كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي
وَأَنْ يَقْدَحَ في الْعِلَّةِ بِالنَّقْضِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ إذَا أَمْكَنَهُ وفي جَوَازِ قَلْبِ قَلْبِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ بِنَاءً على أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ فإذا قَلَبَهُ على الْقَالِبِ صَارَ شَاهِدًا له من وَجْهَيْنِ وَلِلْقَالِبِ من وَجْهٍ وَاحِدٍ فَيَتَرَجَّحُ عليه وَالثَّانِي الْمَنْعُ وَرَجَّحَهُ الْبَاجِيُّ لِأَنَّهُ نَقْضٌ وَالنَّقْضُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْقَضَ وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يُقْلَبُ وَرَجَّحَ في الْمَحْصُولِ الْجَوَازَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مُنَاقِضًا لِلْحُكْمِ لِأَنَّ قَلْبَ الْقَالِبِ إذَا فَسَدَ بِالْقَلْبِ سَلِمَ أَصْلُ الْقِيَاسِ من الْقَلْبِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ ليس بِمُعَارَضَةٍ بَلْ هو إفْسَادُ الْعِلَّةِ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَتَكَلَّمَ على قَلْبِهِ بِكُلِّ ما لِلْقَالِبِ أَنْ يَتَكَلَّمَ على دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ لِمَا تَقَدَّمَ في النَّقْضِ نعم يَفْتَرِقُ الْقَلْبُ وَالْمُعَارَضَةُ في صُوَرٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْقَلْبَ مُعَارَضَةٌ مَبْنِيَّةٌ على إجْمَاعِ الْخَصْمَيْنِ سَوَاءٌ انْضَمَّ إلَيْهِمَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَمْ لَا وَالْمُنَاقَضَةُ في الْمُعَارَضَةِ حَقِيقِيَّةٌ وفي الْقَلْبِ وَضْعِيَّةٌ أَيْ تَوَاضُعُ الْخَصْمَانِ أو الْمُجْمِعُونَ على الْمُنَاقَضَةِ ثَانِيهَا أَنَّ عِلَّةَ الْمُعَارَضَةِ وَأَصْلَهَا قد يَكُونُ مُغَايِرًا لِعِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ وَأَصْلِهِ بِخِلَافِ الْقَلْبِ فإن عِلَّتَهُ وَأَصْلَهُ هُمَا عِلَّتَا الْمُسْتَدِلِّ وَأَصْلُهُ ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ ثَالِثُهَا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَصْلٍ وَلَا إثْبَاتِ الْوَصْفِ وَكُلُّ قَلْبٍ مُعَارَضَةٌ بِخِلَافِ الْعَكْسِ رَابِعُهَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فيه الزِّيَادَةُ في الْعِلَّةِ وفي سَائِرِ الْمُعَارَضَاتِ يُمْكِنُ خَامِسُهَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ منه وُجُودُ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَالِبِ وَفَرْعَهُ هو أَصْلُ الْمُعَلَّلِ وَفَرْعُهُ وَيُمْكِنُ ذلك في بَقِيَّةِ الْمُعَارَضَاتِ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ وقال السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ من الْجَدَلِيِّينَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ من الْقَلْبِ وهو الذي يَتَبَيَّنُ فيه أَنَّ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ عليه لَا له هو من قَبِيلِ الِاعْتِرَاضَاتِ وَلَا يُتَّجَهُ في قَبُولِهِ خِلَافٌ وَأَمَّا الثَّانِي وهو ما يَدُلُّ على الْمُسْتَدِلِّ من وَجْهٍ آخَرَ كَمِثَالِ الِاعْتِكَافِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَبَيْعِ الْغَائِبِ فَاخْتَلَفُوا فيه هل هو اعْتِرَاضٌ أو مُعَارَضَةٌ فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُعَارِضُ دَلَالَةَ الْمُسْتَدِلِّ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى قال وَلِهَذَا الْخِلَافِ فَوَائِدُ منها أَنَّهُ إنْ قِيلَ إنَّهُ مُعَارَضَةٌ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عليه مِثْلَ أَنْ يَقُولَ في بَيْعِ
الْغَائِبِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ فَلَا يَنْعَقِدُ على خِيَارِ الرُّؤْيَةِ كَالنِّكَاحِ وَإِنْ قِيلَ هو اعْتِرَاضٌ لم تَجُزْ فيه الزِّيَادَةُ انْتَهَى وَهَذَا يُخَالِفُ ما سَبَقَ عن الْمَحْصُولِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُعَارَضَةَ كَدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ فَلَا يَتَعَذَّرُ بِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ بِخِلَافِ الِاعْتِرَاضِ فإنه مَنْعٌ لِلدَّلِيلِ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَيَكُونُ كَالْكَذِبِ على الْمُسْتَدِلِّ حَيْثُ يقول ما لم يَقُلْ وَمِنْهَا إنْ قُلْنَا إنَّهُ مُعَارَضَةٌ جَازَ قَلْبُهُ من الْمُسْتَدِلِّ كما يُعَارِضُ الْعِلَّةَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ في بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ فَلَا يَصِحُّ قِيَاسًا على الشِّرَاءِ فيقول الْمُسْتَدِلُّ أنا أَقْلِبُ هذا الدَّلِيلَ وَأَقُولُ تَصَرُّفٌ في مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ فَلَا يَقَعُ لِمَنْ أَضَافَهُ إلَيْهِ كَالشِّرَاءِ فإن الشِّرَاءَ يَصْلُحُ لِمَنْ أُضِيفَ إلَيْهِ وهو الْمُشْتَرِي له بَلْ صَحَّ لِلْمُشْتَرِي وهو الْفُضُولِيُّ وَمَنْ قال إنَّهُ اعْتِرَاضٌ لم يَجُزْ ذلك لِأَنَّهُ مَنْعٌ وَالْمَنْعُ لَا يَمْنَعُ وَمِنْهَا أَنَّهُ إنْ قُلْنَا إنَّهُ مُعَارَضَةٌ جَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ عن الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ كَالْجُزْءِ منها وَإِنْ كان اعْتِرَاضًا لم يَجُزْ وَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عليها لِأَنَّ الْمَنْعَ مُقَدَّمٌ على الْمُعَارَضَةِ وَمِنْهَا أَنَّ من جَعَلَهُ مُعَارَضَةً قَبِلَ فيه التَّرْجِيحَ وَمَنْ قال إنَّهُ اعْتِرَاضٌ مَنَعَ من ذلك لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ كَالدَّلِيلِ الْمُبْتَدَأِ وَالْمَنْعُ لَا يَقْبَلُ التَّرْجِيحَ الرَّابِعُ في أَقْسَامِهِ أَحَدُهَا قَلْبُ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ وهو ما يَدُلُّ على تَصْحِيحِ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ مع إبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ إمَّا صَرِيحًا كَقَوْلِنَا في بَيْعِ الْفُضُولِيِّ عَقْدٌ في حَقِّ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ فَلَا يَصِحُّ كما إذَا اشْتَرَى شيئا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فيقول الْخَصْمُ عَقْدٌ في حَقِّ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ فَيَصِحُّ كما إذَا اشْتَرَى شيئا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فإنه يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ في حَقِّ الْعَاقِدِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا على أَقْسَامِ الْقَلْبِ وَإِمَّا ضِمْنًا كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ في الِاعْتِكَافِ لُبْثٌ فَلَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ قُرْبَةً كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَغَرَضُهُ اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ وَإِنَّمَا لم يُصَرِّحْ بِهِ لِأَنَّهُ لم يَجِدْ أَصْلًا يُلْحِقُهُ بِهِ فيقول لُبْثٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الصَّوْمُ كَالْوُقُوفِ وَجَوَابُهُ إمَّا بِمَنْعِ صِحَّةِ الْقَلْبِ إنْ كان لَا يَقْبَلُهُ وَإِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ عليه بِكُلِّ ما يَتَكَلَّمُ على الْعِلَلِ الْمُبْتَدَأَةِ من الْمَنْعِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالنَّقْضِ على ما سَبَقَ فيه من الْخِلَافِ
وَكَذَا الْقَلْبُ على أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فيقول هذه الْأَوْصَافُ التي ذَكَرْت فيها لَا تُؤَثِّرُ في حُكْمِ الْقَلْبِ وَهِيَ مُؤَثِّرَةٌ في حُكْمِ عِلَّتِي أو يقول هذه الْعِلَّةُ لَا تَصْلُحُ لِلْحُكْمِ الذي عُلِّقَتْ عليها وَتَصْلُحُ لِلْحُكْمِ الذي عُلِّقَتْ عليها فيقول في صُورَةِ الْبَيْعِ هذه الْأَوْصَافُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا في حُكْمِ عِلَّتِك لِأَنَّك لو اقْتَصَرْت على قَوْلِك عَقْدٌ عَقَدَهُ في حَقِّ الْغَيْرِ فَيَصِحُّ لم يُنْقَضْ أو يقول هذه الْأَوْصَافُ التي ذَكَرْتَهَا تَقْتَضِي إفْسَادَ الْبَيْعِ وقد عَلَّقْت عليها صِحَّةَ الْعَقْدِ وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ لم يَصِحَّ الثَّانِي ما يَدُلُّ على إبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ إمَّا صَرِيحًا كَقَوْلِهِمْ مَسْحُ الرَّأْسِ رُكْنٌ فَلَا يَكْفِي أَقَلُّ ما يَنْطَلِقُ عليه الِاسْمُ كَالْوَجْهِ فَيُقَالُ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبُعِ كَالْوَجْهِ وَإِمَّا بِالِالْتِزَامِ كَقَوْلِهِمْ في بَيْعِ الْغَائِبِ صَحِيحٌ كَنِكَاحِ الْغَائِبِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَنَقُولُ فَلَا تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ في بَيْعِ الْغَائِبِ قِيَاسًا على النِّكَاحِ بِالْجَامِعِ الْمَذْكُورِ وَمِنْ هذا الْقِسْمِ قَلْبُ التَّسْوِيَةِ لِتَضَمُّنِهِ التَّسْوِيَةَ بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وهو أَنْ يَكُونَ في الْأَصْلِ حُكْمَانِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُنْتَفٍ في الْفَرْعِ بِالِاتِّفَاقِ بين الْخَصْمَيْنِ وَالْآخَرُ مُنَازَعٌ فيه فإذا أَرَادَ إثْبَاتَهُ في الْفَرْعِ بِالْقِيَاسِ على الْأَصْلِ اُعْتُرِضَ بِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا في الْفَرْعِ على الْأَصْلِ فَيَلْزَمُ عَدَمُ ثُبُوتِهِ فيه كَقَوْلِهِمْ في طَلَاقِ الْمُكْرَهِ مُكَلَّفٌ مَالِكٌ لِلطَّلَاقِ فَيَقَعُ طَلَاقُهُ كَالْمُخْتَارِ وَيَلْزَمُ منه أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقُهُ ضِمْنًا وَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْمُسَاوَاةُ بين إقْرَارِهِ وَإِيقَاعِهِ وَإِقْرَارُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالِاتِّفَاقِ فَيَكُونُ إيقَاعُهُ أَيْضًا غير مُعْتَبَرٍ كَقَوْلِهِمْ في الْوُضُوءِ طَهَارَةٌ بِالْمَائِعِ فَلَا تَجِبُ فيها النِّيَّةُ كَالنَّجَاسَةِ فَنَقُولُ فَيَسْتَوِي جَامِدُهَا وَمَائِعُهَا كَالنَّجَاسَةِ في النِّيَّةِ وفي قَبُولِ هذا النَّوْعِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَحَدُهُمَا لَا يُقْبَلُ وَاخْتَارَهُ أبو الْقَاسِمِ بن كَجٍّ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالتَّسْوِيَةُ لَيْسَتْ من الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِأَنَّ الْقَالِبَ يُرِيدُ في الْأَصْلِ غير ما يُرِيدُ في الْفَرْعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ الشَّيْءِ من ضِدِّهِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ قَبِلَ أَصْلَ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّصْرِيحُ فيه بِحُكْمِ الْعِلَّةِ فإن الْحَاصِلَ في الْأَصْلِ نَفْيٌ وفي الْفَرْعِ إثْبَاتٌ وَالثَّانِي وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الشَّارِعَ لو نَصَّ على ذلك فقال أَقْصِدُ التَّسْوِيَةَ
بين الْإِقْرَارِ وَالْإِيقَاعِ كان صَحِيحًا وَكُلُّ ما جَازَ أَنْ يَنُصَّ عليه جَازَ أَنْ يَسْتَنْبِطَ وَيُعَلِّقَ عليه الْحُكْمَ وَجَوَابُهُ إمَّا بِإِمْكَانِ صِحَّةِ الْقَلْبِ أو بِالْكَلَامِ عليه بِمَا يَتَكَلَّمُ على الْعِلَلِ الْمُبْتَدَأَةِ فَنَقُولُ التَّسْوِيَةُ بين الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ لَا تَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَك الْمَائِعَ في الْوُضُوءِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ من أَجْوِبَتِهِ أَنْ يَقُولَ هذا الْحُكْمُ الذي ذَكَرْته مُصَرَّحٌ بِهِ وَاَلَّذِي عَارَضْتَنِي بِهِ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ وَالْمُصَرَّحُ بِهِ أَوْلَى من غَيْرِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ الثَّالِثُ الْقَلْبُ الْمَكْسُورُ وهو أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْمُسْتَدِلِّ كَاسْتِدْلَالِ الْمَالِكِيِّ على صِحَّةِ ضَمِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ في الزَّكَاةِ فَإِنَّهُمَا مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرِ بِكُلِّ حَالٍ فَضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ فيقول الشَّافِعِيُّ أَقْلِبُ هذه الْعِلَّةَ فَأَقُولُ مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرِ وَهُمَا من وَصْفٍ وَاحِدٍ فلم يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْقِيمَةِ كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ الرَّابِعُ الْقَلْبُ الْمُبْهَمُ وهو أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ تَسْوِيَةً كَقَوْلِهِمْ في الْكُسُوفِ صَلَاةٌ مَسْنُونَةٌ فَلَا يُثَنَّى فيها الرُّكُوعُ كَالْعِيدَيْنِ فَيَقْلِبُهُ وَيَقُولُ صَلَاةٌ مَسْنُونَةٌ تَخْتَصُّ بِزِيَادَةٍ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِخُصُوصِ الزِّيَادَةِ هل هِيَ رُكُوعٌ أو غَيْرُهُ لِأَنَّهُ لو تَعَرَّضَ لِخُصُوصِهَا في الرُّكُوعِ لم يَشْهَدْ له الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ وَمِنْ أَنْوَاعِ الْقَلْبِ جَعْلُ الْمَعْلُولِ عِلَّةً وَالْعِلَّةِ مَعْلُولًا وإذا أَمْكَنَ ذلك تَبَيَّنَ أَنْ لَا عِلَّةَ فإن الْعِلَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ وَالْمَعْلُولُ هو الْحُكْمُ الْوَاجِبُ بِهِ كَالْفَرْعِ مع الْأَصْلِ فلم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عِلَّةً وَالْعِلَّةُ حُكْمًا فلما احْتَمَلَ الِانْقِلَابَ دَلَّ على بُطْلَانِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِنَا في ظِهَارِ الذِّمِّيِّ إنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ كَالْمُسْلِمِ فيقول الْحَنَفِيُّ الْمُسْلِمُ لم يَصِحَّ ظِهَارُهُ لِأَنَّهُ صَحَّ طَلَاقُهُ وَإِنَّمَا صَحَّ طَلَاقُهُ لِأَنَّهُ صَحَّ ظِهَارُهُ وَمَنْ جَعَلَ الظِّهَارَ عِلَّةً لِلطَّلَاقِ لم يُثْبِتْ ظِهَارَ الذِّمِّيِّ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا النَّوْعُ اُخْتُلِفَ فيه فقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا
وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إنَّهُ صَحِيحٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّلِيلِ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ كُلٍّ مِنْهُمَا على ثُبُوتِ الْآخَرِ فَلَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِلدَّوْرِ وَقِيلَ لَا يَمْنَعُ لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ بِجَعْلِ الشَّارِعِ وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ كُلٌّ من الْحُكْمَيْنِ أَمَارَةً لِلْآخَرِ قال الْبَاجِيُّ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ وقال الشَّيْخُ في مَوْضِعٍ آخَرَ ذَهَبَ ابن الْبَاقِلَّانِيِّ إلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ صَحِيحٌ يُوقِفُ الْعِلَّةَ وَاَلَّذِي عليه عَامَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَعْتَرِضُ على الْعِلَّةِ وَلَا يُوجِبُ وَقْفَهَا وهو اخْتِيَارُ شَيْخِنَا أبي الطَّيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ في كِتَابِ التَّبْصِرَةِ وقال ابن الصَّبَّاغِ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْعُدَّةِ قِيلَ لَا يُعَارِضُ الْعِلَّةَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَجَوَابُ هذا التَّرْجِيحُ إنْ قُلْنَا بِهِ السَّادِسُ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ الْقَوْلُ بِمَا أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ أَيْ الْمُوجِبِ بِكَسْرِهَا فَهُوَ الدَّلِيلُ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ وهو تَسْلِيمُ مُقْتَضَى ما نَصَبَهُ الْمُسْتَدِلُّ مُوجِبًا لِعِلَّتِهِ مع بَقَاءِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا فيه وَذَلِكَ بِأَنْ يَظُنَّ الْمُعَلِّلُ أَنَّ ما أتى بِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَطْلُوبِهِ من حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فيها مع كَوْنِهِ غير مُسْتَلْزِمٍ فَلَا يَنْقَطِعُ النِّزَاعُ بِتَسْلِيمِهِ وَهَذَا أَوْلَى من تَعْرِيفِ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ له بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ أَيْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُهُ لَا يُشْعِرُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فيها وَهَذَا فيه إشْكَالٌ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ على غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَالِاسْتِدْلَالُ على مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قد يَتَخَيَّلُ من الْخَصْمِ مَانِعًا لِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ بِحَيْثُ لو بَطَلَ ذلك الْمَانِعُ تَقَرَّرَ أَنَّ الْخَصْمَ يُسَلِّمُ له الْحُكْمَ فَيَجْعَلُ الْمُسْتَدِلَّ عُمْدَتَهُ في الِاسْتِدْلَالِ لِإِبْطَالِ ما تَخَيَّلَهُ ظَنًّا منه أَنَّهُ إذَا بَطَلَ كَوْنُهُ مَانِعًا سَلِمَ الْحُكْمُ فَكَأَنَّهُ قد اسْتَدَلَّ على غَيْرِ الْحُكْمِ الْمَسْئُولِ أو اسْتَدَلَّ على أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ غَيْرُ مَانِعٍ من الْحُكْمِ وإذا لم يَكُنْ مَانِعًا لَزِمَ الْحُكْمُ وقال ابن الْمُنِيرِ حَدُّوهُ بِتَسْلِيمِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ مع بَقَاءِ النِّزَاعِ فيه وهو غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فيه ما ليس منه وهو بَيَانُ غَلَطِ الْمُسْتَدِلِّ على إيجَابِ النِّيَّةِ في الْوُضُوءِ بِقَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ فقال الْمُعْتَرِضُ أَقُولُ بِمُوجَبِ هذا الدَّلِيلِ
لَكِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ فَهَذَا يَنْطَبِقُ عليه الْحَدُّ وَلَيْسَ قَوْلًا بِالْمُوجَبِ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَظْهَرَ عُذْرٌ لِلْمُسْتَدِلِّ في الْغَلَطِ فَتَمَامُ الْحَدِّ أَنْ يُقَالَ هو تَسْلِيمُ نَقِيضِ الدَّلِيلِ مع بَقَاءِ النِّزَاعِ حَيْثُ يَكُونُ لِلْمُسْتَدِلِّ عُذْرٌ مُعْتَبَرٌ انْتَهَى وكان الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ الْقَرَمِيسِيُّ من أَئِمَّةِ الْأُصُولِ وَالْجَدَلِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ تَقْرِيرُ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ بِتَسْلِيمٍ حَقِيقَةً وَحَقِيقَتُهُ بَيَانُ انْحِرَافِ الدَّلِيلِ عن مَحَلِّ النِّزَاعِ وَعَلَى هذا فَلَا يَلْزَمُ منه الِانْقِطَاعُ بَلْ إنْ ثَبَتَ انْحِرَافُ الدَّلِيلِ فَقَدْ انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْحَرِفٍ لم يَنْقَطِعْ الْمُعْتَرِضُ بَلْ يَنْزِلُ على أَنَّهُ في مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ وَيُورِدُ عليه ما يَلِيقُ بِهِ وَيَنْبَنِي على هذا الْخِلَافِ فَرْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ هل يَجِبُ تَأْخِيرُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ عن بَقِيَّةِ الْأَسْئِلَةِ الثَّانِي أَنَّهُ حَيْثُ لَزِمَ فَهَلْ هو انْقِطَاعٌ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فإذا سَلَّمَ الْمُعْتَرِضُ ذلك حَقِيقَةً وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَقَدْ سَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ وكان مُنْقَطِعًا وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي إنَّهُ عِبَارَةٌ عن انْحِرَافِ الدَّلِيلِ عن مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَنَّهُ بَيَّنَ ذلك بِأَنْ سَلَّمَ مَدْلُولَ الدَّلِيلِ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا مع بَقَاءِ النِّزَاعِ فَعَلَى هذا إنْ لَزِمَ ذلك فَقَدْ انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ وَإِنْ لم يَلْزَمْهُ لم يُحْكَمْ بِانْقِطَاعِ الْمُعْتَرِضِ بَلْ له أَنْ يُورِدَ بَعْدَ ذلك ما شَاءَ من الْأَسْئِلَةِ وَهَذَا هو الذي كان يَخْتَارُهُ الْقَرَمِيسِيُّ وَمِنْ أَعْذَارِهِ أَنْ يَبْنِي الْمُسْتَدِلُّ على أَنَّ الْخَصْمَ يُوَافِقُ على الْمُقْتَضِي وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ من الْعَمَلِ ثُمَّ تَخَيَّلَ ما ليس بِمَانِعٍ مَانِعًا فَيَعْمِدُ الْمُسْتَدِلُّ إلَى ذلك الْمَانِعِ فَيُبْطِلُهُ لِيَسْلَمَ الْمُقْتَضِي فَيَلْزَمُ الْخَصْمَ الْمُوَافَقَةُ هذا ظَنُّ الْمُسْتَدِلِّ وَيَكُونُ الْمُعْتَرِضُ مَثَلًا لَا يُوَافِقُهُ على الْمُقْتَضِي أو يُوَافِقُهُ وَلَكِنَّ الْمَانِعَ عِنْدَهُ أَجْنَبِيٌّ عَمَّا يُخَيِّلُ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّهُ الْمَانِعُ عِنْدَهُ أو غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ وَلَكِنَّهُ جُزْءُ الْمَانِعِ فَلَا يَلْزَمُ من سَلْبِ الْمَاهِيَّةِ عن الْجُزْءِ سَلْبُ الْمَاهِيَّةِ عن الْكُلِّ أو مَانِعٌ مُسْتَقِلٌّ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ آخَرُ وإذا جَازَ تَعَدُّدُ الْعِلَلِ جَازَ تَعَدُّدُ الْمَوَانِعِ وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ الْمُسْتَدِلُّ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَيَسْكُتَ عن الْأُخْرَى ظَنًّا أنها مُسَلَّمَةٌ فيقول الْخَصْمُ بِمُوجَبِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَذْكُورَةِ وَيَبْقَى على الْمَنْعِ لِأَنَّهُ يُتَّجَهُ على مَنْعِ السُّكُوتِ عنها
وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ تَلَازُمًا بين مَحَلِّ النِّزَاعِ وَبَيْنَ مَحَلٍّ آخَرَ فَيَنْصِبَ الدَّلِيلَ على ذلك الْمَحَلِّ بِنَاءً منه على أَنَّهُ ما ثَبَتَ الْحُكْمُ في ذلك الْمَحَلِّ لَزِمَ أَنْ يَثْبُتَ في مَحَلِّ النِّزَاعِ فيقول الْمُعْتَرِضُ بِالْمُوجَبِ وَيَمْنَعُ الْمُلَازَمَةَ انْتَهَى وَالْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ من أَحْسَنِ ما يَجِيءُ بِهِ الْمُنَاظِرُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ في جَوَابِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ منها الْأَذَلَّ فَإِنَّهُمْ كَنَّوْا بِالْأَعَزِّ عن فَرِيقِهِمْ وَبِالْأَذَلِّ عن فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَثْبَتُوا لِلْأَعَزِّ الْإِخْرَاجَ فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى في الرَّدِّ عليهم صِنْفَ الْعِزَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ فإذا كان الْأَعَزُّ يُخْرِجُ الْأَذَلَّ فَأُنْتَمَ الْمُخْرَجُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وهو من أَحْسَنِ وُجُوهِ الِاعْتِرَاضَاتِ وَأَكْثَرُ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ على النُّصُوصِ تَرْجِعُ إلَيْهِ لِأَنَّ النَّصَّ إذَا ثَبَتَ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَلَا يَرِدُ عليه سُؤَالٌ إلَّا وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى تَسْلِيمِ النَّصِّ وَمَنْعِ لُزُومُ الْحُكْمِ منه وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَارَضَةِ أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إلَى حَيْدِ الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ عن مَحَلِّ النِّزَاعِ وَالْمُعَارَضَةُ فيها اعْتِرَافٌ بِمِسَاسِ الدَّلِيلِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ قال إلْكِيَا وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ إذَا لم يَأْتِ الْمُعَلِّلُ بِمَا يُؤَثِّرُ في نَفْسِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فيه بَلْ يَعْتَرِضُ لِإِبْطَالِ ما ظَنَّهُ مُوجَبًا وَمُؤَثِّرًا عِنْدَ الْخَصْمِ وَالْمُؤَثِّرُ غَيْرُهُ وَلَوْ صَرَّحَ بِنَفْسِ الْحُكْمِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ تَبَعًا لِلْإِمَامِ هو سُؤَالٌ صَحِيحٌ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُمَانَعَةِ وَلَا بُدَّ في تَوَجُّهِهِ من شَرْطٍ وهو أَنْ يَسْنُدَ الْحُكْمَ الذي تُنْصَبُ له الْعِلَّةُ إلَى شَيْءٍ مِثْلَ قَوْلِ الْحَنَفِيِّ في مَاءِ الزَّعْفَرَانِ مَاءٌ خَالَطَهُ طَاهِرٌ وَالْمُخَالَطَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوُضُوءِ فيقول السَّائِلُ الْمُخَالِطُ لَا يَمْنَعُ الْمَاءَ مع أَنَّهُ ليس بِمَاءٍ مُطْلَقٍ وَشَرَطَ في الْمَنْخُولِ لِصِحَّتِهِ أَنْ يَبْقَى الْخِلَافُ معه في مَحَلِّ النِّزَاعِ قال وَلَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ مع التَّصْرِيحِ بِالْحُكْمِ الذي أَثْبَتَ النِّزَاعَ فإنه يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إذَا أَجْمَلَ الْحُكْمَ وقال إنْ كان كَذَا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كَذَا فيقول بِمُوجَبِهِ في بَعْضِ الصُّوَرِ أو يَتَعَرَّضَ لِنَفْيِ عِلَّةِ الْخَصْمِ وما ذَكَرْنَاهُ من جَعْلِهِ من قَوَادِحِ الْعِلَّةِ صَرَّحَ بِهِ إلْكِيَا وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا قال بِمُوجَبِهَا كانت الْعِلَّةُ في مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ وَلَا تَكُونُ مُتَنَاوِلَةً لِمَوْضِعِ الْخِلَافِ وَلِأَنَّهُ إذَا كان تَسْلِيمُ مُوجَبِ ما ذَكَرَهُ من الدَّلِيلِ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ عَلِمْنَا أَنَّ ما ذَكَرَهُ ليس بِدَلِيلِ الْحُكْمِ الذي قَصَدَ إثْبَاتَهُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ ليس من قَوَادِحِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِمُوجَبِ الدَّلِيلِ
تَسْلِيمٌ فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْسِدًا وَحَكَى في الْمَنْخُولِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ لَا يُسَمَّى اعْتِرَاضًا لِأَنَّهُ مُطَابَقَةٌ لِلْعِلَّةِ وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وقد عَدَّهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ من الِاعْتِرَاضَاتِ الصَّحِيحَةِ ثُمَّ قال ثُمَّ الْأُصُولِيُّونَ تَارَةً يَقُولُونَ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ ليس اعْتِرَاضًا وهو لَعَمْرِي كَذَلِكَ فإنه لَا يُبْطِلُ الْعِلَّةَ لِأَنَّهُ إذَا جَرَتْ الْعِلَّةُ وَحُكْمُهَا مُخْتَلَفٌ فيه فَلَأَنْ تَجْرِيَ وَحُكْمُهَا مُتَّفَقٌ عليه أَوْلَى قال الْمُقْتَرِحُ في تَعْلِيلِهِ إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ لَا يُبْطِلُ الْعِلَّةَ مُطْلَقًا فَمُسَلَّمٌ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ في جَمِيعِ مَجَارِيهَا وَإِنْ أَرَادُوا لَا تَبْطُلُ في مَحَلِّ النِّزَاعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ فإنه يَلْزَمُ من الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ إبْطَالُ الْعِلَّةِ في مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهَذَا هو الذي تَصَدَّى الْمُعْتَرِضُ له وهو إبْطَالُ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ في الْمَحَلِّ الْمُتَنَازَعِ فيه فلم يَصِحَّ قَوْلُهُمْ إنَّهُ ليس مُبْطِلًا لِلْعِلَّةِ إلَّا على تَقْدِيرِ إرَادَةِ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُهَا في جَمِيعِ مَجَارِيهَا وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في النِّهَايَةِ إذَا تَوَجَّهَ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ انْقَطَعَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ إنْ بَقِيَ النِّزَاعُ انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ وَإِنْ لم يَبْقَ النِّزَاعُ انْقَطَعَ السَّائِلُ انْتَهَى وَاخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَجِبُ على الْمُعْتَرِضِ إبْدَاءُ سَنَدِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ أَمْ لَا فَقِيلَ يَجِبُ لِقُرْبِهِ إلَى ضَبْطِ الْكَلَامِ وَصَوْنِهِ عن الْخَبْطِ وَإِلَّا فَقَدْ يقول بِالْمُوجَبِ على سَبِيلِ الْعِنَادِ وَقِيلَ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ وَفَّى بِمَا عليه وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ الْجَوَابُ وهو أَعْرَفُ بِمَأْخَذِ مَذْهَبِهِ فَيَصْدُقُ فِيمَا يَقُولُهُ لِغَيْرِهِ من الْأَخْبَارِ قال الْآمِدِيُّ وهو الْمُخْتَارُ ثُمَّ هو إمَّا أَنْ يَرِدَ من الْمُعْتَرِضِ دَفْعًا عن مَذْهَبِهِ أو إبْطَالًا لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ بِاسْتِيفَاءِ الْخِلَافِ مع تَسْلِيمِ نَقِيضِ دَلِيلِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ على دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ إبْطَالُ مَدْرَكِ الْخَصْمِ إثْبَاتَ مَذْهَبِهِ هو أو لَا فَإِنْ كان الْأَوَّلَ فَالْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ يَكُونُ من الْمُعْتَرِضِ دَفْعًا عن مَأْخَذِهِ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَإِنْ كان الثَّانِيَ كان إبْطَالًا لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ لِأَنَّهُمَا كَالْمُتَحَارَبِينَ كُلٌّ منهم يَقْصِدُ الدَّفْعَ عن نَفْسِهِ وَتَعْطِيلَ صَاحِبِهِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِمْ في إيجَابِ الزَّكَاةِ في الْخَيْلِ يُسَابَقُ عليها فَتَجِبُ فيها الزَّكَاةُ كَالْإِبِلِ فيقول مُسَلَّمٌ في زَكَاةِ التِّجَارَةِ وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هو في زَكَاةِ الْعَيْنِ وَدَلِيلُكُمْ إنَّمَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ في الْجُمْلَةِ وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا في إيجَابِ الْقِصَاصِ في الْمُثَقَّلِ الْمُتَفَاوِتُ في الْوَسِيلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ كَالتَّفَاوُتِ في الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ وهو الْقَتْلُ فإنه لو ذَبَحَهُ أو ضَرَبَ عُنُقَهُ أو طَعَنَهُ لم يَمْنَعْ الْقِصَاصَ وَهَذَا فيه إبْطَالُ مَذْهَبِ الْخَصْمِ إذْ الْحَنَفِيُّ يَرَى أَنَّ التَّفَاوُتَ في الْآلَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ فيقول الْحَنَفِيُّ تَسْلِيمُ التَّفَاوُتِ في الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ من إبْطَالِ الْمَنْعِ
لِلْقِصَاصِ ثُبُوتُهُ بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ ثُبُوتُهُ من وُجُودِ مُقْتَضِيهِ وهو السَّبَبُ الصَّالِحُ لِإِثْبَاتِهِ وَالنِّزَاعِ فيه وَجَوَابُهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ لُزُومَ الْحُكْمِ مَحَلَّ النِّزَاعِ بِوُجُودِ نَقِيضِهِ بِمَا ذُكِرَ في دَلِيلِهِ إنْ أَمْكَنَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ في الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ يَلْزَمُ من كَوْنِ التَّفَاوُتِ في الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ وُجُودُ مُقْتَضَى الْقِصَاصِ بِنَاءً على أَنَّ وُجُودَ الْمَانِعِ وَعَدَمَهُ قِيَامُ الْمُقْتَضِي إذْ لَا يَكُونُ الْوَصْفُ تَابِعًا بِالْفِعْلِ إلَّا لِمُعَارَضَةِ الْمُقْتَضِي وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي وُجُودَهُ أو يُبَيِّنُ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هو فِيمَا يَعْرِضُ له بِإِقْرَارٍ أو اعْتِرَاضٍ من الْمُعْتَرِضِ بِدَلِيلٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ في صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ لَا في ثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَيَسْتَدِلُّ على ذلك السَّابِعُ الْفَرْقُ وَيُسَمَّى سُؤَالَ الْمُعَارَضَةِ وسؤال الْمُزَاحَمَةِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَلْقَابٍ وهو إبْدَاءُ وَصْفٍ في الْأَصْلِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِلْحُكْمِ أو جُزْءَ عِلَّةٍ وهو مَعْدُومٌ في الْفَرْعِ سَوَاءٌ كان مُنَاسِبًا أو شَبَهًا إنْ كانت الْعِلَّةُ شَبِيهَةً بِأَنْ يَجْمَعَ الْمُسْتَدِلُّ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَيُبْدِي الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا فَارِقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْعِ وقد اشْتَرَطُوا فيه أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَرْقٌ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ وَإِلَّا لَكَانَ هو هو وَلَيْسَ كُلُّ ما انْفَرَدَ بِهِ الْأَصْلُ من الْأَوْصَافِ يَكُونُ مُؤَثِّرًا مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ بَلْ قد يَكُونُ مُلْغًى بِالِاعْتِبَارِ بِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْفَارِقُ قَادِحًا وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا لِلْجَمْعِ بِأَنْ يَكُونَ أَخَصَّ من الْجَمْعِ لِيُقَدَّمَ عليه أو مثله لِيُعَارِضَهُ قال بَعْضُهُمْ اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ في حَدِّهِ فقال الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ إنَّ حَقِيقَةَ الْفَرْقِ قَطْعُ الْجَمْعِ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إذْ اللَّفْظُ أَشْعَرَ بِهِ وهو الذي يُقْصَدُ منه وقال بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ حَقِيقَتُهُ الْمَنْعُ من الْإِلْحَاقِ بِذِكْرِ وَصْفٍ في الْفَرْعِ أو في الْأَصْلِ وَيَنْبَنِي على هذه الْخِلَافِ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْفَارِقَ إذَا ذَكَرَ فَرْقًا في الْأَصْلِ هل يَجِبُ عليه أَنْ يَعْكِسَهُ في الْفَرْعِ اخْتَلَفُوا فيه فما عليه الْحُذَّاقُ من أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن قَطْعِ الْجَمْعِ وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ الْجَمْعُ إذَا عَكَسَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْفَرْقُ وَالِافْتِرَاقُ له رُكْنَانِ أَحَدُهُمَا وُجُودُ الْوَصْفِ في الْأَصْلِ والثاني انْتِفَاؤُهُ في الْفَرْعِ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يقول وُجُودُ مَعْنًى آخَرَ لَا يَضُرُّنِي لِأَنَّهُ يُؤَكِّدُ الْحُكْمَ في الْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَعْلِيلِي وَصَارَ غَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ عَكْسُهُ لِأَنَّهُ ادَّعَى
أَنَّ الْعِلَّةَ في الْأَصْلِ وَصْفُ كَذَا فإذا أَبْدَى الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا آخَرَ امْتَنَعَ التَّعْلِيلُ في الْأَصْلِ بِهِ وإذا امْتَنَعَ التَّعْلِيلُ امْتَنَعَتْ التَّعْدِيَةُ وقد اخْتَلَفُوا في قَبُولِهِ وَقَدْحِهِ في الْعِلَّةِ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ ليس بِمَقْبُولٍ لِأَنَّ الْجَامِعَ لم يَلْتَزِمْ بِجَمْعِهِ مُسَاوَاةَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في جَمِيعِ الْقَضَايَا وَإِنَّمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا في وَجْهٍ وَلَا يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ بين أَسْئِلَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَلِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ ذَكَرَ مَعْنًى في جَانِبِ الْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَعْلِيلَ الْمُعَلِّلِ بِجَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ وَحَكَاهُ في الْبُرْهَانِ عن طَوَائِفَ من الْجَدَلِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ قال وَإِنَّمَا يَسْتَمِرُّ هذا مع الْقَوْلِ بِرَدِّ الْمُعَارَضَةِ في جَانِبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جميعا قال وهو عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ وَأَمَّا ابن السَّمْعَانِيِّ فقال وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ أَضْعَفُ سُؤَالٍ يُذْكَرُ وَلَيْسَ مِمَّا يَمَسُّ الْعِلَّةَ التي نَصَبَهَا الْمُعَلِّلُ بِوَجْهٍ ما لَكِنَّ نِهَايَةَ ما في الْبَابِ أَنَّ الْفَارِقَ يَدَّعِي مَعْنًى في الْأَصْلِ مَعْدُومًا في الْفَرْعِ ولم يَتَعَرَّضْ لِلْمَعْنَى الذي نَصَبَهُ الْمُعَلِّلُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مَعْلُولًا بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ وَوُجِدَتْ إحْدَاهُمَا في الْفَرْعِ وَعُدِمَتْ الْأُخْرَى وَإِحْدَاهُمَا كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْحُكْمِ وَانْتِفَاءُ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ لَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ حُكْمِهَا إذَا خَلَفَتْهَا عِلَّةٌ أُخْرَى وَالثَّانِي قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاخْتَارَهُ ابن سُرَيْجٍ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ أَنَّ الْفَرْقَ ليس سُؤَالًا على حِيَالِهِ وَإِنَّمَا هو مَعْنَى مُعَارَضَةِ الْأَصْلِ بِمَعْنًى وَمُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ التي نَصَبَهَا الْمُسْتَدِلُّ في الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَالْمَقْصُودُ منه الْمُعَارَضَةُ وَالثَّالِثُ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وَارْتَضَاهُ كُلُّ من يَنْتَمِي إلَى التَّحْقِيقِ من الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ إنَّهُ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ وهو إنْ اشْتَمَلَ على مَعْنَى مُعَارَضَةِ الْأَصْلِ وَعَلَى مُعَارَضَةِ عِلَّةِ الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ منه الْمُعَارَضَةَ بَلْ مُنَاقَضَةُ الْجَمْعِ وقال قبل ذلك ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ أَقْوَى الِاعْتِرَاضَاتِ وَأَجْدَرُهَا بِالِاعْتِنَاءِ بِهِ هَكَذَا حَكَاهُ في الْمَنْخُولِ عن الْجُمْهُورِ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ إنَّهُ أَفْقَهُ شَيْءٍ يَجْرِي في النَّظَرِ وَبِهِ يُعْرَفُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ قال الْإِمَامُ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ خُلُوُّهَا عن الْمُعَارَضَةِ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَا يَسْتَقِرُّ ما لم يُبْطِلْ بِمَسْلَكِ السَّبْرِ كُلُّ ما عَدَا عِلَّتِهِ مِمَّا يُقَدَّرُ التَّعْلِيلُ بِهِ فإذا عَلَّلَ ولم يَسْبُرْ فَعُورِضَ بِمَعْنًى في الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ طُولِبَ بِالْوَفَاءِ بِالسَّبْرِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَذَكَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ اسْتَدَلَّ على قَبُولِهِ بِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَجْمَعُونَ وَيُفَرِّقُونَ وَيَتَعَلَّقُونَ بِالْفَرْقِ كما يَتَعَلَّقُونَ بِالْجَمْعِ كما في قَضِيَّةِ
