كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي
عن عبد الرحمن رَجُلٌ من أَهْلِ صَنْعَاءَ قال أَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ ذَاتَ يَوْمٍ وَرَاءَ أَصْحَابِهِ فَدَخَلُوا عليه وقد جَلَسَ على التُّرَابِ وَلَبِسَ الْخُلْقَانَ فَبَشَّرَهُمْ بِنُصْرَةٍ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِبَدْرٍ فَسَأَلُوهُ عن جُلُوسِهِ على هذه الْحَالَةِ فقال إنَّا نَجِدُ في كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الذي أَنْزَلَهُ على عِيسَى صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ حَقًّا على عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يُحْدِثُوا لِلَّهِ تَوَاضُعًا عِنْدَ كل ما أَحْدَثَ لهم من نِعْمَةٍ فلما أَحْدَثَ اللَّهُ نَصْرَ نَبِيِّهِ أَحْدَثْت لِلَّهِ هذا التَّوَاضُعَ وَرَوَى الْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ عن عِكْرِمَةَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال مَكْتُوبٌ في التَّوْرَاةِ من سَرَّهُ أَنْ تَطُولَ حَيَاتُهُ وَيَزْدَادُ في رِزْقِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ وقال حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ولم يُخْرِجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ وَالْقَوْلُ بِجَرَيَانِ هذا في أَخْبَارِ من لم يَطَّلِعْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عليه بَعِيدٌ وقال إلْكِيَا ما حَاصِلُهُ الْمُرَادُ بِشَرْعِ ما قَبْلَنَا ما حَكَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُمْ أَمَّا الْمَوْجُودُ بِأَيْدِيهِمْ فَمَمْنُوعٌ اتِّبَاعُهُ بِلَا خِلَافٍ قال وَعِلَّةُ الْمَنْعِ إمَّا لِتُهْمَةِ التَّحْرِيفِ وَإِمَّا لِتَحَقُّقِ النَّسْخِ قال وَوَقَعَ الْإِجْمَاعُ على أَحَدِ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ من شَرْعِهِمْ فَإِنْ قُلْنَا التُّهْمَةُ التَّحْرِيفُ فَلَا يُتَّجَهُ وَإِنْ قُلْنَا لِتَحَقُّقِ النَّسْخِ اطَّرَدَ ذلك في الْمَحْكِيِّ وَغَيْرِهِ قُلْت وَلِهَذَا فَصَّلَ أبو زَيْدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ ما سَبَقَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قال الْمُقْتَرِحُ هذا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ على أَنَّ كُلَّ شَرِيعَةٍ لَمَّا وَرَدَتْ كانت خَاصَّةً أو كانت عَامَّةً فَاَلَّذِي فَصَّلَ يُقَدِّرُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً وَهَلْ انْدَرَسَتْ أَمْ لَا وَاَلَّذِي يَدَّعِي أنها شَرْعٌ لنا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ أنها حَيْثُ وَرَدَتْ دَامَتْ ولم تَنْدَرِسْ وقال ابن بَرْهَانٍ هو مَبْنِيٌّ على أَنَّ نَفْسَ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ نَاسِخَةً وَمُغَيِّرَةً وَعِنْدَهُمْ تَصْلُحُ لِذَلِكَ الثَّانِي قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَظْهَرُ في حَادِثَةٍ ليس فيها نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَعْلُومٌ في شَرْعٍ قبل هذا الشَّرْعِ هل يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ أَمْ لَا وَمِنْ فُرُوعِهِ ما إذَا تَعَذَّرَ الِاطِّلَاعُ على حُكْمِ ما يَحِلُّ أَكْلُهُ وَيَحْرُمُ وَثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِشَرْعٍ سَابِقٍ بِنَصٍّ أو شَهَادَةٍ فَقَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّا نَسْتَصْحِبُهُ
