة باردة ، وقام شمعون معهم أيضاً يصطلي : قال متى : فقال رئيس الكهنة : أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا إن كنت أنت هو المسيح! قال له يسوع : أنت قلت؛ ثم ذكر أنهم أفتوا بقتله وقال : عند ذلك بصقوا في وجهه وستروا وجهه بثوب ولطموا وجهه فوقه قائلين : أيها المسيح! بين لنا مَنْ هو الذي ضربك؟ قال مرقس : وبينما بطرس في أسفل الدار جاءت فتاة من جواري رئيس الكهنة فقالت له : وأنت أيضاً قد كنت مع يسوع الناصري؛ وقال متى : مع يسوع الجليلي ، وقال لوقا : فلما رأته جارية جالساً عند الضوء ميزته فقالت : هذا أيضاً كان معه ، فأنكر وقال : ما أعرفه؛ وقال متى : فجحد بين أيديهم أجمعين ، وعند خروجه إلى الباب أبصرته جارية أخرى فقالت : وهذا أيضاً كان مع يسوع الناصري ، فجحد أيضاً بيمين : إني لست أعرف الرجل ، وبعد قليل تقدم الوقوف فقالوا لبطرس : بالحقيقة إنك منهم أنت! لأن كلامك يدل عليك؛ وقال مرقس : وأنت جليلي وكلامك يشبه كلامهم ، وقال : حينئذ أقبل بطرس يلعن ويحلف : إني لست أعرف الإنسان ، وفي الحال صاح الديك ، فذكر بطرس كلمة يسوع : قبل أن يصيح الديك ، تجحدني ثلاثاً ، فخرج إلى خارج وبكى بكاءً مُرّا .
ولما كان الصبح عملوا كلهم مؤامرة على يسوع حتى يميتوه فربطوه وساقوه إلى بيلاطيس النبطي ، ولما أبصر يودس - يعني يهودا الإسخريوطي - أنه قد حكم عليه تندم ورد الثلاثين الفضة على رؤساء الكهنة قائلاً : قد أخطأت إذ أسلمت دماً زكياً ، فقالوا : ما علينا! فطرح الفضة في الهيكل ومضى فخنق نفسه ، فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا : لن يجوز لنا أن نلقيها في داخل الزكاة ، لأنها ثمن دم ، فتشاوروا وابتاعوا حقل الفاخوري لدفن الغرباء ، لذلك دعي ذلك الحقل حقل الدم إلى اليوم ، حينئذ تم قول إرميا النبي القائل : وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن الدم الذي ثمنه بنوا إسرائيل ، وجعلوها في حقل الفاخوري على ما رسم لي؛ وأما يسوع فوقف أمام الوالي ، ثم ذكر أن الوالي كان كارهاً لقتله ، وأن امرأته أرسلت إليه تقول : إياك ودم ذاك الصديق ، فإني توجعت في هذا اليوم كثيراً من أجله في الحلم ، وأنه اجتهد بهم ليطلقوه فأبوا إلا صلبه ، وصاحوا عليه ، وأنه قال لهم : أي شر عمل؟ فازدادوا صياحاً وقالوا : يصلب؛ فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع وقال : إنني بريء من دم هذا الصديق ، فقالوا : دمه علينا وعلى أولادنا ، وقال لوقا : وإن بيلاطس قال لرؤساء الكهنة : أنا لم أجد على هذا الإنسان علة - حتى قال : فلما علم أنه من سلطان هيرودس - يعني من الجليل - أرسله إلى هيرودس ، لأنه كان في تلك الأيام بيروشليم ، وأن هيرودس لما رأى يسوع فرح جداً ، لأنه كان يشتهي أن يراه من زمان طويل لما كان يسمع عنه من الأمور الكثيرة ، وكان يرجو أن يعاين آية يعملها ، وسأله عن كلام كثير ذكره ، وذكر أنه لم يجبه ، فاحتقره هيرودس وجنده واستهزؤوا به وألبسه ثياباً حمراء ، وأرسله إلى بيلاطس وصار بيلاطس وهيرودس صديقين في ذلك اليوم ، لأنه كان بينهما عداوة ، ثم ذكر أن بيلاطس قال لهم : لم أجد عليه علة آخذة بها ، ولا هيرودس أيضاً ، وأنهم لم يقبلوا منه ذلك وصاروا يصيحون : اصلبه اصلبه ، وقال يوحنا : ثم جلس - يعني بيلاطس - على كرسي في موضع يعرف برصيف الحجارة ، وبالعبرانية يسمى جاحلة؛ ثم ذكر جميع نقلة أناجيلهم أنهم صلبوه بين لصّين ، وأنهم كانوا يستهزئون به حتى اللصان المصلوبان؛ قال مرقس : فلما كانت الساعة السادسة تفشّت الأرض كلها ظلمة إلى الساعة التاسعة ، وأنه صاح بصوت عظيم منه : إلهي! إلهي! لِمَ تركتني! فانشق ستر حجاب الهيكل باثنين من فوق إلى أسفل ، والأرض تزلزلت ، وتشققت الصخور ، وتفتحت القبور ، وكثير من أجساد القدسين النيام قاموا من قبورهم ، ودخلوا المدينة فظهروا لكثير ، وكان هناك نسوة كثير ينظرن من بعيد ، ومن اللاتي تبعن عيسى من الجليل منهم مريم المجدلانية ، ومريم أم يعقوب الصغير ، وأم يوسا ، وأم ابن يزبدي ، وقال يوحنا : وكان واقفاً عند صلبه أمه وأخت أمه مريم ابنة إكلاوبا ومريم المجدلية ، ثم ذكروا أنه دفن؛ وذكر مرقس أنه كان يوم جمعة؛ وقال يوحنا : وأما اليهود - فلأنه يوم الجمعة - قالوا : هذه الأجساد لا تثبت على صلبها ، لأن السبت كان عظيماً ، ثم ذكر أنهم أنزلوهم ، وأن عيسى دفن؛ وقال متى : إن الملك جاء بعد ثلاث وأقامه ، وقال للنسوة : إنه قد قام فأسرعن فقلن لتلاميذه : هوذا سبقكم إلى الجليل ، وإن رؤساء اليهود رشوا الجند الذين كانوا يحرسون قبره ليقولوا : إن تلاميذه سرقوه من القبر ، فقالوا وشاع ذلك عند اليهود إلى اليوم ، فأما الأحد عشر تلميذاً فمضوا إلى الجليل الذي أمروا به ، فلما رأوه سجدوا له ، وبعضهم شك؛ وقال لوقا : وفيما هم يتكلمون وقف عيسى إلى وسطهم ، وقال لهم : السلام عليكم يا هؤلاء! لا تخافوا! فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم ينظرون روحاً ، فقال لهم : ما بالكم تضطربون؟ وِلمَ يأتي الإنكار في قلوبكم؟ انظروا يدي ورجلي فإني أنا هو ، جسّوني وانظروا إليّ! الروح ليس له لحم ولا عظم ، كما ترون أنه لي ، ولما قال هذا أراهم يديه ورجليه ، وإذا هم غير مصدقين من الفرح والتعجب ، وقال لهم : أعندكم هاهنا ما يؤكل؟ فأعطوه جزءاً من حوت مشوي ومن شهد عسل ، فأخذ قدامهم وأكل ، وأخذ الباقي وأعطاهم ، ثم قال : ثم أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا فرفع يديه وباركهم ، وكان فيما هو يباركهم انفرد عنهم ، وصعد إلى السماء؛ وقال يوحنا : إنه قال لمريم : امضي إلى إخوتي وقولي لهم : إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي والهكم؛ وقال متى : فجاء يسوع فكلمتهم فقال : أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض فاذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم .
انتهى ما أردته هنا من الأناجيل من هذه القصة ، فقد بان لك أن أناجيلهم كلها اتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد ، وهو الإسخريوطي ، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه ، وأنه إنما وضع يده عليه ، ولم يقل بلسانه : إنه هو ، وأن الوقت كان ليلاً ، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه : كلكم تشكون في هذه الليلة ، وأن تلاميذه كلهم هربوا ، فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره ، وأن بطرس إنما تبعه من بعيد ، وأن الذي دل عليه خنق نفسه ، وأن الناقل لأن الملك قال : إنه قام من الأموات ، إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد ، وما يدري النسوة الملك من غيره - ونحوه ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن بالجهد ، وأما الآيات التي وقعت فعلى تقدير تسليمها لا يضرنا التصديقُ بها ، وتكون لجرأتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح ومن أحسن ما في ذلك قوله بعد اجتماعهم به بعد رفعه : أعطيت كل سلطان ، فأثبت أن المعطي غيره ، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه ، ويدل على أن المصلوب - إن صح أنهم صلبوه من ظنوه إياه - هو الذي دل عليه ، كما قال بعض العلماء : إنه ألقى شبهه عليه ، ويؤيد ذلك قولهم : إنه خنق نفسه ، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه ، فجزموه به - والله أعلم ، وقوله : إنك يا رباه فيّ وأنا فيك ، ليكونوا - أي التلاميذ - فينا ، ونحوه مما يوهم حلولاً المراد به الاتحاد في المراد بحيث أن واحداً منهم لا يريد إلا ما يريد الآخر ، ولا يرضى إلا ما يرضاه ، فهو من وادي ما في الحديث القدسي
« كنت سمعه الذي يسمع به » - إلى آخره ، وكذا إطلاق الابن والأب معناه أنه يعاملهم في لطفه معاملة الأب ابنة ، فالمراد الغاية ، كما يؤل ذلك في إطلاق الغضب والمحبة ونحو ذلك في حق الله تعالى في شرعنا ، وقد مضى كثير من رد المتشابه في مثل ذلك إلى المحكم في آل عمران ، ومضى في ذلك الموضع وغيره أن كل ما أوهم نقصاً لا يجوز في شرعنا إطلاقه على الله تعالى - والله الموفق .
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
ولما أنجز الكلام إلى أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على هذا المنهاج البديع بما ذكر في نصائح اليهود وقبائح أفعالهم ، وأنهم قصدوا قتله عليه الصلاة والسلام ، فخاب قصدهم ، واصلد زندُهم ، وقال رأيهم ، ورد عليهم بغيهم ، وحصل له بذلك أعلى المناصب وأولى المراتب؛ قال محققاً لما أثبته في الآية قبلها من القطع بكذبهم ، مثبتاً أنهم في مبالغتهم في عداوته سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره الذي منه التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومؤكداً له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له : { وإن } أي والحال أنه ما { من أهل الكتاب } أي أحد يدرك نزوله في آخر الزمان { إلا } وعزتي { ليؤمنن به } أي بعيسى عليه الصلاة والسلام { قبل موته } أي موت عيسى عليه الصلاة والسلام ، أي إنه لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان ، يؤيد الله دين الإسلام ، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل ، إشارة إلى أن موسى عليه الصلاة والسلام إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زماناً طويلاً ، فالنبي الذي نسخ شريعة موسى - وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام - هو الذي يؤيد الله به هذا النبي العربي في تجديد شريعته وتمهيد أمره والذب عن دينه ، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة وأتباع مستكثرة ، أمر قضاء الله في الأزل فأمضاه ، فأطيلوا أيها اليهود أو أقصروا! فمعنى الآية إذن - والله أعلم - أنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه الصلاة والسلام على شك إلا وهو يوقن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موته بعد نزوله من السماء أنه ما قتل وما صلب ، ويؤمن به عند زوال الشبهة - والله أعلم؛ روى الشيخان وأحمد وأبو بكر بن مردويه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً وإماماً عادلاً ، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها » ؛ وفي رواية : وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين؛ وفي رواية : حتى يهلك الله الملل كلها غير الإسلام ، فيهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } الآية : موت عيسى عليه الصلاة والسلام - ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات - ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد ، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد؛ وفي رواية : ويفيض المال حتى لا يقبله أحد؛ ولمسلم عنه رضي الله عنه : كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؛ وفي رواية : فأمكم منكم ، قال الوليد بن مسلم - أحد رواة الحديث : قال ابن أبي ذئب : تدري ما أمكم منكم؟ قلت تخبرني! قال : فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ؛ ولمسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، فينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقول أميرهم : تعال صل لنا! فيقول : لا! إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة؛ وروى عن ابن عباس ومحمد بن علي المشهور بابن الحنفية رضي الله عنهم أن المعنى : ألا ليؤمنن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موت ذلك الكتابي عند الغرغرة حين لا ينفعه الإيمان ، ليكون ذلك زيادة في حسرته ، قال الأصبهاني : وتدل على صحة هذا التأويل قراءة أبيّ : ليؤمنن قبل موتهم - بضم النون .
ولما أخبر تعالى عن حالهم معه في هذه الدار أتبعه فعله بهم في تلك فقال : { ويوم القيامة } أي الذي يقطع ذكره القلوب ، ويحمل التفكر فيه على كل خير ويقطع عن كل شر { يكون } وأذن بشقائهم بقوله : { عليهم شهيداً } أي بما عملوا؛ ولما أذن حرف الاستعلاء في الشهادة بأنه لا خير لهم في واحد من الدارين ، وبأن التقدير : فبظلمهم ، سبب عنه قوله دلالة على أن التوراة نزلت منجمة : { فبظلم } أي عظيم جداً راسخ ثابت ، وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه بعد أن حرمته التوارة ، وقال مشيراً إلى زيادة تبكيتهم : { من الذين هادوا } أي تلبسوا باليهودية في الماضي ادعاء أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق ، ولم يضمر تعييناً لهم زيادة في تقريعهم { حرمنا عليهم طيبات أحلت } أي كان وقع إحلالها في التوراة { لهم } كالشحوم التي ذكرها الله تعالى في الأنعام .
ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته ، وبدأها بإعراضهم عن الدين الحق ، فقال معيداً للعامل تأكيداً له : { وبصدهم عن سبيل الله } أي الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم ، لكون الذي نهجه له من العظمة والحكمة ما لا يدرك ، و « صد » يجوز أن يكون قاصراً فيكون { كثيراً * } صفة مصدر محذوف ، وأن يكون متعدياً فيكون مفعولاً به ، أي وصدهم كثيراً من الناس بالإضلال عن الطريق ، فمُنِعوا مستلذات تلك المآكل بما مَنَعوا أنفسهم وغيرهم من لذاذة الإيمان .
ولما ذكر امتناعهم ومنعهم من المحاسن التي لا أطيب منها ولا أشرف ، أتبعه إقدامهم على قبائح دنية فيها ظلمهم للخلق فقال : { وأخذهم الربا } أي وهو قبيح في نفسه مُزرٍ بصاحبه { وقد } أي الحال أنهم قد { نهوا عنه } فضموا إلى مخالفة الطبع السليم الاجتراء على انتهاك حرمة الله العظيم .
ولما ذكر الربا أتبعه ما هو أعم منه فقال : { وأكلهم أموال الناس بالباطل } أي سواء كانت رباً أو رشوة أو غيرهما؛ ولما ذكر بعض ما عذبهم به في الدنيا أتبعه جزاءهم في الآخرة ، فقال عاطفاً على قوله « حرمنا » : { وأعتدنا للكافرين } أي الذين صار الكفر لهم صفة راسخة فماتوا عليه؛ ولما علم أن منهم من يؤمن فيدخل الجنة فقال : { منهم } ولما كان الجزاء من جنس العمل قال : { عذاباً أليماً * } أي بسبب ما آلموا الناس بأكل أموالهم وتغطيتهم على حقوقهم من الفضائل والفواضل .
ذكرُ تحريم المال بالربا وغيره من أنواع الباطل بنص التوراة ، قال في السفر الثاني بعد ما قدمتهُ في البقرة من الأمر بالإحسان إلى الناس والنهي عن أذاهم : وإن أسلفت ورقك للمسكين الذي معك من شعبي فلا تكونن له كالغريم ولا تأخذن منه رباً؛ وقال في الثالث : وإن افتقر أخوك واستعان بك فلا تتركه بمنزلة الغريب الساكن معك ، بل وسع عليه ، وإياك أن تأخذ منه رباً أو عينة ، لا تقرضه بالعينة؛ وقال في الخامس : ولا تطعموا بيت الله ربكم أجر زانية ولا ثمن كلب ، ولا تأخذوا من إخوتكم رباً في فضة ولا في طعام ولا في شيء مما تعانونه ، وأما الغريب فخذوا منه إن أحببتم؛ فقد ثبت من توراتهم النهيُ عن الربا ، وأما تخصيصه بالغريب فتبديل منهم بلا ريب ، بدليل ما قدمته عنها في البقرة عند قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } [ البقرة : 62 ] من النهي عن غدر العدو ، وعند قوله تعالى : { لا تعبدون إلا الله } [ البقرة : 83 ] من الإحسان إلى عامة الناس لا سيما الغريب - والله الموفق .
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
ولما بين تعالى ما للمطبوع على قلوبهم الغريقين في الكفر من العقاب ، بين ما لنّيري البصائر بالرسوخ في العلم والإيمان من الثواب فقال : { لكن الراسخون في العلم منهم } أي الذي هيئت قلوبهم في أصل الخلقة لقبول العلم فأبعد عنها الطبع ، وجلت الحكمة ، ورسخت بالرحمة ، فامتلأت من نور العلم ، وتمكنت بأنس الإيمان .
ولما ذكر نعت العلم المفيد لجميع الفضائل أبتعه ما نشأ عنه فقال : { والمؤمنون } أي الذين هيئوا للإيمان ودخلوا فيه ، فصار لهم خلقاً لازماً ، منهم ومن غيرهم { يؤمنون } أي يجددون الإيمان في كل لحظة { بما أنزل إليك } لأنهم أعرف الناس بأنه حق { وما أنزل من قبلك } أي على موسى عليه الصلاة والسلام ، وبسبب إيمانهم الخالص أمنوا بما أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام ، ثم بما أنزل إليك .
ولما كانت الصلاة أعظم دعائم الدين ، ولذلك كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر ، نصبت على المدح من بين هذه المرفوعات إظهاراً لفضلها فقال تعالى : { والمقيمين الصلاة } أي بفعلها بجميع حدودها ، ويجوز على بُعد أن يكون المقتضي لنصبها جعل « لكن » بالنسبة إليها بمعنى « إلا » وتضمينها لفظها ، لما بينهما من التآخي ، فيكون المعنى أنهم مستثنون ممن أعد لهم العذاب الأليم على معنى أن الله سبحانه وتعالى - وهو الفاعل المختار - سبق علمه بأن مقيم الصلاة بجميع حدودها لا يموت كما يموت كافر بل تناله بركتها فيسلم وهذا أعظم مدح لها والحاصل أن ( لكن ) استعيرت لمعنى ( إلا ) بجامع أن ما بعد كل منهما مخالف في الحكم لما قبله كما استعيرت « إلا » لمعنى « لكن » في الاستثناء المنقطع .
ولما كان الرجوع بما بعدها إلى الأسلوب الماضي أبين في مدحها قال : { والمؤتون الزكاة } ولما ذكر أنهم جمعوا إلى صلة الخالق الإحسان إلى الخلائق ذكر الإيمان بانياً على عظمته مفصلاً له بعض التفصيل ومشيراً غلأآ أن نفعه كما يشترط أن يكون فاتحاً يشترط أن يكون خاتماً فقال : { والمؤمنون بالله } أي مستحضرين ما له من صفات الكمال ، وضم إليه الحامل على كل خير والمقعد عن كل شر ترغيباً وترهيباً فقال : { واليوم الآخر } فصار الإيمان مذكوراً خمس مرات ، فإن هذه الأوصاف لموصوف واحد عطفت بالواو تفخيماً لها وإشارة إلى أن وصف الرسوخ في العلم مقتض لأنهم في الذروة من كل وصف منها والاتصافُ بكل منها يتضمن الإيمان بيوم الدين ، فإنه لا يمدح أحد اتصف بشيء منها عرياً عن الإيمان به ، لا جرم نبه على فخامة أمرهم وعلو شأنهم بأداة البعد فقال : { أولئك } أي العالو الرتبة والهمم ، ولكون السياق في الراسخين العاملين أنهى في التأكيد بالسين لأن المكر هنا أقل منه في الأولى ، ولم يعرف الأجر ، ووصفه بالعظم فقال : { سنؤتيهم } أي بعظمتنا الباهرة بوعد لا خلف فيه { أجراً عظيماً } .
ولما كانت هذه الأوصاف منطبقة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكان من أحوالهم الوحي ، قال تعالى إبطالاً لشبهتهم القائلة : لو كان نبياً أتى بكتابه جملة من السماء كما أتى موسى عليه الصلاة والسلام بالتوارة كذلك ، بإقرارهم بنبوة هؤلاء الأنبياء عليهم السلام مع كونهم ليس لهم تلك الصفة ، ولم يكن ذلك قادحاً في نبوة أحد منهم ولا رسالته : { إنا } ويصح أن يكون هذا تعليلاً ليؤمنون ، أي إنهم آمنوا بما أنزل إليك لأنا { أوحينا إليك كما } أي مثل ما { أوحينا إلى نوح } وقد آمنوا بما به لما أتى به من المعجز الموجب للإيمان من غير توقف على معجز آخر ولا غيره ، لأن إثبات المدلول إنما يتوقف على ثبوت الدليل ، فإذا تم الدليل كانت المطالبة بدليل آخر طلباً للزيادة وإظهاراً للتعنت واللجاج - والله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
ولما كان مقام الإيحاء - وهو الأنبياء - من قِبَل الله تعالى قال : { والنبيِّين من بعده } أي فهم يعلمون ذلك بما لهم من الرسوخ في العلم وطهارة الأوصاف ، ولا يشكون في أن الكل من مشكاة واحدة ، مع أن هذا الكتاب أبلغ ، والتعبير فيه عن المقاصد أجلى وأجمع ، فهم إليه أميل ، وله أقبل ، وأما المطبوع على قلوبهم ، الممنوعون من رسوخ العلم فيها بكثافة الحجاب ، حتى أنها لا تنظر إلى اسراره إلا من وراء غشاء ، فهم غير قابلين لنور العلم المتهيىء للإيمان ، فأسرعوا إلى الكفر ، وبادروا بالذل والصغار ، وفي الآخرة بالسخط والنار .
ولما أجمل تعالى ذكر النبيين فصّل فقال منبهاً على شرف من ذكرهم وشهرتهم : { وأوحينا إلى إبراهيم } أي أبيكم وأبيهم كذلك { وإسماعيل } أي ابنه الأكبر الذي هو أبوكم دونهم { وإسحاق } وهو ابنه الثاني وأبوهم { ويعقوب } أي ابن إسحاق { والأسباط } أي أولاد يعقوب .
ولما أجمل بذكر الأسباط بعد تفصيل مَنْ قبلهم فصّل من بعدهم فقال : { وعيسى } أي الذي هو آخرهم من ذرية يعقوب { وأيوب } وهو من ذرية عيصو بن إسحاق على ما ذكروا { ويونس وهارون وسليمان } ولما كان المقام للتعظيم بالوحي ، وكان داود عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب قال : { وآتينا داود زبوراً * } أي وهم يدعون الإيمان به مع اعترافهم بأنه لم ينزل جملة ولا مكتوباً من السماء .
ولما تم ما اقتضاه مقام النبوة ، وكان فيهم رسل ، وكان ربما قال متعنت : إن شأن الرسل غير شأن الأنيباء في الوحي ، قال عاطفاً على ما تقديره من معنى « أوحينا » : أرسلنا من شئنا من هؤلاء الذين قصصناهم عليك هنا إلى من شئنا من الناس : { ورسلاً } أي غير هؤلاء { قد قصصناهم } أي تلونا ذكرهم { عليك } ولما كان القص عليه غير مستغرق للزمان الماضي قال : { من قبل } أي من قبل إنزال هذه الآية { ورسلاً لم نقصصهم عليك } أي إلى الآن .
ولما كان المراد أنه لا فرق بين النبي والرسول في الوحي نبه على ذلك بقوله : { وكلم الله } أي الذي له الكمال كله فهو يفعل ما يريد لا أمر لأحد معه { موسى تكليماً * } أي على التدرج شيئاً فشيئاً بحسب المصالح من غير واسطة ملك ، فلا فرق في الوحي بين ما كان بواسطة وبين ما كان بلا واسطة ، والمعنى أنكم لو كنتم إنما تتوقفون عن الإيمان ببعض الأنبياء تثبتاً لتعلموا أنه فعل به ما فعل بموسى عليه الصلاة والسلام من الكرامة ، لم تؤمنوا بإبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط وهارون وغيرهم ، فإنه خص بالتكليم دونهم ، فلِمَ جعلتم الإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام شرطاً في الإيمان ببعض الأنبياء دون بعض؟ وإن جعلتم الشرط الإتيان بالكتاب جملة ومن السماء مدعين أنه كان له ذلك دون التكليم وغيره مما جعل له ، كان ذلك - على تقدير التسليم تنزلاً - تحكماً وترجيحاً من غير مرجح ، على أن التوراة أيضاً - كما تقدم بيانه - كهذا القرآن في إنزالها منجمة على حسب الوقائع على ما أشار إليه قوله ( تكليماً ) ولم يكتب منها جملة إلا اللوحان اللذان وضعا في تابوت الشهادة كما أنزل بعض سور القرآن جملة كسورة الأنعام ، وليس في نزول موسى عليه الصلاة والسلام بهما من جبل الطور مكتوبَين دليل على نزولهما من السماء ويدل على ذلك كثير من نصوصها أصرحها أنه تعالى حرم عليهم العمل في السبت عقب إخراجهم من البحر عند إنزال المن - كما بين في السفر الثاني منهما - ولم يبين كيف يفعل بالعاصي فيه إلا بعد ذلك بدهر ، بدليل ما في السفر الرابع منها في قصة التيه : ومكث بنو إسرائيل في البرية ووجدوا رجلاً يحتطب حطباً يوم السبت ، فقدمه الذين وجدوه يحتطب إلى موسى وهارون وإلى الجماعة كلها ، وحبسوه في السجن ، لأنه لم يكن أوحى إلى موسى كيف يصنع به؟ فقال الرب لموسى : يقتل هذا الرجل ، يرجم بالحجارة خارجاً من العسكر ، ورجمه الجماعة كلها بالحجارة ومات - كما أمر الرب موسى؛ ومنها أنه أمرهم - كما بين في السفر الثاني - بنصب قبة الزمان التي كانوا يصلون إليها ، ويسمع موسى الكلام منها ، ثم بعد ذلك بمدة أمرهم - كما بين في السفر الرابع - بالزيادة فيها؛ ومنها أنه كتب له الألواح في الطور : اللوحين اللذين كسرهما غضباً من اتخاذهم العجل ، ثم لوحين عوضاً عنهما ، ثم لما نصبت قبة الزمان صار سبحانه وتعالى يكلمه منها ، وغالب أحكامهم إنما شرعت بالكلام الذي كان في قبة الزمان - كما هو في غاية الوضوح في التوراة؛ ومنها ما قال في أوخر السفر الخامس وهو آخرها : فلما أكمل موسى كتاب آيات هذه التوراة في السفر وفرغ منها ، أمر موسى الأحبار الذين يحملون تابوت عهد الرب وقال لهم : خذوا سفر هذه السنن واجعلوه في جوف تابوت عهد الله ربكم في جانب من جوانبه ، ليكون هناك شاهداً ، لأني قد عرفت جفاءكم وقساوة قلوبكم وما تصيرون إليه ، وكيف لا يكون ذلك وقد أغضبتم الرب وأنا حي معكم؟ فمن بعد موتي أحرى أن تفعلوا ذلك ، فليجتمع إليّ أشياخ أسباطكم وكتّابكم فأتلو عليهم هذه الأقوال ، ولأشهد عليهم السماء والأرض ، لأنكم مفسدون من بعد وفاتي ، تحيدون عن الطريق الذي آمركم به ، شر شديد في آخر الأيام إذا عملتم السيئات بين يدي الرب ، وأغضبتموه بأعمال أيديكم ، وقال موسى بين يدي جماعة بني إسرائيل : انصتي أيتها السماء فأتكلم ، ولتسمع الأرض النطق من فيّ - وقال كلاماً كثيراً في ذمهم أذكره إن شاء الله تعالى في المائدة عند
{ من لعنه الله وغضب عليه } [ المائدة : 60 ] ثم قال : يقول الله : أسخطوني مع الغرباء بأوثانهم ، وأغضبوني حين ذبحوا للشياطين - ومضى يتكلم من كلام الله الذي هو من أحسن التوراة إلى أن قال : فلما أكمل موسى هذه الآيات كلها لبني إسرائيل قال لهم : أقبلوا بقلوبكم إلى هذه الأقوال؛ ثم قال : وكلم الرب موسى ذلك اليوم وقال : اصعد إلى جبل العبرانيين ، هذا جبل نابو الذي في أرض مواب حيال إيريحا ، وانظر إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل ميراثاً - وذكر بعد ذلك كلاماً طويلاً فيها كلها لمن يتأملها كثير مما هو ظاهر في ذلك ، بل صريح ، وفي قصة نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ما هو صريح في أن الإيحاء إليهما كان منجماً - كما مضى عنهما في قصة إبراهيم عليه السلام في البقرة ، ويأتي إن شاء الله تعالى في ذكر الأحبار في الأعراف وفي قصة نوح عليه الصلاة والسلام في سورة هود - والله الموفق ، وقد ابتدأ سبحانه في هذه الآية بنوح عليه الصلاة والسلام أول أولي العزم وأصحاب الشرائع وجوداً ، وهو من أوائل الأنبياء ، وزمانه في القدم بحيث لا يعلم مقداره على الحقيقة إلا الله تعالى ، ثم ثنى بثانيهم في الوجود وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ثم ذكر أولاده على ترتيبهم ، والأسباط يحتمل أن يراد بهم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام أنفسهم وقبائلهم ، ويكون المعنى حينئذ : وأنبياء الأسباط ، ويكون مما استعمل في حقيقته ومجازه ، ويكون شاملاً لجميع أنبياء بني إسرائيل ، ثم صرح ببعض من دخل منهم في العموم فبدأهم بآخرهم بعثاً وهو عيسى عليه الصلاة والسلام الذي هو أحد نبي أهل الكتابين ، وختم الآية بأحد أصحاب الكتب منهم ، وهو جده المشهور بالنسبة إليه ، فإن اليهود يقولون لعيسى عليه الصلاة والسلام : يا ابن داود! لأن أمه في ذريته ، وختم الآية بأول نبي أهل الكتابين موسى عليه الصلاة والسلام الذي آخر آجرّ تبنى على الإسلام ، فانتقله المنتمون إلى أتباعه ، ووسّط أخاه هارون عليه الصلاة والسلام بين اثنين من أهل البلاء : أيوب ويونس واثنين من أهل الملك - وأحدهم صاحب كتاب - وهما سليمان وداود ، وكل ذلك إشارة إلى أنه لا فرق في كيفية الإيحاء بحوما إلى الأنبياء بين متقدمهم ومتأخرهم ، سواء كان من بني إسرائيل أو من غيرهم ، وسواء منهم من أوتي الملك ومن لم يؤته ، ومن أتى بكتاب ومن لم يأت؛ ومن لطائف هذا الترتيب أن المخصوصين بالذكر في الآية الأولى بعد دخولهم في العموم أحد عشر أسماء ، الأسباط أحدها ، والمشهور بالكتب والصحف منهم ثلاثة : إبراهيم وعيسى وداود ، وقد وقع كل منهم سادساً لصاحبه ، وهو العد الذي كان فيه الخلق ، فلعل ذلك إشارة إلى أن الله لا يحب العجلة ، فكما أنه لم يعجل في إنشاء الخلق فكذلك لم يعجل بإنزال الكتب التي بها قوامهم وبقاؤهم دفعة ، بل أنزلها منجمة تبعاً لمصالحهم وتثبيتاً لدعائمهم ، ومن لطائفه أنه تعالى بدأ المذكورين ، وختمهم باثنين من أولي العزم اشتركا في أن كلاً منهما أهلك من عانده كنفس واحدة بالإغراء ، ترهيباً لهؤلاء الملبسين على أهل الإسلام بالباطل المدعين أنهم أتباع ، ووسّط بينهم وبين بقية المسمين عموم النبيين والمرسلين ، ولعله آخر الرسل ليفهم أن كل من عطفوا عليه مرسل ، ولأن رتبة النبوة قبل رتبة الرسالة ، بمعنى أنها أعم منها .
ولما سرد أسماء من دخل في العموم بدأهم بأشرفهم ثم بالأقرب إلى هذا النبي الكريم فالأقرب من المرتبين على حسب ترتيب الوجود ، إشارة إلى أنه سن به في الوحي سنة آبائه وإخوانهم وذرياتهم - والله أعلم .
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
ولما كان معظم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم بشارة ونذارة ، قال مبيناً أنهم مثله في ذلك كما كانوا قبله في الوحي ، لأن المقصود من الإرسال لجميع الرسل جمع الخلق بالبشارة والنذارة : { رسلاً } أي جعلناهم رسلاً ، ويجوز أن يكون بدلاً من « رسلاً » الماضي ، وأن يكون حالاً ، حال كونهم { مبشرين ومنذرين } ثم علل ذلك بقوله : { لئلا يكون } أي لينتفي أن يوجد { للناس } أي نوع مَنْ فيه قوة النوس .
ولما كانت الحجة قد تطلق على مطلق العذر ولو كان مردوداً ، عبّر بأداة الاستعلاء فقال : { على الله حجة } أي واجبة القبول على الملك الذي اختص بجميع صفات الكمال في أن لا يعذب عصاتهم؛ ولما كان المراد استغراق النفي لجميع الزمان المتعقب للإرسال أسقط الجار فقال : { بعد } أي انتفى ذلك انتفى مستغرقاً لجميع الزمان الذي يوجد بعد إرسال { الرسل } وتبليغهم للناس ، وذلك على أن وجوب معرفته تعالى إنما يثبت بالسمع ، وأما نفس المعرفة والنظر والتوحيد فطريقها العقل ، فالمعرفة متلقاة من العقل ، والوجوب متلقى من الشرع والنقل .
