كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ قُوَّةُ حِفْظِهِ وَزِيَادَةُ ضَبْطِهِ وَشِدَّةُ اعْتِنَائِهِ فَيُرَجَّحُ على من كان أَقَلَّ في ذلك حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن إجْمَاعِ أَهْلِ الحديث وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ على رِوَايَةِ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قال بَيْنَهُمَا فَضْلُ ما بين الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَالتَّفْضِيلُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ ثُمَّ قال وهو عِنْدِي كَاخْتِصَاصِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ سُرْعَةُ حِفْظِ أَحَدِهِمَا وَإِبْطَاءُ نِسْيَانِهِ مع سُرْعَةِ حِفْظِ الْآخَرِ وَسُرْعَةِ نِسْيَانِهِ لِأَنَّ نِسْيَانَ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْحِفْظِ بَطِيءٌ وَهَذَا ذَكَرَهُ الْهِنْدِيُّ احْتِمَالًا وَصَدَّرَ كَلَامَهُ بِأَنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ لَا يَكْثُرَ تَفَرُّدُهُ بِالرِّوَايَاتِ عن الْحُفَّاظِ فَإِنْ كَثُرَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ خَبَرُهُ عليه على خَبَرِهِ قَالَهُ الْغَزَالِيُّ أَيْ وَإِنْ قُلْنَا زِيَادَةَ الثِّقَةِ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ دَوَامُ عَقْلِهِ فَيُرَجَّحُ على من اخْتَلَطَ في عُمُرِهِ ولم يُعْرَفْ أَنَّهُ رَوَى الْخَبَرَ في حَالَةِ سَلَامَةِ عَقْلِهِ أو حَالَ اخْتِلَاطِهِ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ شُهْرَةُ الرَّاوِي بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ فَيُرَجَّحُ رِوَايَةُ الْمَشْهُورِ على الْخَامِلِ لِأَنَّ الدِّينَ كما يَمْنَعُ من الْكَذِبِ كَذَلِكَ الشُّهْرَةُ وَالْمَنْصِبُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ شُهْرَةُ نَسَبِهِ فإن احْتِرَازَ مَشْهُورِ النَّسَبِ مِمَّا يُوجِبُ نَقْصَ مَنْزِلَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ قَالَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ في التَّرْجِيحِ نعم قال في الْمَحْصُولِ رِوَايَةُ مَعْرُوفِ النَّسَبِ رَاجِحَةٌ على رِوَايَةِ مَجْهُولِهِ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ عَدَمُ الْتِبَاسِ اسْمِهِ فَيُرَجَّحُ رِوَايَةُ من لم يَلْتَبِسْ اسْمُهُ بِاسْمِ غَيْرِهِ من الضُّعَفَاءِ على رِوَايَةِ من يَلْتَبِسُ فيه ذلك وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْسَرَ التَّمْيِيزُ قَالَهُ في الْمُسْتَصْفَى وَالْمَحْصُولِ الثَّانِي بِوَقْتِ الرِّوَايَةِ فَيُرَجَّحُ الرَّاوِي في الْبُلُوغِ على الذي رَوَى في الصِّبَا وفي الْبُلُوغِ لِأَنَّ الْبَالِغَ
أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ وَيُرَجَّحُ الْخَبَرُ الذي لم يَتَحَمَّلْ رِوَايَةً إلَّا في زَمَنِ بُلُوغِهِ على من لم يَتَحَمَّلْ إلَّا في زَمَنِ صِبَاهُ وَلِهَذَا قَدَّمَ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ في الْإِفْرَادِ على رِوَايَةِ أَنَسٍ في الْقِرَانِ فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ في التَّشَهُّدِ على رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْنَا لِأَنَّ مُتَأَخِّرَ الصُّحْبَةِ مُقَدَّمٌ على مُتَقَدِّمِهَا في الرِّوَايَةِ لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ وَيُرَجَّحُ من لم يَرْوِ إلَّا في حَالِ الْإِسْلَامِ وَيُرَجَّحُ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ فَيُرَجَّحُ من تَأَخَّرَ إسْلَامُهُ على من تَقَدَّمَ إسْلَامُهُ لِأَنَّ تَأَخُّرَ الْإِسْلَامِ دَلِيلٌ على رِوَايَتِهِ آخِرًا كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ في النَّقْضِ من مَسِّ الذَّكَرِ على رِوَايَةِ قَيْسٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَتَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن بَرْهَانٍ وَتَبِعَهُمْ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَجَزَمَ الْآمِدِيُّ بِعَكْسِهِ مُعْتَلًّا بِعَرَاقَةِ الْمُتَقَدِّمِ في الْإِسْلَامِ وَمَعْرِفَتِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ يُقَدَّمُ خَبَرُ الْمُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامَ إنْ كان في أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ ما يَدُلُّ على أَنَّهُ كان في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ رِوَايَتُهُ مُتَأَخِّرَةً عن رِوَايَةِ الْمُتَأَخِّرِ فإذا مَاتَ الْمُتَقَدِّمُ قبل إسْلَامِ الْمُتَأَخِّرِ وَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَكْثَرَ رِوَايَةً الْمُتَقَدِّمُ فَتُقَدَّمُ على رِوَايَةِ الْمُتَأَخِّرِ فَهَاهُنَا نَحْكُمُ بِالرُّجْحَانِ لِأَنَّ النَّادِرَ مُلْحَقٌ بِالْغَالِبِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إنْ جُهِلَ تَارِيخُهُمَا فَالْغَالِبُ أَنَّ رِوَايَةَ مُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامِ نَاسِخٌ كما نَسَخْنَا رِوَايَةَ طَلْقٍ بِرِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ وَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ في أَحَدِهِمَا وَجُهِلَ في الْآخَرِ نُظِرَ فَإِنْ كان الْمُؤَرَّخُ مِنْهُمَا في آخِرِ أَيَّامِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهُوَ النَّاسِخُ لِمَا لَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُ فَيُنْسَخُ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ إذَا صلى الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا بِصَلَاةِ أَصْحَابِهِ قِيَامًا خَلْفَهُ وهو يُصَلِّي قَاعِدًا في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فيه وَإِنْ لم يُعْلَمْ التَّارِيخُ فِيهِمَا وَلَا في أَحَدِهِمَا وَاحْتِيجَ إلَى نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَقِيلَ النَّاقِلُ منهم عن الْعَادَةِ أَوْلَى من الْمُوَافِقِ لها وَقِيلَ الْمُحَرِّمُ أَوْلَى من الْمُبِيحِ وَكَذَا الْمُوجِبُ أَوْلَى فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا مُوجِبًا وَالْآخَرُ مُحَرِّمًا لم يُقَدَّمْ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ وقال إلْكِيَا يُرَجَّحُ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ على الْآخَرِ بِإِمْكَانِ تَطَرُّقِ النَّسْخِ إلَى أَحَدِهِمَا إنْ لم يَجِدْ مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا كَحَدِيثِ طَلْقٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ هذا إذَا لم يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُحْتَمَلًا فَإِنْ كان فَلَا كَحَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ جَاءَنَا كِتَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قبل مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا من الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ فإنه يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قبل الدِّبَاغِ
فإن الْإِهَابَ اسْمٌ له قبل الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ يُسَمَّى السِّخْتِيَانُ لِلْأَدِيمِ وَيَدْخُلُ في هذا الْقَوْلِ في التَّرْجِيعِ في الْأَذَانِ وَإِيتَارِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ التَّرْجِيعَ في رِوَايَةِ أبي مَحْذُورَةَ وَسَعْدِ الْقَرَظِ مُتَأَخِّرٌ عن أَذَانِ بِلَالٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرَاجِيحَ كَثِيرَةٌ وَمَنَاطَهَا ما كان إفَادَتُهُ لِلظَّنِّ أَكْثَرَ فَهُوَ الْأَرْجَحُ وقد تَتَعَارَضُ هذه الْمُرَجَّحَاتُ كما في كَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِ فَيَعْتَمِدُ الْمُجْتَهِدُ في ذلك ما غَلَبَ على ظَنِّهِ فَائِدَةٌ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ إنَّا لَا نُنْكِرُ تَفَاوُتًا بين الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ في جَوْدَةِ الْفَهْمِ وَقُوَّةِ الْحِفْظِ وَمَعَ هذا لم يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ رِوَايَةَ الذَّكَرِ تُقَدَّمُ على رِوَايَةِ الْأُنْثَى لِأَنَّ هذا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْجِنْسِ وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّوْعِ قُلْت قد حَكَى سُلَيْمٌ فيه الْخِلَافَ فقال لَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الذَّكَرِ على الْأُنْثَى وَلَا الْحُرِّ على الْعَبْدِ خِلَافًا لِمُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا في قُوَّةِ الْخَبَرِ فَلَا يَدْخُلَانِ في التَّرْجِيحِ انْتَهَى وَكَذَا قال الْأُسْتَاذُ لَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ الذَّكَرِ وَقِيلَ إنَّمَا يُقَدَّمُ الذَّكَرُ فَيُغَيِّرُ أَحْكَامَ النِّسَاءِ أَمَّا أَحْكَامُهُنَّ فَيُقَدَّمْنَ على غَيْرِهِنَّ لِأَنَّ هِمَّتَهُنَّ وَقَصْدَهُنَّ لِمَا حَفِظْنَهُ أَكْثَرُ وَبِهِ جَزَمَ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ الثَّالِثُ بِكَيْفِيَّةِ الرِّوَايَةِ فَمِنْهَا يُرَجَّحُ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ على رَفْعِهِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْمُخْتَلَفِ في رَفْعِهِ وَالْمُتَّفَقُ على وَقْفِهِ كَتَقْدِيمِ حديث عُبَادَةَ في لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ على حديث جَابِرٍ كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فيها بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ فإنه مَوْقُوفٌ في الْمُوَطَّإِ وثانيها يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمُؤَدَّى بِلَفْظِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْمَرْوِيِّ بِمَعْنَاهُ وَحَكَى
صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَنَّهُ إنْ كان رَاوِي الْمَعْنَى عَارِفًا فَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وَإِلَّا قُدِّمَ من رَوَى اللَّفْظَ وثالثها يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الذي اتَّفَقَتْ رُوَاتُهُ على أَنَّهُ من لَفْظِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْخَبَرِ الذي اُخْتُلِفَ فيه هل هو من لَفْظِهِ أو هو مُدْرَجٌ من لَفْظِ غَيْرِهِ كَخَبَرِ السِّعَايَةِ وما يُعَارِضُهُ في الْعِتْقِ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ رَابِعُهَا يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الذي حَكَى الرَّاوِي سَبَبَ وُرُودِهِ على من لم يَحْكِهِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ من الْحَاكِي كما رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ مَيْمُونَةَ في النِّكَاحِ وهو حَلَالٌ على رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَمَّا إذَا انْطَبَقَ أَحَدُهُمَا على سَبَبٍ خَاصٍّ وَالْآخَرُ مُطْلَقٌ فَيُقَدَّمُ الْمُطْلَقُ كما قَالَهُ إلْكِيَا بِنَاءً على أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعُمُومِ قال وقد يُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ السَّبَبِ وَلَا يَكُونُ في حَقِيقَتِهِ كما رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً كانت تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ فَتَجْحَدُهُ فَقَطَعَهَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال قَوْمٌ من الْمُحَدِّثِينَ لَمَّا ذَكَرَ الِاسْتِعَارَةَ وَالْجُحُودَ دَلَّ على أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا جَحَدَ يُقْطَعُ قِيلَ هذا ظَاهِرُهُ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا نَقَلَ الْجُحُودَ وَالِاسْتِعَارَةَ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِمُوَافَقَةِ ما يُوجِبُ الْقَطْعَ كما قال من يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه وَلِأَنَّهُ رُوِيَ في حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ امْرَأَةً مَخْزُومِيَّةً كانت تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ فَتَجْحَدُهُ فَسَرَقَتْ فَأَهَمَّ قُرَيْشًا شَأْنُهَا فقال وَاَللَّهِ لو سَرَقَتْ فُلَانَةُ وَأَشَارَ إلَى امْرَأَةٍ عَظِيمَةِ الْقَدْرِ لَقَطَعْتُهَا فلما ذَكَرَ السَّرِقَةَ عُلِمَ أنها سَبَبُ الْقَطْعِ لَا الِاسْتِعَارَةُ وَأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ كانت سَبَبَ جُرْأَتِهَا على السَّرِقَةِ خَامِسُهَا أَنْ يَتَرَدَّدَ الْأَصْلُ في رِوَايَةِ الْفَرْعِ عنه فَإِنَّهَا مَقْبُولَةٌ على الْمُخْتَارِ إذَا لم يَجْزِمْ بِالْإِنْكَارِ وَحِينَئِذٍ فَالْخَبَرُ الذي لم يَتَرَدَّدْ فيه الْأَصْلُ رَاجِحٌ على هذه سَادِسُهَا أَنْ يَخْتَلِفَ رُوَاةُ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ وَيَتَّفِقَ رُوَاةُ الْآخَرِ قال أبو مَنْصُورٍ فَرِوَايَةُ من لم تَخْتَلِفْ طُرُقُ رِوَايَاتِهِ أَوْلَى وَذَلِكَ كَرِوَايَةِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ حَدِيثَ نُصُبِ الزَّكَاةِ أَوْلَى من ذِكْرِ الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ من الْإِبِلِ لِأَنَّ الِاسْتِئْنَافَ في إحْدَى رِوَايَتَيْ عَلِيٍّ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عنه بِخِلَافِهِ وَحَكَى في اللُّمَعِ فيه وَجْهَيْنِ
أَحَدَهُمَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ من لم يَخْتَلِفْ عليه والثاني يَتَعَارَضَانِ عَمَّنْ اخْتَلَفَ عليه وَيَتَسَاقَطَانِ وَتَبْقَى رِوَايَةُ من لم يَخْتَلِفْ قُلْت وهو في الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ وَجَزَمَ ابن بَرْهَانٍ بِالْأَوَّلِ ثُمَّ قال وَمِنْ الناس من قال اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ كَثْرَةِ الرُّوَاةِ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ في شَيْءٍ وَيُسْتَعْمَلُ بِزِيَادَةٍ فَكَانَ ذلك كَكَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَقِيلَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لَا يُقَدَّمُ على رِوَايَةِ من لم تَخْتَلِفْ عنه الرِّوَايَةُ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ يَكُونُ لِحِفْظِ الرَّاوِي قال وَمِثَالُ ذلك حَدِيثُ الِاسْتِئْنَافِ وَالِاسْتِقْرَارِ فإن النبي عليه السَّلَامُ قال إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ اسْتَقَرَّتْ الْفَرِيضَةُ وأبو بَكْرٍ يَرْوِي الِاسْتِقْرَارَ وَرُوِيَ عنه أَيْضًا أَنَّهُ قال اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ وَمَثَّلَهُ إلْكِيَا بِحَدِيثِ وَائِلٍ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ ولم يَخْتَلِفْ الرُّوَاةُ عنه فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَيْهِ وَرَوَى حَدِيثَ أبي هُرَيْرَةَ مِثْلَ ذلك وَرُوِيَ عنه النَّهْيُ عن الْبُرُوكِ بَرْكَ الْإِبِلِ في الصَّلَاةِ أَيْ وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قبل الْيَدَيْنِ فقال الشَّافِعِيُّ حَدِيثُ وَائِلٍ انْفَرَدَ من الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ أَوْلَى من حديث أبي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثُهُ قد عَاضَدَتْهُ إحْدَى رِوَايَتَيْ أبي هُرَيْرَةَ فَهُوَ أَوْلَى قال وَيَدْخُلُ في هذا نِكَاحُ الْمُحْرِمِ وَتَخْيِيرُ بَرِيرَةَ وَغَيْرُ ذلك وهو رَاجِعٌ إلَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ قال وَمِمَّا يُقَارِبُ هذا ما نُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ في تَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ على الْآخَرِ إذَا كان مِثْلُ مَعْنَى أَحَدِهِمَا مَنْقُولًا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ من وُجُوهٍ كَرِوَايَةِ وَابِصَةَ بن مَعْبَدٍ في الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ أَعِدْ صَلَاتَك فإنه لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ وَرَوَى الْجُمْهُورُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَقَفَ بين النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبَيْنَ الناس فَكَانَ يُؤْذِنُهُمْ
بِتَكْبِيرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَرَوَى من وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَحْرَمَ خَلْفَ الصَّفِّ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَدَخَلَ فيه ولم يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةٍ وَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ على يَسَارِ الرَّسُولِ فَأَدَارَهُ عن يَمِينِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّ أَنَسًا وَعَجُوزًا مُنْفَرِدَةً خَلْفَ أَنَسٍ فَتُقَدَّمُ على رِوَايَةِ وَابِصَةَ وهو يَرْجِعُ أَيْضًا إلَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ سَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَحْسَنَ اسْتِيفَاءً لِلْحَدِيثِ من الْآخَرِ كَتَرْجِيحِ رِوَايَةِ جَابِرٍ على رِوَايَةِ غَيْرِهِ في الْإِفْرَادِ لِأَنَّهُ سَرَدَ الحديث من حَالِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من الْمَدِينَةِ إلَى أَنْ عَادَ إلَيْهَا ثَامِنُهَا أَنْ يَسْمَعَ أَحَدٌ الرِّوَايَتَيْنِ من وَرَاءِ حِجَابٍ وَالْآخَرُ شِفَاهًا فإن رِوَايَةَ الْمُشَافَهَةِ تُقَدَّمُ على رِوَايَةِ الْآخَرِ كَحَدِيثِ عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَيَّرَ بَرِيرَةَ حين عَتَقَتْ وَلَوْ كان زَوْجُهَا حُرًّا ما خَيَّرَهَا وَرِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عن عَائِشَةَ أَنَّهُ كان حُرًّا قُلْنَا رِوَايَتُهُ مُقَدَّمَةٌ لِأَنَّ رَاوِيَهَا عن عَائِشَةَ عُرْوَةُ وهو ابن أُخْتِهَا وكان يَدْخُلُ عليها وَيَسْمَعُ الحديث منها شِفَاهًا وَغَيْرُهُ يَسْمَعُ من وَرَاءِ الْحِجَابِ تَاسِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِرِوَايَةِ حدثنا وَالْآخَرُ بِرِوَايَةِ أخبرنا فَاَلَّذِي بِرِوَايَةِ حدثنا أَوْلَى قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ لِأَنَّ أخبرنا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قُرِئَ عليه فَغَفَلَ أو سَهَا بِخِلَافِ حدثنا وَقِيلَ إنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُ كما يُحْتَمَلُ سَهْوُ الشَّيْخِ في أخبرنا يُحْتَمَلُ سَهْوُ الرَّاوِي في حدثنا
عَاشِرُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَرْوِيهِ عن حِفْظِهِ وَكِتَابِهِ وَالْآخَرُ يَرْوِيهِ عن أَحَدِهِمَا فَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِبُعْدِهِ من الزَّلَلِ ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ أَيْضًا وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن الشَّرِيفِ أَنَّهُ إذَا كان أَحَدُهُمَا رَوَاهُ وَسَمِعَهُ وهو ذَاكِرٌ له وَالْآخَرُ يَرْوِيهِ من كِتَابِهِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ جَمِيعَ ما في كِتَابِهِ سَمَاعُهُ فَلَا تَرْجِيحَ حَادِي عَشَرَهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَرْوِيهِ بِسَمَاعِهِ من لَفْظِ الشَّيْخِ وَالْآخَرُ بِقِرَاءَتِهِ على شَيْخِهِ إذَا قُلْنَا قِرَاءَةُ الشَّيْخِ أَعْلَى كَذَا ذَكَرُوهُ وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا قَرَأَهُ الْعَالِمُ على الْعَالِمِ أَمَّا إذَا قَرَأَهُ الْجَاهِلُ على الْجَاهِلِ فَهُمَا سِيَّانِ ثَانِي عَشَرَهَا ما يَرْوِيهِ بِالسَّمَاعِ على ما يَرْوِيهِ بِالْإِجَازَةِ ثَالِثُ عَشَرَهَا الْمُسْنَدُ رَاجِحٌ على الْمُرْسَلِ إنْ قُبِلَ الْمُرْسَلُ لِلِاتِّفَاقِ على قَبُولِهِ بِخِلَافِ الْمُرْسَلِ وقال قَوْمٌ منهم عِيسَى بن أَبَانَ الْمُرْسَلُ أَوْلَى وقال قَوْمٌ منهم عبد الْجَبَّارِ يَسْتَوِيَانِ قال في الْمَحْصُولِ وما قَالَهُ عِيسَى إنَّمَا يَصِحُّ حَيْثُ يقول الرَّاوِي قال الرَّسُولُ فَأَمَّا إذَا لم يَقُلْ ذلك بَلْ قال ما يَحْتَمِلُهُ كَقَوْلِهِ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَرَجُّحَ فيه لِأَنَّهُ في مَعْنَى قَوْلِهِ رُوِيَ عن الرَّسُولِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمَرْجُوحِيَّةَ أو الرَّدَّ وَضَعَّفَهُ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ من سَمَاعٍ ولم يذكر عَمَّنْ بَلَغَهُ ولم يَصْدُرْ منه ما يُنَبِّئُ عن حُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ له فلم تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ قال وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ فيه لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُسْنَدِ وَلِهَذَا قَبِلَهُ من لم يَقْبَلْ الْمُرْسَلَ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ وَهُنَا فَرْعَانِ أَحَدُهُمَا هذا الْخِلَافُ في غَيْرِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ فإن مَرَاسِيلَهُمْ مَقْبُولَةٌ على الصَّحِيحِ فَهِيَ كَالْمُسْنَدَةِ حتى لو عَارَضَهَا صَحَابِيٌّ صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ فَهُمَا سَوَاءٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَتَطَرَّقُهُ خِلَافٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ من صُوَرِ الْخِلَافِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ على مَرَاسِيلِ التَّابِعِيِّ لِأَنَّ ظَاهِرَ رِوَايَتِهِ عن الصَّحَابَةِ وَكُلَّمَا عُلِمَ من الْمَرَاسِيلِ قِلَّةُ الْوَسَائِطِ فَهُوَ أَرْجَحُ على ما لم يُعْلَمْ منه ذلك وَحِينَئِذٍ فَمَرَاسِيلُ كل عَصْرٍ أَوْلَى من مَرَاسِيلِ ما بَعْدَهُ ثَانِيهِمَا إذَا كان لَا يُرْسِلُ إلَّا عن عَدْلٍ كَابْنِ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَمَّا إذَا عُلِمَ من حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا إذَا حَصَلَ له غَلَبَةُ الظَّنِّ
بِصِدْقِ الْخَبَرِ فَمُرْسَلُهُ رَاجِحٌ على مُسْنَدِهِ الرَّابِعُ بِوَقْتِ وُرُودِ الْخَبَرِ وَيُرَجَّحُ بِوُجُوهٍ وَهِيَ غَيْرُ قَوِيَّةٍ في الرُّجْحَانِ كما قال الْإِمَامُ أَوَّلُهَا الْخَبَرُ الْمَدَنِيُّ أَيْ الذي رُوَاتُهُ من الْمَدِينَةِ مُقَدَّمٌ على غَيْرِهِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مَهْبِطِ الْوَحْيِ وَمَوْضِعَهُمْ مَوْضِعُ النَّاسِخِ وَلَهُمْ الْعِنَايَةُ بِمَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ الْمَدَنِيَّاتِ مُتَأَخِّرَةٌ عن الْهِجْرَةِ قال ابن بَرْهَانٍ وَلِذَلِكَ قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُمْ على رِوَايَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ في تَرْجِيعِ الْأَذَانِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ قال الْأُسْتَاذُ وَكَذَلِكَ تَعَارُضُ الْآيَتَيْنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَدَنِيَّةَ نَاسِخَةٌ لِلْمَكِّيَّةِ مع إمْكَانِ نُزُولِ الْمَكِّيَّةِ بَعْدَ النَّسْخِ وَنُزُولِ الْمَدَنِيَّةِ قَبْلَهُ إلَّا أَنَّ نَسْخَ الْمَكِّيَّاتِ بِالْمَدَنِيَّاتِ أَكْثَرُ من الْعَكْسِ ثَانِيهَا تَرْجِيحُ الْخَبَرِ الدَّالِ على عُلُوِّ شَأْنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على ما ليس كَذَلِكَ ثَالِثُهَا الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّغْلِيظِ على الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان في ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ يَرْأَفُ بِالنَّاسِ وَيَأْخُذُهُمْ شيئا فَشَيْئًا وَلَا يَتَعَبَّدُ بِالتَّغْلِيظِ فَاحْتِمَالُ تَأْخِيرِ التَّشْدِيدِ أَظْهَرُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ حَيْثُ قال أو شَدِيدُهُ لِتَأَخُّرِ التَّشْدِيدَاتِ لَكِنَّهُ ذَكَرَ قبل ذلك أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَخَفُّ على الْأَثْقَلِ وَكَذَا قال الْبَيْضَاوِيُّ يُقَدَّمُ الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّخْفِيفِ رَابِعُهَا يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ مُطْلَقًا على الْمَرْوِيِّ بِتَارِيخٍ مُتَقَدِّمٍ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ أَشْبَهَ بِالتَّأَخُّرِ كَذَا قالوا وهو مُخَالِفٌ لِتَرْجِيحِ الْأَصْحَابِ في الْبَيِّنَاتِ إذَا أُطْلِقَتْ وَاحِدَةٌ وَأُرِّخَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ على الْمَذْهَبِ خَامِسُهَا الْمُؤَرَّخُ بِتَارِيخٍ مُضَيَّقٍ في آخِرِ عُمْرِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ تَأَخُّرًا وَسَبَقَ ما فيه من الْخِلَافِ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ منه أَخْبَارَ الدِّبَاغِ وقد سَبَقَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فيها سَادِسُهَا إذَا حَصَلَ إسْلَامُ رَاوِيَيْنِ مَعًا كَإِسْلَامِ خَالِدٍ وَعَمْرِو بن الْعَاصِ وَعُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَحْمِلُ الحديث بَعْدَ إسْلَامِهِ فَيُرَجَّحُ خَبَرُهُ على الْخَبَرِ الذي لَا يُعْلَمُ هل تَحَمَّلَهُ الْآخَرُ قبل الْإِسْلَامِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ تَأَخُّرًا وَهَذَا يَسْتَقِيمُ لو كان ذلك الْخَبَرُ الذي وَقَعَ التَّعَارُضُ فيه على ما ذَكَرَهُ من الْوَصْفِ أو كان يَعْلَمُ أَنَّ أَكْثَرَ رِوَايَاتِ أَحَدِهِمَا كان بِسَمَاعِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ على هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَسْتَقِيمُ
الْقَوْلُ في التَّرْجِيحِ من جِهَةِ الْمَتْنِ وهو بِاعْتِبَارَاتٍ الْأَوَّلُ التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَيَقَعُ بِأُمُورٍ أَوَّلُهَا فَصَاحَةُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ مع رَكَاكَةِ الْآخَرِ وَهَذَا إنْ قَبِلْنَا كُلًّا مِنْهُمَا فَإِنْ لم نَقْبَلْ الرَّكِيكَ كما صَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ لم يَكُنْ مِمَّا نَحْنُ فيه وقال قَوْمٌ يُرَجَّحُ الْأَفْصَحُ على الْفَصِيحِ لِأَنَّ الظَّنَّ بِأَنَّهُ لَفْظُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْوَى وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ بِهِ لِأَنَّ الْبَلِيغَ قد يَتَكَلَّمُ بِالْأَفْصَحِ وَالْفَصِيحِ لَا سِيَّمَا إذَا كان مع ذَوِي لُغَةٍ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى تِلْكَ الْفَصِيحَةِ كَرِوَايَةِ ليس من امْبِرِّ امْصِيَامُ في امْسَفَرِ ثَانِيهَا يُرَجَّحُ الْخَاصُّ على الْعَامِّ قال إلْكِيَا وَالْفِقْهُ على ذلك يَدُورُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ نهى عن نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالشِّغَارِ وَالْمُحْرِمِ وَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ على عَمَّتِهَا وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَشَاهِدٍ وقال تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ثُمَّ نهى عن بَيْعِ الْغَرَرِ وَالْحَصَاةِ وَبَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ وَبَيْعٍ وَسَلَفٍ وقال تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ الْآيَةُ ثُمَّ نهى عن أَكْلِ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ من الطَّيْرِ وَلَئِنْ حَمَلَ حَامِلٌ النَّهْيَ على التَّنْزِيهِ بِدَلَالَةِ الْعُمُومِ وَجَدَ مَقَالًا وَلَكِنْ يُقَالُ الْخَاصُّ يَقْضِي على الْعَامِّ فإن الْخَاصَّ أَقْرَبُ إلَى التَّعْيِينِ من الْجُمْلَةِ إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْصِدَ بها تَمْهِيدَ الْأُصُولِ ثَالِثُهَا يُقَدَّمُ الْعَامُّ الذي لم يُخَصَّصْ على الْعَامِّ الذي خُصَّ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْمُحَقِّقِينَ وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ دُخُولَ التَّخْصِيصِ يُضْعِفُ اللَّفْظَ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَجَازًا على قَوْلٍ وقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ لِأَنَّ الذي قد دَخَلَهُ قد أُزِيلَ عن
تَمَامِ مُسَمَّاهُ وَالْحَقِيقَةُ تُقَدَّمُ على الْمَجَازِ وَاعْتَرَضَ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّ الْمَخْصُوصَ رَاجِحٌ من حَيْثُ كَوْنُهُ خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذلك الْعَامِّ الذي لم يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ وَحَكَى ابن كَجٍّ التَّقْدِيمَ عن قَوْمٍ وَوَجَّهَهُ بِإِجْمَاعِهِمْ على التَّعَلُّقِ بِمَا لم يُخَصَّ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا خُصَّ قال وَعِنْدَنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في حُكْمِ سَمَاعِ الْحَادِثَةِ من هذا اللَّفْظِ كَهُوَ من اللَّفْظِ الْآخَرِ وَأَيْضًا فإن الْمَخْصُوصَ يَدُلُّ على قُوَّتِهِ لِأَنَّهُ قد صَارَ كَالنَّصِّ على تِلْكَ الْعَيْنِ قال وقد أَجْمَعُوا كلهم على أَنَّ الْعُمُومَ إذَا اُسْتُثْنِيَ بَعْضُهُ صَحَّ التَّعَلُّقُ بِهِ وَاخْتَارَ ابن الْمُنِيرِ مَذْهَبًا ثَالِثًا وهو تَقْدِيمُ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ على الْعَامِّ الذي لم يُخَصَّ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ قد قَلَّتْ أَفْرَادُهُ حتى قَارَبَ النَّصَّ إذْ كُلُّ عَامٍّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَصًّا في أَقَلِّ مُتَنَاوَلَاتِهِ فإذا قَرُبَ من الْأَقَلِّ بِالتَّخْصِيصِ فَقَدْ قَرُبَ من التَّنْصِيصِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقَدُّمِ رَابِعُهَا يَتَقَدَّمُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ على الْعَامِّ الْوَارِدِ على سَبَبٍ إنْ قُلْنَا الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ يُوهِنُهُ وَيَحُطُّهُ عن رُتْبَةِ الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ وَمَبْنَى التَّرْجِيحِ على غَلَبَةِ الظُّنُونِ قَالَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَسَبَقَ مِثْلُهُ عن إلْكِيَا وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُمْ قالوا لِأَنَّ الْوَارِدَ على غَيْرِ السَّبَبِ مُتَّفَقٌ على عُمُومِهِ وَالْوَارِدَ على سَبَبٍ مُخْتَلَفٌ في عُمُومِهِ قال الْهِنْدِيُّ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هذا التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِالنِّسْبَةِ إلَى ذلك السَّبَبِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَفْرَادِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ الْعَامَّيْنِ فَلَا وَالْمُرَادُ من قَوْلِهِمْ الْوَارِدُ على سَبَبٍ رَاجِحٍ أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسَبَّبِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَفْرَادِ وَإِنْ كان كَلَامُهُمْ مُطْلَقًا غير مُقَيَّدٍ بِحَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ قُلْت وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابن الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ في الْمُسَبَّبِ خَامِسُهَا تَرْجِيحُ الْحَقِيقَةِ على الْمَجَازِ لِتَبَادُرِهَا إلَى الذِّهْنِ وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا لم يُغَلَّبْ الْمَجَازُ فَإِنْ غُلِّبَ كان أَظْهَرَ دَلَالَةً منها فَلَا تُقَدَّمُ الْحَقِيقَةُ عليه سَادِسُهَا أَنْ يَكُونَ مَجَازُ أَحَدِهِمَا أَشْبَهَ بِالْحَقِيقَةِ فَيُقَدَّمُ على ما مَجَازُهُ يُشْبِهُهَا سَابِعُهَا الْمُشْتَمِلُ على الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ أو الشَّرْعِيَّةِ على الْمُشْتَمِلِ على الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ قال في الْمَحْصُولِ وَهَذَا ظَاهِرٌ في اللَّفْظِ الذي صَارَ شَرْعِيًّا أَيْ بِأَنْ
يَكُونَ اللَّفْظُ وَاحِدًا وَالْمَعْنَى في أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ يَدُلُّ على الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وفي الْآخَرِ على اللُّغَوِيِّ أَمَّا الذي لم يَثْبُتْ ذلك فيه مِثْلَ أَنْ يَدُلَّ هذا اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ الشَّرْعِيِّ على حُكْمٍ وَاللَّفْظُ الثَّانِي بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ على حُكْمٍ وَلَيْسَ لِلشَّرْعِ في هذا اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يَسْلَمُ تَرْجِيحُ الشَّرْعِيِّ على اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ هذا اللُّغَوِيَّ إذَا لم يَنْقُلْهُ الشَّرْعُ فَهُوَ لُغَوِيٌّ عُرْفِيٌّ شَرْعِيٌّ وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ شَرْعِيٌّ وَلَيْسَ بِلُغَوِيٍّ وَلَا عُرْفِيٍّ وَالنَّقْلُ خِلَافُ الْأَصْلِ ثَامِنُهَا وَالْخَبَرُ الْمُسْتَغْنَى عن الْإِضْمَارِ في الدَّلَالَةِ على الْمُفْتَقِرِ إلَيْهَا تَاسِعُهَا يُقَدَّمُ الْخَبَرُ الدَّالُّ على الْمُرَادِ من وَجْهَيْنِ على الدَّالِّ عليه من وَجْهٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لم يُقْسَمْ فَقَضِيَّتُهُ أَنَّ ما يُقْسَمُ لَا شُفْعَةَ فيه ثُمَّ قال فإذا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ فَيُقَدَّمُ على رِوَايَةِ الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ لِأَنَّ هذا الحديث يَدُلُّ بِوَجْهٍ وَحَدِيثُنَا يَدُلُّ بِوَجْهَيْنِ عَاشِرُهَا تَرْجِيحُ الْخَبَرِ الدَّالِّ على الْحُكْمِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ على ما يَدُلُّ عليه بِوَاسِطَةٍ لِزِيَادَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِقِلَّةِ الْوَاسِطَةِ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فإنه لَا يَدُلُّ على بُطْلَانِ نِكَاحِهَا إذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا إلَّا بِوَاسِطَةِ الْإِجْمَاعِ أو يُقَالُ إذَا بَطَلَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ بَطَلَ بِالْإِذْنِ إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا من وَلِيِّهَا فإنه يَدُلُّ على بُطْلَانِ نِكَاحِهَا إذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا مُطْلَقًا من غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَالْحَدِيثُ الثَّانِي أَرْجَحُ حَادِيَ عَشَرَهَا يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ من لَفْظٍ مُومٍ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ على ما ليس كَذَلِكَ لِأَنَّ الِانْقِيَادَ إلَيْهِ أَكْثَرُ من الِانْقِيَادِ إلَى غَيْرِ الْمُعَلَّلِ لِأَنَّ ظُهُورَ التَّعْلِيلِ من أَسْبَابِ قُوَّةِ التَّعْمِيمِ كَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ على حديث النَّهْيِ عن قَتْلِ النِّسَاءِ من جِهَةِ أَنَّ التَّبْدِيلَ إيمَاءٌ إلَى الْعِلَّةِ
ثَانِيَ عَشَرَهَا الْمُتَقَدِّمُ فيه ذِكْرُ الْعِلَّةِ على الْحُكْمِ وَعَكَسَ النَّقْشَوَانِيُّ ثَالِثَ عَشَرَهَا الْمَذْكُورُ مع مُعَارَضَةٍ أَوْلَى مِمَّا ليس كَذَلِكَ كَحَدِيثِ نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَيُرَجَّحُ على الدَّالِّ على تَحْرِيمِ الزِّيَارَةِ رَابِعَ عَشَرَهَا الْمَقْرُونُ بِنَوْعٍ من التَّهْدِيدِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ على تَأَكُّدِ الْحُكْمِ الذي تَضَمَّنَتْهُ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من صَامَ يوم الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ خَامِسَ عَشَرَهَا الْمَقْرُونُ بِالتَّأْكِيدِ بِأَنْ يُكَرَّرَ أَحَدُهُمَا ثَلَاثًا وَالْآخَرُ لم يُؤَكَّدْ فَيُرَجَّحُ الْمُؤَكَّدُ على غَيْرِهِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يُبْعِدُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ وَالتَّأْوِيلِ كَقَوْلِهِ أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ فإنه رَاجِحٌ على ما يَرَوْنَهُ الْحَنَفِيَّةُ الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا من وَلِيِّهَا لو سَلِمَ دَلَالَتُهُ على الْمَطْلُوبِ سَادِسَ عَشَرَهَا الْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ من التَّمْرِ مع قَوْلِهِ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ من التَّمْرِ صَدَقَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ فَيُقَالُ مَعْنَاهُ ليس فيها صَدَقَةٌ يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الْآخَرِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قُصِدَ فيه بَيَانُ الْمُزَكَّى وَالْآخَرَ بَيَانُ الزَّكَاةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْكَلَامُ يُجْمَلُ في غَيْرِ مَقْصُودِهِ وَيُفَصَّلُ في مَقْصُودِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ في سَائِمِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ مع قَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَكَذَلِكَ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ من الْوَرِقِ صَدَقَةٌ مع قَوْلِهِ في الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ على بَيَانِ الْمُزَكَّى وَالزَّكَاةِ لَا على ما لم يُنْقَلْ له الْخَبَرُ ولم يَدُلَّ عليه الْمَسْمُوعُ ذَكَرَهُ إلْكِيَا ثُمَّ قال نعم قد يَرِدُ على صُورَةِ الْبَيَانِ وَإِنْ لم يَكُنْ بَيَانًا حَقًّا كَقَوْلِهِ في حديث مَاعِزٍ أَشَهِدْت على نَفْسِك أَرْبَعًا وفي لَفْظٍ أنت تَشْهَدُ وَأَنَّهُ رَدَّدَهُ فقال أَهْلُ الْعِرَاقِ إنَّهُ لَمَّا رَدَّدَهُ مِرَارًا ثُمَّ قال أَشَهِدْت على نَفْسِك أَرْبَعًا دَلَّ على أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا أَيْ اعْتَرَفَتْ أَرْبَعًا فَقُلْنَا لم يَكُنْ التَّرَدُّدُ وَالرَّدُّ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالِاعْتِرَافِ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ لم يُفْصِحْ أَوَّلًا بِمَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَرَأَى فيه دَلَائِلَ الْخَبَلِ وَالْجُنُونِ وَلِذَلِكَ قال لَعَلَّك لَمَسْت وَسَأَلَ عن النُّونِ وَالْكَافِ فَقُلْنَا في مِثْلِ ذلك رِوَايَةُ مَاعِزٍ مُقَدَّمَةٌ وَقَلَبُوا الْأَمْرَ فلم يَجْعَلُوا الْبَيَانَ في
الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ مُعْتَبَرًا قَدَّمُوا الْعُمُومَ عليه وَقَدَّمُوا الْبَيَانَ على الْعُمُومِ هَاهُنَا وَمِنْ هذا اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ في سُجُودِ السَّهْوِ قبل السَّلَامِ وَبَعْدَهُ فَكَانَ ما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى لِأَنَّ فِيمَا رَوَاهُ وَاسْجُدْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قبل السَّلَامِ فَإِنْ كان أَرْبَعًا فَالسَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ وَإِنْ كان خَمْسًا شَفَعْتَهَا بِالسَّجْدَتَيْنِ فَذِكْرُ التَّرْغِيمِ وَالشَّفْعِ لَا يَكُونُ مع الْفَصْلِ وَالتَّخَلُّلِ فَكَانَ ما نَقَلْنَاهُ إيمَاءً إلَى بَيَانِ السَّبَبِ على ما رَدَّدَهُ وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ من التَّرْجِيحِ وهو وُرُودُ الْأَمْرِ وَالْفِعْلِ وَنَقَلُوا الْأَمْرَ فَقَطْ وَالْأَمْرُ أَبْيَنُ من الْفِعْلِ الذي يُمْكِنُ تَقْدِيرُ اخْتِصَاصِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سَابِعَ عَشَرَهَا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ على الْمُخَالَفَةِ على الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ أَقْوَى وَقِيلَ تُقَدَّمُ الْمُخَالَفَةُ لِأَنَّهَا تُفِيدُ تَأْسِيسًا وَالْمُوَافَقَةُ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى وَقِيلَ يَتَعَارَضُ مَفْهُومُ الْغَايَةِ وَالشَّرْطِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُمَثَّلَ له بِقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يَطْهُرْنَ فإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ فإن مَفْهُومَ الْغَايَةِ يَقْتَضِي حِلَّ الْقُرْبَانِ قبل الْغُسْلِ وَمَفْهُومَ الشَّرْطِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ قبل الْغُسْلِ الثَّانِي التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ مَدْلُولِهِ وهو الْحُكْمُ وَيَقَعُ على أُمُورٍ أَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ مُفِيدًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ وَالْبَرَاءَةِ وَالثَّانِي نَاقِلًا فَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ النَّاقِلِ وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَجَزَمَ بِهِ ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ قال وَإِنَّمَا لم نَقُلْ إنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ النَّاقِلَ زَائِدٌ على الْمُقَرَّرِ وَمِنْ أَصْلِنَا قَبُولُ الزِّيَادَةِ كما لو شَهِدَا على رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالْبَرَاءَةِ أو الْقَضَاءِ فَالْإِبْرَاءُ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا قد شَهِدَا بِمَا شَهِدَ الْأَوَّلَانِ وزاد النَّقْلُ على تِلْكَ الْحَالَةِ وَكَمَا قُلْنَا في الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْجَرْحُ أَوْلَى انْتَهَى وَقِيلَ يَجِبُ تَرْجِيحُ الْمُقَرَّرِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ كَحَدِيثَيْ مَسِّ الذَّكَرِ فإن النَّاقِضَ نَاقِلٌ عن حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْآخَرَ مُقَرِّرٌ له