الْجَارِيَةِ الْمُرْسِيَةِ التي أَجْهَضَتْ الْجَنِينَ وقد أَرْسَلَ إلَيْهَا عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه يُهَدِّدُهَا فإن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه اسْتَشَارَ في ذلك فقال عبد الرحمن بن عَوْفٍ رضي اللَّهُ عنه إنَّمَا أنت مُؤَدِّبٌ وَلَا أَرَى عَلَيْك شيئا وقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه إنْ لم يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّك وَإِنْ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ أَرَى عَلَيْك الْغُرَّةَ وكان عبد الرحمن بن عَوْفٍ حَاوَلَ تَشْبِيهَ تَأْدِيبِهِ بِالْمُبَاحَاتِ التي لَا تُعَقَّبَ ضَمَانًا وَجَعَلَ الْجَامِعَ أَنَّهُ فَعَلَ ما له أَنْ يَفْعَلَهُ فَاعْتَرَضَهُ عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه بِالْفَرْقِ وَأَبَانَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ الْمَضْبُوطَةِ النِّهَايَاتِ لَيْسَتْ كَالتَّعْزِيرَاتِ التي يَجِبُ الْوُقُوفُ عليها دُونَ ما يُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ قال وَلَوْ تَتَبَّعْنَا مُعْظَمَ ما يَخُوضُ فيه الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم أَجْمَعِينَ وَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ وقد بَالَغَ ابن السَّمْعَانِيِّ في الرَّدِّ على الْإِمَامِ في هذا الْكَلَامِ وقال قَوْلُهُ شَرْطُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ خُلُوُّهَا عن الْمُعَارَضَةِ ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ إنَّمَا تَقْدَحُ في حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أَمَّا إذَا ذُكِرَتْ عِلَّتَانِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ فَلَا يَقْدَحُ وَلَا يُسَمَّى مُعَارَضَةً وَقَوْلُهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْمُعَلِّلِ ما لم يَبْطُلْ كَلَامُهُ ما عَدَا عِلَّتِهِ يُقَالُ من قال هذا وَلِأَيِّ مَعْنًى يَجِبُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عليه أَنْ يَذْكُرَ مَخِيلَةً في الْحُكْمِ مُنَاسِبَةً له إذَا وُجِدَ فيها أَلْحَقَهُ بِالْأَصْلِ الذي اسْتَنْبَطَ منه الْعِلَّةَ وَأَمَّا السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ وَإِبْطَالُ ما عَدَا الْوَصْفِ الذي ذَكَرَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ قال وقد نُسِبَ هذا إلَى الْبَاقِلَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قال وَكُلُّ من كَلَّفَ الْمُعَلِّلَ هذا أو رَامَ تَصْحِيحَ الْعِلَّةِ بهذا الطَّرِيقِ فَقَدْ أَعْلَمَنَا من نَفْسِهِ أَنَّ الْفِقْهَ ليس من بَابِهِ وَلَا من شَأْنِهِ وَأَنَّهُ دَخِيلٌ فيه مُدَّعٍ له قال وقد بَانَ بُطْلَانُ طَرِيقِ السَّبْرِ وَقَوْلُهُ إنَّهُ الْتِزَامٌ كَذَلِكَ ليس كَذَلِكَ بَلْ في تَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ الْتِزَامُ إبْطَالِ كل عِلَّةٍ سِوَى عِلَّتِهِ فَهَذِهِ من التُّرَّهَاتِ وَالْخُرَافَاتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ من يقول إنَّ تَعْلِيلَ الْأَصْلِ بِعِلَّتَيْنِ لَا يَجُوزُ قُلْت ولم يَتَوَارَدْ ابن السَّمْعَانِيِّ مع الْإِمَامِ على مَحَلٍّ وَاحِدٍ لِأَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ مَنَعَ اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ وابن السَّمْعَانِيِّ يُجَوِّزُهُ ثُمَّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَأَمَّا الذي حَكَاهُ عن ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ فَقَدْ حَاوَلَ شيئا بَعِيدًا لِأَنَّ الْفَرْقَ وَالْجَمْعَ على الذي يَخُوضُ فيه لم يُنْقَلْ عن الصَّحَابَةِ أَصْلًا وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَّبِعُونَ التَّأْثِيرَاتِ وَاَلَّذِي نُقِلَ عن عبد الرحمن بن عَوْفٍ مَعْنًى صَحِيحٌ وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه في مَعْنَى الضَّمَانِ أَلْطَفُ منه وَالْمُرَادُ منه أَنَّهُ وَإِنْ كان يُبَاحُ له التَّأْدِيبُ وَلَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالسَّلَامَةِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ ليس بِحَتْمٍ بَلْ يَجُوزُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فَيُطْلَقُ فِعْلُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ قال وَلَيْسَ هذا الْكَلَامُ من الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ الذي نَحْنُ فيه بِشَيْءٍ فَلَا يُدْرَى كَيْفَ وَقَعَ هذا الْخَبْطُ من هذا الْقَائِلِ
وَإِنْ وَقَعَ الْفَرْقُ فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْفَرْقَ بِالْمَعَانِي الْمُؤَثِّرَةِ وَتَرْجِيحِ الْمَعْنَى على الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في شَيْءٍ وَرَاءَ هذا وهو أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَمَّا ذَكَرَ عِلَّةً قام له الدَّلِيلُ على صِحَّتِهَا فَفَرَّقَ الْفَارِقُ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِمَعْنًى فَإِنْ كان فَرْقًا لَا يَقْدَحُ في التَّأْثِيرِ الذي لِوَصْفِ الْمُعَلِّلِ في الْحُكْمِ فَهُوَ فَرْقٌ صُورَةً وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَإِنْ فَرَّقَ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ في حُكْمِ الْأَصْلِ فَغَايَتُهُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّتَيْنِ وَإِنْ بَيَّنَ الْفَارِقُ مَعْنًى مُؤَثِّرًا في التَّفْرِيقِ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَالْقَادِحُ بَيَانُ مَعْنًى يُؤَثِّرُ في الْفَرْعِ يُفِيدُ خِلَافَ الْحُكْمِ الذي أَفَادَهُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَلَا بُدَّ لِهَذَا من إسْنَادِهِ إلَى أَصْلٍ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَارَضَةً وَلَا يَكُونُ الْفَرْقُ الذي يُقْصَدُ بِالسُّؤَالِ وَنَحْنُ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعَارَضَةَ قَادِحَةٌ انْتَهَى وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ في الْفَرْعِ لَا تُسَمَّى فَرْقًا وَيَصِيرُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ في الْأَصْلِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ على مَسْأَلَةِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ وَنَقَلَ إلْكِيَا ما حَكَاهُ الْإِمَامُ في اسْتِدْلَالِ الْقَاضِي عن عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ ثُمَّ قال وَالْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّ الْفَرْقَ إنَّمَا يَقْدَحُ إذَا كان أَخَصَّ من جَمِيعِ الْعِلَلِ فَإِذْ ذَاكَ يَتَبَيَّنُ بِهِ فَسَادُ الْجَمْعِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ ابْتِدَاءً تَعْلِيلٌ في الْأَصْلِ وَعَكْسُهُ في الْفَرْقِ وَرُبَّ فَرْقٍ يَظْهَرُ فَتَخْرُجُ عِلَّةُ الْمُعَلِّلِ عن اعْتِبَارِهَا شَرْعًا وَحِينَئِذٍ فَيَلْحَقُ تَعْلِيلُ الْمُعَلِّلِ بِالطَّرْدِ فإنه أَخَصُّ من الْجَمْعِ على كل حَالٍ فَإِنْ كان الْجَمْعُ مَثَلًا لِلْفَرْقِ أو أَخَصَّ فَلَا نُبَالِي بِهِ كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ في الْهِبَةِ عَقْدُ تَمْلِيكٍ تَرَتَّبَ على صِحَّةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فيها الْمِلْكُ بِالْمُعَاوَضَةِ فيقول الْفَارِقُ الْمُعَاوَضَةُ يَتَضَمَّنُهَا النُّزُولُ عن الْعِوَضِ وَالرِّضَا بِالْمُعَوَّضِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالْهِبَةُ قد عَارَتْ بها فَالْمُعَلِّلُ يقول تِلْكَ الصِّيغَةُ مُطْرَحَةٌ فَيَضْطَرِبُ النَّظَرُ فيها قال وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ نُكْتَةَ الْفَرْقِ كَوْنُهُ أَخَصَّ من الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ أَعَمُّ فَإِذًا في الْفَرْقِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا أَنَّ الْفَرْقَ يَرْجِعُ إلَى قَطْعِ الْجَمْعِ من حَيْثُ الْخُصُوصِيَّةُ والثاني إبْطَالُ الْفَرْقِ من جِهَةِ كَوْنِهِ مُعَارَضَةً في جَانِبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْمُعَارَضَةُ بَاطِلَةٌ والثالث أَنَّهُ مَقْبُولٌ من جِهَةِ كَوْنِهِ قَدْحًا في غَرَضِ الْجَمْعِ وَهَذَا مُلَخَّصٌ من كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فإنه ذَكَرَ ما حَاصِلُهُ أَنَّ الْفَرْقَ إمَّا أَنْ يَلْحَقَ الْجَامِعَ بِوَصْفٍ طَرْدِيٍّ أو لَا والأول مَقْبُولٌ بِالِاتِّفَاقِ وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنْ يُقَيِّدَ الْفَارِقُ جَمْعَ الْجَامِعِ وَيَزِيدَ فيه ما يُوَضِّحُ بُطْلَانَ أَثَرِهِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مُعَاوَضَةٌ عن تَرَاضٍ فَتُفِيدُ
الْمِلْكَ كَالصَّحِيحِ فيقول الْمُعْتَرِضُ الْمَعْنَى في الْأَصْلِ أنها مُعَاوَضَةٌ جَرَتْ على وَفْقِ الشَّرْعِ فَنَقَلَتْ الْمِلْكَ بِالشَّرْعِ بِخِلَافِ الْمُعَاوَضَةِ الْفَاسِدَةِ والثاني هو مَحَلُّ الْخِلَافِ كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ في الْهِبَةِ يَحْصُلُ فيها الْمِلْكُ فيه بِالصِّيغَةِ بِلَا قَبْضٍ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمَلُّكٍ فَيَحْصُلُ الْمِلْكُ فيه بِالصِّيغَةِ كَالْبَيْعِ فيقول الْفَارِقُ الْمُعَاوَضَةُ تَتَضَمَّنُ النُّزُولَ عن الشَّيْءِ بِعِوَضٍ فَتَضَمَّنَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الرِّضَا من الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فإنه نُزُولٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَافْتَقَرَ إلَى الْقَبْضِ لِيَدُلَّ على الرِّضَا فَهَذَا النَّوْعُ هو مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَمَنْ رَدَّ الْمُعَاوَضَةَ في الْأَصْلِ أو في الْفَرْعِ أو أَحَدِهِمَا رَدَّهُ وَقِيلَ بِقَبُولِهِ على أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ وَالْمُخْتَارُ قَبُولُهُ لِحَاجَةٍ وَهِيَ مُنَاقَضَةٌ فِقْهِيَّةٌ لِلْجَمْعِ ثُمَّ أتى الْإِمَامُ بَعْدَ ذلك بِكَلَامٍ جَامِعٍ فقال الْفَرْعُ وَالْجَمْعُ إنْ ازْدَحَمَا على أَصْلٍ وَفَرْعٍ في مَحَلِّ النِّزَاعِ فَالْمُخْتَارُ فيه عِنْدَنَا اتِّبَاعُ الْإِحَالَةِ فَإِنْ كان الْفَرْقُ أَصْلًا عَلَّلَ الْجَمْعَ وَعَكْسَهُ وَإِنْ اسْتَوَيَا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ هُنَا بِالْعِلَّتَيْنِ الْمُتَنَاقِضَتَيْنِ وإذا بَنَيْنَا على صِيغَةِ التَّسَاوِي أَمْكَنَ أَنْ يُقَدَّمَ الْجَمْعَ من جِهَةِ وُقُوعِ الْفَرْقِ بَعْدَهُ غير مُنَاقِضٍ له قال وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كان الْفَرْقُ لَا يُحِيطُ فيه الْجَمْعُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنْ أَبْطَلَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ما ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ من الْجَمْعِ ليس بِصَحِيحٍ فَيَكُونُ مَقْبُولًا قَطْعًا وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ أَبَانَ الْفَرْقُ أَنَّ الْجَامِعَ طَرْدِيٌّ فَلَا خِلَافَ في قَبُولِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فيه خِلَافٌ من الْقَائِلِينَ بِرَدِّ الطَّرْدِيِّ وَإِنْ لم يُبَيِّنْ ذلك فَفِيهِ مَذْهَبَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَرْدُودٌ مُطْلَقًا وثانيهما أَنَّهُ مَقْبُولٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ فَقِيلَ لَا من جِهَةِ كَوْنِهِ فَرْقًا بَلْ من جِهَةِ كَوْنِهِ مُعَارَضَةً وهو مَذْهَبُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ الْقَصْدُ منه الْمُعَارَضَةَ ثُمَّ قِيلَ هو أَضْعَفُ سُؤَالٍ يُذْكَرُ وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ من أَقْوَى الْأَسْئِلَةِ ثُمَّ قِيلَ هو سُؤَالَانِ وهو مَذْهَبُ ابْنِ سُرَيْجٍ لِاشْتِمَالِهِ على مُعَارَضَةِ عِلَّتِهِ لِلْأَصْلِ بِعِلَّةٍ ثُمَّ مُعَارَضَةُ عِلَّتِهِ لِلْفَرْعِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ في جَانِبِ الْفَرْعِ وَالْمُخْتَارُ كما قَالَهُ في الْمَنْخُولِ أَنَّهُ سُؤَالٌ وَاحِدٌ لِاشْتِمَالِهِ على اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وهو الْفَرْقُ وَإِنْ تَضَمَّنَ الْإِشْعَارَ بِمَنْعِ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ وَدَعْوَى عِلَّةٍ أُخْرَى فيه وَمُعَارَضَةٍ في الْفَرْعِ بِعَكْسِ الْمُدَّعِي في الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْفَارِقُ وَصْفًا آخَرَ في جَانِبِ الْفَرْعِ عِنْدَ عَكْسِهِ فَيَكُونُ مُعَارِضًا وَتَتَعَدَّدُ وَالْمُخْتَارُ على الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ على أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ قَبُولُ فُرُوقٍ مُتَعَدِّدَةٍ
إذْ قد لَا يُسَاعِدُ الْفَارِقَ في الْفَرْقِ الْإِتْيَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مُتَنَاوِلٍ لِجَمِيعِ الْأُصُولِ وقد ذَكَرَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْخِلَافَ في قَبُولِ الْفَرْقِ مَبْنِيٌّ على جَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَنْبَطَتَيْنِ فَمَنْ جَوَّزَهُ قال لَا يَقْدَحُ الْفَرْقُ في الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَفْسُدُ قِيَاسُهُ وَلَا جَمْعُهُ بِعِلِّيَّةِ الْفَرْقِ لِجَوَازِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَمَنْ مَنَعَهُ فَهُوَ قَائِلٌ بِالْعَكْسِ فَيَقْدَحُ الْفَرْقُ حِينَئِذٍ وَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَائِلُ بِأَنَّ الْحُكْمَ يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ لَا يَلْزَمُ من ذلك أَنْ يُجْعَلَ جَوَابًا عن الْفَرْقِ بَلْ عليه أَنْ يُبَيِّنَ عَدَمَ إشْعَارِهِ بِإِثَارَةِ الْفَرْقِ وَيُرَجِّحَ مَسْلَكَ الْجَامِعِ من طَرِيقِ الْفِقْهِ مَسْأَلَةٌ إذَا فَرَّقَ الْمُفَرِّقُ بين مَسْأَلَتَيْنِ في الْمَعْنَى الذي لِأَجْلِهِ ثَبَتَ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعْكِسَ ذلك في الْفَرْعِ فإنه يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ في الْفَرْعِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَبِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ يَجُوزُ ثُبُوتُهُ بِعِلَّتَيْنِ قال أبو الْخَيْرِ بن جَمَاعَةَ الْمَقْدِسِيُّ في الْفُرُوقِ وَمَثَّلَهُ بِقِيَاسِ الْحَنَفِيَّةِ في أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ ليس بِوَاجِبٍ حتى قالوا ذِكْرٌ لَا يُجْهَرُ بِهِ في حَالٍ من الْأَحْوَالِ فلم يَجِبْ كَتَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا التَّسْبِيحُ يُشْرَعُ في رُكْنٍ هو مَقْصُودٌ في نَفْسِهِ فَلِهَذَا كان وَاجِبًا مَسْأَلَةٌ وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ في أَنَّ الْفَرْقَ مُعَارَضَةٌ أو مَقْبُولٌ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا أَبْدَى الْفَارِقُ مَعْنًى في الْأَصْلِ مُغَايِرًا لِمَعْنَى الْمُعَلِّلِ وَعَكْسِهِ في الْفَرْعِ وَرَبَطَ بِهِ الْحُكْمَ مُنَاقِضًا لِحُكْمِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ فَفِي اشْتِرَاطِ رَدِّ مَعْنَى الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَرُدَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ إلَى الْأَصْلِ وَعِلَّةَ الْفَرْعِ إلَى أَصْلٍ وَذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ من الْجَدَلِيِّينَ وَنُقِلَ عن الْأُسْتَاذِ بِنَاءً منهم على أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ فَيَنْبَغِي اشْتِمَالُهَا على عِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَعَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ مَرْدُودٌ فقال الْقَاضِي مَذْهَبِي قَبُولُ الِاسْتِدْلَالِ وَلَوْ كُنْت من الْقَائِلِينَ بِإِبْطَالِ الِاسْتِدْلَالِ لَقَبِلْته على أَنَّهُ فَرْقٌ بِنَاءً على الْقَوْلِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ يُقْبَلُ لِخَاصِّيَّتِهِ وهو الْمُنَاقَضَةُ وَهَذَا يَحْصُلُ من غَيْرِ رَدٍّ إلَى أَصْلٍ وما أَظْهَرَهُ الْفَارِقُ لَا أَصْلَ له وَالثَّانِي لَا يَحْتَاجُ إلَى ذلك لَا في الْأَصْلِ وَلَا في الْفَرْعِ وَنُسِبَ لِلْجُمْهُورِ وهو اخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ وَبَنَاهُ الْإِمَامُ على أَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ الْجَمْعِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ
من غَيْرِ أَصْلٍ وَبَنَاهُ الْغَزَالِيُّ على أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ مَقْبُولٌ وَنَقَلَ عن الشَّافِعِيِّ ذلك في تَفَاصِيلَ ذَكَرَهَا في الْمَنْخُولِ وَالثَّالِثُ يَحْتَاجُ إلَى ذلك في عِلَّةِ الْفَرْعِ دُونَ الْأَصْلِ وَهَذَا ما اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَيْ إنْ كان الْفَرْقُ بِذِكْرِ وَصْفٍ في الْفَرْعِ انْقَطَعَ فَلَا بُدَّ من أَصْلٍ وَإِنْ كان في الْأَصْلِ إذَا عَكَسَهُ في الْفَرْعِ انْقَطَعَ الْجَمْعُ ولم يَبْقَ عليه الظَّنُّ وَالرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَرِدَ الْفَرْقُ على قِيَاسِ الشَّبَهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَصْلٍ وَإِنْ كان على قِيَاسِ الْمَعْنَى احْتَاجَ إلَيْهِ وَالْخَامِسُ أَنَّ الْفَرْقَ في الْفَرْعِ إنْ كان يُخِلُّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَصْلٍ وَإِنْ لم يُخِلَّ افْتَقَرَ إلَى أَصْلٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من إثْبَاتِ الْحُكْمِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ وقال الْبَاجِيُّ الْأَوَّلُ هو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مَتَى لم يَرُدَّ كُلًّا منها إلَى أَصْلٍ كان مُدَّعِيًا في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عِلَّتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ وَمُسَلِّمًا لِعِلَّةِ الْمَسْئُولِ وَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْمُتَعَدِّيَةُ أَوْلَى من الْوَاقِفَةِ فَكَأَنَّهُ عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِدُونِ دَلِيلِهِ وَذَلِكَ لَا يَكْفِي في الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لو رَجَحَ دَلِيلُهُ على مُعَارَضَةِ السَّائِلِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ التَّرْجِيحِ لَحُكِمَ له بِالسَّبْقِ وَمِمَّنْ حَكَى هذه الْمَذَاهِبَ الْبَاجِيُّ وأبو الْخَيْرِ بن جَمَاعَةَ في كِتَابِهِ الْوَسَائِلِ فَرْعٌ فَإِنْ شَرَطْنَا رَدَّ مَعْنَى الْفَرْعِ في الْفَرْقِ إلَى أَصْلٍ فَلَوْ أَبْدَاهُ في الْأَصْلِ فَقِيلَ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إلَى أَصْلٍ آخَرَ فَيَحْتَاجُ الْفَرْعُ وَالْأَصْلُ إلَى أَصْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ بِنَاءً على ما سَبَقَ لِأَنَّ الْغَرَضَ مُضَادَّةُ الْجَامِعِ فِيهِمَا كَالْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَلَوْ قُلْنَا بِالِاحْتِيَاجِ إلَى أَصْلٍ لَقَبِلْنَا الْمُعَارَضَةَ في ذلك الْأَصْلِ بِأَصْلٍ آخَرَ وَيَسْتَمِرُّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وهو بَاطِلٌ هذا إذَا أَبْدَى مَعْنًى في الْأَصْلِ وَعَكْسَهُ في الْفَرْعِ فَلَوْ عَكَسَ الْفَارِقُ في الْفَرْعِ مَعْنَى الْأَصْلِ فلم يُنَاقِضْ فِقْهُ الْعَكْسِ فِقْهَ الْجَمْعِ أو نَاقَضَهُ على بُعْدٍ فَاحْتَاجَ إلَى مَزِيدٍ في الْفَرْعِ فَاخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فيه فَمَنْ اعْتَقَدَ الْفَرْقَ مُعَارَضَةً لم يَمْنَعْ الزِّيَادَةَ وَمَنْ قال إنَّمَا هو مَعْنًى يُضَادُّ الْجَامِعَ اكْتَفَى بِثُبُوتِهِ في الْأَصْلِ وَنَفْيِهِ في الْفَرْعِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ في الْفَرْعِ ليس لها في جَانِبِ الْأَصْلِ ثُبُوتٌ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ من الْقَوَادِحِ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل من تَمَامِهِ وَلَوَازِمِهِ نَفْيُهُ عن الْفَرْعِ أَمْ لَا منهم من أَوْجَبَهُ على الْفَارِقِ لِأَنَّ قَصْدَهُ افْتِرَاقُ الصُّورَتَيْنِ وَقِيلَ لَا يَجِبُ وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ إنْ صَرَّحَ في إيرَادِ الْفَرْقِ بِالِافْتِرَاقِ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَلَا بُدَّ من نَفْيِهِ
عنه وَإِلَّا فَإِنْ قَصَدَ أَنَّ دَلِيلَهُ غَيْرُ قَائِمٍ فَلَا يَجِبُ هذا كُلُّهُ فِيمَا إذَا كان الْمَقِيسُ عليه وَاحِدًا وَأَمَّا إذَا كان مُتَعَدِّدًا فَقِيلَ يُمْنَعُ ذلك لِإِفْضَائِهِ إلَى انْتِشَارِ الْكَلَامِ وَقِيلَ يَجُوزُ لِلتَّقْوِيَةِ ثُمَّ الْمُجَوِّزُونَ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ إذَا فَرَّقَ الْمُعْتَرِضُ بين أَصْلٍ وَاحِدٍ وَبَيْنَ الْفَرْعِ هل يَكْفِيهِ ذلك أَمْ لَا بَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُفَرِّقَ بين الْفَرْعِ وَبَيْنَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقِيلَ يَكْفِيهِ ذلك قال الْهِنْدِيُّ وهو الْأَصَحُّ لِأَنَّ إلْحَاقَ الْفَرْعِ بِتِلْكَ الْأُصُولِ بِأَسْرِهَا غَرَضُ الْمُسْتَدِلِّ وَإِلَّا لم يُعَدِّدْهُ وهو غَيْرُ حَاصِلٍ ضَرُورَةً أَنَّهُ لم يَكُنْ مُلْحَقًا بِالْأَصْلِ الذي فَرَّقَ الْمُعْتَرِضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْعِ وَقِيلَ لَا يَكْفِيهِ ذلك لِأَنَّ الْقِيَاسَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ وَالْقَائِلُونَ بِذَلِكَ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذلك الْفَرْقُ وَاحِدًا لِئَلَّا يَنْتَشِرَ الْكَلَامُ أَمْ يَجُوزُ تَعَدُّدُهُ على قَوْلَيْنِ قال الْهِنْدِيُّ أُولَاهُمَا الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ في الْأَكْثَرِ فَيَلْزَمُ سَدُّ بَابِ الْقَدْحِ على الْمُعْتَرِضِ ثُمَّ إذَا ذَكَرَ الْمُعْتَرِضُ الْفَرْقَ بين الْفَرْعِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأُصُولِ وَاحِدًا كان أو مُتَعَدِّدًا فَهَلْ يَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ أَنْ يُجِيبَ عنه بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ أو بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْأُصُولِ اخْتَلَفُوا فيه على قَوْلَيْنِ مَسْأَلَةٌ لِلْفَرْقِ شُرُوطٌ أَحَدُهَا أَنْ يُرَدَّ إلَى أَصْلٍ على ما سَيَأْتِي من الْخِلَافِ ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ أَخَصَّ من الْجَمْعِ فَإِنْ كان الْفَرْقُ أَعَمَّ منه فَالْجَمْعُ الْخَاصُّ مُقَدَّمٌ على الْفَرْقِ الْعَامِّ فَإِنْ كان مثله يُوجِبُ الِافْتِرَاقَ إلَّا إذَا تَرَجَّحَ الْجَمْعُ على الْفَرْقِ وَمِثَالُ الْفَرْقِ الْعَامِّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه في انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِفَاسِقَيْنِ إذَا قِسْنَا على حُضُورِ الصَّبِيِّ فيقول الْحَنَفِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ لو أَعَادَ شَهَادَتَهُ الْمَرْدُودَةَ دُونَ الصَّبِيِّ قُبِلَتْ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ فَهَذَا فَرْقٌ لَا يُشْعِرُ بِمَا هو بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا يُعَارِضُ الدَّلِيلَ الْمُشْعِرَ بِحُكْمِهَا ثَالِثُهَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ الْفَارِقُ إلَى زِيَادَةِ أَمْرٍ في جَانِبِ الْفَرْعِ إذَا عَكَسَهُ فإنه إذَا ذَكَرَ زِيَادَةً كان جَمْعًا بين مُعَارَضَةٍ في الْأَصْلِ وَمُعَارَضَةٍ في الْفَرْعِ كَقَوْلِنَا في خِيَارِ الشَّرْطِ حَقٌّ مَالِيٌّ لَازِمٌ يَجْرِي الْإِرْثُ فيه كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فيقول الْحَنَفِيُّ خِيَارُ الْعَيْبِ مُعْتَاضٌ عنه وَلَيْسَ بِوَثِيقَةٍ احْتِرَازًا عن الرَّهْنِ فَهَذَا بَاطِلٌ رَابِعُهَا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا اعْتَبَرَ الْفَرْعَ بِأُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ هل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ مُتَّحِدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأُصُولِ فيه خِلَافٌ يَنْبَنِي على جَوَازِ الْقِيَاسِ على
أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ وإذا جَازَ فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ في الْفَرْقِ مع اتِّحَادِهِ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الْأُصُولِ فيه خِلَافٌ منهم من قال الْفَرْقُ في مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ مُتَّحِدٌ فَالْفَرْقُ يَكُونُ مُتَّحِدًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بِفُرُوقٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُسَاعِدُ في الْغَالِبِ مَعْنًى وَاحِدٌ على الْفَرْقِ في جَمِيعِ الْأُصُولِ وإذا قُلْنَا بِتَعْدِيدِ الْأُصُولِ هل يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ على الْفَرْقِ وَالْقَطْعِ عن بَعْضِ الْأُصُولِ فيه خِلَافٌ منهم من مَنَعَهُ لِأَنَّ ما بَقِيَ يَكْفِي لِبِنَاءِ الْفَرْعِ عليه وَمِنْهُمْ من قال لَمَّا ذَكَرَ الْأُصُولَ وَتَقَلَّدَ بِتَقْرِيرِهَا وَالذَّبَّ عنها فَطَرِيقُ الْفَارِقِ الْقَطْعُ عن جَمِيعِهَا مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ في الْفَارِقِ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا كما قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ كَقَوْلِهِ من صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ كَالْمُسْلِمِ فإذا وَقَعَ الْفَرْقُ على هذه الصِّفَةِ وَالْعِلَّةِ قُبِلَ وَوَقَعَ الْكَلَامُ في التَّرْجِيحِ وَتَقْرِيبِ الْأَشْبَاهِ إنْ كان الْقِيَاسُ مَعْنَوِيًّا وَإِنْ جَرَى الْفَارِقُ على صِفَةِ إلْحَاقِ حُكْمٍ بِحُكْمٍ فَهَذَا من الْفَارِقِ مُحَاوَلَةُ مُعَارَضَةِ الْمَعْنَى بِالشَّبَهِ فَلَا يُقْبَلُ لِأَنَّ أَدْنَى مَعَانِي الْمُنَاسَبَةِ يُقَدَّمُ على أَجْلَى الْأَشْبَاهِ وقال غَيْرُهُ هل يَجُوزُ الْفَرْقُ بِالنَّصِّ قَوْلَانِ كَقَوْلِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها كنا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ قِيلَ وَالْخِلَافُ يَتَنَزَّلُ على حَالَيْنِ فَإِنْ كان الْمُرَادُ الْفَرْقَ الْقِيَاسِيَّ الْمُتَضَمِّنَ الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ بِالنَّصِّ لِجَوَازِ كَوْنِهِ بَعِيدًا كَقَوْلِنَا ما الْفَرْقُ بين السَّبُعِ وَالْكَلْبِ وَالشَّاةِ حتى كان نَجِسًا مُحَرَّمَ الْبَيْعِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ جَائِزَةُ الْبَيْعِ فَيُقَالُ الشَّرْعُ مَنَعَ بَيْعَ الْكَلْبِ وَأَجَازَ بَيْعَ الشَّاةِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنْ لَا تَنَاسُبَ وَلَوْ عَكَسَ لَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَأَرَادَ بِهِ مُطْلَقَ الْفَرْقِ وهو التَّخْيِيرُ بين حُكْمِ الصُّورَتَيْنِ بِدَلِيلٍ حَصَلَ لِحُصُولِ ذلك منه وَلِجَمْعِهَا وَأَعْنِي الْفَرْقَ النَّصِّيَّ وَالْقِيَاسِيَّ وَيَكُونُ النَّصِّيُّ تَابِعًا لِلْقِيَاسِيِّ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فإن فيه النَّظَرَ الْمَذْكُورَ وَالْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ وهو حُصُولُ الْمَشَقَّةِ في قَضَاءِ الصَّلَاةِ قُلْت وقد قال الْخَصْمُ لِلشَّافِعِيِّ في فَرْقِهِ بين ما تَحْتَ الْإِزَارِ وَفَوْقَهُ في تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ في الْحَيْضِ هل تَجِدُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا سِوَى الْخَبَرِ فقال الشَّافِعِيُّ أَيُّ فَرْقٍ أَحْسَنُ من الْخَبَرِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْفَرْقَ بِالنَّصِّ عِنْدَهُ مَقْبُولٌ في مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ وَحَكَى ذلك عن الشَّيْخِ أبي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
مَسْأَلَةٌ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ في بَابِ الْعَيْبِ في الْمَنْكُوحَةِ الْفَرْقُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا يَقَعُ بين مَسْأَلَتَيْنِ والثاني يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ وَمَأْخَذَيْنِ فما ثَبَتَ بين مَسْأَلَتَيْنِ يَثْبُتُ وَيَنْتَفِي وَيَنْعَكِسُ وما يَقَعُ بين مَأْخَذَيْنِ يُبَيَّنُ مَأْخَذُ كل جِهَةٍ ثُمَّ ذلك يُوجِبُ الِانْفِصَالَ بِنَفْيَيْنِ وَإِثْبَاتَيْنِ انْتَهَى وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى إيضَاحٍ وَمَعْنَاهُ كما قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْفَرْعَ الْوَاقِعَ بين مَسْأَلَتَيْنِ هو مَذْكُورٌ في كِتَابِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَائِسَ جَمَعَ بين أَصْلٍ وَفَرْعٍ بِعِلَّةٍ وَالْفَارِقُ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ بِعِلَّةٍ أُخْرَى يَثْبُتُ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ بِثُبُوتِهَا وَيَنْتَفِي في الْفَرْعِ بِانْتِفَائِهَا وَهَذَا مَعْنَى الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ وَاقْتَصَرُوا في كِتَابِ الْقِيَاسِ على هذا النَّوْعِ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ في جَوَابِ الْقِيَاسِ وَكُلٌّ من الْعِلَّةِ وَاقْتِضَائِهَا الْحُكْمَ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا النَّظَرُ في وُجُودِهَا في ذلك الْمَحَلِّ وَعَدَمِهَا هو تَصْدِيقٌ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرٍ وَالنَّوْعُ الثَّانِي هو الْوَاقِعُ بين حَقِيقَتَيْنِ لِيُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا وَيُبَيِّنَ اللُّبْسَ عَمَّنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ أو بين انْتِفَائِهَا لِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِيَتَمَيَّزَ ذلك وَيَنْتَفِيَ اللُّبْسُ عَمَّنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ مَأْخَذَ الْحُكْمَيْنِ وَاحِدٌ وَأَنَّ انْتِفَاءَ الْحَقِيقَتَيْنِ وَاحِدٌ وهو يُوجِبُ الِانْفِصَالَ بِنَفْيَيْنِ وَإِثْبَاتَيْنِ وَإِنَّهُ حَيْثُ انْتَفَى يَنْتَفِي الْحُكْمُ وَحَيْثُ ثَبَتَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ هو مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ كَالنَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهَذَا كَثِيرٌ في الْفِقْهِ من أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وهو أَكْثَرُ وَأَنْفَعُ من الْأَوَّلِ فإنه بِهِ تَتَمَيَّزُ الْحَقَائِقُ وَالْمَآخِذُ وَيُفْهَمُ تَرْتِيبُ الْفِقْهِ عليها وَمِنْ هذا الْفَرْقُ بين حَقِيقَةِ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ في الرِّدَّةِ وَفَسْخِهِ بِالْعُيُوبِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُمَا حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ من طَارِئٍ غَيْرِ مُسْتَنِدٍ إلَى أَمْرٍ مُقَارِنٍ وَالثَّانِي مُسْتَنِدٌ إلَى مُقَارِنٍ وَالْفَرْقُ بين رِدَّةِ الزَّوْجِ وَرِدَّةِ الزَّوْجَةِ حَيْثُ كانت رِدَّةً مُنْتَظَرَةً بَيْنَهُمَا بِطَلَاقِهِ وَرِدَّتُهَا حَيْثُ كانت هِيَ الْقَاطِعَةَ كَالرَّضَاعِ فَاخْتَلَفَ الْمَأْخَذُ وَهَذَا كَثِيرٌ وَفِيهِ صَنَّفَ الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ كِتَابَ الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بين النَّوْعَيْنِ هو الْفَرْقُ بين شَيْئَيْنِ وَمَعْنَاهُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كان بين حَقِيقَتَيْنِ فَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كان بين مَحَلَّيْنِ فَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ أَنْفَعُ وَأَفْقَهُ وَيُمْكِنُ رَدُّ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي وَإِدْرَاجُهُ في قَوْلِ الْفُقَهَاءِ الْفَرْقُ أَبَدًا مَعْنًى في إحْدَى الصُّورَتَيْنِ مَفْقُودٌ في الْأُخْرَى لِأَنَّ النِّزَاعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بين صُورَتَيْنِ أَعْنِي في الْقِيَاسِ
فَالْفَارِقُ إنْ نَازَعَ في حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ أو في اقْتِضَائِهَا فَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وإذا تَمَّ له ما ادَّعَاهُ تَرَتَّبَ عليه الْفَرْقُ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ لِافْتِرَاقِهِمَا في ذلك الْمَعْنَى وَإِنْ سَلَّمَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ وَاقْتِضَاءَهَا وَنَازَعَ في ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَالْفَرْعِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي وَالْمَقْصُودُ بِالْفَرْقِ يَحْصُلُ على التَّقْدِيرَيْنِ مَسْأَلَةٌ كُلُّ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ بين مَسْأَلَتَيْنِ يُؤَثِّرُ ما لم يَغْلِبْ على الظَّنِّ أَنَّ الْجَامِعَ أَظْهَرُ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ في نِكَاحِ الْعَبْدِ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَذِنَ بِهِ السَّيِّدُ إنَّهُ لَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَكْتَفِيَ بِالْخَيَالَاتِ في الْفُرُوقِ كَدَأْبِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالسِّرُّ في ذلك أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْأَحْكَامِ مَجَالُ الظُّنُونِ عِلْمًا بها فإذا كان اجْتِمَاعُ مَسْأَلَتَيْنِ أَظْهَرَ في الظَّنِّ من افْتِرَاقِهِمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِاجْتِمَاعِهِمَا وَإِنْ انْقَدَحَ فُرِّقَ على بُعْدٍ قال الْإِمَامُ فَافْهَمُوا ذلك فإنه من قَوَاعِدِ الدِّينِ وإذا عُرِفَ ذلك فإذا فَرَّقَ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ بَعْدَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مُؤَثِّرًا فَهَلْ يَكْفِي الْفَارِقُ في إثْبَاتِ مُخَالِفِ كل وَاحِدَةٍ الْأُخْرَى في الْحُكْمِ فيه خِلَافٌ مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ هل يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَنْبَطَتَيْنِ مِثَالٌ إذَا قِيسَ الشِّطْرَنْجُ على النَّرْدِ في التَّحْرِيمِ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّرْدَ فِعْلُهُ من النَّقْصِ وَالشِّطْرَنْجَ من الْفِكْرِ مَثَلًا فَهَلْ يَكُونُ الْفَارِقُ دَلِيلًا على مُخَالَفَةِ الشِّطْرَنْجِ لِلنَّرْدِ في التَّحْرِيمِ لِيَكُونَ الشِّطْرَنْجُ حَلَالًا أَمْ لَا إذَا عَرَفَ ذلك فَهَلْ يَسْمَعُ الْجَامِعَ بَعْدَ الْفَرْقِ فيه خِلَافٌ مُرَتَّبٌ على أَنَّهُ هل يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ مِثَالُهُ لو خُيِّرَ الْجَامِعُ بَعْدَ أَنْ فَرَّقَ الْفَارِقُ في الشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ بِمَا ذَكَرْنَا بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اشْتَرَكَ في الْمَنْعِ عن الِاشْتِغَالِ بِاَللَّهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِ
فصل
ذَكَرَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ في كِتَابِهِ الذي أَفْرَدَهُ في الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ إذَا تَمَّتْ الْمُنَاسَبَةُ بِشُرُوطِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ وَأَمَّا الْفُرُوقُ الْفَاسِدَةُ فَكَثِيرَةٌ الْأَوَّلُ الْفَرْقُ بِالْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ كما لو قِيلَ صَحَّ بَيْعُ الْحَبَشِيِّ فَيَصِحُّ بَيْعُ التُّرْكِيِّ فَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هذا أَسْوَدُ وَذَلِكَ أَبْيَضُ لَكَانَ بَاطِلًا فإنه لو فَتَحَ بَابَ الْفَرْقِ بِذَلِكَ لم يَتِمَّ قِيَاسٌ أَصْلًا لِأَنَّ ما من صُورَتَيْنِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ الثَّانِي الْفَرْقُ بِنَوْعٍ اصْطَلَحُوا على رَدِّهِ كما لو قِيلَ في الزَّانِي الْمُحْصَنِ يَجِبُ رَجْمُهُ بِالْقِيَاسِ على مَاعِزٍ فَلَوْ قِيلَ إنَّمَا وَجَبَ الرَّجْمُ هُنَاكَ تَطْهِيرًا له وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ في غَيْرِهِ لَكَانَ بَاطِلًا الثَّالِثُ الْفَرْقُ بِكَوْنِ الْأَصْلِ مُجْمَعًا عليه وَالْفَرْعِ مُخْتَلَفًا فيه كما لو قِيلَ الْحَاجَةُ إلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ على الْبَالِغِ أَكْثَرُ منه على الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا في الْبَالِغِ مُتَّفَقٌ عليه وفي الصَّبِيِّ مُخْتَلَفٌ فيه وَلَوْ اسْتَوَتْ الصُّورَتَانِ في الْمَصْلَحَةِ لَاسْتَوَتَا في الِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِهِ وَقَرِيبٌ منه الْفَرْقُ بِكَوْنِ الْأَصْلِ مَنْصُوصًا عليه وَالْفَرْعِ مُخْتَلَفًا فيه لِأَنَّهُ لو صَحَّ الْفَرْقُ بِذَلِكَ بَطَلَتْ الْأَقْيِسَةُ كُلُّهَا مَسْأَلَةٌ مِمَّا ذُكِرَ على صُورَةِ الْفَرْقِ وَلَيْسَ فَرْقًا وَإِنْ كان مُبْطِلًا لِلْعِلَّةِ كما قال في الْبُرْهَانِ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ في اشْتِرَاطِ تَعَيُّنِ النِّيَّةِ ما تَعَيَّنَ أَصْلُهُ بِنَفْسِهِ لم يُشْتَرَطْ فيه تَعْيِينُ النِّيَّةِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ فَنَقُولُ أَصْلُ النِّيَّةِ ليس شَرْعِيًّا في الْأَصْلِ وهو مُعْتَبَرٌ في مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهَذَا ليس فَرْقًا بَلْ الْجَامِعُ بَاطِلٌ فإن الْكَلَامَ في تَفْصِيلِ النِّيَّةِ فَرْعُ تَسْلِيمِ أَصْلِهَا وأبو حَنِيفَةَ لَا يُرَاعِي التَّعْيِينَ مع اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِأَنَّ أَصْلَهَا عِنْدَهُ كَافٍ مُغْنٍ عن التَّفْصِيلِ فَكَيْفَ يَتَمَسَّكُ بِمَا لَا يُشْتَرَطُ فيه أَصْلُ النِّيَّةِفَصْلٌ في جَوَابِ الْفَرْقِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَعْتَرِضُ على الْفَارِقِ مع قَبُولِهِ في الْأَصْلِ على ما يَعْتَرِضُ بِهِ على الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ وَإِنْ كان ليس بِمُعَارَضَةٍ على الصَّحِيحِ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ في صُورَةِ الْمُعَارَضَةِ وَتِلْكَ الصُّورَةُ في النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ من خَاصَّتِهِ وإذا بَطَلَ مُسْتَنِدُ الْفَرْقِ بَطَلَ الْفَرْقُ فَأَمَّا من يُجَوِّزُ اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ فَلَا يُتَّجَهُ قَوْلُ الْفَارِقِ أَقُولُ بِالْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ الْفَرْقَ مُعَارَضَتَانِ وَغَايَتُهُ أَنْ دَرَأَ أَحَدَهُمَا وقد نَشَأَتْ عنهما خَاصَّةُ الْمُنَاقَضَةِ وَهِيَ قَائِمَةٌ فَلْيَسْتَأْنِفْ الْجَوَابَ بِعَدَمِ إثَارَةِ الْفَرْقِ وَتَرْجِيحِ مَسْلَكِ الْجَامِعِ مَسْأَلَةٌ إذَا اخْتَلَفَ الْمَوْضُوعُ فَإِنْ كان أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مَبْنِيًّا على التَّخْفِيفِ وَالْآخَرُ على التَّغْلِيظِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةٍ تُوجِبُ حُكْمًا آخَرَ فَفِي إفْسَادِهِ الْعِلَّةَ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ في الْبُيُوعِ أَحَدُهُمَا نعم لِأَنَّ الْجَمْعَ يُوجِبُ التَّسَاوِيَ في الْحُكْمِ وَاخْتِلَافَ الْمَوْضُوعِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ والثاني لَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مُسَاوِيًا لِأَصْلِهِ في حُكْمِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ في عَمَلِهِ لِأَنَّ تَسَاوِيَ الْأَحْكَامِ من كل وَجْهٍ مُتَعَذِّرٌ وَاعْلَمْ أَنَّ هذه الِاعْتِرَاضَاتِ هِيَ الْوَارِدَةُ على الْعِلَّةِ فَلِهَذِهِ بُدِئَ بِذِكْرِهَا ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذلك بَقِيَّةَ الِاعْتِرَاضَاتِ فَنَقُولُ الثَّامِنُ الِاسْتِفْسَارُ وهو مُقَدَّمُ الِاعْتِرَاضَاتِ وَبِهِ بَدَأَ ابن الْحَاجِبِ في جَمْعٍ وَمَعْنَاهُ طَلَبُ شَرْحِ مَعْنَى اللَّفْظِ إذَا كان غَرِيبًا أو مُجْمَلًا وَيَقَعُ بِ هل وَبِالْهَمْزَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُسْأَلُ بِهِ عن التَّصَوُّرِ فَيُسْتَفْسَرُ عن صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ وَمَعْنَى الْمُقَدَّمَاتِ حتى يَتَّفِقَا على مَوْضِعِ الْعِلَّةِ وَمِنْ الْفُقَهَاءِ من لم يَسْمَعْ الِاسْتِفْسَارَ وهو غَلَطٌ فإن مَحَلَّ النِّزَاعِ إذَا لم يَكُنْ مُتَحَقِّقًا فَرُبَّمَا لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ وَرُبَّمَا يَسْلَمُ الْمُعَانِدُ وَيَرْجِعُ إلَى الْمُوَافَقَةِ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْمُدَّعِي وَالْأَصَحُّ أَنَّ بَيَانَ اشْتِمَالِ اللَّفْظِ على الْإِجْمَالِ وَالْقَرَابَةَ على الْمُعْتَرِضِ وَقِيلَ بَلْ على الْمُسْتَدِلِّ
