كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي
ولما كانت الإضافة إلى الجليل دالة على جلالة المضاف إليه فقال : { عند ربك } وأشار بالوصف بالرب إلى أن الجلالة بالحسن والراحة ، وبالإضافة إليه صلى الله عليه وسلم في أعلى الغايات { للمتقين } أي الذين هم دائماً واقفون عن أدنى تصرف إلا بدليل لا يشاركهم فيها غيرهم ، وهذا لما ذكر عمر رضي الله عنه كسرى وقيصر وما كانا فيه من النعم قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ألا ترضى أن يكون لهم الدنيا ولنا الأخرى » ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة من الجبابرة من زخرفة الأبنية وتركيب السقوف وغيرها من مساوئ الفتنة بأن يكون الناس أمة واحدة بالكفر قرب الساعة حتى لا تقوم الساعة على من يقول : الله ، وفي زمن الدجال من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة بحيث إنهم لا عداد لهم في جانب الكفرة لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة ، وإن خرج مخرج الشرط فكيف بملك الملوك .
ولما كان التقدير : ولكنا لم نجعل ذلك علماً منا بأن الناس كادوا يكونون أمة واحدة وإن كنا نقيض من جبلناه على الخير على الإيمان لكن ينقصه ما أوتي في الدنيا من خطر في الآخرة لأن من وسع عليه في دنياه اشتغل في الأغلب عن ذكر الله فنفرت منه الملائكة ولزمته الشياطين ، فساقه ذلك إلى كل سوء ، ومن يتق الله فيديم ذكره يؤيده بملك فهو له معين ، عطف عليه قوله معبراً عن غفلة البصيرة بالعشا الذي هو ضعف البصر تصوراً لمن ينسى ذكر الله بأقبح صورة تنفيراً عن ذلك { من يعش } أي يفعل فعل المعاشي ، وهو من شاء بصره بالليل والنهار أو عمي على قراءة شاذه وردت عن يعقوب بفتح الشين وركب الأمور متجاوزاً { عن ذكر الرحمن } الذي عمت رحمته ، فلا رحمة على أحد إلا وهي منه كما فعل هؤلاء حين متعناهم وآباءهم حيث أبطرهم ذلك ، وهو شيء يسير جداً ، فأعرضوا عن الآيات والدلائل فلم ينظروا فيها إلا نظراً ضعيفاً كنظر من عشي بصره { نقيض } أي نقرر ونسلط ونقدر عقاباً { له } على إعراضه عن ذكر الله { شيطاناً } أي شخصاً نارياً بعيداً من الرحمة يكون غالباً محيطاً به مضيقاً عليه مثل قيض البيضة وهو القشر الداخل { فهو له قرين } مشدود به كما يشد الأسير ، ملازم فلا يمكنه التخلص منه ما دام متعامياً عن ذكر الله ، فهو يزين له العمى ويخيل إليه أنه على عين الهدى ، كما أن من يستبصر بذكر الرحمن يسخر له ملك فهو له ولي يبشره بكل خير ، فذكر الله حصن حصين من الشيطان ، متى خرج العبد منه أسره العدو كما ورد في الحديث ، قال في القاموس : العشى مقصور : سوء البصر بالليل والنهار أو العمى ، عشى كرضى ودعا ، والعشوة بالضم والكسر : ركوب الأمر على غير بيان ، قال ابن جرير : وأصل العشو النظر بغير ثبت لعلة في العين ، وقال الرازي في اللوامع : وأصل اللغة أن العين والشين والحرف المعتل يدل على ظلام وقلة وضوح في الشيء .
ولما كانت { من } عامة ، وكان القرين للجنس ، وأفرده لأنه نص على كل فرد ، فكان التقدير : فإنهم ليحملونهم على أنواع الدنايا ويفتحون لهم أبواب الرذائل والبلايا ، ويحسنون لهم ارتكاب القبائح والرزايا ، عطف عليه قوله مؤكداً لما في أنفس الأغلب - كما أشار إليه آخر الآية - أن الموسع عليه هو المهتدي ، جامعاً دلالة على كثرة الضال : { وإنهم } أي القرناء { ليصدونهم } أي العاشين { عن السبيل } أي الطريق الذي من حاد عنه هلك ، لأنه لا طريق في الحقيقة سواه .
ولما كانت الحيدة عن السبيل إلى غير سبيل ، بل إلى معاطب لا يهتدي فيها دليل ، عجباً ، أتبعه عجباً آخر فقال : { ويحسبون } أي العاشون مع سيرهم في المهالك لتزيين القرناء بإحضار الحظوظ والشهوات وإبعاد المواعظ : { أنهم مهتدون } أي عريقون في هذا الوصف لما يستدرجون به من التوسعة عليهم والتضييق على الذاكرين .
ولما كان من ضل عن الطريق ، ومن ظن أنه على صواب لا يكاد يتمادى بل ينجلي له الحال عن قرب ضم إلى العجبين الماضيين عجباً ثالثاً بياناً له على ما تقديره : ونملي لهذا العاشي استدراجاً له وابتلاء لغيره ونمد ذلك طول حياته { حتى } وحقق الخبر بقوله : { إذا } ولما علم من الجمع فيما قيل أن المراد الجنس ، وكان التوحيد أدل دليل على تناول كل فرد ، فكان التعبير به أهول ، وكان السياق دالاً على من الضمير له قال : { جاءنا } أي العاشي ، ومن قرأ بالتثنية أراد العاشي والقرين { قال } أي العاشي تندماً وتحسراً لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل : { يا ليت بيني وبينك } أيها القرين { بعد المشرقين } أي ما بين المشرق والمغرب على التغليب - قاله ابن جرير وغيره ، أو مشرق الشتاء والصيف أي بعد أحدهما عن الآخر؛ ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعاً له أنواع المذام : { فبئس القرين } أي إني علمت أنك الذي أضلني وأوصلني إلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض وأحسست في هذا الوقت بذلك الذي كنت تؤذيني به أنه أذى بالغ ، فكنت كالذي يحك جسمه لما به من قروح متأكلة حتى يخرج منه الدم فهو في أوله يجد له لذة بما هو مؤلم له في نفسه غاية الإيلام .
ولما كان الإيلام قد يؤذي الجسد ، وكان التقدير حتماً بما هدى إليه السياق فيقال لهم : فلن ينفعكم ذلك اليوم يوم جئتمونا إذ تمنيتهم هذا التمني حين عاينتم تلك الأهوال اشتراككم اليوم في يوم الدنيا في الظلم وتمالؤكم عليه ومنافرة بعضكم لبعض ، عطف عليه قوله : { ولن ينفعكم اليوم } أي في الدنيا شيئاً من نفع أصلاً { إذ } حين { ظلمتم } حال كونكم مشتركين في الظلم متعاونين عليه متناصرين فيه ، وكل واحد منكم يقول لصاحبه سروراً به وتقرباً إليه وتودداً : يا ليت أنا لا نفترق أبداً فنعم القرين أنت ، فيقال لهم توبيخاً : { أنكم في العذاب } أي العظيم ، وقدمه اهتماماً بالزجر به والتخويف منه { مشتركون } أي اشتراككم فيه دائماً ظلمكم أنفسكم ظلماً باطناً بأمور أخفاها الطبع على القلوب وهو موجب للارتباك في أشراك المعاصي الموصلة إلى العذاب الظاهر يوم التمني ويوم القيامة عذاباً ظاهراً محسوساً ، وذلك كمن يجرح جراحة بالغة وهو مغمي عليه فهو معذب بها قطعاً ، ولكنه لا يحس إلا إذا أفاق فهو كما تقول لأناس يريدون أن يتمالؤوا على قتل نفس محرمة : لن ينفعكم اليوم إذ تتعاونون على قتله اشتراككم غداً في الهلاك بالسجن الضيق والضرب المتلف وضرب الأعناق ، مرادك بذلك زجرهم عن ظلمهم بتذكيرهم بأنهم يصلون إلى هذا الحال ويزول ما هم فيه من المناصرة فلا ينفعهم شيء منها - والله الموفق ، فالآية من الاحتباك ، وبه زال عنها ما كان من إعراب المعربين لها موجباً للارتباك « فيا ليت » - إلى آخره ، دال على تقدير ضده ثانياً « ولن ينفعكم » - إلى آخره ، دال على تقدير مثله أولاً .
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الإرادة لإقبالهم يكاد يقتل نفسه أسفاً إدبارهم ، وكان هذا الزجر الذي لا يسمعه من له أدنى عقل إلا خلع قلبه فرجع عن غيه وراجع رشده قد تلا عليهم فلم ينتفعوا به ، فكان كأنه قيل : إن هؤلاء لصم عمي محيط بهم الضلال إحاطة لا يكادون ينفكون عنه من كل جانب ، فلا وصول لأحد إلى إسماعهم ولا تبصيرهم ولا هدايتهم ، قال بانياً عليه مسبباً عنه تخفيفاً على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقاسي من الكرب في المبالغة في إبلاغهم حرصاً على إقبالهم والغم من إعراضهم بهمزة الإنكار الدالة على نفي ما سيقت له : { أفأنت } أي وحدك من غير إرادة الله تعالى { تسمع الصم } وقد أصممناهم بما صببنا في مسامع أفهامهم من رصاص الشقاء { أو تهدي العمي } الذين أعميناهم بما غشينا به أبصار بصائرهم من أغشية البلادة والخسارة ، فصار ما اختارون لأنفهسم من العشى عمياً مقروناً بصممهم { ومن كان } أي جبلة وطبعاً { في ضلال مبين } أي بين في نفسه أن ضال وأنه محيط بالضلال مظهر لكل أحد ذلك ، فهو بحيث لا يخفى على أحد ، فالمعنى : ليس شيء من ذلك إليك ، بل هو إلى الله القادر على كل شيء ، وأما أنت فليس عليك إلا البلاغ .
ولما كان هذا كالمؤيس منهم ، وكان اليأس من صلاح الخصم موجباً لتمني الراحة منه بموت أحدهما ، سبب عن التقديرين قوله مبيناً أن الإملاء لهم ليس لعجز عنهم ولا لإخلاف في الوعد ، مؤكداً بالنون و « ما » ثم « أنا » والاسمية لمن يظن خلاف ذلك ، ولأنه صلى الله عليه وسلم مشرف عنده سبحانه وتعالى معظم لديه فذهابه به مما يستبعد ، ومن حقه أن ينكر ، وكذا إراءته ما توعدهم به لأن المظنون إكرامهم لأجله : { فإما نذهبن بك } أي من بين أظهرهم بموت أو غيره { فإنا منهم } أي الذين تقدم التعريض بأنهم صم عمي ضلال لأنهم لن تنفعهم مشاعرهم { منتقمون } أي بعد فراقك لأن وجودك بين أظهرهم هو سبب تأخير العذاب عنهم { أو نرينك } وأنت بينهم { الذي وعدناهم } أي من العذاب وعبر فيه بالوعد ليدل على الخير بلفظه وعلى الشر بأسلوبه فيعم { فإنا } بما تعلم من عظمتنا التي أنت أعلم الخلق بهم { عليهم مقتدرون } على كلا التقديرين ، وأكد ب « أن » لأن أفعالهم أفعال من ينكر قدرته ، وكذا بالإتيان بنون العظمة وصيغة الافتعال ، وأحد هذين التقديرين سبق العلم الأزلي بأنه لا يكون ، فالآية من أدلة القدرة على المحال لغيره وهي كثيرة جداً ، وقد أكرم الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عن أن يريه شيئاً يكرهه في أمته حتى قبض .
ولما أوقف سبحانه السامع بهاتين الشرطيتين بين الخوف والرجاء لبيان الاستبداد بعلم الغيب تغليباً للخوف ، وأفهم السياق وإن كان شرطاً أن الانتقام منهم أمر لا بد منه ، وأنه لا قدرة لأحد على ضرهم ولا نفعهم إلا الله ، سبب عنه قوله : { فاستمسك } أي أطلب وأوجد بجد عظيم على كل حال الإمساك { بالذي أوحي إليك } من حين نبوتك وإلى الآن في الانتقام منهم وفي غيره .
ولما كان المقام لكثرة المخالف محتاجاً إلى تأكيد يطيب خواطر الأتباع ويحملهم على حسن الاتباع ، علل ذلك بقوله : { إنك على صراط } أي طريق واسع واضح جداً : { مستقيم } موصل إلى المقصود لا يصح أصلاً أن يلحقه شيء من عوج ، فإذا فعلت ذلك لم يضرك شيء من نقمتهم .
ولما أثبت حسنه في نفسه المتقضي للزومه ، عطف عليه نفعه لهم . وأكد لإنكارهم فقال : { وإنه } أي الذي أوحى إليك في الدنيا { لذكر } أي شرف عظيم جداً وموعظة وبيان ، عبر عن الشرف بالذكر للتنبيه على أن سببه الإقبال على الذكر وعلى ما بينه وشرعه والاستمساك به والاعتناء بشأنه : { لك ولقومك } قريش خصوصاً والعرب عموماً وسائر من اتبعك ولو كان من غيرهم من جهة نزوله على واحد منهم وبلسانهم ، فكان سائر الناس تبعاً لهم ومن جهة إيراثه الطريقة الحسنى والعلوم الزاكية الواسعة وتأثيره الظهور على جميع الطوائف والإمامة لقريش بالخصوص كما قال صلى الله عليه وسلم : « لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان ما أقاموا الدين » فمن أقام هذا الدين كان شريفاً مذكوراً في ملكوت السماوات والأرض ، قال ابن الجوزي : وقد روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل : لمن هذا الأمر ، من بعدك ، لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية ، فكان بعد ذلك إذا سئل قال : لقريش - وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوة وشرف القرآن ، وأن قومه يخلفونه من بعده في الولاية بشرف القرآن الذي أنزل على رجل منهم - انتهى .
ولما كان التقدير : فسوف تشرفون على سائر الملوك وتعلمون ، عطف عليه قوله : { وسوف تسألون } أي تصيرون في سائر أنواع العلم محط رحال السائلين دنياً ودنيا بحيث يسألكم جميع أهل الأرض من أهل الكتاب ومن غيرهم عما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم لما يعتقدون من أنه لا يوازيكم أحد في العلم بعد أن كنتم عندهم أحقر الأمم ضعفاً وجهلاً كما وقع لبني إسرائيل حيث رفعهم الله ، وكان ذلك أبعد الأشياء عند فرعون وآله ، ولذلك كانوا يتضاحكون استهزاء بتلك الآيات وينسبون الآتي بها إلى ما لا يليق بمنصبه العالي من المحالات ، وتسألون عن حقه وأداء شكره وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له ، وهذا بوعد صادق لا خلف فيه أصلاً .
ولما أبطل سبحانه إلهية غيره التي أدى إليها الجهل ، واستمر إلى أن ختم بالعلم الموجب لمعرفة الحق ، فكان التقدير إبطالاً لشبهتهم الوهمية القائلة { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } : فاستحضر جميع ما أوحى إليك وتأمله غاية التأمل ، هل ترى فيه خفاء في الإلهية لشيء دون الله ، عطف عليه قوله نفياً لدليل سمعي كما أشير إليه بقوله { أم آتيناهم كتاباً } { واسأل من أرسلنا } أي على ما لنا من العظمة . ولما كان الممكن تعرفه من آثار الرسل إنما هو لموسى وعيسى ومن بينهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام الحافظ لسنتهم من التوراة والإنجيل والزبور وسفر الأنبياء ، قال مثبتاً للجار المفهم لبعض الزمان : { من قبلك } .
ولما كان أتباعهم قد غيروا وبدلوا فلم تكن بهم ثقة ، عبر بالرسل فقال : { من رسلنا } أي بقراءة أتباعهم لكتبهم التي حرفوا بعضها ، وجعلت كتابك مهيمنا عليها فإنهم إذا قرؤوها بين يديك وعرضوها عليك علمت معانيها وفضحت تحريفهم وبينت اتفاق الكتب كلها برد ما ألبس عليهم من متشابهها إلى محكمها ، فالمراد من هذا نحو المراد من آية يونس { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } [ رقم : 94 ] ومن آية الأنبياء { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } [ رقم : 24 ] مع زيادة الإشارة إلى تحريفهم ، فالمسؤول في الحقيقة القرآن المعجز على لسان الرسول الذي شهدت له جميع الرسل الذين أخذ عليهم العهد بالإيمان به والمتابعة له ، وبهذا التقرير ظهر ضعف قول من قال : إن المراد سؤال الرسل حقيقة لما جمعوا له صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس ليلة الإسراء ، فإنه ليس المراد من هذا إلا تبكيت الكفار من العرب وممن عزهم من أهل الكتاب بقولهم : دينكم خير من دينه وأنتم أهدى سبيلاً منه ، فإنهم إذا أحضروا كتبهم علمت دلالتها القطعية على اختصاصه سبحانه بالعبادة كما بينته في كتابي هذا يرد المتشابه منها إلى المحكم ، وجعلها ابن جرير مثل قوله تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } [ النساء : 59 ] وقال : ومعلوم أن معنى ذلك : فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال : فاستغنى بذكر الرسل عن ذكر الكتب . وهو عين ما قلته ، ولو كان المراد حقيقة السؤال وسؤال جميع الرسل لقال « قبلك » بإسقاط « من » ليستغرق الكل - والله أعلم .
ولما ذكر المسؤول مفخماً له بما اقتضته العبارة من الإرسال والإضافة إليه ، ذكر المسؤول عنه بقوله تعالى : { أجعلنا } أي أبحنا وأمرنا ورضينا على ما لنا من العظمة والقدرة التامة ، مما ينافي ذلك ، وقرر حقارة ما سواه بقوله : { من دون } وزاد بقوله : { الرحمن } أي الذي رحمته عمت جميع الموجودات { آلهة } ولما كان قد جعل لكل قوم وجهة يتوجهون في عبادتهم إلهاً ، وشيئاً محسوساً بغلبة الأوهام على الأفهام يشهدونه وكان ربما تعنت به متعنت ، قال محترزاً : { يعبدون } أي من عابد ما بوجه ما .
ولما كان المترفون مولعين بأن يزدروا من جاءهم بالرد عن أغراضهم الفاسدة بنوع من الازدراء كما قال كفار قريش { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } ولا يزالون يردون هذا وأمثاله من الضلال حتى يقهرهم ذو الجلال بما أتتهم به رسله إما بإهلاكهم أو غيره وإن كانوا في غاية القوة ، أورد سبحانه قصة موسى عليه الصلاة والسلام شاهدة على ذلك بما قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام من نحو ذلك ومن إهلاكه على قوته وإنجاء بني إسرائيل على ضعفهم ، وتسلية للنبي صلى عليه وسلم وترجية .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
ولما كان التقدير : فلقد أرسلنا جميع رسلنا وهم أشرف الخلق بالتوحيد الذي جئت به ، وما كنا في إرسالنا إياهم مراعين لما يريده الأمم من جاه أو مال أو غير ذلك ، فلا وجه للاتكال عليك فيما أرسلناك به من التوحيد وغيره ، ولا لمعاداتك فيه ، عطف عليه أول من أرشد إلى سؤال أتباعهم فقال مؤكداً أجل ما يعاندون به من إنكار الرسالة ، وأتى بحرف التوقع لما اقتضاه من الأمر بسؤال الرسل عليهم الصلاة والسلام : { ولقد أرسلنا } أي بما ظهر من عظمتنا .
ولما كان الإرسال منه سبحانه ليس على حسب العظمة في الدنيا بما يراه أهلها كما قال هؤلاء { لولا نزل هذا القرآن } - الآية ، قال مناقضاً لهم : { موسى } أي الذي كان فرعون يرى أنه أحق الناس بتعظيمه لأنه رباه وكفله { بآياتنا } أي التي قهر بها عظماء الخلق وجبابرتهم ، فدل ذلك على صحة دعواه وعلى جميع الآيات لتساويها في القدرة وخرق العادة . ولما كان السياق لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم الرسل عن أمر التوحيد ، كانت الآيات كافية ، فلم يذكر السلطان لأنه للقهر والغلبة : { إلى فرعون } أي لأنه طغى وبغى وادعى أنه هو الرب الأعلى ووافقه الضالون : { وملأه } الذين جعلهم آلهة دونه وعبدهم قومهم فلم يقرهم على ذلك لأنا ما رضيناه { فقال } بسبب إرسالنا { إني رسول } وأكد لأجل إنكارهم ما أنكره قومك من الرسالة . ولما كان الإحسان سبباً للإذعان قال : { رب العالمين* } أي مالكهم ومربيهم ومدبرهم .
ولما كانوا قد فعلوا من الرد لرسالته صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بها ما فعلته قريش ، قال مسلياً للنبي صلى الله عليه وسلم ومهدداً لهم تسبيباً عما تقديره : فقالوا له ائت بآية ، فأتى بها على ما تقدم غير مرة بما هو كالشمس بياناً وحسناً : { فلما جاءهم بآياتنا } بالإتيان بآيتي اليد والعصا اللتين شهدوا فيهما عظمتنا ودلتاهم على قدرتنا على جميع الآيات { إذا هم } أي بأجمعهم استهزاء برسولنا ، وطال ما يضحك عليهم هو ومن آمن برسالته وبما جاء به عنا يوم الحسرة والندامة { منها يضحكون } أي فاجؤوا المجيء بها من غير توقف ولا كسل بالضحك سخرية واستهزاء .
ولما كان ربما ظن ظان أن في الآيات ما يقبل شيئاً من ذلك ، بين حالها سبحانه بقوله : { وما } أي والحال أنا ما { نريهم } على ما لنا من الجلال والعلو والكمال ، وأعرق في النفي بإثبات الجار وأداة الحصر لأجل من قد يتوهم أنهم معذورون في ضحكهم فقال : { من آية إلا هي أكبر } أي في الرتبة { من أختها } أي التي تقدمت عليها بالنسبة إلى علم الناظرين لها لأن الآدمي لما له من النسيان إذا أتاه الثاني من المتساويين رأى جميع من أتاه ناسياً ولا بعض من أتى الأول فيقطع بأنه أكبر منه ، أو أن هذا كناية عن أنها كلها في نهاية العظمة كما قال شاعرهم :
« من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم » ... أو أن بينها في الكبر عموماً وخصوصاً من وجه ، وأحسن من ذلك ما أشار إليه ابن جرير من أن كل آية أوضح في الحجة عليهم وأوكد مما قبلها ، لأنها دلت على ما دلت عليه وزادت ما أفادته المعاضدة من الضخامة فصارت هي مع ما قبلها أكبر مما قبلها عند ورودها وإقامة الحجة بها .
ولما كان التقدير : فاستمروا على كفرهم ولم يرجعوا لشيء من الآيات لأنا أصممناهم وأعميناهم وأحطنا بهم الضلال لعلمنا بحالهم ، عطف عليه قوله : { وأخذناهم } أي أخذ قهر وغلبة { بالعذاب } أي كله لأنا واترنا عليهم ضرباته على وجه معلم بأنا قادرون على ما نريد منه فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم { آيات مفصلات } والقطع : البرد الكبار الذي لم يعهد مثله ملتهباً بالنار ، وموت الأبكار ، فكانت آيات على صدق موسى عليه الصلاة والسلام بما لها من الإعجاز ، وعذاباً لهم في الدنيا موصولاً بعذاب الآخرة ، فيا لها من قدرة باهرة وحكمة ظاهرة { لعلهم يرجعون } أي ليكون حالهم عند ناظرهم الجاهل بالعواقب حال من يرجى رجوعه .
ولما كان فرعون في كثير من الضربات التي كان يضربه بها سبحانه - كما مضى في الأعراف عن التوراة - يقول لموسى عليه الصلاة والسلام : قد أخطأت والرب بار وأنا وشعبي فجار ، فصلينا بين يدي الرب فإنه ذو إمهال وأناة ، فيصرف عني كذا ، فإذا صرف الله ذلك عنهم عاد على ما كان عليه من الفجور ، كان فعله ذلك فعل من لا يعتقد أنه موسى عليه الصلاة والسلام نبي حقيقة ، بل يعتقد أنه ساحر ، وأن أفعاله إنما هي خيال ، فكذلك عبر عن هذا المعنى بقوله عطفاً على ما تقديره ، فلم يرجعوا : { وقالوا } أي فرعون بالمباشرة وأتباعه بالموافقة له : { يا أيها الساحر } فنادوه بأداة البعد مع الإفهام بقالوا دون « نادوا » أنه حاضر إشارة إلى بعده من قلوبهم ، والتعبير بهذا توبيخ لقريش بالإشارة إلى أنهم وغيرهم ممن مضى يرمون الرسول بالسحر ويقرون برسالته عند الحاجة إلى دعائه في كشف ما عذبهم ربهم به ، وذلك قادح فيما يدعون من الثبات والشجاعة والعقل والإنصاف والشهامة ، وذلك كما وقع لقريش لما قال النبي صلى الله عليه وسلم « اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف » فقحطوا ، فلما اشتد عليهم البلاء أتى أبو سفيان بن حرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الشريفة فقال : يا محمد! إنك قد جئت بصلة الأرحام وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم ، فدعا لهم فأغيثوا ، فلا شك أن ترجمة حالهم هذا الذي ذكره الله من التناقض الذي لا يرضاه لنفسه عاقل ، وهو وصفه بالسحر وطلب الدعاء منه يمنع اعتقاد أنه ساحر ، واعتقاد أنه ساحر يمنع طلب الدعاء منه عند العاقل { ادع لنا ربك } أي المحسن إليك بما يفعل معك من هذه الأفعال التي نهيتنا بها إكراماً لك { بما } أي بسبب ما { عهد عندك } من أنه يفعل من وضعها ورفعها على ما تريد على ما أخبرتنا أنه إن آمنا أكرمنا ، وإن تمادينا أهاننا ، ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكداً تقريباً لحالهم البعيدة من الاعتداء بما يخبر به شاهد الوجود : { إننا لمهتدون } أي اهتداء ثابتاً يصير لنا وصفاً لازماً عند كشف ذلك عنا .
ولما كان العاقل لا يخبر عن نفسه إلا بما هو صحيح ، فكيف إذا كان عظيماً بين قومه فكيف إذا أكد ذلك بأنواع من التأكيد ، فكان السامع لهذا الكلام يقطع بصدقه ، بين تعالى ما يصحح أن حالهم حال من يعتقد أنه ساحر بأنهم أسرعوا الخيانة بالكذب فيه من غير استحياء ولا خوف ، فقال معبراً بالفاء دلالة على ذلك : { فلما كشفنا } على ما لنا من العظمة التي ترهب الجبال { عنهم العذاب } أي الذي أنزلناه بهم { إذا هم ينكثون } أي فاجؤوا الكشف بتجديد النكث بإخلاف بعد إخلاف { ونادى فرعون } أي زيادة على نكثه { في قومه } أي الذين لهم غاية القيام معه ، وأمر كلاً منهم أن يشيع قوله إشاعة تعم البعيد كما تشمل القريب فتكون كأنها مناداة إعلاماً بأنه مستمر على الكفر لئلا يظن بعضهم أنه رجع . ولما كان كأنه قيل : لم نادى؟ أجاب بقوله : { قال } أي خوفاً من إيمان القبط لما رأى من أن ما شاهدوا من باهر الآيات مثله يزلزل ويأخذ بالقلوب : { يا قوم } مستعطفاً لهم بإعلامهم بأنهم لحمة واحدة ، ومستنهضاً بوصفهم بأنهم ذوو قوة على ما يحاولونه ، مقرراً لهم على عذره في نكثه بقوله : { أليس لي } أي وحدي { ملك مصر } أي كله ، فلا اعتراض على بني إسرائيل ولا غيرهم ، لينتج له ذلك على زعمه أن غلبته على بني إسرائيل ومقاهرته على إخراجهم من تحت يده بغى على من له الملك فتكون فساداً فلا بأس عليه إذا خدع من فعل به ذلك بما عاهده عليه عند مس الضر ، ولم يقرأ بالصرف ليكون نصاً على مراده من العلمية ، ولأن المصر يطلق على المدينة الواحدة ، والتنوين يأتي للتحقير وهو ضد مراده .
ولما كان قد حصل له مما رأى من الآيات وورد عليه من تلك الضربات بأنواع المثلات ما أدهشه بحيث صار في عداد من يشك أتباعه في ملكه ، دل عليه بما بناه من الحال : { وهذه } أي والحال أن هذه { الأنهار } وكأنه كان قد أكثر من تشقيق الخلجان إلى بساتينه وقصوره ، ونحو ذلك من أموره فقال : { تجري من تحتي } أي من أي موضع أردته بما لا يقدر عليه غيري ، وزاد في التقرير بقوله : { أفلا تبصرون } أي الذي ذكرته لكم فتعلموا ببصائر قلوبكم أنه لا ينبغي لأحد أن ينازعني ، وهذا لعمري قول من ضعفت قواه وانحلت عراه .
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير : أفهذا الذي جاء يسلبنا عبيدنا بني إسرائيل خير عندكم مني؟ نسق عليه قوله : { أم أنا خير } مع ما وصفت لكم من ضخامتي وما لي من القدرة على إجراء المياه التي بها حياة كل شيء ، ونقل ابن الجوزي وغيره من المفسرين عن سيبويه وأستاذه الخليل أنها معادلة لتقريرهم بالإبصار ، فكأنه قال : أفلا تبصرون ما ذكرتكم به فترون لعدم إبصاركم أنه خير مني أم أنا خير منه لأنكم لا تبصرون ، وكان هو أحق بهذه النصيحة منهم فإنه أراهم الطريق الواضحة إلى الضلال والموصلة إليه من غير مشقة ولا تعب بقوله : أفلا تبصرون أم أنتم بصراء ، فيكون ذلك احتباكاً تقديره : أفلا تبصرون ما نبهتكم عليه ، فذكر الإبصار أولاً دليلاً على حذف مثلها ثانياً والخيرية ثانياً دليلاً على حذف مثلها أولاً ، وحقر من عظمة الآتي له بتلك الآيات صلى الله عليه وسلم لئلا يسرع الناس إلى اتباعه لأن آياته - لكونها من عند الله - كالشمس بهجة وعلواً وشهرة فقال : { من هذا } فكنى بإشارة القريب عن تحقيره ، ثم وصفه بما يبين مراده فقال : { الذي هو مهين } أي ضعيف حقير قليل ذليل ، لأنه يتعاطى أموره بنفسه ، وليس له ملك ولا قوة يجري بها نهراً ولا ينفذ بها أمراً { ولا يكاد يبين } أي لا يقرب من أن يعرب عن معنىً من المعاني لما في لسانه من الحبسة فلا هو قادر في نفسه ولا له قوة بلسانه على تصريف المعاني وتنويع البيان يستجلب القلوب ويدهش الألباب فيكثر أتباعه ويضخم أمره ، وقد كذب في جميع قوله ، فقد كان موسى عليه الصلاة والسالم أبلغ أهل زمانه قولاً وفعلاً بتقدير الله الذي أرسله له وأمره إياه ولكن الخبيث أسند هذا إلى ما بقي في لسانه من الحبسة تخييلاً لأتباعه لأن موسى عليه الصلاة والسلام ما دعا بإزالة حبسته بل بعقدة منها .
ولما كان عند فرعون وعند من كان مثله مطموس البصيرة فاقد الفهم وقوفاً مع الوهم أن القرب من الملوك والغلبة على الأمور لا تكون إلا بكثرة الأعراض الدنيوية ، والتحلي بحلي الملوك ، سبب عن ادعائه لرسالته عن ملك الملوك اللازمة للقرب منه قوله : { فلولا } ولما كانت الكرامات والحبى والخلع تلقى على المكرم بها إلقاء ، عبر به فقال : { ألقي } أي من أيّ ملق كان { عليه } من عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة { أسورة } جمع أسورة - قاله الزجاج ، وصرف لصيرورته على وزن المفرد نحو علانية وكراهية ، والسوار : ما يوضع في العصم من الحلية { من ذهب } ليكون ذلك أمارة على صدق صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من المهمات { أو جاء معه } أي صحبته عندما أتى إلينا بهذا النبأ الجسيم والملم العظيم { الملائكة } أي هذا النوع ، وأشار إلى كثرتهم بما بين من الحال بقوله : { مقترنين } أي يقارن بعضهم بعضاً بحيث يملؤون الفضاء ويكونون في غاية القرب منه بحيث يكون مقارناً لهم ليجاب إلى هذا الأمر الذي جاء يطلبه كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولاً إلى أمر يحتاج إلى دفاع وخصام ونزاع ، فكان حاصل أمره كما ترى أنه تعزز بإجراء المياه ، فأهلكه الله بها إيماء إلى أن من تعزز بشيء دون الله أهلكه الله به ، واستصغر موسى عليه الصلاة والسلام وعابه بالفقر والغي فسلطه إشارة إلى أنه ما استصغر أحد شيئاً إلا غلبه - أفاده القشيري .
ولما كان كلامه هذا واضعاً له عند من تأمل لا رافعاً ، وكان قد مشى على أتباعه لأنهم مع المظنة دون المنة ، فهم أذل شيء لمن ثبتت له رئاسته دنيوية وإن صار تراباً ، وأعصى شيء على من لم تفقه له الناس وإن فعل الأفاعيل العظام ، تشوف السامع إلى ما يتأثر عنه فقال : { فاستخف } أي بسبب هذه الخدع التي سحرهم بها في هذا الكلام الذي هو في الحقيقة محقر له موهن لأمره قاصم لملكه عند من له لب { قومه } الذين لهم قوة عظيمة ، فحملهم بغروره على ما كانوا مهيئين له في خفة الحلم { فأطاعوه } بأن أقروا بملكه وأذعنوا لضخامته واعترفوا بربوبيته وردوا أمر موسى عليه الصلاة والسلام .
ولما كان كلامه كما مضى أعظم موهن لأمره وهو منقوض على تقدير متانته بأن موسى صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه وسلم أتى بما يغني عما قاله من الأساورة وظهور الملائكة بأنه مهما هددهم فعله ومهما طلبوه منه أجابهم إليه ، فلم يكن للقبط داع إلى طاعة فرعون بعدما رأوا من الآيات إلا المشاكلة في خباثة الأرواح ، علل ذلك سبحانه بقوله مؤكداً لما يناسب أحوالهم فيرتضي أفعالهم وهم الأكثر : { إنهم كانوا } أي بما في جبلاتهم من الشر والنفاق لأنهم كانوا { قوماً } أي عندهم قوة شكائم توجب لهم الشماخة إلا عند من يقهرهم بما يألفون من أسباب الدنيا { فاسقين } أي عريقين في الخروج عن طاعة الله إلى معصية ، قد صار لهم ذلك خلقاً ثانياً ، وكأن مدة محاولة الكليم عليه الصلاة والسلام لهم كانت قريبة ، فلذلك عبر بالفاء في قوله : { فلما آسفونا } أي فعلوا معناه ما يغضب إغضاباً شديداً بإغضاب أوليائنا كما في الحديث القدسي « مرضت فلم تعدني » لنكثهم مرة بعد مرة وكرة في إثر كرة { انتقمنا منهم } أي أوقعنا بهم على وجه المكافأة لما فعلوا برسولنا عليه السلام عقوبة عظيمة منكرة مكروهة كأنها بعلاج { فأغرقناهم } في اليم { أجمعين } إهلاك نفس واحدة لم يفلت منهم أحد على كثرتهم وقوتهم وشدتهم ، وهذا لا يكون في العادة إلا بعد علاج كثير أو اعتناء كبير .
ولما كان إهلاكهم بسبب إغضابهم لله وبالكبر على رسله ، كانوا سبباً لأن يتعظ بحالهم من يأتي بعدهم فلذلك قال تعالى : { فجعلناهم } أي بأخذنا لهم على هذه الصورة من الإغراق وغيره مما تقدمه { سلفاً } متقدماً لكل من يهلك بعدهم إهلاك غضب في الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة وقدوة لمن يريد العلو في الأرض فتكون عاقبته في الهلاك في الدارين أو إحداهما عاقبتهم كما قال سبحانه عز من قائل وتبارك وتعالى { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } [ القصص : 41 ] : { ومثلاً } أي حديثاً عجيباً سائراً مسير المثل { للآخرين } الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالاً لآخرين ، فمن قضى أن يكون على مثل حالهم عمل مثل أعمالهم ، ومن أراد النجاة مما نالهم تجنب أفعالهم ، فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه ، ومن أريد به الشر ، وجعل له منهم مثلاً يجترئ به على شره ، ويقوى على خبثه ومكره ، فيجعل الشرير ما أوتوه من الدنيا من النعمة والحبرة الرفاهية والنصرة مثلاً له في التوصل إليه مما كانوا عليه من الظلم ، ويجعل الخير إهلاكهم مثلاً له فيبعد عن أفعالهم لينجو من مثل نكالهم ، يقول أحدهم : أخذ الفلانيون أخذ آل فرعون ، أي لم يفلت منهم إنسان ونحو ذلك من أمثالهم في جميع أحوالهم ، ونقول نحن : إنا نهلك من ظلم وتمادى في ظلمه بعد تحذيرنا له وغشم وإن عظم آله وأتباعه ، وظن عزه وامتناعه ، كدأب آل فرعون ، ويقول من أريد به الشر : ليس على ظهرها أحد يبقى إن خاف العواقب فأحجم عن شهواته وانهمك في رياض أهويته وإرادته وشهي طيباته وكذا ذاته كما وقع لفرعون فإنه لم يرجع لشيء عن رئاسته ، وبلوغ النهاية من صلفه ونفاسته إلى أن ذهب به كما ذهب بغيره سواء سار بسيره أو بغير سيره ، ولقد ضل به قوم وأضلوا ، وحلوا لمن داناهم عرى الدين فزلوا ، وما كفاهم ذلك حتى ادعوا أنه من أعز المقربين لأن الذي كان آخر كلامه الإيمان ، فجب ما كانا قبله ولم يتدنس بعده فمات طاهراً مطهراً ليس فيه شيء من الدنس مع أن ذلك ما كان إلا عند اليأس حيث لا نفع فيه ، وغروا الضعفاء بأن قالوا : إنه لا صريح في القرآن بعذابه بعد الموت تعمية عن الدليل القطعي المنتظم من قوله تعالى { وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين } [ يونس : 83 ] { وإن المسرفين هم أصحاب النار } [ غافر : 43 ] المنتج من غير شك أن فرعون من أصحاب النار ، وقوله تعالى { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كانت عاقبة الظالمين } [ القصص : 40 ] { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون }
وقوله تعالى { كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد } إلى أن قال { إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب } [ ص : 14 ] غير ذلك من محكم الآيات وصريح الدلالات البينات ، وكذا غير فرعون وقومه من الصالحين والطالحين جعلهم سبحانه سلفاً ومثلاً للآخرين ، فمن أراد به خيراً يسر له مثل خير احتذى به ، ومن أراد به شراً أضله بمثل سوء اقتدى به ، فقد جعل الله عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لتمام قدرته على اختراع الأشياء بأسباب وبغير أسباب ، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأزهدهم وأقربهم إلى الخير وأبعدهم عن الشر ، فاقتدى به من أراد الله به الخير في مثل ذلك فاهتدى به ، وضل به آخرون وضربوا به لأنفسهم أمثال الآلهة ، وصاروا يفرحون بما لا يرضاه عاقل ولا يراه ، وضربه قومك مثلاً لآلهتهم لما أخبرنا أنهم معهم حصب جهنم وسروا بذلك وطربوا وظنوا أنهم فازوا وغلبوا : { ولما ضرب ابن مريم } أي ضربه ضارب منهم { مثلاً } لآلهتهم { إذا قومك } أي الذين أعطيناهم قدرة على القيام بما يحاولونه { منه } أي ذلك المثل { يصدون } أي يضجون ويعلون أصواتهم سروراً بأنهم ظفروا على زعمهم بتناقض ، فيعرضون به عن إجابة دعائك ، يقال : صد عنه صدوداً : أعرض ، وصد يصد ويصل : ضج - قاله في القاموس ، فلذلك قال ابن الجوزي : معناهما جميعاً - أي قراءة ضم الصاد وقراءة كسرها - يضجون ، ويجوز أن يكون معنى المضمومة : يعرضون ، قال ابن برجان : والكسر أعلى القراءتين - انتهى .
وذلك أن قريشاً قالوا كما مضى في الأنبياء { إنا وما نعبد في جهنم } مقتض أن يكون عيسى كذلك ، وأن نستوي نحن وآلهتنا به ، فإنه مما عبد ونحن راضون بمساواته لنا - إلى آخر ما قالوا وما رد عليهم سبحانه به من الآية من العام الذي أريد به الخصوص كما هو مقتضى كلامهم ولسانهم في أن الأصل في « ما » لما لا يعقل ، وذلك هو المراد من قوله تعالى حاكياً عنهم : { وقالوا أآلهتنا } التي نعبدها من الأصنام والملائكة { خير أم هو } أي عيسى فنحن راضون بأن نكون معه .
ولما اشتد التشوف إلى جوابهم ، وكان قد تقدم الجواب عنه في الأنبياء ، قدم عليه هنا أن مرادهم بذلك إنما هو المماحكة والمماحلة والمراوغة والمقاتلة فقال تعالى : { ما ضربوه } أي ما ضرب الكفار : ابن الزبعري حقيقة وغيره من قومك مجازاً ، المثل لآلهتهم بعيسى عليه الصلاة والسلام { لك إلا جدلاً } أي لإرادة أن يقتلوك عن دعوتك مغالطة وهم عالمون بأن ما ألزموك به غير لازم ولم يعتقدوا لزومه قط لأن الكلام ما كان إلا في أصنامهم ، ولأن الخصوص في كلامهم شائع ، ولأنه قد عقب بما يبين الخصوص ويزيل اللبس على تقدير تسليمه ، فلم يقتدوا قط بما ألزموا به أنه لازم { بل هم قوم } أي أصحاب قوة على القيامة بما يحاولونه { خصمون } أي شديدو الخصام قادرون على اللدد ، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي إمامة رضي الله عنهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، ثم قرأ الآية » .
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
ولما تضمن هذا أنه غير مهان ، صرح به على وجه الحصر قصر قلب لمن يدعي أنه مقصور على الإلهية فقال : { إن } أي ما { هو } أي عيسى عليه الصلاة والسلام { إلا عبد } وليس هو بإله { أنعمنا } أي بما لنا من العظمة والإحسان { عليه } أي بالنبوة والإقدار على الخوارق { وجعلناه } بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته { مثلاً } أي أمراً عجيباً مع وضوحه وجلائه فيه خفاء وموضع شبهة بأن جعلناه من أنثى فقط بلا واسطة ذكر ليضل بذلك من يقف مع المحسوسات ، ودللنا على الحق فيه بما منحنا به من الخوارق وزكاء الأخلاق وطيب الشيم والإعراق إسعاداً لمن أعليناه بنور قلبه وصفاء لبه إلى إحسان النظر في المعاني { لبني إسرائيل } الذين هم أعلم الناس به ، بعضهم بالمشاهدة وبعضهم بالنقل القريب ، فلما جاءهم على تلك الحالة الجلية في كونها حقاً بما كان على يديه ويدي أمه من الكرامات ، آمن به من بصره الله منه بالحق من أمره بما كان فيه من الكرامات ، وكان كلما رأى رجلاً منهم على منهاجه في أعماله وكرامته اهتدى إلى الحق من أمره ، وقال : هذا مثله عيسى عليه الصلاة والسلام فانتفع بالنبي ومن تبعه بإحسان ، فنال من الله الرضوان ، وقال أيضاً هذا الموفق مستبصراً في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام : مثله في ذلك مثل أبيه آدم عليه الصلاة والسلام في إخراجه من أنثى بلا ذكر ، بل آدم عليه الصلاة والسلام أعجب ، ومثل ابن خالته يحيى وجده إسحاق عليهما الصلاة والسلام في إخراج كل منهما بسبب هو في غاية الضعف ، هذه أمثاله الحسنة وقال من أراد الله به الضلال منهم غير ذلك من المحال ، فلما جعلوا له أمثال السوء ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة ، وقال ابن برجان : خصهم - أي بني إسرائيل - بالذكر لأنهم المفتونون بالدجال المسارعون إليه ، ثم قال : وإنما المثل في ذلك متى جاء الدجال بتلك الآيات يدعو إلى نفسه فيعارض ما يأتي به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وتأييده بروح القدس ، أي فيضل عن الأمر الواضح من أراد الله فتنته - انتهى ، والأحسن أن يكون معنى كونه مثلاً أنه جعل أمره واضحاً جداً بحيث أنه يمثل به فيكون موضحاً لغيره ، ولا يحتاج هو إلى مثل يوضحه عند من له أدنى بصيرة .
