كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي
ولما كان هذا ، أنتج لا محالة قوله : { أولئك } أي البعداء من الهدى { الذين لم يرد الله } أي وهو الذي لا راد لما يريده ، ولا فاعل لما يرده ، فهذه أشد الآيات على المعتزلة { أن يطهر قلوبهم } أي بالإيمان ، والجملة كالعلة لقوله { فلن تملك له من الله شيئاً } ، ولما ثبت أن قلوبهم نجسة ، أنتج ذلك قوله : { لهم في الدنيا خزي } أي بالذل والهوان ، أما المنافقون فبإظهار الأسرار والفضائح الكبار وخوفهم من الدمار ، وأما اليهود فببيان أنهم حرفوا وبدلوا وضرب الجزية عليهم وغير ذلك من الصغار { ولهم في الآخرة } التي من خسرها فلا ربح له بوجه ما { عذاب عظيم * } أي لعظيم ما ارتكبوه من هذه المعاصي المتضاعفة .
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
ولما ذكر التحريف ، ذكر أثره وهو الحكم به فقال مكرراً لوصفهم زيادة في توبيخهم وتقبيح شأنهم : { سمّاعون } أي هم في غاية الشهوة والانهماك في سماعهم ذلك { للكذب أكّالون } أي على وجه المبالغة { للسحت } أي الحرام الذي يسحت البركة أي يستأصلها ، وهو كل ما لا يحل كسبه ، وذلك أخذهم الرشى ليحكموا بالباطل على نحو ما حرفوه وغيره من كلام الله ، قال الشيخ أبو العباس المرسي : ومن آثر من الفقراء السماع لهواه ، وأكل ما حرمه مولاه ، فقد استهوته نزعة يهودية ، فإن القوال يذكر العشق والمحبة والوجد وما عنده منها شيء .
ولما كانوا قد يأخذون الرشوة ولا يقدرون على إبرام الحكم بما أرادوه ، فيطمعون في أن يفعلوا ذلك بواسطة ترافعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيترافعون إليه ، فإن حكم بينهم بما أرادوا قبلوه واحتجوا به على من لعله يخالفهم ، وإن حكم بما لم يريدوه قالوا : ليس هذا في ديننا - طمعاً في أن يخليهم فلا يلزمهم بما حكم ، أعلمه الله تعالى بما يفعل في أمرهم ، وحذره غوائل مكرهم ، فقال مفوضاً الخيرة إليه في أمر المعاهدين إلى مدة - وأما أهل الجزية فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلى حاكمنا - مسبباً عن أكلهم الحرام وسماعهم الكذب : { فإن جاءوك } أي طمعاً في أن تؤتيهم ما حرفوا إليه الكلم { فاحكم بينهم } أي إن شئت بما أنزل الله عليك من الحق { أو أرض عنهم } أي كذلك .
ولما كان قوله : { وإن } دالاً بعطفه على غير معطوف عليه أن التقدير : فإن حكمت بينهم لم ينفعوك شيئاً لإقبالك عليهم ، قال : وإن { تعرض عنهم } أي الكفرة كلهم من المصارحين والمنافقين { فلن يضروك شيئاً } أي إعراضك عنهم واستهانتك بهم .
ولما كان التخيير غير مراد الظاهر في جواز الحكم بينهم عند الترافع إلينا وعدمه ، بل معناه عدم المبالاة بهم ، أعرض عنهم أولاً ، فحقيقته بيان العاقبة على تقديري الفعل والترك ، علَّمه كيف يحكم بينهم ، فقال عاطفاً على ما قدرته : { وإن حكمت } أي فيهم { فاحكم } أي أوقع الحكم { بينهم بالقسط } أي العدل الذي أراكه الله - على أن الآية ليست في أهل الذمة ، والحكم في ترافع الكفار إلينا أنه كان منهم أو من أحدهم التزام لأحكامنا أم منا التزام للذب عنهم وجب ، لقوله تعالى { فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } وإلا لم يجب ، ثم علل ذلك بقوله : { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { يحب المقسطين } أي الفاعلين للعدل السوي من غير حيف أصلاً .
ولما كان التقدير : فكيف يحكمونك وهم يكذبونك ويدعون أنك مبطل ، عطف عليه قوله معجباً منهم موبخاً لهم : { وكيف يحكمونك } أي في شيء من الأشياء { وعندهم } أي والحال أنه عندهم { التوراة } ثم استأنف قوله : { فيها حكم الله } أي الذي لا يداني عظمته عظمة وهو الذي كان مقرراً في شرعهم أنه لا يسوغ خلافه ، فإن كانوا يعتقدون ذلك إلى الآن لم يجز لهم العدول إليك على زعمهم ، وإن كانوا لا يعتقدونه ويعتقدون أن حكمك هو الحق ولم يؤمنوا بك كانوا قد آمنوا ببعض وكفروا ببعض .
ولما كان الإعراض عن حكمه سبحانه عظيماً ، وكان وقوعه ممن يدعي أنه مؤمن به بعيداً عظيماً شديداً ، قال : { ثم يتولون } أي يكلفون أنفسهم الإعراض عنه سواء تأيد بحكمك به أو لا لأجل الأعراض الدنيوية ، ولما كان المراد بالحكم الجنس ، وكانوا يفعلون بعض أحكامها فلم يستغرق زمان توليهم زمان البعد ، أدخل الجار لذلك فقال : { من بعد ذلك } أي الأمر العالي وهو الحكم الذي يعلمون أنه حكم الله ، فلم يبق تحكيمهم لك من غير إيمان بك إلا تلاعباً .
ولما كان التقدير : فما أولئك بالمريدين للحق في ترافعهم إليك ، عطف عليه قوله : { وما أولئك } أي البعداء من الله { بالمؤمنين * } أي العريقين في صفة الإيمان بكتابهم ولا بغيره مما يستحق الإيمان به ، لأنهم لو كانوا عريقين في ذلك آمنوا بك لأن كتابهم دعا إليك .
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
ولما تضمن هذا مدح التوراة ، صرح به فقال تأكيداً لذمهم في الإعراض عما دعت إليه من أصل وفرع ، وتحذيراً من مثل حالهم : { إنا أنزلنا } أي على ما لنا من العظمة { التوراة } ثم استأنف قوله معظماً لها : { فيها هدى } أي كلام يهدي بما يدعو إليه إلى طريق الجنة { ونور } أي بيان لا يدع لبساً ، ثم استأنف المدح للعاملين بها فقل : { يحكم بها النبيون } ووصفهم بأعلى الصفات وذلك الغنى المحض ، فقال مادحاً لا مقيداً : { الذين أسلموا } أي أعطوا قيادهم لربهم سبحانه حتى لم يبق لهم اختيار أصلاً ، وفيه تعريض بأن اليهود بعداء من الإسلام وإلا لاتبعوا أنبياءهم فيه ، فكانوا يؤمنون بكل من قام الدليل على نبوته .
ولما كان من المعلوم أن حكمهم بأمر الله لهم باتباع التوراة ومراعاتها ، عُلِم أن التقدير : بما استحفظوا من كتاب الله ، فحذف لدلالة ما يأتي عليه وإشعار الإسلام به ، ثم بين المحكوم له تقييداً به إشارة إلى أنها ستنسخ فقال : { للذين هادوا } أي لمن التزم اليهودية { والرّبانيون } أي أهل الحقيقة ، منهم الذين انسلخوا من الدنيا وبالغوا فيما يوجب النسبة إلى الرب { والأحبار } أي العلماء الذي أسلموا { بما } أي بسبب ما .
ولما كان سبب إسلام أمرهم بالحفظ ، لا كونه من الله بلا واسطة ، بني للمفعول قوله : { استُحفظوا } أي الأنبياء ومن بعدهم { من كتاب الله } أي بسبب ما طلبوا منهم وأمروا به من الحفظ لكتاب الذي له جميع صفات الكمال الذي هو صفته ، فعظمته من عظمته ، وحفظه : دراسته والعمل بما فيه { وكانوا } أي وبما كانوا { عليه شهداء } أي رقباء حاضرين لا يغيبون عنه ولا يتركون مراعاته أصلاً ، فالآية - كما ترى - من فن الاحتباك : ترك أولاً « بما استحفظوا » لدلالة ما ذكر هنا عليه ، وترك ذكر الإسلام هنا لدلالة ذكره أولاً عليه ، وإنما خص الأول بذكر الإسلام لأن الأنبياء أحق به ، وهو داع إلى الحفظ قطعاً ، وخص الثاني بالاستحفاظ لأن الأتباع أولى به ، وهو دال على الإسلام .
ولما كان هذا كله ذماً لليهود بما تركوا من كتابهم ، ومدحاً لمن راعاه منهم ، وكان ذلك الترك إما لرجاء أو خوف ، قال مخاطباً لهذه الأمة كلها طائعها وعاصيها ، وحذراً لها من مثل حالهم ومرغباً في مثل حال الأنبياء والتابعين لهم بإحسان ، مسبباً عن ذلك : { فلا تخشوا الناس } أي في العمل بحكم من أحكام الله { واخشون } أي فإن ذلك حامل لكم على العدل والإحسان ، فمن كان منكم مسلماً طائعاً فليزدد طاعة ، ومن لم يكن كذلك فليبادر بالانقياد والطاعة ، وهذا شامل لليهود وغيرهم .
ولما قدم الخوف لأنه أقوى تأثيراً أتبعه الطمع فقال : { ولا تشتروا } ولما كان الاشتراء معناه اللجاجة في أخذ شيء بثمن ، وكان المثمن أشرف من الثمن من حيث إنه المرغوب فيه ، جعل الآيات مثمناً وإن اقترنت بالباء ، حتى يفيد الكلام التعجب من الرغبة عنها ، وأنها لا يصح كونها ثمناً فقال : { بآياتي ثمناً قليلاً } أي من الرشى وغيرها لتبدلوها كما بدل أهل الكتاب .
ولما نهى عن الأمرين ، وكان ترك الحكم بالكتاب إما لاستهانة أو لخوف أو رجاء أو شهوة ، رتب ختام الآيات على الكفر والظلم والفسق ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : من جحد حكم الله كفر ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق . فلما كان التقدير : فمن حكم بما أنزل الله فأولئك هم المسلمون ، عطف عليه ما أفهمه من قوله : { ومن لم يحكم } أي يوجد الحكم ويوقعه على وجه الاستمرار { بما أنزل الله } أي الذي له الكمال كله فلا أمر لأحد معه تديناً بالإعراض عنه ، أعم من أن يكون تركه له حكماً بغيره أو لا { فأولئك } أي البعداء من كل خير { هم الكافرون } أي المختصون بالعراقة في الكفر ، وهذه الآيات من قوله تعالى { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] إلى هنا نزلت في الزنا ، ولكن لما كان السياق للمحاربة ، وكان كل من القتل وقطع الطريق والسرقة محاربة ظاهرة مع كونه فساداً صرح به ، ولما كان الزنا محاربة خفية بالنظر إلى فحشه وحرمته وجرّه في بعض الصور إلى المحاربة وغير محاربة بالنظر إلى كونه في الغالب عن تراض ، وصاحبه غير متزيّ بزيّ المحاربين ، لم يصرح في هذه الآيات باسمه وإن كانت نزلت فيه ، روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته : « إن الله بعث محمداً وأنزل عليه كتاباً ، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم فتلوناها ووعيناها » الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم « وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده - الحديث . وفي آخره : ولولا أني أخشى أن يقول الناس : زاد في كتاب الله ، لأثبته في حاشية المصحف » وأصله في الصحيحين وغيرهما ، وللحاكم والطبراني عن أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء رضي الله عنها بلفظ : « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة » وفي صحيح ابن حبان عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال لزرّ بن حبيش : « كم تعدون سورة الأحزاب من آية؟ قال : قلت : ثلاثاً وسبعين ، قال : والذي يحلف به! كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة ، وكان فيها آية الرجم : الشيخ والشيخة » الحديث . وللشيخين : البخاري في مواضع ، ومسلم وأحمد وأبي داود - وهذا لفظه - والدرامي والترمذي في الحدود والنسائي في الرجم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال :
« إن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تجدون في التوراة في شأن الزنا؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون - وفي رواية : فقال : لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا : لا نجد فيها شيئاً - فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه : كذبتم ، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ، فأتوا بالتوراة ، فنشروها فجعل أحدهم - وفي رواية - مدراسها الذي يدرسها منهم - يده على آية الرجم فجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفعها فقال : ما هذه؟ فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد! فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : فرأيت الرجل يحنأ على المرأة يقيها الحجارة » وفي لفظ للبخاري في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا : لا نجد فيها شيئاً ، فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم! فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » وفي لفظ له في التوحيد - وهو رواية أحمد - أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال : « فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » ولأبي داود عن ابن عمر أيضاً رضي الله عنهما قال : « أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف ، فأتاهم في بيت المدراس فقالوا : يا أبا القاسم! إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم ، فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها ثم قال : ائتوني بالتوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها ثم قال : آمنت بك وبمن أنزلك ، ثم قال : ائتوني بأعلمكم ، فأتي بفتى شاب » فذكر قصة الرجم نحو الذي قبله ، وسكت عليه أبو داود والحافظ المنذري في مختصره وسنده حسن ، ولمسلم وأبي داود - وهذا لفظه - والنسائي وابن ماجه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : « مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم . فدعاهم فقال : هكذا تجدون حد الزاني؟ فقالوا : نعم ، فدعا رجلاً من علمائهم فقال : نشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالك اللهم! لا ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الرجل الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا فنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد وتركنا الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أول من أحيى أمرك إذ أماتوه ، فأمر به فرجم ، فأنزل الله عزّ وجلّ { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] إلى قوله : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } [ المائدة : 41 ] إلى قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44 ] في اليهود - إلى قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } [ المائدة : 45 ] في اليهود - إلى قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } [ المائدة : 47 ] قال : هي في الكفار كلها »
يعني هذه الآية .
وروى الدارقطني في آخر النذور من السنن عن جابر رضي الله عنه قال : « أتي النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا ، فقال لليهود : ما يمنعكم أن تقيموا عليهما الحد؟ فقالوا : كنا نفعل إذا كان الملك لنا ، فلما أن ذهب ملكنا فلا نجتري على الفعل ، فقال لهم : ائتوني بأعلم رجلين فيكم ، فأتوه بابني صوريا ، فقال لهما : أنتم أعلم من ورائكما؟ قالا : يقولون ، قال : فأنشدكما بالله الذي أنزل التوراة على موسى كيف تجدون حدهما في التوراة؟ فقالا : الرجل مع المرأة زنية وفيه عقوبة ، والرجل على بطن المرأة زنية وفيه عقوبة ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة رُجِم ، قال : ائتوني بالشهود فشهد أربعة ، فرجمهما النبي صلى الله عليه وسلم » - انتهى . وهذه الآية ملتفتة إلى آية { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } - الآية والتي بعدها أي التفات وذلك أن هؤلاء لما تركوا هذا الحكم ، جرَّهم إلى الكفر وليس في هذه الروايات - كما ترى - تقييد الرجم بالإحصان ، وكذا هو فما هو موجود عندهم في التوراة ، قال في السفر الثالث وغيره : ثم كلم الله موسى وقال له : قل لبني إسرائيل : أيُّ رجل من بني إسرائيل ومن الذين يقبلون إلى أيّ ويسكنون بين بني إسرائيل ألقى زرعه في امرآة غريبة يقتل ذلك الرجل فليرجمه جميع الشعب بالحجارة ، وأنا أيضاً أنزل غضبي بذلك الرجل وأهلكه من شعبه ، لأنه ألقى زرعه في غريبة وأراد أن ينجس مقدسي وأن ينجس اسم قدسي ، فإن غفل شعب الأرض عن الرجل الذي ألقى زرعه في غريبة ولم يوجبوا عليه القتل أنزل غضبي بذلك الرجل وبقبيلته وأهلكه وأهلك من يضل به ، لأنهم ضلوا بنساء غريبات لسن لهم بحلال ، ثم قال : الرجل الذي يأتي امرأة صاحبه وامرأة رجل غريب يقتلان جميعاً ، والرجل الذي يرتكب ذكراً مثله فيرتكب منه ما يرتكب من النساء فقد ارتكبا نجاسة ، يقتلان ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يتزوج امرأة وأمها فقد ارتكب خطيئة ، يحرق بالنار هو وهما ، والرجل الذي يرتكب من البهيمة ما يرتكب من النساء يقتل قتلاً ، والبهيمة ترجم أيضاً ، والمرأة التي ترقد بين يدي البهيمة لترتكب منها البلاء تقتل المرأة والبهيمة جميعاً ، يقتلان ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يأتي امرأة طامثاً ويكشف عورتها ، قد كشف عن ينبوعها وهي أيضاً كشفت عن ينبوع دمها ، يهلكان جميعاً من شعبهما ، وقال : والرجل الذي يأتي امرأة أبيه قد كشف هذا عورة أبيه ، يقتلان جميعاً ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يأتي كنّته يقتلاه كلاهما ، لأنهما ارتكبا خطيئة ، ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يتزوج أخته من أمه أو من أبيه ويرى عورتها وترى عورته ، هذا عار شديد ، يقتلان قدام شعبهم ، وذلك لأنه كشف عورة أخته ، يكون إثمهما في رؤوسهما ، لا تكشفن عورة عمتك ولا خالتك! لأنهما قرابتك ، ومن فعل ذلك يعاقب بإثم فضيحته ، والرجل الذي يأتي امرأة عمه قد كشف عورة عمه يعاقبان بخطيئتهما ويموتان ، والرجل الذي يتزوج امرأة أخيه قد ارتكب إثماً ، لأنه كشف عورة أخيه يموتان ، بل وصرح برجم البكر فقال في السفر الخامس فيمن تزوج بكراً فادعى أنه وجدها ثيباً : فإن كان قذفه إياها حقاً ولم يجدها عذراء تخرج الجارية إلى بيت أبيها ، ويرجمهاه أهل القرية بالحجارة وتموت ، لأنها ارتكبت حوباً بين يدي بني إسرائيل وزنت في بيت أبيها ، نحوّا الشر عنكم ، وإن وجد رجل يسفح بامرأة رجل يقتلان كلاهما : الرجل والمرأة ، بل صرح برجم البكر المكرهة فقال عقب ما تقدم : وإن كان لرجل خطيبة بكر لم يبتن بها بعد ، فخرجت خارجاً فظفر بها رجل وقهرها وضاجعها ، يخرجان جميعاً ويرجمان حتى يموتا ، وإنما تقتل الجارية مع الرجل لأنها لم تصرخ ولم تستغث - انتهى .
فالأحاديث المفيدة بالإحصان في هذه القصة ينبغي أن تكون مرجوحة ، لأن رواتها ظنوا أن الجادة الإسلامية شرع لهم .
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
ولما كان ختام هذه الآيات في ترهيب المعرض عن الحكم بما أنزل الله مطابقاً لقوله في أول سياق المحاربة { ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } رجع إلى القتل مبيناً أنهم بدلوا في القتل كما بدلوا في الزنا ، ففضلوا بني النضير على بني قريظة ، فقال : { وكتبنا } أي بما لنا من العظمة { عليهم فيها } أي في التوراة ، عطفاً على قوله { كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس } ، وإذا أنعمت النظر وجدت ما بينهما لشدة اتصاله وقوة الداعية إليه كأنه اعتراض { أن النفس } أي مقتولة قصاصاً مثلاً بمثل { بالنفس } أي بقتل النفس بغير وجه مما تقدم { والعين } أي تقلع { بالعين } أي قلعت بغير شبهة { والأنف } يجدع { بالأنف } كذلك { والأذن } تصلم { بالأذن } على ما تقدم { والسن } تقلع { بالسن } إذا قلعت عمداً بغير حق { والجروح } أي التي تنضبط كلها { قصاص } مثلاً بمثل سواء بسواء .
ولما أوجب سبحانه هذا ، رخص لهم في النزول عنه ، فسبب عن ذلك قوله : { فمن تصدق به } أي عفا عن القصاص ممن يستحقه سواء كان هو المجروح إن كان باقياً أو وارثه إن كان هالكاً { فهو } أي التصدق بالقصاص { كفارة له } أي ستارة لذنوب هذا العافي ولم يجعل لهم دية ، إنما هو القصاص أو العفو ، فمن حكم بما أنزل الله على وجه الاستمرار { بما أنزل الله } أي الذي لا كفوء له فلا أمر لأحد معه لخوف أو رجاء ، أو تديناً بالإعراض عنه سواء حكم بغيره أو لا { فأولئك } أي البعداء عن طريق الاستقامة ، البغضاء إلى أهل الكرامة { هم الظالمون * } أي الذي تركوا العدل فضّلوا ، فصاروا كمن يمشي في الظلام ، فإن كانا تديناً بالترك كان نهاية الظلم وهو الكفر ، وإلا في الزنا نحو ما تقدم ثم قال : وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما « أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] إلى : { المقسطين } إنما نزلت في الدية بين بني النضير وبني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير وكان لهم شرف - يؤدون الدية الكاملة وأن بني قريظة كانوا يؤدون نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء » قال ابن إسحاق : فالله أعلم أيّ ذلك كان! وأخرجه النسائي في سننه من طريق ابن إسحاق ، وروي من طريق آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً ، قال : كان قريظة والنضير ، وكان النضير أشرف من قريظة ، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قُتِل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة أدى مائة وسق من تمر ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا نقتله فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه فنزلت
{ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } [ المائدة : 42 ] والقسط : النفس بالنفس ، ثم نزلت { أفحكم الجاهلية يبغون } [ المائدة : 50 ] انتهى .
وهذا نص ما عندهم من التوراة في القصاص قال في السفر الثاني : وكل من ضرب رجلاً فمات فليقتل قتلاً ، وإذا تشاجر رجلان فأصابا امرأة حبلى فأخرجا جنينها ولم تكن الروح حلت في السقط بعد ، فليغرم على قدر ما يلزمه زوج المرأة ، وليؤد ما حكم عليه الحاكم ، فإن كانت الروح حلت في السقط فالنفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن واليد باليد والرجل بالرجل والجراحة بالجراحة واللطمة باللطمة ، وقال في السفر الثالث بعد ذكر الأعياد في الاصحاح السابع عشر : ومن قتل إنساناً يقتل ، ومن قتل بهيمة يدفع إلى صاحبها مثلها ، والرجل يضرب صاحبه ويؤثر فيه أثراً يعاب به يصنع به كما صنع ، والجروح قصاص : الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن ، كما يصنع الإنسان بصاحبه كذلك يصنع به ، القضاء واحد لكم وللذين يقبلون إليّ ، وقال في الثاني : إذا ضرب الرجل عين عبده أو أمته ففقأها فليعتقه بدل عينه ، وإذا قلع سن عبده أو أمته فليعتقه بدل سنة - وذكر أحكاماً كثيرة ، ثم قال : ومن ذبح للأوثان فيهلك ، بل لله وحده ، وقال في الرابع : ومن يقتل نفساً لا يقتل إلا ببينة عادلة ، ولا تقبل شهادة شاهد واحد على قتل النفس ، ولا تقبلوا رشوة في إنسان يجب عليه القتل بل يقتل ، لوا تأخذوا منه رشوة ليهرب إلى قرية إلى الملجأ ليسكنها إلى وفاة الحبر العظيم ، ولا تنجسوا الأرض التي تسكنونها ، لأن الدم ينجس الأرض ، والأرض التي يسفك فيها الدم لا يغفر لتلك الأرض حتى يقتل القاتل الذي قتل ، وقال في الخامس : ولا يقتل من قد وجب عليه القتل إلا بشهادة رجلين ، لا يقتل بشهادة رجل واحد ، وإذا رجمتم فالذي يُشَهد عليه فليبدأ برجمه الشهود أولاً ثم يبدأ به جميع الشعوب ، وأهلكوا الذين يعملون الشر واستأصلوهم من بينكم ، وإن شهد رجل على صاحبه شهادة زور يقوم الرجلان قدام الحبر والقاضي فيفحصون عن أمرهما فحصاً شديداً ، فإن وجدوا رجلاً شهد شهادة ، زور يصنعوا به مثل ما أراد أن يصنع بأخيه ، ونحوّا الشر من بينكم ، وعاقبوا بالحق ليسمع الذين يتقون فيفزعوا ولا يعودوا أن يفعلوا مثل هذا الفعل القبيح بينكم ، ولا تشفق أعينكم على الظالم ، بل يكون قضاؤكم نفساً بنفس وعيناً بعين وسناً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل .
ولما كانت هذه الآيات كلها - مع ما فيها من الأسرار - ناقضة أيضاً لما ادعوا من البنوة بما ارتكبوه من الذنوب من تحريف كلام الله وسماع الكذب وأكل السحت والإعراض عن أحكام التوراة والحكم بغير حكم الله ، أتبعها ما أتى به عيسى عليه السلام الذي ادعى فيه النصارى النبوة الحقيقية والشركة في الإلهية ، وقد أتى بتصديق التوراة في الشهادة على من خالفها من اليهود بالتبرؤ من الله ، مؤكداً لما فيها من التوحيد الذي هو عماد الدين وأعظم آياتها التي أخذت عليهم بها العهود ووضعت في تابوت الشهادة الذي كانوا يقدمونه أمامهم في الحروب ، فإن كانوا باقين على ما فيه من الميثاق نصروا وإلا خذلوا ، وناسخاً لشريعتهم مجازاة لهم من جنس ما كانوا يعملون من التحريف ، وشاهداً على من أطراه بالضلال فقال : { وقفينا } إلى آخرها ، وكذا كل ما بعدها من آياتهم إلى آخر السورة ، لا تخلوا آية منها من التعرض إلى نقض دعواهم لها بذكر ذنب ، أو ذكر عقوبة عليه ، أو ذكر تكذيب لهم من كتابهم أو نبيهم ، والمعنى : أوجدنا التقفية ، وهي اتباع شيء بشيء تقدِّمه ، فيكون أتيا في قفاه لكونه وراءه ، وإلقاؤه في مظهر العظمة لتعظيم شأن عيسى عليه السلام { على آثارهم } أي النبيين الذين يحكمون بالتوراة ، وذكر الأثر يدل على أنهم كانوا قد تركوا دينهم ، لم يبق منه إلا رسم خفي { بعيسى } ونسبه إلى أمه إشارة إلى أنه لا والد له تكذيباً لليهود ، وإلى أنه عبد مربوب تكذيباً للنصارى ، فقال : { ابن مريم مصدقاً } أي عيسى عليه السلام في الأصول وكثير من الفروع و { لما بين يديه } أي مما أتى به موسى عليه السلام قبله { من التوراة } وأشار إلى أنه ناسخ لكثير من أحكامها بقوله : { وآتيناه الإنجيل } أي أنزلناه بعظمتنا عليه كما أنزلنا التوراة على موسى عليه السلام .
ولما كان في الإنجيل المحكم الذي يفهمه كل أحد ، والمتشابه الذي لا يفهمه إلا الأفراد من خلص العباد ، ولا يقف بَعدَ فهمه عند حدوده إلا المتقون ، قال مبيناً لحاله : { فيه } أي آتيناه إياه بحكمتنا وعظمتنا كائناً فيه { هدى } أي وهو المحكم ، يهتدي به كل أحد سمعه إلى صراط مستقيم { ونور } أي حسن بيان كاشف للمشكلات ، لا يدع بذلك الصراط لبساً .
ولما كان الناسخ للشيء بتغيير حكمه قد يكون مكذباً له ، أعلم أنه ليس كذلك ، بل هو مع النسخ للتوراة مصدق لها فقال - أي مبيناً لحال الإنجيل عطفاً على محل { فيه هدى } : { ومصدقاً } أي الإنجيل بكماله { لما بين يديه } ولما كان الذي نزل قبله كثيراً ، عين المراد بقوله : { من التوراة } فالأول صفة لعيسى عليه السلام ، والثاني صفة لكتابه ، بمعنى أنه هو والتوراة والإنجيل متصادقون ، فكل من الكتابين يصدق الآخر وهو يصدقهما ، لم يتخالفوا في شيء ، بل هو متخلق بجميع ما أتى به .
ولما كان المتقون خلاصة الخلق ، فهم الذين يُنزلون كل ما في كتب الله من محكم ومتشابه على ما يتحقق به أنه هدى ويتطابق به المتشابه والمحكم ، وكان قد بين أنه فيه من الهدى ما يسهل به رد المتشابه إليه فصار بعد البيان كله هدى ، قال معمماً بعد ذلك التخصيص : { وهدى وموعظة للمتقين * } أي كل ما فيه يهتدون به ويتعظون فترق قلوبهم ويعتبرون به وينتقلون مترقين من حال عالية إلى حال أعلى منها .
ذكرُ بعض ما يدل على ذلك من الإنجيل الذي بين ظهراني النصارى الآن وقد مزجتُ فيه كلام بعض الأناجيل ببعض وأغلب السياق لمتى ، وعينتُ بعض ما خالفه ، قال لوقا : وجاء إليه قوم وأخبروه خبر الجليليين الذين خلط بيلاطس دماءهم مع دماء ذبائحهم ، فأجاب يسوع وقال لهم : لا تظنوا أن أولئك الجليليين أشد خطأ من كل الجليليين إذا أصابتهم هذه الأوجاع ، لا أقول لكم إن لم تتوبوا كلكم أنتم تهلكون مثلهم ، وهؤلاء الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سيلوخا وقتلهم أتظنون أنهم أكبر جرماً من جميع سكان يروشليم ، كلا أقول لكم ، إن لم تتوبوا فجميعكم يهلك؛ وقال لهم : شجرة تين كانت لواحد مغروسة في كرمه ، جاء يطلب فيها ثمرة فلم يجد ، فقال للكرام : هذه ثلاث سنين آتي وأطلب فيها ثمرة فلا أجد ، اقطعها لئلا تبطل الأرض ، فقال : يا رب! دعها في هذه السنة لأنكحها وأصلحها ، لعلها تثمر في السنة الآتية ، فإن هي أثمرت وإلا أقطعها . قال متى : ولما نزل من الجبل تبعه جمع كبير وإذا أبرص قد جاء فسجد له وقال : إن شئت فأنت قادر أن تطهرني ، فمد يده ولمسه وقال له : قد شئت فاطهر ، وللوقت طهر برصه ، وقال له يسوع : لا تقل لأحد ولكن امض فأرٍ نفسَك للكاهن وقدم قرباناً كما أمر موسى للشهادة عليهم - وقال مرقس : بشهادتهم - قال لوقا : فذاع عنه الكلام وزاد ، واجتمع جمع كثير ليسمعوا منه ويستشفوا من أمراضهم ، وأما هو فكان يمضي إلى البرية ويصلي هناك . وقال متى : ولما دخل كفرناحوم جاء إليه قائد مائة فطلب إليه قائلاً : يا رب! فتاي ملقى في البيت مخلع وسقيم جداً ، فقال له : إني آتي وأبرئه ، فأجاب قائد المائة وقال : يا رب! لست مستحقاً أن تدخل تحت سقف بيتي ، ولكن قل كلمة فقط فيبرأ فتاي لأني تحت سلطان ، ولي جند ، إن قلت لهذا : اذهب ، ذهب ، ولآخر : ائت ، أتى ، ولعبدي : اعمل هذا ، عمل ، فلما سمع يسوع تعجب وقال للذين يتبعونه : الحق أقول لكم! إنني لم أجد مثل هذه الأمانة في إسرائيل ، أقول لكم : إن كثيراً يأتون من المشرق والمغرب - وقال لوقا : والشمال واليمين - يتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ قال لوقا : وكل الأنبياء في ملكوت الله وأنتم خارجاً ويكون الأولون آخرين والآخرون أولين؛ وقال متى : في ملكوت السماوات ، وبنو الملكوت يلقون في الظلمة البرانية ، الموضع الذي يكون فيه البكاء وصرير الأسنان ، وقال يسوع لقائد المائة : اذهب كأمانتك يكن لك ، فبرأ الفتى في تلك الساعة ، وقال لوقا : ولما أكمل جميع كلامه ودخل كفرناحوم ، وكان عبد لقائد المائة قد قارب الموت وكان كريماً عنده ، فلما سمع بيسوع أرسل إليه شيوخ اليهود يسألونه المجيء ليخلص عبده ، فلما جاؤوا إلى يسوع طلبوا منه باجتهاد وقالوا : إنه مستحق أن يفعل معه هذا ، لأنه محب لأمتنا وهو بنى لنا كنيسة ، فمضى يسوع معهم ، وفيما هو قريب من البيت أرسل إليه قائد المائة أصدقاءه قائلاً : يا رب! لا تتعب فإني لا أستحق أن تدخل تحت سقف بيتي ، من أجل ذلك لم أستحق أن أجيء أنا إليك لكن قل كلمة فيبرأ لأني رجل ذو سلطان وتحت يدي جند فأقول لهذا : امض فيمضي ولآخر : ائت فيأتي فلما سمع يسوع هذا تعجب منه والتفت إلى الجمع الذي يتبعه وقال : الحق أقول لكم! إني لم أجد في بني إسرائيل مثل هذه الأمانة ، فرجع المرسلون إلى اليبت فوجدوا المريض قد برأ ، وفي غد كان يسوع ماضياً إلى مدينة اسمها نايين وتبعه تلاميذه أجمع وجمع كبير ، فلما قرب من باب المدينة إذا محمول قد مات وحيداً لأمه وكانت أرملة ، وجمع كبير من أهل المدينة معها ، فلما رآها الرب تحنن عليها وقال لها : لا تبكي ، وتقدم ولمس النعش فوقف الحاملون له ، وقال له : أيها الشاب! لك أقول : قم واجلس! فجلس الميت وبدأ يتكلم ، ودفعه لأمه ، ولحقهم خوف ومجدوا الله قائلين : لقد قام فينا نبي عظيم ، وتعاهد الله شعبه بصلاح ، فذاع هذا الكلام في كل اليهودية وكل الكور التي حولها .
قال متى : وجاء يسوع إلى بيت بطرس فنظر إلى حماته ملقاة تحمى؛ وقال مرقس : وجاء إلى بيت سمعان وأندراوس مع يعقوب ويوحنا فرأى حماة سمعون في حمى شديدة فقالوا له من أجلها ، فقدم وأمسك بيدها وأقامها؛ وقال متى : فمس يديها فتركها الحمى وقامت تخدمهم؛ وقال لوقا : ونهضت للوقت تخدمهم ، فلما كان المساء - قال مرقس : عند غروب الشمس - قدموا إليه مجانين كثيراً ، قال مرقس : ووقف جميع أهل المدينة على الباب ، وأبرأ كثيراً ممن به علة رديئة ، وأخرج شياطين كثيرة؛ وقال متى : وكان يخرج الأرواح بكلمة ، وأبرأ كل سقيم لكي يتم ما قيل في أشعياء النبي القائل : إنه أخذ أمراضنا وحمل أوجاعنا . وسحرا جدا قام وخرج إلى البرية ليصلي هناك وسمعون ومن معه يطلبونه ، فلما وجدوه قالوا له : إن الجمع يطلبك ، فقال لهم : سيروا بنا إلى القرى والمدن القريبة لنكرز ، فإني لهذا وافيتُ ، فأقبل يبشر في مجمعهم في كل الجليل ويخرج الشياطين؛ وقال لوقا : وفي غد اليوم خرج وذهب إلى موضع قفر والجمع يطلبونه ، وجاؤوا إليه وأمسكوه لئلا يمضي من عندهم ، فقال لهم : إنه ينبغي أن أبشر في المدن الأخر بملكوت الله ، لأني لهذا أرسلت ، وكان يكرز في مجامع الجليل ، وكان لما اجتمع إليه جمع ليسمعوا كلام الله كان هو واقفاً على بحيرة جاناسر ، فرأى سفينتين موقفتين على شاطىء البحيرة والصيادون قد صعدوا عليها ليغسلوا شباكهم ، فصعد إلى إحداهما التي لسمعان ، وأمر أن يبعدها عن الشط قليلاً ، وجلس يعلم في الجمع من السفينة؛ ولما أكمل كلامه قال لسمعان : تقدم إلى اللج وألقوا شباككم! فقال : يا معلم! قد تعبنا الليل أجمع ولم نأخذ شيئاً ، وبكلمتك نحن نلقي شباكنا ، ولما فعلوا ذلك أخذوا سمكاً كثيراً ، وكادت شباكهم تتخرق ، فأشاروا إلى شركائهم في السفينة الأخرى ليأتوا يعينوهم ، فلما جاؤوا ملؤوا السفينتين حتى كادتا أن تغرقا ، فلما رأى سمعان ذلك خر عند قدمي يسوع وقال له : ابعد عني يا سيدي! لأني رجل خاطىء ، لأن الخوف اعتراه وكل من معه لأجل صيد الحيتان التي اصطادوا ، وكذلك يعقوب ويوحنا ابنا زبدي اللذان كانا صديقي سمعان ، فقال يسوع لسمعان : لا تخف ، من الآن تكون صياداً تصيد للناس ، وقربوا السفن إلى الشط وتركوا كل شيء وتبعوه؛ وقال متى : فلما نظر يسوع إلى الجمع الذي حوله أمر أن يذهبوا إلى العبر ، فجاء إليه كاتب وقال له : يا معلم! أتبعك إلى حيث تمضي ، فقال له يسوع : إن للثعالب أجحاراً ، ولطير السماء أوكاراً ، فأما ابن الإنسان فليس له موضع يسند رأسه؛ وقال لوقا : وقال لآخر : اتبعني ، فقال : يا رب! ائذن لي أن امضي أولاً وأدفن أبي ، فقال له يسوع : اتبعني ودع الموتى يدفنوا موتاهم ، وقال الآخر أيضاً : بل تأذن لي أولاً أن أرتب أهل بيتي ، فقال : ما من أحد يضع يده على سكة الفدان وينظر إلى ورائه يستحق ملكوت الله؛ وقال متى : فلما صعد السفينة تبعه تلاميذه - وقال لوقا : صعد السفينة هو وتلاميذه وقال لهم : امضوا بنا إلى عبر البحيرة ، فساروا وفيما هم سائرون نام - وإذا اضطراب عظيم كان في البحر حتى كادت الأمواج تغطي السفينة - لأن الريح كانت مضادة لهم - وهو نائم ، فتقدم إليه تلاميذه وقالوا : يا رب! - وقال مرقس : وكانت رياح عواصف عظيمة ، وكانت الأمواج تضرب السفينة وتدخلها المياه حتى كادت تمتلىء ، وهو نائم في مؤخرها على وسادة - فأيقظوه وقالوا له : يا معلم! نجِّنا فقد هلكنا! فقال لهم : ما أخافكم يا قليلي الأمانة؟ حينئذ قام وانتهر الرياح والبحر ، فصار هدوءاً عظيماً ، ثم قال متى : فلما صعد السفينة وجاء إلى العبر ودخل مدينته قدم إليه مخلع ملقى على سرير - وفي إنجيل مرقس ولوقا : إنهم أرادوا الدخول به إليه فلم يقدروا لكثرة الجمع ، فصعدوا إلى السطح ودلوه بسريره إليه - حينئذ قال للمخلع : قم! امل سريرك واذهب إلى بيتك! فقام ومضى إلى بيته ، فنظر الجمع وتعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى هذا السلطان كذا للناس؛ وقال يوحنا في إنجيله : وبعد هذا كان عيد اليهود فصعد يسوع إلى يروشليم ، وكان هناك بيروشليم مكان يسمى بالعبرانية بيت الرحمة ، وكان فيه خمسة أروقة ، وكان خلق كثير من المرضى مطروحين فيها وعمي ومقعدون وجافون ، فكانوا يتوقعون تحريك الماء ، لأن ملاكاً كان ينزل إلى الصبغة في حين بعد حين ، وكان يحرك الماء ، والذي كان ينزل فيه أولاً من بعد حركة الماء يبرأ من كل الوجع الذي به ، وكان هنا رجل سقيم منذ ثمان وثلاثين سنة ، فنظر إليه يسوع ملقى فقال له : أتحب أن تبرأ؟ فقال : نعم يا سيدي! ولكن ليس لي إنسان إذا تحرك الماء يلقيني في البركة أولاً ، فإلى أن أجيء أنا ينزل قدامي آخر ، فقال له : قم ، احمل سريرك وامض فمن ساعته برأ ونهض حاملاً سريره ، وكان ذلك اليوم يوم سبت ، فقال له اليهود : إنه يوم سبت ، ولا يحل لك أن تحمل سريرك ، فأجابهم : الذي أبرأني هو قال لي : احمل سريرك وامش ، فسألوه : من هو؟ فلم يكن يعلم من هو ، لأن يسوع كان قد استتر في الجمع الكبير الذي كان في ذلك الموضع ، ثم قال : وقال لهم يسوع : لقد عملت عملاً واحداً فعجبتم بأجمعكم ، أعطاكم موسى الختان وليس هو من موسى ولكنه من الآباء ، وقد تختنون الإنسان يوم السبت لئلا تنقضوا سنة موسى ، فلِمَ تتذمرون عليّ لإبرائي الإنسان يوم السبت ، لا تحكموا بالمحاباة ولكن احكموا حكماً عدلاً ، ثم قال : فبينما هو مار رأى رجلاً ولد أعمى فقال تلاميذه : يا معلم! من أخطأ؟ هذا أم أبواه حتىأنه ولد أعمى ، فقال : لا هو ولا أبواه ، ولكن لتظهر أعمال الله فيه ، ينبغي أن أعمل أعمال من أرسلني ما دام النهار ، سيأتي الليل الذي لا يستطيع أحد أن يعمل فيه عملاً ، ما دمت في العالم أن نور العالم - قال هذا وتفل على التراب وصنع من تفله طيناً وطلى به عيني ذلك الأعمى وقال له : امض واغتسل في عين سيلوخا التي تأويلها المبعوثة ، فمضى وغسلهما فعاد ينظر ، فأما جيرانه والذين كانوا يرونه يتسول فقالوا : ليس هو هذا الذي كان يجلس ويتسول ، وآخرون قالوا : إنه هو ، وآخرون قالوا : إنه يشبهه ، فأما هو فكان يقول : إني أنا هو ، فقالوا له : كيف انفتحت عيناك؟ فقص عليهم القصة ، فقالوا : أين هو ذاك؟ فقال : ما أدري ، فأتوا به إلى الفريسيين ، لأن يسوع صنع الطين يوم السبت ، فسأله الفريسيون فأخبرهم ، فقال قوم منهم : ليس هذا الرجل من الله إذ لا يحفظ السبت ، وآخرون قالوا : كيف يقدر رجل خاطىء أن يعمل هذه الآيات! فوقع بينهم لذلك شقاق ، فقالوا للأعمى : ما تقول أنت من أجله؟ قال لهم : إنه نبي ، ولم يصدق اليهود أنه كان أعمى حتى دعوا أبويه وسألوهما ، فقالا : نحن نعلم أن هذا ولدنا وأنه وُلِدَ أعمى ، ووقعت بين الأعمى وبينهم محاورة ، كان آخر ما قالوا له : أنت ولدت بالخطايا وأنت تعلمنا! وأخرجوه .