لِأَنَّ شَرْطَ ظُهُورِ الدَّلِيلِ انْتِفَاؤُهَا عنه وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ تَفَاوُتِهِمَا فَيُبَيِّنُ الْمُسْتَدِلُّ عَدَمَهَا أو يُفَسِّرُ بِمُحْتَمَلٍ وفي دَعْوَاهُ الظُّهُورَ في مَقْصُودِهِ دَفْعًا لِلْإِجْمَالِ لِعَدَمِ الظُّهُورِ في الْآخَرِ خِلَافٌ فَإِنْ اشْتَهَرَ بِالْإِجْمَالِ كَالْعَيْنِ وَالْقُرْءِ فَلَا يَصِحُّ فيه دَعْوَى الظُّهُورِ قَطْعًا قَالَهُ الشَّرِيفُ وَذَكَرَ الْخُوَارِزْمِيُّ في النِّهَايَةِ أَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ في اللَّفْظِ احْتِمَالٌ أَصْلًا وَعَنِيَ بِهِ شيئا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَقِيلَ لَا يَسْمَعُ الْعِنَايَةَ لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ له فَكَيْفَ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِكَلَامِهِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَسْمَعُ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ نَاطِقٌ بِلُغَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ وَلَكِنْ بَعْدَمَا عَرَفَ الْمُرَادَ وَعَرَفَ اللُّغَةَ فَلَا يُلْجَأُ إلَى النَّاظِرِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَرَجَّحَ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الْأَوَّلَ وقال الْعَمِيدِيُّ لَا يَلْزَمُهُ التَّفْسِيرُ وَاعْلَمْ أَنَّ في عَدِّ هذا من الِاعْتِرَاضَاتِ نَظَرًا لِأَنَّهُ طَلِيعَةُ جَيْشِهَا وَلَيْسَ من أَقْسَامِهَا إذْ الِاعْتِرَاضُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُخْدَشُ بِهِ كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ وَالِاسْتِفْسَارُ ليس من هذا الْقَبِيلِ بَلْ هو يَعْرِفُ الْمُرَادَ وَيُبَيِّنُ له لِيَتَوَجَّهَ عليه السُّؤَالُ فإذا هو طَلِيعَةُ السُّؤَالِ فَلَيْسَ بِسُؤَالٍ بَلْ حَكَى الْهِنْدِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْجَدَلِيِّينَ أَنْكَرَ كَوْنَهُ اعْتِرَاضًا لِأَنَّ التَّصْدِيقَ فَرْعُ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ على الْمُنَازَعِ تَنْبِيهٌ أَطْلَقُوا أَنَّ عِلَّتَهُ الْبَيَانُ وَهَذَا حَيْثُ لَا يَكُونُ الْمُعْتَرِضُ مُتَعَنِّتًا يَقْصِدُ تَغْلِيطَ خَصْمِهِ فَإِنْ كان اكْتَفَى منه بِالْجَوَابِ الْمُجْمَلِ وَهَذَا كما حُكِيَ عن الْيَهُودِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عن الرُّوحِ وهو لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بين الْقُرْآنِ وَجِبْرِيلَ وَعِيسَى وَمَلَكٌ يُقَالُ له الرُّوحُ وَرُوحُ الْإِنْسَانِ وَأَضْمَرُوا أَنَّهُ إنْ قال لهم الرُّوحُ مَلَكٌ قالوا بَلْ هو رُوحُ الْإِنْسَانِ وَإِنْ قال رُوحُ الْإِنْسَانِ قالوا بَلْ هو مَلَكٌ أو غَيْرُ ذلك من مُسَمَّيَاتِ الرُّوحِ فَعَلِمَ اللَّهُ مَكْرَهُمْ فَأَجَابَهُمْ مُجْمِلًا كَسُؤَالِهِمْ بِقَوْلِهِ قُلْ الرُّوحُ من أَمْرِ رَبِّي وهو يَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّيَاتِ الْخَمْسَةِ وَغَيْرَهَا هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ في خَلْقِ الْإِنْسَانِ وقال هذا هو السَّبَبُ في الْإِجْمَالِ لَا أَنَّ حَقِيقَتَهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ إذْ قد دَلَّتْ قَوَاطِعُ الشَّرْعِ على تَعْيِينِهَا فَقَدْ يُجْمِلُ الْمُسْتَدِلُّ لَفْظًا احْتِيَاطًا لِنَفْسِهِ في مَيْدَانِ النَّظَرِ بِحَيْثُ إنْ تَوَجَّهَ سُؤَالُ الْمُعْتَرِضِ على أَحَدِ مَعْنَيَيْ اللَّفْظِ تَخَلَّصَ منه بِتَعْيِينِ كَلَامِهِ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ التَّاسِعُ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ وهو بَيَانُ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ في هذا الْحُكْمِ لَا لِفَسَادٍ فيه بَلْ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ أو الْإِجْمَاعَ أو كان إحْدَى مُقَدِّمَاتِهِ كَذَلِكَ أو كان الْحُكْمُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ كَإِلْحَاقِ الْمُصَرَّاةِ بِغَيْرِهَا من الْعُيُوبِ في حُكْمِ الرَّدِّ وَعَدَمِهِ وَوُجُوبِ بَدَلِ
لَبَنِهَا الْمَوْجُودِ في الضَّرْعِ أو كان تَرْكِيبُهُ مُشْعِرًا بِنَقِيضِ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ وهو أَعَمُّ من فَسَادِ الْوَضْعِ وَإِنَّمَا يَنْقَدِحُ جَعْلُهُ اعْتِرَاضًا إذَا قُلْنَا بِتَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ على الْقِيَاسِ وهو الصَّحِيحُ وَعَنْ طَائِفَةٍ من الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيمُ الْقِيَاسِ وَعَنْ الْقَاضِي وُقُوفُ الِاسْتِدْلَالِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَلَى هذا لَا يَكُونُ الْقِيَاسُ فَاسِدَ الْوَضْعِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَجَوَابُهُ لِلطَّعْنِ في مُسْتَنِدِهِ أو مَنْعِ ظُهُورِهِ أو التَّأْوِيلِ أو الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ أو الْمُعَارَضَةِ بِنَصٍّ آخَرَ لِيَسْلَمَ الْقِيَاسُ أو يَتَبَيَّنَ أَنَّ هذا الْقِيَاسَ مِمَّا يَجِبُ تَرْجِيحُهُ على النَّصِّ بِوُجُوهِ التَّرْجِيحِ الْعَاشِرُ فَسَادُ الْوَضْعِ بِأَنْ لَا يَكُونَ الدَّلِيلُ على الْهَيْئَةِ الصَّالِحَةِ لِاعْتِبَارِهِ في تَرْتِيبِ الْحُكْمِ كَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ من وَضْعٍ يَقْتَضِي ضِدَّهُ كَالضِّيقِ من التَّوَسُّعِ وَالتَّخْفِيفِ من التَّغْلِيظِ وَالْإِثْبَاتِ من النَّفْيِ كَقَوْلِهِمْ في النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ لَفْظٌ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ كَلَفْظِ الْإِجَارَةِ فإن كَوْنَهُ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ أَنْ يَنْعَقِدَ هو بِهِ لَا عَدَمُ الِانْعِقَادِ وَكُلُّ فَاسِدِ الْوَضْعِ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ وَلَا يَنْعَكِسُ وَمِنْهُمْ من جَعَلَهُمَا وَاحِدًا وَهِيَ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وقال ابن بَرْهَانٍ هُمَا سِيَّانِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا وَقَالُوا فَسَادُ الْوَضْعِ هو أَنْ يُعَلِّقَ على الْعِلَّةِ ضِدَّ ما يَقْتَضِيهِ وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ هو أَنْ يُعَلِّقَ على الْعِلَّةِ خِلَافَ ما يَقْتَضِيهِ انْتَهَى وَقِيلَ فَسَادُ الْوَضْعِ هو إظْهَارُ كَوْنِ الْوَصْفِ مُلَائِمًا لِنَقِيضِ الْحُكْمِ بِالْإِجْمَاعِ مع اتِّحَادِ الْجِهَةِ وَمِنْهُ الِاحْتِرَازُ عن تَعَدُّدِ الْجِهَاتِ لِتَنَزُّلِهَا مَنْزِلَةَ تَعَدُّدِ الْأَوْصَافِ وَعَنْ تَرْكِ حُكْمِ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ مُلَاءَمَةِ الْوَصْفِ لِلنَّقِيضِ دُونَ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ إذْ هو عِنْدَ فَرْضِ اتِّحَادِ الْجِهَةِ خُرُوجٌ عن فَسَادِ الْوَضْعِ إلَى الْقَدْحِ في الْمُنَاسَبَةِ وَرُبَّمَا عَبَّرَ عنه الْقَاضِي بِتَعْلِيقِ ضِدِّ الْمُقْتَضِي وقال إلْكِيَا هو تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ على ما يَجِبُ تَأَخُّرُهَا عنه كَالْجَمْعِ في مَحَلٍّ فَرَّقَ الشَّرْعُ أو على الْعَكْسِ كما يُقَالُ لِلْحَنَفِيَّةِ جَمَعْتُمْ في مَحَلٍّ فَرَّقَ الشَّرْعُ إذْ قِسْتُمْ النَّفَقَةَ على السُّكْنَى في وُجُوبِهَا لِلْمَبْتُوتَةِ مع قَوْله تَعَالَى أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُمْ مُطْلَقًا وَقَوْلُهُ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتُ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَفَرَّقَ وَجَمَعْتُمْ وقد عَدَّ الْقَاضِي هذا الِاعْتِرَاضَ من الْقَطْعِيَّاتِ وقال أبو زَيْدٍ هو يَجْرِي من
الشَّهَادَةِ مَجْرَى فَسَادِ الْأَدَاءِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيُمْكِنُ إيرَادُهُ على الطُّرُودِ وَيَضْطَرُّ بِهِ الْمُعَلِّلُ إلَى إظْهَارِ التَّأْثِيرِ وإذا ظَهَرَ التَّأْثِيرُ بَطَلَ السُّؤَالُ وَهَذَا طَرِيقٌ سَلَكَهُ كَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَوْرَدَهُ كَثِيرٌ من الْأُصُولِيِّينَ وَيَرِدُ عِنْدَهُ اخْتِلَافُ مَوْضُوعِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مَبْنِيًّا على التَّخْفِيفِ كَالتَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ على الْخُفِّ وَيَكُونُ الْفَرْعُ مَبْنِيًّا على التَّغْلِيظِ كَوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَيَرُومُ الْقَائِسُ أَنْ يُثْبِتَ في الْفَرْعِ حُكْمًا مُخَفَّفًا وقد بَانَ من اخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ مِمَّا ذَكَرْنَا وهو مِثْلُ النَّقْضِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ بِهِ طَرْدَهُ بَعْدَ صِحَّةِ عِلَّتِهِ كَالشَّهَادَةِ إنَّمَا يَشْتَغِلُ بِتَعْدِيلِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ صِحَّةِ الْأَدَاءِ وهو أَقْوَى من النَّقْضِ لِأَنَّ الْوَضْعَ إذَا فَسَدَ لم يَبْقَ إلَّا الِانْتِقَالُ وَالنَّقْضُ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَذَكَرَ أبو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ هذا السُّؤَالَ لَا يَرِدُ إلَّا على الطَّرْدِ وَالطَّرْدُ ليس بِحُجَّةٍ وَأَمَّا الْعِلَّةُ التي ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فَلَا يَرِدُ هذا السُّؤَالُ وَنَحْنُ نَقُولُ نعم وَإِنْ كان الطَّرْدُ ليس بِحُجَّةٍ وَإِظْهَارُ التَّأْثِيرِ لَا بُدَّ منه وَلَكِنَّ السُّؤَالَ يَبْقَى وهو أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ على صِحَّةِ مِثْلِ هذه الْعِلَّةِ أو يَقُولَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ له تَأْثِيرٌ فَلَا بُدَّ في الْجَوَابِ من نَقْلِ الْكَلَامِ إلَى ذلك وَبِأَنَّ الدَّلِيلَ قد قام على صِحَّةِ هذه الْعِلَّةِ فَبِهَذَا الْوَجْهِ صَحَّحْنَا السُّؤَالَ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ فَسَادُ الْوَضْعِ عِبَارَةٌ عن كَوْنِ الدَّلِيلِ دَالًّا على مَحَلِّ النِّزَاعِ وهو مَقْبُولٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَنَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ إذْ لَا تَوَجُّهَ له لِكَوْنِهِ خَارِجًا عن الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ما ذَكَرْنَاهُ من تَغَايُرِ فَسَادِ الْوَضْعِ وَفَسَادِ الِاعْتِبَارِ وَأَنَّ الْأَوَّلَ بَيَانُ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ وَالثَّانِي اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ على مُنَاقَضَةِ النَّصِّ أو الْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَعَمُّ وهو اصْطِلَاحُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ ذَكَرَهُ ابن الْمُنِيرِ ثُمَّ قال وَعِنْدِي أَنَّهُمَا ليس بِاعْتِرَاضَيْنِ زَائِدَيْنِ فإن الْمُنَاسَبَةَ لِلنَّقِيضِ إنْ كان الْمُعْتَرِضُ رَدَّ الِاسْتِشْهَادَ إلَى أَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ فَهُوَ قَلْبٌ وَإِنْ رَدَّهُ لِأَصْلٍ آخَرَ فَإِنْ كانت جِهَتَا الْمُنَاسَبَةِ لِلنَّقِيضِ مُخْتَلِفَيْنِ فَهُوَ مُعَارَضَةٌ وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْجِهَةُ فَهُوَ قَدْحٌ في الْمُنَاسَبَةِ وَإِنْ لم يَرُدَّ الْمُعْتَرِضَ إلَى أَصْلٍ وَالْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ فَهُوَ مُعَارَضَةٌ لِمَعَانِي الْأُصُولِ بِالْمُرْسَلَاتِ فَلَا تُسْمَعُ وَأَمَّا فَسَادُ الِاعْتِبَارِ فَحَاصِلُهُ مُعَارَضَةٌ فَإِنْ كان التَّوْقِيفُ أَقْوَى
أو تَسَاوَيَا تَمَّتْ الْمُعَارَضَةُ أو أَضْعَفَ قُدِّمَ على طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الثَّانِي نَقْلُ خِلَافٍ في اسْتِعْمَالِ السُّؤَالِ على مُوَافَقَةِ النَّصِّ هل يَكُونُ فَسَادَ وَضْعٍ أَمْ لَا قال ابن الْمُنِيرِ فَلَا حَاصِلَ عِنْدِي لِهَذَا الْخِلَافِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بين دَلِيلَيْنِ إلَّا على تَفْسِيرٍ وَاحِدٍ وهو أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ أَحَدَهُمَا أَمَّا إذَا سَبَقَ إلَى الْفِكْرِ الظَّنُّ بِأَحَدِهِمَا اسْتَحَالَ أَنْ تَظُنَّ بِالْآخَرِ ظَنًّا آخَرَ مُجَامِعًا لِلْأُولَى انْتَهَى وَهَذَا خِلَافُ طَرِيقَةِ الناس الْمَشْهُورَةِ وَأُوِّلَ إطْلَاقُ الْعُلَمَاءِ بِاجْتِمَاعِ الْعِلَّةِ على أَنَّهُ إذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ كَفَى في حُصُولِ الْغَرَضِ الثَّالِثُ قد يُورَدُ هذا السُّؤَالُ على قَوَاعِدِ أَصْحَابِنَا في قِيَاسِ الْعَامِدِ على النَّاسِي في تَرْكِ التَّسْمِيَةِ وفي جَبْرِ الصَّلَاةِ بِالسُّجُودِ وفي قَضَائِهَا عِنْدَ التَّرْكِ وفي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ في الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَغَيْرِ ذلك فَيُقَالُ كَيْفَ يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ مع أَنَّ الشَّرْعَ عَذَرَ النَّاسِيَ وَرَفَعَ التَّكْلِيفَ عنه ولم يَعْذِرْ الْعَامِدَ فَلَا يَلْزَمُ من إعْذَارِ النَّاسِي إعْذَارُ الْعَامِدِ وقد كَثُرَ التَّشْنِيعُ عَلَيْنَا في هذا وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْعَمْدَ يُفَارِقُ النِّسْيَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِثْمِ وَعَدَمِهِ فَأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِالصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ أو التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ وَعَدَمِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلِ أَنَّ من تَرَكَ الطَّهَارَةَ عَمْدًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَكَذَلِكَ نَاسِيًا وَكَذَلِكَ تَرْكُ النِّيَّةِ في الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا من الْمَأْمُورَاتِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا في الْمَنْهِيَّاتِ وقد يُورِدُ أَيْضًا قِيَاسَ الْمُخْطِئِ على الْعَامِدِ في إيجَابِ كَفَّارَةِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ وَجَوَابُهُ أَنَّ فيه تَنْبِيهًا على وُجُوبِهَا فِيمَا دُونَ ذلك كَقَوْلِهِ تَعَالَى فإذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ الْآيَةَ فذكر الْجَلْدَ في إحْصَانِهِنَّ الذي هو أَعْلَى لِيُبَيِّنَ أَنَّ ما دُونَ ذلك يَكْفِي فيه الْجَلْدُ وَقِيلَ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّنْصِيصَ على الْعَمْدِ لِيُنَبِّهَ على قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا في إيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَالتَّنْصِيصَ في قَتْلِ الْآدَمِيِّ على الْخَطَأِ لِيُنَبِّهَ على خَطَأِ الْعَمْدِ والثاني أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الْعَمْدَ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عليه الْعُقُوبَةَ في الْعَوْدِ فقال وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ منه وَلَا يُمْكِنُ الْعُقُوبَةُ إلَّا في حَقِّ الْعَامِدِ الْحَادِيَ عَشَرَ الْمَنْعُ قال ابن السَّمْعَانِيِّ الْمُمَانَعَةُ أَرْفَعُ سُؤَالٍ على الْعِلَلِ وَقِيلَ إنَّهَا أَسَاسُ الْمُنَاظَرَةِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ الْعُوَارُ انْتَهَى وَيَتَوَجَّهُ على الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ
أَمَّا الْأَصْلُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا مَنْعُ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَنْقَسِمُ بِالِاتِّفَاقِ إلَى ما يُعَلَّلُ وَإِلَى ما لَا يُعَلَّلُ فَمَنْ ادَّعَى تَعْلِيلَ شَيْءٍ كُلِّفَ بَيَانَهُ وقد اُخْتُلِفَ في هذا فقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّمَا يَتَّجِهُ على من لم يذكر تَحْرِيرًا فإن الْفَرْعَ في الْعِلَّةِ الْمُجَرَّدَةِ يَرْتَبِطُ بِالْأَصْلِ بِمَعْنَى الْأَصْلِ قال إلْكِيَا هذا الِاعْتِرَاضُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ إذَا أتى بِالْعِلَّةِ لم يَكُنْ لِهَذَا السُّؤَالِ مَعْنًى وَقَبْلَ الْعِلَّةِ لَا يَكُونُ آتِيًا بِالدَّلِيلِ إلَّا أَنْ يَبْقَى تَقْسِيمًا وَسَبْرًا وقال الْمُقْتَرِحُ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَنْعَ كَوْنُ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا لَا يَرِدُ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُحَرِّرَ الْمُسْتَدِلُّ الْعِبَارَةَ أَمْ لَا فَإِنْ لم يُحَرِّرْهَا لم يُرِدْ عليه الْمَنْعُ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَرِدُ على مَذْكُورٍ وهو لم يذكر شيئا بَلْ قَوْلُهُ أَجْمَعْنَا على تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلْيُحَرَّمْ النَّبِيذُ فَهَذَا ليس بِدَلِيلٍ فَلَا يَتَّجِهُ مَنْعُ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلِّلًا بَلْ لَا يُخَاطِبُ حتى يُصَرِّحَ بِالْجَامِعِ وَإِنْ حَرَّرَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُسَلَّمَ له كَوْنُ ما ادَّعَاهُ عِلَّةً أو لَا فَإِنْ سَلَّمَ لَزِمَ من ذلك كَوْنُ الْأَصْلِ مُعَلِّلًا وَإِنْ لم يُسَلِّمْ لم يَرُدَّ عليه فَيَرُدُّ عليه مَنْعُ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لَا مَنْعُ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا وقال ابن الْمُنِيرِ في مَنْعِ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا هل يُقْبَلُ أَمْ لَا مَبْنِيٌّ على قَاعِدَةٍ مُخْتَلَفٍ فيها وَهِيَ أَنَّا هل نَحْتَاجُ في كل صُورَةٍ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ على أَنَّ الْحُكْمَ فيها مُعَلَّلٌ أو يُكْتَفَى بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ على أَنَّ الْأَحْكَامَ مُعَلَّلَةٌ وَالْحَقُّ هو الثَّانِي لِاسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْأَصْلَ في الْأَحْكَامِ التَّعْلِيلُ فَالْمُطَالَبَةُ بِكَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا على هذا الْقَوْلِ كَالْمُطَالَبَةِ بِكَوْنِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ حُجَّةً فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ هِيَ الْمُسْقِطَةُ لِهَذَا الِاعْتِرَاضِ لَا ما ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَنَّ الْمُسْقِطَةَ له الْكِفَايَةُ عنه بِتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الْمُعَيِّنَةِ فَمَتَى صَحَّتْ لَزِمَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا ضَرُورَةَ لُزُومِ الْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُصَحِّحُ لِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً مَثَلًا الْمُنَاسَبَةُ وَالْجَرَيَانُ لَا بِالذَّاتِ وَلَكِنْ بِالشَّرْعِ وَلَا يَلْزَمُ من الْمُنَاسَبَةِ وَالْجَرَيَانِ كَوْنُ الْمُنَاسَبَةِ عِلَّةً فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا لَوْلَا قِيَامُ الْإِجْمَاعِ على تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ بِالْأَوْصَافِ الْمُقَارِنَةِ لها بِشَرْطِهَا الثَّانِي مَنْعُ ما يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ أَنَّهُ عِلَّةُ كَوْنِهِ عِلَّةً بَعْدَ تَسْلِيمِ التَّعْلِيلِ وَيُسَمَّى الْمُطَالَبَةُ أَيْ بِتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ وإذا أُطْلِقَتْ الْمُطَالَبَةُ في عُرْفِ الْجَدَلِيِّينَ فَمُرَادُهُمْ هذا وَحَيْثُ أُرِيدَ غَيْرُهَا ذُكِرَتْ مُقَيَّدَةً فَيُقَالُ الْمُطَالَبَةُ بِوُجُودِ الْوَصْفِ أو ثُبُوتِ الْحُكْمِ في الْأَصْلِ وَنَحْوُهُ وَوَجْهُ الِاعْتِرَاضِ بِهِ أَنَّ من الناس من يَتَمَسَّكُ بِمَا لَا يَصْلُحُ كَوْنُهُ عِلَّةً فَيَجْعَلُهُ كَالتَّمَسُّكِ بِالطَّرْدِ أو بِالنَّفْيِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهِيَ عَائِدَةٌ إلَى مَحْضِ
الْفِقْهِ وَبِهَا يَتَبَيَّنُ الْمُحَقِّقُ من الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ وقال الْآمِدِيُّ هو أَعْظَمُ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ على الْقِيَاسِ لِعُمُومِ وُرُودِهِ على كل وَصْفٍ وَاتِّسَاعِ طُرُقِ إثْبَاتِهِ وَتَشَعُّبِهَا وقد اُخْتُلِفَ فيه وَالْمُخْتَارُ قَبُولُهُ فإن الْحُكْمَ لَا بُدَّ له من جَامِعٍ هو عِلَّةٌ وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ لو قُبِلَ لَاسْتُدِلَّ عليه بِمَا يُمْكِنُ مَنْعُ الْمُنَاسَبَةِ فيه وَيَتَسَلْسَلُ وَبِأَنَّا لو لم نَجِدْ إلَّا هذه الْعِلَّةَ فَعَلَى الْمُعْتَرِضِ الْقَدْحُ فيها وَبِأَنَّ الِاقْتِرَانَ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ وَأُجِيبَ عن الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ إذَا ذُكِرَ ما يُفِيدُ ظَنَّ التَّعْلِيلِ وَجَبَ التَّسْلِيمُ وَلَا يَتَسَلْسَلُ وَعَنْ الثَّانِي الطَّعْنُ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَعَنْ الثَّالِثِ مَنْعُ الِاكْتِفَاءِ بِالِاقْتِرَانِ بَلْ لَا بُدَّ من الْمُنَاسَبَةِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ أَطْلَقَ الْجَدَلِيُّونَ هذا الْمَنْعَ وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ كما قَالَهُ ابن الْمُنِيرِ بِمَا إذَا لم تَكُنْ الْعِلَّةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَإِنْ كانت وَجَوَّزْنَا بها فَمَنَعَ الْمُعْتَرِضُ وُجُودَ الْحُكْمِ الْمَنْصُوبِ عِلَّةً اتَّجَهَ في قَبُولِ الِاسْتِدْلَالِ عليه الْخِلَافُ الْآتِي في الِاسْتِدْلَالِ على حُكْمِ الْأَصْلِ إذَا مَنَعَهُ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُعْتَرِضَ لَا يُمَكَّنُ من تَقْرِيرِ الْعِلَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ على نَقِيضِ ما ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ وَلَا يَجْرِي فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْمَنْعِ وَالْفَرْقُ أَنَّ صِيغَةَ الْمُطَالَبَةِ بِتَصْحِيحِ الْوَصْفِ لَا تَتَضَمَّنُ إنْكَارًا وَلَا تَسْلِيمًا بِخِلَافِ الْمَنْعِ فإن الْمَانِعَ جَازِمٌ يَنْفِي ما ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ فَكَانَ لِتَقْرِيرِهِ وَجْهٌ نعم لو أَوْرَدَ هذا السُّؤَالَ بِصِيغَةِ الْمَنْعِ كَقَوْلِهِ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ هذا الْوَصْفَ عِلَّةٌ جاء الْخِلَافُ فَيُمْكِنُ من التَّقْرِيرِ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وهو أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِقْهٌ وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْمَنْعَ وَالْمُطَالَبَةَ مُتَسَاوِيَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لِكُلِّ مِنْهُمَا الْتِمَاسٌ فما جَرَى في أَحَدِهِمَا جَرَى في الْآخَرِ
فَصْلٌ قال الْغَزَالِيُّ مَجْمُوعُ ما رَأَيْت أَهْلَ الزَّمَانِ يَقُولُونَ عليه على دَفْعِ هذا السُّؤَالِ سَبْعَةُ مَسَالِكَ الْأَوَّلُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ الْقِيَاسُ رَدُّ فَرْعٍ مُنَازَعٍ فيه إلَى أَصْلٍ مُتَّفَقٍ عليه بِجَامِعٍ وقد حَصَلَ قُلْنَا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَغْلِبَ الْجَامِعُ ظَنَّ صِحَّتِهِ إمَّا بِإِخَالَةٍ أو شِبْهٍ مُعْتَبَرٍ ولم يُوجَدْ الثَّانِي قَوْلُهُمْ عَجْزُ الْمُعْتَرِضِ عن إبْطَالِ الْعِلَّةِ دَلِيلٌ على صِحَّتِهَا وهو بَاطِلٌ لِلُزُومِهِ صِحَّةَ كل دَلِيلٍ وُجِدَ فيه عَجْزُ الْمُعْتَرِضِ الثَّالِثُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنِّي بَحَثْتُ وَسَبَرْتُ فلم أَجِدْ غير هذا الْوَصْفِ عِلَّةً قُلْنَا ذلك لَا يُوجِبُ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا بِالْعِلِّيَّةِ الرَّابِعُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لو قُبِلَ سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ لَتَسَلْسَلَ فإنه ما من دَلِيلٍ يَذْكُرُهُ الْمُسْتَدِلُّ إلَّا وَيَتَوَجَّهُ عليه الْمُطَالَبَةُ قُلْنَا إذَا بَيَّنَ أَنَّ أَصْلَ قِيَاسِهِ مُجْمَعٌ عليه وَأَنَّ عِلَّتَهُ ثَابِتَةٌ بِطَرِيقٍ مُعْتَبَرٍ انْقَطَعَتْ عنه الْمُطَالَبَةُ أَمَّا ما دَامَ مُتَحَكِّمًا بِالدَّعْوَى فَلَا الْخَامِسُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حَاصِلُ هذا السُّؤَالِ يَرْجِعُ إلَى مُنَازَعَةٍ في عِلَّةِ الْأَصْلِ وَعِلَّةُ الْأَصْلِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُتَنَازَعًا فيها حتى يُتَصَوَّرَ الْخِلَافُ في الْفَرْعِ قُلْنَا لَسْنَا نُطَالِبُك بِعِلَّةٍ مُتَّفَقٍ عليها بَلْ بِأَنْ تَنْصِبَ دَلِيلًا على مُدَّعَاك وَلَا تَقْتَصِرَ على التَّحَكُّمِ السَّادِسُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ الذي ذَكَرْته شَبَهٌ وَالشَّبَهُ حُجَّةٌ قُلْنَا فَعَلَيْك بَيَانُ الشَّبَهِ السَّابِعُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ الدَّلِيلُ على عِلِّيَّةِ الْجَامِعِ اطِّرَادُهَا وَسَلَامَتُهَا عن النَّقْضِ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّرْدَ حُجَّةٌ انْتَهَى وَإِنَّمَا الطَّرِيقُ في جَوَابِهِ الِاسْتِدْلَال على تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ بِطَرِيقٍ من طُرُقِهَا الثَّالِثُ مَنْعُ الْحُكْمِ في الْأَصْلِ كَقَوْلِنَا في إزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَا يُزِيلُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ كَالدُّهْنِ فيقول لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدُّهْنَ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بَلْ يُزِيلُهَا عِنْدِي وَاخْتُلِفَ في أَنَّهُ انْقِطَاعٌ لِلْمُسْتَدِلِّ على مَذَاهِبَ
أَحَدُهَا أَنَّهُ انْقِطَاعٌ لِأَنَّهُ إنْ شُرِعَ في الدَّلَالَةِ على حُكْمِ الْأَصْلِ كان انْتِقَالًا لِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَإِنْ لم يُشْرَعْ لم يَتِمَّ دَلِيلُهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ إذَا دَلَّ على مَحَلِّ الْمَنْعِ جَزَمَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وَالْبَرَوِيُّ وقال ابن بَرْهَانٍ إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ بين النُّظَّارِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ تَتْمِيمٌ لِمَقْصُودِهِ لَا رُجُوعَ عنه بَلْ هو تَثْبِيتُ رُكْنِ قِيَاسِهِ فَهُوَ حُكْمُ الْأَصْلِ كما يَبْحَثُ في تَحْقِيقِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَبِالْقِيَاسِ على مَنْعِ سَائِرِ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ وَالثَّالِثُ إنْ كان الْمَنْعُ جَلِيًّا فَهُوَ انْقِطَاعٌ أو خَفِيًّا أَيْ يَخْفَى على أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ فَلَا لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وهو اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَنَقَلَ ابن بَرْهَانٍ عنه في الْمَنْعِ الظَّاهِرُ أَنْ يَتَقَدَّمَ منه في صَدْرِ الِاسْتِدْلَالِ هذه الشَّرِيطَةُ بِأَنْ يَقُولَ إنْ سَلَّمْت وَإِلَّا نَقَلْت الْكَلَامَ إلَيْهِ فَلَا يَنْقَطِعُ وَالرَّابِعُ يَتَّبِعُ عُرْفَ ذلك الْبَلَدِ الذي فيه الْمُنَاظَرَةُ فإن الْجَدَلَ مَرَاسِيمُ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ الْعُرْفِ وهو اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالْخَامِسُ إنْ لم يَكُنْ له مُدْرَكٌ غَيْرُهُ جَازَ الْقِيَاسُ وَإِلَّا إنْ كان الْمَنْعُ خَفِيًّا لم يَنْقَطِعْ وَإِلَّا انْقَطَعَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ في غَايَةِ الْأَمَلِ ثُمَّ إذَا قُلْنَا لَا يَنْقَطِعُ فَهَلْ يَلْزَمُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ على حُكْمِ الْأَصْلِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ لَا فإنه يقول إنَّمَا قِسْتُ على أَصْلِي وهو بَعِيدٌ لِأَنَّهُ إنْ قَصَدَ إثْبَاتَهُ لِنَفْسِهِ فَلَا وَجْهَ لِلْمُنَاظَرَةِ وَإِنْ قَصَدَ إثْبَاتَهُ على خَصْمِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ مَنْعُ مَنْعِهِ على حُكْمِ الْأَصْلِ وَوَهَمَ ابن الْحَاجِبِ فَحَكَى عن الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى دَلَالَةٍ على مَحَلِّ الْمَنْعِ وَالْمَوْجُودُ في الْمُلَخَّصِ وَغَيْرِهِ لِلشَّيْخِ سَمَاعُ الْمَنْعِ ثُمَّ إذَا قُلْنَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ فَإِنْ اسْتَدَلَّ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ فَذَاكَ أو بِقِيَاسٍ فَإِنْ كان بِعَيْنِ الْجَامِعِ الْأَوَّلِ فَقِيلَ لَا يَصِيرُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّهُ طُولٌ من غَيْرِ فَائِدَةٍ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ لِأَنَّهُ قد يَكُونُ قَصْدُهُ إظْهَارَ فِقْهِ الْمَسَائِلِ وَالتَّدْرِيبَ فيها وَتَكْثِيرَ الْأُصُولِ الدَّالَّةِ على اعْتِبَارِ الْوَصْفِ وَإِنْ كان بِغَيْرِهِ فقال الْبَرَوِيُّ يَصِيرُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّهُ إنْ حَقَّقَهُ في الْفَرْعِ فَقَدْ انْتَقَلَ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَإِنْ لم يُحَقِّقْهُ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِالْفَرْقِ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَذَهَبَ أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ لِأَنَّ أَكْثَرَ ما فيه أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ قد اجْتَمَعَ فيه عِلَّتَانِ وَلَا امْتِنَاعَ فيه نعم يَلْزَمُهُ إثْبَاتُ كل وَاحِدَةٍ من الْعِلَّتَيْنِ فَإِنْ أَثْبَتَ ذلك تَمَّ له مَقْصُودُهُ وَإِنْ عَجَزَ
انْقَطَعَ حِينَئِذٍ ثُمَّ إذَا قُلْنَا لَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ الدَّلِيلَ فإذا أَقَامَهُ فَاخْتَلَفُوا في انْقِطَاعِ الْمُعْتَرِضِ فَقِيلَ يَنْقَطِعُ حتى يُسَوِّغَ له بَعْدَ ذلك الْكَلَامَ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ فَسَادَ الْمَنْعِ وَحَسْمًا لِبَابِ التَّطْوِيلِ وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ ما قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ إنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ فإن قَبُولَ الْمَنْعِ إنَّمَا كان يَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ الدَّلِيلَ على مَحَلِّ الْمَنْعِ فَكَيْفَ يَقْنَعُ منه بِمَا يَدَّعِيهِ دَلِيلًا فَيَجِبُ تَمْكِينُ الْخَصْمِ من الْكَلَامِ عليه فَإِنْ عَجَزَ فَعِنْدَ ذلك يَنْقَطِعُ قال فَأَمَّا إذَا أَقَامَ الْمُسْتَدِلُّ الدَّلِيلَ على إثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمَمْنُوعِ في الْأَصْلِ فَعَدَلَ الْمُعْتَرِضُ عنه وَأَخَذَ يَعْتَرِضُ ثَانِيًا على الدَّلِيلِ الْمَنْصُوبِ على الْحُكْمِ في الْفَرْعِ فَهَاهُنَا أَجْمَعُوا على أَنَّهُ يُعَدُّ مُنْقَطِعًا تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ هذا الْمَنْعُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إذَا قَاسَ الْمُسْتَدِلُّ على مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ فإنه لو قَاسَ على مَسْأَلَةٍ إجْمَاعِيَّةٍ لم يُمْكِنْ الْمُعْتَرِضَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ على خِلَافِ الْإِجْمَاعِ ثُمَّ ليس كُلُّ خِلَافِيَّةٍ يَتَوَجَّهُ عليها هذا السُّؤَالُ بَلْ يَخْتَصُّ بِكُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَرِضُ بِالْمَنْعِ فيه عن مَذْهَبِ إمَامِهِ لِأَنَّ طَرِيقَةَ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمُتَنَاظِرِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَمِيَ إلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ حَذَرًا من الِانْتِشَارِ وفي الْمَحْصُولِ إنْ كان انْتِفَاؤُهُ مَذْهَبًا لِلْمُعَلِّلِ وَالْمُعْتَرِضِ كان مُتَوَجِّهًا وَكَذَا إنْ كان مَذْهَبَ الْمُعَلِّلِ وَحْدَهُ وَإِنْ كان مَذْهَبًا لِلْمُعْتَرِضِ وَحْدَهُ لم يُقْبَلْ وَقَسَّمَ ابن بَرْهَانٍ الْمَنْعَ الصَّحِيحَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ صَاحِبِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَلَهُ في الْجَوَابِ طُرُقٌ أَحَدُهَا أَنْ يُفَسِّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَكُونُ مُسَلَّمًا عِنْدَ الْخَصْمِ كَاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ في الْإِجَارَةِ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ وَأَصْلُهُ عَقْدُ النِّكَاحِ فيقول الشَّافِعِيُّ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ فإن عِنْدِي النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ بَلْ يَنْتَهِي وَلَيْسَ كُلُّ ما يَنْتَهِي يَبْطُلُ بِدَلِيلِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّتُهُ يَنْتَهِي وَلَا يَبْطُلُ فَإِنْ قال الْمُسْتَدِلُّ عَنَيْتُ بِقَوْلِي فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ أَيْ يَرْتَفِعَ وَلَا يَبْقَى قَبْلُ الثَّانِي أَنْ يُبَيِّنَ مَوْضِعًا مُتَّفَقًا عليه كَاسْتِدْلَالِنَا في فَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ في الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ مُشْتَمِلَةٌ على أَفْعَالٍ مُتَغَايِرَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ فيها التَّرْتِيبُ كَالصَّلَاةِ فيقول
الْحَنَفِيُّ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ فإن التَّرْتِيبَ عِنْدِي في الصَّلَاةِ لَا يَجِبُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ في أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ يَأْتِي بها دَفْعَةً وَاحِدَةً بِلَا تَرْتِيبٍ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ أُبَيِّنُ مَوْضِعًا مُتَّفَقًا عليه من الصَّلَاةِ يَجِبُ فيه التَّرْتِيبُ فَأَقِيسُ عليه فَأَقُولُ أَجْمَعْنَا أَنَّهُ لو قَدَّمَ السُّجُودَ على الرُّكُوعِ لم يَجُزْ فَأَقِيسُ عليه الثَّالِثُ أَنْ يَنْقُلَ الْكَلَامَ إلَيْهِ كَاسْتِدْلَالِنَا في التَّعْفِيرِ من وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ بِأَنَّ هذا حَيَوَانٌ نَجِسُ الْعَيْنِ فَيَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ من وُلُوغِهِ قِيَاسًا على الْكَلْبِ فيقول الْحَنَفِيُّ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ فإن عِنْدِي لَا يَجِبُ التَّسْبِيعُ في غُسْلِ الْكَلْبِ وَجَوَابُهُ أَنْ يَنْتَقِلَ الْكَلَامُ إلَيْهِ وَيُبَيِّنَ أَنَّ هذا الْحُكْمَ في الْأَصْلِ مَنْصُوصٌ عليه الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَذْهَبَهُ مُخَالِفٌ كَاسْتِدْلَالِنَا في الصَّرُورَةِ إذَا حَجَّ عن غَيْرِهِ كما إذَا أَطْلَقَ الْإِحْرَامَ فيقول الْحَنَفِيُّ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ فإن عن أبي حَنِيفَةَ رِوَايَةً أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْمُعْتَرِضُ مَذْهَبَ صَاحِبِ الْمَقَالَةِ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيَّةِ في الْمُشْرِكِ يُسْلِمُ على خَمْسٍ أَنَّ هذا جَمْعٌ مُحَرَّمٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَخَيَّرَ قِيَاسًا على ما إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ تَحْتَ رَجُلَيْنِ فيقول الشَّافِعِيُّ أَمْنَعُ الْحُكْمَ في الْأَصْلِ فإنه لَا نَصَّ لِلشَّافِعِيِّ في إسْلَامِهَا عن زَوْجَيْنِ قال وَمِنْ الْمَنْعِ الْفَاسِدِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُعْتَرِضُ الْحُكْمَ على وَجْهٍ بَعِيدٍ لِلْأَصْحَابِ كَاسْتِدْلَالِنَا في جِلْدِ الْكَلْبِ لَا يُدْبَغُ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ على مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ التَّنْبِيهُ الثَّانِي قال إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ حَقُّ السَّائِلِ أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا غير مُدَّعٍ وَلَيْسَ له أَنْ يَدُلَّ فإنه ليس على الْمُنْكِرِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ شَرْعًا وَعَلَى مِثْلِهِ بُنِيَتْ الْمُنَاظَرَةُ صَوْنًا لِلْمَقَامِ عن الِاخْتِلَاطِ قال وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَدِلِّ الِانْتِقَالُ من حُكْمٍ إلَى آخَرَ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى فإن الْعِلَّةَ كَافِيَةٌ في إثْبَاتِ الْحُكْمِ نعم الِانْتِقَالُ من عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى فَسْخٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ النَّظَرِ قال وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ ليس لِلْمَسْئُولِ أَنْ يَدُلَّ على النَّقْضِ فإن بِهِ يَنْتَقِلُ إلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى خَارِجَةٍ عن مَقْصُودِ السُّؤَالِ وَنُقِلَ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّهُ جَوَّزَ ذلك لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ النَّقْضُ ثَبَتَ مَطْلُوبُهُ فَالِاخْتِيَارُ يَدُلُّ على أَنَّهُ خَارِجٌ عن مَصْلَحَةِ الْمُنَاظَرَةِ وَأَمَّا الْمَنْعُ في الْفَرْعِ فَلَا يَتَوَجَّهُ عليه إلَّا سُؤَالٌ وَاحِدٌ وهو مَنْعُ وُجُودِ عِلَّةِ
الْأَصْلِ فيه وَيُسَمَّى مَنْعَ الْوَصْفِ فإن التَّعْلِيلَ قد يَقَعُ بِوَصْفٍ مُخْتَلِفٍ فيه كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ في مَسْأَلَةِ الْإِيدَاعِ من الصَّبِيِّ إنَّهُ مُسَلَّطٌ على الِاسْتِهْلَاكِ فَيُمْنَعُ وقال ليس بِمُسَلَّطٍ إذْ الْإِيدَاعُ ليس بِتَسْلِيطٍ قال إلْكِيَا وَهَذَا غَيْرُ مَعْنَى الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ مَعْنَى الِاعْتِبَارِ مُطَالَبَةٌ تَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ لَا إلَى الْفَرْعِ قال وَتَبْطُلُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْإِخَالَةِ وَإِيضَاحُ وَجْهِ الدَّلَالَةِ وهو من أَقْسَامِ الْمَنْعِ وَقِيلَ إنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ وُجُودِ التَّعْلِيلِ وما يُفْرَضُ قَبْلَهُ التَّعْلِيلُ فَلَيْسَ بِاعْتِرَاضٍ عليه قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الصَّحِيحَةِ طَلَبُ الْإِخَالَةِ وهو من أَهَمِّ الْأَسْئِلَةِ وَأَوْقَعِهَا في الْأَقْيِسَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَمَنْ ادَّعَى مَعْنًى فَعَلَيْهِ تَبْيِينُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْحُكْمِ وَاقْتِضَائِهِ له فَإِنْ عَجَزَ عن ذلك انْقَطَعَ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ ليس هذا من الْأَسْئِلَةِ بَلْ حَقٌّ على الْمَسْئُولِ أَنْ يَبْدَأَ بِإِظْهَارِ الْإِخَالَةِ قبل الْمُطَالَبَةِ وَإِلَّا لم يَكُنْ آتِيًا بِصُورَةِ الْقِيَاسِ وَسُكُوتُهُ عنه اقْتِصَارٌ على بَعْضِ الْعِلَّةِ نعم لو ضَمَّ إلَى تَعْلِيلِهِ لَفْظًا يُشْعِرُ بِالْإِخَالَةِ كَفَاهُ ذلك فَإِنْ وَجَّهَ السَّائِلُ طَلَبًا كان قَاصِرًا عن دَرْكِ لَفْظِ التَّعْلِيلِ وقال ابن الْمُنِيرِ الْخِلَافُ في عَدِّ هذا من الِاعْتِرَاضَاتِ مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ هل يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ بَيَانُ الْإِخَالَةِ قبل أَنْ يَسْأَلَهَا فَالْقَاضِي أَلْزَمَهُ ذلك ابْتِدَاءً فَسَقَطَ هذا السُّؤَالُ وَغَيْرُ الْقَاضِي قَنَعَ منه بِذِكْرِ الْمَعْنَى الْمُخْتَلِّ فَإِنْ لم يُقَرِّرْهَا تَوَجَّهَ عليه وَالْحَقُّ مع الْقَاضِي بَلْ لو شَرَعَ الْخَصْمُ في سُؤَالِهَا قبل بَيَانِهَا كان جَاهِلًا بِحَقِّهِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ طَرَدَ قَوْلَهُ فَأَلْزَمَ الْمُسْتَدِلَّ دَفْعَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُتَوَقَّعَةِ وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُ ذلك كما لَا يَلْزَمُ الْمُدَّعِي في الْخُصُومَةِ إذَا عَدَّلَ بَيِّنَتَهُ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِنَفْيِ الْقَوَادِحِ الْمُتَوَقَّعَةِ إلَّا إذَا أتى الْخَصْمُ بِقَادِحٍ كان لِلْمُدَّعِي أَنْ يَدْفَعَهُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا انْتَهَى وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً تَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ وَمُنَاسَبَتِهِ وَمَقْصُودُهُ اسْتِنْطَاقُ الْمَسْئُولِ في تَصْحِيحِ شَهَادَةِ الِاعْتِبَارِ بِمَا يَعْتَمِدُهُ من الْمَسَالِكِ الْمُتَقَدِّمَةِ في إثْبَاتِ الْعِلَّةِ لِيَعْتَرِضَ على كل مَسْلَكٍ منها بِمَا يَلِيقُ بِهِ وقد مَنَعَ قَوْمٌ صِحَّةَ الْجَمْعِ بين الْمُطَالَبَةِ وَالْمُمَانَعَةِ لِمَا فيها من مَنْعِ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُمَانَعَةِ ضِمْنًا وَفِيهِ بُعْدٌ إذْ الْمُعْتَرِضُ مُطَالَبٌ هَادِمٌ غَيْرُ مُعْتَرِضٍ لِلْحُكْمِ بِإِثْبَاتٍ أو نَفْيٍ وَلِلسَّائِلِ أَنْ يَجْمَعَ الْمُنُوعَ فَيَمْنَعُ حُكْمَ الْأَصْلِ وَيَمْنَعُ الْوَصْفَ في الْفَرْعِ وفي الْأَصْلِ وَيَمْنَعُ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً أو يَعْكِسُهُ فيقول لَا أُسَلِّمُ الْوَصْفَ في الْفَرْعِ وَلَا في الْأَصْلِ وَلَا الْحُكْمَ في الْأَصْلِ وَلِلْمَسْئُولِ دَفْعُهَا بِإِبْدَاءِ مَوْضِعٍ مُسَلَّمٍ في الْأَصْلِ أو بِإِظْهَارِ الْمُنَاسَبَةِ على شَرْطِهَا وَلَهُ النَّقْلُ إلَى الْأَصْلِ إذَا مَنَعَ أو افْتِتَاحُ الْكَلَامِ فيه ابْتِدَاءً إذَا