تَنْبِيهٌ قال الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ هذا الْخِلَافُ ليس من بَابِ التَّرْجِيحِ بَلْ من بَابِ النَّسْخِ لِأَنَّا نَعْمَلُ بِالنَّاقِلِ على أَنَّهُ نَاسِخٌ وَلِأَنَّهُ لو كان من بَابِ التَّرْجِيحِ لَوَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ بِالْخَبَرِ الْآخَرِ لَوْلَاهُ لَكِنَّا إنَّمَا نَحْكُمُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ لَا لِأَجْلِ الْخَبَرِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ من بَابِ التَّرْجِيحِ وَلِهَذَا أَوْرَدُوهُ في بَابِهِ لَا في بَابِ النَّسْخِ لِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِالنَّسْخِ بَلْ نَقُولُ الظَّاهِرُ ذلك وَإِنْ كان خِلَافُهُ فَهُوَ دَاخِلٌ في بَابِ الْأَوْلَى وهو تَرْجِيحٌ ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَى الِاحْتِيَاطِ بِأَنْ يَقْتَضِيَ الْحَظْرَ وَالْآخَرُ الْإِبَاحَةَ فَيُقَدَّمُ مُقْتَضَى الْحَظْرِ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهَا ما أَمْكَنَ وَلِحَدِيثِ دَعْ ما يَرِيبُك إلَى ما لَا يَرِيبُك قال الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وابن بَرْهَانٍ هذا هو الصَّحِيحُ وَقِيلَ يُرَجَّحُ الْمُقْتَضِي لِلْإِبَاحَةِ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْحَرَجِ الذي هو الْأَصْلُ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَأَشَارَ الْآمِدِيُّ إلَى الْقَوْلِ بِهِ بَحْثًا وَحَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَجْهَيْنِ وقال الْقَاضِي وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ يَتَسَاوَيَانِ فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ صَدَقَ الرَّاوِي فِيهِمَا على وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَصَحَّحَهُ الْبَاجِيُّ وَنَقَلَهُ عن شَيْخِهِ الْقَاضِي أبي جَعْفَرٍ وَصَوَّرَ في الْحَاصِلِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنْ يَقْتَضِيَ الْعَقْلُ حُرْمَةَ وَإِبَاحَةَ ما أَبَاحَهُ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ وَحَرَّمَهُ الْآخَرُ ثُمَّ نَقَلَ فيه التَّسَاوِي ثُمَّ قال لَا يَسْتَقِيمُ ذلك على أَصْلِنَا الْعَازِلِ لِلْعَقْلِ عن أَحْكَامِ الشَّرْعِ أَمَّا على أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَنَعَمْ وقال سُلَيْمٌ إنْ كان لِلشَّيْءِ أَصْلُ إبَاحَةٍ وَحَظْرٍ وَأَحَدُ الْخَبَرَيْنِ يُوَافِقُ ذلك الْأَصْلَ وَالْآخَرُ بِخِلَافِهِ كان النَّاقِلُ عن ذلك الْأَصْلِ أَوْلَى كَتَقْدِيمِ الْخَبَرِ في تَحْرِيمِ النَّبِيذِ وَإِنْ لم يَكُنْ له أَصْلٌ من حَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ فَيَرِدُ خَبَرٌ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَآخَرُ الْحَظْرَ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَظْرَ أَوْلَى لِلِاحْتِيَاطِ وَلِأَنَّ الْحَرَامَ يَغْلِبُ
والثاني أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُبَاحِ كَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ فلم يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ على الْآخَرِ وقد رَوَيْنَا في الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ عن مُحَمَّدِ بن عبد اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ حدثنا يحيى الْحَمَّامِيُّ حدثنا مُوسَى بن مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ عن يحيى بن الْحَارِثِ التَّمِيمِيِّ عن أُمِّ مَعْبَدٍ مَوْلَاةِ قَرَظَةَ بن كَعْبٍ قال أَيْ نَبِيُّ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ الْمُحَرِّمَ ما أَحَلَّ اللَّهُ كَالْمُسْتَحِلِّ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وقال إلْكِيَا إنْ كانت الْإِبَاحَةُ هِيَ الْأَصْلُ فَالْحَظْرُ أَوْلَى وَهَذَا ليس من الْمُتَعَارِضِ فَنُقَدِّمُ الْإِبَاحَةَ على طَرَيَان الْحَظْرِ فَكَأَنَّ الْإِبَاحَةَ في حُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَإِنْ كان الْحَظْرُ هو الْأَصْلُ فَالْأَخْذُ بِالْإِبَاحَةِ أَوْلَى أَمَّا إذَا تَعَارَضَا ولم يُعْلَمْ أَصْلُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَوْضِعُ التَّوَقُّفِ فَذَهَبَ عِيسَى بن أَبَانَ إلَى أَنَّ الْحَظْرَ يُرَجَّحُ وَقِيلَ إنَّهُ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ الْحَرَامَ يَغْلِبُ وقال أبو هَاشِمٍ يَسْتَحِيلُ وُرُودِ الْخَبَرَيْنِ في الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْمُسْتَحِيلِ ثُمَّ قال إلْكِيَا وَالْحَقُّ ما قَالَهُ أبو هَاشِمٍ إذَا أَمْكَنَ من تَعَارُضِهِمَا من هذا الْوَجْهِ وَالرُّجُوعُ إلَى وَجْهٍ آخَرَ في التَّرْجِيحِ إمَّا من حَيْثُ الِاحْتِيَاطُ إذَا أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِهِ في التَّرْجِيحِ على ما بَيَّنَّاهُ أو بِوَجْهٍ آخَرَ قَدَّمْنَاهُ فَائِدَةٌ من أَمْثِلَةِ هذا الْقِسْمِ أَنَّ الْقَاضِيَ بَكَّارًا وَالْمُزَنِيَّ اجْتَمَعَا في جِنَازَةٍ وكان الْقَاضِي يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْمُزَنِيِّ فَسَأَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْمُزَنِيَّ فقال يا أَبَا إبْرَاهِيمَ جاء في الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ النَّبِيذِ وَجَاءَ تَحْلِيلُهُ فَلِمَ قَدَّمْتُمْ التَّحْرِيمَ على التَّحْلِيلِ فقال الْمُزَنِيّ لم يَذْهَبْ أَحَدٌ من الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ النَّبِيذَ كان حَرَامًا في الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ نُسِخَ وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ على أَنَّهُ كان حَلَالًا فَهَذَا يَعْضِدُ صِحَّةَ الْأَحَادِيثِ بِالتَّحْرِيمِ فَاسْتَحْسَنَ ذلك منه
ثَالِثُهَا أَنْ يَقْتَضِيَ أَحَدُهُمَا التَّحْرِيمَ وَالْآخَرُ الْإِيجَابَ وَرَجَّحَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي دَفْعَ الْمَفْسَدَةِ وَهِيَ أَهَمُّ من جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ وَرَجَّحَ الْبَيْضَاوِيُّ التَّسَاوِي وَهِيَ أَقْرَبُ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ بِالْعَقْلِ بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ بِالتَّرْكِ بِخِلَافِ الْإِيجَابِ فَكِلَاهُمَا يُوقِعُ في الْعِقَابِ وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقال لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَمِثَالُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حتى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا له قال نَافِعٌ فَكَانَ عبد اللَّهِ إذَا مَضَى من شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ بَعَثَ من يَنْظُرُ فَإِنْ رَأَى فَذَاكَ وَإِنْ لم يَرَ ولم يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَإِلَّا أَصْبَحَ صَائِمًا وَهَذَا يَسْتَدِلُّ بِهِ من يقول بِوُجُوبِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ وَيُعَارِضُهُ خَصْمُهُ بِحَدِيثِ عَمَّارِ بن يَاسِرٍ من صَامَ يوم الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ في تَعَارُضِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِيجَابِ مع الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّدَبِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدَّمَ الْإِيجَابَ قال وَفِيهِ نَظَرٌ فإن في الْوُجُوبِ قَدْرًا زَائِدًا على النَّدْبِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ رَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُثْبِتًا وَالْآخَرُ نَافِيًا وَهُمَا شَرْعِيَّانِ قال فَالصَّحِيحُ تَقْدِيمُ الْمُثْبِتِ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ معه زِيَادَةَ عِلْمٍ وَلِهَذَا قَدَّمُوا خَبَرَ بِلَالٍ في صَلَاتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَاخِلَ الْبَيْتِ على خَبَرِ أُسَامَةَ أَنَّهُ لم يُصَلِّ وَقِيلَ بَلْ يُقَدَّمُ النَّافِي وَقِيلَ بَلْ هُمَا سَوَاءٌ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا في الْحَالَيْنِ وَاخْتَارَهُ في الْمُسْتَصْفَى بِنَاءً على أَنَّ الْفِعْلَيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ وهو قَوْلُ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ قال الْبَاجِيُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُهُ أبو جَعْفَرٍ وهو الصَّحِيحُ وَقِيلَ إلَّا في الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فقال النَّافِي إنْ نَقَلَ لَفْظًا مَعْنَاهُ النَّفْيُ كما إذَا نَقَلَ أَنَّهُ
لَا يَحِلُّ وَنَقَلَ الْآخَرُ أَنَّهُ يَحِلُّ فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُثْبِتٌ وَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا فِعْلًا أو قَوْلًا وَنَفَاهُ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ ولم يَقُلْهُ أو لم يَفْعَلْهُ فَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ لِأَنَّ الْغَفْلَةَ تَتَطَرَّقُ إلَى الْمُصْغِي وَالْمُسْتَمِعِ وَإِنْ كان مُحَدِّثًا وَحَكَى ابن الْمُنِيرِ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ فَصَّلَ بين إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ على النَّفْيِ يَقِينًا بِضَبْطِ الْمَجْلِسِ وَتَحَقُّقِ السُّكُوتِ أو لَا فَإِنْ اطَّلَعَ على النَّفْيِ يَقِينًا وَادَّعَى سَبَبًا يُوَصِّلُ لِلْيَقِينِ تَعَارَضَا وَلَا يُرَجَّحُ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ وقال إلْكِيَا إذَا تَعَارَضَ رِوَايَةُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَكَانَا جميعا شَرْعِيَّيْنِ اُسْتُفْسِرَ النَّافِي فَإِنْ أَخْبَرَ عن سَبَبِ عِلْمِهِ بِالنَّفْيِ صَارَ هو وَالْمُثْبِتُ سَوَاءً وَلِهَذَا لم يُرَجِّحْ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ نَفْيِ الصَّلَاةِ على شُهَدَاءِ أُحُدٍ على رِوَايَةِ الْإِثْبَاتِ لِأَنَّ النَّفْيَ اُعْتُضِدَ بِمَزِيدِ ثِقَةٍ وهو أَنَّ الرَّاوِيَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ وَالْمَقْتُولَ عَمُّ أَحَدِهِمَا وَوَالِدُ الْآخَرِ وَلَا يَخْفَى ذلك عَلَيْهِمَا وَإِنْ قال النَّافِي لم أَعْلَمْ بِمَا يُزِيلُهُ فَعَدَمُ الْعِلْمِ لَا يُعَارِضُ الْإِثْبَاتَ كَرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَبَّلَهَا وهو صَائِمٌ وَأَنْكَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عن عِلْمِهَا
فَلَا يَدْفَعُ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَكَحَدِيثِ الصَّلَاةِ في الْكَعْبَةِ وَحَاصِلُهُ إنْ كان النَّافِي قد اسْتَنَدَ إلَى الْعِلْمِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ على الْمُثْبِتِ وفي كَلَامِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ نَحْوُهُ وهو حِينَئِذٍ كَالْمُثْبِتِ وهو نَظِيرُ النَّفْيِ الْمَحْصُورِ وقد صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فيه وَكَذَلِكَ لو شَهِدَ اثْنَانِ بِالْقَتْلِ في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَآخَرَانِ أَنَّهُ لم يَقْتُلْ في ذلك الْوَقْتِ لِأَنَّهُ كان مَعَنَا ولم يَغِبْ عَنَّا تَعَارَضَا وَبَحَثَ فيه الرَّافِعِيُّ وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ وقال الصَّوَابُ أَنَّ النَّفْيَ إنْ كان مَحْصُورًا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وما قَالَهُ النَّوَوِيُّ صَحِيحٌ وَالنَّفْيُ الْمَحْصُورُ وَالْإِثْبَاتُ سِيَّانِ وقال ابن فُورَكٍ إنْ كان الْمُثْبِتُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَالنَّافِي على حُكْمِ الْعَادَةِ فَالْمُثْبِتُ أَوْلَى وَإِنْ كان الْحُكْمَانِ شَرْعِيَّيْنِ فَقَدْ تَسَاوَيَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ما وَرَدَ بِالنَّفْيِ بَيَّنَ أَنَّهُ لم يَعْلَمْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فَيَكُونُ الْمُثْبِتُ أَوْلَى كَرِوَايَةِ عَائِشَةَ في تَقْبِيلِهَا وهو صَائِمٌ وَأَنْكَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عن عَدَمِ عِلْمِهَا وَذَلِكَ لَا يَدْفَعُ حَدِيثَ عَائِشَةَ قال وَإِنْ كان النَّافِي أَخَصَّ من الْمُثْبِتِ فَالْحُكْمُ لِلْأَخَصِّ وَتَحَصَّلَ أَنَّ الْمُثْبِتَ يُقَدَّمُ إلَّا في صُوَرٍ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْحَصِرَ النَّفْيُ فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا تَكْرَارَ فيه فَحِينَئِذٍ يَتَعَارَضَانِ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ رَاوِي النَّفْيِ له عِنَايَةٌ بِهِ فَيُقَدَّمُ على الْإِثْبَاتِ كما قُدِّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ في تَرْكِ الصَّلَاةِ على قَتْلَى أُحُدٍ على حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ أَنَّهُ صلى عليهم لِأَنَّ أَبَاهُ كان من جُمْلَةِ الْقَتْلَى وَكَمَا قُدِّمَ حَدِيثُهُ في الْإِفْرَادِ على حديث أَنَسٍ في الْقِرَانِ لِأَنَّهُ صَرَفَ هِمَّتَهُ إلَى صِفَةِ حَجِّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُنْذُ خَرَجَ من الْمَدِينَةِ إلَى آخِرِهِ الثَّالِثَةُ أَنْ يَسْتَنِدَ نَفْيُ النَّافِي إلَى عِلْمٍ
خَامِسُهَا تَرْجِيحُ الْخَبَرِ النَّافِي لِلْحَدِّ وَالْعِقَابِ على مُوجِبٍ لَهُمَا على أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ كَحَدِيثِ ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ وَالثَّانِي أَنَّهُمَا سَوَاءٌ حَكَاهُ سُلَيْمٌ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ ذلك مِمَّا يُعَدُّ تَرْجِيحًا وَلَيْسَ بِتَرْجِيحٍ قال لِأَنَّ هذا لَا يُوجِبُ تَفَاوُتًا في صِدْقِ الرَّاوِي فِيمَا نَقَلَهُ من لَفْظِ الْإِيجَابِ أو الْإِسْقَاطِ وَضَعَّفَ قَوْلَ من يقول الرَّافِعُ أَوْلَى وَإِنْ كان الْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَهَذَا الْخِلَافُ يَجْرِي في أَنَّهُ هل تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلْعِتْقِ على النَّافِيَةِ له لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ سَادِسُهَا الْمُثْبِتُ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُقَدَّمٌ على النَّافِي لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ وَعَكَسَ قَوْمٌ لِمُوَافَقَةِ التَّأْسِيسِ سَابِعُهَا إذَا كان أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَخَفَّ وَحُكْمُ الْآخَرِ أَثْقَلَ فَقِيلَ إنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَقِيلَ بِالْعَكْسِ ثَامِنُهَا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَالْآخَرُ تَعُمُّ بِهِ فَالْأَوَّلُ رَاجِحٌ لِلِاتِّفَاقِ فيه تَاسِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوجِبًا لِحُكْمَيْنِ وَالْآخَرُ مُوجِبًا لِحُكْمٍ وَاحِدٍ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِاشْتِمَالِهِ على زِيَادَةِ عِلْمٍ يَنْفِيهَا الثَّانِي وفي تَقْدِيمِ الثَّانِي عليه إبْطَالُهَا عَاشِرُهَا الْحُكْمُ الْمُثْبِتُ لِلْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ أَوْلَى من الْحُكْمِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِأَنَّ الْوَضْعِيَّ لَا يَتَوَقَّفُ على ما يَتَوَقَّفُ
عليه التَّكْلِيفِيُّ من أَهْلِيَّةِ الْمُخَاطَبِ وَفَهْمِهِ وَتَمَكُّنِهِ لِأَنَّ غير الْمُتَوَقِّفِ أَوْلَى من الْمُتَوَقِّفِ وَقِيلَ التَّكْلِيفِيُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَثُوبَةً وَأَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِالذَّاتِ وَأَنَّهُ الْأَكْثَرُ من الْأَحْكَامِ فَكَانَ أَوْلَى الثَّالِثُ التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ وَلَهُ أَسْبَابٌ أَوَّلُهَا اعْتِضَادُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ بِقَرِينَةِ الْكِتَابِ كَتَقْدِيمِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَرِيضَتَانِ على رِوَايَةِ الْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ لِمُوَافَقَتِهِ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ من كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وهو قَوْله تَعَالَى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَعَارَضَهُ الْقَاضِي وقال وَقَوْلُهُ أَتِمُّوا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْقَاضِي يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِالْمُسْتَقِلِّ وَإِنْ مَنَعْنَاهُ لَكِنَّا أَخَذْنَا من الْمُسْتَقِلِّ وَصْفًا في الدَّلِيلِ وهو تَرَاخِي النَّظْمِ وكان الشَّافِعِيُّ يقول ما وَافَقَ ظَاهِرَ الْكِتَابِ كانت النُّفُوسُ أَمْيَلَ إلَيْهِ وَالْقَاضِي يقول بَلْ الذي يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ لَا يُنْقَلُ ما نُقِلَ إلَّا عن زِيَادَةِ الثَّبْتِ وما ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَقْرَبُ إلَى قِيَاسِ الْأُصُولِ وما ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْفَقُ لِلْعُرْفِ وهو الْمُعْتَبَرُ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ما ذَكَرُوهُ عن الشَّافِعِيِّ فيه نَظَرٌ فإن إتْمَامَ الْحَجِّ ليس فيه تَعَرُّضٌ لِلِابْتِدَاءِ وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ في وُجُوبِ إتْمَامِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا قال ولم يذكر هذا لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُ مُتَنَمِّقًا بِإِيرَادِ كَلَامِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْإِمَامِ الْإِتْمَامُ يُطْلَقُ تَارَةً على أَصْلِ الْفِعْلِ وَعَلَى إتْمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْأَوَّلُ فإن الْآيَةَ نَزَلَتْ في عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ ولم يَكُنْ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُحْرِمًا بِالْحَجِّ حتى يُؤْمَرَ بِإِتْمَامِهِ
وَمِنْ مُثُلِهِ التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ فإنه مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ من رَبِّكُمْ وَكَتَرْجِيحِ حديث ابْنِ عَبَّاسٍ في التَّشَهُّدِ لِمُوَافَقَتِهِ لِقَوْلِهِ تَحِيَّةً من عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً وَتَرْجِيحِ حديث عَائِشَةَ في الْبُكَاءِ على الْمَيِّتِ لِقَوْلِهِ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَهَذَا يَسْتَعْمِلُهُ الشَّافِعِيُّ كَثِيرًا وَبَنَى عليه هذه الْأُصُولَ وَكَذَا قُدِّمَ حَدِيثُ خَوَّاتٍ في صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ على رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ لِأَجْلِ الْحَذَرِ الْمَأْمُورِ بِهِ في الْقُرْآنِ وَجَعَلَهُ في الْمَنْخُولِ من أَصْلِهِ فَوَافَقَ الْأُصُولَ لِأَنَّ رِوَايَةَ خَوَّاتُ الْأَفْعَالُ فيها قَلِيلَةٌ قال وقال الْقَاضِي لِلشَّافِعِيِّ إنْ كُنْت تَتَّهِمُ ابْنَ عُمَرَ بِحَيْدِهِ عن الْقِيَاسِ فَمُحَالٌ وَلَيْسَ الْقِيَاسُ مُنَاسِبًا لِمَأْخَذِ الدَّلِيلِ حتى يَقْدَحَ فيه وَإِنْ قُلْت إنَّ الْغَالِبَ على الرَّسُولِ الْجَرْيُ على قِيَاسِ الْأُصُولِ فَيُعَارِضُهُ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّاقِلَ عن الْقِيَاسِ يَكُونُ أَثْبَتَ في الرِّوَايَةِ من الْمُسْتَمِرِّ عليه وَلِهَذَا تُقَدَّمُ شَهَادَةُ الْإِبْرَاءِ على شَهَادَةِ أَصْلِ الدَّيْنِ قال إلْكِيَا وما ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْجَهُ في مُطَّرِدِ الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ وَلَا يَظْهَرُ لِلْمَسْأَلَةِ فَائِدَةٌ في الْحُكْمِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الطَّرِيقِ وَهَذَا الْخِلَافُ بين الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّصِّ أَمَّا إذَا تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ وَاعْتُضِدَ أَحَدُهُمَا بِقِيَاسٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الذي لم يُتَّجَهْ فيه تَأْوِيلٌ مُتَأَيِّدٌ لِلْقِيَاسِ لَا يُبَالَى بِهِ وَلَوْ تَعَارَضَ قِيَاسَانِ عَاضَدَانِ لِلتَّأْوِيلِ وَأَحَدُهُمَا أَجْلَى قُدِّمَ الْأَجْلَى وَلَوْ تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ أو نَصَّانِ وَأَحَدُهُمَا أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَالْقَاضِي يَرَى تَعَارُضَهُمَا أَخْذًا مِمَّا تَقَدَّمَ وَالشَّافِعِيُّ يَرَى تَقْدِيمَ الْأَحْوَطِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ كَرِوَايَةِ خَوَّاتٍ مع ابْنِ عُمَرَ وَكَإِحْدَى الْآيَتَيْنِ إذَا تَضَمَّنَتْ إحْدَاهُمَا تَحْلِيلًا وَالْأُخْرَى تَحْرِيمًا وقد قال عُثْمَانُ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ فَلَا يُتَّجَهُ في ذلك إلَّا الْحُكْمُ بِالِاحْتِيَاطِ ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ فِعْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُوَافِقًا له فإنه يُقَدَّمُ على الْآخَرِ كَحَدِيثِ التَّغْلِيسِ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَوْلًا وَالْآخَرُ فِعْلًا فَيُقَدَّمُ الْقَوْلُ لِأَنَّ له صِيغَةً وَالْفِعْلُ لَا صِيغَةَ له وقد سَبَقَ في الْأَفْعَالِ الْخِلَافُ في ذلك
رَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُصَرِّحًا بِالْحُكْمِ وَالْآخَرُ على طَرِيقِ ضَرْبِ الْمِثَالِ كَاحْتِجَاجِنَا في وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا بِحَدِيثِ صلى بِي جِبْرِيلُ الْحَدِيثُ وَاسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ ما مِثْلُكُمْ مع من كان قَبْلَكُمْ إلَّا كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا إلَى آخِرِهِ فَاحْتَجُّوا بِهِ على أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ آخَرُ الْوَقْتِ ذَكَرَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ وقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ تُرَجَّحُ الْعِبَارَةُ على الْإِشَارَةِ فإن حَدِيثَ الْإِجَارَةِ سِيقَ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ هذه الْأُمَّةِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَكْثَرُ من وَقْتِ الْعَصْرِ بِأَنْ يَبْقَى وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ كما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لو انْتَهَى لِصَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مثله لَكَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ أَكْثَرَ من وَقْتِ الظُّهْرِ لَكِنَّهُ مُتَعَارِضٌ بِصَلَاةِ جِبْرِيلَ وَهِيَ عِبَارَةٌ تَرَجَّحَتْ على الْإِشَارَةِ خَامِسُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عليه عَمَلُ أَكْثَرِ أَهْلِ السَّلَفِ فَيُقَدَّمُ على ما ليس كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ ما لَا يُوَفَّقُ له الْأَقَلُّ كَتَقْدِيمِنَا حَدِيثَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَأَنَّهَا سَبْعَةٌ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وفي الثَّانِيَةِ خَمْسٌ سِوَاهَا أَيْضًا على حديث الْحَنَفِيَّةِ أنها في الْأُولَى خَمْسٌ وفي الثَّانِيَةِ أَرْبَعٌ لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ على الْأَوَّلِ وَقِيلَ لَا يُرَجَّحُ وَبِهِ قال الْكَرْخِيّ وَالْجُبَّائِيُّ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ في قَوْلِ الْأَكْثَرِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا تَعَارَضَا وَعَمِلَ بِأَحَدِهِمَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ ولم يُنْقَلْ مِثْلُ ذلك في الْآخَرِ فَيُرَجَّحُ الْأَوَّلُ قال في الْمَنْخُولِ وَإِنْ كنا لَا نَرَى تَقْدِيمَ عَمَلِ الصَّحَابَةِ على الحديث خِلَافًا لِمَالِكٍ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ اسْتَشْهَدَ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ في نُصُبِ
النَّعَمِ وَقَدَّمَهُ على رِوَايَةِ عَلِيٍّ فيها لِأَنَّ عَمَلَ الشَّيْخَيْنِ يُوَافِقُ رِوَايَةَ أَنَسٍ فقال رضي اللَّهُ عنه أُقَدِّمُ حَدِيثَ أَنَسٍ قال الْإِمَامُ وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ التَّأَنِّي فيه فَلَيْسَ هذا من بَابِ عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ إذْ لم يَصِحَّ عِنْدَنَا بُلُوغُهُمْ حَدِيثَ عَلِيٍّ ثُمَّ لم يَعْمَلُوا بِهِ وَالرَّأْيُ تَعَارُضُهُمَا وَيُقَدَّمُ حَدِيثُ أَنَسٍ من جِهَةِ أَنَّ النُّصُبَ مَقَادِيرُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فيها فَيُقَدَّمُ من هذه الْجِهَةِ قال إلْكِيَا وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا بُلُوغَ الْحَدِيثَيْنِ الصَّحَابَةَ وَخَالَفُوا أَحَدَهُمَا فَمُخَالَفَةُ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ قَادِحَةٌ فيه سَوَاءٌ عَارَضَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا وَفِيهِ خِلَافٌ وَإِنْ لم يَتَحَقَّقْ بُلُوغُ الحديث إيَّاهُمْ فَالشَّافِعِيُّ يُرَجِّحُ بِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ على الْجُمْلَةِ فإن الحديث الْآخَرَ إذَا لم يَبْلُغْهُمْ لم يَكُونُوا مُخَالِفِينَ له حتى يُقَالَ لَعَلَّهُمْ عَمِلُوا بِنَاسِخٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ ما عَمِلُوا بِهِ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ يَدُلُّ على أَنَّهُ الْأَصَحُّ وَالْأَوْضَحُ سَادِسُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَتَوَارَثُهُ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآخَرُ لم يَتَوَارَثُوهُ فَيُقَدَّمُ الْأَوَّلُ على الثَّانِي كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ التَّرْجِيعِ في الْأَذَانِ قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ سَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ مع أَحَدِهِمَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في عَمَلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ إذَا انْضَافَ إلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ولم يَكُنْ مع الْأُخْرَى عَمَلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا الْكَثِيرُ الظَّاهِرُ فَقِيلَ مُوَافَقَةُ الْعَمَلِ من هذه الْجِهَةِ يُوجِبُ التَّقْدِيمَ وَيَرْجَحُ وقال الْأَكْثَرُونَ إنَّهُ لَا يَكُونُ تَرْجِيحًا ثَامِنُهَا أَنْ يَكُونَ مع أَحَدِهِمَا مُرْسَلٌ عن ثِقَةٍ فَتُقَدَّمُ بِهِ الرِّوَايَةُ التي تُوَافِقُهُ تَاسِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَالْآخَرُ مُخَالِفًا له كَحَدِيثِ الضَّحِكُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مع حديث يُبْطِلُ
الصَّلَاةَ وَلَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى أَغْلَبُ شَرْعًا فَالْإِلْحَاقُ بِالْغَالِبِ أَوْلَى من الْإِلْحَاقِ بِالنَّادِرِ وَسَبَقَ ما فيه من الْخِلَافِ عَاشِرُهَا أَنْ يَكُونَ مع كُلٍّ مِنْهُمَا تَأْوِيلٌ وَقِيَاسُ أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ أَوْضَحُ فَهُوَ مُقَدَّمٌ قال في الْمَنْخُولِ وَاخْتَلَفُوا في أَنَّ هذا هل يَكُونُ تَرْجِيحًا بِالْقِيَاسِ قال الْقَاضِي جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ تَرْجِيحَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَالظَّاهِرَ بِالْقِيَاسِ وأنا أُجَوِّزُ تَرْجِيحَ الظَّاهِرِ دُونَ النَّصِّ وقال الْغَزَالِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّ هذا تَقْدِيمُ حَدِيثٍ غَيْرِ مُؤَوَّلٍ على حَدِيثٍ مُؤَوَّلٍ وَلَكِنْ من التَّأْوِيلِ بِالْقِيَاسِ الْكَلَامُ على تَرَاجِيحِ الْأَقْيِسَةِ وَهِيَ إمَّا أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً فَيَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ وَإِنْ قُلْنَا بِتَفَاوُتِ الْمَعْلُومِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ ظَنِّيَّةً فَكَذَلِكَ على الْمَشْهُورِ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي أَنَّهُ ليس في الْأَقْيِسَةِ الْمَظْنُونَةِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ وَإِنَّمَا الظُّنُونُ على حَسَبِ الِاتِّفَاقِ قال وَبَنَاهُ على أَصْلِهِ أَنَّهُ ليس في مَجَالِ الظُّنُونِ مَطْلُوبٌ وإذا لم يَكُنْ مَطْلُوبٌ فَلَا طَرِيقَ على التَّعْيِينِ وَإِنَّمَا الْمَظْنُونُ على حَسَبِ الْوِفَاقِ ثُمَّ عَظَّمَ الْإِمَامُ النَّكِيرَ على الْقَاضِي وقال هذه هَفْوَةٌ عَظِيمَةٌ وَأَلْزَمَهُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لِلِاجْتِهَادِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَاضِيَ لم يُرِدْ ما حَكَاهُ الْإِمَامُ عنه كَيْفَ وقد عَقَدَ فُصُولًا في التَّقْرِيبِ في تَقْدِيمِ بَعْضِ الْعِلَلِ على بَعْضٍ فَعُلِمَ أَنَّهُ ليس يَعْنِي إنْكَارَ التَّرْجِيحِ فيها وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ نَوْعًا على نَوْعٍ على الْإِطْلَاقِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ في ذلك إلَى ما يَظُنُّهُ الْمُجْتَهِدُ رَاجِحًا وَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ فإنه قد يَتَّفِقُ في آحَادِ النَّوْعِ الْقَوِيِّ شَيْءٌ يَتَأَخَّرُ عن النَّوْعِ الضَّعِيفِ وَهَذَا صَحِيحٌ وهو رَاجِعٌ إلَى ما قَالَهُ الْإِمَامُ عن تَقْدِيمِ الشَّبَهِ الْجَلِيِّ على الْمَعْنَى الْخَفِيِّ مع أَنَّ غَالِبَ الْمَعْنَى مُقَدَّمٌ على غَالِبِ الشَّبَهِ وَكَأَنَّهُ يقول التَّرْجِيحُ في الْأَقْيِسَةِ الظَّنِّيَّةِ ثَابِتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ آحَادِ كل نَوْعٍ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَالِبِ كل نَوْعٍ وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ إنَّهُ بَنَاهُ على أَصْلِهِ في أَنَّهُ ليس في الْمُجْتَهَدَاتِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فَضَعِيفٌ وَشُبْهَةُ الْإِمَامِ في ذلك أَنَّهُ إذَا قال لَا حُكْمَ فَكَأَنَّهُ قال لَا مَطْلُوبَ
فَنَقُولُ إنْ كان كما قُلْت اسْتَحَالَ الظَّنُّ وَالْحُكْمُ بِأَنَّ الظُّنُونَ لَا تَقْدِيمَ فيها وَلَا تَأْخِيرَ فَرْعُ وُجُودِهَا نعم الْقَاضِي يقول لَا حُكْمَ في الْمُجْتَهَدَاتِ قبل الظَّنِّ وَلَكِنْ فيها مَطْلُوبٌ وهو السَّبَبُ الذي يُبْنَى على ظَنِّهِ وُجُودُ الْحُكْمِ كَصِحَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أو الظَّاهِرِ أو الْقِيَاسِ مَثَلًا فَيَطْلُبُ الْمُجْتَهِدُ ظَنَّ وُجُودِ ذلك وَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ وَيَكُونُ بِاعْتِبَارَاتٍ الْأَوَّلُ بِحَسَبِ الْعِلَّةِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ تَعَارُضُ الْعِلَّتَيْنِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَعَارَضَا في حَقِّ مُجْتَهِدَيْنِ فَلَا يُوجِبُ التَّعَارُضُ فَسَادَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ والثاني تَعَارُضُهُمَا في حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فَيُوجِبُ التَّعَارُضُ فَسَادَهُمَا إلَّا أَنْ يُوجَدَ تَرْجِيحٌ لِإِحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى ثُمَّ إنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بين دَلِيلَيْنِ مُوجِبَيْنِ لِلْعِلْمِ وَلَا بين دَلِيلٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَآخَرَ يُوجِبُ الظَّنَّ وَإِنَّمَا يَتَعَارَضَا الْمُفِيدَانِ لِلظَّنِّ وَلَا بُدَّ من تَرْجِيحٍ انْتَهَى فَنَقُولُ له اعْتِبَارَاتٌ أَوَّلُهَا يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الْمُعَلَّلُ بِالْوَصْفِ الْحَقِيقِيِّ الذي هو مَظِنَّةُ الْحِكْمَةِ على الْقِيَاسِ الْمُعَلَّلِ بِنَفْسِ الْحِكْمَةِ لِلْإِجْمَاعِ من الْقِيَاسَيْنِ على صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ فَيَرْجِعُ التَّعْلِيلُ بِالسَّفَرِ الذي هو مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ على التَّعْلِيلِ بِنَفْسِ الْمَشَقَّةِ ثَانِيهَا تَرْجِيحُ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ على التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ عِلَّةً إلَّا إذَا عُلِمَ اشْتِمَالُهُ على الْحِكْمَةِ فَالدَّاعِي إلَى شَرْعِ الْحُكْمِ في الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هو الْحِكْمَةُ وإذا كانت الْعِلَّةُ الْحِكْمَةَ لَا ذلك الْعَدَمَ كان التَّعْلِيلُ بها أَوْلَى وَقَضِيَّةُ هذه الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ رَاجِحًا على التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْوُجُودِيِّ الْحَقِيقِيِّ لَكِنَّ التَّعْلِيلَ بِالْحَقِيقِيِّ رَاجِحٌ عليه من جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْضَبِطًا وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عليه بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحَاجَةِ فإنه غَيْرُ مُنْضَبِطٍ ثَالِثُهَا يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ حُكْمُهُ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ على الْمُعَلَّلِ حُكْمُهُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْعَدَمِيِّ يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَكُونُ عِلَّةً إلَّا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالتَّعْلِيلُ بِالْمُنَاسِبِ أَوْلَى من
التَّعْلِيلِ بِالْأَمَارَةِ هذا اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمِنْهَاجِ وَالتَّحْصِيلِ وَالْفَائِقِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ في الْمَسْأَلَةِ احْتِمَالَيْنِ بِلَا تَرْجِيحِ أَحَدُهُمَا هذا وَالثَّانِي عَكْسُهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ أَشْبَهُ بِالْوُجُودِ رَابِعُهَا يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ على الْمُعَلَّلِ بِغَيْرِهِ خَامِسُهَا يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ على الْمُعَلَّلِ بِالْقَاصِرَةِ في قَوْلِ الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ وَابْنِ بَرْهَانٍ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ الْمَشْهُورُ فإنه أَغْزَرُ فَائِدَةً وقال أبو إِسْحَاقَ الْقَاصِرَةُ مُتَقَدِّمَةٌ لِأَنَّهَا مُعْتَضِدَةٌ بِالنَّصِّ وَمَالَ إلَيْهِ في الْمُسْتَصْفَى فَقِيلَ له الْحُكْمُ هو الْمُعْتَضِدُ دُونَ الْعِلَّةِ وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ وَاخْتَارَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي وَاخْتَارَ في الْمَنْخُولِ أَنَّهُمَا إنْ تَوَارَدَا على حُكْمٍ وَاحِدٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَلَا تَرْجِيحَ وَإِنْ تَنَافَيَا فَلَا يَلْتَقِيَانِ نعم يَكْفِي طَرْدُ الْمُتَعَدِّيَةِ عَكْسَ الْقَاصِرَةِ وَلَا يُقَاوِمُ الطَّرْدُ الْعَكْسَ أَصْلًا وَإِنْ فُرِضَ ازْدِحَامٌ على حُكْمِ تَقْدِيرِ الِاتِّفَاقِ على اتِّحَادِ الْعِلَّةِ فَالْمُتَعَدِّيَةُ أَوْلَى لِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِأَكْثَرَ من عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ كما اخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ فَلَا تَعَارُضَ ثُمَّ أَوْرَدَ على نَفْسِهِ سُؤَالًا مَضْمُونُهُ وُقُوعُ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا وَاسْتَمَدَّ منه أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَّحَ الْقَاصِرَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ اتَّفَقَا على أَنَّ الْأَمَةَ تُخَيَّرُ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ الْعَبْدِ وَاخْتُلِفَ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ الْحُرِّ وَنَشَأَ اخْتِلَافُهُمَا من الِاخْتِلَافِ في عِلَّةِ الْأَصْلِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا خُيِّرَتْ تَحْتَ الْعَبْدِ لِفَضْلِهَا حِينَئِذٍ عليه بِالْحُرِّيَّةِ فَلَا تُخَيَّرُ تَحْتَ الْحُرِّ فَالْعِلَّةُ حِينَئِذٍ قَاصِرَةٌ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إنَّمَا خُيِّرَتْ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَتُخَيَّرُ تَحْتَ الْحُرِّ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُطَّرِدَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ ثُمَّ انْفَصَلَ عن هذا السُّؤَالِ بِإِبْطَالِ الْعِلَّتَيْنِ جميعا أَمَّا عِلَّةُ أبي حَنِيفَةَ فقال الْقَاضِي لَا مَعْنًى لِتَعْلِيلِ الْخِيَارِ بِتَمَلُّكِهَا نَفْسَهَا لِأَنَّهَا إنْ مَلَكَتْ مَوْرِدَ النِّكَاحِ انْفَسَخَ فَلَا اخْتِيَارَ وَإِنْ مَلَكَتْ غَيْرَهُ فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَلَا تَخْتَارُ في غَيْرِ ما مَلَكَتْ تَنْبِيهٌ قد يُنَازَعُ في دُخُولِ التَّرْجِيحِ من هَذَيْنِ في الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَاصِرَةَ لَا وُجُودَ لها في غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ وَلَا يَخْفَى امْتِنَاعُ الْقِيَاسِ بِنَاءً على عِلَّةٍ يَخْتَصُّ بها مَحَلُّهَا فَكَيْفَ
صُورَةُ التَّرْجِيحِ وَالْجَوَابُ أَنَّ نَتِيجَةَ التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا إمْكَانُ الْقِيَاسِ وَعَدَمُ إمْكَانِهِ مِثَالُهُ الثَّمَنِيَّةُ وَالْوَزْنُ في النَّقْدَيْنِ لِمَنْ رَجَّحَ الْوَزْنَ مُرَتِّبٌ على تَرْجِيحِهِ إمْكَانَ الْقِيَاسِ فَتَرَتَّبَ على تَرْجِيحِ الثَّمَنِيَّةِ امْتِنَاعُ الْقِيَاسِ وَهَذِهِ فَائِدَةٌ سَادِسُهَا إذَا فَرَّعْنَا على تَقْدِيمِ التَّعَدِّيَةِ فَتَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ مُتَعَدِّيَتَانِ وَفُرُوعُ إحْدَاهُمَا أَكْثَرُ من فُرُوعِ الْأُخْرَى يُقَدَّمُ ما مَجَالُ تَعَدِّيهِ أَكْثَرُ لِكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَزَيَّفَهُ في الْمَنْخُولِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ فيه نَظَرٌ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَرْجِيحَ فيها ثُمَّ قال وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كَثْرَةَ الْفُرُوعِ تَقْتَضِي التَّرْجِيحَ فَلَوْ كَثُرَتْ فُرُوعُ عِلَّةٍ وَقَلَّتْ فُرُوعُ أُخْرَى وَلَكِنَّ الْقَلِيلَةَ الْفُرُوعُ اعْتَضَدَتْ بِنَظَائِرَ تُضَاهِي في عِدَّتِهَا فُرُوعَ الْعِلَّةِ الْكَثِيرَةِ كانت كَثِيرَةَ النَّظَائِرِ في مُقَابَلَةِ كَثِيرَةِ الْفُرُوعِ ثُمَّ مَثَّلَهَا بِعِلَّتَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ في إيجَابِ الْكَفَّارَةِ في الْجِمَاعِ فَالْعِلَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَطْءُ الْمَرْأَةِ في قُبُلِهَا وَفُرُوعُهُ قَلِيلَةٌ وَهِيَ الْإِتْيَانُ في الدُّبُرِ وَإِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ لَكِنَّ نَظَائِرَهُ كَثِيرَةٌ فإن الشَّرْعَ رَتَّبَ الْأَحْكَامَ على الْوَطْءِ كَالْإِحْلَالِ وَالْإِحْصَانِ وَالْحَدِّ وَإِفْسَادِ الْحَجِّ وَغَيْرِ ذلك وَالْعِلَّةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إفْسَادُ الصَّوْمِ وَفُرُوعُهَا كَثِيرَةٌ وَهِيَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَكُلُّ سَبَبٍ يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ وَأَسْبَابُ فَسَادِ الصَّوْمِ وَاسِعَةٌ ثُمَّ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ على هذا الْمِثَالِ بِمَا يَبْطُلُ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ فقال النَّظَائِرُ الْمَذْكُورَةُ لَا اعْتِبَارَ بها أَلْبَتَّةَ وَلَيْسَتْ كَالنَّظَائِرِ التي اعْتَدَّ بها في الْأَشْبَاهِ كَضَرْبِ الْعَقْلِ الْقَلِيلِ اعْتِبَارًا بِضَرْبِ حِصَصِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ ذلك في غَيْر الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْمَرْتَبَةُ على الْوَطْءِ نَائِبَةٌ عن إيجَابِ الْكَفَّارَةِ لَا يَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ الْمُنَظَّرِ إلَّا اسْمُ الْحُكْمِ وَلَقَبُهُ خَاصَّةً وَهَذَا الذي قَالَهُ الْإِمَامُ صَحِيحٌ فَإِنَّا لو اعْتَبَرْنَا الِاشْتِرَاكَ في عُمُومِ الْحُكْمِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُلَائِمًا وَلَاسْتَحَالَ الْغَرِيبُ ثُمَّ حُكِيَ عن جَمَاعَةٍ من أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا كانت إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ فُرُوعًا وَالْأُخْرَى مُطَبَّقَةً على الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِلَا تَأْوِيلٍ وَالْكَثِيرَةُ الْفُرُوعِ تَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ في بَعْضِ مَجَارِيهَا فَهَذَا نَقْصٌ من جَرَيَانِهَا وَيُقْدَحُ في التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ فُرُوعِهَا كَاعْتِبَارِنَا في الْقَرَابَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّفَقَةِ وَالْعِتْقِ بِالتَّعْصِيبِ وَهَذَا يَجْرِي في الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ على انْطِبَاقٍ وَاعْتَبَرَ أبو حَنِيفَةَ الرَّحِمَ وَالْمَحْرَمِيَّةَ وَفُرُوعَ عِلَّتِهِ وَإِنْ كانت مُرَكَّبَةً أَكْثَرَ فَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ غير أَنَّ الرَّحِمَ وَالْمَحْرَمِيَّةَ لَا يَجْرِيَانِ إلَّا على تَأْوِيلٍ من الذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَى وهو من رَكِيكِ الْكَلَامِ