وقال متى : واجتاز يسوع هناك فرأى إنساناً جالساً على التعشير اسمه متى فقال له : اتبعني ، فترك كل شيء وقام وتبعه . وقال لوقا : وبعد هذا خرج فنظر إلى عشار اسمه لاوي جالساً على المكس ، فقال له : اتبعني ، فترك كل شيء وقام وتبعه ، وصنع له لاوي في بيته وليمة عظيمة ، وكان جمع كثير من العشارين وآخرين متكئين معه . وقال مرقس : ثم خرج إلى شاطىء البحر واجتمع إليه جمع كبير وعلمهم ، وعند مضيه رأى لاوي ابن حلفي جالساً على العشارين فقال له : اتبعني ، فقام وتبعه ، وبينما هو متكىء في بيته - وقال متى : وبينما هو متكىء في بيت سمعان - جاء عشارون وخطأة كثيرون ، فاتكؤوا مع يسوع وتلاميذه ، فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه : لماذا معلمكم يأكل مع العشارين والخطأة؟ فلما سمع يسوع قال لهم : الأصحاء لا يحتاجون إلى طبيب ، لكن ذوو الأسقام ، اذهبوا فاعلموا ما هو ، إني أريد رحمة لا ذبيحة ، لم آت لأدعو الصديقين لكن الخطأة للتوبة . وقال لوقا : وطلب إليه واحد من الفريسيين أن يأكل معه ، فدخل بيت ذلك الفريسي وجلس ، وكان في تلك المدينة امرأة خاطئة ، فلما علمت أنه متكىء في بيت ذلك الفريسي أخذت قارورة طيب ووقفت من ورائه عند رجليه باكية ، وبدأت تبل قدميه بدموعها وتمسحها بشعر رأسها ، وكانت تقبل قدميه وتدهنهما بالطيب ، فلما رأى ذلك الفريسي الذي دعاه فكر في نفسه قائلاً : لو كان هذا نبياً علم ما هذه وأنها خطائة ، فأجاب يسوع وقال له : يا سمعان! غريمان عليها لإنسان دين ، على أحدهما خمسمائة دينار وعلى الآخر خمسون ، وليس لهما ما يوفيان فوهب لهما ، فأيهما أكثر حبّاً له؟ فقال : أظن الذي وهب له الأكثر ، فقال له : بالحق حكمت؛ ثم التفت إلى المرأة وقال : يا سمعان! دخلت بيتك فلم تسكب على رجلي ماء وهذه بلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها ، أنت لم تقبلني وهذه منذ دخلت لم تكف عن تقبيل قدمي ، أنت لم تدهن رأس بزيت وهذه دهنت بالطيب قدمي ، لأجل ذلك أقول لك : إن خطاياها مغفورة لها ، لأنها أحبت كثيراًن ثم قال لها : اذهبي بسلام! إيمانك خلصك؛ وكان بعد ذلك يسير إلى كل مدينة ويكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر ونسوة كن أبرأهن من الأمراض والأرواح الخبيثة : مريم التي تدعى المجدلانية التي أخرج منها سبعة شياطين ، ويونا امرأة خوزي خازن هيرودس ، وأخر كثيرات .
وقال متى : حينئذ جاء إليه تلاميذ يوحنا قائلين : لماذا نحن والفريسيون نصوم كثيراً وتلاميذك لا يصومون؟ فقال لهم يسوع : لا يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم ، وستأتي أيام إذا ارتفع العريس عنهم حينئذ صومون؛ ليس أحد يأخذ خرقة جديدة يجعلها في ثوب بال ، لأنها تأخذ ملأها من الثوب فيصير الخرق أكبر وقال مرقس : إنه لا يرقع إنسان ثوباً بالياً بخرقة جديدة إلا مد الجديد البالي فيخرقه؛ وقال متى : ولا تُجْعَلُ خمر جديدة في زقاق عتق فتنشق الزقاق وتهلك وتهراق الخمر لكن تجعل خمر جديدة في زقاق جدد فيتحفظان جميعاً؛ وقال لوقا : وما من أحد يشرب قديماً فيحب الجديد للوقت لأنه يقول : إن القديم أطيب ، وقال متى : وفيما هو يكلمهم إذا رئيس قد جاء إليه ساجداً قائلاً : إن ابنتي ماتت الآن ، تأتي فتضع يدك عليها فتحيى! فقام يسوع وتبعه تلاميذه ، فإذا امرأة بها نزيف دم منذ اثنتي عشرة سنة؛ قال مرقس : أعيت من الأطباء ، أنفقت كل مالها ، لم تجد راحة بل تزداد وجعاً ، فلما سمعت بيسوع - قال متى : جاءت من خلفه ومست طرفه ثوبه - فالتفت يسوع فرآها فقال لها : ثقي يا ابنة! إيمانك خلصك ، فبرئت المرأة من تلك الساعة ، وجاء يسوع إلى بيت الرئيس؛ وقال مرقس : ولم يدع أحداً يتبعه إلا بطرس ويعقوب ويوحنا أخا يعقوب - انتهى . فنظر إلى الجمع مضطربين ، فقال لهم : اخرجوا ، لم تمت الجارية لكنها نائمة ، فضحكوا منه ، فلما خرج الجمع دخل وأمسك يدها فقامت الجارية؛ وقال مرقس : وأخرج جميعهم وأخذ معه أبا الصبية وأمها والذين معه ، ثم دخل إلى الموضع الذي فيه الصبية موضوعة ، وأخذ بيدها وقال لها : طليثا! قومي ، الذي تأويله : يا صبية! لك أقول : قومي ، فللوقت قامت الصبية ومشت ، وكان لها اثنتا عشرة سنة ، فبهتوا وعجبوا عجباً عظيماً ، فأمرهم كثيراً أن لا يُعْلِموا أحداً بهذا ، وقال : أطعموها تأكل؛ وقال متى : وخرج خبرها في جميع تلك الأرض .
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
ولما كان التقدير : آتيناه ذلك لينتهي أهل التوراة عما نسخه منها ، عطف عليه قوله : { وليحكم } في قراءة حمزة بكسر اللام والنصب ، والتقدير على قول الجماعة بالإسكان والجمع والجزم : فلينته أهل التوراة عما نسخ منها وليحكم { أهل الإنجيل } وهم أتباع عيسى عليه السلام { بما أنزل الله } أي الواحد الأحد الذي له جميع صفات الكمال { فيه } من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومن غير ذلك مما أودعناه إياه من الأحكام والمواعظ الجسام .
ولما كان التقدير : فمن انتهى فأولئك هم المسلمون ، ومن حكم بما أنزل الله فيه فأولئك هم المفلحون ، عطف عليه قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله } أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه ، فله كل شيء وليس لأحد معه شيء ، وكل شيء إليه مفتقر ، ولا افتقار له إلى شيء فيه أو في غيره؛ وهو غير منسوخ ، تديناً بتركه أو لشهوة دعت { فأولئك } أي البعداء عن كل خير البغضاء { هم الفاسقون * } أي المختصون بكمال الفسق ، فإن كان تديناً كان كفراً ، وإن كان لاتباع الشهوات كان مجرد معصية ، لأن الحظوظ والشهوات تحمل على الخروج عن دائرة الشرع مرة بعد أخرى ، فمن ترك الحكم تكذيباً فقد جمع الدركات الثلاث : ستر الدلائل فتنقل من درجة النور إلى دركة الظلام ، فانكب في مهواة الخروج من المحاسن ، فانحط إلى أقبح المساوي؛ والتعبير بالوصف المؤذن بالعراقة في مأخذ الاشتقاق معلم بأن المراد بكل واحد منها الكفر ، فحق أن المراد منه الشرعي لا مطلق الستر غاية التحقيق ، فبين بوصفه بالظلم أنه ستر لما ينبغي إظهاره ، وبالفسق أنه بلغ في كونه في غير موضعه النهاية حتى خرق جميع دائرة المأذون فيه فخرج منها ، وهذا إشارة إلى ذنوب أهل الإنجيل لينتج نقض دعواهم البنوة والمحبة ، لأن المعنى : ومن الواضح بكتابك الذي جعل مهيمناً على جميع الكتب أنهم خالفوا أحكامه فهم فاسقون ، أي خارجون عما من شأنه الاستقرار فيه لنفعه ، فواقعون في الظلمة الموجبة لوضع الشيء في غير موضعه المقتضية للتغطية والستر ، وقدم الوصف بالكفر لأن السياق لمن حرف الكلم عن موضعه ، وغير ما كتب من محكم أحكام التوراة من الحدود ، وذلك هو التغطية التي هي معنى الكفر لأنه من الظلام ، كما أن الفسق سبب الظلم لأنه الخروج عما من شأنه النفع ، فكان الآخر أولاً في المعنى والأول نهاية في الحقيقة ، والآية دالة على أن فيه أحكاماً ، وكذا قوله تعالى في آل عمران : { ولأُحل لكم بعض الذي حرم عليكم } [ آل عمران : 5 ] ، وهذا هو الحق ، وأعظم ما غيّر تحريم السبت الذي كان أعظم شعائرهم فأحله ، وغيَّر أيضاً غير ذلك من أحكامهم؛ قال فيما رأيته من ترجمة إنجيل متى : سمعتم ما قيل للأولين : لا تقتل ، فإن من قتل وجبت عليه لائمة الجماعة ، ومن قال لأخيه : أحمق ، فقد وجبت عليه نار جهنم ، إن أنت قدمت قربناك على المذبح وذكرت هناك أن أخاك واجد عليك فدع قربانك هناك قدام المذبح ، وامض أولاً وصالح أخاك ، وحينئذ فائت وقدم قربانك ، كن متفهماً من خصمك سريعاً ما دمت معه في الطريق ، لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم ، والحاكم إلى المستخرج وتلقى في السجن؛ وفي إنجيل لوقا : إذا رأيتم سحابة تطلع من المغرب قلتم : إن المطر يأتي؛ فيكون كذلك ، وإذا هبت ريح الجنوب قلتم : سيكون حر ، يا مراؤون! تحسنون تمييز وجه السماء والأرض وهذا الزمان كيف لا تميزونه ، ولا تحكمون بالصدق من قبل نفوسكم! لأنك إذا ذهبت مع خصمك إلى الرئيس فأعطه ما يجب عليك في الطريق تتخلص منه ، لئلا يذهب بك إلى الحاكم فيدفعك الحاكم إلى المستخرج ويلقيك المستخرج في السجن؛ وقال متى : الحق الحق أقول لك! إنك لا تخرج من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك ، سمعتم ما قيل للأولين : لا تزن ، وأنا أقول لكم : إن كل من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى بها في قلبه ، إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها ، لأنه خير لك أن تهلك أحد أعضائك ولا تلقي جسدك كله في جهنم ، قيل : إن من طلق امرأته فيدفع لها كتاب الطلاق ، وأنا أقول لكم : إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وأيضاً سمعتم ما قيل للأولين : لا تحنث في مينك ، وأوف للرب قسمك ، وأنا اقول لكم : إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وأيضاً سمعتم ما قيل للأولين : لا تحنث في مينك ، وأوف للرب قسمك ، وأنا أقول لكم : لا تحلفوا البتة لا بالسماء فإنها كرسي الله ، ولا بالأرض لأنها موطىء قدميه ، ولا بيروشليم فإنها مدينة الملك العظيم ، ولا برأسك لأنك لا تقدر تصنع شعرة بيضاء أو سوداء ، ولتكن كلمتكم : نعم ونعم ولا لا ، وما زاد على ذلك فهو من الشر ، سمعتم ما قيل : العين بالعين والسن بالسن ، وأنا أقول لكم : لا تقاوموا الشر ، ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر ، ومن أراد خصومتك وأخذ ثوبك دفع له رداءك ، ومن سخّرك ميلاً فامض مع اثنين ، قال لوقا : وكل من سألك فأعطه ، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده ، ولا تطلب من الذي يأخذ مالك ، وكما تحبون أن يصنع الناس بكم كذلك فاصنعوا أنتم بهم؛ وقال متى : سمعتم ما قيل : أحبب قريبك وابغض عدوك ، وأنا أقول لكم : حبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم ، وأحسنوا إلى من أبغضكم - وقال لوقا : يبغضكم - وصلوا على من يطردكم ويحزنكم ، لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات ، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار ، والممطر على الصديقين والظالمين ، وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم! أليس العشارون يفعلون مثل ذلك! وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل عملتم! أليس كذلك يفعل العشارون! وقال لوقا : إن كنتم إنما تحبون من يحبكم فأي أجر لكم! إن الخطأة يحبون من يحبهم ، وإن صنعتم الخير مع من يحسن إليكم فأيّ فضل لكم! إن الخطأة هكذا يصنعون ، وإن كنتم إنما تقرضون من تظنون أنكم تأخذون العوض منه فأي فضل لكم! إن الخطأة أيضاً يقرضون الخطأة لكي يأخذوا منهم العوض ، لكن حبوا أعداءكم وأحسنوا إليهم ، وكونوا رحماء مثل أبيكم فهو رؤوف ، وقال متى : كونوا أنتم كاملين مثل أبيكم السمائي فهو كامل .
ثم قال في الفصل الثالث والثلاثين : وفي ذلك الزمان مر يسوع في سبت بالزروع وجاع تلاميذه ، فبدؤوا يفركون سنبلاً ويأكلون - وفي لوقا : كان تلاميذه يقطعون السنبل ويفركون بأيديهم ويأكلون - فلما أبصرهم الفريسيون قالوا له : ها هو ذا تلاميذك يعملون ما لا يحل في السبت - وفي لوقا : لماذا تفعلون ما لا يحل أن يفعل في السبوت - فقال لهم : أما قرأتم ما صنع داود لما جاع هو والذين معه! كيف دخل إلى بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة! قال مرقس : وأعطى الذين كانوا مع ، ثم قال لهم : السبت من أجل الإنسان كان ولم يخلق الإنسان من أجل السبت؛ قال متى : أوما قرأتم في الناموس أن الكهنة في السبت في الهيكل ينجسون السبت وليس عليهم جناح! وأقول لكم : إن ها هنا أعظم من الهيكل لو كنتم تعلمون ما هو مكتوب ، إني أريد الرحمة لا الذبيحة ، لِمَ تحكمون على من لا ذنب له! وقال لوقا : ودخل بيت أحد الرؤساء الفريسيين في يوم سبت ليأكل خبزاً وهم كانوا يرصدونه فإذا إنسان به استسقاء ، فقال يسوع للكهنة والفريسيين : هل يحل أن يبرأ في السبت؟ فسكتوا فأخذه وأبرأه ثم قال لهم : من منكم يقع ابنه في بئر يوم السبت ولا يصعده في الوقت؟ فلم يقدروا أن يجيبوه عن هذا؛ ثم قال متى : فجاء الفريسيون ليجربوه قائلين : هل يحل للإنسان أن يطلق امرأته لأجل كل كلمة؟ أجاب : أما قرأتم أن الذي خلق في البدء خلقهما ذكراً وأنثى ، من أجل ذلك يترك الإنسان أباه وأمه ويلصق بامرأته ، ويكونان كلاهما جسداً واحداً ، وليس هما اثنين لكن جسد واحد ، وما زوجه الله لا يفرقه الإنسان - وقال مرقس : لا يقدر إنسان يفرقه - قالوا له : لماذا أمر موسى أن يعطى كتاب الطلاق وتخلى؟ قال لهم : موسى من أجل قسوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم - وفي مرقس : إنهم سألوه فقال لهم : بماذا أوصاكم موسى؟ قالوا : أمر أن يكتب كتاب الطلاق وتخلى ، قال لهم يسوع : من أجل قسوة قلوبكم كتب لكم موسى هذه الوصية ، من البدء لم يكن هكذا ، وأقول لكم : من طلق امرأته من غير زنا فقد ألجأها إلى الزنا ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وفي إنجيل مرقس : وفي البيت أيضاً سأله التلاميذ عن هذا فقال لهم : من طلق امرأته وتزوج أخرى فقد زنى عليها ، وإن هي خلت زوجها وتزوجت آخر فهي زانية؛ وفي لوقا : كل من يطلق امرأته ويتزوج أخرى فهو يزني ، وكل من تزوج مطلقة من زوجها فهو يزني؛ قال متى : فقال له التلاميذ : إن كان هكذا علة الرجل مع المرأة فخير له أن لا يتزوج ، فقال لهم : ما كل أحد يستطيع هذا الكلام إلا الذين قد أعطوا ، الآن خِصيانُ ولدوا من بطون أمهاتهم ، وخصيان أخصاهم الناس ، وخصيان أخصوا نفوسهم من أجل ملكوت السماوات ، ومن استطاع أن يحتمل فليحتمل .
ولما ذكر سبحانه الكتابين ، ذكر ختامهما وتمامهما ، وهو ما أنزل إلى هذا النبي الأمي من الفرقان الشاهد على جميع الكتب التي قبله ، فقال تعالى : { وأنزلنا } أي بعظمتنا { إليك } أي خاصة { الكتاب } أي الكامل في جمعه لكل ما يطلب منه وهو القرآن { بالحق } أي الكامل الذي لا يحتاج إلى شيء يتمه ، ثم مدحه بمدح الأنبياء الذين تقدموه فقالك { مصدقاً لما بين يديه } أي تقدمه .
ولما كانت الكتب السماوية من شدة تصادقها كالشيء الواحد ، عبر بالمفرد لإفادته ما يفيد الجمع وزيادة دلالة على ذلك فقال : { من الكتاب } أي الذي جاء به الأنبياء من قبل { ومهيمناً } أي شاهداً حفيظاً مصدقاً وأميناً رقيباً { عليه } أي على كل كتاب تقدمه - كما قاله البخاري في أول الفضائل من الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وفي هذه الصفة بشارة لحفظه سبحانه لكتابنا حتى لا يزال بصفة الشهادة ، فإن الله تعالى استحفظهم كتبهم فعجزوا عنها ، فحرفها محرفوهم وأسقطوا منها وأسقط مسرفوهم ، فتكفل هو سبحانه بحفظ كتابنا فكان قيماً عليها ، فما كان فيها موافقاً له فهو حق ، وما كان فيها مخالفاً فهو إما منسوخ أو مبدل فلا يعبر ، بل يحكم بما في كتابنا لأنه ناسخ لجميع الكتب ، والآتي به مرسل إلى جميع العالمين ، فملته ناسخة لجميع الملل ، فأنتج هذا وجوب الحكم بما فيه على المؤالف والمخالف بشرطه؛ فلذا قال مسبباً عما قبله : { فاحكم بينهم } أي بين جميع أهل الكتب ، فغيرهم من باب الأولى { بما أنزل الله } أي الملك الذي له الأمر كله إليك في هذا الكتاب الناسخ لكتبهم المهيمن عليها في إثبات ما أسقطوه منها من أمرهم باتباعك ونحو ذلك من أوصافك { ولا تتبع أهواءهم } فيما خالفه منحرفين { عما جاءك } وبينه بقوله : { من الحق } .
ولما كان كل من كتابيهم من عند الله ، كان كأنه قيل : كيف يكون الحكم بكتابهم الذي يصدقه كتابنا انحرافاً عن الحق؟ علل ذلك دالاً على النسخ بقوله : { لكل } أي لكل واحد { جعلنا } أي بعظمتنا التي نفعل بها ما نشاء من نسخ وغيره ، ثم خصص الإبهام بقوله : { منكم } أي يا أهل الكتب { شرعة } أي ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية ، كما أن الشرعة موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية { ومنهاجاً } أي طريقاً واضحاً مستنيراً ناسخاً لما قبله ، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع ، وهذا وأمثاله - مما يدل على أن كل متشرع مختص بشرع وغير متعبد بشرع من قبله - محمول على الفروع ، وما دل على الاجتماع كأنه شرع لكم من الدين محمول على الأصول { ولو شاء الله } أي الملك الأعظم المالك المطلق الذي له التصرف التام والأمر الشامل العام أن يجمعكم على شيء واحد { لجعلكم أمة } أي جماعة متفقة يؤم بعضها بعضاً ، وحقق المراد بقوله : { واحدة } أي على دين واحد ، ولم يجعل شيئاً من الكتب ناسخاً لشيء من الشرائع ، لأن الكل بمشيئته ، ولا مشيئة لأحد سواه إلا بمشيئته { ولكن } لم يشأ ذلك ، بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة { ليبلوكم } أي ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر { فيما آتاكم } أي أعطاكم وقسم بينكم من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود ما تعملون في ذلك من اتباع وإذعان اعتقاداً أن ذلك مقتضى الحكمة الإلهية؛ فترجعون عنه إذا قامت البراهين بالمعجزات على صدق ناسخه ، ونهضت الأدلة البينات على صحة دعواه بعد طول الإلف له وإخلاد النفوس إليه واستحكامه بمرور الأعصار وتقلب الأدوار؛ أو زيغ وميل اتهاماً وتجويزاً كما فعل أول المتكبرين إبليس ، فتؤثرون الركون إليه والعكوف عليه لمتابعة الهوى والوقوف عند مجرد الشهوة .
ولما كان في الاختبار أعظم تهديد ، سبب عنه قوله : { فاستبقوا الخيرات } أي افعلوا في المبادرة إليها بغاية الجهد فعل من يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه له ، ثم علل ذلك بقوله : { إلى الله } أي الشارع لذلك ، لا إلى غيره ، لأنه الملك الأعلى { مرجعكم جميعاً } وإن اختلفت شرائعكم ، حساً في القيامة ، ومعنى في جميع أموركم في الدارين { فينبئكم } أي يخبركم إخباراً عظيماً { بما كنتم } أي بحسب اختلاف الجبلات؛ ولما كان في تقديم الظرف إبهام ، وكان الإفهام بعد الإبهام أوقع في النفس ، قال { فيه تختلفون * } أي تجددون الخلاف مستمرين عليه ، ويعطي كلاماً يستحقه ، ويظهر سر الاختلاف وفائدة الوفاق والائتلاف .
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
ولما كان الأمر بالحكم فيما مضى لكونه مسبباً عما قبله من إنزال الكتاب على الأحوال المذكورة ، أعاد الأمر به سبحانه مصرحاً بذلك لذاته لا لشيء آخر ، ليكون الأمر به مؤكداً غاية التأكيد بالأمر به مرتين : مرة لأن الله أمر به ، وأخرى لأنه على وفق الحكمة ، فقال تأكيداً له وتنويهاً بعظيم شأنه ومحذراً من الأعداء فيما يلقونه من الشبه للصد عنه : { وأن } أي احكم بينهم بذلك لما قلنا من السبب وما ذكرنا من العلة في جعلنا لكل ديناً ، ولأنا قلنا آمرين لك أن { احكم بينهم } أي أهل الكتب وغيرهم { بما أنزل الله } أي المختص بصفات الكمال لأنه يستحق أن يتبع أمره لذاته وبين أن مخالفتهم له وإعراضهم عنه إنما هو مجرد هوى ، لأن كتابهم داع إليه ، فقال : { ولا تتبع أهواءهم } أي في عدم التقييد به { واحذرهم أن يفتنوك } أي يخالطوك بكذبهم على الله وافترائهم وتحريفهم الكلم ومراءاتهم مخالطة تميلك { عن بعض ما أنزل الله } أي الذي لا أعظم منه ، فلا وجه أصلاً للعدول عن أمره { إليك فإن تولوا } أي كلفو أنفسهم الإعراض عما حكمت به بينهم مضادين لما دعت إليه الطفرة الأولة من اتباع الحق ودعت إليه كتبهم من اتباعك { فاعلم إنما يريد الله } أي الذي له جميع العظمة العظمة { أن يصيبهم } لأنه لو أراد بهم الخير لهداهم إلى القبول الذي يطابق عليه شاهد العقل بما تدعو إليه الفطرة الأولى والنقل بما في كتبهم ، إما من الأمر بذلك الحكم بعينه ، وإما من الأمر باتباعك { ببعض ذنوبهم } أي التي هذا منها ، وأبهمه زيادة في استدراجهم وإضلالهم وتحذيراً لهم من جميع مساوي أعمالهم ، لئلا يعلموا عين الذنب الذي اصيبوا به ، فيحملهم ذلك على الرجوع عنه ، ويصير ذلك كالإلجاء ، أو يكون إبهامه للتعظيم كما أن التنكير يفيد التعظيم ، فيؤذن السياق بتعظيم هذا التولي وبكثرة ذنوبهم واجترائهم على مواقعتها .
ولما كان التقدير : فإنهم بالتولي فاسقون ، عطف عليه : { وإن كثيراً من الناس } أي هم وغيرهم { لفاسقون * } أي خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات ، متكلفون لأنفسهم إظهار ما في بواطنهم من خفي الحيلة بقوة؛ ولما كان من المعلوم أن من أعرض عن حكم الله أقبل ولا بد على حكم الشيطان الذي هو عين الهوى الذي هو دين أهل الجهل الذين لا كتاب لهم هاد ولا شرع ضابط ، سبب عَن إعراضهم الإنكار عليهم بقوله : { أفحكم الجاهلية } أي خاصة مع أن أحكامها لا يرضى بها عاقل ، لكونها لم يدع إليها كتاب ، بل إنما هي مجرد أهواء وهم أهل كتاب { يبغون } أي يريدون بإعراضهم عن حكمك مع ما دعا إليه كتابهم من اتباعك ، وشهد به كتابك بالعجز عن معارضته من وجوب رسالتك إلى جميع الخلائق ، وقراءة ابن عامر بالالتفات إلى الخطاب أدل على الغضب .
ولما كان حسن الحكم تابعاً لإتقانه ، وكان إتقانه دائراً على صفات الكمال من تمام العلم وشمول القدرة وغير ذلك ، قال - معلماً أن حكمه أحسن الحكم عاطفاً على ما تقديره : فمن أضل منهم : { ومن } ويجوز أن تكون الجملة حالاً من واو يبغون ، أي يريدون ذلك والحال أنه يقال : من { أحسن من الله } أي المستجمع لصفات الكمال { حكماً } ثم زاد في تقريعهم بكثافة الطباع وجمود الأذهان ووقوف الأفهام بقوله معبراً بلام البيان إشارة إلى المعنى بهذا الخطاب : { لقوم } أي فيهم نهضة وقوة محاولة لما يريدونه { يوقنون * } أي يوجد منهم اليقين يوماً ما وأما غيرهم فليس بأهل الخطاب فكيف بالعتاب! إنما عتابه شديد العقاب ، وفي ذلك أيضاً غاية التبكيت لهم والتقبيح عليهم من حيث إنهم لم يزالوا يصفون أهل الجاهلية بالضلال ، وأن دينهم لم ينزل الله به من سلطان ، وقد عدلوا في هذه الأحكام إليه تاركين جميع ما أنزل الله من كتابهم والكتاب الناسخ له ، فقد ارتكبوا الضلال بلا شبهة على علم ، وتركوا الحق المجمع عليه .
ولما بين عنادهم وأن عداوتهم لأهل هذا الدين التي حملتهم على هذا الأمر العظيم ليس بعدها عداوة ، نهى من اتسم بالإيمان عن موالاتهم ، لأنه لا يفعلها بعد هذا البيان مؤمن ولا عاقل ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان؛ ولما كان الإنسان لا يوالي غير قومه إلا باجتهاد في مقدمات يعملها وأشياء يتحبب بها إلى أولئك الذين يريد أن يواليهم ، أشار إلى ذلك بصيغة الافتعال فقال : { لا تتخذوا } أي إن ذلك لو كان يتأتى بسهولة لما كان ينبغي لكم أن تفعلوه ، فكيف وهو لا يكون إلا ببذل الجهد! { اليهود والنصارى أولياء } أي أقرباء تفعلون معهم ما يفعل القريب مع قريبه ، وترجون منهم مثل ذلك ، وهم أكثر الناس استخفافاً بكم وازدراء لكم؛ ثم علل ذلك بقوله : { بعضهم أولياء بعض } أي كل فريق منهم يوالي بعضهم بعضاً ، وهم جميعاً متفقون - بجامع الكفر وإن اختلفوا في الدين - على عداوتكم يا أهل هذا الدين الحنيفي! { ومن يتولهم منكم } أي يعالج فطرته الأولى حتى يعاملهم معاملة الأقرباء { فإنه منهم } لأن الله غني عن العالمين ، فمن والى أعداءه تبرأ منه ووكله إليهم؛ ثم علل ذلك تزهيداً فيهم وترهيباً لمتوليهم بقوله : { إن الله } أي الذي له الغنى المطلق والحكمة البالغة ، وكان الأصل : لا يهديهم ، أو لا يهديه ، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : الأصل : لا يهديهم ، أو لا يهديه ، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : { لا يهدي القوم الظالمين * } أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها ، فهم يمشون في الظلام ، فلذلك اختاروا غير دين الله ووالوا من لا تصلح موالاته ، ومن لم يرد الله هدايته لم يقدر أحد أن يهديه ، ونفي الهداية عنهم دليل على أن العبرة في الإيمان القلب ، إذ معناه أن هذا الذي يظهر من الإقرار ممن يواليهم ليس بشيء ، لأن الموالي لهم ظالم بموالاته لهم ، والظالم لا يهديه الله ، فالموالي لهم لا يهديه الله فهو كافر ، وهكذا كل من كان يقول أو يفعل ما يدل دلالة ظاهرة على كفره وإن كان يصرح بالإيمان - والله الهادي ، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبه المخالف في الدين واعتزاله - كما قال صلى الله عليه وسلم :
« لا تراءى ناراهما » ومنه قول عمر لأبي موسى رضي الله عنهما حين اتخذ كاتباً نصرانياً : لا تكرموهم إذ أهانهم الله ، ولا تأمنوهم إذ خونهم الله ، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله ، وروي أن أبا موسى رضي الله عنه قال : لا قوام للبصرة إلا به ، فقال عمر رضي الله عنه : مات النصراني - والسلام ، يعني هب أنه مات فما كنت صانعاً حينئذ فاصنعه الساعة .
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
ولما علل بذلك ، كان سبباً لتمييز الخالص الصحيح من المغشوش المريض ، فقال : { فترى } أي فتسبب عن أن الله لا يهدي متوليهم أنك ترى { الذين في قلوبهم مرض } أي فساد في الدين كابن أبي وأصحابه - أخزاهم الله تعالى { يسارعون } أي بسبب الاعتماد عليهم دون الله { فيهم } أي في موالاة أهل الكتاب حتى يكونوا من شدة ملابستهم كأنهم مظروفون لهم كأن هذا الكلام الناهي لهم كان إغراء ، ويعتلون بما بما لا يعتل به إلا مريض الدين من النظر إلى مجرد السبب في النصرة عند خشية الدائرة { يقولون } أي قائلين اعتماداً عليهم وهم أعداء الله اعتذاراً عن موالاتهم { نخشى } أي نخاف خوفاً بالغاً { أن تصيبنا دائرة } أي مصيبة محيطة بنا ، والدوائر : التي تخشى ، والدوائل : التي ترجى .
ولما نصب سبحانه هذا الدليل الذي يعرف الخالص من المغشوش ، كان فعلهم هذا للخالص سبباً في ترجي أمر من عند الله ينصر به دينه ، إما الفتح أو غيره مما أحاط به علمه وكوّنته قدرته يكون سبباً لندمهم ، فلذا قال : { فعسى الله } أي الذي لا أعظم منه فلا يطلب النصر إلا منه { أن يأتي بالفتح } أي بإظهار الدين على الأعداء { أو أمر من عنده } بأخذهم قتلاً بأيديكم أو بإخراج اليهود من أرض العرب أو بغير ذلك فينكشف لهم الغطاء .
ولما كانت المصيبة عند الإصباح أعظم ، عبر به وإن كان المراد التعميم فقال : { فيصبحوا } أي فيسبب عن كشف غطائهم أن يصبحوا والأحسن في نصبه ما ذكره أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح للفارسي من أنه جواب « عسى » إلحاقاً لها بالتمني لكونها للطمع وهو قريب منه ، ويحسنه أن الفتح وندامتهم المترتبة عليه عندهم من قبيل المحال ، فيكون النصب إشارة إلى ما يخفون من ذلك ، وهو مثل ما يأتي إن شاء الله تعالى في توجيه قراءة حفص عن عاصم في غافر { فاطلع } [ غافر : 37 ] بالنصب { على ما أسروا } .
ولما كان الإسرار لا يكون إلاّ لما يخشى من إظهاره فساد ، وكان يطلق على ما دار بين جماعة خاصة على وجه الكتمان عن غيرهم ، بين أنه أدق من ذلك وأنه على الحقيقة مَنَعهم خوفهم من غائلته وغرته عندهم أن يبرزوه إلى الخارج فقال : { في أنفسهم } أي من تجويز محو هذا الدين وإظهار غيره عليه { نادمين * } أي ثابت لهم غاية الندم في الصباح وغيره { ويقول الذين آمنوا } من رفعه عطفه على معنى { نادمين } فإن أصله : يندمون ، ولكنه عبر بالاسم إعلاماً بدوام ندمهم بشارة بدوام الظهور لهذا الدين على كل دين ، أو على { يقولون نخشى } ، ومن أسقط الواو جعله حالاً ، ومن نصبه جاز أن يعطفه على « يصبحوا » أي يكون ذلك سبباً لتحقق المؤمنين أمر المنافقين بالمسارعة في أهل الكتاب عند قيامهم سروراً بهم والندم عند خذلانهم ومحقهم ، فيقول بعض المؤمنين لبعض تعجباً من حالهم واغتباطاً بما من الله عليهم به من التوفيق في الإخلاص مشيرين إلى المنافقين تنبيهاً وإنكاراً : { أهؤلاء } أي الحقيرون { الذين أقسموا بالله } أي وهو الملك الأعظم { جهد أيمانهم } أي مبالغين في ذلك اجتراء على عظمته { إنهم لمعكم } أيها المؤمنون! ويجوز أن يكون هذا القول من المؤمنين لليهود في حق المنافقين حيث قاسموهم على النصرة؛ ثم ابتدأ جواباً من بقية كلام المؤمنين أو من كلام الله لمن كأنه قال : فماذا يكون حالهم؟ فقال : { حبطت } أي فسدت فسقطت { أعمالهم فأصبحوا } أي فتسبب عن ذلك أنهم صاروا { خاسرين } أي دائمي الخسارة بتعبهم في الدنيا بالأعمال وخيبة الآمال ، وجنايتهم في الآخرة الوبال ، وعبر بالإصباح لأنه لا أقبح من مصابحة السوء لما في ذلك من البغتة بخلاف ما ينتظر ويؤمل .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
ولما نهى عن موالاتهم وأخبر أن فاعلها منهم . نفى المجاز مصرحاً بالمقصود فقال مظهراً لنتيجة ما سبق : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان! من يوالهم منكم - هكذا كان الأصل ، ولكنه صرح بأن ذلك ترك الدين فقال : { من يرتد } ولو على وجه خفي - بما أشار إليه الإدغام في قراءة من سوى المدنيين وابن عامر { منكم عن دينه } أي الذي معناه موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله ، فيوالون أعداءه ويتركون أولياءه ، فيبغضهم الله ويبغضونه ، ويكونون أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين ، فالله غني عنهم { فسوف يأتي الله } اي الذي له الغنى المطلق والعظمة البالغة مكانهم وإن طال المدى بوعد صادق لا خلف فيه { بقوم } أي يكون حالهم ضد حالهم ، يثبتون على دينهم ، وهم أبو بكر والتابعون له بإحسان - رضي الله عنهم .
ولما كانت محبته أصل كل سعادة قدمها فقال : { يحبهم } فيثبتهم عليه ويثيبهم بكرمه أحسن الثواب { ويحبونه } فيثبتون عليه ، ثم وصفهم بما يبين ذلك فقال : { أذلة } وهو جمع ذليل؛ ولما كان ذلهم هذا إنما هو الرفق ولين الجانب لا الهوان ، كان في الحقيقة عزاً ، فأشار إليه بحرف الاستعلاء مضمناً له معنى الشفقة ، فقال مبيناً أن تواضعهم عن علو منصب وشرف : { على المؤمنين } أي لعلمهم أن الله يحبهم { أعزة على الكافرين } أي يظهرون الغلظة والشدة عليهم لعلهم أن الله خاذلهم ومهلكهم وإن اشتد أمرهم وظهر علوهم وقهرهم ، فالآية من الاحتباك : حذف أولاً البغض وما يثمره لدلالة الحب عليه ، وحذف ثانياً الثبات لدلالة الردة عليه؛ ثم علل ذلك بقوله : { يجاهدون } أي يوقعون الجهاد على الاستمرار لمن يستحقه من غير ملال ولا تكلف كالمنافقين ، وحذف المفعول تعميماً ودل عليه مؤذناً بأن الطاعة محيطة بهم فقال : { في سبيل الله } أي طريق الملك الأعظم الواسع المستقيم الواضح ، لا لشيء غير ذلك كالمنافقين .
ولما كان المنافقون يخرجون في الجهاد ، فصلهم منهم بقوله : { ولا } أي والحال أنهم لا { يخافون لومة } أي واحدة من لوم { لائم } وإن كانت عظيمة وكان هو عظيماً ، فبسبب ذلك هم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين - أمر بالمعروف أو نهي عن منكر - كانوا كالمسامير المحماة ، لا يروِّعهم قول قائل ولا اعتراض معترض ، ويفعلون في الجهاد في ذلك جميع ما تصل قدرتهم وتبلغ قوتهم إليه من إنكال الأعداء وإهانتهم ومناصرة الأولياء ومعاضدتهم ، وليسوا كالمنافقين يخافون لومة أوليائهم من اليهود فلا يفعلون وإن كانوا مع المؤمنين شيئاً ينكيهم .
ولما كانت هذه الأوصاف من العلو في رتب المدح بمكان لا يلحق ، قال مشيراً إليها بأداة البعد واسم المذكر : { ذلك } أي الذي تقدم من أوصافهم العالية { فضل الله } أي الحاوي لكل كمال { يؤتيه } أي الله لأنه خالق لجميع أفعال العباد { من يشاء } أي فليبذل الإنسان كل الجهد في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { واسع } أي محيط بجميع أوصاف الكمال ، فهو يعطي من سعة ليس لها حد ولا يلحقها أصلاً نقص { عليم * } أي بالغ العلم بمن يستحق الخير ومن يستوجب غيره ، وبكل ما يمكن علمه .
ولما نفى سبحانه ولايتهم بمعنى المحبة وبمعنى النصرة وبمعنى القرب بكل اعتبار ، أنتج ذلك حصر ولاية كل من يدعي الإيمان فيه وفي أوليائه فقال : { إنما وليكم الله } أي لأنه القادر على ما يلزم الولي ، ولا يقدر غيره على شيء من ذلك إلاّ به سبحانه؛ ولما ذكر الحقيق بإخلاص الولاية له معلماً بأفراد المبتدأ أنه الأصل في ذلك وما عداه تبع ، أتبعه من تعرف ولايته سبحانه بولايتهم بادئاً بأحقهم فقال : { ورسوله } وأضافة إليه إظهاراً لرفعته { والذين آمنوا } أي أوجدوا الإيمان وأقروا به ثم وصفهم بما يصدق دعواهم الإيمان فقال : { والذين يقيمون الصلاة } أي تمكيناً لوصلتهم بالخالق { ويؤتون الزكاة } إحساناً إلى الخلائق ، وقوله : { وهم راكعون * } يمكن أن يكون معطوفاً على { يقيمون } أي ويكونون من أهل الركوع ، فيكون فضلاً مخصصاً بالمؤمنين المسلمين ، وذلك لأن اليهود والنصارى لا ركوع في صلاتهم - كما مضى بيانه في آل عمران ، ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإيتاء؛ وفي أسباب النزول أنها نزلت في عليّ رضي الله عنه ، سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه . وجمع وإن كان السبب واحداً ترغيباً في مثل فعله من فعل الخير والتعجيل به لئلا يظن أن ذلك خاص به .
ولما كان التقدير : فمن يتول غيرهم فأولئك حزب الشيطان ، وحزب الشيطان هم الخاسرون ، عطف عليه : { ومن يتول الله } أي يجتهد في ولاية الذي له مجامع العز { ورسوله } الذي خُلقه القرآن { والذين آمنوا } وأعاد ذكر من خص الولاية بهم تبركاً بأسمائهم وتصريحاً بالمقصود ، فإنهم الغالبون - هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر ما شرفهم به ترغيباً لهم في ولايته فقال : { فإن حزب الله } أي القوم الذين يجمعهم على ما يرضي الملك الأعلى ما حزبهم أي اشتد عليهم فيه { هم الغالبون * } أي لا غيرهم ، بل غيرهم مغلوبون ، ثم إلى النار محشورون ، لأنهم حزب الشيطان .
ولما نبه سبحانه على العلل المانعة من ولاية الكفار وحصر الولاية فيه سبحانه ، أنتج ذلك قطعاً قوله منبهاً على علل أخرى موجهاً للبراءة منهم : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان ، ونبه بصيغة الافتعال على أن من يوالهم يجاهد عقله على ذلك اتباعاً لهواه فقال : { لا تتخذوا الذين اتخذوا } أي بغاية الجد والاجتهاد منهم { دينكم } أي الذي شرفكم الله به { هزواً ولعباً } ثم بين المنهي عن موالاتهم بقوله : { من الذين } .
ولما كان المقصود بهم منح العلم ، وهو كاف من غير حاجة إلى تعيين المؤتي ، بني للمجهول قوله : { أوتوا الكتاب } ولما كان تطاول الزمان له تأثير فيما عليه الإنسان من طاعة أو عصيان ، وكان الإيتاء المذكور لم يستغرق زمان القبل قال : { من قبلكم } يعني أنهم فعلوا الهزو عناداً بعد تحققهم صحة الدين .
ولما خص عم فقال : { والكفار } أي من عبدة الأوثان الذين لا علم لهم نُقِلَ عن الأنبياء ، وإنما ستروا ما وضح لعقولهم من الأدلة فكانوا ضالين ، وكذا غيرهم ، سواء علم أنهم يستهزؤون أولا ، كما أرشد إليه غير قراءة البصريين والكسائي بالنصب { أولياء } أي فإن الفريقين اجتمعوا على حسدكم وازدرائكم ، فلا تصح لكم موالاتهم أصلاً .
ولما كان المستحق لموالاة شخص - إذا تركه ووالى غيره - يسعى في إهانته ، حذرهم وقوعهم بموالاتهم على ضد مقصودهم فقال : { واتقوا الله } من له الإحاطة الكاملة ، فإن من والى غيره عاداه ، ومن عاداه هلك هلاكاً لا يضار معه { إن كنتم مؤمنين * } أي راسخين في الإيمان بحيث صار لكم جبلة وطبعاً ، فإن لم تخافوه بأن تتركوا ما نهاكم عنه فلا إيمان .
