كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي
قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ في الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ وفي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ تَكُونُ الْعِلَّةُ نَتِيجَةَ الْحُكْمِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّ الْعِلَّةَ مَاذَا في الرِّبَا هل هِيَ الطُّعْمُ أو الْكَيْلُ وَحُكْمُ هذه الْمَسْأَلَةِ ليس نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُمْ قبل الْبَحْثِ عن هذه الْعِلَلِ اتَّفَقُوا على الْحُكْمِ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ إلَّا أَنَّهُمْ نَازَعُوا بَعْدَهُ في عِلَّةِ هذا الْحُكْمِ وَلَوْ قَدَّرْنَا فَسَادَ هذه الْعِلَلِ بِأَسْرِهَا لم يَبْطُلْ الْحُكْمُ فإنه ليس نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ فإن الْحُكْمَ فيه نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ فَلَوْ بَطَلَتْ الْعِلَّةُ بَطَلَ الْحُكْمُ كَقَوْلِنَا في النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ ابن فُلَانٍ يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ قِيَاسًا على بِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَالْحُكْمُ في هذا الْقِيَاسِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لم يَتَّفِقُوا على الْبَحْثِ عن هذه الْعِلَّةِ أَنَّ بِنْتَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَا تَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا صَارُوا إلَيْهِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ بَعْدَ الْبَحْثِ عنها وَلَوْ قَدَّرْنَا بُطْلَانَ هذه الْعِلَّةِ بَطَلَ هذا الْحُكْمُ الثَّانِي أَنَّ التَّنَازُعَ في الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ يَقَعُ في وُجُودِ الْعِلَّةِ دُونَ الِاعْتِبَارِ وفي غَيْرِهِ من أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ يَقَعُ في الِاعْتِبَارِ دُونَ الْوُجُودِ وَأَلْحَقَ ابن السَّمْعَانِيِّ الْقِيَاسَ بِالطَّرْدِ في أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ قال وَطَائِفَةٌ من الْجَدَلِيِّينَ يُصَحِّحُونَهُ وَيَقُولُونَ الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عليه في الْأَصْلِ وَالْمُعَلِّلُ عَلَّلَ بِالْأُنُوثَةِ وَهِيَ تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ وَقِيَاسٌ على أَصْلٍ مُسَلَّمٍ فَاخْتِلَافُ الْمَذَاهِبِ لَا يَضُرُّ قبل هذا التَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلُ لَا يَرْضَى بِهِ مُحَقِّقٌ قال ابن الْمُنِيرِ وَاَلَّذِي يُوقِعُ في التَّرْكِيبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنَّمَا هو عِلْمُ الْمُرَكَّبِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عن الْإِشْهَادِ على مَعْنَاهُ بِأَصْلِ الْعِلَّةِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ بَاطِلٌ فَيُحِيلُ على الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ بِصُورَةِ الْأَقْيِسَةِ فَيَتَخَلَّفُ أَيْضًا في كَوْنِهِ أَصْلًا فيه وهو بِالْحَقِيقَةِ نَفْسُ الْفَرْعِ وَهَذِهِ حِيَلٌ جَدَلِيَّةٌ لَا وَقْعَ لها عِنْدَ طَالِبِ التَّحْقِيقِ وَلَوْ سَلَّمَ الْخَصْمُ ما جَعَلَهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً في الْأَصْلِ فِيهِمَا أو أَثْبَتَ الْمُسْتَدِلُّ وُجُودَهَا في الْأَصْلِ أو سَلَّمَ النَّاظِرُ انْتَهَضَ الْمُسْتَدِلُّ على الْخَصْمِ فَلَوْ لم يَتَّفِقَا على الْأَصْلِ وَلَكِنْ أَثْبَتَ الْمُسْتَدِلُّ بِأَصْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ الْمُسْتَغْنَى عنه بِمُوَافَقَةِ الْحُكْمِ ثُمَّ أَثْبَتَ الْعِلَّةَ بِطَرِيقِهَا فإنه يَنْتَهِضُ دَلِيلُهُ على الْخَصْمِ الْمُجْتَهِدِ على الْأَصَحِّ وَيُقْبَلُ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ فذكر فيها السَّبَبَ وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ على سِتَّةِ أَضْرُبٍ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَمُرَكَّبِ الْفَرْعِ وَمُرَكَّبِ الْوَصْفِ وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَالْفَرْعِ وزاد هو قِسْمًا
سَابِعًا وهو مُرَكَّبُ الْوَصْفِ وَالْفَرْعِ وَالْمُسْتَعْمَلُ من هذه ثَلَاثَةٌ مُرَكَّبُ الْأَصْلِ وَمُرَكَّبُ الْوَصْفِ وَمُرَكَّبُ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ مِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ تَعْلِيلُ أَصْحَابِنَا في قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ أَنَّهُ مُسْلِمٌ قَتَلَ كَافِرًا فلم يُقْتَلْ بِهِ كما لو قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْمُثَقَّلِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ لِكَوْنِهِ قَتْلًا بِمُثَقَّلٍ وَعِنْدَنَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ بين الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ فَالْأَصْلُ مُتَّفَقٌ على سُقُوطِ الْقِصَاصِ فيه لَكِنْ من جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْفَرْعِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في مَالِ الصَّبِيِّ وَيَفْرِضَ الْكَلَامَ فِيمَنْ له خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَقُولُ من وَجَبَ الْعُشْرُ في زَرْعِهِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ في مَالِهِ كَالْبَالِغِ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ فيه ابن خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مُخْتَلَفٌ في بُلُوغِهِ فإذا أَرَادَ الْمُخَالِفُ أَنْ يُفَرِّقَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَنْ يَقُولَ الْمَعْنَى في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْحَجُّ فَكَذَلِكَ وَجَبَتْ عليه الزَّكَاةُ في مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ قال الْمُعَلِّلُ لَا أُسَلِّمُ هذا وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْوَصْفِ أَنْ يُعَلِّلَ شَافِعِيٌّ لِلْمَنْعِ من قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِأَنَّهُ لو قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ لم يَجِبْ عليه الْقِصَاصُ فإذا قَتَلَهُ بِمُحَدَّدٍ لم يَجِبْ عليه الْقِصَاصُ من أَصْلِهِ إذَا كان حَرْبِيًّا وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ قَوْلُ أَصْحَابِنَا في ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ حَالَةٌ يَصِحُّ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ فيها بِالثَّمَنِ عِنْدَ الْمُخَالِفِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فيها الْخِيَارُ كما إذَا قال بِعْنِي فقال بِعْتُك فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْوَصْفِ أَنَّ إلْحَاقَ الزِّيَادَةِ في الثَّمَنِ يَجُوزُ قبل انْبِرَامِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ وَعِنْدَنَا يَجُوزُ لِثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَقَوْلُهُ حَالَةٌ يَجُوزُ الْإِلْحَاقُ لِلزِّيَادَةِ فيها بِالثَّمَنِ صَحِيحٌ على الْمَذْهَبَيْنِ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ بِالْأَصْلِ لِأَنَّ الْبَيْعَ في هذه الصِّيغَةِ لَا يَتِمُّ عِنْدَ الْمُخَالِفِ حتى يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت وَعِنْدَنَا قد تَمَّ لَكِنْ لم يَلْزَمْ لِأَجْلِ الْمَجْلِسِ فَثُبُوتُ الْخِيَارِ مُجْمَعٌ عليه وَإِنْ اخْتَلَفَا في عِلَّتِهِ وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ بِالْخَلِّ وَيَقُولَ أَفْرِضُ الْكَلَامَ في غَسْلِ الثَّوْبِ بِالنَّبِيذِ وَأَقُولُ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَا يُطَهِّرُ النَّجِسَ كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّ النَّبِيذَ عِنَبٌ لَكِنْ اتَّفَقْنَا على أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ له حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ وَإِنَّمَا اسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةَ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ الْمُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ نَجِسٌ عِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَجُوزُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِهِ وَعِنْدَنَا هو طَاهِرٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِهِ وفي مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
لَا الْأَصْلُ وَلَا الْفَرْعُ مُسَلَّمٌ وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَالْفَرْعِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالْخَلِّ وَيَقُولَ أَفْرِضُ الْكَلَامَ في غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالنَّبِيذِ فَأَقُولُ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فلم يُرْفَعْ بِهِ حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ التَّطْهِيرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِكَوْنِهِ نَجِسًا وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَثْبُتُ له حُكْمُ التَّطْهِيرِ لَكِنْ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِنَجَاسَتِهِ وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ كما يَرْفَعُهُ الْمَاءُ لَكِنْ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ في السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ نَجِسٌ وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْفَرْعِ وَالْوَصْفِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ الْمَنْعَ من غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالْخَلِّ وَيَفْرِضَ الْكَلَامَ في غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالنَّبِيذِ فيقول مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فلم يَثْبُتْ له حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ النَّجِسِ سَابِعُهَا أَنْ لَا نَكُونَ مُتَعَبَّدِينَ في ذلك الْحُكْمِ بِالْقَطْعِ فَإِنْ تُعُبِّدْنَا بِالْقَطْعِ لم يَجُزْ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ غير الظَّنِّ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَكُونُ أَقْوَى من الْأَصْلِ وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الْقِيَاسُ كَإِثْبَاتِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً بِالْقِيَاسِ على قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْفَتْوَى على رَأْيِ من يَزْعُمُ أَنَّهُ من الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ في جَدَلِهِ وَالْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ وَالْبُرْهَانُ الْمُطَرِّزِيُّ في الْعُنْوَانِ وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ تَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ بِجَامِعٍ شَبَهِيٍّ فَيَكُونُ حُصُولُهُ في الْفَرْعِ مَظْنُونًا وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ إذْ قد نَصُّوا على التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ تَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا وَتَارَةً أَقْوَى وَتَارَةً أَضْعَفُ هذا إذَا كان الْقِيَاسُ شَبِيهًا فَإِنْ كان قِيَاسَ الْعِلَّةِ فَنَحْنُ لَا نَقِيسُ إلَّا إذَا وُجِدَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ في الْفَرْعِ وإذا وُجِدَتْ فيه أَثَّرَتْ مِثْلَ حُكْمِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ مَقْطُوعًا بِهِ أَيْضًا وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ يُفِيدُ وُجُودَ الْمَدْلُولِ فَدَلَالَةُ عِلَّةِ الْأَصْلِ إذَا وُجِدَتْ في الْفَرْعِ دَلَّتْ على وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ قَطْعًا وكان الْقِيَاسُ قَطْعًا مُتَّفَقًا عليه وقد ضَعَّفَ الْإِبْيَارِيُّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ وقال بَلْ ما يَتَعَدَّ فيه بِالْعِلْمِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ الذي يُفِيدُ الْعِلْمَ وقد قَسَمَهُ الْمُحَقِّقُونَ إلَى ما يُفِيدُ الْعِلْمَ وَقَالُوا إنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ النَّصُّ الْمُتَوَاتِرُ وَلِهَذَا قال
الْفُقَهَاءُ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ فَأَجْرَوْهُ مَجْرَى الْمَقْطُوعِ بِهِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ لَعَلَّ هذا الشَّرْطَ مَبْنِيٌّ على أَنَّ دَلِيلَ الْقِيَاسِ ظَنِّيٌّ وَإِلَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَعَلِمْنَا الْعِلَّةَ قَطْعًا وَوُجُودَهَا في الْفَرْعِ قَطْعًا فَقَدْ عَلِمْنَا الْحُكْمَ قَطْعًا وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ على قَوْلَيْنِ وقال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عِنْدِي أَنَّ هذا الْخِلَافَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ في الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ فإنه لو أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْيَقِينِ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ ثُمَّ تَحْصِيلُ الْيَقِينِ بِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ حَاصِلَةٌ في هذه الصُّورَةِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ بِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ مِثْلُ حُكْمِ الْأَصْلِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الْبَحْثُ في أَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْصِيلُ هَذَيْنِ الْيَقِينَيْنِ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا وَأَمَّا الذي طَرِيقُهُ الظَّنُّ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فيه قال الْهِنْدِيُّ لو حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ على النُّدُورِ لم يَمْتَنِعْ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ لِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ قِيَاسًا شَرْعِيًّا مُخْتَلَفًا فيه قال وَهَذَا يَسْتَقِيمُ إنْ أُرِيدَ بِهِ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الذي هو رُكْنٌ في الْقِيَاسِ الظَّنِّيِّ الذي هو مُخْتَلَفٌ فيه فَأَمَّا إنْ أُرِيدَ بِهِ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الذي هو رُكْنٌ في الْقِيَاسِ كَيْفَ كان فَلَا يَسْتَقِيمُ ذلك بَلْ يَجِبُ حَذْفُ قَيْدِ الْعِلْمِ عنه ثَامِنُهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَعْدُولًا بِهِ عن قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْقِيَاسِ معه إثْبَاتُ الْحُكْمِ مع مُنَافِيهِ وهو الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ الْخَارِجُ عن الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عليه وَهَذَا إطْلَاقٌ مُجْمَلٌ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ هذا الشَّرْطَ من الْمُتَأَخِّرِينَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُمَا لَكِنْ أَطْلَقَ ابن بَرْهَانٍ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا جَوَازُ الْقِيَاسِ على ما عُدِلَ فيه عن سُنَنِ الْقِيَاسِ وَمَثَّلَهُ بِمَا زَادَ على أَرْشِ الْمُوضِحَةِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وما دُونَهُ هل تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا تَحْمِلُهُ قِيَاسًا على أَرْشِهَا وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا تَحْمِلُهُ وَهَكَذَا حَكَى إلْكِيَا عن أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا أَقْوَالَهُمْ بِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي في الْمَعْدُولِ بِهِ عن الْقِيَاسِ قال وَهَذَا فيه تَفْصِيلٌ عِنْدَنَا فَذَكَرَهُ وَسَيَأْتِي وَالْجَوَازُ هُنَا قَضِيَّةُ ما سَبَقَ من جَرَيَانِ الْقِيَاسِ في الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالرُّخَصِ وقال في الْقَوَاطِعِ يَجُوزُ الْقِيَاسُ على أَصْلٍ مُخَالِفٍ في نَفْسِهِ الْأُصُولَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذلك وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَدَلَّ عليه الدَّلِيلُ وَالْمَحْكِيُّ عن أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ وقد ذَكَرَهُ الْكَرْخِيّ وَمَنَعَ جَوَازَهُ إلَّا بِإِحْدَى خِلَالٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ ما وَرَدَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ قد نَصَّ على عِلَّتِهِ كَقَوْلِهِ عليه
السَّلَامُ إنَّهَا من الطَّوَّافِينَ لِأَنَّ النَّصَّ على الْعِلَّةِ كَالتَّصْرِيحِ بِوُجُوبِ الْقِيَاسِ عليه ثَانِيهَا أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً على تَعْلِيلِ ما وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ وَإِنْ اخْتَلَفُوا في عِلَّتِهِ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الذي وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ على بَعْضِ الْأُصُولِ وَإِنْ كان مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ على أَصْلٍ آخَرَ كَالْخَبَرِ الْوَارِدِ بِالتَّحَالُفِ في الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا تَبَايَعَا فإنه يُخَالِفُ قِيَاسَ الْأُصُولِ وَيُقَاسُ عليه الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ بَعْضَ الْأُصُولِ وهو أَنَّ ما يُمْلَكُ على الْغَيْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ في أَنَّهُ أَيُّ شَيْءٍ مَلَكَ عليه وَقَالُوا إذَا كان في الشَّرْعِ أَصْلٌ يُنْتِجُ الْقِيَاسَ وَأَصْلٌ يَحْظُرُهُ وكان الْأَصْلُ جَوَازَ الْقِيَاسِ وَجَبَ الْقِيَاسُ وَقَالُوا أَيْضًا يَجُوزُ الْقِيَاسُ على الْأَصْلِ الْمَخْصُوصِ إذَا لم يُفْصَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْصُوصِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ ما خُصَّ من جُمْلَةِ الْقِيَاسِ كَجِمَاعِ النَّاسِي وَأَكْلِهِ وقال ابن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ من أَصْحَابِهِمْ إذَا كان الْخَبَرُ الْوَارِدُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ غير مَقْطُوعٍ بِهِ لم يَجُزْ الْقِيَاسُ فَاقْتَضَى قَوْلُهُ هذا إذَا كان الْخَبَرُ مَقْطُوعًا بِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عليه لنا أَنَّ ما وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ أَصْلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَجَازَ أَنْ يُسْتَنْبَطَ منه مَعْنًى وَيُقَاسَ عليه دَلِيلُهُ إذَا لم يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ فيه الْخَبَرُ صَارَ أَصْلًا في نَفْسِهِ فَالْقِيَاسُ عليه كَالْقِيَاسِ على بَاقِي الْأُصُولِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وقد يُمْنَعُ التَّعْلِيلُ بِنَصِّ كَلَامِ الشَّارِعِ على الِاقْتِصَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى خَالِصَةً لك وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَبِي بُرْدَةَ وَلَنْ يُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك وَقَوْلِهِ أُحِلَّتْ لي سَاعَةً من نَهَارٍ فإذا امْتَنَعَ النَّصُّ على الْقِيَاسِ امْتَنَعَا وَكَذَلِكَ لو فُرِضَ إجْمَاعٌ على هذا النَّحْوِ كَالِاتِّفَاقِ على أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْصُرُ وَإِنْ سَاوَى الْمُسَافِرَ في الْفِطْرِ وقد قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في بَعْضِ كُتُبِهِ وَلَا يُقَاسُ على الْمَخْصُوصِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ فَيُقَالُ إنَّهُ أَرَادَ بِهِ في الْمَوْضِعِ الذي لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ فيه وَالْأَصْلُ فِيمَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه وما لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ في الْمَخْصُوصِ وَيَمْتَحِنَ فَإِنْ كان يَتَعَدَّى قِيسَ عليه كَقِيَاسِ الْخِنْزِيرِ على الْكَلْبِ في الْوُلُوغِ وَقِيَاسِ
خُفِّ الْحَدِيدِ على الْأَدَمِ بِالْمَسْحِ عليه وَإِنْ لم يُوجَدْ في الْمَخْصُوصِ وَصْفٌ يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عليه امْتَنَعَ الْقِيَاسُ كَالْجَنِينِ لَا يُقَاسُ عليه الشَّخْصُ الْمَلْفُوفُ في الثَّوْبِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى في الْجَنِينِ يُقَاسُ عليه الْمَلْفُوفُ أ هـ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فقال الْحُكْمُ الثَّابِتُ في الْأَصْلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أو ظَنِّيًّا فَالْقَطْعِيُّ يَجُوزُ إلْحَاقُ الْغَيْرِ بِهِ وَالظَّنِّيُّ يَكُونُ الْفَرْعُ منه مُتَرَدِّدًا بين أَصْلَيْنِ أَصْلٌ يُوجِبُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فيه وَآخَرُ يَنْفِيهِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمُسَمَّى وَغَيْرِهِ فَيَجِبُ على الْمُجْتَهِدِ التَّرْجِيحُ بِدَلِيلٍ وَالْكَلَامُ في هذا يَسْتَدْعِي تَعْرِيفَ ما عُدِلَ عن سُنَنِ الْقِيَاسِ من غَيْرِهِ وقد بَيَّنَ إلْكِيَا ذلك بِأَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ ذلك الشَّيْءُ قَاعِدَةً مُتَأَصِّلَةً في نَفْسِهَا مُخْتَصَّةً بِأَحْكَامِ غَيْرِهَا فَلَا يُقَالُ لِهَذَا الْمَعْنَى إنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَنَّهُ ليس أَصْلٌ أَوْلَى بِهِ كَقَوْلِهِمْ النِّكَاحُ عَقْدٌ على الْمَنْفَعَةِ يَصِحُّ مع جَهَالَةِ الْمُدَّةِ فَصِحَّتُهُ مع جَهَالَةِ الْمُدَّةِ على خِلَافِ الْقِيَاسِ فإن ما في النِّكَاحِ من الْمَقْصُودِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِإِبْهَامِ الْمُدَّةِ كَالتَّنَاسُلِ فَالْإِبْهَامُ فيه كَالْإِعْلَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ السَّلَمُ خَارِجٌ عن الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ مُعَامَلَةُ مَوْجُودٍ بِمَعْدُومٍ وَكَذَا الْإِجَارَةُ فَإِنَّا لم نُجَوِّزْ الْمُعَامَلَةَ بِمَوْجُودٍ لِمَعْدُومٍ لِغَرَرٍ مُتَوَقَّعٍ وَإِلَّا فَالْعَقْلُ لم يَمْنَعْ منه إذَا وُجِدَ الرِّضَا وَلَكِنَّ الِاغْتِرَارَ مِمَّا يَجُرُّ نَدَمًا وَضَرَرًا فإذا ظَهَرَ لنا في السَّلَمِ أَنَّ الْحَالَةَ الدَّاعِيَةَ إلَى تَجْوِيزِهِ هِيَ الْغَرَرُ الْمَقْرُونُ بِالْعَقْدِ لم يَكُنْ له من الْوَزْنِ ما يُخَالِفُ أَنَّهُ مُخَالِفُ الْقِيَاسِ فإن الْقِيَاسَ الْأَصْلِيَّ هو الرِّضَا وَيَعْتَدُّ بِهِ الشَّارِعُ لِلْمَصَالِحِ الْجُزْئِيَّةِ وَحَيْثُ لَا مَصْلَحَةَ في نَفْيِ الْغَرَرِ رُدَّ إلَى الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ الرِّضَا فَغَلَّبْنَا مَصْلَحَةً على أُخْرَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فيه مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَلَقَّى من أَصْلٍ آخَرَ وَلَا يَظْهَرُ لنا أَنَّهُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ من الْأَصْلِ الْمُنْتَقِلِ عنه وَبِهِ يَتَمَيَّزُ هذا الْقِسْمُ مِمَّا قَبْلَهُ وَنَظِيرُهُ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ مع الْجَرِيمَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ غَلَّبَ حُرْمَةَ الْأُبُوَّةِ فقال لَا يُقْتَلُ بِهِ فَهَذَا لَا يَظْهَرُ لنا وَجْهُ تَغْلِيبِهِ بِخِلَافِ السَّلَمِ فإنه يَظْهَرُ لنا من قِيَاسِ الْأُصُولِ تَغْلِيبُ حَاجَةِ الْمُسْلِمِ فَهَذَا وما أَشْبَهَهُ مَعْدُولٌ بِهِ عن الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لِمَعْنًى خَفِيٍّ وَمِنْهُ الدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ فَإِنَّهَا أُثْبِتَتْ على خِلَافِ قِيَاسِ الْمَضْمُونَاتِ وَكُلُّ قِيَاسٍ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ هذا الِاخْتِصَاصِ مَرْدُودٌ وَكُلُّ قِيَاسٍ يَتَضَمَّنُ تَقْرِيبًا مَقْبُولٌ فَهُوَ على اعْتِبَارِ ما دُونَ الْمُوضِحَةِ بِمِقْدَارِ الْمُوضِحَةِ وَتَحَمُّلُ الْعَاقِلَةِ أُثْبِتَ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ حتى
يَهْتَدِيَ الْبَدَلُ وَتَتَعَاوَنَ على أَدَائِهِ وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ في هذا سَوَاءٌ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في بَدَلِ الْعَبْدِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ في إخْرَاجِ الصَّيْدِ من قِيمَتِهِ وَهَلْ هو كَخِرَاجِ الْحُرِّ من دِيَتِهِ وَلَكِنَّ ذلك على مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ من وَجْهِ اعْتِبَارِ قِيَاسِ الْغَرَامَاتِ وَيَجُوزُ إجْرَاءُ الْقِيَاسِ فيه على شَرْطِ الْتِزَامِ التَّقْرِيبِ بِحَيْثُ لَا يَلْتَزِمُ إبْطَالَ التَّخْصِيصِ أو تَصَرُّفًا في غَيْبٍ وَالتَّقْرِيبُ الْخَاصُّ أَوْلَى من الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الْمُخَيَّلِ فَهَذَا هو الْعُدُولُ بِهِ عن الْقِيَاسِ فإذا لم يَمْتَنِعْ ذلك فَهَاهُنَا أَوْلَى الثَّالِثُ إذَا كان أَصْلُهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ وَلَا جُزْئِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ لنا كما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ في الْعَرَايَا إنَّهُ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ الرِّبَا وفي الْعَرَايَا مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا يُتَخَيَّلُ ذلك في الرِّبَا وَلَكِنَّهُ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ في الرِّبَا وَإِنْ لم نَطَّلِعْ على مَصْلَحَةٍ خَفِيَّةٍ كما اطَّلَعْنَا عليها في رِبَا النَّسَاءِ وَلَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَهُ لِأَنَّ التَّوَسُّعَ فيه يَجُرُّ إلَى رِبَا النَّسَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَايَا مُخَالِفَةٌ لِهَذَا وَالثَّانِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا الْعَرَايَا مُخَالِفَةٌ لِقِيَاسِ الرِّبَا أنها على مُخَالَفَةِ الْمَعْهُودِ من قِيَاسِ الرِّبَا وَإِنْ لم يَكُنْ مَعْنَى الْمَصْلَحَةِ مَعْهُودًا لنا وإذا سَاغَ دُونَ فَهْمِ الْمَعْنَى إلْحَاقُ ما عَدَا الْمَنْصُوصَ بِهِ سَاغَ تَقْدِيرُ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ حَيْثُ امْتَنَعَ الِاعْتِبَارُ وَالتَّقْرِيبُ منه وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إنَّ الْأَجَلَ وَالْخِيَارَ على مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ مع أَنَّ الْأَصْلَ اتِّبَاعُ التَّرَاضِي وهو الْقِيَاسُ الْأَصْلِيُّ فإنه لَا قِوَامَ لِلْعَالِمِ إلَّا بِهِ وَتَجْوِيزُ الْخِيَارِ من تَفَاصِيلِ أَصْلِ الرِّضَا فَصَحَّ أَنَّهُ على خِلَافِ الْقِيَاسِ لَكِنَّهُ خِلَافُ قِيَاسٍ هو أَوْلَى بِهِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ وَأَقُولُ هو يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارَاتٍ أَحَدُهَا أَنْ يُرَدَّ ابْتِدَاءً غير مُقْتَطَعٍ من أَصْلٍ وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يُقَاسُ عليه لِتَعَذُّرِ الْعِلَّةِ قال الْغَزَالِيُّ وَيُسَمَّى هذا خَارِجًا عن الْقِيَاسِ تَجَوُّزًا وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ليس مُنْقَاسًا لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في الْقِيَاسِ حتى يَخْرُجَ منه وَمِثَالُهُ الْمُقَدَّرَاتُ وَأَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ وَنُصُبُ الزَّكَوَاتِ وَمَقَادِيرُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ أَمَّا أَصْلُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عليها كما سَبَقَ الثَّانِي ما شُرِعَ مُبْتَدَأً غير مُقْتَطَعٍ من أَصْلٍ وهو مَعْقُولٌ لَكِنَّهُ عَدِيمُ النَّظِيرِ فَلَا يُقَاسُ عليه لِتَعَذُّرِ الْفَرْعِ الذي هو من أَرْكَانِ الْقِيَاسِ قال الْهِنْدِيُّ وَتَسْمِيَتُهُ هذا
بِالْخَارِجِ عن الْقِيَاسِ بَعِيدَةٌ جِدًّا قُلْت فيه التَّأْوِيلُ في الذي قَبْلَهُ وَمِثَالُهُ تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ وَالْقَسَامَةُ فَلَا يُقَاسُ عليها وُجُودُ الْبَهِيمَةِ في الْمَحَلَّةِ مَقْتُولَةً وَكَذَا جَنِينُهَا لَا يُضْمَنُ بِخِلَافِ جَنِينِ الْآدَمِيِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ في جَنِينِ الْآدَمِيِّ على خِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ وَمِنْهُ رُخَصُ السَّفَرِ وَالْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ وَالْمُضْطَرُّ في أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَمِنْ الْفُقَهَاءِ من جَوَّزَ الْجَمْعَ بِالْمَرَضِ قِيَاسًا على السَّفَرِ وَعِنْدَ الْغَزَالِيِّ من هذا ضَرْبُ الدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ وَخَالَفَ إمَامَهُ فإنه جَعَلَهُ مِمَّا عُقِلَ مَعْنَاهُ وَتَعَلُّقُ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ وقال الشَّافِعِيُّ في كَوْنِهِ لم يَقِسْ الْأَرْشَ على الدِّيَةِ في الْعَقْلِ وَلَا أَقِيسُ على الدِّيَةِ غَيْرَهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْجَانِيَ أَوْلَى أَنْ يَغْرَمَ جِنَايَتَهُ من غَيْرِهِ كما يَغْرَمُهَا عن الْخَطَأِ في الْجِرَاحِ وقد أَوْجَبَ اللَّهُ عز وجل على الْقَاتِلِ خَطَأَ دِيَةٍ وَرَقَبَةٍ فَزَعَمَتْ أَنَّ الرَّقَبَةَ في مَالِهِ لِأَنَّهَا من جِنَايَتِهِ وَأَخْرَجَتْ الدِّيَةَ عن هذا الْمَعْنَى اتِّبَاعًا انْتَهَى الثَّالِثُ ما اُسْتُثْنِيَ من قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ وَثَبَتَ اخْتِصَاصُ الْمُسْتَثْنَى بِحُكْمِهِ فَلَا يُقَاسُ عليه لِأَنَّهُ قد فُهِمَ من الشَّرْعِ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ الْمُسْتَثْنَى وفي الْقِيَاسِ إبْطَالُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ سَوَاءٌ لم يُعْقَلْ مَعْنَاهُ كَاخْتِصَاصِ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ أو عُقِلَ كَاخْتِصَاصِ أبي بُرْدَةَ بِالتَّضْحِيَةِ بِعَنَاقٍ نَظَرًا لِفَقْرِهِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ غَيْرُهُ لِأَجْلِ صَرِيحِ الْمَنْعِ من الشَّارِعِ وَلَنْ تُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك ثُمَّ تَارَةً يُعْلَمُ الِاخْتِصَاصُ بِالتَّنْصِيصِ وَتَارَةً بِغَيْرِهِ كَقَبُولِ الْوَاحِدِ في هِلَالِ رَمَضَانَ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ ذُو الْحِجَّةِ على الْأَصَحِّ وَكَاشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ في الزِّنَى وَالثَّلَاثَةِ في الشَّهَادَةِ بِالْإِعْسَارِ على وَجْهٍ لِأَجْلِ الحديث وقال إلْكِيَا التَّخْصِيصُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ تَخْصِيصُ عَيْنٍ أو مَكَان أو حَالٍ فَالْعَيْنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى خَالِصَةً لك وَالْمَكَانُ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أُحِلَّتْ لي سَاعَةً من نَهَارٍ وَالْحَالُ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ الرَّابِعُ ما اُسْتُثْنِيَ من قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ لَكِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْقُولُ الْمَعْنَى كَبَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ في الْعَرَايَا فإنه على خِلَافِ قَاعِدَةِ الرِّبَا عِنْدَنَا وَاقْتَطَعَ عنها بِحَاجَةِ الْمَحَاوِيجِ وَقَاسَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْعِنَبَ على الرُّطَبِ لِأَنَّهُ في مَعْنَاهُ وَهَذَا الْقِسْمُ هو مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَيُشْبِهُ أَنْ يُخَرَّجَ فيه قَوْلَانِ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا لَا نَفْسَ له سَائِلَةٌ هل يُنَجِّسُ إنَّمَا الدَّلِيلُ وَالْقِيَاسُ التَّنْجِيسُ وَالْأَصَحُّ عَدَمُهُ قِيَاسًا على ما وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ في الذُّبَابِ الْخَارِجِ عن الْقَاعِدَةِ الْمُمَهَّدَةِ وَمِنْهُ أَنَّ الْإِتْمَامَ أَصْلٌ وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ ثُمَّ إنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أو ثَمَانِيَ عَشْرَةَ فَهَلْ يَقْتَصِرُ على هذه الْمُدَّةِ أَمْ يَجُوزُ زَائِدًا فيه قَوْلَانِ
مَدْرَكَهُمَا هذا وَمِنْهُ أَنْ تَحْرُمَ الزِّيَادَةُ على أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ ثُمَّ إنَّهُ تَزَوَّجَ تِسْعًا فَهَلْ يَنْحَصِرُ فِيهِنَّ أو كان يَجُوزُ له الزِّيَادَةُ عليها فيه خِلَافٌ لَكِنَّ الْأَرْجَحَ الْجَوَازُ هُنَا وفي تِلْكَ الْمَنْعُ وقد اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فيها على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ منهم أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ إلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عليه مُطْلَقًا يَعْنِي إذَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في التَّلْخِيصِ لِكَثِيرٍ من أَصْحَابِنَا قال وَبِهِ قال الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ لَكِنَّ الْمُجَوِّزَ من الْحَنَفِيَّةِ لَا يُسَمِّيهِ وَالْحَالَةُ هذه مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَنُقِلَ عن بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ لِلْجُمْهُورِ وقال إنَّهُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ وَالثَّالِثُ إنْ ثَبَتَ الْمُسْتَثْنَى بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ جَازَ الْقِيَاسُ عليه وَإِلَّا فَلَا وهو قَوْلُ مُحَمَّدِ بن شِجَاعٍ الْبَلْخِيّ منهم كما نَقَلَهُ الْقَاضِي في الْمُلَخَّصِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ في الْكَشْفِ وَصَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وقال إنَّهُ الْأَصْوَبُ وَالرَّابِعُ وهو قَوْلُ الْكَرْخِيِّ إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه إلَّا بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً وَأُجْمِعَ على تَعْلِيلِهِ أو وَافَقَ بَعْضَ الْأُصُولِ كَخَبَرِ التَّحَالُفِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعِينَ في قَدْرِ الثَّمَنِ إذَا لم يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فإنه وَإِنْ كان مُخَالِفًا لِقِيَاسِ الْأُصُولِ إذْ قِيَاسُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ لِلْمُنْكِرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ من الْقَدْرِ الزَّائِدِ لَكِنْ ثَمَّ قَوْلٌ آخَرُ يُوَافِقُهُ وهو أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ عليه فَالْقَوْلُ قَوْلُ من مَلَكَ عليه أَصْلَهُ كَالشَّفِيعِ مع الْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا في قَدْرِ الثَّمَنِ فإن الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ عليه الشِّقْصَ فَكَذَلِكَ يَتَأَتَّى التَّحَالُفُ على الِاخْتِلَافِ في ثَمَنِ الْمَبِيعِ ما عَدَا الْمَبِيعَ من عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقِرَاضِ وَالْجَعَالَةِ وَالصُّلْحِ على الدَّمِ وَالْخُلْعِ وَالصَّدَاقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْخَامِسُ وهو رَأْيُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى إنْ كان دَلِيلُهُ مَقْطُوعًا بِهِ فَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مُرَادَنَا بِالْأَصْلِ في هذا الْمَوْضِعِ هو إمْكَانُ الْقِيَاسِ عِلَّةً كَالْقِيَاسِ على غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَجِّحَ الْمُجْتَهِدُونَ الْقِيَاسَ مُؤَكَّدُهُ أَنَّهُ إذَا لم يَمْنَعْ الْعُمُومُ من قِيَاسٍ يَخُصُّهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْقِيَاسُ على الْعُمُومِ مَانِعًا من قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ لِأَنَّ الْعُمُومَ أَوْلَى من الْقِيَاسِ على الْعُمُومِ وقد سَبَقَهُ إلَى هذا الِاخْتِيَارِ ابن السَّمْعَانِيِّ قال وَإِنْ كان غير مَقْطُوعٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ حُكْمِهِ مَنْصُوصَةً أو لَا فَإِنْ لم يَكُنْ وَلَا كان الْقِيَاسُ عليه
أَقْوَى من الْقِيَاسِ على الْأُصُولِ فَلَا شُبْهَةَ في أَنَّ الْقِيَاسَ على الْأُصُولِ أَوْلَى من الْقِيَاسِ عليه لِأَنَّ الْقِيَاسَ على ما طَرِيقُ حُكْمِهِ مَعْلُومٌ أَوْلَى من الْقِيَاسِ على ما طَرِيقُ حُكْمِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَإِنْ كانت مَنْصُوصَةً فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَسْتَوِي الْقِيَاسَانِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَخْتَصُّ بِأَنَّ طَرِيقَ حُكْمِهِ مَعْلُومٌ وَإِنْ كان طَرِيقُ عِلَّتِهِ غير مَعْلُومٍ وَهَذَا الْقِيَاسُ طَرِيقُ حُكْمِهِ مَظْنُونٌ وَطَرِيقُ عِلَّتِهِ مَعْلُومٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قد اخْتَصَّ بِحَظٍّ من الْقُوَّةِ هذا كَلَامُهُ في الْمَحْصُولِ وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ من أَتْبَاعِهِ منهم الْبَيْضَاوِيُّ في الْمَنْهَجِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ اعْتَرَضَهُ الْهِنْدِيُّ فقال فيه نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ إنْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ إنَّ مُرَادَنَا بِالْأَصْلِ في هذا الْمَوْضُوعِ هو اصْطِلَاحُ نَفْسِهِ فَلَا مُنَاقَشَةَ لِأَنَّ الْخَصْمَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هذا الْأَصْلِ يُقَاسُ عليه وَيَمْنَعُ أَنَّ الْقِيَاسَ عليه كَالْقِيَاسِ على غَيْرِهِ فإن كُلَّ هذا مُصَادَرَةٌ على الْمَطْلُوبِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَكَّدَةٌ ليس على ظَاهِرِهِ لِأَنَّ ما سَبَقَهُ ليس دَلِيلًا حتى يَكُونَ تَأْكِيدًا له وَدَعْوَاهُ إنَّ الْعُمُومَ إذَا لم يَمْنَعْ من قِيَاسٍ يَخُصُّهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْقِيَاسُ على الْعُمُومِ مَانِعًا من قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ أَقْوَى من الْقِيَاسِ على الْعُمُومِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ عُمُومَ الْقِيَاسِ أَقْوَى من الْعُمُومِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّخْصِيصِ بِنَاءً على عَدَمِ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْعُمُومِ فإنه قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ عُنِيَ بِهِ اصْطِلَاحُ الْمُخْتَلِفِينَ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ ما يُقَاسُ فَمَنْ مَنَعَ الْقِيَاسَ على الْمَعْدُولِ عن سُنَنِ الْقِيَاسِ سَوَاءٌ أَثْبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ أو غَيْرِ مَقْطُوعٍ كَيْفَ يَكُونُ هذا أَصْلًا عِنْدَهُ وَأَمَّا ثَانِيًا فَدَعْوَاهُ التَّسَاوِي فِيمَا إذَا كانت عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً إنْ أَرَادَ بِهِ ثُبُوتَ النَّصِّ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَتَسْتَحِيلُ الْمَسْأَلَةُ لِأَنَّ كَوْنَ دَلِيلِ الْحُكْمِ ظَنِّيًّا مع أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ على عِلَّتِهِ قَطْعِيٌّ مُحَالٌ ضَرُورَةً أَنَّهُ مَهْمَا عُلِمَ النَّصُّ الدَّالُّ على عِلَّةِ الْحُكْمِ كان الْحُكْمُ مَعْلُومًا قَطْعًا فَدَلِيلُهُ قَطْعِيٌّ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ أَعَمُّ من ذلك أَيْ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ أو ظَنِّيٍّ بَطَلَ قَوْلُهُ آخِرًا وَهَذَا الْقِيَاسُ طَرِيقُ حُكْمِهِ مَظْنُونٌ وَطَرِيقُ عِلَّتِهِ مَعْلُومٌ قال وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ في الضَّابِطِ ما ثَبَتَ على خِلَافِ الْأُصُولِ وَعُقِلَ مَعْنَاهُ وَوُجِدَ في غَيْرِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عليه ما لم يَظْهَرْ من الشَّارِعِ قَصْدُ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْمَحَلِّ وما لم يَتَرَجَّحْ قِيَاسُ الْأُصُولِ عليه فَإِنْ رَجَحَ بِمَا يَتَرَجَّحُ بِهِ بَعْضُ الْأَقْيِسَةِ على بَعْضٍ لم يَجُزْ الْقِيَاسُ عليه لِحُصُولِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ لَا لِأَنَّهُ لم يَصْلُحْ أَنْ يُقَاسَ عليه وَحَكَى الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ الْخِلَافَ على وَجْهٍ آخَرَ فقال إذَا وَرَدَتْ قَاعِدَةٌ خَارِجَةٌ