تَوَقَّعَ الْمَنْعَ الثَّانِيَ عَشَرَ التَّقْسِيمُ وهو كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَرَدِّدًا بين أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ وَالْآخَرُ مُسَلَّمٌ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا غَيْرُ ظَاهِرٍ في أَحَدِهِمَا مِثْلُ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وهو تَثْبِيتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فَيَثْبُتُ له فيقول الْمُقْسِمُ السَّبَبُ هو مُطْلَقُ الْبَيْعِ أو الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ الذي لَا شَرْطَ فيه الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ قُلْت بِوُجُودِهِ قال الْآمِدِيُّ وَلَيْسَ من شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعًا وَالْآخَرُ مُسَلَّمًا بَلْ يَكُونَانِ مُسَلَّمَيْنِ لَكِنَّ الذي يَرِدُ على أَحَدِهِمَا غَيْرُ ما يَرِدُ على الْآخَرِ إذْ لو اتَّحَدَ ما يَرِدُ لم يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُمَا مَمْنُوعَيْنِ لِأَنَّ التَّقْسِيمَ لَا يُفِيدُ وَعَلَى هذا فَلَوْ أَرَادَ الْمُعْتَرِضُ تَصْحِيحَ تَقْسِيمِهِ اكْتَفَى بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ احْتِمَالَيْنِ من غَيْرِ تَكَلُّفِ بَيَانِ التَّسَاوِي في دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا وَجَوَابُهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ له وَلَوْ عُرْفًا أو ظَاهِرًا وَلَوْ بِقَرِينَةٍ في الْمُرَادِ أو بين احْتِمَالًا لم يَتَعَرَّضْ له الْمُعْتَرِضُ الثَّالِثَ عَشَرَ اخْتِلَافُ الضَّابِطِ اخْتِلَاف الضَّابِط بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِالْجَامِعِ كَقَوْلِهِ في شُهُودِ الْقِصَاصِ تَسَبَّبُوا لِلْقَتْلِ عَمْدًا فَلَزِمَهُمْ الْقِصَاصُ زَجْرًا لهم عن السَّبَبِ كَالْمُكْرَهِ فَالْمُشْتَرِكُ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إنَّمَا هِيَ الْحِكْمَةُ وَهِيَ الزَّجْرُ وَالضَّابِطُ في الْفَرْعِ الشَّهَادَةُ وفي الْأَصْلِ الْإِكْرَاهُ وَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ بِالْحِكْمَةِ وَحْدَهَا وَضَابِطُ الْفَرْعِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِضَابِطِ الْأَصْلِ في الْإِفْضَاءِ إلَى الْمَقْصُودِ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَجَوَابُهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا من السَّبَبِ الْمَضْبُوطِ عُرْفًا أو يُبَيِّنَ الْمُسَاوَاةَ في الضَّابِطِ أو إفْضَاءَ الضَّابِطِ في الْفَرْعِ أَكْثَرُ الرَّابِعَ عَشَرَ اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قِيلَ إنَّهُ قَادِحٌ لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ مُمَاثَلَةُ الْفَرْعِ الْأَصْلَ في عِلَّتِهِ وَحُكْمِهِ فإذا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ لم تَتَحَقَّقْ الْمُسَاوَاةُ وَقِيلَ لَا لِأَنَّ الْحُكْمَيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَ في الْخُصُوصِ فَقَدْ يَشْتَرِكَانِ في أَمْرٍ عَامٍّ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ ذلك الْعَامِّ وَالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَتَكُونُ الْعِلَّةُ تُنَاسِبُ ذلك الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ وهو كَإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ على الصَّغِيرَةِ في نِكَاحِهَا قِيَاسًا على الْوِلَايَةِ في مَالِهَا
الْخَامِسَ عَشَرَ الْمُعَارَضَةُ وَهِيَ من أَقْوَى الِاعْتِرَاضَاتِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَقِيلَ هِيَ إلْزَامُ الْجَمْعِ بين شَيْئَيْنِ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا في الْحُكْمِ نَفْيًا أو إثْبَاتًا وَقِيلَ إلْزَامُ الْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا قال بِنَظِيرِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنَاقَضَةِ من حَيْثُ إنَّ كُلًّا نَقْضُ مُعَارَضَةٍ بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَأَيْضًا فَالنَّقْضُ لَا يَكُونُ بِالدَّلِيلِ وَالْمُعَارَضَةُ بِالدَّلِيلِ على الدَّلِيلِ صَحِيحَةٌ قال وَهِيَ تَرْجِعُ إلَى الِاسْتِفْهَامِ قال وقد اخْتَلَفُوا فيها فَأَثْبَتَهَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّظَرِ وَزَعَمَ قَوْمٌ أنها لَيْسَتْ بِسُؤَالٍ صَحِيحٍ وَاخْتَلَفَ مَثْبُوتُهَا في الثَّابِتِ منها فَقِيلَ إنَّهَا تَصِحُّ مُعَارَضَةُ الدَّلَالَةِ بِالدَّلَالَةِ وَالْعِلَّةِ وَلَا تَجُوزُ مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى وهو اخْتِيَارُ أبي هَاشِمِ بن الْجُبَّائِيُّ وَحَكَاهُ أَصْحَابُهُ عن الْجُبَّائِيُّ وَوَجَدْنَا في كِتَابِهِ خِلَافَهُ وَذَكَرَ الْكَعْبِيُّ في جَدَلِهِ جَوَازَ مُعَارَضَةِ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ الْمُعَارَضَةُ إظْهَارُ عِلَّةٍ مُعَارِضَةٍ لِعِلَّةٍ أو لِعِلَلٍ في نَقِيضِ مُقْتَضَاهَا هذا أَصْلُ الْبَابِ وَلَا يَجْرِي إلَّا في الظَّنِّيَّاتِ ثُمَّ يُرَجَّحُ أَحَدُ الظَّنَّيْنِ على الْآخَرِ بِوَجْهٍ من وُجُوهِ التَّرْجِيحِ وَكَذَلِكَ الْمُعَارَضَةُ بَعْدَ الْعَجْزِ عن كل اعْتِرَاضٍ قَدَّمْنَاهُ فإن فَسَادَ الْوَضْعِ وَالْمَنْعِ لَا يَصْلُحُ على حِيَالِهِ اقْتِضَاءُ الْحُكْمِ حتى يُعَارَضَ بِهِ وَإِنَّمَا الْمُعَارَضَةُ حَيْثُ لو لم يَقْدِرْ لَاسْتَقَلَّتْ الْعِلَّةُ في نَفْسِهَا أو جِنْسِهَا بِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ لِوُجُودِ أَصْلِ الظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ وَلَكِنَّ الْمُعَارِضَ مَنَعَ اعْتِبَارَهَا دُونَ تَرْجِيحٍ فَالْحَرْفُ الْمُعَارَضَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ من زِيَادَةٍ على أَصْلِ الظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ في هذا الْمَجَالِ على الْخُصُوصِ وَاحْتَجَّ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ على عِلَّةِ صِحَّةِ الْحِجَاجِ بِالْمُعَارَضَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَهَا على الْكُفَّارِ فقال قُلْ لو كان معه آلِهَةٌ كما يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا يَعْنِي أَنَّ بُطْلَانَ الْوُصُولِ إلَى ذِي الْعَرْشِ عِلَّةُ عَجْزِهِمْ وَمَنْ صَحَّ عَجْزُهُ ثَبَتَ نَقْصُهُ وَاسْتَحَالَ وَصْفُهُ بِمَا وَصَفْتُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إمَّا في الْأَصْلِ أو في الْفَرْعِ أو في الْوَصْفِ أَمَّا الْمُعَارَضَةُ في الْأَصْلِ فَإِنْ ذَكَرَ عِلَّةً أُخْرَى في الْأَصْلِ سِوَى عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ وَتَكُونُ تِلْكَ الْعِلَّةُ مَعْدُومَةً في الْفَرْعِ وَنَقُولُ إنَّ الْحُكْمَ في الْأَصْلِ نَشَأَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ التي ذَكَرْتَهَا لَا بِالْعِلَّةِ التي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيُّ في تَبْيِيتِ النِّيَّةِ صَوْمُ عَيْنٍ فَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ قبل الزَّوَالِ كَالنَّفْلِ فَيُقَالُ ليس الْمَعْنَى في الْأَصْلِ ما ذَكَرْت بَلْ الْمَعْنَى فيه أَنَّ النَّفَلَ من عَمَلِ السُّهُولَةِ
وَالْخِفَّةِ فَجَازَ أَدَاؤُهُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عن الشُّرُوعِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَهَذَا هو سُؤَالُ الْفَرْقِ فَسَيَأْتِي فيه ما سَبَقَ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ يُبْدِيهَا الْمُعْتَرِضُ مُسْتَقِلَّةً بِالْحُكْمِ كَمُعَارَضَةِ الْكَيْلِ بِالطُّعْمِ أو غير مُسْتَقِلَّةٍ على أنها جُزْءُ الْعِلَّةِ كَزِيَادَةِ الْجَارِحِ إلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ في مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وقد اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ في قَبُولِهِ فَقِيلَ لَا يُقْبَلُ بِنَاءً على مَنْعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ قال ابن عَقِيلٍ وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَةً وَلَا جَوَابًا وَبِهِ جَزَمَ أبو بَكْرٍ محمد بن أَحْمَدَ الْبَلْعَمِيُّ الْحَنَفِيُّ في كِتَابِهِ الْغَرَرِ في الْأُصُولِ قال لِأَنَّ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا بَلْ أَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ جميعا قال وَلَيْسَتْ مُنَاقَضَةً لِأَنَّهَا سَدُّ مَجْرَى الْعِلَّةِ ولم يَسُدَّ عليه الْمُجِيبُ مُنَاقَضَةً من الْعِلَّةِ وَقِيلَ يُقْبَلُ وَبِهِ جَزَمَ ابن الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ بِنَاءً على جَوَازِ ذلك وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْجَدَلِيِّينَ قالوا لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ في الْأَصْلِ وَصْفَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلِاسْتِقْلَالِ فإنه يَتَعَارَضُ عِنْدَ النَّظَرِ ثَلَاثَةُ احْتِمَالَاتٍ أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ خَاصَّةً وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ وَصْفَ الْمُعْتَرِضِ خَاصَّةً وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ مَجْمُوعَ الْوَصْفَيْنِ وإذا تَعَارَضَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فَالْقَوْلُ بِتَعْيِينِ وَاحِدٍ منها من غَيْرِ مُرَجِّحٍ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَهَلْ يَقْتَضِي إبْطَالَ الدَّلِيلِ فيه قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتِمُّ دَلِيلُ الْمَسْئُولِ بِالْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ إنْ كان صَحِيحًا فما يُعَارِضُهُ بِهِ خَصْمُهُ يَسْتَحِيلُ دَلِيلًا وَإِنْ لم يَكُنْ صَحِيحًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرَى الْمُسْتَدِلُّ فَسَادَهُ فَإِنْ لم يَقْدِرْ بَانَ عَجْزُهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ ما لم يُفْسِدْ الْمَسْئُولُ تِلْكَ الْمُعَارَضَةَ لَا يَتِمُّ دَلِيلُهُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمُعَارَضَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ وَدَلِيلُ الْمَسْئُولِ يُشْبِهُهُ غير أَنَّ السَّائِلَ عَجَزَ عن إيرَادِ ما يُفْسِدُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ الْخِلَافِ في قَبُولِ هذا السُّؤَالِ وَرَدِّهِ على تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ فَإِنْ جَوَّزْنَا لم يُقْبَلْ وَإِلَّا قُبِلَ ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وَنَازَعَهُ شَارِحُهُ ابن الْمُنِيرِ فقال نَحْنُ وَإِنْ فَرَضْنَا جَوَازَ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ فإنه يَتَّجِهُ ذلك إذَا شَهِدَتْ الْأُصُولُ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالتَّعْدَادِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذلك إذَا شَهِدَ لِكُلِّ عِلَّةٍ أَصْلٌ انْفَرَدَتْ فيه ثُمَّ اجْتَمَعَتْ في مَحَلٍّ آخَرَ كَاجْتِمَاعِ الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ فإن اسْتِقْلَالَ كُلٍّ
مِنْهُمَا بِجَمِيعِ عِلَّتِهِ حَيْثُ يَنْفَرِدُ ثُمَّ يَقَعُ الْآخَرُ حَيْثُ يَجْتَمِعُ فَقَائِلٌ يقول أَجْمَعْنَا على الْحُكْمِ الْوَاحِدِ وَآخَرُ يقول لِكُلِّ حُكْمٍ عِلَّةٌ فَاجْتَمَعَ عِلَّتَانِ وَحُكْمَانِ أَمَّا إذَا فَرَضْنَا إبْدَاءَ السُّؤَالِ عِلَّةً فَعَارَضَهُ السَّائِلُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَفَرْضُهُمَا عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ يَسْتَدْعِي انْفِرَادَ كُلٍّ مِنْهُمَا في أَصْلٍ سِوَى مَحَلِّ الِاجْتِمَاعِ فإذا لم يَظْفَرْ الِانْفِرَادُ فَالْمُعَارَضَةُ وَارِدَةٌ بِنَاءً على خَلَلِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ إنْ قال الْبَاعِثُ هو الْمَعْنَى الذي أَبْدَيْتُهُ قال السَّائِلُ الْبَاعِثُ مَعْنَاهُ أو الْأَمْرَانِ مَعًا بِحَيْثُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءَ عِلَّةٍ فَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ مُتَسَاوِيَةٌ وَالْمُسْتَدِلُّ في تَعْيِينِ مَقْصُودِهِ بِالدَّعْوَى مُتَحَكِّمٌ وَلِهَذَا لو لم نَعْتَبِرْ شَهَادَةَ الْأُصُولِ وَأَجَزْنَا الْمُرْسَلَاتِ لم يَرِدْ هذا السُّؤَالُ وَهَلْ يَجِبُ على الْمُعْتَرِضِ بَيَانُ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الذي عَارَضَ بِهِ الْأَصْلَ عن الْفَرْعِ فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهَا وهو الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ إنْ كان في الْفَرْعِ افْتَقَرَ الْمُسْتَدِلُّ إلَى بَيَانِهِ فيه لِيَصِحَّ الْإِلْحَاقُ وَإِنْ لم يُبَيِّنْ ذلك بَطَلَ الْجَمْعُ والثاني يَجِبُ نَفْيُهُ لِأَنَّ الْفَرْقَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ والثالث وَبِهِ أَجَابَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ إنْ قَصَدَ الْفَرْقَ فَلَا بُدَّ من نَفْيِهِ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ يقول إنْ لم يَكُنْ مَوْجُودًا فيه فَهُوَ فَرْقٌ وَإِلَّا فَالْمُسْتَدِلُّ لم يذكر إلَّا بَعْضَ الْعِلَّةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ من إشْكَالٍ هذا إذَا كان الْمَقِيسُ عليه أَصْلًا وَاحِدًا فَإِنْ كان أُصُولًا فَقِيلَ لَا يَرِدُ لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِأَصْلٍ آخَرَ عن هذا حَاصِلٌ وَقِيلَ يَرِدُ لِأَنَّهُ أَقْوَى في إفَادَةِ الظَّنِّ وَالْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ اخْتَلَفُوا في الِاقْتِصَارِ في الْمُعَارَضَةِ على أَصْلٍ وَاحِدٍ فَقِيلَ يَكْفِي لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قَصَدَ جَمْعَ الْأُصُولِ فإذا ذَهَبَ وَاحِدٌ ذَهَبَ غَرَضُهُ وَقِيلَ لَا بُدَّ من الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُسْتَقِلَّ يَكْتَفِي بِأَصْلٍ وَاحِدٍ وَالْقَائِلُونَ بِالتَّعْمِيمِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من شَرَطَ اتِّحَادَ الْمُعَارِضِ في الْكُلِّ دَفْعًا لِانْتِشَارِ الْكَلَامِ وَقِيلَ لَا يَلْزَمُ لِجَوَازِ أَنْ لَا يُسَاعِدَهُ في الْكُلِّ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقِيلَ يَقْتَصِرُ الْمُسْتَدِلُّ في الْجَوَابِ على أَصْلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ بِهِ يَتِمُّ مَقْصُودُهُ وَقِيلَ لَا بُدَّ من الْجَوَابِ عن الْكُلِّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْقِيَاسَ على الْكُلِّ وَجَوَابُ الْمُعَارَضَةِ من وُجُوهٍ أَحَدُهُمَا مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ بِأَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ
الْوَصْفِ في الْأَصْلِ الثَّانِي مَنْعُ الْمُنَاسَبَةِ أو مَنْعُ الشَّبَهِ إنْ أَثْبَتَهُ بِهِمَا لِأَنَّ من شَرْطِ الْمُعَارِضِ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلتَّعْلِيلِ وَلَا يَصْلُحُ إلَّا إذَا كان مُنَاسِبًا أو شِبْهًا إذْ لو كان طَرْدًا لم يَكُنْ صَالِحًا وَإِنَّمَا لم يُكْتَفَ من الْمُعْتَرِضِ بِالْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ في قِيَاسِ الْإِخَالَةِ لِأَنَّ الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ أَدْنَى من الْمُنَاسِبِ فَلَا يُعَارِضُهُ فَإِنْ كان أَثْبَتَهُ بِطَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَلَيْسَ له أَنْ يُطَالِبَ الْمُعْتَرِضَ بِالتَّأْثِيرِ فإن مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالَاتِ كَافٍ فَمَنْ دَفَعَ السَّبْرَ فَعَلَيْهِ دَفْعُهُ لِيَتِمَّ له طَرِيقُ السَّبْرِ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ أَنْ يَقُولَ ما ذَكَرُوهُ من الْوَصْفِ خَفِيٌّ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ أَمْرٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ أو غَيْرُ ظَاهِرٍ أو غَيْرُ وُجُودِيٍّ وَنَحْوُهُ من قَوَادِحِ الْعِلَّةِ كَذَا ذَكَرَهُ الْجَدَلِيُّونَ قال ابن رَحَّالٍ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّ الظُّهُورَ وَالِانْضِبَاطَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ في صِحَّةِ نَصْبِهِ أَمَارَةً أَمَّا في ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِأَجْلِهِ فَلَا لِأَنَّ الْحُكْمَ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ لِلْخَفِيِّ وَالْمُضْطَرِبِ وَلَكِنْ إذَا أُرِيدَ نَصْبُهُ أَمَارَةً تَعَيَّنَ النَّظَرُ إلَى مَظِنَّتِهِ وَالْمُعَارِضُ هَاهُنَا ليس مَقْصُودُهُ نَصْبَ الْأَمَارَةِ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ ما ثَبَتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ فَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهِ إثْبَاتَ الظُّهُورِ وَالِانْضِبَاطِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ جَعَلْتُمْ من الْأَسْئِلَةِ النِّزَاعَ في ظُهُورِ الْوَصْفِ وَانْضِبَاطِهِ وإذا صَحَّتْ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَدِلِّ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ شَرْطًا في صِحَّةِ التَّعْلِيلِ صَحَّتْ مُطَالَبَةُ الْمُعْتَرِضِ بِهِ قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ جَمَعَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ ادَّعَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ أَمَارَةً فَظُهُورُهُ وَانْضِبَاطُهُ شَرْطٌ في صِحَّةِ نَصْبِهِ أَمَارَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُعْتَرِضُ فإنه لم يَدَّعِ الْأَمَارَةَ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ طَرِيقُ الْإِجْمَالِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ مِمَّا ثَبَتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ وَالظُّهُورُ وَالِانْضِبَاطُ ليس شَرْطًا في ذلك فَافْتَرَقَا الْخَامِسُ بَيَانُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ وَصْفٍ مَوْجُودٍ في الْفَرْعِ لَا إلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ في الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ وَهَذَا إنَّمَا يَكْفِي إذَا قُلْنَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِالْعَدَمِ فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ لم يَكْفِ هذا في الْجَوَابِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْدَحَ فيه لِوَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ كَوْنِهِ عَدَمًا هذا كُلُّهُ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ الْوَصْفَ عَدَمٌ في الْأَصْلِ ثُبُوتٌ في الْفَرْعِ السَّادِسُ إلْغَاءُ الْوَصْفِ الذي وَقَعَتْ بِهِ الْمُعَارَضَةُ وقد اسْتَشْكَلَ هذا بِأَنَّ الْإِلْغَاءَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا إلْغَاءٌ بِإِيمَاءِ النَّصِّ والثاني إلْغَاءٌ بِتَبْدِيلِ الْأَصْلِ فَالْأَوَّلُ فيه انْتِقَالٌ من مَسْلَكٍ اجْتِهَادِيٍّ إلَى مَسْلَكٍ نَقْلِيٍّ وَالِانْتِقَالُ من أَقْبَحِ الِانْقِطَاعِ وَلِأَنَّهُ لو اسْتَدَلَّ بِإِيمَاءِ النَّصِّ أَوَّلًا لَأَغْنَاهُ ذلك عن الْمَسَالِكِ الِاجْتِهَادِيَّةِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ في هذا التَّطْوِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ اسْتِدْلَالُهُ أَوَّلًا كما قالوا فِيمَا إذَا اسْتَدَلَّ
بِقِيَاسٍ على وَجْهٍ لَا بُدَّ له من التَّرْجِيحِ بِالنَّصِّ وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ انْتِقَالٌ من مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ مع بَقَاءِ مَسْلَكِ الْمُنَاسَبَةِ وَالِاقْتِرَانِ مع أَنَّ في ذلك تَطْوِيلَ الطَّرِيقِ بِلَا فَائِدَةٍ إذَا عَلِمْتَ ذلك فَالْإِلْغَاءُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا بِإِيمَاءِ النَّصِّ وهو قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا ما لَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْعِلَّةَ في الْأَصْلِ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا وَصْفًا وَاحِدًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ من الْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ إنَّهُ يَجْرِي فيه الرِّبَا لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ فَالْتَحَقَ بِالْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَعَارَضَ الْحَنَفِيُّ في الْأَصْلِ بِالْكَيْلِ فيقول الشَّافِعِيُّ وَصْفُ الْكَيْلِ مُلْغًى بِإِيمَاءِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فإنه يَدُلُّ على التَّحْرِيمِ على هذه الصِّفَةِ وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ على الْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ يَدُلُّ على كَوْنِهِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً فَإِنْ قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ تَرَكْتَ النَّصَّ أَوَّلًا فلم تَسْتَدِلَّ بِهِ وَاسْتَدْلَلْتَ بِغَيْرِهِ على وَجْهٍ لَا بُدَّ لَك معه من النَّصِّ وَهَذَا تَطْوِيلٌ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لو اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِالنَّصِّ لَاحْتَاجَ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى فَكَانَ الْأَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِغَيْرِ النَّصِّ وَيَدَّخِرَ النَّصَّ لِمَقْصُودِهِ الْإِلْغَاءَ وَهَذَا مَقْصُودٌ صَحِيحٌ فَإِنْ كان هذا الْعُذْرُ مُطَّرِدًا في جَمِيعِ صُوَرِ الْإِلْغَاءِ كان السُّؤَالُ السَّابِقُ مُنْدَفَعًا وَثَانِيهِمَا ما يُتَصَوَّرُ فيه الْجَمْعُ بين الْوَصْفَيْنِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْمُرْتَدَّةِ يَجِبُ قَتْلُهَا لِأَنَّهُ شَخْصٌ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانِهِ كَالرَّجُلِ فيقول الْحَنَفِيُّ أُعَارِضُ في الْأَصْلِ الْوَصْفُ في الرُّجُولِيَّةِ فإنه مُنَاسِبٌ لِمَا فيه من الْإِضْرَارِ النَّاجِزِ بِالْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ في الْمَرْأَةِ فيقول الشَّافِعِيُّ وَصْفُ الرُّجُولِيَّةِ مُلْغًى بِإِيمَاءِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ فإنه يَدُلُّ على قَتْلِ جَمِيعِ الْمُرْتَدِّينَ من جِهَةِ تَعْلِيقِهِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ بِوَصْفِ التَّبْدِيلِ الثَّانِي إلْغَاءٌ بِتَبْدِيلِ الْأَصْلِ وَصُورَتُهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ صُورَةً ثَالِثَةً يُثْبِتُ فيها الْحُكْمَ الْمُتَنَازَعَ فيه بِالْإِجْمَاعِ على وَفْقِ عِلَّتِهِ بِدُونِ ما عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ في الْأَصْلِ الثَّانِي إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبِرًا فيه مع كَوْنِهِ مَعْدُومًا
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ في الْفَرْعِ فَهِيَ أَنْ يُعَارِضَ حُكْمَ الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَهُ أو ضِدَّهُ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ أو بِوُجُودِ مَانِعٍ أو بِفَوَاتِ شَرْطٍ فيقول ما ذَكَرْت من الْوَصْفِ وَإِنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ في الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ فَتَوَقَّفَ دَلِيلُك مِثَالُ النَّقِيضِ إذَا بَاعَ الْجَارِيَةَ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّ في وَجْهٍ كما لو بَاعَ هذه الصِّيعَانَ إلَّا صَاعًا فَنَقُولُ لَا يَصِحُّ كما لو بَاعَ الْجَارِيَةَ إلَّا يَدَهَا وَمِثَالُ الضِّدِّ الْوِتْرُ وَاجِبٌ قِيَاسًا على التَّشَهُّدِ في الصَّلَاةِ بِجَامِعِ مُوَاظَبَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَنَقُولُ فَيُسْتَحَبُّ قِيَاسًا على الْفَجْرِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفْعَلُ في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِفَرْضٍ مُعَيَّنٍ من فُرُوضِ الصَّلَاةِ فإن الْوِتْرَ في وَقْتِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرَ في وَقْتِ الصُّبْحِ ولم يُعْهَدْ من الشَّرْعِ وَضْعُ صَلَاتَيْ فَرْضٍ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ أَمَّا الْمُعَارَضَةُ في حُكْمِ الْفَرْعِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً في إثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ وَنَفْيِ حُكْمِهِ فَيُعَارِضُهُ خَصْمُهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تُوجِبُ ما تُوجِبُهُ عِلَّةُ الْمُعَلِّلِ فَتَعَارَضَ الْعِلَّتَانِ فَتَمْنَعَانِ من الْعَمَلِ إلَّا بِتَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى وقد اُخْتُلِفَ في قَبُولِ هذا الِاعْتِرَاضِ فَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ لَا سِيَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ من الْجَدَلِيِّينَ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْمُسْتَدِلِّ على ما ادَّعَاهُ قد تَمَّتْ قال الْهِنْدِيُّ وهو ظَاهِرٌ إلَّا فِيمَا إذَا كانت الْمُعَارَضَةُ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ فَإِنَّا نُبَيِّنُ عَدَمَ تَمَامِ دَلَالَتِهِ إذْ ذَاكَ وإذا تَمَّتْ دَلَالَتُهُ فَقَدْ وَفَى بِمَا الْتَزَمَ في الِاسْتِدْلَالِ فَهُوَ بَعْدَ ذلك مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ سمع الْمُعَارَضَةَ وَإِنْ شَاءَ لم يَسْمَعْ كَاسْتِدْلَالِ مُسْتَأْنِفٍ وَأَيْضًا فإن حَقَّ الْمُعْتَرِضِ أَنْ يَكُونَ هَادِمًا لَا بَانِيًا وَالْمُعَارَضَةُ في حُكْمِ الْفَرْعِ بِنَاءٌ لَا هَدْمٌ بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ فإن حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ وَهِيَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِمَا ذُكِرَ من الْوَصْفِ فَلَا يَلْزَمُ من قَبُولِهَا ثُمَّ قَبُولِهَا هُنَا وَقَبِلَهُ الْأَكْثَرُونَ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ على أَنَّ الدَّلِيلَ مع وُجُودِ الْمُعَارِضِ عُطْلٌ وَلِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ عِنْدَ وُرُودِهَا مُتَحَكِّمٌ وَالتَّحَكُّمُ بَاطِلٌ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ لِلْهَدْمِ وقد يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا لِلْهَدْمِ فَلَوْ لم يُقْبَلْ لَبَطَلَ مَقْصُودُ الْمُنَاظَرَةِ وَالْبَحْثِ وَالِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ غَصْبًا لِمَنْصِبِ التَّعْلِيلِ أَنْ لو ذَكَرَهَا الْمُعْتَرِضُ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ وهو لَا يَذْكُرُهَا لِذَلِكَ لِاتِّفَاقِ دَلِيلِ خَصْمِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وقد رَأَيْتَ ابْنَ بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ نَقَلَ عنه إبْطَالَ الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ رَأَيْت إلْكِيَا الطَّبَرِيَّ سَبَقَهُ إلَى نَقْلِ ذلك عنه فقال في كِتَابِ
التَّلْوِيحِ صَارَ الْغَزَالِيُّ إلَى بُطْلَانِ الْمُعَارَضَةِ على ما سَمِعْنَا الْإِمَامَ يَنْقُلُهُ عنه وكان الْحَامِلُ له على ذلك امْتِنَاعَ التَّنَاقُضِ في أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فإذا اعْتَرَفَ السَّائِلُ بِصِحَّةِ عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ وَاسْتِقْلَالِهَا بِالْحُكْمِ وَالْمَسْئُولُ يُنْكِرُ صِحَّةَ تَعْلِيلِهِ وَإِنْ هو أَرَادَ إظْهَارَهُ فَقَدْ تَنَاقَضَ وقال بِتَعَارُضِ النُّصُوصِ وَلِأَنَّ حَقَّ السَّائِلِ أَنْ يَكُونَ هَادِمًا غير بَانٍ وَالْمُعَارَضَةُ تَقْتَضِي الْبِنَاءَ إنْ كان التَّرْجِيحُ لِتَعْلِيلِ السَّائِلِ أو سَاقِطَةٌ إنْ كان التَّرْجِيحُ لِعِلَّةِ الْمَسْئُولِ فَلَا يَخْلُو من طَرَفَيْ نَقِيضٍ وَوَجْهَيْ فَسَادٍ وَنَحْنُ نَقُولُ السَّائِلُ لم يَقْصِدْ الْبِنَاءَ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْهَدْمَ فإن مَقْصُودَهُ إعَانَةُ الْمَسْئُولِ على إتْمَامِ غَرَضِهِ بِإِيضَاحِ التَّرْجِيحِ وَلَا يَنَالُ هذه إلَّا بِالْمُعَارَضَةِ قال وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لو اسْتَدَلَّ بِظَاهِرٍ فَلِلسَّائِلِ أَنْ يُؤَوِّلَ وَيَعْتَضِدَ بِالْقِيَاسِ وإذا صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ فَالسَّائِلُ لَا يُرَجِّحُ فإنه يَكُونُ بَانِيًا هذا إذَا أَمْكَنَهُ قَطْعُ التَّرْجِيحِ عن الدَّلِيلِ فَأَمَّا إذَا كان الدَّلِيلُ في وَضْعِهِ أَرْجَحَ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ على قَوْلِ من قَبِلَ الْمُعَارَضَةَ فإنه رُبَّمَا لَا يَجِدُ غَيْرَهُ فَإِنْ رَجَّحَ الْمَسْئُولُ مُكِّنَ السَّائِلُ من مُعَارَضَةِ التَّرْجِيحِ انْتَهَى ثُمَّ لَا يَجِبُ على الْمُعْتَرِضِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ ما عَارَضَ بِهِ مُسَاوٍ لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ بَلْ يَكْفِي منه بَيَانُ مُطْلَقِ الْمُعَارِضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَدِلِّ فإنه لَا يُكْتَفَى منه في دَفْعِهَا إلَّا بِبَيَانِ أَنَّ دَلِيلَهُ رَاجِحٌ على ما عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ مُدَّعٍ لِاسْتِقْلَالِ دَلِيلِهِ بِالْحُكْمِ وَالْمُعَارِضُ مُنْكِرٌ له وَالْمُنْكِرُ يَكْفِيهِ مُطْلَقُ الْإِنْكَارِ بِخِلَافِ الْمُدَّعِي وإذا تَمَّتْ الْمُعَارَضَةُ من السَّائِلِ فَهَلْ يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ أَمْ يُسْمَعُ منه التَّرْجِيحَ فَقِيلَ يَنْقَطِعُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ إنْ عَجَزَ عن تَرْجِيحِ دَلِيلِهِ وَجَوَابُهُ بِالْقَدْحِ بِمَا يَرُدُّ على ذلك إنْ كان من جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ وَاخْتَلَفُوا في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا في دَفْعِهِ بِالتَّرْجِيحِ بِمُرَجِّحٍ أَقْوَى من مُرَجِّحِهِ فَقِيلَ يُمْنَعُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان مَرْجُوحًا فَلَا يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ اعْتِرَاضًا وَالْمُخْتَارُ وَرَجَّحَهُ الْمُحَقِّقُونَ جَوَازُهُ لِأَنَّهُ مَوْطِنُ تَعَارُضٍ وقد لَا يَجِدُ السَّائِلُ غَيْرَهُ مُرَجِّحًا وَقَضِيَّةُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ السَّائِلَ إذَا عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِتَرْجِيحٍ أَقْوَى وهو قَادِرٌ على تَرْجِيحٍ مُسَاوٍ فَقَدْ تَعَدَّى وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ له الْمُعَارَضَةُ بِالْأَقْوَى مع وُجُودِ الْمُسَاوِي لِأَنَّهُ لم يذكر الْأَقْوَى من جِهَةِ كَوْنِهِ أَقْوَى بَلْ من جِهَةِ كَوْنِهِ مُعَارِضًا وَمَزِيَّةُ الْقُوَّةِ مُصَادَفَةٌ وقال ابن الْمُنِيرِ الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ الْأَقْوَى لِأَنَّهُ إذَا سَاغَ له التَّرْجِيحُ الْمُسَاوِي فَالْأَقْوَى
أَوْلَى وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ يُوقَفُ الْمُسْتَدِلُّ عن نَوْبَةٍ أُخْرَى من التَّرْجِيحِ لِأَنَّهُ قد اخْتَلَفَ مِثْلُهَا فَيَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ حِينَئِذٍ إلَى تَرْجِيحَيْنِ أو تَرْجِيحٍ أَقْوَى من ذلك الْأَقْوَى فَيُضَيَّقُ عليه نِطَاقُ الْكَلَامِ وهو غَرَضُ الْمُنَاظَرَةِ وفي ذِكْرِ الْأَقْوَى اخْتِصَارٌ انْتَهَى وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لو قَابَلَ تَرْجِيحَ الْمُسْتَدِلِّ لَا يُقْبَلُ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ عن أَحَدِهِمَا فإن في الْوَاحِدِ كِفَايَةً وَالزِّيَادَةُ تُوجِبُ الْإِثْبَاتَ لِأَنَّ ذلك غَيْرُ مَنْصِبِهِ الثَّانِيَةُ هل يُقْبَلُ مُعَارَضَةُ الْمُعَارَضَةِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ اخْتَلَفُوا على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا نعم لِأَنَّهُ دَلِيلٌ كَالْأَوَّلِ فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَ وَعَلَى هذا يَتَسَاقَطَانِ وَيُسَلَّمُ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ من الْمُعَارِضِ قال الْمُقْتَرِحُ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ يَقْتَضِي اخْتِيَارَهُ وَالثَّانِي لَا يُقْبَلُ وَإِنْ قَبِلْنَا أَصْلَ الْمُعَارَضَةِ لِانْتِشَارِ الْكَلَامِ وَأَدَائِهِ إلَى الِانْتِقَالِ وإذا قَبِلْنَا تَرْجِيحَ الْمُسْتَدِلِّ لِدَلِيلِهِ على ما عَارَضَ بِهِ السَّائِلَ فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَنْشَأُ التَّرْجِيحِ مَذْكُورًا في الدَّلِيلِ قِيلَ يَجِبُ لِأَنَّهُ لو تَرَكَهُ أَوَّلًا لَكَانَ ذَاكِرًا لِبَعْضِ الدَّلِيلِ وَقِيلَ لَا يَجِبُ لِأَنَّ مَرَاتِبَ الْمُعَارَضَةِ لَا يَعْرِفُهَا الْمُسْتَدِلُّ في بَدْءِ اسْتِدْلَالِهِ فَيُؤَدِّي إلَى الْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ الِاحْتِرَازِ لِدَفْعِ النَّقْضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ النَّصَّانِ سُمِعَ التَّرْجِيحُ من الْمُسْتَدِلِّ بِالِاتِّفَاقِ مع أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ في نَصِّ الْمُسْتَدِلِّ ما يُشِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ وَالثَّالِثُ وهو اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ التَّفْصِيلُ فَإِنْ كان التَّفْصِيلُ وَصْفًا من أَوْصَافِ الْعِلَّةِ تَعَيَّنَ ذِكْرُهُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ قد أتى بِكَمَالِ الدَّلِيلِ وَالتَّرْجِيحُ أَجْنَبِيٌّ عنه تَنْبِيهٌ قَسَّمَ ابن السَّمْعَانِيِّ الْمُعَارَضَةَ إلَى ما تَكُونُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَإِلَى ما هِيَ بِعِلَّةِ الْمُعَلِّلِ بِعَيْنِهَا فَالْمُعَارَضَةُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تَارَةً تَكُونُ في حُكْمِ الْفَرْعِ وَتَارَةً في عِلَّةِ الْأَصْلِ وقد سَبَقَا وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِعِلَلِ الْمُعَلِّلِ فَتُسَمَّى قَلْبًا وقد سَبَقَ حُكْمُهُ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ قَسَّمَ الْجَدَلِيُّونَ الْمُعَارَضَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى وَالْخَبَرِ بِالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ فَأَمَّا مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى فَلَا مَعْنَى لها إلَّا على تَقْدِيرِ وَقَعَ التَّشْنِيعُ
وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْخَبَرِ بِالْخَبَرِ فَصَحِيحَةٌ مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ عن قَضَاءِ الْفَوَائِتِ في الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عنها فيقول لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال من نَامَ عن صَلَاةٍ أو نَسِيَهَا الحديث فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ بَعْدَهُ إلَى التَّرْجِيحِ وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى فَعَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا بين أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ والثاني من أَصْلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا في ضِدِّ حُكْمِهِ فَيَكُونُ مُعَارَضَةً صَحِيحَةً والثاني في عَيْنِ حُكْمِهِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فما كان بين أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَهُوَ الْأَصْلُ في الْمُعَارَضَاتِ مِثَالُهُ طَهَارَةُ الْوُضُوءِ حُكْمِيَّةٌ فَتَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ قِيَاسًا على التَّيَمُّمِ فيقول الْمُعَارِضُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ قِيَاسًا على إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَلَا بُدَّ عِنْدَ ذلك من التَّرْجِيحِ وَأَمَّا ما كان من أَصْلٍ وَاحِدٍ على الضِّدِّ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْعَلَ الْأَصْلَ الْوَاحِدَ بَيْنَهُمَا مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ والثاني أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَ ما عَلَّلَ بِهِ مَعْنًى له فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ لَمَّا كان عَدَدُ الْأَقْرَاءِ مُعْتَبَرًا بِالْمَرْأَةِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بها عَدَدُ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بها فَيُعَارِضُهُ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْفَاعِلِ قِيَاسًا على الْعِدَّةِ وفي الثَّانِي يقول نَفْسُ هذا الْمَعْنَى يَدُلُّ على أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْفَاعِلِ كَالْعِدَّةِ قال وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ فَهَلْ تَجُوزُ إنْ أَمْكَنَهُ إيضَاحُ الْفَسَادِ فَلَا يُمْنَعُ منها وَمِثْلُهَا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ لَا يَصِيرُ مُفْرِطًا بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ فَلَا يَلْزَمُ إخْرَاجُهَا إذَا تَلِفَ الْمَالُ أو مَاتَ فَيُقَالُ وَلَا يَجِبُ عليه الزَّكَاةُ بِحَالٍ من حَيْثُ إنَّهُ بِتَأْخِيرِهَا وَلَا تَرْكِهَا أَصْلًا قال وقد يُعَارَضُ الْمُحَالُ بِالْمُحَالِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ ما أَدْرَكَهُ الْمَأْمُومُ من صَلَاةِ الْإِمَامِ فَهُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ فَيُقَالُ له لو جَازَ أَنْ يَكُونَ آخِرٌ بِلَا أَوَّلٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلٌ بِلَا آخِرٍ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَاءٌ لَا نَجِسٌ وَلَا طَاهِرٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَاءٌ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ بِنَاءً على أَنَّ الْقَابِلَ لِلضِّدَّيْنِ لَا يَخْلُو عن أَحَدِهِمَا قال وَهَذَا النَّوْعُ ليس بِمُعَارَضَةٍ حَقِيقَةً وَلَكِنْ قُصِدَ بِهِ امْتِحَانُ الْمَذَاهِبِ انْتَهَى
