كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي
وَالْإِفَاقَةِ تُضَادُّ حَالَاتِ الصِّبَا وَالنَّوْمِ وَالْجُنُونِ وَقُصِدَ بِالْغَايَةِ هُنَا اسْتِيعَابُ رَفْعِ الْقَلَمِ لِتِلْكَ الْأَزْمِنَةِ بِحَيْثُ لم يَدَعْ وَلَا آخِرَ الْأَزْمِنَةِ الْمُلَاصِقَةِ لِلْبُلُوغِ وَالِاسْتِيقَاظِ وَالْإِفَاقَةِ وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِلْعُمُومِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى حتى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قُصِدَ بِهِ تَحْقِيقُ أَنَّ الْحَالَةَ الْمُلَاصِقَةَ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِمَّا شَمِلَهُ سَلَامٌ بِمَا قَبْلَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فإن حَالَةَ الطُّهْرِ لَا يَشْمَلُهَا اسْمُ الْحَيْضِ وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ غَايَةٌ شَمِلَهَا الْعُمُومُ أَتَتْ أو لم تَأْتِ فَهَذِهِ أَيْضًا لَا يُؤْتَى بها إلَّا لِتَحْقِيقِ الْعُمُومِ كَقَوْلِك قَرَأْتُ الْقُرْآنَ من فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ الْمُرَادُ تَحْقِيقُ قِرَاءَتِك لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ بِحَيْثُ لم تَدَعْ منه شيئا وَكَذَلِكَ قَطَعْت أَصَابِعَهُ من الْخِنْصَرِ إلَى الْبِنْصِرِ الْمُرَادُ تَحْقِيقُ الْعُمُومِ وَاسْتِغْرَاقُهُ لَا تَخْصِيصُهُ انْتَهَى وَحَاصِلُهُ أَنَّ ما يَشْمَلُهُ الْعُمُومُ لو لم يَأْتِ هو مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ وَوَرَاءَهُ صُورَتَانِ ما لم يَشْمَلْهُ أَلْبَتَّةَ وما يَشْمَلُهُ وَإِنْ أَتَتْ وَهَاتَانِ لَا تَكُونُ الْغَايَةُ فِيهِمَا لِلتَّخْصِيصِ هذا كُلُّهُ في حُكْمِ ما بَعْدَ الْغَايَةِ نَفْسِهَا هل يَدْخُلُ في الْمُغَيَّا كَقَوْلِك أَكَلْت حتى قُمْتُ هل يَكُونُ الْقِيَامُ مَحَلًّا لِلْأَكْلِ فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهُ وَالثَّانِي لَا يَدْخُلُ وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ كما قَالَهُ الْإِمَامُ في بَرْهَانٍ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على شَيْءٍ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ هو ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ في بَابِ الْوُضُوءِ وَالرَّابِعُ إنْ كان من جِنْسِهِ دخل وَإِلَّا فَلَا نَحْوُ بِعْتُك التُّفَّاحَ إلَى هذه الشَّجَرَةِ فَيُنْظَرُ في تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَهِيَ من التُّفَّاحِ فَتَدْخُلُ أَمْ لَا فَلَا تَدْخُلُ قَالَهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في بَابِ الْوُضُوءِ وَحَكَاهُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ عن الْمُبَرِّدِ وَالْخَامِسُ قال في الْمَحْصُولِ وهو الْأَوْلَى إنْ تَمَيَّزَ عَمَّا قَبْلَهُ بِالْحِسِّ نَحْوُ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ فإن حُكْمَ ما بَعْدَهَا خِلَافُ ما قَبْلَهَا وَإِنْ لم يُمَيِّزْ حِسًّا
اسْتَمَرَّ ذلك الْحُكْمُ على ما بَعْدَهُ مِثْلُ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ فإن الْمِرْفَقَ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ عن الْيَدِ بِمِفْصَلٍ مَحْسُوسٍ قال الْقَرَافِيُّ وَقَوْلُ الْإِمَامِ يَكُونُ ما بَعْدَهَا مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا مَدْخُولٌ من جِهَةِ أَنَّا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَعْدَ الْغَايَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِلَافِ فيه وَالْخِلَافُ ليس إلَّا في الْغَايَةِ نَفْسِهَا وَالسَّادِسُ إنْ اقْتَرَنَ بِمِنْ لم يَدْخُلْ نَحْوُ بِعْتُك من هذه الشَّجَرَةِ إلَى هذه الشَّجَرَةِ فَلَا يَدْخُلُ في الْبَيْعِ وَإِنْ لم يَقْتَرِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَحْدِيدًا وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مع قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ إنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَأَنْكَرَهُ عليه ابن خَرُوفٍ وقال لم يذكر سِيبَوَيْهِ منه حَرْفًا وَلَا هو مَذْهَبُهُ وَاَلَّذِي قَالَهُ في كِتَابِهِ إنَّ إلَى مُنْتَهَى الِابْتِدَاءِ تَقُولُ من مَكَانِ كَذَا إلَى كَذَا وَكَذَلِكَ حتى قال وَلَهَا في الْفِعْلِ حَالُ ليس لِإِلَى تَقُولُ قُمْت إلَيْهِ فَتَجْعَلُهُ مُنْتَهَاك من مَكَانِك وَلَا تَكُونُ حتى هُنَا فَهَذَا أَثَرُ إلَى وَأَصْلُهَا وَإِنْ اتَّسَعَتْ فَهِيَ أَعَمُّ في الْكَلَامِ من حتى تَقُولُ قُمْتُ إلَيْهِ فَتَجْعَلُهُ مُنْتَهَاك من مَكَانِك وَلَا تَقُولُ حَتَّاهُ هذا لَفْظُ سِيبَوَيْهِ ولم يذكر في كِتَابِهِ غير ذلك وَهَذَا كُلُّهُ في غَايَةِ الِانْتِهَاءِ أَمَّا غَايَةُ الِابْتِدَاءِ فَفِيهَا قَوْلَانِ فَقَطْ قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَطَرَدَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فيها فقال وَفِيهَا مَذَاهِبُ يَدْخُلَانِ لَا يَدْخُلَانِ ثَالِثُهَا تَدْخُلُ غَايَةُ الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ رَابِعُهَا إنْ قَرُبَ حِسًّا خَرَجَتْ وَإِلَّا دَخَلَتْ خَامِسُهَا إنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ خَرَجَتْ ثُمَّ قال الْقَرَافِيُّ وَهَذَا الْخِلَافُ مَخْصُوصٌ بِإِلَى وَلَا يَجْرِي في حتى لِقَوْلِ النُّحَاةِ إنَّ الْمَعْطُوفَ بِحَتَّى شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ من جِنْسِ ما قَبْلَهَا وَدَاخِلًا في حُكْمِهِ وَآخِرُ جُزْءٍ منه أو مُتَّصِلًا بِهِ أو فيه مَعْنَى التَّعْظِيمِ أو التَّحْقِيرِ فَقَطَعُوا بِانْدِرَاجِ ما بَعْدَهَا في الْحُكْمِ وَخَالَفَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ قال بَلْ يَجْرِي فيها وَهِيَ إذَا جَاءَتْ عَاطِفَةً لَيْسَتْ بِمَعْنَى إلَى فَلَا مُنَافَاةَ بين قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ هذا الْخِلَافَ مَحَلُّهُ في غَايَةٍ يَتَقَدَّمُهَا لَفْظٌ يَشْمَلُهَا على ما سَبَقَ تَقْرِيرُهُ الثَّانِي أَنَّ من شَرْطِ الْمُغَيَّا أَنْ يَثْبُتَ قبل الْغَايَةِ وَيَتَكَرَّرَ حتى يَصِلَ إلَيْهَا
كَقَوْلِك سِرْت من الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ فإن السَّيْرَ الذي هو الْمُغَيَّا ثَابِتٌ قبل الْكُوفَةِ وَيَتَكَرَّرُ في طَرِيقِهَا وَعَلَى هذا يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى إلَى الْمَرَافِقِ غَايَةً لِغَسْلِ الْيَدِ لِأَنَّ غَسْلَ الْيَدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْوُصُولِ إلَى الْإِبِطِ فَلَيْسَ ثَابِتًا قبل الْمِرْفَقِ الذي هو غَايَةٌ فَلَا يَنْتَظِمُ غَايَةً له وَإِنَّمَا يَنْتَظِمُ أَنْ لو قِيلَ اغْسِلُوا إلَى الْمَرَافِقِ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الْغُسْلِ ثَابِتٌ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَمُتَكَرِّرٌ قال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُغَيَّا غير الْغُسْلِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ اُتْرُكُوا من آبَاطِكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ فَيَكُونُ مُطْلَقُ التَّرْكِ ثَابِتًا قبل الْمِرْفَقِ وَيَتَكَرَّرُ إلَيْهِ وَيَكُونُ الْغُسْلُ نَفْسُهُ لم يُغَيَّ في هذا يَتَعَارَضُ الْمَجَازُ وَالْإِضْمَارُ فإنه إمَّا أَنْ يَتَجَوَّزَ بِلَفْظِ الْيَدِ إلَى جُزْئِهَا حتى يَثْبُتَ قبل الْغَايَةِ وَلَا يُضْمَرُ وَإِمَّا أَنْ يُضْمَرَ كما يقول هذا الْحَنَفِيُّ وَمِنْ هذا قَوْله تَعَالَى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الصِّيَامِ بِوَصْفِ التَّمَامِ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ وَيَتَكَرَّرُ إلَى غُرُوبِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَيُشْكَلُ كَوْنُ اللَّيْلِ غَايَةً لِلصَّوْمِ التَّامِّ وَإِنَّمَا يَنْتَظِمُ لو قِيلَ صُومُوا إلَى اللَّيْلِ قال الْقَرَافِيُّ أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ وَأَجَابَ عنه بِأَنَّ الْمُرَادَ أَتِمُّوا كُلَّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الصَّوْمِ بِسُنَنِهِ وَفَضَائِلِهِ وَكَرِّرُوا ذلك إلَى اللَّيْلِ وَالْكَمَالُ في الصَّوْمِ قد يَحْصُلُ في جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الصَّوْمِ دُونَ جُزْءٍ من جِهَةِ اجْتِنَابِ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَغَيْرِ ذلك مِمَّا يَأْبَاهُ الصَّوْمُ وَكَذَلِكَ آدَابُهُ الْخَاصَّةُ كَتَرْكِ السِّوَاكِ وَالتَّفَكُّرِ في أُمُورِ النِّسَاءِ وَغَيْرِ ذلك فَأُمِرْنَا بِتَكْرِيرِ هذا إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ الثَّالِثُ أَنَّ أَصْحَابَنَا في الْفُرُوعِ صَحَّحُوا عَدَمَ دُخُولِهَا فيها إذَا قال بِعْتُك من هذا الْجِدَارِ إلَى هذا الْجِدَارِ لم يَدْخُلْ الْجِدَارَانِ في الْبَيْعِ وَصَحَّحُوا دُخُولَ غَايَةِ الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ فِيمَا لو قال له عَلَيَّ من دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أو ضَمِنْت مَالَك عليه من دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ فَالصَّحِيحُ لُزُومُ تِسْعَةٍ وَلَوْ شُرِطَ في الْبَيْعِ الْخِيَارُ إلَى اللَّيْلِ انْقَطَعَ الْخِيَارُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فإنه أَثْبَتَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِثَمَنٍ إلَى شَهْرٍ لم يَدْخُلْ الشَّهْرُ الثَّانِي في الْأَجَلِ وَلَوْ وَكَّلَهُ في بَيْعِ عَيْنٍ بِعَشَرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ إلَى يَوْمِ الْخَمِيسِ لم يَدْخُلْ يَوْمُ الْخَمِيسِ في الْأَجَلِ قَالَهُ في الْبَحْرِ وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَن حَقَّهُ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ لم يَدْخُلْ رَأْسُ الشَّهْرِ في الْيَمِينِ بَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْقَضَاءِ عليه وَلَوْ قال أَرَدْت بِإِلَى مَعْنَى عِنْدَ فَفِي قَبُولِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْغَزَالِيُّ في الْبَسِيطِ وَرَجَّحَ الْقَبُولَ
التَّخْصِيصُ بِالْبَدَلِ أَعْنِي بَدَلَ الْبَعْضِ من الْكُلِّ نَحْوُ أَكَلْت الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ منهم ذَكَرَهُ ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرِهِ وَأَنْكَرَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ قال لِأَنَّ الْمُبْدَلَ كَالْمَطْرُوحِ فلم يَتَحَقَّقْ فيه مَعْنَى الْإِخْرَاجِ وَالتَّخْصِيصُ لَا بُدَّ فيه من الْإِخْرَاجِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا أَنَّ تَقْدِيرَهُ وَلِلَّهِ حِجُّ الْبَيْتِ على من اسْتَطَاعَ وَكَذَا أَنْكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ وَهَذَا أَحَدُ الْمَذَاهِبِ فيه وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ ليس في نِيَّةِ الطَّرْحِ قال السِّيرَافِيُّ زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهُ في حُكْمِ تَنْحِيَةِ الْأَوَّلِ وهو الْمُبْدَلُ منه وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إلْغَاءَهُ وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّ الْبَدَلَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ تَبْيِينًا لِلْأَوَّلِ كَتَبْيِينِ النَّعْتِ الذي هو تَمَامُ الْمَنْعُوتِ وهو معه كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَمِنْهُمْ من قال لَا يَحْسُنُ عَدْلُ الْبَدَلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ في قَوْلِنَا أَكَلْت الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ يُشْبِهُ الْعَامَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ لَا الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ إذَا جَعَلْنَاهُ من الْمُخَصِّصَاتِ فَلَا يَجِيءُ فيه خِلَافُ الِاسْتِثْنَاءِ في اشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْأَكْثَرِ بَلْ سَوَاءٌ قَلَّ ذلك الْبَعْضُ أو سَاوَاهُ أو زَادَ عليه كَأَكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ أو نِصْفَهُ أو ثُلُثَيْهِ الثَّانِي يُلْتَحَقُ بِبَدَلِ الْبَعْضِ ذلك بَدَلُ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ في كِلَيْهِمَا بَيَانًا وَتَخْصِيصًا لِلْمُبْدَلِ منه التَّخْصِيصُ بِالْحَالِ هو في الْمَعْنَى كَالصِّفَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا عَادَ إلَى الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ وَنَحْوُ أَكْرِمْ رَبِيعَةَ وَأَعْطِ مُضَرَ نَازِلِينَ بِك لَكِنْ صَرَّحَ في الْمَحْصُولِ بِأَنَّا نَخُصُّهُ بِالْأَخِيرَةِ على قَاعِدَةِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّخْصِيصُ بِالظَّرْفَيْنِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ نَحْوُ أَكْرِمْ زَيْدًا الْيَوْمَ أو في مَكَانِ كَذَا وَلَوْ تَعَقَّبَ جُمَلًا فَظَاهِرُ كَلَامِ
الْبَيْضَاوِيِّ الِاتِّفَاقُ على رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ وَصَرَّحَ في الْمَحْصُولِ في الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بِأَنَّا نَخُصُّهُ بِالْأَخِيرَةِ أَمَّا لو تَوَسَّطَ فذكر ابن الْحَاجِبِ في مَسْأَلَةِ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ أَنَّ قَوْلَنَا ضَرَبْت زَيْدًا يوم الْجُمُعَةِ وَعَمْرًا ما يَقْتَضِي أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُقَيِّدُونَ بِهِ الثَّانِي أَيْضًا وقال أبو الْبَرَكَاتِ بن تَيْمِيَّةَ فَأَمَّا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مِثْلُ أَنْ تَذْكُرَ جُمَلًا ثُمَّ تَقُولَ على أَنَّهُ أو بِشَرْطِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ قَوْلًا وَاحِدًا لِتَعَلُّقِهِ بِالْكَلَامِ لَا بِالِاسْمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ التَّمْيِيزُ نَحْوُ له عِنْدِي مِلْءُ هذا ذَهَبًا وَإِنْ تَعَقَّبَ جُمَلًا فَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ عَوْدُهُ إلَى الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فيه ما سَبَقَ في الْحَالِ وَيَشْهَدُ لِلْخِلَافِ عِنْدَنَا ما لو قال له عِنْدِي كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ على الْمَذْهَبِ وفي قَوْلٍ دِرْهَمٌ وَشَيْءٌ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ في الْعَوْدِ إلَى الْجَمِيعِ وَالثَّانِي ظَاهِرٌ في اخْتِصَاصِهِ بِالْأَخِيرَةِ وما لو قال له عَلَيَّ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا هل قَوْلُهُ دِرْهَمًا تَفْسِيرٌ لِمَا يَلِيهِ من الْجُمْلَتَيْنِ أو هو تَفْسِيرٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ فيه وَجْهَانِ وَحَكَاهُمَا الشَّاشِيُّ في الْحِلْيَةِ وَنُسِبَ الْأَوَّلُ لِلْإِصْطَخْرِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ وَالثَّانِي لِلْجُمْهُورِ وَبَنَى عَلَيْهِمَا ما لو قال بِعْتُك هذا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ وَعَلَى الثَّانِي يَصِحُّ مَسْأَلَةٌ الْمُمَيِّزِ إذَا وَرَدَ على شَيْئَيْنِ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِلْمَجْمُوعِ فيه خِلَافٌ يَتَخَرَّجُ عليه مَسْأَلَةٌ لو قال إنْ حِضْتُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَالثَّانِي لِلْمَجْمُوعِ وهو مُحَالٌ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا بِمُسْتَحِيلٍ وَمِثْلُهُ إنْ دَخَلْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ
الْمَفْعُولُ معه وَلَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُقَيِّدٌ لِلْفِعْلِ وَيَفْتَرِقَانِ من جِهَةِ أَنَّ الْمَفْعُولَ له هو الْغَرَضُ الْحَامِلُ على الْفِعْلِ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْفِعْلِ في الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ معه قال بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ وفي الْمَفْعُولِ معه الْفَاعِلُ مُصَاحِبٌ له لَا أَنَّهُ مُشْتَرِكٌ مع صَاحِبِ الْفِعْلِ في الْفِعْلِ مَسْأَلَةٌ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ اخْتَلَفُوا في الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ إذَا أَمْكَنَ إفْرَادُ كل وَاحِدٍ بِلَفْظِهَا وَحُكْمِهَا وَقَامَ الدَّلِيلُ على تَخْصِيصِ إحْدَاهُمَا من غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ أو وَصْفٍ مُتَّصِلٍ بِهِمَا فقال الْأَكْثَرُونَ إنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَا اتَّصَلَ بِهِ وَلَا يُحْمَلُ على حُكْمِهِ إلَّا بِمِثْلِ دَلِيلِهِ وقال آخَرُونَ إنَّهُ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا وإذا لم يُمْكِنْ إفْرَادُ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْحُكْمِ وَاللَّفْظِ كَانَتَا كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ عَامِلٌ فيها مَعًا وَإِنْ اخْتَصَّتْ الدَّلَالَةُ بِإِحْدَاهُمَا مَسْأَلَةٌ قال وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ في الضَّمِيرِ وإذا اتَّصَلَ بِأَحَدِ الْأَجْنَاسِ مع الْعَطْفِ فإنه يَعُودُ إلَى الْجَمِيعِ كَقَوْلِهِمْ أَعْطَيْتُ بَنِي زَيْدٍ وَأَكْرَمْتُ بَنِي عَمْرٍو وَأَكْرَمُونِي وَأَعْطَوْنِي وَكَقَوْلِهِمْ جَاءَنِي بَنُو فُلَانٍ وَهُمْ أَكَلُوا فَالْهَاءُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ وَالْأَلِفُ في الْجَمِيعِ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ لَا يُخَصُّ منه شَيْءٌ إلَّا بِدَلِيلٍ فَإِنْ جُمِعَ بين الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فَإِنْ وُصِلَ الْكَلَامُ بِسِمَةِ الْجَمْعِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْإِنَاثِ كانت لِلْجِنْسِ الْمُخْتَصِّ بها في أَصْلِ الْوَضْعِ كَقَوْلِك جَاءَنِي مُسْلِمُونَ وَمُؤْمِنَاتٌ فَأَكَلْنَ وَيَجُوزُ حَمْلُهُ على الْجَمِيعِ بِدَلِيلٍ نَحْوُ فَأَكَلْنَ وَأَكَلُوا على الِاخْتِصَارِ وَإِنْ وُصِلَ بِالسِّمَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِجَمْعِ الذُّكُورِ فَالظَّاهِرُ رُجُوعُهَا إلَى الذُّكُورِ وَلَا يُحْمَلُ على الْجَمِيعِ إلَّا بِدَلِيلٍ قال وَلَا فَرْقَ في ذلك بين تَقْدِيمِهِمْ ما تَعُودُ الْكِنَايَةُ إلَيْهِ على غَيْرِ جِنْسِهِ أو تَقْدِيمِ جِنْسِهِ عليه في أَنَّ الظَّاهِرَ رَدُّ الضَّمِيرِ
مَسْأَلَةٌ إذَا ذُكِرَ حُكْمٌ وَعُقِّبَ بِشَرْطٍ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ إشَارَةٌ هل تَعُودُ لِلشَّرْطِ أو لِلْأَصْلِ فيه خِلَافٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ أَصْلُهُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْمَكِّيِّ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ وَلَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُكْرَهُ وَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ من قَوْله تَعَالَى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ إلَى أَنْ قال ذلك لِمَنْ لم يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَعِنْدَنَا ذلك يَرْجِعُ إلَى الدَّمِ وَعِنْدَهُ إلَى أَصْلِ التَّمَتُّعِ
التَّخْصِيصُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُرَادُ منه ما يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ في ثُبُوتِهِ إلَى ذِكْرِ لَفْظِ الْعَامِّ معه وقد ذَكَرُوهَا ثَلَاثَةً الْحِسُّ وَالْعَقْلُ وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ قال الْقَرَافِيُّ وَالْحَصْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَقَدْ بَقِيَ التَّخْصِيصُ بِالْعَوَائِدِ كَقَوْلِك رَأَيْت الناس أَفْضَلَ من زَيْدٍ الْعَادَةُ تَقْتَضِي بِأَنَّك لم تَرَ كُلَّ الناس وَكَذَا التَّخْصِيصُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ كَقَوْلِك لِغُلَامِك ائْتِنِي بِمَنْ يُحَدِّثُنِي فإن ذلك لَنْ يَصْلُحَ لِحَدِيثِهِ في مِثْلِ حَالِهِ وَالتَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ دُخُولَهُ في السَّمْعِيِّ قُلْت وقد ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْقَرَائِنَ قد تَقْوَى فَيَتْرُكُ لها إطْلَاقَ اللَّفْظِ قال أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ في الصَّيْفِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ لَا يَشْتَرِيهِ في الشِّتَاءِ قال وقد يَتَعَادَلُ اللَّفْظُ وَالْقَرِينَةُ وَيَنْشَأُ من تَعَادُلِهِمَا خِلَافٌ في الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ نُقِلَ بَعْدَ أَوْرَاقٍ عن الْإِمَامِ في الْكَلَامِ على أَنَّ الْوَكِيلَ هل يُوَكِّلُ أَنَّ الْخِلَافَ نَاظِرٌ إلَى اللَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ وفي الْقَرِينَةِ تَرَدُّدٌ في التَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ وفي هذا فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْقَرَائِنَ قد يَثْبُتُ فيها الْعُمُومُ الْأَوَّلُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ضَرُورِيًّا كان أو نَظَرِيًّا فَالْأَوَّلُ كَتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ ليس خَالِقًا لِنَفْسِهِ وَالثَّانِي كَتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ على الناس الْآيَةَ فَإِنَّا نُخَصِّصُ الطِّفْلَ وَالْمَجْنُونَ لِعَدَمِ فَهْمِهِمَا الْخِطَابَ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَلَا خِلَافَ بين أَهْلِ الْعِلْمِ في ذلك قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصِّيغَةَ الْعَامَّةَ إذَا وَرَدَتْ وَاقْتَضَى الْعَقْلُ امْتِنَاعَ تَعْمِيمِهَا فَيُعْلَمُ من جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمُرَادَ بها خُصُوصُ ما لَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ صِلَةٌ لِلصِّيغَةِ نَازِلَةٌ له مَنْزِلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْكَلَامِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ ما قَدَّمْنَاهُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ مُطْلَقَ الصِّيغَةِ لم يُرَدْ تَعْمِيمُهَا وقد مَنَعَ بَعْضُهُمْ التَّخْصِيصَ بِالْعَقْلِ وهو ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ فإنه قال في بَابِ ما نَزَلَ من كِتَابٍ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ وَيَدْخُلُهُ الْخُصُوصُ ثُمَّ قال
الشَّافِعِيُّ قال اللَّهُ عز وجل اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ وَذَكَرَ قَوْله تَعَالَى وما من دَابَّةٍ في الْأَرْضِ إلَّا على اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا فَهَذَا عَامٌّ لَا خُصُوصَ فيه فَكُلُّ شَيْءٍ من سَمَاءٍ وَأَرْضٍ وَذِي رُوحٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرِ ذلك فَاَللَّهُ خَالِقُهُ وَكُلُّ دَابَّةٍ فَعَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا انْتَهَى وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ من الْعُمُومِ لِمَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فيه لَوْلَا دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فَأَمَّا الذي يَسْتَحِيلُ دُخُولُهُ في عُمُومِ الْخِطَابِ فَلَيْسَ خُرُوجُهُ عنه تَخْصِيصًا وقال في كِتَابِ التَّحْصِيلِ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عليه قال في قَوْله تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ إنَّهُ عَامٌّ لَا خُصُوصَ فيه وَاعْتَرَضَ ابن دَاوُد عليه بِتَخْصِيصِ كَلَامِهِ وَصَرْفِهِ عن ظَاهِرِهِ وَأَجَابَ ابن سُرَيْجٍ وَالصَّيْرَفِيُّ عنه بِأَنَّ التَّخْصِيصَ مَعْنَاهُ أَنْ يَخْرُجَ عن عُمُومِ اللَّفْظِ بِالدَّلِيلِ ما كان يَجُوزُ دُخُولٌ فيه من طَرِيقِ الْعَقْلِ فَأَمَّا الذي يَسْتَحِيلُ دُخُولُهُ في عُمُومِ اللَّفْظِ فإن خُرُوجَهُ عن الْخِطَابِ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا انْتَهَى وَفَصَّلَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ بين ما يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ وهو ما يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ من بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَيَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ بِهِ لِأَنَّ ذلك إنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِعَدَمِ الشَّرْعِ فإذا وَرَدَ الشَّرْعُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ وَصَارَ الْحُكْمُ لِلشَّرْعِ فَأَمَّا ما لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ كَاَلَّذِي دَلَّ الْعَقْلُ على نَفْيِهِ فَيَجُوزُ نَحْوُ اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ فإن الْمُرَادَ ما خَلَا الصِّفَاتِ لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ على ذلك انْتَهَى وَهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ تَقْيِيدًا لِكَلَامِ من أَطْلَقَ لَا مَذْهَبًا آخَرَ ثُمَّ قال الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ إذْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ ثَابِتٌ دُونَ اللَّفْظِ إجْمَاعًا لَكِنَّ الْخِلَافَ في تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا فَالْخَصْمُ لَا يُسَمِّيهِ لِأَنَّ الْمُخَصِّصَ هو الْمُؤَثِّرُ في التَّخْصِيصِ وهو الْإِرَادَةُ لَا الْعَقْلُ وَلِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ سَابِقٌ فَلَا يَعْمَلُ في اللَّفْظِ بَلْ يَكُونُ مُرَتَّبًا عليه وَمَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ مُخَصِّصٌ أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ على أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ وَلِذَلِكَ الْعَقْلُ هذا الْحَظُّ وَالدَّلِيلُ لَا يُخَصُّ وَلَكِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ الْقَصْدُ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بين دَلِيلِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ في ذلك
وَكَذَا قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَجْمَعُوا على صِحَّةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ على خُرُوجِ شَيْءٍ عن حُكْمِ الْعُمُومِ وَاخْتَلَفُوا في تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا وَمِنْهُمْ من قال إنَّهُ مَعْنَوِيٌّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ وَجْهُهُ عِنْدَ من لَا يقول بِهِ أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ له لِأَنَّهُ لَا يُوضَعُ لِغَيْرِ الْمَعْقُولِ فَيَكُونُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي وهو حُجَّةٌ وَحَقِيقَةٌ عِنْدَهُ قَطْعًا وَمَنْ قال إنَّهُ مُخَصِّصٌ كان مَجَازًا على الْخِلَافِ في الْعَامِّ إذَا خُصَّ فَيَجْرِي فيه الْخِلَافُ على هذا وَلَا يَجْرِي على الْأَوَّلِ وَقِيلَ بَلْ الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وهو قَوْلُ أبي الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ قال الْمَنْعُ بِنَاءً على أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَحْسُنُ وَلَا يَقْبُحُ وَأَنَّ الشَّرْعَ يَرِدُ بِمَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ وَأَنْكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ وقال النَّقْشَوَانِيُّ الْكَلَامُ ليس في مُطْلَقِ الْعُمُومِ بَلْ في الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ على الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فإن الْفَقِيهَ لَا يَنْظُرُ في غَيْرِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَكَذَا الْأُصُولِيُّ وَحِينَئِذٍ فَالْعَقْلُ لَا مَجَالَ له في تَحْصِيلِ هذه الْعُمُومَاتِ إلَّا بِالنَّظَرِ في دَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ فإذا فَرَضْنَا نَصًّا يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْقَتْلِ فَالْعَقْلُ إنَّمَا يُخَصِّصُهُ لو أَدْرَكَ الْمَصْلَحَةَ وَكَيْفَ يُدْرِكُهَا فَلَا يُخَصِّصُهَا انْتَهَى وَهَذَا الذي قَالَهُ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ عن الْقَاضِي وَغَيْرِهِ في تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ اخْتَلَفُوا هل يَدْخُلُ في الْعُمُومِ ما يَمْنَعُ الْعَقْلَ إجْرَاءَ الْحُكْمِ فيه على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ فَيُخْرِجُهُ بِهِ دَلِيلُهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ كَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ أَوْجَبَ إخْرَاجَهُ عنه قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ هُنَا أَنَّ اللَّفْظَ إذَا وَرَدَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في إسْقَاطٍ أو إيجَابٍ أو حَظْرٍ أو إبَاحَةٍ فَهَلْ يُسْتَدَلُّ بِهِ على وُجُوبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عليه أو لَا هذا كَلَامُهُ وهو أَثْبَتُ مَعْقُولٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ من أَمْثِلَتِهِمْ وَاَللَّهُ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّيْءَ مَصْدَرُ شَاءَ يَشَاءُ فَهُوَ من أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ فَإِطْلَاقُهُ على الذَّوَاتِ من بَابِ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ على الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هذا خَلْقُ اللَّهِ أَيْ مَخْلُوقُ اللَّهِ وَنَحْوُ دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ مَضْرُوبُ الْأَمِيرِ فَقَوْلُنَا هذا شَيْءٌ في الذَّوَاتِ أَيْ مُشَاءٌ فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ ما تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ إمَّا بِالْفِعْلِ كَالْمَوْجُودَاتِ أو بِالْقُوَّةِ كَالْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ فَقَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ وما شَاكَلَهُ على عُمُومِهِ لِأَنَّ إلَهًا ثَابِتًا وَنَحْوَهُ من الْمُحَالَاتِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ لَا بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقُوَّةِ فَلَا يُسَمَّى شيئا فَلَا يَدْخُلُ في قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ فَلَا يُقَالُ إنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ فإنه لم يَدْخُلْ فيه الْمُحَالُ لِذَاتِهِ وَالشَّيْءُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَخُصُّ الْمَوْجُودَ لَا الْمَعْدُومَ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ في الْمَعْدُومِ الذي يَصِحُّ وُجُودُهُ شَيْءٌ وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ فَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ في أَنَّهُ لَا شَيْءَ وَغَلِطَ الزَّمَخْشَرِيّ على الْمُعْتَزِلَةِ فَأَدْخَلَ الْمُسْتَحِيلَ في اسْمِ الشَّيْءِ وَإِنَّمَا هذا مَذْهَبُ النُّحَاةِ فإن سِيبَوَيْهِ وَقَعَ له أَنَّ الشَّيْءَ عَامٌّ مُتَنَاوِلٌ قال هو كما تَقُولُ مَعْلُومٌ وَلَا خَفَاءَ في أَنَّ الْمَعْلُومَ يَدْخُلُ فيه الْمُسْتَحِيلُ على أَنَّ أَبَا هَاشِمٍ يقول الْعِلْمُ بِالْمُسْتَحِيلِ عِلْمٌ لَا مَعْلُومَ له وَمِمَّا يُحَقِّقُ أَنَّ الشَّيْءَ مُخْتَصٌّ بِالْمَوْجُودَاتِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ من شَاءَ يَشَاءُ إذَا قُصِدَ فَكَأَنَّ الشَّيْءَ هو الْمَقْصُودُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ الْمَوْجُودُ لَا الْمَعْدُومُ وَالْمُسْتَحِيلُ وَأَيْضًا فَإِطْلَاقُ الشَّيْءِ على الذَّاتِ الْكَرِيمَةِ فيه خِلَافٌ وَلَئِنْ سُلِّمَ فَهُوَ من بَابِ الْمُشْكَلِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ لَا يُشَاكِلُهُ شَيْءٌ من الْمَخْلُوقَاتِ وَقِيلَ بَلْ يُسَمَّى شيئا بِمَعْنَى الشَّائِي وَالْمَخْلُوقَاتُ تُسَمَّى شيئا بِمَعْنَى الْمُشَاءِ فَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ فَيَكُونُ مُشْتَرِكًا الثَّانِي من حُكْمِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنْ لَا يُخَصَّصَ إلَّا بِالْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ وَمِنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ أَنْ لَا يُخَصَّصَ إلَّا بِالْقَضَايَا السَّمْعِيَّةِ وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ لَا يُتَصَوَّرُ فيه إخْرَاجُ أَمْرٍ خَاصٍّ من خِطَابٍ عَامٍّ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذلك في الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ لَا يَكُونُ إلَّا مُتَقَدِّمًا بِخِلَافِ السَّمْعِيِّ ذَكَرَهُ الْعَبْدَرِيّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى
الثَّانِي دَلِيلُ الْحِسِّ كَقَوْلِهِ وَأُوتِيَتْ من كل شَيْءٍ مع أنها لم تُؤْتَ ما كان في يَدِ سُلَيْمَانَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ وَقَوْلُهُ يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كل شَيْءٍ وفي عَدِّ هذا نَظَرٌ لِأَنَّهُ من الْعَامِّ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وهو خُصُوصُ ما أُوتِيَتْهُ هذه وَدَمَّرَتْهُ الرِّيحُ لَا من الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ ولم يَحْكُوا هُنَا الْخِلَافَ السَّابِقَ في التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ وَيَنْبَغِي طَرْدُهُ وَنَازَعَ الْغَزَالِيُّ في تَفْرِيقِهِمْ بين دَلِيلِ الْحِسِّ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُومِ كُلِّهَا الْحِسُّ كما ذَكَرَهُ في مُقَدِّمَةِ الْمُسْتَصْفَى الثَّالِثُ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ وَفِيهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ في تَخْصِيصِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَقْطُوعِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأُولَى يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ في قَوْلِ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ الْمُخَصِّصَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِاللَّفْظِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ إلَّا من السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَنَا أَنَّهُ وَقَعَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ الْآيَةَ وَهِيَ عَامَّةٌ في الْحَوَامِلِ وَغَيْرِهِنَّ فَخَصَّ أُولَاتِ الْحَمْلِ بِقَوْلِهِ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَخَصَّ بِهِ أَيْضًا الْمُطَلَّقَةَ قبل الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا وما قَالُوهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَالْجَمْعُ بين الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْبَيَانَ تَحَصَّلَ من الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ وَذَلِكَ أَعَمُّ أَنْ يَكُونَ منه أو على لِسَانِهِ وقال الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى في الذَّرِيعَةِ الْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ وَالْمُخَالِفُ يُسَمِّي التَّخْصِيصَ بَيَانًا الثَّانِيَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِمِثْلِهَا وَالْخِلَافُ فيه أَيْضًا وَحَكَى الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ عن دَاوُد أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ لَا يَنْبَنِي أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ مَنَعَ قَوْمٌ تَخْصِيصَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ مُبَيِّنًا فَلَوْ
احْتَاجَتْ إلَى بَيَانٍ لم يَكُنْ لِلرَّدِّ إلَيْهِ مَعْنًى الثَّالِثَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ قَوْلًا وَاحِدًا بِالْإِجْمَاعِ كما حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقال الْآمِدِيُّ لَا أَعْرِفُ فيه خِلَافًا لَكِنْ حَكَى بَعْضُهُمْ في الْفِعْلِيَّةِ خِلَافًا وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ لَا خِلَافَ في ذلك إلَّا ما يَحْكِي دَاوُد في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وقال ابن كَجٍّ لَا شَكَّ في الْجَوَازِ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ الْعِلْمَ كما أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوجِبُهُ وَأَلْحَقَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بِالْمُتَوَاتِرِ الْأَخْبَارَ التي يُقْطَعُ بِصِحَّتِهَا كَتَخْصِيصِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ بِحَدِيثِ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وهو مِثَالٌ لِلْقَوْلِيَّةِ وَمَثَّلُوا لِلْفِعْلِيَّةِ بِأَنَّ قَوْلَهُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي مَخْصُوصٌ بِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ من رَجْمِ الْمُحْصَنِ تَنْبِيهٌ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ يَقْتَضِي أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَخُصُّ الْقُرْآنَ إلَّا إذَا كان فيه احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ فَإِنْ قال فيها وَيُقَالُ خَاصٌّ حتى تَكُونَ الْآيَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بها الْخَاصُّ فَأَمَّا إنْ لم يَكُنْ مُحْتَمَلَةً له فَلَا يُقَالُ فيها بِمَا لَا تَحْتَمِلُ الْآيَةَ وهو الثَّابِتُ في الحديث أَنَّهُ يُؤْخَذُ من كل حَالِمٍ دِينَارٌ وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ في نَسْخِ السُّنَّةِ الْقُرْآنَ الرَّابِعَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْكِتَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ أَصْحَابِنَا الْمَنْعُ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ قال ابن بَرْهَانٍ وهو قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وقال مَكْحُولٌ وَيَحْيَى بن أبي كَثِيرٍ السُّنَّةُ تَقْضِي على الْكِتَابِ وَالْكِتَابُ لَا يَقْضِي على السُّنَّةِ
تَنْبِيهٌ سَيَأْتِي في بَابِ النَّسْخِ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ إلَّا إذَا كان مَعَهَا سُنَّةٌ تُبَيِّنُ أنها مَنْسُوخَةٌ وَإِلَّا خَرَجَتْ السُّنَنُ عن أَيْدِينَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ لنا هُنَا اشْتِرَاطَهُ وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ فَهُوَ أَقْوَى من التَّخْصِيصِ الْخَامِسَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ وَكَذَا السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْخَطَأُ فيه وَالْعَامُّ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الِاحْتِمَالُ قال الْآمِدِيُّ لَا أَعْرِفُ فيه خِلَافًا وَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عليه الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَمَعْنَاهُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ بَعْضُ ما يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ وفي الْحَقِيقَةِ يَكُونُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ لَا بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ لَكِنْ حَكَى الْإِمَامُ بن الْقُشَيْرِيّ الْخِلَافَ هَاهُنَا فقال يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ على مَعْنَى أَنَّهُ إذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ على أَنَّهُ لَا يَجْرِي على عُمُومِهِ فَالْإِجْمَاعُ مُخَصِّصٌ له كما قُلْنَا في دَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْمُخَالِفُ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ يُخَالِفُ في هذه وقد بَيَّنَّا أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وقال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ فإذا أَجْمَعُوا على أَنَّ ما رُفِعَ عن الْعَامِّ خَارِجٌ منه وَجَبَ الْقَطْعُ بِخُرُوجِهِ وَجَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا وَأَنْ يَكُونَ نَسْخًا انْتَهَى فِيمَا ذَكَرَهُ من احْتِمَالِ النَّسْخِ نَظَرٌ وقال الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعُ أَقْوَى من النَّصِّ لِأَنَّ الْخَاصَّ لِأَنَّ النَّصَّ يُحْتَمَلُ نَسْخُهُ وَالْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ وَجَعَلَ الصَّيْرَفِيُّ من أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا قال وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ على عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَمَثَّلَهُ ابن حَزْمٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ على أَنَّهُمْ إنْ بَذَلُوا فَلْسًا أو فَلْسَيْنِ لم يَجُزْ بِذَلِكَ حَقْنُ دِمَائِهِمْ كما قال الْجِزْيَةُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ جِزْيَةً مَعْلُومَةً
