كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي
ولما كان المربون بعد هذه الزواجر بعيدين من رحمة الله عبر عنهم سبحانه وتعالى بأداة البعد في قوله : { ومن عاد } أي إلى تحليل الربا بعد انتهائه عنه نكوباً عن حكمة ربه { فأولئك } أي البعداء من الله { أصحاب النار } ولما كانت نتيجة الصحبة الملازمة قال : { هم فيها خالدون* } .
ولما كان المرغب في الربا ما فيه من الربح الناجز المشاهد ، والمفتر عن الصدقة كونها نقصاً محققاً بالحس بيّن أن الربا وإن كان بصورة الزيادة فهو نقص وأن الصدقة وإن كانت بصورة النقص فهي زيادة لأن ذلك إنما هو بيده سبحانه وتعالى فما شاء محقه وإن كان كثيراً أو ما أراد نماه وإن كان يسيراً فقال كالتعليل للأمر بالصدقة والنهي عن الربا ولكون فاعله من أهل النار : { يمحق الله } أي بما له من الجلال والقدرة { الربا } بما يفتح له من أبواب المصارف . قال الحرالي : والمحق الإذهاب بالكلية بقوة وسطوة { ويربي الصدقات } أي يزيد الصدقات بما يسد عنها مثل ذلك ويربح في تقلباتها؛ ويجوز كونه استئنافاً وذلك أنه لما تقرر أن فاعليه من أصحاب النار ساقه مساق الجواب لمن كأنه قال : وإن تصدقوا من أموال الربا وأنفقوا في سبيل الخير! إعلاماً بأن الربا مناف للخير فهو مما يكون هباء منثوراً . ولما آذن جعلهم من أصحاب النار أن من لم ينته عن الربا أصلاً أو انتهى وعاد إلى فعله مرتبك في شرك الشرك قاطع نحوه عقبات : ثنتان منها في انتهاك حرمة الله : ستر آياته في عدم الانتهاء ، والاستهانة بها في العود إليه ، الثالثة انتهاك حرمة عباد الله فكان إثمه متكرراً مبالغاً فيه لا يقع إلا كذلك عبر سبحانه وتعالى بصيغة المبالغة في قوله عطفاً على ما تقديره تعليلاً لما قبله : فالمتصدق مؤمن كريم والمربي كفار أثيم : { والله } المتصف بجميع صفات الكمال { لا يحب كل كفار } أي في واجب الحق بجحد ما شرع من آياته وسترها والاستهانة بها ، أو كفار لنعمته سبحانه وتعالى بالاستطالة بما أعطاه على سلب ما أعطى عباده { أثيم * } في واجب الخلق ، أي منهمك في تعاطي ما حرم من اختصاصاتهم بالربا وغيره ، فلذا لا يفعل معهم سبحانه وتعالى فعل المحب لا بالبركة في أموالهم ولا باليمن في أحوالهم ، وهذا النفي من عموم السلب ، وطريقه أنك تعتبر النفي أولاً ثم تنسبه إلى الكل ، فيكون المعنى : انتفى عن كل كفار أثيم حبه ، وكذا كل ما ورد عليك من أشباهه إن اعتبرت النسبة إلى الكل أولاً ثم نفيت فهو لسلب العموم ، وإن اعتبرت النفي أولاً ثم نسبته إلى الكل فلعموم السلب ، وكذلك جميع القيود؛ فالكلام المشتمل على نفي وقيد قد يكون لنفي التقييد وقد يكون لتقييد النفي ، فمثل : ما ضربته تأديباً ، أي بل إهانة ، سلب للتعليل والعمل للفعل ، وما ضربته إكراماً له ، أي تركت ضربه للإكرام ، تعليل للسلب والعمل للنفي ، وما جاءني راكباً ، أي بل ماشياً ، نفي للكيفية ، وما حج مستطيعاً ، أي ترك الحج مع الاستطاعة ، تكييف للنفي؛ وقد أشبع الشيخ سعد الدين التفتازاني رحمه الله تعالى الكلام في ذلك في شرحه للمقاصد في بحث الرؤية عند استدلال المعتزلة بقوله تعالى :
{ لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 104 ] .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
ولما بين تعالى ما سلبه عن الكافرين من محبته أتبعه ما أثبته للمؤمنين المصدقين من رحمة الملوح إليهم فيما قبل بالعطف على غير معطوف عليه ظاهر كما تقدم آنفاً على وجه لم يخله من ذكر النفقة فقال تعالى مشيراً إلى قسيم { ومن عاد } { إن الذين آمنوا } أي صدقوا بجميع ما أتتهم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم عن الله سبحانه وتعالى { وعملوا } تصديقاً لإيمانهم { الصالحات } ائتماراً وانتهاء لا سيما ترك الربا .
ولما كانت الصلاة زبدة الدين فيما بين الحق والخلق خصها بالذكر فقال : { وأقاموا الصلاة } بجميع حدودها { إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] . ولما كان الإيثار أجل ما بين الحق والخلق وزبدته إخراج الواجب من المال عن طيب نفس قال : { وآتوا الزكاة } فضلاً عن أن يبخلوا فضلاً عن أن يربوا ودل على أن جزاءهم بحسب النيات لثباتهم في فتنة الردة بقوله : { لهم أجرهم } وأعلم بحفظه وتنميمته بقوله : { عند ربهم } وآذن بتمام الانتفاع بقوله : { ولا خوف عليهم } أي من طارق يطرقهم بغير ما يلائمهم لأنهم في كنف العزيز العليم { ولا هم يحزنون } على شيء فاتهم فهم في غاية الرضى بما هم فيه ، ولعظيم الجدوى في ذلك كرره في هذه الآيات غير مرة ونوه به كرة في أثر كرة .
ولما كانت نتيجة الآية الماضية في الاعتماد على ما عند الله سبحانه وتعالى من الأجر وعدم الحزن على ما فات من ربا وغيره والخوف من شيء آت من فقر أو غيره ترك كل شيء ينسب إلى الربا وكان بين أهل الإسلام وأهل الجاهلية وبين بعضهم وبعض معاملات في الجاهلية ربوية لم تتم بعد بين أمرها نفياً لما قد يتوهم من قوله سابقاً { فله ما سلف } من تحليل بقايا الربا وأن النهي خاص بما تجدد منه فقال مخاطباً لأقرب من ذكره ممن تلبس بالإيمان ولم يلتفت إلى غيرهم تشريفاً لهم : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالتصديق بألسنتهم . ولما كان الربا قد يكون مؤجلاً فيكون صاحبه قد مضت عليه مدد وهو موطن نفسه على أخذه فيصير الكف عنه يعدل الموت عنده أبلغ سبحانه وتعالى في التشديد في هذه المواعظ فقال : { اتقوا الله } أي الذي له جميع العظمة تصديقا لإقراركم { وذروا } أي اتركوا أي ترك كان { ما بقي من الربا } أي الذي كنتم تتعاملون به فلا تستحلوه ولا تأكلوه .
ولما لوح في أول الآية إلى أن من أصر فهو غير صادق في دعوى الإيمان صرح بذلك في آخرها فقال : { إن كنتم مؤمنين } أي متصفين بما ذكرتموه بألسنتكم . قال الحرالي : فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان وأكثر بلايا هذه الأمة حتى أصابها ما أصاب بني إسرائيل من البأس الشنيع والانتقام بالسنين إنما هو من عمل من عمل بالربا ، وهذه الآية أصل عظيم في أحكام الكفار إذا أسلموا فما مضى منها لم ينقص وما لم يمض لم يفعل - نبه عليه الأصبهاني .
ولما كان من حق من عاند السيد الأخذ سبب عن ذلك قوله : { فإن لم تفعلوا } أي ترك الربا . قال الحرالي : في إشعاره أن طائقة منهم لا يذرونه بعد تحريمه بما أنهم ليسوا من الذين كانوا مؤمنين - انتهى . { فأذنوا بحرب } أي عظيمة . قال الحرالي : والحرب مدافعة بشدة عن اتساع ، المدافع بما يطلب منه الخروج عنه فلا يسمح به ويدافع عنه بأشد مستطاع؛ ثم عظم أمرها بإيراد الاسم الأعظم فقال : { من الله } العظيم الجليل { ورسوله } صلى الله عليه وسلم الذي هو أعظم الخلائق بتشريفه بالإضافة إليه . وقال الحرالي : الذي هيأه للرحمة ، فكان نبي الرحمة محارباً له ، فانقطعت وصلته من الرحيم والشفيع - انتهى . { وإن تبتم } أي فعلتم بعد الإذن بالقتال أو قبله ما أمركم الله به من ترك ما بقي منه { فلكم رؤوس أموالكم } أي كما هو حال البيع . ولما كان ذلك هو العدل لأنه الحق قال : { لا تظلمون } أي بأخذ شيء مما بقي من الربا { ولا تظلمون } بنقص من رأس المال أو دفع بمطال لأنه الحق . ولما كان الناس منقسمين إلى موسر ومعسر أي غني وفقير كان كأنه قيل : هذا حكم الموسر { وإن كان } أي وجد من المدينين { ذو عسرة } لا يقدر على الأداء في هذا الوقت { فنظرة } أي فعليكم نظرة له . قال الحرالي : وهو التأخير المرتقب نجازه { إلى ميسرة } إن لم ترضوا إلا بأخذ أموالكم؛ وقرأ نافع وحمزة بضم السين؛ قال الحرالي : إنباء عن استيلاء اليسر وهي أوسع النظرتين ، والباقون بالفتح إنباء عن توسطها ليكون اليسر في مرتبتين ، فمن انتظر إلى أوسع اليسرين كان أفضل توبة - انتهى . { وأن تصدقوا } أي وصدقتكم على المعسر بتركه له ، ذلكم { خير } في الدنيا بما يبارك الله سبحانه وتعالى { لكم } ويعوضكم وفي الآخرة بما يجزل لكم من الأجر .
ولما كان كل أحد يدعي العلم ويأنف أشد أنفة من النسبة إلى الجهل قال : { إن كنتم تعلمون } أي إن كنتم من ذوي العلم فأنتم تعرفون صحة ما دعوتكم إليه مما يقتضي الإدبار عنه أو الإقبال عليه ، فإذا تحققتم ذلك فامتثلوه فإنه يقبح على العلم بقبح الشيء الإصرار عليه وإلا فبينوا أنه ليس بخير وإلا فأنتم من أهل الاعوجاج بالجهل تقومون بالحرب والضرب والطعن كالسباع الضارية والذئاب العاوية . وقال الحرالي : فأعلم سبحانه وتعالى أن من وضع كيانه للعلم فكان ممن يدوم علمه؟ تنبه لأن خير الترك خير من خير الأخذ فأحسن بترك جميعه - انتهى .
وروى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « لما أنزلت الآيات الأواخر - وفي رواية : من آخر سورة البقرة في الربا - قرأهن النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية : على الناس في المسجد - ثم حرم التجارة في الخمر » وله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : « آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا » ولأبي عبيد عن ابن شهاب قال : آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين . وله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : آخر آية نزلت من القرآن { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] قال : زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال وبدىء به يوم السبت ومات يوم الاثنين - انتهى . ولا مخالفة لأنها من آية الربا والدين . وروى الحديث أبو عمرو الداني في كتاب « البيان في عدد آي القرآن » وقال فيه : « قال الملك : اجعلها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة » .
ولما كان من المعلوم أنه لا يدفعه حجة كان التقدير : فامتثلوا ما أمرتم به واجتنبوا ما نهيتم عنه ، فعطف عليه تخويفاً من يوم العرض عليه والمجازاة بين يديه فقال - وقال الحرالي : لما أنهي الخطاب بأمر الدين وعلنه وأمر الآخرة على وجوهها وإظهار حكمتها المرتبطة بأمر الدنيا وبين أمر الإنفاق والربا الذي هو غاية أمر الدين والدنيا في صلاحهما وأنهى ذلك إلى الموعظة بموعود جزائه في الدنيا والآخرة أجمل الموعظة بتقوى يوم الرجعة إلى إحاطة أمره ليقع الختم بأجمل موعظة وأشملها ليكون انتهاء الخطاب على ترهيب الأنفس لتجتمع عزائمها على ما هو ملاك أمرها من قبول صلاح دينها ودنياها ومعادها من خطاب الله سبحانه وتعالى لها فختم ذلك بكمال معناه بهذه الآية كما أنها هي الآية التي ختم بها التنزيل أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هو في الشكاية وهي آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مقابلة { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] الذي هو أول منزل النبوة و { يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] الذي هو أول منزل الرسالة فكان أول الأمر نذارة وآخره موعظة تبعث النفس على الخوف وتبعث القلب على الشوق من معنى ما انختم به أمر خطاب الله سبحانه وتعالى في آية { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] انتهى - فقال تعالى : { واتقوا يوماً } أي في غاية العظم { ترجعون فيه } حساً بذواتكم كما أنتم في الدنيا ومعنى بجميع أموركم رجوعاً ظاهراً لا يحجبه شيء من الأسباب ولا يحول دونه عارض ارتياب { إلى الله } الذي لا يحصر عظمته وصف ولا يحيط بها حد ، فيكون حالكم بعد النقلة من الدنيا كحالكم قبل البروز إليها من البطن لا تصرف لكم أصلاً ولا متصرف فيكم إلا الله ويكون حالكم في ذلك اليوم الإعسار ، لأنه لا يمكن أحد أن يكافىء ما لله سبحانه وتعالى عليه من نعمه ، فمن نوقش الحساب عذب؛ فإن كنتم تحبون المجاوزة عنكم هنالك فتجاوزوا أنتم عن إخوانكم اليوم ، وتصدقوا ما دمتم قادرين على الصدقة ، واتقوا النار في ذلك اليوم ولو بشق تمرة؛ وأشار سبحانه وتعالى إلى طول وقوفهم ذلك الموقف في مقام الهيبة وتمادي حبسهم في مشهد الجلال والعظمة بأداة التراخي في قوله { ثم } قال الحرالي وقيل :
« يا رسول الله! أين يكون الناس { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] ؟ قال : في الظلمة دون الجسر » وقال صلى الله عليه وسلم : « يقيمون في الظلمة ألف سنة » وورد عن علي رضي الله تعالى عنه في تفصيل مواقف يوم الجزاء أن الخلق يوقفون على قبورهم ألف سنة ويساقون إلى المحشر ألف سنة ، ويوقفون في الظلمة ألف سنة؛ ثم يكون انشقاق السماوات السبع وتبديل الأرض وما شاء الله سبحانه وتعالى من أمره انتظاراً لمجيئه؛ ففي عبرة مقاله والله سبحانه وتعالى أعلم أن ذلك يكون ستة آلاف سنة وأنها كما بنيت في ستة أيام تهدم في ستة أيام { كما بدأنا أول خلق نعيده } [ الأنبياء : 104 ] ، فيكون ذلك تسعة أيام؛ ويكون مجيئه في اليوم العاشر الذي هو يوم عاشوراء ذلك اليوم الذي تكرر مجيء أمره فيه في يوم الدنيا - ثم وصف صلى الله عليه وسلم المواقف إلى منتهاها - انتهى .
ولما كان إيقاف الإنسان على كل ما عمل من سر وعلن في غاية الكراهة إليه فضلاً عن جزائه على كل شيء منه لا بالنسبة إلى موقف معين بني للمفعول قوله : { توفى } أي تعطى على سبيل الوفاء { كل نفس ما كسبت } من خير وشر . قال الحرالي : جاء بصيغة فعل المشعر بجري العمل على غير تكلف وتحمل ، ففي إشعاره أنها توفى ما كسبت من الخير وما كونت له من الشر وأن ما تكلفته من الشر وفي دخلتها كراهية ربما غفر لها حيث لم تكن توفى ما كسبت وما اكتسبت كما قال في الآية التي بعدها { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [ البقرة : 286 ] فكان مكتسبها عليها وربما غفر لها فإنها وفيت ما كسبته من الشر واشتمل عليه ظاهرها وباطنها حتى يسرت له - انتهى .
ولما كانت عادة الناس أنه إذا بقي شيء يسير وقع في محل المسامحة وكان اليسير يختلف باختلاف الأصل فالألف مثلاً يتسامح فيه بمائة مثلاً بيّن أن الأمر عنده على غير ذلك فقال : { وهم لا يظلمون * } شيئاً من الأشياء ولو قلّ ، وهذا إشارة إلى العدل بين عباده قال الحرالي : وهذه الآية ختم للتنزيل وختم لتمام المعنى في هذه السورة التي هي سنام القرآن وفسطاطه وختم لكل موعظة وكل ختم ، فهو من خواص المحمدية الجامعة المفصلة من سورة الحمد المشيرة إلى تفاصيل عظيم أمر الله في حقه وفي خلقه وفيما بينه وبين خلقه - انتهى .
ولما نهى سبحانه وتعالى عن الربا وكان أحد مدايناتهم وكان غيره من الدين مأذوناً فيه وهو من أنواع الإنفاق مع دخوله في المطالبة برؤوس الأموال عقب ذلك بآية الدين . وأيضاً فإنه سبحانه وتعالى لما ذكر في المال أمرين ينقصانه ظاهراً ويزكيانه باطناً : الصدقة وترك الربا ، وأذن في رؤوس الأموال وأمر بالإنظار في الإعسار وختم بالتهديد فكان ذلك ربما أطمع المدين في شيء من الدين ولو بدعوى الإعسار اقتضى حال الإنسان لما له من النقصان الإرشاد إلى حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والتنبيه على كيفية التوثق فقال : { يا أيها الذين آمنوا } كالذي تقدمه { إذا تداينتم } من التداين تفاعل بين اثنين من الدين ، والدين في الأمر الظاهر معاملة على تأخير كما أن الدين بالكسر فيما بين العبد وبين الله سبحانه وتعالى معاملة على تأخير - قاله الحرالي . أي أوقعتم بينكم ذلك . والدين مال مرسل في الذمة سواء كان مؤجلاً أو لا ، وهو خلاف الحاضر والعين ، وقال : { بدين } مع دلالة الفعل عليه ليخرج بيع الدين بالدين ، لأنه مداينة بدينين . قال الحرالي : فكان في إعلامه أي بالإتيان بصيغة إذا أنهم لا بد أن يتداينوا لأنها حين منتظر في أغلب معناها - انتهى . وأرشد إلى ضبطه بالوقت إشارة إلى أنه يجوز كونه حالاً وإلى أن الأجل وهو الوقت المحدود وأصله التأخير إن كان مجهولاً كان باطلاً بقوله : { إلى أجل مسمى } قال الحرالي : من التسمية وهي إبداء الشيء باسمه للسمع في معنى المصور - وهو إبداء الشيء بصورته في العين .
ولما كان الله سبحانه وتعالى وهو العليم الخبير قد أجرى سنته في دينه بالكتابة فأمر ملائكته وهم الأمناء العدول بإثبات أعمال الخلق لحكم ومصالح لا تخفى وأنزل كتابه الشريف شهادة لهم وعليهم بما يوفونه في يوم الدين من ثواب وعقاب قطعاً لحججهم أمرهم أن يكون عملهم في الدين كما كان فعله في الدين فأرشدهم إلى إثبات ما يكون دينهم من المعاملات لئلا يجر ذلك إلى المخاصمات فقال سبحانه وتعالى أمراً للإرشاد لا للإيجاب { فاكتبوه } وفي ذكر الأجل إشارة إلى البعث الذي وقع الوعد بالوفاء فيه { أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون * } [ المؤمنون : 115 ] { ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده } [ الأنعام : 2 ] ولما أمر بالكتابة وكان المراد تحصيلها في الجملة لا من أحد بعينه لأن أغلب الناس لا يحسنها أتبعها الإرشاد إلى تخير الكاتب بقوله : { وليكتب بينكم } أي الدين المذكور { كاتب } وإن كان صبياً أو عبداً كتابة مصحوبة { بالعدل } استناناً به سبحانه وتعالى في ملائكته
{ وإن عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * } [ الانفطار : 10 ] { بأيدي سفرة * كرام بررة * } [ عبس : 15 ] .
ولما أرشد إلى تخير الكاتب تقدم إليه بالنهي تقديماً لدرء المفاسد ثم الأمر فقال : { ولا يأب كاتب أن يكتب } أي ما ندب إليه من ذلك { كما علمه الله } أي لأجل الذي هو غني عنه وعن غيره من خلقه شكراً له على تلك النعمة وكتابة مثل الكتابة التي علمها الله سبحانه وتعالى لا ينقص عنها شيئاً { فليكتب } وفي ذلك تنبيه على ما في بذل الجهد في النصيحة من المشقة .
ولما كان ذلك وكان لا بد فيه من ممل بين من يصح إملاؤه للمكتوب فقال : { وليملل } من الإملال وهو إلقاء ما تشتمل عليه الضمائر على اللسان قولاً وعلى الكتاب رسماً - قاله الحرالي { الذي عليه الحق } ليشهد عليه المستملي ومن يحضره .
ولما كانت الأنفس مجبولة على محبة الاستئثار على الغير حذرها مما لا يحل من ذلك فقال : { وليتق الله } فعبر بالاسم الأعظم ليكون أزجر للمأمور ثم قال : { ربه } تذكيراً بأنه لإحسانه لا يأمر إلا بخير ، وترجية للعوض في ذلك إذا أدى فيه الأمانة في الكم والكيف من الأجل وغيره؛ وأكد ذلك بقوله : { ولا يبخس } من البخس وهو أسوأ النقص الذي لا تسمح به الأنفس لبعده عن محل السماح إلى وقوعه في حد الضيم { منه شيئاً } .
ولما كان هذا المملي قد يكون لاغي العبارة وكان الإملاء لا يقدر عليه كل أحد قال سبحانه وتعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } فلا يعتبر إقراره لضعف رأيه ونظره ونقص حظه من حكمة الدنيا { أو ضعيفاً } عن الإملاء في ذلك الوقت لمرض أو غيره من صبا أو جنون أو هرم من الضعف وهو وهن القوى حساً أو معنى { أو لا يستطيع أن يمل هو } كعيّ أو حياء أو عجمة ونحوه { فليملل وليه } القائم لمصالحه من أب أو وصي أو حاكم أو ترجمان أو وكيل { بالعدل } فلا يحيف عليه ولا على ذي الحق . قال الحرالي : فجعل لسان الولي لسان المولى عليه ، فكان فيه مثل لما نزل به الكتاب من إجراء كلام الله سبحانه وتعالى على ألسنة خلقه في نحو ما تقدم من قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } [ الفاتحة : 5 ] وما تفصل منها { الله ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] أمل ما عليهم من الحقوق له فجعل كلاماً من كلامه يتلونه ، فكان الإملال منه لهم لتقاصرهم عن واجب حقه تقاصر السفيه ومن معه عن إملال وليه عنه لرشده وقوته وتمكن استطاعته - انتهى .
ولما لم يكن بين الكتابة والشهادة ملازمة نص عليها وبين أهلها فقال : { واستشهدوا } أي اطلبوا الشهادة وأوجدوها مع الكتابة ودونها { شهيدين } قال الحرالي فجعل شهادة الدين باثنين كما جعل الشاهد في الدين اثنين : شاهد التفكر في الآيات المرئية وشاهد التدبر للآيات المسموعة ، وفي صيغة فعيل مبالغة في المعنى في تحقق الوصف بالاستبصار والخبرة - انتهى .
ولما بيّن عدد الشاهد بيّن نوعه فقال : { من رجالكم } وأعلم بالإضافة اشتراط كونه مسلماً وإطلاق هذا الذي ينصرف إلى الكامل مع ما يؤيده في الآية يفهم الحريّة كقوله { ولا يأب الشهداء } والإتيان بصيغة المبالغة في الشاهد وتقييده مع ذلك بالرضى وتعريف الشهداء ونحوه . قال الحرالي : ولكثرة المداينة وعمومها وسع فيها الشهادة فقال : { فإن لم يكونا } أي الشاهدان { رجلين } أي على صفة الرجولية كلاهما { فرجل وامرأتان } وفي عموم معنى الكون إشعار بتطرق شهادة المرأتين مع إمكان طلب الرجل بوجه ما من حيث لم يكن ، فإن لم تجدوا ففيه تهدف للخلاف بوجه ما من حيث إن شمول الكتاب توسعة في العلم سواء كان على تساو أو على ترتب؛ ولما كنّ ناقصات عقل ودين جعل ثنتان منهن مكان رجل - انتهى . ولما بيّن العدد بيّن الوصف فقال : { ممن ترضون } أي في العدالة { من الشهداء } هذا في الديون ونحوها . قال الحرالي : وفي مفهوم الشهادة استبصار نظر الشاهد لما في الشهود من إدراك معنى خفي في صورة ظاهر يهدي إليها النظر النافذ - انتهى .
ولما شرط في القيام مقام الواحد من الرجال العدد من النساء علله بما يشير إلى نقص الضبط فيهن فقال : { أن تضل إحداهما } أي تغيب عنها الشهادة فتنساها أو شيئاً منها { فتذكر إحداهما الأخرى } فتهتدي إلى ما ضلت عنه بواسطة الذاكرة . قال الحرالي : بما هي أعرف بمداخل الضلال عليها ، لأن المتقاربين أقرب في التعاون ، وفي قراءتي التخفيف والتثقيل إشعار بتصنيف النساء صنفين في رتبة هذه الشهادة من يلحقها الضلال عن بعض ما شهدت فيه حتى تذكر بالتخفيف ولا يتكرر عليها ذلك ومن شأنها أن يتكرر عليها ذلك ، وفي إبهامه بلفظ إحدى أي من غير اقتصار على الضمير الذي يعين ما يرجع إليه إشعار أن ذلك يقع بينهما متناوباً حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر فأذكرت كل واحدة منهما صاحبتها فلذلك يقوم بهما معاً شاهد واحد حافظ - انتهى . وفي ذكر الإذكار منع من الشهادة بدون الذكر ، والآية من الاحتباك . ولما أفهم ذلك الحث على الشهادة صرح به في قوله : { ولا يأب الشهداء } أي تحمل الشهادة وأدائها بعد التحمل { إذا ما دعوا } دعاء جازماً بما أفهمته زيادة ما .
ولما تمّ ذلك وكان صغير الحق وكبيره ربما تُركت تهاوناً بالصغير ومللاً للكبير حذر من ذلك ولم يجعله في صلب الأمر قبل الإشهاد بل أفرده بالذكر تعظيماً لشأنه فقال : { ولا تسئموا } من السآمة . قال الحرالي : بناء مبالغة وهو أشد الملالة { أن تكتبوه } أي لا تفعلوا فعل السئيم فتتركوا كتابته { صغيراً } كان الدين { أو كبيراً } طالت الكتابة أو قصرت .
قال الحرالي : ولم يكن قليلاً أو كثيراً ، لأن الكثرة والقلة واقعة بالنسبة إلى الشيء المعدود في ذاته ، والصغير والكبير يقع بالنسبة إلى المداين ، فربما كان الكثير في العدد صغير القدر عند الرجل الجليل المقدار ، وربما كان القليل العدد كثيراً بالنسبة إلى الرجل المشاحح فيه ، فكان الصغر والكبر أشمل وأرجع إلى حال المداين الذي هو المخاطب بأن يكتب انتهى . { إلى أجله } أي الذي توافقتم وتواثقتم عليه .
ولما كان كأنه قيل : ما فائدة ذلك؟ فقيل : { ذلكم } إشارة بأداة البعد وميم الجمع إلى عظم جدواه . قال الحرالي : ولبيانه ووضوحه عندهم لم يكن إقبالاً على النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقبل عليه في الأمور الخفية - انتهى . { أقسط } أي أعدل فقد نقل عن ابن السيد أنه قال في كتابه الاقتضاب : إن قسط بمعنى جار وبمعنى عدل . وقال الحرالي : { أقسط } من الإقساط وهو وضع القسط وهو حفظ الموازنة حتى لا تخرج إلى تطفيف . ثم زاد تعظيمه بقوله : { عند الله } أي الذي هو محيط بصفات الكمال بالنسبة إلى كل صفة من صفاته ، لأنه يحمل على العدل بمنع المغالطة والتلون في شيء من أحوال ذلك الدين { وأقوم للشهادة } أي وأعدل في قيام الشهادة إذا طلب من الشاهد أن يقيمها بما هو مضبوط له وعليه { وأدنى } أي أقرب في { ألاّ ترتابوا } أي تشكوا في شيء من الأمر الذي وقع . قال الحرالي : ففي إشعاره أنه ربما داخل الرجل والرجلين نحو ما داخل المرأتين فيكون الكتاب مقيماً لشهادتهما ، فنفى عن الرجال الريبة بالكتاب كما نفى عن النساء الضلال بالذكر - انتهى .
ولما كان الدين المؤجل أعم من أن يكون قرضاً أو تجارة ينمي بها المال المأمور بالإنفاق منه في وجوه الخير النافعة يوم الدين وكان قد أكد في أمر الكتابة تأكيداً ربما ظن معه الحث عليها ولو لم يكن أجل نبه على أن العلة فيها الأجل الذي هو مظنة النسيان المستولي على الإنسان بقوله : { إلا أن تكون } أي المداينة { تجارة حاضرة } هذا على قراءة عاصم ، وكان في قراءة غيره تامة { تديرونها بينكم } أي يداً بيد ، من الإدارة . قال الحرالي : من أصل الدور وهو رجوع الشيء عوداً على بدئه { فليس عليكم } حينئذ { جناح } أي اعتراض في { ألاّ تكتبوها } أي لأنها مناجزة وهي عرض زائل لا يكاد يستقر في يد أحد لأن القصد به المتجر لا الاستبقاء فبعد ما يخشى من التجاحد .
ولما كان البيع أعم من أن يقصد به المتجر أو غير ذلك من وجوه الانتفاع قال : { وأشهدوا } سواء كانت كتابة أو لا { إذا تبايعتم } أي على وجه المتجر عاجلاً أو آجلاً أو لا للمتجر ، لأن الإشهاد أبعد من الخلاف وأقرب إلى التصادق بما فيه من الإنصاف ، والأمر للإرشاد فلا يجب .
ولما ألزم في صدر الخطاب الكاتب أن يكتب والشهيد أن يجيب ولا يأبى وأكد ذلك بصيغة تشمل المستكتب والمستشهد فقال ناهياً : { ولا يضار } يصح أن يكون للفاعل والمفعول وهو صحيح المعنى على كل منهما { كاتب ولا شهيد } أي لا يحصل ضرر منهم ولا عليهم . قال الحرالي : ففي إلاحته تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده ويعينه على الائتمار لأمر ربه بما يدفع عنه من ضرر عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه ، ففي تعريضه إجازة لما يأخذه الكاتب ومن يدعي لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض له فيما يضره التخلي عنه - انتهى . { وإن تفعلوا } أي ما نهيتم عنه من الضرار وغيره { فإنه فسوق } أي خروج { بكم } عن الشرع الذي نهجه الله لكم . قال الحرالي : وفي صيغة فعول تأكيد فيه وتشديد في النذارة - انتهى .
وختم آيات هذه المعاملات بصفة العلم بعد الأمر بالتقوى في غاية المناسبة لما يفعله المتعاملون من الحيل التي يجتلب كل منهم بها الحظ لنفسه ، والترغيب في امتثال ما أمرهم به في هذه الجمل بأنه من علمه وتعليمه فقال تعالى - عاطفاً على ما تقدم من أمر ونهي ، أو على ما تقديره : فافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه- : { واتقوا الله } أي خافوا الذي له العظمة كلها فيما أمركم به ونهاكم من هذا وغيره . ولما كان التقدير استئنافاً لبيان فخامة هذه التنبيهات يرشدكم الله إلى مثل هذه المراشد لإصلاح ذات بينكم ، عطف عليه قوله : { ويعلمكم الله } أي يدريكم الذي له الكمال كله بذلك على العلم . وقال الحرالي : وفي قوله : { يعلم } بصيغة الدوام إيذان بما يستمر به التعليم من دون هذا المنال انتهى .
وأظهر الاسم الشريف هنا وفي الذي بعده تعظيماً للمقام وتعميماً للتعليم فقال : { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { بكل شيء عليم * } وهذا الختم جامع لبشرى التعليم ونذارة التهديد .
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
ولما كان التقدير : هذا إذا كنتم حضوراً يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد ، عطف عليه قوله : { وإن كنتم } ولما كان الإنسان في السفر يكون مستجمع القوى كامل الآلات تام الأهبة عبر بأداة الاستعلاء فقال : { على سفر } يعوز مثله إحضار كاتب { ولم تجدوا كاتباً فرهان } أي فيغنيكم عن الكتب رهن يكون بدلاً عنه ، وقرىء : فرهان ، وكلاهما جمع رهن - بالفتح والإسكان ، وهو التوثقة بالشيء مما يعادله بوجه ما . وأشار بأن بدليتها لا تفيد إلا بما وصفها من قوله : { مقبوضة } أي بيد رب الدين وثيقة لدينه .
ولما كان التقدير : هذا إن تخوفتم من المداين ، عطف عليه قوله : { فإن أمن } ولما كان الائتمان تارة يكون من الدائن وتارة يكون من الراهن قال : { بعضكم بعضاً } أي فلم تفعلوا شيئاً من ذلك { فليؤد } أي يعط ، من الأداء وهو الإتيان بالشيء لميقاته . ولما كان المراد التذكير بالإحسان بالائتمان ليشكر ولم يتعلق غرض بكونه من محسن معين بني للمفعول قوله : { الذي اؤتمن } من الائتمان وهو طلب الأمانة وهو إيداع الشيء لحفيظته حتى يعاد إلى المؤتمن - قاله الحرالي : { أمانته } وهو الدين الذي ترك المؤتمن التوثق به من المدين إحساناً إليه وحسن ظن به ، وكذا إن كان الائتمان من جهة الراهن { وليتق الله } المستجمع لصفات العظمة { ربه } أي الذي رباه في نعمه وصانه من بأسه ونقمه وعطّف عليه قلب من أعطاه وائتمنه ليؤدي الحق على الصفة التي أخذه بها فلا يخن في شيء مما اؤتمن عليه .
ولما كانت الكتابة لأجل إقامة الشهادة وكانت الأنفس مجبولة على الشح مؤسسة على حب الاستئثار فيحصل بسبب ذلك مخاصمات ويشتد عنها المشاحنات وربما كان بعض المخاصمين ممن يخشى أمره ويرجى بره فيحمل ذلك الشهود على السكوت قال سبحانه وتعالى : { ولا تكتموا الشهادة } أي سواء كان صاحب الحق يعلمها أو لا . ولما نهى أتبع النهي التهديد فقال : { ومن يكتمها فإنه آثم } ولما كان محلها القلب الذي هو عمدة البدن قال : { قلبه } ومن أثم قلبه فسد ، ومن فسد قلبه فسد كله ، لأن القلب قوام البدن ، إذا فسد فسد سائر الجسد .
ولما كان التقدير : فإن الله سبحانه وتعالى عالم بأنه كتم وكان للشهداء جهات تنصرف بها الشهادة عن وجه الإقامة عطف عليه قوله - ليشمل التهديد تلك الأعمال بإحاطة العلم : { والله } أي المحيط بجميع صفات الكمال . ولما كان الإنسان هو المقصود الأعظم من سائر الأكوان فكانت أحواله مضبوطة بأنواع من الضبط كأن العلم البليغ مقصور عليه فلذلك قدم قوله : { بما تعملون } أي كله وإن دق سواء كان فعل القلب وحده أو لا { عليم * } قال الحرالي : فأنهى أمر ما بين الحق والخلق ممثولاً وأمر ما بين الخلق والخلق مثلاً - انتهى .
ولما أخبر عن سعة علمه دل عليه بسعة ملكه المستلزم لسعة قدرته ليدل ذلك على جميع الكمال لأنه قد ثبت كما قال الأصبهاني إن الصفات التي هي كمالات حقيقة ليست إلا القدرة والعلم المحيط فقال واعداً للمطيع متوعداً للعاصي مصرحاً بأن أفعال العباد وغيرها مخلوق له : - وقال الحرالي : ولما كان أول السورة إظهار كتاب التقدير في الذكر الأول كان ختمها إبداء أثر ذلك الكتاب الأول في الأعمال والجزاء التي هي الغاية في ابتداء أمر التقدير فوقع الختم بأنه سلب الخلق ما في أيديهم مما أبدوه وما أخفوه من أهل السماوات و الأرض؛ انتهى - فقال : { لله } أي الملك الأعظم . ولما كانت ما ترد لمن يغفل وكان أغلب الموجودات والجمادات عبر بها فقال : { ما في السماوات } أي كله على علوها واتساعها من ملك وغيره { وما في الأرض } مما تنفقونه وغيره من عاقل وغيره ، يأمر فيهما ومنهما بما يشاء وينهى عما يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء ويضاعف لمن يشاء .
ولما كان التقدير : فهو يعلم جميع ما فيهما من كتمانكم وغيره ويتصرف فيه بما يريد ، عطف عليه محذراً من يكتم الشهادة أو يضمر سوءاً غيرها أو يظهره قوله تعالى : { وإن تبدوا } أي تظهروا { ما في أنفسكم } من شهادة أو غيرها { أو تخفوه } مما وطنتموه في النفس وعزمتم عليه وليس هو من الخواطر التي كرهتموها ولم تعزموا عليها . قال الحرالي : من الإخفاء وهو تغييب الشيء وأن لا يجعل عليه علم يهتدي إليه من جهته { يحاسبكم } من المحاسبة مفاعلة من الحساب والحسب ، وهو استيفاء الأعداد فيما للمرء وعليه من الأعمال الظاهرة والباطنة يعني ليجازي بها { به الله } أي بذكره لكم وأنتم تعلمون ما له من صفات الكمال . قال الحرالي : وفي ضمن هذا الخطاب لأولي الفهم إنباء بأن الله سبحانه وتعالى إذا عاجل العبد بالحساب بحكم ما يفهمه ترتيب الحساب على وقوع العمل حيث لم يكن فيحاسبكم مثلاً فقد أعظم اللطف به ، لأن من حوسب بعمله عاجلاً في الدنيا خف جزاؤه عليه حيث يكفر عنه بالشوكة يشاكها حتى بالقلم يسقط من يد الكاتب ، فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من ذنوبه وفراغ من حسابه كالذي يتعاهد بدنه وثوبه بالتنظيف فلا يتسخ ولا يدرن ولا يزال نظيفاً - انتهى وفيه تصرف .
ولما كان حقيقة المحاسبة ذكر الشيء والجزاء عليه وكان المراد بها هنا العرض وهو الذكر فقط بدلالة التضمن دل عليه بقوله مقدماً الترجئة معادلة لما أفهمه صدر الآية من التخويف : { فيغفر لمن يشاء } أي فلا يجازيه على ذلك كبيرة كان أو لا { ويعذب من يشاء } بتكفير أو جزاء .
ولما أخبر سبحانه وتعالى بهذا أنه مطلق التصرف ختم الكلام دلالة على ذلك بقوله مصرحاً بما لزم تمام علمه من كمال قدرته : { والله } أي الذي لا أمر لأحد معه { على كل شيء قدير * } أي ليس هو كملوك الدنيا يحال بينهم وبين بعض ما يريدون بالشفاعة وغيرها . قال الحرالي : فسلب بهذه الآية القدرة عن جميع الخلق - انتهى . وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية خاصة بأمر الشهادة ، وقال الأكثرون : هي عامة كما فهمها الصحابة رضوان الله سبحانه وتعالى عليهم في الوسوسة وحديث النفس المعزوم عليه وغيره ثم خففت بما بعدها ، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : « لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { لله ما في السماوات } الآية إلى { قدير } اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا : يا رسول الله! كُلّفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : { سمعنا وعصينا } [ البقرة : 93 ] ، قولوا : { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } قالوا : { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } .
فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها { آمن الرسول بما أنزل إليه } إلى { المصير } فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى وأنزل { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } إلى { أو أخطأنا } قال : نعم » قال البغوي : وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما : قد فعلت ، واستمر إلى آخر السورة كلما قرؤوا جملة قال : نعم . فقد تبين من هذا تناسب هذه الآيات ، وأما مناسبتها لأول السورة رداً للمقطع على المطلع فهو أنه لما ابتدأ السورة بوصف المؤمنين بالكتاب الذي لا ريب فيه على الوجه الذي تقدم ختمها بذلك بعد تفصيل الإنفاق الذي وصفهم به أولها على وجه يتصل بما قبله من الأوامر والنواهي والاتصاف بأوصاف الكمال أشد اتصال ، وجعل رأسهم الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام تعظيماً للمدح وترغيباً في ذلك الوصف فأخبر بإيمانهم بما أنزل إليه بخصوصه وبجميع الكتب وجميع الرسل وبقولهم الدال على كمال الرغبة وغاية الضراعة والخضوع فقال استئنافاً لجواب من كأنه قال : ما فعل من أنزلت عليه هذه الأوامر والنواهي وغيرها؟ { آمن الرسول } أي بما ظهر له من المعجزة القائمة على أن الآتي إليه بهذا الوحي ملك من عند الله سبحانه وتعالى كما آمن الملك به بما ظهر له من المعجزة الدالة على أن الذي أتى به كلام الله أمره الله سبحانه وتعالى بإنزاله فعرفه إشارة إلى أنه أكمل الرسل في هذا الوصف باعتبار إرساله إلى جميع الخلائق الذين هم لله سبحانه وتعالى ، وأنه الجامع لما تفرق فيهم من الكمال ، وأنه المخصوص بما لم يعطه أحد منهم من المزايا والأفضال { بما أنزل إليه } أي من أن الله سبحانه وتعالى يحاسب بما ذكر وغير ذلك مما أمر بتبليغه ومما اختص هو به ورغب في الإيمان بما آمن به بقوله : { من ربه } أي المحسن إليه بجليل التربية المزكي له بجميل التزكية فهو لا ينزل إليه إلا ما هو غاية في الخير ومنه ما حصل له في دنياه من المشقة .
قال الحرالي : فقبل الرسول هذا الحساب الأول العاجل الميسر ليستوفي أمره منه وحظه في دنياه ، قال صلى الله عليه وسلم لما قالت له فاطمة رضي الله تعالى عنها عند موته : واكرباه! : « لا كرب على أبيك بعد اليوم » وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله تعالى عنه « ما أوذي أحد في الله ما أوذيت » فنال حظه من حكمة ربه في دنياه حتى كان يوعك كما يوعك عشرة رجال ، وما شبع من خبز بر ثلاثاً تباعاً عاجلاً حتى لقي الله؛ وكذلك المؤمن لا راحة له دون لقاء ربه ولا سجن عليه بعد خروجه من دنياه ، « الحمى حظ كل مؤمن من النار » انتهى . ولما أخبر عن الرأس أخبر عمن يليه فقال : { والمؤمنون } معبراً بالوصف الدال على الرسوخ أي آمنوا بما ظهر لهم من المعجزة التي أثبتت أنه كلام الله سبحانه وتعالى بما دلت على أن الآتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما أجمل فصل فقال مبتدئاً : { كل } أي منهم . قال الحرالي : فجمعهم في كلية كأن قلوبهم قلب واحد لم يختلفوا ، لأن القبول واحد والرد يقع مختلفاً - انتهى . ثم أخبر عن ذلك المبتدأ بقوله : { آمن بالله } أي لما يستحقه من ذلك لذاته لما له من الإحاطة بالكمال { وملائكته } الذين منهم النازلون بالكتب ، لأن الإيمان بالمنزل يستلزم ذلك { وكتبه } أي كلها { ورسله } كلهم ، من البشر كانوا أو من الملائكة ، فإن فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم الإخبار بذلك . قال الحرالي : انقياداً لامتثال من البشر .
ولما كان في الناس من يؤمن ببعض الأنبياء ويكفر ببعض قال مؤكداً لما أفهمته صيغة الجمع المضاف من الاستغراق أي قالوا : { لا نفرق } كما فعل أهل الكتاب وعبر بما يشمل الاثنين فما فوقهما فقال : { بين أحد } أي واحد وغيره { من رسله } أي لا نجعل أحداً منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه في ذلك بل نؤمن بكل واحد منهم ، والذي دل على تقدير « قالوا » دون غيره أنه لما أكمل قولهم في القوة النظرية الكفيلة باعتقاد المبدأ أتبعه قولهم في القوة العملية الكائنة في الوسط عطفاً عليها : { وقالوا سمعنا } أي بآذان عقولنا كل ما يمكن أن يسمع عنك وعلمناه وأذعنا له { وأطعنا } أي لكل ما فيه من أمرك .
قال الحرالي : فشاركوا أهل الكتاب في طليعة الإباء وخالفوهم في معاجلة التوبة والإقرار بالسمع والطاعة فكان لهؤلاء ما للتائب وعلى أولئك ما على المصر - انتهى .