وَمَسْأَلَةُ مُعَارَضَةِ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى سَبَقَتْ في كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ وَحِكَايَةِ الْخِلَافِ فيها وَصَرَّحَ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ بِمَنْعِهَا لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا إذْ لَا يُلْزَمُ أَحَدٌ بِدَعْوَى الْآخَرِ قال الْإِمَامُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قد أَخْرَجَ دَعْوَاهُ مَخْرَجَ الْحُجَّةِ فَيُعَارِضُ بِمِثْلِهَا كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ الْمُسْتَحَاضَةُ تَسْتَظْهِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقِيلَ له فما الْفَصْلُ بَيْنَك وَبَيْنَ من قال لَا تَسْتَظْهِرُ أو تَسْتَظْهِرُ بِيَوْمَيْنِ أو أَكْثَرَ أو أَقَلَّ فَإِنْ لم يَكُنْ هذا فَالْقَوْلُ سَاقِطٌ السَّادِسَ عَشَرَ سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ وَأَدْرَجَهُ الْهِنْدِيُّ في سُؤَالِ الْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ وَهِيَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ في الْأَصْلِ مَعْنًى غير ما عَيَّنَهُ وَيُعَارِضُ بِهِ ثُمَّ يقول لِلْمُسْتَدِلِّ ما عَلَّلْتُ بِهِ وَإِنْ تَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ الْمُخْتَلَفِ فيه فَكَذَا ما عَلَّلْتَ بِهِ يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ آخَرَ مُخْتَلَفٍ فيه وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى من الْآخَرِ كَقَوْلِنَا بِكْرٌ فَجَازَ إجْبَارُهَا كَالصَّغِيرَةِ فَيُقَالُ وَالْبَكَارَةُ وَإِنْ تَعَدَّتْ لِلْبِكْرِ الْبَالِغِ فَالصِّغَرُ مُتَعَدٍّ إلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَهَذَا أَيْضًا اُخْتُلِفَ فيه وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عن سُؤَالِ الْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ مع زِيَادَةِ التَّسْوِيَةِ في التَّعْدِيَةِ وَجَوَابُهُ إبْطَالُ ما عَارَضَ بِهِ وَحَذْفُهُ عن دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ وَهَلْ على الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُعْتَرِضُ من التَّسْوِيَةِ في التَّعْدِيَةِ أو لَا يَجِبُ قال الْأَكْثَرُونَ لَا يَجِبُ وقال أبو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَلْ لِلتَّسْوِيَةِ في التَّعْدِيَةِ أَثَرٌ في الْمُعَارَضَةِ فَلَا بُدَّ من التَّعَرُّضِ لِإِبْطَالِهِ وَلَخَّصَ الْإِبْيَارِيُّ شَارِحُ الْبُرْهَانِ سِرَّ التَّعْدِيَةِ فَحَمَلَ الْأَمْرَ إلَى أَنَّ سِرَّهَا التَّبَرِّي من عُهْدَةِ النِّسْبَةِ إلَى الْعِنَادِ بِإِيرَادِ وَصْفٍ لَا يُعْتَقَدُ اعْتِبَارُهُ فَعَدَّاهُ الْمُعْتَرِضُ إلَى فُرُوعِهِ حتى يُبَيِّنَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ ذلك وَيُفَرِّعُهُ عليه قال وَهَذَا أَمْرٌ أَجْنَبِيٌّ عن غَرَضِ الْجَدَلِ فإن الِاعْتِنَاءَ بِهِ دَفْعٌ لِسُوءِ الِاعْتِقَادِ الذي يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْإِسْلَامِ من غَيْرِ حَاجَةٍ خَاصَّةٍ بِالْجَدَلِ قال ابن الْمُنِيرِ وَلَعَمْرِي إنَّهُ كما قال لو لم يَكُنْ لها سِرٌّ سِوَى هذا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ سِرُّهَا عِنْدَ وَاضِعِهَا أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إذَا عَارَضَ مَعْنَى الْأَصْلِ بِمَعْنًى أَمْكَنَ أَنْ يَقُولَ له الْمُسْتَدِلُّ مَعْنَايَ أَوْلَى لِأَنِّي قد حَقَّقْت تَعْدِيَتَهُ إلَى الْفَرْعِ وَإِنَّهُ يُفِيدُ حُكْمًا لَوْلَاهُ ما اسْتَفَدْنَاهُ وَغَايَةُ ما صَنَعْت أَنَّك أَبْدَيْت مَعْنًى في الْأَصْلِ فَلَعَلَّهُ قَاصِرٌ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ يَتَحَقَّقُ بِهِ كَوْنُهُ مُفِيدًا فَيُبَيِّنُ الْمُعْتَرِضُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يُسَاوِي الْمُسْتَدِلَّ فَإِنْ
عَدَّى مَعْنَاهُ إلَى فَرْعٍ من فُرُوعِهِ تَحَقَّقَ كَوْنُهُ مُفِيدًا مُتَعَدِّيًا وَحَاصِلُ الْأَمْرِ طَلَبُ تَسَاوِي الِانْعِدَامِ بين الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُعْتَرِضِ وَدَفْعُ احْتِمَالِ الْقُصُورِ الذي هو إمَّا قَادِحٌ إنْ بَنَيْنَا على أَنَّ الْعِلَّةَ قَاصِرَةٌ مَرْدُودَةٌ أو مَرْجُوحٌ إنْ بَنَيْنَا على أنها مَقْبُولَةٌ وَلَكِنَّ التَّعْدِيَةَ أَوْلَى مَسْأَلَةٌ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ وَالْمُعَارَضَةِ وَالْقَلْبِ وَالنَّقْضِ وَالْمَنْعِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ بَلْ يَتَوَجَّهُ على سَائِرِ الْأَدِلَّةِ من قِيَاسٍ وَغَيْرِهِ إلَّا الْمَنْعَ فإنه لَا يَتَوَجَّهُ على مَتْنِ الْكِتَابِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ وَالْفَرْقِ وَالْمُطَالَبَةِ بِبَيَانِ التَّأْثِيرِ وَالتَّرْكِيبِ وَالْكَسْرِ وَكَوْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يَجْرِي فيه الْقِيَاسُ مُخْتَصٌّ بِالْقِيَاسِ
فَصْلٌ اخْتَلَفُوا في تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا لَا يَجِبُ تَرْتِيبُهَا وَلَا حَجْرَ على الْمُعْتَرِضِ فِيمَا يُورِدُهُ منها على أَيِّ وَجْهٍ اتَّفَقَ الثَّانِي يَجِبُ التَّرْتِيبُ إذْ لو جَاوَزْنَا إيرَادَهَا على أَيِّ وَجْهٍ اتَّفَقَ لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ من حَيْثُ إنَّهُ قد يُوجَدُ الْمَنْعُ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ أو يُوجَدُ النَّقْضُ أو الْمُطَالَبَةُ قبل الْمَنْعِ ثُمَّ يُمْنَعُ بَعْدَ ذلك وهو مُمْتَنِعٌ لِمَا فيه من الْمَنْعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَالْإِنْكَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ قال الْآمِدِيُّ وَهَذَا هو الْمُخْتَارُ وَلَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ عَارِفًا وَإِلَّا فَيَفُوتُ عليه أَكْثَرُ مَقْصُودِهِ في الِاسْتِرْشَادِ الثَّالِثُ إنْ اتَّحَدَ جِنْسُ السُّؤَالِ كَالنَّقْضِ وَالْمُطَالَبَةِ وَالْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَازَ إيرَادُهَا من غَيْرِ تَرْتِيبٍ لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ سُؤَالٍ وَاحِدٍ وَحَكَى الْآمِدِيُّ في هذا الْقِسْمِ اتِّفَاقَ الْجَدَلِيِّينَ فَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَجْنَاسُهَا كَالْمَنْعِ من الْمُطَالَبَةِ وَالنَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ وَنَحْوِهِ نُظِرَ فَإِنْ كانت الْأَسْئِلَةُ غير مُرَتَّبَةٍ قال الْآمِدِيُّ فَأَجْمَعُوا على جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا إلَّا أَهْلَ سَمَرْقَنْدَ فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا الِاقْتِصَارَ على سُؤَالٍ وَاحِدٍ لِقُرْبِهِ إلَى الضَّبْطِ وَبُعْدِهِ عن الْخَبْطِ وَإِنْ كانت مُرَتَّبَةً كَالْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ فَيُقَدَّمُ الْمَنْعُ ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ وَلَا يُعْكَسُ هذا التَّرْتِيبُ وَإِلَّا لَزِمَ الْإِنْكَارُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عن أَكْثَرِ الْجَدَلِيِّينَ وَقِيلَ لَا يُمْنَعُ ذلك بَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُودِ الْوَصْفِ وَإِنْ سَلَّمَ عن الْمَنْعِ تَقْدِيرًا فَلَا يُسَلِّمُ عن الْمُطَالَبَةِ وَغَيْرِهَا وهو اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا بُدَّ من تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ إذَا لَزِمَ من تَقْدِيمِ بَعْضِهَا على بَعْضٍ مُنِعَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَإِنْ لم يَلْزَمْ ذلك كان التَّرْتِيبُ مُسْتَحْسَنًا لَا لَازِمًا فَعَلَى هذا اخْتَلَفُوا قال الْمُحَقِّقُونَ من الْمُتَأَخِّرِينَ التَّرْتِيبُ الْمُسْتَحْسَنُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمُطَالَبَاتِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ إذَا لم يُثْبِتْ أَرْكَانَ الْقِيَاسِ لم يَدْخُلْ في جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ ثُمَّ بِالْقَوَادِحِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من كَوْنِهِ على صُورَةِ الْأَدِلَّةِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ إذْ لَا يَلْزَمُ من صِحَّتِهِ وُجُوبُ الْعَمَلِ ثُمَّ إذَا بَدَأَ بِالْمُنُوعِ فَالْأَوْلَى يَمْنَعُ وُجُودَ الْوَصْفِ في الْفَرْعِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الدَّعْوَى ثُمَّ يَمْنَعُ ظُهُورَهُ وَانْضِبَاطَهُ لِأَنَّ ذلك شَرْطُ كَوْنِهِ دَلِيلًا ثُمَّ يَمْنَعُ كَوْنَهُ عِلَّةً في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ
دَلِيلُ الدَّلِيلِ فإذا نَقَضَ الْمُنُوعَ شَرَعَ في الْقَوَادِحِ فَيَبْدَأُ بِالْقَوْلِ الْمُوجِبِ لِوُضُوحِ مَأْخَذِهِ ثُمَّ بِفَسَادِ الْوَضْعِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالشَّرْعِ ثُمَّ بِالْقَدْحِ في الْمُنَاسَبَةِ كَأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ فَوَاتُ شَرْطِ كَوْنِهِ عِلَّةً ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَطْرِيقِ الْإِكْمَالِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ ثُمَّ بِالنَّقْضِ وَالْكَسْرِ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِدَلِيلِ الِاعْتِبَارِ بِدَلِيلِ الْإِهْدَارِ ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ في الْفَرْعِ وَلَيْسَ في هذا التَّرْتِيبِ شَيْءٌ لَازِمٌ سِوَى تَأْخِيرِ الْمُعَارَضَةِ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ من الْقُدَمَاءِ كما قَالَهُ أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ إلَى أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْمَنْعِ من الْحُكْمِ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إذَا كان مَمْنُوعًا لم يَجِبْ على السَّائِلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ على كَوْنِ الْوَصْفِ مَمْنُوعًا أو مُسَلَّمًا وَلَا كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ أو بِغَيْرِهَا ثُمَّ يُطَالِبُهُ بِإِثْبَاتِ الْوَصْفِ في الْفَرْعِ بِأَنَّ الْأَصْلَ مُعَلَّلٌ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ ثُمَّ بِاطِّرَادِ الْعِلَّةِ ثُمَّ بِتَأْثِيرِهَا ثُمَّ بِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً وَمَحَلُّهَا غَيْرُ فَاسِدِ الْوَضْعِ ثُمَّ بِالْمُحَامَاةِ عن مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ ثُمَّ بِالْقَلْبِ ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ قال هذا هو التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ وَكَذَا جَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُعَارَضَةَ آخِرَ الْأَسْئِلَةِ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الدَّلِيلَ خَالِيًا عن الْقَوَادِحِ كُلِّهَا فَإِذْ ذَاكَ يَرِدُ عليه سُؤَالُ الْمُعَارَضَةِ وقال أَكْثَرُ الْجَدَلِيِّينَ وَارْتَضَاهُ مُتَأَخِّرُو الْأُصُولِيِّينَ أَوَّلُ ما يُبْدَأُ بِهِ الِاسْتِفْسَارُ ثُمَّ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ ثُمَّ فَسَادُ الْوَضْعِ ثُمَّ يُمْنَعُ حُكْمُ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُقَدَّمٌ على الْعِلَّةِ لِأَنَّ اسْتِنْبَاطَ الْعِلَّةِ بَعْدَهُ ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ ثُمَّ النَّظَرُ في عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ كَالْمُطَالَبَةِ وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ وَالْقَدْحُ في الْمُنَاسَبَةِ وَالتَّقْسِيمُ وَعَدَمُ ظُهُورِ الْوَصْفِ وَانْضِبَاطِهِ وَكَوْنُ الْحُكْمِ غير صَالِحٍ لِلْإِفْضَاءِ إلَى ذلك الْمَقْصُودِ ثُمَّ النَّقْضُ وَالْكَسْرُ لِكَوْنِهِمَا مُعَارَضَةً لِلدَّلِيلِ ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ في الْأَصْلِ لِأَنَّهَا مُعَارَضَةٌ لِلْعِلَّةِ فَكَانَ مُتَأَخِّرًا عن تَعَارُضِ دَلِيلِ الْعِلَّةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ وَالتَّرْكِيبِ لِأَنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ ثُمَّ بَعْدَهُ ما يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْعِ لِمَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ وَمُخَالَفَةُ حُكْمِهِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ وَمُخَالَفَتُهُ لِلْأَصْلِ في الضَّابِطِ في الْحُكْمِ وَالْمُعَارَضَةُ في الْفَرْعِ وَسُؤَالُ الْقَلْبِ ثُمَّ بَعْدَهُ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ لِتَضَمُّنِهِ لِتَسْلِيمِ كل ما يَتَعَلَّقُ بِالدَّلِيلِ في الْجُمْلَةِ مع بَقَاءِ النِّزَاعِ ثُمَّ بَعْدَ ذلك الْمُعَارَضَةُ لِأَنَّهَا تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ فإنه نِزَاعٌ في دَلَالَةِ الدَّلِيلِ على الْحُكْمِ مع الِاعْتِرَافِ بِهِ وقد أُورِدَ على هذا التَّرْتِيبِ إشْكَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخَلَّ بِذِكْرِ الْفَرْقِ وَالْقَلْبِ فَإِنْ كان ذلك لِأَجْلِ أَنَّهُمَا
مُنْدَرِجَانِ تَحْتَ الْمُعَارَضَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَذْكُرَ النَّقْضَ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِلدَّلِيلِ على الْعِلِّيَّةِ فَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْمُعَارَضَةِ وَأَنْ لَا يَذْكُرَ الْمُطَالَبَةَ وَلَا الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ لِأَنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى الْمَنْعِ الثَّانِي أَنَّهُ أَخَّرَ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ عن النَّقْضِ وَعَنْ غَيْرِهِ من الِاعْتِرَاضَاتِ وَقَدَّمَهُ على الْمُعَارَضَةِ فَإِنْ كان ذلك لِأَجْلِ الدَّلِيلِ إذَا لم يَسْلَمْ من الْقَوَادِحِ كَالنَّقْضِ وَغَيْرِهِ لَا يُقَالُ بِمُوجِبِهِ لَزِمَ أَنْ يَتَأَخَّرَ أَيْضًا الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ عن الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ أَيْضًا من جُمْلَةِ الْقَوَادِحِ لِأَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِلدَّلِيلِ وما لم يَسْلَمْ الدَّلِيلُ عن الْقَوَادِحِ لَا يُقَالُ بِمُوجِبِهِ وَإِنْ كان سَبَبُ تَقَدُّمِهِ على الْمُعَارَضَةِ كَوْنَ الدَّلِيلِ لم يُنْصَبْ في مَوْضِعِهِ تَوَجَّهَ عليه الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ كَذَلِكَ فَلْيُقَدَّمْ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ على سَائِرِ الْأَسْئِلَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عن فَسَادِ الْوَضْعِ لِأَنَّهُ صَارَ شَبِيهًا بِفَسَادِ الْوَضْعِ فَيَظْهَرُ أَنَّ حَقَّ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ على جَمِيعِهَا أو أَنْ يَتَأَخَّرَ عن جَمِيعِهَا وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ عن أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُمْ قالوا أَوَّلُ ما يَبْدَأُ السَّائِلُ من الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَنْظُرَ في الْمُخْتَلِفِ فيه هل يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ فَيَمْنَعُ من الْقِيَاسِ إنْ كان لَا يَجُوزُ ثُمَّ يَنْظُرُ في الْأَصْلِ هل يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ ثُمَّ يَنْظُرُ في الْعِلَّةِ هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا عِلَّةً ثُمَّ يَذْكُرُ الْمُمَانَعَةَ في الْأَصْلِ إنْ لم يَكُنْ مُسَلِّمًا ثُمَّ يُطَالِبُ بِتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ ثُمَّ يقول بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ إنْ أَمْكَنَهُ ثُمَّ يَنْقُضُ وَمِنْهُمْ من يُقَدِّمُ النَّقْضَ على الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ ثُمَّ يَأْتِي على ما بَقِيَ من عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْكَسْرِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ ثُمَّ يَأْتِي بِالْقَلْبِ وَالْمُعَارَضَةِ قالوا وَإِنْ خَالَفَ ما ذَكَرْنَاهُ وَبَدَأَ بِغَيْرِهِ جَازَ وَإِنْ كان قد تَرَكَ الْأَحْسَنَ إلَّا في الْمُمَانَعَةِ وَالنَّقْضِ فإنه يَجُوزُ أَنْ يَنْقُضَ ثُمَّ يُمَانِعَ لِأَنَّ النَّاقِضَ يَعْتَرِفُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَأَمَّا الْمَانِعُ فَيَمْنَعُ وُجُودَ الْعِلَّةِ فإذا مَانَعَ بَعْدَ الْمُنَاقَضَةِ فَقَدْ رَجَعَ فِيمَا سَلَّمَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ مَسْأَلَةٌ قال الْخُوَارِزْمِيُّ في النِّهَايَةِ صَارَ جَمَاعَةٌ من أَئِمَّةِ الْعَصْرِ إلَى أَنَّ الْجَمْعَ بين سُؤَالَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَ ثُمَّ سَلَّمَ يَكُونُ أَيْضًا مَنَعَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وهو غَيْرُ مَسْمُوحٍ جَدَلًا وهو فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ الْمَنْعِ اعْتِرَافٌ بَعْدَ إنْكَارٍ وهو مَسْمُوحٌ في مَجْلِسِ الْقَضَاءِ في أَمْرِ الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ فَلَأَنْ يُسْمَعَ ذلك هَاهُنَا أَوْلَى
فَصْلٌ ذَكَرُوا أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْئِلَةِ تَرْجِعُ إلَى الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْجَوَابُ عن الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ تَمَّ الدَّلِيلُ وَحَصَلَ الْغَرَضُ من إثْبَاتِ الْمُدَّعَى ولم يَبْقَ لِلْمُعْتَرِضِ مَجَالٌ فَيَكُونُ ما سِوَاهَا من الْأَسْئِلَةِ بَاطِلًا فَلَا يُسْمَعُ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عن جَمِيعِ الْمُنُوعِ إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ على جَمِيعِ الْمُقَدِّمَاتِ وَبَيَانِ لُزُومِ الْحُكْمِ فيها وَإِلَّا لَاتَّجَهَ الْمَنْعُ وَكَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عن الْمُعَارَضَةِ إلَّا بِبَيَانِ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ عن كُلِّهَا وَبَيَانِ كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهَا إلَى ذلك أَمَّا الِاسْتِفْسَارُ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا كان مُحْتَمَلًا لَا يَحْصُلُ غَرَضُ الْمُسْتَدِلِّ إلَّا بِتَفْسِيرِهِ فَالْمُطَالَبَةُ بِتَفْسِيرِهِ تَسْتَلْزِمُ مَنْعَ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ وَمَنْعَ لُزُومِ الْحُكْمِ عنه فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ وَأَمَّا التَّقْسِيمُ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ أو الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا كان مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ فَيَضْطَرُّهُ الْمَنْعُ إلَى اخْتِيَارِ الْقِسْمَيْنِ وَحِينَئِذٍ يَتَّجِهُ عليه الْمَنْعُ أو الْمُعَارَضَةُ وَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ فَهِيَ مع لُزُومِ الْحُكْمِ عن الْوَصْفِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ في النَّقْضِ وَأَمَّا النَّقْضُ فَمُعَارَضَةٌ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ وَأَمَّا الْفَرْقُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ ما يَكُونُ بَدَا مَعْنًى في الْأَصْلِ أو في الْفَرْعِ عن الْمَعْنَى الذي عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ وَأَمَّا الْكَسْرُ فَهُوَ نَوْعٌ من النَّقْضِ وَالنَّقْضُ مُعَارَضَةٌ وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن تَسْلِيمِ الدَّلِيلِ مع اسْتِيفَاءِ النِّزَاعِ في الْحُكْمِ وَذَلِكَ مَنْعُ لُزُومِ الْحُكْمِ مِمَّا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ وَأَمَّا الْقَلْبُ فَمُعَارَضَةٌ في الْحُكْمِ وَقِيلَ إنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ وَأَمَّا عَدَمُ التَّأْثِيرِ فَمُعَارَضَةٌ في الْمُقَدِّمَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا احْتَجَّ بِالْقِيَاسِ فقال له الْمُعْتَرِضُ ما ذَكَرْته من الْمَعْنَى الْجَامِعِ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْعِلِّيَّةِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِدُونِهِ كان ذلك مُعَارَضَةً في الْمُقَدِّمَةِ لِأَنَّ ثُبُوتَ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ مُقَدِّمَةٌ في الْقِيَاسِ وَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إلَى الْقَدْحِ في كَوْنِ الْجَامِعِ عِلَّةً بِبَيَانِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِدُونِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ وهو في الْحَقِيقَةِ مُعَارَضَةٌ في الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَدَّعِي كَوْنَ الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ عِلَّةً وَالْمُعْتَرِضُ لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ يُبَيِّنُ كَوْنَ بَعْضِ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً لَا ذلك الْمَجْمُوعِ كُلِّهِ
وَذَلِكَ مُعَارَضَةٌ لِلْكُلِّ بِالْبَعْضِ وهو لَطِيفٌ غَامِضٌ وَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَهُوَ مُعَارَضَةٌ في حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ وَكَيْفِيَّةُ تَوْجِيهِهِ أَنْ يُقَالَ مُوجِبُ ما ذَكَرْنَا من الدَّلِيلِ رَاجِحٌ على ما ذَكَرْتُمْ وَيُبَيِّنُهُ بِطَرِيقِهِ فَلَوْ لم يَثْبُتْ مُوجِبُهُ لَلَزِمَ التَّرْكُ بِالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ شَرْطُ الْغَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا له ذَاتًا بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُ وُجُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ احْتِرَازًا من الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَإِنْ كان من الْمُسْتَدِلِّ فَهُوَ مُعَارَضَتُهُ لِمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ كان الْمُعَارَضَةُ عِبَارَةً عن إقَامَةِ دَلِيلٍ يُوقَفُ بِهِ دَلِيلُ خَصْمِهِ وَالتَّرْجِيحُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الرَّاجِحِ فَيَدْفَعُ ما أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ لِكَوْنِهِ مَرْجُوحًا وَأَمَّا فَسَادُ الْوَضْعِ فَهُوَ مَنْعُ لُزُومِ الْحُكْمِ عن الدَّلِيلِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ النَّصُّ مَوْجُودًا لَكِنَّ النَّصَّ مَوْجُودٌ وَأَمَّا فَسَادُ الِاعْتِبَارِ فَيَرْجِعُ إلَى الْمَنْعِ لِأَنَّهُ مع ثُبُوتِ الْقِيَاسِ على مُخَالَفَةِ النَّصِّ وقد وُجِدَ النَّصُّ وَاعْتِبَارُ الْقِيَاسِ على وُجُودِهِ اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ فَلَا يَتَرَتَّبُ عليه الْحُكْمُ فَإِذًا فَسَادُ الِاعْتِبَارِ رَاجِعٌ إلَى مَنْعِ لُزُومِ الْحُكْمِ وَأَمَّا دَعْوَى كَوْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يَجُوزُ فيه الْقِيَاسُ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمُعَارَضَةِ في الْعِلَّةِ أو في الْحُكْمِ وإذا عَلِمْتَ رُجُوعَ جَمِيعِ الِاعْتِرَاضَاتِ إلَى الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ رَاجِعَةٌ إلَى الْمَنْعِ فَائِدَةٌ قال بَعْضُهُمْ حَالُ الْمُتَنَاظِرَيْنِ أو النَّاظِرِ مع نَفْسِهِ في طَلَبِ وَجْهِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَحَالِ الْخَصْمَيْنِ بين يَدَيْ الْحَاكِمِ فَالْمُسْتَدِلُّ كَالْمُدَّعِي وَالسَّائِلُ كَالْمُدَّعَى عليه وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ كَالْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ وَأَصْلُ الْقِيَاسِ في الشَّاهِدِ وَعِلَّةُ الْأَصْلِ كَنُطْقِ الشَّاهِدِ بِأَدَاءِ شَهَادَتِهِ وَالشَّرْعُ الذي هو الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الْحَاكِمُ الذي يُنَفِّذُ الْحُكْمَ أو يَرُدُّ بِالتَّصْدِيقِ أو بِالتَّكْذِيبِ وَرَدُّ السَّائِلُ الْقِيَاسَ لِوُجُودِ النَّظَرِ كَتَزْيِيفِ الشُّهُودِ وَرَدِّهِمْ بِأَمْرٍ لَازِمٍ لَا خِلَافَ فيه وَالْمُمَانَعَةُ في حُكْمِ الْأَصْلِ وَوَصْفِهِ كَإِنْكَارِ حُضُورِ الشُّهُودِ وَالْمُمَانَعَةُ في وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ كَإِنْكَارِ شَهَادَتِهِمْ وَمِثْلُهُ إنْكَارُ وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ وَالْوَضْعُ الْفَاسِدُ كَتَنَافِي الشَّهَادَةِ وَتَوَافُقِهَا وَالْمُطَالَبَةُ بِالدَّلِيلِ على صِحَّةِ الْعِلَّةِ كَتَكْلِيفِ الْمُدَّعِي تَعْدِيلَ الشُّهُودِ وَالنَّقْضُ كَإِظْهَارِ كَذِبِ الشُّهُودِ في مِثْلِ ما شَهِدُوا بِهِ عليه وَالْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ كَتَفْسِيرِ الشَّهَادَةِ بِمَا يَحْتَمِلُهَا لِيَخْرُجَ من عُهْدَتِهَا بِالشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ وَالْمُعَارَضَةُ
كَمُقَابَلَةِ الشُّهُودِ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِخِلَافِهَا فَتَتَهَافَتُ الشَّهَادَتَانِ وَكُلُّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْقِيَاسِ وإذا سَلِمَ منها كان مَعْمُولًا بِهِ مَسْأَلَةٌ قال الْبَلْعَمِيُّ الِانْقِطَاعُ كَاسْمِهِ وَحُكْمُهُ مُقْتَضَبٌ من لَفْظِهِ وهو قُصُورُهُ عن بُلُوغِ مَغْزَاهُ وَعَجْزُهُ عن إظْهَارِ مُرَادِهِ وَمُبْتَغَاهُ وقال الصَّيْرَفِيُّ الِانْقِطَاعُ من الْمُجِيبِ ما دَامَ السَّائِلُ مُطَالِبًا يَكُونُ إمَّا بِالْخُرُوجِ من مَسْأَلَةٍ إلَى مَسْأَلَةٍ عن جَوَابِ ما سَأَلَ عنه أو الِاعْتِرَافِ بِأَنْ لَا جَوَابَ عنه أو كَوْنِ ما يَدْفَعُهُ عَدَلَهُ على نَفْسِهِ إمَّا جَحَدَ الضَّرُورَةَ أو سمع أو غير ذلك من الْأُصُولِ أو السُّكُوتِ عن الْجَوَابِ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ فيه وَانْقِطَاعُ السَّائِلِ بِأَنْ لَا يَكُونَ معه زِيَادَةٌ في سُؤَالِهِ وقد يَتَهَيَّأُ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ هذا مَذْهَبٌ صَحِيحٌ وَإِلَيْهِ كُنْت أَدْعُوك اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ما قد ظَهَرَ من الْخِلَافِ يَدُلُّ على خِلَافِ هذا وَالْخُرُوجُ من مَسْأَلَةٍ إلَى أُخْرَى لَا يَتَّصِلُ لِمُنَاقَضَةِ الْخَصْمِ أو السُّكُوتِ بَعْدَ أَنْ يَقَعَ الْجَوَابُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الِانْقِطَاعُ عِبَارَةٌ عن الْعَجْزِ عن بُلُوغِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ إمَّا بِانْتِقَالِهِ من دَلِيلٍ لم يُصَحِّحْهُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ سُئِلَ عن مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ بِالدَّلِيلِ فَقِيلَ انْقِطَاعٌ وَالتَّحْقِيقُ إنْ كان فيه تَنْبِيهٌ على الْحُكْمِ لم يَكُنْ انْقِطَاعًا وَلَا انْتِقَالًا وَهَذَا كما سَأَلَ إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ الشَّافِعِيَّ عن بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ فقال هل تَرَكَ لنا عَقِيلٌ من رِبَاعٍ وَهَذَا إنَّمَا هو دَلِيلٌ اسْتَدَلَّ بِهِ على جَوَازِ الْبَيْعِ
فَصْلٌ في الِانْتِقَالِ وقد مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وقال الشَّاعِرُ وإذا تَنَقَّلَ في الْجَوَابِ مُجَادِلٌ دَلَّ الْعُقُولَ على انْقِطَاعٍ حَاصِرٍ وَلِأَنَّا لو جَوَّزْنَاهُ لِمَ بَاتَ إفْحَامُ الْخَصْمِ وَلَا إظْهَارُ الْحَقِّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْرَعُ في كَلَامٍ وَيَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ قبل تَمَامِ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا إلَى ما لَا نِهَايَةَ له فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ من الْمُنَاظَرَةِ وهو إظْهَارُ الْحَقِّ وَإِفْحَامُ الْخَصْمِ وَاسْتَثْنَوْا من ذلك ما إذَا اسْتَفَادَ من الْكَلَامِ الْمُتَنَقِّلِ عنه فَائِدَةً لو لم يَذْكُرْهُ أَوَّلًا لم تَحْصُلْ له تِلْكَ الْفَائِدَةُ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ فَأَمَّا السَّائِلُ لو انْتَقَلَ من السُّؤَالِ قبل تَمَامِهِ وقال ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَازِمٌ فَبَانَ خِلَافَهُ فَمَكِّنُونِي من سُؤَالٍ آخَرَ فَفِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ بَعْضُهُمْ وقال الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمَكَّنُ منه إذَا كان انْحِدَارًا من الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى فَإِنْ كان تَرَقِّيًا من الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى كما لو أَرَادَ التَّرَقِّي من الْمُعَارَضَةِ إلَى الْمَنْعِ فَقِيلَ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ وَقِيلَ يُمَكَّنُ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْإِرْشَادُ وَأَمَّا الْمَسْئُولُ فَيُمَكَّنُ من الْغَرَضِ كما سَيَأْتِي وَلَوْ أَرَادَ الْعُدُولَ من دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ لَا يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ كان مُنْقَطِعًا فَإِنْ تَرَكَ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ لِعَجْزِ السَّائِلِ عن فَهْمِهِ لَا يُعَدُّ انْقِطَاعًا وَعَلَى ذلك حُمِلَتْ قَضِيَّةُ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ الِانْتِقَالَ مُطْلَقًا مُحْتَجًّا بِالِاحْتِجَاجِ على الْكَافِرِ فإن اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ من الْمَشْرِقِ فَأْتِ بها من الْمَغْرِبِ بَعْدَ الِاحْتِجَاجِ عليه بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَهَذَا ليس بِانْتِقَالٍ بَلْ هو في غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ في صَنْعَةِ الْجَدَلِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الِاحْتِجَاجَ على الْمُلْحِدِ بِمَا يَعْجِزُ هو عنه وَيَعْتَرِفُ بِهِ وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ أَوْرَدَ الْمُلْحِدُ شُبْهَةً خَيَالِيَّةً عليه فَبَدَّلَ ذلك الْمِثَالَ الْمَعْجُوزَ عنه بِمِثَالٍ لَا يَقْدِرُ على إيرَادِ شُبْهَةٍ خَيَالِيَّةٍ عليه وهو قَوْلُهُ فإن اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ من الْمَشْرِقِ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمِثَالَيْنِ يَعْجِزُ عنه الْمُلْحِدُ قَطْعًا إلَّا أَنَّ الْمِثَالَ الثَّانِيَ لَا قُدْرَةَ له وَلَا لِغَيْرِهِ على إيرَادِ شُبْهَةٍ خَيَالِيَّةٍ عليه فَإِذَنْ الدَّلِيلُ على أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ على ما
يَعْجِزُ مُدَّعِي الْإِلَهِيَّةِ عنه وَالْمِثَالَانِ مُشْتَرَكَانِ في ذلك إلَّا أَنَّ الْمِثَالَ الْأَوَّلَ أَمْكَنَهُ أَنْ يُبْدِيَ خَيَالًا فَاسِدًا عليه وَالثَّانِي ليس كَذَلِكَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُشْتَرَكِ بين الْمِثَالَيْنِ وَلَيْسَ انْتِقَالًا أَصْلًا وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ ليس هذا انْتِقَالًا لِأَنَّ خَصْمَهُ لم يَفْهَمْ دَلِيلَهُ الْأَوَّلَ وَعَارَضَهُ على إحْيَاءِ الْمَوْتَى بِتَرْكِهِ قَتْلَ من يُمْكِنُهُ قَتْلُهُ وَالْحُجَّةُ عليه بَاقِيَةٌ لِعَجْزِهِ عن إحْيَاءِ من قد مَاتَ فلما تَقَرَّرَتْ هذه الْحُجَّةُ أَلْزَمَهُ حُجَّةً أُخْرَى هِيَ إلَى فَهْمِ خَصْمِهِ أَقْرَبُ فقال إنْ كُنْت إلَهًا فَاقْلِبْ الشَّمْسَ في سَيْرِهَا إلَى طُلُوعِهَا من مَغْرِبِهَا إنْ كُنْت مُجْرِيهَا فَاعْتَرَفَ خَصْمُهُ عن جَوَابِهِ في الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ وكان في التَّحْقِيقِ مُنْقَطِعًا عن الْجَوَابِ في الْأُولَى قبل الثَّانِيَةِ لو أَنْصَفَ من نَفْسِهِ وقال الْإِمَامُ في الْأَرْبَعِينَ الدَّلِيلُ كان شيئا وَاحِدًا وهو حُدُوثُ ما لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ على إحْدَاثِهِ فَهُوَ يَدُلُّ على قَادِرٍ آخَرَ غَيْرِ الْخَلْقِ ثُمَّ هذا الْمَعْنَى له أَمْثِلَةُ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ من مَشْرِقِهَا فَهَذَا كان انْتِقَالًا من مِثَالٍ إلَى مِثَالٍ أَمَّا الدَّلِيلُ فَشَيْءٌ وَاحِدٌ في الْحَالَيْنِ
فَصْلٌ في الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ اعْلَمْ أَنَّ لِلْمَسْئُولِ في الدَّلَالَةِ ثَلَاثَةَ طُرُقٍ أَحَدُهَا أَنْ يَدُلَّ على الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا وَالثَّانِي أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ في بَعْضِ شُعَبِهَا وَفُصُولِهَا وَالثَّالِثُ أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ على غَيْرِهَا فَإِنْ اسْتَدَلَّ عليها بِعَيْنِهَا فَوَاضِحٌ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الْكَلَامَ في بَعْضِ أَحْوَالِهَا جَازَ لِأَنَّهُ إذَا كان الْخِلَافُ في الْكُلِّ وَثَبَتَ الدَّلِيلُ في بَعْضِهَا ثَبَتَ الْبَاقِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ في غَيْرِ فَرْدٍ من أَفْرَادِ الْمَسْأَلَةِ لم يَجُزْ وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ على غَيْرِهَا فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ من طُرُقِ الْمَسْأَلَةِ وَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا على مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ كَقَوْلِ الظَّاهِرِيِّ في الْغُسْلِ لَا بِنَاءً على مَنْعِ الْقِيَاسِ وَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا على مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فَرْعِيَّةٍ كَالْخِلَافِ في الشَّعْرِ هل يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بِنَاءً على أَنَّهُ هل تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ أَمْ لَا هذا إذَا كان طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا فَإِنْ اخْتَلَفَ لم يَجُزْ بِنَاءُ بَعْضِهَا على بَعْضٍ كما لو سُئِلَ الْحَنَفِيُّ عن قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ فقال أنا أَبْنِيهِ على أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ فَهَذَا لَا يَصِحُّ فيه الْبِنَاءُ لِأَنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قد كَثُرَ في عِبَارَاتِهِمْ وَالْفَرْضُ وَالْبِنَاءُ من غَيْرِ تَحْقِيقٍ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَسْأَلَ الْمُسْتَدِلُّ عَامًّا فَيُجِيبُهُ خَاصًّا مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ ذَاتَ صُوَرٍ فَيَسْأَلُ السَّائِلُ عنه سُؤَالًا لَا يَقْتَضِي الْجَوَابَ على جَمِيعِ صُوَرِهَا فَيُجِيبُ الْمُسْتَدِلُّ عن صُورَةٍ أو صُورَتَيْنِ منها لِأَنَّ الْفَرْضَ هو الْقَطْعُ وَالتَّقْدِيرُ فَكَأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ اقْتَطَعَ تِلْكَ الصُّورَةَ عن أَخَوَاتِهَا فَأَجَابَ عنها وهو إمَّا فَرْضٌ في الْفَتْوَى كما لو سُئِلَ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ هل يَنْعَقِدُ أَمْ لَا فيقول لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ لِوُرُودِ النَّهْيِ فإن بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ من صُوَرِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا عَيْنِهِ وَإِمَّا فَرْضٌ في الدَّلِيلِ بِأَنْ يَبْنِيَ عَامًّا وَيَدُلَّ خَاصًّا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ لِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَالضَّابِطُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَدِلُّ يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ عليها فإذا تَمَّ له فيها الدَّلِيلُ بَنَى الْبَاقِيَ من الصُّوَرِ عليها وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْفَرْضُ وَالْبِنَاءُ وإذا عَرَفْت هذا فَقَدْ اُخْتُلِفَ في جَوَازِهِ فَذَهَبَ ابن فُورَكٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ حَقَّ الْجَوَابِ أَنْ يُطَابِقَ السُّؤَالَ
وَذَهَبَ غَيْرُهُ من الْجَدَلِيِّينَ إلَى الْجَوَازِ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ قد لَا يَجِدُ دَلِيلًا إلَّا على بَعْضِ صُوَرِ السُّؤَالِ وَلِأَنَّهُ قد يَرِدُ على جَوَابِهِ الْعَامِّ إشْكَالٌ لَا يَنْدَفِعُ فَيَتَخَلَّصُ منه بِالْفَرْضِ الْخَاصِّ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كانت عِلَّةُ الْفَرْضِ شَامِلَةً لِسَائِرِ الْأَطْرَافِ قال وَالْمُسْتَحْسَنُ منه هو الْوَاقِعُ في طَرَفٍ يَشْتَمِلُ عليه عُمُومُ سُؤَالِ السَّائِلِ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ على اسْتِشْعَارِ انْتِشَارِ الْكَلَامِ في جَمِيعِ الْأَطْرَافِ وَعَدَمِ وَفَاءِ مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِاسْتِتْمَامِ الْكَلَامِ فيها وَحَاصِلُهُ إنْ ظَهَرَ انْتِظَامُ الْعِلَّةِ الْعَامَّةِ في الصُّورَتَيْنِ كان مُسْتَحْسَنًا وَإِلَّا كان مُسْتَهْجَنًا وَفَائِدَتُهُ كَوْنُ الْعِلَّةِ قد تَخْفَى في بَعْضِ الصُّوَرِ وفي بَعْضِهَا أَظْهَرُ فَالتَّفَاوُتُ بِالْأَوْلَوِيَّةِ خَاصَّةً وَالْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ وَهَذَا بِمَثَابَةِ تَوَجُّهِ النَّهْيِ إلَى جَمِيعِ أَذِيَّاتِ الْأَبِ إلَى التَّأْفِيفِ وَيُشْبِهُ الْفَرْقَ بين التَّوَاطُؤِ وَالْمُشْتَرَكِ فإن نِسْبَةَ الْآحَادِ إلَى التَّوَاطُؤِ مُتَسَاوِيَةٌ بِخِلَافِ الْمُشْكِلِ قال ابن الْمُنِيرِ وَأَعْجَبَنِي من الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ كَلَامٌ أَوْرَدَهُ في اسْتِبْعَادِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ من مَالِهِ أو سَهْمٍ فإن مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ حَمَلَ الْوَصِيَّةَ على الْأَقَلِّ فَمَهْمَا سَلَّمَهُ الْوَرَثَةُ خَرَجُوا بِهِ عن الْعُهْدَةِ فَكَانَ يَسْتَبْعِدُ هذا وَيَفْرِضُ فِيمَا لو اُحْتُضِرَ مُتَمَوِّلٌ وَاسِعُ الْمَالِ فَعَطَفَهُ الْحَاضِرُونَ على وَلَدِ وَلَدٍ تُوُفِّيَ في حَيَاتِهِ وَقِيلَ له إنَّ وَلَدَ وَلَدِك لَا مِيرَاثَ له مع غَيْرِهِ فَلَوْ وَصَلْتَ رَحِمَهُ وَأَغْنَيْتَ فَقْرَهُ بَعْدَك بِأَنْ تُوصِيَ له بِشَيْءٍ من مَالِك لِيَكُونَ له مع وَلَدِك مَدْخَلٌ فقال الْمُحْتَضَرُ قد أَوْصَيْت له بِسَهْمٍ من مَالِي وَأَوْصَى عَمُّهُ بِهِ حين تُوُفِّيَ هذا الْمُحْتَضَرُ فَعَمَدَ وَلَدُهُ إلَى سَفَرْجَلَةٍ أو تَمْرَةٍ فَسَلَّمَهَا لِوَلَدِ الْوَلَدِ زَاعِمًا أَنَّ هذا مُرَادُ أبيه لِقَطْعِ كل عَاقِلٍ بِأَنَّ هذا الْوَارِثَ مُدَافِعٌ لِلْوَصِيَّةِ مُرَادٌ وكان الشَّيْخُ يَسْتَصْوِبُ مَذْهَبَ مَالِكٍ في حَمْلِهِ السَّهْمَ على إلْحَاقِ الْمُوصَى له بِسُهْمَانِ الْوَرَثَةَ لَكِنْ يَرْجِعُ إلَى أَقَلِّهِمْ سَهْمًا فَيُعْطَى مثله جَمْعًا بين الْمُعَرَّفِ وَبَيْنَ الْأَصْلِ في الْحَمْلِ على الْأَقَلِّ وَمِثْلُ هذا الْفَرْضِ يُسْتَحْسَنُ لَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِ الصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ من الدَّلِيلِ وَإِنْ كان شَامِلًا لِلْجَمِيعِ وَلَكِنْ شُمُولًا مُتَفَاوِتًا قال ثُمَّ وَقَعَ لي بَعْدَ ذلك أَنَّ الشَّيْخَ في فَرْضِهِ إيقَافٌ لِلْأَذْهَانِ في مُبَادِيهَا وإذا تُؤُمِّلَ انْدَفَعَ التَّشْنِيعُ من الْفَقِيهِ الْمُفْتِي بِأَقَلِّ شُمُولٍ لَا الْمُوصِي الذي هو الْحَقِيقُ بِاللَّوْمِ وَآيَةُ ذلك أَنَّ الْمُوصِيَ لو قال في السِّيَاقِ الْمَذْكُورِ ادْفَعُوا له أَقَلَّ مُتَمَوَّلٍ لم يَكُنْ بُدٌّ من
قَبُولِ السَّفَرْجَلَةِ وَنَحْوِهَا على سَائِرِ الْمَذَاهِبِ وَكَذَا لو صَرَّحَ بها وَلَا لَوْمَ على الْفَقِيهِ إذَا قال لَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى بِهِ أَكْثَرَ من ذلك فَكَذَلِكَ إذَا عَدَلَ الْمُوصِي عن التَّعْيِينِ وقال ادْفَعُوا له سَهْمًا أو جُزْءًا وقد اتَّفَقْنَا على أَنَّ الْأَكْثَرَ لَا يَنْضَبِطُ وَكَذَلِكَ الْأَوْسَطُ لِتَعَدُّدِ حَالِ الْوَسَائِطِ فلم يَبْقَ من الْأَطْرَافِ الثَّلَاثَةِ إلَّا الْأَقَلُّ فَكَانَ كما لو صَرَّحَ فَاللَّائِمَةُ حِينَئِذٍ على الْمُوصِي لَا على الْمُفْتِي وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ مَسْأَلَةٍ على أُخْرَى إنْ كان قبل الشُّرُوعِ في الِاسْتِدْلَالِ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِهِ وَإِنْ كان بَعْدَهُ فَإِنْ ابْتَدَأَ الدَّلَالَةَ ولم يذكر أَنَّهُ يُرِيدُ الْبِنَاءَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ من الْأُصُولِ كَاسْتِدْلَالِ الْمَالِكِيِّ على الْحَنَفِيِّ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ في مَسْأَلَةِ الْأَذَانِ فَإِنْ سَلَّمَ الْحَنَفِيُّ تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا عَدَلَ إلَى غَيْرِهِ من الْأَسْئِلَةِ وَإِلَّا قال له الْمَسْئُولُ هذا أَصْلٌ من أُصُولِي وأنا أَبْنِي فَرْعِي على أَصْلِي فَإِنْ سَلَّمْت وَإِلَّا نَقَلْت الْكَلَامَ فَإِنْ نَقَلَ جَازَ وَإِنْ قال لَا أُسَلِّمُ وَلَا أَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَيْهِ لم يَكُنْ له ذلك وَإِنْ كان الذي بَنَى عليه فَرْعًا يُمَانِعُهُ السَّائِلُ فَإِنْ أَرَادَ نَقْلَ الْكَلَامِ إلَى مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ فَهَلْ يَجُوزُ ذلك قال أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ ليس له ذلك لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ له ذلك وهو الصَّحِيحُ عِنْدِي اعْتِبَارًا بِبِنَائِهَا على أَصْلٍ من الْأُصُولِ الظَّاهِرَةِ