عن قِيَاسِ الْقَوَاعِدِ كَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ قِيلَ لَا يُقَاسُ على أَصْلِهَا وَلَا فَرْعِهَا وَقِيلَ يُقَاسُ في فُرُوعِهَا وَلَا يُقَاسُ عليه أَصْلٌ آخَرُ قال وَالْمُخْتَارُ أَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرَيْنِ مُسْتَقِيمٌ فإن الْقَوَاعِدَ وَإِنْ تَبَايَنَتْ في خَوَاصِّهَا فَقَدْ تَلْتَقِي في أُمُورٍ جُمَلِيَّةٍ لِمُلَاحَظَةِ الشَّرْعِ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ في كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً وقال ابن الْقَطَّانِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عليه وَزَعَمُوا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَأْبَى ذلك في الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ في الْحَضَرِ لِعُذْرٍ وَمِنْهُمْ من أَوَّلَهُ وقال الْمَخْصُوصُ على ضَرْبَيْنِ مَخْصُوصٌ بِالْمَعْنَى وَمَخْصُوصٌ بِالذِّكْرِ وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه بِخِلَافِ الثَّانِي وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا أَطْلَقَ ذلك لِأَنَّهُ أَرَادَ إذَا لم أَجِدْ عِلَّةَ الْحُكْمِ فلم أَقِسْ عليه غَيْرَهَا وقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَقِيسُ على الْمَخْصُوصِ وما يَرِدُ من الْأَخْبَارِ على غَيْرِ قِيَاسِ الْأُصُولِ وَشَبَّهُوهُ بِمَا قُلْنَا في مَسِّ الذَّكَرِ أَنَّا لَا نَقِيسُ عليه غَيْرَهُ وهو خَطَأٌ لِأَنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ وُرُودَ الْأَخْبَارِ بِشَيْءٍ تُخَالِفُهُ الْأُصُولُ لِأَنَّهَا أُصُولٌ في أَنْفُسِهَا فَقِيَاسٌ عليها حَيْثُ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْحُكْمِ وقال إلْكِيَا الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ قد يَقَعُ الْقِيَاسُ عليه وَأَكْثَرُ الْقِيَاسِ كَذَلِكَ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَعْنَى لَا يُقَاسُ عليه لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمَعْنَاهُ فلم يُوجَدْ في غَيْرِهِ فَلَا يُقَاسُ عليه لِعَدَمِ الْجَامِعِ ثُمَّ قَسَّمَهُ إلَى ما سَبَقَ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال أَصْحَابُنَا الْمَخْصُوصُ بِالْمَعْنَى لَا يُقَاسُ عليه لِأَنَّ الْمَعْنَى الذي لِأَجْلِهِ خُصَّ الْحُكْمُ مَفْقُودٌ في غَيْرِ ما وَرَدَ الْحُكْمُ فيه بِخِلَافِ الْمَخْصُوصِ بِالِاسْمِ فَقَطْ قال الْأُسْتَاذُ جُمْلَةُ ما يَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ في الْأُصُولِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا تَخْصِيصُ غَيْرِهِ بِالذِّكْرِ وَإِفْرَادُهُ بِالْحُكْمِ خُصُوصًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى خَالِصَةً لك من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ في النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أو بِلَا مَهْرٍ أَصْلًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لِأَبِي بُرْدَةَ وَلَنْ تُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك الثَّانِي تَخْصِيصُ مَكَان بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ كَقَوْلِهِ في مَكَّةَ أُحِلَّتْ لي سَاعَةً من نَهَارٍ وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي وَالثَّالِثُ تَخْصِيصُ حَالٍ من أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ كَتَخْصِيصِ حَالِ الضَّرُورَةِ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ الرَّابِعُ وُقُوعُ التَّغْلِيظِ في جِنْسٍ من الْأَحْكَامِ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَخْصِيصًا بِهِ
وَحْدَهُ كَتَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ في الْقَسَامَةِ لَا يُقَاسُ عليها التُّهْمَةُ في قَتْلِ الْبَهِيمَةِ الْخَامِسُ الرُّخَصُ كَالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ لَا يُقَاسُ عليه الْمَسْحُ على الْبُرْقُعِ وَالْقُفَّازَيْنِ وَكَالِاسْتِنْجَاءِ لَا يُقَاسُ عليه أَثَرُ النَّجَاسَةِ على الثَّوْبِ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ لَا يَجُوزُ عليها الْقِيَاسُ عِنْدَنَا قال وَأَمَّا في الْمَخْصُوصِ من الْعَامِّ فَإِنْ كان الْمَعْنَى يُوجَدُ في غَيْرِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عليه كَالْأَمَةِ في تَنْصِيفِ حَدِّهَا قِيسَ عليها الْعَبْدُ بِعِلَّةِ الرِّقِّ وَإِنْ لم يَكُنْ ثَمَّ مَعْنًى لم يَجُزْ كَإِيجَابِ الْغُرَّةِ في الْجَنِينِ لَا يُقَاسُ عليه الْمَلْفُوفُ قال وَهَذَا تَفْصِيلُ أَصْحَابِنَا في الْقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ وقال أَصْحَابُ الرَّأْيِ إنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْأَثَرِ من جُمْلَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ لَا يُقَاسُ عليه إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَثَرُ مُعَلَّلًا فَيُقَاسُ عليه بِتِلْكَ الْعِلَّةِ أو يَتَّفِقَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ على جَوَازِ الْقِيَاسِ عليه فَيُقَاسُ عليه نَظَائِرُهُ وَإِنْ خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ كَقَوْلِهِمْ في الْوُضُوءِ من الْقَهْقَهَةِ في الصَّلَاةِ إنَّ قِيَاسَ الْأُصُولِ أَنَّ ما كان حَدَثًا في الصَّلَاةِ كان حَدَثًا في غَيْرِهَا إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ في ذلك مَتْرُوكٌ بِالْخَبَرِ لم يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عليها الْقَهْقَهَةُ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وفي سُجُودِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ الذي خَصَّهُمَا من جُمْلَةِ الْقِيَاسِ إنَّمَا وَرَدَ في صَلَاةٍ لها رُكُوعٌ وَسُجُودٌ وقال صَاحِبُ الْبَيَانِ في كِتَابِ الْحَجِّ الْمَنْصُوصُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا ما لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَأَرْكَانِهَا وَكَذَلِكَ لم يُقَسْ عليها وُجُوبُ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ وَالثَّانِي ما عُقِلَ مَعْنَاهُ ولم يُوجَدْ ذلك الْمَعْنَى في غَيْرِهِ كَالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْحَاجَةُ إلَى لُبْسِهِ وَالْمَشَقَّةُ في نَزْعِهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في الْعِمَامَةِ وَالْقُفَّازَيْنِ وَكَذَلِكَ الْمُتَحَلِّلُ من الْإِحْرَامِ لِأَجْلِ الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ عُقِلَ مَعْنَاهُ وهو التَّخَلُّفُ من الْعَدُوِّ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في الْمَرَضِ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الرِّبَا في النَّقْدَيْنِ عُقِلَ مَعْنَاهُ وهو قِيمَةُ الْأَشْيَاءِ ولم يُوجَدْ في غَيْرِهَا فلم يُقَسْ عليها الْحَدِيدُ وَالرُّصَاصُ وَالثَّالِثُ ما عُقِلَ وَوُجِدَ ذلك الْمَعْنَى في غَيْرِهِ فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه كَتَحْرِيمِ الرِّبَا في النَّسِيئَةِ تَنْبِيهٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ من الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ فيه تَغْلِيظًا لَكِنَّ كَلَامَ أَصْحَابِنَا يُخَالِفُ هذا فَإِنَّهُمْ أَلْحَقُوا عَرَقَ الْكَلْبِ وَرَوَثَهُ وَجَمِيعَ أَجْزَائِهِ بِسُؤْرِهِ وَجَعَلُوهُ كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ وَمَأْخَذُهُ ما ذَكَرْنَا
مَسْأَلَةٌ مِمَّا يَمْتَنِعُ فيه الْقِيَاسُ قال إلْكِيَا مِمَّا يَمْتَنِعُ فيه الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ مُقْتَضِيًا تَصَرُّفًا في عَيْنٍ لَا يَتَصَوَّرُ إحَاطَةَ عِلْمِ الْعَبْدِ بِهِ فَالْقِيَاسُ مُمْتَنِعٌ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وهو ظُهُورُ الظَّنِّ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ ارْتِبَاطُ الظَّنِّ بِهِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الطَّهَارَةَ شُرِعَتْ لِلنَّظَافَةِ وَالصَّلَاةَ لِلْخُشُوعِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَضَعَ شيئا آخَرَ وَيَجْعَلَهُ مِثْلًا لِلصَّلَاةِ في إفَادَةِ مِثْلِ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ من الْخُشُوعِ وَالنَّظَافَةِ كان مَرْدُودًا لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ قال وَعَلَى هذا أَكْثَرُ ضَوَابِطِ الشَّرْعِ كَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ وَتَقْدِيرِ الْبُلُوغِ وَتَقْدِيرِ الزَّوَاجِرِ وَغَيْرِهَا فَائِدَةٌ قال يُونُسُ بن عبد الْأَعْلَى سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يقول لَا يُقَاسُ على خَاصٍّ وَلَا يُقَاسُ أَصْلٌ على أَصْلٍ وَلَا يُقَالُ لِلْأَصْلِ كَمْ وَكَيْفَ فإذا صَحَّ قِيَاسُهُ على الْأَصْلِ ثَبَتَ قال الْعَبَّادِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يُقَاسُ أَصْلٌ على أَصْلٍ أَيْ لَا يُقَاسُ التَّيَمُّمُ على الْوُضُوءِ فَيُجْعَلُ أَرْبَعًا وَلَا يُقَاسُ الْوُضُوءُ على التَّيَمُّمِ فَيُجْعَلُ اثْنَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ يَرْفَعُ النَّصَّ وَالثَّانِيَ يَرْفَعُ الْإِجْمَاعَ وفي رِوَايَةِ غَيْرِهِ لَا يُقَاسُ على خَاصٍّ مُنْتَزَعٍ من عَامٍّ كَالْمُصَرَّاةِ وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا يُقَاسُ على مَخْصُوصٍ وَلَا مَنْصُوصٍ على مَنْصُوصٍ فإن الْقِيَاسَ على الْمَخْصُوصِ إبْطَالٌ وفي قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ على الْمَنْصُوصِ إبْطَالُ الْمَنْصُوصِ وقد قِيلَ ذلك لِأَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ فقال الْقِيَاسُ على الْمَخْصُوصِ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فإنه قَاسَ ما دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ على الْمُوضِحَةِ في تَحَمُّلِ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ التَّخْصِيصُ بِإِلْحَاقِ الْأَمْوَالِ بها فَأَمَّا إذَا أَلْحَقَ بها ما في مَعْنَاهَا فَلَا إذَنْ انْتَهَى مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْحُكْمِ في مَحَلِّ الْأَصْلِ الْحُكْمُ في مَحَلِّ النَّصِّ هل ثَبَتَ بِالْعِلَّةِ أو بِالنَّصِّ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَحَكَى في الْمُسْتَصْفَى وَجْهًا ثَالِثًا بِالتَّفْصِيلِ بين أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً فَيَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهَا في مَحَلِّ النَّصِّ كَالسَّرِقَةِ مَثَلًا وَإِلَّا فَلَا
وهو غَرِيبٌ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ رَابِعٌ وهو أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ في الْأَصْلِ بِالنَّصِّ وَالْعِلَّةِ جميعا فقال وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ لَا يُضَافُ إلَى النَّصِّ قُلْنَا يُضَافُ فَيُقَالُ النَّصُّ يُفِيدُ هذا الْحُكْمَ وَالْعِلَّةُ أَيْضًا مُفِيدَةٌ له وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَالَى دَلِيلَانِ على حُكْمٍ وَاحِدٍ وَكَذَا قال ابن بَرْهَانٍ ثُبُوتُهُ بِالنَّصِّ لَا يَمْنَعُ من إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ فَنَحْنُ نَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَنَقُولُ الْحُكْمُ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا جميعا وَيَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى دَلِيلَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا في تَعْلِيلِهِ بِعِلَّتَيْنِ ثُمَّ قال الْأُسْتَاذُ وقال أَهْلُ التَّحْقِيقِ إنَّ حَقِيقَةَ الْقَوْلِ في مُوجِبِ الْحُكْمِ الْكَشْفُ عن الدَّلِيلِ الْمُبَيِّنِ له قالوا وَلَهُ في الْأَصْلِ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا النَّصُّ وَلَهُ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا بَيَانُ الشَّرِيعَةِ وَالثَّانِي بَيَانُ الْمَعْنَى الذي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ وفي الْفَرْعِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ إذَا كانت الْعِلَّةُ وَاحِدَةً قال وَهَذَا هو الصَّحِيحُ وقد يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَدْرَكَ حُكْمِهِ بِوُجُوهٍ من الْأَدِلَّةِ ثُمَّ يَعْرِفُ حُكْمَ غَيْرِهِ بِبَعْضِ أَدِلَّتِهِ وقال الصَّيْرَفِيُّ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ ثَبَتَ بِالْعِلَّةِ التي دَلَّ عليها النَّصُّ وَحَظُّ النَّصِّ فيها التَّنْبِيهُ عليها وَهَذَا هو الرَّاجِحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا قال الْإِبْيَارِيُّ وهو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ مَالِكٍ وَعَنْ الْعِرَاقِيِّينَ من الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَعَلَى الْأَوَّلِ فإذا اسْتَنْبَطَ من مَحَلِّ عُمُومِ عِلَّةٍ خَاصَّةٍ تَخْصِيصَ حُكْمِ الْأَصْلِ وهو بِمَثَابَةِ اسْتِنْبَاطِ الْإِسْكَارِ من آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ في النَّبِيذِ بِنَاءً منه على أَنَّ حُكْمَ النَّبِيذِ هو الْمُسْتَنِدُ إلَى الْعِلَّةِ وَأَمَّا حُكْمُ الْخَمْرِ فَيَسْتَنِدُ إلَى اللَّفْظِ الْعَامِّ قال ابن النَّفِيسِ في الْإِيضَاحِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّافِعِيَّةِ ثُبُوتَهُ بِالْعِلَّةِ فَظَنُّ أَنَّ ثُبُوتَهُ بِالنَّصِّ لِأَجْلِ الْعِلَّةِ لَا لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ له بِدُونِ النَّصِّ وَلَا أنها جُزْءُ الْمُوجِبِ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا وَكَذَا زَعَمَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ لَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى لِأَنَّ النَّصَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ أَيْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بِهِ الْحُكْمُ وَالْمَعْنَى عِنْدَ من يُفْسِدُهُ بِالْبَاعِثِ هو الذي اقْتَضَى الْحُكْمَ فَمَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ أَيْ عُرِفَ بِهِ فَقَوْلُهُ صَحِيحٌ وَلَا يُنَازَعُ فيه وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمُقْتَضَى وَالْبَاعِثَ هو الْمَعْنَى فَلَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فيه
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ وَلَهُ أَصْلٌ وَفَرْعٌ أَمَّا أَصْلُهُ فَيَرْجِعُ إلَى تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ فَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فَحُكْمُ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بها وَكَذَا على قَوْلِ الْغَزَالِيِّ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ بِجَعْلِ اللَّهِ وَأَمَّا من يُفَسِّرُهَا بِالْبَاعِثِ فَمَعْنَى أَنَّهُ شُرِعَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ التي اقْتَضَتْ مَشْرُوعِيَّتَهُ وَبَعَثَتْ عليه فَفِي الْقَاصِرَةِ فَائِدَةُ مَعْرِفَةِ الْبَاعِثِ وَأَمَّا من يُفَسِّرُهَا بِالْمُعَرِّفِ فَلَا رَيْبَ أنها تُعَرِّفُ حُكْمَ الْأَصْلِ بِمُجَرَّدِهَا وقد تَجْتَمِعُ هِيَ وَالنَّصُّ فَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ مُعَرِّفَيْنِ عِنْدَ من يَجْعَلُهُمَا في حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ مُعَرِّفَيْنِ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ وَأَنَّ نِسْبَةَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إلَى الْعِلَّةِ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا فَرْعُهُ فَالْخِلَافُ في جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ فَمَنْ جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بها قال الْحُكْمُ ثَابِتٌ في الْمَحَلِّ بِالْعِلَّةِ ولم يَكُنْ لها فَائِدَةٌ وَلِهَذَا في التَّعْدِيَةِ لو لم يُقَدِّرْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ لم يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْمُقَايَسَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَذَكَرَ الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ من فَوَائِدِ الْخِلَافِ تَحْرِيمَ قَلِيلِ النَّبِيذِ وَكَثِيرِهِ كَالْخَمْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ لَا يَحْرُمُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ بِخِلَافِ الْخَمْرِ فإن حُرْمَةَ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وهو عَامٌّ يَشْمَلُ قَلِيلَهُ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ وَحُرْمَةِ النَّبِيذِ وَالْفَرْعُ ثَابِتٌ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَهِيَ الْإِسْكَارُ فَلَا بُدَّ من وُجُودِهَا فَلَا يَحْرُمُ منه قَدْرٌ لَا يُسْكِرُ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ هذا الْخِلَافُ في النَّصِّ ذِي الْعِلَّةِ أَمَّا التَّعَبُّدِيُّ فَلَا مَدْخَلَ له في الْقِيَاسِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ هُنَاكَ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ وَظَنَّ الْهِنْدِيُّ أَنَّ كَلَامَ أَصْحَابِنَا على إطْلَاقِهِ فَرَدَّدَ الْقَوْلَ عليهم وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّانِي صَوَابُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ ثَابِتٌ عِنْدَ الْعِلَّةِ لَا بها وَكَأَنَّ الشَّارِعَ قال مَهْمَا وُجِدَ الْوَصْفُ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْحُكْمَ الْفُلَانِيَّ حَاصِلٌ في ذلك التَّمْثِيلِ وقد قال ابن الْحَاجِبِ في مَسْأَلَةِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ التَّحْقِيقُ أَنَّ مَعْنَى الْعِلَّةِ ما قَضَى الشَّارِعُ بِالْحُكْمِ عِنْدَ الْحِكْمَةِ لَا أنها صِفَةٌ زَائِدَةٌ الثَّالِثُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَنْحَلُّ إشْكَالٌ أَوْرَدَهُ نُفَاةُ الْقِيَاسِ وهو كَيْفَ ثَبَتَ حُكْمُ الْفَرْعِ بِغَيْرِ ثُبُوتِهِ في الْأَصْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَحُكْمَ الْفَرْعِ ثَابِتٌ بِالْإِلْحَاقِ كَتَحْرِيمِ النَّبِيذِ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ وَالطَّرِيقُ مُخْتَلِفٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ هذا وَجَوَابُهُ أَنَّ من قال إنَّ الْحُكْمَ في مَحَلِّ النَّصِّ بِالْعِلَّةِ لم يَرِدْ عليه هذا السُّؤَالُ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ الْحُكْمُ في الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وهو مَعْنَى الْإِسْكَارِ في الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ وَمَنْ أَثْبَتَ في الْأَصْلِ بِالنَّصِّ قال الْمَقْصُودُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا تَعْيِينُ طَرِيقِهِ بِكَوْنِهِ نَصًّا أو قِيَاسًا أو نَصًّا في الْأَصْلِ قِيَاسًا في الْفَرْعِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَسِيلَةٌ وَالْحُكْمَ مَقْصِدٌ
وَمَعَ حُصُولِ الْمَقْصِدِ لو قُدِّرَ عَدَمُ الْوَسَائِلِ لم يَضُرَّ فَضْلًا عن اخْتِلَافِهَا وَهَذَا كَمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ أو غَيْرَهَا من الْبِلَادِ لَا حَرَجَ عليه من أَيِّ جِهَةٍ دَخَلَهَا
الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْفَرْعُ وهو الذي يُرَادُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فيه فَقِيلَ هو مَحَلُّ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فيه وهو قِيَاسُ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ في الْأَصْلِ وَقِيلَ هو نَفْسُ الْحُكْمِ الذي في الْمَحَلِّ وهو قِيَاسُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ ثَمَّ وَقِيَاسُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ النَّصُّ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ هُنَا هو الْعِلَّةُ لَكِنْ لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ لِأَنَّهَا أَصْلٌ في الْفَرْعِ وَفَرْعٌ في الْأَصْلِ فلم يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَرْعًا في الْفَرْعِ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ عِنْدَهُمْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ في مَحَلِّ النَّصِّ أو عِلَّتِهِ أو الْحُكْمَ في مَحَلِّ الْخِلَافِ وقال السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ الْفَرْعُ ما اخْتَلَفَ الْخَصْمَانِ فيه وَقِيلَ ما قَصَدَ الْقَائِسُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فيه وَقِيلَ ما نُصِبَتْ الدَّلَالَةُ فيه وَلَهُ شُرُوطٌ أَحَدُهَا وُجُودُ الْعِلَّةِ الْمَوْجُودَةِ أَيْ قِيَامُهَا بِهِ وَإِنْ كانت عَدَمِيَّةً وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِوُجُودِهَا فيه خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ بَلْ يَكْفِي الظَّنُّ وَسَيَأْتِي في بَابِ الْعِلَّةِ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمَوْجُودَةُ فيه مِثْلَ عِلَّةِ الْأَصْلِ بِلَا تَفَاوُتٍ أَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى النُّقْصَانِ أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا يُشْتَرَطُ انْتِفَاؤُهَا إذْ قد يَكُونُ الْحُكْمُ في الْفَرْعِ أَوْلَى كَقِيَاسِ الضَّرْبِ على التَّأْفِيفِ وقد يَكُونُ مُسَاوِيًا كَقِيَاسِ الْأَمَةِ على الْعَبْدِ في السِّرَايَةِ فَإِنْ كان وُجُودُهَا في الْفَرْعِ مَقْطُوعًا بِهِ صَحَّ الْإِلْحَاقُ قَطْعًا وَإِنْ كان مَظْنُونًا كَقِيَاسِ الْأَدْوَنِ كَالتُّفَّاحِ على الْبُرِّ بِجَامِعِ الطَّعْمِ فَاخْتَلَفُوا فيه على قَوْلَيْنِ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِهِ بَلْ يَكْفِي في وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ الظَّنُّ لِأَنَّا إذَا ظَنَنَّا وُجُودَهَا في الْفَرْعِ ظَنَنَّا الْحُكْمَ وَالْعَمَلُ بِالظَّنِّ وَاجِبٌ الثَّالِثُ أَنْ يُسَاوِيَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ فِيمَا يُقْصَدُ من عَيْنٍ أو جِنْسٍ لِيَتَأَدَّى بِهِ مِثْلُ ما يَتَأَدَّى بِالْحُكْمِ في الْأَصْلِ فَإِنْ كان حُكْمُ الْفَرْعِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ فَسَدَ الْقِيَاسُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عن مُعَارِضٍ رَاجِحٍ يَقْتَضِي نَقِيضَ ما اقْتَضَتْهُ عِلَّةُ الْقِيَاسِ هذا إنْ جَوَّزْنَا تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَإِنْ لم نُجَوِّزْهُ لم يَكُنْ هذا شَرْطًا في الْفَرْعِ الذي يُقَاسَ بَلْ الْفَرْعُ الذي يَثْبُتُ فيه الْحُكْمُ يَقْتَضِي الْقِيَاسَ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ دَلِيلَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ ثَابِتًا بِهِ وَمِنْهُمْ من قال
أَنْ لَا يَكُونَ الْفَرْعُ مَنْصُوصًا أو مُجْمَعًا عليه وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا كان الْحُكْمُ الْمَنْصُوصُ عليه على خِلَافِ الْقِيَاسِ وَإِلَّا لَزِمَ تَقْدِيمُ الْقِيَاسِ على النَّصِّ وهو مُمْتَنِعٌ نعم يَجُوزُ لِتَجْرِبَةِ النَّظَرِ فَأَمَّا إذَا كان على مُوَافَقَتِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّصُّ الدَّالُّ على ثُبُوتِ حُكْمِ الْفَرْعِ هو بِعَيْنِهِ الذي دَلَّ على حُكْمِ الْأَصْلِ أو غَيْرُهُ فَإِنْ كان الْأَوَّلَ فَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ليس جَعَلَ تِلْكَ الصُّورَةَ أَصْلًا وَالْأُخْرَى فَرْعًا أَوْلَى من الْعَكْسِ وَإِنْ كان غَيْرَهُ فَالْقِيَاسُ فيه جَائِزٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كما نَقَلَهُ في الْمَحْصُولِ لِأَنَّهُ ليس الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بَلْ الِاسْتِظْهَارَ بِتَكْثِيرِ الْحُجَجِ وَتَرَادُفُ الْأَدِلَّةِ على الْمَدْلُولِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ لِإِفَادَةِ زِيَادَةِ الظَّنِّ وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ من قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عليه مُطْلَقًا وَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ على اشْتِرَاطِهِ وَنَقَلَ الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ الْجَوَازَ مُطْلَقًا عن الشَّافِعِيِّ فقال جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ كَوْنَ الْفَرْعِ فيه نَصٌّ وَيَزْدَادُ بِالْقِيَاسِ بَيَانُ ما كان النَّصُّ سَاكِتًا عنه وَلَا يَجُوزُ إذَا كان مُخَالِفًا لِلنَّصِّ السَّادِسُ شَرَطَ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ انْتِفَاءَ نَصٍّ أو إجْمَاعٍ يُوَافِقُهُ أَيْ لَا يَكُونُ مَنْصُوصًا على شَبَهِهِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ قَبْلَهُ فإنه شَرْطٌ في نَصِّهِ هو وَالْحَقُّ أَنَّ هذا غَيْرُ شَرْطٍ وَفَائِدَةُ الْقِيَاسِ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ أو الْحُكْمِ وَفَائِدَةُ النَّصِّ ثُبُوتُ الْحُكْمِ السَّابِعُ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ في الْفَرْعِ ثَابِتًا قبل الْأَصْلِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مُتَأَخِّرٌ عن الْمُسْتَفَادِ منه بِالضَّرُورَةِ فَلَوْ تَقَدَّمَ مع ما ذَكَرْته من وُجُوبِ تَأَخُّرِهِ لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ أو الضِّدَّيْنِ وهو مُحَالٌ وَهَذَا كَقِيَاسِ الْوُضُوءِ على التَّيَمُّمِ في اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِالتَّيَمُّمِ إنَّمَا وَرَدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَالتَّعَبُّدَ بِالْوُضُوءِ كان قَبْلَهُ وَنَازَعَ الْعَبْدَرِيُّ في الْمِثَالِ بِأَنَّهُ من قِيَاسِ الشَّبَهِ لَا من قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَمَعْنَاهُ طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقَانِ وَمَنَعَ ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ هذا الشَّرْطَ وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عليه أَمَارَاتٍ مُتَقَدِّمَةً وَمُتَأَخِّرَةً فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْمُتَقَدِّمِ منها وَالْمُتَأَخِّرِ فإن الدَّلِيلَ يَجُوزُ تَأَخُّرُهُ عن ثُبُوتِهِ وَلِهَذَا مُعْجِزَاتُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم منها ما قَارَنَ نُبُوَّتَهُ وَمِنْهَا ما تَأَخَّرَ عنه وَيَجُوزُ الِاسْتِدْلَال على نُبُوَّتِهِ بِمَا نَزَلَ من الْقُرْآنِ بِالْمَدِينَةِ وَكَذَا في الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ وَكَذَا نَقَلَ إلْكِيَا في تَعْلِيقِهِ عن الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا ذلك فإن الْعَالَمَ مُتَرَاخٍ عن الْقَدِيمِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ على إثْبَاتِ الْقَدِيمِ ثُمَّ قال وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّا لَا نَسْتَدِلُّ بِوُجُودِ الْعَالِمِ على إثْبَاتِ الصَّانِعِ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ قَطْعًا وَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا بِالْعَالِمِ على الْعِلْمِ
بِالصَّانِعِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ هُنَا النِّيَّةُ في الْوُضُوءِ كانت ثَابِتَةً بِدَلِيلِهَا وهو إخَالَةٌ وَمُنَاسَبَةٌ وقال الْقُرْطُبِيُّ هذا إنَّمَا نَشَأَ من حَيْثُ إنَّ الْوُضُوءَ كان مَعْمُولًا بِهِ قبل مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لم يُعْمَلْ بِهِ إلَى أَنْ شُرِعَ التَّيَمُّمُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَاسَ عليه وَيَكُونَ فَرْعًا له وَإِنْ كان مُتَقَدِّمًا لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ على الْأَحْكَامِ وَمُعَرِّفَاتٌ لها وَتَقْدِيمُهَا كَالدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ وقال ابن بَرْهَانٍ قَوْلُهُمْ لَا يُسْتَفَادُ حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ من الْمُتَأَخِّرِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان مُتَأَخِّرًا إلَّا أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إذَا ثَبَتَ ثَبَتَ على الْإِطْلَاقِ قال قالوا هذا إذَنْ يَكُونُ نَسْخًا وَإِنَّمَا هو ضَمُّ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا الشَّرْطُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ إذَا تَوَقَّفَ اسْتِنَادُ الْحُكْمِ في الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ على وَجْهٍ يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْمُحَالَ إنَّمَا يَلْزَمُ على هذا الْوَجْهِ فإنه مَنْشَأُ الِاسْتِحَالَةِ فإذا انْتَفَى ذلك لِعَدَمِ النَّصِّ انْتَفَى وَجْهُ الِاسْتِحَالَةِ وقال ابن الْحَاجِبِ نعم لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إلْزَامًا لِلْخَصْمِ لِتَسَاوِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ في الْمَعْنَى وقال الرَّازِيَّ وَالْهِنْدِيُّ هذا إذَا لم يَكُنْ لِحُكْمِ الْفَرْعِ دَلِيلٌ سِوَى ذلك الْأَصْلِ الْمُتَأَخِّرِ فإنه كان عليه دَلِيلٌ آخَرُ وَذِكْرُ ذلك على سَبِيلِ الْإِلْزَامِ لِلْخَصْمِ لَا بِطَرِيقِ تَقْوِيَةِ الْمَأْخَذِ أو بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الدَّلِيلُ عن الْمَدْلُولِ كَالْعَالِمِ على الصَّانِعِ جَازَ تَأَخُّرُهُ لِزَوَالِ الْمَحْذُورِ وَتَوَارُدُ الْأَدِلَّةِ على مَدْلُولٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ وَهَذَا فيه نَظَرٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ في تَفَرُّعِهِ عن الْأَصْلِ الْمُتَأَخِّرِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ سَوَاءٌ كان عليه دَلِيلٌ غَيْرُهُ أَمْ لَا الثَّامِنُ شَرَطَ أبو هَاشِمٍ دَلَالَةَ دَلِيلٍ غَيْرِ الْقِيَاسِ على ثُبُوتِ الْحُكْمِ في الْفَرْعِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَيَكُونُ حَظُّ الْقِيَاسِ إبَانَةَ فَيْصَلِهِ وَالْكَشْفَ عن مَوْضُوعِهِ وَحَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عن أبي زَيْدٍ أَيْضًا وَرَدَّدَهُ بِأَنَّ الْأَوَّلِينَ تَشَوَّفُوا إلَى إجْرَاءِ الْقِيَاسِ اتِّبَاعًا لِلْأَوْصَافِ الْمُخَيَّلَةِ الْمُؤَثِّرَةِ من غَيْرِ تَقْيِيدٍ وقد أَثْبَتُوا قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ بِالْقِيَاسِ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه نَصٌّ على جِهَةِ الْجُمْلَةِ على وَجْهٍ ما لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إنَّمَا يُمْكِنُ عن الْمَنْعِ من تَحْرِيمِهِ وَلَا يُفِيدُ حُكْمُهُ إذَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ قال وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ لَعَلَّهُمْ عَلِمُوا له أَصْلًا غَابَ عَنَّا
تَنْبِيهٌ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّ الْفَرْعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فيه فقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عليه وَالْحَقُّ جَوَازُهُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَعَدَّى الْحُكْمَ من الْمَنْصُوصِ إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ كَثِيرٌ من مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ بِذَلِكَ كما بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ خَمْرًا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ فقال قَاتَلَهُ اللَّهُ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا فَهَذَا الْحُكْمُ مُجْمَعٌ عليه وَاسْتُعْمِلَ فيه الْقِيَاسُ
الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ وَهِيَ شَرْطٌ في صِحَّةِ الْقِيَاسِ لِيَجْمَعَ بها بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قال ابن فُورَكٍ من الناس من اقْتَصَرَ على الشَّبَهِ وَمَنَعَ الْقَوْلَ بِالْعِلَّةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ ذَهَبَ بَعْضُ الْقَيَّاسِينَ من الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ من غَيْرِ عِلَّةٍ إذَا لَاحَ بَعْضُ الشَّبَهِ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْقَيَّاسِينَ من الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ منها في الْقِيَاسِ وَهِيَ رُكْنُ الْقِيَاسِ لَا يَقُومُ الْقِيَاسُ إلَّا بها وَالْعِلَّةُ في اللُّغَةِ قِيلَ هِيَ اسْمٌ لِمَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الشَّيْءِ بِحُصُولِهِ مَأْخُوذٌ من الْعِلَّةِ التي هِيَ الْمَرَضُ لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا في الْحُكْمِ كَأَثَرِ الْعِلَّةِ في ذَاتِ الْمَرِيضِ وَيُقَالُ اعْتَلَّ فُلَانٌ إذَا حَالَ عن الصِّحَّةِ إلَى السَّقَمِ وَهَذَا الْمَعْنَى اعْتَمَدَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في كِتَابِ الْإِخْبَارِ عن أَحْكَامِ الْعِلَلِ وهو مُجَلَّدٌ لَطِيفٌ وَجَرَى عليه إلْكِيَا وابن السَّمْعَانِيِّ وَقِيلَ لِأَنَّهَا نَاقِلَةٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ كَالِانْتِقَالِ بِالْعِلَّةِ من الصِّحَّةِ إلَى الْمَرَضِ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وقال الْأَوَّلُ أَحْسَنُ لِأَنَّا قَبِلْنَا صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ وَقِيلَ إنَّهَا مَأْخُوذَةٌ من الْعَلَلِ بَعْدَ النَّهَلِ وهو مُعَاوَدَةُ الْمَاءِ لِلشُّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ في اسْتِخْرَاجِهَا يُعَاوِدُ النَّظَرَ بَعْدَ النَّظَرِ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ وُجُودِهَا وَلِأَنَّ الْحَادِثَةَ مُسْتَمِرَّةٌ بَاقِيَةٌ غَيْرُ مُتَكَرِّرَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَدَرِيَّةِ قال إلْكِيَا وقد يُعَبَّرُ بها عَمَّا لِأَجْلِ ذلك يُقْدِمُ على الْفِعْلِ أو يُمْنَعُ منه يُقَالُ فَعَلَ الْفِعْلَ لِعِلَّةِ كَيْتَ أو لم يَفْعَلْ لِعِلَّةِ كَيْتَ وقد اُسْتُعْمِلَتْ في الْمَعْلُولَاتِ في الْمَعْنَى الذي يُوجِبُ لِغَيْرِهِ حَالًا كَالْعِلْمِ يُوجِبُ الْعَالَمِيَّةَ وَالْوَصْفِ من غَيْرِ حَالِ السَّوَادِ فقال إنَّهُ عِلَّةٌ في وَصْفِ الْمَحَلِّ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَاخْتَلَفُوا فيها على خَمْسَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أنها الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ أَيْ جُعِلَتْ عَلَمًا على الْحُكْمِ إنْ وُجِدَ الْمَعْنَى وُجِدَ الْحُكْمُ قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الْإِعْلَامِ وابن عَبْدَانَ في شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ وأبو زَيْدٍ من الْحَنَفِيَّةِ وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ عن بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ
وَالْمِنْهَاجِ أَيْ ما يَكُونُ دَالًّا على وُجُودِ الْحُكْمِ وَلَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هو اللَّهُ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ قَدِيمٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فيه الْحَادِثُ وَنُقِضَ بِ الْعَلَامَةِ فإن الْحَدَّ صَادِقٌ عليها وَلَيْسَتْ الْأَحْكَامُ مُضَافَةً إلَيْهَا وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ كما قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَمُوجِبَةٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرْعَ دَخَلَهُ التَّعَبُّدُ الذي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ فإن أَحْكَامَهُ مَعْقُولَةُ الْمَعَانِي فَمِنْ ثَمَّ كانت عِلَلُهُ مُؤَثِّرَةً وَعِلَلُ الشَّرْعِ مُعَرِّفَاتٍ وَالْمُؤَثِّرُ إنَّمَا هو خِطَابُ الشَّرْعِ وَعِبَارَةُ ابْنِ عَبْدَانَ في الْفَرْقِ أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ من مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ وَالشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ من مُوجِبَاتِهِ بَلْ هِيَ أَمَارَاتٌ وَدَلَالَاتٌ في الظَّاهِرِ وقال في التَّقْوِيمِ عِلَلُ الشَّرْعِ أَعْلَامٌ في الْحَقِيقَةِ على الْأَحْكَامِ وَالْمُوجِبُ هو اللَّهُ تَعَالَى بِدَلِيلِ أنها كانت مَوْجُودَةً قبل الشَّرْعِ وَلَوْ كانت مُوجَبَةً لم تَنْفَكَّ عن مَعْلُولَاتِهَا قال وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى أَدِلَّةً لِأَنَّهَا دَلَّتْ على حُكْمِ اللَّهِ في الْفُرُوعِ قال وَبَعْضُهَا أَظْهَرُ من بَعْضٍ حتى قال عُلَمَاؤُنَا الظَّاهِرُ منها قِيَاسٌ وَالْبَاطِنُ اسْتِحْسَانٌ تَنْبِيهٌ قال الْهِنْدِيُّ ليس الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا مُعَرِّفَةً أنها تُعَرِّفُ حُكْمَ الْأَصْلِ فإن ذلك لَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ بَلْ حُكْمِ الْفَرْعِ لَكِنْ يَخْدِشُهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا إنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مُعَلَّلٌ بِالْعِلَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرْعِ مع أَنَّهُ غَيْرُ مُعَرِّفٍ بها الثَّانِي أنها الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ على مَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهَا مُوجِبَةً لِذَاتِهَا وهو قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَسُلَيْمٍ قال الْهِنْدِيُّ وهو قَرِيبٌ لَا بَأْسَ بِهِ فَالْعِلَّةُ في تَحْرِيمِ النَّبِيذِ هِيَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ كانت مَوْجُودَةً قبل تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بها وَلَكِنَّهَا عِلَّةٌ بِجَعْلِ الشَّارِعِ الثَّالِثُ أنها الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ بِذَاتِهَا لَا بِجَعْلِ اللَّهِ وهو قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِنَاءً على قَاعِدَتِهِمْ في التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَالْعِلَّةُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَا يُوقَفُ على جَعْلِ جَاعِلٍ وَيُعَبِّرُونَ عنه تَارَةً بِالْمُؤَثِّرِ الرَّابِعُ أنها الْمُوجِبَةُ بِالْعَادَةِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ في الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ في الْقِيَاسِ وهو غَيْرُ الثَّانِي الْخَامِسُ الْبَاعِثُ على التَّشْرِيعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُشْتَمِلًا على مَصْلَحَةٍ صَالِحَةٍ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ من شَرْعِ الْحُكْمِ وَمِنْهُمْ من عَبَّرَ عنها بِاَلَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ صَلَاحَ الْمُتَعَبِّدِينَ في التَّعَبُّدِ بِالْحُكْمِ لِأَجْلِهَا وهو اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وهو نَزْعَةُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يُعَلِّلُ أَفْعَالَهُ بِالْأَغْرَاضِ
