كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
ولما أثبت بقوله : { الحمد لله } أنه المستحق لجميع المحامد لا لشيء غير ذاته الحائز لجميع الكمالات أشار إلى أنه يستحقه أيضاً من حيث كونه رباً مالكاً منعماً فقال : { رب } وأشار بقوله : { العالمين } إلى ابتداء الخلق تنبيهاً على الاستدلالات بالمصنوع على الصانع وبالبداءة على الإعادة كما ابتدأ التوراة بذلك لذلك قال الحرالي : و { الحمد } المدح الكامل الذي يحيط بجميع الأفعال والأوصاف ، على أن جميعها إنما هو من الله سبحانه تعالى وأنه كله مدح لا يتطرق إليه ذم ، فإذا اضمحل ازدواج المدح بالذم وعلم سريان المدح في الكل استحق عند ذلك ظهور اسم الحمد مكملاً معرفاً بكلمة « أل » وهي كلمة دالة فيما اتصلت به على انتهائه وكماله . انتهى .
ولما كانت مرتبة الربوبية لا تستجمع الصلاح إلا بالرحمة اتبع ذلك بصفتي { الرحمن الرحيم } ترغبياً في لزوم حمده ، وهي تتضمن تثنية تفصيل ما شمله الحمد أصلاً؛ وسيأتي سر لتكرير هاتين الصفتين في الأنعام عند { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] عن الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى أنه لا مكرر في القرآن .
ولما كان الرب المنعوت بالرحمة قد لا يكون مالكاً وكانت الربوبية لا تتم إلا بالمِلك المفيد للعزة المقرون بالهيبة المثمرة للبطش والقهر المنتج لنفوذ الأمر اتبع ذلك بقوله : { مالِك يوم الدين } ترهيباً من سطوات مجده . قال الحرالّي : واليوم مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر ، ثم قال : و { يوم الدين } في الظاهر هو يوم ظهور انفراد الحق بإمضاء المجازاة حيث تسقط دعوى المدعين ، وهو من أول يوم الحشر إلى الخلود فالأبد ، وهو في الحقيقة من أول يوم نفوذ الجزاء عند مقارفة الذنب في باطن العامل أثر العمل إلى أشد انتهائه في ظاهره ، لأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر ، ولذلك يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام : « إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء » وأيضاً فكل عقاب يقع في الدنيا على أيدي الخلق فإنما هو جزاء من الله وإن كان أصحاب الغفلة ينسبونه للعوائد ، كما قالوا : { مس آباءنا الضراء والسراء } [ الأعراف : 95 ] ويضيفونه للمعتدين عليهم بزعمهم ، وإنما هو كمال قال تعالى : { وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] وكما ورد عنه عليه الصلاة والسلام : « الحمى من فيح جهنم ، وإن شدة الحر والقر من نفسها » وهي سوط الجزاء الذي أهل الدنيا بأجمعهم مضروبون به ، ومنهل التجهّم الذي أجمعهم واردوه من حيث لا يشعر به أكثرهم ، قال عليه الصلاة والسلام : « المرض سوط الله في الأرض يؤدب به عبادة » وكذلك ما يصيبهم من عذاب النفس بنوع الغم والهم والقلق والحرص وغير ذلك ، وهو تعالى مَلِك ذلك كله ومالكه ، سواء ادعى فيه مدح أو لم يدع ، فهو تعالى بمقتضى ذلك كله ملِك يوم الدين ومالكه مطلقاً في الدنيا والآخرة وإلى الملك أنهى الحق تعالى تنزل أمره العلي لأن به رجع الأمر عوداً على بدء بالجزاء العائد على آثار ما جبلوا عليه من الأوصاف تظهر عليهم من الأفعال كما قال تعالى :
{ وسيجزيهم وصفهم } [ الأنعام : 193 ] و { جزاء بما كانوا يعملون } [ السجدة : 17 ] . [ الأحقاف : 4 ] ، [ الواقعة : 24 ] وبه تم انتهاء الشرف العلي وهو المجد الذي عبر عنه قوله تعالى : « مجدني عبدي » انتهى ، ولما لم يكن فرق هنا في الدلالة على الملك بين قراءة « مَلِك » وقراءة « مالك » جاءت الرواية بهما ، وذلك لأن المالك إذا أضيف إلى اليوم أفاد اختصاصه بجميع ما فيه من جوهرة وعرض ، فلا يكون لأحد معه أمر ولا معنى للمَلِك سوى هذا ، ولما لم تُفد إضافته إلى الناس هذا المعنى لم يكن خلاف في { ملِك الناس } [ الناس : 2 ] . فلما استجمع الأمر استحقاقاً وتحبيباً وترغيباً وترهيباً كان من شأن كل ذي لب الإقبال إليه وقصر الهمم عليه فقال عادلاً عن أسلوب الغيبة إلى الخطاب لهذا مقدماً للوسيلة على طلب الحاجة لأنه أجدر بالإجابة { إياك } أي يا من هذه الصفات صفاته! { نعبد } إرشاداً لهم إلى ذلك؛ ومعنى { نعبد } كما قال الحرالي : تبلغ الغاية في أنحاء التذلل ، وأعقبه بقوله مكرراً للضمير حثاً على المبالغة في طلب العون { وإياك نستعين } إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته وإلى أن ملاك الهداية بيدة : فانظر كيف ابتدأ سبحانه بالذات ، ثم دل عليه بالأفعال ، ثم رقي إلى الصفات ، ثم رجع إلى الذات إيماء إلى أنه الأول والآخر المحيط ، فلما حصل الوصول إلى شعبة من علم الفعال والصفات علم الاستحقاق للأفراد بالعبادة فعلم العجز عن الوفاء بالحق فطلب الإعانة ، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود في الصلاة والترمذي وابن ماجه في الدعاء والنسائي وهذا لفظه في التعوذ عن عائشة رضى الله عنها : « أعوذ بعفوك من عقوبتك ، وبرضاك من سخطك ، وبك منك » ثم أتبعه فيما زاد عن النسائي الاعتراف بالعجز في قوله : « لا أحصي ثناء عليك أنت أثنيت على نفسك » وفي آخر سورة اقرأ شرح بديع لهذا الحديث .
قال الحرالي : وهذه الآيات أي هذه وما بعدها مما جاء كلام الله فيه جارياً على لسان خلقه فإن القرآن كله كلام الله لكن منه ما هو كلام الله عن نفسه ومنه ما هو كلام الله عما كان يجب أن ينطق على اختلاف ألسنتهم وأحوالهم وترقي درجاتهم ورتب تفاضلهم مما لا يمكنهم البلوغ إلى كنهه لقصورهم وعجزهم فتولى الله الوكيل على كل شيء الإنباء عنهم بما كان يجب عليهم مما لا يبلغ إليه وُسع خلقه وجعل تلاوتهم لما أنبأ به على ألسنتهم نازلاً لهم منزلة أن لو كان ذلك النطق ظاهراً منهم لطفاً بهم وإتماماً للنعمة عليهم ، لأنه تعالى لو وكلهم في ذلك إلى أنفسهم لم يأتوا بشيء تصلح به أحوالهم في دينهم ودنياهم ، ولذلك لا يستطيعون شكر هذه النعمة إلا أن يتولى هو تعالى بما يلقنهم من كلامه مما يكون أداء لحق فضله عليهم بذلك ، وإذا كانوا لا يستطيعون الإنباء عن أنفسهم بما يجب عليهم من حق ربهم فكيف بما يكون نبأ عن تحميد الله وتمجيده ، فإذاً ليس لهم وصلة إلا تلاوة كلامه العلي بفهم كان ذلك أو بغير فهم ، وتلك هي صلاتهم المقسمة التي عبر عنها فيما صح عنه علية الصلاة والسلام من قوله تعالى :
« قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين » ثم تلا هذه السورة؛ فجاءت الآيات الثلاث الأول بحمد الله تعالى نفسه ، فإذا تلاها العبد قبل الله منه تلاوة عبده كلامه وجعلها منه حمداً وثناء وتمجيداًَ ، وجاءت هذه الآيات على لسان خلقه فكان ظاهرها التزام عُهَد العبادة وهو ما يرجع إلى العبد وعمادها طلب المعونة من الله سبحانه وهو ما يرجع إلى الحق ، فكانت بينه وبين عبده وتقدمت بينيّته تعالى ، لأن المعونة متقدمة على العبادة وواقعة بها وهو مجاب فيما طلب من المعونة ، فمن كانت عليه مؤنة شىء فاستعان الله فيها على مقتضى هذه الآية جاءته المعونة على قدر مؤنته ، فلا يقع لمن اعتمد مقتضى هذه الآية عجز عن مرام أبداً وإنما يقع العجز ببخس الحظ من الله تعالى والجهل بمقتضى ما أحكمته هذه الآية والغفلة عن النعمة بها ، وفي قوله : { نعبد } بنون الاستتباع إشعار بأن الصلاة بنيت على الاجتماع . انتهى . وفي الآية ندب إلى اعتقاد العجز واستشعار الافتقار والاعتصام بحوله وقوته ، فاقتضى ذلك توجيه الرغبات إليه بالسؤال فقال : { اهدنا الصراط المستقيم } تلقيناً لأهل لطفه وتنبيهاً على محل السلوك الذي لا وصول بدونه ، والهدى قال الحرالي : مرجع الضال إلى ما ضل عنه ، والصراط الطريق الخطر السلوك ، والآية من كلام الله تعالى على لسان العُلّية من خلقه ، وجاء مكملاً بكلمة « أل » لأنه الصراط الذي لا يضل بمهتديه لإحاطته ولشمول سريانه وفقاً لشمول معنى الحمد في الوجود كله وهو الذي تشتت الآراء وتفرقت بالميل إلى واحد من جانبيه وهو الذي ينصب مثاله . وعلى حذو معناه بين ظهراني جهنم يوم الجزاء للعيان وتحفه مثل تلك الآراء خطاطيف وكلاليب ، تجري أحوال الناس معها في المعاد على حسب مجراهم مع حقائقها التي ابتداء في يوم العمل ، وهذا الصراط الأكمل وهو المحيط المترتب على الضلال الذي يعبر به عن حال من لا وجهة له ، وهو ضلال ممدوح لأنه يكون عن سلامة الفطرة لأن من لا علم له بوجهة فحقه الوقوف عن كل وجهة وهو ضلال يستلزم هدى محيطاً منه
{ ووجدك ضالاً فهدى } [ الضحى : 6 ] وأما من هدى وجهة ما فضلّ عن مرجعها فهو ضلال مذموم لأنه ضلال بعد هدى وهو يكون عن اعوجاج في الجبلة . انتهى . ثم أكد سبحانه وتعالى الإخبار بأن ذلك لن يكون إلا بإنعامه منبهاً بهذا التأكيد الذي أفاده الإبدال على عظمة هذا الطريق فقال : { صراط الذين أنعمت عليهم } فأشار إلى أن الاعتصام به في اتباع رسله ، ولما كان سبحانه عام النعمة لكل موجود عدواً كان أو ولياً ، وكان حذف المنعم به لإرادة التعميم من باب تقليل اللفظ لتكثير المعنى فكان من المعلوم أن محط السؤال بعض أهل النعمة وهم أهل الخصوصية . يعني لو قيل : اتبع طريق أهل مصر مثلاً لا أهل دمشق ، علم أن المنفي غير داخل في الأول لأن شرطه أن يتبعاه متعاطفاه كما صرحوا به ، بخلاف ما لو قيل : اتبع طريق أهل مصر غير الظلمة ، فإنه يعلم أن الظلمة منهم ، فأريد هنا التعريف بأن النعمة عامة ولو لم تكن إلا بالإيجاد ، ومن المعلوم أن السلوك لا بد وأن يصادف طريق بعضهم وهم منعم عليهم فلا يفيد السؤال حينئذ ، فعرف أن المسؤول إنما هو طريق أهل النعمة بصفة الرحيمية تشوقت النفوس إلى معرفتهم فميزهم ببيان أضدادهم تحذيراً منهم ، فعرف أنهم قسمان : قسم أريد للشقاوة فعاند في إخلاله بالعمل فاستوجب الغضب ، وقسم لم يرد للسعادة فضل من جهة إخلاله بالعلم فصار إلى العطب فقال مخوفاً بعد الترجية ليكمل الإيمان بالرجاء والخوف معرفاً بأن النعمة عامة والمراد منها ما يخص أهل الكرامة : { غير المغضوب عليهم } أي الذين تعاملهم معاملة الغضبان لمن وقع عليه غضبه ، وتعرفت « غير » لتكون صفة للذين بإضافتها إلى الضد فكان مثل : الحركة غير السكون ، ولما كان المقصود من « غير » النفي لأن السياق له وإنما عبر بها دون أداة استثناء دلالة على بناء الكلام بادىء بدء على إخراج المتلبس بالصفة وصوناً للكلام عن إفهام أن ما يعد أقل ودون لا { ولا الضالين } فعلم مقدار النعمة على القسم الأول وأنه لا نجاة إلا باتباعهم وأن من حاد عن سبيلهم عامداً أو مخطئاً شقي ليشمّر أولو الجد عن ساق العزم وساعد الجهد في اقتفاء آثارهم للفوز بحسن جوارهم في سيرهم وقرارهم .
قال الحرالي : { المغضوب عليهم } الذين ظهر منهم المراغمة وتعمد المخالفة فيوجب ذلك الغضب من الأعلى والبغض من الأدنى . { الضالين } الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها من غير تعمد لذلك . « أمين » كلمة عزم من الأمن ، مدلولها أن المدعو مأمون منه أن يرد من دعاه لأنه لا يعجزه شيء ولا يمنعه وهي لا تصلح إلا لله لأن ما دونه لا ينفك عن عجز أو منع انتهى وهو صوت سمي به الفعل الذي هو استجب وقد انعطف المنتهى على المبتدأ بمراقبة القسم الأول اسم الله فحازوا ثمرة الرحمة وخالف هذان القسمان فكانوا من حزب الشيطان فأخذتهم النقمة ، وعلم أن نظم القرآن على ما هو عليه معجز ، ومن ثم اشتراط في الفاتحة في الصلاة لكونها واجبة في الترتيب ، فلو قدم فيها أو أخر لم تصح الصلاة وكذا لو أدرج فيها ما ليس منها للإخلال بالنظم .
قال الأصبهاني : فإن القرآن معجز والركن الأبين الإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب . انتهى . والحاصل أنه لما رفعت تلك الصفات العلية لمخاطبها الحجب وكشفت له بسمو مجدها وعلو جدها وشرف حمدها جلائل الستر وأشرقت به رياض الكرم ونشرت له لطائف عواطفها بسط البر والنعم ثم اخترقت به مهامه العظمة والكبرياء وطوت في تيسيرها له مفاوز الجبروت والعز وأومضت له بوارق النقم من ذلك الجناب الأشم وصل إلى مقام الفناء عن الفاني وتمكن في رتبة شهود البقاء للباقي فبادر الخضوع له عن السوى حاكماً على الأغيار بما لها من ذواتها من العدم والتوى فقال : { إياك نعبد } وفي تلك الحال تحقق العجز عن توفية ذلك المقام ما له من الحق فقال : { وإياك نستعين } .
فكشف له الشهود في حضرات المعبود عن طرق عديدة ومنازل سامية بعيدة ورأى أحوالاً جمة وأودية مدلهمة وبحاراً مغرقة وأنواراً هادية وأخرى محرقة ، ورأى لكل أهلاً قد أسلكوا فجاء تارة حزناً وأخرى سهلاً ، وعلم أن لا نجاة إلا بهدايته ولا عصمة بغير عنايته ولا سعادة إلا برحمته ولا سلامة لغير أهل نعمته؛ فلما أشرق واستنار وعرف مواقع الأسرار بالأقدار كأنه قيل له : ماذا تطلب وفي أي مذهب تذهب؟ فقال : { اهدنا الصراط المستقيم } .
ولما طلب أشرف طريق سأل أحسن رفيق فقال : { صراط الذين أنعمت عليهم } ولما كانت النعمة قد تخص الدنيوية عينها واستعاذ من أولئك الذين شاهدهم في التيه سائرين وعن القصد عائرين جائرين أو حائرين فقال : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .
وقد أشير في أم الكتاب . كما قال العلامة سعد الدين مسعود ابن عمرو التفتازاني الشافعي . إلى جميع النعم فإنها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولاً وإلى إيجاد وإبقاء ثانياً في دار الفناء والبقاء ، أما الإيجاد الأول فبقوله { الحمد لله رب العالمين } فإن الإخراج من العدم إلى الوجود أعظم تربية ، وأما الإبقاء الأول فبقوله : { الرحمن الرحيم } أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها التى بها البقاء ، وأما الإيجاد الثاني فبقوله : { مالك يوم الدين } وهو ظاهر ، وأما الإبقاء الثاني فبقوله : { إياك نعبد } إلى آخرها ، فإن منافع ذلك تعود إلى الآخرة .
ثم جاء التصدير بالحمد بعد الفاتحة في أربع سور أشير في كل سورة منها إلى نعمة من هذه النعم ترتيبها . انتهى ، وسيأتي في أول كل سورة من الأربع ما يتعلق بها من بقية كلامه إن شاء الله تعالى ، وهذا يرجع إلى أصل مدلول الحمد فإن مادته بكل ترتيب تدور على بلوغ الغاية ويلزم منه الاتساع والإحاطة والاستدارة فيلزمها مطأطأة الرأس وقد يلزم الغاية الرضا فيلزمه الشكر وسيبين وينزل على الجزئيات في سورة النحل إن شاء الله تعالى ، ثم في أول سبأ تحقيق ما قاله الناس فيه وفي النسبة بينه وبين الشكر فقد بان سر الافتتاح من حيث تصديرها بالحمد جزئياً فكلياً الذي كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه فهو أجذم؛ وتعقبه بمدح المحمود بما ذكر من أسمائه الحسنى مع اشتمالها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فهي أم القرآن لأنها له عنوان وهو كله لما تضمنته على قصرها بسط وتبيان .
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل في آخر الباب التاسع منه : ولننه هذه الأبواب بذكر القرآن ومحتواه على الكتب وجمعه وقراءته وبيانه وتنزيله وإنزاله وحكيمه ومبينه ومجيده وكريمه وعظيمه ومرجعه إلى السبع المثاني والقرآن العظيم أم القرآن ومحتواها عليه ، فنذكر جميع ذلك في الباب العاشر ، الباب العاشر في محل أم القرآن من القرآن ووجه محتوى القرآن على جميع الكتب والصحف المتضمنة لجميع الأديان .
اعلم أن الله سبحانه جمع نبأه العظيم كله عن شأنه العظيم في السبع المثاني أم القرآن وأم الكتاب وكنزها تحت عرشه ليظهرها في الختم عند تمام أمر الخلق وظهور بادىء الحمد بمحمد ، لأنه تعالى يختم بما به بدأ ولم يظهرها قبل ذلك ، لأن ظهورها يذهب وهل الخلق ويمحو كفرهم ولا يتم بناء القرآن إلا مع قائم بمشهود بيان الفعل ليتم الأمر مسمعاً ومرأى وذلك لمن يكون من خلقه كل خلق ليبين به ما من أمره كل أمر ، ثم فيما بين بدء الأمر المكنون وخاتم الخلق الكامل تدرج تنَشّؤ الخلق وبدو الأمر على حسب ذلك الأمر صحفاً فصحفاً وكتاباً فكتاباً ، فالصحف لما يتبدل سريعاً ، والكتاب لما يثبت ويدوم أمداً ، والألواح لما يقيم وقتاً .
ففي التوراة أحكام الله على عباده في الدنيا بالحدود والمصائب والضراء والبأساء ، وفي القرآن منها ما شاء الله وما يظهره الفقه من الحدود ، ومعارف الصوفية من مؤاخذة المصائب؛ وفي الإنجيل أصول تلك الأحكام والإعلام بأن المقصود بها ليست هي بل ما وراءها من أمر الملكوت ، وفي القرآن منها ما شاء الله مما يظهره العلم والحكمة الملكوتية ، وفي الزبور تطريب الخلق وجداً وهم عن أنفسهم إلى ربهم ، وفي الفرآن منه ما شاء الله مما تظهره الموعظة الحسنة ، ثم أنهى الأمر والخلق من جميع وجوهه ، فصار قرآناً جامعاً للكل متمماً للنعمة مكملاً للدين
{ اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] الآية ، بعثت لأتمم مكارم الأخلاق . وإن إلى ربك المنتهى .
ووجه فوت أم القرآن للقرآن أن القرآن مقصود تنزيله التفصيل والجوامع ، فيه نجوم مبثوثة غير منتظمة ، واحدة إثر واحدة ، والجوامع في أم القرآن منتطمة واحدة بعد واحدة إلى تمام السبع على وفاء لا مزيد فيه ولا نقص عنه؛ أظهر تعالى بما له سورة صورة تجليه من بدء الملك إلى ختم الحمد ، وبما لعبده مصورة تأديه من براءته من الضلال إلى هدى الصراط المستقيم ، { ووجدك ضالاً فهدى } [ الضحى : 7 ] وبما بينه وبينه قيام ذات الأمر والخلق فكان ذلك هو القرآن العظيم الجامع لما حواه القرآن المطلق الذكر بما فيه من ذلك تفصيلاً من مبينه وهو ما عوينت آية مسموعة ، ومن مجيده وهو ما جربت أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم ، يعلم ما شهد فكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي وما شهد له من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه ، ومن كريمه وهو ما ظهرت فيه أفانين إنعامه فيما دق وجل وخفي وبدا ، ومن حكيمه وهو ما ظهر في الحكمة المشهورة تقاضيه وانتظام مكتوب خلقه على حسب تنزيل أمره؛ وما كان منه بتدريج وتقريب للأفهام ففاءت من حال إلى حال وحكم إلى حكم كان تنزيلاً ، وما أهوى به من علو إلى سفل كان إنزالاً ، وهو إنزال حيث لا وسائط وتنزيل حيث الوسائط؛ وبيانه حيث الإمام العامل به مظهره في أفعاله وأخلاقه كان خلقه القرآن ، وقرآنه تلفيق تلاوته على حسب ما تتقاضاه النوازل .
آخر آية أنزلت { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] قال صلى الله عليه وسلم في مضمون قوله تعالى { إن علينا جمعه وقرآنه } [ القيامة : 17 ] « اجعلوها بين آية الدين والآية التي قبلها » لأنه ربما تقدم كيان الآية وتأخر في النظم قرآنها على ما تقدم عليها ، آية { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } [ الأحزاب : 50 ] الآية متأخرة الكيان متقدمة القرآن على آية { لا يحل لك النساء من بعد } [ الأحزاب : 52 ] فقد يتطابق قرآن الأمر وتطوير الخلق وقد لا يتطابق والله يتولى إقامتهما؛ وأما الجمع ففي قلبه نسبة جوامعه السبع في أم القرآن إلى القرآن بمنزلة نسبة جمعه في قلبه لمحاً واحداً إلى أم القرآن { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } [ القمر : 50 ] فهو جمع في قلبه ، وقرآن على لسانه ، وبيان في أخلاقه وأفعاله ، وجملة في صدره ، وتنزيل في تلاوته ، { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] قال الله تعالى : كذلك أي كذلك أنزلناه ، إلا ما هو منك بمنزلة سماء الدنيا من الكون
{ إنا أنزلناه في ليلة مباركة } [ الدخان : 3 ] أي إلى سماء الدنيا { ونزلناه تنزيلاً } [ الإسراء : 106 ] وعلى لسانه في أمد أيام النبوة ، وقال في تفسيره : القرآن باطن وظاهره محمد صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة رضى الله عنها : كان خلقه القرآن ، فمحمد صلى الله عليه وسلم صورة باطن سورة القرآن ، فالقرآن باطنه وهو ظاهره { نزل به الروح الأمين * على قلبك } [ الشعراء : 194 ] .
وقال في تفسير الفاتحة : وكانت سورة الفاتحة أمّاً للقرآن ، لأن القرآن جميعه مفصل من مجملها ، فالآيات الثلاث الأول شاملة لكل معنى تضمنته الأسماء الحسنى والصفات العلى ، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصل من جوامعها ، والآيات الثلاث الأخر من قوله : { اهدنا } شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله والتحيز إلى رحمة الله والانقطاع دون ذلك ، فكل ما في القرآن منه فمن تفصيل جوامع هذه ، وكل ما يكون وصلة بين مما ظاهرهن هذه من الخلق ومبدؤه وقيامه من الحق فمفصل من آية { إياك نعبد وإياك نستعين } انتهى .
ومن أنفع الأمور في ذوق هذا المشرب استجلاء الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولبعدي ما سأل فإذا قال العبد » الحمد لله رب العالمين « قال الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال » الرحمن الرحيم « قال الله : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال : » مالك يوم الدين « قال الله : مجدني عبدي . وقال مرة : فوض إليّ عبدي ، وإذا قال : » إياك نعبد وإياك نستعين « قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، وإذا قال : » اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين « قال : » هذا لعبدي ولعبدي ما سأل « والله أعلم .
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
ولما كان معنى { الم } هذا كتاب من جنس حروفكم التي قد فقتم في التكلم بها سائر الخلق فما عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله إلا لأنه كلام الله أنتج ذلك كماله ، فأشير إليه بأداة البعد ولام الكمال في قوله { ذلك الكتاب } لعلو مقدار بجلالة آثاره وبعد رتبته عن نيل المطرودين . ولما علم كماله أشار إلى تعظيمه بالتصريح بما ينتجه ويستلزمه ذلك التعظيم فقال { لا ريب فيه } أي في شيء من معناه ولا نظمه في نفس الأمر عند من تحقق بالنظر فالمنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له ، ولم يقدم الظرف لأنه كان يفيد الاختصاص فيفهم أن غيره من الكتب محل الريب .
قال الحرالي : « ذا » اسم مدلوله المشار إليه ، واللام مدلوله معها بُعدمّا { الكتاب } من الكتب وهو وصل الشيء المنفصل بوصلة خفية من أصله كالخرز في الجلد بقد منه والخياطة في الثوب بشيء من جنسه ليكون أقرب لصورة اتصاله الأول ، فسمي به ما ألزمه الناس من الأحكام وما أثبت بالرقوم من الكلام { لا } لنفي ما هو ممتنع مطلقاً أو في وقت « الريب » التردد بين موقعي تهمة بحيث يمتنع من الطمأنينة على كل واحد منها . انتهى . وأصله قلق النفس واضطرابه ، ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة ، ولما كان ذلك يستلزم الهدى قال : { هدى } وخص المنتفعين لأن الألد لا دواء له والمتعنت لا يرده شيء فقال : { للمتقين } أي الذين جبلوا في أصل الخلقة على التقوى؛ فافهم ذلك أن غيرهم لا يهتدي به بل يرتاب وإن كان ليس موضعاً للريب أصلاً .
قال الحرالي : جمع المتقي وهو المتوقف عن الإقدام على كل أمر لشعوره بتقصيره عن الاستبداد وعلمه بأنه غير مستغن بنفسه فهو متق لوصفه وحسن فطرته والمتقي كذا متوقف لأجل ذلك ، والتقوى أصل يتقدم الهدى وكل عبادة ، لأنها فطرة توقف تستحق الهدى وكل خير وهي وصية الله لأهل الكتاب . انتهى .
ثم وصفهم بمجامع الأعمال تعريفاً لهم فقال : { الذين يؤمنون بالغيب } أي الأمر الغائب الذي لا نافع في الإيمان غيره ، وعبر بالمصدر للمبالغة . { ويقيمون الصلاة } أي التي هي حضرة المراقبة وأفضل أعمال البدن بالمحافظة عليها وبحفظها في ذاتها وجميع أحوالها . ولما ذكر وصلة الخلق بالخالق وكانت النفقة مع أنها من أعظم دعائم الدين صلة بين الخلائق أتبعها بها فقال مقدماً للجار ناهياً عن الإسراف ومنبهاً بالتبعيض على طيب النفقة لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وآمراً بالورع وزاجراً عما فيه شبهة [ لأن الرزق يشمل الحلال والحرام والمشتبه ] { ومما رزقناهم } أي مكناهم من الانتفاع به على عظمة خزائننا وهو لنا دونهم { ينفقون } أي في مرضاتنا مما يلزمهم من الزكاة والحج والغزو وغيرها ومما يتطوعون به من الصدقات وغيرها ، والمراد بهذه الأفعال هنا إيجاد حقائقها على الدوام .
قال أبو حيان وغيره في قوله تعالى في سورة الحج { إن الذين كفروا ويصدون } [ الحج : 25 ] المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار . انتهى . وهذا مما لا محيد عنه وإلا لم يشملْ هذا في هذه السورة المدنية من تخلق به قبل الهجرة وقوله تعالى { فلم تقتلون أنبياء الله من قبل } [ البقرة : 91 ] قاطع في ذلك .
وقال الحرالي : { يؤمنون } ، من الإيمان وهو مصدر آمنه يؤمنه إيمانا إذا آمن من ينبهه على أمر ليس عنده أن يكذبه أو يرتاب فيه ، و « الغيب » ما غاب عن الحس ولم يكن عليه علم يهتدي به العقل فيحصل به العلم؛ وصيغة { يؤمنون } و { يقيمون } تقتضي الدوام على الختم ، وإدامة العمل إلى الختم تقتضي ظهوره عن فطرة أو جبلة وأنه ليس عن تعمل ومراءاة ، وعند ذلك يكون علما على الجزاء؛ و { الصلاة } الإقبال بالكلية على أمر ، فتكون من الأعلى عطفاً شاملاً ، ومن الأدنى وفاء بأنحاء التذلل والإقبال بالكلية على التلقي ، وإيمانهم بالغيب قبولهم من النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقاه بالوحي من أمر غائب الدنيا الذي هو الآخرة وما فيها وأمر غائب الملكوت وما فيه إلى غيب الجبروت وما به بحيث يكون عملهم على الغائب الذي تلقته قلوبهم على سبيل آذانهم كعملهم على ما تلقته أنفسهم على سبيل أعينهم وسائر حواسهم وداموا على عملهم ذلك حكم إيمانهم إلى الخاتمة .
ولما كانت الصلاة التزام عهد العبادة مبنياً على تقدم الشهادة متممة بجماع الذكر وأنواع التحيات لله من القيام له تعالى والركوع له والسجود الذي هو أعلاها والسلام بالقول الذي هو أدنى التحيات كانت لذلك تعهداً للإيمان وتكراراً ، ولذلك من لم يدم الصلاة ضعف إيمانه وران عليه كفر فلا إيمان لمن لا صلاة له ، والتقوى وحده أصل والإيمان فالصلاة ثمرته ، والإنفاق خلافة ولذلك البخل عزل عن خلافة الله { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } [ الحديد : 7 ] وهذا الأمر بتمامه هو الذي جعلت الخلافة لآدم به إلى ما وراء ذلك من كمال أمر الله الذي أكمله بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فالتقوى قلب باطن ، والإنفاق وجه ظاهر ، والإيمان فالصلاة وصلة بينهما . ووجه ترتب الإيمان بالغيب على التقوى أن المتقي لما كان متوقفاً غير متمسك بأمر كان إذا أرشد إلى غيب لا يعلمه لم يدفعه بمقتضى ما تقدم علمه؛ ووجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب أن المدد غيب ، لأن الإنسان لما كان لا يطلع على جميع رزقه كان رزقه غيباً ، فاذا أيقن بالخلف جاد بالعطية ، فمتى أمد بالأرزاق تمت خلافته وعظم فيها سلطانه وانفتح له باب إمداد برزق أعلى وأكمل من الأول .
فاذا أحسن الخلافة فيه بالإنفاق منه أيضاً انفتح له باب إلى أعلى إلى أن ينتهي إلى حيث ليس وراءه مرأى وذلك هو الكمال المحمدي ، وإن بخل فلم ينفق واستغنى بما عنده فلم يتق فكذب تضاءل أمر خلافته وانقطع عنه المدد من الأعلى؛ فبِحَقٍّ سمي الإنفاق زكاة؛ وفي أول الشورى كلام في الإيمان عن علي رضي الله عنه نفيس . انتهى .
ولما وصفهم بالإيمان جملة أشار إلى تفصيله على وجه يدخل فيه أهل الكتاب دخولاً أولياً فقال { والذين يؤمنون } أي يوجدون هذا الوصف بعد سماعهم للدعوة إيجاداً مستمراً { بما أنزل اليك } أي القرآن والسنة سواء كان قد وجد أو سيوجد؛ { وما أنزل من قبلك } أي على الأنبياء الماضين ، ولما كان الإيمان بالبعث من الدين بمكان عظيم جداً بينه بالتقديم إظهاراً لمزيد الاهتمام فقال : { وبالآخرة } أي التي هي دار الجزاء ومحل التجلي وكشف الغطاء ونتيجة الأمر . قال الحرالي : الآخرة معاد تمامه على أوليته . انتهى . ولما تقدم من الاهتمام عبر بالإيقان وأتى بضمير الفصل فقال : { هم يوقنون } لأن ذلك قائد إلى كل خير وذائد عن كل ضير ، والإيقان كما قال الحرالي صفاء العلم وسلامته من شوائب الريب ونحوه ، من يقن الماء وهو ما نزل من السماء فانحدر إلى كهف جبل فلم يتغير من قرار ولا وارد . انتهى . فهو يكون بعد شك ولذا لا يوصف به الله . والوصف بهده الأوصاف كما ترى إشارة إلى أمهات الأعمال البدنية والماليه من الأفعال والتروك ، فالإيمان أساس الأمر والصلاة مشار بها إلى التحلي بكل خير والتخلي عن كل شر { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] وكلاهما من أعمال البدن ، والنفقه عمل مالي ، فحصل بذلك حصر الفعل والترك الضابطين لجميع الأعمال كيف ما تشعبت ، وصرح بالفعل وأومى إلى الترك إيماء لا يفهمه إلا البصراء تسهيلاً على السالكين ، لأن الفعل من حيث هو ولو كان صعباً أيسر على النفس من الكف عما تشتهي . وفي وصفهم أيضاً بالإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله من التقريع والتبكيت لمن سواهم ما ستراه في الآيات الآتيه .
ولما أخبر عن أفعالهم الظاهرة والباطنة أخبر بثمرتها فقال : { أولئك } أي الموصوفون بتلك الصفات الظاهرات ، ولما تضمن ما مضى أن إيمانهم كان من أعظم استدلال فأثمر لهم التمسك بأوثق العرى من الأعمال استحقوا الوصف بالاستعلاء الذي معناه التمكن فقال : { على هدى } أي عظيم ، وزاد في تعظيمه بقوله : { من ربهم } أي المحسن إليهم بتمكينهم منه ولزومهم له تمكين من علا على الشيء ، ولما لم يلازم الهدى الفلاح عطف عليه قوله مشيراً بالعاطف إلى مزيد تمكنهم في كل من الوصفين { وأولئك } أي العالو الرتبه { هم } أي خاصة { المفلحون } أي الكاملون في هذا الوصف الذين انفتحت لهم وجوه الظفر ، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته من الفاء والعين نحو فلج بالجيم وفلق وفلذ وفلى .
قال الحرالي : وخرج الخطاب في هذه الآية مخرج المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومخرج إحضار المؤمنين بموضع الإشارة وهي مكانة حضرة دون مكانة حضرة المخاطب . انتهى . وكونها للبعد إعلام بعلو مقامهم . والفلاح الفوز والظفر بكل مراد ونوال البقاء الدائم في الخير .
ولما أردف البيان لأوصاف المؤمنين التعريف بأحوال الكافرين وكانوا قد انقسموا على مصارحين ومنافقين وكان المنافقون قسمين جهالاً من مشركي العرب وعلماء من كفار بني إسرائيل كان الأنسب ليفرغ من قسم برأسه على عجل البداءة أولاً بالمصارحين فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين ، لأن أمرهم أهون وشأنهم أيسر لقصدهم بما يوهنهم بالكلام أو بالسيف على أن ذكرهم على وجه يعم جميع الأقسام فقال مخاطباً لأعظم المنعم عليهم على وجه التسلية والإعجاز في معرض الجواب لسؤال من كأنه قال : هذا حال الكتاب للمؤمنين فما حاله للكافرين؟ { إن الذين كفروا } أي حكم ، بكفرهم دائماً حكماً نفذ ومضى فستروا ما أقيم من الأدلة على الوحدانية عن العقول التى هيئت لإدراكه والفطر الأولى التي خلصت عن مانع يعوقها عن الانقياد له وداموا على ذلك بما دل عليه السباق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان على الدوام واللحاق بالختم والعذاب ، ولعله عبر بالماضي والموضع للوصف تنفيراً من مجرد إيقاع الكفر ولو للنعمة وليشمل المنافقين وغيرهم .
ولما دل هذا الحال على أنهم عملوا ضد ما عمله المؤمنون من الانقياد كان المعنى { سواء عليهم أأنذرتهم } أي إنذارك في هذا الوقت بهذا الكتاب { أم لم تنذرهم } أي وعدم إنذارك فيه وبعده وقد انسلخ عن أم والهمزة معنى الاستفهام ، قال سيبوية : جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة . انتهى . ولعله عبر بصورة الاستفهام وقد سلخت عن معناه إفهاماً لأنهم توغلوا في الكفر توغل من وصل في الحمق إلى أنه لو شاهد الملك يستفهمك عنه ما آمن .
ولما كان كأنه قيل في أي شيء استوت حالتاهم قبل في أنهم { لا يؤمنون } وهي دليل على خصوص كونه هدى للمتقين وعلى وقوع التكليف بالممتنع لغيره فإنه سبحانه كلفهم الإيمان وأراد منهم الكفران ، فصار ممتنعاً لإرادته عدم وقوعه ، والتكليف به جار على سنن الحكمة فإن إرادة عدم إيمانهم لم تخرج إيمانهم عن حيز الممكن فيما يظهر ، لعدم العلم بما أراد الله من كل شخص بعينه ، فهو على سنن الابتلاء ليظهر في عالم الشهادة المطيع من غيره لإقامة الحجة؛ ويأتي في الصّافّات عند { افعل ما تؤمر }
[ الصافات : 102 ] تتمة لهذا .
قال الحرالي : فحصل بمجموع قوله : { سواء عليهم } إلى آخره وبقوله : { لا يؤمنون } خبر تام عن سابقة أمرهم ولاحقة كونهم ، فتم بالكلامين الخبر عنهم خبراً واحداً ملتئماً كتباً سابقاً وكوناً لاحقاً . انتهى . وكل موضع ذكر فيه الكفر فإنما عبر به إشارة إلى أن الأدلة الأصلية في الوضوح بحيث لا تخفى على أحد ولا يخالفها إلا من ستر مرآة عقله إما عناداً وإما بإهمال النظر السديد والركون ألى نوع تقليد .
ولما كان من أعجب العجب كون شيء واحد يكون هدى لناس دون ناس علل ذلك بقوله : { ختم الله } أي بجلاله { على قلوبهم } أي ختماً مستعلياً عليها فهي لا تعي حق الوعي ، لأن الختم على الشيء يمنع الدخول إليه والخروج منه ، وأكد المعنى بإعادة الجار فقال : { وعلى سمعهم } فهم لا يسمعون حق السمع ، وأفرده لأن التفاوت فيه نادر ، قال الحرالي : وشرّكه في الختم مع القلب لأن أحداً لا يسمع إلا ما عقل . انتهى . { وعلى أبصارهم غشاوة } فهم لا ينظرون بالتأمل .
ولما سوى هنا بين الإنذار وعدمه كانت البداءة بالقلوب أنسب تسوية لهم بالبهائم ، ولما كان الغبي قد يسمع أو يبصر فيهتدي وكان إلى السمع أضر لعمومه وخصوص البصر بأحوال الضياء نفى السمع ثم البصر تسفيلاً لهم عن حال البهائم ، بخلاف ما في الجاثية فإنه لما أخبر فيها بالإضلال وكان الضال أحوج شيء إلى سماع الهادي نفاه ، ولما كان الأصم ، إذا كان ذا فهم أو بصر أمكنت هدايته وكان الفهم أشرف نفاهما على ذلك الترتيب .
ولما وصفهم بذلك أخبر بمآلهم فقال : { ولهم عذاب عظيم } قال الحرالي : وفي قوله : { ولهم } إعلام بقوة تداعي حالهم لذلك العذاب واستحقاقهم له وتنشؤ ذواتهم إليه حتى يشهد عيان المعرفة به - أي العذاب - وبهم أنه لهم وكان عذابهم عظيماً آخذاً في عموم ذواتهم لكونهم لم تلتبس أبدانهم ولا نفوسهم ولا أرواحهم بما يصد عنهم شيئاً من عذابها كما يكون للمعاقبين من مذنبي مؤمني الأمم حيث يتنكب العذاب عن وجوههم ومواضع وضوئهم ونحو ذلك . انتهى . وسيأتى عند قوله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } [ البقرة : 165 ] ما يلتفت إلى هنا .
قال الحرالي : « الكفر » تغطية ما حقه الإظهار ، و « الإنذار » الإعلام بما يحذر ، و « الختم » إخفاء خبر الشيء بجمع أطرافه عليه على وجه يتحفظ به و « القلب » مبدأ كيان الشيء من غيب قوامه ، فيكون تغير كونه بحسب تقلب قلبه في الانتهاء ويكون تطوره وتكامله بحسب مدده في الابتداء والنماء ، والقلب من الإنسان بمنزلة السكان من السفينة بحسب تقلبه يتصرف سائره ، وبوضعه للتقلب والتقليب سمي قلباً ، وللطيف معناه في ذلك كان أكثر قسمه صلى الله عليه وسلم بمقلب القلوب ، « والغشاوة » غطاء مجلل لا يبدو معه من المغطى شيء و « العذاب » إيلام لا إجهاز فيه ، و « العظيم » الآخذ في الجهات كلها .
انتهى . وفي تعقيب ذكر المؤمنين بذكر المختوم على مداركهم المختوم بمهالكهم تعظيم للنعمة على من استجاب له . إذ قال « اهدنا » فهداه ، وإعلام بأن الهدى ليس إلا بيده ليلحّلوا في الطلب ويبرؤوا من ادعاء حول أو قوة .
ولما افتتح سبحانه بالذين واطأت قلوبهم ألسنتهم في الإيمان وثنى بالمجاهرين من الكافرين الذين طابق إعلانهم إسرارهم في الكفران اتبعه ذكر المساترين الذين خالفت ألسنتهم قلوبهم في الإذعان وهم المنافقون ، وأمرهم أشد لإشكال أحوالهم والتباس أقوالهم وأفعالهم ، فأضر الأعداء من يريك الصداقة فيأخذك من المأمن؛ وما أحسن ما ينسب إلى الإمام أبي سليمان الخطابي في المعنى :
تحرّز من الجهال جهدك أنهم ... وإن أظهروا فيك المودة أعداء
وإن كان فيهم من يسرك فعله ... فكل لذيذ الطعم أوجله داء
لا جرم ثنى سبحانه بإظهار أسرارهم وهتك أستارهم في سياق شامل لقسميهم ، فقبح أمورهم ووهّى مقاصدهم وضرب لهم الأمثال وبسط لهم بعض البسط في المقال فقال تعالى : { ومن الناس من يقول } أي لما أرسلنا رسولنا انقسم الناس قسمين : مؤمن وكافر ، وانقسم الكافر قسمين : فمنهم من جاهر وقال : لا نؤمن أبداً ، ومنهم من يقول ، ولعله أظهر ولم يضمر لانفرادهم عن المجاهرين ببعض الأحكام ، أو لأنه سبحانه لما ذكر طرفي الإيمان والكفر وأحوال المؤمنين وأحوال الذين كفروا ذكر المنافقين المترددين بين الاتصاف بالطرفين بلفظ الناس لظهور معنى النوس فيهم لاضطرابهم بين الحالين ، لأن النوس هو حركة الشيء اللطيف المعلق في الهواء كالخيط المعلق الذي ليس في طرفه الأسفل ما يثقله فلا يزال مضطرباً بين جهتين ، ولم يظهر هذا المعنى في الفريقين لتحيزهم إلى جهة واحده . قال الحرالي ، وعرف للجنس أو للعهد في الذين كفروا لأنهم نوع منهم ، وسر الإظهار موضع الإضمار على هذا ما تقدم ، { آمنا بالله } أي وحده بما له من الجلال والجمال مستحضرين لذلك ، ولما كانوا متهمين أكدوا بإعادة الجار فقالوا : { وباليوم الآخر } الذي جحده المجاهرون ، { وما هم بمؤمنين } أي بعريقين في الإيمان كما ادعوه بذكر الاسم الأعظم وإعادة الجار ، ولعله نفى العراقة فقط لأن منهم من كان مُزَلزلاً حين هذا القول غير جازم بالكفر وآمن بعد ذلك ، وحذف متعلق الإيمان تعميماً في السلب عنهم لما ذكروا وغيره ، وجمع هنا وأفرد في [ يقول ] تنبيهاً على عموم الكفر لهم كالأولين وقلة من يسمح منهم بهذا القول إشارة إلى غلظتهم وشدة عثاوتهم في الكفر وقوتهم .
وفي ذكر قصتهم وتقبيح أحوالهم تنبيه على وجوب الإخلاص وحث على الاجتهاد في الطهارة من الأدناس في سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم .
وتصنيف الناس آخر الفاتحة ثلاثة أصناف : مهتدين ومعاندين وضالين ، مثل تصنيفهم أول البقرة ثلاثة : متقين وكافرين مصارحين وهم المعاندون وضالين وهم المنافقون ، وإجمالهم في الفاتحة وتفصيلهم هنا من بديع الأساليب وهو دأب القرآن العظيم الإجمال ثم التفصيل .
وقد سمى ابن إسحاق كثيراً من المنافقين في السيرة الشريفة في أوائل أخبار ما بعد الهجرة ، قال ابن هشام في تلخيص ذلك : وكان ممن انضاف إلى يهود ممن سمي لنا من المنافقين من الأوس والخزرج ، من الأوس زوي بن الحارث وبجاد بن عثمان ابن عامر ونبتل بن الحارث وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم . « من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل! وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث إليه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين ، وهو الذي قال : إنما محمد أذن » وعباد بن حنيف أخو سهل وعمرو بن خذام وعبد الله بن نبتل وبَحْزَج وهو ممن كان بنى مسجد الضرار وكذا جارية بن عامر ابن العطاف وابنه زيد وخذام بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره ومِرْبع بن قيظي وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عامد إلى أحد : لا أحل لك يا محمد إن كنت نبياً أن تمر في حائطي! فابتدره المسلمون ليقتلوه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال « هذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر » ، وأخوه أوس بن قيظي وهو الذي قال يوم الخندق « إن بيوتنا عورة » وحاطب بن أمية بن رافع وكان شيخاً جسيماً قد عسى في الجاهلية وكان ابنه يزيد من خيار المسلمين ، قتل رضي الله عنه يوم أحد فقال أبوه لمن بشره بالجنة : غررتم والله هذا المسكين من نفسه! وبشير بن أبيرق أبو طعيمة . وفي نسخة : طعمة ، وهو سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ النساء : 107 ] وقزمان حليف لهم أجاد يوم أحد القتال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنه من أهل النار ، فجرح فبشر بالجنة فقال : والله ما قاتلت إلا حمية لقومي! فلما اشتدت به الجراحة قطع رواهش يده فمات » .
ومن الخزرج رافع بن وديعه وزيد بن عمرو وعمرو بن قيس وقيس بن عمرو بن سهل والجد بن قيس وهو الذي قال : « ائذن لي ولا تفتني » وعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين وإليه كانوا يجتمعون وهو القائل { ليخرجن الأعز منها الأذل } [ المنافقون : 8 ] وفيه وفي وديعة العوفي ومالك بن أبي فوقل وسويد وداعس وهم من رهطه نزل { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } [ الحشر : 11 ] الآية حكاية لما كانوا يدسونه إلى بني النضير إذ حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدق الله وكذبوا .
وكان ممن تعوذ بالإسلام وأظهره وهو منافق من أحبار يهود من بني قينقاع سعد ابن حنيف وزيد بن اللُّصيت وهو الذي قال في عزوة تبوك : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فأعلمه الله بقوله وبمكان الناقة ، ونعيمان بن أوفى بن عمرو وعثمان بن أوفى ورافع بن حريملة وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات : « قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين » ، ورفاعة بن زيد بن التابوت وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هبت تلك الريح وهو قافل من غزوة بني المصطلق : « لا تخافوا ، إنما هبت لموت عظيم من عظماء المنافقين » ، وسلسلة بن برهام وكنانه بن صوريا . فكان هؤلاء من المنافقين ومن نحا نحوهم يحضرون المسجد فيسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم . انتهى . وفيه اختصار فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات .
وابتدئت قصتهم بالتنبيه على قلة عقولهم وخفة حلومهم من حيث أن محط حالهم أنهم يخادعون من لا يجوز عليه الخداع وأن الذي حملهم على ذلك أنهم ليس لهم نوع شعور ولا شيء من إدراك بقوله تعالى - جواباً لسؤال من كأنه قال : فما قصدهم بإظهار الإيمان والإخبار عن أنفسهم بغير ما هي متصفة به مع معرفتهم بقبح الكذب وشناعته وفظاعته وبشاعته؟ { يُخادعون الله } أي يبالغون في معاملته هذه المعاملة بإبطان غير ما يظهرون مع ما له من الإحاطة بكل شيء ، والخداع أصله الإخفاء والمفاعلة في أصلها للمبالغة لأن الفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده { والذين آمنوا } أي يعاملونهم تلك المعاملة ، وأمره تعالى بإجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا صورته صورة الخدع وكذا امتثال المؤمنين أمره تعالى فيهم . قال الحرالي : وجاء بصيغة المفاعلة لمكان إحاطة علم الله بخداعهم ولم يقرأ غيره ولا ينبغي ، والخداع إظهار خير يتوسل به إلى إبطان شر يؤول إليه أمر ذلك الخير المظهر . انتهى .
{ وما يخدعون } أي بما يغرون به المؤمنين { إلا أنفسهم } يعني أن عقولهم لخباثتها إنما تسمى نفوساً ، والنفس قال الحرالي ما به ينفس المرء على غيره استبداداً منه واكتفاء بموجود نفاسته على من سواه . انتهى . وقراءة الحذف هذه لا تنافي قراءة يخادعون لأن المطلق لا يخالف المقيد بالمبالغة ، وعبر هنا بصيغة المفاعلة لشعورهم كما قال الحرالي بفساد أحوالهم في بعض الأوقات ومن بعض الأشخاص وبصيغة المجرد لعمههم عن فساد أحوالهم في أكثر أوقاتهم وعمه عامتهم ولا يكون من الله سبحانه إلا بلفظ الخدع لأنهم لا يعلمون ما يخفى عنهم من أمره ولذلك جاء في آية النساء
{ يخادعون الله وهو خادعهم } [ النساء : 142 ] . انتهى .
{ وما يشعرون } أي نوع شعور لإفراط جهلهم بأنهم لا يضرون غير أنفسهم لأن الله يعلم سرهم كما يعلم جهرهم . وحذف متعلق بالشعور للتعميم والشعور كما قال الحرالي أول الإحساس بالعلم كأنه مبدأ إنباته قبل أن تكمل صورته تتميز . وانتهى .
ثم بين سبحانه أن سبب الغفلة عن هذا الظاهر كون آلة إدراكهم مريضة ، شغلها المرض عن إدراك ما ينفعها فهي لا تجنح إلا إلى ما يؤذيها ، كالمريض لا تميل نفسه إلى غير مضارها فقال جواباً لمن كأنه قال : ما سبب فعلهم هذا من الخداع وعدم الشعور؟ { في قلوبهم مرض } أي من أصل الخلقة يوهن قوى الإيمان فيها ويوجب ضعف أفعالهم الإسلامية وخللها ، لأن المرض كما قال الحرالي : ضعف في القوى يترتب عليه خلل في الأفعال { فزادهم الله } أي بما له من صفات الجلال والإكرام لمخادعتهم بما يرون من عدم تأثيرها { مرضاً } أي سوء اعتقاد بما يزيد من خداعهم وألماً في قلوبهم بما يرون من خيبة مطلوبهم ، فانسد عليهم باب الفهم والسداد جملة ، والزيادة قال الحرالي : استحداث أمر لم يكن في موجود الشيء . انتهى . { ولهم } أي مع ضرر الغباوة في الدنيا الملحقة بالبهائم { عذاب أليم } في الآخرة أي شديد الألم وهو الوجع اللازم . قاله الحرالي { وبما كانوا } قال الحرالي : من كان الشيء وكان الشيء كذا إذا ظهر وجوده وتمت صورته أو ظهر ذلك الكذا من ذات نفسه . انتهى . { يكذبون } أي يوقعون الكذب وهو الإخبار عن أنفسهم بالإيمان مع تلبّسهم بالكفران ، والمعنى على قراءة التشديد يبالغون في الكذب ، أو ينسبون الصادق إلى الكذب ، وذلك أشنع الكذب .
ولما أخبر تعالى عن بواطنهم أتبعه من الظاهر ما يدل عليه فبين أنهم إذا نهوا عن الفساد العام ادّعوا الصلاح العام بقوله : { وإذا قيل لهم } وبناؤه للمجهول إشارة إلى عصيانهم لكل قائل كائناً من كان { لا تفسدوا في الأرض } أي بما نرى لكم من الأعمال الخبيثة ، والفساد انتقاض صورة الشيء . قاله الحرالي ، { قالوا } قاصرين فعلهم على الصلاح نافين عنه كل فساد مباهتين غير مكترثين { إنما نحن مصلحون } والإصلاح تلافي خلل الشيء . قاله الحرالي .
ولما كان حالهم مبيناً على الخداع بإظهار الخير وإبطان الشر وكانوا يرون إفسادهم لما لهم من عكس الإدراك إصلاحاً فكانوا يناظرون عليه بأنواع الشبه كان قولهم ربما غرّ من سمعه من المؤمنين لأن المؤمن غرّ كريم والكافر خِبّ لئيم فقال تعالى محذراً من حالهم مثبتاً لهم ما نفوه عن أنفسهم من الفساد وقاصراً له عليهم { ألا إنهم هم } أي خاصة { المفسدون } أي الكاملو الإفساد البالغون من العراقة فيه ما يجعل إفساد غيرهم بالنسبة إلى إفسادهم عدماً لما في ذلك من خراب ذات البين وأخذ المؤمن من المأمن .
وقال الحرالي : ولما كان حال الطمأنينة بالإيمان إصلاحاً وجب أن يكون اضطرابهم فيه إفساداً لا سيما مع ظنهم أن كونهم مع هؤلاء تارة ومع هؤلاء تارة من الحكمة والإصلاح وهو عين الإفساد لأنه بالحقيقة مخالفة هؤلاء وهؤلاء فقد أفسدوا طرفي الإيمان والكفر ، ولذلك قيل : ما يصلح المنافق ، لأنه لا حبيب مصاف ولا عدو مبائن ، فلا يعتقد منه على شيء - انتهى .
ولما كان هذا الوصف موجباً لعظيم الرهبة اتبعه ما يخففه بقوله : { ولكن لا يشعرون } أي هم في غاية الجلافة حتى لا شعور لهم يحسنون به التصرف فيما يحاولونه من الفساد الآن بما دلت عليه ما في الآية السابقة الدالة على أن المضارع للحال ولا فيما يستقبل من الزمان لأن لا لا تقارنه إلا وهو بمعنى الاستقبال ، فلأجل ذلك لا يؤثر إفسادهم إلا في أذى أنفسهم ، فلا تخافوهم فإني كافيكموهم .
ولما بين حالهم إذا أمروا بالصلاح العام بين أنهم إذا دعوا إلى الصلاح الخاص الذي هو أس كل صلاح سموه سفهاً فقال : { وإذا قيل } أي من أي قائل كان { لهم آمنوا } أي ظاهراً وباطناً { كما آمن الناس } أي الذين هم الناس ليظهر عليكم ثمرة ذلك من لزوم الصلاح واجتناب الفساد والإيمان المضاف إلى الناس أدنى مراتب الإيمان قاله الحرالي ، وهو مفهم لما صرح به قوله : وما هم بمؤمنين { قالوا أنؤمن } أي ذلك الإيمان { كما آمن السفهاء } أي الذين استدرجهم إلى ما دخلوا فيه بعد ترك ما كان عليه آباؤهم خفة نشأت عن ضعف العقل ، ثم رد سبحانه قولهم بحصر السفه فيهم فقال : { ألا إنهم هم السفهاء } لا غيرهم لجمودهم على رأيهم مع أن بطلانه أظهر من الشمس ليس فيه لبس { ولكن لا يعلمون } أي ليس لهم علم أصلاً لا بذلك ولا بغيره ، ولا يتصور لهم علم لأن جهلهم مركب وهو أسوأ الجهل والعلم ، قال الحرالي : ما أخذ بعلامة وأمارة نصبت آية عليه - انتهى . ولما كان الفساد يكفي في معرفته والسد عنه أدنى تأمل والسفه لا يكفي في إدراكه والنهي عنه إلا رزانة العلم ختمت كل آية بما يناسب ذلك من الشعور والعلم ولما كان العام جزء الخاص قدم عليه .
ولما بيّن نفاقهم وعلته وسيرتهم عند دعاء الداعي إلى الحق بهذة الآيات بين سيرتهم في أقوالهم في خداعهم دليلاً على إفسادهم بقوله : { وإذا لقوا } واللقاء اجتماع بإقبال { الذين آمنوا } أي حقاً ظاهراً وباطناً ، ولكن إيمانهم كما قال الحرالي فعل من أفعالهم لم ينته إلى أن يصير صفة لهم ، وأما المؤمنون الذين صار إيمانهم صفة لهم فلا يكادون يلقونهم بمقتضاه ، لأنهم لا يجدون معهم مدخلاً في قول ولا مؤانسة ، لأن اللقاء لا بد فيه من إقبال ما من الملتقيين .
انتهى { قالوا } خداعاً { آمنا } معبرين بالجملة الفعلية الماضية التي يكفي في إفادتها لما سقيت له أدنى الحدوث .
{ وإذا خلوا } منتهين { إلى شياطينهم } أي الذين هم رؤوسهم من غير أن يكون معهم مؤمن ، والشيطان هو الشديد البعد عن محل الخير - قاله الحرالي ، { قالوا إنا معكم } معبرين بالأسمية الدالة على الثبات مؤكدين لها دلالة على نشاطهم لهذا الإخبار لمزيد حبهم لما أفاده ودفعاً لما قد يتوهم من تبدلهم من رأى نفاقهم للمؤمنينَ ثم استأنفوا في موضع الجواب لمن قال : ما بالكم تلينون للمؤمنين قولهم؟ { إنما نحن مستهزئون } أي طالبون للهُزء ثابتون عليه فيما نظهر من الإيمان والهزء إظهار الجد وإخفاء الهزل فيه قاله الحرالي .
فأجيب من كأنه قال : بماذا جوزوا؟ بقوله : { اللهُ يستهزىء بهم } أي يجازيهم على فعلهم بالاستدراج بأن يظهر لهم من أمره المرذي لهم ما لا يدركون وجهه فهو يجري عليهم في الدنيا أحكام أهل الإيمان ويذيقهم في الدارين أعلى هوان مجدداً لهم ذلك بحسب استهزائهم ، وذلك أنكأ من شيء دائم توطّن النفس عليه ، فلذلك عبر بالفعليه دون الاسمية . مع أنها تفيد صحة التوبة لمن تاب دون الاسمية .
{ ويمدهم } من المد بما يلبس عليهم . وقال الحرالي : من المدد وهو مزيد متصل في الشيء من جنسه ، { في طغيانهم } أي تجاوزهم الحد في الفساد . وقال الحرالي : إفراط اعتدائهم حدود الأشياء ومقاديرها انتهى . وهذا المد بالإملاء لهم حال كونهم { يعمهون } أي يخبطون خبط الذي لا بصيرة له أصلاً . قال الحرالي : من العمه وهو انبهام الأمور التي فيها دلالات ينتفع بها عند فقد الحس فلا يبقى له سبب يرجعه عن طغيانه ، فلا يتعدون حداً إلا عمهوا فلم يرجعوا عنه فهم أبداً متزايدو الطغيان - انتهى .
فلما تقرر ذلك كله كانت فذلكته من غير توقف { أولئك } أي الشديدو البعد من الصواب { الذين اشتروا } أي لجوا في هواهم فكلفوا أنفسهم ضد ما فطرها الله عليه مع ما نصب من الأدلة حتى أخذوا { الضلالة } أي التي هي أقبح الأشياء { بالهدى } الذي هو خير الأشياء ومدار كل ذي شعور عليه ، فكأنه لوضوح ما قام عليه من الأدلة مع ما ركز منه في الفطر كان في أيديهم فباعوه بها ، وسيأتي في سورة يوسف عليه السلام بيان أن مادة شرى بتراكيبها الاثني عشر تدور على اللجاجة { فما } أي فتسبب عن فعلهم هذا أنه ما { ربحت تجارتهم } مع ادعائهم أنهم أبصر الناس بها { وما كانوا } في نفس جبلاتهم { مهتدين } لأنهم مع أنهم لم يربحوا أضاعوا رأس المال ، لأنه لم يبق في أيديهم غير الضلال الذي صاحبه في دون رتبة البهائم مع زعمهم أنه لا مثل لهم في الهداية .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
فلما علم ذلك كله وكانت الأمثال ألصق بالبال وأكشف للأحوال مثل حالهم في هداهم الذي باعوه بالضلالة بالأمور المحسوسة ، لأن للتمثيل بها شأناًعظيماً في إيصال المعاني حتى إلى الأذهان الجامدة وتقريرها فيها بقوله تعالى { مثلهم } أي في حالهم هذه التي طلبوا أن يعيشوا بها { كمثل الذي استوقد ناراً } أي طلب أن توقد له وهي هداه ليسير في نورها ، وأصلها من نار إذا نفر لتحركها واضطرابها ، فوقدت وأنارت .
{ فلما أضاءت } أي النار ، وأفراد الضمير باعتبار لفظ « الذي » فقال : { ما حوله } وأراد أن ينتفع بها في إبصار ما يريد ، وهو كناية عما حصل لهم من الأمنة بما قالوه من كلمة الإسلام من غير اعتقاد { ذهب الله } الذي له كمال العلم والقدرة ، وجمع الضمير نظراً إلى المعنى لئلا يتوهم أن بعضهم انتفع دون بعض بعد أن أفراد تقليلاً للنور وإن كان قوياً في أوله لانطفائه في آخر فقال : { بنورهم } أي الذي نشأ من تلك النار بإطفائه لها ولا نور لهم سواه؛ ولم يقل : بضوئهم ، لئلا يتوهم أن المذهوب به الزيادة فقط ، لأن الضوء أعظم من مطلق النور { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً } [ يونس : 5 ] فذهب نورهم وبقيت نارهم ليجتمع عليهم حرّها مع حر الفقد لما ينفعهم من النور ، وعبر بالإضاءة أولاً إشارة إلى قوة أولهم وانمحاق آخرهم ، لأن محط حالهم الباطل والباطل له صولة ثم تضمحل عند من ثبت لها ليتبين الصادق من الكاذب ، وعبر بالذهاب به دون إذهابه ليدل نصاً على أنه سبحانه ليس معهم وحقق ذلك بالتعبير عن صيّر بترك فقال : { وتركهم في ظلمات } أي بالضلالة من قلوبهم وأبصارهم وليلهم أي ظلمات لا ينفذ فيها بصر ، فلذا كانت نتيجته { لا يبصرون } أي لا إبصار لهم أصلاً ببصر ولا بصيرة .
ولما فرغ من المثل كشف المراد بظلماتهم بأنها ما في آذانهم من الثقل المانع من الانتفاع بالسماع ، وما في ألسنتهم من الخرس عن كلام الخير الناشىء عن عدم الإدراك الناشىء عن عمى البصائر وفساد الضمائر والسرائر ، وما على أبصارهم من الغشاوة المانعة من الاعتبار وعلى بصائرهم من الأغطية المنافية للادّكار فقال : { صم } أي عن السماع النافع { بكم } عن النطق المفيد لأن قلوبهم مختوم عليها فلا ينبعث منها خير تقذفه إلى الألسنة { عمي } في البصر والبصيرة عن الإبصار المرشد لما تقدم من الختم على مشاعرهم ، ولما كان في مقام إجابة الداعي إلى الإيمان قدم السمع لأنه العمدة في ذلك ، وثنى بالقول لأنه يمكن الأصم الإفصاح عن المراد ، وختم بالبصر لإمكان الاهتداء به بالإشارة؛ وكذا ما يأتي في هذه السورة سواء بخلاف ما في الإسراء ، { فهم } أي فتسبب عن ذلك أنهم { لا } ولما كان المراد التعميم في كل رجوع لم يذكر المرجوع عنه فقال : { يرجعون } أي عن طغيانهم وضلالهم إلى الهدى الذي باعوه ولا إلى حالهم الذي كانوا عليه ولا ينتقلون عن حالهم هذا أصلاً ، لأنهم كمن هذا حاله ، ومن هذا حاله لا يقدر على مفارقة موضعه بتقدم ولا تأخر .
{ أو } مثلهم في سماع القرآن الذي فيه المتشابه والوعيد والوعد { كصيب } أي أصحاب صيب أي مطر عظيم ، وقال الحرالي : سحاب ممطر دارٍّ ثم اتبعه تحقيقاً لأن المراد الحقيقة قوله : { من السماء } وهو كما قال الحرالي ما علا فوق الرأس ، يعني هذا أصلة والمراد هنا معروف ، ومثل القرآن بهذا لمواترة نزوله وعلوه وإحيائه القلوب كما أن الصيب يحيي الأرض ، ثم أخبر عن حاله بقوله : { فيه ظلمات } أي لكثافة السحاب واسوداده { ورعد } أي صوت مرعب يرعد عند سماعه { وبرق } أي نور مبهت للمعانه وسرعته قاله الحرالي ، والظلمات مثل ما لم يفهموه ، والرعد ما ينادى عليهم بالفضيحة والتهديد والبرق ما لم يلوح لهم معناه ويداخلهم رأي في استحسانه .
ولما تم مثل القرآن استأنف الخبر عن حال الممثل لهم والممثل بهم حقيقة ومجازاً فقال : { يجعلون أصابعهم } أي بعضها ولو قدروا لحشوا الكل لشدة خوفهم { في آذانهم من الصواعق } أي من أجل قوتها ، لأن هولها يكاد أن يصم ، وقال الحرالي : جمع صاعقة وهو الصوت الذي يميت سامعه أو يكاد ، ثم علل هذا بقوله : { حذر الموت والله } أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { محيط بالكافرين } فلا يغنيهم من قدره حذر ، وأظهر موضع الإضمار لإعراضهم عن القرآن وسترهم لأنواره .
ثم استأنف الحديث عن بقية حالهم فقال : { يكاد البرق } أي من قوة لمعه وشعاعه وشدة حركته وإسراعه { يخطف أبصارهم } فهم يغضونها عند لمعه وخفضه في ترائبه ورفعه ، ولما كان من المعلوم أن البرق ينقضي لمعانه بسرعة كان كأنه قيل : ماذا يصنعون عند ذلك؟ فقال : { كلما } وعبر بها دون إذا دلالة على شدة حرصهم على إيجاد المشي عند الإضاءة { أضاء لهم مشوا فيه } مبادرين إلى ذلك حراصاً عليه لا يفترون عنه في وقت من أوقات الإضاءة مع أنهم يغضون أبصارهم ولا يمدونها غاية المد خوفاً عليهم ووقوفاً مع الأسباب ووثوقاً بها واعتماداً عليها وغفلة عن رب الأرباب ، وهو مثل لما وجدوا من القرآن موافقاً لآرائهم ، وعطف بإذا لتحقق خفوته بعد خفوته قوله : { وإذا أظلم عليهم قاموا } أي أول حين الإظلام لا يقدرون على التقدم خطوة واحده إشارة إلى أنه ليست لهم بصائر بها فيما كشف البرق لأبصارهم من الأرض قبل الإظلام بل حال انقطاع اللمعان يقفون لعمى بصائرهم ووحشتهم وجبنهم وغربتهم وشدة جزعهم وحيرتهم ، وهكذا حال هؤلاء لا يقيسون ما أشكل عليهم من القرآن على ما فهموه .
{ ولو شاء الله } الذي له العظمة الباهرة مع شدة حرصهم وتناهي جزعهم ، ودل على مفعول شاء بقوله : { لذهب بسمعهم } أي بقاصف الرعد ولم يغنهم سدّ آذانهم { وأبصارهم } بخاطف البرق ولم يمنعه غضَّهم لها ، ثم علل ذلك بقوله : { إن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { على كل شيء } أي مشيء أي يصح أن تقع عليه المشيئة هذا المراد وإن كان الشيء كما قال سيبوية يقع على كل ما أخبر عنه ، وهو أعم العام كما أن الله أخص الخاص ، يجري على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمحال ، وقول الأشاعرة : إن المعدوم ليس بشيء ، بمعنى أنه ليس بثابت في الأعيان متميز فيها { قدير } إعلاماً بأن قدرته لا تتقيد بالأسباب ، قال الحرالي : القدرة إظهار الشيء من غير سبب ظاهر انتهى .
ولعله سبحانه قدم المثل الأول لأنه كالجزء من الثاني ، أو لأنه مثل المنافقين ، جعلت مدة صباهم بنموهم وازدياد عقولهم استيقاداً مع جعل الله إياهم على الفطرة القويمة وزمان بلوغهم بتمام العقل الغريزي إضاءة؛ والثاني مثل المنافقين وهو أبلغ . لأن الضلال فيه أشنع وأفظع . فالصيب القرآن الذي انقادوا له ظاهراً ، والظلمات متشابهه ، والصواعق وعيده ، والبرق وعده ، كلما أنذروا بوعيد انقطعت قلوبهم خوفاً { يحسبون كل صيحة عليهم } [ المنافقون : 4 ] وكلما بشروا انقادوا رجاء ، وإذا عرض المتشابه وقفوا تحيراً وجفاء وكل ذلك وقوفاً مع الدنيا وانقطاعاً إليها ، لا نفوذ لهم إلى ما وراءها أصلاً ، بل هم كالأنعام ، لا نظر لهم ألى ما سوى الجزيئات والأمور المشاهدات ، { فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم } [ النساء : 141 ] { يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاًعظيماً } [ النساء : 73 ] والكلام الجامع النافع في ذلك أن يقال إنه سبحانه شبّه في الأول مثلهم بمثل المستوقَد لا بالمستوقِد ، وفي الثاني شبه مثلهم في خوفهم اللازم ورجائهم المنقطع بأصحاب الصيب لا بمثلهم؛ فتقدير الأول مثلهم في أنهم سمعوا أولاً الدعاء ورأوا الآيات فأجابوا الداعي إما بالفعل كالمنافقين وإما بالقوة في أيام الصبا لما عندهم من سلامة الفطر وصحة النظر ، ثم تلذذوا فرجعوا بقلوبهم من نور ما قالوه بألسنتهم من كلمة التقوى نطقاً أو تقديراً إلى ظلمات الكفر ، فلم ينفعهم سمع ولا بصر ولا عقل ، فصاروا مثل البهائم التي لا تطيع الراعي إلا بالزجر البليغ ، مثلهم في هذا يشبه مثل المستوقد في أنه لما أضاءت ناره رأى ما حوله ، فلما ذهبت لم يقدر على تقدم ولا تأخر ، لأنه لا ينفع في ذلك سمع ولا كلام فإذن استوى وجودهما وعدمهما ، فصار عادماً للثلاثة ، فكان من هذه الجهة مساوياً للأصم الأبكم الأعمى ، فهو مثله لكونه لا يقدر على مراده إلا أن قاده قائد حسي ، فهو حينئذ مثل البهائم التي لا تقاد للمراد إلا بقائد ، فاستوى المثلان وسيتضح ذلك عند قوله تعالى :
{ كمثل الذي ينعق } [ البقرة : 171 ] ولذلك كانت النتيجة في كل منها صم إلى آخره و « او » بمعنى الواو ، ولعله عبر بها دونها لأنه وإن كان كل من المثلين صالحاً لكل من القسمين فإن احتمال التفصيل غير بعيد ، لأن الأول أظهر في الأول والثاني في الثاني .
وجعل الحرالي المثلين للمنافقين فقال : ضرب لهم مثلين لما كان لهم حالان وللقرآن عليهم تنزلان ، منه ما يرغبون فيه لما فيه من مصلحة دنياهم ، فضرب لهم المثل الأول ، وقدمه لأنه سبب دخولهم مع الذين آمنوا لما رأوا من معاجلة عقاب الذين كفروا في الدنيا؛ ومنه ما يرهبونه ولا يستطيعون سماعه لما يتضمنه من أمور شاقة عليهم لا يحملها إلا مؤمن حقاً ولا يتحملها إلا من أمن ، ولما يلزم منه من فضيحة خداعهم فضرب له المثل الثاني؛ فلن يخرج حالهم عند نزول نجوم القرآن عن مقتضى هذين المثلين اتهى . وضرب الأمثال المنهي إلى الحمد المنتهي إلى الإحاطة بكل حد لا سيما في أصول الدين الكاشف لحقيقة التوحيد الموصل إلى اليقين في الإيمان بالغيب المحقق لما لله تعالى من صفات الكمال الدافع للشكول الحافظ في طريق السلوك مما اختص به القرآن من حيث كان منهياً إلى الحمد ومفصحاً به فكان حرف الحمد ، وذلك أنه حرف عام محيط شامل لجميع الأمور كافل بكل الشرائع في سائر الأزمان؛ فكان أحق الرسل به من كانت رسالته عامة لجميع الخلق وكتابه شاملاً لجميع الأمر وهو أحمد ومحمد صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه « عروة المفتاح » : هذا الحرف لإحاطته أنزل وتراً وسائر الحروف أشفاع لاختصاصها ، ووجه إنزاله تفهيم ما غمض من المغيبات بضرب مثل من المشهودات ، ولما كان للأمر تنزلات وللخلق تطورات كان الأظهر منها مثلاً لما هو دونه في الظهور ، وكلما ظهر ممثول صار مثلاً لما هو أخفى منه ، فكان لذلك أمثالاً عدداً منها مثل ليس بممثول لظهوره وممثولات تصير أمثالاً لما هو أخفى منها إلى أن تنتهي الأمثال إلى غاية محسوس أو معلوم ، فتكون تلك الغاية مثلاً أعلى كالسماوات والأرض فيما يحس والعرش والكرسي فيما يعلم { وله المثل الأعلى في السماوات والأرض } [ الروم : 27 ] { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم } [ غافر : 7 ] وذلك المثل الأعلى لإحاطته اسمه الحمد { وله الحمد في السماوات والأرض } [ الروم : 18 ] وأحمده أنهاه وأدناه إلى الله تعالى بحيث لا يكون بينه وبين الله تعالى واسطة ، فلذلك ما استحق أكمل الخلق وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه الاختصاص بالحمد ، فكان أكمل الأمور سورة الحمد وكان أكمل الخلق صورة محمد صلى الله عليه وسلم ، كان خُلقه القرآن { لقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم }
[ الحجر : 87 ] ودون المثل الأعلى الجامع الأمثال العلية المفصلة منه { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } [ الروم : 28 ] ولإحاطة أمر الله وكماله في كل شيء يصح أن يضربه مثلاً { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها } [ البقرة : 26 ] { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } [ العنكبوت : 41 ] وللمثل حكم من ممثوله ، إن كان حسناً حسنَ مثله ، وإن كان سيئاً ساء مثله؛ ولما كان أعلى الأمثال الحمد كان أول الفاتحة الحمد ، ولما كان أخفى أمر الخلق النفاق كان أول مثل في الترتيب مثل النفاق ، وهو أدنى مثل أمثال حسنة وسيئة { مثل الجنة التي وعد المتقون } [ الرعد : 35 ] الآيتين ، { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } [ الجمعة : 5 ] { فمثله كمثل الكلب } [ الأعراف : 176 ] الآيتين . وبقدر علو المثل أو دنوه أو توسطه يتزايد للمؤمن الإيمان وللعالم العلم وللفاهم الفهم ، وبضد ذلك لمن اتصف بأضداد تلك الأوصاف ، { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } ومعرفة أمثال القرآن المعرفة إحاطة ممثولاتها وعلم آياته المعلمة اختصاص معلوماتها هو حظ العقل واللب وحرفه من القرآن ، ولكل حرف اختصاص بحظ من تدرّك الإنسان وأعمال القلوب والأنفس والأبدان ، فمن يسر له القراءة والعمل بحرف منه اكتفى ، ومن جمع له قراءة جميع أحرفه علماً وعملاً فقد أتم ووفّى ، وبذلك يكون القارىء من القراء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنهم أعز من الكبريت الأحمر » { يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم } [ آل عمران : 74 ] .
ثم قال فيما به يحصل قراءة هذا الحرف : اعلم أن قراءة الأحرف الستة تماماً وفاء بتفصيل العبادة ، لأنها أشفاع ثلاثة للتخلص والتخلي وثلاثة للعمل والتحلي ، لأن ترك الحرام طهرة البدن وترك النهي طهرة النفس وترك التعرض للمتشابه طهرة القلب ، ولأن تناول الحلال زكاء البدن وطاعة الأمر زكاء النفس وتحقق العبودية بمقتضى حرف المحكم نور القلب؛ وأما قراءة حرف الأمثال فهو وفاء العبادة بالقلب جمعاً ودواماً { وله الدين واصباً } [ النحل : 52 ] و { الذين هم على صلاتهم دائمون } [ المعارج : 23 ] فالذي يحصل قراءة هذا الحرف إنما هو خاص بالقلب ، لأن أعمال الجوارح وأحوال النفس قد استوفتها الأحرف السته التفصيلية ، والذي يخص القلب بقراءة هذا الحرف هو المعرفة التامه المحيطة بأن كل الخلق دقيقة وجليلة خلق الله وحده لا شريك له في شيء منه ، وأنه جميعه مثل لكلية أمر الله القائم بكلية ذلك الخلق ، وإن كلية ذلك الأمر الذي هو ممثول لمثل الخلق هو مثل لله تعلى : { وله المثل الأعلى } [ الروم : 27 ] وأن تفاصيل ذلك الخلق المحيطات أمثل لقيامها من تفاصيل ذلك الأمر المحيطات بها ، وأن تفاصيل الأمر المحيطات أمثال لأسماء الله تعالى الحسنى بما هي محيطة؛ ولجمع هذا الحرف لم يصح إنزاله إلا على الخلق الجامع الآدمي الذي هو صفوة الله وفطرته ، وعلى سيد الآدميين محمد خاتم النبيين وهو خاصته وخاصة آله ، وعنه كمل الدين بالإحسان ، وصفا العلم بالإيقان ، وشوهد في الوقت الحاضر ، ما بين حدي الأزل الماضي والأبد الغابر ، وعن تمام اليقين والإحسان تحقق الفناء لكل فانٍِ وبقي وجه رب محمد ذي الجلال والإكرام ، وكان هذا الحرف بما اسمه الحمد هو لكل شيء بداء وختام انتهى .
ولما ثبت بهذا البيان عما للكافرين بقسميهم من الشقاوة مع تمام القدرة شمول العلم المستلزمان للواحدانية أنتج قطعاً إفراده بالعباده الموجبه للسعاده المضمنة لإياك نعبد ، فوصل بذلك قوله مقبلاً عليهم بعد الإعراض عنهم عند التقسيم إيذاناً بأنهم صاروا بما تقدم من ضرب الأمثال وغيرها من حيز المتأهل للخطاب من غير واسطة تنشيطاً لهم في عبادته وترغيباً وتحريكاً إلى رفع أنفسهم بإقبال الملك الأعظم عن الخضوع لمن هو دونه بل دونهم وبشارة لمن أقبل عليه بعد أن كان معرضاً عنه بدوام الترقيه ، فيزال ما أشار إليه حرف النداء والتعبير عن المنادى من بقية البعد بالسهو والغفلة والإعراض بالتقصير في العبادة والاضطراب والذبذبة { ياأيها الناس } .
قال الحرالي في تفسيره { يا } تنبيه من يكون بمسمع من المنبه ليقبل على الخطاب ، وهو تنبيه في ذات نفس المخاطب ويفهم توسط البعد بين آيا الممدودة وأي المقصورة « أيّ » اسم مبهم ، مدلوله اختصاص ما وقع عليه من مقتضى اسم شامل ، « ها » كلمة مدلولها تنبيه على أمر يستفيده المنبه - انتهى . وأكد سبحانه الكلام بالإبهام والتنبيه والتوضيح بتعيين المقصود بالنداء تنبيهاً على أن ما يأتي بعده أمور مهمة يحق لها تشمير الذيول والقيام على ساق الجد .
وقال الحرالي : اعلم أنه كما اشتمل على القرآن كله فاتحة الكتاب فكذلك أيضاً جعل لكل سورة ترجمة جامعة تحتوي على جميع مثاني آيها ، وخاتمة تلتئم وتنتظم بترجمتها ، ولذلك تترجم السورة عدة سور ، وسيقع التنبيه على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى . واعلم مع ذلك أن كل نبىء منبأ - يقرأ بالهمز - من النبأ وهو الخبر ، فإنه شرع في دعوته وهو غير عالم بطية أمره وخبر قومه ، وأن الله عز وجل جعل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً منبياً من النبوة - يقرأ بغير همز . ومعناه رفعة القدر والعلو ، فمما أعلاه الله به أن قدم له بين يدي دعوته علم طيّة أمره ومكنون علمه تعالى في سر التقدير الذي لم يزل خبأ في كل كتاب ، فأعلمه بأنه تعالى جبل المدعوين الذين هم بصفة النوس مترددين بين الاستغراق في أحوال أنفسهم وبين مرجع إلى ذكر ربهم على ثلاثة أضرب : منهم من فُطِر على الإيمان ولم يطبع عليه أي على قلبه فهو مجيب ولا بد ، ومنهم من طبع على الكفر فهو آب ولا بد ، ومنهم من ردد بين طرفي الإيمان ظاهراً والكفر باطناً ، وإن كلاًّ ميسر لما خلق له؛ فكان بذلك انشراح صدره في حال دعوته وزال به ضيق صدره الذي شارك به الأنبياء - بالهمز ، ثم علا بعد ذلك إلى مستحق رتبته العلية ، فكان أول ما افتتح له كتابه أن عرفه معنى ما تضمنته { الم } ثم فصل من ذلك ثلاثة أحوال المدعوين بهذا الكتاب ، وحينئذ شرع في تلقينه الدعوة العامة للناس ، فافتتح بعد ذلك الدعوة والنداء والدعوة إلى العبادة يعني بهذه الآية ، وتولى الله سبحانه دعوة الخلق في هذه الدعوة العامة التي هي جامعة لكل دعوة في القرآن .
ولما ضمن صدرها من الوعيد في حق رسوله فلم يجر خطاب ذلك على لسانه ، ولما فيها من السطوة وخطاب الملك والجزاء ومحمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فلم ينبغ إجراؤها على لسانه لذلك ، وغيره من الرسل فعامة دعوة من خص الله سبحانه خبر دعوته فهي مجراة على ألسنتهم ولذلك كثرت مقاواة قومهم ومدعويهم لهم ، ولما أجرى الحق تعالى هذه الدعوة من قبله كان فيها بشرى بالغلبة وإظهار دينه ، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقاويه خلقه ، ولما انتهى إلى البشرى التي هي رحمة أجرى الكلام على مخاطبته عليه السلام بقوله : { وبشر } [ البقرة : 25 ] ومع إجراء دعوة المرسلين على ألسنتهم علقت باسم الله بلفظ { أن اعبدوا الله } [ المائدة : 117 ] ونحو فعزّ على أكثر النفوس الإجابة لفوات اسم الله عن إدراك العقول ، ومع تولي الله سبحانه لهذه الدعوة بسلطانه العلي أجراها باسم الربوبية وهو اسم أقرب مثالاً على النفوس ، لأنها تشاهد آياته بمعنى التربية والربابة ، ومع ذلك أيضاً فذكر اسم الله في دعوة المرسلين غير متبع ولا موصوف بآيات الإلهية ، ولو ذكر لما قرب مثالاً علمها فهي كالشمس والقمر ونحو ذلك ، وذكر تعالى الربوبية في هذه الدعوة متبعة بآياتها الظاهرة التي لا تفوت العقل والحس ولا يمكن إنكارها ، ووجه بعد النفوس عن الانقياد عند الدعوة باسم الله أن آيات الربوبية التي يسهل عليها الانقياد من جهتها التي بيسير منها تنقاد للملوك وأولي الإحسان ، لأنها جبلت على حب من أحسن إليها تبقى عند الدعوة باسم الله بمعزل عن الشعور بإضافتها لاسم الله ويحار العقل في المتوجه له بالعبادة ، وتضيف النفوس الغافلة آيات الربوبية إلى ما تشاهده من أقرب الأسباب في العوائد ، كالفصول التي نيطت الموالد والأقوات بها في مقتضى حكمة الله سبحانه أو إلى أسباب هذه الأسباب كالنجوم ونحو ذلك ، فلا يلتئم للمدعو حال قوامه بعبادته فيكثر التوقف والإباء ، واقتضى اليسر الذي أراد الله بهذه الأمة ذكر الربوبية منوطاً بآياتها - انتهى .
ولما كانت العبادة المختلّة بشرك أو غيره ساقطة والازدياد من الصحيحة والاستمرار عليها عبادة جديدة يحسن الأمر بها خاطب الفريقين فقال : { اعبدوا ربكم } أي الذي لا رب لكم غيره عبادة هي بحيث يقبلها الغني . ثم وصفه بما أشارت إليه صفة الرب من الإحسان تنبيهاً على وجوده ووجوب العبادة له بوجوب شكر المنعم فقال : { الذي خلقكم } ، قال الحرالي : { الذي } اسم مبهم مدلوله ذات موصوف بوصف يعقب به وهي الصلة اللازمة له ، والخلق تقدير أمشاج ما يراد إظهاره بعد الامتزاج والتركيب صورة { والذين من قبلكم } القبل ما إذا عاد المتوجه إلى مبدأ وجهته أقبل عليه - انتهى .
ثم بين نتيجتها بقوله : { لعلكم تتقون } أي لتكون حالكم بعبادته لأنها كلها محاسن ولا حسن في غيرها حال من ترجى له التقوى ، وهي اجتناب القبيح من خوف الله ، وسيأتي في قوله : { لعلكم تشكرون } ما ينفع هنا . وقال الحرالي : لعل كلمة ترج لما تقدم سببه ، وبدأ من آيات الربوبية بذكر الخلق لأنه في ذواتهم ، ووصل ذلك بخلق من قبلهم حتى لا يستندوا بخلقهم إلى من قبلهم وترجى لهم التقوى لعبادتهم ربهم من حيث نظرهم إلى خلقهم وتقدير أمشاجهم ، لأنهم إذا أسندوا خلقهم لربهم كان أحق أن يسندوا إليه ثمرة ذلك من صفاتهم وأفعالهم فيتوقفون عن الاستغناء بأنفسهم فينشأ لهم . بذلك تقوى - انتهى .
وما أحسن الأمر بالعبادة حال الاستدلال على استحقاقها بخلق الأولين والآخرين وما بعده عقب إثبات قدرة الداعي المشيرة إلى الترهيب من سطواته! ولقد بدع هذا الاستدلال على التفرد بالاستحقاق عقب أحوال من قرب أنهم في غاية الجمود بأمور مشاهدة يصل إليها كل عاقل بأول وهلة من دحو الأرض وما بعده مما به قوام بقائهم من السكن والرزق في سياق منبّه على النعمة محذر من سلبها دال على الإله بعد الدلالة بالأنفس من حيث إن كل أحد يعرف ضرورة أنه وُجد بعد أن لم يكن ، فلا بد له من موجد غير الناس ، لما يشاهد من أن حال الكل كحاله بالدلالة بالآفاق من حيث إنها متغيرة ، فهي مفتقرة إلى مغير هو الذي أحدثها ليس بمتغير ، لأنه ليس بجسم ولا جسماني في سياق مذكر بالنعم الجسام الموجبة لمحبة المنعم وترك المنازعة وحصول الانقياد فقال : { الذي جعل } قال الحرالي : من الجعل وهو إظهار أمر عن سبب وتصيير { لكم الأرض } أي المحل الجامع لنبات كل نابت ظاهر أو باطن ، فالظاهر كالموالد وكل ما الماء أصله ، والباطن كالأعمال والأخلاق وكل ما أصله ما الماء آيته كالهدى والعلم ونحو ذلك؛ ولتحقق دلالة اسمها على هذا المعنى جاء وصفها بذلك من لفظ اسمها فقيل : أرض أريضة ، للكريمة المنبتة ، وأصل معناها ما سفل في مقابلة معنى السماء الذي هو ما علا على سفل الأرض كأنها لوح قلمه الذي يظهر فيها كتابه - انتهى .
{ فراشاً } وهي بساط سقفه السماء وهي مستقر الحيوان من الأحياء والأموات ، وأصله كما قال الحرالي : بساط يضطجع عليه للراحة ونحو ذلك ، { والسماء بناء } أي خيمة تحيط بصلاح موضع السكن وهو لعمري بناء جليل القدر ، محكم الأمر ، بهي المنظر ، عظيم المَخْبَر .
ورتبت هذه النعم الدالة على الخالق الداعية إلى شكره أحكم ترتيب ، قدم الإنسان لأنه أعرف بنفسه والنعمة عليه أدعى إلى الشكر ، وثنى بمن قبله لأنه أعرف بنوعه ، وثلث بالأرض لأنها مسكنه الذي لا بد له منه ، وربع بالسماء لأنها سقفه ، وخمس بالماء لأنه كالأثر والمنفعة الخارجة منها وما يخرج بسببه من الرزق كالنسل المتولد بينهما فقال : { وأنزل } قال الحرالي : من الإنزال وهو الإهواء بالأمر من علو إلى سفل - انتهى . { من السماء } أي بإثارتها الرياح المثيرة للسحاب الحامل للماء { ماء } أي جسماً لطيفاً يبرد غلة العطش ، به حياة كل نام . قال الحرالي : وهو أول ظاهر للعين من أشباح الخلق { فأخرج } من الإخراج وهو إظهار من حجاب ، وفي سوقه بالفاء تحقيق للتسبيب في الماء - انتهى .
وأتي بجمع القلة في الثمر ونكر الرزق مع المشاهدة لأنهما بالغان في الكثرة إلى حد لا يحصى تحقيراً لهما في جنب قدرته إجلالاً له فقال : { به من الثمرات رزقاً } وإخراج الأشياء في حجاب الأسباب أوفق بالتكليف بالإيمان بالغيب ، لأنه كما قيل : لولا الأسباب لما ارتاب المرتاب ، والثمر كما قال الحرالي : مطعومات النجم والشجر وهي عليها ، وعُبر بِمن لأن ليس كل الثمرات رزقاً لما يكون عليه وفيه من العصف والقشر والنوى ، وليس أيضاً من كل الثمرات رزق فمنه ما هو للمداواة ومنه سموم وغير ذلك . وفي قوله : { لكم } إشعار بأن في الرزق تكملة لذواتهم ومصيراً إلى أن يعود بالجزاء منهم .