سَابِعُهَا تَرَجُّحُ الْعِلَلِ الْبَسِيطَةِ على الْعِلَلِ الْمُرَكَّبَةِ كَتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ الرِّبَا بِالطُّعْمِ في الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ مع ضَمِّهِ في الْقَدِيمِ النَّقْدِيَّةَ إلَى الطُّعْمِ على الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ في الْحَدِّ بَسِيطَةٌ وهو أَحَدُ الْأَوْجُهِ عِنْدَنَا هذا ما عليه الْجَدَلِيُّونَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْأُصُولِيِّينَ وَبِهِ جَزَمَ ابن بَرْهَانٍ إذْ يُحْتَمَلُ في الْمُرَكَّبَةِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ هِيَ الْأَجْزَاءُ لَا هِيَ جُمْلَتُهَا وَلِأَنَّ الْبَسِيطَةَ تَكْثُرُ فُرُوعُهَا وَفَوَائِدُهَا وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فيها يَقِلُّ فَيَقِلُّ خَطَرُهُ وَلِأَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ في جَوَازِ التَّرْكِيبِ في الْعِلَلِ فَالْمُتَّفَقُ عليه أَوْلَى قال الْإِمَامُ هذا الْمَسْلَكُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَقِيلَ بَلْ تُرَجَّحُ الْمُرَكَّبَةُ وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ قال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَلَعَلَّهُ الصَّحِيحُ ثَامِنُهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ على الْكَثِيرَةِ الْأَوْصَافِ كَتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ على الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ وَحَكَى الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ إجْمَاعَ النُّظَّارِ وَالْأُصُولِيِّينَ عليه قال وَإِنَّمَا رَجَّحْت بِذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الزَّائِدَ لَا أَثَرَ له في الْحُكْمِ وَصَحَّ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ مع عَدَمِهِ وَلِأَنَّ الْكَثِيرَةَ الْأَوْصَافِ يَقِلُّ فيها إلْحَاقُ الْفُرُوعِ فَكَانَ كَاجْتِمَاعِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْقَاصِرَةِ قال وَلَا أَعْرِفُ خِلَافًا بين أَصْحَابِنَا في ذلك إذْ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْأَكْثَرِ فَإِنْ كانت غير دَاخِلَةٍ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ أَوْصَافُ إحْدَاهُمَا غير أَوْصَافِ الْأُخْرَى مِثْلَ أَنْ تَجْعَلَ إحْدَاهُمَا الْعِلَّةَ الطَّعْمَ وَالْأُخْرَى الْكَيْلَ وَالْجِنْسَ فَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَكْثَرُ فُرُوعًا وهو الْأَصَحُّ من أَصْحَابِنَا من قال هُمَا سَوَاءٌ تَاسِعُهَا الْقِيَاسُ الذي يَكُونُ الْوَصْفُ فيه وُجُودِيًّا على ما إذَا كان أَحَدُهُمَا عَدَمِيًّا أو كَانَا عَدْمَيْنِ وَيُرَجَّحُ تَعْلِيلُ الْعَدَمِيِّ بِالْعَدَمِيِّ على ما إذَا كان أَحَدُهُمَا وُجُودِيًّا لِلْمُشَابَهَةِ بين التَّعْلِيلِ بِالْعَدَمِيِّ لِلْعَدَمِيِّ هَكَذَا قال في الْمَحْصُولِ وقال ابن بَرْهَانٍ إذَا كانت إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مَحْسُوسَةً وَالْأُخْرَى حُكْمِيَّةً فَقِيلَ تُقَدَّمُ الْمَحْسُوسَةُ لِقُوَّتِهَا وَقِيلَ الْحُكْمِيَّةُ لِأَنَّ الْكَلَامَ في الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَيُقَدَّمُ الْحُكْمِيُّ على الْحِسِّيِّ وَمِثَالُهُ تَرْجِيحُ عِلَّتِنَا في مَسْأَلَةِ الْمَنِيِّ أَنَّهُ مَبْدَأُ خِلْقَةِ الْآدَمِيِّ على عِلَّتِهِمْ أَنَّ الْمَنِيَّ ليس في عَيْنِهِ وَلَا في حُكْمِهِ ما يَدُلُّ على النَّجَاسَةِ عَاشِرُهَا أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ أَقَلَّ مُقَدَّمَاتٍ وَالْأُخْرَى مَوْقُوفَةٌ على أَكْثَرِهَا فَالْمَوْقُوفَةُ على الْأَقَلِّ أَرْجَحُ لِأَنَّ ما تَوَقَّفَ على
مُقَدَّمَاتٍ أَقَلُّ صِدْقِهِ أَغْلَبُ في الظَّنِّ مِمَّا يَتَوَقَّفُ على أَكْثَرَ وَالْعَمَلُ بِأَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ على الْكَثِيرَةِ الْأَوْصَافِ وَقِيلَ الْكَثِيرَةُ أَوْلَى وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ حَادِيَ عَشَرَهَا أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مُطَّرِدَةٌ مُنْعَكِسَةٌ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مُنْعَكِسَةٍ فَالْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُ قد اُشْتُرِطَ الِانْعِكَاسُ في الْعِلَلِ فَتَكُونُ هذه الْعِلَّةُ مُجْمَعًا على صِحَّتِهَا وَالْأُخْرَى لَيْسَتْ كَذَلِكَ هَكَذَا حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن مُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الِانْعِكَاسَ من التَّرْجِيحَاتِ الْمُعْتَمَدَةِ قال وهو مُتَّجَهٌ على قَوْلِنَا أَنَّ الِانْعِكَاسَ دَلِيلُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ مَعْنًى فَأَمَّا إذَا جَعَلْنَاهُ شَرْطًا فَلَا تَعَارُضَ فَلَا تَرْجِيحَ لِأَنَّ التي لم تَنْعَكِسْ حِينَئِذٍ بَاطِلَةٌ لِفِقْدَانِ شَرْطِهَا فَاعْتَرَضَهُ ابن الْمُنِيرِ بِقَوْلِهِ إنَّ الْأَدِلَّةَ لَا يُرَجِّحُ بَعْضُهَا بَعْضًا فإذا بَنَيْنَا على أَنَّ الْإِخَالَةَ وَالْعَكْسَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ على صِحَّةِ الْعِلَّةِ فَكَيْفَ نُرَجِّحُ مُسْتَقِلًّا بِمُسْتَقِلٍّ وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهَا لَا بِذَاتِهَا ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الْعَكْسَ لَا يُرَجَّحُ بِهِ لِأَنَّ النَّفْيَ ما جاء من قِبَلِ الْعِلَّةِ بَلْ من الْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عليها وَلَا مُرَجِّحًا ثَانِيَ عَشَرَهَا أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ وَالْأُخْرَى حُكْمِيَّةٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ فَالْحُكْمِيَّةُ أَوْلَى وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال الذَّاتِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَلْزَمُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْحُكْمِ أَشْبَهُ فَيَكُونُ بِالدَّلِيلِ عليه أَوْلَى ثَالِثَ عَشَرَهَا أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مُوجِبَةَ الْحُكْمِ وَالْأُخْرَى لِلتَّسْوِيَةِ بين حُكْمٍ وَحُكْمٍ فَاَلَّتِي أَوْجَبَتْ الْحُكْمَ أَوْلَى من الْعِلَّةِ التي تُوجِبُ التَّسْوِيَةَ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا في جَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّسْوِيَةِ ولم يَخْتَلِفُوا في الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ قال وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ سَهْلٌ الصُّعْلُوكِيُّ في بَعْضِ الْمُنَاظَرَاتِ أَنَّ عِلَّةَ التَّسْوِيَةِ أَوْلَى لِكَثْرَةِ الشَّبَهِ فيه وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ الِاعْتِبَارُ الثَّانِي بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ على وُجُودِ الْعِلَّةِ فَنَقُولُ الذي يَدُلُّ على الْعِلِّيَّةِ إمَّا قَطْعِيٌّ أو ظَنِّيٌّ أَمَّا الْأَوَّلُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْلُومَةَ مُقَدَّمَةٌ على الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ
سَوَاءٌ أَكَانَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا بَدِيهِيًّا أو ضَرُورِيًّا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ ما عُلِمَ وُجُودُهُ بِشَيْءٍ من هذه الطُّرُقِ هل يُرَجَّحُ بَعْضُهُ على بَعْضٍ كما إذَا عُلِمَ وُجُودُ كُلِّهِ بِالْبَدِيهَةِ وَالْحِسِّ هل يُرَجَّحُ على ما عُلِمَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ التَّرْجِيحُ بين الْعِلَّتَيْنِ الْمَعْلُومَتَيْنِ سَوَاءٌ كانت إحْدَاهُمَا مَعْلُومَةً بِالْبَدَاهَةِ وَالْأُخْرَى بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وهو قِيَاسُ ما سَبَقَ في النَّصَّيْنِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّرْجِيحُ لِعَدَمِ قَبُولِهِمَا احْتِمَالَ النَّقِيضِ قال في الْمَحْصُولِ وَكَلَامُ أبي الْحُسَيْنِ يَدُلُّ على أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْلُومَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ قُلْت وَعَلَى هذا فَالْبَدِيهِيَّاتُ وَالْحِسِّيَّاتُ رَاجِحَةٌ على النَّظَرِيَّاتِ وَأَمَّا أَنَّ الْبَدِيهِيَّاتِ تُرَجَّحُ على الْحِسِّيَّاتِ أو الْعَكْسَ فَمَحَلُّ نَظَرٍ وَلَا شَكَّ في تَرْجِيحِ بَعْضِ الْبَدِيهِيَّاتِ على بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الضَّرُورِيَّاتُ وَالنَّظَرِيَّاتُ وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ ما كان أَجْلَى وَأَظْهَرَ عِنْدَ الْعَقْلِ فَهُوَ رَاجِحٌ على ما ليس كَذَلِكَ وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ قِيلَ كُلَّمَا كانت الْمُقَدَّمَاتُ الْمُنْتِجَةُ له أَقَلَّ فَهُوَ أَوْلَى قال الْهِنْدِيُّ وهو غَيْرُ مَرْضِيٍّ على إطْلَاقِهِ لِأَنَّهُ قد تَكُونُ الْمُقَدَّمَاتُ الْمُنْتِجَةُ له أَقَلَّ وهو مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى ما تَكُونُ مُقَدَّمَاتُهُ أَكْثَرَ بِكَوْنِ كل وَاحِدٍ من تِلْكَ الْمُقَدَّمَاتِ مَظْنُونًا ظَنًّا قَوِيًّا وَالْمُقَدَّمَاتُ الْقَلِيلَةُ تَكُونُ مَظْنُونَةً ظَنًّا ضَعِيفًا بَلْ الْأَقَلُّ إنَّمَا يُرَجَّحُ إذَا سَاوَى الْأَكْثَرَ في كَيْفِيَّةِ الظَّنِّ فَحَصَلَ إنْ كان ما يُفِيدُ ظَنًّا أَرْجَحَ من الذي يُفِيدُهُ الْآخَرُ فَهُوَ أَوْلَى وَيَخْتَلِفُ ذلك بِقِلَّةِ الْمُقَدَّمَاتِ وَكَثْرَتِهَا وَضَعْفِهَا وَقُوَّتِهَا إذَا عَلِمْت هذا فَالدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ الذي يَدُلُّ على وُجُودِ الْعِلَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أو إجْمَاعًا أو قِيَاسًا أَمَّا النَّصُّ فَالْكَلَامُ فيه كما في الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَيَسْتَحِيلُ تَعَارُضُهُمَا إنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ أو أَحَدُهُمَا قَطْعِيًّا وَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ فَهُمَا في مَحَلِّ التَّرْجِيحِ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فإذا عَارَضَ الْخَصْمُ قِيَاسَ الْمُسْتَدِلِّ بِقِيَاسٍ آخَرَ وكان وُجُودُ الْأَمْرِ الذي جَعَلَ عِلَّةً الْحُكْمِ في الْأَصْلِ في أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مَعْلُومًا وفي الْآخَرِ مَظْنُونًا كان الْأَوَّلُ أَوْلَى الِاعْتِبَارُ الثَّالِثُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ على عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ وَذَلِكَ بِأُمُورٍ أَوَّلُهَا يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الذي تُثْبِتُ عِلِّيَّتُهُ الْوَصْفَ بِحُكْمِ أَصْلِهِ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ على ما لم يَثْبُتْ بِالْقَاطِعِ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ فيه عَدَمُ الْعِلِّيَّةِ
بِخِلَافِ ما ليس بِقَاطِعٍ وقال في الْمُسْتَصْفَى ذَكَرُوا في التَّرْجِيحِ أَنْ تَثْبُتَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِنَصٍّ قَاطِعٍ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّ الظَّنَّ يُمْحَى في مُقَابَلَةِ الْقَاطِعِ وَلَا يَبْقَى معه حتى يَحْتَاجَ إلَى تَرْجِيحٍ إذْ لو بَقِيَ معه لَتَطَرَّقَ إلَيْهِ الشَّكُّ وَيَخْرُجُ عن كَوْنِهِ مَعْلُومًا وقد بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ لِمَعْلُومٍ على مَعْلُومٍ وَلَا مَظْنُونٍ على مَظْنُونٍ ثَانِيهَا يُرَجَّحُ ما يُثْبِتْ عَلِيَّ ةَ الْوَصْفِ بِالظَّاهِرِ على ما لم يُثْبِتْ بِالظَّاهِرِ من سَائِرِ الْأَدِلَّةِ سِوَى النَّصِّ الْقَاطِعِ وَالْأَلْفَاظُ الظَّاهِرَةُ في إفَادَةِ الْعِلِّيَّةِ ثَلَاثَةٌ اللَّامُ وَإِنْ وَالْبَاءُ وَأَقْوَاهَا اللَّامُ وَتَرَدَّدَ الْإِمَامُ في تَقْدِيمِ الْبَاءِ على إنْ وَاخْتَارَ الْهِنْدِيُّ تَقْدِيمَهَا ثَالِثُهَا يُرَجَّحُ ما يُثْبِتُ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ فيه بِالْمُنَاسَبَةِ على ما عَدَاهَا من الدَّوَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ لِقُوَّةِ دَلَالَةِ الْمُنَاسَبَةِ وَاسْتِقْلَالِهَا في إفَادَةِ الْعِلِّيَّةِ وَقِيلَ ما دَلَّ عليه الدَّوَرَانُ أَوْلَى وَعَبَّرُوا عنه بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُطَّرِدَةَ الْمُنْعَكِسَةَ أَقْوَى مِمَّا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِشَبَهِهَا بِالْعَقْلِيَّةِ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّ الظَّنَّ بِغَلَبَةِ الْمُنَاسَبَةِ أَكْثَرُ من الدَّوَرَانِ وَيُرَجَّحُ الثَّابِتُ عِلِّيَّتُهُ بِالْمُنَاسَبَةِ على ما ثَبَتَ بِالسَّبْرِ خِلَافًا لِقَوْمٍ وَلَيْسَ هذا الْخِلَافُ في السَّبْرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فإن الْعَمَلَ بِهِ مُتَعَيَّنٌ وَلَا يَدْخُلُهُ تَرْجِيحٌ لِوُجُوبِ تَقْدِيمِ الْمَقْطُوعِ بِهِ على الْمَظْنُونِ بَلْ في السَّبْرِ الْمَظْنُونِ الذي كُلُّ مُقَدَّمَاتِهِ ظَنِّيَّةٌ فَإِنْ كان بَعْضُهَا قَطْعِيًّا اخْتَلَفَ حَالُهُ بِحَسَبِهَا وإذا ثَبَتَ رُجْحَانُ الْمُنَاسَبَةِ على الدَّوَرَانِ وَالسَّبْرِ كان رُجْحَانُهُ على الْبَاقِي أَظْهَرَ ثُمَّ الْمُنَاسَبَةُ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهَا فَيُرَجَّحُ منها ما هو وَاقِعٌ في مَحَلِّ الضَّرُورَةِ على ما هو في مَحَلِّ الْحَاجَةِ وهو الْمَصْلَحِيُّ أو التَّتِمَّةُ وهو التَّحْسِينِيُّ وَالضَّرُورِيَّةُ الدِّينِيَّةُ على الدُّنْيَوِيَّةِ وَيُرَجَّحُ في هذا ما هو أَقْرَبُ اعْتِبَارًا في الشَّرْعِ فَيُرَجَّحُ ما ثَبَتَ اعْتِبَارُ نَوْعِ وَصْفِهِ في نَوْعِ الْحُكْمِ على الْمُعْتَبَرِ نَوْعُ وَصْفِهِ في جِنْسِ الْحُكْمِ وَأَمَّا الْمُرَجَّحُ فِيهِمَا فقال الْإِمَامُ هُمَا كَالْمُتَعَارَضِينَ وقال الْهِنْدِيُّ الْأَظْهَرُ تَقْدِيمُ الْمُعْتَبَرِ نَوْعُ وَصْفِهِ في جِنْسِ الْحُكْمِ على عَكْسِهِ
تَنْبِيهٌ لو تَعَارَضَ قِيَاسَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّ بِالْمُنَاسَبَةِ لَكِنَّ مَصْلَحَةَ أَحَدِهِمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالدِّينِ وَالْأُخْرَى بِالدُّنْيَا فَالْأُولَى مُقَدَّمَةٌ لِأَنَّ ثَمَرَةَ الدِّينِيَّةِ هِيَ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ التي لَا يُعَادِلُهَا شَيْءٌ كَذَا جَزَمَ بِهِ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَحَكَى ابن الْحَاجِبِ قَوْلًا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَبْنِيَّةٌ على الْمُشَاحَّةِ ولم يذكر الْآمِدِيُّ ذلك قَوْلًا وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ سُؤَالًا رَابِعُهَا يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الذي ثَبَتَ عِلِّيَّةُ وَصْفِهِ بِالدَّوَرَانِ على الثَّابِتِ بِالسَّبْرِ وما بَعْدَهُ لِاجْتِمَاعِ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ في الْعِلَّةِ الْمُسْتَفَادَةِ من الدَّوَرَانِ دُونَ غَيْرِهِ بَلْ قَدَّمَهُ بَعْضُهُمْ على الْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّ الِاطِّرَادَ وَالِانْعِكَاسَ شَبِيهٌ بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ ثُمَّ الثَّابِتُ بِالدَّوَرَانِ الْحَاصِلُ في مَحَلٍّ وَاحِدٍ على الْحَاصِلِ في مَحَلَّيْنِ لِقِلَّةِ احْتِمَالِ الْخَطَأِ في الْأَوَّلِ خَامِسُهَا يُرَجَّحُ الثَّابِتُ عِلَّتُهُ بِالسَّبْرِ على الثَّابِتِ بِالشَّبَهِ وما بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَقْوَى في إفَادَةِ الظَّنِّ وَقِيلَ يُقَدَّمُ على الْمُنَاسَبَةِ لِإِفَادَتِهِ لِظَنِّ الْغَلَبَةِ وَبَقِيَ الْمُعَارِضُ بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ على نَفْيِ الْمُعَارِضِ اخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَيَلْزَمُ منه تَقْدِيمُهُ على الدَّوَرَانِ أَيْضًا عِنْدَ من يُقَدِّمُ الدَّوَرَانِ على الْمُنَاسَبَةِ وَالْمُنَازَعَةِ في غَيْرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ سَادِسُهَا يَتَرَجَّحُ الثَّابِتُ عِلَّتُهُ على الثَّابِتِ عِلَّتُهُ بِالطَّرْدِ لِضَعْفِ الظَّنِّ الْحَاصِلِ منه قال الْبَيْضَاوِيُّ وَكَذَا على الثَّابِتِ عِلَّتُهُ بِالْإِيمَاءِ وَاَلَّذِي في الْمَحْصُولِ اتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ على أَنَّ ما ثَبَتَ عِلَّتُهُ بِالْإِيمَاءِ رَاجِحٌ على ما ظَهَرَتْ عِلَّتُهُ بِالْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ من الْمُنَاسَبَةِ وَالدَّوَرَانِ وَالسَّبْرِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وقال الْهِنْدِيُّ هذا ظَاهِرٌ إنْ قُلْنَا لَا تُشْتَرَطُ الْمُنَاسَبَةُ في الْوَصْفِ الْمُومَى إلَيْهِ وَإِنْ قُلْنَا يُشْتَرَطُ فَالظَّاهِرُ تَرْجِيحُ بَعْضِ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ عليها كَالْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ بِخِلَافِ الْإِيمَاءِ فإنه لَا يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ بِدُونِهَا فَكَانَتْ وقال الْإِبْيَارِيُّ شَارِحُ الْبُرْهَانِ وقد يُعْكَسُ كما فَعَلُوا في قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ فإن في الحديث إيمَاءٌ إلَى خُصُوصِ الْغَضَبِ لَكِنْ قَدَّمُوا عليه الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ وهو الدَّهَشُ وَالْحِيرَةُ وَلَيْسَ كما قال وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ بِالْإِيمَاءِ
الْمُجَرَّدِ وَلَا اسْتِنْبَاطَ فإنه أَدَّى بِالْغَضَبِ إلَى الدَّهَشِ الذي اشْتَمَلَ الْغَضَبُ عليه وَالْغَضَبُ طَرْدٌ لَا خُصُوصِيَّةَ له وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْغَالِبِ نعم إنْ قَوِيَ اجْتِهَادٌ بِهِ فَلْيُوكَلْ إلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ قُوَّةً وَضَعْفًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ مع قَوْلِهِ بِبُطْلَانِ قِيَاسِ الْأَشْبَاهِ قال هُنَا الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِهِ وَإِنْ لم يَجُزْ التَّمَسُّكُ بِهِ ابْتِدَاءً الِاعْتِبَارُ الرَّابِعُ بِحَسَبِ دَلِيلِ الْحُكْمِ فَيُرَجَّحُ من الْقِيَاسَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ ما دَلِيلُ حُكْمِ أَصْلِهِ أَقْوَى من دَلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ الْآخَرِ فَمِنْهَا أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الثَّابِتُ حُكْمُ أَصْلِهِ بِالْإِجْمَاعِ على الثَّابِتِ بِالنَّصِّ فإن الذي ثَبَتَ الْحُكْمُ في أَصْلِهِ بِالدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ وَالنَّسْخَ وَالتَّأْوِيلَ وَالْإِجْمَاعُ لَا يَقْبَلُهَا هَكَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ ثُمَّ قال وَيَحْتَمِلُ تَقْدِيمَ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ على الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ فَرْعُ النَّصِّ لِكَوْنِ الْمُثْبِتِ له النَّصَّ وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَقْوَى من الْأَصْلِ وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِبُ الْحَاصِلِ وَالْمِنْهَاجِ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ الذي ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يُنْسَخْ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ أَقْوَى من ذلك وَأَمَّا ما لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْوَى منه وَمِنْهَا قال ابن بَرْهَانٍ إذَا كان أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ مُخَرَّجًا من أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عليه وَالْآخَرُ مُخَرَّجًا من غَيْرِ مَنْصُوصٍ عليه قُدِّمَ الْأَوَّلُ على الثَّانِي كَقَوْلِنَا في جِلْدِ ما لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَهِيَ مَنْصُوصٌ عليها أَوْلَى من قَوْلِ الْمُخَالِفِ لَا يَطْهُرُ قِيَاسًا على جِلْدِ الْكَلْبِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عليه وَمِنْهَا قال في الْمَنْخُولِ إذَا عَارَضَ قِيَاسٌ عَامٌّ تَشْهَدُ له الْقَوَاعِدُ قِيَاسًا هو أَخَصُّ منه بِالْمَسْأَلَةِ فَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ فِيمَا قَالَهُ الْقَاضِي مِثَالُهُ تَوْجِيهُ قَوْلِنَا لَا تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْجَانِيَ أَوْلَى بِجِنَايَتِهِ وَيُعَضِّدُ هذا سَائِرُ الْغَرَامَاتِ يُعَارِضُهُ قِيَاسٌ أَخَصُّ وهو أَنَّ الْغَالِبَ على الْعَبْدِ الذِّمَّةُ بِدَلِيلِ الْكَفَّارَةِ وَالْقِصَاصِ وَضَرْبُ الْعَقْلِ سَبَبُهُ مَسِيسُ حَاجَةِ الْعَرَبِ إلَى مُعَاطَاةِ الْأَسْلِحَةِ وَإِيقَافِ هَفَوَاتٍ وَنَقْلِ الْأُرُوشِ عن الْجُنَاةِ فإن هذا مِثَالٌ فَاسِدٌ فإن ضَرْبَ الْعَقْلِ مُسْتَثْنًى عن الْقِيَاسِ وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ تَعْوِيلٌ عليها
الِاعْتِبَارُ الْخَامِسُ بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ وقد سَبَقَ في تَرْجِيحِ الْأَخْبَارِ فَلْيَأْتِ مِثْلُهُ هَاهُنَا فإذا كانت إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ نَاقِلَةً عن حُكْمِ الْعَقْلِ وَالْأُخْرَى مُقَرَّرَةً على الْأَصْلِ فَالنَّاقِلَةُ أَوْلَى على الصَّحِيحِ كما قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا لِأَنَّ النَّاقِلَةَ أَثْبَتَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَالْمُقَرَّرَةُ ما أَثْبَتَتْ شيئا وَمِنْهُمْ من قال الْمُبْقِيَةُ أَوْلَى لِاعْتِضَادِهَا بِحُكْمِ الْعَقْلِ الْمُسْتَقِلِّ بِالنَّفْيِ لَوْلَا هذه الْعِلَّةُ وَكَذَا قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى تَرْجِيحِ النَّاقِلَةِ عن الْعَادَةِ وَبِهِ جَزَمَ إلْكِيَا لِأَنَّ النَّاقِلَةَ مُسْتَفَادَةٌ من الشَّرْعِ وَالْأُخْرَى تَرْجِعُ إلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ النَّاقِلَةُ وَالْمُوَافِقَةُ لِلْعَادَةِ سِيَّانِ لِأَنَّ النَّسْخَ بِالْعِلَلِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ النَّسْخَ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ جَائِزٌ وَالْغَالِبُ في النَّسْخِ نَسْخُ ما يُوَافِقُ الْعَادَةَ لِمَا يُنْقِلُ عنها فَلِذَلِكَ قُلْنَا في الْأَخْبَارِ إنَّ النَّاقِلَ أَوْلَى قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وكان عَلِيُّ بن حَمْزَةَ الطَّبَرِيُّ يُفَرِّقُ بين الْعِلَلِ وَالْأَخْبَارِ فيقول في الْخَبَرِ النَّاقِلُ أَوْلَى وفي الْعِلَلِ إنَّ الْمُبْقِيَةَ فيها على الْعَادَةِ أَوْلَى من النَّاقِلَةِ فَأَمَّا إذَا كانت إحْدَاهُمَا مُثْبِتَةً وَالْأُخْرَى نَافِيَةً فقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ تُقَدَّمُ الْمُثْبِتَةُ قال وَيُعَبَّرُ عن هذا بِتَقْدِيمِ النَّاقِلَةِ على الْمُبْقِيَةِ لِلْأَصْلِ على ما كان قال وَرُبَّمَا خَلَطَ في هَذَيْنِ من لَا تَحْقِيقَ له وَهُمَا يَجْرِيَانِ على مَعْنًى وَاحِدٍ وقال الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدَّمَ قَوْمٌ الْمُثْبِتَةَ على النَّافِيَةِ وهو غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ النَّفْيَ الذي لَا يَثْبُتُ إلَّا شَرْعًا كَالْإِثْبَاتِ وَإِنْ كان نَفْيًا أَصْلِيًّا رَجَعَ إلَى ما قَدَّمْنَاهُ في النَّاقِلَةِ وَالْمُقَرَّرَةِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الصَّحِيحُ أَنَّ التَّرْجِيحَ في الْعِلَّةِ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ لِاسْتِوَاءِ الْمُثْبِتِ وَالنَّافِي في الِافْتِقَارِ إلَى الدَّلِيلِ قال وَإِلَى هذا الْقَوْلِ ذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وهو كما قال وَكَأَنَّ من رَجَّحَ بِهِ لَاحَظَ إلْحَاقَهَا بِالْخَبَرِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ فإن مَدَارَ التَّرْجِيحِ في الْأَخْبَارِ على أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ أَشْبَهُ من الِاخْتِلَافِ وَمَدَارُ التَّرْجِيحِ في الْعِلَلِ على غَيْرِ ذلك من قُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ وَتَوَفُّرِ الشَّوَاهِدِ وَهَذَا أَجْنَبِيٌّ عن النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَالْحَقُّ كما قال ابن الْمُنِيرِ إنْ قُلْنَا إنَّ النَّفْيَ فيها مُسْتَفَادٌ من النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ أَنْ يُلْتَمَسَ التَّرْجِيحُ من خَارِجٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّفْيَ لَا يَكُونُ مُقْتَضًى لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يُقْتَضَى كما لَا يَقْتَضِي
وقال ابن السَّمْعَانِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ التي تَقْتَضِي الْحَظْرَ أَوْلَى من التي تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ وَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا تَقْتَضِي حَدًّا وَالْأُخْرَى تُسْقِطُهُ أو تُوجِبُ الْعِتْقَ وَالْأُخْرَى تُسْقِطُهُ فَقِيلَ الْمُوجِبَةُ لِلْعِتْقِ وَالْمُسْقِطَةُ لِلْحَدِّ أَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ على الِاتِّسَاعِ وَالتَّكْمِيلِ وَالْحَدُّ مَبْنِيٌّ على الْإِسْقَاطِ وَالدَّرْءِ وَقِيلَ على السَّوَاءِ وَلَوْ كانت إحْدَاهُمَا مُبْقِيَةً لِلْعُمُومِ على عُمُومِهِ وَالْأُخْرَى تُوجِبُ تَخْصِيصَهُ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ فَقِيلَ يَجِبُ تَرْجِيحُ الْمُبْقِيَةِ لِلْعُمُومِ لِأَنَّهُ كَالنَّصِّ في وُجُوبِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَمِنْ حَقِّ الْعِلَّةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ النُّصُوصَ فإذا أَخْرَجَتْ ما اشْتَمَلَ عليه الْعَامُّ كانت مُخَالِفَةً لِلْأُصُولِ التي يَجِبُ سَلَامَتُهَا عنه وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْمُخَصِّصَةَ له أَوْلَى لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ الِاعْتِبَارُ السَّادِسُ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ وهو بِأُمُورٍ أَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ في الْعِلَّةِ بِأَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَصْلِهِ على وَفْقِ الْأُصُولِ الْمُمَهَّدَةِ في الشَّرْعِ فَيُرَجَّحُ على مُوَافَقَةِ أَصْلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ وُجُودَهَا في الْأُصُولِ الْكَثِيرَةِ دَلِيلٌ على قُوَّةِ اعْتِبَارِهَا في نَظَرِ الشَّرْعِ فَهِيَ أَوْلَى وَهَذَا ما صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ كما لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ في الرِّوَايَةِ عِنْدَهُ أَمَّا إذَا كانت إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ فُرُوعًا من الْأُخْرَى فَهَلْ الْكَثِيرَةُ أَوْلَى لِكَثْرَةِ فَائِدَتِهَا أو هُمَا سِيَّانِ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن السَّمْعَانِيِّ وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بِتَقْدِيمِ الْكَثِيرَةِ وَزَيَّفَهُ الْغَزَالِيُّ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُتَعَدِّيَةِ على الْقَاصِرَةِ تَلَقَّيْنَاهُ من مَسْلَكِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم ولم يَظْهَرْ ذلك عِنْدَ كَثْرَةِ الْفُرُوعِ ثَانِيهَا يُرَجَّحُ الْمُوَافِقُ لِلْأُصُولِ في الْحُكْمِ بِأَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَصْلِهِ على وَفْقِ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ على ما ليس كَذَلِكَ لِلِاتِّفَاقِ على الْأَوَّلِ ثَالِثُهَا يُرَجَّحُ الذي يَكُونُ مُطَّرِدًا في الْفُرُوعِ بِأَنْ يَلْزَمَ الْحُكْمُ عليه في جَمِيعِ الصُّوَرِ على ما ليس كَذَلِكَ
رَابِعُهَا انْضِمَامُ عِلَّةٍ أُخْرَى إلَيْهَا لِأَنَّهَا تُزِيدُ قُوَّةَ الظَّنِّ وَالْحُكْمَ في الْمُجْتَهَدَاتِ بِقُوَّةِ الظَّنِّ وَاخْتَارَهُ في الْقَوَاطِعِ وَحُكِيَ عن أبي زَيْدٍ تَصْحِيحُ عَدَمِ التَّرْجِيحِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَقَوَّى إلَّا بِصِفَةٍ في ذَاتِهِ أَمَّا بِانْضِمَامِ غَيْرِهِ إلَيْهِ فَلَا خَامِسُهَا أَنْ يَكُونَ مع إحْدَاهُمَا فَتْوَى صَحَابِيٍّ فَيُرَجَّحُ على ما ليس كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِمَّا يُثِيرُ الظَّنَّ بِاجْتِمَاعِهِمَا وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في تَفَارِيعِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ فَإِنْ جَعَلْنَا مَذْهَبَهُ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً كان هذا من التَّرْجِيحِ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَإِنْ قُلْنَا ليس بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا فَهَلْ تَكُونُ له مَزِيَّةُ تَرْجِيحِ الدَّلِيلِ أو لَا اخْتَلَفُوا على ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ بِمَزِيَّةٍ كَغَيْرِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي وَالثَّانِي نعم مُطْلَقًا وَالثَّالِثُ وهو رَأْيُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ ذلك الصَّحَابِيُّ مَشْهُورًا بِالْمَزِيَّةِ في ذلك الْفَنِّ كَزَيْدٍ في الْفَرَائِضِ وَعَلِيٍّ في الْقَضَاءِ اقْتَضَى التَّرْجِيحَ وَإِلَّا فَلَا وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى الشَّافِعِيِّ وَبَنَى الْإِبْيَارِيُّ الْخِلَافَ على قَوْلِ الْمُصَوِّبَةِ وَالْمُخَطِّئَةِ فقال على قَوْلِ التَّصْوِيبِ بِعَدَمِ التَّرْجِيحِ وَعَلَى الثَّانِي بِالتَّرْجِيحِ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَرَاتِبَ أَرْبَعًا أَعْلَاهَا الشَّهَادَةُ لِزَيْدٍ في الْفَرَائِضِ لِأَنَّهَا تَامَّةٌ ثُمَّ يَلِيهِ مُعَاذٌ ثُمَّ يَلِيه عَلِيٌّ ثُمَّ يَلِيهِ الشَّيْخَانِ في قَوْلِهِ اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ من بَعْدِي ثُمَّ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ في الْأَقْضِيَةِ كَقَوْلِ زَيْدٍ في الْفَرَائِضِ وَقَوْلُ مُعَاذٍ في الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إذَا لم يَتَعَلَّقْ بِالْفَرَائِضِ كَقَوْلِ زَيْدٍ في الْفَرَائِضِ
مَبَاحِثُ الِاجْتِهَادِ والتقليد ( ( ( وأركانه ) ) ) والفتوى ( ( ( ثلاثة ) ) )
الْأَوَّلُ نَفْسُ الِاجْتِهَادِ وهو لُغَةً افْتِعَالٌ من الْجَهْدِ وهو الْمَشَقَّةُ وهو الطَّاقَةُ وَيَلْزَمُ من ذلك أَنْ يَخْتَصَّ هذا الِاسْمُ بِمَا فيه مَشَقَّةٌ لِتَخْرُجَ عنه الْأُمُورُ الضَّرُورِيَّةُ التي تُدْرَكُ ضَرُورَةً من الشَّرْعِ إذْ لَا مَشَقَّةَ في تَحْصِيلِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ ذلك من الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وفي الِاصْطِلَاحِ بَذْلُ الْوُسْعِ في نِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِي بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ فَقَوْلُنَا بَذْلُ أَيْ بِحَيْثُ يُحِسُّ من نَفْسِهِ الْعَجْزَ عن مَزِيدِ طَلَبٍ حتى لَا يَقَعَ لَوْمٌ في التَّقْصِيرِ وَخَرَّجَ الشَّرْعِيُّ اللُّغَوِيَّ وَالْعَقْلِيَّ وَالْحِسِّيَّ فَلَا يُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مُجْتَهِدًا وَكَذَلِكَ الْبَاذِلُ وُسْعَهُ في نَيْلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عِلْمِيٍّ وَإِنْ كان قد يُسَمَّى عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مُجْتَهِدًا وَإِنَّمَا قُلْنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ بَذْلُ الْوُسْعِ في نَيْلِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ من النُّصُوصِ ظَاهِرًا أو بِحِفْظِ الْمَسَائِلِ وَاسْتِعْلَامِهَا من الْمَعْنَى أو بِالْكَشْفِ عنها من الْكُتُبِ فإنه وَإِنْ سُمِّيَ اجْتِهَادًا فَهُوَ لُغَةً لَا اصْطِلَاحًا وَسَبَقَ في أَوَّلِ الْقِيَاسِ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ بِمَعْنًى وَقِيلَ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عليه قال ابن السَّمْعَانِيِّ وهو أَلْيَقُ بِكَلَامِ الْفُقَهَاءِ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ اسْمُ الِاجْتِهَادِ يَقَعُ في الشَّرْعِ على ثَلَاثَةِ مَعَانٍ أَحَدُهَا الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا لم تَكُنْ مُوجِبَةَ الْحُكْمِ لِجَوَازِ وُجُودِهَا خَالِيَةً منه لم يُوجِبْ ذلك الْعِلْمَ بِالْمَطْلُوبِ فَلِذَلِكَ كان طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَالثَّانِي ما يَغْلِبُ في الظَّنِّ من غَيْرِ عِلَّةٍ كَالِاجْتِهَادِ في الْمِيَاهِ وَالْوَقْتِ وَالْقِبْلَةِ وَتَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ وَالْمُتْعَةِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذلك وَالثَّالِثُ الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ
مَسْأَلَةٌ قال الشِّهْرِسْتَانِيّ في الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ الِاجْتِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ حتى لو اشْتَغَلَ بِتَحْصِيلِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ الْفَرْضُ عن الْجَمِيعِ وَإِنْ قَصَّرَ منه أَهْلُ عَصْرٍ عَصَوْا بِتَرْكِهِ وَأَشْرَفُوا على خَطَرٍ عَظِيمٍ فإن الْأَحْكَامَ الِاجْتِهَادِيَّةَ إذَا كانت مُتَرَتِّبَةً على الِاجْتِهَادِ تَرْتِيبَ الْمُسَبَّبِ على السَّبَبِ ولم يُوجَدْ السَّبَبُ كانت الْأَحْكَامُ عَاطِلَةً وَالْآرَاءُ كُلُّهَا مُتَمَاثِلَةً فَلَا بُدَّ إذًا من مُجْتَهِدٍ قُلْت وَسَيَأْتِي في مَسْأَلَةِ جَوَازِ خُلُوِّ الْعَصْرِ عن الْمُجْتَهِدِ ما يُنَازَعُ في ذلك مَسْأَلَةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ في الْحَوَادِثِ خِلَافًا لِلنَّظَّامِ وَخِلَافُهُ فيه وفي الْقِيَاسِ وَاحِدٌ كما قَالَهُ الرَّازِيَّ وَإِنْكَارُهُ مُكَابَرَةٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مَسْأَلَةٌ وما يُوجِبُهُ الِاجْتِهَادُ هل يُسَمَّى دِينُ اللَّهِ فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْقِيَاسِ حَكَاهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ قال وَالصَّحِيحُ نعم تَنْبِيهٌ ما ذَكَرْتُهُ من جَعْلِ الِاجْتِهَادِ رُكْنًا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَنَازَعَ فيه الْعَبْدَرِيّ وقال رُكْنُ الشَّيْءِ غَيْرُ الشَّيْءِ الثَّانِي الْمُجْتَهِدُ الْفَقِيهُ وهو الْبَالِغُ الْعَاقِلُ ذُو مَلَكَةٍ يَقْتَدِرُ بها على اسْتِنْتَاجِ الْأَحْكَامِ من مَأْخَذِهَا وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ من ذلك بِشُرُوطٍ أَوَّلُهَا إشْرَافُهُ على نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ قَصَّرَ في أَحَدِهِمَا لم يَجُزْ له أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْكِتَابِ بَلْ ما يَتَعَلَّقُ فيه بِالْأَحْكَامِ
قال قال الْغَزَالِيُّ وابن الْعَرَبِيِّ وهو مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن بَعْضِهِمْ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا مُقَاتِلَ بن سُلَيْمَانَ أَوَّلَ من أَفْرَدَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ في تَصْنِيفٍ وَجَعَلَهَا خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ الظَّاهِرَةَ لَا الْحَصْرَ فإن دَلَالَةَ الدَّلِيلِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ فَيَخْتَصُّ بَعْضُهُمْ بِدَرْكِ ضَرُورَةٍ فيها وَلِهَذَا عُدَّ من خَصَائِصِ الشَّافِعِيِّ التَّفَطُّنُ لِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى وما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا على أَنَّ من مَلَكَ وَلَدَهُ عَتَقَ عليه وقَوْله تَعَالَى امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ على صِحَّةِ أَنْكِحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِ ذلك من الْآيَاتِ التي لم تُسَقْ لِلْأَحْكَامِ وقد نَازَعَهُمْ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا وقال هو غَيْرُ مُنْحَصِرٍ في هذا الْعَدَدِ بَلْ هو مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْأَذْهَانِ وما يَفْتَحُهُ اللَّهُ على عِبَادِهِ من وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطِ وَلَعَلَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ على الْأَحْكَامِ دَلَالَةً أَوَّلِيَّةً بِالذَّاتِ لَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ قُلْت وَمَنْ أَرَادَ التَّحْقِيقَ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ الْإِمَامِ عِزِّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ ما يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَلَا يُشْتَرَطُ ما فيها من الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ وإذا كان عَالِمًا بِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِتِلَاوَتِهِ قال في الْقَوَاطِعِ ذَهَبَ كَثِيرٌ من أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ الْحَافِظَ أَضْبَطُ لِمَعَانِيهِ من النَّاظِرِ فيه وقال آخَرُونَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَحْفَظَ ما فيه من الْأَمْثَالِ وَالزَّوَاجِرِ وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْحِفْظُ وَجَرَى عليه الرَّافِعِيُّ وَثَانِيهَا مَعْرِفَةُ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ من السُّنَنِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَقِيلَ إنَّهَا خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ وقال ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ هِيَ ثَلَاثَةُ آلَافِ سُنَّةٍ وَشَدَّدَ أَحْمَدُ وقال أبو الضَّرِيرِ قُلْت له كَمْ يَكْفِي الرَّجُلَ من الحديث حتى يُمْكِنُهُ أَنْ يُفْتِيَ يَكْفِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ قال لَا قُلْت مِائَتَا أَلْفٍ قال لَا قُلْت ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ قال لَا قُلْت أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ قال لَا قُلْت خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ قال أَرْجُو وفي رِوَايَةٍ قُلْت فَثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ قال لَعَلَّهُ وَكَأَنَّ مُرَادَهُ بهذا الْعَدَدِ آثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَطُرُقُ الْمُتُونِ وَلِهَذَا قال من لم يَجْمَعْ طُرُقَ الحديث لَا يَحِلُّ له الْحُكْمُ على الحديث وَلَا الْفُتْيَا بِهِ وقال بَعْضُ أَصْحَابِهِ ظَاهِرُ هذا أَنَّهُ لَا يَكُونُ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حتى يَحْفَظَ هذا