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ خِلَافُهُ وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَطَّانِ الْعِلَّةُ عِنْدَنَا هِيَ الْمَعْنَى الذي كان الْحُكْمُ على ما كان عليه لِأَجْلِهَا وهو الْغَرَضُ وَالْمَعْنَى الْجَالِبُ لِلْحُكْمِ ثُمَّ قال وَالْعِلَّةُ ما جَلَبَ الْحُكْمُ قال وَإِلَى هذا كان يَذْهَبُ أبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ انْتَهَى وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الرِّبَا الْقَوْلَيْنِ فقال الْعِلَّةُ هِيَ التي لِأَجْلِهَا ثَبَتَ الْحُكْمُ وَقِيلَ الصِّفَةُ الْجَالِبَةُ لِلْحُكْمِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ اُخْتُلِفَ في الْعِلَّةِ فَقِيلَ إنَّهَا صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمَعْلُولِ كَالشِّدَّةِ في الْخَمْرِ وهو خَطَأٌ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَغْرَاضِ قد يَكُونُ عِلَّةً لِغَرَضٍ آخَرَ وَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وقال وَإِنَّمَا مَعْنَى الْعِلَّةِ السَّبَبُ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ اجْتِهَادًا فإن النَّصَّ الْجَالِبَ لِلْحُكْمِ لَا يَكُونُ عِلَّةً له لِأَنَّهُ ليس من طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالِاعْتِلَالُ اسْتِدْلَالُ الْمُعَلِّلِ بِالْعِلَّةِ وَإِظْهَارُهُ لها وَالْمُعْتَلُّ هو الْمُعَلِّلُ وَالْمُعْتَلُّ بِهِ نَفْسُ الْعِلَّةِ وقال إلْكِيَا الْعِلَّةُ في عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الصِّفَةُ التي يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بها وَالْعَقْلِيَّةُ مُوجِبَةٌ على رَأْيِ الْقَائِلِينَ بها وَالشَّرْعِيَّةُ مَوْضُوعَةٌ وَلَكِنَّهَا مُشَبَّهَةٌ بها في الشَّرْعِ أُثْبِتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهَا في طَرِيقِ الْفُقَهَاءِ فَكَانَ أَقْرَبُ عِبَارَةٍ على هذا التَّقْدِيرِ عِبَارَةَ الْعِلَّةِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ تَبَعَ الْحَقِيقَةِ على مِثَالِهَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ قالوا إنَّهَا الصِّفَةُ الْجَالِبَةُ لِلْحُكْمِ وَقِيلَ إنَّهَا الْمَعْنَى الْمُنْشِئُ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى عَقْلِيَّةٍ وَهِيَ لَا تَصِيرُ عِلَّةً بِجَعْلِ جَاعِلٍ بَلْ بِنَفْسِهَا وَهِيَ مُوجِبَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَزْمَانِ كَحَرَكَةِ الْمُتَحَرِّكِ وَشَرْعِيَّةٍ وَهِيَ التي صَارَتْ عِلَّةً بِجَعْلِ جَاعِلٍ كَالْإِسْكَارِ في الْخَمْرِ وَكَانَتْ قبل مَجِيءِ الشَّرْعِ وَتَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ وَلَا تَتَخَصَّصُ بِعَيْنٍ دُونَ عَيْنٍ مَسْأَلَةٌ الْعِلَّةُ حَقِيقَةٌ في الْعَقْلِيَّةِ كَالْحَرَكَةِ عِلَّةٌ في كَوْنِ الْمُتَحَرِّكِ مُتَحَرِّكًا كما قَالَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِنَّمَا تُسَمَّى الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ عِلَّةً مَجَازًا أو اتِّسَاعًا وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ الْعِلَّةُ ما أَوْجَبَ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ وَهِيَ الْعِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَأَمَّا التي تُوجِبُهُ بِغَيْرِهَا فَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ في وَضْعِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَإِنَّمَا هِيَ أَمَارَةٌ على الْحُكْمِ
مَسْأَلَةٌ وَتَنْقَسِمُ إلَى مُسْتَنْبَطَةٍ وَمَنْصُوصَةٍ وقال بَعْضُ أَهْلِ خُرَاسَانَ مَسْطُورَةٍ وَمَنْشُورَةٍ وقال في اللُّمَعِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ جَعْلَ الْمَنْصُوصَةِ عِلَّةً وهو قِيَاسُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَقِيلَ هِيَ عِلَّةٌ في الْمَعْنَى في الْمَنْصُوصِ عليه وَلَا يَكُونُ عِلَّةً في غَيْرِهِ إلَّا بِأَمْرٍ ثَانٍ وَالصَّحِيحُ أنها عِلَّةٌ مُطْلَقًا قال وَأَمَّا الْمُسْتَنْبَطَةُ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً وَقِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً إلَّا ما ثَبَتَ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ مَسْأَلَةٌ قال ابن فُورَكٍ طَرِيقُ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ منهم من قال سَمْعِيٌّ وَمِنْهُمْ من قال عَقْلِيٌّ فَمَنْ قال سَمْعِيٌّ يُرَاعِي في كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً دَلَالَةً سَمْعِيَّةً وَمَنْ قال عَقْلِيٌّ قال طَرِيقَةُ اعْتِبَارِ عِلَلِ السَّمْعِ كَطَرِيقِ اعْتِبَارِ عِلَلِ الْعَقْلِ وَيَكُونُ ذلك بِالتَّقْسِيمِ بِأَنْ يُقَالَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حُرِّمَ لِكَذَا أو كَذَا كما يُقَالُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَحَرَّكَ لِكَذَا أو لِكَذَا فَيَقَعُ على الْمَعْنَى له تَحَرُّكٌ مَسْأَلَةٌ قال في الْمُقْتَرَحِ لِلْعِلَّةِ أَسْمَاءٌ في الِاصْطِلَاحِ وَهِيَ السَّبَبُ وَالْإِشَارَةُ وَالدَّاعِي وَالْمُسْتَدْعِي وَالْبَاعِثُ وَالْحَامِلُ وَالْمَنَاطُ وَالدَّلِيلُ وَالْمُقْتَضِي وَالْمُوجِبُ وَالْمُؤَثِّرُ انْتَهَى وزاد بَعْضُهُمْ الْمَعْنَى وَالْكُلُّ سَهْلٌ غَيْرُ السَّبَبِ وَالْمَعْنَى أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ مُتَمَيِّزٌ عن الْعِلَّةِ من جِهَةِ الِاصْطِلَاحِ الْكَلَامِيِّ وَالْأُصُولِيِّ وَالْفِقْهِيِّ وَاللُّغَوِيِّ أَمَّا اللُّغَوِيُّ فقال أَهْلُ اللُّغَةِ السَّبَبُ ما يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ وَلَوْ بِوَسَائِطَ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَبْلُ سَبَبًا وَذَكَرُوا لِلْعِلَّةِ مَعَانِيَ يَدُورُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فيها على أنها تَكُونُ أَمْرًا مُسْتَمَدًّا من أَمْرٍ آخَرَ وَأَمْرًا مُؤَثِّرًا في آخَرَ وقال أَكْثَرُ النُّحَاةِ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ ولم يَقُولُوا لِلسَّبَبِيَّةِ وَقَالُوا الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ ولم يَقُولُوا لِلتَّعْلِيلِ وَصَرَّحَ ابن مَالِكٍ بِأَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّعْلِيلِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمَا غَيْرَانِ وَأَمَّا الْكَلَامِيُّ فَاعْلَمْ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ في تَوَقُّفِ الْمُسَبَّبِ عَلَيْهِمَا وَيَفْتَرِقَانِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّبَبَ ما يَحْصُلُ الشَّيْءُ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَالْعِلَّةُ ما يَحْصُلُ بِهِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمَعْلُولَ مُتَأَخِّرٌ عن الْعِلَّةِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَا شَرْطٍ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ على وُجُودِهِ وَالسَّبَبُ إنَّمَا
يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِوَاسِطَةٍ أو بِوَسَائِطَ وَلِذَلِكَ يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عنها حتى تُوجَدَ الشَّرَائِطُ وَتَنْتَفِي الْمَوَانِعُ وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَلَا يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عنها إذَا اُشْتُرِطَ لها بَلْ هِيَ أَوْجَبَتْ مَعْلُولًا بِالِاتِّفَاقِ حَكَى الِاتِّفَاقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمَا وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ فقال الْآمِدِيُّ في جَدَلِهِ الْعِلَّةُ في لِسَانِ الْفُقَهَاءِ تُطْلَقُ على الْمَظِنَّةِ أَيْ الْوَصْفِ الْمُتَضَمِّنِ لِحِكْمَةِ الْحُكْمِ كما في الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فإنه يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ قَتْلٌ لِعِلَّةِ الْقَتْلِ وَتَارَةً يُطْلِقُونَهَا على حِكْمَةِ الْحُكْمِ كَالزَّجْرِ الذي هو حِكْمَةُ الْقِصَاصِ فإنه يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْعِلَّةُ الزَّجْرُ وَأَمَّا السَّبَبُ فَلَا يُطْلَقُ إلَّا على مَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ دُونَ الْحِكْمَةِ إذْ بِالْمَظِنَّةِ يُتَوَصَّلُ إلَى الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْحِكْمَةِ انْتَهَى وَأَمَّا الْفِقْهِيُّ فقال إلْكِيَا يُطْلَقُ السَّبَبُ في اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ على أَرْبَعَةِ أُمُورٍ أَحَدُهَا السَّبَبُ الذي يُقَالُ إنَّهُ مِثْلُ الْعِلَّةِ كَالرَّمْيِ فإنه سَبَبٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ في حُكْمِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ عَيْنَ الرَّمْيِ لَا أَثَرَ له في الْحُكْمِ حَيْثُ لَا فِعْلَ منه وَمِنْهُ الزِّنَى الثَّانِي ما يَكُونُ الطَّارِئُ مُؤَثِّرًا وَلَكِنَّ تَأْثِيرَهُ مُسْتَنِدٌ إلَى ما قَبْلَهُ فَهُوَ سَبَبٌ من حَيْثُ اسْتِنَادُ الْحُكْمِ إلَى الْأَوَّلِ لَا اسْتِنَادُ الْوَصْفِ الْآخَرِ إلَى الْأَصْلِ الثَّالِثُ ما ليس سَبَبًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يَصِيرُ سَبَبًا بِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِمْ الْقِصَاصُ وَجَبَ رَدْعًا وَزَجْرًا ثُمَّ قالوا وَجَبَ لِسَبَبِ الْقَتْلِ إذْ الْقَتْلُ عِلَّةُ الْقِصَاصِ فَقَطَعُوا الْحُكْمَ عن الْعِلَّةِ وَجَعَلُوهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعِلَّةِ وَالْعِلَّةُ غَيْرُ الْحُكْمِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْلَا الْحِكْمَةُ لَكَانَ الْحُكْمُ صُورَةً غير صَالِحَةٍ لِلْحُكْمِ فَبِالْحِكْمَةِ خَرَجَ عن كَوْنِهِ صُورَةً وَالْعِلَّةُ صَارَتْ جَالِبَةً لِلْحُكْمِ بِمَعْنَاهَا لَا بِصُورَتِهَا وَدُونَ الْحِكْمَةِ لَا شَيْءَ إلَّا صُورَةُ الْفِعْلِ وَالصُّورَةُ لَا تَكُونُ عِلَّةً قَطُّ فَعَلَى هذا الْحِكْمَةُ رَاجِعَةٌ إلَى الْعِلَّةِ فَلَا عِلَّةَ بِدُونِهَا وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ الرَّابِعُ ما يُسَمَّى سَبَبًا مَجَازًا من حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِمَا يَجِبُ كَقَوْلِهِمْ الْإِمْسَاكُ سَبَبُ الْقَتْلِ وَلَيْسَ سَبَبَ الْقَتْلِ حَقِيقَةً فإنه ليس يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ بَلْ الْقَتْلُ بِاخْتِيَارِ الْقَاتِلِ وَلَكِنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّمَكُّنِ من الْقَتْلِ بِإِلْحَاقٍ وَقِيلَ سَبَبُ الْقَتْلِ فَالْأَسْبَابُ لَا تَعْدُو هذه الْوُجُوهَ انْتَهَى وقال في تَعْلِيقِهِ الْمُتَكَلِّمُونَ لَا يُفَرِّقُونَ بين الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ الْعِلَّةُ هِيَ التي يَعْقُبُهَا الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ ما تَرَاخَى عنه الْحُكْمُ وَوَقَفَ على شَرْطٍ أو شَيْءٍ بَعْدَهُ وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بين السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ بِأَنَّ السَّبَبَ يَتَقَدَّمُ على الْحُكْمِ وَالْحِكْمَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عن الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ مُفِيدٌ لها كَالْجُوعِ سَبَبُ الْأَكْلِ وَمَصْلَحَةُ رَفْعِ الْجُوعِ وَتَحْصِيلِ الشِّبَعِ حِكْمَةٌ له
وقد ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ في الْفِقْهِيَّاتِ أَنَّ الْفِعْلَ الذي له مَدْخَلٌ في زَهُوقِ الرُّوحِ إنْ لم يُؤَثِّرْ في الزَّهُوقِ وَلَا فِيمَا يُؤَثِّرُ فيه فَهُوَ الشَّرْطُ كَحَفْرِ الْبِئْرِ التي يَتَرَدَّى فيها مُتَرَدٍّ وَإِنْ أَثَّرَ فيه وَحَصَّلَهُ فَهُوَ الْعِلَّةُ كَالْقَدِّ وَالْحَزِّ وَإِنْ لم يُؤَثِّرْ في الزَّهُوقِ وَلَكِنْ أَثَّرَ فِيمَا يُؤَثِّرُ في حُصُولِهِ فَهُوَ السَّبَبُ كَالْإِكْرَاهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِالشَّرْطِ قَطْعًا وَيَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ قَطْعًا وفي السَّبَبِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ وإذا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ فَوْقَ السَّبَبِ صَحَّ الْحُكْمُ بِتَقَاصُرِ رُتْبَتِهِ عن الْمُبَاشَرَةِ كما قَرَّرُوهُ في كِتَابِ الْجِرَاحِ من أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ عِلَّةٌ وَالْعِلَّةُ أَقْوَى من السَّبَبِ وَمِنْ نَظَائِرِ الْمَسْأَلَةِ لو أَنَّ رَجُلًا فَتَحَ زِقًّا بِحَضْرَةِ مَالِكِهِ فَخَرَجَ ما فيه وَالْمَالِكُ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ فلم يَفْعَلْ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ على الْفَاتِحِ وَجْهَانِ وَلَوْ رَآهُ يَقْتُلُ عَبْدَهُ أو يَحْرُقُ ثَوْبَهُ فلم يَمْنَعْهُ مع قُدْرَتِهِ على الْمَنْعِ وَجَبَ الضَّمَانُ وَجْهًا وَاحِدًا وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَتْلَ وَالتَّحْرِيقَ مُبَاشَرَةٌ وَفَتْحَ الزِّقِّ سَبَبٌ وَالسَّبَبُ قد يَسْقُطُ حُكْمُهُ مع الْقُدْرَةِ على مَنْعِهِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ لِاسْتِقْلَالِهَا في نَفْسِهَا وَإِنَّمَا قُلْنَا قد يَسْقُطُ حُكْمُهُ ولم نَجْعَلْ السُّقُوطَ مُطَّرِدًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لو صَالَتْ عليه بَهِيمَةُ غَيْرِهِ وَأَمْكَنَهُ الْهَرَبُ فلم يَهْرُبْ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَضْمَنُ وهو بِعَدَمِ هُرُوبِهِ مُفَرِّطٌ في حَقِّ نَفْسِهِ وَالثَّانِي لَا يَضْمَنُ لِوُقُوعِ الصِّيَالِ وَهَذَا الْوَجْهُ أَرْجَحُ منه في مَسْأَلَةِ الزِّقِّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَحْصُلُ له عِنْدَ الصِّيَالِ دَهْشَةٌ تَشْغَلُهُ عن الدَّفْعِ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ الطُّرُقُ في التَّمْيِيزِ بين الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ وَالشَّرْطِ أَنَّا نَنْظُرُ إلَى الشَّيْءِ إنْ جَرَى مُقَارِنًا لِلشَّيْءِ وَأَثَّرَ فيه فَهُوَ الْعِلَّةُ أو غير مُقَارَنٍ وَلَا تَأْثِيرَ لِلشَّيْءِ فيه دَلَّ على أَنَّهُ سَبَبٌ وَأَمَّا الشَّرْطُ فَهُوَ ما يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وهو مُقَارَنٌ غَيْرُ مُفَارِقٍ لِلْحُكْمِ كَالْعِلَّةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ له فيه وَإِنَّمَا هو عَلَامَةٌ على الْحُكْمِ من غَيْرِ تَأْثِيرٍ أَصْلًا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّرْطُ ما يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وَالسَّبَبُ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْحُكْمِ بَلْ يُوجِبُ مُصَادَفَتَهُ وَمُوَافَقَتَهُ ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الْقَفَّالِ وَيَتَفَرَّعُ على هذا الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ مَقْصُودَةٌ في نَفْسِهَا قال عُلَمَاؤُنَا الشَّرْطُ إذَا اتَّصَلَ بِالسَّبَبِ ولم يَكُنْ مُبْطِلًا كان تَأْثِيرُهُ في حُكْمِ تَأَخُّرِ السَّبَبِ إلَى حِينِ وُجُودِهِ لَا في مَنْعِ وُجُودِهِ وَمِثَالُهُ إذَا قال إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالسَّبَبُ قَوْلُهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ أَنْتِ طَالِقٌ ثَابِتٌ مع الشَّرْطِ كما هو ثَابِتٌ بِدُونِهِ غير أَنَّ الشَّرْطَ أُوقِفَ حُكْمُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِهِ فَتَأْثِيرُ الشَّرْطِ إنَّمَا هو في مَنْعِ حُكْمِ الْعِلَّةِ لَا في نَفْسِ الْعِلَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو لم يَقْتَرِنْ بِهِ الشَّرْطُ ثَبَتَ حُكْمُ الْعِلَّةِ
وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عن هذا بِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يُبْطِلُ السَّبَبِيَّةَ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُ حُكْمَهَا وَالسَّبَبُ يَنْعَقِدُ وَلَكِنَّ الشَّرْطَ يَرْفَعُهُ وَيُؤَخِّرُ حُكْمَهُ فإذا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ عَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَمِنْ ثَمَّ يَقُولُونَ الصِّفَةُ وُقُوعٌ لَا إيقَاعٌ وَالشَّرْطُ عِنْدَهُمْ قَاطِعُ طَرِيقٍ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ إذْ لَا مَدْخَلَ له في التَّأْثِيرِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَإِنَّمَا هو تَوَقُّفٌ عن الْحُكْمِ وَمِنْ هذا يُعْلَمُ أنها إذَا دَخَلَتْ طَلُقَتْ لِكَوْنِهِ قال إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا لِكَوْنِهَا دَخَلَتْ قال أَصْحَابُنَا من عَلَّقَ الطَّلَاقَ فَقَدْ نَجَزَ السَّبَبَ وَالْمُعَلَّقُ إنَّمَا هو عَمَلُ السَّبَبِ لَا نَفْسُهُ وقد وَافَقَنَا على ذلك الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وقال أبو حَنِيفَةَ الشَّرْطُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ في الْحَالِ وَخَرَّجَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجْهًا في مَذْهَبِنَا من قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا في الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ إنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ وَطَلْقَتَانِ معه أو بَعْدَهُ من الْمُعَلَّقِ وَرُبَّمَا قال أبو حَنِيفَةَ الشَّرْطُ دَاخِلٌ على نَفْسِ الْعِلَّةِ لَا على حُكْمِهَا قال وَالشَّرْطُ يَحُولُ بين الْعِلَّةِ وَمَحَلِّهَا فَلَا تَصِيرُ عِلَّةً معه وَالظَّاهِرُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا مَدْخَلَ له في التَّأْثِيرِ فَكَيْفَ يَمْنَعُ الْعِلِّيَّةَ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ منها تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ أو الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ عِنْدَنَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لم يُصَادِفْ عِنْدَنَا وَقْتَ التَّعْلِيقِ مَحَلًّا قَابِلًا لِمَا يُعْرَفُ بِهِ منه وقد بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ لَا يَمْنَعُ السَّبَبِيَّةَ وإذا لم يَمْنَعْهَا انْعَقَدَتْ وَانْعِقَادُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ في غَيْرِ زَوْجَةٍ وَرَقِيقٍ غَيْرُ مَعْقُولٍ وقال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَاءً على أَصْلٍ لَمَّا مَنَعَ التَّعْلِيقُ السَّبَبِيَّةَ لم يَكُنْ مُنْعَقِدًا فلم يَكُنْ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ في غَيْرِ مَمْلُوكٍ بَلْ هو إنَّمَا هِيَ في مَمْلُوكٍ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَأَخَّرَتْ إلَى زَمَنِ الْمِلْكِ فَالْمَوْجُودُ وَقْتَ التَّعْلِيقِ لَفْظُ الْعِلَّةِ لَا نَفْسُهَا وقد قَطَعَهَا التَّعْلِيقُ تَنْبِيهٌ قد عَرَفْت حُكْمَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ الْمُسَلَّطَةِ على الْأَسْبَابِ وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يقول إنَّهَا لَا تَرْفَعُ السَّبَبِيَّةَ بَلْ تُوقِفُ حُكْمَهَا وأبو حَنِيفَةَ يقول بَلْ تَرْفَعُهَا وَلَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الصِّفَةِ وَبَالَغَ الْقَاضِي ابن سُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فقال بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في انْعِقَادِ السَّبَبِيَّةِ وزاد أَنَّ الشَّرْطَ يُلْغَى بِالْكُلِّيَّةِ لِكَوْنِهِ وَرَدَ قَطْعًا لِشَيْءٍ بَعْدَ مُضِيِّ حُكْمِهِ فقال إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ تُنَجَّزُ في الْحَالِ فَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ وَقَوْلٌ ضَعِيفٌ وَبَالَغَ ابن حَزْمٍ في مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ فقال بِهِ وزاد أَنَّ الشَّرْطَ مَنْعُ انْعِقَادِ السَّبَبِ مُطْلَقًا وَأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ لَا يَقَعُ رَأْسًا وُجِدَتْ الصِّفَةُ أو لم تُوجَدْ وَهَذَا خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ فَتَلَخَّصَ من هذا أَنَّ
الشَّرْطَ الدَّاخِلَ على السَّبَبِ قَاطِعٌ له عِنْدَ ابْنِ حَزْمٍ رَأْسًا وَيُقَابِلُهُ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ إنَّهُ فَاسِدٌ في نَفْسِهِ غَيْرُ مُعَرَّضٍ لِلسَّبَبِ في شَيْءٍ وَلَكِنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ يَقْصُرُ ذلك على ما إذَا بَدَأَ بِالسَّبَبِ قبل الشَّرْطِ وَلَا يَقُولُهُ فِيمَا إذَا عَكَسَ فقال إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَالْجُمْهُورُ لَا يُلْغُونَ الشَّرْطَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَأَشَدُّهُمْ إعْمَالًا الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قال إنَّهُ يَنْتَصِبُ في الْحَالِ سَبَبًا في ثَانِي الْحَالِ وَنَقَلُوهُ عن أبي حَنِيفَةَ فإنه قال لَا يَنْعَقِدُ في الْحَالِ وَلَا يَكُونُ مُنْهِيًا وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ في ثَانِي الْحَالِ وَمِنْهَا أَعْنِي من الْمَسَائِلِ الْمُتَرَتِّبَةِ على أَنَّهُ هل انْعَقَدَ السَّبَبُ في حَالِ التَّعْلِيقِ كما يَقُولُهُ أبو حَنِيفَةَ أو لم يَنْعَقِدْ كما هو الصَّحِيحُ عِنْدَنَا في مَوْضِعِ الشُّهُودِ أَنَّ الْغُرْمَ على شُهُودِ التَّعْلِيقِ دُونَ شُهُودِ الصِّفَةِ في الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وفي وَجْهٍ أَرَاهُ أَنَّهُ مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عليهم جميعا وقد أَشْبَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هذا الْأَصْلَ تَقْرِيرًا في الْخِلَافِيَّاتِ ثُمَّ عَادَ عنه في الْفُرُوعِ فقال وقد حَكَى قَوْلَ الْأُسْتَاذِ فِيمَنْ قال وَقَفْتُ دَارِي بَعْدَ الْمَوْتِ وَسَاعَدَهُ أَئِمَّةُ الزَّمَانِ إنَّ هذا تَعْلِيقٌ على التَّحْقِيقِ بَلْ هو زَائِدٌ عليه فإنه إيقَاعُ تَصَرُّفٍ بَعْدَ الْمَوْتِ قال الرَّافِعِيُّ كَأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو عَرَضَ الدَّارَ على الْبَيْعِ صَارَ رَاجِعًا وَأَمَّا الْمَعْنَى فقال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عن الْمَعْنَى بِالْعِلَّةِ وهو تَجَوُّزٌ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مَوْجُودٌ في الْمَعْنَى وَالْعِلَّةِ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْعِلَّةَ وَالْمَعْنَى مَوْجُودَانِ في الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وَيَفْتَرِقَانِ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَنْبَطَةٌ من الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْمَعْنَى مُسْتَنْبَطًا من الْعِلَّةِ لِتَقَدُّمِ الْمَعْنَى وَحُدُوثِ الْعِلَّةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْعِلَّةَ تَشْتَمِلُ على مَعَانٍ وَالْمَعْنَى لَا يَشْتَمِلُ على عِلَلٍ لِأَنَّ الطُّعْمَ وَالْجِنْسَ مَعْنَيَانِ وَهُمَا عِلَّةُ الرِّبَا وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَعْنَى ما يُوجَبُ بِهِ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ حتى يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ وَالْعِلَّةُ اجْتِذَابُ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ فَصَارَ الْمَعْنَى ما ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَالْعِلَّةُ ما ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْفَرْعِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْعِلَّةُ وَالْمَعْنَى في اعْتِبَارِ أَرْبَعَةِ شُرُوطٍ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُؤَثِّرًا في الْحُكْمِ وَأَنْ يَسْلَمَ الْمَعْنَى وَلَا يَرُدُّهُمَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَأَنْ لَا يُعَارِضَهُمَا من الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ أَقْوَى مِنْهُمَا وَأَنْ يَطَّرِدَ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةُ فَيُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِمَا وَيَسْلَمَانِ من نَقْضٍ
أو كَسْرٍ فَإِنْ عَارَضَهُمَا نَقْضٌ أو كَسْرٌ لِعَدَمِ الْحُكْمِ مع وُجُودِهِمَا فَسَدَ وَبَطَلَتْ الْعِلَّةُ لِأَنَّ فَسَادَ الْعِلَّةِ يَرْفَعُهَا وَفَسَادُ الْمَعْنَى لَا يَرْفَعُهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَازِمٌ وَالْعِلَّةَ طَارِئَةٌ لِأَنَّ الْكَيْلَ إذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً في الرِّبَا في الْبُرِّ لم يَبْطُلْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ بَاقِيًا في الْبُرِّ فَيَصِيرُ التَّعْلِيلُ بَاطِلًا وَالْمَعْنَى بَاقِيًا وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمَعَانِي من الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ وفي الْمَنْصُوصَةِ وَجْهَانِ وَالثَّانِي وُقُوفُ الْعِلَّةِ على حُكْمِ النَّصِّ وَعَدَمُ تَأْثِيرِهَا فِيمَا عَدَاهَا هل يَصِحُّ فيه وَجْهَانِ وَأَمَّا الْمَظِنَّةُ فَهِيَ مَعْدِنُ الشَّيْءِ قال صَاحِبُ الْمُقْتَرَحِ من غَلَطِ الطَّلَبَةِ تَسْمِيَةُ الْعِلَّةِ مَظِنَّةً قال شَارِحُهُ يُرِيدُ أَنَّهُمْ غَلِطُوا في إطْلَاقِ اسْمِ الْمَظِنَّةِ على كل عِلَّةٍ وَإِنَّمَا تُطْلَقُ في الِاصْطِلَاحِ على بَعْضِ الْعِلَلِ وَلَهَا دَلَالَتَانِ دَلَالَةٌ على الْمَعْنَى وَدَلَالَةٌ على الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَهِيَ إذَا أُضِيفَتْ إلَى الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ سُمِّيَتْ مَظِنَّةً وإذا أُضِيفَتْ إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ سُمِّيَتْ عِلَّةً له وَمَنْ عَكَسَ ذلك فَقَدْ غَلِطَ فَالسَّفَرُ مَثَلًا يَدُلُّ على الْمَشَقَّةِ وَيَدُلُّ على الرُّخْصَةِ فإذا أَضَفْتَهُ إلَى الْمَشَقَّةِ قُلْت هو مَظِنَّةٌ وإذا أَضَفْتَهُ إلَى الرُّخْصَةِ قُلْت هو عِلَّةٌ له فَالسَّفَرُ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ وَعِلَّةُ الرُّخْصَةِ وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى اصْطِلَاحٍ جَدَلِيٍّ مَسْأَلَةٌ الْمَعْلُولُ اخْتَلَفُوا في الْمَعْلُولِ ما هو فَقِيلَ هو مَحَلُّ الْعِلَّةِ وهو الْمَحْكُومُ فيه كَالْخَمْرِ لِلْإِسْكَارِ وَالْبُرِّ لِلطُّعْمِ فإن الْمَعْلُولَ من وُجِدَ فيه الْعِلَّةُ كَالْمَضْرُوبِ وَالْمَقْتُولِ وَكَالْمَرِيضِ الْمَعْلُولِ ذَاتِهِ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ عن أبي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ وَخَيَالُهُمْ في ذلك أَنَّ الْحُكْمَ مَجْلُوبُ الْعِلَّةِ وَلَا عِلَّةَ فيه إذَنْ وَإِنَّمَا جَلَبَتْهُ الْعِلَّةُ وَصَحَّ بها بَلْ الْعِلَّةُ في الْمَحْكُومِ فيه كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لِوُجُودِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فيه وَلِذَلِكَ يقول الْفُقَهَاءُ إنَّ الْعِلَّةَ جَارِيَةٌ في مَعْلُولَاتِهَا وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ في أَحْكَامِهَا وَالْجُمْهُورُ على أَنَّ الْمَعْلُولَ هو الْحُكْمُ لَا نَفْسُ الْمَحْكُومِ فيه كَالْمَدْلُولِ حُكْمُ الدَّلِيلِ وَكَذَا الْمَعْلُولُ حُكْمُ الْعِلَّةِ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ وَسُلَيْمٌ عن أبي بَكْرٍ الْقَفَّالُ وَصَحَّحَاهُ وَكَذَا إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في التَّلْخِيصِ لِلْجُمْهُورِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَّةِ في الْحُكْمِ دُونَ ذَاتِ الْمَحْكُومِ فيه وقال ابن بَرْهَانٍ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وَأَمَّا الْمُعَلَّلُ بِفَتْحِ اللَّامِ فقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ هو الْحُكْمُ في الْبُرِّ
وَالْخَمْرِ دُونَ ذَاتَيْهِمَا وَمَتَى قُلْنَا إنَّ الْبُرَّ مُعَلَّلٌ فَمَجَازٌ وَمُرَادُنَا أَنَّ حُكْمَهُ مُعَلَّلٌ وَأَمَّا الْمُعَلِّلُ بِكَسْرِهَا فقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ هو النَّاصِبُ لِلْعِلَّةِ والمعتل هو الْمُسْتَدِلُّ بِالْعِلَّةِ قال الْقَاضِي وَأَمَّا الْمُعْتَلُّ بِهِ فَهُوَ الْعِلَّةُ كما أَنَّ الْمُسْتَدَلَّ بِهِ هو الدَّلِيلُ وَأَمَّا التَّعْلِيلُ فَقِيلَ هو إلْحَاقُ الْمُعَلَّلِ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ وَقِيلَ هو الْإِخْبَارُ منه عن إلْحَاقِهِ وَالِاعْتِلَالُ وَالتَّعْلِيلُ وَاحِدٌ مَسْأَلَةٌ تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ على الْمَعْلُولِ في الْعَقْلِيَّاتِ الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ على الْمَعْلُولِ في الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَرَكَةَ الْخَاتَمِ مُتَفَرِّعَةٌ عن حَرَكَةِ الْإِصْبَعِ وَلَيْسَتْ حَرَكَةُ الْأُصْبُعِ مُتَفَرِّعَةً عن حَرَكَةِ الْخَاتَمِ وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فقال الْأَصْفَهَانِيُّ هو كَذَلِكَ لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ من جِهَةِ أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ تُفْعَلُ بِذَاتِهَا وَالشَّرْعِيَّةُ يَجْعَلُ الشَّارِعُ إيَّاهَا مُوجِبًا أو عِلَّةً على الْخِلَافِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعِلَّةَ تَتَقَدَّمُ على الْمَعْلُولِ في الرُّتْبَةِ وَاخْتَلَفُوا هل تَسْبِقُهُ في الزَّمَانِ أو تُقَارِنُهُ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ من الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفُقَهَاءِ أنها تُقَارِنُهُ وَاسْتَدَلَّ عليه بِقَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حين مَوْتِهَا وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذلك في الْعَقْلِيَّاتِ مُجْمَعٌ عليه وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ في كِتَابِ الطَّلَاقِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ فإنه قال الذي ارْتَضَاهُ الْإِمَامُ وَنُسِبَ إلَى الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ يَقَعُ مع وُجُودِهَا فإن الشَّرْطَ عِلَّةٌ وَضْعِيَّةٌ وَالطَّلَاقُ مَعْلُولٌ لها مُقَارَنٌ في الْوُجُودِ كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مع مَعْلُولِهَا انْتَهَى وقال في الرَّوْضَةِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَأَجَابَ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عن قَوْلِ الْقَائِلِ إنْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ أَنَّ الْإِكْرَامَ فِعْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مُتَأَخِّرًا عن الْمَجِيءِ فَلَزِمَ التَّرْتِيبُ ضَرُورَةً وقد يُقَالُ هذا لَا يَرِدُ لِأَنَّ الْكَلَامَ في مَعْلُولٍ يَتَرَتَّبُ على الْعِلَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ بِنَفْسِهِ وما ذَكَرُوهُ تَرْتِيبُ إنْشَاءِ فِعْلٍ على وُقُوعِ شَيْءٍ وهو يَتَأَخَّرُ عنه ضَرُورَةً أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ فإنه حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا يَفْتَقِرُ إلَى زَمَانٍ مَخْصُوصٍ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْعِلَّةِ مع الْمَعْلُولِ
وَالثَّانِي أنها معه وَلِلرَّافِعِيِّ إلَيْهِ صَغْوٌ ظَاهِرٌ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ تُقَارِنُ مَعْلُولَهَا لِكَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً بِذَاتِهَا وَالْوَضْعِيَّةُ تَسْبِقُ الْمَعْلُولَ وَالشَّرْعِيَّةُ من الْوَضْعِيَّةِ حَكَاهُ ابن الرِّفْعَةِ في كِتَابِ الطَّلَاقِ من الْمَطْلَبِ مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ من عِلَّةٍ وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ في الْكَلَامِ على السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ إجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ على أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ من عِلَّةٍ وَاسْتَشْكَلَ ذلك بِالْأَصْلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ لَا تُعَلَّلُ بِالْغَرَضِ قُلْت وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ غَيْرُ الْأَفْعَالِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ نَدَّعِي شَرْعِيَّةَ الْأَحْكَامِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَلَا نَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَذَلِكَ ليس في عِلْمِ الْكَلَامِ وَنَدَّعِي إجْمَاعَ الْأُمَّةِ وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ إجْمَاعَ الْأَنْبِيَاءِ على ذلك بِمَعْنَى أَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم بَلَّغُوا الْأَحْكَامَ على وَجْهٍ يَظْهَرُ بها غَايَةَ الظُّهُورِ مُطَابَقَتُهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ في الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ثُمَّ انْقَسَمَ الناس إلَى مُوَفَّقٍ وَغَيْرِهِ فَالْمُوَفَّقُ طَابَقَ فِعْلَهُ وَتَرَكَهُ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَفَازَ بِالسَّعَادَتَيْنِ في الدَّارَيْنِ وَالْمَخْذُولُ بِالضِّدِّ من ذلك وَالْأَمْرُ فِيهِمَا ليس إلَّا لِخَالِقِ الْعِبَادِ انْتَهَى وَهَكَذَا ذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ لم تَخُصَّ شَرِيعَتَنَا بَلْ كان مَعْهُودًا في الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعَلَيْهَا انْبَنَتْ وَوَقَفَ عليه الْفَقِيهُ الْمُقْتَرِحُ وقال لَا عِلْمَ لنا بِذَلِكَ وَقَطَعَ بِهِ الْإِبْيَارِيُّ وقال ابن الْمُنَيِّرِ ليس كما قال فإن شَرِيعَةَ عِيسَى لم يَكُنْ الْقِصَاصُ فيها مَشْرُوعًا وقد أُرِيدَ بها صَلَاحُ الْخَلْقِ إذْ ذَاكَ وما قَالَهُ في الْقِصَاصِ من شَرِيعَةِ عِيسَى بَاطِلٌ بَلْ كان مَشْرُوعًا وَإِنَّمَا الذي لم يَشْرَعْ فيها الدِّيَةُ وَيَتَلَخَّصُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا الْوَقْفُ فَإِنْ قُلْتَ إذَا كانت كُلُّ شَرِيعَةٍ انْبَنَتْ على مَصَالِحِ الْخَلْقِ إذْ ذَاكَ فَبِمَاذَا اخْتَصَّتْ شَرِيعَتُنَا حتى صَارَتْ أَفْضَلَ الشَّرَائِعِ وَأَتَمَّهَا قُلْت بِخَصَائِصَ عَدِيدَةٍ منها نِسْبَتُهَا إلَى رَسُولِهَا وهو أَفْضَلُ الرُّسُلِ وَمِنْهَا نِسْبَتُهَا إلَى كِتَابِهَا وهو أَفْضَلُ الْكُتُبِ وَمِنْهَا اسْتِجْمَاعُهَا لِمُهِمَّاتِ الْمَصَالِحِ وَتَتِمَّاتِهَا وَلَعَلَّ الشَّرَائِعَ قَبْلَهَا إنَّمَا انْبَنَتْ على الْمُهِمَّاتِ وَهَذِهِ
جَمَعَتْ الْمُهِمَّاتِ وَالتَّتِمَّاتِ وَلِهَذَا قال عليه السَّلَامُ بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا إلَى قَوْلِهِ فَكُنْتُ أنا تِلْكَ اللَّبِنَةُ يُرِيدُ عليه السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَجْرَى على يَدِهِ وَصْفَ الْكَمَالِ وَنُكْتَةَ التَّمَامِ وَيَلْزَمُ من حُصُولِ نُكْتَةِ الْكَمَالِ حُصُولُ ما قَبْلَهَا من الْأَصْلِ دُونَ الْعَكْسِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ أَحْكَامَهُ تَعَالَى غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شيئا لِغَرَضٍ وَلَا يَبْعَثُهُ شَيْءٌ على فِعْلِ شَيْءٍ بَلْ هو اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ على إيجَادِ الْمَصْلَحَةِ بِدُونِ أَسْبَابِهَا وَإِعْدَامِ الْمَضَارِّ بِدُونِ دَوَافِعِهَا وقال الْفُقَهَاءُ الْأَحْكَامُ مُعَلَّلَةٌ ولم يُخَالِفُوا أَهْلَ السُّنَّةِ بَلْ عَنَوْا بِالتَّعْلِيلِ الْحِكْمَةَ وَتَحَجَّرَ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ من الْفُقَهَاءِ وَاسِعًا فَزَعَمُوا أَنَّ تَصَرُّفَهُ تَعَالَى مُقَيَّدٌ بِالْحِكْمَةِ مُضَيَّقٌ بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وفي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ ما يَجْنَحُ إلَيْهِ وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ في إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لهم وَكَذَا نَبِيذُ التَّمْرِ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ خِلَافًا لهم وَالْحَقُّ أَنَّ رِعَايَةَ الْحِكْمَةِ لِأَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ جَائِزٌ وَاقِعٌ ولم يُنْكِرْهُ أَحَدٌ وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ الْعِلَّةَ وَالْغَرَضَ وَالتَّحْسِينَ الْعَقْلِيَّ وَرِعَايَةَ الْأَصْلَحِ وَالْفَرْقُ بين هذه وَرِعَايَةِ الْحِكْمَةِ وَاضِحٌ وَلِخَفَاءِ الْغَرَضِ وَقَعَ الْخَبْطُ وإذا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الْحِكْمَةِ في أَمْرٍ كَوْنِيٍّ أو دِينِيٍّ أو شَرْعِيٍّ فَانْظُرْ إلَى ما يَتَرَتَّبُ عليه من الْغَايَاتِ في جُزْئِيَّاتِ الْكَوْنِيَّاتِ وَالدِّينِيَّاتِ مُتَعَرِّفًا بها من النَّقْلِ الصَّحِيحِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى لِنُرِيَهُ من آيَاتِنَا في حِكْمَةِ الْإِسْرَاءِ وَبِمُلَاحَظَةِ هذا الْقَانُونِ يَتَّضِحُ كَثِيرٌ من الْإِشْكَالِ وَيَطَّلِعُ على لُطْفِ ذِي الْجَلَالِ وَقَرَّرَ ابن رَحَّالٍ في شَرْحِ الْمُقْتَرِحِ الْإِجْمَالَ بِطَرِيقٍ آخَرَ فقال قال أَصْحَابُنَا الدَّلِيلُ على أَنَّ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا شَرْعِيَّةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ على ذلك إمَّا على جِهَةِ اللُّطْفِ وَالْفَضْلِ على أَصْلِنَا أو على جِهَةِ الْوُجُوبِ على أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَنَحْنُ نَقُولُ هِيَ وَإِنْ كانت مُعْتَبَرَةً في الشَّرْعِ لَكِنَّهُ ليس بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ وَلَا لِأَنَّ خُلُوَّ
الْأَحْكَامِ من الْمَصَالِحِ يَمْتَنِعُ في الْعَقْلِ كما يقول الْمُعْتَزِلَةُ وَإِنَّمَا نَقُولُ رِعَايَةُ هذه الْمَصْلَحَةِ أَمْرٌ وَاقِعٌ في الشَّرْعِ وكان يَجُوزُ في الْعَقْلِ أَنْ لَا يَقَعَ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ ثُمَّ الْقَائِلُ بِالْوُجُوبِ ما يُرِيدُ ما هو الْمَفْهُومُ من الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ أَنَّ نَقِيضَهُ يَمْتَنِعُ على الْبَارِي كما يَجِبُ وَصْفُهُ بِالْعِلْمِ لِأَنَّ نَقِيضَهُ وهو الْجَهْلُ مُمْتَنِعٌ وَعَلَى هذه الطَّرِيقَةِ يَنْزِلُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اُشْتُهِرَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ وَاشْتُهِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ التَّعْلِيلُ وَأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ وَيَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ من الناس أنها الْبَاعِثُ لِلشَّرْعِ فَيَتَنَاقَضُ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ وَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا تَنَاقُضَ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْعِلَّةَ بَاعِثَةٌ على فِعْلِ الْمُكَلَّفِ مِثَالُهُ حِفْظُ النُّفُوسِ فإنه عِلَّةٌ بَاعِثَةٌ على الْقِصَاصِ الذي هو فِعْلُ الْمُكَلَّفِ الْمَحْكُومُ بِهِ من جِهَةِ الشَّرْعِ فَحُكْمُ الشَّرْعِ لَا عِلَّةَ له وَلَا بَاعِثَ عليه لِأَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ النُّفُوسَ بِغَيْرِ ذلك وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ أَمْرُهُ بِحِفْظِ النُّفُوسِ وهو مَقْصُودٌ في نَفْسِهِ وَبِالْقِصَاصِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ حِفْظُ النُّفُوسِ قَصْدَ الْمَقَاصِدِ وَالْقِصَاصُ قَصْدَ الْوَسَائِلِ وَأَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّ الْقِصَاصَ سَبَبٌ لِلْحِفْظِ فإذا قَصَدَ بِأَدَاءِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ من السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَوَلِيِّ الدَّمِ الْقِصَاصَ وَانْقَادَ إلَيْهِ الْقَاتِلُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَسِيلَةً إلَى حِفْظِ النُّفُوسِ كان له أَجْرَانِ أَجْرٌ على الْقِصَاصِ وَأَجْرٌ على حِفْظِ النُّفُوسِ وَكِلَاهُمَا مَأْجُورٌ بِهِ من جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَحَدُهُمَا بِقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ وَالثَّانِي إمَّا بِالِاسْتِنْبَاطِ أو بِالْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ وَهَكَذَا يُسْتَعْمَلُ ذلك في جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ هُنَا نُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلِلشَّارِعِ فيه مَقْصُودَانِ أَحَدُهُمَا ذلك الْمَعْنَى وَالثَّانِي الْفِعْلُ الذي هو طَرِيقٌ إلَيْهِ وَأَمْرُ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَفْعَلَهُ قَاصِدًا بِهِ ذلك الْمَعْنَى فَالْمَعْنَى بَاعِثٌ له لَا لِلشَّارِعِ وَمِنْ هُنَا تَعْرِفُ أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ فَاتَهُمْ نِصْفُ التَّفَقُّهِ وَنِصْفُ الْأَجْرِ وَتَعْرِفُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى أَكْثَرُ أَجْرًا من التَّعَبُّدِيِّ نعم التَّعَبُّدِيُّ فيه مَعْنًى آخَرُ وهو أَنَّ النُّفُوسَ لَا حَظَّ لها فيه فَقَدْ يَكُونُ الْأَجْرُ الْوَاحِدُ يَعْدِلُ الْأَجْرَيْنِ اللَّذَيْنِ في الْحُكْمِ غَيْرِ التَّعَبُّدِيِّ وَتَعْرِفُ بِهِ أَيْضًا أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ سَوَاءٌ فيها الْمُسْتَنْبَطَةُ وَالْمَنْصُوصُ عليه فَائِدَةٌ بِعَيْنِ كل مَسْأَلَةٍ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ حُكْمُ اللَّهِ بِالْقِصَاصِ وَنَفْسُ الْقِصَاصِ وَحِفْظُ