ولما عم في بيان استهزائهم جميع الدين ، خص روحه وخالصته وسره فقال : { وإذا ناديتم } أي دعا بعضكم الباقين إلى الإقبال إلى الندى وهو المجتمع ، فأجابه الباقون بغاية الرغبة ، ومنه دار الندوة ، أو يكون المعنى أن المؤذن كلم المسلمين برفع صوته كلام من هو معهم في الندى بالقول فأجابوه بالفعل ، فكان ذلك مناداة - هذا أصله ، فعبر بالغاية التي يكون الاجتماع بها فقال مضمناً له الانتهاء : { الى الصلاة } أي التي هي أعظم دعائم الدين ، وموصل إلى الملك العظيم ، وعاصم بحبلة المتين { اتخذوها } على ما لها من العظمة والجد والبعد من الهزء بغاية هممهم وعزائمهم { هزواً ولعباً } فيتعمدون الضحك والسخرية ويقولون : صاحوا كصياح العير - ونحو هذا ، وبين سبحانه أن سبب ذلك عدم انتفاعهم بعقولهم فكأنهم لا عقول لهم ، وذلك لأن تأملها - في التطهر لها وحسن حال فاعلها عند التلبس بها من التخلي عن الدنيا جملة والإقبال على الحضرة الإلهية ، والتحلي بالقراءة لأعظم الكلام ، والتخشع والتخضع لملك الملوك الذي لم تخف عظمته على أحد ، ولا نازع قط في كبريائه وقدرته منازع - بمجرده كافٍ في اعتقاد حسنها وجلالها وهيبتها وكمالها فقال : { ذلك } أي الأمر العظيم الشناعة { بأنهم قوم } وإن كانوا أقوياء لهم قدرة على القيام في الأمور { لا يعقلون * } أي ليست لهم هذه الحقيقة ، ولو كان لهم شيء من عقل لعلموا أن النداء بالفم أحسن من التبويق وضرب الناقوس بشيء لا يقاس ، وأن التذلل بين يدي الله بالصلاة أمر لا شيء أحسن منه بوجه ، وللأذان من الأسرار ما تعجز عنه الأفكار ، منه أنه جعل تسع عشرة كلمة ، ليكف الله به عن قائله خزنة النار التسعة عشر ، وجعلت الإقامة إحدى عشرة كلمة رجاء أن يكون معتقدها رفيقاً لأحد عشر : العشرة المشهود لهم بالجنة ، وقطبهم وقطب الوجود كله النبي صلى الله عليه وسلم ، وناهيك أن من أسراره أنه جمع الدين كله أصولاً وفروعاً - كما بنت ذلك في كتابي « الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان » .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
ولما كانت النفوس نزاعة إلى الهوى ، عمية عن المصالح ، جامحة عن الدواء بما وقفت عنده من النظر إلى زينة الحياة الدنيا ، وكان الدليل على سلب العقل عن أهل الكتاب دليلاً على العرب بطريق الأولى ، وكان أهل الكتاب لكونهم أهل علم لا ينهض بمحاجتهم إلا الأفراد من خلص العباد ، قال تعالى دالاً على ما ختم به الآية من عدم عقلهم آمراً لأعظم خلقه بتبكيتهم وتوبيخهم وتقريعهم : { قل } وأنزلهم بمحل البعد فقال مبكتاً لهم بكون العلم لم يمنعهم عن الباطل : { يا أهل الكتاب } أي من اليهود والنصارى { هل تنقمون } أي تنكرون وتكرهون وتعيبون { منا إلا أن آمنا } أي أوجدنا الإيمان { بالله } أي لما له من صفات الكمال التي ملأت الأقطار وجاوزت حد الإكثار { وما أنزل إلينا } أي لما له من الإعجاز في حالات الإطناب والتوسط والإيجاز { وما أنزل } .
ولما كان إنزال الكتب والصحف لم يستغرق زمان المضي ، أثبت الجار فقال : { من قبل } أي لما شهد له كتابنا ، وهذه الأشياء التي آمنا بها لا يحيد فيها عاقل ، لما لها من الأدلة التي وضوحها يفوق الشمس ، فحسنها لا شك فيه ولا لبس { وأن } أي آمنا كلنا مع أن أو والحال أن { أكثركم } قيد به إخراجاً لمن يؤمن منهم بما دل عليه التعبير بالوصف { فاسقون * } أي عريقون في الفسق ، وهو الخروج عن دار السعادة بحيث لا يمكن منهم رجوع إلى المرضى من العبادة ، فبين أنهم لا ينقمون من المؤمنين إلا المخالفة ، والمخالفة إنما هي بإيمان المسلمين بالله وما أمر به ، وكفر أهل الكتاب بجميع ذلك مع علمهم بما تقدم لهم أن من آمن بالله كان الله معه ، فنصره على كل من يناويه ، وجعل مآله إلى الفوز الدائم ، وأن من كفر تبرأ منه فأهلكه في الدنيا ، وجعل مآله إلى عذاب لا ينقضي سعيره ، ولا ينصرم أنينه وزفيره ، ومن ركب ما يؤديه إلى ذلك على علم منه واختيار لم يكن أصلاً أحد أضل منه ولا أعدم عقلاً ، وتخصيص النقم بما صدر من المؤمنين يمنع عطف { وأن } على { أن آمنا } .
ولما أنزلهم سبحانه إلى عداد البهائم بكونهم ينسبونهم إلى الشر بجعلهم إياهم موضع الهزء واللعب وبكونهم ينظرون إلى أي من خالفهم ، فيبعدون منه وينفرون عنه من غير أن يستعملوا ما امتازوا به عن البهائم في أن المخالف ربما كان فيه الدواء ، والمكروه قد يؤول إلى الشفاء ، والمحبوب يجر إلى العطب والتوي ، بين لهم أن تلك رتبة سنية ومنزلة علية بالنسبة إلى ما هم فيه ، فقال على سبيل التنزل وإرخاء العنان : { قل } أي يا من لا ينهض بمحاجتهم لعلمهم ولددهم غيره لما جبلت عليه من قوة الفهم ثم لما أنزل عليك من العلم { هل أنبئكم } أي أخبركم إخباراً متقناً معظماً جليلاً { بشر من ذلك } أي الأمر الذي نقمتموه علينا مع كونه قيماً وإن تعاميتم عنه ، ووحد حرف الخطاب إشارة إلى عمى قلوبهم وأن هذه المقايسة لا يفهمها حق الفهم إلا المؤيد بروح من الله { مثوبة } أي جزاء صالحاً ويرجع إليه ، فإن المثوبة للخير كما أن العقوبة للشر ، وهي مصدر ميمي كالميسور والمعقول ، ثم نوه بشرفه بقوله : { عند الله } أي المحيط بصفات الجلال والإكرام ، ثم رده أسفل سافلين بياناً لأنه استعارة تهكمية على طريق : تحية بينهم ضرب وجيع .
بقوله - جواباً لمن كأنه قال : نعم : { من } أي مثوبة من { لعنة الله } أي أبعده الملك الأعظم وطرده { وغضب عليه } أي أهلكه ، ودل على اللعن والغضب بأمر محسوس فقال : { وجعل } ودل على كثرة الملعونين بجمع الضمير فقال : { منهم } أي بالمسخ على معاصيهم { القردة } تارة { والخنازير } أخرى ، والتعريف للجنس ، وقال ابن قتيبة : إن التعريف يفيد ظن أنهم لم ينقرضوا بل توالدوا حتى كان منهم أعيان ما تعرفه من النوعين ، فما أبعد من كان منهم هذا من أن يكونوا أبناء الله وأحباءه! ثم عطف - على قراءة الجماعة - على قوله { لعنه الله } سبب ذلك بعد أن قدم المسبب اهتماماً به لصراحته في المقصود ، مع أن اللعن والغضب سبب حقيقي ، والعبادة سبب ظاهري ، فقال : { وعبد الطاغوت } وقرأه حمزة بضم الباء على أنه جمع والإضافة عطف على القردة ، فهو - كما قال في القاموس - اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله ومردة أهل الكتاب ، للواحد والجمع ، فلعوت من طغوت ، وكل هذه المعاني تصلح ها هنا ، أما اللات والعزى وغيرهما مما لم يعبدوه صريحاً فلتحسينهم دين أهله حسداً للإسلام وقد عبدوا الأوثان في كل زمان حتى في زمان موسى عليه السلام كما في نص التوراة : ثم بالغوا في النجوم لاستعمال السحر فشاركوا الصابئين في ذلك . فمعنى الآية : تنزلنا إلى أن نسبتكم لنا إلى الشر صحيحة ، ولكن لم يأت كتاب بلعننا ولا بالغضب علينا ولا مسخنا قردة ولا خنازير ، ولا عبدنا غير الله منذ أقبلنا عليه ، وأنتم قد وقع بكم جميع ذلك ، لا تقدرون أن تتبرؤوا من شيء منه ، فلا يشك عاقل أنكم شر منا وأضل ، والعاقل من إذا دار أمره بين شرين لم يختر إلا أقلهما شراً ، فثبت كالشمس صحة دعوى أنهم قوم لا يعقلون ، ولذلك ختم الآية بقوله { أولئك } أي البعداء البغضاء الموصوفون باللعن وما معه { شر مكاناً } وإذا كان ذلك لمكانهم فما ظنك بأنفسهم ، فهو كناية عن نسبتهم إلى العراقة في الشر { وأضل } أي ممن نسبوهم إلى الشر والضلال ، وسلم لهم ذلك فيهم إرخاء للعنان قصداً للإبلاغ في البيان { عن سواء } أي قصد وعدل { السبيل * } أي الطريق ، ويجوز أن تكون الإشارة في ذلك إلى ما دل عليه الدليل الأول من عدم عقلهم ولا تنزل حينئذ ، وإنما قلت : إنهم لا يقدرون على إنكار شيء من ذلك ، لأن في نص التوراة التي بين أظهرهم في السفر الخامس : فالرب يقول لكم ويأمركم أن تكونوا له شعباً حبيباً ، وتحفظوا جميع وصاياه وتعملوا بها ، فإنه يرفعكم فوق جميع الشعوب ، وإذا جزتم الأردن انصبوا الحجارة التي آمركم بها اليوم على جبل عبل وكلسوها بالكلس ، وابنوا هناك مذبحاً من الحجارة لم يقع عليها حديد ، ولكن ابنوا الحجارة كاملة لم تقطع ، وقربوا عليها ذبائح كاملة أمام الله ربكم ، وكلوا هناك وافرحوا أمام الله ربكم ، واكتبوا على تلك الحجارة جميع آيات هذه السنة .
ثم عين موسى رجالاً يقومون على جبل إذا جازوا الأردن ويهتفون بصوت عال ويقولون لبني إسرائيل : ملعوناً يكون الذي يتخذ أصناماً مسبوكة وأوثاناً منحوتة أمام الرب ، والشعب كلهم يقولون : آمين! ملعوناً يكون من ينقل حد صاحبه ويظلمه في أرضه ، ويقول الشعب كلهم : آمين! ملعوناً يكون من يضل الأعزى عن الطريق ، ويقول الشعب كلهم : آمين! ملعوناً يكون من يحيف على المسكين واليتيم والأرملة في القضاء ، ويقول الشعب كلهم : آمين! - إلى أن قال : ملعوناً يكون كل من لا يثبت على عهد آيات هذه التوراة ويعمل بها ، ويقول الشعب كلهم : آمين! ثم قال : وإن أنتم لم تسمعوا قول الله ربكم ولم تحفظوا ولم تعملوا بجميع سننه ووصاياه التي آمركم بها اليوم ، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص عليكم كله ويدرككم العقاب ، وتكونوا ملعونين في القرية ، ملعونين في الحرب ، ويلعن نسلكم وثمار أرضكم ، وتكونون ملعونين إذا دخلتم وملعونين إذا خرجتم ، ينزل بكم الرب البلاء والحشرات ، وينزل بكم الضربات الشديدة ، وبكل شيء تمدون أيديكم إليه لتعملوه حتى يهلككم ويتلفكم سريعاً من أجل سوء أعمالكم وترككم لعبادتي ، ويسلط عليكم هذه الشعوب حتى تهلكوا ، وتكون السماء التي فوقكم عليكم شبه النحاس ، والأرض تحتكم شبه الحديد ، ويكسركم الرب بين يدي أعدائكم ، تخرجون إليهم في طريق واحدة وتهربون في سبعة طرق ، وتكونون مثلاً وقرعاً لجميع مملكات الأرض ، وتكون جيفكم مأكلاً لجميع السباع وطيور السماء ولا يذب أحد عنكم ، تكونون مقهورين مظلومين مغصوبين كل أيام حياتكم ، يسبي بنيك وبناتك شعب آخر وتنظر إليهم ولا تقدر لهم على خلاص ، وتكون مضطهداً مظوماً طور عمرك يسوقك الرب ، ويسوق ملكك الذي مكله عليك إلى شعب لم يعرفه أبوك ، وتعبد هناك آلهة أخرى عملت من خشب وحجارة ، وتكون مثلاً وعجباً ويفكر فيك كل من يسمع خبرك في جميع الشعوب التي يقركم الله فيها ، تزرع كثيراً وتحصد قليلاً ، ويتعظم عليك سكانك ويصيرون فوقك ، هذا اللعن كله يلزمك وينزل بك ويدركك حتى تهلك ، لأنك لم تقبل قول الله ربك ، ولم تحفظ سننه ووصاياه التي أمرك بها ، وتظهر فيك آيات وعجائب وفي نسلك إلى الأبد ، لأنك لم تعبد الله ربك ولم تعمل بوصاياه ، ويصير أعداؤك دق الحديد على عنقك ، ويسلط الله عليك شعباً يأتيك وأنت جائع ظمآن عريان فقير ، قد أعوزك كل شيء يحتاج إليه ، وتخدم أعداءك ، ويسرع إليك مثل طيران النسر شعب لا تعرف نعتهم ، شعب وجوههم صفيقة ، لا تستحيي من الشيوخ ولا ترحم الصبيان ، ويضيق عليك في جميع قراك حتى يظفر بسوراتك المشيدة التي تتوكل عليها وتثق بها في كل أرضك ، وتضطر حتى تأكل لحم ولدك ، والرجل المدلل منكم المفنق تنظر عيناه إلى أخيه وخليله وإلى من بقي من ولده جائعاً ، لا يعطيهم من لحم ابنه الذي يأكله لأنه لا يبقى عنده شيء من الاضطهاد والضيق الذي يضيق عليك عدوك ، وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب وتتقي الله ربك وتهب اسمه المحمود المرهوب يخصك الرب بضربات موجعة ، ويبتليك بها ويبتلي نسلك من بعدك ، ويبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء ، لأنك لم تسمع قول الله ، كما فرّحكم الرب وأنعم عليكم وكثركم كذلك يفرح الرب لكم ليستأصلكم بالعقاب والنكال ، ويدمر عليكم ويتلفكم ، وتجلون عن الأرض التي تدخلونها لترثوها ، ويفرقكم الرب بين جميع الشعوب - هذه أقوال العهد التي أمر الله بها موسى أن يعاهد بني إسرائيل في أرض موآب سوى العهد الذي عاهدهم بحوريب ، فإن قالوا : نحن لم ننقض بعد موسى عليه السلام حتى يلزمنا هذا اللعن المشروط بنقض العهد! قيل : قد شهد عليكم بذلك ما بين أيديكم من كتابكم ، فإنه قال في آخر أسفاره ما نصه : وقال الرب لموسى : قد دنت أيام وفاتك فادع يشوع وقوما في قبة الزمان لآمره بما أريد ، وانطلق يشوع وموسى وقاما في قبة الزمان ، وظهر الرب في قبة الزمان بعمود من سحاب ، وقام عمود من سحاب في باب قبة الزمان ، وقال الرب لموسى : أنت مضطجع منقلب إلى آبائك ، فيقول هذا الشعب فيضل ويتبع آلهة أخرى آلهة الشعوب التي تدخل وترى وتسكن بينها ، ويخالفني ويبطل عهدي الذي عهدته ، ويشتعل غضبي عليه في ذلك اليوم ، وأخذلهم وأدير وجهي عنهم ، ويصيرون مأكلاً لأعدائهم ، ويصيبهم شر شديد وغم طويل ، لأنهم تبعوا الآلهة الأخرى ، فاكتب لهم الآن هذا التسبيح وعلمه بني إسرائيل وصيره في أفواههم ، ليكون هذا التسبيح شهادة على بني إسرائيل ، لأني مدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم ، الأرض التي تغل السمن والعسل ، ويأكلون ويشبعون ويتلذذون ، ويتبعون الآلهة الأخرى ويعبدونها ، ويغضبوني ويبطلون عهدي ، فإذا نزل بهم هذا الشر الشديد والغموم يتلى عليهم هذا التسبيح للشهادة ، ولا تعدمه أفواه ذريتهم ، لأني عالم بأهوائهم ، وكل ما يصنعونه ها هنا اليوم قبل أن أدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم ، وكتب موسى هذا التسبيح ذلك اليوم وعلمه بني إسرائيل - وذكر بعد هذا كله ما ذكرته عند
{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين } [ النساء : 163 ] في النساء فراجعه ، ثم قال : أنصتي أيتها السماء فأتكلم ، ولتسمع الأرض النطق من فيّ لأنها ترجو كلامي عطشانة ، وكمثل الندى ينزل قولي وكالمطر على النخيل وشبه الضباب على العشب ، لأني دعوت باسم الرب أبداً وبالتعظيم لله الرب العدل وليس عنده ظلم ، الرب البار الصادق ، أخطأ أولاد الأنجاس ، الجيل المتعوج المنقلب ، وبهذا كافؤوا الرب ، لأنه شعب جاهل وليس بحليم ، أليس الرب استخلصك وخلقك! اذكروا أيام الدهر وتفهموا ما مضى من سنني جيلاً بعد جيل ، استخبر أباك فيخبرك ، وشيوخك فيفهموك ، حين قسم العلى للأمم بني آدم الذين فرقهم ، أقام حدود الأمم على عدد الملائكة ، وصار جزء الرب شعبه ، يعقوب حبل ميراثه ، إسرائيل فأرواه في البرية من عطش الحر حيث لم يكن ماء ، وحاطه وأدبه وحفظه مثل حدقة العين ، وكمثل النسر حيث نقل عشه وإلى فراخه اشتاق ، فنشر أجنحته وقبلهم وحملهم على صلبه ، الرب وحده ساقهم ولم يكن معهم إله آخر ، وأصعدهم إلى علو الأرض وأطعمهم من ثمر الشجر وغذاهم عسلاً من حجر ، من الصخرة أخرج لهم الزيت ، ومن سمن البقر ولبن الغنم وشحم الخراف والكباش والثيران والجداء ولب القمح ، أكل يعقوب المخصوص ، حين شحم وغلظ وعرُض ، ترك الإله الذي خلقه وبعُد من الله مخلصه ، يقول الله : أسخطوني مع الغرباء بأوثانهم وأغضبوني حين ذبحوا للشياطين ولم يقربوا لإله الآلهة ولم يعرفه الجيل الجديد الذين أتوا ونسوا آباءهم .
هذا ما أردت ذكره من التوراة في الشهادة على لزوم اللعن والغضب لهم بعبادتهم الطواغيت ، وقد صدق الله قوله فيها وأتم كلماته - وهو أصدق القائلين - بما وقع لهم بعد وفاة موسى عليه السلام ثم بعد يوشع عليه السلام مع ما تقدم لهم في أيام يوشع عليه السلام من عبادة بعليون الصنم كما مضى عند قوله تعالى { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } [ البقرة : 93 ] .
ذكر ما يصدق ذلك من سفر يوشع ، قال : ودعا يوشع جميع بني إسرائيل وقال لهم : أنا قد شخت وطعنت في السن ، وأنتم قد رأيتم ما صنع الله بهذه الشعوب ، إنه أهلكهم من بين أيديكم ، وإن الله ربكم هو تولى حروبكم وظفركم ، قد علمتم أني قسمت لكم الشعوب التي بقيت . فأما عند النهر الأعظم في مغارب الشمس فقد قسمتها لكم ، والله ربكم يهزمهم ويهلكهم في أمامكم وترثون أرضهم كما قال الله ربكم ، ولكن تقووا جداً واعلموا بجميع ما كتب في سفر موسى عند الرب ، أهلك الرب من أمامكم شعوباً عظيمة ولم يثبت لكم إنسان إلى اليوم ، الرجل منكم يهزم ألف رجل ، لأن الله ربكم معكم وهو يجاهد عنكم كما قال لكم ، فاحترسوا لأنفسكم ، إن أنتم خالطتم الشعوب الذين بقوا بينكم وصرتم لهم أختاناً صاروا لكم فخاخاً وعثرات وأسنة في أصدافكم وصنارات في أعينكم حتى تهلكوا من الأرض الصالحة التي أعطاكم الله ربكم ، وأما أنا فسائر في طريق أهل الأرض كلهم ، وقد تعلمون يقيناً من كل قلوبكم وأنفسكم أنه ما سقطت كلمة واحدة من الكلام الذي وعدكم الله ربكم ، وكما تم كل الكلام الصالح الذي وعدكم الله به كذلك ينزل بكم كل اللعن حتى تهلكوا وتبيدوا إن أنتم عصيتم وتعديتم على ميثاق الله ربكم والوصايا التي أوصاكم بها؛ وجمع جميع بني إسرائيل إلى سجام وأقامهم أمام الرب في قبة الزمان وقال : اسمعوا قول الله إله إسرائيل : كان آباؤكم سكاناً في مجاز النهر في الدهر الأول ، ترح أبو إبراهيم وناحور ، وكانوا يعبدون هناك آلهة أخرى ، وعهد إلى إبراهيم أبيكم وأخرجته من مجاز النهر وسيَّرته في أرض كنعان كلها ، وأكثرت ذريته ورزقته إسحاق ابناً ، ورزقت إسحاق يعقوب وعيسو ، وأعطيت عيسو جبل ساعير ميراثاً ، فأما يعقوب وبنوه فنزلوا إلى مصر ، وأرسلت موسى وهارون وعاقبت أهل مصر وأكثرت في أرضهم من الآيات والأعاجيب ، ومن بعد ذلك أخرجتهم منها ، وشق لهم الرب بحر سوف وأجاز إياكم فيه مشياً ، فلما أراد المصريون أن يجوزوا أقلب البحر عليهم وغرقهم ، ورأت أعينكم ما صنعت بأهل مصر ، ثم أتيت بكم المفازة وسكنتموها أياماً كثيرة ، وأتيت بكم أرض الأمورانيين الذين يسكنون عند مجاز الأردن ، وحاربوكم ودفعتهم إليكم ، ووثب عليكم بالاق بن صفور ملك الموآبيين ، وحارب إسرائيل فأرسل فدعا بلعام بن بعور ليلعنكم ، ولم يسرني أن أسمع قول بلغام ، ولكن باركت عليكم ونجيتكم من يديه ، ثم جزتم نهر الأردن وأتيتم أهل أريحا فحاربكم أهلها والأمورانيون - ثم عد بقية الطوائف السبع - فدفعتهم إليكم أجمعين ، وأعطيتكم أرضاً لم تتعبوا فيها ، فاتقوا الرب واعبدوه بالبر والعدل ، واصرفوا عن قلوبكم الفكر في عبادة الآلهة الأخرى التي عبدها أباؤكم عند مجاز النهر وفي أرض مصر ، واعبدوا الرب وحده ، وإن كان يشق عليكم أن تعبدوا الرب اختاروا لأنفسكم يومنا هذا من تعبدون ، أتحبون أن تعبدوا الآلهة التي عبدها آباؤكم عند مجاز نهر الفرات أم آلهة الأمورانيين الذين سكنتم بينهم! أما أنا وأهل بيتي فإنا نعبد الله الرب ، فأجاب الشعب وقالوا : حاشا لله أن نجتنب عبادة الرب ونعبد الآلهة الأخرى! لأن الله ربنا هو الذي أخرجنا من أرض مصر وخلصنا من العبودية ، وأكمل الآيات والأعاجيب أمامنا ، وحفظنا في كل الطرق التي سلكناها ، وقوانا على جميع الشعوب التي حاربناها لذلك نعبد الرب لأنه هو الإلهة وحده وهو إلهنا ، فقال : انظروا! لعلكم تجتنبون عبادة الله وتعبدون الآلهة الغريبة ، فيغضب الرب عليكم وينزل بكم البلاء ويهلككم من بعد إنعامه عليكم ، فقال الشعب : لا يكون لنا عبادة أخرى غير عبادة الله ، ربنا ، قال يشوع : اشهدتم على أنفسكم : أنتم الذين اخترتم عبادة الرب قالوا له : نشهد! فأول ما دخل عليهم الدخيل أنهم لم يستأصلوا الكفرة وخالطوهم في أيام يوشع؛ قال في سفره : فصعد رسول الرب من الجلجال إلى سجين وقال لبني إسرائيل : هكذا يقول الرب : أنا الذي أصعدتكم من أرض مصر وأتيت بكم الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت : إني لا أبطل عهدي إلى الأبد ، وأمرتكم أن لا تعاهدوا أهل هذه الأرض ، ولكن استأصلوا مذابحهم ، ولم تقبلوا ولم تطيعوني ، وأنا أيضاً قد قلت : إني لا أهلكهم من أمامكم ، ولكن تكون لكم آلهتهم عشرة ، فلما قال رسول الرب لبني إسرائيل هذا القول رفع القوم أصواتهم بالبكاء ودعوا اسم ذلك الموضع تحناد أي موضع البكاء ، وذبحوا هناك ذبائح للرب؛ وتوفي يشوع بن نون عند الرب ابن مائة وعشرين سنة ، ودفن في حد ميراثه بسرح التي في جبل إفرائيم عن يسار جبل جعس ، وكل ذلك الحقب أيضاً قبضوا ، ونشأ من بعدهم حقب لم يعرف الرب ولم يعرف أعماله التي عملها ، وارتكب بنو إسرائيل السيئات أمام الرب واجتنبوا عبادة الله إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر ، وتبعوا آلهة الشعوب التي حولهم وسجدوا لها وعبدوا بعلاً وأشتراثاً الصنمين ، وغضب الرب على بني إسرائيل ، وسلط عليهم المنتهبين ، ودفعهم إلى أعدائهم ، ولم يقدروا أن يثبتوا لأعدائهم ، وكلما كانوا يخرجون إلى الحرب كانت يد الرب عليهم بالعقاب والبلاء كما قال لهم الرب وكما أقسم لآبائهم ، واضطروا وضاق بهم جداً ، فصير الرب عليهم قضاة ، وأعان قضاتهم وخلصوهم من أيدي أعدائهم ، وكان الرب يسمع أنينهم وما يشكون من المضيقين عليهم والمزعجين لهم ، فلما توفيت قضاتهم رجعوا إلى الفساد كآبائهم ، وعبدوا الأصنام وسجدوا لها ، ولم ينقصوا من سوء أعمالهم الأولى وطرقهم الرديئة ، فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل وقال : لأن الشعب اعتدوا الوصية التي أوصيت آباءهم ، ولم يسمعوا قولي ، لا أعود أن أهلك إنساناً بين أيديهم من الشعوب التي خلف يشوع بعد وفاته ، ليجرب الرب بها بني إسرائيل هل يحفظون طرق الرب كما حفظ آباؤهم أولاً! فلذلك ترك الرب هذه الشعوب ولم يهلكهم سريعاً ، ولم يسلمها في يدي يشوع ، والذين تركوا خمسة رؤساء أهل فلسطين وجميع الكنعانيين والصيدانيين والحاوانيين والذين يسكنون جبل لبنان ومن جبل بني حرمون إلى مدخل حماة ليجرب بهم بني إسرائيل ، وجلس بنو إسرائيل بين يدي الأمورانيين وبقية القبائل ، وزوجوا بنيهم من بناتهم وزوجوا بناتهم من بنيهم وعبدوا آلهتهم ، وارتكب بنو إسرائيل السيئات أمام الرب ونسوا صنيع الرب إلههم وعبدوا بعلاً وأشتراثاً ، واشتد غضب الرب على بني إسرائيل ودفعهم إلى كوشان الأتيم ملك حران ، فاستعبدهم ثماني سنين ، ودعا بنو إسرائيل الرب متضرعين ، وصيَّر الرب لهم مخلصاً ، وخلصهم عثنايال بن قنز أخو كالاب الأصغر ، فأعانه الرب وصار حكماً لبني إسرائيل فخرج إلى الحرب ، وأسلم الرب في يده كوشان الأتيم ، واستراحت الأرض من الحرب أربعين سنة ، وتوفي عثنايال ابن قنز ، وعاد بنو إسرائيل في سوء أعمالهم أمام الرب فقوى الرب عليهم ملك موآب ، واستمروا هكذا في كل حين ينقضون ، وسنة الرب كل قليل يرفضون ، ولا يستقيمون إلا بقدر ما ينسون حرارة النقم ويذوقون لذاذة النعم - ولولا خوف الإطالة الموجبة للسآمة والملالة لذكرت من ذلك كثيراً من الكتب التي بين أيديهم ، لا يقدرون على إنكار ما يلزمهم بها من الفضيحة والعار - والله الموفق .
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
ولما تم ذلك عطف سبحانه على { وإذا ناديتم إلى الصلاة } قوله دالاً على استحقاقهم للعن وعلى ما أخبر به من شرهم وضلالهم بما فضحهم به من سوء أعمالهم دلالة على صحة دين الإسلام بإطلاع شارعه عليه أفضل الصلاة والسلام على خفايا الأسرار : { وإذا جاءوكم } أي أيها المؤمنون! هؤلاء المنافقون من الفريقين ، وإعادة ضمير الفريقين عليهم لأنهم في الحقيقة منهم ، ما أفادتهم دعوى الإيمان شيئاً عند الله ، والعدول إلى خطاب المؤمنين دال على عطفه على ما ذكرت ، وفيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم في لحن القول ، فلا يغتر بخداعهم ولا يسكن إلى مكرهم بما أعطى من صدق الفراسة وصحة التوسم { قالوا آمنا } أي لا تغتروا بمجرد قولهم الحسن الخالي عن البيان بما يناسبه من الأفعال فكيف بالمقترن بما ينفيه منها ، وقد علم أن الفصل بين المتعاطفين بالآيتين السالفتين لا يضر ، لكونهما علة للمعطوف عليه ، فهما كالجزء منه .
ولما ادعوا الإيمان كذَّبهم سبحانه في دعواهم بقوله مقرباً لماضيهم من الحال رجاء لهم غير الدخول ، لأنها تكاد تظهر ما هم مخفوه ، فوجب التوقع للتصريح بها : { وقد } أي قالوا ذلك والحال أنهم قد { دخلوا } أي إليكم { بالكفر } مصاحبين له متلبسين به .
ولما كان المقام يقتضي لهم بعد الدخول حسن الحال ، لما يرون من سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجليل وكلامه العذب ودينه العدل وهدية الحسن ، فلم يتأثروا لما عندهم من الحسد الموجب للعناد ، أخبر عن ذلك بأبلغ من الجملة التي أخبرت بكفرهم تأكيداً للأخبار عن ثباتهم على الكفر ، لأنه أمر ينكره العاقل فقال : { وهم } أي من عند أنفسهم لسوء ضمائرهم وجبلاتهم من غير سبب من أحد منكم ، لا منك ولا من أتباعك { قد خرجوا به } أي الكفر بعد دخولهم ورؤية ما رأوا من الخير ، دالاً على قوة عنادهم بالجملة الاسمية المفيدة للثبات ، وذكر المسند إليه مرتين ، وهم بما أظهروا يظنون أنه يخفي ما أضمروا .
ولما كان في قلوبهم من الفساد والمكر بالإسلام وأهله ما يطول شرحه ، نبه عليه بقوله : { والله } أي المحيط بجميع صفات الكمال وبكل شيء علماً وقدرة { أعلم } أي منهم وممن توسم فيهم النفاق { بما كانوا } أي بما في جبلاتهم من الدواعي العظيمة للفساد { يكتمون * } أي من هذا وغيره في جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم .
ولما كذبهم في دعوى الإيمان ، أقام سبحانه الدليل على كفرهم فقال مخاطباً لمن له الصبر التام ، مفيداً أنه أطلعه صلى الله عليه وسلم على ما يعلم منهم مما يكتمونه من ذلك تصديقاً لقوله تعالى { ولتعرفنهم في لحن القول } إطلاعاً هو كالرؤية ، عاطفاً على ما تقديره : وقد أخبرنا غيرك من المؤمنين بما نعلم منهم من ذلك ، وأما أنت فترى ما في قلوبهم بما آتيناك من الكشف : { وترى } أي لا تزال يتجدد لك ذلك { كثيراً منهم } أي اليهود والكفار منافقهم ومصارحهم .
ولما كان التعبير بالعجلة لا يصح هنا ، لأنها لا تكون إلا في شيء له وقتان : وقت لائق ، ووقت غير لائق ، والإثم لا يتأتى فيه ذلك ، قال : { يسارعون } أي يفعلون في تهالكهم على ذلك فعل من يناظر خصماً في السرعة فيما هو فيه محق وعالم بأنه في غاية الخير ، وكان موضع لأن يعبر بالضمير فيقال : فيه - أي الكفر فعبر عنه تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف إفادة لأن كفرهم عن حيلة هي في غاية الرداءة بقوله : { في الإثم } أي كل ما يوجب إثماً من الذنوب ، وخص منه أعظمه فقال : { والعدوان } أي مجاوزة الحد في ذلك الذي أعظمه الشرك ، ثم حقق الأمر وصوَّره بما يكون لوضوحه دليلاًعلى ما قبله من إقدامهم على الحرام الذي لا تمكن معه صحة القلب أصلاً ، ولا يمكنهم إنكاره فقال : { وأكلهم السحت } أي الحرام الذي يستأصل البركة من أصلها فيمحقها ، ومنه الرشوة ، وكان هذا دليلاً على كفرهم لأنهم لون كانوا مؤمنين ما أصروا على شيء من ذلك ، فكيف بجميعه! فكيف بالمسارعة فيه! ولذلك استحقوا غاية الذم بقوله : { لبئس ما كانوا } ولما كانوا يزعمون العلم ، عبر عن فعلهم بالعمل فقال : { يعملون * } .
ولما كان المنافقون من الأميين وأهل الكتاب قد صاروا شيئاً واحداً في الانحياز إلى المصارحين من أهل الكتاب ، فأنزل فيهم سبحانه هذه الآيات على وجه يعم غيرهم حتى تبينت أحوالهم وانكشف زيغهم ومحالهم - أنكر- على من يودعونهم أسرارهم ويمنحونهم مودتهم وأخبارهم من علمائهم وزهادهم - عدم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، لكونهم جديرين بذلك لما يزعمونه من اتباع كتابهم فقال : { لولا } أي هلا ولم لا { ينهاهم } أي يجدد لهم النهي { الربانيون } أي المدعون للتخلي من الدنيا إلى سبيل الرب { والأحبار } أي العلماء { عن قولهم الإثم } أي الكذب الذي يوجبه وهو مجمع له { وأكلهم السحت } وذلك لأن قولهم للمؤمنين { آمنا } وقولهم لهم { إنا معكم إنما نحن مستهزءون } [ البقرة : 14 ] لا يخلو عن كذب ، وهو محرم في توراتهم وكذا أكلهم الحرام ، فما سكوتهم عنهم في ذلك إلا لتمرنهم على المعاصي وتمردهم في الكفر واستهانتهم بالجرأة على من لا تخفى عليه خافية ، ولا يبقى لمن عاداه باقية .
ولما كان من طبع الإنسان الإنكار على من خالفه ، كانت الفطرة الأولى مطابقة لما أتت به الرسل من قباحة الكذب وما يتبعه من الفسوق . وكان الإنسان لا ينزل عن تلك الرتبة العالية إلى السكوت عن الفاسقين فضلاً عن تحسين أحوالهم إلا بتدرب طويل وتمرن عظيم ، حتى يصير له ذلك كالصفة التي صارت بالتدريب صنعة يألفها وملكة لا يتكلفها ، فجعل ذنب المرتكب للمعصية غير راسخ ، لأن الشهوة تدعوه إليها ، وذنب التارك للنهي راسخاً لأنه لا شهوة له تدعوه إلى الترك ، بل معه حامل من الفطرة السليمة تحثه على النهي ، فكان أشد حالاً؛ قال : { لبئس ما } ولما كان ذلك في جبلاتهم ، عبر بالكون فقال : { كانوا يصنعون * } أي في سكوتهم عنهم وسماعهم منهم .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
ولما لم تزل الدلائل على إبطال دعوى أهل الكتاب في البنوة والمحبة تقوم ، وجبوش البراهين تنجد ، حتى انتشبت فيهم سهام الكلام أي انتشاب ، قال تعالى معجباً من عامتهم بعد تعيين خاصتهم ، معلماً بأنهم لم يقنعوا بالسكوت عن المنكر حتى تكلموا بأنكره ، مشيراً إلى سفول رتبتهم ودناءة منزلتهم بأداة التأنيث : { وقالت اليهود } معبرين عن البخل والعجز جرأة وجهلاً بأن قالوا ذاكرين اليد لأنها موضع القدرة وإفاضة الجود والنصرة : { يد الله } أي الذي يعلم كل عاقل أن له صفات الكمال { مغلولة } أي فهو لا يبسط الرزق غاية البسط ، وهذا كناية عن البخل والعجز من غير نظر إلى مدلول كل من ألفاظه على حياله أصلاً ، كما قال تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } [ الإسراء : 29 ] ولم يقصد من ذلك غير الجود وضده ، لا غل ولا عنق ولا بسط أصلاً ، بل صار هذا الكلام عبارة عما وقع مجازاً عنه ، كأنهما متعقبان على معنى واحد ، حتى لو جاد الأقطع إلى المنكب لقيل له ذلك ، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة ، منه الاستواء « وقالت : في السماء » المراد منه - كما قاله العلماء - أنه ليس مما يعبده المشركون من الأوثان ، قال في الكشاف : ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية ، ولم يتخلص عن يد الطاعن إذا عبثت به .
ولما نطقوا بهذه الكلمة الشنعاء ، وفاهوا بتلك الداهية الدهياء ، أخبر عما جازاهم به سبحانه على صورة ما كان العرب يقابلون به من يستحق الهلاك من الدعاء ، فقال معبراً بالمبني للمفعول إفادة لتحتم الوقوع وتعليماً لنا كيف ندعو عليهم ، ولم يسببه عما قبله بالفاء تقوية له على تقدير سؤال سائل : { غلت أيديهم } دعاء مقبولاً وخبراً صادقاً ، عن كل خير ، فلا تكاد تجد فيهم كريماً ولا شجاعاً ولا حاذقاً في فن ، وإن كان ذلك لم تظهر له ثمرة { ولعنوا } أي أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم { بما قالوا } والمعنى أنهم كما رأوا أحوال المنافقين المقضي في التوراة بأنها إثم وأقروا عليها ، فكذلك نطق بعضهم بكلمة الكفر التي لا أفظع منها ، وسكت عليه الباقون فشاركوه ، ولما كان الغل كناية عن البخل وعدم الإنفاق ، وكان الدعاء بغلهم ولعنهم متضمناً أن الأمر ليس كما قالوا ، ترجمة سبحانه بقوله : { بل يداه } وهو منزه عن الجارحة وعن كل ما يدخل تحت الوهم { مبسوطتان } مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود ، ليكون رد قولهم وإنكاره بأبلغ ما يكون في قطع تعنتهم وتكذيب قولهم .
ولما كان معنى هذا إثبات ما نفوه على أبلغ الأحوال ، قال مصرحاً بالمقصود معرفاً أنه في إنفاقه مختار فلا غرو أن يبسط لبعض دون بعض : { ينفق } ولما كان إنفاقه سبحانه تحقيقاً للاختيار على أحوال متباينة بحيث إنها تفوت الحصر ، أشار إلى التعجيب من ذلك بالتعبير بأداة الاستفهام وإن قالوا : إنها في هذا الموطن شرط ، فقال : { كيف } أي كما { يشاء } أي على أي حالة أراد دائماً من تقتير وبسط وغير ذلك .
ولما كان قولهم هذا غاية في العجب لأن كتابهم كافٍ في تقبيحه بل تقبيح ما هو دونه في الفحش ، فكيف وقد انضم إلى ذلك ما أنزل في القرآن من واضح البيان ، قال سبحانه عاطفاً على { وترى كثيراً منهم } [ المائدة : 62 ] مؤكداً لمضمون ما سبق من قوله { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } [ المائدة : 41 ] بأنه جعل سبب هذا القول منهم ما أتاهم من الهدى الأكمل في هذا الكتاب المعجز على لسان هذا النبي الذي هم به أعرف منهم بأبنائهم : { وليزيدن كثيراً منهم } أي ممن أراد الله فتنته ، ثم ذكر فاعل الزيادة فقال : { ما أنزل إليك } أي على ما له من النور وما يدعو إليه من الخير { من ربك } أي المحسن إليك بكل ما ينفعك دنيا وأخرى { طغياناً } أي تجاوزاً عظيماً عن الحد تمتلىء منه الأكوان في كل إثم وشنأ ، وذلك بما جره إليهم داء الحسد ، لأنهم كلما رأوه سبحانه قد زاد إحسانه إليك طعنوا في ذلك الإحسان ، وهو - لما له من الكمال وعلو الشأن - يكون الطعن فيه من أعظم الدليل عليه والبرهان ، فيكون أعدى العدوان { وكفراً } أي ستراً لما ظهر لعقولهم من النور ودعت إليه كتبهم من الخير ، وهذا كما يؤذي الخفاش ضياء الصباح ، وكلما قوي الضياء زاد أذاه ، وفي هذا إياس من توبتهم وتأكيد لعداوتهم وزجر عن موالاتهم ومودتهم ، أي إنهم لا يزدادون بحسن وعظم وجميل تلاوتك عليهم الآيات إلا شقاقاً ما وجدوا قوة ، فإن ضعفوا فنفاقاً .
ولما كان الإخبار باجتماع كلمتهم على شقاوة الكفر ربما أحدث خوفاً من كيدهم ، نفى ذلك بقوله { وألقينا } أي بما لنا من العظمة الباهرة { بينهم } أي اليهود { العداوة } ولما كانت العداوة - وهي أي يعدون بعضهم إلى أذى بعض - ربما زالت بزوال السبب ، أفاد أنها لازمة لا تنفك بقوله : { والبغضاء } أي لأمور باطنية وقعت في قلوبهم وقوع الحجر الملقى من علو { إلى يوم القيامة } .
ولما كان ذلك مفيداً لوهنهم ترجمه بقوله : { كلما أوقدوا } على سبيل التكرار لأحد من الناس { ناراً للحرب } أي باحكام أسبابها وتفتيح جميع أبوابها { اطفأها } أي خيّب قصدهم في ذلك { الله } أي الذي له جميع صفات الكمال ، فلا تجدهم في بلد من البلاد إلا في الذل وتحت القهر ، وأصل استعارة النار لها ما في كل منهما من التسلط والغلبة والحرارة في الظاهر والباطن ، مع أن المحارب يوقد النار في موضع عال ليجتمع إليه أنصاره ، ولقد قام لعمري دليل المشاهدة على صدق ذلك بغزوة قينقاع تم النضير ثم قريضة ، والقبائل الثلاث بالمدينة لم يتناصروا ولم ينصروا ، ثم غزوة خيبر وأهل فدك ووادي القرى وهم متقاربون ولم يتناصروا ولم ينصروا ، هذا فيما في خاصتهم ، وأما في غير ذلك فقد ألبّوا الأحزاب وجمعوا القبائل وأتقنوا في أمرهم على زعمهم المكايد ، ثم أطفأ الله نارهم حساً ومعنى بالريح والملائكة ، وألزمهم خزيهم وعارهم وجعل الدائرة عليهم - وساق جيش المنون على أيدي المؤمنين إليهم ، وإلى ذلك وأمثاله من أذاهم الإشارة بقوله : { ويسعون } أي يوجدون مجتهدين اجتهاد الساعي على سبيل الاستمرار بما يوجدون من المعاصي من كتمان ما عندهم من الدليل على صحة الإسلام وغير ذلك من أنواع الأجرام { في الأرض } أي كل ما قدروا عليه بالفعل والباقي بالقوة .