الْبَحْثُ الثَّانِي في تَخْصِيصِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأَوَّلُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وهو الْمَنْقُولُ عن الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فإن الْخَبَرَ يَتَسَلَّطُ على فَحْوَاهُ وَفَحْوَاهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ شَكَّ أَنَّ الصِّدِّيقَ لو رَوَى خَبَرًا عن الْمُصْطَفَى في تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ لَابْتَدَرَهُ الصَّحَابَةُ قَاطِبَةً بِالْقَبُولِ فَلَيْسَ على دِرَايَةٍ في قَاعِدَةِ الْأَخْبَارِ وَاحْتَجَّ ابن السَّمْعَانِيِّ في بَابِ الْأَخْبَارِ على الْجَوَازِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ خَصُّوا قَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمْ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ فَإِنْ قالوا إنَّ فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنها طَلَبَتْ الْمِيرَاثَ قُلْنَا إنَّمَا طَلَبَتْ النُّحْلَى لَا الْمِيرَاثَ وَخُصَّ الْمِيرَاثُ بِالْمُسْلِمِينَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَخَصُّوا قَوْله تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا بِمَا وَرَدَ عن أبي سَعِيدٍ في بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَخَصُّوا قَوْله تَعَالَى اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ بِخَبَرِ عبد الرحمن بن عَوْفٍ في الْمَجُوسِ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ مُشْرِكُونَ وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَا نَدَعُ كِتَابَ نَبِيِّنَا نَسْخًا فإنه لَا يُقَالُ لِمَنْ خَصَّ آيَةً من الْقُرْآنِ أَنَّهُ تَرَكَ الْقُرْآنَ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذلك لِمَنْ ادَّعَى النَّسْخَ انْتَهَى
وَالْقَوْلُ الثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَبِهِ قال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كما حَكَاهُ أبو الْخَطَّابِ وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ عن الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يُقْطَعُ بِأَصْلِهِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عن طَائِفَةٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَنَقَلَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ عن طَائِفَةٍ من أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَنَّهُمْ لِأَجْلِهِ مَنَعُوا الْحُكْمَ بِالْقُرْعَةِ وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِلظَّاهِرِ أو مُبْتَدِئًا وَلَا مَعْنَى لِإِمْكَانِ التَّخْصِيصِ مع الْقَوْلِ بِحُجِّيَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ قال أَهْلُ الْعِرَاقِ بِهِ في الْجُمْلَةِ وَخَالَفُونَا في التَّفْصِيلِ فَقَالُوا وقَوْله تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتِهَا وهو خَبَرُ وَاحِدٍ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا الْآيَةَ فَقَالُوا بِتَحْرِيمِ أَكْلِ كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ الثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين ما دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ وما لم يَدْخُلْهُ فَإِنْ لم يَدْخُلْهُ يَبْقَى على حَقِيقَتِهِ وما دَخَلَهُ بَقِيَ مَجَازًا وَضَعُفَتْ دَلَالَتُهُ وَنَقَلُوهُ عن عِيسَى بن أَبَانَ وهو مُشْكِلٌ بِمَا سَبَقَ عنه من أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ ليس بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُ إذَا كان حُجَّةً لم يَبْقَ لِلْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهِ فَائِدَةٌ إذْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بَيَانُ أَنَّ الصُّورَةَ الْمَخْصُوصَةَ لَا يَتَنَاوَلُهَا حُكْمُ الْعُمُومِ وَالتَّقْدِيرُ لم يَبْقَ له حُكْمٌ أو له حُكْمٌ مُجْمَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ لَا يَبْقَى حُجَّةً مع قَوْلِهِ بِجَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وقد حَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ من كِتَابِ التَّقْرِيبِ عنه أَنَّهُ إنْ خُصَّ بِقَطْعِيٍّ جَازَ تَخْصِيصُ بَاقِيهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ افْتِتَاحُ تَخْصِيصِهِ بِهِ ثُمَّ قال وَهَذَا مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ له قَدَّمْنَاهُ وهو أَنَّ الْعُمُومَ إذَا خُصَّ بَعْضُهُ صَارَ مُجْمَلًا في بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ لَا يُسَوِّغُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ فيها فَجُعِلَ الْخَبَرُ على التَّحْقِيقِ مُثْبِتًا حُكْمًا ابْتِدَاءً وَلَيْسَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ التَّخْصِيصِ إذَا حَقَّقْته فإنه لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ في عُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ قبل وُرُودِ الْخَبَرِ وَبَعْدَهُ انْتَهَى ولم أَرَ ذلك في التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي وَإِنَّمَا حُكِيَ عنه تَجْوِيزُ تَخْصِيصِ الْعَامِّ الذي أُجْمِعَ على تَخْصِيصِهِ أو قام الدَّلِيلُ على تَخْصِيصِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ بِالتَّخْصِيصِ حِينَئِذٍ مُجْمَلًا وَمَجَازًا فَيَجُوزُ لِذَلِكَ إعْمَالُ خَبَرِ الْوَاحِدِ في تَخْصِيصِ أَشْيَاءَ أُخَرَ منه
وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ عن أبي حَنِيفَةَ إنْ كانت الْآيَةُ الْعَامَّةُ دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ جَازَ تَخْصِيصُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِالتَّخْصِيصِ كَالْمُجْمَلَةِ فَيَكُونُ ذلك كَالْبَيَانِ وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ وقال في الْمَحْصُولِ فَأَمَّا قَوْلُ عِيسَى بن أَبَانَ وَالْكَرْخِيِّ فَيُبْنَيَانِ على حَرْفٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ عِنْدَ عِيسَى مَجَازٌ وَالْمَخْصُوصَ بِالدَّلِيلِ الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ مَجَازٌ وإذا صَارَ مَجَازًا صَارَتْ دَلَالَتُهُ مَظْنُونَةً وَمَتْنُهُ مَقْطُوعًا وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَتْنُهُ مَظْنُونٌ وَدَلَالَتُهُ مَقْطُوعَةٌ فَيَحْصُلُ التَّعَادُلُ فَأَمَّا قبل ذلك فإنه حَقِيقَةٌ في الْعُمُومِ فَيَكُونُ قَاطِعًا في مَتْنِهِ وَدَلَالَتِهِ فَلَا يُرَجَّحُ عليه الْمَظْنُونُ وَهَذَا الْمَأْخَذُ الذي ذَكَرُوهُ تَرَدَّدَ فيه أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ فقال إنْ لم يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ لم يَجُزْ تَخْصِيصُهُ وَإِلَّا فَإِنْ ثَبَتَ وَاحْتَمَلَ اللَّفْظُ مَعَانِيَ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فيها وكان اللَّفْظُ يَفْتَقِرُ على الْبَيَانِ جَازَ تَخْصِيصُهُ وَتَبْيِينُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قال وَهَذَا عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُهُمْ وَمَسَائِلُهُمْ وَاحْتَجَّ بِكَلَامِ عِيسَى بن أَبَانَ وَذَكَرَهُ قال فَنَصَّ عِيسَى على أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ الذي لم يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يُخَصُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ثُمَّ قال وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قال ذلك لِأَنَّهُ كان من مَذْهَبِهِ أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ على ما كان يَذْهَبُ إلَيْهِ الْكَرْخِيّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ الْقَوْلَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ لِأَنَّهُ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْبَاقِي مع ذلك بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ ما ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ مِمَّا سَوَّغَ الِاجْتِهَادَ في تَرْكِ حُكْمِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ صَارَ مَجَازًا أَمَّا إذَا كان اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَعَانٍ فَيُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ في إثْبَاتِ الْمُرَادِ بِهِ انْتَهَى وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن عِيسَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ عُمُومُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قد خُصَّ بِالْإِجْمَاعِ فَيُزَادُ في تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قال وقال وَإِنْ كانت الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ في تَأْوِيلِهَا قُبِلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ في تَفْسِيرِهَا وَتَخْصِيصِهَا وقال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ من الْحَنَفِيَّةِ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ منه شَيْءٌ بِدَلِيلٍ مُقَارِنٍ جَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذلك مُتَرَاخِيًا وَأَمَّا الْعَامُّ الذي لم يُخَصَّ منه شَيْءٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ ابْتِدَاءً بِدَلِيلٍ يَتَأَخَّرُ عنه عِنْدَ الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ من أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ مُتَرَاخِيًا ابْتِدَاءً كما يَجُوزُ مُتَّصِلًا
قال وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْمُتَأَخِّرِ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يَكُونُ بَيَانًا فإن الْمُرَادَ من الْعَامِّ بَعْضُهُ ابْتِدَاءً كما هو شَأْنُ التَّخْصِيصِ بَلْ يَكُونُ نَاسِخًا لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِإِخْرَاجِهِ عن حُكْمِ الْعَامِّ بَلْ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فيه مُقْتَصِرًا على الْحَالِ الرَّابِعُ إنْ كان التَّخْصِيصُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ جَازَ وَإِنْ كان بِمُتَّصِلٍ فَلَا قَالَهُ الْكَرْخِيّ لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ بِمُنْفَصِلٍ يُصَيِّرُهُ مَجَازًا على مَذْهَبِهِ فَتَضْعُفُ دَلَالَتُهُ وَهَذَا الْمَذْهَبُ وما قَالَهُ مَبْنِيٌّ على أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ على أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ فَإِنْ قُلْنَا ظَنِّيَّةٌ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَلِهَذَا قال ابن السَّمْعَانِيِّ ما قَالَهُ ابن أَبَانَ مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ لَا نُوَافِقُهُ عليه الْخَامِسُ يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِوُرُودِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ لَكِنَّهُ لم يَقَعْ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَحَكَى قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ لم يَرِدْ بَلْ وَرَدَ الْمَنْعُ منه السَّادِسُ الْوَقْفُ ثُمَّ قِيلَ بِمَعْنَى لَا أَدْرِي وَقِيلَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقَعُ التَّعَارُضُ في ذلك الْقَدْرِ الذي دَلَّ الْعُمُومُ على إثْبَاتِهِ وَالْخُصُوصُ على نَفْيِهِ وَيَجْرِي اللَّفْظُ الْعَامُّ من الْكِتَابِ في بَقِيَّةِ مُسَمَّيَاتِهِ لِأَنَّ الْكِتَابَ أَصْلُهُ قَطْعِيٌّ وَفَحْوَاهُ مَظْنُونٌ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عَكْسُهُ فَيَتَعَارَضَانِ فَلَا رُجْحَانَ فَيَجِبُ الْوَقْفُ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ وَحَكَاهُ عنه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وقال هو مُتَّجَهٌ جِدًّا وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الْجَوَازُ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عليه في مَسَائِلَ كَنَفْيِ مِيرَاثِ الْقَاتِلِ بِقَوْلِهِ لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ مع قَوْلِهِ يُوصِيكُمْ اللَّهُ وَالنَّهْيُ عن الْجَمْعِ بين الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا مع قَوْلِهِ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ إلَى غَيْرِ ذلك وَغَايَةُ الْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ لَعَلَّ الْخَبَرَ كان مُتَوَاتِرًا عِنْدَهُمْ ثُمَّ اسْتَغْنَى عنه فَصَارَ آحَادًا فَقِيلَ لهم قد رَوَى الصِّدِّيقُ إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَطَرَحُوا بِهِ مِيرَاثَ فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنها فَقَالُوا كَانُوا عَلِمُوا ذلك وَإِنَّمَا ذَكَّرَهُمْ الصِّدِّيقُ قُلْنَا لو كان مُتَوَاتِرًا لم يَخْفَ على فَاطِمَةَ ا ه
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ يَجِبُ على أَصْلِ الْقَاضِي أَنْ يَجْزِمَ بِالتَّخْصِيصِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ مُسَاوٍ لِعُمُومِ الْكِتَابِ لِوُقُوفِهِ في تَخْصِيصِهِ له كما سَيَأْتِي فَكَيْفَ يُسَاوِي هو ما دُونَهُ الثَّانِي ذَكَرَ ابن السَّمْعَانِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ في أَخْبَارِ الْآحَادِ التي لَا تُجْمِعُ الْأُمَّةُ على الْعَمَلِ بها أَمَّا ما أَجْمَعُوا عليه كَقَوْلِهِ لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَكَنَهْيِهِ عن الْجَمْعِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ قَطْعًا وَيَصِيرُ ذلك كَالتَّخْصِيصِ بِالْمُتَوَاتِرِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ على حُكْمِهَا وَلَا يَضِيرُ عَدَمُ انْعِقَادِهِ على رِوَايَتِهَا وقد سَبَقَ في كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ ذلك أَيْضًا فإنه أَلْحَقَ هذا الْقِسْمَ بِالْمُتَوَاتِرِ وقال ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُخَصُّ بِهِ ظَاهِرُ الْكِتَابِ عِنْدَنَا إذَا كان لم يَجْتَمِعْ على تَخْصِيصِهِ كَآيَةِ الرَّضَاعِ فَإِنْ أُجْمِعَ على تَخْصِيصِهِ جَازَ أَنْ يُقْضَى عليه بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا عَدَا ما أَجْمَعُوا عليه كَآيَةِ السَّرِقَةِ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الثَّانِيَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَيَجْرِي فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ كما صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وَغَيْرُهُمَا فَإِنْكَارُ من أَنْكَرَ على الْبَيْضَاوِيِّ ذلك غَلَطٌ فَرْعٌ هل يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ لم أَرَ فيه نَصًّا وَيَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ على الْخِلَافِ في حُجِّيَّتِهَا فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ امْتَنَعَ أو حُجَّةً فَكَخَبَرِ الْوَاحِدِ ثُمَّ رَأَيْت في كِتَابِ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ تَجْوِيزَهُ إذَا اشْتَهَرَتْ وَاسْتَفَاضَتْ قال وَلِهَذَا أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَمَنَعْنَا بِهِ إطْلَاقَ ما في بَاقِي الْآيَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ لم يَجُزْ كَالْخَبَرِ سَوَاءً الثالثة يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس عند الأئمة الأربعة وقال ابن داود في شرح المختصر إن كلام الشافعي يصرح بالجواز وحكى القاضي من الحنابلة عن أحمد روايتين وبه قال أبو الحسين البصري وأبو هاشم آخرا
وحكاه الشيخ أبو حامد وسليم عن ابن سريج أنه يجوز من طريق العموم لا القياس وبناء على رأيه في جواز القياس في اللغة وبهذا كله يعلم أن ما نقله المتأخرون عن ابن سريج ليس بصحيح وكذلك حكوا القول بالجواز مطلقا عن الأشعري وأنكره بعضهم وليس كذلك فإن إمام الحرمين في مختصر التقريب حكاه هكذا عن الأشعري وحكى القاضي في التقريب عن الأشعري قولين في المسألة قال سليم الرازي لا يتصور التخصيص على مذهب الأشعرية لأن اللفظ غير موضوع للعموم وإنما هو مشترك كما تقرر فإذا دل الدليل على أنه أريد به أحد الأمرين لم يكن تخصيصا وإنما هو بيان ما أريد به اللفظ انتهى وكذا نقله القاضي في التقريب عن القائلين بإنكار الصيغ واختاره الإمام فخر الدين في المحصول ولذلك استدل على ترجيحه حيث قال لنا أن العموم والقياس إلخ لكنه اختار في المعالم المنع وأطنب في نصرته وهذا الكتاب موضع لاختياراته بخلاف المحصول فإنه موضوع لنقل المذاهب وتحرير الأدلة ثم إنه صرح في المحصول في أثناء المسألة بأن الحق ما قاله الغزالي فيما سيأتي في السادس والثالث المنع مطلقا قاله أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم ثم رجع ابنه ووافق الجمهور ونقله الشيخ أبو حامد وسليم عن أحمد بن حنبل وإنما هي رواية عنه قال بها طائفة من أصحابه ونقله القاضي عن طائفة من المتكلمين قال إمام الحرمين في التلخيص منهم ابن مجاهد من أصحابنا ونقله القاضي في التقريب عن الشيخ أبي الحسن أيضا ونقله الشيخ أبو إسحاق في اللمع عن اختيار القاضي أبي بكر الأشعري وليس كذلك لما سيأتي وقال بعض المتأخرين إنه ظاهر نص الشافعي في الأم وقال الشيخ أبو حامد زعموا أن الشافعي نص عليه في أحكام القرآن فإنه قال إنما القياس الجائز أن يشبه ما لم يأت فيه حديث بحديث لازم فأما أن يعمد إلى حديث عام فيحمل على القياس فأين القياس في هذا الموضع إن كان الحديث قياسا فأين المسمى قال فقد ذكر الشافعي أن القياس لا يعمل في الحديث العام وإنما يعمل في أنه يبتدأ به الحكم في موضع لا يكون فيه حديث أو قياس على موضع فيه حديث فدل على أن مذهبه منع التخصيص بالقياس ورده الشيخ أبو حامد وقال قد ذكر الشافعي في الأم قول الله تعالى
فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم واحتمل أمره تعالى في الإشهاد أن يكون على سبيل الوجوب كقوله عليه الصلاة والسلام لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل واحتمل أن يكون على الندب كقوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم وقال الشافعي لما جمع الله بين الطلاق وبين الرجعة وأمر بالإشهاد فيهما ثم كان الإشهاد على الطلاق غير واجب كذلك الإشهاد على الرجعة قال الشيخ أبو حامد قد قاس الشافعي الإشهاد على الرجعة على الإشهاد على الطلاق وخص به ظاهر الأمر بالإشهاد إذ ظاهر الأمر الوجوب قال وإما الكلام الذي تعلق به ذلك القائل فلم يقصد الشافعي منع التخصيص بالقياس وإنما قصد أنه لا يجوز ترك الظاهر بالقياس وذلك أنه ذكر هذا في مسألة النكاح بلا ولي فروى حديث أيما امرأة نكحت ثم حكى عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا العلة في طلب الولي أنه يطلب الحظ للمنكوحة ويضعها في كفء فإذا تولت هي ذلك لم يحتج إلى الولي فقال الشافعي هذا القياس غير جائز لأنه يعمد إلى ظاهر الحديث فيسقطه فإن ما ذكره يفضي إلى سقوط اعتبار الولي وذلك يسقط نص الخبر واستعمال القياس هنا لا يجوز إنما يجوز حيث يخص العموم انتهى وحاصله أن استنباط معنى من النص يعود عليه بالإبطال لا يجوز وهو ما ذكره الشافعي وليس مراده تخصيص العموم بالقياس فإن ذلك لا يبطل العموم المذهب الثالث إن تطرق إليه التخصيص بدليل قطعي خص به وإلا فلا وحكاه القاضي في التقريب عن عيسى بن أبان وكذا الشيخ أبو إسحاق في اللمع وحكى الإمام عنه إن تطرق إليه التخصيص بغير القياس جاز وإلا فلا وكذا حكاه الشيخ في اللمع عن بعض العراقيين الرابع إن تطرق إليه التخصيص بمنفصل جاز وإلا فلا قاله الكرخي وقال أبو بكر الرازي كل ما لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد لا يجوز تخصيصه بالقياس لأن خبر الواحد مقدم على القياس فما لا يخصه أولى أن لا يخص بالقياس وقال هذا
مذهب أصحابنا ونقله عن محمد بن الحسن لأن كل ما ثبت بوجه قطعي لا يرتفع إلا بمثله وقال أبو زيد في التقويم لا يجوز عندنا تخصيص العام ابتداء بالقياس وإنما يجوز إذا ثبت خصوصه بدليل يجوز رفع الكل لها من خبر تأيد بالإجماع أو الاستفاضة لم يقع الإشكال في صارفه إنما من جنس دخل تحت الخصوص أو من جنس ما بقي تحت العموم فيتعرف ذلك بالقياس الخامس إن كان القياس جليا جاز التخصيص به وإن كان قياس شبه أو علة فلا نقله الشيخ أبو حامد وسليم في التقريب عن الإصطخري زاد الشيخ أبو حامد وإسماعيل بن مروان من أصحابنا وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي القاسم الأنماطي ومبارك بن أبان وابن علي الطبري وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني القياس إن كان جليا مثل فلا تقل لهما أف جاز التخصيص به بالإجماع وإن كان واضحا وهو المشتمل على جميع معنى الأصل كقياس الربا فالتخصيص به جائز في قول عامة أصحابنا إلا طائفة شذت لا يعتد بقولهم وإن كان خفيا وهو قياس علة الشبه فأكثر أصحابنا أنه لا يجوز التخصيص به ومنهم من شذ فجوزه وقال ابن كج قياس الأصل وقياس العلة لا يختلف المذهب أن التخصيص بهما سائغ جائز وعليه عامة الفقهاء ومنعه داود وأما قياس الشبه فاختلف فيه أصحابنا على وجهين ثم نبه على المراد بالتخصيص بالقياس أن ما دخل تحت العموم في اللفظ بين القياس أن ذلك لم يكن داخلا في اللفظ لا أنه دخل في المراد ثم أخرجه القياس لأن ذلك يكون نسخا ولا يجوز نسخ القرآن بالقياس وقال الأستاذ أبو إسحاق وأبو منصور أجمع أصحابنا على جواز التخصيص بالقياس الجلي واختلفوا في الخفي على وجهين والصحيح الذي عليه الأكثرون جوازه أيضا وكذا قال أبو الحسين بن القطان والماوردي والروياني في باب القضاء وذكر الشيخ أبو إسحاق أن الشافعي نص على جواز التخصيص بالخفي في مواضع ثم اختلفوا في الجلي وهو الذي قضى القاضي بخلافه وقيل هو قياس المعنى والخفي قياس وقيل ما تتبادر علته إلى الفهم مثل لا يقضي القاضي وهو غضبان
السادس إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن رجح الأقوى فيرجع العام بظهور قصد التعميم فيه ويكون القياس العارض له قياس شبه ويرجح القياس بالعكس من ذلك فإن تعادلا فالوقف وهو مذهب الغزالي واختاره المطرزي في العنوان واعترف الإمام الرازي في أثناء المسألة بأنه حق وكذا قال الأصفهاني شارح المحصول وابن الأنباري وابن التلمساني واستحسنه القرافي والقرطبي وقال لقد أحسن في هذا الاختيار أبو حامد فكم له عليه من شاكر وحامد وقال الشيخ في شرح العنوان أنه مذهب جيد فإن العموم قد تضعف دلالته لبعد قرينته فيكون الظن المستفاد من القياس الجلي راجحا على الظن المستفاد من العموم الذي وصفناه وقد يكون الأمر بالعكس بأن يكون العموم قوي الرتبة ويكون القياس قياس شبه والقاعدة الشرعية أن العمل بأرجح الظنين واجب واعلم أن هذا الذي قاله الغزالي ليس مذهبا ولم يقله الرجل على أنه مذهب مستقل فتأمل المستصفى تجد ذلك ولا يقول أحد إن الظن المستفاد من العموم أقوى ثم يقول القياس تخصيص أو بالعكس ولا خلاف بين العقلاء أن أرجح الظنين عند التعارض معتبر والوقوف عند المستوي ضروري إنما الشأن في بيان الأرجح ما هو ففريق قالوا إن الأرجح العموم فلا يخص بالقياس وهو الإمام في المعالم وقوم قالوا الأرجح القياس فيخص العموم والقولان عن الأشعري كما حكاه القاضي في التقريب السابع الوقف في القدر الذي تعارضا فيه والرجوع إلى دليل آخر سواها وهو مذهب الغزالي واختاره إمام الحرمين والغزالي في المنخول وإلكيا الطبري قال ولا يظهر فيه دعوى القطع من الصحابة بخلافه في خبر الواحد وهذا المذهب شارك القول بالتخصيص من وجه وباينه من وجه أما المشاركة فلأن المطلوب من تخصيص العام بالقياس إسقاط الاحتجاج والواقف يقول به وأما المباينة فهي أن القائل بالتخصيص يحكم بمقتضى القياس والواقف لا يحكم به الثَّامِنُ إنْ كانت الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً مُجْزِئَةً عليها جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ
التَّاسِعُ إنْ كان الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عليه مُخْرَجًا من عَامٍّ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا الْعَاشِرُ إنْ كان الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عليه مُخْرَجًا من غَيْرِ ذلك الْعُمُومِ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا يُخَرَّجُ من كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فإنه قال في النِّهَايَةِ في بَابِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ في ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِالْأَقْيِسَةِ الْجَلِيَّةِ إذَا كان التَّأْوِيلُ مُسَاغًا لَا يَنْبُو نَظَرُ الْمُنْتَصِبِ عنه وَالشَّرْطُ في ذلك التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ صَدَرَ عن غَيْرِ الْأَصْلِ الذي فيه وَرَدَ الظَّاهِرُ فَإِنْ لم يُتَّجَهُ قِيَاسٌ من مَوْرِدِ الظَّاهِرِ لم يَجُزْ إزَالَةُ الظَّاهِرِ بِمَعْنَى يُسْتَنْبَطُ منه يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَهُ وَقَصْرَهُ على بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ كما في جَوَازِ الْإِبْدَالِ في الزَّكَوَاتِ قُلْت وهو مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا يُسْتَنْبَطُ من النَّصِّ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ وَهَذَا يَصْلُحُ تَقَيُّدًا لِلْجَوَازِ لَا مَذْهَبًا آخَرَ وَعِبَارَةُ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ في الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وهو ما يُعْرَفُ من ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ يَدُلُّ على تَحْرِيمِ الضَّرْبِ قِيَاسًا على الْأَصَحِّ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ قَطْعًا وَالْقِيَاسُ الظَّاهِرُ كَالْمَعْرُوفِ بِالِاسْتِدْلَالِ كَقِيَاسِ الْأَمَةِ على الْعَبْدِ في السِّرَايَةِ وفي الْعِتْقِ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ لِخُرُوجِهِ عن الْخِلَافِ بِالْإِشْكَالِ وقال شَارِحُ اللُّمَعِ الْجَلِيُّ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ قَطْعًا وَأَمَّا الْخَفِيُّ فَإِنْ كان مُسْتَنْبَطًا من الْأَصْلِ لم يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِهِ قَطْعًا كَعِلَّةِ الْحَنَفِيَّةِ في الرِّبَا أَنَّهُ الْكَيْلُ فَإِنَّهُمْ اسْتَنْبَطُوهَا من حديث عُبَادَةَ وهو عَامٌّ في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالْعِلَّةُ التي اسْتَنْبَطُوهَا تُوجِبُ التَّخْصِيصَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَعْتَرِضُ الْفَرْعُ على أَصْلِهِ وهو لَا يَصِحُّ وَإِنْ كان غير مُسْتَنْبَطٍ من الْأَصْلِ جَازَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَطْلَقَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ تَرْجَمَةَ الْمَسْأَلَةِ لَكِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ ليس الْقِيَاسَ الْمُعَارِضَ لِلنَّصِّ الْعَامِّ مُطْلَقًا فإن بَعْضَ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ على عُمُومِ النَّصِّ وهو ما إذَا كان حُكْمُ الْأَصْلِ الذي يَسْتَنِدُ إلَيْهِ حُكْمُ الْفَرْعِ مَقْطُوعًا بِهِ وَعِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً أو مُجْمَعًا عليها مع تَصَادُقِهِمَا في الشَّرْعِ من غَيْرِ صَارِفٍ قَطْعًا فَهَذَا النَّوْعُ من الْقِيَاسِ لَا أَوَفُقُ الْخِلَافُ فيه في أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ النَّصِّ فَيَجِبُ اسْتِثْنَاءُ هذه الصُّورَةِ من تَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ وقد أَشَارَ إلَى ذلك الْإِبْيَارِيُّ شَارِحُ الْبُرْهَانِ وَغَيْرُهُ
وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ مَحَلُّ الْخِلَافِ في قِيَاسِ النَّصِّ الْخَاصِّ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لو كان قِيَاسَ نَصٍّ عَامٍّ لم يُخَصَّ بِهِ بَلْ يَتَعَارَضَانِ كَالْعُمُومَيْنِ وَيُشْكِلُ عليه الْمَذْهَبُ الثَّانِي وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ هذا كُلُّهُ في الْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ من الْكِتَابِ أو من السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْكِتَابِ أو عُمُومِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أو عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ من خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ أَيْضًا وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْكِتَابِ فَيَتَرَتَّبُ على جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَمَنْ لَا يُجَوِّزُ ذلك لَا يُجَوِّزُ بِالْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ منه بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَأَمَّا من يُجَوِّزُ ذلك فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُجَوِّزَ ذلك لِزِيَادَةِ الضَّعْفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجَوِّزَ ذلك أَيْضًا كما في الْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ من الْكِتَابِ إذْ قد يَكُونُ قِيَاسُهُ أَقْوَى من عُمُومِ الْكِتَابِ بِأَنْ يَكُونَ قد تَطَرَّقَ إلَيْهِ تَخْصِيصَاتٌ كَثِيرَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فيه لِتَعَادُلِهِمَا إذْ قد يَظْهَرُ له ذلك الثَّانِي مَثَّلَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ لِلتَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَقَوْلِهِ في الْإِمَاءِ فإذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على الْمُحْصَنَاتِ من الْعَذَابِ فَدَلَّتْ هذه الْآيَةُ على أَنَّ الْأَمَةَ لم تَدْخُلْ في عُمُومِ من أُمِرَ بِجَلْدِهَا مِائَةً من النِّسَاءِ ثُمَّ قِيسَ الْعَبْدُ على الْأَمَةِ فَجُعِلَ حَدُّهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً فَكَانَتْ الْأَمَةُ مَخْصُوصَةً وَالْعَبْدُ مَخْصُوصًا من جُمْلَةِ قَوْلِهِ وَالزَّانِي بِالْقِيَاسِ على الْأَمَةِ قال وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ من شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فيها خَيْرٌ إلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا منها فَاحْتَمَلَتْ إبَاحَةَ الْأَكْلِ في جَمِيعِ الْهَدْيِ وَاحْتَمَلَ في الْبَعْضِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ هَدْيَ جَزَاءِ الصَّيْدِ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ منه فَكَانَ هذا مَخْصُوصًا بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتَلَفُوا في هَدْيِ الْمُتْعَةِ فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ فَكَانَ الْوَجْهُ عِنْدَنَا في ذلك أَنَّهُ وَاجِبٌ كَوُجُوبِ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَوُجُوبِ ما يَنْذُرُ الْمَرْءُ إخْرَاجَهُ من مَالِهِ فَقِيسَ الْمُخْتَلَفُ فيه من ذلك على وَالْمُجْمَعِ عليه لِاجْتِمَاعِهِمَا في الْمَعْنَى وهو الْوُجُوبُ وكان جَزَاءُ الصَّيْدِ خَارِجًا من الْعُمُومِ بِالْإِجْمَاعِ وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ مَخْصُوصٌ بِالْقِيَاسِ على ذلك وَتَبِعَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في ذلك وَمَثَّلَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الذي لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ إذَا مَاتَ وَالْمَرْأَةُ حَامِلٌ لَا تَعْتَدُّ منه لِأَنَّهُ حَمْلٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ من زَوْجِهَا وَمَنْفِيٌّ عنه قَطْعًا فَلَا تَعْتَدُّ منه قِيَاسًا على الْحَمْلِ الْحَادِثِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيُخَصَّصُ بهذا الْقِيَاسِ عُمُومُ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
الثَّالِثُ أَنَّ الْخِلَافَ في أَصْلِ هذه الْمَسْأَلَةِ اخْتَلَفُوا فيه هل هو من جِنْسِ الْخِلَافِ في الْقَطْعِيَّاتِ أو من الْمُجْتَهَدَاتِ قال الْغَزَالِيُّ يَدُلُّ كَلَامُ الْقَاضِي على أَنَّ الْقَوْلَ في تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ على عُمُومِ الْكِتَابِ وفي تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ على الْعُمُومِ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ فيه بِخَطَأِ الْمُخَالِفِ لِأَنَّهُ من مَسَائِلِ الْأُصُولِ قال وَعِنْدِي أَنَّ إلْحَاقَ هذا بِالْمُجْتَهَدَات أَوْلَى فإن الْأَدِلَّةَ فيه من الْجَوَانِبِ مُتَفَاوِتَةٌ غَيْرُ بَالِغَةٍ مَبْلَغَ الْقَطْعِ انْتَهَى وَحِينَئِذٍ فَتَوَقُّفُ الْقَاضِي إنَّمَا هو عن الْقَطْعِ وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ الْأَرْجَحَ التَّخْصِيصُ وَلَكِنْ عِنْدَهُ أَنَّ الْأَرْجَحِيَّةَ لَا تَكْفِي في هذه الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ مَسَائِلَ هذا الْفَنِّ عِنْدَهُ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ وَحِينَئِذٍ فَنَحْنُ نُوَافِقُهُ على انْتِفَاءِ الْقَطْعِ وَإِنَّمَا نَدَّعِي أَنَّ الظَّنَّ كَافٍ في الْعَمَلِ فَلَا نَتَوَقَّفُ وهو لَا يَكْتَفِي بِالظَّنِّ فَيَتَوَقَّفُ الرَّابِعُ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَعْنَى فإن تِلْكَ لِلشَّافِعِيِّ فيها قَوْلَانِ وَلِهَذَا تَرَدَّدَ في نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْمَحَارِمِ لِأَجْلِ عُمُومِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ وَالتَّخْصِيصُ بِالْمَعْنَى وهو الشَّهْوَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِمْ وَكَذَا في الْقَاتِلِ بِحَقٍّ مع حديث الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ وَقَوْلُهُ أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ اسْتَنْبَطُوا منه ما خَصَّصَ جِلْدَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وقد نَقَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ الْفَارِقَ بين الْمَسَائِلِ فقال بَعْدَ تَجْوِيزِهِ التَّخْصِيصَ بِالْقِيَاسِ هذا فِيمَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْمَعْنَى وَأَمَّا ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مَعْنًى مُسْتَمِرٌّ جَائِزٌ على السَّيْرِ فَالْأَصْلُ فيه التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ وَتَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ النَّصِّ وَلَكِنْ قد يَلُوحُ مع هذا مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِجِهَةٍ من الْجِهَاتِ فَيَتَعَيَّنُ النَّظَرُ إلَيْهِ وَهَذَا له أَمْثِلَةٌ منها أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُلَامَسَةَ في قَوْلِهِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَجَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ على الْجَسِّ بِالْيَدِ ثُمَّ تَرَدَّدَ نَصُّهُ في لَمْسِ الْمَحَارِمِ من جِهَةِ أَنَّ التَّعْلِيلَ لَا جَرَيَانَ له في الْأَحْدَاثِ النَّاقِضَةِ وما لَا يَجْرِي الْقِيَاسُ في إثْبَاتِهِ فَلَا يَكَادُ يَجْرِي في نَفْيِهِ فَمَالَ الشَّافِعِيُّ في ذلك إلَى اتِّبَاعِ اسْمِ النِّسَاءِ وَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تُنْقَضُ بِمَسِّهِنَّ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُلَامَسَةِ الْمُضَافَةِ إلَى أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ من الْأَحْدَاثِ يُشْعِرُ بِلَمْسِ اللَّاتِي يُقْصَدْنَ بِاللَّمْسِ قال فَإِنْ لم يُتَّجَهْ مَعْنًى صَحِيحٌ دَلَّتْ الْقَرِينَةُ على التَّخْصِيصِ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ ليس لِلْقَاتِلِ من الْمِيرَاثِ شَيْءٌ فَالْحِرْمَانُ لَا يَنْسَدُّ فيه تَعْلِيلٌ فإذا انْسَدَّ مَسْلَكُ التَّعْلِيلِ اقْتَضَى الْحَالُ التَّعَلُّقَ بِلَفْظِ الشَّارِعِ تَرَدَّدَ الشَّافِعِيُّ في أَنَّ الْقَتْلَ قِصَاصًا أو حَدًّا إذَا صَدَرَ من الْوَارِثِ فَهَلْ يَقْتَضِي حِرْمَانَهُ فَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْحِرْمَانِ بِكُلِّ قَتْلٍ التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ
مع حَسْمِ التَّعْلِيلِ وَوَجْهُ إثْبَاتِ الْإِرْثِ التَّطَلُّعُ إلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَلَيْسَ بِخَفِيٍّ أَنَّ قَصْدَهُ مُضَادَّةُ غَرَضِ الْمُسْتَعْجِلِ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ في الْقَتْلِ الْحَقِّ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عن بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فَمَنْ عَمَّمَ تَعَلَّقَ بِالظَّاهِرِ وَمَنْ فَصَّلَ بين الرِّبَوِيِّ وَغَيْرِهِ تَشَوَّفَ إلَى دَرْكِ مَقْصُودٍ وهو أَنَّ في الْحَيَوَانِ كما نَبِيعُ الشَّاةَ بِهِ نَبِيعُ الشَّاةَ بِلَحْمِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ من النَّصِّ مَعْنًى يُعَمِّمُهُ قَطْعًا كَاسْتِنْبَاطِ ما يُشَوِّشُ الْفِكْرَ من قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ وَكَاسْتِنْبَاطِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْجَامِدِ الظَّاهِرِ الْقَالِعِ من الْأَمْرِ بِالْأَحْجَارِ وهو غَالِبُ الْأَقْيِسَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ منه مَعْنًى يَعُودُ عليه بِالْبُطْلَانِ وَلِهَذَا ضَعُفَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ في قَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ لِأَنَّ الْقَصْدَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِالشَّاةِ أو الْقِيمَةِ وَيَلْزَمُ منه أَنْ لَا تَجِبَ الشَّاةُ أَصْلًا لِأَنَّهُ إذْ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لم تَجِبْ الشَّاةُ فَلَا تَكُونُ مُجْزِئَةً وَهِيَ مُجْزِئَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَقَدْ عَادَ الِاسْتِنْبَاطُ على أَصْلِهِ بِالْبُطْلَانِ وَاعْتِرَاضُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ هذه كَاَلَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ الْحَنَفِيَّ كما يُجَوِّزُ الْقِيمَةَ يُجَوِّزُ الشَّاةَ مَرْدُودٌ بِمَا سَأَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْقِيَاسِ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ منه مَعْنًى يُخَصِّصُهُ فيه قَوْلَانِ تَرَدَّدَ فِيهِمَا التَّرْجِيحُ وقال إلْكِيَا في الْمَدَارِكِ الْمَنْقُولُ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ الْعُمُومَ يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ ثُمَّ يُبْحَثَ عن دَلِيلِهِ فإن فَهْمَ مَعْنَى اللَّفْظِ سَابِقٌ على فَهْمِ مَعْنَاهُ الْمُسْتَنْبَطِ وإذا فُهِمَ عُمُومُهُ فَكَيْفَ يُتَّجَهُ بِنَاءُ عِلَّةٍ على خِلَافِ ما فُهِمَ منه قال وَيُتَّجَهُ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ الْمَعْنَى الذي يُفْهَمُ من الْعُمُومِ في النَّظَرِ الثَّانِي رُبَّمَا نَرَاهُ أَوْفَقَ لِمَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَمِنْهَاجِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ إمَّا بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَمَخْرَجِ الْكَلَامِ وَإِمَّا بِأَمَارَةٍ أُخْرَى تَفْصِلُ بِالْكَلَامِ وَذَلِكَ رَاجِحٌ على ما ظَهَرَ من اللَّفْظِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُقَدَّرُ مُخَالِفًا لِلَّفْظِ وَلَكِنْ يُقَدَّرُ بَيَانًا له فَاَلَّذِي فَهِمْنَاهُ أَوَّلًا الْعُمُومَ ثُمَّ النَّظَرُ الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ فَغَلَبَ مَعْهُودُ الشَّرْعِ على مَعْنَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَرْعٌ وَلَّدْته هل يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ من الْمُقَيَّدِ مَعْنًى يَعُودُ عليه بِالْإِطْلَاقِ فيه نَظَرٌ وقد جَوَّزَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الِاسْتِنْجَاءَ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ له ثَلَاثُ أَحْرُفٍ نَظَرًا لِلْمَعْنَى وهو الْإِزَالَةُ بِطَاهِرٍ فيه رَفْعُ قَيْدِ الْعَدَدِ في قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ
الْبَحْثُ الثَّالِثُ في تَخْصِيصِ الْمَظْنُونِ بالقطوع ( ( ( بالقطع ) ) ) يَجُوزُ تَخْصِيصُ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقُرْآنِ وفي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَجِيءُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كان الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا هَاهُنَا وَأَمْثِلَتُهُ عَزِيزَةٌ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ ما أُبِينَ من حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ فإنه خُصَّ منه الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالْوَبَرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا قُلْت هذه إنْ جَعَلْنَا الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فإن الحديث وَرَدَ على سَبَبٍ وهو حُبِّبَ إلَيْهِ الْغَنَمُ وَالْإِبِلُ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا خُصُوصَ السَّبَبِ فَلَيْسَ الْحَدِيثُ عَامًّا وَكَذَا قَوْلُهُ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فإنه خُصَّ منه أَهْلُ الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عن يَدٍ وَكَذَا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا ما لم تَتَكَلَّمْ أو تَعْمَلْ فإنه خُصَّ من الْكَلَامِ سَبْقُ اللِّسَانِ بِالْيَمِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَكَذَا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ مُخَصَّصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فإذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على الْمُحْصَنَاتِ من الْعَذَابِ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ وفي هذا الْخِلَافُ أَيْضًا كما قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وابن الْقُشَيْرِيّ قَالَا وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ هُنَا التَّوَقُّفُ مَسْأَلَةٌ مَنَعَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الْإِجْمَاعَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وهو يُشْبِهُ الْخِلَافَ في تَخْصِيصِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ كما هو الْمَشْهُورُ فَكَذَا هُنَا
مَسْأَلَةٌ هل يُتْرَكُ الْعُمُومُ لِأَجْلِ السِّيَاقِ يُخَرَّجُ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في هذه الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فإنه تَرَدَّدَ قَوْلُهُ في الْأَمَةِ الْحَامِلِ إذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا هل يَجِبُ لها النَّفَقَةُ أَمْ لَا على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا نعم لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ وَالثَّانِي لَا لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يُشْعِرُ بِإِرَادَةِ الْحَرَائِرِ لِقَوْلِهِ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَضَرَبَ أَجَلًا تَعُودُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مُضِيِّهِ إلَى الِاسْتِقْلَالِ بِنَفْسِهَا وَالْأَمَةُ لَا تَسْتَقِلُّ وَأَطْلَقَ الصَّيْرَفِيُّ في جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالسِّيَاقِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ قال لهم الناس إنَّ الناس قد جَمَعُوا لَكُمْ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ يَقْتَضِيهِ بَلْ بَوَّبَ على ذلك بَابًا فقال بَابُ الذي يُبَيِّنُ سِيَاقُهُ مَعْنَاهُ وَذَكَرَ قَوْله تَعَالَى وَاسْأَلْهُمْ عن الْقَرْيَةِ التي كانت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ فإن السِّيَاقَ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا وهو قَوْلُهُ إذْ يَعْدُونَ في السَّبْتِ وقال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ نَصَّ بَعْضُ أَكَابِرِ الْأُصُولِيِّينَ على أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِالْقَرَائِنِ قال وَيَشْهَدُ له مُخَاطَبَاتُ الناس بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَيْثُ يَقْطَعُونَ في بَعْضِ الْمُخَاطَبَاتِ بِعَدَمِ الْعُمُومِ بِنَاءً على الْقَرِينَةِ وَالشَّرْعُ يُخَاطِبُ الناس بِحَسَبِ تَعَارُفِهِمْ الْفَرْقُ بين التَّخْصِيصِ بِالْقَرَائِنِ وَالتَّخْصِيصِ بِالسَّبَبِ قال وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْك التَّخْصِيصُ بِالْقَرَائِنِ بِالتَّخْصِيصِ بِالسَّبَبِ كما اشْتَبَهَ على كَثِيرٍ من الناس فإن التَّخْصِيصَ بِالسَّبَبِ غَيْرُ مُخْتَارٍ فإن السَّبَبَ وَإِنْ كان خَاصًّا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُورَدَ لَفْظٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ كما في قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَلَا يَنْتَهِضُ السَّبَبُ بِمُجَرَّدِهِ قَرِينَةً لِرَفْعِ هذا بِخِلَافِ السِّيَاقِ فإن بِهِ يَقَعُ التَّبْيِينُ وَالتَّعْيِينُ أَمَّا التَّبْيِينُ فَفِي الْمُجْمَلَاتِ وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَفِي الْمُحْتَمَلَاتِ وَعَلَيْك بِاعْتِبَارِ هذه في أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُحَاوَرَاتِ تَجِدُ منه ما لَا يُمْكِنُك حَصْرُهُ قبل اعْتِبَارِهِ انْتَهَى
مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ سَوَاءٌ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَنَقَلَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فقال نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى على الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ وَعَلَى أَنَّهُ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ فَإِنْ قِيلَ لِمَ قُلْت إنَّهُ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ وقد يَرِدُ من التَّخْصِيصِ عليه ما يَرِدُ على الْعُمُومِ قِيلَ لِأَنَّ دَلِيلَ الْخِلَافِ يَجْرِي مَجْرَى الْقِيَاسِ في بَابِ الْقُوَّةِ فَلِهَذَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ قال وَسَوَاءٌ كان الدَّلِيلُ مُسْتَخْرَجًا من ذلك الْخِطَابِ أو من غَيْرِهِ فإنه يَخُصُّهُ انْتَهَى وقال بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّهُ من بَابِ الْقِيَاسِ أو من اللَّفْظِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ فَيُخَصُّ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِفَحْوَى أَدِلَّةِ الْكِتَابِ تَوَاتُرًا كانت السُّنَّةُ أو آحَادًا وَيُخَصُّ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَآحَادُ السُّنَّةِ بِفَحْوَى أَدِلَّةِ الْمُتَوَاتِرِ من السُّنَّةِ وَأَمَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِفَحْوَى آحَادِ السُّنَّةِ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ وَفِيهِ احْتِمَالٌ انْتَهَى وقال الْآمِدِيُّ لَا أَعْرِفُ خِلَافًا في تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ بين الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْسُنُ الِاعْتِرَاضُ عليه كما حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْحَنَفِيَّةِ من مَنْعِهِمْ ذلك لِأَنَّهُمْ بَنَوْهُ على مَذْهَبِهِمْ في إنْكَارِ الْمَفْهُومِ لَكِنْ أَطْلَقَ الْإِمَامُ في الْمُنْتَخَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وقال دَلَالَتُهُ إنْ قُلْنَا بِكَوْنِهِ أَضْعَفَ من النُّطْقِ فَلَا تَخْصِيصَ بِهِ وَتَوَقَّفَ في الْمَحْصُولِ فلم يَخْتَرْ شيئا وقال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ قد رَأَيْت في بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ ما يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْعُمُومِ وفي كَلَامِ صَفِيِّ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ في مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ فَاتَّفَقُوا على التَّخْصِيصِ بِهِ قُلْت وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ من الْحَاوِي فقال ما عُرِفَ مَعْنَاهُ من ظَاهِرِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ يَدُلُّ على تَحْرِيمِ الضَّرْبِ قِيَاسًا على الْأَصَحِّ وَهَذَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ بِلَا خِلَافٍ وفي جَوَازِ النَّسْخِ وَجْهَانِ ا هـ وَهَذَا فيه نَظَرٌ أَعْنِي قَطْعَهُ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ مع تَرْجِيحِهِ كَوْنَهُ قِيَاسًا وكان
يَتَّجِهُ على الْخِلَافِ في التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ لَكِنَّهُ هُنَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِمَا فيه من أَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ وَرُبَّمَا أَيَّدَ ذلك بِدَعْوَى الْآمِدِيَّ وَالْإِمَامِ الِاتِّفَاقَ على جَوَازِ النَّسْخِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيهِمَا أَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كما إذَا وَرَدَ عَامٌّ في إيجَابِ الزَّكَاةِ في الْغَنَمِ كَقَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ ثُمَّ قال في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فإن الْمَعْلُوفَةَ خَرَجَتْ بِالْمَفْهُومِ فَيُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْأَوَّلِ وَذَكَرَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ وَمَثَّلَ بِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ إذَا وَرَدَ الْعُمُومُ مُجَرَّدًا من صِفَةٍ ثُمَّ أُعِيدَ بِصِفَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عنه كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ مع قَوْلِهِ قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ اُقْتُلُوا أَهْلَ الْأَوْثَانِ من الْمُشْرِكِينَ كان ذلك مُوجِبًا لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُوجِبُ الْمَنْعَ من قَتْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُخَصَّصُ ما بَعْدَهُ من الْعُمُومِ ا هـ وَلَيْسَ كما قَالَا فَفِي شَرْحِ اللُّمَعِ إنْ قُلْنَا إنَّ الْمَفْهُومَ ليس بِحُجَّةٍ امْتَنَعَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِنْ قُلْنَا حُجَّةٌ ابْتَنَى على أَنَّهُ في أَنَّهُ كَالنُّطْقِ أو كَالْقِيَاسِ فَإِنْ قُلْنَا كَالنُّطْقِ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِنْ قُلْنَا قِيَاسٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ في التَّخْصِيصِ بِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ في جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ ا هـ وقد صَرَّحَ ابن كَجٍّ بِالْخِلَافِ فقال عِنْدَنَا دَلِيلُ الْخِطَابِ يَخُصُّ الْعُمُومَ مِثْلُ قَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ ثُمَّ قال في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فَدَلَّ على أَنَّ الْمَعْلُوفَةَ لَا زَكَاةَ فيها فَخَصَّصْنَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَيَنْقُلُ الْأَوَامِرَ من الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ وقال مَالِكٌ إنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ لَا يَخُصُّ الْعُمُومَ بَلْ يَكُونُ الْعُمُومُ مُقَدَّمًا وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْعُمُومَ نُطْقٌ وَدَلِيلُ الْخِطَابِ مَفْهُومٌ من النُّطْقِ فَكَانَ النُّطْقُ أَوْلَى وَلَنَا إجْمَاعُنَا نَحْنُ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ على الْقَوْلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فَجَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ كَغَيْرِهِ من الْأَدِلَّةِ انْتَهَى قالت قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ في التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ قَوْلَيْنِ وَأَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ من النَّصِّ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ فَكَانَ عَامًّا في كُلٍّ مُطَلَّقَةٍ ثُمَّ قال لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ما لم تَمَسُّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ فَكَانَ مَفْهُومُهُ أَنْ لَا مُتْعَةَ لِمَدْخُولٍ بها فَخُصَّ بها في أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ عُمُومُ الْمُطَلَّقَاتِ وَامْتَنَعَ من التَّخْصِيصِ على الْقَوْلِ الْآخَرِ
قُلْت وَذَكَرَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ هذه الْآيَةَ وَجَعَلَهَا من قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ من بَابِ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ قال فَاخْتَلَفَ فيه قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَكَانَ مَرَّةً يَذْهَبُ إلَى أَنَّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةً التي فُرِضَ لها أو طَلُقَتْ قبل الدُّخُولِ وَيَقُولُ إنَّ قَوْلَهُ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ عَامٌّ وَقَوْلُهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ بَعْضُ ما اشْتَمَلَ عليه الْعُمُومُ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي إنَّهُ يَقْضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ على قَوْلِهِ لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ لِأَنَّهَا أَخَصُّ قال وقد قِيلَ إنَّ آيَةَ التَّخْصِيصِ لم تَرِدْ في تَعْرِيفِ حُكْمِ الْمُتْعَةِ وَإِنَّمَا وَرَدَتْ في الْفَرْقِ بين الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ وَإِنَّمَا يُخَصُّ الْعَامُّ إذَا كان في الْأَخَصِّ مُرَادُ التَّخْصِيصِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ في التَّخْصِيصِ إرَادَةٌ لم يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَلَيْسَ هو حُجَّةٌ في إبَاحَةِ كل مِلْكِ يَمِينٍ لِأَنَّهُ لم يُقْصَدْ بها تَعْرِيفُ الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا قُصِدَ بها الْمَدْحُ ا هـ ثُمَّ قال بَعْدَ ذلك وَمِنْ الْمُخَصِّصِ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وهو ما كان له وَصْفَانِ فَتَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيْهِ دَلَّ على أَنَّ ما عَدَاهُ بِخِلَافِهِ فَهَذَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ قَوْلًا وَاحِدًا ا هـ وقال الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ الْعَامُّ إنْ لم يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُ في جَمِيعِ أَفْرَادِهِ يَتَوَقَّفُ على الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا الزَّكَاةَ فإذا ذُكِرَ بَعْضُ الْأَفْرَادِ عُلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ الْمَذْكُورَةِ كَقَوْلِهِ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هو بَعْضُ الْجِنْسِ فَالْحُكْمُ لِلْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ فَهَذَا عَامٌّ ثُمَّ قال بَعْدَهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ الْآيَةَ فلما احْتَمَلَ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِمَنْ لم يُمَسَّ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا هو ذِكْرٌ لِبَعْضِ الْجِنْسِ الذي أُرِيدَ بِالْمُتْعَةِ ولم يَنْفِ مع الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ في لَفْظٍ وَلَا دَلِيلَ اقْتَضَى الْحُكْمَ على كل مُطَلَّقَةٍ فَإِنْ قِيلَ فَقُلْ هذه في قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ مع حديث الْقُلَّتَيْنِ وَقُلْ سَائِمَةُ الْغَنَمِ وَالْعَامِلَةِ كَامِلَيْنِ هُنَا قِيلَ لَمَّا كان مَفْهُومُ قَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ كَذَا دَلِيلٌ على أَنَّ الْعَامِلَةَ لَا شَيْءَ فيها وَكَمَا لو رَفَعْنَا دَلَالَةَ ما وَرَدَ في الْقُلَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ أَسْقَطْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ بِالْآخَرِ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عليه ثُمَّ قال وَالْحَاصِلُ أَنَّك تَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ فما أَوْجَبَهُ حُكْمُهُمَا فَالْحُكْمُ له
وَحَقُّ الْكَلَامِ ما يُقَيَّدُ بِهِ حتى يُعْلَمَ التَّوْكِيدُ فَإِنْ كان إذَا ثَبَتَ الْعُمُومُ سَقَطَ دَلَالَةُ الشَّرْطِ فَالْحُكْمُ لِمَا فيه الشَّرْطُ وَإِنْ كُنْت إذَا أَثْبَتَهُ لم تَنْفِ دَلَالَةَ الْعُمُومِ أَجْرَيْته عَامًّا إلَى أَنْ تَقُومَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ على الْجَمْعِ بين السَّائِمَةِ وَالْعَامِلَةِ من غَيْرِ جِهَةِ الْمَفْهُومِ الْمُحْتَمَلِ لَكِنْ ثَبَتَ فَيَكُونُ الْحُكْمُ له قال وقد يُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ على جَوَابِ الشَّافِعِيِّ في الْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَمَتِّعُوهُنَّ مُرَتَّبًا على قَوْلِهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ما لم تَقُمْ دَلَالَةٌ وقد قَامَتْ الدَّلَالَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ وقد عُلِمَ أَنَّهُنَّ مَدْخُولٌ بِهِنَّ فَتَثْبِيتُ الْمُتْعَةِ لِلْمَمْسُوسَةِ وَغَيْرِهَا بهذا الدَّلِيلِ ا هـ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ أَقْوَى من دَلَالَةِ الْعُمُومِ الْمَنْطُوقِ فإذا قال أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا ثُمَّ قال إنْ دخل الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا كان الثَّانِي أَقْوَى وَالدَّلِيلَانِ إذَا تَعَارَضَا قُضِيَ بِأَقْوَاهُمَا وَهَذَا عَكْسُ قَوْلِ الرَّازِيَّ في دَعْوَاهُ ضَعْفَ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ يَعْنِي بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ في قَوْلِ من يُثْبِتُهُ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ مُسْتَفَادٌ من الْآيَةِ فَأَشْبَهَ الْقِيَاسَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ إذَا قُلْنَا بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَهَلْ هو بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ أو الْقِيَاسِ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا سُلَيْمٌ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ من تَخْصِيصِ الْوَصْفِ بِالْحُكْمِ قال وَهَذَا أَصَحُّ وَالثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لم يَدُلَّ عليه فَثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ من مَعْنَاهُ وَيَنْبَنِي عَلَيْهِمَا ما إذَا عَارَضَهُ لَفْظُ آيَةٍ أو خَبَرٍ فَعَلَى الْأَوَّلِ هو بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ أو خَبَرَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ وَعَلَى الثَّانِي يُقَدَّمُ النُّطْقُ الْمُحْتَمَلُ عليه سَوَاءٌ كان أَعَمَّ منه أو أَخَصَّ الثَّانِي ذَكَرَ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ أَنَّ هذا كُلَّهُ إذَا عَارَضَهُ غَيْرُ النُّطْقِ الذي هو أَصْلُهُ فَأَمَّا إذَا عَارَضَ نُطْقَهُ وَأَصْلَهُ فَإِمَّا أَنْ يُسْقِطَهُ وَيُبْطِلَهُ أو يَخُصَّهُ فَقَطْ فَإِنْ اعْتَرَضَ بِالْإِسْقَاطِ وَالْإِبْطَالِ سَقَطَ الْمَفْهُومُ وَذَلِكَ مِثْلُ حديث أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ نَصَّ على الْبُطْلَانِ بِغَيْرِ إذْنٍ وَمَفْهُومُهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِالْإِذْنِ إلَّا أَنَّهُ إذْ أُثْبِتَ النُّطْقُ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على التَّسْوِيَةِ بين أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ
إذْنِ وَلِيِّهَا وَبَيْنَ أَنْ تُنْكِحَ نَفْسَهَا بِإِذْنِهِ فَعِنْدَنَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ فِيهِمَا وَعِنْدَ الْخَصْمِ يَصِحُّ فِيهِمَا فإذا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ جَوَازُ ذلك بِإِذْنِهِ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ جَوَازُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وإذا ثَبَتَ جَوَازُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَقَطَ النُّطْقُ فَيَكُونُ هذا الْمَفْهُومُ مُسْقِطًا لِأَصْلِهِ وَيَثْبُتُ فَيَسْقُطُ النُّطْقُ وَإِنْ كان الْمَفْهُومُ مُعْتَرِضًا على أَصْلِهِ بِالتَّخْصِيصِ كَمَفْهُومِ قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ فَقَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ جِهَاتِ الِانْتِقَاعِ بِهِ من الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا وَقَوْلُهُ حَرَّمَ ثَمَنَهُ يَقْتَضِي أَنَّ غير الثَّمَنِ ليس بِمُحَرَّمٍ فَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ ذلك النُّطْقِ الْمُحَرَّمِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَفْهُومَ سَقَطَ وَلَا يُخَصَّصُ عُمُومُ أَصْلِهِ وَحُكِيَ عن أبي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ أَنَّهُ جَوَّزَ تَخْصِيصَ أَصْلِهِ بِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ فَرْعُ الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَرِضَ عليه وَيُسْقِطَ شيئا من حُكْمِهِ وَأَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ يُجِيزُونَ مِثْلَ هذا في الْقِيَاسِ إذَا خَصَّ أَصْلَهُ وَلَا نُجِيزُهُ نَحْنُ وقد تَكَلَّمْنَا نَحْنُ في مَسْأَلَةِ الرِّبَا فَأَمَّا دَلِيلُ الْخِطَابِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ حتى نَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ في التَّخْصِيصِ بِهِ ا هـ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في دَلِيلِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ الثَّالِثُ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَاجِبٌ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ منه دَلِيلٌ من الْمَفْهُومِ فَيَسْقُطُ حِينَئِذٍ الْمَفْهُومُ وَيَبْقَى الْعَامُّ على عُمُومِهِ مِثَالُهُ نَهْيُهُ عن بَيْعِ ما لم يُقْبَضْ مع قَوْلِهِ من ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِيعُهُ حتى يَسْتَوْفِيَهُ فَإِنَّا لم نَقُلْ بِالْمَفْهُومِ وَخَصَّصْنَا بِهِ الْعَامَّ كما فَعَلَ مَالِكٌ حَيْثُ قَصَرَ الْعُمُومَ على الطَّعَامِ لِأَنَّ مَعَنَا دَلِيلًا أَقْوَى من الْمَفْهُومِ وهو التَّنْبِيهُ لِأَنَّ الطَّعَامَ إذَا لم يَجُزْ بَيْعُهُ قبل الْقَبْضِ مع حَاجَةِ الناس إلَيْهِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ غَيْرُهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يُقَدَّمُ على الْمَفْهُومِ وَالْقِيَاسُ يَدُلُّ على أَنَّ غير الطَّعَامِ بِمَنْزِلَتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا لم يَجُزْ بَيْعُ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ لم يَحْصُلْ فيه الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ هذا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في غَيْرِ الطَّعَامِ على أَنَّ بَعْضَهُمْ أَجَابَ عن هذا بِأَنَّهُ من بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ وَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ لَا يُخَصِّصُ ما عَدَاهُ قال الْقَاضِي وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ ذلك في الِاسْمِ اللَّقَبِ أَمَّا الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ فإنه يَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ كَالْفَاسِقِ وَالنَّائِمِ وَاعْتَرَضَ أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ على هذا وَقَالُوا تَرَكَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ وكان يَجِبُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَفْهُومِهِ على عُمُومِ قَوْلِهِ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْجَوَابُ ما ذَكَرْنَاهُ وهو أَنَّ التَّنْبِيهَ مُقَدَّمٌ على الْمَفْهُومِ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عليه وَوَجْهُ التَّنْبِيهِ أَنَّهُ إذَا أُمِرَ بِالتَّحَالُفِ وَهُنَاكَ سِلْعَةٌ قَائِمَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بها على صِدْقِ أَحَدِهِمَا فإذا كانت تَالِفَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بها فَهَذِهِ أَوْلَى بِذَلِكَ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ تَرْكَ دَلِيلِ الْخِطَابِ لِلْأَمْرِ بِالتَّحَالُفِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عليه وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ مع التَّلَفِ وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ له الْمَفْهُومُ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى التَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ بَعْضِ حُكْمِ اللَّفْظِ فإن اللَّفْظَ يُوجِبُ إثْبَاتًا وَنَفْيًا فَإِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ يُمْكِنُ له التَّخْصِيصُ بِهِ مَسْأَلَةٌ التَّخْصِيصُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَرْعٌ لِأُمَّتِهِ إذَا قُلْنَا بِأَنَّ فِعْلَ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم شَرْعٌ لِأُمَّتِهِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ من أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى التَّخْصِيصِ بِهِ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ هذه إذَا قُلْنَا إنَّهَا على الْوُجُوبِ أو النَّدْبِ فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّخْصِيصُ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَالَّةٍ على شَيْءٍ انْتَهَى وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ منهم الْكَرْخِيّ وَاخْتَارَهُ ابن بَرْهَانٍ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَنَقَلَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ عن الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ من الْحَنَفِيَّةِ الْمَنْعَ إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ من خَصَائِصِهِ ثُمَّ قال أَمَّا إذَا تَكَرَّرَ الْفِعْلُ فإنه يُخَصُّ بِهِ الْعَامُّ بِالْإِجْمَاعِ وَالثَّالِثُ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ التَّفْصِيلُ بين الْفِعْلِ الظَّاهِرِ فَيُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ وَبَيْنَ الْفِعْلِ الْمُسْتَتِرِ فَلَا يُخَصُّ بِهِ الرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ لَا يَظْهَرَ كَوْنُ الْفِعْلِ من خَصَائِصِهِ فَيُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ فَإِنْ اُشْتُهِرَ كَوْنُهُ من خَصَائِصِهِ فَلَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إنَّهُ الْأَصَحُّ قال وَلِهَذَا حَمَلَ الشَّافِعِيُّ تَزْوِيجَ مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ على أَنَّهُ كان من خَصَائِصِهِ
وَالْخَامِسُ الْوَقْفُ وَنُقِلَ عن عبد الْجَبَّارِ وَشَرَطَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ لِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ كَوْنَهُ مُنَافِيًا لِلظَّاهِرِ قال فَأَمَّا الْفِعْلُ الْمُوَافِقُ لِلظَّاهِرِ فإنه لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ كَقَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا فَلَوْ أُتِيَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِسَارِقِ مِجَنٍّ أو رِدَاءٍ فَقَطَعَهُ لم يَدُلَّ على تَخْصِيصِ الْقَطْعِ بِذَلِكَ الْمَسْرُوقِ لِأَنَّهُ بَعْضُ ما اشْتَمَلَتْ عليه الْآيَةُ قُلْت وَيَنْبَغِي لِأَبِي ثَوْرٍ أَنْ يُخَالِفَ في هذا كما سَبَقَ وقال الْغَزَالِيُّ إنَّمَا يُخَصُّ الْفِعْلُ إذَا عُرِفَ من قَوْلِهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْأَحْكَامِ كَقَوْلِهِ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وخذوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنْ لم يُبَيِّنْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْبَيَانَ فَلَا يَرْتَفِعُ أَصْلُ الْحُكْمِ بِفِعْلِهِ الْمُخَالِفِ وَلَكِنَّهُ قد يَدُلُّ على التَّخْصِيصِ كَنَهْيِهِ عن الْوِصَالِ ثُمَّ وَاصَلَ وقال إنِّي لَسْت كَأَحَدِكُمْ فَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يُرِدْ بِفِعْلِهِ بَيَانَ الْحُكْمِ وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عن اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا ثُمَّ رَآهُ ابن عُمَرَ مُسْتَدْبِرًا لِلْكَعْبَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِأَنَّهُ كان بَيَانًا لِلْحُكْمِ وَالنَّهْيِ وَالنَّهْيُ مُطْلَقًا وَيُحْمَلُ أَنَّهُ كان مَخْصُوصًا بِهِ وَفَصَّلَ الْآمِدِيُّ بين أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ شَامِلًا له كما لو قال تَرْكُ الْوِصَالِ وَاجِبٌ على كل مُسْلِمٍ ثُمَّ رَأَيْنَاهُ قد وَاصَلَ فَلَا خِلَافَ أَنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ على إبَاحَتِهِ في حَقِّهِ وَيَكُونُ مُخَصِّصًا له وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ قُلْنَا التَّأَسِّي بِهِ وَاجِبٌ ارْتَفَعَ الْعُمُومُ وَصَارَ نَسْخًا وَإِنْ قُلْنَا ليس بِوَاجِبٍ بَقِيَ الْعُمُومُ في حَقِّ الْأُمَّةِ وَإِنْ كان عَامًّا لِلْأُمَّةِ دُونَهُ فَفِعْلُهُ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِعَدَمِ دُخُولِهِ فيه وَإِنْ قِيلَ أَيْضًا بِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ على الْأُمَّةِ كان نَسْخًا في حَقِّ الْأَمَةِ لَا تَخْصِيصًا ثُمَّ قال وَهَذَا هو التَّفْصِيلُ وَلَا أَرَى لِلْخِلَافِ في التَّخْصِيصِ بِفِعْلِهِ وَجْهًا
قال فَإِنْ كان الْمُرَادُ تَخْصِيصَهُ وَحْدَهُ فَلَا يَتَأَتَّى فيه خِلَافٌ أو تَخْصِيصَ غَيْرِهِ فَلَا تَخْصِيصَ بَلْ نَسْخٌ مع أَنَّهُمْ فَرَضُوا الْمَسْأَلَةَ في التَّخْصِيصِ ثُمَّ قال وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي الْوَقْفُ لِأَنَّ دَلِيلَ التَّأَسِّي عَامٌّ فَلَيْسَ مُرَاعَاةُ أَحَدِ الْعُمُومَيْنِ أَوْلَى من مُرَاعَاةِ الْآخَرِ وَذَكَرَ الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ هذا التَّفْصِيلَ وَحَكَى فِيمَا إذَا كان عَامًّا لِلْأُمَّةِ دُونَهُ فَالْفِعْلُ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا له لِعَدَمِ دُخُولِهِ وَهَلْ يَكُونُ تَخْصِيصًا أو نَسْخًا في حَقِّ الْأُمَّةِ فيه التَّفْصِيلُ وقد احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ خَصَّتْ قَوْلَهُ عليه السَّلَامُ في الْجَمْعِ بين الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ بِفِعْلِهِ في رَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَعِنْدِي أَنَّ هذه بِالنَّسْخِ أَشْبَهُ وهو كما قال وَمَثَّلَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ بِرَجْمِهِ ثُمَّ قال فَهُوَ يَدُلُّ على تَخْصِيصِ آيَةِ الْجَلْدِ بِالْأَبْكَارِ مَسْأَلَةٌ تَقْرِيرُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاحِدًا من الْمُكَلَّفِينَ على خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَامِّ هل يَكُونُ مُخَصِّصًا إذَا وُجِدَتْ شَرَائِطُ التَّقْرِيرِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ في حَقِّ ذلك الْفَاعِلِ قَاطَعَ في تَخْصِيصِ الْعَامِّ في حَقِّهِ إذْ لَا يُقِرُّ على بَاطِلٍ فَإِنْ كان بَعْدَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كان نَسْخًا في حَقِّهِ وَأَمَّا في حَقِّ غَيْرِهِ فَإِنْ ثَبَتَتْ مُسَاوَاتُهُ له بِقَوْلِهِ حُكْمِي على الْوَاحِدِ وَنَحْوِهِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْعَامِّ عن الْبَاقِي أَيْضًا وَعَلَى هذا يَكُونُ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا إنْ خَالَفَ ذلك جَمِيعَ ما دَلَّ عليه الْعَامُّ وَيَكُونُ تَخْصِيصًا إنْ خَالَفَ في فَرْدٍ كما لو قال لَا تَقْتُلُوا الْمُسْلِمِينَ وقد رَأَيْنَا أَنَّ شَخْصًا قَتَلَ مُسْلِمًا وَأَقَرَّهُ عليه السَّلَامُ على ذلك فَيُعْلَمُ أَنَّ ذلك الْمَقْتُولَ كان يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ قَتْلُهُ وَمَثَّلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بِأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ مَخْصُوصٌ بِتَرْكِهِ أَخْذَ الزَّكَاةِ من الْخَضْرَاوَاتِ قال ابن الْقَطَّانِ وَكَذَا تَرْكُهُ أَخْذَ الزَّكَاةِ في النَّوَاضِحِ وَإِقْرَارُهُ تَرْكَ الْوُضُوءِ من النَّوْمِ قَاعِدًا وإذا قُلْنَا بِالتَّخْصِيصِ بِالتَّقْرِيرِ فَهَلْ نَقُولُ وَقَعَ التَّخْصِيصُ بِنَفْسِ التَّقْرِيرِ أَمْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ على أَنَّهُ قد خُصَّ بِقَوْلٍ سَابِقٍ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن الْقَطَّانِ وابن فُورَكٍ وَإِلْكِيَا أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ على أَنَّهُ عليه السَّلَامُ قال لهم إذْ لَا يَجُوزُ عليهم أَنْ يَتْرُكُوا ذلك إلَّا بِأَمْرٍ وَالثَّانِي أَنَّ التَّقْرِيرَ وَقَعَ بِهِ التَّخْصِيصُ
قال ابن فُورَكٍ وَالطَّبَرِيُّ وهو الظَّاهِرُ من الْحَالِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ يَقْتَضِيَ تَرْجِيحَهُ قَالَا وَعَلَى هذا يَكُونُ ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ في صَلَاةِ النبي عليه السَّلَامُ قَاعِدًا مع صَلَاةِ الصَّحَابَةِ خَلْفَهُ قِيَامًا دَلِيلٌ على أَنَّهُ كان نَسَخَ قَوْلَهُ إذَا صلى الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا على أَنَّهُمْ لم يَكُونُوا لِيَفْعَلُوا ذلك وَيَنْتَقِلُوا عن الْحَالَةِ الْأُولَى إلَّا لِشَيْءٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَيْسَ ذلك نَقْلًا عن الْحَالِ إنَّمَا هو بِنَاءٌ على ما كَانُوا عليه وَيُتَوَصَّلُ بِالْحَالِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ مَسْأَلَةٌ الْخِطَابُ إذَا عُلِمَ خُصُوصُهُ ولم يُدْرَ ما خَصَّهُ كَيْفَ يُعْمَلُ بِهِ قال ابن فُورَكٍ من أَصْحَابِنَا من يقول الْبَيَانُ لَا يَتَأَخَّرُ فَيُحِيلُ هذا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من يقول يَجُوزُ هذا وَيُعْتَبَرُ فيه الْعُمُومُ إلَّا مَوْضِعًا خُصَّ غير أَنَّهُ إذَا جاء بِأَمْرٍ يَشْتَمِلُ على الْعُمُومِ أَمْضَيْنَاهُ فيه لِأَنَّهُ لو كان فيه خُصُوصٌ لَخَصَّهُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من يَقِفُ في هذا
فَصْلٌ فِيمَا ظُنَّ أَنَّهُ من مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ التَّخْصِيصِ بِالْعَادَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأُولَى أَطْلَقَ جَمْعٌ من أَئِمَّتِنَا كَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ الْعَادَةَ لَا تُخَصِّصُ وَنَقَلَهُ في الْقَوَاطِعِ عن الْأَصْحَابِ وَحَكَوْا الْخِلَافَ فيه عن الْحَنَفِيَّةِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ هذا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ النبي عليه السَّلَامُ أَوْجَبَ شيئا أو أَخْبَرَ بِهِ بِلَفْظٍ عَامٍّ ثُمَّ رَأَيْنَا الْعَادَةَ جَارِيَةً بِتَرْكِ بَعْضِهَا أو بِفِعْلِ بَعْضِهَا فَهَلْ تُؤَثِّرُ تِلْكَ الْعَادَةُ في تَخْصِيصِ الْعَامِّ حتى يُقَالَ الْمُرَادُ من ذلك الْعَامِّ ما عَدَا ذلك الْبَعْضَ الذي جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَرْكِهِ أو بِفِعْلِهِ أَمْ لَا تُؤَثِّرُ في ذلك بَلْ هو بَاقٍ على عُمُومِهِ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَلِغَيْرِهِ انْتَهَى وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ التي تَكَلَّمَ فيها صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَأَتْبَاعُهُ وَاخْتَارَ فيها التَّفْصِيلَ وهو أَنَّهُ إنْ عُلِمَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ في زَمَنِ النبي عليه السَّلَامُ مع عَدَمِ مَنْعِهِ عنها فَيُخَصُّ وَالْمُخَصِّصُ في الْحَقِيقَةِ تَقْرِيرُهُ عليه السَّلَامُ وَإِنْ عُلِمَ عَدَمُ جَرَيَانِهَا لم يُخَصَّ إلَّا أَنْ يُجْمَعَ على فِعْلِهَا فَيَكُونُ تَخْصِيصًا بِالْإِجْمَاعِ الْفِعْلِيِّ وَإِنْ جُهِلَ فَاحْتِمَالَاتٌ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ كَأَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ مَثَلًا ثُمَّ إنَّهُ عليه السَّلَامُ نَهَاهُمْ عن تَنَاوُلِهِ بِلَفْظٍ مُتَنَاوِلٍ له وَلِغَيْرِهِ كما لو قال نَهَيْتُكُمْ عن أَكْلِ الطَّعَامِ فَهَلْ يَكُونُ النَّهْيُ مُقْتَصِرًا على ذلك الطَّعَامِ بِخُصُوصِهِ أَمْ لَا بَلْ يَجْرِي على عُمُومِهِ وَلَا تُؤَثِّرُ عَادَاتُهُمْ قال الصَّفِيُّ وَالْحَقُّ أنها لَا تُخَصِّصُ لِأَنَّ الْحُجَّةَ في لَفْظِ الشَّارِعِ وهو عَامٌّ وَالْعَادَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ حتى تَكُونَ مُعَارِضَةً له انْتَهَى وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ التي تَكَلَّمَ فيها الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَتَفَطَّنْ لِذَلِكَ فإن بَعْضَ من لَا خِبْرَةَ له حَاوَلَ الْجَمْعَ بين كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْآمِدِيَّ ظَنًّا منه أَنَّهُمَا تَوَارَدَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُمَا حَالَتَانِ الْقَرَافِيُّ في شَرْحِ التَّنْقِيحِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْعَادَةَ السَّابِقَةَ على الْعُمُومِ يَجْعَلُهَا مُخَصِّصَةً وَالطَّارِئَةُ بَعْدَ الْعُمُومِ لَا يُقْضَى بها على الْعُمُومِ قال وَنَظِيرُهُ أَنَّ
الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ في الْبَيْعِ فإن الثَّمَنَ يُحْمَلُ على الْعَادَةِ الْحَاضِرَةِ في النَّقْدِ لَا على ما يَطْرَأُ بَعْدَ ذلك من الْعَوَائِدِ في النُّقُودِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ من الْعَوَائِدِ ما كان مُقَارِنًا لها وَكَذَا نُصُوصُ الشَّارِعِ لَا يُؤَثِّرُ في تَخْصِيصِهَا إلَّا الْمُقَارِنُ وَمِمَّنْ اقْتَصَرَ على إيرَادِ هذه الْحَالَةِ من كِبَارِ أَصْحَابِنَا الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ في تَعْلِيقِهِ في الْأُصُولِ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وأبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وابن الْقُشَيْرِيّ وقال الْعَادَةُ لَا تَخُصُّ الْعَامَّ من الشَّارِعِ فَلَوْ عَمَّ في الناس طَعَامٌ وَشَرَابٌ وَكَانُوا لَا يَعْتَادُونَ تَنَاوُلَ غَيْرِهِمَا فإذا وَرَدَ نَهْيٌ مُطْلَقٌ عن الطَّعَامِ لم يَخْتَصَّ بِالْمُعْتَادِ دُونَ غَيْرِهِ وقال أبو حَنِيفَةَ الْعُرْفُ من الْمُخَصِّصَاتِ وَحُمِلَ الطَّعَامُ على الْبُرِّ لِأَنَّهُ في عُرْفِ أَهْلِ الْحِجَازِ كَذَلِكَ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ قال وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَرِدَ عن النبي عليه السَّلَامُ خَبَرٌ في بَيْعٍ أو غَيْرِهِ وَعَادَةُ الناس تُخَالِفُهُ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ وَإِطْرَاحُ تِلْكَ الْعَادَةِ قال وَلَيْسَ في هذا خِلَافٌ قال فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قد خَصَّصْتُمْ عُمُومُ لَفْظِ الْيَمِينِ بِالْعَادَةِ فَقُلْتُمْ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا أو لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِمَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ من الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ فَهَلَّا قُلْتُمْ في أَلْفَاظِ الشَّارِعِ مِثْلَ ذلك قِيلَ نَحْنُ لَا نَخُصُّ الْيَمِينَ بِعُرْفِ الْعَادَةِ وَإِنَّمَا نَخُصُّهُ بِعُرْفِ الشَّرْعِ مِثْلُ لَا يُصَلِّي أو لَا يَصُومُ فَيَحْنَثُ بِالشَّرْعِيِّ أو بِعُرْفٍ قَائِمٍ بِالِاسْمِ مِثْلُ لَا يَأْكُلُ الْبَيْضَ أو الرُّءُوسَ الذي يُقْصَدُ بِالْأَكْلِ فَيُخَصُّ الْيَمِينُ بِعُرْفٍ قَائِمٍ في الِاسْمِ فَأَمَّا بِعُرْفِ الْعَادَةِ فَلَا يُخَصُّ فإنه لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا بِبَلَدٍ لَا يُؤْكَلُ فيه إلَّا خُبْزُ الْأَرُزِّ حَنِثَ بِهِ وَإِنْ كان لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ وقال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللِّسَانِ وَلَا اعْتِبَارَ بِعُمُومِ ذلك الِاسْمِ على ما اعْتَادُوهُ لِأَنَّ الْخِطَابَ إنَّمَا يَقَعُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ على حَقِيقَةِ لُغَتِهَا فَلَوْ خَصَّصْنَاهُ بِالْعَادَةِ لَلَزِمَ تَنَاوُلُهُ بَعْضَ ما وُضِعَ له وَحَقُّ الْكَلَامِ الْعُمُومُ وَلَسْنَا نَدْرِي هل أَرَادَ اللَّهُ ذلك أَمْ لَا فَالْحُكْمُ لِلِاسْمِ حتى يَأْتِيَ دَلِيلٌ يَدُلُّ على التَّخْصِيصِ قال وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ اللَّهِ وَخِطَابِ رَسُولِهِ فَأَمَّا خِطَابُ الناس فِيمَا بَيْنَهُمْ في الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا فَيُنَزَّلُ على مَوْضُوعَاتِهِمْ كَنَقْدِ الْبَلَدِ في الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ إذَا أَرَادُوهُ وَإِلَّا عُمِلَ بِالْعَامِّ وَلَا يُحَالُ اللَّفْظُ عن حَقِّهِ إلَّا بِدَلِيلٍ انْتَهَى
وقال سُلَيْمٌ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْعَادَةِ مِثْلُ أَنْ يَرِدَ خَبَرٌ عن النبي عليه السَّلَامُ في بَيْعٍ أو غَيْرِهِ وَعَادَةُ الناس تُخَالِفُهُ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ وَإِطْرَاحُ تِلْكَ الْعَادَةِ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَرِدُ لِنَقْلِ الناس عن عَادَتِهِمْ فَلَا يُتْرَكُ بها انْتَهَى وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ الزَّكَاةِ من النِّهَايَةِ يَجِبُ في خَمْسٍ شَاةٌ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بين غَنَمِ غَالِبِ الْبَلَدِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال في خَمْسٍ شَاةٌ وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا جميعا وَلَفْظُ الشَّارِعِ لَا يَتَخَصَّصُ بِالْعُرْفِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ من أَهْلِ الْأُصُولِ ثُمَّ هُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَادَةَ التي تُخَصِّصُ إنَّمَا هِيَ السَّابِقَةُ لِوَقْتِ اللَّفْظِ الْمُسْتَقَرِّ وَقَارَنَتْهُ حتى تُجْعَلَ كَالْمَلْفُوظِ بها فإن الْعَادَةَ الطَّارِئَةَ بَعْدَ الْعَامِّ لَا أَثَرَ لها وَلَا يُنَزَّلُ اللَّفْظُ السَّابِقُ عليها قَطْعًا وَأَغْرَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَحَكَى خِلَافًا في أَنَّ الْعُرْفَ الطَّارِئَ هل يُخَصِّصُ الْأَلْفَاظَ الْمُتَقَدِّمَةَ الثَّانِي أَطْلَقَ كَثِيرُونَ التَّخْصِيصَ بِالْعَادَةِ وَخَصَّهَا الْمُحَقِّقُونَ بِالْقَوْلِيَّةِ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ قال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ الْعَادَةُ التي تُخَالِفُ الْعُمُومَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا عَادَةٌ في الْفِعْلِ وَالْآخَرُ عَادَةٌ في اسْتِعْمَالِ الْعُمُومِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِأَنْ يَعْتَادَ الناس شُرْبَ بَعْضِ الدِّمَاءِ فَيُحَرِّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدِّمَاءَ بِكَلَامٍ يَعُمُّهَا فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هذه الْعُمُومِ بَلْ يَجِبُ تَحْرِيمُ ما جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مُسْتَغْرِقًا في اللُّغَةِ وَيَتَعَارَفُ الناس الِاسْتِعْمَالَ في بَعْضِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَقَطْ كَاسْمِ الدَّابَّةِ فإنه في اللُّغَةِ لِكُلِّ ما دَبَّ وقد تُعُورِفَ اسْتِعْمَالُهُ في الْخَيْلِ فَقَطْ فَمَتَى أَمَرَنَا اللَّهُ بِالدَّابَّةِ لِشَيْءٍ حُمِلَ على الْعُرْفِ لِأَنَّهُ بِهِ أَحَقُّ وَلَيْسَ ذلك بِتَخْصِيصٍ على الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هو تَخْصِيصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ وَفَرْقٌ بين
أَنْ لَا يُعْتَادَ الْفِعْلُ أو لَا يُعْتَادُ إطْلَاقُ الِاسْمِ على الْمُسَمَّى وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ مثله قال الْمَازِرِيُّ إنْ كانت الْعَادَةُ فِعْلِيَّةً لم تَخُصَّ الْعُمُومَ كَغَسْلِ الْإِنَاءِ من وُلُوغِ الْكَلْبِ هل يُحْمَلُ على إنَاءٍ فيه مَاءٌ لِأَنَّهُ لم تَجْرِ عَادَتُهُمْ إلَّا بِهِ أو يَعُمَّ الْمَاءَ وَالطَّعَامَ وَغَيْرَهُ وَفِيهِ خِلَافٌ في مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِنْ كانت قَوْلِيَّةً كَأَنْ يَعْتَادَ الْمُخَاطَبُونَ إطْلَاقَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ على الضَّأْنِ دُونَ ما سِوَاهُ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَالشَّافِعِيُّ لَا يُخَصِّصُ بِهَذِهِ الْعَادَةِ وأبو حَنِيفَةَ يُخَصِّصُ بها قال وَهَذَا فيها إذَا كان التَّعَارُفُ بين غَيْرِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَأَمَّا تَعَارُفُ أَهْلِ اللُّغَةِ على تَسْمِيَةٍ فإنه يُرْجَعُ إلَيْهِ إذَا وَجَبَ التَّمَسُّكُ بِلُغَتِهِمْ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في تَعَارُفِ من سِوَاهُمْ على قَصْرِ مُسَمَّيَاتِهِمْ على بَعْضِ ما وُضِعَتْ له هل يُقَدَّمُ الْعُرْفِيُّ أو اللُّغَوِيُّ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ الْعَادَةُ إنْ كانت فِعْلِيَّةً لم يُخَصَّ بها مِثْلُ أَنْ يَقُولَ حَرَّمْت عَلَيْكُمْ أَكْلَ اللُّحُومِ وَعَادَتُهُمْ أَكْلُ لُحُومِ الْغَنَمِ فَيَجْرِي الْعَامُّ على عُمُومِهِ وَإِنْ كانت عَادَةً في التَّخَاطُبِ خُصَّ بها الْعُمُومُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَا تَرْكَبُوا دَابَّةً فَيُخَصُّ بها الْخَيْلُ دُونَ غَيْرِهَا من الْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ لِأَنَّ ذلك هو الْمَفْهُومُ في عَادَةِ التَّخَاطُبِ وقال الْقُرْطُبِيُّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ فإنه كِنَايَةٌ عن الْخَارِجِ من الْمَخْرَجَيْنِ وهو عَامٌّ غير أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا خَصُّوهُ بِالْأَحْدَاثِ الْمُعْتَادَةِ فَلَوْ خَرَجَ ما لَا يُعْتَادُ كَالْحَصَى وَالدُّودِ لم يَكُنْ نَاقِضًا وَإِنَّمَا صَارَ إلَى ذلك لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا أُطْلِقَ لم يَتَبَادَرْ الذِّهْنُ إلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ نَصًّا وكان غَيْرُهُ غير مُرَادٍ قال وَعَلَى هذا الْخِلَافِ في الْأَصْلِ ابْتَنَى الْخِلَافُ في مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ فإذا حَلَفَ بِلَفْظٍ له عُرْفٌ فِعْلِيٌّ وَوَضْعٌ لُغَوِيٌّ فَهَلْ يُحْمَلُ على الْوَضْعِيِّ أو اللُّغَوِيِّ قَوْلَانِ وقال الْقَرَافِيُّ شَذَّ الْآمِدِيُّ بِحِكَايَةِ الْخِلَافِ في الْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَوَقَعَ في كَلَامِ الْمَازِرِيِّ حِكَايَةُ خِلَافٍ في ذلك عن الْمَالِكِيَّةِ لَعَلَّهُ مِمَّا الْتَبَسَ عليه الْقَوْلِيَّةُ بِالْفِعْلِيَّةِ وَأَظُنُّ أَنِّي سَمِعْت الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ يَحْكِي الْإِجْمَاعَ على أنها لَا تُخَصِّصُ أَعْنِي الْفِعْلِيَّةَ وقال الْعَالَمِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ الْعَادَةُ الْفِعْلِيَّةُ لَا تَكُونُ مُخَصِّصَةً إلَّا أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ على اسْتِحْسَانِهَا ثُمَّ قال وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هذا تَخْصِيصٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالْعَادَةِ انْتَهَى وقال إلْكِيَا الْخِلَافُ في تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ لَا يَعْنِي بها الْفِعْلِيَّةَ فإن الْوَاجِبَ على الْمُخَاطَبِينَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا عن تِلْكَ الْعَادَةِ وَإِنَّمَا الْمَعْنِيُّ بها اسْتِعْمَالُ الْعُرْفِ في
بَعْضِ ما يَتَنَاوَلُهُ وَذَلِكَ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْلَمَ مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ لهم في مُحَاوَرَاتِهِمْ فَيَبْتَنِي عليها وَالثَّانِي أَنْ لَا يَظْهَرَ ذلك وَيُحْتَمَلُ فَيَتَّبِعُ مَوْضُوعَ اللُّغَةِ وقال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ هذه الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيرٍ لِأَنَّهُ قد أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِالْخِلَافِ فيها وَتَرْجِيحُ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فيها وَالصَّوَابُ أَنْ يُفَصِّلَ بين عَادَةٍ تَرْجِعُ إلَى الْفِعْلِ وَعَادَةٍ تَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ فما يَرْجِعُ إلَى الْفِعْلِ يُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ فيه الْعُمُومُ على الْعَادَةِ مِثْلُ أَنْ يُحَرَّمَ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ وَيَكُونَ الْعَادَةُ بَيْعَ الْبُرِّ منه فَلَا يُخَصَّصُ عُمُومُ اللَّفْظِ بِهَذِهِ الْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَأَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْعُرْفِ اعْتَادُوا تَخْصِيصَ اللَّفْظِ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ اعْتِبَارًا بِمَا سَبَقَ الذِّهْنُ بِسَبَبِهِ إلَى ذلك الْخَاصِّ فإذا أُطْلِقَ اللَّفْظُ الْعَامُّ فَيَقْوَى تَنْزِيلُهُ على الْخَاصِّ الْمُعْتَادِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ بِاللَّفْظِ على ما شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فيه لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ ا هـ وقال صَاحِبُ الْوَاضِحِ الْمُعْتَزِلِيُّ أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُونَ في الْأُصُولِ أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِالْعَادَاتِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يُخَصُّ بِالْعُرْفِ في الْأَقْوَالِ وَلَا يُخَصُّ بِهِ في الْأَفْعَالِ فإذا قال لِغَيْرِهِ اشْتَرِ دَابَّةً فَاشْتَرَى كَلْبًا كان مُخَالِفًا لِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كان عَامًّا في كل ما دَبَّ إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ قد قَيَّدَهُ بِالْخَيْلِ وَلَوْ قال اشْتَرِ لَحْمًا فَاشْتَرَى لَحْمَ كَلْبٍ لم يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَنَّ الِاسْمَ عَامٌّ في كل لَحْمٍ وَالْعُرْفُ في الْفِعْلِ خَاصٌّ في بَعْضِ اللُّحْمَانِ فلم يُخَصَّ الْعَامُّ بِالْعُرْفِ في الْفِعْلِ وقال الْإِبْيَارِيُّ لِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالٌ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ عُرْفَ أَهْلِ اللِّسَانِ كَالدَّابَّةِ وَالْغَائِطِ فَهَذَا لَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ قَطْعًا إنْ قُلْنَا إنَّ الشَّرْعَ لم يَتَصَرَّفْ في اللُّغَةِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَتَصَرَّفُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ عُرْفِهِ وَوَجَبَ التَّخْصِيصُ بِهِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ لِغَيْرِ أَهْلِ اللُّغَةِ ولم يَكُنْ الشَّرْعُ يَعْرِفُ غير عُرْفِهِمْ في الِاخْتِصَاصِ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ تُنَزَّلَ أَلْفَاظُ الشَّارِعِ على مُقْتَضَاهَا إمَّا في اللُّغَةِ أو في عُرْفِ السَّامِعِ وَهَذَا لَا يُتَّجَهُ فيه خِلَافٌ إذْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ خِطَابِهِمْ على حَسَبِ عُرْفِهِمْ وهو لَا يَعْرِفُهُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ لَيْسُوا أَهْلَ لُغَةٍ وَالشَّارِعُ يَعْرِفُ عُرْفَهُمْ وَلَكِنْ لم
يَظْهَرْ منه خِطَابُهُمْ على مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ وَلَا يَظْهَرُ الْإِضْرَابُ عن ذلك فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ في أَنَّهُ يُنَزَّلُ على مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ أَمْ لَا الرَّابِعُ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ اعْتَادُوا بَعْضَ ما يَدُلُّ عليه الْعُمُومُ كما لو نُهِيَ عن أَكْلِ اللَّحْمِ مَثَلًا وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ أَكْلَ لَحْمٍ مَخْصُوصٍ فَهَلْ يَكُونُ النَّهْيُ مَقْصُورًا على ما اعْتَادُوا أَكْلَهُ أَمْ لَا هذا مَوْضِعُ الْخِلَافِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ تَخْصِيصُ الْأَيْمَانِ بِالْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ خِلَافًا لِمَا سَبَقَ عن الْأُصُولِيِّينَ فإنه لَمَّا حُمِلَ الْأَمْرُ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الرَّقِيقِ وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ الحديث على الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ حُمِلَ الْحَدِيثُ على أَنَّ الْخِطَابَ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كانت مَطَاعِمُهُمْ وَمَلَابِسُهُمْ مُتَفَاوِتَةً وكان عَيْشُهُمْ ضَيِّقًا فَأَمَّا من لم يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ وَخَالَفَ مَعَاشُهُ مَعَاشَ السَّلَفِ وَالْعَرَبِ في أَكْلِ رَقِيقِ الطَّعَامِ وَلُبْسِ جَيِّدِ الثِّيَابِ فَلَوْ وَاسَى رَقِيقَهُ كان أَكْرَمَ وَأَحْسَنَ وَإِنْ لم يَفْعَلْ فَلَهُ ما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وهو عِنْدَنَا ما عُرِفَ لِمِثْلِهِ في بَلَدِهِ الذي يَكُونُ فيه هذا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قال فَأَنْتَ تَرَاهُ كَيْفَ خَصَّصَ عُمُومَ لَفْظِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِمَا كانت عَادَتُهُمْ فِعْلَهُ في تِلْكَ الْأَزْمَانِ قُلْت إنَّمَا خَصَّصَهُ بِقَوْلِهِ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَفَسَّرَ الْمَعْرُوفَ بِالْعُرْفِ وَجَمَعَ بين الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ وَسَاعَدَهُ في حَمْلِ الْأَوَّلِ عَادَةُ الْمُخَاطَبِينَ وَكَلَامُنَا في التَّخْصِيصِ بِمُجَرَّدِ الْعَادَةِ لَا بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ فَلَيْسَ في نَصِّ الشَّافِعِيِّ ما ذُكِرَ الثَّانِي التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُخَصِّصَ هو تَقْرِيرُ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْعَادَةُ كَاشِفَةٌ عنه وَكَذَلِكَ لو لم تَكُنْ الْعَادَةُ مَوْجُودَةً في عَهْدِهِ أو كانت ولم يَعْلَمْهَا أو عَلِمَ بها وَلَكِنْ لم يَخُصَّ بها بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمِثَالَ السَّائِرَ لَا يَكُونُ دَلِيلًا من الشَّرْعِ إلَّا مع الْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ
يَكُونُ الْإِجْمَاعُ هو الْمُخَصِّصُ لَا الْعَادَةُ وَلَا يُعَكِّرُ على هذا إفْرَادُهَا بِمَسْأَلَةِ التَّخْصِيصِ بِتَقْرِيرِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عنها
التَّخْصِيصُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَامًّا فَيَخُصُّهُ الصَّحَابِيُّ بِأَحَدِ أَفْرَادِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هو الرَّاوِي له أو لَا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ أَنْ لَا يَكُونَ هو رَاوِيهِ كَحَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ ليس على الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ قد عَفَوْت لَكُمْ عن صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ وقد رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ تَخْصِيصُ الْخَيْلِ بِمَا يُغْزَى عليها في سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا غَيْرُهَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ وَعَنْ عُثْمَانَ تَخْصِيصُهُ بِالسَّائِمَةِ وَأَخَذَ من الْمَعْلُوفَةِ الزَّكَاةَ وَعَنْ عُمَرَ نَحْوُهُ فقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ وَالشَّيْخُ في اللُّمَعِ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ إذَا انْتَشَرَ ولم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عليه لِأَنَّ ذلك إمَّا إجْمَاعٌ أو حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهِ على الْخِلَافِ وَأَمَّا إذَا لم يَنْتَشِرْ في الْبَاقِينَ فَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا وَإِنْ لم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ فَعَلَى قَوْلِهِ في الْجَدِيدِ ليس بِحُجَّةٍ فَلَا يُخَصُّ بِهِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ هو حُجَّةٌ تُقَدَّمُ على الْقِيَاسِ وَهَلْ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُخَصُّ بِهِ لِأَنَّهُ على هذا الْقَوْلِ أَقْوَى من الْقِيَاسِ وقد ثَبَتَ جَوَازُ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ بِمَا هو أَقْوَى منه أَوْلَى وَالثَّانِي لَا يُخَصُّ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كانت تَتْرُكُ أَقْوَالَهَا لِظَاهِرِ السُّنَّةِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ وما ذَكَرُوهُ من حِكَايَةِ الْوَجْهَيْنِ تَفْرِيعًا على الْقَوْلِ بِحُجِّيَّتِهِ حَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ أَيْضًا وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ وَنَقَلَهُمَا عن أبي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ في الْإِيضَاحِ وما ذَكَرُوهُ من تَخْرِيجِ الْقَوْلِ بِكَوْنِهِ تَخْصِيصًا على الْقَدِيمِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ على الْمَشْهُورِ من
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ ليس بِحُجَّةٍ لَكِنْ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْصُوصٌ لِلشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ أَيْضًا وَلِذَلِكَ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ مَعْمَرِ بن نَضْلَةَ في تَخْصِيصِهِ الِاحْتِكَارَ بِالطَّعَامِ حَالَةَ الضِّيقِ على الناس ولم يَعْتَقِدْ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ في تَخْصِيصِ الْمُرْتَدِّ بِالرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ وَلَا قَوْلَ من خَصَّ نَفْيَ الزَّكَاةِ عن الْخَيْلِ بِبَعْضِ أَصْنَافِهَا أَمَّا على الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ في الْجَدِيدِ من أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ ليس بِحُجَّةٍ أو لِأَنَّ غَيْرَهُمْ من الصَّحَابَةِ قد خَالَفُوهُمْ فَقَدْ رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ قَتَلَ الْمُرْتَدَّةَ وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ من أَخْذِ الزَّكَاةِ عن الْخَيْلِ لَمَّا سَأَلَهُ أَرْبَابُهَا ذلك وإذا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُهُمْ فَبَقِيَ الْعَامُّ على عُمُومِهِ وما جَزَمُوا بِهِ من التَّخْصِيصِ إذَا لم يُعْلَمْ مُخَالِفٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في هذه الْحَالَةِ خِلَافًا مَبْنِيًّا على الْخِلَافِ في تَقْلِيدِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هذه مَحَلُّ وِفَاقٍ كما سَيَأْتِي وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الظَّاهِرِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَا يَقَعُ وقال بَعْضُهُمْ يَجِبُ أَنْ يُخَصَّ الظَّاهِرُ بِهِ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ قَبُولِ قَوْلِهِ إذَا انْتَشَرَ وَإِنْ لم يُصَادِمْهُ قِيَاسٌ لِأَنَّا نُقَدِّمُهُ على الْقِيَاسِ فإذا خُصَّ بِالْقِيَاسِ كان بِأَنْ يُخَصَّ بِقَوْلِهِ الذي هو مُقَدَّمٌ على الْقِيَاسِ أَوْلَى ثُمَّ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ فَأَمَّا إذَا كان الْخَبَرُ غير مُحْتَمِلٍ أو عَارَضَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ فإنه يُعْمَلُ بِالْخَبَرِ وَيُتْرَكُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ وقال أبو حَنِيفَةَ إنْ كان الصَّحَابِيُّ مِمَّنْ يَخْفَى عليه الْخَبَرُ عُمِلَ بِالْخَبَرِ وَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يَخْفَى عليه فَالْعَمَلُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَلِهَذَا يَقُولُونَ من شَرْطِ صِحَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عليه بَعْضُ السَّلَفِ تَخْصِيصُ الحديث بِمَذْهَبِ رَاوِيهِ من الصَّحَابَةِ الضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ هو الرَّاوِي كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ فإن لَفْظَةَ من عَامَّةٌ في الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وقد رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ تُحْبَسُ وَلَا تُقْتَلُ فَخَصَّ الحديث بِالرِّجَالِ فَإِنْ قُلْنَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ خُصَّ على الْمُخْتَارِ وقال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وقد نُسِبَ ذلك إلَى الشَّافِعِيِّ في قَوْلِهِ الذي يُقَلِّدُ الصَّحَابِيَّ فيه وَنُقِلَ عنه أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِهِ إلَّا إذَا انْتَشَرَ في هذا الْعَصْرِ ولم
يُنْكِرْهُ وَجُعِلَ ذلك نَازِلًا مَنْزِلَةَ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ قُلْنَا قَوْلُهُ غَيْرُ حُجَّةٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُخَصُّ بِهِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْعَدْلَ لَا يَتْرُكُ ما سَمِعَهُ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيَعْمَلُ بِخِلَافِهِ إلَّا لِنَسْخٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ وَلَنَا أَنَّ الْحُجَّةَ في اللَّفْظِ وهو عَامٌّ وَتَخْصِيصُ الرَّاوِي لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَصَّهُ بِدَلِيلٍ لَا يُوَافَقُ عليه لو ظَهَرَ فَلَا يَتْرُكُ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ الْمُحَقَّقَةَ لِمُحْتَمَلٍ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وقد يُخَالِفُ في هذا وَيَقُولُ إنَّ الْقَرَائِنَ تُخَصِّصُ الْعُمُومِ وَالرَّاوِي يُشَاهِدُ من الْقَرَائِنِ ما لَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُهُ وَعَدَالَتُهُ وَتَيَقُّظُهُ مع عِلْمِهِ بِأَنَّ الْعُمُومَ مِمَّا لَا يُخَصُّ إلَّا بِمُوجِبٍ مِمَّا يَمْنَعُهُ أَنْ يُحْكَمَ بِالتَّخْصِيصِ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ وَجَهَالَتُهُ دَلَالَةَ ما ظَنَّهُ مُخَصِّصًا على التَّخْصِيصِ يَمْنَعُ منه مَعْرِفَتُهُ بِاللِّسَانِ وَتَيَقُّظُهُ ا هـ وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ في شَرْحِ اللُّمَعِ في هذا الضَّرْبِ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ لَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الحديث وقال سُلَيْمٌ لَا يَخُصُّهُ على الْقَوْلِ الْجَدِيدِ وَكَلَامُ من جَزَمَ مَحْمُولٌ على التَّفْرِيعِ على هذا الْقَوْلِ فإن تَخْرِيجَ الْمَسْأَلَةِ على أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ أَمْ لَا لَا فَرْقَ فيه بين أَنْ يَكُونَ هو الرَّاوِي له أَمْ لَا لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ يَدُلُّ على أَنَّهُ اطَّلَعَ من النبي عليه السَّلَامُ على قَرَائِنَ حَالِيَّةٍ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ فَهُوَ أَقْوَى من التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ آخَرَ لم يَرْوِ الْخَبَرَ وَلَعَلَّهُ لم يَبْلُغْهُ وَلَوْ بَلَغَهُ لم يُخَالِفْهُ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ وَإِلَى هذه الْأَوْلَوِيَّةِ يُرْشِدُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ في الْمُخْتَصَرِ بِقَوْلِهِ مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَا يُخَصِّصُ وَلَوْ كان الرَّاوِي خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فقال إنْ وُجِدَ ما يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِهِ لم يُخَصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي بَلْ بِهِ إنْ اقْتَضَى نَظَرُ النَّاظِرِ فيه ذلك وَإِلَّا خُصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي وهو مَذْهَبُ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ وَمَثَّلَ الشَّيْخُ في شَرْحِ اللُّمَعِ هذا الْقِسْمَ بِحَدِيثِ ليس على الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ قال وَحَمَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ على فَرَسِ الْغَازِي لِقَوْلِ زَيْدِ بن ثَابِتٍ وَهَذَا فيه نَظَرٌ فإن الحديث لَا يُعْرَفُ من طَرِيقِ زَيْدٍ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ إذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ
خَبَرًا وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ فَاَلَّذِي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِفِعْلِهِ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ مُجَرَّدَ مَذْهَبِ الرَّاوِي لَا يُبْطِلُ الحديث وَلَا يَدْفَعُهُ لَكِنْ إنْ صَدَرَ ذلك الْمَذْهَبُ منه مَصْدَرَ التَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ فَيُقْبَلُ وَتَخْصِيصُهُ أَوْلَى وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا رَوَاهُ إذَا كان عَمَلُهُ مُخَالِفًا وَحَكَى الْقَاضِي عن عِيسَى بن أَبَانَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا كان من الْأَئِمَّةِ وَعَمِلَ بِخِلَافِ ما رُوِيَ كان دَلِيلًا على نَسْخِ الْخَبَرِ قال وَالِاخْتِيَارُ ما ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وهو إنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا نِسْيَانَهُ لِلْخَبَرِ الذي رَوَاهُ أو فَرَضْنَا مُخَالَفَتَهُ لِخَبَرٍ لم يَرْوِهِ وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ لم يَبْلُغْهُ فَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ وَإِنْ رَوَى خَبَرًا مُقْتَضَاهُ رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ فِيمَا سَبَقَ فيه تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ ثُمَّ رَأَيْنَاهُ يَتَحَرَّجُ فَالِاسْتِمْسَاكُ بِالْخَبَرِ وَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ على الْوَرَعِ وَإِنْ نَاقَضَ عَمَلُهُ رِوَايَتَهُ ولم نَجِدْ مَحْمَلًا في الْجَمِيعِ امْتَنَعَ التَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ فإنه لَا يُظَنُّ بِمَنْ هو من أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَعْمِدَ إلَى مُخَالَفَةِ ما رَوَاهُ إلَّا عن سَبَبٍ يُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ ما له فِعْلُهُ فَلَا احْتِجَاجَ بِمَا رَوَاهُ وَإِنْ فَعَلَ ما ليس له فِعْلُهُ أَخْرَجَهُ ذلك عن رُتْبَةِ الْفِقْهِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَعَلَى هذا فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّ الحديث مَنْسُوخٌ كما صَارَ إلَيْهِ ابن أَبَانَ وَلَعَلَّهُ عَلِمَ شيئا يَقْتَضِي تَرْكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَيُتَّجَهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ لو كان ثَمَّ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ لَوَجَبَ على هذا الرَّاوِي أَنْ يُثْبِتَهُ إذْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِ ما عليه مَدَارُ الْأَمْرِ وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ الْتِبَاسٍ ثُمَّ قال الْإِمَامُ إذَا رَوَى الرَّاوِي خَبَرًا وكان الظَّاهِرُ أَنَّهُ لم يُحِطْ بِمَعْنَاهُ فَمُخَالَفَتُهُ لِلْخَبَرِ لَا تَقْدَحُ في الْخَبَرِ وَإِنْ لم يَدْرِ أَنَّهُ نَاسٍ لِلْخَبَرِ أو ذَاكِرٌ لِمَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَالتَّعَلُّقُ بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ من أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَنَحْنُ على تَرَدُّدٍ فِيمَا يَدْفَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ فَلَا يُدْفَعُ الْأَصْلُ بهذا التَّرَدُّدِ بَلْ إنْ غَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّهُ خَالَفَ الحديث قَصْدًا ولم نُحَقِّقْهُ فَهَذَا يُعَضِّدُ التَّأْوِيلَ وَيُؤَيِّدُهُ وَيَحُطُّ مَرْتَبَةَ الظَّاهِرِ وَيُخَصُّ الْأَمْرُ في الدَّلِيلِ الذي عَضَّدَهُ التَّأْوِيلُ وقال إلْكِيَا وابن فُورَكٍ الْمُخْتَارُ أَنَّا إنْ عَلِمْنَا من حَالِ الرَّاوِي أَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَ على ذلك بِمَا عَلِمَ من قَصْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَجَبَ اتِّبَاعُهُ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى مُخَالَفَةِ النبي عليه السَّلَامُ وَإِنْ حَمَلَهُ على وَجْهِ اسْتِدْلَالٍ أو تَخْصِيصًا بِخَبَرٍ آخَرَ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ قُلْت وَسَكَتَا عن حَالَةٍ ثَالِثَةٍ وَهِيَ إذَا لم يُعْلَمْ الْحَالُ وَكَأَنَّهَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ
فَالْأَحْوَالُ إذَنْ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهُمَا أَنْ يُعْلَمَ من قَصْدِ النبي عليه السَّلَامُ وَمَخْرَجِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْخُصُوصُ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ الرَّاوِي فيه الثَّانِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ خُصَّ الْخَبَرُ بِدَلِيلٍ آخَرَ أو ضَرْبٍ من الِاسْتِدْلَالِ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْخَبَرِ قَطْعًا الثَّالِثُ أَنْ لَا يُعْلَمَ ما لِأَجْلِهِ خُصَّ الْخَبَرُ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلٍ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَالرَّاجِحُ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ إنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الرَّاوِي لِلْخَبَرِ إذَا كان الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ قال وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا فإذا فَسَّرَهُ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ أَخَذْنَا بِهِ كما في حديث الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا حَيْثُ فَسَّرَهُ بِالتَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ فَأَمَّا ما في غَيْرِ ذلك فَلَا يُقْبَلُ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قال الْكَرْخِيّ وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ إلَى أَنَّهُ يُخَصُّ عُمُومُ الْخَبَرِ وَتَرْكُ ظَاهِرِهِ بِقَوْلِ الرَّاوِي وَبِمَذْهَبِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ في تَفْسِيرِ الْخَبَرِ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ فَالْمَكَانُ الذي نَقْبَلُ قَوْلَهُ فيه لَا يَقْبَلُونَهُ وَالْمَكَانُ الذي يَقْبَلُونَهُ لَا نَقْبَلُهُ تَنْبِيهَاتٌ هل يُخَصُّ الْحَدِيثُ بِقَوْلِ رَاوِيهِ من غَيْرِ الصَّحَابَةِ الْأَوَّلُ زَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كان الرَّاوِي صَحَابِيًّا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَاهَدَ من النبي عليه السَّلَامُ خِلَافَ ما رَوَاهُ فَحَمَلَهُ على ذلك أَمَّا غَيْرُ الصَّحَابِيِّ فَلَا يَتَأَتَّى فيه خِلَافٌ في أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً على رِوَايَتِهِ ا هـ وَغَرَّهُ في ذلك بِنَاؤُهُمْ هذه الْمَسْأَلَةَ على الْخِلَافِ في أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ أَمْ لَا وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ في الصَّحَابِيِّ لَكِنَّ الْخِلَافَ في التَّخْصِيصِ بِقَوْلِ الرَّاوِي لَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابِيِّ بَلْ وَلَا بِصُورَةِ التَّخْصِيصِ بَلْ الرَّاوِي مُطْلَقًا من الصَّحَابِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ إذَا خَالَفَ الْخَبَرَ بِتَخْصِيصٍ أو بِغَيْرِهِ حتى إذَا تَرَكَهُ بِالْكُلِّيَّةِ كان مَذْهَبُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَدَّمًا على الْخَبَرِ وَلِذَلِكَ لم يُقَيِّدْ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ بِالرَّاوِي الصَّحَابِيِّ بَلْ أَطْلَقَ وَلَكِنْ قَيَّدَ الْمُخَالَفَةَ بِحَالَةِ التَّخْصِيصِ وَلَا تَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ
وَصَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فقال وَكُلُّ ما ذَكَرْنَاهُ يَعْنِي في هذه الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّحَابِيِّ فَلَوْ رَوَى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ حَدِيثًا وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ فَالْأَمْرُ على ما فَصَّلْنَاهُ وَلَكِنْ قد اعْتَرَضَ الْأَئِمَّةَ أُمُورٌ أَسْقَطَتْ آثَارَ أَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِرِوَايَتِهِمْ وَهَذَا كَرِوَايَةِ أبي حَنِيفَةَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مع مَصِيرِهِ إلَى مُخَالَفَتِهِ فَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ غَيْرُ قَادِحَةٍ في الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ من أَصْلِهِ تَقْدِيمُ الرَّأْيِ على الْخَبَرِ فَمُخَالَفَتُهُ مَحْمُولَةٌ على بِنَائِهِ على هذا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ وَلِهَذَا قال أَرَأَيْت لو كَانَا في سَفِينَةٍ وَكَرِوَايَةِ مَالِكٍ لِهَذَا الحديث مع مَصِيرِهِ إلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ أَيْضًا لَا تَقْدَحُ في الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الذي حَمَلَهُ على هذا فِيمَا أَظُنُّ تَقْدِيمُهُ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وقد حَكَاهُ عنه ابن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ هَكَذَا ثُمَّ قال وَلَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّاوِي يَرْوِي ثُمَّ يُخَالِفُ بَلْ يَجْرِي فِيمَنْ بَلَغَهُ خَبَرٌ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ يُخَالِفُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ هو الرَّاوِي لِذَلِكَ الْخَبَرِ حتى إذَا وَجَدْنَا مَحْمَلًا وَقُلْنَا إنَّمَا خَالَفَ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ الرَّاوِي فَلَا يَقْدَحُ هذا في الْخَبَرِ وَإِنْ لم يُتَّجَهْ وَجْهٌ لِمُخَالَفَتِهِ هذا الحديث إلَّا الْمَصِيرُ إلَى اسْتِخْفَافِهِ بِالْخَبَرِ فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقَالَ هذا قَدْحٌ في الْخَبَرِ وَعِلْمٌ بِضَعْفِهِ ا هـ وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ في تَقْدِيمِ قَوْلِ الرَّاوِي مُطْلَقَةٌ فلم يُفَرِّقُوا بين الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ من التَّابِعِينَ وَتَعَقَّبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ منهم فقال يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ هل تَقَدَّمَ على سَمَاعِهِ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنْ كان قَوْلُهُ قبل سَمَاعِهِ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا يَتَأَتَّى هذا الْحَدِيثُ وَالْحَقُّ مع الشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ كان رَأْيُهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ اتَّجَهَ قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ ا هـ وَالْخِلَافُ إنَّمَا هو في الْقِسْمِ الْأَخِيرِ وما ذَكَرُوهُ من الدَّلِيلِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ على مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ وَهِيَ مَفْقُودَةٌ وَهَذَا الْبَحْثُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمَسْأَلَةِ بِالصَّحَابِيِّ وَمِثَالُ تَخْصِيصِ الرَّاوِي غَيْرِ الصَّحَابِيِّ حَدِيثُ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ عن مَعْمَرِ بن عبد اللَّهِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَفِيهِ وكان سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ يَحْتَكِرُ فَقِيلَ له فقال كان مَعْمَرٌ يَحْتَكِرُ قال ابن عبد الْبَرِّ كَانَا
يَحْتَكِرَانِ الزَّيْتَ وَحَمَلَا الحديث على احْتِكَارِ الْقُوتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالْغَلَاءِ وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّافِعِيُّ لَكِنَّهُ خُصِّصَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَا بِقَوْلِ سَعِيدٍ نعم قال الرَّافِعِيُّ في الشَّهَادَاتِ إنَّمَا اخْتَصَّ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينُ بِالْأَمْوَالِ لِأَنَّ عَمْرَو بن دِينَارٍ رَوَى الْخَبَرَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمَّا رَوَاهُ قال وَذَلِكَ في الْأَمْوَالِ وَقَوْلُ الرَّاوِي مُتَّبَعٌ في تَفْسِيرِ ما يَرْوِيهِ وَتَخْصِيصِهِ انْتَهَى الثَّانِي ما ذَكَرْنَا من التَّفْصِيلِ بين أَنْ يَكُونَ هو الرَّاوِي أو غَيْرُهُ وَأَنَّهُ إذَا كان غَيْرَهُ وَانْتَشَرَ ولم يُخَالَفْ خُصَّ بِهِ هو الصَّوَابُ وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَارِدَةٌ على من أَطْلَقَ الْكَلَامَ في هذه الْمَسْأَلَةِ كَالْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِ فإنه صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ سَوَاءٌ كان هو الرَّاوِي أو غَيْرُهُ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَتَبِعَهُ ابن الْحَاجِبِ الثَّالِثُ إنْ عَمَلَ الرَّاوِي بِخِلَافِ الحديث يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ أُخْرَى سَيَأْتِي في بَابِ الْأَخْبَارِ بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَسْأَلَةٌ في تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالسَّبَبِ أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا الْفَرْقُ بين الْمُسْتَقِلِّ فَيُخَصُّ وَغَيْرُهُ فَلَا حَكَاهُ ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ وقد سَبَقَتْ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِقَضَايَا الْأَعْيَانِ كَإِذْنِهِ في الْحَرِيرِ لِلْحَكَّةِ وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَذَكَرَ أبو الْخَطَّابِ منهم أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْبَقَاءِ على حُكْمِ الْأَصْلِ الذي هو الِاسْتِصْحَابُ بِلَا خِلَافٍ قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ ذَهَبَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ قال لِأَنَّهُ دَلِيلٌ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ما لم يَنْقُلْ عنه نَاقِلٌ فَجَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ كَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ وَهَذَا في غَايَةِ التَّنَاقُضِ لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ من حَقِّهِ أَنْ يَسْقُطَ بِالْعُمُومِ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِهِ إذْ مَعْنَاهُ التَّمَسُّكُ بِالْحُكْمِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ يَنْقُلُ عنه وَالْعُمُومُ دَلِيلٌ نَاقِلٌ