النُّفُوسِ وهو بَاعِثٌ على الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ وَكَذَا حِفْظُ الْمَالِ بِقَطْعِ السَّرِقَةِ وَحِفْظُ الْعَقْلِ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وكان بَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ في تَفْسِيرِ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ الْأَحْكَامَ وَقَعَتْ على وَفْقِ الْمَصَالِحِ لَا أنها عِلَّةٌ لها وَهَذَا وَحْدَهُ لَا يَنْشَرِحُ له الصَّدْرُ انْتَهَى نعم حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ مَرْدُودَةٌ فإن أَبَا الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ من قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا اخْتَارَ في كِتَابِهِ أَنَّ الْأَحْكَامَ جَمِيعَهَا إنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْعِلَّةِ إلَّا أَنَّ منها ما يَقِفُ على مَعْنَاهُ وَمِنْهَا ما لَا يَقِفُ وَلَيْسَ إذَا خَفِيَتْ عَلَيْنَا الْعِلَّةُ أَنْ يَدُلَّ على عَدَمِهَا فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا السَّعْيَ وَالِاضْطِبَاعَ لِعِلَّةٍ سَبَقَتْ في غَيْرِنَا ثُمَّ قال وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ ليس كُلُّ الْأَحْكَامِ تُعَلَّلُ بَلْ منها ما هو لِعِلَّةٍ وَمِنْهَا ما ليس له عِلَّةٌ قال وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْوَاضِعَ حَكِيمٌ وَحَكَى ابن الصَّلَاحِ في فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ عن كِتَابِ الْعِلَلِ في الْأَحْكَامِ لِلْقَاسِمِ بن مُحَمَّدٍ الزَّجَّاجِ تِلْمِيذِ أبي الطَّيِّبِ بن سَلَمَةَ من أَصْحَابِنَا اخْتَلَفَ الْقَيَّاسُونَ في الْعِلَلِ فقال قَوْمٌ منهم بِنَفْيِ الْعِلَلِ وَزَعَمُوا أَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ على ما يَغْلِبُ في النَّفْسِ لَا أَنَّ ثَمَّ له عِلَّةً تُوجِبُ الْجَمْعَ بين الشَّيْئَيْنِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ لم يَنْقُلْ لهم عن أَحَدٍ من الصَّحَابَةِ الْعِلَلَ وقد حُكِيَ عن جَمِيعِهِمْ الْقِيَاسُ فَقُلْنَا بِالتَّشْبِيهِ إذْ هو مَنْقُولٌ عَنْهُمْ ولم يُعَلَّلْ بِالْعِلَلِ قال وَاخْتَلَفُوا في أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ لَا بُدَّ له من عِلَّةٍ فقال قَوْمٌ ما أَعْلَمَنَا اللَّهُ عِلَّتَهُ قُلْنَا إنَّهُ لِعِلَّةٍ وما لم يُعْلِمْنَا عِلَّتَهُ لم نَقْطَعْ أَنَّهُ لِعِلَّةٍ بَلْ جَوَّزْنَا فيه أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ قال وَهَذَا عِنْدِي هو الْأَصَحُّ انْتَهَى وقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ في الْأَرْبَعِينَ اتَّفَقَتْ الْمُعْتَزِلَةُ على أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وهو اخْتِيَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْفُقَهَاءِ وهو عِنْدَنَا بَاطِلٌ إلَى آخِرِهِ وقال إلْكِيَا فَصْلٌ في أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ هل وُضِعَتْ لِعِلَلٍ حُكْمِيَّةٍ أَمْ لَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا لَا اسْتِصْلَاحَ فيه وَهَذَا قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عنه وَنَحْنُ وَإِنْ جَوَّزْنَا أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ وَلَكِنَّ الذي عَرَفْنَاهُ من الشَّرَائِعِ أنها وُضِعَتْ على الِاسْتِصْلَاحِ دَلَّتْ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ على مُلَاءَمَةِ الشَّرْعِ لِلْعِبَادَاتِ الْجِبِلِّيَّةِ وَالسِّيَاسَاتِ الْفَاضِلَةِ وَأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عن مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ قال اللَّهُ تَعَالَى رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللَّهِ حُجَّةٌ
وقال وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ من يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ لقد أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ على أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا تَعَبَّدَهُمْ بِالشَّرَائِعِ لِاسْتِصْلَاحِ الْعِبَادِ وَهَذَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَدُلُّ على أَنَّ عِنْدَ وُقُوعِ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ يَقَعُ الْآخَرُ على سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ إذَا لم يَكُنْ الْمُخْتَارُ مِمَّنْ ثَبَتَتْ حِكْمَتُهُ فإذا صَحَّ ذلك السَّمْعُ فَأَحَدُهَا الْقِيَاسُ على ما سَنُبَيِّنُهُ ثُمَّ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى ما اطَّلَعْنَا عليه وَعَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فيه بِأَدِلَّةٍ مَوْضُوعَةٍ من النَّصِّ تَارَةً وَمِنْ مَفْهُومٍ وَتَنْبِيهٍ وَسَيْرٍ وَإِيجَازٍ وَمِنْهَا ما لَا يُطَّلَعُ فيه على وَجْهِ الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ وَهِيَ من أَلْطَافِ اللَّهِ التي لَا يُطَّلَعُ عليها فَمِنْ هَاهُنَا تَخْصِيصُ التَّكَالِيفِ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَتَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ بِالنَّدْبِ وَبَعْضِهَا بِالْوُجُوبِ وَهَذِهِ الْمَصَالِحُ بِحَسَبِ الْمَعْلُومِ من حَالِ الْمُتَعَبَّدِينَ بِهِ وَاحِدًا اخْتَلَفَ الْأَفْعَالُ من اللَّهِ تَعَالَى في النَّقْلِ من شَرِيعَةٍ إلَى أُخْرَى وقد بَنَى اللَّهُ أُمُورَ عِبَادِهِ على أَنْ عَرَّفَهُمْ مَعَانِيَ دَلَائِلِهَا وَجُمَلِهَا وَغَيَّبَ عَنْهُمْ مَعَانِيَ دَقَائِقِهَا وَتَفَاصِيلِهَا كما إذَا رَأَيْنَا رَجُلَيْنِ عَلِيلَيْنِ تَفَاوَتَتْ عِلَلُهُمَا عَرَفْنَا الْوَجْهَ في افْتِرَاقِهِمَا وَلَوْ سَأَلْنَا عن تَعْدَادِ الِاخْتِلَافِ جَهِلْنَا وَهَذَا فَنٌّ يَهُونُ بَسْطُهُ إذَا عَرَفْت هذا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ اُحْكُمْ فَكُلُّ ما حَكَمْتَ هو الصَّوَابُ أو يَأْمُرُ عَامَّةَ الْخَلْقِ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا عَنَّ لهم أو بَعْضَ الْعَالِمِ من غَيْرِ اجْتِهَادٍ فيه خِلَافٌ سَيَأْتِي فَقِيلَ لِلَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِذَلِكَ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ فإن هذه الْأَحْكَامَ إذَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ الْفَسَادَ وَالصَّلَاحَ جميعا وَلَيْسَ اخْتِيَارُهُ عَلَمًا على الصَّوَابِ وَبِمِثْلِهِ لم يَجُزْ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِتَصْدِيقِ نَبِيٍّ من غَيْرِ أَمَارَةٍ فَكَمَا يَجُوزُ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْنَا في الْخَبَرِ على اتِّفَاقِ الصِّدْقِ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ في الْمَصْلَحَةِ قال وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ أَنَّ الْأَمَارَةَ على التَّعَبُّدِ بِهِ مَقْطُوعٌ بها وَالظَّنُّ مَبْنِيٌّ على أَمَارَةٍ تُفْضِي إلَى الظَّنِّ قَطْعًا وَهُنَا بِخِلَافِهِ إذْ لَا أَمَارَةَ إذَا عَلِمْتَ ذلك فما ذَكَرْنَاهُ من اشْتِمَالِ كُلِّيَّاتِ الشَّرْعِ وَجُزْئِيَّاتِهِ على الْمَصَالِحِ وَانْقِسَامِهَا إلَى ما يَلُوحُ لِلْعِبَادِ وَإِلَى ما يَخْفَى عليهم لَا خِلَافَ فيه وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا وَرَاءَ ذلك في الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ وَأَنَّهُ من مَدَارِك الْأَحْكَامِ أو من الْقَوْلِ بِالشَّبَهِ الْمَحْضِ وَاَلَّذِينَ رَدُّوا الْقِيَاسَ اخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ لَا يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ أَصْلًا وَقِيلَ يَجُوزُ وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ قال وَيَمْتَنِعُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ في جَمِيعِ الْحَوَادِثِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ من أُصُولٍ تُعَلَّلُ وَتُحْمَلُ الْفُرُوعُ عليها وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ مَظْنُونٌ من حَيْثُ إنَّ جِهَاتِ الْمَصَالِحِ مُغَيَّبَةٌ
عَنَّا فَلَا وُصُولَ إلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ من بَيْنِ الْمَعَانِي على وَجْهٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ الْأَصْلَحُ دُونَ ما سِوَاهُ قَطْعًا وَلِأَجْلِهِ تَفَاوَتَتْ الْآرَاءُ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْأُصُولَ السَّمْعِيَّةَ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَدُّ الْفَرْعِ إلَى الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَصَّلُ إلَى أَحْكَامِهَا بِالْأَمَارَاتِ التي يَتَوَصَّلُ بِمِثْلِهَا إلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا لِأَنَّ لها أَمَارَاتٍ مَعْلُومَةً بِالْعَادَةِ انْتَهَى مَسْأَلَةٌ وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ إمَّا جَوَازًا أو وُجُوبًا على الْخِلَافِ انْبَنَى على ذلك أَنَّهُ لَا يَنْصِبُ أَمَارَةً على الْحُكْمِ إلَّا بِمُنَاسَبَةٍ أو مَظِنَّةِ مَعْنًى يُنَاسِبُ وَإِلَّا لَزِمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا لِمَصْلَحَةٍ وهو مُمْتَنِعٌ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يَكُونُ في غَيْرِ الْمُنَاسِبِ مَصْلَحَةٌ وَأَقَرَّ التَّعْرِيفَ وَالْعَلَامَةَ وَصَارَ له طَرِيقَانِ ظُهُورُ الْمُنَاسِبِ وَمَحْضُ الْعَلَامَةِ قُلْنَا لَا يَجُوزُ عن الْمُنَاسَبَةِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا على أَنَّهُ سَيَأْتِي في فَصْلِ الطَّرْدِ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ظُهُورُ الْمُنَاسَبَةِ مَسْأَلَةٌ قال بَعْضُهُمْ الْأَحْكَامُ الضِّمْنِيَّةُ لَا تُعَلَّلُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا سَافَرَ إلَى بَلَدٍ لَزِمَ منه نَقْلُ الْأَقْدَامِ وَقَطْعُ الْمَسَافَاتِ ثُمَّ إنَّهُ لَا يُعَلَّلُ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِبَالِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ في حَقِّ الْإِنْسَانِ فَأَمَّا في أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَلَا لِأَنَّ الشَّارِعَ لِلْأَحْكَامِ لَا تَخْفَى عليه خَافِيَةٌ فَتَحَقُّقُ شَرَائِطِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَصَالِحِ مُضَافٌ وَمُعَلَّلٌ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِضَافَةِ ليس إلَّا الْعِلْمُ وَالْخُطُورُ بِالْبَالِ مَسْأَلَةٌ هل الْأَصْلُ في الْأُصُولِ أَنْ تَكُونَ غير مُعَلَّلَةٍ ما لم يَقُمْ الدَّلِيلُ على كَوْنِهَا مُعَلَّلَةً أو الْأَصْلُ أنها مُعَلَّلَةٌ إلَّا لِدَلِيلٍ مَانِعٍ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الدَّبُوسِيُّ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ قَالَا وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أنها مُعَلَّلَةٌ في الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِجَوَازِ التَّعْلِيلِ في كل أَصْلٍ من دَلِيلٍ يُمَيِّزُ قَالَا وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مع هذا من قِيَامِ دَلِيلٍ يَدُلُّ على كَوْنِهِ مُعَلَّلًا في الْحَالِ مَسْأَلَةٌ قال الدَّبُوسِيُّ حُكْمُ الْعِلَّةِ عِنْدَنَا تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ الْمُعَلَّلِ إلَى فَرْعٍ لَا نَصَّ فيه
وَلَا إجْمَاعَ وَلَا دَلِيلَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُكْمُ الْعِلَّةِ تَوَقُّفُ حُكْمِ النَّصِّ بِالْوَصْفِ الذي تَرَتَّبَ عليه كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بها عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ وَالثَّانِيَةُ امْتِنَاعُ تَعَدِّيهَا إلَى فَرْعٍ مَنْصُوصٍ عليه عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ لَا قلت وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالْأَصْلِ أو الْعِلَّةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ ثُبُوتُ حُكْمِ الْأَصْلِ في الْفَرْعِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وفي الْحَقِيقَةِ ثُبُوتُ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ بها ثُمَّ إنْ وُجِدَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ في مَوْضُوعٍ آخَرَ ثَبَتَ مِثْلُ ذلك الْحُكْمِ في ذلك الْمَوْضِعِ وَإِلَّا فَلَا يَثْبُتُ قال وَهَذَا هو الْخِلَافُ في أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ هل تَصِحُّ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا تَصِحُّ وَعِنْدَهُمْ لَا ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ كما جَرَى الِاخْتِلَافُ في الْحُكْمِ فَكَذَا في عِلَّةِ الْحُكْمِ كَاخْتِلَافِهِمْ في الْإِسْلَامِ هل هو عِلَّةُ الْعِصْمَةِ أَمْ لَا وَكَذَا الِاسْتِيلَاءُ على مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَنَا عِلَّةٌ لِلضَّمَانِ وَعِنْدَهُمْ ليس بِعِلَّةٍ مَسْأَلَةٌ الْمُحَقِّقُونَ من أَصْحَابِنَا كما قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ على أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ من الدَّلِيلِ على صِحَّتِهَا لِأَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ كَالْحُكْمِ فَكَمَا لَا بُدَّ من الدَّلِيلِ على الْحُكْمِ فَكَذَا الْعِلَّةُ قالوا وإذا ثَبَتَ مُتَّفَقٌ عليه وَادَّعَى أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِمَعْنًى أَبْدَاهُ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِتَصْحِيحِ دَعْوَاهُ في الْأَصْلِ وقد ذَكَرَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ لَا تُسَوَّغُ هذه الْمُطَالَبَةُ لَكِنْ على الْمُعْتَرِضِ أَنْ يُبْطِلَ مَعْنَاهُ الذي ذَكَرَهُ إنْ كان عِنْدَهُ مُبْطِلٌ له وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّاهُ من فَسَادِ الطَّرْدِ وَسَتَأْتِي مَسَالِكُ الْعِلَّةِ الدَّالَّةُ على صِحَّتِهَا وقال ابن فُورَكٍ من أَصْحَابِنَا من قال نَعْلَمُ صِحَّةَ الْعِلَّةِ بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا وَلَا يَرْفَعُهَا أَصْلٌ منهم من قال يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَتَيْنِ يُعْلَمُ بِأَحَدِهِمَا أَنَّهُ عِلَّةٌ وَبِالْآخَرِ أنها صَحِيحَةٌ وَمِنْهُمْ من قال إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ عِلَّةٌ لم يَحْتَجْ إلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ الْفَائِدَةَ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الْجَرَيَانِ هل هو دَلَالَةُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ أَمْ لَا على وَجْهَيْنِ وَمَعْنَى الْجَرَيَانِ هو اسْتِمْرَارُهَا على الْأُصُولِ حتى لَا يَدْفَعَهَا أَصْلٌ ثَابِتٌ مَسْأَلَةٌ في أَنَّ الْعِلَّةَ هل هِيَ دَلِيلٌ على اسْمِ الْفَرْعِ ثُمَّ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ هَكَذَا تَرْجَمَ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ هذه الْمَسْأَلَةَ وَحَكَى عن أبي الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
قال إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ الْأَسْمَاءُ في الْفُرُوعِ ثُمَّ تُعَلَّقُ عليها الْأَحْكَامُ وكان يَتَوَصَّلُ إلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَرِكَةٌ ثُمَّ يَجْعَلُهَا مَوْرُوثَةً وَأَنَّ وَطْءَ الْبَهِيمَةِ زِنًى ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كان يَقِيسُ النَّبِيذَ على الْخَمْرِ في تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا لِاشْتِرَاكِهِمَا في الشِّدَّةِ ثُمَّ يُحَرِّمُهُ بِالْآيَةِ وَأَكْثَرُ الْقَيَّاسِينَ على أَنَّ الْعِلَلَ ثَبَتَتْ بها الْأَحْكَامُ فَإِنْ كان ابن سُرَيْجٍ يَمْنَعُ من الْأَحْكَامِ في الْفُرُوعِ بِالْعِلَلِ فَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَسَائِلِ إنَّمَا تُعَلَّلُ فيها أَحْكَامُهَا دُونَ أَسْمَائِهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعِلَلَ قد يَتَوَصَّلُ بها إلَى الْأَسْمَاءِ في بَعْضِ الْمَوَانِعِ ولم يَمْنَعْ من أَنْ يَتَوَصَّلَ بها إلَى الْأَحْكَامِ فَإِنْ أَرَادَ بِالْعِلَلِ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ وَبِالْأَسْمَاءِ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللُّغَةَ أَسْبَقُ من الشَّرْعِ وَلِتَقَدُّمِ اللُّغَةِ خَاطَبَنَا اللَّهُ عز وجل بها فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ أَسْمَائِهَا بِأُمُورٍ طَارِئَةٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ قد ثَبَتَتْ في اللَّهِ بِقِيَاسٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ نَحْوُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ سَمَّوْا الْجِسْمَ الذي حَضَرَهُمْ بِأَنَّهُ أَبْيَضُ لِوُجُودِ الْبَيَاضِ قِسْنَا ما غَابَ عَنْهُمْ من الْأَجْسَامِ الْبِيضِ فَلَيْسَ بِبَعِيدٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ من الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ ما يَثْبُتُ بِالْعِلَلِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَيْضًا انْتَهَى وقد سَبَقَتْ هذه الْمَسْأَلَةُ في الْقِيَاسِ في اللُّغَةِ مَسْأَلَةٌ إذَا حَرُمَ الشَّيْءُ لِعِلَّةٍ فَارْتَفَعَتْ هل وَجَبَ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ قال ابن فُورَكٍ الذي نَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ وَيَبْقَى بَعْدَ ذلك مَوْقُوفًا على الدَّلِيلِ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِلشِّدَّةِ ثُمَّ تَحْرُمُ لِلنَّجَاسَةِ وَكَمِلْكِ الْغَيْرِ مع عَدَمِ الْإِذْنِ ثُمَّ هِيَ على ضَرْبَيْنِ عِلَلٌ مُطْلِقَةٌ لِلْحُكْمِ وَعِلَلٌ مُقَيِّدَةٌ فَالْمُطْلِقَةُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ عِلَّةُ الْقَتْلِ الْقَتْلُ وَشَرْطُهَا أَنْ يَرْتَفِعَ الْحُكْمُ بِارْتِفَاعِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ قَتْلٌ إلَّا بِقَتْلٍ وَمِنْهُ مُنَاقَضَةُ الشَّافِعِيِّ لِمُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ في الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ في الْمَبْتُوتَةِ لِأَنَّ اعْتِلَالَهُ وَقَعَ مُطْلِقًا بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِ مَائِهِ في رَحِمِ أُخْتَيْنِ فقال إذَا خَلَا بها وَطَلَّقَهَا لم يُؤَدِّ إلَى ذلك فَأَجِزْهُ فقال بَعْضُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ ذلك لِعِلَّةٍ أُخْرَى قُلْنَا إنَّ الِاعْتِلَالَ وَقَعَ مُطْلِقًا فَلِذَلِكَ كان كَلَامُ الشَّافِعِيِّ نَقْضًا لِمَا قال فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ عِلَّةُ قَتْلِ الْقَاتِلِ كَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ غير الْقَاتِلِ كما تَقُولُ أَدْرَكْته لِقُرْبِهِ وَارْتِفَاعِ الْمَانِعِ لم يُدْرِكْهُ قُلْنَا وَإِنْ لم يُوجَدْ ذلك الْمَعْنَى من طَرِيقٍ آخَرَ فَلَا يَكُونُ نَقْضًا وَإِنَّمَا ذلك لِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ
فَصْلٌ في ذِكْرِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا في الْحُكْمِ فَإِنْ لم يُؤَثِّرْ فيه لم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فإن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَرْجُمْ مَاعِزًا لِاسْمِهِ وَلَا لِهَيْئَةِ جِسْمِهِ وَلَكِنَّ الزِّنَى عِلَّةُ الرَّجْمِ وَكَذَا الطُّعْمُ عِلَّةُ الرِّبَا دُونَ الزَّرْعِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَمُرَادُهُمَا بِالتَّأْثِيرِ الْمُنَاسَبَةُ وَأَحْسَنُ من عِبَارَتِهِمَا قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهَا مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بها فَإِنْ لم يَجُزْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بها فَإِنْ لم يَجُزْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ على وَصْفٍ لم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذلك الْوَصْفُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَكُونُ عِلَّةً لِلتَّخْفِيفِ وَأَبْطَلْنَا بِذَلِكَ قَوْلَ من جَعَلَ الرِّدَّةَ عِلَّةً لِإِسْقَاطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَإِبَاحَةَ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ في السَّفَرِ الذي يَكُونُ مَعْصِيَةً وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ التَّعْلِيلَ بِمُجَرَّدِ الْأَمَارَةِ الطَّرْدِيَّةِ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ على حُكْمٍ يَبْعَثُ الْمُكَلَّفَ على الِامْتِثَالِ وَيَصِحُّ شَاهِدًا لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بها على ما تَقَدَّمَ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ مَعْنَى كَوْنِ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرَةً في الْحُكْمِ هو الْحُكْمُ بِأَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّ الْحُكْمَ حَاصِلٌ عِنْدَ ثُبُوتِهَا لِأَجْلِهَا دُونَ شَيْءٍ سِوَاهَا وَالْمُرَادُ من تَأْثِيرِهَا في الْحُكْمِ دُونَ ما عَدَاهَا أنها جُعِلَتْ عَلَامَةً على ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيمَا هِيَ فيه وَلَيْسَ الْمُرَادُ أنها مُوجِبَةٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ التي يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُهَا مع انْتِفَاءِ الْحُكْمِ أو ثُبُوتُ حُكْمِهَا مع انْتِقَائِهَا وَقِيلَ مَعْنَاهُ إنَّهَا جَالِبَةٌ لِلْحُكْمِ وَمُقْتَضِيَةٌ له وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هذه الْأَلْفَاظِ أَجْمَعَ أنها عَلَامَةٌ على ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا يُوجِبُهُ في حَقِّ من غَلَبَ على ظَنِّهِ كَوْنُهَا مُؤَثِّرَةً فيه وفي أَيِّ مَوْضِعٍ يُعْتَبَرُ تَأْثِيرُ الْعِلَّةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ في اللُّمَعِ أَحَدُهُمَا في الْأَصْلِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تُنْزَعُ من الْأَصْلِ أَوَّلًا وَالثَّانِي أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يُؤَثِّرَ في مَوْضِعٍ من الْأُصُولِ قال وهو اخْتِيَارُ شَيْخِنَا
الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو الصَّحِيحُ عِنْدِي وَحَكَى شَارِحُهُ فيها ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا تَأْثِيرُهُ في الْأَصْلِ قال وهو قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ ابن الصَّبَّاغِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ وَالثَّانِي اشْتَرَطَ تَأْثِيرَهَا في الْفَرْعِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَالْأَصْلُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَكْفِي في مَوْضِعٍ من الْأُصُولِ سَوَاءٌ الْمَقِيسُ عليه وَغَيْرُهُ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا في مَوْضِعٍ يَدُلُّ على صِحَّتِهَا الثَّانِي أَنْ يَكُونَ وَصْفًا ضَابِطًا لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا لِحِكْمَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ لَا حِكْمَةٍ مُجَرَّدَةٍ لِخَفَائِهَا فَلَا يَظْهَرُ إلْحَاقُ غَيْرِهَا بها وَهَلْ يَجُوزُ كَوْنُهَا نَفْسَ الْحِكْمَةِ وَهِيَ الْحَاجَةُ إلَى جَلْبِ مَصْلَحَةٍ أو دَفْعِ مَفْسَدَةٍ قال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ يَجُوزُ وقال غَيْرُهُ يَمْتَنِعُ وَاخْتَارَهُ في الْمَعَالِمِ وَفَصَّلَ آخَرُونَ فَقَالُوا إنْ كانت الْحِكْمَةُ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً بِنَفْسِهَا جَازَ التَّعْلِيلُ بها لِمُسَاوَاةِ ظُهُورِ الْوَصْفِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَاتَّفَقُوا على جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَمِلِ عليها أَيْ مَظِنَّتِهَا بَدَلًا عنها ما لم يُعَارِضْهُ قِيَاسٌ وَالْمَنْقُولُ عن أبي حَنِيفَةَ الْمَنْعُ وقال الْحِكْمَةُ من الْأُمُورِ الْغَامِضَةِ وَشَأْنُ الشَّرْعِ فِيمَا هو كَذَلِكَ قَطْعُ النَّظَرِ عِنْدَ تَقْدِيرِ الْحُكْمِ عن دَلِيلِهِ وَمَظِنَّتِهِ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ الْجَوَازُ وَأَنَّ اعْتِبَارَهَا هو الْأَصْلُ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْمَظِنَّةُ لِلتَّسْهِيلِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَنْبَنِي خِلَافُهُمَا في الْمُصَابَةِ بِالزِّنَى هل تُعْطَى حُكْمَ الْأَبْكَارِ أو الثَّيِّبَاتِ في السُّكُوتِ فَإِنْ قَطَعَ بِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ في بَعْضِ الصُّوَرِ كَاسْتِبْرَاءِ الصَّغِيرَةِ فإنه شُرِعَ لِتَبَيُّنِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وهو مَفْقُودٌ في الصَّغِيرَةِ فقال الْغَزَالِيُّ وَتِلْمِيذُهُ محمد بن يحيى ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالْمَظِنَّةِ فإن الْحُكْمَ قد صَارَ مُتَعَلِّقًا بها وَاَلَّذِي عليه الْجَدَلِيُّونَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ فَإِنَّهَا أَصْلُ الْعِلَّةِ وقال ابن رَحَّالٍ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ مُمْتَنِعٌ عِنْدَ من يَمْنَعُ الْقِيَاسَ في الْأَسْبَابِ وَجَائِزٌ عِنْدَ من جَوَّزَهُ فَرْعَانِ فِيهِمَا نَظَرٌ الْأَوَّلُ هل الْعِلَّةُ حَقِيقَةٌ في الْوَصْفِ الْمُتَرْجَمِ عن الْحِكْمَةِ مَجَازٌ في الْحِكْمَةِ أو
الْعَكْسُ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ اعْتِبَارًا وَالْمُلَاحَظُ بِالْحَقِيقَةِ إنَّمَا هو مَعْنَاهَا وَتَوَسُّطُ الْوَصْفِ مَقْصُودٌ لِأَجْلِهَا الثَّانِي إذَا وُجِدَ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحِكْمَةُ نَهَضَتْ بِشَرْطِهَا وَسَارَتْ الْعِلَّةُ في تَأْثِيرِ التَّعْدِيَةِ بِإِلْحَاقِ فُرُوعٍ تُنْشِئُ أَحْكَامًا من الْأَصْلِ فَالْأَوْلَى في النَّظَرِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْوَصْفِ أو الْحِكْمَةِ فيه احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا الْوَصْفُ لِاتِّفَاقِهِمْ على التَّعْلِيلِ بِهِ وَاخْتِلَافِهِمْ في الثَّانِي وَالثَّانِي الْحِكْمَةُ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ وَالْوَصْفُ وَسِيلَةٌ إلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِهَا الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً وَإِلَّا لم يُمْكِنْ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بها في الْفَرْعِ على تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَخْفَى منه أو مُسَاوِيَةً له في الْخَفَاءِ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ في جَدَلِهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ في الْأَصْلِ أَظْهَرَ منها في الْفَرْعِ وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ الْقِيَاسُ في مَعْنَى الْأَصْلِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَ حَالِهِمَا في الْمَحَلَّيْنِ وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عليه بِدَلِيلٍ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ نَصْبُهُ أَمَارَةً لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّعْرِيفِ يَحْصُلُ منه كما يَحْصُلُ من غَيْرِهِ سَوَاءٌ كان خَفِيًّا أو لَا وقد قال تَعَالَى إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ وفي الحديث إنَّمَا الْبَيْعُ عن تَرَاضٍ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الرِّضَا هو الْمُعْتَبَرُ في الْعُقُودِ وَإِنْ كان خَفِيًّا عِنْدَهُمْ وَكَذَلِكَ الْعَمْدِيَّةُ عِلَّةٌ في الْقِصَاصِ وهو كَثِيرٌ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْخَفَاءَ بِمَا لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عليه وَمَثَّلُوهُ بِالرِّضَا في الْعُقُودِ وَالْعَمْدِيَّةِ في الْقِصَاصِ وَاسْتَشْكَلَ لِأَنَّهُمْ إنْ عَنَوْا بِكَوْنِهِ لَا يُطَّلَعُ عليه أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَّا الْوُقُوفُ عليه لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ مِمَّا يَدُلُّ عليه فَهَذَا لَا يَصِحُّ نَصْبُهُ أَمَارَةً بِنَفْسِهِ وَلَا مَظِنَّةَ وَإِنْ عَنَوْا بِهِ أَنَّهُ لَا يُطَّلَعُ عليه بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُوقَفَ عليه بِاعْتِبَارِ ما يَدُلُّ عليه فَيَلْزَمُهُمْ على هذا أَنْ يَكُونَ الْإِشْكَالُ خَفِيًّا لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عليه بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عليه بِآثَارِهِ قالوا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إذْ يَعْسُرُ تَعْيِينُ قَدْرٍ في الْأَصْلِ هو ثَابِتٌ في الْفَرْعِ وَأَيْضًا إذَا فَعَلَ ذلك انْدَفَعَتْ النُّصُوصُ إذْ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ما في مَحَلِّهَا من الْحُكْمِ غير قَاصِرٍ عن ذلك الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ قال ابن النَّفِيسِ في الْإِيضَاحِ إنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كان كَذَلِكَ وَلَكِنْ يَرِدُ حِينَئِذٍ
مَنْعٌ يَعْسُرُ دَفْعُهُ وهو أَنَّهُ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ هذا الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ قَدْرٌ يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ فإن التَّعْلِيلَ بِالْحِكْمَةِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كان لِذَلِكَ الْحُكْمِ قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ حِكْمَةٍ الرَّابِعُ أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً بِشَرْطِهَا أَيْ بِحَيْثُ لَا يَرُدُّهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعٌ لها لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِهَا فلم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لها فإذا رَدَّهُ أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْخَامِسُ أَنْ لَا يُعَارِضَهَا من الْعِلَلِ ما هو أَقْوَى منها فإن الْأَقْوَى أَحَقُّ بِالْحُكْمِ كما أَنَّ النَّصَّ أَحَقُّ بِالْحُكْمِ من الْقِيَاسِ وما أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْأَقْوَى فَهُوَ الْبَاطِلُ بِالْأَقْوَى ذَكَرَهُ وَاَلَّذِي يَلِيهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ السَّادِسُ أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً أَيْ كُلَّمَا وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْمُ لِيَسْلَمَ من النَّقْضِ وَالْكَسْرِ فَإِنْ عَارَضَهَا نَقْضٌ أو كَسْرٌ فَعُدِمَ الْحُكْمُ مع وُجُودِهَا بَطَلَتْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا عَقْلِيَّةٌ أو سَمْعِيَّةٌ فَالْعَقْلِيَّةُ يَمْتَنِعُ تَخْصِيصُهَا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ النَّظَرِ كما نَقَلَهُ ابن فُورَكٍ وَالْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وابن عَبْدَانَ في شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرُهُمْ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَنْبَطَةً أو مَنْصُوصَةً فَإِنْ كانت مُسْتَنْبَطَةً فَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ بِامْتِنَاعِ تَخْصِيصِهَا على مَعْنَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَبْقَى حُجَّةً فِيمَا وَرَاءَ الْحُكْمِ الْمَخْصُوصِ لِبُطْلَانِ الْوُثُوقِ بها وقال ابن فُورَكٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا وقال ابن كَجٍّ إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَجْمَعَ عليه أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ قال صَاحِبُ الْبَيَانِ في بَابِ الرِّبَا إنَّهُ لَا خِلَافَ فيه عِنْدَنَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْمَنْصُوصَةِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ اتَّفَقَ عليه أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَبِهِ قال أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَزَعَمَ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وَأَطْلَقَ ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ مَنْعَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَإِنْ كانت مَنْصُوصَةً فَمَنْ جَوَّزَ تَخْصِيصَ الْمُسْتَنْبَطَةِ جَوَّزَ هذه أَيْضًا وَمَنْ مَنَعَ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا على قَوْلَيْنِ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ كَالْمُسْتَنْبَطَةِ قال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّفْظِ الْعَامِّ حَيْثُ جَازَ تَخْصِيصُهُ أَنَّ الْعَامَّ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ على بَعْضِ ما يَتَنَاوَلُهُ فإذا وَرَدَ لم يُنَافِهِ وَأَمَّا الْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ فَإِنَّمَا انْتَزَعَهَا الْقَائِسُ من الْأَصْلِ وَمُقْتَضَاهُ الِاطِّرَادُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ هذا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وهو الصَّحِيحُ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ من الْفُقَهَاءِ ثُمَّ اخْتَارَهُ الْقَاضِي آخِرًا وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَنَصَرَهُ في كِتَابِ الْجَدَلِ له وَكَذَا الْخَفَّافُ في الْخِصَالِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو
مَنْصُورٍ إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وقال إلْكِيَا إنَّهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال في الْقَوَاطِعِ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ إلَّا الْقَلِيلَ منهم وهو قَوْلُ كَثِيرٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَالُوا تَخْصِيصُهَا نَقْضٌ لها وَنَقْضُهَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَهَا قال وَبِهِ قال عَامَّةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ من الْحَنَفِيَّةِ قال أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ بَاطِلٌ وَمَنْ قال بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَقَدْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالسَّفَهِ وَالْعَبَثِ لِأَنَّهُ أَيُّ فَائِدَةٍ في وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ إذْ الْعِلَّةُ شُرِعَتْ لِلْحُكْمِ وَالْكَلَامِ في الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فإذا خَلَا الْفِعْلُ عن الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ يَكُونُ عَبَثًا وَالدَّلِيلُ على فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يُشْبِهُ الْإِبْدَاءَ أو النَّاسِخَ وَكِلَاهُمَا لَا يُدْخِلُ الْعِلَلَ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ سَوَاءٌ الْمَنْصُوصَةُ وَالْمُسْتَنْبَطَةُ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى جَوْهَرِ عِلَّةِ الشَّارِعِ فإنه من أَعَمِّ الصِّيَغِ وَلَا نَظُنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ أَنْ يُنَصَّبَ عَلَمًا ثُمَّ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ مع وُجُودِهِ من غَيْرِ سَبَبٍ نعم يَتَطَرَّقُ إلَى مَحَلِّ كَلَامِهِ بِتَخْصِيصِ بَعْضِ الْمَحَالِّ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا فَيَذْكُرُ الْمَحَلَّ دُونَ الْعِلَّةِ وَالثَّانِي الْجَوَازُ وَنُقِلَ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وقال أبو الْحُسَيْنِ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وهو الذي أَوْرَدَهُ ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ قال وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُسْتَنْبَطَةِ حَيْثُ امْتَنَعَ فيها أَنَّ الْمَنْصُوصَةَ في الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ بَلْ هِيَ كَالِاسْمِ يَدُلُّ على الْحُكْمِ بِدَلَالَةِ الْعُمُومِ وَأَيْضًا فَإِنَّمَا جَازَ تَخْصِيصُهَا لِأَنَّ وَاضِعَهَا قد عُلِمَ أَنَّهُ لم يُرِدْ بها عِنْدَ إطْلَاقِهَا الْعُمُومَ فَصَارَ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُعَلَّلُ يَقْصِدُ بِالْعِلَّةِ جَمِيعَ مَعْلُولَاتِهَا فإذا وُجِدَتْ وَلَا حُكْمَ كان نَقْضًا وَحَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن أَهْلِ الْعِرَاقِ قال وَحَكَاهُ الْهَمْدَانِيُّ عن أَصْحَابِنَا وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ما قَالَهُ انْتَهَى قال إلْكِيَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قُدَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ عنه وَنَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن عَامَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ من الْحَنَفِيَّةِ قال وَمِنْهُمْ أبو زَيْدٍ وَادَّعَى أَنَّهُ مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ في ذلك على قَوْلَيْنِ وقال ابن بَرْهَانٍ في
الْأَوْسَطِ وَأَمَّا أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ فَالْمُتَقَدِّمُونَ منهم وَافَقُوا الشَّافِعِيَّ على الْمَنْعِ وَالْمُتَأَخِّرُونَ كَأَبِي زَيْدٍ جَوَّزُوا وَرَجَعَ بَعْضُهُمْ عن ذلك وَهُمْ أَهْلُ ما وَرَاءَ النَّهْرِ انْتَهَى وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ جَوَّزَ قَوْمٌ من أَسْلَافِ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ تَخْصِيصَهَا مُسْتَنْبَطَةً وَمَنْصُوصَةً وَزَعَمُوا أَنَّهُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَحَكَى بَعْضُهُمْ ذلك عن مَالِكٍ وهو غَيْرُ ثَابِتٍ عنه وَمِنْ أَصْحَابِهِ من يُجِيزُهُ وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ من أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنْ يَكُونَ ذلك قَوْلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَقَالُوا إنَّمَا يَتْرُكُ بَعْضُ أَسْلَافِنَا الْحُكْمَ لِأَجْلِ عِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَوْلَى منها فَأَمَّا على وَجْهِ تَخْصِيصِهَا فَلَا وَهَذَا اعْتِذَارٌ منهم وَتَحَامٍ لِلْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهَا وَتَحَصَّلَ في الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ ثَالِثُهَا الْمَنْعُ في الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالْجَوَازُ في الْمَنْصُوصَةِ وَفِيهَا مَذْهَبٌ رَابِعٌ وهو تَجْوِيزُ تَخْصِيصِهَا في أَصْلِ الْمَذْهَبِ وَأَمَّا في عِلَّةِ النَّظَرِ فَلَا يَجُوزُ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ عن بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ قال وهو فَاسِدٌ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ في النَّاظِرَةِ إنَّمَا يُثْبِتُ الْمَذْهَبَ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ ما فيه وهو قَرِيبٌ من اخْتِيَارِ ابْنِ بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ شَرَطَ الِاطِّرَادَ في الْمُنَاظَرَةِ حتى أَنَّهُ ليس له الِاحْتِرَازُ عن النَّقْضِ الذي أَوْرَدَهُ الْخَصْمُ وَالْجَوَازُ في الْمُجْتَهِدِ نَفْسِهِ حتى أَنَّ له الرُّجُوعَ إلَى ذلك وَفِيهَا مَذْهَبٌ خَامِسٌ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ وهو التَّفْصِيلُ بين عِلَّةِ الْإِقْدَامِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهَا وَبَيْنَ عِلَّةِ تَرْكِ الْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ بَلْ يَكُونُ عِلَّةً لِتَرْكِهِ وَاجْتِنَابِهِ أَيْنَ وُجِدَتْ قال وَهَذَا الْقَوْلُ خُرُوجٌ عن إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَرُبَّمَا عُزِيَ لِقُدَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ قال ابن فُورَكٍ وَلِأَبِي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ طَرِيقَةٌ في تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَالْعُمُومِ فيقول إنَّ تَخْصِيصَهَا سَوَاءٌ وهو أَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ الْمُطْلَقَةِ كما يَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ وَأَمَّا إذَا اقْتَرَنَتْ بِهِمَا قَرِينَةٌ فَيُعْلَمُ أَنَّ ذلك كان فيها في الِابْتِدَاءِ وَلَيْسَ ذلك نَقْضًا وَالنَّقْضُ أَنْ يُقَالَ كانت مُطْلَقَةً فَقُيِّدَتْ الْآنَ فَعَلَى هذا يَسْقُطُ ما قَالَهُ الْخَصْمُ تَخْصِيصًا من عِلَلِ السَّمْعِ بَلْ تَبَيَّنَ بِالْقَرِينَةِ أنها وَقَعَتْ في الِابْتِدَاءِ مُقَيَّدَةً ثُمَّ الْكَلَامُ في تَحْرِيرِ أُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْغَزَالِيَّ ذَكَرَ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ أَنَّهُ لم يَصِحَّ عن الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ التَّصْرِيحُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أو مَنْعُهُ وَنَقَلَ الدَّبُوسِيُّ تَعْلِيلَاتٍ عنهما مَنْقُوضَةً قال
وَهَذَا يَدُلُّ على قَبُولِهَا التَّخْصِيصَ انْتَهَى وَيُوَافِقُهُ ما ذَكَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الْأَعْلَامِ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ قَاسُوا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْقِيَاسُ كَذَا لَوْلَا الْأَثَرُ والنظر كَذَا لَوْلَا الْخَبَرُ وَكَذَا أبو حَنِيفَةَ يقول الْقِيَاسُ كَذَا إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ وَلَوْلَا الْأَثَرُ لَكَانَ الْقِيَاسُ كَذَا فَلَوْ كَانُوا يُبْطِلُونَ الْأَصْلَ الذي جَرَى الْقِيَاسُ فيه لَمَا وَجَدُوا الْأَثَرَ في الْعَيْنِ التي جاء الْأَثَرُ فيها انْتَهَى وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ نَقَلَ جَمَاعَةٌ عن أبي حَنِيفَةَ جَوَازَ التَّخْصِيصِ مُطْلَقًا وَحَكَى عن مَالِكٍ أَيْضًا وهو غَيْرُ ثَابِتٍ عنه وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ من الْحَنَفِيَّةِ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنْ يَكُونَ ذلك قَوْلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وقال إنَّمَا يَتْرُكُ بَعْضُ أَسْلَافِنَا الْحُكْمَ بِعِلَّةٍ لِأَجْلِ عِلَّةٍ أُخْرَى هِيَ أَوْلَى منها فَأَمَّا على وَجْهِ تَخْصِيصِهَا فَلَا وَإِنَّمَا هذا اعْتِذَارٌ وَتَحَامٍ عن الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهَا وَنَقَلَ ابن فُورَكٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا عن الشَّافِعِيِّ الْمَنْعَ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ على أَنَّ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بَاطِلٌ وَأَنَّ الْقَاضِيَ قال لو صَحَّ عِنْدِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ قال بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ ما كُنْت أُعِدُّهُ من جُمْلَةِ الْأُصُولِيِّينَ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ أَنَّ في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَهُ قال وَذَكَرَ أَقْضَى الْقُضَاةِ يَعْنِي عَبْدَ الْجَبَّارِ في الشَّرْحِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يُجِيزُ ذلك وَإِنَّمَا يَعْدِلُ عن حُكْمِ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَالْمَعْلُومُ من مَذْهَبِهِ أَنَّهُ شَرَطَ في الْعِلَّةِ التَّأْثِيرَ حتى لَا تُنْتَقَضَ قُلْت وفي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ ما يَقْتَضِي الْجَوَازَ فإنه قال وَيَسُنُّ سُنَّةً في نَصٍّ مُعَيَّنٍ فَيَحْفَظُهَا حَافِظٌ وَلَيْسَ يُخَالِفُهُ في مَعْنًى وَيُجَامِعُهُ سَنَةً غَيْرَهَا لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فَيَحْفَظُ غَيْرَهُ تِلْكَ السَّنَةَ فإذا أَدَّى كُلَّ ما حَفِظَ رَأَى بَعْضُ السَّامِعِينَ اخْتِلَافًا وَلَيْسَ فيه شَيْءٌ مُخْتَلِفٌ انْتَهَى وَتَرْجَمَ عليه ابن اللَّبَّانِ في تَرْتِيبِ الْأُمِّ جَوَازَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْمُعَارَضَةِ الثَّانِي مَثَّلَ ابن السَّمْعَانِيِّ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ في عِلَّةِ الرِّبَا في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هو الْوَزْنُ وَجَعَلُوا لِذَلِكَ فُرُوعًا من الْمَوْزُونَاتِ ثُمَّ جَوَّزُوا إسْلَامَ الدَّرَاهِمِ في الزَّعْفَرَانِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ مع اجْتِمَاعِهَا في الْوَزْنِ فَحَكَمُوا بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَانْتَقَضَتْ عِلَّةُ الْوَزْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ لم تَنْتَقِضْ قِيلَ قد نَاقَضَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ فإنه قال بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ الْوَاجِبُ في إتْلَافِ الْمِثْلِ الْمِثْلُ ثُمَّ خَصَّ هذا الْأَصْلَ في الْمُصَرَّاةِ فَأَوْجَبَ عليه في اللَّبَنِ الْمُسْتَهْلَكِ صَاعًا من تَمْرٍ وقال بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِلشِّدَّةِ وَقَاسَ عليها النَّبِيذَ وَلِلْخَمْرِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ التَّحْرِيمُ وَالتَّفْسِيقُ وَالْحَدُّ فَطَرَدَ عِلَّتَهُ في
الشَّرْعِ في الْحَدِّ ولم يَطْرُدْهَا في التَّفْسِيقِ فإنه لم تُرَدَّ شَهَادَةُ شَارِبِ النَّبِيذِ ولم يُحْكَمْ بِفِسْقِهِ وَأَيْضًا فإنه خَصَّ عِلَّةَ الرِّبَا في مَسْأَلَةِ الْعَرَايَا وَجَوَّزَ الْعَقْدَ من غَيْرِ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ كَيْلًا وَكَذَلِكَ خَصَّ ضَمَانَ الْجَنِينِ بِالْغُرَّةِ مع مُخَالَفَةِ سَائِرِ أَجْنَاسِهِ وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَأَجَابَ بِأَنَّا لَا نُنْكِرُ وُجُودَ مَوَاضِعَ في الشَّرْعِ وَتَخْصِيصَهَا بِأَحْكَامٍ تُخَالِفُ سَائِرَ أَجْنَاسِهَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَقُومُ في ذلك الْمَوْضِعِ على الْخُصُوصِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا الْمَمْنُوعُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَأَجَابَ الْقَفَّالُ عن الْعَرَايَا بِأَنَّ الْعِلَّةَ في تَحْرِيمِ الْمُزَابَنَةِ الْجَهْلُ الْكَثِيرُ وما أُجِيزَتْ فيه قَلِيلٌ فَتَكُونُ هذه عِلَّةً مُقَيِّدَةً لِعِلَّةِ الرِّبَا مُقَيِّدَةً لِلْجِنْسِ الثَّالِثُ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ تَمَسَّكُوا بِآيَاتٍ منها قَوْله تَعَالَى قالوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إنَّ له أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ فإن هذه الْعِلَّةَ التي قَصَدُوا بها إطْلَاقَهُ من يَدِ الْعَزِيزِ هِيَ مَوْجُودَةٌ في كل وَاحِدٍ منهم وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لم يَكُنْ في ذِهْنِهِمْ أَنَّ الْعَزِيزَ يَعْرِفُ أُخُوَّتَهُمْ الذي أَخَذُوا الِاحْتِرَازَ من مَحَلِّ النَّقْضِ إنَّمَا هو لِدَفْعِ الْمُعْتَرِضِ بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِضُ إلَّا بِحَسَبِ الِاحْتِرَازِ عنه لَفْظًا وَتَكْفِي إرَادَتُهُ فَالْعِلَّةُ أَنَّ له أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا وَأَنَّهُ صَغِيرٌ يَصْدُرُ عليه من الْحُزْنِ ما لَا يَصْدُرُ على أَحَدٍ فَحَذَفَ هذا الْقَيْدَ مع إضْمَارِهِ وَإِنَّ في حَذْفِهِ لَفَائِدَةً جَلِيلَةً إذْ لم يَكُنْ لهم قَصْدٌ في التَّعْرِيفِ بِأُخُوَّتِهِمْ له وَلَوْ صَرَّحُوا له بِذِكْرِ هذا الْقَيْدِ لَفَهِمَ أُخُوَّتَهُمْ له فَتَأَمَّلْ هذا ما أَحْسَنَهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ما كان لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى من بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لهم أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ الْآيَةَ دَلَّ النَّصُّ على أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ من أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ثُمَّ اعْتَذَرَ عن اسْتِغْفَارِ إبْرَاهِيمَ بِالْوَعْدِ فَدَلَّ على جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ على الِامْتِنَاعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ فإنه طَالَبَ الْكُفَّارَ بِبَيَانِ الْعِلَّةِ فِيمَا ادَّعَوْا فيه الْحُرْمَةَ لِأَوْجُهٍ
لَا تَدْفَعُ لهم لِأَنَّهُمْ إذَا أَثْبَتُوا أَحَدَ هذه الْمَعَانِي أَنَّ الْحُرْمَةَ لِأَجْلِهِ انْتَقَضَ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْجَوَازِ في الْمَوْضِعِ الْآخَرِ مع وُجُودِ ذلك الْمَعْنَى فيه وَلَوْ كان التَّخْصِيصُ في عِلَلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزًا لَمَا كَانُوا مَحْجُوجِينَ فإنه لَا يَعِزُّ أَنْ يُقَالَ امْتَنَعَ ثُبُوتُهُ هُنَاكَ لِمَانِعٍ الرَّابِعُ مَثَّلَ جَمَاعَةٌ من الْأَئِمَّةِ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِمَسْأَلَةِ الْعَرَايَا وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذلك إنْ قُلْنَا إنَّ تَحْرِيمَ الْمُزَابَنَةِ وَارِدٌ أَوَّلًا وَاسْتَقَرَّ ثُمَّ وَرَدَتْ رُخْصَةُ الْعَرَايَا فَإِنْ قُلْنَا إنَّ النَّهْيَ لم يَتَوَجَّهْ إلَى خُصُوصِ الْعَرَايَا وَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُزَابَنَةِ ما سِوَاهَا من بَابِ إطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ فَلَا وَهَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ وَنَقَلَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عن الرَّبِيعِ عنه وَنَقَلَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال أَوْلَى الِاحْتِمَالَيْنِ عِنْدِي الثَّانِي وقد يُقَالُ تَرْجِيحُ الثَّانِي يَقْتَضِي مَنْعَ كَوْنِ الْعَرَايَا رُخْصَةً الْخَامِسُ أَنَّ إلْكِيَا الطَّبَرِيَّ قَسَمَ الْمَسْأَلَةَ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا بِحَسَبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْآخَرُ الْمُجْتَهِدُ فَأَمَّا الْمُنَاظَرَةُ إذَا تَوَجَّهَ إلَيْهَا النَّقْضُ فَهَلْ له أَنْ يَقُولَ ثُمَّ لم أَحْكُمْ بِمِثْلِ ما حَكَمْت بِهِ هَاهُنَا لِمَانِعٍ وَيَتَكَلَّفُ عُذْرًا أَمْ لَا يَقْبَلُ ذلك من حَيْثُ إنَّهُ يُنَاقِضُ كَلَامَهُ فَلَزِمَهُ أَنْ يَسْكُتَ فيه خِلَافٌ وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَيَتْبَعُ الْعِلَّةَ الْمُطَّرِدَةَ في مَحَالِّهَا ثُمَّ حَكَى الْخِلَافَ السَّابِقَ السَّادِسُ أَنَّ الْمَانِعِينَ تَعَلَّقُوا بِأَنَّ التَّخْصِيصَ يُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ على مَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَعْنَى الذي تَعَلَّقَ بِهِ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً في ضِدِّ ذلك الْحُكْمِ وَيُجْرِيهِ في كل مَوْضِعٍ إلَّا ما قام دَلِيلُهُ لِأَنَّ نَفْسَ هذا الْمَعْنَى تَعَلَّقَ عليه حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ جَعَلَ الْمُعَلِّلُ ما خَالَفَ حُكْمَهُ مَخْصُوصًا وما وَافَقَهُ تَعْمِيمًا فما الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ من جَعَلَ ما جَعَلَهُ أَصْلًا مَخْصُوصًا وما جَعَلَهُ مَخْصُوصًا أَصْلًا مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُعَلِّلُ طَهَارَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ قِيَاسًا على التَّيَمُّمِ فَيُقَالُ بَاطِلٌ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فيقول إنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فَتُقْلَبُ عليه فَتَقُولُ طَهَارَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِيُقَالَ بَاطِلٌ بِالتَّيَمُّمِ فيقول ذلك مَخْصُوصٌ فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَوْلَى من الْآخَرِ قال الطَّبَرِيُّ وَهَذَا فيه نَظَرٌ فإن الْعِلَّةَ إذَا كانت دَالَّةً على الْحُكْمِ بِإِخَالَتِهَا وَتَأْثِيرِهَا في مَحَلِّ النَّصِّ فَفِيمَا عَدَاهُ لَا يَكُونُ دَلَالَتُهَا من نَاحِيَةِ الِاطِّرَادِ فَقَطْ لَكِنْ من نَاحِيَةِ التَّأْثِيرِ وَالْإِخَالَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَنَاقُضُ شَهَادَتِهِمَا حِينَئِذٍ أَمَّا إذَا كانت الدَّلَالَةُ تُتَلَقَّى من الِاطِّرَادِ الْمَحْضِ فَيَتَّجِهُ ادِّعَاءُ التَّكَافُؤِ في بَعْضِ الصُّوَرِ إنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِالطَّرْدِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ تَقُولُ لِمَنْ خَصَّ الْعِلَّةَ بِمَا اسْتَنْبَطَ عَامٌّ أو خَاصٌّ إنْ ادَّعَيْت عُمُومَهُ
وَاسْتِغْرَاقَهُ بَطَلَتْ الدَّعْوَى بِالْمُنَاقَضَةِ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ لم تَدَّعِ عُمُومَهُ وَقُلْت إنَّهَا عِلَّةٌ في مَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ فَلَعَلَّهَا عِلَّةٌ في الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عليه دُونَ الْفَرْعِ ثُمَّ قال إلْكِيَا من اشْتَرَطَ الِاطِّرَادَ وَمَنْعَ التَّخْصِيصِ فَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ اطِّرَادَ كل عِلَّةٍ في فُرُوعِ مَعْلُولَاتِهَا لَا في فُرُوعِ مَعْلُومَاتِ غَيْرِهَا وَهَذَا لَا نِزَاعَ فيه وَإِنَّمَا النِّزَاعُ في عِلَّةٍ جُزْئِيَّةٍ لَا تَطَّرِدُ في فُرُوعِ مَعْلُولَاتِهَا فَلَا يَغْلِبُ على الظَّنِّ كَوْنُهَا عِلَّةً السَّابِعُ أَنَّهُ سَبَقَ في بَابِ الْعُمُومِ تَقْسِيمُ اللَّفْظِ إلَى ما قُصِدَ فيه الْعُمُومُ نَصًّا وَإِلَى ما لَا يُقْصَدُ فيه قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ في بَابِ التَّرْجِيحِ ما ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ من أَنَّ عِلَّةَ الشَّارِعِ عليه السَّلَامُ لَا تُنْقَضُ مَحْمُولٌ على ما قُصِدَ فيه الْعُمُومُ نَصًّا أَمَّا ما لم يُقْصَدْ فيه ذلك بَلْ قُصِدَ تَنْزِيلُ الْكَلَامِ على مَقْصُودٍ آخَرَ فَهَذَا هو الذي يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ مَسْأَلَةٌ اقْتِصَارُ الشَّارِعِ على أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ الشَّارِعُ على أَحَقِّ الْوَصْفَيْنِ وَيَقُولَ إنَّهُ الْمُسْتَقِلُّ وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِوَصْفَيْنِ فإن ذلك خُلْفٌ قَالَهُ إلْكِيَا قال وَأَمَّا غَيْرُ ذلك فَإِنْ صَرَّحَ بِهِ وقال إنَّهُ تَعْلِيلٌ وَلَكِنْ لم أَطَّرِدْهُ في حُكْمٍ خَاصٍّ فقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ إنَّ ذلك مُمْتَنِعٌ فإنه يَكُونُ تَنَاقُضًا منه إلَّا أَنْ يَقُولَ هو دَلَالَةُ الْحُكْمِ دَلَالَةُ الْعُمُومِ وقال غَيْرُهُ يَجُوزُ فإنه لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا مَصْلَحَةً في الْمَحَالِّ كُلِّهَا إلَّا في مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَصَارَ عِلَّةً كَمِثْلِ ذلك إلَّا حَيْثُ يَعْلَمُ الشَّرْعُ أَنَّهُ لو جَعَلَهُ تَعْلِيلًا لم يَكُنْ مَصْلَحَةً في مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْمَحَلُّ كَالزَّمَانِ من جِهَةِ الْوَجْهِ الشَّرْطُ السَّابِعُ الْعَكْسُ وهو انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ وَالْمُرَادُ بِهِ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ أو الظَّنِّ بِهِ إذْ لَا يَلْزَمُ من عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ وَإِلَى هذا الشَّرْطِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَشَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ لَا تَكُونُ الْعِلَّةُ عِلَّةً حتى يُقْبِلَ الْحُكْمُ بِإِقْبَالِهَا وَيُدْبِرَ بِإِدْبَارِهَا وقد اُخْتُلِفَ في كَوْنِهِ شَرْطًا أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ الْإِجْمَاعَ على اشْتِرَاطِ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ فيها لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَكْسُهَا وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ
الدِّينِ فقال وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْعَكْسَ في الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وما أَوْجَبُوهُ في الشَّرْعِيَّةِ وَالدَّلِيلُ على عَدَمِ وُجُوبِهِ في الْعَقْلِيَّةِ فَذَكَرَهُ وَنَقَلَ الْقَاضِي بَعْدَ ذلك الِاتِّفَاقَ على عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ في الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِنَقْلِهِ أَوَّلًا تَوَهُّمًا منه أَنَّ الْأَدِلَّةَ هِيَ الْعِلَلُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فإنه لَا يُشْتَرَطُ في الدَّلِيلِ الِانْعِكَاسُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ كَالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَأَخَذَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ من النَّصِّ السَّابِقِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ دَلِيلٌ على صِحَّةِ الْعِلَّةِ فقال وَصَارَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِيمَا حَكَاهُ ابن اللَّبَّانِ إلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على صِحَّتِهَا وَإِنْ كان من شُرُوطِهَا إذَا عَلِمْت ذلك فَاخْتَلَفُوا في الشَّرْعِيِّ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ بَلْ إذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا صَحَّتْ وَإِنْ لم يَرْتَفِعْ بِعَدَمِهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بها إثْبَاتُ الْحُكْمِ دُونَ نَفْيِهِ كما يَصِحُّ الْمَعْنَى إذَا اطَّرَدَ ولم يَنْعَكِسْ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ وَنَقَلَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَالثَّانِي يُعْتَبَرُ كَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ في ارْتِفَاعِهَا دَلِيلٌ على عَدَمِ التَّأْثِيرِ في وُجُودِهَا وقال الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الرِّبَا إنَّهُ هو الصَّحِيحُ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ في الْمُسْتَنْبَطَةِ دُونَ الْمَنْصُوصَةِ وَالرَّابِعُ وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ إنْ تَعَدَّدَتْ الْعِلَّةُ فَلَا يُطَالَبُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّا نُجَوِّزُ ازْدِحَامَ الْعِلَلِ على حُكْمٍ وَاحِدٍ فَلَا مَطْمَعَ في الْعَكْسِ معه وَكَذَا إذَا اسْتَنَدَ الْحُكْمُ إلَى حَدِيثٍ عَامٍّ وَقِيَاسٍ فَقَدْ لَا يَطَّرِدُ الْقِيَاسُ وَيَطَّرِدُ الْحَدِيثُ فَلَا يُطْلَبُ الْعَكْسُ وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ فَلَا بُدَّ من عَكْسِهَا لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ بَلْ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ له من عِلَّةٍ فإذا اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ وَانْتَفَتْ فَلَوْ بَقِيَ الْحُكْمُ لَكَانَ ثَابِتًا بِغَيْرِ سَبَبٍ أَمَّا حَيْثُ تَعَدَّدَتْ الْعِلَّةُ فَلَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ بَعْضِ الْعِلَلِ بَلْ عِنْدَ انْتِفَاءِ جَمِيعِهَا وَأَطَالَ في الِاحْتِجَاجِ لِذَلِكَ قال في الْمَنْخُولِ فَكَأَنَّمَا نَقُولُ شَرْطُ الْعِلَّةِ الِانْعِكَاسُ إلَّا لِمَانِعٍ وقال الْهِنْدِيُّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ خِلَافٌ وَنِزَاعٌ لِأَحَدٍ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ فَرْعُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى اشْتِرَاطِ الِانْعِكَاسِ جُمْلَةً أَيْ سَوَاءٌ قُلْنَا بِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ أو بِجَوَازِ اجْتِمَاعِهَا وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فقال أَمَّا الْتِزَامُ الْعَكْسِ مع
اتِّحَادِ الْعِلَّةِ وَانْتِفَاءِ تَوْقِيفِ مَانِعٍ فَلَا بُدَّ منه عِنْدَنَا وَالْإِنْصَافُ في ذلك أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَازِمٌ في الِاجْتِهَادِ وَلَا يَحْسُنُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ في الْمُنَاظَرَةِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في تَدْرِيسِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ ثُمَّ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا الْعَكْسَ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من قال لَا بُدَّ من عَكْسٍ على الْعُمُومِ كما شَرَطْنَا الِاطِّرَادَ عُمُومًا وَمِنْهُمْ من قال وهو الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ يَكْتَفِي بِالْعَكْسِ وَلَوْ في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَذَكَرَ ابن الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَكْسِ مَبْنِيٌّ على مَنْعِ التَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ فَمَنْ مَنَعَهُ اشْتَرَطَ الْعَكْسَ في الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلْحُكْمِ إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِقَاءِ دَلِيلِهِ وَهَذَا الْبِنَاءُ أَشَارَ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَحَوَّمَ عليه الْآمِدِيُّ وقد يُقَالُ إنَّ من يُجَوِّزُ التَّعْلِيلَ بِعِلَّتَيْنِ لِعِلَّةٍ يَشْتَرِطُ الْعَكْسَ وَيَقُولُ عِنْدَ انْتِفَاءِ وَاحِدَةٍ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ الْمُضَافِ إلَيْهَا وَذَلِكَ مُتَلَقًّى من الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْأَحْكَامِ وَمَنْ لَا يُعَلِّلُ إلَّا بِوَاحِدَةٍ يُجَوِّزُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ وَبَقَاءَهُ لَا بِعِلَّةٍ أَصْلًا بَلْ عن دَلِيلٍ من الشَّرْعِ تَعَبُّدِيٍّ فلم يَكُنْ انْتِفَاءُ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ مُسْتَلْزِمًا لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ وقال ابن الْمُنِيرِ حَيْثُ قُلْنَا بِامْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ وَإِنَّ الْعَكْسَ لَازِمٌ فَلَا نَعْنِي بِلُزُومِهِ ما أَرَادَهُ مُشْتَرِطُوهُ بَلْ نَقُولُ من الزُّهُوقِ حُكْمًا بِعِلَّةٍ فَقِيلَ له قد وَجَدَ الْحُكْمَ في صُورَةِ كَذَا بِدُونِ هذا الْوَصْفِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَا ضَيْرَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِنْدِي إمَّا الْوَصْفُ الذي ذَكَرْته أو أَمْرٌ صَادِقٌ على الْوَصْفِ صِدْقًا لِلْعَامِّ على الْخَاصِّ وَأَيًّا ما كان حَصَلَ الْغَرَضُ من صِدْقِ الْعِلَّةِ على الْوَصْفِ لِأَنَّهُ إنْ كان عِلَّةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَحَدَ وَصْفَيْنِ يَصْدُقُ على كُلٍّ مِنْهُمَا عِلَّةٌ فَقَدْ صَدَقَ الْعِلَّةُ على هذا الْوَصْفِ فَحَصَلَ الْغَرَضُ وَإِنْ كان الْحُكْمُ ثَابِتًا في صُورَةٍ أُخْرَى بِدُونِ هذا الْوَصْفِ وَهَذَا كَشَفَ الِاضْطِرَابَ في هذه الْمَسْأَلَةِ فإن الَّذِينَ اشْتَرَطُوا الْعَكْسَ فَهِمُوا أَنَّهُ من لَوَازِمِ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ وَهَمُوا في اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْوَصْفَ مَهْمَا صَدَقَ عليه الْعِلَّةُ لَزِمَ أَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً صَدَقَ الْعِلَّةُ عليه كما يَصْدُقُ الْعَامُّ على الْخَاصِّ فَلَا يَلْزَمُ من نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُوجَدَ الْعَامُّ بِوُجُودِ خَاصٍّ آخَرَ وَإِنْ لَزِمَ من وُجُودِ الْخَاصِّ وُجُودُ الْعَامِّ نعم يَلْزَمُ من نَفْيِ الْوَصْفِ نَفْيُ الْحُكْمِ إذَا كان صَدَقَ الْعِلَّةُ عليه بِمَعْنَى أَنَّهُ هو الْعِلَّةُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ هذا الْوَصْفَ وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا عُرِفَ الْوَصْفُ وَاَلَّذِينَ لم يَشْتَرِطُوا الْعَكْسَ فَهِمُوا أَنَّ بَعْضَ الْأَوْصَافِ الْمُتَّفَقِ على عِلِّيَّتِهَا يَنْتَفِي مع ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَاعْتَقَدُوا الْعَكْسَ لَغْوًا بِالْكُلِّيَّةِ وَفَاتَهُمْ أَنَّ الْعَكْسَ ما ثَبَتَ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَ
انْتِفَاءِ وَصْفٍ يَصْدُقُ عليه الْعِلَّةُ صِدْقَ الْعَامِّ على الْخَاصِّ فلم يَلْزَمْ من نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ وهو الْعِلَّةُ نعم لو انْتَفَى ذلك الْعَامُّ وهو الْعِلَّةُ بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ الْخَاصِّ لَزِمَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ قَطْعًا ثُمَّ قال وَالْعَكْسُ على الْمُخْتَارِ عِنْدِي عِبَارَةٌ عن نَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ نَفْيِ الْعِلَّةِ وَعَلَى مُخْتَارِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ النَّفْيُ عِلَّةٌ لِلنَّفْيِ وَالسَّبَبُ في هذا الِاخْتِلَافِ أَنَّ بَعْضَ الْعِلَلِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيُهُ وُجُودَ عِلَّةٍ أُخْرَى مُشْعِرَةٍ بِالنَّقْضِ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ ذلك لِارْتِبَاطٍ بين النَّفْيِ وَالنَّفْيُ ليس كَذَلِكَ الشَّرْطُ الثَّامِنُ أَنْ تَكُونَ أَوْصَافُهُمَا مُسَلَّمَةً أو مَدْلُولًا عليها وإذا نُوزِعَ الْمُعَلِّلُ في وَصْفِ الْعِلَّةِ جَازَ له أَنْ يَدُلَّ على صِحَّتِهِ إنْ كان مُجِيبًا وَلَيْسَ لِلسَّائِلِ إنْ نُوزِعَ وَصْفُ الْعِلَّةِ أَنْ يَدُلَّ على صِحَّتِهِ الشَّرْطُ التَّاسِعُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عليه مُعَلَّلًا بِالْعِلَّةِ التي تَعَلَّقَ عليها الْحُكْمُ في الْفَرْعِ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ ذَكَرَهُ وما قَبْلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقال وَاخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْفَرْعِ عِلَّةَ الْأَصْلِ أَمْ لَا فقال أَصْحَابُنَا إنْ كان حُكْمُ الْأَصْلِ ثَبَتَ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عليه الْفَرْعُ إلَّا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَإِنْ كان قد ثَبَتَ في الْأَصْلِ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ قِيسَ عليه الْفَرْعُ بِعِلَّةٍ مُسْتَخْرَجَةٍ بِالِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِأَصْلِهِ بِعِلَّةٍ لم يَتَعَلَّقْ بها الْحُكْمُ في الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ فَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَلِهَذَا قالوا في رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على عَبْدٍ في يَدِ الْآخَرِ أَنَّهُ وَهَبَهُ له وَأَقْبَضَهُ وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً على أَنَّهُ بَاعَهُ منه ولم تُؤَرَّخْ الْبَيِّنَتَانِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي أَدَلُّ لِأَنَّ عَدَمَ التَّأْرِيخِ في الْعَقْدَيْنِ يُوجِبُ عِنْدَهُمْ وُقُوعَهُمَا مَعًا في الْحُكْمِ وَمَتَى وَقَعَا سَبَقَ وُقُوعُ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ الْمِلْكَ بِالْهِبَةِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالْهِبَةُ لَا تُوجِبُهُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَهَذِهِ الْعِلَّةُ عِنْدَهُمْ تُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْبَيْعِ دُونَ الْهِبَةِ ثُمَّ قالوا لو أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ على الرَّهْنِ وَالْآخَرُ على الْهِبَةِ وَشَهِدَتْ الشَّهَادَتَانِ على الْقَبْضِ كان الرَّهْنُ أَوْلَى من الْهِبَةِ لِأَنَّهُمَا قد تَسَاوَيَا في أَنَّ شَرْطَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَبْضَ وَالرَّهْنَ يُشْبِهُ الْبَيْعَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا من ضَمَانِ الدَّيْنِ وَالثَّمَنِ فَقَاسُوا الرَّهْنَ على الْبَيْعِ بِعِلَّةٍ غَيْرِ الْعِلَّةِ التي أَوْجَبَتْ كَوْنَ الْبَيْعِ أَوْلَى من الْهِبَةِ وقال ابن الْقَطَّانِ الْعِلَّةُ في الْفَرْعِ لَيْسَتْ هِيَ الْعِلَّةَ في الْأَصْلِ بَلْ مِثْلُهَا الشَّرْطُ الْعَاشِرُ أَنْ لَا تَكُونَ في الْفَرْعِ مُوجِبَةً حُكْمًا وفي الْأَصْلِ حُكْمًا
آخَرَ غَيْرَهُ كَاعْتِلَالِ من قال لَا زَكَاةَ في مَالِ الصَّبِيِّ قِيَاسًا على سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عن أَمْوَالِهِمْ بِعِلَّةِ الصِّغَرِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ من الْعِلَّةِ الْجَمْعُ بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في الْحُكْمِ الْوَاحِدِ وإذا كان حُكْمُهَا في الْفَرْعِ غير حُكْمِهَا في الْأَصْلِ خَرَجَتْ عن أَنْ تَكُونَ عِلَّةً الْحَادِيَ عَشَرَ أَنْ لَا تُوجِبَ ضِدَّيْنِ بِأَنْ تَنْقَلِبَ على الْمُعَلَّلِ في ضِدِّ حُكْمِهَا لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ شَاهِدَةٌ بِحُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ كَالشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَا لِلْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ وَشَهِدَا لِلْمُدَّعَى عليه بِبَرَاءَتِهِ من دَعْوَى الْمُدَّعِي تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمَا جميعا فَلِذَلِكَ تَبْطُلُ شَهَادَةُ الْعِلَّةِ لِلْحُكْمَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ هَكَذَا قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقال ابن الْقَطَّانِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَدُلَّ على الضِّدَّيْنِ كما يَدُلُّ وُجُودُ الْحَرَكَةِ على حَرَكَةِ الْجِسْمِ وَعَلَى أنها إذَا عَدِمَتْ عَدِمَتْ الْحَرَكَةَ ثُمَّ خَالَفَهُ أبو الْحُسَيْنِ لِأَنَّ الْأَصْلَ إذَا كان مَثَلًا الْوَاطِئُ في رَمَضَانَ فَفِيهِ كَفَّارَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوجَدَ منه دَلَالَةُ الْكَفَّارَةِ وَأَنْ لَا كَفَّارَةَ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ ثُبُوتُهَا عن ثُبُوتِ الْأَصْلِ خِلَافًا لِقَوْمٍ كما يُقَالُ فِيمَا أَصَابَهُ عَرَقُ الْكَلْبِ أَصَابَهُ عَرَقُ حَيَوَانٍ نَجِسٍ فَيَكُونُ نَجِسًا كَلُعَابِهِ فَيَمْنَعُ كَوْنَ عَرَقِ الْكَلْبِ نَجِسًا فَيُقَالُ لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ فإن اسْتِقْذَارَهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ فَكَانَ كما يُعَلَّلُ سَلْبُ الْوِلَايَةِ عن الصَّغِيرَةِ بِالْجُنُونِ الْعَارِضِ لِلْوَلِيِّ لنا لو تَأَخَّرَتْ الْعِلَّةُ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ عن الْحُكْمِ لَثَبَتَ الْحُكْمُ بِغَيْرِ بَاعِثٍ وهو مُحَالٌ وَإِنْ جَعَلْنَا الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ لَزِمَ تَعْرِيفُ الْمُعَرَّفِ وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا تَجْوِيزَ كَوْنِ وَصْفِ الْعِلَّةِ مُتَأَخِّرًا عن حُكْمِهَا فَاعْتَلَّ في إسْقَاطِ الزَّكَاةِ عن الْخَيْلِ بِالِاخْتِلَافِ في جَوَازِ أَكْلِهِ قِيَاسًا على الْحَمِيرِ قال وَهَذَا اعْتِلَالٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْخِلَافَ في إبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ إنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالزَّكَاةُ فِيمَا فيه الزَّكَاةُ إنَّمَا وَجَبَتْ في حَيَاتِهِ وَكَذَلِكَ سُقُوطُهَا عَمَّا سَقَطَتْ عنه الزَّكَاةُ كان في حَيَاتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ عِلَّةُ سُقُوطِهَا عن شَيْءٍ مُتَأَخِّرَةً عن سُقُوطِهَا عنه وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ اخْتَلَفُوا في الْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عن الْحُكْمِ هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فقال قَوْمٌ من أَهْلِ الْعِرَاقِ يَجُوزُ وَعَلَّلُوا طَهَارَةَ جِلْدِ الْكَلْبِ بِالدِّبَاغِ كَالْكَلْبِ قال وَمِنْهُمْ من مَنَعَ ذلك وهو قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ يَكُنْ له دَلِيلٌ
لم يَجُزْ قال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عنه في الْوُجُودِ وَقِيلَ بِجَوَازِهِ وهو الْحَقُّ إنْ أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ الْعُرْفُ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَأْخِيرُ الْمُعَرَّفِ فَإِنْ أُرِيدَ بها الْمُوجِبُ وَالْبَاعِثُ فَلَا لَكِنْ قد تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ حُكْمُ الْأَصْلِ بِالْأَمَارَةِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْلِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عنه في الْوُجُودِ لَكَانَ لَا لِكَوْنِهَا مُتَأَخِّرَةً بَلْ لِكَوْنِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعَرِّفَةً وَأَمَّا في غَيْرِهِ فَيَجُوزُ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُعَيَّنًا لِأَنَّ رَدَّ الْفَرْعِ إلَيْهَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ فَلَوْ اُدُّعِيَ عليه شَيْءٌ مُشْتَرَكٌ مُبْهَمٌ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لم يُقْبَلْ منه إلَّا عِنْدَ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا شَرْعِيًّا كَالْحُكْمِ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ في جَدَلِهِ الْخَامِسَ عَشَرَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ وَصْفًا مُقَدَّرًا خِلَافًا لِلرَّازِيِّ قال الْهِنْدِيُّ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِالصِّفَاتِ الْمُقَدَّرَةِ خِلَافًا لِلْأَقَلِّينَ من الْمُتَأَخِّرِينَ كَقَوْلِنَا جَوَازُ التَّصَرُّفَاتِ نحو الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ مُعَلَّلٌ بِالْمِلْكِ وَلَا وُجُودَ له في نَظَرِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ فَيُقَدَّرُ له وُجُودٌ في نَظَرِ الشَّرْعِ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا بِمَا لَا وُجُودَ له حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا فَيَكُونُ عَدَمًا مَحْضًا وَنَفْيًا صِرْفًا وهو مُمْتَنِعٌ فَنَقُولُ الْمِلْكُ مَعْنًى مُقَدَّرٌ شَرْعِيٌّ في الْمَحَلِّ أَثَرُهُ جَوَازُ التَّصَرُّفَاتِ وَغَيْرِهَا قُلْت وَكَتَعْلِيلِ الْعِتْقِ عن الْغَيْرِ بِتَقْدِيرِ الْمِلْكِ هذا إذَا قِيلَ بِالْمُقَدَّرَاتِ فإن الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ أَنْكَرَ وُجُودَهَا في الشَّرْعِ قال ليس الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عنه بِتَقْدِيرِ الْمِلْكِ له وَأُنْكِرَ تَقْدِيرُ الْأَعْيَانِ في الذِّمَّةِ قال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ وَهَذَا بَعِيدٌ فإنه لَا يَكَادُ يُوجَدُ بَابٌ من أَبْوَابِ الْفِقْهِ يَعْرَى عنها أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَسْلَمَ على إرْدَبِّ قَمْحٍ صَحَّ الْعَقْدُ مع أَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا في الذِّمَّةِ وَإِلَّا لَكَانَ عَقْدًا بِلَا مَعْقُودٍ عليه وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِلَا ثَمَنٍ وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ لَا بُدَّ من تَقْدِيرِ مَنَافِعَ في الْأَعْيَانِ حتى يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُورِدًا لِلْعَقْدِ وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْعَارِيَّةُ لَا بُدَّ من تَخَيُّلِ ذلك فيها وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ على الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ وَلَا بُدَّ من تَخَيُّلِ ذلك عليه وإذا لم يُقَدَّرْ الْمِلْكُ لِلْمُعْتَقِ عنه كَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ من الْكَفَّارَةِ التي عَتَقَ عنها فَكَيْفَ يَكُونُ له الْوَلَاءُ في غَيْرِ عَبْدٍ يَمْلِكُهُ مُحَقَّقًا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا
وَالتَّصْوِيرُ في هذا الْبَابِ كَثِيرٌ السَّادِسَ عَشَرَ أَنْ لَا يَكُونَ عَدَمًا في الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ عِنْدَ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَغَيْرِهِ وَخَالَفَهُ الْآمِدِيُّ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْعَدَمِيِّ بمثله وَالْعَدَمِيِّ بِالْوُجُودِيِّ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في تَعْلِيلِ الْوُجُودِيِّ بِالْعَدَمِيِّ على قَوْلَيْنِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ منهم الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وأبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ إلَى الْجَوَازِ لِأَنَّ لَا مَعْنَى لِلْعِلَّةِ إلَّا الْمُعَرِّفُ وهو غَيْرُ مُنَافٍ لِلْعَدَمِ وَمِثَالُهُ عِلَّةُ تَحْرِيمِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَدَمُ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ وَذَهَبَ الْقَاضِي أبو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ كما قَالَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ إلَى الْمَنْعِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِوُجُودِ مَعْنًى يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ وَالنَّفْيُ عَدَمُ مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ الْحُكْمَ وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَمِنْ حُجَّةِ الْمَانِعِ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَنْشَأً لِلْحِكْمَةِ كَالسَّرِقَةِ الْمَنْصُوبَةِ عِلَّةً لِلْقَطْعِ فَإِنَّهَا مَنْشَأُ الْحِكْمَةِ إذْ كَوْنُهَا جِنَايَةً وَمَفْسَدَةً إنَّمَا نَشَأَ من ذَاتِهَا لَا من خَارِجٍ عنها وَهَذَا مُنَازَعٌ فيه فإن الْعِلَّةَ لَا يُشْتَرَطُ فيها ذلك بَلْ يَكْفِي كَوْنُهَا أَمَارَةً على الْحِكْمَةِ وَحِينَئِذٍ فَالْعَدَمُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَمَارَةً عليها وقد سَاعَدَ الْخَصْمَ على جَوَازِ تَعْلِيلِ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ وهو اعْتِرَافٌ منه بِإِمْكَانِ جَعْلِ الْعَدَمِ أَمَارَةً وإذا أَمْكَنَ ذلك في طَرَفِ الْعَدَمِ أَمْكَنَ في الطَّرَفِ الْآخَرِ لِأَنَّ الظُّهُورَ لَا يَخْتَلِفُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَنْكَرَهُ قَوْمٌ في الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ فِيهِمَا جميعا قال وَفَصَّلَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا فَجَوَّزَهُ في الشَّرْعِيَّاتِ دُونَ الْعَقْلِيَّاتِ وقد قال الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَدَّ على الْعِرَاقِيِّينَ في خَرَاجِ الْبَيْعِ من غَلَّةٍ وَثَمَرَةٍ وَوَلَدٍ إنَّ ذلك كُلَّهُ مِمَّا لم يَقَعْ عليه صَفْقَةُ الْبَيْعِ وقال الْمُزَنِيّ في إبَاحَةِ الْقَصْرِ لِمَنْ لم يَكُنْ عَزَمَ على الْمُقَامِ وقال إلْكِيَا إنْ كان الْحُكْمُ من قَبِيلِ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ على الْأُصُولِ تَطَرَّقَ الْقِيَاسُ إلَيْهِ من جِهَتَيْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ كَقَوْلِنَا لَا كَفَّارَةَ على الْأَكْلِ وَلَا على من أَفْطَرَ ظَنًّا وَإِنْ أَمْكَنَ تَلَقِّيه من أَمَارَةٍ غَيْرِ الْقِيَاسِ لم يَمْتَنِعْ تَلَقِّيه من الْقِيَاسِ وقال الْهِنْدِيُّ الْحُكْمُ وَالْعِلَّةُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتِيَّيْنِ كَثُبُوتِ الرِّبَا لِعِلَّةِ الطُّعْمِ أو عَدَمِيَّيْنِ كَعَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ لِعَدَمِ الرِّضَا وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَا نِزَاعَ فِيهِمَا هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَفِيهِ نَظَرٌ فإن من يَجْعَلُ الْعِلَّةَ ثُبُوتِيَّةً يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجَوِّزَ قِيَاسَهَا بِالْعَدَمِ سَوَاءٌ كان عِلَّةُ الْحُكْمِ الثُّبُوتِيَّ أو الْعَدَمِيَّ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ ثُبُوتِيَّةً وَالْحُكْمُ عَدَمِيًّا كَعَدَمِ
وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِثُبُوتِ الدَّيْنِ وَهَذَا الْقِسْمُ تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ تَعْلِيلًا بِالْمَانِعِ وهو مَبْنِيٌّ على جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَاخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل من شَرْطِ وُجُودِ الْمُقْتَضَى أَمْ لَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَدَمِيَّةً وَالْحُكْمُ ثُبُوتِيًّا كَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ لِعَدَمِ الْفَسْخِ في زَمَانِ الْخِيَارِ وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ الْجَوَازِ انْتَهَى وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَصَاحِبُ التَّنْقِيحِ وَالْإِمَامُ في الْمَعَالِمِ وَاخْتَارَ في الْمَحْصُولِ الْجَوَازَ وقال في الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ إنْ كان الْوَصْفُ ضَابِطًا لِحِكْمَةِ مَصْلَحَةٍ يَلْزَمُ حُصُولُ الْمَفْسَدَةِ عِنْدَ ارْتِفَاعِهَا كان عَدَمُ ذلك الْوَصْفِ ضَابِطًا لِتِلْكَ الْمَفْسَدَةِ فَيَكُونُ ذلك الْعَدَمُ مُنَاسِبًا لِلْحُرْمَةِ وقال ابن الْمُنِيرِ الْمُخْتَارُ أَنَّ النَّفْيَ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ وَلَا لِلنَّفْيِ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَفْرُوضَ عِلَّتُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّفْيَ الْمُطْلَقَ بِاتِّفَاقٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا مُضَافًا إلَى أَمْرٍ وَذَلِكَ الْأَمْرُ إنْ كان مَنْشَأَ مَصْلَحَةٍ اسْتَحَالَ أَنْ يُعَلَّلَ بِنَفْيِهِ حُكْمٌ ثُبُوتِيٌّ إذْ عَدَمُ الْمَصْلَحَةِ لَا يَكُونُ عِلَّةً في الْحُكْمِ وَإِنْ كان مَنْشَأَ مَفْسَدَةٍ فَهُوَ مَانِعٌ وَنَفْيُ الْمَانِعِ لَا يَكُونُ عِلَّةً وَإِنْ كانت الْعِلَّةُ بِمَعْنَى الْمُعَرِّفِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ عِلَّةً لِلْوُجُودِ وَإِنْ كان الْمُرَادُ جَمِيعَ ما يَتَوَقَّفُ عليه الشَّيْءُ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ أَمْرًا عَدَمِيًّا بِدَلِيلِ أَنَّ وُجُودَ الضِّدِّ في الْمَحَلِّ يَقْتَضِي عَدَمَ الضِّدِّ الْآخَرِ في الْمَحَلِّ فَقَدْ صَارَ الْعَدَمُ جُزْءًا من الْعِلَّةِ وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا عَدَمِيًّا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْعَدَمِ الصِّرْفِ عِلَّةً لِلْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ وَالْعِلْمِ بِهِ وَإِنْ كان الْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ هو الْمَعْنَى الْمَوْجُودُ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ من أَجْزَائِهِ عَدَمِيًّا لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ جُزْءًا من الْعِلَّةِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَوْجُودَةِ وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّحْقِيقُ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّهُ إنْ كان في الْعَدَمِ الْمَحْضِ الذي ليس فيه إضَافَةٌ إلَى شَيْءٍ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ قَطْعًا وَإِنْ كان في الْأَعْدَامِ الْمُضَافَةِ فَيَصِحُّ أَنْ يُعَلَّلَ بها قَطْعًا كما تَكُونُ شُرُوطًا خُصُوصًا في الشَّرْعِيَّةِ فَهِيَ أَمَارَاتٌ فَلْيُتَأَمَّلْ وَجَعَلَ النَّصِيرُ الطُّوسِيُّ في شَرْحِ التَّحْصِيلِ الْخِلَافَ في الْعَدَمِ الْمُقَيَّدِ كما يُقَالُ عَدَمُ الْمَالِ عِلَّةُ الْفَقْرِ أَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَا يُعَلَّلُ وَلَا يُعَلَّلُ بِهِ قَطْعًا الثَّانِي أَنَّ الْخِلَافَ يَجْرِي في الْجُزْءِ أَيْضًا فَالْمَانِعُونَ اشْتَرَطُوا أَنْ لَا يَكُونَ الْعَدَمُ جُزْءًا من الْعِلَّةِ كما يَكُونُ كُلًّا وَالْمُجَوِّزُونَ في الْكُلِّ جَوَّزُوهُ في الْجُزْءِ
الثَّالِثُ لو وَرَدَ من الشَّرْعِ لَفْظٌ يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ على ثُبُوتِ تَعْلِيلِ الثُّبُوتِ بِالْعَدَمِ نَحْوُ أُثْبِتَ حُكْمٌ بهذا الْعَدَمِ كَذَا فقال الْبَزْدَوِيُّ وهو من الْمَانِعِينَ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ اللَّفْظِ وَحَمْلُهُ على غَيْرِ التَّعْلِيلِ من تَأْقِيتٍ أو غَيْرِهِ جَمْعًا بين الدَّلِيلَيْنِ وَرُدَّ عليه بِأَنَّ التَّعْلِيلَ عِنْدَهُ عِبَارَةٌ عن نَصْبِ الْأَمَارَةِ خَاصَّةً فإذا حُمِلَ الْكَلَامُ على التَّأْقِيتِ رَجَعَ إلَى الْأَمَارَةِ فَكَأَنَّهُ فَرَّ من التَّعْلِيلِ فَوَقَعَ في التَّعْلِيلِ فَرْعَانِ أَحَدُهُمَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يُعَلَّلُ قالوا إنَّ الْمَعْدُومَ وَالْمَوْجُودَ رُتْبَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ وَجَوَّزُوا التَّعْلِيلَ بها وَقَالُوا ليس من شُرُوطِ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وُجُودِيًّا بَلْ من شُرُوطِهَا أَلَّا تَكُونَ عَدَمِيَّةً ثُمَّ تَارَةً تَكُونُ أَمْرًا وُجُودِيًّا وَتَارَةً تَكُونُ أَمْرًا مَعْلُومًا من قَبِيلِ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ وَبِهِ يَظْهَرُ الْمَعْنَى في قَوْلِهِمْ أَنْ لَا يَكُونَ عَدَمِيًّا ولم يَقُولُوا أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا وَمِثَالُهُ قَوْلُنَا الْبُنُوَّةُ مُقَدَّمَةٌ على الْأُبُوَّةِ وَهَذَا عِلَّةُ الْمِيرَاثِ وَهُمَا إضَافِيَّانِ ذِهْنِيَّانِ لَا وُجُودَ لَهُمَا في الْأَعْيَانِ وقد اُخْتُلِفَ في التَّعْلِيلِ بِهِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَالْحَقُّ ابْتِنَاءُ هذا الْخِلَافِ على أَنَّ الْإِضَافِيَّاتِ من الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ أو الْوُجُودِيَّةِ فَإِنْ قُلْنَا عَدَمِيَّةٌ فَالْكَلَامُ فيه كما سَبَقَ في الْعَدَمِيِّ وَإِنْ قُلْنَا وُجُودِيَّةٌ فَهِيَ كَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهُ ليس فيه مَعْنًى مُنَاسِبٌ فَهُوَ عِلَّةٌ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الثَّانِي الْوَصْفُ التَّقْدِيرِيُّ هو كَالْعَدَمِيِّ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ في الْخَارِجِ وَإِنَّمَا قُدِّرَ له وُجُودٌ لِلضَّرُورَةِ فِيمَا يُخْرِجُهُ عن كَوْنِهِ عَدَمِيًّا تَعْلِيلُ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِمُعْتَقٍ عنه بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ له وَتَوْرِيثُ الدِّيَةِ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَقْتُولِ قبل مَوْتِهِ في الزَّمَنِ الْفَرْدِ فإنه حَيٌّ لَا يَسْتَحِقُّهَا وما لَا يَمْلِكُ لَا يُورَثُ عنه وَالْمِلْكُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُحَالٌ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْمِلْكِ قبل الزُّهُوقِ وَالْخِلَافُ فيه أَضْعَفُ من الْخِلَافِ في الْعَدَمِيِّ تَنْبِيهٌ امْتِنَاعُ الشَّيْءِ مَتَى دَارَ اسْتِنَادُهُ إلَى عَدَمِ الْمُقْتَضَى أو وُجُودِ الْمَانِعِ كان اسْتِنَادُهُ إلَى عَدَمِ الْمُقْتَضَى أَوْلَى لِأَنَّا لو أَسْنَدْنَاهُ إلَى وُجُودِ الْمَانِعِ لَكَانَ الْمُقْتَضَى قد وُجِدَ وَتَخَلَّفَ أَثَرُهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَهَذَا كَتَعْلِيلِهِمْ عَدَمَ صِحَّةِ بَيْعِ الصَّبِيِّ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ أَوْلَى من التَّعْلِيلِ بِالصِّبَا وَفِيهِ الْخِلَافُ في تَعْلِيلِهِمْ مَنْعَ إطْلَاقِهِمْ كَافِرٌ على من أَسْلَمَ بِاعْتِبَارِ ما كان عليه فقال الْجُمْهُورُ لِوُجُودِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ وقال ابن الْحَاجِبِ لِعَدَمِ الْمُقْتَضَى وهو
عَدَمُ الْمُشْتَقِّ منه حَالَةَ الْإِطْلَاقِ السَّابِعَ عَشَرَ إنْ كانت مُسْتَنْبَطَةً فَالشَّرْطُ أَنْ لَا يَرْجِعَ على الْأَصْلِ بِإِبْطَالِهِ أو إبْطَالِ بَعْضِهِ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَرْكِ الرَّاجِحِ إلَى الْمَرْجُوحِ إذْ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ من النَّصِّ أَقْوَى من الْمُسْتَفَادِ من الِاسْتِنْبَاطِ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِهَذَا الْحُكْمِ وَالْفَرْعُ لَا يَرْجِعُ على إبْطَالِ أَصْلِهِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى نَفْسِهِ بِالْإِبْطَالِ وَمِنْ ثَمَّ ضَعُفَ مَدْرَكُ الْحَنَفِيَّةِ في تَأْوِيلِهِمْ قَوْلَهُ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ لِأَنَّ الْقَصْدَ دَفْعُ الْحَاجَةِ أو الْقِيمَةِ فإن هذا يَلْزَمُ منه أَنْ لَا تَجِبَ الشَّاةُ أَصْلًا لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لم تَجُزْ الشَّاةُ فلم تَكُنْ مُجْزِئَةً وَهِيَ مُجْزِئَةٌ بِالِاتِّفَاقِ هَكَذَا مَثَّلُوا بِهِ وَنَازَعَ فيه الْغَزَالِيُّ من جِهَةِ أَنَّ من أَجَازَ الْقِيمَةَ فَهُوَ مُسْتَنْبِطُ مَعْنًى مُعَمِّمٍ لَا مُبْطِلٍ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ إجْزَاءَ الشِّيَاهِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ أَحَدُهَا أَنَّ اسْتِنْبَاطَ الْقِيمَةِ أَلْغَى تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ ابْتِدَاءً الذي عليه الدَّلِيلُ وَهَذَا مَعْنَى الْإِبْطَالِ أَيْ إبْطَالِ التَّعَلُّقِ الثَّانِي أَنَّهُ أَلْغَى تَعْيِينَهَا من بِنْتِ الْمَخَاضِ أو بِنْتِ اللَّبُونِ أو حِقَّةٍ أو جَذَعَةٍ وَصَيَّرَ الْوَاجِبَ جَائِزًا لِأَنَّهُ إنْ كانت الْقِيمَةُ هِيَ الْوَاجِبَ لم تَكُنْ الشَّاةُ وَاجِبَةً وَلَا يَلْزَمُ وُجُوبُهَا وَلَا قَائِلَ بِهِ الثَّالِثُ يُقَالُ وَإِنْ أَجْزَأَتْ الشَّاةُ لَكِنْ من حَيْثُ لم يَخُصَّ الْأَجْزَاءَ بها فَبَطَلَ لَفْظُ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَلَيْسَتْ الْقِيمَةُ أَعَمَّ من الشَّاةِ وَمِنْ مِثْلِهِ أَيْضًا مَصِيرُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إلَى الِاكْتِفَاءِ في إتْبَاعِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ من غَيْرِ شَوَّالٍ نَظَرًا لِمَعْنَى تَكْمِيلِ السُّنَّةِ وَهَذَا يُبْطِلُ خُصُوصَ شَوَّالٍ الذي دَلَّ عليه النَّصُّ وَكَذَا قَوْلُهُ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ فإن الْخُصُومَ يُقَدِّرُونَ فيه مِثْلُ ذَكَاةِ أُمِّهِ وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُرْفَعُ لِكَوْنِهِ غير مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لِإِمْكَانِ صِحَّةِ الْكَلَامِ بِدُونِهِ لِأَنَّ الْجَنِينَ إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَكَاتِهِ فَذَكَاتُهُ كَغَيْرِهِ من الْحَيَوَانَاتِ لَا خُصُوصِيَّةَ لِأُمِّهِ ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْرِفُ أَنَّ ذَكَاتَهُ كَذَكَاتِهَا فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُفِيدًا أَلْبَتَّةَ وَلَا يُقَالُ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ يَقْتَضِي الْجَوَازَ حَيْثُ جَوَّزَ الْإِمْعَانَ في غَسَلَاتِ الْكَلْبِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَعْنَى في التُّرَابِ الْخُشُونَةُ الْمُزِيلَةُ وَهَذَا يُبْطِلُ خُصُوصَ التُّرَابِ لِأَنَّا نَقُولُ هو على هذا الْقَوْلِ عَادَ على أَصْلِهِ بِالتَّعْمِيمِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ الِاسْتِظْهَارَ وَهِيَ أَعَمُّ من الْجَمْعِ بين الطَّهُورَيْنِ
وقال الْهِنْدِيُّ هذا الشَّرْطُ صَحِيحٌ إنْ عَنَى بِذَلِكَ إبْطَالَهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَأَمَّا إذَا لَزِمَ فيه تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهُ كَتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِحُكْمِ نَصٍّ آخَرَ وهو جَائِزٌ فَكَذَا هذا وَإِنْ كان بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَطِيفٌ لَا يَنْتَهِي إلَى دَرَجَةِ أَنْ لَا يَجُوزَ بِذَلِكَ معه انْتَهَى وَهَذَا الذي تَوَقَّفَ فيه ولم يَظْفَرْ فيه بِنَقْلٍ قد وَجَدْت النَّقْلَ بِخِلَافِهِ في كِتَابِ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَتِلْمِيذِهِ أبي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ فَشَرَطَا في الْعِلَّةِ أَنْ لَا يَرْجِعَ على أَصْلِهَا بِالتَّخْصِيصِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ اعْتَلُّوا لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ في الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالْكَيْلِ لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِمَا شَامِلٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُمَا وَالْكَيْلُ يَخُصُّ الْكَثِيرَ دُونَ الْقَلِيلِ فَهَذِهِ الْعِلَّةُ تُوجِبُ في الْقَلِيلِ من أَصْلِهَا ضِدَّ ما أَوْجَبَهُ النَّصُّ في ذلك وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمُنْتَزَعَةُ من أَصْلٍ مُخَصَّصَةً لِأَصْلِهَا وَإِنْ جَازَ تَخْصِيصُ اسْمٍ آخَرَ غَيْرِ أَصْلِهَا بها انْتَهَى وَاعْلَمْ أَنَّ في عَوْدِهَا على الْأَصْلِ بِالتَّخْصِيصِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَسَبَقَتْ في بَابِ الْعُمُومِ الثَّامِنَ عَشَرَ إنْ كانت مُسْتَنْبَطَةً فَالشَّرْطُ أَنْ لَا تُعَارَضَ بِمُعَارِضٍ مُنَافٍ مَوْجُودٍ في الْأَصْلِ بِأَنْ تُبْدَى عِلَّةٌ أُخْرَى من غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَإِلَّا جَازَ التَّعْلِيلُ بِمَجْمُوعِهِمَا أو بِالْأُخْرَى وَقِيلَ وَلَا بِمُعَارِضٍ في الْفَرْعِ بِأَنْ تَثْبُتَ فيه عِلَّةٌ أُخْرَى تُوجِبُ خِلَافَ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ على أَصْلٍ آخَرَ فإن الْمُعَارِضَ يُبْطِلُ اعْتِبَارَهَا وَقِيلَ أَنْ لَا يَكُونَ بِمُعَارِضٍ في الْفَرْعِ مع تَرْجِيحِ الْمُعَارِضِ وَلَا بَأْسَ بِالتَّسَاوِي لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ وَقِيلَ الْمُعَارِضُ الْمُسَاوِي يَمْنَعُ التَّعْلِيلَ أَيْضًا التَّاسِعَ عَشَرَ يُشْتَرَطُ في الْمُسْتَنْبَطَةِ أَنْ لَا تَتَضَمَّنَ زِيَادَةً على النَّصِّ أَيْ حُكْمًا في الْأَصْلِ غير ما أَثْبَتَهُ النَّصُّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِمَا أُثْبِتَ بِهِ مِثَالُهُ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَعَلَّلَ الْحُرْمَةَ بِأَنَّهَا رِبًا فِيمَا يُوزَنُ كَالنَّقْدَيْنِ فَيَلْزَمُ التَّقَابُضُ مع أَنَّ النَّصَّ لم يَتَعَرَّضْ له وَقِيلَ إنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنَافِيَةً لِحُكْمِ الْأَصْلِ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ نَسْخٌ له فَهُوَ مِمَّا يُعَكِّرُ على أَصْلِهِ بِالْإِبْطَالِ وَإِلَّا لَجَازَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَجَعَلَهُ الْهِنْدِيُّ تَنْقِيحَ مَنَاطٍ ولم يَنْسُبْهُ إلَيْهِ الْعِشْرُونَ أَنْ لَا تَكُونَ مُعَارِضَةً لِعِلَّةٍ أُخْرَى تَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا بِأَنْ نَقُولَ
ما ذَكَرْتَ من الْوَصْفِ وَإِنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ في الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ فَيُوقَفُ ذلك فَسَيَأْتِي بَيَانُ ذلك في الِاعْتِرَاضَاتِ وقال الْهِنْدِيُّ إنْ عَنَى بِهِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى كَيْفَ كانت فَهَذَا مِمَّا لَا وَجْهَ له لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً على ما يُعَارِضُهَا من الْعِلَّةِ لَا مَانِعَ من اسْتِنْبَاطِهَا وَجَعْلِهَا عِلَّةً وَإِنْ عَنَى بِهِ أَنْ لَا تَكُونَ مُعَارِضَةً أُخْرَى رَاجِحَةً عليها فَهَذَا وَإِنْ كان من شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْمَعْمُولِ بها لَكِنْ ليس من شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعِلَّةِ في ذَاتِهَا فإن الْعِلَّةَ الْمَوْجُودَةَ وَالدَّلِيلَ الْمَرْجُوحَ لَا يَخْرُجَانِ بِسَبَبِ الْمَرْجُوحِيَّةِ عن الْعِلَّةِ وَالدَّلَالَةِ وَإِلَّا لَمَا تُصُوِّرَ التَّعَارُضُ إلَّا بين الْمُتَسَاوِيَيْنِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ إذَا كان الْأَصْلُ فيه شَرْطٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ تُوجِبُ إزَالَةَ شَرْطِ أَصْلِهَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ لَمَّا جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ جَازَ وَلَكِنْ لِمَنْ لَا يَخْشَاهُ لِوَصْفٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ أَنَّ خَشْيَةَ الْعَنَتِ شَرْطٌ مَنْصُوصٌ عليه في الْقُرْآنِ في إبَاحَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ تُوجِبُ سُقُوطَ هذا الشَّرْطِ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عليها مُتَنَاوِلًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ لَا بِعُمُومِهِ وَلَا بِخُصُوصِهِ على الْمُخْتَارِ لِلِاسْتِغْنَاءِ حِينَئِذٍ عن الْقِيَاسِ وفي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ ما يَقْتَضِي جَوَازَهُ فإنه قال وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَحَلَّ لهم شيئا جُمْلَةً وَحَرَّمَ منه شيئا بِعَيْنِهِ فَيُحِلُّونَ الْحَلَالَ بِالْحُكْمِ وَيُحَرِّمُونَ الشَّيْءَ بِعَيْنِهِ وَلَا يَقِيسُونَ على الْأَقَلِّ الْحَرَامَ وَالْقِيَاسُ على الْأَكْثَرِ أَوْلَى أَنْ يُقَاسَ عليه من الْأَقَلِّ هذا لَفْظُهُ وَتَرْجَمَ عليه ابن اللَّبَّانِ في تَرْتِيبِ الْأُمِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ دَاخِلًا في عُمُومِ حُكْمِ الْأَصْلِ وقال إلْكِيَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمَنْصُوصَاتِ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا على بَعْضٍ وَمَتَى وُجِدَ في الْفَرْعِ نَصٌّ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ من غَيْرِ اعْتِبَارِهِ بِأَصْلٍ آخَرَ كان الْقِيَاسُ فَاسِدَ الْوَضْعِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ كَقِيَاسِ الْقَتْلِ عَمْدًا على الْقَتْلِ خَطَأً في إيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَقِيَاسِ الْمُحْصَرِ على الْمُتَمَتِّعِ في إيجَابِ الصَّوْمِ بَدَلًا عن الْهَدْيِ عِنْدَ الْعَدَمِ لِأَنَّ كُلَّ حَادِثَةٍ مَنْصُوصٍ عليها قال وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا دَلَّتْ الْأَمَارَاتُ على أَنَّهُ اسْتَقْصَى حُكْمَ الْوَاقِعَةِ ولم يُقَارِبْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بها شَيْءٌ أَمَّا إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ ذَكَرَ في كل وَاقِعَةٍ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ مِمَّا لَا يُشَارِكُهُ فيه غَيْرُهُ أو قَصَدَ بِهِ ما يَدُلُّ فَحَوَاهُ على اسْتِقْصَاءِ حُكْمِهِ وَبَقِيَ ما عَدَا الْمَذْكُورَ فَذَلِكَ مَحْضُ تَخْصِيصِ حُكْمٍ لَا يَدُلُّ على نَفْيِ ما عَدَاهُ وَذَلِكَ بَيِّنٌ في بَابِ
الْمَفْهُومِ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ لَا يَكُونَ مُؤَيِّدًا لِلْقِيَاسِ أَصْلٌ مَنْصُوصٌ عليه بِالْإِثْبَاتِ على أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عليه بِالنَّفْيِ كَالْعِلَّةِ التي يَقِيسُ بها الْعِرَاقِيُّونَ الْمَسَافَاتِ على الْمُزَارَعَةِ وَالدَّعْوَى في الدَّمِ مع اللَّوْثِ على الدَّعْوَى في الْأَمْوَالِ في الْبُدَاءَةِ فِيهِمَا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عليه ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقال هذا مَعْنَى ما رَوَى يُونُسُ بن عبد الْأَعْلَى عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ أَصْلٌ على أَصْلٍ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ إنْ كانت مُتَعَدِّيَةً أَيْ تُوجَدُ في غَيْرِ الْأَصْلِ فَيُشْتَرَطُ فيها أَنْ لَا يَكُونَ التَّعْلِيلَ في الْمَحَلِّ وَلَا جُزْءًا منه وَلَا يُتَصَوَّرُ تَعْدِيَتُهَا بِخِلَافِ الْقَاصِرَةِ فإنه يَجُوزُ فيها ذلك هذا هو الْمُخْتَارُ عِنْدَ الرَّازِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ بِالْمَحَلِّ وَجُزْئِهِ فِيهِمَا وَقِيلَ يَمْتَنِعُ فِيهِمَا وَنُسِبَ لِلْأَكْثَرِينَ وقال الْآمِدِيُّ يَجُوزُ بِجُزْءِ الْمَحَلِّ دُونَ الْمَحَلِّ وَلَيْسَ هذا في الْحَقِيقَةِ مَذْهَبًا ثَالِثًا كما يُوهِمُ صَاحِبُ الْبَدِيعِ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْجُزْءِ الْعَامُّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذلك وَأَمَّا الْجُزْءُ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِهِ لِاحْتِمَالِ عُمُومِهِ لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَهَذَا بِخِلَافِهِ وقال الْهِنْدِيُّ الْحَقُّ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ على جَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ فَإِنْ جَوَّزَ ذلك جَازَ هذا سَوَاءٌ ثَبَتَ عِلِّيَّتُهُ بِنَصٍّ أو بِغَيْرِهِ إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ حَرُمَتْ الرِّبَا في الْبُرِّ لِكَوْنِهِ بُرًّا أو يُعَرِّفُهُ مُنَاسَبَةُ مَحَلِّ الْحُكْمِ له لِاشْتِمَالِهِ على حِكْمَةٍ دَاعِيَةٍ له وَلَا نَظَرَ إلَى أَنْ يُقَالَ لو جَازَ ذلك لَكَانَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ قَابِلًا وَفَاعِلًا لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ ذلك وَاسْتِحَالَتُهُ مَبْنِيَّةٌ على أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عنه إلَّا الْوَاحِدُ وهو بَاطِلٌ قَطْعًا وَإِنْ يُجَوَّزُ التَّعْلِيلُ بِالْقَاصِرَةِ لم يُجَوَّزْ هذا لِأَنَّ مَحَلَّ الْحُكْمِ وَجُزْأَهُ الْخَاصَّ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجَدَ في غَيْرِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ مَنْقُولَةٌ عن مَسْأَلَةٍ مَشْهُورَةٍ بين الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَهِيَ أَنَّ الْوَاحِدَ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ لَا يَصْدُرُ عنه أَكْثَرُ من وَاحِدٍ إلَّا إذَا تَعَدَّدَتْ الْقَوَابِلُ وَبَنَوْا عليه تَرْتِيبَ الْمَوْجُودَاتِ فَإِنَّهُمْ قالوا أَقَلُّ ما صَدَرَ من الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وهو الْمُسَمَّى بِالْفَلَكِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمْ ثُمَّ صَدَرَ من الْفَلَكِ الْأَوَّلِ عَقْلٌ وَنَفْسٌ ثُمَّ بَنَوْا على هذا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ فَاسِدًا آخَرَ وهو أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَإِلَّا لَكَانَ فَاعِلًا لها وَقَابِلًا لها وهو مُحَالٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَالْقَبُولَ أَمْرَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عنه إلَّا وَاحِدٌ وهو من بَابِ تَفْرِيعِ الْفَاسِدِ على الْفَاسِدِ
فَصْلٌ في ذِكْرِ أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ في الْعِلَّةِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهَا منها شَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وأبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ تَعَدِّي الْعِلَّةِ من الْأَصْلِ إلَى غَيْرِهِ فَلَوْ وَقَعَتْ على حُكْمِ النَّصِّ ولم تُؤَثِّرْ في غَيْرِهِ كَتَعْلِيلِ الرِّبَا في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِمَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ إنْ كانت مَنْصُوصَةً أو مُجْمَعًا عليها صَحَّ التَّعْلِيلُ بها بِالِاتِّفَاقِ كما قَالَهُ الْقَاضِي وابن بَرْهَانٍ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ لَكِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ نَقَلَ عن قَوْمٍ أنها لَا تَصِحُّ على الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كانت مَنْصُوصَةً أو مُسْتَنْبَطَةً قال وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ وَإِنْ كانت مُسْتَنْبَطَةً فَهِيَ مَحْضُ الْخِلَافِ وقد اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَنَقَلَهُ في الْحَاوِي عن أبي بَكْرٍ الْقَفَّالِ الْمَنْعُ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ في الِاصْطِلَامِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ ما جَذَبَتْ حُكْمَ الْأَصْلِ إلَى فَرْعِهِ وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْحَلِيمِيِّ ما يَقْتَضِيهِ فقال من يُنْشِئُ النَّظَرَ لَا يَدْرِي أَيَقَعُ على عِلَّةٍ قَاصِرَةٍ أو مُتَعَدِّيَةٍ فإن الْعِلْمَ بِصِفَةِ الْعِلَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ حَالَةَ إنْشَاءِ النَّظَرِ فَيَجِبُ النَّظَرُ من هذه الْجِهَةِ قال الْإِمَامُ وَهَذَا قَلِيلُ النَّيْلِ فإن الْخَصْمَ لَا يُنْكَرُ وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا تَحَقَّقَ قُصُورُهُ فما قَوْلُ هذا الشَّيْخِ إذَا انْكَشَفَ النَّظَرُ وَالْعِلَّةُ قَاصِرَةٌ انْتَهَى وَأَصَحُّهُمَا وَنَصَرَهُ في الْقَوَاطِعِ تَبَعًا لِلْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَبِهِ قال جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إنَّهَا عِلَّةٌ وَإِنْ لم يَتَعَدَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ هو قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عن أَحْمَدَ لَكِنْ أبو الْخَطَّابِ حَكَى عن أَصْحَابِهِمْ مُقَابِلَهُ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ كان الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ من الْغُلَاةِ في تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ وَيَقُولُ هِيَ أَوْلَى من الْمُتَعَدِّيَةِ وَكَذَلِكَ الْقَاضِي وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ وُقُوفَهَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عن غَيْرِ الْأَصْلِ كما أَوْجَبَ تَعَدِّيهَا ثُبُوتَ حُكْمِ الْأَصْلِ في غَيْرِهِ فَصَارَ وُقُوفُهَا مُؤَثِّرًا في النَّفْيِ كما كان تَعَدِّيهَا مُؤَثِّرًا في الْإِثْبَاتِ فَاسْتُفِيدَ بِوُقُوفِهَا وَتَعَدِّيهَا حُكْمُ غَيْرِ الْأَصْلِ فَعَلَى هذا ثُبُوتُ الرِّبَا في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ وَيَخْرُجُ مِمَّا سَبَقَ حِكَايَةُ مَذْهَبٍ ثَالِثٍ وهو الْجَوَازُ في الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ قال عبد الْوَهَّابِ وَحَكَاهُ الْهَمْدَانِيُّ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَالصَّحِيحُ
الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَلِهَذَا فَوَائِدُ منها مَعْرِفَةُ الْبَاعِثِ الْمُنَاسِبِ وَمِنْهَا عَدَمُ إلْحَاقِ غَيْرِهَا وَقَوْلُهُمْ هذه الْفَائِدَةُ عُلِمَتْ من النَّصِّ مَمْنُوعٌ فإن النَّصَّ لم يُفِدْ إلَّا إثْبَاتَ الْحُكْمِ خَاصَّةً وَخَصَّهُ الْقَاضِي بِمَا إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهَا وَجَوَّزْنَا اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ فَبِاطِّلَاعِنَا على عِلَّةِ الْحُكْمِ نَزْدَادُ عِلْمًا كنا غَافِلِينَ عنه وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ أَعْظَمُ فَائِدَةً وَمِنْ أَعْظَمِ ما تُشَوَّقُ إلَيْهِ النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ ذَكَرَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَمِنْهَا أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا طَابَقَتْ النَّصَّ زَادَهُ قُوَّةً وَيَتَعَاضَدَانِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَمِنْهَا أَنَّ الْفَاعِلَ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِأَجْلِهَا فَيَحْصُلُ له أَجْرَانِ أَجْرُ قَصْدِ الْفِعْلِ وَالِامْتِثَالِ وَأَجْرُ قَصْدِ الْفِعْلِ لِأَجْلِهَا وَهَذَانِ الْقَصْدَانِ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فَيَفْعَلُ الْمَأْمُورَ لِكَوْنِهِ أُمِرَ بِفِعْلِهِ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَمِنْهَا إذَا حَدَثَ هُنَاكَ فَرْعٌ يُشَارِكُهُ في الْمَعْنَى عُلِقَ على الْعِلَّةِ وَأُلْحِقَ بِالْمَنْصُوصِ عليه ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي في بَابِ الرِّبَا وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ في الْقَاصِرَةِ وَمَتَى حَدَثَ فَرْعٌ يُشَارِكُهَا في الْمَعْنَى خَرَجَتْ عن أَنْ تَكُونَ قَاصِرَةً وقد نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن بَعْضِهِمْ أَنَّ فَائِدَتَهَا أَنَّا إذَا عَلَّلْنَا تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ في النَّقْدَيْنِ بِالنَّقْدِيَّةِ أَنْ يَلْحَقَ بها التَّحْرِيمُ في الْفُلُوسِ إذَا جَرَتْ نُقُودًا قال الْإِمَامُ وَهَذَا خَرَفٌ من قَائِلِهِ وَخَبْطٌ على الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فإن الْمَذْهَبَ عَدَمُ جَرَيَانِ الرِّبَا في الْفُلُوسِ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ نُقُودًا فإن النَّقْدِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَطْبُوعَاتِ وَالْفُلُوسُ في حُكْمِ الْعُرُوضِ وَإِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا ثُمَّ لو صَحَّ هذا قِيلَ لِصَاحِبِهِ إنْ دَخَلَتْ الْفُلُوسُ تَحْتَ الدَّرَاهِمِ بِالنَّصِّ فَالْعِلَّةُ بِالنَّقْدِيَّةِ قَائِمَةٌ وَإِنْ لم يَتَنَاوَلْهَا النَّصُّ فَالْعِلَّةُ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ في الْقَاصِرَةِ وَمِنْهَا أنها تُفِيدُ بِعَكْسِهَا فإذا ثَبَتَ النَّقْدِيَّةُ عِلَّةً في النَّقْدَيْنِ فَعَدَمُ النَّقْدِيَّةِ مُشْعِرٌ بِانْتِفَاءِ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَالنَّصُّ على اللَّقَبِ لَا مَفْهُومَ له وَرَدَّهُ الْإِمَامُ بِأَنَّ الِانْعِكَاسَ لَا يَتَحَتَّمُ في الْعِلَلِ وَمِنْهَا أَنَّهُ مَتَى زَالَتْ الصِّفَةُ عنه زَالَ الْحُكْمُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ قال وَيَجِبُ على هذا تَخْصِيصُ الْقَاصِرَةِ بِاَلَّتِي ثَبَتَتْ تَارَةً وَتَزُولُ أُخْرَى وَإِلَّا بَطَلَتْ
هذه الْفَائِدَةُ قُلْت وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ من فَوَائِدِ الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ في مَوْرِدِ النَّصِّ وَصْفَانِ قَاصِرٌ وَمُتَعَدٍّ وَغَلَبَ على ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّ الْقَاصِرَةَ عِلَّةٌ هل يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا يَمْتَنِعُ إنْ مَنَعْنَا اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِغَلَبَةِ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ وَمِنْ فَوَائِدِهِ إذَا عُورِضَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ بِوَصْفٍ قَاصِرٍ لِيَقْطَعَ الْقِيَاسَ فَاحْتَاجَ إلَى دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ فَهَلْ يَكْفِي في إفْسَادِ الْوَصْفِ قُصُورُهُ أو لَا يَكُونُ ذلك مُفْسِدًا وَهَذَا هو وَجْهُ جَعْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ الْقُصُورَ من الِاعْتِرَاضَاتِ الْفَاسِدَةِ على الْقِيَاسِ وَإِلَّا لم يَكُنْ عِنْدَهُ من الِاعْتِرَاضَاتِ إذْ الْقُصُورُ يُنَافِي الْقِيَاسَ ثُمَّ اخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ التَّفْصِيلَ بين أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الشَّرْعِ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَلَا فَائِدَةَ في التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا يَتَأَتَّى تَأْوِيلُهُ وَيُمْكِنُ تَقْدِيرُ حَمْلِهِ على الْكَثِيرِ مَثَلًا دُونَ الْقَلِيلِ فإذا نَتَجَتْ عِلَّةٌ تُوَافِقُ ظَاهِرَهُ فَهِيَ تُعْصَمُ من التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى لَا تَرْقَى رُتْبَتُهَا على الْمُسْتَنْبَطَةِ الْقَاصِرَةِ فَالْعِلَّةُ في مَحَلِّ الظَّاهِرِ كَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ في مُقْتَضَى النَّصِّ منه مُتَعَدِّيَةٌ إلَى ما اللَّفْظُ ظَاهِرٌ فيه من حَيْثُ عِصْمَتُهُ من التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ وكان ذلك إفَادَةً وَإِنْ لم يَكُنْ تَعَدِّيًا حَقِيقِيًّا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ زَعَمَ ابن الْحَاجِّ في نُكَتِهِ على الْمُسْتَصْفَى أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لم يَتَوَارَدْ على مَحَلٍّ وَاحِدٍ قال وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا صَحِيحَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ بَاطِلَةٌ بِاعْتِبَارِ الْفَرْعِ وقال ابن رَحَّالٍ إذَا فُسِّرَ اللَّفْظُ زَالَ الْخِلَافُ وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يقول ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ صَحِيحٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عليه وأبو حَنِيفَةَ يقول نَصْبُ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ أَمَارَةً بَاطِلٌ وَهَذَا أَيْضًا مُتَّفَقٌ عليه وَلَمَّا كان لَفْظُ التَّعْلِيلِ يُطْلَقُ تَارَةً على ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْوَصْفِ وَتَارَةً على نَصْبِهِ فَهَذَا الِاشْتِرَاكُ هو سَبَبُ الْخِلَافِ الثَّانِي أَنَّ كَلَامَ أَصْحَابِنَا صَرِيحٌ في أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَاصِرَةِ ليس مَشْرُوطًا بِانْتِفَاءِ التَّعْدِيَةِ بَلْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ في الْقَوَاطِعِ وَلَوْ كان ذلك شَرْطًا لَمَا تُصُوِّرَ وُقُوعُ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ التَّعَارُضَ فَرْعُ اجْتِمَاعِهِمَا وقد اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا تَعَارَضَا فَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ الْمُتَعَدِّيَةَ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْقَاصِرَةُ وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ الثَّالِثُ قال بَعْضُهُمْ الْخِلَافُ في بُطْلَانِهَا لَا على الْمَنْعِ من ظَنِّ كَوْنِهَا حِكْمَةً في
مَوْرِدِ النَّصِّ بَلْ على خُرُوجِهَا عن مُتَعَلَّقِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ إذَا لم تَظْهَرْ له فَائِدَةٌ تَزِيدُ على مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْمُحَقِّقُونَ على صِحَّتِهَا لِصِحَّةِ وُرُودِ الشَّرْعِ بها وَلِمُسَاوَاتِهَا لِلْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ في اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وَالْقُصُورِ إذْ ما من مُتَعَدِّيَةٍ إلَّا وَهِيَ قَاصِرَةٌ من وَجْهٍ فلم يَبْقَ إلَّا مُطَابَقَةُ النَّصِّ لها وَذَلِكَ مِمَّا يُؤَيِّدُهَا لَا مِمَّا يُبْطِلُهَا كَمُطَابَقَةِ الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَكَمُطَابَقَةِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَاضِدَةِ في الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ مَوْضِعَ التَّعَبُّدِ بِالتَّعْلِيلِ هل هو لِإِفَادَةِ ما لم يُفِدْهُ النَّصُّ أو بِمُجَرَّدِ إنَاطَةِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ وقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ على اشْتِرَاطِ التَّأْثِيرِ في الْعِلَّةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِخَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَى التَّأْثِيرِ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ جِنْسَ الْوَصْفِ أو نَوْعَهُ في جِنْسِ الْحُكْمِ إلَى آخِرِ ما سَيَأْتِي وقال إلْكِيَا الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ عِلَّةَ الشَّرْعِ هل تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ أَمْ لَا وقال الدَّبُوسِيُّ هو رَاجِعٌ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ عِنْدَنَا تَعَدِّي حُكْمِ النَّصِّ إلَى الْفَرْعِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ في النَّصِّ الْمَعْلُولِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ لَا التَّعَدِّي وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى كَوْنِهَا هل هِيَ مَأْمُورٌ بها وَمَعْنَى صِحَّتِهَا مُوَافَقَتُهَا لِلْأَمْرِ وَمَعْنَى فَسَادِهَا عَدَمُ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بها وقال ابن الْمُنِيرِ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ لَا يَنْبَنِي على الْخِلَافِ فَائِدَةٌ فَرْعِيَّةٌ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّا إنْ رَدَدْنَاهَا فَلَا إشْكَالَ في عَدَمِ إفَادَتِهَا وَإِنْ قَبِلْنَاهَا فَلَا إشْكَالَ في أنها لَا يَتَعَدَّى بها حُكْمُهَا وَالنَّصُّ في الْأَصْلِ مُغْنٍ عنها فَرَجَعَ ثَبَاتُهَا إلَى الْفَوَائِدِ الْعِلْمِيَّةِ لَا الْعَمَلِيَّةِ إلَّا إذَا بَنَيْنَا على الْتِزَامِ اتِّحَادِ الْعِلَلِ وَصَحَّحْنَا الْقَاصِرَةَ وَجَعَلْنَاهَا مُقَاوِمَةً لِلْمُتَعَدِّيَةِ فَيَنْبَنِي حِينَئِذٍ قَبُولُهَا فَائِدَةً عَمَلِيَّةً لِأَنَّهَا قد تُعَارِضُ مُتَعَدِّيَةً بِتَعَطُّلِ الْعَمَلِ بها وقال قبل ذلك لَا يَتَحَرَّرُ الْخِلَافُ في رَدِّهَا لِأَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا الْبَاعِثُ أو الْعَلَامَةُ فَإِنْ فَسَّرْنَا بِالْبَاعِثِ وهو الْحَقُّ فَلَا مَانِعَ من أَنْ يَنُصَّ بِالشَّرْعِ على الْحُكْمِ في جَمِيعِ مَوَارِدِهِ حتى لَا يُبْقِيَ من مَحَالِّهِ مَسْكُوتًا عنه وَيَنُصُّ مع ذلك على الْبَاعِثِ وَلَا يَتَخَيَّلُ عَاقِلٌ خِلَافَ ذلك وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالْعَلَامَةِ وَعَلَيْهِ بَنَى الرَّازِيَّ كَلَامَهُ فَلَا مَانِعَ من أَنْ يَكُونَ النَّصُّ عَلَامَةً وَالْوَصْفُ عَلَامَةً فَيَجْتَمِعُ على الْحُكْمِ عَلَامَتَانِ كما يَجْتَمِعُ على الْحُكْمِ نَصَّانِ مَعًا وَظَاهِرَانِ مَعًا أو نَصٌّ وَظَاهِرٌ أو نَصٌّ وَقِيَاسٌ وَهَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا لَا يُخْتَلَفُ فيه فَلَا مَحَلَّ لِلْخِلَافِ وَمِنْهَا مَنَعَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ من التَّعْلِيلِ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ كما لو عَلَّلْنَا كَوْنَ النَّقْدَيْنِ رِبَوِيَّيْنِ بِكَوْنِ اسْمِهِمَا ذَهَبًا أو فِضَّةً وَحَكَى فيه الِاتِّفَاقَ وَاعْتَرَضَ النَّقْشَوَانِيُّ بِأَنَّ
الْعِلَّةَ إذَا فُسِّرَتْ بِالْمُعَرِّفِ فما الْمَانِعُ من جَعْلِ الِاسْمِ عِلَّةً فإن فيه تَعْرِيفًا وَقَوَّاهُ الْقَرَافِيُّ بِمَا إذَا قُلْنَا إنَّ مُجَرَّدَ الطَّرْدِ كَافٍ في الْعِلَّةِ وَيَصْعُبُ مع اشْتِرَاطِ الْمُنَاسِبِ وما ادَّعَى الْإِمَامُ فيه من الِاتِّفَاقِ تَبِعَهُ فيه الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ وَلَيْسَ كما ادَّعَوْا فَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ وَهِيَ وُجُوهٌ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهَا الْجَوَازُ مُطْلَقًا وهو رَأْيُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَنَقَلَهُ ابن الصَّبَّاغِ وابن بَرْهَانٍ عن أَصْحَابِنَا وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ عن الْأَكْثَرِينَ من الْعُلَمَاءِ قالوا وَسَوَاءٌ في ذلك الْمُشْتَقُّ كَقَاتِلٍ وَسَارِقٍ وَالِاسْمِ الذي هو لَقَبٌ كَحِمَارٍ وَفَرَسٍ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في بَوْلِ ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِأَنَّهُ بَوْلٌ فَشَابَهُ بَوْلَ الْآدَمِيِّ انْتَهَى وقال أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ إنَّهُ الْأَقْرَبُ إلَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْقَائِسِينَ وَكَذَلِكَ قال أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ لِأَنَّهُ كَلْبٌ قِيَاسًا على الْكَلْبِ الذي ليس بِمُعَلَّمٍ وقال الشَّافِعِيُّ في الْمَنْعِ من ضَمِّ الْقُطْنِيَّةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ في الزَّكَوَاتِ إنَّهَا حُبُوبٌ مُنْفَرِدَةٌ بِأَسْمَاءٍ مَخْصُوصَةٍ وَقَاسَهَا على التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فإذا جَعَلَ افْتِرَاقَهَا في الِاسْمِ عِلَّةً لِافْتِرَاقِهَا في الْحُكْمِ لم يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ اتِّفَاقُهَا في الِاسْمِ عِلَّةً لِاتِّفَاقِهَا في الْحُكْمِ وقال أَهْلُ الرَّأْيِ في الْمَنْعِ من التَّكْرَارِ في مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ مَسْحٌ كَالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ وقال أَصْحَابُ مَالِكٍ في زَكَاةِ الْعَوَامِلِ إنَّهَا تَعُمُّ قِيَاسًا على السَّائِمَةِ انْتَهَى وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عن أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ والثاني الْمَنْعُ لَقَبًا وَمُشْتَقًّا والثالث التَّفْصِيلُ بين الْمُشْتَقِّ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ اللَّقَبِ فَلَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ وابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وَهَذَا الثَّالِثُ هو ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا في بَابِ الرِّبَا في أَنَّ الْعِلَّةَ في الرِّبَوِيِّ الطُّعْمُ الْحُكْمُ مَتَى عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ من مَعْنًى يَصِيرُ مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً وَحَكَى ابن بَرْهَانٍ وَجْهًا أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِشَرْطِ الْإِخَالَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَنَسَبَهُ لِلْحَنَفِيَّةِ وَهَذَا يَقْتَضِي مَذْهَبًا رَابِعًا وهو التَّفْصِيلُ في الْمُشْتَقِّ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ إنْ كان الِاسْمُ يُفِيدُ مَعْنًى في الْمُسَمَّى جَازَ التَّعْلِيلُ بِهِ وَإِنْ كان لَقَبًا فَفِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِهِ قَوْلَانِ وقال السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ إنْ كان الْوَصْفُ اسْمًا