فَصْلٌ قال الْبَلْعَمِيُّ في الْغَرَرِ أَلْطَفُ حِيَلِ الْمُتَنَاظِرِينَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ أَحَدُهَا نَقْلُ السَّائِلِ عن سُؤَالٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اسْتِشْهَادِهِ على الْمُجِيبِ بِمَا يَلْزَمُهُ وَيَقْطَعُهُ فإذا أَرَادَ الْمُجِيبُ نَقْلَهُ جَحَدَ بَعْضَ ما اسْتَشْهَدَ بِهِ عليه وَإِنْ كان وَاضِحًا فإذا بَيَّنَهُ اخْتَلَطَ الْكَلَامَانِ وَبِهِ يَنْقُلُهُ من الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إلَى غَيْرِهَا فَيَجِبُ على السَّائِلِ إمْعَانُ النَّظَرِ في مِثْلِ هذا وَالثَّانِي تَقْسِيمُ السُّؤَالِ وهو أَنْ يَنْظُرَ الْمُجِيبُ إلَى أَحْوَالِهِ فَإِنْ كان مُحْتَمِلًا لِوُجُوهٍ شَتَّى قَسَّمَهُ على وُجُوهِهِ لِيُطِيلَ مُنَاظَرَةَ السَّائِلِ وَيَشْغَلَ قَلْبَهُ عن قُوَّةِ الْمُنَاظَرَةِ فَيَبْطُلُ غَرَضُ السَّائِلِ في الْجَدَلِ فَالْوَاجِبُ على السَّائِلِ أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ من التَّقْسِيمِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عليه غَرَضُهُ الثَّالِثُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ وهو أَنْ يَقْصِدَ تَكْثِيرَ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ في الْقُرْآنِ لِيَجْبُنَ خَصْمُهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ في جَوَابِ دَعْوَاهُ قَوْله تَعَالَى وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ وَقَوْلُهُ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ في يَوْمٍ عَاصِفٍ فإذا أَرَادَ الْخَصْمُ إلْزَامَهُ فَتَعَذَّرَ عليه وَانْقَطَعَ دُونَهُ تَلَا قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهم مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مُبْعَدُونَ
فَصْلٌ في التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ لَخَّصْتُهُ من كَلَامِ إلْكِيَا لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْمَذَاهِبِ إلَّا بِدَلِيلٍ إجْمَاعِيٍّ أو مُسْتَقِلٍّ من أَوْضَاعِ الشَّرْعِ وِفَاقًا وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا في التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ في الْمُنَاظَرَةِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى جَوَازِهِ من حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ من الْجَدَلِ تَضْيِيقُ الْأَمْرِ على الْخَصْمِ وَإِبَانَةُ اسْتِقَامَةِ أَصْلِهِ وَفَصَّلَ الْقَاضِي تَفْصِيلًا حَسَنًا لَا غُبَارَ عليه فقال إنْ كانت الْمُنَاقَضَةُ عَائِدَةً إلَى تَفَاصِيلِ أَصْلٍ لَا يَرْتَبِطُ فَسَادُهَا وَصِحَّتُهَا بِفَسَادِ الْأَصْلِ بِحَالٍ بَلْ الْأَصْلُ إذَا ثَبَتَ اُسْتُصْحِبَ حُكْمُهُ على الْفَرْعِ فَلَا يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بها من حَيْثُ إنَّهُ لَا يَعُودُ على الْمَقْصُودِ وَلَئِنْ قِيلَ فيها مَقْصُودٌ صَحِيحٌ وهو اضْطِرَارُ الْخَصْمِ إلَى إبَانَةِ الْحُجَّةِ التي يُعَوِّلُ الْخَصْمُ عليها فَبِهِ يَتِمُّ النَّظَرُ ثُمَّ تَكَلَّمَ على الْمَأْخَذِ على هذا التَّدْرِيجِ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ وَلَكِنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْفَرْعَ فَاسِدٌ لِفَسَادِ نَظَرِ الْخَصْمِ فيه على الْخُصُوصِ لَا في الْأَصْلِ وَهَذَا يَعِزُّ وُجُودُهُ وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ كان حُكْمُهُ ما ذَكَرْنَا وَإِنْ كان التَّعَلُّقُ بِالْفَرْعِ من قَبْلِ امْتِحَانِ الْأَصْلِ بِسِيَاقِهِ وَعَلِمَ أَنَّ الْفَرْعَ من ضَرُورَاتِ الْأَصْلِ فَيَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ وِفَاقًا وَسَبَبُ هذا التَّفْصِيلِ أَنَّ الذي يَسْأَلُ عن مَسْأَلَةٍ فَيُفْتَى فيها فَلَا بُدَّ له من نَصْبِ دَلِيلٍ على ما أَفْتَى بِهِ وَلَنْ يَتَحَقَّقَ نَصْبُ الدَّلِيلِ على ذلك إلَّا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْهُجُومُ على ذِكْرِ الدَّلِيلِ وَالْبَحْثُ عن الْمَعْنَى وَهَذَا هو الْأَصْلُ والثاني أَنْ يَنْقَدِحَ بِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ إلَى إثْبَاتِ مَذْهَبِهِ إذَا لم يَكُنْ في الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَذْهَبَانِ أو اعْتِرَافًا بِأَنَّ ما عَدَا الْمَذْهَبَيْنِ بَاطِلٌ وَإِقْرَارُهُمَا على أَنْفُسِهِمَا حُجَّةٌ مَسْأَلَةٌ قال إذَا ذَكَرَ الْمُعَلِّلُ وَصْفًا وَقَاسَ على أَصْلٍ فَهَلْ عليه إثْبَاتُ عِلَّةِ الْأَصْلِ بِطَرِيقٍ من مَسَالِكِ الْعِلَّةِ أَمْ لَا يَجِبُ عليه وَيُقَالُ لِلسَّائِلِ إنْ أنت أَثْبَتَّ أَنَّهُ ليس بِصَالِحٍ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بَطَلَ تَعْلِيلُهُ قال إلْكِيَا فيه خِلَافٌ
فَصَارَ صَائِرُونَ إلَى أَنَّ ذلك على السَّائِلِ من حَيْثُ إنَّ الْمُعَلِّلَ ذَكَرَ وَصْفًا أَصْلًا فَقَدْ وُجِدَ فيه حَدُّ الْقِيَاسِ وَرُكْنُهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ وَأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ يَرْبِطُ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ فَهُوَ حُجَّةٌ وَإِنَّمَا يَفْسُدُ لِاخْتِلَالِ الشَّرَائِطِ وَهَذَا ليس بِالْعَرِيِّ عن التَّحْصِيلِ وَلَوْ فُرِضَ التَّوَاطُؤُ عليه لم يَكُنْ هذا وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مع هذا أَنَّ ذلك على الْمُعَلِّلِ فإن عليه أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَظْهَرُ من مَقْصُودِهِ لِيَخْرُجَ الْكَلَامُ عن حَدِّ الدَّعْوَى بِظُهُورِ مُخَيَّلٍ ثُمَّ الْقَوَادِحُ على الْمُعْتَرِضِ وإذا عَرَفَ هذا فَلَوْ ذَكَرَ مَعْنًى مُنَاسِبًا كَفَاهُ وَإِنْ كانت الْمَعَانِي مُنْقَسِمَةً إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْمَعَانِي التي لها أُصُولٌ وَالْبُطْلَانُ مُعَارِضٌ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ لِلْأَصْلِ اعْتِبَارَ أَوْصَافٍ لها أُصُولٌ فَإِنْ لم تَتَحَقَّقْ الْمُنَاسَبَةُ فَالْأَمْرُ في الْوَصْفِ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذلك بِإِثْبَاتِ الطَّرْدِ حُجَّةً وَرَاءَ الذي يُقَالُ فيه إنَّ الْحُكْمَ يَدُلُّ على الْحُكْمِ وَالْأَوْصَافَ تَدُلُّ على الِاجْتِمَاعِ في الطَّرْدِ وَالْوَصْفَ عِنْدَ مُثْبِتِهِ يَدُلُّ على الْحُكْمِ في الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ على السَّوَاءِ فَإِنْ ثَبَتَ هذا فَالْوَصْفُ الْمُطْلَقُ كَالْمُخَيَّلِ وَقِيلَ لَا بُدَّ من إبْرَازِ الْإِخَالَةِ وَالْعَرْضِ على الْأُصُولِ تَحْقِيقًا لِشَرْطِهِ
فَصْلٌ في الِاحْتِجَاجِ بِالْمُخْتَلَفِ فيه بين الْخَصْمَيْنِ قال الصَّيْرَفِيُّ يَصْلُحُ لِمُثْبِتِي الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ الِاحْتِجَاجُ بِهِ على مُخَالِفِيهِمْ في الْمَسَائِلِ التي دَلِيلُهَا من هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَإِنْ قال قَائِلٌ إنِّي أُخَالِفُك في الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ قِيلَ له إنْ أنت خَالَفْتنِي فِيهِمَا فَوَجْهُ دَلَالَتِي منه كَذَا فَإِنْ خَالَفْتنِي فيه بَيِّنَتُهُ عَلَيْك وَإِنْ سَلَّمْتَهُ فَحُجَّتِي بَيِّنَةٌ وَلَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَدُلَّك على الْأَوَاخِرِ من غَيْرِ إثْبَاتِ الْوَسَائِطِ فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ أو يَشُكَّ في الْأَصْلِ فَهَذَا مَوْضِعُ الْمُطَالَبَةِ على الدَّلِيلِ بِالدَّلِيلِ إذْ قد كان الدَّلِيلُ يُسَوَّغُ فيه الْخِلَافُ وَهَذَا يُفَسِّرُ قَوْلَ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ إنَّهُ إذَا سُئِلَ عن الدَّلِيلِ قال الدَّلِيلُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَلَوْ سَاغَ ذلك لَأَدَّى إلَى ما لَا نِهَايَةَ له فَيُقَالُ له لَا نُسَلِّمُ صَيْرُورَتَهُ إلَى ما لَا نِهَايَةَ له لِأَنَّ الْأَسْئِلَةَ مُنْحَصِرَةٌ وَشَوَاهِدُ الْعَقْلِ تَمْنَعُهُ وَلِهَذَا لَمَّا زَعَمَ الْكُفَّارُ أَنَّ هذا قَوْلُ الْبَشَرِ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ رَدَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إلَى ما في عُقُولِهِمْ أَيْ أَيُّهَا الْبُلَغَاءُ الْفُصَحَاءُ إنْ كان كما تَقُولُونَ فَأْتُوا بِسُورَةٍ من مِثْلِهِ فإذا عَجَزْتُمْ مع ما اجْتَمَعَ فِيكُمْ من الصِّفَةِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ ليس من عِنْدِ الْأُمِّيِّ الذي نَشَأَ بَيْنَكُمْ وَأَنَّهُ من عِنْدِ اللَّهِ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ خَصْمَهُ ما لَا يقول بِهِ إلَّا النَّقْضَ فَأَمَّا غَيْرُهُ كَدَلِيلِ الْخِطَابِ أو الْقِيَاسِ أو الْمُرْسَلِ وَنَحْوِهِ فَلِأَنَّهُ اسْتِشْهَادُ الْخُصُومِ على صَوَابِ مَذْهَبِهِمْ بِخَطَأِ غَيْرِهِمْ قال الصَّيْرَفِيُّ رَأَيْت جَمَاعَةً من الْحُذَّاقِ يُسَمُّونَ هذا الِاعْتِلَالَ حَدًّا وهو قَوْلُهُمْ قُلْت كَذَا ولم أَقُلْ كَذَا كما قُلْت وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ الْمُخَالِفِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ على صَوَابِ قَوْلِهِ في تَرْكِ ما تَرَكَهُ وَاخْتِيَارِ ما اخْتَارَهُ بِخَطَأِ خَصْمِهِ في تَرْكِ ما يَدَّعِيهِ مع اخْتِيَارِهِ لِنَظِيرِهِ مِثَالُهُ لو سَأَلَ الشَّافِعِيُّ مَالِكِيًّا في الْمُصَلِّي تَطَوُّعًا إذَا قَطَعَهُ لِعُذْرٍ ولم يُعِدْ أو مُخْتَارًا أَعَادَ وقد قلت من دخل في صَلَاةِ تَطَوُّعٍ فَقَدْ وَجَبَتْ عليه وقد سَوَّيْت في الْوَاجِبِ من الْفَرْضِ بين من اخْتَارَ الْخُرُوجَ من الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَمَنْ اُضْطُرَّ في الْإِعَادَةِ فَلِمَ لَا جَعَلْتَ الْإِعَادَةَ فِيهِمَا سَوَاءً فيقول له قُلْت في هذا كما قُلْت أنت في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَأَنَّ من أَحْدَثَ في الْوَاجِبِ أَعَادَ وَمَنْ أَحْدَثَ في التَّطَوُّعِ لم يُعِدْ فَهَذَا الِاعْتِلَالُ من الْمَالِكِيِّ خَطَأٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُ الْإِعَادَةُ فِيهِمَا فَلْيَقُلْهُ وهو لَا يقول
فَصْلٌ في السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ قال الصَّيْرَفِيُّ السُّؤَالُ إمَّا اسْتِفْهَامٌ مُجَرَّدٌ وهو الِاسْتِخْبَارُ عن الْمَذْهَبِ أو الْعِلَّةِ وَإِمَّا اسْتِفْهَامٌ عن الدَّلَالَةِ أَيْ الْتِمَاسُ وَجْهِ دَلَالَةِ الْبُرْهَانِ ثُمَّ الْمُطَالَبَةُ بِنُفُوذِ الدَّلِيلِ وَجَرَيَانِهِ وَسَبِيلُ الْجَوَابِ هَكَذَا أَخْتَارُ مُجَرَّدٌ ثُمَّ الِاعْتِلَالُ ثُمَّ طَرْدُ الدَّلِيلِ ثُمَّ السَّائِلُ في الِابْتِدَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ غير عَالِمٍ بِمَذْهَبِ من يَسْأَلُهُ أو يَكُونَ عَالِمًا بِهِ ثُمَّ إمَّا أَنْ لَا يَعْلَمَ صِحَّتَهُ فَسُؤَالُهُ لَا مَعْنَى له وَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ فَسُؤَالُهُ رَاجِعٌ إلَى الدَّلِيلِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ من أَنْكَرَ الْأَصْلَ الذي يَسْتَشْهِدُ بِهِ الْمُجِيبُ فَسُؤَالُهُ عنه أَوْلَى لِأَنَّ الذي أَحْوَجَهُ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ فإذا كان الْخِلَافُ في الشَّاهِدِ فَالسُّؤَالُ عنه أَوْلَى قال أبو بَكْرٍ وَيَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ لَا يَسْأَلَ الْمُنَاظَرَةَ إلَّا بَعْدَ فَهْمِ ما يَسْأَلُ عنه وَكَذَا لَا يَنْبَغِي لِلْمُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ عن شَيْءٍ حتى يَعْلَمَهُ وَبِسَبَبِ هذا يَقَعُ الْخَبْطُ في الْمُنَاظَرَاتِ وَلَيْسَ لِلْمُجِيبِ أَنْ يَرْجِعَ على السَّائِلِ بِالْجَوَابِ قبل أَنْ يُجِيبَ هو أو يَعْتَرِفَ بِالْعَجْزِ عنه أو يُضْرِبَ عنه فَإِنْ سَأَلَ السَّائِلُ الْجَوَابَ أَجَابَ فَإِنْ قِيلَ له هذا يَلْزَمُك في مَذْهَبِك كما سَأَلْت فإن هذا رُبَّمَا فُعِلَ لِلْحِيلَةِ فَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ عن حُجَّتِك لِنَفْسِك ثُمَّ إنْ شِئْت فَعُدْ بَعْدَ ذلك سَائِلًا فَإِمَّا أَنْ تُجِيبَ أو تَعْتَرِفَ بِأَنْ لَا جَوَابَ ثُمَّ تَقْبَلُ سُؤَالَهُ إنْ شِئْت وَإِنْ كان إذَا سُئِلْت عن شَيْءٍ يَرْجِعُ على خَصْمِك فَقُلْ إنَّمَا أُجِيبُك عن هذا بِشَرْطِ أَنْ تَصْبِرَ لِقَلْبِنَا عَلَيْك السُّؤَالَ فإن سُؤَالَك رَاجِعٌ عَلَيْك فَهُوَ كما تَسْأَلُ عن نَفْسِك وَلَا يَتْرُكُ الْجَوَابَ عَمَّا يُسْأَلَ وَيَرْجِعُ سَائِلًا إلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ إمَّا جَاهِلٌ يَجِدُ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فَلَا يُنَاظِرُ أو يَقْدِرُ أَنْ يَحْتَالَ على خَصْمِهِ من أَنْ يُظْهِرَ الِانْقِطَاعَ أو الْعَجْزَ عن الْجَوَابِ فَإِنْ لم يَقْدِرْ على ذلك فَهُوَ غَبِيٌّ وَلْيَحْذَرْ الْمُجِيبُ تَكْرَارَ اللَّفْظِ الْمُخْتَلِفِ على الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فَرُبَّمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ زِيَادَةً قال وما رَأَيْت أَحْسَنَ من صَبْرِ الْخَصْمِ على الْخَصْمِ حتى إذَا فَرَغَ من هَذَيَانِهِ قال له لم أَفْهَمْ ما كُنْت فيه فَأَعِدْ عَلَيَّ كَلَامَك في مَهْلٍ وَأَرِنِي مَوْضِعَ النُّكْتَةِ لِأَفْهَمَهَا عَنْك وَأُفْهِمَك الْجَوَابَ فَهَذَا أَقْطَعُ من الْحَدِيدِ لِلْخُصُومِ
وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَصْغِرَ خَصْمًا فَإِنْ اسْتَصْغَرْته فَالْوَجْهُ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ فَلَرُبَّمَا هَجَمَ من اسْتِصْغَارِهِ الِانْقِطَاعُ لِقِلَّةِ التَّحَفُّظِ منه وَالِاهْتِمَامِ بِهِ فَقَدْ رَأَيْت ذلك مُشَاهَدَةً وَإِنْ كُنْت في مَحْفِلٍ فيه عَامَّةٌ فَمَتَى ذَهَبْتَ تُرَاعِيهِمْ بَطَلَ ما يَحْتَاجُ إلَى تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ وَلَا يَغُرَّنَّكَ مَيْلُ بَعْضِ الناس إلَى الْخَصْمِ أو تَفْضِيلُ الْعَامَّةِ لِصِيَاحِ الْخَصْمِ فَالْعَمَلُ على أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَمَتَى سَبَقَتْ مِنْك كَلِمَةٌ لَيْسَتْ بِصَوَابٍ فَلَا تَقِفْ عليها وَاعْتَرِفْ بها فَإِنَّهَا سَبْقُ لِسَانٍ فَإِنَّك إنْ أَخَذْت في تَصْحِيحِهَا ذَهَبَ عَنْك صَحِيحُ الْكَلَامِ وَاعْتَرِفْ بِالْحَقِّ إذَا وَضَحَ فَإِنْ لم يُضَحْ فَالْزَمْ بِالْبُرْهَانِ فإنه عَسِرٌ جِدًّا وَامْنَعْ خَصْمَك من الْإِقْبَالِ على غَيْرِك إذَا كان مُنَاظِرًا وَاسْتَعْمِلْ مثله معه وَلَا يَكُنْ هَمُّك إلَّا ما قام بِهِ مَذْهَبُك وَلَا تَشْتَغِلْ بِسِوَاهُ وَلَا يَعْطِفَنَّكَ أُنَاسٌ من خَاطِرٍ فَرُبَّمَا بَانَ وَجَاءَ وَأَنْتَ في حَالِ الْفِكْرِ وَهَذَا عَلَامَةُ الطَّبْعِ الْجَيِّدِ وَلَا تَتَكَلَّمْ في مَوْضِعِ الْعَصَبِيَّةِ عَلَيْك أو في مَجْلِسٍ تَخَافُ منه صَاحِبَهُ فإنه يُمِيتُ الْفِكْرَ وَلَا تُخَاطِبْ من لَا يَفْهَمُ عَنْك إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرْشِدًا وَهَذِهِ سِيَاسَةٌ فَاسْتَوْصِ بها انْتَهَى وَعَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ كُلُّ خَاطِرٍ يَجِيئُك بَعْدَ الْمُنَاظَرَةِ فَاحْبِسْ عليه حَكَاهُ ابن الصَّلَاحِ في الرِّحْلَةِ وكان الْإِمَامُ محمد بن يحيى إذَا أَفْحَمَهُ خَصْمُهُ في الْمُنَاظَرَةِ قال ما أَلْزَمْت لَازِمٌ فَأَنَا فيه نَاظِرٌ وَفَوْقَ كل ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فَائِدَةٌ إذَا قُلْت لِلْمُسْتَدِلِّ قَوْلُك لَا يَصِحُّ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْحُكْمُ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ والثاني أَنَّك لَا تَحْكُمُ بِالصِّحَّةِ وَفَرْقٌ بين الْحُكْمِ بِعَدَمِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ عَدَمِ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْعَدَمِ لَا يَكُونُ إلَّا من عَالِمٍ بِذَلِكَ الْعَدَمِ وَعَدَمُ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ يَكُونُ من الشَّاكِّ في ذلك الشَّيْءِ وَالْمُتَرَدِّدِ فيه فَتَفَطَّنْ بِمَعَانِي الْعِبَارَاتِ
كتاب الأدلة المختلف فيها
بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فيها الِاسْتِدْلَال على فَسَادِ الشَّيْءِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ على صِحَّتِهِ جَوَّزَهُ ابن الْقَطَّانِ قال وكان شَيْخُنَا أبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ يَسْتَعْمِلُهُ كَثِيرًا إذَا سُئِلَ عن مَسَائِلَ فَقِيلَ ما أَنْكَرْت منها يقول لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ تَدُلُّ على صِحَّتِهِ انْتَهَى وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ اُشْتُهِرَتْ بين الْمُتَأَخِّرِينَ يَسْتَدِلُّونَ بها في مَسَائِلَ لَا تُحْصَى إلَى طُرُقِ النَّفْيِ الِاسْتِدْلَال على فَسَادِ الشَّيْءِ بِفَسَادِ نَظِيرِهِ قال الصَّيْرَفِيُّ كُلُّ دَلِيلٍ دَلَّ على صِحَّتِهِ شَيْءٌ بِالْإِثْبَاتِ أو النَّفْيِ فَهُوَ دَالٌّ على فَسَادِ ضِدِّهِ إذَا كان لَا بُدَّ له من ذلك الضِّدِّ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ وَلِأَصْحَابِنَا في مِثْلِ هذا مُغَالَطَةٌ فِيمَا إذَا كان لِلْأُمَّةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ فَيَدُلُّ على فَسَادِ اثْنَيْنِ منها ثُمَّ يقول إذَا فَسَدَتْ هذه الْأَقَاوِيلُ صَحَّ الْآخَرُ وَالْوَجْهُ في هذا أَنْ يُقَالَ لِلْخَصْمِ عَرَفْت صِحَّةَ الصَّحِيحِ منها وَفَسَادَ غَيْرِهِ فَدَلَّ على صِحَّتِهَا فإن الذي أَفْسَدَ تِلْكَ غَيْرُ صِحَّةِ هذا الِاسْتِدْلَال على عَدَمِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ حَقٌّ عِنْدَ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا دَلِيلَ عليه لَلَزِمَ منه تَكْلِيفُ الْمُحَالِ
الِاسْتِقْرَاءُ وهو تَصَفُّحُ أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ لِيَحْكُمَ بِحُكْمِهَا على أَمْرٍ يَشْمَلُ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ وَيَنْقَسِمُ إلَى تَامٍّ وَنَاقِصٍ فَالتَّامُّ إثْبَاتُ الْحُكْمِ في جُزْئِيٍّ لِثُبُوتِهِ في الْكُلِّيِّ على الِاسْتِغْرَاقِ وَهَذَا هو الْقِيَاسُ الْمَنْطِقِيُّ الْمُسْتَعْمَلُ في الْعَقْلِيَّاتِ وهو حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ وَمِثَالُهُ كُلُّ صَلَاةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَفْرُوضَةً أو نَافِلَةً وَأَيُّهُمَا كان فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مع الطَّهَارَةِ فَكُلُّ صَلَاةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مع طَهَارَةٍ وهو يُفِيدُ الْقَطْعَ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ لِكُلِّ فَرْدٍ من أَفْرَادِ شَيْءٍ على التَّفْصِيلِ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ ثَابِتٌ لِكُلِّ أَفْرَادِهِ على الْإِجْمَالِ وَالنَّاقِصُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ في كُلِّيٍّ لِثُبُوتِهِ في أَكْثَرِ جُزْئِيَّاتِهِ من غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى جَامِعٍ وهو الْمُسَمَّى في اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ بِ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَهَذَا النَّوْعُ اُخْتُلِفَ فيه وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ الْغَالِبَ وَلَا يُفِيدُ الْقَطْعَ لِاحْتِمَالِ تَخَلُّفِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ عن الْحُكْمِ كما يُقَالُ التِّمْسَاحُ يُحَرِّكُ الْفَكَّ الْأَعْلَى عِنْدَ الْمَضْغِ فإنه يُخَالِفُ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ في تَحْرِيكِهَا الْأَسْفَلَ وَاخْتَارَهُ من الْمُتَأَخِّرِينَ صَاحِبُ الْحَاصِلِ وَالْمِنْهَاجِ وَالْهِنْدِيُّ وَمِنْهُمْ من رَدَّهُ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ مِمَّا يُعْسَرُ الْوُقُوفُ عليها فَلَا يُوثَقُ بِهِ إلَّا إذَا تَأَيَّدَ الِاسْتِقْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ فقال الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الظَّنَّ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ثُمَّ بِتَقْدِيرِ الْحُصُولِ يَكُونُ حُجَّةً وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هو في أَنَّهُ هل يُفِيدُ الظَّنَّ أَمْ لَا لَا في أَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ منه هل يَكُونُ حُجَّةً أَمْ لَا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَلِهَذَا لَمَّا عَلِمْنَا اتِّصَافَ أَغْلَبِ من في دَارِ الْحَرْبِ أو وَصْفَهُمْ بِالْكُفْرِ غَلَبَ على ظَنِّنَا أَنَّ جَمِيعَ من نُشَاهِدُهُ منهم كَذَلِكَ حتى جَازَ لنا اسْتِرْقَاقُ الْكُلِّ وَرَمْيُ السِّهَامِ إلَى جَمِيعِ من في صَفِّهِمْ وَلَوْ لم يَكُنْ الْأَصْلُ ما ذَكَرْنَا لَمَا جَازَ ذلك وقد احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالِاسْتِقْرَاءِ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَعَادَةِ الْحَيْضِ بِتِسْعِ سِنِينَ وفي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ وَجَرَى عليه الْأَصْحَابُ وَقَالُوا فَلَوْ وَجَدْنَا الْمَرْأَةَ تَحِيضُ أو تَطْهُرُ أَقَلَّ من
ذلك فَهَلْ يُتْبَعُ فيه أَوْجُهٌ أَحَدُهَا نعم وَبِهِ أَجَابَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وقد تَخْتَلِفُ الْعَادَاتُ بِاخْتِلَافِ الْأَهْوِيَةِ وَالْأَعْصَارِ وَأَصَحُّهَا لَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ أَعْطَوْا الْبَحْثَ حَقَّهُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى خِلَافِهِ وَالثَّالِثُ إنْ وَافَقَ ذلك مَذْهَبَ وَاحِدٍ من السَّلَفِ صِرْنَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وقال في الْمُسْتَصْفَى التَّامُّ يَصْلُحُ لِلْقَطْعِيَّاتِ وَغَيْرُ التَّامِّ لَا يُصْلَحُ إلَّا لِلْفِقْهِيَّاتِ لِأَنَّهُ مَهْمَا وُجِدَ الْأَكْثَرُ على نَمَطٍ غَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّ الْآخَرَ كَذَلِكَ الْأَصْلُ في الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ وفي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَهَذَا عِنْدَنَا من الْأَدِلَّةِ فِيمَا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَعْنِي أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ دَلَّ على أَنَّ الْأَصْلَ ذلك فِيهِمَا إلَّا ما دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ على خِلَافِهِمَا أَمَّا قَبْلَهُ فَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في أَوَّلِ الْكِتَابِ لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قبل الشَّرْعِ ولم يَحْكُمُوا هُنَا قَوْلًا بِالْوَقْفِ كما هُنَاكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَاقِلٌ وقد خَلَطَ بَعْضُهُمْ الصُّورَتَيْنِ وَأَجْرَى الْخِلَافَ هُنَا أَيْضًا وَكَأَنَّهُ اسْتَصْحَبَ ما قبل السَّمْعِ إلَى ما بَعْدَهُ وَرَأَى أَنَّ ما لم يُشْكِلُ أَمْرُهُ وَلَا دَلِيلَ فيه خَاصٌّ يُشْبِهُ الْحَادِثَةَ قبل الشَّرْعِ وَسَبَقَ هُنَاكَ ما فيه ثُمَّ رَأَيْت الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ حَقَّقَ الْمَسْأَلَةَ تَحْقِيقًا فقال بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ في الْأَفْعَالِ قبل الشَّرْعِ مَسْأَلَةٌ زَعَمَ قَوْمٌ من الْفُقَهَاءِ أَنَّ الشَّرْعَ قد قَرَّرَ الْأَصْلَ في الْأَشْيَاءِ على أنها على الْإِبَاحَةِ إلَّا ما اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ وَفَائِدَةُ ذلك أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ في حُكْمِ شَيْءٍ في الشَّرْعِ هل هو على الْإِبَاحَةِ أو الْمَنْعِ حَكَمَ بِأَنَّهُ على الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ الشَّرْعَ قد قَرَّرَ ذلك فَصَارَ كَالْعَقْلِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ وقد حَكَى ذلك عن بَعْضِ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا وَأَشَارَ إلَيْهِ محمد بن عبد اللَّهِ بن عبد الْحَكَمِ قال وَالْبَاقُونَ على أَنَّ الْأَصْلَ في أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حُكْمَ كل شَيْءٍ إلَّا بِقِيَامِ دَلِيلٍ يَخْتَصُّهُ أو يَخْتَصُّ نَوْعَهُ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ من حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَقَوْلُهُ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَى مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً فَجَعَلَ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةَ وَالتَّحْرِيمَ مُسْتَثْنَى
قال وَيَدُلُّ على فَسَادِ هذا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هذا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ ليس إلَيْنَا وَإِنَّمَا هو من عِنْدِهِ وَأَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِإِذْنِهِ وقال وقد فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَكُلُّ هذا يَدُلُّ على إبْطَالِ الْقَوْلِ بِأَنَّ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ في السَّمْعِ الْإِبَاحَةُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عن أَدِلَّتِهِمْ فَهِيَ فِيمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ وَالْكَلَامُ في إبَاحَةِ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ قُلْ لَا أَجِدُ يَصْلُحُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ على أَنَّ الْأَصْلَ في الْمَأْكُولَاتِ الْإِبَاحَةُ وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ الْإِبَاحَةُ الْمُطْلَقَةُ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وما سَكَتَ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عنه يُرِيدُ من ذلك النَّوْعِ الذي كان الْخِطَابُ مُتَعَلِّقًا بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَشَرَّك بَيْنَهُمَا ولم يَجْعَلْ الْأَصْلَ أَحَدَهُمَا وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ لِلْقَائِلَيْنِ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى خَلَقَ لَكُمْ ما في الْأَرْضِ جميعا ذَكَرَهُ في مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ وَأَوْرَدَ أنها تَأْتِي لِغَيْرِ الِانْتِفَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ بِالظُّهُورِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ قُلْ من حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ فَيَدُلُّ على امْتِنَاعِ تَحْرِيمِ مُطْلَقِ الزِّينَةِ وَيَلْزَمُ من امْتِنَاعِ تَحْرِيمِ مُسَمَّى الزِّينَةِ أَنْ لَا يَحْرُمَ شَيْءٌ من آحَادِهَا فإذا انْتَفَتْ الْحُرْمَةُ بَقِيَتْ الْإِبَاحَةُ وهو الْمَطْلُوبُ وَقَوْلُهُ اللَّهُ الذي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ إلَى قَوْلِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّمَاوَاتِ وما في الْأَرْضِ جميعا منه وفي الصَّحِيحَيْنِ من حديث سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ في الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا من سَأَلَ عن شَيْءٍ لم يَحْرُمْ على السَّائِلِ فَحُرِّمَ من أَجْلِ
مَسْأَلَتِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ في أَنَّ الْأَصْلَ في الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ وَأَنَّ التَّحْرِيمَ عَارِضٌ وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قال سُئِلَ رسول اللَّهِ عن السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ فقال الْحَلَالُ ما أَحَلَّ اللَّهُ في كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ في كِتَابِهِ وما سَكَتَ عنه فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عنه رَوَاهُ ابن مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَا يَخْفَى أَجْوِبَةُ ذلك مِمَّا سَبَقَ عن الْقَاضِي على أَنَّ هذا الحديث يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُقَالُ في هذا النَّوْعِ أَنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ فيه بَلْ عُفِيَ وَلَا يُوصَفُ بِإِذْنٍ وَلَا مَنْعٍ وَلَيْسَ في الْآيَاتِ الْمُسْتَدَلِّ بها إلَّا أنها خُلِقَتْ لنا وَسُخِّرَتْ لنا وَلَا يَدُلُّ ذلك على أنها أُبِيحَتْ لنا إذْ يَجُوزُ أَنْ يُخْلَقَ لنا وَلَا يُبَاحُ بَلْ يَتَوَقَّفُ ذلك على إذْنٍ من جِهَتِهِ كَذَا قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ في كَلَامٍ له قال فَصَارَ هذا بِمَثَابَةِ قَوْلِ السُّلْطَانِ لِجُنْدِهِ هذه الْأَمْوَالُ التي أَجْمَعُهَا لَكُمْ فَلَا يَدُلُّ على أَنَّهُ أَبَاحَهَا لهم وَأَذِنَ لهم في التَّنَاوُلِ بَلْ قد يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا لهم وَإِنَّمَا بِإِذْنٍ في الْأَخْذِ بَعْدَ زَمَانٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ إذْنٌ من إذْنٍ جَدِيدٍ وَزَيْفٌ قَوْلُ أبي زَيْدٍ إنَّ الْأَفْعَالَ لَا حُكْمَ لها قبل الشَّرْعِ وَبَعْدَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ تَبَيَّنَّا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أنها كانت مُبَاحَةً قال ثُمَّ هو مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَنَهَى النَّفْسَ عن الْهَوَى وَأَمَّا احْتِجَاجُ الرَّازِيَّ بِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ لَا يَضُرُّ بِالْمَالِكِ قَطْعًا فَلَيْسَ على أَصْلِنَا لِابْتِنَائِهِ على التَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ وَأَمَّا الدَّلِيلُ على تَحْرِيمِ الْمَضَارِّ فَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ وهو عَامٌّ وَضَعَّفَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ لِأَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ النَّهْيُ عن الْإِضْرَارِ وَلَا إضْرَارَ بِالنَّفْسِ فَقَدْ يُؤْخَذُ على عُمُومِهِ فَيَدْخُلُ فيه الْإِضْرَارُ بِالنَّفْسِ فَيَتِمُّ الدَّلِيلُ
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى من الْمَنَافِعِ الْأَمْوَالُ فإن الْأَصْلَ فيها التَّحْرِيمُ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ الْحَدِيثُ وهو أَخَصُّ من الدَّلِيلِ الذي اسْتَدَلُّوا بِهِ على الْإِبَاحَةِ فَيُقْضَى عليها قُلْت قد نَصَّ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ على ذلك فقال أَصْلُ مَالِ كل امْرِئٍ يَحْرُمُ على غَيْرِهِ إلَّا بِمَا أَحَلَّ بِهِ وَذَكَرَ قَبْلَهُ أَنَّ النِّكَاحَ كَذَلِكَ وَالنِّسَاءُ مُحَرَّمَاتُ الْفُرُوجِ إلَّا بِعَقْدٍ أو بِمِلْكِ يَمِينٍ فَجَعَلَ الْأَصْلَ في الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ ثُمَّ قال آخِرُهُ وَهَذَا يَدْخُلُ في عَامَّةِ الْعِلْمِ قال الصَّيْرَفِيُّ وهو كَلَامٌ صَحِيحٌ لَا يَنْكَسِرُ أَبَدًا وهو أَنْ يَنْظُرَ في الْأَصْلِ إلَى الشَّيْءِ الْمَحْظُورِ كَائِنًا ما كان من دَمٍ أو مَالٍ أو فَرْجٍ أو عَرْضٍ فَلَا يَنْتَقِلُ عنه إلَى الْإِبَاحَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ على نَقْلِهِ انْتَهَى وَيُنَازِعُ فيه تَخْرِيجُ الْمَاوَرْدِيِّ مَسْأَلَةَ النَّهْرِ الْمَشْكُوكِ في أَنَّهُ مُبَاحٌ أو مَمْلُوكٌ على هذا الْخِلَافِ ثُمَّ إنْ سَلَّمَ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ في أَصْلِ الْمَنَافِعِ التي لم تَطْرَأْ عليها يَدُ مِلْكٍ وَلَا اخْتِصَاصٍ الثَّانِي من الْقَوَاعِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ على هذا الْأَصْلِ الْقَوْلُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَاسْتِصْحَابُ حُكْمِ النَّفْيِ في كل دَلِيلٍ مَشْكُوكٍ فيه حتى يَدُلَّ دَلِيلٌ على الْوُجُوبِ كما في تَعْمِيمِ مَسْحِ الرَّأْسِ في الْوُضُوءِ وَكَلَامُ الْقَرَافِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ غَيْرُ هذه الْمَسْأَلَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَجَعَلَ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ هِيَ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْعَقْلِ في عَدَمِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ كما قال فإن الْبَرَاءَةَ تَكُونُ في الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ وَالِاسْتِصْحَابَ يَكُونُ في الطَّارِئِ ثُبُوتًا كان أو عَدَمًا الثَّالِثُ ليس الْمُرَادُ بِالْمَنَافِعِ هُنَا مُقَابِلَ الْأَعْيَانِ بَلْ كُلُّ ما يُنْتَفَعُ بِهِ وَلِهَذَا قال الرَّافِعِيُّ عن الْأَصْحَابِ الْأَصْلُ في الْأَعْيَانِ الْحِلُّ ثُمَّ الْمُرَادُ بِالنَّفْعِ الْمُكْنَةُ أو ما يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا وَبِالْمَضَرَّةِ الْأَلَمُ أو ما يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهِ
التَّعَلُّقُ بِالْأُولَى قال إلْكِيَا وَهَذَا بَابٌ تَنَازَعُوا في تَعْيِينِهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ على أَنَّ ما جَمَعَ مَعْنَى الشَّيْءِ وَأَكْثَرَ منه فَهُوَ أَوْلَى منه وقد نَطَقَ الْقُرْآنُ بِأَمْثَالِهِ قال تَعَالَى لِمَنْ اعْتَلَّ عن التَّخَلُّفِ بِشِدَّةِ الْحَرِّ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا في الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا يَعْنِي فَلْيَتَخَلَّفُوا عنها وقال تَعَالَى وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ أَوْجَبُ وَنِعْمَتَهُمْ أَعْظَمُ وقال وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ من الْقَتْلِ وقال وهو أَهْوَنُ عليه وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وقال الْعُلَمَاءُ إذَا حُرِّمَ التَّأْفِيفُ فَالضَّرْبُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ وقال الشَّافِعِيُّ إذَا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلًا فَهُوَ حَالًّا أَجْوَزُ وإذا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ في الْخَطَأِ فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى وإذا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ في أَسْوَأِ حَالَيْهِ أَعْنِي قبل التَّوْبَةِ فَبَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْلَى وأبو حَنِيفَةَ يقول وَطِئَ الزَّوْجُ الثَّانِي إذَا كان يَرْفَعُ الثَّلَاثَ فَلَأَنْ يَرْفَعَ ما دُونَهَا أَوْلَى قال الطَّبَرِيُّ وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ أَنَّ التَّعَلُّقَ بَعْدَ إيضَاحِ الْإِجْمَاعِ في أَصْلِ الْمَعْنَى فإن التَّرْجِيحَ زِيَادَةٌ في عَيْنِ الدَّلِيلِ أو في مَأْخَذِهِ وَلَيْسَ الْأَوْلَى عَيْنَ الدَّلِيلِ وَلَا رُكْنًا منه وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذلك بِشَيْءٍ وهو أَنَّهُ إذَا بَانَ الْمَعْنَى الْحَاضِرُ غَيْرُهُ بَطَلَ التَّعَلُّقُ كَقَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَدَمَ الثَّلَاثَ فَلَأَنْ يَهْدِمَ ما دُونَهُ أَوْلَى فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنْ لَا هَدْمَ وإذا امْتَنَعَ الْقَوْلُ بِالْهَدْمِ فَلَا جَمْعَ قال وَلَسْنَا نَرَى في التَّعَلُّقِ كَثِيرَ فَائِدَةٍ من حَيْثُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ نعم نَبَّهَ على مَعْنَى الْأَصْلِ كما نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ فَهُوَ يَرْجِعُ إلَى التَّنْبِيهِ على الْعِلَّةِ وَلَيْسَ شيئا زَائِدًا
استصحاب الحال
لأمر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي ومعناه أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل وهو معنى قولهم الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل فمن ادعاه فعليه البيان كما في الحسيات أن الجوهر إذا شغل المكان يبقى شاغلا إلى أن يوجد المزيل مأخوذ من المصاحبة وهو ملازمة ذلك الحكم ما لم يوجد مغير فيقال الحكم الفلاني قد كان فلم نظنن عدمه وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء قال الخوارزمي في الكافي وهو آخر مدار الفتوى فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ثم في السنة ثم في الإجماع ثم في القياس فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاؤه وإن كان في ثبوته فالأصل عدم ثبوته انتهى وهو حجة يفزع إليها المجتهد إذا لم يجد في الحادثة حجة خاصة وبه قال الحنابلة والمالكية وأكثر الشافعية والظاهرية سواء كان في النفي أو الإثبات والنفي له حالتان لأنه إما أن يكون عقليا أو شرعيا وليس له في الإثبات إلا حالة واحدة وهي النفي لأن العقل لا يثبت حكما وجوديا عندنا والمذهب الثاني ونقل عن جمهور الحنفية والمتكلمين كأبي الحسين البصري رحمه الله أنه ليس بحجة لأن الثبوت في الزمان يفتقر إلى الدليل فكذلك في الزمان الثاني لأنه يجوز أن يكون وأن لا يكون ويخالف الحسيات لأن الله أجرى العادة فيها بذلك ولم تجر العادة في الشرعيات فلا تلحق بها ثم منهم من نقل عنه تخصيص النفي بالأمر الوجودي ومنهم من نقل الخلاف مطلقا قال الهندي وهو يقتضي الخلاف في الوجودي والعدمي جميعا لكنه بعيد إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة قلت والمنقول في كتب أكثر الحنفية أنه لا يصح حجة على الغير ولكن يصلح للعذر والدفع وقال صاحب الميزان من الحنفية ذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليسبحجة لإبقاء ما كان ولا لإثبات أمر لم يكن وقال أكثر المتأخرين إنه حجة يجب العمل به في نفسه لإبقاء ما كان حتى لا يورث ماله ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن كحياة المفقود لما كان الظاهر بقاءها صلحت حجة لإبقاء ما كان حتى لا يرث من الأقارب والثابت لا يزول بالشك وغير الثابت لا يثبت بالشك قال ولكن مشايخنا قالوا إن هذا القسم يصبح حجة على الخصم في موضع النظر ويجب العمل به عند عدم الدليل ولا يجوز تركه بالقياس كذا ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي لأن الحكم متى ثبت شرعا فالظاهر دوامه ولا يزول إلا بدليل يرجح على الأول وإن أوجب في الأول شبهة ولهذا قالوا لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد لأن الحكم الثابت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثابت في حق كل من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم مع احتماله النسخ إذ ذاك وهذا كمن شك في الحدث بعد الوضوء فإن يبني على الطهارة مع احتمال الحدث وكمن شك في طلاق امرأته وعتق أمته فإنه يباح له الانتفاع بهما مع الاحتمال لأن الثابت لا يزول بالشك انتهى وما ذكروه من أنه يصلح للدفع لا للرفع يشبه قول أصحابنا في مسائل كثيرة عملوا فيها بالأصلين كوجوب الفطرة عن العبد المنقطع الخبر وعدم جواز عتقه عن الكفارة وكما إذا ظهر لبنت تسع سنين لبن فارتضع منه صغير حرم ولا يحكم ببلوغها لأن احتمال البلوغ قائم والرضاع كالنسب يكفي فيه الاحتمال والمذهب الثالث واختاره القاضي في التقريب أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله تعالى فإنه لم يكلف إلا أقصى الداخل في مقدوره على العادة فإذا فعل ذلك ولم يجد دليلا آخر يبقى الوجوب ولا يسمع فيه إذا انتصب مسئولا في مجلس المناظرة فإن المجتهدين إذا تناظروا وتذكروا طرق الاجتهاد فيما يغني المجيب قوله لم أجد دليلا على الوجوب وهل هو إلا مدع فلا يسقط عنه عهدة الطلب بالدلالة المذهب الرابع أنه يصلح للدفع لا للرفع وهو المنقول عن أكثر الحنفية فيما سبق قال إلكيا ويعبرون عن هذا بأن استصحاب الحال صالح لإبقاء ما كان على ما كان إحالة على عدم الدليل لا لإثبات أمر لم يكن وبنوا على هذا مسائل منها ما لو شهد شاهدان أن الملك كان للأب المدعى والأب ميت فإنها لا تقبل عن أبي حنيفة لأن الملك ثبت لا بهذه الشهادة والبقاء بعد الثبوت إنما يكون باستصحاب الحال فيثبت دفعا عن المشهود عليهم بحق الشهادة فإنه كان أحد