ولما كان الإنسان لكونه محل نقصان لا ينبغي أن يتحرك فضلاً عن أن يمشي فضلاً عن أن يسعى إلا بما يرضي الله ، وحينئذ لا ينسب الفعل إلا إلى الله لكونه آمراً به خالقاً له ، فكانت نسبة السعي إلى الإنسان دالة على الفساد ، صرح به في قوله : { فساداً } أي للفساد أو ذوي فساد { والله } أي والحال أن الذي له الكمال كله { لا يحب المفسدين * } أي لا يفعل معهم فعل المحب ، فلا ينصر لهم جيشاً ، ولا يعلي لهم كعباً ، ولا يصلح لهم شأناً ، وبذلك توعدهم سبحانه في التوراة أنهم إذا خالفوا أمره سلط عيهم من عذابه بواسطة عباده وبغير واسطتهم ما يفوت الحصر - كما مضى ذلك قريباً عما بين أيديهم من التوراة بنصه .
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
ولما أثبت بقوله { وليزيدن } أنهم كانوا كفرة قبل إتيان هذا الرسول عليه السلام ، وكرر ما أعده لهم من الخزي الدائم على نحو ما أخبرهم به كتابهم ، وعظهم ورجّاهم سبحانه استعطافاً لهم لئلا ييأسوا من روح الله على عادة منه في رحمته لعباده ورأفته بهم بقوله تعالى عاطفاً على ما تقديره : فلو أنهم كفوا عن هذه الجرائم العظائم لاضمحلت صغائرهم فلم تكن لهم سيئات : { ولو أن } ولما كان الضلال من العالم أقبح ، قال : { أهل الكتاب } أي الفريقين منهم .
ولما كان الإيمان أساس جميع الأعمال ، قدمه إعلاماً بأنه لا نجاة لأحد إلا بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم . هذا مع أنه حقيق باشتداد العناية بهم لمبالغتهم في كتمان ما عندهم منه صلى الله عليه وسلم فقال : { آمنوا } أي بهذا النبي الكريم وما أنزل إليه من هذا الهدى { واتقوا } أي ما هددوا به في كتابهم على ترك الإيمان به على حسب ما دعاهم إليه كتابهم كما في قصة إسماعيل وغيرها إلى أن كان آخر ما فارقهم عليه موسى عليه السلام في آخر كتابهم التصريح بنبوته عليه السلام والإشارة إلى أن اتباعه أحق من اتباعه فقا : جاء ربنا من سيناء؛ وشرق من ساعير ، وتبدّى من جبال فاران ، فأضاف الرب إليهم ، وجعل الإتيان من جبال فاران - التي هي مكة ، لا نزاع لهم في ذلك - تبدياً وظهوراً أي لاخفاء به بوجه ، ولا ظهور أتم منه { لكفّرنا } وأشار إلى عظيم جرأتهم بمظهر العظمة { عنهم سيئاتهم } أي التي ارتكبوها قبل مجيئه وهي مما يسوء ، أي يشتد تنكر النفس له أو تكرّهها ، وأشار إلى سعة رحمته وأنها لا تضيق عن شيء أراده بمظهر العظمة فقال : { ولأدخلناهم } أي بعد الموت { جنات النعيم * } أي بدل ما هم فيه من هذا الشقاء الذي لا يدانيه شقاء .
ولما كان المعنى : ما فعلوا ذلك ، فألزمناهم الخزي في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة ، وكان هذا إجمالاً لحالتهم الدنيوية والأخروية ، وكان محط نظرهم الأمر الدنيوي ، رجع - بعد إرشادهم إلى إصلاح الحالة الأخروية لأنها أهم في نفسها - إلى سبب قولهم تلك الكلمة الشنعاء والداهية القبيحة الصلعاء ، وهو تقتير الرزق عليهم ، وبين أن السبب إنما هو من أنفسهم فقال : { ولو أنهم أقاموا التوراة } أي قبل إنزال الإنجيل بالعمل بجميع ما دعت إليه من أصل وفرع وثبات عليها وانتقال عنها { والإنجيل } أي بعد إنزاله كذلك ، وفي إقامته إقامة التوراة الداعية إليه { وما أنزل إليهم من ربهم } أي المحسن إليهم من أسفار الأنبياء المبشرة بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، ومن القرآن بعد إنزاله ، وفي إقامته إقامة جميع ذلك ، لأنه مبشر به وداع إليه { لأكلوا } أي لتيسر لهم الرزق ، وعبّر ب « من » لأن المراد بيان جهة المأكول لا الأكل { من فوقهم } .
ولما كان ذلك كناية عن عظم التوسعة ، قال موضحاً له معبراً بالأحسن ليفهم غيره بطريق الأولى : { ومن تحت أرجلهم } أي تيسراً واسعاً جداً متصلاً لا يحصر ، أو يكون كناية عن بركات السماء والأرض ، فبين ذلك أنه ما ضربهم بالذل والمسكنة إلا تصديقاً لما تقدم إليهم به في التوراة ، قال مترجمها في السفر الخامس - الدعاء والبركات : وإن أنتم سمعتم قول الله ربكم وحفظتم وعملتم بجميع الوصايا التي آمركم بها اليوم ، يصيركم الرب فوق جميع الشعوب ، فتصيرون إلى هذا الدعاء ، يبارك لكل امرىء منكم في القرية والحقل ، يبارك في أولادكم وأرضكم ، يبارك لكم في بهائمكم وما يضع في أقطاع بقركم وأحزاب غنمكم ، ويبارك فيكم إذا دخلتم ويبارك فيكم إذا خرجتم ، ويدفع إليكم الله أعداءكم أسارى ، يخرجون إليكم في طريق واحد ويهربون منكم في سبعة طرق ، يأمر الله ببركاته في أهرائكم وفي جميع الأشياء التي تمدون أيديكم إليها ، وينظر إليكم جميع شعوب الأرض ويعلمون أن اسم الرب عليكم وقد وسمتم به فيخافونكم ، ويزيدكم الرب خيراً ويبارك في ثمار أرضكم ، يفتح الله ربكم أهراء السماء ويهبط المطر على أهله في زمانه ، وتتسلطون على شعوب كثيرة ولا يتسلط عليكم أحد ، ويصيركم الرب رأساً ولا يصيركم ذنباً ، وتصيرون فوق ولا تصيرون أسفل إذا عملتم بجميع وصايا الله ربكم ولم تروغوا عنها يمنة ولا يسرة ، ولا تتبعوا الشعوب ولا تعبدوا آلهتها ، وإن أنتم لم تسمعوا قول الله ربكم ولم تحفظوا ولم تعملوا بجميع سننه ووصاياه التي آمركم بها اليوم ، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص عليكم كله ، ويدرككم العقاب ، وتكونون ملعونين في القرية - إلى آخر اللعن الذي تقدم قريباً ، وقال في الثالث : إذا سلكتم بسنتي وحفظتم وصاياي وعملتم بها ، أديم أمطاركم في وقتها ، وتبذل الأرض لكم غلاتها ، وتبذل لكم الشجر ثمارها ، ويدرك الدراس القطاف ، والقطاف يدرك الزرع ، وتأكلون خبزاً وتشبعون وتسكنون أرضكم مطمئنين ، ولا يكون من يخرجكم ، وأصرف عن أرضكم السباع الضارية ، وتطردون أعداءكم ، الخمسة منكم يهزمون مائة ، والمائة منكم يهزمون عشرة آلاف ، وتقع أعداؤكم قتلى بين أيديكم في الحرب ، وأقبل إليكم وأكثركم وأديم مقدسي بينكم ولا أدبر عنكم ، بل أكون معكم وأسير بينكم ، وإن لم تطيعوني وتسمعوا قولي ولم تعملوا بهذه الوصايا وأبطلتم عهودي ، أنا أيضاً أصنع بكم مثل صنيعكم ، وآمر بكم البلايا والبرص والبهق المقشر الذي لا يبرأ ، والسل الذي يطفىء البصر ويهلك النفس ، ويكون تعبكم في الزرع باطلاً ، وذلك لأن أعداءكم يأكلون ما تزرعون ، وأنزل بكم غضبي ، ويهزمكم أعداؤكم ، ويتسلط عليكم شنّاؤكم ، وتنهزمون من غير أن يهزمكم أحد ، وأصيّر السماء فوقكم مثل الحديد ، والأرض تحتكم مثل النحاس ، ولا تغل لكم أرضكم غلاتها ، ولا تثمر الشجر ثمارها ، وأرسل عليكم السباع الضارية فتلهككم وتهلك بهائمكم ، ويستوحش الطرق منكم ، وأسلط عليكم الموت وأدفعكم إلى أعدائكم ، وتأكلون ولا تشبعون ، وتصيروا إلى ضيق حتى تأكلوا لحوم بناتكم ، وأخرب منازلكم ، وأفرقكم بين الأمم ، وتخرب قراكم ، فحينئذ تهوى الأرض أسباتها ، وتسبت كل أيام وحشتها ما لم تسبت حيث كنتم فيها عصاة لا تسبتون ، والذين يبقون منكم ألقي في قلوبهم فزعة ، ويطردهم صوت ورقة تحرك ، ويهربون من صوت الورقة كما يهربون من السيف ، ويعنفون بإثمهم ويعاقبون بإثم آبائهم ، ومن بعد ذلك تنكسر قلوبهم الغلف .
ولما كان ما مضى من ذمهم ربما أفهم أنه لكلهم ، قال مستأنفاً جواباً لمن يسأل عن ذلك : { منهم } أي أهل الكتاب { أمة } أي جماعة هي جديرة بأن تقصد { مقتصدة } أي مجتهدة في العدل لا غلو ولا تقصير ، وهم الذين هداهم الله للإسلام بحسن تحريهم واجتهادهم { وكثير منهم } أي بني إسرائيل { سآء ما يعملون * } أي ما أسوأ فعلهم الذي هم فيه مستمرون على تجديده ، ففيه معنى التعجيب ، والتعبيرُ بالعمل لأنهم يزعمون أنه لا يصدر منهم إلا عن علم ، وهم الذين حرفوا الكلم عن مواضعه ، وارتكبوا العظائم في عداوة الله ورسوله .
ولما أتم ذلك سبحانه وعلم منه أن من أريدت سعادته يؤمن ولا بد ، ومن أريدت شقاوته لا يؤمن أصلاً ، ومن أقام ما أنزل عليه سعد ، ومن كفر بشيء منه شقي ، وكان ذلك ربما فتر عن الإبلاغ ، قرن بقوله تعالى { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] قولَه حاثاً على الإبلاغ لإسعاد من أريد للسعادة ، وهم الأمة المقتصدة منهم وإن كانوا قليلاً ، وكذا إبلاغ جميع من عداهم : { يا أيها الرسول } أي الذي موضوع أمره البلاغ { بلغ } أي أوصل إلى من أرسلت إليهم { ما أنزل إليك } أي كله { من ربك } أي المحسن إليك بإنزاله غير مراقب أحداً ، ولا خائف شيئاً ، لتعلم ما لم تكن تعلم ، ويهدي على يدك من أراد الله هدايته ، فيكون لك مثل أجره .
ولما كان إبلاغ ما يخالف الأهواء من الشدة على النفوس بمكان لا يعلمه إلا ذوو الهمم العالية والأخلاق الزاكية ، كان المقام شديد الاقتضاء لتأكيد الحث على الإبلاغ ، فدل على ذلك بالاعتراض بين الحال والعامل فيها ، بالتعبير بالفعل الدال على داعية هي الردع بأن قال : { وإن لم تفعل } أي وإن لم تبلغ جميع ذلك ، أو إن لم تعمل به { فما بلغت رسالته } لأن من المعلوم أن ما تقع على كل جزء مما أنزل ، فلو ترك منه حرف واحد صدق نفي البلاغ لما أنزل ، ولأن بعضها ليس بأولى بالإبلاغ من بعض ، فمن أغفل شيئاً منها فكأنه أغفل الكل ، كما أن من لم يؤمن ببعضها لم يؤمن بكلها ، لإدلاء كل منها بما يدليه الآخر ، فكانت لذلك في حكم شيء واحد ، والمعنى : فلنجازينك ، ولكنه كنى بالسبب عن المسبب إجلالاً له صلى الله عليه وسلم وإفادة لأن المؤاخذة تقع على الكل ، لأنه ينتفي بانتفاء الجزء .
ولما تقدم أنهم يسعرون الحروب ، ويسعون في إيقاع أشد الكروب ، وكان ذلك - وإن وعد سبحانه بإخماده عند إيقاده - لا يمنع من تجويز أنه لا يخمد إلا بعد قتل ناس وجراح آخرين ، وكان كأنه قيل : إذا بلغ ذلك وهو ينقّص أديانهم خيف عليه ، قال : { والله } أي بلغ أنت والحال أن الذي أمرك بذلك وهو الملك الأعلى الذي لا كفوء له { يعصمك } أي يمنعك منعاً تاماً { من الناس } أي من أن يقتلوك قبل إتمام البلاغ وظهور الدين ، فلا مانع من إبلاغ شيء منها لأحد من الناس كائناً من كان .
ولما آذن ضمان العصمة بالمخالفة المؤذنة بأن فيهم من لا ينفعه البلاغ فهو لا يؤمن ، فلا يزال يبغي الغوائل . أقر على هذا الفهم بتعليل عدم الإيمان بقوله : { إن الله } أي الذي لا أمر لغيره { لا يهدي القوم الكافرين } أي المطبوع على قلوبهم في علم الله مطابقة لقوله { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } [ المائدة : 41 ] ويهدي المؤمنين في علمه المشار إليهم في قوله { ويغفر لمن يشاء } والحاصل أنه تبين من الآية الإرشاد إلى أن لترك البلاغ سببين : أحدهما خوف فوات النفس ، والآخر خوف فوات ثمرة الدعاء ، فنفي الأول بضمان العصمة ، والثاني بختام الآية ، أي ليس عليك إلاّ البلاغ ، فلا يحزنك من لا يقبل ، فليس إعراضه لقصور في إبلاغك ولا حظك ، بل لقصور إدراكه وحظه لأن الله حتم بكفره وختم على قلبه لما علم من فساد طبعه ، والله لا يهدي مثله ، وتلخيصه : بلغ ، فمن أجابك ممن أشير إليه - فيما سلف من غير الكثير الذين يزيدهم ما أنزل إليك عمى على عماهم ومن الأمة المقتصدة وغيرهم - فهو حظه في الدنيا والآخرة ، ومن أبى فلا يحزنك أمره ، لأن الله هو الذي أراد ضلاله . فالتقدير : بلغ ، فليس عليك إلاّ البلاغ ، وإلى الله الهدى والضلال ، إن الله لا يهدي القوم الكافرين ويهدي القوم المؤمنين ، أو فإذا بلغت هدى بك ربُك من أراد إيمانه ، ليكتب لك مثل أجرهم ، وأضل من شاء كفرانه ، ولا يكون عليك شيء من وزرهم ، إن الله لا يهدي القوم الكافرين ، والمعنى كما تقدم : يعصمك من أن ينالوك بما يمنعك من الإبلاغ حتى يتم دينك ويظهر على الدين كله كما وعدتك ، وعلى مثل هذا دل كلام إمامنا الشافعي رحمه الله ، قال في الجزء الثالث من الأم : ويقال - والله أعلم : إن أول ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم
{ اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين ، فمرت لذلك مدة ، ثم يقال : أتاه جبريل عليه السلام عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم إلى الإيمان . فكبر ذلك عليه وخاف التكذيب وأن يُتَناول ، فنزل عليه { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالتك والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] : من قبلهم أن يقتلوك حتى تبلغ ما أنزل إليك - انتهى . ولقد وفى سبحانه بما ضمن ومن أوفى منه وعداً وأصدق قيلاً! فلما أتم الدين وأرغم أنوف المشركين ، أنفذ فيه السم الذي تناوله بخيبر قبل سنين فتوفاه شهيداً كما أحياه سعيداً؛ روى الشيخان : البخاري في الهبة ، ومسلم في الطب ، وأبو داود في الديات عن أنس بن مالك رضي الله عنه « أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت : أردت لأقتلك ، فقال : ما كان الله ليسلطك على ذلك - أو قال : عليّ - فقالوا : ألا تقتلها؟ قال : لا ، فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم » قال أبو داود : هي أخت مرحب اليهودي قال الحافظ عبد العظيم المنذري في مختصر سنن أبو داود : وذكره غيره أنها بنت أخي مرحب أن اسمها زينب بنت الحارث ، وذكر الزهري أنها أسلمت ، ولأبي داود والدارمي - وهذا لفظه - عن أبي سلمة - وهو ابن عبد الرحمن بن عوف - قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة ، فأهدت له امرأة من يهود خيبر شاة مصلية فتناول منها ، وتناول منها بشر بن البراء ، ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم يده ثم قال : إن هذه تخبرني أنها مسمومة ، فمات بشر بن البراء رضي الله عنه ، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما حملك على ما صنعت؟ فقالت : إن كنت نبياً لم يضرك شيء ، وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك ، قال أبو داود : فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت . زاد الدارمي : فقال في مرضه : ما زلت من الأكلة التي أكلت بخيبر ، فهذا أوان انقطاع أبهري » وهذا مرسل . قال البيهقي : ورويناه عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال البيهقي : ويحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء ، ثم لما مات بشر أمر بقتلها . وقصة هذه الشاة عن أبي هريرة رواها البخاري في الجزية والمغازي والطب ، والدارمي في أول المسند بغير هذا السياق - كما مضى في البقرة في قوله تعالى
{ وقالوا لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] وقد مضى في أول هذه السورة عند قوله { فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين } [ المائدة : 13 ] شيء منه . ولأبي داود والدارمي عن ابن شهاب قال : « كان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها ، وأكل رهط من أصحابه معه ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفعوا أيديكم ، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فدعاها ، فقال لها : أسممت هذه الشاة؟ قالت اليهودية من أخبرك؟ قال : أخبرتني هذه في يدي - للذراع ، قالت : نعم ، قال : فما أردت؟ قالت : قلت : إن كان نبياً فلن يضره ، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه ، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها ، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة ، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة ، حجمه أو هند بالقرن والشفرة ، وهو مولى لبني بياضة من الأنصار » قال الدارمي : وهو من بني ثمامة - وهم حي من الأنصار ، قال المنذري : وهذا منقطع ، الزهري لم يسمع من جابر بن عبد الله ، وفي غزوة خيبر من تهذيب السيرة لابن هشام : « فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارثة امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية وقد سألت : أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها من السم ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما بشر فأساغها ، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ، ثم قال : إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ، ثم دعاها فاعترفت ، فقال : ما حملك على ذلك؟ قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان ملكاً استرحت منه ، وإن كان نبياً فسيخبر ، فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومات بْشر من أكلته التي أكل » وذكر موسى بن عقبة أن بشراً رضي الله عنه لم يسغ لقمته حتى أساغ النبي صلى الله عليه وسلم لقمته وقال بعد أن أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم : والذي أكرمك! لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت ، فما منعني أن ألفظها إلاّ أني أعظمت أن أنغصك طعامك ، فلما أسغت ما في فيك لم أكن لأرغب بنفسي عن نفسك .
ونقلتُ من خط شيخنا حافظ عصره أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر الكناني الشافعي ما نصه : وأخرج الحافظ أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور ، وأبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في معجمه الكبير من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل من هدية حتى يأمر صاحبها أن يأكل منها للشاة التي أهديت له بخيبر » . قال شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيثمي : رجاله ثقات ، قلت : وذكر محمد بن إسحاق في السيرة الكبرى وكذلك الواقدي في المغازي - انتهى . وقال ابن إسحاق : وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي توفي فيه ودخلت عليه أم بشر بنت البراء بن معرور تعوده : يا أم بشر! إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر » ، قال : فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة . ولابن ماجه في الطب عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : لا يزال ، يصيبك في كل عام وجع من الشاة المسمومة التي أكلت ، قال : ما أصابني شيء منها إلاّ وهو مكتوب عليَّ وآدم في طينته « وللبخاري في آخر المغازي عن عائشة رضي الله عنها » أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه الذي مات فيه : يا عائشة! ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم « قال ابن فارس في المجمل : الأبهر عرق مستبطن الصلب ، والقلب متصل به ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : » هذا أوان قطعت أبهري « وعبارة المحكم : عرق في الظهر ، يقال : هو الوريد في العنق ، وبعضهم يجعله عرقاً مستبطن الصلب وقال ثابت بن عبد العزيز في كتاب خلق الإنسان : وفي الصلب الوتين ، وهو عرق أبيض غليظ كأنه قصبة ، وفي الصلب الأبهر والأبيض وهما عرقان ، وقال الزبيدي في مختصر العين : والأبهران عرقان مكتنفاً الصلب ، وقيل : هما الأكحلان . وقال الفيروزآبادي في قاموسه : والأبهر : الظهر وعرق فيه ووريد العنق والأكحل والكلية ، والوتين : عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه . وقال ابن الفرات في الوفاة من السيرة من تاريخه : قال الحربي : العرق في الظهر يسمى الأبهر ، وفي اليد الأكحل ، وفي العنق الوريد ، وفي الفخذ النسا ، وفي الساق الأبجل ، وفي العين الشأن ، وهو عرق واحد ، كله يسمى الجدول . وقال ابن كيسان أيضاً : هو الوتين في القلب والصافن .
وقال الإمام أبو غالب بن التياني الأندلسي في كتابه الموعب : إسماعيل بو حاتم : الأبهر عرق في الظهر ، وقال : هو الوريد في العنق ، ثم يقال : والأبهر عرق مستبطن المتن؛ الأصمعي : وفي الصلب الأبهر وهو عرق؛ صاحب العين : الأبهران الأكحلان ، ويقال : هما عرقان مكتنفا الصلب من جانبيه . وقال صلى الله عليه وسلم : « ما زالت أكلة خيبر تعادّني كل عام فالآن حين قطعت أبهري » يعني عرقي ، ويقال : الأبهر عرق مستبطن الصلب ، وإذا انقطع فلا حياة بعده . وهذا اللفظ الذي ذكره رواه البخاري والطبراني عن عائشة رضي الله عنها . ومعنى تعادّني : تناظرني وتخالفني ، ومن العديد بمعنى الند الذي هو المثل المضاد والمنافر ، أي إني كلما زدت في جسمي صحة ، نقصته بما لها من الضر والأذى .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
ولما أمر سبحانه بالتبليغ العام ، أمره بنوع منه على وجه يؤكد ما ختمت به آية التبليغ من عدم الهداية لمن حتم بكفره ، ويبطل - مع تأكيده - هذه الدعوى : قولهم : نحن أبناء الله وأحباءه ، فقال مرهباً لهم بعد ما تقدم من الترغيب في إقامته : { قل يا أهل الكتاب } أي من اليهود والنصارى { لستم على شيء } أي سارّ أو يعتد به من دنيا ولا آخرة ، لأنه لعدم نفعه لبطلانه لا يسمى شيئاً أصلاً { حتى تقيموا } أي بالعمل بالقلب والقالب { التوراة والإنجيل } وما فيهما من الإيمان بعيسى ثم بمحمد عليهما الصلاة والسلام بالإشارة إلى كل منهما بالخصوص بنحو ما تقدم في الإشراق من ساعير والظهور ممن فاران ، وبالإشارة بالعموم إلى تصديق كل من أتى بالمعجز ، وصدق ما قبله من منهاج الرسل { وما أنزل } .
ولما كان ما عندهم إنما أوتي إليهم بواسطة الأنبياء ، عداه بحرف الغاية فقال : { إليكم من ربكم } أي المحسن إليكم بإنزاله على ألسنة أنبيائكم من البشارة بهما ، وعلى لسان هذا النبي العربي الكريم مما يصدق ما قبله ، فإنهم يعلمون ذلك ولكنهم يجحدونه .
ولما كان السياق لأن أكثرهم هالك ، صرح به دالاً بالعطف على غير معطوف عليه أن التقدير : فليؤمنن به من أراد الله منهم ، فقال : { وليزيدن كثيراً منهم } أي ما عندهم من الكفر بما في كتابهم { مآ أنزل إليك من ربك } المحسن إليك بإنزاله { طغياناً } تجاوزاً شديداً للحد { وكفراً } أي ستراً لما دل عليه العقل .
ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الشفقة على خلق الله ، سلاّه في ذلك بقوله : { فلا } أي فتسبب عن إعلام الله لك بذلك قبل وقوعه ثم عن وقوعه كما أخبر أن تعلم أنه بإرادته وقدرته ، فقال لك : لا { تأس } أي تحزن { على القوم الكافرين } أي على فوات العريقين في الكفر لأنهم لم يضروا إلاّ أنفسهم لأن ربك العليم القدير لو علم فيهم خيراً لأقبل بهم إليك ، والحاصل أنه ختم هذه الآية بمعلول الآية التي قبلها ، فكأنه قبل : بلغ ، فإن الله هو الهادي المضل ، فلا تحزن على من أدبر .
ولما كان ما مضى في هذه السورة غالباً في فضائح أهل الكتاب لا سيما اليهود وبيان أنهم عضوا على الكفر ، ومردوا على الجحد ، وتمرنوا على البهت ، وعتوا عن أوامر الله ، كان ذلك موجباً لأنه ربما حدث في الخاطر أنه إن آمن منهم أحد ما يقبل ، أو لأن يقولوا هم : ليس في دعائنا حينئذ فائدة فلا تدعنا ، أخبر أن الباب مفتوح لهم ولغيرهم من جميع أهل الملل ، وأنه ليس بين الإنسان وبين أن يكون من أهله إلا عدم الإخلاص ، فإذا أخلص أذن في دخوله ونودي بقبوله ، أو يقال - وهو أحسن : لما أخبر عن كثير منهم بالزيادة في الكفر ، رغب القسم الآخر على وجه يعم غيرهم ، أو يقال : إنه لما طال الكلام معهم .
كان ربما ظن أن الأمر ترغيباً وترهيباً وأمراً ونهياً خاص بهم ، فوقع الإعلام بأنهم وغيرهم من جميع الفرق في ذلك سواء ، تشريفاً لمقدار هذا النبي الكريم بعموم الدعوة وإحاطة الرسالة فقال سبحانه : { إن الذين آمنوا } أي قالوا : آمنا { والذين هادوا } أي اليهود { والصابئون } أي القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية { والنصارى } أي الذين يدعون اتباع المسيح عليه السلام .
ولما كان اليهود قد عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم في استنزال الروحانيات انهماكاً في السحر الذي جاء نبيهم موسى عليهم السلام بإبطاله ، وكان ذلك هو معنى دين الصابئة ، وفرّق بين فريقي بني إسرائيل بهم مكتفياً بهم عن ذكر بقية المشركين لما مضى في البقرة ، ولما سبق في هذه السورة من ذم اليهود بالنقض للميثاق والكفر واللعن والقسوة وتكرر الخيانة وإخفاء الكتاب والمسارعة في الكفر والنفاق والتخصيص بالكفر والظلم والفسق وغير ذلك من الطامات ما يسد الأسماع ، كان قبول توبتهم جديراً بالإنكار ، وكانوا هم ينكرون عناداً فلاح العرب من آمن منهم ومن لم يؤمن ، فاقتضى الحال كون الفريقين في حيز التأكيد ، ولم يتقدم للصابئة ذكر هنا فأخرجوا منه تنبيهاً على أن المقام لا يقتضيه لهم ، فابتدىء بذكرهم اعتراضاً ودل على الخبر عنهم بخبر « إن » ، أو أنه لما كان المقام للترغيب في التوبة ، وجعل هؤلاء مع شناعة حالهم بظهور ضلالهم كمن لا إنكار لقبول توبته ، كان غيرهم أولى بذلك ، ولما كان حال النصارى مشتبهاً ، جعلوا في حيز الاحتمال للعطف على اليهود لما تقدم من ذمهم ، وعلى الصابئة لخفة حالهم بأنهم مع أن أصل دينهم صحيح لم يبلغ ذمهم السابق في هذه السورة مبلغ ذم اليهود { من آمن } أي منهم مخلصاً من قلبه ، ولعله ترك الجار إعراقاً في التعميم { بالله } أي الذي له جميع الجلال والإكرام { واليوم الآخر } أي الذي يبعث فيه العباد بأرواحهم وأشباحهم ، ويبعث من ذكره على الزهادة وألحد في العبادة ، وبالإيمان به يحصل كمال المعرفة بالله تعالى باعتقاد كمال قدرته { وعمل صالحاً } أي صدق إيمانه القلبي بالعمل بما أمر به ، ليجمع بين فضيلتي العلم والعمل ، ويتطابق الجنان مع الأركان { فلا خوف عليهم } يعتد به في دنيا ولا في آخرة { ولا هم } أي خاصة { يحزنون * } أي على شيء فات ، لأنه لا يفوتهم شيء يؤسف عليه أصلاً ، وأما غيرهم فهم في الحزن أبداً ، وفي الآية تكذيب لهم في قولهم { ليس علينا في الأميين سبيل } [ آل عمران : 75 ] المشار إليه في هذه السورة بنسبتهم إلى أكل السحت في غير موضع ، وفي نصوص التوراة الموجودة بين أظهرهم الآن أعظم ناصح لهم في ذلك كما سبق في أوائل البقرة ، وقال في السفر الرابع منها عند ذكر التيه ووصاياهم إذ أدخلهم الأرض المقدسة ، ومكنهم فيها بأشياء منها القربان : وإن سكن بينكم رجل غريب يقبل إليّ أو بين أولادكم لأحقابكم ويقرب قرباناً لريح قتار الذبيحة للرب يفعل كما فعلتم أنتم ، ولتكن السنة واحدة لكم وللذين يقبلون إليّ ويسكنون بينكم سنة جارية لأحقابكم إلى الأبد ، والذين يقبلون إليّ من الغرباء يكونون أمام الرب مثلكم ، ولتكن لكم سنة واحدة وحكومة واحدة لكم وللذين يقبلون إليّ ويسكنون معكم .
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
ولما كانت هذه البشارة - الصادقة من العزيز العليم الذي أهل الكتاب أعرف الناس به لمن آمن كائناً من كان - موجبة للدخول في الإيمان والتعجب ممن لم يسارع إليه ، وكان أكثر أهل الكتاب إنما يسارعون في الكفر ، كان الحال مقتضياً لتذكر ما مضى من قوله تعالى { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً } [ المائدة : 12 ] وزيادة العجب منهم مع ذلك ، فأعاد سبحانه الإخبار به مؤكداً له تحقيقاً لأمره وتفخيماً لشأنه ، وساقه على وجه يرد دعوى البنوى والمحبة ، ملتفتاً مع التذكير بأول قصصهم في هذه السورة إلى أول السورة { أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] وعبر في موضع الجلالة بنون العظمة ، وجعل بدل النقباء الرسل فقال مستأنفاً : { لقد أخذنا } أي على ما لنا من العظمة { ميثاق بني إسرائيل } أي على الإيمان بالله ثم بمن يأتي بالمعجز مصدقاً لما عنده بحيث يقوم الدليل على أنه من رسل الله الذين تقدم أخذ العهد عليهم بالإيمان بهم ، ودل على عظمة الرسل بقوله في مظهر العظمة : { وأرسلنا إليهم رسلاً } أي لم نكتف بهذا العهد ، بل لم نخلهم من بعد موسى من الرسل الذين يرونهم الآيات ويجددون لهم أوامر الرب إلى زمن عيسى عليه السلام ، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه - البخاري في بني إسرائيل ومسلم في المغازي - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء فيكثرون ، قالوا : فما تأمرنا؟ قال : فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم » انتهى . ومع ذلك فلم يخل لهم زمان طويل من الكفر لا في زمن موسى ولا في زمن من بعده من الأنبياء عليهم السلام ، حتى قتلوا كثيراً من الرسل وهو معنى قوله - جواباً لمن كأنه قال : ما فعلوا بالرسل : { كلما جاءهم رسول } أي من أولئك الرسل أي رسول كان { بما لا تهوى أنفسهم } أي بشيء لا تحبه نفوسهم محبة تتساقط بها إليه ، خالفوه ، فكأنه قيل : أي مخالفة؟ فقيل : { فريقاً } أي من الرسل { كذبوا } أي كذبهم بنو إسرائيل من غير قتل ، ودل على شدة بشاعة القتل وعظيم شناعته بالتعبير بالمضارع تصويراً للحال الماضية وتنبيهاً على أن هذا ديدنهم وهو أشد من التكذيب فقال : { وفريقاً يقتلون * } أي مع التكذيب وليدل على ما وقع منهم في سم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقدم المفعول للدلالة على انحصار أمرهم في حال التكذيب والقتل ، فلا حظ لهم في تصديق مخالف لأهوتيهم { وحسبوا } أي لقلة عقولهم مع مباشرتهم لهذه العظائم التي ليس بعدها شيء { ألاّ تكون } أي توجد { فتنة } أي أنه لا يصيبهم بها عذاب في الدنيا ولا خزي في الأخرى ، بل استحقوا بأمرها ، فلا تعجب أنت من جرأتهم في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقرىء : تكون - بالرفع تنزيلاً للحسبان منزلة العلم فتكون مخففة من الثقيلة التي للتحقيق ، وبالنصب كان الحسبان على بابه ، وأن ، على بابها خفيفة ناصبه للفعل ، لأن القاعدة - كما ذكر الواحدي - أن الأفعال على ثلاثة أضرب : فعل للثبات والاستقرار كالعلم والتيقن والبيان ، تفع بعده الثقيلة دون الخفيفة ، وفعل للزلزلة والاضطراب كالطمع والخوف والرجاء ، فلا يكون بعده إلا الخفيفة الناصبة للمضارع ، وفعل يقع على وجهين كحسب : تارة تكون بمعنى طمع فتنصب ، وتارة بمعنى علم فترفع ، فإن رفع هنا كان الحسبان بمعنى العلم عندهم لقوة عنادهم ، وإن نصب كان بمعنى الطمع لأنهم عالمون بأن قتلهم لهم خطأ ، فتنزل القراءتان على فريقين - والله أعلم ، وأيضاً فقراءة الرفع تفيد تأكيد حسبانهم المفيد لعدم خوفهم بزيادة عماهم { فعموا } أي فتسبب عن إدلالهم إدلال الولد والمحبوب جهلاً منهم وحماقة بظنهم أنهم لا تنالهم فتنة أنهم وُجِد عماهم العمى الذي لا عمى في الحقيقة سواه ، وهو انطماس البصائر
{ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [ الحج : 46 ] حتى في زمن موسى عليه السلام { وصموا } أي بعده وبعد يوشع عليهما السلام ، لأن الصمم أضر من العمى ، فصاروا كمن لا يهتدي إلى سبيل أصلاً ، لأنه لا بصر له بعين ولا قلب ولا سمع { ثم تاب الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال { عليهم } أي فرجعوا إلى الحق وتكرر لهم ذلك { ثم عموا } أي في زمن المسيح عليه السلام { وصموا } أي بعده .
ولما كان الإتيان بالضمير مفهماً لأن ذلك عمهم كلهم ، أعلم سبحانه أن ذلك ليس كذلك بقوله : { كثير منهم } إلا أن سوقه للعبارة هذا المساق يدل على أن من لم يكفر منهم كان مزلزلاً غير راسخ القدم في الهدى - والله أعلم ، وربما دل عليه قوله : { والله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { بصير بما يعملون * } أي وإن دق وإن كانوا يظنون أنهم أسسوا عملهم على علم ، وقد مضى في قوله « من لعنه الله وغضب عليه » ما يشهد لهذا من عبادتهم بعلا الصنم وغيره من الأصنام مرة بعد مرة .
ولما أخبر تعالى بفساد أعمالهم ، دل على ذلك بقوله مستفتحاً مبيناً من حال النصارى ما بين من حال اليهود ، ومؤكداً لختم آية التبليغ بما ينقض دعواهم في البنوة والمحبة : { لقد كفر } أي ستر ما دل عليه النقل وهدى إليه العقل { الذين قالوا إن الله } أي على ما له من نعوت الجلال والجمال { هو المسيح } فبين بصيغة فعيل - التي لا مانع من أن تكون للمفعول - بُعْدَه عما ادعوه فيه ، ثم أوضح ذلك بقوله : { ابن مريم } أيضاحاً لا خفاء معه .
ولما كانت دعوى الاتحاد الذي هو قول اليعقوبية أشد في الكفر وأنفى للإله من دعوى التثليث الذي هو قول النسطورية والملكية القائلين بالأقانيم ، قدمها وبين تعالى أنهم خالفوا فيها أمر المسيح الذي ادعوا أنه الإله فقال : { وقال } أي قالوا هذا الذي كفروا به والحال أنه قال لهم { المسيح } ضغطه عليهم ودعاء إلى ما هو الحق { يا بني إسرائيل } أي الذي كان يتشرف بعبادة الله وتسميته بأنه عبده { اعبدوا الله } أي الملك الأعظم الذي كل شيء تحت قهره ، فأمرهم بأداء الحق لأهله مذكراً لهم بعظمته ، ثم ذكرهم بإحسانه وأنه وإياهم في ذلك شرع واحد ، فقال مقدماً لما يتعلق به لأنه أهم لإنكارهم له { ربي وربكم } فلم يطيعوا الإله الحق ولا الذي ادعوه إلهاً ، فلا أضل منهم ولا أسفه ، قال أبو حيان في النهر : وهذا الذي ذكره الله تعالى عنه هو مذكور في إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به ، وهو قول المسيح : يا معشر بني المعمودية - وفي رواية : يا معشر الشعوب - قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلى إلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم - انتهى . وقد أسلفت أنا في آل عمران وغيرها عن الإنجيل كثيراً من شواهد ذلك ، ويأتي في هذه السورة وغيرها كثير منه .
ولما أمرهم بما يفهم منه الإخلاص لله تعالى في العبادة لما ذكر من جلاله وأن ما سواه مربوب ، ولأنه أغنى الأغنياء ، فمن أشرك به شيئاً لم يعتد له بعبادة ، علل ذلك بقوله : { إنه من يشرك } أي الآن أو بعد الآن في زمن من الأزمان { بالله } أي الذي تفرد بالجلال في عبادة أو فيما هو مختص به من صفة أو فعل { فقد حرم الله } أي الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه { عليه الجنة } أي منعه من دخولها منعاً عظيماً متحتماً .
ولما كان المنع من دار السعداء مفهماً لكونه في دار الأشقياء ، صرح به فقال : { ومأواه } أي محل سكناه { النار } ولما جرت عادة الدنيا بأن من نزل به ضيم يسعى في الخلاص منه بأنصاره وأعوانه ، نفى ذلك سبحانه مظهراً للوصف المقتضي لشقائهم تعليلاً وتعميماً فقال : { وما للظالمين } أي لهم لظلمهم { من أنصار * } لا بفداء ولا بشفاعة ولا مقاهرة بمجاهرة ولا مساترة ، لأن من وضع عمله في غير موضعه فكان ماشياً في الظلام ، لا تمكنه أصلاً مقاومة من هو في أتم ضياء ، وهذا على التهديد على الكفر فلا يصح أن يكون على مطلق المعصية ولو كانت كبيرة ، فبطل قول المعتزلة .
ولما انقضى هذا النقض ، وقدمه لأنه كما مضى أشد ، أتبعه إبطال دعوى التثليث بقوله مبدلاً من تلك النتيجة نتيجة أخرى : { لقد كفر الذين قالوا } بجرأة على الكلام المتناقض وعدم حياء { إن الله } أي على ما له من العظمة التي منها الغنى المطلق { ثالث } أي واحد { ثلاثة } أي كلهم آلهة ، وأما القائل بأنه ثالث بالعلم فلا يكفر .
ولما أعلم بكفرهم ، أشار إلى إبطاله كما أشار إلى إبطال الأول كما سلف بما لا يخفى على أحد ، تحقيقاً لتلبسهم بمعنى الكفر الذي هو ستر ما هو ظاهر فقال : { وما } وأغرق في النفي كما هو الحق واقتضاه المقام فقال : { من إله إلا إله واحد } أي قالوا ذلك والحال أنه لا يصح ولا يتصور في العقل أن يكون الإله متعدداً لا تحقيقاً ولا تقديراً بوجه من الوجوه ، لا يكون إلا واحداً بكل اعتبار ، وهو الله تعالى لا غيره ، وقد بين عيسى عليه السلام في الإنجيل الذي بين أظهرهم أنه لا يصح أن يكون الإله إلا واحداً - بالمعتمد من أدلة ذلك عند محققي أهل الأصول وهو برهان التمانع المشار إليه في كتابنا بقوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] فقال مترجمهم في إنجيل متى : حينئذ أتى إليه - أي عيسى عليه لاسلام - بأعمى أخرس له شيطان ، فأبرأه حتى أنه تكلم وأبصر ، فبهت الجمع كلهم وقالوا : لعل هذا هو ابن داود! فسمع الفريسيون فقالوا : هذا لا يخرج الشياطين إلا بباعل زبول رئيس الشياطين ، فلما علم مكرهم قال لهم : كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب ، وكل مدينة أو بيت ينقسم لا يثبت ، فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم فكيف يقوم ملكه؟ فإن كنت أنا أخرج الشياطين بباعل زبول فأبناؤكم بما تخرجونهم! من أجل هذا هم يكونون عليكم ، وإن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد قربت منكم ملكوت الله ، وكيف يستطيع حد أن يدخل بيت القوي ويخطف متاعه إلا أن يربط القوي أولاً ، حينئذ ينهب بيته . وقال مرقس : وأما الكتبة الذين أتوا من يروشليم فقالا : إن بعل زبول معه ، وباركون الشياطين يخرج الشياطين؛ فدعاهم وقال لهم : كيف يقدر شيطان أن يخرج شيطاناً! وكل مملكة تنقسم لا تثبت تلك المملكة ، فإذا اختلف أهل البيت لا يثبت ذلك البيت ، وإن كان الشيطان الذي يقاوم بقيته وينقسم فلن يقدر أن يثبت ، لكن له انقضاء ، لا يقدر أحد أن يدخل بيت القوي وينتهب بيته إلا أن يربطه أولاً وينتهب متاعه الحق أقول لكم! إن كل شيء يغفر لبني الناس من الخطايا والتجديف الذي يجدفونه ، والمجدفين على روح القدس ليس يغفر لهم إلى لأبد ، بل يحل بهم العقاب الدائم ، لأنهم يقولون : إن معه روحاً نجساً . قال متى : من ليس معي فهو عليّ ، ومن لا يجمع معي فهو يفرق ، من أجل هذا أقول لكم : إن كل خطيئة وتجديف يترك للناس ، والتجديف على روح القدس لا يترك ، ومن يقل كلمة على ابن الإنسان يترك له ، والذي يقول على روح القدس لا يترك له في هذا الدهر ولا في الآتي ، إما أن تصيروا الشجرة الجيدة وثمرتها جيدة ، وإما أن تصيروا الشجرة الرديئة وثمرتها رديئة ، لأن من الثمرة تعرف الشجرة ، يا أولاد الأفاعي! كيف تقدرون أن تتكلموا بالصلاح وأنتم أشرار! إنما يتكلم الفم من فضل ما في القلب ، الرجل الصالح من كنزه الصالح يخرج الصلاح ، والرجل الشرير من كنزه الشرير يخرج الشر ، أقول لكم : إن كل كلمة يتكلم بها الناس بطالة يعطون عنها جواباً في يوم الدين ، لأنك من كلامك تبرّر ، ومن كلامك يحكم عليك .