ولما كان ذلك ربما أوهم أنه ربما امتنع عليه قبل ذلك سبحانه أخذ بحجة أو غيرها ، قال مزيلاً لذلك : { وكان الله } أي المستجمع لصفات العظمة { عزيزاً } أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، فهو قادر على ما طلبوه ، ولكنه لا يجب عليه شيء ، لأنه على سبيل اللجاج وهم غير معجزين { حكيماً * } أي يضع الأشياء في أتقن مواضعها ، فلذلك رتب أموراً لا يكون معها لأحد حجة ومن حكمته أنه لا يجيب المتعنت .
ولما لم يبق سبحانه لهم شبهة ، واستمروا على عنادهم ، أشار تعالى إلى ما تقديره : إنهم لا يشهدون لك عند اتضاح الأمر ، فقال : { لكن } أي ومع ما قام من البراهين على صدقك وكون كتابك من عند الله فهم لا يشهدون بذلك لكن { الله } أي الذي له الأمر كله فلا كفوء له { يشهد } أي لك { بما أنزل إليك } أي من هذا الكتاب المعجز الذي قد أخرس الفصحاء وأبكم البلغاء ، وفيه هذه الأحكام الصادقة لما عندهم وهم يريدون الإضلال عنها ، فشهادته ببلاغته وحكمته بصدق الآتي به هي شهادة الله لأنه قائله ، ولذلك عللل بقوله : { أنزله بعلمه } أي عالماً بإنزاله على الوجه المعجز مع كثرة المعارض فلم يقدر أحد ولا يقدر على إحداث شيء فيه من تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان ولا معارضة { والملائكة } أيضاً { يشهدون } بذلك لأنهم كانوا حضوراً لإنزاله وأمناء على من كان منهم على يده ليبلغه - كما قال تعالى : { فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } [ الجن : 27-28 ] وهذا خطاب للعباد على حسب ما يعرفون .
ولما كان ربما أفهم نقصاً نفاه بقوله : { وكفى بالله } أي الذي له الكمال كله { شهيداً } أي وكفى بشهادته في ذلك شهادة عن شهادة غيره ، وذلك لأنه أنزله سبحانه شاهداً بشهادته ناطقاً بها لإعجازه بنظمه وبما فيه من علمه من الحِكَم والأحكام وموافقة كتب أهل الكتاب ، فشهادته بذلك هي شهادة الله ، وهي لعمري لا تحتاج إلى شهادة أحد غيره .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
ولما بين سبحانه أنه أقام الأدلة على صحته بالمعجزات ، فصار كأنه شهد بحقيقته كان أنفع الأشياء اتباع ذلك بوصف من جحده في نفسه وصد عنه غيره زجراً عن مثل حاله وتقبيحاً لما أبدى من ضلاله فقال : { إن الذين كفروا } أي ستروا ما عندهم من العلم بصدقه بما دل عليه من شاهد العقل وقاطع النقل ، من اليهود وغيرهم { وصدوا عن سبيل الله } أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه بأنفسهم وبإضلال غيرهم بما يلقونه من الشبه من مثل هذه وقولهم كذباً : إن في التوراة أن شريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا تنسخ ، وقولهم : إن الأنبياء لا يكونون إلا من أبناء هارون وداود عليهما الصلاة والسلام { قد ضلوا } أي عن الطريق الموصل إلى مقصودهم في حسده ومنع ما يراد من إعلائه { ضلالاً بعيداً * } أي لأن أشد الناس ضلالاً مبطل يعتقد أنه محق ، ثم يحمل غيره على مثل باطله ، فصاروا بحيث لا يرجى لهم الرجوع إلى الطريق النافع ، لا سيما إن ضم إلى ذلك الحسد ، لأن داء الحسد أدوأ داء؛ ثم علل إغراقهم في الضلال بإضلاله لهم لتماديهم فيما تدعوا إليه نقيصة النفس من الظلم بقوله وعيداً لهم : { إن الذين كفروا } أي ستروا ما عندهم من نور العقل { وظلموا } أي فعلوا لحسدهم فعل الماشي في الظلام بإعراضهم وإضلالهم غيرهم { لم يكن الله } أي بجلاله { ليغفر لهم } أي لظلمهم { ولا ليهديهم طريقاً * } أي لتضييعهم ما أتاهم من نور العقل ومنابذتهم؛ ثم تهكم بهم بقوله : { إلا طريق جهنم } أي بما تجهموا مَنْ ظلموه .
ولما كان المعنى : فإنه يسكنهم إياها ، قال : { خالدين فيها } أي لأن الله لا يغفر الشرك ، وأكد ذلك بقوله : { أبداً } ولما كان ذلك مع ما لهم من العقول أمراً عجيباً قال تعالى : { وكان ذلك } أي الأمر العظيم من كفرهم وضلالهم وعذابهم { على الله يسيراً * } أي لأنه قادر على كل شيء .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
ولما وضح بالحجاج معهم الحق ، واستبان بمحو شبههم كلها من وجوه كثيرة الرشدُ ، وأوضح فساد طرقهم ، وأبلغ في وعيدهم؛ أنتج ذلك صدق الرسول وحقيقة ما يقول : فأذعنت النفوس ، فكان أنسب الأشياء أن عمم سبحانه في الخطاب لما وجب من اتباعه على وجه العموم عند بيان السبيل ونهوض الدليل ، فقال مرغباً مرهباً { يا أيها الناس } أي كافة { قد جاءكم الرسول } أي الكامل في الرسلية الذي كان ينتظره أهل الكتاب لرفع الارتياب ملتبساً { بالحق } أي الذي يطابقه الواقع ، وستنظرون الوقائع فتطبقونها على ما سبق من الأخبار ، كائناً ذلك الحق { من ربكم } أي المحسن إليكم ، فإن اتبعتم رسوله قبلتم إحسانه ، فتمت نعمته عليكم ، ولهذا سبب عن ذلك قوله : { فآمنوا } .
ولما كان التقدير بما أرشد إليه السياق توعداً لهم : إن تؤمنوا يكن الإيمان { خيراً لكم } ، عطف عليه قوله : { وإن تكفروا } أي تستمروا على كفرانكم ، أو تجددوا كفراً ، يكن الكفران شراً لكم ، أي خاصاً ذلك الشر بكم ، ولا يضره من ذلك شيء ، ولا ينقصه من ملكه شيئاً ، كما أن الإيمان لم ينفعه شيئاً ولا زاد في ملكه شيئاً لأن له الغنى المطلق ، وهذا معنى قوله : { فإن الله } أي الكامل العظمة { ما في السماوات والأرض } فإنه من إقامة العلة مقام المعلول ، ولم يؤكد بتكرير « ما » وإن كان الخطاب مع المضطربين ، لأن قيام الأدلة أوصل إلى حد من الوضوح بشهادة الله ما لا مزيد عليه ، فصار المدلول به كالمحسوس .
ولما كان التقدير : فهو غني عنكم ، وله عبيد غيركم لا يعصونه ، وهو قادر على تعذيبكم بإسقاط ما أراد من السماء ، وخسف ما أراد من الأرض وغير ذلك ، وكان تنعيم المؤالف وتعذيب المخالف وتلقي النصيحة بالقبول دائراً على العلم وعلى الحكمة التي هي نتيجة العلم والقدرة قال : { وكان الله } أي الذي له الاختصاص التام بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً مع أن له جميع الملك { عليماً } أي فلا يسع ذا لب أن يعدل عما أخبر به من أن أمر هذا الرسول حق إذ هو لم يخبر به إلا عن تمام العلم ، ولا يخفى عليه عاص ولا مطيع { حكيماً * } فلا ينبغي لعاقل أن يضيع شيئاً من أوامره لأنه لم يضعها إلا على كمال الأحكام ، فهو جدير بأن يحل بمخالفه أي انتقام ، ويثيب من أطاعه بكل إنعام .
ولما اقتضى السياق الأكمل فيما سبق إتمام أمر عيسى عليه الصلاة والسلام إذ كان الكلام في بيان عظيم جرأتهم وجفاءهم ، وكان ما فعلوا معه أدل دليل على ذلك ، وكان كل من أعدائه وأحبابه قد ضل في أمره ، وغلا في شأنه اليهود بخفضه ، والنصارى برفعه؛ اقتضى قانون العلم والحكمة المشار إليهما بختام الآية السالفة بيان ما هو الحق من شأنه ودعاء الفريقين إليه فقال : { يا أهل الكتاب } أي عامة { لا تغلوا في دينكم } أي لا تفرطوا في أمره ، فتجاوزوا بسببه حدود الشرع وقوانين العقل { ولا تقولوا على الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له شيئاً من القول { إلا الحق } أي الذي يطابقه الواقع ، فمن قال عن عيسى عليه الصلاة والسلام أنه لغير رشدة ، فقد أغرق في الباطل ، فإنه لو كان كذلك ما وقفت أمه للدوام على الطاعات ، ولا ظهرت عليها عجائب الكرامات ، ولا تكلم هو في المهد ، ولا ظهرت على لسانه ينابيع الحكمة ، ولا قدر على إحياء الموتى ، وذلك متضمن لأن الله تعالى العليم الحكيم أظهر المعجزات على يد من لا يحبه ، وذلك منافٍ للحكمة ، فهو كذب على الله بعيد عن تنزيهه ، ومن قال : إن الله أو ابن الله ، فهو أبطل وأبطل ، فإنه لو كان كذلك لما كان حادثاً ولما احتاج إلى الطعام والشراب وما ينشأ عنهما ، ولا قدر أحد على أذاه ولثبتت الحاجة إلى الصاحبة للإله ، فلم يصلح للإلهية ، وذلك أبطل الباطل .
ولما ادعى اليهود أنه غير رسول ، والنصارى أنه إله ، حسن تعقيبه بقوله : { إنما المسيح } أي المبارك الذي هو أهل لأن يمسحه الإمام بدهن القدس ، لما فيه من صلاحية الإمامة ، وهو أهل أيضاً لأن يمسح الناس ويطهرهم . لما له من الكرامة ، ولما ابتدأ سبحانه بوصفه الأشهر ، وكان قد يوصف به غيره بيّنه بقوله : { عيسى } ثم أخبر عنه بقوله : { ابن مريم } أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم ، لا يصح نسبته للبنوة إلى غيرها ، وليس هو الله ولا ابن الله - كما زعم النصارى { رسول الله } لا أنه لغير رشدة - كما كذب اليهود .
ولما كان تكّونه بكلمة الله من غير واسطة ذكر ، جعل نفس الكلمة فقال : { وكلمته } لأن كان بها من غير تسبب عن أب بل ، كوناً خارقاً للعوائد { ألقاها } أي تشريفاً بقوله : { وروح } أي عظيمة نفخها فيما تكّون في مريم من الجسد الذي قام بالكلمة ، لا بمادة من ذكر ، والروح هو النفخ في لسان العرب ، وهو كالريح إلا أنه أقوى ، بما له من الواو والحركة المجانسة لها ، ولغلبة الروح عليه كان يحيي الموتى إذا اراد ، وأكمل شرفه بقوله : { منه } أي وإن كان جبرئيل هو النافخ ، وإذا وصف شيء بغاية الطهارة قيل : روح ، لا سيما إن كان به حياة في دين أو بدن .
ولما أفصح بهذا الحق سبب عنه قوله : { فآمنوا بالله } أي الذي لا يعجزه شيء ، ولا يحتاج إلى شيء { ورسله } أي عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره عامة ، من غير إفراط ولا تفريط ، ولا تؤمنوا ببعض ولا تكفروا ببعض ، فإن ذلك حقاً هو الكفر الكامل - كما مر .
ولما أمرهم بإثبات الحق نهاهم عن التلبس بالباطل فقال : { ولا تقولوا } أي في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام { ثلاثة } أي استمروا أيها اليهود على التكذيب بما يقول فيه النصارى ، ولا تقولوا : إنه متولد من أب وأم لغير رشدة - المقتضي للتثليث ، وارجعوا أيها النصارى عن التثليث الذي تريدون به أن الإله بثلاثة وإن ضممتم إليه أنه إله واحد ، لأن ذلك بديهي البطلان ، فالحاصل أنه نهى كلاً عن التثليث وإن كان المرادان به مختلِفَين ، وإنما العدل فيه أنه ابن مريم ، فهما اثنان لا غير ، وهو عبدالله ورسوله وكلمته وروح منه .
ولما نهاهم عن ذلك بصيغة النهي صرح به في مادته مرغباً مرهباً في صيغة الأمر بقوله : { انتهوا } أي عن التثليث الذي نسبتموه إلى الله بسببه ، وعن كل كفر ، وقد أرشد سياق التهديد إلى أن التقدير : إن تنتهوا يكن الانتهاء { خيراً لكم } .
ولما نفى أن يكون هو الله ، كما تضمن قولهم ، حصر القول فيه سبحانه في ضد ذلك ، كما فعل في عيسى عليه الصلاة والسلام فقال : { إنما الله } أي الذي له الكمال كله؛ ولما كان النزاع إنما هو في الوحدانية من حيث الإلهية ، لا من حيث الذات قال : { إله واحد } أي لا تعدد فيه بوجه .
ولما كان المقام عظيماً زاد في تقديره ، فنزهه عما قالوه فقال : { سبحانه } أي تنزه وبعد بعداً عظيماً وعلا علواً كبيراً { أن } أي عن أن { يكون له ولد } أي كما قلتم أيها النصارى! فإن ذلك يقتضي الحاجة ، ويقتضي التركيب والمجانسة ، فلا يكون واحداً؛ ثم علل ذلك بقوله : { له } أي لأنه إله واحد لا شريك له له { ما في السماوات } وأكد لأن المقام له فقال : { وما في الأرض } أي خلقاً ومِلكاَ ومُلكاً ، فلا يتصور أن يحتاج إلى شيء منهما ولا إلى شيء متحيّز فيهما ، ولا يصح بوجه أن يكون بعض ما يملكه المالك جزءاً منه وولداً له ، وعيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام من ذلك ، وكل منهما محتاج إلى ما في الوجود .
ولما كان معنى ذلك أنه الذي دبرهما وما فيهما ، لأن الأرض في السماء ، وكل سماء في التي فوقها ، والسابعة في الكرسي ، والكرسي في العرش ، وهو ذو العرش العظيم لا نزاع في ذلك ، وذلك هو وظيفة الوكيل بالحقيقة ليكفي من وكله كل ما يهمه؛ كان كأنه قيل : وهو الوكيل فيهما وفي كل ما فيهما في تدبير مصالحكم ، فبنى عليه قوله : { وكفى بالله } أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة { وكيلاً * } أي يحتاج إليه كل شيء ، ولا يحتاج هو إلى شيء ، وإلا لما كان كافياً .
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
ولما كان الوكيل من يقوم مقام الموكل ، ويفعل ما يعجز عنه الموكل ، وكان الله تعالى لا يعجزه شيء ، ولا يحتاج إلى شيء ، وكان عيسى عليه الصلاة السلام لا يدّعي القدرة على شيء إلا بالله ، وكان يحتاج إلى النوم وإلى الأكل والشرب وإلى ما يستلزمانه ، صح أنه عبدالله فقال سبحانه دالاً على ذلك : { لن يستنكف } أي يطلب ويريد أن يمتنع ويأبى ويستحي ويأنف ويستكبر { المسيح } أي الذي ادعوا فيه الإلهية ، وأنفوا له من العبودية لكونه خلق من غير ذكر ، ولكونه أيضاً يخبر ببعض المغيبات ، ويحيي بعض الأموات ، ويأتي بخوارق العادات { أن } أي من أن { يكون عبداً لله } أي الملك الأعظم الذي عيسى عليه الصلاة والسلام من جملة مخلوقاته ، فإنه من جنس البشر في الجملة وإن كان خلقه خارقاً لعادة البشر { ولا الملائكة } أي الذين هم أعجب خلقاً منه في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى ولا ما يجانس عنصر البشر ، فكانوا لذلك أعجب خلقاً من آدم عليه الصلاة والسلام أيضاً ، وهم لا يستنكفون بذلك عن أن يكونوا عباد الله .
ولما كان التقريب مقتضياً في الأغلب للاستحقاق ، وكان صفة عامة للملائكة قال : { المقربون } أي الذين هم في حضرة القدس ، فهم أجدر بعلم المغيبات وإظهار الكرامات ، وجبرئيل الذي هو أحدهم كان سبباً في حياة عيسى عليه الصلاة والسلام ، وقد ادعى بعض الناس فيهم الإلهية أيضاً ، وبهذا طاح استدلال المعتزلة بهذه الآية على أفضلية الملك على البشر بأن العادة في مثل هذا السياق الترقي من الأدنى إلى الأعلى بعد تسليم مدعاهم ، لكن في الخلق لا في المخلوق .
ولما أخبر تعالى عن خلّص عباده بالتشرف بعبوديته أخبر عمن يأبى ذلك ، فقال مهدداً محذراً موعداً : { ومن يستنكف } أي من الموجودات كلهم { عن عبادته } ولما كان الاستنكاف قد يكون بمعنى مجرد الامتناع لا كبراً ، قال مبيناً للمراد من معناه هنا : { ويستكبر } أي يطلب الكبر عن ذلك ويوجده ، لأن مجرد الامتناع لا يستلزمه .
ولما كان الحشر عاماً للمستكبر وغيره كان الضمير في { فسيحشرهم } عائداً على العباد المشار إليهم بعبداً وعبادته ، ولا يستحسن عوده على « مَنْ » لأن التفصيل يأباه ، والتقدير حينئذ : فسيذلهم لأنه سيحشر العباد { إليه جميعاً * } أي المستكبرين وغيرهم بوعد لا خلف فيه لأن الكل يموتون ، ومن مات كان مخلوقاً محدثاً قطعاً ، ومن كان مقدوراً على ابتدائه وإفنائه كانت القدرة على إعادته أولى ، والحشر : الجمع بكره .
ولما عم بالحشر المستكبرين وغيرهم جاء التفصيل إلى القسمين فقال : { فأما الذين آمنوا } أي أذعنوا الله تعالى وخضعوا له { وعملوا الصالحات } تصديقاً لإقرارهم بالإيمان { فيوفيهم أجورهم } أي التي جرت العادات بينكم أن يُعطَوها وإن كانوا في الحقيقة لا يستحقونها ، لأن الله تعالى هو الذي وفقهم لها ، فهي فضل منه عليهم { ويزيدهم } أي بعد ما قضيت به العادات { من فضله } أي شيئاً لا يدخل تحت الحصر لأنه ذو الفضل العظيم { وأما الذين استنكفوا واستكبروا } أي طلبوا كلاً من الإباء والكبر { فيعذبهم عذاباً أليماً * } أي بما وجدوا من لذاذة الترفع والكبر ، وآلموا بذلك أولياء الله { ولا يجدون لهم } أي حالاً ولا مآلاً { من دون الله } الذي لا أمر لأحد معه { ولياً } أي قريباً يصنع معهم ما يصنع القريب { ولا نصيراً * } أي وإن كان بعيداً ، وفي هذا أتم زاجر عما قصده المنافقون من موالاة أهل الكتاب ، وأعظم نافٍ لما منّوهم إياه مما لهم وزعموا من المنزلة عند الله ، المقتضية أن يقربوا من شاؤوا ، ويبعدوا من شاؤوا ، وهو من أنسب الأشياء لختام أول الآيات المحذرة منهم
{ وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } [ النساء : 45 ] .
ولما أزاح شبه جميع المخالفين من سائر الفرق : اليهود والنصارى والمنافقين ، وأقام الحجة عليهم ، وأقام الأدلة القاطعة على حشر جميع المخلوقات ، فثبت أنهم كلهم عبيده؛ عمّ في الإرشاد لطفاً منه بهم فقال : { يا أيها الناس } أي كافة أهل الكتاب وغيرهم .
ولما كان السامع جديراً بأن يكون قد شرح صدراً بقواطع الأدلة بكلام وجيز جامع قال : { قد جاءكم برهان } أي حجة نيّرة واضحة مفيدة لليقين التام ، وهو رسول مؤيد بالأدلة القاطعة من المعجزات وغيرها { من ربكم } أي المحسن إليكم بإرسال الذي لم تروا قط إحساناً إلا منه .
ولما كان القرآن صفة الرحمن أتى بمظهر العظمة فقال : { وأنزلنا } أي بما لنا من العظمة والقدرة والعلم والحكمة على الرسول الموصوف ، منتهياً { إليكم نوراً مبيناً * } أي واضحاً في نفسه موضحاً لغيره ، وهو هذا القرآن الجامع بإعجازه وحسن بيانه بين تحقيق النقل وتبصير العقل ، فلم يبق لأحد من المدعوين به نوع عذر ، والحاصل أنه سبحانه لما خلق للآدمي عقلاً وأسكنه نوراً لا يضل ولا يميل مهما جرد ، ولكنه سبحانه حفّه بالشهوات والحظوظ والملل والفتور ، فكان في أغلب أحواله قاصراً إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ألحقه سبحانه بهم؛ أنزل كتبه بذلك العقل مجرداً عن كل عائق ، وأمرهم أن يجعلوا عقولهم تابعة له منقادة به ، لأنها مشوبة ، وهو مجرد لا شوب فيه بوجه .
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
ولما أشار في هذه الآية إلى الرسول الأصفى والنبي الأهدى ، المجبول على هذا العقل الأقوم الأجلي ، والكتاب الأتم الأوفى ، الجاري على هذا القانون الأعلى ، الوافي تعبيره الوجيز بأحكام الأولى والأخرى ، الكفيل سياقه وترتيب آياته بوضوح الأدلة وظهور الحجج؛ أخذ يقسم المنذرين فقال تعالى : { فأما الذين آمنوا بالله } أي الذي اتضح أنه لا أمر لأحد معه في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه بما دل عليه قاطع البرهان { واعتصموا به } أي جعلوه عصاماً لهم في الفرائض التي هي من أعظم مقاصد هذه السورة ، يربطهم ويضبطهم عن أن يضلوا بعد الهدى ، ويرجعوا من الاسبتصار إلى العمى ، لأن العصام هو الرابط للوعاء أن يخرج شيء مما فيه ، وصيغة الافتعال تدل على الاجتهاد في ذلك ، لأن النفس داعية إلى الإهمال المنتج للضلال { فسيدخلهم } أي بوعد لا خلف فيه ، ولعل السين ذكرت لتفيد مع تحقيق الوعد الحثَّ على المثابرة والمداومة على العمل إشارة إلى عزة ما عنده سبحانه { في رحمة منه } أي ثواب عظيم هو برحمته لهم ، لا بشيء استوجبوه ، وأشار إلى البر على ما تقتضيه أعمالهم لو كانت لهم بقوله : { وفضل } أي عظيم يعلمون أنه زيادة ، لا سبب لهم فيها { ويهديهم } أي في الدنيا والآخرة { إليه صراطاً } أي عظيماً واضحاً جداً { مستقيماً * } أي هو مرشد قومه ، كأنه طالب لتقويم نفسه ، فهو يوصلهم لا محالة إلى وعده بما يحفظهم في سرهم وعلنهم ، يستجلي أنوار عالم القدس في أرواحهم وتوفيقهم لاتباع ما هدت إليه من أمر الفرائض وغيرها ، فقد أتى - كما ترى - بأما المقتضية للتقسيم لا محالة ، وأتى بأحد القسمين المذكورين في الآية التي قبلها ، ووصفهم بالاعتصام بالله في النصرة وقبول جميع أحكامه في الفرائض غيرها ، وافقت أهويتهم أو خالفتها ، تعريضاً للمنافقين الذين والوا غيرهم ، وبالكافرين الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وترك القسم الآخر وهو قسم المستنكفين والمستكبرين ، ووضع موضعه حكماً من أحكام الفرائض المفتتح بها السورة التي هي من أعظم مقاصدها من غير حرف عطف ، بل بكمال الاتصال ، فقال منكراً عليهم تكرير السؤال عن النساء والأطفال بعد شافي المقال ، مبيناً أنه قد هدى في ذلك كله أقوم طريق : { يستفتونك } أي يسألونك أن تفتيهم ، أي أن تبين لهم بما عندك من الكرم والجود والسخاء ما انغلق عليهم أمره وانبهم لديهم سره من حكم الكلالة ، وللاعتناء بامر المواريث قال إشارة إلى أن الله لم يكل أمرها إلى غيره : { قل الله } أي الملك الأعظم { يفتيكم في الكلالة } وهو من لا ولد له؛ ولا والد روى البخاري في التفسير عن البراء رضي الله عنه قال : آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } ، وقال الأصبهاني عن الشعبي : اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في الكلالة ، فقال أبو بكر : هو ما عدا الوالد ، وقال عمر : ما عدا الوالد والولد ، ثم قال عمر : إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر رضي الله عنه؛ ثم استأنف قوله : { إن امرؤ هلك } أي وهو موصوف بأنه ، أو حال كونه { ليس له ولد } أي وإن سفل سواء كان ذكراً أو أنثى عند إرث النصف ، وليس له أيضاً والد ، فإن كان له أحدهما لم يسم كلالة وقد بينت ذلك السنة؛ قال الأصبهاني : وليسا بأول حكمين بُينَ أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام :
« ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر ، والأب أولى من الأخ » { و } الحال أنه { له أخت } أي واحدة من أب شقيقة كانت أو لا ، لأنه سيأتي أن أخاها يعصبها ، فلو كان ولد أم لم يعصب { فلها نصف ما ترك وهو } أي وهذا الأخ الميت { يرثها } أي إن ماتت هي وبقي هو ، جميع مالها { إن لم يكن لها ولد } أي ذكراً كان أو أنثى - كما مر في عكسه ، هذا إن أريد بالإرث جميع المال ، وإلا فهو يرث مع الأنثى كما أنها هي أيضاً ترث مع الأنثى - كما يرشد إليه السياق أيضاً - دون النصف .
ولما بين الأمر عند الانفراد أتبعه بيانه عند الاجتماع ، وقدم أقله فقال : { فإن كانتا } أي الوارثتان ببيان السياق لهما وإرشاده إليهما؛ ولما أضمر ما دل عليه السياق ، وكان الخبر صالحاً لأن يكون : صالحتين ، أو صغيرتين ، أو غير ذلك؛ بين أن المراد - كما يرشد إليه السياق أيضاً - مطلق العدد على أي وصف اتفق فقال : { اثنتين } أي من الأخوات للأب شقيقتين كانتا أو لا { فلهما الثلثان مما ترك } فإن كانت شقيقتين كان لكل منهما ثلث ، وإن اختلفتا كان للشقيقة النصف وللتي للأب فقط السدس تكملة الثلثين .
ولما بين أقل الاجتماع أتبعه ما فوقه فقال : { وإن كانوا } أي الوارث { إخوة } أي مختلطين { رجالاً ونساء فللذكر } أي منهم { مثل حظ الأنثيين } وقد أنهى سبحانه ما أراد من بيان إرث الأخوة لأب ، فتم بذلك جميع أحوال ما أراد من الإرث ، وهو على وجازته كما ترى - يحتمل مجلدات - والله الهادي ، ووضع هذه الآية هنا - كما تقدم - إشارة منه إلى أن من أبى توريث النساء والصغار الذي تكرر الاستفتاء عنه فقد استنكف عن عبادته واستكبر وإن آمن بجميع ما عداه من الأحكام ، ومن استنكف عن حكم من الأحكام فذاك هو الكافر حقاً ، وهذا مراد شياطين أهل الكتاب العارفين بصحة هذه الأحكام ، الحاسدين لكم عليها ، المريدين لضلالكم عنها لتشاركوهم في الشقاء الذي وقع لهم لما بدلوا الأحكام المشار إليهم بعد ذكر آيات الميراث وما تبعها من أحوال النكاح بقوله :
{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } [ النساء : 26 ] وقوله : { ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً } [ النساء : 27 ] ثم المصرح بهم في قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم } [ النساء : 44 ] ولذلك - والله أعلم - ختم هذه الآية بقوله : { يبين الله } أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً { لكم } أي ولم يكلكم في هذا البيان إلى بيان غيره ، وقال مرغباً مرهباً : { أن } أي كراهة أن { تضلوا والله } أي الذي له الكمال كله { بكل شيء عليم * } أي فقد بين لكم بعلمه ما يصلحكم بيانه محياًَ ومماتاً دنيا وأخرى ، حتى جعلكم على المحجة البيضاء في مثل ضوء النهار ، لا يزيغ عنها منكم إلا هالك ، والحاصل أن تأخير هذه الآية إلى هنا لما تقدم من أن تفريق القول فيما تأباه النفوس وإلقاءه شيئاً فشيئاً باللطف والتدريج أدعى لقبوله ، وللإشارة إلى شدة الاهتمام بأمر الفرائض بجعل الكلام فيها في جميع السورة أولها وأثنائها وآخرها ، والتخويف من أن يكون حالهم كحال المنافقين في إضلال أهل الكتاب لهم بإلقاء الشبهة وأخذهم من الموضع الذي تهواه نفوسهم ومضت عليه أوائلهم ، وأشربته قلوهبم ، والترهيب من أن يكونوا مثلهم في افيمان ببعض والكفر ببعض ، فيؤديهم ذلك إلى إكمال الكفر ، لأن الدين لا يتجزأ ، بل من كفر بشيء منه كفر به جميعه ، ومن هنا ظهرت مناسبة آخر هذه السورة لأولها ، لأن أولها مشير إلى أن الناس كلهم كشيء واحد ، وذلك يقتضي عدم الفرق بينهم إلا فيما شرعه الله ، وآخرها مشير إلى ذلك بالتسوية بين النساء والرجال في مطلق التوريث بقرب الأرحام وإن اختلفت الأنصباء ، فكأنه قيل : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ، وسوى بينهم فيما أراد من الأحكام فإنه من استكبر - ولو عن حكم من أحكامه - فسيجازيه يوم الحشر ، ولا يجد له من دون الله ناصراً؛ ولا يخفى عليه شيء من حاله ، وما أشد مناسبة ختامها بإحاطة العلم لما دل عليه أولها من تمام القدرة ، فكان آخرها دليلاً على أولها لأن تمام العلم مستلزم لشمول القدرة ، قال الإمام : وهذان الوصفان هما اللذان بهما ثبتت الربوية والإلهية والجلال والعزة ، وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعاًَ للأوامر والنواهي منقاداً لكل التكاليف - انتهى . ولختام أول آية فيها بقوله : { إن الله كان عليكم رقيباً } [ النساء : 1 ] أي وهو بكل شيء من أحوالكم وغيرها عليم ، فلا تظنوا أنه يخفى عليه شيء وإن دقَّ ، فليشتد حذركم منه ومراقبتكم له ، وذلك أشد شيء مناسبة لأول المائدة - والله الموفق بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب ، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه واستدفاعاً لنقمة ، وقصة المائدة أدل ما فيها على ذلك ، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب ، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار .
{ بسم الله } أي الذي تمت كلماته فصدقت وعوده وعمت مكرماته { الرحمن } الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته { الرحيم } الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبّله على التخلق بصفاته .
لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } [ الأنعام : 146 ] ، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء وختمها بأنه شامل العلم ، ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب الذي هو عيب ، فقال مشيراً إلى أن الناس الذين خوطبوا أو تلك الأهلوا لأول أسنان الإيمان ووصفوا بما هم محتاجون إليه ، وتخصيصهم مشير إلى أن من فوقهم من الأسنان عنده من الرسوخ ما يغنيه عن الحمل بالأمر ، وذلك أبعث له على التدبر والأمتثال : { يا أيها الذين آمنوا } أي ادعوا ذلك بألسنتهم { أوفوا } أي صدقوا ذلك بأن توفوا { بالعقود } أي العهود الموثقة المحكمة وهي تعم جميع أحكامه سبحانه فيما أحل أو حرم أو ندب على سبيل الفرض أو غيره ، التي من جملتها الفرائض التي افتتحها بلفظ الإيصاء الذي هو من أعظم العهود ، وتعم سائر ما بين الناس من ذلك ، حتى ما كان في الجاهلية من عقد يدعو إلى بر ، وأما غير ذلك فليس بعقد ، بل حل بيد الشرع القوية ، تذكيراً بما أشار إليه قوله تعالى في حق أولئك { اذكروا نعمتي وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون } [ البقرة : 40 ] وإخباراً لهم بأنه أحل لهم ما حرم على أولئك ، فقال على سبيل التعليل مشيراً إلى أن المقصود من النعمة كونها ، لا بقيد فاعل مخصوص ، وإلى أن المخاطبين يعلمون أنه لا منعم غيره سبحانه : { أحلت لكم } والإحلال من أجل العقود { بهيمة } وبينها بقوله : { الأنعام } أي أوفوا لأنه أحلّ لكم بشامل علمه وكامل قدرته لطفاً بكم ورحمة لكم ما حرم على من قبلكم من الإبل والبقر والغنم بإحلال أكلها والانتفاع بجلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من شأنها ، فاحذروا أن تنقضوا كما نقضوا ، فيحرم عليكم ما حرم عليهم ، ويعد لكم من العقاب ما أعد لهم ، ولا تعترضوا على نبيكم ، ولا تتعنتوا كما اعترضوا وتعنتوا ، فإن ربكم لا يسأل عما يفعل ، وسيأتي في قوله :
{ لا تسئلوا عن أشياء } [ المائدة : 101 ] ما يؤيد هذا .
