كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي
فَائِدَةٌ تَكْلِيفُ الْمُتَمَكِّنِ وَوُقُوعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْكِنِ قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ يُكَلَّفُ الْمُتَمَكِّنُ وَيَقَعُ التَّكْلِيفُ بِالْمُمْكِنِ قال بَعْضُ عُلَمَائِنَا قَوْلُهُ يُكَلَّفُ الْمُتَمَكِّنُ بَنَاهُ على أَصْلِهِ في تَقَدُّمِ الْقُدْرَةِ على الْمَقْدُورِ فإن مَذْهَبَهُ في الْبُرْهَانِ صِحَّةُ ذلك وهو خِلَافُ ما يَرَاهُ في كُتُبِ الْكَلَامِ فَأَمَّا على ما نَرَاهُ نَحْنُ من اقْتِرَانِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ فَلَا يُشْتَرَطُ ذلك على مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إلَّا قَادِرٌ وَإِنْ أَطْلَقْنَا أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إلَّا مُتَمَكِّنٌ فَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ في الْوَاقِعِ إلَّا من لَا يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ عن إيقَاعِ الْمَطْلُوبِ فَأَمَّا اشْتِرَاطُ تَحْقِيقِ الْإِمْكَانِ الذي هو الِاقْتِدَارُ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ أَبَدًا في جَرَيَانِ الْعَادَةِ إلَّا بَعْدَ الْعَمَلِ وَمِنْ الْمُتَعَذَّرِ أَنْ يُشْتَرَطَ في تَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ عِلْمُ ما لم يَعْلَمْ إلَّا بَعْدَ الِامْتِثَالِ
مسألة
الْمَعْدُومُ الذي تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ مَأْمُورٌ الْمَعْدُومُ الذي تعلق العلم بوجوده مأمور المعدوم الذي تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ مَأْمُورٌ عِنْدَنَا بِالْأَمْرِ الْأَزَلِيِّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْلُ الْكَلَامِ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَصْحَابَنَا لَمَّا أَثْبَتُوا الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يَزَلْ آمِرًا نَاهِيًا مُخْبِرًا قِيلَ عليهم من قَبْلِ الْخُصُومِ الْقَائِلِينَ بِحُدُوثِهِ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِدُونِ الْمُخَاطَبِ عَبَثٌ فَاضْطَرَبَ الْأَصْحَابُ في التَّخَلُّصِ من ذلك على فِرْقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا قالت إنَّ الْمَعْدُومَ في الْأَزَلِ مَأْمُورٌ على مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ في الْأَزَلِ على تَقْدِيرِ الْوُجُودِ وَاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ لَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ حَالَ عَدَمِهِ فإن ذلك مُسْتَحِيلٌ بَلْ هو مَأْمُورٌ بِتَقْدِيرِ الْوُجُودِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَوْجُودًا في الْأَزَلِ ثُمَّ إنَّ الشَّخْصَ الذي سَيُوجَدُ بَعْدَ ذلك يَصِيرُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَهَذَا مُفَرَّعٌ على إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ ولم يَقُلْ بِهِ إلَّا الْأَشَاعِرَةُ هَكَذَا نَقَلُوهُ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ منهم ابن الْقُشَيْرِيّ قال إِلْكِيَا تَعَلُّقُ الْأَمْرِ على تَقْدِيرِ الْوُجُودِ معه الْأَكْثَرُونَ وَجَوَّزَهُ الْأَشْعَرِيُّ بَلْ أَوْجَبُوهُ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ قَدِيمٌ وَلَا مُخَاطِبَ أَزَلًا وَأَنْكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُسْتَمْسِكِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ وَلَا يُعْقَلُ الطَّلَبُ من الْمَعْدُومِ فَقِيلَ هذا الطَّلَبُ لَا مُتَعَلِّقَ له فإن الْمَعْدُومَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطِبًا أو مُتَعَلِّقًا فإنه نَفْيٌ وإذا قُلْت النَّفْيُ مُتَعَلِّقٌ فَكَأَنَّك قُلْتلَا مُتَعَلِّقَ فَقِيلَ لهم الْمَعْدُومُ كَيْفَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا قُلْنَا هذا مَبْنِيٌّ على أَصْلِنَا فَقِيلَ هذا أَمْرٌ وَلَا مَأْمُورَ قُلْنَا هو بِتَقْدِيرِ أَمْرٍ فإن الطَّلَبَ من الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ فَلَا يَثْبُتُ دُونَ مُتَعَلَّقِهِ أَصْلًا كَالْعِلْمِ لَا يَثْبُتُ دُونَ مَعْلُومٍ وَالْكَلَامُ الْأَزَلِيُّ ليس تَقْدِيرًا قال وَأَصْحَابُ الشَّيْخِ يَقُولُونَ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ في الْأَزَلِ آمِرٌ أَنَّهُ صَالِحٌ لَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمَوْجُودِ بَعْدَ وُجُودِهِ كَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِهِمَا من الصِّفَاتِ وَإِنْكَارُ بَعْضِهَا بهذا الطَّرِيقِ يَجُرُّ إلَى ما سِوَاهُ ا هـ وقد عَظُمَ النَّكِيرُ في هذه الْمَسْأَلَةِ على الْأَشْعَرِيِّ حتى انْتَهَى الْأَمْرُ إلَى انْكِفَافِ طَائِفَةٍ من الْأَصْحَابِ عن هذا الْمَذْهَبِ منهم أبو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ وَجَمَاعَةٌ من الْقُدَمَاءِ فَقَالُوا كَلَامُ اللَّهِ في الْأَزَلِ لَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ أَمْرًا أو نَهْيًا وَوَعْدًا أو وَعِيدًا وَإِنَّمَا تَثْبُتُ هذه الصِّفَاتُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُخَاطَبِينَ فِيمَا لَا يَزَالُ وَجَعَلَ ذلك من صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ لِكَلَامٍ خَارِجٍ عن أَقْسَامِ الْكَلَامِ وهو يَسْتَحِيلُ وَلَئِنْ جَازَ ذلك فما الْمَانِعُ من الْمَصِيرِ إلَى أَنَّ الصِّفَةَ الْأَزَلِيَّةَ لَيْسَتْ كَلَامًا أَزَلًا ثُمَّ يَسْتَحِيلُ كَوْنُهَا فِيمَا لَا يَزَالُ وَسَهَّلَ الطُّرْطُوشِيُّ أَمْرَ هذا الْخِلَافِ فقال ليس خِلَافًا في مَعْنًى وَإِنَّمَا خِلَافٌ عَائِدٌ إلَى لُغَةٍ لِاتِّفَاقِهِمَا على وُجُودِ الْمَعْنَى في النَّفْسِ وَامْتِنَاعُ الْقَلَانِسِيِّ من تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى في الْأَزَلِ آمِرًا نَاهِيًا وَتَسْمِيَةِ كَلَامِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا لم يَمْتَنِعْ من أَجْلِهِ أَنْ يَقُولَ إنَّ هذا الِاقْتِضَاءَ قَائِمٌ بِذَاتِ الْبَارِئِ تَعَالَى في الْأَزَلِ وَإِنَّمَا قال لَا أُطْلِقُ عليه آمِرًا وَلَا على كَلَامِهِ أَمْرًا حتى يَتَعَلَّقَ بِمُتَعَلَّقِهِ فَحِينَئِذٍ أُسَمِّيهِ آمِرًا من غَيْرِ أَنْ يَتَجَدَّدَ في الْقَدِيمِ شَيْءٌ وَهَذَا قَرِيبٌ وَعِنْدَ هذا نَقُولُ الْأَقْوَى أَنَّهُ يُطْلَقُ عليه آمِرٌ قبل التَّعْلِيقِ كما يُطْلَقُ عليه تَعَالَى قَادِرٌ قبل وُجُودِ الْمَقْدُورِ ا هـ وما ذَكَرْنَاهُ من أَنَّ الشَّيْخَ لم يُرِدْ تَنْجِيزَ التَّكْلِيفِ وَإِنَّمَا أَرَادَ قِيَامَ التَّعَلُّقِ الْعَقْلِيِّ وهو قِيَامُ الطَّلَبِ بِالذَّاتِ من الْمَعْدُومِ إذَا وُجِدَ صَرَّحَ بِهِ ابن الْحَاجِبِ أَيْضًا من الْمُتَأَخِّرِينَ وَنَازَعَهُ بَعْضُهُمْ وقال الْحَقُّ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ إنَّمَا أَرَادَ التَّنْجِيزَ وَالتَّعَلُّقُ عِنْدَهُ قَدِيمٌ وَلَا يَلْزَمُ من التَّنْجِيزِ تَكْلِيفُ الْمَعْدُومِ بِأَنْ يُوجَدَ الْفِعْلُ في حَالِ عَدَمِهِ بَلْ تَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ بِهِ على صِفَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُوقِعُهُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهِ وَاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَدَمَ التَّنْجِيزِ بَلْ التَّنْجِيزُ وَاقِعٌ وَهَذَا مَعْنَاهُ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا في
الْعَدَمِ أَنْ يُوجَدَ في الْعَدَمِ فَقَدْ زَلَّ فإن إتْيَانَهُ بِهِ في الْعَدَمِ كما يَسْتَدْعِي الْإِمْكَانَ كَذَلِكَ يَسْتَدْعِي أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ على هذا الْوَجْهِ وَالْأَمْرُ لم يَقَعْ كَذَلِكَ بَلْ على صِفَةِ أَنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ التي فيها الْوُجُوبُ وَأَقْرَبُ مِثَالٍ لِذَلِكَ الْوَكَالَةُ فإن تَعْلِيقَهَا بَاطِلٌ على الذَّهَبِ وَلَوْ نَجَّزَ الْوَكَالَةَ وَعَلَّقَ التَّصَرُّفَ على شَرْطٍ جَازَ وهو الْآنَ وَكِيلُ وَكَالَةٍ مُنَجَّزَةٍ وَلَكِنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا على مُقْتَضَاهَا وهو وِجْدَانُ الشَّرْطِ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ قالت إنَّهُ كان في الْأَزَلِ آمِرٌ من غَيْرِ مَأْمُورٍ ثُمَّ لَمَّا اسْتَمَرَّ وَبَقِيَ صَارَ الْمُكَلَّفُونَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ في الْوُجُودِ مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَضَرَبُوا لِذَلِكَ مِثَالًا وهو أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَرُبَ مَوْتُهُ قبل وِلَادَةِ وَلَدِهِ فَرُبَّمَا يقول لِبَعْضِ الناس إذَا أَدْرَكْت وَلَدِي فَقُلْ له إنَّ أَبَاك كان يَأْمُرُك بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ فَهَاهُنَا قد وُجِدَ الْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ مَعْدُومٌ حتى لو بَقِيَ ذلك الْأَمْرُ إلَى أَوَانِ بُلُوغِ ذلك الصَّبِيِّ لَصَارَ مَأْمُورًا بِهِ قال صَاحِبُ التَّنْقِيحَاتِ وَفِيهِ بَحْثٌ إذْ الْكَلَامُ فِيمَا ليس هُنَاكَ مَأْمُورٌ وَلَا من يَنْهَى إلَيْهِ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ على أَصْلِ الْأَشَاعِرَةِ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ إنَّمَا هو الْخَبَرُ وَالْخَبَرُ في الْأَزَلِ وَاحِدٌ لَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ إضَافَتُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَبِحَسَبِ ذلك تَخْتَلِفُ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عليه كما في الْعِلْمِ فإنه صِفَةٌ وَاحِدَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَعْلُومَاتِ وَلَعَلَّ الْأَشَاعِرَةَ إنَّمَا ذَهَبُوا إلَى انْحِصَارِ كَلَامِ اللَّهِ في الْخَبَرِ لِهَذَا الْغَرَضِ وَالْقَائِلُونَ بِجَوَازِ أَمْرِ الْمَعْدُومِ اخْتَلَفُوا كما قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ قبل وُجُودِ الْمَأْمُورِ أَمْرُ إنْذَارٍ وَإِعْلَامٍ وَلَيْسَ بِأَمْرِ إيجَابٍ على الْحَقِيقَةِ وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّهُ أَمْرُ إيجَابٍ على شَرْطِ الْوُجُودِ فإن ما يَتَحَاشَى من الْإِيجَابِ يَلْزَمُ مِثْلُهُ في الْإِعْدَامِ وَكَمَا يَتَعَذَّرُ إلْزَامُ الْمَعْدُومِ شيئا يَتَعَذَّرُ إعْلَامُهُ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ عن بَعْضِ من لَا تَحْقِيقَ له أَنَّ الْأَمْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَوْجُودٍ وَاحِدٍ فَصَاعِدًا ثُمَّ يَتَّبِعُهُ الْمَعْدُومُونَ على شَرْطِ الْوُجُودِ وَسُقُوطُ هذا وَاضِحٌ قُلْت وهو يُضَاهِي قَوْلَ الْفُقَهَاءِ يَصِحُّ الْوَقْفُ على الْمَعْدُومِ تَبَعًا لِمَوْجُودٍ كَوَقَفْتُ على وَلَدِي فُلَانٍ وَعَلَى من سَيُولَدُ لي وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَأَنْكَرُوا خِطَابَ الْمَعْدُومِ وَتَوَصَّلُوا بِزَعْمِهِمْ إلَى إبْطَالِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَعَلَى هذا فَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ الْوَارِدَةِ في عَصْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِينَ وَأَنَّ من بَعْدَهُمْ تَنَاوَلَهُ بِدَلِيلٍ وَحَكَى أبو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ في الْهِدَايَةِ عن الْغَزَالِيِّ وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ اخْتِيَارَ مَذْهَبِ
الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومِينَ وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِينَ قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا احْتَجَّ عَلَيْنَا بِأَمْرٍ أو خَبَرٍ يَلْزَمُنَا على الْحَدِّ الذي كان يَلْزَمُنَا لو كنا في عَصْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَوْجُودِينَ من غَيْرِ قِيَاسٍ إنْ قُلْنَا الْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ وَإِنْ قُلْنَا لَا يَتَنَاوَلُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى قِيَاسٍ أو دَلِيلٍ آخَرَ لِإِلْحَاقِ الْمَوْجُودِ في هذا الزَّمَانِ بِالْمَوْجُودِ في ذلك الزَّمَانِ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ مَذْهَبَ الشَّيْخِ وَأَشَارَ في الْبُرْهَانِ إلَى الْمَيْلِ إلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وقال الْقَاضِي وَعَلَى قَضِيَّةِ هذا الِاخْتِلَافِ اخْتَلَفَ الصَّائِرُونَ إلَى قِدَمِ كَلَامِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَنَّ كَلَامَهُ هل يَتَّصِفُ في أَزَلِهِ بِكَوْنِهِ أَمْرًا أو نَهْيًا أَمْ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ هذا الْوَصْفِ على وُجُودِ الْمُكَلَّفِينَ وَتَوَفُّرِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ فَمَنْ جَوَّزَ أَمْرَ الْمَعْدُومِ صَارَ إلَى أَنَّ كَلَامَ الرَّبِّ تَعَالَى لم يَزَلْ أَمْرًا وَمَنْ أَنْكَرَ ذلك جَعَلَ كَوْنَهُ أَمْرًا من الصِّفَاتِ الْآيِلَةِ إلَى الْفِعْلِ وَهَذَا كما أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يَتَّصِفْ في أَزَلِهِ بِكَوْنِهِ خَالِقًا فلما خَلَقَ وُصِفَ بِكَوْنِهِ خَالِقًا قال وَاَلَّذِي نَرْتَضِيهِ جَوَازُ أَمْرِ الْمَعْدُومِ على التَّحْقِيقِ بِشَرْطِ الْوُجُودِ وَأَنْكَرَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ قَاطِبَةً وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ الذي عليه أَصْحَابُنَا أَنَّ الْمَعْدُومَ مَأْمُورٌ وَنُقِلَ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِشَرْطِ الْوُجُودِ وهو قَوْلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْخِطَابَ بَعْدَ الْوُجُودِ فَلَيْسَ أَمْرَ مَعْدُومٍ وَإِنْ أَرَادَ خِطَابَهُ حَالَةَ الْعَدَمِ فَذَلِكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَشْرُوطُ على الشَّرْطِ قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ أَصْلٍ عَظِيمٍ وهو إثْبَاتُ كَلَامِ النَّفْسِ لِلْبَارِئِ فَعِنْدَنَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ أَبَدًا وهو يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا خَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا فإذا ثَبَتَ هذا الْأَصْلُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْمَعْدُومِ لِأَنَّ كَلَامَهُ في الْأَزَلِ اتَّصَفَ بِكَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَنَحْنُ مَعْدُومُونَ إذْ ذَاكَ لَا مَحَالَةَ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَصَارُوا إلَى أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ بِخَلْقِهِ إذَا أَمَرَ أو نهى وهو عِبَارَةٌ عن الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ فَلَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ قبل الْمَأْمُورِ وَنُقِلَ عن الْقَلَانِسِيِّ من أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قال الْبَارِئُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ قَائِمٍ بِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ لَا يَتَّصِفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ إلَّا إذَا أَمَرَ وَنَهَى وَدَخَلَ الْمُكَلَّفُونَ وَحَدَّثَ الْمُخَاطَبُونَ وهو قَوْلٌ بَاطِلٌ وقال الْمَازِرِيُّ من هذه الْمَسْأَلَةِ قالت الْمُعْتَزِلَةُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ أَحَالُوا وُجُودَ أَمْرٍ وَلَا مَأْمُورَ ولم يَكُنْ مع اللَّهِ أَحَدٌ في
الْأَزَلِ حتى يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ فَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْأَمْرِ لِاسْتِحَالَةِ الْكَلَامِ وَدُهِشَ لِهَذَا بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ من أَئِمَّتِنَا الْقَلَانِسِيُّ وَغَيْرِهِ حتى رَكِبَ مَرْكَبًا صَعْبًا فَأَنْكَرَ كَوْنَ كَلَامِ اللَّهِ في الْأَزَلِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا فَخَلَصَ بهذا من إلْزَامِهِمْ لِأَنَّهُ إذَا نَفَى الْأَمْرَ في الْأَزَلِ لم تَجِدْ الْمُعْتَزِلَةُ سَبِيلًا إلَى الطَّعْنِ على مَذْهَبِهِ في قِدَمِ الْقُرْآنِ لَكِنَّهُ اسْتَبْعَدَ أَمْرًا وَفَرَّ منه فَوَقَعَ في آخَرَ أَبْعَدَ منه لِأَنَّهُ أَثْبَتَ كَلَامَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قَدِيمًا في الْأَزَلِ على غَيْرِ حَقَائِقِ الْكَلَامِ من كَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَإِثْبَاتُ كَلَامٍ ليس بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَلَا خَبَرٍ وَلَا اسْتِخْبَارٍ إلَى غَيْرِ ذلك من أَقْسَامِ الْكَلَامِ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَكَأَنَّ مُثْبَتَهُ لم يَثْبُتْ كَلَامًا وَإِنَّمَا أَثْبَتَ صِفَةً أُخْرَى غير كَلَامٍ فَالْحَاصِلُ صُعُوبَةُ هذه الْمَسْأَلَةِ فإنه إمَّا أَنْ يَنْشَأَ عنها نَفْيُ قِدَمِ الْكَلَامِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَّا إثْبَاتُ قِدَمِ الْكَلَامِ وَفِيهِ إثْبَاتُ قِدَمِ الْخَلَائِقِ الْمَأْمُورِينَ أو إثْبَاتِ أَمْرٍ وَلَا مَأْمُورَ وَإِمَّا إثْبَاتُ كَلَامٍ قَدِيمٍ عَارَضَ حَقَائِقَ الْكَلَامِ فَأَمَّا شَيْخُ الْمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيُّ فلم يَسْتَبْعِدْ إثْبَاتَ أَمْرٍ في الْأَزَلِ وَلَا مَأْمُورَ لِأَنَّا نَجِدُ من أَنْفُسِنَا أَمْرَ الْغَائِبِ وَإِنَّمَا يُتَوَجَّهُ عِنْدَ حُضُورِهِ وَأَجَابَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ الذي نَجِدُهُ من أَنْفُسِنَا تَقْدِيرُ أَمْرٍ إذَا حَضَرَ لَا نَفْسَ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ وَكَلَامُ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ لَا يَصْلُحُ فيها التَّقْدِيرُ وَاسْتَدَلَّ شَيْخُنَا بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَعْدُومَ يَأْمُرُ بِهِ تَقُولُ بِهِ زُرْنِي غَدًا وَبِأَنَّ الْخَلْقَ إلَى يَوْمِنَا لم يَزَالُوا مَأْمُورِينَ بِأَمْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ قال الْمَازِرِيُّ وَالْحَقُّ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَصْفُو بَعْدَ تَصَوُّرِ أَحْكَامِ التَّعَلُّقَاتِ وَمُتَعَلِّقَاتهَا وَصَرْفِ التَّعْيِينِ إلَى الْمُتَعَلِّقَاتِ لَا الْمُتَعَلِّقِ وهو من الْغَوَامِضِ وَأَهْلُ الْحَقِّ أَثْبَتُوا هذه التَّعَلُّقَاتِ أَزَلِيَّةً لِأَنَّ نَفْيَهَا عن الْبَارِي سُبْحَانَهُ في الْأَزَلِ مُحَالٌ وقال الْمُقْتَرَحُ في تَعْلِيقِهِ على الْبُرْهَانِ التَّقْدِيرُ هَاهُنَا ليس عَائِدًا إلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ فإن التَّقْدِيرَ حَادِثٌ وَيَسْتَحِيلُ قِيَامُ الْحَادِثِ بِذَاتِهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا هو عَائِدٌ إلَى الْمُكَلَّفِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُقَدِّرُ في نَفْسِهِ احْتِمَالُ وُجُودِ هذا الْمَعْدُومِ وَاحْتِمَالُ أَنْ لَا يُوجَدَ فَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ يَكُونُ مَأْمُورًا قال وَإِنْ صَدَّقْنَا وَحَقَّقْنَا قُلْنَا الْأَمْرُ لم يَتَعَلَّقْ بِالْمَعْدُومِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ الْمُتَوَقَّعِ كما أَنَّ الْعِلْمَ الْأَزَلِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ الذي سَيَكُونُ كَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ الْأَزَلِيُّ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّكْلِيفِ الذي سَيَكُونُ فَالْأَمْرُ إذَنْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ أو يَتَعَلَّقُ الطَّلَبُ بِالْمَوْجُودِ بِالْمَعْدُومِ فإن نَفْيَ التَّنْجِيزِ يُشْعِرُ بِذَلِكَ
تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ هذا الْخِلَافُ في أَنَّ الْمَأْمُورَ مَتَى يَصِيرُ مَأْمُورًا هل من الْأَزَلِ وَإِنْ كان مَعْدُومًا أو يَتَوَقَّفُ على وُجُودِهِ وَشُرُوطٍ أُخْرَى وَإِنْ كان أَنْشَأَ الْأَمْرَ مُتَقَدِّمًا يُضَاهِيهِ الْبَحْثُ في الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ الْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ بِالتَّعْلِيقِ يَنْعَقِدُ سَبَبُهُ وَعِنْدَ الصِّفَةِ تَعَذَّرَ إنْشَاؤُهُ وَيُجْعَلُ كَالنَّازِلِ ذلك الْوَقْتِ وَغَيْرُهُمْ من الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَقُولُونَ إنَّ التَّعْلِيقَ الْمُتَقَدِّمَ هو الْعِلَّةُ فَيُؤَثِّرُ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ هذا هو الصَّحِيحُ وَيَتَخَرَّجُ عليها أَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ من الْمَوْقُوفِ عليهم يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ هو كَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عليهم الْآنَ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ مَصْرِفُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا يَصِيرُ مَوْقُوفًا عليه إذَا انْقَرَضَ من قَبْلِهِ وَلَعَلَّ خِلَافَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَأْتِي في ذلك وإذا قُلْنَا إنَّهُ مَوْقُوفُ عليهم في حَيَاةِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى فَهَلْ نَقُولُ إنَّهُ من أَهْلِ الْوَقْفِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقَالَ بِهِ وهو الْأَظْهَرُ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّيْءِ هو الْمُسْتَقِرُّ في اسْتِحْقَاقِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَكَذَلِكَ يقول إنَّ من شَرْطِ اسْمِ الْوَقْفَ الِاسْتِحْقَاقُ التَّنْبِيهُ الثَّانِي ليس بين هذه الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قبل الشَّرْعِ تَنَاقُضٌ كما قد يَظُنُّ فإنه إنْ فَسَّرَ لَا حُكْمَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ فَسَّرَ بِعَدَمِ الْحُكْمِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ دَالُّ الْحُكْمِ في الْأَزَلِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْمُكَلَّفِ مَوْقُوفٌ على وُجُودِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ عليهم السَّلَامُ فَمَعْنَى لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قبل الشَّرْعِ أَيْ لَا تَعَلُّقَ لِلْأَمْرِ فَلَا تَنَاقُضَ
سقط
مسألة
لا يشترط في المكلف الحرية
وَلَا يشترط في المكلف الحرية ولا يُشْتَرَطُ في الْمُكَلَّفِ الْحُرِّيَّةُ بَلْ يُدَخِّلُ الْعَبِيدُ في الْخِطَابِ الْعَامِّ نحو يا أَيُّهَا الناس يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهو كَالْحُرِّ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على تَخْصِيصِ الْخِطَابِ بِالْأَحْرَارِ هذا هو الصَّحِيحُ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ في الْعُمُومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَحُكْمُ من فيه جُزْءٌ من الرِّقِّ حُكْمُ الرَّقِيقِ قَالَهُ الْقَاضِي أبو الْمَعَالِي عَزِيزِي بن عبد الْمَلِكِ في كِتَابِ بَيَانِ الْبُرْهَانِ وَقَلَّ من صَرَّحَ بِهِ من الْأُصُولِيِّينَ قال في الْإِرْشَادِ وما يُشْتَرَطُ فيه الْمَالُ لَا يَدْخُلُ فيه لِعَدَمِ الْمِلْكِمسألة
دُخُولُ الذُّكُورِ في الْإِنَاثِ في الْخِطَابِ لَا يُشْتَرَطُ الذُّكُورِيَّةُ بَلْ الْخِطَابُ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ قال الْقَاضِي وَيَتَّبِعُ في ذلك وَضْعَ اللُّغَةِ فَإِنْ وَرَدَتْ لَفْظٌ تَخُصُّ الرِّجَالَ خَصَّصْنَا بِهِمْ فَإِنْ وُضِعَتْ شَرِكَةٌ حَمَلْنَاهَا على الِاشْتِرَاكِ سَيَأْتِي في الْعُمُومِ وَيَتَنَاوَلُ الْخُنْثَى لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ في نَفْسِ الْأَمْرِ عنهما ولم يَتَعَرَّضْ له الْأُصُولِيُّونَ مسألة تَكْلِيفُ الْجِنِّ وَلَا يُشْتَرَطُ في التَّكْلِيفِ الْإِنْسِيَّةُ بَلْ الْجِنُّ مُكَلَّفُونَ في الْجُمْلَةِ وقد وَقَعَ نِزَاعٌ بين الْمُتَأَخِّرِينَ في أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ فقال بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ إنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بها في الْجُمْلَةِ لَكِنْ لَا على حَدِّ تَكْلِيفِ الْإِنْسِ بها لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْإِنْسَ بِالْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ فَبِالضَّرُورَةِ يُخَالِفُونَهُمْ في بَعْضِ التَّكَالِيفِ مِثَالُهُ أَنَّ الْجِنَّ قد أُعْطِيَ بَعْضُهُمْ قُوَّةَ الطَّيَرَانِ في الْهَوَاءِ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِقَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلْحَجِّ طَائِرًا وَالْإِنْسَانُ لِعَدَمِ تِلْكَ الْقُوَّةِ لَا يُخَاطَبُ بِذَلِكَ هذا في طَرَفِ زِيَادَةِ تَكْلِيفِهِمْ على تَكْلِيفِ الْإِنْسِ فَكُلُّ تَكْلِيفِهِ يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ طَبِيعَةِ الْإِنْسِ يَنْتَفِي في حَقِّ الْجِنِّ لِعَدَمِ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ فِيهِمْ وَالدَّلِيلُ على تَكْلِيفِ الْجِنِّ بِالْفُرُوعِ الْإِجْمَاعُ على أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أُرْسِلَ بِالْقُرْآنِ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَجَمِيعُ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ يَتَوَجَّهُ إلَى الْجِنْسَيْنِ وقد تَضْمَنَّ ذلك أَنَّ كُفَّارَالْإِنْسِ مُخَاطَبُونَ بها وَكَذَلِكَ كُفَّارُ الْجِنِّ الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْمُكَلَّفُ بِهِ وَلَهُ شُرُوطٌ شُرُوطُ الْمُكَلَّفِ بِهِ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا من حَيْثُ هو يُمْكِنُ حُدُوثُهُ إذْ إيجَادُ الْمَوْجُودِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا لِلْقُدْرَةِ ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِكَسْبِ الْمُكَلَّفِ فَلَا يَصِحُّ أَمْرُ زَيْدٍ بِكِتَابَةِ عَمْرٍو وَلَا يَعْتَرِضُ على هذا بِإِلْزَامِ الْعَاقِلَةِ دِيَةَ خَطَأِ وَلِيِّهَا لِأَنَّ ذلك من بَابِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْمُخَالِفُ فيه أبو الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ قال الرَّافِعِيُّ في أَوَّلِ كِتَابِ الْفَرَائِضِ ذَهَبَ ابن سُرَيْجٍ إلَى أَنَّهُ كان يَجِبُ على الْمُحْتَضَرِ أَنْ يُوصِيَ لِكُلِّ أَحَدٍ من الْوَرَثَةِ بِمَا في عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى من الْفَرَائِضِ وكان من يُوَفَّقُ لِذَلِكَ مُصِيبًا وَمَنْ تَعَدَّاهُ مُخْطِئًا قال الْإِمَامُ وَهَذَا زَلَلٌ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ في الشَّرَائِعِ فإنه تَكْلِيفٌ على عَمَائِهِ رَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ وَالْمُكَلَّفُ بِهِ في النَّهْيِ الْكَفُّ وَالْكَفُّ فِعْلُ الْإِنْسَانِ دَاخِلٌ تَحْتَ كَسْبِهِ يُؤْجَرُ عليه وَيُعَاقَبُ على تَرْكِهِ وقال بَعْضُهُمْ التَّرْكُ نَفْيٌ مَحْضٌ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ وَلَا الْكَسْبِ وهو ضَعِيفٌ وفي الحديث الصَّحِيحِ تَكُفُّ شَرَّكَ عن الناس فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ على نَفْسِكَ نعم لَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ على الْكَفِّ إلَّا مع النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ دُونَ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ خَامِسُهَا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا له على خِلَافٍ في هذا الشَّرْطِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وَبَعْضُهُمْ تَرْجَمَهَا بِالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَلَا بُدَّ من تَحْقِيقِهَا فَنَقُولُ اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْدُومَ إمَّا مُمْكِنٌ أو وَاجِبٌ أو مُمْتَنِعٌ فَالْمُمْكِنُ ما اسْتَوَتْ نِسْبَتُهُ إلَى الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَيَحْتَاجُ في وُجُودِهِ إلَى مُرَجِّحٍ وَمُخَصِّصٍ وَالْوَاجِبُ ما تَرَجَّحَ وُجُودُهُ على عَدَمِهِ وَالْمُمْتَنِعُ ما تَرَجَّحَ عَدَمُهُ على وُجُودِهِ ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ من الْوَاجِبِ وَالْمُمْتَنِعِ إمَّا أَنْ
يَكُونَ وُجُوبُهُ أو امْتِنَاعُهُ لِذَاتِهِ أو لِغَيْرِهِ فَالْوَاجِبُ لَا لِذَاتِهِ ما تَوَقَّفَ وُجُودُهُ على سَبَبٍ خَارِجٍ عن ذَاتِهِ كَسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ حَالَ وُجُودِهَا وَالْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بين الضِّدَّيْنِ وَالْمُمْتَنِعُ لِغَيْرِهِ كَتَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ أَنَّ فُلَانًا يَمُوتُ كَافِرًا وهو أَمْثَالُ الْمَشْهُورِ في هذا الْبَابِ فَإِذَنْ الْمُحَالُ ضَرْبَانِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ وَمُحَالٌ لِغَيْرِهِ وَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ فِيهِمَا وَيُطْلِقُهُ الْأُصُولِيُّونَ وَالْمُتَكَلِّمُونَ على أَرْبَعَةِ مَعَانٍ أَحَدُهَا ما لَا يُعْقَلُ على حَالٍ وهو الْمُسْتَحِيلُ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بين الضِّدَّيْنِ وَقَلْبِ الْأَجْنَاسِ وَإِعْدَامِ الْقَدِيمِ وَإِيجَادِ الْمَوْجُودِ الثَّانِي على ما لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَإِنْ كان مُمْكِنًا في نَفْسِهِ كَخَلْقِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ فإنه لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَإِلَّا لَمَا أَدْرَكُوا من أَنْفُسِهِمْ عَجْزًا عنه الثَّالِثُ ما لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عليه في الْعَادَةِ وَإِنْ كان من جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ كَالطَّيَرَانِ في الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ على الْمَاءِ الرَّابِعُ على جِنْسِ الْمَقْدُورِ في الْعَادَةِ وَلَكِنْ لم يَخْلُقْ اللَّهُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً عليه وَمِنْ هذا جَمِيعُ الطَّاعَاتِ التي لم تَقَعْ وَالْمَعَاصِي الْوَاقِعَةُ فإن اللَّهَ تَعَالَى لم يُقَدِّرْ الْعَاصِيَ على تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا الْمُمْتَنِعَ من الطَّاعَةِ على فِعْلِهَا وَمِنْهُمْ من زَادَ قِسْمًا آخَرَ وهو تَكْلِيفُ الْقَاعِدِ الْقِيَامَ وَالْقَائِمِ الْقُعُودَ بِنَاءً على أَنَّ الْقُدْرَةَ مع الْفِعْلِ وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ إذَا عَلِمَتْ هذا فَالنَّظَرُ في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ وَالثَّانِي الْوُقُوعُ جَوَازُ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ أَمَّا الْجَوَازُ فَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا وهو مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ جَوَازُهُ مُطْلَقًا قال ابن بَرْهَانٍ وهو قَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ من أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ الذي مَالَ إلَيْهِ أَكْثَرُ أَجْوِبَةِ شَيْخِنَا وَارْتَضَاهُ الْمُحَصِّلُونَ من أَصْحَابِهِ أَنَّ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ جَائِزٌ عَقْلًا وَكَذَلِكَ تَكْلِيفُ الشَّيْءِ مع تَقْدِيرِ الْمَنْعِ منه اسْتِمْرَارًا وفي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ لَا يُسَوِّغُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ كَجَمْعِ الضِّدَّيْنِ وَالْإِقْدَامِ على الْمَأْمُورِ بِهِ مع اسْتِمْرَارِ الْمَانِعِ منه وَمَعَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ ثُمَّ لم يَصِرْ في مَنْعِهِ إلَى التَّقْبِيحِ الذي
ادَّعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ فإن هذا الْأَصْلَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وقال الْإِرْشَادُ من صُوَرِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ وَإِيقَاعُ ما يَخْرُجُ عن قَبِيلِ الْمَقْدُورَاتِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ ا هـ وقد نَصَّ الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ في كِتَابِ الْوَجِيزِ على الْجَوَازِ فإنه اسْتَدَلَّ على الْقَائِلِينَ بِاسْتِحَالَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُحَمِّلْنَا ما لَا طَاقَةَ لنا بِهِ فقال وَلَوْ كان ذلك مُحَالًا لَمَا اسْتَقَامَ الِابْتِهَالُ إلَى اللَّهِ بِدَفْعِهِ ا هـ يَعْنِي لَوْلَا جَوَازُهُ لَمَا اسْتَعَاذُوا منه إذْ الِاسْتِعَاذَةُ من مُحَالٍ مُحَالٌ وَالْخَصْمُ يَتَأَوَّلُهُ على ما فيه كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ ثُمَّ هِيَ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في صَدْرِ الْآيَةِ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَحَاوَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ نَفْيَ هذا الْمَذْهَبِ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ وَزَعَمَ أَنَّ الذي جَوَّزَهُ وُرُودُ صِيغَةٍ مُضَاهِيَةٍ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْغَرَضُ منها تَعْجِيزُ وَتَبْيِينُ حُلُولِ الْعِقَابِ الذي لَا مَحِيصَ عنه وَلَيْسَ الْمُرَادُ طَلَبًا وَاقْتِضَاءً وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ فإن ظَاهِرَهُ تَعْلِيقُ الْخَلَاصِ من الْعِقَابِ بِانْسِلَاكِ الْجَمَلِ في سَمِّ الْخِيَاطِ وَلَيْسَ هو على الْحَقِيقَةِ تَعْلِيقًا وَإِنَّمَا هو إبْدَاءُ الْيَأْسِ من النَّجَاةِ وَيَدُلُّك على ذلك صَدْرُ الْآيَةِ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَهَذَا ما حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ عن وَالِدِهِ الشَّيْخِ أبي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ وَارْتَضَاهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ حَيْثُ قال في بَعْضِ الْأَجْوِبَةِ في هذه الْمَسْأَلَةِ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ جَائِزٌ أَنَّهُ يَجُوزُ من اللَّهِ تَعَالَى الْأَمْرُ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَصَوَّرُ الطَّاعَةَ مِنَّا في ذلك بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجُوزُ من اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ نَعْجَزُ عنه قَطْعًا وَأَنَّهُ مَتَى أَمَرَنَا بِهِ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِنُزُولِ الْعِقَابِ لَكِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَمَّا حَكَاهُ عن وَالِدِهِ قال وَفِيهِ نَظَرٌ وَذَلِكَ لم يَصِحَّ عَقْلًا تَسْمِيَةُ الطَّلَبِ من الْمُحَالِ لَزِمَ مِثْلُهُ وَتَكْلِيفُ من لَا قُدْرَةَ له على الْفِعْلِ وَإِنْ سَاغَ تَسْمِيَةُ ذلك طَلَبًا سَاغَ في تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَيُعْتَضَدُ ذلك بِأَصْلٍ عَظِيمٍ من أُصُولِنَا وهو أَنَّ التَّكْلِيفَ الصَّادِرَ ليس مَنِّ شَرْطِ ثُبُوتِهِ كَوْنُ الْمُكَلَّفِ مُرِيدًا لِوُقُوعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ إرَادَةُ وُقُوعِ الْمُحَالِ وَأَمَّا طَلَبُهُ مع انْتِفَاءِ إرَادَةِ امْتِنَاعِهِ فَلَا اسْتِحَالَةَ فيه وَالثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا وهو الْمَنْقُولُ عن الْمُعْتَزِلَةِ قال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَسَاعَدَهُمْ أبو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ قُلْت وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَنَقَلَهُ في الْمُرْشِدِ عن كَثِيرٍ من أَئِمَّتِنَا وَمِنْ الْأَقْدَمِينَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْإِعْلَامِ وهو ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه في الْأُمِّ فإنه قال يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ أَنَّ عَلَيْكُمْ إتْيَانَ الْأَمْرِ فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ لِأَنَّ الناس إنَّمَا كُلِّفُوا فِيمَا اسْتَطَاعُوا من الْفِعْلِ اسْتِطَاعَةَ شَيْءٍ لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُكَلَّفٌ وَأَمَّا النَّهْيُ فَالتُّرْكُ لِكُلِّ ما أَرَادَ تَرْكَهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ ليس بِتَكْلِيفِ شَيْءٍ يَحْدُثُ إنَّمَا هو شَيْءٌ مُتَكَلَّفٌ عنه ا هـ لَفْظُهُ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَلَيْسَ مَأْخَذُ الْمَانِعِينَ من الْأَصْحَابِ التَّقْبِيحُ الْعَقْلِيُّ كما صَارَ إلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ بَلْ مَأْخَذُهُمْ أَنَّ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ لَا يَصِحَّانِ من الْعَاجِزِ فَبَطَلَ تَقْدِيرُ الْوُجُوبِ وَعَلَى هذا إنَّمَا كُلِّفَ أبو لَهَبٍ بِأَنْ يُصَدِّقَ بِأَنْ لَا يَصْدُقَ بَلْ كُلِّفَ أَنْ يُصَدِّقَ وَلَوْ صَدَّقَ لَكَانَ مِمَّنْ لَا يَصْدُقُ لِقَوْلِهِ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ أَيْ إنْ لم يُؤْمِنْ وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ فَلَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ فَلَا يَجُوزُ أو لِغَيْرِهِ فَيَجُوزُ وَنُقِلَ عن مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ عن مَيْلِ الْغَزَالِيِّ وقد رَأَيْت في الْإِحْيَاءِ له التَّصْرِيحُ بِالْجَوَازِ وقال خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ وَجَدَ له الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ وَلِذَلِكَ قال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ الْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَاَلَّذِي يَمْنَعُهُ الْمُحَالُ بِنَفْسِهِ وَإِيمَانُ أبي لَهَبٍ مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ مُسْتَحِيلٌ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِعَدَمِهِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا في ما مَنَعْنَاهُ هذا كَلَامُهُ وَغَلَطَ من نُقِلَ عنه الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ التَّكْلِيفُ بِالْمَحَالِ فَإِنْ وَرَدَ لَا نُسَمِّيهِ تَكْلِيفًا بَلْ عَلَامَةً نَصَبَهَا اللَّهُ على عَذَابِ من كَلَّفَهُ بِذَلِكَ قال ابن بَرْهَانٍ وَالْخِلَافُ على هذا لَفْظِيٌّ وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعْنَوِيٌّ وقال في الْوَجِيزِ إذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من مَنَعَ تَسْمِيَتَهُ تَكْلِيفًا وَإِلَيْهِ مَالَ الْأُسْتَاذُ وَالْأَكْثَرُونَ من أَصْحَابِنَا على تَسْمِيَتِهِ تَكْلِيفًا وُقُوعُ التَّكَلُّفِ بِالْمُحَالِ وَأَمَّا الْوُقُوعُ السَّمْعِيُّ فَاخْتَلَفُوا فيه وَالْجُمْهُورُ على عَدَمِ وُقُوعِهِ وَقِيلَ إنَّ