الْقَدْرَ وهو مَحْمُولٌ على الِاحْتِيَاطِ وَالتَّغْلِيظِ في الْفُتْيَا أو يَكُونُ أَرَادَ وَصْفَ أَكْمَلِ الْفُقَهَاءِ فَأَمَّا ما لَا بُدَّ منه فَقَدْ قال أَحْمَدُ الْأُصُولُ التي يَدُورُ عليها الْعِلْمُ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ السُّنَنِ وَإِلَّا لَا نَسُدُّ بَابَ الِاجْتِهَادِ وقد اجْتَهَدَ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وَغَيْرُهُ من الصَّحَابَةِ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ ولم يَسْتَحْضِرُوا فيها النُّصُوصَ حتى رَوَيْت لهم فَرَجَعُوا إلَيْهَا قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُهُ جَمِيعَ ما وَرَدَ في ذلك الْبَابِ إذْ لَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَلَوْ تُصُوِّرَ لِمَا حَضَرَ ذِهْنَهُ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ جَمِيعُ ما رُوِيَ فيه وقال الْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ من الْأُصُولِيِّينَ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَصْلٌ يَجْمَعُ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ كَسُنَنِ أبي دَاوُد وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ أو أَصْلٌ وَقَعَتْ الْعِنَايَةُ فيه بِجَمْعِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَيَكْتَفِي فيه بِمَوَاقِعِ كل بَابٍ فَيُرَاجِعُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ وَتَبِعَهُ على ذلك الرَّافِعِيُّ وَنَازَعَهُ النَّوَوِيُّ وقال لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أبي دَاوُد فإنه لم يَسْتَوْعِبْ الصَّحِيحَ من أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَلَا مُعْظَمَهَا وَكَمْ في صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ من حَدِيثٍ حُكْمِيٍّ ليس في سُنَنِ أبي دَاوُد انْتَهَى وَكَذَا قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أبي دَاوُد ليس بِجَيِّدٍ عِنْدَنَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَحْوِي السُّنَنَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا والثاني أَنَّ في بَعْضِهِ ما لَا يُحْتَجُّ بِهِ في الْأَحْكَامِ انْتَهَى وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حِفْظُ السُّنَنِ بِلَا خِلَافٍ لِعُسْرِهِ وَلَا يَجْرِي الْخِلَافُ في حِفْظِ الْقُرْآنِ هَاهُنَا وَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الْمُتَوَاتِرِ من الْآحَادِ لِيُمَيِّزَ بين ما يَقْطَعُ بِهِ منها وما لَا يَقْطَعُ وَثَالِثُهَا الْإِجْمَاعُ فَلْيَعْرِفْ مَوَاقِعَهُ حتى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ حِفْظُ جَمِيعِهِ بَلْ كُلُّ مَسْأَلَةٍ يُفْتِي فيها يَعْلَمُ أَنَّ فَتْوَاهُ لَيْسَتْ مُخَالِفَةً لِلْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا يُوَافِقُهُ مَذْهَبُ عَالِمٍ أو تَكُونُ الْحَادِثَةُ مُوَلَّدَةً وَلَا بُدَّ مع ذلك أَنْ يَعْرِفَ الِاخْتِلَافَ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ وَفَائِدَتُهُ حتى لَا يُحْدِثَ قَوْلًا يُخَالِفُ أَقْوَالَهُمْ فَيَخْرُجَ بِذَلِكَ عن الْإِجْمَاعِ وَرَابِعُهَا الْقِيَاسُ فَلْيَعْرِفْهُ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ فإنه مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ وَأَصْلُ الرَّأْيِ وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الْفِقْهُ
وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ في بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَمَنْ لَا يَعْرِفُ ذلك لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِنْبَاطُ في تِلْكَ الْمَوَاضِعِ نعم إنْ جَوَّزْنَا تَجَزُّؤَ الِاجْتِهَادِ فَهَذِهِ الْحَاجَةُ لَا تَعُمُّ وَالْمَسَائِلُ التي تَرْجِعُ إلَى النَّصِّ لَا يُحْتَاجُ إلَى ذلك فيها قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ قال وَيَلْزَمُ من اشْتِرَاطِ هذا أَنْ لَا يَكُونَ الظَّاهِرِيَّةُ النُّفَاةُ لِلْقِيَاسِ مُجْتَهِدِينَ وَخَامِسُهَا كَيْفِيَّةُ النَّظَرِ فَلْيَعْرِفْ شَرَائِطَ الْبَرَاهِينِ وَالْحُدُودِ وَكَيْفِيَّةَ تَرْكِيبِ الْمُقَدَّمَاتِ وَيَسْتَفْتِحُ الْمَطْلُوبَ لِيَكُونَ على بَصِيرَةٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَصْلُهُ اشْتِرَاطُ الْغَزَالِيُّ مَعْرِفَتَهُ بِعِلْمِ الْمَنْطِقِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ في اشْتِرَاطِ ذلك على حَسَبِ ما يَقَعُ اصْطِلَاحُ أَرْبَابِ هذا الْفَنِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِعِلْمِنَا بِأَنَّ الْأَوَّلِينَ من الْمُجْتَهِدِينَ لم يَكُونُوا خَائِضِينَ فيه وَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ ما يَتَوَقَّفُ عليه تَصْحِيحُ الدَّلِيلِ وَمَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ لَا بُدَّ من اعْتِبَارِهِ وَسَادِسُهَا أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ لُغَةً وَنَحْوًا وَتَصْرِيفًا فَلْيَعْرِفْ الْقَدْرَ الذي يَفْهَمُ بِهِ خِطَابَهُمْ وَعَادَتَهُمْ في الِاسْتِعْمَالِ إلَى حَدٍّ يُمَيِّزُ بِهِ بين صَرِيحِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ وَمُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ وَحَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَيَكْفِيهِ من اللُّغَةِ أَنْ يَعْرِفَ غَالِبَ الْمُسْتَعْمَلِ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبَحُّرُ وَمِنْ النَّحْوِ الذي يَصِحُّ بِهِ التَّمْيِيزُ في ظَاهِرِ الْكَلَامِ كَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْخَافِضِ وَالرَّافِعِ وما تَتَّفِقُ عليه الْمَعَانِي في الْجَمْعِ وَالْعَطْفِ وَالْخِطَابِ وَالْكِنَايَاتِ وَالْوَصْلِ وَالْفَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ الْإِشْرَافُ على دَقَائِقِهِ وقال ابن حَزْمٍ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ يَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ ما في كِتَابِ الْجُمَلِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ وَيَفْصِلُ بين ما يَخْتَصُّ منها بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ لِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي بِاخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ الدَّاخِلَةِ عليها قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَاشْتِرَاطُ الْأَصْلِ فيه مُتَعَيَّنٌ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ عَرَبِيَّةٌ مُتَوَقِّفَةٌ على مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ نعم لَا يُشْتَرَطُ التَّوَسُّعُ الذي أُحْدِثَ في هذا الْعِلْمِ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ ما يَتَوَقَّفُ عليه فَهْمُ الْكَلَامِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَمَعْرِفَةُ لِسَانِهِ فَرْضٌ على كل مُسْلِمٍ من مُجْتَهِدٍ وَغَيْرِهِ وقد قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ على كل مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ من لِسَانِ الْعَرَبِ ما يَبْلُغُهُ جَهْدُهُ في أَدَاءِ فَرْضِهِ وقال في الْقَوَاطِعِ مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ فَرْضٌ على الْعُمُومِ في جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا أَنَّهُ في حَقِّ الْمُجْتَهِدِ على الْعُمُومِ في إشْرَافِهِ على الْعِلْمِ بِأَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ أَمَّا في حَقِّ غَيْرِهِ من الْأُمَّةِ فَفَرْضٌ فِيمَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِهِ في الصَّلَاةِ من الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ
الْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ إحَاطَةُ الْمُجْتَهِدِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ تَتَعَذَّرُ لِأَنَّ أَحَدًا من الْعَرَبِ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ لُغَاتِهِمْ فَكَيْفَ نُحِيطُ نَحْنُ قُلْنَا لِسَانُ الْعَرَبِ وَإِنْ لم يُحِطْ بِهِ وَاحِدٌ من الْعَرَبِ فإنه يُحِيطُ بِهِ جَمِيعُ الْعَرَبِ كما قِيلَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ من يَعْرِفُ كُلَّ الْعِلْمِ قال كُلُّ الناس وَاَلَّذِي يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِأَكْثَرِهِ وَيَرْجِعُ فِيمَا عَزَبَ عنه إلَى غَيْرِهِ كَالْقَوْلِ في السُّنَّةِ وقد زَلَّ كَثِيرٌ بِإِغْفَالِهِمْ الْعَرَبِيَّةَ كَرِوَايَةِ الْإِمَامِيَّةِ ما تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً بِالنَّصْبِ وَالْقَدَرِيَّةُ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى بِنَصَبِ آدَمَ وَنَظَائِرُهُ وَيَلْحَقُ بِالْعَرَبِيَّةِ التَّصْرِيفُ لِمَا يَتَوَقَّفُ عليه من مَعْرِفَةِ أَبْنِيَةِ الْكَلِمِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا كما في بَابِ الْمُجْمَلِ من لَفْظِ مُخْتَارٍ وَنَحْوِهِ فَاعِلًا وَمَفْعُولًا وَسَابِعُهَا مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مُخَالَفَةَ أَنْ يَقَعَ في الْحُكْمِ بِالْمَنْسُوخِ الْمَتْرُوكُ وَلِهَذَا قال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لِقَاضٍ أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ قال لَا قال هَلَكْت وَأَهْلَكْت وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ وُجُوهِ النَّصِّ في الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ وَالْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ فَإِنْ قَصَّرَ فيها لم يَجُزْ وَثَامِنُهَا مَعْرِفَةُ حَالِ الرُّوَاةِ في الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَتَمْيِيزُ الصَّحِيحِ عن الْفَاسِدِ وَالْمَقْبُولِ عن الْمَرْدُودِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ وَيَقُولُ على قَوْلِ أَئِمَّةِ الحديث كَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبِي دَاوُد لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ فَجَازَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمْ كما نَأْخُذُ بِقَوْلِ الْمُقَوِّمِينَ في الْقِيَمِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا مُضْطَرٌّ إلَيْهِ في الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ على الْأَحَادِيثِ التي هِيَ في بَابِ الْآحَادِ فإنه الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إلَى مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ من السَّقِيمِ قال الصَّيْرَفِيُّ وَمَنْ عَرَفَ هذه الْعُلُومَ فَهُوَ في الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا وَمَنْ قَصَّرَ عنه فَمِقْدَارُهُ ما أَحْسَنَ وَلَنْ يَجُوزُ أَنْ يُحِيطَ بِجَمِيعِ هذه الْعُلُومِ أَحَدٌ غَيْرُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو مُتَفَرِّقٌ في جُمْلَتِهِمْ وَالْغَرَضُ اللَّازِمُ من عِلْمِ ما وَصَفْت ما لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ بِتَرْكِ فِعْلِهِ وَكُلَّمَا
ازْدَادَ عِلْمًا ازْدَادَ مَنْزِلَةً قال اللَّهُ تَعَالَى وَفَوْقَ كل ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال وَالشَّرْطُ في ذلك كُلِّهِ مَعْرِفَةُ جُمَلِهِ لَا جَمِيعِهِ حتى لَا يَبْقَى عليه شَيْءٌ لِأَنَّ هذا لم نَرَهُ في السَّادَةِ الْقُدْوَةِ من الصَّحَابَةِ فَقَدْ كان يَخْفَى على كَثِيرٍ من أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فَيَعْرِفُونَهَا من الْغَيْرِ وقال الْغَزَالِيُّ وَهَذِهِ الْعُلُومُ التي يُسْتَفَادُ منها مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ وَعِظَمُ ذلك يَشْتَمِلُ على ثَلَاثِهِ فُنُونٍ الحديث وَاللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وقال الْإِمَامُ أَهَمُّ الْعُلُومِ لِلْمُجْتَهِدِ أُصُولُ الْفِقْهِ وَشَرَطَ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَبِأَنَّنَا مُكَلَّفُونَ وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ فيه الْفِطْنَةَ وَالذَّكَاءَ لِيَصِلَ بِهِمَا إلَى مَعْرِفَةِ الْمَسْكُوتِ عنه من أَمَارَاتِ الْمَنْطُوقِ فَإِنْ قُلْت فيه الْفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ لم يَصِحَّ وَشَرَطَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَغَيْرُهُمْ الْعَدَالَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ على قَوْلِهِ قالوا وَأَمَّا هو في نَفْسِهِ إذَا كان عَالِمًا فَلَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ وَيَأْخُذَ بِاجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ فَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ لِقَبُولِ الْفَتْوَى لَا لِصِحَّةِ الِاجْتِهَادِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ رُكْنٌ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ إنْ قَصَدَ بِالِاجْتِهَادِ الْعِلْمَ صَحَّ اجْتِهَادُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ عَدْلًا وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا كانت الْعَدَالَةُ شَرْطًا في نُفُوذِ حُكْمِهِ وَقَبُولِ فُتْيَاهُ لِأَنَّ شَرَائِطَ الْحُكْمِ أَغْلَظُ من شَرَائِطِ الْفُتْيَا قال ابن السَّمْعَانِيِّ لَكِنْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ ثِقَةً مَأْمُونًا غير مُتَسَاهِلٍ في أَمْرِ الدِّينِ قال وما ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ من عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ مُرَادُهُمْ بِهِ ما وَرَاءَ هذا وَاخْتَلَفُوا في اشْتِرَاطِ تَبَحُّرِهِ في أُصُولِ الدِّينِ على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ أَحَدُهُمَا الِاشْتِرَاطُ وهو قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ والثاني لَا يُشْتَرَطُ بَلْ من أَشْرَفَ منه على وَصْفِ الْمُؤْمِنِ كَفَاهُ قال وَعَلَى هذا الْقَوْلِ جُلُّ أَصْحَابِ كُتُبِ الحديث وَالْفِقْهِ وَغَيْرُهُمْ وَأَطْلَقَ الرَّازِيَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْكَلَامِ وَفَصَّلَ الْآمِدِيُّ فَشَرَطَ الضَّرُورِيَّاتِ كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ وما يَسْتَحِقُّهُ وُجُوبُ وُجُودِهِ لِذَاتِهِ وَالتَّصْدِيقُ بِالرَّسُولِ وما جاء بِهِ لِيَكُونَ فِيمَا يُسْنِدُهُ إلَيْهِ من الْأَحْكَامِ مُحِقًّا وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِدَقَائِق الْكَلَامِ وَلَا بِالْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ وَأَجْوِبَتِهَا كَالنَّحَارِيرِ من عُلَمَائِهِ وَكَلَامُ الرَّازِيَّ مَحْمُولٌ على هذا التَّفْصِيلِ وَاخْتَلَفُوا في اشْتِرَاطِ التَّفَارِيعِ في الْفِقْهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ وَكَيْفَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا وهو الذي يُوَلِّدُهَا بَعْدَ حِيَازَةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا
لِمَا تَقَدَّمَ وُجُودُهُ عليها وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وأبو مَنْصُورٍ إلَى اشْتِرَاطِهِ وَحَمَلَ على اشْتِرَاطِ مُمَارَسَتِهِ الْفِقْهَ كما صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فقال إنَّمَا يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ في زَمَانِنَا بِمُمَارَسَتِهِ فَهُوَ طَرِيقُ تَحْصِيلِ الدُّرْبَةِ في هذا الزَّمَانِ ولم يَكُنْ الطَّرِيقُ في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَكَلَامُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ يُخَالِفُهُ فإنه قال يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ بِجُمَلٍ من فُرُوعِ الْفِقْهِ يُحِيطُ بِالْمَشْهُورِ وَبِبَعْضِ الْغَامِضِ كَفُرُوعِ الْحَيْضِ وَالرَّضَاعِ وَالدَّوْرِ وَالْوَصَايَا وَالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الْمُتَعَلِّقِ بِالْحِسَابِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِأَنَّ منها ما لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الْجَوَابِ منه إلَّا بِالْحِسَابِ وَكَذَلِكَ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَالضَّرْبِ وَالْقِسْمَةِ لَا بُدَّ منه وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ في غَالِبِ الْأَمْرِ مُتَمَكِّنًا من اقْتِبَاسِ الْأَحْكَامِ منها عَارِفًا بِحَقَائِقِهَا وَرُتَبِهَا عَالِمًا بِتَقْدِيمِ ما يَتَقَدَّمُ منها وَتَأْخِيرِ ما يَتَأَخَّرُ وقد عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عن الشُّرُوطِ كُلِّهَا بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ جَامِعَةٍ فقال من عَرَفَ كِتَابَ اللَّهِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا اسْتَحَقَّ الْإِمَامَةَ في الدِّينِ وَلَيْسَ من شَرْطِ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَرِدُ عليه فَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عن أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فقال في سِتٍّ وَثَلَاثِينَ لَا أَدْرِي وَكَثِيرًا ما يقول الشَّافِعِيُّ لَا أَدْرِي وَتَوَقَّفَ كَثِيرٌ من الصَّحَابَةِ في مَسَائِلَ وقال بَعْضُهُمْ من أَفْتَى في كل ما سُئِلَ عنه فَهُوَ مَجْنُونٌ وَهَذَا كُلُّهُ في الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ أَمَّا الْمُجْتَهِدُ في حُكْمٍ خَاصٍّ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى قُوَّةِ قَامَةٍ في النَّوْعِ الذي هو فيه مُجْتَهِدٌ فَمَنْ عَرَفَ طُرُقَ النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ له أَنْ يَجْتَهِدَ في مَسْأَلَةٍ قِيَاسِيَّةٍ وَإِنْ لم يَعْرِفْ غَيْرَهُ وَكَذَا الْعَالِمُ بِالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ هذا بِنَاءً على جَوَازِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ وهو الصَّحِيحُ كما سَيَأْتِي وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الْمُقَيَّدُ الذي لَا يَعْدُو مَذْهَبَ إمَامٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ عليه غَيْرُ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ إمَامِهِ وَلْيُرَاعِ فيها ما يُرَاعِيهِ الْمُطْلَقُ في قَوَانِينِ الشَّرْعِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ من عَرَفَ مَأْخَذَ إمَامٍ وَاسْتَقَلَّ بِإِجْرَاءِ الْمَسَائِلِ على قَوَاعِدِهِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَوَاعِدُ مِمَّا يَخْتَصُّ بها ذلك الْإِمَامُ وَبَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ معه فَهَذَا يُمْكِنُ فيه الِاجْتِهَادُ الْمُقَيَّدُ وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ التي لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ كَكَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذلك من الْقَوَاعِدِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ فَتَنَبَّهْ لِهَذَا وقد اسْتَقَلَّ قَوْمٌ من الْمُقَلِّدِينَ بِبِنَاءِ أَحْكَامٍ على أَحَادِيثَ غَيْرِ صَحِيحَةٍ مع أَنَّ تِلْكَ
الْأَحْكَامَ غَيْرُ مَنْصُوصَةٍ لِإِمَامِهِمْ وَهُمْ يَحْتَاجُونَ في هذا إلَى ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ فإذا قَصَّرُوا عنه لم يَكُنْ لهم ذلك ولم يَجُزْ أَنْ تُنْسَبَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ إلَى ذلك الْإِمَامِ انْتَهَى وَهَذَا مَوْضِعٌ نَفِيسٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ له وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ في التَّعَرُّضِ لِمَسْأَلَةٍ غَيْرِ مَنْصُوصَةٍ لِلْإِمَامِ ذَكَرَهَا بَعْضُ أَتْبَاعِهِ مُحْتَجًّا فيها بِقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ فَيَظُنُّ الْوَاقِفُ أَنَّ ذلك مَذْهَبُ ذلك الْإِمَامِ لِكَوْنِ ذلك الْمُسْتَنْبَطِ من جُمْلَةِ مُقَلِّدِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَسْأَلَةٌ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ في كل مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ بَلْ فِيمَا هو منها خَفِيٌّ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بَذْلُ الْوُسْعِ فَيَطْلُبَهَا لِأَنَّهَا تُنَالُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ مَسْأَلَةٌ لَمَّا لم يَكُنْ بُدٌّ من تَعَرُّفِ حُكْمِ اللَّهِ في الْوَقَائِعِ وَتَعَرُّفُ ذلك بِالنَّظَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ على التَّعْيِينِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُجْتَهِدِ من فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ في كل قُطْرٍ ما تَقُومُ بِهِ الْكِفَايَاتُ وَلِهَذَا قالوا إنَّ الِاجْتِهَادَ من فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ قال ابن الصَّلَاحِ وَاَلَّذِي رَأَيْت في كَلَامِ الْأَئِمَّةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ قال وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى في الْفَتْوَى وَإِنْ لم يَتَأَدَّ بِهِ في آحَادِ الْعُلُومِ التي منها الِاسْتِمْدَادُ في الْفَتْوَى قال بَعْضُهُمْ الِاجْتِهَادُ في حَقِّ الْعُلَمَاءِ على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ 1 فَرْضُ عَيْنٍ 2 وَفَرْضُ كِفَايَةٍ 3 وَنَدْبٌ فَالْأَوَّلُ على حَالَيْنِ أَحَدُهُمَا اجْتِهَادُهُ في حَقِّ نَفْسِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ والثاني اجْتِهَادُهُ فِيمَا تَعَيَّنَ عليه الْحُكْمُ فيه فَإِنْ ضَاقَ فَرْضُ الْحَادِثَةِ كان على الْفَوْرِ وَإِلَّا على التَّرَاخِي وَالثَّانِي على حَالَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْتَفْتِي حَادِثَةٌ فَاسْتَفْتَى أَحَدَ الْعُلَمَاءِ تَوَجَّهَ الْفَرْضُ على جَمِيعِهِمْ وَأَخَصُّهُمْ بِمَعْرِفَتِهَا من خُصَّ بِالسُّؤَالِ عنها فَإِنْ أَجَابَ هو أو غَيْرُهُ سَقَطَ الْفَرْضُ وَإِلَّا أَثِمُوا جميعا لَكِنْ حَكَى أَصْحَابُنَا وَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا كان هُنَاكَ غَيْرُ الْمُفْتِي هل يَأْثَمُ بِالرَّدِّ أَصَحُّهُمَا لَا وَالثَّانِي إنْ تَرَدَّدَ الْحُكْمُ بين قَاضِيَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ في النَّظَرِ فَيَكُونُ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا تَفَرَّدَ بِالْحُكْمِ فيه سَقَطَ فَرْضُهُ عنهما وَالثَّالِثُ على حَالَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيمَا يَجْتَهِدُ فيه الْعَالِمُ من غَيْرِ النَّوَازِلِ
لِيَسْبِقَ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ قبل نُزُولِهِ والثاني أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ قبل نُزُولِهَا مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عن الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَجَزَمَ بِهِ في الْمَحْصُولِ وقال الرَّافِعِيُّ الْخَلْقُ كَالْمُتَّفِقِينَ على أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ من الْإِمَامِ الرَّازِيَّ أو من قَوْلِ الْغَزَالِيِّ في الْوَسِيطِ قد خَلَا الْعَصْرُ عن الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ وَنَقْلُ الِاتِّفَاقِ فيه عَجِيبٌ وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَسَاعَدَهُمْ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَقِيهَ الْفَطِنَ الْقَيَّاسَ كَالْمُجْتَهِدِ في حَقِّ الْعَامِّيِّ لَا النَّاقِلِ فَقَطْ وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عن مُجْتَهِدٍ وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَالزُّبَيْرِيُّ في الْمُسْكِتِ فقال الْأُسْتَاذُ وَتَحْتَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ لَا يُخْلِي اللَّهُ زَمَانًا من قَائِمٍ بِالْحُجَّةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَهُمْ ذلك وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لو خَلَّى زَمَانًا من قَائِمٍ بِحُجَّةٍ زَالَ التَّكْلِيفُ إذْ التَّكْلِيفُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْحُجَّةِ الظَّاهِرَةِ وإذا زَالَ التَّكْلِيفُ بَطَلَتْ الشَّرِيعَةُ وقال الزُّبَيْرِيُّ لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ من قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ في كل وَقْتٍ وَدَهْرٍ وَزَمَانٍ وَلَكِنَّ ذلك قَلِيلٌ في كَثِيرٍ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ غير مَوْجُودٍ كما قال الْخَصْمُ فَلَيْسَ بِصَوَابٍ لِأَنَّهُ لو عَدِمَ الْفُقَهَاءُ لم تَقُمْ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا وَلَوْ عُطِّلَتْ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا لَحَلَّتْ النِّقْمَةُ بِذَلِكَ في الْخَلْقِ كما جاء في الْخَبَرِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا على شِرَارِ الناس وَنَحْنُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ نُؤَخَّرَ مع الْأَشْرَارِ انْتَهَى وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ هذا هو الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا لَكِنْ إلَى الْحَدِّ الذي يُنْتَقَضُ بِهِ الْقَوَاعِدُ بِسَبَبِ زَوَالِ الدُّنْيَا في آخَرِ الزَّمَانِ وقال في شَرْحِ خُطْبَةِ الْإِلْمَامِ وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو من قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ وَالْأُمَّةُ الشَّرِيفَةُ لَا بُدَّ لها من سَالِكٍ إلَى الْحَقِّ على وَاضِحِ الْمُحَجَّةِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ في أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى وَيَتَتَابَعُ بَعْدَهُ ما بَقِيَ معه إلَى قُدُومِ الْأُخْرَى وَمُرَادُهُ بِالْأَشْرَاطِ الْكُبْرَى طُلُوعُ الشَّمْسِ من مَغْرِبِهَا مَثَلًا وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ وهو أَنَّ الْخُلُوَّ من مُجْتَهِدٍ يَلْزَمُ منه إجْمَاعُ الْأُمَّةِ على الْخَطَأِ وهو تَرْكُ الِاجْتِهَادِ الذي هو فَرْضُ كِفَايَةٍ وقال وَالِدُهُ الْعَلَّامَةُ مَجْدُ الدِّينِ في كِتَابِهِ تَلْقِيحِ الْأَفْهَامِ عز الْمُجْتَهِدُ في هذه الْأَعْصَارِ وَلَيْسَ ذلك لِتَعَذُّرِ حُصُولِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ بَلْ لِإِعْرَاضِ الناس
في اشْتِغَالِهِمْ عن الطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ إلَى ذلك وَتَوْقِيفُ الْفُتْيَا على حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ فَالْمُخْتَارُ قَبُولُ فَتْوَى الرَّاوِي عن الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كما سَيَأْتِي وقال جَدُّهُ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ أبو الْعِزِّ الْمُقْتَرَحِ مُعْتَرِضًا على قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ لَا يَجُوزُ انْحِطَاطُ الْعُلَمَاءِ إنْ أَرَادَ الْمُجْتَهِدِينَ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذلك في الْعَادَةِ وَزَمَانُنَا هذا قد يَشْغَرُ منهم وَإِنْ أَرَادَ بِهِ النَّقَلَةَ فَهَذَا يُتَّجَهُ فإن الْعَادَةَ لم تَقْضِ بِانْحِطَاطِهِمْ وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ على نَقْلِ الْأَحَادِيثِ وَلَفْظِ الْمَذَاهِبِ وَنَقْلِ الْقُرْآنِ نعم إنْ فَتَرَتْ الدَّوَاعِي وَقَلَّتْ الْهِمَمُ فَيَجُوزُ شُغُورُ الزَّمَانِ عَنْهُمْ ولم يُوجَدْ ذلك انْتَهَى وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وقد خَلَا الْعَصْرُ عن الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ فَقَدْ سَبَقَهُ إلَيْهِ الْقَفَّالُ شَيْخُ الْخُرَاسَانِيِّينَ فَقِيلَ الْمُرَادُ مُجْتَهِدٌ قَائِمٌ بِالْقَضَاءِ فإن الْمُحَقِّقِينَ من الْعُلَمَاءِ كَانُوا يَرْغَبُونَ عنه وَلَا يَلِي في زَمَانِهِمْ غَالِبًا إلَّا من هو دُونَ ذلك وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ على الْأَعْصَارِ بِخُلُوِّهَا عن مُجْتَهِدٍ وَالْقَفَّالُ نَفْسُهُ كان يقول لِلسَّائِلِ في مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ تَسْأَلُ عن مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ ما عِنْدِي وقال هو وَالشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ لَسْنَا مُقَلِّدَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ بَلْ وَافَقَ رَأْيُنَا رَأْيَهُ فَمَاذَا كَلَامُ من يَدَّعِي رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ ولم يَخْتَلِفْ اثْنَانِ أَنَّ ابْنَ عبد السَّلَامِ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ كما قَالَهُ ابن الرِّفْعَةِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَصْرَ خَلَا عن الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ لَا عن مُجْتَهِدٍ في مَذْهَبِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وقد وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بين الْمُسْلِمِينَ على أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ في هذه الْمَذَاهِبِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِغَيْرِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الِاجْتِهَادُ إلَّا فيها مَسْأَلَةٌ الصَّحِيحُ جَوَازُ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ مُجْتَهِدًا في بَابٍ دُونَ غَيْرِهِ وَعَزَاهُ الْهِنْدِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ وَحَكَاهُ صَاحِبُ النُّكَتِ عن أبي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وهو الْمُخْتَارُ لِأَنَّهُ قد يُمْكِنُ الْعِنَايَةُ بِبَابٍ من الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ حتى يَحْصُلَ الْمَعْرِفَةُ بِمَأْخَذِ أَحْكَامِهِ وإذا حَصَلَتْ الْمَعْرِفَةُ بِالْمَأْخَذِ أَمْكَنَ الِاجْتِهَادُ وقال الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ بِمَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ في بَابٍ دُونَ بَابٍ وَالنَّاظِرُ في مَسْأَلَةِ الْمُشَارَكَةِ تَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفَرَائِضِ وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ في تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ مَثَلًا
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى الْمَنْعِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ في نَوْعٍ من الْفِقْهِ رُبَّمَا كان أَصْلُهَا نَوْعًا آخَرَ منه كَتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ تَحْلِيلَ الْخَمْرِ بِالِاسْتِعْجَالِ فَلَا تَكْتَمِلُ شَرَائِطُ الِاجْتِهَادِ في جُزْءٍ حتى يَسْتَقِلَّ بِالْفُنُونِ كُلِّهَا وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ في هذا أَنَّهُ هل يُعْتَبَرُ خِلَافُ الْأُصُولِيِّ في الْفِقْهِ فَإِنْ قُلْنَا يَتَجَزَّأُ اُعْتُبِرَ خِلَافُهُ وَإِلَّا فَلَا قِيلَ وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ إذَا عَرَفَ بَابًا دُونَ بَابٍ أَمَّا مَسْأَلَةً دُونَ مَسْأَلَةٍ فَلَا تَتَجَزَّأُ قَطْعًا وَالظَّاهِرُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ في الصُّورَتَيْنِ وَبِهِ صَرَّحَ الْإِبْيَارِيُّ وَتَوَسَّطَ فقال إنْ أَجْمَعُوا في مَسْأَلَةٍ على ضَبْطِ مَآخِذِهَا وكان النَّاظِرُ الْمَخْصُوصُ مُحِيطًا بِالنَّظَرِ في تِلْكَ الْمَآخِذِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فيها وَإِلَّا لم يَصِحَّ بِنَاءً على ما سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ حتى تَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَفِقْدَانُ الْمُعَارِضِ من الشَّرِيعَةِ فإذا لم يَكُنْ النَّاظِرُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ يَجْزِمُ أو يَظُنُّ قال أبو الْمَعَالِي بن الزَّمْلَكَانِيِّ الْحَقُّ التَّفْصِيلُ فما كان من الشُّرُوطِ كُلِّيًّا كَقُوَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَمَعْرِفَةِ مَجَارِي الْكَلَامِ وما يُقْبَلُ من الْأَدِلَّةِ وما يُرَدُّ وَنَحْوُهُ فَلَا بُدَّ من اسْتِجْمَاعِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل دَلِيلٍ وَمَدْلُولٍ فَلَا تَتَجَزَّأُ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ وما كان خَاصًّا بِمَسْأَلَةٍ أو مَسَائِلَ أو بَابٍ فإذا اسْتَجْمَعَهُ الْإِنْسَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذلك الْبَابِ أو تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أو الْمَسَائِلِ مع الْأَهْلِيَّةِ كان فَرْضُهُ في ذلك الْجُزْءِ الِاجْتِهَادَ دُونَ التَّقْلِيدِ
فَصْلٌ في الْمُجْتَهِدِ من الْقُدَمَاءِ وَمَنْ الذي حَازَ الرُّتْبَةَ منهم ذَكَرَهُ إلْكِيَا وهو فَصْلٌ عَظِيمُ النَّفْعِ فإن مَذَاهِبَهُمْ نُقِلَتْ إلَيْنَا وَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الْمُجْتَهِدِ منهم لِيُعْلَمَ من الذي تُعْتَبَرُ فَتْوَاهُ وَمَنْ يَقْدَحُ الْإِجْمَاعُ مُخَالَفَتَهُ وَمَنْ لَا يَقْدَحُ قال اعْلَمْ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةَ لَا شَكَّ في حِيَازَتِهِمْ هذه الرُّتْبَةَ وَأُلْحِقَ بِهِمْ أَهْلُ الشُّورَى الَّذِينَ جَعَلَهُمْ عُمَرُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قال وَأَمَّا أبو هُرَيْرَةَ فَقَدْ مَالَ الْأَكْثَرُونَ إلَى إخْرَاجِهِ عن أَحْزَابِ الْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّهُ لم يُنْقَلْ عنه التَّصَدِّي لِلْفَتْوَى وَإِنَّمَا كان يَتَصَدَّى لِلرِّوَايَةِ وَتُوُقِّفَ في ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما إذْ لم يُنْقَلْ عنه التَّصَدِّي لِلْفَتْوَى وَأَمَّا ابن مَسْعُودٍ فَكَانَ فَقِيهَ الصَّحَابَةِ وَمُنْتَدَبًا لِلْفَتْوَى وَكَذَلِكَ ابن عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بن ثَابِتٍ مِمَّنْ شَهِدَ الرَّسُولُ بِأَنَّهُ أَفْرَضُ الْأَئِمَّةِ وَالْمُعْتَبَرُ تَصَدِّيهِ لِهَذَا الْمَعْنَى من غَيْرِ نَكِيرٍ أو شَهَادَةُ الرَّسُولِ وَمُرَاجَعَةُ الْأَوَّلِينَ له وَبَعْدَ النُّزُولِ عن هذه الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ لِلشَّافِعِيِّ وَقْفَةٌ في الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَيَقُولُ فِيهِمَا وَاعِظٌ وَمُعَبِّرٌ ولم يَرَهُمَا مُتَصَدِّيَيْنِ لِهَذَا الشَّأْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا من الْمُجْتَهِدِينَ فَإِنَّهُمَا كَانَا يُفْتِيَانِ على ما قَالَهُ السَّلَفُ وقال ابن بَرْهَانٍ أَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الْمَشْهُورِينَ منهم من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَأَسَامِيهِمْ مَعْلُومَةٌ في التَّوَارِيخِ وَلَا شَكَّ في كَوْنِ الْعَشَرَةِ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ من انْتَشَرَتْ فَتَاوِيهِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَثُرَتْ فَتَاوِيهِمْ وَنُقِلَ عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ قالوا أبو هُرَيْرَةَ وابن عُمَرَ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ لَيْسُوا فُقَهَاءَ وَإِنَّمَا هُمْ رُوَاةُ أَحَادِيثَ وهو بَاطِلٌ فإن ابْنَ عُمَرَ أَفْتَى في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَتَأَهَّلَ لِلْإِمَامَةِ فَزَهِدَ فيها وأبو هُرَيْرَةَ وَلِيَ الْقَضَاءَ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ أَفْتَيَا في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ اشْتَهَرَ الْمُجْتَهِدُونَ فِيهِمْ كَسَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَالْأَوْزَاعِيِّ
وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وقد نُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ وقد نُقِلَ أَنَّهُ قال في الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَاعِظٌ وَمُعَبِّرٌ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا بَاطِلٌ فإن الْحَسَنَ أَفْتَى في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وابن سِيرِينَ كَذَلِكَ وقد شَهِدَ لَهُمَا أَهْلُ عَصْرِهِمَا بِالْجَلَالَةِ وَالْإِمَامَةِ وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ فَأَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ وَلَا مَحَالَةَ وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ الْخَمْسَةُ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ وقد اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ في الْمُزَنِيّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وَابْنِ سُرَيْجٍ فَمِنْهُمْ من أَلْحَقَ هَؤُلَاءِ بِرُتْبَةِ الْمُجْتَهِدِينَ في الدِّينِ وَمِنْهُمْ من جَعَلَهُمْ من الْمُجْتَهِدِينَ في الْمَذَاهِبِ قُلْت وما ذَكَرَهُ إلْكِيَا في أبي هُرَيْرَةَ تَابَعَ فيه الْقَاضِي فإنه قال إنَّهُ لم يَكُنْ مُفْتِيًا وَإِنَّمَا كان من الرُّوَاةِ وَالصَّوَابُ ما قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وقد ذَكَرَهُ ابن حَزْمٍ في الْفُقَهَاءِ من الصَّحَابَةِ وقال عبد الْعَزِيزِ الْحَنَفِيُّ في التَّحْقِيقِ كان أبو هُرَيْرَةَ فَقِيهًا ولم يَعْدَمْ شيئا من أَسْبَابِ الِاجْتِهَادِ وقد كان يُفْتِي في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وما كان يُفْتِي في ذلك الزَّمَانِ إلَّا فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ وقد جَمَعَ الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ السُّبْكِيُّ جُزْءًا في فَتَاوَى أبي هُرَيْرَةَ قال في الْمَنْخُولِ وَالضَّابِطُ عِنْدَنَا فيه أَنَّ كُلَّ من عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ تَصَدَّى لِلْفَتْوَى في أَعْصَارِ الصَّحَابَةِ ولم يُمْنَعْ عنه فَهُوَ من الْمُجْتَهِدِينَ وَمَنْ لم يَتَصَدَّ له قَطْعًا فَلَا وَمَنْ تَرَدَّدْنَا في ذلك فيه تَرَدَّدْنَا في صِفَتِهِ وقد انْقَسَمَتْ الصَّحَابَةُ إلَى مُتَنَسِّكِينَ لَا يَعْتَنُونَ بِالْعِلْمِ وَإِلَى مُعْتَنِينَ بِهِ فَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ وَلَا مَطْمَعَ في عَدِّ آحَادِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ الضَّابِطِ وهو الضَّابِطُ أَيْضًا في التَّابِعِينَ وَعَدَّ ابن حَزْمٍ في الْأَحْكَامِ فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ فَبَلَغَ بِهِمْ مِائَةً وَنَيِّفًا وَهَذَا حَيْفٌ وقد قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في طَبَقَاتِهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ الْمُلَازِمِينَ لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَانُوا فُقَهَاءَ لِأَنَّ طَرِيقَ الْفِقْهِ فِيهِمْ خِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَفْعَالُهُ وَكَانُوا عَارِفِينَ بِذَلِكَ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ وَلِهَذَا قال أبو عُبَيْدٍ في كِتَابِ الْمَجَازِ لم يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا من الصَّحَابَةِ رَجَعَ في تَفْسِيرِ شَيْءٍ من الْقُرْآنِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلِهَذَا قال أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ غير أَنَّ الذي اشْتَهَرَ منهم بِالْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ جَمَاعَةٌ مَخْصُوصَةٌ
