كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي
عن كل أَحَدٍ وَكَذَا مَرَاسِيلُ أبي قِلَابَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ هذا حَاصِلُ كَلَامِ ابْنِ عبد اللَّهِ وقال أبو بَكْرٍ الْخَطِيبُ لَا خِلَافَ بين أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ إرْسَالَ الحديث الذي ليس بِتَدْلِيسٍ هو رِوَايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ لم يُعَاصِرْهُ أو لم يَلْقَهُ كَرِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدِ بن الْمُنْكَدِرِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ من التَّابِعِينَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبِمَثَابَتِهِ في غَيْرِ التَّابِعِينَ كَمَالِكٍ وَالْقَاسِمِ بن مُحَمَّدٍ وَكَذَا حُكْمُ من أَرْسَلَ حَدِيثًا عن شَيْخٍ لَقِيَهُ ولم يَسْمَعْ ذلك الحديث منه وَسَمِعَ ما عَدَاهُ ثُمَّ قِيلَ هو مَقْبُولٌ إذَا كان الْمُرْسِلُ ثِقَةً عَدْلًا وهو قَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ من نُقَّادِ الْأَثَرِ مُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ وَاخْتَلَفَ مُسْقِطُو الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ في قَبُولِ رِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ خَبَرًا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَسْمَعْهُ منه كَقَوْلِ أَنَسٍ ذُكِرَ لي أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لِمُعَاذٍ من لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شيئا دخل الْجَنَّةَ الحديث قال بَعْضُهُمْ لَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابِيِّ لَا لِلشَّكِّ في عَدَالَتِهِ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ قد يَرْوِي الرَّاوِي عن تَابِعِيٍّ وَعَنْ أَعْرَابِيٍّ لَا يَعْرِفُ صُحْبَتَهُ وَلَوْ قال لَا أَرْوِي لَكُمْ إلَّا من سَمَاعِي أو من صَحَابِيٍّ وَجَبَ عَلَيْنَا قَبُولُ مُرْسَلِهِ وقال آخَرُونَ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ مَقْبُولَةٌ لِكَوْنِ جَمِيعِهِمْ عُدُولًا وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا أَرْسَلُوهُ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو من صَحَابِيٍّ سمع من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَمَّا ما رَوَوْهُ عن التَّابِعِينَ فَقَدْ بَيَّنُوهُ وهو أَيْضًا قَلِيلٌ نَادِرٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ قال وَهَذَا هو الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ قال وَمَنْ قَبِلَ الْمُرْسَلَ اخْتَلَفُوا فيه فَمِنْهُمْ من قَدَّمَ ما أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ من الصَّحَابِيِّ وَإِنَّمَا يُرَدُّ من بَعْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا في دَرَجَتِهِمْ وَمِنْهُمْ من يَعْمَلُ بِمَرَاسِيلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ من قَصُرَ عَنْهُمْ وَمِنْهُمْ من يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ جَمِيعِ التَّابِعِينَ إذَا اسْتَوَوْا في الْعَدَالَةِ وَمِنْهُمْ من يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ من عُرِفَ فيه النَّظَرُ في أَحْوَالِ شُيُوخِهِ وَالتَّحَرِّي في الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ دُونَ من لم يُعْرَفْ عنه ذلك
قال الْخَطِيبُ وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ سُقُوطُ فَرْضِ اللَّهِ بِالْمُرْسَلِ لِجَهَالَةِ رُوَاتِهِ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْخَبَرِ إلَّا مِمَّنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ وَلَوْ قال الْمُرْسِلُ حدثني الْعَدْلُ الثِّقَةُ عِنْدِي بِكَذَا لم يُقْبَلْ حتى يَذْكُرُوا اسْمَهُ ا هـ الْمَذَاهِبُ في قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُرْسَلِ وَيَخْرُجُ من كَلَامِهِ وَكَلَامِ ابْنِ عبد الْبَرِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا وَقَفْت عليه في الْمُرْسَلِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا أَحَدُهَا عَدَمُ قَبُولِ رِوَايَةِ مُرْسَلِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُطْلَقًا وَقَبُولُ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ قال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وهو قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَحَكَى الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ عنه أَنَّهُ قال إذَا قال الصَّحَابِيُّ قال النبي كَذَا قُبِلَ إلَّا إنْ عُلِمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَالثَّانِي قَبُولُهُ من الْعَدْلِ مُطْلَقًا وهو مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّالِثُ تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابِيِّ فَقَطْ حَكَاهُ عبد الْجَبَّارِ في شَرْحِ الْعُدَّةِ وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قال وَأَمَّا مَرَاسِيلُ التَّابِعِينَ فَلَا تُقْبَلُ إلَّا بِالشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُ وَالرَّابِعُ لَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا وَحُكِيَ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وابن الْقُشَيْرِيّ وَأَغْرَبَ ابن بَرْهَانٍ فقال في كِتَابِ الْأَوْسَطِ إنَّهُ الْأَصَحُّ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ إنَّهُ الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَنَقَلَهُ ابن بَطَّالٍ في شَرْحِ الْبُخَارِيِّ تَصْرِيحًا عن الشَّافِعِيِّ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالْخَامِسُ تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ هو أَئِمَّةُ النَّقْلِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَالسَّادِسُ لَا تُقْبَلُ إلَّا إنْ اُعْتُضِدَ بِأَمْرٍ خَارِجٍ بِأَنْ يُرْسِلَهُ صَحَابِيٌّ آخَرُ أو يُسْنِدَهُ عَمَّنْ يُرْسِلُهُ أو يُرْسِلَهُ رَاوٍ آخَرُ يَرْوِي عن غَيْرِ شُيُوخِ الْأَوَّلِ أو عَضَّدَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ أو فِعْلُهُ أو قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أو الْقِيَاسُ أو عُرِفَ من حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ
لَا يَرْوِي عن غَيْرِ عَدْلٍ فَهُوَ حُجَّةٌ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَوَافَقَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَلَا فَرْقَ بين سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ السَّابِعُ تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ من صَغُرَ عَنْهُمْ وَالثَّامِنُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ وَالتَّابِعِيَّ إذَا عُرِفَ بِصَرِيحِ خَبَرِهِ أو عَادَتُهُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن صَحَابِيٍّ قُبِلَ مُرْسَلُهُ وَإِنْ لم يُعْرَفْ بِذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ على قَبُولِ رَدِّ الْمُرْسَلِ وَالتَّاسِعُ تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ من عُرِفَ منه النَّظَرُ في أَحْوَالِ شُيُوخِهِ وَالتَّحَرِّي في الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ دُونَ من لم يُعْرَفْ بِذَلِكَ وَالْعَاشِرُ يُقْبَلُ مُرْسَلُ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ دُونَ غَيْرِهِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ من الْقَائِلِينَ بِقَبُولِهِ يُقَدَّمُ ما أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ على من ليس في دَرَجَتِهِمْ حَكَاهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالثَّانِيَ عَشَرَ منهم من أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَرَاسِيلَ الثِّقَاتِ أَوْلَى من الْمُسْنَدَاتِ ولم يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ وَمِنْهُمْ من قال مُرْسَلُ الْإِمَامِ أَوْلَى من مُسْنَدِهِ وَالثَّالِثَ عَشَرَ منهم من يقول ليس الْمُرْسَلُ أَوْلَى من الْمُسْنَدِ بَلْ هُمَا سَوَاءٌ في وُجُوبِ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِعْمَالِ وَالرَّابِعَ عَشَرَ منهم من يقول لِلْمُسْنَدِ مَزِيَّةُ فَضْلٍ لِوَضْعِ الِاتِّفَاقِ وَإِنْ كان الْمُرْسَلُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ الْخَامِسَ عَشَرَ منهم من يُفَرِّقُ فَيَقْبَلُ مَرَاسِيلَ بَعْضِ التَّابِعِينَ دُونَ بَعْضٍ قال أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ مَرَاسِيلُ سَعِيدٍ وقال الشَّافِعِيُّ إرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ السَّادِسَ عَشَرَ من الْمُنْكَرِينَ لِلْمُرْسَلِ من يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ عن الصَّحَابَةِ السَّابِعَ عَشَرَ كان أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ يَخْتَارُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْقُوفَةَ على الصَّحَابَةِ على الْمُرْسَلَاتِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الثَّامِنَ عَشَرَ لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ إلَّا في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يُعَضِّدَهُ إجْمَاعٌ فَيُسْتَغْنَى بِذَلِكَ عن الْمُسْنَدِ قَالَهُ ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِحْكَامِ هذا حَاصِلُ ما قِيلَ وفي بَعْضِهَا تَدَاخُلٌ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرْسِلَ إذَا كان غير ثِقَةٍ لَا يُقْبَلُ إرْسَالُهُ فَإِنْ كان ثِقَةً وَعُرِفَ
أَنَّهُ يَأْخُذُ عن الضُّعَفَاءِ فَلَا يُحْتَجُّ بِمَا أَرْسَلَهُ سَوَاءٌ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَكَذَا من عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ الْمُجْمَعِ عليه حتى يُصَرِّحَ بِالتَّحْدِيثِ وَإِنْ كان لَا يَرْوِي إلَّا عن ثِقَةٍ فَمُرْسَلُهُ وَتَدْلِيسُهُ هل يُقْبَلُ فيه الْخِلَافُ وقد تَقَدَّمَ من كَلَامِ ابْنِ عبد الْبَرِّ وهو من الْمَالِكِيَّةِ تَخْصِيصُ مَحَلِّ الْخِلَافِ بِغَيْرِ ذلك وَكَذَلِكَ قال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ منهم الْمُرْسَلُ عِنْدَنَا إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا كان من عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عن ثِقَةٍ وَكَذَا قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ من عَلِمْنَا من حَالِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُ الحديث عَمَّنْ لَا يَوْثُقُ بِرِوَايَتِهِ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الحديث عنه فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَنْ لَا يُرْسِلُ إلَّا عن الثِّقَاتِ وقال الْقُرْطُبِيُّ لِيُعْلَمَ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إنَّمَا هو فِيمَا إذَا كان الْمُرْسِلُ ثِقَةً مُتَحَرِّزًا بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُ عن غَيْرِ الْعُدُولِ قال وَيَلْزَمُ الشَّافِعِيَّ وَالْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْقَوْلُ بِالْمُرْسَلِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُمَا قَبِلَا التَّعْدِيلَ بِالْمُطْلَقِ وَالْمُرْسِلُ إذَا عُلِمَ من حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن عَدْلٍ قُبِلَ منه كما لو صَرَّحَ بِاسْمِهِ ا هـ وَعَلَى هذا فَيَرْتَفِعُ النِّزَاعُ في الْمَسْأَلَةِ وَبِهِ صَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فقال إذَا تَبَيَّنَ من حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن صَحَابِيٍّ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو عن رَجُلٍ تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ على تَعْدِيلِهِ صَارَ حُجَّةً وَادَّعَى أَنَّ ذلك مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فيها خِلَافٌ فإن أَحَدًا لَا يُوجِبُ التَّقْلِيدَ وَلَا يُنْكِرُ اخْتِلَافَ الْمَذَاهِبِ في التَّعْدِيلِ وَالشَّافِعِيُّ يقول أخبرني الثِّقَةُ فإنه لَا يَلْزَمُ غير أَهْلِ مَذْهَبِهِ قَبُولُهُ وَإِنَّمَا قال الْأَصْحَابُ مَذْهَبُهُ وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ عليهم وَمَذْهَبُهُ في التَّعْدِيلِ مَذْهَبُهُمْ ا هـ وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ لَا خِلَافَ أَنَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ فَأَمَّا مَرَاسِيلُ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَحُجَّةٌ في قَوْلِ عُلَمَائِنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا بِشُرُوطٍ ثُمَّ قال فَأَمَّا مَرَاسِيلُ من بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ الْكَرْخِيّ لَا يُفَرِّقُ بين مَرَاسِيلِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ وكان عِيسَى بن أَبَانَ يقول من اُشْتُهِرَ في الناس بِحَمْلِ الْعِلْمِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ مُرْسِلًا وَمُسْنِدًا وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ وَأَمْثَالَهُ من الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ وَمَنْ لم يَشْتَهِرْ يَحْمِلُ الناس الْعِلْمَ عنه مُطْلَقًا وَإِنَّمَا اُشْتُهِرَ بِالرِّوَايَةِ عنه فإن مُسْنَدَهُ يَكُونُ حُجَّةً وَمُرْسَلُهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يُعْرَضَ على من اُشْتُهِرَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ عنه ثُمَّ قال وَأَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ في هذا ما قَالَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ أَنَّ مُرْسَلَ من كان من
الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ ليس حُجَّةً إلَّا من اُشْتُهِرَ وقال عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ مُطْلَقًا إذَا كان الْمُرْسِلُ عَدْلًا يَقِظًا وَكَذَا حَكَاهُ عنه أبو الْفَرَجِ فَأَمَّا الْبَغْدَادِيُّونَ من أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ وَالشَّيْخِ أبي بَكْرٍ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لم يُصَرِّحُوا بِالْمَنْعِ فإن كُتُبَهُمْ تَقْتَضِي مَنْعَ الْقَوْلِ بِهِ لَكِنَّ مَذْهَبَ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ فَصْلٌ تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فإن النَّقْلَ قد اضْطَرَبَ عنه فَنَقَلَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ عنه أَنَّهُ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِالْمَرَاسِيلِ إلَّا عِنْدَ شَرِيطَةِ أَنْ يُسْنِدَهُ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ أو يَعْمَلَ بِهِ صَاحِبُهُ أو الْعَامَّةُ أو أَنَّ الْمُرْسِلَ لَا يُرْسِلُ إلَّا عن ثِقَةٍ وَلِهَذَا اسْتَحْسَنَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الْمُرْسَلَ مُطْلَقًا وَلَكِنْ يَتَطَلَّبُ فيه مَزِيدَ تَأْكِيدٍ لِيَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ في الثِّقَةِ وَاسْتُنْبِطَ هذا من مَذْهَبِهِ في قَبُولِ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَاسْتِحْسَانِهِ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ وَهَذَا ما اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَرَأَى أَنَّ الرَّاوِيَ الْمَوْثُوقَ بِهِ الْعَالِمَ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ إذَا قال حدثني من أَثِقُ بِهِ وَأَرْضَاهُ يُوجِبُ الثِّقَةَ بِحَدِيثِهِ وَإِنْ قال حدثني رَجُلٌ تَوَقَّفَ عنه وَكَذَلِكَ إذَا قال الْإِمَامُ الرَّاوِي قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهَذَا بَالِغٌ في ثِقَةِ من رَوَى له قال وقد عَثَرْت في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ على أَنَّهُ إذَا لم يَجِدْ إلَّا الْمُرْسَلَ مع الْإِقْرَارِ بِالتَّعْدِيلِ على الْإِجْمَالِ فإنه يُعْمَلُ بِهِ فَكَانَ إضْرَابُهُ عن الْمُرْسَلِ في حُكْمِ تَقْدِيمِ الْمَسَانِيدِ عليها ا هـ وَهَذَا الذي حَكَاهُ الْإِمَامُ عن الشَّافِعِيِّ غَرِيبٌ وهو شَيْءٌ ضَعِيفٌ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا وقد تَنَاهَى ابن السَّمْعَانِيِّ في الرَّدِّ عليه وقال هذا عِنْدِي خِلَافُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وقد أَجْمَعَ كُلُّ من نَقَلَ عنه هذه الْمَسْأَلَةَ من الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّ على أَصْلِهِ لَا يَكُونُ الْمُرْسَلُ حُجَّةً معه بِحَالٍ قال وأنا لَا أَعْجَبُ من أبي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ إنْ
كان يَنْصُرُ الْقَوْلَ بِالْمُرْسَلِ فإنه كان مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ وَمِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ ا هـ وَكَذَا قال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ الْمُرْسَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِخَبَرِ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ في بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فَقِيلَ لِأَنَّهُ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عن الصَّحَابَةِ وَقِيلَ إنَّ الْمُسْنَدَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لِقَوْلِهِ عَمَّا أَسْنَدَهُ غَيْرُهُ قال وَبِهَذَا قال أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ أبي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ في قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ليس الْمُنْقَطِعُ بِشَيْءٍ ما عَدَا مُنْقَطِعَ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ قال أبو مُحَمَّدٍ يَعْنِي ما عَدَا مُنْقَطِعَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فإنه يَعْتَبِرُ بِهِ ا هـ فلم يَحْمِلْ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ على أَنَّهُ يَحْتَجُّ بِمُرْسَلِ سَعِيدٍ بَلْ على أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بِهِ خَاصَّةً وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَأَطْلَقَ في الْمُسْتَصْفَى أَنَّ الْمُرْسَلَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي قال وهو الْمُخْتَارُ وقال في الْمَنْخُولِ الْمَرَاسِيلُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَّا مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَالْمُرْسَلَ الذي عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ثُمَّ قال وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ ثَبَتَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ فإنه قال في الْمُخْتَصَرِ أخبرني الثِّقَةُ وهو الْمُرْسَلُ بِعَيْنِهِ وقد أَوْرَدَهُ بِنَقْلٍ عنه وَيَعْتَقِدُهُ فَيَعْتَمِدُ مَذْهَبَهُ وَعَنْ هذا قَبِلَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ قال الْقَاضِي وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْإِمَامَ الْعَدْلَ إذَا قال قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو أخبرني الثِّقَةُ قُبِلَ فَأَمَّا الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَوَسَّعُونَ في كَلَامِهِمْ فَقَدْ يَقُولُونَهُ لَا عن ثَبْتٍ فَلَا يُقْبَلُ منهم وَمَنْ قَبِلَ هذا قال هذا مَقْبُولٌ من الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ فَلَا يُقْبَلُ في زَمَانِنَا هذا وقد كَثُرَتْ الرِّوَايَةُ وَطَالَ الْبَحْثُ وَاتَّسَعَتْ الطُّرُقُ فَلَا بُدَّ من ذِكْرِ اسْمِ الرَّجُلِ قال الْغَزَالِيُّ وَالْأَمْرُ على ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي إلَّا في هذا الْأَخِيرِ فَإِنَّا لو صَادَفْنَا في زَمَانِنَا مُتْقِنًا في نَقْلِ الْأَحَادِيثِ مِثْلَ مَالِكٍ قَبِلْنَا قَوْلَهُ قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَخْتَلِفُ ذلك بِالْأَعْصَارِ ا هـ وما حَكَاهُ عن الْقَاضِي غَرِيبٌ وَاَلَّذِي رَأَيْته في كِتَابِ التَّقْرِيبِ له التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ مُطْلَقًا حتى مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ لَا لِأَجْلِ الشَّكِّ في عَدَالَتِهِمْ وَلَكِنْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قد يَرْوُونَ عن تَابِعِيٍّ إلَّا أَنْ يُخْبِرَ عن نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو عن صَحَابِيٍّ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمُرْسَلِهِ وَنُقِلَ مِثْلُ ذلك عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَدَّ
الْمَرَاسِيلَ وقال بها بِشُرُوطٍ أُخَرَ وقال في آخِرِ الشُّرُوطِ فَاسْتُحِبَّ قَبُولُهَا إذَا كانت كَذَلِكَ قال وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ بها ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ فَنَصَّ بِذَلِكَ على أَنَّ قَبُولَهَا عِنْدَ تِلْكَ الشُّرُوطِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ هذا لَفْظُهُ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ قَبِلَ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلَ سَعِيدٍ دُونَ غَيْرِهِ ثُمَّ قال إذَا تَبَيَّنَ من حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن صَحَابِيٍّ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو عن رَجُلٍ تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ على تَعْدِيلِهِ صَارَ حُجَّةً قال وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَقْبَلُ من الْمَرَاسِيلِ ما أَرْسَلَهُ كُلُّ مُعْتَبَرٍ من الْأَئِمَّةِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا قُلْنَاهُ انْتَهَى وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَرَاسِيلَ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بها إلَّا مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَمَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وما انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على الْعَمَلِ بِهِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرْسَلَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً وقد يَنْضَمُّ إلَيْهِ ما يَكُونُ حُجَّةً على ما سَنُبَيِّنُ ثُمَّ قال وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا رَدَّ الْمُرْسَلَ لِدُخُولِ التُّهْمَةِ فيه فَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ ما يُزِيلُ التُّهْمَةَ فإنه يُقْبَلُ وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَافِقَ مُرْسَلُهُ مُسْنَدَ غَيْرِهِ أو تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أو انْتَشَرَ ولم يَظْهَرْ له نَكِيرٌ قال بَعْضُهُمْ وَكَذَلِكَ إذَا اُشْتُرِطَ في إرْسَالِهِ عَدْلَانِ فَأَكْثَرُ فَيَقْوَى بِهِ حَالُ الْمُرْسَلِ أو يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ قال وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَجَّحَ إنَّمَا هو في مُسْنَدٍ آخَرَ أو تَلَقِّي الْأُمَّةِ له بِالْقَبُولِ أو اشْتِهَارِهِ من غَيْرِ نَكِيرٍ وما عَدَا ذلك فَلَا يَدُلُّ على قَبُولِ الْمُرْسَلِ انْتَهَى وقال صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ حُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ خَصَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ بِالْقَبُولِ وَحُكِيَ عنه أَيْضًا أَنَّهُ قال إذَا قال الصَّحَابِيُّ قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَذَا قَبِلَتْ إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ ا هـ وَلْنَذْكُرْ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ فإنه يُعْرَفُ منه مَذْهَبُهُ قال الْبَيْهَقِيُّ في الْمَدْخَلِ أخبرنا أبو عبد اللَّهِ الْحَافِظُ حدثنا أبو الْعَبَّاسِ محمد بن يَعْقُوبَ أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ بن سُلَيْمَانَ قال الشَّافِعِيُّ يَعْنِي في كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْمُنْقَطِعُ يَخْتَلِفُ فَمَنْ شَاهَدَ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَرَوَى حَدِيثًا مُنْقَطِعًا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اُعْتُبِرَ عليه بِأُمُورٍ منها أَنْ يُنْظَرَ إلَى ما أَرْسَلَهُ من الحديث فَإِنْ شَرَكَهُ الْحُفَّاظُ الْمَأْمُونُونَ
فَأَسْنَدُوهُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِمِثْلِ مَعْنَى ما رَوَى كانت هذه دَلَالَةً وَاضِحَةً على صِحَّةِ من قَبِلَ عنه وَحَفِظَهُ وَإِنْ انْفَرَدَ بِهِ مُرْسَلًا لم يُشْرِكْهُ فيه من يُسْنِدُ قُبِلَ ما يَنْفَرِدُ بِهِ من ذلك وَيُعْتَبَرُ عليه بِأَنْ يُنْظَرَ هل يُوَافِقُهُ مُرْسَلٌ آخَرُ فَإِنْ وُجِدَ ذلك قَوِيَ وَهِيَ أَضْعَفُ من الْأُولَى وَإِنْ لم يُوجَدْ ذلك نَظَرَ إلَى بَعْضِ ما يُرْوَى عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَوْلًا له فَإِنْ وَجَدْنَا ما يُوَافِقُ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كانت شَاهِدَةَ دَلَالَةٍ على أَنَّهُ لم يَأْخُذْ مُرْسَلَهُ إلَّا عن أَصْلٍ يَصِحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ عَوَامُّ من أَهْلِ الْعِلْمِ يُفْتُونَ بِمِثْلِ مَعْنَى ما رُوِيَ لم يُعْتَبَرْ عليه بِأَنْ يَكُونَ إذَا سَمَّى من رَوَى عنه لم يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا وَاهِيًا فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ على صِحَّتِهِ وَيَكُونُ إذَا شَرَكَ أَحَدًا من الْحُفَّاظِ في حَدِيثِهِ لم يُخَالِفْهُ وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقَصَ كانت في هذه دَلَائِلُ على صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ وَمَتَى خَالَفَ ما وَصَفْت أَضَرَّ بِحَدِيثِهِ حتى لَا يَسَعَ أَحَدًا قَبُولُ مُرْسَلِهِ قال وإذا وُجِدَتْ الدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ بِمَا وُصِفَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَقْبَلَ مُرْسَلَهُ وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَزْعُمَ أَنَّ الْحُجَّةَ تَثْبُتُ بِهِ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْمُنْقَطِعِ مَغِيبٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُمِلَ عَمَّنْ يُرْغَبُ في الرِّوَايَةِ عنه إذَا سُمِّيَ وَأَنَّ بَعْضَ الْمُنْقَطِعَاتِ وَإِنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ مِثْلُهُ فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُخَرِّجُهُمَا وَاحِدًا من حَيْثُ لو سُمِّيَ لم يُقْبَلْ وَأَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إذَا قال بِرَأْيِهِ لو وَافَقَهُ لم يَدُلَّ على صِحَّةِ مَخْرَجِ الحديث دَلَالَةً قَوِيَّةً إذَا نَظَرَ فيها وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا غَلَطَ بِهِ حين سمع قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِمُوَافِقِهِ قال فَأَمَّا من بَعْدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ فَلَا أَعْلَمُ وَاحِدًا يَقْبَلُ مُرْسَلَهُ لِأُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّهُمْ أَشَدُّ تَجَوُّزًا مِمَّنْ يَرْوُونَ عنه وَالْآخَرُ أَنَّهُمْ لم يُوجَدْ عليهم الدَّلَائِلُ فِيمَا أَرْسَلُوا لِضَعْفِ مُخَرِّجِهِ وَالْآخَرُ كَثْرَةُ الْإِحَالَةِ في الْأَخْبَارِ وإذا كَثُرَتْ الْإِحَالَةُ كان أَمْكَنَ لِلْوَهْمِ وَضَعْفِ من يُقْبَلُ عنه انْتَهَى كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وقد تَضَمَّنَ كَلَامُهُ رضي اللَّهُ عنه أُمُورًا أَحَدُهَا أَنَّ الْمُرْسَلَ إذَا أُسْنِدَ من وَجْهٍ آخَرَ دَلَّ على صِحَّةِ ذلك الْمُرْسَلِ وَعُلِمَ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ اشْتِرَاطُ صِحَّةِ ذلك الْمُسْنَدِ الثَّانِي أَنَّهُ إذَا لم يُسْنَدْ من وَجْهٍ آخَرَ نُظِرَ هل يُوَافِقُهُ مُرْسَلٌ آخَرُ
فَإِنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ آخَرُ قَوِيٌّ لَكِنَّهُ يَكُونُ أَنْقَصَ دَرَجَةً من الْمُرْسَلِ الذي أُسْنِدَ من وَجْهٍ آخَرَ فَإِنْ قِيلَ على هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إنْ كان الْوَجْهُ الْآخَرُ إسْنَادًا فَالْعَمَلُ حِينَئِذٍ على الْمُسْنَدِ وَإِنْ كان إرْسَالًا فَضَمُّ غَيْرِ مَقْبُولٍ إلَى غَيْرِ مَقْبُولٍ كَانْضِمَامِ الْمَاءِ النَّجِسِ إلَى مِثْلِهِ وَشَهَادَةِ الْفَاسِقِ مع مِثْلِهِ لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ وَالْقَبُولَ وَهَذَا اعْتَرَضَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ على الشَّافِعِيِّ وَتَبِعُوهُ وهو مَرْدُودٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُسْنَدِ فَقَطْ لِأَنَّ بِالْمُسْنَدِ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ إسْنَادِ الْإِرْسَالِ حتى تَحْكُمَ له مع إرْسَالِهِ بِأَنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَأَيْضًا لو عَارَضَ الْمُسْنَدَ الذي دُونَ الْمُرْسَلِ مُسْنَدٌ آخَرُ يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْمُرْسَلِ إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ وَأَيْضًا فَالِاحْتِجَاجُ بِالْمُسْنَدِ إنَّمَا يَنْتَهِضُ إذَا كان بِنَفْسِهِ حُجَّةً وَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ هُنَا بِالْمُسْنَدِ ما لَا يَنْتَهِضُ بِنَفْسِهِ كما أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وإذا ضُمَّ إلَى الْمُرْسَلِ قام بِهِ الْمُرْسَلُ وَصَارَ حُجَّةً وَهَذَا ليس عَمَلًا بِالْمُسْنَدِ بَلْ بِالْمُرْسَلِ لِزَوَالِ التُّهْمَةِ عنه وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ قَبُولِهِ إذَا كان الْقَوِيُّ مُرْسَلًا لِجَوَازِ تَأْكِيدِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ بِالْآخَرِ الثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا لم يُوَافِقْهُ مُرْسَلٌ آخَرُ لم يُسْنَدْ من وَجْهٍ آخَرَ وَلَكِنَّهُ وُجِدَ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَوْلٌ له يُوَافِقُ هذا الْمُرْسَلَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم دَلَّ على أَنَّ له أَصْلًا وَلَا يُطْرَحُ وَلَا يُرَدُّ اعْتِرَاضُ الْقَاضِي بِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ ليس بِحُجَّةٍ لِأَنَّ مُرَادَهُ التَّقْوِيَةُ بِهِ لَا الِاسْتِقْلَالُ الرَّابِعُ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ جَمْعٌ من أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ بِمَا يُوَافِقُ هذا الْمُرْسَلَ دَلَّ على أَنَّ له أَصْلًا وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْأُمَّةَ فَهُوَ إجْمَاعٌ وَالْحُجَّةُ حِينَئِذٍ فيه لَا في الْمُرْسَلِ وَإِنْ أَرَادَ بَعْضَ الْأُمَّةِ فَقَوْلُهَا ليس بِحُجَّةٍ وَالْجَوَابُ عنه أَنَّهُ أَرَادَ الثَّانِيَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّنَّ يَقْوَى عِنْدَهُ وَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ وإذا قَوِيَ الظَّنُّ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُرْسَلِ فَمُجَرَّدُهُ ضَعِيفٌ وَكَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَالَةُ الِاجْتِمَاعِ قد يَقُومُ منها ظَنٌّ غَالِبٌ وَهَذَا شَأْنُ كل ضَعِيفَيْنِ اجْتَمَعَا الْخَامِسُ أَنَّهُ يُنْظَرُ في حَالِ الْمُرْسَلِ فَإِنْ كان إذَا سَمَّى شَيْخَهُ سَمَّى ثِقَةً لم يُحْتَجَّ بِمُرْسَلِهِ وَإِنْ كان إذَا سَمَّى لم يُسَمِّ إلَّا ثِقَةً ولم يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا وَاهِيًا كان دَلِيلًا على صِحَّةِ الْمُرْسَلِ وقد تَقَدَّمَ أَنَّ هذا مَحَلُّ وِفَاقٍ لَكِنَّهُ دُونَ ما قَبْلَهُ السَّادِسُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى هذا الْمُرْسَلِ له فَإِنْ كان إذَا أَشْرَكَ غَيْرَهُ من الْحُفَّاظِ في حَدِيثٍ وَافَقَهُ فيه ولم يُخَالِفْهُ دَلَّ على حِفْظِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقَصَ إمَّا في الْإِسْنَادِ أو الْمَتْنِ كان هذا دَلِيلًا على صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ وَأَنَّ له أَصْلًا فإن
هذا يَدُلُّ على حِفْظِهِ وَتَحَرِّيهِ بِخِلَافِ ما إذَا كانت مُخَالَفَتُهُ بِزِيَادَتِهِ فإن هذا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ وَالِاعْتِبَارَ وَهَذَا دَلِيلٌ من الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه على أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ عِنْدَهُ لَيْسَتْ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا كما يَظُنُّ جَمَاعَةٌ فإنه اعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ هذا الْمُخَالِفِ أَنْقَصَ من حديث من خَالَفَهُ ولم يَعْتَبِرْ الْمُخَالِفَ بِالزِّيَادَةِ وَجَعَلَ نُقْصَانَ هذا الرَّاوِي من الحديث دَلِيلًا على صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَتَى خَالَفَ ما وُصِفَ أَضَرَّ ذلك بِحَدِيثِهِ وَلَوْ كانت الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا لم تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ بِالزِّيَادَةِ مُضِرًّا بِحَدِيثِهِ السَّابِعُ هذا الْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ عِنْدَهُ بِمُرْسَلِ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَزَعَمَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ اخْتِصَاصَهُ بِسَعِيدٍ مُعْتَمِدًا على قَوْلِهِ في الْأُمِّ في كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وقد قِيلَ له كَيْفَ قَبِلْتُمْ عن ابْنِ الْمُسَيِّبِ مُنْقَطِعًا ولم تَقْبَلُوهُ عن غَيْرِهِ قُلْنَا لَا نَحْفَظُ لِسَعِيدٍ مُنْقَطِعًا إلَّا وَجَدْنَا ما يَدُلُّ على تَسْدِيدِهِ وَلَا يَأْثُرُهُ عن أَحَدٍ فِيمَا عَرَفْنَاهُ عنه إلَّا عن ثِقَةٍ مَعْرُوفٍ انْتَهَى وَهَذَا الْقَائِلُ كَأَنَّهُ لم يَنْظُرْ قَوْلَهُ بَعْدَهُ فَمَنْ كان مِثْلَ حَالِهِ قَبِلْنَا مُنْقَطِعَهُ وقد قال الْبَيْهَقِيُّ إنَّ الشَّافِعِيَّ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ كِبَارِ التَّابِعِينَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا ما يُؤَكِّدُهَا وَمِمَّنْ وَافَقَ الشَّافِعِيَّ على مُرْسَلِ سَعِيدٍ يحيى بن مَعِينٍ وَأَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ فَقَالَا أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ مُرْسَلُ سَعِيدٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ فَقِيلَ إنَّ مَرَاسِيلَ التَّابِعِينَ كُلِّهِمْ حُجَّةٌ وَإِنْ كان الشَّافِعِيُّ نَصَّ على مُرْسِلٍ وَاحِدٍ منهم لِيُسْتَدَلَّ بِهِ على غَيْرِهِ وَقِيلَ لَا يَكُونُ حُجَّةً ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ في مَعْنَى قَوْلِهِ مُرْسَلُ سَعِيدٍ حَسَنٌ فَقِيلَ حَسَنٌ في التَّرْجِيحِ بِهِ لَا في الِاسْتِدْلَالِ وَفِيهِ ضَعْفٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَقِيلَ إنَّمَا قَبِلَهَا لِأَنَّهَا وُجِدَتْ مَسَانِيدَ فإن الشَّافِعِيَّ لَمَّا رَوَى حَدِيثَهُ الْمُرْسَلَ في النَّهْيِ عن بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ قال وَإِرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ وَجَعَلَ الْخَبَرَ أَصْلًا لِأَنَّ مَرَاسِيلَهُ مُتَّبَعَةٌ فَوُجِدَتْ كُلُّهَا عن الصَّحَابَةِ من جِهَةِ غَيْرِهِ وَرَدَّ الْخَطِيبُ هذا بِأَنَّ منها ما لم يُوجَدْ مُسْنَدًا بِحَالٍ من وَجْهٍ يَصِحُّ وَقِيلَ إنَّهُ في الْجَدِيدِ لَا يُفَرِّقُ بين مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ في الرَّدِّ وَإِنَّمَا فَرَّقَ في الْقَدِيمِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَكَذَا نَقَلَ التَّسْوِيَةَ عن الْجَدِيدِ الْخَطِيبُ في الْكِفَايَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِقَوْلِ الرُّويَانِيِّ
إنَّ الشَّافِعِيَّ في كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ من الْأُمِّ زَعَمَ أَنَّ مُرْسَلَ سَعِيدٍ حُجَّةٌ فَقَطْ وَيَشْهَدُ له عِبَارَةُ الْمُخْتَصَرِ أَنَّهُ حَسَنٌ لَكِنْ أَشَارَ ابن الرِّفْعَةِ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ الصَّغِيرَ من الْقَدِيمِ وَإِنْ كان من كُتُبِ الْأُمِّ قال وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْمَاوَرْدِيُّ قَبُولَ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ إلَى الْقَدِيمِ فَإِنْ ثَبَتَ هذا فَلَا خِلَافَ بين كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ وَلَكِنَّهُ لم يَثْبُتْ وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ في كِتَابِ الرِّبَا في تَعْلِيقِهِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وكان في الْقَدِيمِ يقول بِهِ وفي الْجَدِيدِ يُحَسِّنُهُ وَيُقَوِّي بِهِ ما دَلَّ عليه الْأُصُولُ وَإِنَّمَا قال بِهِ في الْقَدِيمِ لِأَنَّ عَامَّةَ مَرَاسِيلِهِ إذَا تُتُبِّعَ وُجِدَ مُتَّصِلًا انْتَهَى وقال ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ وقد قال الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ إنَّ إرْسَالَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ حَسَنٌ لِأَنَّهُ كَشَفَ عن حَدِيثِهِ فَوَجَدَهُ مُتَّصِلًا فَاكْتَفَى عن طَلَبِ كل حَدِيثٍ بَعْدَ فَرَاغِهِ من الْجُمْلَةِ وَيَتَقَوَّى بِهِ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ قال وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ في ذلك على أَنَّ الْمَسْكُوتَ عنه يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا وَأَنْ لَا يَكُونَ إلَى آخِرِهِ فَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَهُ في الْجَدِيدِ في رَدِّهِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ في الْقَدِيمِ اسْتَثْنَى سَعِيدًا وَفِيهِ ما سَبَقَ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ وَأَمَّا مُرْسَلُ سَعِيدٍ فإن الشَّافِعِيَّ قال بِهِ في كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ ولم يُرِدْ بِهِ تَخْصِيصَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ دُونَ غَيْرِهِ من مَذْهَبُهُ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ في ذلك لَكِنْ ظَهَرَ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لم يُرْسِلْ حَدِيثًا ليس له أَصْلٌ في الْمُتَّصِلِ ولم يَظْهَرْ له مِثْلُ هذا في غَيْرِهِ فَإِنْ عُرِفَ هذا في مُرْسَلِ غَيْرِهِ كَمُرْسَلِ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَمَكْحُولٍ كان الْكَلَامُ فِيهِمْ كَذَلِكَ وقال الْخَفَّافَ في كِتَابِ الْخِصَالِ لَا يَجُوزُ قَبُولُ الْمُرْسَلِ عِنْدَنَا إلَّا في صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَرْوِيَ الصَّحَابِيُّ عن صَحَابِيٍّ وَلَا يُسَمِّيهِ فَذَلِكَ وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ وَالثَّانِي التَّابِعِيُّ إذَا أَرْسَلَ وَسَمَّى فَإِنْ كان مَعْرُوفًا أَنْ لَا يَرْوِيَ إلَّا عن صَحَابِيٍّ مِثْلِ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ فَإِرْسَالُهُ وَإِسْنَادُهُ في ذلك سَوَاءٌ انْتَهَى وَهَذَا مَعْنًى آخَرُ في قَبُولِ مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَنَحْوِهِ وقال الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ من أَصْحَابِنَا من جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ على قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ يُغْنِي وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ في أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَبَدًا وفي الْمَوْضِعِ الذي جَعَلَهُ أَرَادَ بِهِ في تَرْجِيحِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ على الْآخَرِ انْتَهَى
وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ الْمُرْسَلُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وقد قال الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ وَإِرْسَالُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عِنْدَنَا حَسَنٌ وَأَخَذَ بِذَلِكَ في الْجَدِيدِ في مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ منها بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدَنَا إرْسَالُهُ حَسَنٌ أَنَّهُ تَتَبَّعَ أَخْبَارَهُ كُلَّهَا فَوَجَدَهَا أو أَكْثَرَهَا مُتَّصِلَةً فَاكْتَفَى بِذَلِكَ عن تَطَلُّبِ كل حَدِيثٍ بَعْدَ مُرَادِهِ من الْجُمْلَةِ لَا أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَخْصِيصَهُ عن سَائِرِ الْمَرَاسِيلِ انْتَهَى وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ قد كان الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ يَسْتَحْسِنُ إرْسَالَ سَعِيدٍ وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى أَنَّ عَامَّةَ مَرَاسِيلِهِ إذَا انْعَقَدَتْ وُجِدَ لها في الرِّوَايَاتِ الْمَوْصُولَةِ أَصْلٌ وَإِنَّا لم نَعْلَمْ أَحَدًا من الضُّعَفَاءِ أَرْسَلَ عنه وَلَا رَوَى عنه بَلْ جُمْلَةُ رِوَايَاتِهِ عن الصَّحَابَةِ وَالثِّقَاتِ من أَهْلِ النَّقْلِ قال وقد ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ أَنَّ الحديث يُعْتَبَرُ بِأُمُورٍ منها أَنْ يُنْظَرَ إلَى ما أَرْسَلَ فَإِنْ شَرَكَهُ فيه الْحُفَّاظُ الْمَأْمُونُونَ فَأَسْنَدَ قَوْلَهُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِمِثْلِ مَعْنَى ما رَوَى كان في ذلك ما يُسْنِدُ وَمِنْهَا ما يُؤْخَذُ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ من قَوْلِهِمْ وما يُوَافِقُ الْخَبَرَ الْمُرْسَلَ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إذَا سَمَّى من رَوَى عنه لم يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا مَرْغُوبًا عنه في الرِّوَايَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إذَا أَشْرَكَ أَحَدًا من الْحُفَّاظِ في حَدِيثِهِ لم يُخَالِفْهُ ثُمَّ قال بَعْدَ ذِكْرِ هذه الشَّرَائِطِ وإذا وُجِدَتْ الدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ بِمَا وَصَفْت أَحْبَبْنَا أَنْ يُقْبَلَ مُرْسَلُهُ وَلَا نَزْعُمُ أَنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ وقال فَأَمَّا من بَعْدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ كَثُرَتْ مُشَاهَدَتُهُمْ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ فَلَا أَعْلَمُ منهم وَاحِدًا يُقْبَلُ مُرْسَلُهُ وقد ذُكِرَ فيه من الشَّرَائِطِ ما ذُكِرَ قال وَأَشَارَ إلَى قُوَّةِ مَرَاسِيلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ على مَرَاسِيلِ من دُونَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُجَّةُ بِالْمُنْقَطِعِ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ فَدَلَّ على أَنَّ أَصْلَ الْمَرَاسِيلِ عِنْدَهُ ضَعِيفٌ وَمَشْهُورٌ على لِسَانِ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ تَضْعِيفُهُ لِلْمَرَاسِيلِ وَالْوَجْهُ في تَضْعِيفِهِ ما أَوْمَأْنَا إلَيْهِ من جَهَالَةِ الْوَاسِطَةِ انْتَهَى كَلَامُ الْقَفَّالِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ النَّفَقَةِ من الْحَاوِي إنَّ مُرْسَلَ أبي سَلَمَةَ بن عبد الرحمن
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَسَنٌ وَأَنَّ الْمُرْسَلَ الذي حَصَلَتْ فيه هذه الشَّوَاهِدُ أو بَعْضُهَا يُسَوَّغُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ لُزُومَ الْحُجَّةِ بِالْمُتَّصِلِ وَكَأَنَّهُ رضي اللَّهُ عنه يُسَوِّغُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ ولم يُنْكِرْ على من خَالَفَهُ قال الْبَيْهَقِيُّ في الْمَعْرِفَةِ لم نَجِدْ حَدِيثًا ثَابِتًا مُتَّصِلًا خَالَفَهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا وقد وَجَدْنَا مَرَاسِيلَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ على خِلَافِهَا وَذَكَرَ منها حَدِيثَ مُحَمَّدِ بن الْمُنْكَدِرِ الْآتِي قَرِيبًا وَظَنَّ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالِاسْتِحْبَابِ قَسِيمَ الْوُجُوبِ قال فَقَدْ نَصَّ على أَنَّ الْقَبُولَ عِنْدَ تِلْكَ الشُّرُوطِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ انْتَهَى وَلَيْسَ كما قال بَلْ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالِاسْتِحْبَابِ أَنَّ الْحُجَّةَ فيها ضَعِيفَةٌ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةِ الْمُتَّصِلِ فإذا انْتَهَضَتْ الْحُجَّةُ وَجَبَ الْأَخْذُ لَا مَحَالَةَ فإذا عَارَضَهُ مُتَّصِلٌ كانت التَّقْدِمَةُ مُقَدَّمَةً عليه إذْ لَيْسَتْ الْأَدِلَّةُ ما يَكُونُ الْأَخْذُ بِهِ مُسْتَحَبًّا أَبَدًا وَلَكِنَّ فيها ما يَتَفَاوَتُ وَيَنْفَعُ ذلك عِنْدَ التَّعَارُضِ وقال الرَّبِيعِيُّ في الْمَدْخَلِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْبَبْنَا أَنْ تُقْبَلَ مُرْسَلُهُ أَرَادَ بِهِ اخْتَرْنَا وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْقَفَّالِ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ في بَابِ اللُّقَطَةِ إنَّ الشَّافِعِيَّ يقول أُحِبُّ وَأُرِيدُ بِهِ الْإِيجَابَ وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ إذَا لم يُوجَدْ دَلَالَةٌ سِوَاهُ وقال الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ في الْكِفَايَةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ من التَّابِعِينَ وَإِنَّمَا رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ بِهِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْمُرْسَلِ صَحِيحٌ وَإِنْ لم يَكُنْ حُجَّةً بِمُفْرَدِهِ التَّاسِعُ أَنَّ الْمُرْسَلَ الْعَارِيَ من هذه الِاعْتِبَارَاتِ وَالشَّوَاهِدِ التي ذَكَرَهَا ليس بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ وَلِهَذَا قال أخبرنا ابن عُيَيْنَةَ عن مُحَمَّدِ بن الْمُنْكَدِرِ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لي مَالًا وَعِيَالًا وَإِنَّ لِأَبِي مَالًا وَعِيَالًا فَيُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي فَيُطْعِمَ عِيَالَهُ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أنت وَمَالُك لِأَبِيك قال الشَّافِعِيُّ محمد بن الْمُنْكَدِرِ غَايَةٌ في الثِّقَةِ وَالْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَلَكِنْ لَا نَدْرِي عَمَّنْ قَبِلَ هذا الحديث
الْعَاشِرُ أَنَّ مَأْخَذَ رَدِّ الْمُرْسَلِ عِنْدَهُ إنَّمَا هو احْتِمَالُ ضَعْفِ الْوَاسِطَةِ وَأَنَّ الْمُرْسَلَ لو سَمَّاهُ لَبَانَ أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بِهِ وَعَلَى هذا الْمَأْخَذِ فإذا كان الْمَعْلُومُ من عَادَةِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لم يُسَمِّ إلَّا ثِقَةً ولم يُسَمِّ مَجْهُولًا كان مُرْسَلُهُ حُجَّةً وَإِنْ كان يَرْوِي عن الثِّقَةِ وَغَيْرِهِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وقد صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بهذا الْمَعْنَى في غَيْرِ مَوْضِعٍ فقال وَذَكَرَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ في الضَّحِكِ في الصَّلَاةِ مُرْسَلًا قال يَقُولُونَ يُحَابِي وَلَوْ حَابَيْنَا حَابَيْنَا الزُّهْرِيَّ وَإِرْسَالُ الزُّهْرِيِّ ليس بِشَيْءٍ وَذَاكَ أَنَّا نَجِدُهُ يَرْوِي عن سُلَيْمَانَ بن أَرْقَمَ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ في الْمَسْأَلَةِ وهو مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وهو أَنَّ رِوَايَةَ الثِّقَةِ عن غَيْرِهِ هل هِيَ تَعْدِيلٌ أَمْ لَا وَفِيهِ خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ وهو أَنَّ الثِّقَةَ إنْ كان من عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن ثِقَةٍ كانت تَعْدِيلًا وَإِلَّا فَلَا كما سَبَقَ وَمِنْ هُنَا ظَنَّ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْعِلَّةَ في قَبُولِ الشَّافِعِيِّ لِمُرْسَلِ سَعِيدٍ كَوْنُهُ اعْتَبَرَهَا فَوَجَدَهَا مَسَانِيدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا كان الِاحْتِجَاجُ حِينَئِذٍ بِالْمُسْنَدِ فيها وَيَجِيءُ اعْتِرَاضُ الْقَاضِي السَّابِقِ وَلَكِنْ لَمَّا كان حَالُ صَاحِبِهَا أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن ثِقَةٍ حُمِلَ هذا الْمُرْسَلُ على ما عُرِفَ من عَادَتِهِ صَحِيحٌ بِهِ وَلِهَذَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ وَإِنْ اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ عن تَابِعِيٍّ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ لَا يَرْوُونَ إلَّا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو عن صَحَابِيٍّ لَا سِيَّمَا حَالَةَ الْإِطْلَاقِ فَحُمِلَ على الْغَالِبِ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ مُرْسَلَ من بَعْدَ التَّابِعِينَ لَا يُقْبَلُ ولم يُحْكَ عن أَحَدٍ قَبُولُهُ لِتَعَدُّدِ الْوَسَائِطِ وَلِأَنَّهُ لو قُبِلَ لَقُبِلَ مُرْسَلُ الْمُحَدِّثِ الْيَوْمَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَفَاوِزُ ولم يَقْبَلْهُ أَحَدٌ إلَّا ما سَبَقَ عن الْغَزَالِيِّ في الْمَنْخُولِ وقد رَدَدْنَاهُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ ظَاهِرَهُ قَبُولُ مُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ صِغَارِهِمْ وَلِهَذَا قال في الرِّسَالَةِ بَعْدَ النَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ بِكَلَامٍ وَمَنْ نَظَرَ في الْعِلْمِ بِخِبْرَةٍ وَقِلَّةِ غَفْلَةٍ اسْتَوْحَشَ من مُرْسَلِ كل من دُونَ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِدَلَائِلَ ظَاهِرَةٍ فيها قال له قَائِلٌ فَلِمَ فَرَّقْت بين كِبَارِ التَّابِعِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ شَاهَدُوا أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمَنْ شَاهَدَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقُلْت لِبُعْدِ إحَالَةِ من لم يَشْهَدْ أَكْثَرَهُمْ قال فَلِمَ يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ منهم وَمِنْ كل ثِقَةٍ دُونَهُمْ فَقُلْت لِمَا وَصَفْت انْتَهَى فَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَهُ ذلك إلَّا أَنْ يُوجَدَ له نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَيَكُونُ له قَوْلَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ لِمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ مَزِيَّةً على من دُونَهُمْ كما جَعَلَ لِمُرْسَلِ سَعِيدٍ مَزِيَّةً على من
سِوَاهُ منهم لَكِنْ هذا كُلُّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ من كَلَامِهِ ثُمَّ قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه في الرِّسَالَةِ فَكُلُّ حَدِيثٍ كَتَبْته مُنْقَطِعًا فَقَدْ سَمِعْته مُتَّصِلًا أو مَشْهُورًا عَمَّنْ رُوِيَ عنه بِنَقْلِ عَامَّةٍ من أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْرِفُونَهُ عن عَامَّةٍ وَلَكِنْ كَرِهْت وَضْعَ حَدِيثٍ لَا أُتْقِنُهُ حِفْظًا خَوْفَ طُولِ الْكِتَابِ وَغَابَ عَنِّي بَعْضُ كُتُبِي انْتَهَى فَنَبَّهَ رضي اللَّهُ عنه على أَنَّ كُلَّ ما يُورِدُهُ من الْمُنْقَطِعَاتِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ سَوَاءٌ ابن الْمُسَيِّبِ أو غَيْرُهُ وَاسْتَفَدْنَا من هذا أَنَّ ما وَجَدْنَاهُ في كُتُبِهِ من الْمَرَاسِيلِ لَا يَقْدَحُ في مَذْهَبِهِ من عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بها فَأَبَانَ بهذا أَنَّ ما نَجِدُهُ من الْمُرْسَلِ هو عِنْدَهُ مُتَّصِلٌ وَلَكِنْ تَرَكَ إسْنَادَهُ لِمَا ذَكَرَ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَّهُ لَا يقول بِالْمُرْسَلِ إذَا لم يَعْتَضِدْ بِمَا سَبَقَ وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ أَنَّهُ يقول بِهِ إذَا لم يَجِدْ في الْبَابِ سِوَاهُ وهو غَرِيبٌ وَيَعْضُدُهُ عَمَلُ الشَّافِعِيِّ بِأَقَلِّ ما قِيلَ إذَا لم نَجِدْ دَلِيلًا لَكِنْ يَلْزَمُهُ طَرْدُ ذلك في كل حَدِيثٍ ضَعِيفٍ وهو بَعِيدٌ تَنْبِيهٌ أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ تَرَكَهَا الْمَالِكِيَّةُ قد تَرَكَتْ الْمَالِكِيَّةُ مُرْسَلَ أبي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ في الْوُضُوءِ من الْقَهْقَهَةِ في الصَّلَاةِ وَلَا عِلَّةَ له سِوَى الْإِرْسَالِ وَتَرَكُوا مُرْسَلَ مَالِكٍ عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ عن أبيه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فيه بِالنَّاسِ جَالِسًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَأَعْجَبُ من هَذَيْنِ مُرْسَلٌ أَرْسَلَهُ تَابِعُوا فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمُ بن مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ وأبو سَلَمَةَ بن عبد الرحمن وهو ما رَوَاهُ اللَّيْثُ بن سَعْدٍ عن عُقَيْلِ بن خَالِدٍ عن ابْنِ شِهَابٍ عن أَرْبَعَتِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ على كل إنْسَانٍ مَكَانَ صَاعٍ من شَعِيرٍ وَذَكَرَ سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ أَنَّ ذلك كان عَمَلَ الناس أَيَّامَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما
أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ تَرَكَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَكَذَلِكَ أَعْرَضَ الْحَنَفِيَّةُ عن مُرْسَلِ سَعِيدٍ في النَّهْيِ عن بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مع أَنَّهُ لَا يُرْسَلُ إلَّا عن ثِقَةٍ مَسْأَلَةٌ أُمُورٌ مُلْحَقَةٌ بِالْمُرْسَلِ أو مُخْتَلَفٌ فيها أَلْحَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْمُرْسَلِ قَوْلَهُ في الْإِسْنَادِ عن رَجُلٍ أو شَيْخٍ أو نَحْوِ ذلك وَرَأَيْته كَذَلِكَ في كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ لَكِنْ قال الْحَاكِمُ وابن الْقَطَّانِ من الْمُحَدِّثِينَ إنَّهُ لَا يُسَمَّى مُرْسَلًا بَلْ مُنْقَطِعًا قال الْإِمَامُ وَقَوْلُ الرَّاوِي أخبرني رَجُلٌ أو عَدْلٌ مَوْثُوقٌ بِهِ من الْمُرْسَلِ أَيْضًا وَكَذَا قال في الْمَحْصُولِ إذَا سَمَّى الرَّاوِي الْأَصْلَ بِاسْمٍ لَا يُعْرَفُ فَهُوَ كَالْمُرْسَلِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَكَذَلِكَ إضَافَةُ الْخَبَرِ إلَى كِتَابٍ كَتَبَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ من حَمَلَهُ وَنَقَلَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ الْمَازِرِيُّ ما وَقَعَ في الصَّحِيحِ من قَوْلِهِ نَادَى مُنَادِي رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّ الْخَمْرَ قد حُرِّمَتْ وَقَوْلُهُ نَادَى مُنَادٍ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ التي طُبِخَ فيها لُحُومُ الْحُمُرِ لِأَنَّ الْمُنَادِيَ إذَا لم يُسَمَّ صَارَ كَكِتَابٍ أُضِيفَ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ أَرْسَلَهُ ولم يُسَمِّ حَامِلَهُ وَنَاقِلَهُ وَلَكِنْ عَلِمَ الْمُحَدِّثُ عَيْنَ النِّدَاءِ فإن ذلك لَا يَخْفَى على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى يُعْلَمَ ضَرُورَةً أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَ بِهِ فَنُزِّلَ ذلك مَنْزِلَةَ سَمَاعِ الْأَمْرِ منه صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ كُلُّ كِتَابٍ لم يُذْكَرْ حَامِلُهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِالْمُرْسَلِ وَكَذَلِكَ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَمِثْلُهُ ما يَقَعُ في الْأَسَانِيدِ أَنَّ فُلَانًا كَتَبَ إلَيَّ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ لِجَهَالَةِ الْوَاسِطَةِ كَالْمُرْسَلِ لَكِنْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الذي عليه الْجُمْهُورُ من أَرْبَابِ النَّقْلِ وَغَيْرُهُمْ جَوَازُ الرِّوَايَةِ لِأَحَادِيثِ الْكِتَابَةِ وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بها فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ في الْمُسْنَدِ وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّتِهَا عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لها وَوُثُوقِهِ بِأَنَّهَا عن كَاتِبِهَا
فَصْلٌ في الْفَرْقِ بين الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ قال الْقَرَافِيُّ أَقَمْت زَمَانًا أَتَطَلُّبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِيقَةِ حتى وَجَدْته مُحَقَّقًا في كَلَامِ الْمَازِرِيِّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ فإن كَثِيرًا من الناس يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِهِمَا في بَعْضِ الْأَحْكَامِ وهو إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَحْقِيقِ فَصْلِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالشَّهَادَةَ خَبَرَانِ غير أَنَّ الْخَبَرَ إنْ كان عن حُكْمٍ عَامٍّ تَعَلَّقَ بِالْأُمَّةِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ السَّمَاعُ فَهُوَ الرِّوَايَةُ وَإِنْ كان خَبَرًا جُزْئِيًّا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ أو الْعِلْمُ فَهُوَ الشَّهَادَةُ فَالرِّوَايَةُ تَعُمُّ حُكْمَ الرَّاوِي وَغَيْرِهِ على مَمَرِّ الْأَزْمَانِ وَالشَّهَادَةُ مَحْضُ الْمَشْهُودِ عليه وَلَهُ وَلَا يَتَعَدَّاهُمَا إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَمِنْ ثَمَّ كان بَابُ الرِّوَايَةِ أَوْسَعَ من بَابِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ مَبْنَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ على التَّضْيِيقِ وَالرِّوَايَةُ تَقْتَضِي شَرْعًا عَامًّا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ فَتَبْعُدُ فيه التُّهْمَةُ فَلِذَلِكَ تُوُسِّعَ فيه فلم يُشْتَرَطْ فيه انْتِفَاءُ الْقَرَابَةِ وَالْعَرَافَةِ وَلَا وُجُودُ الْعَدَدِ وَالذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَاسْتَشْكَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ في هذا الْفَرْقِ بِأَنَّ عُمُومَ الْحُكْمِ يَقْتَضِي الِاحْتِيَاطَ وَالِاسْتِظْهَارَ بِالْعَدَدِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ يُثْبِتُ حُكْمًا على نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ فلم يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ التُّهْمَةُ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ فإنه يُثْبِتُ حَقًّا على غَيْرِهِ فَاحْتِيطَ له وقد ذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وُجُوهًا لِمُنَاسَبَةِ الْعَدَدِ في الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ منها أَنَّ الْغَالِبَ على الْمُسْلِمِينَ مَهَابَةُ الْكَذِبِ على رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِخِلَافِ شَهَادَةِ الزُّورِ فَاحْتِيجَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ فيها وَمِنْهَا أَنَّهُ قد يَنْفَرِدُ بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَوْ لم يُقْبَلْ لَفَاتَ على أَهْلِ الْإِسْلَامِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ بِخِلَافِ فَوَاتِ حَقٍّ وَاحِدٍ على شَخْصٍ وَاحِدٍ في الْمُحَاكَمَاتِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْعَمَلَ بِتَزْكِيَةِ الْوَاحِدِ في الرِّوَايَةِ أَحْوَطُ وَمِنْهَا أَنَّ بين كَثِيرٍ من الْمُسْلِمِينَ إحَنًا وَعَدَاوَاتٍ قد تَحْمِلُهُمْ على شَهَادَةِ الزُّورِ بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي اللَّهُ عنه قد تَعَرَّضَ لِلْفَرْقِ بين الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ في
مُنَاظَرَةٍ له مع صَاحِبِ أبي حَنِيفَةَ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في بَابِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فقال قال الشَّافِعِيُّ وَالْخَبَرُ ما اسْتَوَى فيه الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ وَالْعَامَّةُ من حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَالشَّهَادَةُ ما كان الشَّاهِدُ فيه خَلِيًّا وَالْعَامَّةُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَشْهُودَةَ عليه ثُمَّ قال الرُّويَانِيُّ فَإِنْ قِيلَ ما مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْخَبَرُ ما اسْتَوَى فيه الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ وَمِنْ الْأَخْبَارِ ما لَا يَلْزَمُ الرَّاوِيَ بِهِ حُكْمٌ وَيَلْزَمُ غَيْرَهُ وَمِنْ الشَّهَادَاتِ ما يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بها الْحُكْمُ كما يَلْزَمُ الْمَشْهُودَ عليه وهو الشَّهَادَةُ على الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ قُلْنَا قال الشَّافِعِيُّ هذا وَأَرَادَ ما فَسَّرَهُ بِهِ من تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ اللَّذَيْنِ هُمَا مُؤَبَّدَانِ لَا يَنْقَطِعَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ما ذَكَرُوهُ في الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَغَيْرِ ذلك مِمَّا يُقْطَعُ وَحَكَى ابن الْقَاصِّ عن أبي الطَّيِّبِ بن سَلَمَةَ أَنَّهُ كان يقول قد يَسْتَوِي الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ عليه في الْحُكْمِ وهو ما إذَا شَهِدَ اثْنَانِ من الْوَرَثَةِ على الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ لِإِنْسَانٍ فإنه يَلْزَمُهُمَا من الدَّيْنِ ما يَلْزَمُ الْجَاحِدَ من الْوَرَثَةِ وقد يَكُونُ في الْأَخْبَارِ من يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يَجِبُ على الرَّاوِي بِهِ شَيْءٌ وَلَكِنْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِمَا قَالَهُ الْغَالِبَ من أَمْرِهِمَا فإن الْغَالِبَ من الشَّهَادَةِ أَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَدْخُلُ فِيمَا يَجِبُ له وَالْغَالِبُ من الْخَبَرِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اسْتِوَاءُ الْمُخْبِرِ وَسَائِرِ الناس فيه انْتَهَى ما يَخْتَلِفُ فيه الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ وَأَمَّا ما يَخْتَلِفَانِ فيه من الْأَحْكَامِ فَكَثِيرٌ أَحَدُهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةَ في الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَثَانِيهَا أَنَّ التَّزْكِيَةَ في الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بِاثْنَيْنِ وَيُكْتَفَى في التَّعْدِيلِ في الرِّوَايَةِ بِوَاحِدٍ وَثَالِثُهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ في الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَرَابِعُهَا اشْتِرَاطُ الْبَصَرِ وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ وَالْعَدَاوَةِ في الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ وقد قَبِلَتْ الصَّحَابَةُ خَبَرَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ في الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ وَخَامِسُهَا من كَذَبَ ثُمَّ تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَمَنْ كَذَبَ في حديث رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ تَابَ لم يُقْبَلْ حَدِيثُهُ بَعْدَ ذلك عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَوَافَقَهُمْ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وابن الْقَطَّانِ وَالْقَفَّالُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ وهو الصَّحِيحُ خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ كما سَبَقَ وَسَادِسُهَا أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَذَبَ في حَدِيثٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم رُدَّتْ جَمِيعُ أَحَادِيثِهِ
السَّالِفَةِ وَوَجَبَ نَقْضُ ما عُمِلَ بِهِ منها وَإِنْ لم يُنْقَضْ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ من حَدَثَ فِسْقُهُ لِأَنَّ الحديث حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ الناس وفي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي سَابِعُهَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِمَا يَعُودُ نَفْعُهُ على الرَّاوِي وَلَا يَجُوزُ ذلك في الشَّهَادَةِ لِاشْتِرَاكِ الناس في السُّنَنِ وَالرِّوَايَاتِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وابن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ وَنَقَلَا ذلك عن الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُمَا قَالَا قال الشَّافِعِيُّ لو رَوَى عَدْلٌ خَبَرًا في أَثْنَاءِ خُصُومَةٍ وكان فَحْوَاهُ حُجَّةً على الْخَصْمِ فَالرِّوَايَةُ مَقْبُولَةٌ وَلَا يَجْعَلُ لِلتُّهْمَةِ مَوْضِعًا وَكَذَا الرِّوَايَةُ الْجَارَّةُ لِلنَّفْعِ وَالدَّفْعِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ هذا لَفْظُهُ وَمِثْلُهُ خَبَرُ الرَّاوِي لِنَفْسِهِ نَفْعًا رَاجِحًا لم يَسْتَحْضِرْ الْقَرَافِيُّ في فُرُوعِهِ فيها نَقْلًا وَحَكَى الرَّافِعِيُّ قبل بَابِ الصِّيَالِ أَنَّ الْعَبْدَ لو رَوَى خَبَرًا يَقْتَضِي إعْتَاقَهُ لم يُقْبَلْ أو إعْتَاقَ من اجْتَمَعَ فيه كَذَا وَكَذَا وَكَانَتْ فيه قِيلَ لِأَنَّهُ ضِمْنٌ لَا قَصْدًا وَهَذَا أَحْسَنُ ثَامِنُهَا إذَا حَدَّثَ الْعَدْلُ بِحَدِيثٍ رَجَعَ عنه لِغَلَطٍ وَجَدَهُ في أَصْلِ كِتَابِهِ أو حِفْظٍ عَادَ إلَيْهِ قُبِلَ منه رُجُوعُهُ وَكَذَا الزِّيَادَةُ بِاللَّفْظِ قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ قال وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ يَحْكُمُ بها الْقَاضِي ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّاهِدُ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حُقُوقًا لِلْآدَمِيِّينَ لَا تَزُولُ بِالرُّجُوعِ وَمَضَى الْحُكْمُ بها وَالْمُخْبِرُ بها يَدْخُلُ في جُمْلَةِ الْمُخْبِرِينَ وَإِنَّمَا هو مُسْتَدْعًى يُؤَدِّي ما اسْتَدْعَى وَلَيْسَ يُطَعْنَ على الْمُحَدِّث إلَّا قَوْلُهُ تَعَمَّدْت الْكَذِبَ فَهُوَ كَاذِبٌ في الْأَوَّلِ وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ بَعْدَ ذلك تَاسِعُهَا أَنَّ إنْكَارَ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ لَا يَضُرُّ الحديث بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ كما سَبَقَ عَاشِرُهَا قال الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ لَا يُعَوَّلُ على شَهَادَةِ الْفَرْعِ مع إمْكَانِ السَّمَاعِ من الْأَصْلِ وَيَجُوزُ اعْتِمَادُ رِوَايَةِ الْفَرْعِ من غَيْرِ مُرَاجَعَةِ شَيْخِهِ مع الْإِمْكَانِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عليه وقال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مع حُضُورِ الْأَصْلِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ رِوَايَةَ الرَّاوِي مَقْبُولَةٌ وَشَيْخُهُ في الْبَلَدِ قال وَكُلُّ ما لم يَثْبُتْ فيه تَوْقِيفٌ شَرْعِيٌّ تَعَبُّدِيٌّ غَيَّرَ الشَّهَادَةَ فيه عن الرِّوَايَةِ فَلَا يُعَدُّ في وَجْهِ الرَّاوِي التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا انْتَهَى حَادِي عَشَرَهَا لو أَشْكَلَتْ الْحَادِثَةُ على الْقَاضِي فَرَوَى له خَبَرًا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فيها وَقَتَلَ بِهِ الْقَاضِي رَجُلًا ثُمَّ رَجَعَ الرَّاوِي وقال تَعَمَّدْت الْكَذِبَ لَا
يَجِبُ الْقِصَاصُ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ إذَا رَجَعَ فإن الشَّهَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْحَادِثَةِ وَالْخَبَرُ لَا يَخْتَصُّ بها قَالَهُ الْقَفَّالُ في فَتَاوِيهِ لَكِنْ في فَتَاوَى الْبَغَوِيّ وُجُوبُ الْقِصَاصِ كَالشَّاهِدِ وهو أَحْوَطُ ثَانِي عَشَرَهَا قال الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ وَالرِّسَالَةِ أَقْبَلُ في الحديث حدثني فُلَانٌ عن فُلَانٍ إذَا لم يَكُنْ مُدَلِّسًا وَلَا أَقْبَلُ في الشَّهَادَةِ إلَّا سمعت أو رأيت أو أَشْهَدَنِي ثَالِثَ عَشَرَهَا قال الشَّافِعِيُّ أَيْضًا إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ أَخَذْت بِبَعْضِهَا اسْتِدْلَالًا بِكِتَابٍ أو سُنَّةٍ أو إجْمَاعٍ أو قِيَاسٍ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَلَا يُؤْخَذُ بِبَعْضِهَا بِحَالٍ رَابِعَ عَشَرَهَا قال أَيْضًا يَكُونُ بَشَرٌ كلهم تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا أَقْبَلُ حَدِيثَهُمْ من قِبَلِ ما يَدْخُلُ في الحديث من كَثْرَةِ الْإِحَالَةِ وَإِزَالَةِ بَعْضِ أَلْفَاظِ الْمَعَانِيَ هذا لَفْظُهُ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ من الْأُمِّ لَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ إلَّا من ثِقَةٍ عَالِمٍ حَافِظٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَى الحديث بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ قال وَلِهَذَا احْتَطْت في الحديث أَكْثَرَ مِمَّا احْتَطْت بِهِ في الشَّهَادَاتِ وَإِنَّمَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ من لَا أَقْبَلُ حَدِيثَهُ لِكِبَرِ أَمْرِ الحديث وَمَوْقِعِهِ من الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّ اللَّفْظَ قد يُتْرَكُ من الحديث فَيَخْتَلُّ مَعْنَاهُ فإذا كان الْحَامِلُ لِلْحَدِيثِ يَجْهَلُ الْمَعْنَى لم يُقْبَلْ حَدِيثُهُ هذا لَفْظُهُ ثُمَّ قال وَكُلُّ ما لم يَكُنْ حُكْمٌ فَاخْتِلَافُ اللَّفْظِ فيه لَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ وَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ في اللَّفْظِ فَقُلْت لِبَعْضِهِمْ ذلك فقال لَا بَأْسَ بِهِ ما لم يُخِلَّ مَعْنًى ذَكَرَهُ في الْأُمِّ في بَابِ التَّشَهُّدِ في الصَّلَاةِ وقال إنَّمَا صِرْت لِاخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَ غَيْرِهِ لِمَا رَأَيْته وَاسِعًا وَسَمِعْته عن ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحًا كان عِنْدِي أَجْمَعُ وَأَكْثَرُ لَفْظًا من غَيْرِهِ فَأَخَذْت بِهِ انْتَهَى خَامِسَ عَشَرَهَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى بِشَرْطِهِ السَّابِقِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وقد قال الْمَاوَرْدِيُّ إذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ فَعَلَيْهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا ما سَمِعَاهُ مَشْرُوحًا فَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ رَهْنٌ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ لم يَكُونَا من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لم يَجُزْ وَكَذَا إنْ كَانَا من أَهْلِهِ على الْأَصَحِّ لِأَنَّ الشَّاهِدَ نَاقِلٌ وَالِاجْتِهَادُ إلَى الْحَاكِمِ وقال ابن أبي الدَّمِ
لو قال الشَّاهِدُ أَشْهَدُ أَنَّ هذا يَسْتَحِقُّ في ذِمَّةِ هذا دِرْهَمًا هل تُسْمَعُ هذه الشَّهَادَةُ فيه ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الْمَذْهَبُ أنها تُسْمَعُ وَيُعْمَلُ بها وَالثَّانِي لَا لِأَنَّ هذه من وَظِيفَةِ الْحَاكِمِ وَالثَّالِثُ إنْ كان الشَّاهِدُ مُتَمَذْهِبًا بِمَذْهَبِ الْقَاضِي سُمِعَتْ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَنَّهُ قال له زَنَيْت وَآخَرُ أَنَّهُ قال له يا زَانِي لم يَثْبُتْ الْقَذْفُ كما لو شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَذْفٍ بَلَغَهُ حَكَاهُ في الْكِفَايَةِ في بَابِ الْإِقْرَارِ عن الْمَاوَرْدِيِّ قال وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ أَنَّهُ لو شَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ قال قد وَكَّلْتُك في كَذَا وَآخَرُ أَنَّهُ قال له أَذِنْت لَك في التَّصَرُّفِ لم تَثْبُتْ الْوَكَالَةُ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ على الْمُدَّعِي بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَآخَرُ بِالْإِبْرَاءِ منه فَالْمَذْهَبُ في الْإِقْرَارِ من الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ لَا تَلْفِيقَ وَلَوْ شَهِدَ الثَّانِي أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ منه قال الْعَبَّادِيُّ تَلَفُّقٌ لِأَنَّ إضَافَتَهَا إلَى الدُّيُونِ عِبَارَةٌ عن الْإِيفَاءِ وَقِيلَ بِخِلَافِهِ قُلْت لَكِنَّ ابْنَ فُورَكٍ في كِتَابِهِ سَوَّى بَيْنَهُمَا فقال لَا فَرْقَ لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ يُكْتَفَى فيها بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ سَادِسَ عَشَرَهَا يُشْتَرَطُ في تَوْبَةِ الشَّاهِدِ مُضِيُّ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ وَلَوْ حُدَّ بَعْضُ شُهُودِ الزِّنَا لِنَقْصِ النِّصَابِ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ حتى يَتُوبُوا وفي قَبُولِ رِوَايَتِهِمْ قبل التَّوْبَةِ وَجْهَانِ في الْحَاوِي قال الْأَشْهَرُ الْقَبُولُ وَالْأَقْيَسُ الْمَنْعُ كَالشَّهَادَةِ سَابِعَ عَشَرَهَا له أَنْ يَرْوِيَ على الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ حَافِظًا لِكِتَابِهِ إنْ حَدَّثَ بِهِ من كِتَابِهِ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وهو يَدُلُّ على أَنَّهُ يَسُوغُ له أَنْ يُحَدِّثَ من كِتَابِهِ بِمَا يَحْفَظُ وَإِنْ لم يَعْلَمْ سَمَاعَهُ لِلْحَدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَهُ لِأَجْلِ إفْتَائِهِمْ من عِلْمِ سَمَاعِهِ لِلْحَدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَهُ منه فإنه لَا يُعْتَبَرُ بِحِفْظِهِ بِمَا سَمِعَهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ وَإِنْ لم يَحْفَظْهُ إمَامُهُ لِحِفْظِهِ مَقَامَ عِلْمِهِ بِسَمَاعِ الحديث مِمَّنْ حَدَّثَ عنه قال وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ من أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا لَا يَجُوزُ ذلك وَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ مِمَّنْ هذا حَالُهُ قال وَهَذَا هو الْحَقُّ كَالشَّهَادَةِ سَوَاءٌ وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في الْقِرَاءَةِ على الشَّيْخِ ثَامِنَ عَشَرَهَا عَكْسُ ما قَبْلِهِ لو تَحَقَّقَ من عِلْمِ سَمَاعِ ذلك الْخَبَرِ لَكِنَّ اسْمَهُ غَيْرُ مَكْتُوبٍ عليه لم يُجَوِّزْ الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَتَهُ وَيَجُوزُ عن طَرِيقِ الْفِقْهِ كَالشَّهَادَةِ قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في فَتَاوِيهِ وقال في التي قَبْلَهَا لو رَأَى اسْمَهُ مَكْتُوبًا في خَبَرٍ بِخَطِّ ثِقَةٍ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْمَسْمُوعَ منه وَلَا يَذْكُرُ سَمَاعَهُ منه جَوَّزَ له الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَتَهُ كَالْإِجَازَةِ
وَلَا يَجُوزُ من طَرِيقِ الْفِقْهِ ما لم يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ تَاسِعَ عَشَرَهَا أَنَّ الْأَخْبَارَ إذَا تَعَارَضَتْ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ صِرْنَا إلَيْهِ وَإِلَّا قُدِّمَ أَحَدُهُمَا لِمُرَجِّحٍ وَأَمَّا في الشَّهَادَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ فَالْمَذْهَبُ التَّسَاقُطُ وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ الْعِشْرُونَ عِنْدَ الرِّوَايَةِ في الرِّوَايَةِ تُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ على خِلَافٍ فيه يَأْتِي في التَّرَاجِيحِ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ يَمْتَنِعُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ على أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا فَرْضٌ عليه وفي أَخْذِ الْأُجْرَةِ على التَّحْدِيثِ خِلَافٌ وَأَفْتَى الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ فِيمَا حَكَاهُ ابن الصَّلَاحِ بِجَوَازِ أَخْذِهَا لِمَنْ يَنْقَطِعُ عن الْكَسْبِ ضَابِطٌ أَسْمَاءُ الْخَبَرِ في مُخْتَلِفِ أَحْوَالِهِ الْخَبَرُ إنْ كان حُكْمًا عَامًّا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ السَّمَاعَ فَهُوَ الرِّوَايَةُ وَإِنْ كان مُسْتَنَدُهُ الْفَهْمَ من الْمَسْمُوعِ فَهُوَ الْفَتْوَى وَإِنْ كان خَبَرًا جُزْئِيًّا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ أو الْعِلْمُ فَهُوَ الشَّهَادَةُ وَإِنْ كان خَبَرًا عن حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبَرِ عنه وَالْمُخْبَرِ بِهِ هو مُسْتَحِقُّهُ أو نَائِبُهُ فَهُوَ الدَّعْوَى وَإِنْ كان خَبَرًا عن تَصْدِيقِ هذا الْخَبَرِ فَهُوَ الْإِقْرَارُ وَإِنْ كان خَبَرًا عن كَذِبِهِ فَهُوَ الْإِنْكَارُ وَإِنْ كان خَبَرًا نَشَأَ عن دَلِيلٍ فَهُوَ النَّتِيجَةُ وَيُسَمَّى قبل أَنْ يُحْمَلَ عليه الدَّلِيلُ مَطْلُوبًا وَإِنْ كان خَبَرًا عن شَيْءٍ يُقْصَدُ منه نَتِيجَتُهُ فَهُوَ دَلِيلٌ وَجُزْؤُهُ مُقَدِّمَتُهُ
كتاب الإجماع
كِتَابُ الْإِجْمَاعِ وَفِيهِ فُصُولٌ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَفِيهِ عَشَرَةُ مَبَاحِثَ في النَّظَرِ في مُسَمَّاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا ثُمَّ في إمْكَانِهِ في نَفْسِهِ ثُمَّ في جَوَازِ الْعِلْمِ بِهِ وَجَوَازِ نَقْلِهِ ثُمَّ في كَوْنِهِ حُجَّةً ثُمَّ بِمَاذَا ثَبَتَتْ حُجِّيَّتُهُ ثُمَّ في كَوْنِهِ قَطْعِيًّا ثُمَّ في اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ فيه ثُمَّ في وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ثُمَّ في اسْتِصْحَابِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ثُمَّ في كَوْنِهِ من خَصَائِصِ هذه الْأُمَّةِ فَهَذِهِ عَشَرَةُ مَقَاصِدَ الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ في مُسَمَّاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا هو لُغَةً يُطْلَقُ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَزْمُ على الشَّيْءِ وَالْإِمْضَاءُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ أَيْ اعْزِمُوا وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لَا صِيَامَ لِمَنْ لم يُجْمِعْ الصِّيَامَ من اللَّيْلِ وَنَقَضَ ابن الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ هذا بِأَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ يَتَعَدَّى بِعَلَى وَالْإِجْمَاعُ بِمَعْنَى الْعَزِيمَةِ وَقَطْعِ الرِّوَايَةِ لَا يَتَعَدَّى بِعَلَى قُلْت حَكَى ابن فَارِسٍ في الْمَقَايِيسِ أَجْمَعْت على الْأَمْرِ إجْمَاعًا وَأَجْمَعْته نعم تَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ أَفْصَحُ وَالثَّانِي الِاتِّفَاقُ وَمِنْهُ أَجْمَعَ الْقَوْمُ إذَا صَارُوا ذَوِي جَمْعٍ قال الْفَارِسِيُّ كما يُقَالُ أَلْبَنَ وَأَتْمَرَ إذَا صَارَ ذَا لَبَنٍ وَتَمْرٍ وَحَكَى عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ عن قَوْمٍ مَنْعَ كَوْنِهِ بِمَعْنَى الْإِجْمَاعِ كما ظَنَّهُ ظَانُّونَ لِتَغَايُرِهِمَا إذْ يَصِحُّ من الْوَاحِدِ أَنْ يَقُولَ أَجْمَعْت رَأْيِي على كَذَا أَيْ عَزَمْت عليه وَلَا يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ إلَّا من اثْنَيْنِ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ ثُمَّ قال الْغَزَالِيُّ هو مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وقال الْقَاضِي الْعَزْمُ يَرْجِعُ إلَى الِاتِّفَاقِ لِأَنَّ من اتَّفَقَ على شَيْءٍ فَقَدْ