الْأُسْتَاذَ حَكَى فيه الْإِجْمَاعَ قال الْإِمَامُ في الشَّامِلِ وَإِلَيْهِ صَارَ الدَّهْمَاءُ من الْأَئِمَّةِ وَعَلَيْهِ جُلُّ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَصَارَ كَثِيرٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى وُقُوعِهِ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ بين الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ كَقَلْبِ الْحَقَائِقِ مع بَقَاءِ الْحَقِيقَةِ الْأُولَى فَيُمْتَنَعُ وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ لِغَيْرِهِ فَيَجُوزُ وهو ظَاهِرُ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ في الشَّامِلِ وَقِيلَ وَقَعَ في حَقِّ الْكُفَّارِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ عن الْقَاضِي أبي جَعْفَرِ بن السَّمْنَانِيِّ وَاضْطَرَبَ النَّاقِلُونَ عن الْأَشْعَرِيَّةِ فَمِنْهُمْ من نَقَلَ عنه أَنَّهُ وَاقِعٌ وهو ما نَقَلَهُ في الْإِرْشَادِ وَأَنَّهُ احْتَجَّ لِلْوُقُوعِ الشَّرْعِيِّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَبَا جَهْلٍ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيُؤْمِنَ بِهِ في جَمِيعِ ما يُخْبِرُ عنه وَمِمَّا أَخْبَرَ عنه أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَقَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ بِأَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ وَذَلِكَ جَمَعَ بين النَّقِيضَيْنِ ا هـ وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ الْآمِدِيُّ في الْإِحْكَامِ وَمِنْهُمْ من نَقَلَ الْوَقْفَ وهو ما ذَكَرَهُ في الشَّامِلِ وَمِنْهُمْ من نُقِلَ عنه أَنَّهُ لم يَقَعْ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَتْبَاعُهُ كَابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ بَرْهَانٍ وهو غَلَطٌ عليه بَلْ التَّكَالِيفُ بِأَسْرِهَا عِنْدَهُ لِغَيْرِ الْمُمْكِنِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا يَقَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعَبْدُ إذَنْ مُخَاطَبٌ بِمَا ليس إلَيْهِ إيقَاعُهُ ثُمَّ قال وَلَا مَعْنًى لِلتَّمْوِيهِ بِالْكَسْبِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عِنْدَهُ مع الْفِعْلِ وَالتَّكْلِيفُ بِهِ يَتَوَجَّهُ قبل وُقُوعِهِ وهو إذْ ذَاكَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْفِعْلِ حَالَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ ثُمَّ اعْتَرَضَ على هذا الْوَجْهِ وقال الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وهو مُتَلَبِّسٌ بِهِ حَالَ الْخِطَابِ وَأَجَابَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْقُدْرَةَ لم تُقَارِنْ الْفِعْلَ وَإِنْ قَارَنَتْ الضِّدَّ قال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَهُمَا ضَعِيفَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هو على رَأْيِ الشَّيْخِ لَا على رَأْيِهِ وهو يَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ فيه تَسْلِيمًا أَنَّ بَعْضَ التَّكَالِيفِ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ لَا كُلِّهِ وهو مَقْصُودُ الْمَسَائِلِ وَنَقِيضُ مَقْصُودِهِ بَلْ الْجَوَابُ عنه أَنَّ ما هو مُتَلَبِّسٌ بِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْخِطَابِ ليس ضِدًّا له وَهَذَا لِأَنَّ ضِدَّهُ الْوُجُودِيُّ الْمَنْهِيُّ عنه وهو يَسْتَلْزِمُ التَّلَبُّسَ بِهِ تَرْكُهُ في الزَّمَانِ الذي أَمَرَ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فيه وهو في زَمَانِ وُرُودِ الْخِطَابِ لم يَتَلَبَّسْ بِهِ
لِأَنَّ زَمَانَ الْفِعْلِ هو الزَّمَانُ الثَّانِي إنْ كان الْأَمْرُ لِلْفَوْرِ سَلَّمْنَا أَنَّ ذلك ضِدُّهُ الْمَنْهِيُّ عنه لَكِنَّهُ حَاصِلٌ عِنْدَ وُرُودِ الْخِطَابِ وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ ما هو مُتَلَبِّسٌ بِهِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِقْدَامِهِ على الْمَأْمُورِ بِهِ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ ثُمَّ قال وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ غَيْرُ لَازِمٍ على الشَّيْخِ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ وَإِنْ كانت مع الْفِعْلِ لَكِنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ ليس قَبْلَهُ عِنْدَهُ على ما أَشْعَرَ بِهِ نَقَلَ الْإِمَامُ فَإِنْ صَحَّ هذا من مَذْهَبِهِ كان التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ لَازِمٍ عليه من هذا الْوَجْهِ وقال غَيْرُهُ تَكْلِيفُهُ قبل وُقُوعِ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ على وُقُوعِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ تُمَكِّنُ من إيجَادِ الْفِعْلِ وَالِاسْتِدْلَالُ على فَسَادٍ سَبَقَهَا الْفِعْلُ أنها عَرَضٌ فَلَوْ بَقِيَتْ لَزِمَ بَقَاءُ الْأَعْرَاضِ وهو مَمْنُوعٌ ثُمَّ الشَّرْعُ يَدُلُّ على سَبْقِ اسْتِطَاعَةِ الْفِعْلِ بِأَنَّا لَا نَحْكُمُ بها قبل الشُّرُوعِ في الْفِعْلِ كما في الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا وقال الْمَازِرِيُّ لم يَغْلَطْ الْقَوْمُ في نَقْلِ مَذْهَبِ الرَّجُلِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ إنَّ الْأَشْعَرِيَّ أَجَازَ تَكْلِيفَ ما لَا يُطَاقُ أَيْ في الْحَالِ لَا في الِاسْتِقْبَالِ وما يَكُونُ إيقَاعُهُ من قَبِيلِ الْمُحَالِ وَلَوْ قُيِّدَ إطْلَاقُهُ بهذا لم يَتَعَقَّبْ عليهم نَقْلُهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ أَخْذَ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ من ذلك ليس بِلَازِمٍ لِأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ ليس بِمَذْهَبٍ على الصَّحِيحِ وَكَلَامُ الْأَشْعَرِيِّ مُصَرِّحٌ بِوُقُوعِ الْمُمْتَنِعِ لِغَيْرِهِ وَالِاضْطِرَابُ في النَّقْلِ عنه إنَّمَا هو في الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ وقد صَرَّحَ الشَّيْخُ في كِتَابِ الْإِيجَازِ بِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ الذي لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ أَصْلًا وَتَكْلِيفَ الْمُحَالِ الذي لَا يَقْدِرُ عليه الْمُكَلَّفُ صَحِيحٌ وَجَائِزٌ ثُمَّ قال وقد وُجِدَ تَكْلِيفُ اللَّهِ الْعِبَادَ بِمَا هو مُحَالٌ لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِقَضِيَّةِ أبي لَهَبٍ وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ على أَنَّ الْكَافِرَ مُكَلَّفٌ بِالْإِيمَانِ وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِالْوُقُوعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بين النِّسَاءِ مع الْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ وَاجِبٌ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى الْقُدْرَةَ عن الِاسْتِطَاعَةِ وَمُقْتَضَى هذا الْخَبَرِ الصَّادِقِ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ على ذلك مع تَكْلِيفِهِ بِمَا لَا قُدْرَةَ له عليه نَقَلَهُ الْإِمَامُ في تَفْسِيرِهِ وَقُصَارَى ما تَمَسَّكَ بِهِ الْمُجَوِّزُونَ ظَوَاهِرُ لَا تُفْضِي إلَى الْقَطْعِ وَلَيْسَ الِامْتِنَاعُ فيها من حَيْثُ الْعَقْلِ بَلْ من حَيْثُ الْعِلْمِ وقد ذَهَبَ قَوْمٌ منهم الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ إلَى أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ لَا يُسَمَّى مُسْتَحِيلًا لِأَنَّهُ في ذَاتِهِ جَائِزُ الْوُقُوفِ
فَوَائِدُ الْأُولَى التَّكْلِيفُ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ نَقَلَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ الْإِجْمَاعَ على صِحَّةِ التَّكْلِيفِ عَقْلًا بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ وهو مَمْنُوعٌ فإن بُرْهَانٍ قال إنَّ جَمَاعَةً من أَصْحَابِنَا صَارُوا إلَى أَنَّ ذلك لَا يُسَمَّى تَكْلِيفًا فإن اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَ الْكُفَّارَ بِالْإِيمَانِ وَلَا قُدْرَةَ لهم على الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مع الْفِعْلِ وَأَيْضًا فإن الْخِلَافَ السَّابِقَ في التَّكْلِيفِ بِفِعْلٍ مَشْرُوطٍ عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَ وُقُوعِهِ يَجْرِي هُنَا كما صَرَّحَ بِهِ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ فقال قال قَاضِي الْقُضَاةِ يَعْنِي عَبْدَ الْجَبَّارِ لم يَخْتَلِفُوا في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرِدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُكَلَّفَ الْوَاحِدَ بِالْأَمْرِ بِالْفِعْلِ وهو يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ منه قال ولم يَخْتَلِفُوا في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ من يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمُوتُ أو يَعْجَزُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى وَيَقْدِرَ انْتَهَى وَأَيْضًا فَقَدْ حَكَى الْإِبْيَارِيُّ وَغَيْرُهُ خِلَافًا في أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ هل هو مُسْتَحِيلٌ لِذَاتِهِ أو لِغَيْرِهِ فَعَلَى الثَّانِي يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَجِيءُ فيه الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ في التَّكْلِيفِ بِهِ وقال الْمَازِرِيُّ من عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَقَدْ صَارَ إيمَانُهُ كَالْمُمْتَنِعِ إيقَاعُهُ لِأَنَّهُ لو وَقَعَ لَخَالَفَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُخَالَفَةُ عِلْمِهِ لَا تَصِحُّ وَلَكِنَّ هذا الِامْتِنَاعَ ليس رَاجِعًا إلَى عَدَمِ الْإِمْكَانِ من نَاحِيَةِ الْفِعْلِ بَلْ هو مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ وَعِلْمُ اللَّهِ لَا يَصِيرُ الْمُمْكِنُ غير مُمْكِنٍ فَبَقِيَ على إمْكَانِهِ وَإِنْ تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْإِيمَانُ في حَقِّهِمْ كَالْمَعْجُوزِ عنه الْمُسْتَحِيلِ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ لِمَا تَقَرَّرَ في عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ على الصَّحِيحِ من الْقَوْلَيْنِ قُلْت وَيَدُلُّ له قَوْله تَعَالَى بَلَى قَادِرِينَ على أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ قَادِرٌ على ما عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ وَكَذَا قَوْلُهُ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ على أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مع الْفِعْلِ الثَّانِيَةُ كَيْفَ يَطْلُبُ اللَّهُ من عِبَادِهِ ما يُخَالِفُ عِلْمَهُ اسْتَشْكَلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ تَوْجِيهَ الْجَوَازِ فقال إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ بَعْضَ الْخَلْقِ أو أَكْثَرَهُمْ لَا يُطِيعُونَ وَلَا يَمْتَثِلُونَ فَكَيْفَ يَطْلُبُ منهم ما يُخَالِفُ عِلْمَهُ فَعَلَى هذا فَقَدْ كَلَّفَهُمْ
بِمَا لَا يُطِيقُونَ لِأَنَّ ما عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَوَاجِبٌ لَازِمٌ أَنْ لَا يَكُونَ وما عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ وَأَجَابَ بِأَنْ أَحْسَنَ ما قِيلَ فيه أَنَّ تَوْجِيهَ الْخِطَابِ لِلْأَشْقِيَاءِ الَّذِينَ لَا يَمْتَثِلُونَ ما أُمِرُوا بِهِ وَلَا يَجْتَنِبُونَ ما نُهُوا عنه ليس طَلَبًا على الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هو عَلَامَةٌ وُضِعَتْ على شَقَاوَتِهِمْ وَأَمَارَةٌ نُصِبَتْ على تَعْذِيبِهِمْ إذْ لَا يَبْعُدُ في كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُعَبَّرَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عن الْخَبَرِ قُلْت وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ حَكَاهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن وَالِدِهِ وَزَيَّفَهَا وابن بَرْهَانٍ عن الْأُسْتَاذِ كما سَبَقَ وَاسْتَأْنَسَ لها ابن عَطِيَّةَ بِتَكْلِيفِ الْمُصَوِّرِ يوم الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ شَعِيرَةً الحديث الثَّالِثَةُ اسْتِحَالَةُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِالْكُفْرِ قال الْإِمَامُ في الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ يَسْتَحِيلُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِالْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مع الْعِلْمِ بِاَللَّهِ الْأَمْرُ بِالْجَهْلِ بِهِ فَهُوَ من قَبِيلِ جَمْعِ الضِّدَّيْنِ الرَّابِعَةُ التَّكْلِيفُ بِالْمُمْكِنِ الْمَشْرُوطِ مُسْتَحِيلٌ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ بِالْمُمْكِنِ مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ مُسْتَحِيلٍ أَمْ لَا أَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ فَاتَّفَقُوا على الْمَنْعِ هَاهُنَا وَأَمَّا الْمُجَوِّزُونَ فَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ كما يَجُوزُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِنَفْسِ الْمُسْتَحِيلِ وَمِنْهُمْ من مَنَعَهُ لِتَهَافُتِ الصِّيغَةِ وَأَنَّهُ إذَا قِيلَ إنْ تَحَرَّكَ زَيْدٌ في حَالِ سُكُونِهِ فَقُمْ فإنه يُؤَوَّلُ إلَى
أَنَّ ذلك لَا يَكُونُ فَلَا يَقُمْ فَسَلَبَ من صِيغَةِ الْأَمْرِ مَعْنَى الِاقْتِضَاءِ الْخَامِسَةُ تَأْقِيتُ الْعِبَادَةِ بِوَقْتٍ لَا يَسَعُهَا لَا يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْعِبَادَةِ بِوَقْتٍ لَا يَسَعُهَا إنْ مَنَعْنَا تَكْلِيفَ الْمُسْتَحِيلِ وَأَمَّا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ من أَدْرَكَ من أَصْحَابِ الضَّرُورَاتِ قَدْرَ رَكْعَةٍ من آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ لَزِمَتْهُ فلم يُرِيدُوا بِهِ وُجُوبَ الْأَدَاءِ بَلْ الْقَضَاءِ قَالَهُ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ السَّادِسَةُ الْفَرْقُ بين تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ فَرْقٌ بين تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ فَتَكْلِيفُ الْمُحَالِ أَنْ يَرْجِعَ الْخَلَلُ إلَى الْمَأْمُورِ بِهِ وهو مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَأَمَّا التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ فَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الْخَلَلُ إلَى الْمَأْمُورِ نَفْسِهِ كَتَكْلِيفِ الْمَيِّتِ وَالْجَمَادِ وَالْبَهَائِمِ فَلَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِالْإِجْمَاعِ قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ عِنْدَ الْكَلَامِ على ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ السَّابِعَةُ تَكَرَّرَ في كَلَامِهِمْ في هذه الْمَسْأَلَةِ التَّمَسُّكُ بِقَضِيَّةِ أبي لَهَبٍ وَأَبِي جَهْلٍ وقال الْمَازِرِيُّ إنَّمَا خَصَّ الْأُصُولِيُّونَ ذِكْرَ أبي لَهَبٍ بِذَلِكَ مع أَنَّ سَائِرَ الْكُفَّارِ مِمَّنْ لم يُؤْمِنْ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فيه أَمْرَانِ عِلْمُ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَخَبَرُهُ بِذَلِكَ فَلِهَذَا أَكْثَرُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِذَلِكَ وَأَمَّا غَيْرُهُ من الْكُفَّارِ كَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَقَدْ صَارَ إيمَانُهُ كَالْمُمْتَنِعِ إيقَاعُهُ لِأَنَّهُ لو وَقَعَ لَخَالَفَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَاقَشَ الْقَرَافِيُّ في التَّمْثِيلِ بِأَبِي لَهَبٍ وقال إنَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِعَدَمِ إيمَانِهِ من قَوْله تَعَالَى تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ وَتَبَّ وَلَا دَلِيلَ فيه لِأَنَّ التَّبَّ هو الْخُسْرَانُ وقد يَخْسَرُ الْإِنْسَانُ وَيَدْخُلُ النَّارَ وهو مُؤْمِنٌ لِمَعَاصِيهِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عليهم أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لم تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَمَخْصُوصَةٌ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ ابن الْمُنِيرِ في تَفْسِيرِهِ صِحَّتَهَا وقال هذا لَا يَثْبُتُ وَلَا يُوجَدُ في الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَا في الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَا يُؤْمِنُ وَكَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ بِأَنْ لَا يُؤْمِنَ وقال إنَّمَا يَنْبَغِي التَّمْثِيلُ بِقَضِيَّةِ ثَعْلَبَةَ فإنه عَاهَدَ اللَّهَ إنْ وَسَّعَ عليه لِيَتَصَدَّقَ فلما أَعْطَاهُ اللَّهُ وَجَاءَهُ مُصَدِّقُ رَسُولِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَطْلُبُ منه الزَّكَاةَ امْتَنَعَ
وقال ما هذه إلَّا وَالْجِزْيَةُ سَوَاءٌ فَرَجَعَ الْمُصَدِّقُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنْهُمْ من عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا من فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ من الصَّالِحِينَ فلما آتَاهُمْ من فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا في قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ قال فَهَذَا الذي نَبْغِي أَنْ يُمَثِّلَ بها التَّكْلِيفُ بِخِلَافِ الْمَعْلُومِ مع انْكِشَافِ الْعَاقِبَةِ لِثُبُوتِهَا في الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قال وقد عَلِمْت اخْتِلَافَ الْأُصُولِيِّينَ هل يَسْتَمِرُّ التَّكْلِيفُ مع كَشْفِ الْعَاقِبَةِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ من جِنْسِ الْمُمْكِنِ أو لَا يَسْتَمِرُّ نَظَرًا إلَى ما يَخْلُصُ من الْجَمْعِ بين الضِّدَّيْنِ أو نَقُولُ كما قال الْإِمَامُ إنَّ اللَّهَ كَلَّفَ هَؤُلَاءِ بِالْإِيمَانِ على الْإِطْلَاقِ ولم يُكَلِّفْهُمْ الْإِيمَانَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ وهو مُخْلِصٌ ضَعِيفٌ فإنه إذَا كَلَّفَهُمْ على الْعُمُومِ أَنْ يُصَدِّقُوا بِكُلِّ خَبَرٍ وَمِنْ جُمْلَةِ هذا الْعُمُومِ الْخَبَرُ بِأَنَّهُمْ لَا يَصْدُقُونَ عَادَ الْإِشْكَالُ وَالتَّحْقِيقُ الْتِزَامُ رَفْعِ التَّكْلِيفِ عن هَؤُلَاءِ وَيَقْدِرُ أَحَدُهُمْ عِنْدَ إخْبَارِ اللَّهِ عنه بِأَنْ يُؤْمِنَ أَبَدًا في عَدَدِ الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَئِسَ منهم وَانْقَطَعَ التَّكْلِيفُ في حَقِّهِمْ نِقْمَةً عليهم لَا رَحْمَةً بِهِمْ ا هـ وهو قَوْلٌ عَجِيبٌ وَأَقْرَبُ منه ما سَبَقَ عن الْأُسْتَاذِ وَالْجُوَيْنِيِّ وَابْنِ عبد السَّلَامِ وَقَوْلُهُ إنَّهَا نَزَلَتْ في ثَعْلَبَةَ قد أَنْكَرَهُ ابن عبد الْبَرِّ فقال في كِتَابِهِ الْمَغَازِي وقد عُدَّ ثَعْلَبَةُ بن حَاطِبٍ فِيمَنْ شَهِدَ بَدْرًا قال وَيُعَارِضُهُ قَوْله تَعَالَى فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا في قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ ثُمَّ قال وَلَعَلَّ قَوْلَ من قال في ثَعْلَبَةَ إنَّهُ مَانِعُ الزَّكَاةِ الذي نَزَلَتْ فيه الْآيَةُ غَيْرُ صَحِيحٍ مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ لَا يُشْتَرَطْ فيه الْإِمْكَانُ سَبَقَ في الْكَلَامِ الْوُجُوبُ أَنَّ الْوُجُوبَ الْمُتَوَقِّفَ على الْإِمْكَانِ هو وُجُوبُ الْأَدَاءِ أَمَّا ثُبُوتُ الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْإِمْكَانُ بَلْ يُبْنَى على السَّبَبِ فإذا وُجِدَ سَبَبُهُ ثَبَتَ حُكْمُهُ وَتَرْجَمَ بَعْضُهُمْ هُنَا التَّمَكُّنَ من الْفِعْلِ هل هو شَرْطٌ في إلْزَامِ الْأَمْرِ قال ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ ثَبَتَ في ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ قبل التَّمَكُّنِ من الْفِعْلِ وقد فَاوَضْت في ذلك عُلَمَاءَهُ فقال لي شَيْخَا مَذْهَبِهِ في ذلك الْوَقْتِ
أبو الْوَفَا ابن عَقِيلٍ وأبو سَعِيدٍ الْبَرْجَانِيُّ إنَّ الْمَسْأَلَةَ صَحِيحَةٌ في مَذْهَبِنَا في إلْزَامِ الْمُغْمَى عليه قَضَاءَ ما فَاتَهُ من الصَّلَاةِ في حَالِ إغْمَائِهِ قال وَهَذَا كُلُّهُ في الْأَمْرِ أَمَّا النَّهْيُ فَإِنْ كان عن تَرْكٍ فَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ التَّمَكُّنُ وَإِنْ كان عن فِعْلٍ لم يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ التَّمَكُّنِ مَعْنًى لِأَنَّ التَّرْكَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّمَكُّنِ وَإِلَى هذا الْمَعْنَى أَشَارَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِقَوْلِهِ إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ وإذا نَهَيْتُكُمْ عن شَيْءٍ فَاحْذَرُوهُ فَشَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ في الْأَمْرِ وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ في النَّهْيِ تَنْبِيهًا على هذا الْمَعْنَى مَسْأَلَةٌ خِطَابُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ سَبَقَ أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ من التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ في صِحَّةِ التَّكْلِيفِ أَمَّا حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُشْتَرَطُ في صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَهِيَ مَفْرُوضَةٌ في تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَإِنْ كانت أَعَمَّ منه وَمِنْهُمْ من عَبَّرَ عنها بِأَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ التَّكْلِيفُ في الْإِمْكَانِ في الْجُمْلَةِ وهو قَوْلُنَا أو الْإِمْكَانُ نَاجِزًا وهو وَقَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا على ما قَبْلَهُ أو لَا فَإِنْ كان غير مُرَتَّبٍ وَهِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بها إجْمَاعًا وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ كما قَالَهُ الْقَاضِي تَصْدِيقُ الرُّسُلِ وَعَدَمُ تَكْذِيبِهِمْ وَالْكَفُّ عن قَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ ا هـ مع أَنَّ الْكَفَّ عن قِتَالِهِمْ من الْفُرُوعِ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عن قَوْمٍ من الْمُبْتَدَعَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ قال وَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من رَآهَا ضَرُورِيَّةً فَلِهَذَا لم يُؤْمَرُوا بها وَمِنْهُمْ من رَآهَا كَسْبِيَّةً وَلَكِنَّهُ مَنَعَ الْخِطَابَ لِمَا يُذْكَرُ في غَيْرِ هذا الْفَنِّ ا هـ وَتَرَدَّدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ في كَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ هل هِيَ من الْفُرُوعِ حتى لَا يُكَلَّفُوا بها على قَوْلٍ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هو التَّصْدِيقُ وَالشَّهَادَةُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَمُقَدَّمَاتُ الْإِيمَانِ كَالنَّظَرِ هل هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْإِيمَانِ حتى تَكُونَ وَاجِبَةً عليه أو يَأْتِي فيه الْخِلَافُ في مُقَدَّمَةِ الْوَاجِبِ فيه نَظَرٌ وَإِنْ كان مُرَتَّبًا على ما قَبْلَهُ وَهِيَ فُرُوعُ الشَّرِيعَةِ فَالْكَلَامُ في الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ
جَوَازُ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلًا أَمَّا الْجَوَازُ عَقْلًا فَمَحَلُّ وِفَاقٍ كما قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَمُرَادُهُ وِفَاقُ أَصْحَابِنَا وَإِلَّا فَقَدْ نُقِلَ عن ابْنِ بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن عبد الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبُوا عَقْلًا بِالْفُرُوعِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ كِفَايَةِ الْفُحُولِ في عِلْمِ الْأُصُولِ من الْحَنَفِيَّةِ فقال أَجَازَهُ عَقْلًا قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ جَوَازُ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا أَمَّا شَرْعًا فَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بها مُطْلَقًا في الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ما سَلَكَكُمْ في سَقَرٍ الْآيَاتِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالْكُفْرِ وَنَقْصِ الْمِكْيَالِ وَقَوْمَ لُوطٍ بِالْكُفْرِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ وَذَمَّ عَادًا قَوْمَ هُودٍ بِالْكُفْرِ وَشِدَّةِ الْبَطْشِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وإذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ وَنَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في مَوَاضِعَ منها تَحْرِيمُ ثَمَنِ الْخَمْرِ عليهم وقال في الْأُمِّ في بَابِ حَجِّ الصَّبِيِّ يَبْلُغُ وَالْمَمْلُوكِ يُعْتَقُ وَالذِّمِّيِّ يُسْلِمُ فِيمَا إذَا أَهَلَّ كَافِرٌ بِحَجٍّ ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَسْلَمَ قبل عَرَفَةَ فَجَدَّدَ إحْرَامًا وَأَرَاقَ دَمًا لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ أَجْزَأَتْهُ عن حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا في حَالِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ كان غير مُحْرِمٍ قال فَإِنْ قال قَائِلٌ فإذا زَعَمْت أَنَّهُ كان في إحْرَامِهِ غير مُحْرِمٍ أَفَكَانَ الْفَرْضُ عنه مَوْضُوعًا قِيلَ لَا بَلْ كان عليه وَعَلَى كل وَاحِدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ عز وجل وَرَسُولِهِ وَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ التي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى على نَبِيِّهِ غير أَنَّ السُّنَّةَ تَدُلُّ وما لم أَعْلَمْ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فيه أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ أَسْلَمَ ائْتَنَفَ الْفَرَائِضَ من يَوْمِ أَسْلَمَ ولم يُؤْمَرْ بِإِعَادَةِ ما فَرَّطَ فيه في الشِّرْكِ منها وَأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ ما قَبْلَهُ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ اسْتَقَامَ هذا لَفْظُهُ وهو قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا كما حَكَاهُ الْقَاضِيَانِ الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْحَلِيمِيُّ وقال في الْمِنْهَاجِ إنَّهُ مُفَرَّعٌ على قَوْلِنَا إنَّ الطَّاعَاتِ من الْإِيمَانِ قال وقد وَرَدَ في الحديث أَنَّ رَجُلًا قال يا رَسُولَ اللَّهِ أَيُؤَاخِذُ اللَّهُ أَحَدًا بِمَا عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ قال من أَحْسَنَ في الْإِسْلَامِ لم يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ في الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ قال وَهَذَا يَدُلُّ على الْمُؤَاخَذَةِ بِالنَّوَاهِي إذَا يُحْسِنُ في الْإِسْلَامِ
لِانْتِفَاءِ ما يُحْبِطُهَا بِخِلَافِ من أَسْلَمَ وَأَحْسَنَ فإن إسْلَامَهُ يُحْبِطُ كُفْرَهُ وَحَسَنَاتِهِ تُحْبِطُ سَيِّئَاتِهِ وَمُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ لَا يُنَافِي الْمَعَاصِيَ لِجَوَازِ صُدُورِهَا من السَّلَمِ فَلَا يَكُونُ مُحْبِطًا لها ا هـ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وأبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ نَقَلُوهُ عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ في أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عنه وهو مَحْكِيٌّ عن الْكَرْخِيِّ وَالْجَصَّاصِ من الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ إنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمَذْهَبُ عَامَّةِ مَشَايِخِ أَهْلِ الْعِرَاقِ من الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّ الْكُفْرَ رَأْسُ الْمَعَاصِي فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ سُقُوطُ الْخِطَابِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِالْفُرُوعِ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَبِهِ قال عبد الْجَبَّارِ من الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ من أَصْحَابِنَا كما رَأَيْته في كِتَابِهِ عِبَارَتُهُ إنَّهُ هو الصَّحِيحُ عِنْدِي وَوَقَعَ في الْمُنْتَخَبِ نِسْبَتُهُ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وهو غَلَطٌ فإن أَبَا إِسْحَاقَ يقول بِتَكْلِيفِهِمْ كما نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عنه في أَوَّلِ كِتَابِ الْجِرَاحِ وهو كَذَلِكَ مَوْجُودٌ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عليه قال وَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ ما بَدَأْنَا بِهِ ا هـ وقال الْإِبْيَارِيُّ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ قُلْت اخْتَارَهُ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْمَالِكِيُّ وقال في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْجَامِعِ إنَّهُ الذي يَأْتِي عليه مَسَائِلُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ طَلَاقُهُمْ وَلَا أَيْمَانُهُمْ وَلَا يَجْرِي عليهم حُكْمٌ من الْأَحْكَامِ وزاد حتى قال إنَّهُمْ إنَّمَا يَقْطَعُونَ في السَّرِقَةِ وَيَقْتُلُونَ في الْحِرَابَةِ من بَابِ الدَّفْعِ فَهُوَ تَعْزِيرٌ لَا حَدٌّ لِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا وَلَيْسَتْ هذه كَفَّارَاتٌ وزاد فقال إنَّ الْمُحَدِّثَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ فِعْلِ الطَّهَارَةِ وَاسْتَدَلَّ على ذلك من كَلَامِ مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه بِقَوْلِهِ في الْحَائِضِ إنَّهَا تَنْتَظِرُ ما بَقِيَ من الْوَقْتِ بَعْدَ غَسْلِهَا وَفَرَاغِهَا من الْأَمْرِ اللَّازِمِ وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ ليس عن أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ في هذه الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ من فُرُوعِهِمْ وقد ذَكَرَ محمد بن الْحَسَنِ أَنَّ من نَذَرَ الصَّوْمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لم يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ الشِّرْكَ أَبْطَلَ كُلَّ عِبَادَةٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ وُجُوبُهَا لِأَنَّهُ لم يُؤَدِّهِ بَعْدُ قال ولم أَرَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ حُجَّةٌ يُعْتَمَدُ عليها وقد تَفَكَّرْت في ذلك فلم أَجِدْ إلَّا أَنَّ الْكَافِرَ ليس بِأَهْلٍ لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ لَا يُثَابُ كما لم يَجْعَلْ الْعَبْدَ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمَالِ فلما لم يَكُنْ من أَهْلِ الْمِلْكِ لم يَكُنْ من أَهْلِ الْخِطَابِ وقال الْعَالِمُ من الْحَنَفِيَّةِ لم يُنْقَلْ عن ثِقَةٍ من أَصْحَابِنَا نَصٌّ في الْمَسْأَلَةِ لَكِنَّ
الْمُتَأَخِّرِينَ منهم خَرَجُوا على تَفْرِيعَاتِهِمْ فإن مُحَمَّدًا قال إنَّ الْكَافِرَ إذَا دخل مَكَّةَ فَأَسْلَمَ وَأَحْرَمَ لم يَكُنْ عليه دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ عليه وَلَوْ كان لِلْكَافِرِ عَبْدٌ مُسْلِمٌ لَا تَجِبُ عليه صَدَقَةُ فِطْرِهِ وَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ وَطْءُ زَوْجَتِهِ النَّصْرَانِيَّةِ إذَا خَرَجَتْ من الْحَيْضِ لِعَادَتِهَا دُونَ الْعَشَرَةِ قبل أَنْ تَغْتَسِلَ وَيَمْضِي عليها وَقْتُ صَلَاةٍ لِأَنَّهُ ليس عليهم وقال السَّرَخْسِيُّ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَمَّا في الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ كَذَلِكَ أَمَّا في حَقِّ وُجُوبِ الْأَدَاءِ في الدُّنْيَا فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ من مَشَايِخِنَا إلَى أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ لِأَنَّهُ لو لم تَجِبْ لم يُؤَاخَذُوا على تَرْكِهَا قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لم يَنُصَّ عليها أَصْحَابُنَا لَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَدَلُّوا من مَسَائِلِهِمْ على هذا وَعَلَى الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فإن الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ لَا يَجِبُ عليه قَضَاءُ صَلَوَاتِ الرِّدَّةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَدَلَّ على أَنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ عِنْدَنَا ثُمَّ ضَعُفَ الِاسْتِدْلَال قال وَمِنْهُمْ من جَعَلَ هذه الْمَسْأَلَةَ فَرْعًا لِأَصْلٍ مَعْرُوفٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّ الشَّرَائِعَ عِنْدَهُ من نَفْسِ الْإِيمَانِ وَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ فَيُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ وَعِنْدَنَا لَيْسَتْ من نَفْسِ الْإِيمَانِ فَلَا يُخَاطَبُونَ بِأَدَائِهَا ما لم يُؤْمِنُوا وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَلَيْسَ ذلك من الْإِيمَانِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ انْقَسَمُوا فَمِنْهُمْ من صَارَ إلَى اسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِهِمْ عَقْلًا وَمِنْهُمْ من لم يَحِلَّهُ وَلَكِنَّهُمْ مع الْجَوَازِ لم يُكَلَّفُوا وقال الْقَاضِي أَقْطَعُ بِالْجَوَازِ وَلَا أَقْطَعُ بِأَنَّ هذا الْجَائِزَ وَقَعَ وَلَكِنْ يَغْلِبُ على الظَّنِّ وُقُوعُهُ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ مُمْكِنٌ في حَالَةَ الْكُفْرِ وَلَا يُشْتَرَطُ فيه التَّقَرُّبُ فَجَازَ التَّكَلُّفُ بها دُونَ الْأَوَامِرِ فإن شَرْطَهَا الْعَزِيمَةُ وَفِعْلُ التَّقْرِيبِ مع الْجَهْلِ بِالْمُقَرَّبِ إلَيْهِ مُحَالٌ فَامْتُنِعَ التَّكْلِيفُ بها وَحَكَى النَّوَوِيُّ هذه الثَّلَاثَةَ في التَّحْقِيقِ أَوْجُهًا لِلْأَصْحَابِ وَسَبَقَ حِكَايَةُ الْأُسْتَاذِ وَابْنِ كَجٍّ الْأَوَّلَيْنِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَعَلَّلَهُ الشَّيْخُ أبو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بن عبد الْمَلِكِ في كِتَابِ بَيَانِ الْبُرْهَانِ بِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ تَقَعُ عليهم في فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ على تَرْكِ الْإِيمَانِ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَيُحَدُّ في الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَيُقْطَعُ في السَّرِقَةِ وَلَا يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ شَيْءٍ من الْعِبَادَاتِ وَإِنْ فَعَلَهَا في كُفْرِهِ لم تَصِحَّ منه وَنَقَلَهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ من الْحَنَفِيَّةِ عن أبي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ
تَكْلِيفُ الْكُفَّارِ بِالنَّوَاهِي وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ في تَكْلِيفِهِمْ بِالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في تَكْلِيفِهِمْ بِالْأَوَامِرِ قَالَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ الْأُصُولِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ في أَوَّلِ كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ من تَعْلِيقِهِ قال وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَمَنْهِيُّونَ عنها بِلَا خِلَافٍ بين الْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ جَيِّدَةٌ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ لَا خِلَافَ أَنَّ خِطَابَ الزَّوَاجِرِ من الزِّنَا وَالْقَذْفِ يَتَوَجَّهُ على الْكُفَّارِ كما يَتَوَجَّهُ على الْمُسْلِمِينَ ا هـ وَهَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ فِيمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ فِيمَا إذَا قَتَلَ الْحَرْبِيُّ مُسْلِمًا أو أَتْلَفَ عليه مَالًا ثَمَّ أَسْلَمَ أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُهَا إذَا قُلْنَا إنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ قال وَذَكَرَ الْعَبَّادِيُّ أَنَّهُ يُعْزَى ذلك أَيْضًا لِلْمُزَنِيِّ في الْمَنْثُورِ وقال الْمَازِرِيُّ لَا وَجْهَ لِهَذَا التَّفْضِيلِ لِأَنَّ النَّهْيَ في الْحَقِيقَةِ أَمْرٌ وَكَأَنَّهُمْ قالوا إنَّ التُّرُوكَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى تَصَوُّرٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ وَالرَّابِعُ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْأَوَامِرِ فَقَطْ حَكَاهُ ابن الْمُرَحَّلِ في الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَلَعَلَّهُ انْقَلَبَ مِمَّا قَبْلَهُ وَيَرُدُّهُ الْإِجْمَاعُ السَّابِقُ على تَكْلِيفِهِمْ بِالنَّوَاهِي وَالْخَامِسُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ دُونَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ حَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَالطُّرْطُوشِيُّ في الْعُمْدَةِ لِالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَلَا مَعْنًى لِهَذَا التَّفْصِيلِ لِأَنَّ مَأْخَذَ النَّقِيِّ فِيهِمَا سَوَاءٌ وهو جَهْلُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمُقْتَضَى هذا أَنَّ الْخِلَافَ يَطْرُقُ الْأَصْلَ وَالْمُرْتَدَّ لَكِنْ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْإِمَامِ في الْمَحْصُولِ أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَطْرُقُ الْمُرْتَدُّ وَالْأَشْبَهُ الْأَوَّلُ وَلِهَذَا نَقَلَ الْأَصْحَابُ عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ الْأَعْمَالَ السَّابِقَةَ وَتَمْنَعُ الْوُجُوبَ في الْحَالِ وَلِهَذَا قالوا إنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَقْضِي صَلَاةَ أَيَّامِ رِدَّتِهِ وَعِنْدَنَا تَلْزَمُهُ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ يُمْكِنُ بِنَا الْخِلَافُ في إحْبَاطِ الرِّدَّةِ الْأَعْمَالُ على أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا فَإِنْ قِيلَ لو سَاوَى الْمُرْتَدُّ الْأَصْلِيُّ لم يَجِبْ عليه قَضَاءُ أَيَّامِ رِدَّتِهِ قُلْت إنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ على الْمُرْتَدِّ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ بِخُرُوجِهِ منه لَا يَسْقُطُ بِخِلَافِ الْأَصْلِيِّ وقد قال الشَّافِعِيُّ في الزَّكَاةِ على الْمُرْتَدِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يَجِبُ وَالثَّانِي مَوْقُوفٌ قال ابن أبي هُرَيْرَةَ وهو نَظِيرُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ كما إذَا أَسْلَمَ يُزَكِّي فَكَذَا إذَا أَسْلَمَ يُصَلِّي وَالسَّادِسُ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا عَدَا الْجِهَادَ أَمَّا الْجِهَادُ فَلَا لِامْتِنَاعِ قِتَالِهِمْ
أَنْفُسِهِمْ حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ قال وَلَا أَعْرِفُ أَيْنَ وَجَدْته قُلْت صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ فقال وَالذِّمِّيُّ ليس مُخَاطَبًا بِقِتَالِ الْكُفَّارِ وَكَذَا قال الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ السِّيَرِ الذِّمِّيُّ ليس من أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ وَلِهَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ الْإِمَامُ على الْجِهَادِ لَا يَبْلُغُ بِهِ سَهْمُ رَاجِلٍ على أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ نعم يَجُوزُ لِلْإِمَامِ اسْتِئْجَارُهُ على الْجِهَادِ على الْأَصَحِّ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ غَيْرُ فَرْضٍ عليه وَإِلَّا لَمَا جَازَ كما لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ عليه السَّابِعُ الْوَقْفُ حَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في تَقْرِيبِهِ عن بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ عن الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْمَدَارِكِ عُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ تَرْدِيدُ الْقَوْلِ في خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَنَصُّهُ في الرِّسَالَةِ الْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بها قُلْت وقد يَخْرُجُ من تَصَرُّفِ الْأَصْحَابِ في الْفُرُوعِ مَذْهَبٌ ثَامِنٌ وهو التَّفْصِيلُ بين الْحَرْبِيِّ فَلَيْسَ بِمُكَلَّفٍ دُونَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ في الْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذلك لَا يَجِبُ حَدُّهَا على الْحَرْبِيِّ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ الْأَحْكَامَ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَحَكَى الطُّرْطُوشِيُّ في الْعُمْدَةِ أَنَّ الْوَاقِفِيَّةَ من عُلَمَائِهِمْ وَافَقُوا على كَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ إلَّا أَنَّهُمْ قالوا إنَّ دُخُولَهُمْ في الْخِطَابِ لم يَكُنْ بِظَوَاهِرِهَا وَإِنَّمَا دَخَلُوهَا بِدَلِيلٍ ا هـ وَبِهِ يَخْرُجُ مَذْهَبٌ تَاسِعٌ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ الصَّائِرُونَ إلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ لَا يَدْعُونَ ذلك عَقْلًا وُجُوبًا بَلْ يُجَوِّزُونَ في حُكْمِ الْعَقْلِ خُرُوجَهُمْ عن التَّكْلِيفِ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَيْفَ وقد أُخْرِجَ كَالْحَائِضِ عن الْتِزَامِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ تَكْلِيفَهُمْ سَائِغٌ عَقْلًا وَتَرْكُ تَكْلِيفِهِمْ جَائِزٌ عَقْلًا غير أَنَّ في أَدِلَّةِ السَّمْعِ ما يَقْتَضِي تَكْلِيفَهُمْ وَأَمَّا الَّذِينَ صَارُوا إلَى مَنْعِ تَكْلِيفِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من صَارَ إلَى اسْتِحَالَتِهِ وَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ عَقْلًا وَمَنَعَ إبْطَالَ أَدِلَّةِ السَّمْعِ بِهِمْ تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ اسْتِحَالَةُ مُخَاطَبَةِ الْكَافِرِ بِإِنْشَاءِ فَرْعٍ على الصِّحَّةِ في تَحْقِيقِ مَقَالَةِ أَصْحَابِنَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَافِرَ مُسْتَحِيلٌ أَنْ يُخَاطَبَ بِإِنْشَاءِ فَرْعٍ على الصِّحَّةِ وَكَذَا الْمُحْدِثُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُخَاطَبَ بِإِنْشَاءِ الصَّلَاةِ الصَّحِيحَةِ مع بَقَاءِ الْحَدَثِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ مُخَاطَبُونَ بِالتَّوَصُّلِ إلَى ما يَقَعُ آخِرًا وَلَا يَتَنَجَّزُ