مُشْتَقًّا فَلَا شَكَّ في جَرَيَانِ الْقِيَاسِ بِهِ وَإِنْ كان اسْمَ جِنْسٍ كَبَغْلٍ وَحِمَارٍ وَدَابَّةٍ وَدَارٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا وهو الْأَقْرَبُ إلَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ الْجَوَازَ والثاني الْمَنْعُ كَالْوَصْفِ من اسْمٍ وَلَقَبٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وفي الْأُمِّ في بَوْلِ الْحَيَوَانِ تَعْلِيقُ حُكْمٍ بِاسْمٍ قال وَالدَّلِيلُ على جَوَازِ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لو وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ لَكَانَ جَائِزًا فإذا اسْتَنْبَطَهُ الْمُعَلِّلُ فَكَذَلِكَ انْتَهَى وَهَذَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِالْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ أَمَّا الْمَنْصُوصَةُ من الشَّارِعِ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِهَا وَبِهِ صَرَّحَ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في بُيُوعِ الْحَاوِي يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقِّ كَعَاقِلٍ وَقَاتِلٍ وَوَارِثٍ وَبِالِاسْمِ إذَا عَبَّرَ بِهِ عن الْجِنْسِ كما جَازَ التَّعْلِيلُ بِالصِّفَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ في نَجَاسَةِ بَوْلِ ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِأَنَّهُ بَوْلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا على بَوْلِ الْآدَمِيِّ وقال في الْقَوَاطِعِ وَأَمَّا جَعْلُ الِاسْمِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ فَقَدْ قال الْأَصْحَابُ إنَّ الِاسْمَ ضَرْبَانِ اسْمُ اشْتِقَاقٍ وَاسْمُ لَقَبٍ فَأَمَّا الْمُشْتَقُّ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ما اُشْتُقَّ من فِعْلٍ كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ اُشْتُقَّ من الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ فَيَجُوزُ جَعْلُهُ عِلَّةً في قِيَاسِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْأَفْعَالَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَلًا لِلْأَحْكَامِ وثانيهما ما اُشْتُقَّ من صِفَةٍ كَالْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ مُشْتَقٌّ من السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَهَذَا من بَابِ الشَّبَهِ الصُّورِيِّ فَمَنْ جَعَلَهُ حُجَّةً جَوَّزَ التَّعْلِيلَ وقد قال عليه السَّلَامُ فَاقْتُلُوا منها كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ فَجَعَلَ السَّوَادَ عِلَّةً لِإِبَاحَةِ الْقَتْلِ فَأَمَّا اللَّقَبُ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا مُسْتَعَارٌ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَلَا يَدْخُلُهُ حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ لِأَنَّهُ قد يَنْقُلُ اسْمَ زَيْدٍ إلَى عَمْرٍو وَعَمْرٍو إلَى زَيْدٍ فَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بهذا الِاسْمِ لِعَدَمِ لُزُومِهِ وَجَوَازِ انْتِقَالِهِ وثانيهما لَازِمٌ كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ وقد حَكَى الْأَصْحَابُ في جَوَازِ التَّعْلِيلِ بها وَجْهَيْنِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ
بِالْأَسَامِي مُطْلَقًا لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الطَّرْدَ وَأَمَّا الْأَسَامِي الْمُشْتَقَّةُ فَالتَّعْلِيلُ بِمَوْضِعِ الِاشْتِقَاقِ لَا بِنَفْسِ الِاسْمِ انْتَهَى وهو تَفْصِيلٌ لَا مَزِيدَ على حَسَنِهِ فَإِنْ قُلْت فَهَلْ لِلْإِمَامِ سَلَفٌ في دَعْوَاهُ الِاتِّفَاقَ قلت رأيت في كِتَابِ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ ما نَصُّهُ اتَّفَقُوا على فَسَادِ الْعِلَّةِ إذَا اقْتَصَرْت بها على الِاسْمِ وَإِنْ كان بَعْضُهُمْ إذَا ضَاقَ عليه الْأَمْرُ تَعَلَّقَ بِهِ كَالرَّجُلِ يَسْأَلُ عن بَيْعِ الْكَلْبِ فَيُقَالُ لِأَنَّهُ كَلْبٌ قِيَاسًا على ما لَا نَفْعَ فيه أو على الْقُصُورِ وَلَيْسَ ذلك خِلَافًا بَعْدُ هذا لَفْظُهُ مع أَنَّهُ قبل ذلك بِقَلِيلٍ حَكَى وَجْهَيْنِ في التَّعْلِيلِ بِالِاسْمِ فَإِنْ قُلْت فما تَحْمِلُ كَلَامَ الْإِمَامِ على الْمُشْتَقِّ أو اللَّقَبِ قُلْت أَحْمِلُهُ على اللَّقَبِ لِأَنَّهُ نَصٌّ في غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقِّ كان مُعَلَّلًا بِمَا منه الِاشْتِقَاقُ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُنَا مُرَادُهُ الِاسْمُ الذي ليس بِمُشْتَقٍّ نعم الْخِلَافُ جَارٍ وَإِنْ لم يَكُنْ مُشْتَقًّا ومنها أَنْ لَا يَكُونَ وَصْفُهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا عِنْدَ قَوْمٍ لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ فَكَيْفَ يَكُونُ عِلَّةً وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَقَوْلِنَا حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ فَيَبْطُلُ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ قد يَدُورُ مع الْحُكْمِ الْآخَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَالدَّوَرَانُ يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْمُعَرِّفِ وَلَا بُعْدَ في أَنْ يُجْعَلَ حُكْمٌ مُعَرِّفًا لِحُكْمٍ آخَرَ بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ رَأَيْتُمُونِي أُثْبِتُ الْحُكْمَ الْفُلَانِيَّ في الصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ فَاعْلَمُوا أَنِّي أُثْبِتُ الْحُكْمَ الْفُلَانِيَّ فيها أَيْضًا وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عن الْأَكْثَرِينَ وقال السُّهَيْلِيُّ إنَّهُ هو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الْأُصُولِيِّينَ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن عَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ قال وقد قَاسَ الشَّافِعِيُّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ على الرَّقَبَةِ في الْقَتْلِ وفي أَنَّ الْإِيمَانَ شَرْطٌ فِيهِمَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ بِالْعِتْقِ وقال في زَكَاةِ مَالِ الْيَتِيمِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ تَامُّ الْمِلْكِ وقال في الذِّمِّيِّ يَصِحُّ ظِهَارُهُ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ كَالْمُسْلِمِ وَقَاسَ الْوُضُوءَ على التَّيَمُّمِ في النِّيَّةِ بِأَنَّهُمَا طُهْرَانِ عن حَدَثٍ وقال مَالِكٌ كُلُّ فِطْرٍ مَعْصِيَةٌ فيها الْكَفَّارَةُ كَالْفِطْرِ بِالْوَطْءِ وقال أَصْحَابُ الرَّأْيِ الْمَنِيُّ نَجِسٌ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ بِخُرُوجِهِ من الْبَدَنِ كَالْبَوْلِ انْتَهَى وقال ابن الْقَطَّانِ حُكْمُ تِلْكَ الْعِلَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً كَقَوْلِنَا حَرُمَ الرِّبَا لِأَنَّهُ رِبًا حَرُمَ الْأَكْلُ لِأَنَّهُ أَكْلٌ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ الشَّيْءُ على نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عليه بِغَيْرِهِ فإذا تَعَذَّرَ هذا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ في تَحْرِيمِ هذا تَحْرِيمَ غَيْرِهِ كَأَنْ يَقُولَ الْعِلَّةُ في إيجَابِ الْكَفَّارَةِ على الْوَاطِئِ إيجَابُهَا على الْقَاتِلِ وَتَحْرِيمُ الْقَتْلِ وما أَشْبَهَهُ
أَمْ لَا على وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا منهم من جَوَّزَهُ وَمِنْهُمْ من أَبَاهُ وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِيمَا يُخْرَجُ في زَكَاةِ الْفِطْرِ ما تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ وإذا كان هَكَذَا دَلَّ على جَوَازِهِ لِأَنَّ هذا إنَّمَا حُكْمٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَرَدَ بِهِ في قَوْله تَعَالَى فَبِظُلْمٍ من الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عليهم طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لهم وَالظُّلْمُ هو اسْمُ حُكْمٍ وَاخْتَارَ ابن الْمُنِيرِ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ عِلَّةً وَإِنَّمَا هو دَلِيلٌ على الْعِلَّةِ من حَيْثُ الْمُلَازَمَةُ وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ تَقْتَضِي حُكْمَيْنِ فإذا وُجِدَ أَحَدُهُمَا اسْتَدْلَلْنَا بِوُجُودِهِ على وُجُودِهَا ثُمَّ على وُجُودِ الْحُكْمِ الْمَعْلُومِ ضَرُورَةُ تَلَازُمِ الثَّلَاثَةِ وقال الْآمِدِيُّ في الْأَحْكَامِ الْمُخْتَارُ أَنَّ الشَّرْعِيَّ يَكُونُ عِلَّةً شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ لَا في أَصْلِ الْقِيَاسِ بَلْ في غَيْرِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ إذَا عَرَفْتُمْ أَنِّي حَكَمْت بِإِيجَابِ كَذَا فَاعْلَمُوا أَنِّي حَكَمْت بِكَذَا وَإِنَّمَا امْتَنَعَ في أَصْلِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ فَإِنْ كان بَاعِثًا على حُكْمِ الْأَصْلِ كَتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ يَقْتَضِيهَا حُكْمُ الْأَصْلِ جَازَ وَإِنْ كان لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَلَا وَتَابَعَهُ ابن الْحَاجِبِ وهو تَحَكُّمٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا شُرِعَ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أو دَفْعِ مَفْسَدَةٍ فلما يُخَصَّصُ بِالْمَصْلَحَةِ دُونَ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ تَنْبِيهٌ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ اخْتَلَفُوا في تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْحَقِيقِيِّ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَقَوْلِنَا في إثْبَاتِ الْحَيَاةِ في الشَّعْرِ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ بِالطَّلَاقِ وَيَحِلُّ بِالنِّكَاحِ فَيَكُونُ حَيًّا كَالْيَدِ فَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ قال الْهِنْدِيُّ وهو الْحَقُّ لِأَنَّ الْمُرَادَ من الْعِلَّةِ الْمُعَرِّفُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مُعَرِّفًا لِلْحُكْمِ الْحَقِيقِيِّ فَأَمَّا إذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْمُوجِبِ وَالدَّاعِي امْتَنَعَ وَمِنْهُمْ من أَطْلَقَ الْمَنْعَ فَإِنْ كان ذلك بِنَاءً على تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ بِالْمُوجِبِ فَصَحِيحٌ لَكِنْ لَا نَرْتَضِيهِ وَإِنْ كان ذلك مُطْلَقًا فَبَاطِلٌ وَكَلَامُ الْعَبْدَرِيِّ يَقْتَضِي التَّفْصِيلَ بين الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ وَالْمُسْتَنْبَطِ فإنه قال يُقَالُ لِلْمَانِعِ من التَّعْلِيلِ بِالْحُكْمِ إنْ أَرَدْت بِهِ الْحُكْمَ الذي يَسْتَنْبِطُهُ الْمُجْتَهِدُ فَقَوْلُك صَحِيحٌ وَلَسْنَا نَنْفِيهِ وَإِنْ أَرَدْت الْحُكْمَ الذي صَدَرَ عن الشَّارِعِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمَ الشَّرْعُ بِحُكْمٍ ثُمَّ يَجْعَلُ ذلك الْحُكْمَ عِلَّةً لِحُكْمٍ آخَرَ وقد وَقَعَ في الشَّرْعِ كَثِيرًا بِنَاءً على تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ بِالْمُوجِبِ
مَسْأَلَةٌ قال في الْمَحْصُولِ يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِالْأَوْصَافِ الْعُرْفِيَّةِ وَهِيَ الشَّرَفُ وَالْخِسَّةُ وَالْكَمَالُ وَالنَّقْصُ وَلَكِنْ بِشَرْطَيْنِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوصًا مُتَمَيِّزًا عن غَيْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ مُطَّرِدًا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَإِلَّا لَجَازَ أَلَّا يَكُونَ ذلك الْمُعَرِّفُ حَاصِلًا في زَمَانِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ ومنها شَرَطَ قَوْمٌ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ ذَاتَ وَصْفٍ كَالْإِسْكَارِ في تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ تَعَدُّدِ الْوَصْفِ وَوُقُوعِهِ كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ لِلْقِصَاصِ وَنَسَبَهُ الْهِنْدِيُّ لِلْمُعْظَمِ وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إجْمَاعَ الْقَيَّاسِينَ وَصَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِالْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فقال وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الْعَقْلِيَّةِ فقال الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ لَا يَجُوزُ تَرْكِيبُهَا من وَصْفَيْنِ فَأَكْثَرَ قال وَأَجَازَهُ الْبَاقُونَ من أَصْحَابِنَا قال وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ امْتَنَعَ من تَرْكِيبِهَا الْأَشْعَرِيُّ وَأَجَازَهُ الْبَاقُونَ وهو الصَّحِيحُ وَحَيْثُ قُلْنَا بِالتَّرْكِيبِ فَقِيلَ لَا يَتَعَدَّى خَمْسَةً وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ عن أبي عبد اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ الْحَنَفِيِّ وَنَصَرَهُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِ شَرْحِ التَّرْتِيبِ فقال لم أَسْمَعْ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ زَادُوا في الْعِلَّةِ على خَمْسَةِ أَوْصَافٍ بَلْ إذَا بَلَغَتْ خَمْسَةً اسْتَثْقَلُوهَا ولم يُتَمِّمُوهَا وقال في كِتَابِهِ أَقْوَاهَا ما تَرَكَّبَ من وَصْفَيْنِ ثُمَّ يَلِيهِ الثَّلَاثَةُ ثُمَّ الْأَرْبَعَةُ ثُمَّ الْخَمْسَةُ ولم أَرَ لِأَحَدٍ من الْمُتَقَدِّمِينَ زِيَادَةً عليه وَيَخْرُجُ ذلك عن الْأَقْسَامِ وَالضَّبْطِ إذَا كَثُرَتْ الْأَوْصَافُ وَحَكَى في الْمَحْصُولِ عن الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ حَكَى عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ زِيَادَتُهَا على سَبْعَةٍ لَكِنْ نَقَلَ في رِسَالَتِهِ الْبَهَائِيَّةِ عنه عن بَعْضِهِمْ أنها لَا تَزِيدُ على خَمْسَةٍ وَهَذَا هو الصَّوَابُ عن حِكَايَةِ الشَّيْخِ نعم قَوْلُ عَدَمِ الزِّيَادَةِ على السَّبْعَةِ مَحْكِيٌّ أَيْضًا حَكَاهُ ابن الْفَارِضِ في كِتَابِهِ عن جَمَاعَةٍ قال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا أَعْرِفُ له حُجَّةً وقال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ غَايَةُ ما يَتَوَقَّفُ عليه الْحُكْمُ سَبْعَةٌ قال ابن عَقِيلٍ وقد قال أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ من كان بِقُرْبِ مِصْرٍ يَجِبُ عليه الْحُضُورُ إذَا سمع
النِّدَاءَ حُرٌّ مُسْلِمٌ صَحِيحٌ مُقِيمٌ في مَوْطِنٍ يَبْلُغُهُ النِّدَاءُ في مَوْضِعٍ تَصِحُّ فيه الْجُمُعَةُ فَهُوَ كَالْمُقِيمِ في مِصْرٍ قال وَهَذَا يَتَضَمَّنُ سَبْعَةَ أَوْصَافٍ وَلَمَّا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ تَرْتِيبَهَا على ما سَبَقَ قال وَإِنَّمَا قَدَّمَ ما قَلَّ وَصْفُهُ على ما كَثُرَ منه لِلْحَاجَةِ فِيمَا كَثُرَ وَصْفُهُ إلَى زِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازِ الْخَطَأِ وَسَلَامَةِ ما قَلَّ وَصْفُهُ في أَحَدِ مَوَاضِعِهِ عنه لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وَالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ الصَّرِيحِ وَالْمُحْتَمَلِ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُ وقال إلْكِيَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ أَوْصَافًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَفِيهِ إخَالَةٌ ثُمَّ هذا الْمَعْنَى يَقْتَضِي إفْرَادَ كل وَصْفٍ بِالتَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ إذَا كان مَخِيلًا كَفَى ذلك وقد يَمْتَنِعُ الْإِجْمَاعُ وَلَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ أَنَّ الْوَصْفَ مَخِيلُ لَكِنْ يَجِبُ أَلَّا يَكْتَفِيَ بِأَنَّهُ ليس كَالْإِخَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ في الْعِلَّةِ التي ليس لها وَصْفٌ وَاحِدٌ وقد يَكُونُ أَحَدُهُمَا وَصْفًا وَالْآخَرُ مَخِيلًا وَإِنَّمَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَخِيلًا بِأَنْ لَا يُؤَثِّرَ في الْحُكْمِ أَصْلًا وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ في الْعِلَّةِ لِتَعْظِيمِ وَقْعِهَا أو لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا في الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ فَيَكُونُ عَلَمًا مَحْضًا وَهَذَا هو الذي يُلَقَّبُ بِالشَّرْطِ وَالشَّرْطُ الْعَلَامَةُ تَنْبِيهٌ قد يَسْتَشْكِلُ مَحَلُّ الْخِلَافِ فإنه إنْ كان عِنْدَ الْحَاجَةِ لِلزِّيَادَةِ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ أو عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّجْوِيزِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هذا مَوْضِعَ الْخِلَافِ وقد عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ في الْجَدِيدِ الرِّبَا في الْأَرْبَعَةِ بِكَوْنِهَا مَطْعُومَةً من جِنْسٍ وَاحِدٍ وَأَضَافَ في الْقَدِيمِ إلَى ذلك الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَزَيَّفَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا اسْتَقَلَّتْ بِوَصْفَيْنِ لم يَجُزْ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِمَا وَصْفٌ ثَالِثٌ لِأَنَّ الْوَصْفَ في الْعِلَّةِ إنَّمَا يُذْكَرُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ فإذا اسْتَغْنَى عنه كان ذِكْرُهُ لَغْوًا وَكَذَلِكَ قال الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ إذَا تَقَابَلَتْ الْعِلَّتَانِ وَإِحْدَاهُمَا أَكْثَرُ أَوْصَافًا من الْأُخْرَى فَالْقَلِيلَةُ أَوْلَى بِإِجْمَاعِ النُّظَّارِ وَأَهْلِ الْأُصُولِ قال وَلَوْ جَازَ أَنْ يَزِيدَ الْوَاحِدُ وَصْفًا بَعْدَ اسْتِقَامَةِ الْعِلَّةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عنه لَجَازَ أَنْ يَزِيدَ خَمْسَةَ أَوْصَافٍ وَعَشَرَةً وَلَا فَائِدَةَ فيها لِأَنَّ الْعِلَّةَ كُلَّمَا زَادَتْ أَوْصَافُهَا ضَعُفَتْ وَكُلَّمَا قَلَّتْ قَوِيَتْ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى كَثْرَةِ الْأَوْصَافِ لِبُعْدِ الْفَرْعِ عنه وَقِلَّةُ الْأَوْصَافِ لِقُرْبِهِ منه وهو بِمَنْزِلَةِ من قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ وَمَنْ بَعُدَ لَمَّا كان ابن الْعَمِّ لَا يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ إلَّا بِجَمَاعَةٍ تَوَسَّطُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ ولم يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ وَالْأَبِ اللَّذَيْنِ يُدْلِيَانِ إلَيْهِ بِأَنْفُسِهِمَا وَأَيْضًا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ كُلَّمَا كَثُرَتْ في الْعِلَّةِ قَلَّتْ الْفُرُوعُ
أَلَا تَرَى من ضَمَّ وَصْفَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ إلَى الطُّعْمِ أَسْقَطَ الرِّبَا عن الْمَطْعُومَاتِ التي لَا تُكَالُ وَلَا تُوزَنُ كَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالتِّينِ وَالْجَوْزِ وَغَيْرِهَا فَكَانَ كَاجْتِمَاعِ الْمُتَعَدِّيَةِ مع الْقَاصِرَةِ ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى أَنَّ من الْأَصْحَابِ من جَعَلَ الْعِلَّةَ على الْجَدِيدِ مُرَكَّبَةً من الْجِنْسِ وَالطُّعْمِ قال وَالصَّحِيحُ أنها بَسِيطَةٌ وَهِيَ الطُّعْمُ وَأَمَّا الْجِنْسُ فَحَمْلُ الْحُكْمِ لَا أَثَرَ له في تَعَلُّقِ الْحُكْمِ كما أَنَّ الشِّدَّةَ مَحَلٌّ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَلَيْسَتْ الْخَمْرُ عِلَّةً لِوُجُودِ الشِّدَّةِ في غَيْرِ الْخَمْرِ وقال الْهِنْدِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إنْكَارِ جَوَازِ كَوْنِ الْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ عِلَّةً فإن اسْتِقْرَارَ الشَّرْعِ يَدُلُّ على وُجُوبِ وُقُوعِهِ فإن كَوْنَ الْقِصَاصِ وَاجِبًا في الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ كَوْنُ الرِّبَا جَارِيًا في الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِذَلِكَ بَلْ مَجْمُوعُ الْوَصْفَيْنِ أو أَحَدِهِمَا بِشَرْطِ الْآخَرِ وفي الْجُمْلَةِ أَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ غَيْرُ ثَابِتٍ على إطْلَاقِهَا بَلْ بِعُقُودٍ مُعْتَبَرَةٍ فيها وَاسْتِنْبَاطُ الْعِلَّةِ الْبَسِيطَةِ من مِثْلِ هذه الْأَحْكَامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى كَوْنِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ تَعَبُّدِيَّةً وهو على خِلَافِ الْأَصْلِ أو تَجْوِيزُ اسْتِخْرَاجِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ وهو الْمَطْلُوبُ فَائِدَةٌ الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا قَلَّتْ مَعْلُولَاتُهَا وإذا قَلَّتْ كَثُرَتْ ذَكَرَهُ بَعْضُ تَلَامِذَةِ إلْكِيَا وَنَظِيرُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ في الْحَدِّ نُقْصَانٌ في الْمَحْدُودِ وَالنُّقْصَانُ فيه زِيَادَةٌ في الْمَحْدُودِ ومنها أَنْ تَكُونَ مُسْتَنْبَطَةً من أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِحُكْمِهِ عِنْدَ قَوْمٍ وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ في الْعَمَلِ ومنها الْقَطْعُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ عِنْدَ قَوْمٍ منهم الْمَرْوَزِيِّ في جَدَلِهِ وَنَقَلَهُ عن شَيْخِهِ محمد بن يحيى تِلْمِيذُ الْغَزَالِيِّ وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ في الشَّرْعِيَّاتِ وَلِأَنَّ سَائِرَ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ يَكْفِي فيه الظَّنُّ فَكَذَا ما نَحْنُ فيه لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ إبَاحَةَ وَطْءِ الْحَائِضِ على الطُّهْرِ بِقَوْلِهِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ وَمَعَ ذلك لو قالت الْمَرْأَةُ تَطَهَّرْت اكْتَفَى بِذَلِكَ وَجَازَ الْوَطْءُ اتِّفَاقًا وَكَذَلِكَ إبَاحَةُ الْعَقْدِ على الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا على أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَمَعَ ذلك إذَا قالت تَزَوَّجْت اكْتَفَى بِذَلِكَ وَإِنْ لم يُفِدْ قَوْلُهَا إلَّا الظَّنَّ وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا قام على الْعَمَلِ بِالظَّنِّ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ
الْأَوْصَافِ الْحَقِيقِيَّةِ وهو ضَعِيفٌ فإن الْقَاطِعَ لَا يَخْتَصُّ دَلَالَتُهُ في شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ بَلْ يَدُلُّ على الْعَمَلِ بِالْمَظْنُونِ حَيْثُ تَحَقَّقَتْ وَتَوَسَّطَ الْمُقْتَرَحُ فقال لَا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِوُجُودِهَا إلَّا إذَا كانت وَصْفًا حَقِيقِيًّا كَالْإِسْكَارِ أَمَّا الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ فَيَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ بِحُصُولِهِ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ مَحَلَّ الْخِلَافِ في الْوَصْفِ الْحَقِيقِيِّ أو الْعُرْفِيِّ وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ في الشَّرْعِيِّ بِالِاكْتِفَاءِ بِالظَّنِّ ومنها حُصُولُ الِاتِّفَاقِ على وُجُودِ الْوَصْفِ الذي هو عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ في الْأَصْلِ هَكَذَا شَرَطَ بَعْضُهُمْ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ حَصَلَ الْغَرَضُ ومنها أَنْ لَا تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ وَالْحَقُّ جَوَازُهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ لِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ من أَصْلٍ آخَرَ ومنها أَنْ تَكُونَ مُتَّحِدَةً في الْأَصْلِ أَيْ لَا يَكُونُ مَعَهَا عِلَّةٌ أُخْرَى ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وهو بِنَاءً على اخْتِيَارِهِ في مَنْعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ ومنها إذَا كانت الْعِلَّةُ وُجُودَ مَانِعٍ أو انْتِفَاءَ شَرْطٍ فَشَرَطَ الْجُمْهُورُ منهم الْآمِدِيُّ وَصَاحِبُ التَّنْقِيحِ وُجُودَ الْمُقْتَضَى وَالْمُخْتَارُ وِفَاقًا لِلرَّازِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَقَوْلِنَا الزَّكَاةُ لَا تَجِبُ في الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ بِدَلِيلِ عَدَمِهَا في اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ ثُمَّ قال الْإِمَامُ وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ هذا الْخِلَافُ مُفَرَّعٌ على جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِإِمْكَانِ اجْتِمَاعِ الْعِلَّةِ مع الْمَانِعِ في أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ هذا الْخِلَافُ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْمَانِعِ حِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ فَضْلًا عن أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِبَيَانِ الْمُقْتَضَى أَمْ لَا وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا لو عَلَّلَ عَدَمَ الْحُكْمِ بِفَوَاتِ شَرْطٍ وَمَنَعَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ تَفْرِيعًا على الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وقال بِمَجِيءِ الْخِلَافِ وَإِنْ لم يُجَوِّزْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمَانِعَ من التَّخْصِيصِ يقول ما يُسَمُّونَهُ بِالْمَانِعِ مُقْتَضٍ عِنْدِي لِلْحُكْمِ بِالْعَدَمِ فَقَتْلُ الْمُكَافِئِ في غَيْرِ الْأَبِ هو الْعِلَّةُ في إيجَابِ الْقِصَاصِ وَقَتْلُ الْأَبِ بِخُصُوصِهِ هو الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ الْإِيجَابِ وَيَعُودُ حِينَئِذٍ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا ومنها إذَا أَثَّرَتْ الْعِلَّةُ في مَوْضِعٍ من الْأُصُولِ دَلَّ على صِحَّتِهَا وَإِنْ لم يَكُنْ ذلك أَصْلَ الْعِلَّةِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال يُعْتَبَرُ تَأْثِيرُهَا في الْأَصْلِ قَالَهُ الشَّيْخُ في التَّبْصِرَةِ
مَسْأَلَةٌ في جَوَازِ تَعْلِيلِ الشَّيْءِ بِجَمِيعِ أَوْصَافِهِ خِلَافٌ حَكَاهُ ابن فُورَكٍ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ مَبْنِيٌّ على أَنَّ شَرْطَ الْعِلَّةِ التَّعَدِّي فَمَنْ شَرَطَهُ مَنَعَهَا هُنَا وَمَنْ جَوَّزَهُ اخْتَلَفُوا على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ حَقَّ الْعِلَّةِ التَّأْثِيرُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ بَعْضَ الْأَوْصَافِ دُونَ بَعْضٍ فَتَعْلِيلُهُ بِجَمِيعِهَا لَا يَصِحُّ فَلَوْ اتَّفَقَ أَنَّ جَمِيعَهَا مُؤَثِّرَةٌ جَازَ والثاني يَصِحُّ لِأَنَّ أَكْثَرَ ما فيه أَنْ لَا يَتَعَدَّى وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ في الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ إذَا احْتَاجَتْ إلَى تَقْدِيمِ أَسْبَابٍ عليها ولم يَكُنْ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ تَأْثِيرٌ في الْحُكْمِ كَالزِّنَى الْمُوجِبِ لِلرَّجْمِ بِشَرْطِ وُجُودِ الْإِحْصَانِ وَتَكْمِيلِ جَلْدِ الزِّنَى مِائَةً بِشَرْطِ وُجُودِ الْحُرِّيَّةِ فقال أَكْثَرُهُمْ يَكُونُ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ لِسُقُوطِهِ عِنْدَ عَدَمِ بَعْضِهَا كما يَسْقُطُ عِنْدَ عَدَمِ جَمِيعِهَا وقال بَعْضُهُمْ الْعِلَّةُ هِيَ الْوَصْفُ الْجَالِبُ لِلْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ عليه وَعَلَى هذا فَعِلَّةُ الرَّجْمِ وَتَكْمِيلِ الْحَدِّ وُجُودُ الزِّنَى دُونَ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِحْصَانِ وَبِهِ قال أَكْثَرُ أَهْلِ الرَّأْيِ وَكَذَلِكَ قالوا في أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا على رَجُلٍ بِالزِّنَى وَشَهِدَ عليه اثْنَانِ بِالْحُرِّيَّةِ أو بِالْإِحْصَانِ وَوَقَعَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعَ الْكُلُّ عن شَهَادَتِهِمْ إنَّ الضَّمَانَ على شُهُودِ الزِّنَى دُونَ شُهُودِ الْإِحْصَانِ وَقَالُوا في شَاهِدَيْنِ شَهِدَا على رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَمْسِ فَقَضَى الْقَاضِي عليه بِعِتْقِهِ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَنَّ ذلك الْعَبْدَ كان قد جَنَى أَوَّلَ أَمْسِ وَأَنَّ الْوَلِيَّ عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي الدِّيَةَ وَجَعَلَهُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ كلهم إنَّ ضَمَانَ الدِّيَةِ على شُهُودِ الْجِنَايَةِ وَضَمَانَ الْقِيمَةِ على شُهُودِ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَلْزَمَهُ الدِّيَةَ بِشَهَادَتِهِمْ وَإِنْ لم تَكُنْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلدِّيَةِ أَكْثَرَ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك فقال أبو حَفْصِ بن الْوَكِيلِ إذَا شَهِدَ عليه أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى وَشَاهِدَانِ بِالْإِحْصَانِ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ منهم عن الشَّهَادَةِ عليه سُدُسُ الدِّيَةِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ كان يَجْعَلُ مَجْمُوعَ الْإِحْصَانِ وَالزِّنَى عِلَّةً لِلرَّجْمِ وَلِذَلِكَ قال إنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ فَعَلَيْهِمْ ثُلُثُ الدِّيَةِ أو شُهُودُ الزِّنَى فَثُلُثَاهَا وَهَذَا إذَا كان شُهُودُ الزِّنَى
غير شَاهِدَيْ الْإِحْصَانِ فَإِنْ كَانَا من شُهُودِ الزِّنَى فَعَلَيْهِمَا بِرُجُوعِهِمَا عن شَهَادَةِ الْإِحْصَانِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَبِرُجُوعِهِمَا عن شَهَادَةِ الزِّنَى ثُلُثَا الدِّيَةِ وَإِنْ شَهِدَ الْأَرْبَعَةُ على الْإِحْصَانِ وَالزِّنَى فَالْحُكْمُ وَاضِحٌ وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا هذا إذَا كان شُهُودُ الْإِحْصَانِ غير شُهُودِ الزِّنَى فَإِنْ كان منهم فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَقِيلَ إنْ رَجَعُوا كلهم فَعَلَى هَؤُلَاءِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَعَلَى الْآخَرِينَ النِّصْفُ وَعَلَى هذا قَوْلُ من رَأَى أَنَّ الْأَوْصَافَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ قُلْت وَالرَّاجِحُ في الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ لَا يَغْرَمُونَ قال وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ في شُهُودِ الْعِتْقِ وَشُهُودِ الْجِنَايَةِ في الْعَبْدِ فإذا رَجَعُوا كلهم فَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ أَنَّ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ على شُهُودِ الْجِنَايَةِ وَضَمَانَ الْقِيمَةِ على شُهُودِ الْعِتْقِ وَأَبْطَلَ أبو ثَوْرٍ الْعِتْقَ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَصْفًا لَازِمًا بِالْإِجْمَاعِ كَتَعْلِيلِنَا تَحْرِيمَ الرِّبَا في الْمَطْعُومَاتِ بِإِمْكَانِ الطُّعْمِ منها وَكَتَعْلِيلِ أَهْلِ الرَّأْيِ تَحْرِيمَ النِّسَاءِ بِالْجِنْسِ وَحْدَهُ نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفًا غير لَازِمٍ لِلْمَعْلُومِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُرَكَّبَةً من أَوْصَافٍ بَعْضُهَا لَازِمٌ وَبَعْضُهَا ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ أو الْعَادَةِ كَتَعْلِيلِنَا في الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْجِنْسِ وَكَوْنُهُ نَقْدًا عَامًّا وَالْجِنْسُ وَصْفٌ لَازِمٌ وَكَوْنُهُ عَامًّا بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مَسْأَلَةٌ قال صَاحِبُ اللُّبَابِ من الْحَنَفِيَّةِ إذَا كانت الْعِلَّةُ ذَاتَ وَصْفَيْنِ وَوُجِدَا على التَّعَاقُبِ أو شَرَطَ ذُو وَصْفَيْنِ قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْحُكْمُ مَنْسُوبٌ إلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وَالْمُعْتَبَرُ في الشَّرْطِ آخِرُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في الْأَثَرِ وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَعْقُبُ الْحُكْمَ وَبَنَوْا على هذا مَسَائِلَ منها شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا وُجُودًا فَصَارَ الشِّرَاءُ مُعْتِقًا وَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَ جَمَاعَةٌ في سَفِينَةٍ شيئا فَغَرِقَتْ وَجَبَ الضَّمَانُ على آخِرِهِمْ وَضْعًا وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْمُثَلَّثِ حَرَامٌ إلَى حَالَةِ السُّكْرِ ثُمَّ إذَا أَسْكَرَ الْقَدَحُ الْعَاشِرُ كان هو الْحَرَامُ لَا غَيْرُهُ وَإِنْ حَصَلَ السُّكْرُ بِشُرْبِ الْجَمِيعِ لَكِنَّ هذا آخِرُهَا وُجُودًا
وقال بَعْضُهُمْ لَا يُضَافُ إلَى آخِرِهَا بَلْ إلَيْهِمَا جميعا لِأَنَّهُمَا جميعا جُزْءَا عِلَّةٍ قُلْت وَالْخِلَافُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِيمَا لو طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا في دَفَعَاتٍ هل يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِالطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ وَحْدَهَا بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثِ وَجْهَانِ وَفَائِدَتُهُمَا فِيمَا لو شَهِدُوا بِالثَّالِثَةِ ثُمَّ رَجَعُوا هل يَكُونُ الْغُرْمُ بِجُمْلَتِهِ عليهم أو ثُلُثُهُ فَقَطْ مَسْأَلَةٌ تَنْقَسِمُ الْعِلَّةُ إلَى ما يُفِيدُ الْأَثَرَ في الْحَالِ كَإِفْضَاءِ الْكَسْرِ إلَى الِانْكِسَارِ وَالْحَرْقِ إلَى الْإِحْرَاقِ وَإِلَى ما يُفِيدُهُ في ثَانِي الْحَالِ كَاقْتِضَاءِ الزِّرَاعَةِ وَالْغِرَاسَةِ حُصُولَ الْغَلَّةِ وَالثَّمَرَةِ وَكَإِفْضَاءِ الطَّلَاقِ إلَى حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ الْعِلَّةُ تَارَةً تُفِيدُ الْمَعْلُولَ بِلَا شَرْطٍ وهو كَثِيرٌ وَتَارَةً لَا تُفِيدُهُ إلَّا مع الشَّرْطِ كَإِفْضَاءِ التَّعْلِيقِ إلَى وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَلَكِنَّ السَّابِقَ على الشَّرْطِ لَا يَكُونُ عِلَّةً إلَّا لِلْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ وهو الْأَثَرُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ منها ما يُفِيدُ الْمَعْلُولَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كما قُلْنَا في الْكَسْرِ مع الِانْكِسَارِ وَتَارَةً لَا يُفِيدُهُ إلَّا بِوَاسِطَةٍ كَاقْتِضَاءِ قَطْعِ الْيَدِ الزُّهُوقَ في بَعْضِ الصُّوَرِ فإنه يُؤَثِّرُ في السِّرَايَةِ ثُمَّ تُفِيدُ السِّرَايَةَ أَثَرًا آخَرَ أو آثَارًا يَنْشَأُ منها زُهُوقُ الرُّوحِ وَمَتَى بَطَلَتْ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ بَطَلَ اقْتِضَاءُ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ من حَيْثُ التَّحْقِيقُ وكان بَعْضُهُمْ يَسْتَدِلُّ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى على الْمَعْلُولِ الثَّانِي وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ انْتِفَاءُ الْوَاسِطَةِ قال الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ في كِتَابِ الْفُصُولِ وهو خَطَأٌ يَأْبَاهُ الْعَقْلُ قال وكان شَيْخُنَا رُكْنُ الدِّينِ الطَّاوُسِيُّ يقول هو بِمَنْزِلَةِ من أخبرنا وَسَطَ النَّهَارِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ في مَوْضِعٍ عَلَّقَ رَجُلٌ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ على غُرُوبِ الشَّمْسِ فقال آخَرُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ هُنَا لِأَنَّ إخْبَارَ الرَّجُلِ اقْتَضَى غُرُوبَ الشَّمْسِ وَغُرُوبُ الشَّمْسِ مُسْتَلْزِمٌ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ بِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ اقْتِضَاءَ الْإِخْبَارِ الْوُقُوعَ إنَّمَا كان بِوَاسِطَةِ ثُبُوتِ الْمُخْبَرِ عنه وهو غُرُوبُ الشَّمْسِ فلما بَطَلَتْ الْوَاسِطَةُ بَطَلَ الِاقْتِضَاءُ مَسْأَلَةٌ الْعِلَّةُ تَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهَا في الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما يَكُونُ عِلَّةً لِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ وَاسْتِدَامَتِهِ كَالرَّضَاعِ في تَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَكَالْإِيمَانِ وَعَدَمِ الْمِلْكِ في الْمَنْكُوحَةِ الثَّانِي ما تَكُونُ عِلَّةً لِلِابْتِدَاءِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ كَالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ هُمَا عِلَّتَانِ في مَنْعِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ وَكَعَدِمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ وَعَدَمِ الْإِحْرَامِ
وما ذَكَرْنَاهُ من كَوْنِ هذا الْقِسْمِ من أَحْكَامِ الْعِلَلِ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ منهم ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ وَإِلْكِيَا وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُمْ وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا ثُمَّ قال وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَنَقْضِهَا وَالْعِدَّةُ وَالرِّدَّةُ إنَّمَا جُعِلَتَا عِلَّةً في مَنْعِ ابْتِدَاءِ عِلَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَهُمَا عِلَّةٌ في مَنْعِ ذلك بِكُلِّ حَالٍ ولم يُجْعَلَا عِلَّةً في مَنْعِ الِاسْتِدَامَةِ فَلَا يُقَالُ إنَّ اسْتِدَامَتَهُ تَجُوزُ مع وُجُودِ الْعِلَّةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ ما أَشْبَهَهُ الثَّالِثُ عَكْسُهُ كَالطَّلَاقِ فإنه يَرْفَعُ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُهُ إذْ الطَّلَاقُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ نِكَاحٍ جَدِيدٍ قال ابن الْقَطَّانِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في هذا أَنَّ الْعِلَلَ على حَسَبِ ما رَتَّبَهَا اللَّهُ وَنَصَبَهَا فَإِنْ نَصَبَهَا لِلِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ أو لِأَحَدِهِمَا كانت له وقد أَطَالَ أَصْحَابُنَا الْكَلَامَ مع الْمُزَنِيّ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ هل يَصِحُّ النِّكَاحُ فإنه ذَهَبَ إلَى انْفِسَاخِهِ كَالِابْتِدَاءِ وَنَاقَضَ في ذلك فَجَوَّزَهُ مع ارْتِفَاعِ الْعَنَتِ وهو لَا يَحِلُّ في الِابْتِدَاءِ فَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ ما نَصَبَهُ تَعَالَى دُونَ الِاشْتِغَالِ بِأَعْيَانٍ وقد اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في أَكْلِ الْمَيْتَةِ مُضْطَرًّا في الِابْتِدَاءِ غير مُضْطَرٍّ في الِانْتِهَاءِ هل يَأْكُلُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ فَخَرَّجَهُ على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَأْكُلُ والثاني لَا من حَيْثُ إنَّهُ قد ارْتَفَعَتْ الْعِلَّةُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا الشَّيْءُ إذَا أُبِيحَ لِمَعْنَيَيْنِ فَارْتَفَعَ أَحَدُهُمَا هل يُبَاحُ أو يَرْجِعُ إلَى الضِّدِّ وَقِيلَ لَا حتى يَرْتَفِعَ الْمَعْنَيَانِ جميعا وَعِنْدَنَا أَنَّ الْأَمْرَ على ما نُصِبَ له قُلْت وَهَذَا الْخِلَافُ حَكَاهُ الْقَاضِي في الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ إذَا وَجَبَ بِعِلَّتَيْنِ كما سَنَذْكُرُهُ مَسْأَلَةٌ في تَعَدُّدِ الْعِلَلِ مع اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَعَكْسِهِ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ الْمُخْتَلِفِ بِالْجِنْسِ لِشَخْصٍ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالِاتِّفَاقِ كَتَعْلِيلِ إبَاحَةِ قَتْلِ زَيْدٍ بِرِدَّتِهِ وَعَمْرٍو بِالْقِصَاصِ وَخَالِدٍ بِالزِّنَى وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ فيه الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالْآمِدِيَّ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَكَلَامُ الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ ظَاهِرٌ في جَرَيَانِ الْخِلَافِ فيه وَلَا وَجْهَ له وقد صَرَّحَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلٌّ منها مُسْتَقِلٌّ في إبَاحَةِ الدَّمِ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٍ بَعْدَ إسْلَامٍ أو زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ أو قَتْلِ
مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ في شَخْصٍ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَا خِلَافَ في امْتِنَاعِهِ بِعِلَلٍ عَقْلِيَّةٍ كَذَا قِيلَ لَكِنْ لِأَهْلِ الْكَلَامِ فيه خِلَافٌ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ ثُمَّ قال اخْتَلَفُوا إذَا وَجَبَ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ بِعِلَّتَيْنِ فَقِيلَ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِارْتِفَاعِهِمَا جميعا وَقِيلَ يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ إحْدَاهُمَا وَاخْتَلَفُوا في الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا عِلَلًا بِذَلِكَ من خَارِجٍ هل يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بها كَمُحْصَنٍ زَنَى وَقَتَلَ فإن الزِّنَى يُوجِبُ الْقَتْلَ بِمُجَرَّدِهِ فَهَلْ تُعَلَّلُ إبَاحَةُ دَمِهِ بِهِمَا مَعًا أَمْ لَا وَكَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ وَوَقَعَتْ فيه نَجَاسَةٌ هل تُعَلَّلُ نَجَاسَتُهُ بِهِمَا مَعًا أَمْ لَا وَكَتَحْرِيمِ وَطْءِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُحْرِمَةِ الْحَائِضِ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا الْمَنْعُ مُطْلَقًا مَنْصُوصَةً وَمُسْتَنْبَطَةً وَبِهِ جَزَمَ الصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِهِمْ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ عن الْقَاضِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ مَذْهَبِهِمَا قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَنَظِيرُهُ ما قَدَّمْنَاهُ في الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيرُ الْعُمُومِ في نَفْيِ الْإِجْزَاءِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْعُمُومِ الشَّرْعِيِّ وَالْحِسِّيِّ جميعا فإن انْتِفَاءَ الشَّرْعِيِّ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحِسِّيِّ لَا مَحَالَةَ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيرُ اجْتِمَاعِهِمَا وَالثَّانِي الْجَوَازُ مُطْلَقًا وهو الصَّحِيحُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ كما قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ ثُمَّ قال وَبِهَذَا نَقُولُ بِنَاءً على أَنَّ الْعِلَلَ عَلَامَاتٌ وَأَمَارَاتٌ على الْأَحْكَامِ لَا مُوجِبَةٌ لها فَلَا يَسْتَحِيلُ ذلك هذا لَفْظُهُ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ إنَّهُ الذي اسْتَقَرَّ عليه رَأْيُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وقال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ في كِتَابِ الْإِجَارَةِ من الْأُمِّ عِنْدَ الْكَلَامِ على قَفِيزِ الطَّحَّانِ مُصَرِّحٌ بِجَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ قال وهو الذي يَقْتَضِيهِ قَوْلُ عُمَرَ نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لو
لم يَخَفْ اللَّهَ لم يَعْصِهِ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّهُ لو لم يَخَفْ اللَّهَ لم يَعْصِهِ لِإِجْلَالِهِ لِذَاتِهِ وَتَعْظِيمِهِ فَكَيْفَ وهو يَخَافُ وإذا كان كَذَلِكَ كان عَدَمُ عِصْيَانِهِ مُعَلَّلًا بِالْخَوْفِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ وقد يَكُونُ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا بِعِلَّتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلَّةٌ في التَّعْلِيلِ وَيُقْصَرُ على إحْدَاهُمَا لِنُكْتَةٍ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً نَهَاهُمْ عن أَكْلِهِ في هذه الْحَالَةِ لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَنْفِرُ منه وَإِنْ كان النَّهْيُ لَا يَخْتَصُّ بها بَلْ تَحْرِيمُ الضِّعْفِ كَتَحْرِيمِهِ مُضَاعَفًا وقال الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ قُبَيْلَ ما جاء في الصَّرْفِ إذَا شُرِطَ في بَيْعِ الثِّمَارِ السَّقْيُ على الْمُشْتَرِي فَالْمَبِيعُ فَاسِدٌ من قِبَلِ أَنَّ السَّقْيَ مَجْهُولٌ وَلَوْ كان مَعْلُومًا أَبْطَلْنَاهُ من قِبَلِ أَنَّهُ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ انْتَهَى فَالْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ مَوْجُودٌ مع الْجَهَالَةِ وَعَدَلَ عن التَّعْلِيلِ بها في الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِلْبُطْلَانِ بِالْجَهَالَةِ أَقْرَبُ إلَى الْأَفْهَامِ من تَعْلِيلِهِ بِالْجَمْعِ بين الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَلَوْلَا هذا التَّنْزِيلُ لَكَانَ في هذا النَّصِّ لَمْحٌ لِمَنْعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ قُلْت وقد قال في الْأُمِّ وقد قال له بَعْضُ النَّاظِرِينَ أَفَتَحْكُمُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ من وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ قُلْت نعم إذَا اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهُ قال فَاذْكُرْ منه شيئا قُلْت قد يُقِرُّ الرَّجُلُ عِنْدِي على نَفْسِهِ بِالْحَقِّ أو لِبَعْضِ الْآدَمِيِّينَ فَآخُذُهُ بِإِقْرَارِهِ أو لَا يُقِرُّ فَآخُذُهُ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عليه أو لَا تَقُومُ عليه فَيُدَّعَى عليه فَآمُرُهُ أَنْ يَحْلِفَ فَيَمْتَنِعُ فَآمُرُ خَصْمَهُ أَنْ يَحْلِفَ فَآخُذُهُ بِمَا حَلَفَ عليه وَخَصْمُهُ إذَا أتى بِالْيَمِينِ التي تُبَرِّئُهُ انْتَهَى وقال بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ الذي يَقْتَضِيهِ جَوَابُ أَحْمَدَ في خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ وقد احْتَجُّوا بِأَنَّ الْقِيَاسَ من جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ كَالنَّصِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ في الْحَادِثَةِ نَصَّانِ فَأَكْثَرُ وَلِأَنَّهَا أَمَارَةٌ على الْحُكْمِ وَيَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْأَمَارَاتِ وَالثَّالِثُ يَجُوزُ في الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ وهو اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي بَكْرِ بن فُورَكٍ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالْمَنْصُوصَةِ الْمُجْمَعُ عليها قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلِلْقَاضِي إلَيْهِ صَغْوٌ ظَاهِرٌ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ وَهَذَا هو عُمْدَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ في نَقْلِهِ هذا الْمَذْهَبَ في مُخْتَصَرِهِ عن الْقَاضِي فَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عنه على أَنَّ الْمَوْجُودَ في التَّقْرِيبِ له الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَإِلَيْهِ يُرْشِدُ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ في الْمُسْتَصْفَى وَإِنْ كان أَطْلَقَ صَرِيحَ الْجَوَازِ في صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ إطْلَاقًا وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ في الْوَسِيطِ في الْكَلَامِ على زَوَائِدِ الْبَيْعِ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ قد يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ لِاحْتِمَالِ إرَادَةِ تَنْزِيلِهِ على الْمَنْصُوصَةِ أو لِأَنَّهُ أَرَادَ ما يُرِيدُهُ
الْفَقِيهُ من أَنَّ كُلًّا من الْوَصْفَيْنِ صَالِحٌ لِإِفَادَةِ الْحُكْمِ وَمُرَادُهُ في الْمُسْتَصْفَى امْتِنَاعُ حُصُولِ الْعُرْفَانِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا على حِدَتِهِ أو التَّأْثِيرُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فإنه يَرَى أَنَّ الْعِلَّةَ مُؤَثِّرَةٌ بِجَعْلِ اللَّهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ في كل فَنٍّ بِحَسَبِهِ فَلَا تَظُنُّهُ تَنَاقُضًا وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وابن الْمُنِيرِ في شَرْحِهِ لِلْبُرْهَانِ وقد اُسْتُغْرِبَتْ حِكَايَتُهُ وَسَيَأْتِي له نَظِيرٌ في النَّقْضِ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ إنْ لم تَكُنْ إحْدَاهُمَا عِلَّةَ حُكْمِ الْأَصْلِ جَازَ كَاسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ لِلرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ وَفَسَادِ الصَّلَاةِ لِلْحَدَثِ وَالْكَلَامِ إذَا وُجِدَا مَعًا وَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا دَلِيلًا على حُكْمِ الْأَصْلِ من غَيْرِ أَنْ يُقَاسَ بها على أَصْلٍ آخَرَ فَهِيَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وقال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِهِ إنْ كانت كُلُّ وَاحِدَةٍ لو انْفَرَدَتْ لَكَانَتْ صَحِيحَةً فَاجْتِمَاعُهُمَا غَيْرُ مُضِرٍّ وَلَا مَانِعَ من التَّعْلِيلِ وَلَكِنْ قد يَكُونُ الْإِيرَادُ يُبَيِّنُ جَانِبَ التَّعْلِيلِ وَعِنْدَ التَّعَدُّدِ يَقَعُ الشَّكُّ في النَّفْسِ فَيَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ لَا لِضِيقِ الْمَحَلِّ عن الْعِلَلِ فَأَمَّا الْعِلَلُ الْمُؤَثِّرَةُ فَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهَا وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُلَائِمُ فَيَنْبَنِي على قَبُولِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُرْسَلِ فَمَنْ رَدَّهُ كان تَعَدُّدُ الْمَعْنَى في الْأَصْلِ مُخِلًّا بِالشَّهَادَةِ وَمِنْ قَبْلِهِ لم يَضُرَّ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عليه وَإِنْ لم يَرِدْ حُكْمٌ على وَفْقِهِ فَكَيْفَ إذَا وَرَدَ على الْوَفْقِ وقال ابن رَحَّالٍ السَّكَنْدَرِيُّ هذه الْمَسْأَلَةُ لَا يَتَحَقَّقُ فيها الْخِلَافُ فإن لَفْظَ التَّعْلِيلِ مُشْتَرَكٌ بين مَعْنَيَيْنِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَرَادَ مَعْنًى غير ما أَرَادَ الْآخَرُ فَلَا خِلَافَ قال وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالتَّعْلِيلِ نَصْبُ الْأَمَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّعْلِيلِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْوَصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ في صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِحَيْثُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ في كل صُورَةٍ لِعِلَّةٍ فَأَمَّا ثُبُوتُ الْحُكْمِ في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِعِلَلٍ كُلٌّ منها مُسْتَقِلَّةٌ فيه فَهَذَا لَا يَجُوزُ انْتَهَى التَّفْرِيعُ إنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَالْجُمْهُورُ على الْوُقُوعِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ جَائِزٌ غَيْرُ وَاقِعٍ وَأَرَادَ بِالْجَوَازِ الْعَقْلِيَّ فإنه قال في الْبُرْهَانِ ليس مُمْتَنِعًا عَقْلًا وَتَسْوِيغًا وَنَظَرًا إلَى الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ وَلَكِنَّهُ يَمْتَنِعُ شَرْعًا وَجَرَى عليه إلْكِيَا وقال إنَّ الْمَانِعَ له اسْتِقْرَاءُ عُرْفِ الشَّرْعِ لَا الْعَقْلِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ إنَّ الذي اسْتَقَرَّ عليه رَأْيُ الْإِمَامِ أَخِيرًا هو الْمَنْعُ يَعْنِي كما نَقَلَهُ الْآمِدِيُّ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ له في الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ وَحَكَى الْهِنْدِيُّ قَوْلًا عَكْسَ
مَقَالَةِ الْإِمَامِ فقال قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَجُوزُ عَقْلًا ولم يَقَعْ سَمْعًا وَقِيلَ بِعَكْسِهِ وقال الْبَزْدَوِيُّ بِوُقُوعِهِ إنْ دَلَّ عليه نَصٌّ أو إجْمَاعٌ وَإِلَّا فَلَا لِتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَلَا يَحْكُمُ بِوَاحِدٍ منها إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَلَوْ اجْتَمَعَتْ كَاللَّمْسِ وَالْمَسِّ فَاخْتَلَفُوا فقال قَوْمٌ كُلُّ وَاحِدٍ جُزْءُ عِلَّةٍ وقال آخَرُونَ الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لَا بِعَيْنِهِ حَذَرًا من تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إذَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً وَأَغْرَبَ ابن الْحَاجِبِ فَحَكَى هذا الْخِلَافَ على الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ وَالْمَعْرُوفُ اتِّفَاقُ الْمُجَوِّزِينَ على أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةٌ وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ على الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ نعم قال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ اتَّفَقُوا عِنْدَ التَّرْتِيبِ على أَنَّ الْحُكْمَ مُسْتَنِدٌ إلَى الْأُولَى فَقَطْ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا وَقَعَتْ دَفْعَةً وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وهو من الْمَانِعِينَ إنْ قِيلَ لو وُجِدَتْ الْعِلَّتَانِ في حُكْمٍ فَمَاذَا يَعْمَلُ قِيلَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا عِلَّةً بَاطِلَةً أو إحْدَاهُمَا رَاجِحَةً لِمَا بَيْنَهُمَا من التَّنَافِي وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ تَسَاوِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانٌ انْتَهَى ثُمَّ الَّذِينَ مَنَعُوا الِاجْتِمَاعَ في الْعِلَّةِ اخْتَلَفُوا في الْمَأْخَذِ فَمِنْهُمْ من قال لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَفِي بِمُقْتَضَيَاتِ الْعِلَلِ لِأَنَّ مُقْتَضَيَاتِهَا الْأَمْثَالُ وَالْأَمْثَالُ كَالْأَضْدَادِ لَا تَجْتَمِعُ فَعَلَى هذا يَمْتَنِعُ في الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ وَمِنْهُمْ من قال بَلْ يَفِي بِمُقْتَضَيَاتِهَا وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ شَهَادَةُ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ هو الْعِلَّةُ أو يَكُونَ الْعِلَّةُ بَعْضَ الْمَجْمُوعِ دُونَ بَعْضٍ فَيَتَعَارَضُ الِاحْتِمَالَانِ في الشَّهَادَةِ بِالِاسْتِقْلَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَعَلَى هذا يَجْتَمِعُ في الْمَنْصُوصَةِ وَيَمْتَنِعُ في الْمُسْتَنْبَطَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ لِلِاجْتِمَاعِ من نَاحِيَةِ مُقْتَضَاهَا في الِاعْتِذَارِ عن مِثْلِ الْحَائِضِ الْمُحْرِمَةِ الصَّائِمَةِ فَمِنْهُمْ من قال مُقْتَضَيَاتُهَا أَحْكَامٌ عَدِيدَةٌ قِيلَ حُكْمٌ ذُو وَجْهَيْنِ وَالتَّعَدُّدُ بِالْجِهَةِ كَالتَّعَدُّدِ بِالتَّعْيِينِ وَقِيلَ الْحُكْمُ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا الْمَجْمُوعُ عِلَّةٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْعِلَلَ لَا يَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُهَا على الْحُكْمِ الْوَاحِدِ من جِهَةِ مُقْتَضَيَاتِهَا وَلَكِنْ من جِهَةِ الشَّهَادَةِ لها أَحْيَانًا فَإِنْ الْتَبَسَتْ الشَّهَادَةُ لِأَعْدَادِهَا كما على صِحَّةِ الِاجْتِمَاعِ أَنَّ الْمُصَحَّحَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وهو انْتِظَامُ الْمَصْلَحَةِ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ على الْوَصْفِ حَاصِلٌ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ على الْأَوْصَافِ بَلْ لِتَحْصُلَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَصَالِحُ فَهُوَ بِالصِّحَّةِ أَوْلَى وقد أَوْرَدَ الْمَانِعُونَ إشْكَالًا وهو أَنَّهُ لو ثَبَتَ الْحُكْمُ بِعِلَلٍ فَإِمَّا 1 أَنْ يَثْبُتَ بِكُلِّ
وَاحِدَةٍ منها 2 أو لَا شَيْءَ 3 أو بِشَيْءٍ منها دُونَ شَيْءٍ وَالْأَقْسَامُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فإنه يَلْزَمُ منه إثْبَاتُ الثَّابِتِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ منه سَلْبُ الْعِلَّةِ عن الْكُلِّ وهو مُنَاقِضٌ لِلْغَرَضِ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَيَلْزَمُ منه الِاحْتِكَامُ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَاتِ من غَيْرِ مُرَجِّحٍ ثُمَّ يَلْزَمُ سَلْبُ الْعِلَّةِ فِيمَا فَرَضْنَاهُ عِلَّةً وهو مُحَالٌ وَأَجَابَ الْحُذَّاقُ بِاخْتِيَارِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ يَلْزَمُ إثْبَاتُ الثَّابِتِ قُلْنَا لَا يَلْزَمُ فإن الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ مُعَرِّفَاتٌ وَوَقَفُوا هَاهُنَا وقال الْقَاضِي ابن الْمُنِيرِ وَلِلْمَانِعِ أَنْ يُدِيرَ التَّقْسِيمَ مع فَرْضِ كَوْنِهَا مُعَرِّفَاتٍ فيقول الْمَعْرُوفُ هو الْمُثْبِتُ لِلْمُعَرِّفَةِ فَعَلَى هذا إنَّمَا تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَثْبَتَتْ الْمَعْرِفَةَ بِالْحُكْمِ أو لم يُثْبِتْ شَيْءٌ منها الْمَعْرِفَةَ أو أَثْبَتَهَا الْبَعْضُ فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّ هذا الْقِيَاسَ حَصَلَ من إلْحَاقِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْعَقْلِيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فإنه لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إذَا نُسِبَ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ وُجِدَتْ مَصْلَحَةٌ أو انْدَفَعَتْ مَفْسَدَةٌ وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَتَخَيَّلُ عَاقِلٌ امْتِنَاعَ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ فإن حِينَئِذٍ يَكُونُ الْحُكْمُ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ على الْأَوْصَافِ تَحْصُلُ مَفَاسِدُ عَدِيدَةٌ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قِيلَ الْخِلَافُ هل يَجْرِي في التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا مُتَعَاقِبَيْنِ أَمْ هو مُخْتَصٌّ بِالْمَعِيَّةِ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ صَرِيحٌ في الْأَوَّلِ وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الثَّانِيَ وَيُسَاعِدُهُ تَمْثِيلُ الْغَزَالِيِّ بِمَنْ لَمَسَ وَبَالَ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وَبِهِ صَرَّحَ الْآمِدِيُّ في جَوَابِ دَلِيلِ الْمَانِعِينَ قُلْت وَيَشْهَدُ له قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ وَهَذَا النَّوْعُ من الْعِلَلِ ضَرْبَانِ مُتَقَارِنَةٌ وَمُتَعَاقِبَةٌ فَالْمُتَعَاقِبَةُ تَجْتَمِعُ في إيجَابِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لو انْفَرَدَتْ لَأَوْجَبَتْ مِثْلَ ذلك الْحُكْمِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمُتَعَاقِبَةِ لَا تَجْتَمِعُ في الْوُجُودِ وَإِنَّمَا يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا في حُكْمٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ مِثْلُ دَمِ الْحَيْضِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ ثُمَّ يَرْتَفِعُ الدَّمُ وَيَبْقَى تَحْرِيمُ الْوَطْءِ لِأَجْلِ عَدَمِ الطَّهَارَةِ وقال الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ في كِتَابِ النُّكَتِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من يَمْنَعُ جَوَازَ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ على الْجَمْعِ وَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّتَيْنِ على الْبَدَلِ الثَّانِي زَعَمَ صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْنَعُ قِيَامَ
وَصْفَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا لو انْفَرَدَ لَاسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ لَكِنْ هل نَقُولُ الْحُكْمُ مُضَافٌ إلَيْهِمَا أَمْ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أو في الْمَحَلِّ حُكْمَانِ قال وَيَجْتَمِعُ لِلْأَصْحَابِ فيها أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُطْلَقًا والثاني التَّفْصِيلُ بين الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ والثالث أَنْ يَجْتَمِعَ في الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ حُكْمَا الْعِلَّتَيْنِ وهو قَوْلُ أبي بَكْرٍ عبد الْعَزِيزِ في مَسْأَلَةِ الْأَحْدَاثِ إذَا نَوَى أَحَدُهَا لم يَرْتَفِعْ ما عَدَاهُ والرابع أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا كَانَتَا كَوَصْفَيْنِ فَهُمَا هُنَاكَ عِلَّةٌ وفي ذلك الْمَحَلِّ عِلَّتَانِ وَالثَّالِثُ إذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ فقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ من شَرْطِهِ أَنْ لَا يَتَنَافَيَا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ بِأَنْ تَقْتَضِيَ إحْدَاهُمَا إثْبَاتَ حُكْمٍ وَالْأُخْرَى نَفْيَهُ بَلْ وَيَتَضَادَّانِ بِالْإِجْمَاعِ كَتَعْلِيلِ الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلٌ وَبِأَنَّهُ قُوتٌ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا قَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُعَلَّلُ إلَّا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَ التَّنَافِي فَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا مُتَعَدِّيَةً وَالْأُخْرَى قَاصِرَةً فَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ يَتَنَافَيَانِ وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ وَهَذَا إنْ قُلْنَا إنَّ التَّعَدِّيَ ليس بِشَرْطٍ قال الْبَاجِيُّ هذا الْخِلَافُ جَارٍ سَوَاءٌ كانت الْعِلَّةُ مُتَّفِقَةً في التَّعَدِّي وَعَدَمِهِ أو بَعْضُهَا مُتَعَدٍّ وَبَعْضُهَا قَاصِرٌ انْتَهَى وَرَأَيْت في كَلَامِ بَعْضِهِمْ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ وَجُعِلَ منه قَوْلُ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ إذَا أَقْبَلَتْ الدُّنْيَا عَلَيْك فَأَنْفِقْ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى وإذا أَدْبَرَتْ فَأَنْفِقْ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى فَعَلَّلَ الْإِنْفَاقَ وهو حُكْمٌ وَاحِدٌ بِالْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ وقال آخَرُ إنْ كان رِزْقُك قُسِمَ فَلَا تَتْعَبْ وَإِنْ لم يَكُنْ قُسِمَ فَلَا تَتْعَبْ فَعَلَّلَ تَرْكَ التَّعَبِ بِقَسْمِ الرِّزْقِ وَعَدَمِهِ فَهَذِهِ الْعِلَّةُ وَإِنْ تَقَابَلَتْ وَتَضَادَّتْ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ منها مُنَاسِبَةٌ لِلْحُكْمِ من وَجْهٍ الرَّابِعُ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ مَثَّلَ الْمَسْأَلَةَ في كُتُبِهِ بِالْمَرْأَةِ يَجْتَمِعُ فيها الْإِحْرَامُ وَالْحَيْضُ وَالصَّوْمُ وَغَلَّطَهُ الْإِبْيَارِيُّ لِاسْتِحَالَةِ مُجَامَعَةِ الصَّوْمِ شَرْعًا لِلْحَيْضِ وَرَدَّهُ عليه ابن الْمُنِيرِ بِإِمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا في حَقِّ من انْقَطَعَ دَمُهَا قبل الْفَجْرِ فَثَبَتَ الصَّوْمُ ولم تَغْتَسِلْ وَهَذَا صَوْمٌ صَحِيحٌ وَحُكْمُ الْحَيْضِ بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ بَاقٍ حتى تَغْتَسِلَ على الصَّحِيحِ في صِحَّةِ الصَّوْمِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ فَإِنْ قُلْت الْحَيْضُ غَيْرُ مَوْجُودٍ حَقِيقَةً قُلْت ليس الْعَمَلُ على صُورَتِهِ وَإِنَّمَا هو على اسْتِصْحَابِهِ حُكْمًا كما أَنَّ الْإِحْرَامَ عِلَّةٌ في إبْقَاءِ الْحَجِّ
مَعْقُودًا لَا حُكْمُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِمَامُ أَنَّ الْمَرْأَةَ قد يَجْتَمِعُ عليها وَصْفَانِ وَيَعْتَرِيهَا حَالَتَانِ مُقْتَضَيَانِ لِلتَّحْرِيمِ إمَّا إحْرَامٌ وَحَيْضٌ أو إحْرَامٌ وَصَوْمٌ وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ في الْبُرْهَانِ مَثَّلَ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ بِعِلَّةِ الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ فَمُرَادُهُ اجْتِمَاعُ وَصْفَيْنِ من ذلك كَالصِّيَامِ مع الصَّلَاةِ أو الْإِحْرَامِ مع الْحَيْضِ لَا أَنَّ الْأَرْبَعَةَ تَجْتَمِعُ الْخَامِسُ الْقَائِلُونَ بِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ فإذا اجْتَمَعَتْ كان كُلُّ وَاحِدَةٍ منها لَا بِعَيْنِهَا عِلَّةً حَذَرًا من تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إذَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً وَمِنْ اللَّطِيفِ عِنْدَ ذلك أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا في قَوْله تَعَالَى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فَقِيلَ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْبَعْضِ تَعْظِيمُ قَدْرِ الذَّنْبِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَ ذُنُوبِهِمْ كَافٍ في إهْلَاكِهِمْ وَقِيلَ فَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ على ما يُصِيبُهُمْ في الدُّنْيَا من الْعُقُوبَاتِ فَكَانَ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ يُوجِبُ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَبَعْضُهَا يُوجِبُ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ فيها تَمَسُّكٌ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُسْتَقِلَّةَ إذَا انْفَرَدَتْ تَكُونُ عِلَّةً منها إذَا اجْتَمَعَتْ وَاحِدَةٌ لَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ صَدَرَتْ منهم أَسْبَابُ كل سَبَبٍ منها لو انْفَرَدَ لَاسْتَقَلَّ بِالْهَلَاكِ فلما اجْتَمَعَتْ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ اسْمُهُ أَنَّ السَّبَبَ منها في الْإِصَابَةِ بِالْعُقُوبَاتِ وَالْإِهْلَاكِ بَعْضُهَا لَا كُلُّهَا وَالْبَاقِي فَاتَ مَحَلُّ تَأْثِيرِهِ وَهَذَا هو عَيْنُ الْقَوْلِ بِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ ذَكَرَهُ ابن الْمُنِيرِ السَّادِسُ قال ابن سُرَيْجٍ في كِتَابِ إثْبَاتِ الْقِيَاسِ فَإِنْ قِيلَ إذَا اسْتَنْبَطَ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَسُبِرَا فَصَحَّا ما السَّبِيلُ في ذلك قِيلَ إنْ كان أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ في الْآخَرِ كَدُخُولِ الْمَأْكُولِ الْمُدَّخَرِ في الْمَأْكُولِ غَيْرِ الْمُدَّخَرِ نُظِرَ في زِيَادَةِ الزَّائِدِ فَاعْتُبِرَ كما ذَكَرْنَا في تَعْلِيلِ الرِّبَوِيِّ وَإِنْ كان الْمَعْنَيَانِ مُتَضَادَّيْنِ اُحْتِيجَ إلَى قِيَاسِهِمَا على غَيْرِهِمَا لِيُعْلَمَ أَيُّهُمَا أَصَحُّ وَذَلِكَ مِثْلُ تَخْيِيرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَرِيرَةَ لَمَّا عَتَقَتْ قال بَعْضُهُمْ خَيَّرَهَا لِأَنَّ زَوْجَهَا كان عَبْدًا وقال بَعْضُهُمْ بَلْ كان حُرًّا وقال بَعْضُهُمْ لَا أُبَالِي أَكَانَ حُرًّا أو عَبْدًا وَإِنَّمَا خَيَّرَهَا لِحُدُوثِ الْعِتْقِ فَأَمَّا كَوْنُهُ حُرًّا أو عَبْدًا فَيُدْرَكُ بِالْخَبَرِ وَأَمَّا من قال خَيَّرَهَا لِحُدُوثِ الْعِتْقِ فَهُوَ الذي يَحْتَاجُ عِلَّتُهُ وَعِلَّةُ من خَالَفَهُ إلَى قِيَاسِهِمَا على نَظِيرِهِمَا لِيُعْلَمَ أَصَحُّهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْعِلَّةَ فَضْلُ الْحُرِّيَّةِ لِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْحُرَّ على الْعَبْدِ فإذا حَدَثَ الْحُرِّيَّةُ حَدَثَ الْخِيَارُ لِلنَّقْصِ وَالْفَضْلِ فَيَعْمَلُ في هذا الْبَابِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْعِلَّةِ الْمُعَارِضَةِ وَإِلَى ما يُخَالِفُهَا حتى يَعْلَمَ أَصَحَّهُمَا
فَصْلٌ وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْحُكْمَيْنِ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ كانت بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ فَلَا خِلَافَ كما قَالَهُ الْآمِدِيُّ في الْجَوَازِ كما لو قال الشَّارِعُ جَعَلْت طُلُوعَ الْهِلَالِ أَمَارَةً على وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَمِنْهُ الْبُلُوغُ وَالْحَيْضُ عَلَامَةٌ لِأَحْكَامٍ عَدِيدَةٍ وَإِنْ كانت بِمَعْنَى الْبَاعِثِ فَاخْتَلَفُوا فيه على أَقْوَالٍ أَحَدُهَا وهو الصَّحِيحُ الْجَوَازُ إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ بَاعِثًا على حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَيْ مُنَاسِبًا لَهُمَا بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا كَمُنَاسَبَةِ الرِّبَا وَالشُّرْبِ لِلْحَدِّ وَالتَّحْرِيمِ والثاني الْمَنْعُ مُطْلَقًا والثالث الْمَنْعُ إنْ لم يَتَضَادَّا وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فَيَجُوزُ تَعْلِيلُ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِالْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لَكِنْ في مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْقَتْلِ الصَّادِرِ من زَيْدٍ وَعَمْرٍو فإنه مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا وقد يُعَلَّلُ بِهِمَا مُخْتَلِفَانِ غَيْرُ مُتَضَادَّيْنِ كَالْحَيْضِ يُحَرِّمُ الْوَطْءَ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوَهُ وَكَالْإِحْرَامِ الْمَانِعِ من النِّكَاحِ وَالصَّيْدِ وَالطِّيبِ وَأَخْذِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وقد يُعَلَّلُ بها مُخْتَلِفَانِ مُتَضَادَّانِ بِشَرْطَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ كَالْجِسْمِ يَكُونُ عِلَّةً لِلسُّكُونِ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ في الْحَيِّزِ وَعِلَّةُ الْحَرَكَةِ بِشَرْطِ الِانْتِقَالِ عنه وَمَثَّلَهُ إلْكِيَا بِمَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِعَقْدٍ مُصَحِّحًا لِآخَرَ قُلْت كَالتَّأْبِيدِ في التِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ قال إلْكِيَا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِحُكْمَيْنِ في شَيْءٍ وَاحِدٍ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْحُكْمِ على هذا الْوَجْهِ وَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهُمَا عِلَّتَيْنِ لِحُكْمَيْنِ مِثْلَيْنِ في شَيْئَيْنِ فَأَمَّا كَوْنُهُمَا عِلَّةً لِحُكْمَيْنِ مِثْلَيْنِ في شَيْءٍ وَاحِدٍ فَمُحَالٌ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَصِحُّ فيها الزَّائِدُ وَإِنَّمَا تَتَمَاثَلُ الْأَحْكَامُ وَتُعَلَّلُ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ في أَحْوَالٍ كَقَطْعِ الْيَدِ قِصَاصًا وَسَرِقَةً فَلَا يَمْنَعُ منه وَلَكِنَّهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ في الْآثَارِ وَإِنْ تَمَاثَلَا في الصُّورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
مَسَالِكُ الْعِلَّةِ أَيْ الطُّرُقُ الدَّالَّةُ على الْعِلَّةِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى في الْقِيَاسِ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْجَامِعِ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بَلْ لَا بُدَّ من دَلِيلٍ يَشْهَدُ له في الِاعْتِبَارِ وَالْأَدِلَّةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ إجْمَاعٌ وَنَصٌّ وَاسْتِنْبَاطٌ وَمِنْهُمْ من أَضَافَ إلَيْهِ دَلِيلَ الْعَقْلِ وَجَعَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَجْهًا وَالْمَشْهُورُ طَرِيقَةُ السَّمْعِ فَقَطْ الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ الْإِجْمَاعُ على كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً وهو مُقَدَّمٌ في الرُّتْبَةِ على الظَّوَاهِرِ من النُّصُوصِ لِأَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالُ النَّسْخِ وَمِنْهُمْ من قَدَّمَ الْكَلَامَ على النَّصِّ لِشَرَفِهِ وهو نَوْعَانِ إجْمَاعٌ على عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ كَتَعْلِيلِ وِلَايَةِ الْمَالِ بِالصِّغَرِ وَإِجْمَاعٌ على أَصْلِ التَّعْلِيلِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا في عَيْنِ الْعِلَّةِ كَإِجْمَاعِ السَّلَفِ على أَنَّ الرِّبَا في الْأَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ مُعَلِّلٌ وَاخْتَلَفُوا في أَنَّ الْعِلَّةَ مَاذَا وَمِثَالُ الْقِيَاسِ فيه أَنَّ الْأَخَ لِلْأَبَوَيْنِ مُقَدَّمٌ على الْأَخِ من الْأَبِ في الْمِيرَاثِ لِامْتِزَاجِ النَّسَبَيْنِ فَقِيَاسٌ عليه وِلَايَةُ النِّكَاحِ وَغَيْرُهَا فَإِنَّهَا أَثَّرَتْ في الْإِرْثِ إجْمَاعًا وَلَكِنْ في غَيْرِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فيه وَمِنْ ذلك إجْمَاعُهُمْ على أَنَّ الْغَصْبَ هو عِلَّةُ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ فَيُقَاسُ عليه السَّارِقُ وَجَمِيعُ الْأَيْدِي الْغَاصِبَةِ وَإِجْمَاعُهُمْ على أَنَّ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ مُوَلًّى عليها في النِّكَاحِ فَقَاسَ عليها أبو حَنِيفَةَ الثَّيِّبَ الصَّغِيرَةَ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ وقال وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ ليس لنا عِلَّةٌ تَعُودُ على أَصْلِهَا بِالتَّعْمِيمِ إلَّا هذا الْمِثَالُ وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ وقد سَبَقَ تَعَدِّي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْجَامِدِ الْقَالِعِ من
النَّصِّ على الْأَحْجَارِ نَظَرًا لِمَعْنَى الْإِزَالَةِ وَمَثَّلَهُ غَيْرُهُ بِقَوْلِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في السَّوَادِ لو قَسَمْته بَيْنَكُمْ لَصَارَتْ دُوَلًا بين أَغْنِيَائِكُمْ ولم يُخَالِفْهُ أَحَدٌ وَقَوْلِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه في شَارِبِ الْخَمْرِ إذَا شَرِبَ سَكِرَ وإذا سَكِرَ هَذَى وإذا هَذَى افْتَرَى فإنه يَجِبُ عليه حَدُّ الْمُفْتَرِي ولم يُخَالَفْ وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْقِيَاسَ على أَصْلٍ مُجْمَعٍ على حُكْمِهِ لِمَا فيه من الِافْتِيَاتِ على الصَّحَابَةِ إذْ قد يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ لِنُطْقٍ خَاصٍّ أو لِمَعْنًى لَا يَتَعَدَّى وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ على الْجَوَازِ طَرْدًا أَوْجَبَ دَلِيلَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إذَا ظَهَرَ التَّسَاوِي في الْمُنَاسَبَةِ وَإِنْ لم يَتَجَانَسْ الْحُكْمَانِ من كل وَجْهٍ وَلَعَلَّهُ شَطْرُ الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ عِنْدَهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ من طُرُقِ الْعِلَّةِ حَكَاهُ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ عن مُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ ثُمَّ قال وَهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا فإن الْقَائِسِينَ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ ثُمَّ رَدَّدَ الْقَاضِي جَوَابَهُ في أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فقال لو جَعَلْنَا الْقَائِسِينَ أَمَارَةً لِخَبَرِ غَلَبَةِ الظَّنِّ في الْمَقَايِيسِ لَكَانَ مُحْتَمَلًا وَإِنْ لم نَقُلْ إنَّهُ يُفْضِي إلَى الْقَطْعِ وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عليه جَوَابُهُ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ رُجُوعُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ عن الْإِنْكَارِ ثُمَّ يُجْمِعُ الْكَافَّةُ على عِلَّةٍ فَتَثْبُتُ حِينَئِذٍ قَطْعًا وَرَدَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ هذا بِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ على أَنَّ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ لَيْسُوا من عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَلَا حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ فإن مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَدَرَتْ عن الِاجْتِهَادِ وَالنُّصُوصُ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا ثَالِثًا عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ على الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عليه ما لم يُعْرَفْ النَّصُّ الذي أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ هذا الْإِجْمَاعَ ليس من شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا بَلْ يَكْفِي فيه الظَّنُّ ثَانِيهَا أَنَّهُ إذَا كان قَطْعِيًّا امْتَنَعَ وُرُودُهُ في الطَّرْدِيِّ فَإِنْ كان ظَنِّيًّا وَرَدَ فيه لَكِنْ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ ثَالِثُهَا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا قَاسَ على عِلَّةٍ إجْمَاعِيَّةٍ فَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ وَلَا في الْفَرْعِ فإن تَأْثِيرَهَا في الْفَرْعِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِهَا في الْفَرْعِ فَلِاطِّرَادِ الْمُطَالَبَةِ في كل قِيَاسٍ إذْ الْقِيَاسُ هو تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ بِالْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ وما من قِيَاسٍ إلَّا وَيَتَّجِهُ عليه سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ على الْمُعْتَرِضِ فَيُقَالُ مَثَلًا إنَّا قد نُثْبِتُ الْعِلَّةَ مُؤَثِّرَةً في الْأَصْلِ بِالِاتِّفَاقِ
وَيَثْبُتُ وُجُودُهَا في الْفَرْعِ فَتَمِّمْ لي الْقِيَاسَ فَإِنْ ثَبَتَ عَدَمُ تَأْثِيرِهَا امْتَنَعَ قِيَاسُك فَعَلَيْك بَيَانُهُ فَإِنْ بَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ الْفَرْقَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَزِمَ الْمُسْتَدِلَّ جَوَابُهُ وَإِلَّا انْقَطَعَ أَمَّا فَتْحُ بَابِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّأْثِيرِ ابْتِدَاءً فَلَا يُمْكِنُ منه لِمَا ذَكَرْنَا الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّصُّ على الْعِلَّةِ قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه مَتَى وَجَدْنَا في كَلَامِ الشَّارِعِ ما يَدُلُّ على نَصْبِهِ أَدِلَّةً أو أَعْلَامًا ابْتَدَرْنَا إلَيْهِ وهو أَوْلَى ما يُسْلَكُ ثُمَّ الْمَشْهُورُ أَنَّ إلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عنه بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ قِيَاسٌ وقال ابن فُورَكٍ ليس قِيَاسًا وَإِنَّمَا هو اسْتِمْسَاكٌ بِنَصِّ لَفْظِ الشَّارِعِ فإن لَفْظَ التَّعْلِيلِ إذَا لم يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ عن كل ما تَجْرِي الْعِلَّةُ فيه كان الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُسْتَدِلًّا بِلَفْظٍ نَاصٍّ في الْعُمُومِ حَكَاهُ في الْبُرْهَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ على مَرَاتِبِ الْأَقْيِسَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيلَ مَعْنًى من الْمَعَانِي وَأَصْلُهُ أَنْ تَدُلَّ عليه الْحُرُوفُ كَبَقِيَّةِ الْمَعَانِي لَكِنْ تَدُلُّ الْأَسْمَاءُ وَالْأَفْعَالُ على الْحُرُوفِ في إفَادَةِ الْمَعَانِي فَمِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ كَيْ وَاللَّامُ وَإِذَنْ وَمِنْ وَالْبَاءِ وَالْفَاءِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ أَجَلْ وَجَرَّاءُ وَعِلَّةٌ وَسَبَبٌ وَمُقْتَضًى وَنَحْوُ ذلك وَمِنْ أَفْعَالِهِ عَلَّلْت بِكَذَا وَنَظَرْت كَذَا بِكَذَا ثُمَّ قد يَدُلُّ السِّيَاقُ في الدَّلَالَةِ على الْعِلِّيَّةِ كما دَلَّ على غَيْرِ الْعِلِّيَّةِ وقد يَكُونُ مُحْتَمِلًا فَيُعَيِّنُ السِّيَاقُ أَحَدَ الْمُحْتَمَلَيْنِ وقد خَلَطَ الْمُصَنِّفُونَ الشُّرُوطَ بِالْعِلَلِ وَعَمَدُوا إلَى أَمْثِلَةٍ يُتَلَقَّى التَّعْلِيلُ فيها من شَيْءٍ فَظَنُّوهُ يَتَلَقَّى من شَيْءٍ آخَرَ وَرُبَّمَا الْتَبَسَ عليهم مَوْضُوعُ الْحُرُوفِ لِكَوْنِهَا مُشْتَرَكَةً فَظَنُّوهُ لِلتَّعْلِيلِ في مَحَلٍّ ليس هو فيه لِلتَّعْلِيلِ كَتَمْثِيلِهِمْ التَّعْلِيلَ بِالْفَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ وقد قَسَمُوا النَّصَّ على الْعِلَّةِ إلَى صَرِيحٍ وَظَاهِرٍ الْأَوَّلُ الصَّرِيحُ قال الْآمِدِيُّ فَالصَّرِيحُ هو الذي لَا يَحْتَاجُ فيه إلَى نَظَرٍ