مَسْأَلَةٌ مَنَعَ بَعْضُهُمْ من تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ إذَا كان هو الْأَعْظَمَ الْأَشْرَفَ وَبَنَى عليه مَنْعَ إطْلَاقِ الشَّيْءِ على اللَّهِ تَعَالَى إذْ لو جَازَ لَلَزِمَ دُخُولُ التَّخْصِيصِ في قَوْله تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وهو مُمْتَنِعٌ لِمَا ذَكَرْنَا حَكَاهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ في الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ في مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ خَاتِمَةٌ ليس من الْمُخَصِّصَاتِ عَطْفُ الْعَامِّ على الْخَاصِّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَلَا رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلَى الْبَعْضِ خِلَافًا لِقَوْمٍ وَلَا ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ وَلَا وُرُودُهُ على سَبَبٍ خَاصٍّ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وقد سَبَقَتْ هذه الْمَسَائِلُ في الْعُمُومِ
الْقَوْلُ في بِنَاءِ الْعَامِّ على الْخَاصِّ وَالْمُرَادُ بِالْبِنَاءِ تَخْصِيصُهُ وَتَفْسِيرُهُ له إذَا وُجِدَ نَصَّانِ أَحَدُهُمَا عَامٌّ وَالْآخَرُ خَاصٌّ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ في النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا من الْكِتَابِ أو أَحَدُهُمَا منه وَالْآخَرُ من السُّنَّةِ إمَّا مُتَوَاتِرًا وَغَيْرَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا من السُّنَّةِ إمَّا مُتَوَاتِرَيْنِ أو غير مُتَوَاتِرَيْنِ أو أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ وَالْحُكْمُ في الْكُلِّ وَاحِدٌ إلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّسْخِ عِنْدَمَا يَكُونُ الْمُتَأَخِّرُ ظَنِّيًّا وَالْمُقَدَّمُ قَطْعِيًّا عِنْدَ من مَنَعَهُ وَحَيْثُ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا صِرْنَا إلَيْهِ وَنَقَلَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عن دَاوُد أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ النَّصَّانِ من الْكِتَابِ وَيَسْقُطُ الْخَبَرَانِ وَعَنْهُ في الْآيَةِ وَالْخَبَرِ رِوَايَتَانِ هل يُسْتَعْمَلَانِ أو يَتَسَاقَطَانِ ثُمَّ فيه أَقْسَامٌ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَا مَعًا كَأَنْ تُنَزَّلَ آيَةٌ عَامَّةٌ ثُمَّ قبل أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهَا بَيَّنَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم دَلِيلَ التَّخْصِيصِ كَقَوْلِهِ زَكُّوا الْبَقَرَ وَلَا تُزَكُّوا الْعَوَامِلَ فَالْخَاصُّ هُنَا مُقَدَّمٌ على الْعَامِّ بِالْإِجْمَاعِ كما نَقَلَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وأبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ لِأَنَّ الْخَاصَّ مُبَيِّنٌ لِلْعَامِّ وَمُخَصِّصٌ له لَكِنْ في الْمَحْصُولِ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ذلك الْقَدْرَ من الْعَامِّ يَصِيرُ مُعَارِضًا لِلْخَاصِّ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ الْمُخَصِّصُ مع الْعَامِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مع الْجُمْلَةِ بِلَا خِلَافٍ كَقَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ثُمَّ قال في سِيَاقِ الْآيَةِ فَمَنْ اُضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ فَخَصَّ حَالَ الِاضْطِرَارِ قبل اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا فَصَارَ عُمُومُ اللَّفْظِ مَبْنِيًّا على الْخُصُوصِ الْمَعْطُوفِ عليه انْتَهَى وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مُقَارِنًا لِلْعَامِّ كما مَثَّلْنَا أو يَكُونَ الْعَامُّ مُقَارِنًا لِلْخَاصِّ كَأَنْ يَقُولَ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ثُمَّ يقول عَقِبَهُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَإِنْ جَوَّزْنَا نَسْخَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ فَلَا يُمْكِنُ هُنَا لِأَنَّ النَّاسِخَ شَرْطُهُ التَّرَاخِي وهو هَاهُنَا مُقَارِنٌ فَتَعَيَّنَ بِنَاءُ الْعَامِّ على الْخَاصِّ
الثَّانِي أَنْ يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا فَالْمُتَأَخِّرُ إمَّا الْخَاصُّ وَإِمَّا الْعَامُّ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَتَأَخَّرَ عن وَقْتِ الْعَمَلِ أو عن وَقْتِ الْخِطَابِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَتَأَخَّرَ الْخَاصُّ عن وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ فَهَاهُنَا يَكُونُ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الذي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ وِفَاقًا وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِهِ عن وَقْتِ الْعَمَلِ غَيْرُ جَائِزٍ قَطْعًا فَيُعْمَلُ بِالْعَامِّ في بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَثَانِيهَا أَنْ يَتَأَخَّرَ عن وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْعَامِّ دُونَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ فَهَذِهِ مَبْنِيَّةٌ على جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْخِطَابِ فَمَنْ جَوَّزَهُ جَعَلَ الْخَاصَّ بَيَانًا لِلْعَامِّ وَقَضَى بِهِ عليه وَمَنْ مَنَعَهُ حَكَمَ بِنَسْخِ الْعَامِّ في الْقَدْرِ الذي عَارَضَهُ الْآخَرُ هَكَذَا قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ قال وَلَا يُتَصَوَّرُ في هذه الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ يَخْتَصُّ بها وَإِنَّمَا يَعُودُ الْكَلَامُ فيها إلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ ا هـ وَذَكَرَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ نَحْوَهُ وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ إذَا تَأَخَّرَ الْخَاصُّ فَإِنْ وَرَدَ قبل وَقْتِ الْفِعْلِ الذي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ كان تَخْصِيصًا أو بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ كان نَسْخًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْعُمُومِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ من لم يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عن وَقْتِ الْخِطَابِ ولم يُجَوِّزْ نَسْخَ الْحُكْمِ قبل حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كَالْمُعْتَزِلَةِ أَحَالَ الْمَسْأَلَةَ وَمَنْ جَوَّزَهُمَا فَاخْتَلَفُوا فيه فَاَلَّذِي عليه الْأَكْثَرُونَ من أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْخَاصَّ مُخَصِّصٌ لِلْعَامِّ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ من الْعَامِّ لَكِنَّ التَّخْصِيصَ أَقَلُّ مَفْسَدَةً من النَّسْخِ وقد أَمْكَنَ حَمْلُهُ عليه فَيَتَعَيَّنُ وَنُقِلَ عن مُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْخَاصَّ إذَا تَأَخَّرَ عن الْعَامِّ وَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا ما يُمْكِنُ الْمُكَلَّفُ فيه من الْعَمَلِ أو الِاعْتِقَادِ بِمُقْتَضَى الْعَامِّ كان الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الذي تَنَاوَلَهُ من الْعَامِّ لِأَنَّهُمَا دَلِيلَانِ وَبَيْنَ حُكْمَيْهِمَا تَنَافٍ فَيُجْعَلُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ عن الْإِمْكَانِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُصِ وهو ضَعِيفٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَثَالِثُهَا أَنْ يَتَأَخَّرَ الْعَامُّ عن وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ فَهَاهُنَا يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ عِنْدَنَا لِأَنَّ ما تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ مُتَيَقَّنٌ وما تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ ظَاهِرٌ مَظْنُونٌ وَالْمُتَيَقَّنُ أَوْلَى قال إلْكِيَا وَهَذَا أَحْسَنُ ما عُلِّلَ بِهِ ا هـ وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ إلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ وَتَوَقَّفَ فيه ابن الْفَارِضِ من الْمُعْتَزِلَةِ
وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ إذَا تَأَخَّرَ الْعَامُّ كان نَسْخًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَاصُّ ما لم تَقُمْ دَلَالَةٌ من غَيْرِهِ على أَنَّ الْعُمُومَ مُرَتَّبٌ على الْخُصُوصِ قال وكان يَحْكِي شَيْخُنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا وَمَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عليه وقد جَعَلَ أبو حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ لِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْدُ ثُمَّ قال وقد نَاقَضَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ في هذه الْمَسْأَلَةِ في مَسَائِلَ منها أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُنَيْس وَاغْدُ يا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هذا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا قَاضِيًا على قَضِيَّةِ مَاعِزٍ في اعْتِبَارِ تَكْرَارِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مع أَنَّ قَضِيَّةَ مَاعِزٍ خَاصَّةٌ مُفَسَّرَةٌ وَقَضِيَّةَ أُنَيْسٍ عَامَّةٌ وَمِنْهَا أَنَّهُ قال الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مَنْسُوخٌ بِأَكْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَحْمًا وَخُبْزًا ولم يَتَوَضَّأْ فَنُسِخَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ لِأَنَّ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عَامٌّ في الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا وَتَرْكُهُ الْوُضُوءَ منها خَاصٌّ بِهِمَا ثُمَّ يُنْسَخُ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ مع امْتِنَاعِ وُقُوعِ النَّسْخِ في مِثْلِهِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ كَيْفَ مُنِعَ من إيجَابِ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ الْمُشْتَمِلِ عليه وَعَلَى غَيْرِهِ قال وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لِلْقَاعِدَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَقْبَلُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَحَمَلْنَا الحديث على غَسْلِ الْيَدِ وَمِنْهَا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ قَتْلَ شَارِبِ الْخَمْرِ في الرَّابِعَةِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ فَجَعَلَ الْعَامَّ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ وزاد بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ في حديث عَائِشَةَ في غُسْلِ الْجَنَابَةِ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ
وفي حديث مَيْمُونَةَ النَّصُّ على تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَالْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ ولم يَحْمِلُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُطْلَقَ على الْمُقَيَّدِ في تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مع أَنَّ الْحَادِثَةَ وَاحِدَةٌ وَمِنْ مَذْهَبِهِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ في حَادِثَتَيْنِ فَكَيْفَ في وَاحِدَةٍ وَالْجَوَابُ وَرَابِعُهَا أَنْ يَتَأَخَّرَ الْعَامُّ عن وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْخَاصِّ لَكِنَّهُ قبل وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الذي قَبْلَهُ في الْبِنَاءِ وَالنَّسْخِ إلَّا على رَأْيِ من لم يُجَوِّزْ منهم نَسْخَ الشَّيْءِ قبل حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كَالْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ فإنه لَا يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ على النَّسْخِ فَتَعَيَّنَ عليه الْبِنَاءُ أو التَّعَارُضُ فِيمَا تَنَافَيَا فيه وَجَعَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْخِلَافَ في هذه الْحَالَةِ مَبْنِيًّا على تَأْخِيرِ الْبَيَانِ قال فَمَنْ لم يُجَوِّزْ تَأْخِيرَهُ عن مَوْرِدِ اللَّفْظِ جَعَلَهُ نَسْخًا لِلْخَاصِّ الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ لَا يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْخَاصَّ مِنْهُمَا يَخُصُّ الْعَامَّ وهو قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ عن عَامَّةِ أَصْحَابِهِمْ وَبِهِ قال الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إلَى التَّوَقُّفِ إلَى ظُهُورِ التَّارِيخِ وَإِلَى ما يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا على الْآخَرِ أو يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا وَحُكِيَ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالدَّقَّاقِ أَيْضًا وَكُلٌّ من الْإِمَامَيْنِ ذَهَبَ إلَى ما يَقْتَضِيهِ أَصْلُهُ أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلِأَنَّهُ بَنَى الْعَامَّ على الْخَاصِّ مُطْلَقًا مُتَقَدِّمًا وَمُتَأَخِّرًا وَمُقَارِنًا إذَا عُلِمَ التَّارِيخُ لَكِنْ في بَعْضِ الصُّوَرِ يَكُونُ الْبِنَاءُ على وَجْهِ النَّسْخِ وفي بَعْضِهَا على وَجْهِ التَّخْصِيصِ وَحَالَةُ الْجَهْلِ لَا تَخْلُو عن هذه الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ وَالْجَهْلُ بِكَوْنِ الْبِنَاءِ على وَجْهِ النَّسْخِ أو التَّخْصِيصِ لَا مَحْذُورَ فيه لَا في حَقِّ الْعَمَلِ وَلَا في حَقِّ الِاعْتِقَادِ وَأَمَّا أبو حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ إذَا كان مُتَقَدِّمًا عليه وَيُخَصِّصُ الْعَامَّ أو يَنْسَخُهُ بِهِ إذَا كان مُتَأَخِّرًا عنه وَعِنْدَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ دَارَ الْأَمْرُ في الْخَاصِّ بين أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أو مُخَصِّصًا أو نَاسِخًا فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ في هذه الْأَقْسَامِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا اعْتَقَدُوا في هذه الْحَالَةِ التَّوَقُّفَ إلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ ذَكَرُوا في التَّرْجِيحِ في اسْتِعْمَالِهِمَا أو اسْتِعْمَالِ أَحَدِهَا وُجُوهًا فَنَقَلَ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن عِيسَى بن أَبَانَ أَنَّهُ قَسَّمَهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَعْمَلَ الناس بِهِمَا جميعا فَيُسْتَعْمَلَانِ وَيُرَتَّبُ الْعَامُّ على الْخَاصِّ كَالنَّهْيِ عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَك وَتَرْخِيصُهُ في السَّلِمِ وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقُوا على الْعَمَلِ بِمُوجِبِ أَحَدِهِمَا وَيُسْقِطُوا الْآخَرَ
فَيَجِبُ حَمْلُ ما أَسْقَطُوا على أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا عَمِلُوا بِهِ وَيَخْتَلِفُونَ في ذلك فَيَعْمَلُ بَعْضُهُمْ بِأَحَدِهِمَا وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُخَالِفُهُ فَالْعَمَلُ على قَوْلِ الْعَامَّةِ قال أبو بَكْرٍ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إذَا وَرَدَا وَتَجَرَّدَا عن دَلَالَةِ النَّسْخِ يُسْتَعْمَلَانِ جميعا على التَّرْتِيبِ وَإِنَّهُ إنْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا دَلَّ على أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِآخَرَ قال وكان أبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ يُحْكَى عن أبي حَنِيفَةَ في الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مَتَى اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ على اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفُوا في الْآخَرِ كان الْمُتَّفَقُ عليه قَاضِيًا على الْمُخْتَلَفِ فيه كَقَوْلِهِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ فإنه مُتَّفَقٌ على اسْتِعْمَالِهِ في خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ وَحَدِيثُ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ مُخْتَلَفٌ في اسْتِعْمَالِهِ فَكَانَ خَبَرُ إيجَابِ الْعَشَرَةِ مُطْلَقًا قَاضِيًا عليه بِإِيجَابِهِ قال أبو بَكْرٍ وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ تَسْتَمِرُّ عليه الْمَسَائِلُ وَنَقَلَ غَيْرُهُ عن الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ من وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحَ الْخَاصِّ فِيهِمَا على النَّسْخِ وَالْمُفِيدُ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ على الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ وزاد أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ كَوْنَ أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ بَيَانًا لِلْآخَرِ بِالِاتِّفَاقِ كَاتِّفَاقِهِمْ على نِصَابِ السَّرِقَةِ وَعَدَمِ الْعَمَلِ بِعُمُومِ الْآيَةِ وَغَيْرِ ذلك من طُرُقِ التَّرْجِيحَاتِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ خِلَافُ الْحَنَفِيَّةِ في هذه الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ على أَنَّ الْعَامَّ الذي لم يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ نَصٌّ في الِاسْتِغْرَاقِ حتى لَا يَجُوزَ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ وَحِينَئِذٍ فإذا قَضَى الْخَاصُّ على الْعَامِّ في جُزْءٍ تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ يَقْضِي على الْخَاصِّ في خَبَرٍ تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ فَيَتَعَارَضَانِ من هذه الْجِهَةِ الثَّانِي قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ إنَّ شَرْطَ الْبِنَاءِ في هذه الْمَسْأَلَةِ التَّنَافِي في الْكُلِّ أو في مَوْضِعِ الْخَاصِّ أَمَّا إذَا لم يَحْصُلْ التَّنَافِي فَلَا وَكَذَا الْقَوْلُ في حَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ وَعَلَى هذه فإذا وَرَدَ عَامٌّ وَخَاصٌّ في طَرَفَيْ النَّهْيِ وَالنَّفْيِ فَلَا يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ وَلَا يُقَيَّدُ
الْمُطْلَقُ كما في نَهْيِهِ عن مَسِّ الذَّكَرِ بِالْيَمِينِ في الِاسْتِنْجَاءِ وَالنَّهْيِ عن مَسِّهِ بِالْيَمِينِ مُطْلَقًا فَبَقِيَ دَالًّا على عُمُومِهِ لِدَلَالَتِهِ على النَّهْيِ في مَحَلٍّ لَا يَدُلُّ ذلك الْآخَرُ عليه هذا إذَا ثَبَتَ لنا أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ مُتَعَدِّدَانِ لَيْسَا بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ اُخْتُلِفَ في لَفْظِهِ مَسْأَلَةُ تَعَارُضِ الْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ كَالْخَاصِّ وَالْعَامِّ فَيُقَدَّمُ الْمُفَسَّرُ على الْمُجْمَلِ مُطْلَقًا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ
الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ ما دَلَّ على الْمَاهِيَّةِ بِلَا قَيْدٍ من حَيْثُ هِيَ هِيَ وقال في الْمَحْصُولِ ما دَلَّ على الْمَاهِيَّةِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ له دَلَالَةٌ على شَيْءٍ من قُيُودِهَا وَالْمُرَادُ بها عَوَارِضُ الْمَاهِيَّةِ اللَّاحِقَةُ لها في الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ في الذِّهْنِ أَمَّا إذَا اُعْتُبِرَ مع الْمَاهِيَّةِ عَارِضٌ من عَوَارِضِهَا وَهِيَ الْكَثْرَةُ فَإِنْ كانت مَحْصُورَةً فَهِيَ الْعَدَدُ وَإِلَّا فَالْعَامُّ قال وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِ من قال الْمُطْلَقُ الدَّالُّ على وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ فإن قَوْلَهُ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ أَمْرَانِ مُغَايِرَانِ لِلْمَاهِيَّةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ زَائِدَانِ عليها ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَحْدَةَ وَعَدَمَ التَّعَيُّنِ لَا يَدْخُلَانِ في مَفْهُومِ الْحَقِيقَةِ على ما ذَكَرْنَا وقال صَاحِبُ الْحَاصِلِ الدَّالُّ على الْمَاهِيَّةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ هو الْمُطْلَقُ وَالدَّالُّ عليها مع وَحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ هو الْمَعْرِفَةُ وَغَيْرِ مُعَيَّنَةٍ هو النَّكِرَةُ وقال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ الدَّالُّ على الْحَقِيقَةِ هو الْمُطْلَقُ وَيُسَمَّى مَفْهُومُهُ كُلِّيًّا وَحَاصِلُ كَلَامِ الْإِمَامِ وَأَتْبَاعِهِ أَنَّ الْمُطْلَقَ الدَّالُّ على مَعْنًى كُلِّيٍّ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ في الْمُسْتَصْفَى اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى اشْتِرَاكِ الْمَعْنَى وَخُصُوصِيَّتِهِ يَنْقَسِمُ إلَى لَفْظٍ لَا يَدُلُّ على غَيْرِ وَاحِدٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَإِلَى ما يَدُلُّ على أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ تَتَّفِقُ في مَعْنًى وَاحِدٍ وَنُسَمِّيهِ مُطْلَقًا فَالْمُطْلَقُ هو اللَّفْظُ الدَّالُّ على مَعْنًى لَا يَكُونُ تَصَوُّرُهُ مَانِعًا من وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فيه وقال ابن الزَّمْلَكَانِيِّ في الْبُرْهَانِ جَعَلَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً وَخَطَّأَ الْقُدَمَاءَ في حَدِّهِمْ له بِمَا سَبَقَ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْوَحْدَةَ وَالتَّعَيُّنَ قَيْدَانِ زَائِدَانِ على الْمَاهِيَّةِ قال وَيَرِدُ عليه أَعْلَامُ الْأَجْنَاسِ كَأُسَامَةَ وَثُعَالَةَ فَإِنَّهَا تَدُلُّ على الْحَقِيقَةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً وَرَدَّ عليه الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ وقال لم يَجْعَلْ الْإِمَامُ الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً بَلْ غَايَرَ بَيْنَهُمَا فإن الْمُطْلَقَ الدَّالُّ على الْمَاهِيَّةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ وَالنَّكِرَةَ الدَّالُّ عليها بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ الشَّائِعَةِ وَأَمَّا إلْزَامُهُ عِلْمَ الْجِنْسِ فَمَرْدُودٌ بِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْمَاهِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ بِقَيْدِ التَّشْخِيصِ الذِّهْنِيِّ بِخِلَافِ اسْمِ الْجِنْسِ وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ فَقَالَا إنَّهُ الدَّالُّ على الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ
الشَّائِعَةِ كَالنَّكِرَةِ قال في الْإِحْكَامِ الْمُطْلَقُ النَّكِرَةُ في سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وقال ابن الْحَاجِبِ الْمُطْلَقُ ما دَلَّ على شَائِعٍ في جِنْسِهِ وَبِنَحْوِ ذلك عَرَّفَ النَّكِرَةَ في كُتُبِ النَّحْوِ إلَّا أَنَّ الذي دَعَا الْآمِدِيَّ إلَى ذلك هو أَصْلُهُ في إنْكَارِ الْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيِّ وَأَمَّا ابن الْحَاجِبِ فإنه لَا يُنْكِرُهُ بَلْ هو مع الْجُمْهُورِ في إثْبَاتِهِ لَكِنَّ الدَّاعِيَ له إلَى ذلك مُوَافَقَةُ النُّحَاةِ في عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بين الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ قال ابن الْخَشَّابِ النَّحْوِيِّ النَّكِرَةُ كُلُّ اسْمٍ دَلَّ على مُسَمَّاهُ على جِهَةِ الْبَدَلِ أَيْ فإنه صَالِحٌ لِهَذَا وَلِهَذَا ا هـ وَلَا يَنْبَغِي ذلك يَعْنِي مُوَافَقَةَ ابْنِ الْحَاجِبِ لِلنُّحَاةِ فإن النُّحَاةَ إنَّمَا دَعَاهُمْ إلَى ذلك أَنَّهُ لَا غَرَضَ لهم في الْفَرْقِ لِاشْتِرَاكِ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ في صِيَاغَةِ الْأَلْفَاظِ من حَيْثُ قَبُولُ أَلْ وَغَيْرُ ذلك من الْأَحْكَامِ فلم يَحْتَاجُوا إلَى الْفَرْقِ أَمَّا الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمَا عِنْدَهُمْ حَقِيقَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ أَمَّا الْأُصُولِيُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ وَجْهَ الْمُمَيِّزِ فِيهِمَا فَإِنَّا قَطْعًا نُفَرِّقُ بين الدَّالِّ على الْمَاهِيَّةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ وَالدَّالُّ عليها بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ كما نُفَرِّقُ بين الدَّالُّ عليها بِوَحْدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وهو النَّكِرَةُ وَمُعَيَّنَةٍ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ فَهِيَ حَقَائِقُ ثَلَاثٌ لَا بُدَّ من بَيَانِهَا وَأَمَّا الْفَقِيهُ فَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا اسْتَشْعَرَ بَعْضُهُمْ التَّنْكِيرَ في بَعْضِ الْأَلْفَاظِ اشْتَرَطَ الْوَحْدَةَ فقال الْغَزَالِيُّ فِيمَنْ قال إنْ كان حَمْلُهَا غُلَامًا فَأَعْطُوهُ كَذَا فَكَانَ غُلَامَيْنِ لَا شَيْءَ لَهُمَا لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يُشْعِرُ بِالتَّوْحِيدِ وَيَصْدُقُ أَنَّهُمَا غُلَامَانِ لَا غُلَامٌ وَكَذَا لو قال لِامْرَأَتِهِ إنْ كان حَمْلُك ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ فَكَانَا ذَكَرَيْنِ فَقِيلَ لَا تَطْلُقُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَقِيلَ تَطْلُقُ حَمْلًا على الْجِنْسِ من حَيْثُ هو فَانْظُرْ كَيْفَ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بين الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ وَأَقُولُ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُطْلَقَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقَعَ في الْإِنْشَاءِ فَهَذَا يَدُلُّ على نَفْسِ الْحَقِيقَةِ من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِأَمْرٍ زَائِدٍ وهو مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمُطْلَقُ هو التَّعَرُّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً وَالثَّانِي أَنْ يَقَعَ في الْأَخْبَارِ مِثْلُ رَأَيْت رَجُلًا فَهُوَ لِإِثْبَاتِ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ من ذلك الْجِنْسِ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّعْيِينِ عِنْدَ السَّامِعِ وَجُعِلَ مُقَابِلًا لِلْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ على قَيْدِ الْوَحْدَةِ وَعَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يُنَزَّلُ كَلَامُ الْمَحْصُولِ وَعَلَى الثَّانِي يُنَزَّلُ كَلَامُ ابْنِ
الْحَاجِبِ وهو قَطْعِيٌّ في الْمَاهِيَّةِ هذا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَظَاهِرٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَنَظِيرِ الْخِلَافِ في الْعُمُومِ وَلِاسْتِرْسَالِهِ على جَمِيعِ الْأَفْرَادِ يُشْبِهُ الْعُمُومَ وَلِهَذَا قِيلَ إنَّهُ عَامٌّ عُمُومَ بَدَلٍ وَالْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ من عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهَا اصْطِلَاحًا وَإِنْ أُطْلِقَ على الْمَعَانِي فَلَا مُشَاحَّةَ في الِاصْطِلَاحِ وَهُمَا أَمْرَانِ نِسْبِيَّانِ بِاعْتِبَارِ الطَّرَفَيْنِ وَيَرْتَقِي إلَى مُطْلَقٍ لَا إطْلَاقَ بَعْدَهُ كَالْمَعْلُومِ وَإِلَى مُقَيَّدٍ لَا تَقْيِيدَ بَعْدَهُ كَزَيْدٍ وَبَيْنَهُمَا وَسَائِطُ وقال الْهِنْدِيُّ الْمُطْلَقُ الْحَقِيقِيُّ ما دَلَّ على الْمَاهِيَّةِ فَقَطْ وَالْإِضَافِيُّ يَخْتَلِفُ نَحْوُ رَجُلٍ وَرَقَبَةٍ فإنه مُطْلَقٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى رَجُلٍ عَالِمٍ وَرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَمُقَيَّدٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّهُ يَدُلُّ على وَاحِدٍ شَائِعٍ وَهُمَا قَيْدَانِ زَائِدَانِ على الْمَاهِيَّةِ وَالْمُقَيَّدُ مُقَابِلُهُمَا قال صَاحِبُ خُلَاصَةِ الْمَأْخَذِ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ وما وَرَاءَ النَّهْرِ أَنَّ الْمُطْلَقَ ثَابِتٌ في الْأَذْهَانِ دُونَ الْأَعْيَانِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَامِّ إلَى قِيَامِ دَلِيلِ التَّعْيِينِ فَائِدَةٌ الْعَمَلُ بِالْمُطْلَقِ قبل الْبَحْثِ عن الْمُقَيَّدِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ السَّابِقِ في الْعُمُومِ ولم يَذْكُرُوهُ مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْخِطَابِ مُطْلَقًا في مَوْضِعٍ وَمُقَيَّدًا في مَوْضِعٍ اعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا لَا مُقَيِّدَ له حُمِلَ على إطْلَاقِهِ أو مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقَ له حُمِلَ على تَقْيِيدِهِ وَإِنْ وَرَدَ مُطْلَقًا في مَوْضِعٍ وَمُقَيَّدًا في آخِرِ فَالْكَلَامُ في مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا في الْمُقَيَّدِ هل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ مَقْصُورًا على الشَّرْطِ الْمُقَيَّدِ بِهِ أَمْ لَا وَالثَّانِي في الْمُطْلَقِ هل يَجِبُ حَمْلُهُ على حُكْمِ الْمُقَيَّدِ من جِنْسِهِ أَمْ لَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ الْبَحْثُ في أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ حُجَّةٌ أَمْ لَا كما سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ قُلْنَا ليس بِحُجَّةٍ لم يُحْمَلْ الْمُطْلَقُ عليه وَإِنْ قُلْنَا حُجَّةٌ حُمِلَ وَلَا بُدَّ في الْحَمْلِ من تَقْدِيمِ كَوْنِ الْقَيْدِ شَرْطًا فِيمَا قُيِّدَ بِهِ وَالْأُصُولِيُّونَ قد أَهْمَلُوا ذِكْرَهُ هُنَا لِوُضُوحِهِ وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ له الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَاعْتَبَرَا مَعْنَى الْمُقَيَّدِ فَإِنْ كان خَاصًّا
ثَبَتَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ وَإِنْ كان عَامًّا يَسْقُطُ حُكْمُهُ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ إلَى قَوْلِهِ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَقْيِيدُ التَّيَمُّمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ شَرْطٌ في إبَاحَتِهِ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ وإذا ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ إلَى قَوْلِهِ إنْ خِفْتُمْ فَلَيْسَ الْخَوْفُ شَرْطًا في الْقَصْرِ وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْمَقْصُودُ بَعْدَ ثُبُوتِ كَوْنِ التَّقْيِيدِ شَرْطًا في الْمُقَيَّدِ فَيَنْقَسِمُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ إلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَخْتَلِفَا في السَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِالِاتِّفَاقِ كَتَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ وَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ في الْكَفَّارَةِ وَشَرَطَ الْآمِدِيُّ أَنْ يَكُونَا ثُبُوتِيَّيْنِ فَإِنْ لم يَكُنْ كما إذَا قال في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَعْتَقَ رَقَبَةً وقال لَا تَمْلِكُ رَقَبَةٌ كَافِرَةٌ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يُوجِبُ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْمُسْلِمَةِ في هذه الصُّورَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الِاتِّفَاقَ في هذا الْقِسْمِ نَقَلَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا وابن بَرْهَانٍ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ عن الْقَاضِي مُحَمَّدٍ من الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ في هذا حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ وَأَخَذَ ذلك من رِوَايَةٍ رُوِيَتْ عنه أَنَّهُ قال عَجِبْت من رَجُلٍ عَظِيمٍ من أَهْلِ الْعِلْمِ يقول إنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْكُوعَيْنِ فَقِيلَ له إنَّهُ حَمَلَ ذلك على آيَةِ الْقَطْعِ فقال وَأَيْنَ هو من آيَةِ الْوُضُوءِ قال الْبَاجِيُّ وَهَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حَمْلُهُ عليه بِقِيَاسٍ أو عِلَّةٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْحَمْلِ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَسَيَأْتِي حِكَايَةُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَنَّهُ يُجْزِئُ فيها الْإِطْعَامُ كما في الظِّهَارِ قلت وَمِنْ هذا كُلِّهِ يَخْرُجُ خِلَافٌ في حَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ في هذا الْقِسْمِ وَيَنْبَغِي الْتِفَاتُهُ إلَى أَنَّهُ من بَابِ الْقِيَاسِ أو اللَّفْظِ فَإِنْ قُلْنَا من بَابِ الْقِيَاسِ امْتَنَعَ لِأَنَّ من شَرْطِ الْقِيَاسِ اتِّحَادَ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ هُنَا مُخْتَلِفٌ حَيْثُ أُطْلِقَ الْإِطْعَامُ وَقُيِّدَ الصِّيَامُ الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَتَّفِقَا في السَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَيُحْمَلُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ كما لو قال إنْ ظَاهَرْتَ فَاعْتِقْ رَقَبَةً وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ ظَاهَرْتَ فَاعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً وأبو حَنِيفَةَ يُوَافِقُ في هذا الْقِسْمِ كما قَالَهُ أبو زَيْدٍ في الْأَسْرَارِ وأبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ في تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُمَا وَلِهَذَا حُمِلَ قَوْله تَعَالَى فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ على قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٌ وَكَذَا لو قِيلَ له تَغَدَّ عِنْدِي الْيَوْمَ فقال وَاَللَّهِ لَا
أَتَغَدَّى حُمِلَ على ذلك الْيَوْمِ حتى لَا يَحْنَثَ بِغَيْرِهِ وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ في هذا الْقِسْمِ الْقَاضِيَانِ أبو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وابن فُورَكٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَكَإِطْلَاقِ تَحْرِيمِ الدَّمِ في مَوْضِعٍ وَتَقْيِيدِهِ في آخَرَ بِالْمَسْفُوحِ وَكَقَوْلِهِ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ منه وقَوْله تَعَالَى من كان يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ له في حَرْثِهِ وَمَنْ كان يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ منها فإنه لو قِيلَ نَحْنُ نَرَى من يَطْلُبُ الدُّنْيَا طَلَبًا حَثِيثًا وَلَا يَحْصُلُ له شَيْءٌ قُلْنَا قال تَعَالَى من كان يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا له فيها ما نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ فَعَلَّقَ ما يُؤْتِيهِ بِالْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ وَكَإِطْلَاقِ الْمَسْحِ في قَوْلِهِ يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ إذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ وَقَوْلُهُ عَمَّنْ تَمُونُونَ مع قَوْلِهِ على كل صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى حُرٍّ وَعَبْدٍ من الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلُهُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مع قَوْلِهِ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وقال ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ هذه الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةُ الْمَفْهُومِ كَقَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ وَهَذَا مُطْلَقٌ وَقَوْلُهُ في الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ فَهَذَا مُقَيَّدٌ بِالسَّوْمِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَفْهُومِ حَمَلْنَا الْمُطْلَقَ على الْمُقَيَّدِ على الْخِلَافِ وَالسَّبَبُ وَاحِدٌ وهو الْمِلْكُ لِلْمَالِ الْبَاقِي وَالْحُكْمُ وَاحِدٌ وهو وُجُوبُ الزَّكَاةِ ا هـ وَظَاهِرُهُ جَرَيَانُ خِلَافِ الْحَنَفِيَّةِ في هذا الْقِسْمِ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ وَبِهِ صَرَّحَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ فقال اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ في هذا الْقِسْمِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ وَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ يُحْمَلُ قُلْت إلَّا أَنَّهُمْ لم يَحْمِلُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ كَذَلِكَ بَلْ عَمِلُوا بِالنَّصَّيْنِ
