كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي
ولما انتفت مدافعتهم عن أنفسهم ، نفى دفع غيرهم فقال : { وهم } أي أصابهم هذا العذاب وسيصيبهم عذاب الآخرة والحال أنهم { لا يُنصرون * } أي لا يوجد ولا يتجدد لهم نصر أبداً بوجه من الوجوه .
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
ولما أنهى أمر صاعقتهم ، شرع في بيان صاعقة ثمود فقال : { وأما ثمود } وهم قوم صالح عليه الصلاة والسلام { فهديناهم } أي بينا لهم طريق الهدى من أنا قادرون على البعث وعلى كل شيء فلا شريك لنا ، وكان بيان ذلك بالناقة غاية البيان فأبصروا ذلك بأبصارهم التي هي سبب أبصار بصائرهم غايه الإبصار ، فكرهوا ذلك لما يلزمه من تنكب طريق آبائهم وأقبلوا على لزوم طريق آبائهم : { فاستحبوا العمى } اي الضلال الناشئ عن عمى اليصر أو البصيرة أو هما معاً { على الهدى } أي أوجدوا من الأفعال والأقوال ما يدل على حب ذلك وعلى طلب حبه فعموا فضلوا ، وقال القشيري : قيل : إنهم آمنوا وصدقوا ثم ارتدوا وكذبوا ، فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال . { فأخذتهم } أي بسبب ذلك أخذ قسر وهوان { صاعقة العذاب } وأبلغ في وصفه بجعله نفس الهون فقال : { الهون } أي ذي الهون ، قامت ضمته مقام ما في الهوان من الصيغة فعلم أن المراد أنه المهين المخزي { بما كانوا } أي دائماً { يكسبون * } أي يتجدد تحصيلهم له وعدهم له فائدة ، فالآية من الاحتباك : ذكر الهداية أولاً دليلاً على حذف الضلال ثانياً والعمى ثانياً دليلاً على حذف الإبصار أولاً ، وسره أنه نسب إليه أشرف فعليه ، وأسند إليهم ما لا يرضاه ذو الروح .
ولما أتم الخبر عن الكافرين من الفريقين ، أتبعه الخبر عن مؤمنيهم بشارة لمن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ونذارة لمن صد عنه فقال : { ونجينا } أي تنجية عظيمة { الذين آمنوا } أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى وجوهه من الفريقين { وكانوا } أي كوناً عظيماً { يتقون * } أي يتجدد لهم هذا الوصف في كل حركة وسكون فلا يقدمون على شيء بلا دليل .
ولما ذكر حالهم في الدنيا ، وأشار إلى حال الآخرة ، أتبعه تفصيل ذلك فقال : { ويوم } أي اذكر أيام أعداء الله في الدنيا في إنزال عذابه بهم وإحلال مثلاته بساحاتهم ، واذكر يوم يحشرون - هكذا كان الأصل ، ولكنه بين ما عذبوا به ليعم كل من اتصف به من الأولين والآخرين فقال : { يحشر } أي يجمع بكثرة بأمر قاهر لا كلفة علينا فيه - هذا على قراءة الجماعة بالبناء للمفعول ، وعلى قراءة ناقع ويعقوب بالنون مبنياً للفاعل يكون ناظراً إلى سياق « ونجينا » وفي كلتا القراءتين معنى العظمة ، فلذلك ناسبهما الاسم الأعظم الذي هو أعظم من مظهر العظمة الذي وقع الصرف عنه لما في ذكره من زيادة التوبيخ لهم والتهجين لفعلهم والتخسيس لعقولهم في قولهم : { أعداء الله } أي الملك الأعظم ولا يخفى إعرابه بحسب كل قراءة { إلى النار } دار الأشقياء { فهم } بسبب حشرهم { يوزعون * } أي يدفعون ويرد بأيسر أمر أولهم على آخرهم ، ومن يريد أن يعرج منهم يميناً أو شمالاً ظناً منه أنه قد يخفى بسبب كثرتهم ويزجرون زجر إهانة ، ويجمع إليهم من شذ منهم ، ة فإن كل شيء من ذلك نوع من العذاب .
ولما بين إهانتهم بالوزع ، بين غاياتها فقال : { حتى إذا } وأكد الكلام لإنكارهم مضمونه بزيادة النافي ليكون اجتماعه مع الإثبات نفياً للضد فيفيد غاية القوة بمضمون الخبر في تحقيقه وثباته واتصاله بالشهادة على الفور فقال : { ما جاؤوها } أي النار التي كانوا بها يكذبون { شهد عليهم } حين التكوير فيها مركومين بعضهم على بعض . ولما كان في مقام الترهيب ، وكان التفصيل أهول قال : { سمعهم } أفرده لتقارب الناس فيه { وأبصارهم } جمع لعظم التفاوت فيها { وجلودهم بما } وأثبت الكون بياناً لأنهم كانوا مطبوعين على ما أوجب لهم النار من الأوزار فقال : { كانوا يعملون * } أي يجددون عمله مستمرين عليه ، فكأن هذه الأعضاء تقول في ذلك الحين إقامة للحجة البالغة : أيها الأكوان والحاضرون من الإنس والملائكة والجان ، اعلموا أن صاحبي كان يعمل بي كذا وكذا مع الإصرار ، فاستحق بذلك النار ، وغضب الجبار - ثم يقذف به .
ولما أخبر بهذا الذي يفتت الحجارة لو علقت ساعة ما ، أخبر أنه لم يفدهم الرجوع عن طبعهم الجافي وبلادتهم الكثيفة ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فلم تفدهم هذه الشهادة خجلاً من الله ولا خضوعاً في أنفسهم ولا رجوعاً عن الجدال والعناد كما لم يفدهم ذلك مجرد علم الله فيهم : { وقالوا لجلودهم } ودخل فيها ما صرح به من منافعها بها لفقد ما يدعو إلى التفصيل . ولما فعلت فعل العقلاء خاطبوها مخاطبتهم فقالوا : { لم شهدتم علينا } .
ولما كان هذا محل عجب منهم ، وكان متضمناً لجهلهم بظنهم أنه كان لها قدرة على السكوت ، وكان سؤالهم عن العلة ليس على حقيقته وإنما المراد به اللوم ، أجيب من تشوف إلى الجواب بقوله معبراً لنطقها بصيغة ما يعقل : { قالوا } معتذرين : { أنطقنا } قهراً { الله } الذي له مجامع العز على وجه لم نقدر على التخلف عنه . ولما كان حال الكفار دائماً دائراً بين غباوة وعناد ، أقاموا لهم على ذلك دليلين شهوديين فقالوا : { الذي أنطق كل شيء } أي فعلاً أو قوة أو حالاً ومقالاً .
ولما كانت الأشياء كلها متساوية الأقدام في الإنطاق والإخراس وغيرهما من كل ما يمكن بالنسبة إلى قدرته سبحانه ، نبهوهم على ذلك بقولهم : { وهو خلقكم أول مرة } والعلم القطعي حاصل عندكم بأنكم كنتم عدماً ثم نطفاً لا تقبل النطق في مجاري العادات بوجه ، ثم طوركم في أدوار الأطوار كذلك إلى أن أوصلكم إلى حيز الإدراك ، فقسركم على النطق بحيث لو أردتم سلبه عن أنفسكم ما قدرتم . ولما كان الخلق شيئاً واحداً فعبر عنه بالماضي وكان الرجوع تارة بالحس وتارة بالمعنى وكان الذي بالمعنى كثير التعدد بكثرة التجدد قال : { وإليه } أي إلى غيره { ترجعون * } أي في كل حين بقسركم بأيسر أمر على كل ما يريد من أول ما خلقتم إلى ما لا نهاية له ، فلو كان لكم نوع علم لكفاكم ذلك واعظاً في الدنيا تعلمون به أنكم في غاية العجز ، وأن له العظمة والكبر والقدرة والقهر ، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
« هل تدرون ممّ أضحك؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : من مخاطبة العبد ربه ، يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال : يقول : بلى ، اقل : فيقول : فإني لا أجيز إلا شاهداً مني ، قال : فيقول : كفى بنفسك اليوم شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً ، قال : فيختم على فيه فيقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنا أناضل » .
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
ولما اعتذروا بما إخبارهم به في هذه الدنيا وعظ وتنبيه ، وفي الآخرة توبيخ وتنديم ، قالوا مكررين للوعظ محذرين من جميع الكون : { وما كنتم } أي بما هو لكم كالجبلة { تستترون } أي تتكفلون الستر عند المعاصي وأنتم تتوهمون ، وهو مراد قتادة بقوله؛ تظنون . { أن يشهد عليكم } بتلك المعاصي . ولما كان المقصود الإبلاغ في الزجر ، أعاد التفصيل فقال : { سمعكم } وأكد بتكرير النافي فقال : { ولا أبصاركم } جمع وأفرد لما مضى { ولا جلودكم ولكن } إنما كان استتاركم لأنكم { ظننتم } بسبب إنكاركم البعث جهلاً منكم { أن الله } الذي له جميع الكمال { لا يعلم } أي في وقت من الأوقات { كثيراً مما تعملون * } أي تجددون عمله مستمرين عليه ، وهو ما كنتم تعدونه خفياً فهذا هو الذي جرأكم على ما فعلتم ، فإن كان هذا ظنكم فهو كفر ، وإلا كان عملكم عمل من يظنه فهو قريب من الكفر والمؤمن حقاً من علم أن الله مطلع على سره وجهره ، فلم يزل مراقباً خائفاً هائباً ، روى الشيخان في صحيحيهما واللفظ للبخاري في كتاب التوحيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فأنه يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله { وما كنتم } - الآية ، قال البغوي؛ قيل : الثقفي عبد ياليل وختناه ، والقرشيان : ربيعة وصفوان بن أمية .
ولما كان ذكر المعصية وما جرأ عليها يقتضي انتقاصاً يقدح في الإلهية ، بين أنه الموجب للغضب فقال : { وذلكم } أي الأمر العظيم في القباحة ، ثم بينه بقوله : { ظنكم } أي الفاسد ، ووصفه بقوله : { الذي ظننتم بربكم } أي الذي طال إحسانه إليكم من أنه لا يعلم حالكم ، ثم أخبر عنه بقوله : { أردناكم } أي تسبب عنه خاصة أنه أهلككم . وأما معاصي الجوارح مع التوحيد والتنزيه فأمرها أسهل ، والحاصل أن كل ظن كان غير مأذون فيه من الشارع فهو يردي صاحبه .
ولما كان الصباح محل رجاء الأفراح ، فكان شر الأتراح ما كان فيه ، قال : { فأصبحتم } أي بسبب أن ما أعطيتموه من النعم لتستنقذوا به أنفسكم من الهلاك كان سبب هلاككم { من الخاسرين * } أي العريقين في الخسارة ، المحكوم بخسارتهم في جميع ذلك اليوم ، وصوره بأقبح صورة وهو الصباح ، فالمعنى أنه إذا صار حالكم حال من أصبح كذلك لم يكن للربح وقت يتدارك فيه بخلاف ما لو وجد ذلك عن المساء فإنه كان ينتظر الصباح للسعي في الربح ، ويوم القيامة لا يوم بعده يسعى فيه للربح ، فينبغي للمؤمن أن يكون حال خلوته أشد ما يكون هيبة لله .
ولما كان ذلك ، تسبب عنه قوله لافتاً القول عن خطابهم إيذاناً بشدة الغضب وإشارة ألى أنهم لما وصلوا إلى ما ذكر من الحال أعيا عليهم المقال ، فلم يقدروا على نطق بلسان ، ولا إشارة برأس ولا بنان : { فإن يصبروا } أي على ما جوزوا به فليس صبرهم بنافعهم ، وهو معنى قوله : { فالنار مثوى } أي منزلاً { لهم وإن يستعتبوا } أي يطلبوا الرضى بزوال العتب وهو المؤاخذة بالذنب { فما هم من المعتبين * } أي المرضيين الذين العتب عليهم ليعفي عنهم ويترك عذابهم .
ولما ذكر وعيدهم في الدنيا والآخرة ، أتبعه كفرهم الذي هو سبب الوعيد ، وعطفه على ما تقديره : فإنا طبعناهم طبيعة سوء تقتضي أنهم لا ينفكون عما يوجب العتب ، فأعرضوا ولم تنفعهم النذرى بصاعقة عاد وثمود ، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن التصرف في القلوب أمر عظيم جداً : { وقيضنا } أي جئنا وأتحنا وبعثنا وسببنا ووكلنا وهيأنا ، من القيض الذي هو المثل ، وقشر البيضة الأعلى اليابس { لهم قرناء } أي أشخاصاً أمثالهم في الأخلاق والأوصاف أقوياء وهم مع كونهم شديدي الالتصاق بهم والإحاطة في غاية النحس والشدة في اللؤم والخبث واللجاجة فيما يكون به ضيق الخير واتساع الشر من غواة الجن والإنس { فزينوا لهم } أي من القبائح { ما } وعم الأشياء كلها فلم يأت بالجار فقال : { بين أيديهم } أي يعلمون قباحته حتى حسنوه لهم فارتكبوه ورغبوا فيه { وما خلفهم } أي ما يجهلون أمره ولا يزالون في كل شيء يزينونه ويلحون فيه ويكررونه حتى يقبل ، فإن التكرير مقرون بالتأثير ، قال القشيري : إذا أراد الله بعبد سوءاً قيض له إخوان سوء وقرناء سوء يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها ، وإذا أراد الله بعبد خيراً قيض له قرناء خير يعينونه على الطاعات ويحملونه عليها ويدعونه إليها ، ومن ذلك الشيطان ، وشر منه النفس وبئس القرين ، تدعو اليوم إلى ما فيه الهلاك وتشهد غداً عليه .
ولما كان التقدير : فلم يدعوا قبيحة حتى ارتكبوها ، عطف عليه قوله : { وحق } أي وجب وثبت { عليهم القول } أي بدوام الغضب .
ولما كان هذا مما يوجب شدة أسفه صلى الله عليه وسلم ، خفف منه بقوله : { في } أي كائنين في جملة { أمم } أي كثيرة . ولما عبر عنهم بما يقتضي تعظيمهم بأنهم مقصودون ، حقرهم بمضير التأنيث فقال : { قد خلت } أي لم تتعظ أمه منهم بالأخرى . ولما كان الخلو قد يكون بالموت في زمانهم ، بين أنه مما مضى وفات .
ولما كان بعض من مضى غير مستغرق لجميع الزمان ، عبر ب « من » فقال : { من قبلهم } أي في الزمان ، وقدم الأقوى لتفهم القدرة عليه القدرة على ما دونه من باب الأولى ، فإن الإنس كانوا يعدون أنفسهم دون الجن فيعوذون بهم فقال : { من الجن والأنس } ثم علل حقوق الشقاء عليهم بقوله منبهاً بالتأكيد على أنهم ينكرون أن تكون القبائح موجبة للخسر { إنهم } أي جميع المذكورين منهم وممن قبلهم : { كانوا } أي طبعاً وفعلاً { خاسرين * } فعلى العاقل أن يجتهد في اختيار أصحابه وأخدانه وأحبابه ، فإن العاقبة فيهم حسنة جسيمة أو قبيحة وخيمة ، روى صاحب الفردوس عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« إذا أراد الله بعبد شراً قيض له قبل موته شيطاناً فلا يرى حسناً إلا قبحه ولا قبيحاً إلا حسنه عنده » . ولأحمد وأبي داود والنسائي وأبي يعلى وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أراد الله بوالي خيراً جعل له وزير صدق ، إن نسي ذكّره ، وإن ذكر أعانه ، وإن أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه » . وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما والنسائي عن أبي هريرة وحده رضي الله عنه والبخاري أيضاً عن أبي أيوب رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، والمعصوم من عصمه الله تعالى » . وفي رواية النسائي : « ما من وال إلا وله بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، وبطانة لا تألوه خبالاً ، فمن وقي شرها فقد وقي ، وهو إلى من يغلب عليه منهما » ، ورواية البخاري عن أبي أيوب نحوها .
ولما أخبر بخسرانهم ، دل عليه بما عطف على ما أرشد إليه السياق من تقديره من وقولي : فأعرضوا - أي هؤلاء العرب - وقالوا - هكذا كان ألأصل ولكنه قال تنبيها على الوصف الذي أوجب إعراضهم : { وقال الذين كفروا } أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من الحق { لا تسمعوا } أي شيئاً من مطلق السماع { لهذا القرآن } تعييناً بالإشارة احترازاً من غيره من الكتب القديمة كالتوارة ، قال القشيري : لأنه يغلب القلوب ويسلب العقول ، وكل من استمع له صبا إليه { وألغوا } أي أهذوا من لغي - بالكسر يلغى - بالفتح - إذا تكلم بما لا فائدة فيه { فيه } أي اجعلوه ظرفاً للغو بأن تكثروا من الخرافات والهذيانات واللغو بالمكاء والتصدية أي الصفير والتصفيق وغيرهما في حال تلاوته ليقع تاليه في السهو والغلط ، قال القشيري : قالوا ذلك ولم يعلموا أن من نور قلبه بالإيمان وأيد بالفهم وأمد بالبصيرة وكوشف بسماع السر من الغيب ، فهو الذي يسمع ويؤمن ، والذي هو في ظلمات جهله لا يدخل الإيمان قلبه ، ولا يباشر السماع سره .
{ لعلكم تغلبون * } أي ليكون حالكم حال من يرجى له أن يغلب ويظفر بمراده في أن يميل إليه أحد ، أو يسكت أو ينسى ما كان يقول ، وهذا يدل على أنهم عارفون بأن من سمعه ولا هوى عنده مال إليه وأقبل بكليته عليه ، وقد فضحوا أنفسهم بهذا فضيحة لا مثل لها ، وذلك لأنهم تحدوا به في أن يأتوا بشيء من مثله ليعدوا غالبين فلم يجدوا شيئاً يترجون به الغلب إلا الصفير والتصفيق ونحوه من اللغو في معارضة ما علا من أعلى ذرى الكلام إلى حيث لا مطمع ولا مرام ، فلا يفيد ما أتوا به معنى غير أنهم عاجزون عن المعارضة قاطعون بأنهم متى أتوا بشيء منها افتضحوا ، وقطع كل من سمعه بأنهم مغلوبون .
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
ولما استحقوا بهذا العقوبة ، سبب عن ذلك مؤكداً لإنكارهم قوله تعالى : { فلنذيقن } وأظهر في موضع الإضمار تعميماً بالوصف فقال : { الذين كفروا } أي هؤلاء وغيرهم { عذاباً شديداً } في الدنيا بالحرمان وما يتبعه من فنون الهوان وفي الآخرة بالنيران { ولنجزينهم } أي بأعمالهم . ولما كان من قدر على الأغلظ ، قدر على ما دونه قال : { أسوأ } أي جزاء أسوأ العمل { الذين كانوا } بما هو لهم كالغرائز { يعملون * } مواظبين عليه .
ولما أبلغ سبحانه في الترهيب من عقابهم ، زاد في تعظيمه وفضله لطفاً لمن أراد هدايته من عباده وإقامة الحجة على غيرهم فقال : { ذلك } أي الجزاء الأسوأ العظيم جداً { جزاء } ولما كانت عداوة من لا يطاق آمراً زائد العظمة ، نبه على ذلك بصرف الكلام عن مظهرها إلى أعظم منه فقال : { أعداء الله } أي الملك الأعظم ، لأنهم ما كانوا يفعلون ما دون الأسوأ إلا عجزاً عنه لأن جبلتهم تقتضي ذلك ، وبينه بقوله : { النار } وفصل بعض ما فيها بقوله : { لهم فيها } أي النار { دار الخلد } أي المحل المحيط بهم الدائر من غير علم من زاوية أو غيرها يعرف به خصوص موضع منه ، مع إيذانه بالدوام واللزوم وعدم الانفكاك ، أو هو على التجريد بمعنى : هي لهم دار خلود كما كان لهم في الدنيا دار سرور بمعنى أنها كانت لهم نفسها دار لهو وغرور .
ولما كانوا على أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب مصرين إصراراً يمتنع انفكاكهم عنه ، زاد حسناً قوله : { جزاء } أي وفاقاً { بما كانوا } أي جبلة وطبعاً ، ورد الكلام إلى مظهر العظمة المقتضي للنكال فقال : { بآياتنا } أي على ما لها من العظمة { يجحدون * } أي ينكرون عناداً من غير مراعاة لعلوها في نفسها ولا علوها بنسبتها إلينا ، فلأجل جحودهم كانوا يقدمون على ما لا يرضاه عاقل من اللهو وغيره .
ولما تراءى لهم أن الذي أوجب لهم هذا السوء جلودهم بالشهادة عليهم وقرناؤهم بإضلالهم لهم وكان التباغض والعداوة قد وقع بين الجميع ، فصار تمني كل للآخر السوء زيادة في عذابهم ، وكانت مساءة جلودهم مساءتهم ، خصوا القرناء بإرادة الانتقام منهم ، فحكى سبحانه قولهم بقوله عطفاً على { وقالوا لجلودهم } أو على ما تقديره : فعلموا حينئذ أنهم كانوا على ضلال لتقصيرهم في النظر وتقليدهم لغيرهم : { وقال الذين كفروا } أي غطوا أنوار عقولهم داعين بما لو يسمع لهم ، فهو زيادة في عقوبتهم ، وحكايته لنا وعظ وتحذير : { ربنا } أي أيها الذي لم يقطع قط إحسانه عنا { أرنا } الصنفين { اللّذين أضلاّنا } عن المنهج الموصل إلى محل الرضوان { من الجن والإنس } المزينين لنا ارتكاب السوء خفية وجهراً ، قرأ الجماعة بكسر الراء من أرنا ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب والسوسي عن أبي عمرو وأبو بكر عن عاصم بإسكان الراء هنا خاصة .
قال الأصبهاني : يحكى عن الخليل أنك إذا قلت : أرني ثوبك - بالكسر فالمعنى بصرنيه ، وإذا قلته بالسكون فهو استعطاء ، ومعناه أعطني ثوبك ، ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء ، وأصله الإحضار - انتهى . { نجعلهما تحت أقدامنا } في النار إذلالاً لهما كما جعلانا تحت أمرهما { ليكونا من الأسفلين * } أي من أهل الدرك الأسفل وممن هو دوننا كما جعلانا كذلك في الدنيا في حقيقة الحال بإتباعنا لهما فيما أراد بنا ، وفي الآخرة بهذا المال ، والظاهر أن المراد أن كل أحد يتمنى أن يعرف من أضله من القبيلتين ليفعل بهم ذلك إن قدر عليه .
ولما ذكر الأعداء وقرناءهم نذارة ، أتبعه ذكر الأولياء وأوداءهم بشارة ، فقال مبيناً لحالهم القابل للإعراض وثمراته جواباً لمن يسأل عنهم مؤكداً لأجل إنكار المعاندين : { إن الذين } قال أبو حيان : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في الصديق رضي الله عنه وأرضاه . { قالوا } أي قولاً حقيقياً مذعنين به بالجنان وناطقين باللسان تصديقاً لداعي الله في دار الدنيا متذللين حيث ينفع الذل جامعين بين الأسّ الذي هو المعرفة والاعتقاد ، والبناء الذي هو العمل الصالح بالقول والفعل على السداد ، فإن أصل الكمالات النفسانية يقين مصلح وعمل صالح ، تعرف الحق لذاته والخير لتعمل له ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله ، ورأس الأعمال الصالحة الاستقامة على حد الاعتدال من غير ميل إلى طرف إفراط أو تفريط : { ربنا } أي المحسن إلينا { الله } المختص بالجلال والإكرام وحده لا شريك له .
ولما كان الثبات على التوحيد ومصححاته إلى الممات أمراً في علو رتبته لا يرام إلا بتوفيق ذي الجلال والإكرام ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : { ثم استقاموا } طلبوا وأوجدوا القوام بالإيمان بجميع الرسل وجميع الكتب ولم يشركوا به صنماً ولا ثناً ولا آدمياً ولا ملكاً ولا كوكباً ولا غير بعبادة ولا رياء ، وعملوا بما يرضيه وتجنبوا كل ما يسخطه وإن طال الزمان ، امتثالاً لما أمر به أول السورة في قوله { إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه } فمن كان له أصل الاستقامة في التوحيد أمن من النار بالخلود ، ومن كان له كمال الاستقامة في الأصول والفروع أمن الوعيد { تتنزل } على سبيل التدريج المتصل { عليهم } من حين نفخ الروح فيهم إلى أن يموتوا ثم إلى أن يدخلوا الجنة باطناً فظاهراً { الملائكة } بالتأييد في جميع ما ينوبهم فتستعلي الأحوال الملكية على صفاتهم البشرية وشهواتهم الحيوانية فتضمحل عندها ، وتشرق مرائيهم ، ثم شرح ما يؤيدونهم به وفسره فقال : { ألا تخافوا } أي من شي مثله يخيف ، وكأنهم يثبتون ذلك في قلوبهم { ولا تحزنوا } أي على شيء فاتكم ، فإن ما حصل لكم أفضل منه ، فأوقاتكم الأخراوية فيها بل هي كلها روح وراحة ، فلا يفوتهم لذلك محبوب ولا يلحقهم مكروه { وابشروا } أي املأوا صدوركم سروراً يظهر أثره على بشرتكم بتهلل الوجه ونعمة سائر الجسد { بالجنة التي كنتم } أي كوناً عظيماً على ألسنة الرسل { توعدون * } أي يتجدد لكم ذلك كل حين بالكتب والرسل ، وقال الرازي في اللوامع : يبشرون في ثلاثة مواضع : عند الموت ، وفي القبر ، ويوم البعث - انتهى . وهذا محول على الكلام الحقيقي وما قبله على أنهم يفعلون معه ما ترجمته ذلك .
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
ولما أثبتوا لهم الخير ، ونفوا عنهم الضير ، عللوه بقولهم : { نحن أولياؤكم } أي أقرب الأقرباء إليكم ، فنحن نفعل معكم كل ما يمكن أن يفعله القريب { في الحياة الدنيا } نجتلب لكم المسرات ونبعد عنكم المضرات ونحملكم على جميع الخيرات بحيث يكون لكم فيها ما تؤثره العقول بالامتناع مما تهواه النفوس وإن تراءى للرائين في الدنيا أن الأمر بخلاف ذلك ، فنوقظكم من المنام ، ونحملكم على الصلاة والصيام ، ونبعدكم عن الآثام ، ضد ما تفعله الشياطين مع أوليائهم { وفي الآخرة } كذلك حيث يتعادى الأخلاء إلا الأتقياء { ولكم فيها } أي الآخرة في الجنة وقبل دخولها في جميع أوقات الحشر { ما تشتهي } ولو على أدنى وجوه الشهوة بما يرشد إليه حذف المفعول { أنفسكم } لأجل ما منعتموها من الشهوات في الدنيا { ولكم } .
ولما كان السياق للذين استقاموا العام للسابقين وأصحاب اليمين على ما أشير إليه الختم بصفة المغفرة وتقديمها ، قيد بالظرف بخلاف ما في يس فقال : { فيها } أي الآخرة { ما تدعون * } أي ما تؤثرون دعاءه وطلبه وتسألونه وتمنونه بشهوة نفوسكم ورغبة قلوبكم .
ولما كان هذا كله بالنسبة إلى ما يعطون شيئاً يسيراً ، نبه عليه بقوله : { نزلاً } أي هذا كله يكون لكم كما يقدم إلى الضيف عند قدومه إلى أن يتهيأ ما يضاف به . ولما كان من حوسب عذب ، فلا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة ، أشار إلى ذلك بقوله : { من } أي كائناً النزل من { غفور } له صفة المحو للذنوب عيناً وأثراً على غاية لا يمكن وصفها { رحيم * } أي بالغ الرحمة بما ترضاه الإلهية ، فالحاصل أن المفسد يقيض الله له قرناء السوء من الجن والإنس يزيدونه فساداً والمصلح ييسر الله له أولياء الخير من الإنس والملائكة يعينونه ويحببونه في جميع الخيرات ويبعدونه ويكرهونه في جميع المضرات - والله يتولى الصالحين .
ولما كان هذا لمن كمل نفسه ، أتبعه بمن أكمل غيره إشارة إلى أن السعادة التامة أن يكتسب الإنسان من الصفات الفاضلة مما يصير بها كاملاً في نفسه ، فإذا فرغ اشتغل بتكميل الناقص عاطفاً على ما تقديره : ما أحسن هذا الذي كمل نفسه ، وقاله تنويهاً بعلو قدر النفع المتعدي وحثاً على مداومة الدعاء وإن أبوا وقالوا { قلوبنا في أكنة } ثم قالوا { لا تسمعوا لهذا القرآن } فإنهم لم يقولوا من ذلك شيئاً إلا ذكرت أجوبته الشافية الكافية فاندفعت جميع الشبهات وزالت غياهب الضلالات ، فصار تحذير الدعاء موضعاً للقبول { ومن أحسن قولاً } أي من جهة القول { ممن دعا } وحد الضمير دلالة على قلة هذا الصنف { إلى الله } أي الذي عم بصفات كماله جميع الخلق فهو يستعطف كل أحد بما تعرف إليه سبحانه به من صفاته { وعمل } أي والحال أنه قد عمل { صالحاً } في نفسه ليكون ذلك أمكن لدعائه أعم من أن يكون ذلك لصالح نية أو قولاً أو عملاً للجوارح الظاهرة سراً كان أو علناً ، ولذا حذف الموصوف لئلا يوهم تقيده بالأعمال الظاهرة وللاغناء عنها بقوله « دعا » بخلاف ما كان سياقه للتوبة كآية الفرقان أو اعتقاد الحشر كآية الكهف ، فإنه لا بد فيه من إظهار العمل ليكون شاهداً على صحة الاعتقاد وكمال التوبة ، والدعاء هنا مغنٍ عن ذلك { وقال } مؤكداً عند المخالف والمؤالف قاطعاً لطمع المفسد فيه : { إنني من المسلمين * } أي الراسخين في صفة الإسلام متظاهراً بذلك لا يخاف في الله لومة لائم وإن سماه أبناء زمانه كذا جافياً وغليظاً عاسياً لتصلبه في مخالفته إياهم فيما هم عليه بتسهله في انقياده لكل ما أمره به ربه سبحانه .
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
ولما كان التقدير : لا أحد أحسن قولا منه ، بل هو المحسن وحده ، فلا يستوي هذا المحسن وغيره أصلاً ، رداً عليهم أن حالهم أحسن من حال الدعاة إلى الله ، وكان القيام بتكميل الخلق يحتاج إلى جهاد للنفس عظيم من تحمل المشاق والصبر على الأذى ، وغير ذلك من جميع الأخلاق ، عطف عليه التفرقة بين عمليهما ترغيباً في الحسنات فقال : { ولا تستوي } أي وإن اجتهدت في التحرير والاعتبار { الحسنة } أي لا بالنسبة إلى أفراد جنسها ولا بالنسبة إلى عامليها عند وحدتها ، لتفاوت الحسنات في أنفسها ، والحسنة الواحدة باعتبار نيات العاملين لها واجتهادهم فيها ولا بالنسبة إلى غيرها ، وإلى ذلك إشارة بالتأكيد في قوله : { ولا السيئة } أي في نفسها ولا بالنسبة إلى جنس آخر .
ولما أنتج هذا الحث على الإقبال على الحسن والإعراض عن السيء ، وأفهم أن كلاً من القسمين متفاوت الجزئيات متعالي الدرجات ، وكان الإنسان لا ينفك عن عوارض تحصل له من الناس ومن نفسه يحتاج إلى دفع بعضها ، أنتج عند قصد الأعلى فقال : { ادفع } أي كل ما يمكن أن يضرك من نفسك ومن الناس { بالتي } أي الخصال والأحوال التي { هي أحسن } على قدر الإمكان من الأعمال الصالحات فالعفو عن المسيء حسن ، والإحسان أحسن منه { فإذا الذي بينك وبينه عداوة } عظيمة قد ملأت ما بين البينين فاجأته حال كونه { كأنه ولي } أي قريب ما يفعل القريب { حميم * } أي في غاية القرب لا يدع مهماً إلا قضاه وسهله ويسره ، وشفا علله ، وقرب بعيده ، وأزال درنه ، كما يزيل الماء الحار الوسخ .
ولما كانت هذه الخصلة أمّا جامعاً لجميع مصالح الدين والدنيا قال منبهاً على عظيم فضلها وبديع نبلها حاثاً على الاستظلال بجميع ظلها مشيراً بالبناء للمفعول إلى أنها هي العمدة المقصودة بالذات على وجه منبه على أنها مخالفة لجبلة الإنسان حثاً على الرغبة في طلبها من واهبها { وما يلقّاها } أي يجعل لاقياً لهذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بأحسن الحسن وهو الإحسان الذي هو أحسن من العفو والحلم والصبر والاحتمال بأن يعلق الله تعالى إرادته على وجه الشدة والمبالغة بإلقائها إليه { إلا الذين صبروا } أي وجدت منهم هذه الحقيقة وركزت في طباعهم ، فصاروا يكظمون الغيظ ويحتملون المكاره ، وكرر إظهار البناء للمفعول للتنبيه على أنه لا قدرة عليها أصلاً إلا بتوفيق الخالق بأمر وطني يقذفه الله في القلب قذفاً وحياً تظهر ثمرته على سائر البدن ، فقال دالاً باعادة النافي على زيادة العظم وعلى أن أصحاب هذه الخصلة على رتبتين كل رتبة منهما مقصودة في نفسها { وما يلقّاها } على ما هي عليه من العظمة { إلا } وأفرد هنا بعد جمع الصابر دلالة على ندرة المستقيم على هذه لخصلة { ذو حظ } أي نصيب وقسم وبخت { عظيم * } أي جليل في الدنيا والآخرة عند الله وعند الناس .
ولما كان التقدير : فإن لقيت ذلك وأعاذك الله من الشيطان فأنت أنت ، عطف عليه قوله معبراً بأداة الشك المفهمة لجواز وقوع ذلك في الجملة ، مع العلم بأنه صلى الله عليه وسلم معصوم إشارة إلى رتبة الإنسان من حيث هو إنسان وإلى أن الشيطان يتوهم مع علمه بالعصمة أنه يقدر على ذلك فيعلق أمله به ، وكأنه لذلك أكد لأن نزغه له في محل الإنكار { وإمّا } ولما كانت وسوسة الشيطان تبعث على ما لا ينبغي ، وكان العاقل لا يفعل ما لا ينبغي إلا بالالجاء ، شبه المتعاطي له بالمنخوس الذي حمله النخس على ارتكاب ما يضر فقال : { ينزغنك } أي ينخسنك ويطعننك طعناً مفسداً فيحصل لك تألم { من الشيطان } البعيد من الرحمة المحترق باللعنة . ولما كان المقام خطراً لأن الطبع مساعد للوسواس ، جعل النزغ نفسه نازغاً إشارة إلى ذلك فقال : { نزغ } أي وسوسة تحرك نحو الموسوس من أجله وتبعث إليه بعث المنخوس إلى الجهة التي يوجه إليها ، فإن ينبعث إلى تلك الجهة بعزم عظيم { فاستعذ بالله } أي استجر بالملك الأعلى واطلب منه الدخول في عصمته مبادراً إلى ذلك حين نخس بالنزغة فإنه لا يقدر على الإعاذة منه غيره ولا تذر النزغة تتكرر بل ارجع إلى المحيط علماً وقدرة في أول الخطرة ، فإنك إن لم تخالف أول الخطرة صارت فكرة فيحصل العزم فتقع الزلة فتصير قسوة فيحصل التمادي - نبه عليه القشيري .
ولما كانت الاستعاذة هنا من الشيطان ، وكان نزغه مما يعلم لا مما يرى وكانت صفة السمع نعم ما يرى وما لا يرى ، قال مؤكداً لوقوف الجامدين مع الظواهر : { إنه هو } أي وحده { السميع } وختم بقوله : { العليم * } الذي يسمع كل مسموع من استعاذتك وغيرها ، ويعلم كل معلوم من نزغه وغيره ، فهو القادر على رد كيده ، وتوهين أمره وأيده ، وليس هو كما جعلتموه له من الأنداد الصم البكم التي لا قدرة لها على شيء أصلاً .
ولما ذكر أنهم جعلوا له أنداداً مع أنه خلق الأرض في يومين ، وختم ذلك بأن أحسن الحسن الدعاء إلى الله ، وختم الأمر بالدعاء بصفة العلم ، أتبعه دلائل التوحيد إعلاماً بأن التوحيد أحسن الحسن يطرد كل شيء ، وتنبيهاً على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تنوير الدلائل الدالة على الذات والصفات ، وذلك ببيان الأفعال وآثارها وهو العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض جوهراً وعرضاً ، وبدأ بذكر الفلكيات لأنها أدل ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن آياته الناشئة عن شمول علمه المستلزم لشمول قدرته المنتجة لإعادته لمن يريد ونفوذ تصرفه في كل ما يشاء المستلزم لتفرده بالإلهية أنه خلق الخافقين كما مضى في ستة أيام : { ومن آياته } الدالة على وحدانيته :
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
ولما كانت الظلمة عدماً والنور وجوداً والعدم مقدم قال : { الليل والنهار } أي الدالاّن باختلافهما وهيئتهما على قدرته على البعث وعلى كل مقدور { والشمس والقمر } اللذان هما الليل والنهار كالروح لذوي الأجساد ، وهذه الموجوات - مع ما مضى من خلق الخافقين - كتاب الملك الديان ، إلى الإنس والجان ، المشهود لهم بالعيان كما قيل يا إنسان :
تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطة ... إلا كل شيء ما خلا الله باطل
ولما ثبت له سبحانه التفرد بالخلق والأمر ، وكان باطناً إلا عند من نور الله أو كانت الشمس والقمر من آياته المعرفة المشيرة في وجود الدنيا والآخرة إليه ، وكانا مشاهدين ، وكان الإنسان قاصر العقل مقيد الوهم بالمشاهدات لما عنده من الشواغل إلا من عصم الله ، أنتج قوله محذراً من عبادتهما لما يرى لهما من البهاء وفيهما من المنافع : { لا تسجدوا للشمس } التي هي أعظم أوثانكم فإنها من جملة مبدعاته ، وأعاد النافي تأكيداً للنفي وإفادة لأن النهي عن كل منهما على حدته ولذلك أظهر موضع الإضمار فقال : { ولا للقمر } كذلك .
ولما نهى عن السجود لهما ، أمر بالسجود بما يبين استحقاقه لذلك وعدم استحقاقهما أو استحقاق شيء غيرهما له فقال : { واسجدوا } ونبه على مزيد عظمته بالإظهار موضع الإضمار فقال : { لله } أي الذي له كل كمال من غير شائبة نقص من أقول أو تجدد حلول { الذي خلقهن } أي الأربعة لأجلكم فهو الذي يستحق الإلهية ، وأنث لأن ما لا يعقل حكمه حكم المؤنث في الضمير وهي أيضاً آيات ، وفيه إشارة إلى تناهي سفولها عما أهلوها له وذم عابديها بالإفراط في الغباوة ، ويمكن أن يكون عد القمر أقماراً لأنه يكون تارة هلالاً وأخرى بدراً وأخرى محواً ، فلذلك جمع إشارة إلى قهرهما بالتغيير له في الجرم ولمهما بالتسيير ، ولذلك عبر بضمير المؤنث الذي يكون لجمع الكثرة مما لا يعقل .
ولما ظهر أن الكل عبيده ، وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبداً آخر في عبادة سيده قال : { إن كنتم إياه } أي خاصة بغاية الرسوخ { تعبدون * } كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لا سيما في البحر ، ومحصل قولكم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } فإن أشركتم به شيئاً بسجود أو غيره فما خصصتموه بالعبادة لأن السجود من العبادة وفعله ولو في وقت واحد لغيره إشراك في الجملة ، ومن أشرك به لم يعبده وحده ، ومن لم يعبده وحده لم يعبده أصلاً ، لأنه أغنى الأغنياء ، لا يقبل إلا الخالص وهو أقرب إلى عباده من كل شيء فيوشك أن ينتقم بإشراككم ، وفي الآية إشارة إلى الحث على صيانة الآدميين عن أن يقع منهم سجود لغيره رفعاً لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجوداً لهم ، فإنه سبحانه أمر الملائكة الذين هم أشرف خلقه بعدهم بالسجود آدم وهم في ظهره فتكبر اللعين إبليس ، فابد لعنه ، فشتان ما بين المقامين .
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)
ولما كانوا في هذا الأمر بين طاعة ومعصية ، وكان درء المفاسد مقدماً ، سبب عن ذلك قوله معبراً بأداة الشك تنبيهاً لهم على أن استكبارهم بعد إقامة هذه الأدلة ينبغي أن لا يتوهم ، وصرف القول إلى الغيبة تحقيراً لهم وإبعاداً على تقدير وقوع ذلك منهم { فإن استكبروا } أي أوجدوا الكبر عن اتباعك فيما أمرتهم به من التوحيد فلم يوحدوا الله ولم ينزهوه تعالى عن الشريك { فالذين عند } وأظهر موضع الإصخار معبراً بوصف الإحسان بشارة له ونذارة لهم { ربك } خاصة لا عندهم لكونهم مقربين لديه في درجة الرضاء والكرامة ولكونهم مما يستغرق به الآدميون ولكون الكفار لا قدرة لهم على الوصول إليهم بوجه : { يسبحون له } أي يوقعون التنزيه عن النقائص ويبعدون عن الشركة لأجل علوه الأقدس وعزه الأكبر لا لشيء غيره إخلاصاً في عبادته وهم لا يستكبرون .
ولما كان حال الكفار في الإخلاص مختلفاً في الشدة والرخاء ، أشار إلى تقبيح ذلك منهم بتعميم خواصه عليهم الصلاة والسلام بالإخلاص حالتي الإثبات الذي هو حالة بسط في الجملة ، والمحو الذي هو حالة قبض كذلك يجددون هذا التنزيه مستمرين عليه في كل وقت فقال : { بالليل والنهار } أي على مر الملوين وكر الجديدين لا يفترون . ولما كان في سياق الفرص لاستكبارهم المقتضي لإنكارهم ، أكد بالعاطف والضمير فقال مؤذناً بأن هذا ديدنهم لا ينفكون عنه : { وهم } أي والحال أنهم على هذا الدوام { لا يسئمون * } أي لا يكاد لهم في وقت من الأوقات فتور ولا ملل ، فهو غني عن عبادة هؤلاء بل وعن عبادة كل عابد ، والحظ الأوفر لمن عنده وأما هو سبحانه فلا يزيده شيئاً ولا ينقصه شيء فدع هؤلاء أن استكبروا وشأنهم ، فيعلمون من الخاسر ، فالآية من الاحتباك : ذكر الاستكبار أولاً دليلاً على حذفه ثانياً والتسبيح ثانياً دليلاً على حذفه أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر أقبح ما لأعدائه وأحسن ما لأوليائه .
ولما ذكر بعض آيات السماء لشرفها ، ولأن بعضها عبد ، ومن آثار الإلهية ، فذكر دلالتها على وحدانيته اللازم منه إبطال عبادتها ، أتبعه بعض آيات الأرض بخلاف ما في يس ، فإن السياق هناك للبعث وآيات الأرض أدل فقال : { ومن آياته } أي الدالة على عظم شأنه وعلو سلطانه { أنك ترى الأرض } أي بعضها بحاسة البصر وبعضها بعين البصيرة قياساً على ما أبصرته ، لأن الكل بالنسبة إلى القدرة على حد سواء .
ولما كان السياق للوحدانية ، عبر بما هو أقرب إلى حال العابد بخلاف ما مضى في الحج فقال : { خاشعة } أي يابسة لا نبات فيها فهي بصورة الذليل الذي لا منعة عنده لأنه لا مانع من المشي فيها لكونها متطأمنة بعد الساتر لوجهها بخلاف ما إذا كانت مهتزة رابية متزخرفة تختال بالنبات .