ولما كان الإنسان محل الزلل والنقصان أشاروا إلى ذلك تواضعاً منهم كما هو الأولى بهم لمقام الألوهية فقالوا مع طاعتهم معترفين بالمعاد : { غفرانك } أي اغفر لنا أو نسألك غفرانك الذي يليق إضافته إليك لما له من الكمال والشرف والجلال ما قصرنا فيه ولا تؤاخذنا به فإنك إن فعلت ذلك هلكنا ، والحاصل أنهم طلبوا أن يعاملهم بما هو أهله لا بما هم أهله فجرى بما جراهم عليه في قوله : { فيغفر لمن يشاء } . قال الحرالي : فهذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم كشف عيان ، ومن المؤمنين نشء إيمان ، ومن القائلين للسمع والطاعة قول إذعان ، فهو شامل للجميع كل على رتبته - انتهى . وزادوا تملقاً بقولهم : { ربنا } ذاكرين وصف الإحسان في مقام طلب الغفران . قال الحرالي : وهو خطاب قرب من حيث لم يظهر فيه أداة نداء ، ولم يجر الله سبحانه وتعالى على ألسنة المؤمنين في كتابه العزيز نداء بُعد قط؛ والغفران فعلان صيغة مبالغة تعطي الملء ليكون غفراً للظاهر والباطن وهو مصدر محيط المعنى نازل منزلة الاستغفار الجامع لما أحاط به الظاهر والباطن مما أودعته الأنفس التي هي مظهر حكمة الله سبحانه وتعالى التي وقع فيها مجموع الغفران والعذاب { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } ففي ضمنه بشرى بتعيين القائلين المذعنين ومن تبعهم بالقول لحال المغفرة ، لأن هذه الخواتيم مقبولة من العبد بمنزلة الفاتحة لاجتماعهما في كونهما من الكنز الذي تحت العرش ، وعلى ما ورد من قوله : « حمدني عبدي - إلى أن قال : ولعبدي ما سأل » وعلى ما ورد في دعاء هذا الختم في قوله : « قد فعلت قد فعلت » وبما ابتدأ تعالى به آية هذا الحساب وختمها به من سلب الأمر أولاً وسلب القدرة عما سواه آخراً ، وكان في الابتداء والختم إقامة عذر القائلين ، فوجب لهم تحقق الغفران كما كان لأبيهم آدم حيث تلقى الكلمات من ربه - انتهى .
ولما كان التقدير بما أرشد إليه { ربنا } : فإنه منك مبدأنا ، عطف عليه قوله حثاً على الاجتهاد في كل ما أمر به ونهى عنه على وجه الإخلاص : { وإليك } أي لا إلى غيرك { المصير } أي مطلقاً لنا ولغيرنا . وقال ابن الزبير : ولما بين سبحانه وتعالى أن الكتاب هو الصراط المستقيم ذكر افتراق الأمم كما يشاء وأحوال الزائغين والمتنكبين تحذيراً من حالهم ونهياً عن مرتكبهم وحصل قبيل النزول بجملته وانحصار التاركين وأعقب بذكر ملتزمات المتقين وما ينبغي لهم امتثاله والأخذ به من الأوامر والأحكام والحدود وأعقب ذلك بأن المرء يجب أن ينطوي على ذلك ويسلم الأمر لمالكه فقال سبحانه وتعالى : { آمن الرسول بما أنزل } فأعلم أن هذا إيمان الرسول ومن كان معه على إيمانه وأنهم قالوا : { سمعنا وأطعنا } لا كقول بني إسرائيل .
{ سمعنا وعصينا } [ البقرة : 93 ] وأنه أثابهم على إيمانهم رفع الإصر والمشقة والمؤاخذة بالخطأ والنسيان فقال : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ، فحصل من هذه السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال أخذاً وتركاً وبيان شرف من أخذ به وسوء حال من تنكب عنه . وكان العباد لما علموا { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] - إلى آخر السورة قيل لهم : عليكم بالكتاب - إجابة لسؤالهم؛ ثم بين لهم حال من سلك ما طلبوا فكان قيل لهم : أهل الصراط المستقيم وسالكوه هم الذين بيّن شأنهم وأمرهم ، والمغضوب عليهم من المتنكبين هم اليهود الذين بين أمرهم وشأنهم ، والضالون هم النصارى الذين بيّن أمرهم وشأنهم؛ فيجب على من رغب في سلوك الصراط المستقيم أن يحذر ما أصاب هؤلاء مما نبه عليه وأن يأخذ نفسه بكذا وكذا وأن ينسحب إيمانه على كل ذلك ، وأن يسلم الأمر لله الذي تطلب منه الهداية ، ويتضرع إليه بأن لا يؤاخذه بما يثمره الخطأ والنسيان ، وأن لا يحمله ما ليس في وسعه ، وأن يعفو عنه - إلى آخر السورة؛ انتهى .
ولما مُنّوا بالإيمان في سؤال الغفران عللوا السؤال بقولهم : { لا يكلف الله } أي الملك الأعظم الرحيم الأكرم الذي له جميع صفات الكمال { نفساً إلا وسعها } أي ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه ، وذلك هو الممكن لذاته الذي يتعلق اختيار العبد بفعله ، ولم يخبر الله تعالى بأنه لا يقع لا المحال لذاته ولا الممكن لذاته سواء كان مما لا مدخل للإنسان في اختياره كالنوم أو كان له مدخل فيه وقد تعلق العلم الأزلي بعدم وقوعه وأخبر سبحانه وتعالى بعدم وقوعه معيناً لصاحبه ، فهذا لا يقع التكليف به ويجوز التكليف به؛ وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلباً للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه وتعالى خوفاً من أن يكلفوا بما لله سبحانه وتعالى كما دلت عليه الآية وقول المؤمنين عند نزولها وجواب النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس التي لا يقع العزم عليها لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه فهو من باب :
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم ومن صفات الحلم والرحمة والرأفة ما يرفه عنهم ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله سبحانه وتعالى جزاء لهم على قولهم { سمعنا وأطعنا } - الآية ، فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس الذي لا عزم فيه؛ فانتفى ما شق عليهم من قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم } - الآية ، بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم
{ سمعنا وعصينا } [ البقرة : 93 ] من الآصار في الدنيا والآخرة ، فيكون حينئذ استئنافاً جواباً لمن كأنه قال : هل أجاب دعاءهم؟ ويكون شرح قوله أول السورة : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستفتاح بقوله : { لها } أي خاصاً بها { ما كسبت } وذكر الفعل مجرداً في الخير إيماء إلى أنه يكفي في الاعتداد به مجرد وقوعه ولو مع الكسل بل ومجرد نيته . قال الحرالي : وصيغة فعل مجردة تعرب عن أدنى الكسب فلذلك من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة - انتهى . { وعليها } أي بخصوصها { ما اكتسبت } فشرط في الشر صيغة الافتعال الدالة على الاعتمال إشارة إلى أن من طبع النفس الميل إلى الهوى بكليتها وإلى أن الإثم لا يكتب إلاّ مع التصميم والعزم القوي الذي إن كان عنه عمل ظاهر كان بجد ونشاط ورغبة وانبساط ، فلذلك من همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، وربما جاءت العبارة بخلاف ذلك لمعنى في ذلك السياق اقتضاه المقام .
ولما بشرهم بذلك عرفهم مواقع نعمه في دعاء رتبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي إعلاماً بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسياناً ولا بما قارفوه خطأ ولا حمل عليهم ثقلاً بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاً ولا حملهم فوق طاقتهم مع أن له جميع ذلك ، وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم ، ثم رحمهم بأن أحلهم محل القرب فجعلهم أهلاً للخلافة؛ فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر ويظهر دينهم على كل دين ، إذ كان سبحانه وتعالى هو الداعي عنهم ، وليكون الدعاء كله محمولاً على الإصابة ومشمولاً بالإجابة فقال سبحانه وتعالى : { ربنا لا تؤاخذنا } أي لا تفعل معنا فعل من يناظر خصماً فهو يناقشه على كل صغير وكبير { إن نسينآ } أي ففعلنا ما نهيتنا عنه { أو أخطأنا } أي فعلناه ذاكرين له لكنا لم نتعمد سوءاً . قال الحرالي : والخطأ هو الزلل عن الحد عن غير تعمد بل مع عزم الإصابة أو ودّ أن لا يخطىء ، وفي إجرائه من كلام الله سبحانه وتعالى على لسان عباده قبوله - انتهى . وإعادة ربنا في صدر كل جملة من هذا الطراز كما تقدمت الإشارة إليه في التذكير بعظم المقام في حسن التربية ولطف الإحسان والرأفة .
ولما كان ذلك قد يكون فإن له أن يكلف بما يشاء مع تحميل ما تعظم مشقته من التكاليف فإنه لا يسأل عما يفعل قال : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } أي ثقلاً .
قال الحرالي : هو العهد الثقيل أي الذي في تحمله أشد المشقة - انتهى . ثم عظم المنة بقوله : { كما حملته على الذين من قبلنا } إشارة إلى أنه كان حمل على من سبق من الأحكام ما يهدّ الأركان تأكيداً لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا ، وأصل الإصر العاطف ، أصره الشيء يأصره : عطفه ، ويلزمه الثقل لأن الغصن إذا ثقل مال وانعطف وهو المقصود هنا؛ وتلك الآصار المشار إليها كثيرة جداً ، منها ما في السفر الثاني من التوراة في القربان أنه ينضح من دك الذبيحة على زوايا المذبح ، ثم قال : ومن تقرب بذبح ثور أو غيره في مكان غير باب قبة الزمان بيت الرب يعاقب ذلك الرجل عقوبة من قتل قتيلاً لأنه سفك دماً ويهلك ذلك الرجل من شعبه ، ومن أكل دماً نزل به الغضب وهلك لأن أنفس البهائم هي الدم ، وإنما أمروا أن يقربوه على المذبح لغفران خطاياهم وتطهير أنفسهم لأنه إنما يغفر للنفس بالدم ، ومن قرب قرباناً أكل منه يوم ذبحه وثانيه ، وما بقي في الثالث أحرق بالنار ، ومن أكل منه هلك من شعبه؛ ومن ذلك في ذوي العاهات أن من برص من الآدميين يجلس وحده ولا يختلط مع الناس ويكون سكنه خارجاً من محلة بني إسرائيل - حتى ذكر البرص في الثياب والبيوت وغيرها ، فما برص من الجلود والثياب يقطع موضع البرص منه ، فإن ظهر فيه بعد القطع أحرق كله بالنار ، وإن ظهر في بيت برص يهدم وتجمع حجارته وخشبه وترابه خارجاً من القرية ويحرق بالنار؛ وكذا مرض السلس فيه تشديدات كثيرة ، منها أن من جلس على ثوب عليه مسلوس يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجساً إلى الليل - ونحو هذا؛ ثم قال : وكلم الرب موسى وقال له : هذه سنة الأبرص الذي يتطهر : يقدم إلى الكاهن ويخرجه خارجاً من العسكر وينظر الحبر إن كانت ضربة البرص قد برأت وتطهر منها يأمر الحبر فيقدم ، ويؤتى بعصفورين حيين زكيين ، وعود من خشب الأرز ، وعهنة حمراء - وعد أشياء أخرى؛ وقرباناً على كيفية مخصوصة صعبة على عين ماء ، ويغسل ثيابه وبدنه ، ويحلق شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وكل شعر جسده ، وأنه يمكث خارجاً من بيته سبعة أيام ، وفي اليوم الثامن يأتي بقربان آخر فيقرب على كيفية مخصوصة ، وينضح الكاهن من دمه على ثياب وبدن هذا الذي تطهر من البرص ، وكذا من زيت قربانه ، ويصب بقيته على رأسه . وكذا في مرض السلس إذا برأ المسلوس يمكث سبعة أيام ، ثم يتطهر ويغسل ثيابه ، ويقرب قرباناً في باب قبة الزمان . وقال : وأي رجل أمذى أو خرج منه منيه يغسل جسده كله بالماء ، ويكون نجساً إلى الليل؛ ومن دنا من الحائض يكون نجساً إلى الليل وأي ثوب أو فراش وقعت عليه جنابة يغسل بالماء ويكون نجساً إلى الليل وأي ثوب رقدت عليه وهي حائض كان نجساً ، ومن دنا من فراشها يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجساً إلى الليل ، وكذا المستحاضة .
وفيه أيضاً : وكلم الرب موسى وقال له : كلم بني إسرائيل وقل لهم : المرأة إذا حبلت وولدت ذكراً تكون نجسة سبعة أيام كما تكون في أيام حيضها ، وفي اليوم الثامن يختن الصبي ، وتكون نجسة وتجلس مكانها ثلاثة وثلاثين يوماً ، لا تدنو من شيء مقدس ، ولا تدخل بيت الله سبحانه وتعالى لأن الصلاة محرمة عليها حتى تتم أيام تطهيرها؛ فإن ولدت جارية تكون مثل نجاستها في أيام حيضها أربعة عشر يوماً وتجلس مكانها على الدم الزكي ستة وستين يوماً ، فإذا كملت أيام تطهيرها ابناً ولدت أو بنتاً تجيء بحمل حول - فذكر قرباناً في قبة الزمان على يد الكاهن لتطهر مما كان يجري منها من الدم . ومن الآصار ما في السفر الثاني أيضاً من أنهم إذا حصدوا أرضاً أو قطفوا كرماً حرم عليهم الاستقصاء وأمروا أن يتركوا للمساكين ، ثم قال : ولا تلتقطوا ما ينتثر من زيتونكم بل دعوه للمساكين والذين يقبلون إليّ لأني أنا الله ربكم ، ثم قال : فإذا دخلتم الأرض وغرستم فيها كل شجر يثمر ثماراً تؤكل فدعوها ثلاث سنين ولا تأكلوا من ثمارها ، فإذا كان في السنة الرابعة صيروا جميع ثمار شجركم حرمة للرب ومجداً لإكرامه ، وفي السنة الخامسة كلوا ثمارها فإنها تنمو وتزداد لكم غلاتها ، أنا الله ربكم! وقال في أواخر السفر الخامس وهو آخر أسفارها : لا تحيفوا على المسكين واليتيم والساكن بينكم في القضاء ، ولا تأخذوا ثوب الأرملة رهناً ، واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر وأنقذكم الرب من هناك ، لذلك آمركم وأقول لكم إنه واجب عليكم أن تفعلوا مثل هذا الفعل ، وإذا حصدتم حقل أرضكم ونسيتم حزمة لا ترجعوا في طلب أخذها بل تكون للساكن ولليتيم والأرملة ، ليبارك الله ربكم في جميع أعمال أيديكم؛ وإذا نثرتم زيتونكم فلا تطلبوا ما نسيتم في حقلكم بل يكون لليتيم والساكن والأرملة؛ وإذا قطعتم كرومكم لا تستقصوا ما فيها بل دعوها ما يعيش به الساكن واليتيم والأرملة؛ واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر ، لذلك آمركم أن تفعلوا هذا الفعل - وأما ما على النصارى من ذلك فسيأتي كثير منه إن شاء الله تعالى في المائدة عند قوله تعالى { وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } [ المائدة : 47 ] .
ولما دعوا بما تضمن الإيمان بما نزل إليهم مما حمل من كان قبلهم من الثقل أتبعوه ما يدل على اعتقادهم أن ذلك عدل منه في القضاء ، وأنه له أن يفعل فوق ذلك فيكلف بما ليس في الوسع ، لأنه المالك التام المِلك والمَلِك المنفرد بالمُلك ، وسألوا التخفيف برفع ذلك فقالوا : { ربنا ولا } وعبر بالتفعيل لما فيه بما يفهم من العلاج من مناسبة التكليف بما لا يطاق فقال : { تحملنا ما لا طاقة } أي قدرة { لنا به } .
ولما كان الإنسان قد يتعمد الذنب لشهوة تدعوه إليه وغرض يحمله عليه أتبعوا ذلك دعاء عاماً فقالوا : { واعف عنا } أي ارفع عنا عقاب الذنوب كلها { واغفر لنا } أي ولا تذكرها لنا أصلاً ، فالأول العفو عن عقاب الجسم ، والثاني العفو عن عذاب الروح . وقال الحرالي : ولما كان قد يلحق من يعفى عنه ويغفر له قصور في الرتبة عن منال الحظ من الرحمة ألحق تعالى المعفو عنه المغفور له بالمرحوم ابتداء بقوله : { وارحمنا } أي حتى يستوي المذنب التائب والذي لم يذنب قط في منال الرحمة .
ولما ضاعف لهم تعالى عفوه ومغفرته ورحمته أنهاهم بذلك إلى محل الخلافة العاصمة { لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم } [ هود : 43 ] فلما صاروا خلفاء تحقق منهم الجهاد لأعداء الله والقيام بأمر الله ومنابذة من تولى غير الله ، فتحقق أنه لا بد أن يشاققهم أعداء وينابذوهم ، فعلمهم الذي رحمهم سبحانه إسناد أمرهم بالولاية إليه قائلاً عنهم : { أنت مولانا } والمولى هو الولي اللازم الولاية القائم بها الدائم عليها لمن تولاه بإسناد أمره إليه فيما ليس هو بمستطيع لها - انتهى بالمعنى . وكان حقيقته الفاعل لثمرة الولاية وهي القرب والإقبال ، وذلك أنهم لما سألوا العفو عن عذاب الجسم والروح سألوا ثوابهما ، فثواب الجسم الجنة وثواب الروح لذة الشهود وذلك ثمرة الولاية وهي الإقبال على الولي بالكلية ، ثم جعل ختام توجه المؤمنين إلى ربهم الدعاء بثمرة الولاية فقال : { فانصرنا } باللسان والسنان ، وأشار إلى قوة المخالفين حثاً على تصحيح الالتجاء والصدق في الرغبة بقوله : { على القوم } وأشار إلى أن الأدلة عليه سبحانه في غاية الظهور لكل عاقل بقوله : { الكافرين } أي الساترين للأدلة الدالة لهم على ربهم المذكورين أول السورة ، فتضمن ذلك وجوب قتالهم وأنهم أعدى الأعداء ، وأن قوله تعالى { لا إكراه في الدّين } [ البقرة : 256 ] ليس ناهياً عن ذلك وإنما هو إشارة إلى أن الدّين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلاً عن الإحواج إلى إرهاب ، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دله عليه عقله ، ومن أبى أدخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام . ولما كان الختم بذلك مشيراً إلى أنه تعالى لما ضاعف لهم عفوه عن الذنب فلا يعاقب عليه ومغفرته له بحيث يجعله كأن لم يكن فلا يذكره أصلاً ولا يعاقب عليه ورحمته في إيصال المذنب المعفو عنه المغفور له إلى المنازل العالية أنهاهم إلى رتبة الخلافة في القيام بأمره والجهاد لأعدائه وإن جل أمرهم وأعنى حصرهم كان منبهاً على أن بداية هذه الصورة هداية وخاتمتها خلافة ، فاستوفت تبيين أمر النبوة إلى حد ظهور الخلافة فكانت سناماً للقرآن ، وكان جماع ما في القرآن منضماً إلى معانيها إما لما صرحت به أو لما ألاحته وأفهمه إفصاح من إفصاحها كما تنضم هي مع سائر القرآن إلى سورة الفاتحة فتكون أماً للجميع - أفاد ذلك الأستاذ أبو الحسن الحرالي .
وقد بان بذكر المنزل والإيمان به والنصرة على الكفار بعد تفصيل أمر النفقة والمال الذي ينفق منه رد مقطعها على مطلعها وآخرها على أولها ، ومن الجوامع العظيمة في أمرها وشمول معناها المبين لعلو قدرها ما قال الحرالي إنه لما كان منزل هذا القرآن المختص بخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين منزلاً حروفاً محيطة المعاني مخاطباً بها النبي والأئمة وتفصيل آيات مخاطباً به عامة الأمة انتظمت هذه السورة صنفي الخطابين فافتتحت بالم حروفاً منبئة عن إحاطة بما تضمنته معانيها من إحاطة القائم من معنى الألف وإحاطة المقام من معنى الميم وإحاطة الوصلة من معنى اللام؛ ولما كانت الإحاطة في ثلاث رتب إحاطة إلهية قيومية وإحاطة كتابية وإحاطة تفصيلية كانت الإحاطة الخاصة بهذه الأحرف التي افتتحت بها هذه السورة إحاطة كتابية متوسطة ، فوقع الافتتاح فيما وقع عليه أمر القرآن في تلاوته في الأرض بالرتبة المتوسطة من حيث هي أقرب للطرفين وأيسر للاطلاع على الأعلى والقيام بالأدنى ، فكان ما كان في القرآن من { الم تلك آيات الكتاب الحكيم } [ لقمان : 26 ] ونحوه تفصيل إحاطة من إحاطة الكتاب التي أنزلت فيها سورة البقرة ، فكانت مشتملة على إحاطات الكتب الأربعة : كتاب التقدير الذي كتبه الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلائق بما شاء الله من أمد وعدد ، ورد « أن الله كتب الكتاب وقضى القضية وعرشه على الماء » ، و « أن الله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف عام » وأنه قدر الأرزاق قبل أن يخلق الصور بألفي عام - وكثير من ذلك مما ورد في الأخبار؛ وفي مقابلة هذا الكتاب السابق بالتقدير الكتاب اللاحق بالجزاء الذي كتبه الله سبحانه وتعالى ويكتبه أثر تمام الإبداء باستبقاء الأعمال البادية على أيدي الخلق الذين ينالهم النعيم والجحيم والأمن والروع والكشف والحجاب؛ وهذا الكتاب الآخر مطابق للكيان الأول ، ويبين بتطرقهما كتاب الأحكام المتضمن لأمر الدين والدعوة الذي وقعت فيه الهداية والفتنة ، ثم كتاب الأعمال الذي كتبه الله سبحانه وتعالى في ذوات المكلفين من أفعالهم وأحوال أنفسهم وما كتب في قلوبهم من إيمان أو طبع علهيا أو ختم عليها بفجور أو طغيان؛ فتطابقت الأوائل والأواخر واختلف كتاب الأحكام وكتاب الأعمال بما أبداه الله سبحانه وتعالى من وراء حجاب من معنى الهدى والفتنة والإقدام والإحجام ، فتضمنت سورة البقرة إحاطات جميع هذه الكتب واستوفت كتاب الأقدار بما في صدرها من تبيين أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين ، وكتاب الأفعال كما ذكر سبحانه وتعالى أمر الختم على الكافرين والمرض في قلوب المنافقين ، وما يفصل في جميع السورة من أحكام الدين وما يذكر معها مما يناسبها من الجزاء من ابتداء الإيمان إلى غاية الإيقان الذي انتهى إليه معنى السورة فيما بين الحق والخلق من أمر الدين ، وفيما بين الخلق والخلق من المعاملات والمقاومات ، وفيما بين المرء ونفسه من الأيمان والعهود ، إلى حد ختمها بما يكون من الحق للخلق في استخلاف الخلفاء الذين ختم بذكرهم هذه السورة الذين قالوا : { غفرانك ربنا } إلى انتهائها؛ ولما كان مقصود هذه السورة الإحاطة الكتابية كان ذلك إفصاحها ومعظم آياتها وكانت الإحاطة الإلهية القيومية إلاحتها ونور آياتها ، فكان ذلك في آية الكرسي تصريحاً وفي سائر آيها الإحة بحسب قرب الإحاطة الكتابية من الإحاطة الإلهية ، وفي بدء سابق أو ختم لاحق أو حكمة جامعة ، فلذلك انتظم بالسورة التي ذكرت فيها البقرة السورة التي يذكر فيها آل عمران ، لما نزل في سورة آل عمران من الإحاطة الإلهية حتى كان في مفتتحها اسم الله الأعظم ، فكان ما في البقرة إفصاحاً في سورة آل عمران إلاحة ، وكان ما في البقرة إلاحة في سورة آل عمران إفصاحاً ، إلا ما اطلع في كل واحدة منهما من تصريح الأخرى؛ فلذلك هما سورتان مرتبطتان وغيايتان وغمامتان تظلان صاحبهما يوم القيامة ، وبما هما من الذكر الأول وبينهما من ظاهر التفاوت ما بين الإحاطة الكتابية وبين الإحاطة الإلهية فلذلك كانت سورة البقرة سناماً له والسنام أعلى ما في الحيوان المنكب وأجمله جملة وهو البعير ، وكانت سورة آل عمران تاج القرآن والتاج هو أعلى ما في المخلوقات من الخلق القائم المستخلف في الأرض ظاهره وفي جميع المكون إحاطته؛ فوقع انتظام هاتين السورتين على نحو من انتظام الآي يتصل الإفصاح في الآية بإلاحة سابقتها كما تقدم التنبيه عليه في مواضع - انتهى .
وسر ترتيب سورة السنام على هذا النظام أنه لما افتتحها سبحانه وتعالى بتصنيف الناس الذين هم للدين كالقوائم الحاملة لذي السنام فاستوى وقام ابتداء المقصود بذكر أقرب السنام إلى أفهام أهل القيام فقال مخاطباً لجميع الأصناف التي قدمها { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] واستمر إلى أن بان الأمر غاية البيان فأخذ يذكر مننه سبحانه على الناس المأمورين بالعبادة بما أنعم عليهم من خلق جميع ما في الوجود لهم بما أكرم به أباهم آدم عليه الصلاة والسلام ، ثم خص العرب ومن تبعهم ببيان المنة عليهم في مجادلة بني إسرائيل وتبكيتهم ، وهو سبحانه وتعالى يؤكد كل قليل أمر الربوبية والتوحيد بالعبادة من غير ذكر شيء من الأحكام إلا ما انسلخ منه بنو إسرائيل ، فذكره على وجه الامتنان به على العرب وتبكيت بني إسرائيل بتركه لا على أنه مقصود بالذات ، فلما تزكوا فترقوا فتأهلوا لأنواع المعارف قال معلياً لهم من مصاعد الربوبية إلى معارج الإلهية
{ وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو } [ البقرة : 163 ] فلما تسنموا هذا الشرف لقنهم العبادات المزكية ونقاهم أرواحها المصفية فذكر أمهات الأعمال أصولاً وفروعاً الدعائم الخمس والحظيرة وما تبع ذلك من الحدود في المآكل والمشارب والمناكح وغير ذلك من المصالح فتهيؤوا بها وأنها المواردات الغر من ذي الجلال فقال مرقياً لهم إلى غيب حضرته الشماء ذاكراً مسمى جميع الأسماء { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة : 255 ] ولما كان الواصل إلى أعلى مقام الحرية لا بد عند القوم من رجوعه إلى ربقة العبودية ذكر لهم بعض الأعمال اللائقة بهم ، فحث على أشياء أكثرها من وادي الإحسان الذي هو مقام أولي العرفان ، فذكر مثل النفقة التي هي أحد مباني السورة عقب ما ذكر مقام الطمأنينة إيذاناً بأن ذلك شأن المطمئن ، ورغب فيها إشارة إلى أنه لا مطمع في الوصول إلا بالانسلاخ من الدنيا كلها ، وأكثر من الحث على طيب المطعم الذي لا بقاء بحال من الأحوال بدونه ، ونهى عن الربا أشد نهي إشارة إلى التقنع بأقل الكفاف ونهياً عن مطلق الزيادة للخواص وعن كل حرام للعوام ، وأرشد إلى آداب الدين الموجب للثقة بما عند الله المقتضي بصدق التوكل المثمر للعون من الله سبحانه وتعالى والإرشاد إلى ذلك ، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو متلبس به؛ وبنى سبحانه وتعالى كل ثلث من هذه الأثلاث على مقدمة في تثبيت أمره وتوجه بخاتمة في التحذير من التهاون به ، وزاد الثالث لكونه الختام وبه بركة التمام أن أكد عليهم بعد خاتمته في الإيمان بجميع ما في السورة ، وختم بالإشارة إلى أن عمدة ذلك الجهاد الذي لذوي الغي والعناد ، والاعتماد فيه على مالك الملك وملك العباد ، وذلك هو طريق أهل الرشاد ، والهداية والسداد والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب .
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
{ بسم الله } الواحد المتفرد بالإحاطة بالكمال { الرحمن } الذي وسعت رحمة ايجاد كل مخلوق وأوضح للمكلفين طريق النجاة { الرحيم } الذي اختار أهل التوحيد لمحل أنسه وموطن جمعه وقدسه { الم * } المقاصد التي سيقت لها هذه السورة إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى ، والإخبار بأن رئاسة الدنيا بالأموال والأولاد وغيرهما مما آثره الكفار على الإسلام غير مغنية عنهم شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة ، وأن ما أعد للمتقين من الجنة والرضوان هو الذي ينبغي الأقبال عليه والمسارعة اليه وفي وصف المتقين بالإيمان والدعاء والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار ما يتعطف عليه كثير من أفانين أساليب هذه السورة هذا ما كان ظهر لي أولاً ، وأحسن منه أن نخص القصد الأول وهو التوحيد بالقصد فيها فإن الأمرين الآخرين يرجعان إليه ، وذلك لأن الوصف بالقيومية يقتضي القيام بالاستقامة ، فالقيام يكون على كل نفس ، والاستقامه العدل كما قال : { قائماً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] أي بعقاب العاصي وثواب الطائع بما يقتضي للموفق ترك العصيان ولزوم الطاعة؛ وهذا الوجه أوفق للترتيب ، لأن الفاتحة لما كانت جامعة للدين إجمالاً جاء به التفصيل محاذياً لذلك ، فابتدىء بسورة الكتاب المحيط بأمر الدين ، ثم بسورة التوحيد الذي هو سر حرف الحمد وأول حروف الفاتحة ، لأن التوحيد هو الأمر الذي لا يقوم بناء إلا عليه ، ولما صح الطريق وثبت الأساس جاءت التي بعدها داعية إلى الاجتماع على ذلك؛ وأيضاً فلما ثبت بالبقرة أمر الكتاب في أنه هدى وقامت به دعائم الإسلام الخمس جاءت هذه لإثبات الدعوة الجامعة في قوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] فأثبت الوحدانيه له بإبطال إلهيه غيره بإثبات أن عيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان يحيي الموتى عبده فغيره بطريق الأولى ، فلما ثبت أن الكل عبيده دعت سورة النساء إلى إقبالهم إليه واجتماعهم عليه؛ ومما يدل على أن القصد بها هو التوحيد تسميتها بآل عمران ، فإن لم يعرب عنه في هذه السورة ما أعرب عنه ما ساقه سبحانه وتعالى فيها من أخبارهم بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد الذي ليس في درج الإيمان أعلى منه ، فهو التاج الذي هو خاصة الملك المحسوسة ، كما أن التوحيد خاصته المعقولة ، والتوحيد موجب لزهرة المتحلي به فلذلك سميت الزهراء .
القصد الأول التوحيد
ومناسبه هذا الأول بالإبتدائيه لآخر ما قبلها أنه لما كان آخر البقرة في الحقيقة آية الكرسي وما بعدها إنما هو بيان ، لأنها أوضحت أمر الدين بحيث لم يبقى وراءها مرمى لمتنعت ، أو تعجب من حال من جادل في الإلهية أو استبعد شيئاً من القدرة ولم ينظر فيما تضمنته هذه الآية من الأدله مع وضوحه ، أو إشارة إلى الاستدلال على البعث بأمر السنابل في قالب الإرشاد إلى ما ينفع في اليوم الذي نفى فيه نفع البيع والخلة والشفاعة من النفقات ، وبيان بعض ما يتعلق بذلك ، وتقرير أمر ملكه لما منه الإنفاق من السماوات و الأرض ، والإخبار بإيمان الرسول وأتباعه بذلك ، وبأنهم لا يفرقون بين أحد من الرسل المشار إليهم في السورة ، وبصدقهم في التضرع برفع الأثقال التي كانت على من قبلهم من بني إسرائيل وغيرهم ، وبالنصرة على عامة الكافرين؛ لما كان ذلك على هذا الوجه ناسب هذا الاختتام غايه المناسبة ابتداء هذه السورة بالذي وقع الإيمان به سبحانه وتعالى ووجهت الرغبات آخر تلك إليه؛ وأحسن منه أنه لما نزل إلينا كتابه فجمع مقاصده في الفاتحه على وجه أرشد فيه إلى سؤال الهداية ثم شرع في تفصيل ما جمعه في الفاتحة ، فأرشد في أول البقرة إلى أن الهدايه في هذا الكتاب ، وبيّن ذلك بحقية المعنى والنظم كما تقدم إلى أن ختم البقرة بالإخبار عن خلص عباده بالإيمان بالمنزل بالسمع والطاعة ، وأفهم ذلك مع التوجه بالدعاء إلى المنزل له أن له سبحانه وتعالى كل شيء وبيده النصر ، علم أنه واحد لا شريك له حي لا يموت قيوم لا يغفل وأن ما أنزل هو الحق ، فصرح أول هذه بما أفهمه آخر تلك ، كما يصرح بالنتيجة بعد المقدمات المنتجة لها فقال : { الله } أي الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه لأن له الإحاطة بجميع أوصاف الكمال والنزاهة الكاملة من كل شائبة نقص .
وقال الحرالي مشيراً إلى القول الصحيح في ترتيب السور من أنه باجتهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إقراراً لله سبحانه وتعالى لهذا الانتظام والترتيب السوري في مقرر هذا الكتاب : هو ما رضيه الله سبحانه وتعالى فأقره؛ فلما كانت سورة الفاتحة جامعة لكلية أمر الله سبحانه وتعالى فيما يرجع إليه ، وفيما يرجع إلى عبده ، وفيما بينه وبين عبده ، فكانت أم القرآن وأم الكتاب؛ جعل مثنى تفصيل ما يرجع منها إلى الكتاب المنبأ عن موقعه في الفاتحة مضمناً سورة البقرة إلى ما أعلن به ، لألأ نور آية الكرسي فيها ، وكان منزل هذه السورة من مثنى تفصيل ما يرجع إلى خاص علن الله سبحانه وتعالى في الفاتحة ، فكان منزلة سورة آل عمران منزله تاج الراكب وكان منزله سورة البقرة منزلة سنام المطية؛ قال صلى الله عليه وسلم : « لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة ، لكل شيء تاج وتاج القرآن سورة آل عمران » وإنما بدىء هذا الترتيب لسورة الكتاب لأن علم الكتاب أقرب إلى المخاطبين من تلقي علن أمر الله ، فكان في تعلم سورة البقرة والعمل بها تهيؤ لتلقي ما تضمنته سورة آل عمران ليقع التدرج والتدرب بتلقي الكتاب حفظاً وبتلقيه على اللقن منزل الكتاب بما أبداه علنه في هذه السورة؛ وبذلك يتضح أن إحاطة { الم } المنزلة في أول سورة البقرة إحاطة كتابية بما هو قيامه وتمامه ، ووصلة ما بين قيامه وتمامه ، وأن إحاطة { الم } المنزلة في أو هذه السورة إحاطة إلهية حيايية قومية مما بين غيبة عظمة اسمه { الله } إلى تمام قيوميته البادية في تبارك ما أنبأ عنه اسمه { الحي القيوم } وما أوصله لطفه من مضمون توحيده المنبىء عنه كلمه الإخلاص في قوله : { لا إله الا هو } فلذلك كان هذا المجموع في منزله قرآناً حرفياً وقرآناً كلمياً اسمياً وقرآناً كلامياً تفصيليا مما هو اسمه الأعظم كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم :
« اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : { وإلهكم أله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } [ البقرة : 163 ] ، { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } » وكما وقعت إلاحة في سورة البقرة لما وقع بها الإفصاح في سورة آل عمران كذلك وقع في آل عمران من نحو ما وقع تفصيله في سورة البقرة ليصير منزلاً واحداً بما أفصح مضمون كل سورة بالإحة الأخرى ، فلذلك هما غمامتان وغيايتان على قارئهما يوم القيامة كما تقدم لا تفترقان ، فأعظم { الم } هو مضمون { الم } الذي افتتحت به هذه السورة ويليه في الرتبة ما افتتحت به سورة البقرة ، ويليه في الرتبة ما افتتحت به سور الآيات نحو قوله سبحانه وتعالى { الم تلك آيات الكتاب الحكيم } [ لقمان : 2 ] فللكتاب الحكيم إحاطة قواماً وتماماً ووصلة ، ولمطلق الكتاب إحاطة كذلك ، وإحاطه الإحاطات وأعظم العظمة إحاطة افتتاح هذه السورة؛ وكذلك أيضاً اللواميم محيطة بإحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف اللواميم ، وإحاطة الحواميم من دون إحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف الطواسيم على ما يتضح تراتبه وعلمه لمن آتاه الله فهماً بمنزله قرآن الحروف المخصوص بإنزاله هذه الأمة دون سائر الأمم ، الذي هو من العلم الأزلي العلوي؛ ثم قال : ولما كانت أعظم الإحاطات إحاطة عظمة اسمه « الله » الذي هو مسمى التسعة والتسعين أسماء التي أولها { إله } كان ما أفهمه أول الفهم هنا اسم ألف بناء في معنى إحاطات الحروف على نحو إحاطة اسمه « الله » في الأسماء ، فكانت هذه الألف مسمى كل ألف كما كان اسمه { الله } سبحانه وتعالى مسمى كل اسم سواه حتى أنه مسمى سائر الأسماء الأعجمية التي هي أسماؤه سبحانه وتعالى في جميع الألسن كلها مع أسماء العربية أسماء لمسمى هو هذا الاسم العظيم الذي هو { الله } الأحد الذي لم يتطرق إليه شرك ، كما تطرق إلى أسمائه من اسمه { إله } إلى غايه اسمه « الصبور » وكما كان إحاطة هذا الألف أعظم إحاطة حرفية وسائر الألفات أسماء لعظيم إحاطتة؛ وكذلك هذه الميم أعظم إحاطة ميم تفصلت فيه وكانت له أسماء بمنزلة ما هي سائر الألفات أسماء لمسمى هذا الألف كذلك سائر الميمات اسم لمسمى هذا الميم ، كما أن اسمه { الحي القيوم } أعظم تمام كل عظيم من أسماء عظمته؛ وكذلك هذه اللام بمنزلة ألفه وميمه ، وهي لام الإلهية الذي أسراره لطيف التنزل إلى تمام ميم قيوميته؛ فمن لم ينته إلى فهم معاني الحروف في هذه الفاتحة نزل له الخطاب إلى ما هو إفصاح إحاطتها في الكلم والكلام المنتظم في قوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ، فهو قرآن حرفي يفصله قرآن كلمي يفصله قرآن كلامي انتهى .
فقوله : { الله } أي الذي آمن به الرسول وأتباعه بما له من الإحاطة بصفات الكمال { لا إله إلا هو } أي متوحد لا كفوء له فقد فاز قصدكم إليه بالرغبة وتعويلكم عليه في المسألة . قال الحرالي : فما أعلن به هذا الاسم العظيم أي الله في هذه الفاتحة هو ما استعلن به في قوله تعالى : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] ، ولما كان إحاطة العظمة أمراً خاصاً لأن العظمة إزاء الله الذي لا يطلع عليه إلا صاحب سر كان البادي لمن دون أهل الفهم من رتبة أهل العلم اسمه « الله الصمد » الذي يعنى اليه بالحاجات والرغبات المختص بالفوقية والعلو الذي يقال للمؤمن عنه : أين الله؟ فيقول : في السماء ، إلى حد علو أن يقول : فوق العرش ، فذلك الصمد الذي أنبأ عنه اسمه { إله } الذي أنزل فيه إلزام الإخلاص والتوحيد منذ عبدت في الأرض الأصنام ، فلذلك نضم توحيد اسمه الإله بأحدية مسمى هو من اسمه العظيم « الله » ، ورجع عليه باسم المضمر الذي هو في جبلات الأنفس وغرائز القلوب الذي تجده غيباً في بواطنها فتقول فيه : هو ، فكان هذا الخطاب مبدوءاً بالاسم العظيم المظهر منتهياً إلى الاسم المضمر ، كما كان خطاب { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] مبدوءاً بالاسم المضمر منتهياً إلى الاسم العظيم المظهر ، وكذلك أيضاً اسم الله الأعظم في سورة { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] كما هو في هذه الفاتحة .
ولما كان لبادي الخلق افتقار إلى قوام لا يثبت طرفة عين دون قوامه كان القوام البادي آيته هي الحياة فما حيي ثبت وما مات فني وهلك؛ انتهى ولما كان المتفرد بالملك من أهل الدنيا يموت قال : { الحي } أي الحياة الحقيقية التي لا موت معها . ولما كان الحي قد يحتاج في التدبير إلى وزير لعجزه عن الكفاية بنفسه في جميع الأعمال قال : { القيوم * } إعلاماً بأن به قيام كل شيء وهو قائم على كل شيء . قال الحرالي : فكما أن الحياة بنفخة من روح أمره فكل متماسك على صورته حي بقيوميته انتهى .
وفي وصفه بذلك إعلام بأنه قادر على نصر جنده وإعزاز دينه وعون وليه ، وحث على مراقبته بجهاد أعدائه ودوام الخضوع لديه والضراعة اليه . ولما كان من معنى القيوم أنه المدبر للمصالح اتصل به الإعلام بتنزيل ما يتضمن ذلك ، وهو الكتاب المذكور في قوله : { بما أنزل إليه من ربه } [ البقرة : 285 ] والكتب المذكورة في أول البقرة في قوله : { بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } [ البقرة : 4 ] وفي آخرها بقوله { وكتبه ورسله } [ البقرة : 285 ] التي من جملتها التوراة والإنجيل اللذان فيهما الآصار المرفوعة عنا ، ثم شرح بعده أمر التصوير في الأحشاء ، وذلك لأن المصالح قسمان : روحانية وجسمانية ، وأشرف المصالح الروحانية العلم الذي هو الروح كالروح للبدن فإنها تصير به مرآة مجلوة ينجلي فيها صور الحقائق ، وأشرف المصالح الجسمانية تعديل المزاج وتسوية البنية في أحسن هيئة ، وقدم الروحانية المتكفل بها الكتاب لأنها أشرف .
ولما كانت مادة « كتب » دائرة على معنى الجمع عبر بالتنزيل الذي معناه التفريق لتشمل هذه الجملة على وجازتها من أمره على إجمال وتفصيل فقال : وقال الحرالي : ولما كانت إحاطة الكتاب أي في البقرة ابتداء وأعقبها أي في أول هذه السورة إحاطة الإلهية جاء هذا الخطاب رداً عليه ، فتنزل من الإحاطة الإلهية إلى الأحاطة الكتابية بالتنزيل الذي هو تدرج من رتبة إلى رتبة دونها؛ انتهى فقال : { نزّل } أي شيئاً فشيئاً في هذا العصر { عليك } أي خاصة بما اقتضاه تقديم الجار من الحصر ، وكأن موجب ذلك ادعاء بعضهم أنه يوحي إليه وأنه يقدر على الإتيان بمثل هذا الوحي { الكتاب } أي القرآن الجامع للهدى منجماً بحسب الوقائع ، لم يغفل عن واحدة منها ولا قدم جوابها ولا أخره عن محل الحاجة ، لأنه قيوم لا يشغله شأن عن شأن .
قال الحرالي : وهذا الكتاب هو الكتاب المحيط الجامع الأول الذي لا ينزل إلا على الخاتم الآخر المعقب لما أقام به حكمته من أن صور الأواخر مقامة بحقائق الأوائل ، فأول الأنوار الذي هو نور محمد صلى الله عليه وسلم هو قثم خاتم الصور التي هي صورة محمد انتهى . تنزيلاً ملتبساً { بالحق } أي الأمر الثابت ، فهو ثابت في نفسه ، وكل ما ينشأ عنه من قول وفعل كذلك . قال الحرالي : وكما أن هذا الكتاب هو الكتاب الجامع الأول المحيط بكل كتاب كذلك هو الحق المنزل به هذا الكتاب هو الحق الجامع المحيط الذي كل حق منه ، وهو الحق الذي أقام به حكمته فيما رفع ووضع انتهى . حال كونه { مصدقاً } ولما كان العامل مرفوعاً لأنه أمر فاعل قواه في اللام فقال : { لما بين يديه } أي من الكتب السماوية التي أتت بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عن الحضرة الإلهية .
قال الحرالي : لما كان هذا الكتاب أولاً وجامعاً ومحيطاً كان كل كتاب بين يديه ولم يكن من ورائه كتاب انتهى .