فَصْلٌ في زَمَانِهِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ في جَوَازِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ غير النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا أَنْ يَكُونَ في غَيْرِ زَمَنِ النُّبُوَّةِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا في جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعُوا على أَنَّهُ كان يَجُوزُ لهم أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِح الدُّنْيَا وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا وقد فَعَلُوا ذلك كما قال سُلَيْمٌ وَكَذَلِكَ ابن حَزْمٍ وَمَثَّلَهُ بِإِرَادَةِ النبي عليه السَّلَامُ أَنْ يُصَالِحَ غَطَفَانَ على ثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ فَهَذَا مُبَاحٌ لِأَنَّ لهم أَنْ يَهَبُوا من أَمْوَالِهِمْ ما أَحَبُّوا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ في تَلْقِيحِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُلَقِّحَ نَخْلَةً وَأَنْ يَتْرُكَهَا قال وقد أخبرني بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَرَكَ ثِمَارَهُ سِنِينَ دُونَ تَأْبِيرٍ فَاسْتَغْنَى عنه انْتَهَى فَأَمَّا اجْتِهَادُهُمْ في أَمْرِ الشَّرْعِ فَاخْتَلَفُوا أَنَّهُ هل كان لهم أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيمَا لَا نَصَّ فيه على مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ ليس لهم ذلك لِقُدْرَتِهِمْ على النَّصِّ بِنُزُولِ الْوَحْيِ وقد قال تَعَالَى إنْ هو إلَّا وَحْيٌ يُوحَى وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ على النُّطْقِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَصْحَابِ الرَّأْيِ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ كُلُّ من نَفَى الْقِيَاسَ أَحَالَ تَعَبُّدَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِهِ قُلْت وهو ظَاهِرُ اخْتِيَارِ ابْنِ حَزْمٍ وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان إذَا سُئِلَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ وَيَقُولُ ما أُنْزِلَ عَلَيَّ في هذا الشَّيْءِ ذَكَرَ ذلك في حديث زَكَاةِ الْحُمُرِ وَمِيرَاثِ الْبَنِينَ مع الزَّوْجِ وَالْعَمَّةِ قال وَلَنَا أَخْذُهُ عليه السَّلَامُ الْفِدَاءَ ثُمَّ نَزَلَ عِتَابُهُ عليه فَلَا يُنْكِرُ أَنْ يُفْعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما لم يَتَقَدَّمْ نَهْيُ رَبِّهِ تَعَالَى فيه إلَّا أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ بَلْ لَا بُدَّ من تَنْبِيهِهِ عليه
قُلْت ثُمَّ قِيلَ هو مُمْتَنِعٌ عَقْلًا حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَذَهَبَ أبو عَلِيٍّ وَابْنُهُ أبو هَاشِمٍ إلَى أَنَّهُ لم يَكُنْ مُتَعَبَّدًا بِهِ وَتَوَقَّفَ فيه كَثِيرُونَ منهم الرَّازِيَّ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كما قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَسُلَيْمٌ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ منهم الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالْقَاضِيَانِ أبو يُوسُفَ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ وأبو الْحُسَيْنِ وَالْقَاضِي في التَّقْرِيبِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِنَبِيِّنَا وَغَيْرِهِ من الْأَنْبِيَاءِ عليهم السَّلَامُ ذلك وَأَوْمَأَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ نَبِيَّهُ كما خَاطَبَ عِبَادَهُ وَضَرَبَ له الْأَمْثَالَ وَأَمَرَهُ بِالتَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وهو أَجَلُّ الْمُتَفَكِّرِينَ في آيَاتِ اللَّهِ وَأَعْظَمُ الْمُعْتَبِرِينَ بها وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى إنْ هو إلَّا وَحْيٌ يُوحَى فَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُمْ قالوا إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ سَلَّمْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنُّطْقِ وَلَا يَلْزَمُ منه ما ذَكَرْتُمْ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الشَّرْعِيَّ مَأْذُونٌ فيه وَالدَّلِيلُ عليه في الْآرَاءِ وَالْحُرُوبِ كَثِيرٌ كَقَتْلِهِ النَّضْرَ وَنَحْوَهُ في الْأُمُورِ التي تَحَرَّى فيها وَاخْتَارَ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ من غَيْرِهِ لِعِصْمَتِهِ من الْخَطَأِ فإذا جَازَ لِغَيْرِهِ الذي هو عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلْكَامِلِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالِاجْتِهَادِ أَشَقُّ من الْعَمَلِ بِالْيَقِينِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا وَالثَّالِثُ الْوَقْفُ عن الْقَطْعِ بِشَيْءٍ من ذلك لِجَوَازِهِ كُلِّهِ وَزَعَمَ الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِ الرِّسَالَةِ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ حَكَى الْأَقْوَالَ ولم يَخْتَرْ شيئا فقال ما سَنَّ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مِمَّا ليس فيه نَصُّ كِتَابٍ اخْتَلَفُوا فيه فَمِنْهُمْ من قال جَعَلَ اللَّهُ له ذلك لِعِلْمِهِ بِتَوْفِيقِهِ وَمِنْهُمْ من قال لم يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ إلَّا وَلَهَا أَصْلٌ في الْكِتَابِ وَمِنْهُمْ من قال بَلْ جَاءَتْهُ رِسَالَةُ اللَّهِ فَأَثْبَتَ سُنَّتَهُ بِفَرْضِ اللَّهِ وَمِنْهُمْ من قال أُلْقِيَ في رُوعِهِ كُلُّ ما سَنَّ انْتَهَى لَكِنَّهُ قال بَعْدَ هذا في بَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قال قال بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وفي قَوْله تَعَالَى ما يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ من تِلْقَاءِ نَفْسِي دَلَالَةٌ على أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِرَسُولِهِ أَنْ يَقُولَ من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِتَوْفِيقِهِ فِيمَا لم يَنْزِلْ بِهِ كِتَابٌ قال قِيلَ في قَوْله تَعَالَى يَمْحُو اللَّهُ ما يَشَاءُ وَيُثْبِتُ يَمْحُو فَرْضَ ما يَشَاءُ وَيُثْبِتُ فَرْضَ ما يَشَاءُ قال الشَّافِعِيُّ وَهَذَا يُشْبِهُ ما قِيلَ انْتَهَى وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ في الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا ثَالِثُهَا وَاخْتَارَهُ في كِتَابِ الْقَضَاءِ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ ذلك الْحُكْمُ مِمَّا يُشَارِكُ فيه الْأُمَّةَ كَتَحْرِيمِ الْكَلَامِ في الصَّلَاةِ وَالْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ فَلَيْسَ له أَنْ يَجْتَهِدَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَمْرِ الشَّخْصِ لِنَفْسِهِ وَبَيَّنَ أَنْ لَا يُشَارِكَهُمْ فيه كَمَنْعِ تَوْرِيثِ الْقَاتِلِ وَحَدِّ الشَّارِبِ وَقِيلَ يَجُوزُ لِنَبِيِّنَا دُونَ غَيْرِهِ
وَأَمَّا وُقُوعُهُ فَاخْتَلَفُوا فيه على أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى وُقُوعِهِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَتَدُلُّ عليه قِصَّةُ سُلَيْمَانَ وَدَاوُد وَقَوْلُهُ لِعُمَرَ أَرَأَيْت لو تَمَضْمَضْت وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ له إلَّا الْإِذْخِرَ فقال إلَّا الْإِذْخِرَ فَلَوْ كان بِالْوَحْيِ لَمَا تَأَخَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ وَمِنْهُمْ من أَنْكَرَ وُقُوعَهُ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ فقال كان لَا يَجْتَهِدُ في الْقَوَاعِدِ وكان يَجْتَهِدُ في الْفُرُوعِ كَقَوْلِهِ أَرَأَيْت لو تَمَضْمَضْت وَاخْتَارَهُ في الْمَنْخُولِ وَمِنْهُمْ من تَوَقَّفَ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فقال في الْمُسْتَصْفَى وهو الْأَصَحُّ فإنه لم يَثْبُتْ فيه قَاطِعٌ وَالْمُنْكِرُونَ لِلْوُقُوعِ قالوا السُّنَّةُ كُلُّهَا وَحْيٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُتْلَى وَالْقُرْآنُ وَحْيٌ يُتْلَى وفي السُّنَنِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال أَلَا إنِّي أُوتِيت الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ معه وفي حديث الذي سَأَلَهُ عن الْعُمْرَةِ فَأَخَذَهُ ما كان يَأْخُذُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ ثُمَّ سُرِّيَ عنه فقال اصْنَعْ في عُمْرَتِك ما تَصْنَعُ في حَجَّتِك وهو حَدِيثٌ صَحِيحٌ وهو دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ على
أَنَّ السُّنَّةَ كانت تَنْزِلُ كما يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وهو أَخْذُ نُزُولِ الْوَحْيِ وَأَعْظَمُهَا وَصَرَّحَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الرِّسَالَةِ بِأَنَّ السُّنَّةَ مُنْزَلَةٌ كَالْقُرْآنِ وفي الحديث بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَالْمَسْأَلَةُ مُتَجَاذِبَةٌ وَلَيْسَ فيها كَثِيرُ فَائِدَةٍ فإنه على كل حَالٍ يَجِبُ الْأَخْذُ بها وَطَاعَتُهَا كَالْقُرْآنِ وَمِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْوُقُوعِ قَوْلُهُ إلَّا الْإِذْخِرَ عَقِيبَ ما قِيلَ له إلَّا الْإِذْخِرَ وَنَحْوُ ذلك وَلَيْسَ قَاطِعًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَوْحَى إلَيْهِ في تِلْكَ اللَّحْظَةِ وَادَّعَى الْقَرَافِيُّ في أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ في الْفَتَاوَى وَأَنَّ الْأَقْضِيَةَ يَجُوزُ فيها بِلَا نِزَاعٍ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَيَأْتِي وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ إنْ أُرِيدَ بِاجْتِهَادِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الِاسْتِدْلَال بِالنُّصُوصِ على مُرَادِ اللَّهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ قَطْعًا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِدْلَال بِالْأَمَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنْ كان أَخْبَارُ آحَادٍ فَلَا يَتَأَتَّى منه عليه السَّلَامُ وَإِنْ كانت أَمَارَاتٌ مُسْتَنْبَطَةٌ وَهِيَ التي يُجْمَعُ بها بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ في أَنَّهُ هل كان يَجُوزُ له أَنْ يَتَعَبَّدَ بِهِ عليه وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ فُرُوعٌ الْأَوَّلُ إذَا جَوَّزْنَا فَهَلْ كان يَجِبُ عليه فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن أبي هُرَيْرَةَ في تَعْلِيقِهِ في الْأَقْضِيَةِ وَصَحَّحَ الْوُجُوبَ وَكَذَا حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ في الْأَقْضِيَةِ ثُمَّ قال وَالْأَصَحُّ عِنْدِي التَّفْصِيلُ بين حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَيَجِبُ عليه لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى حُقُوقِهِمْ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ وَلَا يَجِبُ في حُقُوقِ اللَّهِ الثَّانِي إذَا اجْتَهَدَ فَهَلْ يَسْتَبِيحُ الِاجْتِهَادُ بِرَأْيِهِ أو يَرْجِعُ فيها إلَى دَلَائِلِ الْكِتَابِ على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ في اجْتِهَادِهِ إلَى الْكِتَابِ لِأَنَّ سُنَنَهُ أَصْلٌ كَالْكِتَابِ وقال الْغَزَالِيُّ يَجُوزُ الْقِيَاسُ على الْفَرْعِ الذي قَاسَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَلَى كل فَرْعٍ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ قال لِأَنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ فَلَا يُعْطَى إلَى مَآخِذِهِمْ الثَّالِثُ إذَا جَوَّزْنَا له الِاجْتِهَادَ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ الْخَطَأُ إلَى اجْتِهَادِهِ لِأَنَّهُ لو جَازَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فيه وهو يُنَافِي كَوْنَهُ خَطَأً وَالْمَسْأَلَةُ قد نَصَّ عليها الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ فقال في كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَالِاجْتِهَادُ في الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ وَلَنْ يُؤْمَرَ الناس أَنْ يَتَّبِعُوا إلَّا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ الذي عَصَمَهُ اللَّهُ من الْخَطَأِ وَبَرَّأَهُ اللَّهُ منه فقال وَإِنَّك
لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَأَمَّا من رَأْيُهُ خَطَأٌ وَصَوَابٌ فَلَنْ يُؤْمَرَ أَحَدٌ بِاتِّبَاعِهِ انْتَهَى وقال ابن فُورَكٍ هو مَعْصُومٌ في اجْتِهَادِهِ كما هو مَعْصُومٌ في خَبَرِهِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَصْحَابِنَا وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ عِنْدَنَا وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ الْحَلِيمِيُّ في شُعَبِ الْإِيمَانِ فقال في خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنْهَا الْعِصْمَةُ من الْخَطَأِ في الِاجْتِهَادِ وَخُصُّوا بِأَدِلَّاءٍ حتى تَتَّسِعَ الضُّرُوبُ من الِاسْتِنْبَاطِ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ وإذا تَفَاوَتَتْ الْعُلَمَاءُ من أَجْلِهِ في ذلك فَالنَّبِيُّ هو الذي أَعْلَمَ الْعُلَمَاءَ أَوْلَى بِالِارْتِقَاءِ فيه وقد قال بَعْضُهُمْ أَنَّ عَامَّةَ سُنَنِ الرَّسُولِ تَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذلك لَا يَقِفُ عليه الْعُلَمَاءُ وَإِنْ بَذَلُوا الْجَهْدَ فيه فَهُوَ إذًا يَفْهَمُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهْمًا لَا يَبْلُغُهُ فَهْمُ غَيْرِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى وَقِيلَ يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُقَرَّ عليه وهو اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَالْخَطَّابِيُّ في أَعْلَامِ الحديث عن أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَجَعَلَهُ عُذْرًا لِعُمَرَ في الْكِتَابِ الذي أَرَادَ النبي أَنْ يَكْتُبَهُ وَارْتِضَاءُ الرَّافِعِيِّ في الْعَدَدِ في الْكَلَامِ عن سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عن الْوَفَاةِ وَكَذَا ابن حَزْمٍ في الْإِحْكَامِ قال كَفِعْلِهِ بِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إذْ أُنْزِلَتْ عَبَسَ قُلْت وهو قَوْلٌ لَا نُورَ عليه وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ غَيْرُ صَوَابٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْرِيرُ عليه وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ من الْخَطَأِ في الِاجْتِهَادِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ وهو مُقْتَضَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَهِدُونَ إلَّا عن دَلِيلٍ وَنَصٍّ والثاني الْمَنْعُ لَكِنْ لَا يُقِرُّهُمْ اللَّهُ عليه لِيَزُولَ الِارْتِيَابُ بِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ من الْعُلَمَاءِ مُقِرًّا عليه وهو مُقْتَضَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ بِالرَّأْيِ من غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِنَصٍّ وَقَالَا قال ابن أبي هُرَيْرَةَ نَبِيُّنَا عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومٌ في الِاجْتِهَادِ من الْخَطَأِ دُونَ غَيْرِهِ من الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَسْتَدْرِكُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ من الْأَنْبِيَاءِ قُلْت وَهَكَذَا رَأَيْتُهُ في تَعْلِيقِهِ في الْأَقْضِيَةِ
فَحَصَلَ في عِصْمَتِهِمْ في الِاجْتِهَادِ مَذَاهِبُ ثَالِثُهَا نَبِيُّنَا فَقَطْ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَهَذَا لَا وَجْهَ له لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مُقِرِّينَ على الْخَطَأِ في وَقْتِ التَّنْفِيذِ وَلَا يُمْهِلُونَ على التَّرَاخِي حتى يَسْتَدْرِكَهُ من بَعْدَهُمْ قُلْت وهو قَوْلٌ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وهو أَفْسَدُ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ الْخِلَافُ في غَيْرِ أُمُورِ الدُّنْيَا أَمَّا أُمُورُ الدُّنْيَا فَيَجُوزُ على الْكُلِّ لِحَدِيثِ التَّلْقِيحِ مَسْأَلَةٌ تَصَرُّفَاتُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنْحَصِرُ فِيمَا يَكُونُ بِالْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْفَتْوَى وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّهُ إنْ كان فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْثِ الْجُيُوشِ وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَهُوَ من تَصَرُّفِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى وَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِنْقَاذِهِ وَالْحُكْمِ بين الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ الْقَضَاءُ الذي يَتَوَلَّاهُ الْقُضَاةُ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْعِبَادَاتِ وَالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَهُوَ الْفَتْوَى وَالْخِلَافُ في الْكُلِّ ثُمَّ إذَا دَارَتْ الْحَادِثَةُ بين تَنْزِيلِهَا على الْقَضَاءِ أو على الْفَتْوَى فَعِنْدَنَا تَنْزِيلُهَا على الْقَضَاءِ أَوْلَى الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ في جَوَازِ الِاجْتِهَادِ من غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ في زَمَانِهِمْ كَاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ في عَصْرِ الرَّسُولِ وَالْكَلَامُ فيه في مَقَامَيْنِ الْجَوَازُ وَالْوُقُوعُ أَمَّا الْجَوَازُ فَمِنْهُمْ من مَنَعَ منه مُطْلَقًا وَنُقِلَ عن الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي هَاشِمٍ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى مُسْتَحِيلٍ فَإِنْ أَرَادُوا مَنْعَ الشَّرْعِ تَوَقَّفَ على الدَّلِيلِ فَهُوَ مَفْقُودٌ وَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ مُطْلَقًا وَبِهِ قال أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا كما نَقَلَهُ ابن فُورَكٍ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُمَا وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عن مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ منهم صَاحِبُ الْمُسْتَصْفَى وقال في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَمِنْهُمْ من فَصَلَ بين الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ
وَمِنْهُمْ من فَصَلَ بين الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ من فَصَلَ بين الْغَائِبِ عنه من الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ فَيَجُوزُ دُونَ الْحَاضِرِينَ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ ثُمَّ الْمُجَوِّزُونَ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ يُكْتَفَى بِسُكُوتِهِ عليه السَّلَامُ حَكَاهُ في الْمُسْتَصْفَى وَمِنْهُمْ من قال يَجُوزُ إنْ لم يُوجَدْ في ذلك مَنْعٌ قال الْهِنْدِيُّ وَلَيْسَ بِمَرَضِيٍّ لِأَنَّ ما بَعْدَهُ أَيْضًا كَذَلِكَ فلم تَكُنْ له خُصُوصِيَّةٌ بِزَمَانِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمِنْهُمْ من قال إنْ وَرَدَ الْإِذْنُ بِذَلِكَ جَازَ وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ من هَؤُلَاءِ من نَزَّلَ السُّكُوتَ على الْمَنْعِ منه مع الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ مَنْزِلَةَ الْإِذْنِ وَمِنْهُمْ من اشْتَرَطَ صَرِيحَ الْإِذْنِ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ ثُمَّ قال وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ الِاجْتِهَادُ قبل سُؤَالِ النبي عليه السَّلَامُ كما لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ قبل طَلَبِ النَّصِّ وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلسَّالِكِ في بَرِّيَّةٍ مَخُوفَةٍ أَنْ يَقُولَ على رَأْيِهِ مع تَمَكُّنِهِ من سُؤَالِ من يُخْبِرُهُ عن الطَّرِيقِ عن عِلْمٍ وإذا سَأَلَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكِلَهُ النبي عليه السَّلَامُ إلَى اجْتِهَادِهِ وَلَا مَانِعَ من ذلك عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وقال ابن فُورَكٍ يُشْتَرَطُ تَقْرِيرُهُ عليه قال وَيَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ مع النَّصِّ ثُمَّ يَتَأَمَّلُ فَإِنْ كان النَّصُّ بِخِلَافِهِ صِرْنَا إلَى النَّصِّ كَذَلِكَ يَجْتَهِدُ بِحَضْرَتِهِ فَإِنْ أَفْتَى عليه عَلِمْنَا أَنَّهُ حَقٌّ وَفَصَّلَ ابن حَزْمٍ في الْحَاضِرِ بين الِاجْتِهَادِ في الْأَحْكَامِ كَإِيجَابِ شَيْءٍ أو تَحْرِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ وقد أَفْتَى أبو السَّنَابِلِ بِاجْتِهَادِهِ في الْمُتَوَفَّى عنها الْحَامِلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَأَخْطَأَ وَأَمَّا غَيْرُ ذلك فَيَجُوزُ كَاجْتِهَادِهِمْ فِيمَا يَجْعَلُونَ عَلَمًا لِلدُّعَاءِ إلَى الصَّلَاةِ ولم يَكُنْ ذلك على إيجَابِ شَرِيعَةٍ تُلْزِمُ وَإِنَّمَا كان إيذَانًا من بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَاجْتَهَدَ قَوْمٌ بِحَضْرَتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَنْ هُمْ السَّبْعُونَ أَلْفًا الذي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَأَخْطَئُوا في ذلك حتى بَيَّنَ لهم النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من هُمْ ولم يُعَنِّفْهُمْ في اجْتِهَادِهِمْ قُلْت وإذا جَوَّزْنَا لِلْغَائِبِ فما ضَابِطُ الْغَيْبَةِ هل هِيَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ أَمْ لَا لم أَرَ فيه نَصًّا لَكِنْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ أَنَّهُ من بَعُدَ عنه بِفَرْسَخٍ أو
فَرَاسِخَ وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَاخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ فيه فَمِنْهُمْ من مَنَعَهُ لِقُدْرَتِهِ على الْيَقِينِ بِأَنْ يَسْأَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمِنْهُمْ من قال وَقَعَ ظَنًّا لَا قَطْعًا وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ بين الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ فقال وَقَعَ لِلْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْغَزَالِيُّ وابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ قال وهو اُسْتُبْشِعَ في الِاسْتِقَامَةِ وَأَمْيَلُ إلَى الِاقْتِصَادِ من حَيْثُ تَعَذُّرُ الْمُرَاجَعَةِ مع تَأَنِّي الدَّارِّ في كل وَاقِعَةٌ وقال عبد الْوَهَّابِ إنَّ الْأَقْوَى على أُصُولِ أَصْحَابِهِمْ وقال صَاحِبُ اللُّبَابِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَمِنْهُمْ من تَوَقَّفَ في الْحَاضِرِ وَقَطَعَ في الْغَائِبِ بِالْوُقُوعِ هذا حَاصِلُ ما في كُتُبِ الْأُصُولِ من الْأَقْوَالِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ في زَمَنِهِ له حَالَتَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ له وِلَايَةٌ كَعَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ وَمُعَاذِ بن جَبَلٍ حين بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ فَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُمَا لِأَنَّ مُعَاذًا قال أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي فَاسْتَصْوَبَهُ وَسَوَاءٌ اجْتَهَدَ في حَقِّ نَفْسِهِ أو غَيْرِهِ وَيَكُونُ اجْتِهَادُهُ أَمْرًا مُسَوَّغًا ما لم يَرِدْ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خِلَافُهُ ثَانِيهِمَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ وِلَايَةٌ فَلَهُ حَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَظْفَرَ بِأَصْلٍ من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ فَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُ في الرُّجُوعِ إلَيْهِمَا وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَدَرَ على النبي أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فيه لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ بِأَصْلٍ لَازِمٍ وثانيهما أَنْ يَعْدَمَ أَصْلًا من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ في حَقِّ غَيْرِهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ وَأَمَّا في حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنْ كان مِمَّا يَخَافُ فَوَاتَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ منه أَنْ يَشْرَعَ والثاني يَجُوزُ إنْ كان أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ وَعَلَى هذا فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ فيه لِوُجُودِ ما هو أَقْوَى منه فَعَلَى هذا لَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إذَا قَدِمَ الرَّسُولُ أَنْ يَسْأَلَهُ
الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاصِلًا في مَدِينَةِ الرَّسُولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَغَائِبًا عن مَحَلَّتِهِ فَإِنْ رَجَعَ في اجْتِهَادِهِ إلَى أَصْلٍ من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ صَحَّ وَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ لِأَنَّ الْعَجْلَانِيُّ سَأَلَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ عن قَذْفِ امْرَأَتِهِ بِمَا سَمَّاهُ فقال له حَدٌّ في ظَهْرِك إنْ لم تَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَا قِيلَ له فَتَوَقَّفَ فيه حتى نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ ولم يُنْكِرْ على من أَجَابَهُ وَإِنْ لم يَرْجِعْ الْمُجْتَهِدُ إلَى أَصْلٍ فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ وَجْهَانِ قال صَاحِبُ الْحَاوِي وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَصِحُّ اجْتِهَادُهُ في الْمُعَامَلَاتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ تَكْلِيفٌ فَتَتَوَقَّفُ على الْأَوَامِرِ بها وَالْمُعَامَلَاتُ تَخْفِيفٌ فَتُعْتَبَرُ النَّوَاهِي عنها الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاضِرًا في مَجْلِسِ الرَّسُولِ فَإِنْ أَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ صَحَّ اجْتِهَادُهُ كما حَكَمَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ في بَنِي قُرَيْظَةَ وَإِنْ لم يَأْمُرْهُ بِالِاجْتِهَادِ لم يَصِحَّ اجْتِهَادُهُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَيُقِرَّهُ عليه فَيَصِيرُ بِإِقْرَارِهِ عليه صَحِيحًا كما قال أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه بِحَضْرَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في سَلَبَ الْقَتِيلِ وقد أَخَذَهُ غَيْرُ قَاتِلِهِ قُلْت وفي مَعْنَى أَمْرِهِ بِهِ
الْمُشَاوَرَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَشَاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ وقد شَاوَرَهُمْ في أَمْرِ الْأَسْرَى وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ اجْتِهَادُهُمْ بِحَضْرَتِهِ لِيَعْرِضُوا عليه رَأْيَهُمْ فَإِنْ صَحَّ قَبِلَهُ وَإِلَّا رَدَّهُ كَبَحْثِ الطَّالِبِ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ وقد اجْتَهَدَ مُعَاذٌ في تَرْكِهِ قَضَاءَ الْغَائِبِ أَوَّلًا ثُمَّ الدُّخُولُ في الصَّلَاةِ وَرَضِيَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال قد سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ وَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه من مَحْوِ اسْمِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من الصَّحِيفَةِ وكان اجْتِهَادًا عَظِيمًا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَخَرَجَ من ذلك صُوَرٌ يَجُوزُ فيها الِاجْتِهَادُ بِحَضْرَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ من مَوْضِعِ الْخِلَافِ وقد احْتَجَّ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ على الْوُقُوعِ 1 بِقَضِيَّةِ أبو بَكْرٍ هذه وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَدَقَ ولم يَقُلْهُ الصِّدِّيقُ بِغَيْرِ الِاجْتِهَادِ 2 وَكَذَلِكَ حَكَّمَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سَعْدَ بن مُعَاذٍ في بَنِي قُرَيْظَةَ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ قال لقد حَكَمْت بِحُكْمِ اللَّهِ 3 وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَمَرَ عَمْرَو بن الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بن عَامِرٍ أَنْ يَحْكُمَا بين خَصْمَيْنِ وقال لَهُمَا إنْ أَصَبْتُمَا فَلَكُمَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتُمَا فَلَكُمَا حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ وفي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ نَظَرٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ ما حَاصِلُهُ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَتَلَ عَامَ حُنَيْنٍ مُشْرِكًا ثُمَّ إنَّهُ عليه السَّلَامُ قال من قَتَلَ قَتِيلًا له عليه بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ في كل مَرَّةٍ يَقُومُ أبو قَتَادَةَ فَلَا يَجِدُ من يَشْهَدُ له فلما كان الثَّالِثَةُ قال يا أَبَا قَتَادَةَ ما لَك قال فَقَصَصْت عليه الْقِصَّةَ فقال رَجُلٌ من الْقَوْمِ صَدَقَ يا رَسُولَ اللَّهِ سَلَبُ ذلك الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ من حَقِّهِ قال أبو بَكْرٍ الحديث وَظَاهِرُهُ أَنَّ الصِّدِّيقَ لم يَقُلْهُ بِالِاجْتِهَادِ بَلْ هو تَنْفِيذٌ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَأَمَّا الثَّانِي فَالنِّزَاعُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا وَقَعَتْ له وَاقِعَةٌ هل يَجِبُ عليه أَنْ يَسْأَلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِيُخْبِرَهُ كَغَالِبِ عَادَاتِهِمْ وَيَجُوزُ له أَنْ يَجْتَهِدَ فيها بِرَأْيِهِ مِمَّا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَتَحْكِيمُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ ليس من هذا الْقَبِيلِ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ فَوَّضَ إلَيْهِ الْحُكْمَ في وَاقِعَةٍ فَلَا يَلْزَمُ من ذلك جَوَازُ الِاجْتِهَادِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عليه السَّلَامُ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقِيلَ ليس له أَصْلٌ بَلْ رَوَى عبد بن حُمَيْدٍ في مُسْنَدِهِ عن يَزِيدَ بن الْحُبَابِ حدثه عن فَرَجِ بن فَضَالَةَ حدثني محمد بن عبد الْأَعْلَى عن أبيه عن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ عن أبيه أَنَّ خَصْمَيْنِ جَاءَا إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال اقْضِ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ أبو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ في كِتَابِ الْقُضَاةِ عن بَقِيَّةَ عن فَرَجِ بن فَضَالَةَ عن مُحَمَّدِ بن عبد اللَّهِ الْبَهْرَانِيِّ عن أبيه عن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ جاء خَصْمَانِ إلَى النبي ص فقال عليه السَّلَامُ اقْضِ بَيْنَهُمَا فَقُلْت يا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَوْلَى بِهِ قال وَإِنْ كان قُلْتَ ما أَقْضِي قال على أَنَّك إنْ أَصَبْتَ كان لَك عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتَ كان لَك حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَدَارُهُ على فَرَجٍ وقد ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ وَشَيْخُهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُوهُ مَجْهُولَانِ مع الِاخْتِلَافِ في اسْمِ أبيه وَالِاخْتِلَافُ هل هو عن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو أو عن أبيه وقد صَحَّحَ الْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ الحديث وَفِيهِ نَظَرٌ وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَادَى يوم انْصَرَفَ من الْأَحْزَابِ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا
دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ وقال آخَرُونَ لَا نُصَلِّي إلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ قال فما عَنَّفَ وَاحِدًا من الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفَقٌ عليه وَفِيهِ نَظَرٌ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّزَاعَ في أَنَّهُ هل يَجْتَهِدُ فِيمَا ليس مَنْصُوصًا عليه أو يُرَاجِعُ وَهَذَا اجْتِهَادٌ في نَصِّهِ عليه السَّلَامُ ما الْمُرَادُ بِهِ وقد يُقَالُ إنَّ الْمَقْصُودَ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ في الْجُمْلَةِ والثاني أَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ وقد سَبَقَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِ لهم وَمِمَّا يَدُلُّ على الْجَوَازِ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ قال أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي وَصَوَّبَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَدِيثُ بَعْثِهِ عليه السَّلَامُ عَلِيًّا قَاضِيًا وقال لَا عِلْمَ لي بِالْقَضَاءِ فقال اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ أَخْرَجَهُ أبو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وابن مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ وَعَنْ زَيْدِ بن أَرْقَمَ أَنَّ رَجُلًا من أَهْلِ الْيَمَنِ حَدَّثَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّ ثَلَاثَةً وَقَعُوا على امْرَأَةٍ في طُهْرٍ فَأَتَوْا عَلِيًّا يَخْتَصِمُونَ في الْوَلَدِ فقال أَنْتُمْ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ أَرَى أَنْ نُقْرِعَ بَيْنَكُمْ فَقَرَعَ أَحَدُهُمْ فَدَفَعَ إلَيْهِ الْوَلَدَ فقال عليه السَّلَامُ ما أَعْلَمُ فيها إلَّا ما قال عَلِيٌّ وَرَوَى أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ على شَرْطِهِمَا عن ابْنِ أبي لَيْلَى عن مُعَاذٍ قال كان الناس على عَهْدِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا سُبِقَ الرَّجُلُ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ سَأَلَهُمْ فَأَوْمَئُوا إلَيْهِ بِاَلَّذِي سُبِقَ فقال عليه السَّلَامُ اصْنَعُوا كما صَنَعَ مُعَاذٌ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْحُكْمَ تَغَيَّرَ من يَوْمئِذٍ وَأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذلك بِاجْتِهَادِهِ بِأَمْرِهِ عليه السَّلَامُ وَنُسِخَ بِهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ بَلْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ هذا الحديث في مُعْجَمِهِ بِسَنَدٍ على شَرْطِهِمَا إلَّا فُلَيْحًا فَعَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُهُ عن مُعَاذٍ قال فَجِئْت يَوْمًا وقد سُبِقْت وَأُشِيرَ إلَيَّ بِاَلَّذِي سُبِقْت بِهِ فقلت لَا أَجِدُهُ على حَالٍ كُنْت عليها فَكُنْت بِحَالِهِمْ التي وَجَدْتُهُمْ عليها فلما فَرَغَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قُمْتُ فَصَلَّيْتُ وَاسْتَقْبَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الناس وقال من الْقَائِلُ كَذَا وَكَذَا قالوا مُعَاذٌ فقال قد سَنَّ لَكُمْ فَاقْتَدُوا بِهِ إذَا جاء أحدكم
وقد سُبِقَ بِشَيْءٍ من الصَّلَاةِ فَلِيُصَلِّ مع الْإِمَامِ بِصَلَاتِهِ فإذا فَرَغَ الْإِمَامُ فَلْيَقْضِ ما سَبَقَهُ بِهِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُوَافَقَةِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رَبَّهُ عز وجل في صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فَدَلَّ ذلك على جَوَازِ الِاجْتِهَادِ بِحَضْرَتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَائِدَةٌ قال الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَا ثَمَرَةَ له في الْفِقْهِ وَاعْتَرَضَهُ ابن الْوَكِيلِ وقال بَلْ في مَسَائِلَ الْفِقْهِ ما يُبْنَى عليه من ذلك ما إذَا شَكَّ في نَجَاسَةِ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ وَمَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ فَفِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا يَجْتَهِدُ وَلَا يُكَلِّفُ الْغَيْرَ بِدَلِيلِ طَهَارَتِهِ من الْإِنَاءِ الْمَظْنُونِ طَهَارَتُهُ وهو على شَاطِئِ الْبَحْرِ وَهَذَا قَوْلُ من يُجَوِّزُ الِاجْتِهَادَ في زَمَنِهِ الثَّانِي لَا وهو قَوْلُ من يَمْنَعُ الِاجْتِهَادَ وَكَذَلِكَ من اجْتَهَدَ في دُخُولِ الْوَقْتِ هل تَجُوزُ له الصَّلَاةُ مع الْقُدْرَةِ على تَمَكُّنِ الْوَقْتِ وَرُجْحَانُ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ فيها أَقْوَى من التي قَبْلَهَا وقال بَعْضُهُمْ هذا التَّرْجِيحُ وَهْمٌ فَالْقَادِرُ على سُؤَالِ الرَّسُولِ لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ قَادِرٌ على الْيَقِينِ حتى يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ أُنْزِلَ عليه في مَسْأَلَةٍ وَحْيٌ وَإِلَّا فما لم يَنْزِلْ الْوَحْيُ فَلَا حُكْمَ فَلَا قَطْعَ وَلَا ظَنَّ فَغَايَةُ الْقَادِرِ سُؤَال على الرَّسُولِ أَنْ يُجَوِّزُ نُزُولَ الْوَحْيِ فَيَكُونُ مُجَوِّزًا لِلْيَقِينِ وَإِنَّمَا مَأْخَذُ هذا الْخِلَافِ الْأُصُولِيِّ ما في الِاجْتِهَادِ مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من التَّحَرِّي وما فيه من سُلُوكِ طَرِيقٍ لَا يَأْمَنُ فيها الْخَطَأُ مع التَّمَكُّنِ من طَرِيقٍ يَأْمَنُ فيه الْخَطَأَ فما قَالَهُ الرَّازِيَّ أَنَّهُ لَا ثَمَرَةَ لِلْخِلَافِ صَحِيحٌ نعم الْخِلَافُ في جَوَازِ الِاجْتِهَادِ له عليه السَّلَامُ تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ لِقُدْرَتِهِ على الْيَقِينِ بِسُؤَالِ اللَّهِ وَهَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ بَلْ قُدْرَتُهُ على الْيَقِينِ مَقْطُوعٌ بها سَوَاءٌ وَقَعَ الْجَوَابُ في الْحَالِ كما كان أَغْلَبُ أَحْوَالِهِ أو بَعْدَ انْتِظَارِ الْوَحْيِ كما في اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا الْمَانِعُ من التَّخْرِيجِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ في ذلك ليس في حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ الْحُكْمَ قد عُلِمَ وَإِنَّمَا هو اجْتِهَادٌ في تَعْيِينِهِ وَمَسْأَلَتُنَا اجْتِهَادٌ في حُكْمٍ شَرْعِيٍّ غَيْرِ مَعْلُومٍ له فَلَا يَلْزَمُ من التَّجْوِيزِ في الْمُشْتَبَهِ بَعْدَ عِلْمِهِ الْجَوَازُ في أَصْلِ الْحُكْمِ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اُحْكُمْ بِمَا تَشَاءُ وما تَرَى من غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَإِنَّك لَا تَحْكُمُ إلَّا بِالصَّوَابِ بِنَاءً على أَنَّهُ كان يَجُوزُ له الِاجْتِهَادُ نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى غَيْرِهِ من الْمُجْتَهِدِينَ وقد سَبَقَتْ
الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْمُجْتَهَدُ فيه وهو كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِيٍّ أو عِلْمِيٍّ يُقْصَدُ بِهِ الْعِلْمُ ليس فيه دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَخَرَجَ بِالشَّرْعِيِّ الْعَقْلِيُّ فَالْحَقُّ فيها وَاحِدٌ وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ ما هو كَسْبٌ لِلْمُكَلَّفِ إقْدَامًا وَإِحْجَامًا وَبِالْعَمَلِيِّ ما تَضَمَّنَهُ عِلْمُ الْأُصُولِ من الْمَظْنُونَاتِ التي يَسْتَنِدُ الْعَمَلُ إلَيْهَا وَقَوْلُنَا ليس فيها دَلِيلٌ قَاطِعٌ احْتِرَازًا عَمَّا وُجِدَ فيه ذلك من الْأَحْكَامِ فإنه إذَا ظَفِرَ فيه بِالدَّلِيلِ حَرُمَ الرُّجُوعُ إلَى الظَّنِّ مَسْأَلَةٌ في الْحَادِثَةِ بِحَضْرَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يَحْكُمْ فيها بِشَيْءٍ يَجُوزُ لنا أَنْ نَحْكُمَ في نَظِيرِهَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ في قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ وقال أبو الْوَفَاءِ ابن عَقِيلٍ إنْ كان له صلى اللَّهُ عليه وسلم حُكْمٌ في نَظِيرِهَا يَصِحُّ اسْتِخْرَاجُهُ من مَعْنَى نُطْقِهِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِرُجُوعِنَا إلَى طَلَبِ الْحُكْمِ مع إمْسَاكِهِ عنه قُلْت وَهَذَا كُلُّهُ بَحْثٌ في الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ أَمَّا الْوُقُوعُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لم يَقَعْ لِوُجُوبِ الْبَيَانِ في وَقْتِ الْحَاجَةِ