ولما كان التقدير : فلو شئنا لجعلنا الناس كلهم من أنثى بلا ذكر ، ولو شئنا لساويناكم بهم في ذلك الذي ضربناه عليهم من الذل عندما جعلوا له مثل السوء فزدنا ما أنتم فيه من الذل والحقارة عن سائر الأمم بأن سلطانهم عليكم حتى استباحوكم ، ولو شئنا لمحوناكم أجمعين عن وجه الأرض فتركناها بيتاً؟ لا أنيس بها ، عطف عليه قوله : { ولو } معبراً بصيغة المضارع إشارة إلى دوام قدرته على تجديد الإبداع فقال : { نشاء لجعلنا } أي على ما لنا من العظمة ما هو أغرب مما صنعناه في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام { منكم } أي جعلاً مبتدئاً منكم ، إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى من غير ذكر وجعلنا آدم عليه الصلاة والسلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر وإما بالبدلية { ملائكة في الأرض يخلفون * } أي يكونون خلفاً لكم شيئاً بعد شيء بعد إعدامكم فجعلناهم مثلاً لكم كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لبني إسرائيل ، ويجوز أن يكون المعنى : لجعلنا بعضكم ملائكة بأن نحول خلقتهم فنجعلهم خلفاً لمن تحولوا عنهم ونخلف بعضهم بعضاً ، فإنهم من جملة عبادنا أجسام تقبل التوليد كما تقبل الإبداع ، وعلى كلا التقديرين فذلك إشارة إلى أن الملائكة ذوات ممكنة من جملة عبيده سبحانه ، يصرفهم في مراده إن شاء في السماء ، وإن شاء في الأرض ، لا شيء منكم إلا وهو بعيد جداً عن رتبة الإلهية إرشاداً لهم إلى الاعتقاد الحق في أمره سبحانه بشمول قدرته وكمال علمه اللازم منه أنه لا إله إلا هو .
ولما ذكر سبحانه الإعدام والخلافة بسببه فرضاً ، ذكر أن إنزاله إلى الأرض آخر الزمان أمارة على إعدام الناس تحقيقاً ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم : { وإنه } أي عيسى عليه الصلاة والسلام { لعلم للساعة } أي نزوله سبب للعلم بقرب الساعة التي هي إعدامه الخلائق كلهم بالموت ، وكذا ما نقل عنه من أنه كان يحيى وكذا إبراؤه الأسقام سبب عظيم للقطع بالساعة التي هي القيامة ، فهو سبب للعلم بالأمرين : عموم الإعدام وعموم القيام .
ولما كان قريش يستنصحون اليهود يسألونهم - لكونهم أهل الكتاب - عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النصارى مثلهم في ذلك ، وكان كون عيسى عليه الصلاة والسلام من أعلام الساعة أمراً مقطوعاً به عند الفريقين ، أما النصارى فيقولون : إنه الذي أتى إليهم ورفع إلى السماء كما هو عندنا ، وأما اليهود فيقولون : إنه إلى الآن لم يأت ، ويأتي بعد ، فثبت بهذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام فيما أخبر الله تعالى عنه من إنعامه عليه ، ومن أنه من أعلام الساعة بشهادة الفرق الثلاثة اليهود والنصارى والمسلمين ثباتاً عظيماً جداً ، فصارت كأنها مشاهدة ، فلذلك سبب عما سبق قوله على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام ، لافتاً القول إلى مواجهتهم مؤكداً في مقابلة إنكارهم لها بما ثبت من شهادة الفرق الثلاثة : { فلا تمترن } أي تشكوا أدنى شك وتضطربوا أدنى اضطراب وتجحدوا أدنى جحد وتجادلوا أدنى جدل { بها } أي بسببها ، يقال : مرى الشيء وامتراه : استخرجه ، ومراه مائة سوط : ضربه ، ومراه حقه ، أي جحده ، والمرية بالضم والكسر : الجدل والشك { واتبعون } أي أوجدوا تبعكم بغاية جهدكم { هذا } أي كل ما أمرتكم به من هذا وغيره { صراط } أي طريق واسع واضح { مستقيم } أي لا عوج فيه .
ولما حثهم على السلوك لصراط الولي الحميد بدلالة الشفوق النصوح الرؤوف الرحيم ، حذرهم من العدو البعيد المحترق الطريد ، فقال دالاً على عظيم فتنته بما له من التزيين للمشتهى والأخذ من المأمن والتلبيس للمشكل والتغطية للخوف بالتأكيد ، لما هم تابعون من ضده على وجه التقليد : { ولا يصدنكم } أي عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي { الشيطان } ولما كان كأنه قيل ما له يصدنا عن سبيل ربنا؟ ذكر العلة تحذيراً في قوله : { إنه لكم } أي عامة ، وأكد الخبر لأن أفعال التابعين لكم أفعال من ينكر عداوته : { عدو مبين } أي واضح العداوة في نفسه مناد بها ، وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب ، عداوة ناشئة عن الحسد ، فهي لا تنفك أبداً .
ولما قدم سبحانه أنه أنعم على عيسى عليه الصلاة والسلام وجعله مثلاً لبني إسرائيل ، ولوح إلى اختلافهم وأن بعضهم نزل مثله على غير ما هو به ، وحذر من اقتدى بهم في نحو ذلك الضلال ، وأمر باتباع الهادي ، ونهى عن اتباع المضل ، صرح بما كان من حالهم حين أبرزه الله لهم على تلك الحالة الغريبة ، فقال عاطفاً على ما تقدم تقديره بعد قوله تعالى { وجعلناه مثلاً } : { ولما جاء عيسى } أي إلى بني إسرائيل بعد موسى عليهما الصلاة والسلام : { بالبينات } أي من الآيات المسموعة والمرئية ، { قال } منبهاً لهم : { قد جئتكم } ما يدلكم قطعاً على أنه آية من عند الله وكلمة منه أيضاً { بالحكمة } أي الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه ولا يدفع إلا بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال .
ولما كان المراد بالحكمة ما نسخ من التوراة وغيره من كل ما أتاهم به ، فكان التقدير : لتتبعوه وتتركوا ما كنتم عليه أمراً خاصاً هو من أحكم الحكمة فقال : { ولأبين لكم } أي بياناً واضحاً جداً { بعض الذي تختلفون } أي الآن { فيه } ولا تزالون تجددون الخلافة بسببه ، وهذا البعض الظاهر بما يرشد إليه ختام الآية أنه المتشابه الذي كفروا بسببه بينه بياناً يرده إلى المحكم ، ويحتمل أن يكون بعض المتشابه ، وهو ما يكون بيانه كافياً في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه ، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه ، فالمحكم ما لا لبس فيه ، والمتشابه ما يكون ملبساً ، وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة التي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب فالصادق الذي رسخ علماً وإيماناً يرد المتشابه منه إلى المحكم ، أو يعجز فيقول : الله أعلم ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، ولا يتزلزل ، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره فيشبه كأهل الاتحاد الجوامد المفتونين بالمشاهدة ويؤول بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن .
ولما صح بهذا أن الذي أرسله الملك الأعلى الذي له الأمر كله ، فهو فعال لما يشاء ، وكان الحامل على الانتفاع بالرسل عليهم الصلاة والسلام التقوى ، سبب عنه قوله تعالى : { فاتقوا الله } أي خافوه لما له من الجلال بحيث لا تقدموا على شيء إلا ببيان منه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم ، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجوه إلا بإذنه { وأطيعون * } فيما أنقلكم إليه وأبينه لكم مما أبقيكم عليه ، فإني لا آخذ شيئاً إلا عنه ، ولا أتلقى إلا منه ، فطاعتي لأمره بما يرضيه هي ثمرة التقوى ، وكلما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه .
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)
ولما أمرهم بطاعته ، علل ذلك بما أزال تهمته ما يطاع فيه ، فقال مؤكداً لما في أعمالهم من المجاملة المؤذنة بالتكذيب : { إن الله } أي الذي اختص بالجلال والجمال ، فكان أهلاً لأن يتقى { هو } أي وحده { ربي وربكم } نحن في العبودية بإحسانه إلينا وسيادته لنا على حد سواء ، فلولا أنه أرسلني لما خصني عنكم بهذه الآيات البينات { فاعبدوه } بما آمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباع ما ظهر على يدي فصار هو الآمر لا أنا .
ولما كان دعاؤه إلى الله بما لا حظ له عليه الصلاة والسلام فيه دل قطعياً على صدقه ولا سيما وقد اقترن بالمعجزات مع كونه في نفسه في غاية الخفية لا يستطاع بعضه بوجه ، أشار إلى ذلك كله بقوله على وجه الاستنتاج مما مضى مرغباً فيه دالاً على اقتضائه الطاعة { هذا } أي الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه { صراط } أي طريق واسع جداً واضح { مستقيم } لا عوج له .
ذكر ما يدل على أنه أتى بالحكمة من الإنجيل :
قال متى أحد مترجميه الأربعة وقد خلطت تراجمهم وأغلب السياق لمتى : فلما خرج يسوع وجاء إلى نواحي صور وصيدا إذا بامرأة كنعانية - وقال مرقس : يونانية - خرجت من تلك التخوم تصيح وتقول : ارحمني يا رب يا ابن داود! ابنتي بها شيطان رديء ، فلم يجبها بكلمة ، فجاء تلاميذه وسألوه قائلين : اصرف هذه المرأة لأنها تصيح خلفنا ، أجاب وقال لهم : لم أرسل إلا إلى الخراف من بيت إسرائيل ، فأتت وسجدت له قائلة : يا رب أعني فأجاب : ليس هو جيداً أن يؤخذ خبز البنين فيعطى للكلاب ، فقالت : نعم! يا رب ، والكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها ، حينئذ أجاب يسوع وقال لها : يا امرأة عظيمة أمانتك يكون لك كما أردت ، فبرئت ابنتها منه تلك الساعة ، وقال مرقس : فقال لها من أجل هذه الكلمة اذهبي ، قد خرج الشيطان من ابنتك ، فهذبت إلى ابنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها ، فجاؤوا إليه بأخرس أصم فطلبوا إليه أن يضع يده عليه ، فأخرجوه وحده من الشعب ، وترك أصابعه في أذنيه ، وتفل ثم مس لسانه ونظر إلى السماء وشهد وقال : الفاثاً الذي هو التفتح ، وللوقت انفتح سمعه وسمع ، وانحل رباط لسانه وتكلم مستوياً ، ووصاهم أن لا يقولوا لأحد شيئاً فأتاهم فكانوا ينكرون كثيراً ويبهتون جداً ، قائلين : ما أحسن كل شيء! يصنع الخرس يتكلمون والصم يسمعون ، وقال مرقس : ثم جاء إلى بيت صيدا فقدموا إليه أعمى ، وطلبوا منه أن يلمسه ، فأخذ بيد الأعمى ثم أخرجه خارجاً من القرية ، وتفل في عينيه ووضع يده عليه وسأله : ما ينظر؟ قال : أنظر الناس مثل الشجر يمشون ، فوضع يده أيضاً على عينيه ، فأبصر حيناً ونظر إلى كل شيء ظاهراً ، قال : ثم جاء إلى ناحية قيسارية فيلقس فسأل تلاميذه : ماذا يقول الناس في ابن الإنسان؟ فقال قوم : يوحنا المعمدان ، وآخرون : إليا ، وآخرون : إرميا ، وواحد من الأنبياء ، فقال لهم : فأنتم ماذا تقولون؟ أجاب سمعان بطرس - وقال : أنت هو المسيح ، أجاب يسوع وقال له : طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأنه ليس جسد يسعى وأبواب الجحيم لا تقوى عليه ولك أعطي ملكوت السماوات ، وما ربطته الأرض يكون مربوطاً في السماوات ، وما حللته على الأرض يكون محلولاً في السماوات ، وبدأ يسوع من ذلك الوقت يخبر تلاميذه أنه ينبغي أن يمضي إلى يروشليم ويقبل الآماً كثيرة من المشايخ ورؤساء الكهنة والكتبة ، وقال : من أراد أن يخلص نفسه فليهلكها ، وهن أهلك نفسه من أجلي وجدها ، وما ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسان فداء لنفسه ، وقال لوقا : وكان جمع كثير ينطلق فالتفت لهم وقال لهم : من يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته نعم حتى نفسه ، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً ، من منكم يريد أن يبني برجاً ولا يجلس أولاً ويحسب نفقته؟ وهل له ما يكمله لكيما يستهزىء به كل من ينظره إذا وضع الأساس ولم يقدر على إكماله ، وأي ملك يخرج إلى محاربة ملك آخر فلا يجلس أولاً ويفكر هل يستطيع أن يلقي بعشرة آلاف الموافي إيه في عشرين ألفاً إلا فما دام بعيداً منه يرسل رسلاً رسل سلامة ، وهكذا كل منكم إن لم يرفض كل شيء له لا يقدر أن يكون لي تلميذاً ، وذكر لوقا أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان في وليمة فقال مثلاً لأنهم كانوا يتخيرون المتكآت فقال لهم : متى دعاك أحد إلى عرس فلا تجلس في أول الجماعة ، فلعله قد دعا هناك أكرم منك عليه فيأتي الذي دعاه فيقول له : يا حبيب! ارتفع إلى فوق ، حينئذ يكون لك مجداً قدام المتكئين معك لأن كل من يرتفع يتضع ، وكل من يتضع يرتفع ، وقال للذي دعاه : وإذا صنعت وليمة فلا تدع أحباءك ولا إخوتك ولا أقاربك ولا أغنياء جيرانك لعلهم أن يدعوك أيضاً فيكون لك مكافأة ، لكن إذا صنعت طعاماً فادع المساكين والعور والضعفاء والعميان ، وطوباك لأنه ليس لك ما يكافئونك ، ومجازاتك تكون في قيامة الصديقين ، فسمع واحد من المتكئين ذلك ، فقال له : طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله ، وقال متى : وجاء تلاميذ يسوع إليه وقالوا له : من هو العظيم في ملكوت السماوات ، فدعا طفلاً وأقامه بينهم وقال : الحق أقول : إن لم ترجعوا وتكونوا مثل الصبيان لا تدخلوا ملكوت السماوات ، ومن اتضع مثل هذا الصبي فهو العظيم في ملكوت السماوات ، ومن قبل صبياً مثل هذا باسمي فقد قبلني ، قال مرقس : ومن قبلني فليس يقبلني فقط بل والذي أرسلني ، وقال لوقا : ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني ، والذي هو الصغير فيكم هو الأكبر ، قال متى : ومن شك أحد هؤلاء الصغار المؤمنين فخير أن يعلق حجر الرحى في رقبته ، ويغرق في البحر ، الويل للعالم من الشكوك لكمن الويل للإنسان الذي يأتي منه الشكوك ، إن شكتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك ، فخير لك أن تدخل الحياة وأنت أعرج أو أعشم من أن يكون لك يدان أو رجلان وتلقى في نار الأبد ، وقال مرقس : وتذهب إلى جهنم حتى لا تطفأ نارها ولا يموت دورها - انتهى .
وإن شكتك عينك فاقلعها وألقها عنك فخير لك أن تدخل الحياة بعين واحدة من أن يكون لك عينان وتلقى في جهنم ، وقال مرقس : وكل شيء بالنار يملح وكل ذبيحة تملح بالملح جيد هو الملح ، فإن فسد الملح فبما ذا يملح فليكن فيكم الملح ، ويكون سلام بعضكم بعضاً ، وقال لوقا : ثم قال : من أجل أقوام يقولون : إنهم صديقون ويحقرون البقية ، هذا المثل رجلان صعدا إلى الهيكل ليصليا ، أحدهما فريسي والآخر عشار ، فأما الفريسي فإنه كان يصلي بهذا في نفسه : اللهم إني أشكرك لأني لست مثل سائر الناس العاصين الظلمة الفجار ، ولا مثل هذا العشار ، فكان قائماً من بعيد ولا يرى أن يرفع عينيه إلى السماء ، وكان يضرب على صدره ويقول : اللهم اغفر لي فإني خاطئ ، أقول لكم : إن هذا نزل إلى بيته أمر من ذلك لأن كل من يرفع نفسه يتضع ، ولك من يضع نفسه يرتفع ، ثم قدم إليه صبيان ليضع يده عليهم ، فلما نظرهم التلاميذ نهروهم فقال : دعوا الصبيان يأتوا إليّ ولا تمنعوهم لأن ملكوت الله لمثل هؤلاء ، الحق أقول لكم ، إن من لا يقبل ملكوت الله مثل صبي لا يدخلها ، وقال متى : انظروا لا تحقروا أحد هؤلاء الصغار ، لم يأت ابن الإنسان إلا ليطلب ويخلص من كان ضالاً ، ماذا تظنون إذا كان الإنسان مائة خروف فضل منها واحد ليس يترك التسعة والتسعين في الجبل ، ويمضي يطلب الضال؟ وقال لوقا : حتى يجده ، الحق أقول لكم ، إنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل ، هكذا ليس مشيئة ربي الذي في السماوات أن يهلك أحد من هؤلاء الصغار ، وقال لوقا : ودنا منه العشارون والخطأة ليسمعوا منه فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين : هذا يقبل الخطأة ويأكل معهم ، فقال لهم : أي رجل منكم له مائة خروف فيتلف واحد منها ليس يترك التسعة والتسعين في البرية ويمضي إلى الضال حتى يجده ، فإذا وجده حمله على منكبيه فرحاً ، ويأتي به إلى بيته ويدعو أصدقاءه وجيرانه ويقول لهم : افرحوا معي لوجودي خروفي الضال ، أقول لكم : إنه يكون فرح في السماء بخاطىء واحد يتوب أكثر من التسعة والتسعين الصديق الذين لا يحتاجون إلى توبة ، وأي امرأة لها عشرة دراهم يتلف واحد منها أليس توقد سراجاً وتكنس بيتها وتطلبه مجتهدة حتى تجده ، فإذا وجدته دعت أحبابها وجاراتها قائلة : افرحوا لي لوجودي درهمي الضال ، هكذا أقول لكم : يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب ، وقال : إنسان له ابنان فقال الأصغر يا أبتاه! أعطني نصيبي من مالك فقسم بينهما ماله ، وبعد أيام قليلة جمع الأصغر كل شيء له وسافر إلى كورة بعيدة ، وبذر ماله هناك بعيش بذخ ، فلما نفد كل شيء له حدث جوع شديد في تلك الكورة فافتقر وانقطع إلى رجل منها فأرسله إلى حقله يرعى خنازير ، وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله ، فلا يعطى ذلك ، ففكر في نفسه وقال : كم من أجراء أبي يفضل عنهم الخبز وأنا ههنا أهلك جوعاً ، أقوم أمضي إلى أبي وأقول : يا أبتاه! أخطأت في السماء وبين يديك ، ولست بمستحق أن أدعى لك ابناً لكن اجعلني كأحد أجرائك فجاء إليه فنظره أبوه فتحنن وأسرع واعتنقه وقبله فقال : يا أبتاه! أخطأت في السماء وقدامك ، ولست بمستحق أن ادعى لك ابناً ، فقال أبوه لعبيده : قدموا الحلة الأولى وألبسوه وأعطوه خاتماً في يده ، وحذاء في رجليه ، وائتوا بالعجل المعلوف واذبحوه ونأكل ونفرح لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش ، وضالاً فوجد ، فبدؤوا يفرحون ، وكان ابنه الأكبر في الحقل ، فلما جاء وقرب من البيت سمع المزاهر واتفاق الأصوات والرقص ، فدعا واحداً من الغلمة وسأله فقال له : إن أخاك قدم ، وذبح أبوك العجل المعلوف ، فغضب ولم يرد أن يدخل ، فخرج أبوه وطلب إليه فقال : كم لي من سنة أخدمك ولم أخالف لك وصية قط ولم تعطني جدياً واحداً أتنعم به مع أصدقائي ، فلما جاء ابنك هذا الذي أكل مالك مع الزناة ذبحت له العجل المعلوف ، فقال له : يا بني! أنت معي في كل حين وفي كل شيء هو لي ، وينبغي لك أن تسر وتفرح لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش ، وضالاً فوجد .
وقال : رجل كان غنياً يلبس الأرجوان وكان يتنعم كل يوم ويلذ ، ومسكين كان اسمه العازر مطروحاً عند بابه مضروباً بقروح ، وكان يشتهي أن يشبع من الفتات الذي يسقط من مائدة ذلك الغني ، وكانت الكلاب تأتي وتلطع قروحه ، فلما مات ذلك المسكين أخذته الملائكة إلى حصن إبراهيم ، ومات ذلك الغني وقبو فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب ، فنظر إبراهيم من بعيد والعازر في حصنه ، فنادى : يا أبتاه إبراهيم! ارحمني وأرسل العازر ليبل طرف إصبعه بما يبرد لساني لأني معذب في اللهب ، فقال له إبراهيم : يا ابني اذكر أنك قد قتلت جيرانك في حياتك والعازر في بلائه والآن فهو يستريح ههنا وأنت تعذب ، ومع ذلك فبيننا وبينكم أهوية عظيمة نائية لا يقدر أحد على العبور من ههنا إليكم ، ولا من هنا إلينا ، قال له : أسألك يا أبتاه أن ترسله إلى بيت أبي ، فإن خمسة أخوة لكي يناشدهم لئلا يأتوا إلى موضع هذا العذاب ، قال له إبراهيم : عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا منهم ، فقال له : يا أبتاه إبراهيم! إن لم يمض إليهم واحد من الأموات ما يتوبون؟ فقال له : إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء فليس إن قام واحد من الأموات يصدقونه ، وقال لتلاميذه : سوف تأتي الشكوك والويل ، الذي تأتي الشكوك من قبله خير له لو علق حجر رحى الحماز في عنقه ويطرح في البحر من أن يشك أحداً من هؤلاء الضعفاء - والله أعلم .
ولما كان الطريق الواضح القديم موجباً للاجتماع عليه ، والوفاق عند سلوكه ، بين أنهم سببوا عنه بهذا الوعظ غير ما يليق بهما بقوله : { فاختلف } وبين أنهم أكثروا الاختلاف بقوله : { الأحزاب } أي إنهم لم يكونوا فرقتين فقط ، بل فرقاً كثيرة . ولما كانت العادة أن يكون الخلاف بين أمتين وقبيلتين ونحو ذلك ، وكان اختلاف الفرقة الواحدة عجباً ، بين أنهم من أهل القسم فقال : { من بينهم } أي اختلافاً ناشئاً ابتدأ من بين بني إسرائيل الذين جعلناهم مثلاً لهم : وقال لهم : قد جئتكم بالحكمة ، فسبب عن اختلافهم قوله : { فويل } وكان أن يقال : لهم ، ولكنه ذكر الوصف الموجب للويل تعميماً وتعليقاً للحكم به . ولما كان في سياق الحكمة ، وهو وضع الشيء في أتقن مواضعه ، جعل الوصف الظلم الذي أدى إليه الاختلاف فقال : { للذين ظلموا } أي وضعوا الشيء في غير موضعه مضادة لما أتاهم صلى الله عليه وسلم به من الحكمة { من عذاب يوم أليم } أي مؤلم ، وإذا كان اليوم مؤلماً لما الظن بعذابه .
ولما عم الظالمين بالوعيد بذلك اليوم فدخل فيه قريش وغيرهم ، أتبعه ما هو كالتعليل مبرزاً له في سياق الاستفهام لأنه أهول فقال : { هل } وجرد الفعل إشارة إلى شدة القرب حتى كأنه بمرأى فقال : { ينظرون } أي ينتظرون { إلا الساعة } أي ساعة الموت العام والبعث والقيام ، فإن ذلك لتحقق أمره كأنه موجود منظور إليه .
ولما قدم الساعة تهويلاً تنبيهاً على أنها لشدة ظهور دلائلها كأنها مرئية بالعين هزاً لهم إلى تقليب أبصارهم لتطلب رؤيتها ، أبدل منها زيادة في التهويل قوله تعالى : { أن تأتيهم } وحقق احتمال رؤيتها بقوله : { بغتة } ولما كان البعث قد يطلق على ما يجهل من بعض الوجوه ، أزال هذا الاحتمال بقوله : { وهم لا يشعرون } أي لا يحصل لهم بعين الوقت الذي يجيء نوع من أنواع العلم ، ولا بما كالشعرة منه .
ولما كانت الساعة تطلق على الحبس بالموت وعلى النشر بالحياة ، بين ما يكون في الثاني الذي هم له منكرون من أحوال المبعوثين على طريق الاسئتناف في جواب من يقول : هل يقومون على ما هم عليه الآن؟ فقال : { الأخلاء } أي في الدار { يومئذ } أي إذ تكون الساعة وهي ساعة البعث التي هي بعض مدلول الساعة { بعضهم لبعض عدو } ولما ينكشف لهم من أن تأخيرهم في الحياة هو السبب في عذابهم ، فيقول التابع للمتبوع : أنت غررتني فضررتني ، ويقول المتبوع : بل أنت كبرتني فصغرتني ، ورفعتني فوضعتني ، ونحو هذا من الكلام المؤلم أشد الإيلام { إلا المتقين } الذين تقم أمرهم بالتقوى وحثهم عليها .
ولما أفهم هذا أنهم لا عداوة بينه ، بل يكونون في التواد على أضعاف ما كانوا عليه في الدنيا لما ظهر لهم من توادهم فيها وتناصرهم هو أفضى بهم إلى الفوز الدائم برضوان الله ، وصل به حالاً بين فيها ما يتلقاهم به من تواد فيه سبحانه تشريفاً لهم وتسكيناً لما يقتضيه ذلك المقام من الأهوال : { يا عباد } أي مقولاً لهم هذا ، فخص بالإضافة إليه كما خصوه بالعبادة { لا خوف } أي بوجه من الوجوه { عليكم اليوم } أي في الآخرة مما يحويه ذلك اليوم العظيم من الأهوال والأمور الشداد والزلازل { ولا أنتم تحزنون } أي لا يتجدد لكم حزن على شيء فات في وقت من الأوقات الآتية لأنكم لا يفوتكم شيء تسرون به .
ولما ناداهم بما يطمع فيه سائر أهل الموقف لأن كل حزب يقولون : نحن عباده ، خص المرادين بما يوئس غيرهم ولئلا يكون الوصف بالتقوى موقفاً لمن سمعه اليوم من الكفار عن الدخول وكانوا لا يستطيعون ذلك ، فوصف سبحانه المتقين بما يهون الوصول إلى درجتهم على غيرهم فقال : { الذين آمنوا } أي أوجدوا هذه الحقيقة { بآياتنا } الظاهر عظمتها في نفسها أولاً وبنسبتها إلينا ثايناً { وكانوا } أي دائماً بما هو لهم كالجبلة والخلق { مسلمين } أي منقادين للأوامر والنواهي أتم انقياد ، فبذلك يصلون إلى حقيقة التقوى التامة .
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)
ولما ذكر ما لهم بشارة لهم وترغيباً لغيرهم في اللحاق بهم على وجه فيه إجمال ، شرح ذلك بقوله : { ادخلوا الجنة } ولما كانت الدار لا تكمل إلا بالرفيق السار ، قال تعالى : { أنتم وأزواجكم } أي نساؤكم اللاتي كن مشاكلات لكم في الصفات ، وأما قرناؤهم من الرجال فدخلوا في قوله { كانوا مسلمين } { تحبرون } أي تكرمون وتزينون فتسرون سروراً يظهر أثره عليكم مستمراً يتجدد أبداً .
ولما كان هذا أمراً سائقاً إلى حالهم سابقاً لمن كان واقفاً عنهم إلى وصالهم ، أقبل على ما لعله يوقفه الاشتغال بلهو أو مال محركاً لما جهل منه ، ومنبهاً على ما غفل عنه ، فقال عائداً إلى الغيبة ترغيباً في التقوى : { يطاف عليهم } أي المتقين الذين جعلناهم بهذا النداء ملوكاً { بصحاف } جمع صحفة وهي القصعة { من ذهب } فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم .
ولما كانت آنية الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل ، جرى على ذلك المعهود ، فعبر بجمع القلة في قوله : { وأكواب } جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له ، قد تفوق عن شيء منه اليد أو الشفقة أو يلزم منها بشاعة في شيء من دائر الكوز ، وإيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتزيد أوصافه عن أذى أو نحو ذلك .
ولما رغب فيها بهذه المغيبات ، أجمل بما لا يتمالك معه عاقل عن المبادرة إلى الدخول فيما يخصها فقال : { وفيها } أي الجنة . ولما كانت اللذة محصورة في المشتهى قال تعالى : { ما تشتهيه الأنفس } من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة وغيرها جزاء لهم على ما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا ، ولما كان ما يخص المبصرات من ذلك أعظم ، خصها فقال : { وتلذ الأعين } من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم تعالى ، جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق .
ولما كان ذلك لا يكمل طيبه إلا بالدوام ، قال عائداً إلى الخطاب لأنه أشرف وألذ مبشر لجميع المقبلين على الكتاب ، والملتفت إليهم بالترغيب في هذا الثواب ، بشارة لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام بما قدمه في أول السورة وأثنائها من بلوغ قومه نهاية العقل والعلم والموصلين إلى أحسن العمل الموجب للسعادة : { وأنتم فيها خالدون } لبقائها وبقاء كل ما فيها ، فلا كلفة عليكم أصلاً من خوف من زوال ولا حزن من فوات .
ولما كان التقدير : الجنة التي لمثلها يعمل العاملون ، عطف عليه قوله مشيراً إلى فخامتها بأداة البعد : { وتلك الجنة } أي العالية المقام { التي } ولما كان الإرث أمكن للملك ، وكان مطمح النفوس إلى المكنة في الشيء مطلقاً لا يبعد ، بني للمفعول قوله تعالى : { أورثتموها } ولما كان ما حصله الإنسان بسعيه ألذ في نفسه لسرورة بالتمتع به وبالعمل الذي كان من سببه ، قال تعالى : { بما } وبين أن العمل كان لهم كالجبلة التي جبلوا عليها ، فالمنّة لربهم في الحقيقة بما زكى لهم أنفسهم بقوله : { كنتم تعملون } أي مواظبين على ذلك لا تفترون .
ولما كان الأكل أعم الحاجات وأعم الطلبات ، قال تعالى مبيناً أن جميع أكلهم تفكه ليس فيه شيء تقوتاً لأنه لا فناء فيها لقوة ولا غيرها لتحفظ بالأكل ولا ضعف { لكم فيها فاكهة } أي ما يؤكل تفكهاً وإن كان لحماً وخبزاً . ولما كان ما يتفكه في الدنيا قليلاً قال تعالى : { كثيرة } ودل مع الكثرة على دوام النعمة بقصد التفكه بكل شيء فيها بقوله : { منها } أي لا من غيرها مما يلحظ فيه التقوت { تأكلون } فلا تنفد أبداً ولا تتأثر بأكل الآكلين لأنها على صفة الماء النابع ، لا يؤخذ منه شيء إلا خلف مكانه مثله أو أكثر منه في الحال .
ولما ذكر ما للقسم الثاني من الإخلاء وهم المتقون ترغيباً لهم في التقوى ، أتبعه ما لأضدادهم اهل القسم الأول تحذيراً من مثل أعمالهم ، فقال استئنافاً مؤكداً في مقابلة إنكارهم : { إن المجرمين } أي الراسخين في قطع ما أمر الله به أن يوصل { في عذاب جهنم } أي النار التي من شأنها لقاء داخلها بالتجهم والكراهة والعبوسة كما كان يعمل عند قطعه لأولياء الله تعالى { خالدون } لأن إجرامهم كان طبعاً لهم لا ينفكون عنه أصلاً ما بقوا .
ولما بين إحاطته بهم إحاطة الظرف بمظروفه ، وكان من المعلوم أن النار لا تفتر عمن لابسته إلا بمفتر بمنعها بماء يصبه عليها أو تقليل من وقودها أو غير ذلك خرقاً للعادة ، بين أن لا يعتريها نقصان أصلاً كما يعهد في عذاب الدنيا لأنهم هم وقودها فقال تعالى : { لا يفتر عنهم } أي يقصد إضعافه بنوع من الضعف ، فنفي التفتير نفي للفتور من غير عكس ، قال البيضاوي : وهو من فترت عنه الحمى - إذا سكنت ، والتركيب للضعف .
ولما كان انتظار الفرج مما يخفف عن المتضايق ، نفاه بقوله : { وهم فيه مبلسون * } أي ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج .
ولما كان ربما ظن من لا بصيرة له أن هذا العذاب أكبر وأكثر مما يستحقونه ، أجاب سبحانه بقوله ليزيد عذابهم برجوعهم باللائمة على نفسوهم ووقوعهم في منادمات الندامات : { وما ظلمناهم } نوعاً من الظلم لأنه تعالى مستحيل في حقه الظلم { ولكن كانوا } جبلة وطبعاً وعملاً وصنعاً دائماً { هم } أي خاصة { الظالمين } لأنهم بارزوا المنعم عليهم بالعظائم ونووا أنهم لا ينفكون عن ذلك بقوا ، والأعمال بالنيات ، ولو كانوا يقدرون على أن لا يموتوا لما ماتوا .
ولما كان من مفهوم الإبلاس السكوت ، أعلم بأن سكوتهم ليس دائماً لأن الإنسان إذا وطن نفسه على حالة واحدة ربما خف عنه بعد الألم ، فقال مبيناً أنهم من البعد بمحل كبير لا يطمعون معه في خطاب الملك ، وأنهم مع علمهم باليأس يعلقون آمالهم بالخلاص كما يقع للمتمنين للمحالات في الدنيا ليكون ذلك زيادة في المهم : { ونادوا } ثم بين أن المنادي خازن النار فقال مؤكداً لبيان البعد بأداته : { يا مالك } وقراءة « يا مال » للإشارة إلى أن العذاب أوهنهم عن إتمام الكلام ، ولذا قالوا : { ليقض علينا } أي سله سؤالاً حتماً أن القضاء الي لا قضاء مثله ، وهو الموت على كل وحد منا ، وجروا على عادتهم في الغباوة والجلافة فقالوا : { ربك } أي المحسن إليك فلم يروا لله عليهم إحساناً وهم في تلك الحالة ، فلا شك أن إحسانه ما انقطع عن موجود أصلاً ، وأقل ذلك أنه لا يعذب أحداً منهم فوق استحقاقه ، ولذلك جعل النار دركات كما كانت الجنة درجات ، ويجوز أن تكون عبارتهم بذلك تغييظاً له بما رأوا من ملابسة النار من تأثير فيه ، ونداؤهم لا ينافي إبلاسهم لأنه السكوت عن يأس ، فسكوتهم المقيد باليأس دائم ، فلذلك سألوا الموت ، والحاصل أنهم لا يتكلمون ما يدل على رجاء الفرج بل هم ساكتون أبداً عن ذلك .
. . اليأس لا على رجاء الفرج باللحاق برتبة المتقين .
ولما ذكر نداءهم ، استأنف ذكر جوابهم بقوله : { قال } أي مالك عليه الصلاة والسلام مؤكداً لأطماعهم لأن كلامهم هذا بحيث يفهم الرجاء ويفهم بأن رحمة الله تعالى التي هي موضع الرجاء خاصة بغيرهم { إنكم ماكثون } .
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
ولما ذكر سبحانه الساعة عند عيسى عليه الصلاة والسلام فقال { وإنه لعلم للساعة } وأكد أمرها وشرح بعض أحوالها إلى أن ختم بما دل على انحلال عزائمهم ولين شكائمهم ، وكانوا غير مقرين بذلك ، قال مؤكداً جواباً لمن يبصر بعض البصر فيقول : أحق هذا؟ ويتوقع الجواب : { لقد جئناكم } أي في هذه السورة خصوصاً وجميع القرآن عموماً ، سمى مجيء الرسل مجيئاً لهم لما لمجيئهم من العظمة التي أشارت إليها النون { بالحق } الكامل في الحقية ، ولما كان ظهور حقيته بحيث لا يخفى على أحد ولكن شدة البغض وشدة الحب تريان الأشياء على غير ما هي عليه ، قال إشارة إلى ذلك : { ولكن أكثركم } أي أيها المخاطبون { للحق كارهون * } لما فيه من المنع عن الشهوات فلذلك أنتم تقولون : إنه ليس بحق لأجل كراهتكم فقط ، لا لأجل أن في حقيته نوعاً من الخفاء .
ولما كان هذا خبراً لا جواب فيه لظهور الدلائل وتعالي العظمة إلا الرجوع ، وكان من لا يرجع إنما يريد بمحاربة الإله الأعظم ، قال عادلاً عن الخطاب إنزالاً لهم بالغيبة منزلة البعيد الذي لا يلتفت إليه معادلاً لما تقديره : أرجعوا لما ظهر لهم من الحق الظاهر { أم أبرموا } أي أحكموا { أمراً } في رد أمرنا ومعاداة أوليائنا مع علمهم بأنا مطلعون عليهم .
ولما كان سبحانه مطلعاً بطية أمرهم وغائب سرهم ، سبب عما سأل عنه من إبرامهم ما دل على أنه عالم به وقد أبرم له قبل كونه ما يزيله ويعدمه ويحيله ، على سبيل التأكيد لإنكارهم أن يغلبوا فقال : { فإنا مبرمون } أي دائماً للأمور لعلمنا بها قبل كونها وقدرتنا واختيارنا ، تلك صفتنا التي لا تحول بوجه : العلم والقدرة والإرادة ، لم يتجدد لنا شيء لم يكن .
ولما كان إصرارهم بين العزم على مجاهرة القدير بالمعاداة وبين معاملته وهو عليم بالمساترة والمماكرة في المعاداة والمباكرة والمسالمة والمناكرة قال تعالى : { أم يحسبون أنا } على ما لنا من العظمة المقتضية بجميع صفات الكمال { لا نسمع } ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط بالخفي والجلي ، نسبة كل منهما إليه على السواء ، ذكرهما وقدم من شأنه أن يخفي وهو المكر المشار إليه بالإبرام ، لأن السياق له فقال تعالى : { سرهم } أي كلامهم الخفي ولو كان في الضمائر فيما يعصينا ، ولما كان ربما وقع في الأوهام أن المراد بالسمع إنما هو العلم لأن السر ما يخفى وهو يعم ما في الضمائر وهي مما يعلم ، حقق أن المراد به حقيقته بقوله : { ونجواهم } أي كلامهم المرتفع حتى كأنه على نجوة أي مكان عال ، فعلم أن المراد حقيقة السمع ، وأنه تعالى يسمع كل ما يمكن أن يسمع ولو لم يكن في قدرتنا نحن سماعه ، فنكون فيه كالأصم بالنسبة إلى ما نسمعه نحن من الجهر ولا يسمعه هو لفقد قوة السمع فيه ، لا لأنه مما من حقه ألا يسمع .
ولما كان إنكار عدم السماع معناه السماع ، صرح به فقال : { بلى } أي نسمع الصنفين كليهما على حد سواء { ورسلنا } وهم الحفظة من الملائكة على ما لهم من العظمة بنسبتهم إلينا . ولما كان حضور الملائكة معنا وكتابتهم لجميع أعمالنا على وجه لا نحس به نوع أحساس أمراً هو في غاية الغرابة ، قال معبراً بلدى التي يعبر بها عبر اشتداد الغرابة : { لديهم يكتبون } أي يجددون الكتابة كلما تجدد ما يقتضيها لأن الكتابة أوقع في التهديد ، لأن من علم أن أعماله محصاة مكتوبة تجنب ما يخاف عاقبته .
ولما تقدم أول السورة تبكيتهم والتعجيب منهم في ادعاءهم لله ولداً من الملائكة وهددهم بقوله { ستكتب شهادتهم ويسألون } وذكر شبههم في قولهم { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } وجهلهم فيها بقوله { ما لهم بذلك من علم } ونفى أن يكون لهم على ذلك دليل سمعي بقوله منكراً موبخاً { أم آتيناهم كتاباً } ومر في توهية أمرهم في ذلك وغيره بما لاحم بعضه بعضاً على ما تقدم إلى ما تمم نفي الدليل السمعي على طريق النشر المشوش بقوله تعالى { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } ، ونظم به ما أتى به رسوله أهل الكتاب مما يصدق ما أتى به كتابنا من التوحيد وما هدد به من أعراض عنه إلى أن أخبر أنه الحق الذي لا زوال أصلاً لشيء منه ، وأن رسله سبحانه تكتب جميع أعمالهم من شهادتهم في الملائكة وغيرها ، أعاد الكلام في إبطال شبهتهم في أن عبادتهم لهم لو كانت ممنوعة لم يشأها الذي له عموم الرحمة لأن عموم رحمته يمنع على زعمهم مشيئة ما هو محرم ، فقال بعد أن نفى قوله { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } أن يكون لهم دليل سمعي على أحد من رسله عليهم الصلاة والسلام : { قل إن كان للرحمن } أي العام الرحمة { ولد } على ما زعمتم ، والمراد به الجنس لادعائهم في الملائكة ، وغيرهم في غيرهم ، وقراءة حمزة والكسائي بضم ثم سكون على أنه جمع على إرادة الكثرة . ولما كان المعنى : فأنا ما عبدت ذلك الولد ولا أعبده ، ولو شاء الرحمن ما تركت عبادته ، ولكنه شاء تركي لها وشاء فعلكم لها ، فإحداهما قطعاً مشيئة للباطل ، وإلا لاجتمع النقيضان بأن يكون الشيء حقاً باطلاً في حال واحد من وجه واحد ، وهو بديهي الاستحالة ، فبطلت شبهتكم بدليل قطعي - هكذا كان الأصل ، ولكنه عدل عنه إلى ما يفيد معناه وزيادة أنه يعبد الله مخلصاً ولا يعبد غيره ، أنه لا يستحق اسم العبادة إلا ما كان له خالصاً ، فقال : { فأنا } أي في الرتبة { أول العابدين * } للرحمن ، العبادةَ التي هي العبادة ولا يستحق غيرها أن يسمى عبادة وهي الخالصة ، أي فأنا لا أعبد غيره لا ولداً ولا غيره ، ولم يشأ الرحمن لي أن أعبد الولد ، أو يكون المعنى : أنا أول العابدين للرحمن على وجه الإخلاص ، لم أشرك به شيئاً أصلاً في وقت من الأوقات مما سميتموه ولداً أو شريكاً أو غيره ، ولو شاء ما عبدته على وجه الإخلاص ، ولا شك عندكم وعند غيركم أن من أخلص لأحد كان أولى من غيره برحمة ، فلو أن الإخلاص له ممنوع ما شاء لي ، ولولا أن عبادة غيره ممنوعة لشاءها لي ، ولو أن له ولداً لشاء لي عبادته ، فإن عموم رحمته لكافة خلقه لكونهم خلقه وخصوصها بي لكوني عبده خالصاً له يمنع على زعمكم من أن يشقيني وأنا أخلص له ، فبطلت شبهتكم بمثلها بل أقوى منها ، وهذا مما علق بشيء هو بنقيضه أولى ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن « أن » نافية بمعنى : ما ينبغي أي ما كان له ولد ، فإني أول من عبده رتبة وما علمت له ولداً ، ولو كان له ولد لعلمته فعبدته تقرباً إليه بعبادة ولده .
ولما بطلت الشبهة على تقدير ببرهان ، وعلى آخر بشبهة أقوى منها ، وظهر الأمر واتضح الحق في أنه سبحانه يشاء لشخص فعل شيء ولآخر عدم فعل ذلك الشيء وفعل ضده أو نقيضه ، ومن المعلوم قطعاً أنه لا يكون فعل النقيضين ولا الضدين في آن واحد حقاً من وجه واحد ، فعرف بذلك أن العبرة في الحلال والحرام بأمره ونهيه لا بإرادته ، وأنه لولا ذلك لما علم أنه فاعل بالاختيار يخص من يشاء من عباده بما يشاء بعد أن عمهم بما شاء ، كان موضع التنزيه عما نسبوه إليه من الباطل ، فقال منزهاً على وجه مظهر أنه لا يصح أن ينسب إليه ولد أصلاً : { سبحان رب } أي مبدع ومالك { السماوات } ولما كان المقام للتنزيه وجهة العلوية أجدر ، لأنه أبعد عن النقص والنقيض ، ولم يقتض الحال إعادة لفظ الرب بخلاف ما يأتي آخر الجاثية ، فإنه لإثبات الكمال ونظره إلى جميع الأشياء على حد سواء فقال : { والأرض } أي اللتين كل ما فيهما ومن فيهما مقهور مربوب محتاج لا يصح أن يكون له منه سبحانه نسبة بغير العبودية بالإيجاد والتربية .