ولما كان إنزال الماء مما استأثر به سبحانه ، فهو من أعظم الأدلة على عظمة الواحد ، صرف القول إلى مظهر العظمة فقال : { فإذا أنزلنا } بما لنا من القدرة التامة والعظمة { عليها الماء } من الغمام أو سقناه إليها من الأماكن العالية وجلبنا به إليه من الطين ما تصلح به للانبات وإن كانت سبخة كأرض مصر { اهتزت } أي تحركت حركة عظيمة كثيرة سريعة ، فكانت كمن يعالج ذلك بنفسه { وربت } أي تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطياً لوجهها ، وتشعبت عروقه ، وغلظت سوقه ، فصار يمنع سلوكها على ما كان فيه من السهولة ، وصار بحسن زيه بمنزلة المختال في أثواب ثرية بعد أن كان عارياً ذليلاً في أطمار رثة وحل زرىء وكذلك القلوب إذا خشعت لاستشعارها بما ألمت به من الذنوب أقبل الحق سبحانه عليها فطهرها بمياه المعارف فظهرت فيها بركات الندم وعفا عن أربابها ما قصروا في صدق القدم وأشرقت بحلى الطاعات وزهت بملابس القربات ، وزكت بأنواع التجليات .
ولما كان هذا دليلاً مشاهداً على القدرة على إيجاد المعدوم ، وإعادة البالي المحطوم ، أنتج ولا بد قوله مؤكداً لأجل ما هم فيه من الإنكار صارفاً القول عن مظهر العظمة إلى ما ينبه على القدرة على البعث ولا بد : { إن الذي أحياها } بما أخرج من نباتها الذي كان بلي وتحطم وصار تراباً { لمحيي الموتى } كما فعل بالنبات من غير فرق . ولما كانوا مع إقرارهم بتمام قدرته كأنهم ينكرون قدرته لإنكارهم البعث قال معللاً مؤكداً : { أنه على كل شيء قدير * } لأن الممكنات متساوية الأقدام بالنسبة إلى القدرة ، فالقادر قدرة تامة على شيء منها قادر على غيره .
ولما بين أن الدعوة إلى الله أعظم المناصب ، وأشرف المراتب ، وبين أنها إنما تحصل ببيان دلائل التوحيد التي من اعظمها البعث ، وبينه إلى أن كان بهذا الحد من الوضوح ، كان مجز التهديد من أعرض عن قبوله : فقال في عبارة عامة له ولغيره ، مؤكداً تنبيهاً على أن فعلهم فعل من يظن أنه سبحانه لا يطلع على أعماله : { إن الذين يلحدون * } أي يميلون بصرف المعاني عن القصد وسنن العدل بنحو قولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ، أو يماحلون باللغو بالمكاء والتصدية وغير ذلك من أنواع اللغط وكل ما يشمله معنى الميل عما تصح إرادته .
ولما كان الاجتراء على الإلحاد قادحاً في الاعتراف بالعظمة ، أعاد مظهرها فقال : { في آياتنا } على ما لها من العظمة الدالة على ما لنا من الوحدانية وشمول العلم وتمام القدرة : ولما كان العلم بالإساءة مع القدرة سبباً للأخذ ، قال مقرراً للعلم بعد تقرير القدرة : { لا يخفون علينا } أي في وقت من الأوقات ولا وجه من الوجوه ، ونحن قادرون على أخذهم ، فمتى شئنا أخذنا ، ولا يعجل إلا ناقص يخشى الفوت .
ولما كان الإلحاد سبباً لإلقاء صاحبه في النار ، وكان التقدير : ونحن نحلم عن العصاة فمن رجع إلينا أمن كل مخوف ، ومن أعرض إلى الممات ألقيناه في النار ، سبب عنه قوله تعالى : { أفمن يلقى في النار } أي على وجهه بأيسر أمر بسبب إلحاده في الآيات وإعراضه عن الدلالات الواضحات ، فيكون خائفاً يوم القيامة لما يرى من مقدمات ذلك حتى يدهمه ما خاف منه { خير أم من يأتي } إلينا { آمناً يوم القيامة } حين نجمع عبادنا للعرض علينا للحكم بينهم بالعدل فيدخل الجنة دار السلام فيدوم أمنه ، والآية من الاحتباك : ذكر الإلقاء في النار أولاً دليلاً على دخول الجنة ثانياً ، والأمن ثانياً دليلاً على الخوف أولاً ، وسره أنه ذكر المقصود بالذات ، وهو ما وقع الخوف لأجله أولاً ، والأمن الذي هو العيش في الحقيقة ثانياً .
ولما كان هذا راداً ولا بد للعاقل عن سوء أعماله إلى الإحسان رجاء إنعام الله وإفضاله ، أنتج قوله مهدداً ومخوفاً ومتوعداً صارفاً القول عن الغيبة إلى الخطاب لأنه أدل على الغضب على التمادي بعد هذا البيان : { اعملوا ما شئتم } أي فقد علمتم مصير المسيء والمحسن ، فمن أراد شيئاً من الجزاءين فليعمل أعماله ، فإنه ملاقيه . ولما كان العامل لا يطمع في الإهمال إلى على تقدير خفاء الأعمال ، والمعمول له لا يترك الجزاء إلا لجهل أو عجز ، بين أنه سبحانه محيط العلم عالم بمثاقيل الذر فقال مرغباً مرهباً مؤكداً لأنهم يعملون عمل من يظن أن أعماله تخفى ، عادلاً عن مظهر العظمة إلى ما هو أدل شيء على الفردانية ، لئلا يظن ان مزيد العلم بواسطة كثيرة : { إنه } وقدم أعمالهم تنبيهاً على الاهتمام بشأنها جداً فقال : { بما تعملون } أي في كل وقت { بصير * } بصراً وعلماً ، فهو على كل شيء منكم قدير .
ولما جعل إليهم الاختيار في العمل تهديداً ، أتبعه الإخبار بما لمن خالفه ، فقال مؤكداً لإنكارهم مضامين ما دخل عليه التأكيد : { إن الذين كفروا } أي ستروا مرائي العقول الدالة على الحق مكذبين { بالذكر } الذي لا ذكر في الحقيقة غيره { لمّا جاءهم } من غير توقف أصلاً فدل ذلك منهم على غاية العناد { وإنه } أي والحال أنه { لكتاب } أي جامع لكل خير { عزيز * } أي لا يوجد مثله فهو يغلب كل ذكر ولا يغلبه ذكر ولا يقرب من ذلك ، ويعجز كل معارض ولا يعجز أصلاً عن إقعاد مناهض .
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
ولما كان من معاني العزة أنه ممتنع بمتانة رصفه وجزالة نظمه وجلالة معانيه من أن يلحقه تغيير ما ، بين ذلك بقوله : { لا يأتيه الباطل } أي البين البطلان إتيان غلبة فيصير أو شيء منه باطلاً بيّنا ، ولما كان المراد تعميم النفي ، لا نفي العموم ، أدخل الجار فقال : { من بين يديه } أي من جهة الظاهر مثل ما أمر أخبر به عما كان قبله { ولا من خلفه } من جهة العلم الباطن مثل علم ما لم يشتهر من الكائن والآتي سواء كان حكماً أو خبراً لأنه في غاية الحقية والصدق ، والحاصل أنه لا يأتيه من جهة من الجهات ، لأن ما قدام اوضح ما يكون ، وما خلف أخفى ما يكون ، فما بين ذلك من باب الأولى ، فالعبارة كناية عن ذلك لأن صفة الله لا وراء لها ولا أمام على الحقيقة ، ومثل ذلك ليس وراء الله مرمى ، ولا دون الله منتهى ، ونحوه مما تفهم العرب ومن علم لسانها المراد به دون لبس ، ثم علل ذلك بقوله : { تنزيل } أي بحسب التدريج لأجل المصالح { من حكيم } بالغ الحكمة فهو يضع كل شيء منه في أتم محاله في وقت النزول وسياق النظم { حميد * } أي بالغ الإحاطة بأوصاف الكمال من الحكمة وغيرها والتنزه والتطهر والتقدس عن كل شائبة نقص ، يحمده كل خلق بلسان حاله إن لم يحمده بلسان قاله ، بما ظهر عليه من نقصه أو كماله ، والخبر محذوف تقديره : خاسرون لا محالة لأنهم لا يقدرون على شيء مما يوجهونه إليه من الطعن لأنهم عجزة ضعفاء صغرة كما قال المعري :
أرى الجوزاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا
وحذف الخبر أهول لتذهب النفس كل مذهب .
ولما وصف الذكر بأنه لا يصح ولا يتصور أن يلحقه نقص ، فبطل قولهم { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } ونحوه مما مضى وحصل الأمن منه ، أتبعه التسلية مما يلحق به من الغم ليقع الصبر على جميع أقوالهم فقال : { ما يقال لك } أي يبرز إلى الوجود قوله سواء كان في ماضي الزمان أو حاضره آو آتيه من شيء من الكفار أو غيرهم يحصل به ضيق صدر أو تشويش فكر من قولهم { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } إلى آخره . وغير ذلك مما تقدم أنهم قالوه له متعنتين به { إلا ما } أي شيء { قد قيل } أي حصل قوله على ذلك الوجه { للرسل } وأن لم يقل لكل واحد منهم فإنه قيل للمجموع ، ونبه على أن ذلك ليس لمستغرق للزمان بل تارة وتارة بإدخال الجار في قوله : { من قبلك } ولما حصل بهذا الكلام ما أريد من التأسية ، فكان موضع التوقع لهم أن يحل بهم ما حل بالأمم قبلهم من عذاب الاستئصال ، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الشفقة عليهم والمحبة لصلاحهم ، سكن سبحانه روعه بالإعلام بأن رحمته سبقت غضبه فقال مخوفاً مرجياً لأجل إنكار المنكرين : { إن } وأشار إلى مزيد رفعته بذكر صفة الإحسان وإفراد الضمير فقال : { ربك } أي المحسن إليك بارسالك وإنزال كتابه إليك ، ومن أكرم بمثل هذا لا ينبغي له أن يحزن لشيء يعرض { لذو مغفرة } أي عظيمة جداً في نفسها وزمانها ومكانها لمن يشاء منهم ، فلا يقطع لأحد بشقاء .
ولما رغبهم باتصافه بالمغفرة ، رهبهم باتصافه بالانتقام ، وأكد باعادة « ذو » والواو فقال : { وذو عقاب } والختم بما رويه الميم مع تقديم الاسم الميمي في التي قبلها دال للأشعري الذي قال بأن الفواصل غير مراعية في الكتاب العزيز ، وإنما المعول عليه المعاني لا غير ، والمعنى هنا على إيلام من كانوا يؤلمون أولياءه باللغو عند التلاوة الدالة على غاية العناد ، فلذلك قدم حكيم ، ولم يقل شديد ، وقال : { أليم * } أي كذلك ، فلا يقطع لأحد نجاة إلا من أخبر هو سبحانه بإشقائه أو إنجائه ، وقد تقدم فعله لكل من الأمرين أنجى ناساً وغفر لهم كقوم يونس عليه الصلاة والسلام ، وعاقب آخرين ، وسيفعل في قومك من كل من الأمرين ما هو الأليق بالرحمة بإرسالك ، كما أشار إليه ابتداؤه بالمغفرة ، فالآية نحو : إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ، ولعله لم يصرح هنا تعظيماً للقرآن الذي الكلام بسببه .
ولما افتتحت السورة بأنه أنزل على أحسن الوجوه وأجملها وأعلاها وأبينها وأكملها من التفصيل ، والجمع والبيان بهذا اللسان العظيم الشأن ، فقالوا فيه ما وقعت هذه التسلية لأجله من قولهم { فلوبنا في أكنة } إلى آخره ، وكان ربما قال قائل؛ لو كان بلسان غير العرب ، وأعطى هذا النبي فهمه والقدرة وعلى تبيينه لكان أقوى في الإعجاز وأجدر بالاتباع ، أخبر أن الأمر ليس كذلك ، لأنهم لم يقولوا : هذا الشك حصل لهم في أمره ، بل عناداً ، والمعاند لا يرده شيء ، فقال على سبيل التأكيد ، معلماً بأن الأمر على غير ما ظنه هذا الظان ، وقال الأصبهاني : إنه جواب عن قولهم { وقالوا قلوبنا في أكنه } . والأحسن عندي أن يكون عطفاً على { فصلت آياته قرآناً عربياً } وبناه للمفعول لأنه بلسانهم فلم يحتج إلى تعيين المفصل ، فيكون التقدير : فقد جعلناه عربياً معجزاً ، وهم أهل العلم باللسان ، فأعرضوا عنه وقالوا فيه ما تقدم ، ولفت القول عن وصف الإحسان الذي اقتضى أن يكون عربياً إلى مظهر العظمة الذي هو محط إظهار الاقتدار وإنفاذ الكلمة { ولو جعلناه } أي هذا الذكر بما لنا من العظمة والقدرة { قرآناً } أي على ما هو عليه من الجمع { أعجمياً } أي لا يفصح وهو مع ذلك على وجه يناسب عظمتنا ليشهد كل أحد أنه معجز للعجم كما أن معجز للعرب وأعطيناك فهمه والقدرة على إفهامهم إياه { لقالوا } أي هؤلاء المتعنتون فيه كما يقولون في هذا بغياً وتعنتاً : { لولا } أي هلا ولم لا { فصلت آياته } أي بينت على طريقة نفهمها بلا كلفة ولا مبين ، حال كونه قرآناً عربياً كما قدمنا أول السورة .
ولما تبين بشاهد الوجود أنهم قالوا في العربي الصرف وبشهادة الحكيم الودود ، وأنهم يقولون في الأعجمي الصرف ، لم يبق إلا المختلط منهما المنقسم إليهما ، فقال مستأنفاً منكراً عليهم للعلم بأن ذلك منهم مجرد لدد لا طلباً للوقوف على سبيل الرشد : { أعجمي } أي أمطلوبكم أو مطلوبنا - على قراءة الخبر من غير استفهام - أعجمي { وعربي } مفصل باللسانين ، والأعجمي كما قاله الرازي في اللوامع : الذي لا يفصح ولو كان عربياً والعجمي من العجم ولو تفاصح بالعربية .
ولما كان من الجائز أن يقولوا : نعم ، ذلك مطلوبنا ، وكان نزولاً من الرتبة العليا إلى ما دونها مع أنه لا يجيب إلى المقترحات إلا مريد للعذاب ، او عاجز عن إنفاذ ما نريد ، بين أن مراده نافذ من غير هذا فقال : { قل هو } أي هذا القرآن على ما هو عليه من العلو الذي لا يمكن أن يكون شيء يناظره { للذين آمنوا } أي أردنا وقوع الإيمان منهم { هدى } بيان لكل مطلوب { وشفاء } لما في صدروهم من داء الكفر والهواء والإفك فآذانهم به سميعة وقلوبهم له واعية وهو لهم بصائر قال القشيري فهو شفاء للعلماء حيث استراحوا عن كد الفكرة وتحير الخواطر وشفاء لضيق صدور المريدين بما فيه من التنعيم بقراءته والتلذذ بالتفكر فيه ، ولقلوب المحبين من لواعج الاشتياق بما فيه من لطائف المواعيد ، ولقلوب العارفين بما يتوالى عليها من أنوار التحقيق وآثار خطاب الرب العزيز { والذين لا يؤمنون } أي أردنا أنه لا يتجدد منهم إيمان { في آذانهم وقر } أي ثقل مذهب للسمع مصم ، فهم لذلك لا يسمعون سماعاً ينفعهم لأنهم بادروا إلى رده أول ما سمعوه وتكبروا عليه فصاروا لا يقدرون على تأمله فهزهم الكسل وأصمهم الفشل فعز عليهم فهمه { وهو عليهم } أي خاصة { عمى } مستعلٍ على أبصارهم وبصائرهم لازم لهم ، فهم لا يعونه حق الوعي ، ولا يبصرون الداعي به حق الإبصار ، فلهم به ضلال وداء ، فلذلك قالوا { ومن بيننا وبينك حجاب } وذلك لما يحصل لهم من الشبه التي هيئت قلوبهم لقبولها ، أو يتمادى بهم في الأوهام التي لا يألفون سوى فروعها وأصولها ، فقد بان لأن سبب الوقر في آذانهم الحكم بعدم إيمانهم للحكم بإشقائهم ، فالآية من الاحتباك : ذكر الهدى والشفاء اولاً دليلاً على الضلال والداء ثانياً ، والوقر والعمى ثانياً دليلاً على السمع والبصائر أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر أمدح صفات المؤمنين وأذم صفات الكافرين ، لأنه لا أحقر من أصم أعمى .
ولما بان بهذا بعدهم عن عليائه وطردهم عن فنائه قال : { أولئك } أي البعداء البغضاء مثالهم مثال من { ينادون } أي يناديهم من يريد نداءهم غير الله { من مكان بعيد * } فهم بحيث لا يتأبى سماعهم ، وأما الأولون فهم ينادون بما هيئوا له من القبول من مكان قريب ، فهذه هي القدرة الباهرة ، وذلك أن شيئاً واحداً يكون لناس في غاية القرب ولناس معهم في مكانهم في أنهى البعد .
ولما كان التقدير : فلقد آتيناك الكتاب على هذه الصفة من العظمة ، فاختلفت فيه أمتك على ما أعلمناك به أول البقرة من انقسام الناس فعاقبنا الذين تكبروا عليه أن ختمنا على مشاعرهم ، عطف عليه مسلياً قوله مؤكداً لمن يقول من أهل الكتاب إضلالاً : لو كان نبياً ما اختلف الناس عليه ونحو ذلك مما يلبس به : { ولقد آتينا } أي على ما لنا من العظمة { موسى الكتاب } أي الجامع لما فيه هداهم { فاختلف } أي وقع الاختلاف { فيه } أي من أمته كما وقع في هذا الكتاب لأن الله تعالى خلق الخلق للاختلاف مع ما ركب فيهم من العقول الداعية إلى الإنفاق { ولولا كلمة } أي إرادة { سبقت } في الأزل ، ولفت القول إلى صفة الإحسان ترضية بالقدر وتسلية ، وزاد ذلك بإفراده بالإضافة فقال : { من ربك } أي المحسن إليك بتوفيق الصالح لاتباعك وخذلان الطالح بالطرد عنك لإراحتك منه من غير ضرر لدينك وبإهمال كل إلى أجل معلوم ثم إمهال الكل إلى يوم الفصل الأعظم من غير استئصال بعذاب كما صنعنا بغيرهم من الأمم { لقضي } أي وقع القضاء الفيصل { بينهم } المختلفين بإنصاف المظلوم من ظالمه الآن . ولما علم بهذا وغيره أن يوم القيامة قد قدره وجعله موعداً من لا يبدل القول لديه ، فاتضح أنه لا بد منه ولا محيد عنه وهو يجادلون فيه ، قال مؤكداً : { إنهم لفي شك } أي محيط بهم { منه } أي القضاء يوم الفصل { مريب * } أي موقع في الريب وهو التهمة والاضطراب بحيث لا يقدرون على التخلص من دائرته أصلاً .
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
ولما تقرر بما مضى أن المطيع ناجٍ ، وتحرر أن العاصي هالك كانت النتيجة من غير تردد : { من عمل صالحاً } كائناً من كان من ذكر أو أنثى { فلنفسه } أي فنفع عمله لها ببركتها به لا يتعداها ، والنفس فقيرة إلى التزكية بالأعمال الصالحة لأنها محل النقائص ، فلذا عبر بها ، وكان قياس العبارة في جانب الصلاح . « ومن عمل سيئاً » فأفاد العدول إلى ما عبر به مع ذكر العمل أولاً الذي مبناه العلم إن الصالح تتوقف صحته على نيته ، وأن السيء يؤاخذ به عامله في الجملة من الله أو الناس ولو وقع خطأ فلذا قال : { ومن أساء } أي في عمله { فعليها } أي على نفسه خاصة ليس على غيره منه شيء .
ولما كان لمقصد السورة نظر كبير إلى الرحمة ، كرر سبحانه وصف الربوبية فيها كثيراً ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فما ربك بتارك جزاء أحد أصلا خيراً كان أو شراً : { وما ربك } أي المحسن إليك بإرسالك لتتميم مكارم الأخلاق . ولما كان لا يصح أصلاً ولا يتصور أن ينسب إليه سبحانه ظلم ، عبر للدلالة على ذلك بنكرة في سياق النفي دالة على النسبة مقرونة بالجار فقال : { بظلام } أي بذم ظلم { للعبيد * } أي الجنس فلا يتصور أن يقع منه ظلم لأحد أصلاً لأن له الغنى المطلق والحكمة البالغة ، وعبر ب « عبيد » دون عباد لأنه موضع إشفاق وإعلام بضعف وعدم قدرة على انتصار وعناد يدل على طاعة وعدم حقارة بل إكرام هذا أغلب الاستعمال ، ولعل حكمة التعبير بصيغة المبالغة الإشارة إلى أنه لو ترك الحكم والأخذ للمظلوم من الظالم ، لكان بليغ الظلم من جهة ترك الحكمة التي هي وضع الأشياء في أتقن محالها ثم من جهة وضع الشيء وهو العفو عن المسيء وترك الانتصار للمظلوم في غير موضعه ، ومن جهة التسوية بين المحسن والمسيء ، وذلك أشد في تهديد الظالم لأن الحكيم لا يخالف الحكمة فكيف إذا كانت المخالفة في غاية البعد عنها - هذا مع أن التعبير بها لا يضر لأنها موضوعة أيضاً للنسبة إلى أصل المعنى مطلقاً ولأن نفي مطلق الظلم مصرح به في آيات أخرى .
ولما تضمنت الآية السالفة الجزاء على كل جليل وحقير ، وقليل وكثير ، والبراءة من الظلم ، كما قال تعالى { وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون } { ووفيت كل نفس ما عملت } [ آل عمران : 25 ] { وهو أعلم بما يفعلون } وأشير إلى التوعد بالجزاء في يوم الفصل لأنا نشاهد أكثر الخلق يموت من غير جزاء ، وكان من عادتهم السؤال عن علم ذلك اليوم ، وكان ترك الجزاء إنما يكون للعجز ، والظلم إنما يكون للجهل ، لأنه وضع الأشياء في غير محالها فعل الماشي في الظلام ، دل على تعاليه عن كل منهما بتمام العلم المستلزم لشمول القدرة على وجه فيه جوابهم عن السؤال عن علم الوقت الذي تقوم فيه الساعة الذي كان سبباً لنزول هذه الآية - كما ذكره ابن الجوزي - بقوله على سبيل التعليل : { إليه } أي إلى المحسن إليك لا إلى غيره { يرد } من كل راد { علم الساعة } أي التي لا ساعة في الحقيقة غيرها ، لما لها من الأمور التي لا نسبة لغيرها بها ، فهي الحاضرة لذلك في جميع الأذهان ، وإنما يكون الجزاء على الإساءة والإحسان فيها حتى يظهر لكل أحد ظهوراً بينا لكل أحد أنه لا ظلم أصلاً ، فلا يمكن أن يسأل أحد سواه عنها ويخبر عنها بما يغنى في تعيين وقتها وكيفيتها وصنعتها ، وكلما انتقل السائل من مسؤول ألى أعلم منه وجده كالذي قبله حتى يصل الأمر إلى الله تعالى ، والعالم منهم هو الذي يقول : الله أعلم ، فاستئثاره بعلمها دال على تناهي علمه ، وحجبه له عن كل من دونه دال على تمام قدرته ، واجتماع الأمرين مستلزم لبعده عن الظلم ، وأنه لا يصح اتصافه به ، فلا بد من إقامته لها ليوفي كل ذي حق حقه ، ويأخذ لكل مظلوم ظلامته غير متعتع .
ولما كانوا ينازعون في وقوعها فضلاً عن العلم بها ، عدها أمراً محققاً مفروغاً منه وذكر ما يدل على شمول علمه لكل حادث في وقته دليلاً على علمه بما يعين وقت الساعة ، وذلك على وجه يدل على قدرته عليها وعلى كل مقدور بما لا نزاع لهم فيه من ثمرات النبات والحيوان التي هي خبء في ذوات ما هي خارجة منه ، فهي كخروج الناس بعد موتهم من خبء الأرض ، فقال مقدماً للرزق على الخلق كما هو الأليق ، عطفاً على ما تقديره : فما يعلمها ولا يعلمها إلا هو : { وما تخرج } أي في وقت من الأوقات الماضية والكائنة والآية ، فإن « ما » النافية لا تدخل إلا على معناه الحلول ، فالمراد مجرد تصوير إن كان زمانه قد مضى أو لم يأت ، وأكد النفي بالجار فقال : { من ثمرات } أي صغيرة أو كبيرة صلحة أو فاسدة من الفواكه والحبوب وغيرها؛ والإفراد في قراءة الجماعة للجنس الصالح للقليل والكثير ، نبهت قراءة نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بالجمع على كثرة الأنواع { من أكمامها } جمع كم وكمامة بالكسر فيهما وهو وعاء الطلع وغطاء النور ، وكل ما غطى على وجه الإحاطة شيئاً من شابه أن يخرج فهوكم ، ومنه قيل للقلنسوة : كمة ، ولكم القميص ونحوه : كم ، أي إلا بعلمه { وما تحمل من أنثى } خداجاً أو تماماً ، ناقصاً أو تاماً ، وكذا النفي باعادة النافي ليشمل كلا على حياله ، وعبر ب « لا » لأن الوضع ليس كالحمل يقع في لحظة بل يطول زمان انتظاره فقال : { ولا تضع } حملاً حياً أو ميتاً { إلا } حال كونه ملتبساً { بعلمه } ولا علم لأحد غيره بذلك ، ومن ادعى علماً به فليخبر بأن ثمرة الحديقة الفلانية والبستان الفلاني والبلد الفلاني تخرج في الوقت الفلاني أو لا تخرج العام شيئاً أصلاً والمرأة الفلانية تحمل في الوقت الفلاني وتضع في وقت كذا أو لا تحمل العام شيئاً ، ومن المعلوم أنه لا يحيط بهذا علماً إلا الله سبحانه وتعالى .
ولما ثبت بهذا علمه صريحاً وقدرته لزوماً وعجز من سواه وجهله ، وتقرر بذلك أمر الساعة من أنه قادر عليها بما أقام من الأدلة ، وأنه لا بد من كونها لما وعد به من تكوينها لينصف لمظلوم من ظالمه لأنه حكيم ولا يظلم أحداً وإن كانوا في إيجادها ينازعون ، ولم ينكرون قال تعالى مصوراً ما تضمنه ما سبق من جهلهم ، ومقرراً بعض أحوال القيامة ، عاطفاً على أرشد السياق إلى تقديره من نحو : فهو على كل شيء قدير لأنه على كل شيء شهيد وهم بخلاف ذلك ، مقرراً قدرته تصريحاً وعجز ما ادعوا من الشركاء : { ويوم يناديهم } أي المشركين بعد بعثهم من القبور ، للفصل بينهم في سائر الأمور فيقول المحسن إليك بأنواع الإحسان الذي منه إنصاف المظلوم من ظالمه على سبيل الأمور فيقول المحسن إليك بأنواع الإحسان الذي منه إنصاف المظلوم من ظالمه على سبيل التوبيخ والتقريع والتنديم : { أين شركائي } أي الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم ويحمونكم من العقاب واللوم ، والعامل في الظرف { قالوا } أي المشركون : { آذنّاك } أي اعلمناك سابقاً بألسنة أحوالنا والآن بألسنة مقالنا ، وفي كلتا الحالتين أنت سامع لذلك لأنك سامع لكل ما يمكن أن يسمع وإن لم يسمعه غيرك ، ولذا عبروا بما منه الإذن { ما منا } وأكدوا النفي بإدخال الحار في المبتدأ المؤخر فقالوا : { من شهيد * } أي حي دائماً حاضر دون غيبة ، مطلع على ما يريد من غير خفاء بحيث لا يغيب عن علمه شيء فيخبر بما يخبر به على سبيل القطع والشهادة ، فآل الأمر إلى أن المعنى : لا نعلم أي ما كنا نسميهم شركاء لأنه ما منا من هو محيط العلم .
ولما قرر جهلهم ، أتبعه عجزهم فقال : { وضل } أي ذهب وشذ وغاب وخفي { عنهم } ولما كانت معبوداتهم إما ممن لا يعقل كالأصنام وإما في عداد ذلك لكونهم لا فعل لهم في الحقيقة ، عبر عنهم بأداة ما لا يعقل فقال : { ما كانوا } أي دائماً { يدعون } في كل حين على وجه العادة .
ولما كان دعاؤهم لهم غير مستغرق لزمان القبل ، أدخل الجار فقال : { من قبل } فهم لا يرونه فضلاً عن أنهم يجدون نفعه ويلقونه ، كأنهم كانوا لما هم عريقون فيه من الجهل وسوء الطبع يتوقعون أن يظفروا بهم فيشفعوا لهم ، فلذلك عبر بالظن في قوله : { وظنوا } أي في ذلك الحال { ما لهم } وأبلغ في النفي بإدخال الجار على المبتدأ المؤخر فقال { من محيص * } أي مهرب وملجأ ومعدل .
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
ولما دل أتباعهم للظن حتى في ذلك اليوم الذي تنكشف فيه الأمور ، وتظهر عظائم المقدور ، وإلقاؤهم بأيديهم فيه على أنهم في غاية العراقة في الجهل والرسوخ في العجز ، أتبع ذلك الدليل على أن ذلك طبع هذا النوع فلا يزال متبدل الأحوال متغير المناهج ، إن أحسن بخير انتفخ عظمه وتطاول كبراً ، وإن مس ببلاء تضاءل ذلاً وأمتلأ ضعفاً وعجزاً ، وذلك ضد مقصود السورة الذي هو العلم ، بياناً لأن حال هذا النوع بعيد من العلم ، عريق الصفات في الجهل والشر إلا من عصمه الله فقال تعالى : { لا يسئم } أي يمل ويضجر { الإنسان } أي من الأنس بنفسه الناظر في أعطافه ، الذي لم يتأهل للمعارف الإلهية والطرق الشرعية { من دعاء الخير } أي من طلبه طلباً عظيماً ، وذلك دال مع شرهه على جهله ، فإنه لو كان عالماً بأن الخير يأتيه أو لا يأتيه لخفف عن نفسه من جهده في الدعاء { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } [ الأعراف : 188 ] { وإن مسه الشر } أي هذا النوع قليله وكثيره بغتة من جهة لا يتوقعها { فيؤوس } أي عريق في اليأس ، وهو انقطاع الرجاء والأمل والحزن العظيم والقطع بلزوم تلك الحالة بحيث صار قدوة في ذلك { قنوط * } أي مقيم في دار انقطاع الأمل والخواطر الرديئة ، فهو تأكيد للمعنى على أحسن وجه وأتمه ، وهذا هو ما طبع عليه الجنس ، فمن أراد الله به منهم خيراً عصمه ، ومن أراد به شراً أجراه مع الطبع فكان كافراً ، لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون قال أبو حيان : واليأس من صفة القلب وهو أن ينقطع رجاؤء من الخير ، والقنوط أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر ، وبدأ بصفة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الانكسار .
ولما دل ذلك على عظيم جهله وغلبة أفكاره الرديئة على عقله ، أتبعه تأكيداً لذلك ما يدل على أن حاله بعد هذا اليأس الذي قطع فيه بلزوم الشر وامتناع حصول الخير أنه لو عاودته النعمة بغتة من وجه لا يرجوه ، وليس له دليل على ما دوامها وانصرامها لعاد إلى البطر والكبر والأشر ، ونسي ما كان فيه من الشدة ، فقال مسنداً إلى نفسه الخير بعد أن ذكر الشر ، ولم يسنده إليه تعليماً للأدب معبراً بمظهر العظمة تنبيهاً على أن ذلك من جليل التدبير { ولئن أذقناه } أي الإنسان الذي غلبت عليه حالة الأنس بنفسه حتى أسفلته عن أبناء جنسه إلى رتبة الحيوانات العجم بل دونها .
ولما أخبر آخر الآية السالفة عن حاله عند الشر ، قدم هنا ضده على صلته اهتماماً به بخلاف ما في سورة هود عليه السلام فقال : { رحمة منا } أي نعمة عظيمة دلت على إكرامه من جهة لا يرجوها ، وهو من فائدة التعبير بأداة الشك ، ودل بإثبات الجار على انفصالها عن الضر مع قرب زمانها منه ليكون قد جمع مباشرة الأحوال الثلاث : الانتقام والإكرام وما بينهما من الوسط الذي بين حالتي الرضا والسخط ، ثم شرع بيان ذلك فقال : { من بعد ضراء } أي محنة وشدة عظيمة { مسته } فطال بروكها عليه؛ وأجاب القسم لتقدمه على الشرط بقوله : { ليقولن } بمجرد ذوق تلك الرحمة على أنها ربما كانت بلاء عظيماً لكونها استدراجاً إلى الهلاك : { هذا } أي الأمر العظيم { لي } أي مختص بي لما لي من الفضل ، لا مشاركة لأحد معي فيه مع أنه ثابت لا يتغير انتقالاً من حالة اليأس إلى حالة الأمن والبطر والكبر والأشر على قرب الزمن من ذوق المحن وينسى أنها من فضل الله ليقيدها بشكرها ، ويطردها بكفرها { وما أظن الساعة } أي القيامة التي هي لعظمها المستحقة أن تختص باسم الساعة { قائمة } أي ثابتاً قيامها ، فقطع الرجاء منها سواء عبر عن ذلك بلسان قاله أو بلسان حاله ، لكونه يفعل أفعال الشاك فيها كما كان قطع الرجاء من الخير عند مباشرته للشر لكنه هنا قال على سبيل التقدير : والفرض ، لدفع من يعظه محققاً لدوام نعمته : { ولئن رجعت } أي على سبيل الفرض بقسر قاسر ما { إلى ربي } أي الذي أحسن إليّ بهذا الخير الذي أنا فيه { إن لي عنده } وأكده على من يعظه بأنه يعذب إن لم يحسن قلبه وقالبه { للحسنى } أي الحالة والرتبة البالغة في الحسن حداً لا يوصف لأني أهل لذلك ، والدليل على تأهلي له ما أنا فيه الآن من الخير ، ونسي ما يشاهده غالباً من أن كثيراً من النعم يكون للاستدارج ، ومن أن كثيراً من الناس يكون في غاية النعمة فيصبح وقد أحاطت به كل نقمه ، فهو بين أمنيتين في الدنيا بقوله هذا ، وفي الآخرة يقول : يا ليتي كنت تراباً ، فلا يزال في المحال - نعوذ بالله من سوء الحال .
ولما كان هذا هو الكفر الصراح لنسيان نعمة المنعم وجعله الإنعام من الواجب اللازم وشكه فيما أخبر سبحانه على ألسنة جميع الرسل أنه محط حكمته ، سبب عنه سبحانه قوله ، مؤكداً في نظير تأكيد هذا الناسي : { فلننبئن } أي تنبئة عظيمة بخير الوصف فيها مستقصاة على سبيل العدل ، وجعل الضمير الوصف تصريحاً بالعموم وبياناً للعلة الموجبة فقال : { الذين كفروا } أي ستروا ما دلت عليه العقول ، وأوجبته صرائح النقول ، من إقامة الساعة لأظهار جلاله وجماله ، ومن أنه تعالى يحل بالإنسان السراء والضراء ليخافه ويرجوه ويشكره ويدعو { بما عملوا } لا ندع منه قليلاً ولا كثيراً صغيراً ولا كبيراً ، فليرون عياناً ضد ما ظنوه في الدنيا من أن لهم الحسنى
{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } [ الفرقان : 23 ] { ولنذيقنهم } بعد إقامة الحجة عليهم بموازين القسط الوافية لمثاقيل الذر { من عذاب غليظ * } لا يدع جهة من أجسامهم ولا قواهم إلا أحاط بها ولا تقوى على دفعه قواهم .
ولما بين جهل الإنسان في حالات مخصوصة باليأس عند مس الشر ، والأمن عند ذوق النعمة بعد الضر ، بين حاله عند النعمة مطلقاً ودعاءه عند الشر وإن كان قانطاً تكريراً لتقلب أحواله وتناقص أقواله وأفعاله تصريفاً لذلك على وجوه شتى ليكون داعياً له إلى عدم الأنفة من الرجوع عن الكفر إلى الإيمان ، ومسقطاً عنه خوف الشبه بذلك والنسبة إلى الخفة وعدم الثبات ، فقال معبراًَ بأداة التحقيق دلالة على غلبة نعمه تعالى في الدنيا لنقمه ، ودلالة على حالة الإنسان عند مس النعمة من جهة يتوقعها بعد بيان حاله عند مسها بغتة من غير توقع تأكيداً لبيان جهله حيث جعل ظرف النعمة ظرفاً للإعراض من غير خوف من نزعها على قرب عهده بالضر : { وإذا أنعمنا } مما لنا من العظمة والإحسان { على الإنسان } أي الواقف مع نفسه نعمة تليق بعظمتنا فمسه الخير ولم يعبر في هذا الجانب بما عبر به في الذي بعده إيذاناً بأن المعرض مسيء لمجرد الإعراض لا المبالغة فيه فقال : { أعرض } أي انحرف عن سواء القصد إلينا عنا في جميع مدة النعمة - بما أفهمه الظرف ، فلم يقيد تلك النعمة بالشكر بعد ما رأى من حلالنا ، قاطعاً بأن تلك النعمة خير محض ظاهراً وباطناً فهو يستديمها ، وربما كانت بلاء استدراجاً وامتحاناً { وناء } أي أبعد إبعاداً شديداً بحيث جعل بيننا وبينه حجاباً عظيماً حال كونه مال { بجانبه } أي بشقه كناية عن تكبره وبأوه وإعجابه بنفسه وزهوة وتصويراً له بمن كلمته فازور عنك والتوى ، وأبعد في ضلاله وغوى .
ولما تقدم حال الإنسان عند مس الشر بغتة ، بين حاله عند مسه وهو يتوقعه ، فقال معبراً في جانب الشر بأداة التحقيق على غير عادة القرآن في الأغلب ، ليدل على أنه لزيادة جهله على الحد يلزم الكبر وإن كان يتوقع الشر ولا يزال حاله حال الآمن إلى أن يخالطه وحينئذ تنحل عراه وتضمحل قوله : { وإذا مسه الشر } أي هذا النوع قليله وكثيره لانتقامنا منه ، فالآية من الاحتباك : ذكر الإنعام أولاً دليلاً الانتقام ثانياً وذكر الشر ثانياً دليل الخير أولاً ، وسره تعليم الأدب بنسبة الإنعام دون الشر إليه وإن كان الكل منه .
ولما كان تعظيم العرض دالاً على عظمة الطول ، قال معبراً بما يدل على الملازمة والدوام : { فذو دعاء } أي في كشفه ، وربما كان نعمة باطنة وهو لا يشعر ولا يدعو إلا عند المس ، وقد كان ينبغي له أن يشرع في الدعاء عند التوقع بل قبله تعرفاً إلى الله تعالى في الرخاء ليعرفه في الشدة وهو خلق شريف لا يعرفه إلا أفراد خصهم الله بلطفه ، فدل تركه على عدم شره لما مضى وخفة عقله لما يأتي ومفاجأته للزوم الدعاء عند المس على عدم صبره وتلاشي جلده وقله حيائه { عريض * } أي مديد العرض جداً ، وأما طوله فلا تسأل عنه ، وهذا كناية عن النهاية في الكثرة .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
ولما ذكر سبحانه من أحوالهم المندرجة في أحوال هذا النوع كله ما هو مكشوف بشاهد الوجود من أنه لا ثبات لهم لا سيما عند الشدائد إعلاماً بالعراقة في الجهل والعجز ، دل على الأمرين معا بما لا يمكن عاقلاً دفعه من أنهم لا يجوزون الممكن فيعدون له ما يمتعه على تقدير وقوعه ، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يذكر ذلك إيذاناً بالإعراض عنهم دليلاً على تناهي الغضب : { قل أرأيتم } أي أخبروني { إن كان } أي هذا القرآن الذي نصبتم لمغالبته حتى بالإعراض عن السماع باللغو حال قراءته من الصفير والتصفيق وغير ذلك ، وليس ذلك منكم صادراً عن حجة قاطعة في أمره أتم معها على يقين بل هو عن خفة وعدم تأمل منكم أنه { من عند الله } الذي له الإحاطة بجميع صفات الجلال والجمال فهو لا يغالب .
ولما كان الكفر به على هذا التقدير في غاية البعد ، وكان مقصود السورة دائراً على العلم ، نبه على ذلك بأداة التراخي مع الدلالة على أن ذلك ما كان منهم إلا بعد تأمل طويل ، فكانوا معاندين حتى نزلوا بالصفير والتصفيق من أعلى رتب الكلام إلى أصوات الحيوانات العجم فقال : { ثم كفرتم به } أي بعد إمعان النظر فيه والتحقق لأنه حق ، فكنتم بذلك في شقاق هو في غاية البعد من الملائمة لمن لم يزل يستعطفكم بجميل أفعاله ، ويردكم بجليل أقواله وآمن به غيركم لأنه من عند الله { من أضل } منكم - هكذا كان الأصل ولكنه قال : { ممن هو في شقاق } أي لأولياء الله { بعيد * } تنبيهاً على أنهم صاروا كذلك ، وأن من صار كذلك فقد عرض نفسه لسطوات الله وتعالى التي من واقعته هلك لا محالة ، ومن أهدى ممن هو في إسلام قريب وهو الذي آمن لأنه سالم الله الذي من سالمه سالمه كل شيء ، فنجا من كل خطر - فالآية من الاحتباك : ذكر الكفر أولاً دليلاً على الإيمان ثانياً ، والضلال ثانياً دليلاً على الهدى أولاً ، وسره أن ذكر المضار أصدع للقلب فهو أنفع في الوعظ .
ولما كان هذا محزناً للشفوق عليهم لإفهامه لشدة بعدهم عن الرجوع ، قال منبهاً على أنه إذا أراد سبحانه قرب ذلك منهم غاية القرب لافتاً القول إلى مظهر العظمة إيذاناً بسهولة ذلك عليه : { سنريهم } أي عن قرب بوعد لا خلف فيه { آياتنا } أي على ما لها من العظمة { في الآفاق } أي النواحي ، جمع أفق كعنق وأعناق ، أبدلت الهمزة الثانية ألفاً لسكونها بعد مثلها ، أي وما ظهر من نواحي الفلك أو مهب الرياح ، وذلك بما يفتح الله من البلاد بغلب أهلها بوقائع كل واحد منها علم من أعلام النبوة ، وشاهد عظيم كاف في صحة الرسالة ، تصديقاً لوعده سبحانه وما أهلك من أهلها لنصر أنبيائه ورسله وبما فيها من عجائب الصنع وغرائب الآثار والوضع باختلاف الأحكام مع اتفاق جواهرها في التجانس - وغير ذلك من الآيات بالبصر اللاتي يشرحها بآيات السمع .
ولما كان الإيمان بالغيب هو المعتبر ، وكل ما كان أقرب إليه كان أقرب إلى الكمال ، وكانت آيات الآفاق أقرب إلى ذلك ، بدأ بها ، ثم قال : { وفي أنفسهم } أي من فتح مكة وما أصابهم من سني الجوع وقصة أبي بصير ونحو ذلك وتفصل لهم مع ذلك ما في الآدمي نفسه من بدائع الآيات وعجائب الخلق وغرائب الصنعة وما فيه من أمارات الحدوث واختلاف الأوصاف وغير ذلك من الشواهد المطابقة لما تضربه من الأمثال والدلائل المعقولة عند اعتبار الأقوال والأفعال ، وبما في بلاد العرب من الآيات المرئية من نفي بعد إسراعهم إليه وإطباقهم عليه وإثبات التوحيد عند جميعهم بعد إبعادهم عنه وقتالهم الداعي إليه ، وقد بين سبحانه في هذه من آيات الآفاق في آية { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } وما شاكلها ، وفي الأنفس في آيات { فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود والذي من بعدهم } ونحوها ، وآيات { لا يسئم الإنسان من دعاء الخير } إلى آخرها الدالة على أن الإنسان مبني أمره على الجهل والعجز ، فأكثر ما يتصوره ليس كما تصوره ، فعليه أن يتأمل كتاب ربه ويتدبره - والله أعلم ، قال الرازي في اللوامع : الاستدلال بالأفعال على فاعلها واضح وطريق لائح ، والأفعال على قسمين أحدهما الآفاق وهو جملة العالم ، والثاني النفوس ، فإن من عرف نفسه عرف ربه أي من عرف روحه وكونها جوهراً متصرفاً في البدن تصرف التدبير وعلم صفاتها من أنها باقية بغير البدن لا يحتاج في قوامها إلى البدن بل البدن محتاج إليها وأنها محل المعرفة فمن عرف أمثال هذه المعارف عرف ربه وصفاته من وحدانيته وعلمه وقدرته وإرادته وتصرفه في جملة العالم يعني وأن وجوده تعالى مباين وجود غيره .