وقد وصف الرب في هذه الآية بموصولين ذكر صلة الثاني بلفظ الجعل ، لأن حال القوام مرتب على حال الخلق ومصيّر منه ، فلا يشك ذو عقل في استحقاق الانقياد لمن تولى خلقه وأقام تركيبه؛ ولا يشك ذو حس إذا تيقظ من نوم أو غفلة فوجد بساطاً قد فرش له وخيمة قد ضربت عليه وعولج له طعام وشراب قدم له أن نفسه تنبعث بذاتها لتعظيم من فعل ذلك بها ولتقلد نعمته وإكباره؛ فلتنزيل هذه الدعوة إلى هذا البيان الذي يضطر النفس إلى الإذعان ويدخل العلم بمقتضاها في رتبة الضرورة والوجدان كانت هذه الدعوة دعوة عربية جارية على مقتضى أحوال العرب ، لأن العرب لا تعدو بأنفسها العلم الضروري وليس من شأنها تكلف الأفكار والتسبب إلى تواني العلوم النظرية المأخوذة من مقتضى الإمارات والأدلة ، فعوملت بما جبلت عليه فتنزل لها لتكون نقلتها من فطرة إلى فطرة ومن علم وجداني إلى علم وجداني عليّ لتحفظ عليها رتبة الإعراب والبيان بأن لا يتسبب لها إلى دخول ريب في علومها ، لأن كل علم مكتسب يتكلف التسبب له بآيات وعلامات ودلائل تبعد من الحس وأوائل هجوم العقل تتعارض عليه الأدلة ويعتاده الريب ، فحفظت هذه الدعوة العربية عن التكلف وأجريت على ما أحكمه صدر السورة في قوله تعالى : { لا ريب فيه } .
واعلم أن حال المخلوق في رزقه محاذي به حاله في كونه ، فيعلم بالاعتبار والتناسب الذي شأنه أن تتعلم من جهته المجهولات أن الماء بزر كون الإنسان كما أن الماء أصل رزقه ، ولذلك قال عليه السلام لمن سأله ممن هو فلم يرد أن يعين له نفسه : « نحن من ماء » ويعلم كذلك أيضاً أن للأرض والسماء مدخلاً في أمشاج الإنسان رتب عليه مدخلها في كون رزقه ، وفي ذكر الأرض معرفة أخذ للأرض إلى نهايتها وكمالها ، ولذلك قال عليه السلام : « من اغتصب شبراً من أرض طوقه من سبع أرضين » وكذلك ذكر السماء أخذ لها إلى نهايتها وكمالها؛ وقدم الأرض لأن نظر النفوس إلى ما تحتها أسبق لها من نظرها إلى ما علا عليها . ثم قال : ولوضوح آية الربوبية تقلدها الأكثر وإنما توقفوا في الرسالة ولذلك وصل ذكر الرسالة بالتهديد - انتهى .
ولما أمر بعبادته وذكرهم سبحانه بما يعلمون أنه فاعله وحده حسن النهي عن أن يشرك به ما لا أثر له في شيء من ذلك بفاء التسبب عن الأمرين كليهما قال معبراً بالجلالة على ما هو الأليق بالتوبيخ على تألّه الغير { فلا تجعلوا لله } أي ما إحاطته بصفات الكمال . ويجوز أن يكون مسبباً عن التقوى المرتجاة فتكون لا نافية والفعل منصوب { أنداداً } أي على حسب زعمكم أنها تفعل ما تريدون . قال الحرالي : جمع ند وهو المقاوم في صفة القيام والدوام ، وعبر بالجعل لأن بالجعل والمصير من حال إلى حال أدنى منها ترين الغفلة على القلوب ، حتى لا تشهد في النعم والنقم إلا الخلق من ملك أو ذي إمرة أو من أي ذي يد عليا كان ، ولما شهدوا ذلك منهم تعلق بهم رجاؤهم وخوفهم وعاقبهم ربهم على ذلك بأيديهم فاشتد داعي رجائهم لهم وسائق خوفهم منهم فتذللوا لهم وخضعوا ، فصاروا بذلك عبدة الطاغوت وجعلوهم لله أنداداً - انتهى . وما أحسن قوله في تأنيبهم وتنبيههم على ما أزروا بأنفسهم { وأنتم تعلمون } أي والحال أنكم ذوو علم على ما تزعمون فإنه يلوّح إلى أن من أشرك به مع قيام هذه الأدلة لم يكن ممن يصح منه العلم فكان في عداد البهائم . وفيه كما قال الحرالي : إعلام بظهور آيات ما يمنع جعل الند لما يشاهد أن جميع الخلق أدناهم وأعلاهم مقامون من السماء وفي الأرض ومن الماء ، فمن جعل لله نداً مما حوته السماء والأرض واستمد من الماء فقد خالف العلم الضروري الذي به تقلد التذلل للربوبية في نفسه فإن يحكم بذلك على غيره مما حاله كحاله أحق في العلم - انتهى .
وفي تعقيبها لما قبلها غاية التبكيت على من ترك هذا القادر على كل شيء وعبد ما لا يقدر على شيء .
وهذه الآية من المحكم الذي اتفقت عليه الشرائع واجتمعت عليه الكتب ، وهو عمود الخشوع ، وعليه مدار الذل والخضوع . قال الإمام أبو الحسن الحرالي في العروة : وجه إنزال هذا الحرف تحقيق اتصاف العبد بما هو اللائق به في صدق وجهته إلى الحق بانقطاعه عن نفسه وبراءته منها والتجائه إلى ربه استسلاماً ، وجهده في خدمته إكباراً واستناده إليه اتكالاً ، وسكونه له طمأنينة { يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية } [ الفجر : 27 ، 28 ] ، ويتأكد تحلي العبد بمستحق أوصافه لقراءة هذا الحرف والعمل به بحسب براءته من التعرض لنظيره المتشابه ، لأن اتباع المتشابه زيغ لقصور العقل والفهم عن نيله ، ووجوب الاقتصار على الإيمان به من غير موازنة بين ما خاطب الله به عباده للتعرف وبين ما جعله للعبد للاعتبار ، سبحانه من لم يجعل سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته .
وجامع منزل المحكم ما افتتح به التنزيل في قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] الآيات ، وما قدم في الترتيب في قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } إلى ما ينتظم بذلك من ذكر عبادة القلب التي هي المعرفة { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] فليكن أول ما تدعوهم إليهم عبادة الله فإذا عرفوا الله ، ومن ذكر عبادة النفس التي هي الإجمال في الصبر وحسن الجزاء { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } [ الكهف : 28 ] { ويدرؤون بالحسنة السيئة } [ الرعد : 22 ] { الذين هم في صلاتهم خاشعون } [ المؤمنون : 2 ] لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه إلى سائر أحوال العبد التي يتحقق بها في حال الوجهة إلى الرب ، وما تقدم من حرفي الحلال والحرام لإصلاح الدنيا ، وحرفي الأمر والنهي لإصلاح العقبى معاملة كتابه ، والعمل بهذا الحرف اغتباط بالرق وعياذ من العتق ، فلذلك هو أول الاختصاص ومبدأ الاصطفاء وإفراد موالاة الله وحده من غير شرك في نفس ولا غير ، ولذلك بدىء بتنزيله النبي العبد ، وهو ثمرة ما قبله وأساس ما بعده ، وهو للعبد أحوال محققة لا يشركه فيها ذو رثاء ولا نفاق ، ويشركه في الأربعة المتقدمة - يعني النهي والأمر والحلال والحرام ، لأنها أعمال ظاهرة فيتحلى بها المنافق ، وليس يمكنه مع نفاقه التحلي بالمعرفة ، ولا بالخشوع ولا بالخضوع ، ولا بالشوق للقاء ولا بالحزن في الإبطاء ، ولا بالرضا بالقضاء ، ولا بالحب الجاذب للبقاء في طريق الفناء ، ولا بشيء مما شمله آيات المحكم المنزلة في القرآن وأحاديثه الواردة للبيان ، وإنما يتصف بهذا الحرف عباد الرحمن
{ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] الذين ليس للشيطان عليهم سلطان { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ الحجر : 42 ، والإسراء : 65 ] .
ولما كان حرف المحكم مستحق العبد في حق الرب في فطرته التي فطر عليها كان ثابتاً في كل ملة وفي كل شرعة فكانت آياته لذلك هن أم الكتاب المشتمل على الأحرف الأربعة ، لتبدلها وتناسخها وتناسبها في الشرع والملل واختلافها على مذاهب الأئمة في الملة الجامعة ، مع اتفاق الملل في الحرف المحكم فهو أمها وقيامها الثابت حال تبدلها وهو حرف الهدى الذي يهدي به الله من يشاء ، وقرأته العملة به هم المهتدون أهل السنة والجماعة ، كما أن المتبعين لحرف المتشابه هم المتفرقون في الملل وهم أهل البدع والأهواء المشتغلون بما لا يعنيهم ، وبهذا الحرف المتشابه يضل الله من يشاء؛ فحرف المحكم للاجتماع والهدى ، وحرف المتشابه للافتراق والضلال { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] .
ثم قال : اعلم أن قراءة الأحرف الماضية الأربعة هو حظ العامة من الأمة العاملين لربهم على الجزاء المقارضين له على المضاعفة ، وقراءة هذا الحرف تماماً هو حظ المتحققين بالعبودية المتعبدين بالأحوال الصادقة المشفقين من وهم المعاملة ، لشعورهم أن العبد لسيده مصرّف فيما شاء وكيف شاء ، ليس له في نفسه حق ولا حكم ، ولا حجة له على سيده فيما أقامه فيه من صورة سعادة أو شقاوة { في أيّ صورة ما شاء ركبك } [ الانفطار : 8 ] { على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون } [ الواقعة : 63 ] .
والذي تحصل به قراءة هذا الحرف إما من جهة القلب فالمعرفة بعبودية الخلق للحق رقّ خلق ورزق وتصريف فيما شاء مما بينه وبين ربه ومما بينه وبين نفسه ومما بينه وبين أمثاله من سائر العباد ، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، ولا يأخذ إلا ما أعطاه سيده ، ولا يتقي إلا ما وقاه سيده ، ولا يكشف السوء عنه إلا هو ، فيسلم له مقاليد أمره في ظاهره وباطنه ، وذلك هو الدين عند الله الذي لا يقبل سواه { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] و { من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } [ آل عمران : 85 ] وهو دين النبي العبد ، وما يتحقق للعبد من ذلك عن اعتبار العقل وخلوص اللب هي الملة الحنيفية ملة النبي الخليل - هذا من جهة القلب؛ وإما من جهة حال النفس فجميع أحوال العبد القن المعرق في الملك : إنما أنا عبد آكل مثل ما يأكل العبد؛ وجماع ذلك وأصله الذل انكساراً والذل عطفاً والبراءة من الترفع والفخر على سائر الخلق والتحقق بالضعة دونهم على وصف النفس ، بذلك ينتهي حسن التخلق مع الخلق وصدق التعبد للحق؛ وإما من جهة العمل فتصرف الجوارح وإسلامها لله قولاً وفعلاً وبذلاً ، ومسالمة الخلق لساناً ويداً ، وهو تمام الإسلام وثبته ، لا يكتب أحدكم في المسلمين حتى يسلم الناس من لسانه ويده ، ويخص الهيئة من ذلك ما هو أولى بهيئات العبيد كالذي بنيت عليه هيئة الصلاة من الإطراق في القيام ووضع اليمنى على اليسرى بحذاء الصدر هيئة العبد المتأدب المنتظر لما لا يدري خبره من أمر سيده وكهيئة الجلوس فيها الذي هو جلوس العبيد ، كذلك كان صلى الله عليه وسلم يجلس لطعامه ليستوي حال تعبده في أمر دنياه وأخراه ويقول : « إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد » ويؤثر جميع ما هو هيئة العبيد في تعبده ومطعمه ومشربه وملبسه ومركبه وظعنه وإقامته
{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] فبهذه الأمور من تحقق العبودية للقلب وذل النفس وانكسار الجوارح تحصل قراءة حرف المحكم والله الولي الحميد - انتهى .
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
ولما ثبتت هذه الأدلة فوجب امتثال ما دعت إليه ولم يبق لمتعنت شبهة إلا أن يقول : لا أفعل حتى أعلم أن هذا الكتاب الذي تقدم أنه الهدى كلام الله ، قال مبيناً إنه من عنده نظماً كما كان من عنده معنى محققاً ما ختم به التي قبلها من أن من توقف عما دعا إليه من التوحيد وغيره لا علم له بوجه ، وأتى بأداة الشك سبحانه مع علمه بحالهم تنبيهاً على أنه من البعيد جداً أن يجزم بشكهم بعد هذا البيان { وإِن } أي فإن كنتم من ذوي البصائر الصافية والضمائر النيرة علمتم بحقية هذه المعاني وجلالة هذه الأساليب وجزالة تلك التراكيب أن هذا كلامي ، فبادرتم إلى امتثال ما أمر والانتهاء عما عنه زجر . { وإن كنتم في ريب } أي شك محيط بكم من الكتاب الذي قلت - ومن أصدق مني قيلاً - إنه { لا ريب فيه } .
وأشار هنا أيضاً إلى عظمته وعظمة المنزل عليه بالنون التفاتاً من الغيبة إلى التكلم فقال : { مما نزلنا } قال الحرالي : من التنزيل وهو التقريب للفهم بتفصيل وترجمة ونحو ذلك - انتهى . { على عبدنا } أي الخالص لنا الذي لم يتعبد لغيرنا قط ، فلذلك استحق الاختصاص دون عظماء القريتين وغيرهم ، فارتبتم في أنه كلامنا نزل بأمرنا وزعمتم أن عبدنا محمداً أتى به من عنده لتوهمكم أن فيما سمعتم من الكلام شيئاً مثله لأجل الإتيان به منجماً أو غير ذلك من أحواله .
{ فأتوا } أي على سبيل التنجيم أو غيره ، قال الحرالي : الآتي بالأمر يكون عن مكنة وقوة { بسورة } أي نجم واحد . قال الحرالي : السورة تمام جملة من المسموع يحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة - انتهى . وتفصيل القرآن إلى سور وآيات ، لأن الشيء إذا كان جنساً وجعلت له أنواع واشتملت أنواعه على أصناف كان أحسن وأفخم لشأنه وأنبل ولا سيما إذا تلاحقت الأشكال بغرابة الانتظام ، وتجاوبت النظائر بحسن الالتيام ، وتعانقت الأمثال بالتشابه في تمام الأحكام وجمال الأحكام ، وذلك أيضاً أنشط للقارىء وأعظم عنده لما يأخذه منه مسمى بآيات معدودة أو سورة معلومة وغير ذلك { من مثله } أي من الكلام الذي يمكنكم أن تدعوا أنه مثل ما نزلنا كما قال : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } [ الإسراء : 88 ] فإن عبدنا منكم ونشأ بين أظهركم ، فهو لا يقدر على أن يأتي بما لا تقدرون على مثله إلا بتأييد منا .
ولما كانوا يستقبحون الكذب قال : { وادعوا شهداءكم } أي من تقدرون على دعائه من الموجودين بحضرتكم في بلدتكم أو ما قاربها ، والشهيد كما قال الحرالي من يكثر الحضور لديه واستبصاره فيما حضره - انتهى .
{ من دون الله } أي لينظروا بين الكلامين فيشهدوا بما تؤديهم إليه معرفتهم من المماثلة أو المباينة فيزول الريب ويظهر إلى الشهادة الغيب أو ليعينوكم على الإتيان بمثل القطعة المحيطة التي تريدون معارضتها . قال الحرالي : والدون منزلة القريب فالقريب من جهة سفل ، وقد عقلت العرب أن اسم الله لا يطلق على ما ناله إدراك العقل فكيف بالحس! فقد تحققوا أن كل ما أدركته حواسهم ونالته عقولهم فإنه من دون الله - انتهى . ففي التعبير به توبيخ لهم بأنهم لم يرضوا بشهادته سبحانه .
وحكمة الإتيان بمن التبعيضية في هذه السورة دون بقية القرآن أنه سبحانه لما فرض لهم فيها الريب الذي يلزم منه زعمهم أن يكونوا اطلعوا له على مثيل أو سمعوا أن أحداً عثر له على شبيه اقتضى الحال الإتيان بها ليفيد أن المطلوب منهم في التحدي قطعة من ذلك المثل الذي ادعوه حكيمة المعاني متلائمة المباني منتظم أولها بآخرها كسور المدينة في صحة الانتظام وحسن الالتيام والإحاطة بالمباني التي هي كالمعاني والتقاء الطرفين حتى صار بحيث لا يدرى أوله من آخره سواء كانت القطعة المأتي بها تباري آية أو ما فوقها لأن آيات القرآن كسورة يعرف من ابتدائها ختامها ويهدي إلى افتتاحها تمامها ، فالتحدي هنا منصرف إلى الآية بالنظر الأول وإلى ما فوقها بالنظر الثاني .
والمراد بالسورة هنا مفهومها اللغوي ، لأنها من المثل المفروض وهو لا وجود له في الخارج حتى يكون لقطعة اصطلاح في الأسماء معروف ، ولأن معرفة المعنى الاصطلاحي كانت مخصوصاً بالمصدقين ولو أريد التحدي بسورة من القرآن لقيل : فائتوا بمثل سورة منه ، ولما كان هذا هو المراد قصرهم في الدعاء على من بحضرتهم من الشهداء وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يونس عليه السلام وبقية السور المذكورة فيها هذا المعنى ما يتم به هذا الكلام . وفي قوله : { إن كنتم صادقين } إيماء إلى كذبهم في دعوى الشك فيه ، قال الحرالي : والصادق الذي يكون قول لسانه وعمل جوارحه مطابقاً لما احتوى عليه قلبه مما له حقيقة ثابتة بحسبه ، وقال : اتسقت آية تنزيل الوحي بآية إنزال الرزق لما كان نزول ما نزل على الرسول المخصص بذلك ينبغي اعتباره بمقابلة نزول الرزق ، لأنهما رزقان : أحدهما ظاهر يعم الكافر في نزوله ، والآخر وهو الوحي رزق باطن يخص الخاصة بنزوله ويتعين له أيهم أتمهم فطرة وأكملهم ذاتاً؛ ولم يصلح أن يعم بنزول هذا الرزق الباطن كعموم الظاهر ، فتبطل حكمة الاختصاص في الرزقين ، فإن نازعهم ريب في الاختصاص فيفرضون أنه عام فيحاولون معارضته ، وكما أنهم يشهدون بتمكنهم من الحس عند محاولته عمومه فكذلك يجب أن يشهدوا بعجزهم عن سورة من مثله تحقق اختصاص من نزل عليه به وأجرى ذكره باسم العبودية إعلاماً بوفائه بأنحاء التذلل وإظهاراً لمزية انفراده بذلك دونهم ليظهر به سبب الاختصاص .
وانتظم النون في { نزلنا } من يتنزل بالوحي من روح القدس والروح الأمين ونحو ذلك ، لأنها تقتضي الاستتباع ، واقتضت النون في لفظ { عبدنا } ما يظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الانقياد والاتباع وما اقتضاه خلقه العظيم من خفض الجناح ، حتى أنه يوافق من وقع على وجه من الصواب من أمته صلى الله عليه وسلم ، وحتى أنه يتصف بأوصاف العبد في أكله كما قال : « آكل كما يأكل العبد » انتهى .
والتحدي بسورة يشمل أقصر سورة كالكوثر ومثلها في التحدي آية مستقلة توازيها وآيات ، كما قاله الإمام جلال الدين محمد بن أحمد المحلي في شرح جمع الجوامع ، وسبقه الإمام شمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماوي فنظمه في القنية في الأصول ونقله في شرحها عن ظاهر كلام إمام الحرمين في الشامل وعن كلام الفقهاء في الصداق فيما لو أصدقها تعليم سورة فلقنها بعض آية ، وسبقهما العلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني فقال في تلويحه على توضيح صدر الشريعة : المعجز هو السورة أو مقدارها هكذا ذكر الذين تكلموا في الإعجاز من الأصوليين وغيرهم أن التحدي وقع بسورة من القرآن ، والصواب أنه إنما وقع بقطعة آية فما فوقها ، لأن المراد بالسورة مفهومها اللغوي لا الاصطلاحي كما تقدم بيانه .
والحاصل أنه لما كان في آيات المنافقين ذكر الأمثال وكانوا قد استغربوا بعض أمثال القرآن وجعلوها موضعاً للشك من حيث كانت موضعاً لليقين فقالوا : لو كان هذا من عند الله لما ذكر فيه أمثال هذه الأمثال ، لأنه أعظم من أن يذكر ما دعاهم إلى المعارضة في هذه السورة المدنية بكل طريق يمكنهم ، وأخبرهم بأنهم عاجزون عنها وأن عجزهم دائم تحقيقاً لأنهم في ذلك الحال معاندون لا شاكون .
ولما كان سبحانه عالماً بأن الأنفس الأبية والأنوف الشامخة الحمية التي قد لزمت شيئاً فمرنت عليه حتى صار لها خلقاً يصعب عليها انفكاكها عنه ويعسر خلاصها منه عبر عن هذا الإخبار بالعجز مهدداً في سياق ملجىء إلى الإنصاف بالاعتراف أو تفطر القلوب بالعجز عن المطلوب بقوله تعالى : { فإن لم تفعلوا } فأتى بأداة الشك تنفيساً لهم وتهكماً في نفس الأمر بهم واستجهالاً لهم ، ثم لم يتمم ذلك التنفيس حتى ضربهم ضربة فضمت ظهورهم وقطعت قلوبهم فقال لتكون الآية كافلة لصحة نسبة النظم والمعنى آيد وآكد لادعائهم المقدرة بقوله تعالى : { ولن تفعلوا } فألزمهم الخزي بما حكم عليهم به من العجز ، فلم يكن لهم فعل إلا المبادرة إلى تصديقه بالكف ، فكانوا كمن ألقم الحجر فلم يسعه إلا السكوت ، واستمر ذلك التصديق لهم ولأمثالهم على وجه الدهر في كل عصر ينادي مناديه فتخضع له الرقاب ويصدّح مؤذنه فتنكسر الرؤوس ، والتعبير بالفعل الأعم من الإتيان أبلغ لأن نفيه نفي الأخص وزيادة .
والفعل قال الحرالي ما ظهر عن داعية من الموقع كان عن علم أو غير علم لتدين كان أو لغيره كما تقدم مراراً - انتهى .
فقد ثبت أن هذا الكتاب الذي بين أنه الهادي إلى الصراط المستقيم أعظم دليل على إفراده بالعبادة واختصاصه بالمراقبة التي أرشدنا إليها بقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } [ الفاتحة : 4 ] الآية بما ثبت فيه من أدلة التفرد بالإلهية بما ثبت من عجزهم عن معارضته وعجز جميع العرب الذين كانوا أفصح الخلق وكذا جميع من ولد في بلادهم وانطبع بلسانهم من اليهود والنصارى الذين لهم من الفصاحة والعلم ما هو مشهور فقد كان لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا في المدينة الشريفة وخيبر واليمن وغيرها ، ومن دخل في دينهم من العرب من الفصاحة والبلاغة والعلم ما لا يحتاج من طالع السيرة فيه إلى توقف ، وكان النصارى من بني إسرائيل ومن دان دينهم من العرب وهم كثير كثرة قوم المنذرين ماء السماء ، وما قارب الشيء من عبد القيس وتنوخ وعامله وغسان كلهم فصحاء بلغاء ، وزاد كثير منهم على ذلك العلم وكان منهم الشعراء المبرزون؛ ومع ذلك فلم يقدر أحد منهم على طعن في هذا القرآن ولا عارضه منهم إنسان إلا ما قاله مسيلمة والأسود العنسي فيما افتضحوا به وأكذبهم الله تعالى فيه وسارت بفضائحهم الركبان فكانوا بها مثلاً في سائر البلدان .
قال عمرو بن بحر الجاحظ « في كتاب الحجة في تثبيت خبر الواحد » إن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته فدعاهم إلى حظهم بالحجة ، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا له وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم وقتلوا أعمامه وبني أعمامه وعلية أصحابه وأعلام أهله ، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن وغيره ويدعوهم صباحاً ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة ، فكلما ازداد تحدياً لهم بها وتقريعاً بعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستوراً وظهر منه ما كان خفياً ، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له : أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف فلذلك يمكنك ما لا يمكننا؛ قال : فهاتوها مفتريات ، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولا طبع فيه لتكلفه ، ولو تكلفه لظهر ذلك ، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض ، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واتساع لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته ، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الحرائب؛ وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في العقل والرأي بطبقات ، ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة ، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور ، ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم؛ فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد علمهم وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر! وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثاً وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة فكذلك أيضاً محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه - انتهى .
فثبت بهذا عجزهم وخرس قطعاً إفصاحهم ورمزهم وطأطأ ذلاً كبرهم وعزهم ، وكيف يمكن المخلوق مع تمكنه في سمات النقص ودركات الافتقار والضعف معارضة من اختص بصفات الكمال وتعالى عن الأنداد والأشباه والأشكال .
وقد اختلف الناس في سبب الإعجاز وأحسن ما وقفت عليه من ذلك ما نقله الإمام بدر الدين الزركشي الشافعي في كتابه البرهان عن الإمام أبي سليمان الخطابي - وقال : وإليه ذهب الأكثرون من علماء النظر - أن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها ووضعوا فيه إلى حكم الذوق ، قال : والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في درجات البيان متفاوتة ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز الطلق الرسل؛ وهذه الأقسام هي الكلام الفاضل المحمود ، فالقسم الأول أعلاه والقسم الثاني أوسطه والقسم الثالث أدناه وأقربه؛ فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة وأخذت من كل نوع شعبة ، فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة ، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة يعالجان نوعاً من الزعورة ، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل واحد منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن لتكون آية بينة لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنما تعذر على البشر جميعاً الإتيان بمثله لأمور ، منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني ، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض ، فيتوصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله ، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم؛ وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً وتشاكلاً من نظمه؛ وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته ، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام ، فأما أن يوجد مجموعه في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير ، فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف ، مضمناً أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيه له في صفاته ، ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته ، في تحليل وتحريم وحظر وإباحة ، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر ، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها ، واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه ، مودعاً أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعاند منهم ، منبئاً عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان ، جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه ، وأنبأ عن وجوب ما أمر به ونهى عنه ، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم؛ فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله ، ثم صار المعاندون له يقولون مرة : إنه شعر - لما رأوه منظوماً - ومرة : إنه سحر - لما رأوه معجوزاً عنه غير مقدور عليه ، وقد كانوا يجدون له وقعاً في القلوب وفزعاً في النفوس يريبهم ويحيرهم ، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعاً من الاعتراف ، ولذلك قالوا : إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وكانوا مرة بجهلهم يقولون : إنه
{ أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً } [ الفرقان : 5 ] مع علمهم أن صاحبه أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز - انتهى .
وأول كلامه يميل إلى أن الإعجاز بمجرد النظم من غير نظر إلى المعنى ، وآخره يميل إلى أنه بالنظر إلى النظم والمعنى معاً من الحيثية التي ذكرها ، وهو الذي ينبغي أن يعتقد لكن في التحدي بسورة واحدة وأما بالعشر فبالنظر إلى البلاغة في النظم فقط - نقله البغوي في تفسير سورة هود عن المبرد وقد مر آنفاً مثله في كلام الجاحظ .
وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في مفتاح الباب المقفل الباب الأول في علو بيان القرآن على بيان الإنسان : اعلم أن بلاغة البيان تعلو على قدر علو المبين ، فعلو بيان الله على بيان خلقه بقدر علو الله على خلقه ، فبيان كل مبين على قدر إحاطة علمه ، فإذا أبان الإنسان عن الكائن أبان بقدر ما يدرك منه وهو لا يحيط به علمه فلا يصل إلى غاية البلاغة فيه بيانه ، وإذا أنبأ عن الماضي فبقدر ما بقي من ناقص علمه به كائناً في ذكره لما لزم الإنسان من نسيانه ، وإذا أراد أن ينبىء عن الآتي أعوزه البيان كله إلا ما يقدّره أو يزوّره؛ فبيانه في الكائن ناقص وبيانه في الماضي أنقص وبيانه في الآتي ساقط
{ بل يريد الإنسان ليفجر أمامه } [ القيامة : 5 ] وبيان الله سبحانه عن الكائن بالغ إلى غاية ما أحاط به علمه { قل إنما العلم عند الله } [ الملك : 26 ] وعن المنقطع كونه بحسب إحاطته بالكائن وسبحانه من النسيان { لا يضل ربي ولا ينسى } [ طه : 52 ] وعن الأتي بما هو الحق الواقع { فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين * والوزن يومئذ الحق } [ الأعراف : 7 ، 8 ] والمبين الحق الذي لا يوهن بيانه إيهام نسبة النقص إلى بيانه ، والإنسان يتهم نفسه في البيان ويخاف أن ينسب إلى العي فيقصد استقراء البيان ويضعف مفهوم بيانه ضعفاً من منته ومفهوم بيان القرآن أضعاف أضعاف أنبائه وقل ما ينقص عن نظيره - انتهى .
وقال الإمام محمد بن عبد الرحمن المراكشي الأكمه في شرح نظمه لمصباح ابن مالك في المعاني والبيان ما يصلح أن يكون متناً وجملة وما تقدم شرحاً له وتفصيلاً قال : الجهة المعجزة في القرآن تعرف بالتفكر في علم البيان وهو كما اختاره جماعة في تعريفه ما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى وعن تعقيده ، وتعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه لمقتضى الحال ، لأن جهة إعجازه ليست مفردات ألفاظه وإلا لكانت قبل نزوله معجزة ، ولا مجرد تأليفها وإلا لكان كل تأليف معجزاً ، ولا إعرابها وإلا لكان كل كلام معرب معجزاً ، ولا مجرد أسلوبه وإلا لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزاً - والأسلوب الطريق - ولكان هذيان مسيلمة معجزاً ، ولأن الإعجاز يوجد دونه أي الأسلوب في نحو { فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا } [ يوسف : 80 ] { فاصدع بما تؤمر } [ الحجر : 94 ] ولا بالصرف عن معارضته ، لأن تعجبهم كان من فصاحته ، ولأن مسيلمة وابن المقفّع والمعري وغيرهم قد تعاطوها فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع ويضحك منه في أحوال تركيبه ويهان بتلك الأحوال ، أعجز البلغاء وأخرس الفصحاء؛ فعلى إعجازه دليل إجمالي وهو أن العرب عجزت عنه وهو بلسانها فغيرها أحرى ، ودليل تفصيلي مقدمته التفكر في خواص تركيبه ، ونتيجته العلم بأنه تنزيل من المحيط بكل شيء علماً - انتهى . وسيأتي إن شاء الله تعالى في أواخر العنكبوت ما ينفع ها هنا وأشار سبحانه في تهديدهم بقوله : { فاتقوا النار } كذا قال الحرالي ، وهي جوهر لطيف يفرط لشدة لطافته في تفريط المتجمد بالحر المفرط وفي تجميد المتمتع بالبرد المفرط .
وقال غيره : جسم لطيف مضيء حار من شأنه الإحراق { التي وقودها } أي الشيء الذي يتوقد ويتأجج به { الناس والحجارة } التي هي أعم من أصنامهم التي قرنوا بها أنفسهم في الدنيا إلى أنهم لم يقدروا على المعارضة واستمروا على التكذيب ، كانوا معاندين ومن عاند استحق النار ، وإلى أنهم إذا أحرقوا فيها أوقد عليهم بأصنامهم تعريضاً بأنها وإن كانت في الدنيا لا ضرر فيها ولا نفع باعتبار ذواتها فهي في الآخرة ضرر لهم بلا نفع بشفاعة ولا غيرها؛ وتعريف النار وصلة الموصول لأن أخبار القرآن بعد ثبوت أنه من عند الله معلومة مقطوع بها فهو من باب تنزيل الجاهل منزلة العالم تنبيهاً على أن ما جهله لم يجهله أحد .
وقال الحرالي : الحجارة ما تحجَّر أي اشتد تصام أجزائه من الماء والتراب ، { واتقوا } أي توقفوا عن هذه التفرقة بين الله ورسوله حيث تذعنون لربوبيته وترتابون في رسوله ، فالنار معدة للعذاب بأشد التفريق لألطف الأجزاء الذي هو معنى الحرق لمن فرق وقطع ما يجب وصله ، أي لما فاتتكم التقوى بداعي العلم فلا تفتكم التقوى بسائق الموجع المخصوص المناسب عذابه لفعلكم ، فإنها نار غذاؤها واشتعالها بالكون كله أنهاه تركيباً وهم الناس الملائمون لمارجها بالنوس وأطرفه وأجمده وهي الحجارة فهي تسع ما بين ذلك من باب الأولى ، وفيه إشعار بمُنتها وقوتها وأنها بحكم هذا الوسع للالتصاق بخلق يعني وليست كنار الدنيا التي غذاؤها من ضعيف الموالد وهو النبات ولا تفعل في الطرفين إلا بواسطة وكان غذاؤها ووقودها النبات إذ كانت متقدحة منه كما قال : { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً } [ يس : 80 ] وتقول العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ، وذلك على حكم ما تحقق أن الغذاء للشيء مما منه أصل كونه وقال : { وقودها } لأن النار أشد فعلها في وقودها لأن بتوسطه تفعل فيما سواه ، فإذا كان وقودها محرقها كانت فيه أشد عملاً لتقويها به عليه ، ويفهم اعتبارها بنار الدنيا انقداحها من أعمال المجزيين بها ومن كونهم ، فهم منها مخلوقون وبها مغتذون إلا أنها منطفية الظاهر في الدنيا متأججة في يوم الجزاء ومثال كل مجزي منها بمقدار ما في كونه من جوهرها .
قلت : ويؤيده { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } [ الإسراء : 27 ] أي في أن الغالب عليهم العنصر الناري المفسد لما قاله : { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً } [ مريم : 27 ] قال : وفي ذكر الحجارة إفهام عموم البعث والجزاء لما حوته السماء والأرض وأن كل شيء ليس الثقلين فقط يعمه القسم بين الجنة والنار كما عمه القسم بين الخبيث والطيب؛ وإنما اقتصر في مبدأ عقيدة الإيمان على الإيمان ببعث الثقلين وجزائهم تيسيراً واستفتاحاً ، وما سوى ذلك فمن زيادة الإيمان وتكامله كما قال :
{ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } [ الفتح : 4 ] ومن العلماء من وقف بإيمانه على بعث الثقلين وجزائهما ، حتى أن منهم من ينكر جزاء ما سواهما ويتكلف تأويل مثل قوله عليه السلام : « يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء » انتهى .
ولما تم ذلك وكان { الناس } عاماً للكافر وغيره كان كأنه قيل : هذه النار لمن؟ فقيل : { أعدت } أي هيئت وأكملت قبل زمن استعمالها وتقاد للمجهول لأن المشتكي إذا جهل فاعله كان أنكأ { للكافرين } فبين أنها موجودة مهيأة لهم ولكل من اتصف بوصفهم وهو ستر ما ظهر من آيات الله . قال الحرالي : وهي عدة الملك الديان لهم بمنزلة سيف الملك من ملوك الدنيا - انتهى . ولما ذكر ما لهم ترهيباً اتبعه ما للمؤمنين ترغيباً فقال صارفاً وجه الخطاب بالرحمة إلى نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم عاطفاً على ما تقديره : فأنذرهم بذلك ، ولكنه طواه لأن السياق للاستعطاف { وبشر } والبشرى قال الحرالي إظهار غيب المسرة بالقول : { الذين آمنوا } أي صدقوا الرسل { وعملوا } قال الحرالي : من العمل وهو فعل بُني على علم أو زعمه { الصالحات } من الأقوال والأفعال ، قال الحرالي : جمع صالحة ، وهو العمل المتحفظ به من مداخل الخلل فيه ، وإذا كانت البشرى لهؤلاء فالمؤمنون أحق بما فوق البشرى ، وإنما يبشر من يكون على خطر ، والمؤمن مطمئن فكيف بما فوق ذلك من رتبة الإحسان إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، وما لا يناله علم نفس ولا خطر على قلب بشر .
ولما ذكر المبشر اتبعه المبشر به فقال : { أن لهم جنّات } أي متعددة ، قال الحرالي : لتعدد رتب أفعالهم التي يطابق الجزاء ترتبها وتعددها كما قال عليه الصلاة والسلام للتي سألت عن ابنها : « إنها جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى » وفي التعبير بلهم إشعار بأن ذلك الذي لهم ينبغي لحاقه بذواتهم ليحصل به من كمال أمرهم وصلاح حالهم نحو مما يحصل بكمال خلقهم وتسويتهم . والجنات مبتهجات للنفوس تجمع ملاذ جميع حواسها ، تُجن المتصرف فيها أي تخفيه وتجن وراء نعيمها مزيداً دائماً - انتهى .
ثم وصفها بأنها { تجري } قال الحرالي : من الجري وهو إسراع حركة الشيء ودوامها ، { من تحتها } أي من تحت غرفها ، والتحت ما دون المستوى ، { الأنهار } جمع نهر ، وهو المجرى الواسع للماء - انتهى . فإسناد الجري إليها مجاز ، والتعريف لما عهده السامع من الجنس ويحتمل أن يكون المعنى أن أرضها منبع الأنهار ، فَتَحتَ كل شجرة وغرفة منبع نهر ، فهي لا تزال غضّة يانعة متصلة الزهر والثمر لا كما يجلب إليه الماء وربما انقطع في وقت فاختلّ بعض أمره .
قال الحرالي : وإذا تعرف حال العامل من وصف جزائه علم أن أعمالهم كانت مبنية على الإخلاص الذي هو حظ العاملين من التوليد الذي الماء آيته - انتهى .
فلما كانت الجنان معروفة بالثمار ساق وصفها بذلك مساق ما لا شك فيه بخلاف جري الأنهار فقال : { كلما } وهي كلمة تفهم تكرر الأمر في عموم الأوقات { رزقوا منها من ثمرة } أيّ ثمرة كانت رزقاً { قالوا } لكونه على صورة ما في الدنيا { هذا } أي الجنس لاستحكام الشبه { الذي رزقنا من قبل } أي في الدنيا ، ولما كان الرزق معلوماً ولم يتعلق غرض بمعرفة الآتي بالرزق بُنيا للمجهول فقال تعالى عاطفاً على ما تقديره لأنا خلقناه على شكل ما كان ليكونوا به أغبط ولمزيته أعرف وله أقبل وإليه أميل موحداً للضمير إشارة إلى أنه لاستحكام الشبه كأنه واحد { وأتوا به } أي جيء لهم بهذا الجنس المرزوق لهم في الدارين في الجنة من غير تطلب وتشوق { متشابهاً } في مطلق اللون والجنس ليظن أنه متشابه في الطعم ، فيصير فضله في ذلك بالذوق نعمة أخرى والتشابه المراد هنا اشتراك في ظاهر الصورة ، والإتيان بأداة التكرار يدل على أن الشبه يزداد عظمة في كل مرة فيزداد العجب وجعل الحرالي هذا خاصاً بثمار الجنة فقال : من قبل إعلام بأن أشخاص ثمر الجنة وآحادها لا تتمايز لأنها على أعلى صورتها لا تتفاوت بأعلى وأدنى ولا يتراخى زمان عودها ، فهي تتخلف لآنِ قطفها ولا تتمايز صور المقطوف من الخالف حتى يظن القاطف أن المتخلف عين الأول؛ فحال ثمر الجنة كحال الماء الذي هو أصله ، وبسرعة الخلف من ثمر الجنة وأنه متصل جرية الوجود قال عليه السلام في عنقود من ثمرها : « لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا » ويشعر ذلك عند اعتبار العمل به بأن نياتهم في الأعمال صالحة ثابتة مرابطة حتى جرُّوا بها هذا الاتصال وكمال الصورة في الرزق ومنه حديث مرفوع أخرجه الطبراني عن سهل بن سعد : « نية المؤمن خير من عمله » { وأتوا به متشابهاً } أظهر عذرهم في توهم اتحاد الثمر وعرف بأمنتهم من العنا ، لأنه لو تفاوت تبعه الكراهة للأدنى وتكلف للانتقاء للأعلى وذلك إنما هو لائق بكيد الدنيا لا بنعيم الجنة ، وقد ذكر بعض العلماء اطراد هذا التشابه في ثمر الجنة وإن اختلفت أصنافه ، ويضعفه ما يلزم منه كمال الدلالة في المعنى والصورة في نحو قوله تعالى : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } [ الرحمن : 68 ] وما يجري مجراه - انتهى .
ولما ذكر المسكن الذي هو محل اللذة وأتبعه المطعم المقصود بالذات وكانت لذة الدار لا تكمل إلا بأنس الجار لا سيما المستمتع به قال : { ولهم فيها } أي مع ذلك { أزواج } ولما كن على خلق واحد لا نقص فيه أشار إليه بتوحيد الصفة ، وأكد ذلك بالتعبير بالتفعيل إلماماً بأنه عمل فيه عمل ما يبالغ فيه بحيث لا مطمع في الزيادة فقال : { مطهرة } .
قال الحرالي : والزوج ما لا يكمل المقصود من الشيء إلا معه على نحو من الاشتراك والتعاون ، والتطهير تكرار إذهاب مجتنب بعد مجتنب عن الشيء؛ ولما ذكر تعالى الرزق المستثمر من أعمال الذين آمنوا وصل به ذكر الأزواج المستثمرة من حال نفوسهم من حسن أخلاقها وجمال صورتها الباطنة في الدنيا ، وكانت المرأة زوج الرجل لما كان لا يستقل أمره في النسل والسكن إلا بها - انتهى .
ولما كان خوف الزوال أو الانتقال إلى أدنى منغصاً فلا تروق اللذة إلا مع الاستقرار وكان هذا الوصف عاماً في جميع الجنان العلى وغيرها قال مقدماً للجار إشارة إلى أنهم لا يكونون في جنة إلا وهذه صفتها وأن نعيمهم لا آخر له { وهم فيها } ولما أفاد تقديم الظرف تخصيص الكون بها وعدم الكون في غيرها وكان ذلك معنى الخلود وكان قد يطلق على الإقامة بلا نهاية على طول الإقامة وإن كان له آخر صرح به بياناً بأن المراد ما لا آخر له وإلا لم يفد شيئاً جديداً فقال : { خالدون } والخلود طول الإقامة بالقرار ، وسياق الامتنان أغنى عن تقييده بالتأبيد والدوام .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
ولما ثبت بعجزهم عن المعارضة أن هذا الكلام كلامه سبحانه ثبت أن ما فيه من الأمثال أقواله فهددهم في هذه السورة المدنية على العناد وتلاه بالآية التي أخبر فيها بأن ثمار الدنيا وأزواجها وإن شابهت ما في الجنة بالاسم وبعض الشكل فقد باينته بالطعوم والطهارة وما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى فاضمحلت نسبتها إليها ، وكان في ختم الآية بخالدون إشارة إلى أن الأمثال التي هي أحسن كلام الناس وإن شابهت أمثاله سبحانه في الاسم ودوام الذكر فلا نسبة لها إليها لجهات لا تخفى على المنصف فلم يبق إلا طعنهم بأنها لكونها بالأشياء الحقيرة لا تليق بكبريائه فبين حسنها ووجوب الاعتداد بها وإنعام النظر فيها بالإشارة بعدم الاستحياء من ضربها لكونها حقاً إلى أن الأشياء كلها وإن عظمت حقيرة بالنسبة إلى جلاله وعظمته وكماله ، فلو ترك التمثيل بها لذلك لانسد ذلك الباب الذي هو من أعجب العجاب فقال تعالى على طريق الاستنتاج من المقدمات المسلَّمات وأكد سبحانه دفعاً لظن أنه يترك لما لبّسوا به الأمثال التي هي أكشف شيء للأشكال وأجلى في جميع الأحوال . وقال الحرالي : لما كانت الدعوة تحوج مع المتوقف فيها والآبي لها إلى تقريب للفهم بضرب الأمثال وكانت هذه الدعوة جامعة الدعوات وصل بها هذه الآية الجامعة لإقامة الحجة في ضرب الأمثال وأن ذلك من الحق سبحانه { والله لا يستحيي من الحق } [ الأحزاب : 53 ] وليختم ذكر ما تضمنه صدر السورة من الحروف التي أنزل عليها القرآن بسابعها الذي هو حرف المثل ، وبين تعالى أن مقدار الحكمة الشاهد للممثل في البعوضة وفيما هو أظهر للحس وآخذ في العلم . وإنما يجب الالتفات للقدر لا للمقدار ولوقع المثل على ممثله قل أو جل دنا أو علا فتنزه تعالى عما يجده الخلق عندما ينشأ من بواطنهم وهمهم أن يظهروا أمراً فيتوهمون فيه نقصاً فيرجعهم ذلك عن إظهاره قولاً أو فعلاً - انتهى . فقال تعالى : { إن الله } أي المحيط بكل شيء جلالاً وعظمة وكمالا { لا يستحيي } أي لا يفعل ما يفعله المستحي من ترك ما يستحي منه .