ولما كانت خاصة الملك أن يكون له ما لا يصل إليه غيره بوجه أصلاً ، قال محققاً لملكه لجميع ما سواه ومن سواه وملكه له ، ولم يعد العاطف لأن العرش من السماوات : { رب العرش } أي المختص به لكونه خاصة الملك الذي وسع كرسيه السماوات والأرض { عما يصفون } من أنه له ولد أو شريك .
ولما حصحص الحق لمعت في الموجود كله أعلام الصدق بعد بطلان شبهتهم وبيان أغلوطتهم ، عرف أنهم فاعلون بوضع الأشيء في غير مواضعها فعل الخائض اللاعب ، فقال مسبباً عن ذلك : { فذرهم } أي اتركهم على أسوأ أحوالهم { يخوضوا } أي يفعلوا فعل الخائض في الماء في وضع رجله التي هي عماده فيما لا يعرفه ، وقد لا يرضاه لكونه لا علم له به { ويلعبوا } أي يفعلوا فعل اللاعب في انهماكه في فعل ما ينقصه ولا يزيده { حتى يلاقوا } أي يفعلوا بتصريم أعمارهم في فعل ما لا ينفعهم فعل المجتهدين في أن يلقوا { يومهم الذي يوعدون * } بوعد لا خلف فيه فيظهر فيه وعيدهم ويحق تهديدهم .
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
ولما نزهه سبحانه عن الولد ودل على ذلك بأنه مالك كل شيء وملكه ، وكان ذلك غير ملازم للألوهية ، دل على أنه مع ذلك هو الإله لا غيره في الكونين بدليل بديهي يشترك في علمه الناس كلهم ، وقدم السماء ليكون أصلاً في ذلك يتبع لأن الأرض تبع لها في غالب الأمور ، فقال دالاً على أن نسبة الوجود كله إليه على حد سواء لأنه منزه عن الاحتياج إلى مكان أو زمان عاطفاً على ما تقديره : تنزه عما نسبوه إليه الذي هو معنى { سبحان } : { وهو الذي } هو { في السماء إله } أي معبود لا يشرك به شيء { وفي الأرض إله } توجه الرغباب إليه في جميع الأحوال ، ويخلص له في جميع أوقات الأضطرار ، فقد وقع الإجماع من جميع من في السماء والأرض على إلهيته فثبت استحقاقه لهذه الرتبة وثبت اختصاصه باستحقاقها في الشدائد فباقي الأوقات كذلك من غير فرق لأنه لا مشارك له في مثل هذا الاستحقاق ، فعبادة غيره باطلة ، قال في القاموس : أله - أي بالفتح - إلاهة وألوهة وألوهية : عبد عبادة ، ومنه : لفظ الجلالة - وأصله : إله بمعنى معبود وكل ما اتخذ معبوداً فهو إله عند متخذه ، وأله كفرح : تحير ، فقد علم من هذا جواز تعلق الجار بإله .
ولما كان الإله لا يصلح للألوهية إلا إذا كان يضع الأشياء في محلها بحيث لا يتطرق إليه فساد ، ولا يضرها إفساد مفسد ، وكان لا يكون كذلك إلا بالغ العلم قال : { وهو الحكيم } أي البليغ الحكمة ، وهي العلم الذي لأجله وجب الحكم من قوام من أمر المحكوم عليه في عاجلته وآجلته ، ولما كانت الحكمة العلم بما لأجله وجب الحكم قال تعالى : { العليم } أي البالغ في علمه إلى حد لا يدخل في عقل العقلاء أكثر من وصفه به على طريق المبالغة ولو وسعوا أفكارهم وأطالوا أنظارهم لأنه ليس كمثله شيء في ذاته ولا صفة من صفاته ليقاس به ، وكل من ادعى فيه أنه شريك له لا يقدر من أشرك به أن يدعي له ما وصف به من الإجماع على ألوهيته ومن كمال علمه وحكمه ، فثبت قطعاً ببطلان الشركة بوجه يفهمه كل أحد ، فلا خلاص حينئذ إن خالف كائناً من كان ، وإذا قد صح أنه الإله وحده وأنه منزه عن شريك وولد وكل شائبة نقص كان بحيث لا يخاف وعيده ، فلا يخوض ولا يعلب عبده ، ومن خاض منهم أو لعب فلا يلومن إلا نفسه ، فإن عمله محفوظ بعلمه فهو مجاز عليه بحكمته .
ولما نزه ذاته الأقدس وأثبت لنفسه استحقاق الإلهية بالإجماع من خلقه بما ركزه في فطرهم وهداهم إليه بعقولهم ، أتبع ذلك أدلة أخرى بإثبات كل كمال بما تسعه العقول وبما لا تسعه مصرحاً بالملك فقال : { وتبارك } أي ثبت ثباتاً لا يشبهه ثبات لأنه لا زوال مع التيمن والبركة وكل كمال ، فلا تشبيه له حتى يدعي أنه ولد له أو شريك ، ثم وصفه بما يبين تباركه واختصاصه بالإلهية فقال : { الذي له ملك السماوات } أي كلها { والأرض } كذلك { وما بينهما } وبين كل اثنين منها ، والدليل على هذا الإجماع القائم على توحيده عند الاضطرار .
لما ثبت اختصاصه بالملك وكان الملك لا يكون إلا عالماً بملكه وكان ربما ادعى مدع وتكذب معاند في الملك أو العلم ، قطع الأطماع بقوله : { وعنده } أي وحده { علم الساعة } سائقاً له مساق ما هو معلوم الكون ، لا مجال للخلاف فيه إشارة إلى ما عليها من الأدلة القطعية المركوزة في الفطرة الأولى فكيف يما يؤدي إليه الفكر من الذكر المنبه عليه السمع ، ولأن من ثبت اختصاصه بالملك وجب قبول أخباره لذاته ، وخوفاً من سطواته ، ورجاء في بركاته { وإليه } أي وحده لا إلى غيره بعد قيام الساعة { ترجعون } بأيسر أمر تحقيقاً لملكه وقطعاً للنزاع في وحدانيته ، وقراءة الجماعة وهم من عدا ابن كثير وحمزة والكسائي وورش عن يعقوب بالخطاب أشد تهديداً من قراءة الباقين بالغيب ، وأدل على تناهي الغضب على من لا يقبل إليه بالمتاب بعد رفع كل ما يمكن أن يتسبب عنه ارتياب .
ولما أرشد السياق قطعاً إلى التقدير : فلا شريك له في شيء من ذلك ولا ولده ولا يقدر أحد منهم على التخلف عن الرجوع إليه كما أنه لا يقدر أحد على مدافعة قضائه وقدره ، عطف عليه قوله : { ولا يملك } أي بوجه من الوجوه في وقت ما { الذين يدعون } أي يجعلونهم في موضع الدعاء بعبادتهم لهم ، وبين سفول رتبتهم بقوله تعالى : { من دونه } من أدنى رتبة من رتبته من الأصنام والملائكة والبشر وغيرهم { الشفاعة } أي فلا يكون منهم شفيع كما زعموا أنهم شفعاؤهم { إلا من شهد } أي منهم { بالحق } . أي التوحيد الذي يطابقه الواقع إذا انكشف أتم انكشاف وكذا ما يتبعه فإنه يكون أهلاً لأن يشفع كالملائكة والمسيح عليهم الصلاة والسلام ، والمعنى أن أصنامهم التي ادعوا أنها تشفع لهم لا تشفع غير أنه تعالى ساقه على أبلغ ما يكون لأنه كالدعوى .
ولما كان ذلك مركوزاً حتى في فطر الكفار فلا يفزعون في وقت الشدائد إلا إلى الله ، ولكنهم لا يلبثون أن يعملوا من الإشراك بما يخالف ذلك ، فكأنه لا علم لهم قال : { وهم } أو والحال أن من شهد { يعلمون } أي على بصيرة مما شهدوا به ، فلذلك لا يعملون بخلاف ما شهدوا إلا جهلاً منهم بتحقيق معنى التوحيد ، فلذلك يظنون أنهم لم يخرجوا عنه وإن أشكروا ، أو يكون المعنى : وهم من أهل العلم ، والأصنام ليسوا كذلك ، وكأنه أفرد أولاً إشارة إلى أن التوحيد فرض عين على كل أحد بخصوصه وإن خالفه كل غير ، وجمع ثانياً إيذاناً بالأمر بالمعروف ليجتمع الكل على العلم والتوحيد هو الأساس الذي لا تصح عبادة إلا به ، وتحقيقه هو العلم الذي لا علم يعدله ، قال الرازي في اللوامع : وجميع الفرق إنما ضلوا حيث لم يعرفوا معنى الواحد على الوجه الذي ينبغي إذ الواحد قد يكون مبدأ العدد ، وقد يكون مخالطاً للعدد ، وقد يكون ملازماً للعدد ، والله تعالى منزه عن هذه الواحدات - انتهى .
ففي الآية تبكيت لهم في أنهم يوحدون في أوقات ، فإذا أنجاهم الذي وحدوه جعلوا شكرهم له في الرخاء إشراكهم به ، ومنع لهم من ادعاء هذه الرتبة ، وهي الشهادة بالحق لأنهم انسلخوا بإشراكهم عن العلم ، وأن الملائكة لا تشفع لهم لأن ذلك يؤدي إلى أن تكون قد عملت بخلاف ما تعلم ، وذلك ينتج الانسلاخ من العلم المؤهل للشفاعة ، وقال ابن الجوزي : وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به .
ولما كان التقدير لتقرير وجود إلهيته في الأرض بالاجتماع : فلئن سألتهم من ينجيهم في وقت كروبهم ليقولن : الله ، ليس لمن ندعوه من دونه هناك فعل ، فقال عطفاً عليه : { ولئن سألتهم } أي الكفار { من خلقهم } أي العابدين والمعبودين معاً ، أجابوا بما يدل على عمى القلب الحقيقي المجبول عليه والمطبوع بطابع الحكمة الإلهية عليه ، ولم يصدقوا في جواب مثله بقوله : { إذ سألتهم } : { ليقولن الله } الذي له جميع صفات الكمال هو الذي خلق الكل ليس لمن يدعوه منه شيء ، ولذلك سبب عنه قوله : { فأنّى } أي كيف ومن أي جهة بعد أن أثبتوا له الخلق والأمر { يؤفكون * } أي يقلبون عن وجوه الأمور إلى أقفائها من قالب ما كائناً من كان ، فيدعون أن له شريكاً تارة بالولدية ، وتارة بغيرها ، مع ما ركز في فطرهم مما ثبت به أنه لا شريك له لأن له الخلق والأمر كله .
ولما أبطل سبحانه شبهتهم ووهى غاية التوهية أمرهم في شركهم وادعائهم الولد وغير ذلك مما تضمنته أقوالهم الفاسدة المنسوبة إليهم في هذه السورة ، وأقام حجج الحق ، ونصب براهين الصدق ، وأُبت ما ينفعهم ، وحذرهم ما يضرهم ، حتى ختم ذلك بقوله مقسماً مع جلالة قدره وعظم أمره { لقد جئناكم بالحق } ثم حصر أمرهم في رد ذلك إن ردوه إلى قسمين في حالين : حال مجاهرة وحال مماكرة ، وأخبر أنه لا نجاة لهم على حالة منهما ، وأخبر أن رسله تعالى يكتبون جميع أمورهم ، ذلك مع غناه عن ذلك لعلمه بما يكتبونه من ذلك وغيره مما لا يطلعون ، عليه ، فكان ذلك فخراً عظيماً ملاحماً أشد الملاحمة لما قدمه من شبهتهم في ادعاء الولد فأكد إبطالها وحقق زوالها ، وختم بالتعجيب من حالهم في تركهم وجوه الأمور واتباعهم أقفائها ، وكان من جملة ذلك عملهم عمل من يظن أن الله سبحانه لا يسمع قولهم الموجب لأخذهم وقول رسوله : الموجب لنصره ، عطف على ما مضى من إنكارهم عليهم عدم سماعه لقولهم ، ولما كان اشتدادهم في تكذيبهم ومباعدتهم وعنادهم لا يزداد بمرور الزمان إلا قوة أوقع في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أسفاً ورقة وشفقة عليهم وعطفاً ، وصار يشكو أمرهم إلى ربه شكوى المضطر سراً وعلناً إرادة التيسير في أمرهم والتهوين لشأنهم ، فاختير للتعبير عن هذا المعنى مصدر « قال » المشترك لفظه مع لفظ الماضي المبني للمجهول إشارة إلى أن شكواه بذلك كأنها صارت أمراً ضرورياً له لا اختيار له في قوله فكأنه صار قولاً من غير قائل أو من غير قصد ، لأنه صار حالاً من الأحوال ، ووصل به الضمير من غير تقدم ذكر ، إشارة إلى أن ضميره قد امتلأ بتلك الشفقة عليهم والرحمة لهم ، فقال تعالى عطفاً على سرهم المقدر بعد { بلى } في قوله تعالى : { إنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى } أو يكون معطوفاً على محل الساعة أي « ويعلم قيله » قاله الزجاج ، وعدل في هذا الوجه - وهو قراءة عاصم له وحمزة بالجر فإنه ظاهر في تعلقه بذلك لعطفه على لفظ { الساعة } ، وقرئ شاذاً بالرفع ، ووجهه أن الواو للحال ، أي كيف يصرفون عن اتباع رسولنا الآمر لهم بتوحيدنا في العبادة كما أنا توحدنا بالخلق والحال أن قيله كذا في شكايتهم ، أفيظنون أنا لا ننصره وقد أرسلناه : { وقيله } الذي صار في ملازمته وعدم انفكاكه حالاً من الأحوال ، الدال على وجه قيله وانكسار نفسه بما دلت عليه كسرة المصدر وياؤه المجانسة لها ، والتعبير بقوله : { يا رب } دال على ذلك بما تفيده « يا » الدالة على بعد ، أو تقديره ، والرب الدال على الإحسان والعطف والشفقة والتدبير والسيادة الاختصاص والولاية ، وذلك على غير العادة في دعاء المقربين ، فإنها جارية في القرآن بإسقاط أداة النداء .
ولما كان الإرسال إليهم - والمرسل قادر - مقتضياً لإيمانهم ، أكد ما ظهر له من حالهم بقوله زيادة في التحسر وإشارة إلى أن تأخير أمرهم يدل على أن إيمانهم مطموع فيه : { إن هؤلاء } لم يضفهم إلى نفسه بأن يقول : قومي ، ونحو ذلك من العبارات ولا سماهم باسم قبيلتهم لما ساءه من حالهم ، وأتى بهاء المنبهة قبل اسم على غير عادة الأصل إشارة إلى أن استشعر من نفسه بعداً استصغاراً لها واحتقاراً { قوم } أي أقوياء على الباطل { لا يؤمنون } أي لا يتجدد منهم هذا الفعل .
ولما كان هذا قولاً دالاً على غاية ما يكون من بلوغ الجهد ، تسبب عنه ما يسره بإيمانهم وبلوغهم الرتب العالية التي هي نتيجة ما كان مترجى لهم أول السورة ، وذلك كله ببركته صلى الله عليه وسلم في سياق ظاهره التهديد وباطنه - بالنسبة إلى علمه - البشارة بالتشديد فقال : { فاصفح عنهم } أي اعف عمن أعرض منهم صفحاً فلا تلتفت إليهم بغير التبليغ { وقل } أي لهم : { سلام } أي شأني الآن متاركتكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم { فسوف يعلمون } بوعد لا خلف فيه ، فهذا ظاهره تهديد كبير ، وقراءة المدنيين وابن عامر بالخطاب أشد تهديداً ، وباطنه من التعبير بالصفح عنهم والسلام بشارة لأنهم يصيرون علماء فيفوقون الأمم في العلم بعد أن يفوقهم في العقل - بما أفهمه أول السورة - فيعلون الأمم في المشي على مناهيج العقل ، فللّه دره من آخر عانق الأول ، ومقطع رد إلى المطلع تنزل ، يا ناظم اللآلئ! أين تذهب عن هذا البناء العالي ، وتغفل عن هذا الجوهر الرخص الغالي ، وتضل عن هذا الضياء اللامع الملألىء ، ثم أعلاه فأنزله ، وأغلاه بدر المعاني وفضله .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
فقال : { والكتاب } أي الجامع لكل خير { المبين * } أي البين في نفسه ، الموضح لما تقدم من دقيق البشارة لأهل الصفاء والبصارة ، واضح النذارة بصريح العبارة ، وغير ذلك من كل ما يراد منه ، ولأجل ما ذكر من الاستبعاد أكد جواب القسم وأتى به في مظهر العظمة فقال : { إنا } أي بما لنا من العظمة { أنزلناه } أي الكتاب إما جميعاً إلى بيت العزة في سماء الدنيا أو ابتدأنا إنزاله إلى الأرض { في ليلة مباركة } أي ليلة القدر - قاله ابن عباس رضي الله عنهما أو النصف من شعبان ، فلذلك يتأثر عنه من التأثيرات ما لم تحط به الأفهام في الدين والدنيا ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري : ينزل إلى سماء الدنيا كل سنة بمقدار ما كان جبريل عليه السلام ينزله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك السنة وسماها { مباركة } لأنها ليلة افتتاح الوصلة وأشد الليالي بركة يكون العبد فيها حاضراً بقلبه مشاهداً لربه ، يتنعم فيها بأنوار الوصلة ويجد فيها نسيم القربة ، وقال الرازي في اللوامع : وأعظم الليالي بركة ما كوشف فيها بحقائق الأشياء .
ولما كان هذا موضحاً لما لوح به آخر تلك من البشارة في ظاهر النذارة ، علل الإنزال أو استأنف ما فيه من واضح النذارة الموصل إلى المعاني المقتضية للبشارة ، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم : { إنا } أي على ما نحن عليه من الجلال { كنا } بما لنا من العظمة دائماً لعبادنا { منذرين * } لا نؤاخذهم من غير إنذار ، فلأجل رحمتنا لهؤلاء القوم وهم أرق الناس طبعاً وأصفاهم قلوباً وأوعاهم سمعاً نوصلهم بما هيأناهم به من ذلك إلى ما لم يصل غيرهم إليه ولم يقاربه من المعالي في الأخلاق والشمائل والاكتساب لجميع الفضائل .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة حم السجدة وسورة الشورى من ذكر الكتاب العزيز ما قد أشير إليه مما لم تنطو سورة غافر على شيء منه ، وحصل من مجموع ذلك الإعلام بتنزيله من عند الله وتفصيله وكونه قرآناً عربياً إلى ما ذكر تعالى من خصائصه إلى قوله { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون } [ الزخرف : 44 ] وتعلق الكلام بعد هذا بعضه ببعض إلى آخر السورة ، افتتح تعالى سورة الدخان بما يكمل ذلك الغرض ، وهو التعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا فقال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } ثم ذكر من فضلها فقال { فيها يفرق كل أمر حكيم } فحصل وصف الكتاب بخصائصه والتعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا وتقدم الأهم من ذلك في السورتين قبل ، وتأخر التعريف بوقت إنزاله إلى السماء الدنيا إذ ليس في التأكيد كالمتقدم ، ثم وقع إثر هذا تفصيل وعيد قد أجمل في قوله تعالى { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } وما تقدمه من قوله { أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون } وقوله سبحانه { أم يحسبون أنا نسمع سرهم ونجواهم } وتنزيهه سبحانه وتعالى نفسه عن عظيم افترائهم في جعلهم الشريك والولد - إلى آخر السورة ، ففصل بعض ما أجملته هذه الآي في قوله تعالى في صدر سورة الدخان { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } وقوله تعالى { يوم نبطش البطشة الكبرى } ، والإشارة إلى يوم بدر ، ثم ذكر شأن غيرهم في هذا وهلاكهم بسوء ما ارتكبوا ليشعروا أن لا فارق إن هم عقلوا واعتبروا ، ثم عرض بقرنهم في مقالته ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم ، ثم ذكر تعالى : { شجرة الزقوم } إلى قوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } والتحم هذا كله التحاماً يبهر العقول ، ثم اتبع بذكر حال المتقين جرياً على المطرد من شفع الترغيب والترهيب ليبين حال الفريقين وينتج علم الواضح من الطريقين ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون } وقد أخبره مع بيان الأمر ووضوحه أنه { إنما يتذكر من يخشى } ثم قال { فارتقب } وعدك ووعيدهم { إنهم مرتقبون } .
ولما وصف ليلة إنزال هذا القرآن بالبركة ، وأعلم أن من أعظم بركتها النذارة ، وكانت النذارة مع أنها فرقت من البشارة أمراً عظيماً موجباً لفرقان ما بين المحاسن والمساوىء من الأعمال قائدة إلى كل خير بدليل أن أتباع ذوي البركة من العلماء ، وإذا تعارض عندهم أمر العالم والظالم ، قدموا أمر الظالم لما يخافون من نذارته ، وأهملوا أمر العالم وإن عظم الرجاء لبشارته ، قال معللاً لبركتها بعد تعليل الإنزال فيها ، ومعمماً لها يحصل فيها من بركات التفضيل : { فيها } أي الليلة المباركة سواء قلنا : إنها ليلة القدر أو ليلة النصف أصالة أو مآلاً { يفرق } أي ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة { كل أمر حكيم * } أي محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحى به من الكتب وغيرها والأرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياً في أوقاتها وأماكنها ، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيماناً ، قال البغوي رحمه الله : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر ، والأرزاق والآجال ، قال : وروى أبو الضحى عنه أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان فيسلمها إلى أربابها في ليلة القدر . وقال الكرماني : فيسلمها إلى إلى أربابها وعملها من الملائكة ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان .
ولما كان هذا مفهماً لأمور لا حصر لها ، بين أنه لا كلفة عليه سبحانه فيه ، ولا تجدد عنده في وقت من الأوقات لشيء لم يكن قبل إلا تعليق القدرة على وفق الإرادة ، فقال مؤكداً لفخامة ما تضمنه وصفه بأنه حكيم : { أمراً } أي حال كون هذا كله مع انتشاره وعدم انحصاره أمراً عظيماً جداً واحداً لا تعدد فيه دبرناه في الأزل وقررناه وأتقناه واخترناه ليوجد في أوقاته بتقدير ، ويبرز على ما له من الإحكام في أحيانه في أقل من لمح البصر ، ودل على أنه ليس مستغرقاً لما تحت قدرته سبحانه بإثبات الجار فقال : { من عندنا } أي من العاديات والخوارق وما وراءها .
ولما بين حال الفرقان الذي من جملته الإنذار ، علله بقوله مؤكداً لما لهم من الإنكار : { إنا } أي بما لنا من أوصاف الكمال وكمال العظمة { كنا } أي أزلاً وأبداً { مرسلين * } أي لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في كل حين والإرسال لمصالح العباد ، لا بد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس ، فلا يكون لأحد على الله حجة بعد الرسل ، وهذا الكلام المنتظم والقول الملتحم بعضه ببعض ، المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الإنزال دال على أنه لم تنزل صحيفة ولا كتاب إلا في هذه الليلة ، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها كما بينته في كتابي « مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور » وكذا قوله في سورة القدر { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر } فإن الوحي الذي هو مجمع ذلك هو روح الأمور الحكيمة ، وبين سبحانه حال الرسالات بقوله : { رحمة } وعدل لأجل ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله « منا » إلى قوله : { من ربك } أي المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك ، فإن رسالاتهم كانت لبث الأنوار في العباد ، وتمهيد الشرائع في العباد ، حتى استنارت القلوب ، واطمأنت النفوس ، بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان ، فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الآفاق ، فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق .
ولما كانت الرسالة لا بد فيها من السمع والعلم ، قال : { إنه هو } أي وحده { السميع } أي فهو الحي المريد { العليم * } فهو القدير البصير المتكلم ، يسمع ما يقوله رسله وما يقال لهم ، وكل ما يمكن أن يسمع وإن كان بحيث لا يسمعه غيره من الكلام النفسي وغيره الذي هو بالنسبة إلى سمعنا كنسبة ما تسمعه من الكلام إلى سمع الأصم وسمعه ليس كأسماعنا ، بل هو متعلق بالمسموعات على ما هي عليه قبل وجودها كما أن علمه متعلق بالمعلومات كما هي قبل كونها .
ولما ذكر إنزال الكتاب على تلك الحال العظيمة البركة لأجل الإرسال ، وبين أن معظم ثمرة الإرسال الإنذار لما للمرسل إليهم من أنفسهم من التوراة ، دل على ذلك من التدبير المحكم الذي اقتضته حكمة التربية فقال : { رب } أي مالك ومنشئ ومدبر { السماوات } أي جميع الأجرام العلوية { والأرض } وما فيها { وما بينهما } مما تشاهدون من هذا الفضاء ، وما فيه من الهواء وغيره ، مما تعلمون من اكتساب العباد ، وغيرهما مما لا تعلمون ، ومن المعلوم أنه ذو العرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله .
ولما كانوا مقرين بهذا الربوبية ويأنفون من وصفهم بأنهم غير محققين لشيء يعترفون به ، أشار إلى ما يلزمهم بهذا الإقرار إن كانوا كما يزعمون من التحقيق فقال : { إن كنتم موقنين * } أي إن كان لكم إيقان بأنه الخالق لما ركز في غرائزكم وجبلاتكم رسوخ العلم الصافي السالم عن شوائب الأكدار من حظوظ النفوس وعوائق العلائق ، فأنتم تعلمون أنه لا بد لهذه الأجرام الكثيفة جداً المتعالي بعضها عن بعض بلا ممسك تشاهدونه مع تغير كل منها بأنواع الغير من رب ، وأنه لا يكون وهي على هذا النظام إلا وهو كامل العلم شامل القدرة ، مختار في تدبيره ، حكيم في شأنه كله وجميع تقديره ، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يدع من فيها من العلماء العقلاء الذين هم خلاصة ما فيهما هملاً يبغي بعضهم على بعض من غير رسول معلم بأوامره ، وأحكامه وزواجره ، منبه لهم على أنه ما خلق هذا الخلق كله إلا لأجلهم ، ليحذروا سطواته ويقيدوا بالشكر على ما حباهم به من أنواع هباته .
ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته ، وبعدم اختلال التدبير على طول الزمان وحدانيته ، وبعدم الجري على نظام واحد من كل وجه فعله بالاختيار وقدرته ، صرح بذلك منبهاً لهم على أن النظر الصحيح أنتج ذلك ولا بد فقال تعالى : { لا إله إلا هو } أي وإلا لنازعه في أمرهما أو بعضه منازع ، أو أمكن أن ينازع فيكون محتاجاً لا محالة ، وإلا لدفع عنه من يمكن نزعه له وخلافه إياه ، فلا يكون صالحاً للتدبير والقهر لكل من يخالف رسله والإيحاء لكل من يوافقهم على مر الزمان وتطاول الدهر ومد الحدثان على نظام مستمر ، وحال ثابت مستقر .
ولما ثبت أنه لا مدبر للوجود غيره ، ثبت قوله تعالى : { يحيى ويميت } لأن ذلك من أجل ما فيهما من التدبير ، وهو تنبيه على تمام دليل الوحدانية لأنه لا شيء ممن فيهما يبقى ليسند التدبير إليه ، ويحال شيء من الأمور عليه ، فهما جملتان : الأولى نافية لما أثبتوه من الشركة ، والثانية مثبتة لما نفوه من البعث .
ولما ثبت أنه المختص بالإفاضة والسلب ، وكان السلب أدل على القهر ، ذكرهم ما لهم من ذلك في أنفسهم فقال سبحانه : { ربكم } أي الذي أفاض عليكم ما تشاهدون من النعم في الأرواح وغيرها { ورب آبائكم } ولما كانوا يشاهدون من ربوبيته لأقرب آبائهم ما يشاهدون لأنفسهم ، رقي نظرهم إلى النهاية فقال : { الأولين * } أي الذين أفاض عليهم ما أفاض عليكم ثم سلبهم ذلك كما تعلمون ، فلم يقدر أحد منهم على ممانعة ولا طمع في منازعة بنوع مدافعة .
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
ولما كان أكثرهم منكراً لما لزمه القطع به بهذا البرهان الزاهر والسلطان الظاهر القاهر عناداً ولدداً وإن كان باطنه على غير ذلك ، فكان فعله فعل الشاك اللاعب ، كان التقدير لأجل ما يظهر من حالهم : لكنكم غير موقنين بعلم من العلوم ، بنى عليه قوله مع الصرف إلى الغيبة إعراضاً عنهم أيذاناً بالغضب ، وأنهم أهل للمعاجلة بالعطب : { بل هم } أي بضمائرهم { في شك } لأنهم لا يجردون أنفسهم من شوائب المكدرات لصفاء العلم ، ثم أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن الشاغل لهم عن هذا المهم حال الصبيان مع ادعائهم الكمال بأخلاق الأجلاء من الرجال فقال : { يلعبون * } أي يفعلون دائماً فعل التارك لما هو فيه من أجد الجد الذي لا مرية فيه اللعب الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة له بوجه بعد فعل الشاك بالإعراض وعدم الإسراع إلى التصديق والإيقاض .
ولما كان هذا موضع أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم المفهوم من السياق : فماذا صنع فيهم بعد هذا البيان ، الذي لم يدع لبساً لإنسان؟ سبب عن ذلك قوله تسلية له وتهديداً لهم : { فارتقب } أي انتظر بكل جهد عالياً عليم ناظراً لأحوالهم نظر من هو حارس لها ، متحفظاً من مثلها بهمة كهمة الأسد الأرقب ، والفعل متعد ولكنه قصر تهويلاً لذهاب الوهم في مفعوله كل مذهب ، ولعل المراد في الأصل ما يحصل من أسباب نصرك وموجبات خذلانهم { يوم تأتي السماء } أي فيما يخيل للعين لما يغشي البصر من شدة الجهد بالجوع إن كان المراد ما حصل لهم من المجاعة الناشئة عن القحط الذي سببه قوله صلى الله عليه وسلم « اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف » وروي في الصحيح أن الرجل منهم كان يرى ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان ، وفي الواقع أن المراد عند قرب الساعة وعقب قيامها ، فإنه ورد أنه يأتي إذ ذاك فيغشي الناس ويحصل للمؤمن منه كهيئة الزكام ، ويجوز أن يكون المراد أعم من ذلك كله وأوله وقت القحط وكان آية على ما بعده ، أو منه ما يأتي عند خروج الدخان من القحط الذي يحصل قبله أو غيره كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني قد خبأت لك خبأ فما هو؟ » قال : الدخ ، ففسر بالدخان ، فلذلك قال تعالى : { بدخان مبين } أي واضح لا لبس فيه عند رائية ومبين لما سواه من الآيات للفطن { يغشى الناس } أي المهددين بهذا ، وهم الذين رضوا بحضيض النوس والاضطراب عن أوج الثبات في رتبة الصواب ، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « بادروا بالأعمال ستاً : الدجال والدخان ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة وخويصة أحدكم » .
ولما كان من المعلوم أنهم يقولون عند إتيانه جرياً على عادة جهلهم : ما هذا؟ أجيبوا بقوله تعالى حكاية عن لسان الحال ، أو قول بعضهم أو بعض أولياء الله : { هذا عذاب أليم * } يخلص وجعه إلى القلب فيبلغ في ألمه بما كنتم تؤلمون دعاتكم إلى الله برد مقولهم والاستخفاف باغتراركم بكثرة العدد والقوة والمدد .
ولما كان كأنه قيل : فما قالوا حين تحققوا ذلك؟ قيل : قالوا وقد انحلت عرى تلك العزائم ، ووهت تلك القوى من كل عازم ، وسفلت بعد العو تلك الشوامخ من الهمم مدعين أنهم لغاية الإذعان من أهل القرب والرضوان : { ربنا } أي أيها المبدع لنا والمحسن إلينا { اكشف عنا العذاب } ثم عللوا ذلك بما علموا أنه الموجب كشفه ، فقالوا مؤكدين لما لحالهم من المنافاة لخبرهم : { إنا مؤمنون * } أي عريقون في وصف الإيمان واصلون إلى رتبة الإيقان ، وهذا يصح أن يراد به بعد طلوع الشمس من مغربها ، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها » ثم قرأ الآية ، وإن كان المراد بالعذاب ما حصل من القحط كان هذا الإيمان على سبيل الوعد .
ولما كان كشف الآيات وإظهار العذاب لا يفيد في الدلالة على الحق أكثر مما أفاده الرسول صلى الله عليه وسلم بما أقامه من المعجزات بل إفادة الرسول أعظم ، أجيب من كأنه سأل عن حالهم عند ذلك بقوله معرضاً عن خطابهم ، إيذاناً بدوام مصابهم ، لئلا يظن أنه ما كشف عنهم العذاب إلا لظن أنهم صادقون : { أنى } أي كيف ومن أين { لهم الذكرى } أي هذا التذكر العظيم الذي وصفوا به أنفسهم { وقد } أي والحال أنه قد { جاءهم } ما هو أعظم من ذلك بما لا يقايس { رسول مبين * } أي ظاهر غاية الظهور أنه رسولنا ، وموضح غاية الإيضاح لما جاء به عنا بما أظهر من الآيات ، وغير ذلك من الدلالات .
ولما كان الإعراض عنه مع ماله من العظمة بالبيان استخفافاً به وبمن جاء من بعده ، أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال : { ثم } أي بعد ما له من عليّ الرتبة في نفسه وبالإضافة إلى من أرسله . ولما كانت الفطر الأولى داعية إلى الإقبال على الحق ، نازعة إلى الانقطاع إلى الله والعكوف ببابه ، واللجاء إلى جنابه ، إلا بجهد من النفس في النفور وعلاج دواعي الثبور ، أشار إلى ذلك بالتعبير بصيغة التفعل فقال : { تولوا عنه } أي أطاعوا ما دعاهم إلى الإدبار عنه من دواعي الهوى ونوازع الشهوات والحظوظ { وقالوا } أي زيادة على إساءتهم بالتولي : { معلم } أي علمه غيره من البشر { مجنون * } فلم يبالوا بالتناقض البين الأمر ، وهذا يدل على أن من لا يبالي بعرضه ولا حياء له لا طيب لدائه لأنه لا وجود لدوائه ، وأنه إذا مس بما يلينه ويرده ويهينه لا يؤمن من رجوعه إلى الحال السيىء عند كشف ذلك الضر عنه .
ولما لفت سبحانه الخطاب عنهم إهانة لهم ، بين أن سببه أن داءهم عضال ، فليس له أبداً زوال ، فقال مؤكداً لاستبعادهم زوال ما هم فيه : { إنا } أي على ما لنا من العظمة بالعلم المحيط وغيره { كاشفوا العذاب } أي عنكم بدعاء رسولكم صل الله عليه وسلم في القول بأن الدخان ما كانوا يرونه بسبب الجوع من القحط { قليلاً } إقامة للحجة عليكم لا لخفاء ما في ضمائركم علينا . ولما كانوا قد أكدوا الإخبار بإيمانهم ، وهو باطل ، أكد سبحانه الإخبار بكذبهم ، ومن أصدق منه سبحانه قيلاً ، فقال تحقيقاً لقوله تعالى { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] { وإنهم لكاذبون } [ الأنعام : 28 ] : { إنكم عائدون * } أي ثابت عودكم بعد كشفنا عنكم في ذلك الزمن القصير إلى الكفران وإن أكدتم حصول الإيمان بأكيد الإيمان لما في جبلاتكم من العوج ولطباعكم من المبادرة إلى الزلل ، فإيمانكم هذا الذي أخبرتم برسوخه عرض زائل وخيال باطل ، وإن كان هذا في آخر الزمان فلا يدع أن يكون الخطاب لهم على حقيقته بملك أو غيره ممن يرده الله تعالى لأن ذلك زمان خرق العادات ونقض المطردات إقامة للحجة عليهم وله الحجة البالغة ، وتأديباً لنا وتعليماً .
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
ولما كان اليوم قد يراد به المن المجتمع في حكم من الأحكام ، وكان زمان الدخان إن كان المراد به القحط الذي كان قبل يوم بدر أو ما يقرب من الساعة يسمى يوماً واحداً لاتحاد ذلك الحكم ، أبدل من { يوم الدخان } قوله تهديداً بشق الأكباد : { يوم نبطش } أي بما لنا من العظمة ، والبطش : الأخذ بقوة { البطشة الكبرى } أي التي تنحل لها عراهم وتنخل بها عزائمهم وقواهم ولا يحتملها حقائقهم ولا مناهم ، سواء كانت البطشة يوم بدر أو غيره فيخسر هنالك من كشف حال الابتلاء عن طغيانه ، وتمرده على ربه وعصيانه ، ويجوز أن يكون هذا ظرفاً لعائدون . ولما كان ما له سبحانه من الحلم وطول الإمهال موجباً لأهل البلادة والغلظة الشك في وعيده ، قال مؤكداً { إنا منتقمون * } أي ذلك صفة ثابتة لم نزل نفعلها بأعدائنا لنسر أضدادهم في أوليائنا .
ولما كان التقدير : لفقد فتناهم بإرسالك إليهم ليكشف ذلك لمن لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه عما نعلمه في الأزل ، وفيما لا يزال ولم يزل ، من بواطن أمورهم ، فتقوم الحجة على من خالفنا على مقتضى عاداتكم ، عطف عليه محذراً لقريش ومسلياً للنبي صلى الله عليه وسلم قوله : { ولقد فتنا } أي فعلنا على ما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر الذي يريد أن يعلم حقيقة الشيء بالإملاء والتمكين ثم الإرسال .
ولما كان من المعلوم أن قوم فرعون لم يستغرقوا الزمان ولا كانوا أقرب الناس زماناً إلى قريش ، نزع الجار قبل الظرف لعدم الإلباس أو أنه عظم فتنتهم لما كان لهم من العظمة والمكمنة ، فجعلها لذلك كأنها مستغرقة لجميع الزمان فقال : { قبلهم } أي قبل هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم وعظة .
ولما كان فرعون من أقوى من جاءه رسول قبلهم بما كان له من الجنود والأموال والمكنة ، وكان الرسول الذي أتاه قد جمع له - صلى الله عليه وسلم - الآيات التي اشتملت على التصرف في العناصر الأربعة . فكان فيها الماء والتراب والنار والهواء ، وكانوا إذا أتتهم الآية قالوا : يا أيها الساحر! ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون ، فإذا كشف عنهم ذلك عادوا إلى ما كانوا عليه كما أخبر تعالى عن هؤلاء عند مجيء الدخان - إلى غير ذلك مما شابهوهم فيه من الأسرار التي كشفها هذا المضمار ، وكان آخر ذلك أن أهلكهم أجمعين ، فكانوا أجلى مثل لقوله تعالى في التي قبلها { فأهلكنا أشد منهم بطشاً } [ الزخرف : 8 ] خصهم بالذكر من بين المفتونين قبل فقال : { قوم فرعون } أي مع فرعون لأن ما كان فتنة لقومه كان فتنة له لأن الكبير أرسخ في الفتنة بما أحاط به من الدنيا ، وسيأتي التصريح به في آخر القصة { وجاءهم } أي المضافين والمضاف إليه في زيادة فتنتهم { رسول كريم } أي يعلمون شرفه نسباً وأخلاقًا وأفعالاً ، ثم زاد بيان كرمه بما ظهر لله به من العناية بما أيده به من المعجزات .
ولما أخبر بمجيئه إليهم بالرسالة التي لا تكون إلا بالقول ، فسر ما بلغهم منها بقوله : { أن أدوا } أي أوصلوا مع البشر وطيب النفس ، وأبرز ذلك في صيغة الأمر الذي لا يسوغ مخالفته ولما كان بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين تصرفه في قومه حائل كثيف من ظلم فرعون وقومه ، أشار إليه بحرف الغاية فقال : { إليّ } ونبهه على أنه لا حكم له عليهم بقوله { عباد الله } أي بني إسرائيل الذين استعبدتموهم ظلماً وليست عليهم عبودية إلا للذي أظهر في أمورهم صفات جلاله وجماله بما صنع مع آبائهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن بعده وما سيظهر مما ترونه وما يكون بعدكم .
ولما كان لهم به من النفع إن تبعوا ما جاءهم به والضر إن ردوه ما ليس لغيرهم ، وكان لا يقدر على تأدية بني إسرائيل إليه من أهل الأرض غيرهم لاحتوائهم عليهم كان تقديم الجار في أحكم مواضعه فلذلك قال مؤكداً فإنكارهم لرسالته عليه الصلاة والسلام : { إني لكم } أي خاصة بسبب ذلك { رسول } أي من عند من لا تكون الرسالة الكاملة إلا منه ، ولما كان الإنسان لا يأتمن على السياسة إلا ثقة كافياً ، قال واصفاً لنفسه بما يزيل عذرهم ويقيم الحجة عليهم : { أمين * } أي بالغ الأمانة لأن الملك الديان لا يرسل إلا من كان كذلك .
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
ولما كان استعباد عبد الغير بغير حق في صورة العلو على مالك العبد قال : { وأن لا تعلوا } أي تفعلوا باستعبادكم لبني إسرائيل نبي الله ابن خليل الله فعل العالي { على الله } الذي له مجامع العظمة ومعاقد العزة بنفوذ الكلمة وجميع أوصاف الكمال فإنكم إن فعلتم ذلك أخذكم بعزته ودمركم بعظمته .
ولما كان علو من يتصرف في العبد على مالك العبد لا يثبت إلا بعد ثبوت أنه ملكه وأنه لا يحب التصرف فيه ، علل ذلك بقوله مؤكداً لأجل أن ما أتى به بصدد أن ينكروه لأن النزوع عما استقر في النفس ومضى عليه الإلف بعيد : { إني آتيكم } وهو يصح أن يكون اسم فاعل وأن يكون فعلاً مضارعاً . ولما كان فعلهم فعل العالي على السلطان ، قال : { بسلطان } أي أمر باهر قاهر من عند مالكهم ، لا يسوغ لأحد الاستعلاء عليه فكيف بالاستعلاء على من هو بأمره { مبين * } أي واضح في نفسه سلطنته ومظهر لغيره ذلك .
ولما كان من العجائب أن يقتل منهم نفساً ثم يخرج فاراً منهم ثم يأتي إليهم لا سيما إتياناً يقاهرهم فيه في أمر عظيم من غير أن يقع بينهم وبينه ما يمحو ما تقدم منه ، نبههم على إتيانه هذا على هذا الحال آية أخرى دالة على السلطان ، فقال مؤكداً تكذيباً لظنهم أنه في قبضتهم : { وإني عذت } أي اعتصمت وامتنعت { بربي } الذي رباني على ما اقتضاه لطفه بي وإحسانه إليّ { وربكم } الذي أعاذني من قتلكم لي بكم على ما دعت إليه حكمته من جبروتكم وتكبركم وقوة مكنتكم { أن ترجمون * } أي أن يتجدد في وقت من الأوقات قتل منكم لي ، ما أتيتكم حتى توثقت من ربي في ذلك ، فإني قلت { إني أخاف أن يقتلون } فقال { سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا } [ القصص : 38 ] فهو من أعظم آياتي أن لا تصلوا على قوتكم وكثرتكم إلى قتلي منع أنه لا قوة لي بغير الله الذي أرسلني .
ولما كان التقدير : فإن آمنتم بذلك وسلمتم لي أفلحتم ، عطف عليه قوله : { وإن لم تؤمنوا لي } أي تصدقوا لأجلي ما أخبرتكم به { فاعتزلون * } أي وإن لم تعتزلوني هلكتم ، ولا تقدرون على قتلي بوجه وأنا واحد ممن تسومونهم سوء العذاب ، وما قتلتم أبناءهم إلا من أجلي ، فرباني على كف من ضاقت عليه الأرض بسببي وسفك الدماء في شأني ، ومنعه الله من أن يصل إليّ منه سوء قبل أن أعوذ به ، فكيف به بعد أن أرسلني وعذت به فأعاذني ، واستجرت به فأجارني .