ولما كان التقدير : ولا نزال نواتر ذلك شيئاً في أثر شيء ، عطف عليه قوله : { حتى يتبين لهم } غاية البيان بنفسه من غير إعمال فكر { أنه } أي القرآن { الحق } الكامل في الحقية الذي تطابقه الوقائع وتصادقه الأحوال العارضة والصنائع ، فيجتعوا عليه ويُقبلوا بكل قلوبهم إليه ، فلا يأباه في جزيرة العرب إنسان ، ولا يختلف فيه منهم اثنان ، ثم ينبثون في أرجاء الأرض بطولها والعرض فيظهر بهم على سائر الأديان ، ويبيد على أيديهم أهل الكفران ، في سائر البلدان ، ويزول كل طغيان ، فيكون ظهورهم في هذا الوقت وضعف المؤمنين بعد أن كان سبباً لازديادهم من الكفر عظة لهم ولكل من يأتي بعدهم يوجب الثبات في محال الزلزال علماً بأن الله أجرى عادته أن يكون للباطل ريح تخفق ثم تسكن ، ودولة تظهر ثم تضمحل ، وصولة تجول ثم تحول .
ولما كان هذا القول منبهاً على أن في الآفاق والأنفس من الآيات المرئية التي يقرأها أولو الأبصار بالبصائر ، ويتأملها بأعين السرائر ، أمراً لا يحيط به الوصف ، فكان حادياً على تجريد الأفكار للنظر والاعتبار ، والوقوف على بعض ما في ذلك من لطائف الأسرار ، كان كأنه قيل : ألم يروا بعقولهم ما في ذلك من الأدلة على أن القرآن من عند الله فيكفيهم عن شهادة شيء خارج عن أنفسهم ، عطف عليه قوله : { أو لم يكف } وأكد بإدخال الجار ، وحقق الفاعل فقال مؤكداً بالباء ومحققاً أنه الفاعل صارفاً القول إلى وصف الإحسان إيذاناً بالرفق بهم بردِّهم إليه دون ارتكابهم ما يوجب نكالهم وإهلاكهم واستئصالهم : { بربك } أي المحسن إليك بهذا البيان المعجز للإنس والجان شهادة بأنه من عنده { أنّه } أي أو لم يكف شهادة ربك لأنه { على كل شيء شهيد * } لا يغيب عنه شيء من الأشياء ، لا هذا القرآن ولا غيره ، وقد شهد لك فيه بإعجازه لجميع الخلق بكل ما تضمنته آياته ، ونطقت به كلماته ، ففيه أعظم بشارة بتمام أمر الدين وظهوره على المعتدين ، وذلك لأن كل أحد يجد في نفسه أنه إذا أراد ثبوت حق ينكره من هو عليه لصاحب الحق من الشهود ما يتحقق قولهم فيه ووصوله بهم إليه أنه يكون مطمئناً لا ينزعج بالجحد علماً منه بأن حقه لا بد أن يظهر ويخزي معانده ويقهر ، وفي هذا تأديب لكل من كان على حق ولا يجد من يساعده على ظهوره فإن الله شاهده فلا بد أن يظهر أمره فتوكل على الله إنك على الحق المبين .
ولما لم يبق بعد هذا لمتعنت مقال ، ولا شبهة أصلاً لضال ، كان موضع المناداة على من استمر على عناده بقوله مؤكداً لادعائهم إنهم على جلية من أمرهم ، { ألا إنهم } أي الكفرة { في مرية } أي جحد وجدال وشك وضلال عن العبث { من لقاء } وصرف القول إلى إضافة وصف الإحسان إليهم إشارة إلى أنه لا بد من كمال تربيتهم بالبعث لأنه أحكم الحاكمين فقال : { ربهم } أي المحسن إليهم بأن خلقهم ورزقهم للحساب والجزاء بالثواب والعقاب كما هو شأن كل حكيم فيمن تحت أمره .
ولما كانوا مظهرين الشك في القدرة على البعث ، قرره إيمانهم معترفون به من قدرته على كل شيء من البعث وغيره فقال : { ألا إنه } أي هذا المحسن إليهم { بكل شيء } أي من الأشياء جملها وتفاصيلها كلياتها وجزئياتها أصولها وفروعها غيبتها وشهادتها ملكها وملكوتها { محيط * } قدرة وعلماً من كثير الأشياء وقليلها كليها وجزئيها ، فعما قليل يجمعهم على الحق ويبدلهم بالمرية إذعاناً وبالشك يقيناً وبرهاناً ، فرحمته عامة لجميع أهل الوجود وخاصة لمن منَّ عليه الإيمان الموصل إلى راحة الأمان ، فكيف يتصور في عقل أن يترك البعث ليوم الفصل الذي هو مدار الحكمة ، ومحط إظهار النعمة والنقمة ، وقد علم بذلك انطباق آخرها المادح للكتاب المقرر للبعث والحساب على أولها المفصل للقرآن المفيض لقسمي الرحمة : العامة والخاصة لأهل الأكوان ، على ما اقتضاه العدل والإحسان ، بالبشارة لأهل الإيمان ، والنذارة لأهل الطغيان - والله الهادي وعليه التكلان .
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
{ حم عسق* } هذه الحروف يجوز أن تكون إشارة إلى كلمات منتظمة من كلام عظيم يشير إلى أن معنى هذا الجمع يجوز أن يقال : حكمة محمد علت وعمت فعفت سقام القلوب ، وقسمت حروفها قسمين موافقة لبقية أخواتها وبعدها آيتين ، ولم تقسم { كهيعص } لأنها آية واحدة ولا أخت لها ولم تقسم { المص } مثلاً وإن كان لها أخوات لأنها آية واحدة ، ولم يعد في شيء من القرآن حرف واحد آية ، ويجوز أن يعتبر مفردة فتكون إشارة إلى أسرار تملأ الأقطار ، وتشرح الصدور والأفكار ، فإن نظرت إلى مخارجها وجدتها قد حصل الابتداء فيها بأدنى وسط الحلق إلى اللسان باسم الحاء وثنى بأوسط حروف الشفة وهي الميم وحصل الرجوع إلى وسط الحلق بأقصاه من اللسان في اسم العين ، وهو جامع للحلق واللسان ، وقصد رابعاً إلى اللسان بالسين التي هي من أدناه إلى الشفتين وهو رأسه ولها التصاق بالشفتين واتصال بأعلى الفم ففيها بهذا الاعتبار جمع ثم جعل بعد هذا الظهور بطوناً إلى أصل اللسان ، وهو أقصاه من الشفة بالقاف ، ولاسم هذا الحرف جمع بالابتداء بأصل اللسان مع سقف الحلق والاختتام بالشفة العليا والثنيتين السفليين ، ففي هذه الحروف ثلاثة وهي أكثرها لها نظر بما فيها من الجمع إلى مقصود السورة ، وقد اتسق الابتداء فيها فيما كان من حرفين جمعهما مخرج بالأعلى ثم بالأدنى إشارة إلى أنه يكون لأهل هذا الدين بعد الظهور بطون كما كان في أول الإسلام حيث حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأقاربه في الشعب ، وذلك أيضاً إشارة إلى أنه من تحلية الظاهر ينتقل إلى تصفية الباطن من زين ظاهره بجمع الأعمال الصالحة صحح الله باطنه بالمراقبة الخالصة الناصحة على أن في هذا التدلي بشرى بأن الحال الثاني يكون أعلى من الأول ، كما كان عند الظهور من الشعب بما حصل من نقض الصحيفة الظالمة الذي كان الضيق سبباً له ، لأن الثاني من مراتب هذه الحروف أقوى صفة مما هو أعلى منه مخرجاً ، فإن الحاء لها من الصفات الهمس والرخاوة والاستفال والانفتاح والميم له من الصفات الجهر والانفتاح والاستفال وبين الشدة والرخاوة ، والعين لها من الصفات ما للميم سواء ، والسين لها من الصفات ما للحاء ، وتزيد بالصفير ، والقاف له من الصفات الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقلة فالحرف الأول أكثر صفاته الضعف ، ويزيد بالإمالة التي قرأ بها كثير من القراء ، والثاني والثالث على السواء ، وهما إلى القوة أرجح قليلاً ، وذلك كما تقدم من وسط الحال عند الخروح من الشعب ، والرابع فيه قوة وضعف وضعفه أكثر ، فإن فيه للضعف ثلاث صفات وللقوة صفتين ، وذلك كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم عند آخر أمره بمكة المشرفة حين مات الوزيران خديجة رضي الله عنها وأبو طالب لكن ربما كانت الصفتان القويتان عاليتين على الصفات الضعيفة بما فيهما بالانتشار بالصفير والجمع الذي مضت الإشارة إليه من الإشارة إلى ضخامة تكون باجتماع أنصار كما وقع من بيعة الأنصار ، والخامس وهو الأخير كله قوة كما وقع بعد الهجرة عند اجتماع الكلمة وظهور العظمة ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
« فلما هاجرنا انتصفنا من القوم وكانت سجال الحرب بيننا وبينهم » ثم تكاملت القوة عند تكامل الاجتماع بعد قتال أهل الردة بعد موته صلى الله عليه وسلم لا جرم انتشر أهل هذا الدين في الأرض يميناً وشمالاً ، فما قام لهم مخالف ، ولا وافقتهم أمه من الأمم على ضعف حالهم وقلتهم وقوة غيرهم وكثرتهم إلا دمروا عليهم فجعلوهم كأمس الدار ، وقد جمعت هذه الحروف كما مضى وصفي المجهورة والمهموسة كانت المجهورة أغلبها إشارة إلى ظهور هذا الدين على كل دين كما حققه شاهد الوجود ، وصنفي المنقطوطة والعاطلة ، وكانت كلها عاطلة إلا حرفاً واحداً ، إشارة إلى أن أحسن أحوال المؤمن أن يكون أغلب أحواله محواً لا يرى له صفة من الصفات بل يعد في زمرة الأموات وإلى أن المتحلي بالأعمال الصالحة الخالصة من أهل القلوب من أرباب هذا الدين قليل جداً ، وكان المنقوط آخرها إشارة إلى أن نهاية المراتب عند أهل الحق الجمع بعد المحو والفرق وكان حرف الشفة من بين حروفها الميم ، وهي ذات الدائرة المستوية الاستدارة إشارة إلى أن لأهل هذا الدين من الاجتماع فيه والانطباق عليه والإطافة به والإسراع إليه ما ليس لغيرهم وإلى أن هم من القدم الراسخ في القول المقتطع من الفم المختتم بالشفتين ما لا يبلغه غيرهم بحيث أنه لا نهاية له مع حسن استنارته بتناسب استدارته ، ثم إنك إذا بلغت نهاية الجمع في هذه الأحرف بأن جمعت أعداد مسمياتها وهو مائتان وثمانية وسبعون وفي السنة الموافقة لهذا العدد كانت ولادتي ، فكان الابتداء في هذا الكتاب الديني حينئذ بالقوة القريبة من الفعل وسنة ابتدائي فيه بالفعل وهي سنة إحدى وستين في شعبان كان سني إذا ذاك قد شارف أربعاً وخمسين سنة ، وهو موافق لعدد حرفي { دن } أمراً من الدين الذي هو مقصود السورة ، فكأنه أمر إذ ذاك بالشروع في الكتاب ليحصل مقصودها ، وسنة وصولي إلى هذه السورة وهي سنة إحدى وسبعين في شعبان منها كان سني قد شارف أربعاً وستين سنة ، وهو عدد موافق لعدد أحرف { دين } الذي هو مقصود السورة ، فأنا أرجو بهذا الاتفاق الغريب أن يكون ذلك مشيراً إلى أن الله تعالى يجمع بكتابي هذا الذي خصني بإلهامه وادخر لي المنحة بحله وإبرامه ، واعتناقه والتزامه ، أهل هذا الدين القيم جمعاً عظيماً جليلاً جسيماً ، يظهر له أثر بالغ في اجتماعهم وحسن تأسيهم برؤوس نقلته وأتباعه ، ومن الآثار الجليلة في لحظها للجمع أنه لما كان مقصود سورة مريم عليها السلام بيان اتصاف الرحمن ، المنزل لهذا القرآن ، بشمول الرحمة لجميع الأكوان ، وكانت هذه السورة لرحمة خاصة من آثار تلك الرحمة العامة ، وهي الاجتماع على هذا الدين المراد ظهوره وعلوه على كل دين وقهره لكل أمر ، فكان لذلك محيطاً قاهراً لحظ كل قاهر وظالم ، وكانت هذه الرحمة الخاصة - لنسبتها إلى الخلق - ثانية لتلك العامة ومنشعبة منها ، كانت لكونها من أوصاف الخلق بمنزلة اليسار ، وتلك لكونها من صفة الحق بمنزلة اليمين ، لذلك - والله أعلم - قال الاستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب له في الحرف : ولما كان ذلك - أي هذه الاسم المجتمع من هذه الأحرف المقطعة - أول هذه السورة مما ينسب إلى أمر الشمال كان متى وضع على أصابع اليسار ثم وضعت على هانجة ظلم أو جور استولى عليه بحكم إحاطة حكمة الله ، وكانت خمسها مضافة إلى خمس { كهيعص } المستولية على حكمة اليمين محيطاً ذلك بالعشر المحيط بكل الحكمة التي مسندها الياء الذي هو أول العشر ومحل الاستواء بما هو عائد وحدة الألف - انتهى .
ولما كانت هذه الحروف - والله أعلم - مشيرة إلى الاجتماع كما أشار إليه آخر السورة الماضية ، قال الله سبحانه وتعالى : { كذلك } أي مثل هذا الإيحاء العظيم الشأن الذي أخبرك به ربك صريحاً أول « فصلت » من أن الإله إله واحد وآخرها من أنه ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، ومن أنه يجمع أمتك على هذا الدين بما يتبين لهم أن هذا القرآن هو الحق بما يريهم من الآيات البينات والدلالات الواضحات في الآفاق وفي أنفسهم وبشهادته سبحانه باعجاز القرآن لجميع الإنس والجان ولا سيما إذا أقدم ضال على معارضته كمسيلمة فإنه يتبين لهم الأمر بذلك غاية البيان « وبضدها تتبين الأشياء » ورمز لك به سبحانه تلويحاً اول هذه السورة بهذه الأحرف المقطعة التي هي أعلى وأغلى من الجواهر المرصعة - إلى مثل ذلك ، فهما نوعان من الوحي : صريح وعبارة ، وتلويح وإشارة .
ولما كان المقصود الإفهام لأن الإيحاء منه سبحانه عادة مستمرة إلى جميع أنبيائه ورسله والبشارة له صلى الله عليه وسلم بتجديده له ، مدة حياته تثبيتاً لفؤاده ، ودلالة على دوام وداده ، عبر بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار ، وتقدم في أول البقرة نقلاً عن أبي حيان ومن قبله الزمخشري وغيره أنه قد لا يلاحظ منه زمن معين ، بل يراد مطلق الوجود فقال : { يوحى إليك } أي سابقاً ولاحقاً ما دمت حياً لا يقطع ذلك عنك أصلاً توديعاً ولا قلى بما يريد من أمره مما يعلي لك مقدارك ، وينشر أنوارك ويعلي منارك .
ولما كان الاهتمام بالوحي لمعرفة أنه حق - كما أشارت إليه قراءة ابن كثير بالبناء للمفعول - والموحي إليه لمعرفة أنه رسول حقاً وكان المراد بالمضارع مجرد إيقاع مدلوله لا يفيد الاستقبال صح أن يتعلق به قوله مقدماً على الفاعل : { وإلى الذين } والقائم مقام الفاعل في قراءة ابن كثير ضمير يعود على « كذلك » .
ولما كان الرسل بعض من تقدم في بعض أزمنة القبل ، ادخل الجار فقال : { من قبلك } أي من الرسل الكرام والأنبياء الأعلام ، بأن أمتك أكثر الأمم وأنك أشرف الأنبياء ، وأخذ على كل منهم العهد باتباعك ، وأن يكون من أنصارك وأشياعك . ولما قدم ما هو الأهم من الوحي والموحى إليه ، أتى بفاعل { يوحي } في قراءة العامة فقال : { الله } أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال . . وهو مرفوع عند ابن كثير بفعل مضمر تقديره الذي يوحيه . ولما كان نفوذ الأمر دائراً على العزة والحكمة قال : { العزيز } أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء { الحكيم * } الذي يضع ما يصنعه في أتقن محاله ، فلأجل ذلك لا يقدر على نقض ما أبرمه ، ولا نقص ما أحكمه .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة غافر ما تقدم من بيان حالي المعاندين والجاحدين ، وأعقبت بسورة السجدة بياناً أن حال كفار العرب في ذلك كحال من تقدمه وإيضاحاً لأنه الكتاب العزيز وعظيم برهانه ، ومع ذلك فلم يجد على من قضى عليه تعالى بالكفر ، اتبعت السورتان بما اشتملت عليه سورة الشورى من أن ذلك كله إنما جرى على ما سبق في علمه تعالى بحكم الأزلية { فريق في الجنة وفريق في السعير } { وما أنت عليهم بوكيل } { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } { ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم } { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } { وما أنتم بمعجزين في الأرض } { ومن يضلل الله فما له من سبيل } { إن عليك إلا البلاغ } { نهدي به من نشاء من عبادنا } فتأمل هذه وما التحم بها مما لم يجر في السورة المتقدمة منه إلا النادر ، ومحكم ما استجره ، وبناء هذه السورة على ذلك ومدار آيها ، يلح لك وجه اتصالها بما قبلها والتحامها بما جاورها .
ولما ختمت سورة السجدة بقوله تعالى { إلا أنهم في مرية من لقاء ربهم } أعقبها سبحانه بتنزيهه وتعاليه عن ريبهم وشكهم ، فقال تعالى { تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } كما أعقب بمثله في قوله تعالى { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدا تكاد السماوات يتفطرن منه ولما تكرر في سورة حم السجدة ذكر تكبر المشركين وبعد انقيادهم في قوله تعالى { فأعرض أكثرهم وقالوا قلوبنا في أكنة } إلى ما ذكر تعالى من حالهم المنبئة عن بعد استجابتهم فقال تعالى في سورة الشورى { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } - انتهى .
ولما أخبر سبحانه أنه صاحب الوحي بالشرائع دائماً قديماً وحديثاً ، علل ذلك بأنه صاحب الملك العام فقال : { له ما في السماوات } أي من الذوات والمعاني { وما في الأرض } كذلك . ولما كان العلو مستلزماً للقدرة قال : { وهو العلي } أي على العرش الذي السماوات فيه علو رتبة وعظمة ومكانة لا مكان وملابسة ، فاستلزم ذلك أن تكون له السماوات كلها والأراضي كلها مع ما فيها { العظيم * } أي فلا يتصور شيء في وهم ولا يتخيل في عقل إلا وهو أعظم منه بالقهر والملك ، فلذلك يوحي إلى من يشاء بما يشاء من إقرار وتبديل ، لا اعتراض لأحد عليه .
ولما كان السياق مفهماً عظيم ملكه سبحانه وقدرته بكثرة ما في الأكوان من الأجسام والمعاني التي هي لفظاعتها لا تحتمل ، قال مبيناً لذلك : { تكاد السماوات } أي على عظم خلقهن ووثاقة إبداعهن ، وفلقهن بما أعلم به الواقع ، ونبه عليه بتذكير { تكاد } في قراءة نافع والكسائي { يتفطرن } أي يتشققن ويتفرط أجزاؤهن مطلق انفطار في قراءة من قرأ بالنون وخفف وهم هنا أبو عمرو ويعقوب وشعبة عن عاصم ، وتفطراً شديداً في قراءة الباقين بالتاء المثناة من فوق مفتوحة وتشديد الطاء ، مبتدئاً ذلك { من فوقهن } الذي جرت العادة أن يكون أصلب مما تحته ، فانفطار غيره من باب الأولى ، وابتداء الانفطار من ثم لأن جهة الفوق أجدر بتجلي ما يشق حمله من عظيم العظمة والجلال والكبرياء والعزة التي منها ما يحمل من الملائكة الذين لا تسع عقولهم وصفهم على ما عليه من كل واحد منهم من عظم الخلق في الهيئة والطول والمتانة والكبر إلى غير ذلك مما لا يحيط به علماً إلا الذي يراهم بحيث إنّ أحدهم إذا أشير له إلى الأرض حملها كما قال صلى الله عليه وسلم « أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا فيه ملك قائم يصلي » ومن غير ذلك من العظمة والكبرياء والجبروت والعلاء ، أو يكون انفطارهن من عظيم شناعة الكفر بالذي خلق الأرض في يومين وجعلهم له أنداداً كما قال في السورة المناظرة لهذه سورة مريم { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولدا } [ آية : 90-91 ] ونقص ما في هذه عن تلك لأنه لم يذكر هنا للولد ، وهذا كناية عن التخويف بالعذاب لأن من المعلوم أن العالي إذا انفطر تهيأ للسقوط ، فإذا سقط أهلك من تحته فكيف إذا كان من العلو والعظم وثقل الجسم على صفة لا يحيط بها إلا بارئها ، فذكر الفوق تصوير لما يترتب على هذا الانفطار من البلايا الكبار ، وعلى هذا يحسن أني يعود الضمير على الأراضي التي كفروا بفاطرها .
ولما بين أن سبب كيدودة انفطارهن حلالة العظمة التي منها كثرة الملائكة وشناعة الكفر ، بين لها سبباً آخر وهو عظيم قولهم ، فقال : { والملائكة } أي والحال أنهم ، وعدل عن التأنيث مراعاة للفظ إلى التذكير وضمير الجمع ، إشارة إلى قوة التسبيح وكثرة المسبحين فقال : { يسبحون } أي يوقعون التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى ملتبسين { بحمد ربهم } أي بإثبات الكمال للمحسن إليهم تسبيحاً يليق بما لهم - بما أشارت إليه الإضافة دائماً لا يفترون ، فلهم بذلك زجل وأصوات لا تحملها العقول ، ولا تثبت لها الجبال ، فلا تستبعدن ذلك ، فكم من صاعقة سمعتها من السحاب فرجت لها الأرض فتصدعت لها الأبنية المتينة والجبال الصلاب ، ولفت القول إلى صفة الإحسان لمدح الملائكة بالإشارة إلى أنهم عرفوا إحسان المحسن وعملوا في الشكر بما اقتضاه إحسانه فصار تعريضاً بذم الكفرة بما غطوا من إحسانه ، وتذرعوا من كفرانه .
ولما كانوا لما عندهم من العلم بجلال الله سبحانه يستحيون منه سبحانه كما يفعل أهل الأرض ويقولون ما لا يليق بحضرته الشماء وجنابه الأسمى ، وكانوا يعلمون مما جادلهم سبحانه عنهم أن له بهم عناية ، فكانوا يرون أن الأقرب إلى رضاه الاستغفار لهم ، فلذلك عبر عنهم سبحانه بقوله حاذقاً ما أوجبه السياق في { غافر } من ذكر الإيمان ، إشارة إلى أن أقرب الخلق من العرش كأبعد الناس في الإيمان المشروط بالغيب إبلاغاً في التنزيه لأنه لا مقتضى له هنا : { ويستغفرون } أي وهم مع التسبيح يطلبون الغفران { لمن في الأرض } لما يرون من شدة تقصيرهم في الوفاء بحق تلك العظمة ، التي لا تضاهى ، أما للمؤمن فمطلقاً ، وأما للكافر فبتأخير المعالجة ، وكذا لبقية الحيوانات ، وذلك لما يهولهم مما يشاهدونه من عظمة ذي الكبرياء وجلالة ذي الجبروت . قال ابن برجان : لم يشأ الله جل ذكره كون شيء إلا قيض ملائكة من عباده يشفعون في كونه ، وكذلك في إبقاء ما شاء إبقاءه وإعدام ما شاء إعدامه ، وهذه أصول الشفاعة فلا تكن من الممترين ، وألطف من ذلك أن تكون كيدودة انفطارهن في حال تسبيح الملائكة واستغفارهم لما يرين من فوقهن من العظمة ، ومن تحتهن من ذنوب الثقلين ، فلولا ذكرهم لتفطرن وحضر العذاب ، فعوجل الخلق بالهلاك ، وقامت القيامة ، وقضي الأمر ، وإذا كانت كيدودة الانفطار مع هذا التنزيه والاستغفار ، فما ظنك بما يكون لو عرى الأمر عنه وخلا منه ، ولذلك ذكر العموم هنا ولم يخص المؤمنين بالاستغفار كما في { غافر } لما اقتضاه السياق هنا من العموم ، ولأن مقصود غافر تصنيف الناس في الآخرة صنفين وتوفية كل ما يستحقه فناسب ذلك إفراد الذين تلبسوا بالإيمان ومقصود هذه الجمع على الدين في الدنيا فناسب الدعاء للكل ليجازى كل بما يستحقه من إطلاق المغفرة في الدارين للمؤمن وتقييدها بالتأخير في الدنيا للكافر .
ولما كانت أفعال أهل الأرض وأقوالهم عظيمة المخالفة لما يرضيه سبحانه فهم يستحقون المعاجلة بسببها ، أجاب من كأنه قال : هذا يستجاب لهم في المؤمنين ، فكيف يستجاب لهم في الكافرين ليجمع الكلام التهييب والتهويل في أوله والبشارة واللطف والتيسير في آخره ، فقال لافتاً القول عن صفة الإحسان إلى الاسم الأعظم تعريفاً بعظيم الأمر حملاً على لزوم الحمد وإدامة الشكر : { ألا إن الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ، فله جميع العظمة ، وأكد لأن ذلك لعظمه لا يكاد يصدق { هو } أي وحده ، ورتب وصفيه سبحانه على أعلى وجوه البلاغة فبدأ بما أفهم إجابة الملائكة وأتبعه الإعلام بمزيد الإكرام فقال : { الغفور الرحيم * } أي العام الستر والإكرام على الوجه الأبلغ أما لأهل الإيمان فواضح دنيا وآخرة ، وأما لأهل الكفران ففي الدنيا فهو يرزقهم ويعافيهم ويملي لهم { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } [ فاطر : 45 ] وأما غير الله فلا يغفر لأهل معصيته ، ولو أراد ذلك ما تمكن .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
ولما كان التقدير : فالذين تولوه وماتوا في ولايته فهو يغفر ذنوبهم بمعنى أنه يزيلها عيناً وأثراً ، عطف عليه قوله : { والذين اتخذوا } أي عالجوا فطرهم الأولى وعقولهم حتى أخذوا { من دونه } أي من أدنى رتبة من رتبته { أولياء } يعبدونهم كالأصنام وكل من اتبع هواه في شيء من الأشياء ، فقد اتخذ الشيطان الآمر له بذلك ولياً من دون الله بمخالفة أمره .
ولما كان ما فعلوه عظيم البشاعة ، اشتد التشوف إلى جزائهم عليه فأخبر عنه سبحانه بقوله معبراً بالاسم الأعظم إشارة إلى وضوح ضلالهم وعظم تهديدهم معرياً له عن الفاء لئلا يتوهم أن الحفظ مسبب عن الاتخاذ المذكور عادلاً إلى التعبير بالجلالة تعظيماً لما في الشرك من الظلم وتغليظاً لما يستحق فاعله من الزجر : { الله } أي المحيط بصفات الكمال { حفيظ عليهم } أي رقيب وراع وشهيد على اعمالهم ، لا يغيب عنه شيء من أحوالهم ، فهو إن شاء أبقاهم على كفرهم وجازاهم عليه بما أعده للكافرين ، وإن شاء تاب عليهم ومحا ذلك عيناً وأثراً ، فلم يعاقبهم ولم يعاتبهم ، وإن شاء محاه عيناً وأبقى الأثر حتى يعاتبهم { وما أنت عليهم بوكيل * } أي حتى يلزمك أن تراعي جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم ، فتحفظها وتقسرهم على تركها ونحو ذلك مما يتولاه الوكيل مما يقوم فيه مقام الموكل سواء قالوا { لا تسمعوا لهذا القرآن } أو قالوا { قلوبنا في أكنة } أو غير ذلك .
ولما كان الإيحاء السابق أول السورة للبشرى لأنها المقصود بالذات وكانت البشرى مقتضية تلويحاً ورمزاً بالأحرف المقطعة لاجتماع أهل الدين وغلبتهم على سائر الأديان وأن دينهم يعم سائر الأمم ويحيط بجميع الخلق ، ولا يريد أحد بأهله سوءاً إلا كان له فيه رفعة كما مضى بيانه ، وكانت رمزاً لأن المقام للانذار بما تشهد به السورة الماضية ، وكان المراد بها التكرار حتى لا تزال لذاذتها في أذن المبشر وحلاوتها في قلبه ، ذكرها بلفظ المضارع الدال على التجدد والتكرار والحدوث والاستمرار ، وكان المتعنت ربما حمله له على الوعد بالإيحاء في المستقبل ، وكان العاقل يكفيه في النذرى مرة واحدة فقال معبراً بالماضي الدال على الإمضاء والقطع والقضاء الحتم في كل من الإيحاء وفائدته التي هي الأنذار ، عاطفاً على ما يتصل بالآية السالفة المختومة بنفي الوكالة مما تقديره : إنما عليك البلاغ بالبشارة والنذارة ، وقد أوحينا إليك البشارة رمزاً ، كما جرت به عادة الأحباب في محاورات الخطاب ، ولفت القول إلى مظهر العظمة لأن الإنذار من مجازه : { وكذلك } أي ومثل ذلك الإيحاء الذي قدمنا أنا حبوناك به من وحي الإشارة بالحروف المقطعة { أوحينا } بما لنا من العظمة مع الفرق بين كل ملبس { إليك قرآناً } جامعاً لكل حكمة { عربياً } فهو بين الخطاب واضح الصواب معجز الجناب { لتنذر } أي به { أم القرى } مكة التي هي أم الأرض وأصلها ، منها دحيت ولشرفها أوقع الفعل عليها ، عدا لها عداد العقلاء ، ثم بين أن المراد أهلها بقوله : { ومن } أي وتنذر من { حولها } وهم سكان جميع الأرض التي هي امها ، وبذلك فسره البغوي فقال : قرى الأرض كلها ، وكذا القشيري وقال : العالم محدق بالكعبة ومكة لأنها سرة الأرض .
ولما كان مفعول { تنذر } الثاني على ما هدى إليه السياق ما عذبت به الأمم السالفة والقرون الماضية حين تمادى بهم الكفر وغلب عليهم الظلم في اتخاذهم أولياء من دون الله ، عطف عليه : { وتنذر } أي أم القرى ومن حولها مع عذاب الأمم في الدنيا { يوم الجمع } أي لجميع الخلائق ببعثهم من الموت ، حذف المفعول الأول من الشق الثاني ، والمفعول الثاني من الأول ، فالآية من الاحتباك : ذكر المنذرين أولاً دلالة على إرادتها ثانياً ، وذكر المنذر به وهو يوم الجمع ثانياً دلالة على المنذر به من عذاب الأمم أولاً ، ليذهب به الوهم في المحذوف كل مذهب ، فيكون أهول ، وذكر هذا المذكور أفخم وأوجل .
ولما كان الإنذار - وهو الإعلام بموضع المخافة - تارة يكون عما لا علم به ، وهو الأغلب ، وتارة عما وقع العمل به ثم خالف المنذر به علمه فعمل أعمال من لا علم له به ، نبه على أنه هذا من القسم الثاني بقوله في جملة حالية : { لا ريب فيه } أي لأنه قد ركز في فطرة كل أحد أن الحاكم إذا استعمل عبيده في شيء ثم تظالموا فلا بد له بما تقتضيه السياسة من جمعهم لينصف بينهم وإلا عد سفيهاً ، فما ظنك بأحكم الحاكمين .
ولما تشوف السامع إلى ما يفعل في جمعهم ، وكان الثقلان لما طبعوا عليه من النقصان أهل فرقة وطغيان ، ذكر نهايته معبراً بما هو من الفرقة بقوله مسوغاً الابتداء بالنكرة للتفصيل أو تقرير الوصف : { فريق } أي من المجموعين أهل فرقة تداركهم الله بأن جعلهم أهل جمع { في الجنة } فصلاً منه وهم الذين قبلوا الإنذار وبالغوا في الحذار { وفريق } أي منهم خذلهم الله ووكلهم إلى أنفسهم فزادوا في الفرقة { في السعير * } عدلاً منه ، قال القشيري : كما أنهم في الدنيا فريقان : فريق في درجات الطاعة وحلاوات العبادات ، وفريق في ظلمات الشرك وعقوبات الجحد والشك ، فلذلك غداهم فريقان : فريق هم أهل اللقاء ، وفريق هم أهل البلاء والشقاء . روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال : « أتدرون ما هذان الكتابان؟ قال : قلنا لا ، إلا أن تخبرنا يا رسول الله! قال للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، ثم قال للذي في يساره : هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمراً قد فرغ منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل النار وإن عمل أي عمل ، قال بيده فقبضها ، ثم قال : فرغ ربكم عز وجل من العباد ، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال : فريق في الجنة ، ونبذ باليسرى فقال : فريق في السعير »
قال ابن كثير : وهكذا رواه النسائي والترمذي جميعاً ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب .
ولما كان ملوك الدنيا غالباً لا يريدون أن يعصى أمرهم ، فإذا حذروا من شيء أرادوا أن لا يقرب ، فإن فعله أحد كان فعله له خارجاً عن مرادهم ، فكانت عقوبتهم له لخروجه عن المراد شفاء لما حصل لهم من داء الغيظ ، بين أنه سبحانه على غير ذلك ، وأنه منزه عن خروج شيء عن مراده ، وعن أن يلحقه نفع بطاعة أو ضر بمعصية ، وإن عقوبته إنما هي على مخالفة أمره مع الدخول تحت مراده بإلجائه وقسره ، وهذا في نفس الأمر ، وأما في الظاهر فالأمر أن لا يظهر أنه لشيء منهما مانع إلا صرف الاختيار ، فقال صارفاً القول عن مظهر العظمة استيفاء لإنذار ما هو حقيق به منها إلى الاسم الجامع صفات العظمة وغيرها لاقتضاء الحال له : { ولو شاء الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال { لجعلهم } أي المجموعين { امة واحدة } للعذاب أو الثواب ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء أن يكونوا فريقين : مقسطين وظالمين ، ليظهر فضله وعدله وأنه إله جبار واحد قهار ، لا يبالي بأحد وهو معنى قوله : { ولكن يدخل من يشاء } أي إدخاله { في رحمته } بخلق الهداية في قلبه فتكون أفعالهم في مواضعها وهم المقسطون ، ويدخل من يشاء في نقمته بخلق الضلال في قلوبهم فيكونون ظالمين ، فلا يكون لهم فعل في حاق موضعه ، فالمقسطون ما لهم من عدو ولا نكير { والظالمون } أي العريقون في الظلم الذين شاء ظلمهم فيدخلهم في لعنته { ما لهم من ولي } يلي أمورهم فيجتهد في إصلاحها { ولا نصير * } ينصرهم من الهوان ، فالآية من الاحتباك وهو ظاهر ذكر الرحمة أولاً دليلاً على اللعنة ثانياً والظلم وما معه ثانياً دليلاً على أضداده أولاً ، وسره أنه ذكر السبب الحقيقي في أهل السعادة ليحملهم على مزيد الشكر ، والسبب الظاهري في أهل الشقاوة لينهاهم عن الكفر .
ولما كان التقدير : هل قصر هؤلاء الذين تنذرهم هممهم وعزائمهم وأقوالهم وأفعالهم على الله تعالى اتعاظاً وانتذاراً بهذا الكلام المعجز ، عادل به قوله : { أم اتخذوا } أي عالجوا فطرهم الشاهدة بذلك بشهادة أوقات الاضطرار حتى لفتوها عنه سبحانه فأخذوا { من دونه أولياء } هم عالمون بأنهم لا يغنون عنهم شيئاً ولهذا قال : { فالله } أي فتسبب عما أفهمته صيغة الافتعال من أنهم عالمون بأنه وحده الضار النافع علمُهم بأنه { هو } وحده { الولي } لا غيره ، ويجوز أن يكون مسبباً عن هذا الاستفهام الإنكاري التوبيخي كأنه قيل : هل قصروا هممهم عليه سبحانه ، فسبب أنه وحمده المستحق لما يقصدونه من التولي { وهو } أيضاً وحده لا غيره { يحيي الموتى } أي يجدد إحيائهم في أي وقت يشاؤه { وهو } أي وحده { على كل شيء قدير * } أي بالغ القدرة لا يشاركه شيء في ذلك بشهادة كل عاقل ، وأكده بالقصر لأن شركهم بالأولياء إنكار لاختصاصه بالولاية .
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
ولما كانوا جميعاً يقرون بجميع ما وصف به نفسه المقدسة في هذه الآية عند الشدائد ، بعضه تصريحاً من الوحدانية في الولاية والإحياء في هذه الدار والقدرة على كل شيء ، وبعضه لزوماً وهو الإحياء بالبعث ، تسبب عن ذلك قطعاً أن يقال مع صرف القول إلى الخطاب إشارة إلى أنه تعالى قرب إليهم كل خير وقرب إليهم فهم الوحدانية لعقولهم بعد أن فطرهم على لزومها عند الاضطرار ، فما اتفقتم فيه من أمره سبحانه فهو الحق ، وذلك هو أصل الدين الذي أطبق عليه الخلائق في وقت الاضطرار ، لم يتلعثم فيه منهم ضعيف ، ولا جبار منيف ، عطف عليه قوله : { وما اختلفتم } أي أيها الخلق { فيه من شيء } وذلك هو الفروع مطلقاً والأصول في حال الرفاهية { فحكمه إلى الله } أي الذي هو الولي لا غيره وهو القدير لا غيره ، فلا يخرج شيء عن أمره ، فحصوا عنه تجدوه في كتابه لأن فيه تبيان كل شيء ، فإن قصرت أفهامكم عن إخراجه منه فاطلبوه في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن عز عليكم ففي إجماع أهل دينه ، فإن أعوزكم ذلك ففي القياس على شيء من ذلك . قال القشيري : هذه الأشياء هي قانون الشريعة ، وجملتها من كتاب الله ، فإن الكتاب هو الذي يدل على صحة هذه الجملة - انتهى . وما اجتهدتم فيه على ما شرع لكم وفصلتموه بما ظهر لكم على حكم بذل الجهد مضى ، وما لا فصله بينكم سبحانه في هذا اليوم أن أراد بنصر المحق وخذلان الظالم ، وإن أراد أخره إلى يوم الدين ، فإن شاء عفا وإن شاء عاقب عليه ، فلا حكم لغيره لا في الدنيا ولا في الآخرة .
ولما أنتج هذا أنه لا عظيم غيره ، ولا إله إلا هو ، ترجم ذلك بقوله مخاطباً للكل : { ذلكم } أي العظيم الرتبة جداً { الله } المحيط بجميع أوصاف الكمال ، فلا شريك له في شيء منه بوجه { ربي } الذي لا مربي له غيره في ماضٍ ولا حال ولا استقبال . ولما كان ذلك ، أنتج ولا بد قوله : { عليه } أي وحده { توكلت } أي أسلمت جميع أمري { وإليه } أي لا إلى غيره { أنيب * } أي أرجع بالتوبة إذا قصرت في شيء من فروع شرعه وأرجع إلى كتابه إذا نابني أمر من الأمور ، فأعرف منه حكمه فافعلوا أنتم كذلك ، اجعلوه الحكم تفلحوا ، ولا تعدلوا عنه في شيء من الأشياء تهلكوا .
ولما تقرر بهذا الكلام أنه قد ركز في الفطر أنه لا إله غيره لأنه خالق سواه كما يهدي إليه الاضطرار وإن أغفل عنه البطر ، وصفه بالدليل على ذلك الذي جبل عليه جميع الفطر : { فاطر السماوات والأرض } أي مبتدئهما بالخلق والإخراج من العدم ، وكل ما اتخذتموه ولياً من دونه فهو منهما ، فهو مما فطره كما يعلم كل أحد منكم ذلك لا يتمارى فيه ، فهذا هو السبب في العلم المركوز في الفطر من أنه الواحد الذي لا إله معه كما كان في الأزل ولا شيء معه .
ولما ذكر سبحانه ما شق العدم بإيجاده من غير سبب أصلاً ، أتبعه ما سببه عن ذلك فأنشأه من العناصر التي أبدعتها يد القدرة في الخافقين ، فقال معبراً بالفعلية تذكيراً بما يوجب لهم الاعتراف بما اعترف به نبيه صلى الله عليه وسلم من أنه وحده ربه لا شريك له في ذلك ، فيوجب التوكل عليه وحده : { جعل لكم } أي بعد أن خلقكم من الأرض { من أنفسكم أزواجاً } يكون بالسكون إليها بقاء نوعكم ، ولما كانت الأنعام ومنافعها لأجلنا قال : { ومن } أي وجعل لكم من { الأنعام } الي هي أموالكم وجمالكم وبها أعظم قوامكم { أزواجاً } أي من أنفسها ، يكون بها أيضاً بقاء نوعها ، وكذا جميع الحيوانات ، ومعنى قوله مغلباً العقلاء : { يذرؤكم } أي يخلقكم ويكثركم ولما كان الأزواج في غاية المحبة للزواج بحيث إنه مستول على القلوب ، كان كأنه محيط بهم فقال : { فيه } أي في ذلك التزاوج بحيث يجعلكم مولعين به ، من قوله ذراه : خلقه وكثره وأولعه بالشيء ، فيكون لكم في الأزواج من البشر نطفاً وجمالاً وولادة ، وفي الأنعام غذاء وشراباً واكلاً ، وغير ذلك مما لكم فيه من المنافع ، ولا تزالون في هذا الوجه من الخلق والتزاوج نسلاً بعد نسل وجيلاً بعد جيل .
ولما تقرر في الأوهام وثبت في كثير من الأذهان أنه لا يكون شيء إلا بسبب التزواج ، كان ربما سرى شيء من هذا الوهم في حق الخالق سبحانه فنفاه على أبلغ وجه بقوله : استئنافاً في جواب من يسأل عنه : { ليس } وقدم الخبر لأن المراد نفيه فأولاه النافي دلالة على شدة العناية بنفسه فقال : { كمثله } أي مثل نفسه في ذاته ولا في شيء من صفاته : { شيء } يزاوجه أو يناسبه ، وكل ما اتخذتموه ولياً من دونه ، فله ما يزاوجه ويماثله ، فالمراد بالمثل هنا النفس وهو أصله وحقيقته في اللغة من قولهم : مثل الرجل يمثل - إذا قام وانتصب ، قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي : والمثل يكون هو الحديث نفسه { مثل الجنة التي وعد المتقون } [ الرعد : 35 ] فمثلها هو الخبر عنها ، وقيل : المثل ههنا الصفة { ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } [ البقرة : 214 ] أي صفتهم ، نقل ذلك الهروي ونقل عن أبي عبد الله القزاز قوله : { ضرب مثل فاستمعوا له } [ الحج : 73 ] كذلك ، لأنه قال : { إن الذين تدعون } الآية فصار الخبر عن ذلك هو المثل ، قال : وهو على أصل ما ذكرنا أن مثل الشيء صفته وصورته ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ { مثال } وقرأ { أمثال الجنة التي وعد المتقون } ثم قال : وهذا كله يدل على أن معنى { مثل } صفة صورة ، قال أبو عبد الله : مثلت له الشيء تمثيلاً : صورته له حتى كأنه ينظر إليه ، وفي الحديث :
« مثلت لي الجنة والنار » انتهى . في القاموس : المثل - بالكسر والتحريك وكأمر : المشبه ، والمثل محركة : الحجة والحديث والصفة ، والمثيل : المقدار والقصاص وصفة الشيء والفراش ، جمعه أمثلة ومثل ، والتمثال - بالكسر : الصورة ومثل قائماً : قام منتصباً كمثل بلاضم مثولاً - انتهى . وفي شمس العلوم : والعرب تقيم المثل مقام النفس فتقول : مثلي لا يقول هذا أي أنا انتهى . فقد بان أن المثل بالإسكان والتحريك واحد ، وأنه في الأصل عبارة عن نفس الشيء وصورته ، ثم شاع فيما يشابهه ، فمعنى مثل أي انتصب تشكل وتصور فكانت له صورة وشكل لأن بالانتصاب تتحقق صورته وتظهر ، وكذا مثل بمعنى لصق الأرض وإن كان ظهوره بالقيام أوضح ، وكذا مثل إذا زال عن مكانه لأنه حصل الانتصاب أو اللصوق ، وزاد الانتقال ، ويوضح ذلك قولهم : مثله له - إذا صوره حتى كأنه ينظر إليه ، فعلم قطعاً أن معنى الآية ما قلته ، وأنه لو قيل { ليس كمثله شيء } ، من غير كاف ، لربما قال بعض أهل التعنت : هذا معناه أنه ليس شيئاً ، لأنا قد علمنا أن المثل هو الشيء ، وقد كانوا يتعنتون بدون هذا ، فأتى بالكاف إزالةً لهذا التعنت مع العلم القطعي بأن ظاهر ما نفهمه غير مراد لأنه يؤدي إلى محالين هما في غاية الضمور يحاشى عن أحدهما فكيف إذا اجتمعا من له أدنى حكمة فكيف بأحكم الحكماء ، أحدهما أن له مثلاً ، والثاني أن مثله لا مثل له مع الحكم بأنه مثله ، وذلك تناقض ظاهر يتعالى الله عن إرادة مثله علواً كبيراً - والله الموفق .