ولما كانوا ربما فهموا من هذا الإحلال ما ألفوا من الميتات ونحوها قال مستثنياً من نفس البهيمة ، وهي في الأصل كل حي لا يميز ، مخبراً أن من أعظم العقود ما قدم تحريمه من ذلك في البقرة : { إلا ما يتلى عليكم } أي في بهيمة الأنعام أنه محرم ، فإنه لم يحل لكم ، ونصب { غير محلي الصيد } على الحال أدل دليل على أن هذا السياق . وإن كان صريحه مذكراً بالنعمة لتشكر - فهو مشار به إلى التهديد إن كُفِرَت ، أي أحل لكم ذلك في هذه الحال ، فإن تركتموها انتفى الإحلال ، وهذه مشيرة إلى تكذيب من حرم من ذلك ما أشير إليه بقوله تعالى في التي قبلها حكاية عن الشيطان { ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } [ النساء : 119 ] من السائبة وما معها مما كانوا اتخذوه ديناً ، وفصّلو فيه تفاصيل - كما سيأتي صريحاً في آخر هذه السورة بقوله تعالى : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة } [ المائدة : 103 ] الآية ، وكذا في آخر الأنعام ، وفي الأمر بالوفاء بالعقود بعد الإخبار بأنه بكل شيء عليم غاية التحذير من تعمد الإخلال بشيء من ذلك وإن دق ، وفي افتتاح هذه المسماة بالمائدة بذكر الأطعمة عقب سورة النساء - التي من أعظم مقاصدها النكاح والإرث ، المتضمن للموت المشروع فيهما الولائم والمآتم . أتم مناسبة ، وقال ابن الزبير : لما بين تعالى حال أهل الصراط المستقيم ، ومن تنكب عن نهجهم ، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم والضالين ، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذاً وتركاً ، وجعل طي ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه في قوله : « الإسلام ثمانية أسهم : الإسلام سهم والشهادة سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصوم سهم ، والحج سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، وقد خاب من لا سهم له » قلت : وهذا الحديث أخرجه البزار عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الإسلام ثمانية أسهم : الإسلام سهم ، والصلاة سهم » فذكره ، وصحح الدارقطني وقفه ، ورواه أبو يعلى الموصلي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً والطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قالك « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » الإسلام عشرة أسهم ، وقد خاب من لا سهم له : شهادة أن لا إله إلا الله سهم وهي الملة ، والثانية : الصلاة وهي الفطرة ، والثالثة : الزكاة وهي الطهور ، والرابعة : الصوم وهي الجنة ، والخامسة : الحج وهي الشريعة ، والسادسة : الجهاد وهي الغزوة ، والسابعة : الأمر بالمعروف وهو الوفاء والثامنة : النهي عن المنكر وهي الحجة ، والتاسعة : الجماعة وهي الألفة ، والعاشرة : الطاعة وهي العصمة «
وفي سنده من ينظر في حاله؛ قال ابن الزبير : وقال صلى الله عليه وسلم : « بني الإسلام على خمس » أي في الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر وغيره واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان » قال ابن الزبير : وقد تحصلت - أي الأسهم الثمانية والدعائم الخمس - فيما مضى ، وتحصل مما تقدم أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه ، وأن ذلك ببغيهم وعداوتهم ونتقضهم العهود { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم } [ المائدة : 13 ] وكان النقض كل مخالفة ، قال الله تعالى لعباده المؤمنين : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود ، فحذر المؤمنين - انتهى . والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية المذكورة في الأنعام وما شابهها من حيوان البر ، ولكون الصيد مراد الدخول في بهيمة الأنعام استثنى بعض أحواله فقال : { وأنتم حرم } أي أحلت البهيمة مطلقاً إلا ما يتلى عليكم من ميتاتها وغيرها في غير حال الدخول في الإحرام بالحج أو العمرة أو دخول الحرم ، وأما في حال الإحرام فلا يحل الصيد أكلاً ولا فعلاً .
ولما كان مدار هذه السنة على الزجر والإحجام عن أشياء اشتد ألفهم لها والتفاتهم إليها ، وعظمت فيها رغباتهم من الميتات وما معها ، والأزلام والذبح على النصب ، وأخذ الإنسان بجريمة الغير ، والفساد في الأرض ، والسرقة والخمر والسوائب والبحائر - إلى غير ذلك؛ ذكّر في أولها بالعهود التي عقدوها على أنفسهم ليلة العقبة حين تواثقوا على الإسلام من السمع والطاعة في المنشط والمكر والعسر واليسر فيما أحبوا وكرهوا ، وختم الآية بقوله معللاً : { إن الله } أي ملك الملوك { يحكم ما يريد * } أي من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق كالأنعام ، وفي حال دون حال كما شابهها من الصيد ، فلا يسأل عن تخصيص ولا عن تفضيل ولا غيره ، فما فهمتم حكمته فذاك ، وما لا فكلوه إليه ، وارغبوا في أن يلهمكم حكمته؛ قال الإمام - وهذا هو الذي يقوله أصحابنا - : إن علة حسن التكليف هو الربوبية والعبودية ، لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصلحة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
ولما استثنى بعض ما أحل على سبيل الإبهام شرع في بيانه ، ولما كان منه ما نهى عن التعرض له لا مطلقاً ، بل ما يبلغ محله ، بدأ به لكونه في ذلك كالصيد ، وقدم على ذلك عموم النهي عن انتهاك معالم الحج المنبه عليه بالإحرام ، أو عن كل محرم في كل مكان وزمان ، فقال مكرراً لندائهم تنويهاً بشأنهم وتنبيهاً لعزائمهم وتذكيراً لهم بما ألزموه أنفسهم : { يا أيها الذين آمنوا } أي دخلوا في هذا الدين طائعين { لا تحلو شعائر الله } أي معالم حج بيت الملك الأعظم الحرام ، أو حدوده في جميع الدين ، وشعائر الحج أدخل في ذلك ، والاصطياد أولاها .
ولما ذكر ما عممه في الحرم أو مطلقاً ، أتبعه ما عممه في الزمان فقال : { ولا الشهر الحرام } أي فإن ذلك لم يزل معاقداً على احترامه في الجاهلية والإسلام ، ولعله وحده والمراد الجمع إشارة إلى أن الأشهر الحرم كلها في الحرمة سواء .
ولما ذكر الحرم والأشهر الحرم ذكر ما يهدى للحرم فقال : { ولا الهدي } وخص منه أشرفه فقال : { ولا القلائد } أي صاحب القلائد من الهدي ، وعبر بها مبالغة في تحريمه؛ ولما أكد في احترام ما قصد به الحرم من البهائم رقّى الخطاب إلى من قصده من العقلاء ، فإنه مماثل لما تقدمه في أن قصد البيت الحرام حامٍ له وزاجر عنه ، مع ما زاد به من شرف العقل فقال : { ولا آمين } أي ولا تحلوا التعرض لناس قاصدين { البيت الحرام } لأن من قصد بيت الملك كان محترماً باحترام ما قصده .
ولما كان المراد القصد بالزيارة بقوله : { يبتغون } أي حال كونهم يطلبون على سبيل الاجتهاد { فضلاً من ربهم } أي المحسن إليهم شكراً لإحسانه ، بأن يثيبهم على ذلك ، لأن ثوابه لا يكون على وجه الاستحقاق الحقيقي أصلاً؛ ولما كان الثواب قد يكون مع السخط قال : { ورضواناً } وهذا ظاهر في المسلم ، ويجوز أن يراد به أيضاً الكافر ، لأن قصده البيت الحرام على هذا الوجه يرق قلبه فيهيئه للإسلام ، وعلى هذا فهي منسوخة .
ولما كان التقدير : فإن لم يكونوا كذلك . أي في أصل القصد ولا في وصفه - فهم حل لكم وإن لم تكونوا أنتم حرماً ، والصيد حلال لكم ، عطف عليه التصريح بما أفهمه التقييد فيما سبق بالإحرام فقال : { وإذا حللتم } أي من الإحرام بقضاء المناسك والإحصار { فاصطادوا } وترك الشهر الحرام إذ كان الحرام فيه حراماً في غيره ، وإنما صرح به تنويهاً بقدره وتعظيماً لحرمته ، ثم أكد تحريم قاصد المسجد الحرام وإن كان كافراً ، وإن كان على سبيل المجازاة بقوله : { ولا يجرمنكم } أي يحملنكم { شنئان قوم } أي شدة بغضهم .
ولما ذكر البغض أتبعه سببه فقال : { إن } على سبيل الاشتراط الذي يفهم تعبير الحكم به أنه سيقع ، هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، والتقدير في قراءة الباقين بالفتح : لأجل أن { صدوكم } أي في عام الحديبية أو غيره { عن المسجد الحرام } أي على { أن تعتدوا } أي يشتد عدوكم عليهم بأن تصدوهم عنه أو بغير ذلك ، فإن المسلم من لم يزده تعدي عدوه فيه حدود الشرع إلا وقوفاً عند حدوده ، وهذا قبل نزول
{ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام } [ التوبة : 28 ] سنة تسع .
ولما نهاهم عن ذلك ، وكان الانتهاء عن الحظوظ شديداً على النفوس ، وكان لذلك لا بد في الغالب من منتهٍ وآبٍ ، أمر بالتعاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال : { وتعاونوا على البر } وهو ما اتسع وطاب من حلال الخير { والتقوى } وهي كل ما يحمل على الخوف من الله ، فإنه الحامل على البر ، فإن كان منكم من اعتدى فتعاونوا على رده ، وإلا فازدادوا بالمعاونة خيراً .
ولما كان المعين على الخير قد يعين على الشر قال تنبيهاً على الملازمة في المعاونة على الخير ، ناهياً أن يغضب الإنسان لغضب أحد من صديق أو قريب إلا إذا كان الغضب له داعياً إلى بر وتقوى : { ولا تعانوا على الإثم } أي الذنب الذي يستلزم الضيق { والعدوان } أي المبالغة في مجاوزة الحدود والانتقام والتشفي وغير ذلك وكرر الأمر بالتقوى إشارة إلى أنها الحاملة على كل خير فقال : { واتقوا } أي الذي له صفات الكمال لذاته فلا تتعدوا شيئاً من حدوده؛ ولما كان كف النفس عن الانتقام وزجرها عن شفاء داء الغيظ وتبريد غلة الاحن في غاية العسر ، ختم الآية بقوله : { إن الله } أي الملك الأعظم { شديد العقاب } .
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
ولما أتم الكلام على احترام أعظم المكان وأكرم الزمان وما لابسهما ، فهذب النفوس بالنهي عن حظوظها ، وأمر بعد تخليتها عن كل شر بتحليتها بكل خير عدّد على سبيل الاستئناف ما وعد بتلاوته عليهم مما حرم مطلقاً إلا في حال الضرورة فقا : { حرمت } بانياً الفعل للمفعول لأن الخطاب لمن يعلم أنه لا محرم إلا الله ، وإشعاراًَ بأن هذه الأشياء لشدة قذارتها كأنها محرمة بنفسها { عليكم الميتة } وهي ما فقد الروح بغير ذكاة شرعية ، فإن دم كل ما مات حتف أنفه يحبس في عروقه ويتعفن ويفسد ، فيضر أكله البدن بهذا الضرر الظاهر ، والدين بما يعلمه أهل البصائر { والدم } أي المسفوح ، وهو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق { ولحم الخنزير } خصة بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارة أكله كالدين { وما أهل } ولما كان القصد في هذه السورة إلى حفظ محكم العهود المذكر بجلاله الباهر ، قدم المفعول له فقال : { لغير الله } أي الملك الأعلى { به } أي ذبح على اسم غيره من صنم أو غيره على وجه التقرب عبادة لذلك الشيء ، والإهلاك : رفع الصوت .
ولما كان من الميتات ما لا تعافه النفوس عيافتها لغيره ، نص عليه فقال : { والمنخنقة } أي بحبل ونحوه ، سواء خنقها أو لا { والموقوذة } أي المضروبة بمثقل ، من : وقذه - إذا ضربه { والمتردية } أي الساقطة من عال ، المضطربة غالباً في سقوطها { والنطيحة } أي التي نطحها فماتت { وما أكل السبع } أي كالذئب والنسر ونحوهما .
ولما كان كل واحدة من هذه قد تدرك حية فتذكى ، استثنى فقال : { إلا ما ذكيتم } أي من ذلك كله بأن أدركتموه وفيه حياة مستقرة ، بأن اشتد اضطرابه وانفجر منه الدم؛ ولما حرم الميتات وعد في جملتها ما ذكر عليه اسم غير الله عبادة ، ذكر ما ذبح على الحجارة التي كانوا ينصبونها للذبح عندها تديناً وإن لم يذكر اسم شيء عليها فقال : { ما ذبح على النصب } وهو واحد الأنصاب ، وهي حجارة كانت حول الكعبة تنصب ، فيهل عليها ويذبح عندها تقرباً إليها وتعظيماً لها { وأن تستقسموا } أي تطلبوا على ما قسم لكم { بالأزلام } أي القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها بوزن قلم وعمر وكانت ثلاثة ، على واحد : أمرني ربي ، وعلى آخر : نهاني ربي ، والآخر غفل ، فإن خرج الآمر فعل ، أو الناهي ترك ، أو الغفل أجيلت ثانية ، فهو دخول في علم الغيب وافتراء على الله بادعاء أمره ونهيه ، وإن أراد المنسوب إلى الصنم فهو الكفر الصريح وقال صاحب كتاب الزينة : يقال : إنه كانت عندهم سبعة قداح مستوية من شوحط ، وكانت بيد السادن ، مكتوب عليها « نعم » « لا » « منكم » « من غيركم » « ملصق » « العقل » « فضل العقل » فكانوا إذا اختلفوا في نسب الرجل جاؤوا إلى السادن بمائة درهم ، ثم قالوا للصنم : يا إلهنا! قد تمارينا في نسب فلان ، فأخرج علينا الحق فيه ، فتجال القداح فإن خرج القدح الذي عليه « منكم » كان أوسطهم نسباً ، وإن خرج الذي عليه « من غيركم » كان حليفاً وإن خرج « ملصق » كان على منزلته لا نسب له ولا حلف ، وإذا أرادوا سفراً أو حاجة جاؤوا بمائة فقالوا : يا إلهنا! أردنا كذا ، فإن خرج « نعم » فعلوا ، وإن خرج « لا » لم يفعلوا ، وإن جنى أحدهم جناية ، فاختلفوا فيمن يحمل العقل جاؤوا بمائة فقالوا : يا إلهنا! فلان جنى عليه ، أخرج الحق ، فإن خرج القدح الذي عليه « العقل » لزم من ضرب عليه وبرىء الآخرون ، وإن خرج غيره كان على الآخرين العقل ، وكانوا إذا عقلوا العقل ففضل الشيء منه تداروا فيمن يحمله ، فضربوا عليه؛ فإن خرج القدح الذي عليه « فضل العقل » للذي ضرب عليه لزمه ، وإلا كان على الآخرين الذين لم يضرب عليهم فهذا الاستقسام الذي حرمه الله لأنه يكون عند الأصنام ويطلبون ذلك منها ، ويظنون أن الذي أخرج لهم ذلك هو الصنم ، وأما إجالة السهام لا على هذا الوجه فهو جائز ، هو وتساهم واقتراع لا استقسام وقال أبو عبيدة : واحد الأزلام زلم - بفتح الزاء ، وقال بعضهم بالضم وهو القدح لا ريش له ولا نصل ، فإذا كان مريَّشاً فهو السهم - والله أعلم؛ ويجوز أن يراد مع هذا ما كانوا يفعلونه في الميسر - على ما مضى في البقرة ، فإنه طلب معرفة ما قسم من الجزور ، ويلتحق بالأول كل كهانة وتنجيم ، وكل طيرة يتطيرها الناس الآن من التشاؤم ببعض الأيام وبعض الأماكن والأحوال ، فإياك أن تعرج على شيء من الطيرة ، فتكون على شعبة جاهلية ، ثم إياك! .
ولما كانت هذه الأشياء شديدة الخبث أشار إلى تعظيم النهي عنها بأداة البعد وميم الجمع فقال : { ذلكم } أي الذي ذكرت لكم تحريمه { فسق } أي فعله خروج من الدين .
ولما كانت هذه المنهيات معظم دين أهل الجاهلية ، وكان سبحانه قد نهاهم قبلها عن إحلال شعائر الله والشهر الحرام وقاصدي المسجد الحرام بعد أن كان أباح لهم ذلك في بعض الأحوال والأوقات بقوله { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم - ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } [ البقرة : 191 ] { الشهر الحرام بالشهر الحرام } [ البقرة : 194 ] { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } [ البقرة : 191 ] علم أن الأمر بالكف عن انتهاز الفرص إنما هو للأمن من الفوت ، وذلك لا يكون إلا من تمام القدرة ، وهو لا يكون إلا بعد كمال الدين وإظهاره على كل دين - كما حصل به الوعد الصادق ، وكذا الانتهاء عن جميع هذه المحارم إنما يكون لمن رسخ في الدين قدمه ، وتمكنت فيه عزائمه وهممه ، فلا التفات له إلى غيره ولا همه إلى سواه ، ولا مطمع لمخالفه فيه ، فعقب سبحانه النهي عن هذه المناهي كلها بقوله على سبيل النتيجة والتعليل : { اليوم } أي وقت نزول هذه الآية { يئس الذين كفروا } أي لابسوا الكفر سواء كانوا راسخين فهي أو لا { من دينكم } أي لم يبق لكم ولا لأحد منكم عذر في شيء من إظهار الموافقة لهم أو التستر من أحد منهم ، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين كاتبهم ليحمي بذلك ذوي رحمه ، لأن الله تعالى قد كثركم بعد القلة ، وأعزكم بعد الذلة ، وأحيى بكم منار الشرع ، وطمس معالم شرع الجهل ، وهدّ منار الضلال ، فأنا أخبركم - وأنتم عالمون بسعة علمي - أن الكفار قد اضمحلت قواهم ، وماتت هممهم ، وذلت نخوتهم ، وضعفت عزائمهم ، فانقطع رجاؤهم عن أن يغلبوكم أو يستميلوكم إلى دينهم بنوع استمالة ، فإنهم رأوا دينكم قد قامت منائره ، وعلت في المجامع منابره ، وضرب محرابه ، وبرّك بقواعده وأركانه ، ولهذا سبب عما مضى قوله : { فلا تخشوهم } أي أصلاً { واخشون } أي وامحضوا الخشية لي وحدي ، فإن دينكم قد أكمل بدره ، وجل عن المحلق محله وقدره ، ورضي به الآمر ، ومكنه على رغم أنف الأعداء .
وهو قادر على ذلك ، وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل : { اليوم أكملت لكم دينكم } أي الذي أرسلت إليكم به أكمل خلقي لتدينوا به وتدانوا ، وإكماله بإنزال كل ما يحتاج إليه من أصل وفرع ، نصاً على البعض ، وبياناً لطريق القياس في الباقي ، وذلك بيان لجميع الأحكام ، وأما قبل ذلك اليوم فهو وإن كان كاملاً لكنه بغير هذا المعنى ، بل إلى حين ثم يزيد فيه سبحانه ما يشاء ، فيكون به كاملاً أيضاً وأكمل مما مضى ، وهكذا إلى هذه النهاية ، وكان هذا هو المراد من قوله : { وأتممت عليكم نعمتي } أي التي قسمتها في القدم من هذا الدين على لسان هذا الرسول ، بأن جمعت عليه كلمة العرب الذين قضيت في القدم بإظهارهم على من ناواهم من جميع أهل الملل ، ليظهر بهم الدين ، وتنكسر شوكة المفسدين من غير حاجة في ذلك إلى غيرهم وإن كانوا بالنسبة إلى المخالفين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود { ورضيت لكم الإسلام } أي الذي هو الشهادة لله بما شهد به لنفسه من الوحدانية التي لمن يتبع الإذعان لها الإذعان لكل طاعة { ديناً } تتجازون به فيما بينكم ويجازيكم به ربكم؛ روى البخاري في المغازي وغيره ، ومسلم في آخر الكتاب ، والترمذي في التفسير ، والنسائي في الحج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه « أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال : أي آية؟ قال : { اليوم أكملت لكم دينكم } فقال عمر رضي الله عنه : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة » وفي التفسير من البخاري عن طارق بن شهاب « قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً ، فقال عمر : إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت » وقال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس ، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده ، قلت : ويوم الجمعة هو اليوم الذي أتم الله فيه خلق هذه الموجودات بخلق آدم عليه السلام بعد عصره ، وهو حين نزول هذه الآية إن شاء الله تعالى ، فكانت تلك الساعة من ذلك اليوم تماماً ابتداء ، وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال : « لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
« ما يبكيك يا عمر؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فإذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، قال : صدقت! » فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عاش بعدها إحدى وثمانين يوماً وقد روي أنه كان هجيري النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة من العصر إلى الغروب شهد الله أنه لا إله إلا هو - الآية ، وكأن ذلك كان جواباً منه صلى الله عليه وسلم لهذه الآية ، لفهمه صلى الله عليه وسلم أن إنزال آية سر الإسلام وأعظمه وأكمله ، وهذه الآية من المعجزات ، لأنها إخبار بمغيب صدقها فيه الواقع .
ولما تمت هذه الجمل الاعتراضية التي صار ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها بأحكام الرصف واتقان الربط من الامتزاج أشد مما بين الروح والجسد ، المشيرة إلى أن هذه المحرمات هي التي تحقق بها أهل الكفر كمال المخالفة ، فأيسوا معها من المواصلة والمؤالفة؛ رجع إلى تتمات لتلك المحظورات ، فقال مسبباً عن الرضى بالإسلام الذي هو الحنيفة السمحة المحرمة لهذه الخبائث لإضرارها بالبدن والدين : { فمن اضطر } أي ألجىء إلجاء عظيماً - من أي شيء كان - إلى تناول شيء مما مضى أنه حرم ، بحيث لا يمكنه معه الكف عنه { في مخمصة } أي مجاعة عظيمة { غير متجانف } أي متعمد ميلاً { لإثم } أي بالأكل على غير سد الرمق ، أو بالبغي على مضطر آخر بنوع مكر أو العدو عليه بضرب قهر ، وزاد بعد هذا التقييد تخويفاً بقوله : { فإن الله } أي الذي له الكمال كله { غفور رحيم * } أي يمحو عنه إثم ارتكابه للمنهي ولا يعاقبه عليه ولا يعاتبه ويكرمه ، بأن يوسع عليه من فضله ، ولا يضطره مرة أخرى - إلى غير ذلك من الإكرام وضروب الأنعام .
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
ولما تقدم إحلال الصيد وتحريم الميتة ، وختم ذلك بهذه الرخصة ، « وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الكلاب » وكان الصيد ربما مات في يد الجارح قبل إدراك ذكاته ، سأل بعضهم عما يحل من الكلاب ، وبعضهم عما يحل من ميتة الصيد إحلالاً مطلقاً لا بقيد الرخصة ، إذ كان الحال يقتضي هذا السؤال؛ روى الواحدي في أسباب النزول بسنده عن أبي رافع رضي الله عنه قال : « أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، فقال الناس : يا رسول الله! ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله تعالى : { يسئلونك } » .
ولما كان هذا إخباراً عن غائب قال : { ماذا أحل لهم } دون « لنا » قال الواحدي : أي من إمساك الكلاب وأكل الصيود وغيرها ، أي من المطاعم ، ثم قال الواحدي : رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه ، وذكر المفسرون شرح هذه القصة ، قال : قال أبو رافع رضي الله عنه : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه ، فأذن له فلم يدخلن فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قد أذنا لك! قال : أجل يا رسول الله! ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب ، فنظر فإذا في بعض بيوتهم جرو ، قال أبو رافع : فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلباً إلا قتلته ، حتى بلغت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني بقتله ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الكلاب جاء أناس فقالوا : يا رسول الله! ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه ، وأمر بقتل الكلاب الكلب والعقور ما يضر ويؤذي ، ورفع القتل عما سواها مما لا ضر فيه ، وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين رضي الله عنهما ، وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير ، وذلك أنهما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : « يا رسول الله! إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت : { يسئلونك } الآية { الطيبات } يعني الذبائح ، و { الجوارح } الكواسب من الكلاب وسباع الطير » انتهى .
فإذا أريد كون الكلام على وجه يعم قيل : { قل } لهم في جواب من سأل { أحل } وبناه للمفعول طبق سؤالهم ولأن المقصود لا كونه من معين { لكم الطيبات } أي الكاملة الطيب ، فلا خبث فيها بنوع تحريم ولا تقذر ، من ذوي الطباع السليمة مما لم يرد به نص ولا صح فيه قياس ، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرمونه على أنفسهم من السائبة وما معها ، وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم { وما } وهو على حذف مضاف للعلم به ، فالمعنى : وصيد ما { علمتم من الجوارح } أي التي من شأنها أن تجرح ، أو تكون سبباً للجرح وهو الذبح ، أو من الجرح بمعنى الكسب { ويعلم ما جرحتم بالنهار } [ الأنعام : 60 ] وهو كواسب الصيد من السباع والطير ، فأحل إمساكها للقنية وصيدها وشرط فيه التعليم ، قال الشافعي : والكلب لا يصير معلماً إلا عند أمور : إذا أشلى استشلى ، وإذا زجر انزجر وحبس ولم يأكل ، وإذا دعي أجاب ، وإذا أراده لم يفر منه ، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم ، ولم يذكر حداً لأن الاسم إذا لم يكن معلوماً من نص ولا إجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف ، وبنى الحال من الكلاب وإن كان المراد العموم ، لأن التأديب فيها أكثر فقال : { مكلبين } أي حال كونكم متكلفين تعليم هذه الكواسب ومبالغين في ذلك ، قالوا : وفائدة هذه الحال أن يكون المعلم نحريراً في علمه موصوفاً به ، وأكد ذلك بحال أخرى أو استئناف فقال : { تعلمونهن } وحوشاً كنَّ أو طيوراً { مما علمكم الله } أي المحيط بصفات الكمال من علم التكليب ، فأفاد ذلك أن على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل ، فكم من آخذ من غير متقن قد ضيع أيامه ، وعض عند لقاء النجارين إبهامه! ثم سبب عن ذلك قوله : { فكلوا } .
ولما كان في الصيد من العظم وغيره ما لا يؤكل قال : { مما أمسكن } أي الجوارح مستقراً إمساكها { عليكم } أي على تعليمكم ، لا على جبلتها وطبيتعها دون تعليمكم ، وذلك هو الذي لم يأكلن منه وإن مات قبل إدراك ذكاته ، وأما ما أمسك الجارح على أي مستقراً على جبلته وطبعه ، ناظراً فيه إلى نفاسه نفسه فلا يحل { واذكروا اسم الله } أي الذي له كل شيء ولا كفوء له { عليه } أي على ما أمسكن عند إرسال الجارح أو عند الذبح إن أدركت ذكاته ، لتخالفوا سنة الجاهلية وتأخذوه من مالكه ، وقد صارت نسبة هذه الجملة . كما ترى . إلى { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] نسبة المستثنى إلى المستثنى منه ، وإلى مفهوم غير محلي الصيد وانتم حرم نسبة الشرح .
ولما كان تعليم الجوارح أمراً خارجاً عن العادة في نفسه وإن كان قد كثر ، حتى صار مألوفاً ، وكان الصيد بها أمراً تُعجب شرعته وتهز النفوس كيفيتُه ، ختم الآية بما هو خارج عن عادة البشر وطرقها من سرعة الحساب ولطف العلم بمقدار الاستحقاق من الثواب والعقاب ، فقال محذراً من إهمال شيء مما رسمه : { واتقوا } أي حاسبوا أنفسكم واتقوا { الله } أي عالم الغيب والشهادة القادر على كل شيء فيما أدركتم ذكاته وما لم تدركوها ، وما أمسكه الجارح عليكم وما أمسكه على نفسه - إلى غير ذلك من أمور الصيد التي لا يقف عندها إلا من غلبت عليه مهابة الله واستشعر خوفه ، فاتقاه فيما أحل وما حرم ، ثم علل ذلك بقوله : { إن الله } أي الجامع لمجامع العظمة { سريع الحساب * } أي عالم بكل شيء وقادر عليه في كل وقت ، فهو قادر على كل جزاء يريده ، لا يشغله أحد عن أحد ولا شأن عن شأن .
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
ولما كان قد تقدم النهي عن نكاح المشركات ، والمنافرة لجميع أصناف الكفار ، وبيان بغضهم وعداوتهم ، والحث على طردهم ومنابذتهم { هآ أنتم أولاء تحبونهم } [ آل عمران : 119 ] ونحوها لضعف الأمر إذ ذاك وشدة الحاجة إلى إظهار الفظاظة والغلظة لهم لتعظيم دين الله ، حتى كانت خلطتهم من أمارات النفاق . كما سيأتي في كثير من آيات هذه السورة ، وكان الدين وصل عند نزولها من العظمة إلى حد لا يحتاج في إلى تعظيم معظم ، وكانت مخالطة أهل الكتاب لا بد منها عند فتوح البلاد التي وعد الصادق بهان وسبق في الأزل علمها ، فكانت الفتنة في مخالطتهم قد صارت في حد الأمن وسّع الأمر بحل طعامهم ونسائهم ، فقال تعالى مكرراً ذكر الوقت الذي أنزل فيه هذه الآيات ، تنبيهاً على عظم النعمة فيه بتذكر ما هم فيه من الكثرة والأمن والجمع والألفة ، وتذكر ما كانوا فيه قبل ذلك من القلة والخوف والفرقة ، فقال معيداً لصدر الآية التي قبلها إعلاماً بعظم النعمة فيه ، ومفيداً بذكر وقت الإحلال أنه إحلال مقصود به الثبات ، لكونه يوم إتمام النعمة فهو غير الأول : { اليوم } .
ولما كان القصد إنما هو الحل ، لا كونه من محل معين ، مع أن المخاطبين بهذه الآيات يعلمون أنه لا محل إلا الله ، بني الفعل للمجهول فقال : { أحل } أي ثبت الإحلال فلا ينسخ أبداً { لكم } أي أيها المؤمنون { الطيبات } أي التي تقدم في البقرة وصفها بالحل لزوال الإثم وملاءمة الطبع ، فهي الكاملة في الطيب .
ولما كانت الطيبات أعم من المآكل قال : { وطعام الذين } ولما كان سبب الحل الكتاب ، ولم يتعلق بذكر مؤتيه غرض ، بني الفعل للمجهول فقال : { أوتوا الكتاب } أي مما يصنعونه أو يذبحونه ، وعبر بالطعام الشامل لما ذبح وغيره وإن كان المقصود المذبوح ، لا غيره ، ولا يتخلف حاله من كتابي ولا غيره تصريحاً بالمقصود { حل لكم } أي تناوله لحاجتكم ، أي مخالطتهم للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية ، ولما كان هذا مشعراً بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم زاده تأكيداً بقوله : { وطعامكم حل لهم } أي فلا عليكم في بذله لهم ولا عليهم في تناوله .
ولما كانت الطيبات أعم من المطاعم وغيرها ، وكانت الحاجة إلى المناكح بعد الحاجة إلى المطاعم ، وكانت المطاعم حلالاً من الجانبين والمناكح من جانب واحد قال : { والمحصنات } أي الحرائر { من المؤمنات } ثم أكد الإشارة إلى إقرار أهل الكتاب فقال : { والمحصنات } أي الحرائر { من الذين أوتوا الكتاب } وبني الفعل للمفعول للعلم بمؤتيه مع أنه لم يتعلق بالتصريح به غرض .
ولما كان إيتاؤهم الكتاب لم يستغرق الزمن الماضي ، أثبت الجار فقال : { من قبلكم } أي وهم اليهود والنصارى ، وعبر عن العقد بالصداق للملابسة فقال مخرجاً للأمة لأنها لا تعطى الأجر وهو الصداق ، لأنها لا تملكه بل يعطاه سيدها : { إذا آتيتموهن أجورهن } أي عقدتم لهن ، ودل مساق الشرط على تأكد وجوب الصداق ، وأن من تزوج وعزم على عدم الإعطاء ، كان في صورة الزاني ، وورد فيه حديث ، وتسميته بالأجر تدل على أنه لا حد لأقله .
ولما كان المراد بالأجر المهر ، وكان في اللغة يطلق على ما يعطاه الزانية أيضاً ، بينه بقوله : { محصنين } أي قاصدين الإعفاف والعفاف { غير مسافحين } أي قاصدين صب الماء لمجرد الشهوة جهاراً { ولا متخذي أخذان } أي صدائق لذلك في السر ، جمع خدن ، وهو يقع على الذكر والأنثى ، فكانت هذه الآية مخصصة لقوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [ البقرة : 221 ] فبقي على التحريم مما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهن من جميع المشركات حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام ، وصرح هنا بالمؤمنات المقتضي لهن قوله تعالى في النساء { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] وقوله { ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات } [ النساء : 25 ] ولعل ذكر وصف الإحصان الواقع على العفة للتنبيه على أنه لا يقصد المتصفة بغيره لمجرد الشهوة إلا من سلب الصفات البشرية ، وأخلد إلى مجرد الحيوانية ، فصار في عداد البهائم ، بل أدنى ، مع أن التعليق بذلك الوصف لا يفهم الحرمة عند فقده ، بل الحل من باب الأولى ، لأن من حكم مشروعية النكاح الإعفاف ، فإذا شرع إعفاف العفائف كان شرع إعفاف غيرهن أولى ، لأن زناها إما لشهوة أو حاجة ، وكلاهما للنكاح مدخل عظيم في نفيه . والله أعلم .