ولما كان نزاع وفد ونجران في الإله أو النبي أو فيهما كان هذا الكلام كفيلاً على وجازتة بالرد عليهم في ذلك ببيان الحق في الإله بالقيومية ، وفي المعنى بالكتاب المعجز ، ولما كانوا مقرين بالكتب القديمة أشار إلى أن ليس لهم إنكار هذا الكتاب وهو أعلى منها في كل أمر أوجب تصديقها وإلى أن من أنكره بعد ذلك كان من الأمر الظاهر أنه معاند لا شك في عناده فقال : { وأنزل التوراة } وهو « فوعلة » لو صرفت من الورى وهو قدح النار من الزند ، استثقل اجتماع الواوين فقلب أولهما تاء كما في اتحاد و اتّلاج واتّزار واتّزان ونحوه قال الحرالي : فهي توراة بما هي نور أعقبت ظلام ما وردت عليه من كفر دعي إليها من الفراعنة ، فكان فيها هدى ونور { والإنجيل * } من النجل ، وضع على زيادة « إفعيل » لمزيد معنى ما وضعت له هذة الصيغة ، وزيادتاها مبالغه في المعنى ، وأصل النجل استخراج خلاصه الشيء ، ومنه يقال للولد : نجل أبيه . كان الإنجيل استخلص خلاصه نور التوراة فأظهر باطن ما شرع في التوراة ظاهرة ، فإن التوراة كتاب إحاطة لأمر الظاهر الذي يحيط بالأعمال وإصلاح أمر الدنيا وحصول الفوز من عاقبة يوم الأخرى فهو جامع إحاطة الظواهر ، وكل آية ظاهرة فمن كتاب التوراة والإنجيل كتاب إحاطة لأمر البواطن يحيط بالأمور النفسانية التي بها يقع لمح موجود الآخرة مع الإعراض عن إصلاح الدنيا بل مع هدمها ، فكان الإنجيل مقيماً لأمر الآخرة هادماً لأمر الدنيا مع حصوله أدنى بلغة ، وكانت التوراة مقيمة لإصلاح الدنيا مع تحصيل الفوز في الآخرة ، فجمع هذان الكتابان إحاطتي الظاهر والباطن ، فكان منزل التوراة من مقتضى اسمه الظاهر ، وكان منزل الإنجيل من مقتضى اسمه الباطن ، كما كان منزل الكتاب الجامع من مقتضى ما في أول هذه السورة من أسمائه العظيمة مع لحظ التوحيد ليعتبر الكتاب والسورة بما نبه بتنزيله من اسمه الله وسائر أسمائه على وجوه إحاطاتها انتهى وفيه تصرف؛ فأحاط هذا الكتاب إحاطة ظاهرة بأمري الظاهر والباطن بما أذن منه تصديقه للكتابين ، وخصهما سبحانه وتعالى بالتنويه بذكرهما إعلاماً بعلي قدرهما .
ولما لم يكن إنزالهما مستغرقاً للماضي لأنه لم يكن في أول الزمان أدخل الجار معرياً من التقيد بمن نزلا عليه لشهرته وعدم النزاع بخلاف القرآن { من قبل } أي من قبل هذا الوقت إنزالاً انقضى أمره ومضى زمانه حال كون الكل { هدى } أي بياناً ، ولذا عم فقال : { للناس } وأما في أول البقرة فبمعنى خلق الهداية في القلب ، فلذا خص المتقين؛ والحاصل أن هذه الآية كالتعليل لآخر البقرة فكأنه قيل : كل آمن بالله لأنه متفرد بالألوهية ، لأنه متفرد بالحياة ، لأنه متفرد بالقيومية؛ وآمن برسله الذين جاؤوا بكتبه المنزلة بالحق من عنده بواسطة ملائكته .
ولما كانت مادة « فرق » للفصل عبر بالإنزال الذي لا يدل على التدريج لما تقدم من إرادة الترجمة بالإجمال والتفصيل على غاية الإيجاز لاقتضاء الإعجاز ، وجمع الكتابين في إنزال واحد واستجد لكتابنا إنزالاً تنبيهاً على علو رتبته عنهما بمقدار علو رتبه المتقين الذين هو هدى لهم ، وبتقواهم يكون لهم فرقان على رتبة الناس الذين هما هدى لهم فقال تعالى : { وأنزل الفرقان * } أي الكتاب المصاحب للعز الذي يكسب صاحبه قوة التصرف فيما يريد من الفصل والوصل الذي هو وظيفه السادة المرجوع إليهم عند الملمات ، المقترن بالمعجزات الفارقة بين الحق والباطل ، وسترى هذا المعنى إن شاء الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال بأوضح من هذا؛ فعل ذلك لينفذ قائله أمر الكتاب المقرر فيه الشرع الحق المباين لجميع الملل الباطلة والأهواء المضلة والنحل الفاسدة ، وذلك هو روح النصر على أعداء الله المرشد إلى الدعاء به ختام البقرة . قال الحرالي : فكان الفرقان جامعاً لمنزل ظاهر التوراة ومنزل باطن الإنجيل جمعاً يبدي ما وراء منزلهما بحكم استناده للتقوى التي هي تهيؤ لتنزل الكتاب { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } [ الانفال : 29 ] فكان الفرقان أقرب الكتب للكتاب الجامع ، فصار التنزيل في ثلاث رتب : رتبة الكتاب المنزل بالحق الجامع ، ثم رتبة الفرقان المظهر لمحل الجمع بين الظاهر والباطن ، ثم منزل التوراة والإنجيل المختفي فيه موضع ظاهر التوراة بباطن الإنجيل انتهى .
ومناسبة ابتدائها بالتوحيد لما في أثنائها أنه لما خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى فقط وهي أدنى أسباب النماء كان وجوده إشارة إلى أن الزيادة قد انتهت ، وأن الخلق أخذ في النقصان ، وهذا العالم أشرف على الزوال ، فلم يأت بعده من قومه نبي بل كان خاتم أنبياء بني إسرائيل ، وكان هذا النبي الذي أتى بعده من غير قومه خاتم الأنبياء مطلقاً ، وكان مبعوثاً مع نفس الساعة ، وكان نزوله هو آخر الزمان علماً على الساعة ، وصدرت هذه السورة التي نزل كثير منها بسببه بالوحدانية إشارة إلى أن الوارث قد دنا زمان إرثه ، وأن يكون ولا شيء معه كما كان ، وأن الحين الذي يتمحض فيه تفرد الواحد قد حان ، والآن الذي يقول فيه سبحانه له الملك اليوم قد آن؛ ويوضح ذلك أنه لما كان آدم عليه الصلاه والسلام مخلوقاً من التراب الذي هو أمتن أسباب النماء ، وهو غالب على كل ما جاوره ، وكانت الأنثى مخلوقة من آدم الذي هو الذكر وهو أقوى سببي التناسل كان ذلك إشارة إلى كثرة الخلائق ونمائهم وازديادهم ، فصدر أول سورة ذكر فيها خلقه وابتداء أمره بالكتاب إشارة إلى أن ما يشير إليه ذكره من تكثر الخلائق وانتشار الأمم والطوائف داع إلى إنزال الشرائع وإرسال الرسل بالأحكام والدلائل ، فالمعنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما كان منه الابتداء وعيسى عليه الصلاة والسلام لما كان دليلاً على الانتهاء اقتضت الحكمة أن يكون كل منهما مما كان منه ، وأن تصدر سورة كل بما صدرت به والله سبحانه وتعالى الموفق .
وقال ابن الزبير ما حاصله : إن اتصالها بسورة البقرة والله سبحانه وتعالى أعلم من جهات : إحداها ما تبين في صدر السورة مما هو إحالة على ما ضمن في سورة البقرة بأسرها ، ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضاً إلى أن الصراط المستقيم قد تبين شأنه لمن تقدم في كتبهم ، فإن هذا الكتاب جاء مصدقاً لما نزل نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه ، فهو بيان لحال الكتاب الذي هو هدى للمتقين ، ولما بين افتراق الأمم بحسب السابقة إلى أصناف ثلاثة ، وذكر من تعنت بني إسرائيل وتوقفهم ما تقدم أخبر سبحانه وتعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة ، وأنزل بعدها الإنجيل ، وأن كل ذلك هدى لمن وفق ، إعلاماً منه سبحانه وتعالى لأمه محمد صلى الله عليه وسلم أن من تقدمهم قد بين لهم { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ؛ والثالثة قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به نظير الاعتبار بآدم عليه الصلاة والسلام ولهذا أشار قوله سبحانه وتعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } [ آل عمران : 59 ] انتهى .
ولما علم بذلك أمر القيوم سبحانه وتعالى بالحق وهو الإيمان علم أن لمخالفي أمره من أضداد المؤمنين الموصوفين وهم الكفرة المدعو بخذلانهم المنزل الفرقان لمحو أديانهم الويل والثبور ، فاتصل بذلك بقوله : { إن الذين كفروا } أي غطوا ما دلتهم عليه الفطرة الأولى التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها ، ثم ما بينت لهم الرسل عليهم الصلاة والسلام عنه سبحانه وتعالى من البيان الذي لا لبس معه { بآيات الله } المستجمع لصفات الكمال إقبالاً منهم على ما ليس له أصلاً صفة كمال ، وهذا الكفر كما قال الحرالي دون الكفر بأسماء الله الذي هو دون الكفر بالله ، قال : فكما بدأ خطاب التنزيل من أعلاه نظم به ابتداء الكفر من أدناه انتهى . { لهم عذاب شديد } كما تقتضيه صفتا العزة والنقمة ، وفي وصفه بالشدة إيذان بأن من كفر دون هذا الكفر كان له مطلق عذاب . قال الحرالي : ففي إشعاره أن لمن داخله كفر ما حط بحسب خفاء ذلك الكفر ، فأفصح الخطاب بالأشد وألاح بالأضعف انتهى . والآية على تقدير سؤال ممن كأنه قال : ماذا يفعل بمن أعرض عن الكتب الموصوفة؟ أو يقال : إنه لما قال : { وأنزل الفرقان } [ آل عمران : 4 ] أي الفارق بين الحق والباطل من الآيات والأحكام عليك وعلى غيرك من الأنبياء لم يبق لأحد شبهة فقال : وأحسن من ذلك كله أنه سبحانه وتعالى ولما أنزل سورة البقرة على طولها في بيان أن الكتاب هدى للمتقين ، وبين أن أول هذه وحدانيته وحياته وقيوميته الدالة على تمام العلم وشمول القدرة ، فأنتج ذلك صدق ما أخبر به سبحانه وتعالى ، أيد ذلك بالإعلام بأن ذلك الكتاب مع أنه هاد اليه حق ، ودل على ذلك لمصادقته لما قبله من الكتب .
ولما ختم أوصافه بأنه فرقان لا يدع لبساً ولا شبهة أنتج ذلك قطعاً أن الذين قدم أول تلك أنهم أصروا على الكفر به خاسرون ، فأخبر سبحانه وتعالى بما أعد لهم من العذاب فقال : { إن الذين } مؤكداً مظهراً لما كان من حقه الإضمار ، لولا إرادة تعليق الحكم بالوصف وهو الكفر أي الستر لما تفضل عليهم به من الآيات؛ ثم قرر قدرته على ما هدد به وعبر به فقال : عاطفاً على ما أرشد السياق مع العطف على غير مذكور إلى أنه : فالله سبحانه وتعالى عالم بما له من القيومية بجميع أحوالهم : { والله } أي الملك العظيم مع كونه رقيباً { عزيز } لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء { ذو انتقام * } أي تسلط وبطش شديد بسطوة . قال الحرالي : فأظهر وصف العزة موصولاً بما أدام من انتقامه بما يعرب عنه كلمة ذو المفصحة بمعنى صحبة ودوام ، فكأن في إشعاره دواماً لهذا الانتقام بدوام أمر الكتاب الجامع المقابل علوه لدنو هذا الكفر ، وكان في طي إشعار الانتقام أحد قسمي إقامة اليومية في طرفي النقمة والرحمة ، فتقابل هذان الخطابان إفصاحاً وإفهاماً من حيث ذكر تفصيل الكتب إفصاحاً فافهم متنزل الفتنة في الابتداء إلاحة ، فإنه كما أنزل الكتب هدى أنزل متشابهها فتنة ، فتعادل الإفصاحان والإلاحتان ، وتم بذلك أمر الدين في هذه السورة انتهى . وما أحسن إطلاق العذاب بعد ذكر الفرقان ليشمل الكون في الدنيا نصرة للمؤمنين استجابة لدعائهم ، وفي الآخرة تصديقاً لقولهم وزيادة في سرورهم ونعيمهم ، وتهديداً لمن تُرك كثير من هذه السورة بسببهم وهم وفد نصارى نجران . يجادلون النبي في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فتارة يقولون : هو الله ، وتارة يقولون : هو ابن الله ، وتارة يقولون ، هو ثالث ثلاثة ، وكان بعضهم عالماً بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وبأن أحمد الذي بشر به هو هذا النبي العربي فقال له بعض أقاربه : فلم لا تتبعه وأنت تعلم أن عيسى أمر باتباعه؟ فقال له : لو اتبهناه لسلبنا ملك الروم جميع ما ترى من النعمة ، وكان ملوك الروم قد أحبوهم لاجتهادهم في دينهم وعظموهم وسودوهم وخولوهم في النعم حتى عظمت رئاستهم وكثرت أموالهم على ما بين في السيرة الهشامية وغيرها ، واستمر سبحانه وتعالى يؤكد استجابته لدعاء أوليائه بالنصرة آخر البقرة في نحو قوله :
{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم } [ آل عمران : 10 ] { قل للذين كفروا ستغلبون } [ آل عمران : 12 ] إلى أن ختم السورة بشرط الاستجابة فقال : { اصبروا وصابروا } [ آل عمران : 200 ] ، ثم قال توضيحاً لما قدم في آية الكرسي من إثبات العلم ، واستدلالاً على وصفه سبحانه وتعالى بالقيومية التي فارق بها كل من يدعي فيه الإلهية مشيراً بذلك إلى الرد على من جادل في عيسى عليه الصلاة والسلام فأطراه بدعواه أنه إله ، وموضحاً لأن كتبه هدى وأنه عالم بالمطيع والعاصي بما تقدم أنه أرشد العطف في { والله عزيز } لى تقديره ، ومعللاً لوصفه بالعزة والقدرة لما يأتي في سورة طه من أن تمام العلم يستلزم شمول القدرة : { إن الله } بما له من صفات الكمال التي منها القيومية { لا يخفى عليه شيء } وإن دق ، ولما كان تقريب المعلومات بالمحسوسات أقيد في التعليم والبعد عن الخفاء قال وإن كان علمه سبحانه وتعالى لا يتقيد بشيء : { في الأرض ولا في السماء * } أي ولا هم يقدرون على أن يدعوا في عيسى عليه الصلاة والسلام مثل هذا العلم ، بل في إنجيلهم الذي بين أظهرهم الآن في حدود السبعين والثمانمائة التصريح بأنه يخفى عليه بعض الأمور ، قال في ترجمة إنجيل مرقس في قصة التي كانت بها نزف الدم : إنها أتت من ورائه فأمسكت ثوبه فبرأت فعلم القوة التي خرجت منه ، فالتفت إلى الجمع وقال : من مس ثوبي؟ فقال له تلاميذه : ما ندري ، الجمع يزحمك ، ويقول : من اقترب؟ فجاءت وقالت له الحق ، فقال : يا ابنة! إيمانك خلصك؛ وهو في إنجيل لوقا بمعناه ولفظه : فجاءت من ورائه وأمسكت طرف ثوبه ، فوقف جري دمها الذي كان يسيل منها ، فقال يسوع من لمسني؟ فأنكر جميعهم ، فقال بطرس والذي معه : يا معلم الخير! الجميع يزحمك ويضيق عليك ويقول : من الذي لمسني من قرب مني؟ قد علمت أن قوة خرجت مني إلى آخره . وقال ابن زبير : ثم أشار قوله تعالى : { إن الله لا يخفى عليه شيء } إلى ما تقدم أي في البقرة من تفصيل أخبارهم . فكان الكلام في قوة أن لو قيل : أيخفي عليه مرتكبات العباد! وهو مصورهم في الأرحام والمطلع عليهم حيث لا يطلع عليهم غيره انتهى .
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
ولما قرر سبحانه وتعالى شمول علمه أتبعه دليله من تمام قدرته فقال : وقال الحرالي : ولما كان كل تفصيل يتقدمه بالرتبة مجمل جامع ، وكانت تراجم السورة موضع الإجمال ليكون تفصيلها موضع التفاصيل ، وكان من المذكور في سورة الكتاب ما وقع من اللبس كذلك كان في هذه السورة التي ترجمها جوامع إلهية ما وقع من اللبس في أمر الإلهية في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فكان في هذه الآيه الجامعة توطئة لبيان الأمر في شأنه عليه السلام من حيث إنه مما صور في الرحم وحملته الأنثى ووضعته ، وأن جميع ما حوته السماء والأرض لا ينبغي أن يقع فيه لبس في أمر الإلهية؛ انتهى فقال مبيناً أمر قدرته بما لا يقدر عليه عيسى عليه الصلاة والسلام ولا غيره : { هو } أي وحده { الذي } وقرعهم بصرف القول من الغيبه إلى الخطاب ليعظم تنبههم على ما هم فيه من قهر المصور لهم على ما أوجدهم عليه مما يشتهونه ولا يفقهونه فقال : { يصوركم } أي أن كنتم نطفاً من التصوير وهو إقامه الصورة . وهي تمام البادي التي يقع عليها حس الناظر لظهورها ، فصورة كل شيء تمام بدوه قال الحرالي : { في الأرحام } أي التي لا اطلاع لكم عليها بوجه ، ولما كان التصوير في نفسه أمراً معجباً وشيناً للعقل إذا تأمله وإن كان قد هان لكثرة الإلف باهراً فكيف بأحواله المتباينه وأشكاله المتخالفة المتباينة أشار إلى التعجب من أمره وجليل سره بآلة الاستفهام وإن قالوا : إنها في هذا الوطن شرط ، فقال : { كيف } أي كما { يشاء } أي على أي حالة أراد ، سواء عنده كونكم من نطفتي ذكر وأنثى أو نطفة أنثى وحدها دليلاً على كمال العلم والقيومية ، وإيماء إلى أن من صور في الأرحام كغيره من العبيد لا يكون إلا عبداً ، إذ الإله متعال عن ذلك لما فيه من أنواع الاحتياج والنقص . وقال الحرالي : فكان في إلاحة هذه الآية توزيع أمر الإظهار على ثلاثة وجوه تناظر وجوه التقدير الثلاثة التي في فاتحة سورة البقرة ، فينتج هدى وإضلالاً وإلباساً أكمل الله به وحيه ، كما أقام بتقدير الإيمان والكفر والنفاق خلقه فطابق الأمر الخلق فأقام الله سبحانه وتعالى بذلك قائم خلقه وأمره ، فكان في انتظام هذه الإفهامات أن بادي الأحوال الظاهرة عند انتهاء الخلق إنما ظهرت لأنها مودعة في أصل التصوير فصورة نورانية يهتدي بها وصورة ظلمانية يكفر لأجلها ، وصورة ملتبسة عيشية علمية يفتتن ويقع الإلباس والالتباس من جهتها ، مما لا يفي ببيانها إلا الفرقان المنزل على هذه الأمه ، ولا تتم إحاطة جميعها إلا في القرآن المخصوصة به أئمة هذه الأمه انتهى .
فقد علم أن التصوير في الرحم أدق شيء علماً وقدرة ، فعلم فاعله بغيره والقدرة عليه من باب الأولى فثبت أنه لا كفوء له؛ فلذلك وصل به كلمه الإخلاص وقال الحرالي : ولما تضمنت إلاحة هذه الآية ما تضمنته من الإلباس والتكفير أظهر سبحانه وتعالى كلمه الإخلاص ليظهر نورها أرجاس تلك الإلباسات وتلك التكفيرات فقال : { لا إله إلا هو } إيذاناً بما هي له الإلباس والتكفير من وقوع الإشراك بالإلهية والكفر فيها والتلبس والإلتباس في أمرها؛ فكان في طي هذا التهليل بشرى بنصرة أهل الفرقان وأهل القرآن على أهل الالتباس والكفران وخصوصاً على أهل الإنجيل الذين ذكرت كتبهم صريحاً في هذا التنزيل بل يؤيد إلاحته في التهليل إظهار الختم في هذه الآية بصفتي العزة المقتضية للانتقام من أهل عداوته والحكمة المقتضية لإكرام أهل ولايته؛ انتهى فقال : { العزيز } أي الغالب غلبة لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة ولا انفلات ، ولا معجز له في إنفاذ شيء من أحكامه { الحكيم * } أي الحاكم بالحكمة ، فالحكم المنع عما يترامى إليه المحكوم عليه وحمله على ما يمتنع منه من جميع أنواع الصبر ظاهراً بالسياسة العالية نظراً له ، والحكمة العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم من قوام أمر العاجله وحسن العقبى في الآجلة؛ ففي ظاهر ذلك الجهد ، وفي باطنه الرفق ، وفي عاجله الكره ، وفي آجله الرضى والروح؛ ولايتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم ، فبذلك يكون تنزيل أمر العزة على وزن الحكمة قاله الحرالي بالمعنى .
ولما ختم سبحانه وتعالى بوصف العزة الدالة على الغلبة الدالة على كمال القدرة والحكمة المقتضي لوضع كل شيء في أحسن محاله وأكملها المستلزم لكمال العلم ، تقديراً لما مر من التصوير وغيره ، وكان هذا الكتاب أكمل مسموعات العباد لنزوله على وجه هو أعلى الوجوه ، ونظمه على أسلوب أعجز الفصحاء وأبكم البلغاء إلى غير ذلك من الأمور الباهرة والأسرار الظاهرة ، وعلى عبد هو أكمل الخلق؛ أعقب الوصفين بقوله بياناً لتمام علمه وشمول قدرته : { هو } أي وحده { الذي } ولما فصل أمر المنزل إلى المحكم والتشابه نظر إليه جملة كما اقتضاه التعبير بالكتاب فعبر بالإنزال دون التنزيل فقال : { أنزل عليك } أي خاصة { الكتاب } أي القرآن ، وقصر الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا موضع الراسخين وهو رأسهم دلالة على أنه لا يفهم هذا حق فهمه من الخلق غيره . قال الحرالي : ولما كانت هذه السورة فيما اختصت به من علن أمر الله سبحانه وتعالى مناظرة بسورة البقرة فيما أنزلت من إظهار كتاب الله سبحانه وتعالى كان المنتظم بمنزل فاتحتها ما يناظر المنتظم بفاتحة سورة البقرة ، فلما كانت سورة البقرة منزل كتاب هو الوحي انتظم بترجمتها الإعلام بأمر كتاب الخلق الذي هو القدر ، فكما بين في أول سورة البقرة كتاب تقدير الذي قدره وكتبه في ذوات من مؤمن وكافر ومردد بينهما هو المنافق فتنزلت سورة كتاب للوحي إلى بيان قدر الكتاب الخلقي لذلك كان متنزل هذا الافتتاح الإلهي إلى أصل منزل الكتاب الوحي؛ ولما بين أمر الخلق أن منهم من فطره على الإيمان ومنهم من جبله على الكفر ومنهم من أناسه بين الخلقين ، بين في الكتاب أن منه ما أنزله على الإحكام ومنه ما أنزله على الاشتباه؛ وفي إفهامه ما أنزله على الافتنان والإضلال بمنزله ختم الكفار؛ انتهى فقال : { منه آيات محكمات } أي لا خفاء بها .
قال الحرالي : وهي التي أبرم حكمها فلم ينبتر كما يبرم الحبل الذي يتخذ حكمة أي زماماً يزم به الشيء الذي يخاف خروجه على الانضباط ، كأن الآيه المحكمة تحكم النفس عن جولانها وتمنعها من جماحها وتضبطها إلى محال مصالحها ، ثم قال : فهي آي التعبد من الخلق للخلق اللائي لم يتغير حكمهن في كتاب من هذه الكتب الثلاث المذكورة ، فهن لذلك أم انتهى .
ولما كان الإحكام في غاية البيان فكان في تكامله ورد بعض معانيه إلى بعض كالشيء الواحد ، وكان رد المتشابه إليه في غايه السهولة لمن رسخ إيمانه وصح قصده واتسع علمه ليصير الكل شيئاً واحداً أخبر عن الجمع بالمفرد فقال : { هن أم الكتاب } والأم الأمر الجامع الذي يؤم أي يقصد ، وقال الحرالي : هي الأصل المقتبس منه الشيء في الروحانيات والنابت منه أو فيه في الجسمانيات { وأخر } أي منه { متشابهات } قال الحرالي : والتشابه تراد التشبه في ظاهر أمرين لشبه كل واحد منهما بالآخر بحيث يخفى خصوص كل واحد منهما؛ ثم قال : وهن الآي التي أخبر الحق سبحانه وتعالى فيهن عن نفسه وتنزلات تجلياته ووجوه إعانته لخلقه وتوفيقه وإجرائه ما أجرى من اقتداره وقدرته في بادئ ما أجراه عليهم ، فهن لذلك متشبهات من حيث إن نبأ الحق عن نفسه لا تناله عقول الخلق ، ولا تدركه أبصارهم ، وتعرف لهم فيما تعرف بمثل أنفسهم ، فكأن المحكم للعمل والمتشابه لظهور العجز ، فكان لذلك حرف المحكم أثبت الحروف عملاً ، وحرف المتشابه أثبت الحروف إيماناً ، واجتمعت على إقامته الكتب الثلاث ، واختلفت في الأربع اختلافاً كثيراً فاختلف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها ، واتفق على محكمها ومتشابهها انتهى . فبين سبحانه وتعالى بهذا أنه كما يفعل الأفعال المتشابهه مثل تصوير عيسى عليه الصلاة والسلام من غير نطفة ذكر ، مع إظهار الخوارق على يديه لتبين الراسخ في الدين من غيره كذلك يقول الأقوال المتشابهه ، وأنه فعل في هذا الكتاب ما فعل في غيره من كتبه من تقسيم آياته إلى محكم ومتشابه ابتلاء لعباده ليبين فضل العلماء الراسخين الموقنين بأنه من عنده ، وأن كل ما كان من عند الله سبحانه وتعالى فلا اختلاف فيه في نفس الأمر ، لأن سبب الاختلاف الجهل أو العجز ، وهو سبحانه وتعالى متعال جده منزه قدره عن شيء من ذلك ، فبين فضلهم بأنهم يؤمنون به ، ولا يزالون يستنصرون منه سبحانه وتعالى فتح المنغلق وبيان المشكل حتى يفتحه عليهم بما يرده إلى المحكم ، وهذا على وجه يشير إلى المهمة الذي تاه فيه النصارى ، والتيه الذي ضلوا فيه عن المنهج ، واللج الذي أغرق جماعاتهم ، وهو المتشابه الذي منه أنهم زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يقول له القائل : يا رب! افعل لي كذا ويسجد له ، فيقره على ذلك ويجيب سؤاله ، فدل ذلك على أنه إله ، ومنه إطلاقه على الله سبحانه وتعالى أباً وعلى نفسه أنه ابنه ، فابتغوا الفتنه فيه واعتقدوا الأبوة والنبوة على حقيقتهما ولم يردوا ذلك إلى المحكم الذي قاله لهم فأكثر منه ، كما أخبر عنه أصدق القائلين سبحانه وتعالى في الكتاب المتواتر الذي حفظه من التحريف والتبديل :
{ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [ فصلت : 42 ] ، وهو { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً } [ مريم : 30 ، 31 ] { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } [ المائدة : 117 ] { إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } [ مريم : 51 ] ، هذا مما ورد في كتابنا الذي لم يغيروا ما عندهم فإن كانوا قد بدلوه فقد ولله الحمد منه في الأناجيل الأربعة التي بين أظهرهم الآن في أواخر هذا القرن التاسع من المحكم ما يكفي في رد المتشابه إليه ، ففي إنجيل لوقا أن جبريل عليه الصلاة والسلام ملاك الرب لما تبدى لمريم مبشراً بالمسيح عليه السلام وخافت منه قال لها : لا تخافي يا مريم ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى ، وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً يدعى يسوع ، يكون عظيماً ، وابن العذراء يدعى؛ ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه؛ وفي إنجيله أيضاً وإنجيل متى أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال وقد أمره إبليس أن يجرب قدره عند الله بأن يطرح نفسه من شاهق : مكتوب : لا تجرب الرب إلهك ، وقال وقد أمره أن يسجد له : مكتوب : للرب إلهك اسجد ، وإياه وحده اعبد ، وصرح أن الله سبحانه وتعالى واحد في غير موضع؛ وفي إنجيل لوقا أنه دفع إلى المسيح سفر أشعيا النبي فلما فتحه وجد الموضع الذي فيه مكتوب : روح الرب عليّ ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأبشر بالسنة المقبولة للرب ، والأيام التي أعطانا إلهنا ، ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم؛ وفيه وفي غيره من أناجيلهم : من قبل هذا فقد قبلني ، ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني ، ومن سمع منكم فقد سمع مني ، ومن جحدكم فقد جحدني ، ومن جحدني فقد شتم الذي أرسلني ومن أنكرني قدام الناس أنكرته قدام الناس ، أنكرته قدام ملائكة الله ، وفي إنجيل يوحنا أنه قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام : الذي أرسله الله إنما ينطق بكلام الله لأنه ليس بالكيس ، أعطاه الله الروح ، وقال : قد سأله تلاميذه أن بأكل فقال لهم : طعامي أن أعمل مسرة من أرسلني وأتم عمله؛ وفيه في موضع آخر : الحق الحق أقول لكم! أن من يسمع كلامي وآمن بمن أرسلني وجبت له الحياة المؤبده ، لست أقدر أعمل شيئاً من ذات نفسي ، وإنما أحكم بما أسمع ، وديني عدل لأني لست أطلب مسرتي بل مسرة من أرسلني؛ وفي إنجيل مرقس أنه قال لناس : تعلمتم وصايا الناس وتركتم وصايا الله ، وزجر بعض من اتبعه فقال : اذهب يا شيطان! فإنك لم تفكر في ذات الله ، وتفكر في ذات الناس؛ فقد جعل الله إلهه وربه ومعبوده ، واعترف له بالوحدانيه وجعل ذاته مبايناً لذات الناس الذي هو منهم؛ وفي جميع أناجيلهم نحو هذا ، وأنه كان يصوم ويصلي لله ويأمر تلاميذه بذلك ، ففي إنجيل لوقا أنهم قالوا له : يا رب! علمنا نصلي كما علم يوحنا تلاميذه ، فقال لهم : إذا صليتم فقولوا : أبانا الذي في السماوات يتقدس اسمك! كفافنا أعطنا في كل يوم ، واغفر لنا خطايانا لأنا نغفر لمن لنا عليه ، ولا تدخلنا في التجارب ، لكن نجنا من الشرير؛ ولما دخل الهيكل بدأ يخرج الذين يبيعون ويشترون فيه ، فقال لهم : مكتوب أن بيتي هو بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مفازة اللصوص! فعلم من هذا كله أن إطلاق اسم الرب عليه لأن الله سبحانه وتعالى أذن له أن يفعل بعض أفعاله التي ليست في قدرة البشر ، والرب يطلق على السيد أيضاً ، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام :
{ اذكرني عند ربك } [ يوسف : 42 ] . ثم وجدت في أوائل إنجيل يوحنا أن الرب تأويله العلم ، ولو ردوا أيضاً الأب والابن إلى هذا المحكم وأمثاله وهي كثيرة في جميع أناجيلهم لعلموا بلا شبهة أن معناه أن الله سبحانه وتعالى يفعل معه ما يفعل الوالد مع ولده من الترية والحياطة والنصرة والتعظيم والإجلال ، كما لزمهم حتماً أن يأولوا قوله فيما قدمته : أبانا الذي في السماوات ، وقوله في إنجيل متى لتلاميذه : هكذا فليضىء نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات ، وقال : وأحسنوا إلى من أبغضكم ، وصلوا على من يطردكم ويخزيكم لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات ، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار ، والممطر على الصديقين والظالمين ، انظروا! لا تصنعوا أمراً حكم قدام الناس لكي يروكم ، فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات ، وإذا صنعت رحمة فلا تضرب قدامك بالبوق ، ولا تصنع كما يصنع المراؤون في المجامع وفي الأسواق لكي يمجدوا من الناس ، الحق أقول لكم! لقد أخذوا أجرهم؛ وأنت إذا صنعت رحمة لا تعلم شمالك ما صنعته يمينك ، لتكون صدقة في خفية ، وأبوك الذي يرى الخفية يعطيك على نية؛ وقل في الفصل العاشر منه : وصل لأبيك سراً ، وأبوك يرى السر فيعطيك علانية .
وهكذا في جميع آيات الأحكام من الإنجيل كرر لهم هذه اللفظة تكريراً كثيراً ، فكما تأول لها النصارى بأن المراد منها تعظيمهم له أشد من تعظيمهم لآبائهم ليعتني بهم أكثر من اعتناء الوالد بالولد فكذلك يأولون ما في إنجيل لوقا وغيره أن أم عيسى وإخواته أتوا اليه فلم يقدروا لكثره الجمع على الوصول إليه فقالوا له أملك وإخواتك خارجاً يريدون أن ينظروا إليك ، فأجاب : أمي وأخوتي الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها؛ فكذلك يلزمهم تأويلها في حق عيسى عليه الصلاة والسلام لذلك ليرد المتشابه إلى المحكم . وإن لم يأولوا ذلك في حق أنفسهم وحملوه على الظاهر كما هو ظاهر قوله سبحانه وتعالى : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] كانوا مكابرين في المحسوس بلا شبهة ، فإن كل أحد منهم مساو لجميع الناس وللبهائم في أن له أبوين ، وكانت دعواهم هذة ساقطة لا يردها عليهم إلا من تبرع بإلزامهم بمحسوس آخر هم به يعترفون ، وقد أقام هو نفسه عليه الصلاة والسلام أدلة على صرفها عن ظاهرها ، منها غير ما تقدم أنه كثيراً ما كان يخبر عن نفسه فيقول : ابن الإنسان يفعل كذا ، ابن البشر قال كذا يعني نفسه الكريمة ، فحيث نسب نفسه إلى البشر كان مريداً للحقيقة ، لأنه ابن امرأة منهم ، وهو مثلهم في الجسد ، والمعاني حيث نسبها إلى الله سبحانه وتعالى كان على المجاز كما تقدم . وأما السجود فقد ورد في التوراة كثيراً لأحاد الناس من غير نكير ، فكأنه كان جائزاً في شرائعهم فعله لغير الله سبحانه وتعالى على وجه التعظيم والله سبحانه وتعالى أعلم ، وأما نحن فلا يجوز فعله لغير الله ، ولا يجوز في شريعتنا أصلاً إطلاق الأب ولا الابن بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ، وكذا كل لفظ أوهم نقصاً سواء صح أن ذلك كان جائزاً في شرعهم أم لا ، وإذا راجعت تفسير البيضاوي لقوله سبحانه وتعالى في البقرة { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } [ البقرة : 117 ] زادك بصيرة فيما هنا؛ والحاصل أنهم لم يصرفوا ذلك في حق عيسى عليه الصلاة والسلام عن ظاهره وحقيقته وتحكموا بأن المراد منه المجاز وهو هنا إطلاق اسم الملزوم على اللازم ، وكذا غيره من متشابه الإنجيل ، كما فعلنا نحن بمعونة الله سبحانه وتعالى في وصف الله سبحانه وتعالى بالرضى والغضب والرحمة والضحك وغير ذلك مما يستلزم حمله على الظاهر وصفات المحدثين ، وكذا ذكر اليد والكف والعين ونحو ذلك فحملنا ذلك كله على أن المراد منه لوازمه وغاياته مما يليق بجلاله سبحانه وتعالى مع تنزيهنا له سبحانه وتعالى عن كل نقص وإثباتنا له كل كمال ، فإن الله سبحانه وتعالى عزه وجده وجل قدره ومجده أنزل حرف المتشابه ابتلاء لعباده لتبين الثابت من الطائش والموقن من الشاك .
قال الحرالي في كتابه عروة المفتاح : وجه إنزال هذا الحرف تعرف الحق للخلق بمعتبر ما خلقهم عليه ليلفتوا عنه وليفهموا خطابه ، وليتضح لهم نزول رتبهم عن علو ما تعرف به لهم ، وليختم بعجزهم عن إدراك هذا الحرف علمهم بالأربعة يعني الأمر و النهي والحلال والحرام ، وحبسهم بالخامس وتوقفهم عنه والاكتفاء بالإيمان منه ما تقدم من عملهم بالأربعة ، واتصافهم بالخامس ليتم لهم العبادة بالوجهين من العمل والوقوف والإدراك والعجز { فارجع البصر هل ترى من فطور } [ الملك : 3 ] علماً وحساً { ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير } [ الملك : 4 ] عجزاً ، أعلمهم بحظ من علم أنفسهم وغيرهم بعد أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً ثم أعجزهم عن علم أمره وأيامه الماضية والآتية وغائب الحاضرة ليسلموا له اختيار فيرزقهم اليقين بأمره وغائب أيامه ، كما أسلموا له في الصغر اضطراراً ، فرزقهم حظاً من علم خلقه ، فمن لم يوقفه في حد الإيمان اشتباه خطابه سبحانه وتعالى عن نفسه وما بينه وبين خلقه وحاول تدركه بدليل أو فكر أو تأويل حرم اليقين بعلي الأمر والتحقيق في علم الخلق ، وأوخذ بما أضاع من محكم ذلك المتشابه حين اشتغل لما يعنيه من حال نفسه بما لا يعنيه من أمر ربه ، فكان كالمتشاغل بالنظر في ذي الملك ، وتنظره يرمي نفسه عن مراقبة ما يلزمه من تفهم حدوده وتذلله لحرمته؛ وجوامع منزل هذا الحرف في رتبتين : مبهمة ومفصلة ، أما انبهامه فلوقوف العلم به على تعريف الله سبحانه وتعالى من غير واسطة من وسائط النفس من فكر ولا استدلال ، وليتدرب المخاطب بتوقفه على المبهم على توقفه عن مفصله ومبهمه ، وهو جامع الحروف المنزلة في أوائل السور التسع والعشرين من سوره وبه افتتح الترتيب في القرآن ، ليتلقى الخلق بادي أمر الله بالعجز والوقوف والاستسلام إلى أن يمن الله سبحانه وتعالى بعلمه بفتح من لدنه ، ولذلك لم يكن في تنزيله في هذه الرتبة ريب لمن علمه الله سبحانه وتعالى كنهه من حيث لم يكن للنفس مدخل في علمه ، وذلك قوله سبحانه وتعالى : { آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه } [ البقرة : 1 ، 2 ] لمن علمه الله إياه { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 2 ، 3 ] وقوفاً عن محاولة علم ما ليس في وسع الخلق علمه ، حتى تلحقه العنايه من ربه فعلمه ما لم يكن في علمه؛ وأما الرتبة الثانية فمتشابه الخطاب المفصل المشتمل على إخبار الله عن نفسه وتنزيلات أمره ، ورتب إقامات خلقه بإبداع كلمته وتصيير حكمته وباطن ملكوته وعزيز جبروته وأحوال أيامه؛ وأول ذلك في ترتيب القرآن إخباره عن استوائه في قوله :
{ ثم استوى إلى السماء } [ البقرة : 29 ] إلى قوله سبحانه وتعالى { فأينما تولوا فثم وجه الله } [ لبقرة : 115 ] إلى سائر ما أخبر عنه من عظم شأنه في جملة آيات متعددات لقوله سبحانه وتعالى { إلا لنعلم من يتبع الرسول } [ البقرة : 143 ] ، { فإني قريب } [ البقرة : 186 ] { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة } [ البقرة : 210 ] ، { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة : 255 ] { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } [ البقرة : 279 ] ، { هو الذي يصوركم في الأرحام } [ آل عمران : 6 ] ، { ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 128 ] ، { ولله ملك السماوات والأرض } [ آل عمران : 189 ] ، { والله على كل شيء قدير } [ البقرة : 284 ] ، { وكان الله سميعاً بصيراً } [ النساء : 85 ] ، { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } [ المائده : 64 ] ، { وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم } [ الأنعام : 3 ] ، { خلق السماوات والأرض } [ الأعراف : 54 ] ، { ثم استوى على العرش } [ الأعراف : 54 ] ، { ولتصنع على عيني } [ طه : 39 ] ، { قل من بيده ملكوت كل شيء } [ المؤمنون : 88 ] ، { فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله } [ القصص : 30 ] ، { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] ، { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } [ الأحزاب : 43 ] ، { إن الله وملائكته يصلون علىلنبي } [ الأحزاب : 56 ] ، { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ الأعراف : 12 ] ، { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] ، { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } [ الجاثيه : 13 ] ، { وله الكبرياء في السماوات والأرض } [ الجاثيه : 37 ] ، { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك } [ الرحمن : 26 ، 27 ] ، { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } [ الحديد : 3 ] ، { وهو معكم أين ما كنتم } [ الحديد : 4 ] ، { ما يكون من نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا } [ المجادلة : 7 ] ، { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } [ الحشر : 2 ] ، { تبارك الذي بيده الملك } [ الملك : 1 ] ، { تعرج الملائكة والروح اليه } [ المعارج : 4 ] ، { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ، 23 ] ، { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } [ الإنسان : 30 ] ، { وجاء ربك والملك صفاً صفاً } [ الفجر : 22 ] إلى سائر ما أخبر فيه عن تنزلات أمره وتسوية خلقه وما أخبرعنه حبيبه صلى الله عليه وسلم من محفوظ الأحاديث التي عرف بها أمته ما يحملهم في عبادتهم على الانكماش والجد والخشية والوجل والإشفاق وسائر الأحوال المشار إليها في حرف المحكم من نحو حديث النزول والقدمين والصورة والضحك والكف والأنامل ، وحديث عناية لزوم التقرب بالنوافل وغير ذلك من الأحاديث التي ورد بعضها في الصحيحين ، واعتنى بجمعها الحافظ المتقن أبو الحسن الدارقطني رحمه الله تعالى ، ودوَّن بعض المتكلمين جملة منها لقصد التأويل ، وشدد النكير في ذلك أئمة المحدثين ، يؤثر عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه ورحمة أنه قال : آيات الصفات وأحاديث الصفات صناديق مقفلة مفاتيحها بيد الله سبحانه وتعالى ، تأويلها تلاوتها ، ولذلك أئمة الفقهاء وفتياهم لعامة المؤمنين والذي اجتمعت عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولقنته العرب كلها أن ورود ذلك عن الله ومن رسوله ومن الأئمة إنما هو لمقصد الإفهام ، لا لمقصد الإعلام ، فلذلك لم يستشكل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شيئاً قط ، بل كلما كان وارده عليهم أكثر كانوا به أفرح ، وللخطاب به أفهم ، حتى قال بعضهم لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم :
« إن الله تعالى يضحك من عبده : لا نعدم الخير من رب يضحك » وهم وسائر العلماء بعدهم صنفان : إما متوقف عنه في حد الإيمان ، قانع بما أفاد من الإفهام ، وإما مفتوح عليه بما هو في صفاء الإيقان ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى تعرف لعباده في الأفعال والآثار في الآفاق وفي أنفسهم تعليماً ، وتعرف للخاصة منهم بالأوصاف العليا والأسماء الحسنى مما يمكنهم اعتباره تعجيزاً ، فجاوزوا حدود التعلم بالإعلام إلى عجز الإدراك فعرفوا أن لا معرفة لهم ، وذلك هو حد العرفان وإحكام قراءة هذا الحرف المتشابه في منزل القرآن ، وتحققوا أن { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] و { لم يكن له كفواً أحد } [ الإخلاص : 4 ] فتهدفوا بذلك لما يفتحه الله على من يحبه من صفاء الإيقان ، والله يحب المحسنين . ثم قال فيما به تحصل قراءة هذا الحرف : اعلم أن تحقيق الإسلام بقراءة حرف المحكم لا يتم إلا بكمال الإيمان بقراءة حرف المتشابه تماماً لأن حرف المحكم حال يتحقق للعبد . ولما كان حرف المتشابه إخباراً عن نفسه سبحانه وتعالى بما يتعرف به لخلقه من أسماء وأوصاف كانت قراءته بتحقق العبد أن تلك الأسماء والأوصاف ليست مما تدركه حواس الخلق ولا ما تناله عقولهم ، وإن أجرى على تلك الاسماء والأوصاف على الخلق فيوجه ، لا يلحق أسماء الحق ولا أوصافه منها تشبيه في وهم ولا تمثيل في عقل { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [ الشورى : 11 ] ، { ولم يكن له كفواً أحد } [ الإخلاص : 4 ] ، فلاذي يصح به قراءة هذا الحرف أما من جهة القلب فالمعرفة بأن جميع أسماء الحق وأوصافه تعجز عن معرفتها إدراكات الخلق وتقف عن تأويلها إجلالاً وإعظاماً معلوماتُهم ، وأن حسبها معرفتها بأنها لا تعرفها ، وأما من جهة حال النفس والاستكانة لما يوجبه تعرف الحق بتلك الأسماء والأوصاف من التحقق بما يقابلها والبراءة من الاتصاف بها لأن ما صلح للسيد حرم على العبد لتحقق فقر الخلق من تسمي الحق بالغنى ، ولا يتسمى بالغنى فيقدح في هداه ، فيهلك باسمه ودعواه ، ولتحقق ذلهم من تسميته تعالى بالعزة وعجزهم عن تسميته بالقدرة ، واستحقاق تخليهم من جميع ما تعرف به من أوصاف الملك والسلطان والغضب والرضى والوعد والوعيد والترغيب والترهيب إلى سائر ما تسمى به في جميع تصرفاته مما ذكر في المتشابه من الآي ، وأشير إليه من الأحاديث ، وما عليه اشتملت « واردات الأخبار » في جميع الصحف والكتب ، ومرائي الصالحين ومواقف المحدثين ومواجد المروّعين؛ وأما من جهة العمل فحفظ اللسان عن إطلاق ألفاظ التمثيل والتشبيه تحقيقاً لما في مضمون قوله سبحانه وتعالى
{ ولم يكن له كفواً أحد } [ الإخلاص : 4 ] لأن مقتضاها الرد على المشبه من هذه الأمة ، وليس لعمل الجوارح في هذا الحرف مظهر سوى ما ذكر من لفظ اللسان ، فقراءته كالتوطئة لتخليص العبادة بالقلب في قراءة مفرد حرف الأمثال؛ والله العلي الكبير انتهى .