والحياء قال الحرالي انقباض النفس عن عادة انبساطها في ظاهر البدن لمواجهة ما تراه نقصاً حيث يتعذر عليها الفرار بالبدن { أن } كلمة مدلولها ممن أجريت عليه حقيقة باطن من ذاته وعلمه يتصل بها ما يظهرها ، وسيبويه رحمه الله يراها اسماً ، وعامة النحاة لانعجام معناها عليهم يرونها حرفاً { يضرب } من ضرب المثل وهو وقع المثل على الممثل ، لأن أصل الضرب وقع شيء على شيء ، والمعنى أن يوجد الضرب متجدداً مستمراً وهذا لا يساويه أن يقال من ضربه مثلاً ، فإنه يصدق لمثل واحد سابق أو لاحق ، وتحقيقه أن المصدر لا يقع إلا على كمال الحقيقة من غير نظر إلى زمان ولا غيره وأما بفعل فإنه يفهم إيقاع الحقيقة من غير نظر أيضاً إلى زمان ، وبفهمها مع النظر إلى الزمان مع التجدد والاستمرار ومع كمال الحقيقة وقبل كمالها عند الشروع فيها وإلى هذا القيد الأخير ينظر قول الحرالي : إن الحياء من أن يضرب المثل استحياء من وقعه في الباطن ، والحياء من ضربه المثل استحياء من إظهاره بالقول ، فنفى الأصل الأبلغ الذي بنفيه يكون نفي الضرب أحق ، فليراجع هذا المعنى مع تكرار كلمة « إن » فإنها كثيرة الدور في القرآن جليلة قدر المعنى في مواقعها ، وإنما يجري على ترك الالتفات إلى موقع معناها ما يقوله النحاة في معنى التقريب إنّ أنّ والفعل في معنى المصدر ، والواجب في الإعراب والبيان الإفصاح عن ترتب معانيهما ، وعند هذا يجب أن تكون أن اسماً والفعل صلتها نحو من وما { مثلاً ما } مثل أمر ظاهر للحس ونحوه ، يعتبر به أمر خفي يطابقه فينفهم معناه باعتباره و « ما » في نحو هذا الموقع لمعنى الاستغراق ، فهي هنا لشمول الأدنى والأعلى من الأمثال - انتهى .
ثم بين ذلك بقوله : { بعوضة } .
وقال الحرالي : ولما كان ضرب المثل متعلقاً بمثل وممثل كان الضرب واقعاً عليهما ، فكان لذلك متعدياً إلى مفعولين : مثلاً ما وبعوضة ، والبعوض جنس معروف من أدنى الحيوان الطائر مقداراً وفيه استقلال وتمام خلقة ، يشعر به معنى البعض الذي منه لفظه ، لأن البعض يوجد فيه جميع أجزاء الكل فهو بذلك كل ، { فما فوقها } أي من معنى يكون أظهر منها ، والفاء تدل على ارتباط ما إما تعقيب واتصال أو تسبيب ، ففيه هنا إعلام بأقرب ما يليه على الاتصال والتدريج إلى أنهى ما يكون - انتهى . والمعنى أن ذلك إن اعتبر بالنسبة إليه سبحانه كان هو وأنتم وغيركم بمنزلة واحدة في الحقارة ، وإن اعتبر بالنسبة إليكم كان الفريقان بمنزلة واحدة في أنه خلق حقير ضعيف صغير من تراب ، وأما شرف بعضه على بعض فإنما كان بتشريف الله له ولو شاء لعكس الحال .
ثم ذكر شأن قسمي المؤمنين والكافرين بقسمي كل منهم في قبول أمثاله فقال مؤكداً بالتقسيم لأن حال كل من القسمين حال المنكر لما وقع للآخر : { فأما } ، قال الحرالي : كأنها مركبة من « إن » دالة على باطن ذات و « ما » دالة على ظاهر مبهم ، يؤتى به للتقسيم - انتهى . { الذين آمنوا } أي بما ذكرنا أول السورة ، ولما تضمن أما معنى الشرط كما فسره سيبويه بمهما يكن من شيء أجيب بالفاء في قوله : { فيعلمون أنه } أي ضرب المثل { الحق } كائناً { من ربهم } أي المحسن إليهم بجميع أنواع الإحسان ، وأنه ما أراد بهم إلا تربيتهم بالإحسان بضربه على عوائد فضله ، وأما أمثال غيره فإن لم يكن فيها نوع من الباطل فلا بد فيها من ضرب من التسمُّح تكون به غير جديرة باسم الحق ولا عريقة فيه .
قال الحرالي : لما كان الذين آمنوا ممن بادر فأجاب وكان ضرب المثل تأكيد دعوة وموعظة لمن حصل منه توقف حصل للذين آمنوا استبصار بنور الإيمان في ضرب المثل ، فصاروا عالمين بموقع الحق فيه ، وكما استبصر فيه الذين آمنوا استغلق معناه على الذين كفروا وجهلوه فاستفهموا عنه استفهام إنكار لموقعه - انتهى . فلذا قال { وأما الذين كفروا } أي المجاهرون منهم والمساترون { فيقولون } أي قولاً مستمراً { ماذا } أي الذي { أراد الله } الذي هو أجل جليل { بهذا } الحقير أي بضربه له { مثلاً } أي على جهة المثلية استهزاء وجهلاً وعناداً وجفاءً؛ ثم وصل بذلك ذكر ثمرته عند الفريقين جواباً لسؤال من سأل منهم فقال : { يضل به كثيراً } أي منهم بأن لا يفهمهم المراد منه فيظنون بذلك الظنون . وقال الحرالي : وكان إضلالاً لهم ، لأن في ضرب المثل بما يسبق لهم استزراؤه بنحو الذباب والعنكبوت الذي استزروا ضرب المثل به تطريق لهم إلى الجهالة فكان ذلك إضلالاً ، وقدم الجواب بالإضلال لأنه مستحق المستفهم ، والإضلال التطريق للخروج عن الطريق الجادة المنجية - انتهى .
{ ويهدي به كثيراً } أي ببركة اعتقادهم الخير وتسليمهم له الأمر يهديهم ربهم بإيمانهم فيفهمهم المراد منه ويشرح صدورهم لما فيه من المعارف فيزيدهم به إيماناً وطمأنينة وإيقاناً ، والمهديون كثير في الواقع قليل بالنسبة إلى الضالين . ولما كان المقام للترهيب كما مضى في قوله : { فاتقوا النار } اكتفى في المهتدين بما سبق من بشارتهم وقال في ذم القسم الآخر وتحذيره : { وما يضل به إلا } ، قال الحرالي : كأنها مركبة من « إن » و « لا » مدلولها نفي حقيقة ذات عن حكم ما قبلها - انتهى . { الفاسقين } أي الخارجين عن العدل والخير . وقال الحرالي : الذين خرجوا عن إحاطة الاستبصار وجهات تلقي الفطرة والعهد الموثق وحسن الرعاية ، لأن الفسق خروج عن محيط كالكمام للثمرة والجحر للفأرة - انتهى .
ثم بينهم بقوله : { الذين ينقضون } من النقض وهو حل أجزاء الشيء بعضها عن بعض { عهد الله } أي الذي أخذه عليهم على ما له من العظمة بما ركز فيهم من العقول ونصب لهم من الدلائل والعهد التقدم في الأمر - قاله الحرالي .
ولما كان المراد عهداً خاصاً وهو إرسال الرسل عليهم السلام أثبت الخبر فقال : { من بعد ميثاقه } أي بدلالة الكتب على ألسنة الرسل مع تقريبه من الفطر وتسهيله للنظر ، والوثاق شدة الربط وقوة ما به يربط - قاله الحرالي { ويقطعون ما أمر الله } أي الملك الأعظم ، ولما كان البيان بعد الإجمال أروع للنفس قال : { به } ثم فسره بقوله : { أن يوصل } أي من الخيرات ، قال الحرالي : والقطع الإبانة في الشيء الواحد والوصل مصيراً لتكملة مع المكمل شيئاً واحداً كالذي يشاهد في إيصال الماء ونحوه وهو إعلام بأنهم يقطعون متصل الفطرة ونحوها فيسقطون عن مستواها وقد أمر الله أن يوصل بمزيد علم يتصل بها حتى يصل نشؤها إلى أتم ما تنتهي إليه ، وكذلك حالهم في كل أمر يجب أن يوصل فيأتون فيما يطلب فيه الأمر الأكمل بضده الأنقص - انتهى .
{ ويفسدون } ولما قصر الفعل ليكون أعم قال : { في الأرض } أي بالنكوب عن طريق الحق . قال الحرالي : ولما كانت الأرض موضوعة للنشىء منها وفيها وموضع ظهور عامة الصور الرابية اللازمة الجسمية ومحل تنشؤ صورة النفس بالأعمال والأخلاق وكان الإفساد نقض الصور كما قال تعالى : { وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] كان فعلهم فيها من نحو فعلهم في وضع الضد السيء موضع ضده الأكمل والتقصير بما شأنه التكملة فكان إفساداً لذلك - انتهى .
ولما كان كأنه قيل : إن فعل هؤلاء لقبيح جداً فما حالهم؟ قال : { أولئك } أي الأباعد من الصواب { هم الخاسرون } أي الذين قصروا الخسران عليهم ، والخسارة النقص فيما شأنه النماء - قاله الحرالي ، ومن المعلوم أن هذا نتيجة ما مضى من أوصافهم . قال الحرالي : ولما كان الخاسر من كان عنده رأس مال مهيأ للنماء والزيادة فنقصه عن سوء تدبير ، وكان أمرهم في الأحوال الثلاث المنسوقة حال من نقص ما شأنه النماء كانوا بذلك خاسرين فلذلك انختمت الآية بهذا؛ وأشير إليهم بأداة البعد لوضعهم في أبعد المواضع عن محل الخير - انتهى .
ولما دعا سبحانه إلى التوحيد ودل عليه وأنذر من أعرض وبشر من أقبل وذكر حال الفريقين في قبول الأدلة التي زبدتها الأمثال وإبائها التفت إلى تبكيت المدبر لعله يستبصر ، واستمر سبحانه في دلائل التوحيد حتى قامت قيام الأعلام ونفذت نفوذ السهام حتى تخللت صميم العظام لقد ظهرت فلا تخفى على أحد إلا على أكمه لا يبصر القمر في أسلوب مشيراً إلى البعث منبه على التخلص من الخسارة ، وما أبدع افتتاح ذلك عقب « الخاسرين » بقوله على طريق التفات المغضب المستعطف المعجب! { كيف } وقال الحرالي : لما تقدمت الدعوة للناس فأجاب مبادر وتوقف متوقف فضربت الأمثال فاستدرك وآمن وتمادى متماد على كفره صرف وجه الخطاب عن المواجهة من الحق تعالى وأجري على لسان لؤم وإنكار ، فجاء هذا الاستفهام لإيضاح انقطاع العذر في التمادي على الكفر ، وجاء بلفظ كيف لقصور نظرهم على الكيفيات المحسوسة فإن كيف كلمة مدلولها استفهام عن عموم الأحوال التي شأنها أن تدرك بالحواس ، فكأنه يقال لهم بمدرك : أي حاسة تماديتم على الكفر بالله؟ على ما تقتضيه صيغة الفعل الدائم في { تكفرون } انتهى .
وقال : { بالله } أي مع ظهور عظمته وعلوه ، والإنكار الموجب لنفي المنكر ، كما في قولك : أتطير بغير جناح ، يفيد أنه كان ينبغي أن يكون الكفر في حيز الممتنع لما على بطلانه وصحة التوحيد من الأدلة التي تفوت الحصر ، وإنكار حاله إنكار لوجوده على طريق البرهان ، لأنه إذا امتنع أن يوجد في حال من الأحوال امتنع وجوده مطلقاً .
قال الحرالي : وأعلى هذا الخطاب فأبعدوا عن تيسيره بذكر اسم « الله » لما لم يكونوا من أهل قبول التنزل بدعوى اسم الربوبية حيث لم يكونوا ممن أجاب مبادراً ولا تالياً حسبما تشعر به آية تحقيق ضرب الأمثال . ولما جرى هذا الخطاب بذكر اسم الله أعقب بذكر الأفعال الإلهية التي هي غايات من الموت والإحياء المعروف اللذين لا ينكر الكفار أمرهما - انتهى . { وكنتم } أي والحال أنكم تعلمون أنكم كنتم { أمواتاً } بل مواتاً تراباً ثم نطفاً . قال الحرالي : من الموت وهو حال خفاء وغيب يضاف إلى ظاهر عالم يتأخر عنه أو يتقدمه تفقد فيه خواص ذلك الظهور الظاهرة - انتهى . وإطلاق الموت على ما لم تحله حياة مجاز ، وسرّ التعبير به التنبيه على أنه أكثر ما تكون الإعادة التي ينكرونها مثل الابتداء ، فلا وجه أصلاً لإنكارها مع الاعتراف بالابتداء . فكيف والإعادة دونه { فأحياكم } فصرتم ذوي حس وبطش وعقل . قال الحرالي : وجاء بالفاء المشعرة بالتعقيب لما لم يكن لهم معرفة بمهل الموت الذي قبل حياة الولادة ، والحياء تكامل في ذات ما أدناه حياة النبات بالنمو والاهتزاز مع انغراسه إلى حياة ما يدب بحركته وحسه إلى غاية حياة الإنسان في تصرفه وتصريفه إلى ما وراء ذلك من التكامل - انتهى . { ثم يميتكم } بعد مد الأعمار والتقليب في الأطوار فإذا أنتم أجساد كالفخار كأنه لم تحل بها حياة ساعة قط ، وبدلتم بعد الأنس بكم الوحشة ، وإثر محبة القرب منكم النفرة؛ وتمثيل الموت بما نعهده أن طلب الملك كما أنه يحصل به من الروع ما يكاد يتلف وربما أتلف كان طلب ملك الملوك موجباً للموت . قال الحرالي : وهذه الأحوال الثلاثة أي الموت المعبر به عن العدم ثم الحياة ثم الموت معروفة لهم لا يمكنهم إنكارها ، وإذا صح منهم الإقرار بحياة موت لزمهم الإقرار بحياة موت آخر لوجوب الحكم بصحة وجود ما قد سبق مثله ، كما قال تعالى : { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } [ يس : 81 ] ولَدُن ذلك من العلم أن الموت والحياة مزدوجان متضايفان ، وإذا استوفى الموت الأول إحياؤه فلا بد من استيفاء الموت الثاني إحياؤه أيضاً ، لأنه لولا استقبال الحياة لما كان موتاً بل بُطلاً وفقداً واضمحلالاً ، لأن حقيقة الموت حال غيب بين يديه ظهور ، والحياة نهاية ثابتة ، والموت مبدأ غيب زائل ، فجنس الموت كله متقض ونهاية ، والحياة ثابتة دائمة؛ ولذلك ورد ما صح عنه عليه الصلاة والسلام في أن الموت يُذبح ، إعلام بانقضاء جنسه وثبات الحياة ، ولذلك قدم في الذكر وأعقب بالحياة حيث استغرقتهما كلمة « أل » في قوله :
{ خلق الموت والحياة } [ الملك : 2 ] وثبت الخطاب على إقرار الحياة والكمال ، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في قوله : « نعيم الجنة لا آخر له » فوجب بظاهر ما أحسه الكفار وباطن ما اقتضاه هذا النحو من العلم دونه انتشار حياة ثانية بعد ميتة الدنيا - انتهى .
ولما كان على البعث والحشر من الأدلة ما جعلهما كالمحسوسين عدهما في حيز المعلوم لهم كالإحياء الأول والموت فقال : { ثم يحييكم } فينشركم بعد طيكم ويبعثكم بعد حبسكم في البرزخ ، فتكونون كما كنتم أول مرة ذوي قدرة على الانتشار بتلك القدرة التي ابتدأكم بها وأماتكم ، وهذا لا ينفي أن يكون لهم في البرزخ إحساس بدون هذه الهيئة الكاملة ، { ثم إليه ترجعون } فيحشركم بعد طول الوقوف للجزاء من الثواب والعقاب؛ وفي هذا كما قال الحرالي : إعلام بأنهم إن لم يرجعوا إلى الله سبحانه بداعي العلم في الدنيا فبعد مهل من الإحياء الثاني يرجعون إليه قهراً حيث يشاهدون انقطاع أسبابهم ممن تعلقوا به ويتبرأ منهم ما عبدوه من دون الله ، وإنما جاء هذا المهل بعد البعث لما يبقى لهم من الطمع في شركائهم حيث يدعونهم فلم يستجيبوا لهم ، فحينئذ يضطرهم انقطاع أسبابهم إلى الرجوع إلى الله فيرجعون قسراً وسوقاً فحينئذ يجزيهم بما كسبوا في دنياهم ، كما قال تعالى في خطاب يعم كافة أهل الجزاء { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } [ البقرة : 281 ] وهذا آخر خطاب الإقبال عليهم من دعوة الله لهم ولسان النكير عليهم ، ولذلك كانت آية : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] آخر آية أنزلت في القرآن ، لأنها نهاية ليس وراءه قول يعم أهل الجزاء؛ والرجع عود الشيء عند انتهاء غايته إلى مبدئها - انتهى .
ولما أجمل سبحانه في أول هذه الآية أول أمرهم وأوسطه وآخره على الوجه الذي تقدم أنه منبه على أن الكفر ينبغي أن يكون من قبيل الممتنع لما عليه من باهر الأدلة شرع يفصله على وجه داع لهم إلى جنابه بالامتنان بأنواع الإحسان بأمر أعلى في إفادة المقصود مما قبله على عادة القرآن في الترقي من العالي إلى الأعلى فساق سبحانه ابتداء الخلق الذي هو من أعظم الأدلة على وحدانيته مساق الإنعام على عباده بما فيه من منافعهم ليكون داعياً إلى توحيده من وجهين : كونه دالاً على عظمة مؤثرة وكمال قدرته ، وكونه إحساناً إلى عباده ولطفاً بهم ، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها فقال : { هو } ، قال الحرالي : وهي كلمة مدلولها العلي غيب الإلهية القائم بكل شيء الذي لا يظهر لشيء ، فذاته أبداً غيب ، وظاهره الأسماء المظهرة من علو إحاطة اسم الله إلى تنزل اسم الملك ، فما بينهما من الأسماء المظهرة ، ثم قال : لما انتهى الخطاب بذكر إرجاعهم إلى الله وكان هذا خطاباً خاصاً مع المتمادي على كفره اتبع عند إعراضه وإدباره بهذا الحتم تهديداً رمى به بين أكتافهم وتسبيباً نيط بهم ومُدّ لهم كالمرخى له في السبب الذي يراد أن يجذب به ، إما بأن يتداركه لطف فيرجع عليه طوعاً ، أو يراد به قسراً عند انتهاء مدى إدباره ، وانتظم به ختم آية الدعوة بنحو من ابتدائها ، إلا أن هذه على نهاية الاقتطاع بين طرفيها وتلك على أظهر الاتساق؛ فأبعدوا في هذه كل البعد بإسناد الأمر إلى اسم هو الذي هو غيب اسم الله وأسند إليه خلق ما خلق لهم في الأرض الذي هو أظهر شيء للحس - انتهى .
{ الذي خلق لكم } ديناً ودنيا لطفاً بكم { ما في الأرض } أي بعد أن سواهن سبعاً ، قال الحرالي : وقوله : { جميعاً } إعلام بأن حاجة الإنسان لا تقوم بشيء دون شيء وإنما تقوم بكلية ما في الأرض حتى لو بطل منها شيء تداعى سائرها - انتهى . والآية دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة ، فلا يمنع شيء إلا بدليل .
ولما كانت السماء أشرف من جهة العلو الذي لا يرام ، والجوهر البالغ في الأحكام ، والزينة البديعة النظام ، المبنية على المصالح الجسام ، وكثرة المنافع والأعلام ، عبر في أمرها بثم فقال : { ثم استوى إلى السماء } أي وشرف على ذلك جهة العلو بنفس الجهة والحسن والطهارة وكثرة المنافع ، ثم علق إرادته ومشيئته بتسويتها من غير أدنى عدول ونظر إلى غيرها ، وفخم أمرها بالإبهام ثم التفسير ، والإفراد الصالح لجهة العلو تنبيهاً على الشرف ، وللجنس الصالح للكثرة ، ولذلك أعاد الضمير جمعاً ، فكان خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء ، ودحوها بعد خلق السماء؛ على أن ثم للتعظيم لا للترتيب فلا إشكال ، وتقديم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة . وقال الحرالي : أعلى الخطاب بذكر الاستواء إلى السماء الذي هو موضع التخوف لهم لنزول المخوفات منه عليهم فقيل لهم : هذا المحل الذي تخافون منه هو استوى إليه ، ومجرى لفظ الاستواء في الرتبة والمكانة أحق بمعناه من موقعه في المكان والشهادة؛ وبالجملة فالأحق بمجرى الكلِم وقوعها نبأ عن الأول الحق ، ثم وقوعها نبأ عما في أمره وملكوته ، ثم وقوعها نبأ عما في ملكه وإشهاده؛ فلذلك حقيقة اللفظ لا تصلح أن تختص بالمحسوسات البادية في الملك دون الحقائق التي من ورائها من عالم الملكوت ، وما به ظهر الملك والملكوت من نبأ الله عن نفسه من الاستواء ونحوه في نبأ الله عن نفسه أحق حقيقة ، ثم النبأ به عن الروح مثلاً واستوائها على الجسم ثم على الرأس مثلاً واستوائه على الجثة فليس تستحق الظواهر حقائق الألفاظ على بواطنها بل كانت البواطن أحق باستحقاق الألفاظ؛ وبذلك يندفع كثير من لبس الخطاب على المقتصرين بحقائق الألفاظ على محسوساتهم { فسوَّاهُنَّ } التسوية إعطاء أجزاء الشيء حظه لكمال صورة ذلك الشيء { سبع سماوات } أعطى لكل واحدة منهن حظها
{ وأوحى في كل سماء أمرها } [ فصلت : 12 ] انتهى . وخلق جميع ما فيها لكم ، فالآية من الاحتباك؛ حذف أولاً كون الأراضي سبعاً لدلالة الثاني عليه ، وثانياً كون ما في السماء لنا لدلالة الأول عليه؛ وهو فن عزيز نفيس وقد جمعت فيه كتاباً حسناً ذكرت فيه تعريفه ومأخذه من اللغة وما حضرني من أمثلته من الكتاب العزيز وكلام الفقهاء وسميته « الإدراك لفن الاحتباك » .
ولما كان الخلق على هذه الكيفية دالاً بالبديهة على أتم قدرة لصانعه وكان العلم بأن مبنى ذلك على العلم محتاجاً إلى تأمل اغتنى في مقطع الآية بقوله : { وهو بكل شيء عليم } أي فهو على كل شيء قدير . ولما ذكر الحياة والموت المشاهدين تنبيهاً على القدرة على ما اتبعهما به من البعث ثم دل على ذلك أيضاً بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع وختم ذلك بصفة العلم ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشري المودع من صفة العلم ما ظهر به فضله بقوله تعالى عطفاً على قوله : { اعبدوا ربكم } وبياناً لقوله : { رب العالمين } [ الفاتحة : 2 ] إذ من البدءة تعلم العودة لمن تدبر ، أو يكن عطفاً على ما تقديره : اذكر هذا لهم ، وذلك أنه سبحانه لما خاطبهم بهذا الاستفهام الذي من معانيه الإنكار ذاكراً الاسم الأعظم الذي هو أعلى الأسماء وأبطنها غيباً والضمير الذي « هو » أبطن منه ، وأتبعه بعض ما هم له منكرون أو به جاهلون ، وأشار بقوله : « لكم » مثبتة فيما هو ظاهر عندهم ومحذوفة مما هو خفي عنهم ، كما نبه عليه في الاحتباك إلى أنه لم يخلق هذا النوع البشري للفناء بل للبقاء بما أبان عن أنه إنما خلق جميع ما في هذه الأكوان لأجلهم ، فالبعض رزق لهم والبعض أسباب له ، والبعض أسجدهم لأبيهم وهم في صلبه ووكلهم بهم في حفظ أعمالهم وقسم أرزاقهم ونفخ أرواحهم وغير ذلك من تربيتهم وإصلاحهم؛ لم يكونوا أهلاً لفهم هذا الخطاب حق فهمه تلقياً عن الله لعلوه سبحانه وعلو هذا الخطاب بالأسماء الباطنة وما نظم بها من المعاني اللائقة بها علواً وغيباً فأعلم سبحانه بعطف « إذ » على غير ظاهر أنه معطوف على نحو : اذكر لهم أيها الرسول هذا ، لأنه لا يفهمه حق فهمه عنا سواك ، وهم إلى الفهم عنك أقرب « وإذ » أي واذكر ما اتفق إذ ، وحذف هذا المعطوف عليه لاحتمال المأمور بذكره الإنكار والسياق لإيراد الرفق والبشارة على لسانه صلى الله عليه وسلم استعطافاً لهم إليه وتحبيباً فيه وفي حذفه أيضاً والدلالة عليها بالعاطف حث على تدبر ما قبله تنبيهاً على جلالة مقداره ودقة أسراره ، ولما علمت الإشارة لكن لأهل البصارة أتبعها قصة آدم عليه السلام دليلاً ظاهراً ومثالاً بيناً لخلاصة ما أريد بهذه الجمل مما نبه عليه بالعاطف من أن النوع الآدمي هو المقصود بالذات من هذا الوجود ، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يترك بعد موته من غير إحياء يرد به إلى دار لا يكون في شيء من أمورها من أحد نوع من الخلل وتكون الحكمة فيها ظاهرة جداً لا خفاء بها أصلاً .
فيظهر الحمد أتم ظهور؛ ولذلك ذكر تفضيل آدم عليه السلام بالعلم ، ثم بإسجاد الملائكة له ، ثم بإسكانه الجنة ، ثم بتلقي أسباب التوبة عند صدور الهفوة؛ وقد روى البيهقي في أواخر الدلائل والحارث بن أبي أسامة والحاكم في المستدرك عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : « إن أكرم خليقة الله على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم ، قلت : رحمك الله! فأين الملائكة؟ فنظر أليّ وضحك فقال : يا ابن أخي! وهل تدري ما الملائكة؟ إنما الملائكة خلق كخلق الأرض وخلق السماء وخلق السحاب وخلق الجبال وخلق الرياح وسائر الخلائق التي لا تعصي الله شيئاً ، وإن أكرم الخلائق على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم » وقال البيهقي : إنه ليس بموقوف بل حكمه الرفع . وقال الحرالي : لما جعل الله تعالى نور العقل هادياً لآيات ما ظهر في الكون وكان من الخلق مهتد به ومعرض عنه بعث الله النبيين مبشرين لمن اهتدى بنور العقل بمقتضى الآيات المحسوسة وتلك هي الحنيفية والملة الإبراهيمية ، ومنذرين لمن أعرض عن ذلك وشغلته شهوات دنياه ، فترتب لذلك خطاب الكتاب بين ما يخاطب به الأعلين المهتدين وبين ما يخاطب به الأدنين المعرضين ، وكذلك تفاوت الخطاب بين ما يخاطب به الأئمة المهتدين والمؤتّمون بهم ، فكان أعلى الخطاب ما يقبل على إمام الأئمة وسيد السادات وأحظى خلق الله عند الله محمد صلى الله عليه وسلم . فكان أول الخطاب ب الم ذلك الكتاب إقبالاً عليه وإيتاء له من الذكر الأول كما قال عليه السلام : « أوتيت البقرة وآل عمران من الذكر الأول » وهو أول مكتوب حين كان الله ولا شيء معه ، وكتب في الذكر الأول كل شيء ، فخاطبه الله عز وجل بما في الذكر الأول وأنزله قرآناً ليكون آخر المنزل الخاتم هو أول الذكر السابق ليكون الآخر الأول في كتابه كما هو في ذاته ، فمن حيث كان الخطاب الأول من أعلى خطاب الله لمحمد صلى الله عليه وسلم انتظم به ما هو أدنى خطاب من آيات الدعوة تنبيهاً لمن أعرض عن الاستضاءة بنور العقل لما بين الطرفين من تناسب التقابل؛ ثم عاد وجه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بما هو إعلام بغائب الماضي عن كائن الوقت من أمر ابتداء مفاوضة الحق ملائكته في خلق آدم ليكون ذلك ترغيباً للمبشرين في علو الرتب إلى التكامل كما كانت آية الدعوة تنبيهاً للمعرضين ليعودوا إلى الإقبال ، وخصوص الإنزال إنما هو في الإنباء بغيب الكون من ملكوته وغائب أيام الله الماضية ومنتظر أيام الله الآتية ، فذلك الذي يخص المهتدين بنور العقل ليترقوا من حد الإيمان إلى رتبة اليقين ، وإنما يرد التنبيه والتنزيل بما في نور العقل هدايته من أجل المعرضين؛ فكان ما شمله التنزيل بذلك أربعة أمور : أحدها التنبيه على الآيات بمقتضى أسماء الله من اسمه الملك إلى اسمه الرحمن الرحيم إلى اسمه رب العالمين إلى اسمه العظيم الذي هو الله ، والثاني التنبيه على غائب المنتظر الذي الخلق صائرون إليه ترغيباً وترهيباً ، والثالث الإعلام بماضي أمر الله جمعاً للهمم للجد والانكماش في عبادة الله ، والرابع التبصير ببواطن كائن الوقت الذي في ظاهره إعلامه؛ فكان أول التنزيل في هذه السورة أمر أول يوم من ذكر الله وهو كتب مقتضى العلم والقدرة في قسمه تعالى عباده بين مؤمن وكافر ومنافق ، ثم أنزل الخطاب إلى آية الدعوة من وراء حجاب الستر بسابق التقدير فعم به الناس ونبههم على آيات ربوبيته وحياً أوحاه الله منه إليه ، ثم عطف على ذلك إعلاماً لابتداء المفاوضة في خلق آدم عطفاً على ذلك الذي يعطيه إفهام هذا الإفصاح ، فلذلك قال تعالى { وإذ } فإن الواو حرف يجمع ما بعده مع شيء قبله إفصاحاً في اللفظ أو إفهاماً في المعنى ، وإنما يقع ذلك لمن يعلو خطابه ولا يرتاب في إبلاغه .
وإذ اسم مبهم لما مضى من الأمر والوقت ، { قال } من القول وهو إبداء صور الكلم نظماً بمنزلة ائتلاف الصور المحسوسة جمعاً ، فالقول مشهود القلب بواسطة الأذن ، كما أن المحسوس مشهود القلب بواسطة العين وغيره .
ثم قال : لما أنبأ الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بما في الذكر من التقدير الذي هو خبء الشرعة ونظم به ما أنزل من دعوة الخلق إلى حكمه فانتظم ذلك رتبتي أمر نظم تعالى بذلك إنزال ذكر خلق معطوفاً على ذكر خلق أعلى رتبة منه ، نسبته منه كنسبة الدعوة من خبئها ، فذكر خلق آدم ظاهر خبء ما عطف عليه وهو والله أعلم ذكر خلق محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو خبء خلق آدم ، فكأنه تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر خلقه له بدء وحي سر ثم أعلن بما عطف عليه من ذكر خلق آدم وحي علن ليكون أمر خلق محمد صلى الله عليه وسلم عند الخاصة فهماً كما كان أمر خلق آدم عند العامة إفصاحاً؛ وكان المفهوم : اذكر يا محمد إذ كان في خلقك كذا وإذ قال : { ربك } أي المحسن إليك برحمة العباد بك الذي خبأك في إظهار خلق آدم { للملائكة } ما أنزل ، وتأويل الملائكة عند أهل العربية أنه جمع ملاك مقلوب من مألك من الألك وهي الرسالة ، فتكون الميم زائدة ويكون وزنه معافلة ، ويكون الملك من الملك وهو إحكام ما منه التصوير ، من ملكت العجين ، وجمعه أملاك ، تكون فيه الميم أصلية ، فليكن اسم ملائكة جامعاً للمعنيين منحوتاً من الأصلين ، فكثيراً ما يوجد ذلك في أسماء الذوات الجامعة كلفظ إنسان بما ظهر فيه من أنه من الأنس والنسيان معاً ، وهو وضع للكلم على مقصد أفصح وأعلى مما يخص به اللفظ معنى واحداً ، فللكلام رتبتان : رتبة عامة ورتبة خاصة أفصح وأعلى كَلِماً وكلاماً .
قال : وفيه أي هذا الخطاب مع ذلك استخلاص لبواطن أهل الفطانة من أن تعلق بواطنهم بأحد من دونه حين أبدى لهم انفراده بإظهارهم خلقاً دون ملائكته الأكرمين ، حتى لا تعلق قلوبهم بغيره من أهل الاصطفاء فكيف بمن يكون في محل البعد والإقصاء! توطئة لقبيح ما يقع من بعضهم من اتباع خطوات الشيطان؛ وذلك لأن في كل آية معنى تنتظم به بما قبلها ومعنى تتهيأ به للانتظام بما بعدها؛ وبذلك كان انتظام الآي داخلاً في معنى الإعجاز الذي لا يأتي الخلق بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً .
{ إني } إن حرف يفهم توكيداً من ذات نفس المؤكد وعلمه . والياء اسم عليّ يخص المضيف إلى نفسه الذي يضيف الأشياء إليه ، { جاعل في الأرض } ولما كانت خلافة آدم عليه السلام كاملة في جميع الأرض بنفسه وبذريته وحّد لذلك مع أنه يصح أن يراد به الجنس فقال : { خليفة } الخليفة ذات قائم بما يقوم به المستخلف على حسب رتبة ذلك الخليفة منه ، فهو خليقة الله في كونه مُلكه وملكوته ، وهم أيضاً بعضهم خلفاء بعض؛ فهو خليفة بالمعنيين - انتهى .
وجعل سبحانه هذا التذكير في سياق داع إلى عبادته وقائد إلى محبته حيث متّ إلى هذا النوع الآدمي بنعمه عليهم وإحسانه إليهم قبل إيجادهم ، فذكر لهم ما حاجّ به ملائكته عنهم ، وما شرف به أباهم آدم من العلم وأمر الملائكة المقربين بالسجود له ، ثم ما وقع لإبليس معه وهما عبدان من عبيده فتاب عليه ولم يتب على إبليس مع سبقه له بالعبادة بل أوجب طرده وأبّد بعده فقال تعالى حكاية عن الملائكة جواباً لسؤال من كأنه قال ما قالوا حين أخبرهم سبحانه بذلك : { قالوا } طالبين الإيقان على الحكمة في إيجاد من يقع منه شر { أتجعل فيها } أي في الأرض { من يفسد فيها } أي بأنواع المعاصي بالقوة الشهوانية ، { ويسفك } من السفك ، قال الحرالي : وهو سكب بسطوة { الدماء } أي بغير حقها بالقوة الغضبية ، لعدم عصمتهم ، وخلقهم جوفاً لا يتمالكون ، وأصحاب شهوات عليها يتهالكون؛ وكأنهم لما رأوا صورة آدم تفرسوا فيها ذلك لو سألوا عن منافع أعضائه وما أودع فيها من القوى والمعاني أخبرهم تعالى بما تفرسوا منه ذلك والدم .
قال الحرالي : رزق البدن الأقرب إليه المحوط فيه { ونحن } أي والحال إنا نحن ، وهذا الضمير كما قال الحرالي : اسم القائل المستتبع لمن هو في طوع أمره لا يخالفه { نسبح } أي نوقع التسبيح أي التنزيه لك والإبعاد عما لا يليق بك ملتبسين في التسبيح { بحمدك } والحاصل إنا نبرئك عن صفات النقص حال إثباتنا لك صفات الكمال ، وحذف المفعول للتعميم؛ وقال الحرالي : التسبيح تنزيه الحق تعالى عن بادية نقص في خلق أو رتبة ، وحمد الله استواء أمره علواً وسفلاً ومحو الذم عنه والنقص منه ، وذلك تسبيح أيضاً في علو أمر الله ، فما سبح بالحمد إلا أهل الحمد من آدم ومحمد صلى الله عليه وسلم ، فغاية المسبح الحمد ، والحمد تسبيح لمن غايته وراء ذلك الاستواء - انتهى .
{ ونقدس } أي نطهر كل شيء نقدر عليه من نفوسنا وغيرها ، { لك } أي لا لغيرك لعصمتنا بك ، أو المعنى نوقع التقديس أي التطهير لك بمعنى أنك في الغاية من الطهارة والعلو في كل صفة . قال الحرالي : القدس طهارة دائمة لا يلحقها نجس ظاهر ولا رجس باطن ، واللام تعلة للشيء لأجله كان ما أضيف به - انتهى .
ولما تضمن تفرسهم هذا نسبتهم أنفسهم إلى العلم المثمر للإحسان ، ونسبة الخليفة إلى الجهل المنتج للإساءة أعلمنا سبحانه لنشكره أنه حاجَّ ملائكته عنا ، فبين لهم أن الأمر على خلاف ما ظنوا بقوله استئنافاً : { قال إني أعلم } أي من ذلك وغيره { ما لا تعلمون } . وقال الحرالي : وأعلم تعالى بما أجرى عليه خلقه من القضاء بما ظهر والحكم على الآتي بما مضى حيث أنبأ عن ملائكته بأنهم قضوا على الخليفة في الأرض بحال من تقدمهم في الأرض من الجبلة الأولين من الجن الذين أبقى منهم عزازيل وغيرهم ليتحقق أن أمر الله جديد وأنه كل يوم هو في شأن لا يقضي على آتي وقت بحكم ما فيه ولا بما مضى قبله - انتهى . والأظهر ما ذكرته أنهم إنما قالوا ذلك تفرساً بحكم ما ظهر لهم من صورته ونحو ذلك من إعلامهم بأنه يجمع فيه بين الشهوة والعقل ، ومن المعلوم أن الشهوة حاملة على الفساد؛ وعلم سبحانه ما خفي عنه من أنه يوفق من أراد منهم للعمل بمقتضى العقل مع قيام منازع الشهوة والهوى ، فيأتي غاية الكمال التي هي فوق درجة العامل بمقتضى العقل من غير منازع له فيظهر تمام القدرة والله أعلم .
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
ولما أعلم سبحانه الملائكة أن الأمر على خلاف ما ظنوا شرع في إقامة الدليل عليه فقال عاطفاً على قوله : « قال » : { وعلم } أي لإقامة الدليل على ذلك ، والتعليم تكرار العلم ليثبت لما في جبلة المعلَّم من النسيان ، { آدم } من الأدم من الأديم وهو جلدة الأرض التي منها جسمه ، وحظ ما فيه من أديم الأرض هو اسمه الذي أنبأ عنه لفظ آدم ، { الأسماء } أي التي للأشياء { كلها } وهو جمع اسم وهو ما يجمع اشتقاقين من السمة والسمو؛ فهو بالنظر إلى اللفظ وسم وبالنظر إلى الحظ من ذات الشيء سمو ، وذلك السمو هو مدلول الاسم الذي هو الوسم الذي ترادفه التسمية - قاله الحرالي ، وقال في كتاب له في أصول الفقه : الاسم يقال على لفظ التسمية ويقال على حظ ونصيب من ذوات الأشياء ، وتلك هي المعروضة على الملائكة ، واسم التسمية يحاذي به المسمى معلومه من الشيء المسمى الذي هو الاسم المعروض ، وهو عند آدم علم وعند الملائكة ومن لا يعلم حقيقة الاسم المعروض توقيف ونبأ - انتهى .
ولما كان العرض على الملائكة بالغاً في المراد أشار إلى تعظيمه بحرف التراخي فقال : ثم { عرضهم } أي الأشياء . قال الحرالي : أظهرهم عن جانب وهو العرض والناحية { على الملائكة } القائلين لذلك . وقال الحرالي : لما ذكر تعالى مراجعة الملائكة في خلق هذا الخليفة ذكر إبداءه لهم وجه حكمة علية بما أعلى هذا الخليفة من تعليمه إياه حقائق جميع الذوات المشهودة لهم على إحاطتهم بملكوت الله و ملكه شهوداً فأراهم إحاطة علم آدم بما شهدوا صورة ولم يشهدوا حقيقة مدلول تسميتها ، وعلمه حكمة ما بين تلك الأسماء التي هي حظ من الذوات وبين تسمياتها من النطق ليجتمع في علمه خلق كل شيء صورة وأمره كلمة فيكمل علمه في قبله على سبيل سمعه وبصره ، واستخلفه في علم ما له من الخلق والأمر ، وذلك في بدء كونه فكيف يحكم حكمة الله فيما يتناهى إليه كمال خلقه إلى خاتمة أمره فيما انتهى إليه أمر محمد صلى الله عليه وسلم مما هو مبهم في قوله تعالى : { وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً } [ النساء : 113 ] فأبدى الله عز وجل لهم بذلك وجه خلافة علمية وعملية في التسمية إعلاء له عندهم ، وقد جعلهم الله عز وجل مذعنين مطيعين فانقادوا للوقت بفضل آدم على جميع الخلق وبدا لهم علم أن الله يعلي من يشاء بما يشاء من خلافة أمره وخلقه ، وتلك الأسماء التي هي حظوظ من صور الموجودات هي المعروضة التي شملها اسم الضمير في قوله تعالى { ثم عرضهم } وأشار إليه « هؤلاء » عند كمال عرضهم ، وأجرى على الجميع ضمير « هم » لاشتمال تلك الكائنات على العاقلين وغيرهم؛ وبالتحقيق فكل خلق ناطق حين يستنطقه الحق ، كما قال تعالى
{ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم } [ يس : 65 ] وإنما العجمة والجمادية بالإضافة إلى ما بين بعض الخلق وبعضهم - انتهى .
وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتاب الزينة : ويقال إن الاسم مأخوذ من السمو وهو العلو والرفعة ، وإنما جعل الاسم تنويهاً بالدلالة على معنى الاسم لأن المعنى تحت الاسم - هذا قول النحويين؛ والسمة تدل على صاحبها ، لأنهما حرفان سين وميم ، فالسين من السناء والميم من المجد وهو لب الشيء ، فكأنه سمى اسماً لأنه يضيء لك عن لب الشيء ويترجم عن مكنونه ، وليس شيء إلا وقد وسمه الله بسمة تدل على ما فيه من الجوهر؛ فاحتوت الأسماء على جميع العلم بالأشياء ، فعلمها الله آدم وأبرز فضيلته على الملائكة عليهم السلام - انتهى .
{ فقال } معجزاً لهم { أنبئوني } أي أخبروني إخباراً عظيماً قاطعاً { بأسماء هؤلاء } أي الموجودات بتفرسكم فيها { إن كنتم صادقين } أي فيما تفرستموه في الخليفة وفي أنساله . قال الحرالي : هذه الأسماء المواطئة للتسمية من السمة والأسماء الأول هي الحظوظ من الذوات التي المتسم بها هو المسمى ، ومع ذلك فبين التسمية والاسم مناسبة مجعول الحكمة بينهما بمقتضى أمر العليم الحكيم - انتهى . { قالوا } متبرئين من العلم { سبحانك } أي ننزهك تنزيهاً يجل عن الوصف عن أن ننسب إليك نقصاً في علم أو صنع ، ونتبرأ إليك مما يلزم قولنا من ادعاء العلم لسواك .
قال الحرالي : وفي هذا المعنى إظهار لفضلهم وانقيادهم وإذعانهم توطئة لما يتصل به من إباء أبليس - انتهى . والحاصل أنه تصريح بتنزيه الله تعالى عن النقص وتلويح بنسبته إليهم اعتذاراً منهم عما وقعوا فيه ، ولذا قالوا : { لا علم لنا } أي أصلاً { إلا ما علمتنا } فهو دليل على أنه لا سبيل إلى علم شيء من الأشياء إلا بتعليم الله . قال الحرالي : رداً لبدء الأمر لمن له البدء ، ولذلك ورد في أثارة من علم : من لم يختم علمه بالجهل لم يعلم ، وذلك الجهل هو البراءة من العلم إلا ما علم الله - انتهى .
ثم خصوه بما نفوه عن أنفسهم فقالوا : { إنك أنت } أي وحدك { العليم } أي العالم بكل المعلومات { الحكيم } أي فلا يتطرق إلى صنعك فساد بوجه فلا اعتراض أصلاً . قال الحرالي : توكيد وتخليص وإخلاص للعلم والحكمة لله وحده ، وذلك من أرفع الإسلام ، لأنه إسلام القلوب ما حلاها الحق سبحانه به! فإن العلم والحكمة نور القلوب الذي تحيا به كما أن الماء رزق الأبدان الذي تحيا به! فإن العلم والحكمة نور القلوب الذي تحيا به كما أن الماء رزق الأبدان الذي تحيا به؛ والحكمة جعل تسبيب بين أمرين يبدو بينهما تقاض من السابق واستناد من اللاحق - انتهى .
وأصلها في اللغة المنع من الفساد ولا يكون ذلك إلا عن تمام العلم .
فلما قالوا ذلك وأراد إشهادهم فضل آدم عليه السلام استأنف في جواب من كأنه قال : ما قال لهم عند ذلك؟ قوله : { قال } مظهراً لفضيلة العلم الموجبة لشرف العالم { يا آدم أنبئهم } أي ليزدادوا بصيرة في أن العالم من علّمته والسعيد من أسعدته في أي صورة ركبته { بأسمائهم } فأنبأهم بها . قال الحرالي : ولم يقل : علمهم ، فكان آدم عليماً بالأسماء وكانوا هم مخبرين بها لا معلميها ، لأنه لا يتعلمها من آدم إلا من خلقه محيط كخلق آدم ، ليكون من كل شيء ومنه كل شيء ، فإذا عرض عليه شيء مما منه آنس علمه عنده؛ فلذلك اختصوا بالإنباء دون التعليم ، فلكل شيء عند آدم عليه السلام بما علمه الله وأظهر له علاماته في استبصاره والشيء اسمان جامعان : اسم بيصّره من موجود الشيء واسم يذكره لإبداء معنى ذلك الشيء إلى غاية حقيقته ، ولكل اسم جامع عنده وجوه متعددة يحاذي كلَّ وجه منها بتسمية تخصه ، وبحسب تلك الوجوه تكثرت عنده الألسنة وتكثرت الألسن الأعجمية ، فأفصحها وأعربها الاسم الجامع وذلك الاسم هو العربي الذي به أنزل خاتم الكتب على خاتم المرسلين وأبقى دائماً في مخاطبة أهل الجنة لمطابقة الخاتمة إحاطة البادئة { حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } [ الزخرف : 1 ، 4 ] وطابق الختم البدء إحاطة لإحاطة - انتهى . وهذا كما كان ولده محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم يكلم كل إنسان بلغته من قبائل العرب ومن العجم بل ومن البهائم العجم لكان علمه لبعض اللغات من غير مخالطة لأهلها ولا إلمام بلسانهم دليلاً على علم سائر اللغات ، لأنه لا معلم له إلا العالم بكل شيء . { فلما أنبأهم } أي أخبرهم إخباراً عظيماً يأخذ بالألباب ، و { لما } كلمة تفهم وجوب أمر لأمر في حين فتجمع معنى الشرط والظرف - قاله الحرالي { بأسمائهم } عل ما هي عليه .