وفي إنجيل لوقا : وفيما هو يتكلم إذا رفعت امرأة من الجمع صوتها وقالت : طوبى لبطن التي حملتك ، ولثدي التي أرضعتك ، فقال لها : مهلاً! طوبى لمن يسمع كلام الله ويحفظه - انتهى . حينئذ أجابه قوم من الكتبة والفريسين قائلين : نريد يا معلم أن ترينا آية أجابهم وقال لهم : الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطي آية إلا آية يونان النبي؛ قال لوقا : فكما كان في يونان آية لأهل نينوى ، كذلك يكون ابن الإنسان لهذا الجيل آية - انتهى . رجال نينوى يقومون في الحكم ويحاكمون هذا الجيل ، لأنهم تابوا بكريزة يونان - وقال لوقا : بإنذار يونان - وهاهنا أفضل من يونان ملكة التيمن تقوم في الحكم مع هذا الجيل وتحاكمه ، لأنها أتت من أقصى الأرض لتسمع من حكمة سليمان ، وههنا أفضل من سليمان ، إن الروح النجس إذا خرج من الإنسان يأتي أمكنة ليس فيها ماء ، يطلب راحة فلا يجد ، فيقول حينئذ : أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه ، فيأتي فيجد المكان فارغاً مكنوساً مزيناً ، فيذهب حينئذ ويأخذ معه سبعة أرواح أخر شراً منه ويأتي ويسكن هناك ، فتصير آخرة ذلك الإنسان شراً من أوليته ، وهكذا يكون لهذا الجيل الشرير - انتهى . والتجديف هو الكفر بالنعم ، ويونان : يونس عليه السلام ، والكريزة - بينها لوقا بأنها الإنذار ، والتيمن : اليمن ، والأركون - بضم الهمزة والكاف بينهما راء مهملة ساكنة : الكبير ، ويروشليم - بفتح التحتانية وضم المهملة ثم شين معجمة : بيت المقدس ، وباعل زبول - لا تصح أصلاً ، وأما الدليل على عدم شركة كل من عيسى وأمه عليهما السلام بخصوصهما فسيأتي تقريره بقوله تعالى { كانا يأكلان الطعام } [ المائدة : 75 ] والمراد من ذلك كله أنه متى دخلت الشركة أتى النقص فعلاً أو إمكاناً ، ومن اعترته شائبة نقص لم يصح كونه إلهاً .
ولما أخبر أنهم كفروا ، وأشار إلى نقض قولهم ، كان أنسب الأشياء بعده أن يعطف عليه ترهيبهم ثم ترغيبهم فقال تعالى : { وإن لم ينتهوا } أي الكفرة بجميع أصنافهم { عما يقولون } أي من هاتين المقالتين وما داناهما { ليمسن } أي مباشرة من غير حائل { الذين كفروا } أي داموا على الكفر ، وبشر سبحانه بأنه يتوب على بعضهم بقوله : { منهم عذاب أليم } .
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
ولما كان من شأن العاقل أنه لا يقدم على باطل ، فإن وقع ذلك منه وشعر بنوع ضرر يأتي بسببه بادر إلى الإقلاع عنه ، تسبب عن هذا الإنذار - بعد بيان العوار - الإنكارُ عليهم في عدم المبادرة إلى التوبة إيضاحاً لأن معنى كفروا : داموا عليه ، فقال : { أفلا يتوبون } أي يرجعون بعد هذا الكفر الذي لا أوضح من بطلانه ولا أبين من فساده والوعيد الشديد { إلى الله } أي المتصف بكل وصف جميل { ويستغفرونه } أي يطلبون منه غفران ما أقدموا عليه من العار البين العوار؛ ولما كان التقدير : فالله تواب حكيم ، عطف عليه قوله : { والله } ويجوز أن يكون التقدير : والحال أن المستجمع لصفات الكمال أزلاً وأبداً { غفور } أي بليغ المغفرة ، يمحو الذنوب فلا يعاقب عليها ولا يعاتب { رحيم * } أي بالغ الإكرام لمن أقبل إليه .
ولما أبطل الكفر كله بإثبات أفعاله من إرساله وإنزاله وغير ذلك من كماله ، وأثبت التوحيد على وجه عام ، أتبع ذلك تخصيص ما كفر به المخاطبون بالإبطال ، فكان ذلك دليلاً على وجه عام ، أتبع ذلك تخصيص ما كفر به المخاطبون بالإبطال فكان ذلك دليلاً خاصاً بعد دليل عام ، فقال تعالى على وجه الحصر في الرسلية رداً على من يعتقد فيه الإلهية واصفاً له بصفتين لا يكونان إلا لمصنوع مربوب : { ما المسيح } أي الممسوح بدهن القدس المطهر المولود لأمه { ابن مريم إلا رسول } وبين أنه ما كان بدعاً ممن كان قبله من إخوانه بقوله : { قد خلت من قبله الرسل } أي فما من خارقة له ، وإلا وقد كان مثلها أو أعجب منها لمن قبله كآدم عليه السلام في خلقه من تراب ، وموسى عليه السلام في قلب العصى حية تسعى - ونحو ذلك .
ولما كفروا بأمه أيضاً عليهما السلام بين ما هو الحق في أمرها فقال : { وأمه صدّيقة } أي بليغة الصدق في نفسها والتصديق لما ينبغي أن يصدق ، فرتبتها تلي رتبة الأنبياء ، ولذلك تكون من أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم في الجنة . وهذه الآية من أدلة من قال : إن مريم عليها السلام لم تكن نبية ، فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها في معرض الرد على من قال بإلهيتهما إشارة إلى بيان ما هو الحق في اعتقاد ما لهما من أعلى الصفات ، وأنه من رفع واحداً منها فرق ذلك فقد أطراه ، ومن نقصه عنه فقد ازدراه ، فالقصد العدل بين الإفراط والتفريط باعتقاد أن أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة ، وأكمل صفات أمه الصديقية .
ولما كان المقام مقام البيان عن نزولهما عن رتبة الإلهية ، ذكر أبعد الأوصاف منها فقال : { كانا يأكلان الطعام } وخص الأكل لأنه مع كونه ضعفاً لازماً ظاهراً هو أصل الحاجات المعترية للإنسان فهو تنبيه على غيره ، ومن الأمر الجلي أن الإله لا ينبغي أن يدنو إلى جنابه عجز أصلاً ، وقد اشتمل قوله تعالى { وقال المسيح } وقوله { كانا يأكلان الطعام } [ المائدة : 75 ] على أشرف أحوال الإنسان وأخسها ، فأشرفها عبادة الله ، وأخسها الاشتغال عنها بالأكل الذي هو مبدأ الحاجات .
ولما أوضح ما هو الحق في أمرهما حتى ظهر كالشمس بُعدُهما عما أدعوه فيهما ، أتبعه التعجب من تمام قدرته على إظهار الآيات وعلى الإضلال بعد ذلك البيان فقال : { انظر كيف نبين لهم الآيات } أي نوضح إيضاحاً شافياً العلامات التي من شأنها الهداية إلى الحق والمنع من الضلال؛ ولما كان العمى عن هذا البيان في غاية البعد ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : { ثم انظر أنَّى } أي كيف ومن أين؛ ولما كان العجب قبولهم للصرف وتأثرهم به ، لا كونه من صارف معين ، بنى للمفعول قوله : { يؤفكون * } أي يصرفون عن الحق وبيان الطريق صرفَ من لا نور له أصلاً من أي صارف كان ، فصرفهم في غاية السفول ، وبيان الآيات في غاية العلو ، فبينهما بون عظيم .
ولما نفى عنهما الصلاحية لرتبة الإلهية للذات ، أتبعها نفي ذلك من حيث الصفات ، فقال منكراً مصرحاً بالإعراض عنهم إشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً للإقبال عليهم : { قل } أي للنصارى أيها الرسول الأعظم { أتعبدون } ونبه على أن كل شيء دونه ، وأنهم اتخذوهم وسيلة إليه بقوله : { من دون الله } ونبه بإثبات الاسم الأعظم على أن له جميع الكمال ، وعبر عما عبدوه بأداة ما لا يعقل تنبيهاً على أنه سبحانه هو الذي أفاض عليه ما رفعه عن ذلك الحيز ، ولو شاء لسلبه عنه فقال : { ما لا يملك لكم ضراً } أي من نفسه فتخشوه { ولا نفعاً } أي فترجوه ، ليكون لكم نوع عذر أو شبهة ، ولا هو سميع يسمع كل ما يمكن سمعه بحيث يغيث المضطر إذا استغاث به في أي مكان كان ولا عليم يعلم كل ما يمكن علمه بحيث يعطي على حسب ذلك ، وكل ما يملك من ذلك فبتمليك الله له كما ملككم من ذلك ما شاء .
ولما نفى عنه ما ذكر تصريحاً وتلويحاً ، أثبته لنفسه المقدسة كذلك فقال : { والله } أي والحال أن الملك الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى والكمال كله { هو } أي خاصة { السميع العليم * } وهو وحده الضار النافع ، يسمع منكم هذا القول ويعلم هذا المعقد السيىء ، وإنما قرن بالسميع العليم ، دون البصير لإرادة التهديد لمن عبد غيره ، لأن العبادة قول أو فعل ، ومن الفعل ما محله القلب وهو الاعتقاد ، ولا يدرك بالبصر بل بالعلم ، والآية - كما ترى - من الاحتباك : دل بما أثبته لنفسه على سبيل القصر على نفيه في الجملة الأولى عن غيره ، وبما نفاه في الجملة الأولى عن غيره على إثباته له - والله الموفق .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
ولما قامت الأدلة على بطلان قول اليهود ثم على بطلان مدعى النصارى ، ولم يبق لأحد علة ، أمره صلى الله عليه وسلم أن ينهى الفريقين عن الغلو بالباطل في أمر عيسى عليه السلام : اليهود بإنزاله عن رتبته ، والنصارة برفعه عنها بقوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب } أي عامة { لا تغلوا } أي تجاوزوا الحد علواً ولا نزولاً { في دينكم } .
ولما كان الغلو ربما أطلق على شدة الفحص عن الحقائق واستنباط الخفي من الأحكام والدقائق من خبايا النصوص ، نفى ذلك بقوله : { غير الحق } وعرّفه ليفيد أن المبالغة في الحق غير منهي عنها ، وإنما المنهي عنه تجاوز دائرة الحق بكمالها ، ولو نكر لكان من جاوز حقاً إلى غيره واقعاً في النهي ، كما جاوز الاجتهاد في الصلاة النافلة إلى الجد في العلم النافع ، ولو قيل : باطلاً ، لأوهم أن المنهي عنه المبالغة في الباطل ، لا أصله ومطلقه .
ولما نهاهم أن يضلوا بأنفسهم ، نهاهم أن يقلدوا في ذلك غيرهم فقال : { ولا تتبعوا } أي فاعلين فعل من يجتهد في ذلك { أهواء قوم } أي هَوَوا مع ما لهم من القوة ، فكانوا أسفل سافلين ، والهوى لا يستعمل إلا في البشر { قد ضلوا } ولما كان ضلالهم غير مستغرق للزمان الماضي ، أدخل الجار فقال : { من قبل } أي من قبل زمانكم هذا عن منهاج العقل فصبروا على ضلالهم وأنسوا بما تمادوا عليه في محالهم { وأضلوا } أي لم يكفهم ضلالُهم في أنفسهم حتى أضلوا غيرهم { كثيراً } أي من الناس بتماديهم في الباطل من التثليث وغيره حتى ظن حقاً { وضلوا } أي بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمنابذة الشرع { عن سواء } أي عدل { السبيل * } أي الذي لا سبيل في الحقيقة غيره ، لأن الشرع هو الميزان القسط والحكم العدل ، وهذا إشارة إلى أنهم إن لم ينتهوا كانوا على محض التقليد لأسلافهم الذين هم في غاية البعد عن النهج وترك الاهتداء بنور العلم ، وهذا غاية في التبكيت ، فإن تقليدهم لو كان فيما يشبه الحق كان جهلاً ، فكيف وإنما هو تقليد في هوى .
ولما نهاهم عن ذلك وقبحه عليهم . علله محذراً منه بقوله تعالى بانياً للمفعول ، لأن الفاعل معروف بقرينة من هو على لسانهما : { لعن } ووصفهم بما نبه على علة لعنهم بقوله : { الذين كفروا } وصرح بنسبتهم تعييناً لهم وتبكيتاً وتقريعاً فقال : { من بني إسرائيل } وأكد هذا اللعن وفخمه بقوله : { على لسان داود } أي الذي كان على شريعة موسى عليه السلام ، وذلك باعتدائهم في السبت فصاروا قردة { وعيسى ابن مريم } أي الذي نسخ شرع موسى عليه السلام ، بكفرهم بعد المائدة فمسخوا خنازير ، لأنهم خالفوا النبيين معاً ، فلا هم تعبدوا بما دعاهم إليه داود عليه السلام من شرعهم الذي هم مدعون التمسك به ، وعارفون بأن ما دعاهم إليه منه حقاً ، ولا هم خرجوا عنه إلى ما أمروا بالخروج إليه على لسان موسى عليه السلام في بشارته به متقيدين بطاعته ، فلم تبق لهم علة من التقيد به ولا التقيد بحق دعاهم إليه غيره ، فعلم قطعاً أنهم مع الهوى كما مضى ، ولم ينفعهم مع نسبتهم إلى واحدة من الشريعتين نسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام ، فإنه لا نسب لأحد عند الله دون التقوى لا سيما في يوم الفصل إذ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين .
ولما أخبر بلعنهم وأشار إلى تعليله بكفرهم ، صرح بتعليله بقوله : { ذلك } أي اللعن التام { بما } أي بسبب ما { عصوا } أي فعلوا في ترك أحكام الله فعل العاصي على الله { وكانوا يعتدون * } أي كانت مجاوزة الحدود التي حدها الله لهم خلقاً .
ذكر الإشارة إلى لعنهم في الزبور والإنجيل ، قال في المزمور السابع والسبعين من الزبور : أنصت يا شعبي لوصاياي ، قربوا أسماعكم إلى قول فمي ، فإني أفتح بالأمثال فمي ، وأنطق بالسرائر الأزلية التي سمعناها وعرفناها وأخبرنا آباؤنا بها ولم يخفوها عن أبنائهم ليعرفوا الجيل الآتي تسابيح الرب وقوته وعجائبه التي صنعها ، أقام شهادته في يعقوب وجعل ناموساً في إسرائيل كالذي أوصى آباءنا ليعلموا أبناءهم ، لكيما يخبر الجيل الآخر البنين الذين يولدون ويقومون ، ويعلمون أيضاً بنيهم أن يجعلوا توكلهم على الله ولا ينسوا أعمال الرب ، ويتبعوا وصاياه لئلا يكونوا كآبائهم الجيل المنحرف المخالف الخلف الذي لم يثق قلبه ولم يؤمن بالله المفرج عنه ، بنو إفرام الذين أوتروا ورفعوا عن قسيهم وانهزموا في يوم القتال لأنهم لم يحفظوا عهد الرب ولم يشاؤوا أن يسيروا في سبله ، ونسوا حسن أعماله وصنائعه التي أظهرها قدام آبائهم ، العجائب التي صنعها بأرض مصر في مزارع صاعان ، فلق البحر وأجازهم وأقام المياه كالزقاق ، هداهم بالنهار في الغمام وفي الليل أجمع بمصابيح النار ، فلق صخرة في البرية وسقاهم منها كاللجج العظيمة ، أخرج الماء من الحجر فجرت المياه كجري الأنهار ، وعاد الشعب أيضاً في الخطيئة ، وأسخطوا العلي حيث لم يكن ماء ، جربوا الله في قلوبهم بمسألة الطعام لنفوسهم ، وقذفوا على الله وقالوا : هل يقدر أن يصنع لنا مائدة في البرية ، لأنه ضرب الصخرة فجرت المياه وفاضت الأودية ، هل يستطيع أن يعطينا خبزاً أو يعد مائدة لشعبه ، سمع الرب فغضب واشتعلت النار في يعقوب ، وصعد الرجزُ على إسرائيل لأنهم لم يؤمنوا بالله ولا رجوا خلاصه ، فأمر السحاب من فوق وانفتحت أبواب السماء ليشبعوا ، أهاج ريح التيمن من السماء وأتى بقوة العاصف ، وأنزل اللحم مثل التراب وطير السماء ذات الأجنحة مثل رمل البحار ، يسقطن في محالهم حول خيامهم ، فأكلوا وشبعوا جداً ، أعطاهم شهوتهم ولم يحرمهم إرادتهم ، فبينما الطعام في أفواههم إذ غضب الله نزل عليهم فقتل في كثرتهم وصرع في مختاري إسرائيل ، ومع هذا كله أخطؤوا إليه أيضاً ولم يؤمنوا بعجائبه ، فنيت بالباطل أيامهم ، وتصرمت عاجلاً سنوهم ، فحين قتلهم رغبوا إلى الله وعادوا وابتكروا إليه وذكروا أن الله معينهم وأن الله العلي مخلصهم ، أحبوه بأفواههم وكذبوه بألسنتهم ، ولم تخلص له قلوبهم ولم يؤمنوا بعهده ، وهو رحيم رؤوف ، يغفر ذنوبهم ولا يهلكهم ، ويرد كثرة سخطه عنهم ولا يبعث كل رجزه ، وذكر أنهم لحم وروح يذهب ولا يعود ، مراراً كثيرة أسخطوه في البرية وأغضبوه في أرض ظامئة ، وعادوا وجربوا الله وأسخطوا قدوس إسرائيل ، ولم يذكروا يده في يوم نجاهم من المضطهدين - انتهى .
هذا بعض ما في الزبور ، وأما الإنجيل فطافح بذلك ، منه ما في إنجيل متى ، قال : وانتقل يسوع من هناك وجاء إلى عبر الجليل ، وصعد إلى الجبل وجلس هناك ، وجاء إليه جمع كبير معهم خرس وعمى وعرج وعسم وآخرون كثيرون ، فخروا عند رجليه فأبرأهم ، وتعجب الجمع لأنهم نظروا الخرس يتكلمون والصم يسمعون والعرج يمشون والعمى يبصرون ، ومجدوا إله إسرائيل ، وإن يسوع دعا تلاميذه وقال لهم : إني أتحنن على هذا الجمع ، لأن لهم معي ثلاثة أيام ههنا ، وليس عندهم ما يأكلون ، ولا أريد أطلقهم صياماً لئلا يضيعوا في الطريق ، قال مرقس : لأن منهم من جاء من بعيد - انتهى . قال له التلاميذ : من أين نجد من خبز القمح في البرية ما يشبع هذا الجمع؟ فقال لهم يسوع : كم عندكم من الخبز؟ فقالوا : سبعة أرغفة ويسير من السمك ، فأمر الجمع أن يجلس على الأرض وأخذ السبع خبزات والسمك وبارك وكسر وأعطى تلاميذه ، وناول التلاميذ الجمع ، فأكل جميعهم وشبعوا ورفعوا فضلات الكسر سبع قفاف مملوءة ، وكان الذين أكلوا نحو أربعة آلاف رجل سوى النساء والصبيان ، وأطلق الجمع وصعد السفينة وجاء إلى تخوم مجدل - وقال مرقس : إلى نواحي مابونا - وجاء الفريسيون والزنادقة يجربونه ويسألونه أن يريهم آية من السماء ، فأجابهم يسوع قائلاً : إذا كان المساء قلتم : إن السماء صاحية - لاحمرارها ، وبالغداة تقولون : اليوم شتاء - لاحمرار جو السماء العبوس ، أيها المراؤون! تعلمون آية هذا الزمان ، الجيل الشرير الفاسق يطلب آية ، ولا يعطى إلا آية يونان النبي - وتركهم ومضى ، ثم جاء التلاميذ إلى العبر ونسوا أن يأخذوا خبزاً - قال مرقس : ولم يكن في السفينة إلا رغيف واحد - وإن يسوع قال لهم : انظروا وتحرزوا من خمير الفريسيين والزنادقة - وقال مرقس : وخمير هيرودس - ففكروا قائلين : إنا لم نجد خبزاً ، فعلم يسوع فقال لهم : لماذا تفكرون في نفوسكم يا قليلي الأمانة؟ إنكم ليس معكم خبز ، أما تفهمون ولا تذكرون الخمس خبزات لخمسة آلاف وكم سلاً أخذتم؟ والسبع خبزات لأربعة آلاف ، وكم قفة أخذتم؟ لماذا لا تفهمون؟ لأني لم أقل لكم من أجل الخبز ، حينئذ فهموا أنه لم يقل لهم أن يتحرزوا من خمير الخبز ، لكن من تعليم الزنادقة والفريسيين ، وقال لوقا : تحرزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرياء ، لأنه ليس خفي إلا سيظهر ، ولا مكتوم إلا سيعلم ، الذي تقولونه في الظلام سيسمع في النور ، والذي وعيتموه في الآذان سوف ينادى به على السطوح ، أقول لكم : يا أحبائي لا تخافوا ممن يقتل الجسد ، وبعد ذلك ليس له أن يفعل أكثر ، خافوا ممن إذا قتل له سلطان أن يلقى في نار جهنم - وسيأتي بقية الإشارة إلى لعنهم في سورة الصف إن شاء الله تعالى ، والعسم جمع أعسم - بمهملتين ، وهو من في يده أو قدمه اعوجاج أو يده يابسة .
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
ولما علل تعالى لعنهم بعصيانهم وغلوهم في الباطل ، بينه مخصصاً للعلماء منهم بزيادة تهديد ، لأنهم مع كونهم على المنكر لا ينهون غيرهم عنه ، مع أنهم أجدر من غيرهم بالنهي ، فصاروا عليّ منكرين شديدي الشناعة ، وسكوتهم عن النهي مغوٍ لأهل الفساد ومغرٍ لهم ولغيرهم على الدخول فيه والاستكبار منه فقال تعالى : { كانوا لا يتناهون } أي لا ينهى بعضهم بعضاً ، وبين إغراقهم في عدم المبالاة بالتنكير في سياق النفي فقال : { عن منكر } .
ولما كان الفعل ما كان من الأعمال عن داهية من الفاعل سواء كان عن علم أو لا ، عبر به إشارة إلى أن لهم في المناكر غرام من غلبته الشهوة ، ولم يبق لهم نوع علم ، فقال : { فعلوه } ؛ ولما كان من طبع الإنسان النهي عن كل ما خالفه طبعاً أو اعتقاداً ، لا سيما إن تأيد بالشرع ، فكان لا يكف عن ذلك إلا بتدريب النفس عليه لغرض فاسد أداه إليه ، أكد مقسماً معبراً بالفعل الذي يعبر به عما قد لا يصحبه علم ولا يكون إلا عن داهية عظيمة فقال : { لبئس ما كانوا } أي جبلة وطبعاً { يفعلون * } إشارة إلى أنهم لما تكررت فضائحهم وتواترت قبائحهم صاروا إلى حيز ما لا يتأتى منه العلم .
ولما أخبر بإقرارهم على المناكر ، دل على ذلك بأمر ظاهر منهم لازم ثابت دائم مقوض لبنيان دينهم ، فقال موجهاً بالخطاب لأصدق الناس فراسة وأوفرهم علماً وأثبتهم توسماً وفهماً : { ترى كثيراً منهم } أي من أهل الكتاب؛ ولما كان الإنسان لا ينحاز إلى حزب الشيطان إلا بمنازعة الفطرة الأولى السليمة ، أشار إلى ذلك بالتفعل فقال : { يتولون } أي يتبعون بغاية جهدهم { الذين كفروا } أي المشركين مجتهدين في ذلك مواظبين عليه ، وليس أحد منهم ينهاهم عن ذلك ولا يقبحه عليهم ، مع شهادتهم عليهم بالضلال هم وأسلافهم إلى أن جاء هذا النبي الذي كانوا له في غاية الانتظار وبه في نهاية الاستبشار ، وكانوا يدعون الإيمان به ثم خالفوه ، فمنهم من استمر على المخالفة ظاهراً وباطناً ، ومنهم من ادعى أنه تابع واستمر على المخالفة باطناً ، فكانت موالاته للمشركين دليلاً على كذب دعواه ومظهرة لما أضمره من المخالفة وأخفاه .
ولما كان ذلك منهم ميلاً مع الهوى بغير دليل أصلاً قال : { لبئس ما قدمت } أي تقديم النزل للضيف { لهم أنفسهم } أي التي من شأنها الميل مع الهوى ثم بين المخصوص بالذم - وهو ما قدمتُ - بقوله : { إن سخط الله } أي وقع سخطه بجميع ما له من العظمة { عليهم } ولما كان من وقع السخط عليه يمكن أن يزول عنه ، قال مبيناً أن مجرد وقوعه جدير بكل هلاك : { وفي العذاب } أي الكامل من الأدنى في الدنيا والأكبر في الآخرة { هم خالدون * } .
ولما كان هذا دليلاً على كفرهم ، دل عليه بقوله : { ولو } أي فعلوا ذلك مع دعواهم الإيمان والحال أنهم لو { كانوا } أي كلهم { يؤمنون } أي يوجد منهم إيمان { بالله } أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء { والنبي } أي الذي له الوصلة التامة بالله ، ولذا أتبعه قوله : { وما أنزل إليه } أي من عند الله أعم من القرآن وغيره إيماناً خالصاً من غير نفاق { ما اتخذوهم } أي المشركين مجتهدين في ذلك { أولياء } لأن مخالفة الاعتقاد تمنع الوداد ، فمن كان منهم باقياً على يهوديته ظاهراً وباطناً ، فالألف في « النبي » لكشف سريرته للعهد ، أي النبي الذي ينتظرونه ويقولون : إنه غير محمد صلى الله عليه وسلم أو للحقيقة أي لو كانوا يؤمنون بهذه الحقيقة - أي حقيقة النبوة - ما والوهم ، فإنه لم يأت نبي إلا بتكفير المشركين - كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله « الأنبياء أولاد علات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد » كما سيأتي قريباً في حديث أبي هريرة ، يعني - والله أعلم - أن شرائعهم وإن اختلفت في الفروع فهي متفقة في الأصل وهو التوحيد ، ومن كان منهم قد أظهر الإيمان فالمراد بالنبي في إظهار زيغه وميله وحيفه محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه نهى عن موالاة المشركين ، بل عن متاركتهم ، ولم يرض إلا بمقارعتهم ومعاركتهم .
ولما أفهمت الشرطية عدم إيمانهم ، استثنى منها منبهاً بوضع الفسق موضع عدم الإيمان على أنه الحامل عليه فقال : { ولكن كثيراً منهم فاسقون } أي متمكنون في خلق المروق من دوائر الطاعات .
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
ولما دل كالشمس ميلهُم إلى المشركين دون المؤمنين على أنهم في غاية العداوة لهم ، صرح تعالى بذلك على طريق الاستنتاج ، فقال دالاً على رسوخهم في الفسق : { * لتجدن أشد الناس } أي كلهم { عداوة للذين آمنوا } أي أظهروا الإقرار بالإيمان فكيف بالراسخين فيه { اليهود } قدمهم لأنهم أشد الفريقين لأنه لا أقبح من ضال على علم { والذين أشركوا } لما جمعهم من الاستهانة بالأنبياء هؤلاء جهلاً وأولئك عناداً وبغياً ، فعرف أن من صدق في إيمانه لا يواليهم بقلبه ولا بلسانه ، وأنهم ما اجتمعوا على الموالاة إلا لاجتماعهم في أشدّية العداوة لمن آمن ، فهذه الآية تعليل لما قبلها ، كأنه قيل : هب أنهم لا يؤمنون بالله والنبي ، وذلك لا يقتضي موادة المشركين فلِمَ والوهم حينئذ؟ فقيل : لأن الفريقين اجتمعوا في أشدية العداوة للذين آمنوا .
ولما أخبر تعالى بأبعد الناس مودة لهم ، أخبر بضدهم فقال : { ولتجدن أقربهم } أي الناس { مودة للذين آمنوا } أي أوجدوا الإيمان بالقلب واللسان { الذين قالوا } وفي التوريك على قولهم إشارة إلى أنهم ما كانوا على حقيقة النصرانية { إنا نصارى } أي لقلة اهتمامهم بالدنيا بمجرد قولهم ذلك ولو لم يكونوا عريقين في الدين وإقبالهم على علم الباطن ، ولذلك علله بقوله : { ذلك بأن منهم قسيسين } أي مقبلين على العلم ، من القس ، وهو ملامة الشيء وتتبعه { ورهباناً } أي في غاية التخلي من الدنيا؛ ولما كان التخلي منها موجباً للبعد من الحسد ، وهو سبب لمجانبة التكبر قال : { وأنهم لا يستكبرون * } أي لا يطلبون الرفعة على غيرهم ولا يوجدونها .
ولما كان ذلك علة في الظاهر ومعلولاً في الباطن لرقة القلب قال : { وإذا سمعوا } أي أتباع النصرانية { ما أنزل إلى الرسول } أي الذي ثبتت رسالته بالمعجز ، فكان من شأنه أن يبلغ ما أنزل إليه للناس { ترى أعينهم } ولما كان البكاء سبباً لامتلاء العين بالدمع وكان الامتلاء سبباً للفيض الذي حقيقته السيلان بعد الامتلاء ، عبر بالمسبب عن السبب فقال : { تفيض من الدمع } أصله : يفيض دمعها ثم تفيض هي دمعاً ، فهو من أنواع التمييز ، ثم علل الفيض بقوله : { مما عرفوا من الحق } أي وليس لهم غرض دنيوي يمنعهم عن قبوله ، ثم بين حالهم في مقالهم بقوله : { يقولون ربنا } أي أيها المحسن إلينا { آمنا } أي بما سمعنا { فاكتبنا } .
ولما كان من شأن الشاهد إحضار القلب وإلقاء السمع والقيام التام بما يتلى عليه ويندب إليه قال : { مع الشاهدين * } أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة ، فإن تقويتنا على ذلك ليست إلا إليك { وما } أي ويقولون : ما ، أي أيّ شيء حصل أو يحصل { لنا } حال كوننا { لا نؤمن بالله } أي الذي لا كفوء له ولا خير إلا منه { وما } أي وبما { جاءنا من الحق } أي الأمر الثابت الذي مهما عرض على الواقع طابقه الواقع سواء كان حالاً أو ماضياً أو آتياً .
ولما كانوا يهضمون أنفسهم ، عبروا بالطمع الذي لا نظر معه لعمل فقالوا : { ونطمع أن يدخلنا ربنا } أي بمجرد إحسانه ، لا بعمل منا ، ولجريهم في هذا المضمار عبروا بمع دون « في » قولهم : { مع القوم الصالحين * } هضماً لأنفسهم وتعظيماً لرتبة الصلاح .
ولما ذكر قولهم الدال على حسن اعتقادهم وجميل استعدادهم ، ذكر جزاءهم عليه فقال : { فأثابهم الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { بما قالوا } أي جعل ثوابهم على هذا القول المستند إلى خلوص النية الناشئ عن حسن الطوية { جنات تجري } ولما كان الماء لو استغرق المكان أفسد ، أثبت الجار فقال : { من تحتها الأنهار } ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال : { خالدين فيها } .
ولما كان التقدير : لإحسانهم ، طرد الأمر في غيرهم فقال : { وذلك } أي الجزاء العظيم { جزاء المحسنين * } أي كلهم ، واختلفوا في هذه الواقعة بعد اتفاقهم على أنها في النجاشي وأصحابه ، وذلك مبسوط في شرحي لنظمي للسيرة النبوية ، فمن ذلك أنه لما قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من مهاجرة الحبشة مع أصحابه رضي الله عنهم قدم معهم سبعون رجلاً بعثهم النجاشي رضي الله عنه وعن الجميع وفداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عليهم ثياب الصوف ، اثنان وستون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام ، وهم بحيرا الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى! فأنزل الله فيهم هذه الآية { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا } [ المائدة : 82 ] - إلى آخرها ، ذكر ذلك الواحدي في أسباب النزول بغير سند ، ثم أسند عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً } [ المائدة : 82 ] قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيار أصحابه ثلاثين رجلاً ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يس فبكوا ، فنزلت فيهم هذه الآية . وإذا نظرت مكاتبات النبي صلى الله عليه وسلم للملوك ازددت بصيرة في صدق هذه الآية ، فإنه ما كاتب نصرانياً إلا آمن ، أو كان ليناً ولو لم يسلم كهرقل والمقوقس وهوذة بن علي وغيرهم ، وغايتهم أنهم ضنوا بملكهم ، وأما غير النصارى فإنهم كانوا على غاية الفظاظة ككسرى فإنه مزق كتابه صلى الله عليه وسلم ولم يجز رسوله بشيء ، وأما اليهود فكانوا جيران الأنصار ومواليهم وأحبابهم ، ومع ذلك فأحوالهم في العداوة غاية ، كما هو واضح في السير ، مبين جداً في شرحي لنظمي للسيرة ، وكان السر في ذلك - مع ما تقدم من باعث الزهد - أنه لما كان عيسى عليه السلام أقرب الأنبياء زمناً من زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان المنتمون إليه ولو كانوا كفرة أقرب الأمم مودة لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلى ذلك يشير ما رواه الشيخان في الفضائل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، الأنبياء أولاد علات - وفي رواية : أبناء ، وفي رواية : إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وليس بيني وبينه ، وفي رواية : وليس بيني وبين عيسى - نبي .
وفي رواية لمسلم : « أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة ، قالوا : كيف يا رسول الله! قال : الأنبياء إخوة من علات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، فليس بيننا نبي » .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
ولما ذكر سبحانه وتعالى جزاء المطيعين المبادرين إلى الإذعان ترغيباً ، ذكر جزاء من لم يفعل فعلهم ترهيباً فقال : { والذين كفروا } أي ستروا ما أوضحته له عقولهم من الدلالة على صحة ما دعتهم إليه الرسل { وكذبوا } أي عناداً { بآياتنا } أي بالعلامات المضافة لعظمها إلينا { أولئك } أي البعداء من الرحمة { أصحاب الجحيم * } أي الذين لا ينفكون عنها ، لا غيرهم من العصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم .
ولما مدح سبحانه الرهبان ، وكان ذلك داعياً إلى الترهب ، وكانت الرهبانية حسنة بالذات قبيحة بالعرض ، شريفة في المبدأ دنية في المآل ، فإنها مبنية على الشدة والاجتهاد في الطاعات والتورع عن أكثر المباحات ، والإنسان مبني على الضعف مطبوع على النقائص ، فيدعوه طبعه ويساعده ضعفه إلى عدم الوفاء بما عاقد عليه ، ويسرع بما له من صفة العجلة إليه ، فيقع في الخيانة كما قال تعالى : { فما رعوها حق رعايتها } [ الحديد : 27 ] عقب ذلك بالنهي عنها في هذا الدين والإخبار عنه بأنه بناه على التوسط رحمة منه لأهله ولطفاً بهم تشريفاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم ، ونهاهم عن الإفراط فيه والتفريط فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي وجد منهم الإقرار بذلك { لا تحرموا } أي تمنعوا أنفسكم بنذر أو يمين أو غيرهما تصديقاً لما أقررتم به ، ورغبهم في امتثال أمره بأن جعله موافقاً لطباعهم ملائماً لشهواتهم فقال : { طيبات ما } أي المطيبات وهي اللذائذ التي { أحل الله } وذكر هذا الاسم الأعظم مرغب في ذلك ، فإن الإقبال على المنحة يكون على مقدار المعطي ، وأكد ذلك بقوله : { لكم } أي وأما هو سبحانه فهو منزه عن الأغراض ، لا ضر يلحقه ولا نفع ، لأن له الغنى المطلق .
ولما أطلق لهم ذلك ، حثهم على الاقتصاد ، وحذرهم من مجاوزة الحد إفراطاً وتفريطاً فقال : { ولا تعتدوا } فدل بصيغة الافتعال على أن الفطرة الأولى مبنية على العدل ، فعدولها عنه لا يكون إلا بتكلف ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لاستبعاد أن ينهى عن الإمعان في العبادة : { إن الله } أي وهو الملك الأعظم { لا يحب المعتدين * } أي لا يفعل فعل المحب من الإكرام للمفرطين في الورع بحيث يحرمون ما أحللت ، ولا للمفرطين فيه الذين يحللون ما حرمت ، أي يفعلون فعل المحرم من المنع وفعل المحلل من التناول ، وما ذكر من سبب نزول الآية واضح في ذلك؛ روى الواحدي في أسباب النزول بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما « أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله! إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت إلى النساء وإني حرمت عليّ اللحم ، فنزلت : { لا تحرموا ما أحل الله لكم } ونزلت : { وكلوا مما رزقكم الله }
[ المائدة : 88 ] « . وأخرجه الترمذي في التفسير من جامعه وقال : حسن غريب ، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلاً . وقال الواحدي : وتبعه عليه البغوي : قال المفسرون : » جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف فرق الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة من الصحابة رضي الله عنهم في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، وهم أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن ، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ويترهبوا ويجبّوا المذاكير؛ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : « ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا : بلى يا رسول الله! وما أردنا إلا الخير ، فقال : إني لم أومر بذلك ، إن لأنفسكم عليكم حقاً ، فصوموا وأفطروا . وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، ومن رغب عن سنتي فليس مني؛ ثم جمع الناس فخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا! أما! إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً ، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ، ورهبانيتهم الجهاد ، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان ، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع » ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقالوا : يا رسول الله! فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا ، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } [ المائدة : 89 ، والبقرة : 225 ] ، ولا تعارض بين الخبرين لإمكان الجمع بأن يكون الرجل لما سمع تذكير النبي صلى الله عليه وسلم سأل ، ولو لم يجمع صح أن يكون كل منهما سبباً ، فالشيء الواحد قد يكون له أسباب جمة ، بعضها أقرب من بعض ، فمن الأحاديث الواردة في ذلك ما روى البغوي بسنده من طريق ابن المبارك في كتاب الزهد عن سعد بن مسعود « أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ائذن لنا في الاختصاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من خصي ولا اختصى ، إن خصاء أمتي الصيام ، فقال : يا رسول الله! ائذن لنا في السياحة ، فقال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله . فقال : يا رسول الله! ائذن لنا في الترهب ، فقال : إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً لصلاة »
وللشيخين والترمذي والنسائي والدارمي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أيضاً قال : « أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أذن له - وفي رواية : ولو أجاز له - التبتل لاختصينا » وللدارمي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أيضاً قال : « لما كان من أمر عثمان بن مظعون رضي الله عنه الذي كان ممن ترك النساء بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا عثمان! إني لم أومر بالرهبانية ، أرغبت عن سنتي؟ قال : لا يا رسول الله! قال : إن من سنتي أن أصلي وأنام وأصوم وأطعم وأنكح وأطلق ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، يا عثمان! إن لأهلك عليك حقاً ، ولعينك عليك حقاً ، قال سعد : فوالله لقد كان أجمع رجال من المؤمنين على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هو أقر عثمان على ما هو عليه أن نختصي فنتبتل » وقال شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف : وروى الطبراني من طريق ابن جريج عن مجاهد قال : « أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح » ومن طريق ابن جريج عن عكرمة « أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالماً مولى أبي حذيفة في جماعة رضي الله عنهم تبتلوا فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام واللباس ، وهموا بالاختصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } - الآية ، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن لأنفسكم عليكم حقاً ، فصوموا وأفطروا وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا » وللترمذي عن سمرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل .
وقرأ قتادة : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } وللنسائي عن عائشة رضي الله عنها نحوه وأشار إليه الترمذي . وللطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهياً شديداً . يقول : « تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة » ومنها ما روى الشيخان عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : « كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء - وفي رواية : نساء ، وفي رواية : كنا ونحن شباب - فقلنا : يا رسول الله! ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب ، ثم قرأ علينا عبد الله { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } » الآية .
ومنها ما روى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « قلت : يا رسول الله! إني رجل شاب ، وإني أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء - قال النسائي : أفاختصي - فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك ، فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق ، فاختص على ذلك أو ذر- وقال النسائي : أو دع » ومنها ما روى الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم - وفي رواية مسلم والنسائي أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر - فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً؛ وفي رواية : وقال بعضهم لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال : ما بال أقوام كذا وكذا! وفي رواية : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له! لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » والمبهمون في الحديث - قال شيخنا في مقدمة شرحه للبخاري - هم ابن مسعود وأبو هريرة وعثمان بن مظعون ، وسيأتي مفرّقاً ما يشير إلى ذلك ، يعني ما قدمته أنا ، قال : وقيل : هم سعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب ، وفي مصنف عبد الرزاق من طريق سعيد بن المسيب أن منهم علياً وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم ، وقال شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف : إن هذا أصلُ ما رواه الواحدي عن المفسرين ، وللشيخين والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم » ، وفي رواية : « ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم » ولأبي داود عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم » وللإمام أحمد في المسند عن أنس رضي الله عنه والحاكم في علوم الحديث في فن الغريب - وهذا لفظه - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، ولا تبغض عبادة الله إليك ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى » المتين : الصلب الشديد ، والإيغال : المبالغة ، والمنبت - بنون وموحدة وفوقانية مشددة هو الذي انقطع ظهره ، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا؛ وفي بعض الروايات : والقصد القصد تبلغوا » ولمسلم وابن ماجه - وهذا لفظه - عن حنظلة الكاتب التميمي الأسيدي رضي الله عنه قال : « كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا الجنة والنار حتى كانا رأي العين ، فقمت إلى أهلي وولدي فضحكت ولعبت ، قال : فذكرت الذي كنا فيه ، فخرجت فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت : نافقت نافقت! فقال أبو بكر : إنا لنفعله ، فذهب حنظلة فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا حنظلة! لو كنتم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم أو على طرقكم ، يا حنظلة! ساعة وساعة » ولفظ مسلم من طرق جمعت متفرقها عن حنظلة - وكان من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال : « لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال : كيف أنت يا حنظلة؟ قلت : نافق حنظلة! قال : سبحان الله! ما تقول؟ قلت : نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كانا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، نسينا كثيراً ، قال أبو بكر رضي الله عنه : فوالله إنا لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » وما ذاك «؟ قلت : يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كانا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، نسينا كثيراً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة وساعة - ثلاث مرات « » وفي رواية : قال : « كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا فذكرنا النار - وفي رواية : الجنة والنار - ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة ، فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال : وأنا قد فعلت مثل ما تذكر ، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله! نافق حنظلة! فقال : مه؟ فحدثته بالحديث ، فقال أبو بكر : وأنا قد فعلت مثل ما فعل ، فقال : يا حنظلة! ساعة وساعة ، فلو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق »
ومن هنا تبين لك مناسبة أول المجادلة لآخر الحديد التي كاع في معرفتها الأفاضل ، وكع عن تطلبها لغموضها الأكابر الأماثل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك وإيضاح ما فيه من لطيف المسالك ، ومن هذه الآية وقع الالتفات إلى قوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } [ الأنعام : 1 ] وقوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } [ المائدة : 4 ] وما أحسن تصديرها بيا أيها الذين آمنوا - كما صدر أول السورة به ، وقد مضى بيان جميع ما مضى في الوفاء بالعقود ، فكان كأنه تعالى قال : أوفوا بالعقود ، فلا تتهاونوا بها فتنقضوها ، ولا تبالغوا فيها فتكونوا معتدين فتضعفوا ، فإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، بل سددوا وقاربوا ، والقصد القصد تبلغوا ، وقال ابن الزبير بعد قوله : { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } [ المائدة : 14 ] ثم فصل للمؤمنين أفعال الفريقين - أي اليهود والنصارى - ليتبين لهم فيما نقضوا ، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة } [ المائدة : 82 ] . ثم نصح عباده وبين لهم أبواباً منها دخول الامتحان ، وهي سبب في كل الابتلاء ، فقال : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا } [ المائدة : 87 ] فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم شارعين لأنفسكم وظالمين - انتهى . و { ما أحل } شامل لكل ما كانوا أرادوا أن يتورعوا عنه من المآكل والملابس والمناكح والنوم وغير ذلك .