وقد تقدم حرف الأمثال عند قوله تعالى { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 7 ] وقد بين سبحانه وتعالى أنه لا يضل بحرف المتشابه إلا ذوو الطبع العوج الذين لم ترسخ أقدامهم في الدين ولا استنارت معارفهم في العلم فقال : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي اعوجاج عدلوا به عن الحق . وقال الحرالي : هو ميل المائل إلى ما يزين لنفسه الميل إليه ، والمراد هنا أشد الميل الذي هو ميل القلب عن جادة الاستواء وفي إشعاره ما يلحق بزيغ القلوب من سيىء الأحوال في الأنفس وزلل الأفعال في الأعمال ، فأنبأ تعالى عما هو الأشد وأبهم ما هو الأضعف : { فيتبعون } في إشعار هذه الصيغة بما تنبئ عنه من تكلف المتابعه بأن من وقع له الميل فلفته لم تلحقه مذمه هذا الخطاب ، فإذا وقع الزلل ولم يتتابع حتى يكون اتباعاً سلم من حد الفتنة بمعالجة التوبة { ما تشابه منه } فأبهمه إبهاماً يشعر بما جرت به الكليات فيما يقع نبأ عن الحق وعن الخلق من نحو أوصاف النفس كالتعليم والحكيم وسائر أزواج الأوصاف كالغضب والرضى بناء على الخلق في بادئ الصورة من نحو العين واليد والرجل والوجه وسائر بوادي الصورة ، كل ذلك مما أنه متشابهات أنزلها الله تعالى ليتعرف للخلق بما جبلهم عليه مما لو لم يتعرف لهم به لم يعرفوه ، ففقائدة إنزالها التعرف بما يقع به الامتحان بإحجام الفكر عنه والإقدام على التعبد له ، ففائدة إنزاله عملاً في المحكم وفائدة إنزاله فيه توقفاً عنه ليقع الابتلاء بالوجهين : عملاً بالمحكم ووقوفاً عن المتشابه ، قال عليه الصلاة والسلام : « لا تتفكروا في الله » وقال علي رضي الله عنه : من تفكر في ذات الله تزندق ووافق العلماء إنكار الخلق عن التصرف في تكييف شيء منه ، كما ذكر عن مالك رحمه الله تعالى في قوله : الكيف مجهول والسؤال عنه بدعة ، فالخوض في المتشابه بدعة ، والوقوف عنه سنة؛ وأفهم عنه الإمام أحمد يعني فيما تقدم في آيات الصفات من أن تأويلها تلاوتها ، هذا هو حد الإيمان وموقفه ، وإليه أذعن الراسخون في العلم ، وهم الذين تحققوا في أعلام العلم ، ولم يصغوا إلى وهم التخييل والتمثل به في شيء مما أنبأ الله سبحانه وتعالى به نفسه ولا في شيء مما بينه وبين خلقه وكان في توقفهم عن الخوض في المتشابه تفرغهم للعمل في المحكم ، لأن المحكم واضح وجداني ، متفقه عليه مدارك الفطن وإذعان الجبلات ومنزلات الكتب ، لم يقع فيه اختلاف بوجه حتى كان لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، للزوم الواجب من العمل بالمحكم في إذعان النفس ، فكما لا يصلح العراء عن الاتصاف بالمحكم لا يصلح الترامي إلى شيء من الخوض في المتشابه لأحد من أهل العلم والإيمان أهل الدرجات ، لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلق وفطرهم على إدراك حظ من أنفسهم من أحوالهم ، وأوقفهم عن إدراك ما هو راجع إليه ، فأمر الله وتجلياته لا تنال إلا بعنايه منه ، يزج العبد زجه يقطع به الحجب الظلمانية والنورانية التي فيها مواقف العلماء؛ فليس في هذا الحرف المتشابه إلا أخذ لسانين : لسان وقفة عن حد الإيمان للراسخين في العلم المشتغلين بالاتصاف بالتذلل والتواضع والتقوى والبر الذي أمر صلى الله عليه وسلم أن يتبع فيه حتى ينتهي العبد إلى أن يحبه الله ، فيرفع عنه عجز الوقفه عن المتشابه ، وينقذه من حجاب النورانية ، فلا يشكل عليه دقيق ولا يعييه خفي بما أحبه الله ، وما بين ذلك من خوض دون إنقاذ هذه العناية فنقص عن حد رتبة الإيمان والرسوخ في العلم ، فكل خائض فيه ناقص من حيث يحب أن يزيد ، فهو إما عجز إيماني من حيث الفطر الخلقي ، وإما تحقق إيقاني توجبه العناية والمحبة انتهى .
ولما ذكر سبحانه وتعالى اتباعهم له ذكر علته فقال : { ابتغاء الفتنة } أي تمييل الناس عن عقائدهم بالشكوك { وابتغاء تأويله } أي ترجيعه إلى ما يشتهونه وتدعوا إليه نفوسهم المائلة وأهويتهم الباطلة بادعاء أنه مآله . قال الحرالي : والابتغاء افتعال : تكلف البغي ، وهو شدة الطلب ، وجعله تعالى ابتغاءين لاختلاف وجهيه ، فجعل الأول فتنة لتعلقه بالغير وجعل الثاني تأويلاً أي طلباً للمآل عنده ، لاقتصاره على نفسه ، فكان أهون الزيغين انتهى .
ولما بين زيغهم بين أن نسبة خوضهم فيما لا يمكنهم علمه فقال : { وما } أي والحال أنه ما { يعلم } في الحال وعلى القطع { تأويله } قال الحرالي : هو ما يؤول إليه أمر الشيء في مآله إلى معاده { إلا الله } أي المحيط قدرة وعلماً ، قال : ولكل باد من الخلق مآل كما أن الآخرة مآل الدنيا { يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } [ الأعراف : 53 ] لذلك كل يوم من أيام الآخرة مآل للذي قبله ، فيوم الخلود مآل يوم الجزاء ، ومآل الأبد مآل يوم الخلود؛ وأبد الأبد مآل الأبد ، وكذلك كل الخلق له مآل من الأمر فأمر الله مآل خلقه وكذلك الأمر ، كل تنزيل أعلى منه مآل التنزيل الأدنى إلى كمال الأمر ، وكل أمر الله مآل من أسمائه وتجلياته ، وكل تجل أجلى مآل لما دونه من تجل أخفى ، قال عيه الصلاة والسلام :
« فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفونها الحديث إلى قوله : أنت ربنا » فكان تجليه الأظهر لهم مآل تجليه الأخفى عنهم؛ فكان كل أقرب للخلق من غيب خلق وقائم أمر وعلى تجل إبلاغاً إلى ما وراءه فكان تأويله ، فلم تكن الإحاطة بالتأويل المحيط إلا لله سبحانه وتعالى . ولما ذكر الزائغين ذكر الثابتين فقال : { والراسخون في العلم } قال الحرالي : وهم المتحققون في أعلام العلم من حيث إن الرسوخ النزول بالثقل في الشيء الرخو ليس الظهورعلى الشيء ، فلرسوخهم كانوا أهل إيمان ، ولو أنهم كانوا ظاهرين على العلم كانوا أهل إيقان ، لكنهم راسخون في العلم لم يظهروا بصفاء الإيقان على نور العلم ، فثبتهم الله سبحانه وتعالى عند حد التوقف فكانوا دائمين على الإيمان بقوله : { يقولون آمنا به } بصيغة الدوام انتهى أي هذا حالهم في رسوخهم .
ولما كان هذا قسيماً لقوله : { وأما الذين في قلوبهم زيغ } كان ذلك واضحاً في كونه ابتداء وأن الوقوف على ما قبله ، ولما كان هذا الضمير محتملاً للمحكم فقط قال : { كل } أي من المحكم والمتشابه . قال الحرالي : وهذه الكلمة معرفة بتعريف الإحاطة التي أهل النحاة ذكرها في وجوه التعريف إلا من ألاح معناها منهم فلم يلقن ولم ينقل جماعتهم ذلك؛ وهو من أكمل وجوه التعريف ، لأن حقيقة التعريف التعين بعيان أو عقل ، وهي إشارة إلى إحاطة ما أنزله على إبهامه ، فكان مرجع المتشابه والمحكم عندهم مرجعاً واحداً ، آمنوا بمحل اجتماعه الذي منه نشأ فرقانه ، لأن كل مفترق بالحقيقة إنما هو معروج من حد اجتماع ، فما رجع إليه الإيمان في قلولهم : آمنا به ، هو محل اجتماع المحكم والمتشابه في إحاطة الكتاب قبل تفصيله انتهى . { من عند ربنا } أي المحسن إلينا بكل اعتبار ، ولعله عبر بعند وهي بالأمر الظاهر بخلاف لدن إشارة إلى ظهور ذلك عند التأمل ، وعبروه عن الاشتباه .
ولما كان مع كل مشتبه أمر إذا دقق النظر فيه رجع إلى مثال حاضر للعقل إما محسوس وإما في حد ظهور المحسوس قال معمماً لمدح المتأملين على دقة الأمر وشدة عموضه بإدغام تاء التفعل مشيراً إلى أنهم تأهلوا بالرسوخ إلى الارتقاء عن رتبته ، ملوحاً إلى أنه لا فهم لغيرهم عاطفاً على ما تقديره : فذكرهم الله من معاني المتشابه ببركه إيمانهم وتسليمهم بما نصبه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يمكن أن يكون إرادة منه سبحانه وتعالى وإن لم يكن على القطع بأنه إرادة : { وما يذكر } أي من الراسخين بما سمع من المتشابه ما في حسه وعقله من أمثال ذلك { إلا أولوا الألباب* } قال الحرالي : الذين لهم لب العقل الذي للراسخين في العلم ظاهره ، فكان بين أهل الزيغ وأهل التذكر مقابلة بعيدة ، فمنهم متذكر ينتهي إلى إيقان ، وراسخ في العلم يقف عند حد إيمان ، ومتأول يركن إلى لبس بدعة ، وفاتن يتبع هوى؛ فأنبأ جملة هذا البيان عن أحوال الخلق بالنظر إلى تلقي الكتاب كما أنبأ بيان سورة البقرة عن جهات تلقيهم للأحكام انتهى .
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
ولما علم بذلك أن الراسخين أيقنوا أنه من عند الله المستلزم لأنه لا عوج فيه أخبر أنهم أقبلوا على التضرع إليه في أن يثبتهم بعد هدايته ثم أن يرحمهم ببيان ما أشكل عليهم بقوله حاكياً عنهم وهو في الحقيقة تلقين منه لهم لطفاً بهم مقدماً ما ينبغي تقديمه من السؤال في تطهير القلب عما لا ينبغي على طلب تنويره بما ينبغي لأن إزالة المانع قبل إيجاد المقتضي عين الحكمة : { ربنا } أي المحسن إلينا { لا تزغ قلوبنا } أي عن الحق .
ولما كان صلاح القلب صلاح الجملة وفساده فسادها وكان ثبات الإنسان على سنن الاستقامة من غير عوج أصلاً مما لم يجر به سبحانه وتعالى عادته لغير المعصومين قال نازعاً الجار مسنداً الفعل غلى ضمير الجملة : { بعد إذ هديتنا } إليه . وقال الحرالي : ففي إلاحة معناه أن هذا الابتهال واقع من أولي الألباب ليترقوا من محلهم من التذكر إلى ما هو أعلى وأبطن انتهى . فلذلك قالوا : { وهب لنا من لدنك } أي أمرك الخاص بحضرتك القدسية ، الباطن عن غير خواصك { رحمة } أي فضلاً ومنحة منك ابتداء من غير سبب منا ، ونكرها تعظيماً بأن أيسر شيء منها يكفي الموهوب .
ولما لم يكن لغيره شيء أصلاً فكان كل عطاء من فضله قالوا وقال الحرالي : ولما كان الأمر اللدني ليس مما في فطر الخلق وجبلاتهم وإقامة حكمتهم ، وإنما هو موهبة من الله سبحانه وتعالى بحسب العناية ختم بقوله : { إنك أنت الوهاب * } وهي صيغة مبالغة من الوهب والهبة ، وهي العطية سماحاً من غير قصد من الموهوب انتهى .
ولما كان من المعلوم من أول ما فرغ السمع من الكتاب في الفاتحة وأول البقرة وأثنائها أن للناس يوماً يدانون فيه وصلوا بقولهم السابق قوله : { ربنا إنك جامع } قال الحرالي : من الجمع ، وهو ضم ما شأنه الافتراق والتنافر لطفاً أو قهراً انتهى . { الناس } أي كلهم { ليوم } أي يدانون فيه { لا ريب فيه } ثم عللوا نفي الريب بقولهم عادلين عن الخطاب آتين بالاسم الأعظم لأن المقام للجلال : { إن الله } أي المحيط بصفات الكمال { لا يخلف } ولما كان نفي الخلف في زمن الوعد ومكانه أبلغ من نفي خلافه نفسه عبر بالمفعال فقال : { الميعاد * } وقال الحرالي : هو مفعال من الوعد ، وصيغ لمعنى تكرره ودوامه ، والوعد العهد في الخير انتهى . وكل ذلك تنبيهاً على أنه يجب التثبت في فهم الكتاب والإحجام عن مشكله خوفاً من الفضيحة يوم الجمع يوم يساقون إليه ويقفون بين يديه ، فكأنه تعالى يقول للنصارى : هب أنه أشكل عليكم بعض أفعالي وأقوالي في الإنجيل فهلا فعلتم فعل الراسخين فنزهتموني عما لا يليق بجلالي من التناقض وغيره ، ووكلتم أمر ذلك إليّ ، وعولتم في فتح مغلقه عليّ خوفاً من يوم الدين؟ قال ابن الزبير : ثم لما بلغ الكلام إلى هنا أي إلى آيه التصوير كان كأنه قد قيل : فكيف طرأ عليهم ما طرأ مع وجود الكتب؟ أخبر تعالى بشأن الكتاب وأنه محكم ومتشابه ، وكذا عيره من الكتب والله سبحانه وتعالى أعلم ، فحال أهل التوفيق تحكيم المحكم ، وحال أهل الزيغ اتباع المتشابه والتعلق به ، وهذا بيان لقوله :
{ يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } [ البقرة : 26 ] وكل هذا بيان لكون الكتاب العزيز أعظم فرقان وأوضح بيان إذ قد أوضح أحوال المختلفين ومن أين أتى عليهم مع وجود الكتب ، وفي أثناء ذلك تنبيه العباد على عجزهم وعدم استبدادهم لئلا يغتر الغافل فيقول مع هذا البيان ووضوح الأمر : لا طريق إلى تنكب الصراط ، فنبهوا حين علموا الدعاء من قوله : { وإياك نستعين } [ الفاتحة : 4 ] ثم كرر تنبيههم لشدة الحاجة ليذكر هذا أبداً ، ففيه معظم البيان ، ومن اعتقاد الاستبداد ينشأ الشرك الأكبر إذ اعتقاد الاستبداد بالأفعال إخراج لنصف الموجودات عن يد بارئها { والله خلقكم وما تعملون } [ الصافات : 96 ] فمن التنبيه { إن الذين كفروا } [ البقرة : 6 ] ومنه : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } [ البقرة : 26 ] ومنه { آمن الرسول } [ البقرة : 285 ] إلى خاتمتها ، هذا من جلي التنبيه ومحكمه ، ومما يرجع إليه ويجوز معناه بعد اعتباره : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] وقوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة : 255 ] ، فمن رأى الفعل أو بعضه لغيره تعالى حقيقة فقد قال بإلهية غيره ، ثم حذروا أشد التحذير لما بين لهم فقال تعالى : { إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد } [ آل عمران : 4 ] ثم ارتبطت الآيات إلى آخرها انتهى .
ولما تحقق أن يوم الجمع كائن لا محالة تحقق أن من نتائجه تحقيقاً لعزته سبحانه وتعالى وانتقامه من الكفرة قوله تعالى : { إن الذين كفروا } أي الذين يظنون لسترهم ما دلت عليه مرأى عقولهم أنهم يمتنعون من أمر الله لأنهم يفعلون في عصيانه وعداوة أوليائه فعل من يريد المغالبه { لن تغني عنهم أموالهم } أي وإن كثرت ، وقدمها لأن بها قوام ما بعدها وتمام لذاته ، وأكد بإعادة النافي ليفيد النفي عن كل حالة وعن المجموع فيكون أصرح في المرام { ولا أولادهم } وإن جلت وعظمت { من الله } أي الملك الأعظم { شيئاً } أي من إغناء مبتدئاً من جهة الله ، وإذا كانت تلك الجهة عارية عما يغني كان كل ما يأتيهم من قبله سبحانه وتعالى من بأس واقعاً بهم لا مانع له ، فمهما أراد بهم كان من خذلان في الدنيا وبعث بعد الموت وحشر بعد البعث وعذاب في الآخرة ، فأولئك المعرضون منه لكل بلاء { وأولئك هم وقود النار * } وفي ذلك أعظم تنبيه على أن الزائغين الذين خالفوا الراسخين فوقفت بهم نعمه المقتضيه لتصديقه عن تصديقه ليست مغنية عنهم تلك النعم شيئاً ، وأنهم مغلوبون لا محالة في الدنيا ومحشورون في الآخرة إلى جهنم .
ولما كانت هذه السورة سورة التوحيد كان الأليق بخطابها أن يكون الدعاء فيه إلى الزهد أتم من الدعاء في غيرها ، والإشارة فيه إلى ذلك أكثر من الإشارة في غيره ، فكانت هذه الآية قاطعة للقلوب النيرة بما أشارت إليه من فتنة الأموال والأولاد الموجبة للهلاك . قال الحرالي : ولما كان من مضمون ترجمة سورة البقرة إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على سر التقدير الذي صرف عن الجواب فيه وإظهار سره موسى كليم الله وعيسى كلمة الله عليهما الصلاة والسلام كان مما أظهره الله سبحانه وتعالى لعامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم إعلاء لها على كل أمة ، واختصاصاً لها بما علا اختصاص نبيها صلى الله عليه وسلم حتى قال قائلهم : أخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني لقوم لم يظهروا على سر القدر ، وقال : والذي يحلف به عبد الله بن عمر : لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر ، فأفهم الله سبحانه وتعالى علماء هذه الأمة أن أعمالها لا تقبل إلا على معرفة سر التقدير لتكون قلوبها بريئة من أعمال ظواهرها ، كما قيل في أثارة من العلم : من لم يختم عمله بالعلم لم يعمل ، ومن لم يختم علمه بالجهل لم يعلم فختم العامل عمله بالعلم أن يعلم أنه لا عمل له ، وأن المجرى على يديه أمر مقدر قدره الله تعالى عليه وأقامه فيه لما خلقه له من حكمته من وصفه من خير أو شر ومن تمام كلمته في رحمته أو عقوبته ليظهر بذلك حكمة الحكيم ، ولا حجة للعبد على ربه ولا حجة للصنعة على صانعها ولله سبحانه وتعالى الحجة البالغة؛ وكذلك العالم متى لم ينطو سره على أنه لا يعلم وإنما العلم عند الله سبحانه وتعالى لم يثبت له علم ، فذلك ختم العمل بالعمل وختم العلم بالجهل ، فكما أطلعه سبحانه وتعالى في فاتحة سورة البقرة على سر تقديره في خلقه أظهره في فاتحة سورة آل عمران على علن قيوميته الذي هو شاهده في وحي ربه ، كما هو بصير بسر القدر في تفرق أفعال خلقه ، فكان منزل سورة البقرة قوام الأفعال ومنزل سورة آل عمران قوام التنزيل والإنزال فكان علن القيومية قوام التنزيل للكتاب الجامع الأول ، والتنزيل قوام إنزال الكتب ، وإنزال الكتاب الجامع لتفسير الكتب قوام تفصيل الآيات المحكمات والمتشابهات ، والإحكام والتشابه إقامة الهدى والفتنة ، والهدى والفتنة إقامة متصرف الحواس الظاهرة والباطنة ، والأحوال وما دونها من الأفعال على وجه جمع يكون قواماً لما تفصل من مجمله وتكثر من وحدته وتفرق من اجتماعه ، ولعلو مضمون هذه السورة لم يقع فيها توجه الخطاب بها لصنف الناس ، واختص خطابها بالذين آمنوا في علو من معاني الإيمان لما ذكر من شرف سن الإيمان على سن الناس في تنامي أسنان القلوب ، وكان خطاب سورة البقرة بمقتضى رتبة العقل الذي به يقع أول الإصغاء والاستماع ، كما ظهر في آيات الاعتبار فيها في قوله سبحانه وتعالى :
{ إن في خلق السماوات والأرض } [ البقرة : 164 ] إلى قوله : { لقوم يعقلون } [ البقرة : 164 ] فكان خطاب سورة آل عمران إقبالاً على أولي الألباب الذين لهم لب العقل ، بما ظهر في أولها وخاتمتها في قوله : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } [ آل عمران : 7 ] وفي خاتمتها في آيات اعتبارها في قوله سبحانه وتعالى { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } [ آل عمران : 190 ] فبالعقل يقع الاعتبار لمنزل الكتاب وباللب يكون التذكر ، إيلاء إلى الذي نزل الكتاب ، وبالجملة فمثاني هذه السورة من تفاصيل آياتها وجمل جوامعها مما هو أعلق بطيب الإيمان واعتبار اللب ، كما أن منزل سورة البقرة أعلق بما هو من أمر الأعمال وإقامة معالم الإسلام بما ظهر في هذه السورة من علن أمر الله ، وبما افتتحت به من اسم الله الأعظم الذي جميع الأسماء أسماء له لإحاطته واختصاصها بوجه ما ، فكان فيها علن التوحيد وكماله وقوام تنزيل الأمر وتطورالخلق في جميع متنزلها ومثانيها ، وظهر فيها تفصيل وجوه الحكم العلية التي تضمن جملة ذكرها الآية الجامعة في سورة البقرة في قوله سبحانه وتعالى { يؤتي الحكمة من يشاء } [ البقرة : 269 ] فكان من جملة بناء الحكمة ما هو السبب في ظهور الكفر من الذين كفروا بما غلب عليهم من الفتنة بأموالهم وأولادهم حتى ألهتهم عن ذكر الله ، فانتهوا فيه إلى حد الكفر الذي نبه عليه { الذين آمنوا } في قوله سبحانه وتعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } [ المنافقون : 9 ] انتهى .
ولما كان السبب المقتضي لاستمرارالكفر من النصارى المجادلين في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الخوف ممن فوقهم من ملوك النصرانية نبههم سبحانه وتعالى على أول قصة أسلافهم من بني إسرائيل ، وما كانوا فيه من الذل مع آل فرعون ، وما كان فيه فرعون من العظمة التي تُقسر بها ملوك زمانهم ، ثم لما أراد الله سبحانه وتعالى قهر أسلافهم له لم تضرهم ذلتهم ولا قلتهم ، ولا نفعته عزته ولا كثرة آله ، فلذلك صرح بهم سبحانه وتعالى وطوى ذكر من قبلهم فقال : { كدأب } أي لم يغن عنهم ذلك شيئاً مثل عادة { آل فرعون } أي الذين اشتهر لديكم استكبارهم وعظمتهم وفخارهم ، قال الحرالي : الدأب العادة الدائمة التي تتأبد بالتزامها ، وآل الرجل من إذ أحصر تراءى فيهم فكأنه لم يغب؛ وفرعون اسم ملك مصر في الكفر ، ومصر أرض جامعة كليتها وجملة ، إقليمها نازل منزلة الأرض كلها ، فلها إحاطة بوجه ما ، فلذلك أعظم شأنها في القرآن وشأن العالي فيها من الفراعنة ، وكان الرسول المبعوث إليه أول المؤمنين بما وراء أول الخلق من طليعة ظهور الحق لسماع كلامه بلا واسطة ملك ، فكان أول من طوى في رتبة بنوتة رتبة البنوة ذات الواسطة ، فلذلك بدىء به في هذا الخطاب لعلو رتبة بنوته بما هو كليم الله ومصطفاه على الناس ، ولحق به من تقدمهم بما وقعت في بنوته من واسطة زوج أو ملك ، وخص آله لأنه هو كان عارفاً بأمر الله سبحانه وتعالى فكان جاحداً لا مكذباً انتهى .
{ والذين } ولما كان المكذبون إنما هم بعض المتقدمين أدخل الجار فقال : { من قبلهم } وقد نقلت إليكم أخبارهم وقوتهم واستظهارهم فكأنه قيل : ماذا كانت عادتهم؟ فقيل : { كذبوا } ولما كان التكذيب موجباً للعقوبة كان مظهر العظمة به أليق ، فصرف القول إليه فقال : { بآياتنا } السورية والصورية مع ما لها من العظمة بما لها من إضافتها إلينا { فأخذهم } ولما أفحشوا في التكذيب عدل إلى أعظم من مظهر العظمة تهويلاً لأخذهم فقال : { الله } فاظهر الاسم الشريف تنبيهاً على باهر العظمة { بذنوبهم } أي من التكذيب وغيره . قال الحرالي : فيه إشعار بأن صريح المؤاخذة مناط بالذنوب ، وأن المؤاخذة الدنيوية لا تصل إلى حد الانتقام على التكذيب ، فكان ما ظهر من أمر الدنيا يقع عقاباً على ما ظهر من الأعمال ، وما بطن من أمر الآخرة يستوفي العقاب على ما أصرت عليه الضمائر من التكذيب ، ولذلك يكون عقاب الدنيا طهرة للمؤمن لصفاء باطنه من التكذيب ، ويكون واقع يوم الدنيا كفاف ما جرى على ظاهره من المخالفة فكأن الذنب من المؤمن يقع في دنياه خاصة ، والذنب من الكافر يقع في دنياه وأخراه من استغراقه لظاهره وباطنه ، وأظهر الاسم الشريف ولم يضمر للتنبيه على زيادة العظمه في عذابهم لمزيد اجترائهم فقال : { والله } أي الحال أن الملك الذي لا كفوء له في جبروته ولا شيء من نعوته { شديد العقاب * } لا يعجزه شيء .
ولما تم ذلك على هذه الوجوه الظاهره التي أوجبت اليقين لكل منصف بأنهم مغلوبون وصل بها أمره صلى الله عليه وسلم وهو الحبيب العزيز بأن يصرح لهم بمضمون ذلك فقال : { قل للذين كفروا } أي من أهل زمانك جرياً على منهاج أولئك الذين أخذناهم { ستغلبون } كما غلبوا وإن كنتم ملأ الأرض لأنكم إنما تغالبون خالقكم وهو الغالب لكل شيء : « وليُغلَبنّ مُغالبُ الغَلاّب » واللام على قراءة الجمهور بالخطاب معدية ، وعلى قراءة الغيب معللة ، أي قل لأجلهم ، أو هي بمعنى عن ، أي قل عنهم ، وقد أفهم الإخبار بمجرد الغلبة دون ذكر العذاب كما كان يذكر في تهديد من قبلهم أن أخذهم بيد المغالبة والمدافعة والنصرة تشريفاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم لأنه عرض عليه عذابهم فأبى إلا المدافعة على سنة المصابرة ، فكان أول ذلك غلبته صلى الله عليه وسلم على مكة المشرفة ، وكان فتحها فتحاً لجميع الأرض لأنها أم القرى نبه على ذلك الحرالي . { وتحشرون } أي تجمعون بعد موتكم أحياء كما كنتم قبل الموت { إلى جهنم } قال الحرالي : وهي من الجهامة ، وهي كراهه المنظر انتهى؛ فتكون مهادكم ، لا مهاد لكم غيرها { وبئس } أي والحال أنها بئس { المهاد * } .
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
ولما كان الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم من العرب بمعرض أن يقولوا حين قيل لهم ذلك : كيف نغلب وما هم فينا إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود؟ قيل لهم : إن كانت قصة آل فرعون لم تنفعكم لجهل أو طول عهد فإنه { قد كان لكم آية } أي عظيمة بدلالة تذكير كان { في فئتين } تثنية فئة للطائفة التي يفيء إليها أي يرجع من يستعظم شيئاً ، استناداً إليها حماية بها لقوتها ومنعتها { التقتا } أي في بدر { فئة } أي منهما مؤمنة ، لما يرشد إليه قوله : { تقاتل في سبيل الله } أي الملك الأعلى لتكون كلمة الله هي العليا ، ومن كان كذلك لم يكن قطعاً إلا مؤمناً { وأخرى } أي منهما { كافرة } أي تقاتل في سبيل الشيطان ، فالآية كما ترى من وادي الاحتباك ، وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء إيجازاً ، يدل ما ذكر من كل على ما حذف من الآخر ، وبعبارة أخرى : هو أن يحذف من كل جملة شيء إيجازاً ويذكر في الجملة الأخرى ما يدل عليه .
ولما نبه سبحانه وتعالى على الاعتبار بذكر الآية نبه على موضعها بقوله : { يرونهم } وضمن يرى البصيرية القاصرة على مفعول واحد فعل الظن ، وانتزع منه حالاً ودل عليها بنصب مفعول ثان فصار التقدير : ظانيهم { مثليهم } فعلى قراءة نافع بالتاء الفوقانية يكون المعنى : ترون أيها المخاطبون الكفار المقاتلين للمؤمنين ، وعلى قراءة غيره بالغيب المعنى ، يرى المسلمون الكفار مثلي المسلمين { رأي العين } أي بالحزر والتخمين ، لا بحقيقة العدد ، هذا أقل ما يجوزونه فيهم ، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ومع ذلك فجزاهم الله على مصادمتهم ونصرهم عليهم ، أو يرى الكفار المسلمين مثلي الكفار مع كونهم على الثلث من عدتهم ، كما هو المشهور في الآثار تأييداً من الله سبحانه وتعالى لأوليائه ليرعب الأعداء فينهزموا ، أو يرى الكفار المسلمين ضعفي عدد المسلمين قال الحرالي : لتقع الإراءة على صدقهم في موجود الإسلام الظاهر والإيمان الباطن ، فكان كل واحد منهم بما هو مسلم ذاتاً ، وبما هو مؤمن ذاتاً ، فالمؤمن المسلم ضعفان أبداً { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين } [ الأنفال : 66 ] وذلك بما أن الكافر ظاهر لا باطن له فكان ذات عين ، لا ذات قلب له ، فكان المؤمن ضعفه ، فوقعت الإراءة للفئة المؤمنة على ما هي عليه شهادة من الله سبحانه وتعالى بثبات إسلامهم وإيمانهم ، وكان ذلك أدنى الإراءة لمزيد موجود الفئة المقاتلة في سبيل الله بمقدار الضعف الذي هو أقل الزيادة الصحيحة ، وأما بالحقيقة فإن التام الدين بما هو مسلم مؤمن صاحب يقين إنما هو بالحقيقة عشر تام نظير موجود الوجود الكامل ، فهو عشر ذوات بما هو صاحب يقين ودين
{ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] انتهى . وهذا التقليل والتكثير واقع بحسب أول القتال وآخره ، وقبل اللقاء وبعده ، لما أراد الله سبحانه وتعالى من الحكم كما في آية الأنفال ، والمعنى : إنا فاعلون بكم أيها الكفارعلى أيديهم ما فعلناه بأولئك ، وقد كانوا قائلين أعظم من مقالاتكم ، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئاً ، ولا شدة شكيمتهم ونخوتهم فإن الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين لطيبهم { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث } [ المائدة : 100 ] .
ولما كان التقدير : فنصر الله سبحانه وتعالى الفئة القليلة ، عطف عليه قوله : { والله } أي الذي له الأمر كله { يؤيد } والأيد تضعيف القوة الباطنة { بنصره } قال الحرالي : والنصر لا يكون إلا لمحق ، وإنما يكون لغير المحق الظفر والانتقام انتهى . { من يشاء } أي فلا عجب فيه في التحقيق ، فلذلك اتصل به قوله : { إن في ذلك } أي الأمر الباهر ، وفي أداة البعد كما قال الحرالي إشارة بعد إلى محل علو الآية { لعبرة } قال : هي المجاوزة من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى ، ومن علم أدنى إلى علم أعلى ، ففي لفظها بشرى بما ينالون من ورائها مما هو أعظم منها إلى غاية العبرة العظمى من الغلبة الخاتمة التي عندها تضع الحرب أوزارها حيث يكون من أهل الكمال بعدد أهل بدر ثلاثمائة ثلاثة عشر ، فهو غاية العبرة لمن له بصر نافذ ونظر جامع بين البداية والخاتمة { كما بدأنا أول خلق نعيده } [ الأنبياء : 104 ] - انتهى . { لأولي الأبصار * } أي يصيرون بها من حال إلى أشرف منها في قدرة الله وعظمته وفعله بالاختيار . قال الحرالي : أول موقع العين على الصورة نظر ، ومعرفة خبرتها الحسية بصر ، ونفوذه إلى حقيقتها رؤية ، فالبصر متوسط بين النظر والرؤية كما قال سبحانه وتعالى : { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } [ الأعراف : 198 ] فالعبرة هي المرتبة الأولى لأولي الأبصار الذين يبصرون الأواخر بالأوائل ، فأعظم غلبة بطشه في الابتداء غلبة بدر ، وأعظمها في الانتهاء الغلبة الخاتمة التي لا حرب وراءها ، التي تكون بالشام في آخر الزمان - انتهى .
ولما علم بهذا أن الذي وقف بهم عن الإيمان من الأموال والأولاد وسائر المتاع إنما هو شهوات وعرض زائل ، لا يؤثره على اتباع ما شرعه الملك إلا من انسلخ من صفات البشر إلى طور البهائم التي لا تعرف إلا الشهوات ، وختم ذلك بذكر آية الفئتين كان كأنه قيل : الآية العلامة ، ومن شأنها الظهور ، فما حجبها عنهم؟ فقيل : تزيين الشهوات لمن دنت همته . وقال الحرالي : لما أظهر سبحانه وتعالى في هذه السورة ما أظهره بقاء لعلن قيوميته من تنزيل الكتاب الجامع الأول ، وإنزال الكتب الثلاثة : إنزال التوراة بما أنشاء عليه قومها من وضع رغبتهم ورهبتهم في أمر الدنيا ، فكان وعيدهم فيها ووعدهم على إقامة ما فيها إنما هو برغبة في الدنيا ورهبتها ، لأن كل أمة تدعى لنحو ما جبلت عليه من رغبة ورهبة ، فمن مجبول على رغبة ورهبة في أمر الدنيا ، ومن مجبول على ما هو من نحو ذلك في أمر الآخرة ومن مفطور على ما هو من غير ذلك من أمر الله ، فيرد خطاب كل أمة وينزل عليها كتابها من نحو ما جبلت عليه ، فكان كتاب التوراة كتاب رجاء ورغبة وخوف ورهبة في موجود الدنيا ، وكان كتاب الإنجيل كتاب دعوة إلى مكلوت الآخرة ، وكانا متقابلين ، بينهما ملابسة ، لم يفصل أمرهما فرقان واضح ، فكثر فيهما الاشتباه ، فأنزل الله تعالى الفرقان لرفع لبس ما فيهما فأبان فيه المحكم والمتشابه من منزل الوحي ، وكما أبان فيه فرقان الوحي أبان فيه أيضاً فرقان الخلق وما اشتبه من أمر الدنيا والآخرة ووام التبس على أهل الدنيا من أمر الخلق بلوائح آيات الحق عليهم ، فتبين في الفرقان محكم الوحي من متشابهه ، ومحكم الخلق من متشابهه وكان متشابه الخلق هو المزين من متاع الدنيا ، ومحكم الخلق هو المحقق من دوام خلق الآخرة ، فاطلع نجم هذه الآية لإنارة غلس ما بنى عليه أمر التوراة من إثبات أمر الدنيا لهم وعداً ووعيداً ، لتكون هذه الآية تطئة لتحقيق صرف النهي عن مد اليد والبصر إلى ما متع به أهلها ، فأنبأ تعالى أن متاع الدنيا أمر مزين ، لا حقيقة لزينته ولا حسن لما وراء زخرفه فقال : { زين للناس } فأبهم المزين لترجع إليه ألسنة التزيين مما كانت في رتبة علو أو دنو ، وفي إناطة التزيين بالناس دون الذين آمنوا ومن فوقهم إيضاح لنزول سنهم في أسنان القلوب وأنهم ملوك الدنيا وأتباعهم ورؤساء القبائل وأتباعهم الذين هم أهل الدنيا { حب الشهوات } جمع شهوة ، وهي نزوع النفس إلى محسوس لا تتمالك عنه - انتهى .
وفي هذا الكلام إعلام بأن الذي وقع عليه التزين الحب ، لا الشيء المحبوب ، فصار اللازم لأهل الدنيا إنما هو محبة الأمر الكلي من هذه المسميات وربما إذا تشخص في الجزئيات لم تكن تلك الجزئيات محبوبة لهم ، وفيه تحريك لهمم أهل الفرقان إلى العلو عن رتبة الناس الذين أكثرهم لا يعلمون ولا يشكرون ولا يعقلون ، ثم بين ذلك بما هو محط القصد كله ، وآخر العمل من حيث إن الأعلق بالنفس حب أنثاها التي هي منها { خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] فقال : { من النساء } أي المبتدئة منهن ، وأتبعه ما هو منه أيضاً وهو بينه وبين الأنثى فقال : { والبنين } قال الحرالي : وأخفى فتنة النساء بالرجال ستراً لهن ، كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم حيث قال : { وعصى آدم ربه } [ طه : 121 ] فأخفاهن لما في ستر الحرم من الكرم ، والله سبحانه وتعالى حي كريم - انتهى .
ثم أتبع ذلك ما يكمل به أمره فقال : { والقناطير } قال الحرالي : جمع قنطار ، يقال : هو مائة رطل ويقال : إن الرطل اثنتا عشرة أوقية ، والأوقية أربعون درهماً ، والدرهم خمسون حبة وخمساً من حب الشعير ، وأحقه أن يكون من شعير المدينة { المقنطرة } أي المضاعفة مرات - انتهى . ثم بينها بقوله : { من الذهب والفضة } ثم أتبعها الزينة الظاهرة التي هي أكبر الأسباب في تحصيل الأموال فقال : { والخيل } قال الحرالي : اسم جمع لهذا الجنس المجبول على هذا الاختيال لما خلق له من الاعتزاز به وقوة المنة في الافتراس عليه الذي منه سمي واحدة فرساً { المسومة } أي المعلمة بأعلام هي سمتها وسيماها التي تشتهر بها جودتها ، من السومة - بضم السين ، وهي العلامة التي تجعل على الشاة لتعرف بها ، وأصل السوم بالفتح الإرسال للرعي مكتفي في المرسل بعلامات تعرف بها نسبتها لمن تتوفر الدواعي للحفيظة عليها من أجله من الواقع عليها من الخاص والعام ، فهي مسومة بسيمة تعرف بها جودتها ونسبتها { والأنعام } وهي جمع نعم ، وهي الماشية فيها إبل ، والإبل واحدها ، فإذا خلت منها الإبل لم يجر على الماشية اسم نعم - انتهى . وقال في القاموس : النعم - وقد تسكن عينه - الإبل والشياء جمع أنعام ، وجمع جمعه أناعيم . وقال القزاز في جامعه : النعم اسم يلزم الإبل خاصة ، وربما دخل في النعم سائر المال ، وجمع النعم أنعام ، وقد ذكر بعض اللغويين أن النعم في الإبل خاصة ، فإذا قلت : الأنعام - دخل فيها البقر والغنم ، قال : وإن أفردت الإبل والغنم لم يقل فيها نعم ولا أنعام . وقال قوم : النعم والأنعام بمعنى ، وقال في المجمل : والأنعام البهائم ، وقال الفارابي في ديوان الأدب : والنعم واحد الأنعام ، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل . ولما ذكر هذه الأعيان التي زين حبها في نفسها أتبعها ما يطلب لأجل تحصيلها أو تنيتها وتكثيرها فقال : { والحرث } .
ولما فصلها وختمها بما هو مثل الدنيا في البداية والنهاية والإعادة أجمل الخبر عن ثمرتها وبيان حقيقتها فقال : { ذلك } أي ما ذكر من الشهوات المفسر بهذه الأعيان تأكيداً لتخسيسه البعيد من إخلاد ذوي الهمم إليه ليقطعهم عن الدار الباقية . وقال الحرالي : الإشارة إلى بعده عن حد التقريب إلى حضرة الجنة انتهى . { متاع الحياة الدنيا } أي التي هي مع دناءتها إلى فناء . قال الحرالي : جعل سبحانه وتعالى ما أحاط به حس النظر العاجل من موجود العادل أدنى ، فافهم أن ما أنبأ به على سبيل السمع أعلى ، فجعل تعالى من أمر اشتباه كتاب الكون المرئي به وذكر المشهود أن عجل محسوس العين وحمل على تركه وقبض اليد بالورع والقلب بالحب عنه ، وأخر مشهود مسموع الأذن من الآخرة وأنبأ بالصدق عنه ونبه بالآيات عليه ليؤثر المؤمن مسمعه على منظره ، كما آثر الناس منظرهم على مسمعهم ، حرض لسان الشرع على ترك الدنيا والرغبة في الأخرى ، فأبت الأنفس وقبلت قلوب وهيم لسان الشعر في زينة الدنيا فقبلته الأنفس ولم تسلم القلوب منه إلا بالعصمة ، فلسان الحق يصرف إلى حق الآخرة ولسان الخلق يصرفه إلى زينة الدنيا ، فأنبا سبحانه وتعالى أن ما في الدنيا متاع ، والمتاع ما ليس له بقاء ، وهو في نفسه خسيس خساسة الجيفة انتهى .
ثم أتبع ذلك سبحانه وتعالى حالاً من فاعل معنى الإشارة لقال : { والله } الذي بيده كل شيء ، ويجوز أن يكون عطفاً على ما تقديره : وهو سوء المبدأ في هذا الذهاب إلى غاية الحياة ، والله { عنده حسن المآب * } قال الحرالي : مفعل من الأوب وهو الرجوع إلى ما منه كان الذهاب انتهى . فأرشد هذا الخطاب اللطيف كل من ينصح نفسه إلى منافرة هذا العرض الخسيس بأنه إن حصل له يعرض عنه بأن يكون في يده ، لا في قلبه فلا يفرح به بحيث يشغله عن الخير ، بل يجعل عوناً على الطاعة وأنه إن منع منه لا يتأسف عليه لتحقق زواله ولرجاء الأول إلى ما عند خالقه الذي ترك ذلك لأجله .
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوجب الإعراض عن هذا العرض فكان السامع جديراً بأن يقول فعلاً أقبل؟ أمر سبحانه وتعالى أقرب الخلق إليه وأعزهم لديه بجوابه لتكون البشارة داعية إلى حبه فقال : { قل } أي لمن فيه قابلية الإقبال إلينا ، ولما أجرى سبحانه وتعالى هذه البشارة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لتقوم الحجة على العباد بحاله كما تقوم بمقاله من حيث إنه لا يدعو إلى شيء إلا كان أول فاعل له ، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له ، لإيثاره الغائب المسموع من بناء الآخرة على العاجل المشهود من أثر الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه حين أشفق عليه من تأثير رمال السرير في جنبه فذكر ما فيه فارس والروم من النعيم : « أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ » شوق إليها بالاستفهام في قوله : { أؤنبئكم بخير من ذلكم } أي الذي ذكر من الشهوات ، وعظمه بأداة البعد وميم الجمع لعظمته عندهم والزيادة في التعظيم ما يرشد إليه ، ثم استأنف بيان هذا الخير بقوله : { للذين اتقوا } أي اتصفوا بالتقوى فكان مما أثمر لهم اتصافهم بها أن أعرضوا عن هذه الشهوات من حيث إنها شهوات وجعلوها عبادات واقية لهم من عذاب ربهم ، فتلذذوا بالنساء لا لمجرد الشهوة بل لغض البصر من الجانبين وابتغاء ما كتب لهم من الولد إنفاذاً لمراد ربهم من تكثير خلائفهم في الأرض للإصلاح ، ولقوله صلى الله عليه وسلم :
« تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة » ونحو ذلك وفرحوا بالبنين لا لمجرد المكاثرة بل لتعليمهم العلم وحملهم على الذكر والجهاد والشكر وأنواع السعي في رضى السيد ، وحازوا النقدين لا للكنز ، بل للإنفاق في سبيل الخيرات ، وربطوا للجهاد ، لا للفخر والرئاسة على العباد بل لقمع أولياء الشيطان ورفع أولياء الرحمن المسلتزم لظهور الإيمان ، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم متشابه اقتنائها فقال : « وهي لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر » ثم عظم سبحانه وتعالى ما لهم بقوله مرغباً بلفت القول إلى وصف الإحسان المقتضي لتربية الصدقات وغيرها من الأعمال الصالحات : { عند ربهم } أي المحسن إليهم بلباس التقوى الموجب لإيثارهم الآخرة على الدنيا ، وقوله : { جنّات } مرفوع بالابتداء ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف إذا كان وللذين ، متعلقاً بخير ، ثم وصفها بقوله : { تجري من تحتها الأنهار } أي أن ماءها غير مجلوب ، بل كل مكان منها متهيىء لأن ينبع منه ماء يجري لتثبت بهجتها وتدوم زهرتها ونضرتها ، ثم أشار بقوله : { خالدين فيها } إلى أنها هي المشتملة على جميع الإحسان المغنية عن الحرث والأنعام ، وأن ذلك على وجه لا انقطاع له . قال الحرالي : وفي معنى لفظ الخلود إعلام بسكون الأنفس إليها لما فيها من موافقتها انتهى . ولعله إنما خص من بين ما تقدم من الشهوات ذكر النسوان في قوله : { وأزواج } لأنها أعظم المشتهيات ، ولا يكمل التلذذ بها إلا بحصول جميع ما يتوقف ذلك عليه ، فصار ذكرهن على سبيل الامتنان من القادر كناية عن جميع ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين .
ولما كانت التقوى حاملة على تطهير الأنفس من أوضار الأدناس من الأوصاف السيئة وكان الوصف بالمفرد أدل على أنهن في أصل الطهارة كأنهن نفس واحدة قال عادلاً عما هو الأولى من الوصف بالجمع لجمع من يعقل : { مطهرة } لأنهن مقتبسات من أنفسهم { خلق لكم من أنفسكم أزواجاً } [ الروم : 31 ] .
ولما ذكر حظ البدن قرر لذة هذا النعيم بما للروح ، وزاده من الأضعاف المضاعفة ما لا حد له بقوله : { ورضوان } قال الحرالي : بكسر الراء وضمها ، اسم مبالغة في معنى الرضى ، وهو على عبرة امتلاء بما تعرب عنه الألف والنون وتشعر ضمة رائه بظاهر إشباعه ، وكسرتها بباطن إحاطته - انتهى .
ولما جرى وعد الجنات على اسم الربوبية الناظر إلى الإحسان بالتربية فخم أمر هذا الجزاء وأعلاه على ذلك بنوطه بالاسم الأعظم فقال : { من الله } أي المحيط بصفات الكمال . ولما كان شاملاً لجميعهم وكان ربما ظن أنهم فيه متساوون أشار إلى التفاوت بقوله مظهراً في موضع الإضمار إشارة إلى الإطلاق عن التقييد بحيثية ما : { والله } أي الذي له الحكمة البالغة { بصير بالعباد } أي بنياتهم ومقادير ما يستحقونه بها على حسب إخلاصها ، وبغير ذلك من أعمالهم وأقوالهم وسائر أحوالهم .
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأنه بصير بمن يستحق ما أعد من الفوز أتبعه ما استحقوا ذلك به من الأوصاف تفضلاً منه عليهم بها وبإيجاب ذلك على نفسه حثاً لهم على التخلق بتلك الأوصاف فقال : - وقال الحرالي : لما وصف تعالى قلوبهم بالتقوى وبرأهم من الاستغناء بشيء من دونه وصف أدبهم في المقال فقال؛ انتهى - { الذين يقولون ربنا } أي يا من ربانا بإحسانه وعاد علينا بفضله ، وأسقط أداة النداء إشعاراً بما لهم من القرب لأنهم في حضرة المراقبة؛ ولما كانت أحوالهم في تقصيرها عن أن يقدر الله حق قدره كأنها أحوال من لم يؤمن اقتضى المقام التأكيد فقالوا : { إننا } فأثبتوا النون إبلاغاً فيه { آمنا } أي بما دعوتنا إليه ، وأظهروا هذا المعنى بقولهم : { فاغفر لنا ذنوبنا } أي فإننا عاجزون عن دفعها ورفع الهمم عن مواقعتها وإن اجتهدنا لما جبلنا عليه من الضعف والنقص ، تنبيهاً منه تعالىعلى أن مثل ذلك لا يقدح في التقوى إذا هدم بالتوبة لأنه ما أصر من استغفر ، والتوبة تجب ما قبلها . قال الحرالي : وبين المغفرة على مجرد الإيمان إشارة إلى أنه لا تغيرها الأفعال ، من ترتب إيمانه على تقوى غفرت ذنوبه ، فكانت مغفرة الذنوب لأهل هذا الأدب في مقابلة الذين آخذهم الله بذنوبهم من الذين كذبوا ، ففي شمول ذكر الذنوب في الصنفين إعلام بإجراء قدر الذنوب على الجميع ، فما كان منها مع التكذيب أخذ به ، وما كان منها مع التقوى والإيمان غفر له - انتهى .
ولما رتب سبحانه وتعالى الغفران على التقوى ابتداء رتب عليها الوقاية انتهاء فقال : { وقنا عذاب النار } أي الذي استحققناه بسوء أعمالنا .
قال الحرالي : ولما وصف تقوى قلوبهم باطناً وأدب مقالهم ظاهراً وصف لهم أحوال أنفسهم ليتطابق ظاهر أمرهم بمتوسطه وباطنه فقال : { الصابرين } فوصفهم بالصبر إشعاراً بما ينالهم من سجن الدنيا وشدائدها ، والصبر أمدح أوصاف النفس ، به تنحبس عن هواها وعما زين من الشهوات المذكورة بما تحقق من الإيمان بالغيب الموجب لترك الدنيا للآخرة فصبروا عن الشهوات؛ أما النساء فبالاقتصار على ما ملكوه وأما البنون فبمراعاة أن ما تقدم خير مما تأخر ، قال صلى الله عليه وسلم - يعني فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه « لسقط أقدمه بين يدي أحب إليَّ من فارس أخلفه خلفي » وأما الذهب والفضة فبالنظر إليها أصناماً يضر موجودها ، وبالحري أن ينال منها السلامة بنفقة لا يكاد يصل إنفاقها إلى أن يكون كفارة كسبها وجمعها ، فكان الصبر عنها أهون من التخلص منها؛ وأما الخيل فلما يصحبها من التعزز الممد لخيلاء النفس الذي هو أشد ما على النفس أن تخرج عن زهوها وخيلائها إلى احتمال الضيم والسكون بحب الذل ، يقال : إنه آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة؛ وأما الأنعام فبالاقتصار منها على قدر الكفاف ، لأن كل مستزيد تمولاً من الدنيا زائداً على كفاف منه من مسكن أو ملبس أو مركب أو مال فهو محجر على من سواه من عباد الله ذلك الفضل الذي هم أحق به منه ، قال صلى الله عليه وسلم :
« لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد » الحديث { وإن من شيء إلا عندنا خزائنة وما ننزله إلا بقدر معلوم } [ الحجر : 21 ] ؛ وأما الحرث فبالاقتصار منه على قدر الكفاية لما يكون راتباً للإلزام ومرصداً للنوائب ومخرجاً للبذر ، فإن أعطاه الله فضلاً أخرجه بوجه من وجوه الإخراج ولو بالبيع ، ولا يمسكه متمولاً لقلبه إلى غيره من الأعيان فيكون محتكراً ، قال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه أحمد وأبو يعلى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما « من احتكر أربعين يوماً فقد برىء من الله وبرىء الله منه » فبذلك يتحقق الصبر بحبس النفس عما زين للناس من التمولات من الدنيا الزائدة على الكفاف التي هي حظ من لا خلاق له في الآخرة ، ولذلك يحق أن تكون هذه الكلمات معربة بالنصب مدحاً ، لأن الصفات المتبعة للمدح حليتها النصب في لسان العرب ، وإنما يتبع في الإعراب ما كان لرفع لبس أو تخصيص - انتهى .
ولما كان سن التقوى فوق سن الإيمان عطف أمداحهم كلها بالواو إيذاناً بكمالهم في كل وصف منها وتمكنهم فيءه بخلاف ما في آية براءة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى فقال : { والصادقين } قال الحرالي : في عطف الصفات ما يؤذن بكمال الوصف لأن العرب تعطفها إذا كملت وتتبع بعضها بعضاً إذا تركبت والتأمت ، يعني مثل : الرمان حلو حامض - إذا كان غير صادق الحلاوة ولا الحموضة ، ففي العطف إشعار بكمال صبرهم عن العاجلة على ما عينه حكم النظم ، في الآية السابقة ، ومن شأن الصابر عن الدنيا الصدق ، لأن أكثر المداهنة والمراءاة إنما ألجأ إليها التسبب إلى كسب الدنيا ، فإذا رغب عنها لم يحمله على ترك الصدق حامل قيتحقق به فيصدق في جميع أموره والصدق مطابقة أقواله وأفعاله لباطن حاله في نفسه وعرفان قلبه - انتهى { والقانتين } أي المخلصين لله في جميع أمورهم الدائمين عليه .
ولما ذكر سبحانه وتعالى العمل الحامل عليه خوف الحق ورجاؤه أتبعه ما الحامل عليه ذلك مع الشفقة على الخلق ، لأن من أكرم المنتمي إليك فقد بالغ في إكرامك فقال : { والمنفقين } أي ما رزقهم الله سبحانه وتعالى في كل ما يرضيه ، فإنه لا قوام لشيء من الطاعات إلا بالنفقة . قال الحرالي : فيه إشعار بأن من صبر نوّل ، ومن صدق أعلى ، ومن قنت جل وعظم قدره ، فنوله الله ما يكون له منفقاً ، والمنفق أعلى حالاً من المزكي ، لأن المزكي يخرج ما وجب عليه فرضاً ، والمنفق يجود بما في يده فضلاً - انتهى .
ولما ذكر هذه الأعمال الزاكية الجامعة العالية أتبعها الإشارة إلى أن الاعتراف بالعجز عن الوفاء بالواجب هو العمدة في الخلاص : { والمستغفرين } أي من نقائصهم مع هذه الأفعال والأحوال التي هي نهاية ما يصل إليه الخلق من الكمال { بالأسحار * } التي هي أشق الأوقات استيقاظاً عليهم ، وأحبها راحة لديهم ، وأولاها بصفات القلوب ، وأقربها إلى الإجابة المعبر عنها في الأحاديث بالنزول كما يأتي بيانه في آية التهجد في سورة الإسراء . قال الحرالي : وهو جمع سحر ، وأصل معناه التعلل عن الشيء بما يقاربه ويدانيه ويكون منه بوجه ما ، فالوقت من الليل الذي يتعلل فيه بدنو الصباح هو السحر ، ومنه السحور ، تعلل عن الغداء؛ ثم قال : وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال سبحانه وتعالى : { كانوا قليلاً من الّيل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون } [ الذاريات : 17 ، 18 ] فهم يستغفرون من حسناتهم كما يستغفر أهل السيئات من سيئاتهم تبرؤاً من دعوى الأفعال ورؤية الأعمال التئاماً بصدق قولهم في الابتداء : { ربنا إننا آمنا } وكمال الإيمان بالقدر خيره وشره ، فباجتماع هذه الأوصاف السبعة من التقوى والإيمان والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار كانت الآخرة خيراً لهم من الدنيا وما فيها ، وقد بان بهذا محكم آيات الخلق من متشابهها بعد الإعلام بمحكم آيات الأمر ومتشابهها ، فتم بذلك منزل الفرقان في آيات الوحي المسموع والكون المشهود - انتهى . ولعله سبحانه وتعالى أشار بهذه الصفات الخمس المتعاطفة إلى دعائم الإسلام الخمس ، فأشار بالصبر إلى الإيمان ، وبالصدق إلى الزكاة المصدقة لدعواه ، وبالقنوت الذي مدار مادته على الإخلاص إلى الصلاة التي هي محل المراقبة ، وبالإنفاق إلى الحج الذي أعظم مقوماته المال ، وبالاستغفار إلى الصيام الذي مبناه التخلي من أحوال البشر والتحلي بحلية الملك لا سيما في القيام ولا سيما في السحر؛ وسر ترتيبها أنه لما ذكر ما بين العبد والخالق في التوحيد الذي هو العدول أتبعه ما بينه وبين الخلائق في الإحسان ، ولما ذكر عبادة القلب والمال ذكر عبادة البدن الدالة على الإخلاص في الإيمان ، ولما ذكر عبادة البدن مجرداً بعد عبادة المال مجرداً ذكر عبادة ظاهرة مركبة منهما ، شعارها تعرية الظاهر ، ثم أتبعه عبادة بدنية خفية ، عمادها تعرية الباطن ، فختم بمثل ما بدأ به ، وهو ما لا يطلع عليه حق الاطلاع إلا الله سبحانه وتعالى .
ولما أخبر سبحانه وتعال بوحدانيته في أول السورة واستدل عليها وأخبر عما أعد للكافرين واستدل عليه بما دل على الوحدانية وختم بالإخبار بما أعد للمتقين مما جر إلى ذكره تعالى بما يقتضي الوحدانية أيضاً من الأوصاف المبنية على الإيمان أنتج ذلك ثبوتها ثبوتاً لا مرية فيه ، فكرر تعالى هذه النتيجة على وجه أضخم من الماضي كما اقتضته الأدلة فقال - وقال الحرالي : لما أنهى تعالى الفرقان نهايته ببيان المحكمين والمتشابهين في الوحي والكون انتظمت هذه الشهادة التي هي أعظم شهادة في كتاب الله بآية القيومية التي هي أعظم آية الوجود لينتظم آية الشهود بآية الوجود ، انتهى .
فقال سبحانه وتعالى : { شهد الله } أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له { أنه } قال الحرالي : فأعاد بالإضمار ليكون الشاهد والمشهود له { لا إله إلا هو } فأعاد بالهوية لمعنى الوحدانية في الشهادة ولم يقل : إلا الله ، لما يشعر به تكرار الاسم في محل الإضمار من التنزل العلي - انتهى . والمعنى أنه سبحانه وتعالى فعل فعل الشاهد في إخباره عما يعلم حقيقته بلفظ الشهادة جرياً على عادة الكبراء إذا رأوا تقاعس أتباعهم عما يأمرون به من المهمات في تعاغطيهم له بأنفسهم تنبيهاً على أن الخطب قد فدح والأمر قد تفاقم ، فيتساقط حينئذ إليه الأتباع ولو أن فيه الهلاك تساقط الذباب في أحلى الشراب ، وإلى ذلك ينظر قول وفد ثقيف : ما لمحمد يأمرنا بأن نشهد له بالرسالة ولا يشهد هو لنفسه! فكان صلى الله عليه وسلم بعد لا يخطب خطبة إلا شهد لنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم الشهادة لله فيها بالرسالة ، فكأنه قيل : إن ربكم الذي أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة قد نصب لكم الأدلة بخلق ما خلق على تفرده بحيث انتفى كل ريب فكان ذلك أعظم شهادة منه سبحانه لنفسه ، وإليه أومأ من قال :
ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
ثم شهد بذلك لنفسه بكلامه جمعاً بين آيتي السمع والبصر فلم يبق لكم عذراً . قال الحرالي : وهذه الشهادة التي هي من الله لله هي الشهادة التي إليها قصد القاصدون وسلك السالكون وإليه انتهت الإشارة ، وعندها وقفت العبارة ، وهي أنهى المقامات وأعظم الشهادات ، فمن شهد بها فقد شهد شهادة ليس وراءها مرمى ، ومن شهد بما دونها كانت شهادته مشهوداً عليها لا شهادة ، يؤثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يوم الجمعة وهو قائم بعرفة منذ كان وقت العصر إلى أن غربت الشمس في حجته التي كمل بها الدين وتمت بها النعمة يقول هذه الآية لا يزيد عليها ، فأي عبد شهد لله بهذه الشهادة التي هي شهادة الله لله سبحانه وتعالى بالوحدانية فقد كملت شهادته ، وأتم الله سبحانه وتعالى النعمة عليه ، وهي سر كل شهادة من دونها ، وهي آية علن التوحيد الذي هو منتهى المقامات وغاية الدرجات في الوصول إلى محل الشهود الذي منه النفوذ إلى الموجود بمقتضى الأعظمية التي في الآية الفاتحة - انتهى .
ولما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه المقدسة أخبر عمن يعتد به من خلقه فقال مقدماً لأن المقام للعلم لمن هم أعلم به سبحانه وتعالى ممن أطلعهم من الملك والملكوت على ما لم يطلع عليه الإنسان ولا شاغل لهم من شهوة ولا حظ ولا فتور : { والملائكة } أي العباد المقربون المصفون من أدناس البشر ، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . ولما خص أهل السماوات عم فقال : { وأولوا العلم } وهم الذين عرفوه بالأدلة القاطعة ففعلوا ما فعل العظيم من الشهادات ليكون ذلك أدعى لغيرهم إليه وأحث عليه ، ولما كانت الشهادة قد تكون على غير وجه العدل نفى ذلك بقوله : { قائماً } وأفرد ليفهم أنه حال كل من المذكورين لا المجموع بقيد الجمع ، ويجوز - وهو الأقرب - أن يكون حالاً من الاسم الشريف إشارة إلى أنه ما وحد الله سبحانه وتعالى حق توحيده غيره ، لأنه لا يحيط به أحد علماً . وقال الحرالي : أفرد القيام فاندرج من ذكر من الملائكة وأولي العلم في هذا القيام إفهاماً ، كما اندرجوا في الشهادة إفصاحاً ، فكان في إشعاره أن الملائكة وأولي العلم لا يقاد منهم فيما يجريه الله سبحانه وتعالى على أيديهم ، لأن أمرهم قائم بالقسط من الله ، يذكر أن عظيم عاد لما كشف له عن الملائكة في يوم النقمة قال لهود عليه الصلاة والسلام : يا هود! ما هذا الذي أراهم في السحاب كأنهم البخاتي؟ فقال : ملائكة ربي ، فقال له : أرأيت إن آمنت بالهك أيقيدني منهم بمن قتلوا من قومي؟ قال : ويحك! وهل رأيت ملكاً يقيد من جنده - انتهى . { بالقسط } أي العدل السواء الذي لا حيف فيه أصلاً بوجه من الوجوه ، وقد ثبت بهذه الشهادة على هذا الوجه أن التوحيد في نفس الأمر على ما وقعت به الشهادة ، ويجوز أن يراد مع ذلك أن قيامه بالعدل فعله في خلقه فإنه عدل وإن كان من بعضهم إلى بعض ظلماً ، فإنه تصرف منه سبحانه في ملكه الذي لا شائبة لأحد فيه ، فهو إذا نسب إليه كان عدلاً ، لأنه فعله بالحكمة ، وإذا نسب إلى الظالم كان ظلماً ، لأنه فعله لحظه لا للحكمة فلذلك قال على طريق الاستنتاج والتعليل للقيام بالقسط والتلقين للعباد لأن يقولوها بعد ثبوتها بما تقدم وأن يكرروها دائماً أبداً : { لا إله إلا هو } وقال الحرالي : كرر هذا التهليل لأنه في مرتبة القسط الفعلي ، لأن التهليل الأول في مرتبة الشهادة العلمية فاستوفى التهليلان جميع البادي علماً وفعلاً - انتهى . وأتبعه سبحانه وتعالى بقوله : { العزيز الحكيم * } دليلاً على قسطه ، لأنه لا يصح أبداً لذي العزة الكاملة والحكمة الشاملة أن يتصرف بجور ، وعلى وحدانيته ، لأنه لا يصح التفرد بدون الوصفين وليسا على الإطلاق لأحد غيره أصلاً ، ولما كانت الآيات كلها في الإيقاع بالكافرين قدم الوصف الملائم لذلك .
قال الحرالي : وقسط الله هو إخفاء عدله في دار الدنيا من حيث إنه خفض ورفع ، يعادل خفضه رفعه ورفعه خفضه ، فيؤول إلى عدل ، ويراه بذلك في حال تفاوته كل ذي لب بما أنه عزيز يظهر عزته فيما يرفع ، حكيم يخفي معنى حكمه فيما يخفض ، فكل ما هو باد من الخلق جود فهو من الله سبحانه وتعالى قسط ، طيته عدل ، سره سواء ، فيظهر عزته فيما حكم انتقاماً وحكمته في الموازنة بين الأعمال والجزاء عدلاً - انتهى .
ولما كان ذلك علم أنه يجب أن تخضع له الرقاب ويخلص له التوحيد جميع الألباب وذلك هو الإسلام فقال معللاً للشهادة منهم بالعدل - وقراءة الكسائي بالفتح أظهر في التعليل : { إن الدين } واصله الجزاء ، أطلق هنا على الشريعة لأنها مسببة { عند الله } أي الملك الذي له الأمر كله { الإسلام } فاللام للعهد في هذه الشهادة فإنها أس لكل طاعة ، فلأجل أن الدين عنده هذا شهدوا له هذه الشهادة المقتضية لنهاية الإذعان .
ولما كان ذلك مصرحاً بأنه لا دين عنده غيره كان كأن قائلاً قال : فكان يجب أن يعلم بذلك الأنيباء الماضون والأمم السالفون ليلزموه ويلزموه أتباعهم! فقيل : قد فعل ذلك ، فقيل : فما لهم لم يلزموه؟ فقيل : قد لزموه مدة مديدة { وما } ويجوز وهو أحسن أن يكون التقدير : بين الله سبحانه وتعالى بشهادته ما يرضيه بآياته المرئية ثم أوضحة غاية الإيضاح بآياته المسموعة بكتبه وما { اختلف الذين أوتوا الكتاب } هذا الاختلاف الذي ترونه { إلا من بعد ما جاءهم العلم } بذلك كله ، وما كان اختلافهم لجهلهم بذلك بل { بغياً } واقعاً { بينهم } لا بينهم وبين غيرهم ، بل من بعضهم على بعض للحسد والتنافس في الدنيا لشبه أبدوها ودعاو ادعوها ، طال بينهم فيها النزاع وعظم الدفاع ، والله سبحانه وتعالى عالم بكشفها ، قادر على صرفها . قال الحرالي : والبغي السعي بالقول والفعل في إزالة نعم أنعم الله تعالى بها على خلق بما اشتملت عليه ضمائر الباغي من الحسد له - انتهى .
ولما كان التقدير : فمن استمر على الإيمان فإن الله عظيم الثواب ، عطف عليه قوله : { ومن يكفر } أي يستمر على كفره ولم يقل حلماً منه : ومن كفر { بآيات الله } أي المرئيات والمسموعات الدالة على إحاطته بالكمال وقوفاً مع تلك الشبه وعمى عن الدليل فالله مهلكه عاجلاً { فإن الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ولا كفوء له { سريع } قال الحرالي : من السرعة وهي وحاء النجاز فيما شأنه الإبطاء - انتهى . ويحتمل أن يكون كنى بالسرعة عن القرب فالمعنى : قريب { الحساب * } أي عن قريب يجازيهم على كفرهم في هذه الحياة الدنيا بأيدي بعضهم وبأيدي المؤمنين ، ثم ينقلون إلى حسابه سبحانه وتعالى في الدار الآخرة المقتضي لعذاب الكفرة ، ويحتمل أن تكون السرعة على بابها ، والمراد أنه لا يتهيأ في حسابه ما يتهيأ في حساب غيره من المغالطة المقتضية للنجاة أو المطاولة في مدة الحساب المقتضية لتأخر الجزاء في مدة المراوغة والله تعالى أعلم .
ومن الكفر بالآيات الكفر بعيسى عليه الصلاة والسلام حين انتحلوا فيه الإلهية . قال الحرالي : كان آية من الله سبحانه وتعالى للهداية ، فوقع عندهم بحال من كفروا به ، فكان سبب كفرهم ما كان مستحقاً أن يكون سبب هداية المهتدي ، وكان ذلك فيه لمحل اشتباهه لأنه اشتبه عليهم خلقه بما ظهر على يديه من آيات الله سبحانه وتعالى ، وفي التعريض به إلاحة لما يقع لهذه الأمة في نحوه ممن هو مقام الهداية فوقع في طائفة موقع آية كفروا بها ، كما قال عليه الصلاة والسلام في علي رضي الله تعالى عنه « مثلك يا علي كمثل عيسى ابن مريم أبغضه يهود فبهتوا أمه وأحبه النصارى فأنزلوه بالمحل الذي ليس به » كذلك تفرقت فرق في علي رضي الله تعالى عنه من بين خارجيهم ورافضيهم انتهى .
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
ولما تم ذلك كان كأنه قيل : قد جئناك بالأمر الواضح الذي لا يشكون فيه { فإن حاجّوك } بعده في شيء مما تضمنه وهدى إليه ودل صريحاً أو تلويحاً عليه فاعلم أن جدالهم عن عناد مع العلم بحقيقة الحال { فقل } أي فأعرض عنهم إلى أن آمرك بالقتال ، لأن من الواجبات - كما تقرر في آداب البحث - الإعراض عمن كابر في المحسوس ، وقل أنت عملاً بالآية السالفة : { أسلمت وجهي } أي أخلصت قصدي وتوجهي ، وانقدت غاية الانقياد { لله } الملك الأعظم الذي له الأمر كله ، فلا كفوء له .
قال الحرالي : ولما أدرج تعالى شهادة الملائكة وأولي العلم في شهادته لقن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدرج من اتبعه في إسلامه وجهه لله ليكون إسلامهم بإسلام نبيهم صلى الله عليه وسلم لا بإسلام أنفسهم ، لتلحق التابعة من الأمة بالأئمة ، وذلك حال الفرقة الناجية مؤثرة الفرق الاثنين والسبعين التي قال النبي صلى الله عليه وسلم « وما أنا عليه » فيما أوتي من اليقين « وأصحابي » فيما أوتوه من الانقياد وبراءتهم من الرجوع إلى أنفسهم في أمر ، كما كانوا يقولون عند كل ناشئة علم أو أمر : الله ورسوله أعلم ، فمن دخل برأيه في أمر نقص حظه من الاتباع بحسب استبداده - انتهى . فقال تعالى عاطفاً على الضمير المرفوع المتصل لأجل الفعل : { ومن } أي وأسلم من { اتبعن } وجوههم له سبحانه وتعالى .
ولما كان المكمل لنفسه يجب عليه السعي في إكمال غيره أعلمه بذلك في قوله : { وقل } تهديداً وتعجيزاً وتبكيتاً وتقريعاً { للذين أوتوا الكتاب } أي عامة من هؤلاء النصارى الذين يجادلونك ومن اليهود أيضاً { والأمّيّن } الذين لا كتاب لهم ، مشيراً بالاستفهام إلى عنادهم منكراً عليهم موبخاً لهم : { ءأسلمتم فإن أسلموا } عند ذلك { فقد اهتدوا } فنفعوا أنفسهم في الدنيا والآخرة ، وفي صيغة « افتعلوا » ما يليح إلى أن الأنفس مائلة إلى الضلال زائغة عن طريق الكمال { وإن تولوا } أي عن الإسلام فهم معاندون فلا يهمنك أمرهم { فإنما عليك البلاغ } أي وعليهم وبال توليهم ، وفي بنية التفعل ما يومىء إلى أن طرق الهدى بعد البيان آخذ محاسنها بمجامع القلوب ، وأن الصادف عنها بعد ذلك قاهر لظاهر عقله وقويم فطرته الأولى برجاسة نفسه واعوجاج طبعه .
ولما كان التقدير : فالله يوفق لقبول البلاغ عنك من علم فيه الخير ، وينكب عنه من علم فيه الشر ، عطف عليه قوله : { والله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { بصير بالعباد } أي فهو يوفق من خلقه للخير منهم ويخذل غيره . لا يقدر على فعل ذلك غيره ، ولا يقدر أحد غيره أن يفعل غير ذلك .
ولما أشرك اليهود في هذا الخطاب وأفهم شرط التولي بأداة الشك وقوعه ، فتشوفت النفس إلى معرفة جزائهم أشار إليه واصفاً لهم ببعض ما اشتد فحشه من أفعالهم فقال : - وقال الحرالي : ولما كانت هذه السورة منزلة لتبيين ما اشتبه على أهل الإنجيل جرى ذكر أهل التوراة فيها مجملاً بجوامع من ذكرهم ، لأن تفاصيل أمرهم قد استقرأته سورة البقرة ، فكان أمر أهل التوراة في سورة البقرة بياناً وأهل الإنجيل إجمالاً ، وكان أمر أهل الإنجيل في سورة آل عمران بياناً وذكر أهل التوراة إجمالاً ، لما كان لبس أهل التوراة في الكتاب فوقع تفصيل ذكرهم في سورة
{ الم ذلك الكتاب } [ البقرة : 1 ، 2 ] ، ولما كان اشتباه أمر أهل الإنجيل في شأن الإلهية كان بيان ما تشابه عليهم في سورة { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ آل عمران : 1 ، 2 ] فجاء هذا الذكر لأهل التوراة معادلة بينهم وبين أهل الإنجيل بما كفروا بالآيات من المعنى الذي اشتركوا فيه في أمر الإلهية في عزير واختصوا بقتل الأنبياء وقتل أهل الخير الآمرين بالقسط؛ انتهى . فقال تعالى : { إن الذين يكفرون } وهم الذين خذلهم الله { بآيات الله } في إبراز الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم كفرهم بكونه مما أضيف إليه سبحانه وتعالى . قال الحرالي : وفي ذكره بصيغة الدوام ما يقع منهم من الكفر بآيات الله في ختم اليوم المحمدي مع الدجال فإنهم أتباعه { ويقتلون النبيين } في إشعاره ما تمادوا عليه من البغي على الأنيباء حتى كان لهم مدخل في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم التي رزقه الله فيما كان يدعو به حيث كان يقول صلى الله عليه وسلم : « اللهم ارزقني شهادة في يسر منك وعافية » .
ولما كان قتلهم إياهم بدون شبهة أصلاً بل لمحض والكفر والعناد ، لأن الأنبياء مبرؤون من أن يكون لأحد قبلهم حق دنيوي أو أخروي قال : { بغير حق } أي لا صغير ولا كبير في نفس الأمر ولا في اعتقادهم ، فهو أبلغ مما في البقرة على عادة أفعال الحكماء في الابتداء بالأخف فالأخف . ولما خص ذكر أكمل الخلق عبر بما يعم أتباعهم فقال معيداً للفعل زيادة في لومهم وتقريعهم : { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط } أي العدل ، ولما كان ذلك شاملاً لمن لا قدرة لهم على قتله من الملائكة قال : { من الناس } أي كلهم ، سواء كانوا أنبياء أو لا ، ويجوز أن يكون المراد بهذا القيد زيادة توبيخهم بأنهم يقتلون جنسهم الذي من حقهم أن يألفوه ويسعوا في بقائه ، وهذا تحقيق لأن قتلهم لمجرد العدوان قال الحرالي : فيه إعلام بتمادي تسلطهم على أهل الخير من الملوك والرؤساء ، فكان في طيه إلاحة لما استعملوا فيه من علم التطبب ومخالطتهم رؤساء الناس بالطب الذي توسل كثير منهم إلى قتلهم به عمداً وخطأ ، ليجري ذلك على أيديهم خفية في هذه الأمة نظير ما جرى على أيدي أسلافهم في قتل الأنبياء جهرة - انتهى .
ويجوز أن يكون الخبر عنهم محذوفاً والتقدير : أنهم مطبوع على قلوبهم ، أو : لا يؤمنون ، أو : لا يزالون يجادلونك وينازعونك ويبغون لك الغوائل { فبشرهم بعذاب أليم * } أي اجعل إخبارهم بأنه لهم موضع البشارة ، فهو من وادي : تحيتهم بينهم ضرب وجيع .
ولما كان الحال ربما اقتضى أن يقال من بعض أهل الضلال : إن لهؤلاء أعمالاً حساناً واجتهادات في الطاعة عظيمة ، بيّن تعالى أن تلك الأفعال مجرد صور لا معاني لها لتضييع القواعد ، كما أنهم هم أيضاً ذوات بغير قلوب ، لتقع المناسبة بين الأعمال والعاملين فقال : { أولئك } أي البعداء البغضاء { الذين حبطت } أي فسدت فسقطت ، وأشار بتأنيث الفعل إلى ضعفها من أصلها { أعمالهم } أي كلها الدنياوية والدينية ، وأنبأ تعالى بقوله : { في الدنيا } كما قال الحرالي - أنهم يتعقبون أعمال خيرهم ببغي يمحوها فلا يطمعون بجزائها في عاجل ولا آجل ، وبذلك تمادى عليهم الذل وقل منهم المهتدي - انتهى { والآخرة } فلا يقيم لهم الله في يوم الدين وزناً ، وأسقط ذكر الحياة إشارة إلى أنه لا حياة لهم في واحدة من الدارين .
ولما كان التقدير : فلا ينتصرون بأنفسهم أصلاً ، فإنهم لا يدبرون تدبيراً إلا كان فيه تدميرهم ، عطف عليه قوله : { وما لهم من ناصرين * } قال الحرالي : فيه إعلام بوقوع الغلبة عليهم غلبة لا نصرة لهم فيها في يوم النصر الموعود في سورة الروم التي هي تفصيل من معنى هذه السورة في قوله تعالى : { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء } [ الروم : 4 ، 5 ] فهم غير داخلين فيمن ينصر بما قد ورد أنهم « يقتلون في آخر الزمان حتى يقول الحجر : يا مسلم! خلفي يهودي فاقتله ، حتى لا يبقى منهم إلا من يستره شجر الفرقد » كما قال صلى الله عليه وسلم : « إنه من شجرهم » وفي إفهامه أن طائفة من أهل الإنجيل يقومون بحقه ، فيكونون ممن تشملهم نصرة الله سبحانه وتعالى مع المسلمين ، فتنتسق الملة واحدة مما يقع من الاجتماع حين تضع الحرب أوزارها - انتهى .
ولما كان من المعلوم أن ثبات الأعمال وزكاءها إنما هو باتباع أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر الذين ورثوا العلم عنه دل على ما أخبر به من الحبوط وعدم النصر بما يشاهد من أحوالهم في منابذة الدين فقال : { ألم تر } وكان الموضع لأن يقال : إليهم ، ولكنه قال : { إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } ليدل على أن ضلالهم على علم ، وأن الذي أوتوه منه قراءتهم له بألسنتهم وادعاء الإيمان به . وقال الحرالي : كتابهم الخاص بهم نصيب من الكتاب الجامع ، وما أخذوا من كتابهم نصيب من اختصاصه ، فإنهم لو استوفوا حظهم منه لما عدلوا في الحكم عنه ولرضوا به ، وكان في هذا التعجيب أن يكون غيرهم يرضى بحكم كتابهم ثم لا يرضون هم به - انتهى .
{ يدعون إلى كتاب الله } أظهر الاسم الشريف ولم يقل : إلى كتابهم ، احترازاً عما غيروا وبدلوا ولأنهم إنما دعوا إلى كتاب الله الذي أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام ، لا إلى ما عساه أن يكون بأيديهم مما غيروا - نبه عليه الحرالي . وفيه أيضاً إشارة إلى عظيم اجترائهم بتوليهم عمن له الإحاطة الكاملة { ليحكم بينهم } قال الحرالي : في إشعاره أن طائفة منهم على حق منه ، أي وهم المذعنون لذلك الحكم الذي دعي إليه - انتهى .
ولما كان اتباعه واجباً واضحاً نفعه لمن جرد نفسه عن الهوى عبر عن مخالفته بأداة البعد فقال : { ثم } وقال الحرالي : في إمهاله ما يدل على تلددهم وتبلدهم في ذلك بما يوقعه الله من المقت والتحير على من دعي إلى حق فأباه ، وفي صيغة يتفعل في قوله : { يتولى } ما يناسب معنى ذلك في تكلف التولي على انجذاب من بواطنهم لما عرفوه وكتموه ، وصرح قوله : { فريق منهم } بما أفهمه ما تقدم من قوله : { ليحكم بينهم } فأفهم أن طائفة منهم ثابتون قائلون لحكم كتاب الله تعالى ، وأنبأ قوله المشير إلى كثرة أفراد هذا الفريق { وهم معرضون * } بما سلبوه من ذلك التردد والتكلف ، فصار وصفاً لهم بعد أن كان تعملاً ، ما أنكر منكر حقاً وهو يعلمه إلا سلبه الله تعالى علمه حتى يصير إنكاره له بصورة وبوصف من لم يكن قط علمه - انتهى .
وفي هذا تحذير لهذه الأمة من الوقوع في مثل ذلك ولو بأن يدعى أحدهم من حسن إلى أحسن منه - نبه عليه الحرالي وقال : إذ ليس المقصود حكاية ما مضى فقط ولا ما هو كائن فحسب ، بل خطاب القرآن قائم دائم ماض كلية خطابه في غابر اليوم المحمدي مع من يناسب أحوال من تقدم منهم ، وفي حق المرء مع نفسه في أوقات مختلفة - انتهى . ثم علل اجتراءهم على الله تعالى فقال : { ذلك } أي الإعراض البعيد عن أفعال أهل الكرم المبعد من الله { بأنهم قالوا } كذباً على الله - كما تقدم بيانه في سورة البقرة { لن تمسنا النار إلا أياماً } ولما كان المقام هنا لتناهي اجترائهم على العظائم لاستهانتهم بالعذاب لاستقصارهم لمدته والتصريح بقتل الآمرين بالقسط عامة وبحبوط الأعمال ، وكان جمع القلة قد يستعار للكثرة أكدت إرادتهم حقيقة القلة بجمع آخر للقلة ، فقيل على ما هو الأولى من وصف جمع القلة لما لا يعقل بجمع جبراً له : { معدودات } وتطاول الزمان وهم على هذا الباطل حتى آنسوا به واطمأنوا إليه لأنه ما كذب أحد بحق إلا عوقب بتصديقه بباطل ، وما ترك قوم سنة إلا أحيوا بدعة ، على أن كذبهم أيضاً جرهم إلى الاستهانة بعذاب الله الذي لا يستهان بشيء منه ولو قل .
ولما نسبوا ذلك إلى الكتاب فجعلوه ديناً قال : { وغرَّهم } قال الحرالي : من الغرور وهو إخفاء الخدعة في صورة النصيحة - انتهى { في دينهم ما كانوا } أي بما هيؤوا له وجبلوا عليه { يفترون * } أي يتعمدون كذبة ، قال الحرالي : فتقابل التعجيبات في ردهم حق الله سبحانه وتعالى وسكونهم إلى باطلهم - انتهى .
ولما تسبب عن اجترائهم بالكذب على الله أن يسأل عن حالهم معه قال صارفاً القول إلى مظهر العظمة المقتضي للمجازاة والمناقشة : { فكيف } أي يكون حالهم { إذا جمعناهم } أي وقد رفعنا حجاب العظمة وشهرنا سيف العزة والسطوة . ولما كان المقصود بالجمع الجزاء قال : { ليوم } ووصفُه بقوله : { لا ريب فيه } مشعر- كما قال الحرالي - بأنهم ليسوا على طمأنينة في باطلهم بمنزلة الذي لم يكن له أصل كتاب ، فهم في ريبهم يترددون إلى أن يأتي ذلك اليوم .
ولما كان الجزاء أمراً متحققاً لا بد منه أشار إليه بصيغة الماضي في قوله : { ووفيت } والبناء للمفعول للإفهام بسهولة ذلك عليه وإن كان يفوت الحصر وتأنيث الفعل للإشارة إلى دناءة النفوس وضعفها وقوله : { كل نفس } قال الحرالي : الفصل الموقع للجزاء مخصوص بوجود النفس التي دأبها أن تنفس فتريد وتختار وتحب وتكره ، فهي التي توفي ، فمن سلب الاختيار والإرادة والكراهة بتحقق الإسلام الذي تقدم ارتفع عنه التوفية ، إذ لا وجود نفس له بما أسلم وجهه لله ، فلذلك اختص وعيد القرآن كله بالنفس في نفاستها بإرادتها وما تنشأ لها عليه من أحوالها وأفعالها ودعواها في ملكها ومُلكها ، فمتى نفست فتملكت ملكاً أو تشرفت مُلكاً خرجت عن إسلامها حتى ينالها سلب القهر منه وإلزام الذل عنه ، وبلمح من هذا المعنى اتصلت الآية التي بعدها بختم هذه الآية وناظرت رأس آية ذكر الإسلام ، فإنما هو مسلم لله وذو نفس متملك على الله حتى يسلبه الله في العقبى أو يذله في الدنيا ، فشمل هذا الوفاء لكل نفس أهل الكتاب وغيرهم ، وعم الوفاء لكل من يعمه الجمع ، كذلك خطاب القرآن يبدأ بخصوص فيختم بعموم ، ويبدأ بعموم فيثنيه تفصيل - انتهى .
ولما كان هذا الجزاء شاملاً للخير والشر قال : { ما } أي جزاء ما { كسبت } فأتى به مخففاً ليشمل المباشرة بكسب أو اكتساب ، وأنث الفعل مع جواز التذكير مراعاة للفظ كل إشارة إلى الإحاطة بالأفعال ولو كانت في غاية الحقارة ، وراعى معنى « كل » للوفاء بالمعنى مع موافقة الفواصل { وهم لا يظلمون * } أي لا يقع عليهم ظلم بزيادة ولا نقص ، ولا يتوقعونه .
ولما أخبر تعالى أن الكفار سيغلبون وأنه ليس لهم من ناصرين كان حالهم مقتضياً لأن يقولوا : كيف ونحن أكثر من الحصى وأشد شكائم من ليوث الشرى ، فكيف نغلب؟ أم كيف لا ينصر بعضنا بعضاً وفينا الملوك والأمراء والأكابر والرؤساء ومناوونا القليل الضعفاء ، أهل الأرض الغبراء ، وأولو البأساء والضراء ، فقال تعالى لينتبه الراقدون من فرش الغفلات المتقلبون في فلوات البلادات من تلهيهم بما رأوا وسمعوا من نزع الملك من أقوى الناس وإعطائه لأضعفهم فيعلموا أن الذي من شأنه أن يفعل ذلك مع بعض أعدائه جدير بأن يفعل أضعافه لأوليائه : { قل اللهم } قال الحرالي : ولما كان هذا الأمر نبوة ثم خلافة ثم ملكاً فانتظم بما تقدم من أول السورة أمر النبوة في التنزيل والإنزال ، وأمر الخلافة في ذكر الراسخين في العلم الذين يقولون :
{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } [ آل عمران : 8 ] ، وكانت من هجيري أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، يقنت بها في وتر صلاة النهار في آخر ركعة من المغرب - انتظم برؤوس تلك المعاني ذكر الملك الذي آتى الله هذه الأمة ، وخص به من لاق به الملك ، كما خص بالخلافة من صلحت له الخلافة ، كما تعين للنبوة الخاتمة من لا يحملها سواه - انتهى؛ فقال : { قل } أي يا محمد أو يا من آمن بنا مخاطباً لإلهك مسمعاً لهم ومعرضاً عنهم ومنبهاً لهم من سكرات غفلاتهم في إقبالهم على ملوك لا شيء في أيديهم ، وإعراضهم عن هذا الملك الأعظم الذي بيده كل شيء . قال الحرالي : لعلو منزل هذه السورة كثر الإقبال فيها بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وجعل القائل لما كانت المجاورة معه ، لأن منزل القرآن ما كان منه لإصلاح ما بين الخلق وربهم يجيء الخطاب فيه من الله سبحانه وتعالى إليهم مواجهة حتى ينتهي إلى الإعراض عند إباء من يأبى منهم ، وما كان لإصلاح ما بين الأمة ونبيها يجري الله الخطاب فيه على لسانه من حيث توجههم بالمجاورة إليه ، فإذا قالوا قولاً يقصدونه به قال الله عز وجل : قل لهم ، ولكون القرآن متلواً ثبتت فيه كلمة قل - انتهى . { اللهم مالك الملك } أي لا يملك شيئاً منه غيرك . قال الحرالي : فأقنعه صلى الله عليه وسلم ملك ربه ، فمن كان منه ومن آله وخلفائه وصحابته يكون من إسلامه وجهه لربه إسلام الملك كله الذي منه شرف الدنيا لله ، فلذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم يتظاهر بالملك ولا يأخذه مآخذه ، لأنه كان نبياً عبداً ، لا نبياً ملكاً ، فأسلم الملك لله ، كذلك خلفاؤه أسلموا الملك لله فلبسوا الخلقان والمرقعات واقتصروا على شظف العيش ، ولانوا في الحق ، وحملوا جفاء الغريب ، واتبعوا اثره في العبودية ، فأسلموا الملك لله سبحانه وتعالى ، ولم ينازعوه شيئاً منه ، حمل عمر رضي الله تعالى عنه قربة على ظهره في زمن خلافته حتى سكبها في دار امرآة من الأنصار في أقصى المدينة ، فلما جاء الله بزمن الملك واستوفيت أيام الخلافة عقب وفاء زمان النبوة أظهر الله سبحانه وتعالى الملك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما خصص بالنبوة والإمامة بيت محمد وآل محمد صلى الله عليه وسلم وخصص بالخلافة فقراء المهاجرين خصص بالملك الطلقاء الذين كانوا عتقاء الله ورسوله ، لينال كل من رحمة الله وفضله ، التي ولى جميعها نبيه صلى الله عليه وسلم كلَّ طائفة على قدر قربهم منه ، حتى اختص بالتقدم قريشاً ما كانت ، ثم العرب ما كانت إلى ما صار له الأمر بعد الملك من سلطنة وتجبر إلى ما يصير إليه من دجل كل ذلك مخول لمن يخوله بحسب القرب والبعد منه { تؤتي الملك من تشآء } في الإيتاء إشعار بأنه تنوبل من الله من غير قوة وغلبة ولا مطاولة فيه وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله وأخص الناس بالبعد منه العرب ، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب كما وقع منه ما وقع ، وينتهي منه ما بقي إلى من نال الملك بسببها وعن الاستناد إليها من سائر الأمم الذين دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم وصنوف أهل الأقطار حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض ، فيعيده إلى إمام العرب الخاتم للهداية من ذريته ختمه صلى الله عليه وسلم للنبوة من ذرية آدم ، ويؤتيهم من المكنة ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
« لو شاء أحدهم أن يسير من المشرق إلى المغرب في خطوة لفعل » ومع ذلك فليسوا من الدنيا وليست الدنيا منهم ، فيؤتيهم الله ملكاً من ملكه - ظاهر هداية من هداه ، شأفة عن سره الذي يستعلن به في خاتمة يوم الدنيا ليتصل بظهوره ملك يوم الدين ، والملك التلبس بشرف الدنيا والاستئثار بخيرها؛ قال أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما في وصيته : إذا جنيت فلتهجر يدك فاك حتى يشبع من جنيت له ، فإن نازعتك نفسك في مشاركتهم فشاركهم غير مستأثر عليهم ، وإياك والذخيرة! فإن الذخيرة تهلك دين الإمام وتسفك دمه ، فالملك التباس بشرف الدنيا واستئثار بخيرها واتخاذ ذخيرة منها .