المدعيين فأما لإيجاب حكم مبتدأ فلا وملك الوارث لم يكن وعلى هذا قالوا المفقود لا يرث أباه وإن كان الملك ذلك الملك بعينه لأن الملك غير الأول قال ونحن نسلم لهم أن دلالة الثبوت غير دلالة البقاء لأن أحدهما نص والآخر ظاهر ولكن لا نقول البقاء لعدم المزيل بل لبقاء الدليل الظاهر عليه وهذا لا يجوز أن يكون فيه خلاف انتهى المذهب الخامس أنه يجوز الترجيح به لا غير نقله الأستاذ أبو إسحاق عن الشافعي وقال إنه الذي يصح عنه لا أنه يحتج به قلت ويشهد له قول الشافعي رضي الله عنه والنساء محرمات الفروج فلا يحللن إلا بأحد أمرين نكاح أو ملك يمين والنكاح ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم قال الروياني في البحر وهذا استدلال من الشافعي باستصحاب الحال في جميع هذه المسائل وقيل إنه نوع من أنواعه وهو من أقواها قال وأجمع أصحابنا على أن الاستصحاب صالح للترجيح واختلفوا في استصلاحه للدليل فظاهر كلام الشافعي أنه قصد به الترجيح وهو الظاهر من المذهب هذا كلام الروياني وسيأتي أن هذا الاستدلال من النوع الذي هو محل وفاق وقال بعض المتأخرين من أصحابنا استقرأت الاستصحاب الذي يحكم به الأصحاب فوجدت صورا كثيرة وإنما يستصحب فيها أمر وجودي كمن تيقن الطهارة وشك في الحدث وعكسه وأما استصحاب عدم الحكم فيه فلم أعرفه وبراءة الذمة ونحوها من الأمور العدمية لا علم فيها وإنما يمنع من الحكم بخلافها حتى يقوم دليل عليه المذهب السادس أن المستصحب للحال إن لم يكن غرضه سوى نفي ما نفاه صح استصحابه كمن استدل على إبطال بيع الغائب ونكاح المحرم والشغار بأن الأصل أن لا عقد فلا يثبت إلا بدلالة وإن كان غرضه إثبات خلاف قول خصمه من وجه يمكن استصحاب الحال في نفي ما أثبته فليس له الاستدلال به كمن يقول في مسألة الحرام إنه يمين توجب الكفارة لم يستدل على إبطال قول خصومه بأن الأصل أن لا طلاق ولا ظهار ولا لعان فيتعارض بالأصل أن لا يمين ولا كفارة فيتعارض الاستصحابان ويسقطان حكاه الأستاذ أبو منصور البغدادي عن بعض أصحابنا إذا عرف هذا فلا بد من تنقيح موضع الخلاف فإن أكثر الناس يطلقه ويشتبه عليهم موضع النزاع بغيره فنقول
للاستصحاب صور
إحداها استصحاب دل العقل أو الشرع على ثبوته ودوامه كالملك عند جريان القول المقتضي له وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام ودوام الحل في المنكوحة بعد تقرير النكاح وهذا لا خلاف في وجوب العمل به إلى أن يثبت معارض له ومن صوره تكرر الحكم بتكرر السبب الثَّانِيَةُ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ الْمَعْلُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ من التَّكَالِيفِ حتى يَدُلَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ على تَغْيِيرِهِ كَنَفْيِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ قال أبو الطَّيِّبِ وَهَذَا حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ أَيْ من الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا حُكْمَ قبل الشَّرْعِ وَمِنْ هذا يَسْتَشْكِلُ الْقَوْلُ بهذا من الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هُنَاكَ حُكْمًا وقال ابن كَجٍّ في أَوَّلِ كِتَابِهِ في الْأُصُولِ إنَّهُ صَحِيحٌ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فيه لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ حُجَّةَ الْعَقْلِ دَلِيلٌ فإذا لم نَجِدْ سَمْعًا عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْمِلُنَا وَأَنَّهُ أَرَادَ بِنَا ما في الْعَقْلِ فَصِرْنَا إلَيْهِ انْتَهَى وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ على أَنَّ ما لم يَتَعَرَّضْ الشَّرْعُ له فَهُوَ بَاقٍ على النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَدُلُّ إذًا إلَّا على نَفْيِ الْأَحْكَامِ وَقَوْلنَا لِمَنْ يُوجِبُ الْوِتْرَ الْأَصْلُ عَدَمُ الْوُجُوبِ إلَّا أَنْ يَرِدَ السَّمْعُ فَأَتَمَسَّكُ بهذا الْأَصْلِ حتى يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لِلْوُجُوبِ ولم يَثْبُتْ الثَّالِثَةُ اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فإن عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ حَكَمٌ في بَعْضِ الْأَشْيَاءِ إلَى أَنْ يَرِدَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ وَهَذَا لَا خِلَافَ بين أَهْلِ السُّنَّةِ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ في الشَّرْعِيَّاتِ الرَّابِعَةُ اسْتِصْحَابُ الدَّلِيلِ مع احْتِمَالِ الْمُعَارِضِ إمَّا تَخْصِيصًا إنْ كان الدَّلِيلُ ظَاهِرًا أو نَسْخًا إنْ كان الدَّلِيلُ نَصًّا فَهَذَا أَمْرُهُ مَعْمُولٌ له بِالْإِجْمَاعِ وقد اخْتَلَفَ في تَسْمِيَةِ هذا النَّوْعِ بِالِاسْتِصْحَابِ فَأَثْبَتَهُ جُمْهُورُالْأُصُولِيِّينَ وَمَنَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ منهم إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وَإِلْكِيَا في تَعْلِيقِهِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فيه من نَاحِيَةِ اللَّفْظِ لَا من نَاحِيَةِ الِاسْتِصْحَابِ ثُمَّ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهَا مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَلَوْ سَمَّاهُ اسْتِصْحَابًا لم يُنَاقَشْ وقال أبو زَيْدٍ هذا قد يُعَدُّ من الِاسْتِصْحَابِ لِأَنَّ دَلِيلَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدِي غَيْرُ دَلِيلِ بَقَائِهِ فإن النَّصَّ مَثَلًا أَثْبَتَ أَصْلَهُ ثُمَّ بَقَاؤُهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ وهو عَدَمُ الْمُزِيلِ لِأَنَّهُ لو كان دَلِيلُ الْبَقَاءِ دَلِيلَ الثُّبُوتِ لَمَا جَازَ النَّسْخُ فإن النَّسْخَ يَرْفَعُ الْبَقَاءَ وَالدَّوَامَ قال إلْكِيَا وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ إمَّا أَنْ لَا يَقْتَضِيَ الدَّوَامَ كَالْمُقَيَّدِ بِالْمَرَّةِ أو الْمُطْلَقِ وَقُلْنَا لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَلَا يَرِدُ على هذا النَّسْخُ لِأَنَّهُ قد تَمَّ بِفِعْلِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ على التَّقْرِيرِ وَالْبَقَاءِ نَصًّا كَقَوْلِهِ افْعَلُوهُ دَائِمًا أَبَدًا وهو في الِاسْتِمْرَارِ ظَاهِرٌ فَهُمَا دَلِيلَانِ نَصٌّ في الثُّبُوتِ وَظَاهِرٌ في الِاسْتِمْرَارِ فَهَذَا هو الذي يَرِدُ عليه النَّسْخُ وأبو زَيْدٍ أَطْلَقَ وَأَصَابَ في قَوْلِهِ دَلِيلُ الثُّبُوتِ غَيْرُ دَلِيلِ الْبَقَاءِ وَأَخْطَأَ في قَوْلِهِ دَلِيلُ الْبَقَاءِ عَدَمُ الْمُزِيلِ فَهَذَا ليس من الِاسْتِصْحَابِ في شَيْءٍ انْتَهَى الْخَامِسَةُ اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ في مَحَلِّ الْخِلَافِ وهو رَاجِعٌ إلَى حُكْمِ الشَّرْعِ بِأَنْ يُتَّفَقَ على حُكْمٍ في حَالَةٍ ثُمَّ تَتَغَيَّرُ صِفَةُ الْمُجْمَعِ عليه وَيَخْتَلِفُ الْمُجْمِعُونَ فيه فَيَسْتَدِلُّ من لم يُغَيِّرْ الْحُكْمَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ مِثَالٌ إذَا اسْتَدَلَّ من يقول إنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا رَأَى الْمَاءَ في أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ على صِحَّتِهَا قبل ذلك فَاسْتَصْحَبَ إلَى أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ مُبْطِلَةٌ وَكَقَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ على جَوَازِ بَيْعِ هذه الْجَارِيَةِ قبل الِاسْتِيلَادِ فَنَحْنُ على ذلك الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ وَهَذَا النَّوْعُ هو مَحَلُّ الْخِلَافِ كما قَالَهُ في الْقَوَاطِعِ وَكَذَا فَرَضَ أَئِمَّتُنَا الْأُصُولِيُّونَ الْخِلَافَ فيها فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ منهم الْقَاضِي وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وابن الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَقِّ من الطَّوَائِفِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ إنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ بَلْ إنْ اقْتَضَى الْقِيَاسُ أو غَيْرُهُ إلْحَاقَهُ بِمَا قبل الصِّفَةِ أُلْحِقَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ الصَّحِيحُ من الْمَذْهَبِ
وَذَهَبَ أبو ثَوْرٍ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَنَقَلَ ابن السَّمْعَانِيِّ عن الْمُزَنِيّ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالصَّيْرَفِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أبي عَلِيٍّ الْقُطْنِيُّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْقَطَّانِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ كان أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ شَدِيدَ الْقَوْلِ بِهِ حتى أَنَّهُ لو اقْتَصَرَ ما كان يَخْرُجُ إلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ قال وَإِنَّمَا أَخَذَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ من أَصْحَابِنَا وَأَهْلُ ما وَرَاءَ النَّهْرِ من أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ وَغَيْرُهُمْ أَيْضًا شَدِيدُو الْقَوْلِ بِهِ انْتَهَى وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ شُيُوخُ أَصْحَابِنَا فَيُسْتَصْحَبُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ حتى يَدُلَّ الدَّلِيلُ على ارْتِفَاعِهِ وَحُكِيَ الْأَوَّلُ عن الْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَمُتَكَلِّمِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمَعْرُوفُ عن الظَّاهِرِيَّةِ إنَّمَا هو الثَّانِي قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ كان الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ يقول دَاوُد لَا يقول بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَهُنَا يقول بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ لِأَنَّهُ حَمَلَ حَالَةَ الْخِلَافِ على حَالَةِ الْإِجْمَاعِ من غَيْرِ عِلَّةٍ جَامِعَةٍ وَالْمُخْتَارُ هو الْأَوَّلُ لِأَنَّ مَحَلَّ الْوِفَاقِ غَيْرُ مَحَلِّ الْخِلَافِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ بِوَجْهٍ وَإِنَّمَا يُوجَبُ اسْتِصْحَابُ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ صِفَةُ تَغَيُّرِهِ وَلِأَنَّ الدَّلِيلَ إنْ كان هو الْإِجْمَاعُ فَهُوَ مُحَالٌ في مَحَلِّ الْخِلَافِ وَإِنْ كان غَيْرَهُ فَلَا مُسْتَنَدَ إلَى الْإِجْمَاعِ الذي يَزْعُمُ أَنَّهُ يُسْتَصْحَبُ قال أَصْحَابُنَا وَالْقَوْلُ بِاسْتِصْحَابِ الْإِجْمَاعِ في مَحَلِّ الْخِلَافِ يُؤَدِّي إلَى التَّكَافُؤِ لِأَنَّهُ ما من أَحَدٍ يَسْتَصْحِبُ حَالَ الْإِجْمَاعِ في شَيْءٍ إلَّا وَلِخَصْمِهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَهُ في مُقَابِلِهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ في مَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ أَجْمَعْنَا على بُطْلَانِ التَّيَمُّمِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَنَسْتَصْحِبُهُ بِرُؤْيَتِهِ فيها وَتَغَيُّرُ الْأَحْوَالِ لَا عِبْرَةَ بِهِ وَنَقَلَ إلْكِيَا عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ على النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ بِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ فَمَنْ ادَّعَى ما يُبِيحُ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ قال وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ فإنه يُقَالُ الْأَصْلُ التَّحْرِيمُ قبل وُجُودِ أَصْلِ النِّكَاحِ أو بَعْدَهُ إنْ قُلْت قَبْلَهُ فَمُسَلَّمٌ أو بَعْدَهُ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذلك مُعَارَضَةً لِكَلَامِهِ قُلْت قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ وَاتَّفَقَ أَنْ حَضَرَنِي أبو عَلِيٍّ الْهَرَوِيُّ يَعْنِي الزُّبَيْرِيَّ وقال أنا أُقَرِّرُ الِاسْتِصْحَابَ في مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ فيه الْمُعَارَضَةُ فَقُلْت هَاتِ فقال إذَا قال الْمُسْتَدِلُّ في إبْطَالِ الْوَقْفِ أَنَّ ما وُقِفَ قد تَقَرَّرَ بِالِاتِّفَاقِ مِلْكُ الْمَالِكِ عليه فَلَا يُزَالُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَقُلْت الْعَكْسُ فيه من وُجُوهٍ
أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ ما يَحْصُلُ من الْمَنَافِعِ بَعْدَ الْوَقْفِ قد حَصَلَ الِاتِّفَاقُ على أنها غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً فَلَا تَدْخُلُ في مِلْكِ الْوَاقِفِ إلَّا بِدَلِيلٍ الثَّانِي أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ لَا مِلْكَ لِلْوَاقِفِ على الْكِرَاءِ الذي يَأْخُذُ بَدَلًا عن الْمَنَافِعِ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا بِدَلِيلٍ الثَّالِثُ ما يَتَصَرَّفُ فيه بَعْدَ الْوَقْفِ من بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ الْأَصْلُ أَنَّهُ لم يَكُنْ ثَابِتًا قال الْأُسْتَاذُ إذَا كانت مَسَائِلُ الِاسْتِصْحَابِ هَكَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ من جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ في الْأَحْكَامِ قال وما ادَّعَوْهُ على الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال بِالِاسْتِصْحَابِ فلم يَذْكُرْهُ احْتِجَاجًا على طَرِيقِ الِابْتِدَاءِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ على سَبِيلِ التَّرْجِيحِ بَعْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ انْتَهَى وقد أَنْكَرَ ابن السَّمْعَانِيِّ الْقَوْلَ بِالِاسْتِصْحَابِ جُمْلَةً وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ من مَذْهَبِنَا أَمَّا في اسْتِصْحَابِ الْعَامِّ وَالنَّصُّ قبل الْخَاصِّ وَالنَّاسِخِ فَلَيْسَ ذلك اسْتِصْحَابًا لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَائِمٌ وهو الْعَامُّ وَالنَّصُّ وَأَمَّا اسْتِصْحَابُ دَلِيلِ الْعَقْلِ في بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَإِنَّمَا وَجَبَ اسْتِصْحَابُ بَرَاءَةِ الذِّمَمِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ في بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ قَائِمٌ في مَوْضِعِ الْخِلَافِ أَيْضًا كما في الْعَامِّ وَالنَّصِّ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ وَأَمَّا في اسْتِصْحَابِ الْإِجْمَاعِ فَالْإِجْمَاعُ الذي كان دَلِيلًا على الْحُكْمِ قد زَالَ في مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَوَجَبَ طَلَبُ دَلِيلٍ آخَرَ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ حَسَنَةٌ وقد سَبَقَهُ إلَيْهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا عَدَا اسْتِصْحَابَ الْإِجْمَاعِ لَفْظِيٌّ وَبِهِ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّا لَا نُثْبِتُ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَلَا نَحْكُمُ لِشَيْءٍ لِأَجْلِ الِاسْتِصْحَابِ لَكِنْ نَطْلُبُ من الْمُدَّعِي حُجَّةً يُقِيمُهَا فإذا لم يُقِمْ بَقِيَ الْأَمْرُ على ما كان من غَيْرِ أَنْ تَحْكُمَ بِثُبُوتِ شَيْءٍ وَالْخِلَافُ وَاقِعٌ في ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهَذَا لَا نَقُولُ بِهِ في مَوْضِعٍ ما انْتَهَى وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى تَغَايُرُ الْأُولَى قد ذَكَرَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ وَحَاصِلُهَا التَّفْصِيلُ بين الدَّوَامِ وَالِابْتِدَاءِ وَنَقُولُ ليس في الدَّوَامِ إثْبَاتٌ وَإِنَّمَا هُنَاكَ اسْتِمْرَارُ ما كان لِعَدَمِ طَرَيَان ما يَرْفَعُهُ وَهِيَ تَنْبَنِي على الْخِلَافِ الْكَلَامِيِّ في أَنَّ الْبَاقِيَ في مَحَلِّ الْبَقَاءِ هل يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ فإن قُلْنَا لَا يَحْتَاجُ وَصَحَّتْ وَإِلَّا لم يَنْتَهِضْ لِأَنَّك في
الدَّوَامِ تُرِيدُ دَلِيلًا وَأَنْتَ مُثْبِتٌ بِهِ فَكَيْفَ نَقُولُ لم نَحْكُمْ لِشَيْءٍ وَهَذَا الْخِلَافُ في أَنَّ الْبَاقِيَ هل يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ يَنْبَنِي على اخْتِلَافٍ آخَرَ في أَنَّ عِلَّةَ الْحَاجَةِ إلَى الْمُؤَثِّرِ هل هِيَ الْإِمْكَانُ أو الْحُدُوثُ أو مَجْمُوعُهُمَا أو الْإِمْكَانُ بِشَرْطِ الْحُدُوثِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْعِلَّةَ الْإِمْكَانُ وَأَنَّ الْبَاقِيَ يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ كما تَقَرَّرَ في عِلْمِ الْكَلَامِ فَعَلَى هذا لَا تَنْتَهِضُ هذه الطَّرِيقَةُ وَمِمَّنْ زَعَمَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ ابن بَرْهَانٍ فقال في كِتَابِهِ الْكَبِيرِ إذَا حُقِّقَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ لم يَبْقَ خِلَافٌ فإن قَوْلَ الْقَائِلِ الْأَصْلُ يَقْتَضِي كَذَا فَإِنَّمَا يَتَمَسَّكُ بِهِ إلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على خِلَافِهِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْأَصْلِ أَصْلَ الشَّرْعِ أو أَصْلَ الْعَقْلِ فَإِنْ أَرَادَ الْعَقْلَ فَالْخَصْمُ لَا يَعْتَرِفُ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي حُكْمًا وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَقْلِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ فَلَا يُسْتَصْحَبُ الْحَالُ فيها وَإِنْ أَرَادَ أَصْلَ الشَّرْعِ فَبَاطِلٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وقد يُقَالُ بِالْتِزَامِ الثَّانِي بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُسْتَقْرَأٍ من جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ في الْعَمَلِ بِهِ وَبَقِيَ من الْأَنْوَاعِ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا في كِتَابِ رَوْضَةِ الْحُكَّامِ أَنَّهُ إذَا كان لِلشَّيْءِ أَصْلٌ مَعْلُومٌ من الْوُجُوبِ أو الْحِلِّ أو الْحَظْرِ فإنه يُرَدُّ إلَيْهِ وَلَا يُتْرَكُ بِالشَّكِّ وَلَا يَخْرُجُ عنه إلَّا بِدَلِيلٍ فَلَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ في لَحْمٍ فَأَتَاهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِلَحْمٍ فقال الْمُسْلِمُ هو لَحْمُ مَيْتَةٍ أو ذَكَاةُ مَجُوسِيٍّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ ذلك لِأَنَّ الْحَيَوَانَ إنْ كان مُحَرَّمًا يَبْقَى التَّحْرِيمُ ما لم يُعْلَمْ زَوَالُهُ وَلَوْ اشْتَرَى صَاعًا من مَاءِ بِئْرٍ فيه قُلَّتَانِ ثُمَّ قال أَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ فَإِنْ فَأْرَةً وَقَعَتْ فيها فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمَاءِ انْتَهَى وَجَعَلَ ابن الْقَطَّانِ الْقَوْلَ بِالِاسْتِصْحَابِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لَا دَلِيلَ عليه وهو أَنَّهُ مَتَى كنا على حَالٍ مُجْمَعٍ عليها فَنَحْنُ عليها فَمَنْ ادَّعَى الِانْفِصَالَ عنها احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ قال الْقُرْطُبِيُّ الْقَوْلُ بِالِاسْتِصْحَابِ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ أَصْلٌ تَنْبَنِي عليه النُّبُوَّةُ وَالشَّرِيعَةُ فَإِنَّا إنْ لم نَقُلْ بِاسْتِمْرَارِ حَالِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ لم يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ من تِلْكَ الْأُمُورِ انْتَهَى وقد سَبَقَ أَنَّ هذا مَحَلُّ وِفَاقٍ وَأَمَّا الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ فَجَعَلَ الْخِلَافَ مَعْنَوِيًّا مَبْنِيًّا على الْخِلَافِ في حُكْمِ الْأَشْيَاءِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فَمَنْ زَعَمَ أنها مُبَاحَةٌ اسْتَصْحَبَ الْحَالَ في كل ما رَآهُ مُبَاحًا فَلَا يَحْظُرُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَمَنْ زَعَمَ أنها مُحَرَّمَةٌ لم يَسْتَصْحِبْ شيئا
السَّادِسَةُ وَتَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ قَسِيمًا لِمَا سَبَقَ اسْتِصْحَابُ الْحَاضِرِ في الْمَاضِي وهو الْمَقْلُوبُ فإن الْقِسْمَ الْأَوَّلَ ثُبُوتُ أَمْرٍ في الثَّانِي لِثُبُوتِهِ في الْأَوَّلِ لِفُقْدَانِ ما يَصْلُحُ لِلتَّعْيِينِ وَهَذَا الْقِسْمُ في ثُبُوتِهِ في الْأَوَّلِ لِثُبُوتِهِ في الثَّانِي كما إذَا وَقَعَ النَّظَرُ في أَنَّ زَيْدًا هل كان مَوْجُودًا أَمْسِ في مَكَانِ كَذَا وَوَجَدْنَاهُ مَوْجُودًا فيه الْيَوْمَ فَيُقَالُ نعم إذْ الْأَصْلُ مُوَافَقَةُ الْمَاضِي لِلْحَالِ وَهَذَا الْقِسْمُ لم يَتَعَرَّضْ له الْأُصُولِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ من الْمُتَأَخِّرِينَ فَنَقُولُ إذَا ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ في هذا الْمُدَّعِي فَنَدَّعِي أَنَّهُ كان مُسْتَعْمَلًا قبل ذلك لِأَنَّهُ لو كان الْوَضْعُ غَيْرَهُ فِيمَا سَبَقَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قد تَغَيَّرَ إلَى هذا الْوَضْعِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَغَيُّرِهِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا كَلَامٌ ظَرِيفٌ وَتَصَرُّفٌ غَرِيبٌ قد يُتَبَادَرُ إلَى إنْكَارِهِ وَيُقَالُ الْأَصْلُ اسْتِقْرَارُ الْوَاقِعِ في الزَّمَنِ الْمَاضِي إلَى هذا الزَّمَنِ أَمَّا أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ انْعِطَافُ الْوَاقِعِ في هذا الزَّمَانِ على الزَّمَانِ الْمَاضِي فَلَا وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ هذا الْوَضْعُ ثَابِتٌ فَإِنْ كان هو الذي وَقَعَ في الزَّمَانِ الْمَاضِي فَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ لم يَكُنْ فَالْوَاقِعُ في الزَّمَنِ الْمَاضِي فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ في الزَّمَنِ الْمَاضِي وَهَذَا وَإِنْ كان طَرِيقًا كما ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّهُ طَرِيقُ جَدَلٍ لَا جَلَدٍ وَالْجَدَلُ طَرِيقٌ في التَّحْقِيقِ سَالِكٌ على مَحَجٍّ مُضَيِّقٍ وَإِنَّمَا تَضْعُفُ هذه الطَّرِيقَةُ إذَا ظَهَرَ لنا تَغَيُّرُ الْوَضْعِ فَأَمَّا إذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَلَا بَأْسَ قُلْت وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْأَصْلَ في كل حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ مُنَافَاةُ هذا الْقِسْمِ وقال بَعْضُهُمْ لم يَقُلْ بِهِ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ إلَّا في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ ما إذَا اشْتَرَى شيئا وَادَّعَاهُ مُدَّعٍ وَأَخَذَهُ منه بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ فإنه يَثْبُتُ له الرُّجُوعُ على الْبَائِعِ قالوا فإن الْبَيِّنَةَ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ وَلَكِنَّهَا تُظْهِرُهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ سَابِقًا على إقَامَتِهَا وَيُقَدِّرُ له لَحْظَةً لَطِيفَةً وَمِنْ الْمُحْتَمَلِ انْتِقَالُ الْمِلْكِ من الْمُشْتَرِي إلَى الْمُدَّعِي وَلَكِنَّهُمْ اسْتَصْحَبُوا مَقْلُوبًا وهو عَدَمُ الِانْتِقَالِ فيه فِيمَا مَضَى اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ وَكَذَلِكَ قالوا إذَا وَجَدْنَا رِكَازًا ولم نَدْرِ هل هو إسْلَامِيٌّ أَمْ جَاهِلِيٌّ يَحْكُمُ بِأَنَّهُ جَاهِلِيٌّ على وَجْهٍ لِأَنَّا اسْتَدْلَلْنَا بِوُجُودِهِ في الْإِسْلَامِ على أَنَّهُ كان مَوْجُودًا قبل ذلك قُلْت وَمِثْلُهُ إذَا أَشْكَلَ حَالُ الْقَرْيَةِ التي فيها الْكَنِيسَةُ هل أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ أَمْ لَا فقال الرُّويَانِيُّ تُقَرُّ اسْتِصْحَابًا لِظَاهِرِ الْحَالِ ولم يَحْكِ الرَّافِعِيُّ غَيْرَهُ وَيُقَارِبُهَا صُوَرٌ منها
لو أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَشَكَّ هل أَحْرَمَ قبل أَشْهُرِهِ أو بَعْدَهَا كان مُحْرِمًا بِالْحَجِّ قالوا لِأَنَّهُ على يَقِينٍ منه هذا الزَّمَنُ وفي شَكٍّ مِمَّا تَقَدَّمَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ أَيْضًا فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَمِنْهَا إذَا اخْتَلَفَ الْغَاصِبُ وَالْمَالِكُ فَالصَّحِيحُ تَصْدِيقُ الْمَالِكِ فَقَدْ اسْتَصْحَبُوا مَقْلُوبًا وهو الْحُدُوثُ فِيمَا مَضَى اسْتِصْحَابًا لِلْحَاضِرِ وَيُمْكِنُ خِلَافُهُ وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ الِانْعِطَافِ في اسْتِصْحَابِ حُكْمِ الصَّوْمِ على من نَوَى في النَّفْلِ قبل الزَّوَالِ وَالثَّوَابُ على الْوُضُوءِ جَمِيعِهِ إذَا نَوَى عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ على وَجْهٍ وَتَعْلِيقُ الْعِتْقِ على قُدُومِ زَيْدٍ ثُمَّ يَبِيعُهُ فَقَدِمَ زَيْدٌ ذلك الْيَوْمَ وَنَظَائِرُهُ الْأَخْذُ بِأَقَلِّ ما قِيلَ أَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَحَكَى بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إجْمَاعَ أَهْلِ النَّظَرِ عليه وَحَقِيقَتُهُ كما قال ابن السَّمْعَانِيِّ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُخْتَلِفُونَ في مُقَدَّرٍ بِالِاجْتِهَادِ على أَقَاوِيلَ فَيُؤْخَذُ بِأَقَلِّهَا عِنْدَ إعْوَازِ الْحُكْمِ أَيْ إذَا لم يَدُلَّ على الزِّيَادَةِ دَلِيلٌ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ هو أَنْ يَرِدَ الْفِعْلُ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُبَيِّنًا لِمُجْمَلٍ وَيَحْتَاجُ إلَى تَحْدِيدِهِ فَيُصَارُ إلَى أَقَلِّ ما يُؤْخَذُ كما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ في أَقَلِّ الْجِزْيَةِ بِأَنَّهُ دِينَارٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قام أَنَّهُ لَا بُدَّ من تَوْقِيتٍ فَصَارَ إلَى أَقَلِّ ما حَكَى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ أَخَذَ من الْجِزْيَةِ قال وَهَذَا أَصْلٌ في التَّوْقِيتِ قد صَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ كَتَحْدِيدِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ بِمَرْحَلَتَيْنِ وما لَا يُنَجَّسُ من الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ بِقُلَّتَيْنِ وَأَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وقال ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ هو أَنْ يَخْتَلِفَ الصَّحَابَةُ في تَقْدِيرٍ فَيَذْهَبُ بَعْضُهُمْ إلَى مِائَةٍ مَثَلًا وَبَعْضُهُمْ إلَى خَمْسِينَ فَإِنْ كانت دَلَالَةً تُعَضِّدُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ صِيرَ إلَيْهَا وَإِنْ لم تَكُنْ دَلَالَةً فَقَدْ اخْتَلَفَ فيه أَصْحَابُنَا فَمِنْهُمْ من قال نَأْخُذُ بِأَقَلِّ ما قِيلَ من حَيْثُ كان أَقَلَّ وَيَقُولُ إنْ هذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال إنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ الثُّلُثُ وَحَكَى اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فيه وَأَنَّ بَعْضَهُمْ قال بِالنِّصْفِ وَبَعْضُهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ وَبَعْضُهُمْ بِالثُّلُثِ فَكَانَ هذا أَقَلَّهَا وَمِثْلُهُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ في الدِّيَةِ أنها أَخْمَاسٌ وَرُوِيَ أنها أَرْبَاعٌ فَكَانَتْ رِوَايَةُ الْأَخْمَاسِ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَقَلُّ ما رُوِيَ فَنَصِيرُ إلَيْهِ
وَمِنْهُمْ من احْتَجَّ على الْقَوْلِ بِأَقَلِّ ما قِيلَ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا لو سَرَقَ رَجُلٌ مَتَاعًا لِرَجُلٍ فَشَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِمَا اتَّفَقَا عليه وَمِنْهُمْ من قال هذا قَوْلٌ حَسَنٌ إذَا كان عليه دَلَالَةٌ فَإِنْ لم يَكُنْ معه دَلَالَةٌ فَلَا مَعْنَى له لِأَنَّهُ ليس لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ إلَّا وَلِلْآخَرِ أَنْ يَقُولَ بِمَا هو أَقَلُّ منه أو أَكْثَرُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلِينَ أَجْمَعُوا على هذا الْمِقْدَارِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُ فَأَخَذَ بِمَا أَجْمَعُوا عليه وَتَرَكَ ما اخْتَلَفُوا فيه يَلْزَمُهُ أَنْ يَقِفَ في الزِّيَادَةِ وَلَا يَقْطَعُ على أَنَّهُ لَا شَيْءَ فيه لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فيه دَلَالَةٌ وَأَمَّا ما قَالُوهُ في دِيَةِ الْيَهُودِيِّ فإن الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَلَكَ فيه غير هذا الطَّرِيقِ وهو أَنَّهُ قال قد دَلَّ على أَنْ لَا مُسَاوَاةَ بِقَوْلِهِ أَفَمَنْ كان مُؤْمِنًا كَمَنْ كان فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ فإذا بَطَلَتْ الْمُسَاوَاةُ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ إلَّا قَوْلَانِ فإذا بَطَلَ أَحَدُهُمَا صَحَّ الْآخَرُ وَأَمَّا جَعْلُهُ الدِّيَةَ أَخْمَاسًا فَبِدَلِيلٍ لَا لِأَنَّهُ أَقَلُّ ما قِيلَ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّهَادَةِ فَإِنَّمَا حَكَمَ فيها بِالْأَقَلِّ لِأَنَّهُ ثَبَتَ ذلك بِشَاهِدَيْنِ وَانْفِرَادُ الْآخَرِ ليس بِحُجَّةٍ وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه قال وقد مَنَعَ قَوْمٌ من أَهْلِ النَّظَرِ وَقَالُوا إنَّ أَصْلَكُمْ هذا يَنْتَقِضُ بِالْجُمُعَةِ فإن الناس اخْتَلَفُوا هل تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعِينَ أو بِاثْنَيْنِ أو بِثَلَاثَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ بِأَقَلِّ ما قِيلَ فَإِنْ قُلْتُمْ الْأَصْلُ هو الظُّهْرُ وَلَا يَنْتَقِلُ عنه إلَّا بِدَلِيلٍ قِيلَ لَكُمْ وَكَذَلِكَ الْأَصْلُ شَغْلُ ذِمَّتِهِ بِالْجِنَايَةِ فَلَا تَبْرَأُ إلَّا بِدَلِيلٍ قالوا وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ من وُلُوغِ الْكَلْبِ يَجِبُ أَنْ نَأْخُذَ بِأَقَلَّ ما قِيلَ ثُمَّ أَجَابَ ابن الْقَطَّانِ بِأَنَّ الْكَلَامَ في هذه الْمَسْأَلَةِ ليس في الْحَادِثَةِ التي قام الدَّلِيلُ فيها وَإِنَّمَا كان هُنَا في الْحَادِثَةِ إذَا وَقَعَتْ بين أُصُولِ مُجْتَهِدٍ فيها بِحَادِثَةٍ فَنَصِيرُ إلَى أَقَلِّ ما قِيلَ وَهَذَا هو مَوْضِعُ الْخِلَافِ بين أَصْحَابِنَا الْمَخْرَجُ على وَجْهَيْنِ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْجُمُعَةِ فَدَلِيلُنَا الْخَبَرُ وَلَوْ صَحَّ السُّؤَالُ عَلَيْنَا لَانْقَلَبَ لِأَبِي ثَوْرٍ على أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يُجِيزُهَا بِوَاحِدٍ وَأَمَّا وُلُوغُ الْكَلْبِ فَقَدْ صِرْنَا إلَى ما نَصَّ عليه رضي اللَّهُ عنه قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على حَادِثَةٍ قد تَقَدَّمَتْ قَبْلَنَا وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عليها وَاخْتَلَفُوا فيها وَأَمَّا الْيَوْمُ فَالْمَدَارُ على الدَّلِيلِ انْتَهَى وَأَجَابَ الْقَفَّالُ عن مَسْأَلَةِ الْجُمُعَةِ بِأَنَّهَا أَقَلُّ ما قِيلَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ما رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ جَمَعَ فِيهِمْ في زَمَنِهِ ذلك
وَقَسَّمَ ابن السَّمْعَانِيِّ الْمَسْأَلَةَ إلَى قِسْمَيْنِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الْجَوَابُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ ذلك فِيمَا أَصْلُهُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَإِنْ كان الِاخْتِلَافُ في وُجُوبِ الْحَقِّ وَسُقُوطِهِ كان سُقُوطُهُ أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ ما لم يَقُمْ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَإِنْ كان الِاخْتِلَافُ في قَدْرِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ على وُجُوبِهِ كَدِيَةِ الذِّمَّةِ إذَا وَجَبَتْ على قَاتِلِهِ فَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِأَقَلِّهِ دَلِيلًا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فيه على وَجْهَيْنِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ فِيمَا هو ثَابِتٌ في الذِّمَّةِ كَالْجُمُعَةِ الثَّابِتِ فَرْضُهَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في عَدَدِ انْعِقَادِهَا فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ دَلِيلًا لِارْتِهَانِ الذِّمَّةِ بها فَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِالشَّكِّ وَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ دَلِيلًا فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَكُونُ دَلِيلًا وَلَا يَنْتَقِلُ عنه إلَّا بِدَلِيلٍ لِأَنَّ الذِّمَّةَ تَبْرَأُ بِالْأَكْثَرِ إجْمَاعًا وَبِالْأَقَلِّ خِلَافًا فَلِذَلِكَ جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعِينَ لِأَنَّ هذا الْعَدَدَ أَكْثَرُ ما قِيلَ الثَّانِي لَا يَكُونُ دَلِيلًا لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ من الْخِلَافِ دَلِيلٌ في حُكْمٍ وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا اعْتَبَرَ الْأَرْبَعِينَ بِدَلِيلٍ آخَرَ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَلَيْسَ فيه كَبِيرُ مَعْنًى انْتَهَى وَإِنَّمَا يَتِمُّ الْأَخْذُ بِأَقَلِّ ما قِيلَ بِشُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ قال بِعَدَمِ وُجُوبِ الشَّيْءِ وَإِلَّا لم يَكُنْ الثُّلُثُ دِيَةَ الذِّمِّيِّ مَثَلًا أَقَلُّ الْوَاجِبِ بَلْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ شَيْءٌ هو الْأَقَلُّ ثَانِيهَا أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ قال بِوُجُوبِ شَيْءٍ من ذلك النَّوْعِ كما لو قِيلَ إنَّهُ يَجِبُ هَاهُنَا فَرَسٌ فإن هذا الْقَائِلَ لَا يَكُونُ مُوَافِقًا على وُجُوبِ الثُّلُثِ وَإِنْ نَقَصَ ذلك عن قِيمَةِ الْفَرَسِ وَالْقَائِلُ بِالثُّلُثِ لَا يقول بِالْفَرَسِ وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا عن ثُلُثِ الدِّيَةِ فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ شَيْءٌ هو أَقَلُّ ثَالِثُهَا أَنْ لَا يُوجَدَ دَلِيلٌ أَخَذَ غير الْأَقَلِّ وَإِلَّا كان ثُبُوتُهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا بهذا الطَّرِيقِ رَابِعُهَا أَنْ لَا يُوجَدَ دَلِيلٌ يَدُلُّ على ما هو زَائِدٌ وَإِلَّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وكان مُبْطِلًا لِحُكْمِ هذا الْأَصْلِ وَلِهَذَا لم يَقُلْ الشَّافِعِيُّ بِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِثَلَاثَةِ وَلَا بِالْغُسْلِ من وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا وَإِنْ كان أَقَلُّ ما قِيلَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ على اشْتِرَاطِ ما صَارَ إلَيْهِ وقال بَعْضُ الْفُضَلَاءِ الْأَخْذُ بِأَقَلِّ ما قِيلَ عِبَارَةٌ عن الْأَخْذِ بِالْمُحَقَّقِ وَطَرْحِ الْمَشْكُوكِ فيه فِيمَا أَصْلُهُ الْبَرَاءَةُ وَالْأَخْذُ بِمَا يَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ فِيمَا أَصْلُهُ اشْتِغَالُ
الذِّمَّةِ وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْأَخْذَ بِأَكْثَرَ في الضَّرْبِ الثَّانِي وهو ما أَصْلُهُ اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالْأَقَلِّ في الْأَوَّلِ وقد وَهَمَ بَعْضُهُمْ فَأَوْرَدَ عَدَدَ الْجُمُعَةِ سُؤَالًا ولم يَعْلَمْ أَنَّ الْأَخْذَ فيه بِالْأَكْثَرِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالْأَقَلِّ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُرَكَّبَ من أَجْزَاءٍ على قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مُرْتَبِطًا بِبَعْضٍ فَلَا يَعْتَدُّ بِهِ إلَّا مع صَاحِبِهِ كَصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَثَانِيهِمَا أَنْ لَا يَرْتَبِطُ كَمَنْ وَجَبَ عليه لِزَيْدٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا يُؤَدِّيهَا كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا وَنَظِيرُ الثَّانِي دِيَةُ الْيَهُودِيِّ فإن أَبْعَاضَ الدِّيَةِ من حَيْثُ هِيَ لَا تَعَلُّقَ لِبَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَمَنْ وَجَبَ عليه مِائَةٌ من الْإِبِلِ وَجَبَ كُلُّ وَاحِدٍ منها من غَيْرِ تَعَلُّقٍ له بِصَاحِبِهَا فإذا خَرَجَ ثُلُثُهَا بَرِئَ قَطْعًا وَبَقِيَ ما وَرَاءَهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فلم يُوجَدْ وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ الْجُمُعَةُ فإن أَبْعَاضَ عَدَدِهَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضٍ فَمَنْ صَلَّاهَا في ثَلَاثَةٍ لم يَخْرُجْ عن الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ ولم يَأْتِ بِمَا أُسْقِطَ عنه شيئا فَأَخَذْنَا بِالْأَصْلِ في الْمَوْضِعَيْنِ وَهُمَا في الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَحَاصِلُهُ إيجَابُ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا أَصْلُهُ الْوُجُوبُ دُونَ غَيْرِهِ وَالْفُرُوعُ في الْمَوْضِعَيْنِ لَا تَخْفَى وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَخْذَ بِأَقَلِّ ما قِيلَ مُرَكَّبٌ من الْإِجْمَاعِ وَمِنْ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يُتَّجَهُ من الْقَائِلِ الْمُخَالَفَةُ فيه وَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ فيه بِالْإِجْمَاعِ وَحْدَهُ كما قال الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ ابن الْحَاجِبِ قال الْقَاضِي وَنَقَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالْإِجْمَاعِ وهو خَطَأٌ عليه وَلَعَلَّ النَّاقِلَ زَلَّ في كَلَامِهِ وقال الْغَزَالِيُّ هو سُوءُ ظَنٍّ بِهِ فإن الْمُجْمَعَ عليه وُجُوبُ هذا الْقَدْرِ وَلَا مُخَالَفَةَ فيه وَالْمُخْتَلَفُ فيه سُقُوطُ الزِّيَادَةِ وَالْإِجْمَاعُ عليه نعم الْمُشْكِلُ جَعْلُهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا مع تَرْكِيبِهِ من دَلِيلَيْنِ فَكَيْفَ يُتَّجَهُ مِمَّنْ يُوَافِقُ على الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مُخَالَفَةُ الشَّافِعِيِّ فيه وَأَمَّا ابن حَزْمٍ في الْأَحْكَامِ فَأَنْكَرَ الْأَخْذَ بِأَقَلِّ ما قِيلَ وقال إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أَمْكَنَ ضَبْطُ أَقْوَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَحَكَى قَوْلًا أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَكْثَرِ ما قِيلَ لِيَخْرُجَ عن عَهْدِ التَّكْلِيفِ بِيَقِينٍ قال وَلَيْسَ الثُّلُثُ في دِيَةِ الْيَهُودِيِّ بِأَقَلِّ ما قِيلَ فَقَدْ رَوَيْنَا من طَرِيقِ يُونُسَ بن عُبَيْدٍ عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ وهو أَقَلُّ من ثُلُثِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولُوا بِهِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ما قِيلَ وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ لَا دِيَةَ لِلْكِتَابِيِّ أَصْلًا فَلَيْسَ ثُلُثُ الدِّيَةِ أَقَلَّ ما قِيلَ قال وَلَنَا فيه تَفْصِيلٌ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْوَاجِبَ الْوَسَطُ من ذلك