ولما كان السر في النهي عن نكاح المشركات في الأصل ما يخشى من الفتنة ، وكانت الفتنة - وإن علا الدين روسخ الإيمان واليقين . لم تنزل عن درجة الإمكان ، وكانت الصلاة تسمى إيماناً لأنها من أعظم شرائعه { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم ، وروى الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ، فإن صلحت صلح سائر عمله ، وإن فسدت فسد سائر عمله » وله في الأوسط أيضاً بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة ينظر في صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر « وكانت مخالطة الأزواج مظنة للتكاسل عنها ، ولهذا أنزلت آية { حافظوا على الصلوات } [ البقرة : 238 ] كما مضى بالمحل الذي هي به ، لما كان ذلك كذلك ختمت هذه الآية بقوله تعالى منفرداً من نكاحهن بعد إحلاله ، إشارة إلى أن الورع ابتعد عنه ، امتثالاً للآيات الناهية عن موادة المحاد لئلا يحصل ميل فيدعو إلى المتابعة ، أو يحصل ولد ، فتستميله لدينها : { ومن } أي أحل لكم ذلك والحال أنه من { يكفر } أي يوجد ويجدد الكفر على وجه طمأنينة القلب به والاستمرار عليه إلى الموت { بالإيمان } أي بسبب التصديق القلبي بكل ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب ، الذي منه حل الكتابيات ، فيدعوه ذلك إلى نكاحهن ، فتحمله الخلطة على اتباع دينهن ، فيكفر بسبب ذلك التصديق فيكفر بالصلاة التي يلزم من الكفر بها الكفر به ، فإطلاقه عليها تعظيم لها
{ وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم { فقد حبط } أي فسد { عمله } أي إذا اتصل ذلك بالموت بدليل قوله : { وهو في الآخرة من الخاسرين * } والآية من أدلة إمانا الشافعي على استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه ، فحيث قصد التحذير من الكفر حقيقة فالإيمان حقيقة وحيث أريد الترهيب من إضاعة الصلاة فهو مجاز ، ومما يؤيد ذلك أن في السفر الثاني من التوراة : لا تعاهدن سكان الأرض لكيلا تضلوا بأوثانهم ، وتذبحوا لآلهتهم ، أو يدعوك فتأكل من ذبائحهم ، وتزوج بنيك من بناتهم وبناتك من بنيهم ، فتضل بناتك خلف آلهتهم ويضل بنوك بآلهتهم ، وقال في الخامس منها : وإذا أدخلكم الله ربنا الأرض التي تدخلونها لترثوها ، وأهلك شعوباً كثيرة من بين أيديكم : حتانيين وجرجسانيين وأمورانيين وكنعانيين وفرزانيين وحاوانيين ويابسانيين . سبعة شعوب أكثر وأقوى منكم ، ويدفعهم الله ربكم في أيديكم فاضربوهم واقتلوهم وانفوهم وحرموهم ولا تعاهدوهم عهداً ولا ترحموهم ، وتحاشوهم ولا تزوجوا بناتكم من بنيهم ، ولا تزوجوا بنيكم من بناتهم لئلا يغوين بنيكم عن عبادتي ، ويخدعنهم فيعبدوا آلهة أخرى ، ويشتد غضب الرب عليكم ويهلككم سريعاً ، ولكن اصنعوا بهم هذا الصنيع : استأصلوا مذابحهم ، وكسروا أنصابهم ، وحطموا أصنامهم المصبوغة ، وأحرقوا أوثانهم المنحوتة ، لأنكم شعب طاهر لله ربكم - انتهى . وإذا تأملت جميع ذلك ، وأمعنت فيه النظر لاح لك سرُّ تعقيبها بقوله تعالى في سياق مشير إلى البشارة بأن هذه الأمة تطيع ولا تعصى فتؤمن ولا تكفر ، لما خص به كتابها من البيان الأتم في النظم المعجز مع شرف التذكير بما أفاضه من شرف جليل الأيادي ، فافتتح هذه السورة بالأمر بالوفاء بحق الربوبية ، وأتبعه التذكير بما وفى به سبحانه من حق الربوبية من نوع المنافع في لذة المطعم وتوابعه ولذة المنكح وتوابعه ، وقدم المطعم لأن الحاجة إليه فوق الحاجة إلى المنكح ، فلما أتم ما ألزمه نفسه الأقدس من عهد الربوبية فضلاً منه ، أتبعه الأمر بالوفاء بعهد العبودية ، وقدم منه الصلاة لأنها أشرفه بعد الإيمان ، وقدم الوضوء لأنه شرطها فقال : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا به! صدقوه بأنكم { إذا } عبر بأداة التحقيق بشارة بأن الأمة مطيعة { قمتم } أي بالقوة ، وهي العزم الثابت على القيام الذي هو سبب القيام { إلى الصلاة } أي جنسها محدثين ، لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بجمعه بعده صلوات بوضوء واحد وإن كان التجديد أكمل ، وخصت الصلاة ومس المصحف من بين الأعمال بالأمر بالوضوء تشريفاً لهما ويزيد حمل الإيمان على الصلاة حسناً تقدم قوله تعالى
{ اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] الثابت أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد عصر يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم على ناقته يخطب ، وكان من خطبته في ذلك الوقت أو في يوم النحر أو في كليهما : « ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم » رواه أحمد ومسلم في صفة القيامة والترمذي عن جابر رضي الله عنه ، فقوله « المصلون » إشارة إلى أن الماحي للشرك هو الصلاة ، فما دامت قائمة فهو زائل ، ومتى زالت والعياذ بالله - رجع ، وإلى ذلك يشير ما رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن جابر رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » بين العبد والكفر ترك الصلاة « وللأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم عن بريدة رضي الله عنه » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر » ولأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة ، وآخر ما يبقى الصلاة « . ولما كان الوضوء في سورة النساء إنما هو على سبيل الإشارة إجمالاً ، صرح به هنا على سبيل الأمر وفصله ، فقال مجيباً للشرط إعلاماً بأن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة ، لأن المعلق على الشيء بحرف الشرط يعدم عند عدم الشرط : { فاغسلوا } أي لأجل إرادة الصلاة ، ومن هنا يعلم وجوب النية ، لأن فعل العاقل لا يكون إلا مقصوداً ، وفعل المأمور به لأجل الأمر هو النية { وجوهكم } وحدّ الوجه منابت شعر الرأس ومنتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً ، وليس منه داخل العين وإن كان مأخوذاً من المواجهة ، لأنه من الحرج ، وكذا إيصال الماء إلى البشرة إذا كثفت اللحية خفف للحرج واكتفى عنه بظاهر اللحية ، وأما العنفقة ونحوها من الشعر الخفيف فيجب { وأيديكم } .
ولما كانت اليد تطلق على ما بين المنكب ورؤوس الأصابع ، قال مبيناً إن ابتداء الغسل يكون من الكفين ، لأنهما لعظم النفع أولى بالاسم : { إلى المرافق } أي آخرها ، أخذاً من بيان النبي صلى الله عليه وسلم بفعله ، فإنه كان يدير الماء على مرفقيه ، وإنما كان الاعتماد على البيان لأن الغاية تارة تدل كقوله تعالى { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] وتارة لا تدخل كقوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى اللّيل }
[ البقرة : 187 ] والمرفق ملتقى العظمين ، وعفي عما فوق ذلك تخفيفاً { وامسحوا } ولما عدل عن تعدية الفعل إلى الرأس ، فلم يفعل كما فعل في الغسل مع الوجه ، بل أتى بالباء فقال : { برءوسكم } علم أن المراد إيجاد ما يسمى مسحاً في أي موضع كان من الرأس ، دون خصوص التعميم وهو معنى قول الكشاف : المراد إلصاق المسح بالرأس ، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح .
ولما كان غسل الرجل مظنة الإسراف فكان مأموراً بالاقتصاد فيه ، وكان المسح على الخف سائغاً كافياً ، قرىء : { وأرجلكم } بالجر على المجاورة إشارة إلى ذلك أو لأن الغاسل يدلك في الأغلب ، قال في القاموس : المسح كالمنع : إمرار اليد على الشيء السائل . فيكون في ذلك إشارة أيضاً إلى استحباب الدلك ، والقرينة الدالة على استعمال هذا المشترك في أحد المعنيين قراءة النصب وبيان النبي صلى الله عليه وسلم ، ومر استعماله فيه وفيه الإشارة إلى الرفق بالنصب على الأصل .
ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب من الأسفل إلى آخرها ، خص بقوله دالاً بالغاية على أن المراد الغسل - كما مضى في المرافق ، لأن المسح لم يرد فيه غاية في الشريعة وعلى أن ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأصابع ، لأن القدم بعظم نفعه أولى باسم الرجل : { إلى الكعبين } وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم ، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين ، ولو قيل : إلى الكعاب ، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل - كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده ، والفصل بالمسح بين المغسولات معلم بوجوب الترتيب ، لأن عادة العرب - كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب - أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب ، وقال غيره معللاً لما ألزمته العرب : ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن في الكلام البليغ لغير فائدة ، فوجب تنزيه كلام الله عنه أيضاً ، فدلالة الآية على وجوب البداءة بالوجه مما لا مدفع له لترتيبها له بالحراسة على الشرط بالفاء ، وذلك مقتضٍ لوجوب الترتيب في الباقي إذ لا قائل بالوجوب بالبعض دون البعض ، ولعل تكرير الأمر بالغسل والتيمم للاهتمام بهما ، وللتذكير بالنعمة في التوسعة بالتيمم ، وأن حكمه باقٍ عند أمنهم وسعتهم كراهة أن يظن أنه إنما كان عند خوفهم وقلتهم وضيق التبسط في الأرض ، لظهور الكفار وغلبتهم ، كما كان المتعة تباح تارة وتمنع أخرى نظراً إلى الحاجة وفقدها ، وللإشارة إلى أنه من خصائص هذه الأمة ، والإعلام بأنه لم يُرد به ولا بشيء من المأمورات والمنهيات قبله الحرج ، وإنما أراد طهارة الباطن والظاهر من أدناس الذنوب وأوضار الخلائق السالفة ، فقال تعالى معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنه قد يقع وقد لا يقع وهو نادر على تقدير وقوعه ، عاطفاً على ما تقديره : هذا إن كنتم محدثين حدثاً أصغر : { وإن كنتم } أي حال القصد للصلاة { جنباً } أي ممنين باحتلام أو غيره { فاطهروا } أي بالغسل إن كنتم خالين عن عذر لجميع البدن ، لأنه أطلق ولم يخص ببعض الأعضاء كما في الوضوء .
ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء ، وبدأ بالوضوء لعمومه ، ذكر الطهارة رخصة بالتراب ، فقال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة : { وإن كنتم مرضى } أي بجراح أو غيره ، فلم تجدوا ماء حساً أو معنى بعدم القدرة على استعماله وأنتم جنب { أو على سفر } طويل أو قصير كذلك ، ولما ذكر الأكبر أتبعه الأصغر فقال { أو جاء أحد منكم } وهو غير جنب { من الغائط } أي الموضع المطمئن من الأرض وهو أي مكان التخلي ، أي قضيتم حاجة الإنسان التي لا بد له منها ، وينزه الكتاب عن التصريح بها لأنها من النقائص المذكِّرة له بشديد عجزه وعظيم ضرورته وفقره ليكف من إعجابه وكبره وترفعه وفجره . كما ورد أن بعض الأمراء لقي بعض البله في طريق فلم يفسح له ، فغضب وقال : كأنك ما تعرفني؟ فقال بلى والله! إني لأعرفك ، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة .
ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما يعم الأكبر فقال : { أو لامستم النساء } أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا { فلم تجدوا ماء } أي حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره { فتيمموا } أي اقصدوا قصداً متعمداً { صعيداً } أي تراباً { طيباً } أي طهوراً خالصاً { فامسحوا } .
ولما كان التراب لكثافته لا يصل إلى ما يصل إليه الماء بلطافته ، قصَّر الفعل وعدَّاه بالحرف إشارة إلى الاكتفاء بمرة والعفو عن المبالغة ، وبينت السنة أن المراد جميع العضو ، فقال : { بوجوهكم وأيديكم منه } أي حال النية التي هي القصد الذي هو التيمم ، ثم أشار لهم إلى حكمته سبحانه في هذه الرخصة فقال مستأنفاً : { ما يريد الله } أي الغنى الغنى المطلق { ليجعل عليكم } وأغرق في النفي بقوله : { من حرج } أي ضيق علماً منه بضعفكم ، فسهل عليكم ما كان عسره على من كان قبلكم ، وإكراماً لكم لأجل نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فلم يأمركم إلا بما يسهل عليكم ليقل عاصيكم { ولكن يريد ليطهركم } أي ظاهراً وباطناً بالماء والتراب وامتثال الأمر على ما شرعه سبحانه ، عقلتم معناه أو لا ، مع تسهيل الأوامر والنواهي لكيلا يوقعكم التشديد في المعصية التي هي رجس الباطن { وليتم نعمته } أي في التخفيف في العزائم ثم في الرخص ، وفي وعدكم بالأجور على ما شرع لكم من الأفعال { عليكم } لأجل تسهيلها ، ليكون فعلكم لها واستحقاقكم لما رتب عليها من الأجر مقطوعاً به ، إلا لمن لج طبعه في العوج ، وتمادى في الغواية والجهل والبطر { لعلكم تشكرون * } أي وفعل ذلك كله .
هذا التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل عليكم حال من يرجى صرفه لنعم ربه عليه في طاعته المسهلة له المحببة إليه ، روى البخاري في التفسير وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء . وفي رواية : سقط قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة ، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل ، فثنى رأسه في حجري راقداً . فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة؟ فجاء أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال : حبست النبي صلى الله عليه وسلم في قلادة ، فبي الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجعني ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد ، فنزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ، وفي رواية : فأنزل الله آية التيمم { فتيمموا } فقال أسيد بن حضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر! ما أنتم إلا بركة لهم ، وفي رواية : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فإذا العقد تحته » وفي رواية له عنها في النكاح أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها ، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم ، فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيراً! فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً ، وجعل للمسلمين فيه بركة « وهذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت قبل آية النساء ، فكانت تلك نزلت بعد ذلك لتأكيد هذا الحكيم ومزيد الامتنان به ، لما فيه من عظيم اليسر وليحصل في التيمم من الجناية نص خاص ، فيكون ذلك أفخم لشأنها وأدل على الاهتمام به .
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
ولما كان في هذه المأمورات والمنهيات خروج عن المألوفات ، وكانت الصلاة أوثق عرى الدين ، وكان قد عبر عنها بالإيمان الذي هو أصل الدين وأساس الأعمال ، عطف عليها قوله تذكيراً بما يوجب القبول والانقياد : { واذكروا } أي ذكر اتعاظ وتأمل واعتبار .
ولما كان المقصود من الإنعام غايته قال : { نعمة الله } أي الملك الأعلى { عليكم } أي في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، وفي غير ذلك من جميع النعم ، وإنما لم تجمع لئلا يظن أن المقصود تعداد النعم ، لا الندب إلى الشكر بتأمل أن هذا الجنس لا يقدر عليه غيره سبحانه وعظَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يستحقه بجعل فعله سبحانه فعله صلى الله عليه وسلم فقال : { وميثاقه } أي عقده الوثيق { الذي واثقكم به } أي بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم حين بايعكم ليلة العقبة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره { إذ } أي حين { قلتم سمعنا وأطعنا } وفي ذلك تحذير من مثل ما أراد بهم شاس بن قيس ، وتذكير بما أوجب له صلى الله عليه وسلم عليهم من الشكر بهدايته لهم إلى الإسلام المثمر لالتزام تلك العهود ليلة العقبة الموجبه للوفاء الموعود عليه الجنة ، والتفات إلى قوله أول السورة { أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] وحديث إسباغ الوضوء على المكاره مبيّن لحسن هذه التناسب .
ولما كان أمر الوفاء بالعهد صعباً ، لا يقوم به إلا من صدقت عريقته وصلحت سريرته ، وإنما يحمل عليه مخافة الله قال : { واتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين ما يغضب الملك الأعظم . الذي يفعل ما يشاء . من نقض العهد وقاية من حسن القيام ، لتكونوا في أعلى درجات وعيه ، ثم علل ذلك مرغباً مرهباً بقوله : { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { عليم } أي بالغ العلم { بذات الصدور * } أي أحوالها من سرائرها وإن كان صاحبها لم يعلمها لكونها لم تبرز إلى الوجود ، وعلانيتها وإن صاحبها قد نسيها .
ولما تقدم القيام إلى الصلاة ، وتقدم ذكر الأزواج المأمور فيهن بالعدل في أول النساء وأثنائها ، وكان في الأزواج المذكورات هنا الكافرات ، ناسب تعقيب ذلك بعد الأمر بالتقوى بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان ولما كان العدل في غاية الصعوبة على الإنسان ، فكان لذلك يحتاج المتخلق به إلى تدريب كبير ليصير صفة راسخة ، عبر بالكون فقال تعالى : { كونوا قوّامين } أي مجتهدين في القيام على النساء اللاتي أخذتموهن بعهد الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وعلى غيرهن في الصلاة وغيرها من جميع الطاعات التي عاهدتم على الوفاء بها .
ولما كان مبنى السورة على الوفاء بالعهد الوثيق ، وكان الوفاء بذلك إنما يخف على النفوس ، ويصح النشاط فيه ، ويعظم العزم عليه بالتذكير بجلالة موثقة وعدم انتهاك حرمته ، لأن المعاهد إنما يكون باسمه ولحفظ وحده ورسمه ، قدم قوله : { لله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء .
بخلاف ما مضى في النساء .
ولما كان من جملة المعاقد عليه ليلة العقبة « ليلة تواثقوا على الإسلام » أن يقولوا الحق حيث ما كانوا ، لا يخافون في الله لومة لائم ، قال : { شهداء } أي متيقظين محضرين أفهامكم غاية الإحضار بحيث لا يسد عنها شيء مما تريدون الشهادة به { بالقسط } أي العدل ، وقال الإمام أبو حيان في نهره : إن التي جاءت في سورة النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين ، فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة ، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والاحن ، فبدىء فيها بالقيام لله إذ كان الأمر بالقيام لله أولاً أردع للمؤمنين ، ثم أردف بالشهادة بالعدل ، فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيها بما هو آكد وهو القسط ، والتي في معرض العدواة والشنآن ، بدىء فيها بالقيام لله ، فناسب كل معرض ما جيء به إليه ، وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله { ولن تستطيعوا أن تعدلوا } [ النساء : 129 ] وقوله { فلا جناح عليهما أن يصلحا } [ النساء : 128 ] فناسب ذكر تقديم القسط ، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط - انتهى .
ولما كان أمر بهذا الخبر ، نهى مما يحجب عنه فقال : { ولا يجرمنكم } أي يحملنكم { شنئان قوم } أي شدة عداوة من لهم قوة على القيام في الأمور من المشركين ، بحيث يخشى من إهمالهم ازدياد قوتهم { على ألا تعدلوا } أي أن تتركوا قصد العدل ، وهو يمكن أن يدخل فيه بغض أهل الزوجة الكافرة أو ازدراؤها في شيء من حقوقها لأجل خسة دينها ، فأمروا بالعدل حتى بين هذه المرأة الكافرة وضرّاتها المسلمات ، وإذا كان هذا شأن الأمر به في الكافر فما الظن به في المسلم؟ ثم استأنف قوله آمراً بعد النهي تأكيداً لأمر العدل : { اعدلوا } أي تحروا العدل واقصدوه في كل شيء حتى في هذه الزوجات وفيمن يجاوز فيكم الحدود ، فكلما عصوا الله فيكم أطيعوه فيهم ، فإن الذي منعكم من التجاوز وفيمن يجاوز فيكم الحدود ، فكلما عصوا الله فيكم أطيعوه فيهم ، فإن الذي منعكم من التجاوز خوفه يريكم من النصرة وصلاح الحال ما يسركم .
ولما كان ترك قصد العدل قد يقع لصاحبه العدل اتفاقاً ، فيكون قريباً من التقوى ، قال مستأنفاً ومعللاً : { هو } أي قصد العدل { أقرب } أي من ترك قصده { للتقوى } والإحسان الذي يتضمنه الصلح أقرب من العدل إليها ، وتعدية { أقرب } بالام دون إلى المقتضية لنوع بعد زيادة في الترغيب - كما مر في البقرة؛ ولما كان الشيء لا يكون إلا بمقدماته ، وكان قد علم من هذا أن العدل مقدمة التقوى ، قال عاطفاً على النهي أو على نحو : فاعدلوا : { واتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية بالإحسان فضلاً عن العدل ، ويؤيد كون الآية ناظرة إلى النكاح مع ما ذكر ختام آية الشقاق التي في أول النساء بقوله
{ إن الله كان عليماً خبيراً } [ النساء : 35 ] ، وختام قوله تعالى في أواخرها وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو اعراضاً بقوله { فإن الله كان بما تعملون خبيراً } وختام هذه بقوله معللاً لما قبله : { إن الله } أي المحيط بصفات الكمال { خبير بما تعملون* } لأن ما بين الزوجين ربما دق علمه عن إدراك غير العليم الخبير؛ وقالو أبو حيان : لما كان الشنآن محله القلب ، وهو الحامل على ترك العدل ، أمر بالتقوى وأتى بصفة { خبير } ومعناها عليم ولكنها مما تختص بما لطف إدراكه انتهى . { وشهداء } يمكن أن يكون من الشهادة التي هي حضور القلب - كما تقدم من قوله { أو ألقى السمع وهو شهيد } [ ق : 37 ] وأن يكون من الشهادة المتعارفة ، ويوضح المناسبة فيها مع تأييد إرادتها كونها بعد قوله { إن الله عليم بذات الصدور } [ آل عمران : 119 ] ومع قوله تعالى : { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } [ البقرة : 283 ] وختام آية النساء التي في الشهادة بقوله : { وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } [ النساء : 135 ] كما ختمت هذه بمثل ذلك .
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
ولما أمر سبحانه ونهى ، بشر وحذر فقال : { وعد الله } أي الملك الذي له الكمال المطلق فله كل شيء { الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان بألسنتهم { وعملوا } تصديقاً لهذا الإقرار { الصالحات } وترك المفعول الثاني أقعد في باب البشارة ، فإنه يحتمل كل خير ، وتذهب النفس في تحريزه كل مذهب .
ولما كان الموعود شيئين : فضلاً وإسقاط حق قدم الإسقاط تأميناً للخوف فقال واضعاً له موضع الموعود في صيغة دالة على الثبات والاختصاص : { لهم مغفرة } أي لما فرط منهم لما طبع الإنسان عليه من النقص نسياناً أو عمداً ، بعمل الواجبات إن كان صغيرة ، وبالتوبة إن كان كبيرة ، وفيه إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره؛ ولما أمنهم بالتجاوز أتبعه الجود بالعطاء فقال { وأجر } أي على قدر درجاتهم من حسن العمل { عظيم * } أي لا يدخل تفاوت درجاته تحت الحصر .
ولما قدم الوعد لأنه في سورة الذين آمنوا أتبعه الوعيد لأضدادهم ، وهو أعظم وعد لأحبابه المؤمنين أيضاً فقال : { والذين كفروا } أي غطوا ما اتضح لعقولهم من أدلة الوحدانية { وكذبوا } أي زيادة على الستر بالعناد : { بآياتنا } على ما لها من العظمة في أنفسها وبإضافتها إلينا { أولئك } أي البغضاء البعداء من الرحمة خاصة { أصحاب الجحيم * } أي النار التي اشتد توقدها فاشتد احمرارها ، فلا يراها شيء إلا أحجم عنها ، فهم يلقون فيها بما أقدموا على ما هو أهل للإجحام عنه من التكذيب بما لا ينبغي لأحد التكذيب به ، ثم يلازمونها فلا ينفكون عنها كما هو شأن الصاحب .
ولما كان من الأجر ما يحصل من أسباب السعادة في الدنيا ، قال تعالى ذاكراً لهم بعض ذلك مذكراً ببعض ما خاطبهم به ليقدموا على مباينة الكفرة ويقفوا عند حدوده كائنة ما كانت : { يا أيها الذين آمنوا } أي صدقوا بالله ورسوله وكتابه { اذكروا نعمت الله } أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً { عليكم } عظمها بإبهامها ، ثم زادها تعظيماً بالتذكير بوقتها فقال : { إذ } أي حين { همّ قوم } أي لهم قوة ومنعه وقدرة على ما يقومون فيه { أن يبسطوا إليكم أيديهم } أي بالقتال والقتل ، وهو شامل - مع ذكر من أسباب نزوله - لما اتفق صبيحة ليلة العقبة من أن قريشاً تنطست الحبر عن البيعة ، فلما صح عندهم طلبوا أهل البيعة ففاتوهم إلا أنهم أدركوا سعد بن عبادة بأذاخر ، والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة ، وكلاهما كان نقيباً ، فأما المنذر فأعجزهم ، وأما سعد فأخذوه فربطوه وأقبلوا يضربونه ، حتى خلصه الله منهم بجبير بن مطعم والحارث بن حرب بن أمية بما كان بينه وبينهما من الجوار ، فكان في سوق الآية بعد آية الميثاق الذي أعظمه ما كان ليلة العقبة أعظم مذكر بذلك { فكف أيديهم عنكم } أي مع قلتكم وكثرتهم وضعفكم وقوتهم ، ولم يكن لكم ناصر إلا الذي آمنتم به تلك الليلة وتوكلتم عليه وبايعتم رسوله ، فكف ببعض الأعداء عنكم أيدي بعض ، ولو شاء لسلطهم عليكم كما سلط ابن آدم على أخيه؛ وينبغي أن يعلم أن القصة التي عُزِيت في بعض التفاسير هنا إلى بني قريظة في الاستعانة في دية القتيلين إنما هي لبني النضير ، وهي كانت سبب إجلائهم .
ولما أمرهم بذكر النعمة ، عطف على ذلك الأمر الأمر بالخوف من المنعم أن يبدل نعمته بنقمة فقال : { واتقوا الله } أي الملك الذي لا يطاق انتقامه لأنه لا كفوء له ، حذراً من أن يسلط عليكم أعداءكم ومن غير ذلك من سطواته .
ولما كان التقدير : على الله وحده في كل حالة فتوكلوا ، فإنه جدير بنصر من انقطع إليه ولم يعتمد إلا عليه ، عطف على ذلك قوله تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف : { وعلى الله } أي وحده لكونه لا مثل له { فليتوكل المؤمنون * } أي في كل وقت فإنه يمنعهم إذا شاء كهذا المنع وإن اشتد الخطب وتعاظم الأمر ، فتوكلوا ولا تنكلوا عن أعدائكم الذين وعدكم الله أرضهم وديارهم وأبناءهم وتهابوا جموعهم كما هاب بنو إسرائيل - كما سيقص عليكم ، وقوله هنا { المؤمنون } وفي قصة بني إسرائيل { إن كنتم مؤمنين } شديد التآخي ، معلم بمقامي الفريقين ، وحينئذ حسن كل الحسن تعقيبها مع ما تقدم من أمر العقبة وأمر بني النضير في نقضهم عهدهم وغدرهم ، بما هموا به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء الرحى عليه من سطح البيت الذي أجلسوه إلى جانبه ، بقوله إشارة إلى أن اليهود ما زالوا على النقض قديماً ، تحذيراً للمؤمنين من أن يكونوا مثلهم في النقض لئلا يحل بهم ما حل بهم من الصغار ، وإعلاماً بأن عادته سبحانه في الإلزام بالتكاليف قديمة غير مخصوصة بهم ، بل هي عامة لعباده وقد كلف أهل الكتاب ، تشريفاً لهم بمثل ما كلفهم به ، ورغبهم ورهبهم ليسابقوهم في الطاعة ، فإن الأمر إذا عم هان ، والإنسان إذا سابق اجتهد في أخذ الرهان ، وأكد الخبر بذلك لئلا يظن لشدة انهماكهم في النفس أنه لم يسبق لهم عهد قبل ذلك فقال تعالى : { ولقد أخذ الله } أي بما له من جميع الجلال والعظمة والكمال { ميثاق بني إسرائيل } أي العهد الموثق بما أخذ عليكم من السمع والطاعة { وبعثنا } أي بما لنا من العظمة { منهم اثني عشر نقيباً } أي شاهداً ، على كل سبط نقيب يكفلهم بالوفاء بما عليهم من الوفاء به - كما بعثنا منكم ليلة العقبة اثني عشر نقيباً وأخذنا منكم الميثاق على ما أحاله الإسلام - كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه في تخلفه عن تبوك : « ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام » وأما تفصيله فمذكور في السير ، والنقيب : الذي ينقب عن أحوال القوم كما قيل : عريف ، لأنه يتعرفها ، ومن ذلك المناقب وهي الفضائل ، لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها { وقال الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لبني إسرائيل ، وأكد لتكرر جزعهم وتقلبهم فقال : { إني معكم } وهو كناية عن الكفاية لأن القادر إذا كان مع أحد كان كذلك إذا لم يغضبه .
ولما أنهى الترغيب بالمعية استأنف بيان شرط ذلك بقوله مؤكداً لمثل ما مضى : { لئن اقمتم } أي أنشأتم { الصلاة } أي التي هي صلة ما بين العبد والخالق بجميع شروطها وأركانها؛ ولما كان المقصود من الإنفاق المؤاساة بالإيتاء قال : { وآتيتم الزكاة } أي التي هي بين الحق والخلائق .
ولما كان الخطاب مع من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام ، وكانوا في كل قليل يتردعون عن اتباعه أو كمال اتباعه ، وكان سبحانه عالماً بأن ميلهم بعده يكون أكثر ، فرتب في الأزل أنه تواتر إليهم بعده الرسل يحفظونهم عن الزيغ ويقومون منهم الميل قال : { وآمنتم برسلي } أي أدمتم الإيمان بموسى عليه السلام ، وجددتم الإيمان بمن يأتي بعده ، فصدقتموهم في جميع ما يأمرونكم به { وعزرتموهم } أي ذببتم عنهم ونصرتموهم ومنعتموهم أشد المنع ، والتعزير والتأزير من باب واحد .
ولما كان من أعظم المصدق للإيمان ونصر الرسل بذل المال فهو البرهان قال : { وأقرضتم الله } أي الجامع لكل وصف جميل { قرضاً حسناً } أي بالإنفاق في جميع سبل الخير ، وأعظمها الجهاد والإعانة فيه للضعفاء .
ولما كان الإنسان محل النقصان ، فهو لا ينفك عن زلل أو تقصير وإن اجتهد في صالح العمل ، قال سادّاً . بجواب القسم الذي وطّأت له اللام الداخلة على الشرط - مسدّ جواب الشرط : { لأكفرن } أي لأسترن { عنكم سيئاتكم } أي فعلكم لما من شأنه أن يسوء { ولأدخلنكم } أي فضلاً مني { جنات تجري } ولما كان الماء لا يحسن إلا بقربه وانكشافه عن بعض الأرض قال : { من تحتها الأنهار } أي من شدة الريّ { فمن كفر } ولما كان الله سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولاً . وكان المهلك من المعاصي بعد الإرسال ما اتصل بالموت فأحبط ما قبله ، نزع الجار فقال : { بعد ذلك } أي الشرط المؤكد بالأمر العظيم الشأن { منكم } أي بعد ما رأى من الآيات واقرّ به من المواثيق { فقد ضل } أي ترك وضيّع ، يُستعمل قاصراً بمعنى : حار ، ومتعدياً كما هنا { سواء } أي وسط وعدل { السبيل * } أي لأن ذلك كفر بعد البيان العظيم فهو أعظم من غيره ، وفي هذا تحذير شديد لهذه الأمة ، لأن المعنى : فإن نقضتم الميثاق - كما نقضوا - بمثل استدراج شاس بن قيس وغيره ، صنعنا بكم ما صنعنا بهم حين نقضوا ، من إلزامهم الذلة والمسكنة وغير ذلك من آثار الغضب ، وإن وفيتم بالعقود آتيناكم أعظم مما آتيناهم من فتح البلاد والظهور على سائر العباد؛ قال ابن الزبير : ولهذا الغرض والله أعلم - أي غرض التحذير من نقض العهد - ذكر هنا العهد المشار إليه في قوله تعالى
{ أوفوا بعهدي } [ البقرة : 40 ] فقال تعالى : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } إلى قوله { فقد ضل سواء السبيل } [ المائدة : 12 ] ثم بين نقضهم وبنى اللعنة وكل محنة ابتلوا بها عليه فقال { فبما نقضهم ميثاقهم } [ النساء : 55 والمائدة : 13 ] وذكر تعالى عهد الآخرين فقال { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } [ المائدة : 14 ] ثم فصل تعالى للمؤمنين أفعال الفريقين ليتبين لهم ما نقضوا فيه من ادعائهم في المسيح ما ادعوا ، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه ، وكفهم عن فتح الأرض المقدسة ، وإسرافهم في القتل وغيره ، وتغييرهم أحكام التوراة - إلى غير ذلك مما ذكره في هذه السورة ، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا } [ المائدة : 82 ] انتهى . وينبغي ذكر النقباء من هذه الفرق الثلاث بأسمائهم وما دعي إلى ذلك تحقيقاً للأمر وزيادة تبصرة ، أما اليهود فكان فيهم ذلك مرتين : الأولى : قال في السفر الرابع من التوراة : إن الرب تبارك اسمه كلم موسى النبي في جبل سينا وفي قبة الأمد في أول يوم من الشهر الثاني في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر وقال الله : احص عدد جماعة بني إسرائيل كلها في قبائلهم . كل ذكر من أبناء عشرين سنة إلى فوق ، كل من يخرج في الحرب ، وأحصهم أنت وأخوك هارون ، وليكن معكما من كل سبط رجل ويكون الرجل رئيساً في بيته ، ثم بين بعد ذلك أن كل رجل منهم يكون قائد جماعته ، ينزلون بنزوله حول قبة الزمان ويرحلون برحيله ، ويطيعونه فيما يأمر به ، ففعل موسى وهارون ما أمرهما الله به وانتدبوا اثني عشررجلاً كما أمر الله ، فمن سبط روبيل : إليصور بن شداور ، ومن سبط شمعون : سلوميل بن صور يشدي ، ومن سبط يهودا : نحسون بن عمينا ذاب ، ومن سبط إيشاخار : نتنائيل بن ضوغر ، ومن سبط زابلون : أليب بن حيلون ، ومن سبط يوسف من آل إفرائيم : إليسمع بن عميهوذ . ومن سبط منشا : جماليال بن فداهصور - قلت : ومنشا هو ابن يوسف وهو أخو إفرائيم - ومن سبط بنيامين : أبيذان بن جدعوني ، ومن سبط دان : أخيعزر بن عميشدي ، ومن سبط آشير : فجعائيل بن عخرن ، ومن سبط جاد : إليساف بن دعوائيل ، ومن سبط نفتالي : أخيراع ابن عينان؛ وسبط لاوي هم سبط موسى وهارون عليهما السلام لم يذكروا لأنهم كانوا لحفظ قبة الزمان ، فموسى وهارون عليهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم على قومه - كما سيأتي ، والمرة الثانية كانت ليجسّوا أمر بيت المقدس ، قال في أثناء هذا السفر : وكلم الرب موسى وقال له : أرسل قوماً يجسون الأرض التي أعطى بني إسرائيل ، وليكون الذين ترسل رجلاً من كل سبط من رؤساء آبائهم ، فأرسلهم موسى من برية فاران عن قول الرب ، رجالاً من رؤساء بني إسرائيل ، وهذه أسماءهم من سبط روبيل : ساموع بن ذكور ، ومن سبط شمعون : سافاط بن حوري ، ومن سبط يهودا : كالاب بن يوفنا ، ومن سبط إيشاخار : إجال بن يوسف ، ومن سبط إفرائيم : هو ساع بن نون ، ومن سبط بنيامين : فلطي بن رافو ، ومن سبط زابلون : جدي إيل بن سودي ، ومن سبط يوسف من سبط منشا : جدي بن سوسي ، ومن سبط دان : عميال بن جملي ، ومن سبط آشير : ساتور بن ميخائيل ، ومن سبط نفتالي : نجني بن وفسي ، ومن سبط جاد : جوائل بن ماخي؛ هؤلاء الذين أرسلهم وتقدم إليهم بالوصية .