ولما كان التقدير : لم يؤمنوا به ولا لأجله ولم يعتزلوه ، بل بغوا له الغوائل وراموا أن يواقعوا به الدواهي والقواصم ، فلم يقدروا على ذلك وآذوا قومه وطال البلاء ، سبب عنه قوله : { فدعا ربه } الذي أحسن إليه وضمن له سياسته وسياسة قومه ، ثم فسر ما دعا به بقوله : { أن هؤلاء } أي الحقيرون الأراذل الذليلون { قوم } أي لهم قوة على القيام بما يحاولونه { مجرمون * } أي عريقون في قطع ما أمرت به أن يوصل ، وذلك متضمن وصل ما أمرت به أن يقطع ، فكان المعنى : فدعا بهذا المعنى ، ولذلك أتى « بأن » الدالة على المصدرية .
ولما كان ممن يستجيب دعاءه ويكرم نداءه ، سبب عن ذلك قوله : { فأسر } أي فقلنا له : سر عامة الليل - هذا على قراءة المدنيين وابن كثير بوصل الهمزة وعلى قراءة غيرهم بالقطع المعنى : أوقع السرى وهو السير عامة الليل { بعبادي } الذين هم أهل لإضافتهم إلى جنابي ، قومك الذين أرسلناك لإسعادهم باستنقاذهم ممن يظلمهم وتفريغهم لعبادتي لا لعبادة غيري .
ولما كان سبحانه قد تقدم إلى بني إسرائيل في أن يكونوا متهيئين في الليلة التي أمر بالسرى فيها بحيث لا يكون لأحد منهم عاقة أصلاً كما تقدم بيانه في الأعراف عن التوراة ، بين تأكيده لذلك بقوله : { ليلاً } فصار تأكيداً بغير اللفظ ، وإنما أمره بالسير في الليل لأنه أوقع بالقبط موت الأبكار ليلاً ، فأمر فرعون موسى عليه الصلاة والسلام أن يخرج بقومه في ذلك خوفاً من أن يموت القبط .
ولما علم الله تعالى أنهم إن تأخروا إلى أن يطلع الفجر ويرتفع عنهم الموت ، منعوهم الخروج ، وإن تأخروا إلى آخر الليل أدركوهم قبل الوصول إلى البحر فيقتلوهم ، علل هذا الأمر بقوله مؤكداً له لأن حال القبط عندما أمروهم بالخروج كان حال من لا يصدق له ترجع في قوله : { إنكم متبعون * } أي مطلوبون بغاية الشهوة والجهد من عدوكم ، فلا يغرنكم ما هم فيه عند أمركم بالخروج من الجزع من إقامتكم بين أظهرهم وسؤالهم لكم في الخروج عنهم بسب وقوع الموت الفاشي فيهم ، فإن القلوب بيد الله ، فهو يقسي قلب فرعون بعد رؤية هذه الآيات حين يرتفع عنهم الموت ويفرغون من دفن موتاهم فيطلبكم لما دبرته في القدم من سياستكم بإغراقهم أجمعين ليظهر مجدي بذلك وأدفع عنكم روع مدافعتهم فإني أعلم أنه لا قوة لكم ولا طاقة بهم ، فلم أكلفكم لمباشرة شيء من أمرهم .
ولما أمره بالإسراء وعلله ، أمره بما يفعل فيه وعلله فقال : { واترك البحر } أي إذا أسريت بهم وتبعك العدو ووصلت إليه وأمرناك بضربه لينفتح لتدخلوا فيه فدخلتم ونجوتم { رهواً } بعد خروجكم منه بأجمعكم أي منفرجاً واسعاً ساكناً بحيث يكون المرتفع من مائه مرتفعاً والمنخفض منخفضاً كالجدار ، وطريقه الذي سرتم به يابساً ذا سير سهل على الحالة التي دخلتم فيها ليدخل فيه عدوكم فنمجد بإغراقهم كما وعدناكم ، وقال البغوي : راهياً أي ذا رهو فسمي بالمصدر - وعزاه إلى مقاتل - انتهى . ولما كانت هذه أسباباً لدخول آل فرعون فيه ، علل بما يكون عنها تسكيناً لقلوبهم في ترك البحر طريقاً مفتوحاً يدخله العدو ، فقال مؤكداً لأجل استبعاد بني إسرائيل مضمون الخبر لأنه من خوارق العادات مع ما لفرعون وآله في قلوبهم من الهيبة الموجبة لأن يستبعدوا معها عمومهم بالإهلاك { إنهم جند مغرقون * } أي متمكنون في هذا الوصف وإن كان لهم وصف القوة والتجمع الذي محطه النجدة الموجبة للعلو في الأمور .
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
ولما أرشد السياق ولا بد إلى تقدير : فأسرى موسى بعباد الله كما أمره الله فتعبهم آل فرعون كما أخبر سبحانه ، ففتح الله البحر بباهر قدرته وأمسك ماءه كالجدران بقاهر عظمته وتركه بعد طلوعهم منه على حالته فتبعهم عباد الشيطان بما فاض عليهم من شقاوته فأغرقهم الله بعزته لم يفلت منهم أحد ، عبر سبحانه عن هذا كله بقوله على طريق الاستئناف : { كم تركوا } أي الذي سبق الحكم بإغراقهم فغرقوا { من جنات } أي بساتين هي في غاية ما يكون من طيب الأرض وكثرة الأشجار وزكاء الثمار والنبات وحسنها الذي يسر المهموم ويستر الهموم ، ودل على كرم الأرض بقوله : { وعيون وزروع } أي مما هو دون الأشجار . ولما كان ذلك لا يكمل إلا بمنازل ومناظر في الجنان وغيرها فقال : { ومقام كريم * } أي مجلس شريف هو أهل لأن يقيم الإنسان فيه ، لأن النهاية فيما يرضيه .
ولما كان ذلك قد يكون بتعب صاحبة فيه ، دل على أنه كان بكد غيرهم وهم في غاية الترف ، وهذا هو الذي حملهم على اتباع من كان يكفيهم ذلك حتى أداهم إلى الغرق قال : { ونعمة } هي بفتح النون اسم للتنعم بمعنى الترفه والعيش اللين الرغد ، وأما التي بالكسر فهي الإنعام { كانوا فيها } أي دائماً { فاكهين * } أي فعلهم في عيشهم فعل المترفه لا فعل من يضطر إلى إقامة نفسه .
ولما كان هذا أمراً عظيماً لا يكاد يصدق أن يكون لأحد ، دل على عظمه وحصوله لهم بقوله : { كذلك } أي الأمر كما أخبرنا به من تنعيمهم وإخراجهم وإغراقهم وأنهم تركوا جميع ما كانوا فيه لم يغن عنهم شيء منه ، فلا يغترن أحد بما ابتليناه به من النعم لئلا يصنع به من الإهلاك ما صنعنا بهم . ولما أفهم سوق الكلام هكذا إغراقهم كلهم ، زاده إيضاحاً بالتعبير بالإرث الذي حقيقته الأخذ عن الميت أخذاً لا منازع فيه فقال عاطفاً على ما تقدم تقديره بعد اسم الإشارة : { وأورثناها } أي تلك الأمور العظيمة { قوماً } أي ناساً ذوي قوة في في القيام على ما يحاولونه ، وحقق أنهم غيرهم تحقيقاً لإغراقه بقوله : { آخرين * } قال ابن برجان ، وقال في سورة الظلمة : « وعيون وكنوز » مكان « وزروع » لما كان المعهود من الزرع الحصد في أقرب المدة أورث زروعها وجناتها وما فيها من مقام كريم قوماً بآل فرعون فإنهم أهلكوا ولا بني إسرائيل فإنهم قد عبروا البحر ، ولما توطد ملكهم في الأرض المقدسة اتصل بمصر ، فورثوا الأرض بكنوزها وأموالها ونعمتها ومقامها الكريم - انتهى .
ولما كان الإهلاك يوجب أسفاً على المهلكين ولو من بعض الناس ولا سيما إذا كانوا جمعاً فكيف إذا كانوا أهل مملكة ولا سيما إذا كانوا في نهاية الرئاسة ، أخبر بأنهم كانوا لهوانهم عنده سبحانه وتعالى على خلاف ذلك ، فسبب عما مضى قوله : { فما بكت عليهم } استعارة لعدم الاكتراث لهم لهوانهم { السماء والأرض } وإذا لم يبك السكن فما ظنك بالساكن الذي هو بعضه ، روى أبو يعلى في مسنده والترمذي في جامعه - وقال : غريب والربذي والرقاشي يضعفان في الحديث - عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« ما من مسلم إلا وله في السماء بابان ، باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه » وتلا هذه الآية ، وقال علي رضي الله عنه : إن المؤمن إذا مات بكى مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء .
ولما جرت العادة بأن العدو قد يستمهله عدوه في بعض الأوقات لمثل وصية وقضاء حاجة فيمهله ، أخبر تتميماً لعدم الاكتراث بهم أنهم كانوا دون ذلك فقال : { وما كانوا } ولما كان هذا لكونه خيراً عنهم بعد مضيهم المقصود منه تحذير من بعدهم فقط ، لم يذكر التقييد بذلك الوقت بإذن ونحوها دلالة على أن ما كانوا فيه من طويل الإمهال كان كأنه لم يكن لعظم هذا الأخذ بخلاف ما مر في في الحجر من التخويف من إنزال الملائكة عليهم ، فإن تقييد عدم الإنظار بذلك الوقت لرد السامعين عن طلب إنزالهم فقال تعالى : { منظرين * } أي ممهلين عما أنزلنا بهم من المصيبة من ممهل ما لحظه فما فوقها ليتداركوا بعض ما فرطوا فيه وينظروا في شيء مما يهمهم بل كان أخذهم لسهولته علينا في أسرع من اللمح ، لم يقدروا على دفاع ، فنالهم عذاب الدنيا وصاروا إلى عذاب الآخرة فخسروا الدارين وما ضروا غير أنفسهم .
ولما كان إنقاذ بني إسرائيل من القبط أمراً باهراً لا يكاد يصدق فضلاً عن أن يكون بإهلاك أعدائهم ، أكد سبحانه الإخبار بذلك إشارة إلى ما يحق له من العظمة تنبيهاً على أنه قادر أن يفعل بهذا النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه كذلك وإن كانت قريش يرون ذلك محالاً وأنهم في قبضتهم فقال : { ولقد نجينا } أي بما لنا من العظمة « تنجية عظيمة » مع كونها بسبب الآيات المتفرقات كانت على التدريج { بني إسرائيل } عبدنا المخلص لنا { من العذاب المهين * } بسبب أنهم كانوا عندهم في عداد العبيد يتسخدمون الرجال والنساء بل أذل للزيادة على التصرف العبيد بالتذبيح للأبناء .
ولما تشوف السامع إلى صاحب ذلك العذاب قال مبدلاً مما قبله إفهاماً لأن فرعون نفسه كان عذاباً لإفراطه في أذاهم : { من فرعون } ثم علل ذلك بما يعرف منه صحة الوصف للعذاب فقال مؤكداً لأن حال قريش في استذلال المؤمنين حل من يكذب بأن الله أنجى بني إسرائيل على ضعفهم فهو ينجي غيرهم من الضعفاء أو يكذب أن فرعون كان قوياً { إنه كان عالياً } في جبلته العراقة في العلو { من المسرفين * } أي العريقين في مجاوزة الحدود .
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
ولما كانت قريش تفتخر بظواهر الأمور من الزينة والغرور ويعدونه تعظيماً من الله ويعدون ضعف الحال في الدنيا شقاء وبعداً من الله ، رد عليهم قولهم بما أتى بني إسرائيل على ما كانوا فيه من الضعف وسوء الحال بعد إهلاك آل فرعون بعذاب الاستئصال ، فقال مؤكداً لاستبعاد قريش أن يختار من قل حظه من الدنيا : { ولقد } اخترناهم } أي فعلنا بما لنا من العظمة في جعلنا لهم خياراً فعل من اجتهد في ذلك ، وعظم أمرهم بقوله بانياً على ما تقديره : اختياراً مستعلياً { على علم } أي منا بما يكون منهم من خير وشر ، وقد ظهر من آثاره أنكم صرتم تسألونهم وأنتم صريح ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام عما ينوبكم وتجعلونهم قدوتكم فيما يصيبكم وتضربون إليه أكباد الإبل ، وهكذا يصير عن قليل كل من اتبع رسولكم صلى الله عليه وسلم منكم ومن غيركم . ولما بين المفضل ، بين المفضل عليه فقال : { على العالمين * } أي الموجودين في زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتاب وأرسلنا إليهم من الرسل .
ولما أعلم باختيارهم ، بين آثار الاختيار فقال : { وآتيناهم } أي على ما لنا من العظمة { من الآيات } أي العلامات الدالة على عظمتنا واختيارنا لهم من حين أتى موسى عبدنا عليه الصلاة والسلام فرعون إلى أن فارقهم بالوفاة وبعد وفاته على أيدي الأنبياء المقررين لشرعه عليهم الصلاة والسلام { ما فيه بلاؤا } أي اختبار مثله يميل من ينظره أو يسمعه أو يحيله إلى غير ما كان عليه ، وذلك بفرق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما رأوه من الآيات التسع ، وفي هذا ما هو رادع للعرب عن بعض أقوالهم من خوف التخطف من العرب والفقر لقطع الجلب عنهم وغير ذلك { مبين * } أي بين لنفسه موضح لغيره ، وما أنسب هذا الختم لقوله أول قصتهم « ولد فتنا قبلهم قوم فرعون » .
ولما ثبت بما مضى أنه سبحانه متصف بالإحياء والإماتة ، وكان إنكار ذلك عناداً لا يستطيع أحد يثبت الإله أن ينكره ، وكان الإقرار بذلك في بعض وإنكاره في بعض تحكماً ومخالفاً لحاكم العقل وصارم النقل ، وكان من الآيات التي أوتوها إحياؤهم بعد إماتتهم حين طلبوا الرؤية فأخذتهم الصاعقة ، وحين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وكان ذلك هو البعث بعينه ، وكان العرب ينكرونه ويبالغون في إنكارهم له ولا يسألونهم عنه ، قال موبخاً لهم مشيراً بالتأكيد إلى أنه لا يكاد يصدق أن أحداً ينكر ذلك لما له من الأدلة : { إن } وحقرهم بقوله : { هؤلاء } أي الأدنياء الأقلاء الأذلاء { ليقولون * } أي بعد قيام الحجة البالغة عليهم مبالغين في الإنكار في نظير تأكيد الإثبات : { إن } أي ما .
ولما كان قد تقدم قوله تعالى { يحيي ويميت } وهم يعلمون أن المراد به أن يتكرر منه الإحياء للشخص الواحد ، وكان تعالى قد قال ولا يخاطبهم إلا بما يعرفونه { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } [ البقرة : 28 ] أي بالانتشار بعد الحياة وقال { أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } [ غافر : 11 ] قالوا : ما { هي إلا موتتنا } على حذف مضاف أي ما الحياة إلا حياة موتتنا { الأولى } أي التي كانت قبل نفخ الروح - كما سيأتي في الجاثية { إن هي إلا حياتنا الدنيا } وعبروا عنها بالموتة إشارة إلى أن الحياة في جنب الموت المؤبد على زعمهم أمر متلاش لا نسبة لها منه ، وساق سبحانه كلامهم على هذا الوجه إشارة إلى أن الأمور إذا قيس غائبها على شاهدها ، كان الإحياء بعد الموتة الثانية أولى لكونه بعد حياة من الإحياء بعد الموتة الأولى ، فحط الأمر على أن الابتداء كان من موت لم يتقدمه حياة ، والقرار يكون على حياة لا يعقبها موت .
ولما كان المعنى : وليس وراءها حياة ، أكدوه بما يفهمه تصريحاً فقالوا برد ما أثبته الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم : { وما نحن } وأكدوا النفي فقالوا : { بمنشرين * } أي من منشر ما بالبعث بحيث نصير ذوي حركة اختيارية ننتشر بها بعد الموت ، يقال : نشره وأنشره - إذا أحياه .
ولما كانوا يزعموه أن دعوى الإحياء لا يصح إلا إذا شاهدوا أحداً من الأموات الذين يعرفونه حياً بعد أن تمزق جلده وعظامه ، سببوا عن إنكارهم مخاطبين للنبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه : { فأتوا } أي أيها الزاعمون أنا نبعث بعد الموت إيذاناً بأنهم لا يصدقون بذلك وإن كثر معتقدوه من جنس بشرهم وتبعهم { بآبائنا } أي لكوننا نعرفهم ونعرف وفور عقولهم فلا نشك في أن ذلك إحياء لمن مات ليكون ذلك آية لنا على البعث ، وأكدوا تكذيبهم بقوله : { إن كنتم صادقين * } أي ثابتاً صدقكم .
ولما أخبروا على هذه العظمة تنطعاً لأنها لو وقعت لم يكن بأدل على ثبوت النبوة المستلزمة لتصديق كل ما يقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما يأتيهم به من الآيات ، غير خائفين من الله وهم يعلمون قدرته وإهلاكه للماضين لأجل تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وكأنهم يدعون خصوصيته في مكنة من عين أو معنى ينجون بها من مساواة من قبلهم في ذلك ، فقال تعالى منكراً عليهم : { أهم خير } أي في الدين والدنيا { أم قوم تبع } أي الذين ملك بهم تبع الأرض بطولها والعرض وحيرة الحيرة وبنى قصر سمرقند وكان مؤمناً ، وقومه حمير ومن تبعهم أقرب المهلكين إلى قريش زماناً ومكاناً . وكان له بمكة المشرفة ما ليس لغيره من الآثار ، وقال الرازي في اللوامع : هو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق .
وقال البغوي بعد أن ذكر قصته مع الأنصار لما قتل ابنه غيلة بالمدينة الشريفة وما وعظته به اليهود في الكف عن إخراب المدينة لأنها مهاجر نبي من قريش : فصدقهم وتبع دينهم ، وذلك قبل نسخه ، وقال عن الرقاشي : آمن تبع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة عام ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا تسبوا تبعاً فإنه كان رجلاً صالحاً .
ولما كان ذلك في سياق التهديد بالإهلاك لأجل مخالفتهم ، وكان الإهلاك لذلك إنما كان لبعض من تقدم زمانهم لا لجميع الخلق ، أدخل الجار فقال : { والذين من قبلهم } أي من مشاهير الأمر كمدين وأصحاب الأيكة والرس وثمود وعاد .
ولما كان كأنه قيل : ما لهؤلاء الأمم؟ قيل : { أهلكناهم } أي بعظمتنا وإن كانوا عظماء لا يشعرهم هؤلاء فيما لهم من المكنة لقطعهم من أمر الله به أو يوصل من الرسل وأتباعهم ، وتكذيبهم بما أتوا به ، ولذلك علل الإهلاك تحذيراً للعرب بقوله مؤكداً لظنهم أن هلاكهم إنما هو على عادة الدهر : { إنهم كانوا } أي جبلة وطبعاً { مجرمين * } أي عريقين في الإجرام ، فليحذر هؤلاء إذا ارتكبوا مثل أفعالهم من مثل حالهم وأن يحل بهم ما حل بهم .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)
ولما كان التقدير للاستدلال على الجزاء الذي جامعه التكفل بجميع أنحائه يوم القيامة : فإنا ما خلقنا الناس عبثاً يبغي بعضهم على بعض ثم لا يؤاخذون ، عطف عليه ما هو أكبر في الظاهر منه فقال : { وما خلقنا السماوات } أي على عظمها واتساع كل واحدة منها واحتوائها لما تحتها ، وجمعها لأن العمل كلما زاد كان أبعد من العبث مع أن إدراك تعددها مما يقتضي المشاهدة بما فيها من الكواكب ، ووحد في سورة الأنبياء تخصيصاً بما يتحقق المكذبون بالبعث رؤيته لما ذكر هناك من اختصاص « لدن » بما بطن .
ولما كان الدليل على تطابق الأرضي دقيقاً وحدها فقال : { والأرض } أي على ما فيها من المنافع { وما بينهما } أي النوعين وبين كل واحدة منها وما يليها { لاعبين * } أي على ما لنا من العظمة التي يدرك من له أدنى عقل تعاليها عن اللعب لأنه لا يفعله إلا ناقص ، ولو تركنا الناس يبغي بعضهم على بعض كما تشاهدون ثم لا نأخذ لضعيفهم بحقه من قويهم لكان خلقنا لهم لعباً ، بل اللعب أخف منه ، ولم نكن على ذلك التقدير مستحقين لصفة القدوسية ، فإنه « لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها بالحق من قويها غير متعتع » - رواه ابن ماجة عن أبي سعيد وابن جميع في معجمه عن جابر ، وصاحب الفردوس عن أبي موسى رضي الله عنهم رفعوه ، وهو شيء لا يرضى به لنفسه أقل حكام الدنيا ، فكان هذا برهاناً قاطعاً على صحة الحشر ليظهر هناك الفصل بالعدل والفضل .
ولما نفى أن يكون خلق لك اللعب الذي هو باطل ، أثبت ما خلقه له ولم يصرح بما في البين لأنه تابع ، وقد نبه ما مضى ، فقال مستأنفاً : { ما خلنقاهما } أي السماوات والأراضي مع ما بينهما { إلا بالحق } من الحكم بين من فيهما ، فمن عمل الباطل عاقبناه ومن عمل الحق أثبناه ، وبذلك يظهر غاية الظهور إحاطتنا بجميع أوصاف الكمال كما نبهنا عليه أهل الكمال في هذا الدار بخلقهما الذي واقعة بمطابق للحق ، وهو ما لنا من تلك الصفات المقتضية للبعث لأحقاق الحق وإبطال الباطل بما لا خفاء فيه عند أحد .
ولما كان أكثر الخلق لا يعلم ذلك لعظمته عن النظر في دليله وإن كان قطعياً بديهيّاً . { ولكن أكثرهم } أي أكثر هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم وهم يقولون : { إن هي إلا موتتنا الأولى } وكذا من نحا نحوهم { لا يعلمون * } أي أنا خلقنا الخلق بسبب إقامة الحق فهم لأجل ذلك يجترئون على المعاصي ويفسدون في الأرض لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً ، ولو تذكروا ما ركزناه في جبلاتهم لعلموا علماً ظاهراً أنه الحق الذي لا معدل عنه كما يتولى حكامهم المناصب لأجل إظهار الحكم بين رعاياهم ، ويشرطون الحكم بالحق ، ويؤكدون على أنفسهم أنهم لا يتجاوزونه .
ولما كان كأنه قيل : إنا نرى أكثر المظلومين يموتون بمرير غصصهم مقهورين ، وأكثر الظالمين يذهبون ظافرين بمطالبهم مسرورين ، فمتى يكون هذا الحق؟ قال جواباً لذلك مؤكداً لأجل تكذبيهم : { إن يوم الفصل } عند جمع الأولين والآخرين من جميع المكلفين الذين ينتظره كل أحد للفرق بين كل ملبس ، فلا يدع نوعاً منه حتى أنه يميز بين المكاره والمحاب ودار النعيم وغار الجحيم ، وبين أهل كل منهما بتمييز المحق من المبطل بالثواب والعقاب وهو بعد البعث من الموت { ميقاتهم } أي وقت جمع الخلائق للحكم بينهم الذي ضرب لهم في الأزل وأنزلت به الكتب على ألسنة الرسل { أجمعين * } لا يتخلف عنه أحد ممن مات من الجن والإنس والملائكة وجميع الحيوانات .
ولما ذكر هذا اليوم الذي دل على عظمته بهذه العبارة إفراداً وتركيباً ، ذكر من وصفه ما يحمل على الخوف والرجاء ، فقال مبدلاً منه : { يوم لا يغني } بوجه من الوجوه { مولى } بقرابة أو غيرها بحلف أو رق من أعلى أو أسفل { عن مولى } أريد أخذه بما وقع منه { شيئاً } من الإغناء . ولما كان الإغناء تارة يكون بالرفق وأخرى بالعنف ، صرح بالثاني لأنه أعظمها والسياق للإهلاك والقهر فقال : { ولا هم } أي القسمان { ينصرون * } أي من ناصر ما لو أراد بعضهم نصرة بعض ، أو أراد غيرهم لو فرض أن ينصرهم ، وعبر بالجمع الذي أفاده الإبهام للمولى ليتناول القليل والكثير منه لأن النفي عنه نفي عن الأفراد من باب الأولى .
ولما نفى الإغناء استثنى منه فقال : { إلا من رحم الله } أي أراد إكرامه الملك الأعظم وهم المؤمنون يشفع بعضهم لبعض بإذن الله في الشفاعة لأحدهم فيكرم الشافع فيه بقبول شفاعته ويكرمه بقبوله الشفاعة فيه . ولما كان ما تقدم دالاً على تمام القدرة في الإكرام والانتقام ، وكان الإكرام قد يكون عن ضعف ، قال نافياً لذلك ومقرراً لتمام القدرة اللازم منه الاختصاص بذلك مؤكداً له تنبيهاً على أنه ما ينبغي أن يجعل نصب العين وتعقد عليه الخناصر ، ولأن إشراكهم وتكذيبهم بالبعث يتضمن التكذيب بذلك : { إنه هو } أي وحده { العزيز } أي المنيع الذي لا يقدح في عزته عفو ولا عقاب ، بل ذلك دليل على عزته فإنه يفعل ما يشاء فيمن يشاء من غير مبالاة بأحد . ولما كان العزيز قد لا يرحم قال : { الرحيم * } أي الذي لا تمنع عزته أن يكرم من يشاء .
ولما كان السياق للانتقام ، أخبر عن حال الفجار على سبيل الاستئناف ، فقال مؤكداً لما يكذبون به : { إن شجرة الزقوم * } التي تقدم من وصفها ما يقطع القلوب من أنها تخرج من أصل الجحيم ، وأن طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، وغيره مما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى والذي تعرفونه من ذلك في الدنيا أنها شجرة صغيرة الورق ذفرة أي شديد النتن - مرة ، من الزقم ، أي اللقم الشديد والشوب والمفرط ، وقال عبد الحق في كتابه الواعي : الزقوم شجرة غبراء صغيرة الورق لا شوك لها ذفرة لها كعابر في سوقها أي عقد كالأنابيب ولها ورد تجرسه النحل ، ورأس ورقها قبيح جداً ، وهي مرعى ، ومنابتها السهل ، قال ابن برجان : وهي في النار في مقابلة شجرة طوبى في الجنة ، يضطرون إلى أكلها وإلى شرب الغسلين كما يضطر أهل الدنيا لإدخال الطعام والشراب { طعام الأثيم * } أي المبالغ في اكتساب الآثام حتى مرن عليها فصارت به إلى الكفر { كالمهل } أي القطران الرقيق وما ذاب من صفر أو حديد أو دردية ، روى أحمد والترمذي - وقال : لا نعرفه إلا من حديث رشدين - وابن حبان في صحيحه والحاكم من وجه آخر - وقال الحاكم : صحيح الإسناد - عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { كالمهل } قال :
« كعكر الزيت فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه » { تغلي } أي الشجرة - على قراءة الجماعة بالتأنيث ، والطعام على قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب بالتذكير ولا يعود الضمير على المهل لأنه مشبه به { في البطون * } أي من شدة الحر .
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
ولما كان للتذكير بما يعرف شأن عظيم من الإقبال أو التنفير وإن كان دون ما شبه به قال : { كغلي } أي مثل غلي { الحميم * } أي الماء الذي تناهى حره بما يوقد تحته ، فهو يثبت كأنه يريد أن يتخلص مما هو فيه من الحر ، روى - وقال حسن صحيح - والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم - وقال صحيح على شرطهما - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معائشهم فكيف بمن يكون هذا طعامه » . ولما كان كأنه قيل : ما للأثيم يأكل هذا الطعام ، وما الحامل له عليه وعلى مقاربة مكانه ، أجيب بأنه مقهور عليه ، يقتضيه صفة العزة فيه الرحمة لإعادته بأن يقال للزبانية : { خذوه } أي أخذ قهر فلا تدعوه يملك من أمره شيئاً { فاعتلوه } أي جروه بقهر بغلظة وعنف وسرعة إلى العذاب والإهانة بحيث يكون كأنه محمول ، وقال الرازي في اللوامع : والعتل أن يأخذ بمجامع ثوبه عند صدره يجره ، وقراءة الضم أدل على تناهي الغلظة والشدة من قراءة الكسر { إلى سواء } أي وسط { الجحيم * } أي النار التي في غاية الاضطرام والتوقد ، وهي موضع خروج الشجرة التي هي طعامه .
ولما أفهم هذا صار في موضع يحيط به العذاب فيه من جميع الجوانب ، بين أن له نوعاً آخر من النكد رتبته في العظمة مما يستحق العطف بأداة التراخي فقال : { ثم صبوا } أي في جميع الجهة التي هي { فوق رأسه } ليكون المصبوب محيطاً بجميع جسمه { من عذاب الحميم } أي العذاب الذي يغلي به الحميم أو الذي هو الحميم نفسه ، والتعبير عنه بالعذاب أهول ، وهذا في مقابلة ما كان لهم من البركة بما ينزل من السماء من المطر ليجتمع لهم حر الظاهر بالحميم والباطن بالزقوم .
ولما علم بهذا أنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً ، بل وصل إلى غاية الهوان ، دل عليه بالتهكم بما كان يظن في نفسه من العظمة التي يترفع بها في الدنيا على أوامر الله ، فقيل بناء على ما تقديره : يفعل به ذلك مقولاً له : { ذق } أي من هذا أوصلك إليه تغررك على أولياء الله . ولما كان أولياء الله من الرسل وأتباعهم يخبرون في الدنيا أنه - لإبائه أمر الله - هو الذليل ، وكان هذا الأثيم وأتباعه يكذبون بذلك ويؤكدون قولهم المقتضي لعظمته لإحراق أكباد الأولياء حكى له قولهم على ما كانوا يلفظون به زيادة في تعذيبه بالتوبيخ والتقريع معللاً للأمر بالذوق : { إنك } وأكد بقوله : { أنت } وحدك دون هؤلاء الذين يخبرون بحقارتك { العزيز } أي الذي يغلب ولا يغلب { الكريم * } أي الجامع إلى الجود شرف النفس وعظم الإباء ، فلا تنفعك عن ستر مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها فلست بلئيم أي بخيل مهين النفس خسيس الإباء ، فهو كناية عن مخاطبته بالخسة مع إقامة الدليل على ذلك بما هو فيه من المهالك ، وقراءة الكسائي بفتح « إن » دالة على هذا العذاب قولاً وفعلاً على ما كان يقال له من هذا الدنيا ويعتقد هو أنه حق .
ولما دل على أنه يقال هذا لكل من الأثماء ويفعل به على حدته ، دل على ما يعمون به ، فقال مؤكداً رداً لتكذيبهم سائقاً لهم على وجه مفهم أنه علة ما ذكر من عذابهم : { إن هذا } أي العذاب قولاً وفعلاً وحالاً { ما كنتم } أي جبلة وطبعاً طبعناكم عليه لتظهر قدرتنا في أمركم دنيا وأخرى { به تمترون * } أي تعالجون أنفسكم وتحملونها على الشك فيه وتردونها عما لها من الفطرة الأولى من التصديق بالممكن لا سيما لمن جرب صدقه وظهرت خوارق العادات على يده بحيث كنتم لشدة ردكم له كأنكم تخصونه بالشك .
ولما وصف سبحانه ما للمبالغ في المساوئ وأفرده أولاً إشارة إلى قليل في قوم هذا النبي الكرمي الذي تداركهم الله بدعوته تشريفاً له وإعلاء لمقداره ، وجمع آخراً ذاكراً من آثار ما استحق به ذلك من مشاركة في أوزاره ، ففهم أن وصفه انقضى ، ومر ومضى ، فتاقت النفس إلى تعرف ما لأضداده الذين خالفوه في مبدئه ومعاده ، قال مؤكداً لما لهم من التكذيب : { إن المتقين } أي العريقين في هذا الوصف { في مقام } أي موضع إقامة لا يريد الحال فيه تحولاً عنه { أمين * } أي يأمن صاحبه فيه من كل ما لا يعجبه .
ولما كان الوصف بعد الوصف شديد الترغيب في الشيء ، قال مبدلاً من « مقام » : { في جنات } أي بساتين تقصر العقول عن إدراك وصفها كل وصفها { وعيون * } كذلك بحيث تقر بها العيون ، ولما كان قد أشار إلى وصف ما للباطن من لذة النظر ولباس الأكل والشرب ، أتبعه كسوة الظاهر وما لكل من القرب فقال : { يلبسون } .
ولما وصف ما أعد لهم من اللبس في الجنة ، دل على الكثرة جداً بقوله : { من سندس } وهو ما رق من الحرير يعمل وجوهاً ، وزاد صنفاً آخر فقال : { وإستبرق } وهو ما غلظ منه يعمل بطائن ، وسمي بذلك لشدة بريقه . ولما كان وصف الأثماء بما لهم من القبض الشاغل لكل منهم عن نفسه وغيره بعد ما تقدم في الزخرف في آية الأخلاء ما أعلم بكونهم مدابرين وصف أضدادهم بما لهم من البسط مع الاجتماع فقال : { متقابلين * } أي ليس منهم أحد يدابر الآخر لا حساً ولا معنى ، وود أن كلاًّ منهم يقابل الآخر ناظراً إليه ، فإذا أرادوا النساء حالت الستور بينهم .
ولما كان هذا أمراً يبهر العقل ، فلا يكاد يتصوره ، قال مؤكداً له : { كذلك } أي الأمر كما ذكرنا سواء لا مرية فيه . ولما كان ذلك لا يتم السرور به إلا بالأزواج قال : { وزوجناهم } أي قرناهم كما تقرن الأزواج ، وليس المراد به العقد لأنه فعل متعد بنفسه وهو لا يكون في الجنة لأن فائدته الحل ، والجنة ليست بدار كلفة من تحليل أو تحريم ، وذكر مظهر العظمة تنبيهاً على كمال الشرف { بحور } أي على حسب التوزيع بجواري بيض حسان نقيات الثياب { عين * } أي واسعات الأعين .
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
ولما كان الإنسان في الدنيا يخشى كلفة النفقات ، وصف ما هنالك من سعة الخيرات فقال : { يدعون } أي يطلبون طلباً هو بغاية المسرة { فيها بكل } لا يمتنع عليهم صنف من الأصناف ببعد مكان ولا فقد أوان ، ولا غير ذلك من الشأن ، وقال : { فاكهة } إيذاناً بأن ذلك مع سعته ليس فيها شيء لإقامة البينة وإنما هو للفتكه ومجرد التلذذ . ولما كان التوسع في التلذذ يخشى منه غوائل جمة قال : { آمنين * } أي وهم في غاية الأمن من كل مخوف .
ولما ذكر الأمان ، وكان أخوف ما يخاف أهل الدنيا الموت ، قال : { لا يذوقون فيها } أي الجنة { الموت } أي لا يتجدد لهم أوائل استطعامه فكيف بما وراء ذلك . ولما كان المراد نفي ذلك على وجه يحصل معه القطع بالأمن على أعلى الوجوه ، وكان الاستثناء معيار العموم ، وكان من المعلوم أن ما كان في الدنيا من ذوق الموت الذي هو معنى من المعاني قد استحال عوده ، قال معللاً معلقاً على هذا المحال : { إلا الموتة } ولما كان المعنى مع إسناد الذوق إليه لا يلبس لأن ما قبل نفخ الروح ليس مذوقاً ، عبر بقوله : { الأولى } وقد أفهم التقييد بالظرف أن النار يذاق فيها الموت ، والوصف بالأولى أن المذوق موتة ثانية ، فكان كأنه قيل : لكن غير المتقين ممن كان عاصياً فيدخل النار فيذوق فيها موتة أخرى - كما جاء في الأحاديث الصحيحة ، ويجوز أن يجعل وصف المتقين أعم من الراسخين وغيرهم ، فيكون الحكم على المجموع ، أي أن الكل لا يذوقون ، وبعضهم - وهم من أراد الله من العصاة - يذوقونه في غيرها وهو النار ، ويجوز أن تكون الموتة الأولى كانت في الجنة المجازية فلا يكون تعليقاً بمحال ، وذلك أن المتقي لم يزل فيها في الدنيا مجازاً بما له من التسبب وبما سبق من حكم الله له بها ، قال صلى الله عليه وسلم : « المؤمن إذا عاد أخاه لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع ، قيل : وما خرفة الجنة؟ قال : جناها » « وإذا مررتم برياض الجنة فارتعوا » وكذا المحكوم له بما هو فيها عند الموت وبعده بما له من التمتع بالنظر ونحوه من الأكل للشهداء وغير ذلك مما ورد في الأخبار الصحيحة ، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عمه النضر رضي الله عنه قال يوم أحد : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد ، ثم قاتل حتى قتل . ثم يكون تمام ذلك النعيم بالجنة بعد البعث ، قال ابن برجان : الدنيا إذا تحققت في حق المؤمن المتقي وتتبع النظر فيها فإنها جنة صغرى لتوليه سبحانه إياهم فيها وقربه منهم ونظره إليهم وذكرهم له وعبادتهم إياه وشغلهم به وهو معهم أينما كانوا .
ولما كان السياق للمتقين قال : { ووقاهم } أي جملة المتقين في جزاء ما اتقوه { عذاب الجحيم * } أي التي تقدم إصلاء الأثيم لها ، وأما غير المتقين من العصاة فيدخل الله من أراد منهم النار فيعذر كلاًّ منهم على قدر ذنوبه ثم يميتهم فيها ويستمرون إلى أن يأذن الله في الشفاعة فيهم فيخرجهم ثم يحييهم بما يرش عليهم أهل الجنة من ماء الحياة ، روى الإمام أحمد في مسنده ومسلم في الإيمان من صحيحه وابن حبان في الشفاعة من سننه والدرامي في صفة الجنة والنار من سننه المشهور بالمسند ، وابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما أهل النار الذين هم أهلها » - وقال الدارمي : الذين هم للنار - « فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن ناس منكم أصابتهم النار بذنوبهم » ، - أو قال : « بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة » ، وقال الإمام أحمد : « فيميتهم إماتة » ، وقال الدرامي : « فإن النار تصيبهم على قدر ذنوبهم فيحرقون فيها حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم » وقال الدرامي : « فيخرجون من النار ضبائر ضبائر فنبتوا على أنهار الجنة ، ثم قيل : يا أهل الجنة ، أفيضوا عليهم ، فينبتون » ، وقال الدرامي فتنبت لحومهم نبات الحبة في حميل السيل . الضبائر قال عبد الغافر الفارسي في مجمع الرغائب : جمع ضبارة مثل عمارة عمائر : جماعات الناس ، وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يدخل ناس في النار حتى إذا صاروا فحماً أدخلوا الجنة ، فيقول أهل الجنة : من هؤلاء؟ ، فيقال : هؤلاء الجهنميون » ، ولأحمد بن منيع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يوضع الصراط » فذكر شفاعة المؤمنين في إخوانهم بعد جواز الصراط وإذن الله لهم في إخراجهم ، قال : « فيخرجونهم منها فيطرحونهم في ماء الحياة فينبتون نبات الزرع في غثاء السيل » ، ولابن أبي عمر عن عبيد بن عمير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يخرج الله قوماً من النار بعد ما امتحشوا فيها وصاروا فحماً فيلقون في نهر على باب الجنة يسمى نهر الحياة ، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل - أو كما تنبت الثعارير - فيدخلون الجنة ، فيقال : هؤلاء عتقاء الرحمن » الثعارير - بالثاء المثلثة والعين والراء المهملتين : نبات كالهليون ، وروى الترمذي - وقال : حسن صحيح - وروي من غير وجه عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا فيها حمماً ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما تنبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة » .
ولما كان السياق للمتقين ، فكان ربما ظن أن هذا الذي فعل بهم حق لهم لا بد و لا محيد عنه ، بين أن الأمر على غير ذلك ، وأنه سبحانه لو واخذهم ولم يعاملهم بفضله وعفوه لهلكوا ، فقال : { فضلاً } أي فعل بهم ذلك لأجل الفضل ، ولذلك عدل عن مظهر العظمة فقال تعالى : { من ربك } أي المحسن إليك بكمال إحسانه إلى اتباعك إحساناً يليق بك ، قال الرازي في اللوامع : أصل الإيمان رؤية الفضل في جميع الأحوال . ولما عظمه تعالى بإظهار هذه الصفة مضافة إليه صلى الله عليه وسلم ، زاد في تعظيمه بالإشارة بأداة البعد فقال : { ذلك } أي الفضل العظيم الواسع { هو } أي خاصة { الفوز } أي الظفر بجميع المطالب { العظيم * } الذي لم يدع جهة الشرف إلا ملأها .
ولما قدم سبحانه في هذه السورة ما للقرآن من البركة بما اشتمل عليه من البشارة والندارة والجمع والفرق ، وذكرهم بما يقرون به من أنه مبدع هذا الكون مما يستلزم إقرارهم بتوحيده المستلزم لأنه يفعل ما يشاء من إرسال وإنزال وتنبيه وبعث وغير ذلك ، وهددهم بما لا يقدر عليه غيره من الدخان والبطشة ، وفعل بعض ذلك ، وذكرهم بما يعرفون من أخبار من مضى من قروم القرون وأنهم مع ذلك كله أنكروا البعث ، ثم ذكر ما يقتضي التحذير والتبشير - كل ذلك في أساليب فأتت كل المدى ، فأعجزت جميع القوى ، مع ما لها من المعاني الباهرة ، والبدائع الزاهرة القاهرة ، سبب عن قوله فذلكة للسورة : { فإنما يسرناه } أي جعلنا له يسراً عظيماً وسهولة كبيرة .
ولما كان الإنسان كلما زادت فصاحته وعظمت بلاغته ، كان كلامه أبين وقوله أعذب وأرصن وأرشق وأمتن ، وكان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأبعدهم لذلك من التكلف ، أضافه إليه فقط فقال : { بلسانك } أي هذا العربي المبين وهم عرب تعجبهم الفصاحة { لعلهم يتذكرون * } أي ليكونوا عند من يراهم وهو عارف بلسانهم ممن شأنه كشأنهم على رجاء من أن يتذكروا أن هذا القرآن شاهد بإعجازه بصحة ما فيه من التوحيد والرسالة وغيرهما مما سبق إليك وجلى عليك وإلا لقدروا هم وهم أفصح الناس على معارضة شيء منه فيتذكروا ما غفلوا عنه من أنه عزيز بإهلاكه الجبابرة ، وأنه حكيم بنصبه الآيات لأنبيائه وتأييدهم بالمعجزات ، ومن أن الكبير منهم لا يرضى أن يطعن أحد في كبريائه ولا أن يترك من له عليه حكم وهو تحت قهره أن يبغي بعضهم على بعض ثم لا ينصر المظلوم منهم على ظالمه ويأخذ بيده حتى لا يستوي المحسن بالمسيء ، فإذا تذكروا ذلك مع ما يعرفون من قدرة الملك وكبريائه وحكمته علموا قطعاً أنه لا بد من البعث للتمييز بين أهل الصلاح والفساد ، والفصل بين جميع العباد ، فتسبب عن ذلك قوله : { فارتقب } أي ما رجيتك به من تذكرهم المستلزم لهدايتهم .
ولما كانوا يظهرون تجلداً ولدداً أنهم لا يعبؤون بشيء من القرآن ولا غيره مما يأتي به ولا يعدون شيئاً منه آية ، أخبر عما يبطنون من خوفهم وانتظارهم لجميع ما يهددهم به مؤكداً لأجل ظن من حمل تجلدهم على أنه جلد فقال : { إنهم } وزاد الأمر بالإخبار بالاسم الدال على الثبات والدوام فقال : { مرتقبون * } أي تكليفهم أنفسهم المراقبة وإجهادهم أفكارهم في ذلك دائم لا يزايلهم بل قد قطع قلوبهم وملأ صدورهم ، فقد انطبق آخر السورة على أولها ، بل وعلى المراد من مجملها ومفصلها ، بذكر الكتاب والأرتقاب لأنواع العذاب - والله الهادي إلى الصواب ، إنه الكريم الوهاب .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
{ حم * } أي حكمة محمد إليها المنتهى كما تقدم في الدخان ما أفهم إنزاله من أم الكتاب جملة إلى بيت العزة ، ودل على بركته مما دل على حكمة منزله وعزته بالبشارة والنذارة والإيقاع بالمجرمين بعد طول الحلم والأناة والنجاة للمتقين وغير ذلك من أمور هي في غاية الدلالة على ذلك لأنها راجعة إلى الحسن لمن ألقى السمع ، وهو شهيد ، وأشار إلى سهولتها على من تأمل هذا الذكر المترجم بلسان أعلى الخلق وأكملهم وأشرفهم خلائق وأفضلهم ، ابتدأ هذه بالإعلام بأنه زاد ذلك يسراً وسهولة بإنزاله منجماً بحسب الوقائع مطابقاً لها أتم مطابقة بعد إنزاله جملة من أم الكتاب ثم مرتباً لما أنزل منه ترتيباً يفهم علوماً ويوضح أسراراً غامضة مهمة فقال : { تنزيل الكتاب } أي إنزال الجامع لكل خير مفرقاً لزيادة التسهيل في التفهيم والإبلاغ في اليسر في التعليم وغير ذلك من الفضل العميم وزاده عظماً بقوله : { من الله } أي كائن من المحيط بصفات الكمال .
