كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
ولما بين تعالى أن دأبهم استعجالهم بالخير ، وكان منه استكشاف الضر ، بينَ أن حالهم عنده الاعتراف ، وشكرهم على النجاة منه الإنكار فدأبهم الطغيان والعمه ، وذلك في غاية المنافاة لما يدعونه من رجاحة العقول وإصالة الآراء وسلامة الطباع ، فالحاصل أن الانسان عند البلاء غير صابر ، وعند الرجاء غير شاكر ، فكأنه قيل : فإذا مس الإنسان منهم الخير كان في غفلة بالفرح والأشر والمرح { وإذا مسَّ الإنسان } منهم { الضر } وإن كان من جهة يتوقعها لطغيان هو فيه ولا ينزع عنه خوفاً مما يتوقعه من حلول الضر لشدة طغيانه وجهله { دعانا } مخلصاً معترفاً بحقنا عالماً بما لنا من كمال العظمة عاملاً بذلك معرضاً عما ادعاه شريكاً لنا كائناً { لجنبه } أي مضطجعاً حال إرادته للراحة ، وكأنه عبر باللام إشارة إلى أن ذلك أسر أحواله إليه { أو قاعداً } أي متوسطاً في أحواله { أو قآئماً } أي في غاية السعي في مهماته ، لا يشغله عن ذلك شيء في حال من الأحوال ، بل يكون ظرف المس بالضر ظرف الدعاء بالكشف ، ويجوز أن يكون عبر بالأحوال الثلاثة عن مراتب الضر ، وقال : لجنبه ، إشارة إلى استحكام الضر وغلبته بحيث لا يستطيع جلوساً كما يقال : فلان لما به ، وأشار بالفاء إلى قرب زمن الكشف فقال : { فلما كشفنا } أي بما لنا من العظمة { عنه ضره } أي الذي دعانا لأجله { مرّ } أي في كل ما يريده لاهياً عنا بكل اعتبار { كأن } أي كأنه { لم يدعنآ } أي على ما كان يعترف به وقت الدعاء من عظمتنا؛ ولما كان المدعو يأتي إلى الداعي فيعمل ما دعاه لأجله قال : { إلى } أي كشف { ضر مسه } أي كأن لم يكن له بنا معرفة أصلاً فضلاً عن أن يعترف بأنا نحن كشفنا عنه ضره ، فهذه الآية في بيان ضعف الإنسان وسوء عبوديته ، والتي قبلها في بيان قدرة الله وحسن ربوبيته؛ والمسُ : لقاء من غير فصل؛ والدعاء : طلب الفعل من القادر عليه؛ والضر : إيجاب الألم بفعله أو السبب المؤدي إليه .
ولما كان هذا من فعل الإنسان من أعجب العجب . كان كأنه قيل : لم يفعل ذلك؟ فقيل : لما يزين له من الأمور التي يقع بها الاستدراج لإسرافه . وهذا دأبنا أبداً { كذلك } أي مثل هذا التزيين العظيم الرتبة؛ ولما كان الضار مطلق التزيين ، بنى للمفعول قوله : { زين للمسرفين } أي كلهم العريقين في هذا الوصف { ما كانوا } أي بجبلاتهم { يعملون } أي يقبلون عليه على سبيل التجديد والاستمرار من المعصية بالكفر وغيره مع ظهور فساده ووضوح ضرره؛ والإسراف : الإكثار من الخروج عن العدل .
ولما كان محط نظرهم الدنيا ، وكان هذا صريحاً في الإمهال للظالمين والإحسان إلى المجرمين ، أتبعه بقوله تعالى مهدداً لهم رادعاً عما هم فيه من اتباع الزينة مؤكداً لأنهم ينكرون أن هلاكهم لأجل ظلمهم : { ولقد أهلكنا } أي بما لنا من العظمة { القرون } أي على ما لهم من الشدة والقوة؛ ولما كان المهلكون هلاك العذاب المستأصل بعض من تقدم ، أثبت الجار فقال : { من قبلكم لما ظلموا } أي تكامل ظلمهم إهلاكاً عم آخرهم وأولهم كنفس واحدة دفعاً لتوهم أنه سبحانه لا يعم بالهلاك ، وقال تعالى عطفاً على { أهلكنا } : { وجآءتهم رسلهم } أي إلى كل أمة رسولها { بالبينات } أي التي بينت بمثلها الرسالة { وما } أي والحال أنهم ما { كانوا } أي بجبلاتهم ، وأكد النفي بمن ينكر أن يتأخر إيمانهم عن البيان فقال : { ليؤمنوا } ولو جاءتهم كل آية ، تنبيهاً لمن قد يطلب أنه سبحانه يريهم بوادر العذاب أو ما اقترحوه من الآيات ليؤمنوا ، فبين سبحانه أن ذلك لا يكون سبباً لإيمان من قضى بكفره ، بل يستوي في التكذيب حاله قبل مجيء الآيات وبعدها ليكون سبباً لهلاكه .
فكأنه قيل : هل يختص ذلك بالأمم الماضية؟ فقيل : بل { كذلك } أي مثل ذلك الجزاء العظيم { نجزي القوم } أي الذين لهم قوة على محاولة ما يريدونه { المجرمين } لأن السبب هو العراقة الإجرام وهو قطع ما ينبغي وصله ، فحيث ما وجد جزاؤه؛ والإهلاك : الإيقاع فيما لا يتخلص منه من العذاب؛ والقرن : أهل العصر لمقارنة بعضهم لبعض .
ولما صرح بأن ذلك عام لكل مجرم ، أتبعه قوله : { ثم جعلناكم } أي أيها المرسل إليهم أشرف رسلنا { خلائف في الأرض } أي لا في خصوص ما كانوا فيه : ولما كان زماننا لم يستغرق ما بعد زمان المهلكين أدخل الجار فقال : { من بعدهم } أي القرون المهلكة إهلاك الاستئصال { لننظر } ونحن - بما لنا من العظمة - أعلم بكم من أنفسكم ، وإنما ذلك لنراه في عالم الشهادة لإقامة الحجة { كيف تعملون } فيتعلق نظرنا بأعمالكم موجودة تخويفاً للمخاطبين من أن يجرموا فيصيبهم ما أصاب من قبلهم .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
ولما تقدم أن من قضى بشقاوته لا يتأتى إيمانه بآية من الآيات حتى تنزل به سطوته وتذيقه بأسه ونقمته . وكان القرآن أعظم آية أنزلت إلى الناس لما لا يخفى . أتبع ذلك عطفاً على قوله { قال الكافرون إن هذا لسحر مبين } بقوله بياناً لذلك : { وإذا تتلى } بناه للمفعول إيذاناً بتكذيبهم عند تلاوة أي تالٍ كان . وأبداه مضارعاً إشارة إلى أنهم يقولون ذلك ولو تكررت التلاوة { عليهم } أي على هؤلاء الناس { آياتنا } أي على ما لها من العظمة بإسنادها إلينا { بينات } فإنه مع ما اشتمل عليه مما لزمهم به الإقرار بحقيقته قالوا فيه ما لا معنى له إلا التلاعب والعناد ، ويجوز عطفه على { ثم جعلناكم خلائف } - الآية - والالتفات إلى مقام الغيبة للإيذان بأنهم للإعراض لإساءتهم الخلافة ، والموصول بصلته في قوله : { قال الذين لا يرجون لقآءنا } في موضع الضمير تنبيهاً على أن هذا الوصف علة قولهم ، ولعله عبر بالرجاء ترغيباً لهم لأن الرجاء محط أمرهم في طلب تعجيله للخير ودفعه للضمير . فكان من حقهم أن يرجوا لقاءه تعالى رغبة في مثل ما أعده لمن أجابه ، ولوح إلى الخوف بنون العظمة ليكون ذلك أدعى لهم إلى الإقبال { ائت } أي من عندك { بقرآن } أي كلام مجموع جامع لما تريد { غير هذا } في نظمه ومعناه { أو بدله } أي بألفاظ أخرى والمعاني باقية وقد كانوا عالمين صلى الله عليه وسلم مثلهم في العجز عن ذلك ولكنهم قصدوا أنه يأخذ في التعبير حرصاً على إجابة مطلوبهم فيبطل مدعاه أو يهلك .
ولما كان كأنه قيل : فماذا أقول لهم؟ قال : { قل ما يكون } أي يصح ويتصور بوجه من الوجوه { لي } ولما كان التبديل يعم القسمين الماضيين قال : { أن أبدله } وقال : { من تلقاء } أي عند وقِبَل { نفسي } إشارة إلى الرد عليهم في إنكار تبديل الذي أنزله بالنسخ بحسب المصالح كما أنزل أصله لمصلحة العباد مع نسخ الشرائع الماضية به ، فأنتج ذلك قطعاً قوله : { إن أتبع } أي بغاية جهدي { إلاّ ما } ولما كان قد علم أن الموحي إليه الله قال { يوحى إلي } أي سواء كان بدلاً أو أصلاً؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم مضمونه : { إني أخاف } أي على سبيل التجدد والاستمرار { إن عصيت ربي } أي المحسن إليّ والموجد لي والمربي والمدبر بفعل غير ما شرع لي { عذاب يوم عظيم } فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم من الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم ، وإذا خفته - مع استحضار صفة الإحسان - هذا الخوف فكيف يكون خوفي مع استحضار صفة الجلال . ولما تم ما دفع به مكرهم في طعنهم ، اتبعه بعذره صلى الله عليه وسلم في الإبلاغ على وجه يدل قطعاً على أنه كلام الله وما تلاه إلاّ بإذنه فيجتث طعنهم من أصله ويزيله بحذافيره فقال : { قل } أي لهم معلماً أنه سبحانه إما أن يشاء الفعل وإما أن يشاء عدمه وليست ثَمّ حالة سكوت أصلاً { لو شآء الله } أي الذي له العظمة كلها أن لا أتلوه عليكم { ما تلوته } أي تابعت قراءته { عليكم ولآ أدراكم } أي أعلمكم على وجه المعالجة هو سبحانه { به } على لساني؛ ولما كان ذكر ذلك أتبعه السبب المعرف به فقال : { فقد لبثت فيكم عمراً } ولما كان عمره لم يستغرق زمان القبل قال : { من قبله } مقدار أربعين سنة بغير واحد من الأمرين لكون الله لم يشأ واحداً منهما إذ ذاك ، ثم أتيتكم بهذا الكتاب الأحكم المشتمل على حقائق علم الأصول ودقائق علم الفروع ولطائف علم الأخلاق وأسرار قصص الأولين في عبارة قد عجزتم - وأنتم أفصح الناس وأبلغهم - عن معارضة آية منها ، فوقع بذلك العلم القطعي الظاهر جداً أنه من عند الله فلذلك سبب عنه إنكار العقل فقال : { أفلا تعقلون } إشارة إلى أنه يكفي - في معرفة أن القرآن من عند الله وأن غيره عاجز عنه - كون الناظر في أمره وأمري من أهل العقل ، أي أفلا يكون لكم عقل فتعرفوا به حقيقة القرآن بما أرشدكم إليه في هذه الآية من هذا البرهان الظاهر والسلطان القاهر القائم على أنه ما يصح لي بوجه أن أبدله من قبل نفسي لأني مثلكم وقد عرفتم أنكم عاجزون عن ذلك مع التظاهر ، فأنا وحدي - مع كوني أمياً - أعجز ، ومن أنه تعالى لو شاء ما بلغكم ، ومن أني مكثت فيكم إتياني به زمناً طويلاً لا أتلو عليكم شيئاً ولا أدعي فيكم علماً ولا أتردد إلى عالم؛ وتعرفوا أن قائل ما قلتم مكذب بآيات الله ، وفاعل ما طلبتم كاذب على الله ، وكل من ذلك أظلم الظلم { فمن } أي فهو سبب لأن يقال : من { أظلم ممن افترى } أي تعمد { على الله } أي الذي حاز جميع العظمة { كذباً } أي أيّ كذب كان ، وكان الأصل : مني ، على تقدير أن لا يكون هذا القرآن من عند الله كما زعمتم ، ولكنه وضع هذا الظاهر مكانه تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف { أو كذب بآياته } كما فعلتم أنتم ، وذلك من أعظم الكذب .
ولما كان التقدير : لا أحد أظلم منه فهو لا يفلح لأنه مجرم ، علله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم : { إنه لا يفلح } أي بوجه من الوجوه { المجرمون } فد وضح أن المقصود نفي الكذب عن نفسه صلى الله عليه وسلم وإلحاق الوعيد حيث كذبوا بالآيات بعد ثبوت أنها من عند الله والإعلام بأنه لا أحد أظلم منهم لأنهم كذبوا على الله في كل ما ينسبونه إليه مما نهى عنه وكذبوا بآياته ، والإتيان بالغير قد يكون مع وجود الأول والتبديل لا يكون إلاّ برفع الأول ووضع غيره مكانه؛ والتلقاء : جهة مقابلة الشيء ، أتبعه بمجيئه بعده؛والمشيئة خاصة تكون سبباً مؤدياً إلى وقوع الشيء ، ومرتباً له على وجه قد يمكن أن يقع خلافه ، والإرادة نظيرها؛ والعقل : العلم الغريزي الذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب ، ويجوز أن يكون { ويعبدون } حالاً من { الذين لا يرجون لقاءنا } أي قالوا ذلك عابدين { من دون الله } أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال الذي ثبت عندهم أن هذا القرآن كلامه لعجزهم عن معارضة شيء منه وهو ينهاهم عن عبادة غيره وهم يعلمون قدرته على الضر والنفع .
ولما كان السياق للتهديد والتخويف ، قدم الضر لذلك وتنبيهاً لهم على أنهم مغمورون في نعمه التي لا قدرة لغيره على منع شيء منها ، فعليهم أن يقيدوها بالشكر فقال : { ما لا يضرهم } أي أصلاً من الأصنام وغيرها { ولا ينفعهم } في معارضة القرآن بتبديل أو غيره ولا في شيء من الأشياء ، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية وإلا كانت عبادته عبثاً ، معرضين عما جاءهم من الآيات البينات من عند من يعلمون أنه يضرهم وينفعهم ولا يملك شيئاً من ذلك أحد سواه ، وقد أقام الأدلة على ذلك غير مرة ، وفي هذا غاية التبكيت لهم بمنابذة العقل مع ادعائهم رسوخ الأقدام فيه وتمكن المجال منه؛ والعبادة : خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع؛ ثم عجب منهم تعجيباً آخر فقال : { ويقولون } أي لم يكفهم قوله ذلك مرة من الدهر حتى يجددوا قوله مستمرين عليه : { هؤلاء } أي الأصنام أو غيرهم { شفعاؤنا } أي ثابته شفاعتهم لنا { عند الله } أي الملك الأعظم الذي لا يمكن الدنو من شيء من حضرته إلا بإذنه ، وقد مضى إبطال ما تضمنته هذه المقالة في قوله تعالى { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وفيه تخجيلهم في العجز عن تبديل القرآن أو الإتيان بشيء من مثله حيث لم تنفعهم في ذلك فصاحتهم ولا أغنت عنهم شيئاً بلاغتهم ، وأعوزهم في شأنه فصحاءهم ، وضل عنهم شفعاءهم ، فدل ذلك قطعاً على أنه ما من شفيع إلا بإذنه من بعد ، فكأنه قال : بماذا أجيبهم؟ فقال : { قل } منكراً عليهم هذا العلم { أتنبئون } أي تخبرون إخباراً عظيماً { الله } وهو العالم بكل شيء المحيط بكل كمال { بما لا يعلم } أي لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات { في السماوات } ولما كان الحال مقتضياً لغاية الإيضاح ، كرر النافي تصريحاً فقال : { ولا في الأرض } وفي ذلك من الاستخفاف بعقولهم مما لا يقدرون على الطعن فيه بوجه ما يخجل الجماد ، فإن ما لا يكون معلوماً لله لا يكون له وجود أصلاً ، فلا نفي أبلغ من هذا كما أنك إذا بالغت في نفي شيء عن نفسك تقول : هذا شيء ما عمله الله مني .
ولما بين تعالى هنا ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء ، ختم ذلك بتنزيه نفسه بقوله : { سبحانه } أي تنزه عن كل شائبة نقص تنزهاً لا يحاط به { وتعالى } أي وفعل بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال فعل المبالغ في التنزه { عما يشركون* } أي يوجدون الإشراك به .
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
ولما بين شرارتهم بعبادة غير الله وختم بتنزيهه وكماله ، بين أن هذا الدين الباطل حادث ، وين نزاهته وكماله ببيان أن الناس كانوا أولاً مجتمعين على طاعته ثم خالفوا أمره فلم يقطع إحسانه إليهم بل استمر في إمهالهم مع تماديهم في سوء أعمالهم ما سبق في عمله ومضى به قضاءه فقال تعالى : { وما كان الناس } أي كلهم مع ما لهم من الاضطراب { إلا أُمة } ولما أفهم ذلك وحدتهم في القصد حققه وأكده فقال : { واحدة } أي حنفاء متفقين على طاعة الله { فاختلفوا } في ذلك على عهد نوح عليه السلام - كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما - عقب وحدتهم بسبب ما لهم من النوس فاستحق كافرهم تنجيز العقاب { ولولا كلمة } أي عظيمة { سبقت } أي في الأزل { من ربك } أي المحسن إليك برحمة أمتك بإمهالهم ، وبين التأكيد بما دل على القسم لأجل إنكارهم أن يكون تأخيرهم لأجل ذلك فقال : { لقضي بينهم } أي عاجلاً بأيسر أمر { فيما } ولما لم يبين الكلام على الاتخاذ الذي محط أمره معالجة بالباطن ، لم يذكر الضمير بخلاف الزمر فقال : { فيه } أي لا في غيره بأن يعجل جزاءهم عليه : { يختلفون* } وأشار ذلك إلى أن هذا الأمر الذي دعوا إليه ليس أمراً طارئاً حادثاً فيكون بحيث يتوقف فيه للنظر في عواقبه والتأمل في مصادره وموارده ، بل هو - مع ظهور دلائله واستقامة مناهجه وصحة مذاهبه وإلقاء الفطر أزمة الانقياد إليه - أصل ما كان العباد عليه ، وما هم فيه الآن هو الطارىء الحادث مع ظهور فساده ووضوح سقمه ، وهو ناظر إلى قوله تعالى { أكان للناس عجباً } لأن قوله { قال الكافرون إن هذا لسحر مبين } دال على أنهم قسمان : كافر ومؤمن؛ والأمة : الجماعة على معنى واحد في خلق واحد كأنها تؤم - أي تقصد - شيئاً واحداً؛ ثم قال تعالى عطفاً على قوله { ويعبدون } : { ويقولون } أي أنهم لما أتتهم البينات قالوا : ائت بقرآن غير هذا ، كافرين بمنزلها عابدين من دونه ما لا يرضى عاقل بتسويته بنفسه فكيف بعبادته قائلين بفرط عنادهم وتماديهم في التمرد { لولا } أي هلا ولم لا { أنزل } أي بأيّ وجه كان { عليه آية } أي واحدة كائنة وآتية { من ربه } أي المحسن إليه غير ماجاء به وذلك إما لطلبهم آية ملجئة لهم إلى الإيمان أو لكونهم لم يعدوا ما أنزل عليه عداد الآيات فضلاً عن كونها بينات ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة في الآيات دقيقة المسلك بين المعجزات مع عجزهم عن معارضته بتبديل أو غيره ، فأيّ عناد أعظم من هذا .
ولما كان في ذلك شوب من الاستفهام ، قال مسبباً عن قولهم : { فقل } قاصراً قصراً حقيقياً { إنما الغيب } أي الذي عناه عيسى عليه السلام بقوله
{ ولا أعلم ما في نفسك } [ المائدة : 116 ] وهو ما لم يطلع عليه مخلوق أصلاً { لله } أي الذي له الإحاطة الكاملة وحده ، لا علم لي بعلة عدم إنزال ما تريدون ، وهل تجابون إليه أو لا .
ولما خصه سبحانه بالعلم . وكان إنزال الآيات من الممكنات . سبب عنه قوله : { فانتظروا } ثم أجاب من كأنه يقول له : فما تعمل أنت؟ بقوله : { إني معكم } أي في هذا الأمر غير مخالف لكم في التشوف إلى آية تحصل بها هدايتكم ، ثم حقق المعنى وأكده فقال : { من المنتظرين* } أي لما يرد علي من آية وغيرها .
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
ولما كان طلبهم محركاً لنفوس الخيّرين إلى ترجى إجابة سؤالهم ، أتبعه سبحانه بما يبين أن ذلك غير نافع لهم لأنه محض تعنت . فقال تعالى عاطفاً على قوله { قال الكافرون إن هذا لسحر مبين } أو { وإذا مسَّ الإنسان الضر } مبيناً أن رحمته محققة الوجود كثيرة الورود إليهم مبيناً أن لهم آية عظمى من أنفسهم لا يحتاجون معها إلى التعنت بطلب آية وهي دالة على نتيجة مقصود السورة الذي هو الوحدانية وأن إشراكهم إنما هو بما لهم من نقص الغرائز الموجب لكفران الإحسان ، وذلك أنهم عامة إذا أكرموا بنعمة قابلوها بكفر جعلوا ظرفه على مقدار ظرف تلك النعمة بما أشار إليه التعبير ب « إذا » ثم إذا مسهم الضر ألجأهم إلى الحق فأخلصوا ، لم يختلف حالهم في هذا قط ، وهذا الإجماع من الجانبين دليل واضح على كلا الأمرين؛ الكفر ظلماً بما جر إليه من البطر . والتوحيد حقاً بما دعا إليه من الفطرة القويمة الكائنة في أحسن تقويم بما زال عنها إلحاق الضرر من الحظوظ والشهوات والفتور ، وهذا كما وقع في سورة الروم المافقة لهذه في الدلالة على الوحدانية فلذا عبر في كل منهما بالناس ليكون إجماعهم دليلاً كافياً عليها وسلطاناً جليلاً مضطراً إليها - والله الهادي : { وإذا أذقنا } أي على ما لنا من العظمة { الناس } أي الذين لهم وصف الاضطراب { رحمة } أي نعمة رحمناهم بها من غير استحقاق .
ولما كان كان وجود النعمة لا يستغرق الزمان الذي يتعقب النقمة ، أدخل الجار فقال : { من بعد ضراء } أي قحط وغيره { مستهم } فاجأوا المكر وهو معنى { إذا لهم مكر } أي عظيم بالمعاصي التي يفعلون في الاستخفاء بأغلبها فعل الماكر { في آياتنا } إشارة إلى أنهم لا ينفكون عن آياته العظام ، فلو كانوا منتفعين بالآيات اهتدوا بها ، فإذا أتتهم رحمة من بعد نقمة لم يعدوها آية دالة على من أرسلها لهم لخرقها لما كانوا فيه من عادة النقمة مع أنهم يعترفون بأنه لا يقدر على إرسالها وصرف الشدة إلا هو سبحانه ، بل يعملون فيها عمل الماكرين بأن يصرفوها عن ذلك بأنواع الصوارف كأن ينسبوها إلى الأسباب كنسبة المطر للأنواء ونحو ذلك غير خائفين من إعادة مثل تلك الضراء أو ما هو أشد منها .
ولما كانت هذه الجملة دالة على إسراعهم بالمكر من ثلاثة أوجه : التعبير بالذوق الذي هو أول المخالطة ولفظ « من » التي هي للابتداء و « إذا » الفجائية ، كان كأنه قيل : أسرعوا جهدهم في المكر ، فقيل : { قل الله } أي الذي له له الإحاطة الكاملة بكل شيء { أسرع مكراً } ومعنى اوصف بالأسرعية أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم - نبه عليه أبو حيان ولما كان المكر إخفاء الكيد ، بين لهم سبحانه أنهم غير قادرين على مطلق المكر في جهته عز شأنه وتعالى كبرياءه وسلطانه ، لأنه عالم بالسر وأخفى ، بل لا يمكرون مكراً إلا ورسله سبحانه مطلعون عليه فكيف به سبحانه! فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم : { إن رسلنا } أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا { يكتبون } أي كتابة متجددة على سبيل الاستمرار باستمرار المكتوب { ما تمكرون* } لأنهم قد وكلوا بكم قبل كونكم نطفاً ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما يفعلونه ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه ، وأما هو سبحانه فإذا قضى لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا باطلاعه فكيف بغيرهم! وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره ، علمَ أنه لا يدعهم يدبرون كيداً إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم؛ والمكر : فتل الشيء إلى غير وجهه على طريق الحيلة فيه؛ والسرعة؛ الشيء في وقته الذي هو أحق به ، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه حال الجاهل من تضييع حق النعمة والمكر فيها وإن جلت منزلتها وأتت على فاقة إليها وشدة حاجة إلى نزولها مع الوعيد بعائد الوبال على الماكر فيها ، ثم أخذ سبحانه يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الاية قبلها من نقله سبحانه لعباده من الضر إلى النعمة ومن سرعة تقلبهم فقال : { هو } أي لا غيره { الذي يسيركم } أي في كل وقت تسيرون فيه سيراً عظيماً لا تقدرون على الانفكاك عنه { في البر والبحر } أي يسبب لكم أسباباً توجب سيركم فيهما ويقدركم على ذلك ويهديكم من بين سائر الحيونات إلى ما فيه من أصناف المنافع مع قدرته على إصابتكم في البر بالخسف وما بالخسف وما دونه وفي البحر بالغرق وما أشبهه .
ولما كان العطب بأحوال البحر أظهر مع أن السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات ، بينه معرضاً عن ذكر البر فقال : { حتى إذا كنتم } أي كوناً لا براح لكم منه { في الفلك } أي السفن ، يكون واحداً وجمعاً؛ وأعرض عنهم بعد الإقبال لما سيأتي فقال : { وجرين } أي الفلك؛ { بهم } ولما ذكر جريها وهم فيها ، ذكر سببه فقال : { بريح طيبة } ثم أوضح لهم عدم علمهم بالعواقب بقوله : { وفرحوا بها } أي بتلك الريح وبالفلك الجارية بها { جاءتها ريح عاصف } فأزعجت سفنهم وساءتهم { وجاءهم الموج } أي المعروف لكل أحد بالرؤية أو الوصف { من كل مكان } أي يعتاد الإتيان منه فأرجف قلوبهم { وظنوا أنهم } ولما كان المخوف الهلاك ، لا كونه من معين ، بني للمفعول ما هو كناية عنه لأن العدو إذا أحاط بعدوه أيقن بالهلاك فقال : { أحيط بهم } .
ولما كان ما تقدم من حالهم الغريبة التي تجب لها القلوب وتضعف عندها القوى - مقتضياً لأن يسأل عما يكون منهم عند ذلك ، أتى المقال على مقتضى هذا السؤال مخبراً عن تركهم العناد وإخلاصهم الدال على جزعهم عند سطواته وانحلال عزائمهم في مشاهدة ضرباته ، وعبارة لرماني : اتصال دعوى الأجوبة ، كأنه قيل : لما ظنوا أنهم أحيط بهم { دعوا الله } أي الذي له صفات الكمال بالرغبة إليه في الخلاص والعبادة له بالإخلاص { مخلصين } أي عن كل شرك { له الدين * } أي التوحيد والتصديق بالظاهر والباطن ، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه بديهة العقل من الفزع عند الشدة إلى واهب السلامة ومسبغ النعمة في كشف تلك البلية؛ ثم أتبع سبحانه ذلك حكاية حالهم في وعدهم الشكر على النجاة ثم كذبهم في ذلك مع ادعائهم أنهم أطهر الناس ذيولاً عن الكذب وأشدهم استقباحاً له وأبعد الناس من كفران الإحسان ، فقال تعالى حاكياً قولهم الذي دلُّوا بتأكيدهم له أنهم قالوه بغاية الرغبة نافين ما يظن بهم من الرجوع إلى ما كانوا فيه قبل تلك الحال من الكفر : { لئن أنجيتنا } أي أيها الملك الذي لا سلطان لغيره { من هذه } أي الفادحه { لنكونن } أي كوناً لا ننفك عنه { من الشاكرين* } أي المديمين لشكرك العريقين في الاتصاف به .
ولما أعلم سبحانه أنهم اكدوا هذا الوعد هذا التأكيد ، أتبعه بيان أنهم أسرعوا في نقضه غاية الإسراع فقال : { فلما أنجاهم } ولما أبانت الفاء عن الإسراع في النقض ، أكد مناجاتهم لذلك بقوله : { إذا هم يبغون } أي يتجاوزون الحدود { في الأرض } أي جنسها { بغير الحق } أي الكامل ، فلا يزال الباغي مذموماً حتى يكون على الحق الكامل الذي لا باطل فيه بوجه ، وجاء الخطاب أولاً في { يسيركم } ليعم المؤمنين لأن التسيير يصلح للامتنان ، ثم التفت إلى الغيبة عند صدور ما لا يليق بهم - نبه على ذلك أبو حيان ، وأحسن منه أن يقال : إنه سبحانه أقبل عليهم تنبيهاً على أنه جعلهم - بما هيأ فيهم من القوى - أهلاً لخطابه ثم أعرض عنهم إشارة إلى أنهم استحقوا الإعراض لإعراضهم اغتراراً بما أتاحهم من الريح الطيبة في محل يجب فيه الإقبال عليه والغنى عن كل ما سواه لعظم الخطر وشدة الأمر ، وكأنه يذكر لغيرهم من حالهم ما يعجبه منه لينكر عليهم ويقبح حالهم؛ والتسيير : التحريك في جهة تمتد كالسير؛ والبر : الأرض الواسعة التي تقطع من بلد ، ومنه البر لاتساع الخير به؛ والبحر : مستقر الماء الواسع حتى لا يرى من وسطه حافتاه؛ والفلك : السفن التي تدور في الماء ، وأصله الدور ، فمنه فلكة المغزل ، والفلك الذي يدور فيه النجوم؛ والنجاة : التخليص من الهلاك؛ والبغي : قصد الاستعلاء بالظلم ، وأصله الطلب؛ والحق : وضع الشيء في موضعه على ما يدعو إليه العقل؛ ثم بين أن ما هم فيه من الإمهال إنما هو متاع الدنيا وأنها دار زوال فقال تعالى : { يا أيها الناس } أي الذي غلب عليهم وصف الاضطراب { إنما بغيكم } أي كل بغي يكون منكم { على أنفسكم } لعود الوبال عليها خاصة وهو على تقدير انتفاعكم به عرض زائل { متاع الحياة الدنيا } ثم يبقى عاره وخزيه بعد الموت { ثم إلينا } أي خاصة { مرجعكم } بعد البعث { فننبئكم } على ما لنا من العظمة إنباء عظيماً { بما كنتم } أي كوناً هو كالجبلة { تعملون* } ونجازيكم عليه .
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
ولما كان السياق لإثبات البعث وتخويفهم به وكانوا ينكرونه ويعتقدون بقاء الدنيا وأنها إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلغ دائماً بلا انقضاء فهي دار يرضى بها فيطمئن إليها ، وللتنفير من البغي والتعزز بغير الحق ، وكانت الأمثال أجلى لمحال الأشكال ، قال تعالى ممثلاً لمتاعها قاصراً أمرها على الفناء رداً عليهم في اعتقاد دوامها من غير بعث : { إنما } فهو قصر قلب { مثل الحياة الدنيا } التي تتنافسون فيها في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله { كماء أنزلناه } أي بما لنا من العظمة وحقق أمره وبينه بقوله : { من السماء } فشبهه بأمر النبات وأنه قليل يبلغ منتهاه فتصبح الأرض منه بلاقع بعد ذلك الاخضرار والينوع ، وفي ذلك إشارة إلى البعث وإلى أنه تعالى قادر على ضربة قبل نهايته أو بعدها ببعض الآفات كما يوجد في بعض السنين ، فيقفرون منه ويفتقرون إليه ، وفي ذلك تحذيرعظيم { فاختلط } أي بسبب إنزالنا له { به } أي بسبب تليينه ولطافته { نبات الأرض } عموماً في بطنها { مما يأكل الناس } أي كافة { والأنعام } من الحبوب والثمار والبقول فظهر على وجهها { حتى } ولم يزل كذلك ينمو ويزيد في الحسن والجرم؛ ولما كان الخصب هو الأصل ، عبر عنه بأداة التحقيق فقال : { إذا } ولما كانت بهجة النبات تابعة للخصب ، فكان الماء كأنه يعطيها إياها فتأخذه ، قال : { أخذت الأرض } أي التي لها أهلية النبات { زخرفها وازينت } بأنواع ذلك النبات زينة منها الجلي ومنها الخفي - بما يفهمه الإدغام { وظن أهلها } أي ظناً مؤكداً جداً بما أفاده العدول عن « قدرتهم » إلى { أنهم قادرون } أي ثابته قدرتهم { عليها } باجتناء الثمرة من ذلك النبات وغاب عنهم لجهلهم علم العاقبة ، فلما كان ذلك { أتاها أمرنا } أي الذي لا يرد من البرد أو الحر المفرطين { ليلاً أو نهاراً فجعلناها } أي زرعها وزينتها بعظمتها بسبب ذلك الأمر وتعقيبه بالإهلاك { حصيداً } وعبر بما فهمه فعيل من المبالغة والثبات بقوله : { كأن } أي كأنها { لم تغن } أي لم تكن غانية أي ساكنة حسنة غنية ذات وفر مطلوبة مرغوباً فيها أي زرعها وزينتها { بالأمس } فكان حال الدنيا في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله كحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وزين الأرض بخضرته وألوانه وبهجته .
ولما كان هذا المثل في غاية المطابقة للساعة ، هز السامع له فازداد عجبه من حسن تفصيله بعد تأصيله فقيل جواباً له : { كذلك } أي مثل هذا التفصيل الباهر { نفصل } أي تفصيلاً عظيماً { الآيات لقوم } أي ناس أقوياء فيهم قوة المحاولة لما يريدون { يتفكرون* } أي يجددون الفكر على وجه الاستمرار والمبالغة؛ والمثل : قول سائر يشبه فيه الحال الثاني بالأول؛ والاختلاط : تداخل الأشياء بعضها في بعض؛ والزخرف : حسن الألوان .
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
ولما قرر سبحانه هذه الآيات التي حذر فيها من أنواع الآفات ، بين أن الدار التي رضوا بها وأطمأنوا إليها دار المصائب ومعدن الهلكات والمعاطب وأنها ظل زائل تحذيراً منها وتنفيراً عنها ، بين تعالى أن الدار التي دعا إليها سالمة من كل نصب وهم ووصب ، ثابته بلا زوال ، فقال تعالى عاطفاً على قوله { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض } ترغيباً في الآخرة وحثاً عيها : { والله } أي الذي له الجلال والإكرام { يدعوا } أي يعلق دعاءه على سبيل التجدد والاستمرار بالمدعوين { إلى دار السلام } عن قتادة أنه سبحانه أضافها إلى اسمه تعظيماً لها وترغيباً فيها ، يعني بأناه لا عطب فيها أصلاً ، والسلامة فيها دائمة ، والسلام فيها فاش من بعضهم على بعض ومن الملائكة وغيرهم؛ والدعاء : طلب الفعل بما يقع لأجله ، والدواعي إلى الفعل خلاف الصوارف عنه .
ولما أعلم - بالدعوة بالهداية بالبيان وأفهم ختم الآية بقوله : { ويهدي من يشاء } أي بما يخلق في قلبه من الهداية { إلى صراط مستقيم* } أن من الناس من يهديه ومنهم من يضله . وأن الكل فاعلون لما يشاء - كان موضع أن يقال : هل هم واحد في جزائه كما هم واحد في الانقياد لمراده؟ فقيل : لا ، بل هم فريقان : { للذين أحسنوا } أي الأعمال في الدنيا منهم وهم من هداه { الحسنى } أي الخصلة التي هي في غاية الحسن من الجزاء { وزيادة } أي عظيمة من فضل الله فالناس : مزيد خرجت هدايته من الجهاد { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [ العنكبوت : 69 ] ، ومراد خرجت هدايته من المشيئة ، فالدعوة إلى الجنة بالبيان عامة ، والهداية إلى الصراط خاصة لأنها الطريق إلى المنعم .
ولما كان النعيم لا يتم إلاّ بالدوام بالأمن من المضار قال : { ولا يرهق } أي يغشي ويلحق { وجوههم قتر } أي غبرة كغبره الموت وكربة ، وهو تغير في الوجه معه سواد وعبوسة تركبهما غلبة { ولا ذلة } أي كآبة وكسوف يظهر منه الانكسار والهوان .
ولما كان هذا واضحاً في أنهم أهل السعادة ، وصل به قوله : { أولئك } أي العالو الرتبة { أصحاب الجنة } ولما كانت الصحبة جديرة بالملازمة ، صرح بها في قوله : { هم } أي لا غيرهم { فيها } أي خاصة { خالدون } أي مقيمون لا يبرحون ، لأنهم لا يريدون ذلك لطيبها ولا يراد بهم .
ولما بين حال الفضل فيمن أحسن ، بين حال العدل فيمن أساء فقال : { والذين كسبوا } أي منهم { السيئات } أي المحيطة بهم { جزآء سيئة } أي منهم { بمثلها } بعدل الله من غير زيادة { وترهقهم ذلة } أي من جملة جزائهم ، فكأنه قيل : أما لهم انفكاك عن ذلك؟ فقيل جواباً : { ما لهم من الله } أي الملك الأعظم؛ وأغرق في النفي فقال : { من عاصم } أي يمنعهم من شيء يريده بهم .
ولما كان من المعلوم أن ذلك مغير لأحوالهم ، وصل به قوله : { كأنما } ولما كان المكروه مطلق كونها بالمنظر السيىء ، بني للمفعول قوله : { أغشيت وجوههم } أي أغشاها مغش لشدة سوادها لما هي فيه من السوء { قطعاً } ولما كان القطع بوزن عنب مشتركاً بين ظلمة آخر الليل وجمع القطعة من الشيء . بين وأكد فقال : { من الليل } أي هذا الجنس حال كونه { مظلماً } ولما كان ذلك ظاهراً في أنهم أهل الشقاوة ، وصل به قوله : { أولئك } أي البعداء البغضاء { أصحاب النار } ولما كانت الصحبة الملازمة ، بينها بقوله : { هم فيها } أي خاصة { خالدون } أي لا يمكنون من مفارقتها؛ والرهق : لحق الأمر ، ومنه : راهق الغلام - إذا لحق حال الرجال؛ والقتر : الغبار ، ومنه الإقتار في الإنفاق لقتله؛ والذلة : صغر النفس بالإهانة؛ والكسب : الفعل لاجتلاب النفع إلى النفس أو النفس أو استدفاع الضر .
ولما بين سبحانه مآل الفريقين ، نبه على بعض مقدمات ذلك المانعة أن يشفع أحد من غير إذنه بقوله : { ويوم } أي وفرقنا بينهم لأنه لا أنساب هناك ولا أسباب فلا تناصر يوم { نحشرهم } أي الفريقين : الناجين والهالكين العابدين منهم والمعبودين حال كونهم { جميعاً } ثم يقطع ما بين المشركين وشركائهم فلا يشفع فيهم شيء مما يعتقدون شفاعته ولا ينفعهم بنافعة ، بل يظهرون الخصومة ويبارزون بالعداوة وهو ناظر إلى قوله تعالى { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } [ يونس : 4 ] وإلى قوله { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } [ يونس : 18 ] والحشر : الجمع بكره من كل جانب إلى موقف واحد؛وأشار سبحانه إلى طول وقوفهم بقوله : { ثم نقول للذين أشركوا } أي بنا من لم يشارك في خلقهم؛وقوله : { مكانكم } نقل أبو حيان عن النحوين أنهم جعلوه اسماً لأثبتوا ، ورد على الزمخشري تقديره بألزموا لأنه متعد ويجب أن يساوي بين الاسم والمسمى في التعدي واللزوم ، أي نقول لهم : قفوا وقوف الذل { أنتم وشركآؤكم } حتى ينفذ فيكم أمرنا إظهار لضعف معبوداتهم التي كانوا يترجونها وتحسيراً لهم ، فلا يمكنهم مخالفة ذلك .
ولما كان التقدير : فوقفوا موافقة للأمر على حسب الإرادة ، عطف عليه مسبباً عنه قوله : { فزيلنا } أي أزلنا إزالة كثيرة مفرقة ما كان { بينهم } في الدنيا من الوصلة والألفة حتى صارت عداوة ونفرة فقال الكفار : ربنا هؤلاء الذين أضلونا ، وكنا ندعو من دونك { وقال شركاؤهم } لهم متبرئين منهم بما خلق لهم سبحانه من النطق { ما كنتم } أي أيها المشركون ، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين نصبوهم بغير أمر ولا دليل ولأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم { إيانا تعبدون } أي تخصوننا بالعبادة لأنا لا نستحق ذلك إشارة لى أنه لا يعبد إلاّ من يستحق الإخلاص في ذلك بأن يعبد وحده من غير شريك ، ومن لا يستحق ذلك لا يستحق مطلق العبادة ولا يصلح لها ، وكل عبادة فيها شرك لا تعد أصلاً ولا يرضى بها جماد لو نطق ، فمتى نفي المقيد بالخلوص نفي المطلق لأنه لا اعتداد به أصلاً ، ومن المعلوم أن ما كان بهذه الصفة لا يقدم عليه أحد ، فنحن نظن أنه لم يعبدنا عابد فضلاً عن أن يخصنا بذلك ، والشخص يجوز له أن ينفي ما يظن نفيه ونحن لم نعلم شيئاً من ذلك .
ولما نفوا ذلك عطفوا عليه مسببين عنه قولهم : { فكفى بالله } أي المحيط علماً وقدرة { شهيداً } أي هو يكفينا كفاية عظيمة جداً من جهة الشهادة التي لا غيبة فيه بوجه ولا ميل أصلاً { بيننا وبينكم } في ذلك يشهد لنا وعلينا؛ ثم استأنفوا خبراً يصحح نفيهم فقالوا مؤكدين لأنهم كانوا يعتقدون علمهم : { إن } أي إنا { كنا } أي كوناً هو جبلة لنا { عن عبادتكم } لنا أو لغيرنا مخلصة أو مشوبة؛ ولما كانت « إن » هي المخففة من الثقيلة تلقيت باللام الفارقة بينها وبين النافية فقيل : { لغافلين } لأنه لا أرواح فينا ، فلم تكن بحيث نأمر بالعبادة ولانرضاها فاللوم عليكم دوننا ، وذلك افتداء من موقف الذل أو أنهم لما تخيلوا في الشركاء صفات عبدوها لأجلها وكانت خالية عنها صح النفي لأنهم عبدوا ذوات موصوفة بصفات لا وجود لها في الأعيان ، وأيضاً فإنهم ما عبدوا إلاّ الشياطين التي كانت تزين لهم ذلك وتغويهم ، ويكون التقدير على ما دل عليه السياق : { فزيلنا بينهم } أي منعناهم مما كانونا فيه من التواصل والتواد المقتضي للتناصر بعبادة الأوثان ، فقال المشركون لشركائهم لما أبطأ عنهم نصرهم : إنا كنا نعبدكم من دون الله فأغنوا عنا كما كنا نذب عنكم وننصر دينكم { وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } أي كُشِف لنا اليوم بتفهيم الله أنه ليس الأمر كما زعمتم وأنكم لم تخصونا بالعبادة حتى يلزمنا منعكم على أنكم لو خصصتمونا ما قدرنا على ذلك قال الشيطان { ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي } [ إبراهيم : 22 ] { فكفى } أي فتسبب عن نفينا لذلك على ما كشف لنا من العلم أن نقول : كفى { بالله شهيداً بيننا وبينكم } في ذلك ، يشهد أنكم لم تخصوا أحداً منه ومنا بعبادة بل كنتم مذبذبين ، وهذا كله إشارة إلى أن العبادة المشوبة لا اعتداد بها ولا يرضاها جماد لو نطق ، وإن من استحق العبادة استحق الإخلاص فيها وأن لا يشرك به أحد وأنه لا يستحق ذلك إلاّ القادر على كشف الكرب والمنع من أن يقطع بينه وبين متوليه وعابده قاطع؛ ولما كانت فائدة الشاهد ضبط ما قد ينساه المتشاهدان ، عللوا اكتفاءهم بشهادة الله بقوله : { إن كنا عن عبادتكم } في تلك الأزمان { لغافلين } فأقروا لهم بما هو الحق مما كان يعلمه كل من له تأمل صحيح أنهم لم يشعروا بعبادتهم ساعة من الدهر قبل ساعتهم هذه ، فهم أجدر الخلق بالاكتفاء بشهادة الشهيد لأنهم أسوأ حالاً ممن يعلم المشهود به ويخشى النسيان ، أو يقال : فقال المشركون لشركائهم : إنا كنا نعبدكم فهل أنتم ناصرونا أو شافعون لنا فنجونا مما وقعنا فيه { وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا } وحدنا { تعبدون } أي ما كنتم تخلصون لنا العبادة حتى يلزمنا أن نخلصكم كما أعلمنا بذلك الله ربنا وربكم المحيط بكل شيء علماً { فكفى } أي فتسبب عن ذلك أنه كفى { بالله شهيداً بيننا وبينكم } في ذلك ، فكأن المشركين قالوا : قد تضمن كلامكم أن عبدناكم على غير منهج الإخلاص ، أفليس قد عبدناكم؟ أفلا تغنون عنا شيئاً؟ فأجاب الشركاء بقولهم : { إن كنا عن عبادتكم } خالصة كانت أو مشوبة { لغافلين } فلا نقر لكم بعبادة أصلاً وإن تيقنا الإخلاص لسلب العلم عنا بما كنا فيه من الجمادية فضلاً عن أن نأمركم أو نرضى بعبادتكم على أنه لا غناء عندنا على تقدير من التقادير؛ أو يقال - وهو أحسن مما مضى - : { وقال شركاؤهم } لما تحققوا العذاب طلباً لأن يخفف عنهم منه بتوزيعه عليهم وعلى كل من عبدوه من غيرهم { ما كنتم } أيها العابدون لنا { إيانا } أي خاصة { تعبدون } بل كنتم تعبدون أيضاً غيرنا ، وهذا يعم والله كل من يرائيه غيره بعمل وهو يعلم أنه يرائيه فيقره ولا ينكره عليه؛ ولما أفهموا بنفي العبادة بقيد الخصوص أنهم كانوا يعبدون معهم غيرهم ، وكان المخلوق قاصر العلم غير محيطه بوجه بأحوال نفسه فكيف يعبدون بأحوال غيره ، سببوا عن ذلك قولهم : { فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن } أي في أنا { كنا عن عبادتكم } أي في الجملة { لغافلين } والحاصل أن هذا ترجمة كلام الكفار وهو ناشىء منهم عن محض غلبة ودهش وفرط غم وندم وقلق ، فلا يشترط أن يكون معناه على الوجه الأسدّ والطريق الأبلغ ، فالإعجاز في نظمه ، ومرادهم به أن يخفف عنهم من العذاب ولو بمشاركة من كانوا يعبدونهم معهم ، فهو من وادي قوله تعالى
{ فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء } [ إبراهيم : 21 ] ، { فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار } [ غافر : 47 ] { فآتاهم عذاباً ضعفاً من النار } [ الأعراف : 38 ] ونحوه { فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب } [ الأعراف : 39 ] - والله أعلم .