لما أرادوا أن يغيروا على عمر رضي الله تعالى عنه زيه عند إقباله على بيت المقدس نبذ زيهم وقال : إنا قوم أعزنا الله بالإسلام! فلن نلتمس العزة بغيره . فمن التمس الشرف بجاه الدنيا فهو ملك بقدر ما يلتمس من شرفها قل ذلك الحظ أو جل ، وهو به من أتباع ملوك الدنيا ، وكذلك من التمس الاستئثار بخيرها واتخذ الذخيرة منها ، كل ينال من الملك ويكون من شيعة الملوك بحسب ما ينال ويحب من ذلك حتى ينتهي إلى حشره مع الصنف الذي يميل إليه ، فمن تذلل وتقلل وتوكل بعث مع الأنبياء والمرسلين والخلفاء ، كما أن من تشرف بالدنيا واستأثر وادخر منها حشر مع الملوك والسلاطين؛ جلس عمر رضي الله تعالى عنه يوماً وسلمان وكعب وجماعة رضي الله تعالى عنهم فقال : أخبروني أخليفة أنا أم ملك؟ فقال له سلمان رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين! إن جبيت درهماً من هذا المال فوضعته في غيره حقه فأنت ملك ، وإن لم تضعه إلا في حقه فأنت خليفة ، فقال كعب : رحم الله تعالى! ما ظننت أن أحداً يعرف الفرق بين الخليفة والملك غيري ، فالتزام مرارة العدل وإيثار الغير خلافة وتشيع في سبيلها ، ومنال حلاوة الاستئثار بالعاجلة شرفها ومالها ملك وتحيز لتباعه - انتهى .
وفي تقديم الإيتاء على النزع إشارة إلى أن الداعي ينبغي أن يبدأ بالترغيب { وتنزع } قال الحرالي : من النزع ، وهو الأخذ بشدة وبطش - انتهى . { الملك ممن تشآء } وفيه إشارة إلى إن الدعاء باللين إن لم يجدِ ثني بالترهيب ، وعلى هذا المنوال أبرز قوله : { وتعز من تشآء } أي إعزازه { وتذل من تشآء } أي إذلاله ، وهو كما قال : « إن رحمتي سبقت غضبي » قال الحرالي : وفي كلمة النزع بما ينبىء عنه من البطش والقوة ما يناسب معنى الإيتاء ، فهو إيتاء للعرب ونزع من العجم ، كما ورد أن كسرى رأى في منامه أنه يقال له : سلم ما بيدك لصاحب الهراوة ، فنزع مُلكَ المولك من الأكاسرة والقياصرة وخوّله قريشاً ومن قام بأمرها وانتحل الملك باسمها من صنوف الأمم غرباً وشرقاً وجنوباً وشمالاً ، إلى ما يتم به الأمر في الختم ، والعز - والله سبحانه وتعالى أعلم - عزة الله سبحانه وتعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] ليكون في الخطاب إنباء بشرى لهم أنه أتاهم من العز بالدين ما هو خير من الشرف بملك الدنيا { من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً } [ فاطر : 10 ] فالملوك وإن تشرفوا بملك الدنيا فليس لهم من عزة الدين شيء ، أعزهم الله سبحانه وتعالى بالدين ، تخدمهم الأحرار وتتوطد لهم الأمصار ، لا يجدون وحشة ، ولا يحصرون في محل ، ولا تسقط لهم حرمة حيث ما حلوا وحيث ما كانوا استتروا أو اشتهروا ، والمتلبسون بالملك لا يخدمهم إلا من استرقوه قهراً ، يملكون تصنع الخلق ولا يملكون محاب قلوبهم ، محصورون في أقطار ممالكهم ، لا يخرجون عنها ولا ينتقلون منها حتى يمنعهم من كمال الدين ، فلا ينصرفون في الأرض ولا يضربون فيها ، حتى يمتنع ملوك من الحج مخافة نيل الذل في غير موطن الملك ، والله عز وجل يقول : « إن عبداً أصححت له جسمه ، وأوسعت عليه في رزقه ، يقيم خمسة أعوام لا يفد على المحروم » فالملوك مملوكون بما ملكوا ، وأعزاء الله ممكنون فيما إليه وجهوا ، لا يصدهم عن تكملة أمر الدين وإصلاح أمر الآخرة صادّ ، ولا يردهم عنه راد لخروجهم من سجن الملك إلى سعة العز بعزة الله سبحان وتعالى ، فقارض الله أهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ، ولم يرضه للملك بعز الإمامة ورفعة الولاية والاستيلاء على محاب القلوب فاسترعاهم الله قلوب العالمين بما استرعى الملوك بعض حواس المستخدمين والمستتبعين ، والذل مقابل ذلك العزة ، فإذا كان ذلك العز عزاً دينياً ربانياً عوضاً عن سلب الملك كان هذا الذل - والله تعالى أعلم - ذل أهل الدنيا في دنياهم الذي ألزمهم سبحانه وتعالى إياه بما أذلتهم أنفسهم ، فاستعملتهم في شواتها وأذلهم أتباعهم فتوسلوا بهم إلى قضاء أغراضهم في أهوائهم ، ويستذلهم من يظلمونه بما ينتصفون منهم ، وينالهم من ذل تضييع الدين ، ويبدو على وجوههم من ظلمة الظلم ما يشهد ذلهم فيه أبصار العارفين - انتهى .
ولعل نصارى نجران أشد قصداً بهذا الخطاب ، فإنهم خافوا أن ينزع منه ملوك الروم ما خولوهم فيه من الدنيا إن أخبروا بما يعلمون من أمر هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم .
ولما تقرر أنه مالك لما تقدم أنتج أن له التصرف المطلق فعبر عنه بقوله : { بيدك } أي وحدك { الخير } ولم يذكر الشر تعليماً لعباده الأدب في خطابه ، وترغيباً لهم في الإقبال عليه والإعراض عما سواه ، لان العادة جارية بأن الناس أسرع شيء إلى معطي النوال وباذل الأموال ، وتنبيهاً على أن الشر أهل للإعراض عن كل شيء من أمره حتى عن مجرد ذكره وإخطاره بالبال ، مع أن الاقتصار على الخير يملك الخير كله مستلزم لمثل ذلك في الشر ، لأنهما ضدان ، كل منهما مساوٍ لنقيض الآخر ، فإثبات أحدهما نفي للآخر ونفيه إثبات للآخر ، فلا يعطى الخير إلا وقد نفي الشر ، ولا ينزع الخير إلا وقد وضع الشر - والله سبحانه وتعالى أعلم . ولما أفهم أن الشر بيده كما أعلم أن الخير بيده وخاص به قرر ذلك على وجه أعم بقوله معللاً : { إنك على كل شيء قدير * }
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
فلما ثبتت خصوصيته سبحانه وتعالى بصفة القدرة على الوجه الأعم ذكر بعض ما تحت ذلك مما لم يدخل شيء منه تحت قدرة غيره فقال : - وقال الحرالي : ولما كانت هذه الآية متضمنة تقلبات نفسانية في العالم القائم الآدمي اتصل بها ذكر تقلبات في العالم الدائر ليؤخذ لكل منها اعتبار من الآخر . ولما ظهر في هذه الآية افتراق النزع والإيتاء والإعزاز والإذلال أبدى في الآية التالية توالج بعضها في بعض ليؤذن بولوج العز في الذل والذل في العز ، والإيتاء في النزع والنزع في الإيتاء ، وتوالج المفترقات والمتقابلات بعضها في بعض ، ولما كانت هذه السورة متضمنة لبيان الإحكام والتشابه في منزل الكتاب بحكم الفرقان أظهر تعالى في آياتها ما أحكم وبين في خلقه وأمره وما التبس وأولج في خلقه وأمره ، فكان من محكم آية في الكائن القائم الآدمي ما تضمنه إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال ، وكان من الاشتباه إيلاج العز في الذل وإيلاج الذل في العز ، فلما صرح بالإحكام ببيان الطرفين في الكائن القائم الآدمي ، وضمن الخطاب اشتباهه في ذكر العز والذل صرح به في آية الكون الدائر ، فذكر آية الآفاق وهو الليل والنهار بما يعاين فيها من التوالج حيث ظهر ذلك فيها وخفي في توالج أحوال الكائن القائم ، لأن الإحكام والاشتباه متراد بين الآيتين : آية الكائن القائم الآدمي وآية الكون الدائر العرشي ، فما وقع اشتباهه في أحدهما ظهر إحكامه في الآخر فقال سبحانه وتعالى : { تولج } من الولوج ، وهو الدخول في الشيء الساتر لجملة الداخل { الَّيل في النهار } فيه تفصيل من مضاء قدرته ، فهو سبحانه وتعالى يجعل كل واحد من المتقابلين بطانة للآخر والجاً فيه على وجه لا يصل إليه منال العقول لما في المعقول من افتراق المتقابلات ، فكان في القدرة إيلاج المتقابلات بعضها في بعض وإيداع بعضها في بعض على وجه لا يتكيف بمعقول ولا ينال بفكر - انتهى . { وتولج النهار في الَّيل } أي تدخل كلاً منهما في الآخر بعد ظهوره حتى يذهب فيه فيخفى ولا يبقى له أثر . قال الحرالي : ولما جعل المتعاقبين من الليل والنهار متوالجين جعل المتباطنين من الحي والميت مخرجين ، فما ظهر فيه الموت بطنت فيه الحياة ، وما ظهرت فيه الحياة بطن فيه الموت؛ انتهى . فقال سبحانه وتعالى : { وتخرج الحي } أي من النبات والحيوان { من الميت } منهما { وتخرج الميت } منهما { من الحي } منهما كذلك .
قال الحرالي : فهذه سنة الله وتعالى وحكمته في الكائن القائم وفي الكون الدائر ، فأما في الكون الدائر فبإخراج حي الشجر والنجم من موات البذر والعجم ، وبظهوره في العيان كان أحكم في البيان مما يقع في الكائن القائم ، كذلك الكائن القائم يخرج الحي المؤمن الموقن من الميت الكافر الجاهل
{ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } [ التوبة : 14 ] ويخرج الكافر الآبي من المؤمن الراحم { يا نوح إنه ليس من أهلك } [ هود : 46 ] أظهر سبحانه وتعالى بذلك وجوه الإحكام والاشتباه في آيتي خلقه ليكون ذلك آية على ما في أمره ، وليشف ذلك عما يظهر من أمر علمه وقدرته على من شاء من عباده كما أظهر في ملائكته وأنيبائه ، وكما خصص بما شاء من إظهار عظيم أمره في المثلين الأعظمين : مثل آدم وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، فأنزلت هذه السورة لبيان الأمر فيما اشتبه على من التبس عليه أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فهو تعالى أظهر من موات الإنسانية ما شاء من الإحياء بإذنه ، وأظهر في آدم عليه الصلاة والسلام ما شاء من علمه حين علم آدم الأسماء كلها كذلك أظهر في عيسى عليه الصلاة والسلام ما شاء من قدرته كما أظهر في الخلق ما شاء من ملكه ، فملك من شاء ونزع الملك ممن شاء ، وأعز من شاء وأذل من شاء ، وأظهر بالنهار ما شاء وطمس بالليل ما شاء ، وأولج المتقابلين بعضهما في بعض وأخرج المتباطنين بعضهما من بعض - انتهى .
ولما بدأ الآية سبحانه وتعالى مما يقتضي الترغيب بما هو محط أحوال الأنفس من الملك وأنواع الخير ختمها بمثل ذلك مما لا يقوم الملك ولا يطيب العيش إلا به فقال : { وترزق من تشاء } قوياً كان أو ضعيفاً { بغير حساب * } أي تعطيه عطاء واسعاً جداً متصلاً من غير تضييق ولا عسر ، كما فعل بأول هذه الأمة على ما كانوا فيه من القلة والضعف حيث أباد بهم الأكاسرة والقياصرة وآتاهم كنوزهم وأخدمهم أبناءهم وأحلهم ديارهم . وقال الحرالي : ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا الإحكام والاشتباه في أمر العلية من الخلق وفيه من الإحكام والاشتباه نحو ما في الإيتاء والنزع ولما فيه من الوزن والإيتاء بقدر ختم بأعزيه وهو الإرزاق الذي لا يقع على وزن ولا يكون بحساب ، وفيه إشعار بالإرزاق الختمي الذي يكون في آخر اليوم المحمدي للذين يؤتيهم الله سبحانه وتعالى ما شاء من ملكه وعزه وسعة رزقه بغير حساب ، فكما ختم الملك لبني إسرائيل بملك سليمان عليه الصلاة والسلام في قوله سبحانه وتعالى { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } [ ص : 39 ] كذلك يختم لهذه الأمة بأن يرزقهم بغير حساب حين تلقي الأرض بركاتها وتتطهر من فتنتها ، فتقع المكنة في ختم اليوم المحمدي بالهداية والهدنة كما انقضت لبني إسرائيل بالملك والقوة - انتهى .
ولما بان بهذه الآية أن لا شيء في يد غيره ، واقتضى ذلك قصر الهمم عليه ، وكان نصارى نجران إنما داموا على موالاة ملوك الروم لمحض الدنيا مع العلم ببطلان ما هم عليه حذر المؤمنين من مداناة مثل ذلك مع كونهم مؤمنين كما وقع لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه مما قص في سورة الممتحنة إشارة إلى أنه لا تجتمع موالاة المؤمنين وموالاة الكافرين في قلب إلا أوشكت إحداهما أن تغلب على الأخرى فتنزعها ، فقال تعالى منبهاً على ذلك كله سائقاً مساق النتيجة لما قبله - وقال الحرالي : ولما كان مضمون هاتين الآيتين بشرى لخصوص هذه الأمة وعمومها بالعز والملك وختم الرزق الذي لا حساب فيه كان من الحق أن تظهر على المبشرين عزة البشرى فلا يتولوا غيره ، ولما قبض ما بأيدي الخلق إليه في إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال ، وأظهر إحاطة قدرته على كل شيء وإقامة امتحانه بما أولج وأخرج ، وأنبأ عن إطلاق حد العد عن أرزاقه فسد على النفس الأبواب التي منها تتوهم الحاجة إلى الخلق؛ نهي المؤمنين الذين كانت لهم عادة بمباطنة بعض كفرة أهل الكتاب وغيرهم من المشركين ومن شمله وصف الكفر أن يجروا على عادتهم في موالاتهم ومصافاتهم والحديث معهم ، لأن المؤمنين يفاوضونهم بصفاء ، والكافرون يتسمعون ويأخذون منهم بدغل ونفاق عليهم كما قال تعالى
{ هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } [ آل عمران : 119 ] فنهاهم الله سبحانه وتعالى عما غاب عنهم خبرته وطيته فقال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون } أي الراسخون في الإيمان وعبر في أضدادهم بالوصف لئلا يتوهم ذلك في كل من تلبس بكفر في وقت ما فقال : { الكافرين أولياء } ونبه بقوله : { من دون المؤمنين } على أن ولاية أوليائه من ولايته ، وأن المنهي عنه إنما هو الولاية التي قد توهن الركون إلى المؤمنين لأن في ذلك - كما قال الحرالي - تبعيد القريب وتقريب البعيد ، والمؤمن أولى بالمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً » فأقواهم له ركن ، وضعيفهم مستند لذلك الركن القوي ، فإذا والاه قوى به مما يباطنه ويصافيه ، وإذا اتخذ الكافر ولياً من دون مؤمنه القوي ربما تداعى ضعفه في إيمانهم إلى ما ينازعه فيه من ملابسة أحوال الكافرين ، كما أنهم لما أصاخوا إليهم إصاخة أوقعوا بينهم سباب الجاهلية كما في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } [ آل عمران : 100 ] وكما قال سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } [ آل عمران : 149 ] ، ولم يمنع سبحانه وتعالى من صلة أرحام من لهم من الكافرين ، ولا من خلطتهم في أمر الدنيا فيما يجري مجرى المعاملة من البيع والشرى والأخذ والعطاء وغير ذلك ليوالوا في الدين أهل الدين ، ولا يضرهم أن يباروا من لم يحاربهم من الكافرين - انتهى .
ولما كان التقدير : فمن تولاهم وكل إليهم وكان في عدادهم ، لأنه ليس من الراسخين في صفة الإيمان عطف عليه ترهيباً لمن قد تتقاصر همته فيرضى بمنزلة ما دون الرسوخ قوله : { ومن يفعل ذلك } أي هذا الأمر البعيد من أفعال ذوي الهمم الذي يكون به في عداد الأعداء بعد هذا البيان ومع رفع هذا الحجاب الذي كان مسدولاً على أكثر الخلق { فليس من الله } أي الذي بيده كل شيء فلا كفوء له { في شيء } قال الحرالي : ففي إفهامه أن من تمسك بولاية المؤمنين فهو من الله في شيء بما هو متمسك بعنان من هو له وسيلة إلى الله سبحانه وتعالى من الذين إذا رؤوا ذكر الله - انتهى .
ولما كان من الناس القوي والضعيف والشديد واللين نظر إلى أهل الضعف سبحانه وتعالى فوسع لهم بقوله : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } أي إلا أن تخافوا منهم أمراً خطراً مجزوماً به ، لا كما خافه نصارى نجران وتوهمه حاطب ، فحينئذ يباح إظهار الموالاة وإن كانت درجة من تصلب في مكاشرتهم وتعزز لمكابرتهم ومكاثرتهم ، وإن قطع أعظم فإياكم أن تركنوا إليهم! فإن الله سبحانه وتعالى يحذركم إقبالكم على عدوه ، فإن ذلك موجب لإعراضه عنكم { ويحذركم الله } أي الملك الأعظم { نفسه } فإنه عالم بما تفعلونه . وهو الحكم في الدنيا كما ترون من إذلاله العزيز وإعزازه الذليل ، وهذا المحذر منه وهو نفسه سبحانه وتعالى - كما قال الحرالي - مجموع أسماء تعاليه المقابلة بأسماء أوصافهم التي مجموعها أنفسهم . وموجود النفس ما تنفس ، وإن كانت أنفس الخلق تنفس على ما دونها إلى حد مستطاعها ، فكان ما حذره الله من نفسه أولى وأحق بالنفاسة في تعالي أوصافه وأسمائه أن تنفس على من يغنيه فلا يستغني ، ويكفيه فلا يكتفي ويريه مصارف سد خلاته وحاجاته فلا ينصرف إليها ولا يتوجه نحوها ، فهو سبحانه وتعالى يعذب من تعرف له بنفسه فلم يعرفه أشد من عذاب من يتعرف له بآياته فلا يعتبر بها ، بما أن كل ما أبداه من نفسه بلا واسطة فهو أعظم مما أبداه بالواسطة من نعيم وعذاب ، فلا أعظم من نعيم من تعرف له بنفسه فعرفه ، ولا أشد من عذاب من تعرف له بنفسه فأنكره - انتهى .
ولما كانت مصائب الدنيا قد تستهان قال سبحانه وتعالى عاطفاً على نحو ما تقديره : فمن الله المبدأ : - وقال الحرالي : ولما كان الزائل أبداً مؤذناً بترك الاعتماد عليه أقام تعالى على المتمسك بما دونه حجة بزواله ، فلا يستطيع الثبات عليه عند ما تناله الإزالة والإذهاب ، ويصير الأمر كله لله ، فأعلم أن المصير المطلق إلى الله سبحانه وتعالى ، فنم تعرف إليه فعرفه نال أعظم النعيم ، ومن تعرف إليه فأنكره نال أشد الجحيم - انتهى؛ فقال - : { وإلى الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { المصير * } أي وإن طال إملاؤه لمن أعرض عنه فيوشك أن ينتقم منه .
ولما كانت الموالاة بالباطن المنهي عنها مطلقاً ودائماً قد تفعل ويدعى نفيها لخفائها أمره صلى الله عليه وسلم بتحذيرهم من موالاة أعدائه على وجه النفاق أو غيره فقال : - وقال الحرالي : ولما كان حقيقة ما نهى عنه في الولاية والتقاة أمراً باطناً يترتب عليه فعل ظاهر فوقع التحذير فيه على الفعل كرر فيه التحذير على ما وراء الفعل مما في الصدور ونبه فيه على منال العلم خفية ، فإنه قد يترك الشيء فعلاً ولا تترك النفس الغية صغواً ونزوعاً إليه في أوقات ، وكرر في ختمه التحذير ليتثنى التحذيران ترقياً من الظاهر في الفعل إلى باطن الحماية في العلم خفية ، فإنه قد يترك الشيء فعلاً ولا تترك النفس الغية صغواً ونزوعاً إليه في أوقات ، وكرر في ختمه التحذير ليتثنى التحذيران ترقياً من الظاهر في الفعل إلى باطن الحماية في العلم كما تثنى الأمران في الظاهر والباطن ، وكان في إجراء هذا الخطاب على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليهم بما أنه بشر مثلهم يلزمهم الاقتداء به فيما لم يبادروا إلى أخذه من الله في خطابه الذي عرض به نحوهم؛ انتهى . فقال تعالى - : { قل إن تخفوا } أي يا أيها المؤمنون { ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله } أي المحيط قدرة وعلماً ، ثم قال عاطفاً على جملة الشرط التي هي مقول القول إرادة التعميم : { ويعلم ما } أي جميع ما { في السموات } ولما كان الإنسان مطبوعاً على ظن أنه إذا أخفي شيئاً في نفسه لا يعلمه غيره أكد بإعادة الموصول فقال : { وما } أي وجميع ما { في الأرض } ظاهراً كان أو باطناً .
ولما كان ذو العلم لا يكمل إلا بالقدرة ، وكان يلزم من تمام العلم شمول القدرة - كما سيأتي إن شاء الله تعالى برهانه في سورة طه - كان التقدير : فالله بكل شيء عليم ، فعطف عليه قوله : { والله } أي بما له من صفات الكمال { على كل شيء قدير * } ومن نمط ذلك قوله سبحانه وتعالى : { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } [ آل عمران : 5 ] مع ذكر التصوير كيف يشاء والختم بوصفي العزة والحكمة ، وقد دل سبحانه وتعالى بالتفرد بصفتي العلم والقدرة على التفرد بالألوهية .
ولما تم الوصف بالعلم والقدرة بعد التحذير من سطواته ذكر يوم المصير المحذر منه ، المحصى فيه كل كبير وصغير ، المعامل فيه كل عامل بما يليق به ، الذي يتم فيه انكشاف الأوصاف لكل ذكي وغبي فقال تعالى : { يوم } وهو معمول لعامل من معنى « يحذر » { تجد كل نفس } والذي يرشد إلى تعيين تقدير هذا العامل - إذا جعل العامل مقدراً - قوله سبحانه وتعالى { ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 28 ] سابقاً لها ولا حقاً ، ويجوز أن يكون بدلاً من يوم في قوله
{ ليوم لا ريب فيه } [ آل عمران : 9 ] وتكون فتحته للبناء لإضافته إلى الجملة - والله سبحانه وتعالى أعلم ، والمراد بالنفس - والله سبحانه وتعالى أعلم - المكلفة { ما عملت من خير محضراً } أي لا نقص فيه ولا زيادة ، بأمر القاهر القادر على كل شيء { وما عملت من سوء } حاضراً ملازماً ، فما عملت من خير تود أنها لا تفارقه ولا ينقص منه شيء [ وما عملت من سوء { تود } أي تحب حباً شديداً { ولو أن بينها وبينه } أي ذلك العمل السوء { أمداً } أي زماناً . قال الحرالي : وأصله مقدار ما يستوفي جهد الفرس من الجري ، فهو مقدار ما يستوفي ظهور ما في التقدير إلى وفاء كيانه { بعيداً } من البعد ، وهو منقطع الوصلة في حس أو معنى - انتهى . فالآية من الاحتباك : ذكر إحضار الخير دلالة على حضور السوء ، وود بعد السوء دلالة على ود لزوم الخير .
ولما ذكر هول ذلك اليوم كان كأنه قال : فاتقوه فإن الله يحذركموه { ويحذركم الله } أي الذي له العظمة التي لا يحاط بها { نفسه } فالله سبحانه وتعالى منتقم ممن تعدى طوره ونسي أنه عبد ، قال الحرالي : أن تكون لكم أنفس فتجد ما عملت ، ويلزمها وطأة هذه المؤاخذة ، بل الذي ينبغي أن يبرىء العبد من نفسه تبرئته من أن يكون له إرادة ، وأن يلاحظ علم الله وقدرته في كلية ظاهره وباطنه وظاهر الكون وباطنه - انتهى .
ولما كان تكرير التحذير قد ينفر بين أن تحذيره للاستعطاف ، فإنه بنصب الأدلة وبعث الدعاة والترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية المسبب عنه سعادة الدارين ، فهو من رأفته بالمحذرين فقال بانياً على ما تقديره : ويعدكم الله سبحانه وتعالى فضله ويبشركم به لرأفته بكم : { والله } أي والحال أن الذي له وحده الجلال والإكرام { رؤوف بالعباد * } قال الحرالي : فكان هذا التحذير الخاتم ابتدائياً ، والتحذير السابق انتهائياً ، فكان هذا رأفة سابقة ، وكان الأول الذي ترتب على الفعل تحذيراً لاحقاً متصلاً بالمصير إلى الله ، وهذا الخاتم مبتدأً بالرأفة من الله .
والرأفة - يقول أهل المعاني - هي أرق الرحمة ، والذي يفصح عن المعنى - والله سبحانه وتعالى أعلم - أنها عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة ، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم ، فنم تحقق أن الأمر لله سبحانه وتعالى وجد رفقه وفضله ورحمته عليه لما برىء من دعوى شيء من نسبة الخير إلى نفسه ، فأحبه لذلك ، قيل لأعرابي : إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله؟ فقال : أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه فلذلك إذا تحقق العبد ذلك من ربه أحبه بما وحّده وبما وجده في العاجلة فحماه أن يجد عمل نفسه في الآجلة - انتهى .
وقد علم أن الآية من الاحتباك : التحذير أولاً دال على الوعد بالخير ثانياً ، والرأفة ثانياً دالة على الانتقام أولاً - والله سبحانه وتعالى الموفق .
ولما فطمهم سبحانه وتعالى عن موالاة الكفار ظاهراً وباطناً بما اقتضى القصر على موالاة أهل الله لنفيه من تولي الكفر عن أن يكون في شيء من الله ، وكان الإنسان ربما وإلى الكافر وهو يدعي محبة الله سبحانه وتعالى ، وختم برأفته سبحانه و تعالى بعباده ، وكانت الرأفة قد تكون عن المحبة الموجبة للقرب ، فكان الإخبار بها ربما دعا إلى الاتكال ، ووقع لأجله الاشتباه في الحزبين ، جعل لذلك سبحانه وتعالى علامه فقال : - وقال الحرالي : لما كان أعظم ما يترامى إليه مقامات السالكين إلى الله سبحانه وتعالى القاصدين إليه من مبدإ حال الذكر الذي هو منتهى المقامات العشر المترتبة في قوله سبحانه وتعالى { إن المسلمين } محبة الله سبحانه وتعالى بما أن المحبة وصلة خفية يعرف الحاس بها كنهها ، أقام سبحانه وتعالى الحجة على المترامين لدعوى القرب من الله والادعاء في أصل ما يصل إليه القول من محبته بما أنبأنهم أن من انتهى إلى أن يحب الله سبحانه وتعالى فليتبع هذا النبي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى فمن اتبعه أحبه الله ، فقامت بذلك الحجة على كل قاصد وسالك ومتقرب ، فإن نهاية الخلق أن يحبوا الله ، وعناية الحق أن يحب العبد ، فرد سبحانه وتعالى جميع من أحاط به الاصطفاء والاجتباء والاختصاص ، ووجههم إلى وجهة الاتباع لحبيبه الذي أحبه ، كما قال صلى الله عليه وسلم « لو أن موسى بين أظهركم ما وسعه إلا اتباعي » وإذا كان ذلك في موسى عليه الصلاة والسلام كان في المنتحلين لملته ألزم بما هم متبعون لمتبعه عندهم ، وأصل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما كان في في الأبد وجب أن يكون النهاية في المعاد ، فألزم الله سبحانه وتعالى على الخليقة ممن أحب الله سبحانه وتعالى أن يتبعوه ، وأجرى ذلك على لسان إشعاراً بما فيه من الخير والوصول إلى الله سبحانه وتعالى من حيث إنه نبي البشرى ، وليكون ذلك أكظم لمن أبى اتباعه - انتهى ، فقال سبحانه وتعالى - : { قل إن كنتم تحبون الله } أي المحيط بصفات الكمال مخلصين في حبه لاعتقاد أنه على غاية الكمال ، فإن الكمال محبوب لذاته { فاتبعوني } قال الحرالي : قد فسر صلى الله عليه وسلم ظاهر اتباعه فقال « في البر » وأصل حقيقته الإيمان بالله والإيثار لعباده ، والتقوى وهي ملاك الأمر وأصل الخير ، وهي إطراح استغناء العبد بشيء من شأنه ، لا من مِلك ولا من مُلك ولا من فعل ولا من وصف ولا من ذات حتى يكون عنده كما هو عند ربه في أزله قبل أن يكون موجوداً لنفسه ليكون أمره كله بربه في وجوده كما كان أمره بربه قبل وجوده لنفسه ، وقد فسر حق التقاة التي هي غاية التقوى بأن يكون العبد يشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى ، ويطيع فلا يعصى - انتهى .
قال الإمام : المحبة توجب اإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض عن غيره - انتهى . فمن ادعى محبته وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب ، وكتاب الله سبحانه وتعالى يكذبه { يحببكم الله } أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى حباً ظهرت أماراته بما أعلم به الفك ، فإن الأمر المنجي غاية النجاة إنما هو محبة الله سبحانه وتعالى للعبد ، لا محبة العبد لله ، فإنه ربما كانت له حالة يظن بها أنه يحب الله والواقع أنه ليس كما ظن لكونه يعمل بما يسخطه سبحانه وتعالى ، والأمارة الصحيحة لذلك رد الأمر كله إلى الله ، وحينئذ يفعل الله مع العبد فعل المحب من حسن الثناء والإكرام بالثواب . قال الحرالي : فإن من رد الأمانة إلى الله سبحانه وتعالى أحبه الله فكان سمعه وبصره ويده ورجله ، وإذا أحب الله عبداً أراحه وأنقذه من مناله في أن يكون هو يحب الله ، فمن أحب الله وله ، ومن أحبه الله سكن ي ابتداء عنايته وثبته الله سبحانه وتعالى - انتهى . فقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن الدلالة الناشئة عن الرافة من الإكرام بالنعم من الهداية بالبيان والإبلاغ في الإحسان عامة للمحبوب وغيره ، وأن الدليل على المحبة الإلهية هو الاتباع الداعي « اعملوا فكل ميسر لما خلق له فأما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة » « ما تقرب المتقربون إليّ بمثل أداء ما افترضته عليهم ، ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه » .
ولما كان الدين شديداً لن يشاده أحد إلا غلبه ، لما عليه العبد من العجز والمعبود من عظيم الأمر أتبع ذلك الإعلام بأنه مع إيصال الثواب يرفع العقاب فقال - وقال الحرالي : ولما كان من آية حب الله له صلى الله عليه وسلم ما أنزل عليه من قوله : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 1 2 ] أجرى لمن أحبه الله باتباعه حظ منه في قوله - : { ويغفر لكم ذنوبكم } أي مطلقاً ، وذنب كل عبد بحسبه ، لأن أصل معنى الذنب أدنى مقام العبد ، فكل ذي مقام أعلاه حسنته وأدناه ذنبه ، ولذلك في كل مقام توبة ، حتى تقع التوبة من التوبة فيكمل الوجود والشهود .
ولما كان هذا الأمر من أخص ما يقع ، وكان مما دونه مقامات خواص الخلق فيما بين إسلامهم إلى محبتهم لله سبحانه وتعالى ختم تعالى بما يفهم أحوال ما يرجع إلى من دون هذا الكمال فقال : { والله } أي الذي له الكمال كله { غفور رحيم * } أي لمن لم ينته لرتبة حب الله له بما يقع في أثناء أحواله من موجب المغفرة واستدعاء الرحمة حيث لم يصل إلى المحبة ، فمرحوم بعد مغفرة وهو القاصد ، ومغفور بعد محبة وهو الواصل - انتهى .
ولما كان الاتباع قد يكون عن غلبة لا عن طاعة بين أنه لا ينفع إلا مع الإذعان فقال - أو يقال : لما كان صلى الله عليه وسلم في غاية الرأفة بالعبادة وكان يعلم أن آحاد الأمة لا يقدرون على كمال اتباعه لما له مع العصمة من الطبع على خصال الكمال كان كأنه قال له سبحانه وتعالى : فإن لم يقدروا على كمال اتباعي؟ فقال : { قل } وقال الحرالي : ولما ذكر تعالى ما تقدم من التحذيرين ، في رتبتين أولاهما في الذكر بحاتين من موجب التحذيرين ، فكان الاتباع موجب النجاة من التحذير الثاني الباطن الذي مبدؤه الرأفة ، وكان الطاعة موجب النجاة من التحذير الأول السابق ، فمن أطاع الله روسوله فيما نهى عنه من اتخاذ ولاية الكافرين من دون ولاية المؤمنين سلم من التحذيرالظاهر ، ومن اتبع الرسول فأحبه الله سلم من التحذير الباطن ، فختم الخطاب بما به بدأ ، أو لما كانت رتبة الاتباع عليا وليتها رتبة الائتمار ، فهو إما متبع على حب وإما مؤتمر على طاعة ، فمن لم يكن من أهل الاتباع فليكن من أهل الطاعة ، فكأن الخطاب يفهم : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } [ آل عمران : 31 ] ، فإن لم تستطيعوا أن تتبعوني فأطيعوني ، انتهى فقال سبحانه وتعالى : { قل أطيعوا الله } أي لما له من صفات الكمال . ولما قدم أن رضاه في اتباعه صلى الله عليه وسلم فدل على أن الطاعتين واحدة قال موحداً للعامل : { والرسول } أي الكامل في الرسلية لما له به سبحانه وتعالى من مزايا الاتصال ، وهو وإن كان اسماً كلياً لكنه كان حين إنزال هذا الخطاب مختصاً بأكمل الخلق محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المرسل إلى الخلق كافة على أن طاعته طاعة لجميع الرسل الذين بينوا للناس أمره صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وسلم . قال الحرالي : فكان إشارة ذلك إلى ما نهوا عنه من التولي إلى ما ينتظم في معنى ذلك ، وفيه إشعار بأن الأمر يكون فيه محوطاً بالرحمة من حيث ذكر الرسول فيه بما هو رحمة للعالمين { فإن تولوا } أي عن طاعة خطاب الله والرسول المحفوف باللطف من الله سبحانه وتعالى والرحمة من رسول الله - انتهى . و { تولوا } يحتمل المضارع والمضي ، فكان الأصل في الكلام : { فإن الله } الذي له الغنى المطلق لا يحبكم ، أو : لا يحبهم ، ولكنه أظهر الوصف المعلم بأن التولي كفر فقال : { لا يحب الكافرين * } قال الحرالي : أفرد لله لما كان وعيداً ، إبقاء لرسوله صلى الله عليه وسلم في حيز الرحمة .
ولما نفى عمن تولى أن يحبه كان في إشعارة أن هذا الكفر عموم كفر يداخل رتباً من الإيمان من حيث نفي عنه الحب فنفي منه ما يناله العفو أو المغفرة والرحمة ونحو ذلك بحسب رتب تناقص الكفر ، لأنه كفر دون كفر ، ومن فيه كفر فهو غير مستوفي اتباع الرسول بما أنه الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وإنما يحب الله من اتبع رسوله ، فعاد الختم في الخطاب إلى إشعار من معنى أوله وفي إلاحته أن حب الله للعبد بحسب توحيده ، فكلما كان أكمل توحيداً كان أحب ، وما سقط عن رتبة أدنى التوحيد الذي هو محل الأمر بطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كان كفراً بحسب ما يغطى على تلك الرتبة من التوحيد ، لأن هذه السورة سورة إلهية إيمانية حبية توحيدية ، فخطابها مخصوص بما يجري في حكم ذلك من الإيمان والكفر والمحكم والمتشابه وكشف غطاء الأعين ورفع حجب القلوب - انتهى .
وقد وضح أن الآية من الاحتباك - فأصل نظمها : فإن تولوا فإن الله لا يحبهم لكفرانهم ، وإن أقبلوا فإن الله يحبهم لإيمانهم ، فإن الله لا يحب الكافرين والله يحب المؤمنين - إثبات التولية في الأول يدل على حذف الإقبال من الثاني ، إثبات الكراهة في الثاني يدل على حذف مثلها في الأول .
ولما كان الأصفياء أخص من مطلق الأحباب بين بعض الأصفياء وما أكرمهم به تصديقاً لقوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الشريف « فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها » تنبيهاً لوفد نصارى نجران وغيرهم على أنه مثل ما اصطفى لنفسه ديناً اصطفى للتخلق به ناساً يحبونه ويطيعونه ويوالون أولياءه ويعادون أعداءه ، وليسوا من صفات الكافرين في شيء فقال - أو يقال : إنه سبحانه وتعالى لما شبه أفعاله في التشابه وغيره بأقواله وعرف أن الطريق الأقوم رد المتشابه منها إلى الواضح المحكم والالتجاء في كشف المشكل إليه مع الاعتقاد الجازم المستقيم ، وبين أن الموقف عن هذا الطريق الأقوم الوقوف مع العرض الدنيوي مع الرئاسة وغيرها وألف الدين مع التعلل فيه بالتمني الفارغ ، وأنهى ذلك وتوابعه إلى أن ختم بتهديد من تولى عن الحق أخذ في تصوير تصويره في الأرحام كيف شاء بما شوهد من ذلك ولم يشك فيه من أحوال أناس هم من خلص عباده المقبلين على ما يرضيه فقال : أو يقال ولعله أحسن : ولما أخبر سبحانه وتعالى أن أهل الكتاب ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم فكفروا بذلك ، وألحق به ما تبعه إلى أن ختم بالأمر باتباع الرسول وبأنه لا يحب الكافرين بالتولي عن رسله اشتد تشوف النفس إلى معرفة الرسل الآتين بالعلم الذين توجب مخالفتهم الكفر فبينهم بقوله : وقال الحرالي : لما كان منزل هذه السورة لإظهار المحكم والمتشابه في الخلق والأمر قدم سبحانه وتعالى بين يدي إبانة متشابه خلق عيسى عليه الصلاة والسلام وجه الاصطفاء المتقدم للآدمية ومن منها من الذرية لتظهر معادلة خلق عيسى عليه الصلاة والسلام آخراً لمتقدم خلق آدم عليه الصلاة والسلام أولاً ، حتى يكونا مثلين محيطين بطرفي الكون في علو ورحه ودنو أديم تربته وأنه سبحانه وتعالى نزل الروح إلى الخلق الآدمي كما قال
{ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون } [ الأنعام : 9 ] وظهر أثر ذلك اللبس بما وقع لأهل الزيغ في عيسى كما أنه رقى الخلق الطيني رتبة رتبة إلى كمال التسوية إلى أن نفخ فيه من روحه ، فكان ترقي الآدمي إلى النفخة لتنزل الروح إلى الطينة الإنسانية التي تم بها وجود عيسى عليه الصلاة والسلام كما كمل وجود آدم عليه الصلاة والسلام بالنفخة .
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
ولما كان أصل الإبداء نوراً علياً نزله الحق سبحانه وتعالى في رتب التطوير والتصيير والجعل إلى أن بدأ عالماً دنياوياً محتوياً على الأركان الأربعة والمواليد الثلاثة ، وخفيت نورانيته في موجود أصنافه صفي الله سبحانه وتعالى من وجود كلية ذلك هذا الخلق الآدمي فكان صفي الله ، فأنبأ الخطاب عن تصييره إلى الصفاء بالافتعال؛ انتهى - فقال سبحانه وتعالى : { إن الله } أي بجلاله وعظمته وكماله في إحاطته وقدرته { اصطفى } أي للعلم والرسالة عنه سبحانه وتعالى إلى خلقه والخلافة له في ملكه { آدم } أباكم الأول الذي لا تشكون في أنه خلقه من تراب ، وهو تنبيه لمن غلط في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على أن أعظم ما استغربوا من عيسى كونه من غير ذكر ، وآدم أغرب حالاً منه بأنه ليس من ذكر ولا أنثى ولا من جنس الأحياء - كما سيأتي ذلك صريحاً بعد هذا التلويح لذي الفهم الصحيح .
قال الحرالي : فاصفطاه من كلية مخلوقه الذي أبداه ملكاً وملكوتاً خلقاً وأمراً ، وأجرى اسمه من أظهر ظاهره الأرضي وأدنى أدناه ، فسماه آدم من أديم الأرض ، على صيغة أفعل ، التي هي نهاية كمال الآدمية والأديمية . فكان مما أظهر تعالى في اصطفاء آدم ما ذكر جوامعه علي رضي الله عنه في قوله : لما خلق الله سبحانه وتعالى أبان فضله للملائكة وأراهم ما اختصه به من سابق العلم من حيث علمه عند استنبائه إياه أسماء الأشياء فجعل الله سبحانه وتعالى آدم محراباً وكعبة وباباً وقبلة ، أسجد له الأبرار والروحانيين الأنوار ، ثم نبه آدم على مستودعه وكشف له خطر ما ائتمنه عليه بعد أن سماه عند الملائكة إماماً ، فكان تنبيهه على خطر أمانته ثمرة اصطفائه - انتهى { ونوحاً } أباكم الثاني الذي أخرجه من بين أبوين شابين على عادتكم المستمرة فيكم . وقال الحرالي : أنبأ تعالى أنه عطف لنوح عليه الصلاة والسلام اصطفاء على اصطفاء آدم ترقياً إلى كمال الوجود الآدمي وتعالياً إلى الوجود الروحي العيسوي ، فاصطفى نوحاً عليه الصلاة والسلام بما جعله أول رسول بتوحيده من حيث دحض الشرك وأقام كلمة الإيمان بقول « لا إله إلا الله » ، لما تقدم بين آدم ونوح من عبادة الأصنام والأوثان ، فكان هذا الاصطفاء اصطفاء باطناً لذلك الاصطفاء الظاهر فتأكد الاصطفاء وجرى من أهلكته طامة الطوفان مع نوح عليه الصلاة والسلام من الذر الآدمي مجرى تخليص الصفاوات من خثارتها ، وكما صفي آدم من الكون كله صفي نوحاً عليه السلام وولده الناجين معه من مطرح الخلق الآدمي الكافرين الذين لا يلدون إلا فاجراً كفاراً ، فلم يكن فيهم ولا في مستودع ذراريهم صفاوة تصلح لمزية الإخلاص الذي اختص بصفوته نوح عليه الصلاة والسلام
{ وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } [ الأحزاب : 7 ] فكان ميثاق نوح عليه السلام ما قام به من كلمة التوحيد ورفض الأصنام والطاغوت التي اتخذها الظلمانيون من ذر آدم ، فتصفى بكلمة التوحيد النوارانيون منه ، فكان نوح عليه الصلاة والسلام ومن نجا معه صفوة زمانه ، كما كان آدم صفوة حينه - انتهى .
ولما كان أكثر الأنبياء من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام زاد في تعظيمه بقوله : { وآل إبراهيم } أي الذين أود فيهم الخوارق ولا سيما في إخراج الولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لمثلهما ، وفي ذلك إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مثلهم لأنه أحدهم ، وكذا قوله : { وآل عمران } في قوله : { على العالمين * } إشارة إلى أنه كسائر أقاربه منهم ، وأفصح بذلك إفصاحاً جلياً في قوله : { ذرية بعضها من بعض } أي فهم كلهم من بني آدم ، لا مزية لبعضهم على بعض في ذلك ، لا مزية في شيء من ذلك ، وأنتم لا تشكون فيه من شيء من الخصائص مما دون أمد عيسى عليه الصلاة والسلام ، فما لكم لما خص سبحانه وتعالى آل عمران من بين العالمين بخرق العادة فيهم بإخراج ولد من أنثى فقط من غير ذكر لم تردوا ما لم تعرفوا منه إلى ما تعرفون من الخوارق حتى انجلى لكم واتضح لديكم؟ بل أشكل لعيكم وقامت فيكم قيامتكم بما يفضي إلى الشك في قدرة الإله الذي لا تشكون أن من شك في تمام قدرته كفر .