ولما كان - كما مضى - للعزة والحكمة أعظم بركة هنا قال : { العزيز الحكيم * } فكان كتابه عزيزاً حكيماً لا كما تقول الكفرة من أنه شعر أو كذب أو كهانة لأنه لا حكمة لذلك ولا عزة بحيث يلتبس أمره بأمره هذا الكتاب المحيط بدائرة الحكمة والصواب ، ودل بشواهد القدرة وآثار الصنعة من نسخة هذا الكتاب على الصفتين وعلى وحدانيته فيهما اللازم منه تفرده المطلق فقال مؤكداً لأجل من ينكر ذلك ولو بالعمل ، وترغيباً في تدقيق النظر بتأمل آيات الوجود التي هذا الكتاب شرح لمغلقها وتفصيل لمجملها . وإيماء إلى أنها أهل لصرف الأفكار إلى تأملها { إن في } ولما كانت الحواميم - كما روى أبو عبيدة في كتاب الفضائل عن ابن عباس رضي الله عنهما - لباب القرآن ، حذف ما ذكر في البقرة من قوله « خلق » ليكون ما هنا أشمل فقال : { السماوات } أي ذواتها بما لها من الدلالة على صانعها وخلقها على ما فيها من العبر بما فيها من المنافع وعظيم الصنعة ما لها من الشفوف الدال على تعددها بما فيها من الكواكب { والأرض } كذلك وبما حوت من المعادن والمعايش والمنابع والمعاون { لآيات } أي دلائل على وحدانيته وجميع كماله ، فإن من المعلوم أنه لا بد لكل من ذلك من صانع متصف بذلك { للمؤمنين * } أي لأنهم برسوخهم في هذا الوصف الشريف أهل للنظر لأن ربهم يهديهم بإيمانهم فشواهد الربوبية لهم منهما لائحة ، وأدلة الإلهية فيهما واضحة ، ولعله أشار بالتعبير بالوصف إلى أنه لا بد في رد شبه أهل الطبائع من تقدم الإيمان ، وأن من لم يكن راسخ الإيمان لم يخلص من شكوكهم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت السورة المتقدمة إيضاح أمر الكتاب وعظيم بيانه وأنه شاف كاف وهدى ونور ، كان أمر من كفر من العرب أعظم شيء لانقطاعهم عجزهم وقيام الحجة به عليهم حتى رضوا بالقتل والخزي العاجل وما قاموا بادعاء معارضته ولا تشوفوا إلى الإسناد إلى عظيم تلك المعارضة ، أتبع ذلك تعالى تنبيهاً لنبيه والمؤمنين إلى ما قد نصبه من الدلائل سواه مما صد المعرض عن الاعتبار بها أو ببعضها مجرد هواه ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، فقال تعالى بعد القسم بالكتاب المبين { إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين } أي لو لم تجئهم يا محمد بعظيم آية الكتاب فقد كان لهم فيما نصبنا من الأدلة أعظم برهان وأعظم تبيان { أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى } [ الروم : 8 ] فلما نبه بخلق السماوات والأرض ، أتبع بذكر ما بث في الأرض فقال { وفي خلقكم وما بث فيهما من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الّيل والنهار } أي في دخول أحدهما على الآخر بألطف اتصال وأربط انفصال { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار } ثم نبه على الاعتبار بإنزال الماء من السماء وسماه رزقاً بحط القياس فقال { وما أنزل الله من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها } ثم قال { وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون } الاستدلال بهذه الآي يستدعي بسطاً يطول ، ثم قال { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق } أي علاماته ودلائله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } ثم قال { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } أبعد ما شاهدوه من شاهد الكتاب وما تضمنه خلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهن من عجائب الدلائل الواضحة لأولي الألباب ، فإذا لم يعتبروا بشيء من ذلك فبماذا يعتبر ، ثم أردف تعالى بقريعهم وتوبيخهم في تصميمهم مع وضوح الأمر فقال { ويل لكل أفاك أثيم } الآيات الثلاث ، ثم قال { هذا هدى } وأشار إلى الكتاب وجعله نفس الهدى لتحمله كل أسباب الهدى وجميع جهاته ، ثم توعد من كفر به ثم أردف ذلك بذكر نعمه وآلائه ليكون ذلك زائداً في توبيخهم ، والتحمت الآي عاضدة هذا الغرض تقريعاً وتوبيخاً ووعيداً وتهديداً إلى آخر السورة - انتهى .
ولما ذكر سبحانه بالنظر في آيات الآفاق ، أتبعها آيات الأنفس فقال : { وفي خلقكم } أي المخالف لخلق الأرض التي أنتم منها بالاختيار والعقل والانتشار والقدرة على السار والضار { وما يبث } أي ينشر ويفرق بالحركة الاختيارية بثاً على سبيل التجدد والاستمرار { من دآبة } مما تعلمون ومما لا تعلمون بما في ذلك من مشاركتكم في الحركة بالاختيار والهداية للمنافع بإدراك الجزئيات ومخالفتكم في الصورة والعقل وإدراك الكليات وغير ذلك من مخالفة الأشكال والمنافع والطبائع ونحوها { آيات } أي على صفات الكمال ولا سيما العزة والحكمة ، وهي على قراءة حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب هنا ، وفي الذي بعده عطف الآيتين على حيز إن في الآية الأولى من الاسم والخبر ، فلهذه الآية نظر إلى التأكيد ، وهو على قراءة الجماعة مبتدأ بالعطف على « إن » وما في حيزها ، وهي أبلغ لأنها تشير إلى أن ما في تصوير الحيوان وجميع شأنه من عجيب الصنع ظاهر الدلالة على الله فهو بحيث لا ينكره أحد ، فهو غني عن التأكيد ، ويجوز أن تكون الآية على قراءة النصب من الاحتباك : حذف أولاً الخلق بما دل عليه ثانياً ، وثانياً ذوات الأنفس بما دل عليه من ذوات السماوات أولاً .
ولما كانت آيات الأنفس أدق وأدل على القدرة والاختيار بما لها من التجدد والاختلاف ، قال : { لقوم } أي فيهم أهلية القيام بما يحاولونه { يوقنون * } أي يتجدد لهم العروج في درجات الإيمان إلى أن يصلوا إلى شرف الإيقان ، فلا يخالطهم شك في وحدانيته؛ قال الحرالي في تفسير { أو كالذي مر على قرية } : آية النفس منبهة على آية الحس ، وآية الحس منبهة على آية النفس ، إلا أن آية النفس أعلق ، فهي لذلك أهدى ، غاية آية الآفاق الإيمان ، وغاية آية النفس اليقين .
ولما ذكر الظرف وما خلق لأجله من الناس ، ضم إليهم بعض ما خلقه لأجلهم لشرفه بالحياة ، أتبعه ما أودع الظرف من المرافق لأجل الحيوان فقال : { واختلاف الّيل والنهار } بذهاب أحدهما ووجود الآخر بعد ذهابه على التعاقب آية متكررة للدلالة على القدرة على الإيجاد بعد الإعدام بالبعث وغيره ، وجر « اختلاف » بتقدير « في » فينوب حرف العطف مناب عامل واحد للابتداء عند من رفع « آيات » ، ومناب « إن » عند من نصب ، فلم يلزم نيابته مناب عاملين مختلفين في الابتداء في الرفع وفي « إن » في النصب .
ولما كان المطر أدل مما مضى على البعث والعزة ، لأن الشيء كلما قل الإلف له كان أمكن للتأمل فيه ، أولاه إياه فقال : { وما أنزل الله } أي الذي تمت عظمته فنفذت كلمته . ولما كان الإنزال قد يستعمل فيما اتى من علو معنوي وإن لم يكن حسياً ، بين أن المراد هنا الأمران فقال : { من السماء } .
ولما كانت منافع السماء غير منحصرة في الماء قال : { من رزق } أي مطر وغيره من الأسباب المهيئة لإخراج الرزق { فأحيا به } أي بسببه وتعقبه { الأرض } أي الصالحة للحياة ، ولذلك قال : { بعد موتها } أي يبسها وتهشم ما كان فيها من النبات وانقلابه بالاختلاط بترابها تراباً ، فإذا نزل عليها الماء جمعه منها فأخرجه على ما كان عليه كلما تجدد نزوله ، ولذلك لم يأت بالجار إشارة إلى دوام الحياة بالقوة إن لم يكن بالفعل .
ولما ذكر ما يشمل الماء ، ذكر سبب السحاب الذي يحمله فقال : { وتصريف الرياح } في كل جهة من جهات الكون وفي كل معنى من رحمة وعذاب وغير ذلك من الأسباب ، ولم يذكر الفلك والسحاب كما في البقرة لاقتضاء اللبابية المسماة بها الحواميم ، ذلك لأنهما من جملة منافع التصريف ، وتوحيد حمزة والكسائي أبلغ لأن تصريف الشيء الواحد في الوجوه الكثيرة أعجب { آيات } قراءة الرفع أبلغ لإشارتها بعدم الحاجة إلى التأكيد إلى أن ما في الآية ظاهر الدلالة على القدرة والاختيار للصانع بما في التصريف من الاختلاف ، والماء بما يحدث عنه من الإنبات أوضح دلالة من بقيتها على البعث ، ولأجل شدة ظهورها ناط الأمر فيها بالعقل فقال : { لقوم يعقلون * } وقال القالي : والمعنى أن المنصفين لما نظروا في السماوات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمنوا ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيماناً فأيقنوا ، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا واستحكم علمهم .
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
ولما ذكر هذه الآيات العظيمات ، وكانت كلها مشتركة في العظم ، بعد ما أشار إلى تباين رتبها في الخفاء والجلاء بفواصلها ، قال مشيراً إلى علو رتبها بأداة البعد : { تلك } أي الآيات الكبرى { آيات الله } أي دلائل المحيط بصفات الكمال التي لا شيء أجلى ولا أظهر ولا أوضح منها . ولما كان كأنه قيل : ما لها؟ قال ، أو يكون المراد : نشير إليها حال كوننا { نتلوها } أي نتابع قصها { عليك } سواء كانت مرئية أو مسموعة ، متلبسة { بالحق } أي الأمر الثابت الذي لا يستطاع تحويله فليس بسحر ولا كذب ، فتسبب عن ذلك حينئذ الإنكار عليهم وعلى من يطلب إجابتهم إلى المقترحات طمعاً في إيمانهم في قوله تعالى : { فبأي حديث } أي خبر عظيم صادق يتجدد علمهم به يستحق أن يتحدث به ، واستغرق كل حديث فقال : { بعد الله } أي الحديث الأعظم عن الملك الأعلى { وآياته } أي والحديث عن دلالاته العظيمة { يؤمنون * } من خاطب - وهم الجمهور - ردوه على قوله « وفي خلقكم » وهو أقوى تبكيتاً ، وغيرهم وهم أبو عمرو وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب رأوا أن ذلك الخطاب صرف إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { نتلوها عليك بالحق } .
ولما كان لا يبقى على الكفر نوع بقاء فضلاً عن الإصرار بعد هذا البيان إلا من يستحق النكال لمجاهرته بالعناد ، قال على وجه الاستنتاج مهدداً : { ويل } أي مكان معروف في جهنم { لكل أفاك } أي مبالغ في صرف الحق عن وجهه { أثيم * } أي مبالغ في اكتساب الإثم وهو الذنب ، وعمل ما لا يحل مما يوجب العقاب ، وفسر هذا بقوله : { يسمع آيات الله } أي دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها { تتلى } أي يواصل استماعه لها بلسان القال أو الحال من أيّ تال كان ، عالية { عليه } بجميع ما فيها من سهولة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق .
ولما كانت تلاوتها موجبة لإقلاعه فكان إصراره مع بعد رتبته في الشناعة مستبعداً كونه قال : { ثم يصر } أي يدوم دوماً عظيماً على قبيح ما هو فيه حال كونه { مستكبراً } أي طالباً الكبر عن الإذعان وموجداً له . ولما كان مع ما ذكر من حاله يجوز أن يكون سماعه لها ، خفف من مبالغته في الكفر ، بين أنها لم تؤثر فيه نوعاً من التأثير ، فكان قلبه أشد قسوة من الحجر فقال : { كأن } أي كأنه { لم يسمعها } فعلم من ذلك ومن الإصرار وما قيد به من الاستكبار أن حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء ، وقد علم بهذا الوصف أن كل من لم ترده آيات الله تعالى كان مبالغاً في الإثم والإفك ، فكان له الويل .
ولما كان الإصرار معناه الدوام المتحكم ، لم يذكر الوقر الذي هو من الأمراض الثابتة كما ذكره في سورة لقمان ، قال ابن القطاع وابن ظريف في أفعالهما ، أصر على الذنب والمكروه : أقام ، وقال عبد الغافر الفارسي في المجمع : أصررت على الشيء أي أقمت ودمت عليه ، وقال ابن فارس في المجمل : والإصرار : العزم على الشيء والثبات عليه ، وقال أبو عبد الله القزاز في ديوانه ونقله عن عبد الحق في واعيه : وأصل الصر الإمساك ، ومنه يقال : أصر فلان على كذا ، أي أقام عليه وأمسكه في نفسه وعقده لأنه قد يقول ما ليس في نفسه وما لا يعتقده ، والرجل مصر على الذنب أي ممسك له معتقد عليه ، ثم قال : من الإصرار عليه وهو العزم على أن لا يقلع عنه ، وقال الأصفهاني تبعاً لصاحب الكشاف : وأصله من أصر الحمار على العانة ، وهو أن ينحني عليها صاراً أذنيه .
ولما أخبر عن ثباته على الخبث ، سببب عنه تهديده في أسلوب دال - بما فيه من التهكم - على شدة الغضب وعلى أنه إن كان له بشارة فهي العذاب فلا بشارة له أصلاً فقال تعالى : { فبشره } أي على هذا الفعل الخبيث { بعذاب } لا يدع له عذوبة أصلاً { أليم * } أي بليغ الإيلام .
ولما بين تعالى كفره بما يسمع من الآيات ، أتبعه ما هو أعم منه فقال : { وإذا علم } أي أيّ نوع كان من أسباب العلم { من آياتنا } أي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا { شيئاً } وراءه وكان كلما رأوا الإنسان في غاية التمكن منه ، قال مبيناً للعذاب : { جهنم } أي تأخذهم لا محالة وهم في غاية الغفلة عنها بترك الاحتراز منها ، ويحسن التعبير بالوراء أن الكلام في الأفاك ، وهو انصراف الأمور عن أوجهها إلى اقفائها فهو ماش أبداً إلى ورائه فهو ماش إلى النار بظهره ، ويستعمل ، « وراء » في الإمام ، فيكون حينئذ مجاراً عن الإحاطة أي تأخذهم من الجهة التي هم بها عالمون والجهة التي هم بها جاهلون ، فتلقاهم بغاية التجهم والعبوسة والغيظ والكراهة ضد ما كانوا عليه عند العلم بالآيات المرئية والمسموعة من الاستهزاء الملازم للضحك والتمايل بطراً وأشراً ، ومثل ما كانوا عليه عند الملاقاة للمصدقين بتلك الآيات .
ولما كانوا يظهرون الركون إلى ما بأيديهم من الأعراض الفانية ، قال : { ولا يغني عنهم } أي في دفع ذلك { ما كسبوا } أي حصلوا من الأمور التي أفادتهم العز الذي أورثهم الاستهزاء { شيئاً } أي من إغناء . ولما كان هؤلاء لما هم عليه من العمى يدعون إغناء آلهتهم عنهم ، قال مصرحاً بها : { ولا ما اتخذوا } أي كلفوا أنفسهم أي كلفوا أنفسهم بأخذه مخالفين لما دعتهم إليها فطرهم الأولى السليمة من البعد عنها .
ولما كان كفرهم إنما هو الإشراك ، فكانوا يقولون « الله » أيضاً ، قال معبراً بما يفهم سفول ما سواه : { من دون الله } أي أدنى رتبة من رتب الملك الأعظم { أولياء } أي يطمعون في أن يفعلوا معهم ما يفعله القريب من النفع والذب والدفع { ولهم } مع عذابه بخيبة الأمر { عذاب عظيم * } لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً من أزمانهم ولا عضواً من أعضائهم إلا ملأه .
ولما أخبر عما لمن أعرض عن الآيات بما هو أجل موعظة وأردع زاجر عن الضلال ، قال مشيراً إلى ما افتتح به الكلام من المتلو الذي هذا منه : { هذا } أي التنزيل المتلو عليكم { هدى } أي عظيم جداً بالغ في الهداية كامل فيها ، فالذين اهتدوا بآيات ربهم لأنهم - لم يغتروا بالحاضر لكونه زائلاً فاستعملوا عقولهم فآمنوا به لهم نعيم مقيم { والذين كفروا } أي ستروا ما دلتهم عليهم مرائي عقولهم به - هكذا كان الأصل ، ولكنه نبه على أن كل جملة من جمله ، بل كل كلمة من كلماته دلالة واضحة عليه سبحانه فقال : { بآيات ربهم } أي وهذه التغطية بسبب التكذيب بالعلامات الدالة على وحدانية المحسن إليهم فضلوا عن السبيل لتفريطهم في النظر لغروهم بالحاضر الفاني { لهم عذاب } كائن { من رجز } أي عقاب قذر شديد جداً عظيم القلقلة والاضطراب متتابع الحركات ، قال القزاز ، الرجز والرجس واحد { أليم * } أي بليغ الإيلام ، الآية من الاحتباك : ذكر الهدى أولاً دليلاً على الضلال ثانياً ، والكفر والعذاب ثانياً دليلاً على ضدهما أولاً ، وسره أنه ذكر السبب المسعد ترغيباً فيه ، والمشقى ترهيباً منه .
ولما ذكر سبحانه وتعالى صفة الربوبية ، ذكر بعض آثارها وما فيها من أياته ، فقال مستأنفاً دالاً على عظمتها بالاسم الأعظم : { الله } أي الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال . ولما كان آخر الآيات التي قدمها الرياح ، ذكر ما يتصرف بتسييرها فقال : { الذي سخر } أي وحده من غير حول منكم في ذلك بوجه من الوجوه { لكم } أيها الناس بربكم وفاجركم { البحر } بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القبلية للسير فيه بالرقة والليونة والاستواء مع الريح الموافقة وأنه يطفوا عليه ما كان من الخشب مع ما علم من صنعته على هذا الوجه الذي تم به المراد { لتجري الفلك } أي السفن { فيه بأمره } ولو كانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها .
ولما كان التقدير : لتعبروا بذلك فتعلموا أنه بقدرته خاصة لتؤمنوا به ، عطف عليه قوله : { ولتبتغوا } أي تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص وغير ذلك { من فضله } لم يصنع شيئاً منه سواه . ولما كان التقدير : لتظهر عليكم آثار نعمته ، عطف عليه قوله تعالى : { ولعلكم تشكرون * } أي ولتكونوا بحيث يرجوا منكم من ينظر حالكم ذلك الشكر من أنعم عليكم به ليزيدكم من فضله في الدنيا والآخرة .
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
ولما ذكر آية البحر لعظمتها ، عم بمنافع الخافقين دلالة على أنه ما خلق ذلك كله ، على عظمه إلا لنا ، تنبيهاً على أن الأمر عظيم فقال تعالى : { وسخر لكم } أي خاصة ولو شاء لمنعه { ما في السماوات } بإنزاله إليكم منبهاً على أنها بحيث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه ، وأكد بإعادة الموصول لأن السياق للدلالة على عزته وحكمته الدالتين على توحده باستحقاق العبادة الذي هم له منكرون كما دلتا على توحده بالإيجاد والسيادة وهم معترفون بذلك بألسنتهم ، وأفعالهم أفعال من ينكره ، فقال : { وما في الأرض } وأوصلكم إليه ولو شاء لجعلكم كما في السماء لا وصول لكم إليه ، وأكد ما دل على ما مضى من العموم بقوله : { جميعاً } حال كون ذلك كله من أعيان تلك الأشياء ومن تسخيرها { منه } لا صنع لأحد غيره في شيء منه في ذلك ، قال الرازي في اللوامع : قال أبو يعقوب النهر جوري : سخر لك الكل لئلا يسخرك منها شيء ، وتكون مسخراً لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى ، فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه ، وقال القشيري : ما من شيء من الأعيان الظاهرة إلا ومن وجه للانسان به انتفاع ، فمن أن يستسخرك ما هو مسخر لك .
ولما صح أنه لا شريك له في شيء من الخلق لا من الذوات ولا من المعاني ، حسن جداً قوله ، مؤكداً لأن عملهم يخالفه : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم وهو تسخيره لنا كل شيء في الكون { لآيات } أي دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا { لقوم } أي ناس فيهم أهلية للقيام بما يجعل إليهم { يتفكرون * } أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئاً .
ولما علمت دلائل التوحيد على وجه علم منه أنه قد بسط نعمه على جميع خلقه طائعهم وعاصيهم ، فعلمت بواسطة ذلك الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة ، وكان على المقبل عليه المحب له التخلق بأوصافه ، أنتج قوله مخاطباً لأفهم خلقه عنه وأطوعهم له الذي الأوامر إنما هي له من شدة طواعته تكوين لا تكليف : { قل } أي بقالك وحالك { للذين آمنوا } أي ادعوا التصديق بكل ما جاءهم من الله : اغفروا تسنناً به من أساء إليكم . ولما كان هذا الأمر في الذروة من اقتضاء الإحسان إلى المسيء فكيف بالصفح عنه ، كان كأنه علة مستقلة في الإقبال عليه والقبول منه والإعراض عن مؤاخذة المسيء ، فإن ذلك يقدح في كمال الإقبال عليه مع أن من كان يريد هو سبحانه الانتقام منه فهو يكفي أمره ، ومن لم يرد ذلك منه فلا حيلة في كفه بوجه فالاشتغال به عبث فنبه على ذلك بأن جعل جواب الأمر قوله : { يغفروا } أي يستروا ستراً بالغاً .
ولما كان العاقل من سعى جهده في نفع نفسه ، وكان الأذى لعباد الله مظنة لتوقع الغضب منه وقادحاً فيما يرجى من إحسانه قال : { للذين } وعبر في موضع { أساؤوا إليهم } بقوله تعالى : { لا يرجون } أي حقيقة ومجازاً ، والتعبير في موضع الخوف بالرجاء لما فيه من الاستجلاب والترغيب والتأليف والاستعطاف ، وقال بعد ما نبه عليه بتلك العبارة من جليل الإشارة : { أيام الله } أي مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال في الأمم الخالية بإدالة الدول تارة لهم وأخرى عليهم ، وفيه أعظم ترغيب في الحث على الغفران للموافق في الدين ، وتنبيه على أنه لا يقدم على الإساءة إلى عبيده إلا من أعرض عنه ، فصار حاله حال الآئس من صنائعه سبحانه في جزائه للمسيء والمحسن في الأيام والليالي ، وعبر بالاسم الشريف تنبيهاً على ما له من الجلال والجمال في معاملة كل منهما ، قال ابن برجان : وهذه الآية وشبهها من النسي المذكور في قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها } [ البقرة : 106 ] وليس بنسخ بل هو حكم يجيء ويذهب بحسب القدرة على الانتصار ، وكان ينزل مثل هذا بمكة والمسلمون في ضعف ، ونزل بعد الهجرة آية الجهاد والأمر بالمعروف ، وتركت هذه وأمثالها مسطورة في القرآن لما عسى أن يدور من دوائر أيام الله ومن أيامه إزالة أهل الكفر تنبيهاً للمسلمين ليراجعوا أمرهم ويصلحوا ما بينهم وبين ربهم .
ولما كان من قوصص على جنايته في الدنيا ، سقط عنه أمرها في الآخرة ، وكان المسلط للجاني في الحقيقة إنما هو الله تعالى وكان تسليطه إياه لحكم بالغة تظهر غاية الظهور في الآخرة ، علل الأمر بالغفران مهدداً للجاني ومسلياً للمجني عليه : { ليجزي } أي الله في قراءة الجماعة بالتحتانية والبناء للفاعل ، ونحن بما لنا من العظمة في قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون ، وبناه أبو جعفر للمفعول فيكون النائب عن الفاعل الخير أو الشر بتقدير حرف الجر لجزائهم في الدنيا وفي الآخرة حيث يظهر الحكم وينجلي الظلم .
ولما كان ربما جوزي جميع الجناة ، وربما عفي عن بعضهم بالتوبة عليه أو غيرها تفضلاً لحكم أخرى ويثاب المظلوم على ظلامته لمثل ذلك قال : { قوماً } أي من الجناة وإن كانوا في غاية العلو الكبرياء والجبروت ومن المجني عليهم وإن كانوا في غاية الضعف { بما } أي بسبب الذي { كانوا } أي في جبلاتهم وأبرزوه إلى الخارج { يكسبون * } أي يفعلون على ظن أنه ينفعهم أو بسبب كسبهم من خير أو شر ، والحاصل أنه تعالى يقول : أعرض عمن ظلمك وكل أمره إليّ فإني لا أظلمك ولا أظلم أحداً ، فسوف أجزيك على صبرك أجزيه على بغيه وأنا قادر ، وأفادت قراءة أبي جعفر الإبلاغ في تعظيم الفاعل وأنه معلوم ، وتعظيم ما أقيم مقامه وهو الجزاء بجعله عمدة مسنداً إليه لأن عظمته على حسب ما أقيم مقامه ، فالتقدير لكون الفعل يتعدى إلى مفعولين كما قال تعالى
{ وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً } [ الدهر : 12 ] ليجزي الملك الأعظم الجزاء الأعظم من الخير للمؤمن والشر للكافر قوماً ، فجعل الجزاء كالفاعل وإن كان مفعولاً كما جعل « زيد » فاعلاً في مات زيد وإن كان مفعولاً في المعنى : تنبيهاً على عظيم تأثير الفعل فإنه لا انفكاك عنه لأنه يجعل متمكناً من المجزي تمكن المجزي من جزائه ومحيصاً به لأن الله تعالى بعظم قدرته يجعل عمل الإنسان نفسه جزاء له ، قال الله تعالى { سيجزيهم وصفهم } [ الأنعام : 139 ] بما كانوا يعملون ، ويجوز أن يكون النائب عن الفاعل ضمير « الذين » بالنظر إلى لفظه فيكون المعنى : سيجزي الذين آمنوا ناساً كانوا أقوياء على القيام في أذاهم بسبب أذاهم لهم فيجعل كلاًّ منهم فداء لكل منهم من النار ، وربما رأوا بعض آثار ذلك في الدنيا ، روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ، وما تواضع أحد إلا رفعه الله عز وجل » ولأحمد والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه : ما نقص مال عبد من صدقة ، وما ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله باب فقر » - أو كلمة نحوها ، وروى الحاكم وصحح إسناده ، قال المنذري : وفيه انقطاع عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : « من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه » .
ولما رغب سبحانه ورهب وتقرر أنه لا بد من الجزاء ، زاد في الترغيب والترهيب بأن النفع والضر لا يعدوهم فقال شارحاً للحزاء : { من عمل صالحاً } قال أو جل { فلنفسه } أي خاصة عمله يرى جزاءه في الدنيا أو في الآخرة { ومن أساء } أي كذلك إساة قلت أو جلت { فعليها } خاصة إساءته كذلك ، وذلك في غاية الطهور لأنه لا يسوغ في عقل عاقل أن ملكاً يدع عبيده من غير جزاء ولا سيما إذا كان حكيماً وإن كانت نقائص النفوس قد غطت على كثير من العقول ذلك ومن جزائه أنه يديل المسيء على المحسن لهفوة وقعت له ليراجع حاله بالتوبة .
ولما كان سبحانه قادراً لا يفوته شيء كان بحيث لا يعجل فأخر الجزاء إلى اليوم الموعود : { ثم } أي بد الابتلاء بالإملاء في الدنيا والحبس في البرزخ { إلى ربكم } أي المالك لكم وحده لا إلى غيره { ترجعون * } .
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
ولما علم بهذه الحكم ما افتتحت به السورة من أن منزل هذا الكتاب عزيز حكيم ، فكان التقدير فذلكة لذلك : لفقد آتيناك الكتاب والحكم والنبوة وفضلناك وأمتك على العالمين وأرسلناك لتنبه الناس على ما أمامهم وكان قومه بعد ائتلافهم على الضلال قد اختلفوا بهذا الكتاب الذي كان ينبغي لهم أن يشتد اجماعهم به واستنصارهم من أجله ، عطف عليه مسلياً قوله : { ولقد آتينا } أي على ما لنا من العظمة والقدرة الباهرة { بني إسرائيل } نبي الله ابن عمكم إسحاق نبي الله ابن أبيكم إبراهيم خليل الله عليهم الصلاة والسلام { الكتاب } الجامع للخيرات وهو يعم التوارة والإنجيل والزبور وغيرها مما أنزل على أنبيائهم { والحكم } أي العلم والعمل الثابتين ثبات الاحكام بحيث لا يتطرق إليهما فساد بما للعلم من الزينة بالعمل ، وللعمل من الإتقان بالعلم { والنبوة } التي تدرك بها الأخبار العظيمة التي لا يمكن اطلاع الخلق عليها بنوع اكتساب منهم ، فأكثرنا فيهم من الأنبياء { ورزقناهم } بعظمتنا لإقامة أبدانهم { من الطيبات } من المن والسلوى وغيرهما من الأرزاق اللدنية وغيرها { وفضلناهم } بما لنا من العزة { على العالمين } وهم الذين تحقق إيجادنا لهم في زمانهم وما قبله فإنا آتيناهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثرنا فيهم من الأنبياء ما لم نفعله لغيرهم ممن سبق ، وكل ذلك فضيلة ظاهرة { وآتيناهم } مع ذلك { بينات من الأمر } الموحى به إلى أنبيائهم من الأدلة القطعية والأحكام والمواعظ المؤيدة بالمعجزات ، ومن صفات الأنبياء الآتين بعدهم وغير ذلك مما هو في غاية الوضوح لمن قضينا بسعادته ، وذلك أمر يقتضي الألفة والاجتماع وقد كانوا متفقين وهم في زمن الضلال لا يختلفون إلا اختلافاً يسيراً لا يضر مثله ولا يعد اختلافاً .
ولما كان حالهم بعد هذا الإيتاء مجملاً ، فصله فقال تعالى : { فما اختلفوا } أي أوقعوا الاختلاف والافتراق بغاية جهدهم ، ولما لم يكن اختلافهم مستغرقاً لجميع الزمن الذي بعد الإيتاء ، أثبت الجار فقال : { إلا من بعد ما جاءهم العلم } الذي من شأنه الجمع على المعلوم ، فكان ما هو سبب الاجتماع سبباً لهم في الافتراق لأن الله تعالى أراد ذلك وهو عزيز .
ولما كان هذا عجباً ، بين علته محذراً من مثلها فقال : { بغياً } أي للمجاوزة في الحدود التي اقتضاها لهم طلب الرئاسة والحسد وغيرهما من نقائص النفوس . ولما كان البغي على البعيد مذموماً ، زاده عجباً بقوله : { بينهم } واقعاً فيهم لم يعدهم إلى غيرهم ، وقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق واجتماع الكلمة على الرضا بالذل ، ولذلك استأنف قوله الذي اقتضاه الحال على ما يشاهده العباد من أفعال الملوك فيمن خالف أوامرهم ، مؤكداً لأجل إنكارهم . { إن ربك } أي المحسن إليك بإرسالك وتكثير أمتك وحفظهم مما ضل به القرون الأولى وبيان يوم الفصل الذي هو محط الحكمة بياناً لم يبينه على لسان أحد ممن سلف { يقضي بينهم } بإحصاء الأعمال والجزاء عليها ، لأن هذا مقتضى الحكمة والعزة { يوم القيامة } الذي ينكره قومك الذين شرفناهم برسالتك مع أنه لايجوز في الحكمة إنكاره { فيما كانوا } أي بما هو لهم كالجبلة { فيه يختلفون * } بغاية الجهد متعمدين له بخلاف ما كان يقع منهم خطأ فإنه يجوز في الحكمة أن يتفضل عليهم بالعفو عنه فقد علم أنه لا يجوز في الحكمة أصلاً أن يترك المختلفون من غير حكم بينهم لأن هذا لا يرضاه أقل الملوك فإنه لايعرف الملك إلا بالقهر والعزة ولا يعرف كونه حكيماً إلا بالعدل ، وإذا كان هذا لا يرضاه ملك فكيف يرضاه ملك الملوك ، وإذا كان هذا القضاء مقتضى الحكمة كان لا فرق فيه بين ناس وناس ، فهو يقتضي بينكم أيضاً كذلك ، ومن التأكيد للوعد بذلك اليوم التعبير باسم الرب مضافاً إليه صلى الله عليه وسلم .
ولما كان معنى هذا أنه سبحانه وتعالى جعل بني إسرائيل على شريعة وهددهم على الخلاف فيها ، فكان تهديدهم تهديداً لنا ، قال مصرحاً بما اقتضاه سوق الكلام وغيره من تهديدنا منبهاً على علو شريعتنا : { ثم } أي بعد فترة من رسلهم ومجاوزة رتب كثيرة عالية على رتبة شريعتهم { جعلناك } أي بعظمتنا { على شريعة } أي طريقة واسعة عظيمة ظاهرة مستقيمة سهلة موصلة إلى المقصود هي جديرة بأن يشرع الناس فيها ويخالطوها مبتدئة { من الأمر } الذي هو وحينا وهو حياة الأرواح كما أن الأرواح حياة الأشباح .
ولما بين بهذه العبارة بعض فضلها على ما كان قبلها ، سبب عنه قوله موجهاً الخطاب إلى الإمام بما أراد به المأمومين ليكون أدعى إلى اجتهادهم ، فإن أمرهم تكليف وأمر إمامهم تكوين : { فاتبعها } أي بغاية جهدك . ولما كانت الشريعة العقل المحفوظ الذي أخبر الله أنه به يأخذ وبه يعطي ، كان الإعراض عنها إلى غيرها إنما هو هوى ، ولما كان أحاد الأمة غير معصومين أشار إلى العفو عن هفواتهم بقوله تعالى : { ولا تتبع } أي تتعمدا أن تتبعوا { أهواء الذين لا يعلمون * } أي لا علم لهم أو لهم علم ولكنهم يعملون عمل من ليس لهم علم أصلاً من كفار العرب وغيرهم ، فإن من تعمد اتباعهم فعلت بهم ما فعلت ببني إسرائيل حيث لعنتهم على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام بعد ما لعنتهم على لسان موسى عليه الصلاة والسلام ، ثم علل هذا النهي مهدداً بقوله : مؤكداً تنبيهاً على أن من خالف أمر الله لأجل أحد كان عمله عمل من يظن أنه يحميه : { إنهم } وأكد النفي فقال تعالى : { لن يغنوا عنك } أي لا يتجدد لهم نوع إغناء مبتدىء { من الله } المحيط بكل شيء قدرة وعلماً واصل إليه ، وكل ما لا يكون ذا وصلة به فهو عدم { شيئاً } من إغناء إن تبعتهم كما أنهم لن يقدروا لك على شيء من أذى إن خالفتهم وناصبتهم .
ولما كان التقدير : فإنهم ظلمة لا يضعون شيئاً في موضعه ، ومن اتبعهم فهو منهم قال تعالى عاطفاً عليه : { وإن } وكان الأصل : وإنهم ولكنه أظهر للاعلام بوصفهم فقال : { الظالمين } أي العريقين في هذا الوصف الذميم { بعضهم أولياء بعض } فلا ولاية - أي قرب - بينهم وبين الحكيم أصلاً لتباعد ما بين الوصفين فكانت أعمالهم كلها باطلة لبنائها على غير أساس خلافاً لمن يظن بها غير ذلك تقيداً بالأمور الظاهرة في هذه الدار { والله } أي الذي له جميع صفات الجلال والجمال والعز والكمال { ولي المتقين * } الذين همهم الأعظم الاتصاف بالحكمة باتخاذ الوقايات المنجية لهم من سخط الله ولا ولاية بينه وبين الظالمين .
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
ولما أوصل سبحانه إلى هذا الحد من البيان ، الفائت لقوى الإنسان ، قال مترجماً عنه : { هذا } أي الوحي المنزل . ولما كان في عظم بيانه وإزالة اللبس عن كل ملبس دق أو جل بحيث لا يلحقه شيء من خفاء ، جعله نفس البصيرة ، مجموعة جمع كثرة بصيغة منتهى الجموع كما جعله روحاً فقال : { بصائر للناس } أي الذين هم في أدنى المراتب ، يبصرهم بما يضرهم وما ينفعهم ، فما ظنك بمن فوقهم من الذين آمنوا ثم الذين يؤمنون ومن فوقهم .
ولما بين ما هو لأهل السفول ، بين ما هو لأهل العلو فقال تعالى : { وهدى } أي قائد إلى كل خير ، مانع من كل زيغ { ورحمة } أي كرامة وفوز ونعمة { لقوم يوقنون * } أي ناس فيهم قوة القيام بالوصول إلى العلم الثابت وتجديد الترقي في درجاته إلى ما لا نهاية له أبداً . ولما كان التقدير بعد هذا البيان الذي لم يدع لبساً في أمر الحساب بما حده من الملك الذي يوجب ما له من العظمة والحكمة أن يحاسب عبيده لثواب المحسن وعقاب المسيء : أعلم هؤلاء المخاطبون - لأنهم لا يعدون أن يكونوا من الناس أو من الذين يوقنون بهذه البصائر لما لهم من حسن الغرائز المعلية لهم عن حضيض الحيوان إلى أوج الإنسان أنا نفرق بين المسيئين الذين بعضهم أولياء بعض وبين المحسنين الذين نحن أولياؤهم ، عطف عليه سبحانه وتعالى قوله : { أم } قال الأصبهاني : قال الإمام : كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على آخر سواء كان المعطوف مذكوراً أو مضمراً - انتهى . وكان الأصل : حسبوا ، ولكنه عدل عنه للتنبيه على أن ارتكاب السوء معم للبصيرة مضعف للعقل كما أفاده التعبير بالحسبان كما تقدم بيانه في البقرة فقال : { حسب الذين اجترحوا } أي فعلوا بغاية جهدهم ونزوع شهواتهم { السيئات أن نجعلهم } مع ما لنا من العظمة المانعة من الظلم المقتضية للحكمة { كالذين آمنوا وعملوا } تصديقاً لإقرارهم ظاهراً وباطناً وسراً وعلانية { الصالحات } بأن نتركهم بلا حساب للفصل بين المحسن والمسيء .
ولما كانت المماثلة مجملة ، بينهما استئنافاً بقوله مقدماً ما هو عين المقصود من الجملة الأولى : { سواء } أي مستو استواء عظيماً { محياهم ومماتهم } أي حياتهم وموتهم وزمان ذلك ومكانه في الارتفاع والسفول واللذة والكدر وغير ذلك من الأعيان والمعاني . ولما كان هذا مما لا يرضاه أحد لمن تحت يده ولا لغيره ، قال معبراً بمجمع الذم : { ساء ما يحكمون * } أي بلغ حكمهم هذا في نفسه ولا سيما وهم بإصرارهم عليه في تجديد له كل ساعة أقصى نهايات السوء ، فهو مما يتعجب منه ، لأنه لا يدري الحامل عليه ، وذلك أنه نسبوا الحكيم الذي لا حكيم في الحقيقة غيره إلى ما لا يفعله أقل الناس فيمن تحت يده .
ولما أنكر التسوية وذمهم على الحكم بها ، أتبع ذلك الدليل القطعي على أن الفريقين لا يستويان وإلا لما كان الخالق لهذا الوجود عزيزاً ولا حكيماً ، فقال دالاً على إنكار التسوية وسوء حكمهم بها ، عاطفاً على ما تقديره : فقد خلق الله الناس كلهم بالحق وهو الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، وهو ثبات أعمال المحسنين وبطلان أفعال المسيئين ، عطف عليه قوله : { وخلق الله } أي الذي له جميع أوصاف الكمال ولا يصح ولا يتصور أن يحلقه نوع نقص { السماوات والأرض } اللتين هما ظرف لكم وابتدئت السورة بالتنبيه على آياتهما ، خلقاً ملتبساً { بالحق } فلا يطابق الواقع فيهما أبداً شيئاً باطلاً ، فمتى وجد سبب الشيء وانتفى مانعه وجد ، ومتى وجد مانع الشيء وانتفى سببه انتفى ، لا يتخلف ذلك أصلاً ، ولذلك جملة ما وقع من خلقهما طابقه الواقع الذي هو قدرة الله وعلمه وحكمته وجميع ما له من صفات الكمال التي دل خلقهما عليها ، فإذا كان الظرف على هذا الإحكام فما الظن بالمظروف الذي ما خلق الظرف إلا من أجله ، هل يمكن في الحكمة أن يكون على غير ذلك فيكون الواقع الذي هو تفضيل المحسن على المسيء غير مطابق لأحوالهم ، ومن جملة المظروف ما بينهما فلذا لم يذكر هنا ، ولو كان ذلك من غير بعث ومجازاة بحسب الأعمال لما كان هذا الخلق العظيم بالحق بل بالباطل الذي تعالى عنه الحكيم فكيف وهو أحكم الحاكمين .
ولما كان التقدير : ليكون كل مسبب مطابقاً لأسبابه ، عطف عليه قوله : { ولتجزى } بأيسر أمر { كل نفس } أي منكم ومن غيركم { بما } أي بسبب الأمر الذي . ولما كان السياق للعموم ، وكان المؤمن لا يجزى إلا بما عمله على عمد منه وقصد ليكتب في أعماله ، عبر بالكسب الذي هو أخص من العمل فقال : { كسبت } أي كسبها من خير أو شر ، فيكون ما وقع الوعد به مطابقاً لكسبها { وهم } أي والحال أنهم { لا يظلمون * } أي لا يوجد من موجد ما في وقت من الأوقات جزاء لهم في غير موضعه ، وهذا على ما جرت به عوائدكم في العدل والفضل ، ولو وجد منه سبحانه غير ذلك لم يكن ظلماً منه لأنه المالك المطلق والملك الأعظم ، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه كلهم لكان غير ظالم لهم في نفس الأمر ، فهذا الخطاب إنما هو على ما نتعارفه من إقامة الحجة بمخالفة الأمر .