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
ولما أخبر عن حال المشركين ، تشوفت النفس إلى الاطلاع على حال غيرهم فقال مستأنفاً مخبراً عن كِلا الفريقين : { هنالك } أي في ذلك الموقف من المكان والزمان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال { تبلوا } أي تخبر وتخالط مخالطة مميلة محلية { كل نفس } طائعة وعاصية { مآ أسلفت } أي قدمت من العمل فيعرف هل كان خيراً أو شراً وهل كان يؤدي إلى سعادة أو شقاوة .
ولما كان مطلق الرد - وهو صرف الشيء إلى الموضع الذي ابتدأ منه - كافياً في الرهبة لمن له اب ، بُني للمفعول قوله : { وردوآ } أي بالبعث بالإحياء كما كانوا أولاً { إلى الله } أي الملك الأعظم { مولاهم الحق } فلم يكن لهم قدرة على قصدِ غيره ولا الالتفات إلى سواه من تلك الأباطيل ، بل انقطع رجاءهم من كل ما كانوا يدعونه في الدنيا ، وهو المراد بقوله : { وضَلَّ عنهم } أي بطل وذهب وضاع { ما كانوا } أي كوناً هو جبلة لهم { يفترون } أي يتعمدون كذبه من أن معبوداتهم شركاء ، وتيقنوا في ذلك المقام أن توليهم لغير الله كان باطلاً غير حق؛ والتزييل : تفريق يزول به كل واحد عن مكانه ، وهو من تفريق الجثث ، وليس من الواوي ، بل من اليائي ، يقال : زلته عن الشيء أزيله - إذا فرقت بينه وبينه؛ والكفاية : بلوغ مقدار الحاجة في دفع الأذية أو حصول المنفعة؛ والإسلاف : تقديم أمر لما بعده؛ والرد : الذهاب إلى الشيء بعد الذهاب عنه كالرجع؛ والمولى : من يملك تولى أمر مولاه .
ولما قدم سبحانه أن شركاءهم مربوبون مقهورون ، لا قدرة لهم إلاّ على ما يقدرهم الله عليه ، وأنه وحده المولى الحق ، وبانت بذلك فضائحهم ، أتبعه ذكر الدلائل على فساد مذهبهم ، فوبخهم بأن وجه السؤال إليهم عما هم معترفون بأنه مختص به ويدل قطعاً على تفرده بجميع الأمر الموجب من غير وقفة لاعتقاد تفرده بالإلهية فقال : { قل } أي يا أكرم خلقنا وأرفقهم بالعباد { من يرزقكم } أي يجلب لكم الخيرات أيها المنكرون للبعث المدعون للشركة { من السمآء } أي بالمطر وغيره من المنافع { والأرض } بالنبات وغيره لتعيشوا { أمّن يملك السمع } أي الذي تسمعون به الآيات ، ووحده للتساوي فيه في الغالب { والأبصار } التي تبصرون بها ما أنعم عليكم به في خلقها ثم حفظها في المدد الطوال على كثرة الآفات فيفيضها عليكم لتكمل حياتكم الحسية ببقاء الروح ، والمعنوية بوجود العلم؛ روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم .
فلما سألهم عن أوضح ما هم فيه وأقربه ، نبههم على ما قبله من بدء الخلق فقال : { ومن يخرج الحي } من الحيوان والنبات { من الميت } أي من النطفة ونحوها { ويخرج الميت } أي من النطفة ونحوها مما لا ينمو { من الحي } أي فينقل من النقص إلى الكمال؛ ثم عم فقال : { ومن يدبر الأمر } أي كله التدبير العام .
ولما كانوا مقرين بالرزق وما معه من الخلق والتدبير ، أخبر عن جوابهم إذا سئلوا عنه بقوله : { فسيقولون الله } أي مسمى هذا الاسم الذي له الكمال كله بالحياة والقيومية بخلاف ما سيأتي من الإعادة والهداية { فقل } أي فتسبب عن ذلك أنا نقول لك : قل لهم مسبباً عن جوابهم هذا الإنكار عليهم في عدم التقوى : { أفلا تتقون } أي تجعلون وقاية بينكم وبين عقابه على اعترافكم بتوحده في ربوبيته وإشراككم غيره في إلهيته؛ ثم علل إنكار عدم تقواهم بقوله : { فذلكم } أي العظيم الشأن { الله } أي الذي له الجلال والإكرام ، فكانت هذه قدرته وأفعاله { ربكم } أي الموجد لكم المدبر لأموركم الذي لا إحسان عندكم لغيره { الحق } أي الثابته ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لاجتماع الصفات الماضية له لا لغيره لأنه لا تكون الربوبية حقيقة لمن لم تجتمع له تلك الصفات { فما } أي فتسبب عن ذلك أن يقال لكم : ما { ذا بعد الحق } أي الذي له أكمل الثبات { إلاّ الضلال } فإنه لا واسطة بينهما - بما أنبأ عنه إسقاط الجار ، ولا يعدل عاقل عن الحق إلى الضلال فانّى تصرفون أنتم عن الحق إلى الضلال؛ ولذلك سبب عنه قوله : { فأنى } أي فكيف ومن أيّ جهة { تصرفون } أي أنتم من صارف ما كائناً ما كان ، عن الحق إلى الضلال .
ولما كانوا جديرين عند تقريرهم بهذه الآية وإقرارهم بمضمونها بأن يقولوا : سلمنا فأسلمنا ولا نصرف عن الحق أبداً ، فلم يقولوا ، كانوا حقيقين بأن يقال لهم : حقت عليكم كلمة الله لفسقكم وزوغانكم عن الحق . فقيل : هل خصوا بذلك؟ فقيل : بل { كذلك } أي مثل ذلك الحقوق العظيم { حقت كلمت ربك } أي المحسن إليك بإهلاك أعدائك : الكلمة الواحدة النافذة التي لا تردد فيها ، ومعنى الجمع في قراءة نافع وابن عامر أنه لا شيء من كلماته يناقض الكلمة التي أوجبت عذابهم ، بل كلها توافقها فالمراد واحد ، أو يكون ذلك كناية عن أن عذابهم دائم فإن كلماته لا تنفذ { على } كل { الذين } فعلوا فعلهم لأنهم { فسقوا } أي أوقعوا الترك لأمر الله وأوجدوا عصيانه وفعلوا الخروج عن طريق الحق والخروج عن دائرة الصلاح ، وهو كونهم أمة واحدة إلى دين أبيهم آدم صَفيُ الله عليه السلام؛ثم علل ذلك الحقوق بقوله : { أنهم لا يؤمنون* } أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً ، وعبر بالفسق المراد به الكفر لأن السياق للخروج عن دائرة الدين الحق في قوله { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } وهذا المعنى أحق بالتعبير للفسق الذي أصله الخروج عن محيط في قولهم : فسقت الرطبة عن قشرها - أي خرجت ، أو يكون المعنى : حقت الربوبية له سبحانه بهذا الليل ، وهو فعل هذه الأمور المختتمة بالتدبير المقتضي للوحدانية له سبحانه قطعاً لأنه لو كان قادر يساويه في مقدوره لأمكن أن يمانعه ، وبطل أن يكون قادراً ، وحق أن من زاغ عن الحق كان في الضلال كما حق هذا { كذلك حقت } أي ثبتت ثباتاً عظيماً { كلمت ربك على } كل { الذين } قضى بفسقهم منهم . و { أنهم لا يؤمنون } تفسير لكلمته التي حقت؛ والرزق : جعل العطاء الجاري .
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
ولما علم أنهم معترفون بأمر الهداية وما يتبعها من الرزق والتدبير أعاد سبحانه السؤال عنها مقرونة بالإعادة تنبيهاً لهم على ما يتعارفونه من أن الإعادة أهون ، فإنكارها مع ذلك إما جمود أو عناد ، وإنكار المسلمات كلها هكذا ، وسوقه على الطريق الاستفهام أبلغ وأوقع في القلب فقال : { قل } أي على سبيل الإنكار عليهم والتوبيخ لهم { هل من شركائكم } أي الذين زعمتموهم شركاء لي وأشركتموهم في أموالكم من أنعامكم وزروعكم { من يبدأ الخلق } كما بدأته ليصح لهم ما ادعيتم من الشركة { ثم يعيده } .
ولما كان الجواب قطعاً من غير توقف . ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك ، وكان لجاجهم في إنكار الإعادة وعنادهم لا يدعهم انة يجيبوا بالحق ، أمره بجوابهم بقوله : { قل الله } أي الذي له الأمر كله { يبدأ الخلق } أي مهما أراد { ثم يعيده } وأتى هنا بجزئي الاستفهام وكذا ما يأتي في السؤال عن الهداية تأكيداً للأمر بخلاف ما اعترفوا به ، فإنه اكتفى فيه بأحد الجزأين في قوله { فسيقولون الله } ولم يقل : يرزقنا - إلى آخره؛ ثم زاد في تبكيتهم على عدم الإذعان لذلك بالتعجيب منهم في قوله : { فأنى تؤفكون* } أي كيف ومن أي جهة تصرفون بأقبح الكذب عن وجه الصواب من صارف ما ، وقد استنارت جميع الجهات ، ورتب هذه الجمل أحسن ترتيب ، وذلك أنه سألهم أولاً عن سبب دوام حياتهم وكمالها بالرزق والسمع والبصر وعن بدء الخلق في إخراج الحي من الميت وما بعده ، وكل ذلك تنبيهاً على النظر في أحوال أنفسهم مرتباً على الأوضح فالأوضح ، فلما اعترفوا به كله أعاد السؤال عن بدء الخلق ليقرن به الإعادة تنبيهاً على أنهما بالنسبة إلى قدرته على حد سواء ، فلما فرغ مما يتعلق بأحوال الجسد أمره أن يسألهم عن غاية ذلك ، والمقصود منه من أحوال الروح في الهداية التي في سبب السعادة إمعاناً في الاستدلال بالمصنوع على الصانع على وجه مشير إلى التفضيل فقال : { قل } أي يا أفهم العباد وأعرفهم بالمعبود { هل من شركائكم } أي الذين زعمتم أنهم شركاء لله ، فلم تكن شركتهم إلا لكم لأنكم جعلتم لهم حظاً من أموالكم وأولادكم { من يهدي } أي بالبيان أو التوفيق ولو بعد حين { إلى الحق } فضلاً عن أن يهدي للحق على أقرب ما يكون من الوجود إعلاماً .
ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين ، أمره أن يجيبهم معرضاً عن انتظار جوابهم آتياً بجزئي الاستفهام أيضاً فقال : { قل الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { يهدي } ولما كان قادراً على غاية الإسراع ، عبر باللام فقال : { للحق } إن أراد ، ويهدي إلى الحق من يشاء ، لا أحد ممن زعموهم شركاء ، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض واختلال في المزاج كبير ، فالآية من الاحتباك : ذكر { إلى الحق } أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ، و { للحق } ثانياً دليلاً على حذفه أولاً ، فتسبب عن ذلك إنكار أتباعهم لهم فقال : { أفمن يهدي } أي منتهياً في هداه ولو على بعد { إلى الحق } أي الكامل الذي لا زيغ فيه بوجه ولو على أبعد الوجوه { أحق أن يتبع } أي بغاية الجهد { أم من لا يهدي } أي يهتدي فضلاً عن أن يهدي غيره إلى شيء من الأشياء أصلاً ورأساً؛ وإدغام تاء الافتعال للإيماء إلى انتفاء جميع أسباب الهداية حتى أدانيها ، فإن التاء عند أرباب القلوب معناها انتهاء التسبب إلى أدناه { إلا أن يهدى } أي يهديه هاد غيره كائناً من كان ، وهذا يعم كل ما عبد من دون الله من يعقل وممن لا يعقل؛ فلما أتم ذلك على هذا النهج القويم كان كأنه قيل : أتجيبون أم تسكتون؟ وإذا أجبتم أتؤثرون الحق فترجعوا عن الضلال أم تعاندون ، تسبب عن ذلك سؤالهم عى وجه التوبيخ بقوله : { فما } اي أيّ شيء ثبت { لكم } في فعل غير الحق من كلام أو سكوت؛ ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال : { كيف تحكمون* } فيما سألناكم عنه مما لا ينبغي أن يخفى على عاقل ، أبالباطل أم بالحق؟ فقد تبين الرشد من الغي؛ والبدء : العقل الأول؛ والإعادة : إيجاد الشيء ثانياً؛ والهداية : التعريف بطريق الرشد من الغي .
ولما أخبر بإقرارهم عن بعض ما يسألون عنه ثم عقبه بما لوح إلى إنكارهم أو سكوتهم عن بعضه مما يتعلق بشركائهم ، عطف على ما صرح به من قولهم { فسيقولون } وما لوح إليه من « فسينكرون » أو « فسيسكتون » قوله : { وما يتبع } أي بغاية الجهد { أكثرهم } أي نطقه أو سكوته في عبادته للأصنام وقوله : إنها شفعاء ، وغير ذلك { إلا ظناً } تنبيهاً على أنهم إنما هم مقلدون وتابعون للأهواء .
ولما كان الظن لا ينكر استعماله في الشرائع ، نبه على أن محله إنما هو حيث لا يوجد نص على المقصود ، فيقاس حينئذ على النصوص بطريقة ، وأما إذا وجد القاطع في حكم فإنه لا يجوز العدول عنه بوجه من الوجوه فقال تعالى في جواب من يقول : أو ليس الظن مستعملاً في كثير من الأحكام؟ : { إن الظن لا يغني } أي أصلاً { من الحق } أي الكامل { شيئاً } أي بدله ، ولايكون بدل الحق إلا إذا كان تابعه مخالفاً فيه لقاطع يعمله .
ولما صار ظهور الفرق ضرورياً ، أوقع تهديد المتمادي في غيه في جواب من كأنه قال : إن ذلك غير خفي عنهم ولكنهم يستكبرون فلا يرجعون ، فقال : { إن الله } أي المحيط بكل شيء { عليم } أي بالغ العلم { بما يفعلون* } فاصبر فلسوف يعملون .
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
ولما قدم في هذه السورة قولهم { لولا أنزل عليه آية من ربه } وأتى فيها رداً عليهم ووعظاً لهم من الآيات البالغة في الحكمة جداً يتجاوز قوى البشر ويضمحل دونه من الخلق القدر ، وكان آخر ذلك التنبيه على أن شركاءهم لا يهتدون إلا أن هداهم الهادي فضلاً عن أن يهدوا ، وإقامة الدليل على أن مذاهبهم ليست مستندة إلى علم بل هى تابعة للهوى ، أتبع ذلك دليلاً قطعياً في أمر القرآن من أنه لا يصح أصلاً أن يؤتى به من دون أمره سبحانه رداً لقولهم : إنه مفترى ، لأنه من وادي ما ختم به هذه الآيات من اتباعهم للظنون لأنه لا سند لهم في ذلك بل ولا شبهة أصلاً ، وإنما هو مجرد هوى بل وأكثرهم عالم بالحق في أمره ، فنفى ذلك بما يزيح الظنون ويدمغ الخصوم ولا يدع شبهة لمفتون ، وأثبت أنه هو الآية الكبرى والحقيق بالاتباع لأنه هدى ، فقال تعالى : { وما كان } عاطفاً له على قوله { ما يكون لي أن أبدله } إلى آخره ، فهو حينئذ مقول القول ، أي قل لهم ذاك الكلام وقل لهم { ما كان } أي قط بوجه من الوجوه ، وعينه تعييناً لا يمكن معه لبس ، فقال : { هذا القرآن } أي الجامع لكل خير مع التأدية بأساليب الحكمة المعجزة لجميع الخلق { أن يفترى } أي أن يقع في وقت من الأوقات تعمد نسبته كذباً إلى الله من أحد من الخلق كائناً من كان؛ وعرف بتضاؤل رتبتهم دون شامخ رتبته سبحانه بقوله : { من دون الله } أي الذي تقرر أنه يدبر الأمر كله ، فما من شفيع إلا من بعد إذنه وما يعزب عنه شيء فسبحان المتفضل على عباده بإيضاح الحجج وإزالة الشكوك والدعاء إلى سبيل الرشاد مع غناه عنهم وقدرته عليهم؛ والافتراء : الإخبار على القطع بالكذب ، لأنه من فرى الأديم وهو قطعه بعد تفزيره .
ولما كان إتيان الأمي - الذي لم يجالس عالماً - بالأخبار والقصص الماضية على التحرير دليلاً قطعاً على صدق الآتي في ادعائه أنه لا معلم له إلا الله ، عبر بأداة العناد فقال : { ولكن } أي كان كوناً لا يجوز غيره { تصديق الذي } أي تقدم { بين يديه } أي قبله من الكتب ، والدليل على تصادقه شاهد الوجود مع أن القوم كانوا في غاية العدواة له صلى الله عليه وسلم وكان أهل الكتابين عندهم في جزيرة العرب على غاية القرب منهم مع أنهم كانوا يتجرون إلى بلاد الشام وهم متمكنون من السؤال عن كل ما يأتي به ، فلو وجدوا مغمزاً ما لقدحوا به ، فدل عدم قدحهم على التصادق قطعاً .
ولما كان ذلك سلطاناً قاهراً صلى الله عليه وسلم ، زاده ظهوراً بما اشتمل الكتاب الآتي به عليه من التفصيل الذي هو نهاية العلم فقال : { وتفصيل الكتاب } أي الجامع المجموع فيه الحكم والأحكام وجوامع الكلام من جميع الكتب السماوية في بيان مجملاتها وإيضاح مشكلاتها ، فهو ناظر إلى قوله { أفمن يهدي إلى الحق } ، فهو برهان على أنه هو الهادي وحده ، فهو الحقيق بالاتباع والتفصيل بتبيين الفصل بين المعاني الملتبسة حتى تظهر كل معنى على حقه ، ونظيره التقسيم ، ونقضيه التخليط والتلبيس ، وبيان تفصيله أنه أتى من العلوم العلمية الاعتقادية من معرفة الذات والصفات بأقسامها ، والعملية التكليفية المتعلقة بالظاهر وهي علم الفقه وعلم الباطن ورياضة النفوس بما لا مزيد عليه و لا يدانيه فيه كتاب ، وعلم الأخلاق كثير في القرآن مثل
{ خذ العفو } [ الأعراف : 199 ] { إن الله يأمر بالعدل } [ النحل : 90 ] وأمثالهما .
ولما كان - مع الشهادة بالصدق بتصديق ما ثبت حقيقة - معجزاً بالجمع والتفصيل لجميع العلوم الشريفة : عقليها ونقليها إعجازاً لم يثبت لغيره ، ثبت أنه مناقض للافتراء حال كونه { لا ريب فيه } وأنه { من رب العالمين* } أي موجدهم ومدبر أمرهم والمحسن إليهم لأنه - مع الجمع لجميع ذلك - لا اختلاف فيه بوجه ، وذلك خارج عن طوق البشر .
ولما كان هذا موضع أن يذعنوا لأن هذا القرآن ليس إلا من عند الله وبأمره قطعاً ، كان كأنه قيل : ارجعوا عن غيهم فآمنوا واستقاموا { أم } استمروا على ضلالهم { يقولون } على سبيل التجديد والاستمرار عناداً { افتراه } أي تعمد نسبته كذباً إلى الله ، فكأنه قيل ، تمادوا على عتوهم فقالوا ذلك فكانوا كالباحث عن حتفه بظلفه ، لأنهم أصلوا أصلاً فاسداً لزم عليه قطعاً إمكان أن يأتوا بمثله لأنهم عرب مثله ، بل منهم من قرأ وكتب وخالط العلماء واشتد اعتناءه بأنواع البلاغة من النظم والنثر والخطب وتمرنه فيها بخلافه صلى الله عليه وسلم في جميع ذلك ، فلهذا أمره في جوابهم بقوله { قل } أي لهم يا أبلغ خلقنا وأعرفهم بمواقع الكلام لجميع أنواعه ، أتى بالفاء السببية في قوله : { فأتوا } أي أنتم تصديقاً لقولكم هذا الذي تبين وأنكم فيه معاندون؛ ولما كانوا قد جزموا في هذه السورة بأنه افتراه ، وكان مفصلاً إلى سور كل واحدة منها لها مقصد معين يستدل فيها عليه ، وتكون خاتمتها مرتبطة بفاتحتها متحدة بها ، اكتفى في تحديهم بالإتيان بقطعة واحدة غير مفصلة إلى مثل سورة لكن تكون مثل جميع القرآن في الطول والبيان وانتظام العبارة والتئام المعاني فلذلك قال : { بسورة } قال الرماني : والسورة منزلة محيطة بآيات من أجل الفاتحة والخاتمة كإحاطة سور البناء ، وهذا نظراً إلى أن المتحدي به سورة اصطلاحية والصواب أنها لغوية ، وهي كما قال الحرالي تمام جملة من المسموع تحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدنية؛ووصفها بقوله : { مثله } أي قي البلاغة وحسن النظم وصحة المعاني ومصادقة الكتب وتفصيل العلوم لأنكم مثلي في العربية وتزيدون بالكتابة ومخالطة العلماء - من غير إتيان ب « من » لما تقدم من أن المراد كونها مثل القرآن كله ، ولذلك وسع لهم في الاستعانة بجميع من قدروا عليه ووصلت طاقتهم إليه ولم يقصرهم على من بحضرتهم فقال : { وادعوا } أي لمعاونتكم { من استطعتم } أي قدرتم على طاعته ولو ببذل الجهد من الجن والإنس وغيرهم للمعاونة ، وحقق أن هذا القرآن من عنده سبحانه باستثنائه في قوله : { من دون الله } أي الذي له الكمال كله ، ونبه على أنهم متعمدون لما نسبوه إليه - وحاشاه من تعمد الكذب - وأنهم معاندون بقوله : { إن كنتم } أي جبلة وطبعاً { صادقين* } أي في أنه أتى به من عنده ، لأن العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج ، وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر ، وقد مضى في البقرة ويأتي في هود إن شاء الله تعالى ما يوضح هذا المعنى؛ والاستطاعة : حالة تتطاوع بها الجروح والقوى للفعل لأنه مأخوذ من الطوع؛ ثم كان كأنه قيل : فقال لهم ذلك فلم يأتوا لقومهم بشبهة توجب شكاً فضلاً عن مصدق ، لأنه معجز لكونه كلاماً في أعلى طبقات البلاغة بحسن النظام والجزالة منزلاً من عند الله المحيط علماً وقدرة ، فهو مشتمل من كل معنى على ما علا كل العلو عن مدان { بل } .
وأحسن من ذلك أنه لما أقام الدليل على أن القرآن كلامه ، وكان الدليل إنما من شأنه أن يقام على من عرض له غلط أو شبهة ، وكان قولهم { افتراه } لا عن شبهة وإنما هو مجرد عناد ، نبه سبحانه على ذلك وعلى أنه إنما أقام الدليل لإظهار عنادهم لا لأن عندهم شبهة في كونه حقاً بالإضراب عن قولهم فقال : { بل } أي لم يقولوا { افتراه } عن اعتقاد منهم لذلك بل { كذبوا } أي أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك من غير أن يتفهموه مستهينين { بما لم يحيطوا بعلمه } اي في نظمه أو معناه من غير شبهة أصلاً بل عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم وشراداً ، فهو من باب « من جهل شيئاً عاداه » والإحاطة : إرادة ما هو كالحائط حول الشيء ، فإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه .
ولما كان لا بد من وقوع تأويله ، وهو إتيان ما فيه من الإخبار بالمغيبات على ما هي عليه ، قال : { ولما يأتهم } أي إلى زمن تكذيبهم { تأويله } أي ترجيعنا لأخباره إلى مراجعها وغاياتها حتى يعلموا أصدق هي أم كذب ، فإنه معجز من جهة نظمه ومن جهة صدقه في أخباره؛ والتأويل : المعنى الذي يؤول إليه التفسير ، وهو منتهى التصريح من التضمين .
ولما كان كأنه قيل : إن فعلهم هذا لعجب ، فما حملهم على التمادي فيه؟ فقيل : تبعوا في ذلك من قبلهم لموافقتهم في سوء الطبع ، قال مهدداً لهم ومسلياً له صلى الله عليه وسلم : { كذلك } أي مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبير المعجز { كذب الذين } ولما كان المكذبون بعض السالفين ، أثبت الجار فقال : { من قبلهم } أي من كفار الأمم الخالية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم؛ ولما كان التكذيب خطراً لما يثير من السرور ، سبب عنه - تحذيراً منه - النظر في عاقبة أمره فقال : { فانظر } أي بعينك ديارهم وبقلبك أخبارهم .
ولما كان من نظر هذا النظر وجد فيه أجل معتبر وأعلى مزدجر ، وجه السؤال إليه بقوله : { كيف كان عاقبة } أي آخر أمر { الظالمين* } أي الذين رسخت أقدامهم في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى كذبوا من لا يجوز عليه الكذب بوجه ، ومن المقطوع به أن هذا المسؤول يقول من غير تعلثم ولا تردد : عاقبة وخيمة قاصمة ذميمة؛ والعاقبة سبب تؤدي إليه البادئة ، فالذي أدى إلى إلى هلاكهم بعذاب الاستئصال ما تقدم من ظلمهم لأنفسهم وعتوهم في كفرهم .
ولما ذكر سبحانه تكذيبهم ، كان ذلك ربما أيأس من إذعانهم وتصديقهم ، وآذن باستئصالهم لتكمل المشابهة للأولين ، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الشفقة عليهم والحرص على إيمانهم ، فأتبعه تعالى بقوله بياناً لأن علمه بانقسامهم أوجب عدم استئصالهم عاطفاً على { كذبوا } : { ومنهم } أي قومك { من يؤمن به } أي في المستقبل { ومنهم من لا يؤمن به } أي القرآن أصلاً ولو رأى كل آية { وربك } أي المحسن إليك بالرفق بأمتك { أعلم بالمفسدين* } أي الذين هم عريقون في الإفساد فسيعاملهم بما يشفي صدرك .
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
ولما قسمتهم هذه الآية قسمين ، وتليت بذكر القسم الثاني بالواو ، عرف أنه معطوف على مطوى القسم الأول ، فكان كأنه قيل : فإن صدقوك فقل : الله ولي هدايتكم ولي مثل أجوركم بنسبتي فيها فضلاً من ربي : { وإن كذبوك فقل } أي قول منصف معتمد على قادر عالم { لي علمي } بالإيمان والطاعة { ولكم عملكم } ما لأحد من ولا عليه من جزاء الآخر شيء؛ ثم صرح بالمقصود من ذلك بقوله محذراً لهم : { أنتم بريئون مما أعمل } أي فإن كان خيراً لم يكن لكم منه شيء وإن كان غيره لم يكن عليكم منه شيء { وأنا بريء مما تعملون* } لا جناح عليّ في شيء منه لأني لا أقدر على ردكم عنه؛ والبراءة : قطع العلقة الذي يوجب رفع المطالبة ، ولا حاجة إلى ادعاء نسخ هذه الآية بآية السيف ، فإنه لا منافاة بينهما ، لأن هذه في رفع لحاق الإثم وهو لا ينافي الجهاد .
ولما قسمهم إلى هذين القسمين ، قسم القسم الأخير إلى قسمين فقال : { ومنهم } أي المكذبين { من } ولما كان المستمع إليه أكثر لأنهم أشهى الناس إلى تعرف حاله ، وكان طريق ذلك السمع والبصر ، وكان تحديق العين إليه لا يخفى ، فكان أكثرهم يتركه إظهاراً لبغضه وخوفاً من إنكار من يراه عليه ، وكان إلقاء السمع بغاية الجهد يمكن إخفاءه بخلاف الإبصار ، عبر هنا بالافتعال ، وجمع دالاً على كثرتهم نظراً إلى معنى « من » وأفرد في النظر اعتباراً للفظها ودالاً على قلة الناظر بما ذكر فقال : { يستمعون } وضمن الاستماع الإصغاء ليؤدي مؤدي الفعلين ، ودل على الإصغاء بصلته معلقة بحال انتزعت منه فكأنه : قال مصغين { إليك } أي عند قراءة القرآن وبيانه بالسنة ، ولكنهم وإن كانوا قسمين بالنسبة إلى الاستماع والنظر فهم قسم واحد بالنسبة إلى الضلال ، فكان تعقيب ذلك بحشرهم بعد قصر الهداية عليه سبحانه كذكر حشرهم فيما مضى تقسيمهم إلى قسمين بعد قوله { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } .
ولما كان صلى الله عليه وسلم يريد - بإسماعه لهم ما أنزل الله - هدايتهم به ، سبب عن استماعهم إنكار إسماعهم الإسماع المترتب عليه الهدى فقال : { أفأنت } أي وحدك { تسمع الصم } أي في آذان قلوبهم لأنهم يستمعون إليك وقد ختم على أسماعهم فهم لا ينتفعون باستماعهم لأنهم يطلبون السمع للرد لا للفهم؛ والسمع إدراك الشيء بما يكون به مسموعاً ، فكانوا بعدم انتفاعهم كأنهم هم مجانين ، لأن الأصم العاقل ربما فهم بالتفرس في تحريك الشفاه وغيرها فلذا قال : { ولو كانوا } أي جبلة وطبعاً { لا يعقلون* } أي لا يتجدد لهم عقل أصلاً فصاروا بحيث لا يمكن إسماعهم لأنه لا يمكن إلا بسماع الصوت الدال على المعنى وبفهم المعنى ، والمانع من الأول الصمم ، ومن الثاني عدم العقل ، فصاروا شراً من البهائم لأنها وإن كانت لا تعقل فهي تسمع ، والأصم : المنسد السمع بما يمنع من إدراك الصوت { ومنهم من ينظر } محدقاً أو رامياً ببصره من بعيد { إليك } فهو من التضمين كما سبق في { يستمعون } ؛ نقل عن التفتازاني أنه قال في حاشية الكشاف : وحقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه وهو كثير في كلام العرب ، وذلك مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية ، ويتعين جعل الفعل المذكرو أصلاً والمذكور حاله تبعاً ، لأن حذفه والدلالة عليه بصلته يدل على اعتباره في الجملة لا على زيادة القصد إليه ، ومن أمثلته : أحمد إليك الله ، أي منهياً إليك حمده ، ويقلب كفيه على كذا ، أي نادماً عليه ،
{ ولا تعد عيناك عنهم } [ الكهف : 28 ] أي مجاوزتين عنهم إلى غيرهم ، { ولا تأكلوا أموالهم } -ضاميها { إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] ، { الرفث - مفضين - إلى نسائكم } [ البقرة : 187 ] ، { ولا تعزموا } [ البقرة : 235 ] أي على النكاح وأنتم تنوون عقدته { ولا يسمعون } مصغين { إلى الملإ الأعلى } [ الصافات : 8 ] ، سمع الله - أي مستجيباً - لمن حمده ، { والله يعلم المفسد } [ البقرة : 220 ] مميزاً له - { من المصلح } ، { والذين يؤلون } - ممتنعين { من } وطء { نسائهم } [ البقرة : 226 ] .
ولما كان المعنى أنك يا أكرم الخلق تريد بنظر هذا الناظر إليك ان ينظر إلى ما تأتي به من باهر الآيات فيهتدي وهو غير منتفع بنظره لما جعل عليه من الغشاوة فكان كالأعمى الذي زاد على عدم بصره عدم العقل فلا بصر ولا بصيرة ، قال منكراً لذلك : { أفأنت تهدي العمي } أي عيوناً وقلوباً { ولو كانوا } أي بما جبلوا عليه { لا يبصرون* } أي لا يتجدد لهم بصر ولا بصيرة ، فلا تمكن هدايتهم ، لأن هداية الطريق الحسي لا تمكن إلا بالبصر ، وهداية الطريق المعنوي لا تمكن إلا بالبصيرة؛ والنظر : طلب الرؤية بتقليب البصر ، ونظر القلب طلب العلم بالفكر؛ والعمى : آفة تمنع الرؤية عن العين والقلب؛ والإبصار : إدراك الشيء بما به يكون مبصراً ، فكأنه قيل : ما له فعل بهم هذا والأمر بيده؟ فقيل : لأنه تام المُلك والمِلك وهو متفضل في جميع نعمة لا يجب عليه لأحد شيء فهو لا يسأل عما يفعل ، وبنى عليه قوله : { إن الله } وأحسن منه أن يقال : ولما كان التقدير : إذا علمت ذلك فخفف عنك بعض ما أنت فيه ، فإنك لا تقدر على إسماعهم ولا هدايتهم لأن الله تعالى أراد ما هم عليه منهم لاستحقاقهم ذلك لظلمهم أنفسهم ، علله بقوله : { إن الله } أي المحيط بجميع الكمال { لا يظلم الناس شيئاً } وإن كان هو الذي جبلهم على الشر { ولكن الناس } أي لما عندهم من شدة الاضطراب والتقلب { أنفسهم } أي خاصة { يظلمون* } بحملهم لها على الشر وصرف قواهم فيه باختيارهم مع زجرهم عن ذلك وحجبهم عما جبلوا عليه وإن كان الكل بيده سبحانه ولا يكون إلا بخلقه .
ولما كان في هذه الآيات ما ذكر من أفانين جدالهم في أباطيلهم وضلالهم ، وكان فعل ذلك - ممن لا يرى حشراً ولا جزاء ولا نعيماً وراء نعيم هذه الدار - فعل فارغ السر مستطيل للزمان آمن من نوازل الحدثان ، حسن تعقيبه بأنهم يرون يوم الحشر من الأهوال ما يستقصرون معه مدة لبثهم في الدنيا ، فقد خسروا إذن دنياهم بالنزاع ، وآخرتهم بالعذاب الذي لا يستطاع ، وليس له انقطاع ، فقال تعالى مهدداً لهؤلاء الكفار الذين يعاندون فلا يسمعون ولا يبصرون عاطفاً على { ويوم نحشرهم } الأولى : { ويوم يحشرهم } أي واستقصروا مدة لبثهم في الدنيا يوم الحشر لما يستقبلهم من الأهوال والزلازل الطوال ، فكأنه قيل : إلى أي غاية؟ فقيل : { كأن } أي كأنهم { لم يلبثوا } في دنياهم ، والجملة في موضع الحال من ضمير { يحشرهم } البارز أي مشبهين بمن لم يلبثوا { إلا ساعة } أي حقيرة { من النهار } وقوله : { يتعارفون بينهم } حال ثانية ، أي لم يفدهم تلك الساعة أكثر من أن عرف فيها بعضهم بعضاً ليزدادوا بذلك حسرة في ذلك اليوم بعدم القدرة على التناصر والتعاون والتظافر كما كانوا يفعلون في الدنيا .
ولما كانت حالهم هذه هي الخسارة التي ليس معها تجارة ، فكان السامع متوقعاً للخبر عنها ، قال متعجباً منهم موضع : ما أخسرهم : { قد خسر } أي حقاً { الذين كذبوا } أظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف مستهينين { بلقاء الله } أي الملك الأعلى بما أخذوا من الدنيا من الخسيس الفاني وتركوا مما كشف لهم عنه البعث من النعيم الشريف الباقي؛ ولما كان الذي وقع منه تكذيب مرة في الدهر قد يفيق بعد ذلك فيهتدي ، قال عاطفاً على الصلة : { وما كانوا } أي جبلة وطبعاً { مهتدين* } مشيراً إلى تسفيههم فيما يدعون البصر فيه من أمر المتجر والمعرفة بأنواع الهداية .
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
ولما كان إخبار الصادق بهلاك الأعداء مقراً لعين ، وكانت مشاهدة هلاكهم أقر لها ، عطف على قوله { قد خسر } : { وإما نرينك } أي إراءة عظيمة قبل وفاتك { بعض الذي نعدهم } أي في الدنيا بما لنا من العظمة فهو أقر لعينك { أو نتوفينك } قبل ذلك { فإلينا مرجعهم } فنريك فيما هنالك ما هو أقر لعينك وأسر لقلبك ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً الإراءة دليلاً على حذفها ثانياً ، والوفاة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً؛ و « ثم » في قوله : { ثم الله } أي المحيط بكل شيء { شهيد } أي بالغ الشهادة { على ما يفعلون* } في الدارين - يمكن أن يكون على بابها ، فتكون مشيرة إلى التراخي بين ابتداء رجوعهم بالموت وآخره بالقيامة ، ليس المراد بقوله { شهيد } ظاهره ، بل العذاب الناشىء عن الشهادة في الآخرة إلى أن الله يعاقبهم بعد مرجعهم ، فيريك ما بعدهم لأنه عالم بما يفعلون .
ولما كان في هذه الآية التهديد بالعذاب إما في الدنيا أو في الآخرة غير معين له صلى الله عليه وسلم واحدةً منهما ، أتبعها بما هو صالح للأمرين بالنسبة إلى كل رسول إشارة إلى أن أحوال الأمم على غير نظام فلذلك لم يجزم بتعيين واحدة من الدارين للجزاء ، وجعل الأمر منوطاً بالقسط ، ففي أي دار أحكم جعله فيها ، فقال تعالى : دالاً على أنه نشر ذكر الإسلام وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر من عهد آدم عليه السلام إلى آخر الدهر على وجه لم يحصل له اندراس في دهر من الدهور ، فمن تركه استحق العذاب سواء كان ممن بين عيسى ومحمد عليهما السلام أم لا ، فلا تغتر بما يقال من غير هذا : { ولكل أمة } أي من الأمم التي خلت قبلك { رسول } يدعوهم إلى الله؛ ثم سبب عن إتيان رسولهم بيان القضاء فيهم فقال : { فإذا جاء } أي إليهم { رسولهم } في الدنيا بالبينات والهدى؛ وفي الآخرة في الموقف بالإخبار بما صنعوا به في الدنيا من تكذيب أو تصديق { قضي بينهم } أي في جميع الأمور بما أفاده نزع الخافض على أسهل وجه من غير شك بما أفاده البناء للمفعول؛ ولما كان السياق بالترهيب أجدر ، قال { بالقسط } أي أظهر خفياً من استحقاقهم في القضاء بالعدل والقسمة المنصفة بينهم كلهم بالسوية فأعطى كل أحد منهم مقدار ما يخصه من تعجيل العذاب وتأخيره كما فعل معك؛ولما كان ذلك لا يستلزم الدوام ، قال : { وهم لا يظلمون* } أي لا يتجدد لهم ظلم منه سبحانه ولا من غيره .
ولما تقدم في هذه الآيات تهديدهم بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة ، حكى سبحانه جوابهم عن ذلك عطفاً على قوله : { ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه } فقال : { ويقولون } أي هؤلاء المشركون مجددين لهذا القول مستمرين على ذلك استهزاء : { متى هذا الوعد } أي بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة ، وألهبوا وهيجوا بقولهم : { إن كنتم } أي أنت ومن قال بقولك { صادقين* } والقول كلام مضمن في ذكره بالحكاية وقد يكون كلام لا يعبر عنه فلا يكون له ذكر مضمن بالحكاية ، فلا يكون قولاً لأنه إنما يكون قولاً من أجل تضمن ذكره بالحكاية - قاله الرماني ، ولتضمين جعل الشيء في وعاء؛ والوعد : خبر بما يعطي من الخير ، والوعيد : خبر بما يعطى من الشر ، وقد يراد الإجمال كما هنا فيطلق الوعد على المعنيين : وعد المحسن بالثواب والمسيء بالعقاب؛ والصدق : الخبر عن الشيء على ما هو به؛ والكذب : الخبر عنه على خلاف ما هو به .
ولما تضمن قولهم هذا استعجاله صلى الله عليه وسلم بما يتوعدهم به ، أمره بأن يتبرأ من القدرة على شيء لم يقدره الله عليه بقوله : { قل } أي لقومك المستهزئين { لا أملك لنفسي } فضلاً عن غيري؛ ولما كان السياق للنقمة ، قدم الضر منبهاً على أن نعمه أكثر من نقمة؛ وأنهم في نعمه ، عليهم أن يقيدوها بالشكر خوفاً من زوالها فضلاً عن أن يتمنوه فقال : { ضراً ولا نفعاً } .
ولما كان من المشاهد أن كل حيوان يتصرف في نفسه وغيره ببعض ذلك قال : { إلا ما شاء الله } أي المحيط علماً وقدرة أن أملكه من ذلك ، فكأنه قيل : فما لك لا تدعوه بأن يشاء ذلك ويقدرك عليه؟ فقيل : { لكل أمة أجل } فكأنه قيل : وماذا يكون فيه؟ فقيل : { إذا جاء أجلهم } هلكوا؛ ولما كان قطع رجائهم من الفسحة في الأجل من أشد عذابهم ، قدم قوله : { فلا يستأخرون } أي عنه { ساعة } ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها { ولا يستقدمون* } فلا تستعجلوه فإن الوفاء بالوعد لا بد منه . والسين فيهما بمعنى الوجدان ، أي لا يوجد لهم المعنى الذي صيغ منه الفعل مثل : استشكل الشيء واستثقله ، ويجوز كون المعنى : لا يوجدون التأخر ولا التقدم وإن اجتهدوا في الطلب ، فيكون في السين معنى الطلب والملك قوة يتمكن بها من تصريف الشيء أتم تصريف ، والنفع : إيجاب اللذة بفعلها والتسبب المؤدي إليها؛ والضر : إيجاب الألم بفعله أو التسبب إليه؛ والأجل : الوقت المضروب لوقوع أمر .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
ولما كان جل قصدهم بذلك الاستهزاء ، وكان وقوعه أمراً ممكناً ، وكان من شأن العاقل أن يبعد عن كل خطر ممكن ، أمره صلى الله عليه وسلم بجواب آخر حذف منه واو العطف لئلا يظن أنه لا يكفي في كونه جواباً إلا بضمنه إلى ما عطف عليه فقال : { قل } أي لمن استبطأ وعيدنا بالعذاب في الدنيا أو في الأخرى ، وهو لا يكون إلا بعد الأخذ في الدنيا إعلاماً بأن الذي يطلبونه ضرر لهم محض لا نفع فيه بوجه ، فهو مما لا يتوجه إليه قصد عاقل { أرءيتم } وهي من رؤية القلب لأنها دخلت على الجملة من الاستفهام { إن أتاكم عذابه } في الدنيا .