ولما كان قد أبطن نفسه سبحانه بهذا التنزيه إبطاناً عظيماً ، وكان هذا الإعراق في البطون لا تحتمله العقول ، فلا يؤمن عليها النزوع إلى التعطيل ، قربه بنوع ظهور بذكر ما نعقله من الأوصاف بعد الأمن من التشبيه لمن يأمل الكلام ، وحكم العقل وطرد الوهم ، فأتى بأوضح ما نحسه من أوصافنا . وأظهره مع استلزامه لبقية الصفات فقال : { وهو } أي والحال أنه لا غيره { السميع البصير * } أي الكامل في السمع والبصر والعلم من البصر والبصيرة ، ومن المقطوع به أن ذلك لا يكون على وجه الخصوص إلا بالوحدانية والحياة والقدرة والإرادة والكلام ، فاستوفت هذه الآية ما لوح إليه العاطف فيب قوله « وما اختلفتم » بعد ما صرح به ، فالله هو الولي من أصول الدين بالصفات السبع على أتم وجه - والله الموفق ، قال الحرالي : السمع إدراك ألطف المثلين وهو الاسم ، والصر إدراك أظهر المثلين وهو الصورة ، وبالحق سبحانه بدأ كل مثل لطيف فهو السميع بالحقيقة أن لا يسمع ما هو مبدىء ألطف مثيله ، أو لا يبصر ما هو مبدىء أظهر مثيله ، ولما كان سبحانه وتعالى عليماً بأمثال البادئات قبل كونها كان سميعاً لها بصيراً لها قبل كونها ، وإنما يستجد السمع والبصر من يتبع علمه إدراك حسه ، لا من هو دائماً سميع بصير بما هو دائماً عليم ، فهو سبحانه يسمع الأشياء وإن لم تتسم ، ويراها وإن لم تتصور ، رؤيته لها وسمعه في خلقها وبريها وتصويرها رؤية دائمة وسمع دائم ، والخلق لا يرون الشيء قبل تصوره ولا يسمعونه قبل تكلمه - انتهى .
فقد صرحت الآية بتنزيهه عن مساوٍ في شيء ما ، فمن ادعى لأحد مساواته في شيء من صفاته علم أو غيره فقد أشرك به في تلك الصفة وهو أشد ملامة من المشرك بالصنم ونحوه من المخلوقات لأن إشراك هذا ظاهر الوهي واضح الخلل بين السفسفة ، وإشراك الأول خفي لا يقدر على حله إلا راسخ وإن كان كل منهما يصير إلى الركاكة والهذيان لأنه لا يسوغ في عقل أن يكون أحد شريكاً لأحد في شيء إلا وهو مساوٍ له في حقيقة الذات ، وصالح في الجملة لأن يقوم مقامه في جميع الصفات ، فإياك ثم إياك من مزلة ربما استغوى بها الشيطان بعض من يريد الترقي في درجات العرفان ، ليخرجه من جميع الأديان .
ولما قرر أمر الوحي بما ثبت به من الإعجاز ، وأراهم الآيات في الآفاق ، بأن له ما في الوجود ، وأنه هو الذي فطره ، وكان ربما كان للإنسان شيء ولم يكن كامل التصرف فيه بأن يكون مفاتيح خزائنه مع غيره من شريك أو غيره ، وكان ربما اخترع الإنسان بناء وكان لغيره ، أخبر إكمالاً لتنزيه الآية السالفة وشرحاً له أنه تعالى ليس كمثله شيء كغيره في هذا أيضاً بل كما كان أن له ما في الخافقين وهو مخترعهما فله مفاتيح خزائنهما ، فقال : { له } أي وحده { مقاليد السماوات والأرض } أي خزائنهما ومفاتيح خزائنهما من الأمطار والأنبات وغيرهما وقد ثبت أنه ابتدعهما ، وأن له جميع ما فيهما مما اتخذ من دونه ولياً وغيره ، قال القشيري : والمفاتيح الخزائن وخزائنه مقدوراته - انتهى . ولما كان قد حصر الأمر فيه دل عليه بقوله : { يبسط الرزق } أي الذي فيهما ولا مانع منه إلا قدرته { لمن يشاء } أي أن يبسطه له { ويقدر } أي يضيق ويقبض على من يشاء كما وسع على فارس والروم وضيق على العرب وفاوت في الأفراد ، بين أفراد من وسع عليهم ومن ضيق عليهم ، فدل ذلك قطعاً على أنه لا شريك له وأنه هو المتصرف وحده فقطع بذلك أفكار الموفقين من عباده من غيره ليقبلوا عليه ويتفرغوا له ، فإن عبادته هي المقاليد بالحقيقة { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال }
[ الآية 12 : نوح ] { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } [ الطلاق : 11 ] { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [ الأعراف : 96 ] { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم } { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } [ الآية 66 : المائدة ] .
ولما كان كأنه قيل : لم فعل ذلك؟ علله بقوله مؤكداً لأن أعمال غالب الناس في المعاصي عمل من يظن أنه سبحانه يخفى عليه عمله : { إنه بكل شيء عليم * } فلا فعل له إلا وهو جار على أتقن ما يكون من قوانين الحكمة ، فلو أنه وسع العرب وقواهم ثم أباحهم ملك أهل فارس والروم لقبل بقوتهم ومكنتهم ، وله في كل شيء دق أو جل من الحكم ما يعجز عن إدراك لطائفة أفاضل الأمم .
ولما ثبت أن له كل شيء وأنه لا متصرف في الوجود سواه ، أنتج ذلك أنه لا ناهج لطرق الأديان التي هي أعظم الرزق وأعظم قاسمة للرزق غيره ، فأعلمهم أنه لم يشرع ديناً قديماً وحديثاً غير ما اتفقوا عليه وقت الشدائد . فقال دالاً على ما ختم به الآية التي قبلها من شمول علمه ومرغباً في لزوم ما هدى إليه ودل عليه : { شرع } أي طرق وسن طريقاً ظاهراً بيناً واضحاً { لكم } أيتها الأمة الخاتمة من الطرق الظاهرة المستقيمة { من الدين } وهو ما يعمل فيجازي عليه . ولما كان السياق للدين ، وكانوا هم المقصودين في هذا السياق بالأمر به ، لأن الشارع لهم قد أنتجه ، وكانوا لتقليدهم الآباء يرون أن ما كان منه أقدم كان أعظم وأحكم ، ذكر لهم أول الآباء المرسلين إلى المخالفين فقال : { ما } أي الذي { وصى به } توصية عظيمة بعد إعلامه بانه شرعه { نوحاً } في الزمان الأقدم كما ختم به على لسان الخاتم ، وأرسل به من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير لأنه لا يرضيه سواه ، فإن كنتم إنما تأنفون من الدخول في هذا الدين لحدوثه فإنه أقدم الأديان وكل ما سواه حادث مع أنه ما بعث نبياً من أنبيائكم ولا من غيرهم إلا به ومع أنه توفرت على الشهادة به الفطر الأولى دائماً والفطر اللاحقة حتى من القلوب العاتية في أوقات الشدائد أبداً فأدخلوا فيه على بصيرة .
ولما كان الإعجاز خاصاً بنا ، أبرزه في مظهر العظمة معبراً بالوحي ، وبالأصل في الموصلات ، ودالاً على زيادة عظمته بتقديمه على من كانوا قبله مع ترتيبهم عند ذكرهم على ترتيبهم في الوجود فقال : { والذي أوحينا إليك } وأفرد الضمير زيادة في عظمته دلالة على أنه لا يفهمه حق فهمه غيره صلى الله عليه وسلم ، ودل على عظمه ما كان لإبراهيم وبنيه بما ظهر من آثاره بمظهر العظمة ، وعلى نقصه عما إلى نبينا صلى الله عليه وسلم بالتعبير بالوصية فقال : { وما وصينا } أي على ما لنا من العظمة الباهرة التي ظهرت بها تلك المعجزات { به إبراهيم } الذي نجيناه من كيد نمرود بالنار وغيرها ووهبنا له على الكبر إسماعيل وإسحاق ، وهو أعظم آباء العرب وهم يدعون أكبر بالآباء فليكونوا على ما وصيناه به { وموسى } الذي أنزلنا عليه التوراة موعظة وتفصيلاً لكل شيء { وعيسى } الذي أنزلنا عليه الإنجيل فيه هدى ونور وموعظة ، ودخرناه في سمائنا شريعة الخاتم الفاتح .
ولما اشتد تشوف السامع إلى الموحى الموصى به ، أبرزه في أسلوب الأمر فقال مبدلاً من معمول « شرع » أو مستأنفاً : { أن أقيموا } أي أيها المشروع لهم من هذه الأمة الخاتمة ومن الأمم الماضية { الدين } أي الذي اتفق عليه الخلائق بالرجوع إلى ما فطروا عليه وقت الاضطرار وهو التوحيد والوصف بجميع صفات الكمال على الإطلاق وغير ذلك من كل ما أرسل به رسله هذا على تقدير أن تكون { أن } مصدرية ، ويجوز أن تكون مفسرة لتقدم ما هو بمعنى القول .
ولما عظمه الأمر بالاجتماع ، أتبعه التعظيم بالنهي عن الافتراق فقال : { ولا تتفرقوا } أي تفرقاً عظيماً بما أشار إليه إثبات التاء ، وكأن ذلك إشارة إلى التحذير من التفرق في الأصل وإذن في الاجتهاد على قدر القوة في الفرع { فيه } أي الدين في أوقات الرخاء عند التقلب في لذيذ ما أنعم به الشارع له الآمر به المرغب في اتباعه المرهب من اجتنابه ، واجتمعوا على ما أرسله الذي أثبتم له جميع صفات الكمال عند الشدائد من غير خلاف أصلاً في شيء من الأشياء ، فإن التفرق سبب الهلاك ، والاجتماع سبب النجاة ، فكونوا يداً واحدة يا أهل الكتاب قال تعالى { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } .
ولما نهى عن التفرق ، حث على لزوم الاجتماع اللازم به بتعليل النهي بقوله : { كبُر على المشركين } أي جل وعظم وشق حتى ضاقت به صدورهم ، وهو { ما تدعوهم إليه } أيها النبي الفاتح الخاتم من الاجتماع أبداً على ما اجتمعوا عليه وقت الاضطرار من وحدانية الواحد القهار ، فلأجل كبره عليهم هم يسعون في تفرقكم عنه فإن تفرقتم عنه كنتم قد تابعتم العدو الحسود وخالفتم الولي الودود . ولما كان الإخبار بكرّه عليهم ربنا أوهم اتباع أتباعهم له ، أزال ذلك الوهم بقوله جواباً لمن كأنه قال : كيف السبيل مع ذلك إلى دخول أحد في هذا الدين ، عادلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منه تعظيماً للقدرة على جميع القلوب : { الله } أي الذي له مجامع العظمة ونفوذ الأمر { يجتبي } أي يختار بغاية العناية ويصرف { إليه } أي إلى هذا الدين الذي تدعوهم إليه { من يشاء } اجتباءه .
ولما ذكر سبحانه بهذا المراد بغير تكسب منه ، أتبعه المزيد المعنى بالسلوك فقال : { ويهدي إليه } بالتوفيق للطاعة { من ينيب * } أي فيه أهلية لأن يجدد الرجوع إلى مراتب طاعاته كل حين بباطنه بعد الرجوع بظاهر إلى ما كتبه له من الدرجات كأنه كان الوصول إليها قد نزل عنها وهو بترقيه في المنازلات بأحوال الطاعات يرجع إليها .
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
ولما كان المراد بالمشركين مع عباد الأوثان أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله لقبولهم منهم التحليل والتحريم ، وكان ذلك مفهماً لأنهم فارقوا أهل الطاعة ، وكان ذلك موهماً لأنهم ما فارقوهم إلا عن جهل ، قال عاطفاً على ما تقديره : فأتى الرسل إلى الناس فأقاموا لهم الدين وبينوا لهم غاية التبيين فاجتبى الله بعضهم وأضل بعضهم فافترقوا : { وما تفرقوا } أي المشركين من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم في أديانهم { إلا } وأدخل الجار لعدم استغراق الزمان فقال : { من بعد ما جاءهم } أي على ألسنة أنبيائهم الذين لم يدعوا لبساً { العلم } أي بما لا يسوغ معه التفرق ومنه أن الفرقة ضلالة ، وأشار الجار أيضاً إلى أن التفرق كان مع العلم لم يكن طال الزمان فتطرق إلى علمهم نسيان كل ذلك بياناً لعظيم قدرة الله تعالى في تصرفه في القلوب ، فإياكم أن يكون حالكم كحالهم فليشتد خوفكم لربكم ورجاءكم له .
ولما كان ترك طريق العلم عجباً ومستبعداً ، قال مبيناً أن الذي حملهم على ذلك حظوظ الأنفس التي لا نجاة منها إلا بعصمة الله تعالى : { بغياً } أي حال كون تفرقهم عداوة ولا شبهة فيها هي بينة الظلم لأجل حظوظ الأنفس واتباع الأهواء التي يجب على العبد البعد عنها بأن لا تكون له إرادة أصلاً بل تكون إرادته تابعة لأمر مولاه .
ولما كان مطلق البغي منافياً لمكارم الأخلاق ، فكان ارتكابه عجباً ، زاد في التعجب منه ببيان أن البغي لم يعد جماعتهم إلى غيرها ، بل كان خاصاً بها ، فقال : { بينهم } .
ولما كان ذلك يقتضي المعالجة ، قال عاطفاً على ما تقديره : فلولا قدرة الله ولطفه لما اجتمعوا بعد الفرقة أبداً : { ولولا كلمة } أي لا تبديل لها { سبقت } أي في الأزل بتأخيرهم إلى آجالهم . ولما كان إمهالهم والرفق بهم رحمة لهم ، بين أن ذلك إنما هو لأجل خير الخلق ليكونوا أتباعاً له فيزدادوا لذلك شرفاً ، وأفرده بالذكر تنبيهاً على ذلك فقال مؤنساً له صلى الله عليه وسلم بلفت الكلام إلى صفة الإحسان إرضاء له بما يرجوه في امته ، وزاد ذلك بالإضافة إلى ضميره فأفهم أن إحسانه إليهم إحسان يليق بمقامه ، ويلتئم بمراده الشريف ومرامه : { من ربك } أي المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم ، سبقت الكلمة بإمهالهم { إلى أجل مسمى } ضربه لآجالهم ثم لجمعهم في الآخرة { لقضي } على أيسر وجه وأسهله { بينهم } حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق .
ولما أخبر عن حال المتقدمين ، وكان من في زمانه صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يدعون غاية العلم بها والاجتماع عليها ، وهي كلها داعية إلى المبادرة إلى إرث هذا الكتاب الخاتم الجامع ، وكان بعضهم يتلبس بالتنسك والإعراض عن الدنيا وغير ذلك مما يقتضي أنه على بصيرة من أمره ، وإنكار أن يكون عنده نوع شك ، قال على وجه يعم غيرهم ، مؤكداً تنبيهاً على ذلك : { وإن الذين } ولما كان المراد الوصول إلى الكتاب من غير منازع ، ولم تدع حاجة إلى العلم بالموصل ، بني للمفعول قوله : { أورثوا الكتاب } أي الكامل الخاتم ، وهم هذه الأمة بما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات ، فورثوا كما قال تعالى
{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } [ فاطر : 32 ] فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازع في ادعائه حال الوارث والموروث منه فقال : { من بعدهم } أي المتفرقين ، وأثبت الجار لعدم استغراق الزمان { لفي شك منه } أي إيراث للكتاب المقتضي للاجتماع لا للتفرق لما فيه من الخير ، وذلك لعملهم عمل الشاك فيقولون : إنه سحر وشعر وكهانة ، ونحو ذلك ، وأن الآتي به غير صادق بعد اطلاعهم على ما اتى به من المعجزات وبعد معرفتهم به ، أما العرب ومن ساكنهم من أهل الكتاب فبإعجازه مع ما في أهل الكتاب من البشارة به ، وأما غير من ساكنهم فبدعوة كتابهم { مريب * } أي موقع في التهمة الموقعة في الحاجة الموقعة في صروف الدهر وهي شدائده وآفاته ونوائبه هذا على أن المراد كتابنا ، ويجوز أن يكون الضمير لأهل الكتاب خاصة والكتاب كتابهم ، وشكهم فيه عملهم بغير ما دعاهم إليه من اتباع كتابنا باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم .
ولما ثبت بهذا زيغهم عن أوامر الكتاب الآتي من الله ، سبب عنه أمره صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس ما ينفعهم عن رسالة ربه الذي أنزل تلك الكتب في آية واحد مفصلة بعشر كلمات في كل كلمة منها حكم برأسه ، قالوا : ولا نظير لها إلا آية الكرسي فإنها عشرة أصول كل أصل منها مستقل برأسه فقال مسبباً عن حالهم الاجتهاد في إزالتها والعمل بضدها : { فلذلك } أي لهذا الوحي العلي الرتبة الذي وصينا بمقاصده جميع الرسل أصحاب الشرائع الكبار من أولي العزم وغيرهم ، أو لذلك التصرف المباعد للصواب والشك في أمر الكتاب .
ولما كان سياق الدعوة للخلق إلى ما أوحى إليه فأنزل عليه ، قدم قوله : { فادع } إلى من أرسلك الله به من الاتفاق على ما أمر به الإله من الاجتماع على الملة الحنيفية . ولما كان الداعي لغيره لا ينفع دعاءه لذلك الغير ما لم ينفع نفسه ، قال : { واستقم } أي اطلب القوم من ربك على مشاق الدعوة ليعينك عليه وأوجده على ما يدعو إليه كتابه مما تدعو إليه ويجب عليه { كما أمرت } ممن لا أمر لغيره في تفاصيل الدعاء من اللين والغلظة والتوسط وغير ذلك من تحديث الناس بما تحتمل عقولهم وتربيتهم على حسب ما ينفعهم .
ولما كان كل ما خالف كتابنا هوى ، وكل ما خالف كتابنا فهو على مجرد الهوى ، قال : { ولا تتبع } أي تعمداً { أهواءهم } في شيء ما ، فإن الهوى لا يدعو إلى خير ، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به لأجل أنه أمر به لا لأجل أنه يهواه .
ولما كانوا قد تفرقوا في الكتاب وشكوا فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، أمره بما يخالف حالهم فقال : { وقل } أي لجميع أهل الفرق ، وكل من يمكن له القول فإنك أرسلت إلى جميع الخلق : { آمنت بما } أي بكل شيء . ولما كان أكمل الناس إيماناً أكثرهم استحضاراً لأوصاف الكمال من الجلال والجمال ، صرف القول إلى الاسم الأعظم إشارة إلى سلوك أعلى المسالك في ذلك فقال : { أنزل الله } أي الذي له العظمة الكاملة { من كتاب } لا أفرق بين شيء من كتبه ولا أحد من رسله ، بل كل كتاب ثبت أنه نزل على رسول ثبت رسالته بالمعجزة فأنا به مؤمن وإليه داعٍ كما اقتضاه كمال القوة النظرية ، قال أبو علي القالي في ذيل الأمالي : حدثنا أبو بكر - هو ابن الأنباري - حدثنا أبو جعفر محمد بن عثمان حدثنا صحاب بن الحارث أنا بشر بن عمارة عن محمد بن سوقة قال : أتى علياً رضي الله عنه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما الإيمان أو كيف الإيمان؟ قال : الإيمان على أربع دعائم : على الصبر واليقين والعدل والجهاد ، والصبر على أربع شعب : على الشوق والشفق والزهادة والترقب ، فمن اشتاق إلى الجنة سلى عن الشهوات ، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات ، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات ، واليقين على أربع شعاب : تبصرة الفطنة وتاويل الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين ، فمن تبصر الفطنة تأول الحكمة ، ومن تأول الحكمة عرف بالعبرة ، ومن عرف العبرة عرف السنة ، ومن عرف السنة فكأنما كان في الأولين ، والعدل على أربع شعب : على غائص الفهم وزهرة الحلم وروضة العلم وشرائع الحكم ، فمن فهم جمع العلم ، ومن حلم لم يضل في الحكم ، ومن علم عرف شرائع الحكم ، ومن حلم لم يفرط أمره ، وعاش في الناس . والجهاد على أربع شعب : على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمنين ، ومن نهى عن المنكر أرغم آناف الفاسقين ، ومن صدق في المواطن فقد قضى الذي عليه ، ومن شنئ المنافقين غضب لله وغضب الله له فأزلفه وأعلى مقامه ، قال : فقام الرجل فقبل رأسه .
ولما أخبر بالعدل في القوة النظرية ، أتبعه ذلك في القوة العملية فقال : { وأمرت } أي ممن له الأمر كله بما أمرني به مما أنزل عليّ { لأعدل } أي لأجل أن أعدل { بينكم } أيها المفرّقون في الأديان من العرب والعجم من الجن والإنس كما دعى إليه كمال القوة العملية ، ثم علل ذلك بقوله : { الله } أي الذي له الملك كله { ربنا وربكم } أي موجدنا ومتولي جميع أمورنا ، فلهذا أمرنا بالعدل على سبيل العموم لأن الكل عباده .
ولما كان الرب واحداً ، انتج عنه قوله : { لنا أعمالنا } خاصة بنا لا تعدونا إلى غيرنا { ولكم أعمالكم } خاصة بكم لا تعدوكم إلى غيركم ، لأنه لا داعي لأن نأخذ عمل بعضنا فنعطيه لغيره ، لأن ذلك لا يفعله إلا ذو غرض ، وهو سبحانه محيط بصفات الكمال ، فهو منزه عن الأغراض ، ولما وصل بتمام هذه الجملة في إزالة الريب وإثبات الحق إلى ما هو كالشمس لثبوت الرسالة بالمعجزات وإعجاز هذا الكتاب وتصادقه مع ما عند أهل الكتاب ، وبيان هاتين المقدمتين اللتين لا نزاع بين أحد من الخلق فيهما كانت نتيجة ذلك : { لا حجة } أي موجودة بمحاجة أحد منا لصاحبه { بيننا وبينكم } لأن الأمر وصل إلى الانكشاف التام فلا فائدة بعده للمحاجة فما بقي إلا المجادلة بالسيوف ، وإدارة كؤوس الحتوف ، لأنا نعلم بإعلام الله لنا في كتابه الذي دلنا إعجازه للخلائق على أنه كلامه ، فنحن نسمعه لذلك منه أنا على محض الحق وأنكم على محض الباطل ، وقد أعذرنا إليكم وأوصلنا ببراهينه إلى المشاهدة فلم يبق إلا السيف عملاً بفضيلة الشجاعة .
ولما كان هذا موضع أن يقال : أفما تخافون الله فيمن تقاتلونه وهو عباده ، أجاب بقوله مظهراً غير مضمر تعظيماً للأمر : { الله } أي الذي هو أحكم الحاكمين { يجمع بيننا } أي نحن وأنتم على دين واحد أراد فلا يكون قتال ، وفي الآخرة على كل حال { فهو يحكم بيننا } { وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون } [ الشعراء : 227 ] فما أقدمنا على القتال إلا عن بصيرة .
ولما كان الجامع بين ناس قد يكون مآلهم إلى غيره ، بين أن الأمر فيه على غير ذلك ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمنه كان المبدأ : { وإليه } أي لا إلى غيره من حيث هذا الاسم الجامع لجميع الصفات { المصير * } حساً ومعنى لتمام عزته وشمول عظمته وكمال رحمته ، وما كان فيما بين المبدأ والمعاد من الأمور التي كانت بحيث يظن أنها خارجة - لتصرف الغير فيها - إنما كانت ابتلاء منه يقيم بها الحجة على العباد على ما يتعارفونه بينهم ، وما كان المتصرف فيها غيره فتصرفهم إنما كان أمراً طارئاً يصحح عليهم الحجة ويلزمهم الحجة .
ولما كان التقدير : فالذين رجعوا إليه طوعاً في هذه الدار بعد هذا البيان والإظهار ، وتركوا الجدال حجتهم ثابتة ولهم الرضا والنعيم المقيم ، عطف عليه قوله مبتدئاً بالموصول ليصله بما يفهم التجدد والاستمرار : { والذين يحاجّون } أي يوردون تشكيكاً على دينه الحق من الشبه ما يسمونه حججاً ، ولعل الإدغام يشير إلى أن أهل هذا الضرب منافقون يلقون شبههم في خفاء فتشربها قلوب أمثالهم فتصير أهوية فيضعف أمرها ويؤيده تقييد الدحوض بما عند الرب { في الله } أي في دين الملك الأعظم ليعيدوا الناس بعدما دخلوا في نور الهدى إلى ظلام الضلال .
ولما كانت إقامة الحجة وإظهار المعجزة أمراً ملزماً لجميع من بلغه الاستجابة لوصول الأمر إلى حد من البيان سقط معه الجدال ، قال معلماً إن ما كان في قوة الوجود يصح أن يطلق عليه أنه موجود ، ومنبهاً بالجار على ذم هذا الجدال ولو قل زمنه : { من بعدما } ولما كان المقصود مطلق الاستجابة لا من مجيب معين قال : { استجيب له } أي استجاب له الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصار الناس كلهم بما يبين لهم مستجيبين بالقوة وإن لم يستجيبوا بالفعل ، فإن الأمر قد ظهر غاية الظهور ، ولم يبق إلا العناد ، فهذه الجملة هي المراد والثمرة من قوله { لا حجة بيننا وبينكم } .
ولما كان من خالف ظاهره باطنه ضعيف الحجة هلهل النسج ، قال معبراً بمبتدأ ثان مفرداً للحجة إشارة إلى ضعفها : { حجتهم } أي التي زعموها حجة ، وأخبر عن هذا المبتدأ الثاني ليكون هو وخبره خبراً عن الأول فقال : { داحضة } أي زالقة فهي ذاهبة غير ثابتة لأجل أنها في معارضة ما ظهوره كالشمس بل أجلى ، والعبارة لفتٌ إلى صفة الإحسان والعندية إشارة إلى شدة ظهور ما في حجتهم من الدحوض لأن { عند } للأمور الظاهرة المألوفة ، وصفة التربية للعطف والرفق ، والإضافة إلى ضميرهم تقتضي مزيد لطف وعطف ، فهو إشارة إلى أنها هباء منثور عند تدقيق النظر ولا سيما إذا كان بصفة عزة وقهر وغضب ، فالمعنى أن دحوضها ظاهراً جداً ولو عوملوا بصفة الإحسان ولو خصوا بمزيد عطف وبر ، فأين هذا مما لو قيل « لدى عليم قدير » فإنه يفهم أن دحوضها لا يدركه إلا بليغ العلم تام القدرة ، وهو مع ذلك غريب فيصير فيه نوع مدح لحجتهم في الجملة : { عند ربهم } أي المحسن إليهم بإفاضة العقل الذي جعلهم به في أحسن تقويم ، فمهما جردوه عن الهوى ، دلهم على أن جميع ما كانوا فيه باطل ، وفيه إشارة إلى أن أدنى ما يعذبهم به قطع إحسانه عنهم ، وأنه يظهر بطلان ما سموه حجة لكل عاقل فيورثهم الخزي في الدنيا والعذاب في الأخرى على أن قطع إحسانه هو عند التأمل أعلى العذاب { وعليهم } زيادة على قطع الإحسان { غضب } أي عقوبة تليق بحالهم المذموم ووصفهم المذؤوم ومنه الطرد ، فهم مطرودون عن بابه ، مبعودون عن جنابه ، مهانون بحجابه . ولما أفهم التعبير ب « على » ذمهم باستعلاء النقم عليهم لم يشكل التعبير باللام ، بل كان مفهماً التهكم والملام فقال : { ولهم } أي مع ذلك { عذاب شديد * } لا تصلون إلى إدراك حقيقة وصفه ، والآية مشيرة إلى الانتصار على أهل الردة وضربهم بكل شدة لسوء منزلتهم عنده كما كشف عنه الحال عند ندب الصديق إليهم بالقتال رضي الله عنه وأرضاه .
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
ولما جزم سبحانه بما توعدهم بعد بعد أن حكم على حجتهم بالدحوض ، وكان لا يجزم بالشيء إلا من كان نافذ الأمر محيط الحكم ، نبه على أنه كذلك ، مبيناً ما به يعرف ثبات الحجج ودحوضها المستلزم للغضب من الله المستعقب للعذاب ، بقوله لافتاً القول إلى الاسم الأعظم تنبيهاً على عظمة المخبر عنه : { الله } أي الذي له جميع الملك { الذي } وأشار بالتعبير بالإنزال إلى أن المراد جملة الكتاب الذي لا مطعن في شيء منه فقال : { أنزل الكتاب } أي أوجد إنزاله هو لا غيره { بالحق } أي متلبساً على أكمل الوجوه بالأمر الثابت الذي لا يبدل وبسبب العمل الحق العام للأقوال والأفعال والعقائد لتعرف الحجج الثابتة من غيرها .
ولما كان الكتاب آمراً بالعدل قالاً وحالاً ، وكان من محسوسات أوامره التقدير بالمقادير الضابطة ، قال مخصصاً معبراً بأقومها إشارة إلى أن الكتاب أعدل عدالة عند العقل وأبين من الميزان للحس : { والميزان } أي الأمر به مريداً به عينه حقيقة وجميعها بل جميع العدل الذي تقدم في « لا عدل بينكم » مجازاً . ولما ثبت أن من جادل فيه كانت حجته داحضة إذا حوسب في الساعة فكان معذباً ، وكان التقدير بما هدى إليه السياق تسلية له صلى الله عليه وسلم فيما يقاسي في إنفاذ ما أمر به من العدل في جميع أقواله وأفعاله وصبره على أذاهم : فمن فزع إلى الكتاب في المعاني وإلى الميزان في الأعيان فبنى أمره على تحقق العدل فيهما بهما فاز ، ومن أهمل ذلك خاب فدحضت حجته وسقطت عند ربع منزلته وما يدريك لعل من جار يعاجل في الدنيا بالأخذ لكون أجله الذي سبقت الكلمة بتأخيره إليه قد حضر ، عطف عليه قوله موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق تعظيماً للأمر : { وما يدريك } يا أكمل الخلق { لعل الساعة } التي أشير إليها في هذه الآية بقوله { عند ربهم } بعد أن صرح بها في غير آية . ولما كان تأنيث الساعة غير حقيقي لأنها بمعنى الوقت ، ذكرها فقال : { قريب * } فأفهم ذلك أنها ذات الشدائد وأن شدائدها ذكور الشدائد وأن قربها أسرع من لمع البرق لما له من الثبات في الحق ، أو ذكرها على إرادة السبب أي ذات قرب ، أو على حذف مضافة أي مجيئها ، وعلى كل حال فهو دال على تفخيمها أي إنك بمظنة من قرب القيامة ، فيقع بهم ما توعدوا به مما ينبغي الإشفاق منه ، فيظهر فيها العدل بموازين القسط لجميع الأعمال ظهوراً لا يتمارى فيه أحد فيشرف من وفى ، ويخزي من جار وجفا .
ولما تصور بهذا قربها مشاراً بالتعبير بلعل إلى أن حال المستعجل بها حال المترجي لشيء محبوب وهو جهل منه عظيم ، شرع في تفصيل الناس في أمرها فقال مشيراً إلى أنه ينبغي للعاقل الاستعداد لها للخلاص في وقتها لظهور دلائلها من غير بحث عن قربها أو بعدها ، فإنه لا بد من كونها { يستعجل بها } أي يطلب أن تكون قبل الوقت المضروب لها { الذين لا يؤمنون بها } أي لا يتجدد لهم ذلك أصلاً وهم غير مشفقين منها ويظنون أنها الباطل ، وكان الحال يقتضي أن يكونوا أنفر الناس منها لكن حملهم على ذلك تكذيبهم بها واستهزاؤهم وظنهم عدم كونها جهلاً ممن هم معترفون بقدرته وعلوه وعظمته .
ولما دل على جهل الكافرين ، دل على أضدادهم فقال : { والذين آمنوا } وإن كانوا في أول درجات الإيمان { مشفقون } أي خائفون خوفاً عظيماً { منها } لأن الله هداهم بإيمانهم ، فصارت صدورهم معادن المعارف ، وقلوبهم منابع الأنوار ، فأيقنوا بما فيها من الأهوال الكبار ، فخافوا للطافتهم أن يكونوا مع صلاحهم من أهل النار . ولما قدم الإشفاق تنبيهاً على أن العاقل ينبغي أن يخشى ما يمكن وقوعه ، قال : { ويعلمون أنها الحق } إعلاماً بأنهم على بصيرة من أمرها ، فهم لا يستعجلون بها ، فالآية من الاحتباك : ذكر الاستعجال أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً ، والإشفاق ثانيا دليلاً عل حذف ضده أولاً . قال ابن كثير : وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد « أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فناداه : يا محمد ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من صوته » هاؤم « فقال : متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه : » ويحك أنها كائنة فما أعددت لها؟ « فقال : حب الله ورسوله ، فقال : » أنت مع من أحببت « قال ابن كثير : فقوله في الحديث » المرء مع من أحب « متواتر لا محالة ، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة ، بل أمره بالاستعداد لها - انتهى ، وهو مشروط بالبراءة من أعداء الله بدليل قصة أبي طالب فإنه لم ينفعه حب الولي نفعاً تاماً بدون البراءة من العدو .
ولما أعلم بتعريف الحق أنها ثابتة كاملاً لا انقضاء له أصلاً ولا زوال لآثارها ، أنتج قوله مؤكداً معظماً في مقابلة إنكارهم : { ألا إن الذين يمارون } أي يظهرون شكهم في معرض اللجاجة الشديدة طلباً لظهور شك غيرهم من : مريت الناقة - إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لتستخرج ما عساه يكون فيها من اللبن { في الساعة } أي القيامة وما تحتوي عليه { لفي ضلال } أي ذهاب جائر عن الحق { بعيد * } جداً عن الصواب ، فإن لها من الأدلة الظاهرة في العقل المؤيد بجازم النقل ما ألحقها حال غيابها بالمحسوسات لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً .
ولما كان حاصل أمر الفريقين أنه أظهر خوف الكافرين في غاية الأمن وأبطن أمن المؤمنين في أزعج خوف ، وكان هذا عين اللطف ، فأنه الوصول إلى الشيء بضده ، ويطلق على إيصال البر إلى الخلق على وجه يدق إدراكه ، وكان أكثر ما يبطئ بالإنسان في أمر الدين اهتمامه بالرزق ، أنتج ذلك قوله : { الله } أي الذي له الأمر كله فهو يفعل ما يريد { لطيف } أي بالغ في العالم وإيقاع الإحسان بإيصال المنافع ، وصرف المضار على وجه يلطف إدراكه ، قال القشيري : اللطيف العالم بدقائق الأمور وغوامضها وهو الملطف المحسن وكلاهما في صفته سبحانه صحيح ، وأكثر ما يستعمل اللطف في وصفه بالإحسان في الأمور الدينية ، وقال الرازي في اللوامع : هو اسم مركب من علم ورحمة ورفق خفي { بعباده } - انتهى .
أما بالمؤمن فواضح ، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى ، فالاسم الأول تخويف والثاني ترجية ظاهرة باطنها تخويف ، إشارة إلى ما ينبغي من الخوف والرجاء ، وأن يكون الخوف أغلب .
ولما كان أظهر ما يكون هذا الوصف في الرزق ، فإنه يوسع على من لا حيلة له ، ويحرم من هو في غاية القوة والقدرة ، ويرفع الضعيف الجبان ويخفض القوي الشجاع ، وكل ذلك على حسب ما يعلم من بواطنهم ويزيد من أعمالهم ، قال دالاً على ذلك استئنافاً لمن سأل عن كيفية اللطف : { يرزق من يشاء } مهما شاء على سبيل من السعة أو الضيق أو التوسط لا مانع له من شيء من ذلك ، ويمنع الرزق عمن يشاء إذا علم فراغ أجله فيتوفاه إليه فأجهدوا أنفسكم في طلب مرضاته ، ولا تلتفتوا إلى الخوف من الحاجة فإنه قد فرغ من تقدير الرزق ونهى عن المبالغة في طلبه .
ولما كان ذلك لا يستطيعه أحد سواه لما يحتاج إليه من القوة الكاملة والعزة الشاملة قال : { وهو القوي } أي فلا يضيق عطاؤه بشيء { العزيز * } فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء .
ولما بين بهذا أن الرزق ليس إلا في يده ، أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن ، ويرغب في رزق الروح فقال على سبيل الاستئناف جواباً لمن يسأل : هل يكون الرزق بشدة السعي أو لا ، وبدأ برزق الروح لشرفه : { من كان } أي من شريف أو دنيء { يريد } ولما كان مدار مقصد السورة على الدين ، وكان الدين معاملة بين العبد وربه يقصد به ما يقصد بالحرث من حصول الفائدة ، وكان الحرث من أجل أسباب المكاسب ، وكانت الجنة قيعاناً غراسها ذكر الله ، عبر عن مطلق الكسب بالحرث فقال : { حرث الآخرة } أي أعمالها التي تستنمي بها الفوائد . ولما كانت أسباب الحروث وثمراتها لا يقدر على تعطيلها وإنجاحها إلا الله ، وكان الآدمي يظن لنفسه في ذلك قدرة ، نبه سبحانه بالالتفات إلى أسلوب العظمة أن أمره سبحانه في ذلك لا يستطاع دفاعه ولا ممانعته ونزاعه : { نزد له } أي بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها { في حرثه } بأن يعينه على الأعمال الصالحة بإنارة القلب وتصفية الحال وتهدئة السر ونفوذ البصر فيما يضر وينفع ويضاعف له ثوابها من العشر لكل حسنة إلى ما لا نهاية له ويغطيه ، من الدنيا التي أعرض عنها ما قدر له إعانة له على ما أقبل عليه من الآخرة ، وطوى ذكر الدنيا في هذا الشق تنبيهاً على أنها أحقر من أن تذكر مع أنه معلوم من آيات أخر { ومن كان } أي من قوي أو ضعيف { يريد حرث الدنيا } أي أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي ويستنمي به مكتفياً به مؤثراً له على الآخرة { نؤته منها } ما قسمناه له ، ولو تهاون به ولم يطلبه لأتاه ، ولا ينال كل ما يتمناه ولو جهد كل الجهد ، وأما الآخرة فكل ما نواه طالبها من أعمالها حصل له وإن لم يعمله { وما } أي والحال أن طالب الدنيا ما { له في الآخرة من نصيب * } أصلاً ، روى أبيّ بن كعب رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب » رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم - وقال : صحيح الإسناد - والبيهقي ، وذلك لأن الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، وهذا تهاون بها فلم ينوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها ، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله ، وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله ، قال الرازي في اللوامع : أهل الإرادة على أصناف : مريد للدنيا ومريد للآخرة ومريد للحق جل وعلا ، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدعاء مقصورة على الدنيا ، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك ، وأما علامة إرادة الله سبحانه وتعالى كما قال { ويريدون وجهه } طرح الكونين والحرية عن الخلق والخلاص من يد النفس - انتهى ، وحاصله أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوق الخلق وتزكية النفس لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار ، بل امتثالاً لأمر الملك الأعلى الذي لا إله غيره لأنه أهل لذلك مع اعترافه لأنه لن يقدر الله حق قدره .
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
ولما تقرر ما شرع من الدين مما وصى به جميع النبيين فبانت أصوله ، واتضحت فروعه وفصوله ، وظهرت غرائبه وأشرقت فرائده وآياته ، وختم بالقانون الأعظم في أمر الدارين مما هو مشاهد ولا يقدر عليه غيره ، فكان التقدير من غير خفاء : هذا شرع الله الذي ارتضاه لعباده وحكم بأن الإقبال عليه غير ضار بطلب الرزق وقدر الأرزاق فلا قدرة لأحد أن يزيد في رزقه شيئاً ، ولا أن ينقص منه شيئاً ، أقبلوه؟ عادل ذلك بقوله تعالى مقرراً موبخاً منبهاً على ما هو الأصل في الضلال عن قوانينه المحررة وشرائعه الثابتة المقررة : { أم لهم } أي لهؤلاء الذيب يروغون يميناً وشمالاً { شركاء } على زعمهم شاركوا الشارع الذي مضى بيان عزته وظهور جلاله وعظمته في أمره حتى { شرعوا } أي الشركاء الذين طرقوا ونهجوا { لهم } أي للكفار ، ويجوز أن يكون المعنى : شرع الكفار لشركائهم { من الدين } في العبادات والعادات التي تقرر في الأذهان أنه لا بد من الجزاء عليها لما جرت به عوائدهم عن محاسبة من تحت أيديهم وقدروا لهم من الأرزاق ، وعدل عن أسلوب العظمة إلى الاسم الأعظم إشارة إلى ما فيه مع العظمة من الإكرام الذي من جملته الحلم المقتضي لعدم معاجلتهم بالأخذ فقال تعالى : { ما لم يأذن به الله } أي يمكن العباد منه بأمرهم به وتقريرهم عليه الملك الذي لا أمر لأحد معه ، وقد محقت صفاته كل صفة وتضاءل عندها كل عظمة ، فأقبلوا عليه دون غيره لكونه معتداً به ، فإن كان كذلك فليسعدوا من أقبل على الدنيا التي هي محط أمرهم فلا يعرفون غيرها بأن يعطوه جميع مراده ويشقوا من أراد الآخرة وسعى لها سعيها ، ونسب الشرع إلى الأوثان لأنها سببه كما كانت سبب الضلال في قوله سبحانه وتعالى حكاية عن إبراهيم خليله عليه الصلاة والسلام { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } ويضاف الشركاء إليهم تارة لأنهم متخذوها وتارة إلى الله تعالى لأنهم أشركوهم به ، والعبارة تأتي بحسب المقام .
ولما علم قطعاً أن التقدير : فلولا أن هذه الأفعال التي يفعلونها من غير إذن منه لا تنقص من ملكه سبحانه شيئاً ، ولا تضر إلا فاعلها مع أنها بإرادته ، فكانت لمنعهم عنها لم يصلوا إلى شيء منها ، عطف عليه قوله تعالى : { ولولا كلمة الفصل } التي سبق في الأزل أنها لا تكون ولما كان أمرهم هيناً ، بني الفعل للمفعول ، فقال : { لقُضي بينهم } أي بين الذين امتثلوا أمره فالتزموا شرعه وبين الذين اتبعوا ما شرعوه لمن سموهم شركاء في أقرب وقت ولكنه قد سبق القضاء في أزل الأزل بمقادير الأشياء وتحديدها على وجوه الحكمة ، فهي تجري على ما حد لها لا تقدم لشيء منها ولا تأخر ولا تبدل ولا تغير ، وستنكشف لكم الأمور وتظهر مخبآت المقدور فلا يقع الفصل إلا في الآخرة كما سبق به القضاء بأن يكون للمقسطين نعيم مقيم .