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
ولما بين غاية البيان أنه الإله وحده بما له من الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وأنه لا بد من جمعه الخلائق ليوم الفصل للحكم بينهم بما له من الحكمة والقدرة ، وحقر الهوى ونهى عن اتباعه ، وكانوا هم قد عظموه بحيث جعلوه معبوداً ، فلزم من ذلك تحقيرهم الإله ، ولم يرجعوا عن ضلالهم ، تسبب عن ذلك التعجيب ممن يظن أنه يقدر على رد أحد منهم عن غيه بشيء من الأشياء فقال : { أفرءيت } أي أعلمت علماً هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس { من اتخذ } أي بغاية جهده واجتهاده { إلهه هواه } أي حول وصف الإله حتى صار هوى لنفسه ، فهو تابع لهواه ليس غير ، فهو في أودية الضلال يهيم على غير سنن فهو معرّض لكل بلاء ، فخسر أكثر من ربحه لكونه بلا دليل ، والدليل على أنهم لا يعبدون إلا مجرد الهوى ما رواه البخاري في وفد بني حنيفة من المغازي من صحيحه عن أبي رجاء العطاردي وهو مخضرم ثقة أدرك الجاهلية ومات سنة خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة ، قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به - انتهى . ومع ذلك فكيفما قلبت أمرهم وجدته شعبة يسيرة من كفر الاتحادية ، ولك متشبثات قريش التي عابهم الله بها تشبثت بها الاتحادية حتى قولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] ولو قدم الهوى لكان المعنى أنه حول وصفه إلى الألوهية فاضمحل الهوى ، ولم يبق إلا ما ينسب إلى الإلهية كما اضمحل الطين في : اتحدت الطين حرقاً ، فصار المعنى أن العابد لا يتحرك إلا بحسب ما يأمره به الإله ويصير التركيب يفيد تعظيمه بغلبة الإثبات وإذهاب الهوى غاية الإذهاب ، ولو كان التقديم في هذا بحسب السياق من غير اختلاف المعنى لقدم هنا الهوى لأن السياق والسباق له وقد تقدم في سورة الفرقان ما ينفع هنا ومفعول « رأى » الثاني مقدر يدل عليه قوله آخر الكلام { فمن يهديه } تقديره : أيمكن أحداً غير الله هدايته ما دام هواه موجوداً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه - انتهى . ومعناه أنه يهوي بصاحبه في الهواء الممدود وهو الفضاء ، أي ينزل به عن درجة عليا إلى ما دونها . فهو في سفول ما دام تابعاً له لأنه بحيث لا قرار ولا تمكن ، فلذلك هو يوجب الهوان ، قال الأصبهاني : سئل ابن المقفع عن الهوى ، فقال : هوان سرقة نونه ، فنظمه من قال :
نون الهوان من الهوى مسروقة ... وأسير كل هوى أسير هوان
وقال آخر ولم يخطىء المعنى وأجاد :
إن الهوى لهو الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
{ وأضله الله } أي بما له من الإحاطة { على علم } منه بما فطر عليه من أنه لا يكون أثر بلا مؤثر ، ومن أنه لا يكون منفرداً بالملك إلا وهو مستحق للتفرد بالعبادة ، وهو أنه لم يخلق الكون إلا حكيم ، وأن الحكيم لا يدع من تحت يده يبغي بعضهم على بعض من غير فصل بينهم لا سيما وقد وعد بذلك ولا سيما والوعد بذلك في أساليب الإعجاز التي هم أعرف الناس بها ، أو على علم من المضل بأن الضال مستحق لذلك لأنه جبله جبلة شر .
ولما كان الضال أحوج إلى سماع صوت الهادي منه إلى غيره ، وكان من لا ينتفع بما هو له في حكم العادم له قال : { وختم } أي زيادة على الإضلال الحاضر { على سمعه } فلا فهم له في الآيات المسموعة . ولما كان الأصم قد يفهم بالإشارة قال : { وقلبه } أي فهو لا يعي ما من حقه وعيه . ولما كان المجنون الأصم قد يبصر مضاره ومنافعه فيباشرها مباشرة البهائم قال : { وجعل على بصره غشاوة } فصار لا يبصر الآيات المرئية ، وترتيبها هكذا لأنها في سياق الإضلال كما تقدم في البقرة .
ولما صار هذا الإنسان الذي صار لا يسمع الهادي فيقصده ولا يعي المعاني لينتفع بما تقدم له علمه ، ولا يبصر حق البصر ليهتدي ببصره دون رتبة الحيوان ، قال تعالى منكراً مسبباً للإنكار عما تقدمه : { فمن يهديه } وأشار إلى قدرة الله عليه بقوله : { من بعد الله } أي إضلال الذي له الإحاطة بكل شيء . ولما كان من المعلوم قطعاً أنه لا هادي له غيره ، سبب عنه الإنكار لعدم التذكر حثاً على التذكر فقال مشيراً بإدغام تاء التفعل إلى عدم الاحتياج بسبب وضوحه إلى كثير تذكر : { أفلا تذكرون * } أي يكون لكم نوع تذكر فتذكرون أنهم لا يسمعون الآيات المتلوة ولا يعتبرون بالآيات المرئية مع ما لكل منهما من الظهور ، وأن من كان هذا حاله فلا سبيل لمخلوق مثله إلى هدايته .
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
ولما كان التقدير للدلالة على الختم على مشاعرهم ، فقد قالوا مع اعترافهم بتفرده تعالى بخلقهم ورزقهم وخلق جميع الموجدات في إنكار الوحدانية : إن له شركاء ، عطف عليه قوله : { وقالوا } أي في إنكارهم البعث مع اعترافهم بأنه قادر على كل شيء ومعرفتهم أنه قد وعد بذلك في الأساليب المعجزة وأنه لا يليق بحكيم أصلاً أن يدع من تحت يده يتهارجون من غير حكم بينهم : { ما هي } أي الحياة { إلا حياتنا } أي أيها الناس { الدنيا } أي هذه التي نحن فيها مع أن تذكر مدلول هذا الوصف الذي هو أمر نسي لا يعقل إلا بالإضافة إلى حياة أخرى بُعدى كافٍ في إثبات البعث .
ولما أثبتوا بادعائهم الباطل هذه الحياة أتبعوها حالها فقالوا : { نموت ونحيا } أي تنزع الروح من بعض فيموت ، وتنفخ في بعض آخر فيحيى ، وليس وراء الموت حياة أخرى للذي مات ، فقد أسلخوا أنفسهم بهذا القول من الإنسانية إلى البهيمية لوقوفهم مع الجزئيات ، ولما كان هلاكهم في زعمهم لا آخر له ، عدوا الحياة في جنبه عدماً فلم يذكروها وقالوا بجهلهم : { وما يهلكنا } أي بعد هذه الحياة { إلا الدهر } أي الزمان الطويل بغلبته علينا بتجدد إقباله وتجدد إدبارنا بنزول الأمور المكروهة بنا ، من دهره - إذا غلبة . ولما أسند إليهم هذا القول الواهي ، بين حالهم عند قوله فقال تعالى : { وما } أي قالوه والحال أنه ما { لهم بذلك } أي القول البعيد من الصواب وهو أنه لا حياة بعد هذه ، وأن الهلاك منسوب إلى الدهر على أنه مؤثر بنفسه ، وأعرق في النفي فقال : { من علم } أي كثير ولا قليل { إن } أي ما { هم إلا يظنون * } بقرينة أن الإنسان كلما تقدم في السن ضعف ، وأنه لم يرجع أحد من الموتى .
ولما كان هذا من قولهم عجباً ، زاده عجباً بحالهم عند سماعهم للبراهين القطعية ، فقال عاطفاً على « قالوا » : { وإذا تتلى } أي تتابع بالقراءة من أيّ تال كان { عليهم آياتنا } أي على ما لها من العظمة في نفسها وبالإضافة إلينا حال كونها { بينات } أي في غاية المكنة في الدلالة على البعث ، فلا عذر لهم في ردها { ما كان } أي بوجه من وجوه الكون { حجتهم } أي قولهم الذي ساقوه مساق الحجة ، وهو لا يستحق أن يسمى شبهة { إلا أن قالوا } قولاً ذميماً ولم ينظروا إلى مبدئهم { ائتوا } أيها التالون للحجج البينة من النبي - صل الله عليه وسلم - وأتباعه الذين اهتدوا بهداه { بآبائنا } الموتى ، وحاصل هذا أنه ما كان لهم حجة إلا أن أتوا بكلام معناه : ليس لنا حجة لأنه ليس فيه شبهة فضلاً عن حجة ، وما كفاهم مناداتهم على أنفسهم بالجهل حتى عرضوا لأهل البينات بالكذب فقالوا : { إن كنتم صادقين * } أي عريقين في الكون في أهل الصدق الراسخين فيه من أنه سبحانه وتعالى يبعث الخلق بعد موتهم ، وذلك استبعاد منهم لأن يقدر على جمع الجسم بعد ما يلي ، وهم يقرون بأنه الذي خلق ذلك الجسم ابتداء ، ومن المعلوم قطعاً أن من قدر على إنشاء شيء من العدم قدر على إعادته بطريق الأولى .
ولما كان سبحانه وتعالى إنما يقبل الإيمان عند إمكان تصوره ، وذلك إذا كان بالغيب لم يجبهم إلى إحياء آبائهم إكراماً لهذه الأمة لشرف نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام لأن سنته الإلهية جرت بأن من لم يؤمن بعد كشف الأمر بإيجاد الآيات المقترحات أهلكه كما فعل بالأمم الماضية ، فرفعهم عن الحس إلى التدريب على الحجج العقلية فقال آمراً له صلى الله عليه وسلم بالجواب بقوله تعالى : { قل الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحكمة { يحييكم } أي يجدد هذا تجديداً لا يحصى كما أنتم به مقرون إحياء لأجساد يخترعها من غير أن يكون لها أصل في الحياة { ثم يميتكم } بأن يجمع أرواحكم من أجسادكم فيستلها منها لا يدع « شيئاً » منها في شيء من الجسد وما ذلك على الله بعزيز فإذا هو كما كان قبل الإحياء كما تشاهدون ، ومن قدر على هذا الإبداء على هذا الوجه من التكرر ثم على تمييز ما بث من الروح في حال سلها من تلك الأعضاء الظاهر عادة مستمرة كان المخبر عنه بأنه يجمع الخلق بعد موتهم من العريقين في الصدق ، فلذلك قال من غير تأكيد : { ثم يجمعكم } أي بعد التمزق فيعيد فيكم أرواحكم كما كانت بعد طول مدة الرقاد ، منتهين { إلى يوم القيامة } أي القيام الأعظم لكونه عاماً لجميع الخلائق الذين أماتهم .
ولما صح بهذا الدليل القطعي المدعى ، أنتج قوله : { لا ريب } أي شك بوجه من الوجوه { فيه } بل هو معلوم علماً قطعياً ضرورياً { ولكن أكثر الناس } بما لهم من السفول بما ركبنا فيهم من الحظوظ والشهوات التي غلبت على غريزة العقل فردوا بها أسفل سافلين في حد النوس وهو التردد لم يرتقوا إلى الإيمان { لا يعلمون * } أي لا يتجدد لهم علم لما لهم من النوس والتردد والسفول عن أوج العقل إلى حضيض الجهل ، فهم واقفون مع المحسوسات ، لا يلوح لهم ذلك مع ما له من الظهور لتظهر قدرتنا ويتحقق اسمنا الباطن كما تحقق الظاهر عند من هديناه لعلم ذلك .
ولما دل على قدرته على الإعادة بهذا الدليل الخاص الذي تقديره : فالله الذي ابتدأ خلقكم من الأرض على هذا الوجه قادر على إعادتكم ، عطف عليه دليلاً آخر جامعاً فقال تعالى : { ولله } أي الملك الأعظم وحده { ملك السماوات } كلها { والأرض } التي ابتدأكم منها ، ومن تصرف في ملكه بشيء من الأشياء ، كان قادراً على مثله ما دام ملكاً .
ولما كان التقدير : له ملك ذلك أبداً ، فهو يفعل فيه اليوم ما تشاهدون مع رفع هذا وخفض هذا ، فلو أن الناس سلموا لقضائه لوصلوا إلى جميع ما وصلوا إليه بالبغي والعدوان ، فإنه لا يخرج شيء عن أمره ولكن أكثر الناس اليوم في ريبهم يترددون ، بنى عليه قوله تعالى : { ويوم تقوم الساعة } أي توجد وتتحقق تحقق القائم الذي هو على كمال تمكنه وتمامه أمره الناهض بأعباء ما يريد ، وكرر سبحانه للتهويل والتأكيد قوله : { يومئذ } أي إذا تقول يخسرون - هكذا كان الأصل ، ولكنه قال للتعميم والتعليق بالوصف : { يخسر المبطلون * } أي الداخلون في الباطل العريقون في الاتصاف به ، الذين كانوا لا يرضون بقضائي فيستعجلون فيتوصلون إلى مراداتهم بما لم آمر به ، ولا يزالون يبغون إلى أن يأتي الوقت الذي قدرت وصلوهم إليها فيه ، فيصلون ويظنون أنهم وصلوا بسعيهم ، وأنهم لو تركوا لما كان لهم ذلك فيخسرون لأجل سعيهم بما جعلت لهم من الاختيار بمرادي فيهم على خلاف أمري ، خسارة مستمرة التجدد لا انفكاك لهم عنها ويفوز المحقون .
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
ولما كان ذلك من شأن اليوم مهولاً ، عم في الهول بقوله مصوراً لحاله : { وترى } أي في ذلك اليوم { كل أمة } من الأمم الخاسرة فيها والفائزة { جاثية } أي مجتمعة لا يخلطها غيرها ، وهي مع ذلك باركة على الركب رعباً واستيفازاً لما لعلها تؤمر به ، جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ، ينتظروا القضاء الحاتم ، والأمر الجازم اللازم ، لشدة ما يظهر لها من هول ذلك اليوم . ولما كان كأن قيل : هم مستوفزون ، قال : { كل أمة } أي من الجاثين { تدعى إلى كتابها } أي الذي أنزل إليها وتعبدها الله به والذي نسخته الحفظة من أعمالها ليطبق أحدهما بالآخر ، فمن وافق كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا ، ومن خاله هلك ، ويقال لهم حال الدعاء : { اليوم تجزون } على وفق الحكمة بأيسر أمر { ما } أي عين الذي { كنتم } بما هو لكم كالجبلات { تعملون * } أي مصرين عليه غير راجعين عنه من خير أو شر .
ولما أخبر بالجزاء ، بين كيفية ما به يطبق بين كتاب الإنزال وكتاب الأعمال ، فما حكم به كتاب الإنزال أنفذه الكبير المتعال ، فقال مشيراً إلى كتاب الإنزال بأداة القريب لقربه وسهولة فهمه : { هذا كتابنا } أي الذي أنزلناه على ألسنة رسلنا { ينطق } أي يشهد شهادة هي في بيانها كالنطق { عليكم بالحق } أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع من أعمالكم ، ذلك بأن يقول : من عمل كذا فهو كافر ، ومن عمل كذا فهو عاص ، ومن عمل كذا فهو مطيع ، فيطبق ذلك على ما عملتموه فإذا الذي أخبر به الكتاب مطابق لأعمالكم لا زيادة فيه ولا نقص ، كل كلي ينطبق على جزئيه سواء بسواء كما نعطيكم علم ذلك في ذلك اليوم ، فينكشف أمر جبلاتكم وما وقع منكم من جزئيات الأفعال لا يشذ عنه منه ذرة ، وتعلمون أن هذا الواقع منكم مطابق لما أخبر به الكتاب الذي أنزلناه ، فهو حق لأن الواقع طابقه ، هذا نطقه عليكم ، وأما نطقه لكم فالفضل : الحسنة بعشر أمثالها إلى ما فوق ذلك .
ولما كانت العادة جارية في الدنيا بإقامة الحقوق بكتابة الوثائق ، وكانوا كأنهم يقولون : من يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد الزمان ، وكانوا ينكرون أمر الحفظة وغيره مما أتت به الرسل ، أكد قوله مجيباً بما يقرب إلى عقل من يسأل عن ذلك : { إنا } على ما لنا من القدرة والعظمة الغنية عن الكتابة { كنا } على الدوام { نستنسخ } أي نأمر ملائكتنا بنسخ أي نقل { ما كنتم } طبعاً لكم وخلقاً { تعملون * } قولاً وفعلاً ونية ، فإن كان المراد بالنسخ مطلق النقل فهو واضح ، وإن كان النقل من أصل فهو إشارة إلى لوح الجبلات المشار إليه بكنتم أو من اللوح المحفوظ ليطابق به ما يفعله العامل ، ومن المشهور بين الناس أن كل أحد يسطر في جبينه ما يلقاه من خير أو شر .
ولما صرح بالمبطلين حسب ما اقتضاه الحال كما تقدم ، وأشار إلى المحقين ، صرح بما لوح إيه من أمر المحقين وعطف عليهم أضدادهم ، فقال بادئاً بهم على طريق النشر المشوش مفصلاً : { فأما الذين آمنوا } أي من الأمم الجاثية { وعملوا } تصديقاً لدعواهم الإيمان { الصالحات فيدخلهم } أي في ذلك اليوم الذي ذكرنا عظمته وشدة هوله { ربهم } الذي أحسن إليهم بالتوفيق بالأعمال الصالحة المرضية الموصلة { في رحمته } أي تقريبه وإكرامه بجليل الثواب وحسن المآب ، وتقول لهم الملائكة تشريفاً : سلام عليكم أيها المؤمنون ، ودل على عظيم الرحمة بقوله : { ذلك } أي الإحسان العالي المنزلة { هو } أي لا غيره { الفوز } .
ولما كان السياق لغباوتهم وخفاء الأشياء عليهم قال تعالى : { المبين * } الذي لا يخفى على أحد شيء من أمره ، لأنه لا يشوبه كدر أصلاً ولا نقص ، بخلاف ما كان من أسبابه في الدنيا ، فإنها - مع كونها كانت فوزاً - كانت خفية جداً على غير الموقنين { وأما الذين كفروا } أي ستروا ما جلته لهم مرائي عقولهم وفطرهم الأولى من الحق الذي أمر الله به ولو عملوا جميع الصالحات غير الإيمان ، فيدخلهم الملك الأعظم في لعنته .
ولما كان هذا الستر سبباً واضحاً في تبكيتهم قال : { أفلم } أي فيقال لهم : ألم يأتكم رسلي ، وأخلق لكم عقولاً تدلكم على الصواب من التفكر في الآيات المرئية من المعجزات التي أتوكم بها وأنزل عليكم بواسطتهم آيات مسموعة فلم { تكن آياتي } على ما لها من عظمة الإضافة إليّ وعظمة الإتيان إليكم على ألسنة رسلي الذين هم أشرف خلقي .
ولما كانت هذه الآيات توجب الإيمان لما لها من العظمة بمجرد تلاوتها ، بني للمفعول قوله : { تتلى } أي تواصل قراءتها من أيّ تال كان ، فكيف إذا كانت بواسطة الرسل ، تلاوة مستعلية { عليكم } لا تقدرون على رفع شيء منها بشيء يرضاه منصف { فاستكبرتم } أي فتسبب عن تلاوتها التي من شأنها إيراث الخشوع والإخبات والخضوع أن طلبتم الكبر لأنفسكم وأوجدتموه على رسلي وآياتي { وكنتم } خلقاً لازماً { قوماً } أي ذوي قيام وقدرة على ما تحاولونه { مجرمين * } أي عريقين في قطع ما يستحق الوصل ، وذلك هو الخسران المبين ، والآية من الاحتباك : ذكر الإدخال في الرحمة أولاً دليلاً على الإدخال في اللعنة ثانياً ، وذكر التبكيت ثانياً دليلاً على التشريف أولاً ، وسره أن ما ذكره أدل على شرف الولي وحقارة العدو { وإذا } أي وكنتم إذا { قيل } من أيّ قائل كان ولو على سبيل التأكيد : { إن وعد الله } الذي كل أحد يعلم أنه محيط بصفات الكمال { حق } أي ثابت لا محيد عنه يطابقه الواقع من البعث وغيره لأن أقل الملوك لا يرضى بأن يخلف وعده فكيف به سبحانه وتعالى فكيف إذا كان الإخلاف فيه مناقضاً للحكمة { والساعة } التي هي مما وعد به وهي محط الحكمة فهي أعظم ما تعلق به الوعد { لا ريب فيها } بوجه من الوجوه لأنها محل إظهار الملك لما له من الجلال والجمال أتم إظهار { قلتم } راضين لأنفسكم بحضيض الجهل : { ما ندري } أي الآن دراية علم ولو بذلنا جهدنا في محاولة الوصول إليه { ما الساعة } أي نعرف حقيقتها فضلاً عما تخبروننا به من أحوالها .
ولما كان أمرها مركوزاً في الفطر لا يحتاج إلى كبير نظر ، بما يعلم كل أحد من تمام قدرة الله تعالى ، فمتى نبه عليها نوع تنبيه سبق إلى القلب علمها ، سموا ذلك ظناً عناداً واستكباراً ، فقالوا مستأنفين في جواب من كأنه يقول : أفلم تفدكم تلاوة هذه الآيات البينات علماً بها : { إن } أي ما { نظن } أي نعتقد ما تخبروننا به عنها { إلا ظناً } وأما وصوله إلى درجة العلم فلا . ولما كان المحصور لا بد وأن يكون أخص من المحصور فيه كان الظن الأول بمعنى الاعتقاد ، ولعله عبر عنه بلفظ الظن تأكيداً لمعنى الحصر ، ولذلك عطفوا عليه - تصريحاً بالمراد لأن الظن قد يطلق على العلم - قولهم : { وما نحن } وأكدوا النفي فقالوا : { بمستيقنين * } أي بموجود عندنا اليقين في أمرها ولا بطالبين له - هذا مع ما تشاهدونه من الآيات في الآفاق وفي أنفسكم وما يبث من دابة وما ينبهكم على ذلك من الآيات المسموعة ، وهذا لا ينافي آية { إن هي إلا حياتنا الدنيا } لأن آخرها مثبت للظن ، فكأنهم كانوا تارة يقوى عندهم ما في جبلاتهم وفطرهم الأولى من أمرها فيظنونها ، وتارة تقوى عليهم الحظوظ مع ما يقترن بها من الشبهة المبنية على الجهل فيظنون عدمها فيقطعون به لما للنفس إليه من الميل ، أو كانوا فرقتين - والله أعلم .
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
ولما وصلوا إلى حد عظيم من العناد ، التفت إلى أسلوب الغيبة إعراضاً عنهم إيذاناً بشديد الغضب فقال تعالى : { وبدا } أي ولم يزالوا يقولون ذلك إلى أن بدت لهم الساعة بما فيها من الأوجال ، والزلازل والأهوال ، وظهر { لهم } غاية الظهور { سيئات ما } ولما كان السياق للكفرة ، وكانوا مؤاخذين بجميع أعمالهم فإنه ليس لهم أساس صالح يكون سبباً لتكفير شيء مما تقلبوا فيه ولم يقتض السياق خصوصاً مثل الزمر ، عبر بالعمل الذي هو أعم من الكسب فقال : { عملوا } فتمثلت لهم وعرفوا مقدار جزائها واطلعوا على جميع ما يلزم على ذلك { وحاق بهم } أي أحاط على حال القهر والغلبة ، قال أبو حيان : ولا يستعمل إلا في إلا في المكروه . { ما كانوا } جبلة وخلقاً { به يستهزءون * } أي يوجدون الهزء به على غاية الشهوة واللذة إيجاد من هو طالب لذلك { وقيل } أي لهم على قطع الأحوال وأشدها قولاً لا معقب له ، فكأنه بلسان كل قائل : { اليوم ننساكم } أي نفعل معكم بالترك من جميع ما يصلحكم فعل المنسي الذي نقطع عنه جميع إحساننا فيأتيه كل شر { كما نسيتم } وأضاف المصدر إلى ظرفه لما فيه من الرشاقة والبلاغة فقال تعالى : { لقاء يومكم هذا } أي الذي عملتم في أمره عمل الناسي له ، ومن نسي لقاء اليوم نسيء لقاء الكائن فيه بطريق الأولى ، وقد عابهم الله سبحانه تعالى بذلك أشد العيب لأن ما عملوه ليس من فعل الحزمة أن يتركوا ما ضرره محتمل لا يعتدون له ، وإنما هذا فعل الحمق الذين هم عندهم أسقال لا عبرة لهم ولا وزن لهم ، وعبر بالنسيان لأن علمه مركوز في طبائعهم ، وعبر في فعله بالمضارع ليدل على الاستمرار ، وفي فعلهم بالماضي ليدل على أن من وقع منه ذلك وقتاً ما وإن قل كان على خطر عظيم بتعريض نفسه لاستمرار الإعراض عنه .
ولما كان تركه على هذا الحال يلزم منه استمرار العذاب ، صرح به إيضاحاً له لئلا يظن غير ذلك ، فقال مبيناً لحالهم : { ومأواكم النار } ليس لكم براح عنها أصلاً ، لأن أعمالكم أدخلتكموها ، ولا يخرج منها إلا من أذنا في إخراجه ، نحن قد جعلناكم في عداد المنسي فلا يكون من قبلنا لكم فرج { وما لكم } في نفس الأمر سواء أفكرتم وأنتم مكذبون في مدافعة هذا اليوم أو تركتموه ترك المنسي { من ناصرين * } ينقذونكم من ذلك بشفاعة ولا مقاهرة .
ولما ذكر جزاءهم على ما هو الحق المساوي لأعمالهم طبق الفعل بالفعل ، علله بما لزم على أعمالهم فقال : { ذلكم } أي العذاب العظيم { بأنكم اتخذتم } أي بتكليف منكم لأنفسكم وقسر على خلاف ما أدى إليه العقل ، وجاءت به الرسل ، وساعدت عليه الفطر الأول { آيات الله } أي الملك الأعظم الذي لا شيء أعظم منه { هزواً } أي جعلتموها عين ما أنزلت للإبعاد منه { وغرتكم } لضعف عقولكم { الحياة الدنيا } أي الدنية فآثرتموها لكونها حاضرة وأنت كالبهائم لا يعدو نظركم المحسوس فقلتم : لا حياة غيرها ولا بعث ولا حساب ، ولو تعقلتم وصفكم لها لأداكم إلى الإقرار بالأخرى .
ولما أوصلهم إلى هذا الحد من الإهانة ، سبب عنه زيادة في إهانتهم وتلذيذاً لأوليائه الذين عادوهم فيه وإشماتاً لهم بهم : { فاليوم } بعد إيوائهم فيها { لا يخرجون } بمخرج ما { منها } لأن الله لا يخرجهم ولا يقدر غيره على ذلك { ولا هم } خاصة { يستعتبون * } أي يطلب من طالب ما منهم الإعتاب ، وهو الاعتذار بما يثبت لهم العذر ويزيل عنهم العتب الموجب للغضب بعمل من الأعمال الصالحات لأنهم في دار الجزاء لا دار العمل .
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
ولما أثبت سبحانه بعده بإثبات الآيات المرئية والمسموعة وإعزاز أوليائه وإدلال أعدائه من غير مبالاة بشيء ولا عجز عن شيء مع الإحاطة التامة بكل شيء قدرة وعلماً ، تسبب عن ذلك حتماً قوله تعالى : { فللّه } أي الذي له الأمر كله { الحمد } أي الإحاطة بجميع صفات الكمال . ولما أبان سبحانه أن ذلك ثابت له لذاته لا لشيء آخر ، أثبت أنه لا بالإحسان والتدبير فقال تعالى : { رب السماوات } أي ذات العلو والاتساع والبركات . ولما كان السياق لإثبات الاختصاص بالكمال ، وكانوا قد جعلوا له سبحانه ما دل على أنهم لا شبهة لهم في عبادتهم بحصر أمرهم في الهوى ، أعاد ذكر الرب تأكيداً وإعلاماً أن له في كل واحد من الخافقين أسراراً غير ما له في الآخر ، فالتربية متفاوتة بحسب ذلك ، وأثبت العاطف إعلاماً بأن كمال قدرته في ربوبيته للأعلى والأسفل على حد سواء دفعاً لتوهم أن حكمه في الأعلى أمكن لتوهم الاحتياج إلى مسافة فقال تعالى : { ورب الأرض } أي ذات القبول للواردات .
ولما خص الخافقين تنبيهاً على الاعتبار بما فيهما من الآيات لظهورها ، عم تنبيهاً على أن له وراء ذلك من الخلائق ما لا يعلمه إلا لله سبحانه وتعالى فقال مسقطاً العاطف لعدم الاحتياج إليه بعد إثبات استواء الكونين الأعلى والأسفل في حكمه من حيث العلم والقدرة للتنزه عن المسافة ، وذلك لا يخرج عنه شيء من الخلق لأنه إما أن يكون علوياً أو سفلياً { رب العالمين * } فجمع ما مفرده يجل على جميع الحوادث لأن العالم ما سوى الله . تنبيهاً على أصنافه وتصريحاً بها وإعلاماً بأنه أريد به مدلوله المطابقي لا البعض بدلالة التضمن ، وأعاد ذكر الرب تنبيهاً على أن حفظه للخلق وتربيته لهم ذو ألوان بحسب شؤون الخلق ، فحفظه لهذا الجزء على وجه يغاير حفظه لجزء آخر ، وحفظه للكل من حيث هو كل على وجه يغاير حفظه لكل جزء على حدته ، مع أن الكل بالنسبة إلى تمام القدرة على حد سواء .
ولما أفاد ذلك غناه الغنى المطلق وسيادته وأنه لا كفوء له ، عطف عليه بعض اللوازم لذلك تنبيهاً على مزيد الاعتناء به لدفع ما يتوهمونه من ادعاء الشركة التي لا يرضونها لأنفسهم فقال : { وله } أي وحده { الكبرياء } أي الكبر الأعظم الذي لا نهاية له : { في السماوات } كلها { والأرض } جميعها اللتين فيهما آيات للمؤمنين ، روى مسلم وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : « الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار » ، وفي رواية : عذبته ، وفي رواية : قصمته .
{ وهو } وحده { العزيز } الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء { الحكيم * } الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها ولا يضع شيئاً إلا كذلك كما أحكم أمره ونهيه وجميع شرعه ، وأحكم نظم هذا القرآن جملاً وآيات ، وفواصل وغايات ، وبعد أن حرر معانيه وتنزيله جواباً لما كانوا يعتنون به ، فصار معجزاً في نظمه ومعناه وإنزاله طبق أجوبة الوقائع على ما اقتضاه الحال ، فانطبق آخرها على أولها بالصفتين المذكورتين ، وبالحث على الاعتبار بآيات الخافقين ، والتصريح بما لزم ذلك من الكبرياء المقتضية لإذلال الأعداء وإعزاز الأولياء - والله الهادي إلى الصواب وإله المرجع والمآب - والله أعلم بمراده .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
{ حم * } حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي النهاية في الصواب والسداد أحكمها الذي أحاطت قدرته فهو لا يخلف الميعاد .
ولما بنيت الجاثية على النظر في آيات الخافقين خطاباً لأهل الإيمان استدلالاً على يوم الفصل المدلول عليه في الدخان بآية { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين } [ الأنبياء : 16 ] والتي بعدها ، فأنتجت العلم بأن الكبرياء لخالقهما بما يشاهد من قهره للملوك فمن سواهم بالموت وما دونه من غير مبالاة بأحد وبينت - بما أفهمه الملك والكبرياء والحكمة لأن عادة من كان بهذا الوصف ألا يكون كلامه إلا بحسب الحاجة - أن الكتاب منزل نجوماً لبيان ما يحاولون به مدحض لحجتهم هادم لعزتهم بحكمته وعزته ، فثبت الحشر وحق النشر ، وختم بصفتي العزة والحكمة ، ذكر بما ثبت من ذلك كله تأكيداً لأمر البعث وتحقيقاً لليوم الآخر على وجه مبين أن الخلق كله آيات وحكم واعتبارات لأنه أثبت أنه كله حق ، ونفى عنه كل باطل ، فقال خطاباً لأهل الأوثان من سائر الأديان الصابية والمجوس وغيرهم الذين افتتحت السورة بهم وختمت بالفسق الجامع لهم الموجب لكفرهم : { تنزيل الكتاب } أي الجامع لجميع الخيرات بالتدريج على حسب المصالح { من الله } أي الجبار المتكبر المختص بصفات الكمال الذي هو الحمد بما دلت عليه ربوبيته ، وختم بقوله : { العزيز الحكيم * } تقريراً لأنه لم يضع شيئاً إلا في أوفق محاله ، وأنه الخالق للشر كما أنه الخالق للخير ولجميع الأفعال وأنه يعز أولياءه ويذل أعداءه ويحكم أمر دينه فيظهره على الدين كله من غير أن يقدر أحد على معارضته في شيء منه فصارت آية الجاثية مقدمة لهذه وهذه نتيجة .
ولما ثبت في الجاثية مضمون قوله تعالى في الدخان { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين } بما ذكر فيهما من الآيات والمنافع والحكم ، أثبت هنا مضمون ما بعد ذلك بزيادة الأجل فقال دالاً على عزته وحكمته : { ما خلقنا } أي على ما لنا من العظمة الموجبة للتفرد بالكبرياء { السماوات والأرض } على ما فيهما من الآيات التي فصل بعضها في الجاثية . ولما كان من المقاصد هنا الرد على المجوس وغيرهم ممن ثبت خلقاً لغير الله قال : { وما بينهما } أي من الهواء المشحون بالمنافع وكل خير وكل شر من أفعال العباد وغيرهم ، وقال ابن برجان في تفسيره : جميع الوجود أوله وآخره نسخة لأم الكتاب والسماوات والأرض إشارة إلى بعض الوجود ، وبعضه يعطي من الدلالة على المطلوب ما يعطيه الكل بوجه ما ، غير أن علا أصح دلالة وأقرب شهادة وأبين إشارة ، وما صغر من الموجودات دلالته مجملة يحتاج المستعرض فيه إلى التثبت وتدقيق النظر والبحث - انتهى . { إلا بالحق } أي الأمر الثابت من القدرة التامة والتصرف المطلق ، فخلق الباطل بالحق لأنه تصرف في ملكه الذي لا شائبة لغيره فيه للابتلاء والاختبار للمجازاة بالعدل والمن بالفضل إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها سواه ، وفي خلق ذلك على هذا الوجه أعظم دلالة على وجود الحق سبحانه ، وأنه واحد لا شريك له ، ودل على قهره بقوله : { وأجل مسمى } أي لبعث الناس إلى دار القرار لفصل أهل الجنة من أهل النار ، وفناء الخافقين وما نشأ عنهما من الليل والنهار .
ولما كان التقدير : وأمرنا الناس بالعمل في ذلك الأجل بطاعتنا ووعدناهم عليها جنان النعيم ، فالذين آمنوا على ما أنذروا مقبلون ، ومن غوائله مشفقون ، فهم بطاعتنا عاملون ، عطف عليه من السياق له من قوله : { والذين كفروا } أي ستروا من أعلام الدلائل ما لو خلوا أنفسهم وما فطرناها عليه لعلموه فهم لذلك { عما أنذروا } ممن هم عارفون بأن إنذاره لا يتخلف { معرضون * } ومن غوائله آمنون ، فهم بما يغضبنا فاعلون ، شهدت عندهم شواهد الوجود فما سمعوا لها ولا أصغوا إليها وأنذرتهم الرسل والكتب من عند الله فأعرضوا عنها واشمأزوا منها .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى : لما قدم ذكر الكتاب وعظيم الرحمة به وجليل بيانه ، وأردف ذلك بما تضمنته سورة الشريعة من توبيخ من كذب به وقطع تعلقهم وأنه سبحانه قد نصب من دلائل السماوات والأرض إلى ما ذكر في صدر السورة ما كل قسم منها كاف في الدلالة وقائم بالحجة ، ومع ذلك فلم يجر عليهم التمادي على ضلالهم والانهماك في سوء حالهم وسيىء محالهم ، أردفت بسورة الأحقاف تسجيلاً بسوء مرتكبهم وإعلاماً باليم منقلبهم فقال تعالى { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى } ولو اعتبروا بعظيم ارتباط ذلك الحق وإحكامه وإتقانه لعلموا أنه لم يوجد عبثاً ، ولكنهم عموا عن الآيات وتنكبوا عن انتهاج الدلالات { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } ثم أخذ سبحانه وتعالى في تعنيفهم وتقريعهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع فقال { أفرأيتم ما تدعون من دون الله } - إلى قوله : { وكانوا بعبادتهم كافرين } ثم ذكر عنادهم عن سماع الآيات فقال : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } الآيات ، ثم التحم الكلام وتناسج إلى آخر السورة - انتهى .
ولما قرر سبحانه الأصل الدال على التوحيد وإثبات العدل والحرمة بالبعث للفصل ، وكانوا يقولون : إنهم أعقل الناس ، وكان العاقل لا يأمن غوائل الإنذار إلا أن أعد لها ما يتحقق دفعه لها وكان لا يقدر على دفع المتوعد إلا من يساويه أو يزيد عليه بشركة أو غيرها ، وكانوا يدعون في أصنامهم أنها شركاء ، بنى على ذلك الأصل تفاريعه ، وبدأ بإبطال متمسكهم فقال سبحانه وتعالى آمراً له صلى الله عليه وسلم بأن ينبههم على سفههم بأنهم أعرضوا عما قد يضرهم من غير احتراز منه دالاً على عدم إلهية ما دعوه آلهة بعدم الدليل على إلهيتها من عقل أو نقل ، لأن منصب الإلهية لا يمكن أن يثبت وله من الشرف ما هو معلوم بغير دليل قاطع : { قل } أي لهؤلاء المعرضين أنفسهم لغاية الخطر منكراً عليهم تبكيتاً وتوبيخاً : { أرءيتم } أي أخبروني بعد تأمل ورؤية باطنة { ما تدعون } أي دعاء عبادة ، ونبه على سفولهم بقوله تعالى : { من دون الله } أي الملك الأعظم الذي كل شيء دونه ، فلا كفوء له .
ولما كان من المعلوم أن الاستفهام عن رؤية ما مشاهدتهم له معلومة لا يصح إلى بتأويل أنه عن بعض الأحوال ، وكان التقدير : أهم شركاء في الأرض ، استأنف قوله : { أروني ما } وأكد الكلام بقوله سبحانه وتعالى : { ماذا خلقوا } أي اخترعوه { من الأرض } ليصح ادعاء أنهم شركاء فيها باختراع ذلك الجزء . ولما كان معنى الكلام وترجمته : أروني أهم شركاء في الأرض؟ عادله بقوله : { أم لهم } أي الذين تدعونهم { شرك في السماوات } أي نوع من أنواع الشركة : تدبير - كما يقول أهل الطبائع ، أو خلق أو غيره ، أروني ذلك الذي خلقوه منها ليصح ادعاؤكم فيهم واعتمادكم عليهم بسببه .
فالآية من الاحتباك : ذكر الخلق أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ، والشركة ثانيةً دليلاً على حذفها أولاً .
ولما كان الدليل أحد شيئين : سمع وعقل ، قال تعالى : { ائتوني } أي حجة على دعواكم في هذه الأصنام أنها خلقت شيئاً ، أو أنها تستحق أن تعبد { بكتاب } أي واحد يصح التمسك به ، لا أكلفكم إلى الإتيان بأكثر من كتاب واحد . ولما كانت الكتب متعددة ولم يكن كتاب قبل القرآن عاماً لجميع ما سلف من الزمان ، أدخل الجار فقال تعالى : { من قبل هذا } أي الذي نزل عليّ كالتوراة والإنجيل والزبور ، وهذا من أعلام النبوة فإنها كلها شاهدة بالوحدانية ، لو أتى بها آت لشهدت عليه .
ولما ذكر الأعلى الذي لا يجب التكليف إلا به ، وهو النقل القاطع ، سهل عليهم فنزل إلى ما دونه الذي منه العقل ، وأقنع منه ببقية واحدة ولو كانت أثراً لا عيناً فقال : { أو أثارة } أي بقية رسم صالح للاحتجاج ، قال ابن برجان : وهي البقية من أثر كل شيء يرى بعد ذهابه وحال رؤيته بأثرها خلف عن سلف يتحدثون بها في آثارهم ، قال البغوي : وأصل الكلمة من الأثر وهو الرواية . { من علم } أي قطعي بضرورة أو تجربة أو مشاهدة أو غيره ولو ظناً يدل على ما ادعيتم فيهم من الشركة . ولما كان لهم من النفرة من الكذب واستشناعه واستبشاعه واستفظاظه ما ليس لأمة من الأمم ، أشار إلى تقريعهم بالكذب إن لم يقيموا دليلاً على دعواهم بقوله تعالى : { إن كنتم } أي بما هو لكم كالجبلة { صادقين * } أي عريقين في الصدق على ما تدعون لأنفسكم .
ولما أبطل سبحانه وتعالى قولهم في الأصنام بعدم قدرتها على إتيان شيء من ذلك لأنها من جملة مخلوقات في الأصل ، أتبعه إبطاله بعدم علمها ليعلم قطعاً أنهم أضل الناس حيث ارتبطوا في أجل الأشياء - وهو أصول الدين - بما لا دليل عليه أصلاً ، فقال تعالى منكراً أن يكون أحد أضل منهم ، عاطفاً على ما هدى السياق حتماً إلى تقديره وهو : فمن أضل ممن يدعي شيئاً من الأشياء وإن قل بلا دليل : { ومن أضل ممن } يدعي أعظم الأشياء بغير دليل ما عقلي ولا نقلي ، فهو { يدعوا } ما لا قدرة له ولا علم ، وما انتفت قدرته وعلمه لم تصح عبادته ببديهة العقل ، وأرشد إلى سفولها بقوله تعالى : { من دون الله } أي من أدنى رتبة من رتب الذي له جميع صفات الجلال والجمال والكمال ، فهو سبحانه يعلم كل شيء ويقدر على كل شيء بحيث يجيب الدعاء ويكشف البلاء ويحقق الرجاء إذا شاء ، ويدبر عبده لما يعلم من سره وعلنه بما لا يقدر هو على تدبير نفسه به ، ويريد العبد في كثير من الأشياء ما لو وكل العبد فيه إلى نفسه وأجيب إلى طلبته كان فيه حتفه ، فيدبره سبحانه بما تشتد كراهيته له فيكشف الحال عن أنه لم يكن له فرج إلا فيه { من لا يستجيب له } أي لا يوجد الإجابة ولا يطلب إيجادها من الأصنام وغيرها لأنه لا أهلية له لذلك .
ولما كان أقل الاستجابة مطلق الكلام ، وكانوا في الآخرة يكلمونهم في الجملة وإن كان بما يضرهم ، غيى هذا النفي بوقت لا ينفع فيه استجابة أصلاً ولا يغني أحد عن أحد أبداً فقال تعالى : { إلى يوم القيامة } أي الذي صرفنا لهم من أدلته ما هو أوضح من الشمس ولا يزيدهم لك إلا إنكاراً وركوناً إلى ما لا دليل عليه أصلاً وهم يدعون الهداية ويعيبون أشد عيب الغواية . ولما كان من لا يستجيب قد يكون له علم بطاعة الإنسان له ترجى معه إجابته يوماً ما ، نفى ذلك بقوله زيادة في عيبهم في دعاء ما لا رجاء في نفعه : { وهم عن دعائهم } أي دعاء المشركين إياهم { غافلون * } أي لهم هذا الوصف ثابت لا ينفكون عنه ، لا يعلمون من يدعوهم ولا من لا يدعوهم ، وعبر بالغفلة التي هي من أوصاف العقلاء للجماد تغليباً إن كان المراد أعم من الأصنام وغيرها ممن عبدوه من عقلاء الإنس والجن وغيرهم واتصافاً إن كان المراد الأصنام خاصة ، أو تهكماً كأنه قيل : هم علماء فإنكم أجل مقاماً من أن تعبدوا ما لا يعقل ، وإنما عدم استجابتهم لكم دائماً غفلة دائمة كما تقول لمن كتب كتاباً كله فاسد : أنت عالم لكنك كنت ناعساً - ونحو هذا .
ولما غيى سبحانه بيوم القيامة فأفهم أنهم يستجيبون لهم فيه ، بين ما يحاورونهم به إذ ذاك فقال : { وإذا حشر } أي جمع بكره على أيسر وجه وأسهل أمر { الناس } أي كل من يصح منه الّنوس - أي التحرك - يوم القيامة { كانوا } أي المدعوون { لهم } أي للداعين { أعداء } ويعطيهم الله قوة الكلام فيخاطبونهم بكل ما يخاطب به العدو عدوه { وكانوا } أي المعبودون { بعبادتهم } أي الداعين ، وهم المشركون - إياهم { كافرين * } لأنهم كانوا عنها غافلين كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام { وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } [ يونس : 28 ] .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
ولما بين أنهم في غاية السفه في عبادة ما لا دليل بوجه على عبادته ، أتبعه بيان أنهم في غاية الغباوة بإنكار ما لا شيء أبين منه ، فقال عاطفاً على { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } : { وإذا تتلى } أي تقرأ من أي قارئ كان على وجه المتابعة { عليهم آياتنا } أي التي لا أعظم منها في أنفسها وبإضافتها إلينا { بينات } لا شيء أبين منها قالوا - هكذا كان الأصل ولكنه بين الوصف الحامل لهم على القول فقال : { قال الذين كفروا } أي ستروا تلك الأنوار التي أبرزتها تلك التلاوة لها - هكذا كان الأصل ولكنه قال : { للحق } أي لأجله { لما } أي حين { جاءهم } بيانها لأنها مع بيانها لا شيء أثبت منها وأنهم بادروا أول سماعهم لها إلى إنكارها دون تفكر : { هذا } أي الذي تلي { سحر } أي خيال لا حقيقة له { مبين * } أي ظاهر في أنه خيال ، فدل قولهم هذا - بمبادرتهم إليه من غير تأمل أصلاً ، وبكونه أبعد الأشياء عن حقيقة ما قيل فيه - على أنهم أكثر الناس عناداً وأجرؤهم على الكذب وهم يدعون أنهم أعرق الناس في الإنصاف وألزمهم للصدق .