الْأَمْرُ عليهم بِإِيقَاعِ الْمَشْرُوطِ قبل وُقُوعِ الشَّرْطِ وَلَكِنْ إذَا مَضَى من الزَّمَانِ ما يَسَعُ الشَّرْطَ وَالْمَشْرُوطَ وَالْأَوَائِلَ وَالْأَوَاخِرَ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يُعَاقَبَ الْمُمْتَنِعُ على حُكْمِ التَّكْلِيفِ مُعَاقَبَةَ من يُخَالِفُ أَمْرًا نُوجِبُهُ عليه نَاجِزًا فَمَنْ أَبَى ذلك قَضَى عليه قَاطِعُ الْعَقْلِ بِالْفَسَادِ وَمَنْ جَوَّزَ تَنَجُّزَ الْخِطَابِ بِإِيقَاعِ الْمَشْرُوطِ قبل وُقُوعِ الشَّرْطِ فَقَدْ سَوَّغَ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بين الْفُرُوعِ وَأَوَاخِرِ الْعَقَائِدِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْمُحْدِثِ فَهُوَ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا وقال في كِتَابِ الْفَرَائِضِ من النِّهَايَةِ من زَعَمَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ أَرَادَ رَبْطَ الْمَأْثَمِ بِهِمْ في دَرْئِهِمْ بِالشَّرْعِ الْمُشْتَمِلِ على تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ ولم يَتَعَرَّضُوا لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ على كل مُحَرَّمٍ في الشَّرْعِ اقْتَحَمُوهُ وَكُلِّ وَاجِبٍ تَرَكُوهُ فَأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِهِمْ بِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَشَرَائِطِهَا فَلَا سَبِيلَ إلَى الْتِزَامِهَا انْتَهَى وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِهِمْ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ كَيْفَ يُكَلَّفُونَ بِمَا لو فَعَلُوهُ لَمَا صَحَّ وَلِأَنَّهُ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ وَالصَّوَابُ أَنْ نَقُولَ مُكَلَّفُونَ بِالتَّوَصُّلِ إلَى الْفُرُوعِ بِهِ وَتَقَدُّمِ الْأَصْلِ فإذا مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ فيه تَحْصِيلُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ أَثِمُوا عليها مَعًا كَالْمُحْدِثِ على تَرْكِ الصَّلَاةِ وَهَذَا نَافِعٌ في الْجَمْعِ بين إطْلَاقِ أَصْحَابِنَا في الْأُصُولِ التَّكْلِيفَ وفي الْفُرُوعِ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ لَا تَجِبُ على الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ولم يَزَلْ هذا الْإِشْكَالُ يَدُورُ في النَّفْسِ وَجَمَعَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ مُرَادَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بها في الدُّنْيَا مع كُفْرِهِمْ فإذا أَسْلَمَ أَحَدُهُمْ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْمَاضِي ولم يَتَعَرَّضُوا لِعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ وَمُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ زِيَادَةٌ على عِقَابِ الْكُفْرِ ولم يَتَعَرَّضُوا لِلْمُطَالَبَةِ في الدُّنْيَا وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فَاسِدَةٌ أَوْقَعَهُمْ فيها قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ فَائِدَتُهُ مُضَاعَفَةُ الْعِقَابِ في الْآخِرَةِ وهو صَحِيحٌ ولم يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ في خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ إلَّا في الْآخِرَةِ بَلْ هو جَوَابٌ عَمَّا الْتَزَمَ الْخَصْمُ في مَسَائِلَ خَاصَّةٍ لَا تَظْهَرُ لِلْخِلَافِ فيها فَائِدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا وَذَلِكَ الْأَمْرُ الْخَاصُّ وَلَا يَسْتَلْزِمُ من ذلك عَدَمُ الْفَائِدَةِ مُطْلَقًا فإن الْفُقَهَاءَ فَرَّعُوا على هذا الْخِلَافِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً تَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وما ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ في الْجَمْعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ التَّخْرِيجُ أَصْلًا لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا غَيْرُ مُرَادِ ثَمَّ
التَّنْبِيهُ الثَّانِي هل يُخَاطَبُ الْكَافِرُ بِالْفُرُوعِ زَعَمَ الشَّيْخَانِ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ وأبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ السِّيَرِ من النِّهَايَةِ وَوَالِدُهُ الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ في الْفُرُوقِ وأبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَالْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُمْ هل الْخِلَافُ إنَّمَا يَظْهَرُ في اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ لِأَجْلِ إخْلَالِهِ بِالشَّرْعِيَّاتِ أَمْ لَا لِلِاتِّفَاقِ على أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْفِعْلُ حَالَ الْكُفْرِ على أَنْ يَكُونَ قَضَاءً منه لِكُفْرِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ إذَا أَسْلَمَ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ أَيْضًا عن الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فقال فَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ من قال بِالْخِطَابِ قال يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ مِنَّا وَالْعِقَابَ منه تَعَالَى على الْإِخْلَالِ بها كما يَسْتَحِقُّونَ ذلك بِالْإِخْلَالِ بِالْإِيمَانِ وَمَنْ قال لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذلك على الْإِخْلَالِ بِالْعِبَادَاتِ بَلْ على الْكُفْرِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ لَا غَيْرُ وقال الْقَرَافِيُّ له فَوَائِدُ منها تَيْسِيرُ الْإِسْلَامِ فإنه إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ وهو خَيِّرُ النَّفْسِ بِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ كان ذلك سَبَبًا في تَيْسِيرِ إسْلَامِهِ وَمِنْهَا التَّرْغِيبُ في الْإِسْلَامِ وَغَيْرِ ذلك وقد قال أبو الْفَضْلِ بن عَبْدَانَ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ إنَّ عَدَمَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا من الْعِبَادَاتِ على الْكَافِرِ مُفَرَّعٌ على الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ قال فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ فَلَيْسَ الْإِسْلَامُ من شُرُوطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ بَلْ تَجِبُ الصَّلَاةُ على الْكَافِرِ كُلَّمَا دخل الْوَقْتُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَجِبُ عليه وَهِيَ لَا تَصِحُّ منه قُلْنَا كَالْمُحْدِثِ لَا تَصِحُّ منه وَمَعَ ذلك تَجِبُ عليه بِشَرِيطَةِ الْوُضُوءِ فَيُقَالُ له أَسْلِمْ وَصَلِّ يُقَالُ لِلْمُحْدِثِ تَوَضَّأْ وَصَلِّ وقال الْقَاضِي أبو الْقَاسِمِ بن كَجٍّ في التَّجْرِيدِ وَالْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الْمُشْرِكِينَ هل هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالزَّكَاةِ وَإِنْ لم تُؤْخَذْ منهم على وَجْهَيْنِ بِنَاءً على اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هل خُوطِبُوا مع الْإِيمَانِ بِالْعِبَادَاتِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى ذلك لِمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَأَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ على تَرْكِهِ
وقال آخَرُونَ وهو قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ إنَّهُمْ في حَالِ الْكُفْرِ إنَّمَا خُوطِبُوا بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ ولم يَتَوَجَّهْ إلَيْهِمْ الْخِطَابُ بِالْعِبَادَاتِ إلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ ا هـ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ في كِتَابِ الزَّكَاةِ الْإِسْلَامُ شَرْطٌ في وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ لَا في وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ فَأَمَّا الْإِخْرَاجُ فَلَا يَجِبُ عليهم إلَّا الْمُرْتَدُّ في أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ هذا كَلَامُهُ وَبِهِ يَجْتَمِعُ كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ أَيْضًا وَبَنَى الْقَفَّالُ عليه فِيمَا حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في الْأَسْرَارِ إذَا غَنِمَ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْلِكُونَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ قال الْقَاضِي قُلْت لو كَانُوا مُخَاطَبِينَ لَمَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُمْ فقال الْقَفَّالُ الضَّمَانُ وَاجِبٌ غير أَنَّهُ سَقَطَ بِالْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَرْغَبُوا عنه خِيفَةَ انْتِزَاعِ ما مَلَكُوهُ من أَيْدِيهِمْ وَبَنَى عليه الْقَاضِي الْحُسَيْنُ إحْبَاطَ الْعَمَلِ بِالرِّدَّةِ كما سَبَقَ وَبَنَى عليه الْمُتَوَلِّي حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ في الْخَمْرِ عليهم قال وَعِنْدَنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ في الْخَمْرِ حَرَامٌ عليهم خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَبَنَى عليه الْقَاضِي مُجَلِّي في الذَّخَائِرِ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ هل يُصَلِّي على قَبْرِ من مَاتَ من الْمُسْلِمِينَ في كُفْرِهِ إذَا قُلْنَا لَا يُصَلِّي عليه إلَّا من كان من أَهْلِ الْفَرْضِ وَبَنَى عليه أَيْضًا صِحَّةَ النَّذْرِ من الْكَافِرِ وَقَضِيَّةُ الْبِنَاءِ تَصْحِيحُهُ لَكِنَّ الْأَصَحَّ الْمَنْعُ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَتَقَدَّمَ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّ إيجَابَ الضَّمَانِ على الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ مُفَرَّعٌ على خِطَابِهِمْ وَمِنْهَا لو مَرَّ الْكَافِرُ بِالْمِيقَاتِ وهو مُرِيدُ النُّسُكِ فَجَاوَزَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَحْرَمَ ولم يَعُدْ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ مع أَنَّهُ حَالَةَ مُرُورِهِ لم يَكُنْ مُكَلَّفًا عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذلك وقال أبو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ لَا دَمَ عليه جَرْيًا على هذا الْأَصْلِ وَمِنْهَا لو قَهَرَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيًّا مَلَكَهُ وَيُخَالِفُ الْمُسْلِمُ إذَا قَهَرَ حَرْبِيًّا فإنه لَا يَجْرِي على من قَهَرَهُ الرِّقُّ حتى يَرِقَّهُ الْإِمَامُ أو نَائِبُهُ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ اجْتِهَادًا في أُسَارَى الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِرِعَايَتِهِ وَالْحَرْبِيُّ لَا يُؤَاخَذُ بِمِثْلِ ذلك إذَا عُرِفَ هذا فَلَوْ قَهَرَ الْحَرْبِيُّ أَبَاهُ الْحَرْبِيَّ أو ابْنَهُ فَهَلْ يُعْتَقُ عليه بِمُجَرَّدِ ذلك كما لو مَلَكَ الْمُسْلِمُ فَرْعَهُ أو أَصْلَهُ أو لَا بَلْ يَجُوزُ له بَيْعُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَجْهَانِ أَشْبَهَهُمَا في الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الْأَوَّلُ وَمِنْهَا يَحْرُمُ على الْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّةِ قَطْعًا وَهَلْ تَحِلُّ لِلذِّمِّيِّ فيه وَجْهَانِ في الْكِفَايَةِ لِابْنِ الرِّفْعَةِ وَلَعَلَّ مَدْرَكَهَا هذا الْأَصْلُ وَمِنْهَا تَحْرِيمُ نَظَرِ الذِّمِّيَّةِ إلَى الْمُسْلِمَةِ على الْأَصَحِّ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ الْمُسْلِمَ إذَا لم يَجِدْ إلَّا مَيْتَةَ آدَمِيٍّ فيه وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا نعم
لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ أَعْظَمُ قال الدَّارِمِيُّ وَالْخِلَافُ في مَيْتَةِ الْمُسْلِمِ أَمَّا الْكَافِرُ فَيَحِلُّ قَطْعًا انْتَهَى وَلَوْ كان الْمُضْطَرُّ كَافِرًا وَوَجَدَ مَيْتَةَ مُسْلِمٍ فَفِي حِلِّهِ وَجْهَانِ أَقْيَسُهُمَا في زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ الْمَنْعُ وَمِنْهَا أَنَّ الْكَافِرَ يُمْنَعُ من مَسِّ الْمُصْحَفِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ في بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ من شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالتَّحْقِيقِ وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ من قِرَاءَتِهِ جُنُبًا وقال الْمَاوَرْدِيُّ الْكَافِرُ لَا يُمْنَعُ من تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيُمْنَعُ من مَسِّ الْمُصْحَفِ ذَكَرَهُ في بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ وَفِيهِ نَظَرٌ مع جَزْمِهِ بِجَوَازِ تَعْلِيمِهِ مِمَّنْ يُرْجَى إسْلَامُهُ وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ ذلك تَمْكِينُهُ من حَمْلِ الْمُصْحَفِ وَاللَّوْحِ اللَّذَيْنِ يَتَعَلَّمُ فِيهِمَا وقد يَكُونُ جُنُبًا وَمِنْهَا إذَا وَجَبَتْ عليه كَفَّارَةٌ فَأَدَّاهَا حَالَ كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا تَجِبُ عليه الْإِعَادَةُ وَهَذَا بِخِلَافِ ما لو اغْتَسَلَ عن جَنَابَتِهِ أو تَوَضَّأَ أو تَيَمَّمَ ثُمَّ أَسْلَمَ فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ خِلَافًا لِأَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الصُّوَرِ إنَّ الْقَائِلِينَ بِتَكْلِيفِهِ وَرُجُوعِ الْفَائِدَةِ لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا اسْتَثْنَوْا صُوَرًا لَا يَجْرِي عليه فيها أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ عَقِيدَتِهِمْ بِإِبَاحَتِهِ في صُوَرٍ منها شُرْبُ الْخَمْرِ لَا يُحَدُّونَ بِهِ على الْمَذْهَبِ لِاعْتِقَادِهِمْ إبَاحَتَهُ وَمِنْهَا لو غَصَبَ منه الْخَمْرَ رُدَّتْ عليه وَمِنْهَا لَا يُمْنَعُ من لُبْسِ الْحَرِيرِ في الْأَصَحِّ وَمِنْهَا الْحُكْمُ بِصِحَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ على ما يَعْتَقِدُونَ وَمِنْهَا لَا يُمْنَعُ من لُبْسِ الْحَرِيرِ في الْأَصَحِّ مَسَاجِدُنَا وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ على الْكَافِرِ الْجُنُبِ اللُّبْثُ في الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَدْخُلُونَ مَسْجِدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيُطِيلُونَ الْجُلُوسَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُجْنِبُونَ وَيُخَالِفُ الْمُسْلِمَ فإنه يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ فَيُؤَاخَذُ بِمُوجِبِ اعْتِقَادِهِ وَالْكَافِرُ لَا يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ وَلَا يَلْزَمُ تَفَاصِيلُ التَّكْلِيفِ فَجَازَ أَنْ لَا يُؤَاخَذَ بِهِ كَذَا عَلَّلَهُ الرَّافِعِيُّ ثُمَّ قال وَهَذَا كما أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُحَدُّ على شُرْبِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ وَالْمُسْلِمُ يُحَدُّ وَمِنْهَا تَفْضِيلُ مُعَامَلَتِهِمْ على مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّا إذَا قُلْنَا لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ كانت مُعَامَلَتُهُمْ فِيمَا أَخَذُوهُ على خِلَافِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَخَفَّ من مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ
عَاصٍ بِذَلِكَ الْعَقْدِ وقد نَهَاهُ اللَّهُ عنه ولم يَنْهَ الْكَافِرَ وَلِذَلِكَ قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ ما يَأْخُذُهُ الْإِفْرِنْجُ من أَمْوَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا يَمْلِكُونَهُ بِالْقَهْرِ بِخِلَافِ أَخْذِهِمْ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْلِكُونَهَا بِالْقَهْرِ فَيَكُونُ الْحَلَالُ الذي بِأَيْدِيهِمْ أَوْسَعَ من الْحَلَالِ الذي بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخِلَافَ نَشَأَ في هذه الْفُرُوعِ من كَوْنِهِ غير مُلْتَزَمٍ لِأَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ لَا من أَنَّهُ مُخَاطَبٌ أو لَا وَلِهَذَا قال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ في الْفُرُوقِ وقد جَزَمَ بِجَوَازِ الْمُكْثِ في الْمَسْجِدِ لِلْجُنُبِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ كَالْمُسْلِمِينَ قُلْنَا التَّعْظِيمُ يَنْشَأُ وَيُتَصَوَّرُ من أَصْلِ الْعَقِيدَةِ وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ أو لَا وَفَائِدَةُ الْخِطَابِ زِيَادَةُ عُقُوبَتِهِمْ في الْآخِرَةِ قُلْت وَلِهَذَا إذَا تَرَافَعُوا إلَيْنَا وَفَرَّعْنَا على وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وهو الْأَصَحُّ فَإِنَّا نُجْرِيهِمْ على أَحْكَامِنَا التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ سَقَطَ عنه حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِتَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِمْ قالوا يُشْتَرَطُ ما وَجَبَ منها عِنْدَ الْإِسْلَامِ قَالَهُ ابن الرِّفْعَةِ في كِتَابِ النَّذْرِ من الْمَطْلَبِ ثُمَّ اُسْتُشْكِلَ ذلك بِتَخْرِيجِ مُجَلِّي مَسْأَلَةَ نَذْرِ الْكَافِرِ على هذا الْأَصْلِ من جِهَةِ أَنَّ الْقَائِلَ بِصِحَّةِ النَّذْرِ إنَّمَا يقول بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ أَجَابَ أَنَّ ذلك فِيمَا إذَا أَلْزَمَهُمْ الشَّارِعُ أَمَّا إذَا أَلْزَمَهُمْ ذلك بِالْتِزَامِهِمْ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَلِهَذَا لو أَتْلَفَ الْحَرْبِيُّ مَالَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا ضَمَانَ عليه وَلَوْ عَامَلَهُ أَسْلَمَ وَجَبَ قَضَاءُ دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ ا هـ وَأَقُولُ لَا يَنْبَغِي إطْلَاقُ الْقَوْلِ هَكَذَا بَلْ إذَا أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليهم قَضَاؤُهَا أَمَّا الْمَالِيَّةُ فَإِنْ كانت زَكَاةً فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُغَلَّبُ فيها حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كانت كَفَّارَةً كَقَتْلِ الْخَطَأِ وَالظِّهَارِ لم تَسْقُطْ وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَحْرَمَ دُونَهُ لَزِمَهُ دَمٌ نَصَّ عليه وقال الْمُزَنِيّ لَا دَمَ عليه وَلَوْ قَتَلَ صَيْدًا في الْحَرَمِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ على الْأَصَحِّ فَلَوْ أَسْلَمَ لم يَسْقُطْ وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَإِنْ كان قد الْتَزَمَ حُكْمَنَا بِجِزْيَةٍ أو أَمَانٍ لم يُسْقِطْ نَفْسًا وَلَا مَالًا وَلِهَذَا لو قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ لم يَسْقُطْ الْقِصَاصُ على الْمَعْرُوفِ وَفِيهِ وَجْهٌ في
الذَّخَائِرِ وَإِنْ لم يَلْتَزِمْ حُكْمَنَا سَقَطَ كَالْحَرْبِيِّ إذَا أَتْلَفَ مَالًا أو نَفْسًا في حَالِ الْحَرْبِ مع الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ يَجِبُ قال الرَّافِعِيُّ وَيُعْزَى لِلْمُزَنِيِّ في الْمَنْثُورِ أَمَّا حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ على أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا زَنَى ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَسْقُطُ عنه الْحَدُّ وَأَمَّا ما وَقَعَ في الرَّوْضَةِ من سُقُوطِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ عنه عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ نَقَلَهُ في الْإِشْرَافِ فَقَدْ رَاجَعْت كَلَامَ ابْنِ الْمُنْذِرِ فَوَجَدْتُهُ نَسَبَهُ لِقَوْلِهِ إذْ هو بِالْعِرَاقِ فَهُوَ قَدِيمٌ قَطْعًا وَنَصُّ الْأُمِّ جَدِيدٌ فَحَصَلَ في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ في الِاسْتِذْكَارِ وَجْهَيْنِ التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ في خِطَابِ التَّكْلِيفِ إنَّ الْخِلَافَ جَارٍ في خِطَابِ التَّكْلِيفِ بِأَسْرِهِ فَكُلُّ وَاجِبٍ أو مُحَرَّمٍ هو من مَحَلِّ الْخِلَافِ وَكَذَا الْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ ما أُبِيحَ فَهُوَ مُبَاحٌ في حَقِّهِمْ عِنْدَ من يَرَى شُمُولَ الْخِطَابِ لهم وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ تَعَلُّقَ الْإِبَاحَةِ بِهِمْ إذَا قُلْنَا بِتَكْلِيفِهِمْ وَقُلْنَا الْإِبَاحَةُ تَكْلِيفٌ فإنه حَكَى الْإِجْمَاعَ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ الْإِقْدَامُ على فِعْلٍ وَإِنْ كان مُبَاحًا في نَفْسِ الْأَمْرِ حتى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فيه وَالْكُفَّارُ لَا يَعْتَقِدُونَ حُكْمَ اللَّهِ فيه حُكْمًا صَحِيحًا لِأَنَّهُمْ يَسْتَنِدُونَ فيه إلَى شَرْعِنَا اللَّازِمِ لنا وَلَهُمْ وَشَرْعُهُمْ مَنْسُوخٌ وَمُقْتَضَى هذا الْبَحْثِ أَنْ يَأْثَمُوا في جَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ حتى يُؤْمِنُوا وفي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ عن بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ما يَشْهَدُ له أَمَّا خِطَابُ الْوَضْعِ فَمِنْهُ ما يَرْجِعُ إلَيْهِ لِكَوْنِ الطَّلَاقِ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ فَكَذَلِكَ وَمِنْهُ ما يَكُونُ من بَابِ الْإِتْلَافَاتِ وَالْجِنَايَاتِ فَلَا يَجْرِي فيها الْخِلَافُ بَلْ هِيَ أَسْبَابٌ لِلضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا ثُبُوتُ الدَّيْنِ في ذِمَّتِهِمْ من هذا النَّوْعِ وَوُجُوبُ الْحُدُودِ عليهم وَالْحُدُودُ إنَّمَا تَكُونُ كَفَّارَةً لِلْمُسْلِمِينَ كما صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَإِنَّمَا هِيَ في حَقِّهِ كَالدَّيْنِ اللَّازِمِ وَلِهَذَا تَجِبُ عليه كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَنَحْوُهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ وَالْأَيْمَانُ من هذا الْقَبِيلِ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قُلْت وَلَا تَصِحُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ في الْإِتْلَافِ وَالْجِنَايَةِ بَلْ الْخِلَافُ جَارٍ في الْجَمِيعِ وقد سَبَقَ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا قَتَلَ مُسْلِمًا أو أَتْلَفَ عليه مَالًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَنَّهُ يَجِبُ عليه ضَمَانُهَا إذَا قُلْنَا الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ وَنَقَلُوا وَجْهَيْنِ أَيْضًا فِيمَا لو دخل الْكَافِرُ الْحَرَمَ وَقَتَلَ صَيْدًا هل يَضْمَنُهُ أَصَحُّهُمَا نعم قال صَاحِبُ الْوَافِي
وَهُمَا شَبِيهَانِ بِالْوَجْهَيْنِ في تَمْكِينِهِ من الْمَسْجِدِ إنْ كان جُنُبًا يَعْنِي نَظَرًا لِعَقِيدَتِهِ بَلْ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْأَسَالِيبِ من كِتَابِ السِّيَرِ إنَّ الْكُفَّارَ إذَا اسْتَوْلَوْا على مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا حُكْمَ لِاسْتِيلَائِهِمْ وَأَعْيَانِ الْأَمْوَالِ لِأَرْبَابِهَا وَكَأَنَّهُمْ في اسْتِيلَائِهِمْ وَإِتْلَافِهِمْ كَالْبَهَائِمِ قال وَمِنْ تَقْوِيمِ هذه الْمَسْأَلَةِ على الْخِلَافِ في تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ وقال هُمْ مَنْهِيُّونَ عن اسْتِيلَائِهِمْ ا هـ ثُمَّ قال هذا الْمُتَأَخِّرُ وَمِنْهُ الْإِرْثُ وَالْمِلْكُ بِهِ وَلَوْلَا ذلك لَمَا سَاغَ بَيْعُهُمْ لِوَارِثِهِمْ وما يَشْتَرُونَهُ وَلَا مُعَامَلَتُهُمْ وَكَذَا صِحَّةُ أَنْكِحَتِهِمْ إذَا صَدَرَتْ على الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْخِلَافُ في ذلك لَا وَجْهَ له وَمِنْهُ كَوْنُ الزِّنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَذَلِكَ ثَابِتٌ في حَقِّهِمْ وَلِهَذَا رَجَمَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْيَهُودِيَّيْنِ وَلَا يَحْسُنُ الْقَوْلُ بِبِنَاءِ ذلك على تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ فإنه كَيْفَ يُقَالُ بِإِسْقَاطِ الْإِثْمِ عَنْهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ لِكُفْرِهِمْ وقد تَقَدَّمَ عن الْأُسْتَاذِ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ أَنَّ خِطَابَ الزَّوَاجِرِ من الزِّنَا وَالْقَذْفِ يُتَوَجَّهُ عليهم وَأَمَّا تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِأَمْوَالِهِمْ قُلْنَا خِلَافٌ هل هو تَعَلُّقُ رَهْنٍ أو جِنَايَةٍ أو شَرِكَةٍ وهو الْأَصَحُّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ في حَقِّهِمْ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالزَّكَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَأْثِيمُهُمْ بِتَرْكِهَا لَا أَخْذِهَا منهم حَالَةَ كُفْرِهِمْ وَالتَّعَلُّقُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَأَكُّدُ الْوُجُوبِ لِأَجْلِ أَخْذِ النِّصَابِ الْوَاجِبِ عن الضَّيَاعِ فَلَا مَعْنًى لِإِبْقَائِهِ في حَقِّ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ إنْ دَامَ على الْكُفْرِ لم يُؤْخَذْ منه وَإِنْ أَسْلَمَ سَقَطَتْ وما كان كَذَلِكَ فَلَا مَعْنًى لِلتَّعَلُّقِ الذي هو يُوثِقُهُ فيه وَالْمَوْجُودُ في حَقِّ الْكَافِرِ إنَّمَا هو الْأَمْرُ بِأَدَائِهَا وَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَثُبُوتُهَا في الذِّمَّةِ قَدْرٌ زَائِدٌ على ذلك قد يُقَالُ بِهِ في الْكَافِرِ أَيْضًا وَإِثْبَاتُ تَعَلُّقِهَا بِالدَّيْنِ أَمْرٌ ثَالِثٌ يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ وَلِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ في ثُبُوتِ الشَّرِكَةِ قَوْله تَعَالَى خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَلَا يَدْخُلُ الْكَافِرُ في ذلك وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَدِلَّةَ تَنْقَسِمُ إلَى ما يَتَنَاوَلُهُمْ نحو يا أَيُّهَا
الناس إذَا قُلْنَا بِتَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ وَإِلَى ما لَا يَتَنَاوَلُهُمْ نَحْوُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَنَحْوُهُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَفْظًا وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا لهم إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ التَّنْبِيهُ السَّادِسُ حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ هل هو شَرْطٌ في التَّكْلِيفِ إنَّ من الناس من تَرْجَمَ هذه الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ هل هو شَرْطٌ في التَّكْلِيفِ أَمْ لَا وَفِيهِ نَظَرٌ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الطَّهَارَةَ عن الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطٌ شَرْعِيٌّ مع أَنَّ حُصُولَهَا شَرْطُ التَّكْلِيفِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَلِهَذَا اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ هذه الْمَسْأَلَةَ من هذه التَّرْجَمَةِ وَالثَّانِي قَالَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ أَنَّ الْمُحْدِثَ مُكَلَّفٌ بِالصَّلَاةِ إجْمَاعًا يَعْنِي وَقَضِيَّةُ هذه التَّرْجَمَةِ وُجُودُ خِلَافٍ فيه قُلْت زَعَمَ أبو هَاشِمٍ أَنَّ الْمُحْدِثَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ إجْمَاعًا وَلَوْ بَقِيَ سَائِرُ دَهْرِهِ مُحْدِثًا وَأَنَّهُ لو مَاتَ عُوقِبَ على تَرْكِ الطَّهَارَةِ فَقَطْ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالصَّلَاةِ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ قال الْإِمَامُ وَخَرَقَ الْإِجْمَاعَ في ذلك فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ نَاجِزًا مع بَقَاءِ حَدَثِهِ فَصَحِيحٌ قال الْمَازِرِيُّ وَهَذَا الذي قَالَهُ ابن الْجُبَّائِيُّ صَرَّحَ بِهِ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ من أَصْحَابِنَا فقال إنَّ الْمُحْدِثَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ وَلَوْ دخل الْوَقْتُ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ لِقَوْلِهِ في الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ قبل الْغُرُوبِ أَعْنِي في إدْرَاكِهَا الصَّلَاةَ أَنْ يَبْقَى من الْوَقْتِ قَدْرُ ما تَغْتَسِلُ فيه وَتُدْرِكُ رَكْعَتَيْنِ من الْعَصْرِ قُلْت وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَعْنِي اعْتِبَارَ إدْرَاكِ زَمَنِ الطَّهَارَةِ لِلْوُجُوبِ وَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ كان خِلَافًا وَاهِيًا لَكِنَّ شُمُولَ التَّرْجَمَةِ له أَوْلَى وَمِنْهُمْ من تَرْجَمَهَا بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِيمَانِ وقال ابن بَرْهَانٍ وهو خَطَأٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ من الْكَافِرِ وهو مَنْهِيٌّ عنه فَكَيْفَ يُخَاطَبُ بها وَهَذَا أَخَذَهُ من كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ السَّابِقِ في تَحْقِيقِ الْمَذْهَبِ وقد يُقَالُ بِأَنَّهُ خِلَافٌ قَرِيبٌ لِأَنَّ الْإِمَامَ مُسَلِّمٌ أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ بِتَرْكِ الْفُرُوعِ لِتَرْكِهِمْ التَّوَصُّلَ إلَيْهَا على ما صَرَّحَ بِهِ في الْمُحْدِثِ لَا لِتَنْجِيزِ الْأَمْرِ عليهم بِإِيقَاعِهَا حَالَةَ الْكُفْرِ وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في أَنَّا نَقُولُ هُمْ مُعَاقَبُونَ بِتَرْكِ الْفُرُوعِ
وَالْإِمَامُ يقول بِتَرْكِ التَّوَصُّلِ إلَيْهَا قال الْخِلَافُ إلَى اللَّفْظِ وقد قالوا لو أتى الْكَافِرُ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِنُسُكٍ فَأَحْرَمَ منه لم يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُ وقال في الشَّامِلِ في انْعِقَادِ إحْرَامِهِ قَوْلَانِ قال في الْبَحْرِ وهو غَلَطٌ عِنْدِي ولم يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ التَّنْبِيهُ السَّابِعُ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ فَرْعِيَّةٌ وَذَكَرَهَا في الْأُصُولِ لِبَيَانِ أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فيه وهو أَنَّ الْإِمْكَانَ الْمُشْتَرِطَ في التَّكْلِيفِ هل يُشْتَرَطُ فيه أَنْ يَكُونَ نَاجِزًا مع الْخِطَابِ أو لَا وقال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ في مَطَالِعِ الْأَحْكَامِ مَأْخَذُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ ليس في تَرْتِيبِ الثَّوَانِي على الْأَوَائِلِ ما يُخْرِجُهَا عن أَنْ تَكُونَ مُمْكِنَةً يَعْنِي أَنَّ تَرْتِيبَ التَّكْلِيفِ على اشْتِرَاطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ وهو تَرْتِيبُ أَمْرٍ ثَانٍ على وُجُودِ أَمْرٍ أَوَّلٍ وَلَيْسَ ذلك مُمْتَنِعًا وَلَا مُوجِبًا لِلِامْتِنَاعِ كَالْآحَادِ الْمُتَرَتِّبَةِ في مَرَاتِبِ الْعَدَّادِ كُلُّ وَاحِدٍ منها مُرَتَّبُ الْوُجُودِ على ما قَبْلَهُ الثَّانِي على الْأَوَّلِ وَالثَّالِثُ على الثَّانِي وَهَلُمَّ جَرًّا التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ الْقَاضِي لِتَعَلُّقِهَا بِالظَّوَاهِرِ من مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ وَخَالَفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَرَأَى أنها قَطْعِيَّةٌ وقال نَحْنُ نَقْطَعُ بِتَكْلِيفِهِمْ بِالشَّرْعِ جُمْلَةً وَنُعَامِلُهُ تَفْصِيلًا وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَنُقِلَ عن الْقَاضِي التَّرَدُّدُ في الْقَطْعِ التَّنْبِيهُ التَّاسِعُ أَنَّهُ قد كَثُرَ اسْتِدْلَالُ الناس من الْقُرْآنِ على تَكْلِيفِهِمْ وَطَالَ النِّزَاعُ فيه وَلَيْسَ فيه أَصْرَحُ من قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ وَقَوْلُهُ لَا هُنَّ حِلٌّ لهم وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ التَّنْبِيهُ الْعَاشِرُ إنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّكْلِيفِ يَحْتَاجُونَ إلَى الْجَوَابِ عن حديث الْجُبَّةِ التي أَعْطَاهَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِعُمَرَ وَكَسَاهَا أَخًا له مُشْرِكًا بِمَكَّةَ إلَّا أَنْ يُقَالَ عُمَرُ لم يَأْذَنْ لِأَخِيهِ في لُبْسِهَا
وَكَسَاهُ مَعْنَاهُ مَلَّكَهُ كما أَنَّ الْكِسْوَةَ في الْكَفَّارَةِ الْمُرَادِ بها التَّمْلِيكُ وَكَذَلِكَ عن قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهَا لهم في الدُّنْيَا إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّهْدِيدِ لَا الْإِبَاحَةِ وَيُبْعِدُهُ قَوْلُهُ وَلَكِنَّهُ في الْآخِرَةِ التَّنْبِيهُ الْحَادِيَ عَشَرَ قُرَبُ الْكُفَّارِ ما يَقَعُ من الْكُفَّارِ من الْقُرَبِ التي لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ كَالصَّدَقَةِ وَالضِّيَافَةِ وَالْعِتْقِ وَلَا يُثَابُ على شَيْءٍ في الْآخِرَةِ إنْ مَاتَ كَافِرًا وَتُوَسَّعُ دُنْيَاهُ وَإِنْ أَسْلَمَ قال النَّوَوِيُّ الصَّحِيحُ الذي عليه أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُثَابُ عليها أَيْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَسْلَمْتَ على ما أَسْلَفْتَ من خَيْرٍ قال وَأَمَّا ما يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ فَلَا تَصِحُّ منه لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ ا هـ وَيَرِدُ عليه الْمُرْتَدُّ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عليه فَأَخْرَجَهَا في حَالِ الرِّدَّةِ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَمْنَعُ من اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فإذا أَخْرَجَهَا الْأَصْلِيُّ فَهَلَّا نَقُولُ إنَّهُ يُوضَعُ إثْمُهَا عنه في الْآخِرَةِ ثُمَّ نَقُولُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَغَيْرُهَا يُمْكِنُ منه في الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوُهَا فَهَلَّا صَحَّتْ وَلَا سِيَّمَا إذَا صَامَ يَوْمًا من رَمَضَانَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِوَقْتِ الصِّيَامِ وقال ابن عَطِيَّةَ لَا خِلَافَ أَنَّ لِلْكَافِرِ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ سَيِّئَاتِهِ وَاخْتُلِفَ في حَسَنَاتِهِ فَقِيلَ مُلْغَاةٌ يُثَابُ عليها بِنِعَمِ الدُّنْيَا فَقَطْ وَقِيلَ مُحْصَاةٌ من أَجْلِ ثَوَابِ
الدُّنْيَا وَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يُسْلِمُ فَيُضَافُ ذلك إلَى حَسَنَاتِهِ في الْإِسْلَامِ وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِحَكِيمِ بن حِزَامٍ أَسْلَمْتَ على ما أَسْلَفْت من خَيْرٍ وَقِيلَ الْمَعْنَى على إسْقَاطِ ما سَلَفَ من خَيْرٍ إذْ جُوزِيتَ بِنَعِيمِ دُنْيَاكَ وقال غَيْرُهُ في مَعْنَى هذا الحديث يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ ما سَبَقَ لَك من خَيْرٍ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلَفْظُ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ حَسَنَةٍ كان زَلَفَهَا وَمَحَا عنه كُلَّ سَيِّئَةٍ كان زَلَفَهَا وكان عليه بَعْدَ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا أو لِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَالسَّيِّئَةُ مِثْلُهَا إلَّا أَنْ يُجَاوِزَ اللَّهُ عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ بِمَا سَلَفَ في الْكُفْرِ من أَسْبَابٍ مَعْفُوٌّ عنها بِالْإِسْلَامِ بِالِاتِّفَاقِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْإِسْلَامُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ وقد وَرَدَ ما يُشْعِرُ بِخِلَافِهِ وهو ما في الصَّحِيحَيْنِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ قال رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَرَأَيْت الرَّجُلَ يُحْسِنُ الْإِسْلَامَ أَيُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من أَحْسَنَ في الْإِسْلَامِ لم يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ في الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ قال الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا تَقَدَّمَ وقال أبو الْفَرَجِ هو مَحْمُولٌ على وَجْهَيْنِ إحْدَاهُمَا الْإِسَاءَةُ في الْإِسْلَامِ بِالشِّرْكِ فإنه إذَا أَشْرَكَ في الْإِسْلَامِ عَادَ إلَى ما كان عليه قبل الْإِسْلَامِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّا فيه تَحَقَّقْنَا فيه الْجُبَّ وَالْهَدْمَ بِالْإِسْلَامِ فَلَا نَحْكُمُ بِعَوْدِهِ وما مَنَّ اللَّهُ بِهِ فَلَا رُجُوعَ فيه وَالثَّانِي إذَا جَنَى في الْإِسْلَامِ مِثْلَ جِنَايَتِهِ في الْكُفْرِ فإنه يُعَيَّرُ بِذَلِكَ وَيُقَالُ له هذا الذي كُنْت تَفْعَلُهُ في الْكُفْرِ فَهَلَّا مَنَعَك منه الْإِسْلَامُ فَيَكُونُ هذا التَّوْبِيخُ مَعْنَى الْمُؤَاخَذَةِ
فُرُوعٌ الْأَوَّلُ جُنُونُ الْكَافِرِ قبل الْبُلُوغِ يَرْفَعُ عنه الْقَلَمَ لو جُنَّ الْكَافِرُ قبل الْبُلُوغِ كان الْقَلَمُ مَرْفُوعًا عنه وَإِنْ جُنَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْكُفْرِ لم يَرْتَفِعْ الْقَلَمُ عنه لِأَنَّ رَفْعَ الْقَلَمِ عن الْمَجْنُونِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ رُخْصَةٌ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الرُّخْصَةِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا من كَلَامِ الْأَصْحَابِ قَوْلُهُمْ إنَّ الْمُرْتَدَّ يَقْضِي الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ في حَالِ الْجُنُونِ وَيَنْشَأُ من هذا أَنَّ من وُلِدَ كَافِرًا وَلَا أَقُولُ كَافِرًا بَلْ بين كَافِرَيْنِ بِحَيْثُ يُحْكَمُ له بِالْكُفْرِ الظَّاهِرِ وَجُنَّ قبل بُلُوغِهِ وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ حتى صَارَ شَيْخًا وَمَاتَ على حَالِهِ دخل النَّارَ كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ السُّبْكِيُّ في فَتَاوِيهِ وقال إنَّهُ لم يَجِدْهُ مَنْقُولًا وَفِيمَا قَالَهُ أَخِيرًا نَظَرٌ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ له حَالَةُ تَكْلِيفٍ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ يَمُوتُ في صِبَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ في حُكْمِ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ في الْآخِرَةِ الْفَرْعُ الثَّانِي إذَا قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ فَهَلْ يَجْرِي في حَقِّهِمْ التَّخْفِيفَاتُ عن هذه الْأُمَّةِ من رَفْعِ الْإِثْمِ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي منهم أَمْ لَا فيه نَظَرٌ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ اخْتِصَاصُهُ بِالْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ تُفَسَّرَ الْأُمَّةُ بِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ لَا أُمَّةُ الْإِجَابَةِ لَكِنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ على أَنَّ الْحُدُودَ إنَّمَا تَكُونُ كَفَّارَةً لِأَهْلِهَا إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ وهو ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْكَافِرَ ليس من أَهْلِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَالطُّهْرَةُ إنَّمَا هِيَ في حَقِّهِ كَالدُّيُونِ اللَّازِمَةِ وَلِذَلِكَ تَلْزَمُهُ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَنَحْوِهَا وَلَا يَزُولُ عنه بها الْإِثْمُ الْفَرْعُ الثَّالِثُ هل يُوصَفُ مَالُ الْكَافِرِ على الْكَافِرِ بِالْحُرْمَةِ هل يُوصَفُ مَالُ الْكَافِرِ بِالْحُرْمَةِ إذَا قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ تَوَقَّفَ فيه الشَّيْخُ أبو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيّ بِنَاءً على نَقْلِهِمْ أَنَّ فَائِدَةَ الْخِطَابِ إنَّمَا تَظْهَرُ في الْآخِرَةِ لَكِنَّا قد بَيَّنَّا فَسَادَهُ ثُمَّ مَالَ إلَى التَّحْرِيمِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِيمَا يَحْكِيهِ عن رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا وهو عَامٌّ