فَصْلٌ في تَحْلِيلِ الْحُجَجِ ليس يَكْفِي في حُصُولِ الْمَلَكَةِ على شَيْءٍ تَعَرُّفُهُ بَلْ لَا بُدَّ مع ذلك من الِارْتِيَاضِ في مُبَاشَرَتِهِ فَلِذَلِكَ إنَّمَا تَصِيرُ لِلْفَقِيهِ مَلَكَةُ الِاحْتِجَاجِ وَاسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَرْتَاضَ في أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وما أَتَوْا بِهِ في كُتُبِهِمْ وَرُبَّمَا أَغْنَاهُ ذلك عن الْعَنَاءِ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ إذَا تَمَكَّنَ من مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ من تِلْكَ الْأَقْوَالِ من فَاسِدِهَا وَمِمَّا يُعِينُهُ على ذلك أَنْ تَكُونَ له قُوَّةٌ على تَحْلِيلِ ما في الْكِتَابِ وَرَدِّهِ إلَى الْحُجَجِ فما وَافَقَ منها التَّأْلِيفُ الصَّوَابَ فَهُوَ صَوَابٌ وما خَرَجَ عن ذلك فَهُوَ فَاسِدٌ وما أَشْكَلَ أَمْرُهُ تَوَقَّفَ فيه
فَصْلٌ في وَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِ إذَا عَرَضَتْ له وَاقِعَةٌ اعْلَمْ أَنَّهُ حَقٌّ على الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَطْلُبَ لِنَفْسِهِ أَقْوَى الْحُجَجِ عِنْدَ اللَّهِ ما وَجَدَ إلَى ذلك سَبِيلًا لِأَنَّ الْحُجَّةَ كُلَّمَا قَوِيَتْ أَمِنَ على نَفْسِهِ من الزَّلَلِ وما أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ من أَعْلَى وقال فِيمَا حَكَاهُ عنه الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ إذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ فيه فَلْيَعْرِضْهَا على نُصُوصِ الْكِتَابِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ فَعَلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ ثُمَّ الْآحَادِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ لم يُخَضْ في الْقِيَاسِ بَلْ يَلْتَفِتُ إلَى ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ فَإِنْ وَجَدَ ظَاهِرًا نَظَرَ في الْمُخَصِّصَاتِ من قِيَاسٍ وَخَبَرٍ فَإِنْ لم يَجِدْ مُخَصِّصًا حَكَمَ بِهِ وَإِنْ لم يَعْثُرْ على ظَاهِرٍ من كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ نَظَرَ إلَى الْمَذَاهِبِ فَإِنْ وَجَدَهَا مُجْمَعًا عليها اتَّبَعَ الْإِجْمَاعَ وَإِنْ لم يَجِدْ إجْمَاعًا خَاضَ في الْقِيَاسِ وَيُلَاحِظُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ أَوَّلًا وَيُقَدِّمُهَا على الْجُزْئِيَّاتِ كما في الْقَتْلِ بِالْمُثَقِّلِ فَيُقَدِّمُ قَاعِدَةَ الرَّدْعِ على مُرَاعَاةِ الْأَلَمِ فَإِنْ عَدِمَ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً نَظَرَ في النُّصُوصِ وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدَهَا في مَعْنًى وَاحِدٍ أَلْحَقَ بِهِ وَإِلَّا انْحَدَرَ إلَى قِيَاسٍ مُخَيَّلٍ فَإِنْ أَعْوَزَهُ تَمَسَّكَ بِالشَّبَهِ وَلَا يُعَوِّلُ على طَرْدٍ قال الْغَزَالِيُّ هذا تَدْرِيجُ النَّظَرِ على ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَلَقَدْ أَخَّرَ الْإِجْمَاعَ عن ذلك الْأَخْبَارُ وَذَلِكَ تَأْخِيرُ مَرْتَبَةٍ لَا تَأْخِيرُ عَمَلٍ إذْ الْعَمَلُ بِهِ مُقَدَّمٌ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُقَدَّمٌ في الْمَرْتَبَةِ فإنه مُسْتَنَدُ قَبُولِ الْإِجْمَاعِ وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ وقال الصَّحِيحُ أَنَّ نَظَرَهُ في الْإِجْمَاعِ يَكُونُ أَوَّلًا إذْ النُّصُوصُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً وَلَا كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ وَإِنَّمَا قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ النَّصَّ على الظَّاهِرِ تَنْبِيهًا على أَنَّهُ يَطْلُبُ من كل شَيْءٌ ما هو الْأَشْرَفُ فَأَوَّلُ ما يَطْلُبُ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ النَّصَّ فَإِنْ لم يَجِدْ فَالظَّاهِرَ فَإِنْ لم يَجِدْ ذلك في مَنْطُوقِهَا وَلَا مَفْهُومِهَا رَجَعَ إلَى أَفْعَالِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ في تَقْرِيرِهِ بَعْضَ أُمَّتِهِ فَإِنْ لم يَجِدْ نَظَرَ في الْإِجْمَاعِ ثُمَّ في الْقِيَاسِ إنْ لم
يَجِدْ الْإِجْمَاعَ وَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ عَمَّا بَعْدَ ذلك وَلَا شَكَّ أَنَّ آخِرَ الْمَرَاتِبِ إذَا لم يَجِدْ شيئا الْحُكْمُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وقد ذَكَرَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ ذلك كُلَّهُ وقال في الْمُسْتَصْفَى يَجِبُ أَنْ يَرُدَّ نَظَرَهُ في كل مَسْأَلَةٍ وفي النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قبل وُرُودِ السَّمْعِ ثُمَّ يَبْحَثُ عن الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فَيَنْظُرُ في الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدَهُ وَإِلَّا فَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ وَهُمَا في مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِإِفَادَةِ الْقَطْعِ فَإِنْ وَجَدَ أَخَذَ بِهِ وَإِلَّا نَظَرَ بَعْدُ في عُمُومَاتِهَا وَظَوَاهِرِهَا فَإِنْ وَجَدَ وَإِلَّا نَظَرَ في مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ فَإِنْ عَارِضَ الْقِيَاسُ عُمُومًا أو خَبَرٌ وَاحِدٌ عُمُومًا وَعَدِمَ التَّرْجِيحَ تَوَقَّفَ على رَأْيٍ وَتَخَيَّرَ على رَأْيٍ وَإِنْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ نَظَرَ في النَّسْخِ وَالتَّرْجِيحِ فَإِنْ عَدِمَهُمَا جاء الْخِلَافُ في التَّخْيِيرِ وَالْوَقْفِ فَإِنْ عَدِمَ بَنَاهُ على حُكْمِ الْأَصْلِ في الْعَقْلِ وهو نَفْيُ الْحُكْمِ على ما هو الْمُخْتَارُ مَسْأَلَةٌ يُشْتَرَطُ في الْعَمَلِ بِالنَّصِّ الظَّاهِرِ الْبَحْثُ عن الْمُعَارِضِ هل له نَاسِخٌ أو مُخَصِّصٌ أو مُقَيِّدٌ أو غَيْرُ ذلك وَحُكِيَ عن قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وَلَهُ الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ بِمُجَرَّدِ الِاطِّلَاعِ عليه وَهَذَا هو الْخِلَافُ السَّابِقُ في بَابِ الْعُمُومِ في التَّمَسُّكِ بِالْعَامِّ قبل الْمُخَصِّصِ وإذا أَوْجَبْنَا الْبَحْثَ فَإِلَى أَيِّ وَقْتٍ يَبْحَثُ فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ هُنَاكَ فَاسْتَحْضِرْهُ وَالْعَجَبُ من صَاحِبِ الْمَحْصُولِ أَنَّهُ قَطَعَ هُنَا بِالْبَحْثِ عن الْمُعَارِضِ مع قَوْلِهِ في بَابِ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ وَحُكِيَ الْخِلَافُ فيه عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَيَجْرِي هذا في كل دَلِيلٍ مع مُعَارِضِهِ كَالْقِيَاسِ مع الِاسْتِصْحَابِ وَغَيْرِهَا نعم إذَا وَجَدَ الْمُجْتَهِدُ الْإِجْمَاعَ عَمِلَ بِهِ من غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا طَلَبٍ على الصَّحِيحِ كما قال الْإِبْيَارِيُّ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ له مُعَارِضٌ فإن الْإِجْمَاعَيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ وَلَا يَصِحُّ نَسْخُهُ
فَصْلٌ قال الْمَاوَرْدِيُّ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنْقَسِمُ طُرُقُهُ إلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما كان الِاجْتِهَادُ مُسْتَخْرَجًا من مَعْنَى النَّصِّ كَاسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا من الْبُرِّ فَهَذَا صَحِيحٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ ثَانِيهَا ما اسْتَخْرَجَهُ من شَبَهِ النَّصِّ كَالْعَبْدِ في ثُبُوتِ مِلْكِهِ لِتَرَدُّدِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ في أَنَّهُ يَمْلِكُ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَشَبَهِهِ بِالْبَهِيمَةِ في أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَهُوَ صَحِيحٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَالْمُنْكِرِينَ له غير أَنَّ الْمُنْكَرِينَ له جَعَلُوهُ دَاخِلًا في عُمُومِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ وَمَنْ قال بِالْقِيَاسِ جَعَلَهُ مُلْحَقًا بِأَحَدِ الشَّبَهَيْنِ ثَالِثُهَا ما كان مُسْتَخْرَجًا من عُمُومِ النَّصِّ كَاَلَّذِي بيده عُقْدَةُ النِّكَاحِ في قَوْله تَعَالَى أو يَعْفُوَ الذي بيده عُقْدَةُ النِّكَاحِ يَعُمُّ الْأَبَ وَالزَّوْجَ وَالْمُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا وَهَذَا صَحِيحٌ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالتَّرْجِيحِ رَابِعُهَا ما اُسْتُخْرِجَ من إجْمَالِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الْمُتْعَةِ وَمَتِّعُوهُنَّ على الْمُوسِعُ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُعْسِرِ قَدَرُهُ فَيَصِحُّ الِاجْتِهَادُ في قَدْرِ الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ خَامِسُهَا ما اُسْتُخْرِجَ من أَحْوَالِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الْمُتَمَتِّعِ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ فَاحْتَمَلَ صِيَامَ الثَّلَاثَةِ قبل عَرَفَةَ وَاحْتَمَلَ صِيَامَ السَّبْعَةِ إذَا رَجَعَ في طَرِيقِهِ وإذا رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ فَصَحَّ الِاجْتِهَادُ في تَغْلِيبِ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ على الْأُخْرَى سَادِسُهَا ما اُسْتُخْرِجَ من دَلَائِلِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ فَاسْتَدْلَلْنَا على تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ فإنه أَكْثَرُ ما جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ في فِدْيَةِ الْأَذَى في أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مَدِينٍ فَاسْتَدْلَلْنَا على تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بِمُدٍّ فإنه أَقَلُّ ما جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ في كَفَّارَةِ الْوَطْءِ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا سَابِعُهَا ما اُسْتُخْرِجَ من أَمَارَاتِ النَّصِّ كَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ لِمَنْ خَفِيَتْ عليه مع قَوْله تَعَالَى وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ مع الِاجْتِهَادِ
في الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ وَالدَّلَالَةِ عليها من هُبُوطِ الرِّيَاحِ وَمَطَالِعِ النُّجُومِ ثَامِنُهَا ما اُسْتُخْرِجَ من غَيْرِ نَصٍّ وَلَا أَصْلَ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ حتى يَقْتَرِنَ بِأَصْلٍ فإنه لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ في الشَّرْعِ إلَى غَيْرِ أَصْلٍ وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلِهَذَا كان يُنْكِرُ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّهُ تَغْلِيبُ ظَنٍّ بِغَيْرِ أَصْلٍ والثاني يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ بِهِ لِأَنَّهُ في الشَّرْعِ أَصْلٌ فَجَازَ أَنْ يُسْتَغْنَى عن أَصْلٍ وقد اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ في التَّقْدِيرِ على ما دُونَ الْحَدِّ بِآرَائِهِمْ في أَصْلِهِ من ضَرْبٍ وَحَبْسٍ وفي تَقْدِيرِهِ بِعَشْرِ جَلَدَاتٍ في حَالٍ وَبِعِشْرِينَ في حَالٍ وَلَيْسَ لهم في هذه الْمَقَادِيرِ أَصْلٌ مَشْرُوعٌ وَالْفَرْقُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ يُسْتَعْمَلُ مع عَدَمِ الْقِيَاسِ مَسْأَلَةٌ قال الْمُزَنِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ فَسَادِ التَّقْلِيدِ إذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ وَادَّعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ بِأَنَّ قَوْلَهَا نَظَرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِالصَّحَابَةِ وَطَلَبُهُمْ الْحَقَّ بِالشُّورَى الْمَوْرُوثَةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال تَعَالَى وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ فَيُحْضِرُ الْإِمَامُ أَهْلَ زَمَانِهِ فَيُنَاظِرُهُمْ فِيمَا مَضَى وَحَدَثَ من الْخِلَافِ وَيَسْأَلُ كُلَّ فِرْقَةٍ عَمَّا اخْتَارَتْ وَيَمْنَعُهُمْ من الْغَلَبَةِ وَالْمُفَاخَرَةِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِنْصَافِ وَالْمُنَاصَحَةِ وَيَحُضُّهُمْ على الْقَصْدِ بِهِ إلَى اللَّهِ فإن اللَّهَ تَعَالَى يقول إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ لهم النَّظَرُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ قِيلَ إذَا لم يَقُمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَالسَّبِيلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ قِيلَ على الْعَالِمِ الذي وَقَفَ في الْفَتْوَى مَوْقِفَ الْإِمَامِ أَنْ يَطْلُبَ الْعُلَمَاءَ فَيُنَاظِرَهُمْ بِمِثْلِ مُنَاظَرَةِ الْإِمَامِ فَإِنْ كان أو كَانُوا بِمَوْضِعٍ لَا يَصِلُ فيه إلَيْهِمْ فَأَقْرَبُ ما بَعْدَ ذلك النَّظَرُ في كُتُبِ من تَقَدَّمَ من السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ من الْعُلَمَاءِ وَالِاحْتِجَاجُ لهم وَعَلَيْهِمْ تَتَبُّعُ الْحَقِّ مِمَّنْ قَامَتْ حُجَّتُهُ فِيهِمْ بِمَا وُصِفَتْ وَإِدَامَةُ الرَّغْبَةِ إلَى اللَّهِ في تَوْفِيقِهِ لِلْفَهْمِ في كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم فإنه لَا يُدْرِكُ خَيْرًا إلَّا بِمَعْرِفَتِهِ انْتَهَى وَهِيَ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ فَائِدَةٌ على فَقِيهِ النَّفْسِ ذِي الْمَلَكَةِ الصَّحِيحَةِ تَتَبُّعُ أَلْفَاظِ الْوَحْيَيْنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِخْرَاجُ الْمَعَانِي مِنْهُمَا وَمَنْ جَعَلَ ذلك دَأْبَهُ وَجَدَهَا مَمْلُوءَةً وَوَرَدَ الْبَحْرَ الذي لَا يَنْزِفُ وَكُلَّمَا ظَفِرَ بِأَيَّةٍ طَلَبَ ما هو أَعْلَى منها وَاسْتَمَدَّ من الْوَهَّابِ
وَمِنْ فِقْهِ الْفِقْهِ قَوْلُهُمْ في حديث مَيْمُونَةَ هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ إنَّ فيه احْتِيَاطًا لِلْمَالِ وَإِنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَنْ لَا يُضَيَّعَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَيَّعَ وَالْفَقِيهُ أَعْلَى يَأْخُذُ من هذا ما هو أَعْلَى منه وهو أَنَّ الْجَالِسَ على الْحَاجَةِ أو الْمُسْتَرِيحَ على الْقَارِعَةِ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ إذَا بَاحَثَ نَفْسَهُ قال لها هَلَّا حَصَّلْت ثَوَابًا وَعَمَلًا صَالِحًا فإذا قال له الْوَسْوَاسُ أنت على الْخَلَاءِ وما عَسَاك تُحَصِّلُ من الطَّاعَةِ وَأَنْتَ بِمَكَانٍ تَنَزَّهَ عنه ذِكْرُ اللَّهِ يقول إنَّمَا مُنِعْنَا ذِكْرَ اللَّهِ بِالْأَلْسُنِ فَهَلَّا اسْتَحْضَرْتَ ذِكْرَ الْمُنْعِمِ بِدَفْعِ هذا الْأَذَى عَنَّا وَتَهَيُّؤِ الْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ حتى لَا يَخْلُو تَحْصِيلُ الطَّاعَةِ من الْمَحَالِّ الْقَذِرَةِ كما أَنَّ الشَّارِعَ لم يَغْفُلْ عن فَتْحِ تَحْصِيلِ الْمَالِ من الْمُقَذَّرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ بِمُعَالَجَةِ الدِّبَاغِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذلك قَطَعْتُمْ أَرْحَامَهُنَّ فَيَتَعَدَّى اسْتِنْبَاطُهُ إلَى تَحْرِيمِ كل ما يُوقِعُ الْقَطِيعَةَ وَالْوَحْشَةَ بين الْمُسْلِمِينَ وَإِفْسَادَ ما بَيْنَهُمْ حتى السَّعْيَ على بَعْضِهِمْ في مَنَاصِبِ بَعْضٍ وَوَظِيفَتِهِ من غَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ وَقِسْ على ذلك وَأَمْثَالِهِ تَغْنَمُ بِتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ وَتَثْمِيرِ الْأَعْمَالِ مَسْأَلَةٌ ادَّعَى الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ على أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ غَلَبَ على ظَنِّهِ حُكْمٌ كان ذلك حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى في حَقِّهِ وَحَقِّ من قَلَّدَهُ حتى لو اعْتَقَدَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ لِدَلِيلٍ كان حُكْمَ اللَّهِ في حَقِّهِ إلَى أَنْ يَطَّلِعَ على مُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ وفي ذلك نَظَرٌ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي اللَّهُ عنه قال في سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ وهو من كُتُبِ الْأُمِّ من أَوَاخِرِهَا فإذا قَدِمَ الْمُرْتَدُّ لِيُقْتَلَ فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَقَتَلَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ فَاَلَّذِينَ لَا يَرَوْنَ أَنْ يُسْتَتَابَ الْمُرْتَدُّ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ وَلَوْلَا الشُّبْهَةُ لَكَانَ عليه الْقَوَدُ وَحَكَى الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في كِتَابِ الْحَجِّ في بَابِ الْإِحْصَارِ من تَعْلِيقِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قال في كِتَابِ الْمَنَاسِكِ الْكَبِيرِ لو كان يَذْهَبُ أَيْ الْمُحْرِمُ إلَى أَنَّ الْمَرِيضَ يَحِلُّ إذَا بَعَثَ الْهَدْيَ بِمِنًى فَبَعَثَ الْهَدْيَ فَنَحَرَ هُنَاكَ أو ذَبَحَ لم يَحِلَّ وكان على إحْرَامِهِ وإذا رَجَعَ إلَى مَكَّةَ كان حَرَامًا كما كان قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَهَذَا يَدُلُّ من الشَّافِعِيِّ على أَنَّ من اعْتَقَدَ مَذْهَبًا وَعَمِلَ بِهِ لم يَحْكُمْ بِصِحَّةِ فِعْلِهِ عِنْدَهُ لِأَنَّ هذا اعْتَقَدَ جَوَازَ التَّحَلُّلِ وَتَحَلَّلَ ولم يَجْعَلْهُ حَلَالًا بِذَلِكَ ولم نُصَحِّحْهُ في حَقِّهِ وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ عن الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَأَقَرَّهُ وقال الْأَصْحَابُ في بَابِ الزِّنَا في الشُّبْهَةِ كُلُّ جِهَةٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَبَاحَ الْوَطْءَ بها لَا حَدَّ فيها على الْمَذْهَبِ وَإِنْ كان الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ وَقِيلَ يَجِبُ على من يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ دُونَ غَيْرِهِ مَسْأَلَةٌ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه على أَنَّ الْعَالِمَ لَا يقول في مَسْأَلَةٍ لَا أَعْلَمُ حتى يُجْهِدَ نَفْسَهُ في النَّظَرِ فيها ثُمَّ يَقِفُ كما أَنَّهُ لَا يقول أَعْلَمُ وَيَذْكُرُ ما عَلِمَهُ حتى يُجْهِدَ نَفْسَهُ وَيَعْلَمَ نَقَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَالِمَ ليس كَالْعَامِّيِّ فَقَوْلُهُ لَا أَعْلَمُ يُهَوِّنُ أَمْرَ الْمَسْأَلَةِ وَيُطْمِعُ السَّائِلَ في الْإِقْدَامِ مع أنها قد تَكُونُ مَنْصُوصَةَ الْحُكْمِ وَأَيْضًا فَالْعَالِمُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِيَتَعَلَّمَ وَيَعْلَمَ فَلَيْسَ قَوْلُهُ لَا أَعْلَمُ من الدِّينِ في شَيْءٍ حتى يَقِفَ عِنْدَ مُقْتَضَيَاتِ الْعِلْمِ بَعْدَ سَبْرِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ هذا مَحْمُولٌ على من يُطْلِقُ لَا أَعْلَمُ إطْلَاقًا أَمَّا من يُقَيِّدُ كَلَامَهُ بِمَا يَعْرِفُ فيه الْمَعْنَى فَلَا يَمْنَعُ مَسْأَلَةٌ هل على الْمُجْتَهِدِ بَيَانُ الدَّلِيلِ الذي دَلَّ عِلْمُهُ على الْمَسْأَلَةِ يُتَّجَهُ فيه تَخْرِيجُ خِلَافٍ من الْمُفْتِي هل يَجِبُ عليه كما سَنَذْكُرُهُ في بَابِ الْفَتْوَى أو لَا يَجِبُ الشَّاهِدُ هل يَجِبُ عليه بَيَانُ مُسْتَنَدِهِ من مُشَاهَدَةٍ أو اسْتِفَاضَةٍ أو لَا يَجِبُ بِنَاءً على أَنَّهُ لم يَأْتِ بها إلَّا على اعْتِقَادِ صِحَّةِ وُقُوعِهَا وَالْمَشْهُورُ الثَّانِي نعم قال الرَّافِعِيُّ في بَابِ الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ يُبَيِّنُ الْفَرْعَ في الْأَدَاءِ جِهَةُ التَّحَمُّلِ من اسْتِدْعَاءٍ أو أَدَاءً أو بَيَانِ سَبَبٍ قال الْإِمَامُ لِأَنَّ الْغَالِبَ الْجَهْلُ بِطَرِيقِهِ فَإِنْ كان يَعْلَمُ وَوَثِقَ بِهِ الْقَاضِي جَازَ تَرْكُهُ مَسْأَلَةٌ إذَا وَجَدْنَا عن مُجْتَهِدٍ حُكْمًا وَظَفِرْنَا له بِدَلِيلٍ مُنَاسِبٍ وَفَقَدْنَا غَيْرَهُ فَهَلْ يَجُوزُ لنا جَعْلُهُ مُعْتَمَدًا لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ جَزَمَ بِهِ الْقَرَافِيُّ في الْقَوَاعِدِ قال وَلِهَذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على أَنَّا إذَا رَأَيْنَا في كَلَامِ الشَّارِعِ حُكْمًا وَظَفِرْنَا له بِمُنَاسَبَةٍ جَزَمْنَا بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا مع تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَقْلًا لَكِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عليه
مَسْأَلَةٌ يَجِبُ على الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقْصِدَ بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ وَإِصَابَةَ الْعَيْنِ التي يَجْتَهِدُ فيها قال الْمَاوَرْدِيُّ هذا هو الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قال وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ من مَذْهَبِ الْمُزَنِيّ أَنَّ عليه أَنْ يَقْصِدَ بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ نَفْسِهِ لِأَنَّ ما عِنْدَ اللَّهِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالنَّصِّ وَعَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ عليه أَنْ يَتَوَصَّلَ بِاجْتِهَادِهِ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَإِصَابَةِ الْعَيْنِ فَيَجْمَعُ بين هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وقال بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ من الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عليه الِاجْتِهَادُ وَلْيَعْمَلْ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ فَيَجْعَلُونَ عليه الِاجْتِهَادَ وَلَا يَجْعَلُونَ عليه طَلَبَ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ وَنُسِبَ إلَى أبي يُوسُفَ وَاخْتُلِفَ عن أبي حَنِيفَةَ فَقِيلَ في بَعْضِ الْأَحْكَامِ عليه طَلَبُ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ كَقَوْلِنَا وفي بَعْضِهَا يَعْمَلُ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ كَأَبِي يُوسُفَ وقد اخْتَلَطَتْ مَذَاهِبُ الناس في هذا حتى الْتَبَسَتْ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عليه طَلَبَ الِاجْتِهَادِ لَا طَلَبَ الْحَقِّ بِأَنَّ ما أَخْفَاهُ اللَّهُ لَا طَرِيقَ لنا إلَى إظْهَارِهِ وفي إلْزَامِهِ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ وهو غَلَطٌ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ نَوْعٌ من الِاسْتِدْلَالِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ في بَابِ الِاجْتِهَادِ في الْقِبْلَةِ عن الصَّيْدَلَانِيِّ قَوْلَيْنِ أَنَّهُ هل الْمُكَلَّفُ بِهِ الِاجْتِهَادُ لَا غَيْرُ أو كُلِّفَ التَّوَجُّهَ لِلْقِبْلَةِ وَفَائِدَتُهُمَا فِيمَا لو اجْتَهَدَ ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ هل يَجِبُ الْقَضَاءُ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ وَعَلَى الثَّانِي يَجِبُ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ هُنَاكَ هذا الْخِلَافَ أَيْضًا وقال إنَّهُ يَجْرِي في كل مُجْتَهَدٍ فيه فَفِي قَوْلٍ يُكَلَّفُ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ وفي قَوْلٍ يُكَلَّفُ بَذْلَ الْمَجْهُودِ في الِاجْتِهَادِ في حُكْمِ الِاجْتِهَادِ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُجْتَهِدِ فيه إمَّا أَنْ تَتَّفِقَ عليه أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ أو تَخْتَلِفَ فَإِنْ اتَّفَقَتْ فَهُوَ إجْمَاعٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في حُكْمٍ عَقْلِيٍّ أو شَرْعِيٍّ الْأَوَّلُ الْعَقْلِيُّ فَإِنْ كان الْغَلَطُ مِمَّا يَمْنَعُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَسُولَهُ كما في إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وما يَتَعَلَّقُ بِالْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ فَالْحَقُّ فيها وَاحِدٌ هو الْمُكَلَّفُ وما عَدَاهُ بَاطِلٌ فَمَنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كان في غَيْرِ ذلك كما في مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَكَمَا في وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ عليه اسْمَ الْكُفْرِ فَمِنْ أَصْحَابِهِ من أَجْرَاهُ على ظَاهِرِهِ وَمِنْهُمْ من أَوَّلَهُ على كُفْرَانِ النِّعَمِ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ
وَغَيْرُهُ وَلَا شَكَّ في أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ فَاسِقٌ لِعُدُولِهِ عن الْحَقِّ هذا كُلُّهُ إذَا كانت الْمَسْأَلَةُ دِينِيَّةً أَمَّا ما ليس كَذَلِكَ كما في وُجُوبِ تَرْكِيبِ الْأَجْسَامِ من ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ وَانْحِصَارِ اللَّفْظِ في الْمُفْرَدِ وَالْمُؤَلَّفِ فَلَا الْمُخْطِئُ فيه آثِمٌ وَلَا الْمُصِيبُ مَأْجُورٌ إذْ يَجْرِي مِثْلُ هذا مَجْرَى الْخَطَأِ في أَنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ أَكْبَرَ من الْمَدِينَةِ أو أَصْغَرَ وقال عُبَيْدُ اللَّهِ بن الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ كُلُّ مُجْتَهِدٍ في الْأُصُولِ مُصِيبٌ وَنُقِلَ مِثْلُهُ عن الْجَاحِظِ وَيَلْزَمُ من مَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ من الْمُخَالِفِينَ في الدِّينِ مُخْطِئًا وَأَمَّا الْجَاحِظُ فَجَعَلَ الْحَقَّ في هذه الْمَسَائِلِ وَاحِدًا وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُ الْمُخْطِئَ في جَمِيعِهَا غير آثِمٍ أَمَّا رَأْيُ الْعَنْبَرِيِّ فَبَيَّنَ الِاسْتِحَالَةَ فإنه يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ مُحْدَثٌ وَأَمَّا رَأْيُ الْجَاحِظِ فَبَاطِلٌ فإن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَاتَلَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَلَوْلَا أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ لَمَا كان كَذَلِكَ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وكان ابن الْعَنْبَرِيِّ يقول في مُثْبِتِي الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ وفي نَافِي الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ وقد اُسْتُبْشِعَ هذا الْقَوْلُ منه فإنه يَقْتَضِي تَصْوِيبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الْكُفَّارِ في اجْتِهَادِهِمْ قال وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ التي اخْتَلَفَ فيها أَهْلُ الْقِبْلَةِ كَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا ما اخْتَلَفَ فيه الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ من أَهْلِ الْمِلَلِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس فَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ فيه بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قُلْت وَهَذَا أَحَدُ الْمَنْقُولَاتِ عنه قال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن الْعَنْبَرِيِّ فقال في أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ إنَّمَا أُصَوِّبُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ في الدِّينِ تَجْمَعُهُمْ الْمِلَّةُ وَأَمَّا الْكَفَرَةُ فَلَا يُصَوِّبُونَ وَغَلَا بَعْضُ الرُّوَاةِ عنه فَصَوَّبَ الْكَافِرِينَ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ الرَّاكِنِينَ إلَى الْبِدْعَةِ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ مَعَهُمَا مُخْتَصَرًا فَنَقُولُ أَنْتُمَا أَوَّلًا مَحْجُوجَانِ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَكُمَا وَبَعْدَكُمَا وثانيا إذَا أَرَدْتُمَا بِذَلِكَ مُطَابَقَةَ الِاعْتِقَادِ لِلْمُعْتَقِدِ فَقَدْ خَرَجْتُمَا عن حَيِّزِ الْعُقَلَاءِ وَانْخَرَطْتُمَا في سِلْكِ الْأَنْعَامِ وَإِنْ أَرَدْتُمَا الْخُرُوجَ عن عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ وَنَفْيِ الْحَرَجِ كما نُقِلَ عن الْجَاحِظِ فَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْخَارِجَةِ عن حَدِّ الْحَصْرِ تَرُدُّ هذه الْمَقَالَةَ وَأَمَّا تَخْصِيصُ التَّصْوِيبِ بِالْمُجْمِعِينَ على الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ مِمَّا خَاضَ فيه الْمُسْلِمُونَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَ ذلك مِمَّا يَعْظُمُ خَطَرُهُ وَأَجْمَعُوا قبل الْعَنْبَرِيِّ على أَنَّهُ يَجِبُ على الْمَرْءِ إدْرَاكُ بُطْلَانِهِ
وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ لَعَلَّهُ أَرَادَ خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَخَلْقَ الْقُرْآنِ إذْ الْمُسْلِمُ لَا يُكَلَّفُ الْخَوْضَ فيه بِخِلَافِ قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ النُّبُوَّاتِ وهو مع هذا فَاسِدٌ فإن اعْتِقَادَ الْإِصَابَةِ الْمُحَقَّقَةِ على هذا مُحَالٌ وقال إلْكِيَا ذَهَبَ الْعَنْبَرِيُّ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ في الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ وَلَكِنْ ما يَتَعَلَّقُ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ فَالْمُخْطِئُ فيه غَيْرُ مَعْذُورٌ وَأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ وَإِثْبَاتِ الْجِهَةِ وَنَفْيِهَا فَالْمُخْطِئُ فيه غَيْرُ مَعْذُورٍ وَلَوْ كان مُبْطِلًا في اعْتِقَادِهِ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَالْتِزَامِ الْمِلَّةِ وَبَيَّنَ ذلك على أَنَّ الْخَلْقَ ما كُلِّفُوا إلَّا اعْتِقَادَ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ من وَجْهٍ وَلِذَلِكَ لم يَبْحَثْ الصَّحَابَةُ عن مَعْنَى الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ عِلْمًا منهم بِأَنَّ اعْتِقَادَهَا لَا يَجُرُّ حَرَجًا وقال ابن بَرْهَانٍ لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ في اجْتِهَادِهِ وَلَكِنْ عَبَّرَ عنه بِالْمُصِيبِ وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ عنهما الْجَوَازُ في الْأُصُولِ مُطْلَقًا بِمَعْنَى حَطِّ الْإِثْمِ لَا بِمَعْنَى الْمُطَابَقَةِ لِلْحَقِّ في نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ فيه الْجَمْعُ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وهو مُحَالٌ وما ذَكَرَاهُ ليس بِمُحَالٍ عَقْلًا لَكِنَّهُ مُحَالٌ شَرْعًا لِلْإِجْمَاعِ على تَخْلِيدِ الْكُفَّارِ في النَّارِ وَلَوْ كَانُوا غير آثِمِينَ لَمَا سَاغَ ذلك وَأَمَّا ابن فُورَكٍ فَنُقِلَ عنه ذلك فِيمَا يُمْكِنُ فيه التَّأْوِيلُ نَحْوُ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ وقال الْقَاضِي عِيَاضٌ في الشِّفَاءِ ذَهَبَ الْعَنْبَرِيُّ إلَى تَصْوِيبِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ في أُصُولِ الدِّينِ فِيمَا كان عُرْضَةً لِلتَّأْوِيلِ وَحَكَى الْقَاضِي ابن الْبَاقِلَّانِيِّ مثله عن دَاوُد بن عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ وَحَكَى قَوْمٌ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا ذلك فِيمَنْ عَلِمَ اللَّهُ من حَالِهِ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ في طَلَبِ الْحَقِّ من أَهْلِ مِلَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ وقال الْجَاحِظُ نحو هذا الْقَوْلِ وَتَمَامُهُ في أَنَّ كَثِيرًا من الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ وَالْبُلْهِ مُقَلِّدَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى عليهم إذْ لم يَكُنْ لهم طِبَاعٌ يُمْكِنُ مَعَهَا الِاسْتِدْلَال وقد نَحَا الْغَزَالِيُّ قَرِيبًا من هذا الْمَنْحَى في كِتَابِ التَّفْرِقَةِ بين الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ وَقَائِلُ هذا كُلِّهِ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ على كُفْرِ من لم يُكَفِّرْ أَحَدًا من النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَكُلُّ من فَارَقَ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَوَقَفَ في تَكْفِيرِهِمْ أو شَكَّ لِقِيَامِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ على كُفْرِهِمْ فَمَنْ وَقَفَ فيه فَقَدْ كَذَّبَ النَّصَّ انْتَهَى
وما نَسَبَهُ لِلْغَزَالِيِّ غَلَطٌ عليه فَقَدْ صَرَّحَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ كما سَبَقَ عنه وهو بَرِيءٌ من هذه الْمَقَالَةِ وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ في كِتَابِ التَّفْرِقَةِ هو قَوْلُهُ إنَّ من لم تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ من نَصَارَى الرُّومِ أو التُّرْكِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ وَلَيْسَ فيه تَصْوِيبُهُمْ وَالْكَلَامُ إنَّمَا هو فِيمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَعَانَدَ وَإِنَّمَا نَبَّهْت على هذا لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ الْوَاقِفُ عليه وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ ما نُقِلَ عن الْعَنْبَرِيِّ وَالْجَاحِظِ إنْ أَرَادَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ لَا في نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَيَّنٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ في جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْمُتَفَاضِلَانِ لَا يَكُونَانِ حَقَّيْنِ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ من بَذَلَ الْوُسْعَ ولم يُقَصِّرْ في الْأُصُولِيَّاتِ أَنَّهُ يَكُونُ مَعْذُورًا غير مُعَاقَبٍ فَهَذَا أَقْرَبُ وَجْهًا لِكَوْنِهِ نَظَرِيًّا وَلِأَنَّهُ قد يُعْقَدُ فيه أَنَّهُ لو عُوقِبَ وَكُلِّفَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِهِ غَايَةَ الْجَهْدِ لَزِمَ تَكْلِيفُهُ لِمَا لَا يُطَاقَ وقال في شَرْحِ الْإِلْمَامِ يُمْكِنُ أَنْ يُجِيبَ الْعَنْبَرِيُّ عَمَّا رُدَّ بِهِ عليه من تَبْيِيتِ الْمُشْتَرَكِينَ وَاغْتِرَارِهِمْ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْفَرْقِ بين الْمُعَانِدِ وَغَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ الْمُكَلَّفُ منه مع إمْكَانِ النَّظَرِ بين مُعَانِدٍ وَمُقَصِّرٍ وأنا أَقُولُ بِهَلَاكِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا هذا إنْ كان ما قَالَا بِنَاءً على ما ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا الذي حُكِيَ عنه من الْإِصَابَةِ في الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ فَبَاطِلٌ قَطْعًا وَلَعَلَّهُ لَا يَقُولُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْمُخْطِئُ في الْأُصُولِ وَالْمُجَسِّمَةِ فَلَا شَكَّ في تَأْثِيمِهِ وَتَفْسِيقِهِ وَتَضْلِيلِهِ وَاخْتُلِفَ في تَكْفِيرِهِ وَلِلْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمَا وَأَظْهَرُ مَذْهَبَيْهِ تَرْكُ التَّكْفِيرِ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي في كِتَابِ إكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ وقال ابن عبد السَّلَامِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ عِنْد مَوْتِهِ عن تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ ليس جَهْلًا بِالْمَوْصُوفَاتِ وقال اخْطَفْنَا في عِبَارَةٍ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ وَالْخِلَافُ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا كما قَالَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وكان الْإِمَامُ أبو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ لَا يُكَفِّرُ قِيلَ له أَلَا تُكَفِّرُ من يُكَفِّرُك فَعَادَ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ يُكَفِّرُونَ خُصُومَهُمْ وَيُكَفِّرُ كُلُّ فَرِيقٍ منهم الْآخَرَ قال الْإِمَامُ وَمُعْظَمُ الْأَصْحَابِ على تَرْكِ التَّكْفِيرِ وَقَالُوا إنَّمَا نُكَفِّرُ من جَهِلَ وُجُودَ الرَّبِّ أو عَلِمَ وُجُودَهُ وَلَكِنْ فَعَلَ فِعْلًا أو قال قَوْلًا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ ذلك إلَّا عن كَافِرٍ وَمَنْ قال بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَصْحَابَهُ في نَفْيِ الْبَقَاءِ أَيْضًا كما يُكَفَّرُ في نَفْيِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ من الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فيها قُلْت وقد أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَكْفِيرَ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لَكِنَّ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ تَأَوَّلُوهُ على كُفْرَانِ النِّعْمَةِ كما قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ
الثَّانِي ما يَتَعَلَّقُ بِالْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَكَوْنِ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً وَكَالْخِلَافِ في اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ في الْإِجْمَاعِ وفي الْحَاصِلِ عن اجْتِهَادٍ وَمِنْهُ اعْتِقَادُ كَوْنِ الْمُصِيبِ وَاحِدًا في الظَّنِّيَّاتِ قال الْغَزَالِيُّ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَأَدِلَّتُهَا قَطْعِيَّةٌ وَالْمُخَالِفُ فيها آثِمٌ مُخْطِئٌ وقال أبو الْحُسَيْنِ في شَرْحِ الْعُمَدِ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا يَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٌ مُصِيبًا بَلْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ بِخِلَافِ الْفِقْهِ في الْأَمْرَيْنِ قال وَالْمُخْطِئُ في أُصُولِ الْفِقْهِ يَلْحَقُ بِأُصُولِ الدِّينِ كَذَا قال ولم يَحْكِ فيه خِلَافًا قال الْقَرَافِيُّ وقد خَالَفَ جَمَاعَةٌ من الْأَئِمَّةِ في مَسَائِلَ ضَعِيفَةِ الْمَدَارِكِ كَالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ وَالْإِجْمَاعِ على الْحُرُوبِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَنْبَغِي تَأْثِيمُهُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً كما أَنَّا في أُصُولِ الدِّينِ لَا نُؤَثِّمُ من يقول الْعَرْضُ يَبْقَى زَمَانَيْنِ أو بِنَفْيِ الْخَلَا وَإِثْبَاتِ الْمَلَا وَغَيْرِ ذلك الثَّالِثُ ما يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ فقال الْأَصَمُّ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ إنَّ الْحَقَّ فيها وَاحِدٌ وَأَنَّ أَدِلَّتَهَا قَاطِعَةٌ فَلِذَلِكَ من تَعَدَّى الْحَقَّ فيها فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ فَكَيْفَ بِمَسَائِلِ الْعَقَائِدِ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هذا الْمَذْهَبُ إذَا لم يَكُنْ الْقِيَاسُ حُجَّةً وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْعُمُومَاتُ كُلُّهَا فَالْحُجَجُ الْمُثْبِتَةُ لِكَوْنِ هذه حُجَّةً يَلْزَمُهَا بُطْلَانُ هذا الْمَذْهَبِ وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأُمَّةِ فَقَدْ قالوا إنَّ هذه الْمَسَائِلَ منها ما لَا يَسُوغُ فيه الِاجْتِهَادُ وَمِنْهَا ما ليس كَذَلِكَ وَاَلَّتِي لَا يَسُوغُ فيها الِاجْتِهَادُ وَهِيَ التي أَدِلَّتُهَا قَاطِعَةٌ فيها فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنها من دِينِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَالْمُخْطِئُ في هذا كَافِرٌ لِتَكْذِيبِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ وَمِنْهَا ما ليس كَذَلِكَ كَجَوَازِ بَيْعِ الْحَصَا وَتَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمُخْطِئُ في هذه آثِمٌ غَيْرُ كَافِرٍ وَأَمَّا التي يَسُوغُ فيها الِاجْتِهَادُ فَهِيَ الْمُخْتَلَفُ فيها كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ في مَالِ الصَّبِيِّ وَنَفْيِ وُجُوبِ الْوِتْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا عُدِمَتْ فيها النُّصُوصُ في الْفُرُوعِ وَغَمُضَتْ فيها الْأَدِلَّةُ وَيُرْجَعُ فيها إلَى الِاجْتِهَادِ فَلَيْسَ بِآثِمٍ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ عِوَضِهَا امْتِحَانًا من اللَّهِ لِعِبَادِهِ لِيَتَفَاضَلَ بَيْنَهُمْ في دَرَجَاتِ الْعِلْمِ وَمَرَاتِبِ الْكَرَامَةِ كما قال تَعَالَى يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَفَوْقَ كل ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