عَزَمَ عليه وقال ابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِاللُّغَةِ وَالثَّانِي أَشْبَهُ بِالشَّرْعِ قَالَا وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا في أَنَّ الْإِجْمَاعَ من الْوَاحِدِ هل يَصِحُّ فَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ إلَّا من جَمَاعَةٍ وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ من الْوَاحِدِ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ في حَادِثَةٍ على أَمْرٍ من الْأُمُورِ في عَصْرٍ من الْأَعْصَارِ فَخَرَجَ اتِّفَاقُ الْعَوَامّ فَلَا عِبْرَةَ بِوِفَاقِهِمْ وَلَا خِلَافِهِمْ وَيَخْرُجُ أَيْضًا اتِّفَاقُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَبِالْإِضَافَةِ إلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ خَرَجَ اتِّفَاقُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ على رَأْيٍ لَكِنَّ الْكَلَامَ في الْإِجْمَاعِ الذي هو حُجَّةٌ وَقَوْلُنَا بَعْدَ وَفَاتِهِ قَيْدٌ لَا بُدَّ منه على رَأْيِهِمْ فإن الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ في زَمَانِهِ عليه السَّلَامُ كما سَنَذْكُرُهُ وَخَرَجَ بِالْحَادِثَةِ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ على الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَالْعَمَلِ بِهِ وَقَوْلُنَا على أَمْرٍ من الْأُمُورِ يَتَنَاوَلُ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْعُرْفِيَّاتِ وَاللُّغَوِيَّاتِ وَقَوْلُنَا في عَصْرٍ من الْأَعْصَارِ لِيَرْفَعَ وَهْمَ من يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْتَهِدِينَ من يُوجَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا التَّوَهُّمُ بَاطِلٌ فإنه يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ تَصَوُّرِ الْإِجْمَاعِ وَالْمُرَادُ بِالْعَصْرِ مِنَّا من كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ في الْوَقْتِ الذي حَدَثَتْ فيه الْمَسْأَلَةُ وَظَهَرَ الْكَلَامُ فيه فَهُوَ من أَهْلِ ذلك الْعَصْرِ وَمَنْ بَلَغَ هذا بَعْدَ حُدُوثِهَا فَلَيْسَ من أَهْلِ ذلك الْعَصْرِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أبو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ الزَّجَّاجُ في كِتَابِهِ الْبَيَانِ عن أُصُولِ الْفِقْهِ وهو من أَصْحَابِ أبي الطَّيِّبِ بن سَلَمَةَ من أَصْحَابِنَا وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ هذا التَّعْرِيفِ أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ وَحَدُّهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ بهذا الْمَعْنَى فقال هُمْ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عليهم أَنْ يَجْهَلُوا حُكْمَ اللَّهِ
تَنْبِيهٌ الْعَبْدَرِيُّ يَرَى أَنَّ التَّعْرِيفَ السَّابِقَ غَيْرُ جَامِعٍ قال الْعَبْدَرِيّ هَكَذَا رَسَمَ الْأُصُولِيُّونَ الْإِجْمَاعَ وَفِيهِ نَظَرٌ فإنه لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُقَالُ على ما هو إجْمَاعٌ على الْعَمَلِ يَسْتَنِدُ الْحُكْمُ أَيْ بِدَلِيلِهِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُقَالُ ما هو إجْمَاعٌ على اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ وَاَلَّذِي هو إجْمَاعٌ على الْعَمَلِ بِمُسْتَنَدِ الْحُكْمِ يَنْقَسِمُ إلَى إجْمَاعٍ نُقِلَ مُسْتَنَدُهُ إلَى الْمُجْتَهِدِينَ وَإِلَى إجْمَاعٍ دَرَسَ مُسْتَنَدُهُ فلم يُنْقَلْ إلَيْهِمْ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ مُتَبَايِنَةٍ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثَةِ رُسُومٍ الْمَبْحَثُ الثَّانِي في إمْكَانِهِ وقد أَنْكَرَ قَوْمٌ إمْكَانَ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا وَشَبَّهُوهُ بِإِجْمَاعِ الناس في سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ على مَأْكُولٍ وَاحِدٍ وَهَذَا اسْتِبْعَادٌ بَاطِلٌ وَالدَّوَاعِي وَالْمَآكِلُ مُخْتَلِفَةٌ قَطْعًا بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ فإن الْبَوَاعِثَ مُتَّفِقَةٌ على طَلَبِهَا وَمِنْهُمْ من قال ما أَجْمَعُوا عليه من جِهَةِ الْحِكَايَةِ عن النبي فَجَائِزٌ وَأَمَّا من جِهَةِ الرَّأْيِ فَبَاطِلٌ حَكَاهُ الصَّيْرَفِيُّ وقال وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِبُطْلَانِهِ في عِلَّتِهِ فَقِيلَ إمْكَانُ الْخَطَأِ عليه وَقِيلَ اسْتِحَالَةُ نَقْلِ ذلك عَنْهُمْ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِلُقْيَا الْكُلِّ وَتَوَاتُرِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ وَظَاهِرُ كَلَامِ أبي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هو في إجْمَاعِ الْخَاصَّةِ أَمَّا ما أَجْمَعَ عليه الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ فَلَيْسَ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ قُلْت وَلَوْ عَكَسَ هذا لم يَبْعُدْ الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ في إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عليه وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ فَاخْتَلَفُوا في إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عليه فَمَنَعَهُ قَوْمٌ لِاتِّسَاعِ خُطَّةِ الْإِسْلَامِ وَانْتِشَارِهِمْ في أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَتَهَاوُنِ الْفَطِنِ وَتَعَذُّرِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ في تَفَاصِيلَ لَا تَتَوَافَرُ الدَّوَاعِي على نَقْلِهَا وَلِتَعَذُّرِ الْعِلْمِ بِبَقَاءِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ إلَى أَنْ
يَفْنَى الْآخَرُ وَالصَّحِيحُ إمْكَانُهُ عَادَةً فَقَدْ اجْتَمَعَ على الشَّبَهِ خَلْقٌ كَثِيرُونَ زَائِدُونَ على عَدَدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَالْإِجْمَاعُ على الْحَقِّ مع ظُهُورِ أَدِلَّتِهِ أَوْلَى نعم الْعَادَةُ مَنَعَتْ اجْتِمَاعَ الْكَافَّةِ فَأَمَّا الْخَلْقُ الْكَثِيرُ فَلَا تَمْنَعُ الْعَادَةُ اتِّفَاقَهُمْ بِوَجْهٍ ما وَاشْتَدَّ نَكِيرُ الْقَاضِي على من أَنْكَرَ تَصَوُّرَ وُقُوعِهِ عَادَةً وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بين كُلِّيَّاتِ الدِّينِ فَلَا يَمْنَعُ من تَصَوُّرِ الدَّوَاعِي الْمُسْتَحَثَّةِ وَكَمَا صَوَّرَهُ الْقَاضِي في اجْتِمَاعِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَبَيْنَ الْمَسَائِلَ الْمَظْنُونَةِ مع تَفَرُّقِ الْعُلَمَاءِ وَانْتِفَاءِ الدَّوَاعِي فَلَا تُتَصَوَّرُ عَادَةً وَنُقِلَ عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ ما يَقْتَضِي إنْكَارَهُ قال في رِوَايَةِ ابْنِهِ عبد اللَّهِ من ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ لَعَلَّ الناس قد اخْتَلَفُوا وَلَكِنْ يقول لَا يَعْلَمُ الناس اخْتَلَفُوا إذْ لم يَبْلُغْهُ قال أَصْحَابُهُ وَإِنَّمَا قال هذا على جِهَةِ الْوَرَعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خِلَافٌ لم يَبْلُغْهُ أو قال هذا في حَقِّ من ليس له مَعْرِفَةٌ بِخِلَافِ السَّلَفِ لِأَنَّ أَحْمَدَ قد أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَأَجْرَاهُ ابن حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ على ظَاهِرِهِ وقال ابن تَيْمِيَّةَ أَرَادَ غير إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عِنْدَهُ حُجَّةٌ مَعْلُومٌ تَصَوُّرُهُ أَمَّا من بَعْدَهُمْ فَقَدْ كَثُرَ الْمُجْتَهِدُونَ وَانْتَشَرُوا قال وَإِنَّمَا قال ذلك لِأَنَّهُ كان يَذْكُرُ الحديث فَيُعَارَضُ بِالْإِجْمَاعِ فيقول إجْمَاعُ من إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ حتى قال ابن عُلَيَّةَ وَالْأَصَمُّ يَذْكُرُونَ الْإِجْمَاعَ وَجَعَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ في غَيْرِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وقال الْحَقُّ تَعَذُّرُ الِاطِّلَاعِ على الْإِجْمَاعِ لَا إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ حَيْثُ كان الْمُجْمِعُونَ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ في قِلَّةٍ أَمَّا الْآنَ وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَكَثْرَةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا مَطْمَعَ لِلْعِلْمِ بِهِ قال وهو اخْتِيَارُ أَحْمَدَ مع قُرْبِ عَهْدِهِ بِهِ من الصَّحَابَةِ وَقُوَّةِ حِفْظِهِ وَشِدَّةِ اطِّلَاعِهِ على الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ قال وَالْمُصَنِّفُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خَبَرَ له من الْإِجْمَاعِ إلَّا ما يَجِدُهُ مَكْتُوبًا في الْكُتُبِ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الِاطِّلَاعُ عليه إلَّا بِالسَّمَاعِ منهم أو بِنَقْلِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ إلَيْنَا وَلَا سَبِيلَ إلَى ذلك إلَّا في عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَأَمَّا بَعْدَهُمْ فَلَا انْتَهَى وَعَقَدَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ بَابًا في أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ وُقُوعُهُ وقال من الناس من مَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلْمِ بِهِ طَرِيقَةٌ يُعْلَمُ بها حُصُولُهُ ثُمَّ زَيَّفَهُ قال وَالطَّرِيقُ
شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْمُشَاهَدَةُ وَالْآخَرُ النَّقْلُ فَإِنْ كان الْإِجْمَاعُ مُتَقَدِّمًا فَلَيْسَ إلَّا النَّقْلُ لِتَعَذُّرِ الْمُشَاهَدَةِ وَإِنْ كان في الْوَقْتِ فَالْأَمْرَانِ طَرِيقٌ إلَيْهِ وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْعَقْلِ وَلَا بِخَبَرٍ من اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عليه السَّلَامُ لِتَعَذُّرِهِ فَتَعَيَّنَ ما قُلْنَاهُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَسَائِلَ الْإِجْمَاعِ أَكْثَرُ من عِشْرِينَ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ الْمُلْحِدَةِ إنَّ هذا الدِّينَ كَثِيرُ الِاخْتِلَافِ إذْ لو كان حَقًّا لَمَا اخْتَلَفُوا فيه فَنَقُولُ أَخْطَأْت بَلْ مَسَائِلُ الْإِجْمَاعِ أَكْثَرُ من عِشْرِينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ ثُمَّ لها من الْفُرُوعِ التي يَقَعُ الِاتِّفَاقُ منها وَعَلَيْهَا وَهِيَ صَادِرَةٌ عن مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ التي هِيَ أُصُولُ أَكْثَرِ من مِائَةِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ يَبْقَى قَدْرُ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ هِيَ من مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَالْخِلَافُ في بَعْضِهَا يَحْكُمُ بِخَطَأِ الْمُخَالِفِ على الْقَطْعِ وَبِفِسْقِهِ وفي بَعْضِهَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ وفي بَعْضِهَا يُتَسَامَحُ وَلَا يَبْلُغُ ما بَقِيَ من الْمَسَائِلِ التي تَبْقَى على الشُّبْهَةِ إلَى مِائَتَيْ مَسْأَلَةٍ انْتَهَى الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ في كَوْنِهِ حُجَّةً الرَّابِعُ وإذا ثَبَتَ إمْكَانُ الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ ولم يُخَالِفْ فيه غَيْرُ النَّظَّامِ وَالْإِمَامِيَّةِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَوَّلُ من بَاحَ بِرَدِّهِ النَّظَّامُ ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْضُ الرَّوَافِضِ أَمَّا الْإِمَامِيَّةُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ قَوْلُ الْإِمَامِ دُونَ الْأُمَّةِ وَالنَّظَّامُ يُسَوِّي بين قَوْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ قَوْلِ آحَادِهَا في جَوَازِ الْخَطَأِ على الْجَمِيعِ وَلَا يَرَى في الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ في مُسْتَنِدِهِ إنْ ظَهَرَ لنا وَإِنْ لم يَظْهَرْ لم يُقَدِّرْ له دَلِيلًا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَتَبِعَهُمْ الرَّازِيَّ وَنَقَلَ ابن بَرْهَانٍ عنه أَنَّهُ يُحِيلُ الْإِجْمَاعَ وَتَبِعَهُ ابن الْحَاجِبِ وقال بَعْضُهُمْ الصَّحِيحُ عن النَّظَّامِ أَنَّهُ يقول بِتَصَوُّرِ الْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَكِنْ فَسَّرَهُ بِكُلِّ قَوْلٍ قَامَتْ حُجَّتُهُ وَإِنْ كان قَوْلَ وَاحِدٍ وَيُسَمَّى بِذَلِكَ قَوْلُ النبي عليه السَّلَامُ إجْمَاعًا وَمَنَعَ الْحُجِّيَّةَ عن الْإِجْمَاعِ الذي نُفَسِّرُهُ نَحْنُ بِمَا نُفَسِّرُهُ وَكَأَنَّهُ لَمَّا أَضْمَرَ في نَفْسِهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ بِاصْطِلَاحِنَا غير حُجَّةٍ وَتَوَاتَرَ عِنْدَهُ لم يُخْبِرْ بِمُخَالَفَتِهِ فَحَسَّنَ الْكَلَامَ وَفَسَّرَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ هَكَذَا قال الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ هذا تَحْرِيرُ النَّقْلِ عِنْدَهُ وَلِأَجْلِهِ قال
الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ نُقِلَ عن النَّظَّامِ إنْكَارُ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَرَأَيْت أَبَا الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطَ أَنْكَرَ ذلك في نَقْضِهِ لِكِتَابِ الرَّاوَنْدِيُّ وَنَسَبَهُ إلَى الْكَذِبِ إلَّا أَنَّ النَّقْلَ مَشْهُورٌ عن النَّظَّامِ بِذَلِكَ ا هـ وَحَكَى الْجَاحِظُ في كِتَابِ الْفُتْيَا عن النَّظَّامِ أَنَّهُ قال الْحُكْمُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أو الْكِتَابِ أو إجْمَاعِ النَّقْلِ ا هـ لَكِنْ قِيلَ إنَّهُ عَنَى بِهِ التَّوَاتُرَ وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ عن أبي عبد الرحمن الشَّافِعِيِّ وَابْنِ عِيسَى الْوَرَّاقِ أَنَّهُ إذَا أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ على حُكْمٍ جَازَ أَنْ يُخَالِفَهُمْ فيه من لم يَدْخُلْ مَعَهُمْ في الْإِجْمَاعِ وَلَا يَجُوزُ ذلك لِمَنْ وَافَقَهُمْ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةُ اللَّهِ عز وجل في شَرِيعَتِهِ مع اخْتِلَافِهِمْ في شُرُوطِهِ الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ ما ثَبَتَ بِهِ حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ الْخَامِسُ في أَنَّهُ ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ وقد اُخْتُلِفَ فيه فَقِيلَ دَلَّ عليه الْعَقْلُ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ السَّمْعُ وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ إنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَمَنَعُوا ثُبُوتَهُ من جِهَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ وَإِنْ بَعُدَ في الْعَقْلِ اجْتِمَاعُهُمْ على الْكَذِبِ فَلَا يَبْعُدُ اجْتِمَاعُهُمْ على الْخَطَأِ كَاجْتِمَاعِ الْكُفَّارِ على جَحْدِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِ ذلك وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال عليه بِالْإِجْمَاعِ فإن الشَّيْءَ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ وَلَا الِاسْتِدْلَال عليه بِالْقِيَاسِ فإنه مَظْنُونٌ وَلَا يُحْتَجُّ بِالْمَظْنُونِ على الْقَطْعِيِّ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ بِالْإِجْمَاعِ فإنه قال عَقِبَ ما ذَكَرَهُ من أَدِلَّةِ السُّنَّةِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا من أَهْلِ بَلَدِنَا يَرْضَاهُ وَحَمَلَ عنه إلَّا صَارَ إلَى قَوْلِهِمْ مِمَّا لَا سُنَّةَ فيه ا هـ وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قِيَاسًا على السُّنَّةِ لِأَنَّا لم نَتَعَبَّدْ بِالْقِيَاسِ في أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فلم يَبْقَ إلَّا دَلِيلُ النَّقْلِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وقد أَكْثَرَ منه الْأَئِمَّةُ وزاد الْغَزَالِيُّ ثَالِثًا وهو طَرِيقُ الْمَعْنَى فإن الصَّحَابَةَ إذَا قَضَوْا بِقَضِيَّةٍ وَقَطَعُوا
بها فَلَا يَكُونُ إلَّا عن مُسْتَنَدٍ قَاطِعٍ فإن الْعَادَةَ تُحِيلُ تَثْبِيتَهُمْ قَاعِدَةَ الدِّينِ بِغَيْرِ قَطْعِيٍّ وَإِلَّا لَزِمَ الْقَدْحُ فِيهِمْ وهو مُنْتَفٍ وَحَكَى سُلَيْمٌ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّ الْعَقْلَ وَالسَّمْعَ دَلَّا عليه وَفَرَّعَ عليه الْجُوَيْنِيُّ في الْمُحِيطِ وابن السَّمْعَانِيِّ إجْمَاعَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ هل هو كَإِجْمَاعِ هذه الْأُمَّةِ وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ فإن إجْمَاعَ هذه الْأُمَّةِ مَعْصُومٌ من الْخَطَأِ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عن الْجُمْهُورِ أَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ سَمْعِيٌّ وَالْعَقْلِيُّ مُؤَكِّدٌ له وهو إحَالَةُ الْعَادَةِ خَطَأُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ في حُكْمٍ لَا يُثْبِتُهُ أَحَدٌ لِمَوْقِعِ الْخَطَأِ فيه وَأَنَّ النُّصُوصَ شَهِدَتْ بِعِصْمَتِهِمْ فَلَا يَقُولُونَ إلَّا حَقًّا سَوَاءٌ اسْتَنَدُوا في قَوْلِهِمْ إلَى قَاطِعٍ أو مَظْنُونٍ وَطَرِيقَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ تَقْتَضِي أَنَّهُ ليس دَلِيلًا لِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ دَلِيلُ الدَّلِيلِ لَكِنَّ دَلَالَتَهُ على الدَّلِيلِ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ عَادِيَّةٌ عِنْدَهُمْ وهو قَرِيبٌ مِمَّا سَبَقَ عن الْغَزَالِيِّ تَنْبِيهٌ وَجْهُ وَضْعِ الْإِجْمَاعِ في أُصُولِ الْفِقْهِ قِيلَ إنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ من صِنَاعَةِ الْأُصُولِيِّ كما لَا يَلْزَمُ تَثْبِيتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ تَثْبِيتُ الْإِجْمَاعِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمَّا كان أَمْرًا رَاجِعًا إلَى السُّنَّةِ مَوْجُودًا فيها بِالِاسْتِرْوَاحِ لَا بِالنَّصِّ وَبِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ احْتَاجَ إلَى تَثَبُّتِهِ وَإِخْرَاجِهِ من تِلْكَ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ حتى يَصِيرَ أَصْلًا ثَالِثًا من الْأُصُولِ الْأُوَلِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ في التِّبْيَانِ وَالظُّهُورِ الْمَبْحَثُ السَّادِسُ في أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على أَحَدِ أَدِلَّتِهِ فَهَلْ يُقْطَعُ على صِحَّتِهِ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نعم لِيَصِحَّ قِيَامُ الْحُجَّةِ الثَّانِي الْمَنْعُ اعْتِبَارًا بِأَهْلِهِ في انْتِفَاءِ الْعِصْمَةِ عن آحَادِهِمْ فَكَذَا عن جَمِيعِهِمْ وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ من الْأُصُولِيِّينَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ منهم الصَّيْرَفِيُّ وابن بَرْهَانٍ
وَجَزَمَ بِهِ من الْحَنَفِيَّةِ الدَّبُوسِيُّ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَالَا كَرَامَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ إنَّهُ الْمَشْهُورُ وَإِنَّهُ يُقَدَّمُ على الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا وَلَا يُعَارِضُهُ دَلِيلٌ أَصْلًا وَنَسَبَهُ إلَى الْأَكْثَرِينَ قال بِحَيْثُ يُكَفَّرُ أو يُضَلَّلُ وَيُبَدَّعُ مُخَالِفُهُ وَخَالَفَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ فَقَالَا إنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ بين ما اتَّفَقَ عليه الْمُعْتَبَرُونَ فَحُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ وَبَيْنَ ما اخْتَلَفُوا فيه كَالسُّكُوتِيِّ وما نَدْرِي مَخَالِفَهُ فَحُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ وقال الْبَزْدَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ من الْحَنَفِيَّةِ الْإِجْمَاعُ مَرَاتِبُ فَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِثْلُ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَإِجْمَاعُ من بَعْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْهُورِ من الْأَحَادِيثِ وَالْإِجْمَاعُ الذي سَبَقَ فيه الْخِلَافُ في الْعَصْرِ السَّالِفِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ في الْكُلِّ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ لَا الْعِلْمَ فَصَارَتْ الْمَذَاهِبُ أَرْبَعَةً يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ لَا يُوجِبُهُمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ حَيْثُ اتَّفَقُوا عليه قَطْعًا يُوجِبُ الْعِلْمَ في إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وقد أَوْرَدَ صَاحِبُ التَّقْوِيمِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ قد يَقَعُ عن أَمَارَةٍ فَكَيْفَ يُوجِبُ الْعِلْمَ إجْمَاعٌ تَفَرَّعَ عن الظَّنِّ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ اتِّصَالُهَا بِالْإِجْمَاعِ وقد ثَبَتَ عِصْمَتُهُمْ من الْخَطَأِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاتِّصَالِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَتَقْرِيرِهِ على ذلك وَأَمَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ من الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ التي يَحْكُمُ بها على الْقَوَاطِعِ التي هِيَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا لِاسْتِحَالَةِ رَفْعِ الْقَاطِعِ بِمَا ليس بِقَاطِعٍ وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في تَعْلِيقِهِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ في الذَّخِيرَةِ قَوْلَيْنِ في أَنَّ لَفْظَ الْإِجْمَاعِ هل يُطْلَقُ على الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ أو لَا يُطْلَقُ إلَّا على الْقَطْعِيِّ وَصَرَّحَا بِأَنَّهُ خِلَافٌ في الْعِبَارَةِ مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ بِنَقْلِ الْآحَادِ وَبِالظَّنِّيَّاتِ وَالْعُمُومِيَّاتِ فَعَلَى هذا لَا يُقْبَلُ فيه أَخْبَارُ الْآحَادِ وَلَا الظَّوَاهِرُ وَنُقِلَ عن الْجُمْهُورِ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ من الْفُقَهَاءِ إلَى ثُبُوتِهِ بِهِمَا في حَقِّ الْعَمَلِ خَاصَّةً وَلَا يُنْسَخُ بِهِ قَاطِعٌ كَالْحَالِ في أَخْبَارِ الْآحَادِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ في الْعَمَلِيَّاتِ لَا الْعِلْمِيَّاتِ وَأَبَاهُ الْجُمْهُورُ مُفَرِّقِينَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَخْبَارَ قد تَدُلُّ على قَبُولِهَا الْأَدِلَّةَ ولم يَثْبُتْ لنا مِثْلُهَا في الْإِجْمَاعِ
فَإِنْ أَلْحَقْنَاهُ بها كان إلْحَاقًا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَلَا يَجْرِي ذلك في الْأُصُولِ إذَا لم يَنْعَقِدْ بِالْقِيَاسِ في قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ صَحَّحَهُ عبد الْجَبَّارِ وَالْغَزَالِيُّ قال وَلَسْنَا قَاطِعِينَ بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ من تَمَسَّك بِهِ في حَقِّ الْعَمَلِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ لَكِنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ على قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالظَّوَاهِرِ في الْعَمَلِيَّاتِ لم يُفَرِّقْ بين ما يَثْبُتُ بِوَاسِطَةٍ أو بِغَيْرِهَا وَلِأَنَّ ما قُصِدَ فيه الْعَمَلُ يُكْتَفَى فيه بِالظَّنِّ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَلَيْسَ آكَدُ من سُنَنِ الرَّسُولِ وَهِيَ تَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ قال وَسَوَاءٌ كان النَّاقِلُ له من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا وهو الصَّحِيحُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَشَنَّعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ على الْفُقَهَاءِ إثْبَاتَهُمْ الْإِجْمَاعَ بِالْعُمُومَاتِ وَالظَّنِّيَّاتِ وَاعْتِقَادَهُمْ أَنَّ مُخَالِفَهَا بِتَأْوِيلٍ لَا يُكَفَّرُ وَلَا يُفَسَّقُ مع قَوْلِهِمْ إنَّ مُخَالِفَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ يُكَفَّرُ أو يَفْسُقُ وهو تَرْجِيحٌ لِلْفَرْعِ على الْأَصْلِ وَسَيَأْتِي جَوَابُهُ قال الْآمِدِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ دَائِرَةٌ على اشْتِرَاطِ كَوْنِ دَلِيلِ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فَمَنْ شَرَطَ الْقَطْعَ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُفِيدًا في نَقْلِ الْإِجْمَاعِ وَمَنْ لم يَشْتَرِطْ لم يَمْنَعْ وَكَلَامُ الْإِمَامِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْخِلَافَ ليس مَبْنِيًّا على هذا الْأَصْلِ بَلْ هو جَارٍ مع الْقَوْلِ بِأَنَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيٌّ وإذا قُلْنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِالْآحَادِ في نَقْلِهِ كَالسُّنَّةِ فَهَلْ يُنَزَّلُ الظَّنُّ الْمُتَلَقَّى من أَمَارَاتٍ وَحَالَاتٍ مَنْزِلَةَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ من نَقْلِ الْعُدُولِ قال الْإِبْيَارِيُّ فيه خِلَافٌ وَذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِعَمَلٍ وَإِنْ غَلَبَ على الظَّنِّ منها ما يَغْلِبُ على الظَّنِّ من قَوْلِ الشَّارِعِ فِيمَا يَظْهَرُ من لَفْظِهِ مِمَّا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُهُ
الْمَبْحَثُ السَّابِعُ في اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ على الْإِجْمَاعِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأَوَّلُ أَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ على الْخَطَأِ في مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في طَرِيقِهِ فَنَقَلَ الْقَاضِي عن الْجُمْهُورِ أَنَّهُ السَّمْعُ دُونَ الْعَقْلِ وَأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ الْخَطَأُ عليهم عَقْلًا وَلَكِنَّهُ امْتَنَعَ بِالسَّمْعِ وَقِيلَ بَلْ امْتَنَعَ عَقْلًا وَسَمْعًا قال ابن فُورَكٍ قال أَصْحَابُنَا إنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ لَمَّا خَتَمَ أَمْرَ الرِّسَالَةِ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَصَمَ جُمْلَةَ أُمَّتِهِ من الْإِجْمَاعِ على الْخَطَأِ في كل عَصْرٍ حتى يَكُونُوا مَعْصُومِينَ في التَّبْلِيغِ وَالْأَدَاءِ وَيَكُونُوا كَنَبِيٍّ جَدَّدَ شَرِيعَةً قُلْت وَقُبِلَ قَوْلُهُمْ كَقَوْلِ الْمَعْصُومِ فَإِنْ قِيلَ سَيَأْتِي جَوَازُ رُجُوعِهِمْ عَمَّا أَجْمَعُوا عليه إذَا شَرَطْنَا انْقِرَاضَ الْعَصْرِ قُلْنَا قَائِلُهُ يُجَوِّزُ الْخَطَأُ عليهم لَكِنْ لَا يُقَرُّونَ عليه وَهُمْ مَعْصُومُونَ عن دَوَامِ الْخَطَأِ وَهَذَا يُحْتَمَلُ إنْ قَصُرَ الزَّمَانُ فَإِنْ تَطَاوَلَهُ بِحَيْثُ يَتَّبِعُهُمْ الناس على وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ فَمُسْتَحِيلٌ كما يَمْتَنِعُ في الرِّسَالَةِ الثَّانِيَةُ أَنْ يُخْطِئَ كُلُّ فَرِيقٍ في مَسْأَلَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عن الْأُخْرَى فَيَجُوزُ الْقَطْعُ بِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَجُوزُ أَنْ يُخْطِئَ الثَّالِثَةُ أَنْ يُجْمِعُوا على الْخَطَأِ في مَسْأَلَتَيْنِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَائِلًا بِمَذْهَبِ الْخَوَارِجِ وَالْبَاقِي بِالِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ وفي الْفُرُوعِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ النِّصْفُ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَرِثُ وَالْبَاقِي بِأَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا يَرِثُ لِرُجُوعِهِمَا إلَى مَأْخَذٍ وَاحِدٍ وهو مَانِعُ الْمِيرَاثِ فَوَقَعَ الْخَطَأُ فيه كُلِّهِ اخْتَلَفُوا فيه فَمَنْ نَظَرَ إلَى اتِّحَادِ الْأَصْلِ مَنَعَ وَمِنْ نَظَرَ إلَى تَعَدُّدِ الْفُرُوعِ اخْتَارَ وَالْأَكْثَرُونَ كما قال الْهِنْدِيُّ على امْتِنَاعِهِ لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ على خَطَأٍ فلم يَقَعْ منهم كما لم يَقَعْ في الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ وَقِيلَ يَصِحُّ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ على خَطَأٍ حَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ لِأَنَّ الْخَطَأَ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ليس بِقَوْلِ كل الْأُمَّةِ بَلْ الْفَرِيقُ الذَّاهِبُ إلَيْهَا فَقَطْ
مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا على جَهْلِ ما يَلْزَمُهُمْ عِلْمُهُ فإنه لو وَقَعَ لَكَانَ إجْمَاعًا منهم على الْخَطَأِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَضْدَادِ الْعِلْمِ وَالشَّكِّ وَالظَّنِّ أَمَّا ذَهَابُهُمْ عن الْعِلْمِ بِمَا لم يُكَلَّفُوهُ فَجَائِزٌ سَوَاءٌ نُصِبَ عليه دَلِيلٌ أَمْ لَا قَالَهُ عبد الْوَهَّابِ الْمَبْحَثُ الثَّامِنُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ وَاحْتَجْنَا إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ بِدَلِيلِ أَنَّا إذَا قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ يَجِبُ على مُجْتَهِدٍ آخَرَ اتِّبَاعُهُ وَوَجْهُ الْوُجُوبِ أَنَّ الشَّرْعَ إذَا قال ما أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عليه حَقٌّ وَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ كما إذَا قال هذا بَاطِلٌ وَجَبَ اجْتِنَابُهُ الْمَبْحَثُ التَّاسِعُ اسْتِصْحَابُ الْإِجْمَاعِ وَاجِبٌ أَبَدًا لِأَنَّهُ لَا يُنْسَخُ كما يُنْسَخُ النَّصُّ وَلَا يَخْتَصُّ كما يَخْتَصُّ الْمَفْهُومُ نعم إنْ أَجْمَعُوا على شَيْءٍ ثُمَّ حَدَثَ مَعْنًى في ذلك الشَّيْءِ لم يُحْتَجَّ بِالْإِجْمَاعِ الْمُقَدَّمِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ وَسَيَأْتِي في بَابِ الِاسْتِصْحَابِ وقد احْتَجَّ ابن دَاوُد على بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فقال اتَّفَقُوا على أنها إذَا كانت أَمَةً تُبَاعُ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ هذا الْحُكْمَ يَزُولُ بِوِلَادَتِهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَقَلَبَهُ عليه ابن سُرَيْجٍ وقال اتَّفَقْنَا على أنها إذَا كانت حَامِلًا لَا تُبَاعُ فَمَنْ ادَّعَى أنها لَا تُبَاعُ إذَا وَلَدَتْ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَبُهِتَ
الْمَبْحَثُ الْعَاشِرُ في أَنَّهُ من خَصَائِصِ هذه الْأُمَّةِ أو كان حُجَّةً في الْأُمَمِ السَّابِقَةِ أَيْضًا وَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا وَبِهِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ أَنَّهُ كان حُجَّةً وَالْأَصَحُّ كما قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ وابن الْقَطَّانِ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ عن أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ وَجَزَمَ الْقَفَّالُ في تَفْسِيرِهِ وَحُجَّةُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ من خَصَائِصِ هذه الْأُمَّةِ أَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا قام على عِصْمَةِ هذه الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا وَتَوَقَّفَ الْقَاضِي في الْمَسْأَلَةِ قال الْإِبْيَارِيُّ وهو الْمُخْتَارُ لَا بِالنَّظَرِ إلَى طَرِيقِهِ بَلْ لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ عِنْدَنَا اسْتِحَالَةُ الْغَلَطِ في مُسْتَنَدِ فَهْمِ الْحُكْمِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ وقال الدَّبُوسِيُّ يُحْتَمَلُ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ كان حُجَّةً ما دَامُوا مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ وَإِنَّمَا لم يَجْعَلْهُ الْيَوْمَ حُجَّةً لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُونَ إلَى الْكِتَابِ بِدَعْوَاهُمْ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنْ قَطَعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِقَوْلِهِمْ في كل أُمَّةٍ فَهُوَ حُجَّةٌ لِاسْتِنَادِهِ إلَى حُجَّةٍ قَاطِعَةٍ فإن الْعَادَةَ لَا تَخْتَلِفُ في الْأُمَمِ وَإِنْ كان الْمُسْتَنَدُ مَظْنُونًا فَالْوَجْهُ الْوَقْفُ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ إنْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ كان حُجَّةً قُلْنَا بِهِ وَإِنْ لم يَثْبُتْ ذلك لم يُصَرْ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وقال في الْوَجِيزِ الْحَقُّ أَنَّ هذا مَعْلُومٌ من جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنْ ثَبَتَ ذلك بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ صِرْنَا إلَيْهِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ إلْكِيَا لَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ كِلَا الْوَجْهَيْنِ وإذا تَقَابَلَ الْجَائِزَانِ يُوقَفُ الْأَمْرُ على السَّمْعِ وَلَا قَاطِعَ من جِهَتِهِ فَتَوَقَّفْنَا ولم يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّ سَلَفَ كل أُمَّةٍ كَانُوا يُنْكِرُونَ على من يُخَالِفُ أَصْحَابَ الْمُرْسَلِينَ في أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ بِنَاءً على أَدِلَّةِ تِلْكَ الشَّرَائِعِ وقال الْإِبْيَارِيُّ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ في هذه الْمَسْأَلَةِ هل لها فَائِدَةٌ في الْأَحْكَامِ وَإِلَّا فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّارِيخِ كَالْكَلَامِ فِيمَا كان عليه السَّلَامُ عليه قبل الْبَعْثَةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي بِنَاؤُهَا على أَنَّ شَرْعَ من قَبْلَنَا شَرْعٌ لنا أَمْ لَا فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ لنا افْتَقَرَ إلَى النَّظَرِ في إجْمَاعِهِمْ هل كان حُجَّةً عِنْدَهُمْ أَمْ لَا وقد حَكَى الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ الْخِلَافَ قَرِيبًا من ذلك فقال وَاخْتَلَفُوا في أُمَّةِ كل نَبِيٍّ هل كان إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً فقال بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إجْمَاعُ غَيْرِ هذه الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَبِهِ قال ابن أبي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَجْمَعُوا على قَتْلِ عِيسَى
وَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِكَذِبِهِمْ وقال آخَرُونَ يَكُونُ حُجَّةً على من بَعْدَهُمْ من أُمَّتِهِمْ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ في عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ ما لم يَرِدْ نَسْخُهَا فَائِدَةٌ دَلِيلٌ يَدُلُّ على أَنَّ الْإِجْمَاعَ من خَصَائِصِ هذه الْأُمَّةِ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ على أَنَّهُ من خَصَائِصِ هذه الْأُمَّةِ بِحَدِيثِ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يوم الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِنَا ثُمَّ هذا يَوْمُهُمْ الذي فُرِضَ عليهم فَاخْتَلَفُوا فيه فَهَدَانَا اللَّهُ له وَالنَّاسُ لنا تَبَعٌ فيه الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ وَوَجْهُ الِاسْتِنْبَاطِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من الِاثْنَتَيْنِ أَجْمَعَتْ على تَفْضِيلِ يَوْمٍ وَأَخْطَأَتْ السِّرُّ في اخْتِصَاصِ هذه الْأُمَّةِ بِالصَّوَابِ في الْإِجْمَاعِ وَالسِّرُّ في اخْتِصَاصِ هذه الْأُمَّةِ بِالصَّوَابِ في الْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ الْجَمَاعَةُ بِالْحَقِيقَةِ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بُعِثَ إلَى الْكَافَّةِ وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ إنَّمَا بُعِثَ النبي لِقَوْمِهِ وَهُمْ بَعْضٌ من كُلٍّ فَيَصْدُقُ على كل أُمَّةٍ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مُنْحَصِرِينَ فِيهِمْ في عَصْرٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا هذه الْأُمَّةُ فَالْمُؤْمِنُونَ مُنْحَصِرُونَ فِيهِمْ وَيَدُ اللَّهِ مع الْجَمَاعَةِ فَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ خَصَّهَا بِالصَّوَابِ
الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يَنْعَقِدُ عنه الْإِجْمَاعُ ولا بُدَّ له من مُسْتَنَدٍ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ لَيْسَتْ لهم رُتْبَةُ الِاسْتِقْلَالِ بِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا يُثْبِتُونَهَا نَظَرًا إلَى أَدِلَّتِهَا وَمَأْخَذِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عن مُسْتَنَدٍ لِأَنَّهُ لو انْعَقَدَ من غَيْرِ مُسْتَنَدٍ لَاقْتَضَى إثْبَاتَ الشَّرْعِ بَعْدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو بَاطِلٌ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ الْقِرَاضِ من النِّهَايَةِ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال الْإِجْمَاعُ إنْ كان حُجَّةً قَاطِعَةً سَمْعِيَّةً فَلَا يَحْكُمُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِإِجْمَاعِهِمْ وَإِنَّمَا يَصْدُرُ الْإِجْمَاعُ عن أَصْلٍ ا هـ وَحَكَى عبد الْجَبَّارِ عن قَوْمٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ بِالْبَخْتِ وَالْمُصَادَفَةِ بِأَنْ يُوَفِّقَهُمْ اللَّهُ لِاخْتِيَارِ الصَّوَابِ من غَيْرِ مُسْتَنَدٍ وهو بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ من الْبَخْتِ وهو التَّوْفِيقُ وَغَلِطَ صَاحِبُ التَّحْصِيلِ فَظَنَّهُ بِمَعْنَى الشُّبْهَةِ وهو فَاسِدٌ فإن مَعْنَاهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ عن تَوْفِيقٍ من اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ دَلَّهُمْ على ذلك بِأَنْ يُوَفِّقَ اللَّهُ لِلصَّوَابِ بِالْإِلْهَامِ لِقَوْلِهِ ما رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وهو ضَعِيفٌ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ في دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ وقد يُتَرْجِمُ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ إلَّا عن تَوْقِيفٍ وَمُسْتَنَدٍ وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْخِلَافَ في الْجَوَازِ لَا في الْوُقُوعِ وَلَيْسَ كما قال فإن الْخُصُومَ ذَكَرُوا صُوَرًا وَادَّعَوْا وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ فيها من غَيْرِ مُسْتَنَدٍ ثُمَّ ذلك الْمُسْتَنَدُ إمَّا من جِهَةِ الْكِتَابِ كَإِجْمَاعِهِمْ على أَنَّ ابْنَ الِابْنِ كَالِابْنِ في الْمِيرَاثِ وَإِمَّا من جِهَةِ السُّنَّةِ كَإِجْمَاعِهِمْ على تَوْرِيثِ كل وَاحِدٍ من الْجَدَّيْنِ السُّدُسَ
وَعَلَى تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ من دِيَةِ زَوْجِهَا بِالْخَبَرِ في امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ أو الِاسْتِفَاضَةِ كَالْإِجْمَاعِ على أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ أو عن الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ كَإِجْمَاعِهِمْ على قَتْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ أو عن تَوْقِيفٍ كَإِجْمَاعِهِمْ على أَنَّ الْجُمُعَةَ تَسْقُطُ بِفَرْضِ الظُّهْرِ أو عن اسْتِدْلَالٍ وَقِيَاسٍ كَإِجْمَاعِهِمْ على أَنَّ الْجَوَامِيسَ في الزَّكَاةِ كَالْبَقَرِ قال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَكَإِجْمَاعِهِمْ على خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه بِتَقْدِيمِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إيَّاهُ في مَرَضِهِ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ قال الصَّيْرَفِيُّ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقَعَ منهم الْإِجْمَاعُ بِالتَّوَاطُؤِ وَلِهَذَا كانت الصَّحَابَةُ لَا يَرْضَى بَعْضُهُمْ من بَعْضِ بِذَلِكَ بَلْ يَتَبَاحَثُونَ حتى أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلَ في الْخِلَافِ إلَى الْمُبَاهَلَةِ وَلَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا وَقَفُوا عليه لِأَنَّهُ مَذْمُومٌ شَرْعًا فَثَبَتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَقَعُ منهم إلَّا عن تَوْقِيفٍ أو دَلِيلٍ عَقَلَهُ جَمِيعُهُمْ لَا لِأَنَّ غَيْرَهُ قال بِهِ فقال معه وَجَعَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَصْلَ الْخِلَافِ أَنَّ الْإِلْهَامَ هل هو دَلِيلٌ أَمْ لَا وَحَيْثُ قُلْنَا لَا بُدَّ من مُسْتَنَدٍ فَلَا يَجِبُ الْبَحْثُ عن مُسْتَنَدِهِمْ إذْ قد ثَبَتَتْ لهم الْعِصْمَةُ وَلَا يَحْكُمُونَ إلَّا عن مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ لَكِنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ الِاطِّلَاعُ عليه وَأَكْثَرُ الْإِجْمَاعَاتِ قد عُرِفَ مُسْتَنَدُهَا وَحَكَى الْإِمَامُ في بَابِ الْقِيَاسِ عن الشَّافِعِيِّ ما يَقْتَضِي الْبَحْثَ عن الْمُسْتَنَدِ حَيْثُ قال لم يُعْهَدْ الْقِرَاضُ في عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَوَّلُ ما جَرَى في زَمَنِ عُمَرَ فقال الشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ وَلَوْ كان في الْقِرَاضِ خَيْرٌ لَاعْتُنِيَ بِنَقْلِهِ مَسْأَلَةٌ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْمُسْتَنَدِ عليه إذَا كان دَلَالَةً وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كان أَمَارَةً على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا الْجَوَازُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كان جَلِيَّةً أو خَفِيَّةً كَالدَّلَالَةِ وَنَصَّ عليه
الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ وَجَوَّزَ الْإِجْمَاعَ عن قِيَاسٍ وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ قال الرُّويَانِيُّ وَبِهِ قال عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وهو الْمَذْهَبُ وقال ابن الْقَطَّانِ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في جَوَازِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عنه في قِيَاسِ الْمَعْنَى على الْمَعْنَى وَالشَّرْطِ وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَاخْتَلَفُوا فيه على وَجْهَيْنِ وإذا وَقَعَ عن الْأَمَارَةِ وَهِيَ الْمُفِيدَةُ لِلظَّنِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ صَوَابًا لِلدَّلِيلِ الدَّالِّ على الْعِصْمَةِ وَمِنْ هُنَا قِيلَ ظَنُّ من هو مَعْصُومٌ عن الْخَطَأِ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَ الْخِلَافِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَبِهِ قال الظَّاهِرِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بن جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فَالظَّاهِرِيَّةُ مَنَعُوهُ لِأَجْلِ إنْكَارِهِمْ الْقِيَاسَ وَأَمَّا ابن جَرِيرٍ فقال الْقِيَاسُ حُجَّةٌ وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا صَدَرَ عنه لم يَكُنْ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ هَكَذَا حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَبِهِ قال بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ وهو جَعْفَرُ بن مُبَشِّرٍ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الظَّاهِرِيَّةُ فَمِنْهُمْ من أَحَالَهُ وَمِنْهُمْ من سَلَّمَ الْإِمْكَانَ وَمَنَعَ الْوُقُوعَ وَادَّعَوْا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُهُ في الْجَمْعِ الْعَظِيمِ وَحَكَى الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ مَنَعَ منه عَقْلًا وقال لو وَقَعَ لَكَانَ حُجَّةً غير أَنَّهُ مَنَعَ وُقُوعَهُ لِاخْتِلَافِ الدَّوَاعِي وَالْأَغْرَاضِ وَتَفَاوُتِهِمْ في الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ وَاحْتَجَّ ابن الْقَطَّانِ على ابْنِ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ وَافَقَ على وُقُوعِهِ في خَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فيه فَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ وَلَا يُقَالُ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَجْمَعَتْ عليه الصَّحَابَةُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّا نَقُولُ كِلَاهُمَا سَوَاءٌ في إجْمَاعِهِمْ على الْقَوْلِ بِهِ وَمِنْ السُّنَّةِ أَنَّ إمَامَةَ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه ثَبَتَتْ بِالْقِيَاسِ لِقَوْلِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رَضِينَاهُ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا ثُمَّ اُعْتُرِضَ بِإِجْرَاءِ مِثْلِ ذلك في عبد الرحمن بن عَوْفٍ فإن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى خَلْفَهُ وَأَجَابَ بِالْفَرْقِ وهو أَنَّ الصِّدِّيقَ أَمَرَهُ النبي عليه السَّلَامُ وَعَبْدُ الرحمن وَجَدَهُ يُصَلِّي فَصَلَّى خَلْفَهُ وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْبَقَرِ ثَبَتَ الْحُكْمُ فيها بِالنَّصِّ ثُمَّ ثَبَتَ الْحُكْمُ في الْجَوَامِيسِ بِالْإِجْمَاعِ بِالْقِيَاسِ على الْبَقَرِ وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا على مِيقَاتِ ذَاتِ عِرْقٍ ولم يَقَعْ النَّصُّ
قال وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فيه أَخْبَارًا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ وَقَّتَهُ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ قال وقد أَدْخَلَ في هذا أَصْحَابُنَا ما ليس منه كَصَدَقَةِ الذَّهَبِ وَفِيهَا أَحَادِيثُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ من أَعْتَقَ شِرْكًا له في عَبْدٍ وَالْأَمَةُ في مَعْنَاهُ مع قَوْلِهِمْ إنَّ الْعَبْدَ اسْمٌ لِكُلِّ رَقِيقٍ ذَكَرًا كان أو أُنْثَى قال وَمِنْ أَجْوَدِهِ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ولم يذكر شيئا أَنَّهُ من بَعْدِ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ وَالْحُكْمُ فيه من طَرِيقِ الْقِيَاسِ كَذَلِكَ ا هـ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ التَّفْصِيلُ في الْأَمَارَةِ بين الْجَلِيَّةِ فَيَجُوزُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عنها دُونَ الْخَفِيَّةِ حَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ وَكَذَا صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا قال وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ أبي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ من الشَّافِعِيَّةِ قال وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ في الْخَبَرِ الذي انْعَقَدَ عن الْإِجْمَاعِ كَوْنَهُ مَشْهُورًا وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ في الْقِيَاسِ إلَّا عن أَمَارَةٍ وَلَا يَجُوزُ عن دَلَالَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ بها عنه حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ في الْمِيزَانِ عن بَعْضِ مَشَايِخِهِمْ وهو غَرِيبٌ قَادِحٌ في إطْلَاقِ نَقْلِ جَمَاعَةٍ الْإِجْمَاعَ على جَوَازِهِ عن دَلَالَةٍ مَسْأَلَةٌ وإذا جَوَّزْنَا انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عن الِاجْتِهَادِ فَهَلْ وَقَعَ فيه خِلَافٌ حَكَاهُ ابن فُورَكٍ وإذا قُلْنَا بِوُقُوعِهِ فَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ أَمْ لَا الْمَشْهُورُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ نعم وَحَكَى ابن فُورَكٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَسُلَيْمٌ عن قَوْمٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَعَلَّهُ قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ السَّابِقِ وَحَكَاهُ عبد الْجَبَّارِ عن الْحَاكِمِ صَاحِبِ الْمُخْتَصَرِ قَالَهُ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ تَنْبِيهٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كان الِاجْتِهَادُ عن أَصْلٍ فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ عن غَيْرِ أَصْلٌ كَالِاجْتِهَادِ في جَزَاءِ الصَّيْدِ وَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ فَمَنْ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ بِالْقِيَاسِ كان من هذا أَمْنَعَ وَمَنْ جَوَّزَ ثَمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى امْتِنَاعِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عن مِثْلِ هذا الِاجْتِهَادِ وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ
فُرُوعٌ لَا يَجِبُ مَعْرِفَةُ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلُ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ لَا يَجِبُ على الْمُجْتَهِدِ طَلَبُ الدَّلِيلِ الذي وَقَعَ الْإِجْمَاعُ بِهِ فَإِنْ ظَهَرَ له ذلك أو نُقِلَ إلَيْهِ كان أَحَدَ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ وقال أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ إذَا أَجْمَعُوا على حُكْمٍ ولم يُعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عليه من دَلَالَةِ آيَةٍ أو قِيَاسٍ أو غَيْرِهِ فإنه يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ إلَّا عن دَلَالَةٍ وَلَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا يَجُوزُ لِلْمُجْمِعِينَ تَرْكُ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ اشْتِهَارِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي قال أَيْضًا يَجُوزُ لِلْمُجْمِعِينَ تَرْكُ الدَّلِيلِ بَعْدَ اشْتِهَارِ الْمَسْأَلَةِ وَانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَرُبَّمَا كان أَصْلُهُ ظَاهِرًا مُحْتَمِلًا أو قِيَاسَ شَبَهٍ عَرَفَ الْعَصْرُ الْأَوَّلُ حِكْمَةَ الْمُشَاهَدَةِ على نَفْيِ الشَّبَهِ فَتَرَكُوا الدَّلِيلَ لِمَا فيه من تَكَرُّهِ التَّأْوِيلِ وَيَقْتَصِرُونَ على إظْهَارِ الْحُكْمِ لِيَكُونَ أَمْنَعَ من الْخِلَافِ وَأَقْطَعَ لِلنِّزَاعِ إذَا احْتَمَلَ إجْمَاعُهُمْ أَنْ يَكُونَ عن قِيَاسٍ أو تَوْقِيفٍ فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ الثَّالِثُ إذَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ عن قِيَاسٍ لِإِمْكَانِهِ في الْحَادِثَةِ أو عن دَلِيلٍ فَهَلْ الْأَوْلَى حَمْلُهُ على أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عن الْقِيَاسِ أو عن التَّوْقِيفِ لَا أَعْلَمُ فيه كَلَامًا لَلْأُصُولِيِّينَ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ أَصْحَابِنَا في الْفُرُوعِ فيه وَجْهَانِ فَإِنَّهُمْ قالوا فِيمَنْ قَتَلَ الْحَمَامَ بِمَكَّةَ إنَّ فيها شَاةً لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَاخْتَلَفُوا في بِنَاءِ ذلك على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إيجَابَهَا لِمَا بَيْنَهُمَا من الشَّبَهِ فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ وَيَأْنَسُ بِالنَّاسِ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّ مُسْتَنَدَهُ تَوْقِيفٌ بَلَغَهُمْ فيه قُلْت لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ تَوْقِيفًا مع قِيَامِ الِاحْتِمَالِ بِكَوْنِهِ اسْتِنْبَاطًا وَعَلَى هذا نَصَّ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ فقال أَمَّا ما أَجْمَعُوا عليه فَذَكَرُوا أَنَّهُ حِكَايَةً عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قالوا وَأَمَّا ما لم يَحْكُوهُ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونُوا قَالُوهُ
حِكَايَةً عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاحْتُمِلَ غَيْرُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَى إلَّا مَسْمُوعًا مَسْأَلَةٌ إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِأَحَدِ هذه الدَّلَائِلِ فَهَلْ يَكُونُ مُنْعَقِدًا على الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ أو مُنْعَقِدًا على الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ فيه خِلَافٌ حَكَاهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ قال فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ على الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ على الْمُسْتَخْرَجِ من الدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ هو الْمَطْلُوبُ من الدَّلِيلِ وَلِأَجْلِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ الْإِجْمَاعُ الْوَاقِعُ على وَفْقِ خَبَرٍ هل يَدُلُّ على صِحَّةِ ذلك الْخَبَرِ قال وَيَنْبَنِي على هذا مَسْأَلَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْوَاقِعَ على وَفْقِ خَبَرٍ من الْأَخْبَارِ هل يَكُونُ دَلِيلًا على صِحَّتِهِ منهم من قال يَدُلُّ على ذلك إذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ وَمِنْهُمْ من قال إنَّ إجْمَاعَهُمْ يَدُلُّ على صِحَّةِ الْحُكْمِ وَلَا يَدُلُّ على صِحَّةِ الْخَبَرِ قال وهو أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اتَّفَقُوا على الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ ثَابِتٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهَذَا التَّعَبُّدُ ثَبَتَ في حَقِّ الْكَافَّةِ فَلِأَجْلِ التَّعَبُّدِ الثَّابِتِ أَجْمَعُوا على مُوجَبِ الْخَبَرِ وَصَارَ الْحُكْمُ مَقْطُوعًا بِهِ لِأَجْلِ إجْمَاعِهِمْ فَإِنْ كان الْإِجْمَاعُ وَلَا دَلِيلَ غَيْرَهُ كان انْعِقَادُهُ دَلِيلًا على أَنَّهُ انْعَقَدَ عن دَلِيلٍ مُوجِبٍ له لِأَنَّهُمْ اسْتَغْنَوْا بِالْإِجْمَاعِ عن نَقْلِ الدَّلِيلِ وَاكْتَفَوْا بِهِ عنه وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وكان دَلِيلُهُ مَجْهُولًا عِنْدَ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي وَوَجَدْنَا خَبَرَ وَاحِدٍ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَنَدَهُ أَمْ لَا نَقَلَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ قال لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذلك الْخَبَرُ مُسْتَنَدًا لِلْإِجْمَاعِ وَخَالَفَ في ذلك الْأُصُولِيُّونَ ا هـ وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْمَسْأَلَةَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ إذَا كان الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا فَهُوَ مُسْتَنَدُهُمْ بِلَا خِلَافٍ كما قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ كما يَجِبُ عليهم الْعَمَلُ بِمُوجَبِ النَّصِّ قال وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في خَبَرِ الْآحَادِ وهو ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَنْ يُعْلَمَ ظُهُورُهُ بَيْنَهُمْ وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ لِأَجْلِهِ أو يُعْلَمَ ظُهُورُهُ بَيْنَهُمْ وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ عَمِلُوا لِأَجْلِهِ
أو لَا يَكُونَ ظَاهِرًا بَلْ عَمِلُوا بِمَا تَضَمَّنَهُ فَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ ثَالِثُهَا إنْ كان على خِلَافِ الْقِيَاسِ فَهُوَ مُسْتَنَدَهُمْ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَا يَدُلُّ على أَنَّهُمْ عَمِلُوا من أَجْلِهِ وَهَلْ يَدُلُّ إجْمَاعُهُمْ على مُوجَبِهِ على صِحَّتِهِ فيه خِلَافٌ انْتَهَى وقال إلْكِيَا إذَا ظَهَرَ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ نَصٌّ كان هو مُسْتَنَدَ الْحُكْمِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَلَقَّى الْحُكْمَ من الْإِجْمَاعِ إذَا لم نَرَ مُسْتَنَدًا مَقْطُوعًا بِهِ فَأَمَّا إذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على مُوجَبِ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ من خَبَرِ الْوَاحِدِ فَهَلْ يَدُلُّ الْقَطْعِيُّ على أَنَّ إجْمَاعَهُمْ كان لِأَجْلِهِ أَمْ لَا قال فيه تَفْصِيلٌ وهو إنْ عَمِلُوا بِمَا عَمِلُوا وَحَكَمُوا مُسْتَنِدِينَ إلَى الْخَبَرِ مُصَرِّحِينَ بِالْمُسْتَنَدِ فَلَا شَكَّ وَإِنْ لم يَظْهَرْ ذلك فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يقول في مَوَاضِعَ من كُتُبِهِ إنَّ إجْمَاعَهُمْ يُصْرَفُ إلَى الْخَبَرِ وَبِهِ قال أبو هَاشِمٍ وزاد عليه فقال أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ على الْقِرَاضِ وَلَا خَبَرَ فيه فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عليه بِخَبَرِ الْمُسَاقَاةِ وَلَكِنْ اُشْتُهِرَ الْإِجْمَاعُ في الْقِرَاضِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ دُونَ الْمُسَاقَاةِ وَذَهَبَ غَيْرُهُمَا إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ لِأَجْلِ الِاجْتِهَادِ أو لِأَجْلِ خَبَرٍ آخَرَ لم يُنْقَلْ وَيَبْعُدُ كُلُّ ذلك ليس خَرْقًا لِلْعَادَةِ وَهَذَا لَا دَافِعَ له إلَّا أَنْ يُقَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا لِأَجْلِ خَبَرٍ ثُمَّ لَا يُنْقَلُ ما أَجْمَعُوا عليه وَهَذَا لَا يَمْشِي إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إجْمَاعُهُمْ أَعْنِي نَقْلَ ما له أَجْمَعُوا ا هـ وما نَقَلَاهُ عن الشَّافِعِيِّ نَقَلَهُ في الْمَحْصُولِ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَخَالَفَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذلك على سَبِيلِ الظَّنِّ الْغَالِبِ لَا أَنَّهُ عنه حَقِيقَةً وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ لَا فَائِدَةَ له لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَنْعَقِدُ عن الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ قُلْت وَلَهَا نَظَائِرُ منها أَنَّ عَمَلَ الْعَالِمِ أو فُتْيَاهُ على وَفْقِ حَدِيثٍ لَا يَكُونُ حُكْمًا منه بِصِحَّةِ ذلك الحديث لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذلك منه احْتِيَاطًا أو لِدَلِيلٍ آخَرَ وَافَقَ ذلك الْخَبَرَ وَكَذَلِكَ مُخَالَفَتُهُ لِلْحَدِيثِ لَيْسَتْ قَدْحًا منه في صِحَّتِهِ وقد سَبَقَ الْخِلَافُ فيها وَمِنْهَا الْإِجْمَاعُ على وَفْقِ خَبَرٍ لَا يَدُلُّ على صِدْقِهِ وقد سَبَقَتْ في بَابِ الْأَخْبَارِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا عَلَّلَ حُكْمَ الْأَصْلِ بِعِلَّةٍ مُنَاسِبَةٍ وَأَلْحَقَ بِهِ الْفَرْعَ فَمَنَعَ الْخَصْمُ كَوْنَ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ هذه وقال الْعِلَّةُ غَيْرُهَا لم يُسْمَعْ منه لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ لها من عِلَّةٍ وقد وُجِدَتْ عِلَّةٌ مُنَاسِبَةٌ فَلْيُضَفْ الْحُكْمُ إلَيْهَا إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ ما سِوَاهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَسْأَلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ وقد يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ التي قام فيها الْإِجْمَاعُ قد قَامَتْ الْحُجَّةُ على الْعَمَلِ بها وَالْإِضَافَةُ إلَى الحديث من بَابِ تَكْثِيرِ الدَّلَائِلِ لم يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ عن ذلك الحديث إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْقِيَاسِ فإنه لَا يَنْتَهِضُ الْإِلْحَاقُ ما لم تَثْبُتْ الْعِلَّةُ فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْأَصْلَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى هذه الْعِلَّةِ مَسْأَلَةٌ في وُجُودِ خَبَرٍ أو دَلِيلٍ لَا تَعَارُضَ فيه تَشْتَرِكُ الْأُمَّةُ في عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ هل يُمْكِنُ وُجُودُ خَبَرٍ أو دَلِيلٍ بِلَا مُعَارِضٍ اشْتَرَكَتْ الْأُمَّةُ في عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ فيه خِلَافٌ وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ الْجَوَازَ إنْ كان عَمَلُ الْأُمَّةِ مُوَافِقًا لِمُقْتَضَاهُ وَعَدَمَهُ إنْ خَالَفَ وَأَمَّا الرَّازِيَّ فَتَرْجَمَهَا في الْمَحْصُولِ بِأَنَّهُ هل يَجُوزُ اشْتِرَاكُ الْأُمَّةِ في الْجَهْلِ بِمَا لم يُكَلَّفُوا بِهِ وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وفي ظَنِّي أَنَّ الْأَصْفَهَانِيَّ ظَنَّهُمَا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا هل يَجُوزُ أَنْ تَشْتَرِكَ الْأُمَّةُ في عَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا لم يُكَلَّفُوا بِهِ قَوْلَانِ الثَّانِيَةُ هل يُمْكِنُ وُجُودُ خَبَرٍ أو دَلِيلٍ لَا تَعَارُضَ فيه وَتَشْتَرِكُ الْأُمَّةُ في عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ وَالْخِلَافُ في هذه مُرَتَّبٌ على التي قَبْلَهَا فَمَنْ مَنَعَهُ هُنَاكَ لم يُجَوِّزْ هذا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَمَنْ جَوَّزَ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَالْجَوَازُ مُطْلَقًا وَالتَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ مُوَافِقًا لِمُقْتَضَاهُ فَيَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذُهُولُهُمْ عَمَّا كُلِّفُوا بِهِ وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُهُمْ على الْخَطَأِ وهو مُمْتَنِعٌ
مَسْأَلَةٌ إذَا أَجْمَعُوا على خِلَافِ الْخَبَرِ إذَا ذَكَرَ وَاحِدٌ من الْمُجْمِعِينَ خَبَرًا عن الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ يَشْهَدُ بِضِدِّ الْحُكْمِ الذي انْعَقَدَ عليه الْإِجْمَاعُ قال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ يَجِبُ عليه تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ وَالْإِصْرَارُ على الْإِجْمَاعِ وقال قَوْمٌ من الْأُصُولِيِّينَ بَلْ يَجِبُ عليه الرُّجُوعُ إلَى مُوجَبِ الحديث وقال قَوْمٌ إنَّ ذلك يَسْتَحِيلُ وهو الْأَصَحُّ من الْمَذَاهِبِ فإن اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَ الْأُمَّةَ عن نِسْيَانِ حَدِيثٍ في الْحَادِثَةِ وَلَوْلَا ذلك خَرَجَ الْإِجْمَاعُ عن أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا وَبَنَاهُ في الْأَوْسَطِ على الْخِلَافِ في انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فَمَنْ قال ليس بِشَرْطٍ مَنَعَ الرُّجُوعَ وَمَنْ اشْتَرَطَ جَوَّزَهُ وَالْجُمْهُورُ على الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إلَى الحديث احْتِمَالَاتٌ من النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَى الْإِجْمَاعِ بَلْ لو قَطَعْنَا بِالْإِجْمَاعِ في صُورَةٍ ثُمَّ وَجَدْنَا على خِلَافِهِ نَصًّا قَاطِعًا من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ لَكَانَ الْإِجْمَاعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ بِخِلَافِ النَّصِّ فإنه يَقْبَلُهُ وفي مِثْلِ هذه الصُّورَةِ يُسْتَدَلُّ بِالْإِجْمَاعِ على نَاسِخٍ بَلَغَهُمْ أو مُوجَبٍ لِتَرْكِهِ وَلِهَذَا قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ الْإِجْمَاعَ على النَّصِّ لَمَّا رَتَّبَ الْأَدِلَّةَ قُلْت وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ الْإِجْمَاعُ أَكْثَرُ من الْخَبَرِ الْمُنْفَرِدِ وَعَلَى هذا فَيَجِبُ على الرَّاوِي لِلْخَبَرِ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى خَبَرِهِ وَيَتَمَسَّكَ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا قال الْإِمَامُ في بَابِ التَّرَاجِيحِ من الْبُرْهَانِ إذَا أَجْمَعُوا على خِلَافِ الْخَبَرِ تَطَرَّقَ الْوَهْنُ إلَى رِوَايَةِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ إنْ كان آحَادًا فَذَاكَ وَإِنْ كان مُتَوَاتِرًا فَالتَّعَلُّقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَيَتَطَرَّقُ إلَيْهِ إمْكَانُ النَّسْخِ فَيُحْمَلُ الْإِجْمَاعُ على الْقَطْعِ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا على قَطْعٍ وَيُحْمَلُ الْخَبَرُ على مُقْتَضَى النَّسْخِ اسْتِنَادًا وَتِبْيَانًا لَا على طَرِيقِ الْبِنَاءِ ثُمَّ نَبَّهَ على أَنَّ الْكَلَامَ في الْجَوَازِ وَقَطَعَ بِأَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ ثُمَّ قال من ضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ على مُنَاقَضَةِ النَّصِّ الْمُتَوَاتِرِ أَنْ يَلْهَجَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا قُلْت وَيُحْتَمَلُ تَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ وَإِلَّا فَيُمْكِنُ أَنْ يَتَطَرَّقَ عَدَمُ الْحُجِّيَّةِ إلَيْهِ بِرُجُوعِهِمْ عنه وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ
مَسْأَلَةٌ إذَا أَجْمَعُوا على خِلَافِ الْخَبَرِ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى الْخَبَرِ فَلَوْ رَجَعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ لِلْخَبَرِ فَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهُ قال الْغَزَالِيُّ كان ما أَجْمَعُوا عليه حَقًّا في ذلك الزَّمَانِ إذْ لم يُكَلَّفُوا بِمَا لم يُبَلَّغُوا كما يَكُونُ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ حَقًّا قبل بُلُوغِ النَّاسِخِ وَنُوزِعَ في ذلك بِلُزُومِ إجْمَاعَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ يَنْسَخُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وهو مُحَالٌ وَالظَّاهِرُ الْحُكْمُ بِإِحَالَةِ هذه الصُّورَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَخْطِئَةُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ وهو مُحَالٌ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ الْوِفَاقُ الْمُعْتَبَرُ في الْإِجْمَاعِ وَلَهُ شُرُوطٌ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ أَنْ يُوجَدَ فيه قَوْلُ الْخَاصَّةِ من أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ وِفَاقًا وَلَا خِلَافًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُولُوا الْعِلْمِ وقال الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحْتَجَّ الرُّويَانِيُّ بِمَا يُرْوَى أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ خَالَفَ الصَّحَابَةَ وقال الْبَرَدُ لَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ لِأَنَّهُ ليس بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ قال فَرَدُّوا قَوْلَهُ ولم يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وهو الصَّوَابُ لِوُجُوبِ رَدِّ الْعَوَامّ إلَى قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَحْرِيمِ الْفَتْوَى منهم في الدِّينِ وَقِيلَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّ قَوْلَ الْأُمَّةِ إنَّمَا كان حُجَّةً لِعِصْمَتِهَا من الْخَطَأِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ من صِفَاتِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ من الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ من ثُبُوتِ الْعِصْمَةِ لِلْكُلِّ ثُبُوتُهَا لِلْبَعْضِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ وابن بَرْهَانٍ عن بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ وابن السَّمْعَانِيِّ وَالْهِنْدِيُّ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَنُوزِعُوا في ذلك بِأَنَّ الْمَذْكُورَ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ وَلَا وِفَاقُهُمْ وَكَادَ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ فيه وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ في الْكَلَامِ على الْمُرْسَلِ لَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الْعَوَامّ لَا وِفَاقًا وَلَا خِلَافًا ا هـ وَأَقُولُ فَعَلَى هذا من تَصَرُّفِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَعِبَارَةُ التَّقْرِيبِ قد بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الذي دَلَّ عليه السَّمْعُ صِحَّةُ إجْمَاعِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وقد ثَبَتَ أَنَّ الْأُمَّةَ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ دُخُولِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ في الْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ لِلْخَاصَّةِ إجْمَاعٌ على شَيْءٍ يَخْرُجُ منه الْعَامَّةُ قال وَالْعَامَّةُ مُجْمِعَةٌ على أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ ما أَجْمَعَتْ عليه الْخَاصَّةُ وَإِنْ لم يَعْرِفْهُ عِيَانًا
فَإِنْ قِيلَ فإذا لم يَكُنْ الْعَامَّةُ من أَهْلِ الْعِلْمِ بِالدَّقَائِقِ وَالنَّظَرِ فَلَا يَكُونُ لهم مَدْخَلٌ في الْإِجْمَاعِ وَلَا بِهِمْ مُعْتَبَرٌ في الْخِلَافِ قُلْنَا كَذَلِكَ نَقُولُ وَيَقُولُ أَكْثَرُ الناس وَإِنَّمَا وَجَبَ سُقُوطُ الِاعْتِبَارِ بِخِلَافِهِمْ لِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ من أَهْلِ كل عَصْرٍ على أَنَّهُ حَرَامٌ على عَامَّةِ أَهْلِ كل عَصْرٍ من أَعْصَارِ الْمُسْلِمِينَ مُخَالَفَةُ ما اتَّفَقَ عليه عُلَمَاؤُهُمْ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ بِخِلَافِ الْعَامَّةِ لِأَجْلِ هذا الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ على مَنْعِهِمْ من ذلك وَجَوَابٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَرْكُ الِاعْتِبَارِ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَبَعْضُ الْأُمَّةِ بَلْ مُعْظَمُهَا فَوَجَبَ الِاعْتِبَارُ بِخِلَافِهِمْ وَثَبَتَ أَنَّ ما أَجْمَعَ عليه الْعُلَمَاءُ عَيْنًا وَتَفْصِيلًا إجْمَاعُ الْعَامَّةِ وَإِنْ لم نَعْرِفْهُ عَيْنًا فَإِنْ قِيلَ فما يَقُولُونَ لو صَارَ عَامَّةُ الْأُمَّةِ في بَعْضِ الْأَعْصَارِ إلَى مُخَالَفَةِ إجْمَاعِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَخَطَئِهِمْ هل يَكُونُ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءَ حُجَّةً قِيلَ لَا يَكُونُ قَوْلُهُمْ دُونَ قَوْلِ الْعَامَّةِ إجْمَاعًا بِجَمِيعِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْعَامَّةَ بَعْضُهُمْ لَكِنَّ الْعَامَّةَ مُخْطِئُونَ في مُخَالَفَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ الْعِلْمِ بِحُكْمِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عليهم الْقَوْلُ في دِينِ اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَلَيْسَ خَطَؤُهُمْ من جِهَةِ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ إذْ هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ وَجَوَابٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الْعَامَّةِ وَلَا بِدُخُولِهِمْ في الْإِجْمَاعِ لِأَجْلِ ما قَدَّمْنَاهُ من اتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ على تَخْطِئَةِ عَامَّةِ أَهْلِ كل عَصْرٍ في خِلَافِهِمْ على عُلَمَائِهِمْ فَوَجَبَ سُقُوطُ الِاعْتِبَارِ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ هذا كَلَامُهُ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى إطْلَاقِ الِاسْمِ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا أَجْمَعُوا هل يَصْدُقُ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ وَيُحْكَمُ بِهِ قَوْلُ الْعَوَامّ فِيهِمْ تَبَعًا فَالْقَاضِي يقول لَا يَصْدُقُ اسْمُ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان ذلك لَا يَقْدَحُ في حُجِّيَّتِهِ وهو خِلَافٌ لَفْظِيٌّ في الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ خِلَافًا في أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ تَقْدَحُ في قِيَامِ الْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا قال في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ بَعْدَمَا سَبَقَ فَإِنْ قال قَائِلٌ فإذا أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ على حُكْمٍ من الْأَحْكَامِ فَهَلْ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عليه قُلْنَا من الْأَحْكَامِ ما يَحْصُلُ فيه اتِّفَاقُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا فما هذا سَبِيلُهُ يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عليه وَأَمَّا ما أَجْمَعَ عليه الْعُلَمَاءُ من أَحْكَامِ الْفُرُوعِ التي تَشْتَبِهُ على الْعَوَامّ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك فقال بَعْضُهُمْ الْعَوَامُّ يَدْخُلُونَ في حُكْمِ الْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ وَإِنْ لم يَعْرِفُوا تَفْصِيلَ الْأَحْكَامِ فَقَدْ عَرَفُوا على الْجُمْلَةِ أَنَّ ما أَجْمَعَ عليه عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ من تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَهَذَا مُسَاهَمَةٌ منهم في الْإِجْمَاعِ وَإِنْ لم يَعْلَمُوا مَوَاقِعَهُ
على التَّفْصِيلِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من زَعَمَ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مُسَاهِمِينَ في الْإِجْمَاعِ فإنه إنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْإِجْمَاعُ في التَّفَاصِيلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بها فإذا لم يَكُونُوا عَالِمِينَ بها فَلَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُمْ من أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا خِلَافٌ مَهُولٌ أَمْرُهُ وَيَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ الْمَحْضَةِ وَالْحُكْمُ فيه أَنَّا إنْ أَدْرَجْنَا الْعَوَامَّ في حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْمُطْلَقِ أَطْلَقْنَا الْقَوْلَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَإِنْ لم نُدْرِجْهُمْ في حُكْمِ الْإِجْمَاعِ أو بَدَرَ من بَعْضِ طَوَائِفِ الْعَوَامّ خِلَافٌ فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فإن الْعَوَامَّ مُعْظَمُ الْأُمَّةِ ا هـ وما ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَتَابَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ من رُجُوعِ الْخِلَافِ إلَى كَوْنِهِ هل يُسَمَّى إجْمَاعًا أَمْ لَا مع الِاتِّفَاقِ على كَوْنِهِ حُجَّةً مَرْدُودٌ فَفِي الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ ما لَفْظُهُ اخْتَلَفُوا في اعْتِبَارِ قَوْلِ الْعَامَّةِ في الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ فقال قَوْمٌ الْعَامَّةُ وَإِنْ وَجَبَ عليها اتِّبَاعُ الْعُلَمَاءِ فإن إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ لَا يَكُونُ حُجَّةً على أَهْلِ الْعَصْرِ حتى لَا يَسُوغَ مُخَالَفَتُهُمْ إلَّا بِأَنْ يَتَّبِعَهُمْ الْعَامَّةُ من أَهْلِ عَصْرِهِمْ فَإِنْ لم يَتَّبِعُوهُمْ لم يَجِبْ على أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي من الْعُلَمَاءِ اتِّبَاعُهُمْ وقال آخَرُونَ بَلْ هو حُجَّةٌ اتَّبَعَهُمْ عُلَمَاءُ عَصْرِهِمْ أَمْ لَا انْتَهَى وفي الْمَسْأَلَةِ ثَالِثٌ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُمْ في الْعَامِّ دُونَ الْخَاصِّ حَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ في الْمَسْأَلَةِ وَيَنْبَغِي تَنْزِيلُ إطْلَاقِ الْمُطْلِقِينَ عليه وَخَصَّ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الْخِلَافَ بِالْخَاصِّ وقال لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ في الْعَامِّ اتِّفَاقًا وَجَرَى عليه الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ فقال إنْ اخْتَصَّ بِمَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ كَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا لم يُعْتَبَرْ وِفَاقُ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ وَإِنْ اشْتَرَكَ في مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَتَحْرِيمِ بِنْتِ الْبِنْتِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ إجْمَاعُ الْعَوَامّ مَعَهُمْ فيه وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَصِحُّ عن نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ وَالثَّانِي نعم لِاشْتِرَاكِهِمْ في الْعِلْمِ بِهِ وقال سُلَيْمٌ إجْمَاعُ الْخَاصَّةِ هل يُحْتَاجُ مَعَهُمْ فيه إلَى إجْمَاعِ الْعَامَّةِ فيه وَجْهَانِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ
هل الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ أَمْ مَعْنَوِيٌّ إذَا عَلِمْت هذا فَقَدْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ أو مَعْنَوِيٌّ وَكَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ كما سَبَقَ أَنَّهُ لَفْظِيٌّ وَكَلَامُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ بِخِلَافِهِ فإنه قال الْإِجْمَاعُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ما اجْتَمَعَ عليه الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَاتِّفَاقِهِمْ على عَدَدِ الصَّلَوَاتِ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ وَقَعَ بِهِمْ الِاعْتِبَارُ فَقِيلَ الِاعْتِبَارُ في ثُبُوتِهِ بِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَقِيلَ الِاعْتِبَارُ بِالْكَافَّةِ فَيَدْخُلُ فيه الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَتَبَيَّنُ في الضَّرْبِ الثَّانِي من الْإِجْمَاعِ وهو أَنْ يُجْمِعَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالِاجْتِهَادِ على حُكْمِ الْحَادِثَةِ كَالنِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ وَالْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ بِالزَّوْجِيَّةِ فَمَنْ قال إنَّ الِاعْتِبَارَ في الضَّرْبِ الْأَوَّلِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ كَفَرَ الْمُخَالِفُ بِالنَّوْعَيْنِ وَمَنْ قال إنَّ الِاعْتِبَارَ فيه بِالْكَافَّةِ لم يُجْعَلْ الْمُخَالِفُ في الضَّرْبِ الثَّانِي كَالْمُرْتَدِّ وَإِنْ قَطَعَ بِتَخْطِئَتِهِ ا هـ تَنْبِيهٌ اعْتِبَارُ قَوْلِ الْمُقَلِّدِ في الْإِجْمَاعِ حُكْمُ الْمُقَلِّدِ حُكْمُ الْعَامِّيِّ في ذلك إذْ لَا وَاسِطَةَ بين الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَسْأَلَةٌ إجْمَاعُ الْعَوَامّ عِنْدَ خُلُوِّ الزَّمَانِ من الْمُجْتَهِدِينَ إجْمَاعُ الْعَوَامّ عِنْدَ خُلُوِّ الزَّمَانِ من الْمُجْتَهِدِ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّا إنْ لم نَعْتَبِرْهُمْ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مَنَعْنَا إمْكَانَ وُقُوعِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَمَّنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَإِنْ اعْتَبَرْنَا قَوْلَهُمْ مَنَعْنَا أَنَّ إجْمَاعَهُمْ ليس إجْمَاعًا شَرْعِيًّا مَسْأَلَةٌ الَّذِينَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ في الْإِجْمَاعِ يُشْتَرَطُ في الْإِجْمَاعِ في كل فَنٍّ من الْفُنُونِ أَنْ يَكُونَ فيه قَوْلُ كل الْعَارِفِينَ بِذَلِكَ في ذلك الْعَصْرِ فإن قَوْلَ غَيْرِهِمْ فيه يَكُونُ بِلَا دَلِيلٍ بِجَهْلِهِمْ بِهِ فَيُشْتَرَطُ في الْإِجْمَاعِ في الْمَسْأَلَةِ الْفِقْهِيَّةِ قَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ وفي الْأُصُولِ قَوْلُ جَمِيعِ الْأُصُولِيِّينَ وفي النَّحْوِ قَوْلُ
جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ وَخَالَفَ ابن جِنِّي فَزَعَمَ في كِتَابِ الْخَصَائِصِ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ في إجْمَاعِ النُّحَاةِ ثُمَّ من اعْتَبَرَ قَوْلَ الْعَوَامّ في الْإِجْمَاعِ اعْتَبَرَ قَوْلَ الْفَقِيهِ الْخَالِيَ عن الْأُصُولِ لِلتَّفَاوُتِ في الْأَهْلِيَّةِ وَقَوْلَ الْأُصُولِيِّ الْخَالِيَ عن الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَقَوْلَ الْمُتَكَلِّمِ الْخَالِيَ عن الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِمَا بين الْعَامِّيِّ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ من التَّفَاوُتِ في الْأَهْلِيَّةِ وَصِحَّةِ النَّظَرِ هذا في الْأَحْكَامِ وَهَذَا في الْأُصُولِ وَمَنْ لم يَعْتَبِرْ قَوْلَ الْعَامِّيِّ في الْإِجْمَاعِ اخْتَلَفُوا في الْفَقِيهِ وَالْأُصُولِيِّ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ منهم من اعْتَبَرَ قَوْلَ الْجَمِيعِ لِقِيَامِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَامِّيِّ وَمِنْهُمْ من أَلْحَقَهُ بِالْعَامِّيِّ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ في أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ فَاعْتَبَرَ قَوْلَ الْفَقِيهِ وَأَلْغَى قَوْلَ الْأُصُولِيِّ وَمِنْهُمْ من عَكَسَ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ وَكَيْفِيَّةِ اقْتِنَاصِهَا من مَدَارِكِهَا من الْفَقِيهِ الذي ليس بِأُصُولِيٍّ وَلَا خِلَافَ في اعْتِبَارِ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ في الْكَلَامِ وَالْأُصُولِيِّ في الْأُصُولِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ إذَا كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ في ذلك الْفَنِّ هل لِخِلَافِ الْأُصُولِيِّ في الْفِقْهِ اعْتِبَارٌ وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ الْمَاهِرُ الْمُتَصَرِّفُ في الْفِقْهِ فَفِي اعْتِبَارِ خِلَافِهِ في الْفِقْهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى أَنَّ خِلَافَهُ مُعْتَبَرٌ قال الْإِمَامُ وهو الْحَقُّ وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ منهم أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ إلَى أَنَّ خِلَافَهُ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ ليس من الْمُفْتِينَ وَلَوْ وَقَعَتْ له وَاقِعَةٌ لَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ الْمُفْتِيَ فيها قال إلْكِيَا وَالْحَقُّ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ من أَحْكَمَ الْأُصُولَ فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فيها وَيُقَلِّدُ فِيمَا سَنَحَ له من الْوَقَائِعِ وَالْمُقَلِّدُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَذْهَبَ الْقَاضِي وقال إذَا أَجْمَعَ الْمُفْتُونَ وَسَكَتَ الْأُصُولِيُّونَ الْمُتَصَرِّفُونَ فَيَبْعُدُ أَنْ يَتَوَقَّفَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ على مُرَاجَعَتِهِ فإن الَّذِينَ لَا يَسْتَقِلُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ في جَوَابِ مَسْأَلَةٍ وَيَتَعَيَّنُ عليهم تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ من الْمُحَالِ وُجُوبُ مُرَاجَعَتِهِمْ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُمْ أَبْدَوْا وَجْهًا في التَّصَرُّفِ فَإِنْ كان سَالِفًا فَهُوَ مَحْمُولٌ على إرْشَادِهِمْ وَتَهْدِيَتِهِمْ إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ وَإِنْ أَبْدَوْا قَوْلَهُمْ إبْدَاءَ من يُزَاحِمُ الْأَحْكَامَ فَالْإِنْكَارُ يَشْتَدُّ عليهم قال وَالْقَوْلُ الْمُغْنِي في ذلك أَنَّهُ لَا قَوْلَ لِمَنْ لم يَبْلُغْ مَبْلَغَ الِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ بين
من يُقَلِّدُ وَيُقَلَّدُ مَرْتَبَةٌ ثَالِثَةٌ ثُمَّ قال وَالنَّظَرُ السَّدِيدُ يَتَخَطَّى كَلَامَ الْقَاضِي وَعَصْرَهُ وَيَتَرَقَّى إلَى الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ وَيُفْضِي إلَى مُدْرِكِ الْحَقِّ قبل ظُهُورِ الْخِلَافِ وَالتَّحْقِيقُ خَالَفَ الْقَاضِي أو وَافَقَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا أَطْبَقُوا لم يَعْتَدَّ بِخِلَافِ الْمُتَصَرِّفِينَ مَذْهَبًا مُخْتَلِفًا بِهِ فإن الْمَذَاهِبَ لِأَهْلِ الْفَتْوَى فَإِنْ بَانَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ الذي ذَكَرُوهُ من أَهْلِ الْفَتْوَى فَسَيَأْتِي في بَابِهِ وَالْكَلَامُ الْكَافِي في ذلك أَنَّهُ إنْ كان مُفْتِيًا اُعْتُبِرَ خِلَافُهُ وقال الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ لَا مَدْخَلَ لِغَيْرِهِمْ فيه سَوَاءٌ الْمُتَكَلِّمُ وَغَيْرُهُ وَهُمْ الَّذِينَ تَلْقَوْا الْعِلْمَ من الصَّحَابَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ وَهُمْ الْقَائِمُونَ بِعِلْمِ الْفِقْهِ فَأَمَّا من انْفَرَدَ بِالْكَلَامِ في الْخَبَرِ وَالظِّفْرَةِ وَالدَّاخِلَةِ لم يَدْخُلْ في جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا على من ليس هو مِثْلُهُ وَإِنْ كَانُوا حُذَّاقًا بِدَقَائِقِ الْكَلَامِ كما لَا يُجْعَلُ الْحَاذِقُ من النُّقَّادِ حُجَّةً على الْبَزَّازِ في الْبَزِّ انْتَهَى مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الْمُجْتَهِدِ الْمُبْتَدِعِ في الْإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدُ الْمُبْتَدِعُ إذَا كَفَّرْنَاهُ بِبِدْعَتِهِ غَيْرُ دَاخِلٌ في الْإِجْمَاعِ بِلَا خِلَافٍ لِعَدَمِ دُخُولِهِ في مُسَمَّى الْأُمَّةِ الْمَشْهُودِ لهم بِالْعِصْمَةِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ هو كُفْرَ نَفْسِهِ قال الْهِنْدِيُّ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِإِجْمَاعِنَا على كُفْرِهِ بِسَبَبِ ذلك الِاعْتِقَادِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعُنَا وَحْدَهُ على كُفْرِهِ لو ثَبَتَ كُفْرُهُ فَإِثْبَاتُ كُفْرِهِ بِإِجْمَاعِنَا وَحْدَهُ دَوْرٌ وَأَمَّا إذَا وَافَقَنَا هو على أَنَّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ كُفْرٌ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ كُفْرُهُ لَا لِأَنَّ قَوْلَهُ مُعْتَبَرٌ في الْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ وَلَا لِإِجْمَاعِنَا وَحْدَهُ لِمَا سَبَقَ بَلْ لِأَنَّهُ لو لم يَكُنْ ما ذَهَبَ إلَيْهِ كُفْرًا إذْ ذَاكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ على الْخَطَأِ وَأَدِلَّةُ الْإِجْمَاعِ تَنْفِيهِ
الْمَذَاهِبُ في خِلَافِ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الْكَافِرِ وَأَمَّا إذَا اعْتَقَدَ ما لَا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ بَلْ التَّبْدِيعَ وَالتَّضْلِيلَ فَاخْتَلَفُوا على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا اعْتِبَارُ قَوْلِهِ لِكَوْنِهِ من أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَإِخْبَارُهُ عن نَفْسِهِ مَقْبُولٌ إذَا كان يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْكَذِبِ وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَكَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ كما سَنَذْكُرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِنَصِّهِ على قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْهَوَى وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال أَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُعْتَبَرُ في الْإِجْمَاعِ وِفَاقُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَلَا اعْتِبَارَ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ في الْفِقْهِ وَإِنْ اُعْتُبِرَ في الْكَلَامِ هَكَذَا رَوَى أَشْهَبُ عن مَالِكٍ وَرَوَاهُ الْعَبَّاسُ بن الْوَلِيدِ عن الْأَوْزَاعِيِّ وأبو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيَّ عن مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وَذَكَرَ أبو ثَوْرٍ في مَنْثُورَاتِهِ أَنَّ ذلك قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الحديث ا هـ وقال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ هل يَقْدَحُ خِلَافُ الْخَوَارِجِ في الْإِجْمَاعِ فيه قَوْلَانِ قال وَلَا يَخْرُجُ عن الْإِجْمَاعِ من كان من أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ بِهِمْ الْأَهْوَاءُ كَمَنْ قال بِالْقَدَرِ من حَمَلَةِ الْآثَارِ وَمَنْ رَأَى الْإِرْجَاءَ وَغَيْرُ ذلك من اخْتِلَافِ آرَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ إذَا كان من أَهْلِ الْفِقْهِ فإذا قِيلَ قالت الْخَطَّابِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ كَذَا لم يُلْتَفَتْ إلَى هَؤُلَاءِ في الْفِقْهِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِهِ وقال ابن الْقَطَّانِ الْإِجْمَاعُ عِنْدَنَا إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَمَّا من كان من أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَلَا مَدْخَلَ له فيه قال قال أَصْحَابُنَا في الْخَوَارِجِ لَا مَدْخَلَ لهم في الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ لِأَنَّهُمْ ليس لهم أَصْلٌ يَنْقُلُونَ عنه لِأَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ سَلَفَنَا الَّذِينَ أَخَذْنَا عَنْهُمْ أَصْلَ الدِّينِ انْتَهَى وَمِمَّنْ اخْتَارَ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ من الْحَنَفِيَّةِ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي أبو يَعْلَى وَاسْتَقْرَأَهُ من كَلَامِ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ لَا يَشْهَدُ رَجُلٌ عِنْدِي ليس هو عِنْدِي بِعَدْلٍ وَكَيْفَ أُجَوِّزُ حُكْمَهُ قال الْقَاضِي يَعْنِي الْجَهْمِيَّ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ عليه وَيَنْعَقِدُ على غَيْرِهِ أَيْ أَنَّهُ يَجُوزُ له مُخَالَفَةُ من عَدَاهُ إلَى ما أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُ حَكَاهُ الْآمِدِيُّ وَتَابَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَنْكَرَ عليه بَعْضُهُمْ وقال أَرَى حِكَايَتَهُ لِغَيْرِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَمَنَعَ من بَقَائِهِمَا على إطْلَاقِهِمَا لِوُقُوعِ مَسْأَلَتَيْنِ في بَابَيْ الِاجْتِهَادِ
وَالتَّقْلِيدِ تَنْفِي ذلك إحْدَاهُمَا اتِّفَاقُهُمْ على أَنَّ الْمُجْتَهِدَ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ مَمْنُوعٌ من التَّقْلِيدِ وَأَنَّهُ يَجِبُ عليه الْعَمَلُ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَالْقَوْلُ هُنَا بِأَنَّهُ يَجِبُ عليه الْعَمَلُ بِقَوْلِ من خَالَفَهُ مُعَارِضٌ لِذَلِكَ الِاتِّفَاقِ وَثَانِيهِمَا اتِّفَاقُهُمْ على أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ من عُرِفَ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عليه تَقْلِيدُ من عُرِفَ بِضِدِّ ذلك وإذا ثَبَتَ هذا اسْتَحَالَ بَقَاءُ الْقَوْلَيْنِ في هذه الْمَسْأَلَةِ على إطْلَاقِهِمَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ من يقول لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ يَعْنِي في حَقِّ نَفْسِهِ وَمَعْنَى قَوْلِ من يقول فَيَنْعَقِدُ يَعْنِي على غَيْرِهِ وَيَصِيرُ النِّزَاعُ لَفْظًا وَعَلَى هذا يَجِبُ تَأْوِيلُ هذا الْقَوْلِ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ وَالرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين الدَّاعِيَةِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيُعْتَدُّ بِهِ حَكَاهُ ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِحْكَامِ وَنَقَلَهُ عن جَمَاهِيرِ سَلَفِهِمْ من الْمُحَدِّثِينَ وقال وهو قَوْلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمُرَاعَى الْعَقِيدَةُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَثُرَ في عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِينَ خُصُوصًا في عِلْمِ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولُوا عن الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ خِلَافًا لِمَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ كَالتَّنَاقُضِ من حَيْثُ ذِكْرُهُ وقال لَا يُعْتَدُّ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُمْ التَّشْنِيعُ عليهم بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ فَرْعَانِ أَحَدُهُمَا إذَا لم يُعْتَدَّ بِخِلَافِ من كَفَّرْنَاهُ فَلَوْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا حَالَ تَكْفِيرِهِ ثُمَّ تَابَ وَأَصَرَّ على ذلك الْخِلَافِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ الْآنَ فَلْيُبْنَ على انْقِرَاضِ الْعَصْرِ وَسَنَذْكُرُهُ الثَّانِي أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لو خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الذي خَالَفَ فيه الْمُبْتَدِعَ فَإِنْ لم يَعْلَمْ بِبِدْعَتِهِ أو عَلِمَهَا لَكِنَّهُ لم يَعْلَمْ أنها تُوجِبُ الْكُفْرَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ هل يَكُونُ مَعْذُورًا أَمْ لَا وقال الْهِنْدِيُّ إنْ لم يَعْلَمْ بِدْعَتَهُ فَمَعْذُورٌ إنْ كان مُخْطِئًا فيه حَيْثُ تَكُونُ مُوجِبَةً لِلتَّكْفِيرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ وَإِنْ عَلِمَهَا لَكِنَّهُ لم يَعْلَمْ اقْتِضَاءَهَا التَّكْفِيرَ فَغَيْرُ مَعْذُورٍ بَلْ كان يَلْزَمُهُ مُرَاجَعَةُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَإِنَّ مِثْلَ هذا الِاعْتِقَادِ هل يُكَفِّرُ أَمْ لَا
مَسْأَلَةٌ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ الْفَسَقَةُ هل يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ في الْإِجْمَاعِ في اعْتِبَارِ الْوَرَعِ في أَهْلِ الْإِجْمَاعِ خِلَافٌ فَالْفَسَقَةُ بِالْفِعْلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ إذَا بَلَغُوا في الْعِلْمِ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ هل يُعْتَبَرُ وِفَاقُهُمْ أو خِلَافُهُمْ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ كما قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ وَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِمْ وقال الرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا قال ابن بَرْهَانٍ وهو قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ قال وَنُقِلَ عن شِرْذِمَةٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ منهم إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى أَنَّ خِلَافَهُ مُعْتَدٌّ بِهِ قُلْت وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُزِيلُ اسْمَ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ قَوْلُ من عَدَاهُمْ قَوْلَ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ لَا كُلِّهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً وَإِلَيْهِ مَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاسْتُشْكِلَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْفَاسِقَ لَا يَجُوزُ له تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ في حَقِّهِ مُشْكِلٌ وَلَا يُمْكِنُ تَجْزِئَةُ الْإِجْمَاعِ حتى يَكُونَ حُجَّةً في حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً في حَقِّهِ وَاسْتَحْسَنَهُ إلْكِيَا وقال الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ وَاخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ في تَعْلِيلِهِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إخْبَارَهُ عن نَفْسِهِ لَا يَوْثُقُ بِهِ لِفِسْقِهِ فَرُبَّمَا أَخْبَرَ بِالْوِفَاقِ وهو مُخَالِفٌ أو بِالْخِلَافِ وهو مُوَافِقٌ فلما تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ قَوْلِهِ سَقَطَ أَثَرُهُ وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ ذلك بِسُقُوطِ أَثَرِ قَوْلِ الْخَضِرِ عليه السَّلَامُ على الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَيٌّ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَالثَّانِي أَنَّ الْعَدَالَةَ رُكْنٌ في الِاجْتِهَادِ فإذا فَاتَتْ الْعَدَالَةُ فَاتَتْ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ وَعَلَى الثَّانِي اقْتَصَرَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَفَرَّعُوا عليها ما إذَا أَدَّى الْفَاسِقَ اجْتِهَادُهُ إلَى حُكْمٍ في مَسْأَلَةٍ هل يَأْخُذُ بِقَوْلِهِ من عَلِمَ صِدْقَهُ في فَتْوَاهُ بِقَرَائِنَ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْفَاسِقَ يَدْخُلُ في الْإِجْمَاعِ من وَجْهٍ وَيَخْرُجُ من وَجْهٍ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ سُئِلَ عن دَلِيلِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْمِلَهُ فِسْقُهُ على اعْتِقَادِ شَرْعٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا بَأْسَ بِهِ وهو يَقْرُبُ من مَأْخَذِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلْيُعَوَّلْ عليه وَرَأَيْت في كِتَابِ
الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ أَنَّ كُلَّ من كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ سَوَاءٌ كان مُدَرِّسًا مَشْهُورًا أو خَامِلًا مَسْتُورًا وَسَوَاءٌ كان عَدْلًا أَمِينًا أو فَاسِقًا مُتَهَتِّكًا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ في ذلك على الِاجْتِهَادِ وَالْمَسْتُورُ كَالْمَشْهُورِ قال وَالْأَحْسَنُ هو الْأَوَّلُ ثُمَّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَأَمَّا الْفِسْقُ بِتَأْوِيلٍ فَلَا يَمْنَعُ من اعْتِبَارِ من يَعْتَقِدُ في الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ وقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ على قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ في اعْتِقَادِ بِدْعَةٍ لَا تُؤَدِّي إلَى التَّكْفِيرِ فَإِنْ أَدَّتْهُ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَلَا وِفَاقِهِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةُ في الْمُبْتَدِعِ مَسْأَلَةٌ هل يُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ في الْإِجْمَاعِ ذَهَبَ قَوْمٌ منهم الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَنَسَبَهُ إلَى الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ من أَنْكَرَ الْقِيَاسَ في الْحَوَادِثِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَابَعَهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ قالوا لِأَنَّ من أَنْكَرَهُ لَا يَعْرِفُ طُرُقَ الِاجْتِهَادِ وَإِنَّمَا هو مُتَمَسِّكٌ بِالظَّوَاهِرِ فَهُوَ كَالْعَامِّيِّ الذي لَا مَعْرِفَةَ له وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ من أَقْرَانِهِ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ يَلْزَمُ الْقَائِلَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ خِلَافَ مُنْكِرِ الْعُمُومِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا ذَاهِبَ إلَيْهِ قُلْت نَقَلَ الْأُسْتَاذُ عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ طَرَدَ قَوْلَهُ في مُنْكِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمَنْ تَوَقَّفَ في الظَّوَاهِرِ وَالْعُمُومِ قال لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تُسْتَنْبَطُ من هذه الْأُصُولِ فَمَنْ أَنْكَرَهَا وَتَوَقَّفَ فيها لم يَكُنْ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ بِخِلَافِهِ قال النَّوَوِيُّ في بَابِ السِّوَاكِ في شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّ مُخَالَفَةَ دَاوُد لَا تَقْدَحُ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ على الْمُخْتَارِ الذي عليه الْأَكْثَرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ وَكَذَا قال صَاحِبُ الْمُفْهِمِ جُلُّ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ على أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ بَلْ هُمْ من جُمْلَةِ الْعَوَامّ وَإِنَّ من اعْتَدَّ بِهِمْ فَإِنَّمَا ذلك لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ خِلَافَ الْعَوَامّ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُمْ في الشَّرْعِيَّاتِ كَالسُّوفِسْطَائِيَّةِ في الْعَقْلِيَّاتِ وَكَذَا قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ وَلَا يُؤْنَسُ بِوِفَاقِهِمْ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ يُعْتَبَرُ كما يُعْتَبَرُ خِلَافُ من يَنْفِي الْمَرَاسِيلَ وَيَمْنَعُ الْعُمُومَ وَمَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ على الْوُجُوبِ لِأَنَّ مَدَارَ الْفِقْهِ على هذه الطُّرُقِ وَنَقَلَ ابن الصَّلَاحِ عن الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ أَنَّهُ حَكَى عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ في الْفُرُوعِ وَيُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ في الْأُصُولِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُحَقِّقُونَ لَا يُقِيمُونَ لِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ وَزْنًا لِأَنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَادِرَةٌ عن الِاجْتِهَادِ وَلَا تَفِي النُّصُوصُ بِعُشْرِ مِعْشَارِهَا وقال في كِتَابِ اللِّعَانِ إنَّ قَوْلَ دَاوُد بِإِجْزَاءِ الرَّقَبَةِ الْمَعِيبَةِ في الْكَفَّارَةِ نَقَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِجْمَاعَ على خِلَافِهِ قال وَعِنْدِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ لو عَاصَرَ دَاوُد لَمَا عَدَّهُ من الْعُلَمَاءِ وقال الْإِبْيَارِيُّ هذا غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَنَا على الْإِطْلَاقِ بَلْ إنْ كانت الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِالْآثَارِ وَالتَّوْقِيفِ وَاللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ وَلَا مُخَالِفَ لِلْقِيَاسِ فيها لم يَصِحَّ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِمْ إلَّا على رَأْيِ من يَرَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّجَزُّؤِ لم يَمْنَعْ أَنْ يَقَعَ النَّظَرُ في فَرْعٍ هُمْ فيه مُحِقُّونَ كما نَعْتَبِرُ خِلَافَ الْمُتَكَلِّمِ في الْمَسْأَلَةِ الْكَلَامِيَّةِ لِأَنَّ له فيه مَدْخَلًا كَذَلِكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ في غَيْرِ الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ وقال ابن الصَّلَاحِ الذي اسْتَقَرَّ عليه الْأَمْرُ ما اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَحَكَاهُ عن الْجُمْهُورِ وَأَنَّ الصَّحِيحَ من الْمَذْهَبِ الِاعْتِدَادُ بِخِلَافِهِمْ وَلِهَذَا يَذْكُرُ الْأَئِمَّةُ من أَصْحَابِنَا خِلَافَهُمْ في الْكُتُبِ الْفَرْعِيَّةِ ثُمَّ قال وَاَلَّذِي أُجِيبُ بِهِ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ أَنَّ دَاوُد يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ وَيُعْتَدُّ بِهِ في الْإِجْمَاعِ إلَّا ما خَالَفَ الْقِيَاسَ وما أَجْمَعَ عليه الْقِيَاسِيُّونَ من أَنْوَاعِهِ أو بَنَاهُ على أُصُولِهِ التي قام الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ على بُطْلَانِهَا فَاتِّفَاقُ من سِوَاهُ على خِلَافِهِ إجْمَاعٌ يَنْعَقِدُ فَقَوْلُ الْمُخَالِفِ حِينَئِذٍ خَارِجٌ عن الْإِجْمَاعِ كَقَوْلِهِ في التَّغَوُّطِ في الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَتِلْكَ الْمَسَائِلِ
الشَّنِيعَةِ وفي لَا رِبَا إلَّا في النَّسِيئَةِ الْمَنْصُوصِ عليها فَخِلَافُهُ في هذا وَشَبَهُهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ ا هـ فَتَحَصَّلْنَا على خَمْسَةِ آرَاءً في الْمَسْأَلَةِ وقد اعْتَرَضَ ابن الرِّفْعَةِ على إطْلَاقِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ الْحُسَيْنَ نَقَلَ عن الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في الْكِتَابَةِ لَا أَمْتَنِعُ من كِتَابَةِ الْعَبْدِ عِنْدَ جَمْعِ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ وَإِنَّمَا أَسْتَحِبُّ الْخُرُوجَ من الْخِلَافِ فإن دَاوُد أَوْجَبَ كِتَابَةَ من جَمَعَ بين الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ وَدَاوُد من أَهْلِ الظَّاهِرِ وقد أَقَامَ الشَّافِعِيُّ لِخِلَافِهِ وَزْنًا وَاسْتَحَبَّ كِتَابَةَ من ذَكَرَهُ لِأَجْلِ خِلَافِهِ ا هـ وَهَذَا وَهْمٌ عَجِيبٌ من ابْنِ الرِّفْعَةِ لِأَنَّ دَاوُد إنَّمَا وُلِدَ قبل وَفَاةِ الشَّافِعِيِّ بِسَنَتَيْنِ لِأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمِئَتَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ خِلَافَهُ فَغَلِطَ ابن الرِّفْعَةِ لِأَجْلِ فَهْمِهِ أَنَّ هذه الْجُمْلَةَ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ هو بِفَتْحِ الْحَاءِ وهو من كَلَامِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَالْمُسْتَحِبُّ هو الْقَاضِي الْحُسَيْنُ لَكِنَّهُ عَلَّلَهُ بِتَعْلِيلٍ غَيْرِ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ نعم أَوْجَبَهَا قَبْلُ غَيْرُ دَاوُد فَالْمُرَادُ الْخِلَافُ الذي عليه دَاوُد لَا خُصُوصُ دَاوُد على أَنَّهُ قد قِيلَ إنَّ كَلَامَ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ مُسْتَقِيمٌ وَالْجُمْلَةُ من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ صَاحِبَ الظَّاهِرِ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ دَاوُد بن عبد الرحمن الْعَطَّارُ شَيْخُ الشَّافِعِيِّ بِمَكَّةَ الذي قال فيه الشَّافِعِيُّ ما رَأَيْت أَوْرَعَ منه وَلَعَلَّهُ الذي نَقَلَ عنه الشَّافِعِيُّ وُجُوبَ الْعَقِيقَةِ فإن الشَّافِعِيَّ قال كما حَكَاهُ عنه الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ في بَابِ الْعَقِيقَةِ أَفْرَطَ في الْعَقِيقَةِ رَجُلَانِ رَجُلٌ قال بِوُجُوبِهَا وهو دَاوُد وَرَجُلٌ قال بِبِدْعَتِهَا وهو أبو حَنِيفَةَ
وَكَلَامُ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ في التَّعْلِيقِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هو دَاوُد الظَّاهِرِيُّ لِأَنَّهُ نَقَلَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال أَسْتَحِبُّ كِتَابَةَ من جَمَعَ بين الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ لِلْخُرُوجِ من الْخِلَافِ فإن دَاوُد يُوجِبُ كِتَابَةَ من جَمَعَ بين الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ ولم يَقُلْ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ كما نَقَلَهُ ابن الرِّفْعَةِ مَسْأَلَةٌ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الشُّهْرَةِ في من يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ في الْإِجْمَاعِ من الْمُجْتَهِدِينَ لَا يُشْتَرَطُ في الْمُجْتَهِدِ الذي يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا في الْفُتْيَا بَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ الْخَامِلِ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّاذِّينَ حَيْثُ فَصَلَ بين الْمَشْهُورِ بِالْفَتْوَى فَيُعْتَبَرُ قَوْلُهُ دُونَ غَيْرِهِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا فيه من الصِّفَاتِ لَا بِشُهْرَتِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ مَذْهَبٍ بَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ مَهْمَا عُلِمَ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مَقْبُولُ الْفُتْيَا بِدَلِيلِ أَنَّ الذي دَلَّ على صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ مُتَنَاوِلٌ له وَلَا مَخْرَجَ عنه فَيُعْتَبَرُ قَوْلُهُ مَسْأَلَةٌ هل يُعْتَدُّ بِقَوْلِ من أَشْرَفَ على رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ من أَحْكَمَ أَكْثَرَ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ حتى لم يَبْقَ عليه إلَّا أَدَاةٌ وَاحِدَةٌ كَمَنْ أَحْكَمَ عُلُومَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ولم يَبْقَ عليه إلَّا اللُّغَةُ أو عِلْمُ التَّفْسِيرِ فَهَلْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ قال ابن بَرْهَانٍ ذَهَبَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ وَنُقِلَ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّهُ قال لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاع مع خِلَافِهِ قال ابن بَرْهَانٍ ولم يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ سِوَى الْقَاضِي وَتَرْجَمَ إلْكِيَا هذه الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ من أَشْرَفَ على رُتْبَةِ الْمُجْتَهِدِينَ قال أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَصَارَ قَاضِينَا أبو بَكْرٍ إلَى أَنَّهُ يُعْتَدُّ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ نَفْسَهُ في رُتْبَةِ الْمُجْتَهِدِينَ مَسْأَلَةٌ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ إذَا أَحْكَمَا أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ الصَّبِيُّ إذَا أَحْكَمَ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّى يُتَصَوَّرُ ذلك وَلَكِنْ يُقَدَّرُ على الْبُعْدِ قال ابن بَرْهَانٍ اتَّفَقُوا على أَنَّ خِلَافَهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ لَا أَثَرَ له في الشَّرْعِ
وَلِهَذَا أَلْغَى أَقْوَالَهُ قال وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَلِهَذَا لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْفَاسِقِ وقد سَبَقَ مَسْأَلَةٌ الِاعْتِدَادُ في الْإِجْمَاعِ بِمَنْ بَلَغَ مَبْلَغَ الِاجْتِهَادِ من النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَأَمَّا من بَلَغَ من النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ مَبْلَغَ الِاجْتِهَادِ فإنه يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مع خِلَافِهِ وَالرِّقُّ وَالْأُنُوثَةُ لَا يُؤَثِّرَانِ في اعْتِبَارِ الْخِلَافِ كما لَا يُؤَثِّرَانِ في قَبُولِ الرِّوَايَةِ وَالْفَتْوَى وقد رَجَعَ أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ إلَى فَتَاوَى عَائِشَةَ وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِلَى فَتَاوَى نَافِعٍ مولى ابْنِ عُمَرَ وَعِكْرِمَةَ مولى ابْنِ عَبَّاسٍ قبل عِتْقِهِمَا الشَّرْطُ الثَّانِي اتِّفَاقُ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ في الْبِقَاعِ وَيَتَفَرَّعُ عليه مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إذَا اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ وَخَالَفَ وَاحِدٌ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً هذا هو الْمَشْهُورُ وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَحَكَاهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيّ عن الْكَرْخِيِّ من أَصْحَابِهِمْ وَاحْتَجَّ الْقَفَّالُ بِمُخَالَفَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الْعَوْلِ وَدَعْوَتِهِ إلَى الْمُبَاهَلَةِ وَاعْتَدُّوا بِهِ خِلَافًا وَكَذَا جَزَمَ بِهِ ابن الْقَطَّانِ وَالصَّيْرَفِيُّ قال وَلَا يُقَالُ لِهَذَا شَاذٌّ لِأَنَّ الشَّاذَّ ما كان في الْجُمْلَةِ ثُمَّ شَذَّ عليهم وَكَيْفَ يَكُونُ مَحْجُوجًا بِهِمْ وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْإِجْمَاعِ إلَّا بِهِ قال إلَّا أَنْ يُجْمِعُوا على شَيْءٍ من جِهَةِ الْحِكَايَةِ فَلَزِمَهُ قَبُولُ خَبَرِهِمْ أَمَّا من جِهَةِ الِاجْتِهَادِ فَلَا لِأَنَّ الْحَقَّ قد يَكُونُ معه وَدَلِيلُ النَّظَرِ بَاقٍ وَاحْتَجَّ جَمْعٌ من أَصْحَابِنَا بِقِصَّةِ الصِّدِّيقِ في قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ قال في الْبَيَانِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرُوا على أبي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه ولم يَكُنْ قَوْلُهُمْ حُجَّةً ا ه
وَهَذَا ليس مَحَلَّ الْخِلَافِ فإن الْمُجْتَهِدَ ما دَامَ في مُهْلَةِ النَّظَرِ لَا يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ حُجَّةً عليه فَإِنْ رَجَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إلَى وَاحِدٍ قال الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لم يَكُنْ قَوْلُهُ حُجَّةً لِأَنَّ اسْمَ الْإِجْمَاعِ يَسْتَدْعِي عَدَدًا فَلَا أَقَلَّ من اثْنَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ وَالْمَذْهَبُ انْعِقَادُ إجْمَاعِ الْأَكْثَرِ مع مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عن مُحَمَّدِ بن جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي الْحُسَيْنِ بن الْخَيَّاطِ من مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ أُسْتَاذِ الْكَعْبِيِّ وزاد الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وابن الْأَخْشَادِ من أَصْحَابِ الْجُبَّائِيُّ وهو رِوَايَةُ أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ ثُمَّ رَدَّهُ بِمُخَالَفَةِ الصِّدِّيقِ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ في قِتَالِ الرِّدَّةِ ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْهِ وَإِلَى هذا الْمَذْهَبِ يَمِيلُ كَلَامُ الشَّيْخِ أبي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ فإنه قال في كِتَابِهِ الْمُحِيطِ وَالشَّرْطُ أَنْ يُجْمِعَ جُمْهُورُ تِلْكَ الصَّنْعَةِ وَوُجُوهُهُمْ وَمُعْظَمُهُمْ وَلَسْنَا نَشْتَرِطُ قَوْلَ جَمِيعِهِمْ وَكَيْفَ نَشْتَرِطُ ذلك وَرُبَّمَا يَكُونُ في أَقْطَارِ الْأَرْضِ من الْمُجْتَهِدِينَ من لم يَسْمَعْ بِهِ فإن السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَيَسْتَسِرُّونَ بِالْعِلْمِ فَرُبَّمَا كان الرَّجُلُ قد أَخَذَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَلَا يَعْلَمُ ذلك جَارُهُ قال وَالدَّلِيلُ على هذا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اسْتَخْلَفُوا أَبَا بَكْرٍ انْعَقَدَتْ خِلَافَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْحَاضِرِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ من الصَّحَابَةِ من غَابَ قبل وَفَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَمِنْ حَاضِرِي الْمَدِينَةِ من لم يَحْضُرْ السَّقِيفَةَ ولم يُعْتَبَرْ ذلك مع اتِّفَاقِ الْأَكْثَرِينَ قال الْهِنْدِيُّ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ وَبِهِ يُشْعِرُ إيرَادُ بَعْضِهِمْ وَاحْتَجَّ ابن جَرِيرٍ على عَدَمِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْأَقَلِّ بِارْتِكَابِهِ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عنه وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عنه هو الشَّاقُّ لِعَصَا الْمُسْلِمِينَ لَا في أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ ثُمَّ إنَّ ابْنَ جَرِيرٍ قد شَذَّ عن الْجَمَاعَةِ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَيَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ وَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ بِعَيْنِ ما ذَكَرَ وَالثَّالِثُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَرَجَّحَهُ ابن الْحَاجِبِ فإنه قال لو عُدَّ الْمُخَالِفُ مع كَثْرَةِ الْمُجْمِعِينَ لم يَكُنْ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حُجَّةٌ لِبُعْدِ أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ مُتَمَسَّكَ الْمُخَالِفِ وَالرَّابِعُ أَنَّ عَدَدَ الْأَقَلِّ إنْ بَلَغَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ لم يُعْتَبَرْ بِالْإِجْمَاعِ دُونَهُ وَإِلَّا اُعْتُدَّ بِهِ حَكَاهُ الْآمِدِيُّ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ إنَّهُ الذي يَصِحُّ عن ابْنِ جَرِيرٍ قِيلَ وهو مَبْنِيٌّ على أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ الْعَقْلُ لَا السَّمْعُ وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ يُشْتَرَطُ له عَدَدُ التَّوَاتُرِ إذْ التَّوَاتُرُ يُفِيدُ الْعِلْمَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مع الْأَقَلِّ الْمُخَالِفِ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ لِأَنَّهُ ليس بِقَاطِعٍ إذَنْ
وَالْخَامِسُ اتِّبَاعُ الْأَكْثَرِ أَوْلَى وَيَجُوزُ خِلَافُهُ حَكَاهُ الْهِنْدِيُّ وَالسَّادِسُ يَضُرُّ الِاثْنَانِ لَا الْوَاحِدُ وَالسَّابِعُ يَضُرُّ الثَّلَاثَةُ لَا الْوَاحِدُ وَلَا الِاثْنَانِ وَخَصَّ ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ خِلَافَ ابْنِ جَرِيرٍ بِالْوَاحِدِ وَحَكَى الِاتِّفَاقَ على أَنَّ خِلَافَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ يَجْعَلُ الْمَسْأَلَةَ خِلَافًا وَيَخْرُجُ منه طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ بِضَرَرِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالثَّامِنُ إنْ سَوَّغَتْ الْجَمَاعَةُ الِاجْتِهَادَ في مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ كان خِلَافَهُ مُعْتَدًّا بِهِ كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الْعَوْلِ وَإِنْ أَنْكَرُوهُ لم يُعْتَدَّ بِهِ كَخِلَافِهِ في رِبَا الْفَضْلِ قَالَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيّ وأبو عبد اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ قِيلَ وهو رَاجِعٌ إلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِالْأَكْثَرِ أَعْنِي تَسْوِيغَهُمْ الْمُخَالَفَةَ وَعَدَمَهُ فَلَوْ لم يَكُنْ اتِّفَاقُهُمْ لم يَكُنْ تَسْوِيغُهُمْ الْمَذْكُورُ حُجَّةً وَإِيجَابُ اعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ أَوْلَى وَيَجُوزُ خِلَافُهُ وَالتَّاسِعُ إنْ كان يَدْفَعُ خِلَافَ الْوَاحِدِ نَصٌّ لم يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ كَخِلَافِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلصَّحَابَةِ في الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ ولم يَجْعَلْهَا من الْقُرْآنِ فلم يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ لِوُجُودِ النَّصِّ وَإِنْ كان لَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَخَالِفِهِ نَصٌّ كان خِلَافُهُ مَانِعًا من انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كان من أَكَابِرِ الْعَصْرِ أو من أَصَاغِرِهِمْ سِنًّا كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ في الْعَوْلِ فَصَارَ خِلَافُهُ خِلَافًا وَجَزَمَ بهذا التَّفْصِيلِ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في كِتَابِ الْقَضَاءِ وهو قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ الْعَاشِرُ لَا يُعْتَبَرُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ في أُصُولِ الدِّينِ وَالتَّأْثِيمِ وَالتَّضْلِيلِ بِخِلَافِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ عن ابْنِ الْأَخْشَادِ وَيَجِيءُ مَذْهَبٌ آخَرُ من الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِفُ تَابِعِيًّا وَالْمُجْمِعُونَ صَحَابَةً وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ وَآخَرُ مُفَصِّلٌ بين أَنْ يَنْشَأَ مَعَهُمْ وَيُخَالِفَهُمْ أو يَنْشَأَ بَعْدَهُمْ مَسْأَلَةٌ لَا اعْتِبَارَ لِلْخِلَافِ الثَّانِي الْخِلَافُ الثَّانِي لَا اعْتِبَارَ له كما أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْبَعِيدَ لَا يُخْرِجُ النَّصَّ عن كَوْنِهِ نَصًّا وَلِهَذَا عَدَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ جُمْلَةً من التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ وَهَكَذَا يقول الْحَنَفِيَّةُ في الْخِلَافِ في الشَّاذِّ إنَّهُ لَا خِلَافَ وَلَا اخْتِلَافَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ الْقَرِيبُ الْمَأْخَذِ بِخِلَافِ الشَّاذِّ الْبَعِيدِ فَهُوَ خِلَافٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ
مَسْأَلَةٌ الْأَوْجُهُ الْمَحْكِيَّةُ هل تَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ الْأَوْجُهُ الْمَحْكِيَّةُ في الْمَذْهَبِ هل تَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ لم أَرَ فيه نَصًّا لِلْأُصُولِيِّينَ وَيُشْبِهُ تَخْرِيجُهُ على أَنَّهُ لَازِمُ الْمَذْهَبِ أَمْ من جِهَةِ أَنَّ الْأَوْجُهَ مَأْخُوذَةٌ من قَوَاعِدَ عَامَّةٍ لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَإِلَّا فَلَا لَكِنْ رَأَيْت ابْنَ الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ في أَوَّلِ الْقَضَاءِ صَرَّحَ بِحِكَايَةِ خِلَافٍ في أنها هل تَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ أَمْ لَا وقال الصَّحِيحُ أنها تَقْدَحُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ التَّابِعِيُّ الْمُجْتَهِدُ هل يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ في إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ إذَا أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ إذَا أَدْرَكَ التَّابِعِيُّ عَصْرَ الصَّحَابَةِ وهو من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ دخل مَعَهُمْ فيه وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ إلَّا بِهِ على أَصَحِّ الْوُجُوهِ عِنْدَ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيِّ في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ له قال لِأَنَّهُمَا لم يَخْتَلِفَا إلَّا في رُؤْيَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْحَقِّ معه وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ وَالسَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ قال وَلِهَذَا قال أبو حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ في الْإِشْعَارِ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ كان يَكْرَهُهُ وهو مِمَّنْ أَدْرَكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ فَلَا يَثْبُتُ إجْمَاعُهُمْ بِدُونِ قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ إذْ ذَاكَ بَعْضُ الْأُمَّةِ وَالْعِصْمَةُ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِجَمِيعِهِمْ وَسُئِلَ ابن عُمَرَ عن فَرِيضَةٍ فقال سَلُوا ابْنَ جُبَيْرٍ فإنه أَعْلَمُ بها وكان أَنَسٌ يُسْأَلُ فيقول سَلُوا مَوْلَانَا الْحَسَنَ فإنه سمع وَسَمِعْنَا وَحَفِظَ وَنَسِينَا وَسُئِلَ ابن عَبَّاسٍ عن ذَبْحِ الْوَلَدِ فَأَشَارَ إلَى مَسْرُوقٍ فلما بَلَغَهُ جَوَابُهُ تَابَعَهُ عليه وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَاخْتَارَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وَنَقَلَهُ في الْأَوْسَطِ عن إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ وَنُفَاةِ الْقِيَاسِ وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عن ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَقْتَ حُدُوثِ تِلْكَ النَّازِلَةِ فَيُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَإِلَّا فَلَا وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ قال وَمِنْ
أَصْحَابِنَا من رَتَّبَ الْمَسْأَلَةَ فقال إنْ بَلَغَ التَّابِعِيُّ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ في عَصْرِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ وَقَعَتْ حَادِثَةٌ فَأَجْمَعُوا وَخَالَفَهُمْ اُعْتُدَّ بِخِلَافِهِ وَإِنْ أَجْمَعُوا على قَوْلٍ ثُمَّ أَدْرَكَهُمْ وَخَالَفَهُمْ فَمَنْ لم يَعْتَبِرْ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لم يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِ وَمَنْ اعْتَبَرَ انْقِرَاضَهُ فَفِي الِاعْتِدَادِ بِهِ وَجْهَانِ ا هـ وَصَوَّرَ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ الْمَسْأَلَةَ بِالْمَعَاصِرِ الْمُجْتَهِدِ فقال يُعْتَبَرُ وِفَاقُهُ في حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من لم يَعْتَبِرْهُ وهو غَلَطٌ لِأَنَّهُ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ الْحَادِثَةِ فَاعْتُبِرَ وِفَاقُهُ كَالْوَاحِدِ من الصَّحَابَةِ قال فَأَمَّا من عَاصَرَهُمْ وهو صَبِيٌّ لم يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ بَلَغَهَا وَخَالَفَهُمْ فَهَلْ يُعَدُّ خِلَافُهُ خِلَافًا وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ وقال الْقَفَّالُ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا هذا وَالثَّانِي يُعَدُّ خِلَافًا لِقِصَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الْعَوْلِ ا هـ وَاَلَّذِي رَأَيْتُهُ في كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ ما نَصُّهُ وَمَتَى أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ على شَيْءٍ ثُمَّ حَدَثَ في عَصْرِهِمْ من بَلَغَ مَبْلَغَ الِاسْتِدْلَالِ لم يَكُنْ له مُخَالَفَةُ إجْمَاعِهِمْ فَإِنْ حَدَثَتْ حَادِثَةٌ في الْوَقْتِ الذي قد جاء فيه التَّابِعِيُّ مُسْتَدِلًّا فَأَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ اسْتِنْبَاطًا وَرَأَى خِلَافَهُ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ خِلَافٌ وَفِيهِ نَظَرٌ هذا كَلَامُهُ وَحَكَى في الْقَوَاطِعِ الْوَجْهَيْنِ ثُمَّ قال هذا إذَا بَلَغَ التَّابِعِيُّ فَأَمَّا إذَا تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ على قَوْلِ التَّابِعِيِّ فإنه يَكُونُ التَّابِعِيُّ مَحْجُوجًا بِذَلِكَ قَطْعًا وقد اُعْتُبِرَ ذلك من شَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ وقد قُلْنَا إنَّ هذا الِاعْتِبَارَ يُؤَدِّي إلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعٌ ا هـ وَكَلَامُ الْآمِدِيَّ يَقْتَضِي طَرْدَ الْخِلَافِ مُطْلَقًا فإنه قال الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعُهُمْ دُونَهُ اخْتَلَفُوا فَمَنْ لم يَشْتَرِطْ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ قال إنْ كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قبل إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لم يَنْعَقِدْ إجْمَاعُهُمْ مع مُخَالَفَتِهِ وَإِنْ بَلَغَ الِاجْتِهَادَ بَعْدَ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ لم يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ قَالَهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ وَهِيَ رِوَايَةٌ عن أَحْمَدَ وَمَنْ شَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ قال لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مع مُخَالَفَتِهِ سَوَاءٌ كان مُجْتَهِدًا حَالَ إجْمَاعِهِمْ أو صَارَ مُجْتَهِدًا بَعْدَ ذلك في عَصْرِهِمْ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ أَصْلًا وهو مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ في الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
قال وَالْمُخْتَارُ إنْ كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَالَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لم يَنْعَقِدْ إجْمَاعُهُمْ مع مُخَالَفَتِهِ انْتَهَى وَتَحَصَّلَ أَنَّ اللَّاحِقَ إمَّا أَنْ يَتَأَهَّلَ قبل الِانْقِرَاضِ أو بَعْدَهُ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِمَّا أَنْ يُوَافِقَ أو يُخَالِفَ أو يَسْكُتَ وَالْقَائِلُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ لَا يَجْعَلُ لِذَلِكَ أَثَرًا وَالْقَائِلُ بِهِ اثْنَانِ قَائِلٌ إنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وِفَاقُهُ بَلْ يُعْتَبَرُ عَدَمُ خِلَافِهِ وَقَائِلٌ يَعْتَبِرُهُمَا تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ الْكَلَامُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مع الْقَائِلِينَ بِأَنَّ خِلَافَ الْأَقَلِّ يَنْدَفِعُ بِهِ إجْمَاعُ الْأَكْثَرِ فَلِهَذَا ذُكِرَتْ الثَّانِي لَا يَخْتَصُّ هذا بِالتَّابِعِيِّ مع الصَّحَابَةِ بَلْ إذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْعَصْرِ على حُكْمٍ فَنَشَأَ قَوْمٌ مُجْتَهِدُونَ قبل انْقِرَاضِهِمْ فَخَالَفُوهُمْ وَقُلْنَا انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطٌ فَهَلْ يَرْتَفِعُ الْإِجْمَاعُ على مَذْهَبَيْنِ وَإِنْ قُلْنَا لَا يُعْتَبَرُ الِانْقِرَاضُ فَلَا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ بين الْقَائِلِينَ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَهُمْ أَحَقُّ الناس بِذَلِكَ وَنَقَلَ عبد الْوَهَّابِ عن قَوْمٍ من الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ ليس بِحُجَّةٍ وَهَكَذَا إجْمَاعُ غَيْرِهِمْ من الْعُلَمَاءِ في سَائِرِ الْأَعْصَارِ خِلَافًا لِدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ حَيْثُ قال إجْمَاعُ اللَّازِمِ يَخْتَصُّ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ فَأَمَّا إجْمَاعُ من بَعْدَهُمْ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ الْبُسْتِيِّ مِنَّا في صَحِيحِهِ وَقِيلَ إنَّ أَحْمَدَ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ في رِوَايَةِ أبي دَاوُد فقال الْإِجْمَاعُ أَنْ يُتَّبَعَ ما جاء عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَنْ الصَّحَابَةِ وهو بَعْدُ في التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ لَكِنَّهُ في الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى سَوَّى بين الْكُلِّ فَمِنْ أَصْحَابِهِ من أَجْرَى له قَوْلَيْنِ وَمِنْهُمْ من قَطَعَ بِالثَّانِي وَحَمَلَ الْأَوَّلَ على آحَادِ التَّابِعِينَ لَا إجْمَاعِهِمْ وَأَمَّا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ إذَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ على شَيْءٍ سَلَّمْنَاهُ وإذا أَجْمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ فَلَيْسَ ذلك مُوَافِقًا لِدَاوُدَ لِأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ من التَّابِعِينَ فَقَدْ رَأَى
أَنَسًا رضي اللَّهُ عنه وَقِيلَ أَدْرَكَ أَرْبَعَةً منهم وَلَنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَكُونُ عن أَصْلٍ وهو شَامِلٌ لِلْكُلِّ وَبِالشَّهَادَةِ بِالْعِصْمَةِ وهو عَامٌّ فَتَخْصِيصُهُ تَحَكُّمٌ وهو كَالْقَائِلِ لَا حُجَّةَ إلَّا في قِيَاسِ الصَّحَابَةِ بِدَلِيلِ وَيَتَّبِعْ غير سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَصَّ أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ النَّقْلَ عن دَاوُد بِمَا إذَا أَجْمَعُوا عن نَصِّ كِتَابٍ أو سُنَّةٍ قال فَأَمَّا إذَا أَجْمَعُوا على حُكْمٍ من جِهَةِ الْقِيَاسِ فَاخْتَلَفُوا فيه وقد سَبَقَ وقال ابن الْقَطَّانِ ذَهَبَ دَاوُد وَأَصْحَابُنَا إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا هو إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَقَطْ وهو قَوْلٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَكُونُ عن تَوْقِيفٍ وَالصَّحَابَةُ هُمْ الَّذِينَ شَهِدُوا التَّوْقِيفَ فَإِنْ قِيلَ فما يَقُولُونَ في إجْمَاعِ من بَعْدَهُمْ أَيَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا على خَطَأٍ قُلْنَا هذا لَا يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَجَابَ عن ذلك بِقَوْلِهِ لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي ظَاهِرِينَ على الْحَقِّ وَالثَّانِي أَنَّ سَعَةَ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةَ الْعَدَدِ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا ضَبْطَ أَقْوَالِهِمْ وَمَنْ ادَّعَى هذا لَا يَخْفَى على أَحَدٍ كَذِبُهُ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على الِانْفِرَادِ لَا يَكُونُ حُجَّةً وقال مَالِكٌ إذَا أَجْمَعُوا لم يُعْتَدَّ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ قال الشَّافِعِيُّ في كِتَابِ اخْتِلَافِ الحديث قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّهُ حُجَّةٌ وما سَمِعْت أَحَدًا ذَكَرَ قَوْلَهُ إلَّا عَابَهُ وَإِنَّ ذلك عِنْدِي مَعِيبٌ انْتَهَى وقال الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ في كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ قال مَالِكٌ إذَا كان الْأَمْرُ بِالْمَدِينَةِ ظَاهِرًا مَعْمُولًا بِهِ لم أَرَ لِأَحَدٍ خِلَافَهُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ ا هـ وَنَقَلَ عنه الصَّيْرَفِيُّ في الْأَعْلَامِ وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا هو إجْمَاعُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وهو بَعِيدٌ وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ في كِتَابِ الرَّدِّ على الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ أَرَادَ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ وَحْدَهُمْ وقال إنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا على مَسْأَلَةٍ انْعَقَدَ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ ولم يَجُزْ لِغَيْرِهِمْ مُخَالَفَتُهُمْ وَالْمَشْهُورُ عنه الْأَوَّلُ لَكِنْ يُشْكِلُ على ذلك أَنَّهُ في الْمُوَطَّأِ في بَابِ الْعَيْبِ
في الرَّقِيقِ نَقَلَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَبْرَأُ من الْعَيْبِ أَصْلًا عَلِمَهُ أو جَهِلَهُ ثُمَّ خَالَفَهُمْ فَلَوْ كان يَرَى أَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ لم تَسَعْ مُخَالَفَتُهُ وَعَلَى الْمَشْهُورِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فقال الْبَاجِيُّ إنَّمَا أَرَادَ فِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ كَالصَّاعِ وَالْمُدِّ وَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَعَدَمِ الزَّكَوَاتِ في الْخَضْرَاوَاتِ مِمَّا تَقْضِي الْعَادَةُ بِأَنْ يَكُونَ في زَمَنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فإنه لو تَغَيَّرَ عَمَّا كان عليه لَعُلِمَ فَأَمَّا مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ فَهُمْ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ وَحَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن شَيْخِهِ الْأَبْهَرِيُّ وَقِيلَ يُرَجَّحُ نَقْلُهُمْ على نَقْلِ غَيْرِهِمْ وقد أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه إلَى هذا في الْقَدِيمِ وَرَجَّحَ رِوَايَةَ أَهْلِ الدِّينِ على غَيْرِهِمْ وَقِيلَ أَرَادَ بِذَلِكَ الصَّحَابَةَ وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَعَلَيْهِ ابن الْحَاجِبِ وَادَّعَى ابن تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بِنَاءً على قَوْلِهِمَا إنَّ اجْتِهَادَهُمْ في ذلك الزَّمَنِ مُرَجَّحٌ على اجْتِهَادِ غَيْرِهِمْ فَيُرَجَّحُ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ لِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وقال مَرَّةً إنَّهُ مَحْمُولٌ على إجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ من أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحُكِيَ عن يُونُسَ بن عبد الْأَعْلَى قال قال لي الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه إذَا وَجَدْت مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ على شَيْءٍ فَلَا يَدْخُلْ قَلْبَك شَكٌّ أَنَّهُ الْحَقُّ وَكُلَّمَا جَاءَك شَيْءٌ غَيْرُ ذلك فَلَا تَلْتَفِتْ إلَيْهِ وَلَا تَعْبَأْ بِهِ فَقَدْ وَقَعْتَ في الْبِحَارِ وَوَقَعْتَ في اللُّجَجِ وفي لَفْظٍ له إذَا رَأَيْت أَوَائِلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على شَيْءٍ فَلَا تَشُكَّنَّ أَنَّهُ الْحَقُّ وَاَللَّهِ إنِّي لَك نَاصِحٌ وَالْقُرْآنِ لَك نَاصِحٌ وإذا رَأَيْت قَوْلَ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ في حُكْمٍ أو سُنَّةٍ فَلَا تَعْدِلْ عنه إلَى غَيْرِهِ وقال مَالِكٌ قَدِمَ عَلَيْنَا ابن شِهَابٍ قَدْمَةً فَقُلْت له طَلَبْتَ الْعِلْمَ حتى إذَا كنت وِعَاءً من أَوْعِيَتِهِ تَرَكْت الْمَدِينَةَ فقال كُنْت أَسْكُنُ الْمَدِينَةَ وَالنَّاسُ نَاسٌ فلما تَغَيَّرَتْ الناس تَرَكْتُهُمْ رَوَاهُ عنه عبد الرَّزَّاقِ ا هـ وَقِيلَ مَحْمُولٌ على الْمَنْقُولَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ كما سَبَقَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَرَافِيُّ في شَرْحِ الْمُنْتَخَبِ وَصُحِّحَ في مَكَان آخَرَ التَّعْمِيمُ في مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَفِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلَا فَرْقَ في مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ من الْعُلَمَاءِ إذَا لم يَقُمْ دَلِيلٌ على عِصْمَةِ بَعْضِ الْأُمَّةِ نعم ما طَرِيقُهُ النَّقْلُ إذَا عُلِمَ اتِّصَالُهُ وَعَدَمُ تَغَيُّرِهِ وَاقْتَضَتْهُ الْعَادَةُ من صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَوْ بِالتَّقْرِيرِ عليه فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ قَوِيٌّ يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ
عَادِيٍّ قَالَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على ضَرْبَيْنِ نَقْلِيٌّ وَاسْتِدْلَالِيٌّ فَالْأَوَّلُ على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ منه نَقْلُ شَرْعٍ مُبْتَدَأٍ من جِهَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إمَّا من قَوْلٍ أو فِعْلٍ أو إقْرَارٍ فَالْأَوَّلُ كَنَقْلِهِمْ الصَّاعَ وَالْمُدَّ وَالْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَحْبَاسِ وَنَحْوِهِ وَالثَّانِي نَقْلُهُمْ الْمُتَّصِلَ كَعُهْدَةِ الرَّقِيقِ وَغَيْرِ ذلك وَالثَّالِثُ كَتَرْكِهِمْ أَخْذَ الزَّكَاةِ من الْخَضْرَاوَاتِ مع أنها كانت تُزْرَعُ بِالْمَدِينَةِ وكان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ لَا يَأْخُذُونَهَا منها قال وَهَذَا النَّوْعُ من إجْمَاعِهِمْ حُجَّةٌ يَلْزَمُ عِنْدَنَا الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَتَرْكُ الْأَخْبَارِ وَالْمَقَايِيسِ له لَا اخْتِلَافَ بين أَصْحَابِنَا فيه قال وَالثَّانِي وهو إجْمَاعُهُمْ من طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ ليس بِإِجْمَاعٍ وَلَا مُرَجَّحٍ وهو قَوْلُ أبي بَكْرٍ وَأَبِي يَعْقُوبَ الرَّازِيَّ وَالْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَالطَّيَالِسِيِّ وَأَبِي الْفَرَجِ وَالْأَبْهَرِيُّ وَأَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَذْهَبًا لِمَالِكٍ ثَانِيهَا أَنَّهُ مُرَجَّحٌ وَبِهِ قال بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ثَالِثُهَا أَنَّهُ حُجَّةٌ وَإِنْ لم يَحْرُمْ خِلَافُهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ أبو الْحُسَيْن بن عُمَرَ انْتَهَى وقال أبو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فيه لِأَنَّهُ من بَابِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَلَا فَرْقَ بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ إذْ كُلُّ ذلك نَقْلٌ مُحَصِّلٌ لِلْعَمَلِ الْقَطْعِيِّ وَأَنَّهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ تُحِيلُ الْعَادَةُ عليهم التَّوَاطُؤَ على خِلَافِ الصِّدْقِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ما كان هذا سَبِيلُهُ أَوْلَى من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ وَالظَّوَاهِرِ وَأَمَّا الثَّانِي فَالْأَوَّلُ منه أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْفَرَدَ وَمُرَجِّحٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَدَلِيلُنَا على ذلك أَنَّ الْمَدِينَةَ مُفْرَزُ الْإِيمَانِ وَمَنْزِلُ الْأَحْكَامِ وَالصَّحَابَةُ هُمْ الْمُشَافِهُونَ لِأَسْبَابِهَا الْفَاهِمُونَ لِمَقَاصِدِهَا ثُمَّ التَّابِعُونَ نَقَلُوهَا وَضَبَطُوهَا وَعَلَى هذا فَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ليس بِحُجَّةٍ من حَيْثُ إجْمَاعُهُمْ بَلْ إمَّا هو من جِهَةِ نَقْلِهِمْ الْمُتَوَاتِرِ وَإِمَّا من
جِهَةِ شَهَادَتِهِمْ لِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الدَّالَّةِ على مَقَاصِدِ الشَّرْعِ قال وَهَذَا النَّوْعُ الِاسْتِدْلَالِيُّ إنْ عَارَضَهُ خَبَرٌ فَالْخَبَرُ أَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ من جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وهو الطَّرِيقُ وَعَمَلُهُمْ الِاجْتِهَادِيُّ مَظْنُونٌ من جِهَةِ مُسْتَنَدِ اجْتِهَادِهِمْ وَمِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ وكان الْخَبَرُ أَوْلَى وقد صَارَ كَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ أَوْلَى من الْخَبَرِ بِنَاءً منهم على أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ له بِالْعِصْمَةِ كُلُّ الْأُمَّةِ لَا بَعْضُهَا ا هـ وقد تَحَرَّرَ بهذا مَوْضِعُ النِّزَاعِ وَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ وَهَؤُلَاءِ أَعْرَفُ بِذَلِكَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَاتِبُ عِدَّةٌ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّحْقِيقُ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ منها ما هو كَالْمُتَّفَقِ عليه وَمِنْهَا ما يقول بِهِ جُمْهُورُهُمْ وَمِنْهَا ما يقول بِهِ بَعْضُهُمْ فَالْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ إحْدَاهَا ما يَجْرِي مَجْرَى النَّقْلِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَنَقْلِهِمْ لِمِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ فَهَذَا حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلِهَذَا رَجَعَ أبو يُوسُفَ إلَى مَالِكٍ فيه وقال لو رَأَى صَاحِبِي كما رَأَيْت لَرَجَعَ كما رَجَعْت وَرَجَعَ إلَيْهِ في الْخَضْرَاوَاتِ فقال هذه بِقَائِلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لم يُؤْخَذْ منها صَدَقَةٌ على عَهْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا أبي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَسَأَلَ عن الْأَحْبَاسِ فقال هذا حَبِيسُ فُلَانٍ وَهَذَا حَبِيسُ فُلَانٍ فذكر أَعْيَانَ الصَّحَابَةِ فقال له أبو يُوسُفَ وَكُلُّ هذا قد رَجَعْت إلَيْك الثَّانِيَةُ الْعَمَلُ الْقَدِيمُ بِالْمَدِينَةِ قبل مَقْتَلِ عُثْمَانَ فَهَذَا كُلُّهُ هو حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ حُجَّةٌ عِنْدَنَا أَيْضًا وَنَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ فقال في رِوَايَةِ يُوسُفَ بن عبد الْأَعْلَى إذَا رَأَيْت قُدَمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على شَيْءٍ فَلَا يَبْقَ في قَلْبِك رَيْبٌ أَنَّهُ الْحَقُّ وَكَذَا هو ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ فإن عِنْدَهُ أَنَّ ما سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا وقال أَحْمَدُ كُلُّ بَيْعَةٍ كانت بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَيْعَةَ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ كانت بِالْمَدِينَةِ وَبَعْدَ ذلك لم يُعْقَدْ بها بَيْعَةٌ وَيُحْكَى عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ قَوْلَ الْخُلَفَاءِ عِنْدَهُ حُجَّةٌ الثَّالِثَةُ إذَا تَعَارَضَ في الْمَسْأَلَةِ دَلِيلَانِ كَحَدِيثَيْنِ وَقِيَاسَيْنِ فَهَلْ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ مُرَجَّحٌ وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ إلَى الْمَنْعِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَبِهِ
قال الْقَاضِي أبو يَعْلَى وابن عَقِيلٍ وَالثَّانِي مُرَجَّحٌ وَبِهِ قال أبو الْخَطَّابِ وَنُقِلَ عن نَصِّ أَحْمَدَ وَمِنْ كَلَامِهِ إذَا رَوَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَدِيثًا وَعَمِلُوا بِهِ فَهُوَ الْغَايَةُ الرَّابِعَةُ النَّقْلُ الْمُتَأَخِّرُ بِالْمَدِينَةِ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَبِهِ قال الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وهو قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِ مَالِكٍ كما ذَكَرَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ فقال إنَّ هذا ليس إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَإِنَّمَا يَجْعَلُهُ حُجَّةً بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ من أَصْحَابِهِ وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ من أَئِمَّةِ النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ وَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ تَقْلِيدٍ وَجَعَلَ أبو الْحَسَنِ الْإِبْيَارِيُّ الْمَرَاتِبَ خَمْسَةً أَحَدُهَا الْأَعْمَالُ الْمَنْقُولَةُ عن أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ فَلَا خِلَافَ في اعْتِمَادِهَا ثَانِيهَا أَنْ يَرْوُوا أَخْبَارًا وَيُخَالِفُوهَا وقد تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عليه قال وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الرَّاوِيَ الْوَاحِدَ إذَا فَعَلَ ذلك سَقَطَ التَّمَسُّكُ بِرِوَايَتِهِ وَيَرْجِعُ إلَى عَمَلِهِ فما الظَّنُّ بِعُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جُمْلَةً ثَالِثُهَا أَنْ لَا يَنْقُلُوا الْخَبَرَ وَلَكِنْ يُصَادَفُ خَبَرٌ على نَقِيضِ حُكْمِهِمْ فَهَذِهِ أَضْعَفُ من الْأُولَى وَلَكِنْ غَلَبَةُ الظَّنِّ حَاصِلَةٌ بِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يَخْفَى عن جَمِيعِهِمْ لِهُبُوطِ الْوَحْيِ في بَلَدِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَلِهَذَا كَانُوا يَرْجِعُونَ إلَيْهِمْ وَيَبْعَثُونَ يَسْأَلُونَ منهم فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ما لو رَأَوْا وَخَالَفُوا رَابِعُهَا أَنْ لَا يُنْقَلَ خَبَرٌ على خِلَافِ قَضَائِهِمْ وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ على غَيْرِ ذلك فَهَذَا فيه نَظَرٌ فَقَدْ يُقَالُ إنَّهُمْ لم يُخَالِفُوا الْقِيَاسَ مع كَوْنِهِ حُجَّةً شَرْعِيَّةً إلَّا بِتَوْقِيفٍ وقد يُقَالُ لَا يُوَافَقُونَ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ مَالِكٌ في هذه الصُّورَةِ كَالْقِصَاصِ بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ في الْأَطْرَافِ خَامِسُهَا أَنْ يُصَادِفَ قَضَاؤُهُمْ على خِلَافِ خَبَرٍ مَنْقُولٍ عَنْهُمْ أو عن غَيْرِهِمْ لَا عن خِلَافِ قِيَاسِ حتى يُسْتَدَلَّ بِهِ على خَبَرٍ لِأَجْلِ مُخَالِفِ الْقِيَاسِ فَالصَّوَابُ عِنْدِي في هذه الصُّورَةِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى الْمَنْقُولِ وَيُتَّبَعُ الدَّلِيلُ ا هـ الرَّدُّ على الْقَوْلِ بِأَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ لَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وما قَدَّمْنَاهُ من كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ هو الْمُعْتَمَدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ نَبَّهَ الْإِبْيَارِيُّ على مَسْأَلَةٍ حَسَنَةٍ وَهِيَ أَنَّا إذَا قُلْنَا إنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ فَلَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إجْمَاعِ جَمِيعِ
الْأُمَّةِ حتى يُفَسَّقَ الْمُخَالِفُ وَيُنْقَضَ قَضَاؤُهُ وَلَكِنْ يقول هو حُجَّةٌ على مَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَنِدَ إلَيْهِ مُسْتَنِدٌ إلَى مَأْخَذٍ من مَآخِذِ الشَّرِيعَةِ كَالْمُسْتَنِدِ إلَى الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ رُدُودُ الْعُلَمَاءِ على دَعْوَى إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ولم تَزَلْ هذه الْمَسْأَلَةُ مَوْصُوفَةً بِالْإِشْكَالِ وقد دَارَتْ بين أبي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي عُمَرَ بن عبد الْبَرِّ من الْمَالِكِيَّةِ وَصَنَّفَ الصَّيْرَفِيُّ فيها وَطَوَّلَ في كِتَابِهِ الْأَعْلَامِ الْحِجَاجَ فيها مع الْخَصْمِ وقال قد تَصَفَّحْنَا قَوْلَ من قال الْعَمَلُ على كَذَا فَوَجَدْنَا أَهْلَ بَلَدِهِ في عَصْرِهِ يُخَالِفُونَهُ كَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ من قَبْلِهِ فإنه مُخَالِفُهُمْ وَلَوْ كان الْعَمَلُ على ما وَصَفَهُ لَمَا جَازَ له خِلَافُهُمْ لِأَنَّ حُكْمَهُ بِالْعَمَلِ كَعِلْمِهِمْ لو كان مُسْتَفِيضًا قال وَهَذَا عِنْدِي من قَوْلِ مَالِكٍ على أَنَّهُ عَمَلُ الْأَكْثَرِ عِنْدَهُ وقد قال رَبِيعَةُ في قَوْلٍ ادَّعَى مَالِكٌ الْعَمَلَ عليه فقال رَبِيعَةُ وقال قَوْمٌ وَهُمْ الْأَقَلُّ ما ادَّعَى مَالِكٌ أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْبَلَدِ وقال مَالِكٌ التَّسْبِيحُ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا أَعْرِفُهُ حَكَاهُ عنه ابن وَهْبٍ ثُمَّ إنَّا رَأَيْنَا ما ادَّعَاهُ من الْعَمَلِ إنَّمَا عَلِمْنَا عنه بِخَبَرِ وَاحِدٍ كَرِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ وَابْنِ بُكَيْر وَالسُّبْكِيِّ وَابْنِ مُصْعَبٍ وَابْنِ أبي إدْرِيسَ وَابْنِ وَهْبٍ وَهَؤُلَاءِ كلهم يَجُوزُ عليهم الْعِلْمُ وَوَجَدْنَا في كِتَابِ الْمُوَطَّإِ هذه الْحِكَايَةَ ولم نُشَاهِدْ الْعَمَلَ الذي حَكَاهُ وَوَجَدْنَا الناس من أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ على خِلَافِهِ وقال أبو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ في الْبَصَائِرِ سَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيَّ يقول ليس الِاعْتِمَادُ في الْإِجْمَاعِ على أَهْلِ الْمَدِينَةِ على ما رَآهُ مَالِكٌ لِأَنَّ مَكَّةَ لم تَكُنْ دُونَ الْمَدِينَةِ وقد أَقَامَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بها كما أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ وَمَنْ عَدَلَ عن مَكَّةَ وَأَهْلِهَا مع قِيَامِ النبي عليه السَّلَامُ بين أَظْهُرِهِمْ وَسُكَّانُهَا الْغَايَةُ في حَمْلِ الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ جَازَ أَنْ يَعْدِلَ خَصْمُهُ عن الْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا بِحُجَّةٍ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ كَمُلَتْ بين جَمِيعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الَّذِينَ تَحَقَّقُوا النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحَفِظُوا عنه وَابْتُلُوا بِالْحَوَادِثِ فَاسْتَفْتَوْهُ وَاخْتَلَفُوا في الْأَحْكَامِ فَاسْتَقْضَوْهُ وَتَخَوَّفُوا الْعَوَاقِبَ فَاسْتَظْهَرُوا بِهِ ثُمَّ إنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ صَارَ إلَى اللَّهِ كَانُوا بين مُقِيمٍ بِالْمَدِينَةِ وَمُقِيمٍ بِمَكَّةَ وَنَازِلٍ بَيْنَهُمَا وَظَاهِرٍ عنهما إلَى الْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ وَاسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ على الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الشَّائِعَةِ وَالْقِيَاسِ الْمُنْتَزِعِ وَالرَّأْيِ الْحَسَنِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ فلم يَكُنْ بَلَدٌ أَوْلَى من بَلَدٍ وَلَا مَكَانٌ أَوْلَى من مَكَان وَلَا نَاسٌ أَوْلَى وَأَحْفَظَ لِدِينِ اللَّهِ من نَاسٍ وَهُمْ في الْإِصَابَةِ شُرَكَاءُ وفي الْحُكْمِ بِمَا أَلْقَى إلَيْهِمْ مُتَّفِقُونَ قال وكان يُطِيلُ
الْكَلَامَ في تَهْجِيرِ الْمُدْلِينَ بهذا الْقَوْلِ ا هـ وقال ابن حَزْمٍ في الْأَحْكَامِ هذا الْقَوْلُ لَصِقَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُحْتَجِّينَ بِمَا رُوِيَ في فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ ذلك لِفَضْلِ أَهْلِهَا وقد صَحَّ أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ منها وقد كان الصَّحَابَةُ في غَيْرِهَا وقد تَرَكُوا من عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ سُجُودَهُمْ مع عُمَرَ في إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَسُجُودَهُمْ معه إذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ وَنَزَلَ عن الْمِنْبَرِ فَسَجَدَ وَفَعَلَ عُمَرُ إذْ أَعْلَمَ عُثْمَانَ وهو يَخْطُبُ يوم الْجُمُعَةِ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَقَالُوا ليس على ذلك الْعَمَلُ وَأَيْضًا فإن مَالِكًا لم يَدَّعِ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إلَّا في ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً في مُوَطَّئِهِ فَقَطْ وقد تَتَبَّعْنَا ذلك فَوَجَدْنَا منها ما هو إجْمَاعٌ وَمِنْهَا ما الْخِلَافُ فيه مَوْجُودٌ في الْمَدِينَةِ كَوُجُودِهِ في غَيْرِهَا وكان ابن عُمَرَ وهو عَمِيدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَرَى إفْرَادَ الْأَذَانِ وَالْقَوْلُ فيه حَيَّ على خَيْرِ الْعُمُرِ وَبِلَالُ يُكَرِّرُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ وَمَالِكٌ لَا يَرَى ذلك وَالزُّهْرِيُّ يَرَى الزَّكَاةَ في الْخَضْرَاوَاتِ وَمَالِكٌ لَا يَرَاهَا ثُمَّ ذَكَرَ لهم مُنَاقَضَاتٍ كَثِيرَةً إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمِصْرَيْنِ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْمِصْرَيْنِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ ليس بِحُجَّةٍ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذلك من الْأُصُولِيِّينَ قال الْقَاضِي وَإِنَّمَا صَارُوا إلَى ذلك لِاعْتِقَادِهِمْ تَخْصِيصَ الْإِجْمَاعِ بِالصَّحَابَةِ وَكَانَتْ هذه الْبِلَادُ مَوْطِنَ الصَّحَابَةِ ما خَرَجَ منها إلَّا الشُّذُوذُ ا هـ وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ لم يُعَمِّمُوا في كل عَصْرٍ بَلْ في عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَقَطْ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ قِيلَ إنَّ الْمُخَالِفَ أَرَادَ في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنْ كان هذا مُرَادُهُ فَمُسَلَّمٌ لو اجْتَمَعَ الْعُلَمَاءُ في هذه الْبِقَاعِ وَغَيْرُ مُسَلَّمٍ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا فيها الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْبَيْتِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْبَيْتِ ليس بِحُجَّةٍ الْمُرَادُ بِهِمْ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم خِلَافًا لِلشِّيعَةِ وَبَالَغُوا فَقَالُوا قَوْلُ عَلِيٍّ حُجَّةٌ وَحْدَهُ حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وَعَنْ الْمُعْتَمَدِ لِلْقَاضِي أبي يَعْلَى أَنَّ الْعِتْرَةَ لَا
تَجْتَمِعُ على خَطَأٍ كما في حديث التِّرْمِذِيِّ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ إجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ قال الْقَاضِي أبو خَازِمٍ بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ من الْحَنَفِيَّةِ إجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ حُجَّةٌ وَحَكَمَ بِذَلِكَ في زَمَنِ الْمُعْتَضِدِ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ ولم يَعْتَدَّ بِخِلَافِ زَيْدٍ وَقَبِلَ منه الْمُعْتَضِدُ ذلك وَرَدَّهَا إلَيْهِمْ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إلَى الْآفَاقِ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرَاذِعِيَّ كان أَنْكَرَ ذلك عليه قال وَهَذَا فيه خِلَافٌ بين الصَّحَابَةِ فقال أبو حَازِمٍ لَا أَعُدُّ هذا خِلَافًا على الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وقد حَكَمْت بِرَدِّ هذا الْمَالِ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ بِالنَّسْخِ ا هـ وَهِيَ رِوَايَةٌ عن أَحْمَدَ قال الْمُوَفَّقُ في الرَّوْضَةِ نُقِلَ عن أَحْمَدَ ما يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا يُخْرَجُ عن قَوْلِهِمْ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذلك ليس بِإِجْمَاعٍ وَكَلَامُ أَحْمَدَ في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَدُلُّ على أَنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ وَلَا يَلْزَمُ من ذلك أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا قُلْت وَيَجْرِي ذلك في كَلَامِ الْقَاضِي أبي حَازِمٍ أَيْضًا وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ على قَوْلِ غَيْرِهِمْ وَعَلَى هذا فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ أَصْحَابِنَا حِكَايَتَهُ عن أبي حَازِمٍ فإنه قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ قال ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ هُنَا إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ على قَوْلَيْنِ وَكَانَتْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ مع أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فقال الشَّافِعِيُّ في مَوْضِعٍ يُصَارُ إلَى قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وقال في مَوْضِعٍ إنَّهُمَا سَوَاءٌ وَيُطْلَبُ دَلَالَةُ سِوَاهُمَا انْتَهَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أبو حَازِمٍ بَنَاهُ على أَنَّ خِلَافَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ وهو ظَاهِرُ سِيَاقِ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ عنه وَقِيلَ إجْمَاعُ الشَّيْخَيْنِ وَحْدَهُمَا حُجَّةٌ لنا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ خَالَفَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ في خَمْسِ مَسَائِلَ في الْفَرَائِضِ انْفَرَدَ بها وابن مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ ولم يَحْتَجَّ عليهم أَحَدٌ بِإِجْمَاعِ الْأَرْبَعَةِ وَاحْتَجَّ أبو حَازِمٍ بِحَدِيثِ عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُورِضَ بِحَدِيثِ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ
قال الْقُرْطُبِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا فإن الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنْ يُقْتَدَى بِالْخُلَفَاءِ فِيمَا اتَّفَقُوا عليه وَالثَّانِي الْأَمْرُ لِلْمُقَلِّدِ بِالتَّخْيِيرِ وَاعْتِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالصَّحَابَةِ فَلَا يُعَارِضُهُ سَلَّمْنَا الْمُعَارَضَةَ لَكِنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ وَالثَّانِيَ ضَعِيفٌ وَذَكَرَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بهذا الْمَذْهَبِ أَرَادُوا التَّرْجِيحَ لِقَوْلِهِمْ على قَوْلِ غَيْرِهِمْ لِفَضْلِ سَبْقِهِمْ وَتَعَدُّدِهِمْ وَطُولِ صُحْبَتِهِمْ وَعِنْدَنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يُطْلَبُ بِهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ لَا الْعِلْمِ فَائِدَةٌ عُقُودُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَحِمَاهُمْ إذَا عَقَدَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ عَقْدًا أو حَمَوْا حِمًى لَزِمَ وَلَا يُنْتَقَضُ على أَصَحِّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ حَكَاهُ أبو حَامِدٍ في الرَّوْنَقِ وَمِمَّنْ حَكَى الْقَوْلَ فيه صَاحِبُ التَّلْخِيصِ في بَابِ الْإِحْيَاءِ وَاسْتَقَرَّ بِهِ السِّنْجِيُّ في شَرْحِهِ وقال يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ على قِيَاسِ التَّقْدِيمِ في تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ وَأَمَّا أَصْحَابُنَا على قَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَسَوَّوْا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ من بَعْدَهُمْ ا هـ وَالْأَحْسَنُ ما قَالَهُ صَاحِبُ الرَّوْنَقِ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ الْعِبْرَةُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ كل عَصْرٍ وِفَاقَ من سَيُوجَدُ لَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقًا حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ إذْ لو اُعْتُبِرَ لَمَا اسْتَمَرَّ إجْمَاعٌ وَلَا يُعْتَدَّ بِخِلَافِ ابْنِ عِيسَى الْوَرَّاقِ وَأَبِي عبد الرحمن الشَّافِعِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عنهما الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَلَا يُطْلَبُ في هذه وِفَاقُ الظَّاهِرِيَّةِ في قَوْلِهِمْ لَا يُعْتَبَرُ إلَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ اعْتِبَارَ أَهْلِ الْعَصْرِ الْحَاضِرِينَ فَضْلًا عَمَّنْ سَيُوجَدُ وَإِنَّمَا الْوِفَاقُ الْمَذْكُورُ هو من الْقَائِلِينَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ كل عَصْرٍ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمُتَرْجِمَةُ أَنَّهُ هل يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ كل الْمُسْلِمِينَ في سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ كل عَصْرٍ أَمَّا وِفَاقُ من سَيُوجَدُ فَلَا يُعْتَبَرُ أَيْضًا فإذا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ لم يَتَقَدَّمْ فيها قَوْلٌ لِمَنْ سَلَفَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِ أَهْلِ ذلك الْعَصْرِ لِأَنَّ ذلك لو اُعْتُبِرَ لَمَا انْعَقَدَ أَبَدًا إجْمَاعٌ حَكَاهُ عبد الْوَهَّابِ ولم يذكر فيه خِلَافًا
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي على خَطَأٍ فَلَا يُخَالِفُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ من جِهَةِ أَنَّ لَفْظَ الحديث يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ من صَدَّقَ بِهِ وَقْتَ مَبْعَثِهِ وَإِلَى الْأَبَدِ لِأَنَّا عَلِمْنَا بِقَصْدِهِ من هذا أَنَّهُ على وَجْهِ التَّكْلِيفِ وَالِالْتِزَامِ يَمْنَعُ من هذا الْقَوْلِ الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ في زَمَنِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كما ذَكَرَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُمَا لِأَنَّ قَوْلُهُمْ دُونَهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كان مَعَهُمْ فَالْحُجَّةُ في قَوْلِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ ذَكَرْنَاهُ في بَابِ النَّسْخِ إذْ جَوَّزْنَا لهم الِاجْتِهَادَ في زَمَانِهِ كما هو الصَّحِيحُ فَلَعَلَّهُمْ اجْتَهَدُوا في مَسْأَلَةٍ وَأَجْمَعُوا عليها من غَيْرِ عِلْمِهِ بِهِمْ وقد نَقَلَ الْقَرَافِيُّ عن أبي إِسْحَاقَ وَابْنِ بَرْهَانٍ جَوَازَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ في زَمَانِهِ قال وَشُهُودُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْعِصْمَةِ مُتَنَاوِلٌ لِمَا في زَمَانِهِ وما بَعْدَهُ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ الْأَوَّلُ وَاَلَّذِي وَجَدْته في الْأَوْسَطِ لِابْنِ بَرْهَانٍ في الْكَلَامِ على
حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً بَعْدَ مَوْتِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ الْإِجْمَاعُ في الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ هل يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِنَا لَا نَصَّ فيه وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فيه خِلَافٌ مَبْنِيٌّ على أَنَّ عَصْرَنَا هل يَخْلُو عن الْمُجْتَهِدِ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْنَا لَا يَخْلُو فَلَا شَكَّ في انْعِقَادِهِ وَإِنْ قُلْنَا خِلَافٌ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ لَا يَنْعَقِدُ وَإِنْ كان هُنَاكَ مُجْتَهِدُونَ في الْمَذَاهِبِ وَنَاظِرُونَ في الشَّرِيعَةِ ولم يَتَرَقَّوْا إلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ وَلَيْسَتْ هذه مَسْأَلَةَ اعْتِبَارِ الْعَوَامّ في الْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلُ على ذلك أَنَّ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ إمَّا من السَّمْعِ وهو عَدَمُ اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ على خِلَافِهِ أو من الْعَقْلِ وهو أَنَّ الْجَمَّ الْغَفِيرَ لَا يَقْدِرُونَ على قَاطِعٍ وَهَؤُلَاءِ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَهَذَا الْمَوْجُودُ فِيهِمْ ظُهُورُ الْإِجْمَاعِ وَانْتِشَارُهُ في الْعَصْرِ الذي وَقَعَ فيه الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَظْهَرَ في الْعَصْرِ حتى يَعْلَمَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي وقد يُقْتَرَنُ ظُهُورُهُ بِالْعَمَلِ وقد يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ جميعا فَأَمَّا ظُهُورُهُ بِالْقَوْلِ إذَا وُجِدَ صَحَّ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِهِ وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْقَوْلِ حتى يَقْتَرِنَ بِهِ الْفِعْلُ لِيَكْمُلَ في نَفْسِهِ قال وَهَذَا ليس بِصَحِيحٍ لِأَنَّ حُجَجَ الْأَقْوَالِ آكَدُ من حُجَجِ الْأَفْعَالِ حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ ثُمَّ قد يَكُونُ الْقَوْلُ من الْجَمِيعِ وَلَا شَكَّ وقد يَكُونُ من بَعْضِهِمْ وَسُكُوتُ الْبَاقِينَ بَعْدَ انْتِشَارِهِ من غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مَعَهُمْ اعْتِرَافٌ أو رِضًا بِهِ وَهَذَا هو الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ وَفِيهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا أَحَدُهَا أَنَّهُ ليس بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ وَحُكِيَ عن دَاوُد وَابْنِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ وَعَزَاهُ جَمَاعَةٌ إلَى الشَّافِعِيِّ منهم الْقَاضِي وَاخْتَارَهُ وقال إنَّهُ آخِرُ أَقْوَالِهِ وَلِهَذَا قال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عليه في الْجَدِيدِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ وَلِهَذَا قال وَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ قال وَهِيَ من عِبَارَاتِهِ الرَّشِيقَةِ قُلْت وَمَعْنَاهُ لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ تَعْيِينُ قَوْلٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ
التَّصْوِيبَ أو لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ أو الشَّكِّ فَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ تَعْيِينٌ وَإِلَّا فَهُوَ قَائِلٌ بِأَحَدِ هذه الْجِهَاتِ قَطْعًا ثُمَّ هذا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ أَعْنِي أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ إلَّا بِدَلِيلِ على أَنَّ سُكُوتَهُ كَالْقَوْلِ أو حَقِيقَةٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَدَمٌ مَحْضٌ وَالْأَحْكَامُ لَا تُسْتَفَادُ من الْعَدَمِ وَلِهَذَا لو أَتْلَفَ إنْسَانٌ مَالَ غَيْرِهِ وهو سَاكِتٌ يَضْمَنُ الْمُتْلَفُ أَمَّا إذَا قام الدَّلِيلُ على نِسْبَةِ الْقَوْلِ إلَى السَّاكِتِ عُمِلَ بِهِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْبِكْرِ إذْنُهَا صُمَاتُهَا وَقَوْلُنَا إنَّ إقْرَارَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على قَوْلٍ أو فِعْلٍ مع عِلْمِهِ بِهِ وَقُدْرَتِهِ على إنْكَارِهِ حُجَّةٌ وَسُكُوتُ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرَيْنِ عن الْجَوَابِ لَا يُعَدُّ انْقِطَاعًا في التَّحْقِيقِ إلَّا بِإِقْرَارِهِ أو قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ على الِانْقِطَاعِ لِتَرَدُّدِهِ بين اسْتِحْضَارِ الدَّلِيلِ وَتَرَفُّعِهِ عن الْخَصْمِ لِظُهُورِ بَلَادَتِهِ أو تَعْظِيمِهِ أو إجْلَالِهِ عن انْقِطَاعِهِ معه وَالثَّانِي أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ قال الْبَاجِيُّ وهو قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمَالِكِيِّينَ وَالْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَشَيْخِنَا أبي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى وقال ابن بَرْهَانٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ منهم الْكَرْخِيّ وَنَصَّ ابن السَّمْعَانِيِّ وَالدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ وقال عبد الْوَهَّابِ هو الذي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ عن الشَّافِعِيِّ فإنه لَمَّا حَكَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَاكِسَيْنِ في التَّفْصِيلِ بين الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ قال وَعِلَّةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إجْمَاعًا وَهَذَا مُفَسَّرٌ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ إذَا انْتَشَرَ فَإِجْمَاعٌ وَلَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ هذا كَلَامُهُ وقال النَّوَوِيُّ في شَرْحِ الْوَسِيطِ لَا تَغْتَرَّنَّ بِإِطْلَاقِ الْمُتَسَاهِلِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ ليس بِحُجَّةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَلْ الصَّوَابُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَإِجْمَاعٌ وهو مَوْجُودٌ في كُتُبِ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ في الْأُصُولِ وَمُقَدِّمَاتِ كُتُبِهِمْ
الْمَبْسُوطَةِ في الْفُرُوعِ كَتَعْلِيقَةِ الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ وَالْحَاوِي وَمَجْمُوعِ الْمَحَامِلِيِّ وَالشَّامِلِ وَغَيْرِهِمْ انْتَهَى وَيَشْهَدُ له أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ لِإِثْبَاتِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ عَمِلَ بِهِ ولم يَظْهَرْ من الْبَاقِينَ إنْكَارٌ لِذَلِكَ فَكَانَ ذلك إجْمَاعًا إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ ذلك نَصًّا عن جَمِيعِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ منهم أَحَدٌ وَإِنَّمَا نُقِلَ عن جَمْعٍ مع الِاشْتِهَارِ بِسُكُوتِ الْبَاقِينَ لَكِنَّهُ صَرَّحَ في مَوْضِعٍ آخَرَ من الْأُمِّ بِخِلَافِهِ فقال وقد ذُكِرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَسَّمَ فَسَوَّى بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ولم يُفَضِّلْ بين أَحَدٍ بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ ثُمَّ قَسَّمَ عُمَرُ فَأَلْغَى الْعَبْدَ وَفَضَّلَ بِالنَّسَبِ وَالسَّابِقَةِ ثُمَّ قَسَّمَ عَلِيٌّ فَأَلْغَى الْعَبِيدَ وَسَوَّى بين الناس ولم يَمْنَعْ أَحَدٌ من أَخْذِ ما أَعْطَوْهُ قال وَفِيهِ دَلَالَةٌ على أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ لِحَاكِمِهِمْ وَإِنْ كان رَأْيُهُمْ على خِلَافِ رَأْيِهِ قال فَلَا يُقَالُ لِشَيْءٍ من هذا إجْمَاعٌ وَلَكِنْ يُنْسَبُ إلَى أبي بَكْرٍ فِعْلُهُ وَإِلَى عُمَرَ فِعْلُهُ وَإِلَى عَلِيٍّ فِعْلُهُ وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَخَذَ منهم مُوَافَقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ وَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى كُلٍّ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ وفي هذا ما يَدُلُّ على
أَنَّ ادِّعَاءَ الْإِجْمَاعِ في كَثِيرٍ من خَاصِّ الْأَحْكَامِ ليس كما يقول من يَدَّعِيهِ ا هـ وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ له في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ كما حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْزِلَ الْقَوْلَانِ على حَالَيْنِ فَقَوْلُ النَّفْيِ على ما إذَا صَدَرَ من حَاكِمٍ وَقَوْلُ الْإِثْبَاتِ على ما إذَا صَدَرَ من غَيْرِهِ وَالنَّصُّ الذي سُقْنَاهُ من الرِّسَالَةِ شَاهِدٌ لِذَلِكَ وهو يُؤَيِّدُ تَفْصِيلَ أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ الْآتِيَ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ في تَنْزِيلِ الْقَوْلَيْنِ طَرِيقِينَ أَحَدَهُمَا حَيْثُ أَثْبَتَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ أَرَادَ بِذَلِكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ كما اسْتَدَلَّ بِهِ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَحَيْثُ قال لَا يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ أَرَادَ بِذَلِكَ من بَعْدَهُمْ وَهَذَا أَوْلَى من أَنْ يُجْعَلَ له في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ كما ظَنَّ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في الْمَعَالِمِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا ما سَيَأْتِي من كَلَامِ جَمَاعَةٍ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالثَّانِيَ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهُ على ما لم يَكُنْ من الْقَضَايَا التي تَعُمُّ بها الْبَلْوَى وَيُحْمَلُ الْقَوْلُ الْآخَرُ على ما إذَا كانت كَذَلِكَ كما اخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَكُلٌّ من هَذَيْنِ الطَّرِيقِينَ مُحْتَمَلٌ وقد ذَكَرَ ابن التِّلِمْسَانِيِّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا قُلْت النَّصُّ الذي سُقْنَاهُ من الْأُمِّ يَدْفَعُ كُلًّا من الطَّرِيقَيْنِ فإنه نَفَاهُ في عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَفِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَحْتَمِلُ ثَالِثَةً وَهِيَ التَّعْمِيمُ وقال ابن الْقَطَّانِ هو في مَعْنَى الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كنا نُسَمِّيهِ إجْمَاعًا فَهُوَ من طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَا يُعَارِضُ هذا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ من نَسَبَ إلَى سَاكِتٍ قَوْلًا فَقَدْ أَخْطَأَ فَإِنَّا لم نَقُلْ إنَّهُمْ قالوا وَإِنَّمَا نَسْتَدِلُّ بِهِ على رِضَاهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أُمَّتَنَا بِأَنَّهُمْ آمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهُونَ عن الْمُنْكَرِ وَلَوْ كان هذا الْقَوْلُ خَطَأً ولم يُنْكِرْهُ لَزِمَ وُقُوعُ خِلَافِ الْخَبَرِ وقال الرَّافِعِيُّ في الشَّرْحِ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ
وَهَلْ هو إجْمَاعٌ فيه وَجْهَانِ ولم يُرَجِّحْ شيئا وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ فَقَدْ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ إنَّهُ الْمَذْهَبُ وقال الرُّويَانِيُّ في أَوَائِلِ الْبَحْرِ إنَّهُ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بها وَهَلْ يَكُونُ إجْمَاعًا فيه قَوْلَانِ وَقِيلَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا وَبِهِ قال الْأَكْثَرُونَ إنَّهُ يَكُونُ إجْمَاعًا لِأَنَّهُمْ لَا يَسْكُتُونَ على الْمُنْكَرِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قال لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ قال وَهَذَا الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى الِاسْمِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ قَطْعًا وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي إذَا لم يُنْقَلْ عَنْهُمْ رِضًا وَلَا إنْكَارٌ وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ فَذَهَبَ بَعْضٌ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ ليس بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ وقال عَامَّةُ أَصْحَابِنَا حُجَّةٌ لِأَنَّ سُكُوتَهُمْ حتى انْقَرَضُوا مع إضْمَارِهِمْ الْإِنْكَارَ بَعِيدٌ وَهَلْ يَكُونُ إجْمَاعًا فيه وَجْهَانِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في تَسْمِيَتِهِ إجْمَاعًا مع اتِّفَاقِهِمْ على وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَالْقَطْعُ بِهِ على اللَّهِ تَعَالَى وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في أَوَّلِ تَعْلِيقِهِ في الْفِقْهِ هو حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بها وفي تَسْمِيَتِهِ إجْمَاعًا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَإِنَّمَا هو حُجَّةٌ كَالْخَبَرِ وَالثَّانِي يُسَمَّى إجْمَاعًا وهو قَوْلٌ لنا ا هـ قال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ الذي صَرَّحَ بِهِ الْفَرْعِيُّونَ من أَصْحَابِنَا في أَوَائِلِ كُتُبِهِمْ أَنَّهُ حُجَّةٌ وقال الرَّافِعِيُّ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَهَلْ هو إجْمَاعٌ أَمْ لَا فيه وَجْهَانِ الثَّالِثُ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَحَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ عن أبي هَاشِمٍ وهو أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا كما سَبَقَ من كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وابن بَرْهَانٍ عن الصَّيْرَفِيِّ وَكَذَا رَأَيْته في كِتَابِهِ فقال هو حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عنه وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ إجْمَاعٌ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ ما عَلِمْنَا فيه مُوَافَقَةَ الْجَمَاعَةِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَإِنَّمَا قِيلَ بهذا الْقَوْلِ لِأَنَّ الْخِلَافَ مَعْدُومٌ وَالْقَوْلُ في أَهْلِ الْحُجَّةِ شَائِعٌ انْتَهَى وَكَذَا قال في شَرْحِ الرِّسَالَةِ عَمَلُ الصَّحَابِيِّ مُنْتَشِرٌ في الصَّحَابَةِ لَا يُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ حتى انْقَرَضَ الْعَصْرُ فَهُوَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ لَا من جِهَةِ الِاتِّفَاقِ وَلَكِنْ لِعَدَمِ الْخِلَافِ من أَهْلِ الْحُجَّةِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَوَافَقَهُ ابن الْحَاجِبِ في الْكَبِيرِ وَرَدَّدَ في الصَّغِيرِ اخْتِيَارَهُ بين أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا أو حُجَّةً وَقَيَّدَ الْآمِدِيُّ هذا في مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا قبل انْقِرَاضِ أَهْلِ الْعَصْرِ فَأَمَّا بَعْدَهُ فإنه يَكُونُ إجْمَاعًا وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ أَنَّ مُعْتَمَدَ الْقَائِلِينَ بهذا من أَصْحَابِنَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِلَافِ هُنَا
وَأَنَّهُ ليس بِإِجْمَاعٍ أَيْ قَطْعِيٍّ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ ابن بَرْهَانٍ عن الصَّيْرَفِيِّ وَكَذَا ابن الْحَاجِبِ وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَكَيْفَ يَنْقَسِمُ الشَّيْءُ إلَى نَفْسِهِ وقد سَبَقَ في أَوَّلِ الْبَابِ حِكَايَةُ خِلَافٍ في أَنَّ لَفْظَ الْإِجْمَاعِ هل يُطْلَقُ على الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ أو يَخْتَصُّ بِالْقَطْعِيِّ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ مُثِيرَةٌ لِلظَّنِّ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ قَطْعِيٌّ أَمْ ظَنِّيٌّ فقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وأبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ أَيْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى ما ظَنَنَّاهُ لَا الْقَطْعَ بِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ وقال آخَرُونَ بَلْ ظَنِّيٌّ تَنْبِيهٌ لم يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ إجْمَاعٌ لَا حُجَّةٌ قال الْهِنْدِيُّ لم يَصِرْ أَحَدٌ إلَى عَكْسِ هذا أَعْنِي إلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ لَا حُجَّةٌ وَيُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ كَالْإِجْمَاعِ الْمَرْوِيِّ بِالْآحَادِ عِنْدَ من لم يَقُلْ بِحُجِّيَّتِهِ الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مع ذلك أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ لَا عن رِضًا وَبِهِ قال أبو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَأَحْمَدُ في رِوَايَةٍ وَنَقَلَهُ ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا مِثْلِ أبي بَكْرٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ عن الْحُذَّاقِ من أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ ابن الْقَطَّانِ قال لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ له فيه رَأْيٌ فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْعَصْرَ إذَا انْقَرَضَ ولم يُخَالِفُوا أَنَّ ذلك حَقٌّ وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ أَيْضًا وَكَذَا الرُّويَانِيُّ في أَوَّلِ الْبَحْرِ بِشَرْطٍ في هذا الذي ذَكَرْنَاهُ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ عليه حتى يُحْكَمَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً قَطْعًا وَإِجْمَاعًا فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ صَحَّ رُجُوعُهُ وَعُدَّ خِلَافُهُ خِلَافًا وقال الرَّافِعِيُّ إنَّهُ أَصَحُّ الْأَوْجُهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وقال الشَّيْخُ في اللُّمَعِ إنَّهُ الْمَذْهَبُ قال فَأَمَّا ما قبل الِانْقِرَاضِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ قَطْعًا وَالثَّانِيَةُ على وَجْهَيْنِ وَكَلَامُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ صَرِيحٌ في أَنَّ الْقَائِلِينَ بهذا هُمْ الْمُشْتَرِطُونَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ في الْإِجْمَاعِ الشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ إنْ كان فُتْيَا لَا حُكْمًا وَبِهِ قال ابن أبي هُرَيْرَةَ كَذَا حَكَاهُ عنه الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وابن السَّمْعَانِيُّ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ
وَاَلَّذِي في الْبَحْرِ لِلرُّويَانِيِّ وَالْأَوْسَطِ لِابْنِ بَرْهَانٍ وَالْمَحْصُولِ لِلْإِمَامِ الرَّازِيَّ عنه لَا إنْ كان من حَاكِمٍ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ إذْ لَا يَلْزَمُ من صُدُورِهِ عن الْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ على وَجْهِ الْحُكْمِ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ نَقْلِ أبي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ عنه فإنه صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذْ أَجْرَى سُكُوتَهُمْ على حُكْمٍ حَكَمَتْ بِهِ الْأَئِمَّةُ وَعِبَارَةُ الرُّويَانِيُّ عنه لَا إنْ كان من إمَامٍ أو حَاكِمٍ قال وَالْأَكْثَرُونَ من أَصْحَابِنَا قالوا لَا فَرْقَ بين الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ وقد خَالَفَ الصَّحَابَةُ في الْجَدِّ وَعُمَرُ في الْمُشْتَرِكَةِ وَغَيْرِ ذلك على أَنَّا إنْ اعْتَبَرْنَا في هذا انْقِرَاضَ الْعَصْرِ وَمُحَابَاةَ الْإِمَامِ أو الْحَاكِمِ اخْتَصَّ مَجْلِسُ حُكْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ قال وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي فَعَلَى هذا الْقَوْلِ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَحْدَهُ هل يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ قَوْلَانِ وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي لو ظَهَرَ هذا من الْإِمَامِ أو الْحَاكِمِ إمَّا بِطَرِيقِ الْفَتْوَى أو الْقَضَاءِ فقال أبو عَلِيٍّ بن أبي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَعْتَرِضُ عليه فَلَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ دَلِيلَ الرِّضَا قال وَغَيْرُهُ مِمَّنْ ذَهَبَ إلَى هذا الْقَوْلِ لَا يُفَرِّقُ بين الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ وَمُحَابَاةُ الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ ا هـ وَنَقَلَ ابن السَّمْعَانِيِّ عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ احْتَجَّ بهذا بِأَنَّا نَحْضُرُ مَجْلِسَ بَعْضِ الْحُكَّامِ وَنَرَاهُمْ يَقْضُونَ بِخِلَافِ مَذْهَبِنَا وَلَا نُنْكِرُ ذلك عليهم فَلَا يَكُونُ سُكُوتُنَا رِضًا مِنَّا بِذَلِكَ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وهو تَقْرِيرٌ حَسَنٌ لَا بَأْسَ بِهِ وهو نَافِعٌ جِدًّا في صُورَتَيْ الْإِيرَادِ في مَسْأَلَةِ مِيرَاثِ الْمَبْتُوتَةِ وَمَسْأَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مع وُجُودِ الصِّغَارِ من الْوَرَثَةِ فإنه قد انْتَشَرَ قَضَاءُ عُثْمَانَ في مِيرَاثِ الْمَبْتُوتَةِ وَكَذَلِكَ قَتَلَ الْحُسَيْنُ بن عَلِيٍّ ابْنَ مُلْجِمٍ قِصَاصًا مع وُجُودِ الْوَرَثَةِ الصِّغَارِ وَانْتَشَرَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بين الصَّحَابَةِ ولم يَكُنْ مُخَالِفٌ وَمَعَ ذلك لم يُقَدِّمُوا ذلك على الْقِيَاسِ على أَنَّهُ قد نُقِلَ عن الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَوْفٍ مُخَالَفَةُ عُثْمَانَ وَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ لِابْنِ مُلْجِمٍ فَفِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَأَيْضًا فإن الصَّحَابَةَ في ذلك الْوَقْتِ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ لِكَثْرَةِ الْفِتَنِ إذْ ذَاكَ قال وَمِمَّا يُضَمُّ إلَى هذا أَنَّ الْحُكْمَ الصَّادِرَ من الْأَئِمَّةِ لَا يُمَاثِلُ الْفَتْوَى الصَّادِرَةَ من الْمُفْتِي وَحِفْظُ الْأَدَبِ في تَرْكِ الِاعْتِرَاضِ على الْأَئِمَّةِ الشَّرْطُ السَّادِسُ عَكْسُهُ قَالَهُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مُعْتَلًّا بِأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الصَّادِرَ
من الْحَاكِمِ يَكُونُ على مُشَاوَرَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابن الْقَطَّانِ عن أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ إلَّا أَنَّهُ خَصَّهُ بِشَيْءٍ وَعِبَارَتُهُ إذَا سَكَتُوا عن حُكْمِ الْأَئِمَّةِ حتى انْقَرَضَ الْعَصْرُ فإن أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فيه إذَا جَرَى على حُكْمِهِ فَمِنْهُمْ من يقول إنَّهُ إجْمَاعٌ انْتَهَى ثُمَّ اخْتَارَ آخِرًا قَوْلَ ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وفي هذا النَّقْلِ فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا اشْتِرَاطُ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ على هذا الْقَوْلِ وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْقَائِلَ بِالْأَوَّلِ هو أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ لِأَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ أَقْدَمُ منه وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّ الْهِنْدِيَّ في نِهَايَتِهِ نَقَلَهُ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وفي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التي أَوْرَدَهَا ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ إنْ كان على جِهَةِ الْفُتْيَا فَهُوَ إجْمَاعٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْكُتُونَ عن شَيْءٍ فيه تَرْكُ الدِّينِ وَهَلْ يُقْطَعُ على اللَّهِ عز وجل أَمْ لَا فيه وَجْهَانِ وَإِنْ كان حُكْمًا وَانْقَرَضَ ذلك الْعَصْرُ ولم يَظْهَرْ له مُخَالِفٌ فَهُوَ على وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ إجْمَاعٌ كَالْفُتْيَا وَالثَّانِي لَا الشَّرْطُ السَّابِعُ إنْ وَقَعَ في شَيْءٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ من إرَاقَةِ دَمٍ أو اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ كان إجْمَاعًا وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ وفي كَوْنِهِ إجْمَاعًا وَجْهَانِ الشَّرْطُ الثَّامِنُ إنْ كان السَّاكِتُونَ أَقَلَّ كان إجْمَاعًا وَإِلَّا فَلَا وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَحَكَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عن الشَّافِعِيِّ وهو غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُهُ الشَّرْطُ التَّاسِعُ إنْ كان في عَصْرِ الصَّحَابَةِ كان إجْمَاعًا وَإِلَّا فَلَا وقال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ إنْ كان في غَيْرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَا يَكُونُ انْتِشَارُ قَوْلِ الْوَاحِدِ منهم مع إمْسَاكِ غَيْرِهِ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً وَإِنْ كان في عَصْرِ الصَّحَابَةِ فإذا قال الْوَاحِدُ منهم قَوْلًا أو حَكَمَ بِهِ فَأَمْسَكَ الْبَاقُونَ فَهَذَا ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَإِرَاقَةِ دَمٍ أو اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا لِأَنَّهُمْ لو اعْتَقَدُوا خِلَافَهُ لَأَنْكَرُوهُ إذْ لَا يَصِحُّ منهم أَنْ يَتَّفِقُوا على تَرْكِ إنْكَارِ مُنْكَرٍ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كان حُجَّةً لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عن غَيْرِهِمْ وفي كَوْنِهِ إجْمَاعًا يَمْنَعُ الِاجْتِهَادَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا يَكُونُ إجْمَاعًا لَا يَسُوغُ معه الِاجْتِهَادُ وَالثَّانِي لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَسَوَاءٌ كان الْقَوْلُ فُتْيَا أو حُكْمًا على الصَّحِيحِ انْتَهَى
على أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ أَلْحَقَ التَّابِعِينَ بِالصَّحَابَةِ في ذلك ذَكَرَهُ في بَابِ جَزَاءِ الصَّيْدِ من الْحَاوِي وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُمَاثَلَةِ من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَمْنَعُ من الِاجْتِهَادِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْوَافِي هُنَاكَ إلْحَاقَ تَابِعِي التَّابِعِينَ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَثْنَى عليهم بِقَوْلِهِ خَيْرُ الناس قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ وَصَرَّحَ الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِلْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّ غَيْرَهُمْ من أَهْلِ الْأَعْصَارِ كَذَلِكَ الشَّرْطُ الْعَاشِرُ أَنَّهُ وَإِنْ كان ذلك مِمَّا يَدُومُ وَيَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ وَالْخَوْضُ فيه فإنه يَكُونُ السُّكُوتُ إجْمَاعًا وَهَذَا ما اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في آخِرِ الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إذَا فُرِضَ السُّكُوتُ في الزَّمَنِ الْيَسِيرِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ في الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا في صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا سُكُوتُهُمْ وقد قَطَعَ بين أَيْدِيهِمْ قَاطِعٌ لَا في مَظِنَّةِ الْقَطْعِ وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ على الرَّدِّ عليه الثَّانِيَةُ ما يَسْكُتُونَ عليه على اسْتِمْرَارِ الْعَصْرِ وَيَكُونُ الْوَاقِعُ بِحَيْثُ لَا يُبْدِي أَحَدٌ خِلَافًا فَأَمَّا إذَا حَضَرُوا مَجْلِسًا فَأَفْتَى وَاحِدٌ وَسَكَتَ آخَرُونَ فَذَلِكَ اعْتِرَاضٌ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مَظْنُونَةً وَالْأَدَبُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْتَرِضَ على الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ الشَّرْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ أو حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ فَيُحْتَجُّ بِهِ على كُلٍّ من التَّقْدِيرَيْنِ وَنَحْنُ مُتَرَدِّدُونَ في أَيِّهِمَا أَرْجَحُ وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ في الصَّغِيرِ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ حِكَايَةُ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ فإنه حَكَى قَوْلًا أَنَّهُ إنْ كان حُكْمًا فَهُوَ إجْمَاعٌ أو فَتْوَى فَقَوْلَانِ وَحَكَى عَكْسَهُ أَيْضًا الشَّرْطُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ بِشَرْطِ إفَادَةِ الْقَرَائِنِ الْعِلْمَ بِالرِّضَا أَيْ يُوجَدُ من قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ ما يَدُلُّ على رِضَى السَّاكِتِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّهُ أَحَقُّ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ إفَادَةَ الْقَرَائِنِ الْعِلْمُ بِالرِّضَا كَإِفَادَةِ النُّطْقِ له فَيَصِيرُ كَالْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ من الْجَمِيعِ وَسَيَأْتِي أَنَّ هذا ليس من مَوْطِنِ الْخِلَافِ قال في الْقَوَاطِعِ وَالْمَسْأَلَةُ في غَايَةِ الْإِشْكَالِ من الْجَانِبَيْنِ قال وقد ذَكَرَ أبو الطَّيِّبِ في إثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَرْتِيبًا في الِاسْتِدْلَالِ اسْتَحْسَنَهُ فَأَوْرَدْتُهُ
وَيَدْخُلُ فيه الْجَوَابُ عن كَلَامِهِمْ قال وَالدَّلِيلُ على ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ مَبْنِيٌّ على أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ على الْخَطَأِ وَالثَّانِي أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وما عَدَاهُ بَاطِلٌ فإذا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ فَلَا يَخْلُو الْقَوْلُ الذي ظَهَرَ من أَنْ يَكُونَ حَقًّا أو بَاطِلًا فَإِنْ كان حَقًّا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ كان بَاطِلًا فَلَا يَخْلُو عِنْدَ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ من أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ إمَّا أَنْ لَا يَكُونُوا اجْتَهَدُوا أو اجْتَهَدُوا ولم يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أو أَدَّى إلَى صِحَّةِ الذي ظَهَرَ خِلَافُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتَهَدُوا لِأَنَّ الْعَادَةَ مُخَالِفَةٌ لِهَذَا وَلِأَنَّ النَّازِلَةَ إذَا نَزَلَتْ فَالْعَادَةُ أَنَّ كُلَّ أَهْلِ النَّظَرِ يَرْجِعُونَ إلَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ هذا يُؤَدِّي إلَى خُرُوجِ أَهْلِ الْعَصْرِ بَعْضُهُمْ بِتَرْكِ الِاجْتِهَادِ وَبَعْضُهُمْ بِالْعُدُولِ عن طَرِيقِ الصَّوَابِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ على الْخَطَأِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُمْ اجْتَهَدُوا فلم يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى خَفَاءِ الْحَقِّ على جَمِيعِ الْأُمَّةِ وهو مُحَالٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُمْ اجْتَهَدُوا فَأَدَّى اجْتِهَادُهُمْ إلَى خِلَافِهِ إلَّا أَنَّهُمْ كَتَمُوا لِأَنَّ إظْهَارَ الْحَقِّ وَاجِبٌ لَا سِيَّمَا مع ظُهُورِ قَوْلٍ هو بَاطِلٌ وإذا بَطَلَتْ هذه الْوُجُوهُ دَلَّ على أَنَّهُمْ إنَّمَا سَكَتُوا لِرِضَاهُمْ بِمَا ظَهَرَ من الْقَوْلِ فَصَارَ كَالنُّطْقِ
تنبيهان الأول قيود لا بد منها في الإجماع السكوتي
لهذه المسألة قيود الأول أن يكون في مسائل التكليف فقول القائل عمار أفضل من حذيفة لا يدل السكوت فيه على شيء إذ لا تكليف على الناس فيه قاله ابن الصباغ في العدة وابن السمعاني في القواطع وأبو الحسين في المعتمد وغيرهم القيد الثاني أن يعلم أنه بلغ جميع أهل العصر ولم ينكروا وإلا فلا يكون إجماعا سكوتيا قاله الصيرفي وغيره ووراءه حالتان إحداهما أن يغلب على الظن بلوغهم فقال الأستاذ أبو إسحاق هو إجماع على مذهب الشافعي واختاره وجعله درجة دون الأول والثاني أن يحتمل بلوغه وعدمه فالأكثرون على أنه ليس بحجة قالالطبري ولهذا لم يستقم للحنفية الاحتجاج في وطء الثيب هل يمنع الرد بالعيب وقيل حجة مطلقا وهو ظاهر كلام القاضي عبد الوهاب وحكاه عن مالك وفصل الرازي والبيضاوي والهندي بين أن يكون هذا القول مما تعم به البلوى كنقض الوضوء من مس الذكر كان كالسكوتي وإلا لم يكن حجة وإذا قلنا هو حجة فليس بالإجماع في قول الجمهور وقيل إجماع لئلا يخلو العصر عن قائم بالحق وقال القاضي الحسين في تعليقه إذا قال الصحابي قولا ولم ينتشر فيما بينهم فإن كان معه قياس خفي قدم على القياس الجلي قولا واحدا وكذلك إذا كان معه خبر مرسل فإن كان متجردا عن القياس فهل يقدم القياس الجلي عليه فيه قولان الجديد يقدم القياس وقال الروياني في البحر هذا إذا بلغ كل الصحابة فإن لم ينتشر في كلهم ولم ير فيه خلافا لمن بعدهم فليس بإجماع وهل يكون حجة يعتبر بما يوافقه من قياس أو يخالف ففيه أربعة أحوال أحدها أن يكون القياس موافقا ثم يكون قوله حجة بالقياس وثانيها أن يكون مخالفا القياس الجلي فالقياس أولى وثالثها أن يكون معه قياس جلي ويخالفه قياس خفي فقوله مع القياس أولى ورابعها أن يكون مع قوله قياس خفي ويخالفه قياس جلي قال في القديم قوله مع القياس الخفي أولى وألزم من القياس الجلي وقال في الجديد القياس الجلي أولى بالعمل من قوله مع القياس الخفي وقال الرافعي هذا إذا نقل السكوت فإن لم ينقل قول ولا سكوت فيجوز أن لا يلحق بهذا ويجوز أن يستدل به على السكوت لأنه لو قال شيئا لنقل كما نقل اختلافهم في مسائل الاختلاف وقال في باب الفرائض إنه يترك للقول المنتشر والحالة هذه القياس الجلي ويعتضد به الخفي وقال النووي المختار أن عدم النقل كنقل السكوت لأنه الأصل والظاهر القيد الثالث كون المسألة مجردة عن الرضى والكراهة فإن ظهر عليهم الرضا بما ذهبوا إليه فهو إجماع بلا خلاف قاله القاضيان الروياني في البحر وعبد الوهاب من المالكية والخوارزمي في الكافي وجرى عليه الرافعي وقضيته أنه إن ظهرت أمارات السخط لم يكن إجماعا قطعا وكلامهم صريح في جريان الخلاف فيه أما إذا استصحب فعل يوافق الفتوى فالأمة حينئذ منقسمة إلى قائل وعامل وذلك إجماع
فلا نزاع ذكره القاضي عبد الوهاب في الملخص القيد الرابع مضى زمن يسع قدر مهلة النظر عادة في تلك المسألة فلو احتمل أن الساكتين كانوا في مهلة النظر لم يكن إجماعا سكوتيا ذكره الدبوسي وغيره القيد الخامس أن لا يتكرر ذلك مع طول الزمان فإن تكررت الفتيا وطالت المدة مع عدم المخالفة فإن ظن مخالفتهم يترجح بل يقطع بها ذكره إمام الحرمين وإلكيا قال وقول الشافعي لا ينسب إلى ساكت قول أراد به ما إذا كان السكوت في المجلس ولا يتصور السكوت إلا كذلك وفي غيره لا سكوت على الحقيقة وصرح بذلك أيضا التلمساني في شرح المعالم وأنه ليس من محل الخلاف بل هو إجماع وحجة عند الشافعي رحمه الله قال ولهذا استدل على إثبات القياس وخبر الآحاد بذلك لكونه في وقائع وتوهم الإمام في المعالم أن ذلك تناقض من الشافعي وليس كذلك ولذلك جعل إمام الحرمين صورة المسألة ما إذا لم يطل الزمان مع تكرر الوقائع فإن تكررت مع الطول فقضية كلام القاضي جريان الخلاف فيه القيد السادس أن يكون قبل استقرار المذاهب فأما بعد استقرارها فلا أثر للسكوت قطعا كإفتاء مقلد سكت عنه المخالفون للعلم بمذهبهم ومذهبه كشافعي يفتي بنقض الوضوء بمس الذكر فلا يدل سكوت الحنفي عنه على موافقته للعلم باستقرار المذاهب ذكره إلكيا الطبري وغيره
التنبيه الثاني أن لهم في تصوير المسألة طريقين
إحداهما جعل ذلك عاما في حق كل عصر من المجتهدين وهو الذي صرح به الحنفية في كتبهم وإمام الحرمين في البرهان والشيخ في شرح اللمع والرازي في كتبه وسائر أصحابه والآمدي وابن الحاجب والقرافي من المالكية وغيرهم وقال النووي في شرح الوسيط إذا انتشر قول التابعي ولم يخالف فالصحيح أنه كالصحابي وقيل ليس بحجة قطعا قال صاحب الشامل الصحيح أنه إجماع هذا هو الذي صححه وهو الأظهر لأن المعنى المعتبر في الصحابة موجود فيهم فإن لم ينتشر قول التابعي فليس بحجة بلا خلاف انتهى الثانية قول من خص هذه المسألة ببعض الصحابة دون من بعدهم وهي طريقة القدماء من أصحابنا وغيرهم منهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه والماوردي في الحاوي والصيرفي وابن القطان في كتابيهما في أصول الفقه والشيخ أبوإسحاق الشيرازي وابن الصباغ في العدة وإلكيا والغزالي في المستصفى والمنخول وابن برهان والخوارزمي في الكافي وأبو الحسين في المعتمد والقاضي عبد الوهاب من المالكية واختاره القرطبي من متأخريهم والموفق الحنبلي في الروضة وابن السمعاني ثم قال في أثناء المسألة وخصصها بعض أصحابنا بعصر الصحابة وأما التابعون ومن بعدهم فلا قال ولا يعرف فرق بين الموضعين والأولى التسوية بين الجميع وأما صاحب المحصول فأطلق المسألة ثم لما انتهى إلى فروع انتشار القول واحتمال بلوغه للباقين خصه بالصحابة وتوهم البيضاوي والهندي أن هذا القيد لا يحتاج إليه وأن الفرع غير مختص بالصحابة ويدل عليه نقل ابن السمعاني والمعنى فيه أن السكوت دليل الرضا فانتهض في الإجماع والثانية وهي هذا الفرع يختص بهم لأن قول البعض ليس بحجة على قول البعض فلا وجه لهذا القول إلا إذا كان القائل صحابيا فيقع الخلاف ناشئا عن أقوال الصحابة هل هي حجة ولذلك أشار القاضي والشيخ أبو إسحاق وغيرهما إلى أن هذا الفرع هو نفس الكلام في أن قول الصحابي هل هو حجة أم لا وأجروا الكلام فيه إلى موضعه والحاصل أنه إن عرف بلوغه الجميع فمسألة السكوتي وإن ظن ففيها خلاف مفرع على مسألة السكوتي كما قاله الأستاذ وإن كان محتملا فهي هذه المسألة ولا وجه للقول بالحجية فيها إلا إن كان من صحابي بناء على أن قوله حجة ومن عمم القول فيها لم يصب وإن لم يكن محتملا أصلا فلا وجه وقيل بل تخصيص المسألة بعصر الصحابة كما فعله الأقدمون أظهر من الطريقة الأولى وذلك لأن من قال يكون حجة لا إجماعا إنما يتوجه فرضه في حق الصحابة لأن منصبهم لا يقتضي السكوت عن مثل ذلك مع مخالفتهم فيه وهذا لا يجيء في حق غيرهم كيف والتعلق هنا إنما هو بقول المفتي والحاكم فقط لأنه مبني على أن الساكت لا ينسب إليه قول كما نقله الإمام عن الشافعي ولا حجة في قول أحد من المجتهدين بعد الصحابة بالاتفاق فإذا لم يكن إجماعا فكيف يكون حجة بخلاف ما إذا كان ذلك قول صحابي فإن ذلك إذا لم يكن سكوتهم عن مثله إجماعا فيصلح للاحتجاج