قال الحرالي في التفسير وكتاب له في أصول الفقه : هذه التسميات ليس الأسماء التي هي موجودة من الذوات ، لأن تلك لا ينالها إلا العلم وشهود البصيرة وقد جرى ذلك في وراثة في ولد آدم حتى كان رؤبة وأبوه العجاج يرتجلان اللغة ارتجالاً ويتعلمها منهم من سواهم من العرب ، لأن التسمية التي ينالها الإنباء للاسم الذي يناله العلم كالمثل له المبدي لصورة معناه للأذن لمناسبة ومواصلة بين خصوص التسمية واسمها من الذات ، فيعلم ما يحاذي الشيء المفرد من منتظم الحروف كما يعلم الواصف ما يحاذي الشيء ويحاكيه من منتظم الكلم ، فيحاذيه ويحاكيه الواصف بكلام ، ويحاذيه ويسميه المسمى له بكلمة واحدة ، وكما أنه ليس لكل أحد مُنّة أن يصف فكذلك ليس لكل أحد منة أن يسمى ، ومنه ما يجري من ألسنة العامة من النبز والألقاب وقد كان يجب الاكتفاء بما في هذه الآية من العلم ببدء أمر المسميات عما وقع فيها من الاختلاف بين التوقيف والاصطلاح ، فقد تبين أنها عن علم علمه الله آدم لا عن توقيف كما هو عند الملائكة من آدم ولا عن اصطلاح كما قيل - انتهى .
{ قال } أي الله تعالى مثبتاً مدخول النفي كما هو شأن همزة التقرير { ألم أقل لكم } يا ملائكتي! ولما كان هذا خبراً جسيماً نبه على بلوغه النهاية في العظمة وأنه مما يستغربه بعض الخلق بالتأكيد فقال : { إني أعلم } علماً مستمراً لا انقضاء له { غيب السماوات والأرض } فمن أردت تعليمه شيئاً من ذلك كان عالماً به ، وأما غيري فلا طريق له إلى معرفة المستقبل إلا الفراسة وقد تحظى . قال الحرالي : قررهم حتى لا يكون لهم ثانية وأعلم بذلك عباده من ولد آدم حتى يستنوا بحكم التسليم لله في ما يبديه من غير تعرض ولا اعتراض ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر - انتهى .
{ وأعلم ما تبدون } في كل حين { وما كنتم تكتمون } فيما مضى وفيما يأتي . قال الحرالي : وفي صيغة تكتمون من الدلالة على تمادي ذلك في كيانهم ما في صيغة تبدون من تمادي بادى ذلك منهم - انتهى .
ولما أخبرنا سبحانه بهذه النعمة على أبينا ضم إليها الإنعام بإسجاد الملائكة له ونحن في ظهره فقال عاطفاً على « إذ » الأولى وعدل عن الغيبة إلى التكلم ثم إلى كونه في مظهر العظمة إعلاماً بأنه أمر فصل لا فسحة في المراجعة فيه . وقال الحرالي : لما أنبأ تعالى بأمر مفاوضة الملائكة وما كان من ادعائهم وتسليمهم الأمر لله ولمن علمه الله وهو آدم عليه السلام نظم بذلك نبأ انقيادهم لآدم فعلاً كما انقادوا له علماً تماماً لكمال حالهم في التسليم علماً وعملاً فقال تعالى - انتهى . { وإذ قلنا } أي على عظمتنا { للملائكة } أي الذين أكرمناهم بقربنا { اسجدوا لآدم } عبدنا اعترافاً بفضله لتفضيلنا له .
قال الحرالي : فجعله باباً إليه وكعبة يجلّونه بجلاله تعالى ومحراباً وقبلة ، يكون سجودهم له سجوداً لله تجاه آدم كسجود آدم تجاه الكعبة ، وظهر بذلك سوء إباء إبليس عن السجود حين خالفهم في طينة الكيان ، لأن الملائكة خلقت من نور والنور طوع لا يحوزه أين ولا يختصه جهة ، ولأن الجان خلقت من نار وهي مما يحوزه أين وتختصه جهة لا يرجع عنها إلا بقهر وقسر ، فلم ينزل عن رتبة قيامه في جبلته لمخلوق الطين حيث لم يشعر بإحاطة خلق آدم كما تلقته الملائكة - انتهى . فبادروا الامتثال { فسجدوا } أي كلهم له كما امرهم الله تعالى { إلا إبليس } قال الحرالي : من الإبلاس وهو انقطاع سبب الرجاء الذي يكون عنه اليأس من حيث قطع ذلك السبب - انتهى .
فكأنه قيل : ما فعل؟ فقيل : { أبى } ، من الإباء وهو امتناع عما حقه الإجابة فيه - قاله الحرالي . { واستكبر } عن السجود له ، من الاستكبار وهو استجلاب الكبر ، والكبر بطر الحق وغمض الناس وغمطهم ، وموجب ذلك استحقار الغير من وجه واستكمال النفس من ذلك الوجه - قاله الحرالي .
{ وكان } أي في أصل جبلته بما أفهمه الاستكبار من نسبتنا إلى ترك الحكمة إما جهلاً أو جوراً في أمرنا بسجوده لآدم وهو على زعمه خير منه { من } وهي كلمة تفهم اقتباس الشيء مما جعل منه - قاله الحرالي . { الكافرين } أي الذين سبق علمنا بشقاوتهم لم يتجدد لنا بذلك علم ما لم نكن نعلمه .
وفي الآيات الثلاث { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } و { كيف تكفرون بالله } و { إذ قال ربك للملائكة } أيضاً إشارة إلى اختلاف الحال في الخطاب بوصف الربوبية مع الخُلّص ومع من دونهم وفي الخطاب بأوصاف الذات ، وذلك أنه تعالى لما بين أن الضالين في حسن أمثاله هم الخاسرون عجب ممن يكفر به إشارة إلى شدة ظهوره وانتشار نوره في أمثاله وجميع أقواله وأفعاله وأن شهوده في كل اعتبار أوضح من ضياء النهار ، لأنه ما ثمَّ إلا ذاته وأفعاله وصفاته :
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
متجلياً عليهم باسم الإلهية في أفعاله التي هم لها ناظرون وبها عارفون ، فقال : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } إلى أن قال : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } الآية ، وأدرج في ذلك أمر البعث بقوله { ثم إليه ترجعون } تنبيهاً على مشاركته لبقية ما في الآية من الظهور ، لما قدم من الاستدلال عليه بإخراج الثمرات حين تعرف إليهم بوصف الربوبية الناظر إلى العطف والامتنان والتربية والإحسان في مثل ما هنا من أفعاله الظاهرة وآثاره الباهرة فقال : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم } إلى آخرها؛ وختم هذه الآية بوصف العلم الشامل لما قام عليه من الدليل ضمن هذا التعجيب إشارة إلى الاستدلال على كمال الأمثال وتحديداً لمن يستمر على الكفران بعد هذا البيان بأنه بمرأى منه ومسمع في كل حال ، فلما فرغ من خطابهم بالأمور الظاهرة على قدر فهومهم ومبلغ علومهم رقي الخطاب إلى رتبة نبيه عليه الصلاة والسلام لترقية البيان إلى غيب مقاولته لملائكته فقال : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل } الآية فلكل مقام مقال ، ولكل مخاطب حد في الفهم وحال .
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في المفتاح الباب السَابع في إضافة الربوبية ونعت الإلهية في القرآن : اعلم أن الربوبية إقامة المربوب بما خلق له وأريد له ، فرب كل شيء مقيمه بحسب ما أبداه وجوده ، فرب المؤمن ربه ورباه للإيمان ، ورب الكافر ربه ورباه للكفران ، ورب محمد ربه ورباه للحمد - « أدبني ربي فأحسن تأديبي » ، ورب العالمين ربى كل عالم لما خلق له
{ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] ؛ فللربوبية بيان في كل رتبة بحسب ما أظهرته آية مربوبه - من عرف نفسه عرف ربه { سبح اسم ربك الأعلى } [ الأعلى : 1 ] { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } [ الكهف : 18 ] { اعبدوا ربكم الذي خلقكم } { لهم أجرهم عند ربهم } [ البقرة : 262 ] .
وقال في الباب الذي بعده : فخطاب الإقبال على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم إفهام في القرآن { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } [ الفرقان : 4 ] الآية { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً } [ الفرقان : 47 ] الآية ، تفاوت الخطابين بحسب تفاوت المخاطبين وكما يتضح لأهل التعرف رتب البيان بحسب إضافة اسم الرب فكذلك يتحقق لأهل الفهم وجوه إحاطات البيان بحسب النعوت والتبيان في اسم الله غيباً في متجلى الآيات للمؤمن ، وعيناً للكامل الموقن ، وجمعاً وإحاطة عن بادىء الدوام للمحقق الواحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } [ آل عمران : 101 ] { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] ؛ والتفطن في رتب البيان في موارد هذا النحو من الخطاب في القرآن من مفاتيح الفهم وبوادىء مزيد العلم - انتهى .
وقد أوقع سبحانه ذكر ابتداء الخلق على ترتيب إيجاده له فقد روى مسلم في صحيحه والنسائي في التفسير من سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : « خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل » وقال المزي في الأطراف قال البخاري في التاريخ : وقال بعضهم : أبو هريرة عن كعب وهو أصح - انتهى .
وما يقال من أنه كان قبل آدم عليه السلام في الأرض خلق يعصون قاس عليهم الملائكة عليهم السلام حال آدم عليه السلام ، كلام لا أصل له ، والذي يدل عليه حديث مسلم هذا كما ترى أنه أول ساكني الأرض؛ والذي يلوح من اسمه في بدئه بالهمزة التي هي أول الحروف وختمه بالميم التي هي آخرها وختامها أنه أول ساكنيها بنفسه ، كما أنه خاتمهم بأولاده ، عليهم تقوم الساعة . ورأيت في ترجمة للتوراة وهو أولها : خلق الله ذات السماء وذات الأرض وكانت الظلمة فقال الله : ليكن النور ، فكان النور ، فأراد أن يفرق بين النور والحِندِس فسمى النور نهاراً والحندس مساءً؛ ثم قال : ليكن جَلَد وسط الماء ويميز بين الماء الأعلى والماء الأسفل .
وفي نسخة : ليكن سقف بين المياه ليفصل بين الماء والماء ، فكان كذلك فخلق الله سقفاً وفصل به بين الماء الذي تحت الجلد والماء الذي فوق الجلد وسمى الله الجلد سماء؛ وقال الله : لتجتمع المياه التي تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة ، فكان كذلك فسمى الله اليابسة أرضاً وسمى مجامع المياه بحوراً؛ وقال : لتخرج الأرض نبت عشب يزرع منه زرع لجنسه وشجر ذات ثمار تثمر لجنسها يغرس منه غرس على الأرض ، فأينعت الأرض نبتاً عشباً يزرع منه زرع لجوهره وشجر ذات ثمار لجوهرها؛ فقال الله : ليكن نجمان في جلد السماء ليضيئا على الأرض وليميزا بين النهار والليل وليكونا للآيات والأزمان والعدد والأيام والسنين ، فخلق الله نورين عظيمين : المصباح الأكبر لسلطان النهار والمصباح الأصغر لسلطان الليل وخلق النجوم ، وكان المساء والصباح من اليوم الرابع؛ فقال الله : ليحت الماء حيتاناً ذات أنفس حية ، وليطر الطير فوق الأرض في جو السماء ، فكان كذلك؛ وخلق تنانين عظيمة وكل نفس حية تدب في الماء لأجناسها وكل طيور ذات أجنحة لأصنافها وباركها وقال : انموا واكثروا واملؤوا مياه البحور وليكثر الطير على وجه الأرض؛ وقال الله : لتخرج الأرض أنفساً حية لجنسها دواب وسباع الأرض لأجناسها ، فكان كذلك؛ وخلق الله سباع الأرض لأجناسها والدواب لأصنافها وجميع هوام الأرض لجواهرها .
فأراد الله أن يخلق خلقاً يتسلط على حيتان البحر وطير السماء وعلى الدواب وجميع السباع وعلى الحشرة التي تدب على الأرض فخلق آدم بصورته ذكراً وأنثى وبارك عليهما وقال لهما : انميا وأكثرا وتسلطا على حيتان البحر وطير السماء والدواب وجميع السباع؛ وقال : ها أنا ذا قد أعطيتكما جميع العشب الذي يزرع على وجه الأرض كلها وكل شجر ذات ثمار تغرس فيها ليكون لكما مأكلاً ولجميع سباع البر وطيور السماء ولكل ما يدب على الأرض فيه نفس حية ، فكان كذلك؛ وكملت السماء والأرض وجميع ما فيهما في اليوم السادس ، ولم يكن ظهر على الأرض شيء من عشب الأرض ، لأن الله لم يكن أهبط المطر على وجه الأرض بعد ، وذلك لأن آدم لم يكن خلق بعد ليعمل في الأرض ، وكان ينبوع يظهر في قعر عدن فيسقي جميع وجه الأرض .
فجبل الله الرب آدم من تربة الأرض ونفخ في وجهه نسمة الحياة فصار آدم ذا نفس حية وغرس الله الرب فردوساً بعدن من قبل وأسكنه آدم ، وأنبت الله كل شجرة حسنة المنظر شهية المأكل وشجرة الحياة وسط الفردوس وشجرة علم الخير والشر ، وكان نهر يخرج من عدن فيسقي الفردوس وكان ينفصل من هناك وينفرق على أربعة أطراف : اسم أحدها سيحون الذي يحيط بجميع أرض الهند وتلك البلاد الكثيرة ، وذَهَب تلك الأرض جيد جداً ، هنالك المها وحجر البلور ، واسم النهر الثاني جيحون الذي يحيط بجميع أرض الحبشة ، واسم النهر الثالث دجلة الذي يخرج قبالة الموصل ، والنهر الرابع الفرات؛ فتقدم الرب إلى آدم وقال له : كل من جميع أشجار الفردوس ، فأما شجرة علم الخير والشر فلا تأكل منها ، لأنك في اليوم الذي تأكل منها تموت موتاً .
وقال الله : لا يحسن أن يكون آدم وحده فلنخلق له عوناً مثله ، فجمع الرب من الأرض جميع سباع البر وطير السماء وأقبل بها إلى آدم ليرى ما يسميها وكل نفس حية سماها آدم فذلك اسمها فسمى الجميع ، فألقى الله على آدم سباتاً فرقد ، فنزع ضلعاً من أضلاعه وأخلف له بدله لحماً ، فخلق الله من الضلع الذي أخذ من آدم امرأة ، فأقبل بها إلى آدم فقال : هذه الآن التي قرنت إليّ! وفي هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي! فلتدع امرأة لأنها أخذت من الرجل ، ولذلك يدع الرجل أباه وأمه ويلحق بامرأته ويكونان كلاهما جسداً واحداً؛ وكانا كلاهما عريانين آدم وامرأته ولا يستحييان .
وكانت الحية أعز دواب البر كلها فقالت الحية للمرأة : أحق أن الله قال لكما : لا تأكلا من جميع شجر الجنة؟ فقالت المرأة : إنا لنأكل من كل ثمر الجنة ، فأما من ثمرة الشجرة التي في وسط الجنة فإن الله قال لنا : لا تأكلا منها ولا تقرباها لكيلا تموتا؛ قالت الحية : لستما تموتان ، ولكن الله علم أنكما إن تأكلا منها تنفتح أعينكما وتكونا كالإله تعلمان الخير والشر . فرأت المرأة الشجرة طيبة المأكل شهية في العين فأخذت من ثمرتها فأكلت وأعطت بعلها فأكل ، فانفتحت أبصارهما وعلما أنهما عريانان ، فوصلا من ورق التين وصنعا مآزر .
ثم ذكر أن الله تعالى سأله عن ذلك فقال آدم : المرأة التي قرنتها معي هي أطعمتني من الشجرة فأكلت ، فقال الله الرب للمرأة : ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة : إن الحية أعطتني فأكلت ، فقال للحية : ملعونة تكونين من جميع الدواب ومن كل ماشية البر ، وعلى بطنك تمشين ، والتراب تأكلين كل أيام حياتك ، وأغرى العداوة بينك وبين المرأة وبين ولدها ، وولدها يطأ رأسك وأنت تلدغينهم بأعقابهم! وقال للمرأة : أكثر أوجاعك وإحبالك وبالوجع تلدين البنين ، وإلى بعلك تردين وهو مسلط عليك! وقال لآدم : من أجل طاعتك امرأتَك وأكلك الشجرة التي نهيتك عنها ملعونة الأرض من أجلك بالشقاء تأكل منها كل أيام حياتك أجاجاً وشوكاً تنبت لك ، وتأكل عشب الأرض ، وبرشح جبينك تأكل طعامك حتى تعود في الأرض التي منها أخذت من أجل أنك تراب وإلى التراب تعود .
فدعا آدم اسم امرأته حواء من أجل أنها كانت أم كل حي ، وصنع الله الرب لآدم وامرأته سرابيل من الجلود وألبسها ، فأرسله من جنة عدن ليحرث الأرض التي منها أخذ ، فأخرجه الله ربنا وأحاط من مشرق عدن ملكاً من الكروبيين بيده حربة يطوف بها ليحرس طريق شجرة الحياة .
ثم قال بعد ذلك : فكان جميع حياة آدم تسعمائة وثلاثين سنة ثم توفي عليه السلام - هذا نص التوراة . والكروب بوزن زبور بلغة العبرانيين الشخص الصغير ، فكان الكروبيون الملائكة المنسوبين إلى مخالطة الناس بالوحي أخذاً من الكروبَين تثنية كروب وهما شخصان في قبة الزمان كان يسمع كلام الله من بينهما ، كما يأتي قريباً .
فإن أنكر منكر الاستشهاد بالتوراة أو بالإنجيل وعمي عن أن الأحسن في باب النظر أن يرد على الإنسان بما يعتقد تلوت عليه قول الله تعالى استشهاداً على كذب اليهود : { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } [ آل عمران : 93 ] وقوله تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [ المائدة : 48 ] - في آيات من أمثال ذلك كثيرة؛ وذكرته باستشهاد النبي صلى الله عليه وسلم التوراة في قصة الزاني كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المائدة مستوفى . وروى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تكون الأرض يوم القيامة خبزة نزلاً لأهل الجنة ، فأتى رجل من اليهود فقال : بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم! ألا أخبرك بنُزُل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال : بلى . قال : تكون الأرض خبزة واحدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه » وقريب من ذلك حديث الجساسة في أشباهه . هذا فيما يصدقه كتابنا .
وأما ما لا يصدقه ولا يكذبه فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج » ورواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد رضي الله عنه ، وهو معنى ما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا : { آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } » الآية ، فإن دلالة هذا على سُنِّية ذكر مثل ذلك أقرب من الدلالة على غيرها ، ولذا أخذ كثير من الصحابة رضي الله عنهم عن أهل الكتاب .
فإن فهم أحد من الشافعية منع أئمتهم من قراءة شيء من الكتب القديمة مستنداً إلى قول الإمام أبي القاسم الرافعي في شرحه : وكتب التوراة والإنجيل مما لا يحل الانتفاع به ، لأنهم بدلوا وغيروا ، وكذا قال غيره من الأصحاب؛ قيل له : هذا مخصوص بما علم تبديله ، بدليل أن كل من قال ذلك علل بالتبديل فدار الحكم معه ، ونص الشافعي ظاهر في ذلك ، قال المزني في مختصره في باب جامع السير : وما كان من كتبهم أي الكفار فيه طب وما لا مكروه فيه بِيعَ وما كان فيه شرك أبطل وانتفع بأوعيته .
وقال في الأم في سير الواقدي في باب ترجمته كتب الأعاجم قال الشافعي : وما وجد من كتبهم فهو مغنم كله ، وينبغي للإمام أن يدعو من يترجمه ، فإن كان علماً من طب أو غيره لا مكروه فيه باعه كما يبيع ما سواه من المغانم ، وإن كان كتاب شرك شقوا الكتاب فانتفعوا بأوعيته وأداته فباعها ، ولا وجه لتحريقه ولا دفنه قبل أن يعلم ما هو - انتهى .
فقوله في الأم : كتاب شرك ، مفهم لأنه كله شرك ، ولهذا عبر المزني عن ذلك بقوله : وما كان فيه شرك ، أي في أبواب الكتاب وفصوله ، وأدل من ذلك قولهم في باب الأحداث : إن حكمها في مس المحدث حكم ما نُسِخَتْ تلاوته من القرآن في أصح الوجهين ، والتعبير بالأصح على ما اصطلحوا عليه يدل على أن الوجه القائل بحرمة مس المحدث وحمله لها قوى ، وأدل من ذلك ما ذكره محرر المذهب الشيخ محيي الدين النواوي رحمه الله في مسائل ألحقها في آخر باب الأحداث من شرح المهذب وأقرّه أن المتولي قال : فإن ظن أن فيها شيئاً غير مبدل كُرِه مسه - انتهى . فكراهة المس للاحترام ، والاحترام فرع جواز الإبقاء والانتفاع بالقراءة ، وأصرح من ذلك كله قول الشافعي رحمه الله : إن ما لا مكروه فيه يباع ، وكذا قول البغوي في تهذيبه في آخر باب الوضوء : وكذلك لو تكلم - أي الجنب - بكلمة توافق نظم القرآن أو قرأ آية نسخت قراءتها أو قرأ التوراة والإنجيل أو ذكر الله سبحانه أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فجائز ، قالت عائشة رضي الله عنها : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه » فإنه لا يتخيل أنه يجوز للجنب ما لا يجوز للمحدث ، بل كل ما جاز للجنب قراءته من غير أمر ملجىء جاز للمحدث ولا عكس ، وتعليله لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها دال على أن ذلك ذكر الله تعالى ، ولا يجوز الحمل على العموم لا سيما إذا لوحظ قول القاضي الحسين : إنه يجوز الاستنجاء بهما ، لأنه مبني على الوجه القائل بأن الكل مبدل؛ وهو ضعيف أو محمول على المبدل منهما ، لأنه لا يخفى على أحد أن مسلماً فضلاً عن عالم لا يقول : إنه يستنجي بنحو قوله في العشر الكلمات التي صدرت بها الألواح قال الله جميع هذه الآيات كلها : أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق ، لا تكونن لك آلهة غيري ، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ومما في الماء أسفل الأرض ، لا تسجدن لها ولا تعبدنها ، لأني أنا الرب إلهك إله غيور ، لا تقسم بالرب إلهك كذباً ، لأن الرب لا يزكي من حلف باسمه كذباً ، أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيكها الرب إلهك ، لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد على صاحبك شهادة زور .
وقد أشبع الكلام في المسألة شيخنا حافظ عصره أبو الفضل بن حجر في آخر شرحه للبخاري ، وآخر ما حط عليه التفرقة بين من رسخ قدمه في العلوم الشرعية - فيجوز له النظر في ذلك فإنه يستخرج منه ما ينتفع به المهتدون - وبين غيره فلا يجوز له ذلك ، وأيده بنظر الأئمة فيهما قديماً وحديثاً والرد على أهل الكتابين بما يستخرجونه منهما؛ فلولا جواز ذلك ما أقدموا عليه - والله الموفق وقد حررت المسألة في فن المرفوع من حاشيتي على شرح ألفية الشيخ زين الدين العراقي فراجعه إن شئت - والله الهادي؛ ثم صنفت في ذلك تصنيفاً حسناً سميته « الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة » .
تنبيه : اعلم أن التوراة ثلاث نسخ مختلفة اللفظ متقاربة المعنى إلا يسيراً : إحداها تسمى توراة السبعين ، وهي التي اتفق عليها اثنان وسبعون حبراً من أحبارهم؛ وذلك أن بعض اليونان من ملوك مصر سأل بعض ملوك اليهود ببيت المقدس أن يرسل إليه عدداً من حفاظ التوراة ، فأرسل إليه اثنين وسبعين حبراً ، فأخلى كل اثنين منهم في بيت ووكل بهم كتّاباً وتراجمة ، فكتبوا التوراة بلسان اليونان ، ثم قابل بين نسخهم الستة والثلاثين فكانت مختلفة اللفظ متحدة المعنى ، فعلم أنهم صدقوا ونصحوا ، وهذه النسخة ترجمت بعد بالسرياني ثم بالعربي وهي في أيدي النصارى؛ والنسخة الثانية نسخة اليهود من الربانيين والقرائين ، والنسخة الثالثة نسخة السامرة؛ وقد نبه على مثل ذلك الإمام السمرقندي في الصحائف واستشهد بكثير من نصوص التوراة على كثير من مسائل أصول الدين ، وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد والقاضي عياض في كتاب الشفاء وغيرهم .
ثم اعلم أن أكثر ما ذكرته في كتابي هذا من نسخة وقعت لي لم أدر اسم مترجمها . على حواشي فصولها الأوقات التي تقرأ فيها ، فالظاهر أنها نسخة اليهود وهي قديمة جداً ، فكان في الورقة الأولى منها محو في أطراف الأسطر فكملته من نسخة السبعين ، ثم قابلت نسختي كلها مع بعض اليهود الربانيين على ترجمة سعيد الفيومي وهي عندهم أحسن التراجم لو كان هو القارىء ، فوجدت نسختي أقرب إلى حقائق لفظ العبراني ومترجمها أقعد من سعيد في لغة العرب ، هذا وظاهر القرآن في قوله تعالى :
{ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } [ الحجر : 29 ] أن الأمر بالسجود له كان قبل إتمام خلقه وأن السجود كان عقب النفخ ، وبه صرح البغوي في تفسيره ، وأجاب عن قوله تعالى في سورة الأعراف { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [ الأعراف : 11 ] بأجوبة ، منها أن الخلق والتصوير لآدم وحده ، وذكره بضمير الجمع لأنه أبو البشر فخلقه خلقهم وتصويره تصويرهم؛ ومنها أن ( ثم ) بمعنى الواو ليست للترتيب - انتهى . والتصوير شق السمع والبصر والأصابع - قاله يمان ، والتسوية تعديل الخلق وإتمامه وتهيئته لنفخ الروح ، ويمكن أن يكون { خلقناكم } وما بعده بمعنى قدرنا ذلك تقديراً قريباً من الإخراج من العدم؛ وبذلك يتضح قوله في التوراة : فخلق آدم بصورته ذكراً وأنثى ، ثم قال بعد ذلك : لأن آدم لم يكن خلق بعد ، ثم حكى خلقه وخلق زوجه منه؛ فهذا خلق بمعنى الإيجاد ، وذلك بمعنى التقدير القريب منه - والتهيئة لقبول الغايات - والله أعلم . ومشى البيضاوي على أن الأمر بالسجود كان بعد الإنباء بالأسماء ولم يذكر دليلاً يصرف عن هذا الظاهر على أن المشي عليه أولى من جهة المعنى ، لأن سجود الملائكة عليهم السلام قبل يكون إيماناً بالغيب على قاعدة التكاليف ، وأما بعد إظهار فضيلة العلم فقد كُشِف الغطاء وصار وجه الفضل من باب عين اليقين؛ وأما الترتيب في الذكر هنا على هذا الوجه وهو جعل السجود بعد الإنباء فهو لنكتة بديعة وهي أنه تعالى لما كان في بيان النعم التي أوجبت شكره باختصاصه بالعبادة لكونه منعماً فبين أولاً نعمته على كل نفس في خاصتها بخلقها وإفاضة الرزق عليها . ثم ذكر الكل بنعمة تشملهم وهي محاجّته لأقرب خلقه إذ ذاك إليه عن أبينا آدم قبل إيجاده اقتضى الأسلوب الحكيم أن يوضح لهم الحجة في فضيلة هذا الخليفة فذكر ما آتاه من العلم ، فلما فرغ من محاجتهم بما أوجب إذعانهم ذكر بنيه بنعمة السجود له ، فما كان تقديم إظهار فضيلة العلم إلا محافظة على حسن السياق في ترتيب الدليل على أقوم منهاج وأوضح سبيل . ولما فرغ من نعمة التفضيل في الصفات الذاتية بين النعمة بشرف المسكن مع تسخير زوج من الجنس لكمال الأنس وما يتبع ذلك فقال تعالى . وقال الحرالي : لما أظهر الله سبحانه فضيلة آدم فيما أشاد به عند الملائكة من علمه وخلافته والإسجاد له وإباء إبليس عنه أظهر تعالى إثر ذلك ما يقابل من أحوال آدم حال ما ظهر للملائكة بما فيه من حظ مخالفة يشارك بها إفراط ما في الشيطان من الإباء لإحاطة خلق آدم بالكون كله علواً وسفلاً ، وليظهر فضل آدم في حال مخالفته على إبليس في حال إبائه مما يبدو على آدم من الرجوع بالتوبة كحال رجوع الملائكة بالتسليم ، فيظهر فيه الجمع بين الطرفين والفضل في الحالين : حال علمه وحال توبته في مخالفته ، فجعل تعالى إسكان الجنة توطئة لإظهار ذلك من أمره فقال تعالى : { { وقلنا يا آدم اسكن } ، من السكن وهو الهدوء في الشيء الذي في طيه إقلاق ، أن في قوله : { أنت } اسم باطن الذات علماً هي المشتركة في أنا وأنتَ وأنتِ وأن تفعل كذا ، والألف في أنا إشارة ذات المتكلم ، وفي مقابلتها التاء إشارة لذات المخاطب ذكراً أو أنثى { وزوجك الجنة } فأجنت لآدم ما فيها من خبء استخراج أمر معصيته ليكون ذلك توطئة لكمال باطنه بإطلاعه على سر من أسرار ربه في علم التقدير إيماناً والكمال ظاهره يكون ذلك توطئة لفضيلة توبته إسلاماً ليس لبنيه التوبة إثر المعصية مخالفة لإصرار إبليس بعد إبائه وشهادة عليه بجهله في ادعائه ، وجعل له ذلك فيما هو متنزل عن رتبة علمه فلم تلحقه فيه فتنة حفيظة على خلافته وأنزلت معصيته إلى محل مطعمه الذي هو خصوص حال المرء من جهة أجوفية خلقه ليبدو نقص الأجوف ويبدي ذلك إكبار الصمد الذي يُطْعِم ولا يُطعَم ، فكان ذلك من فعله تسبيحاً بحمد ربه؛ لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيراً له انتهى .
ولما كان السياق هنا لمجرد بيان النعم استعطافاً إلى المؤالفة كان عطف الأكل بالواو في قوله : { وكلا منها } كافياً في ذلك ، وكان التصريح بالرغد الذي هو من أجل النعم عظيم الموقع فقال تعالى : { رغداً } أي واسعاً رافهاً طيباً هنيئاً { حيث } أي أيّ مكان { شئتما } بخلاف سياق الأعراف فإنه أريد منه مع التذكير بالنعم التعريف بزيادة التمكين وأنها لم تمنع من الإخراج تحذيراً للمتمكنين في الأرض المتوسعين في المعايش من إحلال السطوات وإنزال المثلاث ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . ثم المقصود من حكاية القصص في القرآن إنما هو المعاني فلا يضر اختلاف اللفظ إذا أدى جميع المعنى أو بعضه ولم يكن هناك مناقضة فإن القصة كانت حين وقوعها بأوفى المعاني الواردة ثم إن الله تعالى يعبر لنا في كل سورة تذكر القصة فيها بما يناسب ذلك المقام في الألفاظ عما يليق من المعاني ويترك ما لا يقتضيه ذلك المقام ، وسأبين ما يطلعني الله عليه من ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى .
ولما أباح لهما سبحانه ذلك كله أتبعه بالنهي عن شجرة واحدة . قال الحرالي : وأطلق له الرغد إطلاقاً وجعل النهي عطفاً ولم يجعله استثناء ليكون آدم أعذر في النسيان لأن الاستثناء أهم في الخطاب من التخصيص وقال : { ولا تقربا } ولم يقل : ولا تأكلا ، نهياً عن حماها ليكون ذلك أشد في النهي - انتهى . { هذه } ولما كان اسم الإشارة لا دلالة له على حقيقة الذات افتقر إلى بيان ذات المشار إليه فقال : { الشجرة } أي فإنكما إن قربتماها تأكلا منها { فتكونا } أي بذلك { من الظالمين } أي الواضعين الشيء في غير موضعه كمن يمشي في الظلام؛ وفي هذا النهي دليل على أن هذه السكنى لا تدوم ، لأن المخلد لا يناسب أن يعرض للحظر بأن يحظر عليه شيء ولا أن يؤمر ولا ينهى ، ولذلك دخل عليه الشيطان من جهة الخلد ، ولا داعي لبيان نوع الشجرة لأن السياق لبيان شؤم المخالفة وبركة التوبة لا لتعيين المنهي عنه فليس بيانه حينئذ من الحكمة .
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
ثم بين أنهما أسرعا المواقعة بقضية خلقهما على طبائع الشهوة لما نهيا عنه فقال : { فأزلهما } ، قال الحرالي : من الزلل وهو تزلق الشيء الذي لا يستمسك على الشيء الذي لا مستمسك فيه كتزلل الزلال عن الورق وهو ما يجتمع من الطل فيصير ما على الأوراق والأزهار ، وأزالهما من الزوال وهو التنحية عن المكان أو المكانة وهو المصير بناحية منه؛ { الشيطان } هو مما أخذ من أصلين : من الشطن وهو البعد الذي منه سمي الحبل الطويل ، ومن الشيط الذي هو الإسراع في الاحتراق والسمن ، فهو من المعنيين مشتق كلفظ إنسان وملائكة { عنها } أي عن مواقعة الشجرة وعن كلمة تقتضي المجاوزة عن سبب ثابت كقولهم : رميت عن القوس - انتهى .
وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما أو زوالهما عنها { فأخرجهما } أي فتسبب عن إيقاعهما في الزلل الناشىء عن تلك المواقعة أنه أخرجهما { مما كانا فيه } من النعمة العظيمة التي تجل عن الوصف . قال الحرالي : « في » كلمة تقتضي وعاء مكان أو مكانة ، ثم قال : أنبأ الله عز وجل بما في خبء أمره مما هو من وراء علم الملائكة بما أظهر من أمر آدم عليه السلام وبما وراء علم آدم بما أبدى من حال الشيطان باستزلاله لآدم حسن ظن من آدم بعباد الله مطلقاً حين قاسمهما على النصيحة ، وفيه انتظام بوجه ما بتوقف الملائكة في أمر خلق آدم فحذرت الملائكة إلى الغاية ، فجاء من وراء حذرهما حمد أظهره الله من آدم ، وجاء من وراء حسن ظن آدم ذنب أظهره الله من الشيطان على سبيل سكن الجنة فرمى بهما عن سكنها بما أظهر له بما فيها من حب الشجرة التي اطلع عليها . ثم قال : وحكمة ذلك أي نسبة هذا الذنب إلى الشيطان بتسببه ، إن الله عز وجل يعطي عباده الخير بواسطة وبلا واسطة ولا ينالهم شر إلا بواسطة نفس ، كما وقع من الإباء للشيطان ، فكانت خطيئته في ذات نفسه أو بواسطة شيطان كما كانت مخالفة آدم ، فكانت خطيئته ليست من ذات نفسه وعارضةً عليه من قبل عدو تسبب له بأدنى مأمنه من زوجه التي هي من أدنى خلقه فمحت التوبة الذنب العارض لآدم وأثبت الإصرار الإباء النفساني للشيطان؛ وذكر الحق تعالى الإزلال منه باسمه الشيطان لا باسمه إبليس لما في معنى الشيطنة من البعد والسرعة التي تقبل التلافي ولما في معنى الإبلاس من قطع الرجاء ، فكان في ذلك بشرى استدراك آدم بالتوبة - انتهى .
ولما بين أنه غرهما فضرهما بين إهباط الغارّ والمغرور وبين أنه أنعم على المغرور دون الغار مع ما سبق له من لزوم العبادة وطول التردد في الخدمة ، وفي ذلك نفخيم للنعمة استعطافاً إلى الإخلاص في العبادة فقال عاطفاً على ما يرشد إليه السياق من نحو أن يقال فتداركناهما بالرحمة وتلافينا خطأهما بالعفو لكونه عارضاً منهما بسبب خارج ، وأبّدنا تلافي الغار بشقائه لعصيانه بالضلال والإضلال عن عمد فكان مغضوباً عليه { وقلنا } أي له وللمغرور : { اهبطوا } وفي ذلك لطف لذريته بالتنفير من الخطأ والترهيب الشديد من جريرته والترغيب العظيم على تقدير الوقوع فيه في التوبة والهبوط .
قال الحرالي : سعى في درك والدرك مَا يكون نازلاً عن مستوى ، فكأنه أمسك حقيقته - أي آدم - في حياطته تعالى وحفظه وتوفيقه لضراعته وبكائه وسر ما أودعه من أمر توبته؛ وأهبط صورته ليظهر في ذلك فرق ما بين هبوط آدم وهبوط إبليس على ما أظهر من ذلك سرعة عود آدم توبة وموتاً إلى محله من أنسه المعهود وقربه المألوف له - من ربه ، وإنظار إبليس في الأرض مصراً منقطعاً عن مثل معاد آدم لما نال إبليس من اللعنة التي هي مقابل التوبة { بعضكم لبعض } البعض ما اقتطع من جملة وفيه ما في تلك الجملة ، { عدو } من العداء أي المجاوزة عن حكم المسالمة التي هي أدنى ما بين المستقلين من حق المعاونة - انتهى . فالمعنى فليحذر كل واحد منكم عدوه باتباع الأوامر واجتناب النواهي .
قال الحرالي : وفيه إشعار بما تمادى من عدواء الشيطان على ذرء من ولد آدم حتى صاروا من حزبه ، وفيه أيضاً بشرى لصالحي ولد آدم بما يسبونه من ذرء إبليس فيلحقون بهم بالإيمان والإسلام والتوبة فيهتدون بهداه من حيث عمّ بالعداوة ، فاعتدى ذو الخير فصارت عدواه على أهل الشر خيراً ، واعتدى ذو الشيطنة فصارت عدواه على أهل الخير شراً . { ولكم في الأرض مستقر } تكونون فيه ، وهو من القرار وهو كون الشيء فيما له فيه تنام وظهور وعيش موافق؛ { ومتاع } تتمتعون به ، والمتاع هو الانتفاع بالمنتفع به وقتاً منقطعاً يعرف نقصه بما هو أفضل منه ، يعني ففيه إشعار بانقطاع الإمتاع بما في هذه الدنيا ونقص ما به الانتفاع عن محل ما كانا فيه ، من حيث إن لفظ المتابع أطلق في لسان العرب على الجيفة التي هي متاع المضطر وأرزاق سباع الحيوان وكلابها ، فكذلك الدنيا هي جيفة متع بها أهل الاضطرار بالهبوط من الجنة وجعلها حظ من لا خلاق له في الآخرة؛ { إلى حين } أي لا يتقدم ولا يتأخر ، وفي إبهام الحين إشعار باختلاف الآجال في ذرء الفريقين ، فمنهم الذي يناله الأجل صغيراً ، ومنهم الذي يناله كبيراً - انتهى .
ولما تسبب عن جزاء آدم عليه السلام بالإهباط الذي هو كفارة له أنه أُلهم الدعاء بما رحم به عبر عن ذلك بقوله : { فتلقى } أي فهبطوا فتلقى { آدم } بعد الهبوط ، والتلقي ما يتقبله القلب باطناً وحياً ، أو كالوحي أبطن من التلقن الذي يتلقنه لفظاً وعلماً ظاهراً أو كالظاهر - قاله الحرالي : { من ربه } أي المحسن إليه في كل حال { كلمات } أي ترضيه سبحانه بما أفهمه التعبير بالتلقي ، وهي جمع كلمة؛ وهي دعاء دعا به ربه أو ثناء أثنى به عليه؛ وتطلق الكلمة أيضاً على إمضاء أمر الله من غير تسبيب حكمة ولا ترتيب حكم - قاله الحرالي ثم قال : في عطف الفاء في هذه الآية إشعار بما استند إليه التلقي من تنبيه قلب آدم وتوفيقه مما أثبته له إمساك حقيقته عند ربه ، ويعاضد معناه رفع الكلمات وتلقيها آدم في إحدى القراءتين ، فكأنه تلقى الكلمات بما في باطنه فتلقته الكلمات بما أقبل بها عليه فكان مستحقاً لها ، فكانت متلقية له بما جمعت القراءتان من المعنى { فتاب } من التوب وهو رجوع بظاهر باطنه الإنابة وهو رجوع بعلم باطنه الأوبة وهو رجوع بتقوى قلب - انتهى .
{ عليه } لذكره إياه بالكلمات مخلصاً في نيته ، ثم علل بقوله { إنه هو } أي خاصة { التواب } أي البليغ التوبة المكرر لها ، ولما كان قد جعل على نفسه المقدس أن يتفضل على المحسن قال : { الرحيم } أي لمن أحسن الرجوع إليه وأهله لقربه .
قال الحرالي : وكان إقراره بلفظه أدباً وإذعاناً لقيام حجة الله على عباده بما أنبأ عنه من قوله : { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] الآية ، وهذه توبة قلب وعمل لا ينقض مخصوص حال القلب منها ناقض وهي التوبة النصوح التي تبرىء من الذنب بتحقيق توحيد القلب وتوجب تكفير الخطايا الظاهرة التي لا أصل لها في القلب من حجاب دعوى في الأفعال وشرك في أمر الله ، فبمقتضى ما في باطنه ظهر فيه اسمه الرحيم الذي هو من الرحمة وهو اختصاص فضله بالمؤمن ، وبمقتضى ما ظهر عليه من الضراعة والإقرار ظهر فيه مقتضى اسمه التواب؛ فجمعت توبته الأمرين - انتهى .
ولما أعلموا بالعداوة اللازمة كان كأنه قيل : فما وجه الخلاص منها؟ فقيل : اتباع شرعنا المشروع للتوبة والرحمة فإنا { قلنا } كما تقدم { اهبطوا } ولما كان الهبوط الماضي يحتمل أن يكون من مكان من الجنة إلى أدنى منه ولم يخرجوا منها فكرره هنا للتأكيد تصويراً لشؤم المعصية وتبشيعاً لها قال : { منها } أي الجنة { جميعاً } أي لا يتخلف منكم أحد سواء كان ذلك قِران واحد أو على التعاقب ، وعهدنا إليهم عند الهبوط إلى دار التكليف أنا نأتيهم بالهدى ليؤديهم إلى الجنة مرة أخرى واعدين من اتبع متوعدين من امتنع فقلنا : { فإما يأتينكم } ، وقال الحرالي : مورد هذه الآية بغير عطف إشعار بأن ظاهرها افتتاح لم يتقدمه إيجاء بباطن كما تقدم في السابقة ، وتكرر الإهباطان من حيث إن الأول إهباط لمعنى القرار في الدنيا والاغتذاء فيها وذرء الذرية وأعمال أمر العداوة التي استحكمت بين الخلقين من آدم وإبليس ، وهذا الإهباط الثاني إهباط عن مكانة الرتبة الآمرية الدينية التي كانت خفية في أمر آدم ظاهرة في أمر إبليس ، وفي قوله : { جميعاً } إشعار بكثرة ذرء الخلقين وكثرة الاحداث في أمر الديانة من النقلين - انتهى .
وخص في إبراز الضمير بمحض الإفراد من غير إيراد بمظهر العظمة إبعاداً عن الوهم فقال : { مني هدى } أي بالكتب والرسل ، ولما كان الهدى الذي هو البيان لا يستلزم الاهتداء قال : { فمن تبع } أي أدنى اتباع يعتد به ، ولذلك اكتفى في جزائه بنفي الخوف الذي قد يكون عن توبة من ضلال بخلاف ما في طه كما يأتي إن شاء الله تعالى . والتبع السعي أثر عَلَم الهدى - قاله الحرالي . { هداي } أي المنقول أو المعقول ، فالثاني أعم من الأول . لأنه أعم من أن يكون منقولاً عن الرسل أو معقولاً بالقياس على المنقول عنهم ، أو بمحض العقل كما وقع لورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما المشار إليهم بالقليل في قوله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } [ النساء : 83 ] قال العارف شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه رشف النصائح الإيمانية : فالعفل حجة الله الباطنة والقرآن حجة الله الظاهرة . قال الحرالي : وجاء { هداي } شائعاً ليعم رفع الخوف والحزن من تمسك بحق ما من الحق الجامع ، وأدناه من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فيما بينه وبين الحق وفيما بينه وبين الخلق - انتهى .
ولما كان الخوف أشد لأنه يزداد بمر الزمان ، والحزن يحفّ ، قدّمه فقال : { فلا خوف عليهم } أي من شيء آت فإن الخوف اضطراب النفس من توقع فعل ضارّ - قاله الحرالي . { ولا هم يحزنون } أي على شيء فات ، لأنهم ينجون من النار ويدخلون الجنة والحزن كما قال الحرالي : توجع القلب لأجل نازح قد كان في الوصلة به رَوح ، والقرب منه راحة ، وجاء في الحزن بلفظ { هم } لاستبطانه ، وبالفعل لأنه باد من باطن تفكرهم في فائتهم ، وجاء نفي الخوف منعزلاً عن فعلهم لأنه من خوف باد عليهم من غيرهم - انتهى .