ولما كانوا ينكرون أن يقع بهم عذاب ، قال مؤكداً عطفاً على ما قدرته بما أرشد إليه السياق : { وإن الظالمين } بشرع ما لم يأذن به الله من الشرك وغيره { لهم عذاب أليم * } أي مؤلم بليغ إيلامه .
ولما علم من هذا السياق كما ترى أنه لا بد من الفصل ، وأن الفصل لا يكون إلا يوم القيامة ، قال شارحاً للفصل بين الفريقين في ذلك اليوم مقبلاً على خطاب أعلى الخلق إشارة إلى أن هذا لا يفهمه حق الفهم ويوقن به حق الإيقان غيره صلى الله عليه وسلم ، أو يكون المراد كل من يصح أن يخاطب إشارة إلى أن الأمر في الوضوح بحيث لا يختص به أحد دون أحد فقال : { ترى } أي في ذلك اليوم لا يشك فيه عاقل لما له من الأدلة الفطرية الأولية والعقلية والنقلية { الظالمين } أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها { مشفقين } أي خائفين أشد الخوف كما هو حال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر . ولما كان الكلام في الذين ظلمهم صفة راسخة لهم ، كان من المعلوم أن كل عملهم عليهم ، فلذلك عبر بفعل الكسب مجرداً فقال : { مما كسبوا } أي عملوا معتقدين لأنه غاية ما ينفعهم { وهو } أي جزاءه ووباله الذي هو من جنسه حتى كأنه هو { واقع بهم } لا محالة من غير أن يزيدهم خوفهم إلا عذاباً في غمرات النيران ، ذلك هو الخسران المبين ، ذلك الذي ينذر به الذين ظلموا { والذين آمنوا } يصح أن يكون معطوفاً على مفعول { ترى } وأن يكون معطوفاً على جميع الجملة فيكون مبتدأ { وعملوا الصالحات } وهي التي أذن الله فيها غير خائفين مما كسبوا لأنهم مأذون لهم في فعله وهو مغفور لهم ما فرطوا فيه { في روضات الجنات } أي في الدنيا بما يلذذهم الله به من لذائد الأقوال والأعمال والمعارف والأحوال ، وفي الآخرة حقيقة بلا زوال { لهم ما يشاؤون } أي دائماً أبداً كائن ذلك لكونه في غاية الحفظ والتربية والتنبيه على مثل هذا الحفظ لفت إلى صفة الإحسان ، فقال : { عند ربهم } أي الذي لم يوصلهم إلى هذا الثواب العظيم إلا حسن تربيته لهم ، ولطف بره بهم على حسب ما رباهم .
ولما ذكر ما لهم من الجزاء عظمه فقال : { ذلك } أي الجزاء العظيم الرتبة الجليل القدر { هو } لا غيره { الفضل } أي الذي هو أهل لأن يكون فاضلاً عن كفاية صاحبه ، ولو بالغ في الإنفاق { الكبير * } الذي ملأ جميع جهات الحاجة وصغر عنده كل ما ناله غيرهم من هذا الحطام ، فالآية كما ترى من الاحتباك : أثبت الإشفاق أولاً دليلاً على حذف الأمن ثانياً ، والجنات ثانياً دليلاً على حذف النيران أولاً .
ولما ذكر محلهم ومآلهم فيه ، بين دوامه زيادة في تعظيمه فقال مبتدئاً : { ذلك } أي الأمر العظيم من الجنة ونعيمها ، وأخبر عن المبتدأ بقوله : { الذي يبشر } أي مطلق بشارة عند من خفف وبشارة كثيرة عند من ثقل ، وزاد البشارة بالاسم الأعظم ، فقال لافتاً القول إليه : { الله } أي الملك الأعظم والعائد وهو « به » محذوف تفخيماً للمبشر به لأن السياق لتعظيمه بالبشارة وبجعلها بأداة البعد وبالوصف بالذي ، وذكر الاسم الأعظم والتعبير بلفظ العباد مع الإضافة إلى ضميره سبحانه فأفهم حذفه أن الفعل واقع عليه واصل بغير واسطة إليه ، فصار كأنه مذكور وظاهر ومنظور فقال : { عباده } ومن المعلوم أن كل أحد يعظم من اختصه لعبوديته .
ولما أشعر بالإضافة لصلاحهم ، نص عليه بقوله : { الذين آمنوا } أي صدقوا بالغيب { وعملوا } تحقيقاً لإيمانهم { الصالحات } وذلك الذي مضى قلبه الذي ينذر به الذين كفروا . ولما كانت العادة جارية بأن البشير لا بد له من حياء وإن لم يسأل لأن بشارته قائمة مقام السؤال ، قال كعب بن مالك رضي الله عنه : لما أذن الله بتوبته علينا ركض نحوي راكض على فرس وسعى ساع على رجليه ، فأوفى على جبل سلع ونادى : يا كعب بن مالك أبشر ، فقد تاب الله عليك ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته خلعت له ثوبي ، فدفعتهما إليه ، والله ما أملك يومئذ غيرهما ، واستعرت ثوبين فلبستهما - إلى آخر حديثه ، كان كأنه قيل : ماذا تطلب على هذه البشارة ، فأمر بالجواب بقوله : { قل } أي لمن توهم فيك ما جرت به عادة المبشرين : { لا أسئلكم } أي الآن ولا في مستقبل الزمان { عليه } أي البلاغ بشارة ونذارة { أجراً } أي وإن قل { إلا } أي لكن أسألكم { المودة } أي المحبة العظيمة الواسعة .
ولما كانوا يثابرون على صلة الأرحام وإن بعدت والأنساب لذلك قال : { في القربى } أي مظروفة فيها بحيث يكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها ، لا يخرج شيء من محبتكم عنها ، فإنها بها يتم أمر الدين ويكمل الاجتماع فيه ، فإنكم إذا وصلتم ما بيني وبينكم من الرحم لم تكذبوني بالباطل ، ولم تردوا ما جئتكم به من سعادة الدارين ، فأفلحتم كل الفلاح ودامت الألفة بيننا حتى نموت ثم ندخل الجنة فتستمر ألفتنا دائماً أبدا وقد شمل ذلك جميع القرابات ولم يكن بطن من قريش إلا وله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة ، رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة ، وروى البخاري عن سعيد بن جبير : إلا أن تؤدوني في قرابتي أي تبروهم وتحسنوا إليهم ، قال ابن كثير : وقال السدي : لما جيء بعلي بن الحسين أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة ، فقال له علي : أقرأت القرآن؟ قال : نعم قال : ما قرأت { قلا لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } قال : وإنكم لأنتم هم ، قال : نعم .
وعن العباس رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله! إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباَ شديداً وقال : « والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله » ، وعنه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث ، فإذا رأونا سكتوا ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودر عرق بين عينيه ، ثم قال : « والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي » وعبر في المنقطع بأداة الاستثناء إعراقاً في النفي بالإعلام بأنه لا يستثني أجر أصلاً إلا هذه المودة إن قدر أحد أنها تكون أجراً ، ويجوز أن تكون « إلا » بمعنى « غير » فيكون من باب :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
فمن كان بينه وبين أحد من المسلمين قرابة فهو مسؤول أن يراقب الله في قرابته تلك ، فيصل صاحبها بكل ما تصل قدرته إليه من جميع ما أمره الله به من ثواب أو عقاب ، فكيف بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي ذر رضي الله عنه : « مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ، من ركب فيها نجا ، ومن تخلف عنها هلك » وقال فيما رواه في الفردوس عن ابن عباس رضي الله عنهما : « أصحابي بمنزلة النجوم في السماء بأيهم اقتديتم اهتديتم » قال الأصبهاني : ونحن الآن في بحر التكليف محتاجون إلى السفينة الصحيحة والنجوم الزارهة ، فالسفينة حب الآل ، والنجوم حب الصحب ، فنرجو من الله السلامة والسعادة بحبهم في الدنيا والآخرة - والله أعلم .
ولما كان التقدير حتماً : فمن يقترف سيئة فعليه وزرها ، ولكنه طوى لأن المقام للبشارة كما يدل عليه ختم الآية مع سابقه ، عطف عليه قوله : { ومن يقترف } أي يكسب ويخالط ويعمل بجد واجتهاد وتعمد وعلاج { حسنة } أي ولو صغرت ، وصرف القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنه لا يزيد في الإحسان إلا العظماء ، وإلى أن الإحسان قد يكون سبباً لعظمة المحسن فقال : { نزد } على عظمتنا { له فيها حسناً } بما لا يدخل تحت الوهم ، ومن الزيادة أن يكون له مثل أجر من اقتدي به فيها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً ، وهذا من أجر الرسل على إبلاغه إلى الأمم ، فهم أغنياء عن طلب غيره - هذا إن اهتدوا به ، وإن دعاهم فلم يهتدوا كان له مثل أجورهم لو اهتدوا ، فإن عدم اهتدائهم ليس من تقصيره ، بل قدر الله وما شاء فعل .
ولما كانوا يقولون : إنا قد ارتكبنا من المساوىء ما لم ينفع معه شيء ، قال نافياً لذلك على سبيل التأكيد معللاً مبيناً بصرف القول إلى الاسم الأعظم أن مثل ذلك لا يقدر عليه ملك غيره على الإطلاق : { إن الله } أي الذي لا يتعاظمه شيء { غفور } لكل ذنب تاب منه صاحبه أو كان يقبل الغفران وإن لم يتب منه إن شاء ، فلا يصدن أحداً سيئة عملها عن الإقبال على الحسنة .
ولما كان إثبات الحسنة فضلاً عن الزياة عليها لا يصح إلا مع الغفران ، ولا يمكن أن يكون مع المناقشة ، فذكر ذلك الوصف الذي هو أساس الزيادة ، أفادها - أي الزيادة - بقوله : { شكور * } فهو يجزي بالحسنة أضعافها ويترك سائر حقوقه . ولما أثبت أنه أنزل الكتاب بالحق ، ودل على ذلك إلى أن ختم بنفي الغرض في البلاغ فحصل القطع بمضمون الخبر ، كان كأنه قيل إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم : هل عملوا بما نبهناهم عليه مما يدعون أنهم عريقون فيه من صلة الرحم والإقبال على معالي الأخلاق باجتناب السئيات وارتكاب الحسنات ، والبعد عن الكذب والمكابرة والبهتان ، فاعتقدوا أنه حق وأنه وحي من عند الله بما قام على ذلك من البرهان : { أم يقولون } عناداً : { افترى } أي تعمد أن يقطع ، وقدم ذكر الملك الأعظم تنبيهاً على أنه لا أفظع من الكذب على ملك الملوك مع فهم المفعول به من لفظ الافتراء فقال : { على الله } الذي أحاط بصفات الكمال ، فله العلم الشامل بمن يتقول عليه والقدرة التامة على عقابه { كذباً } حين زعم أن هذا القرآن من عنده وأنه أرسله لهذا الدين .
ولما كان التقدير قطعاً : إنهم ليقولون ذلك وكان قولهم له قولاً معلوم البطلان لأنه تحداهم بشيء من مثله في زعمهم أن له مثلاً ليعلم صحة قولهم فلم يأتوا بشيء وهم وإن كانوا قد يدعون أنه يمنعهم من ذلك أنهم لا يستجيزون الكذب مبطلون لا يمتري عاقل في بطلان ذلك منهم أيضاً لأنهم لم يكلب منهم أن ينسوا ما يأتون به إلى الله على أنه لو طلب منهم ذلك لما كان عذراً ، لأنه لا يتوقف أحد في أن الضرورات تبيح المحذورات ، وأنه يرتكب أخف الضررين لدفع أثقلهما ، فالإتيان بكلام يسر يسكن به فتن طوال وتنقطع به شرور كبار في غاية الحسن لأن الخطب فيه سهل ، والأمر يسير ، فكان ذلك وهم يرتكبون أكبر منه من قطع الأرحام وتفريق الكلمة لقتل النفوس وتخريب الديار وإتلاف الأموال دليلاً قاطعاً على أنهم إنما يتركونه عجزاً ، تسبب عن قولهم هذا وهو نسبتهم له إلى تعمد الكذب أن قال تعالى رداً عليهم ببيان كذبهم فيما قالوا ببيان ما له صلى الله عليه وسلم من نور القلب اللازم عن استقامة القول : { فإن } وأظهر الجلالة ولم يضمر تعظيماً للأمر بأن الختم لا يقدر عليه إلا المتصف بجميع صفات الكمال على الإطلاق من غير تقيد بقيد أصلاً فقال : { يشأ الله } أي الذي له الإحاطة بالكمال { يختم } وجرى على الأسلوب السابق في الخطاب لأعظم أولي الألباب فقال معبراً بأداة الاستعلاء : { على قلبك } فيمنعه من قبول روح هذا الوحي كما ختم على قلوب أعدائك من قبول ذلك ، فتستوي حينئذ معهم في عدم القدرة على الإتيان بشيء منه وتصير لو قلت وقد أعاذك الله عما يقولون مما يصح نسبته إلى الباطل لم تقله إلا ومعه الأدلة قائمة على بطلانه كما أنهم هم كذلك لا يزالون مفضوحين بما على أقوالهم من الأدلة قائمة على بطلانها ، وكان الأصل في الكلام : أم يقولون ذلك وأنهم لكاذبون فيه بسبب أن الله قد شرح صدرك وأنار قلبك فلا تقول فولاً إلا كانت الأدلة قائمة على صدقه ، ولكنه ساق الكلام هكذا لأنه مع كونه أنصف دال على تعليق بالافتراء على ختم القلوب ، وذلك دال قطعاً على أنهم هم الكاذبون لما على قلوبهم من الختم الموجب لأنها تقول ما الأدلة قائمة على كذبه .
ولما كان التقدير كما دل عليه السياق : ولكنه لم يشأ ذلك ، بل شاء جعله قابلاً لروح الوحي واعياً لفنون العلم فهو يقذف بأنواع المعارف ، ويهتف بتلقي أعاجيب اللطائف ، ويثبت الله ذلك كله من غير مانع ولا صارف ، عطف عليه قوله : { ويمحُ الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { الباطل } وهو قولهم « افترى » وكل كذب فلا يدع له أثراً ، وهنالك يظهر خسران الجاحد وينقطع لسان الألد المعاند ، ولم يذكر أن آلة المحو الكلمات وغيرها استهانة به بالإشارة إلى أنه تارة يمحوه بنفسه بلا سبب وتارة بأضعف الأسباب وتارة بأعلى منه ، وحذفت واوه في الخط في جميع المصاحف مع أنه استئناف غير داخل في الجواب لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً إيماء إلى أنه سبحانه يمحق رفعه وعلوه وغلبته التي دلت عليها الواو مطابقة بين خطه ولفظه ، ومعناه تأكيداً للبشارة يمحوه محواً لا يدع له عيناً ولا أثراً لمن ثبت لصولته : وصبر كما أمر لحولته ، اعتماداً على صادق وعد الله إيماناً بالغيب وثقة بالرسل عليهم الصلاة والسلام ، وفي الحذف أيضاً تشبيه له بفعل الأمر إيماء إلى أن إيقاع هذا المحو أمر لا بد من كونه على أتم الوجوه وأحكمها وأعلاها وأتقنها كما يكون المأمور به من الملك المطاع ، وأما الحق فإنه ثابت شديد مضاعف فلذا قال : { ويحق } أي يثبت على وجه لا يمكن زواله { الحق } أي كل من شأنه الثبات لأنه أذن فيه وأقره ، وعظم الحق وإحقاقه بذكر آلة الفعل فقال : { بكلماته } أي التي
{ لو كان البحر مداداً } [ الكهف : 109 ] الآية التي يقولون إن ما أتاهم من العبارة عنها افتراء للكذب ، والحاصل أنه سبحانه أثبت صفاء لبه ونورانية قلبه وسداد قوله وصاب أمره ، وظلام قلوبهم وبطلان أقوالهم إثباتاً مقروناً بدليله أما لأهل البصائر فبعجزهم عن معارضته ، وأما للأغبياء فإبثات قوله ومحو قولهم .
ولما كانوا يعلمون أنه على حق وهم على باطل ، وكان من أحاط علمه بشيء قدر على ما يريده من ذلك الشيء ، بين ذلك بقوله معللاً على وجه التأكيد لأن عملهم عمل من يظن أن الله لا يعلم مكرهم : { إنه عليم } أي بالغ { بذات الصدور * } أي ما هو فيها مما يعلمه صاحبه ومما لا يعلمه فيبطل باطله ويثبت حقه وإن كره الخلائق ذلك { ولتعلمن نبأه بعد حين } [ ص : 88 ] ولقد صدق الله فأثبت ببركة هذا القرآن كل ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم وأبطل بسيف هذا البرهان كل ما كانوا يخالفونه فيه ، ومن أصدق من الله قيلاً .
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
ولما أخبر بضلالهم وجزم بإبطال أعمالهم ، رغبهم رحمة منه لهم في التوبة التي هي من الحق الذي يحقه ولو على أقل وجوهها بأن يقولوها بألسنتهم ليبلغه ذلك عنهم ، فإن قول اللسان يوشك أن يدخل إلى لا غيره أزلاً وأبداً { الذي يقبل التوبة } كلما شاء بالغة له أو متجاوزاً { عن عباده } الذين خالصون لطاعته ، سئل أبو الحسن البوشنجي عن التوبة فقال : إذا ذكرت الذنب فلا تجد له حلاوة في قلبك .
ولما كان القبول قد يكون في المستقبل مع الأخذ بما مضى قال : { ويعفو عن السيئات } أي التي كانت التوبة عنها صغيرة أو كبيرة وعن غيرها فلا يؤاخذ بها أن شاء لأن التوبة تجب ما قبلها كما أن الإسلام الذي هو توبة خاصة يجب ما كان قبله .
ولما كانت تعدية القبول ب « عن » مفهمة لبلوغه ذلك بواسطة ، فكان ربما اشعر بنقص في العلم ، أخبر بما يوجب التنزيه عن ذلك ترغيباً وترهيباً بقوله : { ويعلم } أي والحال أنه يعلم كل وقت { ما تفعلون } أي كل ما يتجدد لهم عمله سواء كان عن علم أو داعية شهوة وطبع سيئة كان أو حسنة وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب بالخطاب لافتاً للقول عن غيب العباد لأنه أبلغ في التخويف وقرأ الباقون بالعيب نسقاً على العباد وهو ، أعم وأوضح في المراد فعفوه مع العلم عن سعة الحلم .
ولما رغب بالعفو زاد الإكرام فقال : { ويستجيب } أي يوجد بغاية العناية والطلب إجابة { الذين آمنوا } أي دعاء الذي أقروا بالإيمان في كل ما دعوه به أو شفعوا عنده فيه لأنه لولا إرادته لهم الإكرام بالإيمان ما آمنوا ، وعدى الفعل بنفسه تنبيهاً على زيادة بره لهم ووصلتهم به { وعملوا } تصديقاً لدعواهم الإيمان { الصالحات } فيثيبهم النعيم المقيم { ويزيدهم } أي مع ما دعوا له ما لم يدعوا به ولم يخطر على قلوبهم ولما كان هذا وإن كان الأول فضلاً منه أبين في الفضل قال تعالى : { من فضله } على أنه يجوز تعليقه بالفعلين .
ولما رغب الذين طالت مقاطعتهم في المواصلة بذكر إكرامهم إذا أقبلوا عليه ، رهب الذين استمروا على المقاطعة فقال : { والكافرون } أي العريقون في هذا الوصف ، الذين منعتهم عراقتهم من التوبة والإيمان { لهم عذاب شديد * } ولا يجيب دعاءهم ، فغيرهم من العصاة لهم عذاب غير لازم التقيد بشديد ، والآية من الاحتباك : ذكر الاستجابة أولاً دليلاً على ضدها ثانياً والعذاب ثانياً دليلاً على ضده أولاً ، وسره أنه ذكر الحامل على الطاعة والصاد عن المعصية .
ولما كان المتبادر من الاستجابة إيجاد كل ما سألوه في هذه الدنيا على ما أرادوه وكان الموجود غير ذلك بل كان أكثر أهل الله مضيقاً عليهم ، وكانت الإجابة إلى كل ما يسأل بأن يكون في هذه الدار يؤدي في الغالب إلى البطر المؤدي إلى الشقاء فيؤدي ذلك إلى عكس المراد ، قال على سبيل الاعتذار لعباده وهو الملك الأعظم مبيناً أن استجابته تارة تكون كما ورد به الحديث لما سألوه ، وتارة تكون بدفع مثله من البلاء وتارة تكون بتأخيره إلى الدار الآخرة { ولو } أي هو يقبل ويستجيب والحال أنه لو { بسط } ولما كان هذا المقام عظيماً لاحتياجه إلى الإحاطة بأخلاقهم وأوصافهم وما يصلحهم ويفسدهم والقدرة على كل بذل ومنع ، عبر بالاسم الأعظم فقال : { الله } أي الملك الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال تنبيهاً على عظمة هذا المقام : { الرزق } لهم - هكذا كان الأصل ، لكنه كره أن يظن خصوصيته ذلك بالتائبين فقيل : { لعباده } أي كلهم التائب منهم وغيره بأن أعطاهم فوق حاجتهم { لبغوا في الأرض } أي لصاروا يريدون كل ما يشتهونه ، فإن لم يفعل سعوا في إنفاذه كالملوك بما لهم من المكنة بكل طريق يوصلهم إليه فيكثر القتل والسلب والنهب والضرب ونحو ذلك من أنواع الفساد ، وقد تقدم في النحل من الكلام على البغي ما يتقن به علم هذا المكان .
ولما كان معنى الكلام أنه سبحانه لا يبسط لهم ذلك بحسب ما يريدونه ، بنى عليه قوله سبحانه : { ولكن ينزِّل } أي لعباده من الرزق { بقدر } أي بتقدير لهم جملة ولكل واحد منهم لا يزيد عن تقدير دره ولا ينقصها { ما يشاء } من الماء الذي هو أصل الرزق والبركات التي يدبر بها عباده كما اقتضته حكمته التي بنى عليها أحوال هذه الدرر .
ولما كان أكثر الناس يقول في نفسه : لو بسط إليّ الرزق لعملت الخير ، وتجنبت الشر ، وأصلحت غاية الإصلاح ، قال معللاً ما أخبر به في أسلوب التأكيد : { إنه } وكان الأصل : بهم ، ولكنه قال : { بعباده } لئلا يظن أن الأمر خاص بمن وسع عليهم أو ضيق عليهم : { خبير بصير * } يعلم جميع ظواهر أمورهم وحركاتهم وانتقالاتهم وكلامهم وبواطنها فيقيم كل واحد فيما يصلح له من فساد وصلاح وبغي وعدل ، ويهيئ لكل شيء من ذلك أسبابه .
ولما ذكر إنزال الرزق على هذ المنوال ، وكان من الناس ممن خذله الإضلال من يقول : إن ما الناس فيه من المطر والنبات وإخراج الأقوات إنما هو عادة الدهر بين أنه سبحانه هو الفاعل لذلك بقدرته واختياره بما هو كالشمس من أنه قد يحبس المطر عن إبانه وإعادته في وقته وأوانه ، حتى ييأس الناس منه ثم ينزله إن شاء ، فقال معبراً بالضمير الذي هو غيب لأجل أن إنزال الغيث من مفاتيح الغيب : { وهو } أي لا غيره قادر على ذلك فإنه هو { الذي ينزل الغيث } أي المطر الذي يغاث به الناس أي يجابون إلى ما سألوا ويغاثون ظاهراً كما ينزل الوحي الذي يغاثون به ظاهراً وباطناً .
ولما كان الإنزال لا يستغرق زمان القنوط ، أدخل الجار فقال : { من بعد ما قنطوا } أي يئسوا من إنزاله وعملوا انه لا يقدر على إنزاله غيره ، ولا يقصد فيه سواه ، ليكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر وينشره - هكذا كان الأصل ولكنه لما بين أنه غيث قال بياناً لأنه رحمةً ، وتعميماً لأثره من النبات وغيره : { وينشر رحمته } أي على السهل والجبل فينزل من السحاب المحمول بالريح من الماء ما يملأ الأرض بحيث لو اجتمع عليه الخلائق ما أطاقوا حمله ، فتصبح الأرض ما بين غدران وأنهار ، ونبات ونجم وأشجار ، وحب وثمار ، وغير ذلك من المنافع الصغار والكبار ، فلله ما أعلى هذه القدرة الباهرة والآية الظاهرة ، فيخرج من الأرض التي هي من صلابتها تعجز عنها المعاول نجماً هو في لينه ألين من الحرير ، وفي لطافته ألطف من النسيم ، ومن سوق الأشجار التي تنثني فيها المناقير أغصاناً ألطف من ألسنة العصافير ، فما أجلف من ينكر إخراجه الموتى من القبور ، أو يحيد من ذلك بنوع من الغرور .
ولما أنكر عليهم فيما مضى اتخاذ ولي من دونه بقوله تعالى { أم اتخذوا من دونه أولياء } وأثبت أنه هو الولي ، وتعرف إليهم بآثاره التي حوت أفأنين أنواره ، وكانت كلها في غاية الكمال موجبة للحمد المتواتر المنوال ، قال : { وهو } أي وحده لا غيره { الولي } أي الذي لا أحد أقرب منه إلى عباده في شيء من الأشياء { الحميد * } أي الذي استحق مجامع الحمد مع أنه يحمد من يطيعه فيزيده من فضله ويصل حبله دائماً بحبله .
ولما كان ما مضى من بسط الرزق وقبضه ، وإنزال الغيث وحبسه . من الآيات العظمية ، عمم بذكر ما ذلك بعض منه ، وهو دال على جميع ما ختم به الأية السالفة من الحمد الذي هو الاتصاف بجميع صفات الكمال فقال عاطفاً على ما تقديره : فذلك من آيات الله الدالة على قدرته واختياره وإنه هو الذي يحيي هذا الوجود بالمعاني من روح الوحي وغيره تارة والأعيان من الماء وغيره أخرى : { ومن آياته } العظيمة على ذلك وعلى استحقاقه لجميع صفات الكمال { خلق السماوات } التي تعلمون أنها متعددة بما ترون من أمور الكواكب { والأرض } أي جنسها على ما هما عليه من الهيئات وما اشتملا عليه من المنافع والخيرات { وما بث } أي فرق بالأبدان والقلوب على هذا المنوال الغريب من الحس والحركة بالاختيار مع التفاوت في الأشكال ، والقدور والهيئات والأخلاق وغير ذلك من النقص والكمال .
ولما كانت الأرض بناء والسماء سقفه ، فمن كان في أحدهما صح نسبته إلى أنه في كل منهما : الأسفل بالإقلال والأعلى بالإظلال قال تعالى : { فيهما } أي السماوات والأرض ولا سيما وقد جعل لكل منهما تسبباً في ذلك بما أودعهما من الجواهر وأنشأ عنهما من العناصر .
ولما كانت الحياة التي هي سبب الانتشار والدب ربنا أورثت صاحبها كبراً وغلظاً في نفسه نظن أنه تام القدرة ، أنث تحقيراً لقدرته وتوهية لشأنه ورتبته فقلل { من دابة } أي شيء فيه أهلية الدبيب بالحياة من الإنس والجن والملائكة وسائر الحيوانات على اختلاف أصنافهم وألوانهم وأشكالهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم أقطارهم ونواحيهم وأصقاعهم ومن نظر إلى صنائعه سبحانه تيقن وجوده وقدرته واختياره ، ثم إذا أمعن في النظر وتابع التدبر في الفكر وصل إلى معرفة الصانع بأسمائه وصفاته وما ينبغي له ويستحيل عليه فيحمده بمحامدة التي لا نهاية لها ويسبحه بسبحانه ثم إن أمعن سما إلى الوقوف على حكمة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب .
ولما كنا عالمين بأن من أوجد أشياء على ضم أشتاتهم متى شاء مع نقص التصرف والعجز في التقلب كنا جديرين بالعلم القطعي بمضمون قوله تعالى : { وهو } أي بما له من صفات العظمة التي يعلم الظاهر معها ، وما غاب عنا أكبر { على جمعهم } أي هذه الدواب من ذوي العقول وغيرهم بعد تفرقهم بالقلوب والأبدان بالموت وغيره من الحظوظ والأهواء وغير ذلك .
ولما كان الجمع لا بد منه ، عبر بأداة التحقق فقال معلقا بجمع : { إذا } وحقق النظر إلى البعث فعبر بالمضارع فقال : { يشاء قدير * } أي بالغ القدرة كما كان بالغ القدرة عند الإيجاد من العدم بجمعهم في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، ولما ذكرهم سبحانه بنعمه ، وكان السياق لتعداد ما ناسب مقصود هذه السورة منها ، كان الفكر جديراً بأن يخطر له ما في الدنيا من الأمراض والأنكاد والهموم والفهوم بالإشقاء فيها والإسعاد ، قال شافياً لعي سؤاله عن ذلك ببيان ما فيه من نعمته على وجه دال على تمام قدرته ، عاطفاً على ما هو مضمون ما مضى بما تقديره : فهو الذي خلقكم ورزقكم وهو المتصرف فيكم بعد بثكم بالعافية والبلاء تمام التصرف ، فلا نعمة عندكم ولا نقمة إلا منه ، ولا يقدر أصحابها على ردها ولا رد شيء مها فهو وليكم وحده { وما أصابكم } واجههم بالخطاب زيادة في تقريب الطائع وتبكيت العاصي ، وعم بقوله : { من مصيبة } وأخبر عن المبتدأ بقوله : { فبما } أي كائن بسبب الذي - هذا على قراءة نافع وابن عامر ، وإثبات الفاء في الباقين زيادة في إيضاح السببية فقرأوا « فبما » لتضمن المبتدأ الشرط أي فهو بالذي .
ولما كانت النفوس مطبوعة على النقائض ، فهي لا تنفك عنها إلا بمعونة من الله شديدة ، وكان عملها كله أو جله عليها ، فعبر بالفعل المجرد إشارة إلى ذلك فقال : { كسبت } .
ولما كان العمل غالباً باليد قال : { أيديكم } أي من الذنوب ، فكل نكد لاحق إنما هو بسبب ذنب سابق أقله التقصير ، روى ابن ماجة في سننه وابن حبان في صحيحه - والحاكم واللفظ له - وقال : صحيح الإسناد - عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله :
« لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه » فالآية داعية لكل أحد إلى المبادرة عند وقوع المصيبة إلى محاسبة النفس ليعرف من أين جاء تقصيره ، فيبادر إلى التوبة عنه والإقبال على الله لينقذ نفسه من الهلكة ، وفائدة ذلك وإن كان الكل بخلقه وإرادته إظهار الخضوع والتذلل واستشعار الحاجة والافتقار إلى الواحد القهار ، ولولا ورود الشريعة لم يوجد سبيل إلى الهدى ، ولا إلى هذه الكمالات البديعية ، ومثل هذه التنبيهات ليستخرج من العبد ما أودع في طبيعته وركز في غريزته كغرس وزرع سبق إليه ماء وشمس لاستخراج ما أودع في طبيعته من المعلومات الإلهية والحكم العلية .
ولما ذكر عدله ، أتبعه فضله فقال : { ويعفو عن كثير * } ولولا عفوه وتجاوزه لما ترك على ظهرها من دابة ويدخل في هذا ما يصيب الصالحين لإنالة درجات وفضائل وخصوصيات لا يصلون إليها إلا بها لأن اعمالهم لم تبلغها فهي خير واصل من الله لهم ، وقيل لأبي سليمان الداراني : ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ قال : لأنهم علموا أن الله ابتلاهم بذنوبهم - وقرأ هذه الآية .
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
ولما كان من يعاقب بما دون الموت ربما ظن أنه عاجز قال : { وما أنتم بمعجزين } لوأريد محقكم بالكلية ولا في شيء أراد سبحانه منكم كائناً ما كان . ولما كان من ثبت قدرته على محل العلو بخلقه وما أودعه من المصنوعات أجدر بالقدرة على ما دونه ، أشار إلى ذلك بقوله : { في الأرض } ولما كان الكلام في العقوبة في الدنيا قبل الموت ، ولم يكن أحد يدعي فيها التوصل إلى السماء ، لم يدع داع إلى ذكرها بخلاف ما مضى في العنكبوت . ولما نفى امتناعهم بأنفسهم ، وكان له سبحانه من العلو ما تقصر عنه العقول ، فكان كل شيء دونه ، فكان قادراً على كل شيء قال : { وما لكم } أي عند الاجتماع فكيف عند الانفراد .
ولما كانت الرتب في غاية السفول عن رتبته والتضاؤل دون حضرته ، أثبت الجار منبهاً على ذلك فقال : { من دون الله } أي المحيط بكل شيء عظمة وكبراً وعزة ، وعم بقوله : { من ولي } أي يكون متولياً لشيء من أموركم بالاستقلال { ولا نصير * } يدفع عنكم شيئاً يريده سبحانه بكم .
ولما دل سبحانه على تمام قدرته واختياره وختم بنفي الشريك اللازم للوحدانية التي اعتقادها أساس الأعمال الصالحة ، دل عليها بأعظم الآيات عندهم وأوضحها في أنفسهم وأقربها إلى إفهامهم لما لهم من الإخلاص عندها فقال تعالى : { ومن آياته } أي الدالة على تمام قدرته واختياره ووحدانيته وعظيم سلطانه تسخيره وتذليله لسير الفلك فيه حاملة ما لا يحمله غيرها ، وهو معنى قوله : { الجوار } أي من السفن ، وهي من الصفات التي جرت مجرى الأعلام ، ودل على الموصوف ما بعده فلذلك حذف لأن القاعدة أن الصفة إذا لم تخص الموصوف امتنع حذفه فنقول : مررت بمهندس ، ولا تقول : مررت بماشٍ - إلا بقرينة كما هنا .
ولما كانت ثقيلة في أنفسها ، وكان يوضع فيها من الأحمال ما يثقل الجبال ، وكان كل ثقيل ليس له من ذاته إلا الغوص في الماء ، كانت كأنها فيه لا عليه لأنها جديرة بالغرق فقال تعالى محذراً من سطواته متعرفاً بجليل نعمته معرفاً بحقيقة الجواري : { في البحر كالأعلام * } أي الجبال الشاهقة بما لها من العلو في نفسها عن الماء ثم بما يوصلها وما فيه من الشراع عليها من الارتفاع ، وقال الخليل : كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم .
ولما كان كأنه قيل : وما تلك الآيات؟ ذكر ما يخوفهم منها ويعرفهم أن جميع ما أباحهم إياه من شؤونها إنما هو بقدرته واختياره فقال : { إن يشاء } أي الله الذي حملكم فيها على ظهر الماء آية بينة سقط اعتبارها عندكم لشدة الفكر لها { يسكن الريح } التي يسيرها وانتم مقرّون أن أمرها ليس إلا بيده { فيظللن } أي فتسبب عن ذلك أنهن يظللن أن يقمن ليلاً كان أو نهاراً ، ولعله عبر به مع أن أصله الإقامة نهاراً لأن النهار موضع الاقتدار على الأشياء وهو المنتظر عند كل متعسر للسعي في إزالة عسره وتيسر أمره { رواكد } أي ثوابت مستقرات من غير سير { على ظهره } ثباتاً ظاهراً بما دل عليه إثبات اللامين وفتح لامه الأولى للكل .
ولما كان ذلك موضع إخلاصهم الدعوة لله والإعراض عن الشركاء فإنهم كانوا يقولون في مثل هذا الحال : اخلصوا فإن آلهتكم - أي من الأصنام وغيرها من دون الله - لا تغني في البحر شيئاً ، وكانوا ينسبون ذلك شركاء مع طلوعهم إلى البر كانوا بمنزلة من لا يعد ذلك آية أصلاً ، فلذلك أكد قوله : { إن في ذلك } أي ما ذكر من حال السفن في سيرها وركودها مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه بدليل ما للناس كافة من الإجماع على التوجه في ذلك إليه خاصة والانخلاع مما سواه { لآيات } أي على أن إحاطته سبحانه بجميع صفات الكمال أمر مركوز في العقول ثابت في الفطر الأولى مما لا يصد عنه إلا الهوى ، وعلى أن بطلان أمر ما دونه لذلك هو من الظهور بمكان لا يجهل .
ولما كانوا يتمادحون بالصبر على نوازل الحدثان والشكر لكل إحسان ويتذامون بالجزع والكفران ، وكان ذلك يقتضي ثباتهم على حال واحد فإن كان الحق عليهم لمعبوداتهم فرجوعهم عنها عند الشدائد مما لا ينحو نحوه ولا يلتفت لفتة أحد من كمل الرجال الذين يجانبون العار والاتسام بمسيم الإغمار ، وإن كان الحق كما هو الحق لله فرجوعهم عنه عند الرخاء بعد إنعامه عليهم بإنجائهم من الشدة لا يفعله ذو عزيمة ، قال مشيراً إلى ذلك بصيغتي المبالغة : { لكل صبار } أي في الشدة { شكور * } أي في الرخاء وإن كثر مخالفوه ، وعظم نزاعهم له ، وهاتان صفتا المؤمن المخلص الذي وكل همته بالنظر في الآيات فهو يستملي منها العبر ويجلو بها من البصيرة عين البصر .
ولما نبه بهذا الاعتراض بين الجزاء ومعطوفه على ما فيه من دقائق المعاني في جلائل المباني ، قال مكملاً لما في ذلك من الترغيب في صورة الترهيب : { أو } أي أو أن يشاء في كل وقت أراده ، واسند الإيباق إلى الجواري تأكيداً لإرادة العموم في هلاك الركاب فقال : { يوبقهن } أي يهلكهن بالإغراق بإرسال الريح وغير ذلك من التباريح حتى كأنهن بعد ذلك العلو في وقبه أي حفره ، وطاق في الماء وقعره ، وقد تقدم تحقيق معنى « وبق » بجميع تقاليبه في سورة الكهف ، ومنه أن وبق كوعد ووجل وورث وبوقاً وموبقاً : هلك ، والموبق كمجلس : المهلك وكل شيء حال بين شيئين لأن الوقبة تحول بين ما فيها وبين غيره ، ومنه قيل للموعد : موبق ، وأوبقه : حبسه أو أهلكه .
ولما كان الإهلاك لهن إهلاكاً للركاب ، قال مبيناً أنهم المقصودون مجرداً الفعل إشارة إلى أن ابن آدم لما طبع عليه من النقائص ليس له من نفسه فعل خال عن شوب نقص حثاً له على اللجوء إلى الله في تهذيب نفسه وإخلاص فعله : { بما كسبوا } أي فعلوا من المعاصي بجدهم فيه واجتهادهم .
ولما كان التقدير تفصيلاً للإيباق : فيغرق كل من فيهن إن شاء ويغرق كثيراً منهم إن شاء عطف عليه قوله : { ويعف } أي إن يشاء { عن كثير * } أي من الناس الذين في هذه السفن الموبقه ، فينجيهم بعوم أو حمل عى خشبة أو غير ذلك ، وإن يشأ يرسل الريح طيبة فينجيها ويبلغها أقصى المراد إلى غير ذلك من التقادير الداخلة تحت المشيئة ، فالفعل كما ترى عطف على يوبق ، وعطف بالواو لأنه قسم من حالي الموبقة ، وهو بمعنى ما ورى عن أهل المدينة من نصب « يعفو » بتقدير « إن » ليكون المعنى : يوقع إيباقاً وعفواً .
ولما كان هذا كله على صورة الاختبار لن يستبصر فيدوم إخلاصه ، ومن يرجع إلى العمى فلا يكون خلاصه ، قال مبيناً بالنصب للصرف عن العطف على شيء من الأفعال الماضية لفساد المعنى لكونها في حيز الشرط ، فيصير العلم أيضاً مشروطاً : { ويعلم الذين يجادلون } أي عند النجاة بالعفو . ولما كان مقام العظمة شديد المنافاة للمجادلة ، لفت القول إليه فقال : { في آياتنا } أي هذه التي لا تضاهي عظمتها ولا تقايس جلالتها وعزتها رجوعاً إلى ما كانوا عليه من الشرك والنزاع في تمام القدرة بإنكار البعث ، ومن واو الصرف يعرف أن مدخولها مفرد في تأويل المصدر لأن النصب فيها بتقدير أن فيكون مبتدأ خبره ما يدل عليه السياق فالتقدير هنا : وعلمه سبحانه بالمجادلين عند هذا حاصل ، والتعبير عنه بالمضارع لإفادة الاستمرار لتجدد تعلق العلم بكل مجادل كلما حصل جدال ، وقراءة نافع وابن عامر بالرفع دالة على هذا ، فإن التقدير : وهو يعلم - فالرفع هنا والنصب سواء ، قال الرضي في شرح قول ابن الحاجب في نواصب الفعل : والفاء - أي ناصبة - بشرطين : السببية ، والثاني أن يكون قبلها أحد الأشياء الثمانية ، والواو الواقعتين بعد الشرط قبل الجزاء نحو أن تأتني فتكرمني أو تكرمني أنت ، أو بعد الشرط والجزاء : إن تأتني إنك فأكرمك أو وأكرمك ، وذلك لمشابهة الشرط في الأول والجزاء في الثاني النفي ، إذ الجزاء مشروط ووجوده بوجود الشرط ، ووجود الشرط مفروض ، فكلاهما غير موصوفين بالوجود حقيقة ، وعليه حمل قوله تعالى { ويعلم الذين } في قراءة النصب ، ثم قال : وكذا يقول في الفعل المنصوب بعد واو الصرف أنهم لما قصدوا فيها معنى الجمعية نصبوا المضارع بعدها ليكون الصرف عن سنن الكلام المتقدم مرشداً من أول الأمر أنها ليست للعطف فهي إذن إما واو الحال وأكثر دخولها على الاسمية فالمضارع بعدها في تقدير مبتدأ محذوف الخبر وجوباً ، فمعنى قم وأقوم : قم وقيامي ثابت : أي في حال ثبوت قيامي ، وأما بمعنى مع وهي لا تدخل إلا على الاسم قصدوا ها هنا مصاحبة الفعل للفعل منصوباً ما بعدها ، فمعنى قم وأقوم : قم مع قيامي كما قصدوا في المفعول معه مصاحبة الاسم للاسم فنصبوا ما بعد الواو ، ولو جعلنا الواو عاطفة للمصدر متصيد من الفعل قبله النجاة ، أي لم يكن منك قيام وقيام مني ، لم يكن فيه نصوصية على معنى الجمع ، والأولى في قصد النصوصية في شيء على معنى أن يجعل على وجه يكون ظاهراً فيما قصدوا النصوصية عليه ، وإنما شرطوا في نصب ما بعد فاء السببية كون ما قبلها أحد الأشياء المذكورة أي الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض والتحضيض والرجاء لأنها غير حاصلة المصادر فتكون كالشرط الذي ليس بمتحقق الوقوع ، ويكون ما بعد الفاء كجزائها ثم حملوا ما قبل واو الجمعية في وجوب كون أحد الأشياء المذكورة على ما قبل فاء السببية التي هي أكثر استعمالاً من الواو في مثل هذا الموضع أعني في انتصاب المضارع بعدها ، وذلك لمشابهة الواو للفاء في أصل العطف ، وفي صرف ما بعدهما عن سنن العطف لقصد السببية في إحداهما والجمعية في الأخرى ، ولقرب الجمعية من التعقب الذي هو لازم السببية ثم قال : وكذا ربما لم يصرف بعد واو الحال قد تدخل على المضارع المثبت كما ذكرنا في باب الحال ، نحو قمت وأضرب زيداً أي وأنا أضرب .