وأما النصارى ففي إنجيل متى ما نصه : ودعا يعني عيسى عليه السلام . تلاميذه الاثني عشر ، وأعطاهم سلطاناً على جميع الأرواح النجسة لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض؛ وفي إنجيل مرقس : وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه ، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه ، ولكي يرسلهم ليكروزا ، وأعطاهم سلطاناً على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين؛ وفي إنجيل لوقا : ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وإشفاء المرضى ، وأرسلهم يكرزون مملكوت الله ويشفون الأوجاع ، وهذه أسماؤهم : شمعون المسمى بطرس ، وأندراوس أخوه ، ويعقوب بن زبدي ، ويوحنا أخوه - وقال في إنجيل مرقس : وسماهما باسم بوانرجس اللذين هما ابنا الرعد - وفيلبس ، وبرتولوماوي ، وتوما ، ومتى العَشّار ، ويعقوب بن حلفا ، وليا الذي يدعى بداوس وقد اختلفت الأناجيل في هذا ، ففي إنجيل مرقس بدله : تدي ، وفي إنجيل لوقا : يهودا بن يعقوب ، ثم اتفقوا : وشمعون القاناني - وفي إنجيل لوقا : المدعو الغيور - ويهودا الإسخريوطي الذي أسلمه . وأما نقباء الإسلام فكانوا ليلة العقبة الأخيرة حين بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار رضي الله عنهم على الحرب وأن يمنعوه إذا وصل إلى بلدهم ، وقال لهم صلى الله عليه وسلم : « أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم كما اختار موسى من قومه ، وأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً : تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ، فقال لهم : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل على قومي ، قالوا : نعم ، وهذه اسماؤهم من الخزرج : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وسعد بن عبادة ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك بن العجلان ، والبراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر ، وعبادة بن الصامت ، والمنذر بن عمرو؛ ومن الأوس : أسيد بن حضير ، وسعد بن خثيمة ، ورفاعة بن عبد المنذر ، وأبو الهيثم بن التيهان ، قال ابن هشام : وقال كعب بن مالك يذكرهم فيما أنشدني أبو زيد الأنصاري وذكر أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة فقال :
أبلغ أبيّاً أنه قال رأيه ... وحان غداة الشعب والحين واقع
أبى الله ما منتك نفسك إنه ... بمرصاد أمر الناس راءٍ وسامع
وأبلغ أبا سفيان أن قد بدا لنا ... بأحمد نور من هدى الله ساطع
فلا ترغبن في حشد أمر تريده ... وألب وجمع كل ما أنت جامع
ودونك فاعلم أن نقض عهودنا ... أباه عليك الرهط حين تبايعوا
أباه البراء وابن عمرو كلاهما ... وأسعد يأباه عليك ورافع
وسعد أباه الساعدي ومنذر ... لأنفك إن حاولت ذلك جادع
وما ابن ربيع إن تناولت عهده ... بمسلمه لا يطمعن ثم طامع
وأيضاً فلا يعطيكه ابن رواحة ... وإخفاره من دونه السم ناقع
وفاء به والقوقلي بن صامت ... بمندوحة عما تحاول يافع
أبو هيثم أيضاً وفى بمثلها ... وفاء بما أعطى من العهد خانع
وما ابن حضير إن أردت بمطمع ... فهل أنت عن أحموقة الغي نازع
وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه ... ضروح لما حاولت ملأمر مانع
اولاك نجوم لا يغبك منهم ... عليك بنحس في دجى الليل طالع
فأما نقباء اليهود في جسّ الأرض فلم يوف منهم إلا اثنان - كما سيأتي قريباً عن بعض التوراة التي بين أيديهم ، وأما نقباء النصارى فنقض منهم واحد - كما مضى عند قوله تعالى : { وما قتلوه وما صلبوه } [ النساء : 157 ] وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأنعام عند قوله تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } [ الأنعام : 19 ] ، وأما نقباؤنا فكلهم وفي وبرّ بتوفيق الله وعونه فله أتم الحمد .
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
ولما ذكر سبحانه ما أخذ على اليهود من الميثاق ووعيده لهم إن كفروا بعد ذلك ، ذكر أنهم نقضوا مرة بعد مرة - كما تقدم في سورة البقرة وغيرها كثير منه عن نص ما عندهم من التوراة - فاستحقوا ما هم فيه من الخزي ، فقال تعالى مسبباً عما مضى مؤكداً بما النافية لضد ما أثبته الكلام : { فبما نقضهم ميثاقهم } أي بتكذيب الرسل الآتين من بعد موسى عليه السلام ، وقتلهم الأنبياء ، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم في كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك لا بغير ذلك كما نقض بنو النضير فسلطكم الله عليهم بما أشار إليهم في سورة الحشر { لعناهم } أي أبعدناهم بعد أنا وعدناهم القرب بالكون معهم إن وفوا .
ولما كان البعيد قد يكون رقيق القلب ، متأسفاً على بعده . ساعياً في أسباب قربه ، باقياً على عافية ربه ، فيرجى بذلك له الغفران لذنبه . أخبر أنهم على غير ذلك بقوله : { وجعلنا } أي بعظمتنا { قلوبهم قاسية } أي صلبة عاسية بالغش فهي غير قابلة للنصحية ، لأن الذهب الخالص يكون ليناً ، والمغشوش يكون فيه يبس وصلابة ، وكل لين قابل للصلاح بسهولة ، ثم بين قساوتها بما دل على نقضهم بقوله : { يحرّفون الكلم } أي يجددون كل وقت تحريفه { عن مواضعه } فإنهم كلما وجدوا شيئاً من كلام الله يشهد بضلالهم حرفوه إلى شهواتهم ، وأولوه التأويل الباطل بأهوائهم ، فهم يحرفون الكلم ومعانيها .
ولما كانوا قد تركوا أصلاً ورأساً ما لا يقدرون لصراحته على تحريفه ، قال معبراً بالماضي إعلاماً بحرمهم بالبراءة من ذلك : { ونسوا حظاً } أي نصيباً نافعاً معلياً لهم { مما ذكروا به } أي من التوراة على ألسنة أنبيائهم عيسى ومن قبله عليهم السلام ، تركوه ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته به بحيث لم يكن لهم رجوع إليه ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية .
ولما ذكر سبحانه ما يفعلونه في حقه في كلامه الذي هو صفته ، أتبعه ما يعم حقه وحق نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه معلم أن الخيانة ديدنهم ، تسلية له صلى الله عليه وسلم فقال : { ولا تزال } أي بما نطلعك عليه يا أكرم الخلق! { تطلع } أي تظهر ظهوراً بليغاً { على خائنة } أي خيانة عظيمة تستحق أن تسمي فاعلها الخؤون لشدتها و { منهم } أي في حقك بقصد الأذى ، وفي حق الله تعالى بإخفاء بعض ما شرعه لهم { إلا قليلاً منهم } فإنهم يكونون على نهج الاستقامة إما بالإيمان ، وإما بالوفاء وهم متمسكون بالكفر ، ثم سبب عن هذا الذي في حقه صلى الله عليه وسلم قوله : { فاعف عنهم } أي امح ذنبهم ذلك الذي اجترحوه ، وهو دون النقض والتحريف فلا تعاقبهم عليه .
ولما كان العفو لا يمنع المعاتبة قال : { واصفح } أي وأعرض عن ذلك أصلاً ورأساً ، فلا تعاتبهم عليه كما لم تعاقبهم ، فإن ذلك إحسان منك ، وإذا أحسنت أحبك الله { إن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { يحب المحسنين * } وذلك - كما روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن الأعصم وفي رواية للبخاري : إنه رجل من بني زريق حليف ليهود وكان منافقاً - حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وذلك أشد السحر ، ثم إن الله تعالى شفاه وأعلمه أن السحر في بئر ذروان ، فقالت له عائشة رضي الله عنها : أفلا أخرجته؟ فقال : لا ، أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شراً ، فأمر بها فدفنت ، وهو في معجم الطبراني الكبير - وهذا لفظه - ومسند أبي يعلى الموصلي وسنن النسائي الكبرى ومسند عبد بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : « كان رجل يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم . فعقد له عقداً فجعله في بئر رجل من الأنصار ، فأتاه ملكان يعودانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما : أتدري ما وجعه؟ قال : فلان الذي يدخل عليه عقد له عقداً فألقاه في بئر فلان الأنصاري ، فلو أرسل إليه رجلاً لوجد الماء أصفر ، فبعث رجلاً فأخذ العقد فحلّها فبرأ ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر له شيئاً منه ولم يعاتبه » وللشيخين عن أنس رضي الله عنه « أن امرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت : أردت لأقتلك ، قال : ما كان الله ليسلطك على ذلك - أو قال : عليّ - قالوا : فلا تقتلها؟ قال : لا ، قال : فما زلت أعرفها في لهوات النبي صلى الله عليه وسلم . وفي رواية : إنها كانت سبب موت النبي صلى الله عيله وسلم بانقطاع أبهره الشريف منها بعد سنين » وفي سنن أبي داود من وجه مرسل أنه قتل اليهودية . والأول هو الصحيح ، وسيأتي لهذا الحديث ذكر في هذه السورة عند { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] ، فهذا غاية العفو والإحسان امتثالاً لأمر الله سبحانه .
ولما دخل النصارى فيما مضى لأنهم من بني إسرائيل ، خصهم بالذكر لأن كفرهم أشد وأسمج فقال : { ومن الذين قالوا } أي مسمين أنفسهم ملزمين لها النصرة لله ، مؤكدين قولهم رداً على من يرتاب فيه : { إنا نصارى } أي مبالغون في نصرة الحق ، فالتعبير بذلك دون ومن النصارى تنبيه على أنهم تسموا بما لم يفوا به { أخذنا } أي بما لنا من العظمة { ميثاقهم } أي كما أخذ على الذين من قبلهم .
ولما كان كفرهم في غاية الظهور والجلاء ، لم ينسبهم إلى غير الترك فقال : { فنسوا } أي تركوا ترك الناسي { حظاً } أي نصيباً عظيماً يتنافس في مثله { مما ذكروا به } أي في الإنجيل مما سبق لهم ذكره في التوراة من أوصاف نبيه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الحق .
ولما أدى ذلك إلى تشعبهم فرقاً ، فأنتج تشاحنهم وتقاطعهم وتدابرهم ، سبب عنه قوله : { فأغرينا } أي ألصقنا بعظمتنا إلصاق ما هو بالغراء لا ينفك بل يصير كجزء الشيء { بينهم } أي النصارى بعد أن جعلناهم فرقاً متباينين بتفريق الدين ، وكذا بينهم وبين اليهود { العداوة } ولما كان العداوة قد تكون عن بغي ونحوه إذا زال زالت أو خفت ، قال معلماً أنها لأمر باطني نشأ من تزيين الهوى ، فهو ثابت غير منفك : { والبغضاء } بالأهواء المختلفة { إلى يوم القيامة } .
ولما أخبر بنكدهم في الدنيا ، أعقبه ما لهم في الأخرى فقال : { وسوف ينبئهم } أي يخبرهم { الله } أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلماً إخباراً بعظيم الشأن بما فيه من عظم التقريع والتوبيخ في الآخرة بوعيد لا خلف فيه؛ ولما كانت خيانتهم قد صارت لهم فيها ملكات بما لازموا منها حتى ضربوا بها وتدربوا عليها ، حتى صارت لهم أحوالاً لأنفسهم وأخلاقاً لقلوبهم ، سماها صنائع فقال : { بما كانوا يصنعون * } أي دربوا أنفسهم عليه حتى صار كالصنعة ، فيجازيهم عليه بما يقيم عليهم من الحجة .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
ولما علم بذلك كله أحوال الفريقين ، أقبل عليهم واعظاً منادياً متلطفاً مستعطفاً مرغباً مرهباً فقال : { يا أهل الكتاب } أي عامة { قد جاءكم رسولنا } أي الذي أرسلناه مما لنا من العظمة فليظهرن بذلك على من ناواه { يبين لكم } أي يوضح إيضاحاً شافياً { كثيراً مما كنتم } أي بما لكم من جبلة الشر والخيانة { تخفون من الكتاب } أي العظيم المنزل عليكم ، من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وحكم الزنا وغيرهما ، لإحياء سنة وإماتة بدعة - كما مضى منه ما شاء الله في سورة البقرة ، وذلك دال بلا شبهة على صحة رسالته { ويعفوا عن كثيراً * } أي فلا يفضحكم بإظهاره امتثالاً لأمرنا له بذلك - كما تقدم أنه إحسان منه صلى الله عليه وسلم إليكم ، لأنه لا فائدة في إظهاره إلا فضيحتكم .
ولما أخبر عن فصله للخفايا ، وكان التفصيل لا يكون إلا بالنور ، اقتضى الحال توقع الإخبار بأنه نور ، فقال مفتتحاً بحرف التوقيع والتحقيق : { قد جاءكم } وعظمه بقوله معبراً بالاسم الأعظم : { من الله } أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال { نور } أي واضح النورية ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي كشف ظلمات الشك والشرك ، ودل على جمعه مع فرقه بقوله : { وكتاب } أي جامع { مبين } أي بين في نفسه ، مبين لما كان خافياً على الناس من الحق .
ولما كانت هدايته مشروطة بشرط صلاح الجبلة ، بين ذلك بقوله واصفاً له : { يهدي به } أي الكتاب { الله } أي الملك الأعظم القادر على التصرف في البواطن والظواهر { من اتبع } أي كلف نفسه وأجهدها في الخلاص من أسر الهوى بأن تبع { رضوانه } أي غاية ما يرضيه من الإيمان والعمل الصالح ، ومعلوم أن ذلك لا يكون إلا بتوفيقه ، ثم ذكر مفعول { يهدي } فقال : { سبل } أي طرق { السلام } أي الله ، باتباع شرائع دينه والعافية والسلامة من كل مكروه { وخرجهم من الظلمات } أي كدورات النفوس والأهواء والوساس الشيطانية { إلى النور } أي الذي دعا إليه العقل فيصيروا عاملين بأحسن الأعمال كما يقتضيه اختيار من هو في النور { بإذنه } أي بتمكينه .
ولما كان من في النور قد يغيب عنه غرضه الأعظم فلا ينظره لغيبته عنه ببعده منه ، وتكثر عليه الأسباب فلا يدري أيها الوصف أو يقرب إيصاله ويسهل أمره ، قال كافلاً لهم بالنور مريحاً من تعب السير : { ويهديهم } أي بما له من إحاطة العلم والقدرة { إلى صراط مستقيم * } أي طريق موصل إلى الغرض من غير عوج أصلاً ، وهو الدين الحق ، وذلك مقتض للتقرب المستلزم لسرعة الوصول .
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
ولما تم ذلك موضحاً لأن من لم يتبع الكتاب الموصوف كان كافراً وعن الطريق الأمم جائراً حائراً ، وكان محصل حال اليهود كما رأيت فيما تقدم ويأتي من نصوص التوراة - أنهم لا يعتقدون على كثرة ما يرون من الآيات أن الله مع نبيهم دائماً ، وكان أنسب الأشياء بعد الوعظ أن يذكر حال النصارى في نبيهم ، فإنه مباين لحال اليهود من كل وجه ، فأولئك على شك في أنه معه ، وهؤلاء اعتقدوا أنه هو ، فقال تعالى مبيناً أنهم في أظلم الظلام وأعمى العمى : { لقد } أو يقال : إن اليهود لما فرطوا فكفروا ، أفهم ذلك أن النصارى لما أفرطوا كفروا ، فصار حالهم كالنتيجة لما مضى فقال : لقد { كفر الذين قالوا } مؤكدين لبعد ما قالوه من العقل فهو في غاية الإنكار { إن الله } أي على ما له من جميع صفات الكمال التي لا يجهلها من له أدنى تأمل إذا ترجى الهدى وانخلع من أسر الهوى { هو المسيح } أي عينه ، وهو أقطع الكفر وأبينه بطلاناً ، ووصفه بما هو في غاية الوضوح في بطلان قولهم لبعده عن رتبة الألوهية في الحاجة إلى امرأة فقال : { ابن مريم } فهو محتاج إلى كفالتها بما لها من الأمومة .
ولما بطل مدعاهم على أتقن منهاج وأخصره ، وكان بما دق على بعض الأفهام ، أوضحه بقوله : { قل } دالاً على أن المسيح عليه السلام عبد مملوك لله ، مسبباً عن كفرهم { فمن يملك من الله } أي الملك الذي له الأمر كله { شيئاً } أي من الأشياء التي يتوهم أنها قد تمنعه مما يريد ، بحيث يصير ذلك المملوك أحق به منه ولا ينفذ له فيه تصرف { إن أراد } أي الله سبحانه { أن يهلك المسيح } وكرر وصفه بالنوبة إيضاحاً للمراد فقال : { ابن مريم } وأزال الشبهة جداً بقوله : { وأمه } ولما خصهما دليلاً على ضعفهما المستلزم للمراد ، عم دلالة على عموم القدرة المستلزم لتمام القهر لكل من يماثلهما المستلزم لعجز الكل المبعد من رتبة الإلهية ، فقال موضحاً للدليل بتسويتهما ببقية المخلوقات : { ومن في الأرض جميعاً } أي فمن يملك منعه من ذلك .
ولما كان التقدير : فإن ذلك كله لله ، يهلكه كيف شاء متى شاء ، عطف عليه ما هو أعم منه ، فقال معلماً بأنه - مع كونه مالكاً مَلِكاً - له تمام التصرف : { ولله } أي الملك الأعلى الذي لا شريك له { ملك السماوات } أي التي بها قيام الأرض { والأرض وما بينهما } أي ما بين النوعين وبين أفرادهما ، بما به تمام أمرهما؛ ثم استأنف قوله دليلاً على ما قبله ونتيجة له : { يخلق ما يشاء } على أي كيفية أراد - كما تقدم أن له أن يعدم ما يشاء كذلك ، فلا عجب في خلقه بشراً من أنثى فقط ، لا بواسطة ذكر ، حتى يكون سبباً في ضلال من ضل به ، ولما دل ذلك على تمام القدرة على المذكور عم فقال : { والله } أي ذو الجلال والإكرام { على كل شيء } أي من ذلك وغيره { قدير * } .
ولما عم سبحانه في ذكر فضائح بني إسرائيل تارة ، وخص أخرى ، عم بذكر طامة من طوامهم ، حملهم عليها العجب والبطر بما أنعم الله به عليهم ، فقال : { وقالت اليهود والنصارى } أي كل طائفة قالت ذلك على حدتها خاصة لنفسها دون الخلق أجمعين { نحن أبناؤا الله } أي بما هو ناظر إلينا به من جميع صفات الكمال { وأحباؤه } أي غريقون في كل من الوصفين - كما يدل عليه العطف بالواو ، ثم شرع ينقض هذه الدعوى نقضاً بعد نقض على تقدير كون البنوة على حقيقتها أو مجازها ، والذي أورثهم هذه الشبهة - إن لم يكونوا قالوا ذلك عناداً - أن في موضع من التوراة عن قول الله تعالى لموسى عليه السلام : شعبي بكري ، وقال في أول نبوة موسى عليه السلام - كما ذكرته في الأعراف : وقل لفرعون : هكذا يقول الرب : ابني بكري إسرائيل أرسل ليعبدني ، فإن أبيت أن ترسل ابني فإني أقتل ابنك بكرك - ونحو هذا؛ وفي كثير مما بين أيديهم من الإنجيل عن قول عيسى عليه السلام : افعلوا كذا لتكونوا بني أبيكم الذي في السماء - ونحو ذلك ، وقد بينت معناه على تقدير صحته بما يوجب رده إلى المحكم بلا شبهة في أول سورة آل عمران؛ قال البيضاوي في أول سورة الكهف : إنهم كانوا يطلقون الأب والابن في تلك الأديان بمعنى المؤثر والأثر ، وقال في البقرة في تفسير { بديع السماوات } [ البقرة : 117 ] : أنهم كانوا يطلقون الأب على الله باعتبار أنه السبب الأصلي ، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة ، فلذاك كفر قائله ومنع منه منعاً مطلقاً انتهى . فأول نقض نقض به سبحانه وتعالى هذه الدعوى بيان أنه يعذبهم فقال : { قل فلم يعذبكم } أي إن كنتم جامعين بين كونكم أبناء وأحباء بين عطف النبوة وحنو المحبة { بذنوبكم } وعذابهم مذكور في نص توراتهم في غير موطن ومشهور في تواريخهم بجعلهم قردة وخنازير وغير ذلك ، أي فإن كان المراد بالبنوة الحقيقة فابن الإله لا يكون له ذنب فضلاً عن أن يعذب به ، لأن الابن لا يكون إلا من جنس الأب - تعالى الله عن النوعية والجنسية والصاحبة والولد علواً كبيراً! وإن كان المراد المجاز ، أي بكونه يكرمكم إكرام الولد والحبيب ، كان ذلك مانعاً من التعذيب .
ولما كان معنى ذلك أن يعذذبكم لأنكم لستم أبناء ولا أحباء ، عطف عليه نقضاً آخر أوضح من الأول فقال : { بل أنتم بشر ممن خلق } وذلك أمر مشاهد ، والمشاهدات من أوضح الدلائل ، فأنتم مساوون لغيركم في البشرية والحدوث ، لا مزية لأحد منكم على غيره في الخلق والبشرية ، وهما يمنعان البنوة ، فإن القديم لا يلد بشراً ، والأب لا يخلق ابنه ، فامتنع بهذين الوصفين البنوة ، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله؛ فبطل الوصفان اللذان ادعوهما .
ولما كان التقدير : يفعل بكم ما يفعل بسائر خلقه ، وصل به قوله جواباً لمن يقول : وما هو فاعل بمن خلق؟ : { يغفر لمن يشاء } أي من خلقه منكم ومن غيركم فضلاً منه تعالى { ويعذب من يشاء } عدلاً كما تشاهدونه يكرم ناساً منكم في هذه الدار ويهين آخرين .
ولما كان التقدير : لأنه مالك خلقه وملكهم لا اعتراض عليه في شيء من أمره ، عطف عليه قوله نقضاً ثالثاً بما هو أعم مما قبله فقال : { ولله } أي الذي له الأمر كله ، فلا كفوء له { ملك السماوات } وقدمها لشرفها دلالة على ملك غيرها من باب أولى ، وصرح بقوله : { والأرض وما بينهما } أي وأنتم مما بينهما ، وقد اجتمع بذلك مع المُلكِ والإبداعِ المِلكُ والتصريف والتصرف التام ، وذلك هو الغنى المطلق ، ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء من ولد ولا غيره ، ولا يكون لأحد عليه حق ، ولا يسوغ عليه اعتراض .
ولما كان التقدير : فمنه وحده الابتداء ، عطف عليه قوله : { وإليه } أي وحده { المصير * } أي الصيرورة والرجوع وزمان ذلك ومكانه معنى في الدنيا بأنه لا يخرج شيء عن مراده ، وحساً في الآخرة ، فيحكم بين مصنوعاته على غاية العدل - كما هو مقتضى الحكمة وشأن كل ملك في إقامة ملكه بإنصاف بعض عبيده من بعض ، لا يجوز عنده في موجب السياسة إطلاق قويهم على ضعيفهم ، فإن ذلك يؤدي إلى خراب الملك وضعف الملك ، فإذا كان هذا شأن الملوك في العبيد الناقصين فما ظنك بأحكم الحاكمين! فإذا عاملهم كلهم بالعدل أسبغ على من يريد ملابس الفضل .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
ولما دحضت حجتهم ، ووضحت أكذوبتهم ، اقتضى ذلك الالتفات إلى وعظهم على وجه الامتنان عليهم وإبطال ما عساهم يظنونه حجة ، فقال تعالى : { يا أهل الكتاب } أي من الفريقين؛ ولما كان ما حصل لهم من الضلال بتضييع ما عندهم من البينات وتغييرها ما لا يتوقع معه الإرسال ، قال معبراً بحرف التوقع : { قد جاءكم رسولنا } أي الذي عظمته من عظمتنا ، فإعظامه وإجلاله واجب لذلك ، ثم بين حاله مقدماً له على متعلق جاء بياناً لأنه أهم ما إلى الرسل إليهم إرشاداً إلى قبول كل ما جاء به بقوله : { يبين لكم } أي يوقع لكم البيان في كل ما ينفعكم بياناً شافياً لما تقدم وغيره .
ولما كان مجيئه ملتبساً ببيانه وظرفاً له غير منفك عنه ، وكان بياناً مستعلياً على وقت مجيئه وما مضى قبله وما يأتي بعده ببقاء كتابه ، محفوظاً لعموم دعوته وختامه وتفرده ، فلا نبي بعده ، قال معلقاً بجاء : { على فترة } أي طويلة بالنسبة إلى ما كان يكون بين النبيِّين من بني إسرائيل ، مبتدئة تلك الفترة { من الرسل } أي انقطاع من مجيئهم ، شُبِّه فقدهم وبُعْد العهد بهم ونسيان أخبارهم ، وبلاء رسومهم وآثارهم ، وانطماس معالمهم وأنوارهم بشيء كان يفنى ففتر ، لم يبق من وصفه المقصود منه إلا أثر خاف ورسم دارس ، يقال : فتر الشيء - إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه و ذلك لأنه كان بين عيسى وبين النبي صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة فسد فيها أمر الناس ، ولعله عبر بالمضارع في يبين إشارة إلى أن دينه وبيانه لا ينقطع أصلاً بحفظ كتابه ، فكلما درست سنة منح الله بعالم يرد الناس إليها بالكتاب المعجز القائم أبداً ، فلذلك لا يحتاج الأمر إلى نبي مجدد إلا عند الفتنة التي لا يطيقها العلماء ، وهي فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج ، ثم علل ذلك بقوله : { أن } أي كراهة أن { تقولوا } أي إذا حشرتم وسئلتم عن أعمالكم { ما جاءنا } ولتأكيد النفي قيل : { من بشير } أي يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز { ولا نذير } أي يحذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم ، لأن الإنسان موزَّع النقصان بين الرغبة والرهبة ، وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل فالتبس الأمر وجهل الحال ، لكنه لم يجهل جهلاً يحصل به عذر في الشرك ، وسأبينه في أول ص .
ولما كان المعنى : فلا تقولوا ذلك ، سبب عنه قوله : { فقد جاءكم } أي من هو متصف بالوصفين معاً فهو { بشير ونذير } أي كامل في كل من الوصفين وإن تباينا؛ ولما كان ربما كان توهم أحد من ترك الإرسال زمن الفترة ، ومن ترك التعذيب بغير حجة الإرسال ، وبالعدول عن بني إسرائيل إلى بني إسماعيل شيئاً في القدرة ، قال كاشفاً لتلك الغمة : { والله } أي جاءكم والحال أن الملك الذي له الكمال كله { على كل شيء } أي من أن يرسل في كل وقت وأن يترك ذلك ، وأن يهدي بالبيان وأن يضل ، ومن أن يعذب ولا يقبل عذراً وأن يغفر كل شيء وغير ذلك { قدير * } وفي الختم بوصف القدرة واتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوة والملك بعدما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبي يلزم منه إنكارهم للقدرة .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
ولما ذكر سعة مملكته وتمام علمه وشمول قدرته أتبع ذلك الدلالة عليه بقصة بني إسرائيل في استنقاذهم من أسر العبودية والرق وإعلاء شأنهم وإيراثهم أرض الجبارين بعد إهلاك فرعون وجنوده وغير ذلك مما تضمنته القصة ، إظهاراً - بعدم ردهم إلى مصر التي باد أهلها - لتمام القدرة وسعة الملك ونفوذ الأمر وهي مع ذلك دالة على نقضهم الميثاق وقساوتهم ونقض ما ادعوه من بنوتهم ومحبتهم ، وذلك أنها ناطقة بتعذيبهم وتفسيقهم وتبرئهم من الله ، ولا شيء من ذلك فعل حبيب ولا ولد ، فقال عاطفاً على نعمة في { واذكروا نعمة الله عليكم } [ المائدة : 7 ] تذكيراً لهذه الأمة بنعمة التوثيق للسمع والطاعة التي أباها بنو إسرائيل بعدما رأوا من الآيات ، وبما كف عنهم على ضعفهم وشجع به قلوبهم ، وألزمهم الطاعة وكره إليهم المعصية بضد ما فعل ببني إسرائيل - وغير ذلك مما يرشد إليه إنعام النظر في القصة : { وإذ } أي واذكروا حين { قال موسى لقومه } أي من اليهود { يا قوم اذكروا } أي بالقلب واللسان ، أي ذكر اعتبار واتعاظ بما لكم من قوة القيام بما تحاولونه ليقع منكم الشكر { نعمة الله } أي إنعام الملك الأعظم الذي له الإحاطة بالجلال والإكرام ، وعبر عن الإنعام بالغاية لأنها المقصود { عليكم } وعظم ذلك التذكير بالاسم الأعظم ، ونبه بذكر ظرفها على أجل النعم ، وهي النبوة المنقذة لهم من النار فقال : { إذ } أي حين { جعل فيكم } وبشرهم بمن يأتي بعده من الأنبياء من بني إسرائيل فجمع جمع الكثرة في قوله : { أنبياء } أي يحفظونكم من المهالك الدائمة ، ففعل معكم - بذلك وغيره من النعم التي فضلكم بها على العالمين في تلك الأزمان - فعل المحب مع حبيبه والوالد مع ولده ، ومع ذلك عاقبكم حين عصيتم ، وغضب عليكم إذ أبيتم ، فعلم أن الإكرام والإهانة دائران بعد مشيئته على الطاعة والمعصية .
ولما نقلهم من الحيثية التي كانوا فيها عبيداً لفرعون ، لا يصلحون معها لملك ، ولا تحدثهم أنفسهم به ، إلى حيثية الحرية القابلة لأن يكون كل منهم معها ملكاً بعد أن أرسل فيهم رسولاً وبشر بأنه يتبعه من الأنبياء ما لم يكن في أمة من الأمم غيرهم ، قال : { وجعلكم ملوكاً } أي فكما جعلكم كذلك بعد ما كنتم غير طامعين في شيء منه ، فقد نقله منكم وجعله في غيركم بتلك القدرة التي أنعم عليكم بها ، وذلك لكفركم بالنعم وإيثاركم الجهل على العلم ، فإنكاركم لذلك وتخصيص النعم بكم تحكم وترجيح بلا مرجح ، ويوضح ذلك أن كفر النعمة سبب لزوالها ، وقد كانوا يهددون في التوراة وغيرها بما هم فيه الآن من ضرب الذلة والمسكنة التي لا يصلحون معها لملك إن هم كفروا - كما سيأتي بعض ذلك في هذه السورة .
ولما ذكرهم تعالى بما ذكرهم به من النعم العامة ، أتبعه التذكير بنعمة خاصة فقال : { وآتاكم ما لم يؤت } أي في زمانكم ولا فيما قبله من سالف الزمان - كما اقتضاه التعبير بلم { أحداً من العالمين * } من الآيات التي أظهرها على يد موسى عليه السلام ، فأخرجكم بها من الظلمات إلى النور ، والكتاب الذي جعله تبياناً لكل شيء؛ ثم أتبعه ما يقيد به هذه النعم من الشكر بامتثال الأمر في جهاد الأعداء في سياق مؤذن بالنصر معلم بأنه نعمة أخرى يجب شكرها ، فلذلك وصله بما قبله وصل المعلول بالعلة فقال : { يا قوم ادخلوا } عن أمر الله الذي أعلمكم بما صنع من الآيات أنه غالب على جميع أمره { الأرض المقدسة } أي المطهرة المباركة التي حكم الله أن يطهرها بأنبيائه ورسله من نجس الشرك وضر المعاصي والإفك ، ويبارك فيها ، ثم وصفها بما يوجب للمؤمن الإقدام لتحققه النصر فقال : { التي كتب الله } أي الذي له الأمر كله فلا مانع لما أعطى { لكم } أي بأن تجاهدوا أعداءه فترثوا أرضهم التي لا مثل لها ، فتحوزوا سعادة الدارين ، وهي بيت المقدس والتي وعد أباكم إبراهيم عليه السلام أن تكون ميراثاً لولده بعد أن جعلها مهاجرة .