وقال الحرالي : فإثبات هذه الجملة بتشابه وتماثل تتعالى عن نحوه الإلهية ، فأبان هذا الخطاب في عيسى عليه الصلاة والسلام اصطفاء من جملة هذا الاصطفاء ، فكما لم يقع فيمن سواه لبس من أمر ألإلهية فكذلك ينبغي أن لايقع فيه هو أيضاً لبس لمن يتلقن بيان الإحكام والتشابه من الذي أنزل الكتاب محكماً ومتشابهاً وأظهر الخلق بادياً وملتبساً انتهى . وقد عاد سبحانه وتعالى بهذا الخطاب على أحسن وجه إلى قصة عيسى عليه الصلاة والسلام الذي نزلت هذه الآيات كلها في المجادلة في أمره والإخبار عن حمله وولادته وغير ذلك من صفاته التي يتنزه الإله عنها ، وكراماته التي لا تكون إلا للقرب ، فأخبر أولاً عن حال أمه وأمها وأختها وما اتفق لهن من الخوارق التي تمسك بوقوع مثلها من عيسى عليه السلام من كفر برفعه فوق طوره ، ثم شرع في قص أمره حتى لم يدع فيه لبساً بوجه .
وقال الحرالي : في التعبير عن اصطفاء إبراهيم ومن بعده عليهم الصلاة والسلام في إشعار الخطاب اختصاص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بما هو أخص من هذا الاصطفاء من حيث انتظم في سلكه آله لاختصاصه هو بالخلة التي لم يشركه فيها أهل هذا الاصطفاء ، فاختص نمط هذا الاصطفاء بآله ، وهم - والله سبحانه وتعالى أعلم - إسحاق ويعقوب والعيص عليهم الصلاة والسلام ومن هو منهم من ذريتهم لأن إسماعيل عليه السلام اختص بالوصلة بين إبراهيم الخليل ومحمد الحبيب صلوات الله وسلامه عليهم ، فكان مترقى ما هو لهم من وراء هذا الاصطفاء ، ولأن إنزال هذا الخطاب لخلق عيسى عليه الصلاة والسلام ، وهو من ولد داود عليه الصلاة والسلام فيما يذكر ، وداود من سبط لاوي بن إسرائيل عليهم الصلاة والسلام فيما ينسب ، فلذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - جرى هذا الاصطفاء على آله ، فظهر من مزية هذا الاصطفاء لآله ما كان من اصطفاء موسى عليه السلام بالتكليم وإنزال الكتاب السابق
{ يا موسى إني اصطفيتك على الناس } [ الأعراف : 144 ] فكان هذا الاصطفاء استخلاص صفاوة من صفاوة نوح عليه الصلاة والسلام المستخلصين من صفاوة آدم عليه الصلاة والسلام ، وآل عمران - والله سبحانه وتعالى أعلم - مريم وعيسى عليهما الصلاة والسلام ليقع الاصطفاء في نمط يتصل من آدم إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام ليحوزوا طرفي الكون روحاً وسلالة ، والعالمون علم الله الذي له الملك ، فكما أن الملك لا بد له من علم يعلم به بدوه وظهوره جعل الله ما أبداه من خلقه علماً على ظهور ملكه بين يدي ظهور خلقه في غاية يوم الدين عاماً ، وفي يوم الدنيا لمن شاء من أهل اليقين والعيان خاصاً ، وأعلى معناه بما ظهر في لفظه من الألف الزائدة على لفظ العلم ، فاصطفى سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام على الموجودين في وقته ، وكذلك نوحاً وآل إبراهيم وآل عمران كلاًّ على عالم زمانه ، ومن هو بعد في غيب لم تبد صورته في العالم العياني لم يلحقه بعد عند أهل النظر اسم العالم وأشار سبحانه وتعالى بذكر الذرية من معنى الذرء الذي هو مخصوص بالخلق ليظهر انتظام عيسى عليه الصلاة والسلام في سلك الجميع ذرءاًَ ، وأنه لا يكون مع الذرء لبس الإلهية ، لأن الله سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، فكان نصب لفظ الذرية تكييفاً لهذا الاصطفاء المستخلص على وجه الذر ، وهو الذي يسميه النحاة حالاً - انتهى .
ولما ذكر سبحانه وتعالى هؤلاء الذين اصطفاهم ، وكان مدار أمر الاصطفاء على العلم ، ومدار ما يقال لهم وفيهم مما يكون كفراً أو إيماناً على السمع ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله عاطفاً على ما تقديره : فالله سبحانه وتعالى يفعل بإحاطته ما يريد : { والله } أي المحيط قدرة وعلماً { سميع عليم * } إشارة إلى أنه اصطفاهم على تمام العلم بهم ترغيباً في أحوالهم والاقتداء بأفعالهم وأقوالهم .
ولما كان جل المقصود هنا بيان الكرامات في آل عمران لا سيما في الولادة ، وكان آدم الممثل به عليه الصلاة والسلام قد تقدم بيان أمره في سورة البقرة سورة الكتاب المثمر للعلم ، وكذا بيان كثير مما اصطفى به إبراهيم وآله عليهم الصلاة والسلام إذ كان معظم القصد بالكلام لذريته ، وكان معظم المقصود من ذكر نوح عليه الصلاة والسلام كونه في عمود النسب ، وليس في أمر ولادته ما هو خارج عن العادة قال طاوياً لمن قبل : { إذ } أي اذكر جواباً لمن يجادلك في أمرهم ويسألك عن حالهم حين { قالت امرأة عمران } وهي حامل .
وقال الحرالي : لما اكن من ذكر في الاصطفاء إنما ذكر توطئة لأمر عيسى عليه الصلاة والسلام اختص التفصيل بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام دون سائر من ذكر معه ، وكان في هذه المناظرة بين الصورتين حظ من التكافؤ من حيث ذكر أمر خلق آدم عليه الصلاة والسلام في سورة البقرة ، فذكر خلق المثل المناظر له في السورة المناظرة لسورة البقرة وهي هذه السورة ، فعاد توقيت هذا القول إلى غاية هذا الاصطفاء ، فأنبأ عن ابتداء ما اختص منه بعيسى عليه الصلاة والسلام من قول أم مريم امرأة عمران حين أجرى على لسانها وأخطر بقلبها أن تجعل ما في بطنها نذراً ، ففصل ما به ختم من اصفطاء آل عمران ، ولذلك عرفت أم مريم في هذا الخطاب بأنها امرأة عمران ليلتئم التفصيل بجملته السابقة { رب إني نذرت لك ما في بطني } وكان نذر الولد شائعاً في بني إسرائيل إلا أنه كان عندهم معهوداً في الذكور لصلاحهم لسدانة بيت الله والقيام به ، فأكمل الله سبحانه وتعالى مريم لما كمل له الرجال - كما قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع » فذكر مريم بنت عمران عليها السلام ، فكان من كمالها خروج والدتها عنها ، وكان أصله من الأم التي لها الإشفاق ، فكان خروجها أكمل من خروج الولد لأنها لها في زمن الحمل والرضاع والتربية إلى أن يعقل الولد أباه فحينئذ يترقى إلى حزب أبيه ، ولذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - أري إبراهيم عليه الصلاة والسلاح ذبح ولده عند تمييزه ، وخرجت امرأة عمران عن حملها وهو في بطنها حين ما هو أعلق بها - انتهى . ونذرته لله تعالى حال كونه { محرراً } أي لا اعتراض ولا حكم لأحد من الخلق عليه ، قال الحرالي : والتحرير طلب الحرية ، والحرية رفع اليد عن الشيء من كل وجه ، وفي الإتيان بصيغة التكثير والتكرير إشعار بمضي العزيمة في قطع الولاية عنه بالكلية لتسلم ولايته لله تعالى - انتهى . { فتقبل مني } ولما كان حسن إجابة المهتوف به الملتجأ إليه على حسب إحاطة سمعه وعلمه عللت سؤالها في التقبل بأن قصرت السمع والعلم عليه سبحانه فقالت : { إنك أنت } أي وحدك { السميع العليم * } فقالت كما قال سلفها إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام
{ ربنا تقبل منا } [ البقرة : 127 ] ، أي فلا يسمع أحد قولي مثل سمعك ، ولا يعلم أحد نيتي مثل علمك ولا أنا ، فإن كان فيهما شيء لا يصلح فتجاوز عنه .
ولما أخبر بما اقتضى مضى عزمها قبل الوضع أخبر بتحقيقه بعده فقال : { فلما وضعتها قالت } أي تحسراً ذاكرة وصف الإحسان استمطاراً للامتنان { رب إني وضعتها } قال الحرالي : من الوضع وهو إلقاء الشيء المستثقل { أنثى } هي أدنى زوجي الحيوان المتناكح - انتهى . ولما كان الإخبار عادة إنما هو لمن لا يعلم الخبر بينت أن أمر الله سبحانه وتعالى ليس كذلك ، لأن المقصود بإخباره ليس مضمون الخبر وإنما هو شيء من لوازمه وهنا التحسر فقالت : { والله } أي الذي له صفات الكمال .
ولما كان المراد التعجيب من هذه المولودة بأنها من خوارق العادات عبرت عنها بما فقالت : { أعلم بما وضعت } وعبرت بالاسم الأعظم موضع ضمير الخطاب إشارة إلى السؤال في أن يهبها من كماله ويرزقها من هيبته وجلاله ، وفي قراءة إسكان التاء الذي هو إخبار من الله سبحانه وتعالى عنها - كما قال الحرالي - إلاحة معنى أن مريم عليها الصلاة والسلام وإن كان ظاهرها الأنوثة ففيها حقيقة المعنى الذي ألحقها بالرجال في الكمال ، حتى كانت ممن كمل من النساء لما لا يصل إليه كثير من رجال عالمها ، فكان في إشعاره أن الموضوع كان ظاهره ذكراً وحقيقته أنثى .
ولما كان مقصودها مع إمضاء نذرها بعد تحقق كونها أنثى التحسر على ما فاتها من الأجر في خدمة البيت المقدس بما يقابل فضل قوة الذكر على الأنثى وصلاحيته للخدمة في كل أحواله قالت : { وليس الذكر } أي الذي هو معتاد للنذر وكنت أحب أن تهبه لي لأفوز بمثل أجره في هذا الفرض في قوته وسلامته من العوارض المانعة من المكث في المسجد ومخالطة القومة { كالأنثى } التي وضعتها ، وهي داخلة في عموم النذر بحكم الإطلاق في الضعف وعارض الحيض ونحوه فلا ينقص يا رب أجري بسبب ذلك ، ولو قالت : وليست الأنثى كالذكر ، لفهم أن مرادها أن نذرها لم يشملها فلا حق للمسجد فيها من جهة الخدمة .
قال الحرالي : وفي إشعار هذا القول تفصل مما تتخوفه أن لا يكون ما وضعته كفافاً لنذرها ، لما شهدت من ظاهر أنوثة ما وضعت ، فجعلها الله سبحانه وتعالى لها أكمل مما اشتملت عليه عزيمتها من رتبة الذكورة التي كانت تعهدها ، فكانت مريم عليها السلام أتم من معهود نذرها مزيد فضل من ربها عليها بعد وفاء حقيقة مقصودها في نذرها - انتهى . ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه وتعالى كالحالية التي قبله إذا أسكنت التاء ، والتقدير : قالت كذا والحال أن الله أعلم منها بما وضعت ، والحال أيضاً أنه ليس الذكر الذي أرادته بحكم معتاد النذر كالأنثى التي وهبت لها فدخلت فيه بحكم إطلاقه ، بل هي أعلى ، لأن غاية ما تعرفه من المنذورين أن يكون كأنبيائهم المقررين لحكم التوراة ، وهذه الأنثى مع ما لها من العلو في نفسها ستكون سبباً في السؤال في نبي هو أعظم أنبيائهم ، وتلد صاحب شريعة مستقلة ، ثم يكون مقرراً لأعظم الشرائع .
ولما تم ما قالته عند الوضع او قاله الله في تلك الحالة أتم سبحانه وتعالى الخبر عن بقية كلامها وأنها عدلت عن مظهر الجلالة إلى الخطاب على طريق أهل الحضرة ، وأكدت إعلاماً بشدة رغبتها في مضمون كلامها فقال حاكيا : { وإني سميتها مريم } ومعنى هذا الاسم بلسانهم : العابدة . قال الحرالي : فيه إشعار بأن من جاء بشيء أو قربه فحقه أن يجعل له اسماً ، ورد أن السقط إذا لم يسم يطالب من حقه أن يسميه فيقول : يا رب! أضاعوني ، فكان من تمام أن وضعتها أن تسميها ، فيكون إبداؤها لها وضع عين وإظهار اسم ، لما في وجود الاسم من كمال الوجود في السمع كما هو في العين ، ليقع التقرب والنذر بما هو كامل الوجود عيناً واسماً .
ولما كانت محررة لله سبحانه وتعالى كان حقاً أن يجري الله سبحانه وتعالى إعاذتها قولاً كما هو جاعلها معاذة كوناً من حيث هي له ، وما كان في حمى الملك لا يتطرق إليه طريدة فقالت : { وإني أعيذها بك } وفي قوله : { وذريتها } إشعار بما أوتيته من علم بأنها ذات ذرية ، فكأنها نطقت عن غيب من أمر الله سبحانه وتعالى مما لا يعلمه إلا الله ، فهو معلمه لمن شاء .
ولما كان من في حصن الملك وحرزه بجواره بعيداً ممن أحرقه بنار البعد وأهانه بالرجم حققت الإعاذة بقولها : { من الشيطان الرجيم * } وفي هذا التخليص لمريم عليها السلام بالإعاذة ولذريتها حظ من التخليص المحمدي لما شق صدره ونبذ حظ الشيطان منه وغسل قلبه بالماء والثلج في البداية الكونية ، وبماء زمزم في البداية النبوية عند الانتهاء الكوني ، فلذلك كان لمريم ولذريتها بمحمد صلى الله عليه وسلم اتصال واصل؛ قال صلى الله عليه وسلم : « أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ، من أجل أنه ليس بيني وبينه نبي ، وبما هو حكم أمامه في خاتمة يومه وقائم من قومه دينه » .
ولما أخبر بدعائها أخبر بإجابتها فيه فقال : { فتقبلها } فجاء بصيغة التفعل مطابقة لقولها { فتقبل } ، ففيه إشعار بتدرج وتطور وتكثر ، كأنه يشعر بأنها مزيد لها في كل طور تتطور إليه ، من حيث لم يكن فاقبل مني فلم تكن إجابته { فقبلها } ، فيكون إعطاء واحداً منقطعاً عن التواصل والتتابع ، فلا تزال بركة تحريرها متجدداً لها في نفسها وعائداً بركته على أمها حتى تترقى لى العلو المحمدي فيتكون في أزواجه ومن يتصل به - انتهى .
وجاء بالوصف المشعر بالإحسان مضافاً إليها إبلاغاً في المعنى فقال : { ربها } قال الحرالي : وظهر سر الإجابة في قوله سبحانه وتعالى : { بقبول حسن } حيث لم يكن « بتقبل » - جرياً على الأول .
ولما أنبأ القبول عن معنى ما أوليته باطناً أنبأ الإنبات عما أوليته ظاهراً في جسمانيتها ، وفي ذكر الفعل من « أفعل » في قوله : { وأنبتها } والاسم من « فعل » في قوله : { نباتاً حسناً } إعلام بكمال الأمرين من إمدادها في النمو الذي هو غيب عن العيون وكمالها في ذاتية النبات الذي هو ظاهر للعين ، فكمل في الإنباء والوقوع حسن التأثير وحسن الأثر ، فأعرب عن إنباتها ونباتها معنى حسناً - انتهى . فوقع الجواب لأنها عناية من الله سبحانه وتعالى بها على ما وقع سؤالها فيه ، فلقد ضل وافترى من قذفها وبهتها ، وكفر وغلا من ادعى في ولدها من الإطراء ما ادعى .
وقال الحرالي : وقد أنبأ سبحانه وتعالى في هذه السورة الخاصة بقصة مريم عليها الصلاة والسلام من تقبلها وإنباتها وحسن سيرتها بما نفي اللبس في أمرها وأمر ولدها ، لأن المخصوص بمنزل هذه السورة ما هو في بيان رفع اللبس الذي ضل به النصارى ، فيذكر في كل سورة ما هو الأليق والأولى بمخصوص منزلها ، فلذلك ينقص الخطاب في القصة الواحدة في سورة ما يستوفيه في سورة أخرى لاختلاف مخصوص منزلها ، كذلك الحال في القصص المتكررة في القرآن من قصص الأنبياء وما ذكر فيه لمقصد الترغيب والتثبيت والتحذير وغير ذلك من وجوه التنبيه - انتهى ، وفيه تصرف .
ولما كان الصغير لا بد له فيما جرت به العادة من كبير يتولى أمره قال : { وكفلها } قال الحرالي : من الكفل وهو حياطة الشيء من جميع جهاته حتى يصير عليه كالفلك الدائر { زكريا } وفي قراءة التشديد إنباء بأن الله سبحانه وتعالى هو في الحقيقة كفيلها بما هو تقبلها ، وفي استخلاص لزكريا من حيث جعله يد وكالة له فيها - انتهى .
ولما كان من شأن الكفيل القيام بما يعجز عنه المكفول بين سبحانه وتعالى أن تلك الكفالة إنما كانت جرياً على العوائد وأنه تبين أن تقبل الله لها أغناها عن سواه فقال في جواب من لعله يقول : ما فعل في كفالتها؟ : { كلما } أي كان كلما { دخل عليها زكريا المحراب } أي موضع العبادة . وقال الحرالي : هو صدر البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل منه وقوة وجهد حرب { وجد عندها رزقاً } وذلك كما وجد عند خبيب بن عدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه قطف العنب - كما سيأتي في آخر المائدة ، ومثل ذلك كثير في هذه الأمة ، وفي هذه العبارة أي من أولها إلاحة لمعنى حسن كفالته وأنه كان يتفقدها عند تقدير حاجتها إلى الطعام بما تفيده كلمة { كلما } من التكرار ، فيجد الكفيل الحق قد عاجلها برزق من غيب بما هو سبحانه وتعالى المتولي لإنباتها ليكون نباتها من غيب رزقه فتصلح لنفخ روحه ومستودع كلمته ، ولا يلحقها بعد الإعاذة ما فيه مس من الشيطان الرجيم الذي أعاذها الله سبحانه وتعالى منه بكثرة الاختلاط في موجودات الأرزاق ، فكان من حفظها أن تولى الله سبحانه وتعالى أرزاقها من غيب إلا ما يطيبه من باد ، وليكون حسن نباتها من أحسن رزق الله سبحانه وتعالى كما يقال : من غذي بطعام قوم غذي بقلوبهم ومن غذي بقلوبهم آل إلى منقلبهم ، وكانت هي مثل ما كفلها كافلها ظاهراً كفلته باطناً حين أبدى الله سبحانه وتعالى له من أمره ما لم يكن قبل بداً له ، فكان لمريم عليها الصلاة والسلام توطئة في رزقها لما يكون كماله في حملها فيكون رزقها بالكلمة ابتداء ليكون حملها بالكلمة ، فعند ذلك طلب زكريا عليه السلام نحو ما عاين لها من أن يرزقه الولد في غير إبّانه كما رزق مريم الرزق في غير أوانه ، وفي تعيين محلها بالمحراب ما يليح معنى ما ذكر من رجوليتها باطناً من حيث إن محل النساء أن يتأخرن فأبدى الله سبحانه وتعالى في محلها ذكر المحراب إشارة بكمالها ، والمحراب صدر البيت المتخذ للعبادة ، ويف لزومها لمحرابها في وقت تناول الرزق إعلام بأن الحبيس والمعتكف بيته محرابه ومحرابه بيته ، بخلاف من له متسع في الأرض ومحل من غير بيت الله ، إنما المساجد بيوت أهل الله المنقطعين إليه ، فهو محلهم في صلاتهم ومحلهم في تناول أرزاقهم ، ففيه إشعار بحضورها ، وحضور أهل العكوف حضور سواء في صلاتهم وطعامهم ، ولذلك أنمى حال العبد عند ربه بما هو عليه في حال تناول طعامه وشرابه ، فأهل الله سواء محياهم ومماتهم وأكلهم وصلاتهم ، من غفل عند طعامه قلبه لم يستطع أن يحضر في صلاته قلبه ، ومن حضر عند طعامه قلبه لم يغب في صلاته قلبه ، وفي ذكر الرزق شائعاً إشعار بأنها أنواع من أرزاق من حيث إنه لو اختص يخص به ما هو أخص من هذا الاسم - انتهى .
ولما كان كأنه قيل : فما كان يقول لها إذا رأى ذلك؟ قيل : كان كلما وجد ذلك ، أو : لما تكرر وجدانه لذلك { قال يا مريم أنّى } أي من أين { لك هذا } قال الحرالي : كلمة أنى تشعر باستغرابه وجود ذلك الرزق من وجوه مختلفة : من جهة الزمان أنه ليس زمانه ، ومن جهة المكان أنه ليس مكانه ، ومن جهة الكيف ووصوله إليها أنه ليس حاله ، وفي ذكر الضمير في قوله : { قالت هو من عند الله } إيذان بنظرها إلى مجموع حقيقة ذلك الرزق لا إلى أعيانه ، فهو إنباء عن رؤية قلب ، لا عن نظر عين لأن هو كلمة إضمار جامعة لكل ما تفصلت صورة مما اتحد مضمره ، ولما لم يكن من معهود ما أظهرته حكمته سبحانه مما يجريه على معالجات أيدي الخلق قالت { من عند الله } ذي الجلال والإكرام ، لأن ما خرج من معهود معالجة الحكمة فهو من عنده ، وما كان مستغرباً فيما هو من عنده فهو من لدنه ، فهي ثلاث رتب : رتبة لدنية ، ورتبة عندية ، ورتبة حكمية عادية؛ فكان هذا وسط الثلاث - كما قال تعالى :
{ آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنه علماً } [ الكهف : 65 ] حيث كان مستغرباً عند أهل الخصوص كما قال : { أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً } [ الكهف : 71 ] والإمر العجب ، ولعلو رتبته عن الرتبة العادية جرى النبأ عنه مضافاً إلى الاسم العظيم الذي هو مسمى الأسماء كلها من حيث لم يكن { من عند ربي } لما في ذكر اسم الربوبية من إشعار بمادة أو قريب منها أو ما كان من نحوها كما قال { هذا من فضل ربي } [ النمل : 40 ] لما كان من عادته المكنة على الملوك ، وكان ممكناً فيما أحاط به موجود الأركان الأربعة - انتهى .
ولما أخبرت بخرقه سبحانه وتعالى لها العادة عللت ذلك بقولها مؤكدة تنبيهاً على أن ذلك ليس في قدرة ملوك الدنيا : { إن الله } أي الذي له الإحاطة الكلية . قال الحرالي : في تجديد الاسم العظيم في النبأ إشعار باتساع النبأ وإيذان وإلاحة بأن ذلك يكون لك ولمن شاء الله كما هو لي بما شاء الله ، من حيث لم يكن أنه فيكون مليحاً لاختصاص ما بها ، ويؤيده عموم قولها : { يرزق من يشاء } وقولها : { بغير حساب * } يشعر بأنه عطاء متصل ، فلا يتحدد ولا يتعدد ، فهو رزق لا متعقب عليه ، لأن كل محسوب في الإبداء محاسب عليه في الإعادة ، فكان في الرزق بغير حساب من علاج الحكمة بشرى برفع الحساب عنهم في المعاد وكفالة بالشكر عنه ، لأن أعظم الشكر لرزق الله سبحانه وتعالى معرفة العبد بأنه من الله تعالى ، إنما يشكر رزق الله من أخذه من الله سبحانه وتعالى - انتهى .
ولما كان كأنه قيل : فما قال زكريا حينئذ؟ قيل : { هنالك } أي في ذلك الوقت وذلك المكان العظيمي المقدار { دعا زكريا ربه } تذكراً لما عودهم الله سبحانه وتعالى به من الإكرام ، فظهرت عليه كرامات هذه الكفالة ، قال الحرالي : لما أشهده الله سبحانه وتعالى أنه يخرق عادته لمن شاء بكلمته في حق كفيلته في الظاهر ، الكافلة له في هذا المعنى ، دعا ربه الذي عوده بالإحسان أن يرزقه ولداً في غير إبانه كما رزق مريم رزقاً في غير زمانه فوجب دعاؤه - انتهى . { قال رب } أي الذي عودني بإحسانه { هب لي من لدنك } قال الحرالي : طلب عليه من باطن الأمر كما قال سبحانه وتعالى :
{ وعلمناه من لدنا علماً } [ الكهف : 65 ] ، وكما قال فيه { وحناناً من لدنا } [ مريم : 13 ] ، لأن كل ما كان من لدن فهو أبطن من عند { ذرية } فيه إشعار بكثرة ونسل باق ، فأجيب بولد فرد لما كان زمان انتهاء في ظهور كلمة الروح وبأنه لا ينسل فكان يحيي حصوراً لغلبة الروحانية على إنسانيته - انتهى . { طيبة } أي مطيعة لك لأن ذلك طلبة أهل الخصوص ، ثم علل إدلاله على المقام الأعظم بالسؤال بقوله : { إنك سميع الدعاء } أي مريده ومجيبه لأن من شأن من يسمع - ولم يمنع - أن يجب إذا كان قادراً كاملاً ، وقد ثبتت القدرة بالربوبية الكاملة التي لا تحصل إلا من الحي القيوم ، بخلاف الأصنام ونحوها مما عبد فإنها لا تسمع ، ولو سمعت لم تقدر على الإجابة إلى ما تسأل فيه لأنها مربوبة . قال الحرالي : أعلم الداعي بما لله سبحانه وتعالى من الإجاة ، والقرب « وسيلة في قبول » دعائه - انتهى .
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
ولما كان الله سبحانه وتعالى عند ظن عبده به سمع دعاءه كما قال { فنادته } أي فتسبب عن دعائه وحسن رجائه أن نادته { الملائكة } يعني هذا النوع ، لا كلهم بل ناداه البعض ، وكان متهيئاً بما آتاه الله سبحانه وتعالى من المفضل لمناداة الكل ، كما هو شأن أهل الكمال من الرسل { وهو قائم يصلي في المحراب } وهو موضع محاربة العابد للشيطان ، وهو أشرف الأماكن لذلك . قال الحرالي : فيه إشعار بسرعة إجابته ولزومه معتكفه وقنوته في قيامه وأن الغالب على صلاته القيام لأن الصلاة قيام ، وسجود يقابله ، وركوع متوسط ، فذكرت صلاته بالقيام إشعاراً بأن حكم القيام غالب عليها - انتهى . ثم استأنف في قراءة حمزة وابن عامر بالكسر لجواب من كأنه قال : بأي شيء نادته الملائكة؟ قوله : { أن الله يبشرك } قال الحرالي : فذكر الاسم الأعظم المحيط معناه بجميع معاني الأسماء ، ولم يقل إن ربك لما كان أمر إجابته من وراء الحكمة العادية؛ وفي قوله : { بيحيى } مسمى بصيغة الدوام - مع أنه كما قيل : قتل - إشعار بوفاء حقيقة الروحانية الحياتية فيه دائماً ، لا يطرقه طارق موت الظاهر حيث قتل شهيداً - انتهى . { مصدقاً بكلمة } أي نبي خلق بالكلمة لا بالمعالجة العادية ، يرسله الله سبحانه وتعالى إلى عباده فيكذبه أكثرهم ويصدقه هو ، وإطلاق الكلمة عليه من إطلاق السبب على المسبب .
قال الحرالي : فكان عيسى عليه الصلاة والسلام كلمة الله سبحانه وتعالى ، ويحيى مصدقه بما هو منه كمال كلمته حتى أنهما في سماء واحدة ، ففي قوله : { من الله } إشعار بإحاطته في ذات الكلمة - انتهى . { وسيداً وحصوراً } أي فلا يتزين بزينة لأنه بالغ الحبس لنفسه والتضييق لعيها في المنع من النكاح . قال في القاموس : والحصور من لا يأتي النساء وهو قادر على ذلك ، أو الممنوع منهن ، أو من لا يشتهيهن ولا يقربهن ، والمجبوب - والهَيوب المحجم عن الشيء . وقال الحرالي : وهو من الحصر وهو المنع عما شأن الشيء أن يكون مستعملاً فيه - انتهى { ونبياً } ولما كان النبي لا يكون إلا صالحاً لم يعطف بل قال : { من الصالحين * } إعلاماً بمزية رتبة الصلاح واحترازاً من المتنبيين ، فكأنه قيل : فما قال حين أجابه ربه سبحانه وتعالى؟ فقيل : { قال } يستثبت بذلك ما يزيده طمأنينة ويقيناً وسكينة { رب } أي أيها المحسن إلي .
ولما كان مطلوبه ولداً يقوم مقامه فيما هو فيه من النبوة التي لا يطيقها إلا الذكور الأقويا الكلمة ، وكانت العادة قاضية بأن ولد الشيخ يكون ضعيفاً لا سيما إن كان حرثه مع الطعن في السن في أصله غير قابل للزرع أحب أن يصرح له بمطلوبه فقال : { أنّى } أي كيف ومن أين { يكون لي } وعبر بما تدور مادته على الغلبة والقوة زيادة في الكشف فقال : { غلام } وفي تعبيره به في سياق الحصور دليل على أنه في غاية ما يكون من صحة الجسم وقوته اللازم منه شدة الداعية إلى النكاح ، وهو مع ذلك يمنع نفسه منه منعاً زائداً على الحد ، لما عنده من غلبة لاشهود اللازم منه الإقبال على العبادة بكليته والإعراض عن كل ما يشغل عنها جملة لا سيما النكاح ، بحيث يظن أنه لا إرب له فيه ، وهذا الموافق للتعبير الأول للحصور في القاموس ، وهو الذي ينبغي ألا يعرج على غيره لأنه بناء مبالغة من متعد ، ولأنه أمدح له صلى الله عليه وسلم ، ومهما دار الشيء على صفة الكمال في الأنبياء عليهم السلام وجب أن لا يعدل عنه ، وما ورد - كما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة مريم عليها السلام - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« ذكره مثل هذه القذاة » فقد ضعفوه ، وعلى تقدير صحته فيكون ذلك إخباراً عن أنه لما أعرض عنه رأساً ضعف ما معه لذلك ، فهو إخبار عن آخر أمره الذي أدت إليه عزيمته ، والآية مشيرة إلى ما اقتضته خلقته وغريزته وإن كان الجمع لكمال الوجود الإنساني بالنكاح أكمل كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم ويقع لعيسى عليه السلام بعد نزوله { وقد } أي والحال أنه قد { بلغني الكبر } إلى حد لا يولد فيه عادة { وامرأتى عاقر } قال الحرالي : من العقر وهو البلوغ إلى حد انقطاع النسل هرماً - انتهى؛ كذا قال ، وآية سورة مريم تدل على أن المعنى أنها لم تزل عقيماً ، وعليه يدل كلام أهل اللغة ، قال في القاموس في الراء : العقرة وتضم : العقم ، وقد عُقرت كعُنى فهي عاقر ، ورجل عاقر وعقير : لا يولد له ولد ، والعُقَرة كهمزة : خرزة تحملها المرأة لئلا تلد ، وقال في الميم : العقم بالضم : هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد ، عقمت كفرح ونصر وكرم وعُنى ، ورحم عقيم وامرأة عقيم ورجل عقيم : لا يولد له ، وقال الإمامان أبو عبد الله القزاز في ديوانه وعبد الحق في واعيه : والعقر بضم العين وسكون القاف مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر ، يقال : الإمام أبو غالب « ابن التياني » في كتابه الموعب صاحب [ تلقيح ] العين : العقر مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر ، لكن خلقة ، ثم قال وتعقرت : إذا ولدت ثم أمسكت - والله الموفق .
ثم وصل به قوله : { قال كذلك } أي مثل هذا الفعل الجليل البعيد الرتبة . ولما كان استنباؤه عن القوة والكمال لا عن الخلق عبر سبحانه في تعليل ذلك بالفعل بخلاف ما يأتي في قصة مريم عليها السلام فقال : { الله يفعل ما يشاء * } لأنه المحيط بكل شيء قدرة وعلماً فكأنه قيل : قد قرت عينه فا قال؟ قيل { قال } إرادة تعجيل البشرى وتحقيق السراء : { رب اجعل لي آية } أي علامة أعلم بها ذلك { قال آيتك ألا تكلم الناس } أي لا تقدر على أن تكلمهم بكلام دنيوي { ثلاثة أيام } .
ولما كان الكلام يطلق على الفعل مجازاً استثنى منه قوله : { إلا رمزاً } لتخلص هذه المدة للذكر شكراً على النعمة فاحمد ربك على ذلك . قال الحرالي : والرمز تلطف في الإفهام بإشارة تحرك طرف كاليد واللحظ والشفتين ونحوها ، والغمز أشد منه باليد ونحوها - انتهى . فعدم الكلام مع صحة آلته دليل إيجاد المتكلم مع ضعف آلته إلى حد لا يتكون عنها عادة ، ولما كان الأتم في القدرة أن يحبس عن كلام دون آخر قال : { واذكر ربك } أي بالحمد وهو أن تثبت له الإحاطة بكل كمال { كثيراًً } في الأيام التي منعت فيها من كلام الناس خصوصاً ، وفي سائر أوقاتك عموماً { وسبح } أي أوقع التسبيح لمطلق الخليل ربك بأن تنفي عنه كل نقص { بالعشي } وقال الحرالي : من العشو وأصل معناه : إيقاد نار على علم لمقصد هدى أو قرى ومأوى على حال وهن ، فسمي به عشي النهار لأنه وقت فعل ذلك ، ويتأكد معناه في العشاء ، ومنه سمي الطعام : العشاء { والإبكار * } وأصله المبادرة لأول الشيء ، ومنه التبكير وهو السرعة ، والباكورة وهو أول ما يبدو من الثمر ، فالإبكار اقتطاف زهرة النهار وهو أوله - انتهى .
ولما فرغ مما للكافل بعد ما نوه بأمر المكفولة بياناً لاستجابة الدعاء من أمها لها أعاد الإشارة بذكرها والإعلام بعلي قدرها فقال عاطفاً على ما تقديره : هذا ما للكافل فاذكره لهم فإنهم لا يشكون معه في نبوتك : { و } اذكر { إذ قالت الملائكة } وعبر بالجمع والمراد جبريل وحده عليه الصلاة والسلام كما في سورة مريم عليها السلام لتهيئها لخطاب كل منهم كما مضى { يا مريم إن الله } أي الذي له الأمر كله { اصطفاك } أي اختارك في نفسك ، لا بالنظر إلى شيء آخر عما يشين بعض من هو في نفسه خيار { وطهرك } أي عن كل دنس { واصطفاك } أي اصطفاء خاصاً { على نساء العالمين * } فمن هذا الاصطفاء والله سبحانه وتعالى أعلم كما قال الحرالي : أن خلصت من الاصطفاء الأول العبراني إلى اصطفاء على عربي حتى أنكحت من محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي؛ قال صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها : « أما شعرت أن الله سبحانه وتعالى زوجني معك مريم بنت عمران » - انتهى .
ولما أخبرها سبحانه وتعالى بما اختصها به أمرها بالشكر فقال : { يا مريم اقنتي } أي أخلصي أفعالك للعبادة { لربك } الذي عودك الإحسان بأن رباك هذه التربية .
ولما قدم الإخلاص الذي هو روح العبادة أتبعه أشرفها فقال : { واسجدي } فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . قال الحرالي : وكان من اختصاص هذا الاصطفاء العلي - أي الثاني - ما اختصها من الخطاب بالركوع الذي لحقت به بهذه الأمة الراكعة التي أطلعها الله سبحانه وتعالى من سر عظمته التي هي إزاره على ما لم يطلع عليه أحداً ممن سواها في قوله : { واركعي مع الراكعين * } كما قال لبني إسرائيل عند الأمر بالملة المحمدية { واركعوا مع الراكعين } [ البقرة : 43 ] - إلى ما يقع من كمال ما بشرت به حيث يكلم الناس كهلاً في خاتمة اليوم المحمدي ، ويكمل له الوجود الإنساني حيث يتزوج ويولد له - كما ذكر ، ولك كله فيما يشعر به ميم التمام في ابتداء الاسم وانتهائه ، وفيما بين التمامين من كريم التربية لها ما يشعر به الراء من تولي الحق لها في تربيتها ورزقها ، وما تشعر به الياء من كمالها الذي اختصت على عالمها - انتهى .
والمراد باتباع قصتها لما مضى التنبيه على انخراطها في سلك ما مضى من أمر آدم ويحيى إفصاحاً ، وإبراهيم في ابنية إلاحة في خرق العادة فيهم ، وأن تخصيصها بالإنكار أو التعجب والتنازع مع الإقرار بأمرهم ليس من أفعال العقلاء؛ والظاهر أن المراد بالسجود في هذا المقام ظاهره وبالركوع الصلاة نفسها ، فكأنه قيل : واسجدي مصلية ولتكن صلاتك مع المصلين أي في جماعة ، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال ، ولم يقل : مع الراكعات ، لأن الاقتداء بالرجال أفضل وأشرف وأكمل ، وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة فلم أره ذكر فيها الركوع في صلاة إبراهيم عليه السلام ولا من بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أتباعهم إلا في موضع واحد لا يحسن جعله فيه على ظاهره ، ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء : الأول إطلاق لفظها من غير بيان كيفية ، والثاني إطلاق لفظ السجود مجرداً ، والثالث إطلاقه مقروناً بركوع أو جثو أو خرور على الوجه ونحو ذلك؛ ففي السفر الأول منها في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ماتت زوجته سارة رضي الله تعالى وسأل بني حاث أهل تلك الأرض أن يعطوه مكاناً يدفنها فيه فأجابوه : فقام إبراهيم فسجد لشعب الأرض بني حاث وكلمهم؛ وفيه في قصة ربانية قال : وسجد على الأرض وقال : يا رب - فذكر دعاء ثم قال : وصلى إبراهيم بين يدي الرب؛ وفيه في قصة عبد لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه ذهب إلى بلاد حران يخطب لإسحاق عليه السلام امرأة فظفر بقصده : فجثا الرجل - أي عبد إبراهيم - على الأرض فسجد للرب وقال : تبارك الله رب سيدي إبراهيم؛ وفيه لما أجابه أهل المرأة : فلما سمع غلام إبراهيم كلامهم سجد على الأرض قدام المرأة ، وفيه عند لقاء عيصو لآخيه يعقوب عليه الصلاة والسلام : فدنت الأمان وأولادهما فسجدوا - أي لعيصوا ، ودنت ليا وولدها فسجدوا؛ فلما كان أخيراً دنت راحيل ويوسف فسجدوا؛ وفيه في قصة يوسف عليه السلام : ودنا إخوته فخروا له سجداً وقالوا له : ها نحن لك عبيد؛ وفي السفر الثاني عند قدوم موسى عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيل وإخباره لهم بإرسال الله سبحانه وتعالى له وإظهاره لهم الآيات : فآمن الشعب وسمعوا أن الرب قد ذكر بني إسرائيل وأبصر إلى خضوعهم وجثا الشعب وسجدوا للرب؛ وفيه في خروجهم من مصر : فركع الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى؛ وفيه : فاستعجل موسى فخر على وجهه على الأرض ساجداً؛ وفيه في تلقي موسى عليه السلام لختنه شعيب عليهما السلام إذ جاءه يهنئه بما أنعم الله عليه بعد غرق فرعون : فخرج موسى يتلقى ختنه وسجد له وقبله وسأل كل منهما عن سلامة صاحبه؛ وفيه : وقال الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام عند ما بشره بقتل الكنعانيين وغيرهم من سكان بلاد القدس : لا تسجدوا لآلهتهم ولا تعبدوها ولا تفعلوا كأفعالهم - بل كبهم كباً على وجوههم وكسر أصنامهم - واعبدوا الرب إلهكم ، وفي أوائل السفر الثالث في ذكر ظهور مجد الرب لهم في قبة الزمان التي كانوا يصلون إليها على حياة موسى عليه الصلاة والسلام : وعاين ذلك جميع الشعب وحمدوا الله سبحانه وتعالى وخر الشعب كله على وجهه ، وفي الرابع عندما هم بنو إسرائيل بالرجوع إلى مصر تضجراً من حالهم : فخر موسى وهارون عليهما السلام على وجوههما ساجدين بين يدي جماعة بني إسرائيل كلها؛ وفيه : وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما : تنحيا عن هذه الجماعة لأني مهلكها ، فخرا ساجدين على وجوههما؛ وفيه عندما تذمروا عليه من أجل العطش : فجاء موسى وهارون من عند الجماعة إلى باب قبة الزمان فخرا على وجوههما فظهر لهما مجد الرب - فذكر قصة ضرب الحجر بالعصا وانفجار الماء؛ وفيه في قصة بلعام بن باعور حين رأى ملكاً في طريقه فجثا على وجهه ساجداً .
وأما إطلاق لفظ الصلاة فقال في آخر لاسفر الثاني : وكان إذا خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى قبة الزمان كان جميع الشعب يقفون ويستعد كل امرىء منهم على باب خيمته ، وينظرون إلى موسى عليه الصلاة والسلام من خلفه حتى يدخل إلى القبة ، وإذا دخل موسى القبة كان ينزل عمود السحاب فيقف على باب القبة ، ويكلم موسى وكان جميع الشعب ينظرون إلى عمود السحاب واقفاً على باب القبة وكان يقف جميع الشعب ويصلي كل امرىء منهم على باب خيمته؛ وفيه : وعمل سطلاً من نحاس فنصبه عند منظر النسوة اللاتي يأتين فيصلين على باب قبة الأمد .
وكل ما فيها من ذكر الصلاة فهكذا يطلق لفظه غير مقرون بما يرشد إلى كيفية ، فلا فائدة في سرده؛ وهذا القبة أمر الله سبحانه وتعالى موسى عليه الصلاة والسلام باتخاذها مظهر المجد وأن يجعلها كهيئة الغمام الذي ظهر له مجده تعالى فيه في جبل طور سيناء ، وهي من غرائب الدهر في الارتفاع والسعة والهيئة ، ففيها من الخشب والبيوت والتوابيت والأعمدة والجواهر وصفائح الذهب والفضة والنحاس والسرداقات والستور من الحرير والأرجوان والكتاب والأطناب وغير ذلك مما يكل عنه الوصف ، وكله بنص نم الله سبحانه وتعالى على الطول والعرض والوزن والمحل بحيث إنه كان فيها من صفائح الذهب ومساميره ونحوها تسعة وعشرون قنطاراً وأربعمائة وثلاثون مثقالاً بمثقال القدس ، ومن الفضة مائة قنطار وألف وسبعمائة وسبعون مثقالاً ، ومن النحاس سبعون قنطاراً وألفان وأربعمائة مثقال؛ وكانت هذه القبة تنصب في مكان من الأرض وينزل بنو لاوي سبط موسى عليه الصلاة والسلام وهارون حولها يخدمونها بين يدي هارون عليه الصلاة والسلام وبنيه ، ومن دنا منها من غيرهم احترق ، وينزل أسباط بني إسرائيل حول بني لاوي ، لكل سبط منزلة لا يتعداها من شرقها وغربها وجنوبها وشمالها ، كل ذلك بأمر من الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام؛ وكان السحاب يغشاها بالنهار ، وكان النار تضيء عليها بالليل وتزهر ، فما دام السحاب مجللاً لها فهم مقيمون ، فإذا ارتفع عنها كان إذناً في سفرهم .
فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود ، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك حينئذٍ يسمى صلاة ، وإلاّ كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم ، وذلك موافق للغة ، قال في القاموس : سجد : خضع؛ والخضوع التطأمن ، وأما المكان الذي فيه ذكر الركوع فالظاهر أن معناه : فصلى الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى ، لأن الركوع في اللغة يطلق على معان منها الصلاة ، يقال : ركع - أي صلى ، وركع - إذا انحنى كبواً ، والراكع من يكبو على وجهه ، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره ، لأنه لا يمكن في حال السجود ، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن بأولى مما ذكرته في الركوع - والله سبحانه وتعالى أعلم ، واحتججت باللغة لأن مترجم النسخة التي وقعت لي في عداد البلغاء ، يعرف ذلك من تأمل مواقع ترجمته لها ، على أني سألت عن صلاة اليهود الآن فأخبرت أنه ليس فيها ركوع ، ثم رأيت البغوي صرح في تفسير قوله سبحانه وتعالى : { واركعوا مع الراكعين } [ البقرة : 43 ] بأن صلاتهم لا ركوع فيها ، وكذا بان عطية وغيرهما .