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
ولما كان الحال لما ألزموا به أنفسهم مقتضياً للتأكيد ، أمر بالأكل بعد أن نهى عن الترك ليجتمع على إباحة ذلك الأمر والنهيُ فقال : { وكلوا } ورغبهم فيه بقوله : { مما رزقكم الله } أي الملك الأعظم الذي لا يرد عطاؤه .
ولما كان الرزق يقع على الحرام ، قيده بعد القيد بالتبعيض بقوله : { حلالاً } ولما كان سبحانه قد جعل الرزق شهياً ، وصفه امتناناً وترغيباً فقال : { طيباً } ويجوز أن يكون قيداً محذراً مما فيه شبهة تنبيهاً على الورع ، ويكون معنى طيبه تيقن حله ، فيكون بحيث تتوفر الدواعي على تناوله ديناً توفّرها على تناول ما هو نهاية في اللذة شهوة وطبعاً ، وأن يكون مخرجاً لما تعافه النفس مما أخذ في الفساد من الأطعمة لئلا يضر ، قال ابن المبارك : الحلال ما أخذ من جهته ، والطيب ما غذّي ونميّ ، فأما الطين والجوامد وما لا يغذي فمكروه إلا على جهة التداوي ، وأن يكون مخرجاً لما فوق سد الرمق في حالة الضرورة ، ولهذا وأمثاله قال : { واتقوا الله } أي الملك الذي له الجلال والإكرام من أن تحلوا حراماً أو تحرموا حلالاً ، ثم وصفه بما يوجب رعي عهوده والوقوف عند حدوده فقال : { الذي أنتم به مؤمنون * } أي ثابتون على الإيمان به ، فإن هذا الوصف يقتضي رعي العهود ، وخص سبحانه الأكل ، والمراد جميع ما نهي عن تحريمه من الطيبات ، لأنه سبب لغيره من المتمتعات ، فلما نزلت - كما نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما - هذه الآية قالوا : يا رسول الله! وكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه - كما تقدم ، فأنزل الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله } أي على ما له من تمام الجلال { باللغو } وهو ما يسبق إليه اللفظ من غير قصد { في أيمانكم } على أني لم أعتمد على سبب النزول في المناسبة إلا لدخوله في المعنى ، لا لكونه سبباً ، فإنه ليس كل سبب يدخل في المناسبة - كما بينته في أول غزوة أحد في آل عمران ، وإنما كان السبب هنا داخلاً في مناسبة النظم ، لأن تحريم ما أحل يكون تارة بنذر وتارة بيمين ، والنذر في المباح - وهو مسألتنا - لا ينعقد وكفارته كفارة يمين ، فحينئذ لم تدع الحاجة إلا إلى التعريف بالأيمان وأحكامها ، فقسمها سبحانه إلى قسمين : مقصود وغير مقصود ، فأما غير المقصود فلا اعتبار به ، وأما المقصود فقسمان : حلف على ماض ، وحلف على آت ، فأما الحلف على الماضي فهو اليمين الغموس التي لا كفارة لها عند بعض العلماء ، وسيأتي في آية الوصية ، وأما الحلف على الآتي - وهو الذي يمكن التحريم به - فذكر حكمه هنا بقوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم } .
ولما كان مطلق الحلف الذي منه اللغو يطلق عليه عقد لليمين ، أعلم أن المؤاخذة إنما هي بتعمد القلب ، وهو المراد بالكسب في الآية الأخرى ، فعبر بالتفعيل في قراءة الجماعة ، والمفاعلة على قراءة ابن عامر تنبيهاً على أن ذلك هو المراد من قراءة حمزة والكسائي بالتخفيف فقال { بما عقدتم الأيمان } أي بسبب توثيقها وتوكيدها وإحكامها بالجمع بين اللسان والقلب ، سواء كان على أدنى الوجوه كما تشير إليه قراءة التخفيف ، أو على أعلاها كما تشير إليه قراءة التشديد ، فلا يحل لكم الحنث فيها إلا بالكفارة بخلاف اللغو فإنه باللسان فقط ، فلا عقد فيه فضلاً عن تعقيد ، و « ما » مصدرية .
ولما أثبت المؤاخذة سبب عنها قوله : { فكفارته } أي الأمر الذي يستر النكث والحنث عن هذا التعقيد ، ويزيل أثره بحيث تصيرون كأنكم ما حلفتم { إطعام عشرة مساكين } أي أحرار مساكين ، لكل مسكين ربع صاع ، وهو مدمن طعام ، وهو رطل وثلث { من أوسط ما } كان عادة لكم أنكم { تطعمون أهليكم } أي من أعدله في الجودة والقدر كمية وكيفية ، فهو مد جيد من غالب القوت ، سواء كان من الحنطة أو من التمر أو غيرهما .
ولما بدأ بأقل ما يكفي تخفيفاً ورحمة ، عطف على الإطعام ترقياً قوله : { أو كسوتهم } أي بثوب يغطي العورة من قميص أو إزار أو غيرهما مما يطلق عليه اسم الكسوة { أو تحرير } أي إعتاق { رقبة } أي مؤمنة سليمة عما يخل بالعمل - كما تقدم في كفارة القتل - حملاً لمطلق الكفارات على ذلك المقيد ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما استأذنه أحد في إعتاق رقبة في كفارة إلا اختبر إيمانها ، هذا ما على المكلف على سبيل التخيير من غير تعيين . والتعيين إليه إذا كان واجداً للثلاثة أو لأحدها ، والإتيان بأحدها مبرئ من العهدة ، لأن كل واحد من الثلاثة بعينه أخص من أحدها على الإبهام ، والإتيان بالخاص يستلزم الإتيان بالعام { فمن لم يجد } أي واحداً منها فاضلاً عن قوته وقوت من تلزمه مؤنته { فصيام } أي فالكفارة صيام { ثلاثة أيام } ولو متفرقة .
ولما تم ذلك . أكده في النفوس وقرره بقوله : { ذلك } أي الأمر العدل الحسن الذي ذكر { كفارة أيمانكم } أي المعقدة { إذا حلفتم } وأردتم نكثها سواء كان ذلك قبل الحنث أو بعده .
ولما كان التقدير : فافعلوا ما قدرتم عليه منه ، عطف عليه لئلا تمتهن الأيمان لسهولة الكفارة قوله : { واحفظوا أيمانكم } أي فلا تحلفوا ما وجدتم إلى ذلك سبيلاً ، ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ، فإنه سبحانه عظيم ، ومن أكثر الحلف وقع في المحذور ولا بد ، وإذا حلفتم فلا تحنثوا دون تكفير ، ويجوز للمكفر الجمع بين هذه الخصال كلها واستشكل ، وحلُّه بما قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في التلويح في بحث أو : والمشهور في الفرق بين التخيير والإباحة أنه يمنتع في التخيير الجمع ولا يمتنع في الإباحة ، لكن الفرق هاهنا أنه لا يجب في الإباحة الإتيان بواحد وفي التخيير يجب ، وحينئذ إن كان الأصل فيه الحظر وثبت الجواز بعارض الأمر - كما إذا قال : بع من عبيدي هذا أو ذاك - يمتنع الجمع ويجب الاقتصار على الواحد .
لأنه المأمور به . وإن كان الأصل فيه الإباحة ووجب بالأمر واحد - كما في خصال الكفارة - يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية ، وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة - انتهى .
ولما اشتملت هذه الآيات من البيان على ما يدهش الإنسان كان كأنه قيل : هل يبين كل ما يحتاج إليه هكذا؟ فنبه من هذه الغفلة بقوله : { كذلك } أي مثل هذا البيان العظيم الشأن { يبين الله } أي على ما له من العظمة { لكم آياته } أي أعلام شريعته وأحكامه على ما لها من العلو بإضافتها إليه .
ولما اشتمل ما تقدم من الأحكام والحِكَم والتنبيه والإرشاد والإخبار بما فيها من الاعتبار على نِعَم جسيمة وسنن جليلة عظيمة ، ناسب ختمُها بالشكر المُربى لها في قوله على سبيل التعليل المؤذن بقطعها إن لم توجد العلة : { لعلكم تشكرون * } أي يحصل منكم الشكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
ولما تم بيان حال المأكل وكان داعية إلى المشرب ، احتيج إلى بيانه ، فبين تعالى المحرم منه . فعلم أن ما عداه مأذون في التمتع به ، وذلك محاذٍ في تحريم شيء مقترن باللازم بعد إحلال آخر لما في أول السورة من تحريم الميتة وما ذكر معها بعد إحلال بهيمة الأنعام وما معها ، فقال تعالى مذكراً لهم بما أقروا به من الإيمان الذي معناه الإذعان : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا به . ونبههم على ما يريد العدو بهم من الشر بقوله تعالى : { إنما الخمر } وهي كل ما أسكر سواء فيه قليله وكثيره ، وأضاف إليها ما واخاها في الضرر ديناً ودنيا وفي كونه سبباً للخصام وكثرة اللغط المقتضي للحلف والإقسام تأكيداً لتحريم الخمر بالتنبيه على أن الكل من أفعال الجاهلية ، فلا فرق بين شاربها والذابح على النصب والمعتمد على الأزلام فقال : { والميسر } أي الذي تقدم ذكره في البقرة { والأنصاب والأزلام } المتقدم أيضاً ذكرُهما أول السورة ، والزلم : القدح لا ريش له - قاله البخاري؛ وحكمة ترتيبها هكذا أنه لما كانت الخمر غاية في الحمل على إتلاف المال ، قرن بها ما يليها في ذلك وهو القمار ، ولما كان الميسر مفسدة المال ، قرن به مفسدة الدين وهي الأنصاب ، ولما كان تعظيم الأنصاب شركاً جلياً إن عبدت ، وخفياً إن ذبح عليها دون عبادة ، قرن بها نوعاً من الشرك الخفي وهو الاستقسام بالأزلام : ثم أمر باجتناب الكل إشارة وعبارة على أتم وجه فقال : { رجس } أي قذر أهل لأن يبعد عنه بكل اعتبار حتى عن ذكره سواء كان عيناً أو معنى ، وسواء كانت الرجسية في الحس أو المعنى ، ووحد الخبر للنص على الخمر والإعلام بأن أخبار الثلاثة حذفت وقدرت ، لأنها أهل لأن يقال في كل واحد منها على حدتها كذلك ولا يكفي عنها خبر واحد على سبيل الجمع؛ ثم زاد في التنفير عنها تأكيداً لرجسيتها بقوله : { من عمل الشيطان } أي المحترق البعيد ، ثم صرح بما اقتضاه السياق من الاجتناب فقال : { فاجتنبوه } أي تعمدوا أن تكونوا عنه في جانب آخر غير جانبه . وأفرد لما تقدم من الحِكَم ، ثم علل بما يفهم أنه لا فوز بشيء من المطالب مع مباشرتها فقال : { لعلكم تفلحون * } أي تظفرون بجميع مطالبكم ، روى البخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء » وفي رواية : « نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب » وفي رواية عنه : « سمعت عمر على منبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب - وفي رواية : من الزبيب - والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر ما خامر العقل » وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا ، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال : حرمت الخمر ، قالوا : أهرق هذه القلال يا أنس! فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل » وفي رواية عنه : « حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً ، وعامة خمرنا البسر والتمر » قال الأصبهاني : وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام .
ولما كانت حكمة النهي عن الأنصاب والأزلام قد تقدمت في أول السورة ، وهي أنها فسق ، اقتصر على بيان علة النهي عن الخمر والميسر إعلاماً بأنهما المقصودان بالذات ، وإن كان الآخرينَ ما ضما إلا لتأكيد تحريم هذين - كما تقدم ، لأن المخاطب أهل الإيمان ، وقد كانوا مجتنبين لذينك ، فقال مؤكداً لأن الإقلاع عما حصل التمادي في المرون عليه يحتاج إلى مثل ذلك : { إنما يريد الشيطان } أي بتزيين الشرب والقمار لكم { أن يوقع بينكم العداوة } .
ولما كانت العداوة قد تزول أسبابها ، ذكر ما ينشأ عنها مما إذا استحكم تعسر أو تعذر زواله ، فقال : { والبغضاء في الخمر والميسر } أي تعاطيهما لأن الخمر تزيل العقل ، فيزول المانع من إظهار الكامن من الضغائن والمناقشة والمحاسدة ، فربما أدى ذلك إلى حروب طويلة وأمور مهولة ، والميسر يذهب المال فيوجب ذلك الإحنة على من سلبه ماله ونغص عليه أحواله .
ولما ذكر ضررهما في الدنيا ، ذكر ضررهما في الدين فقال : { ويصدكم عن ذكر الله } أي الملك الأعظم الذي لا إله لكم غيره ولا كفوء له ، وكرر الجار تأكيداً للأمر وتغليظاً في التحذير فقال : { وعن الصلاة } أما في الخمر فواضح ، وأما في الميسر فلأن الفائز ينسى ببطر الغلبة ، والخائب مغمور بهمه ، وأعظم التهديد بالاستفهام والجملة الاسمية الدالة على الثبات بعد التأكيد بالحصر والضم إلى فعل الجاهلية وبيان الحِكَم الداعية إلى الترك والشرور المنفرة عن الفعل فقال : { فهل أنتم منتهون * } أي قبل أن يقع بكم ما لا تطيقون .
ولما كان ذلك مألوفاً لهم محبوباً عندهم ، وكان ترك المألوف أمرّ من ضرب السيوف ، أكد دعوتهم إلى اجتنابه محذراً من المخالفة بقوله عاطفاً على ما تقديره : فانتهوا : { وأطيعوا الله } أي الملك الأعلى الذي لا شريك له ولا أمر لأحد سواه ، أي فيما أمركم به من اجتناب ذلك ، وأكد الأمر بإعادة العامل فقال : { وأطيعوا الرسول } أي الكامل في الرسلية في ذلك ، وزاد في التخويف بقوله : { واحذروا } أي من المخالفة ، ثم بلغ الغاية في ذلك بقوله : { فإن توليتم } أي بالإقبال على شيء من ذلك ، وأشار بصيغة التفعل إلى أن ذلك إنما يعمل بمعالجة من النفس للفطرة الأولى ، وعظم الشأن في ابتداء الجزاء بالتنبيه بالأمر بالعلم فقال : { فاعلموا } أنكم لم تضروا إلا أنفسكم ، لأن الحجة قد قامت عليكم ، ولم يبق على الرسول شيء لأنكم علمتم { أنما على رسولنا } أي البالغ في العظمة مقداراً يجل عن الوصف بإضافته إلينا { البلاغ المبين * } أي البين في نفسه الموضح لكل من سمعه ما يراد منه لا غيره ، فمن خالف فلينظر ما يأتيه من البلاء من قِبَلنا ، وهذا ناظر إلى قوله :
{ بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] فكأنه قيل : ما عليه إلا ما تقدم من إلزامنا له به من البلاغ ، فمن اختار لنفسه المخالفة كفر ، و الله لا يهدي من كان مختاراً لنفسه الكفر .
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
ولما كانوا قد سألوا عند نزول الآية عما من شأن الأنفس الصالحة الناظرة للورع المتحرك للسؤال عنه ، وهو من مات منهم وهو يفعلهما ، قال جواباً لذلك السؤال : { ليس على الذين آمنوا وعملوا } أي تصديقاً لإيمانهم { الصالحات جناح } فبين سبحانه أن هذا السؤال غير وارد لأنهم لم يكونوا منعوا منهما ، وكانوا مؤمنين عاملين للصالحات متقين لما يسخط الرب من المحرمات ، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « حرمت الخمر ثلاث مرات : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم { يسئلونك عن الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] ، فقال الناس : لم يحرم علينا ، إنما قال : إن فيهما إثماً ، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين المغرب فخلط في قراءته ، فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] فكانوا يشربونها حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق ، فنزلت { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام } [ المائدة : 90 ] ، فقالوا : انتهينا يا رب! وقال الناس : يا رسول الله! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجساً من مل الشيطان! فأنزل الله { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } [ المائدة : 93 ] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم » ولا يضر كونه من رواية أبي معشر وهو ضعيف لأنه موافق لقواعد الدين ، وروى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال : « كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة رضي الله عنه وما شرابهم إلا الفضيخ : البسر والتمر ، وإذا منادٍ ينادي : ألا! إن الخمر قد حرمت ، فقال لي أبو طلحة رضي الله عنه : اخرج فاهرقها ، فهرقتها ، فقال بعض القوم : قد قتل فلان وفلان وهي في بطونهم؟ فأنزل الله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } على أنه لو لم يرد هذا السببُ كانت المناسبة حاصلة ، وذلك أنه تعالى لما أباح الطيب من المأكل وحرم الخبيث من المشرب ، نفى الجناح عمن يأكل ما أذن فيه أو يشرب عدا ما حرمه . فأتى بعبارة تعم المأكل والمشرب فقال : { فيما طعموا } أي مأكلاً كان أو مشرباً ، وشرط ذلك عليهم بالتقوى ليخرج المحرمات فقال : { إذا ما اتقوا } أي أوقعوا جميع التقوى التي تطلب منهم فلم يطعموا محرماً .
ولما بدأ بالتقوى وهي خوف الله الحامل على البعد عن المحرمات ، ذكر أساسها الذي لا تقبل إلا به فقال : { وآمنوا } ولما ذكر الإقرار باللسان ، ذكر مصداقه فقال : { وعملوا } أي بما أداهم إليه اجتهادهم بالعلم لا اتفاقاً { الصالحات ثم اتقوا } أي فاجتنبوا ما جدد عليهم تحريمه { وآمنوا } أي بأنه من عند الله ، وأن الله له أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، وهكذا كلما تكرر تحريم شيء كانوا يلابسونه .
ولما كان قد نفى الجناح أصلاً ورأساً ، شرط الإحسان فقال : { ثم اتقوا وأحسنوا } أي لازموا التقوى إلى أن أوصلتهم إلى مقام المراقبة ، وهي الغنى عن رؤية غير الله ، فأفهم ذلك أن من لم يبلغ رتبة الإحسان لا يمتنع أن يكون عليه جناح مع التقوى والإيمان ، يكفر عنه بالبلايا والمصائب حتى ينال ما قدر له مما لم يبلغه عمله من درجات الجنان ، ومما يدل على نفاسة التقوى وعزتها أنه سبحانه لما شرطها في هذا العموم ، حث عليها عند ذكر المأكل بالخصوص - كما مضى فقال « واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون » ، وهذا في غاية الحث على التورع في المأكل والمشرب وإشارة إلى أنه لا يوصل إلى مقام الإحسان إلا به - والله الموفق؛ ولما كان التقدير : فإن الله يحب المتقين المؤمنين ، عطف عليه قوله : { والله } أي الذي له صفات الكمال { يحب المحسنين } .
ولما ذكر ما حرم من الطعام في كل حال ، وكان الصيد ممن حرم في بعض الأوقات ، وكان من أمثل مطعوماتهم ، وكان قد ذكر لهم بعض أحكامه عقب قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } { وأحل لكم الطيبات } أخذ هنا في ذكر شيء من أحكامه ، وابتدأها - لأنهم خافوا على من مات منهم على شرب الخمر قبل تحريمها بأنه يبتليهم لتمييز الورع منهم من غيره - بالصيد في الحال التي حرمه عليهم فيها كما ابتلى إسرائيل في السبت ، فكان ذلك سبباً لجعلهم قردة ، ومنَّ سبحانه على الصحابة من هذه الأمة بالعصمة عند بلواهم بياناً لفضلهم على من سواهم ، فقال تعالى منادياً لهم بما يكفّهم ذكره عن المخالفة : { يا أيها الذين آمنوا } أي أوقعوا الإيمان ولو على أدنى وجوهه ، فعم بذلك العالي والداني { ليبلونكم الله } أي يعاملكم معاملة المختبر في قبولكم تحريم الخمر وغيره المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، وذكر الاسم الأعظم إشارة بالتذكير بما له من الجلال إلى أن له أن يفعل ما يشاء ، وأشار إلى تحقير البلوى تسكيناً للنفوس بقوله : { بشيء من الصيد } أي الصيد في البر في الإحرام ، وهو ملتفت إلى قوله : { هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله } [ المائدة : 60 ] وشارح لما ذكر أول السورة في قوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم } ، وما ذكر بعد المحرمات من قوله : { فكلوا مما أمسكن عليكم }
[ المائدة : 4 ] ، ووصف المبتلى به بوصف هو من أعلام النبوة فقال : { تناله أيديكم } أي إن أردتم أخذه سالماً { ورماحكم } إن أردتم قتله ، ثم ذكر المراد من ذلك وهو إقامة الحجة على ما يتعارفه العباد بينهم فقال : { ليعلم الله } أي وهو الغني عن ذلك بما له من صفات الكمال التي لا خفاء بها عند أحد يعلم هذا الاسم الأعظم { من يخافه بالغيب } أي بما حجب به من هذه الحياة الدنيا التي حجبتهم عن أن يعرفوه حق معرفته سبحانه ، والمعنى أنه يخرج بالامتحان ما كان من أفعال العباد في عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، فيصير تعلق العلم به تعلقاً شهودياً كما كان تعلقاً غيبياً لتقوم بذلك الحجة على الفاعل في مجاري عاداتهم ، ويزداد من له اطلاع على اللوح المحفوظ من الملائكة إيماناً ويقيناً وعرفاناً ، وقد حقق سبحانه معنى هذه الآية فابتلاهم بذلك عام الحديبية حتى كان يغشاهم الصيد في رحالهم ويمكنهم أخذه بأيديهم .
ولما كان هذا زاجراً في العادة عن التعرض لما وقعت البلوى به وحاسماً للطمع فيه بمن اتسم بما جعل محط النداء من الإيمان ، سبب عنه قوله : { فمن اعتدى } أي كلف نفسه مجاوزة الحد في التعرض له؛ ولما كان سبحانه يقبل التوبة عن عباده ، خص الوعيد بمن استغرق الزمان بالاعتداء فأسقط الجار لذلك فقال : { بعد ذلك } أي الزجر العظيم { فله عذاب أليم * } بما التذَّ من تعرضه إليه لما عرف بالميل إلى هذا أنه إلى ما هو أشهى منه كالخمر وما معها أميل .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
ولما أخبرهم بالابتلاء صرح لهم بما لوح إليه بذكر المخافة من تحريم التعرض لما ابتلاهم به ، فقال منوِّهاً بالوصف الناهي عن الاعتداء : { يا أيها الذين آمنوا } وذكر القتل الذي هو أعم من الذبح إشارة إلى أن الصيد - لما عنده من النفرة المانعة من التمكن من ذبحه - يحبس بأي وجه كان من أنواع القتل فقال : { لا تقتلوا الصيد } أي لا تصطادوا ما يحل أكله من الوحش ، وأما غير المأكول فيحل قتله ، فإنه لاحظ للنفس في قتله إلا الإراحة من أذاه المراد بالفسق في قوله صلى الله عليه وسلم : « خمس في الدواب فواسق ، لا جناح على من قتلها في حل ولا حرم » وذكر منهن السبع العادي ، فدل الحكم برفع الجناح عقب الوصف بالفسق على أنه علة الإباحة ، ولا معنى لفسقها إلا أذاها { وأنتم حرم } أي محرومون أو في الحرم .
ولما كان سبحانه عالماً بأنه لا بد أن يوافق موافق تبعاً لأمره ويخالف مخالف موافقة لمراده ، شرع لمن خالف كفارة تخفيفاً منه على هذه الأمة ورفعاً لما كان على من كان من قبلها من الآصار ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن انتهى فله عند ربه أجر عظيم : { ومن قتله منكم متعمداً } أي قاصداً للصيد ذاكراً للإحرام إن كان محرماً ، والحرم إن كان فيه عالماً بالتحريم .
ولما كان هذا الفعل العمد موجباً للإثم والجزاء ، ومتى اختل وصف منه كان خطأ موجباً للجزاء فقط ، وكان سبحانه قد عفا عن الصحابة رضي الله عنهم العمد الذي كان سبباً لنزول الآية كما في آخرها ، لم يذكره واقتصر على ذكر الجزاء فقال : { فجزاء } أي فمكافأة { مثل ما قتل } أي أقرب الأشياء به شبهاً في الصورة لا النوع ، ووصف الجزاء بقوله : { من النعم } لما قتله عليه ، أي عليه أن يكافئ ما قتله بمثله ، وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل ، هذا على قراءة الجماعة بإضافة « جزاء » إلى « مثل » ، وأما على قراءة الكوفيين ويعقوب بتنوين « جزاء » ورفع « مثل » فالأمر واضح .
ولما كان كأنه قيل : بما تعرف المماثلة؟ قال : { يحكم به } أي بالجزاء؛ ولما كانت وجوه المشابهة بين الصيد وبين النعم كثيرة ، احتاج ذلك إلى زيادة التأمل فقال : { ذوا عدل منكم } أي المسلمين ، وعن الشافعي أن الذي له مثل ضربان : ما حكمت فيه الصحابة ، وما لم تحكم فيه ، فما حكمت فيه لا يعدل إلى غيره لأنه قد حكم به عدلان فدخل تحت الآية ، وهم أولى من غيرهم لأنهم شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل؛ وما لم يحكموا به يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين ، فينظر إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام ، فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه؛ فإن كان القتل خطأ جاز أن يكون الفاعل أحد الحكمين ، وإن كان عمداً فلا ، لأنه يفسق به .
ولما كان هذا المثل يساق إلى مكة المشرفة على وجه الإكرام والنسك رفقاً بمساكينها ، قال مبيناً لحاله من الضمير في « به » : { هدياً } ولما كان الهدي هو ما تقدم تفسيره ، صرح به فقال : { بالغ الكعبة } أي الحرم المنسوب إليها ، وإنما صرح بها زيادة في التعظيم وإعلاماً بأنها هي المقصودة بالذات بالزيارة والعمارة لقيام ما يأتي ذكره ، تذبح الهدي بمكة المشرفة ويتصدق به على مساكين الحرم ، والإضافة لفظية لأن الوصف بشبه « يبلغ » فلذا وصف بها النكرة .
ولما كان سبحانه رحيماً بهذه الأمة ، خيرها بين ذلك وبين ما بعد فقال : { أو } عليه { كفارة } هي { طعام مساكين } في الحرم بمقدار قيمة الهدي ، لكل مسكين مد { أو عدل ذلك } أي قيمة المثل { صياماً } في أيّ موضع تيسر له ، عن كل مد يوم ، فأو للتخيير لأنه الأصل فيها ، والقول بأنها للترتيب يحتاج إلى دليل .
ولما كان الأمر مفروضاً في المتعمد قال معلقاً بالجزاء ، أي فعليه أن يجازي بما ينقص المال أو يؤلم الجسم { ليذوق وبال } أي ثقل { أمره } وسوء عاقبته ليحترز عن مثل ما وقع فيه؛ ولما كان هذا الجزاء محكوماً به في دار العمل التي لا يطلع أهلها بمجرد عقولهم فيها على غيب ، ولا يعرفون عاقبة أمر إلاّ تخرصاً ، طرد الحكم في غير المتعمد لئلا يدعي المتعمد أنه مخطئ ، كل ذلك حمى لحرمة الدين وصوناً لحرمة الشرع وحفظاً لجانبه ورعاية لشأنه ، ولما كان قد مضى منهم قبل نزولها من هذا النوع أشياء ، كانوا كأنهم قالوا : فكيف نصنع بما أسلفنا؟ قال جواباً : { عما سلف } أي تعمده ، أي لكم من ذلك ، فمن حفظ نفسه بعد هذا فاز { ومن عاد } إلى تعمد شيء من ذلك ولو قل؛ ولما كان المبتدأ متضمناً معنى الشرط ، قرن الخبر بالفاء إعلاماً بالسببية فقال : { فينتقم الله } أي الذي له الأمر كله { منه } أي بسبب عوده بما يستحقه من الانتقام .
ولما كان فاعل ذلك منتهكاً لحرمة الإحرام والحرم ، وكان التقدير : فالله قادر عليه ، عطف على ذلك ما اقتضاه المقام من الإتيان بالاسم الأعظم ووصف العزة فقال : { والله } أي الملك الأعلى الذي لا تداني عظمتَه عظمةٌ { عزيز } لا يغلب { ذو انتقام * } ممن خالف أمره .
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
ولما كان هذا عاماً في كل صيد ، بين أنه خاص بصيد البر فقال : { أحل لكم صيد البحر } أي اصطياده ، أي الذي مبناه غالباً على الحاجة ، والمراد به جميع المياه من الأنهار والبرك وغيرها { وطعامه } أي مصيده طرياً وقديداً ولو كان طافياً قذفه البحر ، وهو الحيتان بأنواعها وكل ما لا يعيش في البر ، وما أكل مثله في البر .
ولما أحل ذلك ذكر علته فقال : { متاعاً لكم } أي إذا كنتم مسافرين أو مقيمين { وللسيارة } أي يتزودونه إلى حيث أرادوا من البر أو البحر ، وفي تحليل صيد البحر حال الابتلاء من النعمة على هذه الأمة ما يبين فضلها على من كان قبلها ممن جعل صيد البحر له محنة يوم الابتلاء - ولله الحمد ، والظاهر أن المراد بصيد البحر الفعل ، لأن ثَمَّ أمرين : الاصطياد والأكل ، والمراد بيان حكمهما ، فكأنه أحل اصطياد حيوان البحر ، وأحل طعام البحر مطلقاً ما اصطادوه وما لم يصطادوه ، سواء كانوا مسافرين أو مقيمين ، وذلك لأنه لما قدَّم تحريم اصطياد ما في البر بقوله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] أتبعه بيان إحلال اصطياد مصيد البحر في حال تحريم ذلك ، ثم أتبعه بيان حرمة مصيد البر بقوله : { وحرم عليكم صيد البر } أي اصطياده وأكل ما صيد منه لكم وهو ما لا عيش له إلاّ فيه ، وما يعيش فيه وفي البحر ، فإن صيدَ للحلال حل للمحرم أكله ، فإنه غير منسوب إليه اصطياده بالفعل ولا بالقوة { ما دمتم حرماً } لأن مبنى أمره غالباً في الاصطياد والأكل مما صيد على الترف والرفاهية ، وقد تقدم أيضاً حرمة اصطياد مصيد البر وحرمة الأكل مما صيد منه ، وتكرر ذلك بتكرر الإحرام في آية { غير محلي الصيد } [ المائدة : 1 ] وآية { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] فلا يعارضه مفهوم { ما دمتم حرماً } [ المائدة : 96 ] وعبر بذلك ليكون نصاً في الحرمة في كل جزء من أجزاء وقت الإحرام إلى تمام التحلل - والله أعلم ، ولا يسقط الجزاء بالخطأ والجهل كسائر محظورات الإحرام .
ولما كان الاصطياد بحشر المصيد إلى حيث يعجز عن الخلاص منه ، وكانت حالة الإحرام أشبه شيء بحالة الحشر في التجرد عن المخيط والإعراض عن الدنيا وتمتعاتها ، ختم الآية بقوله عطفاً على ما تقديره : فلا تأكلوا شيئاً منه في حال إحرامكم : { واتقوا الله } أي الذي له الأمر كله في ذلك وفي غيره من الاصطياد وغيره { الذي إليه تحشرون * } ليكون العرض عليه نصبَ أعينكم فتكونوا مواظبين على طاعته محترزين عن معصيته .
ولما كان الإحرام وتحريم الصيد فيه إنما هو لقصد تعظيم الكعبة ، بين تعالى حكمة ذلك وأنه كما جعل الحرم والإحرام سبباً لأمن الوحش والطير جعله سبباً لأمن الناس وسبباً لحصول السعادة دنيا وأخرى ، فقال مستأنفاً بياناً لحكمة المنع في أول السورة من استحلال من يقصدها للزيارة : { جعل الله } أي بما له من العظمة وكمال الحكمة ونفوذ الكلمة { الكعبة } وعبر عنها بذلك لأنها مأخوذة من الكعب الذي به قيام الإنسان وقوامه ، وبيّنها مادحاً بقوله : { البيت الحرام } أي الممنوع من كل جبار دائماً الذي تقدم في أول السورة أني منعتكم من استحلال من يؤمّه { قياماً للناس } أي في أمر معاشهم ومعادهم لأنها لهم كالعماد الذي يقوم به البيت ، فيأمن به الخائف ويقوى فيه الضعيف ويقصده التجار والحجاج والعمّار فهو عماد الدين والدنيا .
ولما ذكر ما به القوام من المكان ، أتبعه ذلك من الزمان فقال : { والشهر الحرام } أي الذي يفعل فيه الحج وغيره يأمن فيه الخائف .
ولما ذكر ما به القوام من المكان والزمان ، أتبعه ما به قوام الفقراء من شعائره فقال : { والهدي } ثم أتبعه أعزَّه وأخصه فقال : { والقلائد } أي والهدي العزيز الذي يقلد فيذبح ويقسم على الفقراء ، وفي الآية التفات إلى ما في أول السورة من قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام } [ المائدة : 2 ] - فقوانينُها أن من قصدها في شهر الحرام لم يتعرض له أحد ولو كان قتل ابنه ، ومن قصدها في غيره ومعه هدي قلده أو لم يقلده أو لم يكن معه هدي وقلد نفسه من لَحاء شجر الحرم لم يعرِض له أحد حتى أن بعضهم يلقي الهدي وهو مضطر فلا يعرض له ولو مات جوعاً ، وسواء في ذلك صاحبه وغيره لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيمها ، لأنه تعالى جبل العرب على الشجاعة ليفتح بهم البلاد شرقاً وغرباً ليظهرعموم رسالة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فلزم من ذلك شدة حرصهم على القتل والغارات ، وعلم أن ذلك إن دام بهم شَغلَهم عن تحصيل ما يحتاجون إليه لعيشهم ، فأدى إلى فنائهم ، فجعل بيته المكرم وما كان من أسبابه أماناً يكون به قوام معاشهم ومعايشهم ، فكان ذلك برهاناً ظاهراً على أن الإله عالم بجميع المعلومات وأن له الحكمة البالغة .
ولما أخبر بعلة التعظيم لما أمر بتعظيمه من نظم أمور الناس ، ذكر علة ذلك الجعل فقال : { ذلك } أي الجعل العظيم الذي تم أمره على ما أراد جاعله سبحانه { لتعلموا } أي بهذا التدبير المحكم { أن الله } أي الذي له الكمال كله الذي جعل ذلك { يعلم ما في السماوات } فلذلك رتبها ترتيباً فصلت به الأيام والليالي ، فكانت من ذلك الشهور والأعوام ، وفصّل من ذلك ما فصل للقيام المذكور { وما في الأرض } فلذلك جعل فيها ما قامت به مصالح الناس وكف فيه أشدهم وأفتكهم عن أضعفهم وآمن فيه الطير والوحش ، فيؤدي ذلك من له عقل رصين وفكر متين إلى أن يعلم أن فاعل ذلك من العظمة ونفوذ الكلمة بحيث يستحق الإخلاص في العبادة وأن يمتثل أمره في إحلال ما أحل من الطعام وتحريم ما حرم من الشراب وغير ذلك .
ولما ذكر هذا العلم العظيم ، ذكر ما هو أعم منه فقال : { وأن } أي ولتعلموا أن { الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً الذي فعل ذلك فتم له { بكل شيء عليم * } وإلاّ لما أثبت جميع مقتضيات ذلك ونفى جميع موانعه حتى كان ، ولقد اتخذ العرب - كما في السيرة الهشامية وغيرها - طواغيت ، وهي بيوت جعل لها سدنة وحجاباً وهدايا أكثروا منها ، وعظمت كل قبيلة ما عندها أشد تعظيم وطافوا به فلم يبلغ شيء منها ما بلغ أمر الكعبة المشرفة ولا قارب ، ليحصل العلم بأنه سبحانه لا شيء مثله ولا شريك له .
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
ولما أنتج هذا كله أنه على كل شيء قدير لأنه بكل شيء عليم ، وكانت هذه الآية - كما تقدم - ناظرةً إلى أول السورة من آية { لا تحلوا شعائر الله } [ المائدة : 2 ] وما بعدها أتم نظر ، ذكر سبحانه ما اكتنف آية { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] من الوعيد الذي ختم به ما قبلها والوعد الذي ختمت هي به في هذه الآية على ترتيبه ، سائقاً له مساق النتيجة والثمرة لما قبله ، بياناً لأن من ارتكب شيئاً من هذه المنهيات كان حظه ، فقال محذراً ومبشراً لأن الإيمان لا يتم إلاّ بهما : { اعلموا أن الله } أي الذي له المعظمة كلها الذي نهاه عنها { شديد العقاب } فليكن عباده على حذر منه ، وأن من أوقعه في شيء منها القدر ، ثم فتح له التوفيقُ بابَ الحذر ، فكفر فيما فيه كفارة وتاب ، كان مخاطباً بقوله : { وأن } أي واعلموا أن { الله } أي الذي له الجلال والإكرام مع كونه شديد العقاب { غفور رحيم * } يقبل عليه ويمحو زلله ويكرمه ، فكان اكتناف أسباب الرجاء سابقاً للإنذار ولاحقاً معلماً بأن رحمته سبقت غضبه وأن العقاب إنما هو لإتمام رحمته ، قال ابن الزبير : ثم قال { جعل الله الكعبة } [ المائدة : 97 ] - فنبه على سوء العاقبة في منع البحث على التعليل وطلب الوقوف على ما لعله مما استأثر الله بعلمه ، ومن هذا الباب أتى على بني إسرائيل في أمر البقرة وغير ذلك؛ وجعل هذا التنبيه إيماء ، ثم أعقبه بما يفسره { يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء } [ المائدة : 101 ] - ووعظهم بحال غيرهم في هذا ، وأنهم سألوا فأعطوا ثم امتحنوا ، وقد كان التسليم أولى لهم ، فقال تعالى { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } [ المائدة : 102 ] ثم عرّف عباده أنهم إذا استقاموا فلن يضرهم خذلان غيرهم { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } [ المائدة : 105 ] - انتهى .
ولما رغب سبحانه ووهب ، علم أنه المجازى وحده ، فأنتج ذلك أنه ليس إلى غيره إلاّ ما كلفه به ، فأنتج ذلك ولا بد قوله : { ما على الرسول } أي الذي من شأنه الإبلاغ { إلا البلاغ } أي بأنه يحل لكم الطعام وغيره ويحرم عليكم الخمر وغيرها ، وليس عليه أن يعلم ما تضمرون وما تظهرون ليحاسبكم عليه { والله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { يعلم ما تبدون } أي تجددون إبداءه على الاستقرار { وما تكتمون * } من إيمان وكفر وعصيان وطاعة وتعمد لقتل الصيد وغيره ومحبة للخمر وغيرها وتعمق في الدين بتحريم الحلال من الطعام والشراب وغيره إفراطاً وتفريطاً ، لأنه الذي خلقكم وقدّر ذلك فيكم في أوقاته ، فيجازيكم على ما في نفس الأمر ، من عصي أخذه بشديد العقاب ، ومن أطاعه منحه حسن الثواب ، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يحكم إلاّ بما يعلمه مما تبدونه ما لم أكشف له الباطن وآمره فيه بأمري ، وهذه أيضاً ناظرة إلى قوله تعالى
{ بلّغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] .
ولما سلب سبحانه العلم عن كل أحد وأثبته لنفسه الشريفة ، أنتج ذلك أنه لا أمر لغيره ولا نهي ولا إثبات ولا نفي ، فأخذ سبحانه يبين حكمة ما مضى من الأوامر في إحلال الطعام وغيره من الاصطياد والأكل من الصيد وغيره والزواجر عن الخمر وغيرها بأن الأشياء منها طيب وخبيث ، وأن الطيب وإن قل خير من الخبيث وإن كثر ، ولا يميز هذا من ذاك إلاّ الخلاق العليم ، فربما ارتكب الإنسان طريقة شرعها لنفسه ظانّاً أنها حسنة فجرته إلى السيئة وهو لا يشعر فيهلك ، كالرهبانية التي كانوا عزموا عليها والخمر التي دعا شغفُهم بها إلى الإنزال فيها مرة بعد أخرى إلى أن أكد فيها هنا أشد تأكيد ، وحذر فيها أبلغ تحذير ، فقال تعالى صارفاً الخطاب إلى أشرف الورى صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لا ينهض بمعرفة هذا من الخلق غيرُه : { قل لا يستوي الخبيث } أي من المطعومات والطاعمين { والطيب } أي كذلك ، فإن ما يتوهمونه في الكثرة من الفضل لا يوازي النقصان من جهة الخبيث .