وقال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ في هذا الْقِسْمِ من بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ وقد ذَكَرْنَا أَنَّهُ ليس بِدَلِيلٍ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ قال وقد اخْتَلَفَ كَلَامُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ في ذلك في التَّقْرِيبِ وَحَكَى الطَّرَسُوسِيُّ بِالسِّينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ الْخِلَافَ فيه عن الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ من هذا الْقِسْمِ ما إذَا كان الْمُقَيَّدُ آحَادًا وَالْمُطْلَقُ مُتَوَاتِرًا قال فَيُبْنَى على مَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ هل هِيَ نَسْخٌ وَعَلَى نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ وَالْمَنْعُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَهَذَا كُلُّهُ في الْمُقَيَّدِ مُطْلَقًا فَإِنْ كانت دَلَالَةُ الْمُقَيَّدِ من حَيْثُ الْمَفْهُومُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ من قال بِهِ فَيُقَدَّمُ خَاصُّهُ على الْعُمُومِ وَمَنْ لَا يقول بِالْمَفْهُومِ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ قُلْت وَهَكَذَا فَعَلَتْ الْحَنَفِيَّةُ في صَدَقَةِ الْفِطْرِ ولم يَفْعَلُوا ذلك في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قالوا لِأَنَّهُمَا في الصَّوْمِ وَرَدَا في حُكْمٍ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِمَوْضِعَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ مُقَدِّمًا التَّقْيِيدَ وفي صَدَقَةِ الْفِطْرِ في السَّبَبِ وَلَا مُزَاحَمَةَ وإذا قُلْنَا بِالْحَمْلِ فَاخْتَلَفُوا فَصَحَّحَ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْحَمْلَ بَيَانٌ لِلْمَطْلُوبِ أَيْ دَالٌّ على أَنَّهُ كان الْمُرَادُ بِالْمُطْلَقِ هو الْمُقَيَّدُ وَقِيلَ يَكُونُ نَسْخًا أَيْ دَالًّا على نَسْخِ حُكْمِ الْمُطْلَقِ السَّابِقِ بِحُكْمِ الْمُقَيَّدِ الطَّارِئِ وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ في هذا الْقِسْمِ في الْحَمْلِ بين أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ مُتَقَدِّمًا أو مُتَأَخِّرًا أو جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا وَلِهَذَا قال الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى بَعْدَ تَعَرُّضِهِ لِهَذَا وَهَذَا صَحِيحٌ على مَذْهَبِ من لَا يَرَى بين الْعَامِّ وَالْخَاصِّ تَقَابُلَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْقَاضِي مع مَصِيرِهِ إلَى التَّعَارُضِ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ على تَنْزِيلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ ا هـ وَفِيمَا ذَكَرَهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ من صَارَ إلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يُخَصَّصُ بِالْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَلْ يُحْمَلُ على النَّسْخِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْمِلَ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ هَاهُنَا إنَّ الْمُطْلَقَ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْمُقَيَّدِ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ بِمَثَابَةِ الْعَامِّ وَالْمُقَيَّدَ بِمَثَابَةِ الْخَاصِّ وَعَلَى هذا يَلْزَمُ الْوَقْفُ عِنْدَ جَهْلِ التَّارِيخِ كما تَوَقَّفَ هُنَاكَ كَذَا قال الْهِنْدِيُّ والأردبيلي وَيَشْهَدُ له حِكَايَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إذَا كان الْمُقَيَّدُ مُتَأَخِّرًا عن الْمُطْلَقِ يَكُونُ الْمُقَيَّدُ نَاسِخًا لِلْمُطْلَقِ وَزَيَّفَهُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَتَّجِهُ فِيمَا إذَا تَأَخَّرَ الْمُقَيَّدُ عن وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ وَإِلَّا فَالْحَمْلُ على النَّسْخِ مع إمْكَانِ حَمْلِهِ على الْبَيَانِ بَعِيدٌ ثُمَّ يَلْزَمُهُ عَكْسُهُ إنْ رَأَى نَسْخَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ وقد يُقَالُ لَا يَلْزَمُ الْقَائِلَ في الْعَامِّ بِالنَّسْخِ أَنْ يَقُولَ بِهِ هُنَا في الْمُطْلَقِ وَالْفَرْقُ أَنَّ
الْخَاصَّ يُنَاقِضُ الْعَامَّ في جِهَةِ مَدْلُولِهِ فإن الْعَامَّ يَدُلُّ على إثْبَاتِ الْحُكْمِ في جَمِيعِ أَفْرَادِهِ ظَاهِرًا وَالْخَاصَّ يَنْفِي الْحُكْمَ في بَعْضِهَا فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا من هذا الْوَجْهِ وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَا دَلَالَةَ له على حُكْمِ الْمُقَيَّدِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ فإن الْإِيمَانَ مَثَلًا في قَوْلِهِ أَعْتِقْ رَقَبَةً مَسْكُوتٌ عنه فَلَا يَكُونُ إثْبَاتُهُ بِقَوْلِهِ أَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً مُنَافِيًا لِحُكْمِ الْإِطْلَاقِ من جِهَةِ الْمَدْلُولِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ بِكُلِّ حَالٍ فَصَحَّ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ على ذلك وَلَا يَخْرُجُ على الْخِلَافِ في تَقَابُلِ الْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ وَالْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ لِمَا فيه من الْجَمْعِ بين الدَّلِيلَيْنِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَخْتَلِفَا في السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ كَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَتَقْيِيدِهَا بِالْإِيمَانِ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ وهو وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ لَكِنَّ الظِّهَارَ وَالْقَتْلَ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ فَهَذَا هو مَوْضِعُ الْخِلَافِ بين الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَمَّا عَكْسُهُ وهو اتِّحَادُ السَّبَبِ وَاخْتِلَافُ الْحُكْمِ فَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فيه لَكِنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُول جَعَلَهُ من مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَبِهِ تَصِيرُ الْأَقْسَامُ أَرْبَعَةً وَمَثَّلَهُ بِآيَةِ الْوُضُوءِ فإنه قَيَّدَ فيها غَسْلَ الْيَدَيْنِ بِالْمَرَافِقِ وَأَطْلَقَ في آيَةِ التَّيَمُّمِ كَقَوْلِهِ وَأَيْدِيكُمْ منه فإن السَّبَبَ وَاحِدٌ وهو الْحَدَثُ وَحَكَى أبو الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ الْخِلَافَ في اتِّحَادِ السَّبَبِ وَاخْتِلَافِ الْحُكْمِ وَنَقَلَ فيه رِوَايَتَيْنِ عن أَحْمَدَ وَمَثَّلَهُ بِآيَةِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ أَيْضًا وَكَذَا مَثَّلَ بها الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ في حَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ إذَا اخْتَلَفَا في السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ إذَا عَلِمْتَ ذلك فَاخْتَلَفُوا في هذه الْمَسْأَلَةِ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ بِمُوجِبِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ من غَيْرِ دَلِيلٍ ما لم يَقُمْ دَلِيلٌ على حَمْلِهِ على الْإِطْلَاقِ فإن تَقَيُّدَ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْآخَرِ لَفْظًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ وَكَمَا في الْعَدَالَةِ وَالشُّهُودِ في قَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ يُحْمَلُ على قَوْلِهِ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَحَمَلَ إطْلَاقَ الْعِتْقِ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ على الْعِتْقِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وقال
الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الظِّهَارِ إنَّ عليه جُمْهُورَ أَصْحَابِنَا وقال سُلَيْمٌ إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن جُمْهُورِ أَصْحَابِهِمْ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا قال وَأَقْرَبُ طَرِيقِ هَؤُلَاءِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ في حُكْمِ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ وَحَقُّ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ أَنْ يَتَرَتَّبَ فيه الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ قال وَهَذَا من فُنُونِ الْهَذَيَان فإن قَضَايَا الْأَلْفَاظِ في كِتَابِ اللَّهِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ لِبَعْضِهَا حُكْمُ التَّعَلُّقِ وَالِاخْتِصَاصِ وَلِبَعْضِهَا حُكْمُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِانْقِطَاعِ فَمَنْ ادَّعَى تَنْزِيلَ جِهَاتِ الْخِطَابِ على حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ مع الْعِلْمِ بِأَنَّ في كِتَابِ اللَّهِ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ وَالْأَمْرَ وَالزَّجْرَ وَالْأَحْكَامَ الْمُتَغَايِرَةَ فَقَدْ ادَّعَى أَمْرًا عَظِيمًا وَلَا تُغْنِي في مِثْلِ ذلك الْإِشَارَةُ إلَى اتِّحَادِ الْكَلَامِ الْأَزَلِيِّ وَمُضْطَرِبُ الْمُتَكَلِّمِينَ في الْأَلْفَاظِ وَقَضَايَا الصِّيَغِ وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ لَا مِرَاءَ في اخْتِلَافِهَا فَسَقَطَ هذا الظَّنُّ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عليه بِنَفْسِ اللَّفْظِ بَلْ لَا بُدَّ من دَلِيلٍ من قِيَاسٍ أو غَيْرِهِ كما يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ حَصَلَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ أو غَيْرُهُ من الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي تَقْيِيدَهُ بِهِ قُيِّدَ وَإِلَّا أُقِرَّ الْمُطْلَقُ على إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدُ على تَقْيِيدِهِ قال الْآمِدِيُّ هذا هو الْأَظْهَرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَصَحَّحَهُ هو وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُمَا وقد عَلِمْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا نَقَلُوا عنه الْأَوَّلَ وَهُمْ أَعْرَفُ من الْآمِدِيَّ بِذَلِكَ وفي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ لِابْنِ أبي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ عن يُونُسَ بن عبد الْأَعْلَى قال سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَعِيبُ على من يقول لَا يُقَاسُ الْمُطْلَقُ من الْكِتَابِ على الْمَنْصُوصِ وقال يَلْزَمُ من قال هذا أَنْ يُجِيزَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالسُّفَهَاءِ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قال وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ مُطْلَقًا وَلَكِنَّ الْمُطْلَقَ يُقَاسُ على الْمَنْصُوصِ في مِثْلِ هذا فَلَا يَجُوزُ إلَّا الْعَدْلُ نعم هذا الْقَوْلُ عليه جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ من أَصْحَابِنَا منهم الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ كما رَأَيْتُهُ في كِتَابِهِ وَنَقَلُوهُ عن ابْنِ فُورَكٍ وَصَحَّحَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُمْدَةِ إنَّهُ الْأَقْرَبُ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَنَسَبَهُ إلَى الْمُحَقِّقِينَ قال لو جَازَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ لِتَقْيِيدِ الْمُقَيَّدِ
لَجَازَ إطْلَاقُ الْمُقَيَّدِ لِإِطْلَاقِ الْمُطْلَقِ وهو لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ ثُمَّ قال وهو قِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِلِسَانِهِمْ لِأَنَّهُمْ تَارَةً يُكَرِّرُونَ الْكَلِمَةَ لِلتَّأْكِيدِ وَتَارَةً يَحْذِفُونَهَا لِلْإِيجَازِ وَتَارَةً يُسْقِطُونَ بَعْضَهَا لِلتَّرْخِيمِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن الْجُمْهُورِ من الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا فَقَالَا وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْمُقَيَّدِ من جِنْسِهِ مَوْقُوفٌ على الدَّلِيلِ فَإِنْ قام الدَّلِيلُ على تَقْيِيدِهِ قُيِّدَ وَإِنْ لم يَقُمْ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ صَارَ كَاَلَّذِي لم يَرِدْ فيه نَصٌّ فَيُعْدَلُ عنه إلَى غَيْرِهِ من الْأَدِلَّةِ قَالَا وَهَذَا قَوْلُ من ذَهَبَ إلَى وَقْفِ الْعُمُومِ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على تَخْصِيصٍ أو عُمُومٍ وَهَذَا أَفْسَدُ الْمَذَاهِبِ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُحْتَمَلَةَ يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فيها عَائِدًا إلَيْهَا وَلَا يُعْدَلُ بِالِاحْتِمَالِ إلَى غَيْرِهَا لِيَكُونَ النَّصُّ ثَابِتًا بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ من نَفْيِ الِاحْتِمَالِ عنه وَتَعَيُّنِ الْمُرَادِ بِهِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَحَيْثُ قُلْنَا يُقَيَّدُ قِيَاسًا أَرَدْنَا بِهِ سَالِمًا عن الْفُرُوقِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُهُمْ إنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ وقال ابن بَرْهَانٍ كُلُّ دَلِيلٍ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِهِ وما لَا فَلَا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ عَامٌّ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِفِعْلِهِ عليه السَّلَامُ خِلَافًا لِلْقَاضِي وَتَقْرِيرُهُ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَبِمَفْهُومِ الْخِطَابِ وقال ابن فُورَكٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يُحْمَلُ عليه من جِهَةِ الْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا هل الْقِيَاسُ مُخَصِّصٌ لِلْمُطْلَقِ أو زَائِدٌ فيه فَمِنْهُمْ من قال إنَّهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمُطْلَقِ لَا الزِّيَادَةَ فيه قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وهو الصَّحِيحُ وَمِنْهُمْ من قال يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فيه وَجَوَّزَ الزِّيَادَةَ بِالْقِيَاسِ ولم يُقَدِّرْهُ نَسْخًا وقال صَاحِبُ الْوَاضِحِ اخْتَلَفَ أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ في أَنَّ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْإِيمَانِ هل يَقْتَضِي زِيَادَةً أو تَخْصِيصًا فقال الْبَصْرِيُّ هو زِيَادَةٌ لِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي إجْزَاءَ كل ما تَقَعُ عليه الرَّقَبَةُ فإذا اُعْتُبِرَ في إجْزَائِهَا الْإِيمَانُ كان ذلك زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ وقال قَاضِي الْقُضَاةِ هو تَخْصِيصٌ لِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي إجْزَاءَ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكَافِرَةِ وَالتَّقْيِيدُ بِالْإِيمَانِ يُخْرِجُ الْكَافِرَةَ فَكَانَ تَخْصِيصًا لَا مَحَالَةَ قال وَفَائِدَةُ هذا الْخِلَافِ أَنَّ من قال زِيَادَةٌ يَمْنَعُ الْحَمْلَ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ نَسْخٌ وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَمَنْ قال تَخْصِيصُ جَوَازِ الْحَمْلِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ ليس هذا بِخِلَافٍ في الْحَقِيقَةِ فَالْقَاضِي أَرَادَ أَنَّ التَّقَيُّدَ بِالصِّفَةِ
نُقْصَانٌ في الْمَعْنَى وأبو عبد اللَّهِ أَرَادَ زِيَادَةً في اللَّفْظِ ا هـ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْبَاطُ من مَحَلِّ التَّقْيِيدِ فَلِيَكُنْ من مَحَلٍّ آخَرَ وهو عَدَمُ إجْزَاءِ الْمُرْتَدِّ بِالْإِجْمَاعِ قال وَهَذَا بَاطِلٌ فإن الْمُسْتَنْبَطَ من مَحَلِّ التَّقْيِيدِ إنْ كان مَحِلًّا صَالِحًا قُبِلَ وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْإِحَالَةِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ قال الْمَاوَرْدِيُّ وهو أَوْلَى الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَغْلَظَ حُكْمَيْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَإِنْ كان حُكْمُ الْمُطْلَقِ أَغْلَظَ حُمِلَ على إطْلَاقِهِ ولم يُقَيَّدْ إلَّا بِدَلِيلٍ وَإِنْ كان حُكْمُ الْمُقَيَّدِ أَغْلَظَ حُمِلَ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ ولم يُحْمَلْ على إطْلَاقِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ لِأَنَّ التَّغْلِيظَ إلْزَامٌ وما تَضَمَّنَهُ الْإِلْزَامُ لم يَسْقُطْ الْتِزَامُهُ بِالِاحْتِمَالِ الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ صِفَةً فَيُحْمَلُ كَالْإِيمَانِ في الرَّقَبَةِ أو ذَاتًا فَلَا يُحْمَلُ كَالتَّقْيِيدِ بِالْمَرَافِقِ في الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ وهو حَاصِلُ كَلَامِ الْأَبْهَرِيِّ وَسَيَأْتِي ما فيه الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عليه أَصْلًا لَا من جِهَةِ الْقِيَاسِ وَلَا من جِهَةِ اللَّفْظِ وهو مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ عن أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ أَنْ قال الْأَصَحُّ عِنْدِي الثَّانِي قال ابن السَّمْعَانِيِّ في الِاصْطِلَامِ وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ تَقْيِيدَ الْخِطَابِ بِشَيْءٍ في مَوْضِعٍ لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ مِثْلِهِ في مَوْضِعٍ آخَرَ كما أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ في مَوْضِعٍ لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْعُمُومِ في مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَوْ وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ لم يَكُنْ ذلك بِأَوْلَى من حَمْلِ الْمُقَيَّدِ على الْمُطْلَقِ بِظَاهِرِ الْوُرُودِ وَهَذَا لِأَنَّ التَّقْيِيدَ له حُكْمٌ وَالْإِطْلَاقَ له حُكْمٌ وَحَمْلُ أَحَدِهِمَا على صَاحِبِهِ مِثْلُ حَمْلِ صَاحِبِهِ عليه لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرَكَ الْخِطَابَ من تَقْيِيدٍ أو إطْلَاقٍ ا هـ قال في الْمُعْتَمَدِ وَاخْتَلَفُوا في سَبَبِ الْمَنْعِ فَقِيلَ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِيمَانِ زِيَادَةٌ على النَّصِّ وَالزِّيَادَةُ على النَّصِّ نَسْخٌ وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالْقِيَاسِ وَقِيلَ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِيمَانِ زِيَادَةٌ على حُكْمٍ قُصِدَ اسْتِيفَاؤُهُ وَقِيلَ تَخْصِيصُهُ بِالْإِيمَانِ هو تَخْصِيصُهُ بِحُكْمٍ قد قُصِدَ اسْتِيفَاؤُهُ وقال في الْمَنْخُولِ اخْتَلَفُوا في وَجْهِ النَّسْخِ فَقِيلَ لِأَنَّ فيه شَرْطَ الْإِيمَانِ وَالنَّصُّ لَا يَقْتَضِيهِ وقال الْمُحَقِّقُونَ اقْتَضَى النَّهْيُ إجْزَاءَ ما يُسَمَّى رَقَبَةً فَشَرْطُ
الْإِيمَانِ بِغَيْرِ مُقْتَضَى النَّصِّ قال وَهَذَا يَقْوَى لهم في مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ في الْوُضُوءِ فإن اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى بَيَانَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ وَأَرْكَانِهِ فَاقْتَضَى ذلك وُقُوعَ الْإِجْزَاءِ بِتَحْصِيلِ ما تَعَرَّضَ له وَشَرْطُ النِّيَّةِ زِيَادَةٌ عليه وقال الشَّافِعِيُّ الزِّيَادَةُ على النَّصِّ تَخْصِيصٌ وَإِنَّمَا قال ذلك لِأَنَّهُ يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وقد بَيَّنَّا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ نُقْصَانٌ لَا زِيَادَةٌ فإن الزِّيَادَةَ على النَّصِّ فيها ما هو نَسْخٌ وما ليس بِنَسْخٍ أَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ في الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ في أَصْلِ هذه الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إلَى أُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْمُطْلَقَ هل هو ظَاهِرٌ في الِاسْتِغْرَاقِ أو نَصٌّ فيه فَإِنْ قُلْنَا ظَاهِرٌ جَازَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ بِالْقِيَاسِ على الْخِلَافِ السَّابِقِ في التَّخْصِيصِ بِهِ وَإِنْ قُلْنَا نَصٌّ فَلَا يَسُوغُ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ قال ابْن رَحَّالٍ وَرَأَيْت لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَذْهَبًا ثَالِثًا وهو أَنَّ الْمُطْلَقَ ليس بِنَصٍّ في الْإِطْلَاقِ وَلَا ظَاهِرٍ فيه بَلْ هو مُتَنَاوِلٌ لِلذَّاتِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلْقَيْدِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَعَلَى هذا فَلَا يَكُونُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ من بَابِ التَّأْوِيلِ بَلْ يَكُونُ آتِيًا بِمَا لم يُشْعِرْ بِهِ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ وهو بِمَثَابَةِ إيجَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ إيجَابِ الصَّلَاةِ الثَّانِي أَنَّ الزِّيَادَةَ على النَّصِّ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ تَخْصِيصٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كما نَقَلَهُ عنه في الْمَنْخُولِ هُنَا وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ الثَّالِثُ الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ فَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ وَعِنْدَنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ فَلِذَا حَمَلْنَاهُ عليه وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قد تَنَاقَضَ الْحَنَفِيَّةُ في تَقْيِيدِهِمْ رَقَبَةَ الظِّهَارِ بِاشْتِرَاطِ نُطْقِهَا فَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُمْ إعْتَاقُ الْأَخْرَسِ وفي تَقْيِيدِهِمْ الْقُرْبَى بِالْفُقَرَاءِ في قَوْله تَعَالَى وَلِذِي الْقُرْبَى ثُمَّ قال وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُطْلَقَ كَالْعَامِّ فَيَتَقَيَّدُ كَالتَّخْصِيصِ وَالتَّخْصِيصُ تَارَةً يَكُونُ بِقَصْرِ اللَّفْظِ على بَعْضٍ غير مُمَيَّزٍ بِصِفَةٍ كَحَمْلِ الْفُقَرَاءِ على ثَلَاثَةٍ وَتَارَةً على مُمَيَّزٍ بِصِفَةٍ كَحَمْلِ الْمُشْرِكِينَ على الْحَرْبِيِّينَ وقال في الْمُقْتَرَحِ مُطْلَقُ النَّظَرِ في هذه الْمَسْأَلَةِ يُبْنَى على أَنَّ الِاجْتِزَاءَ بِالْمُطْلَقِ يُؤْخَذُ من مُجَرَّدِ اللَّفْظِ أو من عَدَمِ دَلِيلٍ يَدُلُّ على اعْتِبَارٍ زَائِدٍ فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَالْمُطْلَقُ لَا يُشْعِرُ بِالْمُقَيَّدِ فَلَا يُحْمَلُ عليه لِأَنَّ حَمْلَهُ عليه من بَابِ التَّأْوِيلِ بِأَنْ يَكُونَ
اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَيُحْمَلُ على أَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ وَحِينَئِذٍ فَاللَّفْظُ لَا إشْعَارَ فيه بِالْمُطْلَقِ فَضْلًا عن الْمُقَيَّدِ فَلَا يُحْمَلُ وَإِنْ قُلْنَا مَأْخُوذٌ من إشْعَارِ اللَّفْظِ فَهَلْ هو ظَاهِرٌ في الِاسْتِغْرَاقِ أو نَصٌّ فيه فَإِنْ قُلْنَا ظَاهِرٌ جَازَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ بِقِيَاسٍ على الْخِلَافِ وَإِنْ قُلْنَا نَصٌّ فَلَا يَسُوغُ الْحَمْلُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ بِهِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ قال الْإِبْيَارِيُّ بَقِيَ قِسْمٌ رَابِعٌ وهو أَنْ يَتَّحِدَ الْمُوجِبُ وَيَخْتَلِفَ صِنْفُ الْمُوجِبِ كما إذَا قَيَّدَ الرَّقَبَةَ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ أَطْلَقَ في جَانِبِ الْإِطْعَامِ ذِكْرَ الْمَسَاكِينِ فَهَلْ يَتَقَيَّدُ بِهِ الْمِسْكِينُ بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا كَالرَّقَبَةِ الْمُعْتَقَةِ وقد أَغْفَلَ الْأُصُولِيُّونَ الْكَلَامَ على هذه الصُّورَةِ وَاَلَّذِي أَقُولُهُ في ذلك أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْلَكَ بِهِ مَسْلَكَ الْقِيَاسِ كما سَلَكْنَاهُ في مَسْأَلَةِ تَقْيِيدِ الرَّقَبَةِ في الظِّهَارِ على الرَّقَبَةِ في الْقَتْلِ على ذلك الطَّرِيقِ شُرُوطُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إذَا عَلِمْت ذلك فَلِحَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا على الْوَجْهِ الْمَشْرُوحِ شُرُوطٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ من بَابِ الصِّفَاتِ كَالْإِيمَانِ مع ثُبُوتِ الذَّوَاتِ في الْمَوْضِعَيْنِ فَأَمَّا في إثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ من زِيَادَةٍ خَارِجَةٍ أو عَدَدٍ فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ وَهَذَا كَالْإِطْعَامِ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فإن أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَإِنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ لِأَنَّ هذا إنَّمَا هو إثْبَاتُ الْحُكْمِ لَا صِفَةٌ وَكَذَلِكَ إيجَابُ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ في الْوُضُوءِ مع الِاقْتِصَارِ على عُضْوَيْنِ في التَّيَمُّمِ فإن الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ على أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إطْلَاقُ التَّيَمُّمِ على تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ لِيَسْتَحِقَّ تَيَمُّمُ الْأَرْبَعَةِ لِمَا فيه من إثْبَاتِ حُكْمٍ لم يُذْكَرْ وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ يَخْتَصُّ بِالصِّفَةِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَلِهَذَا حَمَلْنَا إطْلَاقَ الْيَدَيْنِ في التَّيَمُّمِ على الْمَرَافِقِ لِتَقْيِيدِ ذلك في الْوُضُوءِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَرْفِقِ صِفَةٌ وَذِكْرَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ أَصْلٌ وَمِمَّنْ ذَكَرَ هذا الشَّرْطَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَتَبِعَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عن الْأَبْهَرِيِّ من الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا لَكِنْ في تَمْثِيلِ الْقَفَّالِ وَالْمَاوَرْدِيِّ بِالتَّيَمُّمِ إلَى الْمَرَافِقِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ أَصْلٍ إذْ هو عُضْوٌ زَائِدٌ لَا وَصْفٌ وَلِذَلِكَ لم
يَرِدْ الْمُطْلَقُ إلَى تَقْيِيدِهَا بِعَدَدٍ وقد مَنَعَ أَصْحَابُنَا دَعْوَى الْحَنَفِيَّةِ كَوْنَ التَّقْيِيدِ زِيَادَةً على النَّصِّ وَلَا يَتَّجِهُ مَنْعُ كَوْنِهِ زِيَادَةً إلَّا عِنْدَ كَوْنِ الزِّيَادَةِ وَصْفًا أَمَّا إذَا كانت ذَاتًا مُسْتَقِلَّةً فَهِيَ زِيَادَةٌ قَطْعًا وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ خِلَافًا في هذه الْمَسْأَلَةِ فَجَزَمَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ثُمَّ نَقَلَ عن ابن خَيْرَانَ من أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ في الْأَصْلِ أَيْضًا فإنه تَعَالَى ذَكَرَ الْإِطْعَامَ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ولم يَذْكُرْهُ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَيُحْمَلُ عليها قال وفي هذا إثْبَاتُ أَصْلٍ بِغَيْرِ أَصْلٍ ا هـ وَمِنْ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَصَحَّ في مَذْهَبِنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدًا وَاخْتَارَ من الْخِصَالِ إخْرَاجَ الطَّعَامِ أَنَّهُ يُفَرِّقُهُ على ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ فَصَاعِدًا لِأَنَّهُ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ إلَى جَمْعٍ في قَوْله تَعَالَى أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ مع أَنَّهُ وَرَدَ في كَفَّارَةِ الْإِتْلَافِ في الْحَجِّ إعْطَاؤُهَا لِجَمْعٍ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِمْ سِتَّةً لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ ولم يَحْمِلُوا ذلك الْمُطْلَقَ في الْجَمْعِ على هذا الْمُقَيَّدِ وما ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ في حَمْلِهِ زِيَادَةَ أَجْرَامٍ وَهِيَ ثَلَاثَةُ مَسَاكِينَ وَإِلَّا فَلِمَ لَا يُحْمَلُ الشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ إلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ كَاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ في الشُّهُودِ على الرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَإِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ في الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا فَهِيَ شَرْطٌ في الْجَمِيعِ وَكَذَا تَقْيِيدُهُ مِيرَاثَ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ من بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بها أو دَيْنٍ وَإِطْلَاقُهُ الْمِيرَاثَ فِيمَا أَطْلَقَ فيه وكان ما أُطْلِقَ من الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ فَأَمَّا إذَا كان الْمُطْلَقُ دَائِرًا بين قَيْدَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ نُظِرَ فَإِنْ كان السَّبَبُ مُخْتَلِفًا لم يُحْمَلْ إطْلَاقُهُ على أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ فَيُحْمَلُ على ما كان الْقِيَاسُ عليه أَوْلَى أو ما كان دَلِيلُ الْحُكْمِ عليه أَقْوَى ذَكَرَ هذا الشَّرْطَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وَإِلْكِيَا وَحَكَى الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ فيه الِاتِّفَاقَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ حَكَى الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فيه خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا ولم يُرَجِّحْ شيئا وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الْكَفَّارَاتِ وَمَثَّلَهُ بِالصِّيَامِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فإن في وُجُوبِ تَتَابُعِهِ قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّهُ دَائِرٌ بين قَيْدَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ التَّتَابُعَ وهو صَوْمُ الظِّهَارِ كما في قَوْله تَعَالَى فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَالْآخَرُ يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ وهو صَوْمُ التَّمَتُّعِ في قَوْلِهِ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ وَلَيْسَ حَمْلُهُ على أَحَدِهِمَا أَوْلَى من حَمْلِهِ على الْآخَرِ فَتُرِكَ على إطْلَاقِهِ فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بين التَّتَابُعِ فيه وَالتَّفْرِيقِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ لَمَّا أُطْلِقَ وهو بين هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ حُمِلَ على إطْلَاقِهِ ا هـ وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ في مَوَاضِعَ منها كَفَّارَةُ
الْيَمِينِ قال هذا مِمَّا سَبَقَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ولم يُسْبَقْ فيه وَمَثَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ في الْوُضُوءِ فإنه وَرَدَ مُقَيَّدًا بِالْمَرَافِقِ وَقَطْعُهَا في السَّرِقَةِ مُقَيَّدٌ بِالْكُوعِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَسْحُهُمَا في التَّيَمُّمِ وَرَدَ مُطْلَقًا فَهَلْ يُلْحَقُ بِالْقَطْعِ أو بِالْغَسْلِ هذا مَأْخَذُ الْخِلَافِ قال وَالْأَصَحُّ حَمْلُهُ على ما هو أَشْبَهُ بِهِ من الْمُقَيَّدَيْنِ فَيُلْحَقُ بِالْغَسْلِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلُهُ وقال إِلْكِيَا يَجِبُ الْوَقْفُ إذْ لَا قِيَاسَ فَإِنْ غَلَبَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ تَحَقَّقَ الْقِيَاسُ وقال صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ وَتَبِعَهُ في الْمَحْصُولِ إنَّ من لَا يَرَى تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالْمُقَيَّدِ أَصْلًا لَا يُقَيِّدُهُ هُنَا بِأَحَدِهِمَا وَمَنْ يَرَى التَّقْيِيدَ من اللَّفْظِ لَا يَرَاهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ ليس بِأَنْ يُقَيَّدَ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى من الْآخَرِ وَأَمَّا من يَرَاهُ بِالْقِيَاسِ فَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا إذَا كان الْقِيَاسُ عليه أَوْلَى من الْقِيَاسِ على الْآخَرِ ا هـ وَعَلَى هذا فَقِيلَ يُحْمَلُ على الْكَفَّارَةِ في الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهِ في الْقِيَاسِ لِاشْتِرَاكِهِمَا في الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ وَاجِبِ التَّتَابُعِ وَلِذَلِكَ كان لِلشَّافِعِيِّ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ الْجَدِيدُ عَدَمُ وُجُوبِ التَّتَابُعِ وَهَذَا الْبِنَاءُ فيه نَظَرٌ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنَّمَا جاء في وُجُوبِ التَّتَابُعِ من أَجْلِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ حَيْثُ لم تَجْرِ مَجْرَى التَّفْسِيرِ ولم يُعَارِضْهَا خَبَرٌ هل يَجِبُ الْعَمَلُ بها أَمْ لَا وما ذَكَرُوا من وُجُوبِ التَّفْرِيقِ في التَّمَتُّعِ ليس بين الْأَيَّامِ كُلِّهَا بَلْ بين الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ وَإِنْ كان السَّبَبُ وَاحِدًا كما في حديث الْوُلُوغِ فإنه رُوِيَ إحْدَاهُنَّ وَأُولَاهُنَّ وَأُخْرَاهُنَّ فَالْمُطْلَقُ على إطْلَاقِهِ إذْ ليس إلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى من الْآخَرِ وَالْقِيَاسُ هُنَا مُتَعَذِّرٌ فَيَتَعَارَضَانِ وَبَقِيَ الْمُطْلَقُ على إطْلَاقِهِ وَنَقُولُ بِجَوَازِ التَّعْفِيرِ في كل وَاحِدَةٍ من الْمَرَّاتِ عَمَلًا بِرِوَايَةِ إحْدَاهُنَّ الْمُطْلَقَةِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَبِهِ أَجَابَ الْقَرَافِيُّ عن اعْتِرَاضٍ أَوْرَدَهُ بَعْضُ قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ على الشَّافِعِيَّةِ فإن قَاعِدَتَهُمْ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ فَكَانَ يَنْبَغِي أُولَاهُنَّ لِوُرُودِ إحْدَاهُنَّ وَأُولَاهُنَّ فَأَجَابَهُ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّهُ قد عَارَضَ رِوَايَةَ أُولَاهُنَّ رِوَايَةُ أُخْرَاهُنَّ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ وَيُرْجَعُ إلَى أَصْلِ الْإِطْلَاقِ وما ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مَمْنُوعٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْبَقَاءَ على الْإِطْلَاقِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا على مَعْنَى التَّخْيِيرِ وَمَنْعِ إجْزَاءِ الْمُتَوَسِّطِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التُّرَابُ إلَّا في الْأُولَى أو
في الْأَخِيرَةِ دُونَ ما سِوَاهُمَا حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ على طَرِيقِ الْبَدَلِ وَعَلَى ذلك نَصَّ الشَّافِعِيُّ في الْبُوَيْطِيِّ وَذَكَرَهُ الْمَرْعَشِيُّ من أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُ وَالْعَجَبُ من قَوْلِ الشَّيْخِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ في رِوَايَةِ أُولَاهُنَّ أو أُخْرَاهُنَّ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ شَكٌّ من الرَّاوِي فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا يقول بِتَعَيُّنِ الْأُولَى أو الْأَخِيرَةِ فَقَطْ بَلْ إمَّا بِتَعَيُّنِ الْأُولَى أو التَّخْيِيرِ بين الْجَمِيعِ ا هـ وَقِيلَ بَلْ على هذا يَنْبَغِي إيجَابُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ لِوُرُودِ الحديث فِيهِمَا وَلَا تَنَافِيَ في الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالثَّامِنَةِ التَّعَدُّدُ لَا الْأَخِيرَةُ فإنه حِينَئِذٍ يَكُونُ مُطْلَقًا كَإِحْدَاهُنَّ وَتَكُونُ رِوَايَةُ إحْدَاهُنَّ وَالثَّامِنَةُ وَاحِدَةً وَمَعْنَى رِوَايَةِ أُولَاهُنَّ يَعُودُ أَصْلُ السُّؤَالِ وَمِنْهُمْ من رَدَّهُ بِأَنَّ رِوَايَةَ أُخْرَاهُنَّ مُسَاوِيَةٌ لِإِحْدَاهُنَّ فَيَبْقَى قَيْدٌ وهو أُولَاهُنَّ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ حِينَئِذٍ عليه وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّ أُخْرَاهُنَّ مُؤَنَّثُ آخِرَ بِكَسْرِ الْخَاءِ لَا مُؤَنَّثُ آخَرَ بِفَتْحِهَا وَذَاكَ لَا يُضَافُ وَهَاهُنَا قد وَقَعَ مُضَافًا فَعُلِمَ أَنَّهُ مُؤَنَّثُ آخِرَ فَجَاءَ الْقَيْدَانِ وَمِنْهُمْ من رَدَّهُ بِأَنَّ شَرْطَ التَّعَارُضِ تَسَاوِي الرِّوَايَاتِ وَعَدَمُ وُجُودِ التَّرْجِيحِ في أَحَدِهَا فَأَمَّا إذَا وُجِدَ ذلك وَجَبَ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَإِطْرَاحُ الْمَرْجُوحِ لِامْتِنَاعِ إسْقَاطِ الرَّاجِحِ بِمُعَارَضَةِ الْمَرْجُوحِ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا السُّؤَالَ لَازِمٌ لِلْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْمُطْلَقَ على الْمُقَيَّدِ إذَا اتَّفَقَ السَّبَبُ وَالْحُكْمُ وهو هَاهُنَا كَذَلِكَ وَيُنَاظِرُ هذا السُّؤَالَ سُؤَالَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قال لَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بين الْمُتَبَايِعَيْنِ إلَّا إذَا كانت السِّلْعَةُ قَائِمَةً أَمَّا إذَا كانت تَالِفَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَعِنْدَنَا يَتَحَالَفَانِ مُطْلَقًا مع أَنَّهُ رُوِيَ عنه عليه السَّلَامُ أَنَّهُ قال إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَرُوِيَ زِيَادَةُ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ فَلِمَ لَا حُمِلَ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ مع اتِّحَادِ الْقَاعِدَةِ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ وَرَدَ التَّقْيِيدُ بِقَيْدٍ آخَرَ مُضَادٍّ لِلْقَيْدِ السَّابِقِ وهو قَوْلُهُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالْمَبِيعُ مُسْتَهْلَكٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَرَجَعْنَا إلَى أَصْلِ الْإِطْلَاقِ وَأَيْضًا
فَالْقَيْدَانِ ضَعِيفَا الْإِسْنَادِ وَقَوْلُ الْغَزَالِيِّ في الْمَأْخَذِ ما يَرْوِيهِ أَصْحَابُنَا من التَّقْيِيدِ بِالْهَلَاكِ أَجْمَعَ أَهْلُ الحديث على صِحَّتِهِ بَاطِلٌ الثَّانِي أَنَّ في كِتَابِ فَرِيضَةِ الصَّدَقَةِ في فَرِيضَةِ الْإِبِلِ فَإِنْ زَادَتْ على الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وهو مُطْلَقٌ في الزِّيَادَةِ وَجَاءَ مُقَيَّدًا في حديث ابْنِ عُمَرَ فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ في مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَبَعْضِ وَاحِدَةٍ إلَّا ما يَجِبُ في مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَقَطْ وَهَذَا السُّؤَالُ إنَّمَا يَرُدُّ على الْإِصْطَخْرِيِّ الْقَائِلِ بِوُجُوبِ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ فِيمَا إذَا زَادَتْ بَعْضُ وَاحِدَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ حِقَّتَانِ وَفَاءً بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ تَنْبِيهٌ حَيْثُ قُلْنَا بِأَصْلِ الْإِطْلَاقِ في الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيَجِبُ حَمْلُ كل وَاحِدٍ من الْمُقَيَّدَيْنِ على تَقْيِيدِهِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ قَالَا فَأَمَّا حَمْلُهُ على مُقَيَّدِ نَظِيرِهِ فَيُنْظَرُ في صِفَتَيْ التَّقْيِيدِ فِيهِمَا فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لم يُحْمَلْ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ وَاخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِصِفَتِهِ التي قُيِّدَ بها وَذَلِكَ مِثْلُ تَقْيِيدِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِالتَّتَابُعِ وَصَوْمِ التَّمَتُّعِ بِالتَّفْرِيقِ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بين التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ فَيُخَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصِفَةٍ وَإِنْ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُ الصِّفَتَيْنِ ولم يَتَنَافَيَا فَفِي حَمْلِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على تَقْيِيدِ نَظِيرِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يُحْمَلُ إلَّا على ما قُيِّدَ بِهِ إذَا قُلْنَا الْمُطْلَقُ لَا يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالثَّانِي يُحْمَلُ على تَقْيِيدِهِ وَتَقْيِيدِ نَظِيرِهِ بِنَظِيرِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَيَّدًا بِالصِّفَتَيْنِ إذَا قُلْنَا يَجُوزُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ فَعَلَى هذا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ما أُطْلِقَ من جِنْسِهِمَا على تَقَيُّدِهِمَا مَعًا وَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَجَانِسَةِ مُقَيَّدًا بِشَرْطَيْنِ ا هـ الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ في بَابِ الْأَوَامِرِ وَالْإِثْبَاتِ وَأَمَّا في جَانِبِ النَّفْيِ