ولما كان علم القادر بالمعصية موجباً لعذاب من عصاه ، كان كأنه قيل : قد خسر من فعل ذلك فيا ليت شعري ما يكون حالهم؟ أجاب بقوله : { ما لهم من محيص * } أي محيد ومفر أصلاً عن عذابه ، ولا بشيء يسير ، وإن تأخر في نظركم إيقاع العذاب بهم فإن عذابه سبحانه منه ما هو باطن وهو الاستدراج بالنعم وهذا لا يدركه إلا أرباب القلوب المقربون لدى علام الغيوب ، ومنه ما هو ظاهر ، ويجوز أن يكون « الذين » فاعل « يعلم » ، وحينئذ تكون هذه الجملة في محل نصب لسدها مسد مفعول العلم .
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
ولما علم أن جميع النعم من الغيث وأثاره ، ومن نشر الدواب براً وبحراً بمعرض من الزوال وهو عظيم التقلبات هائل الأحوال سبب عنه قوله محقراً لدنياهم وما فيها من الزهرة بسرعة الذبول والزوال ، والأفوال والارتحال ، ولهم بأنها مع ما ذكر لا قدرة لهم على شيء منها إلا يموت يمن عليهم بها ، وأما هم فقوم ضعفاء لا قدرة لهم على شيء وليس لهم من أنفسهم إلا العجز ، فلو عقلوا لعلموا ولو علموا لعملوا عمل العبيد ، وأطاعوا القوي الشديد : { فما أوتيتم } أي أيها الناس { من شيء } أي من النعم الظاهرة ، وأجاب « ما » الشرطية بقوله : { فمتاع الحياة الدنيا } أي القريبة الدنيئة لا نفع فيه لأحد إلا مدة حياته ، وذلك جدير بالإعراض عنه وعما يسببه من الأعمال إلا ما يقرب إلى الله { وما } أي والذي ، ولفت الكلام عن مظهر العظمة إلى أعظم منها بذكر الاسم الجامع للترغيب في ذكر آثار الأوصاف الجمالية والترهيب من آثار النعوت الجلالية فقال : { عند الله } أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من نعم الدارين { خير } أي في نفسه وأشد خيرية من النعم الدنيوية المحضة لانقطاع نفعها . ولما كانت النعم الدنيوية قد تصحب الإنسان طول عمره فتسبب بذلك إلى البقاء قال : { وأبقى } أي من الدنيوية لأنه لا بد من نزعها منه بالموت ، ولذلك قيد بالحياة فلا تؤثر الفاني على خساسته على الباقي مع نفاسته .
ولما بين ما لها من النفاسة ترغيباً فيها ، بين من هي له فقال : { للذين آمنوا } أي أوجدوا هذه الحقيقة { وعلى } أي والحال أنهم صدقوها بأنهم على ، ولفت القول إلى صفة الإحسان لأنها نسب شيء للمتوكل ، وأحكم الأمر بالإضافة إشارة إلى « إنه إحسان » هو في غاية المناسبة لحالهم فقال : { ربهم } أي الذي لم يروا إحساناً قط إلا منه وحده بما رباهم من الإخلاص له { يتوكلون } أي يحملون جميع أمورهم عليه كما يحمل غيرهم متاعه على من يتوسم فيه قوة على الحمل ولا يلتفتون في ذلك إلى شيء غيره أصلاً لينتفي عنهم بذلك الشرك الخفي كما انتفى بالإيمان الشرك الجلي ، والتعبير بأداة الاستعلاء تمثيل للإسناد والتفويض إليه بالحمل عليه لأن الحمل أبين في الراحة ، وأظهر في البعد من الهم والمشقة ، ولعل التعبير بالمضارع للتخفيف في أمر التوكل بالرضى بتجديده كلما تجدد مهم ، ومن كان كذلك كان الله كافيه كل ملم ، فيشاركون أهل الدنيا في نيل نعمها ويفارقونهم في أن ربهم سبحانه يجعلها على وجه لا حساب عليهم فيها ، بل ولهم فيها الأجور الموجبة للنعمة والحبور ، وفي أنه يجعلها كافية لمهماتهم وسادّة لخلاتهم ، ويزيدهم الباقيات الصالحات التي يتسبب عنها نعيم الآخرة بعد راحة الدنيا .
ولما كان كل من الإيمان والتوكل امراً باطناً فكان لا بد من دلائله من ظواهر الأعمال ، وكانت تخليات من الرذائل وتحليات بالفضائل وكانت التخليات لكونها درء للمفاسد مقدمة على التحليات التي هي جلب للمصالح قال عاطفاً على { الذين } : { والذين يجتبنون } أي يكلفون أنفسهم أن يجابوا { كبائر الإثم } أي جنس الفعال الكبار التي لا توجد إلا ضمن أفرادها ويحصل بها دنس للنفس ، فيوجب عقاباً لها مع الجسم ، وعطف على { كبائر } قوله : { والفواحش } وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع التي هي آيات الله الثلاث التي نصبها حجة على عباده وله الحجة البالغة فاستعظم الناس أمرها ولو أنها صغائر لدلالتها على الإخلال بالمروءة كسرقة لقمة والإقرار على المعصية من شيخ جليل القدر لمن لا يخشاه ولا يرجوه ، وقرأ حمزة والكسائي : كبير ، وهو للجنس ، فهو بمعنى قراءة الجمع أو هي أبلغ لشمولها المفرد . ولما ذكر ما قد تقود إليه المطامع دون حمل الغضب الصارع قال منبهاً على عظمته معبراً بأداة التحقق دلالة على أنه لا به منه توطيناً للنفس عليه معلقاً بفعل الغفر : { وإذا } وأكد بقوله : { ما } وقدم الغضب إشارة إلى الاهتمام بإطفاء جمره وتبريد حره فقال : { غضبوا } أي غضباً هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة ، وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال : { هم يغفرون } أي الإحصاء والإخفاء بأنهم كلما تجدد لهم غضب جددوا غفراً أي محواً للذنب عيناً وأثراً مع القدرة على الانتقام فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر ، والكبر لا يصلح لغير الإله وذلك لأنه لا يغيب أحلامهم عند اشتداد الأمر ما يغيب أحلام غيرهم من طيش الجهل وسفاهة الرأي ، فدل ذلك على أن الغفر دون غضب لا يعد بالنسبة إلى الغفر معه ، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله ، وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم قال : كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا أذا قدروا عفوا .
ولما أتم ما منه التحلي ، أتبعه ما به التخلي ، وذكر أوصافاً أربعة هي قواعد النصفة ما انبنى عليها قط ربعها إلا كان الفاعلون لها كالجسد الواحد لا تأخذهم نازلة في الدنيا ولا في الآخرة فقال : { والذين استجابوا } أي أوجدوا الإجابة بمالهم من العلم الهادي إلى سبيل الرشاد { لربهم } أي الداعي لهم إلى إجابته إحسانه إليهم إيجاداً من شدة حمل أنفسهم عليه يطلبونه من أنفسهم طلباً عظيماً صادقاً لم يبق معه لأحدهم نفس ولا بقية من وهم ولا رسم إلا على موافقة رضاه سبحانه لأنهم يعلمون أنه ما دعاهم إليه وهو مربيهم لصلاحهم وسعدهم وفلاحهم ، لأنه محيط العلم شديد الرحمة لا يتهم بوجه من الوجوه .
ولما كان هذا عاماً لكل خير دعا إليه سبحانه ، خص أعظم عبادات البدن ، وزاد في عظمتها بالتعبير بالإقامة فقال : { وأقاموا } أي بما لهم من القوة { الصلاة } فأفهم ذلك مع اللام أنهم أوجدوا صورتها محمولة بروحها على وجه يقتضي ثبوتها دائماً . ولما كانت الاستجابة توجب للاتحاد القلوب بالإيمان الموجب للاتحاد في الأقوال والأفعال ، والصلاة توجب الاتحاد بالأبدان ، ذكر الاتحاد بالأقوال الناشىء عنه عند أولي الكمال الاتحاد في الأفعال ، فقال معبراً بالاسمية حثاً على أن جعلوا ذلك لهم خلقاً ثابتاً لا ينفك : { وأمرهم } أي كل ما ينوبهم مما يحوجهم إلى تدبير { شورى } أي يتشاورون فيه مشاورة عظيمة مبالغين مما لهم من قوة الباطن وصفائه في الإخلاص والنصح ، من الشور وهو العرض والإظهار { بينهم } أي بحيث إنهم لا فرق في حال المشاورة بين كبير منهم وصغير بل كل منها يصغي إلى كلام الآخر وينظر في صحته وسقمه بتنزيله على أصول الشرع وفروعه ، فلا يستبدل أحد منهم برأي لدوام اتهامه لرأيه لتحققه نقصه بما له من غزارة العلم وصفاء الفهم ولا يعجلون في شيء بل صار التأبي لهم خلقاً ، وسوق المشورة هذا السياق دال على عظيم جدواها وجلالة نفعها قال الحسن رحمه الله : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم - على أنه روى الطبراني في الصغير والأوسط لكن بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد » وروى في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أراد أمراً فشاور فيه أمرأ مسلماً وفقه الله لأرشد أمره » .
ولما كانت المواساة بالأموال بعد الاتحاد في الأقوال والافتاق في الأفعال أعظم جامع على محاسن الخلال ، واظهر دال على ما ادعى من الاتحاد في الحال والمآل قال مسهلاً عليهم أمرها بأنه لا مدخل لهم في الحقيقة في تحصيلها راضياً منهم باليسير منها : { ومما } ولفت القول إلى مظهر العظمة تذكيراً بما يتعارفونه بينهم من أنه لا مطمع في التقرب من العظماء إلا بالهدايا فقال : { رزقناهم } أي بعظمتنا من غير حول منهم ولا قوة { ينفقون * } أي يديمون الإنفاق كرماً منهم وإن قل ما بأيديهم اعتماداً على فضل الله سبحانه وتعالى لا يقبضون أيديهم كالمنافقين ، وذلك الإنفاق على حسب ما حددناه لهم فواسوا بالمشورة في فضل عقولهم وبالإنفاق في فضل أموالهم تقوى منهم ومراقبة لله لا شهوة نفس .
ولما كان في العقوبة مصلحة ومفسدة فندب سبحانه إلى المغفرة تقديماً لدرء المفسدة لأن الإنسان لعدم علمه بالقلوب لا يصح له بوجه أن يعاقب بمجرد الغضب لأنه قد يخطئ فيعاقب من أغضبه ، وهو شريف الذات كريم الطبع على الهمة أبي النفس ، ما وقع منه الذنب الذي أغضب إلا خطأ معفواً عنه أو كذب عليه فيه فيربي في نفسه أخته تفسد ذات البين فيجر إلى خراب كبير ، وكانت إدامة الغفر جالبة للفساد مجرئة على العناد ، وكان البغي هو التمادي في السوء محققاً لقصد الذنب مجوزاً للإقدام على الانتقام ، وكان الانتصار من الفجار ربما أحوج مع قوة الجنان إلى إنفاق المال ، عقب الإنفاق بمدح الانتصار بقوله : { والذين } وذكر أداة التحقق إشارة إلى أن شرطها لا بد من وقوعه بالفعل أو بالقوة فقال ناصباً بفعل الانتصار مقدماً لما من شأن النفس الاهتمام بدفعه لعدم صبرها عليه : { إذا أصابهم } أي وقع بهم وأثر فيهم { البغي } وهو التمادي على الرمي بالشر { هم } أي بأنفسهم خاصة لما لهم من قوة الجنان والأركان المعلمة بأن ما تقدم من غفرانه ما كان إلا لعلو شأنهم لا لهوانهم { ينتصرون * } أي يوقعون بالعلاج بما أعطاهم الله من سعة العقل وشدة البطش وقوة القلب النصر لأنفسهم في محله على ما ينبغي من زجر الباغي عن معاودتهم وعن الاجتراء على غيرهم مكررين لذلك كلما كرر لهم فيكون ذلك من إصلاح ذات البين ، ليسوا بعاجزين ولا في أمر دينهم متوانين ، والتعبير في هذه الأفعال بالإسناد إلى الجمع إشارة إلى أنه لا يكون تمام التمكن الرادع إلا مع الاجتماع ، ومن كان فيها مفرداً كان همه طويلاً وبثه جليلاً ، قال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق .
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
ولما كان الإذن في الانتصار في هذا السياق المادح مرغباً فيه مع ما للنفس من الداعية إليه ، زجر عنه لمن كان له قلب أولاً بكفها عن الاسترسال فيه وردها على حد المماثلة ، وثانياً بتسميته سيئة وإن كان على طريق المشاكلة ، وثالثاً بالندب إلى العفو ، فصار المحمود منه إنما هو ما كان لإعلاء كلمة الله لا شائبة فيه للنفس أصلاً فقال : { وجزاء سيئة } أي أي سيئة كانت { سيئة مثلها } أي لا تزيد عليها في عين ولا معنى أصلاً ، وقد كفلت هذه الجمل بالدعاء إلى أمهات الفضائل الثلاث العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه ، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم ، وبالنفقة إلى العفة ، وبالانتصار إلى الشجاعة ، حتى لا يظن ظان أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل ، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل ، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث ، فإن من علم المماثلة كان عالماً ، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفاً ، ومن قصر نفسه على ذلك كان شجاعاً ، وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول للعاجز والثاني للمتغلب المتكبر بدليل البغي .
ولما كان شرط المماثلة نادباً بعد شرع العدل الذي هو القصاص إلى العفو الذي هو الفصل لأن تحقق المثلية من العبد الملزوم للعجز لا يكاد يوجد ، سبب عنه قوله : { فمن عفا } أي بإسقاط حقه كله أو بالنقص عنه لتتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة { وأصلح } أي أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس ، فيكون بذلك منتصراً من نفسه لنفسه { فأجره على الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم ، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله صلى الله عليه وسلم : « ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً » .
ولما كان هذا ندباً إلى العفو بعد المدح بالانتصار ، بين أن علته كراهة أن يوضع شيء في غير محله لأنه لا يعلم المماثلة في ذلك إلا الله ، فقال مضمراً إشارة إلى أن المثلية من الغيب الخفي مؤكداً لكف النفس لما لها من عظم الاسترسال في الانتصار : { إنه لا يحب الظالمين * } أي لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله دأب من يمشي في مأخذ الاشتقاق إذا كان عريقاً في ذلك سواء كان ابتداء أو مجاوزة في الانتقام بأخذ الثأر .
ولما كان هذا ساداً لباب الانتصار لما يشعر به من أنه ظلم على كل ، قال مؤكداً نفياً لهذا الإشعار : { ولمن انتصر } أي سعى في نصر نفسه بجهده { بعد ظلمه } أي بعد ظلم الغير له وليس قاصد البعد عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان البعد .
ولما بين تعالى ما لذلك الناظر في مصالح العباد المنسلخ من خط نفسه إحساناً إلى عباد الله من الرتبة العليا ، بين ما لهذا الذاب عن نفسه القاصد لشفاء صدره وذهاب غيظه ، فقال رابطاً للجزاء بفاء السبب بياناً لقصور نظره على دفع الظلم عن نفسه ، ويجوز كون { من } موصولة والفاء لما للموصول من شبه الشرط .
ولما عبر أولاً بالإفراد فكان ربما قصر الإذن على الواحد لئلا تعظم الفتنة ، جمع إشارة إلى أن الفتنة إنما هي في إقرار الظلم لا في نصر المظلوم واحداً كان أو جماعة فقال : { فأولئك } أي المنتصرون لأجل دفع ظلم الظالم عنهم فقط { ما عليهم } وأكد بإثبات الجار فقال : { من سبيل * } أي عقاب ولا عتاب ، وروى النسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت : « ما علمت حتى دخلت عليَّ زينب رضي الله عنها بغير إذن وهي غضبى ثم أقبلت عليّ فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : دونك فانتصري ، فأقبلت عليها حتى رأيتها قد يبس ريقها في فيها ما ترد عليّ شيئاً ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه » .
ولما نفى السبيل عنه بعد تشوف السامع إلى موضع ما أشعر به الكلام السابق من الظلم ، بين ذلك فقال : { إنما السبيل } أي الطريق السالك الي لا منع منه أصلاً بالحرج والعنت { على } وجمع إعلاماً بكثرة المفسدين تجرئة على الانتصار منهم وإن كانوا كثيراً فإن الله خاذلهم فقال : { الذين يظلمون الناس } أي يوقعون بهم ظلمهم تعمداً عدواناً { ويبغون } أي يتجاوزن الحدود { في الأرض } بما يفسدها بعد إصلاحها بتهيئتها للصلاح طبعاً وفعلاً وعلماً وعملاً . ولما كان الفعل قد يكون بغياً وإن كان مصحوباً بحق كالانتصار المقترن بالتعدي فيه قال : { بغير الحق } أي الكامل ولما أثبت عليهم بهذا الكلام السبيل ، كان السامع جديراً بأن يسأل عنه فقال : { أولئك } أي البغضاء البعداء من الله { لهم عذاب أليم * } أي مؤلم بما آلموا من ظلموه من عباد الله بحيث يعم إيلامه أبدانهم وأرواحهم بما لها من المشاعر الظاهرة والباطنة .
ولما أفهم سياق هذا الكلام وترتيبه هكذا أن التقدير : فلمن صبر عن الانتصار أحسن حالاً ممن انتصر ، لأن الخطأ في العفو أولى من الخطأ في الانتقام ، عطف عليه مؤكداً لما أفهمه السياق أيضاً من مدح المنتصر : { ولمن صبر } عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى { وغفر } فصرح بإسقاط العقاب والعتاب فمحا عين الذنب وأثره : { إن ذلك } أي ذلك الفعل الواقع منه البالغ في العلو جداً لا يوصف { لمن عزم الأمور * } أي الأمور التي هي لما لها من الأهلية لأن يعزم عليها قد صارت في أنفسها كأنها دوات العزم أو متأهلة لأن تعزم على ما تريد ، والعزم : الإقدام على الأمر بعد الروية والفكرة ، قال أبو علي بن الفراء؛ آيات العفو محمولة على الجاني النادم ، وآيات مدح الانتصار على المصر ، وذلك إنما يحمد مع القدرة على تمام النصرة كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته
{ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم } [ الآية : 92 ] وقال : فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة منها الموقف الأعظم الذي وقفه يوم الفتح عند باب الكعبة وقال لقريش وهم تحته كالغنم المطيرة : « ما تظنون أني فاعل بكم يا معشر قريش؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء » ، وروى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه فلما رد عليه قام صلى الله عليه وسلم ثم قال : « يا أبا بكر! ثلاث كلهن حق ما من عبد مظلم مظلمة فعفى عنها لله إلا أعز الله بها نصره ، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة » .
ولما بان في هذا الكلام المقتصر على الصبر والجامع إليه الغفر والمقتضي بالنصر أدرجهم كلهم في دائرة الحق ، أتبعه من خرج عن تلك الدائرة ، فقال مخبراً أن ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن عطفاً على نحو : فمن يهدي الله للوقوف عند هذه الحدود فما له من مضل ، مبيناً بلفظ الضلال أن ما شرعه من الطريق في غاية الوضوح لا يزيغ عنه أحد إلا بطرد عظيم : { ومن يضلل الله } أي الذي له صفات الكمال إضلالاً واضحاً بما أفاده الفك بعدم البيان أو بعدم التوفيق لمطلق الصبر أعم من أن يكون الاقتصار على أخذ الحق وبتأخير الحق إلى وقت وبالعفو وبالغفر .
ولما كان الضال عن ذلك لا يكون إلا مجبولاً على الشر ، سبب عنه قوله : { فما له } أي في ذلك الوقت { من ولي } أي يتولى أمره في الهداية بالبيان لما أخفاه الله عنه أو التوفيق لما بينه له { من بعده } أي من بعد معاملة الله له معاملة البعيد من وكله إلى نفسه وغيره من الخلق في شيء من زمان البعد ولو قل .
ولما كان مبنى أمر الضال على الندم ولو بعد حين ، قال عاطفاً على نحو : فترى الظالمين قبل رؤية العذاب في غاية الجبروت والبطر والتكذيب بالقدرة عليهم ، فهم لذلك لا يرجون حساباً ولا يخافون عقاباً : { وترى } وقال : { الظالمين } موضع « وتراهم » لبيان أن الضال لا يضع شيئاً في موضعه ، ولما كان عذابهم حتماً ، عبر عنه بالماضي فقال : { لما رأوا العذاب } أي المعلوم مصير الظالم إليه رؤية محيطة بظاهره وباطنه يتمنون الرجعة إلى الدنيا لتدارك ما فات من الطاعات الموجبة للنجاة { يقولون } أي مكررين مما اعتراهم من الدهش وغلب على قلوبهم من الوجل : { هل إلى مرد } أي رد إلى دار العمل وزمانه مخلص من هذا العذاب { من سبيل } .
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
ولما أثبت رؤيتهم العذاب ، أثبت دنوهم من محله وبين حالهم في ذلك الدنو فقال : { وتراهم } أي يا أكمل الخلق ويا أيها المتشوف إلى العلم بحالهم بعينك حال كونهم { يعرضون } أي يجدد عرضهم ويكرر ، وهو إلجاؤهم إلى أن يقارنوها بعرضهم الذي يلزم محاذاتهم لها أيضاً بطولهم ليعلموا أنها مصيرهم فلا مانع لها منهم { عليها } أي النار التي هي دار العذاب مكرراً عرضهم في طول الموقف مع ما هم فيه من تلك الأهوال بمقاساة ما عليهم من الأحمال الثقال حال كونهم { خاشعين } أي في غاية الضعة والإلقاء باليد خشوعاً هو ثابت لهم .
ولما كان الخشوع قد يكون محموداً قال : { من الذل } لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه .
ولما كان الذل ألواناً ، صوره بأقبح صورة فقال معبراً بلفظ النظر الذي هو مماسة البصر لظاهر المبصر : { ينظرون } أي يبتدئ نظرهم المتكرر { من طرف } أي تحريك للأجفان { خفي } يعرف فيه الذل لأنه لا يكاد من عدم التحديق يظن أنه يطرف لأنهم يسارقون النظر مسارقة كما ترى الإنسان ينظر إلى المكاره ، والصبور ينظر إلى السيف الذي جرد له فهو بحيث لا يحقق منظوراً إليه ، بل ربما تخيله بأعظم مما هو عليه . ولما صور حالهم وكان من أفظع الأشياء وأقطعها للقلوب شماتة العدو ، قال مبشراً لجميع أصناف أهل الإيمان ورادعاً لأهل الكفران : { وقال } أي في ذلك الموقف الأعظم على سبيل التعبير لهم والتبكيت والتوبيخ والتقريع { الذين آمنوا } أي أوقعوا هذه الحقيقة سواء كان إيقاعهم لها في أدنى الرتب أو أعلاها عند رؤيتهم إياهم على هذا الحال ، مؤكدين لتحقيق مقالهم عند من قضى بضلالهم والإعلام بما لهم من السرور بصلاح حالهم ، والحمد لمن من عليهم بحس منقلبهم ومآلهم ، ويجوز أن يكون قولهم هذا في الدنيا لما غلب على قلوبهم من الهيبة عندما تحققوا هذه المواعظ : { إن الخاسرين } أي الذين كملت خسارتهم هم خاصة { الذين خسروا أنفسهم } بما استغرقها من العذاب { وأهليهم } بمفارقتهم لهم إما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان .
ولما أخبر بخسارتهم بين ظرفها تهويلاً لها ، ويجوز أن يكون ظرفاً لهذا القول وهو أردع لمن له مسكة لأن من جوز أن يخسر وأن عدوه يطلع على خسارته ويظهر الشماتة به ، كان جديراً بأن يترك السبب الحامل على الخسارة فقال : { يوم القيامة } أي الذي هو يوم فوت التدراك لأنه للجزاء لا للعمل لفوات شرطه بفوات الإيمان بالغيب لانكشاف الغطاء . ولما كان هذا نهاية الخسارة ، أنتج قوله منادياً ذاكراً سبب هذه الخسارة المعينة مؤكداً لأجل إنكار الظالمين لها وإن كان من تتمه قول المؤمنين هناك ، فالتأكيد مع ما يفيد الإخبار به في هذه الدار من ردع المنكر للإعلام بما لهم من اللذة فيما رأوا من سوء حالهم وتقطع أوصالهم ورجائهم من أن ينقطع عنهم ذلك كما ينقطع عن عصاة المؤمنين : { ألا إن الظالمين } أي الراسخين في هذا الوصف فهم بحيث لا ينفكون عن فعل الماشي في الظلام بوضع الأشياء في غير مواضعها { في عذاب مقيم * } لا يزايلهم أصلاً ، فلذلك لا يفرغون منه في وقت من الأوقات ، فلذلك كان خسرانهم لكل شيء .
ولما كانت العادة جارية بأن من وقع في ورطة وجد في الأغلب ولياً ينصره لأو سبيلاً ينجيه ، قال عاطفاً على { وتراهم } أو « ألا إن » : { وما كان } أي صح ووجد { لهم } وأعرق في النفي فقال : { من أولياء } فما لهم من ولي لأن النصرة إذا انتفت من الجمع انتفت من الواحد من باب الأولى .
ولما كان من يفعل فعل القريب لا يفيد إلا إن كان قادراً على النصرة قال : { ينصرونهم } أي يوجدون نصرهم في وقت من الأوقات لا في الدنيا بأن يقدروا على إنقاذهم من وصف الظلم ولا في الآخرة بإنقاذهم مما جرى عليهم من العذاب . ولما كان الله تعالى يصح منه أن يفعل ما يشاء بواسطة أو غيرها قال : { من دون الله } أي ما صح ذلك وما استقام بوجه بغيره ، وأما هو فيصح ذلك منه ويستقيم له لإحاطته بأوصاف الكمال ولو أراد لفعل ولما بين ما لهم بين ما لمن اتصف بوصفهم كائناً من كان ، فقال بناء على نحو : لأنه هو الذي أضلهم : { ومن يضلل الله } أي يوجد ضلاله إيجاداً بليغاً بما أفاده الفك على سبيل الاستمرار بعدم البيان له أو بعدم التوفيق بعد البيان : { فما له } بسبب إضلال له جميع صفات الجلال والإكرام ، وأعرق في النفي بقوله : { من سبيل * } أي تنجية من الضلال ولا مما تسبب عنه من العذب . ولما كان هذا ، أنتج قطعاً قوله : { استجيبوا } أي اطلبوا الإجابة وأوجدوها ، ولفت القول إلى الوصف الإحساني تذكيراً بما يحث على الوفاق ، ويخجل من الخلاف والشقاق ، فقال : { لربكم } الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه فيما دعاكم إليه برسوله صلى الله عليه وسلم من الوفاء بعهده في أمره ونهيه ، ولا تكونوا ممن ترك ذلك فتكونوا ممن علم أنه أضله فانسد عليه السبيل .
ولما كان الخوف من الفوت موجباً للمبادرة ، قال مشيراً بالجار إلى أنه يعتد بأدنى خير يكون في أدنى زمن يتصل بالموت : { من قبل أن يأتي يوم } أي يكون فيه ما لا يمكن معه فلاح؛ ثم وصفه بقوله لافتاً إلى الاسم الأعظم الجامع لأوصاف الإحسان والإنعام على المطيعين والقهر والانتقام من العاصين : { لا مرد } أي لا رد ولا موضع رد ولا زمان رد { له } كائن { من الله } أي الذي له جميع العظمة وإذا لم يكن له مرد منه لم يكن له مرد من غيره ، ومتى عدم ذاك أنتج قوله : { ما لكم } وأعرق في النفي بقوله : { من ملجأ يومئذ } أي مكان تلجؤون إليه في ذلك اليوم وحصن تتحصنون فيه من شيء تكرهونه ، وزاد في التأكيد بإعادة النافي وما في حيزه إبلاغاً في التحذير فقال : { وما لكم من نكير * } أي من إنكار يمكنكم به من النجاة لأن الحفظة يشهدون عليكم فإن صدقتموهم وإلا شهدت عليكم أعضاؤكم وجلودكم ، ولا لكم من أحد ينكر شيئاً مما تتجاوزون به ليخلصكم منه .
ولما أنهى ما قدمه في قوله { شرع لكم من الدين } نهايته ، ودل عليه وعلى كل ما قادته الحكمة في حيزه حتى لم يبق لأحد شبهة في شيء من الأشياء ، كان ذلك سبباً لتهديدهم على الإعراض عنه وتسلية رسولهم صلى الله عليه وسلم فقال معرضاً عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب : { فإن أعرضوا } أي عن إجابة هذا الدعاء الذي وجبت إجابته والشرع الذي وضحت وصحت طريقته بما تأيد به من الحجج ، ولفت القول إلى مظهر العظمة دفعاً لما قد يوهم الإرسال من الحاجة فقال : { فما أرسلناك } مع ما لنا من العظمة { عليهم حفيظاً } أي نقهرهم على امتثال ما أرسلناك به . ولما كان التقدير . فأعرض عن غير إبلاغهم لأنا إنما أرسلناك مبلغاً ، وضع موضعه : { إن } أي ما { عليك إلا البلاغ } لما أرسلناك به ، وأما الهداية والإضلال فإلينا .
ولما ضمن لهذه الآية ما أرسله له ، أتبعه ما جبل عليه الإنسان بياناً لأنه صلى الله عليه وسلم لا حكم له على الطباع وأن الذي عليه إنما هو الإسماع لا السماع ، فقال عاطفاً على ما قبل آية الشرع من قوله { يبسط الرزق لمن يشاء } حاكياً له في أسلوب العظمة تنبيهاً على أنه الذي حكم عليهم بالإعراض عما هو جدير بأن لا يعرض عنه عاقل ، وإيماء إلى أن الإنسان لغلبه جهله وقلة عقله يجترىء بأدنى تأنيس على من تجسد الجبال لعظمته وتندك الشوامخ من هيبته : { وإنا إذا أذقنا } بعظمتنا التي لا يمكن مخالفتها . ولما كان من يفرح بالنعمة عند انفراده بها مذموماً ، عبر بالجنس الصالح للواحد فما فوقه تنبيهاً على أن طبع الإنسان عدم الاهتمام بشدائد الإخوان إلا من أقامه الله في مقام الإحسان فقال : { الإنسان } أي بما جبلناه عليه من النقص بالعجلة وعدم التمالك { منا رحمة } أي نوعاً من أنواع الإكرام من صحة أو غنى ونحو ذلك ، وأفرد الضمير إشارة إلى أنه مطبوع على أنه ليس عليه إلا من نفسه ولو كان أهل الأرض كلهم على غير ذلك ، وكذا عبر بالإنسان فقال : { فرح بها } أي ولو أن أهل الأرض كلهم في نقمة وبؤس وعمى فأخرجه الفرح عن تأمل ما ينفعه ليشكر ، فكان ذلك لذلك كافراً للنعمة لأنه أبدل الشكر بالفرح والكفر فتوصل بالعافية إلى المخالفة ، فأوقع نفسه في أعظم البلاء .
ولما دل باداة التحقق على أن النعمة هي الأصل لعموم رحمته ، وأنها سبقت غضبه ، دل على أن السيئة قليلة بالنسبة إليها بأداة الشك والمضارع فقال : { وإن } ولما كانت المشاركة في الشدائد تهون المصائب ، فكان من يزيد غمه بخصوص مصيبته عند العموم مذموماً ، نبه على نقص الإنسان بذلك بالجمع فقال : { تصبهم سيئة } أي نقمة وبلاء وشدة . ولما كانت الرحمة فضلاً منه ، أعلمهم أن السيئة مسببة عنهم فقال : { بما قدمت أيديهم } وعبر باليد عن الجملة لأن أكثر العمل بها . ولما كان الجواب على نهج الأول : حزنوا فكفروا ، وعدل عنه إلى ما يدل على أن جنس الإنسان موضع الكفران ، ولما كانوا يدعون الشكر وينكرون الكفر ، أكد قوله وسبب عن تلك الإصابة والإذاقة معاً إشارة إلى أنه لا أصل له غيرهما ، فقال مظهراً موضع الضمير لينص على الحكم على الجنس من حيث هو : { فإن الإنسان } أي الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب مسه بضر { كفور * } أي بليغ الستر للنعم نساء له ، ينسى بأول صدمة من النقمة جميع ما تقدم له من النعم ، ولا يعرف إلا الحالة الراهنة ، فإن كان في نعمه أشر وبطر ، وإن كان في نقمه أيس وقنط ، وهذا حال الجنس من حيث هو ، ومن وفقه الله جنبه ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم : « المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له » وليس ذلك إلا للمؤمن ، والآية من الاحتباك : قكر الفرح أولاً دالاً على الحزن ثانياً ، وذكر الكفران ثانياً دال على حذفه أولاً .
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
ولما قدم سبحانه في هذه السورة أن له التصرف التام في عالم الخلق بالأجسام المرئية وفي عالم الأمر بالأرواح الحسية والمعنوية القائمة بالأبدان والمدبرة للأديان ، وغير ذلك من بديع الشأن ، فقال في افتتاح السورة { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك } وأتبعه أشكاله إلى أن قال { أم يقولون افترى على الله كذباً فإن يشأ الله يختم على قلبك } الآية { فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفكسم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً } - الآية { له مقاليد السماوات والأرض } { الله لطيف بعباده يرزق من يشاء } { من كان يريد حرث الآخرة } - الاية ، { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } ، { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام } - الآية إلى أن ذكر أحوال الآخرة في قوله { وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون } - الآيات ، وختم بتصرفه المطلق في الإنسان من إنعام وانتقام ، وما له من الطبع المعوج مع ما وهبه له من العقل المقيم في أحسن تقويم ، فدل ذلك على أن له التصرف التام ملكاً وملكوتاً خلقاً وأمراً ، أتبعه الدليل على أن تصرفه ذلك على سبيل الملك والقهر إيجاداً وإعداماً إهانة وإكراماً ، فقال صارفاً القول عن أسلوب العظمة التي من حقها دوام الخضوع وإهلاك الجبابرة إلى أعظم منها بذكر الاسم الأعظم الجامع لمظهر العظمة ومقام اللطف والإحسان والرحمة نتيجة لكل ما مضى : { لله } أي الملك الأعظم وحده لا شريك له { ملك السماوات } كلها على علوها وارتفاعها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها { والأرض } جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف أقطارها وسكانها واتساعها .
ولما أخبر بانفراده بالملك ، دل عليه بقوله تعالى : { يخلق } أي على سبيل التجدد والاستمرار { ما يشاء } أي وإن كان على غير اختيار العباد ، ثم دل على ذلك بما يشاهد من حال الناس فانه لما استوى البشر في الإنسانية والنكاح الذي هو سبب الولادة اختلفت أصناف أولادهم . كان ذلك أدل دليل على أنه لا اختيار لأحد معه وأن الأسباب لا تؤثر أصلاً إلا به . ولما كانت ولادة الإناث أدل على عدم اختيار الولد وكانوا يعدونه من البلاء الذي ختم به ما قبلها قدمهن في الذكر فقال : { يهب } خلقاً ومولداً { لمن يشاء } أولاداً { إناثاً } أي فقط ليس معهن ذكر كما في لوط عليه الصلاة والسلام ، وعبر سبحانه فيهن بلفظ الهبة لأن الأوهام العادية قد تكتنف العقل فتحجبه عن تأمل محاسن التدبيرات الإلهية ، وترمي به في مهاوي الأسباب الدنيوية ، فيقع المسلم مع إسلامه في مضاهاة الكفار في كراهة البنات وفي وادي الوأد بتضييعهن أو التقصير في حقوقهن وتنبيهاً على أن الأنثى نعمة ، وأن نعمتها لا تنقص عن نعمة الذكر وربما زادت ، وإيقاظاً من سنة الغفلة على أن التقديم وإن كان لما قدمته لا يقدم تأنيساً وتوصية لهن واهتماماً بأمرهن ، نقل ابن ميلق عن ابن عطية عن الثعلبي أن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث ، ولذلك رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الإحسان إليهن في أحاديث كثيرة ورتب على ذلك أجراً كبيراً ولأجل تضمين الهبة مع الخلق عداها باللام مع أن فعلها متعد بنفسه إلى مفعولين لئلا يتوهم أن الولد كان لغير الوالد ووهبه الله له .
ولما كان الذكر حاضراً في الذهن لشرفه وميل النفس إليه لا سيما وقد ذكر به ذكر الإناث ، عرف لذلك وجبراً لما فوته من التقديم في الذكر تنبيهاً على أنه ما أخر إلا لما ذكر من المعنى فقال : { ويهب لمن يشاء الذكور * } أي فقط ليس بينهن أنثى كما صنع لإبراهيم عليه السلام وهو عم لوط عليه السلام . ولما فرغ من القسمين الأولين عطف عليهما قسيماً لهما ودل على أنه قسم بأو فقال : { أو يزوجهم } أي الأولاء بجعلهم ازواجاً أي صنفين حال كونهم { ذكراناً وإناثاً } مجتمعين في بطن ومنفردين كما منح محمداً صلى الله عليه وسلم ، ورتبهما هنا على الأصل تنبيهاً على أنه ما فعل غير ذلك فيما مضى إلا لنكت جليلة فيجب تطلبها ، وعبر في الذكر بما هو أبلغ في الكثرة ترغيباً في سؤاله ، والخضوع لديه رجاء نواله .
ولما فرغ من أقسام الموهوبين الثلاثة ، عطف على الإنعام بالهبة سلب ذلك ، فقال موضع أن يقال مثلاً : ولا يهب شيئاً من ذلك لمن يشاء : { ويجعل من يشاء عقيماً } أي لا يولد له كيحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام - كذا قالوه ، والظاهر أنه لا يصح مثالاً فإنه لم يتزوج ، قال ابن ميلق ، وأصل العقيم اليبس المانع من قابلية التأثر لما من شأنه أن يؤثر ، والداء العقام هو الذي لا يقبل البرء - انتهى . فهذا الذي ذكر أصرح في المراد لأجل ذكر العقم ، وأدل على القدرة لأن شامل لمن له قوة الجماع والإنزال لئلا يظن أن عدم الولد لعدم تعاطي أسبابه ، وذكروا في هذا القسم عيسى عليه الصلاة والسلام . ولا يصح لأنه ورد أنه يتزوج بعد نزوله ويولد له ، وهذه القسمة الرباعية في الأصول كالقسمة الرباعية في الفروع ، بعضهم لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه الصلاة والسلام ، وبعضهم من ذكر فقط كحواء عليها السلام ، وبعضهم من أنثى فقط كعيسى عليه السلام وبعضهم من ذكر وأنثى وهو أغلب الناس ، فتمت الدلالة على أنه ما شاء كان ولا راد له وما لم يشأ لم يكن ، ولا مكون له ولا مانع أعطى ولا معطي لما منع .
ولما دل هذا الدليل الشهودي على ما بنيت الآية عليه من إثبات الملك له وحده مع ما زادت به من جنس السياق وعذوبة الألفاظ وإحكام الشك وإعجاز الترتيب والنظم ، كانت النتيجة قطعاً لتضمن إشراكهم به الطعن في توحده بالملك مقدماً فيها الوصف الذي هو أعظم شروط الملك : { إنه عليم } أي بالغ العلم بمصالح العباد وغيرها { قدير* } شامل القدرة على تكوين ما يشاء .
ولما تم القسم الأول مما بنى على العلم والقدرة ، والقدرة فيه أظهر وفاقاً لما ختمت به الآية ، وكان قد يكون خلقه إياه إبداعاً من غير توسط سبب ، وقد يكون بتوسيط سبب ، أتبعه القسم الآخر الأعلى الذي العلم فيه أظهر وهو الوحي الذي ختمت آيته أول السورة بالحكمة التي هي سر العلم وقسمه أيضاً إلى ما هو بواسطة وإلى ما هو بغير واسطة ولكن سر التقدير في القسم الأول الكلام وهو الذي شرف به وكان لا يمكن أحداً أن يتكلم إلا بتكليم الله له أي إيجاده الكلام في قلبه قال : { وما } أي وهو سبحانه تام العلم شامل القدرة غرز في البشر غريزة العلم وأقدره على النطق به بقدرته وحياً منه إليه كما أوحى إلى النحل ونحوها والحال أنه ما { كان لبشر } من الأقسام المذكورة ، وحل المصدر الذي هو اسم « كان » ليقع التصريح بالفاعل والمفعول على أتم وجوهه فقال : { أن يكلمه } وأظهر موضع الإضمار إعظاماً للوحي وتشريفاً لمقداره بجلالة إيثاره قفال : { الله } أي يوجد الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال في قلبه كلاماً { إلا وحياً } أي كلاماً خفياً يوجده فيه بغير واسطة بوجه خفي لا يطلع عليه أحد إلا بخارق العادة إما بإلهام أو برؤيا منام أو بغير ذلك سواء خلق الله في المكلم به قوة السماع له وهو أشرف هذه الأقسام مطلقاً سواء كان ذلك مع الرؤية ليكون قسيماً لما بعده أولاً أو يخلق فيه ذلك ومن هذا القسم الأخير { وأوحينا إلى أم موسى } [ القصص : 7 ] { وأوحى ربك إلى النحل } [ النحل : 68 ] { وأوحى في كل سماء أمرها } [ فصلت : 12 ] فإن إيداعها القوى التي يحصل بها المنافع مثل إيداع الإنسان قوة الكلام ثم قوة التعبير عنه - والله أعلم . وهذا معنى قول القاضي عياض في الشفاء في آخر الفصل الثاني من الباب الرابع في الإعجاز : وقد قيل في قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } الآية أي ما يلقيه في قلبه دون واسطة ، ومعنى قول الإمام شهاب الدين السهروردي في الباب السادس والعشرين من عوارفه : والعلوم اللدنية في قلوب المنقطعين إلى الله ضرب من المكالمة .
ولما كان الحجاب الحسي يخفي ما وراءه عن العيان ، استعير لمطلق الخفاء فقال : { أو من } أي كلاماً كائناً بلا واسطة ، لكنه مع السماع لعين كلام الله كائن صاحبه من { وراء حجاب } أي من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر ، قال القشيري : والمحجوب العبد لا الرب ، والحجاب أن يخلق في محل الرؤية ضد الرؤية ، وتعالى الله أن يكون من وراء حجاب لأن ذلك صفة الأجسام - انتهى .
والآية يمكن تنزيلها على الاحتباك بأن يكون ذكر الحجاب ثانياً دليلاً على نفيه أولاً ، وذكر الوحي الدال على الخفاء أولاً دليلاً على الجهر ثانياً ، والحجاب ثانياً دليلاً على الرؤية أولاً ، وسره أن ترك التصريح والدلالة عليها بالحجاب أولى بسياق العظمة .
ولما كان الذي بلا واسطة مع كونه أخفى الأقسام ليس فيه صوت ولا ترتب في كلمات ، عبر فيه بالمصدر وعبر بما يلقيه الملك بما يدل على التجدد فقال : { أو يرسل } وهو عطف على المصدر بعد تقدير حله { رسولاً } أي من الملائكة . ولما كان الوحي مسبباً عن الإرسال ومرتباً عليه قال : { فيوحي } أي على سبيل التجديد والترتيب ، وقرأ نافع برفع يرسل ويوحي بتقدير : أو هو يرسل . ولما كان ربما ظن أن للواسطة فعلاً يخرج عن فعله ، رد ذلك بقوله : { بإذنه } أي بإقداره وتمكينه ، فذلك المبلغ إنما هو آلة . ولما كان رسوله لا يخرج عما حده له بوجه قال : { ما يشاء } أي لا يتعدى مراده وإقداره أصلاً فهو المكلم في الحقيقة وقد بان أنها ثلاثة أقسام : أولها فيه قسمان ، خص الأول بقسميه بالتصريح باسم الوحي لأنه كما مر أخفاها وهو أيضاً يقع دفعة ، والوحي يدور معناه على الخفاء والسرعة .