ولما بشر المؤمنين الذين اتبعوا الهدى أتبعه إنذار الكافرين الذين نابذوه بقوله : { والذين كفروا } قال الحرالي : هذا من أسوأ الكفر لأنه كفر بالآيات التي جعلها الله عز وجل علماً على غيب عهده وهي ما تدركه جميع الحواس من السماء والأرض وما بينهما كما قال تعالى : { ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة } [ الشورى : 29 ] لأن الحق تعالى أظهر الكون كتابة دالة على أمره وجعل في العقل نوراً يُقرأ به كتابه ، فمن لا نور له فهو من أصحاب النار ، فهو إما تابع هدى بنور العقل وتنبيه الإيمان ، وإما صاحب نار ، فقال : { وكذبوا بآياتنا } لأنه لما كان من الذين كفروا بكتاب الخلق من تقبّل الإيمان بتنزيل الأمر اختصت كلمة العذاب بالذين تأكد كفرهم بالآيات المرئية بتكذيبهم بالآيات المنزلة ، فكفروا بما رأوا فكانوا عمياً ، وكذبوا بما سمعوا فكانوا صُمّاً - انتهى .
والمعنى أنهم جمعوا بالكفر والتكذيب بين إنكار القلوب والألسنة { أولئك } أي البُعَداء البغضاء { أصحاب النار } وبين اختصاصهم بالخلود بقوله : { هم فيها خالدون } فعليهم الخوف الدائم لما يأتي من أنكالها والحزن الدائم على فوات الجنة ، فالآية من الاحتباك ، انتفاء الخوف والحزن من الأول دال على وجودهما في الثاني ، ووجود النار في الثاني دال على انتفائها ووجود الجنة في الأول ، وقد علم من ذلك مع قوله { مستقر ومتاع إلى حين } أنه لا بد من رجوعهم إلى تلك الدار وكيف تكون منازلهم فيها! فكأنه جواب سائل قال : هل بعد هذا الهبوط من صعود؟ قال الحرالي : وقوله : { هم } فيه إشعار بإشراب العذاب بواطنهم وبلاغه إلى أنفسهم بعذاب الغم والحزن واليأس وغير ذلك من إحراق النار بواطنهم ، وفيه إشعار بكونهم فيها في الوقت الحاضر من حيث لا يشعرون « الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم » والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله . فهم فيها خالدون وإن لم يحسوا في الدنيا بحقيقتها ، كما أن المهتدين في جنة في الدنيا وإن لم يشهدوا عيانها ، فكل خالد فيما هو فيه في الدنيا غيباً وفي الآخرة عياناً وفي القبر عرضاً { لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين } [ التكاثر : 6 ، 7 ] { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } [ غافر : 46 ] وهنا انتهى خطاب الفرقان المخصوص بدعوة العرب الذين هم رأس أهل الدعوة المحمدية صلى الله عليه وسلم : « الناس كلهم تبع لقريش ، مؤمنهم لمؤمنهم ، وكافرهم لكافرهم » انتهى . يعني فهم المرادون بهذا بالقصد الأول ، وهو شامل لغيرهم ، ومراد به ذلك الغير بالقصد الثاني ، وهنا آخر الآيات الخاصة بالنعم العامة لجميع بني آدم دالة على التوحيد من حيث إنها حادثة فلها محدث ، وعلى النبوة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عنها موافقاً لما في التوراة والإنجيل من غير تعلم ، وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلقها ابتداء قدر على إعادتها - ذكره الأصفهاني عن الإمام . وفي الآية إشارة إلى الكتاب الذي هو هدى للمتقين المشتمل على الأحرف السبعة التي من أقبل على حرف منها حق الإقبال كفاه ، ومن اشتغل عنها بالمتاع الأدنى خسر دنياه وأخراه .
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في التمهيد لشرط مثال القراءة لحروفه السبعة وعلمها والعمل بها : اعلم أن الله سبحانه خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه ورزقه نوراً من نوره ، فلأنه خلقه بيده كان في أحسن تقويم خلقاً ، ولأنه نفخ فيه من روحه كان أكمل حياة قبضاً وبسطاً ، ولأنه رزقه نوراً من نوره كان أصفى عقلاً وأخلص لباً وأفصح نطقاً وأعرب بياناً جمعاً وفصلاً ، وأطلعه على ما كتب من حروف مخلوقاته إدراكاً وحساً ، وعقّله ما أقام من أمره فهماً وعلماً ، ونبهه على ما أودعه في ذاته عرفاناً ووجداً؛ ثم جعل له فيما سخر له من خلقه متاعاً وأنساً فأناسه وردده من بين إقبال وإدبار وقبول وإعراض ، فمن شغل بالاستمتاع الأدنى عن الاطلاع الأعلى كان سفيهاً ، ومن شغله الاطلاع الأعلى عن الاستمتاع الأدنى كان حنيفاً
{ الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري } [ الكهف : 101 ] { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } [ البقرة : 130 ] { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً } [ النحل : 120 ] . ولما كان متاع الخلق في الأرض إلى حين وشغل أكثرهم أكلهم وتمتعهم وألهاهم أملهم عن حظهم من الحنيفية بما أوتي العقل من التبليغ عن الله نظراً واعتباراً اصطفى الله سبحانه من الحنفاء منبهين على النظر الذي اشتغل عنه المعرضون وأنف منه واستكبر عنه المدبرون ، وأكدوا تنبيههم بما أسمعوهم من نبأ ما وراء يوم الدنيا من أمر الله في اليوم الآخر وما تتمادى إليه أيام الله ، وذكروهم بما مضى من أيام الله ، وأنزل الله سبحانه معهم كتباً يتلونها عليهم ويبينونها لهم علماً وعملاً وحالاً ، فقبل ما جاؤوا به وصدقه واستبشر به الحنيفيون وأنذر به المدبرون والمعرضون ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، آمن من تنبه للنظر والاعتبار وألقى السمع وهو شهيد ، وكفر من آثر متاعه بالعاجلة التي تراها الأعين على وعد الله ووعيده في الآجلة التي إنما يعيها القلب وتسمعها الأذن ، وكما شغل المدعوين إلى الإسلام كفرهم ودنياهم كذلك شغل المولّدين في الإسلام غفلتهم ودنياهم ولعبهم في صباهم ولهوهم في شبابهم وتكاثرهم في الأموال في اكتهالهم وتكاثرهم في الأولاد في شَياخهم ، فاشترك المدعو إلى الإسلام والمولد فيه الغافل في عدم الإقبال والقبول في ترك الاهتمام في الآجلة واختصارهما على الاهتمام بالعاجلة ، وكلاهما جعل القرآن وراء ظهره المدعو لفظاً وعلماً والمولد الغافل علماً وعملاً ، فلم يسمعه المدعو ولم يفهمه الغافل فجعله بالحقيقة وراء ظهره ، ومن جعل القرآن خلفه ساقه إلى النار ، وإنما جعله أمامه من قرأه علماً وحالاً وعملاً ، ومن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة؛ ولما قامت الحجة عليهم بقراءته إذا لم يجاوز حناجرهم كانوا أشد من الكفار عذاباً في النار - أكثر منافقي أمتي قراؤها ، { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [ النساء : 145 ] فإذاً لا بد في قراءة القرآن من تجديد إقبال وتهيُّؤ لقبول وتحقيق تقوى لأنه إنما هو هدى للمتقين ، وإجماع على الاهتمام ، وكما أن أمور الدنيا لا تحصل لأهلها إلا على قدر عزائمهم واهتمامهم فأحرى أن لا يحصل أمر الأخرى إلا بأشد عزيمة وأجمع اهتمام ، فلا يقرأ القرآن من لم يقبل عليه بكلية ظاهره ويجمع اهتمامه له بكلية باطنه
{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء } [ الأعراف : 145 ] فخذها بقوة { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } [ مريم : 13 ] { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } [ هود : 112 ] فشرط منال قراءته اهتمام القلب بتفهمه وإقبال الحس على استماعه وتدبره؛ ولكل حرف شرط يخصه - انتهى .
ولما أقام سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولاً وعقبها بذكر الإنعامات العامة داعياً للناس عامة لا سيما بني إسماعيل العرب الذين هم قوم الداعي صلى الله عليه وسلم وكان أحق من دُعِي بعد الأقارب وأولاه بالتقدم أهل العلم الذين كانوا على حق فزاغوا عنه ولا سيما إن كانت لهم قرابة لأنهم جديرون بالمبادرة إلى الإجابة بأدنى بيان وأيسر تذكير ، فإن رجعوا اقتدى بهم الجاهل فسهل أمره وانحسم شره ، وإن لم يرجعوا طال جدالهم فبان للجاهل ضلالهم فكان جديراً بالرجوع والكف عن غيه والنزوع ، وعرفت من تمادي الكلام معهم الأحكام وبان الحلال والحرام؛ فلذلك لما فرغ من دعوة العرب الجامعة لغيرهم باختصار وختم بأن وعد في اتباع الهدى وتوعد شرع سبحانه يخص العلماء من المنافقين بالذكر وهم من كان أظهر الإسلام من أهل الكتاب على وجه استلزم عموم المصارحين منهم بالكفر ، إذ كانوا من أعظم من خُص بإتيان ما أشار إليه من الهدى والبيان بما فيه الشفاء ، وكان كتابهم المشتمل على الهدى من أعظم الكتب وأشهرها وأجمعها فقصّ عليهم ما مثله يليّن الحديد ويخشع الجلاميد فقال تعالى مذكراً لهم بنعمه الخاصة بهم : { يا بني إسرائيل } ويجوز أن تقرر المناسبات من أول السورة على وجه آخر فيقال : لما كان الكفار قسمين : قسم محض كفره ، وقسم شابه بنفاق وخداع ، وكان الماحض قسمين : قسم لا علم له من جهة كتاب سبق وهم مشركو العرب ، وقسم له كتاب يعلم الحق منه ، ذكر تعالى قسم الماحض بما يعم قسميه العالم والجاهل فقال : { إن الذين كفروا سواء عليهم } إلى آخره . ثم أتبعه قسم المنافق ، لأنه أهم بسبب شدة الاختلاط بالمؤمنين وإظهارهم أنهم منهم ليكونوا من خداعهم على حذر ، فقال : { ومن الناس من يقول آمنا } إلى آخره؛ ولما فرغ من ذلك ومما استتبعه من الأمر بالوحدانية وإقامة دلائلها وإفاضة فضائلها ، ومن التعجيب ممن كفر مع قيام الدلائل ، والتخويف من تلك الغوائل ، والاستعطاف بذكر النعم ، شرع في ذكر قسم من الماحض هو كالمنافق في أنه يعرف الحق ويخفيه فالمنافق ألف الكفر ثم أقلع عنه وأظهر التلبس بالإسلام واستمر على الكفر باطناً ، وهذا القسم كان على الإيمان بهذا النبي قبل دعوته ، فلما دعاهم محوا الإيمان الذي كانوا متلبسين به وأظهروا الكفر واستمرت حالتهم على إظهار الكفر وإخفاء المعرفة التي هي مبدأ الإيمان ، فحالهم كما ترى أشبه شيء بحال المنافقين ، ولهذا تراهم مقرونين بهم في كثير من القرآن ، وأخرهم لطول قصتهم وما فيها من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بما أبدى مما أخفوه من دقائق علومهم ، فإن مجادلة العالم ترسل في ميادين العلم أفراس الأفكار فتُسرع في أقطار الأوطار حتى تصير كالأطيار وتأتي ببدائع الأسرار ، ولقد نشر سبحانه في غضون مجادلتهم وغضون محاورتهم ومقاولتهم من الجمل الجامعة في شرائع الدين التي فيها بغية المهتدين ما أقام البرهان على أنه هدى للعالمين؛ هذا إجمال الأمر ، وفي تفاصيله كما سترى من بدائع الوصف أمور تجل عن الوصف ، تذاق بحسن التعليم ويشفى عيّ جاهلها بلطيف التكليم - والله ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق .
وقال الحرالي : ثم أقبل الخطاب على بني إسرائيل منتظماً بابتداء خطاب العرب من قوله : { يا أيها الناس } وكذلك انتظام القرآن إنما ينتظم رأس الخطاب فيه برأس خطاب آخر يناسبه في جملة معناه وينتظم تفصيله بتفصيله ، فكان أول وأولى من خوطب بعد العرب الذين هم ختام بنو إسرائيل الذين هم ابتداء بما هم أول من أنزل عليهم الكتاب الأول من التوراة التي افتتح الله بها كتبه تلو صحفه وألواحه . ثم قال : لما انتظم إقبال الخطاب على العرب التي لم يتقدم لها هدى بما تقدمه من الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم انتظم بخطاب العرب خطاب بني إسرائيل بما تقدم لها من هدى في وقتها { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } [ المائدة : 44 ] وبما عهد إليها من تضاعف الهدى بما تقدم لها في ارتقائه من كمال الهدى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبهذا القرآن ، فكان لذلك الأولى مبادرتهم إليه حتى يهتدي بهم العرب ليكونوا أول مؤمن بما عندهم من علمه السابق - انتهى .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
وابتدأ سبحانه بتذكيرهم بما خصهم به عن النوع الآدمي من النعم التي كانوا يقابلونها بالكفران وما عاملهم به من إمهالهم على مرتكباتهم ومعاملتهم بالعفو والإقالة مما يبين سعة رحمته وعظيم حلمه ، وابتدأ من أوامرهم بالإيفاء بالعهود التي من أعظمها متابعة هذا النبي الكريم والإيمان بكتابه الذي نفى عنه الريب فقال : { يا بني إسرائيل } أي الذي شرفته وشرفت بنيه من أجله { اذكروا } من الذكر بالكسر والضم بمعنى واحد يكونان باللسان وبالجنان ، وقال الكسائي : هو بالكسر باللسان وبالضم بالقلب ، والذي بالقلب ضده النسيان ، والذي باللسان ضده الصمت - نقله الأصفهاني . وقال الحرالي : من الذكر وهو استحضار ما سبقه النسيان . { نعمتي } وهي إنالة الشخص ما يوافق نفسه وبدنه وعند المتفطن ما يوافق باطنه وظاهره مما بين قلبه وشعوبه من أهله وحشمه { التي } تي منها إشارة لباطن نازل متخيل مبهم تفسره صلته بمنزلة ذي وال منها إشارة لذلك المعنى بالإشارة المتخيلة - انتهى { أنعمت } أي بها ودللت على شرفها بإضافتها إلى { عليكم } وتلك النعمة الشريفة هي الإتيان بالهدى من الكتب والرسل الذي استنقذتكم به من هوان الدنيا والآخرة { وأوفوا } من الوفاء وهو عمل لاحق بمقتضى تقدم علم سابق - قاله الحرالي . { بعهدي } أي الذي أخذته عليكم في لزوم ما أنزل إليكم من متابعة نبيكم ومن آمَرَكم باتباعه من بعده ، والعهد التقدم في الشيء خفية اختصاصاً لمن يتقدم له فيه - قاله الحرالي ، وقال الأصفهاني : حفظ الشيء ومراعاته حالاً فحالاً ، قال الخليل : أصله الاحتفاظ بالشيء وإجداد العهد به ، { أوف بعهدكم } أي في جعلكم ممن لا خوف عليهم ولا حزن بسعة العيش والنصر على الأعداء كما يأتي عن نص التوراة في مظانه من هذا الكتاب { وإياي } أي خاصة { فارهبون } أي ولا تزلّوا اجْعَلْكم في مصير الكافرين بعد الضرب بأنواع الهوان في الدنيا ، والرهب حذر النفس مما شأنها منه الهرب لأذى تتوقعه ، وخوطبوا بالرهبة لاستبطانها فيما يختص لمخالفة العلم ، قال الحرالي : وأطال سبحانه في حجاجهم جرياً على قانون النظر في جدال العالم الجاحد وخطاب المنكر المعاند ، وفي قوله تعالى : { وآمنوا بما أنزلت } أي أوجدت إنزاله { مصدقاً لما معكم } تقرير لذلك الكتاب لا ريب فيه ، وأمروا كما قال الحرالي تجديد الإيمان بالقرآن لما فيه من إنباء بأمور من المغيبات التي لم تكن في كتابهم كتفاصيل أمور الآخرة التي استوفاها القرآن ، لأنه خاتم ليس وراءه كتاب ينتظر فيه بيان ، وقد أبقى لكل كتاب قبله بقية أحيل فيها على ما بعده - ليتناءى البيان إلى غاية ما أنزل به القرآن حين لم يعهد إليهم إلا في أصله على الجملة - انتهى . وفي قوله : { ولا تكونوا أول كافر به } معنى دقيق في تبكيتهم وأمر جليل من تعنيفهم وذلك أنه ليس المراد من { أول } ظاهر معناه المتبادر إلى الذهن فإن العرب كثيراً ما تطلق الأول ولا تريد حقيقته بل المبالغة في السبق ، كما قال مقيس بن صبابة وقد قتل شخصاً من الصحابة رضوان الله عليهم كان قتل أخاه خطأ ورجع إلى مكة مرتداً .
حللت به وتري وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
هذا في جانب الإثبات ، فإذا نفيت ناهياً فقلت : لا تكن أول فاعل لكذا ، فمعناه إنك إن فعلت ذلك لم تكن صفتك إلا كذلك ، فهو خارج مخرج المبالغة في الذم بما هو صفة المنهي فلا مفهوم له ، وعبر به تنبيهاً على أنهم لما تركوا اتباع هذا الكتاب كانوا لما عندهم من العلم بصحته في غاية اللجاجة فكان عملهم في كفرهم وإن تأخر عمل من يسابق شخصاً إلى شيء ، أو يكون المعنى أنهم لم يمنعهم من الإيمان به جهل بالنظر ولا عدم إطلاع على ما أتى به أنبياؤهم من البشر بل مجرد الحسد للعرب أن يكون منهم نبي المستلزم لحسد هذا النبي بعينه ، لأن الحكم على الأعم يستلزم الحكم على الأخص بما هو من أفراد الأعم . فصارت رتبة كفرهم قبل رتبة كفر العرب الجاهلين به أو الحاسدين له صلى الله عليه وسلم بخصوصه لا لعموم العرب ، فكان أهل الكتاب أول كافر به لا يمكن أن يقع كفرهم إلا على هذا الوجه الذي هو أقبح الوجوه ، فالمعنى لا تكفروا به ، فإنه إن وقع منكم كفر به كان أول كفر ، لأن رتبته أول رتب الكفر الواقع ممن سواكم فكنتم أول كافر فوقعتم في أقبح وجوه الكفر ، ولذا أفرد ولم يقل : كافرين - والله أعلم .
ولما نهاهم عن الكفر بالآيات نهاهم عن الحامل عليه لقوله : { ولا تشتروا } أي تتكلفوا وتلحوا في أن تستبدلوا { بآياتي } أي التي تعلمونها في الأمر باتباع هذا النبي الكريم { ثمناً قليلاً } وهو رياسة قومكم وما تأخذونه من الملوك وغيرهم على حمل الشريعة ، والقلة ما قصر عن الكفاية - قاله الحرالي . { وإياي } أي خاصة { فاتقون } أي اجعلوا لكم وقاية من إنزال غضبي ، فالتقوى نتيجة الرهبة كما أن هذه الأفعال نتيجة ما في آية الرهبة ، { ولا تلبسوا } واللبس إبداء الشيء في غير صورته ، ومنه اللباس لإخفائه الأعضاء حتى لا تبين هيئتها - قاله الحرالي : { الحق } أي ما تقرون به على ما هو عليه من التوراة والإنجيل مما لا غرض لكم في تبديله { بالباطل } مما تحرفونه منهما ، والحق قال الحرالي ما يقر ويثبت حتى يضمحل مقابله ، فكل زوجين فأثبتهما حق وأذهبهما باطل ، وذلك الحق فالباطل هو ما أمد إدالته قصير بالإضافة إلى طول أمد زوجه القار - انتهى .
ولما كان اللبس قد يفارق الكتمان بأن يسأل شخص عن شيء فيبديه ملتبساً بغيره أو يكتمه وهو عالم به قال : { وتكتموا الحق } أي عمن لا يعلمه { وأنتم تعلمون } أي مكلفون ، وجعله الحرالي على ظاهره فقال : لما طلبهم تعالى بالوفاء بالعهد نهاهم عن سوء العمل وما لبسوا به الأمر عند اتباعهم من ملتهم وعند من استرشدهم من العرب ، فلبسوا باتباعهم حق الإيمان بموسى عليه الصلاة والسلام والتوراة بباطل ما اختذلوه من كتابهم من إثبات الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ، فكتموا الحق التام الجامع ولبسوا الحق الماضي المعهود بالباطل الأعرق الأفرط ، لأن باطل الحق الكامل باطل مفرط معرق بحسب مقابله ، وعرفهم بأن ذلك منهم كتمان شهادة عليهم بعلمهم بذلك إفهاماً ، ثم أعقبه بالشهادة عليهم بالعلم تصريحاً - انتهى .
وفي هذه الآية أعظم زاجر لأهل الكتاب عما أظهروا فيه من العناد ، ومن لطف الله تعالى زجر القاسي البعيد ونهي العاصي القلق إلى ما دون ذلك من تنبيه الغافل وزيادة الكامل . قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة : وجه إنزال هذا الحرف - يعني حرف النهي - كف الخلق عما يهلكهم في أخراهم وعما يخرجهم عن السلامة في موتهم وبعثهم مما رضوا به واطمأنوا إليه وآثروه من دنياهم ، فمتوجهه للمطمئن بدنياه المعرض عن داعيه إلى اجتناب ما هو عليه يسمى زجراً ، ومتوجهه للمتلفّت المستشعر ببعض الخلل فيما هو عليه يسمى نهياً ، وهما يجتمعان في معنى واحد ومقصود واحد إلا أنه متفاوت ، ولذلك رددهما النبي صلى الله عليه وسلم على المعنى الجامع في هذا الحديث يعني المذكور أول البقرة ، وأولاهما بالبدئية في الإنزال الزجر لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعثه الله حين انتهى الضلال المبين في الخلق ونظر الله سبحانه إلى جميع أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، كما ورد في الحديث الصحيح إسناداً ومتناً ، ولذلك كان أول منزل الرسالة سورة { يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر* } [ المدثر : 1-5 ] وهي أول قوارع الأمر كما أن فجاءة الساعة أول قوارع الخلق ، ولذلك انتظم فكرهما في قوله تعالى : { فإذا نقر في الناقور * فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير* } [ المدثر : 8-10 ] وللمزجور حالان إما أن ينفر عند الزجرة توحشاً كما قال تعالى : { كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة * } [ المدثر : 50-51 ] وإما أن يدبر بعد فكره تكبراً كما قال تعالى : { ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر } [ المدثر : 21-23 ] وربما شارف أن يبصر فصرف ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لكنها عقول كادها باريها { سأصرف آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها }
[ الأعراف : 146 ] صرفوا عن آيات الحق السماوية على ظهورها عقوبة على ذنب تكبرهم على الخلق مع الإحساس بظهور آية انضمام الأرحام في وضوحها وكل قارعة لنوعي الكافرين النافرين والمدبرين من هذا الحرف وتمام هذا المعنى ينهى المتأنس المحاصر عن الفواحش الظاهرة والباطنة الضارة في العقبى وإن تضرروا بتركها في الدنيا نحو قوله تعالى : { ولا تقربوا } في أكل مال اليتيم والزنا وإتيان الحائض - إلى ما دون ذلك من النهي عما يعدونه في دنياهم كيساً ، نحو قوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] { ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } [ آل عمران : 13 ] { ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً } [ الحجرات : 12 ] و { لا يسخر قوم من قوم } [ الحجرات : 11 ] وما لحق بهذا النمط - إلى ما دون ذلك على اتصال التفاوت من النهي عن سوء التأويل لطية غرض النفس نحو قوله تعالى : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا } [ النساء : 94 ] إلى ما دون ذلك من النهي عما يقدح في الفضل وإن كان من حكم العدل نحو قوله تعالى : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } [ النور : 22 ] إلى تمام ما لا تحصل السلامة إلا به من النهي عما زاد على الكفاف والبلغة في الدنيا الذي به يصح العمل بالحكمة نحو قوله تعالى : { ولا تمش في الأرض مرحاً } [ الإسراء : 37 ] إلى قوله : { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } [ الإسراء : 39 ] ، ونحو قوله تعالى : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه } [ طه : 131 ] ، لأن كل زائد على الكفاف فتنة ، وهذا هو أساس ما به تتفاوت درجات العلم في الدنيا ودرحات الجنة في الآخرة ، ولا تصح الوجوه والحروف التي بعده أي وهي سائر الحروف علماً وعملاً وثباتاً وقبولاً عند التمحيص إلا بحسب الإحكام في قراءة هذا الحرف وجمعه وبيانه لأنه ظهور لما بعده من صلات حرف الأمر وما قصّر بعشرات فرق الأمة إلى التقصير في حرف النهي ، لأن الملة الحنيفية مبنية على الاكتفاء باليسير من المأمورات والمبالغة في الحمية من عموم ما لا يتناهى من المنهيات لكثرة مداخل الآفات منها على الخلق فيما بعد الموت ويصعب هذا الحرف على الخلق بما استقر في أوهامهم أن دنياهم لا تصلح إلا بالمثابرة على صنوف المنهيات لنظرهم لجدواها في الدنيا وعماهم عن وبالها في الأخرى وما حوفظ على الرياضات والتأديبات والتهذيبات إلا بوفاء الحمية منها ، والحمية أصل الدواء ، فمن لم يحتم عن المنهيات لم ينفعه تداويه بالمأمورات ، كالذي يتداوى ولا يحتمي يخسر الدواء ويتضاعف الداء { هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً* } [ الكهف : 103 ، 104 ] وجاؤوا بحسنات كالجبال وكانوا يصومون ويصلون ويأخذون وهناً من الليل لكن ذلك تداو بغير حمية لما لم يحتموا من الدنيا التي نهوا عن زهرتها ، فكانوا إذا لاحت لهم وثبوا عليها فيصيبون منها الشهوات ويعملون المعصيات فلم ينفعهم المداواة ، فمن احتمى فقد قرأ هذا الحرف وهو حسبه فاقرؤوا ما تيسر منه ، أحب العبادات إلى الله ترك الدنيا وحمية النفس من هوى جاهها ومالها « بل نبياً عبداً » « أجوع يوماً وأشبع يوماً »
« ومن رغب عن سنتي فليس مني » ، والقرآن حجة لمن عمل به فصار إمامه يقوده إلى الجنة . وحجة على من لم يعمل به يصير خلفه فيسوقه إلى نار الجبة التي في جب وادي جهنم التي تستعيذ جهنم منها والوادي والجب في كل يوم سبع مرات { ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } [ الشورى : 52 ] { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } [ البقرة : 26 ] { ولا يزيد الظالمين إلا خساراً* ] [ الإسراء : 82 ] « أعوذ بعفوك من عقوبتك ، وبرضاك من سخطك ، وبك منك ، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » .
ثم قال فيما تحصل به قراءة حرف النهي : اعلم أن الموفي بقراءة حرفي الحلال والحرام المنزلين لإصلاح أمر الدنيا وتحسين حال الجسم والنفس تحصل له عادة بالخير تيسر عليه قراءة حرفي صلاح الآخرة من الأمر والنهي ، ولما اقتضت الحكمة والعلم إقامة أمر الدنيا بقراءة حرفي صلاحها تماماً اقتضى الإيمان بالغيب وتصديق الوعد والوعيد تجارة اشتراء الغيب الموعود من عظيم خلاق الأخرى بما ملك العبد من منقود متاع الدنيا ، فكل الحلال ما عدا الكفاف بالسنة متجر للعبد ، إن أنفقه ربحه وأبقاه فقدم عليه ، وإن استمتع به أفناه فندم عليه { فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } [ التوبة : 69 ] { لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين* } [ المنافقون : 10 ] { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [ آل عمران : 92 ] ذلك مال رابح ذلك مال رابح ، وكما أن حرف الحلال موسع ليحصل به الشكر فحرف النهي مضيق لمتسع حرف الحلال ليحصل به الصبر ليكون به العبد شاكراً صابراً ، فالذي يحصل به قراءة حرفي النهي أما من جهة القلب ورؤيا الفؤاد فمشاهدة البصيرة لموعود الجزاء حتى كأنه ينظر إليه لترتاح النفس بخيره وترتاع من شره ، كما قال حارثة : « كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وإلى أهل النار في النار يعذبون » فأثمر له ذلك ما أحبر به عن نفسه في قوله : « وعزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها وخزفها » وخصوصاً من أيد بالمبشرات من الرؤيا الصالحة والكشف الصادق ليدع الفاني للباقي على يقين ومشاهدة ، وأما من جهة حال النفس فالصبر بحبسها عما تشتهيه طبعاً مما هو محلل لها شرعاً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه لما رثى لحاله :
« أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ » { واستعينوا بالصبر } ، [ البقرة : 45 ] وصبر النفس عن شهواتها وإن كانت حلالاً هو حقيقة تزكيتها ، وقتلها بإضنائها منها هو حياتها ، وإطلاقها ترتع في شهواتها هو تدسيتها ، { قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها* } [ الشمس : 9-10 ] والنفس مطية يقويها إنضاؤها ، ويضعفها استمتاعها ، وحبسها عن ذلك شائع في جهات وجوه الحلال كلها إلاّ في شيئين : في النساء بكلمة الله ، لأنهم من ذات نفس الرجال ولسن غيراً لهم { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها } [ الأعراف : 189 ] و { أتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً } [ النساء : 20 ] والثاني في الطيب ، لأنه غذاء للروح وتقوية للحواس ونسمة من باطن الملكوت إلى ظاهر الملك ، وما عداهما فالاستمتاع به واتباع النفس هواها فيه علامة تكذيب وعد الرحمن وتصديق وعد الشيطان { وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون } [ النحل : 26 ] { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } [ النساء : 120 ] هذا من جهة النفس ، وأما من جهة العمل وتناول اليد فرفعها عما زاد على الكفاف وتخليته لذوي الحاجة ليتخذوه معاشاً ، وأن يكون التمول من غير القوام تجارة نقل وضرب في الأرض وإرصاد لوقت حاجة لا حكرة وتضييقاً ، اتخاذ أكثر من لبستين للمهنة والجمعة علامة لضعف الإيمان وخلاف السنة وانقطاع عن آثار النبوة وعدول عن سنة الخلفاء وترك لشعار الصالحين ، وكذلك تصفية لباب الطعام وقصد المستحسن في الصورة دون المستحسن في العلم وإيثار الطيب في المطعم على الطيّب في الورع وتكثير الأدم وتلوين الأطعمة ، وكذلك اتخاذ أكثر من مسكن واحد وأكثر من مزدرع كاف ورفع البناء والاستشراف بالمباني ، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من رد السلام على رجل اتخذ قبة في المدينة حتى هدمها وسوّاها مع بيوت أهل المدينة ، وإنما الدنيا للمؤمن سجن إن شعر به وضيق فيه على نفسه طلبت السراح منه إلى الآخرة فيسعد ، وإن لم يشعر بأنها سجن فوسع فيها على نفسه طلب البقاء فيها وليست بباقية ، والخيل ثلاثة : أجر للمجاهد ، ووزر على المباهي ، وعفو للمستكفي بها فيما يعنيه من شأنه ، والزيادة على الكفاف من النعم السائمة انقطاع عن آثار النبوة وتضييق على ذوي الحاجة وتمول لما وضع لإقامة المعاش وأن يتخذ منه الكفاف ، قال صلى الله عليه وسلم : « لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد ، فإذا ولّد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة » والطعام لا يتمول وكذلك ما اتخذ للقوام لا يحتكره إلا خاطىء « من احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برىء من الله وبرىء الله منه » فالأمتعة تجلب وتختزن ويستنمى فيه الدينار والدراهم ، والطعام والقوام يجلب ولا يختزن فيستنمى فيه الدينار والدرهم ، ومن اختزنه يستنمي فيه الدينار والدرهم فقد احتكره ، وما منع فيه من مدّ العين فأحرى أن يمنع فيه مد اليد { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً } [ الحجر : 88 ] الآيتين ، فبهذه الأمور من إيمان القلب ورؤية الفؤاد وصبر النفس وكف اليد عن الانبساط في التمول فيما به القوام تحصل قراءة حرف النهي ، والله ولي التأييد - انتهى .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
ولما فرغ سبحانه من أمر أهل الكتاب بالإيمان بالله والنبي والكتاب الذي هو من الهدى الآتي إليهم المشار إلى ذلك كله بالإيفاء بالعهد عطف بقوله : { وأقيموا الصلاة } أي حافظوا على العبادة المعهود بها في كل يوم بجميع شرائطها وأركانها { وآتوا الزكاة } أي المفروضة في كل حول لتجمعوا أوصاف المتقين المهديين بهذا الكتاب { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } [ البقرة : 3 ] المحسنين بذلك فيما بينهم وبين الحق وفيما بينهم وبين الخلق ، وهاتان العبادتان إما العبادات البدنية والمالية فخصا بالذكر ، لأن من شأنهما استجرار سائر العبادات واستتباعها ، والزكاة قال الحرالي نماء في ظاهر حس وفي باطن ذات نفس ، { واركعوا } من الركوع وهو توسط بين قيام وسجود يقع في ظاهر من القامة وفي حال من القلب ، تخص به الأمة المتوسطة الجامعة للطرفين { مع } معناه الصحبة من الأعلى بالحياطة ، ومن الأدنى بحسن التبع ، ومن المماثل بحسن النصفة - انتهى . وقوله : الراكعين * مع مصحوبه تأكيد لأمر الصلاة وأمر بالكون في هذا الدين مع الذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإن صلاة اليهود لا ركوع فيها ، كما سيأتي بيانه في سورة آل عمران إن شاء الله تعالى .
وقال الحرالي : والمتسق بذلك أي بما مضى خطاب إفهام يفهمه عطف إقامة الصلاة التي هي تلو الإيمان ، فكأن خطاب الإفهام : فارجعوا واستدركوا وأعلنوا بما كتمتم وبينوا ما لبستم وانصحوا من استنصحكم وأقيموا وجهتكم لله بالصلاة وتعطفوا على الأتباع بعد تعليمهم بالزكاة وكملوا صلاتكم بما به كمال الصلاة من الركوع العدل في الفعل بين حال قيام الصلاة وسجودها المظهر آية عظمة الله مع الراكعين الذين هم العرب الذين وضعت أول صلاتهم على كمال - انتهى . ويجوز أن يكون المراد بالركوع الصلاة ، عبر عنها به لما ذكر من خصوص هذه الأمة به ، فكأنه قيل : وصلّوا مع المصلّين جماعة ، لمزيد التوصية بالجماعة .
ولما أمر علماءهم بما تركوا من معالي الأخلاق من الإيمان والشرائع بعد أمرهم بذكر ما خصهم به من النعم ، ونهاهم عما ارتكبوا من سفسافها من كفر النعم ونقض العهود وما تبع ذلك وكانوا يأمرون غيرهم بما يزعمون أنه تزكية وينهونه عما يدعون أنه تردية ، أنكر عليهم ترغيباً فيما ندبهم إليه وحثهم عليه وتوبيخاً على تركه بقوله : { أتأمرون } من الأمر وهو الإلزام بالحكم - قاله الحرالي { الناس بالبر } وهو التوسع في أفعال الخير { وتنسون } والنسيان السهو الحادث بعد حصول العلم ، { أنفسكم } أي تتركون حملها على ذلك ترك الناسي ، ولعله عبر به زيادة في التنفير عن هذا الأمر الفظيع الذي دلّ العقل دلالة بينة على فحشه ، لأن المقصود من أمر الغير بالبر النصيحة أو الشفقة ، وليس من العقل أن يشفق الإنسان على غيره أو ينصح غيره وينسى نفسه ، والظاهر أن المراد به حكم التوراة ، كانوا يحملون عوامهم عليه وهم يعلمون دون العوام أن من حكم التوراة اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد نسوا أنفسهم من الأمر بأساس البر الذي لا يصح منه شيء إلاّ به .
وقال الحرالي : ولما كان فيهم من أشار على من استهداه بالهداية لاتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولم يهدوا أنفسهم لما أرشدوا إليه غيرهم أعلن تعالى عليهم بذلك نظماً لما تقدم من نقض عهدهم ولبسهم وكتمهم بما ظهر من نقص عقولهم في أن يظهر طريق الهدى لغيره ولا يتبعه فأخرجهم بذلك عن حد العقل الذي هو أدنى أحوال المخاطبين ، وزاد في تبكيتهم بجملة حالية حاكية تلبسهم بالعلم والحكمة الناهية عما هم عليه فقال : { وأنتم تتلون الكتاب } من التلاوة ، وهو تتبع قول قائل أول من جهة أوليته - قاله الحرالي . وهذه الجملة الحالية أعظم منبّه على أن من حكم التوراة اتباعه صلى الله عليه وسلم ، ومشير إلى أن المعصية من العالم أقبح . قال الحرالي : فيه إشعار بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في منطوق تلاوته ليس في خفي إفهامه ، فكان في ذلك خروج عن حكم نور العقل - انتهى .
ولما كان هذا في كتابهم وهم به يأمرون وعنه معرضون سبب سبحانه عنه الإنكار في قوله : { أفلا } أي أتتلونه فلا { تعقلون } إشارة إلى أن ما هم عليه من هذا لا يفعله ذو مسكة ، والعقل إدراك حقائق ما نال الحس ظاهره - قاله الحرالي . سمي عقلاً لأنه يعقل عن التورّط في الهلكة .
ولما أنكر عليهم اتباع الهوى أرشدهم إلى دوائه بأعظم أخلاق النفس وأجل أعمال البدن فقال عاطفاً على ما مضى من الأوامر . وقال الحرالي : فكأنهم إنما حملهم على مخالفة حكم العقل ما تعودت به أنفسهم من الرياسة والتقدم فلِما في ذلك عليهم من المشقة أن يصيروا أتباعاً للعرب بعد ما كانوا يرون أن جميع الأرض تبع لهم نسق بخطابهم في ذلك الأمر بالاستعانة بالصبر الذي يُكره أنفسهم على أن تصير تابعة بعد أن كانت متبوعة فقال تعالى - انتهى . { واستعينوا } أي على إظهار الحق والانقياد له وهو معنى ما مضى من الأوامر والنواهي { بالصبر } أي على مخالفة الهوى ، والصبر حبس النفس عن حاجتها وعادتها وعلى إصلاحها وتزكيتها ، هو ضياء للقلوب تبصر به ما يخفيه عنها الجزع من الخروج عن العادة فيما تنزع إليه الأنفس - قاله الحرالي . وهو عام في كل صبر الصوم وغيره ، { والصلاة } أي الموصلة إلى المقام الأعلى ، وفيه التفات إلى { وإياك نستعين } [ الفاتحة : 5 ] وإشارة إلى أن من لم تنهه صلاته عن ركوب الباطل والتمادي فيه وتأمره بلزوم الحق والرجوع إليه فليس بمصلٍّ ، فكأن المراد بالصبر تخليص النفس من أشراك الهوى وقسرها على الإخلاص ، فمن صلى على هذه الصفة كان لا محالة من الناجين؛ وثنى بالصلاة لأنها استرزاق يغنيهم عن اشتراء ثمن كانوا يأخذونه من أتباعهم في اللبس والكتمان
{ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقاً نحن نرزقك } [ طه : 132 ] قال الحرالي . ويصح أن يراد بها الدعاء ، فمن صبر عن الدنايا وعلى المكاره وأنهى صبره إلى الصوم فأزال عنه كدورات حب الدنيا وأضاف إلى ذلك الصلاة استنار قلبه بأنواع المعارف ، فإذا ضم إلى ذلك الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى بلغ نهاية البر .
ولما أمر ونهى بما ختمه بالصلاة حث على التفاؤل لعظمته سبحانه بتخصيصها بالضمير فقال : { وإنها لكبيرة } أي ثقيلة جداً ، والكبير ما جل قدره أو مقداره في حس ظاهر أو في معنى باطن - قاله الحرالي . { إلا على الخاشعين } أي المخبتين الذين هم في غاية السهولة واللين والتواضع لربهم بحيث لا يكون عندهم شيء من كبر وينظرون عواقب الأمر وما أعد عليها من الأجر ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : « وجعلت قرة عيني في الصلاة » وغيرهم يمنعهم ثقلها من فعلها ، وإن فعلها فعلى غير رغبة . قال الحرالي : وهو أي الخشوع هدوّ الجوارح والخواطر فيما هو الأهم في الوقت ، وأنبأ تعالى بكبر قدر الصلاة عن أن يتناول عملها إلا خاشع خرج عن حظ نفسه وألزم نفسه ذل العبودية التي ختمت بها النبوة ، وفي إشارة كمال الصلاة إشعار بصلاة العصر التي هي صلاة النبي الخاتم الذي زمنه وقت العصر وحالة العبودية ، وذلك مما يكبر على من قرن بنبوته وبملته الملك إلا أن يخشع لما يكبر على النفس ، وخصت الصلاة بالكبر دون الصبر لأن الصبر صغار للنفس والصلاة وجهة للحق والله هو العلي الكبير - انتهى . { الذين يظنون } من الظن وهو رجحان في اعتقاد مع بقاء منازع من مقابله - قاله الحرالي . { أنهم ملاقوا ربهم } أي المحسن إليهم ، وعبر بالظن عن العلم تهويلاً للأمر وتنبيهاً على أنه يكفي العاقل في الحث على ملازمة الطاعة في ظن لقاء الملك المطاع المرجو المخوف فكيف والأمر متيقن لا مِراء فيه ولا تطرّق للريب إليه! ويجوز أن يراد ظن الموت في كل لحظة ، فإنه إذا كان على ذكر من الإنسان أوجب له السعادة .
ولما كانت هذه الجملة مشيرة مع الترهيب لذوي الهمم العلية والأنفة والحمية من الوقوع فيما يلم بعيب أو يوقع في عتب إلى الاستحياء من المحسن الذي ما قطع إحسانه ساعة من الدهر زاد في الترهيب بقوله : { وأنهم إليه } أي وحده { راجعون } ، والرجوع معاد الذاهب على مدارج مذهبه وترقيه على معارج مهبطه - قاله الحرالي .
وعبر بذلك وإن كانوا لم يزالوا في قبضته ، لأن اسمه الظاهر سبحانه يكون في تلك الدار لانقطاع الأسباب في غاية الظهور لا يكون لأحد معه نوع ظهور أصلاً ، لا كهذه الدار التي الغالب فيها معنى اسمه الباطن إلا عند أولي البصائر؛ وفي الآية تبكيت لأهل الكتاب بأنهم مع تحققهم للبعث يملون عمل من لا يظنه فضلاً عن أنه يعلمه . وقال الحرالي : ولما كان في الصلاة مناجاة لله على الغيب كانت إنما تتيسر على من يظن القبول الذي يشعر به اللقاء لربه بعد موته وذلك حال من رجحت الآخرة على الدنيا في عمله وحاله ، فكان حاله وعمله حال الظان إبقاء على أحوال من دون رتبة اليقين ، ومقصود اللقاء ليس البعث لأنهم هم من المؤمنين بالبعث ولكنه من معنى القبول بعد البعث ، وفيه إشارة إلى حال الموت ويوم البرزخ وهو الجزاء الأول فعطف على المرجع الآخر بعد البعث - انتهى .
ولما كان الغالب على أكثر الناس الجمود كرر النداء لهم مبالغة في اللطف بهم إثر الترجية والتخويف فقال : { يا بني إسرائيل } أي الذي أكرمته وأكرمت ذريته من بعده بأنواع الكرامة { اذكروا نعمتي } وفخم أمرها بقوله : { التي أنعمت عليكم } أي بإنزال الكتب وإرسال الرسل وغير ذلك { وإني فضلتكم } والتفضيل الزيادة من خطوة جانب القرب والرفعة فيما يقبل الزيادة والنقصان منه - قاله الحرالي . { على العالمين } وهم من كان قد برز الوجود في ذلك الزمان بالتخصيص بذلك دونهم ، ولا يدخل في هذا من لم يكن برز إلى الوجود في ذلك الزمان كما يأتي تحقيقه عن الحرالي قريباً ومما يوجب القطع به قوله تعالى لنا : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] .
ولما ذكرهم بتخصيصهم بالكرامة ونهاهم عن المخالفة وكانت المخالفة مع عظيم النعمة أقبح وأشد وأفحش حذّرهم يوماً لا ينجي أحداً فيه إلا تقواه فقال . وقال الحرالي : لما دعاهم إلى الوفاء بالعهد تنبيهاً لهمة من له فضل باطن يرجع إلى فضائل النفس فأجاب من وفق وتمادى على حاله من خذل ثنى الخطاب لهم بالتنبيه على النعمة الظاهرة ليتنبه لذلك من يخاف تغيير النعمة الظاهرة حين لم يخف السقوط عن رتبة الفضيلة في الخطاب فذكرهم بالنعمة والتفضيل الذي فضلهم به على العالمين وهم من ظهرت أعلام وجودهم في زمانهم ، وكذلك كل تفضيل يقع في القرآن والسنة ، وإنما العالم من شمله الوجود لا ما أحاط به العلم بعد ، لأن ذلك لم يرفع في الشهود علم وجوده؛ وفيه إشعار بأنهم كما فضلوهم على عالمي زمانهم فليس ذلك بمقصور عليهم بل كذلك يفضل الله العرب في زمان نبوتها على بني إسرائيل وعلى جميع الموجودين في زمانهم ، وحيث انتهى الخطاب إلى تذكر ظاهر النعمة بعد التذكير بباطن الفضيلة لم يبق وراء ذلك إلا التهديد بوعيد الآخرة عطفاً على تهديد تقتضيه الأفهام بتغيير ما بقي عليهم من النعمة في الدنيا؛ فكان مفهوم الخطاب : فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصاب المؤاخذين في الدنيا - انتهى { واتقوا } .