ولما كان الخبيث من الذوات والمعاني أكثر في الظاهر وأيسر قال : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } والخبيث والطيب منه جسماني ومنه روحاني ، وأخبثهما الروحاني وأخبثه الشرك ، وأطيب الطيب الروحاني وأطيبه معرفة الله وطاعته ، وما يكون للجسم من طيب أو خبث ظاهر لكل أحد ، فما خالطه نجاسة صار مستقذراً لأرباب الطباع السليمة ، وما خالط الأرواح من الجهل صار مستقذراً عند الأرواح الكاملة المقدسة ، وما خالطه من الأرواح معرفةُ الله فواظب على خدمته أشرق بأنوار المعارف الإلهية وابتهج بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة ، وكما أن الخبيث والطيب لا يستويان في العالم الروحاني كذلك لا يستويان في العالم الجسماني ، والتفاوت بينهما في العالم الروحاني أشد ، لأن مضرة خبث الجسماني قليلة ، ومنفعة طيبه يسيرة ، وأما خبث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة ، وطيب الروحاني منفعته جليلة دائمة ، وهي القرب من الله والانخراط في زمرة السعداء ، وأدلّ دليل على إرادة العصاة والمطيعين قوله : { فاتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين ما يسخط الملك الأعظم الذي له صفات المال من الحرام وقايةً من الحلال لتكونوا من قسم الطيب ، فإنه لا مقرب إلى الله مثلُ الانتهاء عما حرم - كما تقدم الإشارة بقوله : { ثم اتقوا وأحسنوا } [ المائدة : 93 ] ويزيد المعنى وضوحاً قوله { يا أولي الألباب } أي العقول الخالصة من شوائب النفس فتؤثروا الطيب وإن قل في الحبس لكثرته في المعنى على الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى { لعلكم تفلحون * } أي لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب ، وحينئذ ظهر كالشمس مناسبة تعقيبها بقوله على طريق الاستئناف والاستنتاج : { يا أيها الذين آمنوا } أي أعطوا من أنفسهم العهد على الإيمان الذي معناه قبول جميع ما جاء به مَنْ وقع به الإيمان { لا تسئلوا عن أشياء } وذلك لأنهم إذا كانوا على خطر فيما يسرعون وفيما به ينتفعون من المآكل والمشارب وغيرها من الأقوال والأفعال فهم مثله فيما عنه يسألون سواء سألوا شرعه أو لا ، لأنه ربما أجابهم من لا يضره شيء إلى ما فيه ضررهم مما سألوه ، فإنهم لا يحسنون التفرقة بين الخبيث والطيب كما فعل بأهل السبت حيث أبوا الجمعة وسألوه ، فاشتد اعتناقها حينئذ بقوله :
{ إن الله يحكم ما يريد } [ المائدة : 1 ] وبقوله : { ما على الرسول إلا البلاغ } [ المائدة : 99 ] فكان كأنه قيل : فما بلغكم إياه فخذوه بقبول وحسن انقياد ، وما لا فلا تسألوا عنه ، وسببُ نزولها - كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه « أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فغضب فصعد المنبر فقال : لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم - وشرح يكرر ذلك ، وإذ جاء رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال : يا رسول الله! من أبي؟ قال : أبوك حذافة ، ثم أنشأ عمر رضي الله عنه فقال : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً ، نعوذ بالله من سوء الفتن . وفي آخره : فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } » وللبخاري في التفسير عن أنس أيضاً قال : « خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط ، قال : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ، لهم حنين ، فقال رجل : من أبي؟ قال : فلان ، فنزلت { لا تسئلوا عن أشياء } » الآية . وللبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء } حتى فرغ من الأية كلها » ولابن ماجه مختصراً وللحافظ أبي القاسم بن عساكر في الموافقات فيما أفاده المحب الطبري في مناقب العشرة وأبي يعلى في مسنده مطولاً عن أنس رضي الله عنه قال : « خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان ونحن نرى أن معه جبرئيل عليه السلام حتى صعد المنبر - وفي رواية : فخطب الناس - فقال : سلوني! فوالله لا تسألوني عن شيء اليوم إلا أخبرتكم وفي رواية : أنبأتكم به - فما رأيت يوماً كان أكثر باكياً منه ، فقال رجل : يا رسول الله - وفي رواية : فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله - إنا كنا حديث عهد بجاهلية ، من أبي؟ قال : أبوك حذافة - لأبيه الذي كان يدعى له - وفي رواية : أبوك حذافة الذي تدعى له - فقام إليه آخر فقال : يا رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار؟ فقال : في النار ، فقام إليه آخر فقال : يا رسول الله! أعلينا الحج كل عام؟ - وفي رواية : في كل عام - فقال : لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولو وجبت لم تقوموا بها ، ولو لم تقوموا بها عذبتم ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً - وفي رواية : رسولاً - لا تفضحنا بسرائرنا - وفي رواية : فقام إليه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله! إنا كنا حديث عهد بجاهلية فلا تبد علينا سرائرنا ، أتفضحنا بسرائرنا - اعف عنا عفا الله عنك ، فسرى عنه ، ثم التفت إلى الحائط فذكر بمثل الجنة والنار » وللإمام أحمد ومسلم والنسائي والدارقطني والطبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطب - وفي رواية : خطبنا - رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
« يا أيها الناس! إن الله قد فرض عليكم الحج حجوا » ، فقال رجل - وفي رواية النسائي : « فقال الأقرع بن حابس التميمي - : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال : من السائل؟ فقال : فلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده! لو قلت : نعم ، لوجبت ، ثم إذا لا تسمعون ولا تطيعون ، ولكن حجة واحدة » - وفي رواية الدارقطني والطبري : « ولو وجبت ما أطقتموها ، ولو لم تطيقوها » - وفي رواية الطبري : « ولو تركتموه - لكفرتم » ، فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } ثم قال : « ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فآتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه - وفي رواية : فاجتنبوه » وهذا الحديث له ألفاظ كثيرة من طرق شتى استوفيتها في كتابي « الاطلاع على حجة الوداع » ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردها إلى شيء واحد لما تقدم عند قوله تعالى : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } من أن الأمر الواحد قد تعدد أسبابه ، بل وكل ما ذكر من أسباب تلك وما أشبهه كقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال } [ النساء : 77 ] - الآية ، يصلح أن يكون سبباً لهذه ، وروى الدارقطني في آخر الرضاع من سننه عن أبي ثعلبة الخشني وفي آخر الصيد عن أبي الدرداء رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم حرمات فلا تنتهكوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » وقال أبو الدرداء : « فلا تكلفوها ، رحمة من ربكم فاقبلوها » وأخرج حديث أبي الدرداء أيضاً الطبراني .
ولما كان الإنسان قاصراً عن علم ما غاب ، فكان زجره عن الكشف عما يسوءه زجراً له عن كل ما يتوقع أن يسوءه ، قال تعالى : { إن تبد } أي تظهر { لكم } بإظهار عالم الغيب لها { تسؤكم } ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أن هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفاً من عواقبه - قال : { وإن تسئلوا عنها } أي تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها { حين ينزل القرآن } أي والملك حاضر { تبد لكم } ولما كان ربما قال : فما له لا يبديها سئل عنها أم لا؟ قال : { عفا الله } بما له من الغنى المطلق والعظمة الباهرة وجميع صفات الكمال { عنها } أي سترها فلم يبدها لكم رحمة منه لكم وإراحة عما يسوءكم ويثقل عليكم في دين أو دنيا؛ ولما كانت صفاته سبحانه أزلية ، لا تتوقف لواحدة منها على غيرها ، وضع الظاهر موضع المضمر لئلا يختص بما قبله فقال نادباً من وقع منه ذنب إلى التوبة : { والله } أي الذي له مع صفة الكمال صفة الإكرام { غفور } أزلاً وأبداً يمحو الزلات عيناً وأثراً ويعقبها بالإكرام على عادة الحكماء { حليم * } أي لا يعجل على العاصي بالعقوبة .
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
ولما نهى عن السؤال عنها ليتعرف حالها ، علل ذلك بأن غيرهم عرف أشياء وطلب أن يعطاها ، إما بأن سأل غيره ذلك ، وإما بأن شرعها وسأل غيره أن يوافقه عليها وهو قاطع بأنها غاية في الحسن فكانت سبب شقائه فقال : { قد سألها } يعني أمثالها ، ولم يقل : سأل عنها ، إشارة إلى ما أبدته { قوم } أي أولو عزم وبأس وقيام في الأمور .
ولما كان وجود القوم فضلاً عن سؤالهم لم يستغرق زمان القبل ، أدخل الجار فقال : { من قبلكم } ولما كان الشيء إذا جاء عن مسألة جديراً بالقبول لا سيما إذا كان من ملك فكيف إذا كان من ملك الملوك . فكان رده في غاية البعد ، عبر عن استبعاده بأداة العبد في قوله : { ثم أصبحوا بها } أي عقب إتيانهم إياها سواء من غير مهلة { كافرين * } أي ثابتين في الكفر ، هذا زجر بليغ لأن يعودوا لمثل ما أرادوا من تحريم ما أحل لهم ميلاً إلى الرهبانية والتعمق في الدين المنهي عنه بقوله : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } [ المائدة : 87 ] .
ولما فرغ من زجرهم عن أن يشرعوا لأنفسهم أو يسألوه عن أن يشرع لهم وأن يسألوا مَنْ رحمهم بابتدائهم بهذا الشرع عن شيء من الأشياء اعتماداً على أنه ما ابتدأ بذلك إلا وهو غير مخف عنهم شيئاً ينفعهم ولا مبد لهم شيئاً يضرهم لأنه بكل شيء عليم - كما تقدم التنبيه على ذلك ، قال معللاً بختام الآية التي قبلها : { ما جعل الله } أي الذي له صفات الكمال فلا يشرع شيئاً إلا وهو على غاية الحكمة ، وأغرق في النفي بقوله : { من بحيرة } وأكد النفي بإعادة النافي فقال : { ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } دالاً بذلك على أن الإنسان قد يقع في شرعه لنفسه على الخبيث دون الطيب ، وذلك لأن الكفار شرعوا لأنفسهم هذا وظنوا أنه من محاسن الأعمال ، فإذا هو مما لا يعبأ الله به بل ومما يعذب عليه ، لكونه أوقعهم فيما كانوا معترفين بأنه أقبح القبائح وهو الكذب ، بل في أقبح أنواعه وهو الكذب على ملك الملوك ، ثم صار لهم ديناً ، وصاروا أرسخ الناس فيه وهو عين الكفر ، وهم معترفون بأنه ما شرعه إلا عمرو بن لحي وهو أول من غير دين إبراهيم - كما رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن عمْراً أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي » ورواه عبد بن حميد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وفي آخره : « وكان عمرو بن لحي أول من حمل العرب على عبادة الأصنام »
ورواه البخاري في المناقب من صحيحه ومسلم في صفة النار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، وكان أول من سيّب السوائب » قال ابن هشام في السيرة : والبحيرة عندهم الناقة تشق أذنها فلا يركب ظهرها ولا يجزّ وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف أو يتصدق به وتهمل لآلهتهم . وروى البخاري في المناقب ومسلم في صفة النار عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة التي كانوا يسيّبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء . وكذا رواه البخاري أيضاً في التفسير وقال : والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثنى بعد بأنثى . وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر وقال البرهان السفاقسي في إعرابه : قال أبو عبيد : وهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، في الآخر . ذكر ، شقوا أذنها وخلو سبيلها لا تركب ولا تحلب - وقيل غير ذلك ، وقال أبو حيان في النهر : قال ابن عباس : السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق ، وكان الرجل يسيب من ماله شيئاً فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل ، والوصيلة قال ابن عباس - إنها الشاة تنتج سبعة أبطن ، فإن كان السابع أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء ، وإن كان ذكراً ذبحوه وأكلوه جميعاً ، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فتترك مع أخيها فلا تذبح ، ومنافعها للرجال دون النساء ، فإذا ماتت اشترك الرجال والنساء فيها . وقال ابن هشام : والحامي الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر ، حمى ظهره فلم يركب ظهره ولم يجزّ وبره وخلى في إبله يضرب فيها لا ينتفع منه بغير ذلك . وقال السفاقسي : قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم - واختاره أبو عبيدة و الزجاج - : هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيقولون : قد حمى ظهره ، فيسيبونه لأصنامهم فلا يحمل عليه شيء .
ولما كانوا قد حرموا هذه الأشياء ، وكان التحريم والتحليل من خواص الإله ، وكان لا إله إلا الله ، كان حكمهم عليها بالحرمة نسبة لذلك إلى الله سبحانه كذباً ، فقال تعالى بعد أن نفى أن يكون جعل شيئاً من ذلك : { ولكن الذين كفروا } أي ستروا ما دل عليه عقلهم من أن الله ما جعل هذا ، لأنهم لا وصول لهم إليه سبحانه وعز شأنه ، فلذلك قال : { يفترون } أي يتعمدون بجعل هذه الأشياء من تحريم وتحليل { على الله } أي الملك الأعلى { الكذب } فيحرمون ما لم يحرمه ويحللون ما لم يحلله { وأكثرهم } أي هؤلاء الذين جعلوا هذه الأشياء { لا يعقلون * } أي لا يتجدد لهم عقل ، وهم الذين ماتوا على كفرهم .
ثم لما حرموا هذه الأشياء اضطروا إلى تحليل الميتة فحرموا الطيب وأحلوا الخبيث . ولما اتخذوه ديناً واعتقدوه شرعاً ومضى عليه أسلافهم ، دعتهم الحظوظ والأنفة من نسبة آبائهم إلى الضلال والشهادة عليهم بالسفه إلى الإصرار عليه وعدم الرجوع عنه بعد انكشاف قباحته وبيان شناعته حتى أفنى أكثرهم السيف ووطأتهم الدواهي ، فوطأت أكتافهم وذللت أعناقهم وأكنافهم ، فقال تعالى دالاً على ختام الآية التي قبله من عدم عقلهم : { وإذا قيل لهم } أي من أيّ قائل كان ولو أنه ربهم ، بما ثبت من كلامهم بالعجز عنه أنه كلامه { تعالوا } أي ارفعوا أنفسكم عن هذا الحضيض السافل { إلى ما أنزل الله } أي الذي لا أعظم منه ، وقد ثبت أنه أنزله بعجزكم عنه { وإلى الرسول } أي الذي من شأنه لكونه سبحانه أرسله أن يبلغكم ما يحبه لكم ويرضاه { قالوا حسبنا } أي يكفينا { ما وجدنا عليه آباءنا } .
ولما كانوا عالمين بأنه ليس في آبائهم عالم ، وأنه من تأمل أدنى تأمل عرف أن الجاهل لا يهتدي إلى شيء ، قال منكراً عليهم موبخاً لهم : { أولو } أي يكفيهم ذلك إذا قالوا ذلك ولو { كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً } أي من الأشياء حق علمه لكونهم لم يأخذوه عن الله بطريق من الطرق الواصلة إليه ، ولما كان من لا يعلم قد يشعر بجهله فيتعلم فيهتدي فيصير أهلاً للاقتداء به ، وقد لا يشعر لكونه جهله مركباً فلا يجوز الاقتداء به ، بين أنهم من أهل هذا القسم فقال : { ولا يهتدون * } أي لا يطلبون الهداية فلا توجد هدايتهم إلى صواب ، لأن من لا يعلم لا صواب له ، لأنه ليس للهدى آلة سوى العلم ، وأدل دليل على عدم هدايتهم أنهم ضيعوا الطيب من أموالهم فاضطرهم ذلك إلى أكل الخبيث من الميتة ، وأغضبوا بذلك خالقهم فدخلوا النار ، فلا أقبح مما يختاره لنفسه المطبوع على الكدر ، ولا أحسن مما يشرعه له رب البشر ، وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في سورة النساء { إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً } [ المساء : 117 ] إلى قوله : { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } [ النساء : 119 ] فالتفت حينئذ إلى قوله : { رجس من عمل الشيطان } أيّ التفات .
ولما كان المانع لهم من قبول الهدى كون ذلك تسفيهاً لآبائهم ، فيعود ضرراً عليهم يُسبَّون به على زعمهم ، أعلم الله المؤمنين أن مخالفة الغير في قبول الهدى لا تضرهم أصلاً ، بأن عقب آية الإنكار عليهم في التقيد بآبائهم لمتابعتهم لهم في الكفر بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } أي عاهدوا ربهم ورسوله على الإيمان { عليكم أنفسكم } أي الزموا هدايتها وإصلاحها؛ ولما كان كأنه قيل : إنا ننسب بآبائنا ، وننسب إليهم ، فربما ضرتنا نسبتنا إليهم عند الله كما جوز أكثم بن الجون الخزاعي أن يضره شبه عمرو ابن لحي به حتى سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال :
« لا ، إنك مؤمن وهو كافر » - كما في أوائل السيرة الهشامية عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وكان ذلك ربما وقف بأحد منهم عن الإسلام قال : { لا يضركم من ضل } أي من المخالفين بكفر أو غيره بنسبتكم إليه ولا بقول الكفار : إنكم سفهتم آراءكم ، ولا بغير ذلك من وجوه الضرر ، وحقق هدايتهم بشارة لهم بأداة التحقيق فقال مفهماً لوجود الضرر عند فقد الهداية : { إذا اهتديتم } أي بالإقبال على ما أنزل الله وعلى الرسول حتى تصيروا علماء وتعملوا بعلمكم فتخالفوا من ضل ، فإن كان موجوداً فبالاجتهاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بحسب الطاقة ، فإن لم يستطع رده انتظر به يوم الجمع الأكبر والهول الأعظم ، وإن كان مفقوداً فبمخالفته في ذلك الضلال وإن كان أقرب الأقرباء وأولى الأحباء ، وإلا كان الباقي أسفه من الماضي ، وقد كان لعمري أحدهم لا يتبع أباه إذا كان سفيهاً في أمر دنياه عاجزاً عن تحصيلها ولا يتحاشى عن مخالفته في طريقته بل يعد الكدح في تحصيلها والتعمق في اقتناصها وحسن السعي في تثميرها ولطف الحيلة في توسيعها من معالي الأخلاق وإصالة الرأي وجودة النظر على أن ذلك ظل زائل وعرض تافه ، فكيف لا يخالفه فيما به سعادته الأبدية وحياته الباقية ويأخذ بالحزم في ذلك ويشمر ذيله في أمره ويسهر ليله في إعمال الفكر وترتيب النظر فيما أمره الله بالنظر فيه حتى يظهر له الحق فيتبعه ، وينهتك لديه الباطل فيجتنبه ، ما ذاك إلا لمجرد الهوى ، وقد كان الحزم العمل بالحكمة التي كشفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه « الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني » وروى مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير أحرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا - وقال ابن ماجه : ولا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا - فإن » لو « تفتح عمل الشيطان » ، وفي بعض طرق الحديث : « ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل » يعني : والله! اعمل عمل الحزمة فأوسع النظر حتى لا تترك أمراً يحتمل أن ينفعك ولا يضرك إلا أخذت به ، ولا تدع أمراً يحتمل أن يضرك ولا ينفعك إلا تجتنبه ، فإنك إن فعلت ذلك وغلبك القضاء والقدر لم نجد في وسعك أمراً تقول : لو أني فعلته أو تركته ، ولكنك تقول : قدر الله وما شاء فعل ، بخلاف ما إذا لم تنعم النظر وعملت عمل العجزة فإنك حتماً تقول : لو أني فعلت كذا وكذا ، لأن الشيطان يفتح لك تلك الأبواب التي نظر فيها الحازم ، فيكثر لك من « لو » لأنها مفتاح عمله ، وليس في الآية ما يتعلق به من يتهاون في الأمر بالمعروف كما يفعله كثير من البطلة؛ روى أحمد في المسند عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه
« أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في أمر رآه : يا أبا عامر! ألا غيرت؟ فتلا هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أين ذهبتم؟ إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم » وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحارث وأحمد بن منيع وأبو يعلى « أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه . قال البغوي : وفي رواية : لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب ، ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجاب لكم » والله الموفق .
ولما حكم الله تعالى - وهو الحكم العدل - أنه لا ضرر عليهم من غيرهم بشرط هداهم ، وكان الكفار يعيرونهم ، قال مؤكداً لما أخبر به ومقرراً لمعناه : { إلى الله } أي الملك الأعظم الذي لا شريك له ، لا إلى غيره { مرجعكم } أي أنتم ومن يعيركم ويهددكم وغيرهم من جميع الخلائق { جميعاً فينبئكم } أي يخبركم إخباراً عظيماً مستوفى مستقصى { بما كنتم تعملون * } أي تعمداً جبلة وطبعاً ، ويجازي كل أحد بما عمل على حسب ما عمل . ولا يؤاخذ أحداً بما عمل غيره ولا بما أخطأ فيه أو تاب منه ، وليس المرجع ولا شيء منه إلى الكفار ولا معبوداتهم ولا غيرهم حتى تخشوا شيئاً من غائلتهم في شيء من الضرر .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
ولما خاطب سبحانه أهل ذلك الزمان بأنه نصب المصالح العامة كالبيت الحرام والشهر الحرام ، وأشار بآية البحيرة وما بعدها إلى أن أسلافهم لا وفّروا عليهم مالهم ولا نصحوا لهم في دينهم ، وختم ذلك بقهره للعباد بالموت وكشف الأسرار يوم العرض بالحساب على النقير والقطمير والجليل والحقير؛ عقب ذلك بآية الوصية إرشاداً منه سبحانه إلى ما يكشف سريرة مَنْ خان فيها علماً منه سبحانه أن الوفاء في مثل ذلك يقل وحثاً لهم على أن يفعلوا ما أمر سبحانه به لينصحوا لمن خلفوه بتوفير المال ويقتدي بهم فيما ختم به الآية من التقوى والسماع والبعد من الفسق والنزاع ، فقال تعالى منادياً لهم بما عقدوا به العهد بينهم وبينه من الإقرار بالإيمان : { يا أيها الذين آمنوا } أي أخبروا عن أنفسهم بذلك { شهادة بينكم } هو كناية عن التنازع والتشاجر لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند ذلك ، وسبب نزول الآية قد ذكره المفسرون وذكره الشافعي في الأم فقال : أخبرني أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال : أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك « أن رجلين نصرانيين من أهل دارين أحدهما تميمي والآخر يماني ، صحبهما مولى لقريش في تجارة فركبوا البحر ، ومع القرشي مال معلوم قد علمه أولياؤه من بين آنية وبز ورِقَةٍ فمرض القرشي فجعل وصيته إلى الداريين فمات ، وقبض الداريان المال فدفعاه إلى أولياء الميت ، فأنكر القوم قلة المال فقالوا للداريين : إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به ، فهل باع شيئاً أو اشترى فوضع فيه؟ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا : لا ، قالوا : فإنكما خنتمانا ، فقبضوا المال ، ورفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } [ المائدة : 106 ] فلما نزلت أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقاما بعد الصلاة ، فحلفا بالله رب السماوات : ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به ، فلما حلفا خلي سبيلهما ، ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت فأخذوا الداريين فقالا : اشتريناه منه في حياته ، فكُذِّبا وكُلِّفا البينة فلم يقدرا عليها ، فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل { فإن عثر } - يعني إلى آخرها » ثم ذكر وقت الشهادة وسببها فقال : { إذا حضر } وقدم المفعول تهويلاً - كما ذكر في النساء - لأن الآية نزلت لحفظ ماله فكان أهم ، فقال : { أحدكم الموت } أي أخذته أسبابه الموجبة لظنه .
ولما كان الإيصاء إذ ذاك أمراً متعارفاً ، عرف فقال معلقاً بشهادة كما علق به { إذا } أو مبدلاً من { إذا } لأن الزمنين واحد : { حين الوصية } أي إن أوصى ، ثم أخبر عن المبتدأ فقال : { اثنان } أي شهادة بينكم في ذلك الحين شهادة اثنين { ذوا عدل منكم } أي من قبيلتكم العارفين بأحوالكم { أو آخران } أي ذوا عدل { من غيركم } أي إن لم تجدوا قريبين يضبطان أمر الوصية من كل ما للوصي وعليه ، وقيل : بل هما الوصيان أنفسهما احتياطاً بجعل الوصي اثنين ، وقيل : آخران من غير أهل دينكم ، وهو خاص بهذا الأمر الواقع في السفر للضرورة لا في غيره ولا في غير السفر؛ ثم شرط هذه الشهادة بقوله : { إن أنتم ضربتم } أي بالأرجل { في الأرض } أي بالسفر ، كأن الضرب بالأرجل لا يسمى ضرباً إلا فيه لأنه موضع الجد والاجتهاد { فأصابتكم } وأشار إلى أن الإنسان هدف لسهام الحدثان بتخصيصه بقوله : { مصيبة الموت } أي أصابت الموصي المصيبةُ التي لا مفر منها ولا مندوحة عنها .
ولما كان قد استشعر من التفصيل في أمر الشهود مخالفة لبقية الشهادات ، فكان في معرض السؤال عن الشهود : ماذا يفعل بهم؟ قال مستأنفاً : { تحبسونهما } أي تدعونهما إليكم وتمنعونهما من التصرف لأنفسهما لإقامة ما تحملاه من هذه الواقعة وأدائه؛ ولما كان المراد إقامة اليمين ولو في أيسر زمن ، لا استغراق زمن البعد بالحبس ، أدخل الجار فقال : { من بعد الصلاة } أي التي هي أعظم الصلوات؛ فكانت بحيث إذا أطلقت معرفة انصرفت إليها وهي الوسطى وهي العصر ، ثم ذكر الغرض من حبسهما فقال : { فيقسمان بالله } أي الملك الذي له تمام القدرة وكمال العلم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا ، فإن كانا مسلمين فلا يمين ، وعن غيره ، إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما ، وإن كان الوصيين فلا؛ ثم شرط لهذا الحلف شرطاً فقال اعتراضاً بين القسم والمقسم عليه : { إن ارتبتم } أي وقع بكم شك فيما أخبرا به عن الواقعة؛ ثم ذكر المقسم عليه بقوله : { لا نشتري به } أي هذا الذي ذكرناه { ثمناً } أي لم نذكره ليحصل لنا به عرض دنيوي وإن كان في نهاية الجلالة ، وليس قصدنا به إلا إقامة الحق { ولو كان } أي الوصي الذي أقسمنا لأجله تبرئة له { ذا قربى } أي لنا ، أي إن هذا الذي فعلناه من التحري عادتنا التي أطعنا فيها { كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله } [ النساء : 135 ] - الآية ، لا أنه فعلنا في هذه الواقعة فقط { ولا نكتم شهادة الله } أي هذا الذي ذكرناه لم نبدل فيه لما أمر الله به من حفظ الشهادة وتعظيمها ، ولم نكتم شيئاً وقع به الإشهاد ، ولا نكتم فيما يستقبل شيئاً نشهد به لأجل الملك الأعظم المطلع على السرائر كما هو مطلع على الظواهر؛ ثم علل ذلك بما لقنهم إياه ليكون آخر كلامهم ، كل ذلك تغليظاً وتنبيهاً على أن ذلك ليس كغيره من الأيمان ، فقال تذكيراً لهم وتحذيراً من التغيير : { إنا إذاً } أي إذا فعلنا شيئاً من التبديل أو الكتم { لمن الآثمين * فإن } ولما كان المراد مجرد الاطلاع بني للمفعول قوله : { عثر } أي اطلع مطلع بقصد أو بغير قصد؛ قال البغوي : وأصله الوقوع على الشيء أي من عثرة الرجل { على أنهما } أي الشاهدين إن أريد بهما الحقيقة أو الوصيين { استحقا إثماً } أي بسبب شيء خانا فيه من أمر الشهادة { فآخران } أي من الرجال الأقرباء للميت { يقومان مقامهما } أي ليفعلا حيث اشتدت الريبة من الإقسام عند مطلق الريبة ما فعلا { من الذين استحق } أي طلب وقوع الحق بشهادة من شهد { عليهم } هذا على قراءة الجماعة ، وعلى قراءة حفص بالبناء للفاعل ، المعنى : وجد وقوع الحق عليهم ، وهم أهل الميت وعشيرته .
ولما كان كأنه قيل : ما منزلة هذين الآخرين من الميت؟ فقيل : { الأوليان } أي الأحقان بالشهادة الأقربان إليه العارفان بتواطن أمره ، وعلى قراءة أبي بكر وحمزة بالجمع ، كأنه قيل : هما من الأولين أي في الذكر وهم أهل الميت ، فهو نعت للذين استحق { فيقسمان } أي هذان الآخران { بالله } أي الملك الذي لا يقسم إلا به لما له من كمال العلم وشمول القدرة { لشهادتنا } أي بما يخالف شهادة الحاضرين للواقعة { أحق من شهادتهما } أي أثبت ، فإن تلك إنما ثباتها في الظاهر ، وشهادتنا ثابتة في نفس الأمر وساعدها الظاهر بما عثر عليه من الريبة { وما اعتدينا } أي تعمدنا في يميننا مجاوزة الحق { إنا إذاً } أي إذا وقع منا اعتداء { لمن الظالمين * } أي الواضعين الشيء في غير موضعه كمن يمشي في الظلام ، وهذا إشارة إلى أنهم على بصيرة ونور مما شهدوا به ، وذلك أنه لما وجد الإناء الذي فقده أهل الميت وحلف الداريان بسببه أنهما ما خانا طالبوهما ، فقالا : كنا اشتريناه منه ، فقالوا : ألم نقل لكما : هل باع صاحبنا شيئاً؟ فقلتما : لا ، فقالا : لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر فقام اثنان من أقارب الميت فحلفا على الإناء ، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إليهما ، لأن الوصيين ادعيا على الميت البيع فصار اليمين في جانب الورثة لأنهم أنكروا ، وسمي أيمان الفريقين شهادة كما سميت أيمان المتلاعنين شهادة - نبه على ذلك الشافعي ، وكان ذلك لما في البابين من مزيد التأكيد .
ولما تم هذا على هذا الوجه الغريب ، بين سبحانه سرَّه فقال : { ذلك } أي الأمر المحكم المرتب هذا الترتيب بالأيمان وغيرها { أدنى } أي أقرب { أن } أي إلى أن { يأتوا } أي الذين شهدوا أولاً { بالشهادة } أي الواقعة في نفس الأمر { على وجهها } من غير أدنى ميل بسبب أن يخافوا من الحنث عند الله بعد هذا التغليظ { أو يخافوا } إن لم يمنعهم الخوف من الله { أن ترد } أي تثنى وتعاد { أيمان } أي من الورثة { بعد أيمانهم } للعثور على ريبة فيصيروا بافتضاحهم مثلاً للناس ، قال الشافعي : وليس في هذا رد اليمين ، فما كانت يمين الداريين على ما ادعى الورثة من الخيانة ، ويمين ورثة الميت على ما ادعى الداريان مما وجد في أيديهما وأقرا أنه مال الميت وأنه صار لهما من قِبَله ، فلم تقبل دعواهما بلا بينة ، فأحلف وارثاه ، قال : وإذا كان هذا كما وصفت فليست الآية ناسخة ولا منسوخة لأمر الله بإشهاد ذوي عدل ومن نرضى من الشهداء ، هذا ما اقتضى إيلاؤها لما قبلها ، وقد نزعها إلى مجموع هذه السورة مَنازع منها ما تقدم من ذكر القتل الذي هو من أنواع الموت عند قصة بني آدم وما بعدها ، ثم تعقيب ذلك بالجهاد الذي هو من أسباب الموت ، وقوله تعالى :
{ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] ، ثم ذكره أيضاً في قوله تعالى : { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } [ المائدة : 54 ] وقد جرت السنة الإلهية بذكر الوصية عقب مثل ذلك في البقرة ، ولم يذكر عقب واحدة من الآيات المذكورة لزيادتها على آية البقرة بمنازع منها الحلف ، فناسب كونها بعد آية الأيمان ، ومنها تغليظ الحلف والخروج به عما يشاكله من القسم على المال بكونه في زمان مخصوص بعد عبادة مخصوصة ، فناسب ذكرها بعد تغليظ أمر الصيد في حال مخصوص وهو الإحرام والخروج به عن أشكاله من الأحوال وبعد تغليظ جزائه والخروج به عن أشكاله من الكفارات وتغليظ أمر المكان المخصوص وهو الكعبة والخروج بها عن أشكالها من البيوت ، وكذا تغليظ الزمان المخصوص وهو الشهر الحرام والخروج به عن أشكاله من الأزمنة . وكل ذلك لقيام أمر الناس وإصلاح أحوالهم ، وهكذا آية الوصية وما خرج من أحكامها عن أشكاله كله لقيام الأمور على السداد وإصلاح المعاش والمعاد ، وهي ملتفتة إلى أول السورة إذا هي من أعظم العهود ، والوفاءُ بها من أصعب الوفاء ، وإلى قوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } [ المائدة : 2 ] وإلى قوله تعالى : { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط } [ المائدة : 8 ] انظر إلى ختمها بقوله : { إن الله خبير بما تعملون } وإلى كون هذه في سياق الإعلام بأن الله عالم بالخفيات ، وقوله : - عطفاً على ما تقديره : فالزموا ما أمرتكم به وأرشدتكم إليه تفلحوا : { واتقوا الله } أي ذا الجلال والإكرام إلى آخرها - ملتفت إلى قوله : { وميثاقه الذي واثقكم به } [ المائدة : 7 ] - الأية ، أي خافوا الله خوفاً عظيماً يحملكم على أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية لئلا تحلفوا كاذبين أو تخونوا أدنى خيانة { واسمعو } أي الموعظة سمع إجابة وقبول ذاكرين لقولكم { سمعنا وأطعنا } [ البقرة : 285 ] فإن الله يهدي المتمسكين بالميثاق { والله } أي الذي له الكمال كله وتمام الحكمة وكمال العزة والسطوة { لا يهدي القوم } أي لا يخلق الهداية في قلوب الذين لهم قدرة على ما يحاولونه الفاسقين * } أي الذين هم خارجون ، أي من عادتهم ذلك على وجه الرسوخ ، فهم أبداً غير متقيدين بقيد ولا منضبطين بدائرة عقد ولا عهد .
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
ولما كان فيها إقامة الشهود وحبسهم عن مقاصدهم حتى يفرغوا من هذه الواقعة المبحوث فيها عن خفايا متعلقة بالموت والتغليظ بالتحليف بعد صلاة العصر ، وكانت ساعة يجتمع فيها الناس وفريقا الملائكة المتعاقبين فينا ليلاً ونهاراً مع أنها ساعة الأصيل المؤذنة بهجوم الليل وتقوّض النهار حتى كأنه لم يكن ورجوع الناس إلى منازلهم وتركهم لمعايشهم ، وكانت عادته سبحانه بأنه يذكر أنواعاً من الشرائع والتكاليف ، ثم يتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء وإما بشرح أحوال القيامة ، ليصير ذلك مؤكداً لما تقدم من التكاليف ، ولا ينتقل من فن إلى آخر إلا بغاية الإحكام في الربط ، عقبها تعالى بقوله : { يوم يجمع الله } أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة { الرسل } أي الذين أرسلهم إلى عباده بأوامره ونواهيه إشارة إلى تذكر انصرام هذه الدار وسرعة هجوم ذلك بمشاهدة هذه الأحوال المؤذنة به وبأنه يوم يقوم فيه الأشهاد ، ويجتمع فيه العباد ، ويفتضح فيه أهل الفساد - إلى غير ذلك من الإشارات لأرباب البصائر والقلوب ، والظاهر أن « يوم » ظرف للمضاف المحذوف الدال عليه الكلام ، فإن من المعلوم أنك إذا قلت : خف من فلان ، فإن المعنى : خَف من عقابه ونحو ذلك ، فيكون المراد هنا : واتقوا غضب الله الواقع في ذلك اليوم ، أي اجعلوا بينكم وبين سطواته في ذلك اليوم وقايةً ، أو يكون المعنى : اذكروا هذه الواقعة وهذا الوقت الذي يجمع فيه الشهود ويحبس المعترف والجحود يوم الجمع الأكبر بين يدي الله تعالى ليسألهم عن العباد ويسأل العباد عنهم { فيقول } أي للرسل تشريعاً لهم وبياناً لفضلهم وتشريفاً للمحق من أممهم وتبكيتاً للمبطل وتوبيخاً للمُفْرط منهم والمفرّط .
ولما كان مما لا يخفى أصلاً أنهم أجيبوا ، ولا يقع فيه نزاع ولا يتعلق بالسؤال عنه غرض ، تجاوز السؤال إلى الاستفهام من نوع الإجابة فقال : { ماذا أجبتم } أي أيّ إجابة أجابكم من أرسلتم إليهم؟ إجابة طاعة أو إجابة معصية .
ولما كان المقصود من قولهم بيان الناجي من غيره ، وكانت الشهادة في تلك الدار لا تنفع إلا فيما وافق فيه الإضمار الإظهار ، فكانت شهادتهم لا تنفع المشهود له بحسن الإجابة إلا أن يطابق ما قاله بلسانه اعتقاده بقلبه { قالوا } نافين لعلمهم أصلاً ورأساً إذا كان موقوفاً على شرط هو من علم ما غاب ولا علم لهم به { لا علم لنا } أي على الحقيقة لأنا لا نعلم إلا ما شهدناه ، وما غاب عنا أكثر ، وإذا كان الغائب قد يكون مخالفاً للمشهود ، فما شهد ليس بعلم ، لأنه غير مطابق للواقع ، ولهذا عللوا بقولهم : { إنك أنت } أي وحدك { علام الغيوب * } أي كلها ، تعلمها علماً تاماً فكيف بما غاب عنا من أحوال قومنا! فكيف بالشهادة! فكيف بما شهدنا من ذلك! وهذا في موضع قولهم : أنت أعلم ، لكن هذا أحسن أدباً ، فإنهم محوا أنفسهم من ديوان العلم بالكلية ، لأن كل علم يتلاشى إذا نسب إلى علمه ويضمحل مهما قرن بصفته أو اسمه .
ولما كان سؤاله سبحانه للرسل عن الإجابة متضمناً لتبكيت المبطلين وتوبيخهم ، وكان أشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ أهل الكتاب ، لأن تمردهم تعدى إلى رتبة الجلال بما وصفوه سبحانه به من اتخاذ الصاحبة والولد ، ومن ادعاء الإلهية لعيسى عليه السلام لما أظهر من الخوارق التي دعا بها إلى الله مع اقترانها بما يدل على عبوديته ورسالته لئلا يهتضم حقه أو يُغلى فيه ، مع مشاركتهم لغيرهم في أذى الرسل عليهم السلام بالتكذيب وغيره ، وكان في الآية السالفة ذكر الآباء وما آثروا للأبناء ، ذكر أمر عيسى عليه السلام بقوله مبدلاً من قوله : { يوم يجمع الله } معبراً بالماضي تذكيراً بما لذلك اليوم من تحتم الوقوع ، وتصويراً لعظيم تحققه ، وتنبيهاً على أنه لقوة قربه كأنه قد وقع ومضى : { إذ قال الله } أي المستجمع لصفات الكمال { يا عيسى } ثم بينه بما هو الحق من نسبه فقال : { ابن مريم } .
ولما كان ذلك يوم الجمع الأكبر والإحاطة بجميع الخلائق وأحوالهم في حركاتهم وسكناتهم ، وكان الحمد هو الإحاطة بأوصاف الكمال ، أمره بذكر حمده سبحانه على نعمته عنده فقال : { اذكر نعمتي عليك } أي في خاصة نفسك ، وذكر ما يدل للعاقل على أنه عبد مربوب فقال : { وعلى والدتك } إلى آخره مشيراً إلى أنه أوجده من غير أب فأراحه مما يجب للآباء من الحقوق وما يورثون أبناءهم من اقتداء أو اهتداء وإقامة بحقوق أمه ، فأقدره - وهو في المهد - على الشهادة لها بالبراءة والحصانة والعفاف ، وكل نعمة أنعمها سبحانه عليه صلى الله عليه وسلم فهي نعمة أمه ديناً ودنيا .
ولما ذكر سبحانه هذه الأمة المدعوة من العرب وأهل الكتاب وغيرهم بنعمه عليهم في أول السورة بقوله : { اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه } [ المائدة : 7 ] ، { واذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم } [ المائدة : 11 ] ، وكانت هذه الآيات من عند { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } [ المائدة : 87 ] كلها في النعم ، أخبرهم أنه يذكّر عيسى عليه السلام بنعمه في يوم الجمع إشارة إلى أنهم إن لم يذكروا نعمه في هذه الدار دار العمل بالشكر ، ذكروها حين يذكّرهم بها في ذلك اليوم قسراً بالكفر ، ويا لها فضيحةً في ذلك الجمع الأكبر والموقف الأهول! وليتبصّر أهل الكتاب فيرجعوا عن كفرهم بعيسى عليه السلام : اليهودُ بالتقصير في أمره ، والنصارى بالغلو في شأنه وقدره .
ولما كان أعظم الأمور التنزيه ، بدأ به كما فعل بنفسه الشريفة في كلمة الدخول إلى الإسلام ، ولما كان أعظم ذلك تنزيهه أمه عليها السلام وتصحيح ما خرق لها من العادة في ولادته ، وكان أحكم ما يكون ذلك بتقوية روحه حتى يكون كلامه طفلاً ككلامه كهلاً ، قدمه فقال معلقاً قارناً بكل نعمة ما يدل على عبوديته ورسالته ، ليخزي من غلا في أمره أو قصّر في وصفه وقدره : { إذ أيدتك } أي قويتك تقوية عظيمة { بروح القدس } أي الطهر الذي يحيي القلوب ويطهرها من أوضار الآثام ، ومنه جبرئيل عليه السلام ، فكان له منه في الصغر حظ لم يكن لغيره؛ قال الحرالي : وهو يد بسط لروح الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعاً إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام ثم استأنف تفسير هذا التأييد فقال : { تكلم الناس } أي من أردت من عاليهم وسافلهم { في المهد } أي بما برأ الله من أمك وأظهر به كرامتك وفضلك .
ولما ذكر هذا الفضل العظيم ، أتبعه خارقاً آخر ، وهو إحياؤه نفسه وحفظُه جسدَه أكثر من ألف سنة لم يدركه الهرم؛ فإنه رفع شاباً وينزل على ما رفع عليه ويبقى حتى يصير كهلاً ، وتسويةُ كلامه في المهد بكلامه في حال بلوغ الأشدّ وكمال العقل خرقاً لما جرت به العوائد فقال : { وكهلاً } ولما ذكر هذه الخارقة ، أتبعها روح العلم الرباني فقال : { وإذ علمتك الكتاب } أي الخط الذي هو مبدأ العلم وتلقيح لروح الفهم { والحكمة } أي الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم { والتوراة } أي المنزلة على موسى عليه السلام { والإنجيل } أي المنزل عليك .
ولما ذكر تأييده بروح الروح ، أتبعه تأييده بإفاضة الروح على جسد لا أصل له فيها فقال : { وإذ تخلق من الطين } أي هذا الجنس { كهيئة الطير بإذني } ثم سبب عن ذلك قوله : { فتنفخ فيها } أي في الصورة المهيأة { فتكون } أي تلك الصورة التي هيأتها { طيراً بإذني } ثم بإفاضة روح ما على بعض جسد ، إما ابتداء في الأكمة كما في الذي قبله ، وإما إعادة كما في الحادث العمى والبرص بقوله : { وتبرئ الأكمة والأبرص } .