ولما أمرهم بذلك نهاهم عن التقاعد عنه ، فقال مشيراً إلى أن مخالفة أمر الله لا تكون إلا بمعالجة للفطرة الأولى : { ولا ترتدوا } أي تكلفوا أنفسكم الرجوع عن أخذها ، وصوَّر لهم الفتور عن أخذها بما يستحيي من له همة من ذكره فقال : { على أدباركم } ولما جمع بين الأمر والنهي ، خوفهم عواقب العصيان معلماً بأن ارتدادهم سبب لهلاكهم بغير شك ، فقال معبراً بصيغة الانفعال : { فتنقلبوا } أي من عند أنفسكم من غير قالب يسلط عليكم { خاسرين * } أي بخزي المعصية عند الله وعار الجبن عن الناس وخيبة السعي من خيري الدارين .
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
ولما كان هذا السياق محركاً للنفس إلى معرفة جوابهم عنه ، أورده على تقدير سؤال من كأنه قال : إن هذا لترغيب مشوق وترهيب مقلق ، فما قالوا في جوابه؟ فقال : { قالوا } معرضين عن ذلك كله بهمم سافلة وأحوال نازلة ، مخاطبين له باسمه جفاء وجلافة وقلة أدب { يا موسى } وأكدوا قولهم تأكيد من هو محيط العلم ، فقالوا مخاطبين بجرأة وقلة حياء لأعلم أهل زمانه : { إن فيها } أي دون غيرها { قوماً جبارين } أي عتاة قاهرين لغيرهم مكرهين له على ما يريدون { وإنا لن ندخلها } خوفاً منهم { حتى يخرجوا منها } ثم صرحوا بالإتيان بالجملة الاسمية المؤكدة بتهالكهم على الدخول وأنه لا مانع لهم إلا الجبن فقالوا : { فإن يخرجوا منها } أي بأي وجه كان ، وعبروا بأداة الشك مع إعلام الله لهم بإهلاكهم على أيديهم جلافة منهم وعراقة طبع في التكذيب { فإنا داخلون * } فكأنه قيل : إن هذه لسقطة ما مثلها ، فما اتفق لهم بعدها؟ فقيل : { قال رجلان } وأشار إلى كونهما من بني إسرائيل بقوله ذماً لمن تقاعس عن الأمر منهم : { من الذين يخافون } أي يوجد منهم الخوف من الجبارين ، ومع ذلك فلم يخافا وثوقاً منهما بوعد الله ، ولما كان بنو إسرائيل أهلاً لأن يخافهم من يقصدونهم بالحرب لأن الله معهم بعونه ونصره ، قرىء : يخافون - مبيناً للمفعول { أنعم الله } أي بما له من صفات الكمال { عليهما } أي بالثبيت على العمل بحق النقابة ، وهما يوشع بن نون وكالاب بن يوفنا - كما أنعم عليكم أيها العرب وخصوصاً النقباء بالثبات في كل موطن { ادخلوا عليهم الباب } أي باب قريتهم امتثالاً لأمر الله وإيقاناً بوعده .
ولما كانا يعلمان أنه لا بد من دخولهم عليهم وإن تقاعسوا وإن طال المدى ، لأن الله وعد بنصرهم عليهم ووعده حق عبرا بأداة التحقيق خلاف ما مضى لجماهيرهم فقالا : { فإذا دخلتموه } ثم أكد خبرهما إيقاناً بوعد الله فقالا : { فإنكم غالبون } أي لأن الملك معكم دونهم { وعلى الله } أي الملك الأعظم الذي وعدكم بإرثها وحده { فتوكلوا } أي لا على عُدة منكم ولا عِدة ولا حول ولا قوة .
ولما كان الإخلاص يلزمه التوكل وعدم الخوف من غير الله ، ألهمهم بقوله؛ { إن كنتم } أي جبلة وطبعاً { مؤمنين * } أي عريقين في الإيمان بنبيكم صلى الله عليه وسلم والتصديق بجميع ما أتى به ، فكأنه قيل : لقد نصحا لهم وبرّا ، واجتهدا في إصلاح الدين والدنيا فما خدعا ولا غرّا ، فما قالوا؟ فقيل : لم يزدهم ذلك إلا نفاراً واستضعافاً لأنفسهم لإعراضهم عن الله واستصغاراً لأنهم { قالوا } معرضين عمن خاطباهم غيرعادين لهما { يا موسى } وأكدوا نفيهم للإقدام عليهم بقولهم : { إنا } وعظموا تأكيدهم بقولهم : { لن ندخلها } وزادوه تأكيداً بقولهم : { أبداً } وقيدوا ذلك بقولهم : { ما داموا } أي الجبابرة { فيها } أي لهم اليد عليها ، ثم اتبعوه بما يدل على أنهم في غاية الجهل بالله الفعال لما يريد .
الغني عن جميع العبيد ، فقالوا مسببين عن نفيهم ذلك قولهم : { فاذهب أنت وربك } أي المحسن إليك ، فلم يذكروا أنه أحسن إليهم كثافة طباع وغلظ أكباد ، بل خصوه بالإحسان ، وهذا القول إن لم يكن قائلوه يعتقدون التجسيم فهم مشارفون له ، وكذلك أمثاله ، وكان اليهود الآن عريقين في التجسيم ، ثم سببوا عن الذهاب قولهم : { فقاتلا } ثم استأنفوا قولهم مؤكدين لأن من له طبع سليم وعقل مستقيم لا يصدق أن أحداً يتخلف عن أمر الله لا سيما إن كان بمشافهة الرسول : { إنا هاهنا } أي خاصة { قاعدون } أي لا نذهب معكما ، فكان فعلهم فعل من يريد السعادة بمجرد ادعاء الإيمان من غير تصديق له بامتحان بفعل ما يدل على الإيقان؛ روى البخاري في المغازي والتفسير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : « قال المقداد بن عمرو يوم بدر : يا رسول الله! لا نقول كما قال قوم موسى : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن امض ونحن معك ، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسرَّه » فكأنه قيل : فما قال موسى عليه السلام؟ فقيل : { قال } لما أيس منهم معرضاً عنهم شاكياً إلى الله تعالى { رب } أي أيها المحسن إليّ .
ولما كان من حق الرسول أن يقيه كل أحد بنفسه وولده فكيف بما دون ذلك ، فكان لا يصدق أحد أن أتباعه لا يطيعونه ، جرى على طبع البشر وإن كان يخاطب علام الغيوب قال مؤكداً : { إني } ولما فهم من أمر الرجلين لهم بالدخول أنهما قيّدا دخولهما بدخول الجماعة ، خص في قوله : { لا أملك إلا نفسي وأخي } أي ونحن مطيعان لما تأمر به { فافرق بيننا } أي أنا وأخي { وبين القوم الفاسقين * } أي الخارجين عن الطاعة قولاً وفعلاً ، ولا تجمعنا معهم في بين واحد ، في فعل ولا جزاء { قال فإنها } أي الأرض المقدسة { محرمة عليهم } أي بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم ، لا يدخلها ممن قاله هذه المقالة أو رضهيا أحد ، بل يمكثون { أربعين سنة } ثم استأنف جواباً لمن تشعب فكره في تعرف حالهم في هذه الأربعين ومحلهم من الأرض قوله : { يتيهون } أي يسيرون متحيرين { في الأرض } حتى يهلكوا كلهم ، والتيه : المفازة التي يحير سالكها فيضل عن وجه مقصده ، روي أنهم أقاموا هذه المدة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين ، ثم يمشون في الموضع الذي ساروا منه ، ثم سبب عن إخباره بعقوبتهم قوله : { فلا تأس } أي تحزن حزناً مؤيساً { على القوم } أي الأقوياء الأبدان الضعفاء القلوب { الفاسقين * } أي الخارجين من قيد الطاعات ، ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين نشأوا في التيه لسلامتهم من اعوجاج طباعهم التي ألبستهم إياها بلاد الفراعنة ، فإني كتبتها لبني إسرائيل ، ولم أخبر بتعيينهم - وإن كانوا معينين في علمي - كما اقتضت ذلك حكمتي؛ وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها وافتتحت بها ، وصرح بأخذها عليهم في قوله :
{ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } [ المائدة : 12 ] إلى أن قال : { وآمنتم برسلي وعزرتموهم } [ المائدة : 12 ] وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعلونه معه ، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق ، وترغيب لمن أطاع منهم وترهيب لمن عصى ، ومات في تلك الأربعين كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة ، وكان الغمام يظلهم من حر الشمس ، ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء هاهنا عليهم - وغير هذا من النعم ، لأن المنع بالتيه كان تأديباً لهم لا غضباً فإنهم تابوا .
شرحُ هذه القصة ما بين أيديهم من التوراة وذكرُ بعض ما عذبهم فيه بذنوبهم ، قال في السفر الرابع منها : وكلم الرب موسى وقال له : أرسل قوماً يجسون الأرض التي أعطى بني إسرائيل ، فأرسلهم موسى من برية فاران رجالاً من رؤساء بني إسرائيل - اثني عشر رجلاً - فيهم كالاب بن يوفنا وهو ساع بن نون ، ودعا موسى هوساع بن نون يوشع ، وأرسلهم ليستخبروا أرض كنعان وقال لهم : اعرفوا خبر الشعب الذي بها ، أقوي هو أم ضعيف؟ أكثير هو أم قليل؟ وما خبر الأرض التي هم فيها ، أمخصبة أم لا؟ أفيها شجر أم لا؟ وفي نسخة : وما المدن التي يسكنونها؟ وإن كانت محوَّطاً عليها أم لا؟ وتقووا وخذوا من ثمار الأرض؛ فصعدوا فاستخبروا الأرض ، وأخذوا من برية صين حتى انتهوا إلى راحوب التي في مدخل حمات ، وصعدوا إلى التيمن فأتوا حبران - وفي نسخة : حبرون - وكان بها بنو الجبابرة ، ثم أتوا وادي العنقود وقطعوا قضيباً من الكرم فيه عنقود عنب ، فحمله رجلان بأسطار ، ودعوا اسم ذلك الموضع وادي العنقود من أجل ذلك ، وأخذوا من الرمان والتين أيضاً ، ورجعوا إلى موسى بعد أربعين ليلة إلى برية فاران إلى رقيم ، وأخبروا موسى والجماعة كلها خبر الأرض وقالوا : انطلقنا فإذا الأرض تغل اللبن والعسل وهذه ثمارها ، ولكن الشعب الذي في الأرض عزيز قوي ، وقراهم كبار مشيدة ، ورأينا ثَمّ بني الجبابرة ، ثم ذكر أن الكنعانيين على ساحل البحر إلى نهر الأردن ، قالوا : وكنا عندهم مثل الجراد ، كذلك رأينا أنفسنا ، فضجت الجماعة كلها ورفعوا أصواتهم بالبكاء ، وبكوا في تلك الليلة بكاء شديداً ، وتذمر جميع بني إسرائيل على موسى وهارون في ذلك اليوم وضجوا عليهما ، وقال لهما محافل بني إسرائيل كلها : يا ليتنا! متنا بأرض مصر على يدي الرب ، وليتنا متنا في هذه البرية ولا يدخلنا الرب إلى الإرض التي نصرع فيها قتلاً! وتنتهب مواشينا وأهلونا! كان المنون بأرض مصر خيراً لنا ، وقال كل امرىء منهم لأخيه : اجتمعوا حتى نصيّر علينا رئيساً ، ونرجع إلى أرض مصر ، فخر موسى وهارون على وجوههما ساجدين بين يدي جماعة بني إسرائيل كلها ، فأما يشوع ابن نون وكالاب بن يوفنا اللذان كانا من الجواسيس فقالا : الأرض مخصبة جداً ، فإن شاء الرب دفعها إلينا ، فهي أرض تغل السمن والعسل ، فلا تعصوا الرب ولا تفتتنوا ولا تخافوا شعب هذه الأرض لأن أهلها مبذولون لنا مثل الطعام للأكل ، واعلموا أن قويهم سيضعف وتزول عنهم شدتهم ، ونحن الغالبون لأن الرب معنا ، فلا تفرقوا منهم ، وظهر مجد الرب بالسحابة في قبة الزمان تجاه بني إسرائيل ، وقال الرب لموسى : إلى متى يسخطني هذا الشعب؟ وكم إلى كم لا يصدقونني؟ ألم يروا جميع الآيات التي أتيتهم بها؟ سأضربهم بالموت وأهلكهم ، وأصيرك الشعب أعظم من هذا وأعزّ منهم ، فقال موسى أمام الرب : يسمع أهل مصر الذين أخرجت هذا الشعب من بينهم بقوتك ، ويقول لسكان هذه الأرض أيضاً الذين سمعوا أنك رب هذا الشعب ، فإن أنت قتلت هذا الشعب جميعاً كرجل واحد تقول الشعوب التي بلغها خبرك : إن الرب لم يقدر أن يدخل هذا الشعب الأر ض التي كان وعد إياهم ، فلذلك قتلهم في البرية ، فلتعظم قوتك الآن يا رب كما وعدت وقلت! يا رب أنت ذو المودة والنعمة ، تغفر الإثم والخطايا ، وتزكي من ليس بمزكي ، اغفر يا رب كما غفرت لهم مذ خرجوا من أرض مصر إلى الآن! فقال الرب لموسى : قد غفرت لهم لقولك ولكني حي قيوم ، أقسم بذلك وبمجدي الذي امتلأت الأرض كلها منه أن جميع الرجال الذين عاينوا مجدي والآيات التي أظهرت لهم بمصر والفضاء ، وجربوني عشر مرات ، ولم يطيعوني ولم يقبلوا قولي ، لا يعاينون الأرض التي أقسمت لآبائهم أني أعطيهم ، ولا يدخلها أحد من الذين أغضبوني ، فأقبلوا غداً وارتحلوا إلى طريق بحر سوف؛ وقال الرب : إلى متى تغفرُ هذه الجماعة الرديئة بين يدي؟ فبي أقسم أنكم تصيرون إلى ما قلتم ، وكما فكرتم ذلك يصيبكم في هذه البرية ، فتسقط جثثكم فيها وتبلى أجسادكم ويهلك كل عددكم وحسابكم من ابن عشرين سنة إلى فوق ، لأنكم تشوشتم وتذمرتم عليّ ، لا تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأنزلكم فيها ، لوا يدخلها إلا كالاب بن يوفنا ويوشع بن نون ، وأما مواشيكم التي قلتم : إنها تنتهب ، وبنوكم الذين لا يعلمون الخير من الشر فهم يدخلون الأرض وأصيّرهم إليها وأورثهم الأرض ، فأما جيفكم فتسقط وتبلى في هذه البرية .
وتمكث بنوكم يترددون في هذه المفازة أربعين سنة ، يعاقبون حتى تهلك جثثكم في هذه البرية على عدد الأيام التي اجتس الجواسيس الأرض فيها ، لكل يوم سنة ، وتعاقبون بإثمكم ، لكل يوم سنة ، أربعين سنة لأربعين يوماً ، فتعلمون أني إنما فعلت ذلك لتذمركم بين يدي ، أنا الرب قلت : كذلك أصنع بهذه الجماعة الرديئة التي اجتمعت بين يدي ، تهلك في هذه البرية ، يموتون كلهم ، والقوم الذين أرسلهم موسى أن يجتسوا الأرض له فانقلبوا وشغبوا عليه وأفسدوا الجماعة كلها ، وذلك أنهم أخبروا الشعب في أمر الأرض خبراً رديئاً ، ومات القوم الذين أخبروا الخبر السوء موت الفجاءة أمام الرب ، فأما يشوع وكالاب فنجوا من الموت ، ولم يهلكا مع الذين استخبروا الأرض ، فأخبر موسى بني إسرائيل هذه الأقوال ، وجلسوا في حزن شديد وقالوا : نحن صاعدون إلى الموضع الذي أمر الرب ونقر بخطايانا ، قال لهم موسى : اعلموا أنكم لا تنجحون ولا يتم أمركم ، لا تصعدوا لأن الرب ليس معكم لئلا يهزمكم أعداؤكم ، فإن صعدتم هزمتم وقتلتم ، لأنكم أغضبتم الرب ورجعتم عن قوله ، فلذلك لا يكون الرب معكم ، فصعد القوم إلى رأس الجبل ، فأما تابوت عهد الرب وموسى النبي فلم يبرحا من العسكر ، ونزل العملقانيون الذين يسكنون ذلك الجبل وحاربوهم وهزموهم ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وطردوهم إلى حرما؛ وكان ذكر قبل ذلك في السفر الثاني وقبل معصيتهم في أمر الجواسيس قتالهم في رفيدين ورقيم لعماليق فقال ما نصه : وإن عماليق جاء ليقاتل بني إسرائيل برفيدين فقال موسى ليشوع : اختر رجلاً من أهل الجلد والشدة واخراج بنا نقاتل عماليق غداً وأنا واقف على رأس الأكمة ، وقضيب الله في يدي ، فصنع يشوع كما قال له موسى فخرج إلى حرب عماليق ، وصعد موسى وهارون وحور إلى رأس الجبل ، وكان موسى إذا رفع يده قوى بنو إسرائيل ، وإذا خفض يده قوى عماليق ، فأعيت يدُ موسى فأخذ حجارة فوضعها تحته ، ثم استوى عليها جالساً ، وكان هارون وحور يدعمان يديه ، أحدهما يميناً والآخر شمالاً حتى غربت الشمس ، فهزم يشوع عماليق ومن معه وقتلوهم بحد السيف ، فقال الرب لموسى : اكتب هذا الأمر في سفر الكتاب وضعه أما يشوع بن نون ، لأني أمحق وأبيد ذكر عماليق من تحت السماء ، فبنى للرب مذبحاً ، ودعا اسمه الله علمي ، ثم قال : وأرسل رسلاً من رقيم إلى ملك أدوم بأنهم نازلون في رقيم - القرية التي في حد بلاده - واستأذنه في الجواز في بلاده ، فهددهم بالمقاتلة فقالوا : لا نشرب لك ماء إلا بثمن ، فقال : لا تجوزوا في حدي ، وخرج إليهم بجيش عظيم وسلاح شاك فصغا بنو إسرائيل عنه وظعنوا من رقيم ، وأتى جميع بني إسرائيل إلى هور الجبل حيث توفي هارون ، ثم قال : ونزل موسى وإليعازر من الجبل ، فرأت محافل بني إسرائيل كلها أن هارون قد توفي ، وبكى على هارون جميع بني إسرائيل ثلاثين يوماً ، وسمع الكنعاني ملك عراد الذي كان يسكن التيمن أن بني إسرائيل قد نزلوا في طريق الجواسيس فحاربهم وسبى منهم قوماً ، فنذر بنو إسرائيل نذراًَ للرب وقالوا : إن أنت دفعت إلينا هذا الشعب يا رب وقويتنا عليه جعلنا قراهم حريمة للرب ، فسمع الرب أصوات بني إسرائيل ودفع إليهم الكنعانيين وقوّاهم عليهم ، وهزموهم وقتلوهم وجعلوا قراهم حريمة للرب ودعوا اسم تلك البلاد حريمة ، فظعن الشعب من هور الجبل في طريق بحر سوف ليدوروا حول أرض أدوم ، ففزعت أنفس الشعب من شدة الطريق وكلّت ، وتذمر الشعب على الله وعلى موسى وقالوا : لِمَ أصعدتنا من مصر؟ لتميتنا في موضع ليس فيه خبز ولا ماء ، قد ضاقت أنفسنا من قلة الطعام ، فسلط الله عليهم حيات فنهشت قوماً من الشعب ومات منهم كثير ، فاجتمعوا إلى موسى وقالوا : قد أخطأنا إذ تذمرنا على الله وعليك ، صل أمام الرب لتنصرف عنا الحيات ، فصلى موسى فقال الرب له : اتخذ حية من نحاس مثال الحية وارفعها على خشبة علامة ، ومن نهشته حية ينظر إلى الحية المعلقة فيبرأ ، ففعل ذلك ، فطعن بنو إسرائيل فنزلوا أبوت ، ثم ارتحلوا من أبوت ونزلوا على عين العبرانيين التي في البرية أمام أرض موآب في الجانب الشرقي وحيث مشارق الشمس ، ثم ظعنوا من هناك ونزلوا وادي زرود ، وارتحلوا من هناك ونزلوا عبر أرنون في البرية أمام أرض موآب في الجانبين التي تخرج من حد الأمورانيين وهي في حد الموآبيين ، ولذلك يقال في كتاب حروب الرب : واهب في سوفة ووادي أرنون ومصب الأودية المائلة إلى سكان عار التي تنتهي إلى حد الموآبيين؛ ثم أرسل بنو إسرائيل رسلاً إلى سيحون ملك الأمورانيين وقالوا له : نجوز في أرضك من غير أن نطأ لك حقلاً ولا كرماً ، ولا نشرب من ماء جناتك ، ولكن نلزم الطريق الأعظم حتى نجوز أرضك ، فأبى سيحون وجمع جميع أجناده وخرج إلى البرية وحارب بني إسرائيل ، فقتل بنو إسرائيل سيحون وأصحابه وورثوا أرضه ، وصعدوا إلى أرض متنين ، وخرج عوج ملك متنين إليهم هو وأجناده ليحاربهم في أدرعى ، وقال الرب لموسى : لا تخفه لأني دافعة في يدك وأصيّر جميع شعبه وأرضه في يدك ، فاصنع به كما صنعت بسيحون ملك الأمورانيين ، فلما حاربوه قتل هو وبنوه وجميع شعبه ولم يبق منهم أحد ، فظعن بنو إسرائيل ونزلوا عربات موآب التي عند أردن إريحا؛ ثم ذكر قصة بلعام بن باعور وغيرها وقال : ثم قال الرب لموسى : اصعد إلى هذا الجبل جبل العبرانيين ، وانظر إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل ، فإذا نظرت إليها اجتمع معك شعبك ، وصر إلى ما صار إليه آباؤك كما صار [ إليه ] هارون أخوك ، فتكلم موسى أمام الرب وقال : يأمر الله رجلاً يريد الجماعة ويدخل ويخرج أمامهم ، ويدخلهم ويخرجهم لكيلا تكون جماعة الرب كالغنم التي ليس لها راعٍ ، فقال الرب لموسى : اعمد إلى يشوع بن نون - رجل عليه من الروح نعمة - فضع يدك عليه ، وأقمه بين يدي إليعازر الحبر أمام الجماعة كلها ومن تجاههم قبلاً ، وأعطه من المجد الذي عليك ، فتطيعه جماعة بني إسرائيل كلها ، ويقوم بين يدي إليعازر الحبر ليكون يسأل الرب عن حوائجه وسننه ، ويحفظ بنو إسرائيل قوله ، وعن قوله يخرجون وعن قوله يدخلون ، وفعل موسى كالذي أمره الله في يوشع وغيره - ثم ذكره أشياء من القرابين والأعياد وفتح مدين وبقية قصة بلعام وغير ذلك ثم قال : وكثرت مواشي بني روبيل وبني جاد جداً ، ونظروا إلى يعزير وأرض جلعاد أنه موضع يصلح للمواشي فقالوا لموسى : إن نحن ظفرنا منك برحمة ورأفة تعطي هذه الأرض لعبيدك ميراثاً ولا تجزنا نهر الأردن ، فقال موسى : إخوتكم يخرجون إلى الحرب وأنتم تستقرون هاهنا؟ لِمَ تكسرون قلوب إخوتكم أن لا يجوزوا إلى الأرض التي يعطيهم الرب ميراثاً! هكذا صنع أيضاً آباؤكم فاشتد غضب الرب عليهم ، وأقسم أنه لا يعاين أحد منهم الأرض التي وعدت بها آباءهم ، لأنهم لم يتموا قولي ولم يتبعوا وصيتي ما خلا كالاب بن يوفنا القنزابي ويشوع بن نون ، إنهما أتما قول الرب فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل وتَوَّههُمْ في البرية أربعين سنة حتى هلك حقب الرجال الذين أسخطوا الرب ، وأنتم اليوم أيضاً تريدون أن ينزل غضب الرب ببني إسرائيل ، وإن أنتم انقلبتم عن أمر الرب أيضاً يعود أن يُتَوِّهَكم في التيه ، فتفسدون على جميع هذا الشعب ، فدنا منه القوم وقالوا : نبني هاهنا قرى لعيالاتنا وحظائر لأنعامنا ، ونحن نتسلح أمام بني إسرائيل حتى ندخلهم إلى مواضعهم ولا نرجع إلى بيوتنا حتى يرث بنو إسرائيل كل إنسان ميراثه ، ولا نرث معهم من عبر الأردن وما خلف ذلك ، لأنا قد قبضنا ميراثنا في مجاز الأردن في مشارق الشمس ، فقال لهم موسى : إذا أنتم فعلتم هذا الفعل وتسلحتم أمام ربكم ، حينئذ ترجعون وتستجلبون أرضكم ويرضى بنو إسرائيل عنكم ، وتصير هذه الأرض لكم ميراثاً ، وإن لم تفعلوا هذا تصيروا أمام الرب خطأة ، واعلموا أن خطاياكم تدرككم ، ثم قال : وهذه خطأ عن بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر - فذكر ما تقدم في البقرة ، ثم قال : وارتحلوا من مقبرة الشهوة ونزلوا حضروت ، وظعنوا من حضروت ونزلوا رثما ، وارتحلوا من رثما ونزلوا رمّون فرص ، وظعنوا من رمّون فرص ونزلوا لبنا - وفي نسخة : لبونا - وارتحلوا من لبنا ونزلوا أراسيا - وفي نسخة : رسا - وظعنوا من أراسيا أو رسا ونزلوا قهاث - وفي نسخة : بقهالاث - وارتحلوا من قهاث ونزلوا جبل شافار - وفي نسخة : شافر - وارتحلوا من جبل شافار ونزلوا حرادة - وفي نسخة : حرذا - وارتحلوا من حرادة - وفي نسخة : حارذا - ونزلوا مقهلوث - وفي نسخة : مهقلوث - وظعنوا من مقهلوث نزلوا تحاث - وارتحلوا من تحاث ونزلوا ترح ، وارتحلوا من ترح ونزلوا مثقا ، وارتحلوا من مثقا ونزلوا حشمونا ، وظعنوا من حشمونا ونزلوا مسروت ، وارتحلوا من مسروت ونزلوا بحيّ بني يعقان ، وظعنوا من حيّ بني يعقان ونزلوا جبل جدجاد ، وارتحلوا من جدجاد ونزلوا يطبث - وفي نسخة : يطباثا - وظعنوا من يطبث ونزلوا عجرونا - وفي نسخة : عبرونا - وارتحلوا من عجرونا ونزلوا عصيون جابر وهي قلزم ، ورحلوا من عصيون جابر ونزلوا بَرَّصين - وفي نسخة : برية صين المعروفة بقداش - وهي رقيم ، وظعنوا من قداش ونزلوا هور الجبل الذي في أقاصي أرض أدوم - وفي نسخة : وظعنوا من برية صين فنزلوا في قفر فاران وهي القدس ، وارتحلوا من القدس فنزلوا في جبل هور بحذاء أرض أدوم وهي الروم - وصعد هارون الحبر عن قول الله إلى هور الجبل ، وتوفي هناك في سنة أربعين بخروج بني إسرائيل من أرض مصر في الشهر الأول أول يوم منه ، وقد كان أتى على هارون يوم توفي مائة وثلاث وعشرون سنة ، وبلغ الكنعاني ملك حديا الساكن بالتيمن في أرض كنعان - وفي نسخة : عراد الساكن في الداروم في بلد ماءب - أن بني إسرائيل أتوا حده ، فينون من هور الجبل ونزلوا صلمونا ، وارتحلوا من صلمونا ونزلوا فينون وظعنوا من فينون ونزلوا أبوث - وفي نسخة : أباث - وارتحلوا من أبوث ونزلوا العين المعروفة بالعبرانيين على حد موآب - وفي نسخة : ونزلوا عايا في العين على تخوم موآب - وارتحلوا من عايا فنزلوا جاد - وفي نسخة : ورحلوا من عين العبرانيين ونزلوا ديبون قرية جاد - وارتحلوا من قرية جاد ونزلوا علمون التي دبلثيم - وفي نسخة : دبلاثيم - وظعنوا من علمون التي دبلثيم - وفي نسخة : دبلاثيم - فنزلوا جبل العبرانيين الذي أمام نابو ، وارتحلوا من جبل العبرانيين ونزلوا عربة موآب التي بأردن يريحا - وفي نسخة : ونزلوا مغارب موآب على الأردن قبالة يريحا - ونزلوا على شاطىء الأردن من عند أشيموت إلى آبل شاطيم التي عند عربة موآب - وفي نسخة : قبالة مغارب موآب .
وكلم الرب موسى على مغارب موآب عند الأردن قبالة يريحا فقال : كلم بني إسرائيل وقل لهم : أنتم جائزون الأردن إلى أرض كنعان لتهلكوا جميع سكان الأرض ، وتحرقوا بيوت أصنامهم المسبوكة ، وتقلعوا مذابحهم كلها ، وتصير الأرض إليكم وترثونها ، فاقسموها لعشائركم سهاماً ، وصيروا الكثير على قدر كثرتهم ، والقليل على قدر قلتهم ، وكل قبيلة على ما يرتفع السهم بها وتصيبها القرعة ، وإن لم تهلكوا سكان الأرض من بين أيديكم فالذين يبقون منهم يكونون أسنة في أعينكم وسهاماً في أصداغكم ، ويضيّقون عليكم في الأرض التي تسكنونها ، وكما رأيت أن أصنع بهم كذلك أصنع بكم ، فهكذا اقسموا الأرض في مواريثكم : أرض كنعان بحدودها ، فأما حد التيمن فيكون لكم من ساحل البحر الملح من ناحية المشرق ، ويدور حدكم من التيمن إلى عقبة عقربيم ويجوز إلى صين ، وتكون مخارجه من التيمن إلى رقيم الجائي ، ويخرج من هناك إلى حصر إدار - وفي نسخة : إلى رفح - ويجوز إلى عصمون إلى وادي مصر ، وتكون مخارجه إلى ناحية البحر ويكون حد البحر حدكم والبحر الأعظم بحدوده ، هذا حدكم من ناحية البحر وأما حدكم مما يلي الجربيا - وفي نسخة : الشمال - فيكون من البحر الأعظم إلى هور الجبل ، وحدود ذلك من الجبل إلى مدخل حماة ، وتكون مخارج الجبل إلى صدد ، ويخرج الحد إلى زفرون ، وتكون مخارجه إلى حصر عينن ، هذه حدودكم من ناحية الجربيا ، وأما حدودكم من ناحية المشرق فحدوده من حصر عينن إلى شافم ، وينزل الحد نم شافمم إلى ربلة إلى مشارق غاب ، حتى ينتهي إلى بحر كنرت - وفي نسخة : البحيرة الميتة - من مشارقه ، ويدور حتى ينزل إلى حد الأردن ، وتكون مخارجه إلى بحر الملح ، هذه حدود الأرض التي ترثونها كما تدور ثم ذكر القسمة وشيئاً من الأحكام ، ثم قال في أول السفر الخامس : هذه الآيات والأقوال التي قال موسى لبني إسرائيل عند مجاز الأردن في البرية في عرابا - وفي نسخة : البيداء وهو الجانب الغربي - حيال سوف بين فاران وبين تفال ولبان وحضروت وذي ذهب - وفي نسخة : ودار الذهب وهو إشارة إلى الموضع الذي عبدوا فيه العجل - مسير أحد عشر يوماً من حوريب إلى ساعير وإلى رقام الجائي .
لما كان في سنة أربعين من خروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الحادي عشر في أول يوم منه كلم موسى بني إسرائيل وأمرهم بعد قتلهم سيحون ملك الأمورانيين وعوج ملك متنين في مجاز الأردن في أرض موآب ، قال : إن الله قال لنا في حوريب : قد طال مكثكم في هذا الجبل ، انهضوا فارتحلوا من هاهنا وادخلوا جبل الأمورانيين وكل ما حوله إلى القرى والجبل وإلى ساحل البحر أسفل الجبال ، والتيمن أرض الكنعانيين ، ولبنان إلى النهر الكبير الذي هو الفرات ، ادخلوا ورثوا الأرض التي وعد الله آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيهم ، ويورثها نسلهم من بعدهم ، ثم قال : وأمرتكم في ذلك الزمان بما ينبغي أن تصنعوا ، وارتحلنا من حوريب وسرنا في البرية العظيمة المرهوبة كما أمرنا الله ربنا ، وانتهينا إلى رقيم الجائي ، وقلت لكم : قد انتهيتم إلى جبل الأمورانيين الذي أعطانا الله ربنا ، اصعدوا ورثوا الأرض كما قال لكم الله رب آبائكم ، لا تخافوا ولا تفزعوا ، وتقدمتم إليّ بأجمعكم وقلتم : نرسل بين أيدينا رجالاً يتجسسون لنا الأرض ويخبرونا بخبرها ويدلّونا على الطريق الذي نسير فيه والقرى التي ندخلها؛ فكان قولكم عندي حسناً ، وعمدت إلى اثني عشر رجلاً منكم ، من كل سبط منكم رجل ، وأرسلتهم ، وصعدوا إلى الجبل حتى انتهوا إلى وادي العنقود ، واستخبروا الأرض وأخذوا من ثمار الأرض وأتوا به وأخبرونا وقالوا لنا : ما أخصب الأرض التي يعطينا الله ربناَ! ولم يعجبكم أن تصعدوا ، ولكن اجتنبتم قول الله ربكم وأغضبتموه وتوشوشتم في خيمتكم وقلتم : لبغض الرب أخرجنا من أرض مصر ليدفعنا في أيدي الأمورانيين ليهلكونا ، إلى أين نصعد! إخوتنا كسروا قلوبنا وقالوا : الشعب أعظم وأعزّ منا وأقوى ، وقراهم عظيمة مشيدة إلى السماء ، ورأينا هناك أبناء جبابرة ، وقلت لكم : لا تخافوا ولا تفزعوا منهم ، من أجل أن الله ربكم هو يسير أمامكم ، وهو يجاهد عنكم كما صنع بكم في أرض مصر وفي البرية .