ولما كان المتقى إنما هو الجزاء الواقع في يوم القيامة حذفه وأقام اليوم مقامه تفخيماً له وتنبيهاً على أن عقابه لا يدفع كما يدفع ما في غيره بأنواع الحيل فقال : { يوماً } هو من العظمة بحيث { لا تجزي } أي تفضي وتغني فيه { نفس } أي نفس كانت { عن نفس } كذلك { شيئاً } من الجزاء .
قال الحرالي : والنفس لكل امرىء لزمته نفاسة على غيره ، فهؤلاء الذين لا يغني بعضهم عن بعض بخلاف من آثر غيره وذهبت نفاسة نفسه ، فإنه يغني عمن دونه بالشفاعة والإحسان في الدنيا والآخرة ، وفيه إعلام بأن ضعة النفس مبدأ التوفيق ونفاستها مبدأ الخذلان { أذلة على المؤمنين } [ المائدة : 54 ] فذل العبد - بالضم - لله ، وذِله - بالكسر - لعباد الله بشرى فوزه ، وإعراضه عن ذكر الله وصعر خده للناس نذارة هلاكه - انتهى .
ولما كان الإجزاء قد يكون بنفس كون المجزىء موجوداً وهو بحيث يخشى أن يسعى في الفكاك بنوع حيلة فتحرك القلوب لإجابته وفك أسيره فيحمل ذلك من أسره على إطلاقه ، وقد يحتال بالفعل في التوصل إلى فكه في خفية بسرقته أو فتح سجنه أو نحو ذلك ، وكانت وجوه الإجزاء المشهورة ثلاثة عطفها على الإجزاء الأعم منها فقال : { ولا يقبل منها } أي النفس الأولى أو الثانية { شفاعة } أي لم يؤذن فيها وهي من الشفع وهو إرفاد الطالب بتثنية الرغبة له فيما رغب فيه ليصير كالإمام له في وجهة حاجته - قاله الحرالي { ولا يؤخذ منها عدل } تبذله غير الأعمال الصالحة ، وهو ما يعدل الشيء ويكون معه كالعدلين المتكافئي القدر على الحمولة ، فكأنّ العدل - بالكسر - في الشيء المحسوس ، والعدل - بالفتح - في الشيء المعقول ، وكذلك عادة العرب تفرق بين ما في الحس وما في المعنى بعلامة إعراب في ذات نفس الكلمة لا في آخرها - قاله الحرالي .
ولما كان عدم النصرة للجمع يستلزم عدمها للمفرد بطريق الأولى جمع فقال : { ولا هم ينصرون* } أي يتجدد لهم نصر يوماً ما بمن ينقذهم قهراً كائناً من كان ، والنصر تأييد المقاوم في الأمر بما هو أقوى من مقاومة وهما طرفان ليصير كالمتقدم له بحكم استقلاله فيما يتوقع عجز المنصور فيه - قاله الحرالي . فانتفى بذلك جميع وجوه الخلاص التي يطمع فيها الظالم في الدنيا .
قال الحرالي : ولما كانت أسباب النجاة للمرء بأحد ثلاث : إما شفاعة من فوقه في العلم والفضل ، وإما نصرة من فوقه في الأيد والقوة ، وإما فكاك من يده لنفسه إذ من هو مثله لا يغني وأحرى من هو دونه ، استوفى الخطاب جميع الوجوه الثلاثة ليسد على ذي النفس المستمسك بنفاسته جميع الوجوه الثلاثة من الشفاعة والفدية والنصرة - انتهى .
ولما تقدم أنه فضلهم وعاهدهم وأن وفاءه بعهدهم مشروط بوفائهم بعهده ناسب تقديم الشفاعة ويأتي إن شاء الله تعالى في الآية الثانية ما يتم به البيان ، ولما وصف ذلك اليوم بأنه لا ينفع فيه حيلة لذي ملكة المتردي بالكبرياء المتجلل بالعظمة ذكرهم بما أنعم عليهم من إنجائه لهم بموسى وهارون عليهما السلام حيث شفعا عند الملك الذي كان استعبدهم وسامهم سوء العذاب ، فلما لم يشفّعهما فيهم قاهراه فانتصرا عليه بأيد مليكهم واستنقذاهم منه بسطوة معبودهم . وقال الحرالي : ولما استوفى خطاب النداء لهم وجهي التذكير بأصل فضيلة النفس الباطنة بالوفاء وغرض النفس الظاهر في النعمة والرئاسة جاء ما بعد ذلك من تفاصيل النعم عطفاً من غير تجديد نداء إلى منتهى خاتمة الخطاب معهم حيث ثنى لهم الخطاب الأدنى بالتذكير بالنعمة ختماً لمتسق خطابه بما تضمنه تذكيرهم بتكرار قوله : وإذ وإذ ، واحدة بعد أخرى إلى جملة منها ، ولما ذكرهم بالنعمة الظاهرة فانتبه من تداركته الهداية وتمادى من استحق العقوبة ذكر أهل الاستحقاق بما عوقبوا به بما يستلزمه معنى النجاة وبما فسره مما أخذوا به على ذنوب تشاكل ما هم عليه في معاندتهم القرآن ، فحين لم ينفع فيهم التذكيران بالعهد والنعمة هددوا بتقريرهم على مواقع ما أصيبوا به من البلاء من عدوهم لما اقترفوه من ذنوبهم { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً } [ غافر : 34 ] فكان في تكذيبهم بالرسالة الأولى وشكهم ما أصابهم من العقوبة من آل فرعون حتى أنقذهم الله بموسى عليه السلام فقال تعالى : { وإذ } أي واذكروا إذ { نجيناكم } وهو من التنجية وهي تكرار النجاة ، والنجاة معناه رفع على النجوة وهو المرتفع من الأرض الذي هو مخلص مما ينال من الوهاد وخبث الأرض من هلاك بسيل ماء ونحوه { من آل } آل الرجل من تبدو فيهم أحواله وأعماله وأفعاله حتى كأنهم هو في غيبه من معنى الآل الذي هو السراب الذي يظهر فيه ما بعد ويتراءى ما لم يكن يرى لولاه ، { فرعون } اسم ملك مصر في الجاهلية ، علم جنس لملوكها بمنزلة أسماء الأجناس في الحيوان وغيره - انتهى . والمراد بالآل فرعون وأتباعه فإن الآل يطلق على الشخص نفسه وعلى أهله وأتباعه وأوليائه - قاله في القاموس ، قال : ولا يستعمل إلاّ فيما فيه شرف غالباً ثم بين ما أنجاهم منه بقوله : { يسومونكم سوء العذاب } سماه بذلك لأنه أشد البلاء على النفس لما فيه من استحقارها ، من السوم وهو تعذيب بتهاون بالمعذب ، والسوم ما يشتد ، تنكر النفس له وتكرهها ، ثم فسر هذا بقوله { يذبحون } من التذبيح وهو تكرار الذبح ، والذبح قطع بالغ في العنق - قاله الحرالي .
ولما كان كل من ذبح الابن وحياة المرأة بغير رجل أفحش وكانت البنت إذا بقيت صارت امرأة عبر بالأبناء والنساء فقال { أبناءكم } أي سوقاً لكم مساق البهائم { ويستحيون } قال الحرالي : من الاستحياء وهو استبقاء الحياة { نساءكم } من معنى الاتخاذ للتأهل الملابس في معنى ما جرى منه اشتقاق الإنس والإنسان والنسوة باشتراكها في أحد الحروف الثلاثة من الهمزة أو الواو أو الياء مع اجتماعها في النون والسين - انتهى . ثم نبههم على ما فيه من العظم بقوله { وفي ذلكم } فأشار بأداة البعد مقرونة بالميم { بلاء } أي اختبار { من ربكم } أي المحسن إليكم في حالي الشدة والرخاء { عظيم* } قال الحرالي : البلاء الاختبار هو إبداء خبرة الشيء بشدة ومحنة ، وفيه إشعار باستحقاقهم ذلك واستصلاحهم بشدته دون ما هو أيسر منه ، وذكره بالعظم لشياعه في الأجسام والأنفس والأرواح ، وذكر معنى النجاة ثم فصله تفصيلاً لكيفيته بعد ذلك تعداداً لنعمة النجاة التي هي تلو رحمة الإنعام التي هي تلو رفعة التقدم بالعهد ، فانتهى الخطاب نهايته في المعنى يعني فلما قررهم تعالى على ما اقترفوه قبل موسى عليه السلام حين أصابهم من آل فرعون ما أصابهم استجدّ لهم تذكيراً بنعمة نجاة من عقوبة متقدم أعمالهم - انتهى .
ولما كان ما فعل بهم في البحر إهلاكاً للرجال وإبقاء للنساء طبق ما فعلوا ببني إسرائيل عقبه به فقال { وإذ } أي واذكروا إذ { فرقنا } من الفرق وهو إفراج الواحد لحكمة إظهار التقابل - قاله الحرالي . فصارت لكم مسالك على عدد أسباطكم { بكم } أي بسببكم عقب إخراجنا لكم من أسر القبط { البحر } قال الحرالي : هو المتسع الرحب البراح مما هو ظاهر كالماء ، ومما هو باطن كالعلم الذي منه الحبر ، تشاركا بحروف الاشتقاق في المعنى . { فأنجيناكم } من الإنجاء وهو الإسراع في الرفعة عن الهلاك إلى نجوة الفوز - انتهى . ومن عجائب ذلك أنه كما كان الإنجاء منه كان به . قال الحرالي : وجعل البحر مفروقاً بهم كأنهم سبب فرقة ، فكأن نجاتهم هي السبب وضرب موسى عليه السلام بالعصاة هي الأمارة والعلامة التي انفلق البحر عندها بسببهم ، وجعل النجاة من بلاء فرعون تنجية لما كان على تدريج ، وجعل النجاة من البحر إنجاء لما كان وحياً في سرعة وقت - انتهى . { وأغرقنا آل فرعون } فيه وبه { وأنتم تنظرون } إسراعه إليهم في انطباقه عليهم ، وهذا مثل ما خاض العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه البحر الملح في ناحية البحرين أو انحسر له على اختلاف الروايتين ، ومثل ما قطع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الدجلة في وقائع الفُرس عوماً بالخيول بجميع عساكره وكانوا زيادة على ثلاثين ألفاً لم يُفقد منهم أحد ، وكان الفرس إذا تعب وثب فصار واقفاً على ظهر الماء كأنه على صخر ، فإذا استراح عام .
قال الحرالي : { وأغرقنا } من الغرق وهو البلاغ في الشيء إلى غايته بحسبه ، فإن كان في الهلاك فهو غاية وظهر معناه في الماء والبحر لبُعد قعره ، وهو في الماء بمنزلة الخسف في الأرض ، والنظر التحديق للصورة من غير تحقق ولا بصر - انتهى . فذكرهم سبحانه بنعمة الإنجاء منه بالرحيل عنه أولاً ، ثم بإغراقه الذي هو أكبر من ذلك ثانياً بما كان بعينه سبب سلامتهم واستمر يذكرهم بما تابع لهم من النعم حيث كانوا يستحقون النقم . قال الحرالي : وقررهم على نظرهم إليهم ، وفيه إشعار بفقد بصرهم لضعف بصائرهم من حيث لم يقل : وأنتم تبصرون ، ولذلك عادوا بعدها إلى أمثال ما كانوا فيه من الشك والإباء على أنبيائهم بعد ذلك - انتهى .
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
ولما كان فرق البحر للإبقاء البدني وكان إنزال الكتاب للإبقاء الديني عقبه به وكان الطبع السليم والمزاج المستقيم يقتضي إحسان العمل زمن المواعدة واستعطاف المواعد والترفق له والتملق بما تحقق الرجاء في إنجاز وعده لا سيما بعد بليغ إحسانه بالإنجاء من العدو وإهلاكه نعى عليهم عملهم بخلاف ذلك بقوله : { وإذ } . وقال الحرالي : لما ذكّرهم تعالى بأمر الوفاء بالعهد الذي هو خاتمة أمرهم وبالتفصيل الذي كان بادية أمرهم نظم ذلك بالأمر المتوسط بين الطرفين الذي أعلاه مواعدة موسى عليه السلام ربه الذي النعمة عليه نعمة عليهم فقال : وإذ { واعدنا } من الوعد وهو الترجية بالخير ، ووعدنا من المواعدة وهي التقدم في اللقاء والاجتماع والمفاوضة ونحوه { موسى } كلمة معربة من لفظ العبراني بما تفسيره فيما يقال ماء وشجر ، سمي به لما أودع فيه من التابوت المقذوف في اليم { أربعين ليلة } هي كمال وقت الليل والليل وقت انطماس المدركات الظاهرة - انتهى . وخص الليل بالذكر إشارة إلى أن ألذ المناجاة فيه وإلى أنه لا نوم في تلك المدة بل المناجاة عامة لليلها ونهارها ، وانتصب أربعين بوقوعه موقع المفعول الثاني لوعدنا أي انقضاء أربعين أي الكلام أو إنزال التوراة عند انقضاء الأربعين وهي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة وقيل ذو الحجة وعشر من المحرم . قال الحرالي : وفيه إشعار بأن المناجاة إنما يتهيأ لها لميقات حبس النفس عما به قوامها وكمال ذلك إنما هو الصوم وكمال العدد الذي هو طور مصير من حال إلى حال هو الأربعون ، وذكر الميقات بالليالي يشعر أن مناجاته صباح من ظلمة الكون في حال خصوص الخلقة من حيث إن الظلمة آية على فوت مرام نور الحق والنهار آية على ظهور نور الحق وأول بادٍ بدأ من الحق للخلق كلامه لمصطفى من خلقه بغير واسطة وهو بعد في دنياه وفي أرضه التي كانت سجناً ، فلما جاءها الحق لعبد من عبيده مناجياً له كما يأتيها يوم الجزاء بعد البعث صارت موطن رحمة وهدى ونور وهو مجيء الله سبحانه من سيناء المذكور في الكتاب الأول - انتهى . وهذا دون قصة المعراج التي كانت لنبينا صلى الله عليه وسلم في اختراق السماوات العلى إلى سدرة المنتهى إلى ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى وسمع الكلام من غير واسطة ورجع إلى بيته في ليلته وقد قطع من المسافات ما مسيرته خمسون ألف سنة كما سأبينه إن شاء الله تعالى في سورة السجدة .
ولما كانت الأنفس الأبيّة والهمم العلية تقتضي النفرة من الظالم والأنفة من كل ما ينسب إليه ويذكّر به وكانوا قد اتخذوا من آثار آل فرعون من حليهم ما دخلوا في رقه وعبوديته وكانت مشاهدتهم لما رأوا من الآيات مقتضية لغاية البعد من الكفر عبر عن مواقعتهم له بثم فقال : { ثم اتخذتم } قال الحرالي : من الاتخاذ وهو افتعال مما منه المواخذة كأنه الوخذ ، وهو تصيير في المعنى نحو الأخذ في الحس ، وفيه تكلف ، { العجل } وذكر في هذا التقرير أصل المواعدة وذكر الميقات وتجاوز الخطاب ما بعد ذلك من مهل حسب ما تفهمه كلمة ثم ، فاقتضى إفهام ذلك ما نالوه من الخير ثم تعقبوا ذلك بالتزام عادتهم في معاودة ما اعتادوه من أعمالهم إلى أدنى عمل من لا عقل له ولا بقية نظر له من اتخاذ جسد عجل إلهاً بعد معرفة آثار الإلهية على الغيب ، ففيه تعجيب من أن موسى عليه السلام إنما واعده الله بالمناجاة بعد ميقات أربعين صوماً ونسكاً وتحنثاً وانقطاعاً إلى ربّه ثم يرونهم أنهم شهدوا الإله مصوراً محسوساً على أن موسى الذي ناجاه ربّه منع الرؤية فكيف بهم وذلك هو ظلمهم ، فوضعوا الإله محل الشيء المحسوس وهو تعالى قد تعالى عن أن يراه صفيه الذي ناجاه في دنياه وإنما ناجاه بعد ميقاته ، وهم يهمون في تألّه مرئي من غير مواعدة ولا اختصاص! وفي قوله تعالى { من بعده } أي من بعد إتيانه لميعادنا إضمار لذكر موسى عليه السلام تقريراً لما كان ينبغي أن يكونوا عليه من الارتقاب لما يأتيهم به موسى من فوائد المناجاة ، كما يكون من تعلق قلبه بمن هو قدوته ، والبعد بعد عن حد يتخذ مبدأ ليكون سابقه قبل ولاحقه بعد - انتهى .
واثبات الجار لأن اتخاذهم ذلك لم يستغرق زمان البعد { وأنتم ظالمون } فاعلون فعل من هو في أظلم الظلام بعد أنجاءكم موسى بالنور المبين .
ولما كان ذلك مقتضياً لأعظم السخط المقتضي من القادر للمعاجلة بالأخذ ذكرهم نعمة الإمهال بعده فقال مشيراً إلى عظم الذنب والنعمة بأداة التراخي : { ثم عفونا } . وقال الحرالي : ثم تجاوز الخطاب ما أصابهم من العقوبة على اتخاذهم إلى ذكر العفو تقريراً على تكرر تلافيهم حالاً بعد حال وقتاً بعد وقت ، كلما أحدثوا خطيئة تداركهم منه عفو ، وخصه باسم العفو لما ذكر ذنوبهم ، لأن المغفور له لا يذكر ذنبه ، فإن العفو رفع العقوبة دون رفع ذكرها ، والغفر إماتة ذكر الذنب مع رفع العقوبة - انتهى . { عنكم } ولم نعاجلكم بالأخذ ، وفي قوله تعالى { من بعد ذلك } أي الذنب العظيم إشعار بما أصابهم من العقوبة وخطاب لبقية المعفو عنهم ، لينتهي الأمر فيهم إلى غاية يترجّى معها لبقيتهم الشكر - قاله الحرالي . وكان الإشعار من جهة أدخال من ، على الظرفية ، فاقتضى مهلة بين العفو والذنب لم يشملها العفو بل كان فيها عقوبة ، كما اقتضى قوله : من بعده ، مهلة بين اتخاذهم العجل وأول ذهاب موسى عليه السلام للمناجاة؛ ويجوز أن يكون أفرد حرف الخطاب إشارة إلى أنه لا يعلم جميع ما في دينهم من الشناعة إلا إمام أهل التوحيد النبي صلى الله عليه وسلم { لعلكم تشكرون * } أي ليكون حالكم حال من يتوقع منه الشكر .
قال الحرالي : وهو ظهور بركة الباطن على الظاهر ، يقال : دابة شكور ، إذا أنجح مأكلها بظهور سمنها؛ وفيه إشعار بأن منهم من يشكر وفيهم من يتمادى بما في ترجي كلمة لعل ، من الإبهام المشعر بالقسمين والمهيىء لإمكان ظهور الفريقين حتى يظهر ذلك لميقاته ، لأن كل ما كان في حق الخلق تردداً فهو من الله سبحانه إبهام لمعلومه فيهم؛ على ذلك تجري كلمة لعل وعسى ونحوها - انتهى .
ولما كان في ذلك دليل على سوء طباعهم وعكس مزاجهم وأنهم لا يحفظون عهداً ولا يستقيمون على نهج ذكرهم بنعمة الكتاب الذي من شأنه الضبط في جميع الأحوال بالرجوع إليه عند الضلال فقال : وقال الحرالي : لما ذكر تعالى أمر موسى عليه السلام وهو خاص أمرهم فصل لهم أمر ما جاء به موسى وما كان منهم فميا جاء به - انتهى . فقال { وإذ اتينا } أي بما لنا من العظمة { موسى الكتاب } أي الكامل في نفسه الجامع لكم على طريق الحق . ولما كان الكتاب مع كونه جامعاً لما أريد منه فارقاً بين الملبسات وصفه بقوله { والفرقان } أي المبين للأشياء على ما هي عليه من غير أن يدع في شيء لبساً . قال الحرالي : فقررهم على أمرين من الكتاب الذي فيه أحكام الأعمال والفرقان الذي فيه أمر العلم وهما مِلاك حال إقامة الدين بالعلم والعمل؛ والفرقان ، فُعلان لفظ مبالغة يفهم استغراقاً وامتلاء وعظماً فيما استعمل فيه وهو في هذا اللفظ من الفرق وهو إظهار ما ألبسته الحكمة الظاهرة للأعين بالتبيان لفرقان لبسه بما تسمعه الأذن ، وجاء فيه بكلمة لعل ، إشعاراً بالإبهام في أمرهم وتفرقتهم بين مثبت لحكم الكتاب عامل به عالم بطية الفرقان خبير به وبين تارك لحكم الكتاب غافل عن علم الفرقان - انتهى . فقال تعالى { لعلكم تهتدون * } أي ليكون حالكم حال من ترجى هدايته فيغلب حلمه جهله وعقله شهوته ، ولهذا الختم تلاه بما هداهم به بما ألزمهم من النقمة الزاجرة عن مثل ذلك من قتل الأنفس فقال : { وإذ } .
قال الحرالي : لما تكمل إقبال الخطاب عليهم مرات بما تقدم من ندائهم والعطف على ما في صلته صرف الحق وجه الخطاب عنهم إلى ذكر خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم لهم ، فإن الله يخاطب العباد بإسقاط الواسطة بينه وبينهم ترفيعاً لأقدارهم لديه ، فيرفع من شاء فيجيبه بما شاء ، ويوقف من شاء فيجعل بينه وبينه في الخطاب واسطة من نبيه ، فلما قررهم بما مضى من التذكير على ما واجههم به الحق تعالى ذكر في هذه الآية تقريرهم على ما خاطبهم به نبيهم حين أعرض الحق عن خطابهم بما أصابوه من قبيح خطيئتهم - انتهى .
فقال { وإذ قال موسى لقومه } العابد للعجل والساكت عنه ، والقوم قال الحرالي اسم من لهم منة في القيام بما هم مذكورون به ، ولذلك يقابل بلفظ النساء لضعفهن فيما يحاولنه؛ وفيه تخويف لهذه الأمة أن يصيبهم مثل ما أصابهم في خطاب ربهم فيعرض عنهم - انتهى . { يا قوم } وأكد لعراقتهم في الجهل بعظيم ما ارتكبوه وتهاونهم به لما أشربوا في قلوبهم من الهوى فقال { إنكم ظلمتم أنفسكم } ظلماً تستحقون به العقوبة { باتخاذكم العجل } أي الهاً من دون الله ، فجعلتم أنفسكم متذللة لمن لا يملك لها شيئاً ولمن هي أشرف منه ، فأنزلتموها من رتبة عزها بخضوعها لمولاها الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه إلى ذلها بخضوعها لمن هو دونكم أنتم ، هذا هو أسوأ الظلم ، فإن المرء لا يصلح أن يتذلل ويتعبد لمثله فكيف لمن دونه من حيوان! فكيف بما يشبه بالحيوان من جماد الذهب الذي هو من المعادن وهو أخفض المواليد رتبة حين لم تبلغها حياتها أن تبدو فوق الأرض كالنبات من النجم والشجر ولما فيه من الانتفاع بما يكون من الحب والثمر الذي يُنتفع به غذاء ودواء والمعادن لا ينتفع بها إلا آلات ونقوداً منفعتها إخراجها لا إثباتها - قاله الحرالي : { فتوبوا إلى بارئكم } الذي فطركم من قبل أن تتخذوا العجل بريئين من العيب مع إحكام الخلق على الأشكال المختلفة . وقال الحرالي : البارىء اسم قائم بمعنى البرء وهو إصلاح المواد للتصوير ، كالذي يقطع الجلد والثوب ليجعله خفاً وقميصاً ، وكالذي يطحن القمح ويعجن الطين ليجعله خبزاً وفخاراً و - نحو ذلك ، ومعناه التدقيق للشيء بحسب التهيؤ لصورته - انتهى .
ولما كانت توبتهم بقتل أقاربهم وإن كانوا آباء أو أبناء عبر عنهم بالنفس لذلك وإشارة إلى خبث ما ارتكبوا فقال { فاقتلوا أنفسكم } أي التي أوجدها فقادتكم إلى غيره . قال الحرالي : والقتل قصل الحيوان قبل انتهاء قوته بمنزلة قصل الزرع قبل استحصاده - انتهى . ولما كان ما أمرهم به أمراً لا يكاد يسمح به عظّم الرغبة فيه بقوله { ذلكم } أي الأمر العظيم وهو القتل { خير لكم } والخير قال الحرالي ما يصلح في الاختيار من محسوس الأشياء وما هو الأصلح وما هو الأخير ، وربما استعملت منه خيرٌ محذوفة فيقال : هو خير في نفسه ، أي مما يختار ، ويقال : هذا خير من هذا ، أي أخير منه أي أصلح في الاختيار ، وكذلك لفظ شر في مقابله وهما مشعران بمتوسط من الأشياء لا يختار لأجل زيادة صلاح ولا يطرح لأجل أذى ولا مضرة { عند } كلمة تفهم اختصاص ما أضيفت إليه بوجه مّا عام وأخص منه لدن ، فلدن خاصتها وعند عامتها ، كالذي يملك الشيء فهو عنده وإن لم يكن في حضرته - انتهى .
{ بارئكم } أي القادر على إعدامكم كما قدر على إيجادكم ، وفي التعبير بالبارىء ترغيب لهم في طاعته بالتذكير بالإحسان وترهيب بإيقاع الهوان .
ولما كان التقدير ففعلتم التوبة المأمور بها بأن قتل بعضكم بعضاً بتوفيقه لكم سبحانه مع ما فيه من عظم المشقة عطف عليه قوله { فتاب عليكم } أي مع عظم جرمكم ، ولولا توبته عليكم ما تبتم؛ ثم علل ذلك بقوله { إنه } أي لأنه { هو التواب الرحيم } أي ما زال هذا صفة له لا لاستحقاق منكم عليه قال الحرالي : وفي إظهار هو مفصولة من ضمير وصلها إثبات معنى الرحمة لله ثبتاً لا يتبدل ولا يتغير إلا أنه من وراء غيب ما شاء الله من أدب وامتحان وعقاب ، فلذلك ختمه باسمه الرحيم ، لأن الختم أبدى إظهار للمعنى الأخفى من مضمون ما فيه الختم - انتهى .
ولما استتيبوا عن عبادة العجل التي تقيدوا فيها بالمحسوس الذي هو مثل في الغباوة طلبوا رؤية بارئهم بالحس على ما له من صفات الكمال التي تأبى الابتذال ناسين لجميع النعم والنقم مسرعين في الكفر الذي هو من شأن الحائر والحال أن الفرقان الذي لا يدع شبهة ولا يبقى حيرة قائم بين أيديهم ، لأنهم من الجمود والوقوف مع الوهم والحس بمكان عظيم ، فذكرهم سبحانه ذلك مسلياً للنبي صلى الله عليه وسلم في إبائهم للإيمان به بما فعلوا مع موسى عليه السلام وهو أحدهم فقال { وإذ قلتم } أي بعد ما رأيتم من الآيات وشاهدتم من الأمور البينات { يا موسى } فدعوتموه باسمه جفاء وغلظة كما يدعو بعضكم بعضاً ولم تخصوه بما يدل على تعظيمه لما رأيتم من إكرام الله له وإكرامكم على يده { لن } وهي كلمة تفهم نفي معنى باطن كأنها لا أن ، يُسِّر بالتخفيف لفظها - قاله الحرالي . { نؤمن لك } أي لأجل قولك . قال الحرالي : وجاء باللام لأنهم قد كانوا آمنوا به فتوقفوا عن الإيمان له الذي يتعلق بأمور من تفاصيل ما يأتيهم به ، فمن آمن لأحد فقد آمن بأمور لأجله ، ومن آمن به فقد قَبِل أصل رسالته { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } [ التوبة : 61 ] { حتى } كلمة تفهم غاية محوطة يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها مقابل معنى لكي { نرى } من الرؤية وهي اطلاع على باطن الشيء الذي أظهر منه مبصره الذي أظهره منه منظره ، ومنه يقال في مطلع المنام : رؤيا ، لأن ذوات المرئي في المنام هي أمثال باطنه في صورة المنظور إليه في اليقظة - انتهى . { الله } أي مع ما له من العظمة { جهرة } أي عياناً من غير خفاء ولا نوع لبس . قال الحرالي : من الجهر وهو الإعلان بالشيء إلى حد الشهرة وبلاغه لمن لا يقصد في مقابلة السر المختص بمن يقصد به ، وهذا المطلوب مما لا يليق بالجهر لتحقيق اختصاصه بمن يكشف له الحجاب من خاصة من يجوّزه القرب من خاصة من يقبل عليه النداء من خاصة من يقع عنه الإعراض ، فكيف أن يطلب ذلك جهراً حتى يناله من هو في محل البعد والطرد! وفيه شهادة بتبلدهم عن موقع الرؤية ، فإن موسى عليه السلام قال
{ رب أرني } [ الأعراف : 143 ] وقال تعالى { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * } [ القيامة : 22-23 ] وقال عليه الصلاة والسلام : « إنكم ترون ربكم » فالاسم المذكور لمعنى الرؤية إنما هو الرب لما في اسم الله تعالى من الغيب الذي لا يذكر لأجله إلا مع ما هو فوت لا مع ما هو في المعنى نيل ، وذلك لسر من أسرار العلم بمواقع معاني الأسماء الحسنى فيما يناسبها من ضروب الخطاب والأحوال والأعمال ، وهو من أشرف العلم الذي يفهم به خطاب القرآن حتى يضاف لكل اسم ما هو أعلق في معناه وأولى به وإن كانت الأسماء كلها ترجع معاني بعضها لبعض ، { فأخذتكم } من الأخذ وهو تناول الشيء بجملته بنوع بطش وقوة - انتهى . أي لقولكم هذا لما فيه من الفظاعة وانتهاك الحرمة ، { الصاعقة } قيل : هي صيحة ، وقيل : نار نزلت من السماء فأحرقتهم ، ويؤيده قوله { وأنتم تنظرون * } أي تلك الصاعقة فأماتتكم ، لأنكم كنتم في طلبكم رؤيته على ضرب من حال عبدة العجل ، فأماتكم كما أماتهم بالقتل .
ولما كان إحياؤهم من ذلك في الدار في غاية البعد وخرق العادة عبر عنه بأداة التراخي ومظهر العظمة فقال { ثم بعثناكم } أي بما لنا من العظمة بالإحياء . قال الحرالي : من البعث وهو الاستثارة من غيب وخفاء ، أشده البعث من القبور ، ودونه البعث من النوم؛ قال : وتجاوز الخطاب ما كان من سبب بعثهم ، وكذلك كل موضع يقع فيه ثم ، ففيه خطاب متجاوز مديد الأمد كثير رتب العدد مفهوم لمن استوفى مقاصد ما وقعت كلمة ثم ، بينه من الكلامين المتعاطفين؛ ففي معنى التجاوز من الخطاب سؤال موسى عليه السلام ربه في بعثهم حتى لا يكون ذلك فتنة على سائرهم - انتهى .
ولما كان ربما ظن أن البعث من غشى ونحوه حقق معناه مبيناً أنه لم يستغرق زمن البعد بقوله : { من بعد موتكم } أي هذا بتلك الصاعقة ، وقال دالاً على أن البعث إلى هذه الدار لا يقطع ما بنيت عليه من التكليف لأنها دار الأكدار فلا بد من تصفية الأسرار فيها بالأعمال والأذكار { لعلكم تشكرون } أي لتصير حالكم حال من يصح ترجي شكره لهذه النعمة العظيمة ، وكل ما جاء من لعل ، المعلل بها أفعال الرب تبارك وتعالى ينبغي أن تؤول بنحو هذا ، فإن لعل ، تقتضي الشك لأنها للطمع والإشفاق فيطمع في كون مدخولها ويشفق من أن لا يكون ، وتارة يكون الشك للمخاطب وتارة يكون للمتكلم ، ولو قيل : لتشكروا ، لم يكن هناك شك - قاله الرماني في سورة يوسف عليه السلام .
وقال الحرالي : وفي لعل ، إبهام معلومه فيهم بأن منهم من يشكر ومنهم من لا يشكر - انتهى . وسيأتي في سورة طه إن شاء الله تعالى عن نص سيبويه في كتابه ما يؤيد ما ذكرته .
وفي هذه الآية وما تقدمها من آية { واتقوا يوماً لا تجزي نفس } تنبيه للعرب من غفلتهم في إنكار البعث وإرشاد إلى سؤال ممن يغرّهم من أهل الكتاب بأنهم أولى بالحق من المسلمين عن هذه القصة التي وقعت لأسلافهم من إحيائهم بعد موتهم ، وكذا ما أتى في محاوراتهم من قصة البقرة ونحوها مما فيه ذكر الإحياء في هذه الدار أو في القيامة . قال الحرالي : وفيه أي هذا الخطاب آية على البعث الآخر الذي وعد به جنس بني آدم كلهم فجأة صعق وسرعة بعث ، فإن ما صح لأحدهم ولطائفة منهم أمكن عمومه في كافتهم - انتهى .
ولما ذكرت الصاعقة الناشئة غالباً من الغمام كان أنسب الأشياء إيلاءها ذكر تظليل الغمام وناسب التحذير من نقمة الإحراق بالصاعقة والتذكير بنعمة الإيجاد من الموت الإتباع بذكر التنعيم في الإبقاء بالصيانة عن حر الظاهر بالشمس والباطن بالجوع .
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
وقال الحرالي وعطف تعالى على ذكر البعث ذكر حال من مثل أحوال أهل الجنة الذي ينالونه بعد البعث ، فكأن عامتهم الذين لم يموتوا إنما شركوا هؤلاء المبعوثين لكونهم كأنهم ماتوا بموتهم وبعثوا ببعثهم ، فذكر ظل الغمام وهو من أمر ما بعد البعث والأرزاق بغير كلفة وهو من حال ما بعد البعث وأفهم ذلك أموراً أخر في أحوالهم كما يقال إن ملابسهم كانت تطول معهم كلما طالوا فكأنهم أخرجوا من أحوال أهل الدنيا بالجملة إلى شبه أحوال أهل الجنة في محل تيههم ومستحق منال العقوبة لهم كل ذلك إنعاماً عليهم ، ثم لم يزيدوا مع ذلك إلا بعداً عن التبصرة في كل ما أبدي لهم من العجائب - حدث عن بني إسرائيل ولا حرج فقال : { وظللنا } من الظلة وهو وقاية مما ينزل من سماء الموقي و { عليكم الغمام } من الغم وهو ما يغم النور أي يغطيه - انتهى . أي فعلنا ذلك لترفيه أجسامكم وترويح أرواحكم ، وعن مجاهد أن الغمام أبرد من السحاب وأرق وأصفى { وأنزلنا عليكم المن } قال الحرالي : هو ما جاء بغير كلفة ، الكمأة من المن - انتهى . { والسلوى } أي لطعامكم على أن المن من الغمام ، وحشر السلوى إليهم بالريح المثيرة له فنظمها به على غاية التناسب . قال الحرالي : والسلوى اسم صنف من الطير يقال هو السماني أو غيره - انتهى . وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف أنه غير السماني وأنهم خصوا به إيذاناً بقساوة قلوبهم .
وهذه الخارقة قد كان صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم غنيين عنها بما كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما احتاجوا دعا بما عندهم من فضلات الزاد فيدعو ، فيكثره الله حتى يكتفوا من عند آخرهم ، وأعطى أبا هريرة رضي الله عنه تمرات وأمره أن يجعلها في مزود وقال له : أنفق ولا تنثرها ، فأكل منه سنين وأنفق منه أكثر من خمسين وسقاً . وبارك لآخر في قليل شعير وأمره أن لا يكيله ، فلم يزل ينفق منه على نفسه وامرأته وضيفه حتى كاله فنفي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم » وكان نحو ذلك لعائشة رضي الله عنها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم . وكذا لأم مالك رضي الله عنها في عكة سمن لم تزل تقيم لها أدمها حتى عصرتها . ومثل ذلك كثير في دلائل النبوة للبيهقي وغيره . وقيل لكم { وكلوا } ودل على أنه أكثر من كفايتهم بقوله { من طيبات } جمع طيبة . قال الحرالي : والطيب ما خلص من منازع يشارك فيه وطيّبه من سوى الأكل له أي لم ينازعه وليس فيه حق لغيره ، ومنه الطيب في المذاق وهو الذي لا ينازعه تكره في طعمه ، وهذا زاد على ذلك بكونه لم يكن عن عمل حرث ولا معاملة مع خلق - انتهى .
{ ما رزقناكم } أي على عظمتنا التي لا تضاهى .
ولما لم يرعوا هذه النعم أعرض عنهم للإيذان باستحقاق الغضب . وقال الحرالي : ثم أعرض بالخطاب عنهم وأقبل به على محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه - انتهى . فقال { وما } أي فظلموا بأن كفروا هذه النعم كلها وما { ظلمونا } بشيء من ذلك { ولكن كانوا } أي جبلة وطبعاً { أنفسهم } أي خاصة { يظلمون * } لأن ضرر ذلك مقصور عليهم . قال الحرالي : وفيه إشعار بتحذير هؤلاء أن يروا نحواً مما رأوا فينالهم نحو مما نالوه ، لأن قصص القرآن ليس مقصوده مقصوراً على ذكر الأولين فقط بل كل قصة منه إنما ذكرت لما يلحق هذه الأمة في أمد يومها من شبه أحوال من قص عليهم قصصه - انتهى .
ولما كان كل من ظل الغمام ولزوم طعام واحد غير مألوف لهم مع كونه نعمة دنيوية وكان المألوف أحب إلى النفوس تلاه بالتذكير بنعمة مألوفة من الاستظلال بالأبنية والأكل مما يشتهى مقرونة بنعمة دينية . وقال الحرالي : لما ذكر تعالى عظيم فضله عليهم في حال استحقاق عقوبتهم في تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وهو مبتدأ أمر تيههم حين أبوا أن يقاتلوا الجبارين نظم به آخر أمر تيههم بعد وفاة موسى وهارون عليهما السلام حين دخولهم مع يوشع عليه السلام وما أمروا به من دخول البلد المقدس متذللين بالسجود الذي هو أخص رتب العبادة وكمال عمل العامل ودنو من الحق - انتهى . فقال تعالى { وإذ قلنا } أي لكم { ادخلوا هذه القرية } إشارة إلى نعمة النصر . قال الحرالي : الدخول الولوج في الشيء بالكلية حساً بالجسم ومعنى بالنظر والرأي ، والقرية من القرى وهو الجمع للمصالح التي بها يحصل قوام الدنيا لقرى أهل الدنيا والتي تجمع مصالح أهل الآخرة ، لقرى أهل الآخرة ، قال عليه السلام : « أُمرت بقرية تأكل القرى » باستيطانها كأنها تستقري القرى تجمعها إليها ، وقد تناوبت الياء والهمزة والواو مع القاف والراء على عام هذا المعنى - انتهى . وناسب سياق النعم الدلالة على تعقيب نعمة الدخول بالفاء في قوله : { فكلوا منها حيث شئتم } وأتمّ النعمة بقوله { رغداً } موسعاً عليكم طيباً . قال الحرالي : وفيه أي هذا الخطاب تثنية في ذكر الأرض لما تقدم من نحوه لآدم في السماء ، فكان تبديلهم لذلك عن فسق لا عن نسيان كما كان أمر آدم عليه السلام ، فكأنهم اقتطعوا عن سنته إلى حال الشيطان الذي كان من الجن ففسق عن أمر ربه ، فتحقق ظلمهم حين لم يشبهوا آباءهم وأشبهوا عدو أبيهم - انتهى . وأمرهم بالشكر على نعم النصر والإيواء وإدرار الرزق بأمر يسير من القول والفعل ، وقدم الدخول السار للنفوس والسجود الذي هو أقرب مقرب للحضرة الشريفة لأنه في سياق عد النعم على القول المشعر بالذنب فقال { وادخلوا الباب } وهو كما قال الحرالي أول مستفتح الأشياء والأمور المستغلقة حساً أو معنى حال كونكم { سجداً وقولوا } جامعين إلى ندم القلب وخضوع الجوارح الاستغفار باللسان ، ولما كان القول تحكى به الجمل فتكون مفعولاً بها ويعمل في المفرد إذا كان مصدراً أو صفة لمصدر كقلت حقاً أو معبراً به عن جملة كقلت شعراً وما كان على غير هذا كان إسناداً لفظياً لا فائدة فيه غير مجرد الامتثال رفع قوله { حطة } أي عظيمة لذنوبنا .
قال الكشاف : والأصل النصب أي حط عنا ذنوبنا إلاّ أنه رفع ليعطي معنى الثبات . قال الحرالي : من الحط وهو وضع الحمل الثقيل بمُنّة وجمام قوة يكون في الجسم ، والمعنى أمروا بقول ما يحط عنهم ذنوبهم التي عوّقتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من معه من المهاجرين والأنصار بشعب من الشعاب متردداً بين الحرمين الشريفين - يعني في عمرة الحديبية - فقال قولوا : « لا إله إلاّ الله » وعند ذلك دخول الشعب الذي هو باب المدخل من نجد الأرض إلى سهلها « فقالوها ، فقال : والذي نفسي بيده! إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل أن يقولوها فبدلوها » انتهى . وعبر بنون العظمة في قوله { نغفر لكم } إشارة إلى أنه لا يتعاظمه ذنب وإن عظم كاتخاذ العجل إذا جُبّ بالتوبة ، وفي قراءة من قرأ بالتحتانية والفوقانية مبنياً للمجهول إشارة إلى تحقير الذنوب إذا أراد غفرانها بحيث إنه بأدنى أمر وأدق إشارة بمحوها وهي أقل من أن يباشرها بنفسه المقدسة ، كل ذلك استعطاف إلى التوبة . . والغفر قال الحرالي : ستر الذنب أن يظهر منه أثر على المذنب لا عقوبة ولا ذكر - ثم قال : ففي قراءة { نغفر } تول من الحق ومن هو من حزبه من الملائكة والرسل ، وفي قراءة : تغفر ، إبلاغ أمر خطابهم بما يفهمه التأنيث من نزول القدر ، وفي قراءة الياء توسط بين طرفي ما يفهمه علو قراءة النون ونزول قراءة التاء ، ففي ذلك بجملته إشعار بأن خطاياهم كانت في كل رتبة مما يرجع إلى عبادة ربهم وأحوال أنفسهم ومعاملتهم مع غيرهم من أنبيائهم وأمثالهم حتى جمعت خطاياهم جميع جهات الخطايا الثلاث ، فكأنهم ثلاثة أصناف : صنف بدلوا ، وصنف اقتصدوا ، وصنف أحسنوا فيزيدهم الله ما لا يسعه القول و { هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان } [ الرحمن : 60 ] انتهى . ولما كان السياق هنا لتعداد النعم حسن أن يعبر عن ذنوبهم بجمع الكثرة فقال { خطاياكم } إشارة إلى أنهم أصروا عليها بحيث كادوا أن يجعلوا بإزاء كل نعمة ذنباً ، والخطايا جمع خطيئة من الخطأ وهو الزلل عن الحد عن غير تعمد بل مع عزم الإصابة أو وَدِّ أن لا يخطىء - هكذا قال الحرالي ، والظاهر أن المراد هنا ما كان عن عمد كائناً ما كان ، لأن ذلك أولى بسياق الامتنان والعقوبة بالعصيان .
قال في القاموس : والخطيئة الذنب أو ما تعمد منه والخطأ ما لم يتعمد ، جمعه خطايا ، وقرىء شاذاً : خطيئاتكم ، بالجمع السالم الدال على القلة إشارة إلى أنّها وإن تكاثرت فهي في جنب عفوه قليل ، وهذا بخلاف الأعراف فإن السياق هناك لبيان إسراعهم في الكفر كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وناسب عدّ النعم العطف على ما تقدم منها بقوله : { وسنزيد المحسنين * } أي بعد غفران ذنوبهم . قال الحرالي : جمع محسن من الإحسان وهو البلوغ إلى الغاية في حسن العمل ، فيكون مع الخلق رؤية المرء نفسه في غيره فيوصل له من البر ما يجب أن يفعل معه ، ورؤية العبد ربّه في عبادته ، فالإحسان فيما بين العبد وربّه أن يغيب عن نفسه ويرى ربه ، والإحسان فيما بين العبد وغيره أن يغيب عن غيره ويرى نفسه ، فمن رأى نفسه في حاجة الغير ولم ير نفسه في عبادة الرب فهو محسن ، وذلك بلوغ في الطرفين إلى غاية الحسن في العمل بمنزلة الحسن في الصورة - انتهى .
ولمّا كان هذا التصريح بالترغيب المتضمن للتلويح بالترهيب مقتضياً للعاقل المبادرة إلى الطاعة بين أنه تسبب عنه أن بعضهم عصوا وكفروا هذه النعمة العظيمة ولم يقتصروا على ترك هذا الأمر بل بدلوه بدخولهم كما في الحديث « يزحفون على أستاههم قائلين : حبة في شعرة » أي جنس الحب في جنس الشعرة أي في الغرائر مطلوبنا لا الحطة وهي غفران الذنوب . قال الحرالي : أمروا بالإخلاص لله نظراً إلى حياة قلوبهم فطلبوا الحنطة نظراً إلى حياة جسومهم فقال تعالى { فبدل } من التبديل وهو تعويض شيء مكان شيء - انتهى . { الذين ظلموا } وأسقط : منهم ، لما يأتي في الأعراف { قولاً } أي مكان القول الذي أمروا به .