حتى يَظْهَرَ نَاسِخٌ وَنَاقِلٌ وأصحهما لَا بَلْ يُعْمَلُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ من الْحِلِّ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَوْ اخْتَلَفَ فيه فَفِي الْحَاوِي لِلْمَاوَرْدِيِّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهُ في أَقْرَبِ الشَّرَائِعِ بِالزَّمَنِ لِلْإِسْلَامِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فَوَجْهُهَا تَعَارُضُ الْأَشْبَاهِ الثَّالِثُ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ ليس تَحْقِيقُ الْخِلَافِ أَنْ يَقُولَ الْمُخَالِفُ إنَّهُ قد أُمِرَ بِمِثْلِ شَرْعِ من تَقَدَّمَ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُنْكِرُ هذا فَإِنْ كان هذا قَوْلَ الْمُخَالِفِينَ فإنه وَرَدَ عليه أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ مُبْتَدَأٌ مُوَافِقٌ لِشَرْعِ من قَبْلَهُ فَقَدْ وَافَقُوا على الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في أَنَّهُ هل يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْمَبْعَثِ الْعَمَلُ بِشَرِيعَةِ من قَبْلَهُ على وَجْهِ الِاتِّبَاعِ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ وَفَرْضِ لُزُومِ دَعْوَتِهِ قال الْقَاضِي فَهَذَا هو الْبَاطِلُ الذي نُنْكِرُهُ الرَّابِعُ إذَا قُلْنَا بِاسْتِصْحَابِ شَرْعِ من قَبْلَنَا فَلَهُ ثَلَاثُ شُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ يَصِحَّ النَّقْلُ بِطَرِيقَةِ أَنَّهُ شَرْعُهُمْ وَذَلِكَ بِأَرْبَعِ طُرُقٍ إمَّا بِالْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً أو تَصْحِيحُ السُّنَّةِ كما اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْغَارِ على صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَشِرَائِهِ أو ثَبَتَ نَقْلٌ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ الذي لَا يُمْكِنُ الْغَلَطُ فيه وَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْإِيمَانُ على ما سَبَقَ في بَابِ الْخَبَرِ هذا هو الذي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ لَكِنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ وَلِهَذَا قال الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ لَا يُعْتَمَدُ قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَّا بِأَنْ يَشْهَدَ بِهِ اثْنَانِ أَسْلَمَا منهم مِمَّنْ يَعْرِفُ الْمُبْدَلَ الشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ لَا تَخْتَلِفَ في تَحْرِيمِ ذلك وَتَحْلِيلِهِ شَرِيعَتَانِ فَإِنْ اخْتَلَفَتَا كَأَنْ كان ذلك حَرَامًا في شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ وَحَلَالًا في شَرِيعَةِ غَيْرِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْمُتَأَخِّرِ وَيُحْتَمَلُ التَّخْيِيرُ وَإِنْ لم نَقُلْ بِأَنَّ الثَّانِيَ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ فَإِنْ ثَبَتَ كَوْنُ الثَّانِي نَاسِخًا وَجُهِلَ كَوْنُهُ حَرَامًا في الدِّينِ السَّابِقِ أو اللَّاحِقِ تُوَقِّفَ وَيُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ إلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ ثَابِتًا قبل تَحْرِيفِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ فَإِنْ اسْتَحَلُّوا وَحَرَّمُوا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّحْرِيفِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ أَلْبَتَّةَ الْخَامِسُ هذا كُلُّهُ في فُرُوعِ الدِّينِ فَأَمَّا الْعَقَائِدُ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ قال تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ احْتَجُّوا على أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عن إبْرَاهِيمَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ ولم يَرُدَّ الْمُعْتَزِلَةُ هذا بِأَنَّهُ شَرْعٌ سَابِقٌ وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِالْإِيمَانِ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ وَالْكُفْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا وَنَحْوِهِمَا وقال