ولما كان أخذ الليل أنكى وأسرع ، قدمه فقال : { بياتاً } أي في الليل بغتة وأنتم نائمون كما يفعل العدو؛ ولما كان الظفر ليلاً لا يستلزم الظفر نهاراً مجاهرة قال : { أو نهاراً } أي مكاشفة وأنتم مستيقظون ، أتستمرون على عنادكم فلا تؤمنوا؟ فكأنهم قالوا : لا ، فليجعل به ليرى ، فقيل : إنكم لا تدرون ما تطلبون! إنه لا لمخلوق بنوع منه ، ولا يجترىء على مثل هذا الكلام إلا مجرم { ماذا } أي ما الذي؟ ويجوز أن يكون هذا جواب الشرط { يستعجل } أي يطلب العجله { منه } أي من عذابه ، وعذابه كله مكروه لا يحتمل شيء منه { المجرمون* } إذ سنة الله قد استمرت بأن المكذب لا يثبت إلا عند مخايله ، وأما إذا برك بكلكه وأناخ بثقله فإنه يؤمن حيث لا ينفعه الإيمان { ولن تجد لسنةِ الله تحويلاً } [ فاطر : 43 ] وهذا معنى التراخي في قوله : { أثُمَّ إذا ما وقع } أي عذابه وانتفى كل ما يضاده { آمنتم به } وذلك أنه كانت عادتهم كمن قبلهم الاستعجال بالعذاب عند التوعد به ، وكانت سنة الله قد جرت بأن المكذبين إذا أتاهم العذاب يتراخى إيمانهم بعد مجىء مقدماته وقبل اجتثاثهم بعظائم صدماته لشدة معاندتهم فيه وتوطنهم عليه كما وقع للأولين من الأمم بغياً وعتواً كقوم صالح لما تغيرت وجوههم بألوان مختلفة في اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث وأيقنوا بالهلكة وودع بعضهم بعضاً ولم يؤمنوا . وجرت بأنهم إذا ذاقوا مس العذاب وأخذتهم فواجئه الصعاب شغلتهم دواهيه عن العناد واضطرتهم أهواله إلى سهل الانقياد ، فكان في غاية الحسن وضع تقريعهم على الاستعجال عقب الوعيد ، ثم وضع التراخي عن الإيمان بالعناد بعد الإشراف على الهلاك ومعاينة التلف ، فكان كأنه قيل : أخبروني على تقدير أان يأتيكم عذابه الذي لا عذاب أعظم منه - كما دل ذلك إضافته إليه - فبيتكم أو كاشفكم ، ما تفعلون؟ ألا تؤمنون؟ فقالوا لا ، فليعجل به ليرى ، فناسب لما كان استعجالهم بعد هذا الإنذار تسفيههم على ذلك فقيل { ماذا } أي أي نوع منه يطلب عجلته { المجرمون } ، ولا نوع منه الإ وهو فوق الطاقة ووراء الوسع ، إن هذا لمنكر من الآراء ، أفبعد تراخي إيمانكم عن مخايل صدمته ومشاهدة مبادىء عظمته وشدته أوجدتم الإيمان به عند وقوعه؟ يقال لكم حين اضطرتكم فواجئه إلى الإيمان وحملتكم قوارعه على صيورة الإذعان : { آلآن } تؤمنون به - أي بسببه - بعد أن أزال بطشاً قواكم وحل عزائم هممكم وأوهاكم { وقد كنتم } أي كوناً كأنكم مجبولون عليه { به تستعجلون* } أي تطلبون تعجيله طلباً عظيماً حتى كأنكم لاتطلبون عجلة شيء غيره تكذيباً وعزماً على الثبات على العناد ، لو وقع فلم نقبل إيمانكم هذا منكم ولا كف عذابنا عنكم ، بل صيركم كأمس الدابر .
ولما كان ما ذكر هو العذاب الدنيوي ، أتبعه ما بعده إعلاماً بأنه لا يقتصر عليه في جزائهم فقال : { ثم قيل } أي من أيّ قائل كان استهانة { للذين ظلموا } أي وبعد أزّكم في الدنيا والبرزخ بالعذاب وهزّكم بشديد العقاب قيل لكم يوم الدين بظلمكم بالآيات وبما أمرتم به فيها بوضعكم كلاًّ من ذلك في غير موضعه : { ذوقوا عذاب الخلد } فالإتيان ب « ثم » إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين { هل تجزون } بناه للمفعول لأن المخيف مطلق الجزاء؛ ولما كان الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي ، وكان المعنى : بشيء ، استثنى منه فقال : { إلا بما كنتم } أي بجبلاتكم { تكسبون* } أي في الدنيا من العزم على الاستمرار على الكفر ولو طال المدى لاتنفكون عنه بشيء من الأشياء وإن عظم ، فكان جزاءكم الخلود في العذاب طبق النعل بالنعل؛ والعذاب : الألم المستمر ، وأصله الاستمرار ، ومنه العذوبة لاستمرارها في الحلق؛ والبيات : إتيان الشيء ليلاً؛ والذوق : طلب الطعم بالفم في ابتداء الأخذ .
ولما انقضى ما اشتملت عليه الآية من التهديد وصادع الوعيد ، أخبر تعالى أنهم صاروا إلى ما هو جدير بسامع ذلك من النزول عن ذلك العناد إلى مبادىء الانقياد بقوله تعالى : { ويستنبئونك } عطفاً على قوله « ويقولون متى هذا الوعد » أي ويطلبون منك الإنباء وهو الإخبار العظيم عن حقيقة هذا الوعد الجسيم ، ويمكن أن يكون ذلك منهم على طريق الاستهزاء كالأول ، فيكون التعجيب والتوبيخ فيه بعد ما مضى من الأدلة أشد { أحق هو } أي أثابت هذا الذي تتوعدنا به أم هو كالسحر لا حقيقية له كما تقدم أنهم قالوه { قل } أي في جوابهم { إي وربي } أي المحسن إليّ المدبر لي والمصدق لجميع ما آتي به؛ ولما كانوا منكرين ، أكد قوله : { إنه لحق } أي كائن ثابت لا بد من نزوله بكم .
ولما كان الشيء قد يكون حقاً ، ويكون الإنسان قادراً على دفعه فلا يهوله ، قال نفياً ذلك : { وما أنتم } أي لمن توعدكم { بمعجزين* } فيما يراد بكم .
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
ولما أخبرهم بحقيقته ، أخبرهم بما يكون منهم من الظلم أيضاً عند معياينته بالسماح ببذل جميع ما في الأرض حيث لا ينفع البذل بعد ترك المأمور به وهو من أيسر الأشياء وأحسنها فقال : { ولو أن لكل نفس ظلمت } أي عند المعاينة { ما في الأرض } أي كلها من خزائنها ونفائسها { لافتدت به } أي جعلت فدية لها من العذاب لكنه ليس لهم ذلك ، ولو كان من قبل منهم ، فإذا وقع ما يوعدون استسلموا { وأسروا الندامة } أي اشتد ندمهم ولم يقدروا على الكلام { لما رأوا العذاب } لأنهم بهتوا لعظم ما دهمهم فكان فعلهم فعل المسر ، لأنهم لم يطيقوا بكاء ولا شكاية ولا شيئاً مما يفعله الجازع؛ والاستنباء : طلب النبأ كما أن الاستفهام طلب الفهم؛ والنبأ : خبر عن يقين في أمر كبير؛ والحق : عقد على المعنى على ماهو به تدعو لحكمة إليه ، وكل ما بنى على هذا العقد فهو حق لأجله ، والحق في الدين ما شهد به الدليل على الثقة فيما طريقه العلم ، والقوة فيما طريقة غالب الأمر ، وذلك فيما يحتمل أمرين أحدهما أشبه بألاصل الذي جاء به النص؛ والافتداء : إيقاع الشيء بدل غيره لرفع المكروه ، فداه فدية وأفداه وافتداه افتداء وفاداه مفاداة وفداه تفدية وتفادى منه تفادياً؛ والإسرار : إخفاء الشيء في النفس؛ والندامة : الحسرة على ما كان يتمنى أنه لم يكن أوقعها ، وهي حال معقولة يتأسف صاحبها على ما وقع منها ويود أنه لم يكن أوقعها .
ولما اشتملت الآيات الماضيات على تحتم إنجاز الوعد والعدل في الحكم ، وختمت بقوه : { وقضي } أي وأوقع القضاء على أيسر وجه وأسهله؛ ولما استغرق القضاء جميع وقائعهم . دل بنزع الجار فقال : { بينهم } أي الظالمين والمظلومين والظالمين والأظلمين { بالقسط } أي العدل؛ ولما كان وقوع ذلك لا ينفي وقوع الظلم في وقت آخر قال : { وهم } أي والحال أنهم { لا يظلمون* } أي لا يقع فيهم ظلم من أحد أصلاً كائناً من كان في وقت ما .
ولما كان السبب الحامل لملوك الدنيا على الكذب والجور والظلم العجز أو طلب التزيد في الملك ، أشار إلى تنزهه عن ذلك بقوله مؤكداً سوقاً لهم مساق المنكر لأن فعلهم في عبادة الأصنام فعل من ينكر مضمون الكلام : { ألا إن لله } أي الملك الأعظم وحده { ما في السماوات } بدأ بها لعلوها معنى وحساً وعظمتها؛ ولما كان المقام للغنى عن الظلم لم يحوج الحال إلى تأكيد بإعادة النافي فقال : { والأرض } أي من جوهر وعرض صامت وناطق ، فلا شيء خارج عن ملك يحوجه إلى ظلم أو إخلاف وعد لحيازته ، والحاصل أنه لا يظلم إلا ناقص الملك وأما من له الملك كله فهو الحكم العدل : لأن جميع الأشياء بالنسبة إليه على حد سواء ، ولا يخلف الوعد إلا ناقص القدرة وأما من له كل شيء ولا يخرج عن قبضته شيء فهو المحق في الوعد العدل في الحكم ، وفي الآية زيادة تحسير وتنديم للنفس الظالمة حيث أخبرت بأن ما تود أن تفتدي به ليس لها منه شيء ولا تقدر على التوصل إليه ، ولو قدرت ما قبل منها ، وإنما هو لمن رضي منها بالقليل منه فضلاً منه عليها على ما أمر به على لسان رسله ، وعلى هذا فيجوز أن يكون التقدير : لو أن لها ذلك لافتدت به ، لكنه ليس لها بل لله؛ فلما ثبت بذلك حكمه بالعدل وتنزهه عن إخلاف الوعد .
صرح بمضمون ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم : { ألا إن وعد الله } أي الذي له الكمال كله { حق } لأنه تام القدرة والغنى ، فلا حامل له على الإخلاف { ولكن أكثرهم } أي الذين تدعوهم وهم يدعون دقة الأفهام وسعة العقول { لا يعلمون* } أي لا علم لهم فهم لا يتدبرون ما نصبنا من الأدلة فلا ينقادون لما أمرنا به من الشريعة فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم؛ و { ألا } مركبة من همزة الاستفهام و « لا » وكانت تقريراً وتذكيراً فصارت تنبيهاً ، وكسرت إن بعدها لأنها استئنافيه ينبه بها على معنى يبتدأ به ولذا يقع بعدها الأمر والدعاء بخلاف « لو » و « إلا » للاستقبال فلم يجز بعدها إلا كسر « إن » « أما » قد تكون بمعنى « حقاً » في قولهم : أما إنه منطلق ، وهي للحال فجاز في « أن » بعدها الوجهان - ذكره الرماني؛ والسماوات طبقات مرفوعه أولها سقف مزين بالكواكب . وهي من سما بمعنى علا .
ولما تقرر أنه لا شيء خارج عن ملكه ، وأنه تام القدرة لأنه لا منجي من عذابه ، شامل العلم لقضائه بالعدل ، صادق الوعد لأنه لا حامل له على غيره ، وثبت تفرده بأنه يحي ويميت؛ ثبت أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، فثبت أنه لا يكون الرد إلا إليه فنبه على ذلك بقوله : { هو } أي وحده { يحيي } أي كما أنتم به مقرون { ويميت } كما أنتم له مشاهدون { وإليه } أي لا إلى غيره { ترجعون* } لأنه وعد بذلك في قوله : { إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً } [ يونس : 4 ] وفي قوله : { فإلينا مرجعهم } [ يونس : 46 ] وفي قوله { إي وربي إنه لحق } [ يونس : 53 ] وغير ذلك ولا مانع له منه؛ والحياة معنى يوجب صحة العلم والقدرة ويضاد الموت ، وهو يحل سائر أجزاء الحيوان فيكون بجميعه حياً واحداً ، والحي هو الذي يصح أن يكون قادراً ، والقادر هو الذي يصح أن يذم ويحمد بما فعل ، والموت معنى يضاد الحياة على البنية الحيوانية ، وليس كذلك الجمادية .
ولما ثبت أن ذلك كله حق مباين للسحر الذي مبناه على التخييل ، أقبل على الذين تقدم الإخبار عنهم في أول السورة في قوله : أكان للناس عجباً أنهم قالوا إنه سحر ، فقال : { يا أيها الناس } أي الذين قالوا : إن وعدنا والإخبار به سحر؛ ولما كان بين الأرواح والأبدان حب غريزي بالتعلق ، والتذ الروح لذلك بمشتهيات هذه الحياة الدنيا بما انطبع فيه بمظاهر الحس فلم يأته نور العقل حتى تعود النقائص بقوة التعلق فحدثت له أخلاق ذميمة هي أمراض روحانية ، فأرسل ربه الذي أوجده ودبره وأحسن إليه طبيباً حاذقاً هو الرسول صلى الله عليه وسلم لعلاج هذه الأمراض .
وأنزل كتابه العزيز لوصف الأدوية ، فكان أحكم الطب منع المريض عن أسباب المرض ، قال تعالى : { قد جاءتكم موعظة } أي زاجر عظيم عن التخلي عن كل ما يشغل القلب عن الله من المحظورات وغيرها من كل ما لا ينبغي ، وذلك هو الشريعة .
ولما كان تناول المؤذي شديد الخطر ، وهو لذيذ إلى النفس بينهما من ملاءمة النقص ، وكان الانكفاف عنه أشق شيء عليها ، رغبها في القبول بقوله : { من ربكم } أي المحسن إليكم المدبر لمصالحكم بهذا القرآن؛ ولما كان أليق ما يعمل بعد الحمية تعاطي الدواء المزيل للأخلاط الفاسدة من الباطن ، قال : { وشفاء } أي عظيم جداً { لما في الصدور } من أدواء الجهل ، وذلك الشفاء يحصل بتطهير الباطن بعد التخلي عن الأخلاق الذميمة بالتحلي بالصفات الحميدة ليصير الباطن سالماً عن العقائد الفاسدة والأخلاق الناقصة كما سلم البدن من الأفعال الدنية ، وهذا هو الطريق .
ولما كانت الروح إذا انصقلت مرآتها فصارت قابلة لتجلي الأنوار عليها بفيض البروق الإلهية والنفخات القدسية والمواهب الملكوتية لأنها دائمة اللمعان كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه : « إن لربكم أيام دهركم نفحات ، ألا فتعرضوا له » الحديث . وليس المانع من نزولها في كل قلب إلا عدم القابلية من بعضها لتراكم الظلمات فيها من صداء المخالفة ودين الإعراض والغفلة ، فيكون بذلك كالمرايا الصديئة لا تقبل انطباع الصور بها ، قال تعالى : { وهدى } إلى الحق لأنه نور عظيم يقود صاحبه - ولابد - إلى الطريق الأقوم ، وهذا للصديقين وهو الحقيقة .
ولما كان هذا النور إذا زاد عظمة وانتشر إشراقه يفيض - بعد الوصول إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية - على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام العالم فينير كل قابل له مقبل عليه ، قال تعالى : { ورحمة } أي إكرام عظيم بالإمامية بالغ في الكمال والإشراق إلى حد لا مزيد عليه ، وهذا للأنبياء عليهم السلام؛ ولما كان لا ينتفع بأنوارهم إلا من توجه إليهم ، ثم إن الانتفاع بهم يتفاوت بتفاوت درجات التوجه إليهم والإقبال عليهم ، قال : { للمؤمنين* } الذين اتبعوه وهم راسخون في التوجه إلى المرشدين والاستسلام لهم فكان ذلك سبباً لنجاتهم - أشار إلى هذا الإمام وقال : فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الكلمات الأربع القرآنية على وجه لا يمكن تأخير شيء منها عن موضعه ولا تقديمه ، وهذا بخلاف ما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من السحر فإنه داء كله وضلال يجر إلى الشقاء ، والموعظة : إبانة تدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة ، والوعظ ما دعا إلى الخشوع والنسك وصرف عن الفسوق والإثم؛ والشفاء : إزالة الداء ، وداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر وأطباؤه أقل ، والشفاء منه أجل؛ والصدر : موضع القلب ، وهو أجل موضع في الحي لشرف القلب؛ والهدى : بيان عن معنى يؤدي إلى الحق ، وهو دلالة تؤدي إلى المعرفة؛ والرحمة : نعمة على المحتاج .
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
ولما ثبت ذلك ، حثهم عليه لبعده عن السحر بثباته وعدم القدرة على زلزلته فضلاً عن إزالته وبأن شفاء وموعظة وهدى ورحمة فهو جامع لمراتب القرب الإلهي كلها ، وزهدهم فيما هم عليه مقبلون من الحطام : لمشاركته للسحر في سرعة التحول والتبدل بالفناء والاضمحلال فهو أهل للزهد فيه والإعراض عنه فقال تعالى : { قل بفضل الله } الآية ، وحسن كل الحسن تعقيب ذلك لقوله : { هو يحيي ويميت } لما ذكر من سرعة الرحيل عنه ، ولأن القرآن محيي لميت الجهل ، من أقبل عليه أفاده العلم والحكمة ، فكان للقلب كالحياة للجسد ، ومن أعرض عنه صار في ضلال وخبط فوصل إلى الهلاك الدائم ، فكان إعراضه عنه مميتاً له ، وجعل أبو حيان متعلق الباء في بفضل محذوفاً تقديره : { قل } ليفرحوا { بفضل الله } أي الملك الأعلى { وبرحمته } ثم عطف قصر الفرح على ذلك { فبذلك } أي الأمر العظيم جداً وحده إن فرحوا يوماً ما بشيء { فليفرحوا } فهما جملتان وقال : إن ذلك أظهر ، وفائدة الثانية قصر الفرح على ذلك دون ما يسرون به من الحطام فإن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية . ثم صرح بسبب الفرح فقال : { هو } أي المحدث عنه من الفضل والرحمة { خير مما يجمعون* } أي من حطام الدنيا وإن كان أشرف ما فيها من المتاع دائبين فيه على تعاقب الأوقات ، والعاقل يختار لتعبه الأفضل؛ والفضل : الزيادة في النعمة؛ والفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى .
ولما وصف القرآن العظيم بالشفاء وما معه المقتضي لاستقامة المناهج وسداد الشرائع ووضوح المذاهب ، وأشار إلى أن العاقل ينبغي له أن يخصه بالفرح لبقاء آثاره وما يدعو إليه وزهده فيما يجمعون لفنائه ولأنه يدعو إلى رذائل الأخلاق فيحط من أوج المعالي ، أشار إلى أنهم كما خبطوا في الفرح فخصوه بما يفني معرضين عما يبقى فكذلك خبطوا في طريق الجمع فوعدوها على أنفسهم بأن حرموا بعض ما أحله ، فمنعوا أنفسهم ما هم به فرحون دون أمر من الله تعالى فنقصوا بذلك حظهم في الدنيا بهذا المنع وفي الآخرة بكذبهم على ربهم في تحريمه حيث جعلوه شرعاً مرضياً وهو في غاية الفساد والبعد عن الصواب والقصور عن مراقي السداد فقال تعالى : { قل } أي لهؤلاء الذين يستهزئون بك استهزاء قاضياً عليهم بأنهم لا عقول لهم مستهزئاً بهم وموبخاً لهم توبيخاً هو في أحكم مواضعه ، وساقه على طريق السؤال بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب أصلاً بغير الإقرار بالافتراء فقال : { أرءيتم } أي أخبروني ، وعبر عن الخلق بالإنزال تنبيهاً على أنه شيء لا يمكن ادعاءه لأصنامهم لنزول أسبابه من موضع لا تعلق لهم به بوجه فقال : { ما أنزل الله } أي الذي له صفات الكمال التي منها الغنى المطلق { لكم } أي خاصاً بكم { من رزق } أي أيّ رزق كان { فجعلتم منه } أي ذلك الرزق الذي خصكم به { حراماً وحلالاً } على النحو الذي تقدم في الأنعام وغيرها قصته وبيان فساده على أنه جلي الفساد ظاهر العوج؛ ثم ابتدأ أمراً آخر تأكيداً للإنكار عليهم فقال : { قل } أي من أذن لكم في ذلك؟ { الله } أي الملك الأعلى { أذن لكم } فتوضحوا المستند به { أم } لم يأذن لكم فيه مع نسبتكم إياه إليه لأنكم فصلتموه إلى حرام وحلال ولا محلل ومحرم إلا الله ، فأنتم { على الله } أي المحيط بكل شيء عظمة وعلماً { تفترون* } مع نسبتكم الافتراء إلي في هذا القرآن الذي أعجز الأفكار والشرع الذي بهر العقول وادعائكم أنكم أبعد الناس عن مطلق الكذب وأطهرهم ذيولاً منه ، وتقديم الجار للإشارة إلى زيادة التشنيع عليهم من حيث إنهم أشد الناس تبرؤاً من الكذب وقد خصوا الله - على تقدير التسليم لهم - بأن تعمدوا الكذب عليه .
ولما كان قد مضى من أدلة المعاد ما صيره كالشمس ، وكان افتراءهم قد ثبت بعدم قدرتهم على مستند بإذن الله لهم في ذلك ، قال مشيراً إلى أن القيامة مما هو معلوم لا يسوغ إنكاره : { وما ظن الذين يفترون } أي يتعمدون { على الله } أي الملك الأعظم { الكذب } أي أنه نازل بهم { يوم القيامة } أي هب أنكم لم تستحيوا منه ولم تخافوا عواقبه في الدنيا فما تظنون أنه يكون ذلك اليوم؟ أتظنون أنه لا يحاسبكم فيكون حينئذ قد فعل ما لا يفعله رب مع مربوبه .
ولما كان تعالى يعاملهم بالحلم وهم يتمادون في هذا العقوق ، قال : { إن الله } أي الذي له الكمال كله { لذو فضل } أي عظيم { على الناس } أي بنعم منها إنزال الكتب مفصلاً فيها ما يرضاه وما يسخطه وإرسال الرسل عليهم السلام لبيانها بما يحتمله عقول الخلق منها ، ومنها طول إمهالهم على سوء أعمالهم فكان شكره واجباً عليهم { ولكن أكثرهم } أي الناس لاضطراب ضمائرهم { لا يشكرون } أي لا يتجدد منهم شكر فهم لا يتبعون رسله ولا كتبه ، فهم يخبطون خبط عشواء فيفعلون ما يغضبه سبحانه؛ والتحريم : عقد معنى النهي عن الفعل؛ والتحليل : حل معنى النهي بالإذن؛ والشكر : حق يجب بالنعمة من الاعتراف به والقيام فيما تدعو إليه على قدرها؛ وافتراء الكذب : تزويره وتنميقه فهو أفحش من مطلق الكذب .
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
ولما وصف القرآن بما وصفه به من الشفاء وما معه بعد إقامة الدليل على إعجازه ، وأشار إلى أن ما تدينوا به في غاية الخبط وأنه مع كونه كذباً يقدر كل واحد على تغييره بأحسن منه لكونه غير مبني على الحكمة ، وختم ذلك بتهديدهم على افتراء الكذب في شرع ما لم يأذن به مع ادعائهم أن القرآن مفترى وهم عاجزون عن معارضته ، وبأنهم لم يشكروه على نعمه التي أجلّها تخصيصهم بهذا الذكر الحكيم والشرع القويم ، وكان قد أكثر في ذلك كله من الأمر له صلى الله عليه وسلم بمحاجتهم { قل لا أملك لنفسي } ، { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه } ، { قل إي وربي إنه لحق } ، { قل بفضل الله } - الآية ، { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم } ، { قل الله أذن لكم } ، قال تعالى ناظراً إلى قوله : { وما كان هذا القرآن أن يفترى } الآية ، تسلية له صلى الله عليه وسلم وتقوية لهمته وزيادة في تهديدهم عطفاً على ما تقديره : فقد أنزلت إليهم على لسانك ما هو شرف لهم ونعمة عليهم وهو في غاية البعد عن مطلق الكذب فإن كل شيء منه في أحكم مواضعه وأحسنها لا يتطرق إليه الباطل بوجه وهم يقابلون نعمته بالكفر : { وما تكون } أنت { في شأن } أي أيّ شأن كان { وما تتلوا منه } أي من القرآن المحدث عنه في جميع هذه السورة ، الذي تقدم أنهم كذبوا به من غير شبهة لهم { من قرآن } أي قليل أو كثير { ولا تعملون } أي كلكم طائعكم وعاصيكم ، وأغرق في النفي فقال : { من عمل } صغير أو كبير { إلا كنا } أي بما لنا من العظمة { عليكم شهوداً } أي عاملين بإحاطة علمنا ووكالة جنودنا عمل الشاهد { إذ تفيضون فيه } الآية إيذاناً بأنك بعيني في جميع هذه المراجعات وغيرها من شؤونك وأنا العالم بتدبيرك والقادر على نصرتك ، وهي كلها من كتابي الذي تتضاءل القوى دونه وتقف الأفكار عن مجاراته لأنه حكيم لكونه من عندي فجل عن مطلق المعارضة لفظاً أو معنى فضلاً عن التغيير فضلاً عن الإتيان بما هو مثله فكيف بما هو أحسن منه ، لاستقامة أمره وتناسب أحكامه كونها شفاء وهدى ورحمة ، وما كان كذلك فهو من عندي قطعاً وبإذني جزماً لأني عالم بالإفاضة فيه والانفصال عنه وجميع الأمور الواقعة منك ومنهم ومن غيرهم .
ولما كان ربما ظن ظان من إفهام { كنا } و { شهوداً } للجنود أنه سبحانه محتاج إليهم ، نفى ذلك بقوله : { وما } أي والحال أنه ما { يعزب } أي يغيب ويخفى { عن ربك } أي المربي لكل مخلوق بعام أفضاله ولك بخاص نعمه وأشرف نواله ، وأغرق في النفي فقال : { من مثقال ذرة } أي وزن نملة صغيرة جداً وموضع وزنها وزمانه؛ ولما كان « في » بمزون أهل الأرض كان تقديمها أولى فقال : { في الأرض } ولما لم يدع السياق إلى الجمع - كما سيأتي في سبأ - قال اكتفاء بالمفرد الدال على الجنس : { ولا في السماء } أي ما علا عن الأرض كائناً ما كان .
ولما كان ربما أدى الجمود بعض الأغبياء إلى أن يحمل المثقال على حقيقته ويجهل أن المراد به المبالغة ، قال عاطفاً على الجملة من أولها وهو على الابتداء سواء رفعنا الراءين على قراءة حمزة ويعقوب أو نصبناهما عند الباقين : { ولا أصغر من ذلك } أي من مثقال الذرة { ولا أكبر } ولما أتى بهذا الابتداء الشامل الحاصر ، أخبر عنه بقوله : { إلا } أي لا شيء من ذلك إلا موجود { في كتاب } أي جامع { مبين* } أي ظاهر في نفسه مظهر لكل ما فيه ، وسيأتي في سبأ ما يتم به هذا المكان ، وفي ذلك تهديداً لهم وتثبيت له صلى الله عليه وسلم ، ولاح بهذا أن ما بعد { إلا } حال من الفاعل ، أي ما يفعل شيئاً إلا وأنت بأعيننا فثبت أن القرآن بعلمه ، فلو افتراه أحد عليه لأمكن منه؛ والإفاضة : الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل أخذاً من فيض الإناء إذا انصب ما فيه من جوانبه ، وأفضتم : تفرقتم كتفرق الماء الذي يتصبب من الإناء؛ والعزوب : ذهاب المعنى عن العلم ، وضده الحضور؛ والذر : صغار النمل وهو خفيف الوزن جداً ، ومثقاله : وزنه .
ولما تقدم أنه سبحانه شامل العلم ، وعلم - من وضع الأحوال ما لا يتسع ومن لا تسع مجرد أسمائهم الأرض في كتاب مبين أي مهما كشف منه وجد من غير خفاء ولا احتياج إلى تفتيش - أنه كامل القدرة بعد أن تقدم أنهم فريقان : صادق في أمره ، ومفتر عليه ، وأنه متفضل على الناس بعدم المعاجلة والتأخير إلى القيامة ، وخوّف المفتري عواقب أمره عاجلاً وآجلاً ، ورجىّ المطيع ، كان موضع أن يقال : ليت شعري ماذا يكون تفصيل حال الفريقين في الدارين على الجزم؟ فأجيب بأن الأولياء فائزون والأعداء هالكون ليشمر كل مطيع عن ساعد جده ويبذل غاية جهده في لحاق المخلصين وتحامي جانب المفترين بقوله تعالى مؤكداً لاعتقادهم أنهم يهلكون حزب الله وإنكارهم غاية الإنكار أن يفوتوهم : { ألا إن أولياء الله } أي الذين يتولون بالطاعة من لا شيء أعز منه ولا أعظم ويتولاهم { لا خوف } أي ثابت عال { عليهم } أي من شيء يستقبلهم { ولا هم } أي بضمائرهم { يحزنون } أي يتجدد لهم حزن على فائت لأن قلوبهم معلقة بالله سبحانه فلا يؤثر فيهم لذلك خوف ولا حزن أثراً يقطع قلوبهم كما يعرض لغيرهم ، وفسرهم بقوله : { الذين آمنوا } أي أوجدوا هذا الوصف المصحح للأعمال وبه كمال القوة العلمية { وكانوا } أي كوناً صار لهم جبلة وخلقاً { يتقون } أي يوجدون التقوى ، وهي كمال القوة العملية في الإيمان والأعمال ويجددونها فإنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره؛ وانتهى الجواب بقوله : { إن الذين يفترون على الله الكذب } - الآية ، وهذا الذي فسر الله به الأولياء لا مزيد على حسنه ، وعن علي رضي الله عنه « هم قوم صفر الوجوه من السهر عمش العيون من العبر خمص البطون من الخوى » وقيل : الولي من لا يرائي ولا ينافق ، وما أقل صديق من كان هذا خلقه ، وصح عن الإمامين : أبي حنيفة والتبيان أن كلاًّ منهما قال : إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي .
وهذا في العالم العامل بعلمه كما بينته عند قوله في سورة الزمر { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] .
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
ولما نفىعنهم الخوف والحزن ، زادهم فقال مبيناً لتوليه لهم بعد أن شرح توليهم له : { لهم } أي خاصة { البشرى } أي الكاملة { في الحياة الدنيا } أي بأن دينهم يظهر وحالهم يشتهر وعدوهم يخذل وعمله لا يقبل وبالرؤية الصالحة { وفي الآخرة } بأنهم هم السعداء وأعداؤهم الأشقياء وتتلقاهم الملائكة { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [ الأنبياء : 103 ] . وما كان الغالب على أحوال أهل الله في الدنيا الضيق ولا سيما في أول الإسلام ، كان السامع لذلك بمعرض أن يقول : يا ليت شعري هل يتم هذا السرور! فقيل : نعم ، وأكد بنفي الجنس لأن الجبابرة ينكرون ذلك لهم لما يرون من أن عزهم من وراء ذل ليس فيه سوء ما لباطل المتكبرين من السورة والإرجاف والصولة : { لا تبديل } أي بوجه من الوجوه { لكلمات الله } أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة؛ وقوله - : { ذلك } أي الأمر العالي الرتبة { هو } أي خاصة { الفوز العظيم } في موضع البيان والكشف لمضمون هذه البشرى؛ والخوف : انزعاج القلب بما يتوقع من المكروه ، ونظيره الجزع والفزع ، ونقيضه الأمن؛ والحزن : انزعاجه وغلظ همه مما وقع من المكروه ، من الحزن للأرض الغليظة ، ونقيضه السرور ، وهما يتعاقبان على حال الحي الذاكر للمحبوب؛ والبشرى : الخبر الأول بما يظهر سروره في بشرة الوجه .
ولما تقدمت البشرى بنفي الخوف والحزن معاً عن الأولياء ، علم أن المعنى : هذه البشرى للأولياء وأنت رأسهم فلا تخف ، فعطف عليه قوله : { ولا يحزنك قولهم } أي في نحو قولهم : إنهم يغلبون ، وفي تكذيبك والاستهزاء بك وتهديدك ، فإن ذلك قول يراد به تبديل كلمات الله الغني القدير ، وهيهات ذلك من الضعيف الفقير فكيف بالعلي الكبير! وإلى هذا يرشد التعليل لهذا النهي بقوله : { إن العزة } أي الغلبة والقهر وتمام العظمة { لله } أي الملك الأعلى حال كونها { جميعاً } أي فسيذلهم ويعز دينه ، والمراد بذلك التسلية عن قولهم الذي يؤذونه به .
ولما بدئت الآية بقولهم ، ختمها بالسمع له والعلم به وقصرهما عليه لأن صفات كل موصوف متلاشية بالنسبة إلى صفاته فقال : { هو } أي وحده { السميع } أي البليغ السميع لأقوالهم { العليم } أي المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم بما تقتضيه ، وهو تعليل لتفرده بالعزة لأنه تفرد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره ، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة! والعزة : قدرة على كل جبار بما لا يرام ولا يضام ، والمعنى أنه يعزك على من ناواك ، والنهي في { ولا يحزنك } في اللفظ للقول وفي المعنى للسبب المؤدي إلى التأذي بالقول ، وكسرت « إن » هاهنا للاستئناف بالتذكر بما ينفي الحزن ، لا لأنها بعد القول لأنها ليست حكاية عنهم ، وقرىء بفتحها على معنى « لأن » .
ولما ختمت بعموم سمعه وعلمه بعد قصر العزة عليه ، كان كأنه قيل : إن العزة لا تتم إلاّ بالقدرة فأثبت اختصاصه بالملك الذي لا يكون إلاّ بها ، فقال مؤكداً لما يستلزمه إشراكهم من الإنكار لمضمون هذا الكلام : { ألآ إن لله } أي الذي له الإحاطة الكاملة؛ ولما كان بعض الناس قد أشركوا ببعض النجوم ، جمع فقال معبراً بأداة العقلاء تصريحاً بما أفهمه التعبير سابقاً بأداة غيرهم : { من في السماوات } أي كلها ، وابتدأ بها لأن ملكها يدل على ملك الأرض بطريق الأولى ، ثم صرح بها في قوله مؤكداً لما تقدم : { ومن في الأرض } أي كلهم عبيده ملوكهم ومن دونهم ، نافذ فيهم تصريفه ، منقادون لما يريده ، وهو أيضاً تعليل ثان لقوله { ولا يحزنك قولهم } أو للتفرد بالعزة ، وعبر ب « من » التي للعقلاء والمراد كل ما في الكون لأن السياق لنفي العزة عن غيره ، والعقلاء بها أجدر ، فنفيها عنهم نفي عن غيرهم بطريق الأولى ، ثم غلبوا لشرفهم على غيرهم ، ولذا تطلق « ما » التي هي لغيرهم في سياق هو بها أحق ثم يراد بها العموم تغليباً للأكثر الذي لا يعقل على الأقل؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك شريك بقوله عاطفاً على ما تقديره : فما له شريك مما ادعاه المشركون منهما أو من إحداهما : { وما يتبع } أي بغاية الجهد { الذين يدعون } أي على سبيل العبادة { من دون الله } أي الذي له العظمة كلها { شركآء } على الحقيقة؛ ويجوز أن تكون « ما » موصولة تحقيراً للشركاء بالتعبير بأداة ما لا يعقل ومعطوفه على « من » { إن } أي ما { يتبعون } في ذلك الذي هو أصل أصول الدين يجب فيه القطع وهو دعاءهم له شركاء { إلاّ الظن } أي المخطىء على أنه لو كان صواباً كانوا مخطئين فيه حيث قنعوا في الأصل بالظن ، ثم نبه على الخطأ بقوله : { وإن } أي وما { هم إلاّ يخرصون } أي يحزرون ذلك ويقولون ما لا حقيقة له أصلاً؛ والاتباع : طلب اللحاق بالأول على تصرف الحال ، فهؤلاء اتبعوا الداعي إلى عبادة الوثن وتصرفوا معه فيما دعا إليه ، وظنهم في عبادتها إنما هو بشبيهة ضعيفة كقصد زيادة التعظيم لله وتعظيم تقليد الأسلاف ، ويجوز أن يكون { شركاء } مفعولاً تنازعه { يتبع } و { يدعون } ؛ ثم أثبت سبحانه اختصاصه بشيء جامع للعلم والقدرة تأكيداً لاختصاصه بالعزة وتفرده بالوحدانية ، وأن من أشرك به خارص لا علم له بوجه لكثرة الدلائل على وحدانيته ووضوحها فقال : { هو } أي وحده { الذي جعل } أي بسبب دوران الأفلاك الذي أتقنه { لكم } أي نعمة منه { الليل } أي مظلماً { لتسكنوا فيه } راحة لكم ودلالة على قدرته سبحانه على الإيجاد والإعدام وأُنساً للمحبين لربهم { والنهار } وأعار السبب وصف المسبب فقال : { مبصراً } أي لتنتشروا فيه ، حذف وصف الليل وذكرت علته عكس ما فعل بالنهار ليدل ما ثبت على ما حذف ، فالآية من الاحتباك .
ولما كانت هذه الآيات من الظهور بحيث لا يحتاج إلى أكثر من سماعها ، قال : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم { لآيات لقوم } أي لهم قوة المحاولة على ما يريدونه { يسمعون } أي لهم سمع صحيح ، وفي ذلك أدلة واضحات على أنه مختص بالعزة فلا شريك له ، لأن الشريك لا بد وأن يقاسم شريكه شيئاً من الأفعال أو الأحوال أو الملك ، وأما عند انتفاء جميع ذلك فانتفاء الشركة أوضح من أن يحتاج فيه إلى دليل ، ويجوز أن يكون المعنى : لآيات لقوم يبصرون إبصار اعتبار ويسمعون سماع تأمل وإدكار ، ولكنه حذف « يبصرون » لدلالة { مبصراً } عليه ، ويزيد ذلك وضوحاً وحسناً كون السياق لنفي الشركاء ، فهو إشارة إلى أنها لا تسمع ولا تبصر أصلاً فكيف بالاعتبار والافتكار؟ فالذين عبدوهم أكمل حالاً منهم .
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
ولما لم يكن شبهة على ادعاء الولد لله سبحانه ولا لهم اطلاع عليه بوجه ، ساق قوله : { قالوا اتخذ } أي تكلف الأخذ بالتسبب على ما نعهد { الله } أي المسمى بهذا الاسم الذي يقتضي تسميته به أن يكون له الكمال كله ، فلا يكون محتاجاً إلى شيء بوجه { ولداً } مساق البيان لقوله { إن يتبعون إلاّ الظن } وهذا صالح لأن يكون تعجيباً ممن ادعى في الملائكة أو عزير أو المسيح وغيرهم .
ولما عجب منهم في ذلك لمنافاته بما يدل عليه من النقص لما ثبت لله تعالى من الكمال كما مرّ ، نزه نفسه الشريفة عنه فقال : { سبحانه } أي تنزه عن كل شائبة نقص التنزه كله؛ ثم علل تنزهه عنه وبينه بقوله : { هو } أي وحده { الغني } أي عن الولد وغيره لأنه فرد منزه عن الإبعاض والأجزاء والمجانسة؛ ثم بين غناه بقوله : { له ما في السماوات } ولما كان سياق الاستدلال يقتضي التأكيد ، أعاد « ما » فقال : { وما في الأرض } من صامت وناطق ، فهو غني بالملك ذلك عن أن يكون شيء منه ولداً له لأن الولد لا يملك ، وعدم ملكه نقص مناف للغنى ، ولعله عبر ب « ما » لأن الغني محط نظره الصامت مع شمولها للناطق .
ولما بين بالبرهان القاطع والدليل الباهر الساطع امتناع أن يكون له ولد ، بكتهم بنفي أن يكون لهم بذلك نوع حجة فقال : { إن } أي ما { عندكم } وأغرق في النفي فقال : { من سلطان } أي حجة { بهذا } أي الاتخاذ ، وسميت الحجة سلطاناً لاعتلاء يد المتمسك بها؛ ثم زادهم بها تبكيتاً بالإنكار عليهم بقوله : { أتقولون } أي على سبيل التكرير { على الله } أي الملك الأعظم على سبيل الاستعلاء { ما لا تعلمون } لأن ما لا برهان عليه في الأصول فهو جهل ، فكيف بما قام الدليل على خلافه؛ والسلطان : البرهان القاهر لأنه يتسلط به على صحة الأمر ويقهر به الخصم ، وأصله القاهر للرعية بعقد الولاية .
ولما قدم أن قولهم كذب ، وبكتهم عليه مواجهة ، أتبعه بما يشير إلى أنهم أهل للإعراض في سياق مهدد على الكذب ، فقال معرضاً عن خطابهم مؤكداً لأن اجتراءهم على ذلك دال على التكذيب بالمؤاخذة عليه : { قل } أي للذين ادعوا الولد لله وحرموا ما رزقهم من السائبة ونحوها { إن الذين يفترون } أي يتعمدون { على الله } أي الملك الأعلى { الكذب لا يفلحون } ثم بين عدم الفلاح بقوله : { متاع } أي لهم ، ونكره إشارة إلى قلته كما قال في الآية الأخرى { متاع قليل } وأكد ذلك بقوله : { في الدنيا } لأنها دار ارتحال ، وما كان إلى زوال وتلاش واضمحلال كان قليلاً وإن تباعد مدّه وتطاولت مُدَده وجل مَدَده ، وزاد على الحصر عَدده؛ وبين حالهم بعد النقلة بقوله : { ثم } أي بعد ذلك الإملاء لهم وإن طال { إلينا } أي على ما لنا من العظمة لا إلى غيرنا { مرجعهم } بالموت فنذيقهم عذاباً شديداً لكنه دون عذاب الآخرة { ثم نذيقهم } يوم القيامة { العذاب الشديد بما } أي بسبب ما { كانوا } أي كوناً هو جبلة لهم { يكفرون } ووجب كسر « إن » بعد القول لأنه حكاية عما يستأنف الإخبار به كما فعل في لام الابتداء لذلك .
ولما تقدم سؤالهم الإتيان بما يقترحون من الآيات ، ومضت الإشارة إلى أن تسييرهم في الفلك من أعظم الآيات وإن كانوا لإلفهم له قد نسوا ذلك ، وتناسجت الآي كما سلف إلى أن بين هذا أن متاع المفترين الكذبَ قليل تخويفاً من شديد السطوة وعظيم الأخذ ، عقب ذلك بقصة قوم نوح لأنهم كانوا أطول الأمم الظالمة مدة وأكثرهم عدة ، ثم أخذوا أشد أخذ فزالت آثارهم وانطمست أعلامهم ومنارهم فصاروا كأنهم لم يكونوا أصلاً ولا أظهروا قولاً ولا فعلاً ، فقال تعالى عاطفاً على قوله { قل إن الذين } مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لأن المصيبة إذا عمت خفت ، وتخويفاً للكفار ليرجعوا أو يخفوا من أذاهم : { واتل } أي اقرأ قراءة متتابعة مستعلية { عليهم نبأ نوح } أي خبره العظيم مذكراً بأول كون الفلك وأنه كان إذ ذاك آية غريبة خارقة للعادة عجيبة ، وأن قوم نوح لم ينفعهم ذلك ولا أغنى عنهم افتراءهم وعنادهم مع تطاول الأمد وتباعد المدد ، بل صار أمرهم إلى زوال ، وأخذ عنيف ونكال { كأن لم يلبثوا إلاّ ساعة من النهار يتعارفون بينهم } [ يونس : 45 ] مع نجاة رسولهم وخيبة مأمولهم ، قد لبث فيهم ما لم يلبثه نبي في قولهم ولا رسول في أمته ألف سنة إلاّ خمسبن عاماً ، وما آمن معه إلاّ قليل { إذ قال لقومه } أي بعد أن دعاهم إلى الله فأطال دعاءهم ومتعوا في الدنيا كثيراً وأملى لهم طويلاً فما زادهم ذلك إلا نفوراً { يا قوم } أي يا من يعز عليّ خلافهم ويشق عليّ ما يسوءهم لتهاونهم بحق ربهم مع قوتهم على الطاعة { إن كان كبر } أي شق وعظم مشقة صارت جبلة { عليكم } ولما كانت عادة الوعاظ والخطباء أن يكونوا حال الخطبة واقفين ، قال : { مقامي } أي قيامي ، ولعله خص هذا المصدر لصلاحيته لموضع القيام وزمانه فيكون الإخبار بكراهته لأجل ما وقع فيه من القيام أدل على كراهة القيام { وتذكيري } أي بكم { بآيات الله } أي الذي له الجلال والإكرام ، فإن ذلك لا يصدني عن مجاهدتي بما يكبر عليكم من ذلك خوفاً منكم لأن الله أمرني به وأنا أخاف عذابه إن تركت ، ولا أبالي بكراهيتكم لذلك خوف عاقبة قصدكم لي بالأذى { فعلى } أي فإني على { الله } أي الذي له العزة كلها وحده { توكلت } فإقامة ذلك المقام الجزاء من إطلاق السبب - الذي هو التوكل - على المسبب - الذي هو انتفاء الخوف - مجازاً مرسلاً ، إعلاماً لهم بعظمة الله وحقارتهم بسبب أنهم أعرضوا عن الآيات وهم يعرفونها ، بما دل عليه التعبير بالتذكير ، فدل ذلك على عنادهم بالباطل ، والمبطل لا يخشى أمره لأن الباطل لا ثبات له ، ودل على ذلك بقوله : { فأجمعوا أمركم } أي في أذاي بالإهلاك وغيره ، أعزموا عليه وانووه واجزموا به ، والواو بمعنى « مع » في قوله : { وشركآءكم } ليدل على أنه لا يخافهم وإن كانوا شركاءهم أحياء كائنين من كانوا وكانت كلمتهم واحدة لا فرقة فيها بوجه .