ولما كان من أعظم ما يراد بالسياق توبيخ من كفر به كرر قوله : { بإذني } ثم برد روح كامل إلى جسدها بقوله : { وإذ تخرج الموتى } أي من القبور فعلاً أو قوة حتى يكونوا كما كانوا من سكان البيوت { بإذني } ثم بعصمة روحه ممن أراد قتله بقوله : { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } أي اليهود لما هموا بقتلك؛ ولما كان ذلك ربما أوهم نقصاً استحلوا قصده به ، بين أنه قصد ذلك كعادة الناس مع الرسل والأكابر من أتباعهم تسلية لهذا النبي الكريم والتابعين له بإحسان فقال : { إذ جئتهم بالبينات } أي كلها ، بعضها بالفعل والباقي بالقوة لدلالة ما وجد عليه من الآيات الدالة على رسالتك الموجبة لتعظيمك { فقال الذين كفروا } أي غطوا تلك البينات عناداً { منهم إن } أي ما { هذا إلا سحر مبين * } ثم بتأييده بالأنصار الذين أحيى أرواحهم بالإيمان وأجسادهم باختراع المأكل الذي من شأنه في العادة حفظ الروح ، وذلك في قصة المائدة وغيرها فقال : { وإذ أوحيت } أي بإلهام باطناً وبإيصال الأوامر على لسانك ظاهراً { إلى الحواريين } أي الأنصار { أن آمنوا بي وبرسولي } أي الذي أمرته بالإبلاغ يعني إبلاغ الناس ما آمرهم به ، ثم استأنف مبيناً لسرعة أجابتهم لجعله محبباً إليهم مطاعاً فيهم بقوله : { قالوا آمنا } .
ولما كان الإيمان باطناً فلا بد في إثباته من دليل ظاهر ، وكان في سياق عدّ النعم والطواعية لوحي الملك الأعظم دلوا عليه بتمام الانقياد ، ناسب المقام زيادة التأكيد بإثبات النون الثالثة في قولهم : { واشهد بأننا } بخلاف آل عمران { مسلمون * } أي منقادون أتم انقياد ، فلا اختيار لنا إلا ما تأمرنا به ، وانظر ما أنسب إعادة « إذ » عند التذكير بروح كامل حساً أو معنى وحذفها عند الناقص ، فأثبتها عند التأييد بها في أصل الخلق وفي الكمال الموجب للحياة الأبدية وفي تعليم الكتاب وما بعده المفيض لحياة الأبد على كل من تخلّق بأخلاقه وفي خلق الطير وهو ظاهر وهكذا إلى الآخر .
ذكرُ شيء مما عزي إليه من الحكمة في الإنجيل : قال متى : وكان يسوع يطوف المدن والقرى ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل الأمراض والأوجاع ، ثم قال : فلما سمع يوحنا في السجن بأعمال المسيح أرسل إليه اثنين من تلاميذه قائلاً : أنت هو الآتي أم نترجى آخر؟ قال لوقا : وفي تلك الساعة أبرأ كثيراً من الأمراض والأوجاع والأرواح الشريرة ووهب النظر لعميان كثيرين ، فأجاب يسوع وقال لهما : اذهبا وأعلما يوحنا بما رأيتما وسمعتما ، العميان يبصرون والعرج يمشون والبرص يتطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون ، فطوبى لمن لا يشك فيّ! فلما ذهب تلميذا يوحنا بدأ يسوع يقول للجمع من أجل يوحنا : لماذا خرجتم إلى البرية تنظرون - قال لوقا : قصبة تحركها الريح - أم لماذا خرجتم تنظرون؟ إنساناً لابساً لباساً ناعماً؟ إن اللباس الناعم يكون في بيوت الملوك ، قال لوقا : فإن الذين عليهم لباس المجد والتنعم هم في بيوت الملوك - انتهى . لكن لماذا خرجتم تنظرون؟ نبياً؟ نعم ، أقول لكم : إنه أفضل من هذا الذي كتب من أجله : هوذا أنا مرسل ملكي أمام وجهك ليسهل طريقك قدامك ، الحق أقول لكم! إنه لم يقم في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمد ، والصغير في ملكوت السماء أعظم منه ، وجميع الشعب الذي سمع والعشارون شكروا الله حيث اعتمدوا من معمودية يوحنا ، فأما الفريسيون والكتاب فعلموا أنهم رفضوا أمر الله لهم إذ لم يعتمدوا منه؛ قال متى : ثم قال : من له أذنان سامعتان فليسمع! بماذا أشبه هذا الجيل؟ يشبه صبياناً جلوساً في الأسواق ، يصيحون إلى أصحابهم قائلين : زمّرنا لكم فلم ترقصوا ، ونحنا لكم فلم تبكوا ، جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب ، فقالوا : معه جنون ، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب ، فقالوا : هذا إنسان أكول شرّيب خليل العشارين والخطأة ، فتبررت الحكمة من بنيها ، حينئذ بدأ يعيّر المدن التي كان فيها أكثر قواته ، لأنهم لم يتوبوا ، ويقول : الويل لك يا كورزين! والويل لك يا بيت صيدا! لأن القوات اللاتي كنّ فيكما قديماً لو كنّ في صور وصيدا لتابوا بالمسوح والرماد ، لكن أقول لكم : إن لصور وصيدا راحة في يوم الدين أكثر منكن ، وأنت يا كفرناحوم لو ارتفعت إلى السماء ستهبطين إلى الجحيم ، لأنه لو كان في سدوم هذه القوات التي كانت فيك إذن لثبتت إلى اليوم ، وأقول لكم أيضاً : إن أرض سدوم تجد راحة يوم الدين أكثر منك .
ثم قال : وانتقل يسوع من هناك ودخل إلى مجمعهم وإذا رجل هناك يده يابسة - وقال لوقا : يده اليمنى يابسة - فسألوه قائلين : هل يحل أن يشفى في السبت؟ فقال لهم : أي إنسان منكم يكون له خروف ، يسقط في حفرة في السبت ، ولا يمسكه ويقيمه؟ فبكم أحزي الإنسان أفضل من الخروف ، فإذن جيد هو فعل الخير في السبت؛ وقال لوقا : فقال للرجل اليابس اليد : قف في الوسط ، فقام ، وقال لهم يسوع : أسألكم ماذا يحل أن يعمل في السبت؟ خير أم شر؟ نفس تخلص أم تهلك؟ فسكتوا؛ قال متى : حينئذ قال للإنسان : أمدد يدك ، فمدها فصحت مثل الأخرى ، فخرج الفريسيون - قال مرقس : مع أصحاب هيرودس - متوامرين في إهلاكه ، فعلم يسوع وانتقل من هناك وتبعه جمع كثير ، فشقى جميعهم ، وأمرهم أن لا يظهروا ذلك لكي يتم ما قيل في أشعيا النبي القائل : ها هوذا فتاي الذي هويت ، وحبيبي الذي به سررت ، أضع روحي عليه ويخبر الأمم بالحكم ، لا يماري ولا يصيح ولا يسمع أحد صوته في الشوارع ، قصبة مرضوضة لا تكسر ، وسراج مطفطف لا يطفأ حتى يخرج الحكم في الغلبة ، وعلى اسمه تتكل الأمم؛ ثم قال : وفي ذلك اليوم خرج يسوع من البيت وجلس جانب البحر ، فاجتمع إليه جمع كبير حتى أنه صعد إلى السفينة وجلس ، وكان الجمع كله قياماً على الشطّ ، وكلهم بأمثال كثيرة قائلاً : ها هو ذا خرج الزارع ليزرع ، وفيما هو يزرع سقط البعض على الطريق ، فأتى الطير وأكله - وقال لوقا : فديس وأكله طائر السماء - وبعض سقط على الصخرة حيث لم يكن له أرض كثيرة ، وللوقت شرق إذ ليس له عمق أرض ، ولما أشرقت الشمس احترق ، وحيث لم يكن له أصل يبس ، وبعض سقط في الشوك فطلع الشوك وخنقه؛ وقال مرقس : فخنقه بعلوه عليه فلم يأتي بثمرة؛ وقال متى : وبعض سقط في الأرض الجيدة فأعطى ثمره ، للواحد مائة وللآخر ستين وللآخر ثلاثين - قال لوقا : فلما قال هذا نادى : من له أذنان سامعتان فليسمع - فتقدم إليه تلاميذه وقالوا له : لماذا تكلمهم بالأمثال؟ فأجابهم وقال : أنتم أعطيتم معرفة سرائر ملكوت السماوات - وقال لوقا : فقال لهم : لكم أعطي علم سرائر ملكوت الله - وأولئك لم يعطوا ، ومن كان له يعطي ويزاد ، ومن ليس له فالذي له يؤخذ منه - وقال لوقا : والذي ليس له ينزع منه الذي يظن أنه له - فلهذا أكلمهم بالأمثال ، لأنهم يبصرون فلا يبصرون ، ويسمعون فلا يسمعون ولا يفهمون ، لكي تتم فيهم نبوة أشعيا لقائل : سمعاً يسمعون فلا يفهمون ، ونظراً ينظرون فلا يبصرون ، لقد غلظ قلب هذا الشعب ، وثقلت آذانهم عن السماع ، وغمضوا أعينهم لكيلا يبصروا بعيونهم ولا يسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم ، فأما أنتم فطوبى لعيونكم! لأنها تنظر ، ولآذانكم! لأنها تسمع؛ وقال لوقا : ومثل الزرع هذا هو كلام الله؛ وقال متى : كل من يسمع كلام الملكوت ولا يفهم يأتي الشرير فيخطف ما يزرع في قلبه ، هذا الذي زرع على الطريق ، والذي زرع على الصخرة هو الذي يسمع الكلام وللوقت يقبله بفرح ، وليس له فيه أصل ، لكن في زمان يسير ، إذا حدث ضيق أو طرد فللوقت يشك - وقال مرقس : بسبب الكلمة فيشكون للوقت : وقال لوقا : وهم إنما يؤمنون إلى زمان التجربة ، وفي زمان التجربة يشكون - والذي يزرع في الشوك فهو الذي يسمع الكلام فيخنق الكلام فيه؛ وقال لوقا : فتغلب عليهم هموم هذا الدهر وطلب الغنى؛ وقال مرقس : ومحبة الغنى وسائر الشهوات التي يسلكونها ، فتخنق الكلمة فلا تثمر فيهم؛ وقال متى : فيكون بغير ثمرة ، والذي زرع في الأرض الجيدة هو الذي يسمع الكلام ويتفهم ويعطي ثمره؛ وقال لوقا : وأما الذي وقع في الأرض الصالحة فهم الذين يسمعون الكلمة بقلب جيد فيحفظونها ويثمرون بالصبر؛ قال متى : للواحد مائة وللآخر ستين وللآخر ثلاثين .
وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً : يشبه ملكوت السماوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله ، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع زواناً في وسط القمح ومضى ، فلما نبت القمح ظهر الزوان ، فجاء عبيد رب البيت فقالوا له : يا سيد! أليس زرعاً جيداً زرعت في حقلك! فمن أين صار فيه زوان؟ فقال لهم : عدو فعل هذا ، فقال عبيده : تريد أن نذهب فنجمعه؟ فقال لهم : لا ، لئلا تنقلع معه الحنطة ، دعوهما ينبتان جميعاً إلى زمان الحصاد ، وأقول للحصادين : أولاً اجمعوا الزوان فشدوه حزماً ليحرق ، فأما القمح فاجمعوه إلى أهرائي . وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً : يشب ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله ، لأنها أصغر الزراريع كلها - وقال مرقس : وهي أصغر الحبوب التي على الأرض - فإذا طالت صارت أكبر من جميع البقول وتصير شجرة - وقال مرقس : وصنعت أغصاناً عظاماً؛ وقال لوقا : فنمت وصارت شجرة عظيمة - حتى أن طائر السماء يستظل تحت أغصانها .
وكلمهم بمثل آخر وقال لهم : يشبه ملكوت السماوات خميراً أخذته امرأة وعجنته في ثلاثة أكيال دقيق فاختمر الجميع؛ وقال مرقس : وكان يقول لهم : هل يوقد سراج فيوضع تحت مكيال أو سرير ، لكن على منارة؛ وقال لوقا : ليس أحد يوقد سراجاً فيغطيه ، ولا يجعله تحت سرير ، لكن يضعه على منارة فيرى نوره كل من يدخل؛ قال مرقس : كذلك ليس خفي إلا سيظهر ، ولا مكتوم إلا سيعلن؛ وقال لوقا : سراج الجسد العين ، فإذا كانت عينك بسيطة فجسدك كله نير ، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً أحرص أن لا يكون النور الذي فيك ظلاماً ، فإن كان جسدك كله نيراً وليس فيه جزء مظلم فإنه يكون كاملاً نيراً ، كما أن السراج ينير لك بلمع ضيائه؛ وقال مرقس : من له أذنان سامعتان فليسمع ، وقال لهم : انظروا ماذا تسمعون ، فبالكيل الذي تكيلون يكال لكم - وتزادون أيها السامعون لأن الذي له يعطي ومن ليس عنده فالذي عنده يؤخذ منه ، وقال : يشبه ملكوت الله إنساناً يلقي زرعه على الأرض وينام ، ويقوم ليلاً ونهاراً والزرع ينمو ويطول وهو لا يعلم ، أولاً أعشب وبعد ذلك سَنُبل ، ثم يمتلئ السنبل حتى إذا انتهت الثمرة حينئذ يضع المنجل إذ قد دنا الحصاد؛ قال متى : هذا كله قاله يسوع للجموع ليتم ما قيل في النبي القائل : أفتح فاي بالأمثال وأنطق بالخفيات من قبل أساس العالم . حينئذ ترك الجمع وجاء إلى البيت فجاء إليه تلاميذه وقالوا : فسر لنا مثل زوال الحقل ، أجاب : الذي زرع الزرع الجيد هو ابن الإنسان ، والحقل هو العالم ، والزرع الجيد هو بنو الملكوت ، والزوان هو بنو الشر ، والعدو الذي زرعه هو الشيطان ، والحصاد هو منتهى الدهر ، والحصادون هم الملائكة ، فكما أنهم يجمعون الزوان أولاً ، وبالنار يحرق ، هكذا يكون منتهى هذا الدهر ، يرسل ملائكته ويجمعون من مملكته كل الشوك وفاعلي الإثم ، فيلقونهم في أتون النار ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان ، حينئذ يضيء الصديقون مثل الشمس في ملكوت أبيهم ، من له أذنان سامعتان فليسمع . ويشبه ملكوت السماوات كنزاً مُخفىّ في حقل وجده إنسان فخبأه ، ومِن فرحه مضى وباع كل شيء واشترى ذلك الحقل . وأيضاً يشبه ملكوت السماوات إنساناً تاجراً بطلب الجوهر الفاخر الحسن . فوجد درة كثيرة الثمن فمضى وباع كل ماله واشتراها . وأيضاً يشبه ملكوت السماوات شبكة ألقيت في البحر فجمعت من كل جنس ، فلما امتلأت أطلعوها إلى الشّط فجلسوا وجمعوا الخيار في الأوعية ، والرديء رموه خارجاً ، هكذا يكون في انقضاء هذا الزمان ، تخرج الملائكة ويميزون الأشرار من وسط الصديقين .
ويلقونهم في أتون النار . هناك يكون البكاء وصرير الأسنان . فلما أكمل يسوع هذه الأمثال انتقل من هناك وجاء إلى بلدته وكان يُعلِّم في مجامعهم حتى أنهم بهتوا وقالوا : من أين له هذه الحكمة والقوة! وقال مرقس : من أين له هذا التعليم وهذه الحكمة التي أعطيها والقوات التي تكون على يديه - انتهى . أليس هذا ابن النجار؟ وقال لوقا : وكان جميعهم يشهدون له ويتعجبون من كلام النعمة الذي كان يخرج من فمه ، وكانوا يقولون : أليس هذا ابن يوسف؟ انتهى . أليس أمه تسمى مريم وإخوته يعقوب ويوسا وسمعان ويهودا؟ أليس هو وأخواته عندنا جميعاً؟ فمن أين له هذا كله؟ وكانوا يشكون فيه ، فإن يسوع قال لهم : لا يهان نبي إلا في بلدته وبيته؛ وقال مرقس : ليس يهان نبي إلا في بلدته وعند أنسابه وبيته؛ وقال لوقا : فقال لهم : لعلكم تقولون لي هذا المثل : أيها الطبيب! اشف نفسك والذي سمعنا أنك صنعته في كفرناحوم افعله أيضاً ههنا في مدينتك ، فقال لهم : الحق أقول لكم ، إنه لا يقبل نبي في مدينته ، الحق أقول لكم ، إن الأرامل كثيرة كنّ في إسرائيل في أيام إليا إذ أغلقت السماء ثلاث سنين وستة أشهر ، وصار جوع عظيم في الأرض كلها ، ولم يرسل إلياء إلى واحدة منهن إلا أرملة في صارفة صيدا ، وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل على عهد اليشع النبي ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان الشامي ، فامتلأ جميعهم غضباً عندما سمعوا هذا وأخرجوه خارج المدينة ، وجاؤوا به إلى أعلى الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه ليطرحوه إلى أسفل ، فأما هو فجاز وسطهم ومضى ، ونزل إلى كفرناحوم مدينة في الجليل ، وكان يعلمهم في السبت وبهتوا من تعليمه لأن كلامه كان بسلطان . وقال في موضع آخر : وجاء إليه ناس من الفريسيين وقالوا له : اخرج فاذهب من ههنا فإن ثيرودس يريد ليقتلك ، فقال لهم : امضوا وقولوا لهذا الثعلب : إني هوذا أخرج الشياطين وأتم الشفاء اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أكمل ، وينبغي أن أقيم اليوم وغداً ، وفي اليوم الآتي أذهب ، لأنه ليس يهلك نبي خارجاً عن يروشليم ، أيا يروشليم! أيا يروشليم! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها! كم من مرة أردت أن أجمع بنيك مثل الدجاجة التي تجمع فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا ، هوذا أترك بيتكم خراباً ، فسمع هيرودس رئيس الربع بجميع ما كان فتحير ، لأن كثيراً كانوا يقولون : إن يوحنا قام من الأموات ، وآخرون يقولون : إن إليا ظهر ، وآخرون يقولون : نبي من الأولين قام ، فقال هيرودس : أنا قطعت رأس يوحنا فمن هو الذي نسمع عنه هذا ، وطلب أن يبصره؛ وفي إنجيل متى : وفي ذلك الزمان سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع فقال لغلمانه : هذا هو يوحنا المعمدان ، وهو قام من الأموات من أجل هذه القوات التي يعمل بها .
قوله : المعمد ، من أعمده - إذا غسله في ماء المعمودية ، قوله : تبررت ، أي صارت برية بالنسبة إليهم ، قوله : يعيّر المدن ، أي يذكر ما أوجب لها العار ، قوله : القوات جمع قوة وهي المعجزات هنا ، قول : الذي هويت ، يعني أحببت حباً شديداً ، ولفظ الهوى الظاهر أنه يفهم نقصاً فلا يحل في شرعنا إطلاقه على الله تعالى ، قوله : مطفطف ، أي مملوء إلى رأسه ، لا يزال كذلك ، قوله : شرق - وزن : فرح ، أي ضعف ، من : شرق بريقه ، وشرقت الشمس - إذا ضعف ضوءها ، قوله : أتون وهو وزن تنور وقد يخفف : أخدود الجيار والجصاص ، قوله : بسيطة ، أي على الفطرة الأولى ، قوله : يروشليم - بتحتانية ومهملة وشين معجمة : بيت المقدس ، قوله : ملكوت أبيهم ، تقدم ما فيه غير مرة .
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
ولما كان من المقصود بذكر معجزات عيسى عليه السلام تنبيه الكافر ليؤمن ، والمؤمن ليزداد إيماناً ، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتوبيخ اليهود المدعين أنهم أبناء وأحباء - إلى غير ذلك مما أراد الله ، قرعت به الأسماع ، ولم يتعلق بما يجيب به يوم القيامة عند أمره بذلك غرض فطوي؛ ولما كان أجلّ المقاصد تأديب هذه الأمة لنبيها عليه السلام لتجلّه عن أن تبدأه بسؤال أو تقترح عليه شيئاً في حال من الأحوال ، ذكر لهم شأن الحواريين في اقتراحهم بعدما تقدم من امتداحهم بِعَدِّهم في عداد أولي الوحي ومبادرتهم إلى الإيمان امتثالاً للأمر ثم إلى الإشهاد على سبيل التأكيد بتمام الانقياد وسلب الاختيار ، فقال معلقاً ب « قالوا آمنا » مقرباً لزمن تعنتهم من زمن إيمانهم ، مذكراً لهذه الأمة بحفظها على الطاعة ، ومبكتاً لبني إسرائيل بكثرة تقلبهم وعدم تماسكهم إبعاداً لهم عن درجة المحبة فضلاً عن البنوة ، وهذه القصة قبل قصة الإيحاء إليهم فتكون « إذ » هذه ظرفاً لتلك ، فيكون الإيحاء إليهم بالأمر بالإيمان في وقت سؤالهم هذه بعد ابتدائه ، ويكون فائدته حفظهم من أن يسألوا آية أخرى كما سألوا هذه بعدما رأوا منه صلى الله عليه وسلم من الآيات : { إذ قال } وأعاد وصفهم ولم يضمره تنصيصاً عليهم لبُعد ما يذكر من حالهم هذا من حالهم الأول فقال : { الحواريون } وذكر أنهم نادوه باسمه واسم أمه فقالوا : { يا عيسى ابن مريم } ولم يقولوا : يا رسول الله ولا يا روح الله ، ونحو هذا من التبجيل أو التعظيم { هل يستطيع ربك } بالياء مسنداً إلى الرب وبالتاء الفوقانية مسنداً إلى عيسى عليه السلام ونصب الرب ، ومعناهما واحد يرجع إلى التهييج والإلهاب بسبب الاجتهاد في الدعاء بحيث تحصل الإجابة ، وتكون هذه العبارة أيضاً للتلطف كما يقول الإنسان لمن يعظمه : هل تقدر أن تذهب معي إلى كذا؟ وهو يعلم أنه قادر ، ولكنه يكنى بذلك عن أن السائل يحب ذلك ولا يريد المشقة على المسؤول { أن ينزل } أي الرب المحسن إليك { علينا مائدة } وهي الطعام ، ويقال أيضاً : الخوان إذا كان عليه الطعام ، والخوان شيء يوضع عليه الطعام للأكل ، هو في العموم بمنزلة السفرة لما يوضع فيه طعام المسافر بالخصوص ، وهي من ماده - إذا أعطاه وأطعمه .
ولما كان هذا ظاهراً في أنها سماوية ، صرحوا به احترازاً عما عوَّدهم به صلى الله عليه وسلم من أنه يدعو بالقليل من الطعام فيبارك فيه فيمده الله فيكفي فيه القيام من الناس فقالوا : { من السماء } أي لا صنع للآدميين فيها لنختص بها عمن تقدمنا من الأمم .
ولما كان المقصود من هذا وعظنا وإرشادنا إلى أن لا نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم شيئاً ، اكتفاء بما يرحمنا به ربنا الذي رحمنا بابتدائنا بإرساله إلينا لإيصالنا إليه سبحانه ، وتخويفاً من أن نكون مثل من مضى من المقترحين الذين كان اقتراحهم سببَ هلاكهم؛ دل على ذلك بالنزوع من أسلوب الخطاب إلى الغيبة فقال مستأنفاً إرشاداً إلى السؤال من جوابهم : { قال } ولم يقل : فقلت { اتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم الذي له الكمال وقاية تمنعكم عن الاجتراء على الاقتراح { إن كنتم مؤمنين * } أي بأنه قادر وإني رسوله ، فلا تفعلوا فعل من وقف إيمانه على رؤية ما يقترح من الآيات .
ولما كانت المعجزات إنما تطلب لإيمان من لم يكن آمن ، وكان في هذا الجواب أتم زجر لهم ، تشوف السامع إلى جوابهم فقيل : لم ينتهوا بل { قالوا } إنا لا نريدها لأجل إزالة شك عندنا بل { نريد } مجموع أمور : { أن نأكل منها } فإنا جياع؛ ولما كان التقدير : فتحصل لنا بركتها ، عطف عليه : { وتطمئن قلوبنا } أي بضم ما رأينا منها إلى ما سبق من معجزاتك من غير سؤالنا فيه { ونعلم } أي بعين اليقين وحقه أن قد صدقتنا } أي في كل ما أخبرتنا به { ونكون عليها } وأشاروا إلى عمومها بالتبعيض فقالوا : { من الشاهدين * } أي شهادة رؤية مستعلية عليها بأنها وقعت ، لا شهادة إيمان بأنها جائزة الوقوع { قال عيسى } ونسبه زيادة في التصريح به تحقيقاً ولأنه لا أب له وتسفيهاً لمن أطراه أو وضع من قدره فقال : { ابن مريم اللهم } فافتتح دعاءه بالاسم الأعظم ثم بوصف الإحسان فقال : { ربنا } أي أيها المحسن إلينا { أنزل علينا } وقدم المقصود فقال : { مائدة } وحقق موضع الإنزال بقوله : { من السماء } ثم وصفها بما تكون به بالغة العجب عالية الرتب فقال : { تكون } أي هي أو يوم نزولها { لنا عيداً } وأصل العيد كل يوم فيه جمع ، ثم قيد بالسرور فالمعنى : نعود إليها مرة بعد مرة سروراً بها ، ولعل منها ما يأتي من البركات حين ترد له عليه السلام - كما في الأحاديث الصادقة ، ويؤيد ذلك قوله مبدلاً من « لنا » : { لأولنا وآخرنا } .
ولما ذكر الأمر الدنيوي ، أتبعه الأمر الديني فقال : { وآية منك } أي علامة على صدقي { وارزقنا } أي رزقاً مطلقاً غير مقيد بها؛ ولما كان التقدير : فأنت خير المسؤولين ، عطف عليه قوله : { وأنت خير الرّازقين * } أي فإنك تغني من تعطيه وتزيده عما يؤمله ويرتجيه بما لا ينقص شيئاً مما عندك ، ولا تطلب منه شيئاً غير أن ينفع نفسه بما قويته عليه من طاعتك بذلك الرزق { قال الله } أي الملك المحيط علماً وقدرة .
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
ولما كان ظاهر سؤالهم من الاستفهام عن الاستطاعة للاضطراب وإن كان للإلهاب ، أكد الجواب فقال : { إني منزلها عليكم } أي الآن بقدرتي الخاصة بي { فمن يكفر بعد } أي بعد إنزالها { منكم } وهذا السياق معشر بأنه يحصل منهم كفر ، وقد وجد ذلك حتى في الحواريين على ما يقال في يهودا الإسخريوطي أحدهم الذي دل على عيسى عليه السلام ، فألقى شبهه عليه ، ولهذا خصه بهذا العذاب فقال : { فإني أعذبه } أي على سبيل البتّ والقطع { عذاباً لا أعذبه } أي مثله أبداً فيما يأتي من الزمان { أحداً من العالمين * } وفي هذا أتم زاجر لهذه الأمة عن اقتراح الآيات ، وفي ذكر قصة المائدة في هذه السورة التي افتتحت بإحلال المآكل واختتمت بها أعظم تناسب ، وفي ذلك كله إشارة إلى تذكير هذه الأمة بما أنعم عليها بما أعطى نبيها من المعجزات ومنَّ عليها به من حسن الاتباع ، وتحذير من كفران هذه النعم المعددة عليهم ، وقد اختلف المفسرون في حقيقة هذه المائدة وفي أحوالها؛ قال أبو حيان : وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً ، وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا ، فخانوا وادخروا ورفعوا لغد ، فمسخوا قردة وخنازير » انتهى . قلت : ثم صحح الترمذي وقفه على عمار وقال : لا نعلم للحديث المرفوع أصلاً ، غير أن ذلك لا يضره لكونه لا يقال من قِبَل الرأي ، ولا أعلم أحداً ذكر عماراً فيمن أخذ عن أهل الكتاب ، فهو مرفوع حكماً ، وهذا الخبر يؤكد أن الخبر في الآية على بابه ، فيدفع قول من قال : إنها لم تنزل ، لأنهم لما سمعوا الشرط قالوا : لا حاجة لنا بها ، لأن خبره تعالى لا يخلف ولا يبدل القول لديه ، وهذا الرزق الذي من السماء قد وقع مثله لآحاد الأمة؛ روى البيهقي في أواخر الدلائل عن أبي هريرة قال : كانت امرأة من دوس يقال لها أم شريك أسلمت في رمضان ، فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيت رجلاً من اليهود فقال : ما لك يا أم شريك؟ قالت : أطلب رجلاً يصحبني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فتعالي فأنا أصحبك ، قالت : فانتظرني حتى أملأ سقائي ماءً ، قال : معي ماء ما لا تريدين ماءً ، فانطلقت معهم فساروا يومهم حتى أمسوا ، فنزل اليهودي ووضع سفرته فتعشى وقال : يا أم شريك! تعالي إلى العشاء! فقالت : اسقني من الماء فإني عطشى ، ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب ، فقال لها : لا أسقيك حتى تهودي! فقالت : لا جزاك الله خيراً! غربتني ومنعتني أن أحمل ماء ، فقال : لا والله لا أسقيك منه قطرة حتى تهودي ، فقالت : لا والله لا أتهود أبداً بعد إذ هداني الله للإسلام؛ فأقبلت إلى بعيرها فعقلته ووضعت رأسها على ركبته فنامت ، قالت : فما أيقظني إلا برد دلو قد وقع على جبيني ، فرفعت رأسي فنظرت إلى ماء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، فشربت حتى رويت ، ثم نضحت على سقائي حتى ابتل ثم ملأته ، ثم رفع بين يديّ وأنا أنظر حتى توارى عني في السماء ، فلما أصبحت جاء اليهودي فقال : يا أم شريك! قلت : والله قد سقاني الله ، قال : من أين أنزل عليك؟ من السماء؟ قلت : نعم ، والله لقد أنزل الله عليّ من السماء ثم رفع بين يدي حتى توارى عني في السماء؛ ثم أقبلت حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصت عليه القصة ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها نفسها فقالت : يا رسول الله! لست أرضي نفسي لك ولكن بضعي لك فزوجني من شئت ، فزوجها زيداً وأمر لها بثلاثين صاعاً وقال : كلوا ولا تكيلوا ، وكان معها عكة سمن هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لجارية لها : بلغي هذه العكة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قولي : أم شريك تقرئك السلام ، وقولي : هذه عكة سمن أهديناها لك ، فانطلقت بها الجارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوها ففرغوها ، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : علقوها ولا توكوها ، فعلقوها في مكانها ، فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمناً ، فقالت : يا فلانة! أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقالت : قد والله انطلقت بها كما قلت ، ثم أقبلت بها أضربها ما يقطر منها شيء ولكنه قال : علقوها ولا توكوها ، فعلقتها في مكانها ، وقد أوكتها أم شريك حين رأتها مملوءة فأكلوا منها حتى فنيت ، ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعاً لم ينقص منه شيء ، قال : وروي ذلك من وجه آخر ، ولحديثه شاهد صحيح عن جابر رضي الله عنه .
وروي بإسناده عن أبي عمران الجوني أن أم أيمن هاجرت من مكة إلى المدينة وليس معها زاد ، فلما كانت عند الروحاء وذلك عند غيبوبة الشمس عطشت عطشاً شديداً ، قالت : فسمعت هفيفاً شديداً فوق رأسي ، فرفعت رأسي فإذا دلو مدلى من السماء برشاء أبيض ، فتناولته بيدي حتى استمسكت به ، قالت : فشربت منه حتى رويت ، قالت : فلقد أصوم بعد تلك الشربة في اليوم الحار الشديد الحر ثم أطوف في الشمس كي أظمأ فما ظمئت بعد تلك الشربة . قال : وفي الجهاد عن البخاري عن أبي هريرة قال : « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عيناً ، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم - فذكر الحديث حتى قال : فابتاع خبيباً - يعني ابن عدي الأنصاري - بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيراً ، فأخبرني عبيد الله بن عياض أن ابنة الحارث قالت : والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب ، والله لقد وجدته يوماً يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر ، وكانت تقول : إنه لرزق من الله رزق خبيباً »
الحديث . ومن الأمر الجلي أن عيسى عليه السلام بعد أمر الله تعالى له بذكر هذه النعم يقول في ذلك الجمع فيذكرها ويذكر المقصود من التذكير بها ، وهو الثناء على المنعم بها بما يليق بجلاله ، فيحمد ربه تعالى بمحامد تليق بذلك المقام في ذلك الجمع ، فمن أنسب الأمور حينئذ سؤاله - وهو المحيط علماً بمكنونات الضمائر وخفيات السرائر إثر التهديد لمن يكفر - عما كفر به النصارى ، فلذلك قال تعالى عاطفاً على قوله { إذا قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } [ المائدة : 110 ] { وإذ قال الله } أي بما له من صفات الجلال والجمال مشيراً إلى ما له من علو الرتبة بأداة النداء : { يا عيسى بن مريم } وذلك تحقيقاً لأنه عمل بمقتضى النعمة وتبكيتاً لمن ضل فيه من النصارى وإنكاراً عليهم { أأنت قلت للناس } أي الذين أرسلت إليهم من بني إسرائيل ، وكأنه عبر بذلك لزيادة التوبيخ لهم ، لكونهم اعتقدوا ذلك وفيهم الكتاب ، فكأنه لا ناس غيرهم { اتخذوني } أي كلفوا أنفسكم خلاف ما تعتقدونه بالفطرة الأولى في الله بأن تأخذوني { وأمي إلهين } .
ولما كانت عبادة غير الله - ولو كانت على سبيل الشرك - مبطلة لعبادة الله ، لأنه سبحانه أغنى الأغنياء ، ولا يرضى الشرك إلا فقير ، قال : { من دون الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ، فيكون المعنى : اتخذوا تألهنا سلماً تتوصلون به إلى الله ، ويجوز أن يكون المعنى على المغايرة ، ولا دخل حينئذ للمشاركة .
ولما كان من المعلوم لنا في غير موضع أنه لم يقل ذلك ، صرح به هنا توبيخاً لمن أطراه ، وتأكيداً لما عندنا من العلم ، وتبجيلاً له صلى الله عليه وسلم بما يبدي من الجواب ، وتفضيلاً بالإعلام بأنه لم يحد عن طريق الصواب ، بل بذل الجهد في الوفاء بالعهد ، وتقريعاً لمن قال ذلك عنه وهو يدعي حبه واتباعه عليه السلام وتخجيلاً لهم ، فلما تشوفت لجوابه الأسماع وأصغت له الآذان ، وكان في ذكره من الحكم ما تقدمت الإشارة إليه ، ذكره سبحانه قائلاً : { قال } مفتتحاً بالتنزيه { سبحانك } أي لك التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص ، ودل بالمضارع على أن هذا القول لا يزال ممنوعاً منه فقال : { ما يكون لي } أي ما ينبغي ولا يصح أصلاً { أن أقول } أي في وقت من الأوقات { ما ليس لي } وأغرق في النفي كما هو حق المقام فقال : { بحق } .
ولما بادر عليه السلام إعظاماً للمقام إلى الإشارة إلى نفي ما سئل عنه ، أتبعه ما يدل على أنه كان يكفي في الجواب عنه : أنت أعلم ، وإنما أجاب بما تقدم إشارة إلى أن هذا القول تكاد السماوات يتفطرن منه ومبادرة إلى تبكيت من ادّعاه له ، فقال دالاً على أنه لم يقنع بما تضمن أعظم المدح لأن المقام للخضوع : { إن كنت قلته } أي مطلقاً للناس أو حدثت به نفسي { فقد علمته } وهو مبالغة في الأدب وإظهار الذلة وتفويض الأمر كله إلى رب العزة؛ ثم علل الإخبار بعلمه بما هو من خواص الإله فقال : { تعلم } ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات ، وكان القول يطلق على النفس ، فإذا انتفى انتفى اللساني ، قالك { ما في نفسي } أي وإن اجتهدت في إخفائه ، فإنه خلقك ، وما أنا له إلا آلة ووعاء ، فكيف به إن كنت أظهرته .
ولما أثبت له سبحانه ذلك ، نفاه عن نفسه توبيخاً لمن ادعى له الإلهية فقال مشاكلة : { ولا أعلم ما في نفسك } أي ما أخفيته عني من الأشياء؛ ثم علل الأمرين كليهما بقوله : { إنك أنت } أي وحدك لا شريك لك { علام الغيوب * } .
ولما نفى عن نفسه ما يستحق النفي ودل عليه ، أثبت ما قاله لهم على وجه مصرح بنفي غيره ليكون ما نسب إليه من دعوى الإلهية منفياً مرتين : إشارة وعبارة ، فقال معبراً عن الأمر بالقول مطابقة للسؤال ، وفسر بالأمر بياناً لأن كل ما قاله من مباح أو غيره دائر على الأمر من حيث الاعتقاد بمعنى أن المخاطب بما قاله الرسول مأمور بأن يعتقد فيه أنه بتلك المنزلة ، لا يجوز أن يعتقد فيه أنه فوقها ولا دونها ، يعبد الله تعالى بذلك : { ما قلت لهم } أي ما أمرتهم بشيء من الأشياء { إلا ما أمرتني به } ثم فسره دالاً بشأن المراد بالقول الأمر بالتعبير في تفسيره بحرف التفسير بقوله : { أن اعبدوا } أي ما أمرتهم إلا بعبادة { الله } أي الذي لم يستجمع نعوت الجلال والجمال أحد غيره؛ ثم أشار إلى أنه كما يستحق العبادة لذاته يستحقها لنعمه فقال : { ربي وربكم } أي أنا وأنتم في عبوديته سواء ، وهذا الحصر يصح أن يكون للقلب على أن دون بمعنى غير ، وللإفراد على أنها بمعنى سفول المنزلة ، وهو من بدائع الأمثلة .
ولما فهم صلى الله عليه وسلم من هذا السؤال أن أتباعه غلوا في شأنه ، فنزه الله سبحانه وعز شأنه من ذلك وأخبره بما أمر الناس به في حقه سبحانه من الحق ، اعتذر عن نفسه بما يؤكد ما مضى نفياً وإثباتاً فقال : { وكنت عليهم } أي خاصة لا على غيرهم .
ولما كان سبحانه قد أرسله شاهداً ، زاد في الطاعة في ذلك إلى أن بلغ جهده كإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فقال معبراً بصيغة المبالغة : { شهيداً } أي بالغ الشهادة ، لا أرى فيهم منكراً إلا اجتهدت في إزالته { ما دمت فيهم } وأشار إلى الثناء على الله بقوله : { فلما توفيتني } أي رفعتني إلى السماء كامل الذات والمعنى مع بذلهم جهدهم في قتلي { كنت أنت } أي وحدك { الرقيب } أي الحفيظ القدير { عليهم } لا يغيب عليك شيء من أحوالهم ، وقد منعتهم أنت أن يقولوا شيئاً غير ما أمرتهم أنا به من عبادتك بما نصبت لهم من الأدلة وأنزلت عليهم على لساني من البينات { وأنت على كل شيء } أي منهم ومن غيرهم حيوان وجماد { شهيد * } أي مطلع غاية الاطلاع ، لا يغيب عنك شيء منه سواء كان في عالم الغيب أو الشهادة ، فإن كانوا قالوا ذلك فأنت تعلمه دوني ، لأني لما بعدت عنهم في المسافة انقطع علمي عن أحوالهم .
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
ولما كان هذا الذي سلف كله سؤالاً وجواباً وإخباراً حمد الله تعالى وثناء عليه بما هو أهله بالتنزيه له والاعتراف بحقه والشهادة له بعلم الخفايا والقدرة والحكمة وغير ذلك من صفات الجلال والجمال ، وكان هذا السؤال يفهم إرادة التعذيب للمسؤول عنهم مشيراً إلى الشفاعة فيهم على وجه الحمد لله سبحانه وتعالى والثناء الجميل عليه لأن العذاب ولو للمطيع عدل ، والعفو عن المعاصي بأيّ ذنب كان فضل مطلقاً ، وغفران الشرك ليس ممتنعاً بالذات ، قال : { إن تعذبهم } أي القائلين بهذا القول { فإنهم عبادك } أي فأنت جدير بأن ترحمهم ولا اعتراض عليك في عذابهم لأن كل حكمك عدل { وإن تغفر لهم } أي تمح ذنوبهم عيناً وأثراً { فإنك أنت } أي خاصة أنت { العزيز } فلا أحد يعترض عليك ولا ينسبك إلى وهن { الحكيم * } فلا تفعل شيئاً إلا في أعلى درج الإحكام ، لا قدرة لأحد على تعقيبه ولا الاعتراض على شيء منه .
ولما انقضى جوابه عليه الصلاة والسلام على هذا الوجه الجليل ، تشوف السامع إلى جواب الله له ، فقال تعالى مشيراً إلى كون جوابه حقاً ومضمونه صدقاً ، منبهاً على مدحه حاثاً على ما بنيت عليه السورة من الوفاء بالعقود : { قال الله } أي الملك المحيط بالجلال والإكرام جواباً لكلامه { هذا } أي مجموع يوم القيامة؛ ولما كان ظهور الجزاء النافع هو المقصود قال : { يوم } هذا على قراءة الجماعة بالرفع ، وقراءة نافع بالنصب غير منون أيضاً لإضافته إلى متمكن بمعنى : هذا الذي ذكر واقع؛ أو قال الله هذا الذي تقدم يوم { ينفع الصادقين } أي العريقين في هذا الوصف نفعاً لا يضرهم معه شيء { صدقهم } أي الذي كان لهم في الدنيا وصفاً ثابتاً ، فحداهم على الوفاء بما عاهدوا عليه ، فكأنه قيل : ينفعهم بأيّ شيء؟ فقال : { لهم جنات } أي هي من ريّ الأرض الذي يستلزم زكاء الشجر وطيب الثمر بحيث { تجري } ولما كان تفرق المياه في الأراضي أبهج ، بعض فقال : { من تحتها الأنهار } ولما كان مثل هذا لا يريح إلا إذا دام قال : { خالدين فيها } وأكد معنى ذلك بقوله : { أبداً } .
ولما كان ذلك لا يتم إلا برضى المالك قال : { رضي الله } أي الذي له صفات الكمال { عنهم } أي بجميع ما له من الصفات ، وهو كناية عن أنه أثابهم بما يكون من الراضي ثواباً متنوعاً بتنوع ما له من جميع صفات الكمال والجمال؛ ولما كان ذلك لا يكمل ويبسط ويجمل إلا برضاهم قال : { ورضوا عنه } يعني أنه لم يدع لهم شهوة إلا أنالهم إياها ، وقال ابن الزبير بعدما أسلفته عنه : فلما طلب تعالى المؤمنين بالوفاء فيما نقض به غيرهم ، وذكّرهم ببعض ما وقع فيه النقض وما أعقب ذلك فاعله ، وأعلمهم بثمرة التزام التسليم والامتثال ، أراهم جل وتعالى ثمرة الوفاء وعاقبته ، فقال تعالى