ولما كانت الأقسام دالة على العظمة الباهرة ، وكانت للروح البدني لأن روح الوحي يكسب الروح البدني حياة العلم كما أفاد الروح البدن حياة الحركة بالإرادة والحس ، كانت النتيجة مؤكدة لتضمن طعنهم في الرسول والقرآن والتوحيد طعنهم في مضمون الجملة : { إنه } أي الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم { عليّ } أي بالغ العلو حداً مما لا يليق به من الأوصاف وبما يكون للخلق عن جنابه من السفول بما عليهم من الحجب فلا يلبس شيء مما يعبر به تقريباً للعقول فيحمل على ما يوهم نقصاً ، فإن المجازات في لسان العرب شهيرة { حكيم * } يتقن ما يفعله إتقاناً لا تحيط العقول بإدراكه فيسكن روح العلم الذي هو من ألطف أسراره في روح البدن المدبر له فيكون سراً في سر كما كان براً بعد بر ، ويجعل ذلك تارة بواسطة وتارة بغير واسطة على حسب ما يقتضيه الحال ، ويعبر عن كل معنى بما يقتضيه حاله في ذلك السياق ، ومهما أوهم شيء من ذلك نقصاً فرد المستبصر إلى المحكم بضرب من التأويل على ما يقتضيه الشائع من استعمالات رجع رجوعاً بيناً متقناً بحيث يصير في غاية الجلاء .
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
ولما كان الوحي روحاً مدبراً للروح كما أن الروح مدبر للبدن ، صرح به فقال : { وكذلك } أي ومثل ما أخبرناك بالكيفيات التي نوحيها إلى عبادنا { أوحينا إليك } صارفاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً لما أوحى إليه وأفاض من نعمه عليه على جميع تلك الأقسام ، فالتفت في الروع مذكوراً غير منكور ، والسماع من دون الحجاب أصلاً منقول في الإخبار عن ليلة المعراج ومعقول في السماع من وراء الحجاب أيضاً ذكر فيها في قوله : « أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي » والوحي بواسطة الملك كثيراً جداً ، وأعظم الوحي وشرفه بقوله منكراً له تعظيماً لما عنده من الروح الأمري بإفادة أن هذا الكتاب الذي أبكم الفصحاء وأعجز البلغاء وحير الألباب من الحكماء شعبة منه وذرة بارزة عنه ، ويمكن أن يكون تنكير تعظيم وإجلال وتكريم { روحاً } أي من خالطه صار قلبه حياً ومن عري عنه كان قلبه ميتاً . وزاد عظمه بقوله : { من أمرنا } أي بجعله من قسم الأمر وإظهاره في مظهر العظمة فيا له من علو يتضاءل دونه كل شامخ ويتحاقر إكباراً له كل مادح ، والمراد بهذا رد ما تقدم من نسبتهم له صلى الله عليه وسلم إلى الإفتراء لأنه تعالى لم يختم على قلبه بل فتحه بيد القدرة وأحياه بروح الوحي فأنطقه بالحكم التي خضعت لها الحكماء ، وأقرت بالعجز عن إدانتها ألباب العلماء ، ودل على ذلك بقوله ، نافياً مبيناً حاله صلى الله عليه وسلم قبل هذا الوحي : { ما كنت } أي فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك مساوياً لهم في كونك لا تعلم شيئاً ولا تتفوه بشيء من ذلك وهو معنى { تدري } وعبر بأداة الاستفهام إشارة إلى أن ما بعدها مما يجب الاهتمام به والسؤال عنه ، وعلق بجملة الاستفهام الدراية عن العمل وسدت مسد مفعولي الدراية { ما الكتاب } أي ما كان في جبلتك أن تعلم ذلك بأدنى أنواع العلم بمجادلة ولا غيرها { ولا الإيمان } أي بتفصيل الشرائع على ما حددناه لك بما أوحيناه إليك ، وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قبل النبوة مقراً بوحدانية الله تعالى وعظمته لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه ، ولا شك أن الشهادة له نفسه صلى الله عليه وسلم بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك ، وكذا الملائكة واليوم الآخر فيصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه .
ولما كان المعنى : ولكن نحن أدريناك بذلك كله ، عبر عنه إعلاماً بأن الخلق كانوا في ظلام لكونهم كانوا يفعلون بوضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في الظلام بقوله : { ولكن جعلناه } أي الروح الذي هو الكتاب المنزل منا إليك المعلم بالإيمان وكل عرفان بما لنا من العظمة { نوراً نهدي } على عظمتنا { به من نشاء } خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا { من عبادنا } بخلق الهداية في قلبه ، قال ابن برجان : فمن رزقه الفرقان الذي يفرق بين المتشابهات والنور الذي يمشي به في الظلمات ، فذلك الذي أبصر شعاع النور وشاهد الضياء المبثوث في العالم المفطور ، وعلى قدر إقباله عليه والتفرغ عن كل شاغل عنه يكون قبوله له وهدايته به ، وقال الأصبهاني في سورة النور : هو الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار مثلاً على الأرض والجدار وغيرهما ، يقال : استنارت الأرض ، وقال حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه : ومن المعلوم أن هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف لأن المرئيات تصير بسببها ظاهرة ثم من المعلوم أنه كما يتوقف إدراك هذه المرئيات على كونها مستنيرة فكذلك يتوقف على وجود اليعن الباصرة وهي المدركة وبها الإدراك ، فكان وصف الإظهار بالنور الباصر أحق بالنور المبصر فلا جرم أطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش : إن نور عينيه ضعيف ، وفي الأعمى أنه فقد نور البصر ، إذا ثبت هذا فنقول : للإنسان بصر وبصيرة ، فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان والبصيرة هي القوة العاقلة وكل واحد من الإدراكين يقتضي نوراً ، ونور العقل أقوى وأشد من نور العين ، لأن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا إدراكها ولا آلاتها ، والقوة العاقلة تدرك نفسها ، وإدراكها وآلتها فنور العقل اكمل من نور البصر ، والقوة العاقلة تدرك الكليات والقوة الباصرة لا تدركها ، وإدراك الكليات أشرف لانه لا يتغير بخلاف الجزئيات ، وإدراك العقل منتج وإدراك الجزئي غير منتج ، والقوة الباصرة لا تدرك إلا السطح الظاهر من الجسم واللون القائم بذلك السطح بشرط الضوء فإذا أدركت الإنسان لم تدرك منه إلا السطح الظاهر من جسمه واللون القائم به والقوة العاقلة تدرك ظاهر الأشياء وباطنها فان الباطن والظاهر بالنسبة إليها على السواء فكانت القوة العاقلة نوراً بالنسبة إلى الظاهر والباطن ، والقوة الباصرة ظلمة بالنسبة إلى الباطن ، ومدرك القوة العاقلة هو الله وصفاته وأفعاله ، ومدرك القوة هو الألوان والأشكال فيكون نسبة شرف القوة العاقلة إلى شرف القوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله إلى شرف الألوان والأشكال ، والقوة الباصرة كالخادم والقوة العاقلة كالأمير ، والأمير أشرف من الخادم ، والقوة الباصرة قد تغلط والقوة العاقلة لا تغلط ، فثبت أن الإدراك العقلي أكمل وأقوى وأشرف من الإدراك البصري ، وكل واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الذي هو أشرف خواص النور ، فكان الإدراك العقلي أولى بكونه نوراً ، والإدراك العقلي قسمان : أحدهما واجب الحصول عند سلامة القوى والآلات وهي التعقلات الفطرية ، والثاني ما يكون مكتسباً ، وهي التعقلات النظرية ، ولا يكون من لوازم جوهر الإنسان لأنه حال الطفولية لم يكن عالماً البتة ، فهذه الأنوار إنما حصلت بعد أن لم تكن فلا بد لها من سبب ، والفطرة الإنسانية قد يعتريها الزيغ فلا بد من هاد ومرشد ، ولا مرشد فوق كلام الله وأنبيائه ، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس كما يسمى نور الشمس نوراً فنور القرآن يشبه نور الشمس ونور العقل يشبه نور العين ، وبهذا يظهر معنى قوله تعالى :
{ فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا } [ التغابن : 8 ] { قد جاءكم برهان من ربكم } { وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } [ النساء : 74 ] وإذا ثبت أن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أقوى من نور الشمس وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من الشمس كما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيرها ولا تستفيد من غيرها فكذا نفس النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الأنوار العقلية لسائر النفوس البشرية ولا تستفيد النور العقلي من شيء من النفوس البشرية ، فلذلك وصف الله الشمس بأنها سراج ، ووصف محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه سراج ، ثم قال : ولمراتب الأنوار في عالم الأرواح مثال ، وهو أن ضوء الشمس إذا وصل إلى القمر ثم دخل في كوة بيت ووقع على مرآة منصوبة على حائط ثم انعكس منه إلى طشت مملوء ماء موضوع على الأرض ثم انعكس منه إلى سقف البيت فالنور الأعظم في الشمس التي هي المعدن ، وثانيها في القمر ، وثالثها في المرآة ، ورابعها في الماء ، وخامسها في السقف ، وكل ما كان أقرب إلى المعدن كان أقوى فكذا الأنوار السماوية لما كانت مترتبة لا جرم كان النور المفيد أشد إشراقاً ، ثم تلك الأنوار لا تزال مترتبة حتى تنتهي إلى النور الأعظم والروح الذي هو أعظم الأرواح منزلة عند الله الذي هو المراد بقوله { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } [ النبأ : 38 ] ثم نقول : إن هذه الأنوار الحسية سفلية كانت كأنوار النيران أو علوية كأنوار فإنها ممكنة لذواتها والممكن لذاته لا يستحق الوجود لذاته بل وجوده من غيره ، والعدم هو الظلمة والوجود هو النور ، فكل ما سوى الله مظلم لذاته مستنير بإنارة الله تعالى ، وكذا جميع معارفها وجودها حاصل من وجود الله تعالى فإن الحق سبحانه هو الذي أظهرها بالوجود بعد أن كانت في ظلمات العدم ، وأفاض عليها أنوار المعارف بعد أن كانت في ظلمات الجهالة ، فلا ظهور لشيء من الأشياء إلا بإظهاره ، وخاصة النور إعطاء الإظهار والتجلي والانكشاف ، وعند هذا يظهر أن النور المطلق هو الله سبحانه وإن إطلاق النور على غيره مجاز ، وكل ما سوى الله من حيث هو هو ظلمة محضة لأنه من حيث أنه ممكن عدم محض بل الأنوار إذا نظر إليها من حيث هي هي فهي ظلمات لأنها من حيث هي هي ممكنات ، والممكن من حيث هو هو معدوم ، والمعدوم مظلم ، فالنور إذا نظر من حيث هو ممكن مظلم ، فأما إذا التفت إليها من حيث أن الحق سبحانه أفاض عليها نور الوجود بهذا الاعتبار صارت أنواراً فثبت أنه سبحانه هو النور وأن كل ما سواه ليس بنور ، وأضاف النور إلى الخافقين في قوله { نور السماوات والأرض } لأنهما مشحونتان بالأنوار العقلية والأنوار الحسية ، أما الحسية فما نشاهده في السماوات من الكواكب وغيرها ، وفي الأرض من الأشعة المنبسطة على سطوح الأجسام حتى ظهرت بها الألوان المختلفة ، ولولاها لما كان للألوان ظهور بل وجود ، وأما الأنوار العقلية فالعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة ، والعالم الأدنى مشحون بها وهي القوى النباتية والحيوانية والإنسانية ، وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام العالم الأسفل كما أنه بالنور الملكي ظهر نظام العالم العلوي وإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار البصرية الظاهرة والعقلية الباطنة ، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج والسراج هو الروح النبوي ثم إن الأنوار القدسية مقتبسة من الأنوار العلوية اقتباس السراج من النور وإن العلويات مقتبسة بعضها من بعض وإن بينها ترتيباً في الغايات ، ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول ، وذلك هو الله وحده لا شريك له ، فإذا الكل نوره ، ثم قال : قال الإمام الغزالي : قد تبين أن القوى المدركة أنوار .
ومراتب القوة المدركة الإنسانية خمسة ، أحدهما القوة الحساسة وهي التي تتلقى ما تورده الحواس الخمس ، وكأنها أصل الروح الحيواني إذ بها يصير الحيوان حيواناً ، وهي موجودة للصبي والرضيع وثانيها القوة الخيالية وهي التي تسبب ما أوردته الحواس وتحفظه مخزوناً عندها لتعرضه عن القوة العقلية عند الحاجة إليه ، وثالثها القوة العقلية المدركة للحقائق الكلية ، ورابعها القوة الفكرية وهي التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها تأليفاً تستنتج منه علماً بالمجهول ، وخامسها القوة القدسية التي يختص بها الأنبياء وبعض الأولياء ، وتنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت ، وإليه إشار قوله { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } الآية ، وإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار إذ بها تظهر أصناف الموجودات ، وهذه المراتب الخمس يمكن تشبيهها بالأمور الخمسة التي ذكرها الله في المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت ، أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصته وجدت أنواره خارجة من ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين ، فأرفق مثال له من عالم الأجسام المشكاة ، وأما الثاني وهو الروح الخيالي فله خواص ثلاثة : الأول أنه من طينة العالم السفلي الكثيف لأن الشيء المتخيل ذو شكل وحيز ، ومن شأن العلائق الجسمانية أن تحجب عن الأنوار العقلية المحضة ، والثاني أن هذا الخيال الكثيف إذا صفا ورق صار موازناً للمعارف العقلية ومؤدياً لأنوارها ، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني العقلية كما يستدل بالشمس على الملك ، وبالقمر على الوزير ، وبختم فروج الناس وأفواهم على الأذان قبل الصبح ، والثالث أن الخيال في البداية محتاج إليه لتضبط به المعارف العقلية ولا تضطرب ، وأنت لا تجد شيئاً في الأجسام يشبه الخيال في هذه الصفات إلا الزجاجة فإنها في الأصل من جوهر كثيف ولكن صفا ورق حتى صار لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه من الانطفاء بالزجاج ، وأما الثالث وهو القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف الإلهية فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح ، وأما الرابع وهو القوة الفكرية فمن خاصيتها أنها تأخذ ماهية واحدة ثم تقسمها إلى قسمين كقولنا : الموجود إما واجب وإما ممكن ، ثم تجعل كل قسم قسمين ، وهكذا إلى أن تنتهي إلى ما لا يقبل القسمة ، ثم تنتهي بالآخرة إلى نتائج هي ثمرتها ، فبالحري أن يكون مثاله من هذا العالم الشجرة وإذا كانت ثمارها مادة لتزايد أنوار المعارف وبيانها فبالحري أن لا تمثل بشجرة السفرجل والتفاح بل بشجرة الزيتون خاصة لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح وله من بين سائر الأدهان خاصة زيادة الإشراق وقلة الدخان ، وإذا كانت الماشية التب يكثر درها ونسلها والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالتي لا نهاية لمنفعتها وثمرتها أولى أن تسمى شجرة مباركة ، وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ، فبالحري أن لا تكون شرقية ولا غربية ، وأما الخامس وهو القوة القدسية النبوية فهي في نهاية الشرف والصفاء ، فإن القوة الفكرية تنقسم إلى ما تحتاج إلى تعليم وإلى ما لا يحتاج إليه ، ولا بد من وجود هذا القسم دفعاً للتسلسل فبالحري أن يعبر عن هذا القسم لكماله وصفاته بأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسه نار ، فهذا المثال موافق لهذه الأقسام ، وهذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض ، فالحس هو الأول وهو كالمقدمة للخيال ، والخيال كالمقدمة للعقل - انتهى كلام الغزالي رحمه الله تعالى عن نقل الأصفهاني في تفسيره عنه - والله أعلم .
ولما كان المعنى بناء على ما تقدم من صفة الروح الإلهي : فهديناك به ، عطف عليه قوله تعالى : { وإنك لتهدي } أي تبين وترشد ، وأكده لإنكارهم ذلك { إلى صراط } أي طريق واضح جداً ، وإن عانيت في البيان مشقة بنفسك وبالوسائط بما أفادته التعدية ب « إلى » فيفهم من ذلك أنه يهدي للصراط بدون ذلك من العناية لمن يسر الله أمره ويهدي الصراط لمن هو أعظم توفيقاً من ذلك { مستقيم } أي شديد التقوم لأنه كأنه يريد أن يقوم نفسه فهو بعد وجود تقومه حافظ لها من أدنى خلل ، وهو كل ما دعا إليه من خصال هذا الدين الحنيف الذي هو ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ثم أبدل منه تعظيماً لشأنه قوله بدل كل من كل معرفة من نكرة لافتاً القول من مظهر العظمة إلى أعظم منه إشارة إلى جلالة هذا الصراط بما فيه من مجامع الرحمة والنقمة ترغيباً وترهيباً : { صراط الله } أي الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال ، ثم وصفه بأنه مالك لما افتتح هذا الكلام بأن له ملكه فقال : { الذي له } ملك { ما في السماوات } أي هو جميع السماوات التي هي في عرشه والأرض لأنها في السماوات وما في ذلك من المعاني والأعيان { وما في الأرض } .
ولما أخبر سبحانه أنه المخترع لجميع الأشياء والمالك لعالمي الغيب والشهادة والخلق والأمر وأنه المتفرد بالعظمة كلها ، وكان مركوزاً في العقول مغروزاً في الفطر أن من ابتدأ شيئاً وليس له كفوء قادر على إعادته وأن يكون مرجع أمره كله إليه ، فلذلك كانت نتيجة جميع ما مضى على سبيل المناداة على المنكرين لذلك وعداً ووعيداً لأهل الطاعة والمعصية بناء على ما تقديره : كيف يكون له ما ذكر على سبيل الدوام ونحن نرى لغيره أشياء كثيرة تضاف إليه ويوقف تصريفها والتصرف فيها عليه : { ألا إلى الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال الذي تعالى عن مثل أو مدان وهو الكبير المتعالي ، لا إلى أحد غيره { تصير } أي على الدوام وإن كانت في الظاهر في ملك غيره بحيث يظن الجاهل أن ملكها مستقر له ، قال أبو حيان : أخبر بالمضارع والمراد به الديمومة كقوله : زيد يعطي ويمنع أي من شأنه ذلك ولا يراد به حقيقة المستقبل : { الأمور } أي كلها من الخلق والأمر معنىً وحساً خفياً في الدنيا بما نصب من الحكام وجعل بين الناس من الأسباب ، وجلياً فيما وراءها حيث قطع ذلك جميعه وحده العزيز الحكيم العلي العظيم ، فقد رجع آخر السورة على أولها ، وانعطف مفصلها على موصلها ، واتصل من حيث كونه في الوحي الهادي في أول الزخرف على أتم عادة لهذا الكتاب المنير من اتصال الخواتم فيه بالبوادي والروائح بالغوادي - والله أعلم بالصواب .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)
{ والكتاب } أي وإعجاز هذا الجامع لكل خير وغير ذلك من أنواع عظمته { المبين } أي البين في نفسه ، المبين لجميع ما فيه من العظمة والشرائع والسنن ، واللطائف والمعارف والمنن ، بياناً عظيماً شافياً .
ولما كانوا ينكرون أن يرجعوا به عما هم فيه ، وأن يكون من عند الله ، أكد ما يكذبهم من قوله فيما مضى آخر الشورى أنه نور وهدىً وروح معبراً بالجعل لذلك دون الإنزال لأنه قد دل عليه جميع السور الماضية تارة بلفظه وأخرى بلفظ الوحي ، فقال مقسماً بالكتاب على عظمة الكتاب ، قال السمين : ومن البلاغة عندهم كون القسم والمقسم عليه من واد واحد ، وهذا إن أريد بالكتاب القرآن فإن أريد به أعم منه كان بعض القسم به ، وصرف القول إلى مظهر العظمة تشريفاً للكتاب : { إنا جعلناه } أي صيرناه ووضعناه وسميناه مطابقة لحاله بالتعبير عن معانيه بما لنا من العظمة { قرآناً } أي مع كونه مجموع الحروف والمعاني جامعاً ، ومع كونه جامعاً فارقاً بين الملتبسات { عربياً } أي جارياً على قوانين لسانهم في الحقائق والمجازات والمجاز فيه أغلب لأنه أبلغ ولا سيما الكنايات والتمثيلات ، وصرف القول عن تخصيص نبيه صلى الله عليه وسلم بالخطاب إلى خطابهم تشريفاً له صلى الله عليه وسلم ولهم فيما يريده بهم وتنبيهاً على سفول أمرهم في وقت نزولها فقال : { لعلكم تعقلون * } أي لتكونوا أيها العرب على رجاء عند من يصح منه رجاء من أن تعقلوا أنه من عندنا لم تبغوا له أحداً علينا وتفهموا معانيه وجميع ما في طاقة البشر مما يراد به من حكمه وأحكامه ، وبديع وصفه ومعجز وصفه ونظامه ، فترجعوا عن كل ما أنتم فيه من المغالبة ، ولا بد أن يقع هذا الفعل ، فإن القادر إذا عبر بأداة الترجي حقق ما يقع ترجيه ، ليكون بين كلامه وكلام العاجز فرق ، وسيبلغ هذا الجامع أقصاكم كما عرض على أدناكم وكل منكم يعلم أنه عاجز عن مباراة آية منه في حسن معناها ، وجزالة ألفاظها وجلالة سبكها ، ونظم كل كلمة منها بالمحل الذي لا يمكن زحزحتها عنه بتقديم ولا تأخير ، ولا أن يبدل شيء منها بما يؤدي معناه أو يقوم مقامه ، كما أن ذلك في غاية الظهور في موازنة { في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] مع « القتل أنفى للقتل » وذلك بعض آية فكيف بآية فما فوقها فتخضع له جبابرة ألبابكم وتسجد له جباه عقولكم ، وتذل لعزته شوامخ أفكاركم ، فتبادرون إلى تقبله وتسارعون إلى حفظه وتحمله علماً منكم بأنه فخر لكم لا يقاربه فخر ، وعز لا يدانيه عز ، ثم يتأمل الإنسان منكم من خالفه فيه من بعيد أو قريب ولد أو والد إلى أن تدين له الخلائق ، وتتصاغر لعظمته الجبال الشواهق ، والآية ناظرة إلى آية فصلت
{ ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا } الآية [ فصلت : 44 ] .
ولما كانوا ينكرون تعظيمه عناداً وإن كانوا يقرون بذلك في بعض الأوقات ، قال مؤكداً لذلك وتنبيهاً على أنه أهل لأن يقسم به ، ويزاد في تعظيمه لأنه لا كلام يشبه ، بل ولا يدانيه بوجه : { وإنه } أي القرآن ، وقدم الظرفين على الخبر المقترن باللام اهتماماً بهما ليفيد بادئ بدء أن علوه وحكمته ثابتة في الأم وأن الأم في غاية الغرابة عنده { في أم الكتاب } أي كائناً في أصل كل كتاب سماوي ، وهو اللوح المحفوظ ، وزاد في شرفه بالتعبير بلدى التي هي لخاص الخاص وأغرب المستغرب ونون العظمة فقال مرتباً للظرف على الجار ليفيد أن أم الكتاب من أغرب الغريب الذي عنده { لدينا } على ما هو عليه هناك { لعليّ } .
ولما كان العلي قد يتفق علوه ولا تصحبه في علوه حكمة ، فلا يثبت له علوه ، فيتهور بنيانه وينقص سفوله ودنوه ، قال : { حكيم } أي بليغ في كل من هاتين الصفتين راسخ فيهما رسوخاً لا يدانيه فيه كتاب فلا يعارض في عليّ لفظه ، ولا يبارى في حكيم معناه ، ويعلو ولا يعلى عليه بنسخ ولا غيره ، بل هناك مكتوب بأحرف وعبارات فائقة رائقة تعلو عن فهم أعقل العقلاء ، ولا يمكن بوجه أن يبلغها أنبل النبلاء ، إلا بتفهيم العلي الكبير ، الذي هو على كل شيء قدير .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أخر سبحانه بامتحان خلف بني إسرائيل في شكهم في كتابهم بقوله : { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } [ الشورى : 14 ] ووصى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتبري من سيئ حالهم والتنزه عن سوء محالهم فقال { ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } الآية [ الشورى : 15 ] وتكرر الثناء على الكتاب العربي كقوله { وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً } [ الشورى : 7 ] وقوله { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } [ الشورى : 17 ] وقوله { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } - إلى آخر السورة ، أعقب ذلك بالقسم به وعضد الثناء عليه فقال { حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } ولما أوضح عظيم حال الكتاب وجليل نعمته به ، أردف ذلك بذكر سعة عفوه وجميل إحسانه إلى عباده ورحمتهم بكتابه مع إسرافهم وقبيح مرتكبهم فقال : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين } ولما قدم في الشورى قوله { لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً } فأعلم أن ذلك إنما يكون بقدرته وإرادته ، والجاري على هذا أن يسلم الواقع من ذلك ويرضى بما قسم واختار ، عنف تعالى في هذه السورة من اعتدى وزاغ فقال { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم } فكمل الواقع هنا بما تعلق به ، وكذلك قوله تعالى { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } وقوله في الزخرف { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة } إلى آخره - انتهى .
ولما أفهم تكرير هذا التأكيد أنهم يطعنون في علاه ، ويقدحون في بديع حلاه ، فعل من يكرهه ويأباه ، إرادة للإقامة على ما لا يحبه الله ولا يرضاه ، قال منكراً عليهم : { أفنضرب } أي نهملكم فنضرب أن ننحي ونسير مجاوزين { عنكم } خاصة من بين بني إبراهيم عليه الصلاة والسلام { الذكر } أي الوعظ المستلزم للشرف { صفحاً } أي بحيث يكون حالنا معكم حال المعرض المجانب بصفحة عنقه ، فلا نرسل إليكم رسولاً ، ولا ننزل معه كتاباً فهو مفعول له أي نضرب لأجل إعراضنا عنكم ، أو يكون ظرفاً بمعنى جانباً أي نضربه عنكم جانباً ، قال الجامع بين العباب والمحكم : أضربت عن الشيء : كففت وأعرضت ، وضرب عنه الذكر وأضرب عنه : صرفه ، وقال الإمام عبد الحق في الواعي : والأصل في ضرب عنه الذكر أن الراكب إذا ركب دابته فأراد أن يصرفه عن جهته ضربه بعصاه ليعدله عن جهته إلى الجهة التي يريدها ، فوضع الضرب في موضع الصرف والعدل ، قال الهروي : قال الأزهري : يقال : ضربت عنه وأضربت بمعنىّ واحد ، ونقل النواوي عنه أنه قال : إن المجرد قليل ، فالحاصل أن الضرب إيقاع شيء على آخر بقوة ، فمجرده متعد إلى واحد ، فإن عدي إلى آخر ب « عن » ضمن معنى الصرف ، وإذا زيدت همزة النقل فقيل : أضربت عنه ، أفادت الهمزة قصر الفعل ، وأفهمت إزالة الضرب ، فمعنى الآية : أفنضرب صارفين عنكم الذكر صفحاً ، أي معرضين إعراضاً شديداً حتى كأنا ضربنا الذكر لينصرف عنكم معرضاً كإعراض من ولى إلى صفحة عنقه ، ثم علل إرادتهم هذا الإعراض بما يقتضي الإقبال بعذاب أو متاب فقال : { أنْ } أي أنفعل ذلك لأن { كنتم قوماً مسرفين } أي لأجل أن كان الإسراف جبلة لكم وخلقاً راسخاً ، وكنتم قادرين على القيام به في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والقدح فيما يأتي به والاستهزاء بأمره بترككم خشية من شدتكم أو رجاء من غير تذكير لتوبتكم وقد جعل حينئذ المقتضى مانعاً ، فإن المسرف أجدر بالتذكير وأحوج إلى الوعظ ، هذا إن كان مقرباً ، وأما البعيد فإنه لا يلتفت إليه من أول الأمر ، بل لو أراد القرب طرد ، وعلى قراءة نافع وحمزة والكسائي بكسر « إن » على كونها شرطية يكون الكلام مسبوقاً على غاية ما يكون من الإنصاف ، فيكون المعنى : أنترككم مهملين فننحي عنكم الذكر والحال أنكم قوم يمكن أن تكونوا متصفين بالإسراف ، يعني أن المسرف أهل لأن يوعظ ويكلم بما يرده عن الإسراف ، وأنتم وإن ادعيتم أنكم مصلحون لا تقدرون أن تدفعوا عنكم إمكان الإسراف فكيف يدفع عنكم إنزال الذكر الواعظ وأنتم بحيث يمكن أن تكونوا مسرفين فتحتاجوا إليه - هذا ما لا يفعله حكيم في عباده ، بل هو سبحانه للطفه وزيادة بره لا يترك دعاء عباده إلى رحمته وإن كانوا مسرفين قد أمعنوا في الشراد ، والجحد والعناد ، فيدعوهم بأبلغ الحجة ، وهو هذا القرآن الذي هو أشرف الكتاب على لسان هذا النبي الذي هو أعظم الرسل ليهتدي من قدرت هدايته وتقوم الحجة على غيره .
ولما كان المعنى أن لا نترككم هملاً ، كان كأنه قيل : هيهات منكم فلنرفعنكم كما رفعنا بني إسحاق من إسرائيل وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، فلقد أرسلنا إليكم مع أنكم أعلى الناس رسولاً هو أشرفكم نسباً وأزكاكم نفساً وأعلاكم همة وأرجحكم عقلاً وأوفاكم أمانة وأكرمكم خلقاً وأوجهكم عشيرة ، فعطف قوله تأنيساً للنبي صلى الله عليه وسلم وتأسية وتعزية وتسلية : { وكم أرسلنا } أي على ما لنا من القدرة على ذلك والعظمة الباهرة المقتضية لذلك .
ولما كان الإرسال يقع على أنحاء من الأشكال ، ميزه بأن قال : { من نبي في الأولين } ثم حكى حالهم الماضية إشارة إلى استمرار حال الخلق على هذا فقال : { وما } أي والحال أنه ما { يأتيهم } وأغرق في النفس بقوله : { من نبي } أي في أمة بعد أمة بعد أمة وزمان بعد زمان { إلا كانوا } أي خلقاً وطبعاً وجبلة { به يستهزءون * } كما استهزأ قومك ، وتقديم الظرف للإشارة إلى أن استهزاءهم به لشدة مبالغتهم فيه كأنه مقصور عليه .
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
ولما كان الاستهزاء برسول الملك استهزاء به ، وكانت المماليك إنما تقام بالسياسة بالرغبة والرهبة وإيقاع الهيبة حتى يتم الجلال وتثبت العظمة ، فكان لذلك لا يجوز في عقل عاقل أن يقر ملك على الاستهزاء به ، سبب عن الاستهزاء بالرسل الهلاك فقال : { فأهلكنا } وكان الأصل الإضمار ، ولكنه أظهر الضمير بياناً لما كان في الأولين من الضخامة صارفاً أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالاً على نبيه صلى الله عليه وسلم تسلية له وإبلاغاً في وعيدهم فقال : { أشد منهم } أي من قريش الذي يستهزئون بك { بطشاً } من جهة العد والعدد والقوة والجلد فما ظنهم بأنفسهم وهم أضعف منهم إن تمادوا في الاستهزاء برسول الله الأعلى .
ولما ذكر إهلاك أولئك ذكر أن حالهم عن الإهلاك كان أضعف حال ليعتبر هؤلاء فقال : { ومضى مثل الأولين * } أي وقع إهلاكهم الذي كان مثلاً يتمثل به من بعدهم ، وذكر أيضاً في القرآن الخبر عنه بما حقه أن يشير مشير المثل بل ذكر أن من عبده الأولون واعتمدوا علهي مثل بيت العنكبوت فكيف بالأولين أنفسهم فكيف بهؤلاء ، فإن الحال أدى إلى أنهم أضعف من الأضعف من بيت العنكبوت فلينتظروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك ، بأيدي جند الله من البشر أو الملائكة .
ولما كان التقدير : فلئن سألتهم عمن سمعوا بخبره ممن ذكرناهم من الأولين ليعترفن بما سمعوا من خبرهم لأنا لم نجعل لهم على المباهتة فيه جرأة لما طبعناهم عليه في أغلب أحوالهم من الصدق ، عطف عليه قولهم مبيناً لجهلهم بوقوعهم في التناقض مؤكداً له لما في اعترافهم به من العجب المنافي لحالهم : { ولئن سألتهم } أيضاً عما هو أكبر من ذلك وأدل على القدرة ، وجميع صفات الكمال فقلت لهم : { من خلق السماوات } على علوها وسعتها { والأرض } على كثرة عجائبها وعظمتها { ليقولن } أي من غير توقف .
ولما كان السؤال عن المبتدأ ، كان الجواب المطابق ذكر الخبر ، فكان الجواب هنا : الله - كما في غيره من الآيات ، لكنه عدل عنه إلى المطابقة المعنوية لافتاً القول عن مظهر العظمة إلى ما يفيد من الأوصاف القدرة على كل شيء ، وأنه تعالى يغلب كل شيء ، ولا يغلبه شيء مكرراً للفعل تأكيداً لاعترافهم زيادة في توبيخهم وتنبيهاً على عظيم غلطهم ، فقال معبراً بما هو لازم لاعترافهم له سبحانه بالتفرد بالإيجاد لأنه أنسب الأشياء لمقصود السورة وللإبانة التي هي مطلعها . { خلقهن } الذي هو موصوف بأنه { العزيز العليم * } أي الذي يلزم المعترف بإسناد هذا الخلق إليه أن يعترف بأنه يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء وأن علمه محيط بكل شيء ، فيقدر على إيجاده على وجه من البداعة ثم على أكمل منه ثم أبهج منه وهلم جرا إلى ما لا نهاية له - هذا هو الأليق بكمال ذاته وجليل صفاته ، ونعوذ بالله من عمى المعتزلة والفلاسفة أصحاب الأذهان الجامدة والعقول الكاسدة والعرب لجهلهم يعبدون مع اعترافهم بهذا غيره ، وذلك الغير لا قدرة له على شيء أصلاً ، ولا علم له بشيء أصلاً ، فقد كسر هذا السؤال بجوابه حجتهم ، وبان به غلطهم وفضيحتهم ، حتى بان لأولي الألباب أنهم معاندون .
ولما كان جوابهم بغير هاتين الصفتين ودل بذكرهما على أنهما لا زمان لاعترافهم تنبيهاً لهم على موضع الحجة ، أتبعهما من كلامه دلالة على ذلك قوله التفاتاً إلى الخطاب لأنه أمكن في التقريع والتوبيخ والتشنيع وتذكيراً لهم بالإحسان الموجب للإذعان وتفصيلاً للقدرة : { الذي جعل لكم } فإنه لو كان ذلك قولهم لقالوا لنا { الأرض مهداً } أي فراشاً ، قارة ثابتة وطية ، ولو شاء لجعلها مزلزلة لا يثبت فيها شيء كما ترون من بعض الجبال ، أو جعلها مائدة لا تثبت لكونها على تيار الماء ، ولما جعل الأرض قراراً لأشباحكم جعل الأشباح قراراً لأرواحكم وطوقها حمل قرارها وقوة التصرف به في حضورها وأسفارها ليدلكم ذلك على تصرفه سبحانه في الكون وتصريفه له حيث أراد ، وأنه الظاهر الذي لا أظهر منه والباطن الذي لا أبطن منه ، قال القشيري : فإذا انتهى مدة كون النفوس على الأرض حكم الله بخرابها ، كذلك إذا فارقت الأرواح الأشباح بالكلية قضى الله بخرابها ، وأعاد الفعل تنبيهاً على تمكنه تعالى من إقامة الأسباب لتيسير الأمور الصعاب إعلاماً بأنه لا يعجزه شيء : { وجعل لكم فيها سبلاً } أي طرقاً تسلكونها بين الجبال والأودية ، ولو شاء لجعلها بحيث لا يسلك في مكان منها كما جعل بعض الجبال كذلك ، ثم ذكر العلة الغائبة في ذلك فقال : { لعلكم تهتدون } أي ليكون خلقنا لها كذلك جاعلاً حالكم حال من يرجى له الهداية إلى مقاصد الدنيا في الأسفار وغيرها ظاهراً فتتوصلون بها إلى الأقطار الشاسعة والأقاليم الواسعة للأمور الرافقة النافعة ، فإنها إذا تكرر سلوكها صار لها من الآثار الناشئة من كثرة التكرار ما يهدي كل مار وإلى المقاصد الأخرى وحكمتها باطناً إذا تأمل الفطن حكمة مسخرها وواضعها وميسرها .
ولما كان إنزال الماء من العلو في غاية العجب لا سيما إذا كان في وقت دون وقت ، وكان إنبات النبات به أعجب ، وكان دالاً على البعث ولا بد ، وكان مقصود السورة أنه لا بد من ردهم عن عنادهم بأعظم الكفران إلى الإيمان ، والخضوع له بغاية الإذعان ، قال دالاً على كمال القدرة على ذلك وغيره بالتنبيه على كمال الوصف بالعطف وبإعادة الموصول الدال على الفاعل المذكر بعظمته للتنبيه على أن الإعادة التي هذا دليلها هي سر الوجود ، فهي أشرف مما أريد من الآية الماضية بمهد الأرض وسلك السبل : { والذي نزل } أي بحسب التدريج ، ولولا قدرته الباهرة لكان دفعة واحدة أو قريباً منها { من السماء } أي المحل العالي { ماء } عذباً لزروعكم وثماركم وشربكم بأنفسكم وأنعامكم { بقدر } وهو بحيث ينفع الناس ولا يضر بأن يكون على مقدار حاجاتهم ، ودل على عظمة الإنبات بلفت القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أنه الدليل الظاهر على ما وصل به من نشر الأموات فقال مسبباً عن ذلك : { فأنشرنا } أي أحيينا ، والمادة تدور على الحركة والامتداد والانبساط { به } أي الماء { بلدة } أي مكاناً يجتمع الناس فيه للإقامة معتنون بإحيائه متعاونون على دوام إبقائه { ميتاً } أي كان قد يبس نباته وعجز أهله عن إيصال الماء إليه ليحيى به ، ولعله أنث البلد وذكر الميت إشارة إلى أن بلوغها في الضعف والموت بلغ الغاية بضعف أرضه في نفسها وضعف أهله عن إحيائه وقحط الزمان واضمحلال ما كان به من النبات .
ولما كان لا فرق بين جمع الماء للنبات من أعماق الأرض بعد أن كان تراباً من جملة ترابها وإخراجه كما كان رابياً يهتز بالحياة على هيئته وألوانه وما كان من تفاريعه أغصانه بأمر الله وبين جميع الله تعالى لما تفتت من أجساد الآدميين وإخراجه كما كان بروحه وجميع جواهره وأعراضه إلا أن الله قادر بكل اعتبار وفي كل وقت بلا شرط أصلاً ، والماء لا قدرة له إلا بتقدير الله تعالى ، كان فخراً عظيماً لأن تنتهز الفرصة لتقدير ما هم له منكرون وبه يكفرون من أمر البعث ، فقال تعالى إيقاظاً لهم من رقدتهم بعثاً من موت سكرتهم : { كذلك } أي مثل هذا الإخراج العظيم لما تشاهدونه من النبات { تخرجون } من الموت الحسي والمعنوي بأيسر أمر من أمره تعالى وأسهل شأن فتخرجون في زمرة الأموات من الأرض ثانياً { فإذا أنتم بشر تنتشرون } [ الروم : 20 ] وتخرجون من ظلمة الجهل إلى نور الإيمان فإذا أنتم حكماء عالمون .
ولما انتهزت هذه الفرصة ، وسوغ ذكرها ما أثره سوء اعتقادهم من عظيم الغصة ، شرع في إكمال ما يقتضيه الحال من الأوصاف ، فقال عائداً إلى أسلوب العزة والعلم للإيماء إلى الحث على تأمل الدليل على بعث الأموات بانتشار الموات معيداً للعاطف تنبيهاً على كمال ذلك الوصف الموجب لتحقيق مقصود السورة من القدرة على ردهم بعد صدهم : { والذي خلق الأزواج } أي الأصناف المتشاكلة التي لا يكمل شيء منها غاية الكمال إلا بالآخر على ما دبره سبحانه في نظم هذا الوجود { كلها } من النبات والحيوان ، وغير ذلك من سائر الأكوان ، لم يشاركه في شيء منها أحد .
ولما ذكر الأزواج ، وكان المتبادر إلى الذهن إطلاقها على ما هو من نوع واحد ، دل على أن المراد ما هو أعم ، فقال ذاكراً ما تشاكل في الحمل وتباين في الجسم : { وجعل لكم } لا لغيركم فاشكروه { من الفلك } أي السفن العظام في البحر { والأنعام } في البر { ما تركبون * } وحذف العائد لفهم المعنى تغليباً للمتعدي بنفسه في الأنعام على المتعدي بواسطة في الفلك .
ولما ذكر النعمة الناشئة عن مطلق الإيجاد ، ذكر بنعمة الراحة فيه فقال معللاً : { لتستووا } أي تكونوا مع الاعتدال والاستقرار والتمكن والراحة { على ظهوره } أي ظهور كل من ذلك المجعول ، فالضمير عائد على ما جمع الظهر نظراً للمعنى تكثيراً للنعمة ، وأفرد الضمير رداً على اللفظ دلالة على كمال القدرة بعظيم التصريف براً وبحراً أو تنبيهاً بالتذكير على قوة المركوب لأن الذكر أقوى من الأنثى .
ولما أتم النعمة بخلق كل ما تدعو إليه الحاجة ، وجعله على وجه دال على ما له من الصفات ، ذكر ما ينبغي أن يكون من غايتها على ما هو المتعارف بينهم من شكر المنعم ، فقال دالاً على عظيم قدر النعمة وعلو غايتها وعلو أمر الذكر بحرف التراخي : { ثم تذكروا } أي بقلوبكم ، وصرف القول إلى وصف التربية حثاً على تذكر إحسانه للانتهاء عن كفرانه والإقبال على شكرانه فقال : { نعمة ربكم } الذي أحسن إليكم بنعمة تسخيرها لكم وما تعرفونها من غيرها .
ولما كان الاعتدال عليه أمراً خارقاً للعادة بدليل ما لا يركب من الحيوانات في البر والجوامد في البحر وإن كان قد أسقط العجب فيه كثرة إلفه ذكر به فقال : { إذا استويتم عليه } ولما كان تذكر النعمة يبعث الجنان واللسان والأركان على الشكر لمن أسداها قال : { وتقولوا } أي بألسنتكم جمعاً بين القلب واللسان . ولما كان الاستواء على ذلك مقتضياً لتذكر النقص بالاحتياج إليها في بلوغ ما ركبت لأجله وفي الثبات عليها وخوف العطب منها وتذكر أن من لا يزال يحسن إلى أهل العجز الذين هم في قبضته ابتداء وانتهاء من غير شيء يرجوه منهم لا يكون إلا بعيداً من صفات الدناءة وأن استواءه على عرشه ليس كهذا الاستواء المقارن لهذه النقائص وأنه ليس كمثله شيء ، كان المقام للتنزيه فقال : { سبحان الذي سخر } أي بعلمه الكامل وقدرته التامة { لنا هذا } أي الذي ركبناه سفينة كان أو دابة { وما } أي والحال أنا ما { كنا } ولما كان كل من المركوبين في الواقع أقوى من الركاب ، جعل عدم إطاقتهم له وقدرتهم عليه كأنه خاص به ، فقال مقدماً للجار دلالة على ذلك : { له مقرنين } أي ما كان في جبلتنا إطاقة أن يكون قرناً له وحده لخروج قوته من بين ما نعالجه ونعانيه عن طاقتنا بكل اعتبار ولا مكافئين في القوة غالبين ضابطين ، مطيقين من أقرن الأمر : أطاقه وقوي عليه فصار بحيث يقرنه بما شاء .