ولما كان الذي يتستر بالأمور بما يفوته بعض المقاصد لاشتراط التستر ، أخبرهم أنه لا يمانعهم سواء أبدوا أو أخفوا فقال : { ثم لا يكن } أي بعد التأبي وطول زمان المجاوزة في المشاورة { أمركم } أي الذي تقصدونه بي { عليكم غمة } أي خفياً يستتر عليكم شيء منه بسبب ستر ذلك عني لئلا أسعى في معارضتكم ، فلا تفعلوا ذلك بل جاهروني به مجاهرة فإنه لا معارضة لي بغير الله الذي يستوي عنده السر والعلانية؛ والتعبير ب { ثم } إشارة إلى التأني وإتقان الأمر للأمان من معارضته بشيء من حول منه أو قوة { ثم اقضوا } ما تريدون ، أي بتوه بتة المقضي إليه واصلاً { إلي } .
ولما كان ذلك ظاهراً في الإنجاز وليس صريحاً ، صرح به في قوله : { ولا تنظرون* } أي ساعة ما ، وكل ذلك لإظهار قلة المبالاة بهم للاعتماد على الله لأنه لا يعجزه شيء ومعبوداتهم لا تغني شيئاً؛ ثم سبب عن ذلك قوله : { فإن توليتم } أي كلفتم أنفسكم الإعراض عن الحق بعد عجزكم عن إهلاكي ولم ينفعكم علمكم بأن الذي منعني - وأنا وحدي - منكم وأنتم ملء الأرض له العزة جميعاً وأن من أوليائه الذين تقدم وعده الصادق بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون { فما } أي فلم يكن توليكم عن تفريط مني لأني سقت الأمر على ما يحب ، ما { سألتكم } أي ساعة من الدهر ، وأغرق في النفي فقال : { من أجر } أي على دعائي لكم يفوتني بتوليكم ولا تتهموني به في دعائكم .
ولما كان من المحال أن يفعل عاقل شيئاً لا لغرض ، بين غرضه بقوله مستأنفاً : { إن } أي ما { أجري إلا على الله } أي الذي له صفات الكمال؛ ثم عطف عليه غرضاً آخر وهو اتباع الأمر خوفاً من حصول الضر فقال : { وأمرت } أي من الملك الأعلى الذي لا أمر لغيره ، وبناه للمفعول للعلم بأنه هو الآمر وليزيد في الترغيب في المأمور به وتغطية بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال { أن أكون } أي كوناً أتخلق به فلا أنفك عنه؛ ولما كان في مقام الاعتذار عن مفاجأته لهم بالإنذار ، عبر بالإسلام الذي هو الأفعال الظاهرة فقال : { من المسلمين* } أي الراسخين في صفة الانقياد بغاية الإخلاص ، لي ما لهم وعليّ ما عليهم ، أنا وهم في الإسلام سواء ، لا مرية لي فيه أتهم بها ، أن أستسلم لكل ما يصيبني في الله ، لا يردني ذلك عن إنفاذ أمره ، والحاصل أنه لم يكن بدعائه إياهم في موضع تهمة ، لا سألهم غرضاً دنيوياً يزيده إن أقبلوا ولا ينقصه إن أدبروا ، ولا أتى بشيء من عند نفسه ليظن أنه أخطأ فيه ولا سلك به مسلكاً يظن به استعباده إياهم في اتباعه ، بل أعلمهم بأنه أول مؤتمر بما أمرهم به مستسلم لما دعاهم إليه ولكل ما يصيبه في الله ، ولما لم يردهم كلامه هذا عن غيهم ، سبب عنه قوله مخبراً بتماديهم : { فكذبوه } أي ولم يزدهم شيء من هذه البراهين الساطعة والدلائل القاطعة إلا إدباراً ، وكانوا في آخر المدة على مثل ما كانوا عليه من التكذيب { فنجيناه } أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة الباهرة بسبب امتثاله لأوامرنا وصدق اعتماده علينا { ومن معه } أي من العقلاء وغيرهم { في الفلكِ } كما وعدنا أولياءنا ، وجعلنا ذلك آية للعالمين { وجعلناهم } أي على ضعفهم بما لنا من العظمة { خلائف } أي في الأرض بعد من أغرقناهم ، فمن فعل في الطاعة فعلهم كان جديراً بأن نجازيه بما جازيناهم { وأغرقنا } أي بما لنا من كمال العزة { الذين كذبوا } أي مستخفين مستهينين { بآياتنا } كما توعدنا يفترون على الله الكذب .
ولما كان هذا أمراً باهراً يتعظ به من له بصيرة ، سبب عنه أمر أعلى الخلق فهما بنظره إشارة إلى أنه لا يعتبر به حق الاعتبار غيره فقال : { فانظر } وأشار إلى أنه أهل لأن يبحث عن شأنه بأداة الاستفهام ، وزاد الأمر عظمة بذكر الكون فقال : { كيف كان } أي كوناً كان كأنه جبلة { عاقبة } أي آخر أمر { المنذرين* } أي الغريقين في هذا الوصف وهم الذين أنذرتهم الرسل ، فلم يكونوا أهلاً للبشارة لأنهم لم يؤمنوا لنعلم أن من ننذرهم كذلك ، لا ينفع من أردنا شقاوته منهم إنزال آية ولا إيضاح حجة؛ والتوكل : تعمد جعل الأمر إلى من يدبره للتقدير في تدبيره؛ والغمة : ضيق الأمر الذي يوجب الحزن؛ والتولي : الذهاب عن الشيء؛ والأجر : النفع المستحق بالعمل؛ والإسلام الاستسلام لأمر الله بطاعته بأنها خير ما يكتسبه العباد .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
ولما لم يكن في قصص من بينه وبين موسى عليهم السلام مما يناسب مقصود هذه السورة إلا ما شاركوا فيه قوم نوح من أنهم لم تنفع الآيات من أريدت شقاوته منهم ، ذكره سبحانه طاوياً لما عداه فقال تعالى : { ثم } أي بعد مدة طويلة { بعثنا } أي على عظمتنا؛ ولما كان البعث لم يستغرق زمان البعد ، أدخل الجار فقال : { من بعده } أي قوم نوح { رسلاً } كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام .
ولما كان ربما ظن أن قوم الإنسان لا يكذبونه ، وإن كذبوه لم يتمادوا على التكذيب لا سيما إن أتاهم بما يقترحونه من الخوارق قال : { إلى قومهم } أي ففاجأهم قومهم بالتكذيب { فجاءوهم } أي فتسبب عن استنادهم إلى عظمتنا أن جاؤوهم { بالبينات } ليزول تكذيبهم فيؤمنوا { فما } أي فتسبب عن ذلك ضد ما أمروا به وقامت دلائله وهو أنهم ما { كانوا } أي بوجه من وجوه الكون { ليؤمنوا } أي مقرين { بما كذبوا } أي مستهينين { به } أول ما جاؤوهم . ولما كان تكذيبهم في بعض الزمن الماضي ، أدخل الجار فقال : { من قبل } أي قبل مجيء البينات لأنا طبعنا على قلوبهم؛ قال أبو حيان : وجاء النفي مصحوباً بلام الحجود ليدل على أن إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع - انتهى . ويجوز أن يكون التقدير : من قبل مجيء الرسل إليهم ، ويكون التكذيب أسند إليهم لأن أباهم كذبوا لما بدلوا ما كان عندهم من الدين الصحيح الذي أتتهم به الرسل ورضوا هم بما أحدث آباؤهم استحساناً له ، أو لأنه كان بين أظهرهم بقايا على بقايا مما شرعته الرسل فكانوا يعظونهم فيما يبتدعون فلا يعون ولا يسمعون كما كان قس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهم قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن المعنى الأول أولى - والله أعلم .
ولما قرر عدم انتفاعهم بالآيات ، بنى ما يليه على سؤاله من لعله يقول : هل استمر الخلق فيمن بعدهم؟ فكأنه قيل : نعم! { كذلك } أي مثل ما طبعنا على قلوبهم هذا الطبع العظيم { نطبع } أي نوجد الطبع ونجدده متى شئنا بما لنا من العظمة { على قلوب المعتدين* } في كل زمن لكل من تعمد العدو فيما لا يحل له ، وهذا كما أتى موسى عليه السلام إلى فرعون فدعاه إلى الله فكذبه فأخبره أن معه آية تصدقه فقال له : إن كنت جئت بآية فائت بها إن كنت من الصادقين ، فلما أتاه بها استمرعلى تكذيبه وكان كلما رأى آية ازداد تكذيباً ، وكان فرعون قد قوي ملكه وعظم سلطانه وعلا في كبريائه وطال تجبره على الضعفاء ، فطمست أمواله وآثاره ، وبقيت أحاديثه وأخباره ، ولهذا أفصح سبحانه بقصته فقال : دالاً على الطبع : { ثم بعثنا } أي وبعد زمن طويل من إهلاكنا إياهم بعثنا ، ولعدم استغراق زمن البعد أدخل الجار فقال : { من بعدهم } أي من بعد أولئك الرسل { موسى و } كذا بعثنا { هاورن } تأييداً له لأن اتفاق اثنين أقوى لما يقررانه وأوكد لما يذكرانه؛ ولما استقر في الأذهان بما مضى أن ديدن الأمم تكذيب من هو منهم حداً له ونفاسة عليه .
كان ربما ظن أن الرسول لو أتى غير قومه كان الأمر على غير ذلك ، فبين أن الحال واحد في القريب والغريب ، فقال مقدماً لقوله : { إلى فرعون وملئه } أي الأشراف من قومه ، فإن الأطراف تبع لهم { بآياتنا } أي التي لا تكتنه عظمتها لنسبتها إلينا ، فطبعنا على قلوبهم { فاستكبروا } أي طلبوا الكبر على قبول الآيات وأوجدوا ما يدل عليه من الرد بسبب انبعاثه إليهم عقب ذلك { وكانوا } أي جبلة وطبعاً { قوماً مجرمين* } أي طبعهم قطع ما ينبغي وصله ووصل ما ينبغي قطعه ، فلذلك اجترؤوا على الاستكبار مع ما فيها أيضاً من شديد المناسبة لما تقدم من قول الكافرين { هذا سحر مبين } في نسبة موسى عليه السلام إليه وبيان حقيقة السحر في زواله وخيبته متعاطية لإفساده إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار ، هذا إلى ما ينظم إليه من مناسبة ما بين إهلاك القبط وقوم نوح بآية الغرق ، وأنه لم ينفع أحداً من الفريقين معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات ، بل ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه بعد تلك المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة ، ثم اتبعهم فرعون بعد أن كانت انحلت عن حبسهم عراه ، وتلاشت من تجبره قواه ، وشاهد من الضربات ما يهد الجبال ، ودخل في طلبهم البحر بحزات لا يقرب ساحتها الأبطال ، لما قدره عليه ذو الجلال ، ولم يؤمن حتى أتاه البأس حيث يفوت الإيمان بالغيب الذي هو شرط الإيمان ، فلم ينفعه إيمانه مع اجتهاده فيه وتكريره لفوات شرطه إجابة لدعوة موسى عليه السلام ، ثم إن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام على منهاج واحد . فما اختلفوا إلا بعد مجيء العلم إليهم وبيان الطريق واضحة لديهم ، ولهذا المراد ذكر هنا هارون عليه السلام لأن من أعظم مقاصد السورة المنع من طلب الآيات لمن بعد الإيمان عند الإتيان بها ، إشارة إلى أن القول من الاثنين أوكد ، ومع ذلك فلم يصدق من حكم القدير بشقاوته ، كل ذلك حثاً على الرضا والتسليم ، ووكل الأمر إلى الرب الحكيم ، فمهما أمر به قبل ، وما أعرض عنه ترك السؤال فيه رجاء تدبيره بأحسن التدبير وتقديره ألطف المقادير؛ ولما أخبر سبحانه باستكبارهم ، بين أنه تسبب عنه طعنهم في معجزاته من غير تأمل ، بل بغاية المبادرة والإسراع بما أشعرت به الفاء والسياق ، فقال تعالى : { فلما جاءهم } أي فرعون وملؤه { الحق } أي البالغ في الحقية ، ثم زاد في عظمته بقوله : { من عندنا } أي على ما لنا من العظمة التي عرفوا بها أنه منا ، لا من الرسولين { قالوا } أي غير متأملين له ولا ناظرين في أمره بل عناداً ودلالة على استكبارهم مؤكدين لما علموا من تصديق الناس به { إن هذا لسحر مبين* } كما قال الناس الذين أخبر عنهم سبحانه في أول السورة في هذا القرآن وما إبانه من البعث .
فلما قالوا كان كأنه قيل : فماذا أجابهم؟ فأخبر أنه أنكر عليهم ، بقوله : { قال موسى } ولما كان تكريرهم لذلك القول أجدر بالإنكار ، عبر بالمضارع الدال على أنهم كرروه لينسخوا ما ثبت في قلوب الناس من عظمته { أتقولون للحق } ونبه على أنهم بادروا إلى التكذيب من غير نظر ولا توقف بقوله : { لما جاءكم } أي هذا القول الذي قلتموه وهو أنه سحر ، فإن القول يطلق على المكروه ، تقول : فلان قال في فلان ، أي ذمه ، وفلان يخاف القالة ، وبين الناس تقاول؛ ثم كرر الإنكار بقوله : { أسحر هذا } أي الذي هو في غاية الثبات والمخالفة للسحر في جميع الصفات حتى تقولون فيه ذلك . فالآية من الاحتباك : ذكر القول في الأول دال على حذف مثله في الثاني ، وذكر السحر الثاني دال على حذف مثله في الأول .
ولما كان التقدير : أتقولون هذا والحال أنكم قد رأيتم فلاحه ، بني عليه قوله : { ولا يفلح } أي يظفر بما يريد في وقت من الأوقات { الساحرون* } أي العريقون فيه لأن حاصل أمرهم تخييل وتمويه في الأباطيل ، فالظفر بعيد عنهم ، ويجوز أن تجعل هذه الجملة معطوفه على قوله : { أسحر هذا } لأنه إنكاري بمعنى النفي ، فلما أنكر عليهم عليه السلام ما ظهر به الفرق الجلي بين ما أتى به في كونه أثبت الأشياء وبين السحر ، لأنه لا ثبات له أصلاً ، عدلوا عن جوابه إلى الإخبار بما يتضمن أنهم لا يقرون بحقيته لأنه يلزم عن ذلك ترك ما هم عليه من العلو وهم لا يتركونه ، وأوهموا الضعفاء أن مراده عليه السلام الاستكبار معللين لاستكبارهم عن اتباعه بما دل على أنهم لا مانع أنهم منه إلا الكبر ، فقال تعالى حكاية عنهم : { قالوا } أي منكرين عليه معللين بأمرين : التقليد ، والحرص على الرئاسة .
ولما كان هو الأصل في الرسالة . وكان أخوه له تبعاً ، وحدوا الضمير فقالوا : { أجئتنا } أي أنت يا موسى { لتلفتنا } أي لتقتلنا وتصرفنا { عما وجدنا عليه } وقالوا مستندين إلى التقليد غير مستحيين من ترك الدليل { آباءنا } من عبادة الأصنام والقول بالطبيعة لنقل نحن بذلك { وتكون لكما } أي لك أنت ولأخيك دوننا { الكبرياء } أي بالملك { في الأرض } أي أرض مصر التي هي - لما فيها من المنافع - كأنها الأرض كلها { وما } أي وقالوا أيضاً : ما { نحن لكما } وبالغوا في النفي وغلب عليهم الدهش فعبروا بما دل على أنهم غلبهم الأمر فعرفوا أنه صدق ولم يذعنوا فقالوا : { بمؤمنين* } أي عريقين في الإيمان ، فهو عطف على { أجئتنا } أي قالوا ذاك وقالوا هذا ، أو يكون عطفاً على نحو : فما نحن بموصليك إلى هذا الغرض ، أفردوه أولاً بالإنكار عليه في المجيء ليضعف ويكف أخوه عن مساعدته ، وأشركوه معه ثانياً تأكيداً لذلك الغرض وقطعاً لطمعه؛ والبعث : الإطلاق في أمر يمضي فيه ، وهو خلاف الإطلاق من عقال؛ والملأ : الجماعة الذين هم وجوه القبيلة ، لأن هيبتهم تملأ الصدور عند منظرهم؛ والاستكبار : طلب الكبر من غير استحقاق؛ والمجرم من اكتسب سيئة كبيرة ، من جرم التمر - إذا قطعه ، فالجرم يوجب قطع الخير عن صاحبه؛ والسحر : إيهام المعجزة على طريق الجيلة ، ويشبه به البيان في خفاء السبب؛ والحق : ما يجب الحمد عليه ويشتد دعاء الحكمة إليه ويعظم النفع به والضرر بتركه؛ والكبرياء : استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب ، وهي صفة مدح لله وذم للعباد لأنها منافية لصفة العبودية .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
ولما لبسوا بوصفه بما هم به متصفون ، أرادوا الزيادة في التلبيس بما يوهم أن ما أتى به سحر تمكن معارضته إيقافاً للناس عن تباعه ، فقال تعالى حكاية عطفاً على قوله : { قالوا أجئتنا } : { وقال فرعون } إرادة المناظرة لما أتى به موسى عليه السلام { ائتوني بكل ساحر عليم* } أي بالغ في علم السحر لئلا يفوت شيء من السحر بتأخر البعض ، وقراءة حمزة والكسائي بصيغة فعال دالة على زيادة لزعمه أقل من سياق الشعراء كما مضى في الأعراف .
ولما كان التقدير : فامتثلوا أمره وجمعوهم ، دل على قرب اجتماعهم بالفاء في قوله : { فلما جاء السحرة } أي كل من في أرض مصر منهم { قال لهم موسى } مزيلاً لهذا الإيهام { ألقوا } جميع { ما أنتم ملقون* } أي راسخون في صنعة إلقائه ، إشارة إلى أن ما جاؤوا به ليس أهلاً لأن يلقى إليه بال { فلما ألقوا } أي وقع منهم الإلقاء بحبالهم وعصيهم على إثر مقالاته وخيلوا بسحرهم لعيون الناس ما زلزل عقولهم { قال موسى } منكراً عليهم { ما جئتم به } ثم بين أنه ما استفهم عنه جهلاً بل احتقاراً وإنكاراً ، وزاد في بيان كل من الأمرين بقوله : { السحر } لأنه استفهام أيضاً سواء قطعت الهمزة ومدت كما في قراءة أبي عمرو وأبي جعفر أوجعلت همزة وصل كما في قراءة الباقين ، فإن همزة الاستفهام مقدرة ، والتعريف إما للعهد وإما للحقيقة وهو أقرب ، ويجوز في قراءة الجماعة أن يكون خبراً لما يقصد به الحصر ، أي هو السحر لا ما نسبتموه إليّ؛ ثم استأنف بيان ما حقره به فقال : { إن الله } أي الذي له إحاطة العلم والقدرة { سيبطله } أي عن قريب بوعد لا خلف فيه؛ ثم علل ذلك بما بين أنه فساد فقال : { إن الله } أي الذي له الكمال كله { لا يصلح } أي وفي وقت من الأوقات { عمل المفسدين* } أي العريقين في الفساد بأن لا ينفع بعملهم ولا يديمه؛ ثم عطف عليه بيان إصلاحه عمل المصلحين فقال : { ويحق } أي يثبت إثباتاً عظيماً { الله } أي الملك الأعظم { الحق } أي الشيء الذي له الثبات صفة لازمة؛ ولما كان في مقام تحقيرهم ، دل على ذلك بتكرير الاسم الجامع الأعظم . وأشار إلى ما له من الصفات العلى بقوله : { بكلماته } أي الأزلية التي لها ثبات الأعظم ، وزاد في العظمة بقوله : { ولو كره المجرمون } أي العريقون في قطع ما أمر الله به أن يوصل ، فكان كما قال عليه السلام بطل سحرهم ، واضمحل مكرهم ، وحق الحق - كما بين في سورة الأعراف .
ولما حكى سبحانه أن موسى عليه السلام أبان ما أبان من بطلان السحر وكونه إفساداً ، فثبت ما أتى به لمخالفته له ، أخبر تعالى - تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وفطماً عن طلب الإجابة للمقترحات - أنه ما تسبب عن ذلك في أول الأمر عقب إبطال سحرهم من غير مهلة إلا إيمان ناس ضعفاء غير كثير ، فقال تعالى : { فما آمن } أي متبعاً { لموسى } أي بسبب ما فعل ، ليعلم أن الآيات ليست سبباً للهداية إلا لمن أردنا ذلك منه؛ وبين أن الصغار أسرع إلى القبول بقوله : { إلا ذرية } أي شبانهم هم أهل لأن تذر فيهم البركة { من قومه } أي قوم موسى الذين لهم القدرة على القيام في المحاولة لما يريدونه ، والظاهر أنهم كانوا أيتاماً وأكثرهم - كما قاله مجاهد { على خوف } أي عظيم { من فرعون وملئهم } أي أشراف قوم الذرية؛ ولما كان إنكار الملأ إنما هو بسبب فرعون أن يسلبهم رئاستهم ، انحصر الخوف فيه فأشار إلى ذلك بوحدة الضمير فقال : { أن يفتنهم } وأتبعه ما يوضح عذرهم بقوله مؤكداً تنزيلاً لقريش منزلة من يكذب بعلو فرعون لتكذيبهم لأن ينصر عليهم الضعفاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لعلوهم : { وإن فرعون لعال } أي غالب قاهر متمكن بما فتناه به من طاعة الناس له { في الأرض } أي أرض مصر التي هي بكثرة ما فيها من المرافق كأنها جميع الأرض { وإنه لمن المسرفين* } أي العريقين في مجاوزة الحدود بظاهره وباطنه ، وإذا ضممت هذه الآية إلى قوله تعالى :
{ وإن المسرفين هم أصحاب النار } [ غافر : 43 ] كان قياساً بديهياً منتجاً إنتاجاً صريحاً قطعياً أن فرعون من أصحاب النار ، تكذبياً لأهل الوحدة في قولهم : إنه آمن ، ليهونوا المعاصي عند الناس فيحلوا بذلك عقائد أهل الدين .
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
ولما ذكر خوفهم وعذرهم ، أتبعه ما يوجب طمأنينتهم ، وهو التوكل على الله الذي من راقبه تلاشى عنده كل عظيم ، فقال : { وقال موسى } أي لمن آمن به موطناً لهم على أن الجنة لا تنال إلا بمشقة عظيمة « يبتلى الناس على قدر إيمانهم » { يا قوم } فاستعطفهم بالتذكير بالقرب وهزهم إلى المعالي به فيهم من القوة ثم هيجهم وألهبهم على الثبات بقوله : { إن كنتم } أي كوناً هو في ثباته كالخلق الذي لا يزول { آمنتم بالله } وثبتهم بذكر الاسم الأعظم وما دل عليه من الصفات ، وأجاب الشرط بقوله : { فعليه } أي وحده لما علمتم من عظمته التي لا يداينها شيء سواه { توكلوا } وليظهر عليكم أثر التوكل من الطمأنينة والثبات والسكينة { إن كنتم } أي كوناً ثابتاً { مسلمين* } جامعين إلى تصديق القلب إذعان الجوارح؛ وجواب هذا الشرط ما دل عليه الماضي من قوله : { فعليه توكلوا } { فقالوا } أي على الفور كما يقتضيه الفاء { على الله } أي الذي له العظمة كلها وحده { توكلنا } أي فوضنا أمورنا كلها إليه { ربنا } أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا { لا تجعلنا فتنة } أي موضع مخالطة بما يميل ويحيل { للقوم الظالمين* } أي لا تصبنا أنت بما يظنون به تهاونك بنا فيزدادوا نفرة عن دينك لظنهم أنا على الباطل ولا تسلطهم علينا مما يفتننا عن ديننا فيظنوا أنهم على الحق { ونجنا برحمتك } أي إكرامك لنا { من القوم } أي الأقوياء { الكافرين* } أي العريقين في تغطية الأدلة ، وفي دعائهم هذا إشارة إلى أن أمر الدين أهم من أمر النفس .
ولما أجابوه إلى إظهار الاعتماد عليه سبحانه وفوضوا الأمور إليه ، أتبعه ما يزيدهم طمأنينة من التوطن في أرض العدو إشارة إلى عدم المبالاة به ، لأنه روي أنه كانت لهم متعبدات يجتمعون فيها ، فلما بعث موسى عليه السلام أخربها فرعون ، فأمر الله تعالى أن تجعل في بيوتهم لئلا يطلع عليهم الكفرة فقال تعالى عاطفاً على قوله : { وقال موسى } { وأوحينا } أي بما لنا من العظمة البالغة { إلى موسى وأخيه } أي الذي طلب مؤازرته ومعارضته { أن تبوءا } أي اتخذا { لقومكما بمصر } وهي ما بين البحر إلى أقصى أسوان والإسكندرية منها { بيوتاً } تكون لهم مرجعاً يرجعون إليه ويأوون إليه { واجعلوا } أي أنتما ومن معكما من قومكما { بيوتكم قبلة } أي مصلى لتتعبدوا فيها مستترين عن الأعداء تخفيفاً من أسباب الخلاف { وأقيموا الصلاة } أي بجميع حدودها وأركانها مستخفين ممن يؤذيكم جمعاً بين آلتي النصر : الصبر والصلاة ، وتمرناً على الدين وتثبيتاً له في القلب .
ولما كان الاجتماع فيما تقدم أضخم وأعز وأعظم ، وكان واجب على الأمة كوجوبه على الإمام جمع فيه ، وكان إسناده البشارة عن الملك إلى صاحب الشريعة أثبت لأمره وأظهر لعظمته وأثبت في قلوب أصحابه وأقر لأعينهم ، أفرد في قوله : { وبشر المؤمنين* } أي الراسخين في الإيمان من أخيك وغيره .
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
ولما ختم ببشارة من دل على إيمانهم إسلامهم بفعل ما يدل على هوان أمر العدو ، وكان هلاك المشانىء من أعظم البشائر ، وكان ضلال فرعون وقومه بالزينة والمال إضلالاً لغيرهم ، سأل موسى عليه السلام إزاله ذلك كله للراحة من شره ، فقال تعالى حاكياً عنه : { وقال موسى } أي بعد طول دعائه لفرعون وإظهار المعجزات لديه وطول تكبره على أمر الله وتجبره على المستضعفين من عباده ، ولما كان من أعظم أهل الاصطفاء ، أسقط الأداة تسنناً بهم ، وأشار بصفة الإحسان إلى أن هلاك أعدائهم أعظم إحسان إليهم فقال : { ربنا } أي أيها المحسن إلينا { إنك } أكد لما للجهال من إنكار أن يكون عطاء الملك الأعظم سبباً للإهانة { آتيت فرعون وملأه } أي أشراف قومه على ما هم فيه من الكفر والكبر { زينة } أي عظيمة يتزينون بها من الحلية واللباس وغيرهما { وأموالاً } أي كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما { في الحياة الدنيا } روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت؛ ثم بين غايتها لهم فقال مفتتحاً بالنداء باسم الرب ليعيذه وأتباعه من مثل حالهم : { ربنا } أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا والمدبر لأمورنا { ليضلوا } في أنفسهم ويضلوا غيرهم { عن سبيلك } أي الطريق الواسعة التي نهجتها للوصول إلى رحمتك .
ولما بين أن مآلهم الضلال ، دعا عليهم فقال مفتتحاً أيضاً بالنداء باسم الرب ثالثاً لأن ذلك من أمارات الإجابة كما أُشير إليه في آخر آل عمران وإشارة إلى أنهم لا صلاح لهم بدون هلاكهم وهلاكها : { ربنا اطمس } أي أوقع الطمس وهو التسوية بين المطموس وبين غيره مما ليس له نفعه { على أموالهم } .
ولما كان قد رأى منهم من التكبر على الله والتكذيب لآياته والتعذيب لأوليائه ما لا يشفي غيظه منه إلا إدامة شقائهم دنيا وأخرى ، وكان عالماً بأن قدرة الله على إبقائهم على الكفر مع تحسيرهم بسلب المال كقدرته على ذلك باستدراجهم إليه بالمال ، قال : { واشدد } أي شداً ظاهراً لكل أحد - بما أشار إليه الفك مستعلياً { على قلوبهم } قال ابن عباس : اطبع عليها وامنعها من الإيمان ، وأجاب الدعاء بقوله : { فلا يؤمنوا } أي ليتسبب عن ذلك الشد عدم إيمانهم إذا رأوا مبادىء العذاب الطمس { حتى يروا } أي بأعينهم { العذاب الأليم* } حيث لا ينفعهم الإيمان فيكونوا جامعين ذل النفوس المطلوب منهم اليوم ليفيدهم العز الدائم إلى شدة الغضب بوضع الشيء في غير موضعه المنتج لدوام ذلهم بالعقاب؛ وهذه الآية منبهة على أن الرضى بكفر خاص لا يستلزم استحسان الكفر من حيث هو كفر؛ قال الإمام الحليمي في كتاب شعب الإيمان المسمى بالمنهاج : وإذا تمنى مسلم كفر مسلم فهذا على وجهين : أحدهما أن يتمناه له كما يتمنى الصديق لصديقه الشيء يستحسنه فيحب أن يكون له فيه نصيب ، فهذا كفر لأن استحسان الكفر كفر ، والآخر أن يتمناه له كما يتمنى لعدوه الشيء يستفظعه - فيجب أن يقع فيه ، فهذا ليس بكفر ، تمنى موسى صلوات الله عليه وسلامه بعد أن أجهده فرعون ألا يؤمن فرعون وملأه ليحق عليهم العذاب ، وزاد على ذلك أن دعا الله تبارك وتعالى فلم ينكر تعالى ذلك عليه لعلمه أن شدته على فرعون وغلظته عليه لما رآه من عتوه وتجبره هي التي حملته على ذلك ، فمن كان في معناه فله حكمه؛ وقد نقل ذلك عنه الزركشي في حرف الثاء من قواعده مرتضياً له ، ونقل عنه أيضاً أنه قال : ولو كان في قلب مسلم على كافر فأسلم فحزن المسلم لذلك وتمنى لو عاد إلى الكفر لا يكفر ، لأن استقباحه الكفر هو الذي حمله على تمنيه واستحسانه الإسلام هو الحامل لله على كراهته؛ ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لو قتل عدو للإنسان ظلماً ففرح هل يأثم ! إن فرح بكونه عصى الله فيه فنعم ، وإن فرح بكونه خلص من شره فلا بأس لاختلاف سببي الفرح - انتهى .
ويؤيده ما روى البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن مقسم مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عل عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمي وجهه فقال : « اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً! » فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار ، ومسألة أن الرضى بالكفر كفر نقلها الشيخان عن المتولي وسكتا عليها ، ولكن قال الشيخ محيي الدين في شرح المهذب : إن ذلك إفراط ، فما تقدم من التفصيل عن الحليمي وابن عبد السلام هو المعتمد ، والمسألة في أصل الروضة . فإنه قال : لو قال لمسلم : سلبه الله الإيمان ، أو لكافر : رزقه الله الإيمان ، فليس بكفر لأنه ليس رضى بالكفر لكنه دعاء عليه بتشديد الأمر والعقوبة؛ قلت : ذكر القاضي حسين في الفتاوى وجهاً ضعيفاً أنه لو قال مسلم : سلبه الله الإيمان ، كفر - والله أعلم ، وحكى الوجهين عن القاضي في الأذكار وقال : إن الدعاء بذلك معصية .
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
ولما أخبر سبحانه عن دعائه عليه السلام أخبر بإجابته بقوله مستأنفاً : { قال } ولما كان الموضع محل التوقع للإجابة ، افتتحه بحرفه فقال : { قد أجيبت دعوتكما } والبناء للمفعول أدل على القدرة وأوقع في النفس من جهة الدلالة على الفاعل بالاستدلال ، وثنى للإعلام بأن هارون عليه السلام مع موسى عليه السلام في هذا الدعاء ، لأنه معه كالشيء الواحد لا خلاف منه له أصلاً وإن كان غائباً ، وذلك كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان رضي الله عنه في عمرة الحديبية فضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو غائب في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا ضرب له في غزوة بدر بسهمه وأجره وكان غائباً .
ولما كانت الطاعة وانتظار الفرج وإن طال زمنه أعظم أسباب الإجابة ، سبب عن ذلك قوله : { فاستقيما } أي فاثبتا على التعبد والتذلل والخضوع لربكما كما أن نوحاً عليه السلام ثبت على ذلك وطال زمنه جداً واشتد أذاه ولم يضجر؛ ولما كان الصبر شديداً . أكد قوله : { ولا تتبِّعان } بالاستعجال أو الفترة عن الشكر { سبيل الذين لا يعلمون* } ولما أمر بالتأني الذي هو نتيجة العلم ، عطف على ذلك الإخبار بالاستجابة قوله : { وجاوزنا } أي فعلنا بعظمتنا في إجازتهم فعل المناظر للآخر المباري له ، ودل بإلصاق الباء بهم على مصاحبته سبحانه لهم دلالة على رضاه بفعلهم فقال : { ببني إسراءيل } أي عبدنا المخلص لنا { البحر } إعلاماً بأنه أمرهم بالخروج من مصر وأنجز لهم ما وعد فأهلك فرعون وملأه باتباعهم سبيل من لا يعلم بطيشهم وعدم صبرهم ، ونجى بني إسرائيل بصبرهم وخضوعهم؛ والالتفات من الغيبة إلى التكلم لما في هذه المجاوزة ومقدماتها ولواحقها من مظاهر العظمة ونفوذ الأوامر ومضاء الأحكام؛ وبين سبحانه كيفية إظهار استجابة الدعوة بقوله مسبباً عن المجاوزة : { فأتبعهم } أي بني إسرائيل { فرعون وجنوده } أي أوقعوا تبعهم أي حملوا نفوسهم على تبعهم ، وهو السير في أثرهم ، واتبعه - إذا سبقه فلحقه ، ويقال : تبعه في الخير واتبعه في الشر . ولما أفهم ذلك ، صرح به فقال : { بغياً } أي تعدياً للحق واستهانة بهم { وعدواً } أي ظلماً وتجاوزاً للحد .
ولما كان فاعل ذلك جديراً بأن يرجع عما سلكه من الوعورة ، عجب منه في تماديه فقال - عاطفاً على ما تقديره : واستمر يتمادى في ذلك - : { حتى } ولما كانت رؤية انفراج البحر عن مواضع سيرهم مظنة تحقق رجوع الماء إلى مواضعه فيغرق ، عبر بأداة التحقق فقال : { إذا أدركه } أي قهره وأحاط به { الغرق } أي الموت بالماء كما سأل موسى في أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم { قال آمنت } أي أوقعت إيمان الداعي لي من التكذيب؛ ثم علل إيمانه بقوله مبدلاً من { آمنت } في قراءة حمزة والكسائي بالكسر مؤكداً من شدة الجزع : { أنه } وعلى تقدير الباء تعليلاً في قراءة الجماعة أي معترفاً بأنه { لا إله إلا الذي } ويجوز أن يكون أوقع { آمنت } على { أنه } وما بعدها - أي { آمنت } نفي الإلهية عن كل شيء غير من استثنيه من أن أعبره أو أرجع عنه .
ولما كان قد تحقق الهالك وعلم أنه لا نجاة إلا بالصدق ، اراد الإعلام بغاية صدقه فقال : { آمنت } أي أوقعت التصديق معترفة { به بنو إسراءيل } فعينه تعييناً أزال الاحتمال؛ ثم قال : { وأنا من المسلمين* } فكرر قبول ما كان دعي إليه فأباه استكباراً ، وعبر بما دل على ادعاء الرسوخ فيه بياناً لأنه ذل ذلاً لم يبق معه شيء من ذلك الكبر ولم ينفعه ذلك لفوات شرطه ، فاتصل ذله ذلك بذل الخزي في البرزخ وما بعده ، وقد كانت المرة الواحدة كافية له عند وجود الشرط ، وزاده تعالى ذلاً بالإيئاس من الفلاح بقوله على لسان الحال أو جبريل عليه السلام أو ملك الموت أو غيره من الجنود عليهم السلام : { آلآن } أي أتجيب إلى ما دعيت إليه في هذا الحين الذي لا ينفع فيه الإجابة لفوات الإيمان بالغيب الذي لا يصح أن يقع اسم الإيمان إلا عليه { وقد } أي والحال أنك قد { عصيت } أي بالكفر { قبل } أي في جميع زمان الدعوة الذي قبل هذا الوقت ، ومعصية الملك توجب الأخذ والغضب كيف كانت ، فكيف وهي بالكفر! { وكنت } أي كوناً جبلياً { من المفسدين* } أي العريقين في الفساد والإفساد؛ ثم أكده - بدل شماتة الأعداء به الذين كانوا عنده أقل شيء وأحقره - بقوله مسبباً عما تضمنه ذلك الإنكار من الإذلال بالإهلاك إشارة إلى أن الماء أحاط به وصار يرتفع قليلاً قليلاً حتى امتد زمن التوبيخ : { فاليوم ننجيك } أي تنجية عظيمة . ولما كان ذلك ساراً وكانت المساءة بما يفهم السرور إنكاء ، قال دالاً على أن ذلك يعد نزع روحه : { ببدنك } أي من غير روح وهو كامل لم ينقص منه شيء حتى لا يدخل في معرفتك لبس { لتكون } أي كوناً هو في غاية الثبات { لمن خلفك } أي يتأخر عنك في الحياة من بني إسرائيل وغيرهم { آية } في أنك عبد ضعيف حقير ، لست برب فضلاً عن أن تكون أعلى ويعرفوا أن من عصى الملك أخذ وأن كان أقوى الناس وأكثرهم جنوداً ، وقد ادعى بعض الملحدين إيمانه بهذه الآية إرادة لما يعيذ الله منه من حل العقد الواجب من أن فرعون من أكفر الكفرة بإجماع أهل الملل ليهون للناس الاجتراء على المعاصي ، وادعى أنه لا نص في القرآن على أنه من أهل النار وضل عن الصرائح التي في القرآن في ذلك في غير موضع وعن أن قوله تعالى :
{ وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين } [ يونس : 83 ] مع قوله تعالى : { وأن المسرفين هم أصحاب النار } [ غافر : 43 ] قياس قطعي الدلالة بديهي النص على أنه من أهل النار ، والآية - كما ترى - دليل على قوله : { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً } - الآية ، لو كان فرعون مثل قريش ، فكيف ولا نسبة لهم منه في شدة الاستكبار التابعة لكثرة الجموع ونفوذ الكلمة بضخامة الملك وعز السلطان والقوة بالأموال والأعوان ، وقد وري أن جبريل عليه السلام كان أتاه بفتيا في عبد نشأ في نعمة سيده فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه ، فكتب فرعون جزاء العبد الخارج عن طاعة سيده الكافر نعماءه أن يغرق في البحر ، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه فعرفه .
ولما لم يعمل فرعون وآله بمقتضى ما رأوا من الآيات ، كان حكمهم حكم الغافلين عنها ، فكان التقدير : ولقد غفلوا عما جاءهم من الآيات { وإن كثيراً } أكده لأن مثله ينبغي - لبعده عن الصواب - أن لا يصدق أن أحداً يقع فيه { من الناس } أي وهم من لم يصل إلى حد أول أسنان أهل الإيمان لما عندهم من النوس - وهو الاضطراب - والأنس بأنفسهم { عن آياتنا } أي على ما لها من العظمة { لغافلون } والإصلاح : تقويم العمل على ما ينفع بدلاً مما يضر؛ وإحقاق الحق : إظهاره وتمكينه بالدلائل الواضحة حتى يرجع الطاعن عنه حسيراً والمناصب له مفلولاً؛ والإسراف : الإبعاد في مجاوزة الحق؛ والفتنة : البلية ، وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة؛ والنجاة : الخلاص مما فيه المخافة ، ونظيرها السلامة ، وعلقوا النجاة بالرحمة لأنها إنعام على المحتاج بما تطلع إليه النفوس العباد ، فهو على أوكد ما يكون من الدعاء إلى الصلاح؛ والوحي : إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء ، والإيحاء والإيماء والإشارة نظائر ، ولا يجوز أن تطلق الصفة بالوحي إلا لنبي؛ وتبوأ : اتخذ ، وأصله الرجوع ، فالمتبوأ : المنزل ، لأنه يرجع إليه للمقام فيه : والطمس : محو الأثر فهو تغير إلى الدثور والدروس؛ والإجابة : موافقة الدعوة فيما طلب بها لوقوعها على تلك الصفة؛ والدعوة : طلب الفعل بصيغة الأمر ، وقد تكون بالماضي؛ والمجاوزة : الخروج عن الحد من إحدى الجهات؛ والبحر : مستقر الماء الواسع بحيث لا يدرك طرفيه من كان في وسطه ، وهو مأخوذ من الاتساع؛ والاتباع : اللحاق بالأول؛ والبغي : طلب الاستعلاء بغير حق؛ والآن : فصل الزمانين الماضي والمستقبل ، ومع أنه إشارة إلى الحاضر ، ولهذا بنى كما بنى « ذا »؛ والبدن : مسكن روح الحيوان على صورته .
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
ولما ذكر تعالى عاقبة أمر فرعون وقومه وأنهم لم ينتفعوا بما جاءهم من البينات مع ما كان فيها من جلي البيان وفي بعضها من الشدائد والامتحان حتى كان آخرها أنه لما رأى مبدأ الهلاك من انفراق البحر لم يزعه عن لجاجه غفلة منه عن عاقبته . وختمها بالإخبار بكثرة الغفلة إشارة إلى أن هذا الخلق في غير القبط أيضاً ، أتبع ذلك ذكر خاتمة أمر بني إسرائيل فيما خولهم فيه بعد الإنجاء من النعم المقتضي للعلم القطعي بأنه لا إله غيره ، وأن من خالفه كان على خطر الهلاك ، وأنهم - مع مشاهدتهم الآيات الآتيه بسببهم إلى فرعون - آتاهم من الآيات الخاصة بهم المنجزة لصدق وعده سبحانه لآبائهم ما فيه غاية الإحسان إليهم والإكرام لهم ، وأنهم كانوا تحت يد فرعون على طريق واحد ، ليس بينهم خلاف ، وما اختلفوا فصاروا فرقاً في الاعتقادات وأحزاباً في الديانات حتى جاءهم العلم الموضح من الله ، فكان المقتضي لاجتماعهم على الله مفرقاً لهم على سبيل الشيطان لخبث سرائرهم وسوء ضمائرهم وقوفاً مع الشاهد الزائل وجموداً مع المحسوس الفاني ونسياناً للغائب الثابت والمعلوم المتيقن ، كل ذلك لأنا قضينا به فالأمر تابع لما نريد ، لا لما يأمر به وينهى عنه ، فكان أعظم زاجر عن طلب الآيات وظن أنها توجب له الرد على الغوايات ، فقال تعالى : { ولقد بوأنا } أي أسكنا بما لنا من العظمة التي تنقطع الأعناق دون عليائها وتتضاءل ثواقب الأفكار عن إحصائها { بني إسراءيل } مسكناً هو أهل لأن يرجع إليه من خرج عنه ، وهو المراد بقوله : { مبوأ صدق } أي في الأرض المقدسة لأن وعدنا كان قد تقدم لهم بها وعادة العرب أنها إذا مدحت الشيء أضافته إلى الصدق لأنه مع ثباته حبيب إلى كل نفس ويصدق ما يظن به من الخير .
ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالرزق ، وكان التعبير عنه بالمبوإ دالاً على الرزق بدلالة الالتزام ، صرح به فقال : { ورزقناهم } أي بما لنا من العظمة { من الطيبات } أي الحسية حلاء واشتهاء من الفواكة والحبوب والألبان والأعسال وغيرها . والمعنوية من الشريعة والكتاب والمعارف كما تقدم وعدنا لآبائهم بذلك . ولما كانوا كغيرهم إذا كانوا على أمور يتواضعون عليها تقاربوا فيها وتوافقوا ، وإذا كانوا على حدود حدها لهم المحسن إليهم وحده لم يلبثوا أن يختلفوا عابهم الله بذلك فقال : { فما } أي فتسبب عن صدقنا لهم في الوعد أنهم ما { اختلفوا } أي أوقعوا الخلف المفضي إلى جعل كل منهم صاحبه خلفه ووراء ظهره . واستهان به { حتى جاءهم العلم } الموجب لاجتماعهم على كلمة واحدة لما له من الضبط حتى يكون أتباعه على قلب واحد . فكأنه قيل : فماذا يفعل بهم؟ لا هم بعقولهم ينتفعون ولا بما جاءهم من الحق يرجعون؟ فقيل مؤكداً لإنكار العرب البعث : { إن ربك } أي المحسن إليك بإصاء الأنبياء بك ووصفك في كتبهم وجعلك صاحب لواء الحمد في القيامة { يقضي بينهم } .
ولما كان هذا تهديداً عظيماً ، زاده هولاً وعظمة بقوله : { يوم القيامة } أي الذي هو أعظم الأيام { فيما كانوا } أي بأفعالهم الجبلية { فيه يختلفون* } فيميز الحق من الباطل ، والصديق من الزنديق ، ويسكن كلاًّ داره .
ذكر بعض ما في التوراة من المن عليهم بالأرض المقدسة : قال قي أثناء السفر الخامس : قد رأت أعينكم جميع أعمال الله العظيمة التي عمل ، فاحفظوا جميع الوصايا التي أمركم الله بها اليوم لتدخلوا الأرض التي تجوزون إليها لترثوها وتطول أعماركم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم ويرثها نسلهم الأرض التي تغل السمن والعسل . لأن الأرض التي تدخلونها لترثوها ليست مثل أرض مصر التي خرجتم منها التي كنتم تحتاجون فيها أن تستقوا بأرجلكم وتسقوها مثل بساتين السقي ، ولكن الأرض التي تجوزون إليها لترثوها هي أرض الجبال والصحارى ، وإنما تشرب من مطر السماء . يتعاهدها الله ربكم في كل حين ، وعينا الله ربنا فيها منذ أول السنة إلى آخر السنة . فإن أنتم سمعتم الأحكام التي آمركم بها اليوم وتتقون الله ربكم وتعبدونه من كل قلوبكم وأنفسكم يديم نظره إليكم ، ويمطر لكم في الخريف والربيع جميعاً ، وتستغلون طعاماً وشراباً وزيتاً ، وينبت في حرثكم عشباً لمواشيكم ، وتأكلون وتشبعون ، احفظوا أن لا تخدع قلوبكم وتروغوا إلى الآلهة الأخرى وتسجدوا لها وتعبدوها فيشتد غضب الرب عليكم ، ويمنع السماء من المطر والأرض من غلاتها ، وتهلكوا سريعاً من الأرض التي يعطيكم الله ربكم ، بل اجعلوا هذه الآيات في قلوبكم ، وصيروها ميسماً بين أعينكم ، وعلموها بينكم أن يتكلموا بها في حضوركم وفي سفركم ، وإذا رقدتم وإذا قمتم ، واكتبوها على معاقم بيوتكم وأبوابكم لتطول أعماركم وأعمار أولادكم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم . وإن أنتم حفظتم هذه الوصايا كلها وعملتم بها وأحببتم الله ربكم وسرتم في طرقه ولحقتم بعبادته يهلك الرب الملوك كلها من بين أيديكم وترثون شعوباً أعظم وأعز منكم ، وكل بلاد تطأها أقدامكم تكون لكم بين البرية ولبنان ومن النهر إلى الفرات : النهر الأكبر ، وتكون تخومكم عند البحر الآخر ، ولا يقدر أحد أن يقاومكم ، ويلقي الله ربكم خوفكم وفزعكم على كل الأرض التي تطؤونها كما قال لكم الرب : انظروا! إني أتلوا عليكم دعاء ولعناً ، أما الدعاء فتصيرون إليه إن أنتم حفظتم وصايا الله ربكم ، وأما اللعن فيدرككم إن أنتم لم تسمعوا وصايا الله ربكم وزغتم عن الطريق الذي أمركم به اليوم وتبعتم آلهة أخرى لم تعرفوها ، وإذا أدخلكم الله ربكم إلى الأرض التي تدخلونها لترثوها اتلوا الدعاء على جبل حوريب واللعن على جبل من حيالها في مجاز الأردن خلف الطريق عند مغارب الشمس في أرض الكنعانين الذين يسكنون المغرب بإزاء الجبال وجبال بلوط - وفي نسخة : مرج ممري ، لأنكم تجوزون الأردن لتدخلوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم وتسكنونها وتحفظون وتعملون بجميع الوصايا التي آمركم بها اليوم - انتهى .
وفي سفر يوشع بن نون عليه السلام : ولما كان بعد موسى عبد الله قال الله ليوشع ابن نون خادم موسى عليهما السلام : موسى عبدي مات ، والآن فقم فاعبر هذا الأردن أنت ، وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل ، كل موضع تطؤه أرجلكم لكم أعطيته ، كما قلت لموسى عبدي . من البر وهذه للبنان وإلى النهر الكبير نهر الفرات كل أرض الذاعرين ، لا يقف أحد قدامك طول ايام حياتك ، كما كنت مع موسى أكون معك ، لا أدعك ولا أتركك ، اشتد وتأيد ، فإنك أنت تنحل هذا الشعب الأرض التي قسمت لآبائهم لإعطاء ذلك لهم ، لا يزول درس كتاب هذا الشريعة من فيك . وتلهج به نهاراً وليلاً لكي تحفظ للعمل بجميع المكتوب . فحينئذ تنجح طرقك . وحينئذ ترشد ، أليس قد أوصيتك؟ اشتد وتأيد ، و لا ترهب ولا تنذعر ، لأن معك الله ربك في جميع ما تسير فيه ، ووصى بوضع يوشع عرفاء القوم قائلاً : جوزوا في وسط العسكر ووصّوا القوم قائلين لهم : أعدوا لكم زاداً فإنكم بعد ثلاثة أيام عابرون هذا الأردن للدخول لإرث الأرض التي الله ربكم معطيها لكم ، اذكروا ذكر القول الذي أمركم به موسى عبد الله قائلاً : الله ربكم مريحكم بما أعطاكم هذه الأرض ، نساءكم وأطفالكم ومواشيكم تجلسون في مدنكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن وأنتم تجورون محزومي الخواطر إلى أن يريح الله إخوتكم كما أراحكم فترثوا أيضاً الأرض التي ربكم معطيكم ، حينئذ ترجعون إلى أرض حوزكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن مشرق الشمس ، فأجابوا يوشع قائلين : جميع ما أوصيتنا به نعمل ، كل موضع ترسلنا نمضي كجميع ما قبلنا من موسى كذاك نقبل منك . إذا كان الله معك كما كان مع موسى ، كل إنسان يخالف أمرك ولا يقبل كلامك كجميع ما تأمره به يقتل . فاشتد وتأيد ، فبعث يوشع بن نون من الكافرين رجلين جاسوسين في خفية قائلاً : امضيا! انظرا الأرض كلها مع أريحا ، فمضيا ودخلا إلى بيت امرأة سواقة اسمها راحاب واضطجعا ثمَّ ، فقيل لملك أريحا : هو ذا أناس من بني إسرائيل قد جاؤوا إلى هنا الليلة لجس البلد . فأرسل ملك أريحا إلى راحاب قائلاً : أخرجي القوم الجائين إليك الذين دخلوا دارك . فإنهم لجس جميع البلد جاؤوا . فأخذت المرأة الرجلين فأخفت أمرهما وقالت : كذاك كان القوم جاؤوا إليّ ولم أعلم من أين هم؟ وكان عند إغلاق الباب في الظلام .
ثم خرج القوم ولم أعلم أين مضوا؟ اطلبوهم بسرعة فإنكم تلحقونهم؛ ثم أصعدتهما إلى السطح وظهرتهما في فش الكتان . والقوم طلبوهما في طريق الأردن إلى المعابر - وفي نسخة : إلى المخاضات - ولباب أغلقوا بعد ما خرج الطالبون خلفهما . وهما قبل أن يناما صعدت إليهما راحاب إلى السطح فقالت لهما : قد علمت أن الله سلم إليكم البلد ، وأنه قد وقعت هيبتكم علينا . وقد ماج جميع سكان البلد من قبلكم . وإنا قد سمعنا أن الله أيبس لكم بحر القلزم عقب خروجكم من مصر وما عملتم بملكي الأمورانيين الذي في مجاز الأردن : سيحون وعوج اللذين اصطلمتموهما ، فعند ما سمعنا ذابت قلوبنا ولم يثبت أيضاً روح في واحد منا من جهتكم ، فإن الله ربكم هو إله من في السماوات من فوق ومن على الأرض من تحت ، والآن فاحلفوا باسم الله إذ قد عملت معكما فضلاً ، فتعملاً أيضاً أنتما مع أهل أبي فضلاَ ، وتعطياني علامة هي حق . لتستبقوا أبي وأمي وإخوتي وجميع من التصق بهم ، وتخلصوا أنفسنا من القتل . فقالا لها : نبذل أنفسنا دونكم للموت إن لم تخبروا بخبرنا هذا . فيكون عند التسليم الله لنا البلد نعمل معك فضلاً وأمانة فأحدرتهما بالحبل من داخل الطاقة إذ منزلها في حائط السور . وفي السور هي ساكنة . وقالت لهما : سيرا إلى الجبل كيلا يلقاكما الطالبون ، وبعد ذلك سيرا : لطريقكما ، فقالا لها : أبرياء نحن من قسمك هذا الذي استقسمتنا إن لم تفعلي ما نقول لك ، هو ذا نحن داخلون إلى البلد فاعقدي خصلة خيط من القرمز في الطاقة التي أخبرتنا منها . وأبوك وأمك وإخوتك وكل بيت أبيك تضمين إليك المنزل ، فيكون كل من يخرج من أبواب منزلك إلى خارج دمه في عنقه ونحن أبرياء ، وكل من يكون معك في المنزل دمه في أعناقنا إن بطشت به يد . وإن أخبرت بخبرنا هذا فنحن أبرياء من قسمك الذي استقسمتنا ، فقالت : كما قلتما ، فأطلقتهما ومضيا ، وعقدت خصلة القرمز في الطاقة ، فمضيا إلى الجبل وجلسا ثم ثلاثة أيام إلى أن رجع الطالبون ولم يجدوهما . ورجع الرسولان وانحدرا من الجبل وجازا الأردن وجاءا إلى يوشع بن نون وقصا له كل ما وافاهما وقالا ليوشع : إن الله دفع بأيدينا كل الأرض ، وقد ماج جميع ساكنها منا؛ وأدلج يوشع بالغداة ورحلوا من الكفرين ، وجاؤوا إلى الأردن هو وجميع بني إسرائيل وباتوا ثم قبل أن يجوزوا . فلما كان بعد ثلاثة أيام جاز النقباء في وسط العسكر وأمروا القوم قائلين لهم : عند نظركم صندوق عهد الله ربكم والأئمة اللاويين حاملين له أنتم ترحلون من موضعكم وتمشون خلفه ، لكن بينكم وبينه بعد مقدار ألفي ذارع بالمساحة ، لا تقربوا منه لأجل أن تعرفوا الطريق التي تمشون فيها إذ لم تمشوا فيها أمس وأول أمس .
و قال يوشع للقوم : استعدوا فإن غداً يعمل الله في وسطكم عجائب ، وقال يوشع للأئمة : احملوا صندوق العهد وجوزوا قدام القوم . فحملوا صندوق العهد وساروا قدام القوم ، وقال الله ليوشع : هذا اليوم ابتدىء بتعظيم اسمك بحضرة جميع إسرائيل لكي يعلموا أنني كما كنت مع موسى أكون معك؛ وقال يوشع لبني إسرائيل : تقدموا هاهنا وأسمعوا الله ربكم؛ قال يوشع : بهذه الخلة تعرفون أن قادراً حياً لذاته في وسطكم ، وأن قارضاً يقرض من قدامكم قبائل الأمم : الكنعانيين والذاعرين - وفي نسخة : الحاثبين المنسوبين إلى حاث جدهم - والحويين أي الفصحاء البلغاء - وفي نسخة : المجتمعين إلى الحي - والربضيين والفلاحين والأمورانيين - أي الرؤساء - واليبوسيين - أي الجبارين القاهرين ، ها هو ذا صندوق العهد ، سيد كل الأرض جائز قدامكم في الأردن والآن خذوا لكم اثني عشر رجلاً من أسباط إسرائيل : رجلاً واحداً من كل سبط ، ويكون عند قرار أقدام أرجل الأئمة حاملي صندوق العهد سيد كل الأرض في مياه الأردن من الأمر العظيم أنه تنقطع مياه الأردن المنحدرة من فوق وتقف طوداً واحداً كأنها في زق محصورة .
ولما ارتحل الشعب وقطعوا خيمه ليجوزوا الأردن سار الكهنة الذين حملوا التابوت أمام الشعب ، فلما انتهوا إلى الأردن وكان ممتلئاً يفيض كل أيام الحصاد انشق الأردن وقام الماء الذي كان ينحدر من فوق كأنه في زق ناحيته ، وتباعد عن قرية إدام التي عند صريم جداً ، والذي كان يجري إلى البحر العربي الذي يدعى بحر الملح انشق وحار وانقطع ، وجاز الشعب حيال أريحا ، وقام الكهنة الذيم حملوا تابوت العهد في الأردن يابساً حتى عبر جميع الشعب بحر الأردن؛ فلما جاز الشعب جميعاً قال الرب ليوشع : اعمد إلى اثني عشر رجلاً من الشعب : من كل سبط رجل واحد ، وقل لهم : خذوا من هاهنا من جوف الأردن من تحت أقدام الكهنة اثني عشر حجراً وعبروها معكم وانصبوها في موضع المبيت الذي تبيتون فيه الليلة ، فأمرهم يوشع بذلك وأن يحمل كل رجل حجره على عاتقه ، فأخذوها إلى موضع مبيتهم ونصبوها هناك ، فمكثت الحجارة - التي أخذوها من الأردن من تحت أقدام الكهنة الذين حملوا التابوت - موضوعة هناك إلى اليوم؛ والكهنة الذين حملوا التابوت كانوا قياماً حتى تمت جميع الأقوال التي أمر الرب يشوع أن يقص على الشعب كما أوصى موسى يشوع ، وعجل الشعب على المجاز وجازوا ، فما جاز جميع الشعب وجاز الكهنة الذين كانوا حاملين التابوت أمام الشعب وجاز بنو روبال وبنو جاد ونصف سبط منسا ، وهم متسلخون أمام إخوتهم - كما أمر موسى - أربعون ألفاً ذوو قوة ، جازوا أمام الرب إلى قاع أريحا للمحاربة .
في ذلك اليوم عظم يشوع عند جميع بني إسرائيل وفرقوه كفرقهم من موسى طول أيام حياته ، وقال الرب ليشوع : مر الكهنة الذين حملوا تابوت الشهادة يصعدوا من الأردن ، فأمرهم ، فلما صعدوا رجع ماء الأردن إلى مواضعه أول ما استقرت أقدام الكهنة في الشط وجرى في سواحل الأردن كما كان أولاً ، فصعدوا من الأردن في عشر خلت من الشهر الأول - قلت : وهو نيسان على ما قال بعض فضلاء اليهود - ونزلوا الجلجال أقصى مشارق أريحا ، فأما الاثنا عشر حجراً التي أخذوها من الأردن فنصبها يشوع في الجلجال ، وقال يشوع لبني إسرائيل : إذا سألكم بنوكم غداً وقالوا لكم : ما هذه الحجارة؟ قولوا لهم : إن بني إسرائيل فلق له هذا الأردن فجازوه يابساً ، لأن الله ربكم يبَّس ما الأردن أمامهم حتى جازوه كما فعل الله ربكم ببحر سوف الذي يبسه أمامنا حتى جزناه ليعلم جميع شعوب الأرض أن يد الرب قوية ، وتتقوا الله ربكم كل الأيام .
فلما سمع جميع ملوك الأمورانيين الذين في جانب الأردن الغربي وجميع ملوك الكنعانيين الذين على شاطىء البحر أن الرب يبس ماء الأردن أمام بني إسرائيل حتى جازوا ، فزعت قلوبهم ولم يبق فيهم رمق فزعاً من بني إسرائيل وفي ذلك الزمان قال الرب ليشوع : اتخذ سيفاً من طوران واختن بني إسرائيل ثانية ، فختن بني إسرائيل ثانية في أكمة الغلف ، والذي ختن يشوع جميع الذكورة الذين كانوا ولدوا في البرية حين خرجوا من أرض مصر ، لأن جميع الرجال الأبطال المقاتلة هلكوا في البرية لأنهم لم يطيعوا الله ربهم وكانوا كلهم مختتنين ، فأقسم الرب عليهم أن لا يريهم الأرض التي وعد آباءهم أن يعطيهموها الأرض التي تغل السمن والعسل ، فبنوهم الذين كانوا من بعدهم هم الذين ختن يشوع لأنهم كانوا غلفاً . فلما ختن جميع الشعب مكثوا مواضعهم في المعسكر حتى برئوا ، وقال الرب ليشوع : اليوم صرفت عنكم عار أهل مصر ، ودعا اسم ذلك الموضع جلجالاً ، ونزل بنو إسرائيل الجلجال وعلموا فصحاً في أربعة عشر يوماً من الشهر الأول عند المساء في قاع أريحا وأكلوا من بر الأرض بعد الفصح وأكلوا في ذلك اليوم فطيراً وسنبلاً مقلواً . وارتفع المن عن بني إسرائيل منذ ذلك اليوم حيث أكلوا من بر الأرض ولم ينزل المن لبني إسرائيل بعد ذلك اليوم وأكلوا من بر الأرض وغلات أرض كنعان في تلك السنة . وبينا كان يشوع في قاع أريحا قائماً إذ نظر رجلاً قائماً إزاءه مخترطاً سيفه ممسكه بيده ، فاقبل يشوع إليه وقال له : أنت منا أم من أعدائنا؟ قال : أنا سيد أجناد الرب ، الآن أتيتك ، فخر يشوع ساجداً على وجهه على الأرض وقال : ما الذي يقول السيد لعبده؟ قال : اخلع خفيك عن قدميك ، فإن الموضع الذي أنت قائم فيه طاهر ، ففعل يشوع ذلك؛ وكان بنو إسرائيل قد حاصروا أريحا ، ولم يكن يقدر أحد من أهلها يدخل ولا يخرج ، قال الرب ليوشع : انظر! إني قد دفعت في يدك أريحا وملكها وكل أجنادها ، فليحط بالمدينة جميع رجال المقاتلة ، ودوروا حول المدينة مرة في اليوم ، وافعلوا ذلك ستة أيام ، ويحمل سبعة من الكهنة سبعة أبواق ويهتفون أمام التابوت ، حتى إذا كان اليوم السابع دوروا حول المدينة سبع مرات ويهتف الكهنة بالقرون ، فإذا هتفت الأبواق وسمعتهم أصواتها يهتف جميع الشعب بأعلى أصواتهم صوتاً شديداً ، فيقع سور المدينة مكانه ، ويصعد الشعب كل إنسان حياله ، فدعا يشوع الكهنة وقال لهم : احملوا تابوت الرب عهد الرب ويحمل سبعة من الكهنة سبعة قرون وينفخون فيها أمام تابوت الرب ، ثم قال للشعب : دوروا حول المدينة ، والمتسلخون يجوزون أمام تابوت الرب ، فحمل سبعة من الكهنة سبعة قرون وهتفوا أمام تابوت الرب فلم يزالوا ينفخون في القرون ، والذين كانوا يحملون التابوت يتبعون أصحاب الأبواق والمتسلخون يسيرون أمام الكهنة الذي يهتفون بالقون ويسيرون أمام التابوت .
وقال يشوع للشعب : لا تهتفوا ، ولا تسمعوا أصواتكم ، ولا تخرج كلمة من أفواهكم إلى اليوم الذي آمركم أن تهتفوا . فدارت الجماعة بالتابوت كل يوم مرة كما أمرهم يشوع ، فلما كان اليوم السابع أدلجوا سحراً وأحاطوا بالمدينة كسنتهم ولكن في ذلك اليوم السابع داروا حولها سبع مرات ، وفي المرة السابعة هتف الكهنة بالقرون وقال يشوع للشعب : اهتفوا لأن الرب قد دفع المدينة في أيديكم ، ولكن صيروا هذه المدينة وكل ما فيها حريمة للرب ، لا يمسه إنسان منكم ، وأبقوا على راحاب الزانية - يعني القندقانية كما أخبرني بعض فضلائهم ، ويؤيده التعبير عنها فيما مضى بالسواقة والله أعلم - وعلى كل من معها في بيتها لأنها غيبت الدسيسين اللذين أرسلنا ، فأما أنتم فاحتفظوا من الحرام ، ولا تنجسوا أنفسكم بأكل الحرام ، فتصيروا عسكر بني إسرائيل حراماً ، فنفخوا في القرون فلما سمع الشعب صوت الأبواق ضجوا كلهم واحدة شديدة جداً ، فوقع سور المدينة فصعد الشعب إلى المدينة كل إنسان حياله ، فافتتحوها وقتلوا كل من فيها رجالها ونساءها والمشيخة والصبيان والثيران والحمير والغنم ، قتلوها بالسيف ، وأما الرجلان اللذان اجتسا الأرض فقال لهم يشوع : ادخلا إلى بيت المرأة الزانية - يعني الفندقانية كما مضى - فأخرجاها وأخرجا كل من معها في البيت كما حلفتما لها ، ففعلوا وأنزلوهم خارج عسكر بني إسرائيل وأحرقوا المدينة وكل من فيها بالنار ، وأحيى يشوع الزانية ووالديها وكل من معها ، وأقسم يشوع في ذلك الزمان ولعن وقال : ملعوناً يكون أمام الرب الرجل الذي يقوم يبني مدينة أريحا هذه ، وكان الرب بعونه مع يشوع ونصره ، وشاع خبره في الأرض كلها ، وأثم بنو إسرائيل وتناولوا من الحرام ، وذلك لأن عاجار ابن كرمي بن زبدي بن زرح من قبيلة يهودا نحر وأخذ من الحرام وغيب في خيمته ، فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل ، ثم أرسل يشوع رجالاً إلى عاي التي عند بيت آون من مشارق بيت إل ليجتسوها ، فقالوا له : إنه يجزىء في أخذها ألفان أو ثلاثة لأن أهلها قليل ، فصعدوا فحاربوهم عند باب المدينة فانهزم بنو إسرائيل وجرح منهم جرحى كثير - فذكر القصة في سجود يشوع وانزعاجه وإخبار الله تعالى إياه أن قومه غلّوا ، ثم أمره بالقرعة حتى خرج الذي عنده الغلول وهو عاجار ، وكان غلوله طنفسة بابلية ومائتي مثقال فضة وسبيكة من ذهب فيها خمسون مثقالاً ، فأخرجه يشوع مع كل شيء هو له ، وقد مضى ذلك في البقرة عند
{ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } [ البقرة : 98 ] وتقدم في المائدة فتح بعض بلاد بيت المقدس بأعجوبة أخرى واستمروا هكذا يفتحونها بلداً بعد بلد ، ويقتلون من جبابرتها عدداً بعد عدد ، ويرون في ذلك من عجائب الأمور وبدائع المقدور ما يبقي على كر الآباد ومَر الدهور ، وهم في أثناء ذلك كل قليل يكفرون وينقضون العهود ولا يشكرون كما هو مبين في سفر يوشع بن نون ، وقد مضى شيء منه في المائدة عند قوله تعالى { فعموا وصموا } [ المائدة : 71 ] - الآية ، كل ذلك بعد أن جاءهم من العلم ما لا تدخله مرية لا يخالطه شك ولا يدنو منه لبس ، فتبارك من له الأمر كله ، لا مضل لمن هدى ولا هادي لمن يضله .
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
ولما كان ما مضى - من الآيات هذه السورة المبينة أن من أريدت شقاوته لا ينفعه مشاهدة الآيات - سبباً لنفي الشك عنها وإثبات اليقين بمضامينها بما سلف من الأدلة على تلك المضامين غلى أن ختم ذلك بذم من عمل عمل الشاك بعد أن جاء ما يوجب اليقين من العلم ، وكان صلى الله عليه وسلم كما مضى في آخر التي قبلها أشفق الخلق لا سيما على العرب لا سيما على قومه منهم ، وكانت الوصية قد برزت من الجناب الإلهي له بما يوافق طبعه من بذل الجهد في ملاطفتهم ، كان ذلك جديراً بأن يحرك طبع البشر لتمني الإجابة لما يقترحون ، وكان طلب ذلك بعد الفطام عنه من أفعال الشك في الجملة فأريد صرف النفس عنه بالكلية ولو بالخطور في البال فقيل مسبباً عما قبله : { فإن كنت } أي يا أرحم الخلق { في شك } ولم يرد بهذا الكلام حقيقته - والله أعلم - بل تقوية اليقين وتأكيده ورسوخه وتأييده بأن هذا أمر قد عزم عليه وفرغ منه فلا يحتمل مراجعة ، وذلك لأن المعنى أن ثباتهم على الشقاوة أمر لا يعلم إلاّ من قبلنا ، وذلك بأحد أمرين : إما بواسطة الأمين جبرئيل بما يأتي به من الوحي عنا غضاً طرياً محفوظاً من الغير فلا تحريف فيه ولا تبديل ، وإما بواسطة أهل الكتاب عن أنبيائهم - وفي ذلك نزول درجتين مع تجويز التخويف والتبديل ، وهذا ما لا يرضاه ذو همة علية ونفس أبية - فالمعنى : أنا قد أخبرتك بأن الآيات لا تزيد المقضي بشقائه إلاّ ضلالاً وأنا خبير بذلك { ولا ينبئك مثل خبير } فلا تطلب إجابتي إياهم إلى ما يقترحون عليك رجاء إيمانهم فإنهم لا يؤمنون بذلك { فإن كنت } أي في وقت من الأوقات { في شك } أي ولو قل { ممآ أنزلنآ } أي بعظمتنا واصلاً على لسان الواسطة { إليك } في ذلك { فسئل } أي بسبب ذلك الشك { الذين يقرءون } أي متتابعين لذلك { الكتاب } أي السماوي من اليهود والنصارى ، فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزلنا إليك على حد عظيم . ومن آمن منهم أو كان منصفاً جدير بأن يزداد من فاوضه في ذلك إيماناً؛ ولما كانوا بعض من أوتي الكتاب في الزمن السالف ، أثبت الجار فقال : { من قبلك } وهم عن ذلك الخبر بمراحل ، فلا تجنح إلى سؤال غيري ، وهذا مضمون قوله تعالى مؤكداً آتياً بحرف التوقع لأن كلاًّ من الأمرين في أحق مواضعه : { لقد جآءك الحق } أي الثابت الكامل ثباته وهو إمضاء العدل فيهم؛ وزاده تشريفاً وترغيباً فيه بقوله : { من ربك } أي المحسن إليك باصطفائك لذلك ، فلذا سيق مساق البيان له من غير واو ، فإذا ثبت أنه الحق أي الثابت أعلى الثبات تسبب عنه البعد من تزلزل من جاءه ، فناسب اتباعه بقوله : { فلا تكونن } أكده لأنه حقيق بأن لا ينثني عنه أحد بوجه من الوجوه { من الممترين } أي الغافلين عن آيات الله فتطلب الفضل لأهل العدل؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا والله! ما شك طرفة عين ولا سأل أحداً منهم .
ولما نهى عن ذلك لم يبق مما اقتضته القسمة العقلية إلاّ العناد ممن يمكن منه كما فعل بنو إسرائيل بعد مجيء العلم فأتبعه النهي عن مثل حالهم بقوله : { ولا تكونن } أي بوجه من الوجوه ، والمراد بهذا أتباعه { من الذين كذبوا } أي فعلوا فعل المكذب مستهينين { بآيات الله } أي التي لا أعظم منها بإضافتها إلى من لا أعظم منه { فتكون } أي كوناً راسخاً { من الخاسرين } بل اثبت على ما أنت عليه من اليقين والطمأنينة والثقة بالله والسكينة ، وهذا ونحوه مما غلظت فيه العبارة دلالة على مزيد قرب المخاطب وإن كان المراد غيره وعظيم منزلته ولطيف خصوصيته كما مضى بيانه عن الإمام أبي الحسن الحرالي رحمه الله في سورة براءة عند قوله تعالى { عفا الله عنك } [ براءة : 43 ] - الآية ، وتغليظ العبارة فيه تأديب عظيم لتابعيه؛ والشك : الوقوف بين النقيضين ، وهو من شك العود فيما ينفذ فيه ، لأنه يقف بذلك الشك بين جهتيه؛ والإنزال : نقل الشيء من علو إلى سفل؛ والامتراء؛ طلب التشكك مع ظهور الدليل ، من مري الضرع وهو مسحه ليدر .
ولما كان ما مضى من هذه الآيات وما كان من طرازها قاضياً بأنه لا تغني الآيات عنهم . صرح به قوله تعالى : { إن الذين حقت } أي وجبت وثبتت { عليهم } أي بأنهم أشقياء ، وعبر بالاسم المفهم للإحسان إعلاماً بأنه ما أوجب عليهم العذاب إلاّ إحساناً إليه بما يقاسي من معالجتهم وغير ذلك من الحكمة فقال : { كلمت ربك } أي المحسن إليك في جميع أمرك { لا يؤمنون } أي لا قبول لهم لتجدد الإيمان { ولو جآءتهم كل آية } ونسبتها إلى قوله { لقد جاءك الحق } نسبة { لقد جاءك الحق } إلى { فإن كنت في شك } الآية في البيان المستفاد من حذف العاطف ، وإذا كان الكلام في معنى واحد كان بمنزلة الكلمة الواحدة فسمي بها { حتى يروا العذاب الأليم } أي حين لا ينفعهم الإيمان لفوات شرطه كما لم ينفع فرعون لذلك { سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تحويلاً } [ الأحزاب : 92 ] .
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
ولما كان هذا موضع أن يقال : إنما تطلب الآيات لما يرجى من تسبب الإيمان عنها ، تسبب عنه أن يجاب بقوله تعالى : { فلولا } أي فهلا { كانت قرية } أي واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها { آمنت } أي آمن قومها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب { فنفعهآ } أي فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها - { إيمانها } ولما كان المعنى « لولا » النفي ، كان التقدير : لكن لم تؤمن قرية منهم إلاّ عند صدم العذاب كما فعل فرعون ، لو آمن عند رؤية البحر على حال الفلق أو عند توسطه وقبل انسيابه عليه قُبِل ، ولكنه ما آمن إلا بعد انهماره ومسه . وذلك حين لا ينفع لفوات شرطه من الإيمان بالغيب { إلاّ قوم يونس } فإنهم آمنوا عند المخايل وقت بقاء التكليف فنفعهم ذلك فإنهم { لمآ آمنوا } ودل على أنه قد كان أظلهم بقوله : { كشفنا } أي بعظمتنا { عنهم } أي حين إيمانهم ، روي أنه لم يبق بينهم وبين العذاب إلاّ قدر ميل { عذاب الخزي } أي الذي كان يوجب لهم لو برك عليهم هوان الدارين { في الحياة الدنيا } أي فلم يأخذهم وقت رؤيتهم له { ومتعناهم } أي تمتيعاً عظيماً { إلى حين } وهو انقضاء آجالهم مفرقة كل واحد منهم في وقته المضروب له ، وما ذكرته في معنى الآية نقله القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره المسند عن ابن أبي عمر قال : قال سفيان الثوري : { فلولا كانت قرية آمنت } قال : فلم تكن قرية آمنت ، وهذا تفسير معنى الكلام ، وأما « لولا » فهو بمعنى هلا ، وهي على وجوه تحضيض وتأنيث ، أي توبيخ ، وهي هنا للتوبيخ . ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى « لولا » ، ويلزم كلا من المعنيين النفي؛ والنفع : إيجاب اللذة بفعلها أو ما يؤدي إليها كالدواء الكريه المؤدي إلى اللذة؛ والخزي هو أن يفضح صاحبه ، وهو وضع من القدر للغم الذي يلحق به ، وأصله التعب .
ولما كان ما مضى ربما أوجب اعتقاد أن إيمان مثل أولئك محال جاءت هذه الآية في مقام الاحتراس منه مع البيان لأن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيمانهم لا ينفع ومبالغته في إزالة الشبهات وتقرير الدلائل لا تفيد إلاّ بمشيئة الله تعالى لتوفيقهم وهدايتهم ، ولو كان ذلك وحده كافياً لآمنوا بهذا السورة فإنها أزالت شبهاتهم وبينت ضلالاتهم وحققت بقصتي نوح وموسى عليهما السلام ضعفهم ووهن مدافعاتهم فقال تعالى : { ولو شآء } أي إيمان الناس { ربك } أي المحسن إليك بإقبال من أقبل لعلمه الخير فيه وإدبار من أدبر لعدم قابليته للخير { لأمن من في الأرض } من الكفار .
ولما كان هذا ظاهراً في الكل ، صرح به مؤكداً لأن المقام يقتضيه فقال : { كلهم جميعاً } أي مجتمعين في آن واحد لا يختلفون في شيء منه ، ولكن لم يشأ ذلك وأنت لحرصك على امتثال أوامري ووصيتي لك باللطف بخلقي الموافق لما جبلتك عليه من الخير تريد ذلك { أفأنت تكره الناس } أي الذين لم يرد الله إيمانهم مع ما طبعهم عليه من الاضطراب { حتى يكونوا } أي كوناً جبلياً { مؤمنين } أي راسخين في الإيمان ، وإيلاء الاستفهام الاسم مقدماً على الفعل للإعلام بأن الفعل - وهو هنا الإكراه - ممكن من غير ذلك الاسم وهو هنا الله وحده القادر على تحويل الطباع فإن قدرته قاهرة لكل شيء ومشيئته نافذة في كل شيء مع الدلالة على أن وقوع خلاف المشيئة مستحيل لا يمكن لغيره تعالى بإكراه ولا غيره ، والمشيئة معنى يكون به الفعل مراداً أخذت من الشيء ، والمراد بالآية تخفيف ما يلحق النبي صلى الله عليه وسلم من التحسر للحرص على إيمانهم { وما كان } أي وما ينبغي ولا يتأتى { لنفس } أي واحدة فما فوقها { أن تؤمن } أي يقع منها إيمان في وقت ما { إلاّ بإذن الله } أي بإرادة الملك الأعلى الذي له الخلق والأمر وتمكينه ، فيجعل الثبات والطمأنينة - اللازمين للإيمان الذي هو أبعد شيء عن السحر - على الذين ينتفعون بعقولهم فيلزمون معالي الأخلاق التي هي ثمرات للإيمان { ويجعل الرجس } أي الاضطراب والتزلزل الذي يلزمه التكذيب الذي هو أشبه شيء بالسحر لأنه تخييل ما لا حقيقة له والقذر والقباحة والغضب والعقاب الناشىء عنه .
ولما كان ما في هذه السورة من الدلائل قد وصل في البيان إلى حد لا يحتاج فيه إلى غير مجرد العقل قال : { على الذين لا يعقلون } أي لا يوجد لهم عقل ، فهم لذلك لا ينتفعون بالآيات وهم يدعون أنهم أعقل الناس فيتساقطون في مساوىء الأخلاق وهم يدعون أنهم أبعد الناس عنها ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ والنفس : خاصة الشيء التي لو بطل ما سواها لم يبطل ذلك الشيء ، ونفسه وذاته واحد .
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
ولما تقرر ما مضى من النهي عن الإصغاء إليهم في طلب الآيات ، وختم بتعليق الأمر بمجرد المشيئة ، كان كأنه قيل : فماذا يقال لهم إذا طلبوا؟ فقال : { قل } أي يا أشرف الخلق لهم غير مهتم بأمرهم ومنبهاً لهم على إبطال مذهب الجبر المتعلق أصحابه بنحو هذه الآية ، لأن المشيئة مغيبة والعبد مأمور ببذل الجهد في الطاعة بما له من القدرة والاختبار .
ولما أمر بهذا الفكر فكان ربما ظن لأجله أن للإنسان قدرة مستقلة ، نبه على مذهب أهل السنة القائل بالكسب الذي هو - كما قال الإمام علي رضي الله عنه - أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض ، فقال معلماً أن من حكم بشقائه لا ينفعه شيء : { انظروا } أي بأبصاركم وبصائركم لتخرجوا بالانتفاع بالعقل عن عداد البهائم؛ قال الإمام : ولو أن الإنسان تفكر في كيفية حكمة الله تعالى في خلق جناح بعوضة لانقطاع فكره قبل أن يصل إلى أول مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد ، فلذلك أبهم في قوله : { ماذا } أي الذي { في السماوات والأرض } أي من الآيات وواضح الدلالات التي أخرجتموها - بإلفكم لها - عن عداد الآيات ، وهي عند التأمل من أعظم خوارق العادات ، وقال الإمام : فكأنه سبحانه نبه على القاعدة الكليه حتى ينتبه لأقسامها ، وقال أبو حيان أخذاً من الإمام : السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته ، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب وما يختص بذلك من المنافع والفوائد ، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان وخصوصاً حال الإنسان - انتهى .
ولما كان ما فيها من الآيات في غايه الدلالة ، نبه سبحانه على أن التوقف عن الإيمان بعد التنبيه على كيفية الاستدلال معاندة فقال : { وما } وهي نافية أو استفهامية { تغني الآيات } أي وإن كانت في غاية الوضوح { والنذر } أي والإنذارات أو الرسل المنذرون { عن قوم } أي وإن كانت فيهم قوة { لا يؤمنون* } أي للحكم بشقائهم ، فكان ذلك سبباً لتهديدهم بقوله : { فهل ينتظرون } أي بجميع قواهم في تكذيبهم للرسول وتخلفهم عن الإيمان { إلا } أي أياماً أي وقائع { مثل أيام } أي وقائع { الذين خلوا } ولما كان أهل الأيام الهائلة بعض من كان قبل ، أتى بالجار فقال : { من قبلهم } أي من مكذبي الأمم وهم القبط وقوم نوح ومن طوي بينهما من الأمم ، أي من حقوق الكلمة عليهم فنحل بهم بأسنا ثم ننجيكم لإيمانكم كما كنا نحل بأولئك إذا كذبوا رسلنا ، ثم ننجي الرسل ومن آمن بهم حقاً علينا ذلك للعدل بين العباد .
ولما تقدمت الإشارة إلى أن الكلمة حقت على الكافرين بعدم الإيمان والرجس الذي هو العقاب ، زاد في تهديدهم بالاعتراض بما سببه عن فعلهم فعل من ينتظر العذاب بقوله : { قل فانتظروا } أي بجميع جهدكم ما ترونه واقعاً بكم بسبب ما تقرر عندكم مما كان يقع بالماضين في أيام الله ، وزاد التحذير استئنافه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب : { إني } وأعلمهم بالنصفة بقوله : { معكم من المنتظرين* } .
ولما كان التقدير : فإنا كنا في أيام الذين خلوا نوقع الرجس بالمكذبين ، عطف عليه بياناً لم كان يفعل بالرسل وأتباعهم إذا أهلك الظالمين قوله : { ثم ننجي } أي تنجية عظيمة وننجيهم إنجاء عظيماً وجاء به مضارعاً حكاية للأحوال الماضية وتصويراً لها تحذيراً لهم من مثلها وإعلاماً بأنه كذلك يفعل بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه رضي الله عنهم ، وأشار بأداة التراخي إلى طول زمان الابتلاء وعظيم رتبة التنجية ، وحذف مقابل الإنجاء لأن المقام بعد آية { ألا إن أولياء الله } ناظر إلى البشارة أكثر من النظر إلى النذارة { رسلنا } أي الذين عظمتهم من عظمتنا { والذين آمنوا } أي بالرسل وهم معهم في زمانهم ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان تشريفاً للرسل فإنهم بصدد الرسوخ بملازمتهم؛ ثم وصل بذلك تشريفاً للراسخين وترغيباً في مثل حالهم قوله : { كذلك } أي كما حق علينا إهلاك الكافرين هذا الإهلاك العظيم { حقاً علينا } أي بما أوجبناه على جنابنا الأعظم { ننج المؤمنين } أي العريقين في الإيمان ولو كانوا بعد موت الرسل تنجية عظيمة وتنجيهم إنجاء عظيماً ، فالآية من الاحتباك لما أشارت إليه القراءتان بالتخفيف والتثقيل ، أو يكون ذلك بني على سؤال من لعله يقول : هل حقوق النجاة مختص بالرسل ومن معهم؟ فقيل : لا ، بل { كذلك } أي الحقوق { حقاً علينا } على ما لنا من العظمة { ننج المؤمنين } في كل زمن وإن لم يكن بين ظهرانيهم رسول ، لأن العلة الاتصاف بالإيمان الثابت ، فيكون الكاف مبتدأ « وننج » خبره؛ والنظر : طلب المعنى بالقلب من جهة الذكر كما يطلب إدراك المحسوس بالعين؛ والغنى : حصول ما ينافي الضر وصفة النقص ، ونقيضه الحاجة؛ والنذر : جمع نذير ، من النذارة وهي الإعلام بموضع المخافة ليقع به السلامة؛ والانتظار : الثبات لتوقع ما يكون من الحال؛ والمثل إن كان من الجنس فهو ما سد مسد غيره من الحس ، وإن كان من غيره فالمراد ما كان فيه معنى يقرب به من غيره كقربه من جنسه كتشبيه أعمال الكافر بالسراب؛ والنجاة من النجوة وهي الارتفاع من الهلاك .
ولما تقدم الفطام عن الميل يطلب الآيات ، وكان طلبهم لها إنما هو على وجه الشك ، وإن لم يكن على ذلك الوجه فإنه فعل الشاك غالباً وتقدمت أجوبة لهم ، وختم ذلك بتهديدهم وبشارة المؤمنين الموجبة لثباتهم ، ناسبه كل المناسبة أن اتبعت الأمر بجواب آخر دال على ثباته صلى الله عليه وسلم وأنه مظهر دينه رضي من رضي وسخط من سخط ، لأن البيان قد وصل إلى غايته في قوله تعالى : { قل يا أيها الناس } أي الذين هم في حيز الاضطراب ، لم ترقهم هممهم إلى رتبة الثبات { إن كنتم } أي كوناً هو كالجبلة منغمسين { في شك } كائن { من } جهة { ديني } تطلبون لنزوله - بعد تكفل العقل بالدلالة عليه - إنزال الآيات ، فأنا لست على شك من صحة ديني وبطلان دينكم فاعرضوه على عقلوكم وانظروا ما فيه من الحكم مستحضرين ما لدينكم من الوهي الذي تقدم بيانه في قوله تعالى
{ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق } [ يونس : 59 ] ونحوه { فلا أعبد } أي الآن ولا في المستقبل الزمان { الذين تعبدون } أي الآن أو بعد الآن { من دون الله } أي الملك الأعظم لعدم قدرتهم على شيء من ضري ، فلا تطمعوا في أنه يحصل لي شك بسبب حصول الشك لكم ، فإذاً لا أعبد غير الله أصلاً .
ولما كان سلب عبادته عن غيره ليس صريحاً في إثباتها له قال : { ولكن أعبد الله } أي الجامع لأوصاف الكمال عبادة مستمرة؛ ثم وصفه بما يوجب الحذر منه ويدل على كمال قدرته { الذي يتوفاكم } بانتزاع أرواحكم التي لا شيء عندكم يعدلها . فلا تطمعون - عند إرادنه لنزعها - في المحاولة لتوجيه دفاع عن ذلك . وفي هذا الوصف - مع ما فيه من الترهيب - إشارة إلى الدلالة على الإبداء والإعادة ، فكأنه قيل : الذي أوجدكم من عدم كما أنتم به مقرون بعدمكم بعد هذا الإيجاد وأنتم صاغرون ، فثبت قطعاً أنه قادر على إعادتكم بعد هذا الإعدام بطريق الأولي فاحذروه لتعبدوه كما أعبده فإنه قد أمرني بذلك وأنتم تعرفون غائلة الملك إذا خولف ، وقال { إن كنتم في شك } مع أنهم يصرحون ببطلان دينه ، لأنهم في حكم الشاك لاضطرابهم عند ورود الآيات ، أو لأن فيهم الشاك فغلب لأنه أقرب إلى الحيز؛ والشك : وقوف بين المعنى ونقيضه ، وضده الاعتقاد فإنه قطع بصحة المعنى دون نقيضه ، وعبر ب « من » إشارة إلى أن فعلهم ذلك ابتدأ من الدين ، ولو عبر ب « في » لأفهم أنهم دخلوا فيه لأنهم في الشك والشك في الدين ، والظرف لظرف الشيء ظرف لذلك الشيء ، وترك العطف إشارة إلى أن كل جواب منها كاف على حياله .