مسألة ظهور الإجماع بالفعل وسكوت الآخرين عليه
وأما ظهوره بالفعل وحده بأن يتفق أهل الحل والعقد على عمل ولم يصدر منهم قول فاختلفوا على مذاهب أحدها أنه كفعل الرسول صلى الله عليه وسلم لأن العصمة تابعة لإجماعهم كثبوتها للشارع فكانت أفعالهم كأفعاله وقطع به الشيخ أبو إسحاق وغيره وقال في المنخول إنه المختار وقال أبو الحسين في المعتمد يجوز اتفاقهم على القول والفعل والرضى ويخبرون عن الرضى في أنفسهم فيدل على حسن ما رضوا به وقد يجمعون على ترك الفعل وترك الفعل يدل على أنه واجب ويجوز أن ما تركوه مندوب إليه لأن تركه غير محظور وتابعه في المحصول والمذهب الثاني المنع ونقله إمام الحرمين عن القاضي قال بل ربما أنكر تصوره إذ لا يتصور تواطؤ قوم لا يحصون عددا على فعل واحد من غير أرب فالتواطؤ عليه غير ممكن نعم آحادهم يرتكبون ذلك في أوقات متغايرة وذلك لا يعد توافقا أصلا فإن تكلف متكلف تصوره في مجلس واحد فلا احتفال به لإمكان أن يختص به وليس في نفس الفعل دلالة على انتسابه إلى الشرع والقول مصرح بانتسابه إلى الشرع فإذن ليس في الفعل دلالة على كونه صوابا ا هـ واعلم أن الذي رأيته في التقريب للقاضي التصريح بالجواز فقال كل ما أجمعت الأمة عليه يقع بوجهين إما قول وإما فعل وكلاهما حجة انتهى والمذهب الثالث قول إمام الحرمين بأنه يحمل على الإباحة ما لم تقم قرينة دالة على الندب أو الوجوب فإنا نعلم أن الواحد من التابعين لو باشر فعلا فروجع فيه فقال كيف لا أفعله وقد فعله المهاجرون والأنصار قبل المشورة عليه والعادة أيضا تدل على مثل ذلك فإن الأمة إذا اتفقت على فعل وتكرر الفعل فيما بينهم فإن كان معصية اشتهر كونه معصية ولا يخفى قال إلكيا والحق ما قاله فليلتحق بمسائل الإجماع وقال القرافي إنه تفصيل حسن والمذهب الرابع قول ابن السمعاني إن كل فعل خرج مخرج الحكم والبيانلا ينعقد به الإجماع كما أن ما لم يخرج من أفعال الرسول مخرج الشرع لا يثبت فيه الشرع وأما الذي خرج من الأفعال مخرج الحكم والبيان يصح أن ينعقد به الإجماع لأن الشرع يؤخذ من فعل الرسول عليه السلام كما يؤخذ من قوله ولا بد من مجيء التفصيل بين أن ينقرض العصر أو لا ومن اشترطه في القولي فهاهنا أولى مسألة وقد يتركب من القول والفعل بأن يقول بعضهم هذا مباح ويقدم الباقي على إباحته بالفعل فيعلم أنه إجماع منهم وإن كان بعضهم قائلا وبعضهم فاعلا قاله القاضي عبد الوهاب تنبيه إذا فعل أهل الإجماع فعلا ولم يعلم أنهم فعلوه على وجه الوجوب أو الندب فعلام يحمل توقف بعضهم فيها من جهة النقل والذي يقتضيه قياس المذهب أن حكمه حكم الفعل من الرسول صلى الله عليه وسلم لأنا قد أمرنا باتباعهم كما أمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الشَّرْطُ الرَّابِعُ عَدَمُ النَّصِّ في حُكْمِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّهُ مع وُجُودِ النَّصِّ لَا اعْتِبَارَ بِالْإِجْمَاعِ هَكَذَا قَالَهُ أبو الْفَضْلِ بن عَبْدَانَ في كِتَابِ شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ فَإِنْ أَرَادَ حَمَلَهُ إذَا كان النَّصُّ على خِلَافِهِ فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ وَبِهِ تَبَيَّنَّا نَسْخَ النَّصِّ وَإِنْ أَرَادَ ما إذَا كان على وَفْقِهِ فَالنَّصُّ بَيَّنَ لنا مُسْتَنَدَ قَبُولِ الْإِجْمَاعِ الشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَسْبِقَهُ خِلَافٌ فَلَوْ اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ على قَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ الْإِجْمَاعُ على أَحَدِهِمَا على الْمَذْهَبِ وَسَيَأْتِي
فَصْلٌ في أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهَا لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ لَا يُشْتَرَطُ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضُ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ وَمَوْتُ الْجَمِيعِ على الصَّحِيحِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بَلْ يَكُونُ اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةً في الْحَالِ وَإِنْ لم يَنْقَرِضُوا فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ مع قَوْلِ الْآخَرِينَ حُجَّةً عليه كما هو حُجَّةٌ على غَيْرِهِ وَكَذَا لو نَشَأَ في الْعَصْرِ مُخَالِفٌ قبل انْقِرَاضِ أَهْلِهِ كما قَالَهُ الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ في مَسْأَلَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وَحَجْبُهُ الْأُمَّ بِثَلَاثَةِ إخْوَةٍ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ قد وُجِدَ وهو صُورَةُ الْإِجْمَاعِ وَلَا مَانِعَ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ وقال الْبَاجِيُّ هو قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وقال عبد الْوَهَّابِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وهو قَوْلُ الْقَلَانِسِيِّ من أَصْحَابِنَا مع الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وقال ابن بَرْهَانٍ هو الْقَوْلُ الْمَنْصُورُ عِنْدَنَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال الرَّافِعِيُّ في الْأَقْضِيَةِ إنَّهُ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ وقال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ في بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَجَرَى عليه الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ وقال أبو سُفْيَانَ إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَحَكَاهُ عن الْكَرْخِيِّ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي يُشْتَرَطُ وهو مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَنَصَرَهُ مُحَقِّقُو أَصْحَابِهِ وَاخْتَارَهُ ابن فُورَكٍ وَسُلَيْمٌ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ من أَصْحَابِنَا عن الْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ عن الْجُبَّائِيُّ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَاخْتَلَفُوا في عِلَّتِهِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فَائِدَةَ اشْتِرَاطِهِ إمْكَانُ رُجُوعِ الْمُجْمِعِينَ أو بَعْضِهِمْ وَالثَّانِي جَوَازُ وُجُودِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ وَيَنْبَنِي على الْعِلَّتَيْنِ ما لو وُجِدَ مُجْتَهِدٌ قبل انْقِرَاضِهِمْ يُعْتَبَرُ وَفَاقُهُ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْمُشْتَرِطُونَ افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ فَمِنْهُمْ من اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ
جَمِيعِ أَهْلِهِ وَمِنْهُمْ من اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ أَكْثَرِهِمْ فَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ أو اثْنَانِ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِصِدْقِ خَبَرِهِ لم يُعْتَدَّ بِبَقَائِهِ وَمِنْهُمْ من اعْتَبَرَ مَوْتَ الْعُلَمَاءِ فَقَطْ حَكَاهُ عبد الْوَهَّابِ وَكَأَنَّهُ بَنَاهُ على دُخُولِ الْعَامَّةِ في الْإِجْمَاعِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ اخْتَلَفَ الْمُشْتَرِطُونَ فَقِيلَ يُكْتَفَى بِمَوْتِهِمْ تَحْتَ هَدْمٍ دُفْعَةً إذْ الْغَرَضُ انْتِهَاءُ عُمُرِهِمْ عليه وقال الْمُحَقِّقُونَ لَا بُدَّ من انْقِضَاءِ مُدَّةٍ تُفِيدُ فَائِدَةً فَإِنَّهُمْ قد يُجْمِعُونَ على رَأْيٍ وهو مُعَرَّضٌ لِلتَّغْيِيرِ وقد رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ أَبْدَى الْخِلَافَ في مَسَائِلَ بَعْدَ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ الْقَائِلُونَ بِالِاشْتِرَاطِ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ هو شَرْطٌ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَقِيلَ شَرْطٌ في كَوْنِهِ حُجَّةً وإذا قُلْنَا إنَّ الِانْقِرَاضَ شَرْطٌ فَعَلَامَ يُعْتَبَرُ فيه وَجْهَانِ ذَكَرَهُ أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ أَحَدُهَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيمَا بُنِيَ أَمْرُهُ على الْمُسَامَحَةِ فَيَتَسَاهَلُ الْأَمْرُ فيه فَأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِالْإِتْلَافِ من قَتْلٍ أو قَطْعٍ أو ما أَشْبَهَهُ لم يُعْتَبَرْ فيه انْقِرَاضُ الْعَصْرِ وَالثَّانِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ في جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ثُمَّ قال إلْكِيَا مُقْتَضَى اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ الْإِجْمَاعُ ما بَقِيَ من الصَّحَابَةِ وَاحِدٌ وَلَوْ لَحِقَهُمْ زُمْرَةٌ من الْمُجْتَهِدِينَ قبل أَنْ يَنْقَرِضُوا فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ صَارُوا مُعْتَبَرِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَصَارَ خِلَافُهُمْ مُعْتَبَرًا وَمَعَ هذا أَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ عَصْرِ اللَّاحِقِينَ فَإِنَّا لو اعْتَبَرْنَا ذلك لم يَسْتَقِرَّ الْإِجْمَاعُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّاحِقَ صَارَ كَالسَّابِقِ في اعْتِبَارِ قَوْلِهِ وإذا كان اعْتِبَارُ قَوْلِهِ يَمْنَعُ من اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ فَيَنْبَغِي عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ لو خَالَفَ قبل انْقِرَاضِ عَصْرِ الْأَوَّلِينَ اُعْتُبِرَ خِلَافُهُمْ فإذا مَاتَ الْأَوَّلُونَ بَعْدَ تَحَقُّقِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِيرَ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةً وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ إنْ كان سُكُوتِيًّا اُشْتُرِطَ لِضَعْفِهِ بِخِلَافِ الْقَوْلِيِّ وهو رَأْيُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ فقال أبو مَنْصُورٍ في كِتَابِ التَّحْصِيلِ إنَّهُ قَوْلُ الْحُذَّاقِ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ أَيْضًا وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في بَابِ الْكَفَّارَةِ من تَعْلِيقِهِ إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَجَعَلَ سُلَيْمٌ مَحَلَّ الْخِلَافِ في الْقَوْلِيِّ قال وَأَمَّا السُّكُوتِيُّ فَانْقِرَاضُ الْعَصْرِ مُعْتَبَرٌ فيه بِلَا خِلَافٍ وَحَاصِلُهُ اخْتِيَارُ هذا الْمَذْهَبِ
وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ من الْمُتَأَخِّرِينَ الْآمِدِيُّ وَاعْلَمْ أَنَّ ما نَقَلْته عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ تَابَعْت فيه إمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَكِنَّ الذي في تَعْلِيقَةِ الْأُسْتَاذِ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ فِيهِمَا جميعا وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى قَاطِعٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه تَمَادِي زَمَانٍ وَيَنْتَهِضُ حُجَّةً على الْفَوْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى ظَنِّيٍّ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ حتى يَطُولَ الزَّمَانُ وَتَتَكَرَّرَ الْوَاقِعَةُ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ ولم يَتَكَرَّرْ فَلَا أَثَرَ له وَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وَمُسْتَنَدُهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَمَّا اسْتَنَدَتْ إلَى ظَنِّيٍّ وَطَالَتْ الْمُدَّةُ وَتَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ ولم يَعْرِضْ لِأَحَدٍ خِلَافٌ اُلْتُحِقَ بِالْمَقْطُوعِ وَصَرَّجَ بِأَنَّهُمْ لو هَلَكُوا عَقِبَ الْإِجْمَاعِ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَظَهَرَ بهذا أَنَّ الِانْقِرَاضَ عِنْدَهُ غَيْرُ شَرْطٍ وَلَا مُعْتَبَرٌ في حَالَةٍ من الْأَحْوَالِ وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ وَهْمُ ابْنِ الْحَاجِبِ في نَقْلِهِ عنه التَّفْصِيلَ بين الصَّادِرِ عن قِيَاسٍ فَيُشْتَرَطُ فيه الِانْقِرَاضُ وَإِلَّا فَلَا وَلَيْسَ كما قال بَلْ كَلَامُهُ مُصَرِّحٌ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الِانْقِرَاضِ أَلْبَتَّةَ وَمَعَ ذلك فما قَالَهُ في الظَّنِّيِّ حَكَمَ عليه بِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ وَيَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُقُوعِ واشتراطه طُولُ الزَّمَانِ في الظَّنِّيِّ إنَّمَا هو لِيَصِلَ إلَى الْقَطْعِ لَا أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ في نَفْسِهِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى ضَابِطِ قَدْرِ الزَّمَانِ بِمَا لَا يُفْرَضُ في مِثْلِهِ اسْتِقْرَارُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ على رَأْيٍ إلَّا عن حَامِلٍ قَاطِعٍ أو نَازِلٍ مَنْزِلَةَ الْقَاطِعِ على الْإِصْرَارِ وَاخْتَارَهُ في الْمَنْخُولِ وقال الرُّجُوعُ في مِقْدَارِهِ إلَى الْعُرْفِ وَرَدَّهُ في الْقَوَاطِعِ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَى أَيِّ شَيْءٍ اسْتِنَادُ الْمُجْمِعِينَ وَلَوْ عُرِفَ اسْتِنَادُهُمْ إلَى الْمَقْطُوعِ كان هو الْحُجَّةَ دُونَ الْإِجْمَاعِ وقال إلْكِيَا قال الْإِمَامُ إنَّ قَطْعَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ في مَظِنَّةِ الظَّنِّ فَلَا يَعْتَبِرُوا انْقِرَاضَهُ فإن ذلك لَا يَصْدُرُ إلَّا عن تَوْقِيفٍ وَتَقْدِيرٍ يَقْتَضِيهِ خَرْقُ الْعَادَةِ وَالْعَادَةُ لَا تُخْرَقُ لَا في لَحْظَةٍ وَلَا في أَمَدٍ طَوِيلٍ قال وَهَذَا الذي ذَكَرَ الْإِمَامُ لَا يَخْتَصُّ بِالْإِجْمَاعِ فإن الْمُجْتَهِدَ لو قَطَعَ في مَظِنَّةِ الظَّنِّ كان كَذَلِكَ وَلَا فَائِدَةَ له كَبِيرَةٌ هُنَا قال وَإِنْ كان الْإِجْمَاعُ في الْحُكْمِ مع الِاعْتِرَافِ بِاسْتِنَادِهِ إلَى اجْتِهَادِهِ فما دَامُوا في مُهْلَةِ الْبَحْثِ فَلَا مَذْهَبَ لهم فَضْلًا عن أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا وَإِنْ جَزَمُوا الْحُكْمَ بِنَاءً على أَحَدِ النَّظَرَيْنِ فَهَذَا مِمَّا يُبْعِدُ الْإِمَامُ وَيَرَى
أَنَّ الرَّأْيَ الذي أَجْمَعَ عليه أَهْلُ التَّوَاتُرِ مُسْتَنِدٌ لِلْقَاطِعِ وقد بَيَّنَّا من قَبْلُ تَصَوُّرَهُ وَحِينَئِذٍ فَالْمُعْتَبَرُ ظُهُورُ إصْرَارِهِمْ وَالْإِصْرَارُ قد يَتَبَيَّنُ بِالْقَرَائِنِ إمَّا في الْمَجْلِسِ أو بَعْدَهُ وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ يَنْعَقِدُ قبل الِانْفِرَاضِ فِيمَا لَا مُهْلَةَ فيه وَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ من قَتْلِ نَفْسٍ أو اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وهو نَظِيرُ ما سَبَقَ في السُّكُوتِيِّ وَالْمَذْهَبُ السَّادِسُ أَنَّهُ إذَا لم يَبْقَ من الْمُجْمِعِينَ إلَّا عَدَدٌ يَنْقُصُونَ عن أَقَلِّ عَدَدِ التَّوَاتُرِ فَلَا عِبْرَةَ بِبَقَائِهِمْ وَعُلِمَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ حَكَاهُ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَأَشَارَ إلَيْهِ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وَالْمَذْهَبُ السَّابِعُ إنْ شَرَطُوا في إجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَجَوَّزُوا الْخِلَافَ اُعْتُبِرَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ وَإِنْ لم يَشْتَرِطُوا ذلك لم يُعْتَبَرْ حَكَاهُ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ ثُمَّ قَيَّدَهُ بِالْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ دُونَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ التي يُقْطَعُ فيها بِخَطَأِ الْمُخَالِفِ وَالْمَذْهَبُ الثَّامِنُ إنْ كان الْمُجْمَعُ عليه من الْأَحْكَامِ التي لَا يَتَعَلَّقُ بها إتْلَافٌ وَاسْتِهْلَاكٌ اُشْتُرِطَ قَطْعًا وَإِنْ تَعَلَّقَ بها ذلك مِمَّا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ كَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ فَوَجْهَانِ وهو طَرِيقَةُ الْمَاوَرْدِيِّ في الْحَاوِي قال سُلَيْمٌ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ من اعْتَبَرَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ جَوَّزَ أَنْ يُجْمِعُوا على حُكْمٍ ثُمَّ يَرْجِعُوا عنه أو بَعْضُهُمْ وَمَنْ لم يَعْتَبِرْ لم يُجَوِّزْ ذلك تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الْمُرَادُ بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ قال ابن بَرْهَانٍ ليس الْمُرَادُ بِالِانْقِرَاضِ مُدَّةً مَعْلُومَةً بَلْ مَوْتُ الْمُجْمِعِينَ الْمُجْتَهِدِينَ فَالْعَصْرُ في لِسَانِهِمْ الْمُرَادُ بِهِ عُلَمَاءُ الْعَصْرِ وَالِانْقِرَاضُ عِبَارَةٌ عن مَوْتِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ حتى لو قُدِّرَ مَوْتُهُمْ في لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ في سَفِينَةٍ فإنه يُقَالُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ الثَّانِي صَوَّرَ الطَّبَرِيُّ الْمَسْأَلَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ لَا خِلَافَ في عَدَمِ اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِهِمْ وَبِهِ صَرَّحَ بَعْدُ وَكَلَامُ غَيْرِهِ ظَاهِرٌ في التَّعْمِيمِ وَمِنْ الْمُشْتَرِطِينَ من أَحَالَ عَدَمَ بُلُوغِ الْأُمَّةِ في عَصْرٍ حَدَّ التَّوَاتُرِ حَكَاهُ الْقَاضِي
عبد الْوَهَّابِ وَحِينَئِذٍ فَيَخْرُجُ في الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَامِنٌ الثَّالِثُ أَنَّ الْمُشْتَرِطِينَ قالوا يُحْتَجُّ بِهِ وَإِنْ كان انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا كما يَجِبُ عَلَيْنَا طَاعَةُ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَإِنْ جَازَ تَبْدِيلُهُ بِنَسْخٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ ثُمَّ إذَا رَجَعُوا فَغَايَتُهُ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا على خَطَأٍ لم يُقَرُّوا عليه لَا يُشْتَرَطُ في الْمُجْمِعِينَ بُلُوغُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ الْأَمْرُ الثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ في الْمُجْمِعِينَ بُلُوغُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ خِلَافًا لِلْقَاضِي بَلْ يَجُوزُ انْحِطَاطُهُمْ عنه عَقْلًا وَنَقَلَ ابن بَرْهَانٍ عن مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ وَعَنْ طَوَائِفَ من الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْلًا وإذا جَوَّزْنَا فَهَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِهِ فَذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً كما قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وهو قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَجُوزُ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً فإن مَأْخَذَ الْخِلَافِ مُسْتَنِدٌ إلَى طَرْدِ الْعَادَةِ وَمَنْ لم يُحْسِنْ اسْتِنَادَ الْإِجْمَاعِ إلَيْهِ لم يَسْتَقِرَّ له قَدَمٌ فيه وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ من دَلَالَةِ الْعَادَةِ أو السَّمْعِ فَمَنْ أَخَذَهُ من دَلَالَةِ الْعَقْلِ وَاسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ شَرَطَ التَّوَاتُرَ وَمَنْ أَخَذَهُ من الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من شَرَطَهُ وَمِنْهُمْ من نَفَاهُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ صُورَةَ الْإِجْمَاعِ الْمَشْهُودِ بِعِصْمَتِهِ عن الْخَطَأِ قد وَجَبَتْ فَيَتَرَتَّبُ عليها حُكْمُهَا وقال الْهِنْدِيُّ الْمُشْتَرِطُونَ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْقُصَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ عن عَدَدِ التَّوَاتُرِ ما دَامَ التَّكْلِيفُ بِالشَّرِيعَةِ بَاقِيًا وَمِنْهُمْ من زَعَمَ أَنَّ ذلك وَإِنْ كان يُتَصَوَّرُ لَكِنْ يُقْطَعُ بِأَنَّ من ذَهَبَ إلَيْهِ دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ إخْبَارَهُمْ عن إيمَانِهِمْ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ فَلَا يَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ وَمِنْهُمْ من زَعَمَ أَنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْلَمَ إيمَانُهُمْ بِالْقَرَائِنِ لَا يُشْتَرَطُ فيه ذلك بَلْ يَكْفِي فيه الظُّهُورُ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لِكَوْنِهِ كَاشِفًا عن دَلِيلٍ قَاطِعٍ وهو يُوجِبُ كَوْنَهُ مُتَوَاتِرًا وَإِلَّا لم يَكُنْ قَاطِعًا فما يَقُومُ مَقَامَهُ نَقَلَهُ مُتَوَاتِرًا وهو الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عن عَدَدِ التَّوَاتُرِ وَإِلَّا لم يُقْطَعْ بِوُجُودِهِ
فَرْعٌ إذَا لم يَبْقَ إلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ فَهَلْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ كَالْإِجْمَاعِ وَطَرَدَ الْأُسْتَاذُ قِيَاسَهُ فقال يَجُوزُ أَلَّا يَبْقَى في الدَّهْرِ إلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ وَلَوْ اتَّفَقَ ذلك فَقَوْلُهُ حُجَّةٌ كَالْإِجْمَاعِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْوَاحِدِ أُمَّةٌ كما قال تَعَالَى إنَّ إبْرَاهِيمَ كان أُمَّةً وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عن الْأَكْثَرِينَ قُلْت وَبِهِ جَزَمَ ابن سُرَيْجٍ في كِتَابِ الْوَدَائِعِ فقال وَحَقِيقَةُ الْإِجْمَاعِ هو الْقَوْلُ بِالْحَقِّ فإذا حَصَلَ الْقَوْلُ بِالْحَقِّ من وَاحِدٍ فَهُوَ إجْمَاعٌ وَكَذَا إنْ حَصَلَ من اثْنَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ وَالْحُجَّةُ على أَنَّ الْوَاحِدَ إجْمَاعٌ ما اتَّفَقَ عليه الناس في أبي بَكْرٍ لَمَّا مَنَعَتْ بَنُو حَنِيفَةَ الزَّكَاةَ فَكَانَتْ بِمُطَالَبَةِ أبي بَكْرٍ لها بِالزَّكَاةِ حَقًّا عِنْدَ الْكُلِّ وما انْفَرَدَ بِمُطَالَبَتِهَا غَيْرُهُ هذا كَلَامُهُ وَخِلَافُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فيه وهو الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إلَّا من اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَنَقَلَ ابن الْقَطَّانِ عن أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حُجَّةٌ وقال إلْكِيَا الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على تَصَوُّرِ اشْتِمَالِ الْعَصْرِ على الْمُجْتَهِدِ الْوَاحِدِ وَالصَّحِيحُ تَصَوُّرُهُ وإذا قُلْنَا بِهِ فَفِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِمُجَرَّدِ قَوْلٍ خِلَافٌ وَبِهِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ قال وَاَلَّذِي حَمَلَهُ على ذلك أَنَّهُ لم يَرَ في اخْتِصَاصِ الْإِجْمَاعِ بِمَحَلٍّ مَعْنًى يَدُلُّ عليه فَسَوَّى بين الْعَدَدِ وَالْفَرْدِ وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ سِوَاهُ فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْعَدَدَ ثُمَّ يَقُولُونَ الْمُعْتَبَرُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فَإِذَنْ مُسْتَنِدُ الْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدٌ إلَى طَرْدِ الْعَادَةِ بِتَوْبِيخِ من يُخَالِفُ الْعَصْرَ الْأَوَّلَ وهو يَسْتَدْعِي وُفُورَ عَدَدٍ من الْأَوَّلِينَ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا لم يَكُنْ في الْعَصْرِ إلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ فإنه لَا يَظْهَرُ فيه اسْتِيعَابُ مَدَارِكِ الِاجْتِهَادِ قال وَيَنْشَأُ من هذا خِلَافٌ في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا أَجْمَعُوا على قَوْلٍ وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ منهم بِخِلَافٍ وَالْمُجْمِعُونَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فَهَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ فَقِيلَ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وهو مَذْهَبُ ابْنِ جَرِيرٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ إنْ كان اسْتِنَادُ الْإِجْمَاعِ إلَى قِيَاسٍ إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْجَمَاعَةُ إذَا ابْتَدَرُوا أَجْلَى الْقِيَاسِ وَظَهَرَ الْوَاحِدُ منهم بِقِيَاسٍ غَامِضٍ يُخَالِفُ فيه نعم إنْ قَطَعُوا في مَظِنَّةِ الظَّنِّ فَأَهْلُ التَّوَاتُرِ لَا يَقْطَعُونَ في مَظِنَّةِ الظَّنِّ إلَّا
بِقَاطِعٍ ثُمَّ ذلك الْقَاطِعُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ لِلْمُخَالِفِ الثَّانِيَةُ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ هل يَكُونُ حُجَّةً وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَكْثَرُونَ على التَّسْوِيَةِ بين إجْمَاعِ الصِّحَابِ وَمَنْ عَدَاهُمْ خِلَافًا لِدَاوُدَ لَا يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ في نَقْلِ الْإِجْمَاعِ الْأَمْرُ الثَّالِثُ لَا يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ في نَقْلِهِ بَلْ يُحْتَجُّ بِالْإِجْمَاعِ الْمَرْوِيِّ بِطَرِيقِ الْآحَادِ على الْمُخْتَارِ وَبِهِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَنُقِلَ عن الْجُمْهُورِ اشْتِرَاطُهُ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في أَوَائِلِ الْبَابِ عِنْدَ كَوْنِهِ قَطْعِيًّا أو ظَنِّيًّا مَسْأَلَةٌ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا أَعْلَمُ فيه خِلَافًا هل هو إجْمَاعٌ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بين أَهْلِ الْعِلْمِ في كَذَا قال الصَّيْرَفِيُّ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا لِجَوَازِ الِاخْتِلَافِ وَكَذَا قال ابن حَزْمٍ في الْإِحْكَامِ وقال في كِتَابِ الْإِعْرَابِ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عليه في الرِّسَالَةِ وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ قال الصَّيْرَفِيُّ وَإِنَّمَا يَسُوغُ هذا الْقَوْلُ لِمَنْ بَحَثَ الْبَحْثَ الشَّدِيدَ وَعَلِمَ أُصُولَ الْعِلْمِ وَحَمَلَهُ فإذا عَلِمَ على هذا الْوَجْهِ لم يَجُزْ الْخُرُوجُ منه لِأَنَّ الْخِلَافَ لم يَظْهَرْ وَلِهَذَا لَا نَقُولُ لِلْإِنْسَانِ عَدْلٌ قبل الْخِبْرَةِ فإذا عَلِمْنَاهُ بِمَا يُعْلَمُ بِهِ مُسْلِمٌ حَكَمْنَا بِعَدَالَتِهِ وَإِنْ جَازَ خِلَافُ ما عَلِمْنَاهُ وقال ابن الْقَطَّانِ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا يَظْهَرُ إنْ كان من أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ حُجَّةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ من الَّذِينَ كَشَفُوا الْإِجْمَاعَ وَالِاخْتِلَافَ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وقال الْمَاوَرْدِيُّ إذَا قال لَا أَعْرِفُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فَإِنْ لم يَكُنْ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَمِمَّنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ لم يَثْبُتْ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَأَثْبَتَ الْإِجْمَاعَ بِهِ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ قال ابن حَزْمٍ وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قال لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فَهُوَ إجْمَاعٌ وهو قَوْلٌ فَاسِدٌ وَلَوْ قال ذلك محمد بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ إنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَجْمَعَ منه لِأَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنْ فَوْقَ كل ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
وقد قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زَكَاةِ الْبَقَرِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا في أَنَّهُ ليس في أَقَلَّ من ثَلَاثِينَ منها تَبِيعٌ وَالْخِلَافُ في ذلك مَشْهُورٌ فإن قَوْمًا يَرَوْنَ الزَّكَاةَ على الْخَمْسِ كَزَكَاةِ الْإِبِلِ وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُوَطَّئِهِ وقد ذَكَرَ الْحُكْمَ بِرَدِّ الْيَمِينِ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فيه بين أَحَدٍ من الناس وَلَا بَلَدٍ من الْبُلْدَانِ وَالْخِلَافُ فيه شَهِيرٌ وكان عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه لَا يَرَى رَدَّ الْيَمِينِ وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ وَكَذَلِكَ ابن عَبَّاسٍ وَمِنْ التَّابِعِينَ الْحَكَمُ وَغَيْرُهُ وابن أبي لَيْلَى وأبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ كَانُوا الْقُضَاةَ في ذلك الْوَقْتِ فإذا كان مِثْلَ من ذَكَرْنَا يَخْفَى عليه الْخِلَافُ فما ظَنُّك بِغَيْرِهِ مَسْأَلَةٌ تَعْرِيفُ الشُّذُوذِ اُخْتُلِفَ في الشُّذُوذِ وما هو فَقِيلَ هو قَوْلُ الْوَاحِدِ وَتَرْكُ قَوْلِ الْأَكْثَرِ وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ هو أَنْ يَرْجِعَ الْوَاحِدُ عن قَوْلِهِ فَمَتَى رَجَعَ عنه سُمِّيَ شَاذًّا كما يُقَالُ شَذَّ الْبَعِيرُ عن الْإِبِلِ بَعْدَ أَنْ كان فيها يُسَمِّي شَاذًّا فَأَمَّا قَوْلُ الْأَقَلِّ فَلَا مَعْنَى لِتَسْمِيَتِهِ شَاذًّا لِأَنَّهُ لو كان شَاذًّا لَكَانَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ شَاذًّا
الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْإِجْمَاعُ قال الرُّويَانِيُّ وَيَسْتَقِرُّ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ أَحَدُهَا الْعِلْمُ بِاتِّفَاقِهِمْ عليه سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِمْ عَمَلٌ أَمْ لَا وَقِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ عَمَلٌ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُحَقِّقٌ لِلْقَوْلِ قال وَهَذَا لَا وَجْهَ له لِأَنَّ حُجَجَ الْأَقْوَالِ آكَدُ من الْأَفْعَالِ نعم إنْ أَجْمَعُوا على الْقَوْلِ وَاخْتَلَفُوا في الْعَمَلِ يُبْطِلُ الْإِجْمَاعَ ثَانِيهَا أَنْ يَسْتَدِيمُوا ما كَانُوا عليه من الْإِجْمَاعِ وَلَا يَحْدُثُ من أَحَدِهِمْ خِلَافٌ فَإِنْ خَالَفَهُمْ الْوَاحِدُ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ بَطَلَ الْإِجْمَاعُ وَسَاغَ الْخِلَافُ لِأَنَّهُ كما جَازَ حُدُوثُ إجْمَاعٍ بَعْدَ خِلَافٍ جَازَ حُدُوثُ خِلَافٍ بَعْدَ إجْمَاعٍ كما وَقَعَ لِعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه في بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ قُلْت هذا رَأْيٌ مَرْجُوحٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّ رُجُوعَ الْوَاحِدِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ لَا يَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ بَلْ يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً عليه بِنَاءً على أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ وقد وَافَقَ هو في أَوَّلِ كِتَابِ الْبَحْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثَالِثُهَا أَنْ يَنْقَرِضَ عَصْرُهُمْ حتى يُؤْمَنَ الْخِلَافُ منهم فَإِنْ بَقِيَ الْعَصْرُ رُبَّمَا أَحْدَثَ بَعْضُهُمْ خِلَافًا كَابْنِ عَبَّاسٍ في الْعَوْلِ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ فَقِيلَ له هَلَّا قُلْته في أَيَّامِهِ قال كان رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبْتُهُ الْمُعْتَبَرُ في انْقِرَاضِ الْعَصْرِ قال وَلَا يُعْتَبَرُ في انْقِرَاضِ الْعَصْرِ مَوْتُ جَمِيعِ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ وقد تَتَدَاخَلُ الْأَعْصَارُ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ في انْقِرَاضِهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْتَوْلِيَ على الْعَصْرِ الثَّانِي غَيْرُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَنْ يَنْقَضِيَ فِيهِمْ من بَقِيَ من أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّ أَنَسَ بن مَالِكٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بن أبي أَوْفَى عَاشَا إلَى عَصْرِ التَّابِعِينَ وَتَطَاوَلَا إلَى أَنْ جَمَعَا بين عَصْرَيْنِ فلم يَدُلَّ ذلك على بَقَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ منهم قال ثُمَّ إذَا كان انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا في اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ في الْأَحْكَامِ التي لَا يَتَعَلَّقُ بها إتْلَافٌ وَاسْتِهْلَاكٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في انْقِرَاضِ الْعَصْرِ هل هو شَرْطٌ في الْإِجْمَاعِ انْعِقَادًا على وَجْهَيْنِ قُلْت وَحَاصِلُهُ أَنَّ الِانْقِرَاضَ شَرْطٌ في اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ قَطْعًا وَهَلْ هو شَرْطٌ في انْعِقَادِهِ فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ رَابِعُهَا أَنْ لَا يَلْحَقَ بِالْعَصْرِ الْأَوَّلِ من يُنَازِعُهُمْ من أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي فَإِنْ لَحِقَ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ بَعْضُ التَّابِعِينَ فَخَالَفَ في إجْمَاعِهِمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ وَفَصَّلَ في مَوَاضِعَ أُخَرَ بين أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَالَةَ حُدُوثِ الْوَاقِعَةِ فَيُعْتَبَرُ وَإِلَّا فَلَا وقال إنَّهُ الْمَذْهَبُ
الْفَصْلُ الْخَامِسُ في الْمُجْمَعِ عليه وهو ما يَكُونُ الْإِجْمَاعُ فيه دَلِيلًا وَحُجَّةً وهو كُلُّ أَمْرٍ دِينِيٍّ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ على ثُبُوتِهِ لَا كَإِثْبَاتِ الْعَالَمِ لِلصَّانِعِ وَكَوْنِهِ قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا كَالنُّبُوَّاتِ فإنه لَا يَصْلُحُ إثْبَاتُ شَيْءٍ منها بِالْإِجْمَاعِ لِلُّزُومِ الدَّوْرِ لِتَوَقُّفِ ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ على ثُبُوتِ الدَّلِيلِ جَرَيَانُ الْإِجْمَاعِ في الْعَقْلِيَّاتِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَغَيْرُهُمْ الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا ما يَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَمَلِ بِهِ على الْعِلْمِ بِصِحَّةِ السَّمْعِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَإِثْبَاتِ صِفَاتِهِ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً فيها كما لَا يَثْبُتُ الْكِتَابُ بِالسُّنَّةِ وَالْكِتَابُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قبل السُّنَّةِ وَالثَّانِي ما لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَمَلِ بِهِ على السَّمْعِ كَجَوَازِ الرِّوَايَةِ وَغُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَالتَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فَالْإِجْمَاعُ فيه حُجَّةٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَلَخَّصُ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي جَرَيَانَ الْإِجْمَاعِ في الْعَقْلِيَّاتِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْقَاضِي فقال وقال شَيْخُنَا أبو بَكْرٍ محمد بن الطَّيِّبِ الْأَشْعَرِيُّ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ في جَمِيعِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ على نَفْيِ قَدِيمٍ عَاجِزٍ أو مَيِّتٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعُقُولِ على نَفْيِهِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَبِهِ جَزَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا اسْتِغْنَاءً بِدَلِيلِ الْعَقْلِ عن الْإِجْمَاعِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وهو الْحَقُّ نعم يُسْتَعْمَلُ الْإِجْمَاعُ في عِلْمِ الْكَلَامِ لَا لِإِفَادَةِ الْعِلْمِ بَلْ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ وَإِفْحَامِهِ وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ بِنَاءً على أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَثْبُتُ حُجَّةً بِالسَّمْعِ لَا بِالْعَقْلِ وقال إلْكِيَا يَنْشَأُ من أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ من جِهَةِ السَّمْعِ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمْعُ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْرَفَ بِالْإِجْمَاعِ ما يَجِبُ أَنْ تَتَقَدَّمَ مَعْرِفَتُهُ قبل مَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ كَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ
وَالنُّبُوَّاتِ وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين كُلِّيَّاتِ أُصُولِ الدِّينِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ وَبَيْنَ جُزْئِيَّاتِهِ كَجَوَازِ الرُّؤْيَةِ فَيَثْبُتُ بِهِ ثُمَّ فيه مَسَائِلُ الْأُولَى يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْإِجْمَاعِ كُلُّ ما يَصِحَّ أَنْ يُعْلَمَ بِالنُّصُوصِ وَغَيْرِهَا من أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَيَصِحُّ أَنْ تُعْلَمَ السَّمْعِيَّاتُ كُلُّهَا من نَاحِيَتِهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ الثَّانِيَةُ قد اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا على كَوْنِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَكَلِّمًا صَادِقًا في كَلَامِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَلْزَمَ الدَّوْرُ قال الْقُرْطُبِيُّ وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْمُعْجِزَةُ تَدُلُّ على صِدْقِ الْمُتَحَدِّي من حَيْثُ إنَّهَا تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ فَالدَّوْرُ لَازِمٌ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا تَدُلُّ دَلَالَةَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ لم يَلْزَمْ الثَّالِثَةُ قِيلَ يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُنَا إثْبَاتُ الصَّانِعِ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ ثُمَّ تُعْرَفُ صِحَّةُ النُّبُوَّةِ بِالْمُعْجِزَةِ ثُمَّ تُعْرَفُ من جِهَةِ النُّبُوَّةِ حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ ثُمَّ تُعْرَفُ بِهِ حُدُوثُ الْعَالَمِ قال وَيُمْكِنُنَا التَّمَسُّكُ بِهِ في التَّوَصُّلِ إلَيْهِ وَفِيهِ نَظَرٌ الرَّابِعَةُ اُخْتُلِفَ في الْإِجْمَاعِ في الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْآرَاءِ وَالْحُرُوبِ وَالْعَادَةِ وَالزِّرَاعَةِ هل هِيَ حُجَّةٌ فَأَطْلَقَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ الْأَصَحُّ قال إلْكِيَا لَا يَبْعُدُ خَطَأُ الْأُمَّةِ في ذلك وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ فَلَوْ قِيلَ بِحُجِّيَّتِهِ فَرُبَّمَا اخْتَلَفَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ في زَمَنٍ وَصَارَتْ في غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ تَرْكُ الْمَصْلَحَةِ وَإِثْبَاتُ ما لَا مَصْلَحَةَ فيه وهو مَحْذُورٌ وَمِنْهُمْ من ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ إنَّهُ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَصْحَابِهِمْ لِأَنَّ ذلك الْأَمْرَ الذي أَجْمَعَتْ عليه وَإِنْ كان من جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَاجْتِنَابِ الْمَضَارِّ فَقَدْ صَارَ أَمْرًا دِينِيًّا وَجَبَتْ مُرَاعَاتُهُ فَيَتَنَاوَلُ ذلك الْإِجْمَاعُ أَدِلَّةَ الْإِجْمَاعِ وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ بين ما يَكُونُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الرَّأْيِ وَبَيْنَ ما يَكُونُ قَبْلَهُ فقال بِحُجِّيَّةِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَلَعَلَّ هذا تَنْقِيحُ ضَابِطٍ لِلْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