كما رأيتم أنه فداكم كما يفدي الوالد ولده في كل الأرض التي سلكتموها حتى انتهيتم إلى هذه البلاد ، وبهذا القول لم تصدقوا أن الله ربكم يكمل لديكم أنه يسير أمامكم في الطريق ليهيىء لكم موضعاً تسكنون فيه ، أليس هو الذي أراكم طريقاً تسلكون فيه بالليل بالنار ، وستركم بالنهار من حر الشمس بالغمام ، وسمع الرب كلامكم وأصواتكم وغضب وأقسم وقال : لا يعاين أحد من هؤلاء القوم - أهل هذا الحقب الرديء - الأرض المخصبة التي أقسمت أن أعطي آباءهم غير كالاب بن يوفنا ، إني أدفع إليه الأرض التي مشى فيها وأورثها ولده ، لأنه أتم قول الرب وأكمل سنته ، وقال لي : وأنت أيضاً لا تدخلها ، ولكن يشوع بن نون الذي يخدمك هو يدخل هناك ، إياه قوِّ وأيد ، لأنه هو الذي يورث بني إسرائيل الأرض المخصبة التي وعدت بها آباءهم أن أعطيهم ، وأما مواشيكم التي قلتم : إنها تنتهب ، وبنوكم الذين لا يعلمون الخير من الشر ، فهم يدخلون هناك ، وإليهم أدفعها وهم يرثونها ، فأما أنتم فاقبلوا وارتحلوا إلى البرية في طريق بحر سوف ، فرددتم عليّ وقلتم : أسأنا وأجرمنا بين يدي الله ربنا ، نحن صاعدون ومجاهدون كما قال لنا ، وتسلح كل امرىء منكم بسلاحه ، وتهيأتم للصعود إلى الجبل ، وقال الرب لي : أنذرهم وقل لهم : لا تصعدوا ولا تجاهدوا ، لأني لست بينكم ، لئلا يهزمكم أعداؤكم ، وقلت ولم تقبلوا ، اجتنبتم قول الرب وأغضبتموه وجسرتم وطلعتم إلى الجبل ، فخرج الأموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائكم وطردوكم كما تطرد الزنابير بالدخان ، ودفعوكم من ساعير إلى حرما ، وجلستم وبكيتم ولم يسمع الرب أصواتكم ، فبكيتم أمام الرب في رقام أياماً كثيرة ما مكثتم فيها ، فأقبلنا فارتحلنا في البرية في طريق بحر سوف كما قال الرب ، وترددنا حول جبل ساعير أياماً كثيرة ، وقال لي الرب : قد طال ترددكم حول هذا الجبل اقبلوا إلى الجانب الجربي ، فتقدم إلى الشعب وقل لهم : أنتم تجوزون في حد إخوتكم بني عاسو - وفي نسخة : عيصو - الذين يسكنون ساعير ، فاحفظوا أن لا تولعوا بهم .
لأني لست أعطيكم من أرضهم ميراثاً ولا موضع قدم ، ابتاعوا منهم طعاماً لمأكلكم وامتاروا منهم ماء بفضة لمشربكم ، وليبارك الله ربكم عليكم ويبارك لكم في كل ما عملت أيديكم ، كما علم أن يسوسكم في هذه البرية أربعين سنة ، الله ربكم ما دام معكم لا يعوز بكم شيء ، وجزنا طريق العربة - وفي نسخة : البيداء - وأيلة ، وأقبلنا وجزنا في البرية إلى طريق موآب ، وقال لي الرب : لا تضيق على الموآبيين ولا تحاربهم ، لأني لست أعطيك من أرضهم ميراثاً ، بل قد جعلت هذه الأرض ميراثاً لبني لوط هذه التي سكنها إمتى أولاً ، شعباً كان عظيماً ، كان الموآبيون يسمونهم إمتى ، فأما ساعير فكان سكانها الحورانيين أولاً وورثها بنو عاسو ، فقوموا الآن فجوزوا وادي زرد ، فجزنا وادي زرد حينئذ ، وكان عدد الأيام التي سرنا من رقيم إلى أن جزنا وادي زرد ثماني وثلاثين سنة ، حتى هلك جميع الرجال الأبطال أهل ذلك الحقب من عسكر بني إسرائيل كما أقسم عليهم الرب ، لأن يد الرب كانت عليهم حتى هلكوا ، فلما ماتوا من الشعب كلمني الرب وقال لي : أنت جائز اليوم إلى حد موآب ، وتدنو من حد بني عمون فلا تتعرض لهم ، لست أعطيك ميراثاً من أرض بني عمون ، لأني قد جعلتها ميراثاً لبني لوط ، فقم وارتحل وجز وادي أرنون ، إني قد دفعت إليك سيحون ملك الأمورانيين فحاربه وأهلك أصحابه ، فإني أبدأ فألقي خوفك وفزعك على الناس منذ يومك هذا ، وعلى جميع الشعوب التي تحت السماء ، حتى إذا سمعوا بخبرك فرقوا وفزعوا منك ، وأرسلت رسلاً من برية قدموت إلى سيحون ملك حجبون بكلام طيب وبالسلام ، وقلت له : نجوز في أرضك ونسير في الطريق الأعظم ، لا نميل يمنة ولا يسرة نمتار منكم طعاماً بفضة لمأكلنا ، وكذلك نبتاع ماء لمشربنا بثمن ، فدعونا نجز سائرين في الطريق كما صنع بنا بنو عاسو الذين في ساعير ، والموآبيون الذي في عار ، حتى يجوز في الأردن إلى الأرض التي يعطينا الله ربنا ، لوم يسرَّ سيحون ملك حجبون أن نجوز في حده ، لأن الله ربكم قسّى قلبه وعظم روحه ليدفعه في أيديكم ، وخرج إلينا هو وجميع أجناده ليحاربونا في ياهاص ، فدفعه الرب إلينا وقتلناه هو وجميع أجناده وفتحنا قراه وأهلكنا كل من كان في قراه ، ولم يبق منهم أحد ، وأهلكنا نساءهم وعيالاتهم ، ولم يبق منهم أحد من حد عروعير التي على حد وادي أرنون ، والقرية التي في الوادي وإلى جلعاد لم تفتنا قرية ، بل دفعها الله ربنا في أيدينا جميعاً ، فأما أرض بني عمون فلم نقربها ، وكل ما كان على وادي يبوق وقرى الجبال أيضاً ، وكل ما أمرنا الله ربنا به ، ثم أقبلنا وصعدنا إلى أرض متنين ، وخرج إلينا عوج ملك متنين هو وكل شيعته ليحاربنا في أدرعى ، وقال لي الرب : لا تفرق فإني قد دفعته في يديك ، وأسلمت إليك كل أجناده وأرضه ، وقتلناهم ولم يبق منهم أحد ، وظفرنا بكل قراه في ذلك الزمان ، ولم تفتنا قرية إلا أخذناها منهم ستين قرية ، كل جبل أرجوب ، كل القرى التي كانت أسوارها مشيدة محصنة بالأبواب الشديدة الموثقة ، وأحرمناهن كما صنعنا بسيحون وأخذنا الأرض في ذلك الزمان من ملكي الأمورانيين اللذين كانا عند مجاز الأردن من وادي أرنون إلى جبل حرمون ، فأما الصيدانيون فكانوا يدعون حرمون سريون ، وأما الأمورانيون فكانوا يسمونها سنير ، وأخذنا كل القرى التي كانت في الصحراء وكل جلعاد وكل متنين إلى سلكة وأدرعى ، جميع قرى ملك عوج ، لأن عوجاً كان الجبار الذي بقي وحده من الجبابرة ، وكان سريره من حديد ، وفي مدينة بني عمون التي تسمى ربة ، طوله تسع أذرع وعرضه أربع أذرع بذراع الجبابرة ، وورثنا هذه الأرض في ذلك الزمان؛ ثم قال : أمرت يشوع في ذلك الزمان وقلت : قد رأيت بعينيك ما صنع الله ربكم بملكي الأمورانيين ، كذلك يصنع الرب بجميع المملكات التي تجوز إليها ، لأن الله ربكم هو يجاهد عنكم ، وتضرعت إلى الرب في ذلك الزمان وقلت : أطلب إليك يا ربي وإلهي أن تظهر لعبدك عظمتك بيدك المنيعة وبذراعك العظيمة ، أيّ إله في السماء أو في الأرض يعمل مثل أعمالك وجرائحك! أتأذن لي الآن فأعبر وأعاين الأرض المخصبة التي في مجاز الأردن ، هذا الجبل المخصب ولبنان ، ولم يتسجب لي وقال لي الرب : حسبك! لا تعد أن تقول هذا القول بين يدي ، اصعد رأس الأكمة وارفع عينيك إلى المغرب والمشرق وإلى الجربي والتيمن ، وانظر إليها نظراً ولا تجز هذا الأردن ، ومر يشوع وتقدم إليه وقوِّه وأيده ، لأنه هو الذي يجوز أمام هذا الشعب وهو الذي يورثهم الأرض التي تراها ، ونزلنا الوادي حيال بيت فغور : ثم قال : وأقسم - أي الرب -أني لا أجوز هذا الأردن ولا أدخل إلى الأرض التي أعطاكم الله ربكم ميراثاً ، فأنا الآن متوفٍ في هذه الأرض ، ولا أجوز هذا الأردن ، فأما أنتم فتجوزون وترثون هذه الأرض المخصبة ، احفظوا لا تنسوا عهد ربكم الذي عاهدكم ، ولا تفسدوا وتتخذوا أصناماً وأشباهاً ، من أجل أن الله ربكم هو نار محرقة وهو إله غيور ، وإذا ولد لكم بنون وبنو بنين وعتقتم في الأرض .
واتخذتم أصناماً وأشباهاً وارتكبتم الشر أمام الله ربكم وأغضبتموه قد أشهد عليكم السماء والأرض أنكم تهلكون سريعاً من الأرض التي تجوزون لترثوها ، ولا تكثر أيامكم فيها ، ويبددكم الرب من بين الشعوب ويبقي منكم عدد قليل بين الشعوب التي يفرقكم الرب فيها ، سلوا عن الأيام الأولى التي مضت قبلكم منذ يوم خلق الله الناس على الأرض من أقصى السماء إلى أقطارها ، هل كان مثل هذا الأمر العظيم أو سمع بمثله قط؟ هل سمع شعب آخر صوت الله يكلمه من النار كما سمعتم أنتم ، وجربوا الله الذي اتخذهم شعباً من الشعوب بالبلايا والآيات والأعاجيب والحروب واليد المنيعة والذراع العظيمة وبالمناظر العظيمة ، كما صنع الله بأهل مصر تجاهكم أنتم وعاينتم وعلمتم أن الله هو رب كل شيء وليس إله غيره ، أسمعكم صوته من السماء ليعلمكم وأراكم ناره العظيمة ، وسمعتم أقاويله من النار ، ولحبه لآبائكم اختار نسلهم من بعدهم ، وأخرجكم بوجهه من مصر بقوته العظيمة ، ليهلك من بين أيديكم شعوباً أعظم وأعزّ منكم ليدخلكم ويعطيكم أرضهم ميراثاً ، لتعلموا يومكم هذا وتقبلوا بقلوبكم لأن الرب هو إله في السماء فوق وفي الأرض أسفل ، وليس إله سواه ، احفظوا سننه ووصاياه التي أمركم بها يومكم هذا لينعم عليكم وعلى أبنائكم من بعدكم ويطول مكثكم في الأرض التي يعطيكم الله ربكم طول الأيام .
هذه الشهادات والأحكام التي قص موسى على بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر ، فانتهوا إلى مجاز الأردن في الوادي في مشارق الشمس ، وإلى بحر العربة إلى سدود الفسجة ، ثم قال بعد ذلك في أواخر هذا السفر بعد أن قص عليهم أحكاماً كثيرة وحِكَما عزيزة : الرب يقبل بكم إلى الخير ويفرحكم كما فرح آباؤكم ، وذلك إن أنتم سمعتم قول الله ربكم وحفظتم سننه ووصاياه المكتوبة في هذا الكتاب من كل قلوبكم وأنفسكم ، من أجل أن هذه الوصية لم تخف عليكم ولم تغب ، وليس هو بمستور في السماء فتقولوا : من يصعد لنا إلى السماء ويأتينا به فنسمعه ونعمل به! وليس بغائب عنكم في أقصى البحر فتقولوا : من ينزل لنا إلى البحر ويأتينا به فنسمعه ونعمل به! ولكن القول قريب من فمك وقلبك فاعمل به ، وانظر أني قد صيّرت بين يديك اليوم الحياة والخير ، فأخبرتك بالموت والشر ، وأنا آمرك اليوم أن تحب الله ربك وتسلك في طرقه وتحفظ سننه ووصاياه وأحكامه ، لتحيى وتكثر جداً ، ويبارك الله ربك عليك ، وينميك في الأرض التي تدخلها لترثها ، وإن مال قلبك وزاغ ولم تسمع وضللت وتبعت الآلهة الأخرى وسجدت لها فقد بينت لكم اليوم أنكم تهلكون هلاكاً ، ولا يطول مكثكم في الأرض التي تجوزون الأردن لترثوها ، وأوعزت إليكم وناشدتكم السماء والأرض والحياة والموت - وفي نسخة : وأشهدت عليكم السماء والأرض وجعلت بين يديكم الحياة والموت - وتلوت عليكم اللعن والدعاء ، فاختر الحياة لتحيى أنت ونسلك إذا أحببت الله ربك وسمعت قوله ولحقت بعبادته ، لأنه حياتك وطول عمرك ، وتسكن في الأرض التي أقسم الرب لآبائك ووعد إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيك؛ ثم انطلق موسى وكلم بني إسرائيل وقص عليهم هذه الأقوال كلها وقال لهم : اليوم مائة وعشرون سنة ، ولست أقدر على الدخول والخروج أيضاً ، والرب قال : إنك لا تجوز هذا الأردن ، فالله ربكم هو يجوز أمامكم ، وهو يهلك هذه الشعوب من بين أيديكم وترثونهم ، ويشوع هو يجوز أمامكم كما قال الرب ، وسيصنع بهم الرب كما صنع بسيحون وعوج ملكي الأمورانيين اللذين أهلكهما ، ويهزمهم الله ربكم من بين أيديكم ، فاصنعوا بهم حينئذ ما أمرتكم به ، فتقوّوا واعتزوا ولا تخافوا ولا تفزعوا ، ولا ترعب قلوبكم منهم ، لأن الله ربكم سائر أمامكم ، لا يخذلكم ولا يرفضكم؛ ودعا موسى يشوع بن نون وقال له بين يدي جماعة بني إسرائيل : تقّو واعتز ، لأنك أنت الذي تدخل هذا الشعب الأرض التي أقسم الله لآبائهم أن يعطيهم ، وأنت تورثها أبناءهم ، والرب هو يسير أمامكم وهو يكون معك ولا يخذلك ولا يرفضك ، فلا تخف ولا تفزع ولا يرعب قلبك؛ وكتب موسى هذه التوراة وسننها ودفعها إلى الأحبار بني لاوي الذين يحملون تابوت عهد الرب وإلى جميع أشياخ بني إسرائيل؛ ثم قال : وكلم الرب موسى في ذلك اليوم وقال له : اصعد إلى جبل العبرانيين هذا جبل نابو الذي في أرض موآب حيال يريحا وانظر إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل ميراثاً ، ولتتوفّ هناك في الجبل الذي تصعد إليه واجتمع إلى آبائك ، كما توفي أخوك هارون في الجبل وصار إلى قومه ، ثم قال في آخر هذا السفر وهو آخر التوراة : فطلع موسى من عربوب - وفي نسخة : من بيداء موآب - إلى جبل نبو إلى رأس الأكمة التي قبالة وجه إريحا ، وأراه الله جميع جلعد إلى دان وجميع أرض نفتالي وجميع أرض إفرائيم ومنشا ، وجميع أرض يهودا إلى آخر البحر والبرية وما حول بقعة بلد إريحا مدينة النخل إلى صاغر ، فقال الرب لموسى : إن هذه هي في الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وقلت : إني لنسلكم أعطيها ، قد أريتكها بعينيك ، فأما أنت فما تدخلها ، وقضى عبدالله موسى بأرض موآب بأمر الرب ، فدفن - يعني في أرض موآب - حذاء بيت فاغور ، ولم يعرف أحد أين قضى إلى يومنا هذا ، وكان موسى وقت قضى ابن مائة وعشرين سنة ، لم يضعف بصره ولم يشخ جداً؛ فناح بنو إسرائيل على موسى بعربوب - وفي نسخه : في بيداء موآب - ثلاثين يوماً ، وتمت أيام بكاء مأتم موسى؛ وامتلأ يشوع بن نون روَح الحكمة ، لأن موسى وضع عليه يده ، وأطاع له بنو إسرائيل وامتثلوا ما أمر الرب به موسى - انتهى ما أردته من أخبار التيه وما يتصل بذلك من مساواتهم لجميع الناس في العذاب بالمعاصي والإلطاف بالطاعات ، الهادم لكونهم أبناء وأحباء .
وفيه مما يحتاج إلى تفسير : الجربي ، وهو نسبة إلى الجربياء - بكسر الجيم والموحدة ، بينهما مهملة ساكنة ثم تحتانية ممدودة ، وهي جهة الشمال ، والتيمنُ - بفتح الفوقانية وإسكان التحتانية وضم الميم ، وهو أفق اليمن الذي يقابل الشمال فالمراد الجنوب ، وفيه قاصمة لهم من إنكار النسخ في أمرهم بنص التوراة بالدخول إلى يبت المقدس ثم نهيهم عن ذلك لما عصوا ، فإنه قال : اصعدوا ورثوا الأرض كما قال لكم الله رب آبائكم ، لا تخافوا ولا تفزغوا ، ولما عصوا هذا الأمر وأعلمهم موسى عليه السلام عليه السلام بغضب الله عليهم وعقوبته بالتيه أرادوا امتثال الأمر في الصعود توبة ، فقال لهم موسى عليه السلام : وقال لي الرب : أنذرهم وقل لهم : لا تصعدوا ولا تجاهدوا لأني لست بينكم ، لئلا يهزمكم أعداؤكم - هذا نصه فراجعه . وأما دخول أبنائهم إلى بلاد القدس وغلبتهم على أهلها وتبسطهم في أرضها تصديقاً لمواعد الله على يد يشوع بن نون عليه السلام فسيذكر إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى في سورة يونس عليه السلام : { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق } [ يونس : 93 ] ، ولكن أقدم هنا من أمر يوشع بعد موسى عليهما السلام - والمعونة بالله - ما يبنى عليه بعض مناسبات الآية التي بعدها ، قال البغوي : فتوجه - يعني يوشع - ببني إسرائيل إلى إريحا ومعه تابوت الميثاق ، فأحاط بها ستة أشهر ، ثم نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة ، فسقط سور المدينة ودخلوا ، فقاتلوا الجبارين فقتلوهم ، وكان القتال في يوم الجمعة ، فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال : اللهم أردد الشمس عليّ! فردت عليه وزيد في النهار ساعة ، ثم قتلهم أجمعين ، وتبع ملوك الشام واستباح منهم واحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام وفرق عماله في نواحيها ، وجمع الغنائم فلم تنزل النار ، فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولاً فمرهم فليبايعوك ، فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده ، فقال : هلمّ ما عندك! فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر ، فجعله في القربان وجعل الرجل معه ، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان - انتهى . ورأيت أنا في تاريخ نبوة يوشع بعد موت موسى عليهما السلام ما ربما يخالف هذا في الأشهر والبلد ، أما الأشهر فجعلها سبعة أيام ، وأما البلدة التي وقفت عندها الشمس فجبعون لا إريحا ، فإنه قال ما نصه : قال الرب ليشوع : انظر ، إني قد دفعت في يدك إريحا وملكها وكل أجنادها ، فليُحِطْ بالمدينة جميع الرجال المقاتلة ، ودوروا حول المدينة في اليوم مرة ، وافعلوا ذلك في ستة أيام ، ويحمل سبعة من الكهنة سبعة أبواق ويهتفون أمام التابوت ، حتى إذا كان اليوم السابع دوروا حول المدينة سبع مرات ، ويهتف الكهنة بالقرون ، وإذا هتفت الأبواق وسمعتم أصواتها يهتف جميع الشعب بأعلى أصواتهم صوتاً شديداً ، فيقع سور المدينة مكانه ، ويصعد الشعب كل إنسان حياله - انتهى .
ثم ذكر امتثالهم لأمر الله وفتحهم لإريحا على ما قال الله ، وأما البلدة التي ردَّت فيها الشمس فهي جبعون ، وذلك أنه ذكر بعد فتح إريحا هذه أن سكون جعبون وهم الحاوانيون صالحوا يوشع بحيلة فعلوها ، ثم قال : وهذه أسماء قراهم : جبعون والكفيرة وبيروت ويعاريم ، فلما سمع بذلك أدونصداق ملك أورشليم فرق فرقاً شديداً ، لأن جبعون كانت مدينة عظيمة كمثل مدن الملك ، وكان أهلها رجالاً جبابرة ، فأرسل إلى هوهم ملك حبران - وفي موضع آخر : حبرون - وإلى فرآم ملك يرموث ، وإلى يافع ملك لخيس ، وإلى دابير ملك عقلون - وقال لي بعض اليهود : إن المراد بهذه عجلون - وقال لهم : اصعدوا لتعينوني على محاربة أهل جبعون ، لأنهم قد صالحوا يشوع ، فاجتمع الخمسة من ملوك الأمورانيين وجميع عساكرهم فنزلوا على جبعون ، فأرسل أهل جبعون إلى يشوع فصعد يشوع من الجلجال هو وجميع أبطال الشعب ، فأوحى الرب إلى يشوع : لا تخف ولا تفزع منهم ، لأني قد أسلمتهم في يدك ، فأتاهم بغتة ، لأنه صعد من الجلجال الليل أجمع ، فهزمهم الرب بين يدي آل إسرائيل وجرحوا منهم جرحى كثيرة في جبعون التي بحوران ، وهربوا في طريق عقبة حوران ولم يزالوا يقتلون منهم إلى عزيقة ومقيدة ، فلما هرب الذين بقوا منهم ونزلوا عقبة حوران أمطر الرب عليهم حجارة برد كبار من السماء إلى عزيقة وماتوا كلهم ، فكان الذين ماتوا بحجارة البرد أكثر من الذين قتلوا ، ثم قام يشوع أمام الرب مصلياً في اليوم الذي دفع الرب الأمورانيين في يدي بني إسرائيل وقال : أيتها الشمس! امكثي في جبعون ولا تسيري ، وأنت أيها القمر! لا تبرح قاعَ أيلون ، فثبتت الشمس وقام القمر حتى انتقم الشعب من أعدائهم؛ فكتبت هذه الأعجوبة في سفر التسابيح ، لأن الشمس وقفت في وسط السماء ولم تزل إلى الغروب ، وصار النهار يوماً تاماً ، ولم يكن مثل ذلك اليوم قبله ولا بعده - انتهى . وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة ، روى الشيخان : البخاري في الخمس والنكاح ، ومسلم في المغازي عن أبي هريرة رضي الله عنه قالك « قال النبي صلى الله عليه وسلم : » غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه : لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولمّا يبن بها ، ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها ، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر ولادها ، فغزا فدنا من القرية صلاةَ العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس : إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها علينا! فحبست حتى فتح الله عليه فجمع الغنائم ، فجاءت - يعني النار - لتأكلها فلم تطعمها ، فقال : إن فيكم غلولاً ، فليبايعني من كل قبيلة رجل ، فلزقت يد رجل بيده ، فقال : فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك ، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده ، فقال : فيكم الغلول ، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها ، فجاءت النار فأكلتها ثم أحل الله لنا الغنائم ، رأى بعض ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا «
وفي رواية المسند للحافظ نور الدين الهيثمي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الشمس لم يحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس » ، قال : وهو في الصحيح ولم أر فيه حصراً كما هنا؛ وفي سيرة ابن إسحاق ما ينقضه ، قال : حدثنا يونس عن الأسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر قومه بالرفعة والعلامة عما في العير قالوا : فمتى تجيء؟ قال : يوم الأربعاء ، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون وقد ولى النهار ولم تجىء ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس ، ولم ترد الشمس على أحد إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يوشع بن نون حين قاتل الجبارين يوم الجمعة .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
ولما كانت قصتهم هذه - في أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدسة لما فيها من نقض العهود والتبرؤ من الله والحكم عليهم بالفسق والتعذيب - ناقضة لما ادعاه اليهود من البنوة ، كان ذلك كافياً في إبطال مدعى النصارى لذلك ، لأنهم أبناء اليهود ، وإذا بطل كون أبيك ابانً لأحد بطل أن تكون أنت ابنه ، لما كان ذلك كذلك ناسب أن تعقب بقصة ابني آدم لما يذكر ، فقال تعالى عاطفاً على قوله : { وإذ قال موسى } [ المائدة : 20 ] { واتل عليهم } أي على المدعوّين الذين من جملتهم اليهود تلاوة ، وهي من أعظم الأدلة على نبوتك ، لأن ذلك لا علم لك ولا لقومك به إلا من جهة الوحي { نبأ ابني آدم } أي خبرهما الجليل العظيم ، تلاوة ملتبسة { بالحق } أي الخبر الذي يطابقه الواقع إذا تُعُرَّفَ من كتب الأولين وأخبار الماضين كائناً ذلك النبأ { إذ } أي حين { قربا } أي ابنا آدم؛ ولما لم يتعلق الغرض في هذا المقام ببيان أيّ نوع قربا منه ، قال : { قرباناً } أي بأن قرب كل واحد منهما شيئاً من شأنه أن يقرِّبَ إلى المطلوب مقاربتُه غاية القرب .
ولما كان المؤثر للحسد إنما هو عدم التقبل ، لا بالنسبة إلى متقبل خاص ، بناه للمفعول فقال : { فتُقبِّل } أي قبل قبولاً عظيماً ظاهراً لكل أحد { من أحدهما } أبهمه أيضاً لعدم الاحتياج في هذا السياق إلى تعيينه { ولم يتقبل من الآخر } عَلِمَا ذلك بعلامة كانت لهم في ذلك ، إما أكل النار للمقبول كما قالوه أو غير ذلك؛ ومناسبتها لما قبلها من حيث إنها أيضاً ناقضة لدعواهم البنوة ، لأن قابيل ممن ولد في الجنة على ما قيل ، ومع ذلك فقد عذب لما نقض العهد ، فانتفى أن يكون ابناً وكان هو وغيره شرعاً واحداً دائراً أمرهم في العذاب والثواب على الوفاء والنقض ، من وفى كان حبيباً ولياً ، ومن نقض كان بغيضاً عدواً ، وإذا انتفت البنوة عن ولد لآدم صفي الله مع كونه لصلبه لا واسطة بينهما ومع كونه وُلِدَ في الجنة دار الكرامة ، فانتفاؤها عمن هو أسفل منه من باب الأولى ، وكذا المحبة؛ ومن المناسبات أيضاً أن كفر بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وسلم إنما هو للحسد ، فنبهوا بقضة ابني آدم على أن الحسد يجر إلى ما لا يرضي الله وإلى ما لا يرضاه عاقل ويكب في النار؛ ومنها أن في قصة بني إسرائيل إحجامهم عن قتال أعداء الله البعداء منهم المأمورين بقتالهم الموعودين عليه بخيري الدارين ، وأن الله معهم فيه ، وفي قصة ابني آدم إقبال قابيل على قتل أخيه حبيب الله المنهي عن قتله المتوعد بأن الله يتبرأ منه إن قتله ، ففي ذلك تأديب لهذه الأمة عند كل إقدام وإحجام ، وتذكير بالنعمة في حفظهم من مثل ذلك ، وأن فيها أن موسى وهارون عليهما السلام أخوان في غاية الطواعية في أنفسهما ، ورحمة كل منهما للآخر والطاعة لله ، وقصة ابني آدم بخلاف ذلك ، وفي ذلك تحذير مما جر إليه وهو الحسد ، وأن في قصة بني إسرائيل أنهم لما قدموا الغنائم للنار فلم تأكلها ، عَلِمَ نبيهم صلى الله عليه وسلم أنها لم تقبل لغلول غَلّوه ، فاستخرجه ووضعه فيها فأكلتها ، ففي ذلك الاستدلال بعدم أكل النار على عدم القبول - كما في قصة ابني آدم ، وأن بني إسرائيل عذبوا بالمنع من بيت المقدس بالتيه .
وقابيل نفي من الأرض التي كان فيها مقتل أخيه ، وأن بني إسرائيل تاهوا أربعين سنة على عدد الأيام التي غاب فيها نقباؤهم في جسّ أخبار الجبابرة ، وأن قابيل حمل هابيل بعد أن قتله أربعين يوماً - ذكره البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : وقصده السباع فحمله على ظهره أربعين يوماً ، وكل هذه محسنات والعمدة هو الوجه الأول وأحسن منه أن يكون الأمر لموسى عليه السلام عطفاً على النهي في لاتاس ، والمعنى أن الأرض المقدسة مكتوبة لهم كما قَدمته أنت أول القصة في قولك : { التي كتب الله لكم } [ المائدة : 21 ] فأنا مورثها لا محالة لأبنائهم وأنت متوفٍ قبل دخولها ، وقد أجريت سنتي في ابني آدم بأنهم إذا توطنوا واستراحوا تحاسدوا ، وإذا تحاسدوا تدابروا فقتل بعضهم بعضاً ، فاتل عليهم هذه القصة لتكون زاجرة لهم من أن يفعلوا ذلك إذا فرغوا من الجبابرة وأبادوهم وصفت لهم البلاد فتوطنوها ، وأخرجت لهم بركاتها فأبطرتهم النعم ، ونسوا غوائل النقم؛ ويكون ذلك وعظاً لهذه الأمة ومانعاً من فعل مثل ذلك بعد إكمال دينهم ووفاة نبيهم وإظهارهم على الدين كله ، كما تقدم به الوعد لهم فقهروا العباد وفتحوا البلاد وانتثلوا كنوزها وتحكموا في أموالها ، فنسوا ما كانوا فيه من القلة والحاجة والذلة فأبطرتهم النعم ، وارتكبوا أفعال الأمم ، وأعرضوا عن غوائل النقم - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، الا والبغضاء هي الحالقة ، لا أقول : تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين » أخرجه الترمذي والإمام أحمد وأبو داود الطيالسي في مسنديهما والبزار - قال المندري : بإسناد جيد - والبيهقي وقال : « لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا » رواه الطبراني ورواته ثقات ، وذكر الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي في القسم الثاني من سيرته في فتح جلولاء من بلاد فارس أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أرسل الغنيمة إلى عمر رضي الله عنه أقسم عمر رضي الله عنه : لا يخبأها سقف بيت حتى تقسم! فوضعت في صحن المسجد ، فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم رضي الله عنهما يحرسانه ، فلما جاء الناس كشف عنه فنظر عمر رضي الله عنه إلى ياقوتة وزبرجدة وجوهرة فبكى ، فقال عبد الرحمن رضي الله عنه : ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا إلا موطن شكر! فقال عمر : والله ما ذاك يبكيني ، وتالله ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا ، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم .
شرحُ قصة ابني آدم من التوراة ، قال المترجم في أولها بعد قصة أكل آدم عليه السلام من الشجرة ما نصه : فدعا آدم اسم امرأته حواء من أجل أنها كانت أم كل حيّ ، وصنع الرب لآدم وامرأته سرابيل من الجلود وألبسهما ، فأرسله الله من جنة عدن ليحرث الأرض التي منها أخذ ، فأخرجه الله ربنا ، فجامع آدم امرأته حواء فحبلت وولدت قايين وقالت : لقد استفدت لله رجلاً ، وعادت فولدت أخاه هابيل ، فكان هابيل راعي غنم ، وكان قايين يحرث الأرض ، فلما كان بعد أيام جاء قايين من ثمر أرضه بقربان لله ، وجاء هابيل أيضاً من أبكار غنمه بقربان ، فسر الله بهابيل وقربانه ولم يسر بقايين وقربانه ، فساء ذلك قايين جداً وهمَّ أن يسوءه وعبس وجهه ، فقال الرب لقايين : ما ساءك؟ ولِمَ كسف وجهك؟ إن أحسنت تقبلت منك ، وإن لم تحسن فإن الخطيئة رابضة على الباب وأنت تقبل إليها وهي تتسلط عليك ، فقال قايين لهابيل أخيه : تتمشى بنا في البقعة ، فبينما هما يتمشيان في الحرث وثب قايين على أخيه هابيل فقتله ، فقال الله لقايين : أين هابيل أخوك؟ فقال : لا أدري ، أرقيب أنا على أخي؟ قال الله : ماذا فعلت! فإن دم أخيك ينادي لي من الأرض ، من الآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها فقبلت دم أخيك من يدك ، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حراثها ، وتكون فزعاً تائهاً في الأرض ، فقال قايين للرب : عظمت خطيئتي من أن تغفرها ، وقد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض ، وأتوارى من قدامك وأكون فزعاً تائها في الأرض ، وكل من وجدني يقتلني ، فقال الله ربنا : كلا! ولكن كذلك كل قاتل ، وأما قايين فإنه يجزى بدل الواحد سبعة ، فخرج قايين من قدام الله فجلس في الأرض نود شرقي عدن - انتهى . قال البغوي عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت فيها بقابيل وتوأمته - فذكر قصته في النكاح وقتله لأخيه وشرب الأرض لدمه قولو قابيل لله - حين قال له : إنه قتله - : إن كنت قتلته فأين دمه؟ فحرم الله على الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعده أبداً - انتهى .
ولما أخبر الله تعالى بأن أحدهما فعل معه من عدم القبول ما غاظه ، كان كأنه قيل : فما فعل حين غضب؟ فقيل : { قال } أي لأخيه الذي قبل قربانه حسداً له { لأقتلنك } فكأنه قيل : بما أجابه؟ فقيل : نبهه أولاً على ما يصل به إلى رتبته ليزول حسده بأن { قال إنما يتقبل الله } أي يقبل قبولاً عظيماً المحيط لكل شيء قدرة وعلماً الملك الذي له الكمال كله ، فليس هو محتاجاً إلى شيء ، وكل شيء محتاج إليه { من المتقين * } أي العريقين في وصف التقوى ، فلا معصية لهم يصرون عليها بشرك ولا غيره ، فعدمُ تقبل قربانك من نفسك لا مني ، فلم تقتلني؟ فقتلك لي مبعد لك عما حسدتني عليه .