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
ولما كان كل راكب شيئاً من هذين الصنفين مستحضراً كل حين أنه ينقلب بطن شقة أسفاره إلى محل قراره ، ذكرهم سبحانه بذلك أن ظهر هذه الأرض لهم مثل ظهور السفن والدواب يسبحون بها في لجج أمواج الزمان وتصاريف الحدثان ، هم على ظهرها مسافرون ، ولكنهم لطول الإلف عنه غافلون ، وقليلاً ما يذكرون ، وأنهم على خطر فيما صاروا إليه من ظهور هذه الأشياء يوشك أن يكون سبب موتهم ومثير هلكهم وقوتهم ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن ربنا كان ابتداؤنا لا نعلم شيئاً ولا نقدر على شيء ، والآن نحن متى شئنا ساكنون ، ومهما أردنا منتشرون { وإنا إلى ربنا } المحسن إلينا بالبداءة والإقرار على هذه التنقلات على هذه المراكيب لا إلى غيره { لمنقلبون } أي لصائرون ومتوجهون وسائرون بالموت وما بعده إلى الدار الآخرة انقلاباً لا إياب معه إلى هذه الدار ، فالآية منبهة بالسير الدنيوي على السير الأخروي ، وأكد لأجل إنكارهم للبعث حتى لا يزالوا مراقبين للمنعم عليهم ، ويجوز أن يكون المعنى أنه لما أمرهم بالمراقبة على نعمة الركوب ، عبر بالانقلاب تذكيراً بنعمته عليهم في حال الدعة والسكون قبل الانقلاب وبعده ، أي وإنا بعد رجوعنا إلى نعمة ربنا لمنقلبون أي وإنا في نعمة في كل حال ، روى أحمد وأبو داود والترمذي - وقال : حسن صحيح - والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه وضع رجله في الركاب وقال : بسم الله ، فلما استوى على الدابة قال : الحمد لله الذي سخر لنا هذا - الآية ، ثم حمد الله ثلاثاً وكبر ثلاثاً ثم قال : سبحانك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ، ثم ضحك ، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل مثله ، وقال : « يعجب الرب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري »
روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابة ، فلما استوى عليها كبر ثلاثاً وحمد الله ثلاثاً وسبح ثلاثاً وهلل الله واحدة ثم استلقى عليه فضحك ثم أقبل علي فقال : ما من امرىء مسلم يركب دابته فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله عليه يضحك إليه كما ضحكت إليك » وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته ثلاثاً ثم قال : « سبحان الذي سخر لنا هذا الآية ، ثم يقول : اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا السفر واطو لنا البعيد ، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم اصبحنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا ، وكان إذا رجع إلى أهله قال : آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربينا حامدون »
وروى أحمد عن أبي لاس الخزاعي رضي الله عنه قال : « حملنا رسول الله صلى الله عليه وآله على إبل من إبل الصدقة إلى الحج ، فقلنا : يا رسول الله! ما نرى أن تحملنا هذه ، فقال : ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما أمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله عز وجل » . ولما علم بهذا الاعتراف منه وما تبعه من التقريب أن العالم كله متزاوج بتسخير بعضه لبعض ، فثبت أن خالقه مباين له لا يصح أصلاً أن يكون محتاجاً بوجه لأنه لا مثل له أصلاً ، كان موضع التعجيب من نسبتهم الولد إليه سبحانه : فقال لافتاً القول عن خطابهم للإعراض المؤذن بالغضب : { وجعلوا } أي ولئن سألتهم ليقولن كذا اللازم منه قطعاً لأنه لا مثل { له } والحال أنهم نسبوا له وصيروا بقولهم قبل سؤالك إياهم نسبة هم حاكمون بها حكماً لا يتمارون فيه كأنهم متمكنون من ذلك تمكن الجاعل فيه يجعله { من عباده } الذين أبدعهم كما أبدع غيرهم { جزءاً } أي ولداً هو لحصرهم إياه في الأنثى أحد قسمي الأولاد ، وكل فهو جزء من والده ، ومن كان له جزء كان محتاجاً فلم يكن إلهاً وذلك لقولهم : الملائكة بنات الله ، فثبت بذلك طيش عقولهم وسخافة آرائهم .
ولما كان هذا في غاية الغلظة من الكفر ، قال مؤكداً لإنكارهم أن يكون عندهم كفر : { إن الإنسان } أي هذا النوع الذي هم بعضه { لكفور مبين } أي مبين الكفر في نفسه مناد عليها بالكفر بياناً لذلك لكل أحد هذا ما يقتضيه طبعه بما هو عليه من النقص بالشهوات والحظوظ ليبين فضل من حفظه الله بالعقل على من سواه من جميع المخلوقات بمجاهدته لعدو وهو بين جنبيه مع ظهور قدرة الله الباهرة بذلك .
ولما كان كأنه قيل إنكاراً عليهم وتهكماً بهم حيث لم يرضوا بأن جعلوا لمن إليه الجعل من عباده جزءاً حتى جعلوه شر الجزئين الإناث ، وهم أشد الناس نفرة منهن : أوهب له ذلك الجزء الذي جعلتموه إناثاً غيره قسراً بحيث لم يقدر أن ينفك عنه كما قدم في السورة التي قبله عن نفسه المقدس أنه يهب لمن يشاء إناثاً ولا يقدر على التقصير عنهن بوجه ، عادله بقوله عائداً إلى الخطاب لأنه أقعد في التبكيت على اختيار الغي عن الصواب : { أم اتخذ } أي عالج هو نفسه فأخذ بعد المعالجة وهو خالق الخلق كلهم { مما يخلق } أي يجدد إبداعه في كل وقت كما اعترفتم { بنات } فلم يقدر بعد التكليف والتعب على غير البنات التي هي أبغض الجزئين إليكم ، ونكر لتخصيصهم اتخاذه ببعض هذا الصنف الذي شاركه فيه غيره ، وعطف على قوله « اتخذ » ليكون منفياً على أبلغ وجه لكونه في حيز الإنكار : { وأصفاكم } وهو السيد وأنتم عبيده { بالبنين } أي الجزء الأكمل لديكم المستحق لأن يكون دائماً مستحضراً في الخاطر فلذلك عرفه ولأنهم ادعوا أن هذا النوع كله خاص بهم لم يشاركهم في شيء منه ، فكان هذا الكفر الثاني أعرق في المحال من الأول للزيادة على مطلق الحاجة بالسفه في أنه رضي بالدون الخسيس فلم يشاركهم في شيء من الأعلى ، بل جعل لهم ذلك خالصاً صافياً عن أدنى ما يشوبه من كدر .
ولما كانت نسبة الولد إليه سبحانه مما لا يبنغي أن يخطر بالبال على حال من الأحوال . وكانت نسبته على سبيل الحقيقة أبعد منها على طريق المثال بأن يقال : الملائكة عنده في العزة بمنزلة البنات عند الأب ، قال مرشداً إلى أن ما قالوه لو كان على قصد التمثيل في غاية القباحة فضلاً عن أن يكون على التحقيق ، عائداً إلى الإعراض المؤذن بالمقت والإبعاد : { وإذا } أي جعلوا ذلك والحال أنه إذا { بشر } من أي مبشر كان { أحدهم } أطلق عليه ذلك تنبيهاً على أنه مما يسر كالذكر سواء في أن كلاً منهما ولد وتارة يسر وتارة يضر وهو نعمة من الخالق لأنه خير من العقم { بما ضرب } وعدل عن الوصف بالربوبية لأنه قد يدعى المشاركة في مطلق التربية إلى الوصف الدال على عموم الرحمة ، فتأمله بمجرده كاف في الزجر عن سوء قولهم فقال : { للرحمن } أي الذي لا نعمة على شيء من الخلق إلا وهي منه { مثلاً } أي جعل له شبهاً وهو الأنثى ، وعبر به دونه أن يقول : بما جعل ، موضع « بما ضرب » تعليماً للأدب في حقه سبحانه في هذه السورة التي مقصودها العلم الموجب للأدب وزيادة في تقبيح كفرهم لا سيما إن أرادوا الحقيقة بالإشارة إلى أن الولد لا يكون إلا مثل الوالد ، لا يتصور أصلاً أن يكون خارجاً عن شبهه في خاص أوصافه .
ولما كان تغير الوجه لا سيما بالسواد لا يدرك حق الإدراك إلا بالنهار ، عبر بما هو حقيقة في الدوام نهاراً وإن كان المراد هنا مطلق الدوام : { ظل } أي دام { وجه مسوداً } أي شديد السواد لما يجد من الكراهة الموصلة إلى الحنق بهذه البشارة التي أبانت التجربة عن أنها قد تكون سارة { وهو كظيم } أي حابس نفسه على ما ملئ من الكرب فكيف يأنف عاقل من شيء ويرضاه لعبده فضلاً عن مكافيه فضلاً عن سيده - هذا ما لا يرضى عاقل أن يمر بفكره فضلاً عن أن يتفوه به .
ولما كان الملك لا يأخذ في جنده إلا من يصلح للجندية بالمجالدة والمجادلة أو بإحداهما ، نبه على إنكار آخر بأن الإناث لا يصلحن لشيء من هذين الوصفين ، فقال معبداً لإنكار الثالث تنبيهاً على أنه بالغ جداً في إثارة الغضب : { أو من } أي اتخذ من لا يرضونه لأنفسهم .
. . لنفسه مع أنفتهم منه واتخذ من { ينشؤا } أي على ما جرت به عوائدكم على قراءة الجماعة ، ومن تنشؤونه وتحلونه بجهدكم على قراءة ضم الباء وتشديد الشين { في الحلية } أي في الزينة فيكون كلا على أبيه لا يصلح لحرب ولا معالجة طعن ولا ضرب { وهو } أي والحال أنه ، وقدم لإفادة الاهتمام قوله : { في الخصام } إذا احتيج إليه { غير مبين } أي لا يحصل منه إبانة مطلقة كاملة لما يريده لنقصان العقل وضعف الرأي بتدافع الحظوظ والشهوات وتمكن السعة ، فلا دفاع عنده بيد ولا لسان .
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
ولما كان ربما ظن أن المحذور إنما هو جعلهم عيهم السلام إناثاً بقيد النسبة إليه سبحانه ، نبه على أن ذلك قبيح في نفسه مطلقاً لدلالته على احتقارهم وانتقاصهم فهو كفر ثالث إلى الكفرين قبله : نسبة الولد إليه سبحانه ثم جعل أخص النوعين ، فقال : { وجعلوا } أي مجترئين على ما لا ينبغي لعاقل فعله { الملائكة الذين هم } متصفون بأشرف الأوصاف أنهم { عباد الرحمن } العامة النعمة الذي خلقهم فهم بعض من يتعبد له وهم عباده وحقيقة لأنهم ما عصوه طرفه عين ، فهم أهل لأن يكونوا على أكمل الأحوال ، وقراءة « عند » بالنون شديدة المناداة عليهم بالسفه ، وذلك أن أهل حضرة الملك الذين يصرفهم في المهمات لا يكونون إلا على أكمل الأحوال وعنديته أنهم لم يعصوه قط وهم محل مقدس عن المعاصي مشرف بالطاعات وأهل الاصطفاء ، وذكر المفعول الثاني للجعل الذي بمعنى التعبير الاعتقادي والقول فقال : { إناثاً } وذلك أدنى الأوصاف خلقاً وذاتاً وصفة ، ثم دل على كذبهم في هذا المطلق ليدل على كذبهم في المقيد من باب الأولى فقال تهكماً بهم وتوبيخاً لهم وإنكاراً عليهم إظهاراً لفساد عقولهم بأن دعاويهم مجردة عن الأدلة : { أشهدوا } أي حضروا حضوراً هم فيه على تمام الخبرة ظاهراً وباطناً - هذا هو معنى قراءة الجماعة ، وأدخل نافع همزة التوبيخ على أخرى مضمومة بناء الفعل للمفعول تنبيهاً على عجزهم عن شهود ذلك إلا بمن يشهدهم إياه ، وهو الخالق لا غيره ، ومدها في إحدى الروايتين زيادة في المادة عليهم بالفضيحة ، وسهل الثانية بينها وبين الواو إشارة إلى انحطاط أمرهم وسفول آرائهم وأفعالهم ، وجميع تقلباتهم وأحوالهم كما سيكشف عنه الزمان ونوازل الحدثان { خلقهم } أي مطلب الخلق في أصله أو عند الولادة أو بعدها على حال من الأحوال حضوراً أوجب لهم تحقق ما قالوا بأن لم يغيبوا عن شيء من الأحوال الدالة على ذلك أعم من أن تكون تلك الشهادة حسية بنظر العين أو معنوية بعلم ضروري أو استدلالي بعقل أو سمع .
ولما كان الجواب قطعاً : لا ، قال مهدداً لهم مؤكداً لتهديدهم بالسين لظنهم أن لا بعث ولا حساب ولا حشر ولا نشر فقال : { ستكتب } بكتابة من وكلناهم بهم من الحفظة الذين لا يعصوننا فنحن نقدرهم على جميع ما نأمرهم به - هذا على قراءة الجماعة بالتاء والبناء للمفعول ، وعظم الكتابة تفخيماً للوعيد وإكباراً لما اشتمل عليه من التهديد في قراءة النون المفيدة للعظمة والبناء للفاعل ونصب الشهادة { شهادتهم } أي قولهم فيهم أنهم إناث الذي لا ينبغي أن يكون إلا بعد تمام المشاهدة ، فهو قول ركيك سخيف ضعيف - بما أشار إليه التأنيث في قراءة الجماعة { ويسألون } عنها عند الرجوع إلينا ، ويجوز أن يكون في السين استعطاف إلى التوبة قبل كتابة ولا علم لهم به ، فإنه قد روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم :
« كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات ، لعله يسبح الله أو يستغفر » رواه الشعبي والبغوي من طريقه والطبراني والبيهقي من طريق جعفر عن القاسم عن أبي أمامة والبيهقي من رواية بشر بن نمير عن القاسم نحوه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه من طريق إسماعيل بن عياش عن عاصم بن رجاء عن عروة بن رويم عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه ، وروى الحاكم وقال : صحيح الإسناد عن أم عصمة العوصية رضي الله تعالى عنها قال : « ما من مسلم يعمل ذنباً إلا وقف الملك ثلاث ساعات ، فإن استغفر من ذنبه لم يوقعه عليه ولم يعذب يوم القيامة » .
ولما ذكر أنهم يسألون بطريق الأولى عن العبادة ، نبه على أنهم عبدوهم مع ادعاء الأنوثة فيهم ، فقال معجباً منهم في ذلك وفي جعل قولهم حجة دالة على صحة مذهبهم وهو من أوهى الشبه : { وقالوا } أي بعد عبادتهم لهم ونهيهم عن عبادة غير الله : { لو شاء الرحمن } أي الذي له عموم الرحمة { ما عبدناهم } لأن عموم الرحمة يمنع الإقرار على ما لا ينبغي ولكنه لم يشأ عدم عبادتنا لهم فعبدناهم طوع مشيئته ، فعبادتنا لهم حق ، ولولا أنها حق يرضاه لنا لعجل لنا العقوبة .
ولما كان كأنه قيل : بماذا يجابون عن هذا ، قال منبهاً على جوابهم بقوله دالاً على أن أصول الدين لا يتكلم فيها إلا بقاطع : { ما لهم بذلك } أي بهذا المعنى البعيد عن الصواب الذي قصدوا جعله دليلاً على حقية عبادتهم لهم وهو أنه سبحانه لا يشاء إلا ما هو حق ويرضاه ويأمر به ، ومن أن الملائكة إناث ، وأكد الاستغراق بقوله : { من علم } أي لأنه لو لزم هذا لكان وضعه بعموم الرحمة حينئذ اضطرارياً لا اختيارياً فيؤدي إلى نقص لا إلى كمال ، ولكان أيضاً ذلك يؤدي إلى إيجاب أن يكون الناس كلهم مرضياً عنهم لكونهم على حق ، وذلك مؤد بلا ريب إلى كون النقيضين معاً حقاً ، وهو بديهي الاستحالة .
ولما كان العلم قد ينتفي والمعلوم ثابت في نفسه قال نافياً لذلك : { إن هم } أي ما هم { إلا يخرصون } أي يكذبون في هذه النتيجة التي زعموا أنها دلتهم على رضى الله سبحانه لكفرهم فإنها مبنية على أنه سبحانه لا يشاء إلا ما هو حق ، والذي جرأهم على ذلك أنهم يجددون على الدوام القول بغير تثبت ولا تحر ، فكان أكثر قولهم كذباً ، فصاروا لذلك يجترئون على تعمد القول للظن الذي لا يأمن صاحبه من الوقوع في صريح ، وسيأتي تمام إبطال هذه الشبهة بقوله تعالى { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } وأن ذلك هو المراد لا ما طال الخبط فيه لإهمال في السوابق واللواحق الموجبة لسوق المقال ، مطابقاً لمقتضى الحال ، وقد جهلوا في هذا الكلام عدة جهالات : ادعاء الولدية للغني المطلق ، وكون الولد أدنى الصنفين ، وعبادتهم لهم مع أنفسهم منهم بغير دليل ، واحتياجهم على صحة فعلهم بتقدير علم على ذلك وهو قد نهاهم عنه بلسان كل رسول ، وظنهم أنه لا يشاء إلا ما هو الحق المؤدي إلى الجميع بين النقيضين إذ لا ريب فيه ولا خفاء به .
ولما كان الإيمان بالملائكة الذين هم جند الملك من دعائم أصول الدين ، وكان الإيمان بالشيء إن لم يكن على ما هو عليه الشيء ولو بأدنى الوجوه كان مختلاً ، وأخبر سبحانه أنهم وصفوهم بغير ما هم عليه ففرطوا بوصفهم بالبنات حتى أنزلوهم إلى الحضيض وأفرطوا بالعبادة حتى أعلوهم عن قدرهم فانسلخوا في كلا الأمرين من صريح العقل بما أشار إليه ما مضى ، أتبع ذلك أنهم عريئون أيضاً من صحيح النقل ، فقال معادلاً لقوله { أشهدوا خلقهم } إنكاراً عليهم بعد إنكار ، موجباً ذلك أعظم العار ، لافتاً القول عن الوصف بالرحمة تنبيهاً بمظهر العظمة على أن حكمه تعالى متى برز لم يسع سامعة إلا الوقوف عنده والامتثال على كل حال وإلا حل به أعظم النكال : { أم آتيناهم } بما لنا من العظمة { كتاباً } أي جامعاً لما يريدون اعتقاده من أقوالهم هذه { من قبله } أي القرآن أخبرناهم فيه أنا جعلناهم إناثاً وأنا لا نشاء إلا ما هو حق نرضاه ونأمر به { فهم } أي فتسبب عن هذا الإيتاء أنهم { به } أي وحده { مستمسكون } أي موجدون الاستمساك به وطالبون للثبات عليه في عبادة غير الله ، وفي أن ذلك حق لكونه لم يعاجلهم بالعقوبة ، وفي وصفهم الملائكة بالأنوثة ، وفي غير ذلك من كل ما يرتكبونه باطلاً ، والإنكار يقتضي نفي ما دخل عليه من إيتاء الكتاب كما انتفى إشهاده لهم خلقهم ، وهذه المعادلة التي لا يشك فيها من له بصر بالكلام تدل على صحة كون الإشارة في { ما لهم بذلك من علم } شاملة لدعواهم الأنوثة في الملائكة .
ولما كان الجواب قطعاً عن هذين الاستفهامين : ليس لهم ذلك على مطلق ما قالوا ولا مقيده من صريح عقل ولا صحيح نقل إلى من يصح النقل عنه من أهل العلم بالأخبار الإلهية ، نسق عليه قوله إرشاداً إليه : { بل قالوا } أي في جوابهم عن قول ذلك واعتقاده مؤكدين إظهاراً جهلاً أو تجاهلاً لأن ذلك لم يعب عليهم إلا لظن أنه لا سلف لهم أصلا فيه ، فإذا ثبت أنه عمن تقدمهم انفصل النزاع : { إنا وجدنا آباءنا } أي وهم أرجح منا عقولاً وأصبح أفهاماً { على أمة } أي طريقة عظيمة يحق لها أن تقصد وتؤم مثل رحلة بمعنى شيء هو أهل لأن يرحل إليه ، وكذا قدوة ونحوه .
وقراءة الكسر معناها حالة حسنة يحق لها أن تؤم { وإنا على آثارهم } أي خاصة لا على غيرها ونحن في غاية الاجتهاد والقص للآثار وإن لم نجد عيناً نتحققها .
ولما علم ذلك من حالهم ، ولم يكن صريحاً في الدلالة على الهداية ، بينوا الجار والمجرور ، وأخبروا بعد الإخبار واستنتجوا منه قولهم استئنافاً لجواب من سأل : { مهتدون } أي نحن ، فإذا ثبت بهذا الكلام المؤكد أنا ما أتينا بشيء من عند أنفسنا ولا غلطنا في الاتباع واقتفاء الآثار ، فلا اعتراض علينا بوجه ، هذا قوله في الدين بل في أصوله التي من ضل في شيء منها هلك ، ولو ظهر لأحد منهم خلل في سعي أبيه الدنيوي الذي به يحصل الدينار والدرهم ما اقتدى به أصلاً وخالفه أي مخالفة ، ما هذا إلا لمحض الهوى وقصور النظر ، وجعل محطه الأمر الدنيوي الحاضر ، لا نفوذ لهم في المعاني بوجه .
ولما كان ترك المدعو للدليل واتباعه للهوى غائظاً موجعاً ومنكئاً مولماً ، قال يسليه صلى الله عليه وسلم عاطفاً على قوله : { وكذلك } أي ومثل هذا الفعل المتناهي في البشاعة فعلت الأمم الماضية مع إخوانك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ثم فسر ذلك بقوله : { ما أرسلنا } مع ما لنا من العظمة .
ولما كانت مقالة قريش قد تقدمت والمراد التسلية بغيرهم ، وكان صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلا أمة لغيره في زمانه ولا بعده يسليه بها ، سلاه بمن مضى ، وقدم ذكر القبلية اهتماماً بالتسلية وتخليصاً لها من أن يتوهم أنه يكون معه في زمانه أو بعده نذير ، وإفهاماً لأن المجدد لشريعته إنما يكون مغيثاً لأمته وبشيراً لا نذيراً لثباتهم على الدين بتصديقهم جميع النبيين فقال تعالى : { من قبلك } أي في الأزمنة السالفة حتى القريبة منك جداً ، فإن التسلية بالأقرب أعظم ، وأثبت الجار لأن الإرسال بالفعل لم يعم جميع الأزمنة وأسقط هذه القبلية في « سبأ » لأن المراد فيها التعميم لأنه لم يتقدم لقريش ذكر حتى يخص من قبلهم . ولما كان أهل القرى أقرب إلى العقل وأولى بالحكمة والحكم ، قال : { في قرية } وأعرق في النفي بقوله : { من نذير } وبين به أن موضع الكراهة والخلاف الإنذار على مخالفة الأهواء { إلا قال مترفوها } أي أهل الترفه بالضم وهي النعمة والطعام الطيب والشيء الطريق يكون خاصة بالمترف ، وذلك موجب للقلة وهو موجب للراحة والبطالة الصارف عن جهد الاجتهاد إلى سفالة التقليد ، وهو موجب لركون الهواء ولو بان الدليل ، وهو موجب للبغي والإصرار عليه واللجاجة فيه والتجبر والطغيان ، ومعظم الناس في الأغلب أتباع لهؤلاء : { إنا وجدنا آباءنا } أي وهم أعرف منا بالأمور { على أمة } أي أمر جامع يستحق أن يقصد ويؤم وطريقة ودين ، وأكدوا قطعاً لرجاء المخالف من لفتهم عن ذلك { وإنا على آثارهم } لا غيرها ، ثم بينوا الجار والمجرور وأخبروا خبراً ثانياً واستأنفوا لإتمام مرادهم قولهم إيضاحاً لأن سبب القص القدوة : { مقتدون } أي مستنون أي راكبون سنن طريقهم لازمون له لأنهم مقتدون لأن تقدم عليهم ، وحالنا أطيب ما يكون في الاستقامة وأقرب وأسرع .
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
ولما كان كأنه قيل : فقال كل نذير : فما أصنع؟ أجاب بقوله : { قل } أي يا أيها النذير - هذا على قراءة الجماعة ، وعلى قراءة ابن عامر وحفص وعاصم يكون التقدير أن السامع قال : فما قال النذير في جوابهم؟ فأجيب بقوله : قال إنكاراً عليهم : { أولو } أي أتقتدون بآبائكم على كل حال وتعدونهم مهتدين ولو { جئتكم } والضمير فيه للنذير ، وفي قراءة أبي جعفر : أو لو جئتكم للنذر كلهم { بأهدى } أي أمر أعظم في الهداية وأوضح في الدلالة { مما وجدتم } أي أيها المقتدون بالآباء { عليه آباءكم } كما تضمن قولكم أنكم تقتفون في اتباعهم بالآثار في أعظم الأشياء ، وهو الدين الذي الخسارة فيه خسارة للنفس وأنتم تخالفونهم في أمر الدنيا إذا وجدتم طريقاً أهدى من التصرف فيها من طريقهم ولو بأمر يسير ، ويفتخر أحدكم بأنه أدرك من ذلك ما لم يدرك أبوه فحصل من المال أكثر مما حصل ، فيا له من نظر ما أقصره ، ومتجر ما أخسره .
ولما كان من المعلوم أن النذر قالوا لهم ما أمروا به؟ فتشوف السامع إلى جوابهم لهم ، أجيب بقوله : { قالوا } مؤكدين رداً لما قطع به كل عاقل سمع هذا الكلام من أنهم يبادرون النظر في الدليل والرجوع إلى سواء السبيل : { إنا بما أرسلتم به } أي أيها المدعون للإرسال من أي مرسل كان ، ولو ثبت ما زعمتموه من الرسالة ولو جئتمونا بما هو أهدى { كافرون } أي ساترون لما ظهر من ذلك جهدنا حتى لا يظهر لأحد ولا يتبعهم فيه مخلوق .
ولما علم بهذا أن أمرهم وصل إلى العناد المسقط للاحتجاج ، سبب عنه قوله موعظة لهذه الأمة وبياناً لما خصها به من الرحمة : { فانتقمنا } أي بما لنا من العظمة التي استحقوا بها { منهم } فأهلكناهم بعذاب الاستئصال ، وعظم أثر النقمة بالأمر بالنظر فيها في قوله : { فانظر } أي بسبب التعرف لذلك وبالاستفهام إشارة إلى أن ذلك أمر هو جدير لعظمه بخفاء سببه فقال : { كيف كان عاقبة } أي آخر أمر { المكذبين * } أي إرسالنا فإنهم هلكوا أجمعون ، ونجا المؤمنون أجمعون ، فليحذر من رد رسالتك من مثل ذلك .
ولما ذكر لهم الأدلة وحذرهم بالأخذ وتحرر أنهم مع التقليد لا ينفكون عنه ، ذكرهم بأعظهم آبائهم ومحط فخرهم وأحقهم بالاتباع للفوز بأتباع الأب في ترك التقليد أو في تقليده إن كان لا بد لهم من التقليد لكونه أعظم الآباء ولكونه مع الدليل ، فقال عاطفاً على ما تقديره للإرشارة إلى تأمله وإمعان النظر فيه : اذكر لهم ذلك : { وإذ } أي واذكر لهم حين { قال } أعظم آبائهم ومحط فخرهم والمجمع على محبته وحقية دينه منهم ومن أهل الكتاب وغيرهم { إبراهيم لأبيه } من غير أن يقلده كما أنتم قلدتم آبائكم ، ولما كانت مخالفة الواحد للجمع شديدة ، ذكر لهم حاله فيها بياناً لأنهم أحق منهم بالانفكاك عن التقليد { وقومه } الذين كانوا هم القوم في الحقيقة لاحتوائهم على ملك جميع الأرض كما قلت : إنا لكم سواء ولما كانوا لا يتخيلون أصلاً أن أحداً يكون مخالفاً لهم ، أكد بالحرف وإظهار نون الوقاية فقال : { إنني } وزاد بالنعت بالمصدر الذي يستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره لكونه مصدراً وإن وقع موقع الصفة باللفظ الدال على أنه مجسد من البراءة جعله على صورة المزيد لزيادة التأكيد فقال : { براء } ومن ضمه جعله وصفاً محضاً مثل طوال في طويل { مما تعبدون } في الحال والاستقبال مهما كان غير من اشتبه ، فإنهم كانوا مشركين فلا بد من الاستثناء ومن كونه متصلاً ، قال الإمام أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني في كتاب بيان نظم القرآن ما حاصله : سر قول السلف أن الكلمة هنا أي الآية في قوله كلمة باقية { لا إله إلا الله } أن النفي والتبرئة واحد فإنني براء بمنزلة لا ، وقوله { مما تعبدون } بمنزلة إله إذا كل معبود يسمى إلهاً فآل ذلك إلى : لا إله { إلا الذي فطرني } قال : فقد ضممت بهذا التأويل إلى فهمك الأول الذي استفدته من الخبر فهم المعرفة الحقيقية الذي أفاد له طباعك بالعبرة ، ونبه بالوصف بالفطر على دليل اعتقاده أي الذي شق العدم فأخرجني منه ثم شق هذه المشاعر والمدرك ، ومن كان بهذه القدرة الباهرة كان منفرداً بالعظمة .
ولما كان الله سبحانه - وله المنّ - قد أنعم بعد الإيجاد بما أشار إليه من العقل والحواس المهيئ ، للهداية من غير طلب ، فكان جديراً بأن يمنح قاصده بأعظم هداية قال مسبباً عن قطعه العلائق من سواه ، مؤكداً لأجل من ينكر وصوله إلى حد عمي عنه أسلافه { فإنه سيهدين } أي هداية هي الهداية إلى ما لاح لي من الحقائق من كل ما يصلحني لتوجهي إليه وتوكلي عليه ، لا مرية عندي في هذا الاعتقاد ، وقد أفاد بهذه المقترنة بالسين هدايته في الاستقبال بعد أن أفاد بقوله المحكي في الشعراء { فهو يهدين } الهداية في الحال وكأنه خص هذا بالسين لأجل ما عقبها به من عقبه ، فجعل هدايتهم هدايته { وجعلها } أي جعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة التي هي التوحيد بدليله { كلمة باقية في عقبه } أي ذريته دعا وهو مجاب الدعوة في قوله : { وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام } وفي قوله { ومن ذريتي ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } : { لعلهم يرجعون * } أي ليكون حالهم حال من ينظر إليهم إن حصل منهم مخالفة واعوجاج حال من يرجى رجوعه ، فإنهم إذا ذكروا أن أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم الفخر قال ذلك تابعوه ، ويجوز أن يتعلق بما يتعلق به « إذ » أي اذكر لهم قول أبيهم ليكون حالهم عند من يجهل العواقب حال من يرجى رجوعه عن تقليد الجهلة من الآباء إلى اتباع هذا الأب الذي اتباعه لا يعد تقليداً لما على قوله من الأدلة التي تفوت الحصر فتضمن لمتبعها حتماً تمام النصر ، وفي سوقه المترجي إشارة إلى أنهم يكونون صنفين : صنفاً يرجع وآخر لا يرجع .
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
ولما كان من المعلوم أن السامع يقول لمن أحاط علمه بهم ويعلم سرهم وعلنهم : يا رب! بل رجعوا ، أجيب بقوله : { بل } أي لم يرجعوا بل استمروا لأجل إظهاري لقدرتي على القلوب بإقحام أربابها برضاهم واختيارهم في أقبح الخطوب وأفحش الذنوب على ترك الطريق المنيع والصراط الأقوم وزاغوا عنه زيغاً عظيماً ، واستمروا في ضلالهم وتيههم ولم أعاجلهم بالعقوبة لأني { متعت } بإفراده ضميرهم سبحانه لأن التمتيع يتضمن إطالة العمر التي لا يقدر عليها ظاهراً ولا باطناً سواه وأما الانتقام فقد يجعله بأيدي عباده من الملائكة وغيرهم فهو من وادي { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين } [ القلم : 45 ] { هؤلاء } أي الذين بحضرتك من المشركين وأعداء الدين { وآباءهم } فمددت من الأعمار مع سلامة الأبدان ومتانة الأركان ، وإسباغ النعم والإعفاء من البلايا والنقم ، فأبطرتهم نعمي وأزهدتهم أيادي جودي وكرمي ، وتمادى بهم ركوب ذلك الباطل { حتى جاءهم الحق } بهذا الدين المتين { ورسول مبين } أي أمره ظاهر في نفسه ، لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهية تنبئك بالخبر وهو مع ظهوره في نفسه مظهر لكل معنىً يحتاج إليه ، و { متعت } بالخطاب من لسان الرسول المنزل عليه هذا الكتاب لأنه يدعو انتهازاً للفرصة لعله يجاب بما يزيل الغصة يقول : يا رب! قد أقمتهم لمن يجهل العواقب في مقام من يرجى رجوعه فما قضيت بذلك بل متعت إلى آخره .
ولما كان التقدير : فلم يردهم التمتيع بإدرار النعم عليهم وإسراعنا بها إليهم مع وضوح الأمر لهم ، بل كان الإنعام عليهم سبباً لبطرهم ، وكان البطر سبباً لتماديهم على الاستعانة بنعمتنا على عصيان أمرنا وهم يدعون أنهم أتبع الناس للحق وأكفهم عن الباطل ، عطف عليه قوله؛ { ولما جاءهم الحق } أي الكامل في حقيته بمطابقة الواقع إياه من غير إلباس ولا اشتباه ، الظاهر في كماله لكل من له أدنى لب بما عليه القرآن من الإعجاز في نظمه ، وما عليه ما يدعو إليه من الحكمة من جميع حكمه ، والتصادق مع ما يعلمونه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل أن يبدلوه ومن أمر موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام من التوحيد ، زادوا على تلك الغفلة التي أدى إليها البطر بالنعمة ما هو شر من ذلك وهو التكذيب بأن { قالوا } مكابرة وعناداً وحسناً وبغياً من غير وقفة ولا تأمل : { هذا } مشيرين إلى الحق الذي يطابقه الواقع ، فلا شيء أثبت منه وهو القرآن وغيره مما أتى به من دلائل العرفان { سحر } أي خيال لا حقيقة له ، ولما كان الحال مقتضياً من غير شك ولا وقفة لمعرفتهم لما جاء به وإذعانهم له قالوا مؤكدين لمدافعه ما ثبت في النفوس من ذلك : { وإنا به كافرون } أي عريقون في ستره بخصوصه حتى لا يعرفه أحد ولا يكون له تابع .
ولما أخبر عن طعنهم في القرآن أتبعه الإخبار عن طعنهم فيمن جاء به تغطية لأمره عملاً بأخبارهم في ختام ما قبلها عن أنفسهم بالكفر زيادة وإمعاناً فيما كانت النعم أدتهم إليه من البطر فقال : { وقالوا } لما قهرهم ما ذكروا به مما يعرفونه من أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النبوة والرسالة ، وكذا من بعده من أولاده فلم يتهيأ لهم الإصرار على العناد بإنكار أن يكون النبي من البشر قول من له أمر عظيم في التصرف في الكون والتحكم على الملك الذي لا يسأل عما يفعل ، فأنكروا التخصيص بما أتوا به من التخصيص في قولهم : { لولا } أي هل لا ولولا .
ولما كان إنزال القرآن نجوماً على حسب التدريج ، عبروا بما يوافق ذلك فقالوا : { نزل } أي من المنزل الذي ذكره محمد صلى الله عليه وسلم وعينوا مرادهم ونفوا اللبس فقالوا بقسر وغلظة كلمة على من يطلبهم لإصلاح حالهم { هذا القرآن } أي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وادعى أنه جامع لكل خير ، ففيه إشارة إلى التحقير { على رجل من القريتين } أي مكة والطائف ، ولم يقل : إحدى - اغتناء عنها بوحدة رجل { عظيم } أي بما به عندهم من العظمة والجاه والمال والسن ونحو ذلك وهم عالمون أن شأن الملك إنما هو إرسال من يرتضونه لا من يقترحه الرعية ، ويعلمون أن للملك المرسل له صلى الله عليه وسلم الغني المطلق لكنهم جهلوا - مع أنه هو الذي أفاض المال والجاه - أنه ندب إلى الزهد فيهما والتخلي عنهما ، وأنه لا يقرب إليه إلا إخلاص الإقبال عليه الناشئ عن طهارة الروح وذكاء الأخلاق وكمال الشمائل والتحلي بسائر الفضائل والتخلي عن جميع الرذائل ، فقد جعلوا لإفراطهم في الجهل الحالة البهيمية شرطاً للوصول إلى الحالة الملكية المضادة لها بكل اعتبار .
ولما تضمن قولهم إثبات عظمة لأنفسهم بالاعتراض على الملك ، قال منكراً عليهم موبخاً لهم بما معناه أنه ليس الأمر مردوداً إليهم ولا موقوفاً عليهم بل هو إلى الله وحده { والله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] { أهم } أي أهؤلاء الجهلة العجزة { يقسمون } أي على التجدد والاستمرار : ولفت القول عن إفراد الضمير إلى صفة الرحمة المضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وإظهاراً لعلي قدره : { رحمت ربك } أي إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه بأنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم بتأهيلهم للإنقاذ من الضلال ، وجعلك وأنت أفضل العالمين الرسول إليهم ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسباً وأفضلهم حسباً وأعظمهم عقلاً وأصفاهم لباً وأرحمهم قلباً ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر بحسب شهواتهم وهم لا يقدرون على التصرف في المتاع الزائل بمثل ذلك .
ولما نفى أن يكون لهم شيء من القسم قال جواباً لمن كأنه قال : فمن القاسم؟ دالاً على بعدهم عن أن يكون إليهم شيء من قسم ما أعد لأديانهم بما يشاهدونه من بعدهم عن قسم ما أعد لأبدانهم ، لافتاً القوم عن صفة الإحسان إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنها تأبى المشاركة في شيء وتقتضي التفرد : { نحن قسمنا } أي بما من العظمة { بينهم } أي في الأمر الذي يعمهم ويوجب تخصيص كل منهم بما لديهم { معيشتهم } التي يعدونه رحمة ويقصرون عليها النعمة { في الحياة الدنيا } التي هي أدنى الأشياء عندنا ، وإشار إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل ، وأما الآخرة فعبر عنها بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتعاونوا على ذلك فلم يبق منهم أحد فكيف يدخل في الوهم أن يجعل إليهم شيئاً من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود ، وبها سعادة الدارين : { ورفعنا } بما لنا من نفوذ الأمر { بعضهم } وإن كان ضعيف البدن قليل العقل { فوق بعض } وإن كان قوياً عزيز العقل { درجات } في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظر حال الوجود ، فإنه لا بد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم ، تفاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم ليقتسموا الصنائع ، والمعارف والبضائع ، ويكون كل ميسر لما خلق له ، وجانحاً إلى ما هي له لتعاطيه ، فلم يقدر أحد من دنيء أو غني أن يعدو قدره وترتقي فوق منزلته .
ولما ذكر ذلك ، علله بما ثمرته عمارة الأرض فقال : { ليتخذ } أي بغاية جهده { بعضهم بعضاً } ولما كان المراد هنا الاستخدام دون الهزء لأنه لا يليق التعليل به ، أجمع القراء على ضم هذا الحرف هنا فقال : { سخرياً } أي أن يستعمله فيما ينوبه أو يتعسر أو يتعذر عليه مباشرته ويأخذ للآخر منه من المال ما هو مفتقر إليه ، فهذا بماله ، وهذا بأعماله ، وقد يكون الفقير أكمل من الغني ليكمل بذلك نظام العالم لأنه لو تساوت المقادير لتعطلت المعايش ، فلم يقدر أحد أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنيء فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة ، أيتصور عاقل أن يتولى قسم الناقص ونكل العالي إلى غيرنا ، قال ابن الجوزي : فإذا كانت الأرزاق بقدر الله لا بحول المحتال وهي دون النبوة فكيف تكون النبوة - انتهى . وهذا هو المراد بقوله تعالى صارفاً القول عن مظهر العظمة والسلطان إلى الوصف بالإحسان إظهاراً لشرف النبي صلى الله عليه وسلم { ورحمة ربك } أي المربي لك والمدبر لأمرك بإرسالك وإنارة الوجود برسالتك التي هي لعظمتها جديرة بأن تضاف إليه ولا يسمى غيرك رحمة { خير مما يجمعون } من الحطام الفاني فإنه وإن تأتي فيه خير باستعماله في وجوه البر بشرطه ، فهذا بالنسبة إلى النبوة ، وما قارنا مما دعا إلى الإعراض عن الدنيا متلاش .
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
ولما دلت صريح آية التمتيع وتلويح ما بعدها أن البسط في الرزق الموجب للعلو مع أنه خسيس المنزلة ناقص المقدار مقتض للخروج عن السواء ، وكان التقدير : فنحن نخص بهذا الخير للأفراد في الأدوار الآحاد من الأبرار لنستنقذ بهم من شئنا من الضلال ونعطي الحطام للعتاة الطغام الأرذال ابتلاء للعباد ليبين لهم أهل البغي من أهل الرشاد ، ولولا ما اقتضته حكمتنا بترتيب هذا الوجود على الأسباب من المفاوتة بين الناس لقيام الوجود لساوينا بينهم ، وعطف : عليه قوله مذكراً بلطفه بالمؤمنين وبره لهم برفعه ما يقضتي لهم شديد المجاهدة وعظيم المصابرة والمكابدة لحال تزل فيه الأقدام عن سنن الهدى من الميل والإصغاء إلى مظان الغنى والملك وتمام المكنة والعظمة : { ولولا أن يكون الناس } أي أهل التمتع بالأموال بما فيهم من الاضطراب والأنس بأنفسهم { أمة واحدة } أي في الضلال بالكفر لاعتقادهم أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه لحبهم الدنيا وجعلها محط أنظارها وهممهم إلا من عصم الله { لجعلنا } أي في كل زمان وكل مكان بما لنا من العظمة التي لم يقدر أحد على معارضتها لحقارة الدنيا عندنا وبغضنا لها { لمن يكفر } وقوله : { بالرحمن } أي العام الرحمة دليل على حقارة الدنيا من جهة إعطائها للمبعد الممقوت ، وعلى أن صفة الرحمة مقتضية لتناهي بسط النعم على الكافر لولا العلة التي ذكرها سبحانه من الرفق بالمؤمنين .
ولما كان تزيين الظرف دائماً بحسب زينة المظروف ، دل على ما لهم من ملابسهم ومراكبهم وغير ذلك من أمورهم بزينة المنازل ، فقال مبدلاً من { لمن } بدل الاشتمال لأن سوقه على طريق الإبدال أروع : { لبيوتهم } أي التي ينزلونها { سقفاً } أي هذا الجنس في قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالموحدة بدليل قراءة الباقين بضمتين جمعاً { من فضة } كأنه خصها لإفادتها النور { ومعارج } أي من فضة ، وهي المصاعد من الدرج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج { عليها يظهرون } أي يعلون ويرتقون على ظهورها إلى المعالي { ولبيوتهم أبواباً } أي من فضة أيضاً .
ولما كان إفراد السرير يوهم أنه واحد يدار به على الكل ، جمع ليفهم أن لكل واحد ما يخصه من الأسرة بخلاف السقف فإنه لا يهوم ذلك فلعله قرئ بإفراده وجمعه ، فقال : { وسرراً } بالجمع خاصة ، ودل على هدوء بالهم وصفاء أوقاتهم وأحوالهم بقوله : { عليها يتكئون } ودل على ما لا يتناهى من غير ذلك بقوله : { وزخرفاً } أي ذهباً وزينة عامة كاملة .
ولما كان لفظ الزخرف دالاً على كون ذلك أمراً ظاهرياً متلاشياً عند التحقيق ، دل عليه بقوله مؤكداً لما تقرر في النفوس من أن السادة في مثل ذلك ، وما كان مقرراً عندهم من أن السعيد في الأول سعيد في الآخرة على تقدير كونها : { وإن } أي وما { كل ذلك } أي الأمر البعيد عن الخير لكونه في الأغلب مبعداً مما يرضينا ، ولأن صاحبه لا يزال فقيراً وإن استوسقت له الدنيا ملكاً وملكاً ، لأنه لا بد أن يبقى في نفسه شيء لا تبلغه قدرته فهو لا يزال مغبوناً { لما } أي إلا - هذا على قراءة عاصم وحمزة بالتشديد : وهي في قراءة الباقين بالتخفيف فارقة بين النافية والمخففة ، وما مؤكدة والخبر هو { متاع الحياة الدنيا } أي التي اسمها دال على دناءتها وأن لها ضرة هي الآخرة ، وهو منقطع بالموت ، فلذلك اقتضت رحمته أن لا يضيق على المؤمنين في الأغلب لأن السعة تنقصهم في الآخرة ويطول الحساب { والآخرة } التي لا دار تعدلها بل لا دار الحقيقة إلى هي .