ولما دلت هذه الآيات بعظيم حججها وزخار ما أغرق من لججها ، على أن ما يدينون به أوهى من الخيال ، وأن هذا الكتاب في صدقه وكل شيء من أمره أثبت من الجبال ، فكانوا أجدر الخلق بأن يقولوا : رجعنا عما كنا فيه وآمنا ، كان موضع أن يقال : هل أقروا بأنك صادق في نسبة هذا الكتاب إلى الله ، فعادله بقوله دليلاً عليه : { أم يقولون } مجددين لذلك متابعين له { افتراه } أي تعمد كذبه ، فيكون ذلك من قولهم عجباً لأنه قول مقرون بما يكذبه ويبطله كما يأتي في تقريره .
ولما كان كأنه قيل : إنهم ليقولون ذلك ، وقد قرحوا القلوب به فماذا يردهم عنه؟ قيل : { قل } ما هو أشد عليهم من وقع النبل ، وهو ما يرد ما رموك به عليهم بحجة هي أجلى من الشمس في الظهيرة صحواً ليس دونها سحاب . ولما كان من عادة الملوك أنه متى كذب عليهم أحد عاجلوه بالعقوبة قال : { إن افتريته } أي تعمدت كذبه على زعمكم وأنا إنما أريد به نصيحتكم ، فالذي أفتريه عليه وأنسبه إليه يعاقبني على ذلك ولا يتركني أصلاً ، وذلك هو معنى قوله : { فلا تملكون } أي أيها المنصوحون في وقت من الأوقات بوجه من الوجوه { لي من الله } أي الملك الأعظم العزيز المتكبر الحكيم { شيئاً } مما يرد عني انتقامه مني لأن الملك لا يترك من كذب عليه مطلق كذب ، فكيف بمن يتعمد الكذب عليه في الرسالة بأمور عظيمة ويلازمه مساء وصباحاً غدواً ورواحاً ، فأي حامل لي حينئذ على افترائه ، والمقصود به لا ينفعني ، والمكذوب عليه لا يتركني؛ ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام بقوله : { هو أعلم } أي منكم ومن كل أحد { بما تفيضون فيه } من نسبتي إلى الكذب ، فلو أنه كما تقولون ما ناظرني فضلاً عن أنه يؤيدني وينصرني ، وفيه على ذلك تهديد لهم وتسلية له وتفريج عنه .
ولما كان الإملاء وحده ليس قاطعاً في ذلك وإن كان ظاهراً فيه ، فكان لا بد في دعوى الصدق من دليل قاطع وبرهان ساطع ، وكانت شهادة الملك الذي الكلام فيه أعظم الأدلة لأنه الأعلم ، ومدار الشهادة العلم ، فأنتج الكلام قطعاً قوله : { كفى } وأكد الكلام بما قرن بالفاعل من حرف الجر تحقيقاً للفعل ونفياً للمجاز فقال : { به شهيداً } أي شاهداً بليغ الشهادة لأنه الأعلم بجميع أحوالنا { بيني وبينكم } يشهد بنفسه الأقدس للصادق منا وعلى الكاذب ، وقد شهد بصدقي بعجزكم عن معارضة شيء من هذا الكتاب الذي أتيت به فثبت بذلك أنه كلامه لأني لا أقدر وحدي على ما لا تقدرون عليه فرادى ولا مجتمعين وأنتم عرب مثلي ، بل وأنا أمي وفيكم أنتم الكتبة والذين خالطوا العلماء وسمعوا أحاديث الأمم وضربوا - بعد بلاد العجم - في بلاد العرب ، فظهر بذلك ظهور الشمس أنكم كاذبون { وهو الغفور } الذي من شأنه أن يمحو الذنوب كلها أعيانها وآثارها فلا يعاقب عليها ولا يعاتب { الرحيم * } الذي يكرم بعد المغفرة ويفضل بالتوفيق لما يرضيه ، ففي هذا الختام ترغيب للنبي صلى الله عليه وسلم في الصفح عنهم فيما نسبوه إليه في افتتاحها من الافتراء ، وندب إلى الإحسان إليهم ، وترغيب لهم في التوبة ، ومنع من أن يقولوا : فلم لا يعاجلنا بالعقوبة على نسبتنا لك إلى الكذب إن كنت صادقاً بأنه يجوز أن يمهل الكاذب ، وأما أنه يؤيده بما يشد به كذبه اللازم منه أنه يزيد فيه فلا يجوز ، لأن ذلك قادح في الحكمة وفي الكبرياء وفي الملك .
ولما كان من أعظم الضلال أن ينسب الإنسان إلى الكذب من غير دليل في شيء لم يبتدعه ، بل تقدمه بمثله ناس قد ثبت صدقهم في مثل ذلك ومضت عليه الأزمان وتقرر غاية التقرر في القلوب والأذهان ، قال تعالى : { قل } أي لهؤلاء الذين نسبوك إلى الافتراء : { ما كنت } أي كوناً ما { بدعاً } أي منشئاً مبتدعاً محدثاً مخترعاً بحيث أكون أجنبياً منقطعاً { من الرسل } لم يتقدم لي منهم مثال في أصل ما جئت به ، وهو الحرف الذي طال النزاع بيني وبينكم فيه وعظم الخطب وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به ودعوا إليه كما دعوت وصدقهم الله بمثل ما صدقني به ، فثبتت بذلك رسالاتهم وسعد بهم من صدقهم من قومهم ، وشقي بهم من كذبهم ، فانظروا إلى آثارهم ، واسألوا عن سيرهم من أتباعهم وأنصارهم وأشياعهم ، قال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه : والبدعة الاسم لما ابتدع وضد البدعة السنة ، لأن السنة ما تقدم له إمام ، والبدعة ما اخترع على غير مثال ، وفي الحديث
« كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار » معناه - والله أعلم - أن يبتدع ما يخالف السنة إذ كانت البدعة ضد السنة ، فإذا أحدث ما يخالفها كان بإحداثه لها ضالاً مشركاً ، وكان من أحدث في النار ، ولم يدخل تحت هذا ما يخترع الإنسان من أفعال البر يسمى بدعة لعدم فعله قبل ذلك فيخرج عما ذكرنا إن كان له نظير في الأصول ، وهو الحض على كل أفعال البر ما علم منها وما لم يعلم ، فإن أحدث محدث من ذلك شيئاً فكأنه زيادة فيما تقدم من البر وليس بضد لما تقدمه من السنة ، بل هو باب من أبوابها ، ويقولون : ما فلان ببدع في هذا الأمر أي ليس هو بأول من أصابه ذلك ولكن سبقه غيره أيضاً ، قال الشاعر :
ولست ببدع من النائبات ... ونقض الخطوب وإمرارها
ويقال : أبدع بالرجل - إذا كلت راحلته ، وأبدعت الركاب إذا كلت وعطبت ، وقيل : كل من عطبت ركابه فانقطع به فقد أبدع به ، وقال في القاموس : والبدعة الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعده صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال ، وأبدع بالرجل : عطبت ركابه ، وبقي منقطعاً به ، وأبدع فلان بفلان : قطع به وخذله ، ولم يقم بحاجته ، وحجته بطلت ، وقال الصغاني في مجمع البحرين : وشيء بدع - بالكسر أي مبتدع ، وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع ، وقوم أبداع ، عن الأخفش : والبديع المبتدع والبديع المبتدع أيضاً ، وأبدعت حجة فلان - إذا بطلت وأبدعت : أبطلت - يتعدى ولا يتعدى .
ولما أثبت بموافقته صلى الله عليه وسلم للرسل أصل الكلام وبقي أن يقال : إن التكذيب في أن الله أرسله به ، قام الدليل على صدقه في دعواه ، وذلك بأنه مماثل لهم في أصل الخلقة ليس له من ذاته من العلم إلا ما لهم ، وليس منهم أحد يصح له حكم على المغيبات ، فلولا أن الله أرسله لما صح كل شيء حكم به على المستقبلات ولم يتخلف من ذلك شيء فقال : { وما أدري } أي في هذا الحال بنوع حيلة وعمل واجتهاد { ما } أي الذي { يفعل } أي من أيّ فاعل كان سواء كان هو الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة غيره { بي } وأكد النفي ليكون ظاهراً في الاجتماع وكذلك في الانفراد أيضاً فقال : { ولا } أي ولا أدري الذي يفعل { بكم } هذا في أصل الخلقة وأنتم ترونني أحكم على نفسي بأشياء لا يختل شيء منها مثل أن أقول : إني آتيكم من القرآن بما يعجزكم ، فلا تقدرون كلكم على معارضة شيء منه فيضح ذلك على سبيل التكرار لا يتخلف أصلاً ، فلولا أن الله أرسلني به لم أقدر وحدي على ما لا تقدرون عليه كلكم ، وإن قدرت على شيء كنتم أنتم أقدر مني عليه ، وفي الآية بعمومها دليل على أن لله أن يفعل ما يشاء ، فله أن يعذب الطائع وينعم العاصي ، ولو فعل ذلك لكان عدلاً وحقاً وإن كنا نعتقد أنه لا يفعله .
ولما سوى نفسه الشريفة بهم في أصل الخلقة ، وكان قد ميزه الله عنهم بما خصه من النبوة والرسالة ، أبرز له ذلك - سبحانه وتعالى على وجه النتيجة فقال : { إن } أي ما { أتبع } أي - بغاية جهدي وجدي { إلا ما } أي الذي { يوحى } أي يجدد إلقاؤه ممن لا يوحي بحق إلا هو { إليّ } على سبيل التدريج سراً ، لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري ، ومنه ما أخبر فيه عن المغيبات فيكون كما قلت ، فلا يرتاب في أني لا أقدر على ذلك بنفسي فعلم أنه من الله .
ولما نسبوه إلى الافتراء تارة والجنون أخرى ، وكان السبب الأعظم في نسبتهم له إلى ذلك صدعهم بما يسوءهم على غير عادته السالفة وعادة أمثاله ، قال على سبيل القصر القلبي : { وما أنا } أي بإخباري لكم عما يوحى إليّ { إلا نذير } أي لكم ولكل من بلغه القرآن { مبين * } أي ظاهر أني كذلك في نفسه مظهر له - أي كوني نذيراً - ولجميع الجزئيات التي أنذر منها بالأدلة القطعية .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
ولما أثبت أنه من عند الله بشهادة الله نفسه بعجزهم عن المعارضة ، قبح عليهم إصرارهم على التكذيب على تقدير شهادة أحد ممن يثقون بهم يسألونهم عنه من أهل الكتاب فقال تعالى : { قل أرءيتم } أي أخبروني وبينوا لي وأقيموا ولو ببعض حجة أو برهان { إن كان } أي هذا الذي يوحى إليّ وآتيكم به وأنذركم وأعلمكم أنه من الله فإنه { من عند الله } أي الملك الأعظم .
ولما كان مقصود السورة إنذار الكافرين الذين لا ينظرون في علم ، بل شأنهم تغطية المعارف والعلوم ، عطف بالواو الدالة على مطلق الجمع الشامل لمقارنة الأمرين المجموعين من غير مهلة فيدل على الإسراع في الكفر من غير تأمل قال : { وكفرتم به } أي على هذا التقدير { وشهد شاهد } أي واحد وأكثر { من بني إسرائيل } الذين جرت عادتكم أن تستفتوهم وتثقوا بهم { على مثله } أي مثل ما في القرآن من أن من وحد فقد آمن ، ومن أشرك فقد كفر ، وأن الله أنزل ذلك في التوراة والإنجيل وجميع أسفارهم ، فطابقت عليه كتبهم ، وتظافرت به رسلهم ، وتواترت على الدعاء إليه والأمر به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام ، ثم سبب عن شهادته وعقب وفصل فقال : { فآمن } أي هذا الذي شهد هذه الشهادة بهذا القرآن عندما رآه مصدقاً لما ذكر وعلم أنه الكتاب الذي بشرت به كتبهم ، فاهتدى إلى وضع الشيء في محله فوضعه ولم يستكبر .
ولما كان الحامل لهم بعد هذه الأدلة على التمادي على الكفر إنما هو الشماخة والأنفة قال : { واستكبرتم } أي أوجدتم الكبر بالإعراض عنه طالبين بذلك الرئاسة والفخر والنفاسة ، فكنتم بعد شهادة هذا الشاهد معاندين من غير شبهة أصلاً فضللتم فكفرتم فوضعتم الشيء في غير موضعه فانسد عليكم باب الهداية .
ولما كانوا يدعون أنهم أهدى الناس وأعدلهم ، وكان من رد شهادة الخالق والخلق ظالماً شديد الظلم ، فكان ضالاً على علم ، قال الله تعالى مستأنفاً دالاً على أن تقدير الجواب : أفلم تكونوا بتخلفكم عن الإيمان بعد العلم قد ظلمتم ظلماً عظيماً بوضع الكفران موضع الإيمان ، فتكونوا ضالين تاركين للطريق الموصل على عمد { إن الله } أي الملك الأعظم ذا العزة والحكمة { لا يهدي القوم } أي الذين لهم قدرة على القيام بما يريدون محاولته { الظالمين * } أي الذين من شأنهم وضع الأمور غير مواضعها ، فلأجل ذلك لا يهديكم لأنه لا أحد أرسخ منكم في الظلم الذي تسبب عنه ضلالكم ، أما من كان منكم عالماً فالأمر فيه واضح ، وأما من كان منكم جاهلاً فهو كالعالم لعدم تدبره مثل هذه الأدلة التي ما بين العالم بلسان العرب وبين انكشافها له إلا تدبها مع ترك الهوى ، وقال الحسن - كما نقله البغوي - الجواب : فمن أضل منكم كما قال في « فصلت »
{ قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد } [ فصلت : 52 ] فالآية من الاحتباك : ذكر الإيمان أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والاستكبار والظلم وعدم الهداية ثانياً دليلاً على أضدادها أولاً ، وسره أنه شكر سببي السعادة ترغيباً وترهيباً .
ولما دل على أن تركهم للإيمان إنما هو تعمد للظلم استكباراً ، عطف على قولهم { إنه سحر } ما دل على الاستكبار فقال تعالى : { وقال الذين كفروا } أي تعمدوا تغطية الحق { للذين } أي لأجل إيمان الذين { آمنوا } إذ سبقوهم إلى الإيمان : { لو كان } إيمانهم بالقرآن وبهذا الرسول { خيراً } أي من جملة الخيور { ما سبقونا إليه } ونحن أشرف منهم وأكثر أموالاً وأولاداً وأعلم بتحصيل العز والسؤدد الذي هو مناط الخير فكأن لم يسبقونا إلى شيء من هذه الخيرات التي نحن فائزون بها وهم صفر منها ، لكنه ليس بخير ، فلذلك سبقوا إليه فكان حالهم فيه حالهم فيما هو محسوس من أمورهم في المال والجاه .
ولما أخبر عما قالوا حين سبقهم غيرهم ، أخبر عما يقولون عند تعمد الإعراض عنه فقال : { وإذ } أي وحين { لم يهتدوا به } يقولون عناداً وتكبراً وكفراً : لو كان هدى لأبصرناه ولم يعلموا أنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور .
ولما كان التقدير : فإن قيل لهم : فما هو؟ أجابه بقوله مسبباً عن هذا المقدر علماً من أعلام النبوة : { فسيقولون } بوعد لا خلف فيه لأن الناس أعداء ما جهلوا ولأنهم لم يجدوا على ما يدعونه من أنه لو كان خيراً لسبقوا غيرهم إليه دليلاً : { هذا } أي الذي سبقتم إليه { إفك } أي شيء مصروف عن وجهه إلى قفاه { قديم * } أفكه غيره وعثر هو عليه فأتى به ونسبه إلى الله .
ولما كان هذا الكلام ساقطاً في نفسه لما قام من الأدلة الباهرة على صدق القرآن وكان الوقوف مع المحسوسات غالباً عليهم لعدم نفوذهم في المعقولات ، دل على بطلانه لموافقة القرآن لأعظم الكتب القديمة التوراة التي اشتهر أنها من عند الله وأن الآتي بها كلم وقد صدقه الله في الإتيان بها بما لم يأت به قبله من المعجزات والآيات البينات وهم يستفتون أهلها ، فقال على وجه التبكيت لهم والتوبيخ : { ومن } أي قالوا ذلك والحال أنه كان في بعض الزمن الذي من { قبله } أي القرآن العظيم الذي حرموا تدبر آياته وحل مشكلاته وأعجزهم فصاحته { كتاب موسى } كلم الله وصفوته عليه الصلاة والسلام وهو التوراة التي كلمه الله بها تكليماً حال كون كتابه { إماماً } أي يستحق أن يؤمه كل من سمع به في أصول الدين مطلقاً وفي جميع ما فيه قبل تحريفه ونسخه وتبديله { ورحمة } لما فيه من نعمة الدلالة على الله والبيان الشافي فهبهم طعنوا في هذا القرآن وهم لا يقدرون على الطعن في كتاب موسى الذي قد سلموا لأهله أنهم أهل العلم وجعلوهم حكماء يرضون بقولهم في هذا النبي الكريم ، وكتابهم مصادق لكتابهم فقد صاروا بذلك مصدقين بما كذبوا به ، ولذلك قال الله تعالى : { وهذا } أي القرآن المبين المبيّن { كتاب } أي جامع لجميع الخيرات .
ولما أريد تعميم التصديق بجميع الكتب الإلهية والحقوق الشرعية ، حذف المتعلق فقال : { مصدق } أي لكتاب موسى عليه الصلاة والسلام وغيره من الكتب التي تصح نسبتها إلى الله تعالى فإن جميع الكتب التي جاءت به الرسل ناطقة بتوحد الله وأن هذا الكتاب لم يخرج عن هذا فأنّى يصح فيما هذا شأنه أن يكون إفكاً ، إنما الإفك ما كذب كتب الله التي أتت بها أنبياؤه وتوارثها أولياؤه .
ولما كان الكتاب قد تقوم الأدلة على مصادقته لكتب الله ويكون بغير لسان المكذب به فيكون في التكذيب أقل ملامة ، احترز عن ذلك بقوله : { لساناً } أي أشير إلى هذا المصدق القريب منكم زماناً ومكاناً وفهماً حال كونه { عربياً } في أعلى طبقات اللسان العربي مع كونه أسهل الكتب تناولاً وأبعدها عن التكليف ، ليس هو بحيث يمنعه علوه بفخامة الألفاظ وجلالة المعاني وعلو النظم ورصافة السبك ووجازة العبارة ، وظهور المهاني ودقة الإشارة مع سهولة الفهم وقرب المتناول بعد بعد المغزى .
ولما دل على أن الكتاب حق ، بين ثمرته فقال : { لينذر } أي أشير إلى الكتاب في هذا الحال لينذر الكتاب بحسن بيانه وعظيم شأنه { الذين ظلموا } سواء كانوا عريقين في الظلم أم لا ، فأما العريقون فهو لهم نذري كاملة ، فإنهم لا يهتدون كما تقدم ، وأما غيرهم فيهتدي بنذارته ويسعد بعبارته وإشارته ، وليبشر الذين أحسنوا في وقت ما { ما } هو { بشرى } كاملة { للمحسنين * } لا نذارة لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فالآية من الاحتباك : أثبت أولاً { ينذر } و { الذين ظلموا } دلالة على حذف نحوه ثانياً ، { وبشرى } و { للمحسنين } ثانياً دلالة على { نذري } { وللظالمين } أولاً .
ولما بين حالة المحسنين شرح أمرهم فقال مستأنفاً في جواب من سأل عنهم وعن بشراهم : { إن الذين قالوا ربنا } أي خالقنا ومولانا والمحسن إلينا { الله } سبحانه وتعالى لا غيره . ولما كانت الاستقامة - وهي الثبات على كل ما يرضي الله مع ترتبها على التوحيد - عزيزة المنال عليه الرتبة ، وكانت في الغالب لا تنال إلا بعد منازلات طويلة ومجاهدات شديدة ، أشار إلى كل من بعدها وعلو رتبتها بأداة التراخي فقال : { ثم } أي بعد قولهم ذلك الذي وحدوا به { استقاموا } أي طلبوا القوم طلباً عظيماً وأوجدوه .
ولما كان الوصف لرؤوس المؤمنين ، عد أعمالهم أسباباً فأخبر عنهم بقوله : { فلا خوف عليهم } أي يعلوهم بغلبة الضرر ، ولعله يعبر في مثل هذا بالاسم إشارة إلى أن هيبته بالنظر إلى جلاله وقهره وجبروته وكبره وكماله لا تنتفي ، ويحصل للأنسان باستحضارها إخبات وطمأنينة ووقار وسكينة يزيده في نفسه جلالاً ورفعة وكمالاً ، فالمنفي خوف يقلق النفس { ولا هم } في ضمائرهم ولا في ظواهرهم { يحزنون * } أي يتجدد لهم شيء من حزن أصلاً .
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
ولما نفى عنهم المحذور ، مدهم بإيثار السرور ، فقال تعالى : { أولئك } أي العالو الدرجات { أصحاب الجنة } ولما دلت الصحبة على الملازمة ، صرح بها بقوله تعالى : { خالدين فيها } خلوداً لا آخراً له ، جوزوا بذلك { جزاء } ولما كانوا محسنين فكانت أعمالهم في غاية الخلوص جعلها تعالى أسباباً أولاً وثانياً ، فقال مشيراً إلى دوامها لأنها في جبلاتهم { بما كانوا } أي طبعاً وخلقاً { يعملون * } على سبيل التجديد المستمر .
ولما تفضل سبحانه وتعالى على الإنسان بعد الأعمال التي هيأه لها وأقدره عليها ووفقه لها أسباباً قرن بالوصية بطاعته - لكونه المبدع - الوصية بالوالدين لكونه تعالى جعله سبب الإيجاد ، فقال في هذا السياق الذي عد فيه الأعمال لكونه سياق الإحسان التي أفضلها الصلاة على ميقاتها ، وثانيها في الرتبة بر الوالدين كما في الصحيح ، وفي الترمذي : « رضى الله في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما » وعلى هذا المنوال جرت عادة القرآن يوصي بطاعة الوالدين بعد الأمر بعبادته { وإذ أخذ الله ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً } [ البقرة : 83 ] { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } [ النساء : 36 ] وكذا ما بعدهما عاطفاً على ما قدرته أو السورة من نحو أن يقال : وأمرنا الناس أجميعن أن يكونوا بطاعتنا في مهلة الأجل عاملين ولمعصيتنا مجتنبين : { ووصينا الإنسان } أي هذا النوع الذي أنس بنفسه { بوالديه } ولما استوفى { وصى } مفعوليه كان التقدير : ليأتي إليهما حسناً ، وقرأ الكوفيون : { إحساناً } وهو أوفق للسياق .
ولما كان حق الأب ظاهراً لا له من الكسب والإنفاق والذب والتأديب لم يذكره ، وذكر ما للأم لأن أمده يسير ، فربما استهين به فقال مستأنفاً أو معللاً : { حملته أمه } أي بعد أن وضعه أبوه بمشاركتها في أحشائها ، حملاً { كرهاً } بثقل الحبل وأمراضه وأوصابه وأعراضه { ووضعته } أي بعد تمام مدة حمله { كرهاً } فدل هذا - مع دلالته على وجوب حق الأم - على أن الأمر في تكوينه لله وحده ، وذكر أوسط ما للأم من مدة التعب بذكر أقل مدة الحمل وأنهى مدة الرضاع لانضباطها فقال تعالى : { وحمله وفصاله } أي ومدة حمله وغاية فطامه من الرضاع ، وعبر بالفصال لإرادة النهاية لأن الفطام قد يكون قبل النهاية لغرض ثم تظهر الحاجة فتعاد الرضاعة { ثلاثون شهراً } فانصرف الفصال إلى الكامل الذي تقدم في البقرة فعرف أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وبه قال الأطباء ، وربما أشعر بأن أقل مدة الرضاع سنة وتسعة أشهر لأن أغلب الحمل تسعة أشهر .
ولما كان ما بعد ذلك تارة يشترك في مؤنته الأبوان وتارة ينفرد أحدهما ، طوي ذكرهما ، وذكر حرف الغاية مقسماً للموصي إلى قسمين : مطيع وعاصي ، ذاكراً ما لكل من الجزاء بشارة ونذارة ، إرشاداً إلى أن المعنى : واستمر كلاًّ على أبويه أو أحدهما { حتى إذا بلغ أشده } قال في القاموس : قوته ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين ، واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما ، أو جمع لا واحد له من لفظه ، أو واحده شدة بالكسر مع أن فعلة لا تجمع على أفعل ، أو شد ككلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب ، وما هما بمسموعين بل قياس - انتهى ، وقد مضى في سورة يوسف ما ينفع هنا جداً ، وروى الطبراني في ترجمة ابن أحمد بن لبيد البيروتي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : الأشد ثلاث وثلاثون سنة ، وهو الذي رفع عليه عيسى ابن مريم - قال الهيثمي : وفيه صدقة بن يزيد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم وضعفه أحمد وجماعة وبقية رجاله ثقات ، قال الزمخشري : وهو أول الأشد وغايته الأربعون .
ولما كانت أيام الصبى والشباب وإن كانت صفوة عمر الإنسان وأوقات لذاذته ومجتمع شمله وراحاته فيها يظهِر له سر عمره في الغالب لغلبة الأنفس الخبيثة عليه البهيمية والسبعية لما يحملانه عليه من نتائج الشهوات ونوازع الغضب والبطالات ، عبر بما يدل على القحط والشؤم والضيق تنبيهاً على ذلك ، فقال شارحاً للاستواء ومعبراً عنه : { وبلغ أربعين سنة } فاجتمع أشده وتم حزمه وجده ، وزالت عنه شرة الشباب وطيش الصبا ورعونة الجهل ، ولذلك كان هذا السن وقت بعثة الأنبياء ، وهو يشعر بأن أوقات الصبى أخف في المؤاخذة مما بعدها وكذا ما بين أول الأشد والأربعين { قال } إن كان محسناً قابلاً لوصية ربه : { رب } أي أيها المحسن إليّ بالإيجاد وتيسير الأبوين وغيرهما وتسخيره { أوزعني } أي اجعلني أطيق { أن أشكر نعمتك } أي وازعاً للشكر أي كافاً مرتبطاً حتى لا يغلبني في وقت من الأوقات ، وذلك الشكر بالتوحيد في العبادة كما أنه يوحد بنعمة الإيجاد والترزيق ، ووحدها تعظيماً للأمر بالإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يبلغ شكرها إلا بمعونة الله مع أن ذكر الأبوين يعرف أن المراد بها الجنس .
ولما كان ربما ظن ظان أن المراد بنعمته قدرته على الإنعام ليكون المعنى : أن أشكر لك لكونك قادراً على الإنعام ، قال : { التي أنعمت عليّ } أي بالفعل لوجوب ذلك عليّ لخصوصه بي { وعلى والديّ } ولو بمطلق الإيجاد والعافية في البدن ، لأن النعمة عليهما نعمة عليّ ، وقد مضى في النمل ما يتعين استحضاره هنا .
ولما كان المقصود الأعظم من النعمة الماضية نعمة الإيجاد المراد من شكرها التوحيد ، أتبعها تمام الشكر فقال : { وأن أعمل } أي أنا في خاصة نفسي { صالحاً } . ولما كان الصالح في نفسه قد يقع الموقع لعدم الإذن فيه قال : { ترضاه } والتنكير إشارة إلى العجز عن بلوغ الغاية فإنه لن يقّدر الله حق قدره أحد .
ولما دعا لنفسه بعد أن أوصى برعاية حق أبيه ، لقنه سبحانه الدعاء لمن يتفرع منه ، حثاً على رعاية حقوقهم لئلا يسلطهم على عقوقه فقال : { وأصلح } أي أوقع الإصلاح ، وقال : { لي في ذريتي } لأن صلاحهم يلحقه نفعه ، والمراد بقصر الفعل وجعلهم ظرفاً له أن يكون ثابتاً راسخاً سارياً فيهم وهم محيطون به فيكونوا صالحين .
ولما استحضر عند كمال العقل في الأربعين أن ما مضى من العمر كان أغلبه ضائعاً فدعا ، وكان من شرط قبول الدعاء التوبة ، علله بقوله : { إني تبت } أي رجعت { إليك } أي عن كل ما يقدح في الإقبال عليك ، وأكده إعلاماً بأن حاله في الإقبال على الشهوات حال من يبعد منه الإقلاع فينكر إخباره به ، وكذا قوله : { وإني من المسلمين * } أي الذين أسلموا ظواهرهم وبواطنهم لك فانقادوا أتم انقياد وأحسنه .
ولما وصف هذا المؤمن بادئاً به لكونه في سياق الإحسان ، وكان المراد بالإنسان الجنس ، قال مادحاً له بصيغة الجمع منبهاً على أن قبول الطاعات مشروط ببر الوالدين لأن ما ظهر دليل ما بطن ، ومن لا يشكر من كان من جنسه لا سيما وهو أقرب الناس إليه لا سيما وهو السبب في إيجاده لم يشكر الله كما في الحديث « لا يشكر الله من لا يشكر الناس » ومن صلح ما بينه وبين الله صلح ما بينه وبين الناس عامة لا سيما الأقارب نسباً أو مكاناً لا سيما الوالدين : { أولئك } أي العالو الرتبة { الذين نتقبل } بأسهل وجه { عنهم } وأشار سبحانه بصيغة التفعل إلى أنه عمل في قبوله عمل المعتني ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون فيه وفي الذي بعده ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { أحسن } ويجوز أن يراد به مطلق الدعاء أو الطاعات ويكون ما دون الأحسن مقبولاً ، قبولاً مطلقاً على مقدار النية فيه ، وتكون التعدية بعن إشارة إلى أن جبلاتهم مبنية على الترقي في معارج الكمال في كل وقت إلى غير نهاية ، فتكون هذه المحاسن ليست منهم بمعنى أنهم مجبولون على أعلى منها في نهاياتهم والعبرة بالنهايات ولذلك قال تعالى : { ما عملوا } ولم يقل : أعمالهم . ولما كان الإنسان محل النقصان وإن كان محسناً ، نبه على ذلك وعلى أن شرط تكفير السيئات التوبة بقوله تعالى : { ونتجاوز } أي بوعد مقبول لا بد من كونه ، وهو معنى قراءة حمزة والكسائي بالنون في الفعلين { عن سيئاتهم } أي فلا يعابهم عليها .
ولما كان هذا مفهماً لأنهم من أهل الجنة ، صرح به زيادة في مدحهم بقوله : { في أصحاب الجنة } أي أنه فعل بهم ذلك وهم في عدادهم لأنهم لم يزالوا فيه لأنهم ما برحوا بعين الرضا . ولما كان هذا وعداً ، أكد مضمونه بقوله : { وعد الصدق } لكونه مطابقاً للواقع { الذي كانوا } بكون ثابت جداً { يوعدون * } أي يقطع لهم الوعد به في الدنيا ممن لا أصدق منهم ، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام .
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
ولما ذكر سبحانه هذا المحسن بادئاً به لكون المقام للإحسان ، أتبعه المسيء المناسب لمقصود السورة المذكور صريحاً في مطلعها فقال تعالى : { والذي قال لوالديه } مع اجتماعهما كافراً لنعمهما نابذاً لوصيتنا بهما فكان كافراً بنعمة أعظم منعم محسوس بعد الكفر بنعم أعظم منعم مطلقاً ، والتثنية مشيرة إلى أنه أغلظ الناس كبداً ، لأن العادة جرت بقبول الإنسان كلام أصله ولو كان واحداً ، وأن الاجتماع مطلقاً له تأثير فكيف إذا كان والداً : { أف } أي تضجر وتقذر واسترذال وتكره مني ولغاتها أربعون - حكاها في القاموس ، المتواتر منها عن القراء ثلاث : الكسر بغير تنوين وهو قراءة الجمهور ، والمراد به أن المعنى الذي قصده مقترن بسفول ثابت ، ومع التنوين وهو قراءة المدنيين وحفص والمراد به أنه سفول عظيم سائر مع الدهر بالغلبة والقهر ، والفتح من غير تنوين وهو قراءة ابن كثير وابن عامر ويعقوب ، والمراد به اقتران المعنى المقصود بالاشتهار بالعلو والانتشار مع الدوام ، وقد تقدم في الإسراء عن الحرالي - وهو الحق - أن التأفيف أنهى الأذى وأشده ، فإن معناه أن المؤفف به لا خطر له ولا وزن أصلاً ، ولا يصلح لشيء بل هو عدم بل العدم خير منه مع أنهى القذر .
ولما كان كأنه قيل : لمن هذا التأفيف؟ قال : { لكما } ولما كانا كأنهما قالا له : لم هذا التقذير العظيم بعد الإحسان لا تقدر على جزائنا به ، قال مبكتاً موبخاً منكراً على تقدير كونه وعداً : { أتعدانني } أي على سبيل الاستمرار بالتجديد في كل وقت { أن أخرج } أي من مخرج ما يخرجني من الأرض بعد أن غبت فيها وصرت تراباً أحيى كما كنت أول مرة { وقد } أي والحال أنه قد { خلت } أي تقدمت وسبقت ومضت على سنن الموت { القرون } أي الأجيال الكثيرة من صلابتهم ، وأثبت الجار لأن القرن لا ينخرم إلا بعد مدة طويلة ، فالانخرام في ذلك غير مستغرق للزمان فقال : { من قبلي } أي قرناً بعد قرن وأمة بعد أمة وتطاولت الأزمان وأغلبهم يكذب بهذا الحديث فأنا مع الأغلب ، وتأيد ذلك بأنه لم يرجع أحد منهم { وهما } أي والحال أنهما كلما قال لهما ذلك { يستغيثان الله } أي يطلبان بدعائهما من له جميع الكمال أن يعينهما بإلهامة قبول كلامهما ، قائلين لولدهما مجتهدين بالنصيحة له بعد الاجتهاد بالدعاء : { ويلك } كما يقول المشفق إذا زاد به الكرب وبلغ منه الغم ، إشارة إلى أنه لم يبق له إن أعرض إلا الويل وهو الهلاك { آمن } أي أوقع الإيمان الذي لا إيمان غيره ، وهو الذي ينقذ من كل هلكة ، ويوجب كل فوز بالتصديق بالعبث وبكل ما جاء عن الله ، ثم عللا أمرهما على هذا الوجه مؤكدين في مقابلة إنكاره فقالا : { إن وعد الله } أي الملك الأعظم المحيط بجميع صفات المهابة والكمال الموصوف بالعزة والحكمة { حق } أي ثابت أعظم ثبات لانه لو لم يكن حقاً لكان نقصاً من جهة الإخلاف الذي لا يرضاه لنفسه أقل العرب فكيف وهو يلزم منه منافاة الحكمة بكون الخلق حينئذ على وجه العبث لأنهم عباد ورعايا لا يعرضون على ملكهم الذي أبدعهم مع علمه بما هم عليه من ظلم بعضهم لبعض وبغي بعضهم على بعض { فيقول } مسبباً عن قولهما ومعقباً له : { ما هذا } أي الذي ذكرتماه لي من البعث { إلا أساطير الأولين * } أي خرافات كتبها على وجه الكذب الأولائل وتناقلها منهم الأعمار جيلاً بعد جيل فصارت بحيث يظن الضعفاء أنها صحيحة - هذا والعجب كل العجب أنه بتصديقه لا يلزمه فساد على تقدير من التقادير الممكنة ، بل يحمله التصديق على محاسن الأعمال ومعالي الأخلاق التي هو مقر بأنها محاسن من لزوم طريق الخير وترك طريق الشر ، وتكذيبه يجره إلى المرح والأشر ، والطبر وأفعال الشر ، ودنايا الأخلاق مع احتمال الهلاك الذي يخوفانه به وهو لا ينفي أنه محتمل وإن استبعده فما دعوه إليه كما ترى لا يأباه عاقل ولكنها عقول كادها باريها .
ولما كان هذا الكلام ، ومع بلوغ النهاية في حسن الانتظام ، وقد حصر الإنسان هذين القسمين مثلاً بليغاً لكفار العرب ومؤمنيهم ، فالأول للمؤمنين التابعين لملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، الآتي بها أعظم أنبيائه الكرام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، والثاني للكفار المنابذين لأعظم آبائهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي يعرفونه منه نقلاً يتوارثونه من آبائهم ، وقرآناً معجزاً كأنهم سمعوه من خالقهم أنه موحد لله مقر بالبعث محذر من غوائله ، وكان قد ابتدأ سبحانه الحديث عنهم بما ذكر مما كفروا فيه المنعمين واستحقوا كلتا السوءتين ، خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، أخبر عنهم بما أنتجه تكذيبهم بموعود ربهم وعقوقهم لوالديهم حقيقة أو تعليماً بقوله : { أولئك } أي البعداء من العقل والمروءة وكل خير { الذين حق } أي ثبت ووجب . ولما كان هذا وعيداً ، دل عليه بأداة الاستعلاء فقال : { عليهم القول } أي الكامل في بابه بأنهم أسفل السافلين ، وهذا يكذب من قال : إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ، فإنه أسلم وصار من أكابر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فحقت له الجنة .
ولما أثبت لهم هذه الشنيعة ، عرف بكثرة من شاركهم فيها فقال : { في } أي كائنين في { أمم } أي خلائق كانوا بحيث يقصدهم الناس ويتبع بعضهم بعضاً { قد خلت } تلك الأمم . ولما كان المحكوم عليه بعض السالفين ، أدخل الجار فقال : { من قبلهم } فكانوا قدوتهم { من الجن } بدأ بهم لأن العرب تستعظمهم وتستجير بهم ، وذلك لأنهم يتظاهرون لهم يؤذونهم ولم يقطع أذاهم لهم وتسلطهم عليهم ظاهراً وباطناً إلا القرآن ، فإنه أحرقهم بأنواره وجلاهم عن تلك البلاد بجلي آثاره { والإنس } وما نفعتهم كثرتهم ولا أغنت عنهم قوتهم ، ثم علل حقوق الأمر عليهم أو استأنف بقوله مؤكداً تكذيباً لظن هذا القسم الذي الكلام فيه أن الصواب مع الأكثر : { إنهم } أي كلهم { كانوا } أي جبلة وطبعاً وخلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه { خاسرين * } أي عريقين في هذا الوصف .
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
ولما قسمهم في الأعمال ، جمعهم في العدل والإفضال فقال : { ولكل } أي من فريقي السعداء والبعداء من القبيلتين : الجن والإنس ، في الدنيا والآخرة { درجات } أي دركات أي منازل ومراتب متفاضلين فيها { من } أجل { ما عملوا } أو من جوهره ونوعه من الأعمال الصالحة والطالحة . ولما كان التقدير : ليظهر ظهوراً بيناً أنه سبحانه فاعل بالاختيار بالمفاوته بين العقلاء ويظهر بيناً لا وقفة فيه أن الحقائق على غير ما كان يتراءى لهم في الدنيا ، فإن حجب المكاره والشهوات كانت ترى الأمور على خلاف ما هي عليه ، عطف عليه قوله في قراءة البصريين وعاصم وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه : { وليوفيهم } أي ربهم الذي تقدم إقبال المحسن عليه ودعاؤه له ، وقراءة الباقين بالنون أنسب لمطلع السورة ولما يشير إليه من كشف حجب الكبرياء في يوم الفصل .
ولما كان سبحانه يعلم مثاقيل الذر وما دونها وما فوقها ويجعل الجزاء على حسبها في المقدار والشبه والجنس والنوع والشخص حتى يكاد يظن العامل أن الجزاء هو العمل قال : { أعمالهم } أي جزاءها من خير وشر وجنة ونار - وهذا ظاهر ، أو نص في أن الجن يثابون بالإحسان كما يعاقبون بالعصيان ، وسورة الرحمن كلها خطاب للثقلين بالثواب لأهل الطاعة ، والعقاب لأهل المعصية من كل من القبيلتين؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه ، ويجزى مطيعهم بالثواب كما يجازى عاصيهم بالعقاب - قاله مالك وابن أبي ليلى والضحاك وغيرهم كما نقله البغوي { وهم } أي والحال أنهم { لا يظلمون * } أي لا يتجدد لهم شىء من ظالم ما من ظلم في جزاء أعمالهم بزيادة في عقاب أو نقص من ثواب ، بل الرحمانية كما كانت لهم في الدنيا فهي لهم في الآخرة فلا يظلم ربك أحداً بأن يعذبه فوق ما يستحقه من العقاب ، أو ينقصه عما يستأهل من الثواب .
ولما كان الظاهر في هذه السورة الإنذار كما يشهد به مطلعها ، قال ذاكراً بعض ما يبكت به المجرمون يوم البعث الذي كانوا به يكذبون ويكون فيه توفية جزاء الأعمال ، عاطفاً على ما تقديره : اذكر لهم هذا لعلهم يأنفون أن يكونوا المسيئين فيكونوا من المحسنين : { ويوم } أي واذكر لهم يوم يعرضون - هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي أوجب لهم الجزاء إشارة إلى أن الأمر كان ظاهراً لهم ولكنهم ستروا ، أنوار عقولهم فقال : { يعرض الذين كفروا } أي من الفريقين المذكورين { على النار } أي يصلون لهبها ويقلبون فيها كما يعرض اللحم الذي يشوى ، مقولاً لهم على سبيل التنديم والتقريع والتوبيخ والتشنيع لأنهم لم يذكروا الله حق ذكره عند شهواتهم بل نالوها مع مخالفة أمره سبحانه ونهيه : { أذهبتم } في قراءة نافع وأبي عمرو والكوفيين بالإخبار ، وقراءة الباقين بالاستفهام لزيادة الإنكار والتوبيخ { طيباتكم } أي لذاتكم باتباعكم الشهوات { في حياتكم } ونفر منها بقوله تعالى : { الدنيا } أي القريبة الدنية المؤذن وصفها لمن يعقل بحياة أخرى بعدها ، فكان سعيكم في حركاتكم وسكناتكم لأجلها حتى نلتموها { واستمتعتم } أي طلبتم وأوجدتم انتفاعكم { بها } وجعلتموها غاية حظكم في رفعتكم ونعمتكم .
ولما كان ذلك استهانة بالأوامر والنواهي للاستهانة بيوم الجزاء ، سبب عنه قوله تعالى : { فاليوم تجزون } أي على إعراضكم عنا بجزاء من لا تقدرون التقصي من جزائه بأيسر أمر منه { عذاب الهون } أي الهوان العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذلك وخزي { بما كنتم } جبلة وطبعاً { تستكبرون } أي تطلبون الترفع وتوجدونه على الاستمرار { في الأرض } التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب ، أحق شيء بالتواضع والذل والهوان . ولما كان الاستكبار يكون بالحق لكونه على الظالمين فيكون ممدوحاً ، قيده بقوله : { بغير الحق } أي الأمر الذي يطابقه الواقع وهو أوامرنا ونواهينا ، ودل بأداة الكمال على أنه لا يعاقب على الاستكبار مع الشبهة { وبما كنتم } على الاستمرار { تفسقون * } أي تجددون الخروج عن محيط الطاعة الذي تدعو إليه الفطرة الأولى العقل إلى نوازع المعاصي .
ولما هددهم سبحانه بالأمور الأخروية ، وستر الأمر بالتذكير بها لكونها مستورة وهم بها يكذبون في قوله « ويوم » ، وختم بالعذاب على الاستكبار المذموم والفسق ، عطف عليه تهديهم بالأمور المحسوسة لأنهم متقيدون بها مصرحاً بالأمر بالذكر فقال تعالى : { واذكر } أي لهؤلاء الذين لا يتعظون بمحط الحكمة الذي لا يخفى على ذي لب ، وهو البعث . ولما كان أقعد ما يهددون به في هذه السورة وأنسبه لمقصودها عاد لكونهم أقوى الناس أبداناً وأعتاهم رقاباً وأشدهم قلوباً وأوسعهم ملكاً وأعظمهم استكباراً بحيث كانوا يقولون { من أشد منا قوة } وبنوا البنيان الذي يفني الدهر ولا يفنى ، فلا يعمله إلا من نسي الموت أو رجا الخلود واصطنعوا جنة على وجه الأرض لأن ملكهم عمها كلها مع قرب بلادهم لكونها في بلاد العرب من قريش ومعرفتهم بأخبارهم ورؤيتهم لديارهم وكون عذابهم نشأ من بلدهم بدعاء من دعا منهم ، ذكر أمرهم على وجه دل على مقصود السورة ، وعبر بالأخوة تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن فظيعة القوم لمن هو منهم ويعلمون مناقبه ومفاخره أنكأ فقال : { أخا عاد } وهو أخو هود عليه الصلاة والسلام الذي كان بين قوم لا يعشرهم قومك في قوة ولا مكنة ، وصدعهم مع ذلك بمر الحق وبادأهم بأمر الله ، لم يخف عاقبتهم ونجيته منهم ، فهو لك قدوة وفيه أسوة ، ولقومك في قصدهم إياك بالأذى من أمره موعظة .