ولما كان المقصود من ذكر هذه الآيات بيان الخوارق التي كانت لآل عمران من زكريا ويحيى وعيسى وأمه عليهم الصلاة والسلام للمجادلة بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، وبيان أن ما أشكل عليهم من أمره ليس خارجاً عن إشكال الخوارق في آله ، وكان الرد على كل طائفة بما تعتقد أولى وجب ذكر ذلك من الأناجيل الأربعة الموجودة الآن بين أظهر النصارى : ذكر قصة يحيى عليه الصلاة والسلام في حمله وولادته ونبوته وما اتفق في ذلك من الخوارق من الأناجيل وقد مزجت بي ألفاظها فجعلتها شيئاً واحداً على وجه ألم بعضه بأول أمر المسيح عليه الصلاة والسلام؛ قال مترجمها في أول إنجيل لوقا : كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن ، أي حبر إمام ، اسمه زكريا من خدمة آل أبيا ، وامرأته من بنات هارون واسمها اليصابات ، وكانا كلاهما تقيين قدام الله سائرين ي جميع وصاياه وحقوق الرب بغير عيب ، ولم يكن لهما ولد لأن اليصابات كانت عاقراً ، وكانا كلاهما قد طعنا في أيامهما ، فبينما هو يكهن في أيام ترتيب خدمته أمام الله كعادة الكهنوت إذ بلغته نوبة وضع البخور فجاء ليبخر ، فدخل إلى هيكل الله وجميع الشعب يصلون خارجاً في وقت البخور ، فتراءى له ملاك الرب قائماً عن يمين مذبح البخور ، فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف فقال له الملاك : لا تخف يا زكريا! قد سمعت طلبتك ، وأمرأتك اليصابات تلد ابناً ، ويدعي اسمه يوحنا ، ويكون لك فرح وتهلل ، وكثير يفرحون بمولده ، يوكون عظيماً قدام الرب ، لا يشرب خمراً ولا سكراً ، ويمتلىء من روح القدس وهو في بطن أمه ، ويعيد كثيراً من بني إسرائيل إلى إلههم ، وهو يتقدم أمامه بالروح وبقوة ألياء ، ويقبل بقلوب الآباء على الأبناء والعصاة إلى علم الأبرار ، ويُعد للرب شعباً مستقيماً ، فقال زكريا للملاك : كيف أعلم هذا وأنا شيخ وامرأتي قد طعنت في أيامها؟ فأجاب الملاك وقال : أنا جبريل الواقف قدام الله ، أرسلت أكلمك بهذا وأبشرك ، ومن الآن تكون صامتاً ، لا تستطيع أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون هذا .
وكان الشعب منتظرين زكريا متعجبين من إبطائه في الهيكل ، فلما خرج لم يقدر يكلمهم ، فعلموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل ، فكان يشير إليهم ، وأقام صامتاً ، فلما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته ، ومن بعد تلك الأيام حملت اليصابات امرأته ، وكتمت حملها خمسة أشهر قائلة : هذا ما صنع بي الرب في الأيام التي نظر إليّ فيها لينزع عني العار بين الناس ، ولما كانت في الشهر السادس أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام الملاك من عند الله سبحانه وتعالى إلى مدينة في الجليل تسمى ناصرة إلى عذراء خطيبة لرجل اسمه يوسف من بيت داود ، واسم العذراء مريم ، فلما دخل إليها الملاك قال لها : افرحي يا ممتلئة نعمة الرب معك! مباركة أنت في النساء ، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت قائلة ما هذا السلام؟ فقال لها الملاك : لا تخافي يا مريم! فقد ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً ، ويدعى اسمه يسوع ، هذا يكون عظيماً ، وابن العذراء يدعى ، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ، ولا يكون لملكه انقضاء ، فقالت مريم للملاك : كيف يكون هذا ولا أعرف رجلاً؟ فأجاب الملاك وقال لها : روح القدس يحل عليك وقوة العلي تقبلك ، فإنه ليس عند الله سبحانه وتعالى أمر عسير ، فقالت مريم : هانذا عبدة الرب فيكون فيّ كقولك ، وانصرف عنها الملاك ، فقامت مريم في تلك الأيام ومضت مسرعة إلى عين كرم إلى مدينة يهودا ، ودخلت إلى بيت زكريا فسلمت على اليصابات ، فلما سمعت اليصابات صوت سلام مريم تحرك الطفل في بطنها ، فامتلأت اليصابات من روح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت : مباركة أنت في النساء! ومباركة ثمرة بطنك! من أين لي هذا أن يأتي أمر ربي إليّ ، منذ وقع صوت سلامك في أذني تحرك الطفل بتهليل في بطني ، فطوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل من الرب! فقالت مريم : تعظم نفسي بالرب ويتهلل روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى تواضع عبدته ، وقدوس اسمه ، ورحمته لخائفيه ، صنع القوة بذراعه وفرق المستكبرين بفكر قلوبهم ، أنزل القادرين عن الكراسي ورفع المتواضعين ، أشبع الجياع من الخيرات ، فأقامت مريم عليها السلام عندها نحواً من ثلاثة أشهر وعادت إلى بيتها .
ولما تم زمان اليصابات لتلد ولدت ابناً ، فسمع جيرانها وأقاربها أن الرب قد أعظم رحمته معها ، ففرحوا لها ، فلما كانت في اليوم الثامن جاؤوا ليختنوا الصبي ودعوه باسم أبيه زكريا فأجاب أمه قائلة : لا ولكن ادعوه يوحنا ، فقالوا لها : ليس أحد في جنسك يدعى بهذا الاسم ، فأشاروا إلى أبيه : ما تريد أن تسميه؟ فاستدعى لوحاً وكتب قائلاً : يوحنا ، فتعجب جميعهم ، وانفتح فوه قائلاً من ساعته ولسانه ، وتكلم وبارك ، ووقع خوف عظيم على جميع جيرانهم ، وتُحدث بهذا الكلام في جميع تخوم يهودا ، وفكر جميع السامعين في قلوبهم قائلين : ماذا ترى يكون من هذا الصبي! ويد الرب كانت معه ، فامتلأ زكريا أبوه من روح القدس وبدأ قائلاً : تبارك الرب إله إسرائيل الذي اطلع وصنع نجاة لشعبه وأقام لنا قرن خلاص من بيت داود فتاه كالذي تكلم على أفواه أنبيائه القديسين من الأبد ، خلاص من أعدائنا ومن يدي كل مبغضاً ، صنع رحمة مع آبائنا ، وذكر عهدة القديس : القسم الذي عهد به لإبراهيم أبينا ليعطينا الخلاص بلا خوف من يدي أعدائنا لنخدمه بالبر والعدل قدامه في كل أيام حياتنا ، وأنت ايها الصبي نبي العلاء تدعى ، وتنطلق قدام وجه الرب لتصلح طريقة ليعطي علم الخلاص لشعبه لمغفرة الخطايا بتحنن ورحمة ، إلهنا الذي افتقدنا شرق من العلو ليضيء للجالس في الظلمة وظلال الموت لتستقيم سبل أرجلنا للسلامة .
فأما الصبي فكان يشب ويتقوى بالروح وأقام في البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل ، وفي سنة خمس عشرة من ولاية طيباريوس قيصر وفيلاطوس النبطي على اليهودية وهيرودس رئيس الجليل ، وفيلفوس أخوه على ربع الصورية وكورة أبطرحيون وأوساسوس رئيس على ربع الإيليا ، وحنان وقيافا رؤساء الكهنة ، حلت كلمة الله سبحانه وتعالى على يوحنا بن زكريا في البرية فجاء إلى كل البلاد المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا - كا هو مكتوب في سفر كلام أشعيا النبي - قائلاً : صوت صارخ في البرية : أعدوا طريق الرب فاصنعوا سبله مستقيمة ، جميع الأودية تمتلىء وجميع الجبال والآكام تتضع ، ويصير الوعر سهلاً والخشنة إلى طريق سهلة ، ويعاين كل ذي جسد خلاص الله سبحانه وتعالى؛ وفي إنجيل متّى : وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية يهودا ويقول : توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات - هذا هو الذي في أشعيا النبي : إذ يقول صوت صارخ ، وقال مرقس : مكتوب في أشعيا النبي : هوذا أنا مرسل ملاكي أمام وجهك ليسهل طريقك قدامك ، ثم استنعى صوت صارخ في البرية : أعدوا طريق الرب وسهلوا سبله ، وكان لباس يوحنا وبر الإبل ، ومنطقته جلداً على حقويه ، وكان طعامه الجراد وعسل البر ، حينئذٍ خرجوا إليه من يروشليم ، وكل اليهودية وجميع كور الأردن ، وكان يعمدهم في نهر الأردن معترفين بخطاياهم؛ وفي مرقس : كان يوحنا يعمد في القفر ويكرز بمعمودية التوبة لغفران الخطايا ، وكان يخرج إليه جميع كور يهودا وكل يروشليم فيعمدهم في نهر الأردن معترفين بخطاياهم فقال للجمع الذين يأتون إليه ويعتمدون منه : يا ثمرة الأفاعي! وفي متى : فلما رأى كثيراً من الفريسيين والزنادقة يأتون إلى معموديته قال لهم : يا أولاد الأفاعي - ثم اتفق هو ولوقا - من دلكم على الهرب من الغضب الآتي؟ اعملوا الآن ثماراً تليق بالتوبة ولا تقولوا في نفوسكم : إن أبانا إبراهيم ، أقول لكم : إن الله سبحانه وتعالى قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم ها هوذا الفأس موضوع على أصول الشجر ، وكل شجرة لا تثمر ثمرة طيبة تقطع وتلقى في النار ، فسأله الجموع ، ماذا نصنع؟ أجاب وقال لهم : من له ثوبان فليعط من ليس له ، ومن له طعام فليصنع مثل ذلك ، فأتى العشارون ليعتمدوا منه فقالوا : ماذا نصنع يا معلم؟ فقال لهم : لا تفعلوا أكثر مما أمرتم به ، وسأله أيضاً الجند قائلين : ماذان نصنع نحن أيضاً؟ فقال لهم : لا تعيبوا أحداً ولا تظلموا أحداً ، واكتفوا بأرزاقكم .
وإن جميع الشعب فكروا في قلوبهم وظنوا أن يوحنا المسيح ، أجابهم يوحنا أجمعين وقال لهم : أما أنا فأعمدكم بالماء للتوبة ، وسيأتي الذي هو أقوى من الذي لا أستحق أن أحل سيور حذائه؛ وقال متى : لا أستحق أن أحمل حذاءه؛ وقال مرقس : وكان يبشر قائلاً : الذي يأتي بعدي أوقى مني ، لست أهلاً - أعني لحل سيور حذائه ، أنا أعمدكم بالماء وهو يعمدكم بروح القدس والنار ، الذي بيده المرفش ، ينقي به الذرة ، ويجمع القمح إلى أهرائه ، ويحرق التبن بناء لا تطفأ ، ولا يخبز الشعب ، ويبشرهم بأشياء كثيرة؛ وفي إنجيل يوحنا : كان إنسان أرسل من الله ، اسمه يوحنا ، جاء للشهادة للنور الذي هو نور الحق الذي يضيء لكل إنسان ، الآتي إلى العالم ، إلى خاصته ، جاء وخاصته لم تقبله ، فأما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً ، والكلمة صارت جسداً ، وحل فينا ، ورأينا مجده مجداً مثل الوحيد الممتلىء نعمة ، وحقاً يوحنا شهد من أجله وصرخ وقال : هذا الذي قلت إنه يأتي بعدي كان قبلي ، لأنه أقدم مني ، ومن امتلائه نحن بأجمعنا أخذنا نعمة من أجل أن الناموس بموسى أعطى ، والنعمة والحق أوحيا بيسوع المسيح الذي لم يره أحد قط ، الابن الوحيد .
هذه شهادة يوحنا إذا أرسل إليه اليهود من يروشليم كهنة ولاويين - أي ناساً من أولاد لاوي - ليسألوه : من أنت ، فاعترف وأقر أني لست المسيح ، فسألوه : فمن ألياء؟ فقال : لست أنا النبي ، قال : كلا! فقالوا له : فمن أنت لنرد الجواب إلى الذين أرسلونا ، ماذا تقول عن نفسك؟ قال : أنا الصوت الصارخ في البرية : سهلوا طريق الرب - كما قال أشعيا النبي . فأما أولئك الذين أرسلوا فكانوا من الفريسيين فقالوا : ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا ألياء ولا النبي؟ أجابهم يوحنا : أنا أعمدكم بالماء ، وفي وسطكم قائم ذاك الذي ليستم تعرفونه ، الذي يأتي بعدي وهو أقوى مني ، وهو قبلى كان ، ذاك الذي لست مستحقاً أن أحل سيور حذائه . هذا كان في بيت عنيا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد . قال لوقا : فأما هيرودس رئيس الربع فكان يوحنا يبكته من أجل هيروديا امرأة أخيه فيلفوس ولأجل الشر الذي كان هيرودس يفعله ، وزاد على ذلك أنه طرح يوحنا في السجن؛ وقال مرقس وقد ذكر آيات أظهرها المسيح : وسمع هيرودس الملك وقال : إن يوحنا المعمدان قام من الأموات ، ومن أجل تلك القوات يعمل ، وقال آخرون : إنه ألياء ، وآخرون : إنه نبي كواحد من الأنبياء ، فلما سمع هيرودس قال : أنا قطعت رأس يوحنا؛ وفي متى : وفي ذلك الزمان سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع فقال لغلمانه : هذا هو يوحنا المعمدان ، وهو قام من الأموات ، من أجل هذه القوات يعمل ، وكان هيرودس قد أمسك يوحنا وشده وجعله في السجن ، وقال مرقس : وحبسه من أجل هيروديا امرأة فيلفوس ، لأنه كان قد تزوجها وقال له يوحنا : ما يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك ، وكانت هيروديا حنقة عليه تريد قتله ، ولم تقتله لأن هيرودس كان يخاف من يوحنا ، لأنه يعلم أنه رجل صديق قديس ويحفظه ويسمع منه كثيراً بشهوة ، وكان في يوم من الزمان وافى هيرودس مولود ، فصنع وليمة لعظمائه ورؤسائه ومقدمي الجليل ، ودخلت ابنة هيروديا فرقصت ، فوافق ذلك هيرودس وجلساءه ، فقال الملك للصبية : سلي ما أردت فأعطيك! وحلف لها أني أعطيك ما سألت ولو كان نصف ملكي ، فخرجت وقالت لأمها : أي شيء أسأله؟ فقالت : رأس يوحنا المعمدان ، فرجعت للوقت بسرعة إلى الملك وسألت رأس يوحنا على طبق ، فحزن الملك ، ومن أجل اليمين والمنكبين لم ير منعها ، فأنفذ سيافاً من ساعته وأمر أن يؤتى برأسه في طبق ، فمضى وقطع رأسه في الحبس وجاء به في طبق وأعطاه للصبية ، فأخذته الصبية ودفعته لأمها؛ وسمع تلاميذه فجاؤوا ورفعوا جثته وجعلوها في قبر؛ قال متى : وجاء تلاميذه فأخذوا جسده ودفنوه وأتوا فأخبروا يسوع فلما سمع يسوع مضى من هناك في سفينة إلى البرية مفرداً ، فسمع الجمع فتبعوه ماشين من المدن ، فلما خرج أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم وأبرأ اعلاّءهم ومرضاهم انتهى .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
ولما أتى نبينا صلى الله عليه وسلم بهذه الأخبار الغريبة المحررة العجيبة التي لا يعرفها على وجهها إلا الحذاق من علماء بني إسرائيل كان من حق سامعها أن يتنبه من غفلته ويستيقظ من رقدته ، لأنها منبهة بنفسها للمنصف الفطن على أن الآتي بها - والسامع خبير بأنه لم يخالط عالماً قط - صادقاً لا مرية في صدقه في كل ما يدعيه عن الله سبحانه وتعالى ، وكان من حق من يتنبه أن يبادر إلى الإذعان فيصرح بالإيمان ، فلما لم يفعلوا التفت إلى تنبيه الغبي وتبكيت العتي فقال : { ذلك } أي الخطاب العلي المقام الصادق المرام البديع النظام { من أنباء الغيب نوحيه } أي نجدد إيحاءه في أمثاله { إليك } في كل حين فما كنت لديهم في هذا الذي ذكرناه لك يوماً على هذا التحرير مع الإعجاز في البلاغة ويجوز أن تكون الجملة حالاً تقديرها : { و } الحال أنك { ما كنت } ولما كان هذا مع كونه من أبطن السر هو من أخفى العلم عبر فيه بلدي لما هو في أعلى رتب الغرابة كما تقدم في قوله : { هو من عند الله } وكررها زيادة في تعظيمه وتنبيهاً على أنه مما يستغرب جداً حتى عند أهل الاصطفاء فقال : { لديهم } قال الحرالي : لدى هي عند حاضرة لرفعة ذلك الشيء الذي ينبأ به عنه - انتهى . { إذ يلقون } لأجل القرعة - { أقلامهم } قال الحرالي : جمع قلم ، وهو مظهر الآثار المنبئة عما وراءها من الاعتبار - انتهى { أيهم } أي يستهمون أيهم { يكفل مريم } أي يحضنها ويربيها تنافساً في أمرها لما شرفها الله تعالى به { وما كنت لديهم إذ } أي حين { يختصمون * } أي في ذلك حتى نقصّ مثل هذه الأخبار على هذا الوجه السديد - يعني أنه لا وجه لك إلى علم ذلك إلا بالكون معهم إذ ذاك ، أو أخذ ذلك عن أهل الكتاب ، أو بوحي منا؛ ومن الواضح الجلي أن بعد نسبتك إلى التعلم من البشر كبعد نسبتك إلى الحضور بينهم في ذلك الوقت ، لشهرتك بالنشأة أمياً مباعداً للعلم والعلماء حتى ما يتفاخر به قومك من السجع ومعاناة الصوغ لفنون الكلام على الوجوه الفائقة ، فانحصر إخبارك بذلك في الوحي منا ، وجعل هذا التنبيه في نحو وسط هذا القصص ليكون السامع على ذكر مما مضى ويلقي السمع وهو شهيد لما بقي ، وجعله بعد الافتتاح بقصة مريم عليها السلام تنبيهاً على عظم شأنها وأنها المقصودة بالذات للرد على وفد نصارى نجران ، وكأنه أتبع التنبيه ما كان في أول القصة من اقتراعهم بالأقلام واختصامهم في كفالتها لخفائه إلا على خواص أهل الكتاب ، هذا مع ما في مناسبة الأقلام للبشارة بمن يعلمه الكتاب ، واستمر في إكمال المقال على ذلك الأسلوب الحكيم حتى تمت الحجة واستقامت المحجة فقال تعالى مبدلاً من إذ الأولى إيذاناً بأن ما بينهما اعتراض لما نبه عليه من شريف الأغراض : { إذ قالت الملائكة يا مريم } ولما كانت هذه السورة سورة التوحيد المقتضي للتفرد بالعظمة عبر بما صدرت به من اسم الذات الجامع لجميع الصفات فقال : { إن الله } أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ، فلا راد لأمره { يبشرك } وكرر هذا الاسم الشريف في هذا المقام زيادة في إيضاح هذا المرام بخلاف ما يأتي في سورة مريم عليها السلام ، وقوله : { بكلمة } أي مبتدئة { منه } من غير واسطة أب هو من تسمية المسبب باسم السبب ، والتعبير بها أوفق لمقصود السورة وأنفى لما يدعيه المجادلون في أمره ، ثم بين أنه ليس المراد بالكلمة حقيقتها ، بل ما يكون عنها ويكون فعالاًَ بها فقال مذكراً للضمير : { اسمه } أي الذي يتميز به عمن سواه مجموع ثلاثة أشياء : { المسيح } أصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم : من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهراً متأهلاً للملك والعلم والمزايا الفاضلة مباركاً ، فدل سبحانه وتعالى على أن عيسى عليه الصلاة والسلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح وإن لم يُمسَح؛ وأما وصف الدجال بذلك فإما أن يكون لما كان هلاكه على يد عيسى عليه الصلاة والسلام وصف بوصفه - من باب التسمية بالضد ، وإما أن يكون إشارة إلى أنه ملازم للنجاسة فهو بحيث لا ينفك - ولو مسح - عن الاحتياج إلى التطهير بالمسح من الدهن الذي يمسح به المذنبون ومن كان به برص ونحوه فيبرأ - والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولما وصفه بهذا الوصف الشريف ذكر اسمه فقال { عيسى } وبين أنه يكون منها وحدها من غير ذكر بقوله موضع ابنك : { ابن مريم } وذلك أنفى لما ضل به من ضل في أمره ، وأوضح في تقرير مقصود السورة وفي تفخيم هذا الذكر بجعله نفس الكلمة وبإبهامه أولاً ثم تفسيره ، وقوله : { اسمه } تعظيم لقدره وبيان لفضله على يحيى عليهما السلام حيث لم يجعل له في البشارة به مثل هذا الذكر ، ثم أتم لها البشارة بأوصاف جعلها أحوالاً دالة على أنه يظهر اتصافه بها حال الولادة تحقيقاً لظهور أثر الكلمة عليه فقال : { وجيهاً } قال الحرالي : صيغة مبالغة مما منه الوجاهة ، وأصل معناه الوجه وهو الملاحظ المحترم بعلو ظاهر فيه - انتهى . { في الدنيا } ولما كان ذلك قد لا يلازم الوجاهة بعد الموت قال : { والآخرة } ولما كانت الوجاهة ثمَّ مختلفة ذكر أعلاها عاطفاً بالواو إشارة إلى تمكنه في الصفات فقال : { ومن المقربين * } أي عند الله .
ولما كان ذلك قد لا يقتضي خرق العادات قال : { ويكلم الناس } أي من كلمه من جميع هذا النوع ، بأي لسان كان كلمه ، حال كونه { في المهد } قال الحرالي : هو موطن الهدوء والسكون للمتحسس اللطيف الذي يكون بذلك السكون والهدو قوامه - انتهى .
وبشرها بطول حياتها بقوله : { وكهلاً } أي بعد نزوله من السماء في خاتمة اليوم المحمدي ، ويكون كلامه في الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت .
قال الحرالي : والكهولة سن من أسنان أرابيع الإنسان ، وتحقيق حده أنه الربع الثالث الموتر لشفع متقدم سنيه من الصبا والشباب فهو خير عمره ، يكون فيمن عمره ألف شهر - بضع وثمانون سنة - من حد نيف وأربعين إلى بضع وستين ، إذا قسم الأرباع لكل ربع إحدى وعشرون سنة صباً ، وإحدى وعشرون شباباً ، وإحدى وعشرون كهولة ، وإحدى وعشرون شيوخة ، فذلك بضع وثمانون سنة - انتهى . وهذا تحقيق ما اختلف من كلام أهل اللغة ، وقريب منه قول الإمام أبي منصور عبد الملك بن أحمد الثعالبي في الباب الرابع عشر من كتابه فقه اللغة : ثم ما ادم بين الثلاثين والأربعين فهو شاب ، ثم كهل إلى أن يستوفي الستين؛ ويقال : شاب الرجل ، ثم شمط ، ثم شاخ ، ثم كبر - انتهى . والكهل - قال أهل اللغة - مأخوذ من : اكتهل النبات - إذا تم طوله قبل أن يهيج ، وكلام الفقهاء لا يخالفه ، فإن مبناه العرف ، فالنص على كهولته إشارة لأمه بأنه ممنوع من أعدائه إذا قصدوه ، وتنبيه على أن دعواهم لصلبه كاذبة .
ولما كانت رتبة الصلاح في غاية العظمة قال مشيراً إلى علو مقدارها : { ومن الصالحين * } ومعلماً بأنها محيطة بأمره ، شاملة لآخر عمره ، كما كانت مقارنة لأوله ، وكأنها لما سمعت ذلك امتلأت تعجباً فاستخفها ذلك إلى الاستعجال بالسؤال قبل إكمال المقال بأن { قالت رب } أيها المحسن إلى { أنّى } أي من أين وكيف { يكون لي } ولما كان استبعادها لمطلق الحبل ، لا بقيد كونه ذكراً كما في قصة زكريا عليه السلام قالت { ولد } وقالت : { ولم يمسسني بشر } لفهمها ذلك من نسبته إليها فقط . قال الحرالي : والبشر هو اسم المشهود من الآدمي في جملته بمنزلة الوجه في أعلى قامته ، من معنى البشرة ، وهو ظاهر لاجلد انتهى ( ولعل هذا الكلام خطر لها ولم تلفظ به فعلم الملك عليه السلام أنه شغل فكرها فأجابها عنه لتفريغ الفهم بأن { قال كذلك } أي مثل هذا الفعل العظيم الشأن العالم الرتبة يكون ما بشرتك به ) ولما كان استبعادها لمطلق التكوين من غير سبب أصلاً عبر في تعليل ذلك بالخلق فقال : { الله } أي الملك الأعظم الذي لا اعتراض عليه { يخلق } أي يقدر ويصنع ويخترع { ما يشاء } فعبر بالخلق إشارة إلى أن العجب فيه لا في مطلق الفعل كما في يحيى عليه السلام من جعل الشيخ كالشاب ، ثم علل ذلك بما بين سهولته فقال : { اذا قضى أمراً } أي جل أو قل { فإنما يقول له كن فيكون * } بياناً للكلمة ، فلما أجابها عما شغل قلبها من العجب فتفرغ الفهم أخذ في إكمال المقال بقوله عطفاً علي { ويكلم الناس } بالياء كما قبله في قراءة نافع وعاصم ، وبالنون في قراءة الباقين نظراً إلى العظمة إظهاراً لعظمة العلم : { ويعلمه } أو يكون مستأنفاً فيعطف على ما تقديره : فنخلقه كذلك ونعلمه { الكتاب } أي الكتابة أو جنس الكتاب فيشمل ذلك معرفة الكتاب وحفظه وفهمه وغير ذلك من أمره { والحكمة } أي العلوم الإلهية لتفيده تهذيب الأخلاق فيفيض عليه قول الحق وفعله على أحكم الوجوه بحيث لا يقدر أحد على نقض شيء مما يبرمه .
ولما وصفه بالعلوم النظرية والعملية فصار متأهلاً لأسرار الكتب الإلهية قال : { والتوراة } أي التي تعرفينها { والإنجيل * } بإنزاله عليه تالياً لهما ، وتأخيره في الذكر الشرط فيقتضي اتصاف كل مقضي بهذه الأوصاف كلها .
ولما ذكر الكتاب المنزل عليه حسن ذكر الرسالة فقال بعد ما أفاد عظمتها بجعله ما مضى مقدمات لها : { ورسولاً } عطفاً على « تالياً » المقدر ، أو ينصب بتقدير : يجعله { إلى بني إسراءيل } أي بالإنجيل . ولما كان ذكر الرسالة موجباً لتوقع الآية دلالة على صحتها ، وكان من شأن الرسول مخاطبة المرسل إليهم وإقباله بجميع رسالته عليهم اتبعه ببيان الرسالة مقروناً بحرف التوقع فقال : { أني } أي ذاكراً أني { قد جئتكم بآية من ربكم } أي الذي طال إحسانه إليكم ، ثم أبدل من « آية » { إني أخلق لكم } أي لأجل تربيتكم بصنائع الله { من الطين } قال الحرالي : هو متخمر الماء والتراب حيث يصير متهيئاً لقبول وقع الصورة فيه { كهيئة } وهي كيفية وضع أعضاء الصورة بعضها من بعض التي يدركها ظاهر الحس - انتهى وهي الصورة المتهيئة لما يراد منها { الطير } ثم ذكر احتياجه في إحيائه إلى معالجة بقوله معقباً للتصوير : { فأنفخ } قال الحرالي : من النفخ ، وهو إرسال الهواء من منبعثه بقوة انتهى . { فيه } أي في ذلك الذي هو مثل الهيئة { فيكون طيراً } أي طائراً بالفعل - كما في قراءة نافع ، وذكر المعالجة لئلا يتوهم أنه خالق حقيقة ، ثم أكد ذلك إزالة لجميع الشبه بقوله : { بإذن الله } أي بتمكين الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال ، له روح كامل لحمله في الهواء تذكيراً بخلق آدم عليه السلام من تراب ، وإشارة إلى أن هذا أعجب من خلق آدمي من أنثى فقط فلا تهلكوا في ذلك .
ولما ذكر ما يشبه أمر آدم عليه السلام أتبعه علاج أجساد أولاده بما يردها إلى معتادها بما يعجز أهل زمانه ، وكان الغلب عليهم الطب وبدأ بأجزائها فقال : { وأبرىء } قال الحرالي : من الإبراء وهو تمام التخلص من الداء ، والداء ما يوهن القوى ويغير الأفعال العامة للطبع والاختيار - انتهى .
{ الأكمه والأبرص } بإيجاد ما فقد منها من الروح المعنوي؛ والكمه - قال الحرالي - ذهاب البصر في أصل معناه : تلمع الشيء بلمع خلاف ما هو عليه ، ومنه براص الأرض - لبقع لا نبت فيها ، ومنه البريص في معنى البصيص ، فما تلمع من الجلد على غير حاله فهو لذلك برص وقال الحرالي : البرص عبارة عن سور مزاج يحصل بسببه تكرج ، أي فساد بلغم يضعف القوة المغيرة عن إحالته إلى لون الجسد - انتهى .
ولما فرغ من رد الأرواح إلى جزاء الجسم أتبعه رد الروح الكامل في جميعه المحقق لأمر البعث المصور له بإخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة في بعض الآدميين فقال : { وأحي الموتى } أي برد أرواحهم إلى أشباحهم ، بعضهم بالفعل وبعضهم بالقوة ، لأن الذي أقدرني على البعض قادر على ذلك في الكل ، وقد أعطاني قوة ذلك ، وهذا كما نقل القضاعي أن الحسن قال : « أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أنه طرح بنيّة له في وادي كذا ، فمضى معه إلى الوادي وناداها باسمها : يا فلانة! أجيبي بإذن الله سبحانه وتعالى! فخرجت وهي تقول : لبيك وسعديك! فقال لها : إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أردك إليهما ، فقالت : لا حاجة لي بهما ، وجدت الله خيراً لي منهما » وقد تقدم في البقرة عند { أرني كيف تحيي الموتى } [ البقرة : 260 ] ما ينفع هنا ، وقصة قتادة ابن دعامة في رده صلى الله عليه وسلم عينه بعد أن أصابها سهم فسالت على خده ، فصارت أحسن من أختها شهيرة ، وقصة أويس القرني رحمه الله تعالى في إبراه الله سبحانه وتعالى له من البرص ببرّه لأمه كذلك .
ولما كان ذلك من أمر الإحياء الذي هو من خواص الإلهية وأبطن آيات الملكوتيه ربما أورث لبساً في أمر الإله تبرأ منه ورده إلى من هو له ، مزيلاً للبس وموضحاً للأمر فقال مكرراً لما قدمه في مثله معبراً بما يدل على عظمه : { بإذن الله } أي بعلمه وتمكينه ، ثم أتبعه ما هو من جنسه في الإخراج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فقال : { وأنبئكم } أي من الأخبار الجليلة من عالم الغيب { بما تأكلون } أي مما لم أشاهده ، بل تقطعون بأني كنت غائباً عنه { وما تدخرون } ولما كان مسكن الإنسان أعز البيوت عنده وأخفى لما يريد أن يخفيه قال : { في بيوتكم } قال الحرالي : من الادخار : افتعال من الدخرة ، قلب حرفاه الدال لتوسط الدال بين تطرفهما في متقابلي حالهما؛ والدخرة ما اعتنى بالتمسك به عدة لما شأنه أن يحتاج إليه فيه ، فما كان لصلاح خاصة الماسك فهو ادخار ، وما كانت لتكسب فيما يكون من القوام فهو احتكار - انتهى .
ولما ذكرهذه الخوارق نبه على أمرها بقوله : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم { لآية لكم } أي أيها المشاهدون على أني عبد الله ومصطفاه ، فلا تهلكوا في تكويني من أنثى فقط فتطروني ، فإني لم أعمل شيئاً منها إلا ناسباً له إلى الله سبحانه وتعالى وصانعاً فيه ما يؤذن بالحاجة المنافية للإلهية ولو بالدعاء ، وأفرد كاف الخطاب أولاً لكون ما عده ظاهراً لكل أحد على انفراده أنه آية لجميع المرسل إليهم ، وكذا جمع ثانياً قطعاً لتعنت من قد يقول : إنها لا تدل إلا باجتماع أنظار جميعهم - لو جمع الأول ، وإنها ليست آية لكلهم بل لواحد منهم - لو وحد في الثاني ، ولما كانت الآيات لا تنفع مع المعاندات قال : { إن كنتم مؤمنين * } أي مذعنين بأن الله سبحانه وتعالى قادر على ما يريد ، وأهلاً لتصديق ما ينبغي التصديق به .
ولما كان ترجمة { إني قد جئتكم } آتياً إليكم بآية كذا ، مصدقاً بها لما أتيت به ، عطف على الحال المقدر منه تأكيداً لأنه عبد الله قوله : { ومصدقاً لما بين يدي } أي كان قبل إتياني إليكم { من التوراة } أي المنزلة على أخي موسى عليه الصلاة والسلام ، لأن القبلية تقتضي العدم الذي هو صفة المخلوق؛ أو يعطف على { بآية } إذا جعلنا الباء للحال ، لا للتعدية ، أي وجئتكم مصحوباً بآية ومصدقاً .
ولما ذكر التوراة أتبعها ما يدل على أنه ليس كمن بينه وبين موسى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في إقرارها كلها على ما هي عليه وتحديد أمرها على ما كان زمن موسى عليه الصلاة والسلام بل هو مع تصديقها ينسخ بعضها فقال : { ولأحل } أي صدقتها لأحثكم على العمل بها ولأحل { لكم بعض الذي حرم عليكم } أي فيها تخفيفاً عليكم { وجئتكم } اية ليس مكرراً لتأكيد : { أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين } على ما توهم ، بل المعنى - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أتاهم بهذه الخوارف التي من جملتها إحياء الموتى ، وكان من المقرر عندهم - كما ورد في الأحاديث الصحيحة - التحذير من الدجال ، وكان من المعلوم من حاله أنه يأتي بخوارق ، منها إحياء ميت ويدعى الإلهية ، كان من الجائز أن يكون ذلك سبباً لشبهة تعرض لبعض الناس ، فختم هذا الدليل على رسالته بما هو البرهان الأعظم على عبوديته ، وذلك مطابقته لما دعا إليه الأنبياء والمرسلون كلهم من إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى فقال : وجئتكم { بآية } أي عظيمة خارقة للعادة { من } عند { ربكم } أي المحسن إليكم بعد التفرد بخلقكم ، وهي أجل الأمارات وأدلها على صدقي في رسالتي ، هو عدم تهمتي بوقوع شبهة في عبوديتي .
ولما تقرر بذكر الآية مرة بعد مرة مع ما أفادته من تأسيس التفصيل لأنواع الآيات تأكيد رسالته تلطيفاً لطباعهم الكثيفة ، فينقطع منها ما كانت ألفته في الأزمان المتطاولة من العوائد الباطلة سبب عن ذلك ما يصرح بعبوديته أيضاً فقال مبادراً للإشارة إلى أن الأدب مع المحسن آكد والخوف منه أحق وأوجب لئلا يقطع إحسانه ويبدل امتنانه { فاتقوا الله } أي الذي له الأمر كله { وأطيعون * } أي في قبولها فإن التقوى مستلزمة لطاعة الرسول .
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
ولما كان كأنه قيل : ما تلك الآية التي سميتها « آية » بعد ما جئت به من الأشياء الباهرة قال : { إن الله } الجامع لصفات الكمال { ربي وربكم } أي خالقنا ومربينا ، أنا وأنتم في ذلك شرع واحد ، وقراءة من فتح { إن } أظهر في المراد { فاعبدوه هذا } أي الذي دعوتكم إليه { صراط مستقيم * } أنا وأنتم فيه سواء ، لا أدعوكم إلى شيء إلا كنت أول فاعل له ، ولا أدعي أني إله ولا أدعو إلى عبادة غير الله تعالى كما يدعي الدجال ويغره من الكذبة الذين تظهر الخوارق على أيديهم امتحاناً من الله سبحانه وتعالى لعباده فيجعلونها سبباً للعلو في الأرض والترفع على الناس ، وجاء بالتحذير منهم وتزييف أحوالهم الأنبياء ، وإلى هذا يرشد قول عيسى عليه السلام فيما سيأتي عن إنجيل يوحنا أن من يتكلم من عنده إنما يطلب المجد لنفسه ، فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم؛ وإلى مثل ذلك أرشدت التوراة فإنه جعل العلامة على صدق الصادق وكذب الكاذب الدعوة ، فمن كانت دعوته إلى الله سبحانه وتعالى وجب تصديقه ، من كذبه هلك ، ومن دعا إلى غيره وجب تكذيبه ، ومن صدقه هلك؛ قال في السفر الخامس منها : وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب ، ولا يوجد فيكم من يقبر ابنه أو ابنته في النار نذراً للأصنام ، ولا من يطلب تعليم العرافين ، ولا من يأخذ بالعين ، ولا يوجد فيكم من يتطير طيرة ، ولا ساحر ، ولا من يرقى رقية ، ولا من ينطلق إلى العرافين والقافة فيطلب إليهم ويسألهم عن الموتى ، لأن كل من يعمل هذه الأعمال هو نجس بين يدي الله ربكم ، ومن أجل هذه النجاسة يهلك الله هذه الشعوب من بين أيديكم؛ ولكن كونوا متواضعين مخبتين أما الله ربكم ، لأن هذه الشعوب التي ترثونها كانت تطيع العرافين والمنجمين ، فأما أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم ، بل يقيم لكم نبياً من إخوتكم مثلي ، فأطيعوا ذلك النبي كما أطعتم الله ربكم في حوريب يوم الجماعة وقلتم : لا نسمع صوت الله ربنا ولا نعاين هذه النار العظيمة لئلا نموت ، فقال الرب : ما أحسن ما تكلموا! سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك وأجري قولي فيه ويقول لهم ما آمره به ، والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ، فأما النبي الذي يتكلم ويتجرأ باسمي ويقول ما لم آمره أن يقوله ويتكلم بأسماء الآلهة الأخرى ليقتل ذلك النبي ، وإن قلتم في قلوبكم : كيف لنا أن نعرف القول الذي لم يقله الرب ، إذا تكلم ذلك النبي باسم الرب فلم يكمل قوله : ولم يتم فلذلك القول لم يقله الرب ولكن تكلم ذلك النبي جراءة وصفاقة وجه ، فلا تخافوه ولا تفزعوا منه؛ وقال قبل ذلك بقليل : وإذا أهلك الله الشعوب التي تنطلقون إليها وأبادهم م نبين أيديكم وورثتموهم وسكنتم أرضهم ، احفظوا ، لا تتبعوا آلهتهم من بعد ما يهلكهم الله من بين أيديكم ، ولا تسألوا عن آلهتهم ولا تقولوا : كيف كانت هذه الشعوب تعبد آلهتها حتى نفعل نحن مثل فعلها؟ ولا تفعلوا مثل فعالها أمام الله ربكم ، لأنهم عملوا بكل ما أبغض الله وأحرقوا بنيهم وبناتهم لآلهتهم ، ولكن القول الذي آمركم به إياه احفظوا وبه اعملوا! لا تزيدوا ولا تنقصوا منه شيئاً فإن قام بينكم نبي أو من يفسر أحلاماً وعمل آية أو عجيبة ويقول : اقبلوا بنا نعبد الآلهة الأخرى التي لا تعرفونها ونتبعها - لا يقبل قول ذلك النبي وصاحب الأحلام ، لأنه إنما يريد ، أن يجربكم ليعلم هل تحبون الله ربكم ، احفظوا وصاياه واتقوا واسمعوا قوله واعبدوه والحقوا به ، فأما ذلك النبي وذلك الذي تحلّم الأحلام فليقتل ، لأنه نطق بإثم أمام الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر وخلصكم من العبودية فأراد أن يضلكم عن الطريق الذي أمركم الله ربكم أن تسيروا فيه ، واستأصلوا الشر من بينكم ، وإن شوقك أخوك ابن أمك وأبيك أو ابنتك أو حليلتك أو صديقك ويقول لك : هلم بنا نتبع الآلهة الأخرى التي لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب التي حولكم - القريبة منكم والبعيدة - ومن أقطار الأرض إلى أقصاها - لا تقبل قوله ولا تطعه ولا تشفق عليه ولا ترحمه ولا تلتمّ عليه ولا تتعطف عليه ، ولكن اقتله قتلاً ، وابدأ به أنت قتلاً ، ثم يبدأ به جميع الشعوب ، وارجموه بالحجارة وليمت ، لأنه أراد أن يضلك عن عبادة الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر وخلصك من العبودية ، ويسمع بذلك جميع بني إسرائيل ، ويفزعون فلا يعودوا أن يعملوا مثل هذا العمل السوء بينكم ، وإذا سمعتم أن في قرية من القرى التي أعطاكم الله قوماً قد ارتكبوا خطيئة وأضلوا أهل قريتهم وقالوا لهم : ننطلق فنعبد آلهة أخرى لم تعرفوها ، ابحثوا نعماً وسلوا حسناً ، إن كان القول الذي بلغكم يقيناً وفعلت هذه النجاسة في تلك القرية اقتلوا أهل تلك القرية بالسيف ، واقتلوا كل من فيها من النساء والصبيان والبهائم بالسيف ، واجمعوا جميع نهبها خارج القرية وأحرقوا القرية بالنار وأحرقوا كل نهبها أما الله ربكم ، وتصير القرية تلاً خراباً إلى الأبد ولا تبنى أيضاً ، ولا يلصق بأيديكم من خرابها شيء ليصرف الرب غضبه عنكم ويعطف عليكم ويفيض رحمته عليكم ويجيبكم ويرحمكم ويكثركم كما قال لآبائكم؛ هذا إن أنتم سمعتم قول الله ربكم ، وحفظتم وصاياه التي أمرتكم بها اليوم ، وعملتم الحسنات أمام الله ربكم ، فإذا فعلتم هذا صرتم لله ربكم ، لا تأثموا ولا تصيروا شبه الوحش ولا تخدشوا وجوهكم وبين أعينكم على الميت ، لأنكم شعب طاهر لله ربكم ، وإياكم اختار الله ربكم أن تكونوا له شعباً حبيباً أفضل من جميع شعوب الأمم - انتهى .
فقد تبين من هذا كله أن عيسى عليه الصلاة والسلام مصدق للتوراة في الدعاء إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وأن الآية الكبرى على صدق النبي الحق اختصاصه الله تعالى بالدعوة وتسويته بين نفسه وجميع من يدعوه في الإقبال عليه والتعبد له والتخشع لديه ، وأن الآية على كذب الكاذب دعاؤه إلى غير الله؛ وفي ذلك وأمثاله مما سيأتي عن الإنجيل في سورة النساء تحذير من الدجال وأمثاله ، فثبت أن المراد بالآية في هذه الآية ما قدمته من الإخبار بأن الله سبحانه وتعالى رب الكل والأمر بعبادته ، وهذا كما يأتي من أمر الله سبحانه وتعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } [ آل عمران : 64 ] إلى قوله : { ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } [ آل عمران : 64 ] .
ولما ختم سبحانه وتعالى هذه البشارة بالآية القاطعة القويمة الجامعة ، وكان قوله : في أول السورة { يصوركم في الأرحام كيف يشاء } وقوله هنا { يخلق ما يشاء } مغنياً عن ذكر حملها ، طواه وأرشد السياق حتماً إلى أن التقدير : فصدق الله فيما قال لها ، فحملت به من غير ذكر فولدته - على ما قال سبحانه وتعالى - وجيهاً وكلم الناس في المهد وبعده ، وعلمه الكتاب والحكمة وأرسله إلى بني إسرائيل ، فأتم لهم الدلائل ونفى الشبه على ما أمره به الذي أرسله سبحانه وتعالى وعلموا أنه ناسخ لا مقرر ، فتابعه قوم وخالفه آخرون فغطوا جميع الآيات وأعرضوا عن الهدى والبينات ، ونصبوا له الأشراك والحبائل وبغوه الدواهي والغوائل ، فضلوا على علم وظهر منهم الكفر البين واعوجوا عن الصراط المستقيم عطف عليه قوله مسلياً لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : { فلما أحس } قال الحرالي : من الإحساس وهو منال الأمر بادراً إلى العلم والشعور الوجداني - انتهى { عيسى منهم الكفر } أي علمه علم من شاهد الشيء بالحس ورأى مكرهم على ذلك يتزايد وعنادهم يتكاثر بعد أن علم كفرهم علماً لا مرية فيه ، فاستغاث بالأنصار وعلم أن منجنون الحرب قد دار ، فعزم على إلحاقهم دار البوار { قال من أنصاري } .
ولما كان المقصود ثبات الأنصار معه إلى أن يتم أمره عبر عن ذلك بصلة دلت على تضمين هذه الكلمة كلمة توافق الصلة فقال : { إلى } أي سائرين أو واصلين معي بنصرهم إلى { الله } أي الملك الأعظم { قال الحواريون } قال الحرالي : جمع حواري وهو المستخلص نفسه في نصرة من تحق نصرته بما كان من إيثاره على نفسه بصفاء وإخلاص لا كدر فيه ولا شوب - انتهى .