وَأَوْضَحُ مِثَالٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ بِأَنْ يَجْنِيَ على سِلْعَةٍ يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ في تَقْوِيمِهَا فَيُقَوِّمُهَا بَعْضُهُمْ بِمِائَةٍ وَبَعْضُهُمْ بِمِائَتَيْنِ وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَهُ جِرَاحَةً ليس فيها أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مَسْأَلَةٌ في الْقَوْلِ بِالْأَخَفِّ هذا قد يَكُونُ بين الْمَذَاهِبِ وقد يَكُونُ بين الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ أَمَارَاتُهَا وقد صَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ من حَرَجٍ وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَهَذَا يُخَالِفُ الْأَخْذَ بِالْأَقَلِّ فإن هُنَاكَ يَشْتَرِطُ الِاتِّفَاقَ على الْأَقَلِّ وَلَا يَشْتَرِطُ ذلك هَاهُنَا وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ في الْمَضَارِّ الْمَنْعُ إذْ الْأَخَفُّ مِنْهُمَا هو ذلك وَقِيلَ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالْأَشَقِّ كما قِيلَ هُنَاكَ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ مَسْأَلَةٌ النَّافِي لِلْحُكْمِ هل يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ الْمُثْبِتُ لِلْحُكْمِ يَحْتَاجُ لِلدَّلِيلِ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا النَّافِي فَهَلْ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ على دَعْوَاهُ فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهَا نعم وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ وَالصَّيْرَفِيُّ وَاخْتَارَهُ ابن الصَّبَّاغِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن طَوَائِفِ أَهْلِ الْحَقِّ وَنَقَلَهُ ابن الْقَطَّانِ عن
أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وقال الْمَاوَرْدِيُّ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ الْحُكْمِ إلَّا بِدَلِيلٍ كما لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عن الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَبِهِ قال الْجُمْهُورُ وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ إنَّهُ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ وَالْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لم يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ فَذَمَّهُمْ على نَفْيِ ما لم يَعْلَمُوهُ مُبَيَّنًا فَدَلَّ على أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عليه الدَّلِيلُ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ في جَوَابِ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا عن دَاوُد وَأَهْلِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَشْيَاءِ النَّفْيُ وَالْعَدَمُ فَمَنْ نَفَى الْحُكْمَ فَلَهُ أَنْ يَكْتَفِي بِالِاسْتِصْحَابِ لَكِنَّ ابْنَ حَزْمٍ في الْأَحْكَامِ صَحَّحَ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثُ أَنْ يَلْزَمَهُ في النَّفْيِ الْعَقْلِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وابن فُورَكٍ الرَّابِعُ قال الْغَزَالِيُّ إنَّهُ الْمُخْتَارُ أَنَّ ما ليس بِضَرُورِيٍّ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالنَّفْيُ فيه كَالْإِثْبَاتِ بِخِلَافِ الضَّرُورِيِّ وَظَنَّ بَعْضُهُمْ انْفِرَادَ الْغَزَالِيِّ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَفِي الْكَافِي لِلْخُوَارِزْمِيِّ حِكَايَةُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ قال وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ النَّافِي شَاكًّا في نَفْيِهِ أو نَافِيًا له عن مَعْرِفَةٍ فَإِنْ كان شَاكًّا فَلَا عِلْمَ مع الشَّكِّ وَإِنْ كان يَدَّعِي نَفْيَهُ عن مَعْرِفَةٍ فَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً أو اسْتِدْلَالِيَّةً فَإِنْ كانت ضَرُورِيَّةً فَلَا مُنَازِعَ في الضَّرُورِيَّاتِ وَإِنْ كانت اسْتِدْلَالِيَّةً فَلَا بُدَّ من إبْرَازِ الدَّلِيلِ انْتَهَى وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ الْخِلَافُ فِيمَا لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ وَانْتِفَاؤُهُ بِالضَّرُورَةِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ وَيُمْكِنُ إقَامَتُهُ عليه فَأَمَّا ما يُعْلَمُ حِسًّا وَاضْطِرَارًا فَلَا سَبِيلَ إلَى إقَامَةِ دَلِيلٍ على ثُبُوتِهِ وَنَفْيِهِ كَعِلْمِ الْإِنْسَانِ بِوُجُودِ نَفْسِهِ وما يَجِدُهَا عليه في أَنَّهُ ليس في لُجَّةِ بَحْرٍ وَلَا على جَنَاحِ طَائِرٍ وَنَحْوَهُ الْخَامِسُ إنَّ نَفْيَ عِلْمِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ وَإِنْ كان يَنْفِي الْحُكْمَ فَيَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ لِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ كما أَنَّ الْإِثْبَاتَ حُكْمٌ وَمَنْ نَفَى حُكْمًا أو أَثْبَتَهُ احْتَاجَ إلَى الدَّلِيلِ قال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ هو الْحَقُّ
وَالسَّادِسُ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ إنْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ عِلْمًا بِالنَّفْيِ فَلَا بُدَّ له من الدَّلِيلِ على ما يَدَّعِيهِ وَإِنْ نَفَى عِلْمَهُ فَهُوَ مُخْبِرٌ عن جَهْلِ نَفْسِهِ لَكِنَّ الْجَاهِلَ يَجِبُ أَنْ يَتَوَقَّفَ في إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَلَا يَحْكُمُ فيها بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَاخْتَارَهُ الْمُطَرِّزِيُّ في الْعُنْوَانِ وهو قَرِيبٌ من قَوْلِ أَصْحَابِنَا إنَّ الْإِنْسَانَ إنْ حَلَفَ على فِعْلِ نَفْسِهِ حَلَفَ على الْبَتِّ لِإِمْكَانِ اطِّلَاعِهِ عليه أو على فِعْلِ غَيْرِهِ حَلَفَ على نَفْيِ الْعِلْمِ وَالسَّابِعُ قَالَهُ ابن فُورَكٍ النَّافِي لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ إذَا قال لم أَجِدْ فيه دَلِيلًا وقد تَصَفَّحْت الدَّلَائِلَ وكان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ كان له دَعْوَى ذلك وَيَرْجِعُ إلَى ما تَقْتَضِيهِ الْعُقُولُ من بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ قال وَهَذَا النَّوْعُ قَرِيبٌ من اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَيَجِيءُ على قَوْلِ من يقول بِالْإِبَاحَةِ أو الْحَظْرِ أَنْ لَا دَلِيلَ عليه فَأَمَّا من قال بِالْوَقْفِ فَلَا يَصِحُّ ذلك إلَّا على طَرِيقِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ الشَّرْعِيِّ وَالثَّامِنُ أَنَّهُ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُوجِبَةٌ حَكَاهُ أبو زَيْدٍ في التَّقْوِيمِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عليه إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَكْفِيهِ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ بِأَنَّ الْأَصْلَ يُوجِبُ ظَنَّ دَوَامِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عليه أَلْبَتَّةَ وَحُصُولُ الْعِلْمِ أو الظَّنِّ بِلَا سَبَبٍ فَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ النَّفْيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ وقال الْهِنْدِيُّ في هذه خِلَافٌ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالنَّافِي من يَدَّعِي الْعِلْمَ أو الظَّنَّ بِالنَّفْيِ فَهَذَا يَجِبُ عليه الدَّلِيلُ كما في الْإِثْبَاتِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ نَفْيُهُ بِالضَّرُورَةِ وَإِنْ أُرِيدَ من يَدَّعِي عَدَمَ عِلْمِهِ أو ظَنِّهِ فَهَذَا لَا دَلِيلَ عليه لِأَنَّهُ يَدَّعِي جَهْلَهُ بِالشَّيْءِ وَالْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِالدَّلِيلِ على جَهْلِهِ كما لَا يُطَالِبُ بِهِ من يَدَّعِي أَنَّهُ لَا يَجِدُ أَلَمًا وَلَا جُوعًا وَلَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا مُنَاظَرَةٌ قال ابن الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرْت حُكْمًا بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ أبي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ فَطُولِبْت بِالدَّلِيلِ فَقُلْت لَا دَلِيلَ عَلَيَّ لِأَنِّي نَافٍ وَالنَّافِي لَا دَلِيلَ عليه فقال لي ما دَلِيلُك على أَنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عليه قُلْت هذا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِك أنا نَافٍ أَيْضًا في قَوْلِي لَا دَلِيلَ على النَّافِي فَكَيْفَ تُطَالِبُنِي بِالدَّلِيلِ فَأَجَابَ يَدُلُّ على اللُّزُومِ بِأَنْ يُقَالُ النَّافِي مُفْتٍ كما أَنَّ الْمُثْبِتَ مُفْتٍ وَالْفَتْوَى لَا تَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَاسْتَشْهَدَ بِمَسْأَلَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ لو قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على رَجُلٍ أَنَّهُ كان بِالْكَرْخِ يوم السَّبْتِ وَشَهِدَتْ أُخْرَى
أَنَّهُ لم يَكُنْ بها يوم السَّبْتِ بَلْ بِالْمَوْصِلِ وَكَذَلِكَ من قال إنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ يُطَالَبُ بِالدَّلِيلِ وَلَيْسَتْ الْوَحْدَانِيَّةُ إلَّا نَفْيَ الثَّانِي فَأَجَبْت بِأَنَّ هذا دَلِيلٌ بَاطِلٌ لِأَنَّك تَرُومُ بِهِ إثْبَاتَ مُحَالٍ وهو الدَّلِيلُ على النَّافِي وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُقْتَضِيَةَ مع تَشَعُّبِ طُرُقِهَا وَتَقَارُبِ أَطْرَافِهَا فما من سَبَبٍ يَتَعَرَّضُ لِإِبْطَالِهِ إلَّا وَيَجُوزُ فَرْضُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ وَهَذَا لَا طَرِيقَ إلَيْهِ مع أَنَّهُ يَفُوتُ بهذا مَقْصُودُ النَّظَرِ من الْعُثُورِ على الْأَدِلَّةِ وَبَدَائِعِ الْأَحْكَامِ قُلْت وما هذا إلَّا كَالْمُدَّعِي وَالْمُنْكِرِ فإن الْمُدَّعِي مُثْبِتٌ وَالْمُنْكِرُ يَنْفِي وَلَا يُطَالَبُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ على نَفْيِهِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّهَادَةِ فَلَا تَلْزَمُ لِلتَّعَارُضِ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَأَمَّا الْوَحْدَانِيَّةُ فَالتَّعَارُضُ لِإِثْبَاتِ إلَهٍ على صِفَةٍ فَإِثْبَاتُ صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فيها نَفْيُ الشَّرِكَةِ مَسْأَلَةٌ وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالِاسْتِصْحَابِ نَقَلَ الدَّبُوسِيُّ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ حُجَّةٌ في إبْقَاءِ ما ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ لَا لِمَا لم يَصِحَّ ثُبُوتُهُ قال وَلِهَذَا لم يَجُزْ الصُّلْحُ على الْإِنْكَارِ ولم يَجُزْ شَغْلُ الذِّمَّةِ بِالدَّيْنِ فلم يَصِحَّ الصُّلْحُ قال وَعِنْدَنَا هو جَائِزٌ وَيَقُولُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ليس بِحُجَّةٍ على الْمُدَّعِي كَقَوْلِ الْمُدَّعِي ليس بِحُجَّةٍ على الْمُنْكِرِ قال وقال بَعْضُهُمْ هذا الذي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ يَكُونُ حُجَّةً في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ حُجَّةً على خَصْمِهِ بِوَجْهٍ انْتَهَى وَأَنْكَرَ عليه ابن السَّمْعَانِيِّ ذلك وقال عَدَمُ الدَّلِيلِ ليس بِحُجَّةٍ في مَوْضِعٍ وَاَلَّذِي ادَّعَاهُ على الشَّافِعِيِّ من مَذْهَبِهِ لَا نَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ له وَالْمَنْقُولُ عن الْأَصْحَابِ ما قَدَّمْنَاهُ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ على الْإِنْكَارِ فَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ فَسَادِهِ في الْخِلَافِيَّاتِ وَذَكَرَ أَيْضًا مَسْأَلَةَ الشُّفْعَةِ على هذا الْأَصْلِ وَهِيَ أَنَّ من كان في مِلْكِهِ شِقْصٌ وَبَاعَ شَرِيكُهُ نَصِيبَهُ وَأَرَادَ الشَّرِيكُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ أو كان جَارًا على أُصُولِهِمْ فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّقْصَ مِلْكًا قال عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْتَفِتُ إلَى إنْكَارِهِ وَيَثْبُتُ له الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِظَاهِرِ مِلْكِهِ بيده وَعِنْدَنَا ليس له حَقُّ الشُّفْعَةِ حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الشِّقْصَ مِلْكُهُ قُلْت وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في بَابِ التَّيَمُّمِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السُّكُوتَ وَعَدَمَ النَّقْلِ دَلِيلٌ على عَدَمِ الْحُكْمِ وَلِهَذَا قال في الْمَاسِحِ
على الْخُفَّيْنِ هل يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ إنْ صَحَّ حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه قُلْت بِهِ في الْأَمْرِ بِالْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ لِأَنَّهُ لم يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ فَإِنْ صَحَّ قَطَعْت الْقَوْلَ بِهِ قال فَجَعَلَ سُكُوتَهُ عن الْإِعَادَةِ دَلِيلًا على نَفْيِ وُجُوبِهَا قُلْت بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي على نَقْلِهِ أَمْ لَا فإنه قال في تَقْدِيرِ أَنَّ خَبَرَ مَاعِزٍ حَيْثُ رُجِمَ ولم يُجْلَدْ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا قال فَإِنْ قال قَائِلٌ لَعَلَّهُ جَلَدَهُ وَرَجَمَهُ قِيلَ كانت قِصَّتُهُ من مَشَاهِيرِ الْقِصَصِ وَلَوْ جُلِدَ لَنُقِلَ فَإِنْ قِيلَ رُبَّ تَفْصِيلٍ في الْقَصَصِ لَا يَتَّفِقُ نَقْلُهُ وَدَوَاعِي النُّفُوسِ إنَّمَا تَتَوَفَّرُ على نَقْلِ كُلِّيَّاتِ الْقَصَصِ فَإِنْ صَحَّ في الحديث الْمُتَقَدِّمِ التَّصْرِيحُ بِالْجِلْدِ فَلَا يُعَارِضُهُ التَّعَلُّقُ بِعَدَمِ نَقْلٍ في حَدِيثٍ مع اتِّجَاهِ وَجْهٍ بِتَرْكِ النَّقْلِ فيه قال الشَّافِعِيُّ مُجِيبًا الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعُ وَلَوْلَا أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ رَوَى عن جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَجَمَ مَاعِزًا ولم يَجْلِدْهُ تَعَارَضَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ بِقِصَّةِ مَاعِزٍ انْتَهَى أَمَّا إذَا لم يُعْلَمْ على الْحُكْمِ سِوَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ وَعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَهَلْ يَكُونُ عَدَمُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَالًّا على عَدَمِ الْحُكْمِ يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ في ذلك بين الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ فَيُقَالُ إنْ كان ذلك الْحُكْمُ عَقْلِيًّا فإن الْعَكْسَ فيه غَيْرُ لَازِمٍ إذْ لَا يَلْزَمُ من نَفْيِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ أو عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ نَفْيُ الْحُكْمِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ دَلِيلٌ آخَرُ أو عِلَّةٌ أُخْرَى ولم يَعْلَمْ بِهِمَا وَعَدَمُ عِلْمِنَا بِالشَّيْءِ لَا يَدُلُّ على عَدَمِهِ فلم يَحْصُلْ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ بِعَدَمِ ذلك الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ ذلك الدَّلِيلِ أو تِلْكَ الْعِلَّةِ وَإِنْ كان ذلك الْحُكْمُ شَرْعِيًّا فإن الْعَكْسَ فيه لَازِمٌ لِأَنَّا مُكَلَّفُونَ في الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ وَنَحْنُ إذَا لم نَعْلَمْ على الْحُكْمِ سِوَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ أو عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ غَلَبَ على الظَّنِّ عَدَمُ الْحُكْمِ من عَدَمِ ذلك الدَّلِيلِ أو عَدَمِ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَالظَّنُّ مُتَعَبَّدٌ بِهِ في الشَّرْعِيَّاتِ بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّاتِ فإن الْمَطْلُوبَ فيها الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَظْنُونٍ بِهِ في هذا الْمَوْطِنِ
مَسْأَلَةٌ إذَا قال الْفَقِيهُ بَحَثْت وَفَحَصْت فلم أَظْفَرْ بِالدَّلِيلِ هل يُقْبَلُ منه وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الدَّلِيلِ قال الْبَيْضَاوِيُّ نعم لِأَنَّهُ يَغْلِبُ ظَنُّ عَدَمِهِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ إنْ صَدَرَ هذا عن الْمُجْتَهِدِ في بَابِ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى قُبِلَ منه أو في مَحَلِّ الْمُنَاظَرَةِ لَا يُقْبَلْ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَحَثَتْ فلم أَظْفَرْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا انْتِهَاضُهُ في حَقِّ خَصْمِهِ فَلَا لِأَنَّهُ يَدْعُو نَفْسَهُ إلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ وَقَوْلُهُ لم أَظْفَرْ بِهِ إظْهَارُ عَجْزٍ وَلَا يَحْسُنُ قَبُولُهُ فَيَجِبُ على خَصْمِهِ إظْهَارُ الدَّلِيلِ إنْ كان وَهَذَا التَّفْصِيلُ هو حَاصِلٌ ما ذَكَرَهُ إلْكِيَا على طُولٍ فيه بَعْدَ أَنْ قَيَّدَ الْجَوَازَ عَدَمُ التَّعَلُّقِ بِالدَّلِيلِ بِشَرْطِ الْإِحَاطَةِ بِمَآخِذِ الْأَدِلَّةِ إمَّا من جِهَةِ الْعِبَارَةِ أو غَيْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَى مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ فَجَعَلَ عَدَمَ الْوَحْيِ في الْأَمْرِ دَلِيلًا إذْ هو عَالِمٌ بِالْعَدَمِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ اشْتَهَرَتْ بين الْمُتَأَخِّرِينَ يَسْتَدِلُّونَ بها في مَسَائِلَ لَا تُحْصَى في طُرُقِ النَّفْيِ وهو أَنْ يَقُولَ هذا الْحُكْمُ غَيْرُ ثَابِتٍ لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ لَثَبَتَ بِدَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ لِأَنَّهُ إمَّا نَصٌّ أو إجْمَاعٌ أو قِيَاسٌ وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ لو كان عن نَصٍّ لَنُقِلَ ولم يُنْقَلْ وَلَوْ نُقِلَ لَعَرَفْنَاهُ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالْفَحْصِ التَّامِّ وَالْإِجْمَاعُ مُنْتَفٍ لِوُجُودِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَالْقِيَاسُ مُنْتَفٍ لِقِيَامِ الْفَارِقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ الذي هو قِيَاسُ عِلَّةِ الْخَصْمِ وَنَازَعَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ الْقُدْسِيُّ صَاحِبُ الرُّكْنِ الطَّاوُسِيُّ في كِتَابِهِ الْفُصُولِ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاطِّلَاعِ على جَمِيعِ النُّصُوصِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ وُجُوهِ الدَّلَالَات وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُسْتَطَاعُ لِلْبَشَرِ وَأَسْرَارُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ وَمَظَانُّهَا دَقِيقَةٌ وَعُقُولُ الناس في فَهْمِهَا مُخْتَلِفَةٌ حتى إنَّ منهم من يَتَكَلَّمُ على الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ أو الحديث الْوَاحِدِ مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةً في فَوَائِدِهَا وَدَلَالَتِهَا وَمَعَ ذلك لَا يَنْتَهِي وَلِذَلِكَ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْقُرْآنِ هو الذي لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ فَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ عِلْمَ عَدَمِ النَّصِّ الدَّالِّ على
نَفْيِ الْحُكْمِ إلَّا إذَا عَلِمَ ذلك كُلَّهُ وهو مُسْتَحِيلٌ وَلَوْ فُرِضَ عِلْمُهُ بِهِ لَغَفَلَ عنه في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كما رَوَوْا أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنْكَرَ الْمُغَالَاةَ في الْمَهْرِ حتى قالت له الْمَرْأَةُ كَيْفَ مُنِعْنَاهُ وقد أَعْطَانَا اللَّهُ ثُمَّ قَرَأْت وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا منه شيئا وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كان حَافِظًا لِلْآيَةِ عَالِمًا بها وَلَكِنْ ذَهَبَتْ عنه ذلك الْوَقْتَ فَعَلِمَ أَنَّ ذلك عَسِرٌ جِدًّا فَكَيْفَ يَصِيرُ قَوْلُهُ بَحَثْتُ فلم أَجِدْ دَلِيلًا وقد يَكُونُ عِلْمُهُ قَلِيلًا وَفَهْمُهُ نَاقِصًا وَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَلَعَلَّهُ وَجَدَ وَكَتَمَ خَوْفًا أو غَيْرَهُ وفي تَجْوِيزِ ذلك فَسَادٌ عَظِيمٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا وقال الْحَوَارِيُّ في النِّهَايَةِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَتَكَايَسُ وَيَقُولُ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا نَصَّ هَاهُنَا أَنَّهُ لو كان لَعَثَرَ عليه صَاحِبُ الْمَذْهَبِ مع مُبَالَغَتِهِ في الْبَحْثِ وَعِلْمِهِ بِمَوَارِدِ النُّصُوصِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا عَثَرَ على النَّصِّ لَا يُخَالِفُهُ وَهَذَا قَرِيبٌ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي نَفْيَ الْحُكْمِ قَطْعًا بَلْ ظَنًّا فَيَكْفِيهِ نَفْيُ الدَّلِيلِ ظَاهِرًا إنْ تَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ النَّافِي لِلْحُكْمِ شَرْعُ من قَبْلَنَا وَيَشْتَمِلُ على مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا فِيمَا كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُتَعَبِّدًا بِهِ قبل الْبَعْثَةِ وقد اخْتَلَفُوا في ذلك على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ كان مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ قَطْعًا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ كان على شَرِيعَةِ آدَمَ عليه السَّلَامُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الشَّرَائِعِ وَقِيلَ نُوحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا قِيلَ إبْرَاهِيمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ السِّيَرِ عن صَاحِبِ الْبَيَانِ وَأَقَرَّهُ وقال الْوَاحِدِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ قال ابن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ وَعُزِّيَ لِلشَّافِعِيِّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَبِهِ نَقُولُ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أبو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَقِيلَ على شَرِيعَةِ مُوسَى وَقِيلَ عِيسَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَنْبِيَاءِ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ النَّاسِخُ
الْمُتَأَخِّرُ وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِيمَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عنه لَكِنْ قال ابن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ مَيْلُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ إلَى أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى اللَّهُ عليه وسلم كان على شَرْعٍ من الشَّرَائِعِ وَلَا يُقَالُ كان من أُمَّةِ ذَاكَ النبي كما يُقَالُ كان على شَرْعِهِ انْتَهَى وَقِيلَ كان مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ كل من كان قَبْلَهُ إلَّا ما نُسِخَ وَانْدَرَسَ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُلَخَّصِ وَقِيلَ يَتَعَبَّدُ لَا مُلْتَزِمًا دِينًا وَاحِدًا من الْمَذْكُورِينَ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ وَقِيلَ كان مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ وَلَكِنَّا لَا نَدْرِي بِشَرْعِ من تَعَبَّدَ حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّهُ لم يَكُنْ قبل الْبَعْثَةِ مُتَعَبِّدًا بِشَيْءٍ منها قَطْعًا وَحَكَاهُ في الْمَنْخُولِ عن إجْمَاعِ الْمُعْتَزِلَةِ وقال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وابن الْقُشَيْرِيّ هو الذي صَارَ إلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فقالت الْمُعْتَزِلَةُ بِإِحَالَةِ ذلك عَقْلًا إذْ لو تَعَبَّدَ بِاتِّبَاعِ أَحَدٍ لَكَانَ عَصَى من مَبْعَثِهِ بَلْ كان على شَرِيعَةِ الْعَقْلِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا بَاطِلٌ إذْ ليس لِلْعَقْلِ شَرِيعَةٌ وَذَهَبَتْ عُصْبَةُ أَهْلِ الْحَقِّ إلَى أَنَّهُ لم يَقَعْ وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا قال الْقَاضِي وَهَذَا نَرْتَضِيهِ وَنَنْصُرُهُ لِأَنَّهُ لو كان على دَيْنٍ لَنُقِلَ وَلَذَكَرَهُ عليه السَّلَامُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ الْكِتْمَانُ وَعَارَضَ ذلك إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وقال لو لم يَكُنْ على دِينٍ أَصْلًا لَنُقِلَ فإن ذلك أَبْعَدُ عن الْمُعْتَادِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقَاضِي قال فَقَدْ تَعَارَضَ الْأَمْرَانِ وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ كانت الْعَادَةُ انْخَرَقَتْ في أُمُورِ الرَّسُولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ منها انْصِرَافُ هَمِّ الناس عن أَمْرِ دِينِهِ وَالْبَحْثِ عنه وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ التَّوَقُّفُ وَبِهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيِّ وَإِلْكِيَا وَالْآمِدِيُّ وَالشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى في الذَّرِيعَةِ وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ إذْ ليس فيه دَلَالَةُ عَقْلٍ وَلَا ثَبَتَ فيه نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ كُلُّ هذه أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ وَلَيْسَ فيها دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ وَالْعَقْلُ يُجَوِّزُ ذلك لَكِنْ أَيْنَ السَّمْعُ فيه ثُمَّ الْوَاقِفِيَّةُ انْقَسَمُوا فَقِيلَ نَعْلَمُ أَنَّهُ كان مُتَعَبَّدًا وَنَتَوَقَّفُ في عَيْنِ ما كان مُتَعَبِّدًا بِهِ وَمِنْهُمْ من تَوَقَّفَ في الْأَصْلِ فَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ وَأَلَّا يَكُونَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الْخِلَافُ في الْفُرُوعِ أَمَّا في الْأُصُولِ فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ كلهم وَاحِدٌ على التَّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ
الثَّانِي قال الْعِرَاقِيُّ في شَرْحِ التَّنْقِيحِ الْمُخْتَارُ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ مُتَعَبِّدٌ بِكَسْرِ الْبَاءِ على أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ أَيْ إنَّهُ عليه السَّلَامُ كان كما قِيلَ في سِيرَتِهِ يَنْظُرُ إلَى ما عليه الناس فَيَجِدُهُمْ على طَرِيقَةٍ لَا تَلِيقُ بِصَانِعِ الْعَالَمِ فَكَانَ يَخْرُجُ إلَى غَارِ حِرَاءَ يَتَعَبَّدُ حتى بَعَثَهُ اللَّهُ أَمَّا بِفَتْحِهَا فَيَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَهُ بِشَرِيعَةٍ سَابِقَةٍ وَذَلِكَ يَأْبَاهُ حِكَايَتُهُمْ الْخِلَافَ هل كان مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ مُوسَى أو عِيسَى فإن شَرَائِعَ بَنِي إسْرَائِيلَ لم تَتَعَدَّ إلَى بَنِي إسْمَاعِيلَ بَلْ كان كُلُّ نَبِيٍّ بين مُوسَى وَعِيسَى يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ فَلَا تَتَعَدَّى رِسَالَتُهُ قَوْمَهُ حتى نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ مُوسَى عليه السَّلَامُ لم يُبْعَثْ إلَى أَهْلِ مِصْرَ بَلْ لِبَنِي إسْرَائِيلَ وَلِيَأْخُذَهُمْ من الْقِبْطِ من يَدِ فِرْعَوْنَ وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاوَزَ الْبَحْرَ لم يَرْجِعْ إلَى مِصْرَ لِتَعُمَّ فيها شَرِيعَتُهُ بَلْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ إعْرَاضًا كُلِّيًّا وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى تَعَبَّدَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى اللَّهُ عليه وسلم بِشَرِيعَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ فَبَطَلَ قَوْلُنَا أَنَّهُ كان مُتَعَبِّدًا بِفَتْحِ الْبَاءِ بَلْ بِكَسْرِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ ما بَعْدَ نُبُوَّتِهِ فإن اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَهُ بِشَرْعِ من قَبْلَهُ على الْخِلَافِ بِنُصُوصٍ خَاصَّةٍ فَيَسْتَقِيمُ الْفَتْحُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ دُونَ ما قَبْلَهَا وَكَلَامُ الْآمِدِيَّ يَقْتَضِي خِلَافَ ذلك فإنه قال غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ في الْعُقُولِ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مَصْلَحَةَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ في تَكْلِيفِهِ شَرِيعَةَ من قَبْلَهُ وَهَذَا يَقْتَضِي فَتْحَ الْبَاءِ ولم نَرَ لِغَيْرِهِ تَعَرُّضًا لِذَلِكَ قُلْت قد وَقَعَ ذلك في عِبَارَةِ غَيْرِهِ كما سَبَقَ الثَّالِثُ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هذه الْمَسْأَلَةُ لَا يَظْهَرُ لها فَائِدَةٌ بَلْ تَجْرِي مَجْرَى التَّوَارِيخِ الْمَنْقُولَةِ وَوَافَقَهُ الْمَازِرِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ في إطْلَاقِ النَّسْخِ على ما تَعَبَّدَ بِهِ بِوُرُودِ شَرِيعَتِهِ الْمُؤَيِّدَةِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ في أَنَّهُ هل تَعَبَّدَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِشَرْعِ من قَبْلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمْ كان مَنْهِيًّا عنها وَالْبَحْثُ هُنَا مع الْقَائِلِينَ بِالتَّعَبُّدِ قَبْلَهُ وَأَمَّا من نَفَاهُ ثَمَّ فَقَدْ نَفَاهُ هَاهُنَا بِالْأَوْلَى على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ لم يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بَلْ كان مَنْهِيًّا عنها وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَمَاعَةٍ من أَصْحَابِنَا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ وهو آخَرُ قَوْلَيْ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ كما قَالَهُ في اللُّمَعِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ في آخَرِ عُمْرِهِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَكَذَا قال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي لِأَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ لم يُرْشِدْهُ بَلْ ذَكَرَ له الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاجْتِهَادَ وَنَصَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ قال وَأَمَّا
حَدِيثُ كان يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لم يَنْزِلْ عليه فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ على الِاخْتِيَارِ لَا الْوُجُوبِ انْتَهَى وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ قال بَعْضُهُمْ وَإِنَّمَا ذلك لِأَنَّهُمْ كَانُوا على بَقِيَّةٍ من دِينِ الرُّسُلِ فما تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لم يُحَرِّفُوهُ وَلَا بَدَّلُوهُ فَأَحَبَّ مُوَافَقَتَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ ثُمَّ قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَبِّدٍ بها وَلَا مَنْهِيٍّ عنها وقال النَّوَوِيُّ في زَوَائِدِهِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ ليس بِشَرْعٍ لنا لَكِنْ نَقَلَ ابن الرِّفْعَةِ عن النَّصِّ خِلَافَهُ وقال ابن حَزْمٍ إنَّهُ الصَّحِيحُ قال وَلَقَدْ قَبَّحَ إسْمَاعِيلُ بن إِسْحَاقَ الْقَاضِي من الْمَالِكِيَّةِ في قَوْلِهِ إنَّ رَجْمَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْيَهُودِيَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ تَعَبُّدٌ بِمَا في التَّوْرَاةِ قال وَهَذَا قَرِيبٌ من الْكُفْرِ وقال في كِتَابِهِ الْإِعْرَابِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِشَيْءٍ من شَرَائِعِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ الْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّهُ كان مُتَعَبِّدًا بِاتِّبَاعِهَا إلَّا ما نُسِخَ منها وَنَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَعَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَطَائِفَةٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ هو الذي صَارَ إلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وقال سُلَيْمٌ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَوَّلًا في التَّبْصِرَةِ وَاخْتَارَهُ ابن بَرْهَانٍ وقال إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ قال وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ صَالِحٍ النبي عليه السَّلَامُ وَقَوْمِهِ في شُرْبِ النَّاقَةِ على إجَازَةِ الْمُهَايَأَةِ وقال الْخَفَّافُ في شَرْحِ الْخِصَالِ شَرَائِعُ من قَبْلَنَا وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا إلَّا في خَصْلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ شَرْعُنَا نَاسِخًا لها أو يَكُونُ في شَرَعْنَا ذِكْرٌ لها فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُ ما كان من شَرْعِنَا وَإِنْ كان في شَرْعِهِمْ مُقَدَّمًا انْتَهَى وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وهو مَعْنَى قَوْلِهِ إذَا وَجَدْنَا حُكْمًا في شَرْعِ من قَبْلَنَا ولم يَرِدْ في شَرَعْنَا نَاسِخٌ له لَزِمَهُ التَّعَلُّقُ بِهِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وقد أَوْمَأَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في بَعْضِ كُتُبِهِ قُلْت وقال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عليه في الْأُمِّ في كِتَابِ الْإِجَارَةِ وَأَنَّهُ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ في الْحَاوِي انْتَهَى
وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ مَيْلٌ إلَى هذا وَبَنَى عليه أَصْلًا من أُصُولِهِ في كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ وَتَابَعَهُ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ وقال في النِّهَايَةِ وقد اسْتَأْنَسَ الشَّافِعِيُّ لِصِحَّةِ الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلِمَنْ جاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ فَكَانَ الْحَمْلُ في مَعْنَى الْجِعَالَةِ لِمَنْ يُنَادِي في الْعِيرِ بِالصُّوَاعِ وَلَعَلَّهُ كان مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهِ وقال أَيْضًا في كِتَابِ الضَّمَانِ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةَ سَوْطٍ فَضَرَبَهُ بِالْعُثْكُولِ إنَّهُ يَبْرَأُ لِقِصَّةِ أَيُّوبَ عليه السَّلَامُ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ على أَنَّ هذه الْآيَةَ مَعْمُولٌ بها في مِلَّتِنَا وَالسَّبَبُ فيه أَنَّ الْمِلَلَ لَا تَخْتَلِفُ في مُوجِبِ الْأَلْفَاظِ وَفِيمَا يَقَعُ بِرًّا وَحِنْثًا وَثَبَتَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَجَدَ في سُورَةِ ص وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ فَاسْتَنْبَطَ التَّشْرِيعَ من هذه الْآيَةِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَسَعِيدُ بن مَنْصُورٍ وقال أبو بَكْرٍ عبد الْوَهَّابِ إنَّهُ الذي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ وَكَذَا قال الْقُرْطُبِيُّ ذَهَبَ إلَيْهِ مُعْظَمُ أَصْحَابِنَا وقال ابن الْعَرَبِيِّ في الْقَبَسِ نَصَّ عليه مَالِكٌ في كِتَابِ الدِّيَاتِ من الْمُوَطَّإِ وَلَا خِلَافَ عِنْدَهُ فيه وإذا قُلْنَا بِأَنَّهُ شَرْعٌ لنا فَقِيلَ شَرْعُ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه وَحْدَهُ وَقِيلَ شَرْعُ مُوسَى عليه السَّلَامُ شَرْعُنَا إلَّا ما نُسِخَ بِشَرِيعَةِ عِيسَى وَقِيلَ شَرِيعَةُ عِيسَى وَحْدَهُ حَكَاهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُمَا وَنَقَلَا الْخِلَافَ بِعَيْنِهِ في الْمِلَّتَيْنِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي ما تَضَمَّنَتْهُ شَرَائِعُ من قَبْلَنَا فِيمَا لم يَقُصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا في كِتَابِهِ لَا يَلْزَمُنَا حُكْمُهُ لِانْتِقَاءِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ وَأَمَّا ما قَصَّهُ عَلَيْنَا في كِتَابِهِ لَزِمَنَا فيه شَرَائِعُ إبْرَاهِيمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ وفي لُزُومِ ما شَرَعَهُ غَيْرُهُ من الْأَنْبِيَاءِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ لِكَوْنِهِ حَقًّا ما لم يَقُمْ دَلِيلٌ على نَسْخِهِ والثاني لَا يَلْزَمُ لِكَوْنِ أَصْلِهِ مَنْسُوخًا انْتَهَى وما ذَكَرَهُ من الْوِفَاقِ على إبْرَاهِيمَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابن كَجٍّ في أَوَّلِ كِتَابِ التَّجْرِيدِ فقال اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في شَرَائِعِ من قَبْلَنَا هل تَلْزَمُنَا ولم يَخْتَلِفُوا في أَنَّ شَرِيعَةَ إبْرَاهِيمَ لَازِمَةٌ لنا وقال في كِتَابِهِ الْأُصُولِ إذَا ثَبَتَ في شَرِيعَةِ مُوسَى شَيْءٌ هل يَجُوزُ بَعْدَ بَعْثِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم التَّمَسُّكُ بِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَجِبُ عَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِشَرَائِعِهِمْ إلَى أَنْ يَمْنَعَ من ذلك شَرْعُنَا وَالثَّانِي لَا اقْتِدَاءَ إلَّا بِشَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ قال ابن الْقَطَّانِ كان أبو الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ يقول ما حَكَى اللَّهُ في كِتَابِهِ عَنْهُمْ فَهُوَ حَقٌّ
وهو وَاجِبٌ في شَرِيعَتِنَا إلَّا أَنْ يُغَيَّرَ عنه وقد كان سَائِرُ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ ما حُكِيَ لنا عَنْهُمْ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ من الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ سَوَاءٌ في أَنَّهُ على وَجْهَيْنِ انْتَهَى الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ أَنَّهُ لم يَتَعَبَّدْ فيها بِأَمْرِ وَلَا نَهْيٍ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ الْوَقْفُ حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَحَكَى ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن أبي زَيْدٍ أَنَّ ما أَخْبَرَ اللَّهُ عن الْأَنْبَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَقِسْمَةِ الْمُهَايَأَةِ في قَوْله تَعَالَى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ وَقَوْلُهُ وَلِمَنْ جاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ وَقَوْلُهُ وَكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ قال فَهَذَا يَكُونُ شَرْعُنَا لِأَنَّهُ مَصُونٌ عن التَّحْرِيفِ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ جَعْلُهُ مَذْهَبًا بِالتَّفْصِيلِ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ شَرْعٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ احْتَمَلَ التَّبْدِيلَ وهو لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلُ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ عَمَّا في الْقُرْآنِ خَاصَّةً كما هو ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمَاوَرْدِيِّ السَّابِقَةِ فَيَجِيءُ حِينَئِذٍ التَّفْصِيلُ إلَّا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ وَلِهَذَا قال الْقُرْطُبِيُّ فِيمَا إذَا بَلَغْنَا شَرْعُ من تَقَدَّمَنَا على لِسَانِ الرَّسُولِ أو لِسَانِ من أَسْلَمَ كَعَبْدِ اللَّهِ بن سَلَامٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ ولم يَكُنْ ذلك مَنْسُوخًا وَلَا مَخْصُوصًا بِأَحَدٍ انْتَهَى قُلْت وَيَلْحَقُ بِهِمْ النَّجَاشِيُّ وقد رَوَى ابن حِبَّانَ في صَحِيحِهِ عن عَامِرِ بن شَهْرٍ قال كَلِمَتَانِ سَمِعَتْهُمَا ما أُحِبُّ أَنَّ لي بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الدُّنْيَا وما فيها إحْدَاهُمَا من النَّجَاشِيِّ وَالْأُخْرَى من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأَمَّا التي سَمِعْتُهَا من النَّجَاشِيِّ فَإِنَّا كنا عِنْدَهُ إذْ جَاءَهُ ابْنٌ له من الْكِتَابِ يَعْرِضُ لَوْحَهُ قال وَكُنْت أَفْهَمُ بَعْضَ كَلَامِهِمْ فَمَرَّ بِأَيَّةٍ فَضَحِكْت فقال ما الذي أَضْحَكَك وَاَلَّذِي نَفْسِي بيده لَأُنْزِلَتْ من عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قال إنَّ اللَّعْنَةَ تَكُونُ في الْأَرْضِ إذَا كانت إمَارَةُ الصَّبِيَّانِ وَاَلَّذِي سَمِعْتُهُ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول اسْمَعُوا من قُرَيْشٍ وَدَعُوا فِعْلَهُمْ قُلْت وقد فَرَّقَهُ أبو دَاوُد فَرَوَى أَوَّلَهُ في كِتَابِ الْجِرَاحِ وَبَاقِيَهُ في كِتَابِ السُّنَّةِ وقال فيه ابن عبد الْبَرِّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَى عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ عن عبد الرحمن بن يَزِيدَ