وَالنَّهْيِ فَلَا فإنه يَلْزَمُ منه الْإِخْلَالُ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ مع تَنَاوُلِ النَّهْيِ وهو غَيْرُ سَائِغٍ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ قال لَا خِلَافَ في الْعَمَلِ بِمَدْلُولِهِمَا وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّعَذُّرِ فإذا قال لَا تُعْتِقْ مُكَاتَبًا لَا تُعْتِقْ مُكَاتِبًا كَافِرًا لم يُعْتِقْ مُكَاتِبًا كَافِرًا وَلَا مُؤْمِنًا أَيْضًا إذْ لو أَعْتَقَهُ لم يُعْمَلْ فِيهِمَا لَكِنَّ صَاحِبَ الْمَحْصُولِ سَوَّى بين الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ في الْحَمْلِ وَرَدَّ عليه الْقَرَافِيُّ بِمِثْلِ ما ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَأَمَّا الْأَصْفَهَانِيُّ فَتَبِعَ صَاحِبَ الْمَحْصُولِ وقال حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ يَجْرِي في جَمِيعِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ نَقُولُ في الْخَبَرِ جَاءَنِي رَجُلٌ من آلِ عَلِيٍّ ثُمَّ تَقُولُ جَاءَنِي بَقِيَّةُ الْعَلَوِيِّينَ وَمِثَالُ التَّمَنِّي لَيْتَ لي مَالًا ثُمَّ تَقُولُ لَيْتَ لي جَمَلًا فإنه يُحْمَلُ عليه قال وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَئِمَّةُ الْكَلَامَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِمَا في مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِأَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ سَهُلَ تَعْدِيَتُهُ إلَى بَقِيَّةِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ ا هـ وَخَالَفَ في ذلك الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ فقال فما كان في حُكْمٍ وَاحِدٍ كان أَحَدُهُمَا مَبْنِيًّا على الْآخَرِ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ مع قَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ ثُمَّ قال وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْجَمْعَ بين الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ في الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ على الثَّانِي فما كان مُكَرَّرًا منه كان لِلتَّأْكِيدِ وما كان مُفْرَدًا كان مُسْتَعْمَلًا على التَّرْتِيبِ فإذا رُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم قَوْلُهُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ وَرُوِيَ عنه لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ جُمِعَ بين الرِّوَايَتَيْنِ فَكَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ الْمُطْلَقُ دَاخِلًا في الثَّانِي وَحُمِلَ على التَّكْرَارِ وَاسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا مع الْوَصْفِ ا هـ وقد يُقَالُ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَارُدُ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ في جَانِبِ النَّفْيِ وَلَا النَّهْيِ وما ذَكَرُوهُ من الْمِثَالِ إنَّمَا هو من قَبِيلِ إفْرَادِ بَعْضِ مَدْلُولِ الْعَامِّ بِحُكْمٍ وَفِيهِ ما تَقَدَّمَ من خِلَافِ أبي ثَوْرٍ فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ هَاهُنَا وقد خَرَّجَهُ الْهِنْدِيُّ على أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ حُجَّةٌ أَمْ لَا فَمَنْ أَنْكَرَهُ لم يُخَصِّصْ وَمَنْ قال بِهِ خَصَّصَ النَّهْيَ الْعَامَّ بِهِ وَمِمَّنْ ذَكَرَ هذا الشَّرْطَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَشَرَطَهُ أَيْضًا في حَمْلِ الْعَامِّ على الْخَاصِّ وَمَثَّلَهُ بِحَدِيثِ لَا يَمَسَّنَّ أحدكم ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَجَاءَ في رِوَايَةٍ وهو يَبُولُ
فَالْأُولَى مُطْلَقَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُقَيَّدَةٌ لَكِنَّ في تَقْيِيدِهِ بِحَالَةِ الْبَوْلِ تَنْبِيهٌ على رِوَايَةِ الْإِطْلَاقِ وَأَوْلَى لِأَنَّهُ إذَا كان النَّهْيُ عن الْمَسِّ بِالْيَمِينِ حَالَةَ الِاسْتِنْجَاءِ مع مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فَغَيْرُهُ من الْحَالَاتِ أَوْلَى وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من خَصَّصَ النَّهْيَ بِمَسِّ الذَّكَرِ بِحَالَةِ الْبَوْلِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الحديث وَمِنْهُمْ من أَخَذَ بِالنَّهْيِ عن مَسِّهِ مُطْلَقًا أَخْذًا بِالْإِطْلَاقِ ثُمَّ قال وَيُنْظَرُ إنْ كَانَا حَدِيثَيْنِ فَالْمَعْنَى على ما ذَكَرْنَاهُ وَيُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ وَإِنْ كان حَدِيثًا وَاحِدًا وَمَخْرَجُهُ وَاحِدٌ وَاخْتَلَفَ عليه الرُّوَاةُ فَيَنْبَغِي حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ وَيَكُونُ زِيَادَةً من عَدْلٍ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ وَهَذَا أَيْضًا يَكُونُ بَعْدَ النَّظَرِ في دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ وما يُعْمَلُ بِهِ منه وما لَا يُعْمَلُ بِهِ وَبَعْدَ أَنْ يُنْظَرَ في تَقْدِيمِ الْمَفْهُومِ على ظَاهِرِ الْعُمُومِ ثُمَّ قال الشَّيْخُ في مَوْضِعٍ آخَرَ وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ على ما يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ من أَنَّ الْعَامَّ في الذَّوَاتِ مُطْلَقٌ في الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَأَمَّا على ما نَخْتَارُ نَحْنُ من الْعُمُومِ في الْأَحْوَالِ تَبَعًا لِلْعُمُومِ في الذَّوَاتِ فَهُوَ من بَابِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ انْتَهَى وَبِهَذَا يَسْهُلُ جَعْلُ هذه الصُّورَةِ من بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ تَنْبِيهٌ سَبَقَ في بَابِ الْعُمُومِ خِلَافٌ في أَنَّ التَّخْصِيصَ هل يَدْخُلُ في الْخَبَرِ كما في الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أو لَا وَيَنْبَغِي جَرَيَانُ هذا الْخِلَافِ هُنَا حتى يُشْتَرَطَ على قَوْلِ كَوْنِهِمَا من بَابِ التَّكْلِيفِ لَا من بَابِ الْخَبَرِ ا هـ الشَّرْطُ الرَّابِعُ لَا أَنْ يَكُونَ في جَانِبِ الْإِبَاحَةِ ذَكَرَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا في الْكَلَامِ على لُبْسِ الْمُحْرِمِ الْخُفَّ وقال إنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ في جَانِبِ الْإِبَاحَةِ إذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا وفي الْمُطْلَقِ زِيَادَةٌ انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ الشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَمْكَنَ تَعَيُّنُ إعْمَالِهِمَا فإنه أَوْلَى من تَعْطِيلِ ما دَلَّ عليه أَحَدُهُمَا ذَكَرَهُ ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ في الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ وَمِثَالُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ من بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ وَجَاءَ في رِوَايَةٍ من ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ
الْمُبْتَاعُ فإن الرِّوَايَةَ الْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَ الْعَبِيدِ لَا يَكُونُ له مَالٌ فَيَكُونُ الْإِضَافَةُ فيه لِلتَّمْلِيكِ وَالْمَالُ فيه مَحْمُولٌ على ما يُمَلِّكُهُ السَّيِّدُ إيَّاهُ وَلَيْسَ كُلُّ عَبْدٍ يُمَلِّكُهُ السَّيِّدُ مَالًا وَالثَّانِيَةُ تَشْمَلُ كُلَّ عَبْدٍ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ فيها إضَافَةَ تَخْصِيصٍ لَا تَمْلِيكٍ فَيُحْمَلُ على ثِيَابِهِ التي عليه لِأَنَّ كُلَّ عَبْدٍ لَا بُدَّ له من ثِيَابٍ يَخْتَصُّ بها قال فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُطْلَقَةٌ تَنْزِلُ على ما ذَكَرْنَاهُ وهو أَوْلَى من تَقْيِيدِهَا بِحَالَةِ تَمْلِيكِ السَّيِّدِ الْمَالَ له قال وَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ هُنَا لِأَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ الشَّرْطُ السَّادِسُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَيَّدُ ذُكِرَ معه قَدْرٌ زَائِدٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ لِأَجْلِ ذلك الْقَدْرِ الزَّائِدِ فَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ هُنَا قَطْعًا مِثَالُهُ إنْ قَتَلْتَ فَأَعْتِقْ رَقَبَةً مع إنْ قَتَلْتَ مُؤْمِنًا فَأَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ هُنَاكَ على الْمُقَيَّدِ هُنَا في الْمُؤْمِنَةِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ هُنَا إنَّمَا جاء لِلْقَدْرِ الزَّائِدِ وهو كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُؤْمِنًا وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ إلَّا بِشَرْطِ الْوَفَاةِ على الْكُفْرِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ تُحْبِطُ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عن دِينِهِ فَيَمُتْ وهو كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فَمُطْلَقٌ قُيِّدَتْ بِهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ هَكَذَا قالوا وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا في الْقَيْدِ من الْقَدْرِ الزَّائِدِ وهو الْخُلُودُ في النَّارِ وَأَيْضًا فَلَيْسَتْ الْآيَتَانِ من بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بَلْ من بَابِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَنُعْمِلُ الْخَاصَّ على أَنَّ الْآيَةَ التي تَمَسَّكَ بها الْحَنَفِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ وهو قَوْله تَعَالَى وهو في الْآخِرَةِ من الْخَاسِرِينَ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من مَاتَ على الْكُفْرِ لِأَنَّ من مَاتَ مُؤْمِنًا لَا يَكُونُ في الْآخِرَةِ خَاسِرًا فَالْمُرَادُ في الْآيَتَيْنِ التَّقْيِيدُ وَلَيْسَ فِيهِمَا مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ على أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ في الْأُمِّ على أَنَّ الرِّدَّةَ بِمُجَرَّدِهَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ وَإِنْ لم تَتَّصِلْ بِالْمَوْتِ على مَعْنَى ذَهَابِ الْأَجْرِ الشَّرْطُ السَّابِعُ أَنْ لَا يَقُومَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ من التَّقْيِيدِ مِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا الْآيَةَ فلم يُقَيَّدْ بِالدُّخُولِ وَقُيِّدَ بِهِ في عِدَّةِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ ولم يَحْمِلُوا الْمُطْلَقَ هُنَاكَ على الْمُقَيَّدِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ وهو أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ أو تَخْصِيصَ الْعَامِّ إنَّمَا يَكُونُ بِقِيَاسٍ أو مُرَجِّحٍ وهو هُنَا مُنْتَفٍ لِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا أَحْكَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَاقِيَةٌ في حَقِّهَا بِدَلِيلِ أنها تُغَسِّلُهُ وَتَرِثُ منه اتِّفَاقًا وَلَوْ كانت في حُكْمِ الْمُطَلَّقَاتِ الْبَوَائِنِ لم تَرِثْ فلما ظَهَرَ في الْفَرْعِ ما يَقْتَضِي عَدَمَ إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ امْتَنَعَ التَّقْيِيدُ بِالْقِيَاسِ أو التَّخْصِيصُ بِهِ مَسْأَلَةٌ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّقْيِيدُ فَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً في الْبَاقِي قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابن السَّمْعَانِيِّ في الْكِفَايَةِ كَالْخِلَافِ في الْعَامِّ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ قال وَتَمْهِيدُ هذا الْخِلَافِ يَسْتَدْعِي بَيَانَ عُمُومِ الْمُطْلَقِ وَيَعْنِي بِهِ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ كَالْعَامِّ فإن الْوَاحِدَ يَنْقَسِمُ إلَى وَاحِدٍ بِالْجِنْسِ وَوَاحِدٍ بِالذَّاتِ فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الذَّوَاتِ لِاشْتِمَالِ الْجِنْسِ على الْأَعْيَانِ وَالذَّوَاتِ بِخِلَافِ الْعَامِّ فإنه يَدُلُّ عَلَيْهِمَا بِالْوَضْعِ وَأَمَّا الْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ فَمَعْنَاهُ حَقِيقَةٌ تُوجَدُ في جَمِيعِ الْأَعْيَانِ فَيَقَعُ عُمُومُ الْأَعْيَانِ ضَرُورَةَ اشْتِمَالِهَا على تِلْكَ الْحَقِيقَةِ لَا أنها مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمُطْلَقَ يُفَارِقُ الْعَامَّ من وَجْهٍ وَيُسَاوِيهِ من وَجْهٍ قال فَالصَّائِرُونَ إلَى أَنَّهُ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ تَقْيِيدٌ لَا يَبْقَى حُجَّةٌ قالوا لِأَنَّ اللَّفْظَ كان عَامًّا لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ لِحَقِيقَةٍ يَسْتَوِي نِسْبَتُهَا إلَى الْأَعْيَانِ فإذا لم يَثْبُتْ الْحُكْمُ في بَعْضِ الْأَعْيَانِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُطْلَقَةَ ما كانت مُرَادَةً فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْوَاحِدَ بِالذَّاتِ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ على حَقِيقَةٍ مُطْلَقَةٍ تَسْتَوِي نِسْبَتُهَا وَيَدُلُّ على أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بها وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ في بَعْضِ الْأَعْيَانِ لَا لِخَلَلٍ في الدَّلِيلِ وَلَا لِمَعْنًى في الْمُتَعَلِّقِ وهو الْحَقِيقَةُ بَلْ لِمَعْنًى يَقَعُ من عَوَارِضِ التَّعْيِينِ فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ مع وُجُودِ الدَّلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ مُعَارِضٍ دَافِعٍ لِلْحُكْمِ وهو لَا يُبْطِلُ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كما قُلْنَا في الْعَامِّ يُخَصُّ
خَاتِمَتَانِ الْأَوَّلُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْمُقَيَّدَ لَا يُحْمَلُ على الْمُطْلَقِ وَوَقَعَ في الْوَسِيطِ في بَابِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ حَيْثُ احْتَجَّ لِلْقَوْلِ الصَّائِرِ إلَى أَنَّهُ لو تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عليه يَسْقُطُ عنه الْحَدُّ قال لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ هذا بِقَوْلِهِ من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عليهم وَأَطْلَقَ في آيَةِ السَّرِقَةِ قَوْلَهُ فَمَنْ تَابَ من بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ انْتَهَى وفي هذا حُمِلَ الْمُقَيَّدُ على الْمُطْلَقِ فإنه حَمَلَ آيَةَ الْمُحَارَبَةِ وقد وَرَدَ فيها التَّقْيِيدُ على ما وَرَدَ فيه الْأَمْرُ مُطْلَقًا وهو السَّرِقَةُ وهو غَرِيبٌ ثُمَّ رَأَيْت الْأَصْحَابَ قد حَمَلُوا ذلك أَيْضًا في مَسْحِ الْخُفِّ فإن قَوْلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ من بَابِ حَمْلِ الْمُقَيَّدِ على الْمُطْلَقِ على مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ لِأَنَّ لَيَالِيَهُنَّ مُقَيَّدٌ بِالْإِضَافَةِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لو أَحْدَثَ الْمُسَافِرُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا يَمْسَحُ اللَّيْلَةَ الرَّابِعَةَ وقد قالوا إنَّهُ يَمْسَحُ لَيْلَتَهُ حَمْلًا على الْمُطْلَقِ كما لو تَأَخَّرَتْ لَيْلَةُ الْيَوْمِ عنه الثَّانِيَةُ كَثُرَ في كَلَامِ كَثِيرٍ من الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يَقُولُوا هذا مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ يَكْفِي في الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ إعْمَالُهُ في صُورَةٍ وقد اتَّفَقْنَا على الْعَمَلِ بِهِ في كَذَا فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ في غَيْرِهِ وقد اسْتَعْظَمَ جَمْعٌ هذا السُّؤَالَ وقد أَجَابَ عنه ابن دَقِيقِ الْعِيدِ فِيمَا كَتَبَهُ على فُرُوعِ ابْنِ الْحَاجِبِ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُكْتَفَى بِالْعَمَلِ بِهِ في صُورَةٍ حَيْثُ لَا يَلْزَمُ تَرْكُ ما دَلَّ اللَّفْظُ على الْعُمُومِ فيه بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ في كل صُورَةٍ يَلْزَمُ من تَرْكِ الْعُمُومِ فيها في الْحَالَةِ الْمُطْلَقَةِ تَرْكُ الْعُمُومِ فِيمَا دَخَلَتْ عليه صِيغَةُ الْعُمُومِ مِثَالُهُ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ في جَوَابِ الشَّافِعِيِّ في أَنَّ الْوُضُوءَ تَجِبُ فيه النِّيَّةُ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ما مِنْكُمْ من أَحَدٍ يُقَرِّبُ وُضُوءَهُ فَيَقُول الْحَنَفِيُّ هو عَامٌّ في التَّوَضُّؤِ مُطْلَقٌ في الْوُضُوءِ وقد اتَّفَقْنَا على الْعَمَلِ بِهِ في الْوُضُوءِ الْمَنْوِيِّ فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ في غَيْرِهِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْعُمُومَ في التَّوَضُّؤِ يَلْزَمُ منه الْعُمُومُ في الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ ما من نَوْعٍ من أَنْوَاعِ الْوُضُوءِ إلَّا وَفَاعِلُهُ مُتَوَضِّئٌ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ الْعُمُومِ
فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُثَابًا عليه نَظَرًا إلَى عُمُومِ اللَّفْظِ وقال في شَرْحِ الْإِلْمَامِ أَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْمُطْلَقَ يَكْفِي في الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةً فَنَقُولُ يُكْتَفَى فيه بِالْمَرَّةِ فِعْلًا أو حُكْمًا الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ الثَّانِي مَمْنُوعٌ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُطْلَقَ إذَا فُعِلَ مُقْتَضَاهُ مَرَّةً وَوُجِدَتْ الصُّورَةُ الْجُزْئِيَّةُ التي يَدْخُلُ تَحْتَهَا الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ وفي ذلك في الْعَمَلِ بِهِ كما إذَا قال أَعْتِقْ رَقَبَةً فَفَعَلَ ذلك مَرَّةً لَا يَلْزَمُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ أُخْرَى لِحُصُولِ الْوَفَاءِ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ من غَيْرِ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْعُمُومَ وَكَذَا إذَا قال إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ مَرَّةً وَحَنِثَ لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهَا ثَانِيًا لِوُجُودِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فِعْلًا من غَيْرِ اقْتِضَاءِ الْعُمُومِ أَمَّا إذَا عَمِلَ بِهِ مَرَّةً حُكْمًا أَيْ في صُورَةٍ من صُوَرِ الْمُطْلَقِ لَا يَلْزَمُ التَّقْيِيدُ بها وَلَا يَكُونُ وَفَاءً بِالْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ بِالصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ حُكْمًا أَنْ لَا يَحْصُلَ الِاكْتِفَاءُ بِغَيْرِهَا وَذَلِكَ فِيمَا خَصَّ الْإِطْلَاقَ مِثَالُهُ إذَا قال أَعْتِقْ رَقَبَةً فإن مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ أَنْ يَحْصُلَ الْإِجْزَاءُ بِكُلِّ ما يُسَمَّى رَقَبَةً لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ في كل مُعْتَقٍ من الرِّقَابِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ بِهِ فإذا خَصَّصْنَا الْحُكْمَ بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ مَنَعْنَا إجْزَاءَ الْكَافِرَةِ وَمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ إجْزَاؤُهَا إنْ وَقَعَ الْعِتْقُ لها فَاَلَّذِي فَعَلْنَاهُ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ
الظَّاهِرُ وَالْمُؤَوَّلُ قال ابن بَرْهَانٍ وهو أَنْفَعُ كُتُبِ الْأُصُولِ وَأَجَلُّهَا ولم يَزِلَّ الزَّالُّ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ وَأَمَّا ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ فَأَنْكَرَ على إمَامِ الْحَرَمَيْنِ إدْخَالَهُ هذا الْبَابَ في فَنِّ أُصُولِ الْفِقْهِ وقال ليس هذا من أُصُولِ الْفِقْهِ في شَيْءٍ إنَّمَا هو كَلَامٌ يُورَدُ في الْخِلَافِيَّاتِ لَكِنَّا نَذْكُرُ طَرَفًا منه وَلَا نُعْدِمُ النَّاظِرَ فيه نَوْعَ فَائِدَةٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْخَاطِرِ اسْتِخْرَاجَ التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَنْكِرَةِ لِلْأَخْبَارِ وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ الْوَرِعِ التَّبَاعُدُ عنه فَالظَّاهِرُ الْوَاضِحُ وهو كما قال الْأُسْتَاذُ وَالْقَاضِي لَفْظُهُ يُغْنِي عن تَفْسِيرِهِ وقال الْغَزَالِيُّ هو الْمُتَرَدِّدُ بين أَمْرَيْنِ وهو في أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ وَقِيلَ ما دَلَّ على مَعْنًى مع قَبُولِهِ لِإِفَادَةِ غَيْرِهِ إفَادَةً مَرْجُوحَةً فَانْدَرَجَ تَحْتَهُ ما دَلَّ على الْمَجَازِ الرَّاجِحِ وَيُطْلَقُ على اللَّفْظِ الذي يُفِيدُ مَعْنًى سَوَاءٌ أَفَادَ معه غَيْرُهُ إفَادَةً مَرْجُوحَةً أو لم يُفْدِ وَلِهَذَا يَخْرُجُ النَّصُّ فإن إرَادَتَهُ ظَاهِرَةٌ بِنَفْسِهِ وَنَقَلَ الْإِمَامُ أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ كان يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا قال ابن بَرْهَانٍ وَلَعَلَّهُ لَمَحَ فيه الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ فإن النَّصَّ لُغَةً هو الظُّهُورُ وَمِنْهُ الْمِنَصَّةُ وَالنَّصُّ عِنْدَهُ يَنْقَسِمُ إلَى ما يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ وَهَذَا مُرَادِفٌ لِلظَّاهِرِ وَإِلَى ما لَا يَقْبَلُهُ وهو النَّصُّ الصَّحِيحُ مَسْأَلَةٌ الظَّاهِرُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ الظَّاهِرُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ بِدَلِيلِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على الْعَمَلِ بِظَوَاهِر الْأَلْفَاظِ وهو ضَرُورِيٌّ في الشَّرْعِ كَالْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَإِلَّا لَتَعَطَّلَتْ غَالِبُ الْأَحْكَامِ فإن النُّصُوصَ مُعْوِزَةٌ جِدًّا كما أَنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ قَلِيلَةٌ جِدًّا
مَسْأَلَةٌ وهو قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا الْأَلْفَاظُ الْمُسْتَعَارَةُ وَهِيَ الْمَقُولَةُ أَوَّلًا على شَيْءٍ ثُمَّ اُسْتُعِيرَتْ لِغَيْرِهِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا كَاسْتِعَارَتِهِمْ أَعْضَاءَ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ الْحَيَوَانِ قالوا رَأْسُ الْمَالِ وَوَجْهُ النَّهَارِ وَحَاجِبُ الشَّمْسِ وَعَيْنُ الْمَاءِ وَكَبِدُ السَّمَاءِ فَهَذَا الْقِسْمُ إذَا وَرَدَ في الشَّرْعِ حُمِلَ على ظَاهِرِهِ وهو الْحَقِيقَةُ حتى يَدُلَّ دَلِيلٌ على أَنَّهُ لِغَيْرِهَا وهو الْمَجَازُ لِأَنَّ الْمَجَازَ فيها لم يَغْلِبْ اسْتِعْمَالُهُ فَإِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ حتى صَارَ اسْمًا عُرْفِيًّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي كَقَوْلِهِمْ الْغَائِطُ لِلْمُطْمَئِنِّ من الْأَرْضِ كان حَمْلُهُ على الْمَجَازِ هو الظَّاهِرُ حتى يَدُلَّ الدَّلِيلُ على الْحَقِيقَةِ وقد يَتَطَرَّقُ إلَى هذا الْقِسْمِ الْإِجْمَالُ فَإِنْ تَسَاوَى الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ في كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ فإن الْمُرَادَ هَاهُنَا الْعَدْلُ وهو مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ احْتِمَالًا يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ فَيُلْحَقُ بِالْمُجْمَلِ وَالثَّانِي من أَقْسَامِ الظَّاهِرِ هِيَ أَلْفَاظُ الْعُمُومِ فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ في الِاسْتِغْرَاقِ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّخْصِيصِ على ما سَبَقَ هُنَاكَ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَهُوَ لُغَةً الْمَرْجِعُ من آلَ إلَيْهِ الْأَمْرُ أَيْ رَجَعَ وقال النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ مَأْخُوذٌ من الْإِيَالَةِ وَهِيَ السِّيَاسَةُ يُقَالُ فُلَانٌ آيِلٌ عَلَيْنَا أَيْ سَائِسُنَا فَكَانَ الْمُؤَوَّلُ بِالتَّأْوِيلِ كَالْمُتَحَكِّمِ السَّائِسِ على الْكَلَامِ الْمُتَصَرِّفِ فيه وقال ابن فَارِسٍ في فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ التَّأْوِيلُ آخِرُ الْأَمْرِ وَعَاقِبَتُهُ يُقَالُ مَآلُ هذا الْأَمْرِ أَيْ مَصِيرُهُ قال تَعَالَى وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ أَيْ لَا يَعْلَمُ الْآجَالَ وَالْمُدَدَ إلَّا اللَّهُ وَاشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ من الْآلِ وهو الْعَاقِبَةُ وَالْمَصِيرُ وَاصْطِلَاحًا صَرْفُ الْكَلَامِ عن ظَاهِرِهِ إلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ ثُمَّ إنْ حُمِلَ لِدَلِيلٍ فَصَحِيحٌ وَحِينَئِذٍ فَيَصِيرُ الْمَرْجُوحُ في نَفْسِهِ رَاجِحًا لِلدَّلِيلِ أو لِمَا يُظَنُّ دَلِيلًا فَفَاسِدٌ أو لَا لِشَيْءٍ فَلَعِبٌ لَا تَأْوِيلٌ فَإِذَنْ التَّأْوِيلُ صَرْفُ اللَّفْظِ إلَى غَيْرِهِ لَا نَفْسِ الِاحْتِمَالِ وقال الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيَّ هو احْتِمَالٌ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ يَصِيرُ بِهِ أَغْلَبَ على الظَّنِّ من الظَّاهِرِ وهو غَيْرُ جَامِعٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْفَاسِدَ وَالْيَقِينِيَّ ثُمَّ إنَّهُ جَعَلَهُ عِبَارَةً عن نَفْسِ الِاحْتِمَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا يَتَطَرَّقُ التَّأْوِيلُ إلَى النَّصِّ وَالْمُجْمَلِ ثُمَّ ليس كُلُّ احْتِمَالٍ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ فَهُوَ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ بَلْ يَخْتَلِفُ ذلك بِاخْتِلَافِ ظُهُورِ الْمُؤَوَّلِ
فَإِنْ كانت دَلَالَةُ الْمُؤَوَّلِ عليه من الْخَارِجِيِّ تَزِيدُ على دَلَالَتِهِ على ما هو ظَاهِرٌ فيه قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا وقال الْعَبْدَرِيّ هذا التَّعْرِيفُ إنَّمَا يَصِحُّ لو كان لَا يَتَأَوَّلُ إلَّا الْعُمُومُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عنه ما هو منه فإن من التَّأْوِيلِ ما هو صَرْفُ اللَّفْظِ عن حَقِيقَةٍ إلَى حَقِيقَةٍ كَاللَّفْظِ الْعُرْفِيِّ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ تَصْرِفُهُ عن الْعُرْفِ وهو حَقِيقَةٌ منه إلَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ وهو حَقِيقَةٌ فيه قال الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ اعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ صَرْفُ اللَّفْظِ عن ظَاهِرِهِ وكان الْأَصْلُ حَمْلُهُ على ظَاهِرِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعَضَّدَ التَّأْوِيلُ بِدَلِيلٍ من خَارِجٍ لِئَلَّا يَكُونَ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ من غَيْرِ مُعَارِضٍ وقد جَعَلُوا الضَّابِطَ فيه مُقَابَلَةَ الظَّاهِرِ بِالتَّأْوِيلِ وَعَاضِدِهِ وَتَقْدِيمِ الْأَرْجَحِ في الظَّنِّ فَإِنْ اسْتَوَيَا فَقَدْ قِيلَ بِالْوَقْفِ وَإِنْ كان ما يَدَّعِي تَأْوِيلًا لَا يَنْقَدِحُ احْتِمَالُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ أَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ هو الصَّوَابُ غير أَنَّا نَرَاهُمْ إذَا انْصَرَفُوا إلَى الظَّنِّ تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بهذا الْقَانُونِ وَمِنْ أَسْبَابِهِ اشْتِبَاهُ الْمَيْلِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمَيْلِ الْحَاصِلِ من الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ فإن هذه الْأُمُورَ تُحْدِثُ لِلنَّفْسِ هَيْئَةً وَمَلَكَةً تَقْتَضِي الرُّجْحَانَ في النَّفْسِ بِجَانِبِهَا بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ النَّاظِرُ بِذَلِكَ وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ رُجْحَانُ الدَّلِيلِ وَهَذَا مَحَلُّ خَوْفٍ شَدِيدٍ وَخَطَرٍ عَظِيمٍ يَجِبُ على الْمُتَّقِي اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَ نَظَرَهُ إلَيْهِ وَيَقِفَ فِكْرُهُ عليه وقال في شَرْحِ الْعُنْوَانِ يَجِبُ إجْرَاءُ اللَّفْظِ على ظَاهِرِهِ دُونَ مَآلِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ على الْخِلَافِ الظَّاهِرِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ من ذلك الدَّلِيلِ على التَّأْوِيلِ الْمَرْجُوحِ أَقْوَى من الظَّاهِرِ وهو تَصَرُّفٌ حَسَنٌ لو مَشَى عليه في آحَادِ الْمَسَائِلِ حَيْثُ يَقَعُ الْمُتَصَرِّفُ فيها لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْعَمَلَ بِأَقْوَى الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ وَكَلَّمَا كان أَبْعَدَ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ أَقْوَى لِمَا ذَكَرْنَا وَاسْتَثْنَى منه الظَّوَاهِرَ الْمُقْتَضِيَةَ لِخِلَافِ ما دَلَّ الْقَوَاطِعُ الْعَقْلِيَّةُ عليه وَقِيلَ لَا فَرْقَ بين الْبَعِيدِ من التَّأْوِيلِ وَالْقَرِيبِ وهو رَاجِعٌ إلَى تَرْجِيحِ الْأَقْوَى لِأَنَّ الْقَاطِعَ لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ عن مَدْلُولِهِ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ قُلْت وَكَلَامُ صَاحِبِ الْمُقْتَرَحِ من الْجَدَلِيِّينَ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ دَلِيلَ التَّأْوِيلِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا وهو مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْجُمْهُورِ وَحَمَلَهُ بَعْضُ شَارِحِيهِ على أَنَّ دَلِيلَ التَّأْوِيلِ إنْ كان رَاجِحًا تَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَإِنْ كان مُسَاوِيًا كان ذلك مُعَارَضَةً وَكِلَاهُمَا يُزَيِّفُ كَلَامَ الْمُسْتَدِلِّ وَيَمْنَعُهُ من الْعَمَلِ بِدَلِيلِهِ قال وَعَلَى هذا فَيُوَافِقُ كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ وَرَجَعَ الْخِلَافُ إلَى اللَّفْظِ
فَصْلٌ فِيمَا يَدْخُلُهُ التَّأْوِيلُ وهو يَجْرِي في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا الْفُرُوعُ وهو مَحَلُّ وِفَاقٍ وَالثَّانِي الْأُصُولُ كَالْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّيَانَاتِ وَصِفَاتِ الْبَارِي الْمُوهِمَةِ وقد اخْتَلَفُوا فيه على ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ فيها بَلْ تَجْرِي على ظَاهِرِهَا وَلَا يُؤَوَّلُ شَيْءٌ منها وَهُمْ الْمُشَبِّهَةُ وَالثَّانِي أَنَّ لها تَأْوِيلًا وَلَكِنَّا نُمْسِك عنه مع تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عن التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ لِقَوْلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ قال ابن بَرْهَانٍ وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَالثَّالِثُ أنها مُؤَوَّلَةٌ وَأَوَّلُوهَا قال وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَالْآخَرَانِ مَنْقُولَانِ عن الصَّحَابَةِ فَنُقِلَ الْإِمْسَاكُ عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها لِأَنَّهَا سُئِلَتْ عن الِاسْتِوَاءِ فقالت الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِب وَالسُّؤَالُ عنه بِدْعَةٌ وَكَذَلِكَ سُئِلَ عنه مَالِكٌ فَأَجَابَ بِمَا قالت أُمُّ سَلَمَةَ إلَّا أَنَّهُ زَادَ فيه أَنَّ من عَادَ إلَى هذا السُّؤَالِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ وَكَذَلِكَ سُئِلَ عنه سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فقال أَفْهَمُ من قَوْلِهِ الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ اسْتَوَى ما أَفْهَمُ من قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَنُقِلَ التَّأْوِيلُ عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ وقال وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ بين الْفَرِيقَيْنِ أَنَّهُ هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ في الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ فَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ وَلِهَذَا مَنَعُوا التَّأْوِيلَ وَاعْتَقَدُوا فيه التَّنْزِيهَ على ما يَعْلَمُ اللَّهُ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ ذلك بَلْ الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَهُ وَعَلَيْهِ انْبَنَى الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْوَقْفِ على وَالرَّاسِخُونَ وَنَقَلَ في الْوَجِيزِ قَوْلًا بِتَأْوِيلِ الْوَارِدِ في الْقُرْآنِ دُونَ السُّنَّةِ قال وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ لَا فَرْقَ قال وَذَهَبَ كَثِيرٌ من السَّلَفِ إلَى تَنَكُّبِ تَأْوِيلِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ مع اعْتِقَادِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْإِقْدَامَ على التَّأْوِيلِ
خَطَأٌ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ يَدُلُّ عليه وقال الشَّيْخُ أبو عَمْرِو بن الصَّلَاحِ الناس في هذه الْأَشْيَاءِ الْمُوهِمَةِ لِلْجِهَةِ وَنَحْوِهَا فِرَقٌ ثَلَاثَةٌ فَفِرْقَةٌ تُؤَوِّلُ وَفِرْقَةٌ تُشَبِّهُ وَثَالِثَةٌ تَرَى أَنَّهُ لم يُطْلِقْ الشَّارِعُ مِثْلَ هذه اللَّفْظَةِ إلَّا وَإِطْلَاقُهُ سَائِغٌ وَحَسَنٌ فَنَقُولُهَا مُطْلَقَةً كما قالوا مع التَّصْرِيحِ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّبَرِّي من التَّحْدِيدِ وَالتَّشْبِيهِ وَلَا نُهِمُّ بِشَأْنِهَا ذِكْرًا وَلَا فِكْرًا بَلْ نَكِلُ عِلْمَهَا إلَى من أَحَاطَ بها وَبِكُلِّ شَيْءٍ خَبَرًا وَعَلَى هذه الطَّرِيقَةِ مَضَى صَدْرُ الْأُمَّةِ وِسَادَتُهَا وَإِيَّاهَا اخْتَارَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَادَتُهَا وَإِلَيْهَا دَعَا أَئِمَّةُ الحديث وَأَعْلَامُهُ وَلَا أَحَدَ من الْمُتَكَلِّمِينَ يَصْدِفُ عنها وَيَأْبَاهَا وَأَفْصَحَ الْغَزَالِيُّ عَنْهُمْ في غَيْرِ مَوْضِعٍ بِتَهْجِيرِ ما سِوَاهَا حتى أَلْجَمَ آخِرًا في إلْجَامِهِ كُلَّ عَالِمٍ وَعَامِّيٍّ عَمَّا عَدَاهَا قال وهو كِتَابُ إلْجَامِ الْعَوَامّ عن عِلْمِ الْكَلَامِ وهو آخِرُ تَصَانِيفِ الْغَزَالِيِّ مُطْلَقًا أو آخِرُ تَصَانِيفِهِ في أُصُولِ الدِّينِ حَثَّ فيه على مَذْهَبِ السَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ ا هـ وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في بَعْضِ فَتَاوِيهِ طَرِيقَةُ التَّأْوِيلِ بِشَرْطِهِ أَقْرَبُهُمَا إلَى الْحَقِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَاطَبَ الْعَرَبَ بِمَا يَعْرِفُونَهُ وقد نَصَبَ الْأَدِلَّةَ على مُرَادِهِ من آيَاتِ كِتَابِهِ لِأَنَّهُ قال ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ وقال لِرَسُولِهِ لِتُبَيِّنَّ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَهَذَا عَامٌّ في جَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَمَنْ وَقَفَ على الدَّلِيلِ فَقَدْ أَفْهَمَهُ اللَّهُ مُرَادَهُ من كِتَابِهِ وهو أَكْمَلُ مِمَّنْ لم يَقِفْ على ذلك إذْ لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وقال صَاحِبُهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَنَقُولُ في الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ إنَّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ على الْوَجْهِ الذي أَرَادَهُ وَمَنْ أَوَّلَ شيئا منها فَإِنْ كان تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا على ما يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ وَتَفْهَمُهُ في مُخَاطَبَاتِهَا لم نُنْكِرْ عليه ولم نُبَدِّعْهُ وَإِنْ كان تَأْوِيلُهُ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عنه اسْتَبْعَدْنَاهُ وَرَجَعْنَا إلَى الْقَاعِدَةِ في الْإِيمَانِ بِمَعْنَاهُ مع التَّنْزِيهِ قُلْت وَحَيْثُ سَاعَدَ التَّأْوِيلُ لُغَةَ الْعَرَبِ فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ هو الْمُرَادُ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ بَلْ نَقُولُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَذَا وقد يَتَرَجَّحُ ذلك بِالْقَرَائِنِ الْمُحْتَفَّةِ بِاللَّفْظِ نَبَّهَ عليه بَعْضُ الْمَشَايِخِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَسْلَمُ وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ فَقَدْ يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَقْوَى في الْعِلْمِ وَإِنَّمَا الْمُرَاد أَنَّهُ أَحْوَجُ إلَى مَزِيدٍ من الْعِلْمِ وَاتِّسَاعٍ فيه لِأَجْلِ أَبْوَابِ التَّأْوِيلِ وَإِنَّمَا كانت طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمَ لِأَنَّهُمْ لم يَخُوضُوا فيه وَالْخَلَفُ خَاضُوا فيه وَأَوَّلُوهَا على ما يَلِيقُ بِجَلَالِهِ مع جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غير ما أَوَّلُوهُ مِمَّا يَلِيقُ أَيْضًا بِهِ هَاهُنَا مِثْلُ طَرِيقَةِ السَّلَفِ أَسْلَمُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ طَرِيقَةُ
الْخَلَفِ لَمَّا كان فيها دَفْعُ إيهَامِ من يَتَوَهَّمُ حَمْلًا لَا يَلِيقُ كانت أَعْلَمَ من تِلْكَ وَرَجَّحَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا طَرِيقَةَ الْخَلَفِ من جِهَةِ أَنَّ السَّلَفَ خَاضُوا أَيْضًا في بَعْضٍ وَقَالُوا إنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ الذي لَا يَلِيقُ غَيْرُ مُرَادٍ فَتَرْكُ الْحَمْلِ على ما يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مَسْكُوتٌ عن التَّأْوِيلِ مع الْخَوْضِ في بَعْضِهِ وَنَبْذُ إيهَامِ من لَا يَرْتَقِي إلَى دَرَجَةِ الْفَهْمِ عَنْهُمْ إلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا ذلك لِاعْتِقَادِهِمْ أنها لِأَمْرٍ زَائِدٍ على ما قَامَتْ الدَّلَالَةُ الْقَاطِعَةُ على إثْبَاتِهِ له تَعَالَى من الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ وفي ذلك مَحْذُورٌ فَطَرِيقَةُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَسْلَمُ قال الْغَزَالِيُّ في كِتَابِ التَّفْرِقَةِ بين الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ سَمِعْت الثِّقَاتِ من أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ يَقُولُونَ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ صَرَّحَ بِتَأْوِيلِ ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ أَحَدُهَا قَوْلُهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ في الْأَرْضِ وَالثَّانِي قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بين أُصْبُعَيْنِ من أَصَابِعِ الرحمن وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ إنِّي لَأَجِدُ رِيحَ نَفَسِ الرحمن من قِبَلِ الْيَمَنِ وَنَقَلَ الرَّازِيَّ عن الْغَزَالِيِّ في كِتَابِ تَأْسِيسِ التَّقْدِيسِ بَدَلَ الحديث الثَّانِي أنا جَلِيسُ من ذَكَرَنِي وَاَلَّذِي رَأَيْته في كِتَابِ الْغَزَالِيِّ ما ذَكَرْنَاهُ قال الْغَزَالِيُّ فَانْظُرْ كَيْفَ أَوَّلَ أَحْمَدُ لِقِيَامِ الْبُرْهَان عِنْدَهُ على اسْتِحَالَةِ ظَاهِرِهِ مع أَنَّهُ أَبْعَدُ الناس عن التَّأْوِيلِ فيقول الْيَمِينُ تُقَبَّلُ في الْعَادَةِ تَقَرُّبًا إلَى صَاحِبِهَا وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يُقَبَّلُ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مِثْلُ الْيَمِينِ لَا في ذَاتِهِ وَلَا في صِفَةٍ من صِفَاتِهِ وَلَكِنْ في عَارِضٍ من عَوَارِضِهِ فَسُمِّيَ يَمِينًا وَكَذَلِكَ لَمَّا اسْتَحَالَ وُجُودُ الْأُصْبُعَيْنِ فيه حِسًّا إذْ من فَتَّشَ عن صَدْرِهِ لم يُشَاهِدْ فيه أُصْبُعَيْنِ فَأَوَّلَهُ على ما بِهِ تَيَسُّرُ
تَغْلِيبِ الْأَشْيَاءِ وَقَلْبُ الْإِنْسَانِ بين لَمَّةِ الْمَلَكِ وَلَمَّةِ الشَّيْطَانِ وَبِهِمَا يُقَلِّبُ اللَّهُ الْقُلُوبَ فَكَنَّى بِالْأُصْبُعَيْنِ عنهما قال وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ أَحْمَدُ على تَأْوِيلِ هذه الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ لم يَظْهَرْ عِنْدَهُ الِاسْتِحَالَةُ إلَّا في هذا الْقَدْرِ لِأَنَّهُ لم يَسْتَغْرِقْ الْبَحْثَ عن حَقَائِقَ غَيْرِهَا وَغَيْرُهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلِيِّ بَحَثَهَا وَتَجَاوَزَا فَأَوَّلَا كَثِيرًا لِقِيَامِ ما اسْتَحَالَ كَثِيرًا وَأَنْكَرَ ابن تَيْمِيَّةَ هذا على الْغَزَالِيِّ قال إنَّهُ لَا يَصِحُّ عن أَحْمَدَ قُلْت وَنَقْلُ الثِّقَةِ لَا يَنْدَفِعُ وقد نَقَلَ ابن الْجَوْزِيِّ في كِتَابِ مِنْهَاجِ الْوُصُولِ عن أَحْمَدَ أَنَّهُ قال في قَوْله تَعَالَى وَجَاءَ رَبُّكَ أَيْ أَمْرُ رَبِّك