الْفَرْعُ الرَّابِعُ قَوْلُهُمْ فَائِدَةُ التَّكْلِيفِ عِقَابُهُمْ في الْآخِرَةِ هذا إنْ لم يَأْتُوا بها وَكَذَا إنْ أَتَوْا بها فِيمَا يُشْتَرَطُ فيه نِيَّةُ الْقُرْبَةِ وَأَمَّا ما لَا يُشْتَرَطُ فيه كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَالْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيِّ وَالْغُصُوبِ وَالْكَفَّارَةِ إذَا غَلَبَ فيها شَائِبَةُ الْقُرْبَةِ فإذا فَعَلُوهَا لم يُعَاقَبُوا في الْآخِرَةِ على تَرْكِهَا وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَنَبُوا الْمُحَرَّمَاتِ لم يُعَذَّبُوا على ارْتِكَابِهَا إذَا لم يَرْتَكِبُوهَا وقَوْله تَعَالَى وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ من عَذَابِهَا أَيْ على كُفْرِهِمْ الَّذِينَ عُذِّبُوا لِأَجْلِهِ مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ هل يَتَوَجَّهُ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ أو قَبْلَهَا التَّكْلِيفُ هل يَتَوَجَّهُ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ أو قَبْلَهَا هذه الْمَسْأَلَةُ من غَوَامِضِ أُصُولِ الْفِقْهِ تَصْوِيرًا وَنَقْلًا وَنَقْلُ الْمَحْصُولِ مُخَالِفٌ لِنَقْلِ الْإِحْكَامِ وَفِيهِمَا تَوَقُّفٌ على مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بين أَمْرِ الْإِعْلَامِ وَأَمْرِ الْإِلْزَامِ وقد ذَكَرْنَاهُ في بَحْثِ الْأَمْرِ فَنَقُولُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ يَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الزَّمَانِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مَاضٍ وَحَالٍ وَمُسْتَقْبَلٍ أَمَّا بِاعْتِبَارِ الِاسْتِقْبَالِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِعْلَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ قبل وُجُودِهِ قَطْعًا سِوَى شُذُوذٍ من أَصْحَابِنَا كَذَا قال الْآمِدِيُّ وَهَذَا أَحَدُ شِقَّيْ ما اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَصْبُ مَحَلِّ النِّزَاعِ مع الْمُعْتَزِلَةِ فقال ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إنَّمَا يَصِيرُ مَأْمُورًا حَالَةَ زَمَانِ الْفِعْلِ وَأَمَّا قبل ذلك فَلَا يَكُونُ أَمْرًا بَلْ إعْلَامٌ له بِأَنَّهُ في الزَّمَانِ الثَّانِي سَيَصِيرُ مَأْمُورًا وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ قبل وُقُوعِهِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ على أَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ وَظَنَّ الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى الْخِلَافَ في هذه الْحَالَةِ فقال أَثْبَتَ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَفَاهُ الْأَشْعَرِيَّةُ فَالْقَائِمُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ قَادِرٌ على الْقُعُودِ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ غَيْرُ قَادِرٍ ولم يَتَوَارَدَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ فإن مُرَادَ الْمُعْتَزِلَةِ قَادِرٌ بِالْقُوَّةِ وَمُرَادُ الْأَشْعَرِيَّةِ قَادِرٌ بِالْفِعْلِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا كَذَلِكَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا ا هـ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَأَمَّا تَقَدُّمُ الْأَمْرِ على وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَاخْتَلَفُوا فقال كَثِيرٌ من شُيُوخِنَا الْمُثْبِتَةِ إنَّ الْأَمْرَ على الْحَقِيقَةِ الذي هو الْإِيجَابُ
وَالْإِلْزَامُ لَا يَتَقَدَّمُ على وَقْتِ الْفِعْلِ لِأَنَّ ما تَقَدَّمَ فَإِنَّمَا هو إعْلَامٌ وَإِنْذَارٌ وَأَنَّ الْأَمْرَ على الْحَقِيقَةِ ما قَارَنَ الْفِعْلَ وقال الْبَاقُونَ من أَصْحَابِنَا إنَّهُ يَتَقَدَّمُ على وَقْتِ الْفِعْلِ وَاخْتَلَفَ الْمُعْتَزِلَةُ في مِقْدَارِ ما يَتَقَدَّمُ عليه الْأَوْقَاتُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ مع أَصْحَابِنَا على وُجُوبِ تَقْدِيمِهِ بِوَقْتٍ يَحْصُلُ بِهِ لِلْمَأْمُورِ فَهْمُهُ وَالْعِلْمُ بِمَا يَقْتَضِي منه فَمِنْهُمْ من قال لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عليه بِأَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِوَقْتٍ وَاحِدٍ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ وَمِنْهُمْ من شَرَطَ في ذلك شُرُوطًا أُخْرَى من كَوْنِ تَقَدُّمِهِ صَلَاحًا لِلْمُكَلَّفِ وَلِغَيْرِهِ وَكَوْنُ الْمُكَلَّفِ في جَمِيعِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ حَيًّا سَلِيمًا قَادِرًا بِجَمِيعِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ وَاَلَّذِي يَخْتَارُهُ الْقَاضِي أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَقَدِّمَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ على الْفِعْلِ بِوَقْتَيْنِ أَحَدُهُمَا وَقْتُ إدْرَاكِ وَاسْتِكْمَالِ سَمَاعِهِ وَالثَّانِي لِحُصُولِ فَهْمِهِ وَالْعِلْمِ بِالْمُرَادِ بِهِ قال وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَصِحُّ إيقَاعُ الْفِعْلِ في حَالِ الْعِلْمِ بِتَضَمُّنِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُ إلَى تَقَدُّمِ دَلِيلٍ له على وُجُوبِ الْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِمُدَّةٍ شَامِلَةٍ ثُمَّ تَقَدَّمَ على إيقَاعِ ما حَصَلَ له الْعِلْمُ بِوُجُوبِهِ وَإِلَّا لَكَانَ مُقَدَّمًا على ما لم يَسْتَقِرَّ له الْعِلْمُ بِهِ وَالْكَلَامُ في هذا من وُجُوهٍ أَحَدُهُمَا في وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْأَمْرِ على وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالثَّانِي في أَنَّ تَقَدُّمَهُ لَا يُخْرِجُهُ عن أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَإِنْ كان إعْلَامًا وَإِنْذَارًا وَالثَّالِثُ في تَصَوُّرِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ حَالَ إيجَادِهِ الرَّابِعُ في مُقَدِّمَاتِ ما يَتَقَدَّمُ الْأَمْرُ بِهِ على الْفِعْلِ من الْأَوْقَاتِ قال وَالْكَلَامُ في هذه الْمَسْأَلَةِ إذَا تَعَلَّقَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ لم يُتَصَوَّرْ فيه الْخِلَافُ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عِنْدَنَا على الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِمَا لَا غَايَةَ له من الْأَوْقَاتِ وَلِأَنَّا لَا نَعْتَبِرُ الْمَصْلَحَةَ في ذلك وَلَا نُوجِبُهَا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ على وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ قال الْمُحَقِّقُونَ من أَصْحَابِنَا الْأَمْرُ قبل حُدُوثِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْرُ إيجَابٍ وَإِلْزَامٍ وَلَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الِاقْتِضَاءَ وَالتَّرْغِيبَ وَالدَّلَالَةَ على امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ قال وَذَهَبَ بَعْضُ من يَنْتَمِي إلَى الْحَقِّ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةً إذَا قَارَنَ حُدُوثَ الْفِعْلِ وإذا تَقَدَّمَ عليه فَهُوَ أَمْرُ إنْذَارٍ وَإِعْلَامُ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْوُقُوعِ وَهَذَا بَاطِلٌ
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ قبل الْحُدُوثِ وفي حَالِ الْحُدُوثِ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحَالَتَانِ في أَمْرٍ وهو أَنَّهُ حَالَةُ الْمُقَارَنَةِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ لَكِنْ لَا يَقْتَضِي تَرْغِيبًا وَاقْتِضَاءً بَلْ يَقْتَضِي كَوْنُهُ طَاعَةً بِالْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَزَعَمَتْ الْقَدَرِيَّةُ بِأَسْرِهَا أَنَّ الْفِعْلَ في حَالِ حُدُوثِهِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرُ إلَّا قبل وُجُودِهِ ثُمَّ طَرَدُوا مَذْهَبَهُمْ في جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فلم يَصِفُوا كَائِنًا يَحْظُرُ وَلَا وُجُوبَ وَلَا نَدْبَ وَإِنَّمَا أَثْبَتُوا هذه الْأَحْكَامَ قبل تَحَقُّقِ الْحُدُوثِ ثُمَّ حَكَى الْخِلَافَ الذي سَبَقَ عن الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَمِنْهُ أَخَذَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَاخْتَارَ الرَّازِيَّ أَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا حَالَ الْفِعْلِ وَقَبْلَهُ إعْلَامٌ بِالْأَمْرِ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ وَكَذَلِكَ اخْتَارَهُ ابن عَقِيلٍ من الْحَنَابِلَةِ وَرَدَّ عليهم بِأَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ بِالْأَمْرِ فَلَوْ لم يَكُنْ ما يُقَدِّمُهُ أَمْرًا لَاحْتَاجَ مع الْفِعْلِ إلَى تَجْدِيدِ أَمْرٍ وَأَمَّا الْحَالُ أَيْ حَالَةُ وُقُوعِ الْفِعْلِ فقال أَصْحَابُنَا يُوصَى بِكَوْنِهِ مَأْمُومًا بِهِ قال ابن بَرْهَانٍ وهو قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَنَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَنُقِلَ عن الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا على وَقْتِ الْفِعْلِ وَيَنْقَطِعُ التَّعَلُّقُ منه حَالَ الْمُبَاشَرَةِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْفِعْلَ في حَالَ حُدُوثِهِ مَأْمُورٌ بِهِ ثُمَّ عَلَّلَهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ ليس مَأْمُورًا بِهِ وَهَذَا هو الذي يَقْتَضِيهِ أَصْلُهُ في أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مع الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ وَأَمَّا أَصْلُهُ الْآخَرُ وهو جَوَازُ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ فَهُوَ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ قبل الِاسْتِطَاعَةِ فَلَعَلَّهُ بَنَاهُ على عَدَمِ الْوَقْعِ وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ عن الشَّيْخِ عَدَمَ انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ فَلَيْسَ لِلشَّيْخِ في الْمَسْأَلَةِ صَرِيحُ كَلَامٍ وَإِنَّمَا تُلُقِّيَ من قَضَايَا مَذْهَبِهِ وقد نَقَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عنه أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ الْمُبَاشَرَةِ كَذَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُتَأَخِّرُ في مُصَنَّفِهِ الْمُفْرَدِ في هذه الْمَسْأَلَةِ اعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ من الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مُتَّفِقُونَ على أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْفِعْلِ على وَجْهِ الِامْتِثَالِ إنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ لَكِنْ لِلْمُعْتَزِلَةِ أَصْلٌ وهو أَنَّ الْحَادِثَ لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ حَالَ حُدُوثِهِ كَالْبَاقِي الْمُسْتَمِرِّ الْوُجُودِ فإنه لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ
وَلِلشَّيْخِ أَصْلٌ وهو أَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَ تُقَارِنُ الْمَقْدُورَ الْحَادِثَ وَلَا تَسْبِقُهُ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَةَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ فَلَوْ تَقَدَّمَتْ الْقُدْرَةُ الْحَادِثَةُ على وُجُودِ الْحَادِثِ لَعُدِمَتْ عِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثِ ضَرُورَةُ اسْتِحَالَةِ بَقَائِهَا فَلَا يَكُونُ الْحَادِثُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ فَلَزِمَ على أَصْلِ الشَّيْخِ أَنَّ الْمَأْمُورَ إنَّمَا يَصِيرُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ لَا قَبْلَهُ وَلَزِمَ على أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثِهِ لَا حَالَةَ حُدُوثِهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَا حَاصِلَ لِمُتَعَلِّقِ حُكْمِ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ على مَذْهَبِ أبي الْحَسَنِ فإن الْقَاعِدَ في حَالِ قُعُودِهِ مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَا قُدْرَةَ له على الْقِيَامِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ وَمَنْ لَا قُدْرَةَ له مَأْمُورٌ عِنْدَهُ قال وَهَذَا هو سَبَبُ اخْتِلَافِ نَقْلِ صَاحِبِ الْمَحْصُولِ والإحكام فَكَأَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ اعْتَبَرَ مَذْهَبَ الْأُصُولِيِّينَ من أَصْحَابِ الشَّيْخِ وَالْآمِدِيَّ اعْتَبَرَ ما قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وهو أَنَّ الْقَاعِدَ في حَالِ الْقُعُودِ مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ بِالِاتِّفَاقِ فَحَصَلَ الْخِلَافُ بين نَقْلَيْهِمَا ا هـ وَأَمَّا ابن الْحَاجِبِ فإنه نَسَبَ خِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ لِلشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مُوَافِقًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَرَدَّ ما نَسَبَهُ إلَى الشَّيْخِ فقال قال الشَّيْخُ الْأَشْعَرِيُّ لَا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ وَاخْتَارَهُ وَزَيَّفَ قَوْلَ الشَّيْخِ بِأَنْ قال إنْ أَرَادَ الشَّيْخُ بِعَدَمِ انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ أَنَّ تَعَلُّقَ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ لِنَفْسِ التَّكْلِيفِ وما يَتَعَلَّقُ لِنَفْسِهِ بِالشَّيْءِ امْتَنَعَ انْقِطَاعُهُ عنه فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ التَّكْلِيفُ بَعْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ أَيْضًا وهو بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ أَرَادَ الشَّيْخُ أَنَّ تَنْجِيزَ التَّكْلِيفِ أَيْ كَوْنَ الْمُكَلَّفِ مُكَلَّفًا بِالْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الِابْتِلَاءِ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ إنَّمَا يَصِحُّ قبل الشُّرُوعِ في الْفِعْلِ فَيَنْتَفِي فَائِدَةَ التَّكْلِيفِ لِأَنَّ فَائِدَةَ التَّكْلِيفِ إمَّا الِامْتِثَالُ أو الِابْتِلَاءُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفٍ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مُرَادُ الشَّيْخِ أَنَّ التَّكْلِيفَ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ تَكْلِيفٌ بِالْإِتْيَانِ بِالْكُلِّيِّ الْمَجْمُوعِيِّ لَا بِإِيجَادِ وَاحِدٍ من أَجْزَاءِ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ التَّكْلِيفُ حَالَ الْحُدُوثِ تَكْلِيفًا بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ لِأَنَّ الْكُلِّيَّ الْمَجْمُوعِيَّ لم يُوجَدْ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ فلم يَمْتَثِلْ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنْ قِيلَ ما وُجِدَ من الْفِعْلِ فَقَدْ انْقَطَعَ عنه التَّكْلِيفُ فَيَكُونُ تَعْلِيقُ التَّكْلِيفِ بِالْبَاقِي بِالْمَجْمُوعِ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ
قُلْنَا التَّكْلِيفُ بِالذَّاتِ قد تَعَلَّقَ بِالْمَجْمُوعِ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ وَبِأَجْزَائِهِ بِالْعَرْضِ فما لم يَحْدُثْ لم يَنْقَطِعْ التَّكْلِيفُ وقال الْمَازِرِيُّ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْمُحْدَثَةَ لَا تَتَقَدَّمُ الْمَقْدُورَ وَعِنْدَهُ أَنَّ الْأَمْرَ يَتَقَدَّمُ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَيُقَارِنُهُ وَأَلْزَمَهُ الْإِمَامُ كَوْنَ الْمُكَلَّفِ مَأْمُورًا بِالْقِيَامِ غير مَقْدُورٍ له قبل شُرُوعِهِ فيه وَمَعَ هذا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فَقَدْ صَارَ الْمَأْمُورُ بِهِ غير مُرْتَبِطٍ بِكَوْنِهِ مَقْدُورًا عليه وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ لِشَيْخٍ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَدَلَّ على صِحَّةِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِهِ لم يَلْزَمْ أَنْ يَقُولَ إنَّ عَدَمَ تَعَلُّقِهَا بِهِ بِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ لِأَنَّ هذا عَكْسُ الِاسْتِدْلَالِ وهو غَيْرُ لَازِمٍ وقال إِلْكِيَا اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْحَادِثَ حَالَ حُدُوثِهِ هل يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ فقال أَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ مَأْمُورٌ بِهِ في تِلْكَ الْحَالَةِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ مَأْمُورٌ بِهِ قبل الْحُدُوثِ وإذا حَدَثَ خَرَجَ عن أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ اسْتَدْعَى التَّحْصِيلَ وَالْحَاصِلُ لَا يَحْصُلُ وَأَصْحَابُنَا بَنَوْا ذلك على أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مع الْفِعْلِ وَأَنَّ الْمَعْدُومَ مَأْمُورٌ بِهِ وَعَلَى هذا فَلَا أَمَرَ عِنْدَهُمْ قبل الْفِعْلِ وَإِنَّمَا هو إعْلَامٌ على مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَمْرِ الْأَزَلِيِّ بِهِ انْتَهَى وقال ابن بَرْهَانٍ الْحَادِثُ حَالَ حُدُوثِهِ مَأْمُورٌ بِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ ا هـ ولم يَتَعَرَّضْ لِلْخِلَافِ قبل الْحُدُوثِ وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا فَسَّرْنَا حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ بِأَنَّهُ أَوَّلُ زَمَنِ وُجُودِهِ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِهِ وكان في الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفًا بِإِتْمَامِهِ وَإِيجَادِهِ بِمَا لم يُوجَدْ منه وَإِنْ أُرِيدَ بِحَالِ حُدُوثِهِ زَمَنُ وُجُودِهِ من أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ لم يَصِحَّ مُطْلَقًا بَلْ يَصِحُّ في أَوَّلِ زَمَنِ وُجُودِهِ وَإِنْ كُلِّفَ بِإِتْمَامِهِ كما مَرَّ وَعِنْدَ آخِرِ زَمَنِ وُجُودِهِ يَكُونُ قد وُجِدَ وَانْقَضَى فَيَصِيرُ من بَابِ إيجَادِ الْمَوْجُودِ وهو مُحَالٌ وَهَذَا الْمَبْحَثُ يَنْزِعُ إلَى مَسْأَلَةِ الْحَرَكَةِ وَأَنَّهَا تُقْبَلُ أَمْ لَا وَكَأَنَّ الْخِلَافَ فيها لَفْظِيٌّ لِأَنَّ من أَجَازَ التَّكْلِيفَ عَلَّقَهُ بِأَوَّلِ زَمَنِ الْحُدُوثِ وَمَنْ مَنَعَهُ عَلَّقَهُ بِآخِرِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقَرَافِيِّ في الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ قَوْلَ الْأَشْعَرِيَّةِ الْأَمْرُ يَتَعَلَّقُ حَالَ الْمُلَابَسَةِ ليس الْمُرَادُ أَنَّ حُصُولَ زَمَانِ الْمُلَابَسَةِ شَرْطٌ في تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بَلْ الْأَمْرُ مُتَعَلِّقٌ في الْأَزَلِ فَضْلًا عَمَّا قبل زَمَنِ الْحُدُوثِ وَإِنَّمَا الْبَحْثُ هَاهُنَا عن صِفَةِ ذلك التَّعَلُّقِ الْمُتَقَدِّمِ لِمَا تَعَلَّقَ في الْأَزَلِ كَيْفَ تَعَلَّقَ هل تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ زَمَنَ الْمُلَابَسَةِ أو قَبْلَهُ فَالتَّعَلُّقُ سَابِقٌ وَالطَّلَبُ مُتَحَقِّقٌ وَالْمُكَلَّفُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَعْمُرَ زَمَانًا بِوُجُودِ الْفِعْلِ بَدَلًا عن
عَدَمِهِ وهو زَمَنُ الْمُلَابَسَةِ فَإِنْ لم يَفْعَلْ ذلك في الزَّمَنِ الْأَوَّلِ أُمِرَ بِهِ في الزَّمَنِ الثَّانِي كَذَلِكَ إلَى آخِرِ الْعُمُرِ إنْ كان الْأَمْرُ مُوَسَّعًا وَإِنْ كان على الْفَوْرِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَجْعَلَ الزَّمَنَ الذي يَلِي زَمَانَ الْأَمْرِ وُجُودَ الْفِعْلِ فَإِنْ لم يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ فَزَمَنُ الْمُلَابَسَةِ ذُكِرَ لِبَيَانِ صِفَةِ الْفِعْلِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطُ التَّعَلُّقِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ نَفْيُ الْعِصْيَانِ لو كان شَرْطًا في التَّعَلُّقِ قال وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ عَدَمُ وُرُودِ الِاسْتِشْكَالِ الْمَشْهُورِ على هذا الْقَوْلِ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى سَلْبِ التَّكَالِيفِ إذْ لو كان حُصُولُ الْمُلَابَسَةِ شَرْطًا في تَعَلُّقِ الْأَمْرِ لم يَكُنْ أَحَدٌ عَاصِيًا لِأَنَّهُ يقول الْمُلَابَسَةُ شَرْطٌ في كَوْنِهِ مَأْمُورًا وأنا لَا أُلَابِسُ الْفِعْلَ فَلَا يَكُونُ عَاصِيًا وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْقِيقَ ما تَقَدَّمَ ا هـ حَاصِلُ ما تَقَدَّمَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ من الْأَزَلِ بِالْفِعْلِ زَمَنَ الْمُلَابَسَةِ وَقِيلَ زَمَنُ الْمُلَابَسَةِ وَقِيلَ زَمَانُ وُرُودِ الصِّيغَةِ تَعَلُّقِ مُطَالَبَةٍ في الزَّمَنِ الذي يَلِي وُرُودَ الصِّيغَةِ فَإِنْ لَابَسَ تَعَلَّقَ الْأَمْرُ حَالَ الْمُلَابَسَةِ وَإِنْ أَخَّرَ فَإِنْ كان الْأَمْرُ مَضِيقًا تَعَلَّقَ بِالتَّأْخِيرِ التَّأْثِيمُ وَإِنْ كان مُوسَعًا إلَى أَنْ لَا يَبْقَى من زَمَنِ السَّعَةِ إلَّا قَدْرُ ما يَسَعُ الْفِعْلَ تُضَيَّقَ وَجَاءَ التَّأْثِيمُ ولم يذكر هو إلَّا الْمَضِيقَ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَأَمَّا الْمَاضِي وهو تَعَلُّقُ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ بَعْدَ حُدُوثِهِ كَالْحَرَكَةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِانْقِضَاءِ الْمُتَحَرِّكِ فَمُمْتَنِعٌ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ وَلَا يُوصَفُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ إلَّا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ ما كان عليه وقال الْمَازِرِيُّ يُوصَفُ قبل وُجُودِهِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَمَطْلُوبٌ وَأَمَّا قبل وُجُودِهِ فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالِاقْتِضَاءِ وَالتَّرْغِيبِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ مِمَّا لم يُوجَدْ وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ النَّظَرَ يُضَادُّ الْعِلْمَ بِالْمَنْظُورِ فيه لِأَنَّ النَّظَرَ بَحْثٌ عن الْعِلْمِ وَابْتِغَاءٌ له وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ وَيَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ طَاعَةٌ وَهَلْ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ حَالَ وُقُوعِهِ فيه الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ يَنْفُونَهُ وَأَمَّا تَقَضِّي الْفِعْلِ فَيَصِحُّ وَصْفُهُ بِمَا سَبَقَ على مَعْنَى أَنَّهُ كان عليها وإذا قُلْنَا إنَّهُ حَالَ الْإِيقَاعِ وَقَبْلَهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَهَلْ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا مُتَسَاوِيًا على مَذْهَبَيْنِ أَحَدُهُمَا نعم فَيَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِهِمَا تَعَلُّقَ إيجَابٍ وَإِلْزَامٍ وَحَكَاهُ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ عن الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِنَا
وَالثَّانِي أَنَّهُ حَالَ الْوُقُوعِ تَعَلُّقُ إلْزَامٍ وَأَمَّا قَبْلَهُ تَعَلُّقُ إعْلَامٍ بِأَنَّهُ سَيَصِيرُ في زَمَانِ الْحَالِ مَأْمُورًا وَنَسَبَهُ الْقَاضِي إلَى بَعْضِ من يَنْتَمِي إلَى الْحَقِّ قال هو بَاطِلٌ وَادَّعَى الْقَرَافِيُّ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ قال فيه إنَّهُ لَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ عَاقِلٌ وقال الْقَاضِي وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ على الْحُدُوثِ وفي حَالَةِ الْحُدُوثِ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ في التَّرْغِيبِ وَالِاقْتِضَاءِ وَالدَّلَالَةِ فإن ذلك يَتَحَقَّقُ قبل الْفِعْلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ منه وما أَبْطَلَهُ الْقَاضِي اخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ وَلِأَجْلِهِ قال الْبَيْضَاوِيُّ في الْمِنْهَاجِ التَّكْلِيفُ يَتَوَجَّهُ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ وهو قَضِيَّةُ نَقْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عن الْأَصْحَابِ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ وَرَأَيَا أَنَّ الْفِعْلَ حَالَ الْإِيقَاعِ لَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِهِ وَمُدْرَكُهُمْ فيه خِلَافُ مُدْرَكِ الْمُعْتَزِلَةِ فَالْمُعْتَزِلَةُ بَنُوهُ على أَصْلِهِمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَقَدَّمُ على الْفِعْلِ وَانْقِطَاعُ تَعَلُّقِهَا حَالَ وُجُودِهِ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَكَادَ يُوَافِقُهُمْ لِأَنَّهُ يقول ما ليس بِمَقْدُورٍ لَا يُؤْمَرُ بِهِ من يُثْبِتُ قُدْرَةً وَيَقُولُ الْحَالُ غَيْرُ مَقْدُورٍ فَلَزِمَ تَقَدُّمُ الْقُدْرَةِ فَصَرَّحَ من أَجْلِهَا بِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ قبل الْفِعْلِ وَانْقِطَاعِهِ معه وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فإنه سَلَّمَ مُقَارَنَةَ الْقُدْرَةِ لِلْمَقْدُورِ وَوَافَقَ مع هذا على انْتِفَاءِ الْأَمْرِ حَالَ الْوُقُوفِ فَتَوَافَقَا في الْأَصْلِ وَتَخَالَفَا في الْفُرُوعِ ثُمَّ اعْتَمَدَ هو وَإِمَامُهُ على أَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ الِاقْتِضَاءُ وَالطَّلَبُ وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُقْتَضَى حَالِ الْإِيقَاعِ وَلَكِنَّهُ مع هذا مَأْمُورٌ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ طَاعَةٌ وَامْتِثَالٌ وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ لِأَنَّ الطَّاعَةَ مُوَافِقَةُ الْأَمْرِ وَهَذَا مُوَافِقٌ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِمَامَ وَالْغَزَالِيَّ قد رَأَوْا أَنَّ لَا حَقِيقَةَ لِلْأَمْرِ إلَّا الِاقْتِضَاءُ وقد يَطْلُبُ فَبَطَلَ بِنَفْسِهِ وَتَبِعَهُمْ ابن الْحَاجِبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ له حَقِيقَةٌ وهو كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِهِ وقد اعْتَرَضَ على من قال بِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ قبل الْفِعْلِ على سَبِيلِ الْإِعْلَامِ وَالْإِلْزَامِ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَعْصِيَ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُ إنْ أتى بِهِ فَذَاكَ وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَأُجِيبُ عنه بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَالتَّارِكُ مُبَاشِرٌ لِلتَّرْكِ وهو فِعْلٌ مَنْهِيٌّ عنه حَرَامٌ فَإِثْمُهُ من هذه الْجِهَةِ وَعَلَى ما سَبَقَ من طَرِيقَةِ الْقَرَافِيِّ لَا إشْكَالَ وقال الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُتَأَخِّرُ الْحَقُّ أَنَّ تَعَلُّقَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ لَا قَبْلَهُ ليس بِصَحِيحٍ أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّهُمْ بَنَوْا على الِاسْتِطَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ وَلَا حَاصِلَ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ رَأْيُ الْأَشْعَرِيِّ قَالَهُ الْإِمَامُ فإن الْقَاعِدَ حَالَ قُعُودِهِ مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا قُدْرَةَ له
على الْقِيَامِ عِنْدَ الشَّيْخِ في حَالِ الْقُعُودِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ وَمَنْ لَا قُدْرَةَ له مَأْمُورٌ عِنْدَنَا وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنًى لِكَوْنِ فِعْلِ الْعَبْدِ مَقْدُورًا له على أَصْلِ الشَّيْخِ فإن فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقُ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ وَاقِعًا بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورًا له وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنًى لِإِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ في الْعَبْدِ فإنه إذَا لم يَكُنْ لِلْوَصْفِ الذي هو مُقَارِنُ الْفِعْلِ مَدْخَلٌ في الْفِعْلِ فَجَمِيعُ الْأَوْصَافِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ مُتَشَارِكَةٌ في كَوْنِهَا مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَتَمَيَّزَ بَعْضُهَا عن بَعْضٍ بِكَوْنِهَا قُدْرَةً دُونَ غَيْرِهِ يَكُونُ تَمَيُّزًا من غَيْرِ مُمَيَّزٍ وهو غَيْرُ مَعْقُولٍ وَأَمَّا رَابِعًا فَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ على اسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ وهو مَمْنُوعٌ وَأَمَّا خَامِسًا فَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ على تَقْدِيرِ ثُبُوتِ هذا الْأَصْلِ وَكَوْنُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ ثَابِتَةً وَكَوْنُ الْفِعْلِ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْقُدْرَةُ عِنْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَبْلَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لو تَقَدَّمَتْ الْقُدْرَةُ الْحَادِثَةُ على وُجُودِ الْحَادِثِ لَعُدِمَتْ عِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثِ ضَرُورَةُ اسْتِحَالَةِ بَقَائِهَا فَلَا يَكُونُ الْحَادِثُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ فَلَا طَائِلَ له وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ إذَا لم يَكُنْ لها مَدْخَلٌ في الْفِعْلِ فَكَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ الْفِعْلُ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ مُقَارَنَةِ الْقُدْرَةِ لِلْفِعْلِ فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ الْفِعْلُ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ تَقَدُّمِ الْقُدْرَةِ على الْفِعْلِ بَلْ لو فَرَضْنَا أَنَّ لِلْقُدْرَةِ مَدْخَلًا في الْفِعْلِ لَجَازَ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً بِالزَّمَانِ على الْفِعْلِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْعِدَّةِ وَالْحَقُّ أَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ سَابِقٌ على حُدُوثِهِ وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ على الْفِعْلِ وَنَعْنِي بِالْقُدْرَةِ على الْفِعْلِ صِفَةً خَلَقَهَا اللَّهُ في الْعَبْدِ وَجَعَلَهَا بِحَيْثُ لها مَدْخَلٌ في الْفِعْلِ بَلْ كَوْنُهَا بِحَيْثُ لها مَدْخَلٌ في الْفِعْلِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ جَمِيعَ الْمُحْدِثَاتِ بِخَلْقِهِ تَعَالَى بَعْضُهَا بِلَا أَوْسَاطٍ وَلَا أَسْبَابٍ وَبَعْضُهَا بِوَسَائِطَ وَأَسْبَابَ لَا بِأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْوَسَائِطُ وَالْأَسْبَابُ لِذَاتِهَا اقْتَضَتْ أو يَكُونُ لها مَدْخَلٌ في وُجُودِ الْمُسَبَّبَاتِ بَلْ خَلَقَهَا اللَّهُ بِحَيْثُ لها مَدْخَلٌ فَتَكُونُ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ لِلْعَبْدِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ وَمَقْدُورَةً لِلْعَبْدِ بِقُدْرَةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ فيه وَالْقُدْرَةُ مُمَيَّزَةٌ عن سَائِرِ الصِّفَاتِ من حَيْثُ لها مَدْخَلٌ في الْفِعْلِ على هذا الْوَجْهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثِهِ لَكِنْ هل يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ أَمْ لَا فَنَقُولُ الْفِعْلُ الْمَطْلُوبُ يَكُونُ آتِيًا قبل الْآنَ طَرَفُ الزَّمَانِ أو جُزْأَهُ عُلِمَ ذلك
بِاسْتِقْرَاءِ الْأَفْعَالِ الْمَطْلُوبَةِ في الشَّرْعِ بَلْ يَكُونُ زَمَانِيًّا إمَّا على سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ كَالْقِيَامِ في الصَّلَاةِ أو على سَبِيلِ التَّدْرِيجِ كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ في الصَّلَاةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ ذلك ذَا أَجْزَاءٍ وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالذَّاتِ مُتَعَلِّقًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ تَعَلُّقًا بِأَجْزَائِهِ مُحَالَ الْحُدُوثِ وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْفِعْلِ لم يَقَعْ الْبَعْضُ بها وَالْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفِعْلِ بِالذَّاتِ لَا يَنْقَطِعُ ما لم يَحْدُثْ الْفِعْلُ وَلَا يَحْدُثُ الْفِعْلُ إلَّا بَعْدَ حُدُوثِ أَجْزَائِهِ فَلَا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بَعْدَ حُدُوثِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَبَيَانُ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ وَمُقَدَّرَةٌ لِلْعَبْدِ على الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ في أُصُولِ الدِّينِ تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَمَّا حَكَى الْقَوْلَ بِأَنَّ الْفِعْلَ حَالَ حُدُوثِهِ مَأْمُورٌ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَذْهَبَ الشَّيْخِ في الْقُدْرَةِ ثُمَّ قال وَمَذْهَبُهُ مُخْتَبَطٌ في هذه الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ قال لو سَلَّمَ مُسْلِمٌ لِأَبِي الْحَسَنِ ما قَالَهُ في الْقُدْرَةِ جَدَلًا فَلَا يَتَحَقَّقُ معه كَوْنُ الْحَادِثِ مَأْمُورًا هذا حَاصِلُهُ وَمَذْهَبُهُ في الْقُدْرَةِ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ أبي الْحَسَنِ ثُمَّ أَلْزَمَ الشَّيْخُ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ ثُمَّ قال فقال في الْحَادِثِ هذا هو الذي أَمَرَ بِهِ الْمُخَاطَبُ فَأَمَّا أَنْ يَتَّجِهَ الْقَوْلُ في تَعَلُّقِ الْأَمْرِ طَلَبًا وَاقْتِضَاءً مع حُصُولِهِ فَلَا يَرْضَى هذا الْمَذْهَبَ الذي لَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ عَاقِلٌ ا هـ وَمُرَادُهُ بِالْمَذْهَبِ الذي لَا يَرْتَضِيهِ عَاقِلٌ إيجَابُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ الذي أَلْزَمَ بِهِ الشَّيْخَ ولم يُرِدْ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ فإن ذلك هو الْمَأْثُورُ عن الشَّيْخِ وقال الْقَاضِي إنَّهُ الْحَقُّ وَإِنَّ عليه السَّلَفَ من الْأُمَّةِ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَتَعَيَّنُ وَتَوَهَّمَ الْقَرَافِيّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مُرَادَ الْإِمَامِ بِذَلِكَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ وَشَنَّعُوا بِهِ على الْقَائِلِينَ بِهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ ذلك وهو مَذْهَبُ شَيْخِهِ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ في أَنَّ مَذْهَبَ الشَّيْخِ في الْوُجُوبِ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ هل يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ أَمْ لَا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وقد تَقَدَّمَ أَنَّهُ ليس لِلشَّيْخِ نَصٌّ صَرِيحٌ في تَخْصِيصِ التَّكْلِيفِ بِحَالَةِ الْمُبَاشَرَةِ وَأَصْلُ الْوَهْمِ عليه في ذلك
التَّنْبِيهُ الثَّانِي بِنَاءُ الْمَسْأَلَةِ على الِاسْتِطَاعَةِ مع الْفِعْلِ إنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرَهُ ادَّعَوْا أَنَّ أَصْحَابَنَا بَنَوْا هذه الْمَسْأَلَةَ على الِاسْتِطَاعَةِ مع الْفِعْلِ قال أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ غَيْرُ سَدِيدَةٍ وَكَيْفَ تُشَيَّدُ وَعِنْدَ الْأَصْحَابِ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ الْقُدْرَةِ على الْفِعْلِ وَصَرَّحُوا بِجَوَازِ تَقَدُّمِ الْأَمْرِ على الْفِعْلِ وَقَالُوا الْفَاعِلُ قد يُؤْمَرُ بِالْقِيَامِ بِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ في حَالَةِ الْقُعُودِ حتى اخْتَلَفُوا فقال الْأَكْثَرُونَ الْأَمْرُ الذي تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثِهِ أَمْرُ إيجَابٍ وقال الْأَقَلُّونَ أَمْرُ إعْلَامٍ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْحُدُوثِ فَإِذَنْ ليس بِنَاءُ هذه الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ مَسْأَلَةَ الِاسْتِطَاعَةِ نعم الْمُعْتَزِلَةُ يَبْنُونَ وَيَقُولُونَ كما الْقُدْرَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ بِزَعْمِهِمْ فَالْأَمْرُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ ثُمَّ عَوَّلَ الْإِمَامُ بَعْدَ التَّسْفِيهِ في الْبِنَاءِ على أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ وَاقْتِضَاءٌ وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ وَلَا يُقْتَضَى وَهَذَا اعْتِسَافٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قال مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ الْفِعْلَ في حَالِ الْحُدُوثِ مَأْمُورٌ بِهِ أَنَّهُ طَاعَةٌ فَتَعَلُّقُ الْأَمْرِ قبل الْحُدُوثِ يَتَضَمَّنُ اقْتِضَاءً وَتَرْغِيبًا وفي حَالِ الْحُدُوثِ يَتَضَمَّنُ كَوْنَهُ طَاعَةً وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ فَلَا خِلَافَ إذَنْ هذا كَلَامُ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّ الْقُدْرَةَ مع الْفِعْلِ أو قَبْلَهُ لَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ وَالصِّحَّةِ فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ على الْفِعْلِ قَطْعًا فإذا انْضَمَّتْ الدَّاعِيَةُ إلَيْهِ صَارَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ مع هذه عِلَّةً لِلْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ ثُمَّ إنَّ ذلك الْفِعْلَ يَجِبُ وُقُوعُهُ مع حُصُولِ ذلك الْمَجْمُوعِ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ لَا يَتَخَلَّفُ عِنْدَ أَثَرِهِ وَإِنْ أُرِيدَ بها مَجْمُوعَ ما لَا يَتِمُّ الْفِعْلُ إلَّا بِهِ فَلَيْسَتْ سَابِقَةً على الْفِعْلِ لِفِقْدَانِ الدَّاعِيَةِ إذْ ذَاكَ التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ قِيلَ إنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ وَلَا يَتَفَرَّعُ عليه حُكْمٌ قَطْعًا فإنه لَا خِلَافَ بين الْمُسْلِمِينَ في أَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِالْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ قبل أَنْ يَشْرَعَ فيه وَلَا يَخْرُجُ عن عُهْدَةِ الْأَمْرِ إلَّا بِالِامْتِثَالِ وَلَا يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِالْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَيَلْزَمُ منه أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ مُتَوَجِّهًا إلَى الْفِعْلِ قبل الْمُبَاشَرَةِ وَلَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِالْفَرَاغِ عنه
لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّاتِ يَتَعَلَّقُ بِمَجْمُوعِ الْمَأْمُورِ بِهِ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ وَتَعَلُّقُهُ بِالْأَجْزَاءِ إنَّمَا هو بِالْعَرَضِ فما لم يَأْتِ بِمَجْمُوعِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا وما لَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا لَا يَنْقَطِعُ عنه التَّكْلِيفُ التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ قَوْلُنَا إنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَصِيرُ أَمْرًا حَالَ الْحُدُوثِ وَلَا يُنَاقِضُهُ قَوْلُنَا لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ كما قال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ لِأَنَّنَا إذَا فَسَّرْنَا النَّفْيَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ فَوَاضِحٌ وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِعَدَمِ الْحُكْمِ فَالْخِطَابُ في الْأَزَلِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْمُكَلَّفِ مَوْقُوفٌ على بَعْثَةِ الرُّسُلِ فَمَعْنَى قَوْلِنَا لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قبل الشَّرْعِ أَيْ لَا يَتَعَلَّقُ فَلَا تَنَاقُضَ التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ سَبَقَ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْدُومَ مَأْمُورٌ بِشَرْطِ الْوُجُودِ وهو يُنَاقِضُ قَوْلَنَا الْأَمْرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ دَفَعَهُ أَنَّا إنْ قُلْنَا الْأَمْرُ الْأَزَلِيُّ إعْلَامٌ فَوَاضِحٌ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ خُصُوصَ كَوْنِهِ أَمْرًا حَادِثًا كَمَذْهَبِ الْقَلَانِسِيِّ فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَنَقُولُ يَعْرِضُ له نِسَبٌ يَخْتَلِفُ بها فَفِي الْأَزَلِ له نِسْبَةٌ بها صَارَ إلْزَامًا خَاصًّا وهو إنَّهُ إلْزَامُ الْمَأْمُورِ الْفِعْلَ على تَقْدِيرِ وُجُودِهِ وَاسْتِجْمَاعُهُ لِشَرَائِطِ التَّكْلِيفِ عِنْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ ثُمَّ يَعْرِضُ له نِسَبٌ أُخْرَى في وُجُودِ الْمُكَلَّفِ وَبِحُدُوثِ الْفِعْلِ يَصِيرُ أَمْرًا حِينَئِذٍ وَالْأَوَّلُ كان إلْزَامًا على تَقْدِيرٍ وَأَمَّا إذَا بَاشَرَ الْمُكَلَّفُ الْفِعْلَ فَقَدْ وَقَعَ ذلك بِالتَّقْدِيرِ فَالْأَمْرُ الْمُقَدَّرُ صَارَ مُحَقَّقًا وَقَوْلُنَا إنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلِ وَقَبْلَهُ ليس بِأَمْرٍ كان نَفْيًا لِهَذَا الْأَمْرِ الْخَاصِّ لَا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ مَسْأَلَةٌ النِّيَابَةُ في الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه الْأَصْلُ امْتِنَاعُ النِّيَابَةِ في الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَّا ما خَرَجَ بِدَلِيلٍ فقال في الْأُمِّ في بَابِ الْإِطْعَامِ في الْكَفَّارَةِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَامَ عن رَجُلٍ بِأَمْرِهِ لم يُجْزِهِ الصَّوْمُ عنه وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ عن أَحَدٍ عَمَلَ الْأَبَدَانِ لِأَنَّ
الْأَبْدَانَ تَعَبَّدَتْ بِعَمَلٍ فَلَا يُجْزِئُ عنها أَنْ يَعْمَلَ عنها غَيْرُهَا ليس الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ بِالْخَبَرِ الذي جاء عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبِأَنَّ فِيهِمَا نَفَقَةً وَأَنَّ اللَّهَ فَرَضَهُمَا على من وَجَدَ إلَيْهِمَا السَّبِيلَ وَالسَّبِيلُ بِالْمَالِ ا هـ وَأَغْفَلَ الْأَصْحَابُ هذا ولم يَحْفَظُوا لِلشَّافِعِيِّ فيه نَصًّا وَهَذَا في الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ وَأَمَّا الْعَقْلِيُّ فقال ابن بَرْهَانٍ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا جَرَيَانُ النِّيَابَةِ في التَّكَالِيفِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ عَقْلًا وَمَنَعَهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَسَاعَدَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على حَرْفٍ وهو أَنَّ الثَّوَابَ مَعْلُولُ الطَّاعَةِ وَالْعِقَابَ مَعْلُولُ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا الثَّوَابُ فَضْلٌ من اللَّهِ وَالْعِقَابُ عَدْلٌ من اللَّهِ وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ أَمَارَةٌ عليه وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ نَحْوَهُ وَحَرَّرَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فقال اتَّفَقُوا على جَوَازِ دُخُولِ النِّيَابَةِ في الْمَأْمُورِ بِهِ إذَا كان مَالِيًّا وَعَلَى وُقُوعِهِ أَيْضًا لِاتِّفَاقِهِمْ على أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْغَيْرِ صَرْفُ زَكَاةِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يُوَكِّلَ فيه وَكَيْفَ لَا وَصَرْفُ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ إلَى الْإِمَامِ إمَّا وَاجِبٌ أو مَنْدُوبٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يَصْرِفْهَا إلَى الْفُقَرَاءِ إلَّا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ وَاخْتَلَفُوا في جَوَازِ دُخُولِهَا فيه إذَا كان بَدَنِيًّا فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ مَعًا مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ لِنَفْسِهِ إذْ لَا يَمْتَنِعُ قَوْلُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ أَمَرْتُكَ بِخِيَاطَةِ هذا الثَّوْبِ فَإِنْ خِطْتَهُ بِنَفْسِكَ أو اسْتَنْبَتَ فيه أَثَبْتُكَ وَإِنْ تَرَكْتَ الْأَمْرَيْنِ عَاقَبْتُكَ وَاحْتَجُّوا بِالنِّيَابَةِ في الْحَجِّ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ على جَوَازِ النِّيَابَةِ في الْمَأْمُورِ بِهِ إذَا كان بَدَنِيًّا مَحْضًا بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ على ما هو بَدَنِيٌّ وَمَالِيٌّ مَعًا كَالْحَجِّ وَلَعَلَّ الْخَصْمَ يُجَوِّزُ ذلك فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عليه كَذَا قال الْهِنْدِيُّ لَكِنَّ الْخِلَافَ مَوْجُودٌ فيه عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فقالت طَائِفَةٌ منهم إنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عن الْمُبَاشِرِ وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تُجْزِئُ في الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَّا أَنَّ في الْحَجِّ شَائِبَةً مَالِيَّةً من جِهَةِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَمِنْ جِهَةِ الْمُبَاشَرَةِ تَقَعُ عن الْمَأْمُورِ وَمِنْ جِهَةِ الْإِنْفَاقِ تَقَعُ عن الْآمِرِ لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَقَعُ عن الْآمِرِ عَمَلًا بِظَوَاهِر الْأَحَادِيثِ وَاحْتَجَّ الْمَانِعُ بِأَنَّ الْقَصْدَ من إيجَابِ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِ وَالنِّيَابَةُ تُخِلُّ بِذَلِكَ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يُخِلُّ بِهِ مُطْلَقًا فإن في النِّيَابَةِ امْتِحَانًا أَيْضًا وَزَادَهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَحْقِيقًا فقال الْأَفْعَالُ الْمُسْتَنِدَةُ إلَى الْفَاعِلِينَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ شَرْعِيَّةً أو لُغَوِيَّةً فَإِنْ كانت شَرْعِيَّةً فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَادَةً أو غَيْرَهَا
وَغَيْرُ الْعِبَادَةِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُنْظَرَ فيها إلَى جِهَةِ الْفَاعِلِيَّةِ أو إلَى جِهَةِ الْفِعْلِ فَقَطْ من غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْفَاعِلِ فَمِنْ الْأَوَّلِ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا فَأَنَاطَ الشَّارِعُ ذلك بِالْفَاعِلِ فَالْعِبْرَةُ فيه بِهِ فَتَكُونُ عُهْدَةُ الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةً بِهِ وَلَوْ وَكِيلًا وَمِنْ الثَّانِي من بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَقَصَدَ الشَّارِعُ تَحْصِيلَ الْفِعْلِ وَاجْتَمَعَا في قَوْله تَعَالَى فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَالتَّطْلِيقُ الْمُرَادُ بِهِ تَحْصِيلُ الْفِعْلِ سَوَاءٌ كان بِنَفْسِهِ أو بِنِيَابَةٍ أو بِغَيْرِهِ كما تَقَرَّرَ في الْفِقْهِ وَهَذَا من الثَّانِي وَحَتَّى تَنْكِحَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِسْنَادُ الْحَقِيقِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفَاعِلِ وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً أو تُقْصَدُ فَإِنْ كانت وَسِيلَةً فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً تَبْعُدُ عن الْعِبَادَةِ جِدًّا أو تَقْرُبُ منها جِدًّا فَإِنْ كانت تَبْعُدُ جِدًّا كَتَحْصِيلِ التُّرَابِ وَالْمَاءِ في الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالصَّبِّ عليه فَالْإِجْمَاعُ على جَوَازِ دُخُولِ النِّيَابَةِ فيها وَإِنْ كانت تَقْرُبُ منها جِدًّا فَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فيها الْقَصْدُ أو لَا يُعْتَبَرُ فَإِنْ لم يُعْتَبَرْ كَتَوْضِئَةِ الْغَيْرِ له أو تَغْسِيلِهِ فَالْإِجْمَاعُ على جَوَازِ الدُّخُولِ وَأَمَّا الْقَصْدُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَدَنِيًّا مَحْضًا أو مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا فَإِنْ كان الْأَوَّلَ اُمْتُنِعَتْ النِّيَابَةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إلَّا في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ رَكْعَتَا الطَّوَافِ تَبَعًا لِلْحَجِّ وَكَذَا الصَّوْمُ عن الْمَيِّتِ على أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كان مَالِيًّا مَحْضًا كَالزَّكَاةِ دَخَلَتْ النِّيَابَةُ في تَفْرِيقِهِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْوَسِيلَةَ إذْ الْمَالُ هو الْمَقْصُودُ وَإِنْ كان مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا كَالْحَجِّ جَازَ عِنْدَ الْيَأْسِ وَالْمَوْتِ على ما تَقَرَّرَ في الْفِقْهِ وَأَمَّا اللُّغَوِيَّاتُ فإن حَقِيقَتَهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَصْرُوفَةٌ إلَى ما اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْفِعْلُ حَيْثُ لم يَبْقَ ما يَعُمُّ الْمَجَازَ وَلَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ على الْمَشْهُورِ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ رَافِعَةً لِلْحَقِيقَةِ لِتَأْدِيَةِ ذلك إلَى النَّسْخِ وَيُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مُخَصَّصَةً على طَرِيقَةٍ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كان مَعَنَا حَقِيقَتَانِ دَارَ الْأَمْرُ بين أَنْ يَجْعَلَهُمَا مُشْتَرِكَيْنِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا أو يَأْخُذُ بَيْنَهُمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا فَهُنَا يُقَالُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ أَوْلَى وَأَمَّا في حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فَلَا
مسألة في الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلتَّكْلِيفِ السَّفَرُ فَمِنْهَا السَّفَرُ مُسْقِطٌ لِشَطْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَمُسَوِّغٌ لِإِخْرَاجِهَا عن وَقْتِهَا إذْ جَوَّزَ له الشَّرْعُ التَّأْخِيرَ بِنِسْبَةِ الْجَمْعِ تَرْخِيصًا ثُمَّ منه ما ثَبَتَ لِمُطْلَقِ السَّفَرِ وَإِنْ قَصُرَ وَعَدَّهَا الْغَزَالِيُّ أَرْبَعَةً النَّفَلُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَتَرْكُ الْجُمُعَةِ وَالتَّيَمُّمُ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وقد يُنَازَعُ في هَذَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَا يَخْتَصَّانِ بِالسَّفَرِ وَمِنْهُ ما يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَالْجَمْعُ وَالْمَسْحُ على الْخُفِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ الِاضْطِرَارُ وَمِنْهَا الِاضْطِرَارُ لِاسْتِبْقَاءِ الْمُهْجَةِ رَخَّصَ له الشَّرْعُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ بَلْ أَوْجَبَهُ لِأَنَّهَا إنَّمَا حُرِّمَتْ لِأَنَّ تَنَاوُلَهَا يُخِلُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَذَلِكَ لَا يُقَاوِمُ اسْتِبْقَاءَ الْمُهْجَةِ الْجَهْلُ وَمِنْهَا الْجَهْلُ وَلِهَذَا لم يَجِبْ الْحَدُّ على من جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَالْخَمْرِ إذَا كان مِمَّنْ يَخْفَى عليه وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِجَهْلِهِ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ وَلَا تَبْطُلُ فَوْرِيَّةُ الْخِيَارِ بِجَهْلِهِ ثُبُوتَهُ وَلَا يَكْفُرُ مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْخَفِيِّ كَتَوْرِيثِ بِنْتِ الِابْنِ مع الْبِنْتِ السُّدُسَ وفي تَعْلِيقِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ في الْكَلَامِ على خَيْطِ الْخَيَّاطِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ تَدِقُّ وَتَغْمُضُ مَعْرِفَتُهَا هل يُعْذَرُ فيها الْعَامِّيُّ على وَجْهَيْنِ وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ في تَعْصِيَتِهِ الْبَيْعَ على بَيْعِ أَخِيهِ الْعِلْمَ بِالنَّهْيِ وَعَذَرَهُ بِالْجَهْلِ وَكَذَا في النَّجْشِ كما نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ في قَوْلِهِ إنَّهُ لم يَشْرِطْهُ وَالصَّوَابُ أَنَّ ذلك شَرْطٌ في جَمِيعِ الْمَنَاهِي وقد رَوَى النَّسَائِيّ آكِلُ الرِّبَا وَمُوَكِّلُهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِذَلِكَ مَلْعُونُونَ على لِسَانِ مُحَمَّدٍ يوم الْقِيَامَةِ
الْخَطَأُ وَمِنْهَا الْخَطَأُ بِأَنْ يَصْدُرَ منه الْفِعْلُ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فيه الْقِصَاصُ لَكِنْ حَكَى الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإِجْمَاعَ على أَنَّهُ حَرَامٌ وَأَنْ لَا إثْمَ فيه حَكَاهُ عنه صَاحِبُ الْبَيَانِ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ في وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَنَحْوِهِ حتى لَا يُوصَفَ لَا بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ على الْأَصَحِّ الْحَيْضُ وَمِنْهَا الْحَيْضُ مُسْقِطٌ لِلصَّلَاةِ وَكَذَا الصَّوْمُ على الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ وَإِنَّمَا وَجَبَ قَضَاؤُهُ بِأَمْرِ جَدِيدٍ الْمَرَضُ وَمِنْهَا الْمَرَضُ مُسْقِطٌ لِلْقِيَامِ في الْفَرْضِ وَمُسَوِّغٌ لِإِخْرَاجِ الصَّوْمِ عن وَقْتِهِ وَيَلْتَحِقُ بِهِ دَائِمُ الْحَدَثِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَالسَّلَسُ مُسْقِطٌ لِحُكْمِ الطَّهَارَتَيْنِ في الصَّلَاةِ الرِّقُّ وَمِنْهَا الرِّقُّ يُسْقِطُ الْجُمُعَةَ وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ فَلَا تَجِبُ عليه قَطْعًا الْإِكْرَاهُ وَمِنْهَا الْإِكْرَاهُ الْمُبِيحُ له التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَلَا خِلَافَ في وُجُوبِ الِاسْتِسْلَامِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ وَالزِّنَا وفي الْمَبْسُوطِ لِلْحَنَفِيَّةِ الْإِكْرَاهُ أَثَرُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ في إلْغَاءِ عِبَارَتِهِ كَتَأْثِيرِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ وَعِنْدَنَا تَأْثِيرُهُ في سَلْبِ الرِّضَا لَا في إهْدَارِ عِبَارَتِهِ حتى كَأَنَّ مُتَصَرِّفَاتِهِ مُنْعَقِدَةٌ وَلَكِنْ ما يُعْتَمَدُ لُزُومُهُ الرِّضَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَلْزَمُ وما لَا يَعْتَمِدُ الرِّضَا يَلْزَمُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ قال السَّرَخْسِيُّ قد اسْتَكْثَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآثَارِ في أَوَّلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَهَذَا لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ حتى يَتَنَوَّعَ أَفْعَالُهُ إلَى مُبَاحٍ وَوَاجِبٍ وَحَرَامٍ فَالْوَاجِبُ
شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَتَارَةً قَتْلُ النَّفْسِ وَالزِّنَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْخِطَابِ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَجُمْلَةُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى على الْإِنْسَانِ النَّظَرُ أَوَّلًا ثُمَّ الْمَعْرِفَةُ ثَانِيًا ثُمَّ الْعِبَادَاتُ فَالشَّافِعِيُّ يقول الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ سَاقِطَةٌ عن الصَّبِيِّ دُونَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ إذَا أُخِذَتْ من مَالِهِ فَلَا نَقُولُ يَسْتَحِقُّ بها ثَوَابَ من يُمْتَحَنُ بِتَنْقِيصِ الْمِلْكِ وَمَرَاغِمِ الشَّيْطَانِ الذي يَعِدُ الْفَقْرَ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ من مَالِهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ لَا نَظَرًا لِلصَّبِيِّ الْمُؤَدِّي وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّمَا تُؤْخَذُ منه بِاعْتِبَارِ الْمُوَاسَاةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعِبَادَةِ فَعَلَى هذا ليس على الصَّبِيِّ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَا بَدَنِيَّةٌ وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ من مَالِهِ نَفَقَةُ أُخُوَّةِ الدِّينِ ثُمَّ لَا يَلْزَمُ قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِعِلْمِ الشَّرْعِ بِأَنَّ ذلك يَجُرُّ حَرَجًا عَظِيمًا من حَيْثُ إنَّ الصَّبِيَّ عَامٌّ في أَصْلِ الْفِطْرَةِ وقد صَحَّ قَطْعًا مُدَّةٌ مَدِيدَةٌ وَالْجُنُونُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ مع أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِدَوَامِهِ وَلَا أَنَّهُ عَامٌّ فَلَيْسَ مُلْتَحِقًا بِالصَّبِيِّ مع الْفَرْقِ الْقَاطِعِ وَلَكِنْ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ وَمَقَادِيرُهُ مُلْحِقَةٌ بِأَصْلِهِ وأبو حَنِيفَةَ يُلْحِقُ تَفَاصِيلَهُ بِأَصْلٍ آخَرَ وهو الْإِغْمَاءُ وَنَظَرُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى وَيَتَّصِلُ بِذَلِكَ أَنَّ عَقْلَهُ وَتَمْيِيزَهُ يَقْتَضِي تَصْحِيحَ عِبَارَتِهِ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يقول فَسَدَتْ عِبَارَتُهُ فِيمَا صَارَ بِوَلِيٍّ عليه فيها وَأَمَّا ما لم يَصِرْ مُوَلَّى عليه فيها فَفَاسِدٌ فِيمَا يَضُرُّهُ صَحِيحٌ فِيمَا يَنْفَعُهُ حتى لو قال أنا جَائِعٌ يُسْمَعُ منه وَيُطْعَمُ وأبو حَنِيفَةَ فَصَّلَ فقال وَالْأَعْذَارُ الْمُسْقِطَةُ لِلْوُجُوبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ تِسْعَةٌ جُنُونٌ وَنَوْمٌ وَإِغْمَاءٌ وَنِسْيَانٌ وَخَطَأٌ وَإِكْرَاهٌ وَجَهْلٌ بِأَسْبَابِ الْوُجُوبِ وَحَيْضٌ وَرِقٌّ فَالْجُنُونُ رَآهُ أبو حَنِيفَةَ شَبِيهًا بِالصَّبِيِّ في عَدَمِ الْعَقْلِ بِالْجُنُونِ من أَصْلِهِ وَالصَّبِيُّ في كَمَالِهِ وَأَلْحَقَهُ بِهِ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَالصِّبَا يَمْنَعُ وُجُوبَ حُقُوقِ اللَّهِ كُلِّهَا مَالِيِّهَا وَبَدَنِيِّهَا وَعِنْدَنَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالسَّفَهُ لَا يُؤَثِّرُ في الْعِبَادَاتِ إجْمَاعًا وفي الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ بِالدَّمِ وَيُؤَثِّرُ في التَّصَرُّفَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالنَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ يَمْنَعَانِ اسْتِكْمَالَ الْعَقْلِ فلم نَعْتَبِرْ النَّوْمَ لِشَيْءٍ من الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْعِبَادَةِ وفي الْعِبَادَةِ كَلَامٌ وَالسُّكْرُ وَإِنْ شَابَهَ الْإِغْمَاءَ في الصُّورَةِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كان مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ صَارَ السَّكْرَانُ كَالصَّاحِي وما يَقْتَضِي النِّسْيَانَ وَالْإِكْرَاهَ وَالرِّقَّ عُذْرٌ يُسْتَقْصَى في الْفِقْهِ وَالْكُفْرُ ليس مُسْقِطًا لِلْخِطَابِ عِنْدَنَا وَلَكِنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ مع وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ بِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَرَخَّصَ بِإِسْقَاطِ ضَمَانِ الْمُتْلِفَاتِ وَرَخَّصَ تَصْحِيحُ أَنْكِحَتِهِمْ
وَمُعَامَلَتِهِمْ كَثِيرًا مِمَّا يُخَالِفُ وَضْعَ الشَّرْعِ تَرْغِيبًا لهم في الْإِسْلَامِ وَكُلُّ ذلك مُسْتَقْصًى في الْفِقْهِ فَهَذَا مَجْمُوعُ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ مع وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ رَجَّحَ سَبَبًا على سَبَبٍ من غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ في بَعْضِهَا الصِّبَا وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّبَا إنَّمَا يَنْتَصِبُ عُذْرًا في الْعِبَادَاتِ التي تَقَرَّرَ وُجُوبُهَا بِالشَّرْعِ وَمَنْ قال إنَّ وُجُوبَ الْإِسْلَامِ بِالْعَقْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَدِّرَ الصِّبَا عُذْرًا أَصْلًا وَيَقُولُ يَجِبُ على اللَّهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ وهو قَوْلٌ بَاطِلٌ وَبَنَى عليه الْحَنَفِيَّةُ صِحَّةُ إسْلَامِهِ على مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِ لِتَرَتُّبِهَا على الْإِسْلَامِ الْمَرْفُوعِ وَأَبْطَلَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ لم يُظْهِرْ انْطِوَاءَ ضَمِيرِهِ أو يقول لَا يُحْتَمَلُ الْإِسْلَامُ إلَّا فَرْضًا وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ فَرْضًا فَخَرَجَ لِذَلِكَ عن كَوْنِهِ مَشْرُوعًا
مباحث الكتاب العزيز
الكتاب
الْكِتَابُ الْقُرْآنُ وَقِيلَ بَلْ مُتَغَايِرَانِ وَرَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عن الْجِنِّ إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ من بَعْدِ مُوسَى فَدَلَّ على تَرَادُفِهِمَا وهو أُمُّ الدَّلَائِلِ وَفِيهِ الْبَيَانُ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ قال اللَّهُ تَعَالَى وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه في الرِّسَالَةِ وَلَيْسَتْ تَنْزِلُ بِأَحَدٍ نَازِلَةٌ في الدُّنْيَا إلَّا وفي كِتَابِ اللَّهِ الدَّلِيلُ على سَبِيلِ الْهُدَى فيها وَأَوْرَدَ من الْأَحْكَامِ ما ثَبَتَ ابْتِدَاءً بِالسُّنَّةِ وَأَجَابَ ابن السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ من كِتَابِ اللَّهِ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عليه فيه اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَحَذَّرْنَا من مُخَالَفَتِهِ قال الشَّافِعِيُّ فَمَنْ قَبِلَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَعَنْ اللَّهِ قَبِلَ وَيُطْلَقُ الْقُرْآنُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ الذي هو صِفَةٌ من صِفَاتِهِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ هذا الْمَتْلُوُّ وَذَلِكَ مَحَلُّ نَظَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأُخْرَى وَيُرَادُ بِهِ الْأَلْفَاظُ الْمُقَطَّعَةُ الْمَسْمُوعَةُ وهو الْمَتْلُوُّ وَهَذَا مَحَلُّ نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ وَسَائِرِ خَدَمَةِ الْأَلْفَاظِ كَالنُّحَاةِ وَالْبَيَانِيِّينَ وَالتَّصْرِيفِيَّيْنِ وَاللُّغَوِيِّينَ وهو مُرَادُنَا تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ فَنَقُولُ هو الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ لِلْإِعْجَازِ بِآيَةٍ منه الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ فَخَرَجَ بِالْمُنَزَّلِ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَالْأَلْفَاظُ وَإِنْ كانت لَا تَقْبَلُ حَقِيقَةَ النُّزُولِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ الْمَجَازُ الصُّورِيُّ وَقَوْلُنَا لِلْإِعْجَازِ خَرَجَ بِهِ الْمُنَزَّلُ على غَيْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فإنه لم يَقْصِدْ بِهِ الْإِعْجَازَ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ وقد صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ بِأَنَّ السُّنَّةَ مُنَزَّلَةٌ كَالْكِتَابِ قال اللَّهُ تَعَالَى وما يَنْطِقُ عن الْهَوَى إنْ هو إلَّا وَحْيٌ يُوحَى وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ ما نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَقُلْنَا بِآيَةٍ منه ولم نَقُلْ بِسُورَةٍ كما ذَكَره الْأُصُولِيُّونَ لِأَنَّ أَقَصَرَ السُّوَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَالتَّحَدِّي قد وَقَعَ بِأَقَلَّ منها في قَوْله تَعَالَى فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِوَصَرَّحَ أَصْحَابُنَا في كِتَابِ الصَّدَاقِ فِيمَا لو أَصَدَقَهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ فَلَقَّنَهَا بَعْضَ آيَةٍ ثُمَّ نَسِيَتْ لَا يُحْسَبُ له شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى قُرْآنًا لِعَدَمِ الْإِعْجَازِ فيها كَذَا قال ابن الصَّبَّاغِ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِثْلُ ذلك على الْجُنُبِ لَكِنْ صَرَّحَ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِالْمَنْعِ وَأَمَّا الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ فَحَكَى في الشَّامِلِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ الْإِعْجَازَ إنَّمَا يَقَعُ بِثَلَاثِ آيَاتٍ وَذَلِكَ قَدْرُ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ وَالثَّانِي يَجُوزُ لِأَنَّ الْآيَةَ تَامَّةٌ من جِنْسٍ له فيه إعْجَازٌ فَأَشْبَهَ الثَّلَاثَ على أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْإِعْجَازَ مُمْكِنٌ بِالسُّورَةِ فإن الْبُلَغَاءَ من الْعَرَبِ قد يَقْدِرُونَ على الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ وقال الْآمِدِيُّ في الْأَبْكَارِ الْتَزَمَ الْقَاضِي في أَحَدِ جَوَابَيْهِ الْإِعْجَازَ في سُورَةِ الْكَوْثَرِ وَأَمْثَالِهَا تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَالْأَصَحُّ ما ارْتَضَاهُ في الْجَوَابِ الْآخَرِ وهو اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ من أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّحَدِّيَ إنَّمَا وَقَعَ بِسُورَةٍ تَبْلُغُ في الطُّولِ مَبْلَغًا يَتَبَيَّنُ فيه رُتَبُ ذَوِي الْبَلَاغَةِ فإنه قد يَصْدُرُ من غَيْرِ الْبَلِيغِ أو مِمَّنْ هو أَدْنَى في الْبَلَاغَةِ من الْكَلَامِ الْبَلِيغِ ما يُمَاثِلُ بَعْضَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ الصَّادِرِ عَمَّنْ هو أَبْلَغُ منه وَرُبَّمَا زَادَ عليه وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُ الْكَلَامِ الذي يَظْهَرُ فيه تَفَاوُتُ الْبُلَغَاءِ بَلْ إنَّمَا ضَبَطَ بِالْمُتَعَارَفِ الْمَعْلُومِ بين أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَالْبَلَاغَةِ قال الْآمِدِيُّ ما ذَكَرْنَاهُ إنْ كان ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ في قَوْله تَعَالَى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ غير أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالدَّلِيلِ وَاجِبٌ فَإِنْ حُمِلَ التَّحَدِّي على ما لَا يَتَفَاوَتُ فيه بَلَاغَةُ الْبُلَغَاءِ وَلَا يَظْهَرُ بِهِ التَّعْجِيزُ يَكُونُ مُمْتَنِعًا انْتَهَى ت نبيه الْإِعْجَازُ في قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ الْإِعْجَازُ يَقَعُ عِنْدَنَا في قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ لَا في نَفْسِ كَلَامِهِ على الصَّحِيحِ من أَقَاوِيلِ أَصْحَابِنَا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ في الْمُقْنِعِ وَاحْتَجَّ عليه بِأَنَّ الْإِعْجَازَ دَلَالَةُ الصِّدْقِ وَدَلَالَةُ الصِّدْقِ لَا تَتَقَدَّمُ الصِّدْقَ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِيٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَنْصَرِفَ ذلك إلَى الْقِرَاءَةِ الْحَادِثَةِ وَلِأَنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ في النَّظْمِ وَالنَّظْمُ يَقَعُ في الْقِرَاءَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ ليس بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ على أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بمثله فَالْمُرَادُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَحَدَّى بِالسُّورَةِ وَالسُّورَةُ تَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ لَا إلَى الْمَقْرُوءِ قال وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى إثْبَاتِ نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَاقْتَدَى بِبَعْضِ سَلَفِنَا في ذلك مِمَّنْ كان يَتَعَاطَى التَّفْسِيرَ وَالتَّحْقِيقُ ما ذَكَرْنَاهُ مَسْأَلَةٌ الْكَلَامُ الْكَلَامُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَشْعَرِيَّةِ مُشْتَرَكٌ بين الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ وَالْمَعْنَى النَّفْسِيِّ لِأَنَّهُ قد اُسْتُعْمِلَ فِيهِمَا وَالْأَصْلُ في الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ في الْعِبَارَاتِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ في أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أو اجْهَرُوا بِهِ وَقِيلَ حَقِيقَةٌ في النَّفْسِيِّ مَجَازٌ في اللِّسَانِيِّ وَقِيلَ عَكْسُهُ وَالثَّلَاثَةُ مَحْكِيَّةٌ عن الْأَشْعَرِيِّ حَكَاهَا ابن بَرْهَانٍ عنه وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ نِسْبَةٌ بين مُفْرَدَيْنِ قَائِمَةٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ وَيَعْنُونَ بِالنِّسْبَةِ بين الْمُفْرَدَيْنِ تَعَلُّقَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَإِضَافَتَهُ إلَيْهِ على جِهَةِ الْإِسْنَادِ الْإِفَادِيِّ أَيْ بِحَيْثُ إذَا عَبَّرَ عن تِلْكَ النِّسْبَةِ بِلَفْظٍ يُطَابِقُهَا وَيُؤَدِّي مَعْنَاهَا كان ذلك اللَّفْظُ إسْنَادًا إفَادِيًّا وَمَعْنَى قِيَامِ هذه النِّسْبَةِ بِالْمُتَكَلِّمِ أَنَّ الشَّخْصَ إذَا قال لِغَيْرِهِ اسْقِنِي مَاءً فَقَبْلَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ قام بِنَفْسِهِ تَصَوُّرُ حَقِيقَةِ السَّقْيِ وَحَقِيقَةِ الْمَاءِ وَالنِّسْبَةِ الطَّلَبِيَّةِ بَيْنَهُمَا فَهَذَا هو الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَالْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وَصِيغَةُ قَوْلِهِ اسْقِنِي مَاءً عِبَارَةٌ عنه وَدَلِيلٌ عليه وقال الْقَرَافِيُّ مَعْنَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ في نَفْسِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ عن كَوْنِ الْوَاحِدِ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ وَعَنْ حَدَثِ الْعَالَمِ وهو غَيْرُ مُخْتَلِفٍ ثُمَّ يُعَبِّرُ عنه بِعِبَارَاتٍ وَلُغَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالْمُخْتَلِفُ هو الْكَلَامُ اللِّسَانِيُّ وَغَيْرُ الْمُخْتَلِفِ هو الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُسَمَّى ذلك الْعِلْمُ الْخَاصُّ سَمْعًا لِأَنَّ إدْرَاكَ الْحَوَاسِّ إنَّمَا هو عُلُومٌ خَاصَّةٌ أَخَصُّ من مُطْلَقِ عِلْمٍ فَكُلُّ إحْسَاسٍ عِلْمٌ وَلَيْسَ كُلُّ عِلْمٍ إحْسَاسًا فإذا وُجِدَ هذا الْعِلْمُ الْخَاصُّ في نَفْسِ مُوسَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى سُمِّيَ بِاسْمِهِ الْمَوْضُوعِ له في اللُّغَةِ وهو السَّمَاعُ وقال الْغَزَالِيُّ في بَعْضِ عَقَائِدِهِ من أَحَالَ سَمَاعَ مُوسَى كَلَامًا ليس بِصَوْتٍ وَلَا حَرْفٍ فَلْيُحِلْ يوم الْقِيَامَةِ رُؤْيَةَ ذَاتٍ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ
مَسْأَلَةٌ إنْزَالُ الْقُرْآنِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَأَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلُغَةِ الْعَرَبِ قال اللَّهُ تَعَالَى وما أَرْسَلْنَا من رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ وَأَوْرَدَ ابن السَّمْعَانِيِّ سُؤَالًا حَسَنًا وهو أَنَّهُ كان من تَقَدَّمَ من الْأَنْبِيَاءِ عليهم السَّلَامُ مَبْعُوثًا إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا بِلِسَانِهِمْ أَمَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَمَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ فَلِمَ صَارَ مَبْعُوثًا بِلِسَانِ بَعْضِهِمْ أَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عليه السَّلَامُ مَبْعُوثًا بِلِسَانِ جَمِيعِهِمْ وهو خَارِجٌ عن الْعُرْفِ وَالْمَعْهُودِ من الْكَلَامِ وَيَبْعُدُ بَلْ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ من الْقُرْآنِ مُكَرَّرَةً بِكُلِّ الْأَلْسِنَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ بَعْضِهِمْ وكان اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ أَحَقَّ من كل لِسَانٍ لِأَنَّهُ أَوْسَعُ وَأَفْصَحُ وَلِأَنَّهُ لِسَانُ أَوْلَى بِالْمُخَاطَبِينَ قال الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بن مَالِكٍ وَنَزَلَ بِلُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ إلَّا قَلِيلًا فإنه نَزَلَ بِلُغَةِ التَّمِيمِيِّينَ فَمِنْ الْقَلِيلِ إدْغَامٌ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فإن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ في سُورَةِ الْحَشْرِ من يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عن دِينِهِ في قِرَاءَةِ غَيْرِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ فإن الْإِدْغَامَ في الْمَجْزُومِ وَالْأَمْرَ الْمُضَاعَفَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَالْفَكُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَكَذَلِكَ نَحْوُ من يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عن دِينِهِ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ ويحببكم اللَّهُ ويمددكم ( ( ( و ) ) ) ومن ( ( ( يمددكم ) ) ) يُشَاقِقْ ومن يُحَادِدْ اللَّهَ واستفزز فَلْيَمْدُدْ وَاحْلُلْ واشدد بِهِ أَزْرِي وَمَنْ يَحْلِلْ عليه قال وقد أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ على نَصْبِ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ لِأَنَّ لُغَةَ الْحِجَازِيِّينَ الْتِزَامُ النَّصْبِ في الْمُنْقَطِعِ وَإِنْ كان بَنُو تَمِيمٍ يُتْبِعُونَ كما أَجْمَعُوا على نَصْبِ ما هذا بَشَرًا لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى قُلْ لَا يَعْلَمُ من في السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ جاء على لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ ثُمَّ نَازَعَهُ في ذلك
مَسْأَلَةٌ الْإِعْجَازُ في النَّظْمِ وَالْإِعْرَابِ وَلَا خِلَافَ بين الْعُقَلَاءِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُعْجِزٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ عَجَزُوا عن مُعَارَضَتِهِ وَاخْتَلَفُوا في سَبَبِهِ هل كان لِكَوْنِهِ مُعْجِزًا أو لِمَنْعِ اللَّهِ إيَّاهُمْ عن ذلك مع قُدْرَتِهِمْ عليه وهو الْمُسَمَّى بِالصَّرْفِ على قَوْلَيْنِ وَالثَّانِي قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ الْإِعْجَازُ لِخُرُوجِهِ عن سَائِرِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ فَزَادَهُمْ أُسْلُوبًا لم يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ في لُغَتِهِمْ لِأَنَّهَا مَحْصُورَةٌ في الرَّجَزِ وَالشِّعْرِ وَالرِّسَالَةِ وَالْخَطِّ وَمَنْظُومِ الْكَلَامِ وَمَنْثُورِهِ وَالْقُرْآنُ خَارِجٌ عن ذلك فَجَرَى مَجْرَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى في زَمَنِ عِيسَى لِأَنَّ في وَقْتِهِ كان الْأَطِبَّاءُ يَدَّعُونَ تَصْحِيحَ الْمَرْضَى ولم يَكُنْ دَعْوَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى فَزَادَ عليهم إحْيَاءُ الْمَوْتَى وَكَذَلِكَ عَصَا مُوسَى وَقِيلَ الْإِعْجَازُ في بَلَاغَتِهِ وَجَزَالَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ الْمُجَاوِزَةِ لِحُدُودِ جَزَالَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْأَسَالِيبِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْإِعْجَازَ في جَزَالَتِهِ مع أُسْلُوبِهِ الْخَارِجِ عن أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْجَزَالَةُ وَالْأُسْلُوبُ مَعًا مُتَعَلِّقَانِ بِالْأَلْفَاظِ وَالْمَعْنَى في حُكْمِ الشَّائِعِ لِلَّفْظِ وَاللَّفْظُ هو الْمَتْبُوعُ وَمِنْ ثَمَّ لَا تَقُومُ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ مَقَامَهُ في إقَامَةِ فَرْضِ الصَّلَاةِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَاخْتَارَ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ نَحْوَهُ وَحُكِيَ عن الْجَاحِظِ أَنَّ الْإِعْجَازَ مَنْعُ الْخَلْقِ عن الْإِتْيَانِ بِهِ وَلَيْسَ هذا قَوْلُ الصِّرْفَةِ الْمَعْزُوِّ إلَى الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ فإن قَوْلَ الصَّارِفَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ قُوَاهُمْ كانت مَجْبُولَةً على الْإِتْيَانِ بمثله ثُمَّ سَلَبَهُمْ اللَّهُ تِلْكَ الْقُوَّةَ فَصَارُوا عَاجِزِينَ وَالْإِعْجَازُ حَاصِلٌ بهذا حُصُولَ ابْتِدَاءٍ لِأَنَّ سَلْبَ الْإِنْسَانِ قُدْرَتَهُ أَعْجَزُ له وَأَبْلَغُ من تَحَدِّيهِ بِمَا لم يَقْدِرْ عليه وَقِيلَ الْإِعْجَازُ فيه غَرَابَةُ النَّظْمِ مع الْإِخْبَارِ عن الْغَيْبِ وَإِتْيَانِهِ بِقَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَسْأَلَةٌ وَهَلْ الْإِعْجَازُ في النَّظْمِ وَحْدَهُ دُونَ الْإِعْرَابِ أو في النَّظْمِ وَالْإِعْرَابِ مَعًا خِلَافٌ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي في التَّتِمَّةِ وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَفَرَّعَا عليه ما لو لَحَنَ في الصَّلَاةِ ولم يُغَيِّرْ الْمَعْنَى كما لو قال الْحَمْدُ لِلَّهِ وَنَصَبَ الْهَاءَ هل