ولما كان التبديل وإن كان يفهم التغيير لكنه يصدق بأدنى تغيير ولو أنه في اللفظ وإن اتّحد المعنى بيّن أنه مضاد له بحيث لا يمكن اجتماعهما بقوله : { غير الذي قيل لهم } فإن غيراً كما قال الحرالي كلمة تفهم انتفاء وإثبات ضد ما انتفى ، وقال : ذكر تعالى عدولهم عن كل ذلك واشتغالهم ببطونهم وعاجل دنياهم فطلبوا طعام بطونهم التي قد فرغ منها التقدير وأظهر لهم الغناء عنها في حال التيه بإنزال المن والسلوى إظهاراً لبلادة طباعهم وغلبة حب العاجلة عليهم فبدلوا كلمة التوحيد وهي لا إله إلاّ الله وهي الحطة بطلب الحنطة { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم }
[ المائدة : 66 ] { ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [ الأعراف : 96 ] « من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين » انتهى . وبيّن أنه خصّ المبدلين بالعتاب نعمة منه مع أن له أن يعم فقال { فأنزلنا } أي بعظمتنا بسبب ذلك { على الذين ظلموا } أي خاصة { رجزاً } قال الحرالي : هو أشد العذاب ، وما جره أيضاً يسمى رجزاً مما يجب أن يزجر عنه والزجر كف البهائم عن عدواها - انتهى . ولما كان الإنزال مفهماً للسماء حققه تعظيماً له بقوله : { من السماء بما } أي بسبب ما { كانوا يفسقون * } أي يجددون الخروج من الطاعة إلى المعصية في كل وقت . ففي إفهامه أنهم يعودون إلى الطاعة بعد الخروج منها وذلك مقتض لأن يكون يظلمون أشد منه كما يأتي . قال الحرالي : فبحق يجب على من دخل من باب جبل أو قرية أن يقول في وصيدها : لا إله إلاّ الله ، ليحط عنه ماضي ذنوبه ، فكأنّ ذكر الله في باب المدينة والشعب ذكاة لذلك المدخل ، فمن لم يدخله مذكياً دخله فاسقاً { لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } [ الأنعام : 121 ] فلذلك ما انختم ذكرهم في الآية بالفسق - انتهى .
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
ولما بين سبحانه نعمته عليهم بالإمكان من القرية بالنصر على أهلها والتمتع بمنافعها وختمه بتعذيبهم بما يميت أو يحرق وتبين من ذلك كله أن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة كما سيأتي التصريح به من قول الله تعالى في قصة البقرة وأنها لا منفعة فيها اتبعه التذكير بنعمته عليهم في البرية بما يبرد الأكباد ويحيي الأجساد فذكر انفجار الماء من الحجر الذي عمهم نفعه وأنقذهم من الموت تبعة ودلهم على التوحيد والرسالة أصله وفرعه بقدرة الصانع وعلمه جمعاً لهم بذلك بين نعمتي الدين والدنيا فقال تعالى { وإذ استسقى } أي طلب السقيا . قال الحرالي : والسقيا فعلى صيغة مبالغة فيما يحصل به الري من السقي والسقي إحياء موات شأنه أن يطلب الإحياء حالاً أو مقالاً؛ قال صلى الله عليه وسلم : « اللهم اسق عبادك! ثم قال : وأحي بلدك الميت » انتهى . { موسى لقومه } أي لما خافوا الموت من العطش { فقلنا } أي بما لنا من العظمة حين خفيت عنهم { اضرب } قال الحرالي : من الضرب وهو وقع الشيء على الشيء بقوة { بعصاك } والعصا كأنها ما يكف به العاصي ، وهو من ذوات الواو ، والواو فيه إشعار بعلو كأنها آلة تعلو من قارف ما تشعر فيه الياء بنزول عمله بالمعصية ، كأن العصو أدب العصي ، يقال عصا يعصو أي ضرب بالعصا اشتقاق ثان ، وعصى يعصي إذا خالف الأمر - انتهى . { الحجر } أي جنسه فضرب حجراً { فانفجرت } وما أنسب ذكر الانفجار هنا بعد ختم ما قبل بالفسق لاجتماعهما في الخروج عن محيط ، هذا خروج يحيي وذاك خروج يميت . قال الحرالي : الانفجار انبعاث وحي من شيء موعى أو كأنه موعى انشق وانفلق عنه وعاؤه ومنه الفجر وانشقاق الليل عنه - انتهى . ولأن هذا سياق الامتنان عبر بالانفجار الذي يدور معناه على انشقاق فيه سيلان وانبعاث مع انتشار واتساع وكثرة ، ولما لم يكن { منه } أي الحجر الذي ضربه { اثنتا عشرة عيناً } لكل سبط عين ، والعين قال الحرالي هو باد نام قيم يبدو به غيره ، فما أجزأ من الماء في ري أو زرع فهو عين ، وما مطر من السماء فأغنى فهو عين ، يقال إن العين مطر أيام لا يقلع وإنما هو مطر يغني وينجع ، وما تبدو به الموزونات عين ، وما تبدو به المرئيات من الشمس عين ، وما تنال به الأعيان من الحواس عين ، والركية وهي بئر السقيا عين ، وهي التي يصحفها بعضهم فيقول : الركبة - بالباء يعني الموحدة - وإنما هي الركيّة - بالياء المشددة - كذا قال ، وقد ذكر أهل اللغة عين الرُكبة؛ وعدّ في القاموس المعاني التي لهذا اللفظ نحو أربعين ، منها نقرة الركبة أي بالموحدة ، ومنها مفجر ماء الركية بالتحتانية مشددة .
ولما توقع السامع إخبار المتكلم هل كانت الأعين موزعة بينهم معروفة أو ملبسة قال { قد علم كل أناس } أي منهم . قال الحرالي : وهو اسم جمع من الأنس - بالضم ، كالناس اسم جمع من النوس ، قال : فلم يسمهم باسم من أسماء الدين لأن الأسماء تجري على حسب الغالب على المسمّين بها من أحوال تدين أو حال طبع أو تطبع { مشربهم } مكتفاهم من الشرب المردد مع الأيام ومع الحاجات في كل وقت بما يفهمه المفعل اسم مصدر ثان مشتق من مطلق الشرب أو اسم محل يلزمه التكرار عليه والتردد ، فجعل سبحانه سقياهم آية من آياته في عصاه ، كما كانت آيته في عصاه على عدوه الكافر ، فكان فيها نقمة ورحمة؛ وظهر بذلك كمال تمليكه تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم حين كان ينبع من بين أصابعه الماء غنياً في نبوعه عن آلة ضرب أو حجر ، وتمليك الماء من أعظم التمكين ، لأنه تمكين فيما هو بزر كل شيء ومنه كل حي وفيه كل مجعول ومصور - انتهى . يعني أن هذه الخارقة دون ما نبع للنبي صلى الله عليه وسلم من الماء من بين أصابعه ، ودون ما نبع بوضع أصحابه سهماً من سهامه في بئر الحديبية وقد كانت لا ماء فيها ، ونحو ذلك كثير .
ولما كان السياق للامتنان وكان الإيجاد لا تستلزم التحليل للتناول قال زيادة على ما في الأعراف ممتناً عليهم بنعمة الإحلال بعد الإيجاد على تقدير القول لأنه معلوم تقديره { كلوا واشربوا من رزق الله } أي الذي رزقكموه من له الكمال كله من غير كد ولا نصب . قال الحرالي : لما لم يكن في مأكلهم ومشربهم جرى العادة حكمته في الأرض فكان من غيب فأضيف ذكره لاسم الله الذي هو غيب { ولا تعثوا } من العثو وهو أشد الفساد وكذلك العثي إلا أنه يشعر هذا التقابل بين الواو والياء ، إن العثو إفساد أهل القوى بالسطوة والعثى إفساد أهل المكر بالحيلة - انتهى . { في الأرض } أي عامة ، لأن من أفسد في شيء منها بالفعل فقد أفسد فيها كلها بالقوة . واتباع ما معناه الفساد قوله { مفسدين } دليل على أن المعنى ولا تسرعوا إلى فعل ما يكون فساداً قاصدين به الفساد ، فإن العثي والعيث الإسراع في الفساد ، لكن قد يقصد بصورة الفساد الخير فيكون صلاحاً في المعنى ، كما فعل الخضر عليه السلام في السفينة والغلام ، وليس المراد بالإسراع التقييد بل الإشارة إلى أنه لملاءمته للهوى لا يكون إلا كذلك ، سيأتي له في سورة هود عليه السلام إن شاء الله تعالى مزيد بيان . قال الحرالي : وفيه إشعار بوقوع ذلك منهم ، لأن في كل نهي إشعاراً بمخالفته ، إلا ما شاء الله ، وفي كل أمر إشعاراً بموافقته إلا ما شاء الله ، لأن ما جبل عليه المرء لا يؤمر به لاكتفاء إجباره فيه طبعاً عن أمره ، وما منع منه لا ينهى عنه لاكتفاء إجباره عن أمره ، وإنما مجرى الأمر والنهي توطئة لإظهار الكيان في التفرقة بين مطيع وعاص ، فكان منهم لذلك من العثي ما أوجب ما أخبر به الحق عنهم من الهوان ، وأشد الإفساد إفساد بنيان الحق الذي خلقه بيده وهي مباني أجساد بني آدم فكيف بالمؤمنين منهم فكيف بالأنبياء منهم - انتهى .
ولما امتنّ عليهم بهذه النعمة العظمة من أكل المن والسلوى وشرب هذا الماء الرباني بين أنهم كفروها بالتضجر منها وطلب غيرها وبالتيه كان قريباً منها بل كما أن هذه في غاية العلو كان مطلوبهم في غاية الدناءة والسفول فقال تعالى { وإذ قلتم } أي بعد هذه النعم كلها { يا موسى } منادين له باسمه من غير تعظيم { لن نصبر } أي طويلاً { على طعام } قال الحرالي : الطعام ما يقوت المتطعم ويصير جزاء منه { فلينظر الإنسان إلى طعامه * } [ عبس : 24 ] الآية - انتهى . { واحد } أي لا يتبدل وإن كان متعدداً وإن كان شريفاً لا تعب فيه { فادع لنا } قال الحرالي : من الدعاء وهو نداء لاقتضاء غلبة لما تدعو الحاجة إليه من القائم على الداعي بتذلل وافتقار وهو في مقابلة الأمر من الأعلى ، لأنه اقتضاء لما لا تدعو إليه حاجة من الآمر لأن الآمر بالحقيقة إنما هو الغني لا المفتقر لما يقضيه - انتهى . { ربك } مضيفين لهذا الاسم إليه دون أنفسكم مع كثرة تجليه لكم بهذا الوصف الناظر إلى الإحسان { يخرج لنا } أي وإن كنت أنت غير ملتفت إلى ذلك { مما تنبت } من الإنبات وهو التغذية والتنمية - قاله الحرالي . { الأرض } ثم بينوا ما أرادوا بقولهم { من بقلها } أي خضرها . قال الحرالي : البقل ما يكثر به الأدم ، والأدم الأشياء الدسمة فما يصلح معها من نجم الأرض فهو بقل - انتهى . { وقثائها وفومها } أي الحنطة . وقال الحرالي : يقال هو الحب الذي يخبز - انتهى . { وعدسها وبصلها } فكأنه قيل إن هذا العجب منهم فما قال؟ فقيل قال { قال } منكراً عليهم { أتستبدلون } أي أتأخذون { الذي هو أدنى } أي منزلة { بالذي هو خير } أي بدله . فالباء داخلة هنا على المتروك وهذه المادة أعني الباء والدال المهملة واللام بهذا الترتيب لها استعمالات كثيرة يختلف معناها معها فيشكل فهمها بسبب ذلك ، فإنه قد يذكر معها المتقابلان فقط ، وقد يذكر معها غيرها ، وقد لا يكون كذلك ، وقد يكون ذلك مع التبدل والاستبدال مصحوباً أحدهما بالباء ، وقد لا يكون كذلك ، وقد يذكران مع التبديل والإبدال ، وتارة تكون الباء داخلة على المتروك ، وتارة على المأخوذ ، وقد يعدي الفعل بنفسه إلى المفعولين ، وتارة يقتصر به على مفعول واحد؛ ولبعض الاستعمالات معنى غير معنى الآخر وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى في سورة سبأ فكأنه قيل : فهل أجابهم إلى سؤالهم؟ فقيل : نعم ، قال { اهبطوا مصراً } أي من الأمصار ، قال الحرالي : المصر هو البلد الجامع لما يتعاون عليه من أمور الدنيا الذي يجمع هذه المطالب التي طلبوها لأن ما دون الأمصار لا يكون فيها إلا بعضها ، ومنه سميت مصر لجماع أمر ما في الدنيا فيها وغرابة سقياها ، وإن وافق ذلك ما يقال إنها سميت مصر باسم رجل فالوفاق في حكمه الله ، لأن كل دقيق وجليل فيها جارٍ بعلم الله وحكمته حيث كانت من وراء حجاب يخفيها أو ظاهرة بادية لأهل النظر والاستبصار - انتهى .
{ فإن لكم } أي فيه { ما سألتم } وينقطع عنكم المن والسلوى ، والسؤال قال الحرالي طلب ما تدعو إليه الحاجة وتقع به الكفاية ، قال : وذكر تعالى أن مطلبهم إنما يجدونه في الأمصار التي أقر فيها حكمته لا في المفاوز التي تظهر فيها كلمته ، ولذلك كثيراً ما تنخرق العدة لأولياء هذه الأمة في المفاوز وقل ما تنخرق في الأمصار والقرى ، لما في هذه الآية مضمونة ، ولذلك حرص السالكون على السياحة والانقطاع عن العمائر ، لما يجدون في ذلك من روح رزق الله عن كلمته دون كلفة حكمته .
ولما نظم سبحانه بنبأ موسى عليه السلام ما كان من نبأهم مع يوشع عليه السلام بعده نظم في هذه الآية بخطاب موسى عليه السلام ما كان منهم بعد يوشع عليه السلام إلى آخر اختلال أمرهم وانقلاب أحوالهم من حسن المظاهرة لنبيهم إلى حال الاعتداء والقتل لأنبيائهم عليهم السلام ، وفي جملته إشعار بأن ذلك لم يكن منهم إلا لأجل إيثار الدنيا ورئاستها ومالها على الآخرة إيثاراً للعاجلة على الآجلة ، وفي طيه أشد التحذير لهذه الأمة في اتباعهم لسنن أهل الكتاب في مثل أحوالهم؛ ولذلك انتظم بها الآية الجامعة وابتدأ بذكر الذين آمنوا من هذه الأمة ثم استوفى الملل التي لها صحة على ما يذكر آنفاً إن شاء الله تعالى - انتهى . ولما كان التقدير ففعلوا ما أمروا به من هبوط المصر فكان ما وعدوا به عطف عليه قوله { وضربت عليهم الذلة } ملازمة لهم محيطة بهم من جميع الجوانب كما يحيط البيت المضروب على الإنسان به ، وهي اسم من الذل وهو صغار في النفس عن قهر وغلبة . قال الحرالي : وفي عطفه إفهام لمجاوزة أنباء عديدة غايتها في الظهور ما عطف عليها كأن الخطاب يفهم فأنزلناهم حيث أنزلوا أنفسهم ومنعناهم ما لا يليق عن حاله مثل حالهم فظهر منهم وجوه من الفساد ، فسلط عليهم العدو فاستأصل منهم من شاء الله ومن بقي منهم أخذوا بأنواع من الهوان - انتهى . { والمسكنة } أي كذلك مناسبة لخساسة ما سألوه .
قال الحرالي : وهي ظهور معنى الذل أو التذلل على ظاهر الهيئة والصورة سكوناً وانكفاف حراك - انتهى . { وباؤوا } أي رجعوا وكانوا أحقاء { بغضب } من باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له . قال الحرالي : معناه إجماع القاهر على الانتقام في حق مراغمة - انتهى .
{ من الله } الملك الأعظم لجرأتهم على هذا المقام الأعظم مرة بعد مرة وكرة إثر كرة . قال الحرالي : وفيه تهديد لهذه الأمة بما غلب على أهل الدنيا منهم من مثل أحوالهم باستبدال الأدنى في المعنى من الحرام والمتشابه بالأعلى من الطيب والأطيب المأخوذ عفواً واقتناعاً - انتهى .
ثم ذكر سبب هذا وقال الحرالي : ولما كان الغضب إنما يكون على من راغم الجليل في معصيته ووقعت منهم المراغمة في معصيتهم واعتدائهم ذكر فعلهم - انتهى . فقال { ذلك } أي الأمر العظيم الذي حل بهم من الغضب وما معه ، ويجوز أن يرجع إلى اهتمامهم بأمر معاشهم وعنايتهم بأحوال شهواتهم على هذا النحو الأخس الأدنى { بأنهم } أي بسبب أنهم { كانوا } أي جبلة وطبعاً { يكفرون } أي مجددين مستمرين { بآيات الله } أي يسترون إذعانهم وتصديقهم بسبب آيات الله الذي له جميع العظمة كتماناً عمن لا يعلم الآيات وتلبيساً ، وكان تجديد ذلك والإصرار عليه ديدناً لهم وخلقاً قائماً بهم . قال الحرالي : والكفر بالآيات أبعد الرتب من الإيمان ، لأنه أدنى من الكفر بالله ، لأن الكفر بالله كفر بغيب والكفر بآيات الله كفر بشهادة { والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة * } [ البلد : 19 ] انتهى . { ويقتلون النبيين } أي كان ذلك جبلة لهم وطبعاً . قال الحرالي : وهذا جمع نبيء وهو من النبأ وهو الإخبار عن غيب عجز عنه المخبر به من حيث أخبر - انتهى .
ولما كان النبي معصوماً ديناً ودنيا قال { بغير الحق } أي الكامل تنبيهاً على أن قتله لا يقع إلا كذلك ، لكن هذا لا ينفي أن يكون ثم شبهة كظن التنبؤ فالذم على الإقدام على إراقة الدم بدون الوضوح التام وفاقاً لنهي . { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } [ الإسراء : 33 ] فهو أخف مما في آل عمران . ثم علل هذه الجرأة فقال { ذلك } أي الأمر الكبير من الكفر والقتل الذي هو من أعظم الكفر { بما عصوا } وهو من العصيان . قال الحرالي : وهو مخالفة الأمر - انتهى . { وكانوا } أي جبلة وغريزة { يعتدون } أي يتجاوزون الحدود على سبيل التجدد والاستمرار ، فإن من فعل ذلك مرد عليه ومرن فاجترأ على العظائم . قال الحرالي : وهو أي الاعتداء تكلف العداء ، والعداء مجاوزة الحد ، فيما يفسح فيه إلى حد لا عذر لمجاوزه من حيث فسح له سعة ما فسح وحُدّ له ما حُدّ - انتهى . وقد جاء نظم هذه الآيات من قصصهم على غير ترتيبها في الوجود ، وفي التوراة لما ذكرت من هذه المناسبات العظيمة والله أعلم شرح أمرها من التوراة قال في آخر السفر الرابع منها في النسخ الموجودة بين أظهر اليهود الآن في هذا القرن التاسع فيما قرأته في نسخة مترجمة بالعربية وخطها كذلك وعليها آثار قراءتهم لها وبيان الأوقات التي يقرأ فيها كل فصل منها ثم قابلتها بالمعنى كما مضى مع شخص منهم وكان هو القارىء ما نصه : وهذه مظاعن بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر بأجنادهم على يدي موسى وهارون عليهما السلام وكتب موسى مخارجهم ومراحلهم عن قول الرب ظعنوا من رَعَمْسِيس - وفي نسخة : من عين شمس - في خمسة عشر يوماً من الشهر الأول من غد الفِصح - وفي نسخة : بعد الفصح بيوم - والمراد بالشهر الأول عندهم نيسان وهو شهر الفريك ، وخرج بنو إسرائيل بقوة عظيمة تجاه جميع أهل مصر كانوا مشاغيل بدفن الأبكار الذين قتلهم الرب ، وبما انتقم الرب من آلهتهم ، فظعن بنو إسرائيل من رعمسيس - وفي نسخة : عين شمس - ونزلوا ساحوت وارتحلوا من ساحوت ونزلوا آثمْ - وفي نسخة : آثام - التي في أقاصى المفازة وظعنوا من آثام ونزلوا في فوهة الخندق الذي في جبال بَعَلصَفُون ونزلوا بإزاء مغدول - وفي نسخة : مجدول - وارتحلوا من فوهة الخندق وجازوا في وسط البحر إلى القفر - وفي نسخة : بين البحر والقفر - وساروا مسيرة ثلاثة أيام في برية اثام ونزلوا مرراً - وفي نسخة : المُرَيرة - وأتوا آليم وفي نسخة : ونزلوا في المراير وارتحلوا من المراير وصاروا إلى آليم - وكان في آليم اثنتا عشرة عيناً من ماء وسبعون نخلة ونزلوا هناك على الماء ، وارتحلوا من آليم ونزلوا ساحل بحر سوف - وفي نسخة : على البحر الأحمر - وظعنوا من شاطىء بحر سوف - وفي نسخة : من البحر الأحمر - وفي أخرى : بحر القلزم - ونزلوا برية سينين وارتحلوا من قفر سينين ونزلوا ذِفقاً وظعنوا من ذِقفاً ونزلوا آلوش وارتحلوا من آلوش ونزلوا رفيدين - وفي نسخة : رفيديم - ولم يكن هناك ماء يشرب الشعب وظعنوا من رفيدين - وفي نسخة : رفيديم - فنزلوا برية - وفي نسخة : قفر سيناء - وظعنوا من قفر سيناء ونزلوا الموضع المعروف بقبور الشهوة وارتحلوا من مقبرة الشهوة - وفي نسخة : قفر قبور الشهوة - فنزلوا حصروث وظعنوا من حصروث فنزلوا رثما - وفي نسخة : الرامة - وارتحلوا من رثما - وفي نسخة : الرامة - فنزلوا رِمُون فيرص .
وقال في السفر الثاني عند ذكر الإنعام عليهم باستنقاذهم من أيدي القبط بتلك الآيات العظيمة التي ستشرح إن شاء الله تعالى في سورة الأعراف فقال موسى للشعب : اذكروا هذا اليوم الذي خرجتم فيه من مصر من العبودية والرق ، لأن الرب أخرجكم من ههنا بيد منيعة فلا يؤكل الخمير في هذا اليوم وهو ذا أنتم خارجون في شهر الفقاخ - وفي نسخة : الفريك - فإذا أدخلكم الرب إلى أرض الكنعانيين والحيثانيين والأمورانيين والجاوانيين واليابسانيين والفرزانيين كالذي أقسم لآبائكم أن يعطيكم الأرض التي تغل السمن والعسل ، تعملون هذا العمل في هذا الشهر ، كلوا الفطير سبعة أيام ولا يوجدن الخمير عندكم؛ وتعلمون أبناءكم في ذلك اليوم وتقولون لهم إن الله فعل بنا هذا الفعل إذ أخرجنا من أرض مصر ، وليكن ذلك آية على يدك وعلامة بين عينيك لتكون سنة الرب وشريعته على لسانك لأن الرب أخرجك من مصر بيد عزيزة منيعة واحتفظ بهذا وهذه الوصية من سنة إلى سنة في وقته ، وإذا أدخلك الرب إلى أرض الكنعانيين التي أقسم لك ولآبائك أن يعطيكها فميز كل ذكر بفتح الرحم للرب وكل ذكر من البهائم التي تكون لك يفتح الرحم يكون خاصة للرب تفتديه بحمل ، فإن لم تفتده فاذبحه ، وتفتدي كل بكر ذكر من أولادك ، فإذا سألك ابنك غداً وقال لك : ما هذا العمل؟ فقل : إن الرب أخرجنا من أرض مصر من العبودية والرق بيد منيعة عزيزة ، لأن فرعون قسا وفظَّ وأبى أن يرسلنا ، فقتل الرب جميع أبكار أرض مصر من بكر البشر إلى بكر البهائم ، فمن أجل ذلك أذبح للرب كل ذكر بفتح الرحم وأفتدي جميع أبكار ولدي ، فيكون ذلك علامة على يدك وذكراً بين عينيك ، لأن الرب أخرجك من مصر بيد منيعة عزيزة .
فلما أرسل فرعون الشعب وانطلقوا لم يرسلهم الله تعالى في طريق أرض فلسطين ، لأنه كان قريباً ولأن الله قال : لعل الشعب إذا ما عاينوا القتال أن يخافوا ويرهبوا فيرجعوا إلى مصر ، فساس الله الشعب في طريق برية بحر سوف ، وخرج بنو إسرائيل من أرض مصر وهم متسلحون ، وحمل موسى عليه السلام عظام يوسف عليه السلام معه ، لأنه أقسم على بني إسرائيل بأيمان وقال : إن الله سيذكركم فأصعدوا عظامي معكم من ههنا ، فظعنوا من ساحوت ونزلوا آثام التي في أقطار البرية ، وكان الرب يسير أمامهم بالنهار في عمود السحاب ليسكنهم في الطريق وبالليل في عمود نار ليضيء لهم وكان يسير أمامهم بالليل والنهار ، ولم يكن عمود الغمام يزول بالنهار وعمود النار بالليل من بين يدي الشعب ، وكلم الرب موسى وقال له : قل لآل إسرائيل أن يرجعوا فينزلوا على شاطىء الخندق وما بين مغرول والبحر أمام بعلصفون ، انزلوا هناك إزاء البحر حتى يقول فرعون إن بني إسرائيل غرباء في الأرض ، فيظن أنهم قد تاهوا في القفر وأن البر قد انغلق عليهم؛ وقال الرب لموسى : أنا أقسي قلب فرعون فيسير في طلبكم فأمجد بفرعون وجميع جنوده ، فيعلم أهل مصر أني أنا الرب ، ففعلوا كذلك؛ فأسف فرعون وعبيده لإرسال الشعب وندموا ، فألجم خيله وسار في جميع شعبه وظعن في ستمائة ألف راكب مختارة وجميع مواكب المصريين أيضاً والرجال - وفي نسخة : والقواد - على جميعها ، فسار المصريون في طلبهم فرهقوهم وهم حلول على المهرقان ، فقرب فرعون ورفع بنو إسرائيل أبصارهم فرأوا المصريين وهم في طلبهم فخافوا خوفاً شديداً ، فصلى بنو إسرائيل بين يدي الرب وقالوا لموسى : ألقلة القبور بمصر أخرجتنا لنموت في البرية؟ لم فعلت بنا هذا الفعل وأخرجتنا من مصر؟ أليس هكذا كنا نقول لك ونحن بمصر : دعنا نتعبد للمصريين كان خيراً لنا أن نتعبد للمصريين من الموت في هذا القفر؟ فقال موسى للشعب : لا خوف عليكم! انتظروا فأبصروا خلاص الرب إياكم في هذا اليوم ، لأنكم عاينتم المصريين يومنا هذا ، لا تعودون أن تعاينوهم أيضاً إلى الأبد ، والرب يجاهد عنكم إذ أنتم في هدوء وطمأنينة؛ فصلى موسى بين يدي الرب فقال : مُر بني إسرائيل أن يظعنوا وأنت فارفع عصاك واضرب ماء البحر ، فيسير آل إسرائيل في البحر في اليبس ، وها أنا ذا أقسي قلوب المصريين وأغلظها ليتبعوهم ، فأمجد بفرعون وبجميع جنوده وبمواكبه وفرسانه ، فيعلم أهل مصر أني أنا الرب إذا مجدت بفرعون وبجميع جنوده ، فظعن ملك الله الذي كان يسير أمام عسكر بني إسرائيل فصار على ساقتهم ، فاحتمل السحاب الذي كان أمامهم فوقف خلفهم ودخل بين عسكر المصريين ومحلة بني إسرائيل ، وكان السحاب والحِنْدِس تلك الليلة بأسرها وكان الضياء والنور لبني إسرائيل تلك الليلة كلها ، فلم يقدروا على الدنو إليهم تلك الليلة .
فرفع موسى يده على البحر فزجر الرب البحر بريح سموم - وفي نسخة : قَبول عاصف - أليل أجمع ، فصير ماء البحر في اليبس ، وانقسم الماء ، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر في اليبس ، فصارت المياه كالسور بين ميامنهم ومياسرهم ، فسار المصريون فدخلوا في طلبهم فصار خيل فرعون وجميع مواكبه في البحر ، فلما كان عند حريم الغداة تراءى الرب لعسكر المصريين في عمود نار ومزنة غمامة ، فأرجف عسكر المصريين وأفتنه وربط مواكبهم وحبسها وجعلوهم يُعنقون بالسير عليها ، فقال المصريون : سيروا بنا لنهرب بين يدي آل إسرائيل ، لأن الرب حارب عنهم بمصر ، فقال الرب لموسى : ابسط يدك على المهرقان فتؤول المياه على المصريين فتطفح على مواكبهم وفرسانهم ، فرفع يده على البحر ، فرجع البحر عند وقت الغداة إلى موضعه والمصريون جعلوا يهربون إزاءه ، فعذب الرب المصريين في البحر وأكذبهم ، فجرت المياه وطفت على المواكب والفرسان وعلى جميع جنود فرعون الذين دخلوا في البحر في طلبهم ، ولم ينج منهم واحد ، فخلص آل إسرائيل في ذلك اليوم من أيدي المصريين ، فنظر بنو إسرائيل إلى المصريين موتى على شاطىء المهرقان ، وعاين آل إسرائيل النقمة العظيمة التي أنزلها الله بالمصريين ، وخاف الشعب الرب وآمنوا به وصدقوا قول موسى عبده ، حينئذ سبح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح وقالوا : نسبح الرب ذا الجلال الذي تعالى على المواكب وغرق فرسانها في البحر المنيع ، والمحمود الرب الأزلي ، فكان لي منجياً ، هذا إلهنا فلنحمده ولنمجده ، إله آبائنا فلنعظمه ولنجله ، الرب ذو الملاحم ، جبار اسمه ، لأنه قذف بمواكب فرعون وجنوده في البحر وغرق جبابرة في بحر سوف وغطتهم الأمواج وهبطوا في القعر فرسبوا مثل الجنادل ، يمينك يا رب بهية بالقوة ، يمينك يا رب أهلكت أعداءك بعظم عزك ، كبت شانئك أرسلت غضبك فأحرقهم كالسهم بريح وجهك ، وأمرك جمدت المياه ووقف جريها كأنه الأطواد ، ورسب الأغمار في قعر البحر كالرصاص في الماء المنيع؛ فمن مثلك ومن يفعل كأفعالك أيها البهي في قدسه المرهوب المحمود مظهر العجائب ، سُسْتَ بنعمتك هذا الشعب الذي خلّصت ، فبلغ ذلك الشعوب فارتجفوا وقلقوا وغشي الخوف والرعب سكان فلسطين ، عند ذلك ذعر أشراف ادوم وغشى الرعدة والارتعاش رجال مؤاب وانكسر جميع سكان كنعان فانهزموا فلينزل بهم الخوف والقلق والرجفة بعظمة ذراعك ، يغرقون كالجنادل حتى يجوز شعبك الذي خلّصت ، تقبل بهم فتقدسهم في جبل ميرانك ، الرب يملك إلى أبد الآبدين؛ وظعن موسى ببني إسرائيل من بحر سوف ، فخرجوا حتى انتهوا إلى برية أسود ، ثم ساروا في البرية مسيرة ثلاثة أيام فلم يجدوا هناك ماء ، ثم انتهوا إلى مورّث فلم يقدروا على أن يشربوا ماء مورث ، لأنه كان مُرّاً فتذمر الشعب على موسى وقالوا له : ما الذي نشرب الآن؟ فصلى موسى بين يدي الرب ، فأظهر الرب له عوداً فألقاه في الماء ، فعذب الماء هناك ، علمه السنن والأحكام ، فأتوا حتى انتهوا إلى آليم وكان هناك اثنتا عشرة عيناً من ماء وسبعون نخلة فنزلوا هناك على الماء ، ثم ظعنوا من آليم فأتوا برية سينين التي بين آليم وسينين في خمسة عشر من الشهر الثاني من الزمان الذي خرجوا من مصر ، فتذمر جميع جماعة بني إسرائيل على موسى وهارون وقالوا لهما : قد كنا نحب أن نتوفى في أرض مصر إذ كنا جلوساً بين أيدينا مراجل اللحم وكبار الخبز ونفضل فأخرجتمانا إلى هذه البرية لتقتلا جماعة بني إسرائيل بالجوع! فقال الرب لموسى : ها أنا ذا مهبط لكم الخبز من السماء فليخرج الشعب فليلتقطوا طعام يوم بيوم لكي أمتحنهم هل يسيرون بوصاياي وسنني ويحفظونها أم لا ، فإذا كان اليوم السادس فليعدوا فضلاً على ما يأتون به وليكن ذلك ضعف ما يلتقطون في كل يوم ، فقال موسى وهارون لجميع بني إسرائيل عند الأصيل : تعلمون أن الرب أخرجكم من أرض مصر وبالغداة تعاينون مجد الرب ، لأن تذمركم بلغ الرب ، ونحن فمن نحن إذ تتذمرون علينا ، وقال لهم موسى : إن الرب قد أعطاكم لحماً عند الأصيل لتأكلوا ورزقكم خبزاً بالغداة لتشبعوا ، لأنه قد بلغ الرب تذمركم الذي تراطنون عليه ، ونحن فمن نحن وليس إنما تتذمرون علينا بل على الرب ، وقال لهارون : مر جميع جماعة بني إسرائيل أن يدنوا فيقفوا بين يدي الرب ، فلما قال هارون ذلك لجميع جماعة بني إسرائيل التفتوا فإذا مجد الرب قد اعتلن في السحاب وقال الرب لموسى : قد بلغني تذمر بني إسرائيل فقل : عند مغارب الشمس تأكلون اللحم وبالغداة شرقاً تشبعون من الخبز فتعلمون أني أنا الرب إلهكم ، فلما كان عند الأصيل صعدت السُماني فتغشت العسكر ، وكان بالغداة ضبابة تقطر المن فأحاطت بالعسكر ، فارتفعت الضبابة فإذا على وجه الأرض دقيق يتقشر وكان شبه صفائح الجليد على الأرض ، فقال موسى : هذا الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا ، وهذا قول الرب الذي أمر به ليلتقط المرء منه على قدر قوته مكيالاً لكل نفس على عدد رؤوسكم ليأخذ المرء لكل من كان في خيمته ، فصنع بنو إسرائيل كما أمرهم موسى والتقطوا ، فمنهم من أخذ كثيراً ومنهم من تناول قليلاً وكالوا ذلك ، فلم يفضل الذي أخذ الكثير والذي أخذ القليل لم يعدمه ، فقال لهم موسى : لا تبقين منه للغد شيئاً ، فلم يطيعوا موسى فأفضل رهط منهم للغد ، فدب فيه الدود وأنتن ، فغضب موسى ، فجعلوا يلتقطونه في كل غداة كل امرىء على قدر قوته ، وكان إذا حميت عليه الشمس يميع ، فلما كان اليوم السادس التقطوا من الخبز ضعفي ما كانوا يتناولون كل رجل مكيالين ، فأتى جميع أشياخ الجماعة فأخبروا موسى ، فقال لهم : هكذا قال الرب ، إن السبت راحة ودعة وغداً يوم قدس الرب؛ وقال في موضع آخر : لا تعملوا فيه عملاً بل يكون سبتاً للرب في جميع مساكنكم ، وكل ما أردتم أن تختبزوه فاخبزوه واطبخوا ما أردتم طبخه واحتفظوا بما تفضلون بارداً للغد ، فأبقوا منه للغد كما أمر موسى ، فلم ينتن ولم يدب فيه الدود فقال لهم موسى : كلوه يومكم هذا ، لأن اليوم يوم سبت للرب ولستم تقدرون عليه اليوم في الحقل ، كونوا تلتقطونه ستة أيام واليوم السابع هو سبت لا يؤخذ فيه ، فلما كان اليوم السابع خرج رهط من الشعب ليلتقطوا فلم يجدوا فقال الرب لموسى : حتى متى يأبوا أن يقبلوا وصاياي وسنني ، فاستراح الشعب في اليوم السابع ، فسماه بنو إسرائيل المن وهو كحبة الكزبرة وطعمه كشهد العسل .
وقال في السفر الرابع : والمن كان يشبه حبة الكزبرة وكان منظره أبيض كالمها ، وكان الشعب يترددون ويلتقطونه ويطحنونه في الرحى ويهرسونه في المهراس ويطبخونه في القدور ويصيرون منه مليلاً ويصيّر طعمه مثل طعم الخبز الذي يعجن دقيقه بالزيت . رجع إلى الثاني قال : فأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة ولم يزالوا يأكلون المن حتى انتهوا إلى أقطار الأرض ذات السكنى وحتى انتهوا إلى أقطار أرض كنعان ، وكان ذلك المكيال عشر جريب أي عشر ويبة ، وإن جماعة بني إسرائيل ظعنوا من برية سينين في مظاعنهم كما أمر الرب فوردوا رفيدين ولم يكن للشعب ماء يشربون ، فضج الشعب على موسى وقالوا له : أعطنا ماء لنشرب ، فقال : ما بالكم تضجون وكم تجربون الرب؟ واشتد عطش الشعب هناك فتذمّروا على موسى وقالوا له : لم أصعدتنا من أرض مصر لتقتلنا وأبناءنا ومواشينا بالعطش؟ فصلى موسى أمام الرب وقال : ما أصنع بهذا الشعب؟ إنهم كادوا أن يرجموني ، فقال الرب لموسى : جُز قدام الشعب وانطلق ببعض أشياخ بني إسرائيل والعصا التي ضربت بها البحر ففلقته ، خذها بيدك وانطلق وها أنا ذا واقفاً بين يديك على حجر الظِرّان بَحوْرِيب فاضرب عند ذلك الظران فيخرج الماء ويشرب الشعب ، فصنع موسى هذا الصنيع بين أشياخ بني إسرائيل ، فسمى ذلك الموضع التجريب والتذمر ، لأن بني إسرائيل تنازعوا واصطخبوا ولأنهم جربوا الله وقالوا : هل الله بيننا أم لا؟ ولما كان في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من مصر انتهوا إلى برية سيناء إذ ظعنوا من رفيدين فأتوا برية سيناء وحل هناك إسرائيل قبالة الجبل ، فصعد موسى إلى الجبل فدعاه الله من الجبل وقال : هكذا قل لآل يعقوب : قد رأيتم ما صنعت بالمصريين وحملتكم كأنكم على أجنحة النسور وأقبلت بكم إليّ ، فإن أنتم الآن أطعتم قولي وحفظتم عهدي فأنتم أحبّ إليّ من جميع شعوب الأرض ، فأتى موسى فدعا بأشياخ الشعب فقص عليهم جميع هذه الآيات التي أمره بها الرب ، فأجاب الشعب كلهم جميعاً وقالوا : نحن فاعلون جميع ما أمرنا به الرب ، فرد موسى جواب الشعب على الرب فقال الرب لموسى : ها أنا ذا مناجيك في سحابة مظلمة لكي يسمع الشعب كلامي إذا كلمتك فيقبلوا كلامك ويصدقوك إلى الأبد ، فقال الرب لموسى : انطلق إلى الشعب وطهرهم اليوم وغداً وليبيضوا ثيابهم ويرحضوها وليستعدوا في اليوم الثالث فناشد الشعب وتقدم إليهم وقل لهم : احذروا أن تصعدوا إلى الجبل ولا تقربوا إلى حافاته ، ومن دنا من الجبل فليقتل ولا تصيبه أيدي الناس بل يرجم رجماً ويقذف به إلى أسفل به بهيمة كان أو إنساناً ، فإذا صمتت أصوات القرون فأنتم في حل من الصعود إلى الجبل ، فهبط موسى من الجبل إلى الشعب فطهر الشعب وبيضوا ثيابهم ، وقال موسى للشعب : كونوا مستعدين في اليوم الثالث ، لا تقتربن إلى امرأة ، فلما كان في اليوم الثالث باكروا غلساً ، فإذا هم بأصوات قرون وبروق وإذا هم أيضاً بسحابة عظيمة قد حلت على الجبل ، فاشتد صوت القرن جداً واشتد فزع من كان في العسكر ، وأخرج موسى الشعب إلى لقاء الرب من العسكر فقاموا في حافات الجبل وكان جبل سيناء يخرج منه القُتار والدخان ، لأن الرب هبط عليه بالنار وارتفع غباره كغبار الأتون وتزلزل الجبل زلزلة شديدة واشتد صوت القرن ، ودعا الرب موسى إلى رأس الجبل ، فصعد موسى وقال له الرب : انزل فأنشد بني إسرائيل وإنذرهم أن لا يتزحزحوا عند النظر بين يدي الرب فيهلك منهم كثير ، وكان جميع الشعب يسمعون الأصوات ويرون المصابيح ويسمعون أصوات القرون ويرون الدخان يخرج من الجبل .
فرأى ذلك الشعب ففزعوا ووقفوا من بعيد وقالوا لموسى : كلمنا أنت حتى نسمع ولا يكلمنا الله لكيلا نموت ، فقال موسى : لا خوف عليكم ، لأن الله إنما كلمكم ليمتحنكم ويجربكم لكي تخافوه وترهبوه ولا تخطئوا ولا تأثموا ، فوقف الشعب من بعيد ودنا موسى من الضباب التي اعتلن الله فيها ، وقال الرب لموسى : هكذا قل لآل إسرائيل : قد رأيتم وعلمتم أني كلمتكم من السماء ، لا تتخذوا معي آلهة من ذهب ولا تعملوا لكم آلهة من فضة ، ثم قال : ها أنا ذا مرسل إليك الملك بين يديك ليحفظك في سفرك ويوردك البلد الذي أتقنت - وفي نسخة : الذي هيأته - فاحذره واسمع منه ، لأن اسمي حالُّ عليه ، فإن أنت قبلت قوله وأطعت أمره وعملت بكل ما يأمرك به أبغض مبغضيك ويسير ملكي أمامك فيدخلك على الأمورانيين - وذكر بعدهم خمس فرق - فأقتلهم وأبيدهم وأرسل الرعب والخوف والجزع بين يديك وأبيد جميع الشعوب الذين تسير إليهم ولا أبيدهم في سنة واحدة لكي لا تخرب الأرض بل رويداً رويداً حتى تعتز - وفي نسخة : تكثر - فتصير ذا بطش فترث الأرض واجعل تخومك من بحر سوف إلى فلسطين ومن البرية حتى النهر - وفسره في موضع آخر بالفرات - وقال الرب لموسى : اصعد إلى الجبل أنت وهارون وناذاب وآبِيهُوا وسبعون رجلاً من أشياخ بني إسرائيل ويسجدون من بعيد ، ويقترب موسى وحده إلى الرب وهم لا يقتربون ولا يصعد الشعب معه . فجاء موسى وقص على الشعب جميع عهود الرب وجميع أحكامه ، فنادى الشعب كلهم بصوت عال وقالوا : نحن نفعل ما أمرنا الرب ، وكتب موسى جميع كلام الرب ، وغداً باكراً فبنى مذبحاً في حافة الجبل ونصب اثنتي عشرة نصبة لأسباط بني إسرائيل - ثم ذكر ذبائح وقرابين وغير ذلك ثم قال : ثم أخذ سفر العهد فتلاه على الشعب ، فقالوا : نحن سامعون فاعلون ما أمرنا به الرب ، فتناول موسى ذلك الدم - يعني دم القربان - فرشه على الشعب وقال : هذا دم العهد الذي عاهدكم في جميع هذه الأقاويل ، وصعد موسى ومن ذكر معه ثم تركهم في مكان من الجبل ثم قال لهم امكثوا ههنا ، فصعد موسى إلى الجبل وتغشاه السحاب وحل مجد الله على جبل سيناء وستره السحاب ستة أيام ، ودعا الرب موسى في اليوم السابع من جوف السحاب ونظر إلى مجد الرب مثل نار تتوقد في رأس الجبل أمام جميع بني إسرائيل ، فدخل موسى في جوف السحاب وصعد إلى الجبل فمكث موسى في الجبل أربعين يوماً نهاراً وأربعين ليلة ، وكلم الرب موسى وقال له : قل لبني إسرائيل : فليخصوا لي تزكية أموالهم ، وخذ ذلك من كل رجل بلغ أشده - ثم ذكر الأموال التي تزكى إلى أن قال : ويتخذون لي مظهراً حتى أحل بينهم كل شيء أريكه شبه القبة وجميع متاعها كذلك فليصنعوه - ثم قال : واعمل على المثال الذي أريكه في الجبل وليتخذوا تابوتاً من خشب الشمشاد طوله ذراعان ونصف وسمكه ذراع ونصف ، وصفّحه بصفائح الذهب الإبريز من داخله ومن خارجه ، واتخذ له طوقاً من ذهب يحيط به ، وضع له أربع حلقات من ذهب وسمرها في أربع زوايا التابوت حلقتين في شق واحد وحلقتين في الجانب الآخر ، واتخذ أصطاراً من خشب الشمشاد وصفحها بالذهب ، وصير الأصطار في الحلق في جانبي التابوت ليحل بها ، وليكن الأصطار في حلق التابوت ولا ينزع منها ، وتضع الشهادة التي أعطيك في التابوت ، وسمي هذا تابوت الشهادة ، واتخذ كروبين أي شخصين من ذهب اتخذهما مفرعين مصبوبين فيكونا على جانبي التطهير وتكون أجنحة الكروبين مبسوطة تظل من فوق فتظل بأكنافها على التطهير ، وليكن وجه كل واحد منهما إزاء صاحبه وليكن وجها الكروبين من فوق التطهير؛ وقال : واتخذ داراً للقبة من مهب الجنوب واستمر يصف له عمل هذه القبة وأعمدتها وستورها وآلاتها وخدمها وما يقرّب فيها ومحل ضربها من العسكر وعلى أيّ كيفية في نحو خمس عشرة ورقة وسماها قبة الزمان ، ثم أمره تعالى في آخر هذا السفر الثاني بأشياء مما يتصل بأمتعها وسرادقاتها وغير ذلك في أزيد من عشر ورقات كما سيأتي؛ وقال في تضاعيف ذلك : وتصير الشهادة التي أعطيك في التابوت وأواعدك إلى هنالك وأكلمك فوق التطهير من بين الكروبين الذين فوق تابوت الشهادة بجميع ما آمرك في بني إسرائيل وقال : ويتخذوا هذا القربان دائماً في كل حين في أحقابكم على باب قبة الزمان قدام الرب .