اتَّفَقَتْ الشَّرَائِعُ على تَحْرِيمِهَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هل حُرِّمَتْ في شَرْعِنَا بِخِطَابٍ مُسْتَأْنَفٍ أَمْ بِالْخِطَابِ الذي أُنْزِلَ على غَيْرِهِ وَتُعُبِّدَ بِاسْتِدَامَتِهِ ولم يَنْزِلْ عليه الْخِطَابُ إلَّا بِمَا يُخَالِفُ شَرْعَهُمْ فقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَالْغَزَالِيُّ كان ذلك بِخِطَابٍ مُسْتَأْنَفٌ وَطَرَدُوا قَوْلَهُمْ لم يَتَعَبَّدْ بِشَرِيعَةِ من قَبْلَهُ السَّادِسُ ذَكَرَ الْقَاضِي أبو عبد اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ من أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ في كِتَابِهِ مَسَائِلُ الْخِلَافِ في الْأُصُولِ خِلَافًا في أَنَّهُ هل يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيًّا تَكُونُ شَرِيعَتُهُ مِثْلَ الذي قَبْلَهُ أَمْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ له شَرِيعَةٌ مُفْرَدَةٌ قال أَمَّا من جِهَةِ الْعَقْلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَمِنْ الناس من قال لَا بُدَّ أَنْ يَخْتَصَّ بِشَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَةِ من قَبْلَهُ انْتَهَى وَلَعَلَّ هذا الْخِلَافَ هو أَصْلُ الْخِلَافِ في مَسْأَلَتِنَا ثُمَّ رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ في كِتَابِ الذَّرِيعَةِ لِلشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى قال وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ نَبِيًّا بِمِثْلِ شَرِيعَةِ النبي الْأَوَّلِ بِشَرْطَيْنِ أَنْ تَنْدَرِسَ الْأُولَى فَيُجَدِّدُهَا الثَّانِي أو بِأَنْ يَزِيدَ فيها ما لم يَكُنْ فيها فَأَمَّا على غَيْرِ هذا الْوَجْهِ هو عَبَثٌ قال وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ وَلَا عَبَثَ إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِالثَّانِي من لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَوَّلِ لِتَكُونَ النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ على سَبِيلِ تَرَادُفِ الْأَدِلَّةِ فَائِدَةٌ قال أبو الْفَرَجِ بن الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَدْءُ الشَّرَائِعِ كان في التَّخْفِيفِ وَلَا يُعْرَفُ في شَرْعِ نُوحٍ وَصَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ ثَقِيلٌ ثُمَّ جاء مُوسَى بِالتَّشْدِيدِ وَالْأَثْقَالِ وَجَاءَ عِيسَى بِنَحْوٍ من ذلك وَكَانَتْ شَرِيعَةٌ نَبِيِّنَا صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنْسَخُ تَشْدِيدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا تُطْلِقُ بِتَسْهِيلِ من كان قَبْلَهُمْ فَهِيَ على غَايَةِ الِاعْتِدَالِ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِنَبِيٍّ أو مُجْتَهِدٍ اُحْكُمْ بِمَا شِئْت من غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَهُوَ صَوَابٌ أَيْ فَهُوَ حُكْمِي في عِبَادِي إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا الصَّوَابَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ إذْ ذَاكَ من جُمْلَةِ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُسَمَّى التَّفْوِيضُ قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ منهم إلْكِيَا وابن الصَّبَّاغِ وقال إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ قال الْقَاضِي وقال أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ بِنَاءً على رَأْيِهِمْ أَنَّ الشَّرْعَ مَبْنِيٌّ على الْمَصَالِحِ وقد لَا يَكُونُ في اخْتِيَارِهِ مَصْلَحَةٌ وقال الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى في الذَّرِيعَةِ
الصَّحِيحُ السَّمَاعُ وَلَا بُدَّ في كل حُكْمٍ من دَلِيلٍ لَا يَرْجِعُ إلَى اخْتِيَارِ الْفَاعِلِ وقال خَالَفَ مُوسَى بن عِمْرَانَ في ذلك وقال لَا فَرْقَ بين أَنْ يَنُصَّ له على الْحُكْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا ما هو الْمَصْلَحَةُ فَيُفَوِّضُ ذلك إلَى اخْتِيَارِهِ انْتَهَى وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذلك إلَّا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالثَّالِثُ وَبِهِ قال أبو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجُوزُ ذلك لِلنَّبِيِّ دُونَ الْعَالِمِ ذَكَرَ ذلك في قَوْله تَعَالَى كُلُّ الطَّعَامِ كان حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا ما حَرَّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ قال أبو الْحُسَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ عن هذا الْقَوْلِ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ قال وقد ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ ما يَدُلُّ عليه وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ ما يَدُلُّ على أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الصَّوَابَ يَتَّفِقُ من نَبِيِّهِ جَعَلَ له ذلك ولم يَقْطَعْ عليه بَلْ جَوَّزَهُ وَجَوَّزَ خِلَافَهُ وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ ما يَدُلُّ على الْجَوَازِ فإنه قال فيها الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِالْوَحْيِ أو بِأَنْ يَنْفُثَ في رَوْعِهِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى خَاطِرٍ يُلْقَى إلَيْهِ أو بِاجْتِهَادٍ أو بِأَنْ يُوَفَّقَ في الْحُكْمِ قال وهو مَذْهَبُ مُوسَى بن عِمْرَانَ بِعَيْنِهِ وقد رَدُّوا عليه بِأَنَّهُ لَا بُدَّ في الشَّرْعِيَّاتِ من دَلَالَةٍ مُمَيِّزَةٍ لِلصَّلَاحِ من الْفَسَادِ وَاخْتِيَارُ الْمُكَلَّفِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ حُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال في كِتَابِ الرِّسَالَةِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الصَّوَابَ يَتَّفِقُ من نَبِيِّهِ جَعَلَ ذلك إلَيْهِ ولم يَقْطَعْ بِذَلِكَ قال وَهَذَا لَا يَجِيءُ على قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فإن مَذْهَبَهُ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ نُصِبَتْ عليه أَمَارَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الصَّوَابَ يَتَّفِقُ معه وَحِينَئِذٍ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ مُطْلَقًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ من الْمُجْتَهِدِينَ انْتَهَى وَزَعَمَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ أَنَّ تَرَدُّدَ الشَّافِعِيِّ في الْجَوَازِ وقال غَيْرُهُمَا بَلْ في الْوُقُوعِ مع الْجَزْمِ بِالْجَوَازِ وهو الْأَصَحُّ نَقْلًا وهو الْمُخْتَارُ إنْ لم يَقَعْ نَقْلًا وَصَرَّحَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ بِالْجَوَازِ وَتَرَدَّدَ في الْوُقُوعِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ مَحَلُّ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هو في الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ من غَيْرِ نَظَرٍ في مُسْتَنَدَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِلَّا كان اجْتِهَادًا جَائِزًا لِلْعُلَمَاءِ من غَيْرِ خِلَافٍ وَالنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم على قَوْلٍ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْآتِيَةُ في الِاجْتِهَادِ
وقال ابن السَّمْعَانِيِّ هذه الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ أَوْرَدَهَا مُتَكَلِّمُو الْأُصُولِيِّينَ فَلَيْسَتْ بِمَعْرُوفَةٍ بين الْفُقَهَاءِ وَلَيْسَ فيها كَبِيرُ فَائِدَةٍ لِأَنَّ هذا في غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لم يُوجَدْ وَلَا يُتَوَهَّمُ وُجُودُهُ في الْمُسْتَقْبَلِ فَأَمَّا في حَقِّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَقَدْ وُجِدَ وَسَبَقَ في كَلَامٍ آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْكَلَامِ في أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ لها من عِلَّةٍ إطْبَاقُ الناس من غَيْرِ نَكِيرٍ هذا الدَّلِيلُ يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ في مَوَاضِعَ كَاسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا على طَهَارَةِ الْإِنْفَحَةِ بِإِطْبَاقِ الناس على أَكْلِ الْجُبْنِ وَاسْتِدْلَالُهُمْ على جَوَازِ قَرْضِ الْخُبْزِ وَاسْتِدْلَالُ الْحَنَفِيَّةِ على جَوَازِ الِاسْتِصْنَاعِ لِمُشَاهَدَةِ السَّلَفِ له من غَيْرِ إنْكَارٍ مع ظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ وَدُخُولُ الْحَمَّامِ من غَيْرِ شَرْطِ أُجْرَةٍ وَلَا تَقْدِيرِ انْتِفَاعٍ وَغَيْرِ ذلك وهو يَقْرُبُ من الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ من غَيْرِ تَقْرِيرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْفِعْلِ من غَيْرِ نَكِيرٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالتَّجْوِيزِ لِأَنَّ النَّهْيَ عن الْمُنْكَرِ لَازِمٌ لَلْأُمَّةِ بَلْ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْكَلَامِ على وُجُوبِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وقد يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ على وُجُوبِ الشَّيْءِ بِإِطْبَاقِ الناس على الْعَمَلِ وما كان مَقْطُوعًا بِهِ فَالْعَادَةُ لَا تَقْتَضِي تَرَدُّدَ الناس فيه انْتَهَى وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ هذا لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا اتَّفَقَ في عَصْرِهِ عليه السَّلَامُ أو في عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَمَّا بَعْدَ ذلك فَتَزَايُدُ الْحَالِ إلَى هذا الزَّمَانِ الذي كَمْ فيه من بِدْعَةٍ وقد تَوَاطَئُوا على عَدَمِ الْإِنْكَارِ لها فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْإِطْبَاقَ على الْفِعْلِ مع عَدَمِ النَّكِيرِ دَلِيلًا على الْإِبَاحَةِ على الْإِطْلَاقِ وقد كان عبد اللَّهِ بن الْحَسَنِ يُكْثِرُ الْجُلُوسَ على رَبِيعَةَ فَتَذَاكَرَا يَوْمًا فقال رَجُلٌ ليس الْعَمَلُ على هذا فقال عبد اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ كَثُرَ الْجُهَّالِ حتى يَكُونُوا هُمْ الْحُطَامُ فَهُمْ الْحُجَّةُ على الناس قال رَبِيعَةُ أَشْهَدُ أَنَّ هذا الْكَلَامَ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا الْأَنْبِيَاءُ عليهم السَّلَامُ وقال الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامُ الْمُعْتَادَةُ بين الناس ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ما يَعْتَادُونَهُ في أَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ وَنَحْوِهِ فَلَا كَلَامَ فيه لِأَنَّ هذا تَابِعٌ لِلْمَقَاصِدِ لَا حَجْرَ فيه وَالثَّانِي ما اعْتَادُوهُ في دِيَانَاتِهِمْ وَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَادَةً لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ حُجَّةً على غَيْرِهِمْ إلَّا بِدَلِيلٍ كَقَوْمٍ أَلِفُوا مَذْهَبَ مَالِكٍ في بَلْدَةٍ وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ عَادَةً لِجَمِيعِ الناس في جَمِيعِ الْأَمْصَارِ مُسْتَفِيضًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيضُ بَيْنَهُمْ فِعْلُ شَيْءٍ من الْأَشْيَاءِ إلَّا وهو مُبَاحٌ أو مُوجَبٌ على حَسَبِ ما يُلْزِمُونَهُ أَنْفُسَهُمْ فَإِنْ كان ذلك مَوْجُودًا في الْأَغْلَبِ فَلَيْسَ حُجَّةً قال وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَحْكَامَ وَقَعَتْ على الْعَادَاتِ فَغَلَطٌ بَلْ هِيَ مُبْتَدَأَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ دَلَالَةُ السِّيَاقِ أَنْكَرَهَا بَعْضُهُمْ وَمَنْ جَهِلَ شيئا أَنْكَرَهُ وقال بَعْضُهُمْ إنَّهَا مُتَّفَقٌ عليها في مَجَارِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وقد احْتَجَّ بها أَحْمَدُ على الشَّافِعِيِّ في أَنَّ الْوَاهِبَ ليس له الرُّجُوعُ من حديث الْعَائِدُ في هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ حَيْثُ قال الشَّافِعِيُّ هذا يَدُلُّ على جَوَازِ الرُّجُوعِ إذْ قَيْءُ الْكَلْبِ ليس مُحَرَّمًا عليه فقال أَحْمَدُ أَلَا تَرَاهُ يقول فيه ليس لنا مَثَلُ السُّوءِ الْعَائِدُ في هِبَتِهِ الْحَدِيثُ وهَذَا مَثَلُ سَوْءٍ فَلَا يَكُونُ لنا وَاحْتَجَّ بها في أَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهُ اسْتِيعَابُهُمْ وَاجِبٌ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ على الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ من يَلْمِزُك في الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا منها رَضُوا وَإِنْ لم يُعْطَوْا منها إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ فإن اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا رَأَى بَعْضَ من لَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ يُحَاوِلُ أَنْ يَأْخُذَ منها وَيَسْخَطُ إذَا لم يُعْطَ يُقْطَعُ طَمَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لها غَيْرُهُ وَهُمْ الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في كِتَابِ الْإِمَامِ السِّيَاقُ يُرْشِدُ إلَى تَبْيِينِ الْمُجْمَلَاتِ وَتَرْجِيحِ الْمُحْتَمَلَاتِ وَتَقْرِيرِ الْوَاضِحَاتِ وَكُلُّ ذلك بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَكُلُّ صِفَةٍ وَقَعَتْ في سِيَاقِ الْمَدْحِ كانت مَدْحًا وَإِنْ كانت ذَمًّا بِالْوَضْعِ وَكُلُّ صِفَةٍ وَقَعَتْ في سِيَاقِ الذَّمِّ كانت ذَمًّا وَإِنْ كانت مَدْحًا بِالْوَضْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ذُقْ إنَّك أنت الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ
قَوْلُ الصَّحَابِيِّ اتَّفَقُوا على أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ في مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ ليس بِحُجَّةٍ على صَحَابِيٍّ آخَرَ مُجْتَهِدٍ إمَامًا أو حَاكِمًا أو مُفْتِيًا نَقَلَهُ الْقَاضِي وَتَبِعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ منهم الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا فَإِنْ قِيلَ يَقْدَحُ فيه قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه في بَعْضِ أَقْوَالِهِ إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فَالتَّمَسُّكُ بِقَوْلِ الْخُلَفَاءِ أَوْلَى قال الْإِمَامُ وَهَذَا كَالدَّلِيلِ على أَنَّهُ لم يَسْقُطْ الِاحْتِجَاجُ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ من أَجْلِ الِاخْتِلَافِ قُلْنَا مُرَادُهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْنَا لَا على من عَاصَرَهُ من الصَّحَابَةِ نعم هُنَا مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ والثانية بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِهِ وَالْقَاضِي إنَّمَا حَكَى الِاتِّفَاقَ في الْأُولَى وَحَكَى الْخِلَافَ في الثَّانِيَةِ فقال وقد اتَّفَقَ على أَنَّهُ لَا يَجِبُ على الصَّحَابِيِّ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ من الصَّحَابَةِ فَبِذَلِكَ لَا يَجِبُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ من الْعُلَمَاءِ لهم لِتَسَاوِي أَحْوَالِهِمْ قال وقد أَجَازَ بَعْضُهُمْ تَقْلِيدَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بَعْضًا وَاحْتَجُّوا بِإِجَابَةِ عُثْمَانَ إلَى تَقْلِيدِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ في الْأَحْكَامِ وَإِنْ لم نَعْتَبِرْ وُجُوبَ ذلك انْتَهَى وقد يَدَّعِي أنها مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ ويَلْزَمُ من الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ الْوُجُوبُ وَكَلَامُ الشَّيْخِ في اللُّمَعِ يَقْتَضِي ذلك فإنه قال إذَا أَجْمَعُوا بين الصَّحَابَةِ على قَوْلَيْنِ بَنَى على الْقَوْلَيْنِ في أَنَّهُ حُجَّةٌ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْنَا ليس بِحُجَّةٍ لم يَكُنْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً على بَعْضٍ ولم يَجُزْ تَقْلِيدُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يَرْجِعُ إلَى الدَّلِيلِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ حُجَّةٌ فَهَاهُنَا دَلِيلَانِ تَعَارَضَا فَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ من الْجَانِبَيْنِ أو يَكُونُ فيه إمَامٌ انْتَهَى ثُمَّ هذا