تُجْزِئُهُ وَجْهَانِ بِنَاءً على هذا الْأَصْلِ قالت الْحَنَفِيَّةُ الْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عن النَّظْمِ الدَّالِّ على الْمَعْنَى مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهَا بَلْ يَجِبُ قِرَاءَتُهُ على هَيْئَتِهِ التي يَتَعَلَّقُ بها الْإِعْجَازُ لِتَقْصِيرِ التَّرْجَمَةِ عنه وَلِتَقْصِيرِ غَيْرِهِ من الْأَلْسُنِ عن الْبَيَانِ الذي خُصَّ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْأَلْسِنَةِ قال اللَّهُ تَعَالَى بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ هذا لو لم يَكُنْ مُتَحَدًّى بِنَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وإذا لم تَجُزْ قِرَاءَتُهُ بِالتَّفْسِيرِ الْعَرَبِيِّ الْمُتَحَدَّى بِنَظْمِهِ فَأَحْرَى أَنْ لَا تَجُوزَ بِالتَّرْجَمَةِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ وَمِنْ هَاهُنَا قال الْقَفَّالُ في فَتَاوِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ قِيلَ له فَإِذَنْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ قال ليس كَذَلِكَ لِأَنَّ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ مُرَادِ اللَّهِ وَيَعْجَزُ عن الْبَعْضِ أَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بين التَّرْجَمَةِ وَالتَّفْسِيرِ فقال يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْأَلْسُنِ بَعْضِهَا بِبَعْضِهِ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ عِبَارَةٌ عَمَّا قام في النَّفْسِ من الْمَعْنَى لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَالتَّرْجَمَةُ هِيَ بَدَلُ اللَّفْظَةِ بِلَفْظَةٍ تَقُومُ مَقَامَهَا في مَفْهُومِ الْمَعْنَى لِلسَّامِعِ الْمُعْتَبِرِ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَكَأَنَّ التَّرْجَمَةَ إحَالَةُ فَهْمِ السَّامِعِ على الِاعْتِبَارِ وَالتَّفْسِيرُ تَعْرِيفُ السَّامِعِ بِمَا فَهِمَ الْمُتَرْجِمُ وَهَذَا فَرْقٌ حَسَنٌ وما أَحَالَهُ الْقَفَّالُ من تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أبو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بن فَارِسٍ عن كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا فقال لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ من الْمُتَرْجِمِينَ على أَنْ يَنْقُلَ الْقُرْآنَ إلَى شَيْءٍ من الْأَلْسِنَةِ كما نُقِلَ الْإِنْجِيلُ عن السُّرْيَانِيَّةِ إلَى الْحَبَشِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَتُرْجِمَتْ التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الْعَجَمَ لم تَتَّسِعْ في الْمَجَازِ اتِّسَاعَ الْعَرَبِ أَلَا تَرَى أَنَّك لو أَرَدْت أَنْ تَنْقُلَ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا وَإِمَّا تَخَافَنَّ من قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ على سَوَاءٍ لم تَسْتَطِعْ أَنْ تَأْتِيَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُؤَدِّيَةً عن الْمَعْنَى الذي أُودِعَتْ فيه حتى تَبْسُطَ مَجْمُوعَهَا وَتَفُكَّ مَنْظُومَهَا وَتُظْهِرَ مَسْتُورَهَا فَتَقُولُ إنْ كان بَيْنَكَ وَبَيْنَ قَوْمٍ هُدْنَةٌ وَعَهْدٌ فَخِفْتَ منهم خِيَانَةً وَنَقْضًا فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ قد نَقَضْتَ ما شَرَطْتَهُ لهم وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ لِتَكُونَ أنت وَهُمْ في الْعِلْمِ بِالنَّقْضِ على اسْتِوَاءٍ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ في الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ا هـ وَظَهَرَ من هذا أَنَّ الْخِلَافَ الْمَحْكِيَّ عن أبي حَنِيفَةَ في جَوَازِ قِرَاءَتِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا
يَتَحَقَّقُ لِعَدَمِ إمْكَانِ تَصَوُّرِهِ على أَنَّهُ قد صَحَّ عن أبي حَنِيفَةَ الرُّجُوعُ عن ذلك حَكَاهُ عبد الْعَزِيزِ في شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ وَاَلَّذِينَ لم يَطَّلِعُوا على الرُّجُوعِ من أَصْحَابِهِ قالوا أَرَادَ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ عن الْقُرْآنِ فَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ اُمْتُنِعَ وَحُكِمَ بِزَنْدَقَةِ فَاعِلِهِ وَجَعَلَ الْقَفَّالُ فِيمَا حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في الْأَسْرَارِ مَأْخَذَ الْخِلَافِ في ذلك الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَرَأَيْتُ في كَلَامِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْمَغَارِبَةِ أَنَّ الْمَنْعَ مَخْصُوصٌ بِالتِّلَاوَةِ فَأَمَّا ما تَرْجَمَتُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فإن ذلك جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ من ذلك على بَيَانِ الْحُكْمِ الْمُحْكَمِ منه وَالْقَرِيبِ الْمَعْنَى بِمِقْدَارِ الضَّرُورَةِ إلَيْهَا من التَّوْحِيدِ وَأَرْكَانِ الْعِبَادَاتِ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمَا سِوَى ذلك وَيُؤْمَرُ من أَرَادَ الزِّيَادَةَ على ذلك بِتَعَلُّمِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ قال وَهَذَا هو الذي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ وَلِذَلِكَ لم يَكْتُبْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى قَيْصَرَ إلَّا بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مَحْكَمَةٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وهو تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّبَرِّي من الْإِشْرَاكِ لِأَنَّ النَّقْلَ من لِسَانٍ إلَى لِسَانٍ قد تَقْصُرُ التَّرْجَمَةُ عنه لَا سِيَّمَا من الْعَرَبِيِّ إلَى الْعَجَمِيِّ فَإِنْ كان مَعْنَى الْمُتَرْجَمِ عنه وَاحِدًا عُدِمَ أو قَلَّ وُقُوعُ التَّقْصِيرِ فيه بِخِلَافِ الْمَعَانِي إذَا كَثُرَتْ لَا سِيَّمَا إذَا اشْتَرَكَتْ الْأَلْفَاظُ وَتَقَارَبَتْ أو تَوَاصَلَتْ الْمَعَانِي أو تَقَارَبَتْ وَإِنَّمَا فَعَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ذلك لِضَرُورَةِ التَّبْلِيغِ أو لِأَنَّ مَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ كان عِنْدَهُمْ مُقَرَّرًا في كُتُبِهِمْ وَإِنْ خَالَفُوهُ وَإِفْرَادُ هذه الْمَسْأَلَةِ بِكَلَامِي هذا لَا تَجِدُهُ في كِتَابٍ فَاشْكُرْ اللَّهَ على هذا الْمُسْتَطَابِ مَسْأَلَةٌ الْأَلْفَاظُ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ في الْقُرْآنِ لَا خِلَافَ أَنَّهُ ليس في الْقُرْآنِ كَلَامٌ مُرَكَّبٌ على غَيْرِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ وَأَنَّ فيه أَسْمَاءَ أَعْلَامٍ لِمَنْ لِسَانُهُ غَيْرُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ كَإِسْرَائِيلَ وَجَبْرَائِيلَ وَنُوحٍ وَلُوطٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هل في الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ غَيْرُ أَعْلَامٍ مُفْرَدَةٍ من غَيْرِ كَلَامِ الْعَرَبِ فَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى
أَنَّهُ لَا يُوجَدُ ذلك فيه وَكَذَلِكَ نُقِلَ عن أبي عُبَيْدَةَ وَادَّعَى أَنَّ ما وُجِدَ فيه من الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ مِمَّا اتَّفَقَ فيه اللُّغَاتُ وَبَحَثَ الْقَاضِي عن أُصُولِ أَوْزَانِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَرَدَّ هذه الْأَسْمَاءَ إلَيْهَا على الطَّرِيقَةِ النَّحْوِيَّةِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى وُجُودِهَا فيه وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ في ذَيْلِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَسْأَلَةٌ في الْقُرْآنِ الْمَجَازُ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ وَأَبِي بَكْرِ بن دَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَسَيَأْتِي أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَسْأَلَةٌ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ في الْقُرْآنِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ كما قال تَعَالَى منه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ وقد يُوصَفُ جَمِيعُ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ في الدَّلَالَةِ وَالْإِعْجَازِ قال اللَّهُ تَعَالَى كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ وقد يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ أُحْكِمَ على وَجْهٍ لَا يَقَعُ فيه تَفَاوُتٌ قال اللَّهُ تَعَالَى كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ وَالْمُحْكَمُ إمَّا بِمَعْنَى الْمُتْقَنِ كَقَوْلِهِ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بهذا الْمَعْنَى وَإِمَّا في مُقَابَلَةِ الْمُتَشَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى منه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَاخْتَلَفَ فيه بهذا الْمَعْنَى على أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ مُنْتَشِرَةٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ ما خَلَصَ لَفْظُهُ من الِاشْتِرَاكِ ولم يَشْتَبِهْ بِغَيْرِهِ وَعَكْسُهُ الْمُتَشَابِهُ الثَّانِي أَنَّ الْمُحْكَمَ ما اتَّصَلَتْ حُرُوفُهُ وَالْمُتَشَابِهُ ما انْفَصَلَتْ كَالْحُرُوفِ الْمُتَقَطِّعَةِ في أَوَائِلِ السُّوَرِ وهو بَاطِلٌ فإن الْكَلِمَةَ قد تَتَّصِلُ وَلَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا وَتَتَرَدَّدُ بين احْتِمَالَاتٍ وَتُعَدُّ مُتَشَابِهَةً الثَّالِثُ أَنَّ الْمُحْكَمَ ما تَوَعَّدَ بِهِ الْفُسَّاقُ وَالْمُتَشَابِهُ ما أَخْفَى عِقَابَهُ وقد حَرَّمَهُ كَالْكِذْبَةِ وَالنَّظْرَةِ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن وَاصِلَ بن عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ من حَكَى عنه أَنَّ الْمُحْكَمَ هو الْوَعِيدُ على الْكَبَائِرِ وَالْمُتَشَابِهَ على الصَّغَائِرِ وَنَسَبَهُ لِعَمْرِو بن عُبَيْدٍ أَيْضًا الرَّابِعُ أَنَّهُ ما احْتَجَّ بِهِ على الْكُفَّارِ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْأَصَمِّ الْخَامِسُ أَنَّهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ في الْأَحْكَامِ وَالْمُتَشَابِهُ الْقَصَصُ وَسِيَرُ الْأَوَّلِينَ
لِأَنَّ الْمُحْكَمَ ما اُسْتُفِيدَ الْحُكْمُ منه وَالْمُتَشَابِهَ ما لَا يُفِيدُ حُكْمًا حَكَاهُ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ قال وَاللُّغَةُ لَا تَشْهَدُ لِذَلِكَ السَّادِسُ أَنَّهُ نَعْتُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في التَّوْرَاةِ وَالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْمُتَشَابِهُ نَعْتُهُ في الْقُرْآنِ وَنُسِبَ لِلْأَصَمِّ السَّابِعُ أَنَّهُ النَّاسِخُ وَالْمُتَشَابِهُ الْمَنْسُوخُ وَنُقِلَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَنْسُوخَ لَا يُسْتَفَادُ منه حُكْمٌ وَلَفْظُ النَّسْخِ فيه إجْمَالٌ فَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا قَوْله تَعَالَى فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ الثَّامِنُ الْمُتَشَابِهُ آيَاتُ الْقِيَامَةِ وَالْبَاقِي مُحْكَمٌ قَالَهُ الزَّجَّاجُ إذَا لم يَنْكَشِفْ الْغِطَاءُ عنها بِدَلِيلٍ قَوْله تَعَالَى فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه وَكَانُوا لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا أَمْرَ السَّاعَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَك عن السَّاعَةِ التَّاسِعُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ ما عَسُرَ إجْرَاؤُهُ على ظَاهِرِهِ كَآيَةِ الِاسْتِوَاءِ قال في الْمَنْخُولِ وَإِلَيْهِ مَالَ ابن عَبَّاسٍ الْعَاشِرُ أَنَّ الْمُحْكَمَ ما لَا يَحْتَمِلُ من التَّأْوِيلِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ ما احْتَمَلَ أَوْجُهًا وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ في تَفْسِيرِهِ عن الشَّافِعِيِّ وَجَرَى عليه أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُحْكَمُ ما كانت مَعَانِي أَحْكَامِهِ مَعْقُولَةً بِخِلَافِ الْمُتَشَابِهِ كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِرَمَضَانَ دُونَ شَعْبَانَ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ الْمُحْكَمَ ما اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ ولم يَحْتَجْ إلَى بَيَانٍ وَحَكَاهُ الْقَاضِي من الْحَنَابِلَةِ عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ قال وَالْمُتَشَابِهُ هو الذي يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ فَتَارَةً يُبَيَّنُ بِكَذَا وَتَارَةً بِكَذَا لِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ في تَأْوِيلِهِ قال وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لِأَنَّ الْقُرْءَ مُشْتَرَكٌ بين الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَقَوْلُهُ وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ قال وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ قُلْت وهو قَرِيبٌ من الْأَوَّلِ وَالثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ الْمُحْكَمَ ما أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ بِظَاهِرِهِ أو بِدَلَالَةٍ تَكْشِفُ عنه وَالْمُتَشَابِهُ ما لَا يُعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ وهو الْمُخْتَارُ على طَرِيقَةِ السُّنَّةِ قال وَعَلَى هذا فَالْوَقْفُ التَّامُّ على قَوْلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ فقال هو قَوْلٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تُسَاعِدُهُ
على ذلك وَرُبَّ كَلَامٍ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وهو مُتَنَاقِضٌ قال وَالسَّدِيدُ أَنْ يُقَالَ الْمُحْكَمُ السَّدِيدُ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ الذي يُفْضِي إلَى إثَارَةِ الْمَعَانِي الْمُسْتَقِيمُ من غَيْرِ مُنَافٍ وَالْمُتَشَابِهُ هو الذي لَا يُحِيطُ الْعِلْمَ بِالْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ منه من حَيْثُ اللُّغَةِ إلَّا أَنْ تَقْتَرِنَ أَمَارَةٌ أو قَرِينَةٌ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْمُشْتَرَكُ كَالْقُرْءِ وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمُحْكَمَ هو الْوَاضِحُ الْمَعْنَى الذي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ إشْكَالٌ مَأْخُوذٌ من الْإِحْكَامِ وهو الْإِتْقَانُ وَالْمُتَشَابِهُ نَقِيضُهُ فَيَدْخُلُ في الْمُحْكَمِ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ وفي الْمُتَشَابِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ كَالْقُرْءِ وَاللَّمْسِ وما يُوهِمُ التَّشْبِيهَ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قال وَلَا يَدْخُلُ في ذلك الْحُرُوفُ في أَوَائِلِ السُّوَرِ إذْ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً بِاصْطِلَاحٍ سَابِقٍ فَتُوهِمُ الْإِشْكَالَ ولم يَثْبُتْ فيها تَوْقِيفٌ فَيُتَّبَعُ بَلْ نَقُولُ فيها كما قال الصِّدِّيقُ رضي اللَّهُ عنه إنَّهَا من أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقْصُودُ هذا الْبَحْثِ أَنَّ مُحْكَمَ الْقُرْآنِ يُعْمَلُ بِهِ وَالْمُتَشَابِهُ يُؤْمَنُ بِهِ وَيُوقَفُ في تَأْوِيلِهِ إنْ لم يُعِبْهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ اخْتَلَفُوا في إدْرَاكِ عِلْمِ الْمُتَشَابِهِ فقال كَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ كَالْحَارِثِ وَالْقَلَانِسِيِّ إنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَوَقَفُوا على قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَذَهَبَ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ في جُمْلَةِ الرَّاسِخِينَ من يَعْلَمُ الْمُتَشَابِهَ وَوَقَفُوا على قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ قال وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بن كَعْبٍ وهو اخْتِيَارُ أبي عُبَيْدٍ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَحْمَدَ بن يحيى النَّحْوِيِّ وَبِهِ نَقُولُ قال وَتَدْخُلُ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ في أَوَائِلِ السُّوَرِ في الْمُتَشَابِهِ الذي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَأَقْوَالُ الْمُتَأَوِّلِينَ لها مُتَعَارِضَةٌ ليس بَعْضُهَا أَوْلَى من بَعْضٍ ا هـ وَحَكَى الْخِلَافَ أَيْضًا أُسْتَاذُهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ ثُمَّ قال وَلَا يَجْرِي هذا الْخِلَافُ في أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ إذْ ليس شَيْءٌ منها إلَّا وَعُرِفَ بَيَانُهُ وَلَيْسَ في السُّنَّةِ ما يُشَاكِلُهُ وما اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ حَكَاهُ الْبَغَوِيّ في تَفْسِيرِهِ عن الْأَكْثَرِينَ من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالنَّحْوِيِّينَ وَأَيَّدَهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ إنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وقال عُمَرُ بن عبد الْعَزِيزِ انْتَهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ في الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلَى أَنْ قالوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ من عِنْدِ رَبِّنَا
قال الْبَغَوِيّ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ في الْعَرَبِيَّةِ وَأَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ا هـ وَقَطَعَ بِهِ الزُّبَيْرِيُّ من كِبَارِ أَئِمَّتِنَا في أَوَّلِ كِتَابِهِ الْمُسْكِتِ فقال دَلَّتْ الْآيَةُ على أَنَّ من الْقُرْآنِ شيئا غَيَّبَهُ اللَّهُ عن خَلْقِهِ لِيُلْزِمَهُمْ النَّقْصَ في أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ من الْأَمْرِ إلَّا ما قَدَّرَ اللَّهُ لهم وقد بَيَّنَ ذلك في كِتَابِهِ فقال وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ من عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ انْتَهَى وَرَجَّحَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ وقال ليس في الْقُرْآنِ شَيْءٌ اسْتَأْثَرَهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ بَلْ وَقَفَ الْعُلَمَاءُ عليه لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْرَدَ هذا مَدْحًا لِلْعُلَمَاءِ فَلَوْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ لَشَارَكُوا الْعَامَّةَ وَبَطَلَ مَدْحُهُمْ وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ قال فَأَخْبَرَ أَنَّ الْكِتَابَ كُلَّهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ وَبُيِّنَتْ وَبِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبَيْنَهُمَا مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ من الناس فَدَلَّ على أَنَّ الْقَلِيلَ من الناس يَعْلَمُهَا وَهُمْ الرَّاسِخُونَ وقال ابن الْحَاجِبِ وَالظَّاهِرُ الْوَقْفُ على وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِمَا لَا يُفْهَمُ بَعِيدٌ قُلْت وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو الْمَعَالِي شَيَّدَ له في كِتَابِ الْبُرْهَانِ عن أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ وَالنُّحَاةِ وَاخْتَارَهُ قال وهو مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بن كَعْبٍ وَهَذَا عَكْسُ حِكَايَةِ الْأُسْتَاذِ وَالْبَغَوِيِّ لَكِنْ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ قال وَاخْتَارَهُ الْعَيْنِيُّ قال وقد كان يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ السُّنَّةِ لَكِنَّهُ سَهَا في هذه الْمَسْأَلَةِ قال وَلَا غَرْوَ فَلِكُلِّ جَوَادٍ كَبْوَةٌ وَلِكُلِّ عَالِمٍ هَفْوَةٌ قال وقد نُقِلَ عن مُجَاهِدٍ وَلَا أَعْلَمُ تَحَقُّقَهُ وقال ابن بَرْهَانٍ في كَلَامِهِ على مَعَانِي الْحُرُوفِ الْوَقْفُ التَّامُّ على قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالرَّاسِخِينَ وَتَوَسَّطَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فقال في آخِرِ كِتَابِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ الْقَوْلَانِ مُحْتَمِلَانِ وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ في الْمُتَشَابِهِ ما لَا يَعْلَمُ وَيَكُونُ الْغَرَضُ منه الْإِيمَانَ وَأَنَّهُ من عِنْدِ اللَّهِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَقَفَ أبو عُبَيْدَةَ على قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَلَيْسَ هذا من غَرَضِ الْأُصُولِيِّ وَغَرَضُنَا أَنَّ التَّشَابُهَ في الْآيَاتِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِلتَّكْلِيفِ مُحَالٌ وَيُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ منه رَسْمُ الْمَسْأَلَةِ في آيَةِ الِاسْتِوَاءِ قال مَالِكٌ لَمَّا سُئِلَ عنه الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عنه بِدْعَةٌ وقال سُفْيَانُ بن عُيَيْنَةَ يُفْهَمُ منه ما يُفْهَمُ من قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وقد تَحَزَّبَ الناس فيه فَضَلَّ قَوْمٌ أَجْرَوْهُ على الظَّاهِرِ وَفَازَ من قَطَعَ بِنَفْيِ
الِاسْتِقْرَارِ وَإِنْ تَرَدَّدَ في مُجْمَلِهِ وَرَآهُ فَلَا يُعَابُ عليه قال وَتَكْلِيفُ تَعْلِيمِ الْأَدِلَّةِ على نَفْيِ الِاسْتِقْرَارِ لَا نَرَاهُ وَاجِبًا على الْآحَادِ بَلْ يَجِبُ على شَخْصٍ في كل إقْلِيمٍ أَنْ يَقُومَ لِيَدْفَعَ الْبِدَعَ إذَا ثَارَتْ انْتَهَى وَقِيلَ الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ على الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ على التَّفْصِيلِ وَبِهَذَا يَصِحُّ الْقَوْلَانِ جميعا وَلَا يَتَنَافَيَانِ وهو الذي يُعَضِّدُهُ الدَّلِيلُ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قد خَاضُوا في التَّأْوِيلِ وَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ على إلَّا اللَّهُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ بَلْ لم يَذْهَبْ إلَى الْوَقْفِ على وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ إلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ من الناس كما قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ الثَّانِي أَنَّ أَمَّا في لُغَةِ الْعَرَبِ لِتَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ في سِيَاقِهِ قِسْمَانِ إمَّا لَفْظًا وهو الْأَكْثَرُ وَإِمَّا تَقْدِيرًا وَسَبَبُهُ إمَّا الِاسْتِغْنَاءُ بِذِكْرِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عن الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَأَمَّا من تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ من الْمُفْلِحِينَ ولم يذكر الْقِسْمَ الْآخَرَ لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عليه فَكَأَنَّهُ قال وَأَمَّا من لم يُؤْمِنْ ولم يَعْمَلْ صَالِحًا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ من الْمُفْلِحِينَ وَإِمَّا بِكَلَامٍ يُذْكَرُ بَعْدَهَا في مَوْضِعِ ذلك كَهَذِهِ الْآيَةِ فإنه سُبْحَانَهُ قال فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا تَمَامُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ في سِيَاقِ أَمَّا فَاقْتَضَى وَضْعُ اللُّغَةِ ذِكْرَ قِسْمٍ آخَرَ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَكِلُونَ مَعْنَاهُ إلَى رَبِّهِمْ وَدَلَّ على ذلك قَوْلُهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ من عِنْدِ رَبِّنَا أَيْ من الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ من عِنْدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِهِمَا وَاجِبٌ وَكَأَنَّهُ قِيلَ وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ فَيَقُولُونَ وَيَدُلُّ على ذلك قَوْله تَعَالَى في سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ من رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بهذا مَثَلًا الثَّالِثُ أَنَّهُ الْوَاوُ في قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ وَإِنْ احْتَمَلَتْ أَنْ تَكُونَ غير عَاطِفَةٍ غير أنها هَاهُنَا اسْتِئْنَافِيَّةٌ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ لو أَرَادَ الْعَطْفَ لَقَالَ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ عَطْفًا لَيَقُولُونَ على يَعْلَمُونَ الْمُضْمَرِ إذْ التَّقْدِيرُ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَعْمَلُونَ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ يَقُولُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مع إضْمَارِ فِعْلِهَا الْعَامِلِ فيها فَلَوْ
جَازَ هذا لَجَازَ عبد اللَّهِ رَاكِبًا بِمَعْنَى أَقْبَلَ وهو مُمْتَنِعٌ وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَالرَّاسِخُونَ قَائِلُونَ بِتَقْدِيرِ يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ الثَّانِي ما رَوَى عبد الرَّزَّاقِ في تَفْسِيرِهِ عن ابْنِ طَاوُسٍ عن أبيه قال كان ابن عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ آمَنَّا بِهِ فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُبَيِّنَةُ إجْمَالِ الْوَاوِ في الْآيَةِ وَأَنَّهَا اسْتِئْنَافِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ ثُمَّ إنْ كان ابن عَبَّاسٍ سَمِعَهَا من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهِيَ تَفْسِيرٌ منه لِلْآيَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ فَهُوَ مُرَجَّحٌ لِأَنَّهَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ في حُكْمِ الْمَرْفُوعِ الثَّالِثُ في تَرْجِيحِ كَوْنِهَا اسْتِئْنَافِيَّةً أَنَّ بِتَقْدِيرِ ذلك تَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا وَالْحَالُ فَضْلَةٌ خَارِجَةٌ عن رُكْنِ الْجُمْلَةِ وَكَوْنُ الْجُمْلَةِ رُكْنًا أَقْوَى من كَوْنِهَا فَضْلَةً وإذا دَارَ أَمْرُ اللَّفْظَةِ بين أَقْوَى الْحَالَيْنِ وَأَضْعَفِهِمَا كان حَمْلُهُ على الْأَقْوَى أَوْلَى الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ على ذَمِّ مُبْتَغِي الْمُتَشَابِهِ إذْ وُصِفُوا بِزَيْغِ الْقُلُوبِ وَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وقد صَرَّحَتْ السُّنَّةُ بِذَمِّهِمْ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ ما تَشَابَهَ منه فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ الْخَامِسُ أَنَّ قَوْلَهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ يَدُلُّ على تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ لِمَا لم يَقِفُوا على حَقِيقَةِ الْمُرَادِ بِهِ وهو من قَبِيلِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الذي مَدَحَ اللَّهُ أَهْلَهُ وهو ظَاهِرٌ في التَّسْلِيمِ لِمُرَادِ اللَّهِ وَإِنْ كان لَا يُنَافِي فَهْمَهُمْ الْمُرَادَ بِهِ وَاحْتَجَّ من قال إنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ بِأَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ الرَّاسِخِينَ في الْعِلْمِ يَقْتَضِي عِلْمَهُمْ بِتَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ وَإِلَّا لم يَكُنْ لهم فَضِيلَةٌ على غَيْرِهِمْ نعم من الْمُتَشَابِهِ ما يَعْلَمُ الرَّاسِخُونَ منه وَمِنْهُ ما اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَالرُّوحِ وَوَقْتِ السَّاعَةِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّاسِخِينَ في الْعِلْمِ الرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَمَعْرَفَتِهِ وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْوُقُوفِ على كُنْهِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِغَيْرِهِ كما حَكَى عن الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قال الْعَجْزُ عن دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ وقد قِيلَ حَقِيقَةُ الْمَرْءِ ليس الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا فَكَيْفَ كَيْفِيَّةُ الْجَبَّارِ في الْقِدَمِ ثُمَّ قِيلَ النِّزَاعُ في الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ من قال بِأَنَّ الرَّاسِخَ في الْعِلْمِ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً وَمَنْ قال لَا يَعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا ذلك إلَى اللَّهِ وَالْحِكْمَةُ في إنْزَالِ الْمُتَشَابِهِ ابْتِلَاءُ الْعُقَلَاءِ وقال السُّهَيْلِيُّ اخْتَلَفَ الناس في الْوَقْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ مَذْهَبٍ ثَالِثٍ وهو قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَقَوْلُهُ وَالرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأٌ وَلَكِنْ لَا نَقُولُ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ بَلْ يَعْلَمُونَهُ بِرَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ وَبِالِاسْتِدْلَالِ على الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ وَعَلَى الْمُخْتَلَفِ فيه بِالْمُتَّفَقِ عليه فَيَتَّفِقُ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ بِالْعِلْمِ الْقَدِيمِ لَا بِتَذَكُّرٍ وَلَا تَفَكُّرٍ وَلَا دَلِيلٍ وَالرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَهُ بِالتَّذَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْمُهْمَلِ في الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ في الْقُرْآنِ ما ليس له مَعْنًى أَصْلًا لِأَنَّهُ مُهْمَلٌ وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عنه أو له مَعْنًى وَلَكِنْ لَا يُفْهَمُ أو يُفْهَمُ لَكِنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرَهُ خِلَافًا وَلِهَذَا أَوَّلُوا آيَاتِ الصِّفَاتِ على مُقْتَضَى ما فَهِمُوهُ قال الْغَزَالِيُّ وَلَا يُقَالُ إنَّ فَائِدَتَهُ في مُخَاطَبَةِ الْخَلْقِ بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَقْصُودُ بِهِ تَفْهِيمُ من هو أَهْلٌ له وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ وقد فَهِمُوهُ وَلَيْسَ من شَرْطِ من يُخَاطِبُ الْعُقَلَاءَ بِكَلَامٍ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِمَا يَفْهَمُ الصِّبْيَانُ وَالْعَوَامُّ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعَارِفِينَ بَلْ على من لم يَفْهَمْ أَنْ يَسْأَلَ من له أَهْلِيَّةُ الْفَهْمِ كما قال تَعَالَى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَأَمَّا الْحُرُوفُ التي في أَوَائِلِ السُّوَرِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فيها على نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا فَقِيلَ إنَّمَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ وَقِيلَ ذَكَرَهَا اللَّهُ لِجَمْعِ دَوَاعِي الْعَرَبِ إلَى الِاسْتِمَاعِ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ عَادَتَهُمْ فَتُوقِظُهُمْ عن الْغَفْلَةِ حتى تَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ إلَى الْإِصْغَاءِ فلم يَذْكُرْهَا لِإِرَادَةِ مَعْنًى وَقِيلَ إنَّمَا ذَكَرَهَا كِنَايَةً عن سَائِرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ التي لَا يَخْرُجْ عنها جَمِيعُ كَلَامِ الْعَرَبِ تَنْبِيهًا على أَنَّهُ ليس يُخَاطِبُهُمْ إلَّا بِلُغَاتِهِمْ وَحُرُوفِهِمْ وقال ابن عَبَّاسٍ كُلُّ حَرْفٍ منها مَأْخُوذٌ منها اسْمٌ من أَسْمَاءِ اللَّهِ فَالْكَافُ من كَافٍ وَالْهَاءُ من هَادٍ وَالْعَيْنُ من عَلِيمٍ وَالصَّادُ من صَادِقٍ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قال لِنَبِيِّهِ أنا كَافِيك وَهَادِيك
وَقِيلَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هذه الْأَحْرُفَ إبْطَالًا لِحِسَابِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْسِبُونَ هذه الْأَحْرُفَ حَالَةَ نُزُولِهَا وَيَرُدُّونَهَا إلَى حِسَابِ الْجُمَّلِ وَيَقُولُونَ إنَّ مُنْتَهَى دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ كَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الْأَحْرُفَ تَخْبِيطًا لِلْحِسَابِ عليهم وَقِيلَ ذَكَرَهَا اللَّهُ جَرْيًا على عَادَةِ الْعَرَبِ في ذِكْرِ النَّسِيبِ في أَوَائِلِ الْخُطَبِ وَالْقَصَائِدِ وَلِهَذَا اُخْتُصَّتْ بِالْأَوَائِلِ وَقِيلَ غَيْرُ ذلك وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّازِيَّ تَرْجَمَ الْمَسْأَلَةَ في الْمَحْصُولِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِشَيْءٍ وَلَا يَعْنِي بِهِ شيئا ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ في التَّكَلُّمِ بِمَا لَا يُفِيدُ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ فإنه يُمْكِنُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ شيئا وهو يُفِيدُ في نَفْسِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفِيدَ وَلَا يَعْنِي بِهِ شيئا فَمَحَلُّ النِّزَاعِ غَيْرُ مُنَقَّحٍ لِأَنَّ في كَلَامِ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ نَصْبَ الْخِلَافَ في أَنَّهُ هل يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِشَيْءٍ وَلَا يَعْنِي بِهِ شيئا وقال الْأَصْفَهَانِيُّ وَالْحَقُّ أَرْجُو أَنَّ الْكَلَامَ بِمَا لَا يَعْنِي بِهِ مُفَرَّعٌ على التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ثُمَّ قال وَحِينَئِذٍ فَيَسْهُلُ الْمَنْعُ على مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ أَمَّا على رَأْيِ الْأَشَاعِرَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ لهم الْمَنْعُ مع أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعَقْلِيَّيْنِ قُلْت لَا جَرَمَ جَزَمَ ابن بَرْهَانٍ بِالْجَوَازِ فقال يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَشْتَمِلَ كَلَامُ اللَّهِ على ما لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ ثُمَّ نُقِلَ عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ثُمَّ تَمَسَّكَ بِأَسْمَاءِ السُّوَرِ قال وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نَفْهَمُ مَعَانِيَهَا وقد تُعُبِّدْنَا بها وَخَرَجَ من كَلَامِهِ أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّهُ هل يَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ كَلَامُ اللَّهِ على ما لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ أَمْ لَا وَهَذَا خِلَافُ ما سَبَقَ من أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَعْنِي بِهِ شيئا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مَسْأَلَتَيْنِ وهو الظَّاهِرُ وَيَرْتَفِعُ التَّخْلِيطُ من كَلَامِهِمْ وَفَصَّلَ ابن بَرْهَانٍ فقال ما يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَنَا وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَبَيَّنَ ما لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هل يَجُوزُ أَنْ يَشْمَلَ الْكِتَابُ عليه وَإِنْ كان لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَسَلَكَ الْأَصْفَهَانِيُّ في تَصْوِيرِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكَلَامَ اللِّسَانِيَّ أو النَّفْسَانِيَّ فَإِنْ كان النَّفْسَانِيَّ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ له مَعْنًى وَإِنْ كان اللِّسَانِيَّ فَجَوَازُهُ لِأَنَّهُ من قَبِيلِ الْأَفْعَالِ وَيَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَفْعَلَ ما يَهْدِي بِهِ وَيُضِلُّ بِهِ وَأَنْ يَفْعَلَ ما لَا يُضِلُّ بِهِ وَلَا يَهْدِي بِهِ
مَسْأَلَةٌ لَا زَائِدَ في الْقُرْآنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فيه زَائِدٌ إلَّا بِتَأْوِيلٍ بَلْ يقول إنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ لَا يَجُوزُ عليه الْعَبَثُ فَلَيْسَ فيها لَفْظٌ زَائِدٌ لَا لِفَائِدَةٍ وَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ ما زَائِدَةٌ والباء زَائِدَةٌ وَنَحْوَهَا فَمُرَادُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَخْتَلُّ مَعْنَاهُ بِحَذْفِهَا أَيْ لَا تَتَوَقَّفُ دَلَالَتُهُ على مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ على ذِكْرِ ذلك الزَّائِدِ لَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فيه أَصْلًا فإن ذلك لَا يَجُوزُ من وَاضِعِ اللُّغَةِ فَضْلًا عن كَلَامِ الْحَكِيمِ وَجَمِيعُ ما قِيلَ فيه زَائِدٌ فَفَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ في الْكَلَامِ تَقْتَضِي أَنَّ ذلك لم يَصْدُرْ عن غَفْلَةٍ وَإِنَّمَا صَدَرَ عن قَصْدٍ وَتَأَمُّلٍ وَذَلِكَ من فَوَائِدِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وقال ابن الْخَشَّابِ في الْمُعْتَمَدِ اُخْتُلِفَ في هذه الْمُسَاوَاةِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى جَوَازِ إطْلَاقِ الزَّائِدِ في الْقُرْآنِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْقَوْمِ وَبِمُتَعَارَفِهِمْ وهو في كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِإِزَاءِ الْحَذْفِ هذا لِلِاخْتِصَارِ وَالتَّخْفِيفِ وَذَلِكَ لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّوْطِئَةِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ في التَّنْزِيلِ مَحْذُوفَاتٍ جَاءَتْ لِلِاخْتِصَارِ لِمَعَانٍ رَائِقَةٍ فَكَذَلِكَ تَقُولُ في الزِّيَادَةِ وَمِنْهُمْ من لَا يَرَى الزِّيَادَةَ في شَيْءٍ من الْكَلَامِ وَيَقُولُ هذه الْأَلْفَاظُ التي يَحْمِلُونَهَا على الزِّيَادَةِ جَاءَتْ لِفَوَائِدَ وَمَعَانٍ تَخُصُّهَا فَلَا أَقْضِي عليها بِالزِّيَادَةِ وَمِمَّنْ كان يَرَى هذا أبو مُحَمَّدٍ عبد اللَّهِ بن دُرُسْتَوَيْهِ وكان عَالِيًا في هذا الْبَابِ مُغَالِيًا في عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ وكان يُزَاحِمُ الزَّجَّاجَ فيه بِمَنْكِبِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ نَاظَرَهُ فيه قال ابن الْخَشَّابِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْقَائِلُ بِالزِّيَادَةِ إثْبَاتَ مَعْنًى لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَهَذَا بَاطِلٌ وَلَا يَقُولُهُ أَحَدٌ لِأَنَّهُ عَبَثٌ فَتَعَيَّنَ أَنَّ إلَيْنَا بِهِ حَاجَةً لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْأَشْيَاءِ قد تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقْصِدِ فَلَيْسَتْ الْحَاجَةُ إلَى اللَّفْظِ الذي عَدَّ هَؤُلَاءِ زِيَادَةً كَالْحَاجَةِ إلَى اللَّفْظِ الذي رَأَوْهَا مَزِيدَةً عليه لِأَنَّ هذا بِالِاتِّفَاقِ مِنَّا وَمِنْهُمْ إنْ اخْتَلَّ اخْتَلَفَتْ بِهِ الْفَائِدَةُ فلم يَكُنْ الْكَلَامُ دُونَهُ كَلَامًا وَاَلَّذِي سَمَّوْهُ زَائِدًا إنْ اخْتَلَّ بِهِ كانت الْفَائِدَةُ دُونَهُ وَالْجُمْلَةُ مُقْتَصَرًا بها على ما يُمَيِّزُهُ أَكْثَرِيَّةُ فَائِدَةٍ وَأَقْرَبُ وَعَلَى هذا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ
مَسْأَلَةٌ دَلَالَةُ الْكَلَامِ على خِلَافِ ظَاهِرِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ مُطْلَقًا وَلَا يَدُلُّ عليه دَلِيلٌ خِلَافًا لِلْمُرْجِئَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ لَا يَدُلُّ عليه فَهُوَ كَالْمُهْمَلِ وَالْخِطَابُ بِالْمُهْمَلِ بَاطِلٌ وَفَرَّعَهَا أبو الْحُسَيْنِ على قَاعِدَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَالْخِلَافُ في آيَاتِ الْوَعِيدِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ على وَعِيدِ الْفُسَّاقِ لَا غَيْرُ على ما فُهِمَ من أَدِلَّتِهِمْ أَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا وَإِنَّمَا قُلْنَا مُطْلَقًا لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذلك عِنْدَ إطْلَاقِ الظَّاهِرِ كما سَيَأْتِي عِنْدَ جَوَازِ وُرُودِ الْعُمُومِ وَتَأَخُّرِ الْخُصُوصِ عنه وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ وَكَلَامُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على ظَاهِرِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ كُلُّ ما وَرَدَ في خِطَابِ من يَلْزَمُ الْمَصِيرَ إلَيْهِ فَلَهُ وَجْهٌ في اللُّغَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فقال بَعْضُهُمْ كُلُّ ما وَرَدَ منه فَهُوَ منه مَجْمُوعُهُ وما اتَّصَلَ بِهِ جُمْلَةٌ قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ يَقْتَضِي ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ معه إلَى تَأْوِيلٍ يُحْمَلُ عليه وَمَنْ ظَنَّ ذلك فيه فَقَدْ أَخْطَأَ الْحَقَّ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَرَدَ على وَجْهٍ مُحْتَاجٍ فيه إلَى تَأْوِيلٍ له بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ فَكَأَنَّهُ قال إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ لَا يَصِحُّ الْكَلَامُ بمثله وقال آخَرُونَ إنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَرِدَ من كَلَامِهِ ما لَا يُسْتَعْمَلُ ظَاهِرُهُ وَيُحْمَلُ على خِلَافِهِ بِدَلِيلٍ يُبَيِّنُ مَقْصُودَهُ إذَا جَازَ في تِلْكَ اللُّغَةِ مِثْلُهُ وهو اخْتِلَافُهُمْ في قَوْله تَعَالَى وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ منهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم فقال ما كان أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَجْمُوعَ الْخِطَابِ في مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَيَحْكُمُونَ بِهِ وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم هو من عَرَفَ الْأَدِلَّةَ وَالْوُجُوهَ التي يُحْمَلُ عليها الْخِطَابُ عَرَفَ ما أُرِيدَ بِهِ وَإِنْ كان ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي خِلَافَهُ مَسْأَلَةٌ ب قاء الْمُجْمَلِ في الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هل بَقِيَ في الْقُرْآنِ مُجْمَلٌ لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ بَعْدَ وَفَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَنَعَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ الدِّينَ وقال آخَرُونَ بِإِمْكَانِهِ وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ فَجَوَّزَاهُ فِيمَا لَا يُكَلَّفُ فيه وَمَنَعَاهُ فِيمَا فيه تَكْلِيفٌ خَوْفًا من تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ
مَسْأَلَةٌ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ وَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إلَى نَصٍّ وَظَاهِرٍ أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ في اللُّغَةِ الظُّهُورُ وَالِارْتِفَاعُ وَمِنْهُ يُقَالُ نَصَصْت بِمَعْنَى أَظْهَرْت وَمِنْهُ نَصَّتْ الصَّبِيَّةُ جِيدَهَا إذَا أَظْهَرَتْهُ وَقَوْلُهُمْ لِلْمَنَارَةِ مِنَصَّةً وَمِنْهَا الْمِنَصَّةُ التي تَجْلِسُ عليها الْعَرُوسُ وفي الحديث كان إذَا وَجَدَ فُرْجَةً نَصَّ أَيْ دَفَعَ السَّيْرَ وَأَسْرَعَ وَيُطْلَقُ بِاصْطِلَاحَاتٍ أَحَدُهَا مُجَرَّدُ لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيُقَالُ الدَّلِيلُ إمَّا نَصٌّ أو مَعْقُولٌ وهو اصْطِلَاحُ الْجَدَلِيِّينَ يَقُولُونَ هذه الْمَسْأَلَةُ يُتَمَسَّكُ فيها بِالنَّصِّ وَهَذِهِ بِالْمَعْنَى وَالْقِيَاسِ الثَّانِي ما يُذْكَرُ في بَابِ الْقِيَاسِ وهو مُقَابِلُ الْإِيمَاءِ الثَّالِثُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فَيُقَالُ لِأَلْفَاظِهِ نُصُوصٌ بِاصْطِلَاحِ أَصْحَابِهِ قَاطِبَةً الرَّابِعُ حِكَايَةُ اللَّفْظِ على صُورَتِهِ كما يُقَالُ هذا نَصُّ كَلَامِ فُلَانٍ الْخَامِسُ يُقَابِلُ الظَّاهِرَ وهو مَقْصُودُنَا وقد اُخْتُلِفَ فيه فقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ نَصَّ الشَّافِعِيُّ على أَنَّ النَّصَّ كُلُّ خِطَابٍ عُلِمَ ما أُرِيدَ بِهِ من الْحُكْمِ قال وَهَذَا يُلَائِمُ وَضْعَ الِاشْتِقَاقِ لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ كان قد أَظْهَرَ الْمُرَادَ بِهِ وَكَشَفَ عنه ثُمَّ على هذا يَنْقَسِمُ النَّصُّ إلَى ما يَحْتَمِلُ وَإِلَى ما لَا يَحْتَمِلُ وقال ابن بَرْهَانٍ لَعَلَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا سَمَّى الظَّاهِرَ نَصًّا لِأَنَّهُ لَمَحَ فيه الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ قال الْمَازِرِيُّ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي أبو بَكْرٍ إلَى أَنَّ النَّصَّ يُسَمَّى ظَاهِرًا وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّ النَّصَّ في أَصْلِ اللُّغَةِ الظُّهُورُ وقال الْإِبْيَارِيُّ يُطْلَقُ النَّصُّ على ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالٌ وَسَوَاءٌ عَضَّدَهُ بِالدَّلِيلِ أَمْ لَا وَهَذَا الذي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هو اخْتِيَارُ الْقَاضِي وقد يَكُونُ نَصًّا بِوَضْعِ اللُّغَةِ وقد يَكُونُ بِالْقَرِينَةِ وَقِيلَ ما اسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَأَشَارَ بِالْبَاطِنِ إلَى الْمَفْهُومِ وَإِلَّا فَلَيْسَ لِلَّفْظِ ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ في الْحَقِيقَةِ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ قال الشَّافِعِيُّ في حَدِّ النَّصِّ إنَّهُ خِطَابٌ يُعْلَمُ ما أُرِيدَ بِهِ من الْحُكْمِ سَوَاءٌ كان مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ أو عُلِمَ الْمُرَادُ بِهِ بِغَيْرِهِ وَلَا يُسَمَّى الْمُجْمَلُ نَصًّا وَبِهَذِهِ حَدَّهُ الْكَرْخِيّ وَذَكَرَ عبد الْجَبَّارِ أَنَّ النَّصَّ هو خِطَابٌ يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ الْمُرَادُ بِهِ وَشُرُوطُهُ ثَلَاثَةٌ أَنْ يَتَكَوَّنَ لَفْظًا وَأَنْ لَا يَتَنَاوَلَ إلَّا ما هو نَصٌّ فيه وَإِنْ كان نَصًّا في عَيْنٍ وَاحِدَةٍ
وَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ ما سِوَاهَا وَإِنْ كان نَصًّا في أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ ما سِوَاهَا وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ إفَادَتُهُ لِمَا يُفِيدُهُ ظَاهِرُهُ غير مُحْتَمَلٍ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ النَّصُّ في عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ اللَّفْظُ الذي لَا يُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ كَقَوْلِك أَعْطِ زَيْدًا أو خُذْ من عَمْرٍو وَافْعَلْ أنت وَنَحْوَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَبِي بُرْدَةَ وَلَنْ تَجْزِيَ عن أَحَدٍ بَعْدَك وَأَصْلُهُ الظُّهُورُ قال وَحُكِيَ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا قال لَا لَفْظَ في كَلَامِ الْعَرَبِ إلَّا وَأَصْلُهُ التَّخْصِيصُ وَذَهَبَ هذا الْقَائِلُ إلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا نُصُوصٌ عُمُومًا كان أو ظَاهِرًا وَزَعَمَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ في قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لِأَبِي بُرْدَةَ يُجْزِئُكَ جَوَازُ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ على أَنَّ غَيْرَهُ في مَعْنَاهُ قال وَهَذَا لَا يَنْفِي الْأَوَّلَ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ في غَيْرِ النَّصِّ ا هـ
مسألة
بُعْدُ قَوْلِ من أَنْكَرَ وُجُودَ النَّصِّ وَمُقَابِلُ هذا في الْبُعْدِ قَوْلُ من أَنْكَرَ وُجُودَ النَّصِّ وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عن أبي مُحَمَّدِ بن اللَّبَّانِ الْأَصْفَهَانِيِّ وَحَكَى الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ عن أبي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ قال يَعِزُّ وُجُودُ النَّصِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يا أَيُّهَا النبي وقل هو اللَّهُ أَحَدٌ قال وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ قال في الْمَنْخُولِ قال الْأُصُولِيُّونَ لَا يُوجَدُ النَّصُّ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا في أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هو اللَّهُ أَحَدٌ مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ اُغْدُ يا أُنَيْسٌ إلَى امْرَأَةِ هذا وَقَوْلُهُ وَلَا يَجْزِيَ عن أَحَدٍ بَعْدَك قال وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فإنه يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا ثُمَّ قَسَّمَ النَّصَّ إلَى ما يَقْبَلُ التَّأْوِيلَوَإِلَى ما لَا يَقْبَلُهُ قال وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ النَّصَّ ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَأْوِيلٌ وَتَسْمِيَةُ الظَّاهِرِ نَصًّا صَحِيحٌ لُغَةً وَشَرْعًا لِأَنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ قال وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الظَّاهِرُ هو الْمَجَازُ وَالنَّصُّ هو الْحَقِيقَةُ ا هـ وقال الْقَاضِي أبو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ النَّصُّ ما عُرِّيَ لَفْظُهُ عن الشَّرِكَةِ وَخَلَصَ مَعْنَاهُ من الشُّبْهَةِ حَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن الصَّبَّاغِ وَقِيلَ هو الذي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَقِيلَ التَّطَوُّعُ على الْمُرَادِ وَقِيلَ ما اسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَإِنَّمَا تَصِحُّ هذه الْأَقْوَالُ على الْقَوْلِ بِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُجْمَلَ وَالْعُمُومَ ليس بِنَصٍّ قال وَالصَّحِيحُ في حَدِّ النَّصِّ عِنْدَنَا أَنَّهُ الدَّالُّ على الْحُكْمِ بِاسْمِ الْمَحْكُومِ فيه سَوَاءٌ كان ذلك النَّصُّ مُحْتَمِلًا لِلتَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ أو غير مُحْتَمِلٍ قال وَإِلَى هذا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَشَارَ إلَيْهِ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ وَكَذَلِكَ حَكَاهُ أبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ عن أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَكُونُ الْعُمُومُ نَصًّا وَكَذَلِكَ الْمُجْمَلُ في الْإِيجَابِ وَإِنْ كان مُجْمَلًا في صِفَةِ الْوَاجِبِ أو مِقْدَارِهِ أو وَقْتِهِ وقال في كِتَابِ التَّحْصِيلِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في تَسْمِيَةِ الْعُمُومِ وَالظَّوَاهِرِ الْمُحْتَمَلَةِ نُصُوصًا فَقِيلَ إنَّهُ مُخْتَصٌّ بِاَلَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَنْ تُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك وقال الْجُمْهُورُ إنَّ الْعُمُومَ وَالظَّوَاهِرَ كُلَّهَا نُصُوصٌ الْفَرْقُ بين النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في الْفَرْقِ بين النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّصَّ ما كان لَفْظُهُ دَلِيلَهُ وَالظَّاهِرُ ما سَبَقَ مُرَادُهُ إلَى فَهْمِ سَامِعِهِ وَالثَّانِي النَّصُّ ما لم يَتَوَجَّهْ إلَيْهِ احْتِمَالٌ وَالظَّاهِرُ ما تَوَجَّهَ إلَيْهِ احْتِمَالٌ وقال أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ اخْتَلَفَ الناس في النَّصِّ فَقِيلَ ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَأْوِيلٌ وَقِيلَ ما اسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَنُوقِضَ بِالْفَحْوَى فَإِنَّهَا تَقَعُ نَصًّا وَإِنْ لم يَكُنْ مَعْنَاهُ مُصَرَّحًا بِهِ لَفْظًا وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا اسْتِقْلَالَ له ثُمَّ صَارَ الصَّائِرُونَ إلَى عِزَّةِ النُّصُوصِ في الْكِتَابِ حتى لَا يُوجَدَ إلَّا قَوْلُهُ قُلْ هو اللَّهُ أَحَدٌ ومحمد رسول اللَّهِ
وفي السُّنَّةِ لَنْ تُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك واغد يا أُنَيْسٌ إلَى امْرَأَةِ هذا وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ بَلْ كُلُّ ما أَفَادَ مَعْنًى على قَطْعٍ مع انْحِسَامِ التَّأْوِيلِ فَهُوَ نَصٌّ وَالشَّافِعِيُّ قد يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا في مَجَارِي كَلَامِهِ وهو صَحِيحٌ في وَضْعِ اللُّغَةِ لِأَنَّ النَّصَّ من الظُّهُورِ وَلَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ ما ذَكَرْنَا قال وَيُلْتَحَقُ بِالنَّصِّ ما حُذِفَ من الْكَلَامِ لِدَلَالَةِ الْبَاقِي على الْمَحْذُوفِ وَلَكِنْ لَا يُشَكُّ في مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ فإن مَعْنَاهُ فَأَفْطَرَ وَأَمَّا الظَّاهِرُ فقال الْقَاضِي هو لَفْظَةٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى لها حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ فإذا وَرَدَتْ على حَقِيقَتِهَا كانت ظَاهِرًا وَإِنْ عَدَلَتْ إلَى جِهَةِ الْمَجَازِ كانت مُؤَوَّلَةً وَهَذَا صَحِيحٌ في بَعْضِ الظَّوَاهِرِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الظَّاهِرُ لَفْظٌ مَعْقُولٌ يَبْتَدِرُ إلَى فَهْمِ الْبَصِيرِ لِجِهَةٍ يَفْهَمُ الْفَاهِمُ منه مَعْنًى وَلَهُ عِنْدَهُ وَجْهٌ في التَّأْوِيلِ مُسَوَّغٌ لَا يَبْتَدِرُهُ الْفَهْمُ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا أَمْثَلُ قال وَمِنْ الظَّوَاهِرِ مُطْلَقُ صِيَغِ الْأَمْرِ فإن ظَاهِرَهُ الْوُجُوبُ وَمِنْهُ صِيَغُ الْعُمُومِ وَفَحْوَى الْخِطَابِ لَا يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ وَالتَّأْوِيلُ لِأَنَّهُ نَصٌّ قال وَالظُّهُورُ قد يَقَعُ في الْأَسْمَاءِ وفي الْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ مِثْلُ إلَى فإنه ظَاهِرٌ في التَّحْدِيدِ وَالْغَايَةِ مُؤَوَّلٌ في الْحَمْلِ على الْجَمْعِ مَسْأَلَةٌ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الْقِرَاءَاتُ عن الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ منهم إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ خِلَافًا لِصَاحِبِ الْبَدِيعِ من الْحَنَفِيَّةِ فإنه اخْتَارَ أنها مَشْهُورَةٌ وقال السُّرُوجِيُّ في بَابِ الصَّوْمِ من الْغَايَةِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهَا آحَادٌ عِنْدَهُمْ وقال في بَابِ الصَّلَاةِ الْمَشْهُورُ عن أَحْمَدَ كَرَاهَةُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ لِمَا فيها من الْكَسْرِ وَالْإِدْغَامِ وَزِيَادَةِ الْمَدِّ وَنُقِلَ عنه كَرَاهَةُ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيّ لِأَنَّهَا كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ في الْإِمَالَةِ وَالْإِدْغَامِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ ما عَدَا الْمُعْتَزِلَةَ على أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من السَّبْعِ ثَبَتَتْ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالتَّوَاتُرِ فَكَيْفَ تُكْرَهُ ا ه
وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّحْقِيقُ أنها مُتَوَاتِرَةٌ عن الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ وَأَمَّا تَوَاتُرُهَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَفِيهِ نَظَرٌ فإن إسْنَادَ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ لِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مَوْجُودَةٌ في كُتُبِهِمْ وَهِيَ نَقْلُ الْوَاحِدِ عن الْوَاحِدِ فلم تَسْتَكْمِلْ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ وقد يُجَابُ عن هذا على تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّ الْأُمَّةَ تَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ وَاخْتَارُوهَا لِمُصْحَفِ الْجَمَاعَةِ وَقَطَعُوا بِأَنَّهَا قُرْآنٌ وَأَنَّ ما عَدَاهَا مَمْنُوعٌ من إطْلَاقِهِ وَالْقِرَاءَةُ بِهِ قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في الِانْتِصَارِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ حَكَمَ ابن الصَّلَاحِ أَنَّ أَحَادِيثَ الصَّحِيحَيْنِ مَقْطُوعٌ بها وَإِنْ رُوِيَتْ بِالْآحَادِ لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لها بِالْقَبُولِ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ أَيْ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أَفَادَ الْقَطْعَ وإذا كان كَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ بِالْوَاحِدِ فما ظَنُّك فِيمَا وُجِدَ فيه غَالِبُ شُرُوطِ التَّوَاتُرِ أو كُلُّهَا لَكِنَّ كَلَامَ ابْنِ الصَّلَاحِ هذا قد رَدَّهُ كَثِيرٌ من الناس كما سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وقال الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أبو شَامَةَ في كِتَابِ الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ منها مُتَوَاتِرٌ أَمَّا الْمَجْمُوعُ منها فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيِّنَةِ على تَوَاتُرِهِ قال وقد شَاعَ ذلك على أَلْسِنَةِ جَمَاعَةٍ من الْمُقْرِئِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ قالوا وَالْقَطْعُ بِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ من عِنْدِ اللَّهِ وَاجِبٌ قال وَنَحْنُ نَقُولُ بهذا وَلَكِنْ فِيمَا اجْتَمَعَتْ على نَقْلِهِ عَنْهُمْ الطُّرُقُ وَاتَّفَقَتْ عليه الْفِرَقُ مع أَنَّهُ شَائِعٌ من غَيْرِ نَكِيرٍ فإن الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ الْمُرَادُ بها ما رُوِيَ عن الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ وَذَلِكَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُمْ يَنْقَسِمُ إلَى ما أُجْمِعَ عليه عَنْهُمْ لم تَخْتَلِفْ فيه الطُّرُقُ وَإِلَى ما اُخْتُلِفَ فيه بِمَعْنَى أَنَّهُ بَقِيَتْ نِسْبَتُهُ إلَيْهِمْ في بَعْضِ الطُّرُقِ فَالْمُصَنِّفُونَ لِكُتُبِ الْقِرَاءَاتِ يَخْتَلِفُونَ في ذلك اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَمَنْ تَصَفَّحَ كُتُبَهُمْ أَحَاطَ بِذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ تُعْزَى إلَى إمَامٍ من هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ حتى يَثْبُتَ ذلك وَيُوَافِقَ لُغَةَ الْعَرَبِ قال وَأَمَّا من يُهَوِّلُ في عِبَارَتِهِ قَائِلًا بِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ مُتَوَاتِرَةٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَخَطَؤُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْأَحْرُفَ الْمُرَادُ بها غَيْرُ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّا لَسْنَا مِمَّنْ يَلْتَزِمُ التَّوَاتُرَ في جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلَفِ فيها بين الْقُرَّاءِ بَلْ الْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا تَنْقَسِمُ إلَى مُتَوَاتِرٍ وَغَيْرِهِ وَغَايَةُ ما يُبْدِيهِ مُدَّعِي تَوَاتُرِ الْمَشْهُورِ منها كَإِدْغَامِ أبي عَمْرٍو وَنَقْلِ الْحَرَكَةِ لِوَرْشٍ وَوَصْلِ مِيمَيْ الْجَمْعِ وَهَاءِ الْكِنَايَةِ لِابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عن ذلك الْإِمَامِ الذي نُسِبَتْ تِلْكَ الْقِرَاءَاتُ إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ في اسْتِقْرَاءِ الطُّرُقِ
وَالْوَاسِطَةِ إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى عليه التَّوَاتُرُ من ذلك الْإِمَامِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في كل فَرْدٍ فَرْدٍ من ذلك وَهَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ فَإِنَّهَا من ثَمَّ لم تُنْقَلْ إلَّا آحَادًا إلَّا الْيَسِيرَ منها بَلْ الضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ اُشْتُهِرَتْ بَعْدَ صِحَّةِ إسْنَادِهَا وَمُوَافَقَتِهَا خَطَّ الْمُصْحَفِ ولم يُنْكَرْ من جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمُعْتَمَدَةُ وما عَدَا ذلك شَاذٌّ وَضَعِيفٌ ا هـ وَكَذَا كَلَامُ غَيْرِهِ من الْقُرَّاءِ يُوهِمُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً كُلُّهَا وَأَنَّ أَعْلَاهَا ما اجْتَمَعَ فيه صِحَّةُ السَّنَدِ وَمُوَافَقَةُ خَطِّ الْمُصْحَفِ وَالْإِمَامِ وَالْفَصِيحُ من لُغَةِ الْعَرَبِ وَأَنَّهُ يَكْفِي فيها الِاسْتِفَاضَةُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كما ذَكَرَ هَؤُلَاءِ وَالشُّبَهُ دَخَلَتْ عليهم من انْحِصَارِ أَسَانِيدِهَا في رِجَالٍ مَعْرُوفِينَ فَظَنُّوهَا كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وقد أَوْضَحَ الْإِمَامُ كَمَالُ الدِّينِ بن الزَّمْلَكَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذلك فقال انْحِصَارُ الْأَسَانِيدِ في طَائِفَةٍ لَا يَمْنَعُ مَجِيءَ الْقِرَاءَاتِ عن غَيْرِهِمْ فَقَدْ كان يَتَلَقَّاهُ أَهْلُ كل بَلَدٍ بِقِرَاءَةِ إمَامِهِمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ عن مِثْلِهِمْ وَكَذَلِكَ دَائِمًا فَالتَّوَاتُرُ حَاصِلٌ لهم وَلَكِنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ قَصَدُوا ضَبْطَ الْحُرُوفِ وَحَفِظُوا عن شُيُوخِهِمْ منها جاء السَّنَدُ من جِهَتِهِمْ وَهَذَا كَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ هِيَ آحَادٌ ولم تَزَلْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ مَنْقُولَةً عَمَّنْ يَحْصُلُ بِهِمْ التَّوَاتُرُ عن مِثْلِهِمْ في عَصْرٍ فَهَذِهِ كَذَلِكَ وَهَذَا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ له وَأَنْ لَا يُغْتَرَّ بِقَوْلِ الْقُرَّاءِ فيه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وقال الْقَاضِي ابن الْعَرَبِيِّ في الْقَوَاصِمِ وقال بَعْضُهُمْ كَيْفِيَّةُ الْقِرَاءَةِ الْيَوْمَ أَنْ يُقْرَأَ بِمَا اجْتَمَعَ فيه ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ ما صَحَّ نَقْلُهُ وَصَحَّ في الْعَرَبِيَّةِ لَفْظُهُ وَوَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ وَذَكَرَ خِلَافًا كَثِيرًا في ذلك قال وَإِنَّمَا أَوْجَبَ ذلك كُلَّهُ أَنَّ جَمِيعَ السَّبْعِ لم يَكُنْ بِإِجْمَاعٍ وَإِنَّمَا كان بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ وَاحِدٍ وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَقْرَأَ الْمُسْلِمُونَ على خَطِّ الْمُصْحَفِ فَكُلُّ ما صَحَّ في النَّقْلِ لَا يَخْرُجُونَ عنه وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى ما سِوَاهُ قال وَالْمُخْتَارُ لِنَفْسِي إذَا قَرَأْت بِمَا نُسِبَتْ لقالون أَنْ لَا أَهْمِزَ وَلَا أَكْسِرَ مُنَوَّنًا وَلَا غير مَنُونٍ فإن الْخُرُوجَ من كَسْرَةٍ إلَى يَاءٍ مَضْمُومَةٍ لم أَقْدِرْ عليه وما كُنْت لِأَمُدَّ مَدَّ حَمْزَةَ وَلَا أَقِفَ على السَّاكِنِ وَلَا أَقْرَأَ بِالْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ وَلَوْ رَوَاهُ سَبْعُونَ أَلْفًا وَلَا أَمُدَّ مِيمَ ابْنِ كَثِيرٍ وَلَا أَضُمَّ هَاءَ عليهم وَإِلَيْهِمْ وَهَذِهِ كُلُّهَا أو أَكْثَرُهَا عِنْدِي لُغَاتٌ لَا قِرَاءَاتٌ لِعَدَمِ ثُبُوتِهَا وإذا تَأَمَّلْتهَا رَأَيْتهَا اخْتِيَارَاتٍ مَبْنِيَّةً على مَعَانٍ وَلُغَاتٍ قال وَأَقْوَى الْقِرَاءَاتِ سَنَدًا قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَقِرَاءَةُ أبي جَعْفَرٍ ثَابِتَةٌ لَا كَلَامَ فيها قال وَطَلَبْت أَسَانِيدَ الْبَاقِينَ فلم أَجِدْ فيها مَشْهُورًا وَرَأَيْت بِنَاءَ أَمْرِهَا على اللُّغَاتِ وَأَطْلَقَ الْجُمْهُورُ تَوَاتُرَ السَّبْعِ وَاسْتَثْنَى ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ ما ليس من قَبِيلِ
الْأَدَاءِ كَالْمَدِّ وَاللِّينِ وَالْإِمَالَةِ وَتَخْفِيفِ الْهَمْزِ يَعْنِي أنها لَيْسَتْ بِمُتَوَاتِرَةٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَدَّ وَالْإِمَالَةَ لَا شَكَّ في تَوَاتُرِ الْمُشْتَرَكِ منها وهو الْمَدُّ من حَيْثُ هو مَدٌّ وَالْإِمَالَةُ من حَيْثُ هِيَ إمَالَةٌ وَلَكِنْ اخْتَلَفَتْ الْقُرَّاءُ في تَقْدِيرِ الْمَدِّ في اخْتِيَارَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ من رَآهُ طَوِيلًا وَمِنْهُمْ من رَآهُ قَصِيرًا وَمِنْهُمْ من بَالَغَ في الْقِصَرِ وَمِنْهُمْ من تَزَايَدَ كَحَمْزَةَ وَوَرْشٍ بِمِقْدَارِ سِتِّ أَلِفَاتٍ وَقِيلَ خَمْسٍ وَقِيلَ أَرْبَعٍ وَعَنْ عَاصِمٍ ثَلَاثٍ وَعَنْ الْكِسَائِيُّ أَلِفَيْنِ وَنِصْفٍ وقالون أَلِفَيْنِ وَالسُّوسِيِّ أَلِفٍ وَنِصْفٍ وقال الدَّانِيُّ في التَّيْسِيرِ أَطْوَلُهُمْ مَدًّا في الضَّرْبَيْنِ جميعا يَعْنِي الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْفَصِلَ وَرْشٌ وَحَمْزَةُ وَدُونَهُمَا عَاصِمٌ وَدُونَهُ ابن عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَدُونَهُمَا أبو عَمْرٍو من طَرِيقِ أَهْلِ الْعِرَاقِ قال وقالون من طَرِيقِ أبي نَشِيطٍ بِخِلَافٍ عنه وَهَذَا كُلُّهُ على التَّقْرِيبِ من غَيْرِ إفْرَاطٍ وَإِنَّمَا هو على مِقْدَارِ مَذَاهِبِهِمْ من التَّحْقِيقِ وَالْحَذْفِ ا هـ فَعُلِمَ بهذا أَنَّ أَصْلَ الْمَدِّ مُتَوَاتِرٌ وَالِاخْتِلَافُ وَالطُّرُقُ إنَّمَا هو في كَيْفِيَّةِ التَّلَفُّظِ وكان الْإِمَامُ أبو الْقَاسِمِ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْرَأُ بِمَدَّيْنِ طُولِيٍّ لِوَرْشٍ وَحَمْزَةَ وَوَسَطِيٍّ لِمَنْ بَقِيَ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَرِهَ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ لِمَا فيها من طُولِ الْمَدِّ وَغَيْرِهِ وقال لَا تُعْجِبُنِي وَلَوْ كانت مُتَوَاتِرَةً لَمَا كَرِهَهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّمَا كَرِهَ كَيْفِيَّتَهَا لَا أَصْلَهَا وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا على أَصْلِ الْإِمَالَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في حَقِيقَتِهَا مُبَالَغَةً وَقِصَرًا فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ مَحْضَةٌ وَهِيَ أَنْ يَنْحَى بِالْأَلِفِ إلَى الْيَاءِ وَبِالْفَتْحَةِ إلَى الْكِسْرَةِ وَبَيْنَ بين وَهِيَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْأَلِفَ وَالْفَتْحَةَ أَقْرَبُ وَهِيَ أَصْعَبُ الْإِمَالَيْنِ وَهِيَ الْمُخْتَارَةُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ أَصْلُهُ مُتَوَاتِرٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في كَيْفِيَّتِهِ وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الْمُخْتَلَفَةُ فيها بين الْقُرَّاءِ فَهِيَ أَلْفَاظُ قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْمُرَادُ تَنَوُّعُ الْقُرَّاءِ في أَدَائِهَا فإن منهم من يَرَى الْمُبَالَغَةَ في تَشْدِيدِ الْحَرْفِ الْمُشَدَّدِ فَكَأَنَّهُ زَادَ حَرْفًا وَمِنْهُمْ من لَا يَرَى ذلك وَمِنْهُمْ من يَرَى الْحَالَةَ الْوُسْطَى فَهَذَا هو الذي ادَّعَى أبو شَامَةَ عَدَمَ تَوَاتُرِهِ وَنُوزِعَ فيه فإن اخْتِلَافَهُمْ ليس إلَّا في الِاخْتِيَارِ وَلَا يَمْنَعُ قَوْمٌ قَوْمًا
مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ إثْبَاتُ قِرَاءَةٍ حُكْمًا لَا عِلْمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في الِانْتِصَارِ قال قَوْمٌ من الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ يَجُوزُ إثْبَاتُ قِرَاءَاتٍ وَقِرَاءَةٍ حُكْمًا لَا عِلْمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ وَكَرِهَ ذلك أَهْلُ الْحَقِّ وَامْتَنَعُوا منه وقال قَوْمٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّهُ يَسُوغُ إعْمَالُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ في إثْبَاتِ قِرَاءَةٍ وَأَوْجُهٍ وَأَحْرُفٍ إذَا كان صَوَابًا في اللُّغَةِ وَمِمَّا سَوَّغَ التَّكَلُّمَ بها ولم يُقْحَمْ حُجَّةً بِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَرَأَ بها بِخِلَافِ مُوجَبِ رَأْيِ الْقَائِسِينَ وَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَبَى ذلك أَهْلُ الْحَقِّ وَمَنَعُوهُ وَخَطَّئُوا من قال بِذَلِكَ وَصَارَ إلَيْهِ ا هـ مَسْأَلَةٌ لَيْسَتْ الْقِرَاءَاتُ اخْتِيَارِيَّةً وَلَيْسَتْ الْقِرَاءَاتُ اخْتِيَارِيَّةً وَلِهَذَا قال سِيبَوَيْهِ في كِتَابِهِ في قَوْله تَعَالَى ما هذا بَشَرًا وَبَنُو تَمِيمٍ يَرْفَعُونَهَا إلَّا من دَرَى كَيْفَ هِيَ في الْمُصْحَفِ وَإِنَّمَا كان ذلك لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مَرْوِيَّةٌ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ ما رُوِيَ عنه ا هـ خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ اخْتِيَارِيَّةٌ تَدُورُ مع اخْتِيَارِ الْفُصَحَاءِ وَاجْتِهَادِ الْبُلَغَاءِ وَرَدَّ على حَمْزَةَ قِرَاءَتَهُ وَالْأَرْحَامِ بِالْخَفْضِ وَمِثْلُهُ ما حُكِيَ عن أبي زَيْدٍ وَالْأَصْمَعِيِّ وَيَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ أَنَّهُمْ خَطَّئُوا حَمْزَةَ في قِرَاءَتِهِ وما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَقَالُوا إنَّهُ ليس ذلك في كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَنَّهُ كان يَلْحَنُ في الْقِرَاءَاتِ وما يُرْوَى أَيْضًا أَنَّ يَزِيدَ بن هَارُونَ أَرْسَلَ إلَى أبي الشَّعْثَاءِ بِوَاسِطَ لَا تَقْرَأْ في مَسْجِدِنَا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ وما حُكِيَ عن الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قال لَا تَحِلُّ الْقِرَاءَةُ بها يَعْنِي قِرَاءَةَ وَالْأَرْحَامِ بِالْكَسْرِ وَالصَّوَابُ أَنَّ حَمْزَةَ إمَامٌ مُجْمَعٌ على جَلَالَتِهِ وَمَعْقُودٌ على صِحَّةِ رِوَايَتِهِ وَلَقَدْ هَجَنَ الْمُبَرِّدُ فِيمَا قال إنْ صَحَّ عنه فَقَدْ نَدَّ قُلْت هذه الْقِرَاءَةُ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ منهم ابن مَسْعُودٍ وابن عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ
وَالْأَعْمَشُ وَالْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مَتْبُوعَةٌ مُتَلَقَّاةٌ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَوْقِيفًا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ إلَّا بِمَا سَمِعَهُ وَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ في ذلك وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ مُتَوَاتِرَةٌ وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِكَلَامِ الْعَرَبِ وقد جاء في أَشْعَارِهِمْ وَنَوَادِرِهِمْ مِثْلُهَا كَثِيرًا وَلِهَذَا اعْتَدَّ بها ابن مَالِكٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَاخْتَارَ جَوَازَ الْعَطْفِ على الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ من غَيْرِ إعْطَاءِ الْجَارِّ وِفَاقًا لِلْكُوفِيِّينَ مَسْأَلَةٌ الْبَسْمَلَةُ في الْقُرْآنِ الْبَسْمَلَةُ من أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا وَفِيمَا عَدَاهَا من السُّوَرِ سِوَى بَرَاءَةٍ لِلشَّافِعِيِّ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أنها آيَةٌ من كل سُورَةٍ وَمِنْ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ فيه ثُبُوتُهَا في سَوَادِ الْمُصْحَفِ وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ أَنْ لَا يُكْتَبَ في الْمُصْحَفِ ما ليس بِقُرْآنٍ وَأَنَّ ما بين الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ الثَّانِي بَعْضُ آيَةٍ وَالثَّالِثُ لَيْسَتْ من الْقُرْآنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَعُزِيَ لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَالرَّابِعُ أنها آيَةٌ مُنْفَرِدَةٌ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّوَرِ وَهَذَا غَرِيبٌ لم يَحْكِهِ أَحَدٌ من الْأَصْحَابِ لَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِمَّا حَكَاهُ ابن خَالَوَيْهِ في الطَّارِقِيَّاتِ عن الرَّبِيعِ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يقول أَوَّلُ الْحَمْدِ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ وَأَوَّلُ الْبَقَرَةِ أَلَمْ قال الْعُلَمَاءُ وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ وهو أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَمَّا ثَبَتَتْ أَوَّلًا في سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَهِيَ في بَاقِي السُّوَرِ إعَادَةٌ لها وَتَكْرَارٌ فَلَا يَكُونُ من تِلْكَ السُّوَرِ ضَرُورَةً وَلَا يُقَالُ هِيَ آيَةٌ من أَوَّلِ كل سُورَةٍ بَلْ هِيَ آيَةٌ في أَوَّلِ كل سُورَةٍ قال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَدِلَّةُ فإن إثْبَاتَهَا في الْمُصْحَفِ بين السُّوَرِ مُنْتَهِضٌ في كَوْنِهَا من الْقُرْآنِ ولم يَقُمْ دَلِيلٌ على كَوْنِهَا آيَةً من أَوَّلِ كل سُورَةٍ وَحَكَى الْمُتَوَلِّي من أَصْحَابِنَا وَجْهًا أَنَّهُ إنْ كان الْحَرْفُ الْأَخِيرُ من السُّورَةِ قَبْلَهُ يَاءٌ مَمْدُودَةٌ كَالْبَقَرَةِ فَالْبَسْمَلَةُ آيَةٌ كَامِلَةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ منها كَ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ فَبَعْضُ آيَةٍ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَجْهَيْنِ في أنها هل هِيَ قُرْآنٌ على سَبِيل الْقَطْعِ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ أَمْ على سَبِيلِ الْحُكْمِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فيها وَمَعْنَى سَبِيلِ الْحُكْمِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بها في أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَلَا يَكُونُ قَارِئًا لِسُورَةٍ بِكَمَالِهَا غير الْفَاتِحَةِ إلَّا إذَا ابْتَدَأَهَا بِالْبَسْمَلَةِ سِوَى بَرَاءَةٍ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ على أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ فيها
وَضَعَّفَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ قَوْلَ من قال إنَّهَا قُرْآنٌ على الْقَطْعِ قال الْإِمَامُ هذه غَبَاوَةٌ عَظِيمَةٌ من قَائِلِهِ لِأَنَّ ادِّعَاءَ الْعِلْمِ حَيْثُ لَا قَاطِعَ مُحَالٌ وقال الْمَاوَرْدِيُّ قال جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا هِيَ آيَةٌ حُكْمًا لَا قَطْعًا فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ يُقْبَلُ في إثْبَاتِهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِخِلَافِهِ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ وهو ضَعِيفٌ كما قال الْإِمَامُ إذْ لَا خِلَافَ بين الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ نَافِيهَا وَلَوْ كانت على سَبِيلِ الْقَطْعِ لَكَفَرَ على أَنَّ ابْنَ الرِّفْعَةِ حَكَى وَجْهًا عن صَاحِبِ الْفُرُوعِ أَنَّهُ قال بِتَكْفِيرِ جَاحِدِهَا وَتَفْسِيقِ تَارِكِهَا وَلَنَا مَسْلَكَانِ أَحَدُهُمَا الْقَطْعُ بِأَنَّهَا منه فإن الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوهَا في الْمُصْحَفِ على الْوَجْهِ الذي أَثْبَتُوا بِهِ سَائِرَ الْقُرْآنِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ ما بين الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ مع شِدَّةِ اعْتِنَائِهِمْ بِتَجْرِيدِهِ عَمَّا ليس منه فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ من الْقُرْآنِ كَسَائِرِ الْآيِ الْمُكَرَّرَةِ في الشُّعَرَاءِ وَالرَّحْمَنِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَأَمَّا الْخِلَافُ فيها فإنه لَا يَهْتِكُ حُرْمَةَ الْقَطْعِ فَكَمْ من حُكْمٍ يَقِينِيٍّ قد اُخْتُلِفَ فيه أَمَّا في الْعَقْلِيَّاتِ وما مَبْنَاهُ الْيَقِينُ كَالْحِسِّيَّاتِ فَكَثِيرٌ وَأَمَّا في الْفُرُوعِ فإن الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ فيها وَاحِدٌ ذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ وكان الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ يَقْطَعُ بِخَطَأِ مُخَالِفِهِ وَنُقِلَ مِثْلُ ذلك عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وَرُبَّمَا حَلَفَ على الْمَسْأَلَةِ وَالْحَقُّ أنها مُنْقَسِمَةٌ إلَى يَقِينِيَّةٍ وَظَنِّيَّةٍ كما سَبَقَ لَكِنْ لَمَّا غَلَبَ على مَسَائِلِ الْخِلَافِ الظَّنُّ ظُنَّ أَنَّ جَمِيعَهَا كَذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَأَمَّا فَصْلُ التَّكْفِيرِ فَلَازِمٌ لهم حَيْثُ لم يُكَفِّرُوا الْمُثْبِتِينَ كما يُكَفَّرُ من زَادَ شيئا من الْمُكَرَّرَاتِ ثُمَّ الْجَوَابُ أَنَّ مَنَاطَ التَّكْفِيرِ غَيْرُ مُنَاطِ الْقَطْعِ فَكَمْ من قَطْعِيٍّ لَا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عليه مَعْلُومًا من الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَالثَّانِي أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالظَّنِّ كما فَعَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ ثُمَّ نَقُولُ نَفْسُ الْآيَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِقَاطِعٍ فَأَمَّا تَكْرَارُهَا في الْمُحَالِّ فَلَا يَتَوَقَّفُ على الْقَاطِعِ
مَسْأَلَةٌ في الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ حَقِيقَةُ الشَّاذِّ لُغَةً الْمُنْفَرِدُ وفي الِاصْطِلَاحِ عَكْسُ الْمُتَوَاتِرِ وقد سَبَقَ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ قِرَاءَةٌ سَاعَدَهَا خَطُّ الْمُصْحَفِ مع صِحَّةِ النَّقْلِ فيها وَمَجِيئُهَا على الْفَصِيحِ من لُغَةِ الْعَرَبِ قال الشَّيْخُ أبو شَامَةَ فَمَتَى اخْتَلَّ أَحَدُ هذه الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُطْلِقَ على تِلْكَ الْقِرَاءَةِ أنها شَاذَّةٌ قال وقد أَشَارَ إلَى ذلك جَمَاعَةٌ من الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَنَصَّ عليه أبو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بن أبي طَالِبٍ الْقَيْرَوَانِيُّ ذَكَرَهُ شَيْخُنَا أبو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ في كِتَابِ جَمَالِ الْقُرَّاءِ ثُمَّ الْكَلَامُ في مَوَاضِعَ أَحَدُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرَادِ بها وَالْمَعْرُوفُ أنها ما وَرَاءَ السَّبْعِ وَالصَّوَابُ ما وَرَاءَ الْعَشْرِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ أُخَرُ يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ وأبو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بن الْقَعْقَاعِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ هذه الثَّلَاثَةَ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ ضَعِيفٌ جِدًّا وقد ذَكَرَ الْبَغَوِيّ في تَفْسِيرِهِ الْإِجْمَاعَ على جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بها وقال الْقَاضِي أبو بَكْرِ بن الْعَرَبِيِّ في الْعَوَاصِمِ ضَبْطُ الْأَمْرِ على سَبْعِ قِرَاءَاتٍ ليس له أَصْلٌ في الشَّرْعِ وقد جَمَعَ قَوْمٌ ثَمَانِيَ قِرَاءَاتٍ وَقَوْمٌ عَشْرًا أَصْلُ ذلك أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال أُنْزِلَ الْقُرْآنُ على سَبْعِ أَحْرُفٍ فَظَنَّ قَوْمٌ أنها سَبْعُ قِرَاءَاتٍ وَهَذَا بَاطِلٌ وَتَيَمَّنَ آخَرُونَ بهذا اللَّفْظِ فَجَمَعُوا سَبْعَ قِرَاءَاتٍ وَبَعْدَ أَنْ ضَبَطَ اللَّهُ الْحُرُوفَ وَالسُّوَرَ فَلَا مُبَالَاةَ بِهَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ وَسَبَقَ عنه أَنَّ قِرَاءَةَ أبي جَعْفَرٍ ثَابِتَةٌ لَا كَلَامَ فيها ا هـ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقِرَاءَةِ بها قال الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ وَلَا تَجُوزُ
الْقِرَاءَةُ بِشَيْءٍ من الشَّوَاذِّ لِخُرُوجِهَا عن إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ الْوَجْهِ الذي ثَبَتَ بِهِ الْقُرْآنُ وهو الْمُتَوَاتِرُ وَإِنْ كان مُوَافِقًا لِلْعَرَبِيَّةِ وَخَطِّ الْمُصْحَفِ لِأَنَّهُ جاء من طَرِيقِ الْآحَادِ إنْ كانت نَقَلَتُهُ ثِقَاتٍ قال أبو شَامَةَ وَالشَّأْنُ في الضَّبْطِ ما تَوَاتَرَ من ذلك وما اُجْتُمِعَ عليه وَنَقَلَ الشَّاشِيُّ في الْمُسْتَظْهِرِيِّ عن الْقَاضِي الْحُسَيْنِ أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ لَا تَصِحُّ وقال النَّوَوِيُّ في فَتَاوِيهِ تَحْرُمُ الثَّالِثُ في الِاحْتِجَاجِ بها في الْأَحْكَامِ وَتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ اعْلَمْ أَنَّ الْآمِدِيَّ نَسَبَ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ إلَى الشَّافِعِيِّ وَكَذَا ادَّعَى الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ من مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَتَبِعَهُ ابن الْحَاجِبِ وَكَذَلِكَ النَّوَوِيُّ فقال في شَرْحِ مُسْلِمٍ مَذْهَبُنَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَا يُحْتَجُّ بها وَلَا يَكُونُ لها حُكْمُ الْخَبَرِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ نَاقِلَهَا لم يَنْقُلْهَا إلَّا على أنها قُرْآنٌ وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ وإذا لم يَثْبُتْ قُرْآنًا لم يَثْبُتْ خَبَرًا وَالْمُوقِعُ لهم في ذلك دَعْوَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ أَنَّ ذلك ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَتَبِعَهُ أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في التَّلْوِيحِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَغَيْرُهُمْ فقال إلْكِيَا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ مَرْدُودَةٌ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا في الْمُصْحَفِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه بين الْعُلَمَاءِ قال وَأَمَّا إيجَابُ أبي حَنِيفَةَ التَّتَابُعَ في صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِأَجْلِ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَيْسَ على تَقْدِيرِ أَنَّهُ أَثْبَتَ نَظْمَهُ من الْقُرْآنِ وَلَكِنْ أَمْكَنَ أَنَّهُ كان من الْقُرْآنِ في قَدِيمِ الزَّمَانِ ثُمَّ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ فَانْدَرَسَ مَشْهُورٌ رَسْمُهُ فَنُقِلَ آحَادًا وَالْحُكْمُ بَاقٍ وَهَذَا لَا يُسْتَنْكَرُ في الْعُرْفِ قال وَالشَّافِعِيُّ لَا يُرَدُّ على أبي حَنِيفَةَ اشْتِرَاطُ التَّتَابُعِ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ من هذه الْجِهَةِ وَلَكِنَّهُ يقول لَعَلَّ ما زَادَهُ ابن مَسْعُودٍ تَفْسِيرًا منه وَمَذْهَبًا رَآهُ فَلَا بُعْدَ في تَقْدِيرِهِ ولم يُصَرِّحْ بِإِسْنَادِهِ إلَى الْقُرْآنِ فَإِنْ قالوا لَا يَجُوزُ ضَمُّ الْقُرْآنِ إلَى غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ضَمُّ ما نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ إلَى الْقُرْآنِ تِلَاوَةً وَهَذَا قد يَدُلُّ من وُجْهَةٍ على بُطْلَانِ نَقْلِ هذه الْقِرَاءَةِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّا على أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ نُبْعِدُ قِرَاءَةَ ما ليس من الْقُرْآنِ مع الْقُرْآنِ وقال وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ على إبْطَالِ نِسْبَةِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ إلَى الْقُرْآنِ أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِالْقُرْآنِ من الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ في إحْيَاءِ مَعَالِمِ الدِّينِ يَمْنَعُ تَقْدِيرَ دُرُوسِهِ وَارْتِبَاطَ نَقْلِهِ بِالْآحَادِ