ولما قرر ما هو الحقيق بطريق العقل ، أتبعه بما رود من النقل بتأييده وإيجابه بقوله : { وأمرت } أي بأمر جازم ماض ممن لا أمر لأحد معه ، وعظم المأمور به بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال : { أن أكون } أي دائماً كوناً جبلياً ، ولما كان السياق لما يحتمل الشك من الأمر الباطن ، عبر بالإيمان الذي هو للقلب فقال : { من المؤمنين } أي الراسخين في هذا الوصف { وأن أقم } أي أيها الرسول { وجهك } أي كليتك على سبيل الإخلاص الذي لا شوب فيه { للدين } فوصل أولاً كلمه « أن » بمعنى الأمر أي { أن أكون } دون « أكن » وثانياً بلفظه وهو { أقم } جمعاً بين الأسلوبين ، وكلاهما بمعنى المصدر ، وخص الثاني بذلك لطوله لأنه كالتفصيل للأول فالخطاب فيه أوكد وألذ ، وقوله : { حنيفاً } حال من فاعل « أقم » ومعناه : مسلماً ميالاً مع الدليل - كما أوضحته في البقرة ، أي أجمع بين الإيمان بالقلب والإسلام بالجوارح { ولا تكونن } أي في وقت من الأوقات { من المشركين* } الذين هم على ضد صفة الإسلام من الجفاء والغلظة والجمود والقسوة .
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
ولما نهاه عن الشرك ، أكده بما هو كالتعليل له بما يلزمه من العبث بالخضوع لما لا ضر فيه ولا نفع بقوله تعالى : { ولا تدع } أي في رتبة من الرتب الكائنة { من دون الله } أي الذي بيده كل شيء { ما لا ينفعك } أي إن فعلت شيئاً من ذلك فأتاك بأسنا { ولا يضرك } أي إن أقمت على طاعتنا مع نصرنا { فإن فعلت } أي شيئاً مما نهيناك عنه { فإنك إذاً } إذا دعوت ذلك الغير بسبب ذلك { من الظالمين* } أي العريقين في وضع الدعوة في غير محلها لأن ما هو كذلك في غاية البعد عن منصب الإلهية؛ ثم قال تعالى عاطفاً على قوله { فإن فعلت } : { وإن يمسسك الله } أي الذي لا راد لأمره { بضر } أي أيّ ضر كان على أي وجه كان وإن كان ظاهراً جداً بما أنبأ عنه الإظهار { فلا كاشف له } أي أصلاً بوجه من الوجوه { إلا هو } لأنه أراده وما أراده لا يكون غيره فلا ترج سواه في أن يبذله بخير ، وعبر بالمس لأنه أخوف { وإن يردك } أي مطلق إرادة { بخير فلا } أي أصابك لا محالة فإنه لا { رآد } ونبه على أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بأن وضع مكان الضمير قوله : { لفضله } أي عمن يريده به كما يفعل بعض العاتين من أتباع ملوك الدنيا في رد بعض ما يريدون ، بل هو بحيث لا ينطق أحد إلا بإذنه فلا تخش غيره ، فالآيه من الاحتباك : ذكر المس أولاً دليلاً على إرادته ثانياً ، والإرادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً ، ولم يستثن في الإرادة كما استثنى في الكشف لأن دفع المراد محال ، وعبر بالإرادة في الخير وبالمس في الضير تنبيهاً على أنه صلى الله عليه وسلم مراد بالخير بالذات وبالضر بالعرض تطييباً لقلبه لما تكرر في هذه السورة من الإخبار بإحقاق العذاب على الفاسقين والإيئاس من الظالمين ، فلما تقرر ذلك حسن موقع قوله مبيناً لحال ذلك الفضل : { يصيب به } أي بذلك الفضل أو بالذي تقدم من الخير والضير { من يشاء } أي كائناً من كان من أدنى وأعلى ، وبين العلة في كونهم مقهورين بقوله : { من عباده } وهذا كله إشارة إلى أن ما أوجب الإعراض عن معبوداتهم بانسلاله عنها أوجب الإقبال عليه بثبوته له واختصاصه به ، وختم الآية بقوله : { وهو الغفور } أي البليغ الستر للذنوب { الرحيم* } أي البالغ في الإكرام إشارة إلى أن إصابته بالخير لا يمكن أن يكون إلا فضلاً منه بعد الستر للذنوب والرحمة للضعف ، فهو الحقيق بأن يعبد؛ والمس : اجتماع التباين من غير نقص ، ونظيره المطابقة ، والمجامعة نقيضها المباينة؛ والكشف : رفع الستار ، جعل الضر كأنه مانع من إدراك الإنسان وساتر له .
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر والنواهي والأجوبة بسبب ما يقترحونه على وجه التعنت ، وختم بأن من دعا غيره كان راسخاً في الظلم لا مجير له منه ، ختم ذلك بجواب معلم بأن فائدة الطاعة ليست راجعة إلا إليهم ، وضرر النفور ليس عائداً إلا عليهم فقال تعالى : { قل يا أيها الناس } أي غاية كل من له قابلية التحرك والاضطراب { قد جاءكم الحق } أي الكامل بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الكتاب ، وذلكم خير عظيم أصابكم الله به ، وزاد الرغبة فيه بقوله : { من ربكم } أي المحسن إليكم { فمن } أي فتسبب عن ذلك أنه من { اهتدى } أي آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعمل بما في الكتاب { فإنما يهتدي لنفسه } أي لأنه تبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجنة { ومن ضل } أي كفر بهما أو بشيء منهما { فإنما يضل عليها } لأنه ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء لأنه فانٍ فقد غر نفسه { وما أنا } ولما كان السياق لنفي تصرفه فيهم وأن ذلك إنما هو إلى الله تعالى ، كان تقديم ضميرهم أهم فقال : { عليكم بوكيل* } فيطلب مني حفظكم مما يؤدي إلى الهلاك ومنعه عنكم كما يطلب من الوكيل .
ولما كان أكثر ذلك وعظاً لهم وتذكيراً ختمه بأمره صلى الله عليه وسلم بما يفعله في خاصة نفسه أجابوا أو لمن يجيبوا ، فقال عطفاً على قوله { قل يا أيها الناس } : { واتبع } أي بجميع جهدك { ما يوحى إليك } وبناه للمفعول لأن ذلك كان بعد أن تقررت عصمته صلى الله عليه وسلم وعلم أن كل ما يأتيه من عند الله ، فكان ذلك أمكن في أمره باتباع كل ما يأتيه منه سبحانه وفي الإيذان بأنه لا ينطق عن الهوى { واصبر } في تبليغ الرسالة على ما أصابك في ذلك من عظيم الضرر وبليغ الخطر من ضلال من لم يهتد وإعراضه وجفوته وأذاه { حتى يحكم الله } أي الملك الأعظم بين من ضل من أمتك ومن اهتدى { وهو } أي وحده { خير الحاكمين } لأنه يوقع الحكم في أولى مواقعه وأحقها وأحسنها وأعدلها ، وهو المطلع على السرائر فاعمل أنت بما تؤمر به وبشر وأنذر وأخبر وادع إلى الله بجميع ما أمرك به واترك المدعوين حتى يأمرك فيهم بأمره؛ قال الزمخشري : وروى أنها لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار قال : « إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني » وتبعه على ذلك أبو حيان وغيره ، فإن صح فالسر فيه - والله أعلم - أنه لما أعلمت هذه الآية أن من اتبع الوحي ابتلى بما ينبغي الصبر عليه وأفهمت أن من كان له أشد اتباعاً كان أشد بلاء ، وكان الأنصار رضي الله عنهم أجمعين أحق بهذا الوصف من غيرهم من حيث إنهم كانوا أول قبيلة جمعها الإيمان ومن حيث كانوا له أسهل قياداً وألين عريكة مع كونهم لم يتقدم لهم عشرة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا خبرة بأحواله توجب لهم من اتباعه ما يوجب لمن كان من بني عمه قريش يخالطه ويأنس به ويرى منه معالي الأخلاق وكريم الشمائل ما يوفر داعيته على اتباعه ، فلما كان ذلك كذلك ، خص النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار رضي الله عنهم لهذا الأمر ، فتفضيلهم في ذلك من الجهتين المذكورتين فلا يتوهم تفضيلهم على المهاجرين بل المهاجرون أفضل لأنهم جمعوا إلى النصرة الهجرة مع أن أكثرهم له من قرب النسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسبق في الإسلام حظ وافر .
هذا ما ظهر لي من مناسبته على تقدير الصحة . والذي في الصحيح عن أنس رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقطع للأنصار من البحرين فقالت الأنصار : حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين مثل الذي تقطع لنا ، وقال : سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني » فهذا فيه أن السبب حرصهم على الإنصاف وهو يدل على أن المنصف يقل إنصاف الناس له وهو أمر مستقرى : والوحي : إلقاء المعنى غلى النفس في خفاء . وهو هنا ما يجيء به الملك إلى النبي عليهما السلام عن الله تعالى فيلقيه إليه على اختصاصه به من غير أن يرى ذلك سواه من الناس؛ والصبر : تجرع مرارة الامتناع من المشتهي إلى الوقت الذي ينبغي فيه تعاطيه ويعين عليه العلم بعاقبته وكثرة الفكر في الخبر الذي ينال به ، واعتياد الصبر في خصلة يسهل الصبر في خصلة أخرى لأن الخير يدعو إلى الخير فتمكن الإنسان في خصلة يصير له ملكة تدعوه إلى ماشاكلها ، وقد ختم سبحانه السورة بما ابتدأها به من أمر الكتاب والإشارة إلى الإرشاد لما ينفع من ثمرة إنزاله وهو العمل بما دل عليه أو أشار إليه إلى أن ينجلي الحكيم الذي انزله للحكم في الدنيا أو في الآخرة بما لا مرد له مما برزت به مواعيده الصادقة في كلماته التامة ، وهذا لعينه هو أول التي بعدها ، فكان ختم هذه السورة وسطاً بين أولها وأول التي تليها ، ففيه رد المقطع على المطلع وتتبع لما استتبع والله الموفق .
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
لما ختمت السورة التي قبلها - كما ترى - بالحث على اتباع الكتاب ولزومه والصبر على ما يتعقب ذلك من مرائر الضير المؤدية إلى مفاوز الخير اعتماداً على المتصف بالجلال والكبرياء والكمال . ابتدئت هذه بوصفه بما يرغب فيه ، فقال بعد الإشارة إلى إعادة القرع بالتحدي على ما سلف في البقرة : { كتاب } أي عظيم جامع لكل خير ، ثم وصفه بقوله : { أحكمت } بناه للمفعول بياناً لأن إحكامه أمر قد فرغ منه على أيسر وجه عنه سبحانه وأتقن إتقاناً لا مزيد عليه { آياته } أي أتقنت إتقاناً لا نقص معه فلا ينقصها الذي أنزلها بنسخها كلها بكتاب آخر ولا غيره ، ولا يستطيع غيره نقص شيء منها ولا الطعن في شيء من بلاغتها أو فصاحتها بشيء يقبل ، والمراد ب { محكمات } في آل عمران عدم التشابه .
ولما كان للتفصيل رتبة هي في غاية العظمة ، أتي بأداة التراخي فقال : { ثم } أي وبعد هذه الرتبة العالية التي لم يشاركه في مجموعها كتاب جعلت له رتبة أعلى منها جداً بحيث لم يشاركه في شيء منها كتاب وذلك أنه { فصلت } أي جعلت لها - مع كونها مفصلة إلى حلال وحرام وقصص وأمثال - فواصل ونهايات تكون بها مفارقة لما بعدها وما قبلها ، يفهم منها علوم جمة ومعارف مهمة وإشارات إلى أحوال عالية ، وموارد عذبة صافية ، ومقامات من كل علة شافية ، كما تفصل القلائد بالفرائد ، وهذا التفصيل لم يشاركه في شيء منه شيء من الكتب السالفة ، بل هي مدمجة إدماجاً لا فواصل لها كما يعرف ذلك من طالعها ، ويكفي في معرفة ذلك ما سقته منها في تضاعيف هذا الكتاب ، وما أنسب ختام هذه الآية للإحكام والتفصيل بقوله : { من لدن } أي نزلت آياته محكمة مفصلة حال كونها مبتدئة من حضرة هي أغرب الحضرات الكائنة من إله { حكيم خبير } منتهية إليك وأنت أعلى الناس في كل وصف فلذلك لا يلحق إحكامها ولا تفصيلها ، أرسلناك به قائلاً : { ألا تعبدوا } أي بوجه من الوجوه { إلا الله } أي الإله الأعظم .
ولما كان هذا معظم ما أرسل به صلى الله عليه وسلم ومداره ، استأنف الإخبار بأنه أرسله سبحانه مؤكداً له لأجل إنكارهم فقال : { إنني } ولما كان إرساله صلى الله عليه وسلم لأجل رحمة العالمين ، قدم ضميرهم فقال : { لكم منه } أي خاصة ، ثم أجمل القرآن كله في وصفيه صلى الله عليه مسلم بقوله : مفدماً ما هو أنسب لختام التي قبلها بالصبر : { نذير وبشير } كامل في كل من الوصفين غاية الكمال ، وهذا التقدير يرشد إليه قوله تعالى أول التي قبلها { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } [ يونس : 2 ] مع إيضاحه لما عطف عليه قوله تعالى :
{ ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه أن } [ هود : 25 ] عطفناه عليه ، وإظهاره لفائدة عطفه كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ويرجح أن « لا » ناهية جازمة ل { تعبدوا } عطف { أن استغفروا } عليه ، فقد ظهر من تلويح هذا وتصريحه وتصريح ما في بقية السورة أن مقصودها وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل بما يعجز الخلق لأنه من عند من هو شامل العلم كامل القدرة فهو بالغ الحكمة يعيد الخلق للجزاء كما بدأهم للعمل فوجب إفراده بالعبادة وأن يمتثل جميع أمره ، ولا يترك شيء منه رجاء إقبال أحد ولا خوف إدباره ، ولا يخشى غيره . ولا يركن إلى سواه ، على ذلك مضى جميع النبيين ودرج سائر المرسلين صلى الله عليه وسلم أجمعين .
ولما تقدم أنه نذير وبشير . أتبع ذلك بما يشمل الأمرين بقوله عطفاً على { ألا تعبدوا } مشيراً إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره : { وأن استغفروا ربكم } أي اطلبوا مع الإخلاص في العبادة أن يغفر لكم المحسن إليكم ما فرطتم فيه؛ وأشار بأداة التراخي إلى علو رتبة التوبة وأن لا سبيل إلى طلب الغفران إلا بها فقال : { ثم توبوا إليه } أي ارجعوا بالظاهر والباطن رجوعاً لا رجعة فيه وإن كان المراد بها الدوام فجليل رتبته غير خفي { يمتعكم } أي يمد في تلذيذكم بالعيش مداً ، من متع النهار : ارتفع ، والضحى : بلغ غايته ، وأمتعه الله بكذا : أبقاه وأنشأه إلى أن يبلغ شبابه؛ ولما ، كان التمتيع - وهو المتاع البالغ فيه حتى لا يكون فيه كدر - لا يكون إلا في الجنة فلذلك جعل المصدر { متاعاً } وأنه وضع موضع « تمتيعاً » ، هذا المصدر ووصفه بقوله : { حسناً } ليدل على أنه أنهى ما يليق بهذه الدار ، ولقد كان ما أوتيه الصحابة رضي الله عنهم في زمن عمر رضي الله عنه من الظفر بالإهداء وسعة الدنيا ورغد العيش كذلك { إلى } أي ممتداً إلى { أجل مسمى } أي في علمه إما بالموت لكل واحد أو بانقضاء ما ضربه من الأجل للنعمة التي أشار إليها { ويؤت كل ذي فضل } أي عمل فاضل { فضله } أي جزاء ما قصد بعمله على وجه التفضيل منه سبحانه فإنه لا يجب لأحد عليه شيء ، وهو مع ذلك على حسب التفضيل : الحسنة بعشرة أمثالها؛ قال ابن مسعود : وهلك من غلبت آحاده عشراته .
ولما انقضى التبشير مجزوماً به ، أتبعه التحذير مخوفاً منه لطفاً بالعباد واستعطافاً لهم فقال : { وإن تولوا } اي تكلفوا أنفسكم ضد ما طبعها الله عليه من سلامة الفطرة وسهولة الانقياد من الإعراض ولو أدنى درجاته بما اشار إليه حذف التاء { فإني أخاف عليكم } أي والعاقل من أبعد عن المخاوف { عذاب يوم كبير* } أي لكبر ما فيه من العذاب ممن قدر على إثباتكم ، وخص اسم الرب تذكيراً بما له من النعم في الإيجاد والإنشاء والتربية؛ ولما كان الاستغفار - وهو طلب الغفران - مطلوباً في نفسه لكنه لا يعتبر إلا إذا قرن بالتوبة ، عطف عليه ب { ثم } إشارة إلى عظيم رتبتها وعلى منزلتها وإن كان المراد بها الدوام عليها فجليل رتبته غير خفي ، وفي التعبير عن العمل بالفضل إشارة إلى أنه لم يقع التكليف إلا بما في الوسع مع أنه من معالي الأخلاق ، لأن الفضل في الأصل ما فضل عن الإنسان وتعانيه من كريم الشمائل ، وما كان كذلك فهو في الذروة من الإحكام ، لأنه منع الفعل من الفساد؛ والحكيم من الحكمة وهي العلم بما يجمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد والنقض ، وبها يميز الحسن من القبيح والفاسد من الصحيح ، وقد أشارت الآية إلى أن الاستغفار والتوبة سبب السعة
{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } [ المائدة : 66 ] وأن الإعراض سبب الضيق ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه » { ويؤت كل ذي فضل فضله } إشارة إلى ثواب الآخرة ، فالتوبة سبب طيب العيش في الدنيا والآخرة .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير في كتابه في مناسبة هذه السورة للتي قبلها . ولما كانت سورة يونس عليه السلام قد تضمنت - من آي التنبيه والتحريك للفطر ومن العظات والتخويف والتهديد والترهيب والترغيب وتقريع المشركين والجاحدين والقطع بهم والإعلام بالجريان على حكم السوابق ووجوب التفويض والتسليم - ما لم تشمل على مثله سورة لتكرر هذه الأغراض فيها ، وسبب تكرر ذلك فيها - والله أعلم - أنها أعقبت بها السبع الطوال ، وقد مر التنبيه على أن سورة الأنعام بها وقع استيفاء بيان حال المتنكبين عن الصراط المستقيم على اختلاط أحوالهم ، ثم استوفت سورة الأنعام ما وقعت الإحالة عليه من أحوال الأمم السالفة كما تقدم وبسطت ما أجمل من أمرهم ، ثم اتبع ذلك بخطاب المستجيبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحذروا وأنذروا ، وكشف عن حال من تلبس بهم من عدوهم من المنافقين ، وتم المقصود من هذا في سورتي الأنفال وبراءة ، ثم عاد الخطاب إلى طريقة الدعاء إلى الله والتحذير من عذابه بعد بسط ما تقدم ، فكان مظنة تأكيد التخويف والترهيب لإتيان ذلك بعد بسط حال وإيضاح أدلة ، فلهذا كانت سورة يونس مضمنة من هذا ما لم يضمن غيرها ، ألا ترى افتتاحها بقوله : { إن ربكم الله } [ يونس : 3 ] الآيات . ومناسبة هذا الافتتاح دعاء الخلق إلى الله في سورة البقرة بقوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] ثم قد نبهوا هنا كما نبهوا هناك فقال تعالى : { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله }
[ يونس : 38 ] ثم تأكدت المواعظ والزواجر والإشارات إلى أحوال المكذبين والمعاندين ، فمن التنبيه { إن ربكم الله } [ يونس : 3 ] ، { هو الذي جعل الشمس } [ سورة يونس ، آية : 5 ] ، { إن في اختلاف الليل والنهار } [ سورة يونس ، آية : 6 ] ، { قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده } [ يونس : 34 ] ، { قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق } [ سورة يونس ، آية : 35 ] ، { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض } [ سورة يونس ، آية : 101 ] - إلى غير هذا ، وعلى هذا السنن تكررت العظات والأغراض المشار إليها في هذه السورة إلى قوله : { يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم } [ سورة يونس ، آية : 108 ] فحصل من سورة الأعراف والأنفال وبراءة ويونس تفصيل ما كان أجمل فيما تقدمها كما حصل مما تقدم تفصيل أحوال السالكين والمتنكبين ، فلما تقرر هذا كله أتبع المجموع بقوله : { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } وتأمل مناسبة الإتيان بهذين الاسمين الكريمين وهما { الحكيم الخبير } ثم تأمل تلاؤم صدر السورة بقوله : { يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم } [ سورة يونس ، آية : 108 ] وقد كان تقدم قوله تعالى : { قد جاءتكم موعظة من ربكم } [ يونس : 57 ] فأتبع قوله : { قد جاءكم الحق من ربكم } بقوله في صدر سورة هود { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } [ هود : 41 ] فكأنه في معرض بيان الحق والموعظة ، وإذا كانت محكمة مفصلة فحق لها أن تكون شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ، وحق توبيخهم في قوله تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } [ يونس : 39 ] والعجب في عمههم مع إحكامه وتفصيله ولكن { الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون } [ يونس : 96 ] وتأمل قوله سبحانه آخر هذه السورة { وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } [ هود : 120 ] ، و { جاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين } [ هود : 120 ] فكل الكتاب حق وموعظة وذكرى ، وإنما الإشارة - والله أعلم - بما أراد إلى ما تقرر الإيماء إليه من كمال بيان الصراط المستقيم وملتزمات متبعيه أخذاً وتركاً ، وذكر أحوال المتنكبين على شتى طرقهم ، واختلاف أهوائهم وغاياتهم وشرُّهم إبليس فإنه متبعهم والقائل لجميعهم في إخبار الله تعالى { إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم } [ إبراهيم : 22 ] وقد بسط من أمره وقصته في البقرة والأعراف ما يسر على المؤمنين الحذر منه وعرفهم به وذكر اليهود والنصارى والمشركون والصابئون والمنافقون وغيرهم ، وفصل مرتكب كل فريق منهم كما استوعب ذكر أهل الصراط المستقيم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وفصل أحوالهم ابتداء وانتهاء والتزاماً وتركاً ما أوضح طريقهم ، وعين حزبهم وفريقهم { أولئك الذين هدى الله } [ الأنعام : 90 ] وذكر أحوال الأمم مع أنبيائهم وأخذ كل من الأمم بذنبه مفصلاً ، وذكر ابتداء الخلق في قصة آدم عليه السلام وحال الملائكة في التسليم والإذعان وذكر فريق الجن من مؤمن وكافر وأمر الآخرة وانتهاء حال الخلائق واستقرارهم الأخروي وتكرير دعاء الخلق إلى الله تعالى طمعاً فيه ورحمة وإعلام الخلق بما هو علبه سبحانه وما يجب له من الصفات العلى والأسماء الحسنى ، ونبه العباد على الاعتبار وعملوا طرق الاستدلال ورغبوا ورهبوا وبشروا وأنذروا وأعلموا بافتقار المخلوقات بجملتها إليه سبحانه كما هو المتفرد بخلقهم إلى ما تخلل ذلك مما يعجز الخلائق عن حصره والإحاطة به
{ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] فما تقدم هذا كله في السبع الطوال وما تلاها . أعقب ذلك بقوله : { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } [ هود : 1 ] ثم أتبع هذا بالإيماء إلى فصول ثلاثة عليها مدار آي كتب ، وهي فصل الإلهية ، وفصل الرسالة ، وفصل التاكليف ، أما الأول فأشار إليه قوله : { ألا تعبدوا إلا الله } [ هود : 2 ] وأما فصل الرسالة فأشار إليه قوله سبحانه : { إنني لكم منه نذير وبشير } [ هود : 2 ] وأما فصل التالكيف فأشار إليه قوله سبحانه { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } [ هود : 3 ] . وهذه الفصول الثلاثة هي التي تدور عليها آي القرآن وعليها مدار السورة الكريمة ، فلما حصل استيفاء ذلك كله فيما تقدم ولم يبق وجه شبهة للمعاند ولا تعلق للجاحد واتضح الحق وبان قال سبحانه وتعالى : { وجاءك في هذه الحق } [ هود : 120 ] إشارة إلى كمال المقصود وبيان المطلوب واستيفاء التعريف بوضوح الطريق وقد وضح من هذا تلاء السورة الكريمة لما تقدمها ، ومما يشهد لهذا - والله أعلم - قوله تعالى : { أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه } [ هود : 17 ] وقوله تعالى : { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا } [ هود : 112 ] فقد وضح طريقك وفاز بالفلاح حزبك وفريقك { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } [ هود : 113 ] فقد عرفتم سبيلهم ومصيرهم فقد بان طريق الحق ، وكيف ينكب من جزم سلوكه من الخلق! ونظيره قوله سبحانه { وجاءك في هذه الحق } [ هود : 120 ] عقب ما ذكر سبحانه { لمن الملك اليوم } [ غافر : 16 ] وقوله : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله } [ الانفطار : 19 ] فتأمل ذلك والله المستعان - انتهى .
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
ولما خوف المنذرون باليوم الكبير كانوا كأنهم قالوا : ما هذا اليوم؟ فكان الجواب : يوم يرجعون إليه ، ولما كانوا ربما حملوا الرجوع على مجرد الموت والصيرورة تراباً ، نبههم على أنه بغير المعنى الذي يتوهمه بل بمعنى إعادتهم كما كانوا فقال : { إلى الله } أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده { مرجعكم } أي رجوعكم ووقته ومكانه لأجل الحساب لا إلى التراب و لا غيره ، وهو بكل شيء عليم ، ومنه بدؤكم لأخذ الزاد للمعاد ، وجعل فاصلة الآية حكماً على المراد فقال : { وهو } أي وحده { على كل شيء } أي ممكن { قدير* } أي بالغ القدرة لأنهم يقرون بقدرته على أشياء هي أعظم من الإعادة ، فهو قادر على الإعادة كما قدر على البداءة ، فالآية من الاحتباك : ذكر المرجع أولاً دليلاً على المبدأ ثانياً ، وتمام القدرة ثانياً دليلاً على تمام العلم أولاً لأنهما متلازمان .
ولما تقدم من التخويف والإطماع ما هو مظنة لإقبالهم ورهبهم على التولي بخصوصه ، فكان موضع أن يقال : هل أقبلوا؟ فقيل : لا قال مبيناً أن التولي باطناً كالتوالي ظاهراً لأن الباطن هو العمدة ، مؤكداً لأنه امر لا يكاد أن يصدق ، والتأكيد أقعد في تبكيتهم : { ألا إنهم } أي الكفار المعاندين { يثنون صدورهم } أي يطوونها وينحرفون عن الحق على غل من غيرِ إقبال لأن من أقبل على الشيء عليه بصدره { ليستخفوا منه } أي يريدون أن يوجدوا إخفاء سرهم على غاية ما يكون من أمره . فإن كان مرادهم بالثني الاستتار من الله تعالى فالأمر في عود الضمير إليه سبحانه واضح ، وإن كان من النبي صلى الله عليه وسلم فالاستخفاء منه استخفاء ممن أرسله ، ثم أعلم أن ذلك غير مغن عنهم لأنه يعلم سرهم وعلنهم في أخفى أحوالهم عندهم ، وهو حين استغشاهم ثيابهم ، فيغطون الوجوه التي تستقر عن بعض ما في القلوب للمتوسمين فقال : { ألا حين يستغشون ثيابهم } أي يوجدون غشيانها أي تغطيتها لرؤوسهم ، لاستخفاء كراهية لسماع كلام الله وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم { يعلم ما يسرون } أي يوقعون إسراره في أيّ وقت كان ومن أيّ نوع كان من غير بطء لتدبر أو تأمل ، ولما لم يكن بين علم السر والعلن ملازمة لاختصاص العلن بما يكون لغيبة أو اختلاف بأصوات ولفظ أو اختلاف لغة ونحو ذلك قال تصريحاً : { وما يعلنون } أي يوقعون إعلانه لا تفاوت في علمه بين إسرار وإعلان ، فلا وجه لاستخفائهم نفاقاً ، فإن سوق نفاقهم غير نافق عنده سبحانه . ثم علله بما هو أدق من ذلك كله مع شموله للنوعين فقال : { إنه عليم } أي بالغ العلم جداً { بذات الصدور* } أي بضمائر قلوبهم التي في دواخل صدورهم التي يثنونها من قبل أن يقع لهم إضمارها ، بل من قبل أن يخلقهم؛ وأصل الثني العطف ، ومنه الاثنان - لعطف أحدهما على الآخر ، والثناء - لعطف المناقب في المدح .
ولهذا لما قال العبد في الفاتحة { الرحمن الرحيم } بعد الحمد قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي - كما في حديث « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين » و الاستثناء - لعطف الثاني على الأول بالاستخراج منه؛ والاستخفاء : طلب خفاء الشيء : ثم أتبع ذلك بما يدل على شمول العلم والقدرة معاً فقال : { وما } وأغرق في العموم بقوله : { من دآبة } ودل على أن الانتفاع بالأموال مخصوص بأهل العالم السفلي بقوله : { في الأرض } أي صغرت أو كبرت { إلا على الله } أي الملك الأعلى الذي ، له الإحاطة وحده لا على غيره { رزقها } أي قوتها وما تنتفع وتعيش به بمقتضى ما أوجبه على نفسه ، تحقيقاً لوصوله وحملاً على التوكل فيه ، لأن الإفصال على كل نفس بما لا تعيش إلا به ولا يلائمها إلا هو مدة حياتها أدق مما مضى في العلم مع تضمنه لتمام القدرة ، والآية مع ذلك ناظرة إلى ترغيب آية { وأن استغفروا ربكم } فالمراد : أخلصوا العبادة له ولا تفتروا عن عبادته للاشتغال بالرزق فإنه ضمنه لكم وهو عالم بكل نفس فلا تخشوا من أنه ينسى أحداً ، وقال : { وفي الأرض } ليعم ما يمشي على وجهها وما في أطباقها من الديدان ونحوها مما لا يعلمه إلا هو ، لقد شاهدت داخل حصاة من شاطىء بحر قبرس شديدة الصلابة كأنها العقيق الأبيض دودة عندها ما تأكل ، وأخبرني الفاضل عز الدين محمد بن أحمد التكروري الكتبي أنه شاهد غير مرة في دواخل حجارة تقطع من جبل مصر الدود عنده ما يأكل من الحشيش الأخضر وما يشرب من الماء؛ ونبه بقوله : { ويعلم مستقرها } أي مكانها الذي تستقر فيه { ومستودعها } أي موضعها الذي تودع فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة او بعده من قبر أو فلاة أو غير ذلك على ما يحيط به علمه من تفاصيل السكنات والحركات ما كان منها وما يكون من كل ذلك مما يحير الفكر ويدهش الألباب ، ثم جعل فاصلة الآية ما هو في غاية العظمة عند الحق وهو { كل } أي من ذلك { في كتاب مبين* } فإنه ليس كل ما يعلمه العبد يقدر على كتابته ولا كل ما يكتبه يكون مبيناً بحيث إنه كلما أراد الكشف منه وجد ما يريده ، وإذا وجده كان مفهماً له؛ والدابة : الحي الذي من شأنه الدبيب؛ والمستقر : الموضع الذي يقر فيه الشيء ، وهو قراره ومكانه الذي يأوي إليه؛ والمستودع : المعنى المجعول في قراره كالولد الذي يكون في البطن والنطفة التي في الظهر ، وقد جعل سبحانه في كتابه ما ذكر حكماً منها ما للملائكة فيه من العبرة عند المقابلة بما يكون من الأمور المكتوبة قبل وجودها .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
ولما كان خلق ما منه الرزق أعظم من خلق الرزق وتوزيعه في شمول العلم والقدرة معاً ، تلاه بقوله : { وهو } أي وحده { الذي خلق } أي أوجد وقدر { السماوات والأرض } وحده لم يشركه في ذلك أحد كما أنتم معترفون { في ستة أيام } ولما كان خلق العرش أعظم من ذلك كله فإن جميع السماوات والأرض بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة . وأعظم من ذلك أن يكون محمولاً على الماء الذي لا يمكن حمله في العادة إلا في وعاء ضابط محكم ، تلاه بقوله : { وكان } أي قبل خلقه لذلك { عرشه } مستعلياً { على الماء } ولا يلزم من ذلك الملاصقة كما أن السماء على الأرض من غير ملاصقة . وقد علم من هذا السياق أنه كان قبل الأرض خلق فثبت أنه وما تحته محمولان بمحض القدرة من غير سبب آخر قريب أو بعيد ، فثبت بذلك أن قدرته في درجات من العظمة لا تتناهى ، وهذا زيادة تفصيل لما ذكر في سورة يونس عليه السلام من أمر العرش لأن هذه السورة التفصيل ونبه بقوله تعالى معلقاً ب « خلق » : { ليبلوكم } أي أنه خلق ذلك كله لكم سكناً كاملاً بمهده وسقفه من أكله وشربه وكل ما تحتاجونه فيه وما يصلحكم وما يفسدكم ومكنكم من جميع ذلك والحكمة في خلق ذلك أنه يعاملكم معاملة المختبر ، ودل على شدة الاهتمام بذلك بسوقه مساق الاستفهام في قوله : { أيكم } أي أيها العباد { أحسن عملاً } على أنه فعل هذه الأفعال الهائلة لأجل هذه الأمور التي هم لها مستهينون وبها مستهزئون ، وعلق فعل البلوى عن جملة الاستفهام لما فيه من معنى العلم لأنه طريق إليه ، روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله عز وجل : أنفق أنفق عليك » ، وقال : « يد الله ملأى لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، وقال : أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده ، وكان عرشه على الماء ، . وبيده الميزان يخفض ويرفع » وفي الآية حث على محاسن الأعمال والترقي دائماً في مراتب الكمال من العلم الذي هو عمل القلب والعمل الظاهر الذي هو وظيفة الأركان .
ولما ثبت - بيده الخلق الذي هم به معترفون - القدرة على إعادته ، وثبت بالابتلاء أنه لا تتم الحكمة في خلق المكلفين إلا باعادتهم ليجازي كلاًّ من المحسن والمسيء بفعاله وأنهم ما خلقوا إلا لذلك . عجب من إنكارهم له وأكده لذلك فقال : { ولئن قلت } أي لهؤلاء الذين ما خلقت هذا الخلق العظيم إلا لابتلائهم { إنكم مبعوثون } أي موجودون ، بعثكم ثابت قطعاً لا بد منه .
ولما كان زمن البعث بعض الزمن قال : { من بعد الموت } الذي هو في غاية الابتداء { ليقولن } أكده دلالة على العلم بالعواقب علماً من أعلام النبوة { الذين كفروا إن } أي ما { هذا } أي القول بالبعث { إلا سحر مبين* } أي شيء مثل السحر تخييل باطل لا حقيقة له أو خداع يصرف الناس عن الانهماك في اللذات للدخول في طاعة الأمر .
ولما كان ما تقدم عنهم من الأفعال ومضى من الأقوال مظنة لمعاجلتهم بالأخذ ، وكان الواقع أنه تعالى يعاملهم بالإمهال فضلاً منه وكرماً ، حكى مقالتهم في مقابلة رحمته لهم فقال : { ولئن أخرنا } أي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء { عنهم } أي الكفار { العذاب } أي المتوعد به { إلى أمة } أي مدة من الزمان ليس فيها كدر { معدودة } أي محصورة الأيام أي قصيرة معلومة عندنا حتى تعد الأنفاس { ليقولن } على سبيل التكرار { ما يحبسه } أي العذاب عن الوقوع استعجلاً له تكذيباً واستهزاء ، وهو تهديد لهم بأنه آتيهم عن قريب فليعتدوا لذلك .
ولما كان العاقل لا ينبغي أن يسأل عن مثل ذلك إلا بعد قدرته على الدفع ، أعرض عن جوابهم وذكر لهم أنهم عاجزون عن دفاعه عند إيقاعه إعلاماً بأنهم عكسوا في السؤال ، وتحقيقاً لأن ما استهزؤوا به لا حق بهم لا محالة ، فقال مؤكداً لشديد إنكارهم : { ألا يوم } وهو منصوب بخبر « ليس » الدال على جواز تقدم الخبر { يأتيهم ليس } أي العذاب { مصروفاً عنهم } أي بوجه من الوجوه؛ وقدم الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التهديد فقال : { وحاق بهم } أي أدركهم إذ ذاك على سبيل الإحاطة { ما كانوا } أي بجبلاتهم وسيىء طبائعهم ، وقدم الظرف إشارة إلى شدة إقبالهم على الهزء به حتى كأنهم لا يهزؤون بغيره فقال : { به } ولما كان استعجالهم استهزاء ، وضع موضع يستعجلون قوله : { يستهزءون } أي يوجدون الهزء به إيجاداً عظيماً حتى كأنهم يطلبون ذلك .
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
ولما كان قولهم ذلك ناشئاً عن طبع الإنسان على الوقوف مع الحالة الراهنة والعمى عن الاستضاءة بنور العقل فيما يزيلها في العاقبة ، بين ذلك ليعلم أن طبعه مناف لما تضمنه مقصود السورة من الإحكام الذي هو ثمرة العلم . وبعلم ذلك يعلم مقدار نعمته على من حفظه على ما فطره عليه من أحسن تقويم بقوله مؤكداً لأن كل أحد ينكر أن يكون طبعه كذلك : { ولئن أذقنا } أي بما لنا من العظمة { الإنسان } أي هذا النوع المستأنس بنفسه؛ ولما كان من أقبح الخلال استملاك المستعار . وكانت النعم عواري من الله يمنحها من شاء من عباده ، قدم الصلة دليلاً على العارية فقال : { منا رحمة } أي نعمة فضلاً منا عليه لا بحوله ولا بقوته من جهة لا يرجوها بما دلت عليه أداة الشك ومكناه من التلذذ بها تمكين الذائق من المذوق { ثم نزعناها } أي بما لنا من العظمة وإن كره ذلك { منه } أخذاً لحقنا { إنه ليئوس } أي شديد اليأس من أن يعود له مثلها { كفور* } أي عظيم الستر لما سلفه له من الإكرام لأن شأنه ذلك وخلقه إلا من رحم ربك { ولئن أذقناه نعماء } من فضلنا .
ولما كان استملاكه العارية طبعاً له ، لا ينفك عنه إلا بمعونة شديد من الله . دل عليه بما أفهم أنه لو كان طول عمره في الضر ثم نال حالة يرضاها عقب زمن الضر سواء بادر إلى اعتقاد أنها هي الحالة الأصلية له وأنها لا تفارقه أصلاً ولا يشوبها نوع ضرر ولا يخالط صفوها شيء من كدر . فقال دالاًّ على اتصال زمن الضر بالقول بنزع الخافض من الظرف : { بعد ضراء } أي فقر شديد مضر ببدنه ، ولم يسند المس إليه سبحانه كما فعل في النعماء تعليماً للأدب فقال : { مسته } أي بما كسبت يداه { ليقولن } مع قرب عهده بالضراء خفة وطيشاً { ذهب السيِّئات } أي كل ما يسوءني { عني } وقوله { إنه } الضمير فيه للإنسان ، المعنى أن الإنسان . فهي كلية مشهورة بمستغرق ، أي أن كل إنسان { لفرح فخور } أي خارج عن الحد في فرحه شديد الإفراط في فخره على غيره بكل نعمة تفضل الله عليه بها . لا يملك ضر نفسه ومنعها من ذلك فلذا اتصل بها قوله مستثنياً من الإنسان المراد به اسم الجنس : { إلا الذين صبروا } في وقت الشدائد وزوال النعم رجاء لمولاهم وحسن ظن به بسبب إيمانهم الموجب لتقيدهم بالشرع { وعملوا الصالحات } أي من أقوال الشكر وأفعاله عند حلول النعم ، فهم دائماً مشغولون بمولاهم شكراً وصبراً ، وهم الذين أتم عليهم سبحانه نعمه ، وخلقهم في أحسن تقويم . وهم أقل من القليل لعظيم جهادهم لنفوسهم فيما جبلت عليه من الحظوظ والشهوات وغيرها وشياطينهم .
ولما كان كأنه قيل : فما لهم لم يكونوا كذلك! أنتج السياق مدحهم فقال : { أولئك } أي العالو المراتب { لهم مغفرة } إذا وقعت منهم هفوة { وأجر كبير* } على صبرهم وشكرهم؛ والذوق : تناول الشيء بالفم لإدراك الطعم كما أن الشم ملابسة الشيء الأنف لإدراك الرائحة؛ والنزع : رفع الشيء عن غيره مما كان مشابكاً له كالقلع والقشط؛ واليأس : القطع بأن الشيء لا يكون ، وهو ضد الرجاء ، ويؤوس : كثير اليأس ، وهو ذم لأنه للجهل بسعة الرحمة الموجبة لقوة الأمل في كل ما يجوز في الحكمة فعله؛ والنعماء : إنعام يظهر أثره على صاحبه ، كما أن الضراء مضرة تظهر الحال بها ، لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة من حمراء وعوراء مع ما في مفهومها من المبالغة؛ والسيئة : ما يسوء من جهة نفور طبع أو عقل ، وهي هنا المرض والفقر ونحوه؛ والفرح : انفتاح القلب بما يلتذ به؛ وعبارة البغوي : هو لذة في القلب بنيل المشتهى وهو أعظم من ملاذ الحواس؛ والفخر : التطاول بتعديد المناقب؛ والصبر : حبس النفس عن المشتهى من المحارم ونحوها ، والصبر على مر الحق يؤدي إلى الفوز في الآخرة مع ما فيه من جمال في الدنيا؛ والكبير واحد يقصر مقدار غيره عنه؛ والكثير : جمع يزيد على عدد غيره .
ولما استثنى سبحانه من الجارين مع الطبع الطائشين في الهوى من تحلى برزانة الصبر الناشىء عن وقار العلم المثمر لصالح العمل ، وكان صلى الله عليه وسلم رأس الصابرين ، وكان ما مضى من أقوالهم وأفعالهم مثل قولهم { ما يحبسه } وتثنيهم صدورهم أسباباً لضيق صدره صلى الله عليه وسلم ، فربما كانت مظنة لرجائهم تركه صلى الله عليه وسلم بعض ما يوحى إليه من عيب آلهتهم وتضليل آبائهم وتسفيه أحلامهم ، وغير ذلك مما يشق عليهم طمعاً في إقبالهم أو خوفاً من إدبارهم فإنهم كانوا يقولون : ما نراه يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكرنا به من الشر ، قال تعالى مسبباً عن ذلك ناهياً في صيغة الخبر : { فلعلك تارك } أي إشفاقاً أو طمعاً { بعض ما } ولما كان الموحى قد صار معلوماً لهم وإن نازعوا فيه بنى للمفعول قوله : { يوحى إليك } كالإنذار وتسفيه أحلام آبائهم { وضآئق به } أي بذلك البعض { صدرك } مخافة ردهم له إذا بلغته لهم؛ ثم علل ذلك بقوله : { أن } أي مخافة أو لأجل أن { يقولوا } تعنتاً ومغالبة إذ لو كانوا مسترشدين لكفتهم آية واحدة { لولا } أي هلا ولم لا { أنزل عليه كنز } يستغني به ويتفرغ لما يريد ، وبنوه للمفعول لأن المقصود مطلق حصوله وكانوا يتهاونون بالقرآن لعلمهم أنه الآية العظمى فكانوا لا يعدونه آية عناداً ومكابرة { أو جاء معه ملك } أي ليؤيد كلامه وليشهد له ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بمثل أقوالهم هذه ويثقل عليه أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه فحركه الله بهذا لأداء الرسالة كائناً فيها ما كان ، فكان المعنى : فإذا تقرر أن الإنسان مطبوع على نحو هذا من التقلبات ، فلا تكن موضع رجائهم في أن تكون تاركاً ما يغيظهم مما نأمرك به ، بل كن من الصابرين؛ قال أهل السير : فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه إلا من عصمه الله؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أم المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا .
ولما أفهم هذا السياق الإنكار لما يفتر عن الإنذار ، كان كأنه قيل له : هذا الرجاء المرجو منكر ، والمقصود الأعظم من الرسالة النذارة لأنها هي الشاقة على النفوس ، وأما البشارة فكل من قام يقدر على إبلاغها فلذا قال : { إنما أنت نذير } فبلغهم ما أرسلت به فيقولون لك ما يقدره الله لهم فلا يهمنك فليس عليك إلا البلاغ وما أنت عليهم بوكيل تتوصل إلى ردهم إلى الطاعة بالقهر والغلبة بل الوكيل الله الفاعل لما يشاء { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة .
ولما كان السياق لإحاطته سبحانه ، قدم قوله : { على كل شيء } منهم ومن غيرهم ومن قبولهم وردهم ومن حفظك منهم ومن غيره { وكيل* } فهو يدبر الأمور على ما يعلمه من الحكم ، فإنشاء جاء بما سألوا وإن لم يشأ لم يأت به ولا اعتراض عليه فتوكل عليه في كل أمر وإن صعب ، ولعله اقتصر على النذارة لأن المقام يقتضيها من أجل أنهم أهل لها وأنها هي التي يطعمون في تركها بإطماعهم في المؤالفة بالإعراض عما يوجب المخالفة؛ والصدر : مسكن القلب ، يشبه به رئيس القوم والعالي المجلس لشرف منزلته على غيره من الناس؛ والكنز : المدفون ، وقد صار في الدين صفة ذم لكل مال لم يخرج منه الواجب من الزكاة وإن لم يكن مدفوناً ، والآية من الاحتباك : نفي أولاً قدرته صلى الله عليه وسلم على الإتيان بما سألوا دليلاً على قدرة مرسله على ذلك وغيره ثانياً . وأثبت الوكالة ثانياً دليلاً على نفيها أولاً .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
ولما كانوا ذوو الهمم العوال ، لا يصوبون إلى الكنوز والأموال ، وكان الملك إنما يراد لتطييب النفس بتثبيت الأمر . وكان فيما يشهد به إعجاز القرآن ببديع نظمه وباهر حكمه وحكمه وزاجر غرائبه ووافر علمه ما يغني عن ذلك ، وكان في كل آية منه ما يبين للفهم سفساف قدحهم في الرسالة ، كان موضع الإنكار له ، فكان كأنه قيل : أيقولون ذلك تعنتاً منهم واقتراحاً وإعراضاً عن معجز القرآن فأعرض عنه فإنه لا يضر في وجه الدليل { أم يقولون } أي مكررين { افتراه } فكان ذلك موضع أن يقال : نعم ، إنهم ليقولون ذلك فيقدحون في الدليل فماذا يقال لهم؟ فقيل : { قل } أي لهم على سبيل التنزل { فأتوا } يا معاشر العرب فإنكم مثلي في العربية واللسان والمولد والزمن وفيكم من يزيد عليَّ بالكتابة والقراءة ومخالطة العلماء والتعلم من الحكماء ونظم الشعر واصطناع الخطب والنثر وتكلف الأمثال وكل ما يكسب الشرف والفخر { بعشر سور } أي قطع ، كل قطعة منها تحيط بمعنى تام يستدل فيها عليه { مثله } أي تكون العشر مثل جميع القرآن في طوله وفي مثل احتوائه على أساليب البلاغة وأفانين العذوبة والمتانة والفحولة والرشاقة حال كونها { مفتريات } أي أنكم قد عجزتم عن الإتيان بسورة أي قطعة واحدة آية أو آيات من مثله فيما هو عليه من البلاغة والإخبار بالمغيبات والحكم والأحكام والوعد والوعيد والأمثال وادعيتم مكابرة أنه مفترى فارغ عن الحكم فأتوا بعشر مثله في مجرد البلاغة غير ملزمين بحقائق المعاني وصحة المباني - ذكره البغوي عن المبرد ، وقد مضى في البقرة عند { فأتوا بسورة من مثله } عن الجاحظ وغيره ما يؤيده؛ قال أبو حيان : وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولاً بأن يفعل أمثالاً مما يفعل هو ، ثم إذا تبين عجزه قال : افعل مثلاً واحداً - انتهى . فكأنهم تحدوا أولاً بجميع القرآن في مثل قوله : { فليأتوا بحديث مثله } [ الطور : 34 ] أي في التحتم والتطبيق على الوقائع وما يحدث ويتجدد شيئاً في إثر شيء ثم قطع بعد عجزهم بدوام عجزهم في قوله تعالى : { قل لو اجتمعت الإنس والجن } [ الإسراء : 88 ] تبكيتاً لهم وإخزاء وبعثاً على ذلك وإغراء ، ثم تحدوا في سورة يونس عليه السلام بسورة واحدة مثل جميع القرآن غير معتنين فيها بالتفصيل إلى السور تخفيفاً عليهم واستهانة بأمرهم ، فلما عجزوا تحدوا بعشر مفتراه ، ولما خفف عنهم التقيد بصدق المعنى وحقيقة المباني ، ألزمهم بما خففه عنهم في يونس من التفصيل ولم يخلهم من التخفيف إشارة إلى هوان أمرهم واحتقار شأنهم بأن جعلها إلى عشر فقط ، فلما عجزوا أعيد في المدينة الشريفة لأجل أهل الكتاب تحديهم بسورة ، أي قطعة واحدة مقروناً ذلك بالإخبار بدوام عجزهم عن ذلك في قوله تعالى في البقرة
{ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } [ البقرة : 24 ] ، فالمتحدى به في كل سورة غير المتحدى به في الأخرى ، وقد مضى في يونس والبقرة ويأتي في سبحان والطور إنشاء الله تعالى ما يتم به فهم هذا المقام ، والبلاغة ثلاث طبقات فأعلاها معجز ، وأوسطها وأدناها ممكن ، والتحدي وقع بالعليا ، وليس هذا أمراً بالافتراء لأنه تحدّ فهو للتعجيز وقوله : { وادعوا من استطعتم } أي طلبتم أن يطيعكم ففعل ، ولما كانت الرتب كلها تحت رتبته تعالى والعرب مقرة بذلك قال : { من دون الله } أي الملك الأعلى . وأشار إلى عجزهم بقوله : { إن كنتم صادقين* } وفي ذلك زيادة بيان وتثبيت للدليل ، فإن كل ظهير من سواهم دونهم في البلاغة ، فعجزهم عجز لغيرهم بطريق الأولى .
ولما كان أدنى درجات الافتراء إتيان الإنسان بكلام غيره من غير علمه ، وكان عجزهم عن المعارضة دليلاً قاطعاً على أنهم لم يصلوا إلى شيء من كلامه تعالى بغير علمه ولا وجدوا مكافئاً له يأتيهم بمثله ثبت قطعاً أن هذا القرآن غير مفترى ، فقال تعالى مخاطباً للجميع بخلاف ما في القصص إشارة إلى وضوح الأمر لا سيما في الافتراء عند كل أحد وأن المشركين قد وصلوا من ذل التبكيت بالتحدي مرة بعد مرة وزورهم لأنفسهم في ذلك المضمار كرة في أثر كرة إلى حد من العجز لا يقدرون معه على النطق في ذلك ببنت شفة : { فإن لم يستجيبوا لكم } أي يطلبوا إجابتكم ويوجدوها { فاعلموا } أيها الناس كافة { أنما أنزل } أي ما وقع إنزال هذا القرآن خاصة إلا ملتبساً { بعلم الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بمقتضى أن محمداً واحد منهم تمع العادة أن يعثر دون جميع أهل الأرض على ما لم يأذن فيه ربه من كلامه فضلاً عن أن يكون مخترعاً له ، ويجوز أن يكون ضمير { يستجيبوا } ل « من » { من استطعتم } و { لكم } للمشركين ، وكذا في قوله : فاعلموا و { أنتم } { وأن } أي واعلموا أن { لا إله إلا هو } فإنه لو كان معه إله آخر لكافأة في الإتيان بمثل كلامه وفيه تهديد وإقناط من أن يجيرهم من بأس الله آلهتهم .
ولما كان هذا دليلاً قطعياً على ثبوت القرآن ، سبب عنه قوله مرغباً مرهباً : { فهل أنتم مسلمون* } أي منقادون أتم انقياد .
ولما كان في هذا من الحث على الثبات على الإسلام والدخول فيه والوعيد على التقاعس عنه ما من حق السامع أن يبادر إليه ، وكان حق المسلم الإعراض عن الدنيا لسوء عاقبتها ، وكان أعظم الموانع للمشركين من التصديق اسستيلاء أحوال الدنيا عليهم ، ولذلك تعنتوا بالكنز ، أشار إلى عواقب ذلك بقوله : { من كان يريد } أي بقصده وأعماله من الإحسان إلى الناس وغيره { الحياة الدنيا } أي ورضي بها مع دناءتها من الآخرة على علوها وشرفها { وزينتها } فأخلد إليها لحضورها ونسي ما يوجب الإعراض عنها من فنائها وكدرها { نوف } موصلين { إليهم أعمالهم } أي جزاءها { فيها } أي الدنيا بالجاه والمال ونحو ذلك { وهم فيها } أي في الأعمال أو الدنيا { لا يبخسون* } أي لا ينقص شيء من جزائهم فيها ، وأما أبدانهم وأرواحهم وأديانهم فكلها بخس في الدارين معاً ، وفي الجملتين بيان سبب حبس العذاب عنهم في مدة إمهالهم مع سوء أعمالهم .
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
ولما بين حالهم في الدنيا ، بين حالهم في الأخرى مشيراً بأداة البعد إلى أنهم أهل البعد واللعنة والطرد في قوله نتيجة لما قبله : { أولئك } أي البعداء البغضاء { الذين ليس لهم } أي شيء من الأشياء { في الآخرة إلا النار } أي لسوء أعمالهم واستيفائهم جزاءها في الدنيا { وحبط } أي بطل وفسد { ما صنعوا فيها } أي مصنوعهم أو صنعهم أي لبنائه على غير أساس؛ ولما كان تقييد الحبوط بالآخرة ربما أوهم أنه شيء في نفسه قال : { وباطل } أي ثابت البطلان في كل من الدارين { ما كانوا يعملون* } أي معمولهم أو عملهم وإن دأبوا فيه دأب من هو مطبوع عليه لأنه صورة لا معنى لها لبنائه على غير أساس؛ والزينة : تحسين الشيء بغيره من لبسه أو حلية أو هيئة؛ والتوفية : تأدية الحق على تمام؛ وحبوط العمل : بطلانه ، من قولهم : حبط بطنه - إذا فسد بالمأكل الرديء .
ولما اتضحت الحجج وانتهضت الدلائل فأغرقتهم عوالي اللجج ، كان ذلك موضع الإنكار على من يسوي بين المهتدي والمعتدي ، فكيف يفضل إما باعتبار النظر إلى الرئاسة الدنيوية غفلة من حقائق الأمور أو عناداً كمن قال من اليهود للمشركين : أنتم أهدى منهم ، فقال : { أفمن كان على بينة } أي برهان وحجة { من ربه } بما آتاه من نور البصيرة وصفاء العقل فهو يريد الآخرة ويبني أفعاله على أساس ثابت { ويتلوه } أي ويتبع هذه البينة { شاهد } هو القرآن { منه } أي من ربه ، أو تأيد ذلك البرهان برسالة رسول عربي بكلام معجز وكان { من قبله } أي هذا الشاهد مؤيداً له { كتاب موسى } أي شاهد أيضاً وهو التوارة حال كونه { إماماً } يحق الاقتداء به { ورحمة } أي لكل من اتبعه .
ولما كان الجواب ظاهراً حذفه ، وتقديره - والله أعلم : كمن هو على الضلالة فهو يريد الدنيا فهو يفعل من المكارم ما ليس مبنياً على أساس صحيح ، فيكون في دار البقاء والسعادة هباء منثوراً؛ ولما كان هذا الذي على البينة عظيماً ، ولم يكن يراد به واحداً بعينه ، استأنف البيان لعلو مقامه بأداة الجمع بشارة لهذا النبي الكريم بكثرة أمته فقال : { أولئك } أي العالو الرتبة بكونهم على هدى من ربهم وتأيد هداهم بشاهد من قبله وشاهد من بعده مصدق له { يؤمنون به } أي بهذا القرآن الذي هو الشاهد ولا ينسبون الآتي به إلى أنه افتراه { ومن يكفر به } أي بهذا الشاهد { من الأحزاب } من جميع الفرق وأهل الملل سواء ، سوى بين الفريقين جهلاً أو عناداً { فالنار موعده } أي وعيده وموضع وعيده يصلى سعيرها ويقاسي زمهريرها .
ولما عم بوعيد النار ، اشتد تشوف النفس لما سبب عنه فقرب إزالة ما حملت من ذلك بالإيجاز ، فاقتضى الأمر حذف نون « تَكن » فقيل : { فلا تكُ } أي أيها المخاطب الأعظم { في مرية } أي شك عظيم ووهم { منه } أي من القرآن ولا يضيق صدرك عن إبلاغه ، أو من الوعد الذي هو النار والخيبة وإن أنعمنا على المتوعد بذلك ونعمناه في الدنيا؛ ثم علل النهي بقوله : { إنه } القرآن أو الموعد { الحق } أي الكامل ، وزاد في الترغيب فيه بقوله : { من ربك } أي المحسن إليك بانزاله عليك .
ولما كان كونه حقاً سبباً يعلق الأمل بإيمان كل من سمعه ، قال : { ولكن أكثر الناس } أي الذين هم في حيز الاضطراب { لا يؤمنون } بأنه حق لا لكون الريب يتطرق إليه بل لما على قلوبهم من الرين ويؤولون إليه من العذاب المعد لهم ممن لا يبدل القول لديه ولا ينسب الظلم إليه ، والقصد بهذا الاستفهام الحث على ما حث عليه الاستفهام في قوله { فهل أنتم مسلمون } من الإقبال على الدين الحق على وجه مبين لسخافة عقول الممترين وركاكة آرائهم .
ولما كان الكافرون قد كذبوا على الله بما أحدثوه من الدين من غير دليل وما نسبوا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الافتراء ، أتبع ذلك سبحانه قوله : { ومن أظلم } أي لا أحد أظلم { ممن افترى } أي تعمد أن اختلق متكبراً { على الله } أي الملك الأعظم { كذباً } الآية ، وهو موضع ضمير لو أتى به لقيل : لا يؤمنون ظلماً منهم ، ومن أظلم منهم أي هم أظلم الظالمين ، فأتى بهذا الظاهر بياناً لما كفروا به لأنه إذا علق الحكم بالوصف دل على أنه علته .
ولما بين أنهم أظلم ، أتبعه جزاءهم بقوله استئنافاً : { أولئك } المستحقو البعد؛ ولما كان نفس العرض مخوفاً ، بنى للمجهول قوله : { يعرضون } أي لذلك ولدلالة على أنهم على صفة الهوان ومستسلمون لكل عارض ، فعرضهم في غاية السهولة { على ربهم } أي الذي أحسن إليهم فلم يشكروه ، العالم بالخفايا فيفتضحون بين يديه بما قابلوا به إحسانه من اللوم { ويقول } على سبيل التكرار { الأشهاد } وهم الذين آمنوا بالكتب الشاهد بعضها لبعض المشار إليه بقوله { ويتلوه شاهد منه } والملائكة الذين شهدوا أعمالهم ومن أعضائهم حين يختم على أفواههم { هؤلاء } إشارة بأداة القرب إلى تحقيرهم { الذين كذبوا } متكبرين { على ربهم } في ادعاء الشريك والولد والتحليل والتحريم وغير ذلك بما عراهم من إحسانه وطول حلمه ، وفي الإتيان بصفة الربوبية غاية التشنيع عليهم ، فتكررت بهذا القول فضيحتهم عند جنسهم وبعدهم عن كل من سمع هذا الكلام لأنه لا أبعد عن القلوب من الكاذب فكيف بالمجترىء بالكذب على الرؤساء فكيف بملك الملوك الذي رباهم وكل من أهل الموقف مرتقب برّه خائف من انتقامه ، وكأنه قيل : فما لهم بعد هذا العذاب العظيم بهذه الفضيحة؟ فقيل : { ألا لعنة الله } وهي طرد الملك الأعظم وإبعاده ، وانظر إلى تهويل الأمر باسم الذات ما أشده { على الظالمين } فكيف بأظلم الظالمين ، ثم فصل ظلمهم بقوله : { الذين يصدون } أي يعرضون في أنفسهم ويمنعون غيرهم { عن سبيل } أي دين { الله } أي الملك الذي له الكمال كله مع أنه الولي الحميد { ويبغونها } أي يريدون بطريق الدين الواسعة السهلة { عوجاً } بإلقاء الشبهات والطعن في الدلائل مع كونها في غاية الاستقامة .
ولما كان النظر شديداً إلى بيان كذبهم وتكذيبهم ، بولغ في تأكيد قوله : { وهم } أي بضمائرهم وظواهرهم؛ ولما كان تكذيبهم بالآخرة شديداً ، قدم قوله : { بالآخرة } وأعاد الضمير تأكيداً لتعيينهم وإثبات غاية الفساد لبواطنهم واختصاصهم بمزيد الكفر فقال : { هم كافرون } أي عريقون في هذا الوصف؛ والعرض : إظهار الشيء بحيث يرى للتوقيف على حالة ، والصد : المنع بالإغراء الصارف عن الأمر؛ والبغية : طلب أمر من الأمور ، وهي إرادة وجدان المعنى بما يطمه فيه؛ والعوج : العدول عن طريق الصواب ، وهو في المعنى كالدين بالكسر ، وفي غيره كالعود بالفتح فرقاً بين ما يرى وما لا يرى ، جعلوا السهل للسهل والصعب للصعب؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في النجوى : « يدنى المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقرره بذنوبه : تعرف ذنب كذا؟ يقول : أعرف رب أعرف - مرتين ، ويقول : سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم ، ثم يطوي صحيفة حسناته ، وأما الآخرون أو الكفار فينادي على رؤوس الأشهاد { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } » .
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
ولما هددهم بأمور الآخرة ، أشار إلى بيان قدرته على ذلك في الدارين بقوله : { أولئك } أي البعداء عن حضرة الرحمة { لم يكونوا } أي بوجه من الوجوه { معجزين } وأشار إلى عجزهم بأنهم لا يقدرون على بلوغ العالم العلوي بقوله : { في الأرض } أي ما كان الإعجاز - وهو الامتناع من مراد الله - لهم ولا هو في قدرتهم ، لأن قدره على جميع الممكنات على حد سواء .
ولما نفى التعذر بأنفسهم ، نفاه من جهة غيرهم فقال : { وما كان لهم } ولما كانت الرتب التي هي دون عظمته سبحانه متكاثرة جداً ، بين أنهم معزولون عن كل منها بإثبات الجار فقال : { من دون الله } أي الملك الأعظم ، وأغرق في النفي بقوله : { من أوليآء } أي يفعلون معهم ما يفعل القريب من تولي المصالح والحماية من المصائب ، ومن لم يقدر على الامتناع وهو حي لم يمتنع بعد موته فكأنه قيل : ماذا يفعل بهم؟ فقيل : { يضاعف } أي يفعل فيه فعل من يناظر آخر في الزيادة ، وبناه للمفعول لأن المرجع وجود المضاعفة مطلقاً { لهم العذاب } أي بما كانوا يضاعفون المعاصي؛ ثم علل سبب المضاعفة بأنه خلق لهم سمعاً وبصراً فضيعوهما بتصامّهم عن الحق وتعاميهم عنه ، فكأن لا فرق بينهم وبين فاقدهما فقال : { ما كانوا } أي بما لهم من فساد الجبلات { يستطيعون السمع } أي يقدرون لما غلب على فطرهم الأولى السليمة بانقيادهم للهوى من التخلق بنقائص الشهوات على أن توجد طاعته لهم فما كانوا يسمعون { وما كانوا } يستطيعون ، الإبصار فما كانوا { يبصرون } حتى يعرضوا عن الشهوات فتوجد استطاعتهم للسمع والإبصار ، وهو كناية عن عدم قبولهم للحق وأن شدة إعراضهم عنه وصلت إلى حد صارت فيه توصف بعدم الاستطاعة كما يقول الإنسان لما تشتد كراهته له : هذا مما لا أستطيع أن أسمعه ، وتكون المضاعفة بالكفر والصد ، ونفي الاستطاعة أعرق في العيب وأدل على النقص وأنكأ من نفي السمع لأنهم قد يحملونه على الإجابة ، وأما نفي البصر فغير منفك عن النقص سواء كان للعين أو للقلب ، هذا إن لم تخرج الآية على الاحتباك ، وإن خرجت عليه استوى الأمران ، وصار نفي الاستطاعة أولاً دالاًّ على نفيها ثانياً ، ونفي الإبصار يدل على نفي السمع أولاً .
ولما ثبت أنهم لا سمع ولا بصر ، ثبت أنهم لا شيء فقال : { أولئك } أي البعداء البغضاء { الذين خسروآ أنفسهم } أي بتضييع الفطرة الأولى التي هي سهولة الانقياد للخير وصعوبة الانقياد للشر؛ ولما كان العاجز ربما نفعه من كان يخدمه فيكسبه قوة بعد الضعف ونشاطاً بعد العجز ، نفى ذلك بقوله عائداً إلى نفي النفع ممن عذرهم أولاً على أحسن وجه : { وضل عنهم ما كانوا } أي كوناً جبلوا عليه فصاروا لا ينفكون عنه { يفترون } أي يتعمدون كذبه مما ادعوا كونهم آلهة ، ولا شك أن من خسر نفسه ومن خسرها من أجله بادعاء أنه شريك لخالقه ونحو ذلك كان أخسر الناس ، فلذلك قال : { لا جرم } أي لا شك { أنهم } أي هؤلاء الذي بالغوا في إنكار الآخرة { في الآخرة } ولما كان المقام جديراً بالمبالغة في وصفهم بالخسارة ، أعاد الضمير فقال : { هم } أي خاصة { الأخسرون } أي الأكثرون خسراناً من كل من يمكن وصفه بالخسران؛ والإعجاز : الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه؛ والمضاعفة : الزيادة على المقدار بمثله أو أكثر؛ والاستطاعة : قوة ينطاع بها الجوارح للفعل؛ وأما « لا جرم » فقد اضطرب علماء العربية في تفسيرها ، قال الرضي في شرح الحاجبية والبرهان السفاقسي في إعرابه ما حاصله : والغالب بعد { لا جرم } الفتح ، أي في { أن } ، ف { لا } إما رد الكلام السابق - على ما هو مذهب الخليل - أو زائدة كما في { لا أقسم } لأن في جرم معنى القسم ، وهي فعل ماض عند سيبويه والخليل مركبة مع « لا » ، وجعلها سيبويه فعلاً بمعنى حق ، ف « أن » « فاعله » ، وقيل : « جرم » بمعنى حق ، وهو اسم لا و « أنهم » خبره؛ وقال الكسائي معناها : لا صد ولا منع؛ وعن الزجاج أنها غير مركبة ، ولا نفي لما قيل من أن لهم أصناماً تنفعهم ، وجرم - فعل ماض بمعنى كسب وفاعله مضمر معبر به عن فعلهم ، و { أنهم } مفعولة؛ وقال الفراهي : كلمة كانت في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة ، لأنه يروي عن العرب « لا جرم » - يعني بضم ثم سكون ، والفعل - يعني هكذا ، والفعل - يعني محركاً ، يشتركان في المصادر كالرشد والرعد والبخل؛ والجرم : القطع ، أي لا قطع من هذا كما أنه لا بد بمعنى لا قطع ، فكثرت وجرت على ذلك حتى صارت بمعنى القسم ، فلذلك يجاب بما يجاب به القسم ، فيقال : لا جرم لآتينك ، ولا جرم أنك قائم ، فمن فتح فللنظر إلى أصل { لا جرم } كما نقول : لا بد أن نفعل كذا وأنك تفعل ، أي من أن ومن أنك تفعل ، ومن كسر فلمعنى القسم العارض في { لا جرم } - انتهى .
فتفسيره لها بالقطع نظر منه إلى أن مادة « جرم » بخصوصها دائرة على القطع ، والأصنع تفسيرها بالظن نظراً إلى ما تدور عليه المادة من حيث هي - بأي ترتيب كان - من جرم وجمر ورجم ورمج ومجر ومرج ، وإنما جعلتها كذلك لأنهم قالوا جرم النخل : خرصها ، وأجمر النخل أيضاً : خرصها ، ورجم - إذا ظن ، والمجر : العقل ، ويلزم الظن اتقاد الذهن ومنه جمرة النار ، والجرم - للأرض الشديدة الجر ، ويلزم الظن أيضاً اجتماع الفكر ، ومنه الجمرة للقلبية وكل ما شاكلها في الجمع ، ومنه الجرم بالكسر وهو الجسد فإنه بالنظر إلى جميعه ، والصوت أو جهارته فإنه يجمع فيه الحلق لقطعه ، ويلزم الاجتماع أيضاً العظمة ، ومنه أجرم - إذا عظم ، والجمير كأمير : مجتمع القوم ، ومن الجمع الرياء والعقل ، فينشأ منه الصفاء ، ومنه { مارج من نار } أي لا دخان فيه ، ومنه أجرم لونه : صفا ، ومن الاجتماع المجر - بالتحريك ، وهو أن يملأ بطنه من الماء ولم يرو ، والكسب ، جرم لأهله - إذا كسب ، ومنه الذنب فإنه كسب خاص ، ويمكن أن يكون من القطع لأنه يقطع صاحبه عن الخير ، ويلزم الاجتماع أيضاً الاستتار ومنه أجمرت الليلة - استتر فيها الهلال ، والمجر لما في بطون الحوامل من الإبل والغنم ، أو يجعل هذا مما يلزم نفس الظن من الخفاء ، ومن الاجتماع الضمور ، أجمر الخيل : أضمرها ، وشاة مجمرة : مهزولة ، ويلزم الاجتماع الصلابة والتمام ، ومنه حول مجرم كمعظم : تام ، فينشأ الافتراق ، ومنه تجرم الليل : ذهب ، وابنا جمير كأمير : الليل والنهار ، أو يكون ذلك من لوازم القطع كما يأتي؛ ومن الاجتماع الرجم الذي هو الخليل والنديم ، ويلزم الظن الفصل بين الأشياء ، ومنه جرام النخل لصرامها؛ والجمرة : الحصاة ، فيلزم مطلق الرمي فينشأ الرمي بالجمار ، وهي الحجارة فينشأ القتل للمرجوم ، وهو يرجع أيضاً إلى نفس القطع ، فإنه قطع النفس عما كانت عليه ، ويلزم الفصل القذف والعيب؛ والرماج كسحاب : كعوب الرمح لانفصال بعضها عن بعض ، والرمج بالفتح وهو إلقاء الطير ذرقه ، ويلزم الظن المبالغة في النظر فتأتي المبالغة في الكلام والعزيمة ، ومنه المرجام للماد عنقه في السير من الإبل ، وأجمر : أسرع في السير ، وقد يلزم الظن الحيرة ، ومنه حديث مرجم كمعظم : لا يوقف على حقيقته ، فيلزم حينئذٍ الذنب والفساد والقلق والاضطراب ، ومنه أمرج العهد : لم يف به ، أي جعله مارجاً مزلزلاً ، وعلى الاضطراب تدور مادة « مرج » بخصوص هذا الترتيب ، أو الترميج : إفساد سطور بعد كتبتها ، ويلزم الظن الاختلاط ، ومنه الجرم للون لأنه لا يخلو عن شوب ، وأجرم الدم به : لصق ، والإجرام : متاع الراعي ، أو هي من الكسب ، والجرام كرمان : السمك؛ والمرج : موضع الرعي ، وقد علم من هذا أن جميع تصاريف المادة تدور على الاضطراب وهو بين في غير العقل ، وأما فيه فإنه يقدر العقل يكون اضطراب الرأي لأن العاقل كلما أنعم النظر انفتح له ما كان مغلقاً فيعدل إليه ، فإذا ظهر هذا ظهر أن معنى « لا جرم » أنهم لا ظن ولا اضطراب في أنهم ، ويكون نفي الظن في مثل هذا السياق نفياً لجميع ما يقابله إلاّ العلم الذي هو بمعنى القطع كما إذا قيل : لا شك في كذا ولا ريب ، فاتضح أن تفسيرهم لها ب « حقاً » تفسير معنى لمجموع الكلمتين لأنه إذا نفي في مثل هذا السياق الظن ثبت اليقين والقطع ، وإليه يرجع تفسير سيبويه لا حق لأنه يريد - والله أعلم - أن لا صلة ، وموضوعها في الأصل النفي ، فهي نافية لضد ما دخلت عليه ، فكأنه قيل : حق وثبت أنهم كذا وانتفى كل ما يضاده ، فهذا وجه كونها صلة مؤكدة ، وقريب من ذلك ما قيل في « إنما » نحو إنما زيد قائم ، أي أن زيداً قائم ، ما هو إلاّ كذلك ، فقد بان أن النافي مثل ذلك مؤكد - والله الموفق .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
ولما توعد الكافرين وأخبر عن مآلهم بسببه ، كان موضع أن يسأل عن حال المؤمنين فقال : { إن الذين آمنوا } أي أوجدوا هذه الحقيقة { وعملوا الصالحات } ولما كان الحاصل ما مضى من وصف الكافرين بعد مطلق الأعمال السيئة الإعراض عن ربهم والنفرة عن المحسن إليهم جلافة وغلظة ، وصف المؤمنين بالإقبال عليه والطمأنينة إليه فقال : { وأخبتوا } أي خشعوا متوجهين منقطعين { إلى ربهم } أي المحسن إليهم فشكروه فوفقهم لاستطاعة السمع والأبصار .
ولما ذكر وصفهم ذكر جزاءهم عليه بقوله : { أولئك } أي العالو الرتبة { أصحاب الجنة } ولما كانوا مختصين بها أول أو بالخلود من أول الأمر ، أعاد الضمير فقال : { هم فيها } أي خاصة لا في غيرها { خالدون } .
ولما استوفى أوصاف الحزبين وجزاءهم ، ضرب للكل مثلاً بقوله : { مثل الفريقين } أي الكافرين والمؤمنين ، وهو من باب اللف والنشر المرتب ، فإن الكافر ذكر فيما قبل أولاً { كالأعمى } أي العام العمى في بصره وبصيرته { والأصم } في سمعه كذلك ، فهذا للكافرين { والبصير } بعينه وقلبه { والسميع } على أتم أحوالهما ، وهذا للمؤمنين ، وفي أفراد المثل طباق أيضاً { هل يستويان } أي الفريقان { مثلاً } أي من جهة المثل . ولما كان الجواب قطعاً لمن له أدنى تأمل : لا يستويان مثلاً فلا يستويان ممثولاً ، حسن تسبب الإنكار عنه في قوله : { أفلا تذكرون } أي يحصل لكم أدنى تذكر بما أشار إليه الإدغام فتعلموا صدق ما وصفوا به بما ترونه من أحوالهم ، وذلك ما قدم في حق الكفار من قوله : { ما كانوا يستطيعون السمع } الآية؛ والإخبات : الخشوع المستمر على استواء فيه ، وأصله الاستواء من الخبت ، وهو الأرص المستوية الواسعة ، ولعله وصله بإلى في موضع اللام إشارة إلى الإخلاص أي إخباتاً ينتهي إلى ربهم من غير أن يحجب عنه؛ والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بحال الأول ، والأمثال لا تغير عن صورتها .
ولما تم ذلك على أوضح المسالك ، وختم بالحث على التذكر ، وكان تقديم ذكر كتاب موسى محركاً لتوقع ذكر نبئه ونبأ غيره من الرسل ، عطف - مقروناً بحرف التوقع على العامل الذي قدرته في قوله : { ألا تعبدوا إلا الله } أو على قوله : { إنما أنت نذير } وهو أحسن وأقرب - قوله : { ولقد أرسلنا } أي بما لنا من العظمة { نوحاً إلى قومه } أي الذين هم على لسانه؛ وما بعد ذلك من القصص تقريراً لمضمون هذا المثل وتثبيتاً وتسلية وتأييداً وتعزية لهذا النبي الكريم لئلا يضيق صدره بشيء مما أمر بإبلاغه حرصاً على إيمان أحد وإن كان أقرب الخلائق إليه وأعزهم عليه كما تقدمت الإشارة إليه في قوله تعالى : { فلا يكن في صدرك حرج منه } وقوله : { وضائق به صدرك } ويأتي في قوله : { وكُلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } فوضح أن هذه القصص لهذا المعنى سيقت ، وأن سياقها في الأعراف وغيرها كان لغير ذلك كما تقدم وأن تضمن هذا الغرض بيان إهلاك من كانوا أشد من العرب قوة وأكثر جمعاً وأمكن أمراً وأقوى عناداً وأعظم فساداً وأحدّ شوكة وما اتفق في ديارهم من الطامات والأهوال المفظعات تحذيراً من مثل حالهم بارتكاب أفعالهم ، ففرق بين ما يساق للشيء وما يلزم منه الشيء ، ولهذا الغرض المقصود هنا طولت قصة نوح في هذه السورة ما لم يطوله في غيرها ، وصدرت بقوله : { إني } أي قائلاً على قراءة الجمهور بالكسر ، والتقدير عند ابن كثير وأبي عمرو والكسائي : ملتبساً بأني { لكم } أي خاصة { نذير مبين } أي مخوف بليغ التحذير ، أبين ما أرسلت به غاية البيان ، وذكر فيها أنه طالت مجادلته لهم وأنه لما أوضح له أمر الله تعوذ من السؤال فيه وفي كل ما يشبهه ، وخللت قصته بقوله : { أم يقولون افتراه } خطاباً لهذا النبي الكريم وختمت بقوله : { فاصبر إن العاقبة للمتقين } وذكرت قصة إبراهيم عليه السلام لما ضمنته من أنه بشر الولد بما لم يجر بمثله عادة فلم يتردد فيه ، وأنه جادل الرسل في قوم ابن أخيه لوط ، وأنه لما تحقق حتم الأمر وبت الحكم سلم لربه مع كونه حليماً أواهاً منيباً إلى غير ذلك مما يؤمىء إليه سياق القصص ، فكأنه قيل : إنما أنت نذير أرسلناك لتبلغ ما أرسلت به من الإنذار وإن شق عليهم وعزتنا لقد أرسلنا من قبلك رسلاً منذرين فدعوا إلى ما أمرت بالدعوة إليه وأنذروهم ما يشق عليهم من بأسنا امتثالاً لأمرنا وما تركوا شيئاً منه خوفاً من إعراض ولا رجاء في إقبال على أن أممهم قالوا لهم ما قالت لك أمتك كما يشير إليه قوله تعالى عن نوح : { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } - الآية ، وقد كان في المخالفين من أممهم القريب منهم نسبه والعزيز عليهم أمره من ابن وصاحبة وغيرهما ، هذا مع أن قصصهم دليل على قوله تعالى : { ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم } وزجر لهم عن مثل قولهم : { ما يحبسه } وتأييد لقوله : { ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة } - وغير ذلك مما تقدم ، فقد علم من هذا الوجهُ في تكرير هذه القصص ، وأنه في كل سورة لمقصد يخالف المقصد في غيرها وإن كان يستفاد من ذلك فوائد أخر : منها إظهار القدرة في بيان الإعجاز بتصريف المعنى في الوجوه المختلفة لما في ذلك من علو الطبقة في البلاغة لأنه ربما قال متعنت عند التحدي : قد استوفى اللفظ البليغ على الأسلوب الأكمل البديع في هذه القصص فلم تبق لنا ألفاظ نعبر بها عن هذه المعاني حتى نأتي بمثل هذه القصة؛ فأتى بها ثانياً إظهاراً لعجزه وقطعاً لحجته ، وربما كررت ثالثاً ورابعاً توكيداً لذلك وتمكيناً للاعتبار بضروب البيان وتصبيراً للنبي صلى الله عليه وسلم على أذى قومه حالاً فحالاً ، فإن قيل : فما بالها تأتي تارة في غاية البسط وتارة في غاية الإيجاز وتارة على الوسط؟ قيل : هذا من أعلى درجات البلاغة وأجل مراتب الفصاحة والبراعة ، فإن قبل : فإنا نرى القصة تبسط في بعض السور غاية البسط ثم توجز في غيرها غاية الإيجاز ويؤتي فيها ما لم يؤت في المبسوطة كما في العنكبوت فإنه عين فيها مقدار لبثه وأنه كان ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فلم لا استوعبت جميع المعاني في الموضع المبسوط كما هو الأليق بمقام البسط لا سيما لمن لا يخفى عليه شيء ولا ينسى ، وإذا وقع حذف كان في الموجزة ، قيل : قال شيخنا حافظ العصر أبو الفضل بن حجر : إن الإمام أبا حاتم بن حبان البستي ذكر في كتابه التقاسيم والأنواع : إنما لم يرتبه ليحفظ إذ لو رتبه ترتيباً سهلاً لاتكل من يكون عنده على سهولة الكشف منه فلا يتحفظه ، وإذا وعر طريق الكشف كان أدعى إلى حفظه ليكون على ذكر من جميعه ، وذكر أنه فعل ذلك اقتداء بالكتاب العزيز فإنه ربما أتى بالقصص غير مرتبة ، قال شيخنا : ومن هنا يظهر أن من أسرار تخصيص بعض الموجزات بما ليس في المبسوط الحث على حفظ الجميع - انتهى .
وهذه فوائد ينبغي إهمالها بل تستعمل حيث أمكن ، والعمدة في المناسبة الوجه الأول وهو أنها في كل سورة لمناسبة تخص تلك السورة ، ثم يراعي في البسط وغيره المعاني المناسبة للمقصد الذي سيقت له القصة - والله الموفق . واللام في « لقد » للقسم : قال الإمام أبو الحسن على بن عيسى الرماني : لأنها تدخل على الفعل والحرف الذي يختص بالفعل مما يصح معناه معه . ولام الابتداء للاسم خاصة ، ومعنى ( قد ) توقع الخبر للتقريب من الحال ، يقال : قد ركب الأمير - لقوم يتوقعون ركوبه فعلى هذا القول جرى { ولقد أرسلنا } والإبانة : إظهار المعنى للنفس بما يمكن إدراكه . وأصله القطع ، فالإبانة قطع المعنى من غيره ليظهر في نفسه - انتهى . والمقصود من الرسالة قوله سبحانه : { أن } أي نذير لأجل أن { لا تعبدوا } أي شيئاً أصلاً { إلا الله } أي الملك الأعظم - ومعنى النذارة قوله : { إني أخاف عليكم } وعظم العذاب المحذر منه بقوله : { عذاب يوم أليم* } وإذا كان اليوم مؤلماً فما الظن بما فيه من العذاب! فهو إسناد مجازي مثل نهاره صائم ، ولم يذكر بشارة كما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { إنني لكم منه نذير وبشير } [ هود : 2 ] إرشاداً إلى ما سيقت له القصة من تقرير معنى { إنما أنت نذير } [ هود : 12 ] ولذلك صرح بالألم بخلاف الأعراف ، وكذا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أول هذه من عذاب يوم كبير ، وهما متقاربان؛ ثم ساق سبحانه جواب قومه على وجه هو في غاية التسلية والمناسبة للسياق بقوله : { فقال } أي فتسبب عن هذا النصح العظيم أن قال؛ ولما كان هذا بعد أن تبعه بعضهم قال : { الملأ } وبين أن الجدال مع الضلال بعد أن بين أنهم هم الأشراف زيادة في التسلية بقوله : { الذين كفروا } وبين أنهم اقارب أعزة بقوله : { من قومه } أي الذين هم في غاية القوة لما يريدون محاولة القيام به { ما نراك } أي شيئاً من الأشياء { إلا بشراً } اي آدمياً { مثلنا } أي في مطلق البشرية ، لست بملك تصلح لما لا تصلح له من الرسالة ، وهذا قول البراهمة ، وهو منع نبوة البشر على الإطلاق ، وهو قول من يحسد على فضل الله ويعمى عن جلي حكمته فيمنع أن يكون النبي بشراً ويجعل الإله حجراً .
ولما كانت العظمة عندهم منحصرة في عظمة الأتباع قالوا : { وما نراك } ولما انفوا الرؤية عنه فتشوف السامع إلى ما يقع عليه من المعاني ، بينوا أن مرادهم رؤية من اتبعه فقالوا : { اتبعك } أي تكلف اتباعك { إلا الذين هم } أي خاصة { أراذلنا } أي كالحائك ونحوه ، وليس منا رذل غيرهم ، وهو جمع أرذل كأكلب جمع رذل ككلب ، والرذل : الخسيس الدنيء ، وهذا ينتج أنه لم يتبعك أحد له قدر؛ قالوا : و { اتبعك } عامل في قوله : { بادي الرأي } وهو ظرف أي اتبعوك بديهة من غير تأمل ، فاتباعهم لا يدل على سداد لما اتبعوه من وجهين : رذالتهم في أنفسهم ، وأنهم لم يفكروا فيه ، لكن يضعفه إيراد الاتباع بصيغة الافتعال التي تدل على علاج ومجاذبة ، فالأحسن إسناده - كما قالوه أيضاً - إلى أراذل . أي أنهم بحيث لا يتوقف ناظرهم عند أول وقوع بصره عليهم أنهم سفلة أسقاط ، ويجوز أن يكون المراد « بادي رأيك » أي أنك تظن أنهم اتبعوك ، ولم يتبعوك .
ولما كانوا لا يعظون إلا بالتوسع في الدنيا ، قالوا : { وما نرى لكم } أي لك ولمن تبعك { علينا } وأغرقوا في النفي بقولهم : { من فضل } أي شرف ولا مال ، وهذا - مع مامضى من قولهم - قول من يعرف الحق بالرجال ولا يعرف الرجال بالحق ، وذلك أنه يستدل على كون الشيء حقاً بعظمة متبعه في الدنيا ، وعلى كونه باطلاً بحقارته فيها ، ومجموع قولهم يدل على أنهم يريدون : لو صح كون النبوة في البشر لكانت في واحد ممن أقروا له بالعلو في الأرض ، وعمل { اتبعك } في { بادي } يمنعه تمادي الاتباع على الإيمان ، فانتفى الطعن بعدم التأمل { بل نظنكم كاذبين* } أي لكم هذا الوصف لازماً دائماً لأنكم لم تتصفوا بما جعلناه مظنة الاتباع مما يوجب العظمة في القلوب والانقياد للنفوس بالتقدم في الدنيا بالمال والجاه؛ فكان داؤهم بطر الحق وغمط الناس ، وهو احتقارهم ، وهذا قد سرى إلى أكثر أهل الإسلام ، فصاروا لا يعظمون إلا بذلك ، وهو أجهل الجهل لأن الرسل أتت للتزهيد في الدنيا وانظر إلى رضاهم لأنفسهم بالعدول عن البينة إلى اتباع الظن ما أردأه! وهذا افظع مما حكى هنا من قوله قريش { لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك } وأبشع؛ والبشر : الإنسان لظهور بشرته أي ظاهر جلده لأن الغالب على غيره من الحيوان سترها بالصوف أو الشعر أو الوبر أو الريش؛ والمثل : الساد مسد غيره في الحس بمعنى أنه لو ظهر للمشاهدة لسد مسده؛ والرذل : الحقير بما عليه من صفات النقص وجمعه؛ والفضل : الزيادة من الخير ، والإفضال : مضاعفة الخير التي توجب الشكر .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
ولما كان ختام جوابهم أشده ، بدأ في جوابه برده مبيناً لضلالاتهم مغضياً عن شناعاتهم شفقة عليهم ومحبة لنجاتهم ، فقال تعالى حكاية عنه : { قال يا قوم } وشرع يكرر هذه اللفظة كل قليل تذكيراً لهم أنه منهم لتعطفهم الأرحام وتردهم القرابات عن حسد أو اتهامه إلى قبول ما يلقي إليهم من الكلام ، وأشار بأداة البعد - مع قربهم - إلى مباعدتهم فيما يقتضي غاية القرب { أرأيتم } أي أخبروني { إن كنت } على سبيل الفرض منكم والتقدير { على بينة } أي برهان ساطع ، وزاد ترغيباً فيه بقوله : { من ربي } أي الذي أوجدني وأحسن إليّ بالرسالة وغيرها يشهد بصحة دعواي شهادة لا يتطرق إليها عند المنصف شبهة فكيف بالظن! { وآتاني } فضلاً منه عليّ لا لمعنى فيّ أزيد عليكم به ، بل { رحمة } أي إكراماً بالرسالة بعد النبوة ، وعظمها بقوله : { من عنده } فيها فضل عظيم النور واضح الظهور .