وَعَلَى هذا يَتَأَوَّلُ ما وَرَدَ في بَعْضِ الْأَخْبَارِ اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ فَعَلَى هذا النَّوْعِ يُحْمَلُ هذا لِلَّفْظِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا وَالْمُرَادُ خَاصًّا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في حُكْمِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ هل كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أو الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ في ذلك وَنَحْنُ نَذْكُرُ ما وَقَفْنَا عليه من كَلَامِهِمْ فَنَقُولُ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ الْحَقَّ في جَمِيعِهَا وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَمُصِيبٌ في الْحُكْمِ لِأَنَّ جَوَازَ الْجَمِيعِ دَلِيلٌ على صِحَّةِ الْجَمِيعِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وهو قَوْلُ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ بِخُرَاسَانَ لَا يَصِحُّ هذا الْمَذْهَبُ عن أبي الْحَسَنِ قال وَالْمَشْهُورُ عنه عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ ما ذَكَرْنَاهُ وَأَنَّ من أَدَّى اجْتِهَادَهُ إلَى حُكْمٍ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا تَحِلُّ له مُخَالَفَتُهُ فَدَلَّ على أَنَّهُ الْحَقُّ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وأبو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إلَى أَنَّ الْحَقَّ في أَحَدِهِمَا وَإِنْ لم يَتَعَيَّنْ لنا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَعَيَّنٌ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ في الزَّمَانِ الْوَاحِدِ في الشَّخْصِ الْوَاحِدِ حَلَالًا حَرَامًا وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ تَنَاظَرُوا في الْمَسَائِلِ وَاحْتَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ على قَوْلِهِ وَخَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطْلُبُ إصَابَةَ الْحَقِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَمْ لَا فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ منهم وَاحِدٌ وَإِنْ لم يَتَعَيَّنْ وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ مُخْطِئٌ إلَّا ذلك الْوَاحِدُ وَبِهِ قال مَالِكٌ وَغَيْرُهُ وقال أبو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنْ كان الْحَقُّ في وَاحِدٍ فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَخْطَأَهُ وَنَسَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى الشَّافِعِيِّ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ وَأَدَّى ما كُلِّفَ فَظَنَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَصَابَ وَغَلَّطُوهُ فيه وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ في مَعْنَى من أَدَّى ما كُلِّفَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ انْتَهَى وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ الْحَقُّ من قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ وَالْآخَرُ بَاطِلٌ وَإِنْ اخْتَلَفُوا على ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَأَكْثَرَ قال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ في الشَّرْحِ في
أَدَبِ الْقَضَاءِ هذا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ لَا أَعْلَمُ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ في ذلك وقد نَصَّ عليه في مَوَاضِعَ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا من الصَّحَابَةِ اخْتَلَفَ في ذلك على مَذْهَبِهِ وَإِنَّمَا نَسَبَ قَوْمٌ من الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ لَا مَعْرِفَةَ لهم بِمَذْهَبِهِ إلَيْهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَادُّعُوا ذلك عليه وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ في الْمُجْتَهِدِ أَدَّى ما كُلِّفَ فَقَالُوا الْمُؤَدِّي ما كُلِّفَ مُصِيبٌ قال أبو إِسْحَاقَ وَإِنَّمَا قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ رَفْعَ الْإِثْمِ عنه لِأَنَّهُ لو قَصَدَ خِلَافَ الْحَقِّ لَأَثِمَ وإذا خَالَفَ من غَيْرِ قَصْدٍ لم يَكُنْ آثِمًا وكان بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَدِّي ما كُلِّفَ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَدَّى ما كُلِّفَ عِنْدَ نَفْسِهِ فإنه يَعْتَقِدُ وَضْعَ الدَّلِيلِ في حَقِّهِ وَسَلَكَ ما وَجَبَ من طَرِيقِهِ قال أبو إِسْحَاقَ وَكُلُّ مَوْضِعٍ رَأَيْت فيه من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هذه الْأَلْفَاظَ فَاقْرَأْ الْبَابَ فَإِنَّك تَجِدُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ نَصًّا على أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَأَنَّ ما عَدَاهُ خَطَأٌ ثُمَّ غَلَّطَ أبو إِسْحَاقَ الْقَوْلَ على من نَسَبَ إلَى الشَّافِعِيِّ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَيَدُلُّ على أَنَّ هذا مَذْهَبُهُ إذَا اجْتَهَدَ اثْنَانِ في الْقِبْلَةِ فَأَدَّى اجْتِهَادُهُمَا إلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَتَوَجَّهَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جِهَتِهِ وَلَوْ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ لم تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْإِمَامَ مُخْطِئٌ عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ من صَلَى خَلَفَ من لَا يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَلَهُ نَظَائِرُ وَحُكِيَ عن أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قال وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ على قَوْلَيْنِ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ قَوْلَيْنِ فِيمَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ بِيَقِينٍ هل تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ أَمْ لَا وَالْأَصَحُّ عليه الْإِعَادَةُ وَمَنْ يقول كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يقول لَا إعَادَةَ عليه وَكَذَلِكَ قال لو دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى من ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ فَبَانَ غَنِيًّا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ قَوْلَانِ قال الْقَاضِي وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ اخْتِيَارُ أبي حَامِدٍ وهو الذي حَكَاهَا عن أبي إِسْحَاقَ وَالصَّحِيحُ عن أبي إِسْحَاقَ ما ذَكَرْنَا وقال أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ في أُصُولِهِ إنَّ اللَّهَ نَصَّبَ على الْحَقِّ عَلَمًا وَجَعَلَ لهم إلَيْهِ طَرِيقًا فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ وَمَنْ أَخْطَأَهُ عُذِرَ بِخَطَئِهِ وَأُجِرَ على قَصْدِهِ ثُمَّ قال وَبِهِ قال الشَّافِعِيُّ وَجُمْلَةُ أَصْحَابِهِ وقد اسْتَقْصَى الْمُزَنِيّ ذلك في كِتَابِ التَّرْغِيبِ في الْعِلْمِ وَقَطَعَ بِأَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَدَلَّ عليه وقال إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وهو مَذْهَبُ كل من صَنَّفَ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ من الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ من الْأَشْعَرِيِّينَ أبو بَكْرِ بن مُجَاهِدٍ وابن فَوْرَك وأبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وقال نُقِضَتْ هذه الْمَسْأَلَةُ على الْبَصْرِيِّ الْمَعْرُوفِ بِجُعَلٍ وقال الْقَاضِي وقد ذَكَرَ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْقَوْلَيْنِ جميعا وقد أَبَانَ
الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ مَالَ إلَى اخْتِيَارِ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَهَذَا مَذْهَبُ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَهُمْ الْأَصْلُ في هذه الْبِدْعَةِ وَقَالُوا هذا لِجَهْلِهِمْ بِمَعَانِي الْفِقْهِ وَطُرُقِهِ الدَّالَّةِ على الْحَقِّ الْفَاصِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ما عَدَاهُ من الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ وَقَالُوا ليس فيها طَرِيقٌ أَوْلَى من طَرِيقٍ وَلَا أَمَارَةَ أَقْوَى من أُخْرَى وَالْجَمِيعُ مُتَكَافِئُونَ وَمَنْ غَلَبَ على ظَنِّهِ شَيْءٌ حَكَمَ بِهِ فَيَحْكُمُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَهُ وَلَيْسَ من شَأْنِهِمْ وَبَسَطُوا لِذَلِكَ أَلْسِنَةَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ منهم وَمِنْ غَيْرِهِمْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ لِأَنَّ ذلك يَصِحُّ في طَلَبٍ يُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ أو إلَى الظَّنِّ وَلَيْسَ في هذه الْأُصُولِ ما يَدُلُّ على أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عِلْمًا وظَنًّا قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وفي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وهو أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يُكَلِّفْنَا إصَابَتَهُ وَإِنَّمَا كَلَّفَ الِاجْتِهَادَ في طَلَبِهِ وَكُلُّ من اجْتَهَدَ في طَلَبِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ وقد أَدَّى ما كُلِّفَ وقال أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ في أُصُولِهِ قد أَضَافَ قَوْمٌ من أَصْحَابِنَا هذا إلَى الشَّافِعِيِّ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَدَّى ما كُلِّفَ قال وهو خَطَأٌ على أَصْلِهِ لِأَنَّهُ نَصَّ على أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَأَنَّ أَحَدَهُمَا مُخْطِئٌ لَا مَحَالَةَ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عن أبي حَنِيفَةَ فَنُقِلَ أَنَّهُ ذَكَرَ في بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَقَوْلِنَا وفي بَعْضِهَا كَقَوْلِ أبي يُوسُفَ وَلَنَا أَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كان في وَاحِدٍ لم يَكُنْ الْمُصِيبُ إلَّا وَاحِدًا وَلَوْ كان كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا ما أَخْطَأَ مُجْتَهِدٌ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ انْتَهَى وقال ابن كَجٍّ صَارَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَالْمُخْطِئُ له مَعْذُورٌ وقال أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابن سُرَيْجٍ وأبو حَامِدٍ إلَّا أَنَّهُ كُلِّفَ ما أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثُمَّ نَصَّ ابن كَجٍّ على هذا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على تَصْوِيبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فيه وَلَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ على خَطَأٍ ثُمَّ قال إنَّهُ مَعْذُورٌ وقال ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ لِلنَّاسِ فيها ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ أَحَدُهَا أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وهو الْمَطْلُوبُ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ فَمَنْ وَضَعَ النَّظَرَ مَوْضِعَهُ أَصَابَ الْحَقَّ وَمَنْ قَصَرَ عنه وَفَقَدَ الصَّوَابَ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَلَا إثْمَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ مَعْذُورٌ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ من يَسْقُطُ عنه التَّكْلِيفُ لَا عُذْرَ في تَرْكِهِ كَالْعَاجِزِ على الْقِيَامِ في الصَّلَاةِ وهو عِنْدَنَا قد كُلِّفَ إصَابَةَ الْعَيْنِ لَكِنَّهُ خَفَّفَ أَمْرَ خَطَئِهِ وَأُجِرَ على قَصْدِهِ الصَّوَابَ وَحُكْمُهُ نَافِذٌ على الظَّاهِرِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَعَلَيْهِ نَصَّ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ وَ
أَدَبِ الْقَاضِي وقال كُلُّ مُجْتَهِدَيْنِ اخْتَلَفَا فَالْحَقُّ في وَاحِدٍ من قَوْلَيْهِمَا وَالثَّانِي أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَيْنِ لم يُكَلَّفُوا إصَابَتَهُ وَكُلُّهُمْ مُصِيبُونَ لِمَا كُلِّفُوا من الِاجْتِهَادِ وَإِنْ كان بَعْضُهُمْ مُخْطِئًا وَالثَّالِثُ أَنَّهُمَا كُلِّفُوا الرَّدَّ إلَى الْأَشْبَهِ على طَرِيقِ الظَّنِّ انْتَهَى فَحَصَلَ وَجْهَانِ في أَنَّهُ يُقَالُ فيه مَعْذُورٌ أَمْ لَا وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقِيلَ الْحَقُّ في وَاحِدٍ وما عَدَاهُ بَاطِلٌ إلَّا أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عن الْمُخْطِئِ وَقِيلَ إنَّ هذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ فيه قَوْلَانِ هذا أَحَدُهُمَا وَالثَّانِي إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وهو ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وهو مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ وَحَكَى الْقَاضِي أبو بَكْرٍ عن أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كان يقول بِأَخَرَةٍ إنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ مَقْطُوعٍ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنَّ مُخْطِئَهُ مَأْثُومٌ وَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ مَنْقُوضٌ وهو قَوْلُ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ من أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ في أَنَّهُ هل الْكُلُّ مُصِيبٌ في اجْتِهَادِهِ أَمْ لَا فَقِيلَ الْمُخْطِئُ في الْحُكْمِ مُخْطِئٌ في الِاجْتِهَادِ وَقِيلَ الْكُلُّ مُصِيبٌ في الِاجْتِهَادِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُخْطِئَ في الْحُكْمِ وَحُكِيَ عن أبي الْعَبَّاسِ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إنَّ عِنْدَ اللَّهِ شَبَهًا رُبَّمَا أَصَابَهُ الْمُجْتَهِدُ وَرُبَّمَا أَخْطَأَهُ وَمِنْهُمْ من أَنْكَرَ ذلك وَالْقَائِلُونَ بِالْأَشْبَهِ اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِهِ فَقِيلَ تَفْسِيرُهُ بِأَكْثَرَ من أَنَّهُ أَشْبَهَ وَقِيلَ الشَّبَهُ عِنْدَ اللَّهِ في حُكْمِ الْحَادِثَةِ قُوَّةُ الشُّبْهَةِ فَهُوَ الْأَمَارَةُ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ يَجِبُ طَلَبُهُ وَقِيلَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ عِنْدَهُ في الْحَادِثَةِ حُكْمُ لو نَصَّ عليه وَبَيَّنَهُ لم يَنُصَّ إلَّا عليه وَالصَّحِيحُ من مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا هو الْأَوَّلُ أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وما سِوَاهُ بَاطِلٌ وَأَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عن الْمُخْطِئِ انْتَهَى وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ كان أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وأبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ يَقُولَانِ إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ وَإِنَّمَا يَظُنُّ ذلك وقال سُلَيْمٌ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ في أَكْثَرِ كُتُبِهِ إلَى أَنَّ الْحَقَّ فيها وَاحِدٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُنَصِّبُ على ذلك دَلِيلًا إمَّا غَامِضًا وَإِمَّا جَلِيًّا وَكُلِّفَ الْمُجْتَهِدُ طَلَبَهُ وَإِصَابَتَهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ فإذا اجْتَهَدَ وَأَصَابَهُ كان مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ وفي الْحُكْمِ وَلَهُ أَجْرٌ على اجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ على إصَابَتِهِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ كان مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وفي الْحُكْمِ إلَّا أَنَّ له أَجْرًا على اجْتِهَادِهِ وَالْخَطَأُ مَرْفُوعٌ وَحُكِيَ هذا عن مَالِكٍ
وَبِهِ قال الْمَرِيسِيِّ وابن عُلَيَّةَ وَالْأَصَمُّ وَزَادُوا فَقَالُوا عليه دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ ثُمَّ أَخْطَأَهُ كان آثِمًا مُضَلِّلًا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ إلَّا أَنَّهُ لم يُكَلِّفْ الْمُجْتَهِدَ إصَابَتَهُ وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ طَلَبَهُ فَإِنْ أَصَابَهُ كان مُصِيبًا وَإِنْ أَخْطَأَ كان مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ لَا في الْحُكْمِ وَحُكِيَ هذا عن أبي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وهو اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَسْرِهَا إلَى أَنَّهُ ليس هُنَاكَ حُكْمٌ مَطْلُوبٌ على الْيَقِينِ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ على الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ وَيَكُونُ مُصِيبًا وَاخْتَلَفُوا هل هُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ أَمْ لَا على قَوْلَيْنِ وَمَعْنَى الْأَشْبَهِ أَنَّ اللَّهَ لو أَنْزَلَ حُكْمًا في الْحَادِثَةِ لَكَانَ هو فَيَجِبُ طَلَبُ ذلك الْأَشْبَهِ وَحَكَى ابن فُورَكٍ عَنْهُمْ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّ اللَّهَ نَصَّبَ على الْحُكْمَيْنِ مَعًا دَلِيلًا إلَّا أَنَّ الْأَدِلَّةَ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَغَمُضَتْ تَحَيَّرَ وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَغَيْرُهُ من الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَهُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ فَإِنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ وَإِنْ أَخْطَأَهُ كان مُخْطِئًا لِلْمَطْلُوبِ مُصِيبًا في اجْتِهَادِهِ كَالْقَوْلِ الثَّانِي لِلْمُعْتَزِلَةِ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ فَاَلَّذِي حَكَاهُ عَنْهُمْ الْخُرَاسَانِيُّونَ أبو إِسْحَاقَ وابن فُورَكٍ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَأَنَّ على الْمُجْتَهِدِ طَلَبَهُ بِالدَّلِيلِ فَإِنْ أَخْطَأَهُ كان مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وفي الْحُكْمِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْأَوَّلِ وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّ لِأَبِي الْحُسَيْنِ فيها قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا هذا وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس لِلَّهِ حُكْمٌ في هذه الْمَسَائِلِ وَأَنَّ الْمَأْخُوذَ على الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ فيها وَاخْتَارَ هذا وَنَصَرَهُ وقال ليس هُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ وَلَا دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ مِثْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلْمُعْتَزِلَةِ انْتَهَى وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ في الْفُرُوعِ فَمِنْهُمْ من قال إنَّ الْحَقَّ في كل وَاحِدٍ وهو الْمَطْلُوبُ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ وَاَلَّذِي يُؤَدِّي إلَى غَيْرِهِ شُبْهَةٌ وَلَيْسَ بِالدَّلِيلِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْمُجْتَهِدِينَ إصَابَةَ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ الذي نَصَّبَهُ عليه وَمَنْ أَخْطَأَهُ كان مَعْذُورًا على خَطَئِهِ مُثَابًا على قَصْدِهِ قال وَهَذَا هو الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ من مَذَاهِبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَبِهِ قال ابن عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيُّ وقال الْمُزَنِيّ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ إلَّا أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ من أَقْوَالِهِمْ قال
أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فيها مَسَائِلُ نَقَضُوا فيها الْحُكْمَ على من خَالَفَهُمْ كَالْحُكْمِ بِالنُّكُولِ وَسَائِرِ ما حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَأَوْجَبُوا الْحَدَّ على وَاطِئِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى الْمُسْتَأْجَرَةِ وَإِنْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ في ذلك وَأَوْجَبُوا إعَادَةَ الصَّلَاةِ على من تَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ أو تَرَكَ النِّيَّةَ أو التَّرْتِيبَ في الْوُضُوءِ وَإِعَادَةَ الصَّوْمِ على من تَرَكَ نِيَّتَهُ قبل الْفَجْرِ أو نَوَى في فَرْضِهِ التَّطَوُّعَ وَكَذَلِكَ نَقَضُوا الْحُكْمَ على من حَكَمَ بِخِلَافِ خَبَرِ الْمُصَرَّاةِ وَخَبَرِ الْخِيَارِ في الْبَيْعِ وَالْعَرَايَا وَالْفَلَسِ وكان الْإِصْطَخْرِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ يَنْقُضَانِ الْحُكْمَ على من حَكَمَ بِصِحَّةِ نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شَهَادَةَ أو شَهَادَةَ فَاسِقَيْنِ وقال أَصْحَابُ الرَّأْيِ قبل قَوْلِ الْمُزَنِيّ إنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِأَنَّهُ لم يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْحَقِّ وَإِنَّمَا كُلِّفَ فِعْلَ ما يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلِذَلِكَ قال الْمُزَنِيّ وأبو حَنِيفَةَ فِيمَنْ صلى إلَى بَعْضِ الْجِهَاتِ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ عَلِمَ خَطَأَهُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ لم يُكَلَّفْ عِنْدَهُمَا إصَابَةَ عَيْنِ الْقِبْلَةِ وَإِنَّمَا كُلِّفَ الصَّلَاةَ بِالِاجْتِهَادِ انْتَهَى وَاَلَّذِي رَأَيْتُهُ في كِتَابِ فَسَادِ التَّقْلِيدِ لِلْمُزَنِيِّ تَرْجِيحَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَأَطَالَ في الِاسْتِدْلَالِ عليه وَمِنْهُ إنْكَارُ الصَّحَابَةِ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ في الْفَتَاوَى وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قال لِمُخَالِفِهِ قد أَصَبْت فِيمَا خَالَفْتَنِي فيه قال وهو قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَيُرْوَى عن السَّمْتِيِّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قال أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَالْإِثْمُ فيه مَرْفُوعٌ قال وَجَاءَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَكَمَ بين خَصْمَيْنِ في طَسْتٍ ثُمَّ غَرِمَهُ لِلْمُقْضَى عليه قال الْمُزَنِيّ فَلَوْ كان يَقْطَعُ بِأَنَّ الذي قَضَى بِهِ هو الْحَقُّ لَمَا تَأَثَّمَ من الْحَقِّ الذي ليس عليه غَيْرُهُ وَلَا غَرِمَ لِلظَّالِمِ ثَمَنَ طَسْتٍ في حُكْمِ اللَّهِ أَنَّهُ ظَالِمٌ بِمَنْعِهِ إيَّاهُ من صَاحِبِهِ قال وَلَكِنَّهُ عِنْدِي خَافَ أَنْ يَكُونَ قَضَى عليه بِمَا أَغْفَلَ منه وَظَلَمَهُ من حَيْثُ لَا يَعْلَمُ فَتَوَرَّعَ فَاسْتَحَلَّ ذلك منه وَغَرِمَهُ له وَلَوْ كان غَرِمَهُ له وهو يَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ ليس عليه إلَّا طَلَبُ الثَّوَابِ لَمَا خَفِيَ عليه أَنَّ إعْطَاءَهُ لِمُحْتَاجٍ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ انْتَهَى وقال في الْمَنْخُولِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ من الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَصَارَ الْقَاضِي وأبو الْحُسَيْنِ في طَبَقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُصِيبٌ وَالْغُلَاةُ منهم أَثْبَتُوا أو نَفَوْا مَطْلُوبًا مُعَيَّنًا وَعَزَا الْقَاضِي مَذْهَبَهُ لِلشَّافِعِيِّ
وقال لَوْلَاهُ لَكُنْت لَا أَعُدُّهُ من أَحْزَابِ الْأُصُولِيِّينَ ثُمَّ قال وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ في عَمَلِهِ قَطْعًا وقال في الْمُسْتَصْفَى الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وهو الذي يُقْطَعُ بِهِ وَيُخْطِئُ الْمُخَالِفُ فيه أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ في الظَّنِّيَّاتِ وَأَنَّهُ ليس فيها حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لِلَّهِ تَعَالَى وقال إلْكِيَا انْقَسَمُوا على قِسْمَيْنِ غُلَاةٌ وَمُقْتَصِدَةٌ فَالْغُلَاةُ افْتَرَقُوا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ منها أَنْ يَأْخُذَ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ من غَيْرِ اجْتِهَادٍ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَدْرَكُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم بِالِاجْتِهَادِ وَيَأْخُذُ بِمَا يَشَاءُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ هذا الْمَذْهَبُ أَوَّلُهُ سَفْسَطَةٌ وَآخِرُهُ زَنْدَقَةٌ أَمَّا السَّفْسَطَةُ فَلِكَوْنِهِ حَلَالًا حَرَامًا في حَقِّ كل وَاحِدٍ وَأَمَّا الزَّنْدَقَةُ فَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْإِبَاحَةِ والثاني ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمَطَالِبَ مُتَعَدِّدَةٌ فَلَا بُدَّ من أَصْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنَّ الْمَطْلُوبَ من كل مُجْتَهِدٍ ما يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَأَمَّا الْمُقْتَصِدَةُ فَقَالُوا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ في عَمَلِهِ قَطْعًا وَلَا يُقْطَعُ بِإِصَابَةِ ما عِنْدَ اللَّهِ وَادَّعُوا أَنَّ في الْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ حُكْمًا عِنْدَ اللَّهِ هو أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وهو شَوْقُ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَطْلُوبُ الْبَاحِثِينَ وَرُبَّمَا عَبَّرَ عنه بِأَنَّهُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ غير أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لم يُكَلَّفْ غير إصَابَتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ عن أبي حَنِيفَةَ نَصًّا وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ فِيمَا دَلَّ عليه دَلِيلٌ وَالْمُجْتَهِدُ مُقَصِّرٌ بِالنَّظَرِ فيه وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ وَمَنْ قَصَّرَ في ذلك ولم يَصِرْ إلَيْهِ فإنه مُخْطِئٌ فيه وَيَخْتَلِفُ خَطَؤُهُ على قَدْرِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ فَقَدْ يَكُونُ كَبِيرَةً وقد يَكُونُ صَغِيرَةً وَهَذَا مَذْهَبُ الْغُلَاةِ وَمِنْهُمْ الْأَصَمُّ وَالْمَرِيسِيُّ وهو قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاسْتِدْلَال وَقِيلَ في وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا لم يَصِلْ إلَيْهِ لِدِقَّتِهِ وَغُمُوضِ طَرِيقِهِ فَهُوَ مَعْذُورٌ آثِمٌ وهو قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَنَفَرٍ من الْحَنَفِيَّةِ وَحُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال في الْفُرُوعِ التي لها أَصْلٌ وَاحِدٌ وهو الذي يُسَمَّى طَرِيقُ إثْبَاتِهَا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَالْقِيَاسُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُصِيبَ فيها وَاحِدٌ وَالْفُرُوعُ التي تَتَجَاذَبُهَا أُصُولٌ كَثِيرَةٌ وَيُسَمَّى طَرِيقُ إثْبَاتِهَا قِيَاسُ عِلِّيَّةِ الْأَشْبَاهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٌ فيها مُصِيبٌ وهو الذي حَكَاهُ عنه الْمُحَصِّلُونَ
وقال في بَعْضِ مَجْمُوعَاتِهِ في جَوَابٍ سُئِلَ عنه في قَوْلِهِ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ لو كان أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأً لم يَجُزْ أَنْ يُثَابَ عنه لِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ فِيمَا لَا يَسُوغُ وَلَا في الْخَطَأِ الْمَوْضُوعِ ثُمَّ قال لو كان خَطَأً قُصَارَى أَمْرِهِ أَنْ يَغْفِرَ له فَكَيْفَ يَطْمَعُ في الثَّوَابِ على خَطَأٍ لم يَصْنَعْهُ وقد تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ في كُتُبِهِ على مُوَافَقَةِ ما حَكَيْنَاهُ عنه من أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْفَرْقُ بين ما حَكَيْنَا عن أبي حَنِيفَةَ آخِرًا وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُخَالِفِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يقول إنَّ الْمُجْتَهِدَ لم يُكَلَّفْ الْأَشْبَهَ وَاَلَّذِي هو الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَنَّهُ كُلِّفَ إصَابَتَهُ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مَعْذُورًا إنْ كان خَطَؤُهُ صَغِيرًا وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاتِّحَادِ الْحَقِّ في هذه الْمَسَائِلِ فَقِيلَ يُمْنَعُ من وُرُودِ التَّعَبُّدِ في الْفُرُوعِ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ وَقِيلَ السَّمْعُ هو الذي يَمْنَعُ من ذلك وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ الْمَنْقُولُ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْحَقَّ في جَمِيعِهِ وَاحِدٌ وَذَهَبَ شَيْخُنَا أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَأَنَّ الْمَطَالِبَ مُتَعَدِّدَةٌ وهو مَذْهَبُ الْقَاضِي أَيْ أَنَّ الْمُصَوِّبَةَ انْقَسَمُوا إلَى غُلَاةٍ وَمُقْتَصِدَةٍ وَذَكَرَ نحو ما قَالَهُ إلْكِيَا وقال في الْقَوَاطِعِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ من الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ وَالْبَاقُونَ مُخْطِئُونَ غير أَنَّهُ خَطَأٌ يُعْذَرُ فيه الْمُخْطِئُ وَلَا يُؤَثَّمُ وقد قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّ هذا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُهُ وَلَا يُعْرَفُ له قَوْلٌ سِوَاهُ وَبِهِ قال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا ما قُلْنَاهُ والآخر أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وهو ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلُوهُ عن أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ وقال الْأَصَمُّ وابن عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيُّ إنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَمُخَالِفُهُ خَطَأٌ وَصَاحِبُهُ مَأْثُومٌ قال وقال أبو زَيْدٍ في أُصُولِهِ قال فَرِيقٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ الْحَقُّ في هذه الْحَوَادِثِ التي يَجُوزُ الْفَتْوَى في أَحْكَامِهَا بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ حُقُوقٌ وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ بِعَيْنِهِ ثُمَّ إنَّهُمْ افْتَرَقُوا فقال قَوْمٌ الْجَمِيعُ حَقٌّ على التَّسَاوِي وقال قَوْمٌ الْوَاحِدُ من الْجَمَاعَةِ أَحَقُّ وَسَمُّوهُ تَقْوِيمَ ذَاتِ الِاجْتِهَادِ وقال بَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامُ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ ثُمَّ افْتَرَقُوا فقال قَوْمٌ إذَا لم يُصِبْ الْمُجْتَهِدُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ كان مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً حتى أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَصِحُّ وقال عُلَمَاؤُنَا كان مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبًا في حَقِّ عَمَلِهِ حتى لو عَمِلَهُ يَقَعُ بِهِ صَحِيحًا شَرْعًا كَأَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ
قال وَبَلَغَنَا عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال لِيُوسُفَ بن خَالِدٍ السَّمْتِيِّ كُلٌّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ فَبَيَّنَ أَنَّ الذي أَخْطَأَ ما عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُصِيبٌ في حَقِّ عَمَلِهِ وقال محمد بن الْحَسَنِ في كِتَابِ الطُّرُقِ إذَا تَلَاعَنَ الزَّوْجَانِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ وقد أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَجَعَلَ قَضَاءَهُ في حَقِّهِ صَوَابًا مع قَوْلِهِ إنَّهُ مُخْطِئُ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ قال أبو زَيْدٍ وَهَذَا قَوْلُ التَّوَسُّطِ بين الْغُلُوِّ وَالنَّقْصِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الْقَوْلَ هو الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ وهو أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ مُصِيبًا في اجْتِهَادِهِ مُخْطِئًا في حُكْمِهِ قالوا وما كُلِّفَ الْإِنْسَانُ إصَابَةَ الْأَشْبَهِ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ هذا نَصًّا عن أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَحُكِيَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ عن أبي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَالصَّحِيحُ من هذه الْأَقَاوِيلِ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَالنَّاسُ بِطَلَبِهِ مُكَلَّفُونَ إصَابَتَهُ فإذا اجْتَهَدُوا وَأَصَابُوا حُمِدُوا وَأُجِرُوا وَإِنْ أَخْطَئُوا عُذِرُوا ولم يَأْثَمُوا إلَّا أَنْ يُقَصِّرُوا في أَسْبَابِ الطَّلَبِ وَهَذَا هو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه وهو الْحَقُّ وما سِوَاهُ بَاطِلٌ ثُمَّ يقول إنَّهُ مَأْجُورٌ في الطَّلَبِ إذَا لم يُقَصِّرْ وَإِنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ وَمَعْذُورٌ على خَطَئِهِ وَعَدَمِ إصَابَتِهِ لِلْحَقِّ وقد يُوجَدُ لِلشَّافِعِيِّ في بَعْضِ كَلَامِهِ وَمُنَاظَرَاتِهِ مع خُصُومِهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اجْتَهَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَصَابَ عن نَفْسِهِ بِأَنَّهُ بَلَغَ عِنْدَ نَفْسِهِ مَبْلَغَ الصَّوَابِ وَإِنْ لم يَكُنْ أَصَابَ عَيْنَ الْحَقِّ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إلَّا ما قُلْنَاهُ وَمَنْ قال غير هذا فَقَدْ أَخْطَأَ على مَذْهَبِهِ وقال ما قال عن شَهَوَاتِهِ انْتَهَى وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ الْمُخْتَارُ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمْ يُصِيبُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَالْبَاقُونَ يُصِيبُونَ الْحَقَّ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَحَكَى ابن فُورَكٍ عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قال إنَّ الْمُجْتَهِدَ مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ عِنْدِي وَلَيْسَ هذا مَوْضِعُ خِلَافٍ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ أَنَّ كُلًّا مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ فَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ عِنْدِي وَلِذَلِكَ يقول إنَّ الْمُخَالِفَ له مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ عِنْدَهُ فَهَذَا كَلَامٌ لَا حَاصِلَ له قُلْت وَالْحَاصِلُ في الْمَسْأَلَةِ على مَذْهَبِنَا ثَلَاثُهُ طُرُقٍ أَحَدُهَا قال الرَّافِعِيُّ وَهِيَ الْأَشْهَرُ إثْبَاتُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ التي حَكَاهَا أبو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ من أَصْحَابِنَا وَأَصَحُّهُمَا وهو الذي ذَكَرَهُ في كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ وقال ابن الْقَطَّانِ وابن فُورَكٍ في كِتَابَيْهِمَا إنَّ هذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال في كِتَابِ الْقَضَاءِ وفي الرِّسَالَةِ
وَكُلُّ مُجْتَهِدَيْنِ اخْتَلَفَا في شَيْءٍ فَالْحَقُّ في وَاحِدٍ من قَوْلِهِمَا قَالَا هذا هو مَذْهَبُهُ وَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَشْيَاءَ أَطْلَقَهَا وكان مُرَادُهُ فيها ما عُرِفَ من مَذْهَبِهِ انْتَهَى وَهَذَا ما حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ بِخُرَاسَانَ عنه وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ قال ابن الصَّبَّاغِ وَنِسْبَةُ هذا إلَى الْأَشْعَرِيِّ أَشْهَرُ لِأَنَّ كُلًّا منهم مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَغَيْرُ الْحَقِّ لَا يُؤْمَرُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَعَلَى هذا فَهَلْ يقول الْحُكْمُ وَالْحَقُّ على كل وَاحِدٌ من الْمُجْتَهِدِينَ ما غَلَبَ على ظَنِّهِ أو يقول الْحَقُّ وَاحِدٌ وهو أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ إلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ لِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ فيه وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْغَزَالِيُّ وَحَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ عن الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ قال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ من الْأَمْرِ شيئا وَاحَدَا وَالْمَطْلُوبُ من الْمَأْمُورِ غَيْرُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ من أَبَقَ عَبْدُهُ فقال لِعَبِيدِهِ اُطْلُبُوهُ فَالْمَقْصُودُ من الْأَمْرِ وُجُودُ الْآبِقِ وَمِنْ الْعَبِيدِ طَلَبُهُ فَحَسْبُ فَإِنْ لم يَجِدُوهُ فما ذَمَّهُمْ من حَيْثُ لم يَتَوَانَوْا فيه فَكَذَا هُنَا وَبِالثَّانِي أَجَابَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ كما قال الرَّافِعِيُّ وَحَكَوْا عن الْقَاضِي أبي حَامِدٍ وَزَعَمَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ وفي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وفي رِسَالَةِ الْمَصْرِيِّينَ مُحْتَمَلٌ وَأَنَّ الْأَظْهَرَ من كَلَامِهِ وَالْأَشْبَهَ بِمَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ أَمْثَالِهِ من الْعُلَمَاءِ الْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَتَابَعَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فقال ليس لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ في الْمَسْأَلَةِ على التَّخْصِيصِ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ النَّقَلَةُ عنه في اسْتِنْبَاطِهِمْ من كَلَامِهِ وَلَيْسَ كما قال بَلْ نُصُوصُهُ في الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا طَافِحَةٌ بِهِ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْقَطْعُ بِالْأَوَّلِ وَيُحْكَى عن أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَالْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الرَّازِيَّ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَقِيَاسِ الشَّبَهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ إلْكِيَا في النَّقْلِ عن الشَّافِعِيِّ كما سَبَقَ وَكَذَلِكَ نَقَلَهَا عنه صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ قال زَلَّ كَثِيرٌ من الناس فَظَنُّوا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ في جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ وَإِلَّا فَكَيْفَ كان يَسُوغُ له مُخَالَفَةُ أبي حَنِيفَةَ في كَثِيرٍ من الْأَحْكَامِ فَلِهَذَا قال ما ليس له