ولما وعظه بما يمنعه من قتله ويقبل به على خلاص نفسه ، أعلمه ثانياً أن الخوف من الله مَنَعَه من أن يمانعه عن نفسه مليناً لقلبه بما هو جدير أن يرده عنه خشية أن تجره الممانعة إلى تعدي الحد المأذون فيه ، لأن أخاه كان عاصياً لا مشركاً ، فقال مؤكداً بالقسم لأن مثل ما يخبر به عظيم لا يكاد يصدق : { لئن بسطت إليّ } أي خاصة { يدك لتقتلني } أي لتوجد ذلك بأيّ وجه كان ، ثم بالغ في إعلامه بامتناعه من الممانعة فقال : { ما أنا } وأغرق في النفي فقال : { بباسط } أي أصلاً ، وقدم المفعول به تعميماً ، ثم خص المتعلق لمناسبة الحال فقال : { يدي إليك لأقتلك } أي في أيّ وقت من الأوقات ، ولعله أتى بالجملة الاسمية المفيدة لنفي الثبات والدوام أدباً مع الله في عدم الحكم على المستقبل ، ثم علله بقوله : { إني أخاف الله } أي أستحضر جميع ما أقدر على استحضاره من كماله ، ثم وصفه بالإحسان إلى خلقه ليكون ذلك مانعاً له من الإساءة إلى أحد منهم فقال : { رب العالمين * } أي الذي أنعم عليهم بنعمة الإيجاد ثم التربية ، فأنا لا أريد أن أخرب ما بنى ، وهذا كما فعل عثمان رضي الله عنه .
ولما كان من النهايات للواصلين إلى حضرات القدس ومواطن الأنس بالله ، المتمكنين في درجة الغناء عن غير الفاعل المختار أن لا يراد إلا ما يريد سبحانه ، فإن كان طاعة أراده العبد ورضيه ، وإن كان معصية أراده من حيث إنه مراد الله ولم يرضه لكونه معصية ، فيرضى بالقضاء دون المقضي ، وكأنه من الممكن القريب أن يكون هابيل قد كشف له عن أنه سبق في علم الله أن أخاه يقتله ، قال مرهباً له معللاً بتعليل آخر صاد له أيضاً عن الإقدام على القتل : { إني أريد } أي بعدم الممانعة لك { أن تبوأ } أي ترجع من قتلي إن قتلتني { بإثمي } أي الإثم الذي ينالك من أجل قتلك لي ، وبعقوبته الذي من جملته أنه يطرح عليك من سيئاتي بمقدار ما عليك من حقي إذا لم تجد ما ترضيني به من الحسنات { وإثمك } أي الذي لا سبب لي فيه ، وهو الذي كان سبباً لرد قربانك واجترائك عليّ وعدوانك ، وأفوز أنا بأجري وأجرك ، أي أجري الذي لا سبب لك فيه والأجر الذي أثمره استسلامي لك وكفُّ يدي عنك { فتكون } أي أنت بسبب ذلك { من أصحاب النار } أي الخالدين فيها جزاءً لك لظلمك بوضعك القتل في غير موضعه ، ثم بين أن هذا يعم كل من فعل هذا الفعل فقال : { وذلك جزاء الظالمين * } أي الراسخين في وصف الظلم كلهم ، وأكون أنا من أصحاب الجنة جزاءً لي بإحساني في إيثار حياتك لإرادة المعصية من حيث كونها معصية بإرادة ظهور الكفار ، لما علم من أن النصر بيد الله ، فهو قادر على نصر الباقي بعد استشهاد الشهيد .
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
ولما كان هذا الوعظ جديراً بأن يكون سبباً لطاعته وزاجراً له عن معصيته ، بين تعالى أنه قسا قلبه فجعله سبباً لإقدامه ، فقال - مبيناً بصيغة التفعيل ، إذ القتل لما جعل الله له من الحرمة وكساه من الهيبة لا يقدم عليه إلا بمعالجة كبيرة من النفس - : { فطوعت له } أي الذي لم يتقبل منه { نفسه قتل أخيه } أي فعالجته معالجة كبيرة وشجعته ، وسهلت له بما عندها من النفاسة على زعمها حتى غلبت على عقله فانطاع لها وانقاد فأقدم عليه؛ وتحقيق المعنى أن من تصور النهي عن الذنب والعقاب عليه امتنع منه فكان فعله كالعاصي عليه ، ومن استولت عليه نفسه بأنواع الشبه في تزيينه صار فعله له وإقدامه عليه كالمطيع له الممكن من نفسه بعد أن كان عاصياً عليه نافراً عنه ، ثم سبب عن هذا التطويع قوله : { فقتله } وسبب عن القتل قوله : { فأصبح } أي فكان في كل زمن { من الخاسرين * } أي العريقين في صفة الخسران بغضب الله عليه لاجترائه على إفساده مصنوعَه ، وغضب أبناء جنسه عليه لاجترائه على أحدهم ، وعبر بالإصباح والمراد جميع الأوقات ، لأن الصباح محل توقع الارتياح ، قيل : إنه لم يدر كيف يقتله ، فتصور له إبليس في يده طائر فشدخ رأسه بحجر فقتله ، فاقتدى به قابيل ، فأتى هابيل وهو نائمٌ فشدخ رأسه بحجر .
ولما كان التقدير : ثم إنه لم يدر ما يصنع به ، إذ كان أول ميت فلم يكن الدفن معروفاً ، سبب عنه قولَه : { فبعث الله } أي الذي له كمال القدرة والعظمة والحكمة؛ ولما كان المعنى يحصل بالغراب الباحث فقط قال : { غراباً يبحث } أي يوجد البحث وهو التفتيش في التراب بتليين ما تراصّ منه وإزاحته من مكانه ليبقى مكانه حوزة خالية .
ولما كان البحث مطلق التفتيش ، دل على ما ذكرته بقوله : { في الأرض } ليواري غراباً آخر مات؛ ولما كان الغراب سبب علم ابن آدم القاتل للدفن ، كان كأنه بحث لأجل تعليمه فقال تعالى : { ليريه } أي الغراب يُرى ابن آدم ، ويجوز أن يكون الضمير المستتر لله تعالى ، والأول أولى لتوقيفه على عجزه وجهله بأن الغراب أعلم منه وأقرب إلى الخير { كيف يواري } .
ولما كانت السوءة واجبة الستر ، وكان الميت يصير بعد موته كله سوءة ، قال منبهاً على ذلك وعلى أنها السبب في الدفن بالقصد الأول : { سوءة } أي فضيحة { أخيه } أي أخي قابيل وهو هابيل المقتول ، وصيغة المفاعلة تفيد أن الجثة تريد أن يكو القاتل وراءها ، والقاتل يريد كون الجثة وراءه ، فيكونان بحيث لا يرى واحد منهما الآخر ، ولعل بعث الغراب إشارة إلى غربة القاتل باستيحاش الناس منه وجعله ما ينفر عنه ويقتله كل من يقدر عليه ، ومن ثَمَّ سمى الغراب البين ، وتشاءم به من يراه .
ولما كان كأنه قيل : إن هذا لعجب ، فما قال؟ قيل : { قال } الكلمة التي تستعمل عند الداهية العظيمة لما نبهه ذلك ، متعجباً متحيراً متلهفاً عالماً أن الغراب أعلم منه وأشفق ، منكراً على نفسه { يا ويلتي } أي احضُرْني يا ويل! هذا أوانك أن لا يكون لي نديم غيرك؛ ولما تفجع غاية الفجيعة وتأسف كل الأسف ، أنكر على نفسه فقال : { أعجزت } أي مع ما جعل لي من القوة القاطعة { أن أكون } مع ما لي من الجوارح الصالحة لأعظم من ذلك { مثل هذا الغراب } وقوله مسبباً عن ذلك : { فأواري سوءة } أي عورة وفضيحة { أخي } نصِبَ عطفاً على أكون لا على جواب الاستفهام ، لأنه إنكاري فمعناه النفي ، لأنه لم تكن وقعت منه مواراة لينكر على نفسه ويوبخها بسببها ، ولو كانت وقعت لم يصح إنكارها على تقدير عدم العجز الذي أفادته الهمزة { فأصبح } بسبب قتله { من النادمين * } أي على ما فعل ، لأنه فقد أخاه وأغضب ربه وأباه ، ولم يفده ذلك ما كان سبب غيظه ، بل زاده بعداً ، وذكر أن آدم عليه السلام لما علم قتله رثاه بشعر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ردُّ ذلك ، وأن الأنبياء عليهم السلام كلهم في النهي عن الشعر سواء ، وقال صاحب الكشاف : وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر ، « ولا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم هذا كفل من دمها بما سن » رواه مسلم وغيره عن عبدالله ، وكذا « كل من سن سنة سيئة » ولهذا قال عليه السلام « إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون » ، وهذا لأن الآدمي لنقصانه أسرع شيء إلى الاقتداء في النقائص ، وهذا ما لم يتب الفاعل ، فإذا تاب أو كان غير متعمد للفعل كآدم عليه السلام لم يكن ساناً لذلك فلا شيء عليه ممن عمل بذلك .
ولما علم بهذا أن الإنسان موضع العجلة الإقدام على الموبقات من غير تأمل ، فكان أحوج شيء إلى نصب الزواجر ، أتبعه تعالى قوله : { من أجل ذلك } أي من غاية الأمر الفاحش جداً ومدته وعظم الأمر وشدة قبحه في نفسه وعند الله وصغره عند القاتل وحبسه ومنعه وجنايته وإثارته وتهييجه وجرأة الإنسان على العظائم بغير تأمل { كتبنا } أي بما لنا من العظمة ليفيد ذلك عظمة المكتوب والتنبيه على ما فيه من العجز ليفيد الانزجار { على بني إسرائيل } أي أعلمناهم بما لنا من العناية بهم في التوراة التي كتبناها لهم ، ويفهم ذلك أيضاً أنهم أشد الناس جرأة على القتل ، ولذلك كانوا يقتلون الأنيباء ، فأعلمهم الله بما فيهم من التشديد ، ولِمَا علم من الأدميين - لا سيما هم - من الجرأة عليه ، ليقيم عليهم بذلك الحجة على ما يتعارفونه بينهم ، ويكف عن القتل من سبقت له منه العناية بما يتصور من فظاعة القتل ، وقبح صورته وفحش أمره ، وعبر بأداة الاستعلاء التي هي للحتم من الوجوب والحرمة ، لأن السياق للزجر ، فهي تفهم المنع عن الإقدام على القتل في هذا المقام { أنه من قتل نفساً } أي من ابني آدم ، وكأنه أطلق تعظيماً لهم إشارة إلى أن غيرهم جماد { بغير نفس } أي بغير أن تكون قتلت نفساً تستحق أن تقاد بها فاستباح قتلها لتلك النفس التي قتلتها { أو } قتلها بغير { فساد } وقع منها .
ولما كانت الأرض - مع أنها فراشنا فهي محل التوليد والتربية والتنمية - دار الكدر ، وكان فساد من أفسد فراشه الموصوف - لا سيما وهو في كدر - دالاً على سوء جبلته ، وكان سوء الجبلة موجباً للقتل ، قال : { في الأرض } أي يبيح ذلك الفساد دمها كالشرك والزنا بعد الإحصان وكل ما يبيح إراقة الدم ، وقد علم بهذا أن قصة ابني آدم مع شدة التحامها بما قبل توطئة لما بعد ، وتغليظُ أمر القتل تقدم عن التوراة في سورة البقرة ، وقوله : { فكأنما قتل الناس جميعاً } من جملة الأدلة المبطلة لما ادعوا من البنوة ، إذ معناه أن الناس شرع واحد من جهة نفوسهم متساوون فيها . كلهم أولاد آدم ، لا فضل لأحد منهم على آخر في أصل تحريم القتل بغير ما ذكر من الموجب من قصاص أو فساد لا من بني إسرائيل ولا من غيرهم ، وذلك كما قال تعالى في ثاني النقوض { بل أنتم بشر ممن خلق } [ المائدة : 18 ] فصار من قتل نفساً واحدة بغير ما ذكر فكأنما حمل إثم من قتل الناس جميعاً ، لأن اجتراءه على ذلك أوجب اجتراء غيره ، ومن سن سنة كان كفاعلها { ومن أحياها } أي بسبب من الأسباب كعفو ، أو إنقاذ من هلكة كغرق ، أو مدافعة لمن يريد أن يقتلها ظلماً { فكأنما أحيا } أي بذلك الفعل الذي كان سبباً للأحياء { الناس جميعاً } أي بمثل ما تقدم في القتل ، والآية دالة على تعليمه سبحانه لعباده الحكمة ، لما يعلم من طباعهم التي خلقهم عليها ومن عواقب الأمور - لا على أنه يجب عليه - رعاية المصلحة ، ومما يحسن إيراده هاهنا ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ورأيت من ينسبه للشافعي رحمه الله تعالى :
الناس من جهة التمثال أكفاء ... أبوهمُ آدم والأم حواء
نفس كنفس وأرواح مشاكلة ... وأعظمُ خلقت فيهم وأعضاء
فإن يكن لهمُ في أصلهم حسب ... يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرىء ما كان يحسنه ... وللرجال علىلأفعال أسماء
وضد كل امرىء ما كان يجهله ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً ... فالناس موتى وأهل العلم أحياء
ولما أخبر سبحانه أنه كتب عليهم ذلك ، أتبعه حالاً منهم دالة على أنهم بعيدون من أن يكونوا أبناء وأحباء فقال : { ولقد } أي والحال أنهم قد { جاءتهم رسلنا } أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا واختيارنا لهم لأن يأتوا عنا ، فهم لذلك أنصح الناس وأبعدهم عن الغرض وأجلّهم وأجمعهم للكمالات وأرفعهم عن النقائص ، لأن كل رسول دال على مرسله { بالبينات } أي الآيات الواضحة للعقل أنها من عندنا ، آمره لهم بكل خير ، زاجرة عن كل ضير ، لم نقتصر في التغليظ في ذلك على الكتاب بل وأرسلنا الرسل إليهم متواترة .
ولما كان وقوع الإسراف - وهو الإبعاد عن حد الاعتدال في الأمر منهم بعد ذلك - بعيداً - عبر بأداة التراخي مؤكداً بأنواع التأكيد فقال : { ثم إن كثيراً منهم } أي بني إسرائيل ، وبيَّنَ شدة عتوّهم بإصرارهم خلفاً بعد سلف فلم يثبت الجار فقال : { بعد ذلك } أي البيان العظيم والزجر البليغ بالرسل والكتاب { في الأرض } أي التي هي مع كونها فراشاً لهم - ويقبح على الإنسان أن يفسد فراشه - شاغلة - لما فيها من عظائم الكدورات وترادف القاذورات - عن الكفاف فضلاً عن الإسراف { لمسرفون * } أي عريقون في الإسراف بالقتل وغيره .
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
ولما كان هذا الإسراف بعد هذه الموانع محاربة للناهي عنه ، وكان تارة يكون بالقتل وتارة بغيره ، وكان ربما ظن أن عذاب القاتل يكون بأكثر من القتل لكونه كمن قتل الناس جميعاً ، وصل به سبحانه قوله على طريق الحصر : { إنما جزاؤا } وكان الأصل : جزاؤهم ، ولكن أريد تعليق الحكم بالوصف والتعميم فقال : { الذين يحاربون الله } أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له { ورسوله } أي بمحاربة من نَهَيَا عن محاربته بقطع الطريق وهم مسلمون ، ولهم منعة ممن أرادهم ، ويقصدون المسلمين في دمائهم وأموالهم سواء كانوا في البلد أو خارجها .
ولما كان عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً ، أعلم أن هؤلاء عماد الشيطان بقوله : { ويسعون في الأرض } ولما كان هذا ظاهراً في الفساد ، صرح به في قوله : { فساداً } أي حال كونهم ذوي فساد ، أو للفساد ، ويجوز أن يكون مصدراً ليسعون - على المعنى ، ولما كانت أفعالهم مختلفة ، فسم عقوبتهم بحسبها فقال : { أن يقتلوا } أي إن كانت جريمتهم القتل فقط ، لأن القتل جزاؤه القتل ، وزاد - لكونه في قطع الطريق - صيرورته حتماً لا يصح العفو عنه { أو يصلّبوه } أي مع القتل إن ضموا إلى القتل أحد المال ، بأن يرفع المصلوب على جذع ، ومنهم من قال : يكون ذلك وهو حيّ ، فحينئذٍ تمد يداه مع الجذع ، والأصح عند الشافعية أنه يقتل ويصلى عليه ثم يرفع على الجذع زمناً يشيع خبره فيه لينزجر غيره ، ولا يزاد على ثلاثة أيام { أو تقطّع أيديهم } أي اليمنى بأخذهم المال من غير قتل { وأرجلهم } أي اليسرى لإخافة السبيل ، وهذا معنى قوله : { من خلاف } أي إن كانت الجريمة أخذ المال فقط { أو ينفوا من الأرض } أي بالإخافة والإزعاج إن لم يقعوا في قبضة الإمام ليكونوا منتقلين من بلد إلى آخر ذعراً وخوفاً ، وبالحبس إن وقعوا في القبضة ، وكانوا قد كثروا سواد المحاربين وما قتلوا ولا أخذوا مالاً { ذلك } أي النكل الشديد المفصّل إلى ما ذكر { لهم } أي خاصاً بهم { خزي } أي إهانة وذل بإيقاعه بهم { في الدنيا } أي ليرتدع بهم غيرهم { ولهم } أي إن لم يتوبوا { في الآخرة } أي التي هي موطن الفصل بإظهار العدل { عذاب عظيم } أي هو بحيث لا يدخل تحت مَعارِفِكم أكثر من وصفه بالعظم .
ولما كان التعبير ب « إنما » يدل بختم الجزاء على هذا الوجه ، استثنى من المعاقبين هذه العقوبة بقوله : { إلا الذين تابوا } أي رجعوا عما كانوا عليه من المحاربة خوفاً من الله تعالى ، ولذا قال : { من قبل } وأثبت الجار إشارة إلى القبول وإن طال زمن المعصية وقصر زمن التوبة { أن تقدروا عليهم } أي فإن تحتم الجزاء المذكور يسقط ، فلا يجازون على ما يتعلق بحقوق الآدمي إلاّ إذا طلب صاحب الحق ، فإن عفا كان له ذلك ، وأما حق الله تعالى فإنه يسقط ، وإلى هذا الإشارة أيضاً بقوله تعالى : { فاعلموا أن الله } أي على ما له من صفات العظمة { غفور رحيم * } أي صفته ذلك أزلاًَ وأبداً ، فهو يفعل منه ما يشاء لمن يشاء ، وأفهمت الآية أن التوبة بعد القدرة لا تسقط شيئاً من الحدود .
ولما ذكر تعالى حكمهم عند التوبة ، وختم الآية بما يناسب من الغفران والرحمة ، وكان ذلك ربما كان جزاء من لم يرسخ قدمه في الدين على جنابه المتعالي ، أتبع ذلك الأمر بالتقوى وجهاد كل من أفسد بقطع الطريق أو الكفر أو غيره فقال على وجه الاستنتاج مما قبله : { يا أيها الذين آمنوا } أي وجد منهم الإقرار بالإيمان { اتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين ما سمعتم من وعيده للمفسدين وقاية تصديقاً لما أقررتم به ، لما له سبحانه من العظمة التي هي جديرة بأن تخشى وترجى لجمعها الجلال والإكرام .
ولما كانت مجامع التكليف منحصرة في تخلٍّ من فضائح المنهيات وتحلٍّ بملابس المأمورات ، وقدم الأول لأنه من درء المفاسد ، أتبعه الثاني فقال : { وابتغوا } أي اطلبوا طلباً شديداً { إليه } أي خاصة { الوسيلة } أي التقريب بكل ما يوصل إليه من طاعته ، ولا تيأسوا وإن عظمت ذنوبكم لأنه غفور رحيم .
ولما كان سببحانه قد قدم أوامر ونواهي ، وكان الاستقراء قد أبان الناس عند الأمر والنهي بين مقبل ومعرض ، وكان قد أمر المقبل بجهاد المعرض ، وكان للجهاد . بما له من عظيم النفع وفيه من المشقة - مزيدُ خصوصية ، أفرد بالذكر تأكيداً لما مضى منه وإعلاماً بأنه للعاصي مطلقاً سواء كان بالكفر أو بغيره فقال : { وجاهدوا في سبيله } أي لتكون كلمته هي العليا { لعلكم تفلحون * } أي لتكون حالكم حال من يرجى نيله لكل ما يطلبه ، وهذا شامل لكل أمر بمعروف ونهي عن منكر في أعلى درجاته وأدناها .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
ولما كان ترك هذه الأوصاف الثلاثة : التقوى وطلب الوسيلة والجهاد مزيلاً للوصف الأول وهو الإيمان ، ناسب كل المناسبة تحذيراً من تركها ذكرُ حال الكفار وأنه لا تنفعهم وسيلة في تلك الدار فقال معللاً لما قبله : { إن الذين كفروا } أي بترك ما في الآية السابقة ، ورتب الجزاء عن الماضي زيادة في التحذير { لو أن لهم ما في الأرض } وأكد ما أفهمه الكلام من استغراق الظرف والمظروف فقال : { جميعاً } أي مما كان يطلب منهم شيء يسير جداً منه ، وهو الإذعان بتصديق الجنان إنفاق الفضل من المال ، وزاد الأمر هولاً بقوله : { ومثله } ولما كان لدفع الفداء جملة ما ليس له مفرَّقاً قال { معه } .
ولما كان المقصود تحقير ذلك بالنسبة إلى عظمة يوم التغابن وإن كان عند الكفار الذين جعلوا غاية أمرهم الحياة الدنيا أعظم ما يكون ، والإفهام بأن المراد بالمثل الجنس ليشمل ما عساه أن يفرض من الأمثال ، أعاد الضمير على هذين الشيئين على كثرتهما وعظمتهما مفرداً ، فقال معبراً بالمضارع الدال على تجديد الرغبة في المسألة على سبيل الاستمرار ولأن السياق للمتصفين بالكفر والمحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والسعي في الأرض بالفساد ، ولذلك صرح بنفي القبول على الهيئة الآتية : { ليفتدوا به } أي يجددوا الافتداء في كل لحظة ، أي بما ذكر { من عذاب يوم القيامة } .
ولما كان المراد تهويل الأمر بردّه ، وكان ذلك يحصل بغير تعيين الرادّ ، قال : { ما تقبل منهم } بالبناء للمفعول ، أي على حالة من الحالات وعلى يد من كان ، لأن المدفوع إليه ذلك تام القدرة وله الغنى المطلق .
ولما كان من النفوس ما هو سافل لا ينكّبه الرد ، وكان الرد لأجل إمضاء المُعَدِّ من العذاب ، قال مصرحاً بالمقصود : { ولهم } أي بعد ذلك { عذاب أليم * } أي بالغ الإيجاع بما أوجعوا أولياء الله بسترهم لما أظهروا من شموس البيان ، وانتهكوا من حرمات الملك الديان . ثم علل شدة إيلامه بدوامه فقال : { يريدون أن يخرجوا } أي يكون لهم خروج في وقت ما إذا رفعهم اللهب إلى أن يكاد أن يلقيهم خارجاً { من النار } ثم نفى خروجهم على وجه التأكيد الشديد فقال : { وما هم } وأغرق في النفي بالجار واسم الفاعل فقال : { بخارجين منها } أي ما يثبت لهم خروج أصلاً ، ولعله عبر في النفي بالاسمية إشارة إلى أنه يتجدد لهم الخروج من الحرور إلى الزمهرير ، فإن سمى أحد ذلك خروجاً فهو غير مرادهم .
ولما كان المعذبون في دار ربما دام لهم المكث فيها وانقطع عنهم العذاب قال : { ولهم } أي خاصة دون عصاة المؤمنين { عذاب } أي تارة بالحر وتارة بالبرد وتارة بغيرهما ، دائم الإقامة لا يبرح ولا يتغير { مقيم * } .
ولما كانت السرقة من جملة المحاربة والسعي بالفساد ، وكان فاعلها غير متقٍ ولا متوسل ، عقب بها فقال : { والسارق } الآخذ لما هو في حرز خفيةً لكونه لا يستحقه { والسارقة } أي كذلك؛ ولما كان التقدير : وهما مفسدان ، أو حكمهما فيما يتلى عليكم ، سبب عنه قوله : { فاقطعوا } وال - قال المبرد - للتعريف بمعنى : الذي ، والفاء للسبب كقولك : الذي يأتيني فله كذا كذا درهم { أيديهما } أي الأيامن من الكوع إذا كان المأخوذ ربع دينار فصاعداً من حرز مثله من غير شبهة له فيه - كما بين جميع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم - ويرد مع القطع ما سرقه؛ ثم علل ذلك بقوله : { جزاء بما كسبا } أي فعلا من ذلك ، وإدالته على أدنى وجوه السرقة وقاية للمال وهواناً لها للخيانة ، وديتها إذا قطعت في غير حقها خمسمائة دينار وقاية للنفس من غير أن ترخصها الخيانة ، ثم علل هذا الجزاء بقوله : { نكالاً } أي منعاً لهما كما يمنع القيد { من الله } أي الذي له جميع العظمة فهو المرهوب لكل مربوب ، وأعاد الاسم الأعظم تعظيماً للأمر فقال : { والله } أي الذي له جميع صفات الكمال { عزيز } أي في انتقامه فلا يغالبه شيء { حكيم * } أي بالغ الحكم والحكمة في شرائعه ، فلا يستطاع الامتناع من سطوته ولا نقض شيء يفعله ، لأنه يضعه في أتقن مواضعه .
ولما ختم بوصفي العزة والحكمة ، سبب عنهما قوله : { فمن تاب } أي ندم وأقلع ، ودل على كرمه بالقبول في أيّ وقت وقعت التوبة فيه ولو طال زمن المعصية بإثبات الجار فقال : { من بعد } وعدل عن أن يقول « سرقته » إلى { ظلمه } تعميماً للحكم في كل ظلم ، فشمل ذلك فعل طعمة وما ذكر بعده مما تقدم في النساء وغير ذلك من كل ما يسمى ظلماً { وأصلح } أي أوجد الإصلاح وأوقعه بردّ الظلامة والثبات على الإقلاع { فإن الله } أي بما له من كمال العظمة { يتوب عليه } أي يقبل توبته ويرجع به إلى أتم ما كان عليه قبل الظلم من سقوط عذاب الآخرة دون عقاب الدنيا ، رحمة من الله له ورفقاً به وبمن ظلمه وعدلاً بينهما ، لا يقدر أحد أن يمنعه من ذلك ولا يحول بينه وبينه لحظة ما؛ ثم علل ذلك بقوله : { إن الله } أي الذي له الكمال كله أزلاً وأبداً { غفور رحيم * } أي بالغ المغفرة والرحمة ، لا مانع له من ذلك ولا من شيء منه ولا من شيء يريد فعله ، بل هو فعال لما يريد ، والآية معطوفة على آية المحاربين وإنما فصل بينهما بما تقدم لما ذكر من العلة الطالبة لمزيد العناية به .
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
ولما كان معنى ذلك أنه لا اعتراض عليه سبحانه في شيء من ذلك ولا مانع ، لأن قدرته تامة ، ليس هو كمن يشاهد من الملوك الذين ربما يعجزون من اعتراض أتباعهم ورعاياهم عن تقريب بعض ما لم يباشر إساءة ، وإبعاد بعض من لم يباشر إحساناً ، فكيف بغير ذلك! قال تعالى مقرراً لذلك بتفرده في الملك : { ألم تعلم أن الله } أي الذي له جميع العز { له ملك السماوات } أي على علوها وارتفاع سمكها وانقطاع أسباب ما دونها منها { والأرض } أي أن الملك خالص له عن جميع الشوائب .
ولما كان إيقاع النقمة أدل على القدرة ، وكان السياق لها لما تقدم من خيانة أهل الكتاب وكفرهم وقصة ابنيّ آدم والسرقة والمحاربة وغير ذلك ، قدم قوله معللاً لفعل ما يشاء بتمام الملك لا بغيره من رعاية لمصالح أو غيرها : { يعذب من يشاء } أي من بني إسرائيل الذين ادعوا النبوة والمحبة وغيرهم وإن كان مطيعاً أي له فعل ذلك لآنه لا يقبح منه شيء { ويغفر لمن يشاء } أي وإن كان عمله موبقاً ، لأنه لا يتصور منه ظلم ولا يسوغ عليه اعتراض .
ولما كان التقدير : لأنه قادر على ذلك ، عطف عليه قوله : { والله } أي الذي له الإحاطة بكل كمال { على كل شيء } أي شيء { قدير * } أي ليس هو كغيره من الملوك الذين قد يعجز أحدهم عن تقريب ابنه وتبعيد أعدى عدوه ، وهذه القضية الضرورية ختم بها ما دعت المناسبة إلى ذكره من الأحكام ، وكرَّ بها على أتم انتظام إلى أوائل نقوض دعواهم في قوله { بل أنتم بشر ممن خلق } [ المائدة : 18 ] - .
ولما تقرر ذلك ، كان من غير شك علةً لعدم الحزن على شيء من أمرهم ولا من أمر غيرهم ممن عصى شيئاً من هذه الأحكام ، كما قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } [ الحديد : 22 ] إلى أن قال : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم } [ الحديد : 23 ] ، فقوله : { يا أيها الرسول } أي المبلغ لما أرسل به - معلول لما قبله . وأدل دليل على ذلك قوله تعالى { ومن يرد اله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } { ولا يحزنك } أي لا يوقع عندك شيئاً من الحزن صنعُ { الذين يسارعون في الكفر } أي يفعلون في إسراعهم يف الوقوع فيه غاية الإسراع فعلَ من يسابق غيره ، وفي تبيينهم بالمنافقين وأهل الكتاب بشارة بإتمام النعمة على العرب بدوام إسلامهم ونصرهم عليهم ، وقدم أسوأ القسمين فقال : { من الذين قالوا آمنا } .
ولما كان الكلام هو النفسي ، أخرجه بتقييده بقوله : { بأفواههم } معبراً لكونهم منافقين بما منه ما هو أبعد عن القلب من اللسان ، فهم إلى الحيوان أقرب منهم إلى الإنسان ، وزاد ذلك بياناً بقوله : { ولم تؤمن قلوبهم } .
ولما بين المسارعين بالمنافقين ، عطف عليهم قسماً آخر هم أشد الناس مؤاخاة لهم فقال : { ومن الذين هادوا } أي الذين عرفت قلوبهم وكفرت ألسنتهم تبعاً لمخالفة قلوبهم لما تعرف عناداً وطغياناً ، ثم أخبر عنهم بقوله : { سمّاعون } أي متقبلون غاية التقبل بغاية الرغبة { للكذب } أي من قوم من المنافقين يأتونك فينقلون عنك الكذب { سمّاعون لقوم آخرين } أي الصدق ، ثم وصفهم بقوله : { لم يأتوك } أي لعلة ، وذكر الضمير لإرادة الكلام ، لأن المقصود البغض على نفاقهم { يحرفون الكلم } أي الذي يسمعونه عنك على وجهة فيبالغون في تغييره وإمالته بعد أن يقيسوا المعنيين : المغير والمغير إليه ، واللفظين فلا يبعدوا به ، بل يأخذون بالكلم عن حده وطرفه إلى حد آخر قريب منه جداً ، ولذلك ، أثبت الجار فقال : { من بعد } أي يثبتون الإمالة من مكان قريب من { مواضعه } أي النازلة عن رتبته بأن يتأولوه على غير تأويله ، أو يثبتوا ألفاظاً غير ألفاظه قريبة منها فلا يبعد منها المعنى جداً وهذا أدق مكراً مما في النساء وهو من الحرف وهو الحد والطرف ، وانحرف عن الشيء : مال عنه ، قال الصغاني : وتحريف الكلام عن مواضعه : تغييره ، وقال أبو عبد الله القزاز : والتحريف التفعيل ، من : انحرف عن الشيء - إذا مال ، فمعنى حرفت الكلام : أزلته عن حقيقة ما كان عليه في المعنى ، وأبقيت له شبه اللفظ ، ومنه قوله تعالى { يحرفون الكلم } ، وذلك أن اليهود كانت تغير معاني التوراة بالأشباه ، وفي الحديث « يسلط عليهم طاعون يحرف القلوب » أي يغيرها عن التوكل ويدعوهم إلى الانتقال عن تلك البلاد ، وحكي : حرفته عن جهته - أي بالتخفيف - مثل : حرّفته ، والمحارفة : المقايسة ، من المحراف وهو الميل الذي يقاس به الجراح - انتهى . فالآية من الاحتباك : حذف منها أولاً الإتيان وأثبت عدمه ثانياً للدلالة عليه ، وحذف منها ثانياً الصدق ودل عليه بإثبات ضده - الكذب - في الأولى .
ولما كان كأنه قيل : ما غرضهم بإثبات الكذب وتحريف الصدق؟ قال : { يقولون } أي لمن يوافقهم { إن أوتيتم } أي من أيّ مؤت كان { هذا } أي المكذوب والمحرف { فخذوه } أي اعملوا به { وإن لم تؤتوه } أي بأن أوتيتم غيره أو سكت عنكم { فاحذروا } أي بأن تؤتوا غيره فتقبلوه .
ولما كان التقدير : فأولئك الذين أراد الله فتنتهم ، عطف عليه قوله : { ومن يرد الله } أي الذي له الأمر كله { فتنته } أي أن يحل به ما يميله عن وجه سعادته بالكفر حقيقة أو مجازاً { فلن تملك له من الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له { شيئاً } أي من الإسعاد ، وإذا لم تملك ذلك أنت وأنت أقرب الخلق إلى الله فمن يمكله .