ولما كانت البينة من الرحمة ، وحد الضمير فقال : { فعميت } أي فتسبب عن تخصيصي بها أن أظلمت ، ووقع ظلامها { عليكم } أي فعميتم انتم عنها لضعف عقولكم ولم يقع عليكم شيء من نورها ، وذلك أن الدليل إذا كان أعمى عاد ضرره على التابع بالحيرة والضلال ، وهو معنى قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالبناء للمفعول مشددة { أنلزمكموها } وقوله : { وأنتم لها كارهون } مع تسميته لها بينة - إشاره إلى أنها لم تعم ولا خفيت عليهم لقوة نورها وشدة ظهورها ، وإنما هم معاندون في نفيهم لفضله وفضل من تبعه ، والتعبير عن ذلك بالجملة الاسمية واسم الفاعل إشارة إلى أن أفعالهم أفعال من كراهته لها ثابتة مستحكمة ، وكأنه لم يكن مأموراً بالقتال كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم في أول الأمر ، والآية ناظرة إلى قوله تعالى : { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } [ يونس : 99 ] ويجوز أن يكون ذلك كناية عن أنهم معاندون مع قطع النظر عن الجهاد وغيره فإن الأنبياء عليهم السلام مأمرون بالمجادلة للمعاندين إلى أن يلزموهم الحجة ، وهي لا تفيد إلا الإلزام في الظاهر مع الإنكار والكراهة في الباطن ، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة للكاملين ، وبالموعظة والخطابة للمنافقين الذي لا يعاندون ويحسنون الظن في الداعي ، فيكون المعنى أن البينة لم تنفعكم لشكاسة وإعوجاج في طباعكم ، فلم يبق إلا الموعظة وهي لا تفيد إلا مع حسن الظن ، وأما مع الكراهة فلا ينفعكم النصح ، فلا فائدة في المجادلة إلا الإلزام ، وهو مع الكراهة غير نافع لكم .
ولما كان نفي ذلك عاماً للفضل الدنيوي ، وكان الاتصاف بقلة ما في اليد إنما يكون ضاراً إذا كان صاحبه يسأل غيره ، نفى عنه هذا اللازم العائب فقال مجيباً عن نفيهم الفضل عنه وعن أتباعه بأنه قد يرد منهم على ذلك ثواباً دنيوياً : { ويا قوم } استعطافاً لهم { لا أسئلكم } أي في وقت من الأوقات { عليه } أي الإنذار كما يأخذ منكم من ينذركم أمر من يريد منكم من ينذركم أمر من يريد بكم بعض ما تكرهون في أمور دنياكم حتى تكون عاقبة ذلك أن تتهموني { مالاً إن } أي ما { أجري إلا على الله } أي الذي له الجلال والإكرام فبيده الخزائن كلها ، ونبه بهذا على أنه لا غرض له من عرض دنيوي ينفر المدعو عنه فوجب تصديقه ، وفيه تلقين للجواب عن قول قريش : لولا ألقي إليه كنز - كما سيأتي بأبين من ذلك عقب قصة يوسف عليه السلام في قوله : { وما تسئلهم عليه من أجر } لأن هذه القصص كالشيء الواحد متتابعة في بيان حقية هذا القرآن والتأسية في الاقتداء بالرسل في الصبر على أداء جميع الرسالة مع ما يلزم ذلك من جليل العبر وبديع الحكم ، فلما اتحد الغرض منها مع تواليها اتحدت متفرقاتها .
ولما كان التعبير برذالة المتبع مما ينفر أهل الدنيا عن ذلك التابع ، بين لهم أن شأنه غير شأنهم وأنه رقيق على من آمن به رفيق به رحيم له وإن كان متأخراً في الدنيا محروماً منها خوفاً من الله الذي اتبعوه فيه فقال : { وما أنا } وأغرق في النفي بقوله : { بطارد الذين آمنوا } أي أقروا بألسنتهم بالإيمان؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم { إنهم ملاقوا ربهم } أي المحسن إليهم بعد إيجادهم وترتيبهم لهدايتهم ، فلو طردتهم لشكوني إليه فلا أرى لكم وجهاً في الإشارة إلى طردهم ولا في شيء مما أجبتموني به { ولكني أراكم } أي أعلمكم علماً هو كالرؤية { قوماً تجهلون* } أي تفعلون أفعال أهل الجهل فتكذبون الصادق وتعيرون المؤمنين بما لا يعنيهم وتنسون لقاء الله وتوقعون الأشياء في غير مواقعها ، وفي تعبيره ب { تجهلون } دون { جاهلين } إشارة إلى أن الجهل متجدد لهم وهو غير عادتهم استعطافاً لهم إلى الحلم ، ثم عطف إلى صريح الاستعطاف في سياق محذر من سطوات الله فقال : { ويا قوم } أي الذين هم أعز الناس عليّ { من ينصرني من الله } أي الذي له جميع العظمة { إن طردتهم } ولو لم يشكوني إليه لاطلاعه على ما دق وجل : ولما تم الجواب عن ازدرائهم ، سبب عنه الإنكار لعدم تذكرهم ما قاله لهم بما يجدونه في أنفسهم فقال : { أفلا تذكرون* } أي ولو أدنى تذكر - بما يشير إليه الإدغام - فتعلموا أن من طرد صديقاً لكم عاديتموه وقصدتموه بالأذى ، فترجعوا عما طرأ لكم من جهل إلى عادتكم مِنَ الحلم الباعث على التأمل الموقف على الحق؛ والطرد : إبعاد الشيء على جهة الهوان؛ والقوم : الجماعة الذين يقومون بالأمر ، اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ والتذكير : طلب معنى قد كان حاضراً للنفس ، والتفكر طلبه وإن لم يكن حاضراً .
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
ولما كان نفيهم للفضل شاملاً للأموال وعلم الغيب ، أقرهم على ذلك منبهاً على خطئهم فيه بأنه لم يقل بينهم قط ما يكون سبباً له ، فقال عاطفاً على قوله { لا أسئلكم عليه أجراً } ؛ { ولا أقول لكم } أي في وقت من الأوقات { عندي خزائن الله } أي الملك الأعظم فأتفضل عليكم بها؛ ولما كان من الجائز أن يمكن الله من يشاء من خزائن الأرزاق ونحوها فيسوغ له أن يطلق ملك ذلك مجازاً ، ولا يجوز أن يمكنه من علم الغيب ، وهو ما غاب عن الخلق كلهم ، لأنه خاصته سبحانه ، قال عاطفاً على { أقول } لا على المقول : { ولا أعلم الغيب } لا حقيقة ولا مجازاً فأعلم وقت ما توعدون به أو ما في قلوب المؤمنين مما قد يتوهم به من السوء ، وأعلمهم أنه لا مانع من إرسال البشر بقوله : { ولا أقول إني ملك } فتكون قوتي أفضل من قوتكم أو خلقي أعظم قدراً من خلقكم ونحو ذلك من الفضل الصوري الذي جعلتموه هو الفضل ، فلا تكون الآية دليلاً على أفضلية الملائكة ، وتقدم في الأنعام سر إسقاطه { لكم } .
ولما كان تعريضهم بنفي الملكية عنه من باب الإزراء ، أتبعه تأكيد قبوله لمن آمن كائناً من كان وإن ازدروه بقوله : { ولا أقول للذين } أي لأجل الذين { تزدري } أي تحتقر { أعينكم } أي تقصرون به عن الفضل عند نظركم له وتعيبونه { لن يؤتيهم الله } أي الذي له الكمال كله { خيراً } ولما كان كأنه قيل : ما لك لا تقول ذلك؟ أجاب بما تقديره : لأني أعلم ضمائرهم ولا أحكم إلا على الظاهر : { الله } أي المحيط بكل شيء { أعلم } أي حتى منهم { بما في أنفسهم } ومن المعلوم أنه لا يظلم أحداً ، فمن كان في نفسه خير جازاه عليه ، ويجوز أن يكون هذا راجعاً إلى { بادي الرأي } بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم كما تقدم؛ ثم علل كفه عن ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم ظلمه على ذلك التقدير : { إني إذاً } أي إذا قلت لهم ذلك { لمن الظالمين } اي العريقين في وضع الشيء في غير موضعه؛ والخزائن : أخبية المتاع الفاخرة ، وخزائن الله مقدوراته لأنه يوجد منها ما يشاء ، وفي وصفها بذلك بلاغة؛ والغيب : ذهاب الشيء عن الإدراك ، ومنه الشاهد خلاف الغائب ، وإذا قيل : علم غيب ، كان معناه : علم من غير تعليم؛ والازدراء : الاحتقار ، وهو افتعال من الزراية ، زريت عليه - إذا عبته ، وأزريت عليه - إذا قصرت به؛ والملك أصله مألك من الألوكة وهي الرسالة .
فلما استوفى نقض ما أبرموه في زعمهم من جوابهم على غاية الإنصاف واللين والاستعطاف ، استأنف الحكاية عنهم بقوله : { قالوا } أي قول من لم يجد في رده شبهة يبديها ولا مدفعاً يغير به : { يا نوح قد جادلتنا } أي اردت فتلنا وصرفنا عن آرائنا بالحجاج وأردنا صرفك عن رأيك بمثل ذلك { فأكثرت } أي فتسبب عن ذلك وعن تضجرنا أنك أكثرت { جدالنا } أي كلامنا على صورة الجدال { فأتنا } أي فتسبب عن ذلك وعن تضجرنا أن نقول لك : لم يصح عندنا دعواك ، ائتنا { بما تعدنا } من العذاب { إن كنت } أي كوناً هو جبلة لك { من الصادقين* } أي العريقين في الصدق في أنه يأتينا فصرحوا بالعناد المبعد من الإنصاف والاتصاف بالسداد وسموه باسمه ولم يسمحوا بأن يقولوا له : يا ابن عمنا ، مرة واحدة كما كرر لهم : يا قوم ، فكان المعنى أنا غير قابلين لشيء مما تقول وإن أكثرت وأطلت - بغير حجة منهم بل عناداً وكبراً فلا تتعب ، بل قصر الأمر مما تتوعدنا به ، وسموه وعداً سخرية به ، أي أن هذا الذي جعلته وعيداً هو عندنا وعد حسن سار باعتبار أنا نحب حلوله ، المعنى أنك لست قادراً على ذلك ولا أنت صادق فيه ، فإن كان حقاً فائتنا به ، فكأنه قيل : ماذا قال لهم؟ فقيل : { قال } جرياً على سنن قوله { ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب } : { إنما يأتيكم به الله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء فتبرأ من الحول والقوة ورد ذلك إلى من هو له ، وأشار بقوله : { إن شاء } إلى أنه مخير في إيقاعه وإن كان قد تقدم قوله به إرشاداً إلى أنه سبحانه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، بل ولا يسأل عما يفعل وإن كان لا يقع إلا ما أخبر به؛ ثم بين لهم عجزهم وخطأهم في تعرضهم للهلاك فقال : { وما أنتم بمعجزين* } أي في شيء من الأوقات لشيء مما يريده بكم سبحانه؛ والإكثار : الزيادة على مقدار الكفاية؛ والمجادلة : المقابلة بما يفتل الخصم عن مذهبه بحجة أو شبهة ، وهو من الجدل وهو شدة الفتل والمطلوب به الرجوع عن المذهب ، والمطلوب بالحجاج ظهور الحجة ، فهو قد يكون مذموماً كالمراء ، وذلك حيث يكون للتشكيك في الحق بعد ظهوره ، وحيث قيد الجدال ب
{ التي هي أحسن } [ العنكبوت : 46 ] فالمراد به إظهار الحق .
ولما بين أنهم إنما هم في قبضته سبحانه ، زاد في بيان عظمته وأن إرادته تضمحل معها كل إرادة في سياق دال على أنه بذلك ناصح لهم وأن نصحه خاص بهم ، فقال جواباً لما وهموا من أن جداله لهم كلام بلا طائل : { ولا ينفعكم نصحي } وذكر إرادته لما يريد أن يذكره من إرادة الله فقال : { إن أردت } أي جمعت إلى فعل النصح إرادة { أن أنصح لكم } بإعلام موضع الغي ليتقى والرشد ليتبع ، وجزاءه محذوف تقديره : لا ينفعكم نصحي { إن كان الله } أي الذي له الأمر كله { يريد أن يغويكم } أي يضلكم ويركبكم غير الصواب فإنه إرادته سبحانه تغلب إرادتي وفعلي معاً لا ينفعكم شيء إشارة إلى أنكم لا تقدرون على دفع العذاب بقوة فتكونوا غالبين ، ولا بطاعة فتكونوا محبوبين مقربين إن كان الله يريد إهلاككم بالإغواء ، وأن أردت أنا نجاتكم ، ولم يقل : ولا ينفعكم نصحي إن نصحت لكم ، إشارة إلى أني لا أملك إلا إرادتي لنصحكم ، فإذا أردته فغاية ما يترتب عليه من فعلي وقوع النصح وإخلاصه لكم ، وأما النفع به فلا شيء منه إليّ ، بل هو تابع لمراد الله ، فإن أراد غوايتكم حصلت لا محالة ، ولم يقع ما قد يترتب على النصح من عمل المنصوح بمقتضاه المستجلب لنفع المستدفع للضر؛ ثم رغبهم في إحسانه ورهبهم من انتقامه معللاً لعدم ما لا يريده : { هو ربكم } أي الموجد لكم المدبر لأموركم فهو يتصرف وحده لما يريد .
ولما كان التقدير : فمنه مبدؤكم ، عطف عليه قوله : { وإليه } أي لا إلى غيره { ترجعون* } أي بأيسر أمر وأهونه بالموت ثم البعث فيجازيكم على أعمالكم كما هي عادة الملوك مع عمالهم .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
ولما كان مضمون هذه الآية نحو مضمون قوله : { إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل } فإن النذير من ينصح المنذر ، والوكيل هو المرجوع إليه في أمر الشيء الموكول إليه ، وما قبلها تعريض بنسبة نوح عليه السلام إلى الافتراء ، تلاه بما تلا به ذاك من النسبة إلى الافتراء وإشارة إلى أن هذه القصص كلها للتسلية في أمر النذارة والتأسية فكأنه قيل : أيقولون لك مثل هذه الأقوال فقد قالوها لنوح كما ترى ، ثم والى عليهم من الإنذار ما لم يطعموا معه في ترك شيء مما أمرناه به أعجبهم أو أغضبهم ، فلك به أسوة وحسبك به قدوة في أن تعد كلامهم عدماً وتقبل على ما أرسلناك به من بذل النصيحة بالنذارة : { أم يقولون } في ا لقرآن { افتراه } إصراراً على ما تقولوه فدمغه الدليل وأدحضته الحجة فكأنه قيل : نعم ، إنهم يقولون ذلك ، فقيل : لا عليك فإنه قول يقصدون به مجرد العناد وهم يعلمون خلافه بعد ما قام عليهم من الحجج التي وصلوا معها إلى عين اليقين فلا يهمنك قولهم هذا ، فإنهم يجعلونه وسيلة إلى تركك بعض ما يوحى إليك فلا تفعل ، بل { قل } في جواب قولهم هذا { إن افتريته } أي قطعت كذبه { فعليَّ } أي خاصاً بي { إجرامي } أي وباله وعقابه دونكم وإذا استعلى عليَّ الإجرام عرف ذلك لأرباب العقول وظهر ظهوراً أفتضح به وأنتم أعرف الناس بأني أبعد من ذلك مما بين اجتماع الضدين وارتفاع النقيضين لما تعلمون مني من طهارة الشيم وعلو الهمم وطيب الذكر وشريف القدر وكريم الأمر ، هذا لو كنت قادراً على ذلك فكيف وأنا وأنتم في العجز عنه سواء { وأنا بريء } أي غاية البراءة { مما تجرمون* } أي توجدون إجرامه ، ليس عليَّ من إجرامكم عائد ضرر بعد أن أوضحته لكم وكشقت عنكم غطاء الشبه ، إنما ضرره عليكم فاعملوا على تذكر هذا المعنى فإن سوق جوابهم على هذا الوجه أنكى لهم من إقامة حجة أخرى لأنهم يعلمون منه أنه إلزام لهم بالفضيحة لانقطاعهم لدى من له وعي ، ويمكن أن يكون التقدير : هل انتبه قومك يا محمد فعلموا قبح مثل هذه الحال وأنها حال المعاندين ، فرجعوا تكرماً عن ركوب مثلها واستحياء { أم يقولون افتراه } أي كذبه متعمداً استمراراً على العناد وتمادياً في البعاد كما تمادى قوم نوح فيحل بهم ما حل بهم ، أي هل رجعوا بهذا المقدار من قصة قوم نوح أم هم مستمرون على ما نسبوك إليه في أوائل السورة من افترائه فيحتاجون إلى تكميل القصة بما وقع من عذابهم ليخافوا مثل مصابهم؛ وافتراء الكذب : افتعاله من قبل النفس فهو أخص من مطلق الكذب لأنه قد يكون تقليداً للغير .
ولما فرغ من هذه الجملة التي هي المقصود بهذا السياق كله وإن كانت اعتراضية في هذه القصة ، رجع إلى إكمالها بياناً لأن نوحاً عليه السلام كان يكاشف قومه بجميع ما أمر به وإن عظمت مشقته عليهم بحيث لم يكن قط موضع رجاء لهم في أن يترك شيئاً منه وتحذيراً لكل من سمع قصتهم من أن يحل به ما حل بهم فقال : { وأوحي } أي من الذي لاموحي إلا هو وهو ملك الملوك { إلى نوح } بعد تلك الخطوب { أنه لن يؤمن } بما جئت به { من قومك إلا من } ولما كان الذي يجيب الإنسان إلى ما يسأله فيه يلوح عليه مخايل قبل الإجابة يتوقع السائل بها الإجابة ، قال : { قد آمن فلا } أي فتسبب عن علمك بأنه قد تم شقاءهم أنا نقول لك : لا { تبتئس } أي يحصل لك بؤس ، أي شدة يعظم عليك خطبها بكثرة تأملك في عواقبها { بما كانوا } أي بما جبلوا عليه { يفعلون* } فإنا نأخذ لك بحقك منهم قريباً ، وكأنه كان أعلمه أنهم إن لم يجيبوه أغرقهم وأنجاه ومن معه في فلك يحملهم فيه على متن الماء فقال : { واصنع الفلك } حال كونك محفوظاً { بأعيننا } نحفظك أن تزيغ في عملها ، وجمع مبالغة في الحفظ والرعاية على طريق التمثيل { ووحينا } فنحن نلهمك أصلح ما يكون من عملها وأنت تعلم ما لنا من العظمة التي تغلب كل شيء ولا يتعاظمها شيء ، فلا تهتم بكونك لا تعرف صنعتها؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله أوحى إليه أن يصنعه مثل جؤجؤ الطائر - أي صدره . وأشار إلى شفقته على قومه وحبه لنجاتهم كما هو حال هذا النبي الكريم مع أمته فقال : { ولا تخاطبني } أي بنوع مخاطبة وإن قلت { في الذين ظلموا } أي أوجدوا الظلم واستمروا عليه في أن أنجيهم؛ ثم علل النهي بأن الحكم فيهم قد انبرم فقال : { إنهم مغرقون* } قد انبرم الأمر بذلك؛ والابتئاس : حزن في استكانة ، لأن أصل البؤس الفقر والمسكنة؛ والوحي : إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء ، وقد يكون إفهاماً من غير كلام بإشارة ونحوها ، وقد يكون بكلام خفي؛ والفلك : السفينة ، يؤنث ويذكر ، واحده وجمعه سواء ، وأصله الإدارة من الفلكة .
ولما أمره تعالى ونهاه ، أخبر أنه امتثل ذلك بقوله عاطفاً على ما تقديره : فأيس من إيمان أحد منهم فترك دعاءهم وشرع يسلي نفسه : { ويصنع } أي صنعة ماهر جداً ، له ملكة عظيمة بذلك الصنع { الفلك } فحلى فعله حالُ علمه بأنه سبحانه بت الأمر بأنه كان يعمل ما أمره به سبحانه ولم يخاطبه فيهم ولا أسف عليهم ، وأشار إلى أنهم ازدادوا بغياً بقوله : { وكلما } أي والحال أنه كلما { مرَّ عليه ملأ } أي أشراف { من قومه } وأجاب « كلما » بقوله : { سخروا منه } أي ولم يمنعهم شرفهم من ذلك ، وذلك أنهم رأوه يعاني ما لم يروا قبله مثله ليجري على الماء وهو في البر وهو على صفة من الهول عظيمة فعن الحسن أن طوالها ألف ذراع ومائتا ذراع وعرضها ستمائة ، فقالوا : يانوح! ما تصنع؟ قال : أبني بيتاً على الماء ، ويجوز أن يكون { سخروا } : صفة لملإ ، وجواب { كلما } { قال } ، ولما أيأسه الله من خيرهم ، ترك ما كان من لينه لهم واستعطافهم فعلم أن ذلك ما كان إلا له سبحانه ، فقال حاكياً عنه استئنافاً : { قال إن تسخروا منا } ولما كانوا يظنون أنه غائب في عمله كان عندهم موضعاً لخزي والسخرية ، وكان هو صلى الله عليه وسلم عالماً بأن عملهم سبب لخزيهم بالعذاب المستأصل ، فكان المعنى : إن تسخروا منا - أي مني وممن يساعدني - لظن أن عملنا غير مثمر { فإنا نسخر } أي نوجد السخرية { منكم } جزاء لكم { كما تسخرون } منا الآن لأن عملنا منج وعملكم ليس مقتصراً على الضياع بل هو موجب لما توعدون من العذاب فأنتم المخزيون دوني .
ولما كان قوله { نسخر منكم } واقعاً موقع هذا الإخبار ، حسن الإتيان بالفاء المؤذنة بتسبب العلم المذكور عنه في قوله : { فسوف تعلمون } أي بوعد لا خلف فيه { من يأتيه عذاب يخزيه } أي يفضحه فيذله ، وكأن المراد به عذاب الدنيا { ويحل عليه } أي حلول الدين الذي لا محيد عنه { عذاب مقيم* } وهو عذاب الآخرة ، وقد مضى نحوه في الأنعام عند قوله { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } ؛ والسخرية : إظهار ما يخالف الإبطان على جهة تفهم استضعاف العقل ، من التسخير وهو التذليل استضعافاً بالقهر ، وهي تفارق اللعب بأن فيها خدعة استنفاض ، فلا تكون إلا بحيوان ، واللعب قد يكون بجماد لأنه مطلق طلب الفرح؛ والخزي : العيب الذي تظهر فضيحته والعار به ، ونظيره الذل والهوان؛ واستمر ذلك دأبه ودأبهم { حتى إذا جاء أمرنا } أي وقت إرادتنا لإهلاكم { وفار } أي غلا وطفح { التنور } وعن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد أنه الحقيقي الذي يخبز فيه ، وهذا هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل ، لأن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل عبث كما قاله أهل الأصول { قلنا } بعظمتنا { احمل } ولما كان الله تعالى قد أمره أن يجعل لها غطاء - كما قاله أهل التفسير - لئلا تمتلىء من شدة الأمطار ، كانت الظرفية فيها بخلاف غيرها من السفن واضحة فلذلك قال : { فيها } أي السفينة { من كل زوجين } من الحيوانات ، والزوج فرد يكون معه آخر لا يكمل نفعه إلا به { اثنين } ذكراً وأنثى { وأهلك } أي احملهم ، والأهل : العيال { إلا من سبق } غالباً { عليه القول } بأني أغرقه وهو امرأته وابنه كنعان { ومن } أي واحمل فيها من { آمن } قال أبو حيان : وكانت السفينة ثلاث طبقات : السفلى للوحوش ، والوسطى للطعام والشراب ، والعليا له ولمن آمن معه؛ ثم سلى المخاطب بهذه القصص صلى الله عليه وسلم وذكره نعمته بكثرة من اتبعه مع صدعهم بمؤلم الإنذار على قصر الزمان دون نوح عليهم السلام مع تطاول الزمن فقال : { وما } أي والحال أنه ما { آمن } كائناً { معه } أي بإنذاره { إلا قليل* } بسبب تقديرنا لا باغضائهم بما كوفحوا به من الإنذار؛ والتنور - قال أبو حيان : وزنه فعول عند أبي علي وهو أعجمي ، وقال ثعلب : وزنه تفعول من النور ، وأصله تنوور ، همزت الواو ثم خففت وشدد الحرف الذي قبلها ، والزوج قد كثر على الرجل الذي له امرأة؛ قال الرماني : وقال الحسن في
{ ومن كل شيء خلقنا زوجين } [ الذاريات : 49 ] : السماء زوج والأرض زوج ، والشتاء زوج ، والصيف زوج ، والليل زوج ، والنهار زوج ، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء ، ومعنى ذلك في صحيح البخاري وأقل ما قيل فيمن كان في السفينة ثمانية : نوح وامرأة له ، وثلالة بنين : سام وحام ويافث ، ونساؤهم؛ وأكثر ما قيل أنهم ثمانون - روي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
ولما أتاه الأمر بذلك ، بادر الامتثال فجمع من أمره الله به إلى السفينة بعد أن هيأها لهم { وقال } أي لمن أمر بحمله { اركبوا } ولما كانت الظرفية أغلب على السفينة قال : { فيها } أي السفينة؛ ولما أمرهم بالركوب فركبوا ، استأنف قوله ، أو أمرهم بالركوب قائلين : { بسم الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { مجراها ومرساها } أي إجرائها وإرساءها ومحلهما ووقتهما ، وقرأ الحسن وقتادة وحميد العرج وإسماعيل بن مجالد عن عاصم بكسر الراء والسين كسراً خالصاً بعده ياءان خالصتان على أن الاسمين صفتان للجلالة؛ ثم علل نجاتهم بالإجراء والإرساء اعترافاً بأنه لا نجاة إلا بعفوه بقوله : { إن ربي } أي المحسن إلي بما دبر مني هذا الأمر وغيره ، وزاد في التأكيد تطبيقاً لقلوب من معه معرفاً لهم بأن أحداً لن يقدر الله حق قدره وأن العبد لا يسعه إلا الغفران فقال : { لغفور } أي بالغ الستر للزلات والهفوات { رحيم* } أي بالغ الإكرام لم يريد ، فركبوها واستمروا سائرين فيها يقولون : بسم الله { وهي } أي والحال أنها { تجري بهم } .
ولما كان الماء مهيئاً للإغراق ، فكان السير على ظهره من الخوارق ، وأشار إلى ذلك بالظرف فقال : { في موج } ونبه على علوه بقوله : { كالجبال } أي في عظمه وتراكمه وارتفاعه ، فالجملة حال من فركبوها ، المقدر لأنه لظهوره في قوة الملفوظ ، وكان هذه الحال مع أن استدامة الركوب ركوب إشارة إلى شرعة امتلاء الأرض من الماء وصيرورته فيها أمثال الجبال عقب ركوبهم السفينة من غير كبير تراخ ، قالوا : وكان أول ما ركب معه الذرة ، وآخر ما ركب معه الحمار ، وتعلق إبليس بذنبه فلم يستطع الدخول حتى قال له نوح عليه السلام : ادخل ولو كان الشيطان معك - كذا قالوا ، وقيل : إنه منع الحية والعقرب وقال : إنكما سبب الضر ، فقالا : احملنا ولك أن لا نضر أحداً ذكرك ، فمن قال { سلام على نوح في العالمين * إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين } [ الصافات : 79-80 ] لم تضراه . ولما كان ابتداء الحال في تفجر الأرض كلها عيوناً وانهمار السماء انهماراً - مرشداً إلى أن الحال سيصير إلى ما أخبر الله به من كون الموج كالجبال لا ينجي منه إلا السبب الذي أقامه سبحانه ، تلا ذلك بأمر ابن نوح فقال عاطفاً على قوله { وقال اركبوا } { ونادى نوح ابنه } أي كنعان وهو لصلبه - نقله الرماني عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك { وكان } أي الابن { في معزل } أي عن أبيه في مكانه وفي دينه لأنه كان كافراً ، وبين أن ذلك المعزل كان على بعض البعد بقوله : { يا بني } صغَّره تحنناً وتعطفاً { اركب } كائناً { معنا } أي في السفينة لتكون من الناجين { ولا تكن } أي بوجه من الوجوه { مع الكافرين* } أي في دين ولا مكان إشارة إلى أن حرص الرسل عليهم السلام وشفقتهم - وإن كانت مع رؤية الآيات العظام والأمور الهائلة - ليست سبباً للين القلوب وخضوع النفوس ما لم يأذن الله ، انظر إلى استعطاف نوح عليه السلام بقوله { يا بني } مذكراً له بالنبوة مع تصغير التحنن والتراؤف وفظاظة الابن مع عدم سماحه بأن يقول : يا أبت ، ولم يلن مع ما رأى من الآيات العظام ولا تناهى لشيء منها عن تقحم الجهل بدلاً من العلم وتعسف الشبهة بدلاً من الحجة .
ولما كان الحال حال دهش واختلال . كان السامع جديراً بأن لا يصبر بل يبادر إلى السؤال فيقول : فما قال؟ فقيل : { قال } قول من ليس له عقل تبعاً لمراد الله { سآوي إلى جبل يعصمني } أي بعلوه { من الماء } أي فلا أغرق { قال } أي نوح عليه السلام { لا عاصم } أي لا مانع من جبل ولا غير موجود { اليوم } أي لأحد { من أمر الله } أي الملك الأعظم المحيط أمره وقدرته وعلمه ، وهو حكمه بالغرق على كل ذي روح لا يعيش في الماء { إلا من رحم } أي إلا مكان من رحمة الله فإنه مانع من ذلك وهو السفينة ، أو لكن من رحمه الله فإن الله يعصمه .
ولما ركب نوح ومن أمره الله به وأراده . ولم تبق حاجة في تدرج ارتفاع الماء ، فعلاً وطماً وغلب وعتاً فهال الأمر وزاد على الحد والقدر ، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره : فلم يسمع ابنه ذلك منه بل عصى أباه كما عصى الله فأوى إلى الجبل الذي أراده فعلاً الماء عليه ولم يمكنه بعد ذلك اللحاق بأبيه ولا الوصول إليه : { وحال بينهما } أي بين الابن والجبل أو بينه وبين أبيه { الموج } المذكور في قوله { في موج كالجبال } { فكان } أي الابن بأهون أمر { من المغرقين* } وهم كل من لم يركب مع نوح عليه السلام من جميع أهل الأرض؛ قال أبو حيان : قل كانا يتراجعان الكلام فما استتمت لمراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه وحيل بينه وبين نوح عليه السلام فغرق - انتهى . والركوب : العلو على ظهر الشيء ، ركب الدابة والسفينة والبر والبحر؛ والجري : مر سريع؛ يقال : هذه العلة تجري في أحكامها ، أي تمر من غير مانع ، والموج جمع موجة - لقطعة عظيمة من الماء الكثير ترتفع عن حملته ، وأعظم ما يكون ذلك إذا اشتدت الريح؛ والجبل : جسم عظيم الغلظ شاخص من الأرض هو لها كالوتد؛ والعصمة : المنع من الآفة { وقيل } أي بأدنى إشارة بعد هلاك أهل الأرض وخلوها من الكافرين وتدمير من في السهول والجبال من الخاسرين ، وهو من إطلاق المسبب - وهو القول - على السبب - وهو لإرادة - لتصوير أمر ومأمور هو في غاية الطاعة فإنه أوقع في النفس .
ولما كان كل شيء دون مقام الجلال والكبرياء والعزة بأمر لا يعلمه إلا الله ، دل على ذلك بأداة البعد فقال { يا أرض ابلعي } أي اجذبي من غير مضغ إلى مكان خفي بالتدريج ، وعين المبلوع لئلا يعم فتبتلع كل شيء على ظهرها من جبل وغيره ، ولذلك أفرد ولم يجمع فقال : { ماءك } أي الذي تجدد على ظهرك للإغراق ليكون كالغذاء للآكل الذي يقوي بدنه فيقوى به على الإنبات وسائر المنافع وجعله ماءها لاتصاله بها اتصال الملك بالمالك { ويا سماء أقلعي } أي أمسكي عن الإمطار ، ففعلتا مبادرتين لأمر الملك الذي لا يخرج عن مراده شيء { وغيض الماء } أي المعهود ، حكم عليه بالدبوب في أعماق الأرض ، من المتعدي فإنه يقال : غاض الماء وغاضه الله ، كما يقال : نقض الشيء ونقضته أنا { وقضي الأمر } أي فرغ وانبتّ وانبرم في إهلاك من هلك ونجاة من نجا كما أراد الجليل على ما تقدم به وعده نوحاً عليه السلام ، لم يقدر أحد أن يحبسه عنهم ولا أن يصرفه ولا أن يؤخره دقيقة ولا أصغر منها . فليحمد الله من أخر عنه العذاب ولا يقل ما « يحبسه » لئلا يأتيه مثل ما أتى هؤلاء أو من بعدهم { واستوت } أي استقرت واعتدلت السفينة { على الجودي } إشارة باسمه إلى أن الانتقام العام قد مضى ، وما بقي إلا الجود بالماء والخير والخصب والرحمة العامة ، وهو الجبل بالموصل بعد خمسة أشهر؛ قال قتادة : استقلت بهم لعشر خلون من رجب وكانت في الماء خمسين ومائة يوم ، واستقرت بهم على الجودي شهراً ، وهبط بهم يوم عاشوراء { وقيل } أي إعلاماً بهوان المهلكين والراحة منهم { بعداً } هو من بعد - بالكسر مراداً به البعد من حيث الهلاك ، فإن حقيقته بعدُ بعيد لا يرجى منه عود ، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ، وعبر بالمصدر لتعليقه باللام الدالة على الاستحقاق والختصاص { للقوم } أي المعهودين في هذه القصة التي كان فيها من شدة القيام فيما يحاولونه ما لا يعلمه أحد إلا الله { الظالمين* } أي العريقين في الظلم ، وهذه الآية تسع عشرة لفظة فيها أحد وعشرون نوعاً من البديع - عدها أبو حيان وقال : وروي أن أعرابياً سمعها فقال : هذا كلام القادرين . وذكر الرماني عدة من معانيها ، منها إخراج الأمر على جهة التعظيم لفاعله من غير معاناة ولا لغوب ، ومنا حسن تقابل المعاني ، ومنها حسن ائتلاف الألفاظ ، ومنها حسن البيان في تصوير الحال ، ومنها الإيجاز من غير إخلال ، ومنها تقبل الفهم على أتم الكمال؛ والبلع : إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف؛ والإقلاع : إذهاب الشيء من أصله حتى لا يبقى له أثر؛ والغيض : غيبة الماء في ألأرض على جهة النشف وإبراز الكلام على البناء للمفعول أدل على الكبرياء والعظمة للفاعل للإشارة إلى أنه معلوم لأنه لا يقدر على مثل هذه الأفعال غيره ، ونقل الأصبهاني عن صاحب المفتاح فيها كلاماً أغلى من الجوهر .
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
ولما كان الاستثناء من أهله في قوله : { إلا من سبق عليه القول } يجوز أن يراد به امرأته فقط ، فتكون نجاة ابنه جائزة ، وكان ما عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من فرط الشفقة على الخلق لا سيما الأقارب يحملهم على السعي في صلاحهم ما كان لذلك وجه كما تقدم مثل ذلك في قوله تعالى { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } [ التوبة : 80 ] لأن أجنحة الخلق كسيرة وأيديهم قصيرة وأمرهم ضعيف وحالهم رث ، فأدنى هوان يورثهم الخسران ، وأما جناب الحق ففسيح وشأنه عظيم وأمره عليّ ، فلا يلحقه نقص بوجه ولا يدانيه ضرر ولا يعتري أمره وهن ، لما كان ذلك كذلك ، سأل نوح عليه السلام نجاة ولده كما أخبر عنه تعالى في قوله : { ونادى نوح ربه } أي الذي عوده بالإحسان الجزيل ، ودل سبحانه بالعطف بالفاء دون أن يأتي بالاستئناف المفسر للنداء على أن ما ذكر هنا من نداء نوح عليه السلام بعض ندائه وأن هذا المذكور مرتب معقب على شيء منه سابق عليه أقربه أن يكون ما أرشده إليه سبحانه في سورة المؤمنين ويشعر به قوله تعالى بعد هذا جواباً له { يا نوح اهبط بسلام منا } فيكون تقدير الكلام قال : رب أنزلني منزلاً مباركاً - وما قدر له من الكلام { فقال } أي عقبة لما حمله على ذلك من رحمة النبوة وشفقة الأبوة وسجية البشر متعرضاً لنفحات الرحمة وعواطف العفو؛ أو الفاء تفصيل لمجمل « نادى » مثل ما في : توضأ فغسل { رب إن ابني } أي الذي غرق { من أهلي } أي وقد أمرتني بحمل أهلي ، وذلك الأمر محتمل للإشارة إلى إرادة نجاتهم { وإن وعدك الحق } أي الكامل في نجاتهم إلا من سبق عليه القول ، وقد علمت ذلك في المرأة الكافرة { وأنت أحكم الحاكمين* } لأنك أعلمهم ، ومن كان أعلم كان أحكم فتعلم أن قولك { إلا من سبق عليه القول } يصح باستثنائها وحدها ، فإن كان ابني ممن نجا فأتني به؛ وإن كان هذا الدعاء عند حيلولة الموج بينهما فالمعنى : فلا تهلكه { قال يا نوح } وأكد في نفي ما تقدم منه إثباته فقال : { إنه ليس من أهلك } أي المحكوم بنجاتهم لإيمانهم وكفره ، ولهذا علل بقوله : { إنه عمل } أي ذو عمل ، ولكنه جعله نفس العمل في قراءة الجماعة مبالغة في ذمه ، وذلك لأن الجواهر متساوية الأقدام في نفس الوجود لا تشرف إلا بآثارها ، فبين أنه ليس فيه أثر صالح أصلاً ، ويثبت قراءة يعقوب والكسائي بالفعل أن من باشر السوء مطلق مباشرة وجبت البراءة منه ، ولا سيما للأمر فلا يواصل إلا بإذن ، وعبر بالعمل دون الفعل لزعمه أن أعماله مبنية على العلم ، وأكده لما لا يخص من سؤال نوح عليه السلام هذا { غير صالح } بعلمي ، وقد حكمت في هذا الأمر أني لا أنجي منه إلا من اتصف بالصلاح وأنا عليم بذات الصدور ، وأنت يخفي عليك كثير من الأمور فربما ظننت الإيمان بمن ليس بؤمن لبنائك الأمر على ما نراه من ظاهره؛ وقد نقل الرماني عن الحسن أنه كان ينافق بإظهار الإيمان ، وهذا يدل على أن الموافق في الدين ألصق ما يكون وإن كان في غاية البعد في النسب ، والمخالف فيه أبعد ما يكون وإن كان في غاية القرب في النسب .
ولما تسبب عن هذا الجواب أن ترك السؤال كان أولى ، ذكر أمراً كلياً يندرج فيه فقال : { فلا تسألن } أي بنوع من أنواع السؤال { ما ليس لك به علم } فلا تعلم أصواب السؤال فيه أم لا ، لأن اللائق بأمثالك من أولى القرب بناء أمورهم على التحقيق وانتظار الإعلام منا ، انظر إلى قول موسى عليه السلام في حديث الشفاعة في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : « وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها » ومن المعلوم أن تلك النفس كانت كافرة من آل فرعون { إني أعظك } بمواعظي كراهية { أن تكون } أي كوناً تتخلق به { من الجاهلين* } أي في عداد الذين يعملون بالظن لأنهم لا سبيل لهم إلى الوقوف على حقائق الأمور من قبلنا فتسأل مثل ما يسألون .
ولما انجلى للسامع ما هو فيه صلى الله عليه وسلم من علو المقام وعظيم الشأن الموجب للعقاب على كثير من الصواب فتشوف للجواب ، استأنف بيانه بقوله : { قال } أي مبادراً على ما يقتضيه له من كمال الصفات { رب } أي أيها المحسن إليّ ، وأكد دلالة للسامعين على عظيم رغبته فقال : { إني أعوذ بك أن } أي من أن { أسألك } أي في شيء من الأشياء { ما ليس لي به علم } تأدباً بإذنك واتعاظاً بموعظتك وارتقاء لما رقيتني إليه من علو الدرجة ورفيع المنزلة { وإلا تغفر لي } أي الآن وفي المستقبل { وترحمني } أي تستر زلاتي وتمحها وتكرمني { أكن من الخاسرين* } أي العريقين في الخسارة فكأنه قيل : ماذا أجيب عن ذلك؟ فقيل : { قيل } بالبناء للمفعول دلالة على العظمة والجلال الذي تكون الأمور العظيمة لأجله بأدنى إشارة { يا نوح اهبط } أي من السفينة { بسلام } أي عظيم { منا } أي ومن سلمنا عليه فلا هلك يلحقه { وبركات } أي خيرات نامية عظيمة صالحة { عليك } أي خاصة بك { وعلى أمم } ناشئة { ممن معك } لكونهم على ما يرضينا ولا نمتعهم بالدنيا إلا قليلاً ، ولهم إذا رجعوا إلينا نعيم مقيم ، وقد دخل في هذا الكلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة { وأمم } أي منهم { سنمتعهم } في الدنيا بالسعة في الرزق والخفض في العيش على وفق علمنا وإرادتنا ولا بركات عليهم منا ولا سلام ، فالآية من الاحتباك : ذكر البركات والسلام أولاً دليلاً على نفيهما ثانياً ، والمتاع ثانياً ، دليلاً على حذفه أولاً { ثم يمسهم منا } أي في الدارين أو في الآخرة أو فيهما { عذاب أليم* } لجريهم على غير هدينا وجرأتهم على ما يسخطنا ، ويجوز أن يكون { وأمم } مبتدأ من غير تقدير صفة محذوفة ، فيكون المسوغ للابتداء كون المقام مقام التفضيل؛ والعياذ : طلب النجاة بما يمنع من الشر؛ والبركة : ثبوت الخير بنمائه حالاً بعد حال ، وأصله الثبوت ، ومنه البروك والبركة لثبوت الماء فيها .
ذكر قصة نوح عليه السلام من التوراة وهو نوح بن لمك بن متوشلح بن خنوخ بن يارد بن مهلاليل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام ، وذلك لأنه في أوائل السفر الأول منها : وإن آدم طاف نحو حليلته فحبلت وولدت ابناً فسماه شيث وقال : الآن أخلف الله عليّ نسلاً آخر بدل هابيل الذي قتله قابيل ، وذلك بعد أن عاش آدم مائة وثلاثين سنة ، وكان جميع حياة آدم تسعمائة وثلاثين سنة ، وعاش شيث مائة وخمس سنين فولد له أنوش ، وكان جميع حياة شيث تسعمائة واثنتي عشرة سنة ، فعاش أتوش تسعين سنة فولد له قينان وكان جيمع حياة أنوش تسعمائة وخمس سنة ، وعاش قينان سبعين سنة فولد له مهلاليل وكان جميع حياة قينان تسعمائة وعشرين سنة ، وعاش مهلاليل خمساً وستين سنة فولد له يارد وكانت مائة واثنتين وستين سنة فولد به خنوخ فكانت جميع حياة يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة ، وعاش خنوخ خمساً وستين سنة فولد له متوشلح وكانت جميع حياة خنوخ ثلاثمائة وخمساً وستين سنة ، وعاش متوشلح مائة وسبعاً وثمانين سنة فولد له لمك وكانت جميع حياة متوشلح تسعمائة وتسعاً وستين سنة ، وعاش لمك مائة واثنتين وثمانين سنة فولد له ابن فسماه نوحاً ، ثم قال : هذا يريحنا من أعمالنا ، وكد أيدينا في الأرض التي قد لعنها الله ، وكانت جميع أيام حياة لمك سبعمائة وسبعاً وسبعين سنة ، وتوفي ونوح ابن خمسمائة سنة . فولد لنوح بنون : سام وحام ويافث ، فلما بدأ الناس أن يكثروا على وجه الأرض وولد لهم البنات نظر بنو الأشارف منهم بنات العامة حساناً جداً فأخذوا منهم النساء على ما اختاروا وأحبوا ، فقال الله عند ذلك : لا تحل عنايتي وشفتي على هؤلاء الناس لأنهم يتبعون أهواء الجسد واللحم وكانت على الأرض جبابرة في تلك الأيام ومن بعدها ، لأن بني الأشراف دخلوا على بنات العامة فولد لهم جبابرة مذكورون ، فرأى الرب أن شر الناس قد كثر على الأرض هوىء فكرهم وحقدهم ردىء في جميع الأيام ، فقال الرب : أمحق الذين خلقت وأبيدهم عن جديد الأرض من الناس والبهائم حتى الهوام وطير السماء؛ وظفر نوح من الله برحمة ورأفة ، وكان نوح رجلاً باراً تقياً في حقبه فأرضى الله ، وفسدت الأرض بين يدي الله وامتلأت إثماً وفجوراً ، فرأى الرب الإله أن الأرض قد فسدت وقال الله لنوح : قد وصل إلى أمر جميع الناس وسوء أعمالهم لأن الأرض قد امتلأت إثماً وفجوراً بسوء سيرتهم .