ولما ذكره عليه الصلاة والسلام لمثل هذه المقاصد الجليلة ، أبدل منه قصته زيادة في البيان ، فقال مبيناً أن الإنذار هو المقصد الأعظم من الرسالة : { إذ } أي حين { أنذر قومه } أي الذين لهم قوة زائدة على القيام فيما يحاولونه { بالأحقاف } قال الأصبهاني : قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة ، قال : وقال مقاتل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له مهرة ، إليه ينسب الإبل المهرية ، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا من قبيلة إرم .
وقال قتادة : كانوا مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر ، والأحقاف جمع حقف بالكسر ، وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء ، وقال ابن زيد : هو ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلاً ، وقال في القاموس : وهو الرمل العظيم المستدير ، وأصل الرمل ، واحقوقف الرمل والظهر والهلال : طال واعوج . ومن الأمر الجلي أن هذه الهيئة لا تكون في بلاد الريح بها غالبة شديدة لأنه لو كان ذلك انسف الجبل نسفاً بخلاف بلاد الجبال كمكة المشرفة ، فإن الريح تكون بها غاية في الشدة لأنها إما أن تصك الجبل فتنعكس راجعة بقوة شديدة ، أو يكون هناك جبال فتراد بينها أو تنضغط فتخرج مما تجد من الفروج على هيئة مزعجة فينبغي أن يكون أهل الجبال أشد من ذلك حذراً .
ولما ذكر النذير والمنذرين ومكانهم لما ذكر من المقاصد ، ذكر أنهم أعرضوا عنه ولم يكن بدعاً من الرسل ولا كان قومه جاهلين بأحوالهم ، فاستحقوا العذاب تحذيراً من مثل حالهم ، فقال : { وقد } أي والحال أنه قد { خلت } أي مرت ومضت وماتت { النذر } أي الرسل الكثيرون الذين محط أمرهم الإنذار .
ولما لم يكن إرسالهم بالفعل مستغرقاً لجميع الأزمنة ، أدخل الجار فقال : { من بين يديه } أي قبله كنوح وشيث وآدم عليه الصلاة والسلام فما كان بدعاً منها { ومن خلفه } أي الذين أتوا من بعده فما كنت أنت بدعاً منهم . ولما أشار إلى كثرة الرسل ، ذكر وحدتهم في أصل الدعاء ، فقال مفسراً للإنذار معبراً بالنهي : { ألا تعبدوا } أي أيها العباد المنذرون ، بوجه من الوجوه ، شيئاً من الأشياء { إلا الله } الملك الذي لا ملك غيره ولا خالق سواه ولا منعم إلا هو ، فإني أراكم تشركون به من لم يشركه في شيء من تدبيركم ، والملك لا يقر على مثل هذا .
ولما أمرهم ونهاهم ، علل ذلك فقال محذراً لهم من العذاب مؤكداً لما لهم من الإنكار لاعتمادهم على قوة أبدانهم وعظيم شأنهم : { إني أخاف عليكم } لكونكم قومي وأعز الناس علي { عذاب يوم عظيم * } لا يدع جهة إلا ملأها عذابه ، إن أصررتم على ما أنتم فيه من الشرك .
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
ولما تشوف السامع إلى جوابهم عن هذه الحكمة ، أجيب بقوله تعالى : { قالوا } أي منكرين عليه : { أجئتنا } أي يا هود { لتأفكنا } أي تصرفنا عن وجه أمرنا إلى قفاه { عن آلهتنا } فلا نعبدها ولا نعتد بها . ولما كان معنى الإنكار النفي ، فكان المعنى : إنا لا ننصرف عنها ، سببوا عنه قولهم { فأتنا بما تعدنا } سموا الوعيد وعداً استهزاء به . ولما كان ذلك معناه تكذيبه ، زادوه وضوحاً بقولهم معبرين بأداة الشك إشارة إلى أن صدقه في ذلك من فرض المحال : { إن كنت } أي كما يقال عنك . كوناً ثابتاً { من الصادقين * } في أنك رسول من الله وأنه يأتينا بما تخافه علينا من العذاب إن أصررنا . ولما تضمن قولهم هذا نسبة داعيهم عليه الصلاة والسلام إلى ما لا دلالة لكلامه عليه بوجه ، وهو ادعاء العلم بعذابهم والقدرة عليه وتكذبيه في كل منهما اللازم منه أمنهم اللازم منه ادعاؤهم العلم بأنهم لا يعذبون ، وكانوا كاذبين في جميع ذلك كان كأنه قيل : بم أجابهم؟ فقيل : { قال } مصدقاً لهم في سلب علمه بذلك وقدرته عليه ، مكذباً لهم في نسبتهم إليه ادعاء شيء منهما وإلى أنفسهم بأنه لا يقع : { إنما العلم } أي المحيط بكل شيء عذابكم وغيره { عند الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال ، فهو ينزل علم ما توعدون على من يشاء إن شاء ولا علم لي الآن ولا لكم بشيء من ذلك ولا قدرة .
ولما كان العلم المحيط يستلزم القدرة ، فكان التقدير : فليست القدرة على الإتيان بعذابكم إلا له سبحانه وتعالى لا لي ولا لغيري ، وليس عليّ إلا البلاغ كما أوحى إليّ ربي بقوله سبحانه { إن عليك إلا البلاغ } [ الشورى : 48 ] وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم من الوعظ بأن أعمالكم أعمال من قد أعرض عن سيده وعرض نفسه للهلاك والعذاب بإشراكه بالمحسن المطلق من لا يكافئه بوجه فهو بحيث يخشى عليه الأخذ ، عطف عليه قوله : { وأبلغكم } أي أيضاً في الحال والاستقبال { ما أرسلت } أي ممن لا مرسل في الحقيقة غيره ، فإنه يقدر على نصر رسوله { به } أي من التوحيد وغيره ، سواء كان وعداً أو وعيداً أو غيرهما لو لم يذكر الغاية لأن ما أرسل به صالح لهم ولغيرهم .
ولما كان معنى الإخبار بالإبلاغ أنه ليس عليّ إلا ذلك ، وكان معنى قصر العلم المطلق على الله تصديقهم في نفي علمه عليه الصلاة والسلام بذلك ، حسن قوله مستدركاً علمه بجهلهم : { ولكني أراكم } أي أعلمكم علماً هو كالرؤية { قوماً } غلاظاً شداداً عاسين { تجهلون * } أي بكم مع ذلك صفة الجهل ، وهو الغلظة في غير موضعها مع قلة العلم ، تجددون لك على سبيل الاستمرار بسبب أنكم تفعلون بإشراككم بالمحسن المطلق وهو الملك الأعظم من لا إحسان له بوجه أفعال من يستحق العذاب ثم لا تجوزون وقوعه وتكذبون من ينبهكم على أن ذلك أمر يحق أن يحترز منه ، وتنسبونه إلى غير ما أرسل له من الإنذار من ادعاء القدرة على العذاب ونحوه .
ولما تسبب عن قولهم هذا إتيان العذاب فأتاهم في سحاب أسود ، استمروا على جهلهم وعادتهم في الأمن وعدم تجويز الانتقام ، وكأن إتيانه كان قريباً من استعجالهم به ، فلذلك أتى بالفاء في قوله مسبباً عن تكذيبهم مبيناً لعظيم جهلهم بجهلهم في المحسوسات ، مفصلاً لما كان من حالهم عند رؤية البأس : { فلما رأوه } أي العذاب الذي يعدهم به { عارضاً } أي سحاباً أسود بارزاً في الأفق ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر ، حال كونه قاصداً إليهم { مستقبل أوديتهم } أي طالباً لأن يكون مقابلاً لها وموجداً لذلك ، وهو وصف لعارضاً فهو نكرة إضافته لفظية وإن كان مضافاً إلى معرفة ، وكذا « ممطرنا » { قالوا } علىعادة جهلهم مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية الجهل ، لأن جهلهم به استمر حتى كاد أن يواقعهم : { هذا عارض } أي سحاب معترض في عرض السماء أي ناحيتها { ممطرنا } لكونهم رأوه أسود مرتاداً فظنوه ممتلئاً ماء يغاثون به بعد طول القحط وإرسال رسلهم إلى مكة المشرفة ليدعوا لهم هنالك الله الذي استخفوا به بالقدح في ملكه بأن أشركوا به من هو دونهم ، علماً منهم بأن شركاءهم لا تغني عنهم في الإمطار شيئاً ، غافلين عن ذنوبهم الموجبة لعذابهم ، فلذلك قال الله تعالى مضرباً عن كلامهم ، والظاهر أنه حكاية لقول هود عليه الصلاة والسلام في جواب كلامهم : { بل هو } أي هذا العارض الذي ترونه { ما استعجلتم به } أي طلتم العجلة في إتيانه إليكم من العذاب .
ولما اشتد تشوف السامع إلى معرفته قال : { ريح } أي ركمت هذا السحاب الذي رأيتموه { فيها عذاب أليم * } أي شديد الإيلام ، كانت تحمل الظعينة في الجو تحملها وهودجها حى ترى كأنها جرادة ، وكانوا يرون ما كان خارجاً عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض ثم تقذف بهم { تدمر } أي تهلك إهلاكاً عظيماً شديداً سريعاً تأتي بغتة على طريق الهجوم { كل شيء } أي أتت عليه ، هذا شأنها فمن سلم منها كهود عليه الصلاة والسلام ومن آمن به رضي الله عنهم فسلامته أمر خارق للعادة كما أن أمرها في إهلاك كل ما مرت عليه أمر خارق للعادة ، والجملتان يحتمل أن تكونا وصفاً لريح ويحتمل وهو أعذب وأهز للنفس وأعجب أن تكونا استئنافاً ، ولما كان ربما ظن ظان أنها مؤثرة بنفسها قال : { بأمر ربها } أي المبدع لها والمربي والمحسن بالانتقام بها من أعدائه .
ولما ذكرها بهذا الذكر الهائل ، وكان التقدير : جاءتهم فدمرتهم لم تترك منهم أحداً ، سبب عن ذلك زيادة في التهويل قوله : { فأصبحوا } ولما اشتد إصغاء السامع إلى كيفية إصباحهم ، قال مترجماً لهلاكهم : { لا ترى } أي أيها الرائي ، فلما عظمت روعة القلب وهول النفس قال تعالى : { إلا مساكنهم } أي جزاء على إجرامهم ، فانطبقت العبارة على المعنى ، وعلم أن المراد بالإصباح مطلق الكون ، ولكنه عبر به لأن المصيبة فيه أعظم ، وعلم أنه لم يبق من المكذبين ديار ولا نافخ نار ، وهذا كناية عن عموم الهلاك لهم سواء كان الرمل دفنهم أو على وجه الأرض مرتبين كما في الآية الأخرى
{ فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } [ الحاقة : 7 ] وروي أن هوداً عليه الصلاة والسلام لما أحس بالريح اعتزل بمن آمن معه في حظيرة فأمالت الريح على الكفرة الأحقاف التي كانت مجتمعهم إذا تحدثوا ومحل بسطهم إذا لعبوا ، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام ، ثم كشفت عنهم فاحتملتهم فقذفتهم في البحر وكذا أهلكت مواشيهم وكل شيء لهم فيه روح ولم يصب هوداً عليه الصلاة والسلام ومن معه رضي الله عنهم منها إلا ما لين أبشارهم ونعش أرواحهم ، والآية على هذا على حقيقتها في أنه لم يصبح الصباح ومنهم أحد يرى .
ولما طارت لهذا الهول الأفئدة واندهشت الألباب ، قال تعالى منبهاً على زبدة المراد بطريق الاستئناف : { كذلك } أي مثل هذا الجزاء الهائل في أصله أو جنسه أو نوعه أو شخصه من الإهلاك { نجزي } بعظمتنا دائماً إذا شئنا { القوم } وإن كانوا أقوى ما يكون { المجرمين * } أي العريقين في الإجرام الذين يقطعون ما حقه الوصل فيصلون ما حقه القطع ، وذلك الجزاء هو الإهلاك على هذا الوجه الشنيع ، فاحذروا أيها العرب مثل ذلك إن لم ترجعوا .
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
ولما كان هذا محلاً يتوقع فيه الإخبار عن حال مكنتهم ليعلم هل تركوا الدفع لمانع فيهم أو لأن ما أتاهم بحيث لا يمكن لأحد دفاعه ، قال ذاكراً حرف التوقع مخوفاً للعرب مقسماً لأن قريشاً قد قال قائلهم : إنهم يدفعون العذاب بدفع الزبانية ، ونحوها : { ولقد } أي فعل بهم ذلك والحال أنا وعزتنا قد { مكناهم } تمكيناً تظهر به عظمتنا { فيما إن } أي الذي ما { مكناكم فيه } من قوة الأبدان وكثرة الأموال وغيرها ، وجعل النافي « أن » لأنها أبلغ من « ما » لأن « ما » تنفي تمام الفوت لتركبها من الميم والألف التي حقيقة إدراكها فوت تمام الإدراك و « أن » تنفي أدنى مظاهر مدخولها فكيف بما وراءه من تمامه لأن الهمزة أول مظهر لفوت الألف والنون لمطلق الإظهار - هذا إلى ما في ذلك من عذوبة اللفظ وصونه عن ثقل التكرار إلى غير ذلك من بدائع الأسرار .
ولما كانت قريش تفتخر بعقولها فربما ظنت أنها في العقل ومقدماته من الحواس أمكن منهم ، وأنهم ما أتى عليهم إلا من عدم فهمهم ، قال تعالى : { وجعلنا } أي جعلاً يليق بما « زدناهم عليكم » من المكنة على ما اقتضته عظمتنا { لهم سمعاً } بدأ به لأن المقام للإنذار المنبه بحاسة السمع على ما في الآيات المرئيات من المواعظ ، فهو أنفع لأنه أوضح ، ووحده لقلة التفاوت فيه { وأبصاراً } أي منبهة على ما في الآيات المرئيات من مطابقة واقعها لأخبار السمع ، وجمع لكثرة التفاوت في أنوار الأبصار ، وكذا في قوله : { وأفئدة } أي قلوباً ليعرفوا بها الحق فيتبعوه والباطل فيجتنبوه ويشكروا من وهبها لهم ، وختم بها لأنها الغاية التي ليس بعد الإدراك منتهى ولا وراءها مرمى ، وعبر بما هو من التفود وهو التجرد إشارة إلى أنها في غاية الذكاء { فما أغنى عنهم } في حال إرسالنا إليهم الرحمة على لسان نبينا هود عليه الصلاة والسلام ثم النقمة بيد الريح { سمعهم } وأكد النفي بتكرير النافي فقال : { ولا أبصارهم } وكذا في قوله : { ولا أفئدتهم } أي لما أردنا إهلاكهم ، وأكد بإثبات الجار فقال : { من شيء } أي من الإغناء ، وإن قلّ لا في دفع العذاب ، ولا في معرفة الصواب ، بل صرفوا ما وهبنا لهم من القوى فيما لا ينبعي تعليق الهمم به من أمور الدنيا حتى فاقوا في ذلك الأمم وعملوا أعمال من تخلد كما قيل :
والخلد قد حاولت ... عاد فما خلدوا
ولما ذكر نفي الإغناء ، ذكر ظرفه على وجه يفهم التعليل ، فإنه إذا ذكر الانتقام في وقت فعل الشيء علم أن علته فعل ذلك الشيء فقال : { إذ كانوا } أي طبعاً لهم وخلقاً { يجحدون } أي يكررون على مر الزمان الجحد { بآيات الله } أي الإنكار لما يعرف من دلائل الملك الأعظم { وحاق } أي أحاط على جهة الإحراق والعظم بأمور لا يدري وجه المخلص منها { بهم ما } أي عقاب الذي { كانوا } على جهة الدوام لكونه خلقاً لهم { به يستهزءون * } أي يوجدونه على سبيل الاستمرار إيجاد من هو طالب له عاشق فيه .
ولما تم المراد من الإخبار بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة ليتعظ بهم من سمع أمرهم ، أتبعهم من كان مشاركاً لهم في التكذيب فشاركهم في الهلاك ، فقال مكرراً لتخويفهم دالاً على إحاطة قدرته بإحاطة علمه : { ولقد أهلكنا } بما لنا من العظمة والقدرة المحيطتين الماضيتين بكل ما نريد { ما حولكم } أي يا أهل مكة { من القرى } كأهل الحجر وسبا ومدين والأيكة وقوم لوط وفرعون وأصحاب الرس وثمود وغيرهم ممن فيهم معتبر . ولما كان الموعوظ به الإهلاك ذكر مقدماً ، فتشوف السامع إلى السؤال عن حالهم في الآيات ، فقال عاطفاً بالواو التي لا يمنع معطوفها التقدم على ما عطف عليه : { وصرفنا الآيات } أي حولنا الحجج البينات وكررناها موصلة مفصلة مزينة محسنة على وجوه شتى من الدلالات ، خالصة عن كل شبهة .
ولما كان تصريف الآيات لا يخص أحداً بعينه ، بل هو لكل من رآه أو سمع به لم يقيدها بهم وذكر العلة الشاملة لغيرهم فقال : { لعلهم } أي الكفار { يرجعون * } أي ليكونوا عند من يعرف حالهم في رؤية الآيات حال من يرجع عن الغي الذي كان يركبه لتقليد أو شبهة كشفته الآيات وفضحته الدلالات فلم يرجعوا ، فكان عدم رجوعهم سبب إهلاكنا لهم .
ولما كانوا قد جعلوا محط حالهم في الشركاء أنهم سبب التواصل بينهم والتفاوت ، وادعوا أنهم يشفعون فيهم فيقربونهم إلى الله زلفى ويمنعونهم من العذاب في الآخرة ، وكان أدنى الأمور التسوية بينه وبين عذاب الدنيا ، سبب عن أخباره عن إهلاك الأمم الماضية قوله مقدماً للعلة التي جعلها محط نظرهم منكراً عليهم موبخاً لهم : { فلولا } أي فهل لا ولم لا { نصرهم } أي هؤلاء المهلكين { الذين اتخذوا } أي اجتهدوا في صرف أنفسهم عن دواعي العقل والفطر الأولى حتى أخذوا ، وأشار إلى قلة عقولهم ببيان سفولهم فقال : { من دون الله } أي الملك الذي هو أعظم من كل عظيم { قرباناً } أي لأجل القربة التقريب العظيم يتقربون إليها ويزعمون أنها تقربهم إلى الله { آلهة } أشركوهم مع الملك الأعظم لأجل ذلك - قاتلهم الله وأخزاهم .
ولما كان التخصيص يفهم أنهم ما نصروهم ، أضرب عنه فقال : { بل ضلوا } أي غابوا وعموا عن الطريق الأقوم وبعدوا { عنهم } وقت بروك النقمة وقروع المثلة حساً ومعنى . ولما كان التقدير : فذلك الاتخاذ الذي أدتهم إليه عقولهم السافل جداً البعيد من الصواب كان الموصل إلى مآلهم هذا ، عطف عليه قوله : { وذلك } أي الضلال البعيد من السداد الذي تحصل من هذه القصة من إخلاف ما كانوا يقولون : إن أوثانهم آلهة ، وإنها تضر وتنفع وتقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده { إفكهم } أي صرفهم الأمور عن وجهها إلى أقفائها ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى العذاب ، أي وهذا العذاب جزاؤهم في مقابلة إفكهم { وما كانوا } أي على وجه الدوام لكونه في طباعهم { يفترون * } أي يتعمدون كذبه لأن إصرارهم عليه بعد مجيء الآيات لا يكون إلا لذلك لأن من نظر فيها مجرداً نفسه عن الهوى اهتدى .
ولما كان ما ذكر من البعد من الإيمان مع تصريف العظات والعبر والآيات يكاد أن يؤنس السامع من إيمان هؤلاء المدعوين ، قربه دلالة على عزته وحكمته بالتذكير بالإيمان من هم أعلى منهم عتواً وأشد نفرة وأبعد إجابة وأخفى شخصاً ، فقال جواباً عما وقع له صلى الله عليه وسلم في عرض نفسه الشريفة على القبائل وإبعادهم عنه لا سيما أهل الطائف ، دالاً على تمام القدرة بشارة للمنزل عليه صلى الله عليه وسلم وتوبيخاً لما تأخر عن إجابته من قومه عاطفاً على ما تقديره : اذكر هذه الأخبار : { وإذ } أي واذكر حين { صرفنا إليك } أي وجهنا توجيهاً خالصاً حسناً متقناً فيه ميل إليك وإقبال عليك ، وإعراض عن غيرك ، بوادي نخلة عند انصرافك من الطائف حين عرضت نفسك الشريفة عليهم بعد موت النصيرين فردوك رداً تكاد تنشق منه المرائر ، وتسل من تذكاره النواظر .
ولما كان استعطاف من جبل على النفرة وإظهار من بني على الاجتنان أعظم في النعمة ، عبر بما يدل على ذلك فقال : { نفراً } وهو اسم يطلق على ما دون العشرة ، وهو المراد هنا ، ويطلق على الناس كلهم ، وحسن التعبير به أن هؤلاء لما خصوا بشرف السبق وحسن المتابعة كانوا كأنهم هم النفر لا غيرهم { من الجن } من أهل نصيبين من الناحية التي منها عداس الذي جبرناك به في الطائف بما شهد به لسيديه عتبة وشيبة ابني ربيعة أنك خير أهل الأرض مع أنه ليس لهؤلاء النفر من جبلاتهم إلا النفرة والاجتنان وهو الاختفاء والستر فجعلناهم ألفين لك ظاهرين عندك لتبلغهم ما أرسلناك به فإنا أرسلناك إلى جميع الخلائق ، وهذا جبر لك وبشارة بإيمان النافرين من الإنس كما أيدناك منهم بعد نفرة أهل الطائف بعداس ، ثم وصفهم بقوله : { يستمعون القرآن } أي يطلبون سماع الذكر الجامع لكل خير ، الفارق بين كل ملبس وأنت في صلاة الفجر في نخلة تصلي بأصحابك ، ودل على قرب زمن الصرف من زمن الحضور بتعبيره سبحانه بالفاء في قوله تعالى مفصلاً لحالهم : { فلما حضروه } أي صاروا بحيث يسمعونه { قالوا } أي قال بعضهم ورضي الآخرون : { أنصتوا } أي اسكتوا وميلوا بكلياتكم واستمعوا حفظاً للأدب على بساط الخدمة ، وفيه تأدب مع العلم في تعلمه وأيضاً مع معلمه ، قال القشيري : فأهل الحضور صفتهم الذبول والسكون والهيبة والوقار ، والثوران والانزعاج يدل على غيبة أو قلة تيفظ ونقصان من الاطلاع ، ودل على أن ما استمعوه كان يسيراً وزمنه قصيراً ، وعلى تفصيل حالهم بعد انقضائه بالفاء في قوله تعالى : { فلما } أي فأنصتوا فحين { قضي } أي حصل الفراغ من قراءته الدالة على عظمته من أيّ قارئ كان { ولوا } أي أوقعوا التولية - أي القرب - بتوجيه الوجوه والهمم والعزائم { إلى قومهم } الذين فيهم قوة القيام بما يحاولونه ، ودل على حسن تقبلهم لما سمعوه ورسوخهم في اعتقاده بقوله تعالى : { منذرين * } أي مخوفين لهم ومحذرين عواقب الضلال بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم .
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
ولما كان كأنه قيل : ما قالوا لهم في إنذارهم؟ قيل : { قالوا } أي لقومهم حين أقبلوا عليهم : { يا قومنا } مترققين لهم ومشفقين بهم بذكر ما يدل على أنهم منهم يهمهم ما يهمهم ويكربهم ما يكربهم كما قيل :
وإن أخاك الحق من كان معك ... ومن يضر نفسه لينفعك
ولما كانوا - بنزول ما في أسفار الأنبياء من بني إسرائيل والزبور والإنجيل خالية من الأحكام والحدود إلا يسيراً من ذلك في الإنجيل - قاطعين أو كالقاطعين بأنه لا ينزل كتاب يناظر التوراة في الأحكام والحدود وغيرها ، فكان قومهم ربما توقفوا في الإخبار بإنزال ما هو أشرف من ذلك ، أكدوا قولهم : { إنا سمعنا } أي بيننا وبين القارئ واسطة ، وأشاروا إلى أنه لم ينزل بعد التوراة شيء جامع لجميع ما يراد منه ، مغن عن جميع الكتب غير هذا ، وبذلك عرفوا أنه ناسخ لجميع الشرائع فقالوا على سبيل التبيين لما سمعوا : { كتاباً } أي ذكراً جامعاً ، لا كما نزل بعد التوراة على بني إسرائيل { أنزل } أي ممن لا منزل في الحقيقة غيره ، وهو مالك الملك وملك الملوك لأن عليه من رونق الكتب الإلهية ما يوجب القطع لسامعه بأنه منها فكيف إذا انضم إلى ذلك الإعجاز ، وعلموا قطعاً بعربيته أنه عربي وبأنهم كانوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ويسمعون قراءة الناس لما يحدثونه من الحكم والخطب والكهانة والرسائل والأشعار ، وبأنه مباين لجميع ذلك أنه قريب العهد بالنزول من محل العظمة ، فقالوا مثبتين للجار : { من بعد موسى } عليه الصلاة والسلام ، فلم يعتدوا بما أنزل بين هذا الكتاب وبين التوراة من الإنجيل وما قبله ، لأنه لا يساوي التوراة في الجمع ، ولا يعشر هذا الكتاب في الأحكام والحكم واللطائف والمواعظ مع ما زاد به من الإعجاز وغيره .
ولما أخبروا بأنه منزل ، أتبعوه ما يشهد له بالصحة فقالوا : { مصدقاً لم بين يديه } أي من جميع كتب بني إسرائيل الإنجيل وما قبله؛ ثم بينوا تصديقه بقولهم : { يهدي إلى الحق } أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع فلا يقدر أحد على إزالة شيء مما يخبر به ، الكامل في جميع ذلك { وإلى طريق } موصل إلى المقصود الأعظم وهو الإيمان بمنزله { مستقيم * } فهو يوصل بغاية ما يمكن من السرعة ، لا يمكن أن يكون فيه عوج ، فيقدر السالك فيه على أن يختصر طريقاً يكون وتراً لما تقوس منه .
ولما أخبروهم بالكتاب وبينوا أنه من عند الله وأنه أقرب موصل إليه ، فكان قومهم جديرين بأن يقولوا : فما الذي ينبغي أن نفعل؟ أجابوهم بقوله : { يا قومنا } الذين لهم قوة العلم والعمل { أجيبوا داعي الله } أي الملك الأعظم المحيط بصفات الجلال والجمال والكمال ، فإن دعوة هذا الداعي عامة لجميع الخلق ، فالإجابة واجبة على كل من بلغه أمره .
ولما كنا المجيب قد يجيب في شيء دون شيء كما كان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، عطفوا في خطابهم لهم في الدعوة أن قالوا : { وآمنوا به } أي أوقعوا التصديق بسبب الداعي لا بسبب آخر ، فإن المفعول معه مفعول مع من أرسله وهو الله الذي جلت قدرته وآمنوه من كل تكذيب ، أو الضمير للمضاف إليه وهو الله بدليل قولهم : { يغفر لكم } : فإنه يستر ويسامح { من ذنوبكم } أي الشرك وما شابهه مما هو حق لله تعالى أي وذلك الستر لا يكون إلا إذا حصل منكم الإجابة التامة والتصديق التام وأدخلوا « من » إعلاماً بأن مظالم العباد لا تغفر إلا بإرضاء أهلها وكذا ما يجازى به صاحبه في الدنيا بالعقوبات والنكبات والهموم ونحوها مما أشار إيه قوله تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [ الشورى : 30 ] { ويجركم } أي يمنعكم « إذا أجبتم » منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه { من عذاب أليم * } واقتصارهم على المغفرة تذكير بذنوبهم لأن مقصودهم الإنذار لا ينافي صريح قوله ي هذه السورة { ولكل درجات مما عملوا } [ الأنعام : 132 ] في إثبات الثواب ، ونقله أبو حيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها .
ولما فرغوا من التعريف بالحق والدلالة عليه والدعاء إليه والإنذار بالرفق بما أفهم كلامهم من أنهم إن لم يجيبوا انتقم منهم بالعذاب الأليم ، أتبعوه ما هو أغلظ إنذاراً منه فقالوا : { ومن لا يجب } أي لا يتجدد منه أن يجيب { داعي الله } أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء الذي لا كفوء له ولا طاقة لأحد بسخطه فعم بدعوة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم جميع الخلق .
ولما دل الكتاب والسنة كما قدمته في سورتي الأنعام والفرقان على عموم الرسالة ، وكان التارك لإجابة من عمت رسالته عاصياً مستحقاً للعذاب ، عبر عن عذابه ، بما دل على تحتمه فقال تعالى : { فليس بمعجز } أي لما يقضي به عليه { في الأرض } فإنه آية سلك فيها فهو في ملكه وملكه وقدرته محيطة به { وليس له من دونه } أي الله الذي لا يجير إلا هو { أولياء } يفعلون لأجله ما يفعل القريب مع قريبه من الذب عنه والاستشفاع له والافتداء والمناصبة لأجله .
ولما انتفى عنه الخلاص من كل وجه ، وكان ذلك لا يختلف سواء كان العاصي واحداً أو أكثر ، أنتج قوله سبحانه وتعالى معبراً بالجمع لأنه أدل على القدرة ودلالة على أن العصاة كثيرة لملاءمة المعاصي لأكثر الطبائع : { أولئك } أي البعيدون من كل خير { في ضلال مبين * } أي ظاهر في نفسه أنه ضلال ، مظهر لكل أحد قبح إحاطتهم به ، قال القشيري : ويقال : الإجابة على ضربين : إجابة الله ، وإجابة الداعي ، فإجابة الداعي بشهود الواسطة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإجابة الله بالجهر إذا بلغت المدعو رسالته صلى الله عليه وسلم على لسان السفير ، وبالسر إذا حصلت التعريفات من الواردات على القلب ، فمستجيب بنفسه ، ومستجيب بقلبه ، و مستجيب بروحه ، ومستجيب بسره ، ومن توقف عن دعاء الداعي إياه هجر فما كان يخاطب به .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
ولما أتم سبحانه وتعالى ما اقتضاه مقصود هذه السورة من أصول الدين وفروعه والتحذير من سطواته بذكر بعض مثلاته ، وختم بضلال من لم يجب الداعي ، نبه على أن أوضح الأدلة على إحاطته بالجلال والجمال وقدرته على الأجل المسمى الذي خلق الخلق لأجله ما جلى به مطلع السورة من إبداع الخافقين وما فيهما من الآيات الظاهرة للأذن والعين ، فقال مبكتاً لهم على ضلالهم عن إجابة الداعي ومنكراً عليهم وموبخاً لهم مرشداً بالعطف على غير مذكور إلى أن التقدير : ألم ير هؤلاء الضلال ما نصبنا في هذه السورة من أعلام الدلائل وواضح الرسائل في المقاصد والوسائل ، عاطفاً عليه قوله تعالى رداً لمقطع السورة بتقرير المعاد على مطلعها المقرر للبدء بخلق الكونين بالحق : { أو لم يروا } أي يعلموا علماً هو في الوضوح كالرؤية { أن الله } ودل على هذا الاسم الأعظم بقوله : { الذي خلق السماوات } على ما احتوت عليه مما يعجز الوصف من العبر { والأرض } على ما اشتملت عليه من الآيات المدركة بالعيان والخبر { ولم يعي } أي يعجز ، يقال : عيي بالأمر - إذ لم يهتد لوجه مراده أو عجز عنه ولم يطق إحكامه ، قال الزجاج : يقال : عييت بالأمر - إذ لم تعرف وجهه ، وأعييت : تعبت ، وفي القاموس : وأعيى بالأمر : كل { بخلقهن } أي بسببه فإنه لو حصل له شيء من ذلك لأدى إلى نقصان فيهما أو في إحدهما ، وأكد الإنكار المتضمن للنفي بزيادة الجار في حيز « أن » فقال تعالى : { بقادر } أي قدرة عظيمة تامة بليغة { على أن يحيي } أي على سبيل التجديد مستمراً { الموتى } والأمر فيهم لكونه إعادة ولكونهم جزاء يسيراً منها ذكر اختراعه أصغر شأناً وأسهل صنعاً .
ولما كان هذا الاستفهام الإنكاري في معنى النفي ، أجابه بقوله تعالى { بلى } قد علموا أنه قادر على ذلك علماً هو في إتقانه كالرؤية بالبصر لأنهم يعلمون أنه المخترع لذلك ، وأن الإعادة أهون من الابتداء في مجاري عاداتهم ، ولكنهم عن ذلك ، غافلون لأنهم عنه معرضون ، ولما كانوا مع هذه الأدلة الواضحة التي هي أعظم من المشاهدة بالبصر ينكرون ما دلت عليه هذه الصنعة من إحاطة القدرة ، علل ذلك مؤكداً له بقوله مقرراً للقدرة على وجه عام يدخل فيه البعث الذي ذكر أول السورة أنه ما خلق هذا الخلق إلا لأجله ليختم بما بدأ به { إنه على كل شيء } أي هو أهل لأن تتعلق القدرة به { قدير * } .
ولما ثبت البعث بما قام من الدلائل ذكر ببعض ما يحصل في يومه من الأهوال تحذيراً منه ، فقال عاطفاً على ما تقديره : اذكر لهم هذا القياس الناطق بالمراد وما مضى في هذه السورة من الزواجر { ويوم } أي واذكر يوم { يعرض } بأيسر أمر من أوامرنا { الذين كفروا } أي ستروا بغفلتهم وتماديهم عليه هذه الأدلة الظاهرة { على النار } عرض الجند على الملك فيسمعوا من تغيظها وزفيرها ويروا من لهيبها واضطرامها وسعيرها ما لو قدر أن أحداً يموت من ذلك لماتوا من معاينته وهائل رؤيته .
ولما كان كأنه قيل : ماذا يصنع بهم في حال عرضهم؟ قيل : يقال على سبيل التبكيت والتقريع والتوبيخ : { أليس هذا } أي الأمر العظيم الذي كنتم به توعدون ولرسلنا في أخبارهم تكذبون { بالحق } أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فلا قدرة لكم على صليه أمر هو خيال وسحر ، فلا تبالون بوروده .
ولما اشتد تشوف السامع العالم بما كانوا يبدون من الشماخة والعتو إلى جوابهم ، قال في جوابه مستأنفاً : { قالوا } أي مصدقين حيث لا ينفع التصديق : { بلى } وما كفاهم البدار إلى تكذيب أنفسهم حتى أقسموا عليه لأن حالهم كان مباعداً للإقرار ، وذكروا صفة الإحسان زيادة في الخضوع والإذعان { وربنا } أي إنه لحق هو من أثبت الأشياء ، وليس فيه شيء مما يقارب السحر ، ثم استأنف جواب من سأل عن جوابه لهم بقوله تعالى : { قال } مبكتاً لهم بياناً لذلهم موضع كبرهم الذي كان في الدنيا مسبباً عن تصديقهم هذا الذي أوقعوه في غير موضعه وجعلوه في دار العمل التي مبناها على الإيمان بالغيب تكذيباً معبراً بما يفهم غاية الاستهانة لهم : { فذوقوا العذاب } أي باشروه مباشرة الذائق باللسان ، ثم صرح بالسبب فقال : { بما كنتم } أي خلقاً وخلقاً مستمراً دائماً أبداً { تكفرون * } في دار العمل .
ولما علم بما قام من الأدلة وانتصب من القواطع أن هذا مآلهم ، سبب عنه قوله رداً على ما بعد خلق الخافقين في مطلعها من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبتهم له إلى الافتراء وما بعده : { فاصبر } أي على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة ، قال القشيري : والصبر هو الوقوف بحكمِ الله والثبات من غير بث ولا استكراه . { كما صبر أولوا العزم } أي الجد في الأمر والحزم في الجد والإرادة المقطوع بها والثبات الذي لا محيد عنه ، الذين مضوا في أمر الله مضياً كأنهم أقسموا عليه فصاروا كالأسد في جبلته والرجل الشديد الشجاع المحفوف بقبيلته ، قال الرازي في اللوامع : فارقت نفوسهم الشهوات والمنى فبذلوا نفوسهم لله صدقاً لاتفاق النفس القلب على البذل .
ولما تشوف السامع إلى بيانهم قال : { من الرسل } عليهم الصلاة والسلام ، وقيل وهو ظاهر جداً : أن « من » للتبعيض ، والمراد بهم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيس قواعدها وتثبيت معاقدها ، ومشاهيرهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقد نظمهم بعضهم في قوله :
أولو العزم نوح والخليل بن آزر ... وموسى وعيسى والحبيب محمد
والخلاف في تعيينهم كثير منتشر هذا القول أشهر ما فيه ، وكله مبني على أن « من » للتبعيض وهو الظاهر ، والقول بأنهم جميع الرسل - قال ابن الجوزي - قاله ابن زيد واختاره ابن الأنباري وقال : « من » للتجنيس لا للتبعيض ، وفي قول أنهم جميع الأنبياء إلا يونس عليه الصلاة والسلام - قال ابن الجوزي : حكاه الثعلبي .
ولما أمره بالصبر الذي من أعلى الفضائل ، نهاه عن العجلة التي هي من أمهات الرذائل ، ليصح التحلي بفضيلة الصبر الضامنة للفوز والنصر فقال : { ولا تستعجل لهم } أي تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئاً مما يسوءهم في غير حينه الأليق به . ولما كان ما أمر به ونهى عنه في غاية الصعوبة ، سهله بقوله مستأنفاً : { كأنهم يوم يرون } أي في الدنيا عند الموت مثلاً أو في الآخرة وقت العرض والحساب والهول الأعظم الأكبر الذي تقدمت الإشارة إليه جداً والتحذير منه لأهل المعاصي والبشارة فيه لأهل الطاعة ، فأما هذه الطائفة فإذا رأوا { ما يوعدون } من ظهور الدين في الدنيا والبعث في الآخرة ، وبناه للمفعول لأن المنكىء هو الإيعاد لا كونه من معين { لم يلبثوا } أي في الدنيا حيث كانوا عالين { إلا ساعة } .
ولما كانت الساعة قد يراد بها الجنس وقد تطلق على الزمن الطويل ، حقق أمرها وحقرها بقوله : { من نهار } ولما تكفل ما ذكر في هذه السورة من الحجج الظاهرة والبراهين الباهرة ببيان ما هو مقصودها بحيث لم يبق فيه لبس ، وكان مقصودها آئلاً إلى سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وهو التوحيد اللازم منه إحاطة العلم بكل شيء وشمول القدرة لكل شيء ختمت بما ختمت به إبراهيم إلا أن لحواميم لباباً ، حذف المبتدأ ومتعلق الخبر وقيل : { بلاغ } أي هذا الذي ذكر هنا هو من الظهور وانتشار النور بحيث يرد المنذرين ويوصلهم إلى رضى العزيز الحكيم الكافل بالنور الدائم والنعيم المقيم ، ومن لم يوصله فذلك الذي حكم العزيز بشقائه فلا حيلة لغيره في شفائه من عظيم دائه ، ولذلك سبب عن كونه بلاغاً قوله زيادة على ختام إبراهيم ما يناسب مطلعها : { فهل يهلك } بني للمفعول من أهلك ، لأن المحذور الهلاك وإن لم يعين المهلك ، وللدلالة على أن إهلاكهم عليه سبحانه وتعالى يسير جداً { إلا القوم } الذين فيهم أهلية القيام بما يحاولونه من اللدد { الفاسقون * } أي العريقون في إدامة الخروج من محيط ما يدعو إليه هادي العقل والفطرة الأولى من الطاعة الآتي بها النقل إلى مضل المعصية الناهي عنها والعقل ، وأما الذين فسقوا والذين يفسقون فإن هادي هذه السورة يردهم ويوصلهم إلى المقصود ، فهذا الآخر نتيجة قوله أولها { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } وذكر اليوم الموعود هو الأجل الذي أوجد الخافقان لأجله وبسببه والدلالة على القدرة بخلقهما من غير إعياء هو ذكره أولهما أنهما ما خلقا إلا بالحق ، وذكر البلاغ هو تنزيل الكتاب من الله وحكمه على العريق بالفسق بالهلاك مع الهادي الشفيق ولغيره بالنجاة بعد انسيابه في الفسق مع التكرر هو من ثمرات العزة والحكمة ، فقد التحم هذا الآخر بذاك الأول أيّ التحام ، واتصل بمعناه اتصال الجوهر النفيس في متين النظام ، والتأم بأول التي تليها أحسن التئام فسبحان من جعله أشرف الكلام ، لكونه صفة الملك العلام ، منزلاً على خاتم الرسل الكرام ، ورسول - الملك العلام - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأهل بيته الكرام وسلم تسليماً كثيراً .
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
فقال سبحانه وتعالى : { الذين كفروا } أي ستروا أنوار الأدلة فضلوا على علم { وصدوا } أي امتنعوا بأنفسهم ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر { عن سبيل الله } أي الطريق الرحب المستقيم الذي شرعه الملك الأعظم { أضل } أي أبطل إبطَّالاً عظيماً يزيل العين والأثر { أعمالهم * } التي هي أرواحهم المعنوية وهي كل شيء يقصدون به نفع أنفسهم من جلب نفع أو دفع ضر بعد أن وفر سيئاتهم وأفسد بالهم ، ومن جملة أعمالهم ما يكيدونكم به لأنها إذا ضلت عما قصدوا بها بجعله سبحانه لها ضالة ضائعة هلكت من جهة أنها ذهبت في المهالك ومن جهة أنها ذهبت في غير الجهة التي قصدت لها فبطلت منفعتها المقصودة منها فصارت هي باطلة فأذهبوا أنتم أرواحهم الحسية بأن تبطلوا صورهم وأشباحهم بأن تقطعوا أوصالهم وأنتم في غاية الاجتراء عليهم ، فإن ربهم الذي أوجدهم قد أبطلهم وأذن لكم في إبطالهم ، فإنه قد علم أن لا صلاح لهم والمؤذي طبعاً يقتل شرعاً ، فمن قدرتم على قتله فهو محكوم بكفره ، محتوم بخيبته وخسره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما انبنت سورة الأحقاف على ما ذكر من مآل من كذب وافترى وكفر وفجر ، وافتتحت السورة بإعراضهم ، ختمت بما قد تكرر من تقريعهم وتوبيخهم ، فقال تعالى : { ألم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى } أي لو اعتبروا بالبداءة لتيسر عليهم أمر العودة ، ثم ذكر عرضهم على النار إلى قوله { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } فلما ختم بذكر هلاكهم ، افتتح السورة الأخرى بعاجل ذلك اللاحق لهم في دنياهم فقال تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّاً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } الآية بعد ابتداء السورة بقوله { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } فنبه على أن أصل محنتهم إنما هو بما أراده تعالى بهم في سابق علمه ليعلم المؤمنون أن الهدى والضلال بيده ، فنبه على الطريقين بقوله { أضل أعمالهم } وقوله في الآخر { كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم } ثم بين أنه تعالى لو شاء لانتصر منهم ولكن أمر المؤمنين بقتالهم ابتلاء واختباراً ، ثم حض المؤمنين على ما أمرهم به من ذلك فقال : { إن تنصروا الله ينصركم } ثم التحمت الآي - انتهى .
ولما ذكر أهل الكفر معبراً عنهم بأدنى طبقاتهم ليشمل من فوقهم ، ذكر أضدادهم كذلك ليعم من كان منهم من جميع الفرق فقال تعالى : { والذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان باللسان { وعملوا } تصديقاً لدعواهم ذلك { الصالحات } أي الأعمال الكاملة في الصلاة بتأسيسها على الإيمان . ولما كان هذا الوصف لا يخص أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، خصهم بقوله تعالى : { وآمنوا } أي مع ذلك .