أَصْلٌ مَقِيسٌ عليه إلَّا وَاحِدٌ فَالْحَقُّ فيه وَاحِدٌ لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ من دَلِيلٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا ما تَجَاذَبَهُ أَصْلَانِ فَأَكْثَرُ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ فيه مُصِيبُ قُلْت وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ التَّفْرِيعُ إذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ فُرُوعٌ منها أَنَّهُ هل يَقْطَعُ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ وَخَطَأِ الْمُخَالِفِ أَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ في غَيْرِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ اعْلَمْ إصَابَتَنَا لِلْحَقِّ وَاقْطَعْ بِخَطَأِ من خَالَفَنَا وَمَنْعِهِ من الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ غير أَنِّي لَا أُؤَثِّمُهُ قال أبو الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ وقد أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ في رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَسَائِلَ تَنْقَسِمُ إلَى ما يُقْطَعُ فيه بِالْإِصَابَةِ وَإِلَى ما لَا يَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ وَهَذَا هو الذي يَقْتَضِيهِ تَصَرُّفُ أَصْحَابِنَا في نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ ومنها أَنَّ الْمُخْطِئَ هل يُقَالُ إنَّهُ مَعْذُورٌ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا وَنَقَلَهُ ابن كَجٍّ عن عَامَّةِ الْأَصْحَابِ نعم والثاني وهو الذي أَوْرَدَهُ ابن فُورَكٍ لَا ومنها اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ على أَنَّ لِلَّهِ في كل وَاقِعَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا هو مَقْصِدُ الطَّالِبِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل نَصَبَ عليه دَلِيلًا أَمْ لَا فَقِيلَ لَا دَلِيلَ عليه وَإِنَّمَا هو مِثْلُ دَفِينٍ يُعْثَرُ عليه فَمَنْ عَثَرَ عليه فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّ اللَّهَ نَصَّبَ عليه دَلِيلًا ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل هذا الدَّلِيلُ قَطْعِيٌّ أو ظَنِّيٌّ فَحَكَى الْقَاضِي عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كان يقول في آخِرِ عُمْرِهِ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ وهو قَوْلُ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيِّ وَجَمِيعِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ إلْحَاقًا لِلْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ وَمِنْهُمْ من يُعَبِّرُ عن هذا الْخِلَافِ بِأَنَّهُ هل دَلَّ عليه السَّمْعُ أو الْعَقْلُ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ في مُخْطِئِ هذا الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ هل هو مَأْثُومٌ مَحْطُوطٌ عنه فَحُكِيَ عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كان يقول بِأُخَرَةٍ إنَّ مُخْطِئَهُ مَأْثُومٌ وَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ مَنْقُوضٌ وهو قَوْلُ الْأَصَمِّ وَمَنْ وَافَقَهُ لِأَنَّهُ خَالَفَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا وَقِيلَ بَلْ الْإِثْمُ مَحْطُوطٌ عنه وَحَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ عن الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ ظَنِّيٌّ وَأَنَّ الْإِثْمَ مَوْضُوعٌ عن مُخْطِئِهِ وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ كُلِّفَ طَلَبَهُ قال الرَّافِعِيُّ وهو الْمَذْهَبُ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عليه وَهَلْ كُلِّفَ إصَابَتَهُ فيه قَوْلَانِ أو وَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا نعم وهو قَوْلُ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَيُحْكَى عن الْمُزَنِيّ وهو الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَنَسَبَهُ ابن الْقَطَّانِ إلَى الشَّافِعِيِّ فَعَلَى هذا إنْ أَصَابَهُ الْمُجْتَهِدُ كان مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ كان الْإِثْمُ مَرْفُوعًا عنه وَلَهُ أَجْرٌ بِقَصْدِهِ الْحَقَّ والثاني وَبِهِ قال ابن سُرَيْجٍ وَنُسِبَ إلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ اللَّهَ لم يُكَلِّفْ الْمُجْتَهِدَ إصَابَتَهُ وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ الِاجْتِهَادَ في طَلَبِهِ فَكُلُّ من اجْتَهَدَ في طَلَبِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ في اجْتِهَادِهِ وَلِأَنَّهُ قد أَدَّى ما كُلِّفَ وإذا قُلْنَا بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ هل الْحَقُّ في كل وَاحِدٍ من الْمُجْتَهِدِينَ ما غَلَبَ على ظَنِّهِ أو نَقُولُ الْحَقُّ وَاحِدٌ وهو أَشْبَهُ مَطْلُوبٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم مُكَلَّفٌ بِمَا يَغْلِبُ على ظَنِّهِ لِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ قال الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فيه وَجْهَانِ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ مِنْهُمَا الْأَوَّلُ وَبِالثَّانِي أَجَابَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ وَحَكَوْهُ عن الْقَاضِي أبي حَامِدٍ وَالدَّارَكِيِّ انْتَهَى وَالْمَعْنَى أَنَّهُ هل يَرْجِعُ إلَيْهِ في كل مَسْأَلَةٍ حُكْمًا مَطْلُوبًا هو أَشْبَهُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ في غَالِبِ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَلِهَذَا قِيلَ هُنَاكَ أَشْبَهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِهِ فَقِيلَ هو ما غَلَبَ على ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ وَقِيلَ هو قُوَّةُ الشَّبَهِ لِقُوَّةِ الْأَمَارَةِ وقال ابن سُرَيْجٍ هو ما لو وَرَدَ بِهِ نَصٌّ لِطَابَقِهِ قال في الْمَنْخُولِ وَهَذَا حُكْمٌ على الْغَيْبِ وَقِيلَ ليس هُنَاكَ أَشْبَهُ وَالْجَمِيعُ وَاحِدٌ إلَّا ما عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ الْأَوْلَى أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن الْجُمْهُورِ وَحَكَاهُ عن الْأَشْعَرِيِّ وقال ابن الْقَطَّانِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَقَّ في كل ما أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ اخْتَلَفُوا هل نَصَّبَ اللَّهُ تَعَالَى أَدِلَّةً مُخْتَلِفَةً يُؤَدِّي اجْتِهَادُ كل وَاحِدٍ منهم إلَى دَلِيلٍ مَنْصُوبٍ أَمْ لَا على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا نعم كَالتَّخْيِيرِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيُّهَا فَعَلَ أَجْزَأَهُ فَكَذَا أَيْ الْأَدِلَّةُ صَارَ إلَيْهِ وَأَخَذَ بِهِ كان حَقًّا والثاني أَنَّهُ لم يُنَصِّبْ عليها دَلَالَةً وَإِنَّمَا الْأَمْرُ فيها على غَالِبِ الظَّنِّ لِأَنَّهُ الْمُتَعَبَّدُ بِهِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الصَّفِيَّ الْهِنْدِيَّ قد حَرَّرَ الْمَذَاهِبَ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَحْرِيرًا جَيِّدًا فقال الْوَاقِعَةُ التي وَقَعَتْ إمَّا أَنْ يَكُونَ عليها نَصٌّ أَمْ لَا فَإِنْ كان الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَجْتَهِدَ الْمُجْتَهِدُ أَمْ لَا وَالثَّانِي على قِسْمَيْنِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَصِّرَ في طَلَبِهِ أو لَا يُقَصِّرَ وَإِنْ وَجَدَهُ فَحَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ لم يَحْكُمْ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنْ كان مع الْعِلْمِ بِوَجْهِ
دَلَالَتِهِ على الْمَطْلُوبِ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ وِفَاقًا وَإِنْ لم يَكُنْ مع الْعِلْمِ وَلَكِنْ قُدِّرَ في الْبَحْثِ عنه فَكَذَلِكَ وَإِنْ لم يُقَصِّرْ بَلْ بَالَغَ في الِاسْتِكْشَافِ وَالْبَحْثِ ولم يَعْثُرْ على وَجْهِ دَلَالَتِهِ على الْمَطْلُوبِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ ما إذَا لم يَجِدْهُ مع الطَّلَبِ الشَّدِيدِ وَسَيَأْتِي وَإِنْ لم نَجِدْهُ فَإِنْ كان لِتَقْصِيرٍ في الطَّلَبِ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ وَإِنْ لم يُقَصِّرْ بِأَنْ بَالَغَ في التَّنْقِيبِ عنه وَأَفْرَغَ الْوُسْعَ في طَلَبِهِ وَمَعَ ذلك لم يَجِدْهُ فَإِنْ خَفِيَ عليه الرَّاوِي الذي عِنْدَهُ النَّصُّ أو عَرَفَهُ وَلَكِنْ مَاتَ قبل وُصُولِهِ إلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ قَطْعًا وَهَلْ هو مُخْطِئٌ أَمْ مُصِيبٌ على الْخِلَافِ الْآتِي فِيمَا لَا نَصَّ فيه وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا وَأَمَّا التي لَا نَصَّ فيها فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ لِلَّهِ فيها قبل اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ أو لَا بَلْ حُكْمُهُ تَابِعٌ لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ فَهَذَا الثَّانِي قَوْلُ من قال كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وهو مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ كَالشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي الْهُذَيْلِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِمْ وَنُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ عنهما خِلَافُهُ وَهَذَا في أَنَّهُ وَإِنْ لم يُوجَدْ في الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فَهَلْ وُجِدَ فيها ما لو حَكَمَ اللَّهُ فيها بِحُكْمٍ لَمَا حَكَمَ إلَّا بِهِ أو لم يُوجَدْ ذلك وَالْأَوَّلُ هو الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ وهو قَوْلُ كَثِيرٍ من الْمِصْرِيِّينَ وَإِلَيْهِ صَارَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بن الْحَسَنِ وابن سُرَيْجٍ في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عنه قال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ في الْأَشْبَهِ إلَى أَنَّهُ ليس هذا بَلْ هو أَوْلَى طُرُقِ الشَّبَهِ في الْمَقَايِيسِ وَالْعِبَرِ وَمَثَّلُوا ذلك بِإِلْحَاقِ الْأُرْزِ بِالْبُرِّ بِوَصْفِ الطُّعْمِ أو الْقُوتِ أو الْكَيْلِ وَأَحَدُ هذه الْأَوْصَافِ أَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْرَبُ في التَّمْثِيلِ وَأَمَّا الثَّانِي فَقَوْلُ الْمُخْلِصِ من الْمُصَوِّبَةِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ وهو أَنَّ لِلَّهِ في الْوَاقِعَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ عليه دَلَالَةٌ أو أَمَارَةٌ فَقَطْ أو ليس عليه دَلَالَةٌ وَلَا أَمَارَةٌ فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وهو أَنَّ على الْحُكْمِ دَلِيلًا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَهَؤُلَاءِ اتَّفَقُوا على أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ وَأَنَّهُ إذَا وَجَدَهُ فَهُوَ مُصِيبٌ وإذا أَخْطَأَهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في الْمُخْطِئِ هل يَأْثَمُ وَيَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ فَذَهَبَ بَشَرٌ إلَى التَّأْثِيمِ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ وَغُمُوضِهِ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا في أَنَّهُ هل يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فيه فَذَهَبَ الْأَصَمُّ إلَى أَنَّهُ يُنْقَضُ وَخَالَفَهُ الْبَاقُونَ وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي وهو أَنَّ على الْحُكْمِ أَمَارَةً فَقَطْ فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَكَثِيرٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فَمِنْ قَائِلٍ إنَّ الْمُجْتَهِدَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِإِصَابَتِهِ لِخَفَائِهِ وَغُمُوضِهِ وَإِنَّمَا هو مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ فَهُوَ وَإِنْ أَخْطَأَ على
تَقْدِيرِ عَدَمِ إصَابَتِهِ لَكِنَّهُ مَعْذُورٌ مَأْجُورٌ وهو مَنْسُوبٌ إلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وهو أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عليه وَلَا أَمَارَةَ فَذَهَبَ إلَيْهِ جَمْعٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَزَعَمُوا أَنَّ ذلك الْحُكْمَ كَدَفِينٍ قال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعُثُورَ عليه ليس بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الِاجْتِهَادُ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعُثُورَ عليه مِمَّا يَجِبُ على الْمُكَلَّفِ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَلِيلٌ الثَّانِي قال ابن فُورَكٍ هذا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ على إثْبَاتِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ فَأَمَّا من نَفَاهُ فَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ لَا غير الثَّالِثُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُصَوِّبَةُ حَدِيثُ بَعْثَةِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّرِيَّةِ لِسَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ وقال لَا تَنْزِلُوا حتى تَأْتُوهُمْ فَجَاءَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ في أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاخْتَلَفُوا حِينَئِذٍ فَمِنْهُمْ من نَزَلَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ تَوَجَّهَ وَمِنْهُمْ من تَمَادَى وَحَمَلَ قَوْلَهُ لَا تَنْزِلُوا على ظَاهِرِهِ فلما عُرِضَتْ الْقِصَّةُ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يُخَطِّئْ أَحَدًا منهم ولم يُؤَثِّمْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا اخْتَلَفَ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ في أَفْضَلِيَّةِ الْوِتْرِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا أَصَبْتُمَا وَكَذَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فَكَانَ مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ ولم يَعِبْ أَحَدٌ على أَحَدٍ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في أَفْضَلِيَّةِ الْعَزِيمَةِ على الرُّخْصَةِ أو الْعَكْسِ فَفَضَّلَ كُلٌّ جِهَةً وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَفْضَلِ وَصَوَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مع الِاخْتِلَافِ وَيُحْتَجُّ لِلْمُخَطِّئَةِ بِحَدِيثِ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَأَجْرٌ وَبِحَدِيثِ الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهُ لو لم يَكُنْ هَكَذَا لم يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى
وَبِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ وَإِنْ طَلَبَ مِنْك أَهْلُ حِصْنٍ النُّزُولَ على حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ على حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا الرَّابِعُ قد سَأَلَ الْمِصِّيصِيُّ الْغَزَالِيَّ عن هذه الْمَسْأَلَةِ فقال الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْوَقَائِعَ الشَّرْعِيَّةَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ ما فيه نَصٌّ صَرِيحٌ كَأَكْلِ الضَّبِّ على مَائِدَةِ الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ فَالْمُصِيبُ في مِثْلِ هذه الْمَسْأَلَةِ وَاحِدٌ إذْ النَّصُّ وَاحِدٌ وقد وَضَعَ الشَّرْعُ إبَاحَةَ الضَّبِّ وَعَلَى الْمُجْتَهِدِينَ تَعَرُّفُ ما وَضَعَهُ الشَّرْعُ فَمَنْ عَرَفَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ أَخْطَأَ النَّصَّ ولم يَعْثُرْ عليه فَقَدْ أَخْطَأَ أَيْ أَخْطَأَ النَّصَّ الذي كان مَأْمُورًا بِطَلَبِهِ وَلَوْ وَجَدَهُ لَلَزِمَهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ وَيَكُونُ النَّصُّ كَالْقِبْلَةِ في حَقِّهِ وَالْمُصِيبُ فيها وَاحِدٌ وَلَهُ أَجْرَانِ وَلِلْمُخْطِئِ أَجْرٌ الثَّانِي ما لَا نَصَّ فيه وَلَكِنْ يَدُلُّ النَّصُّ عليه كَسِرَايَةِ عِتْقِ الْأَمَةِ إذْ لَا نَصَّ فيها وَلَكِنْ يَدُلُّ النَّصُّ عليه وَكَذَلِكَ ما شَهِدَ له النَّصُّ شَهَادَةً جَلِيَّةً بِقِيَاسٍ جَلِيٍّ فَمَنْ أَخْطَأَ مَعْنَى النَّصِّ كَمَنْ أَخْطَأَ عَيْنَ النَّصِّ لِأَنَّ النَّصَّ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِمَعْنَاهُ لَا لِلَفْظِهِ وَمَهْمَا تَعَيَّنَ الْمَطْلُوبُ كان مُصِيبُهُ وَاحِدًا وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ أَخْطَأَ إلَّا أَنَّهُ أَخْطَأَ ما قَصَدَ الشَّرْعُ منه أَنْ يَعْثُرَ عليه وما لو عَثَرَ عليه وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ عليه وَهَذَا كَالْأَوَّلِ الثَّالِثُ ما لَا يَتَعَرَّضُ له الشَّرْعُ لَا بِلَفْظٍ يَخُصُّهُ وَلَا يَخُصُّ غَيْرَهُ وَيَسْرِي إلَيْهِ وَلَكِنْ لِلْخَلْقِ فيه أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فيه هو الْأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ فَاطْلُبُوهُ فَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى ما هو أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ فَكُلُّ ما عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ فَالْمُصِيبُ من أَمْرِ بِهِ وَمَنْ تَعَدَّاهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ لِأَنَّ الْأَصْلَحَ قد تَعَيَّنَ عِنْدَ اللَّهِ وَصَارَ مَطْلُوبًا وَكُلُّ من طَلَبَ شيئا مُعَيَّنًا فَإِمَّا أَنَّهُ يُصِيبُ وَإِمَّا أَنْ يُخْطِئَ فَيُتَصَوَّرُ فيه الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ وَكُلُّ ما تُصَوِّرَ فيه ذلك فَيُمَيَّزُ الْمُخْطِئُ لَا مَحَالَةَ في عِلْمِ اللَّهِ من الْمُصِيبِ
الرَّابِعُ ما ليس لِلشَّرْعِ فيه حُكْمٌ مُعَيَّنٌ وَلَكِنْ قِيلَ لِلْمُجْتَهِدِينَ اُطْلُبُوا الْحُكْمَ وَتَرَدَّدُوا بين رَأْيَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الرَّأْيَيْنِ مُسَاوٍ لِلْآخَرِ في الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْمُجْتَهِدِينَ هَاهُنَا مُصِيبٌ وَهَذَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ في الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ أَمَّا شَرْعًا فَكُلُّ حُكْمٍ نِيطَ بِاجْتِهَادِ الْوُلَاةِ كَتَفْرِقَةِ الْعَطَاءِ على الْمُسْلِمِينَ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ أو التَّفَاوُتِ كما اخْتَلَفَ فيه أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ إذْ ليس فيه نَصٌّ على عَيْنِهِ وَلَا على مَسْأَلَةٍ قَرِيبَةٍ منه يُقَالُ إنَّهُ في مَعْنَاهُ وَلَكِنْ فيه إهْمَالٌ لِمَصْلَحَةِ تَمَيُّزِ الْفَاضِلِ من الْفُضُولِ وهو من الْمَصَالِحِ وفي التَّفَاوُتِ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى وَمَهْمَا قُوبِلَ ما في إحْدَاهُمَا من الْمَضَرَّةِ بِمَا في إحْدَاهُمَا من الْمَصْلَحَةِ يَجُوزُ أَنْ تَتَرَجَّحَ إحْدَاهُمَا وَيَجُوزُ أَنْ تَتَسَاوَيَا في عِلْمِ اللَّهِ بِالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ وإذا تَسَاوَيَا في عِلْمِ اللَّهِ كان كُلُّ وَاحِدٍ صَوَابًا وَلَوْلَا هذا لَرَدَّ الْمَفْضُولُ في زَمَنِ عُمَرَ بَعْضَ ما أَخَذَهُ في زَمَانِ أبي بَكْرٍ أو لَامْتَنَعَ الْفَاضِلُ في زَمَنِ عُمَرَ من أَخْذِ الزِّيَادَةِ وَكُلُّهُمْ أَجْمَعُوا على أَخْذِ الْمَالَيْنِ وَتَقْرِيرِ الْحُكْمَيْنِ فَهَذَا منهم إجْمَاعٌ على أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعُقُوبَةِ وَالنَّفَقَاتِ كما في شُرْبِ الْخَمْرِ إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ في التَّرَقِّي إلَى الثَّمَانِينَ مَضَرَّةٌ من وَجْهٍ وَمَصْلَحَةٌ من وَجْهٍ وَكَذَا الِاقْتِصَارُ على الْأَرْبَعِينَ وَهُمَا عِنْدَ اللَّهِ مُتَسَاوِيَانِ بِالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ وَكَذَا كُلُّ وَاقِعَةٍ لَا نَصَّ فيها وَلَا هِيَ في مَعْنَى الْمَنْصُوصِ الْخَامِسُ مَسْأَلَةٌ تَدُورُ بين نَصَّيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ فَحُكْمُ اللَّهِ فيه الْأَصْلَحُ إنْ كان مَعْقُولَ الْمَعْنَى فَيُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الرَّابِعِ وَالثَّالِثِ وَحُكْمُ اللَّهِ فيه الْأَخْذُ بِالْأَشْبَهِ إذَا لم يَكُنْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وقد يَكُونُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ اللَّهِ أَشْبَهَ وقد تَكُونُ نِسْبَتُهُ في الشَّبَهِ إلَى الْجَانِبَيْنِ على التَّسَاوِي في عِلْمِ اللَّهِ فَهَذَا مُمْكِنٌ وإذا أَمْكَنَ فَكُلُّ وَاحِدٍ من الْقَوْلَيْنِ صَوَابٌ وَلَا مُخْطِئَ فيه إذْ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ يَسْتَدْعِي شيئا مُعَيَّنًا يَعْسُرُ الْوُقُوفُ عليه بِالصَّوَابِ وَعَنْ الْغَفْلَةِ عنه بِالْخَطَأِ وَهَاهُنَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ على الْآخَرِ فَإِذًا إنْ كان التَّسَاوِي في الصَّلَاحِ أو الشَّبَهِ مُمْكِنًا في عِلْمِ اللَّهِ فَقَدْ صَحَّ ما قُلْنَاهُ وَمَنْ أَنْكَرَ هذا وَإِمْكَانَهُ أَثْبَتَ عليه بِقَوَاطِعِ الْعَقْلِ فإن الْمُبَاحَاتِ كُلَّهَا إنَّمَا سَوَّى الشَّرْعُ بين فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا لِتَسَاوِيهَا عِنْدَهُ في صَلَاحِ الْخَلْقِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَحْكَامِ السِّيَاسَاتِ وَجَمِيعُ مَسَائِلِ تَقَابُلِ الْأَصْلَيْنِ يَكَادُ يَكُونُ من هذا الْجِنْسِ إذْ قَلَّمَا يَكُونُ فيها تَرْجِيحٌ فإذا قَضَى قَاضٍ بِتَحْلِيفِ أَحَدٍ وَقَضَى آخَرُ بِتَحْلِيفِ الْآخَرِ فَقَدْ أَصَابَا بَلْ أَقُولُ لو اسْتَوَى عِنْدَ قَاضٍ وَاحِدٍ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَضَرَّةُ في
أَمْرَيْنِ أو اسْتَوَى عِنْدَهُ الشَّبَهُ بِالْأَصْلَيْنِ أو الِاسْتِصْحَابُ في مُقَابِلِ الْأَصْلَيْنِ وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ صَارَ مُخَيَّرًا كما في سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ فَإِذًا من الْمَسَائِلِ ما يُعْلَم أَنَّ الْمُصِيبَ فيها وَاحِدٌ وهو كُلُّ ما يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْلُوَ عن حُكْمٍ مَذْكُورٍ في زَمَانِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَالْخَيْلِ مَثَلًا في أَنَّهُ هل يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ مع كَثْرَتِهِ في زَمَانِ الرَّسُولِ يُعْلَمُ أَنَّهُ ما أَغْفَلَهُ عن بَيَانِ حُكْمِهِ فَيَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَإِنْ لم يَبْلُغْنَا فيه نَصٌّ مَثَلًا فَهَذَا حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ عِنْدَ اللَّهِ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا يَطَّلِعُ عليه في حَقِّ آحَادِ الْأَشْخَاصِ وَأَعْيَانِ الْمَسَائِلِ وَيَدُلُّ على ذلك تَشْدِيدُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ في بَيْعِ الْعَيِّنَةِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذلك مُجَاوَزَةٌ لِحُكْمٍ ثَابِتٍ بِإِجْمَاعٍ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ في زَمَانِ عُمَرَ على أَخْذِ الْفَضْلِ يَدُلُّ على وُجُودِ الْقِسْمِ الثَّانِي انْتَهَى وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ اخْتَلَفُوا في كل مُجْتَهِدٍ في الْفُرُوعِ مُصِيبٌ أَمْ لَا وهو بِنَاءٌ على أَنَّهُ هل لِلَّهِ تَعَالَى في الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ أَمْ لَا وَلْنُقَدِّمْ عليه مُقَدِّمَةً وَهِيَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ وَنُصِبَ عليه الدَّلَائِلُ وَالْأَمَارَاتُ فإذا أُصِيبَ حَصَلَ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَجْرُ الْإِصَابَةِ وَالْآخَرُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ والثاني وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عليه فَمَنْ يَنْظُرْ إلَى هذا الْحُكْمِ الثَّانِي ولم يَنْظُرْ في الْأَوَّلِ قال إنَّ حُكْمَ اللَّهِ على كل أَحَدٍ ما أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَوَّلِ قال الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبِالنَّظَرِ إلَى وُجُوبِ الْمَصِيرِ إلَى ما أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ الذي في نَفْسِ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بِالنَّظَرِ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ وَأَصَابَ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْإِصَابَةِ وَالْخَطَأِ وهو يَسْتَلْزِمُ أَمْرًا مُعَيَّنًا وقَوْله تَعَالَى فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْسُوبٌ إلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ خَلَا أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وقال الْمُتَكَلِّمُونَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ قال وَنَحْنُ قد بَيَّنَّا غَوْرَ الْمَسْأَلَةِ وهو أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْإِصَابَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُكْمِ
على كل إنْسَانٍ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حَقٌّ وقد وَافَقَ الْغَزَالِيُّ الْمُتَكَلِّمِينَ وقال إنْ كان ثَمَّ تَقْصِيرٌ فَالْخَطَأُ وَاقِعٌ لِتَقْصِيرِهِ لَا لِخَطَئِهِ إصَابَةَ أَمْرٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ لم يَكُنْ ثَمَّ تَقْصِيرٌ فَلَا حُكْمَ في حَقِّهِ ما لم يَبْلُغْهُ النَّصُّ وَاسْتَدَلَّ بِمَسْأَلَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فإن أَهْلَ قُبَاءَ بَلَغَهُمْ النَّصُّ فَأَسْرَعُوا في الصَّلَاةِ ولم يَثْبُتْ الْحُكْمُ في حَقِّهِمْ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ عَدَمِ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الْمُخَابَرَةُ فإن ابْنَ عُمَرَ كان يُخَابِرُ وَلَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حتى بَلَغَهُ خَبَرُ رَافِعِ بن خَدِيجٍ بِالنَّهْيِ عنها انْتَهَى مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ وَإِنْ أَخْطَأَ قالوا بِأَنَّهُ مَأْجُورٌ على الِاجْتِهَادِ وَإِنْ أَخْطَأَ وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ مَأْجُورٍ على الْخَطَأِ وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ الْمُخْطِئُ آثِمٌ وَقِيلَ غَيْرُ مَأْجُورٍ وَلَا آثِمٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ بَلْ هو مَأْجُورٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْلَا هذه الْآيَةُ لَرَأَيْت أَنَّ الْحُكَّامَ قد هَلَكُوا ثُمَّ وَعَلَى مَاذَا يُؤْجَرُ اخْتَلَفُوا فقال الْمَاوَرْدِيُّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَأْجُورٌ على الِاجْتِهَادِ وَإِنْ أَخْطَأَ فيه لِقَصْدِهِ الصَّوَابَ وَإِنْ لم يَظْفَرْ بِهِ إنَّمَا لَا يُؤْجَرُ على الْخَطَأِ لِأَنَّ الْأَجْرَ لِلتَّرْغِيبِ في الْمُثَابِ وَلَا تَرْغِيبَ في الْخَطَأِ قال أبو إِسْحَاقَ وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْجَرَ على قَصْدِهِ وَإِنْ كان الْفِعْلُ خَطَأً كما لو اشْتَرَى رَقَبَةً فَأَعْتَقَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ ثُمَّ وَجَدَهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ بَعْدَ تَلَفِ ثَمَنِهَا وهو مَأْجُورٌ وَإِنْ لم يَصِحَّ شِرَاؤُهُ وَعِتْقُهُ لم يَقَعْ لِمَا أتى بِهِ من الْقَصْدِ إلَى فَكِّ الرَّقَبَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ قال وقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ على هذا وَأَيْضًا لَا بُدَّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْدِلَ في اجْتِهَادِهِ عن طُرُقٍ فَاسِدَةٍ فَيَفْتَحَ له فَاسِدَهَا إلَى طُرُقٍ مُسْتَقِيمَةٍ يَظُنُّ فيه الْحَقَّ فَعُدُولُهُ عن تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الْفَاسِدَةِ اجْتِهَادٌ صَحِيحٌ فَأُثِيبَ على ذلك قال أبو إِسْحَاقَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرَ أَنَّهُ يُؤْجَرُ على نِيَّتِهِ وَعَلَى نَفْسِ الِاجْتِهَادِ وَلَا يُؤْجَرُ على الْحُكْمِ لِخَطَئِهِ فيه فَأَمَّا اجْتِهَادُهُ بِمَا بَلَغَ فيه فَصَوَابٌ وما بَقِيَ عليه من اجْتِهَادِهِ إلَى بُلُوغِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَهُوَ مَعْذُورٌ في تَخَلُّفِهِ عنه لِأَنَّ فَهْمَهُ بَلَغَ فيه بَعْضَ طُرُقِهِ ولم يَبْلُغْ بِهِ أَقْصَى ما طَلَبَهُ وهو فِيمَا إذَا أتى بِهِ منه مَأْجُورٌ وَمُصِيبٌ فيه وَمَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةُ الْحَاجِّ الذي أُمِرَ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ لِيَبْلُغَ بِهِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَسَلَكَ بَعْضَ الطَّرِيقِ وَضَعُفَ عن
بَاقِيهِ وَتَلِفَتْ رَاحِلَتُهُ يُؤْجَرُ على الْقَدْرِ الذي قَصَدَهُ وَعَبَّرَ الْقَفَّالُ عن هذا فقال لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ في قَصْدِهِ الْخَطَأَ الْمَوْضُوعَ عنه وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ على إنْشَاءِ قَصْدِ الثَّوَابِ وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُومَ لِيَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ فَأَخْطَأَ في وَصْفِ الطَّرِيقِ وَعَدَلَ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ فَثَوَابُهُ من ابْتِدَاءِ قَصْدِهِ إلَى مَوْضِعِ عُدُولِهِ عن الْخَطَأِ قال وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا يُؤْجَرُ على الْخَطَأِ إنَّمَا لَا يُؤْجَرُ على قَصْدِ الثَّوَابِ وقد قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ من عَمَلِهِ وَلَهُ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ أَحَدُهَا أَنَّ نِيَّتَهُ في الِاجْتِهَادِ خَيْرٌ من خَطَئِهِ في الِاجْتِهَادِ وَثَانِيهَا أَنَّ نِيَّتَهُ خَيْرٌ من صَوَابِ عَمَلِهِ وَثَالِثُهَا أَنَّ النِّيَّةَ أَوْسَعُ من الْعَمَلِ لِأَنَّهَا تَسْبِقُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ فَتُعَجِّلُ عليها وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ ما قَالَهُ أبو إِسْحَاقَ أَوَّلًا أَصَحُّ لِأَنَّ ذلك الِاجْتِهَادَ هو خِلَافُ الِاجْتِهَادِ الذي يُصِيبُ بِهِ الْحَقَّ لِأَنَّهُ لو وَصَفَهُ في صِفَتِهِ وَرَتَّبَهُ على تَرْتِيبِهِ لَقَضَى بِهِ إلَى الْحَقِّ فَلَا يُؤْجَرُ عليه وَلَا على بَعْضِ أَجْزَائِهِ وقال أبو عبد اللَّهِ الطَّبَرِيُّ في الْعُدَّةِ يُثَابُ الْمُخْطِئُ على مَاذَا فيه قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا على الِاجْتِهَادِ كَرَجُلَيْنِ سَلَكَا الْجَامِعَ من طَرِيقَيْنِ قَصَدَ أَحَدُهُمَا الطَّرِيقَ أُثِيبَ عليه وَإِنْ لم يَصِلْ إلَى الْجَامِعِ والثاني على الْقَصْدِ كَرَجُلَيْنِ رَمَيَا إلَى كَافِرٍ فَأَصَابَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ يُثَابُ الْمُخْطِئُ على الْقَصْدِ وَحَكَاهَا الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِخُرَاسَانَ ثُمَّ قال وَإِطْلَاقُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ على ما بَيَّنْت وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ على الْخَطَأِ بَلْ على قَصْدِهِ الصَّوَابَ وَقِيلَ بَلْ على اسْتِدَادِهِ في تَقَصِّي النَّظَرِ فإن الْمُخْطِئَ يَسْتَدُّ أَوَّلًا ثُمَّ يَزُولُ قال وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْمُخْطِئَ قد يَحِيدُ في الْأَوَّلِ عن سُنَنِ الصَّوَابِ ثُمَّ هو مَأْجُورٌ بِحُكْمِ الْخَبَرِ لِقَصْدِ الصَّوَابِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ وقال الرَّافِعِيُّ في الشَّرْحِ ثُمَّ الْأَجْرُ على مَاذَا فيه وَجْهَانِ عن أبي إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيِّ أَحَدُهُمَا وهو ظَاهِرُ النَّصِّ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَأَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهُ على الْقَصْدِ إلَى الصَّوَابِ دُونَ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ أَفْضَى بِهِ إلَى الْخَطَأِ فَكَأَنَّهُ لم يَسْلُكْ الطَّرِيقَ الْمَأْمُورَ بِهِ قُلْت حَكَاهُ الْمُزَنِيّ في كِتَابِ ذَمِّ التَّقْلِيدِ عن النَّصِّ فقال قال الشَّافِعِيُّ في الحديث إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ لَا يُؤْجَرُ على الْخَطَأِ في الدِّينِ لم يُؤْمَرْ بِهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ لِإِرَادَتِهِ الْحَقَّ الذي أَخْطَأَهُ قال الْمُزَنِيّ فَقَدْ ثَبَتَ الشَّافِعِيُّ في هذا أَنَّ الْمُخْطِئَ أَحْدَثَ في الدِّينِ ما لم يُؤْمَرْ بِهِ ولم يُكَلِّفْهُ وَإِنَّمَا أَجْرُهُ على نِيَّتِهِ لَا على خَطَئِهِ انْتَهَى وَشَبَّهَهُ الْقَفَّالُ في الْفَتَاوَى بِرَجُلَيْنِ رَمَيَا إلَى كَافِرٍ فَأَخْطَأَ أَحَدُهُمَا يُؤْجَرُ على قَصْدِهِ الْإِصَابَةَ بِخِلَافِ السَّاعِي إلَى الْجُمُعَةِ إذَا فَاتَتْهُ يُؤْجَرُ على الْقَصْدِ وَإِنْ لم يَنَلْ ثَوَابَ الْعَمَلِ والثاني أَنَّهُ يُؤْجَرُ على الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ جميعا لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ في طَلَبِ الْحَقِّ وَالْوُقُوفِ عليه وَرُبَّمَا سَلَكَ الطَّرِيقَ في الِابْتِدَاءِ ولم يَتَيَسَّرْ له الْإِتْمَامَ قال ابن الرِّفْعَةِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ إذَا سَلَكَهُ في الِابْتِدَاءِ فَإِنْ حَادَ عنه في الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ بِأَنَّهُ لو كان الْقَصْدُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عُشْرَ أَجْرِ الْمُصِيبِ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من هَمَّ بِحَسَنَةٍ ولم يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ له حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ له عَشْرُ حَسَنَاتٍ قُلْت وقد جاء ذلك مُصَرَّحًا بِهِ في مُسْنَدِ أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وقد سَبَقَ بَيَانُ حَالِهِ في مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ في زَمَانِهِ قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ في الرَّجُلِ يَطَأُ أَمَتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها أُخْتُهُ أَمَّا في الْغَيْبِ فلم تَزَلْ أُخْتَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا وَأَمَّا في الظَّاهِرِ فَكَانَتْ له حَلَالًا ما لم يَعْلَمْ وَعَلَيْهِ حَرَامٌ حين عَلِمَ وَقِيلَ له إنَّ غَيْرَك يقول إنَّهُ لم يَزَلْ آثِمًا بِإِصَابَتِهَا وَلَكِنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عنه
مَسْأَلَةٌ نُقِلَ عن دَاوُد وَأَصْحَابِ الظَّاهِرِ أَنَّ كُلَّ من أَفْتَى في حَادِثَةٍ بِحُكْمٍ يُرِيدُ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ فَهُوَ مُصِيبٌ سَوَاءٌ كان مُجْتَهِدًا أو لم يَكُنْ وَهَذَا يَزِيدُ على الْعَنْبَرِيِّ لِأَنَّ ذَاكَ صَوَّبَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ في الْأَصْلِ وَهَذَا صَوَّبَ في كل شَيْءٍ وَإِنْ لم يَكُنْ مُجْتَهِدًا بَعْدَمَا بَذَلَ وُسْعَهُ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ من صَوَّبَ الْمُجْتَهِدِينَ شَرَطَ في ذلك أَنْ لَا يَكُونَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ يَنْقُضُ الْحُكْمَ الْمُسْتَنِدَ إلَيْهِ قَالَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في قَوَاعِدِهِ قال وَلِهَذَا لم يَكُنْ شُرْبُ الْحَنَفِيِّ لِلنَّبِيذِ مُبَاحًا وَإِنْ قُلْنَا بِتَصْوِيبِهِمْ وقد أَوْرَدَ على الْقَائِلِينَ بِهِ قَوْلَهُمْ إنَّهُ لَا حُكْمَ في النَّازِلَةِ مُعَيَّنًا فَصَارَ كَمَنْ يقول ليس في الْبَيْتِ مَتَاعٌ وَكُلُّ من وَجَدَ فيه مَتَاعًا وَجَدَهُ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يَعْنِي لَا حُكْمَ أَيْ مُعَيَّنًا فيها فَيُدْرَكُ قبل الطَّلَبِ كما يُدْرَكُ بِغَيْرِ طَلَبٍ من النَّصِّ الظَّاهِرِ بَلْ فيها حُكْمٌ لها وَلِغَيْرِهَا يُدْرِكُهُ الْمُجْتَهِدُ عِنْدَ تَصَفُّحِ قَوَانِينِ الشَّرْعِ الْكُلِّيَّةِ تَلْحَقُ بها الْجُزَيْئَاتُ فَفِي كل مَسْأَلَةٍ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ على هذا الْوَجْهِ قال تَعَالَى ما فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ من شَيْءٍ الثَّانِي قِيلَ على أُصُولِ الْمُصَوِّبَةِ إنَّا نَقْطَعُ بِالْأَحْكَامِ وَإِنَّ الْمُخَطِّئَةَ تَظُنُّهَا ظَنًّا قال ابن الْمُنَيَّرِ وهو عِنْدِي وَهْمٌ على الْقَوْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَوِّبَةَ تَقُولُ لَا يَكْفِيهِ أَيُّ ظَنٍّ كان بَلْ لَا بُدَّ من اجْتِهَادٍ وَبَذْلِ وَسْعٍ في تَصْحِيحِ الْمُقْتَضَى وَتَحْقِيقِ الشَّرْطِ وَرَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ بِحَيْثُ لو دخل بِذَلِكَ لَكَانَ مُخْطِئًا آثِمًا الثَّالِثُ قِيلَ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ ليس كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا قَوْلُ من قال من الْمُجْتَهِدِينَ ليس كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لِأَنَّهُ إنْ أَصَابَ فما قَالَهُ حَقٌّ وَإِنْ أَخْطَأَ فَقَدْ نَقَضَ قَوْلَهُ فلم يَكُنْ كُلُّ مُجْتَهِد مُصِيبًا وَلَك في حَلِّ هذه الشُّبْهَةِ طُرُقٌ إحْدَاهَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ كما صَرَّحَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ وَالْخِلَافُ في أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ إنَّمَا هو في الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ أَمَّا الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ فَالْمُصِيبُ فيها وَاحِدٌ قَطْعًا الثَّانِيَةُ يَلْتَزِمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ في قَوْلِهِ ليس كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وَلَكِنْ لَمَّا قُلْت أَنَّهُ
يَلْزَمُ من ذلك أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ في نَفْسِ الْأَمْرِ ليس إلَّا أَنَّهُ ليس كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وَقَوْلُك أَنَّهُ مُصِيبٌ قُلْنَا وَكَذَلِكَ خَصْمُهُ أَيْضًا مُصِيبٌ بِنَاءً على الْقَوْلِ الْمُصَوِّبِ بِحُكْمِ اللَّهِ في حَقِّ هذا أَنَّهُ ليس كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا غير أَنَّهُ في حَقِّ خَصْمِهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ الرَّابِعُ سَلَّمْنَا أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ من الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ لَكِنْ ما الذي يَعْنِي الْقَائِلُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ بُطْلَانَ قَوْلِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أو يَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ وَإِنْ عَنَيْت بِالْبَاطِلِ ما لَا يَكُونُ مُطَابِقًا لِمَا في نَفْسِ الْأَمْرِ وَبِالصِّحَّةِ ما يَكُونُ مُطَابِقًا له فَهُوَ فَاسِدٌ مِنَّا لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ كَيْفَ وَأَنَّ مَذْهَبَ الْقَائِلِ بِتَصْوِيبِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ له أَصْلًا وَإِنَّمَا الْأَحْكَامُ تَابِعَةٌ لِظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِنْ عَنَيْت بِالْبَاطِلِ وَالْحَقِّ ما في ظَنِّ الْمُجْتَهِدِينَ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ في الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ فَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ على هذا التَّقْدِيرِ حَقٌّ وَصَوَابٌ فَإِذًا الْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ الْكُلِّ وَعَدَمِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ لِأَنَّهُ غَالِبٌ على ظَنِّ تَقْيِيدِهِ الْخَامِسُ إنَّ من فُرُوعِ هذه الْمَسْأَلَةِ اقْتِدَاءَ الشَّافِعِيِّ كما قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ وَالْأَصَحُّ فيه الصِّحَّةُ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ إخْلَالُهُ بِمَا يَشْتَرِطُهُ وَيُوجِبُهُ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْمُخَالَفَةِ حِينَئِذٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا رَاجِحًا عِنْدَهُ وَلِهَذَا قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ لَا يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُفَوِّضَ الْقَضَاءَ إلَى الْحَنَفِيِّ في مَسْأَلَةٍ يَعْتَقِدُ الْمُفَوِّضُ أَنَّ مَذْهَبَ أبي حَنِيفَةَ فيها غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُعِينُ على ما يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ قال وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ الْحُكْمَ فيها لِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَيُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ فَلَا يَكُونُ الْمُفَوِّضُ عِنْدَ التَّفْوِيضِ مُعِينًا على ما يَعْتَقِدُ مَنْعَهُ فُرُوعٌ الْأَوَّلُ قد رَاعَى الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ خِلَافَ الْخَصْمِ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وهو إنَّمَا يَتَمَشَّى على الْقَوْلِ بِأَنَّ مُدَّعِيَ الْإِصَابَةِ لَا يَقْطَعُ بِخَطَأِ مُخَالِفِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمَّا كان يَجُوزُ خِلَافُ ما غَلَبَ على ظَنِّهِ وَنَظَرَ في مُتَمَسِّكِ خَصْمِهِ فَرَأَى له مَوْقِعًا رَاعَاهُ على وَجْهٍ لَا يُخِلُّ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ وَأَكْثَرُهُ من بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَعِ وَهَذَا من دَقِيقِ النَّظَرِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ وقال الْقُرْطُبِيُّ وَلِذَلِكَ رَاعَى مَالِكٌ الْخِلَافَ قال وَتَوَهَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُرَاعِي صُورَةَ الْخِلَافِ وهو جَهْلٌ أو عَدَمُ إنْصَافٍ وَكَيْفَ هذا وهو لم يُرَاعِ كُلَّ خِلَافٍ وَإِنَّمَا رَاعَى خِلَافًا لِشِدَّةِ قُوَّتِهِ