فَصْلٌ في شُرُوطِ التَّأْوِيلِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِوَضْعِ اللُّغَةِ أو عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ أو عَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَكُلُّ تَأْوِيلٍ خَرَجَ عن هذه الثَّلَاثَةِ فَبَاطِلٌ وقد فَتَحَ الشَّافِعِيُّ الْبَابَ في التَّأْوِيلِ فقال الْكَلَامُ قد يُحْمَلُ في غَيْرِ مَقْصُودِهِ وَيُفْصَلُ في مَقْصُودِهِ وقد اخْتَلَفَتْ الْآرَاءُ في التَّأْوِيلِ وَمَدَارُهُمْ على هذا الْأَصْلِ فَيُضَعَّفُ التَّأْوِيلُ لِقُوَّةِ ظُهُورِ اللَّفْظِ أو لِضَعْفِ دَلِيلِهِ أو لَهُمَا وَمِنْ الثَّانِي مَنْعُ عُمُومِ قَوْلِهِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أو دَالِيَةٍ نِصْفُهُ حتى لَا يَتَمَسَّكَ بِهِ في وُجُوبِ الزَّكَاةِ في الْخَضْرَاوَاتِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه الْفَصْلُ بين وَاجِبِ الْعُشْرِ وَنِصْفِهِ وَكَاسْتِدْلَالِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا في قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وَالْحَنَفِيَّةُ قالوا هذا مُفَصَّلٌ في أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مُجْمَلٌ في أَحْكَامِ الدُّنْيَا وفي زَكَاةِ الْحُلِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالْحَنَفِيَّةُ قالوا هذا مُفَصَّلٌ في تَحْرِيمِ الْكَنْزِ مُجْمَلٌ في غَيْرِهِ وَمِنْ الْأَوَّلِ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الِاسْتِجْمَارَ في قَوْلِهِ من اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ على اسْتِعْمَالِهِ الْبَخُورَ لِلتَّطَيُّبِ فإنه يُقَالُ فيه تَجَمَّرَ وَاسْتَجْمَرَ وَاللَّفْظُ قَوِيٌّ ظَاهِرٌ في الِاسْتِنْجَاءِ وَعَلَيْهِ فَهْمُ الناس وَمِنْهُ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الْجُلُوسَ في قَوْلِهِ نهى عن الْجُلُوسِ على الْقَبْرِ على الِاسْتِنْجَاءِ عليه وَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ في الْمُرَادِفِ لِلْقُعُودِ وَمِنْهُ حَمْلُ الظَّاهِرِيَّةِ حَدِيثَ لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ على بَيْضَةِ
الْحَدِيدِ وهو بَعِيدٌ لِأَنَّ سِيَاقَ الحديث يَقْتَضِي خِلَافَهُ وَمِنْهُ حَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ أَيْ دَخَلَا بِذَلِكَ في فِطْرَتِي وَسُنَّتِي لِأَنَّ الْحِجَامَةَ مِمَّا أَمَرَ بِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاسْتَعْمَلَهُ حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيّ عن بَعْضِ مَشَايِخِ نَيْسَابُورَ وَقَسَّمَ شَارِحُ اللُّمَعِ تَأْوِيلَ الظَّاهِرِ إلَى ثَلَاثِهِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا تَأْوِيلُهُ على مَعْنًى يُسْتَعْمَلُ في ذلك كَثِيرًا فَهَذَا يُحْتَاجُ فيه إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ ما حُمِلَ عليه كَحَمْلِ الْأَمْرِ في قَوْله تَعَالَى وَآتُوهُمْ من مَالِ اللَّهِ على الْوُجُوبِ وَحَمْلُهُ على النَّدْبِ بِدَلِيلٍ جَائِزٍ لِاسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ مُرَادًا بِهِ النَّدْبُ كَثِيرًا فَيُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ في أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّدْبُ وَالثَّانِي تَأْوِيلُهُ على مَعْنًى لَا يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فَهَذَا يُحْتَاجُ فيه إلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا بَيَانُ قَبُولِ اللَّفْظِ لِهَذَا التَّأْوِيلِ في اللُّغَةِ وَالثَّانِي إقَامَةُ الدَّلِيلِ على أَنَّ اللَّفْظَ هُنَا يَقْتَضِيهِ وَالثَّالِثُ حَمْلُ اللَّفْظِ على مَعْنًى لَا يُسْتَعْمَلُ أَصْلًا فَلَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ التَّأْوِيلِ أَقْوَى من دَلِيلِ كَقَوْلِهِ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ فإنه يَقْتَضِي الطَّلَاقَ في حَالِ وَقْتِ الْعِدَّةِ وهو زَمَانُ الطُّهْرِ فَلَوْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ قال وَهَلْ يَجُوزُ التَّأْوِيلُ بِالْقِيَاسِ فيه ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا في الْإِرْشَادِ أَحَدُهَا الْمَنْعُ وَالثَّانِي وهو الصَّحِيحُ الْجَوَازُ لِأَنَّ ما جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ جَازَ التَّأْوِيلُ بِهِ
كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالثَّالِثُ بِالْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ وقد جَرَتْ عَادَةُ الْأُصُولِيِّينَ بِذِكْرِ ضُرُوبٍ من التَّأْوِيلَاتِ هَاهُنَا كَالرِّيَاضَةِ لِلْأَفْهَامِ لِيَتَمَيَّزَ الصَّحِيحُ منها عن الْفَاسِدِ حتى يُقَاسَ عليها وَيَتَمَرَّنَ النَّاظِرُ فيها وقد أَوَّلَ الْحَنَفِيَّةُ أَشْيَاءَ بَعِيدَةً حَكَمَ أَصْحَابُنَا بِبُطْلَانِهَا فَمِنْهَا تَأْوِيلُهُمْ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لِغَيْلَانَ بن سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ وقد أَسْلَمَ على عَشْرِ نِسْوَةٍ أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ بِثَلَاثِ تَأْوِيلَاتٍ أَحَدُهَا أَيْ ابْتَدِئْ الْعَقْدَ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ على السَّبَبِ ثَانِيهَا أَمْسِكْ الْأَوَّلَ وَلَعَلَّ النِّكَاحَ وَقَعَ بَعْدُ على التَّفْرِيقِ ثَالِثُهَا لَعَلَّهُ كان قبل حَصْرِ النِّسَاءِ وَقَبْلَ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ على وَفْقِ الشَّرْعِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ فَوَّضَ الْإِمْسَاكَ وَالْفِرَاقَ إلَى الزَّوَاجِ وَلِخُلُوِّهِ عن الْقَرِينَةِ الْمُعَيِّنَةِ له وَالْإِحَالَةُ على الْقِيَاسِ مُمْتَنِعَةٌ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ السَّائِلِ له بِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ وَلِعَدَمِ فَهْمِهِمْ ذلك منه إذْ لو فَهِمُوا لَجَدَّدُوا الْعَقْدَ وَلَنُقِلَ وَإِنْ نَدَرَ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إطْلَاقُ الْمُنَكَّرِ وَإِرَادَةُ الْمُعَيَّنِ من غَيْرِ قَرِينَةٍ وَلِأَنَّ حَدِيثَ مَرْوَانَ مُصَرِّحٌ بِنَفْيِهِ وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ لِمَا فيه من التَّعْدِيلِ الظَّاهِرِ ثُبُوتُهُ قبل الْإِسْلَامِ وَلِأَنَّهُ لم يُنْقَلْ عن أَحَدٍ من الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ من أَرْبَعٍ وَلَا جَمَعَ بين أُخْتَيْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ على هذا التَّأْوِيلِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ لَكِنْ إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ على من يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ وَأَمَّا ما ليس كَذَلِكَ كَالْعَقْدِ على أَكْثَرَ من أَرْبَعٍ أو على من يُمْنَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَصِحُّ وَلَا يُقِرُّهُ الْإِسْلَامُ فلما جاء هذا الْحَدِيثُ وَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ تَوَسَّعَ في تَأْوِيلِهِ وَعَضَّدَ تَأْوِيلَهُ بِالْقِيَاسِ من أنها أَنْكِحَةٌ طَرَأَ عليها سَبَبٌ مُحَرِّمٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْسَخُ أَصْلُهُ ما لو نَكَحَ امْرَأَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها رَضِيعَتُهُ لَكِنَّهُ غَفَلَ عن الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِفَسَادِهِ وَهِيَ أَرْبَعٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَوْلُهُ أَمْسِكْ ظَاهِرٌ في اسْتِدَامَةِ ما شَرَعَ في تَنَاوُلِهِ حتى لو قِيلَ
لِمَنْ في يَدِهِ حَبْلٌ أَمْسِكْ طَرَفَك فُهِمَ اسْتِدَامَةُ ما بيده الثَّانِي أَنَّهُ قَابَلَ لَفْظَةَ الْإِمْسَاكِ بِلَفْظَةِ الْمُفَارَقَةِ وَعَلَى ذلك التَّأْوِيلُ تُرْتَقَعُ الْمُقَابَلَةُ لِأَنَّهُ قد قَيَّدَ الْإِمْسَاكَ بِابْتِدَاءِ عَقْدٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مُفَارَقَةِ من يُرِيدُ إمْسَاكَهَا مِنْهُنَّ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَمَرَ بِمُفَارَقَةِ الْجَمِيعِ الثَّالِثُ أَنَّهُ فَوَّضَ له الْخِيَرَةَ فِيمَنْ يُمْسِكُ مِنْهُنَّ وَفِيمَنْ يُفَارِقُ مِنْهُنَّ وَعِنْدَهُمْ الْفِرَاقُ وَاقِعٌ وَالنِّكَاحُ لَا يَبْتَدِئُهُ ما لم تُوَافِقْهُ الْمَرْأَةُ عليه فَصَارَ تَخْيِيرُ التَّفْوِيضِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ له فَقَدْ لَا يَرْضَيْنَ أو بَعْضُهُنَّ الرُّجُوعَ إلَيْهِ الرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ أَمْسِكْ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ وَكَيْفَ يَجِبُ عليه ابْتِدَاءُ عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ في الْأَصْلِ وَلَمَّا دَلَّ مَجْمُوعُ هذه الْأَدِلَّةِ على فَسَادِ هذا التَّأْوِيلِ قال الْقَاضِي أبو زَيْدٍ من الْحَنَفِيَّةِ هذا الْحَدِيثُ لَا تَأْوِيلَ فيه وَلَوْ صَحَّ عِنْدِي لَقُلْت بِهِ وقال الْعَبْدَرِيّ الْخِلَافُ بين الْإِمَامَيْنِ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هو مَبْنِيٌّ على الْخِلَافِ في تَعَارُضِ الْقِيَاسِ وَظَاهِرِ الْخَبَرِ وَرَأَى الْأُصُولِيِّينَ فيها أنها مَوْكُولَةٌ إلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ فَمَنْ رَأَى الْخَبَرَ أَقْوَى عَمِلَ بِهِ وَمَنْ رَأَى الْقِيَاسَ أَقْوَى عَمِلَ بِهِ وَلَيْسَ هذا الرَّأْيُ صَحِيحًا بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَقْوَى من دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ وَدَلَالَةُ الْمَفْهُومِ أَقْوَى من دَلَالَةِ الْمَعْقُولِ وهو الْقِيَاسُ فَكَمَا يَتَقَدَّمُ الْخَبَرُ الْقِيَاسَ في قُوَّةِ الدَّلَالَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ في الْعَمَلِ بِهِ وَلِهَذَا كان الْمُجْتَهِدُ يَطْلُبُ أَوَّلًا الْإِجْمَاعَ فَإِنْ وَجَدَهُ لم يَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لم يَجِدْهُ طَلَبَ النَّصَّ فَإِنْ لم يَجِدْهُ طَلَبَ الظَّاهِرَ فَإِنْ لم يَجِدْهُ طَلَبَ الْمَفْهُومَ فَإِنْ لم يَجِدْهُ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ وقال الْهِنْدِيُّ وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي ذلك لَكِنَّهُ ثَبَتَ جَوَازُ الِاخْتِيَارِ رُخْصَةً وَتَرْغِيبًا في الْإِسْلَامِ وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ حَدِيثَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ على الصَّغِيرَةِ وَرُدَّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَةً في حُكْمِ اللِّسَانِ كما أَنَّهُ ليس الصَّبِيُّ بَعْلًا وَأَيْضًا فَهَذَا سَاقِطٌ عِنْدَهُمْ فإن الصَّغِيرَةَ لو زُوِّجَتْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ صَحِيحًا مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ على إجَازَةِ الْوَلِيِّ وقد قال صلى اللَّهُ عليه وسلم فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ وَأَكَّدَهُ ثَلَاثًا وَمِنْهُمْ من قال بَاطِلٌ أَيْ يُؤَوَّلُ إلَى الْبُطْلَانِ غَالِبًا لِاعْتِرَاضِ الْوَلِيِّ إجَازَتَهُ لِقُصُورِ نَظَرِهِنَّ وهو بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ صَرَّحَ بِهِ مُؤَكَّدًا بِالتَّكْرَارِ مُطْلَقًا وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا
يُؤَوَّلُ إلَيْهِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كان ما يُؤَوَّلُ إلَيْهِ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ نَحْوُ إنَّكَ مَيِّتٌ فَفَرُّوا من ذلك وَقَالُوا ذلك مَحْمُولٌ على الْأَمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَسْمِيَةُ السَّيِّدِ وَلِيًّا فَأَلْزَمُوا بُطْلَانَهُ بِأَنَّ نِكَاحَهَا كما ذَكَرْنَا في الصَّغِيرَةِ وَبِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ جَعَلَ لها الْمَهْرَ بِمَا أَصَابَ منها وَمَهْرُ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهَا فَفَرُّوا من ذلك وَقَالُوا هو مَحْمُولٌ على الْمُكَاتَبَةِ وَأَرَادُوا التَّخَلُّصَ من الْمَهْرِ فإن الْمُكَاتَبَةَ مُسْتَحِقَّةٌ فَرُدَّ بِنُدُورِ الْمُكَاتَبَةِ وَقِلَّتِهَا في الْوُجُودِ وَالْعُمُومُ ظَاهِرٌ فيه فإن أَيًّا كَلِمَةٌ عَامَّةٌ وَأَكَّدَهَا بِمَا هذا مع أَنَّهُ ذَكَرَهُ ابْتِدَاءً تَمْهِيدًا لِلْقَاعِدَةِ لَا في جَوَابِ سَائِلٍ حتى يَظْهَرَ تَخْصِيصُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الصِّنْفَ من التَّأْوِيلِ مَقْبُولٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ من الْفُقَهَاءِ إذَا عَضَّدَهُ دَلِيلٌ وقال الْقَاضِي إنَّهُ مَرْدُودٌ قَطْعًا وَعَزَاهُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَائِلًا إنَّهُ على جَلَالَةِ قَدْرِهِ لم يَكُنْ لِتَخْفَى عليه هذه الْجِهَاتُ لِلتَّأْوِيلَاتِ وقد رَأَى الِاعْتِصَامَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها اعْتِصَامُ النَّصِّ وَقَدَّمَهُ على الْأَقْيِسَةِ الْجَلِيَّةِ فَكَانَ ذلك شَاهِدًا عَدْلًا على أَنَّهُ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِمِثْلِ هذه الْمَسَائِلِ وَذَكَرَ الْقَاضِي ما حَاصِلُهُ أَنَّ النبي عليه السَّلَامُ ذَكَرَ أَعَمَّ الْأَلْفَاظِ إذْ أَدَوَاتُ الشَّرْطِ من أَعَمِّ الصِّيَغِ وَأَعَمُّهَا ما وأي فإذا فُرِضَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كان مُبَالَغًا في مُحَاوَلَةِ التَّعْمِيمِ أَيْ أَنَّ ما لو تَجَرَّدَتْ وَكَانَتْ شَرْطِيَّةً كانت من صِيَغِ الْعُمُومِ وقد أُتِيَ بها زَائِدَةً لِلتَّأْكِيدِ فَكَانَتْ مُقَوِّيَةً لِمَا تَدُلُّ عليه أَيْ من التَّعْمِيمِ كَذَا فَهِمَهُ الْمَازِرِيُّ ولم يُرِدْ أَنَّ ما الْمُتَّصِلَةُ بِأَيْ شَرْطِيَّةٌ كما فَهِمَ ابن الْأَنْبَارِيِّ ثُمَّ اعْتَرَضَ عليه وقال هذه غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ وَوَافَقَهُ ابن الْمُنِيرِ وَنَسَبَاهُ إلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وهو في كَلَامِ الْقَاضِي وَمَعْنَاهُ ما عَرَفْت وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ قَوْله تَعَالَى فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا على حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مُقَامَهُ وَالْمَعْنَى فَإِطْعَامُ طَعَامٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَجَوَّزُوا صَرْفَ جَمِيعِ الطَّعَامِ إلَى وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَحَاجَةُ السِّتِّينَ كَحَاجَةِ الْوَاحِدِ في سِتِّينَ يَوْمًا فَاسْتَوَيَا في الْحُكْمِ وَهَذَا تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ إذْ جَعَلُوا الْمَعْدُومَ وهو طَعَامٌ مَذْكُورًا لِيَصِحَّ كَوْنُهُ مَفْعُولًا لِإِطْعَامٍ وَالْمَذْكُورُ وهو سِتِّينَ مِسْكِينًا عَدَمًا مع صَلَاحِيَّتِهِ لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا لِإِطْعَامٍ مع إمْكَانِ قَصْدِ الْعَدَدِ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَبَرَكَتِهِمْ وَتَضَافُرِ قُلُوبِهِمْ على الدُّعَاءِ
لِلْمُحْسِنِ وَهَذِهِ مَعَانٍ لَائِحَةٌ لَا تُوجَدُ في الْوَاحِدِ وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ من النَّصِّ مَعْنًى يَعُودُ عليه بِالْإِبْطَالِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلِأَنَّ أَطْعَمَ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ وَالْمُهِمُّ مِنْهُمَا ما ذَكَرَ وَالْمَسْكُوتُ عنه غَيْرُ مُهِمٍّ وقد ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَدَ الْمَسَاكِينِ وَسَكَتَ عن ذِكْرِ الطَّعَامِ فَاعْتَبَرُوا الْمَسْكُوتَ عنه وهو الْأَمْدَادُ وَتَرَكُوا الْمَذْكُورَ وهو الْأَعْدَادُ وهو عَكْسُ الْحَقِّ أَمَّا الْمَازِرِيُّ فَانْتَصَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ بِوَجْهَيْنِ فِقْهِيٌّ وَنَحْوِيٌّ أَمَّا الْفِقْهِيُّ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من مَذْهَبِهِمْ إبْطَالُ النَّصِّ إلَّا لو جَوَّزُوا إعْطَاءَ الْمِسْكِينِ الْوَاحِدِ سِتِّينَ مُدًّا في يَوْمٍ وَاحِدٍ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذلك بَلْ يُرَاعُونَ صُورَةَ الْعَدَدِ وَيَشْتَرِطُونَ تَكْرِيرَ ذلك على الْمِسْكِينِ الْوَاحِدِ تَكْرِيرَ الْأَيَّامِ فِرَارًا من أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا ولم يُعَيِّنْ مِسْكِينًا من مِسْكِينٍ وَلَا خِلَافَ في عَدَمِ تَعَيُّنِهِمْ فإذا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَتَكَرَّرَ إطْعَامُهُ بِالْغَدَاةِ وهو بِالْغَدَاةِ مِسْكِينٌ فَكَأَنَّهُ أَطْعَمَ مِسْكِينًا آخَرَ فإذا انْتَهَى التَّكْرَارُ إلَى سِتِّينَ يَوْمًا صَارَ مُطْعِمًا سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكَوْنِ هذا الْمِسْكِينِ كُلَّ يَوْمٍ من جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ وَأَمَّا النَّحْوِيُّ فذكر أَنَّ سِيبَوَيْهِ قال إنَّ الْمَصْدَرَ يُقَدَّرُ بِمَا وَأَنَّ فإذا قَدَّرْنَا الْمَصْدَرَ هُنَا وهو الْإِطْعَامُ بِمَعْنَى ما اقْتَضَى ذلك ما قَالَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فما يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُخْرِجُ أَبَا حَنِيفَةَ إلَى الْمَذْهَبِ الذي أَرَادَ وَإِنْ صَدَرَ بِأَنَّ كان التَّقْدِيرُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهَذَا التَّقْدِيرُ الْأَخِيرُ يُخْرِجُ إلَى ما يُرِيدُ قال وقد زَاحَمْنَا أَبَا الْمَعَالِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من صِنَاعَةِ النَّحْوِ وَذَكَرْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ تَعَلُّقًا منها من وَجْهٍ آخَرَ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فيها وهو سِيبَوَيْهِ ا هـ وَيُقَالُ له أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فإن تَعْطِيلَ النَّصِّ حَاصِلٌ بِالِاتِّحَادِ سَوَاءٌ أَعْطَى في سِتِّينَ يَوْمًا أَمْ لَا فَقَدْ عَطَّلُوا من النَّصِّ لَفْظَ السِّتِّينَ وَلِلشَّارِعِ غَرَضٌ صَحِيحٌ في الْعَدَدِ على ما سَبَقَ وَلِأَنَّ في الْكَفَّارَةِ نَوْعُ تَعَبُّدٍ وهو الْعَدَدُ فَالتَّمَسُّكُ بِاللَّفْظِ الْمُحَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ من كل وَجْهٍ أَوْلَى وَأَمَّا الثَّانِي فما نَقَلَهُ عن سِيبَوَيْهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ في كَلَامِهِ وَالْمَنْقُولُ عنه أَنَّ الذي يُقَدَّرُ بِهِ الْمَصْدَرُ الْعَامِلُ أَنَّ الْمُشَدَّدَةُ النَّاصِبَةُ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ لَا أَنْ الْمَصْدَرِيَّةُ وما الْمُقَدَّرَةُ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ بِمَنْزِلَةِ أَنْ وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ ما قَالَهُ الْمَازِرِيُّ إذَا كانت مَوْصُولَةً لَا بِمَعْنَى الذي فَلَا فَرْقَ بين الْإِطْعَامِ وما يُطْعَمُ وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ من أَنْكَرَ نِسْبَةَ هذا التَّأْوِيلِ لِجُمْهُورِهِمْ وَقَدَّرَهُ إعْطَاءُ طَعَامٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا
وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ حَدِيثَ في أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ على حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ فَجَوَّزُوا إخْرَاجَ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّاةِ فيها غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيَصِحُّ الْإِبْدَالُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُؤَدِّي إلَى رَفْعِ النَّصِّ وَبُطْلَانِهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ وقال الْغَزَالِيُّ إنَّمَا يَلْزَمُ ذلك أَنْ لو قِيلَ إنَّ الشَّاةَ لَا تُجْزِئُ ولم يَقُلْهُ هو وَلَا غَيْرُهُ وَإِنَّمَا قال إنَّ الْقِيمَةَ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الشَّاةِ إذَا أُخْرِجَتْ وهو تَوْسِيعٌ لِلْمَخْرَجِ لَا إسْقَاطٌ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ مع أبي حَنِيفَةَ في قَوْلِهِ إنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ سَدُّ الْخَلَّةِ وَنَحْنُ نَقُولُ لَا يَبْعُدُ مع ذلك أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إعْطَاءَ الْفَقِيرِ من جِنْسِ مَالِ الْغَنِيِّ لِيَنْقَطِعَ تَشَوُّفُ الْفَقِيرِ إلَى ما في يَدِ الْغَنِيِّ وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ في إيجَابِ تَعَيُّنِهَا وَتَجْوِيزُ الْإِبْدَالِ مُحْوِجٌ إلَى الْإِضْمَارِ وَإِيجَابِ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ خِلَافَ الْأَصْلِ وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ حَدِيثَ لَا صِيَامَ لِمَنْ لم يُبَيِّتْ الصِّيَامَ من اللَّيْلِ على صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وهو بَعِيدٌ لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ من أَدَلِّ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ سِيَّمَا ما وَرَدَ ابْتِدَاءً لِلتَّأْسِيسِ فَحَمْلُهُ على النَّادِرِ مُخْرِجٌ لِلَّفْظِ عن الْفَصَاحَةِ وَتَأْوِيلُ نَفْيِ الْكَمَالِ أَقْرَبُ من هذا كما قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَحَمَلَهُ الطَّحَاوِيُّ على نِيَّةِ صَوْمِ الْغَدِ قبل الْمَغْرِبِ وكان يَلْهَجُ بِهِ وهو أَبْعَدُ من الْأَوَّلِ لِأَنَّ سِيَاقَهُ النَّهْيَ عن تَأْخِيرِ النِّيَّةِ عن اللَّيْلِ وَالْحَثَّ على تَقْدِيمِهَا على الْيَوْمِ الذي يَصُومُ فيه وَهَذَا كَالْفَحْوَى له وهو مُضَادٌّ لِمَا ذَكَرُوهُ وَلِأَنَّ حَمْلَ النَّهْيِ على الْمُعْتَادِ أَوْلَى وَتَقْدِيمُ النِّيَّةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَحَمْلُهُ على نَفْيِ الْكَمَالِ أَقْرَبُ مِمَّا سَبَقَ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ في الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ فَلَوْ اُسْتُعْمِلَ في غَيْرِهِ لِنَفْيِ الْكَمَالِ وَفِيهِ لِنَفْيِ الصِّحَّةِ لَزِمَ الِاسْتِعْمَالُ لِمَفْهُومَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ قَوْله تَعَالَى وَلِذِي الْقُرْبَى على أَرْبَابِ الْحَاجَاتِ ولم يَشْتَرِطُوا الْقَرَابَةَ فَصَرَفُوا اللَّفْظَ إلَى شَيْءٍ آخَرَ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ ولم يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْحَاجَةِ وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ مع ذلك فَاشْتَرَطُوا الْحَاجَةَ ولم يَشْتَرِطُوا الْقَرَابَةَ وَهَذَا خِلَافُ ما تَقْتَضِيهِ لَامُ التَّمْلِيكِ وَتَرَتُّبِ الْحُكْمُ على الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ زِيَادَةٌ على النَّصِّ وَهِيَ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ بِالْقِيَاسِ وَكَوْنُهُ مَذْكُورًا مع الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ مع قَرِينَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ ليس قَرِينَةً فيه وَإِلَّا
لَزِمَ النَّقْصُ في حَقِّ الرَّسُولِ لِوُجُودِهَا فيه قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلَوْ حَتَّمُوا صَرْفَ شَيْءٍ إلَى الْقَرَابَةِ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ لَكَانَ قَرِيبًا ا هـ لَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْخُمُسَ مَقْسُومٌ على ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَيُعْطِي ذَوِي الْقُرْبَى من سَهْمِ الْمَسَاكِينِ لِفَقْرِهِمْ فَعَلَى هذا ذِكْرُ الْقَرَابَةِ كَالْمُقْحِمِ الْكَيَاظِمِ وهو تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ فَإِنْ قالوا ذِكْرُ الْقَرَابَةِ لِلتَّنْبِيهِ على أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَنْعُهُمْ كما في الصَّدَقَاتِ لَا في وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ قُلْنَا هذا بَعِيدٌ لِمَا فيه من إبْطَالِ دَلَالَةِ اللَّامِ وَوَاوِ الْعَطْفِ الْمُقْتَضِي لِلِاسْتِحْقَاقِ وَفِيهِ عَطْفُ الْعَامِّ على الْخَاصِّ مع تَخَلُّلِ الْفَصْلِ وهو غَيْرُ مَعْهُودٍ في اللُّغَةِ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ هذا التَّأْوِيلَ عِنْدَهُ من مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ من الْمَقْطُوعِ بِبُطْلَانِهِ وَلَيْسَ فيه إلَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ لَفْظِ الْقُرْبَى بِالْمُحْتَاجِينَ منهم كما فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ في اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ مع الْيُتْمِ في سِيَاقِ هذه الْآيَةِ ا هـ وما فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَقْرَبُ لِأَنَّ لَفْظَ الْيَتِيمِ مع قَرِينَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ فَاعْتِبَارُهَا يَكُونُ اعْتِبَارًا لِمَا دَلَّ عليه لَفْظُ الْآيَةِ فَالْيُتْمُ الْمُجَرَّدُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّهَا بِمُجَرَّدِهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْإِكْرَامِ بِاسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ وما ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مَحْمُولٌ على أَنَّهُمْ يُعْطُونَ الْقَرِيبَ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ وَلَكِنْ سَبَقَ عَنْهُمْ خِلَافُهُ وَقَوْلُهُ ليس فيه إلَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ ذَوِي الْقُرْبَى بِالْمُحْتَاجِينَ قِيلَ عليه كَيْفَ يَصِحُّ ذلك وفي الْآيَةِ ذِكْرُ الْمَسَاكِينِ فَيَلْزَمُ من هذا التَّخْصِيصِ التَّكْرَارُ في الْآيَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذلك في الْيَتَامَى فإن الْيُتْمَ يُفِيدُ الِاحْتِيَاجَ لِلْعَجْزِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ذِكْرُ الْقَرَابَةِ يُخَصُّ فيه في الْمُحْتَاجِينَ منهم وهو تَوْكِيدُ أَمْرِهِمْ وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ حَدِيثَ أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ على أَنْ يُؤَذِّنَ بِصَوْتَيْنِ وَيُقِيمَ بِصَوْتٍ قال ابن السَّمْعَانِيِّ في الِاصْطِلَامِ وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّ في الْخَبَرِ إضَافَةَ الشَّفْعِ وَالْإِيتَارِ إلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ هِيَ الْكَلِمَاتُ لَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ فِيهِمَا على أَنَّهُ قال في الْخَبَرِ الْإِقَامَةُ وَعِنْدَهُمْ كما يقول سَائِرُ الْكَلِمَاتِ في الْإِقَامَةِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ كَذَلِكَ يقول قد قَامَتْ الصَّلَاةُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ فَبَطَلَ التَّأْوِيلُ
مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الْآيَةَ تَمَسَّكَ بها الشَّافِعِيُّ في قَسْمِ الصَّدَقَاتِ على الثَّمَانِيَةِ الْأَصْنَافِ فإن ظَاهِرَ الْآيَةِ التَّمْلِيكُ وَالْوَاوُ الْعَاطِفَةُ لِلْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ فَيَجِبُ اشْتِرَاكُ الْجَمِيعِ في مِلْكِ هذا الْمَالِ الذي هو الصَّدَقَةُ وَخَالَفَ مَالِكٌ وَرَأَى أَنَّ اللَّامَ فيها لِلِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانِ الْمَصْرِفِ لَا لِلْمِلْكِ وَالتَّشْرِيكِ فيه لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ فإنه سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا من ليس أَهْلَهَا بِقَوْلِهِ وَمِنْهُمْ من يَلْمِزُكَ في الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا منها رَضُوا وَإِنْ لم يُعْطَوْا منها إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ فَإِنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ من لَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ طَلَبَهَا فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ إنَّمَا الصَّدَقَاتُ الْآيَةَ أَيْ ليس الطَّالِبُ لها مُسْتَحِقًّا وَإِنَّمَا الْمُسْتَحِقُّ لها هذه الْأَصْنَافُ الْمَذْكُورَةُ وَلَا يَلْزَمُ من كَوْنِهِمْ مُسْتَحَقِّينَ أَنْ يَشْتَرِكُوا بَلْ اللَّازِمُ من ذلك أَنْ لَا تَخْرُجَ عَنْهُمْ وَتَوْزِيعُهَا عليهم بِحَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فإنه مَأْمُورٌ بِأَخْذِهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عليه وَتَفْرِيقُهَا لِمَنْ يَرَاهُ من الْمُسْتَحَقِّينَ وَدَلَّ عليه قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ خُذْ صَدَقَةً من أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ على فُقَرَائِهِمْ ولم يذكر له غير صِنْفٍ قال أَصْحَابُنَا الْمُقْتَصِرُ على الْإِعْطَاءِ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ مُعَطِّلٌ لَا مُؤَوِّلٌ وقال الشَّافِعِيُّ ما حَاصِلُهُ ثُمَّ إنَّ الْحَاجَةَ لَيْسَتْ مَرْعِيَّةً في بَعْضِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ كَالْعَامِلِينَ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا لَا من جِهَةِ حَاجَتِهِمْ وَكَالْغَارِمِينَ بِسَبَبِ حِمَالَةٍ يَحْمِلُونَهَا لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَقَدْ بَطَلَ التَّعْوِيلُ على الْحَاجَةِ وقد نَقَلَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ مَنْعَ الشَّافِعِيُّ الْحُكْمَ لِقُصُورٍ الْإِبْيَارِيِّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ وقال اللَّامُ في لِلْفُقَرَاءِ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِلتَّمْلِيكِ أو لِلْأَهْلِيَّةِ وَالِانْتِفَاعِ كَالْجَلِّ لِلْفَرَسِ فَإِنْ كان الْمُرَادُ الْمِلْكَ صَحَّ ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَإِلَّا فَلَا لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ في الْأَهْلِيَّةِ وَصِحَّةِ التَّصَرُّفِ قال وَهَذَا هو الْمُخْتَارُ فَيَخْرُجُ الْكَلَامُ بهذا التَّقْرِيرِ عن مَرَاتِبِ النُّصُوصِ فَإِمَّا أَنْ نَقُولَ إنَّهُ مُشْتَرَكٌ بين الْجِهَتَيْنِ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ في الْحَالَيْنِ فَيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُفْتَقِرًا إلَى الدَّلِيلِ أو نُسَلِّمَ ظُهُورَ ما قَالُوهُ فَتَخْرُجَ الْمَسْأَلَةُ عن تَعْطِيلِ النُّصُوصِ
وَيَكُونَ من التَّأْوِيلَاتِ الْمَقْبُولَةِ التي يَحْتَاجُ من صَارَ إلَيْهَا إلَى دَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ وَالْجَوَابُ أَنَّ أَصْلَ اللَّامِ لِلْمِلْكِ وَاَللَّهُ تَعَالَى كما رَاعَى الْحَاجَةَ رَاعَى من يُصْلِحُ ذَاتَ الْبَيْنِ وَمَنْ يَغْرَمُ وَكُلَّ من يَعْمَلُ عَمَلًا يَعُودُ نَفْعُهُ على الْمُسْلِمِينَ غَنِيًّا كان أو فَقِيرًا تَرْغِيبًا في ذلك الْفِعْلِ ثُمَّ تَجْوِيزُ الدَّفْعِ إلَى الْغَارِمِ الْغَنِيِّ يُنَافِي كَوْنَ الْمَقْصُودِ الْحَاجَةَ وَمِنْهَا تَأْوِيلُ مَالِكٍ الِاسْتِجْمَارُ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ على الْبَخُورِ وهو خِلَافُ الظَّاهِرِ من سِيَاقِ الحديث فإنه جَمَعَ كَثِيرًا من أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَلِهَذَا لَمَّا سَمِعَهُ منه الْأَعْرَابِيُّ اسْتَنْكَرَهُ حَكَى ذلك الْمَازِرِيُّ وَمِنْهَا تَأْوِيلُهُ النَّهْيَ عن الْجُلُوسِ على الْقَبْرِ بِالتَّغَوُّطِ وَالْبَوْلِ عليه وَيُعَضِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ لَأَنْ يَجْلِسَ أحدكم على جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جَسَدِهِ خَيْرٌ له من أَنْ يَجْلِسَ على قَبْرٍ وَمِنْهَا تَأْوِيلُهُ قَوْلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ من الْبَيَانِ لَسِحْرًا أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الذَّمَّ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْمَدْحَ وَسِيَاقُ الحديث يَقْتَضِيهِ وَأَطْلَقَ عليه اسْمَ السِّحْرِ لِأَنَّ مَبْنَى عِلْمِ الْبَيَانِ التَّخْيِيلُ مَسْأَلَةٌ تَأَوَّلَتْ الْحَنَابِلَةُ قَوْلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَاقْدُرُوا له على الضِّيقِ أَيْ ضَيَّقُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ بِأَنْ يُجْعَلَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ في الحديث الْآخَرِ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ وَلِهَذَا أَوْرَدَ مَالِكٌ في الْمُوَطَّإِ هذا الحديث عَقِيبَ الْأَوَّلِ لِيُنَبِّهَ على أَنَّهُ كَالْمُفَسِّرِ له وَقَفَا الْبُخَارِيُّ أَثَرَهُ في ذلك وَتَأَوَّلَ ابْنِ سُرَيْجٍ فَاقْدُرُوا له أَيْ مَنَازِلَ الْقَمَرِ خِطَابًا لِلْعَارِفِ بِالنُّجُومِ وَقَوْلُهُ الْعِدَّةُ خِطَابًا لِغَيْرِهِ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ
مَسْأَلَةٌ تَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا حَدِيثَ من مَلَك ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ على الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِهِمَا بِأَحْكَامٍ لَا تَعُمُّ جَمِيعَ الرِّقَابِ وَفِيهِ بُعْدٌ لِتَعْطِيلِ لَفْظِ الْعُمُومِ وَلِأَنَّهُ وَرَدَ ابْتِدَاءً لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةٍ لَا لِبَيَانِ جَوَابٍ وَسُؤَالٍ حتى يُخَصَّصَ بِهِ وَلِأَنَّهُ سَلَكَ فيه مَسْلَكَ الْحُدُودِ حَيْثُ بَدَأَ بِالْأَعَمِّ وَخَتَمَ بِالْأَخَصِّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يُخَصِّصُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ عن وَالِدِهِ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ قُلْنَا ذِكْرُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا قُلْتُمْ بِعُمُومِهِ قُلْنَا لِأَنَّهُ لم يَصِحَّ إسْنَادُهُ بَلْ هو مَوْقُوفٌ على الْحُسْنِ
مَبَاحِثُ الْمُجْمَلِ الْمُجْمَلُ لُغَةً الْمُبْهَمُ من أَجْمَلَ الْأَمْرَ أَيْ أَبْهَمَ وَقِيلَ الْمَجْمُوعُ من أَجْمَلَ الْحِسَابَ إذَا جُمِعَ وَجُعِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَقِيلَ التَّحْصِيلُ من أَجْمَلَ الشَّيْءَ إذَا حَصَّلَهُ وَاصْطِلَاحًا قال الْآمِدِيُّ ما له دَلَالَةٌ على أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَقِيلَ ما لم تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وابن فُورَكٍ ما لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ في الْمُرَادِ منه حتى بَيَانِ تَفْسِيرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إلَّا بِحَقِّهَا وَقَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ قال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْعَامُّ مُجْمَلًا وَالْخَاصُّ مُفَسِّرًا على مَعْنَى أَنَّ الْعَامَّ جُمْلَةٌ إذْ ليس لَفْظُهُ مَقْصُورًا على شَيْءٍ مَخْصُوصٍ بِعَيْنِهِ وَالْخَاصُّ مُفَسِّرٌ أَيْ فيه بَيَانٌ ما قُصِدَ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ التي هِيَ الْعُمُومُ وقال أبو عبد اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ الْبَصْرِيُّ من أَصْحَابِنَا اعْلَمْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قد اسْتَجَازُوا الْعِبَارَةَ عن الْعُمُومِ بِاسْمِ الْمُجْمَلِ وَإِنْ كانت حَقِيقَتُهُ الْمُفْتَقِرَ إلَى ما يُبَيِّنُهُ وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي هو ما يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا بِوَضْعِ اللُّغَةِ أو بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ من غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى شَيْءٍ من احْتِمَالَاتِهِ من غَيْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ على أَنَّ مُرَادَ الشَّرْعِ منه هذا مَسْأَلَةٌ وهو وَاقِعٌ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ على الْأَصَحِّ قال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عَرَبِيٌّ يُخَاطِبُ كما يُخَاطِبُ الْعَرَبَ وَالْعَرَبُ تُجْمِلُ كَلَامَهَا ثُمَّ تُفَسِّرُهُ فَيَكُونُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ قال وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَبَى هذا غير دَاوُد الظَّاهِرِيِّ ثُمَّ نَاقَضَ منه في صِفَةِ الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مع قَوْلِهِ لَا نِكَاحَ
إلَّا بِوَلِيٍّ وَاَلَّذِي نَاقَضَ أَصَحُّ من الذي أَعْطَاهُ بَيِّنًا وقد ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إلَى أَنَّ له في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ وَهَذَا أَصَحُّهُمَا ا هـ وَقِيلَ لم يَبْقَ مُجْمَلٌ في كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُخْتَارُ أَنَّ ما ثَبَتَ التَّكْلِيفُ بِهِ يَسْتَحِيلُ اسْتِمْرَارُ الْإِجْمَالِ فيه فإنه تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ وما لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ فَلَا يَبْعُدُ اسْتِمْرَارُ الْإِجْمَالِ فيه بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِسِرِّهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِجْمَالُ في الْقِيَاسِ وَسَبَقَ مِثْلُهُ عن ابْنِ الْقُشَيْرِيّ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالْخِطَابِ بِالْمُجْمَلِ قبل الْبَيَانِ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ وقال اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الحديث وَتَعَبُّدُهُمْ بِالْتِزَامِ الزَّكَاةِ قبل بَيَانِهَا وفي كَيْفِيَّةِ تَعَبُّدِهِمْ بِالْتِزَامِهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ قبل الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ بَعْدَ الْبَيَانِ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ قبل الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ مُجْمَلًا وَبَعْدَ الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ مُفَسِّرًا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ قالوا إنَّ الْتِزَامَ الْمُجْمَلِ قبل بَيَانِهِ وَاجِبٌ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في كَيْفِيَّةِ الْتِزَامِهِ على وَجْهَيْنِ وَذَكَرَهُمَا قلت وَلَعَلَّ الثَّانِيَ مُرَادُ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ وهو قَرِيبٌ من الْخِلَافِ السَّابِقِ في الْعَامِّ هل يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ قبل وُرُودِ الْمُخَصِّصِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ إنَّمَا جَازَ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْهَمُونَهُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ لِيَكُونَ إجْمَالُهُ تَوْطِئَةً لِلنَّفْسِ على قَبُولِ ما يَتَعَقَّبُهُ من الْبَيَانِ فإنه لو بَدَأَ في تَكْلِيفِ الصَّلَاةِ وَبَيَّنَهَا لَجَازَ أَنْ تَنْفِرَ النُّفُوسُ منها وَلَا تَنْفِرَ من إجْمَالِهَا وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ من الْأَحْكَامِ جَلِيًّا وَجَعَلَ منها خَفِيًّا لِيَتَفَاضَلَ الناس في الْعِلْمِ بها وَيُثَابُوا على الِاسْتِنْبَاطِ لها فَلِذَلِكَ جَعَلَ منها مُفَسَّرًا جَلِيًّا وَجَعَلَ