قُلْت وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في كِتَابِهِ أَنَّهُمْ إنَّمَا عَمِلُوا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِاسْتِفَاضَتِهَا وَشُهْرَتِهَا عِنْدَهُمْ في ذلك الْعَصْرِ وَإِنْ كان إنَّمَا نُقِلَتْ إلَيْنَا الْآنَ بِطَرِيقِ الْآحَادِ لِأَنَّ الناس تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ بها وَاقْتَصَرُوا على غَيْرِهَا وَكَلَامُنَا إنَّمَا هو في أُصُولِ الْقَوْمِ ا هـ وَذَكَرَ أبو زَيْدٍ في الْأَسْرَارِ وَصَاحِبُ الْمَبْسُوطِ من الْحَنَفِيَّةِ اشْتِرَاطَ الشُّهْرَةِ في الْقِرَاءَةِ عِنْدَ السَّلَفِ وَلِهَذَا لم يَعْمَلُوا بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بن كَعْبٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامِ أُخَرَ مُتَتَابِعَةٍ لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ وَبِمِثْلِهَا لَا يَثْبُتُ الزِّيَادَةُ على النَّصِّ فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ كانت مَشْهُورَةً في زَمَنِ أبي حَنِيفَةَ حتى كان الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتْمًا على حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَخَتْمًا من مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَالزِّيَادَةُ عِنْدَنَا تَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ ا هـ تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ إنَّ الْحَامِلَ لهم على نِسْبَةِ أنها لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لِلشَّافِعِيِّ عَدَمُ إيجَابِهِ التَّتَابُعَ في صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مع عِلْمِهِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وهو مَمْنُوعٌ فَقَدْ سَبَقَ من كَلَامِ إلْكِيَا إبْطَالُ اسْتِنْبَاطِهِ منه وقد نَصَّ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ على أنها حُجَّةٌ في بَابِ الرَّضَاعِ وفي بَابِ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ فقال ذَكَرَ اللَّهُ الرَّضَاعَ بِلَا تَوْقِيتٍ وَرَوَتْ عَائِشَةُ التَّوْقِيتَ بِخَمْسٍ وَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ مِمَّا أُنْزِلَ من الْقُرْآنِ وهو وَإِنْ لم يَكُنْ قُرْآنًا فَأَقَلُّ حَالَاتِهِ أَنْ يَكُونَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَأْتِي بِهِ غَيْرُهُ كما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَحَكَمْنَا بِهِ على هذا وَلَيْسَ هو قُرْآنًا يُقْرَأُ ا هـ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُعْمَلُ بها من جِهَةِ كَوْنِهَا خَبَرًا لَا قُرْآنًا وَجَرَى عليه جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ منهم الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في الصِّيَامِ وَالرَّضَاعِ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في الصِّيَامِ وَوُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ في الصِّيَامِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالرَّافِعِيُّ في كِتَابِ السَّرِقَةِ وَاحْتَجُّوا في إيجَابِ قَطْعِ الْيَمِينِ من السَّارِقِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في كِتَابِ الصَّلَاةِ أنها تَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو الْأَثَرِ عن الصَّحَابَةِ نعم الشَّرْطُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ في ذلك أَنْ لَا يُخَالِفَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهَا مِمَّا هو أَقْوَى منها وَلِذَلِكَ لم يَحْتَجَّ بِقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ مع أَنَّ مَذْهَبَهُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ كما نَصَّ عليه في الْمُخْتَصَرِ قال شَارِحُوهُ
إنَّمَا عَدَلَ الشَّافِعِيُّ عن الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا تَشِذُّ عن الْجَمَاعَةِ وَتُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ قُلْت أو لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ لَا اسْتِدْلَالَ بها مع وُجُودِ ما هو أَقْوَى منها فإن اللَّهَ تَعَالَى كان قد خَيَّرَ أَوَّلًا بين الصِّيَامِ وَبَيْنَ الْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ ثُمَّ خَتَمَ الصِّيَامَ بِقَوْلِهِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَبَقِيَ من لم يُطِقْ على حُكْمِ الْأَصْلِ في جَوَازِ الْفِطْرِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ شَرْطٌ آخَرُ فإنه قال في كِتَابِهِ التَّذْكِرَةِ في الْخِلَافِ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إنَّمَا تَلْحَقُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا قَرَأَهَا قَارِئُهَا على أَنَّهُ قُرْآنٌ فَإِنْ ذَكَرَهَا على أنها تَفْسِيرٌ فَلَا كَقِرَاءَةِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أو رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أو غير مُسْتَقْبِلِيهَا وَقِرَاءَةِ أُبَيِّ بن كَعْبٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ا هـ وَفِيمَا قَالَهُ في التَّفْسِيرِ نَظَرٌ على رَأْيِ من يَجْعَلُهُ في حُكْمِ الْمَرْفُوعِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمِمَّنْ صَرَّحَ بها من الْأُصُولِيِّينَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فقال في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ما رُوِيَ آحَادًا من آيِ الْقُرْآنِ كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ آيَةَ الرَّجْمِ وَخَبَرِ عَائِشَةَ في الرَّضَاعِ وَخَبَرِ زَيْدِ بن أَرْقَمَ لو كان لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ من الذَّهَبِ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا فَإِنَّهَا ثَابِتَةُ الْأَسَانِيدِ صَحِيحَةٌ من جِهَةِ النَّقْلِ وَنَحْنُ نُثْبِتُ ما قالوا على ما قالوا غير مُتَأَوِّلِينَ عليهم ما لم يَظْهَرْ لنا إلَّا أَنْ لَا نَجِدَ وَجْهًا غير التَّأْوِيلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ من الْقُرْآنِ ما نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَإِنَّمَا تَجِبُ تِلَاوَةُ الْمَرْسُومِ فَأَمَّا ما بَقِيَ حُكْمُهُ فَلَا تَجِبُ تِلَاوَتُهُ
وَاَلَّذِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عليه في الرَّسْمِ هو الْوَاجِبُ تِلَاوَتُهُ وَاَلَّذِي لم يُرْسَمْ يُتْلَى وَيُنْقَلُ حُكْمُهُ إذْ كان الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ يُوجِبُ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا إثْبَاتُ حُكْمِهِ وَتِلَاوَتُهُ وَالْقَطْعُ عليه بِمَا يُعْمَلُ بِهِ وَالتَّسْمِيَةُ بِمَا سَمَّاهُ النَّاقِلُ وَلَيْسَ يَثْبُتُ الْمَتْلُوُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وإذا كان خَبَرُ الْوَاحِدِ قد يَخُصُّ ظَاهِرَ الْمَتْلُوِّ وَيُثْبِتُهُ تَثْبِيتَ الْأَحْكَامِ كان أَيْضًا كَذَلِكَ ما أُثْبِتَ حُكْمُهُ من جِهَةِ الْخَبَرِ أَنَّهُ قُرْآنٌ في الْحُكْمِ لَا في الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ انْتَهَى وقال الْمَاوَرْدِيُّ في مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ أَضَافَهَا الْقَارِئُ إلَى التَّنْزِيلِ أو إلَى سَمَاعٍ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أُجْرِيَتْ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِلَّا فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّأْوِيلِ ا هـ وَيَخْرُجُ من هذا التَّفْصِيلِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ وَبِهِ صَرَّحَ الْبَاجِيُّ في الْمُنْتَقَى فقال الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ هل تَجْرِي مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فيه ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا التَّفْصِيلُ بين أَنْ تُسْنَدَ أَمْ لَا ا هـ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ أبي الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ مَذْهَبٌ رَابِعٌ فإنه قال في بَابِ الْأَخْبَارِ الْقُرْآنُ الْمَنْقُولُ بِالْآحَادِ إمَّا أَنْ يَظْهَرَ فيه الْإِعْجَازُ أو لَا فَإِنْ لم يَظْهَرْ جَازَ أَنْ يُعْمَلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ من عَمَلٍ إذَا نُقِلَ إلَيْنَا بِالْآحَادِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَإِنْ ظَهَرَ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلنُّبُوَّةِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا وقد عُلِمَ أَنَّهُ لم يُعَارَضْ في عَصْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مع سَمَاعِ أَهْلِ عَصْرِهِ له وَلَا يُعْلَمُ ذلك إلَّا وقد تَوَاتَرَ نَقْلُ ظُهُورِهِ في ذلك الْعَصْرِ وَأَطْلَقَ الْقَاضِي ابن الْعَرَبِيِّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ على أنها لَا تُوجِبُ عِلْمًا وَلَا عَمَلًا وَلَيْسَ كما قال وَجَعَلَ الْقُرْطُبِيُّ شَارِحُ مُسْلِمٍ مَحَلَّ الْخِلَافِ بين الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا إذَا لم يُصَرِّحْ الرَّاوِي بِسَمَاعِهَا وَقَطَعَ بِعَدَمِ حُجِّيَّتِهَا قال فَأَمَّا لو صَرَّحَ الرَّاوِي بِسَمَاعِهَا من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَاخْتَلَفَتْ الْمَالِكِيَّةُ في الْعَمَلِ بها على قَوْلَيْنِ وَالْأَوْلَى الِاحْتِجَاجُ بها تَنْزِيلًا لها مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي أَنَّ هَاهُنَا سُؤَالًا وهو أَنْ يُقَالَ إنْ كان مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أنها حُجَّةٌ فَهَلَّا أَوْجَبَ التَّتَابُعَ في صَوْمِ الْكَفَّارَةِ اعْتِمَادًا على قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَهَلَّا قال في الصَّلَاةِ الْوُسْطَى إنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ اعْتِمَادًا على قِرَاءَةِ عَائِشَةَ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَإِنْ كان مَذْهَبُهُ أنها لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَكَيْفَ اعْتَمَدَ في التَّحْرِيمِ في الرَّضَاعِ بِخَمْسٍ على حديث عَائِشَةَ وَكَيْفَ قال إنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ وَاعْتَمَدَ في الْأُمِّ على أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ قَرَأَ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ وَاَلَّذِي يَفْصِلُ عن هذا الْإِشْكَالِ أَنْ لَا يُطْلَقَ الْقَوْلُ في ذلك بَلْ يُقَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ وَرَدَتْ لِبَيَانِ حُكْمٍ أو لِابْتِدَائِهِ فَإِنْ وَرَدَتْ لِبَيَانِ حُكْمٍ فَهِيَ عِنْدَهُ حُجَّةٌ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ في الرَّضَاعِ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْمَانَهُمَا وَقَوْلُهُ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ وَإِنْ وَرَدَتْ ابْتِدَاءَ حُكْمٍ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٍ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَّا أَنَّهُ قد قِيلَ إنَّهَا لم تَثْبُتْ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَدُلُّ له ما رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عن عَائِشَةَ كان مِمَّا أُنْزِلَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٍ أو يُقَالُ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إمَّا أَنْ تَرِدَ تَفْسِيرًا أو حُكْمًا فَإِنْ وَرَدَتْ تَفْسِيرًا فَهِيَ حُجَّةٌ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْمَانَهُمَا وَقَوْلِهِ وَلَهُ أَخٌ أو أُخْتٌ من أُمٍّ وَقِرَاءَةِ عَائِشَةَ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَإِنْ وَرَدَتْ حُكْمًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُعَارِضَهَا دَلِيلٌ آخَرُ أَمْ لَا فَإِنْ عَارَضَهَا فَالْعَمَلُ لِلدَّلِيلِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ في صِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال إنْ شِئْت فَتَابِعْ أو لَا وَإِنْ لم يُعَارِضْهَا دَلِيلٌ آخَرُ فَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَوُجُوبِ التَّتَابُعِ في صَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ فَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ عنه أَنَّهُ يُنْزِلُهَا مَنْزِلَةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ إنَّ الزِّيَادَةَ في الحديث من بَعْضِ النَّقَلَةِ لَا تُقْبَلُ وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ في كِتَابِ تَقْدِيمِ الْأَدِلَّةِ لَا تَثْبُتُ الْقِرَاءَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِهَذَا قالت الْأَئِمَّةُ فِيمَنْ قَرَأَ في صَلَاتِهِ بِكَلِمَاتٍ تَفَرَّدَ بها ابن مَسْعُودٍ إنَّ صَلَاتَهُ لَا تَجُوزُ كما لو قَرَأَ خَبَرًا من أَخْبَارِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٍ لِإِيجَابِ التَّتَابُعِ في الْكَفَّارَةِ فَأَخَذْنَا بها عَمَلًا كما لو رَوَى خَبَرًا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّهُ إنَّمَا قَرَأَهَا نَاقِلًا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فلما لم يَثْبُتْ قُرْآنًا لِفَوَاتِ شَرْطِهِ بَقِيَ خَبَرًا فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلُوا كَذَلِكَ في الْبَسْمَلَةِ لِيَجِبَ الْجَهْرُ بها في الصَّلَاةِ وَحُرْمَةُ قِرَاءَتِهَا على الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الذي هو حُكْمُ الْقُرْآنِ قُلْنَا لِأَنَّا لو فَعَلْنَا ذلك لم يَكُنْ حُكْمًا بِظَاهِرِ ما تُوجِبُهُ التَّسْمِيَةُ بَلْ كان عَمَلًا بِمُقْتَضَى أنها من الْفَاتِحَةِ وَلَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى عِنْدَنَا وَإِنَّمَا لَا يَعْمَلُ فِيمَا لَا بُدَّ منه
المباحث اللغوية
مَبَاحِثُ اللُّغَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا في أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَنَّ مُعْظَمَ نَظَرِ الْأُصُولِيِّ في دَلَالَاتِ الصِّيَغِ كَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَأَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَدَلِيلِ الْخِطَابِ وَمَفْهُومِهِ فَاحْتَاجَ إلَى النَّظَرِ في ذلك تَكْمِيلًا لِلنَّظَرِ في الْأُصُولِ وَنَسِمُهُ بِمُقَدِّمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا تَعَلُّمُ اللُّغَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ قال أبو الْحُسَيْنِ بن فَارِسٍ تَعَلُّمُ عِلْمِ اللُّغَةِ وَاجِبٌ على أَهْلِ الْعِلْمِ لِئَلَّا يَحِيدُوا في تَأْلِيفِهِمْ أو فُتْيَاهُمْ عن سُنَنِ الِاسْتِقْرَاءِ قال وَكَذَلِكَ الْحَاجَةُ إلَى عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ فإن الْإِعْرَابَ هو الْفَارِقُ بين الْمَعَانِي أَلَا تَرَى إذَا قُلْت ما أَحْسَنَ زَيْدٌ لم تُفَرِّقْ بين التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالنَّفْيِ إلَّا بِالْإِعْرَابِ وَنَازَعَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في شَرْحِ الْمُفَصَّلِ في كَوْنِهِمَا فَرْضَ كِفَايَةٍ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إذَا قام بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ قال وَاللُّغَةُ وَالنَّحْوُ ليس كَذَلِكَ بَلْ يَجِبُ في كل عَصْرٍ أَنْ يَقُومَ بِهِ قَوْمٌ يَبْلُغُونَ حَدَّ التَّوَاتُرِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّرْعِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِوَاسِطَةِ مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالْعِلْمُ بِهِمَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ فإنه لو انْتَهَى النَّقْلُ فيه إلَى حَدِّ الْآحَادِ لَصَارَ الِاسْتِدْلَال على جُمْلَةِ الشَّرْعِ اسْتِدْلَالًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الشَّرْعُ مَظْنُونًا لَا مَقْطُوعًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ الثَّانِيَةُ نَبَّهَ الْإِبْيَارِيُّ في كَلَامٍ له على شَيْءٍ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ هُنَا وهو أَنَّ الْأُصُولِيَّ إنَّمَا احْتَاجَ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ لِيَفْهَمَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ بِالْأُصُولِيِّ إلَى مَعْرِفَةِ ما لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ وَالْأَلْفَاظِ وإذا كان كَذَلِكَ افْتَقَرْنَا إلَى تَقْدِيمِ أَمْرٍ آخَرَ وهو أَنَّ الشَّرْعَ هل له تَصَرُّفٌ في اللُّغَةِ أَمْ لَا فَإِنْ ثَبَتَ عَدَمُ التَّصَرُّفِ اكْتَفَى الْأُصُولِيُّ بِمَعْرِفَةِ وَضْعِ اللُّغَةِ فإن ذلك مُقْنِعٌ في مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَإِنْ ثَبَتَ تَصَرُّفُ الشَّرْعِ اكْتَفَى الْأُصُولِيُّ بِمَعْرِفَةِ وَضْعِ الشَّرْعِ لِلِاسْمِ وَلَا يَحْتَاجُ معه إلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ في ذلك اللَّفْظِ وَإِنْ عَرَفَ وَضْعَ اللُّغَةِ وَالْتَبَسَ عليه هل لِلشَّرْعِ تَصَرُّفٌ في الِاسْمِ أَمْ لَا لم يَجُزْ له الْحُكْمُ بِوَضْعِ اللُّغَةِ حتى يَسْتَقِرَّ له وَضْعُ الشَّرْعِ وَلِهَذَا إنَّ الْفُقَهَاءَ قَلَّ ما يَتَكَلَّمُونَ على الْأَلْفَاظِ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ اللُّغَةِ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ تَصَرُّفَ الشَّرْعِ في الْأَسْمَاءِ فَتَرَاهُمْ يَجْنَحُونَ إلَى الْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ في ذلك على بَصِيرَةٍ أَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ مُكْتَفًى بِهِ وَمُضَافٌ إلَيْهِ وَعُرْفُ اللُّغَةِ على هذا التَّقْدِيرِ عِنْدَ احْتِمَالِ التَّغْيِيرِ لَا يُفِيدُ
مَادَّةُ اللُّغَةِ وَمَقْصُودُهَا وَمَوْضُوعُهَا وَيَتَعَلَّقُ النَّظَرُ بِمَادَّتِهَا وَمَقْصُودِهَا وَمَوْضُوعِهَا أَمَّا مَادَّتُهَا فَتَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِينَ إمَّا التَّوْقِيفُ أو الِاصْطِلَاحُ على الْخِلَافِ الْآتِي وَأَمَّا في حَقِّ من بَعْدَهُمْ فَمَادَّتُهَا النَّقْلُ عن أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَمَّا مَقْصُودُهَا فَالتَّشْبِيهُ بِأَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ في إعْلَامِ ما في أَنْفُسِهِمْ وَأَمَّا مَوْضُوعُهَا فَالْأَلْفَاظُ وما يَعْرِضُهَا لِذَاتِ الْأَلْفَاظِ وهو ما يَبْحَثُ اللُّغَوِيُّ عنها في ذلك الْمَوْضُوعِ إمَّا في حَالِ الْإِفْرَادِ كَكَوْنِ هذه الْكَلِمَةِ حَقِيقَةً أو مَجَازًا أو مُشْتَرَكَةً أو مُتَرَادِفَةً أو مُتَبَايِنَةً وَكَكَوْنِ فَاءِ هذه الْكَلِمَةِ أو عَيْنِهَا أَصْلِيًّا أو مَقْلُوبًا عن غَيْرِهِ صَحِيحًا أو مُعْتَلًّا مَفْتُوحًا أو مَضْمُومًا أو مَكْسُورًا وَغَيْرِ ذلك مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ التَّصْرِيفِ وَأَمَّا في حَالِ تَرْكِيبِهَا كَكَوْنِ هذه الْكَلِمَةِ مُبْتَدَأً أو خَبَرًا أو فَاعِلًا أو مَفْعُولًا إلَى غَيْرِ ذلك من الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْأَلْفَاظِ فَالْأَلْفَاظُ هِيَ مَوْضُوعُ اللُّغَةِ وَهَذِهِ أَعْرَاضٌ ذَاتِيَّةٌ لِلْأَلْفَاظِ أُمُورٌ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَبَاحِثِ اللُّغَةِ ثُمَّ الْكَلَامُ في مُهِمَّاتٍ الْأَوَّلُ في الْوَضْعِ وهو يُطْلَقُ على أَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا جَعْلُ اللَّفْظِ دَلِيلًا على الْمَعْنَى كَتَسْمِيَةِ الْإِنْسَانِ وَلَدَهُ زَيْدًا وَكَإِطْلَاقِهِمْ على الْحَائِطِ مَثَلًا الْجِدَارَ وما في مَعْنَاهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْطُرَ الْمَعْنَى بِبَالِ الْوَاضِعِ فَيَسْتَحْضِرَ لَفْظًا يُعَبِّرُ بِهِ عن ذلك الْمَعْنَى ثُمَّ يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ بِطَرِيقٍ من الطُّرُقِ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِ يَجِبُ أَنْ يَحْمِلَهُ على ذلك الْمَعْنَى عِنْدَ عَدَمِ الْقَرَائِنِ وَالثَّانِي غَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ على الْمَعْنَى حتى يَصِيرَ هو الْمُتَبَادِرُ إلَى الذِّهْنِ حَالَ التَّخَاطُبِ بِهِ وَذَلِكَ في الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَالْعُرْفِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ أَمَّا الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ فَكَإِطْلَاقِهِمْ الصَّلَاةَ على الْحَرَكَاتِ الْمَخْصُوصَةِ وَالصَّوْمَ على الْإِمْسَاكِ الْمَخْصُوصِ وَالزَّكَاةَ على إخْرَاجٍ مَخْصُوصٍ فإن الشَّارِعَ لم يَضَعْ اللَّفْظَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَهُ فيها من غَيْرِ وَضْعٍ وَتَكَرَّرَ الِاسْتِعْمَالُ فيها حتى صَارَتْ هِيَ الْمُتَبَادِرَةُ إلَى الذِّهْنِ حَالَ التَّخَاطُبِ
الْعُرْفُ الْعَامُّ وَأَمَّا الْعُرْفُ الْعَامُّ فَكَإِطْلَاقِهِمْ الدَّابَّةَ على ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أو على دَابَّةٍ مَخْصُوصَةٍ عِنْدَ قَوْمٍ كَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَمَفْهُومُ الدَّابَّةِ في اللُّغَةِ لِكُلِّ ذَاتٍ دَبَّتْ سَوَاءٌ ذَوَاتُ الْأَرْبَعِ وَغَيْرُهَا وَأَهْلُ الْعُرْفِ لم يَضَعُوا اللَّفْظَ لِهَذَا الْمَعْنَى الذي هو ذَوَاتُ الْأَرْبَعِ وَإِنَّمَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُمْ لِلَفْظِ الدَّابَّةِ حتى صَارَ هو الْمُتَبَادِرُ إلَى الذِّهْنِ حَالَةَ التَّخَاطُبِ الْعُرْفُ الْخَاصُّ وَأَمَّا الْعُرْفُ الْخَاصُّ فَكَاصْطِلَاحِ كل ذِي عِلْمٍ على أَلْفَاظٍ خَصُّوهَا بِمَعَانٍ مُخَالِفَةٍ لِلْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ كَاصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِ في الْجَوْهَرِ وَالْعَرْضِ وَاصْطِلَاحِ الْفَقِيهِ في الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَاصْطِلَاحِ الْجَدَلِيِّ في الْكَسْرِ وَالنَّقْضِ وَالْقَلْبِ وَاصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّ في الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ فَجَمِيعُ هذه الطَّوَائِفِ لم يَضَعُوا هذه الْأَلْفَاظَ لِتِلْكَ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوهَا اسْتِعْمَالًا غَالِبًا حتى صَارَتْ هِيَ الْمُتَبَادِرَةُ إلَى الذِّهْنِ حَالَةَ التَّخَاطُبِ فَهَذَا هو مَعْنَى الْوَضْعِ في الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وزاد بَعْضُهُمْ لِلْوَضْعِ مَعْنًى ثَالِثًا وهو اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ في الْمَعْنَى وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهَذَا هو مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمَجَازُ هل من شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا أَمْ لَا وَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ على أَنَّ الْمَجَازَ هل من شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا أو لَا وَيَتَعَلَّقُ بِالْوَضْعِ مَبَاحِثُ أَحَدُهَا في شُرُوطِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَبْتَدِئَهُ بِمَا يُخَالِفُهُ ثَانِيهَا أَنْ لَا يَخْتِمَهُ بِمَا يُخَالِفُهُ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عن قَصْدٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِكَلَامِ السَّاهِي وَالنَّائِمِ وَعَلَى السَّامِعِ التَّنَبُّهُ لِهَذِهِ الشُّرُوطِ وقد حَكَى الرُّويَانِيُّ عن صَاحِبِ الْحَاوِي فِيمَا إذَا قال لِزَوْجَتِهِ طَلَّقْتُك ثُمَّ قال سَبَقَ لِسَانِي وَإِنَّمَا أَرَدْت طَلَبْتُك أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ظَنَّتْ صِدْقَهُ بِأَمَارَةٍ فَلَهَا أَنْ تَقْبَلَ قَوْلَهُ وَلَا تُخَاصِمُهُ وَأَنَّهُ من عُرِفَ ذلك منه إذَا عُرِفَ الْحَالُ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ وَلَا يُشْهَدُ عليه قال الرُّويَانِيُّ وَهَذَا هو الِاخْتِيَارُ الثَّانِي في سَبَبِهِ وهو أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ وَصَيَّرَهُ مُحْتَاجًا إلَى أُمُورٍ لَا يَسْتَقِلُّ بها بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى الْمُعَاوَنَةِ عليها وَلَا بُدَّ لِلْمُعَاوِنِ من الِاطِّلَاعِ على ما في
النَّفْسِ وَذَلِكَ إمَّا بِاللَّفْظِ أو الْإِشَارَةِ أو الْمِثَالِ وَاللَّفْظُ أَيْسَرُ لِمَا سَيَأْتِي فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى الْوَضْعِ لِأَجْلِ الْإِفْهَامِ بِالْمُخَاطَبَةِ وَيَلْزَمُ من ذلك كُلَّمَا اشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْبِيرِ عنه أَنَّهُ يُوضَعُ له وَإِلَّا كان ذلك مُخِلًّا بِمَقْصُودِ الْوَضْعِ الذي ذَكَرْنَاهُ وما لَا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ جَازَ فيه الْأَمْرَانِ يَعْنِي الْوَضْعَ وَعَدَمَ الْوَضْعِ أَمَّا عَدَمُ الْوَضْعِ فَلِأَنَّهُ ليس مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَأَمَّا الْوَضْعُ فَلِلْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ بِهِ الْمَوْضُوعُ الثَّالِثُ في الْمَوْضُوعِ وهو اللُّغَاتُ على اخْتِلَافِهَا وَفِيهِ نَظَرٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا نَظَرٌ كُلِّيٌّ يَشْتَرِكُ فيه كُلُّ اللُّغَاتِ وهو من وُجُوهٍ يُعْرَفُ في عِلْمٍ آخَرَ وَالثَّانِي فِيمَا يَخْتَصُّ بِآحَادِ اللُّغَاتِ وَلَمَّا جَاءَتْ شَرِيعَتُنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَجَبَ النَّظَرُ فيها وَكَيْفِيَّةُ دَلَالَتِهَا من حَيْثُ صِيَغِهَا وَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى حُدُوثُ الْمَوْضُوعَاتِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إفَادَةً من هذه الثَّلَاثَةِ وَأَيْسَرِهَا أَمَّا كَثْرَةُ إفَادَتِهَا فَلِأَنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ مَعْلُومٍ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْإِشَارَةِ فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِ الْمَحْسُوسِ وَبِخِلَافِ الْمِثَالِ وهو أَنْ يُجْعَلَ لِمَا في الضَّمِيرِ شَكْلًا لِتَعَذُّرِهِ وَأَمَّا كَوْنُهَا أَيْسَرَ فَلِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ لِأَنَّ الْحُرُوفَ كَيْفِيَّاتٌ تُعْرَضُ لِلنَّفْسِيِّ الضَّرُورِيِّ مَسْأَلَةٌ الْمُفْرَدَاتُ مَوْضُوعَةٌ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُفْرَدَاتِ مَوْضُوعَةٌ كَوَضْعِ لَفْظِ إنْسَانٍ لِلْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَكَوَضْعِ قام لِحُدُوثِ الْقِيَامِ في زَمَنٍ مَخْصُوصٍ وَكَوَضْعِ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي وَنَحْوِهَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ في الْمُرَكَّبَاتِ هل هِيَ مَوْضُوعَةٌ أَمْ لَا وَاخْتَلَفُوا في الْمُرَكَّبَاتِ نحو قام زَيْدٌ وَعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ فَقِيلَ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً وَلِهَذَا لم يَتَكَلَّمْ أَهْلُ اللُّغَةِ في الْمُرَكَّبَاتِ وَلَا في تَأْلِيفِهَا وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا في وَضْعِ الْمُفْرَدَاتِ وما ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ فيها مَوْكُولٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بها وَاخْتَارَهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَهَذَا هو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ مَالِكٍ حَيْثُ قال إنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ عَقْلِيَّةٌ لَا وَضْعِيَّةٌ وَاحْتَجَّ له في كِتَابِ الْفَيْصَلِ على الْمُفَصَّلِ بِوَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ من لَا يَعْرِفُ من الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ إلَّا لَفْظَيْنِ مُفْرَدَيْنِ صَالِحَيْنِ لِإِسْنَادِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فإنه لَا يُفْتَقَرُ عِنْدَ سَمَاعِهِمَا مع الْإِسْنَادِ إلَى مُعَرِّفٍ لِمَعْنَى الْإِسْنَادِ بَلْ يُدْرِكُهُ ضَرُورَةً وَثَانِيهِمَا أَنَّ الدَّالَّ بِالْوَضْعِ لَا بُدَّ من إحْصَائِهِ وَمَنْعِ الِاسْتِئْنَافِ فيه كما كان ذلك في الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ الْقَائِمَةِ مَقَامَهَا فَلَوْ كان الْكَلَامُ دَالًّا بِالْوَضْعِ وَجَبَ ذلك فيه ولم يَكُنْ لنا أَنْ نَتَكَلَّمَ إلَّا بِكَلَامٍ سَبَقَ إلَيْهِ كما لَا يُسْتَعْمَلُ في الْمُفْرَدَاتِ إلَّا ما سَبَقَ اسْتِعْمَالُهُ وفي عَدَمِ ذلك بُرْهَانٌ على أَنَّ الْكَلَامَ ليس دَالًّا بِالْوَضْعِ ا هـ وَحَكَاهُ ابن إيَازٍ عن شَيْخِهِ قال وَلَوْ كان حَالُ الْجُمَلِ حَالَ الْمُفْرَدَاتِ في الْوَضْعِ لَكَانَ اسْتِعْمَالُ الْجُمَلِ وَفَهْمُ مَعْنَاهَا مُتَوَقِّفًا على نَقْلِهَا عن الْعَرَبِ كما كان الْمُفْرَدَاتُ كَذَلِكَ وَلَوَجَبَ على أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يَتَتَبَّعُوا الْجُمَلَ وَيُودِعُوهَا كُتُبَهُمْ كما فَعَلُوا ذلك بِالْمُفْرَدَاتِ وَلِأَنَّ الْمُرَكَّبَاتِ دَلَالَتُهَا على مَعْنَاهَا التَّرْكِيبِيِّ بِالْعَقْلِ لَا بِالْوَضْعِ فإن من عَرَفَ مُسَمَّى زَيْدٌ وَعَرَفَ مُسَمَّى قَائِمٌ وَسَمِعَ زَيْدٌ قَائِمٌ بِإِعْرَابِهِ الْمَخْصُوصِ فَهِمَ بِالضَّرُورَةِ مَعْنَى هذا الْكَلَامِ وهو نِسْبَةُ الْقِيَامِ إلَى زَيْدٍ نعم يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مَوْضُوعَةٌ بِاعْتِبَارِ أنها مُتَوَقِّفَةٌ على مَعْرِفَةِ مُفْرَدَاتِهَا التي لَا تُسْتَفَادُ إلَّا من جِهَةِ الْوَضْعِ وَلِأَنَّ لِلَّفْظِ الْمُرَكَّبِ أَجْزَاءً مَادِّيَّةً وَجُزْءًا صُورِيًّا وهو التَّأْلِيفُ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ لِمَعْنَاهُ أَجْزَاءٌ مَادِّيَّةٌ وَجُزْءٌ صُورِيٌّ وَالْأَجْزَاءُ الْمَادِّيَّةُ من اللَّفْظِ تَدُلُّ على الْأَجْزَاءِ الْمَادِّيَّةِ من الْمَعْنَى وَالْجُزْءُ الصُّورِيُّ منه يَدُلُّ على الْجُزْءِ الصُّورِيِّ من الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ وَالثَّانِي أنها مَوْضُوعَةٌ فَوُضِعَتْ زَيْدٌ قَائِمٌ لِلْإِسْنَادِ دُونَ التَّقْوِيَةِ في مُفْرَدَاتِهِ وَلَا تَنَافِي بين وَضْعِهَا مُفْرَدَةً لِلْإِسْنَادِ بِدُونِ التَّقْوِيَةِ وَوَضْعِهَا مُرَكَّبَةً لِلتَّقْوِيَةِ وَلِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ فَالْمُضَافُ مُقَدَّمٌ على الْمُضَافِ إلَيْهِ في بَعْضِ اللُّغَاتِ وَمُؤَخَّرٌ عنها في بَعْضٍ وَلَوْ كانت عَقْلِيَّةً لِفَهْمِ الْمَعْنَى وَاحِدًا سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْمُضَافُ على الْمُضَافِ إلَيْهِ أو تَأَخَّرَ وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ قال أَقْسَامُهَا مُفْرَدٌ وَمُرَكَّبٌ قال الْقَرَافِيُّ وهو الصَّحِيحُ وَعَزَاهُ غَيْرُهُ لِلْجُمْهُورِ بِدَلِيلِ أنها حُجِرَتْ في التَّرَاكِيبِ كما حُجِرَتْ في الْمُفْرَدَاتِ فَقُلْت إنَّ من قال إنَّ قَائِمٌ زَيْدًا ليس من كَلَامِنَا وَمَنْ قال إنَّ زَيْدًا قَائِمٌ فَهُوَ من كَلَامِنَا وَمَنْ قال في الدَّارِ رَجُلٌ فَهُوَ من كَلَامِنَا وَمَنْ قال رَجُلٌ في الدَّارِ فَلَيْسَ من كَلَامِنَا إلَخْ إلَى ما لَا نِهَايَةَ له في تَرَاكِيبِ الْكَلَامِ وَذَلِكَ يَدُلُّ على تَعَرُّضِهَا بِالْوَضْعِ لِلْمُرَكَّبَاتِ
وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا وَضَعَتْ أَنْوَاعَ الْمُرَكَّبَاتِ أَمَّا جُزْئِيَّاتُ الْأَنْوَاعِ فَلَا فَوَضَعَتْ بَابَ الْفَاعِلِ لِإِسْنَادِ كل فِعْلٍ إلَى من صَدَرَ منه أَمَّا الْفَاعِلُ الْمَخْصُوصُ فَلَا وَكَذَلِكَ بَابُ إنَّ وَأَخَوَاتِهَا أَمَّا اسْمُهَا الْمَخْصُوصُ فَلَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَنْوَاعِ التَّرْكِيبِ وَأَحَالَتْ الْمُعَيَّنَ على اخْتِيَارِ الْمُتَكَلِّمِ فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ بِوَضْعِ الْمُرَكَّبَاتِ هذا الْمَعْنَى فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَمَمْنُوعٌ وَيَتَفَرَّعُ على هذه الْقَاعِدَةِ أَنَّ الْمَجَازَ هل يَدْخُلُ في الْمُرَكَّبَاتِ أَمْ لَا وَأَنَّهُ هل يَشْتَرِطُ الْعِلَاقَةَ في الْآحَادِ أَمْ لَا وَحَقِيقَةُ هذا الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ الْمُرَكَّبِ على مَعْنَاهُ هل هِيَ عَقْلِيَّةٌ كَدَلَالَةِ الْمُتَكَلِّمِ من وَرَاءِ الْحَائِطِ على أَنَّهُ إنْسَانٌ أو وَضْعِيَّةٌ تَنْبِيهٌ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ مَوْضُوعَانِ لم أَرَ لهم كَلَامًا في الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ لِأَنَّهُمَا مُفْرَدَانِ وهو الذي يَقْتَضِيهِ حَدُّهُمْ لِلْمُفْرَدِ وَلِهَذَا عَامَلُوا جُمُوعَ التَّكْسِيرِ مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدِ في الْأَحْكَامِ لَكِنْ صَرَّحَ ابن مَالِكٍ في كَلَامِهِ على حَدِّهَا بِأَنَّهُمَا غَيْرُ مَوْضُوعَيْنِ وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ فَرَّعَهُ على رَأْيِهِ في عَدَمِ وَضْعِ الْمُرَكَّبَاتِ لِأَنَّهُ لَا تَرْكِيبَ فيها لَا سِيَّمَا أَنَّ الْمُرَكَّبَ في الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هو الْإِسْنَادُ وَكَذَا الْقَوْلُ في أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ وَالْأَجْنَاسِ مِمَّا يَدُلُّ على مُتَعَدِّدٍ فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ وَضْعِهِ عَجِيبٌ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ سَمَاعِيٌّ وقد صَرَّحَ ابن مَالِكٍ بِأَنَّ شَفْعًا وَنَحْوَهُ مِمَّا يَدُلُّ على اثْنَيْنِ مَوْضُوعٌ وقال ابن الْجُوَيْنِيِّ الظَّاهِرُ لي أَنَّ التَّثْنِيَةَ وُضِعَ لَفْظُهَا بَعْدَ الْجَمْعِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى الْجَمْعِ كَثِيرًا وَلِهَذَا لم يُوجَدْ في سَائِرِ اللُّغَاتِ تَثْنِيَةٌ وَالْجَمْعُ مَوْجُودٌ في كل لُغَةٍ وَمِنْ ثَمَّ قال بَعْضُهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ لِأَنَّ الْوَاضِعَ قال الشَّيْءُ إمَّا وَاحِدٌ وَإِمَّا كَثِيرٌ لَا غَيْرُ فَجَعَلَ الِاثْنَيْنِ في حَدِّ الْكَثْرَةِ الْمَوْضُوعُ له الرَّابِعُ في الْمَوْضُوعِ له وقد اُخْتُلِفَ في أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ أو الْخَارِجِيِّ أو لِأَعَمَّ مِنْهُمَا أو لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ لم تُوضَعْ الْأَلْفَاظُ لِلدَّلَالَةِ على الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ بَلْ وُضِعَتْ
لِلدَّلَالَةِ على الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ وَبِوَاسِطَةِ ذلك تَدُلُّ على الْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ وَهَذَا كَالْخَطِّ فإنه يَدُلُّ على اللَّفْظِ وَبِوَاسِطَةِ ذلك يَدُلُّ على الْمَعْنَى فإذا قُلْت الْعَالَمُ حَادِثٌ فَلَا يَدُلُّ على كَوْنِهِ حَادِثًا بَلْ يَدُلُّ على حُكْمِك بِحُدُوثِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وابن الزَّمْلَكَانِيِّ في الْبُرْهَانِ وَالْقُرْطُبِيُّ في الْوُصُولِ وَاحْتَجُّوا عليه أَمَّا في الْمُفْرَدَاتِ فَلِأَنَّا لو رَأَيْنَا شَبَحًا من بَعِيدٍ ظَنَنَّاهُ رَجُلًا فإذا قَرُبَ رَأَيْنَاهُ شَبَحًا فلما اخْتَلَفَتْ الْأَسَامِي عِنْدَ اخْتِلَافِ الصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ دَلَّ على أَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ له إلَّا عليها وَأَمَّا في الْمُرَكَّبَاتِ فَلِأَنَّ قَوْلَنَا قام زَيْدٌ لَا يُفِيدُ قِيَامَ زَيْدٍ وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِهِ وَالْإِخْبَارَ عنه ثُمَّ نَنْظُرُ مُطَابَقَتَهُ لِلْخَارِجِ أَمْ لَا وقد أُجِيبَ عن هذا الدَّلِيلِ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إنَّمَا عُرِضَ لِاعْتِقَادِ أنها في الْخَارِجِ كَذَلِكَ لَا لِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِهَا في الذِّهْنِ من غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْخَارِجِ وَأَيْضًا إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مِمَّا يَشْخَصُ في الْخَارِجِ مَجَازًا وقال الْأَصْفَهَانِيُّ من نَفَى الْوَضْعَ لِلْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ إنْ أَرَادَ أنها لم تُوضَعْ لِلدَّلَالَةِ على الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ ابْتِدَاءً من غَيْرِ تَوَسُّطِ الدَّلَالَةِ على الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ فَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَدُلُّ على وُجُودِ الْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ بِتَوَسُّطِ دَلَالَتِهِ على الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الدَّلَالَةَ الْخَارِجِيَّةَ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً من وَضْعِ اللَّفْظِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُخَبِّرَ إذَا أَخْبَرَ غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ جاء زَيْدٌ فإن قَصْدَهُ الْإِخْبَارَ بِمَجِيئِهِ في الْخَارِجِ الثَّانِي أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ لَا الذِّهْنِيِّ لِأَنَّهُ مُسْتَقَرُّ الْأَحْكَامِ وَهَذَا ما جَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ وَيَلْزَمُ الرَّازِيَّ من نَفْيِهِ الْوَضْعَ لِلْخَارِجِيِّ أَنْ يَكُونَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عليها في الْخَارِجِ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً وَلَا تَضَمُّنًا وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا نَفْيُ الْحَقَائِقِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ له وَعِنْدَهُ إنَّمَا وُضِعَ لِلذِّهْنِيِّ وَلَكِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ لِلْخَارِجِيِّ وَيَلْزَمُ على قَوْلِ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ أَنْ لَا يَكُونَ الْآنَ شَيْءٌ مَوْضُوعٌ لِأَنَّ الْوَضْعَ زَالَ وهو صَحِيحٌ الثَّالِثُ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى من حَيْثُ هو أَعَمُّ من الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ وَلَيْسَ لِكُلِّ مَعْنًى لَفْظٌ بَلْ كُلُّ مَعْنًى مُحْتَاجُ إلَى اللَّفْظِ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَرَدَّ مَذْهَبَ الْإِمَامِ إلَيْهِ الرَّابِعُ أَنَّهُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَنَسَبَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الْخُوبِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِلْفَلَاسِفَةِ قال وَأَصْلُهُ الْخِلَافُ في أَنَّ الِاسْمَ عَيْنُ الْمُسَمَّى أو غَيْرِهِ