الِاتِّفَاقُ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَنِهِمْ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى من بَعْدِهِمْ إذَا اخْتَلَفُوا فَقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ حُجِّيَّةَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ تَزُولُ إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ من الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ ليس اتِّبَاعُ قَوْلِ أَحَدِهِمَا أَوْلَى من الْآخَرِ وَتَعَلَّقُوا بِمَا تَقَدَّمَ من نَقْلِ الْإِجْمَاعِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ ذلك إنَّمَا هو بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ من الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ في أَنَّهُ هل هو حُجَّةٌ على التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدِهِمْ من الْمُجْتَهِدِينَ وَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا كَغَيْرِهِ من الْمُجْتَهِدِينَ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ من أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ ويُومِئُ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَاخْتَارَهُ أبو الْخَطَّابِ من أَصْحَابِهِ وَزَعَمَ عبد الْوَهَّابِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ الذي يَقْتَضِيهِ
مَذْهَبُ مَالِكٍ لِأَنَّهُ نَصَّ على وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ وَاتِّبَاعِ ما يُؤَدِّي إلَيْهِ صَحِيحُ النَّظَرِ فقال وَلَيْسَ في اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ سَعَةٌ إنَّمَا هو خَطَأٌ أو صَوَابٌ الثَّانِي أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ على الْقِيَاسِ وهو قَوْلُهُ في الْقَدِيمِ وَنُقِلَ عن مَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ قال صَاحِبُ التَّقْوِيمِ قال أبو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَاجِبٌ يُتْرَكُ بِقَوْلِهِ الْقِيَاسُ وَعَلَيْهِ أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا وَذَكَرَ محمد بن الْحَسَنِ إنْ شَرَى ما بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِأَثَرِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَالْقِيَاسِ وقال وَلَيْسَ عن أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مَذْهَبٌ ثَابِتٌ وَالْمَرْوِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ إذَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ سَلَّمْنَا لهم وإذا جاء التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ لِأَنَّهُ كان منهم فَلَا يَثْبُتُ لهم بِدُونِ إجْمَاعٍ انْتَهَى وَمِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ لَمَّا ذَكَرَ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم وَهُمْ فَوْقَنَا في كل عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اُسْتُدْرِكَ فيه عِلْمٌ أو اُسْتُنْبِطَ وَآرَاؤُهُمْ لنا أَجْمَلُ وَأَوْلَى بِنَا من آرَائِنَا عِنْدَنَا لِأَنْفُسِنَا وَمَنْ أَدْرَكْنَا مِمَّنْ يَرْضَى أو حَكَى لنا عنه بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لم يُعْلَمْ لِلرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فيه سُنَّةٌ إلَى قَوْلِهِمْ إنْ أَجْمَعُوا وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ إنْ تَفَرَّقُوا فَهَكَذَا نَقُولُ إذَا اجْتَمَعُوا أَخَذْنَا بِاجْتِمَاعِهِمْ وَإِنْ قال وَاحِدُهُمْ ولم يُخَالِفُهُ غَيْرُهُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا أَخَذْنَا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ ولم نَخْرُجُ عن أَقَاوِيلِهِمْ كُلِّهِمْ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ منه فَإِنْ لم يَكُنْ على قَوْلِ أَحَدِهِمْ دَلَالَةٌ من كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ كان قَوْلُ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أَقُولَ من غَيْرِهِمْ أَنْ أُخَالِفَهُمْ من قَبْلُ أَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَحِكَايَةٍ ثُمَّ قال وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَفْتُونَ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ يَعْنِي من الصَّحَابَةِ وَلَا دَلِيلَ فِيمَا اخْتَلَفُوا فيه نَظَرْنَا إلَى الْأَكْثَرِ فَإِنْ تَكَافَئُوا نَظَرْنَا إلَى أَحْسَنِ أَقَاوِيلِهِمْ مَخْرَجًا عِنْدَنَا وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الْقَوْلَ اُشْتُهِرَ نَقْلُهُ عن الْقَدِيمِ وقد نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الْجَدِيدِ أَيْضًا وقد نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وهو مَوْجُودٌ في كِتَابِ الْأُمِّ في بَابِ خِلَافِهِ مع مَالِكٍ وهو من الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ فَلْنَذْكُرْهُ بِلَفْظِهِ لِمَا فيه من الْفَائِدَةِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما كان الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ على من سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا فإذا لم يَكُنْ كَذَلِكَ صِرْنَا إلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ أو وَاحِدِهِمْ وكان قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم أَحَبَّ
إلَيْنَا إذَا صِرْنَا إلَى التَّقْلِيدِ وَلَكِنْ إذَا لم نَجِدْ دَلَالَةً في الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ على أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَتَّبِعُ الْقَوْلَ الذي معه الدَّلَالَةُ لِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ مَشْهُورٌ فإنه يَلْزَمُ الناس وَمِنْ لَزِمَ قَوْلُهُ الناس كان أَظْهَرُ مِمَّنْ يُفْتِي الرَّجُلَ وَالنَّفَرَ وقد يَأْخُذُ بِفُتْيَاهُ وقد يَدَعُهَا وَأَكْثَرُ الْمُفْتِينَ يُفْتُونَ الْخَاصَّةَ في بُيُوتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَلَا يَعْنِي الْخَاصَّةَ بِمَا قالوا عِنَايَتُهُمْ بِمَا قال الْإِمَامُ ثُمَّ قال فإذا لم يُوجَدْ عن الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الدِّينِ في مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ وكان اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا من اتِّبَاعِ من بَعْدِهِمْ وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ الْأُولَى الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إذَا ثَبَتَتْ السُّنَّةُ وَالثَّانِيَةُ الْإِجْمَاعُ مِمَّا ليس في كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا نَعْلَمُ له مُخَالِفًا فِيهِمْ وَالرَّابِعَةُ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الرَّسُولِ وَالْخَامِسَةُ الْقِيَاسُ على بَعْضِ هذه الطَّبَقَاتِ وَلَا يُصَارُ إلَى شَيْءٍ غير الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ من أَعْلَى هذا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ وقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عن شُيُوخِهِ عن الْأَصَمِّ عن الرَّبِيعِ عنه وَهَذَا صَرِيحٌ منه في أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ على الْقِيَاسِ كما نَقَلَهُ عنه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَيَكُونُ له قَوْلَانِ في الْجَدِيدِ وَأَحَدُهُمَا مُوَافِقٌ لِلْقَدِيمِ وَإِنْ كان قد غَفَلَ عن نَقْلِهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلَفُوا كان الْحُجَّةُ في قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ إذَا وَجَدَ عَنْهُمْ لِلْمَعْنَى الذي أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وهو اشْتِهَارُ قَوْلِهِمْ وَرُجُوعُ الناس إلَيْهِمْ وقد اسْتَعْمَلَ الشَّافِعِيُّ ذلك في الْأُمِّ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ منها قال في كِتَابِ الْحُكْمِ في قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ما نَصُّهُ وَكُلُّ من يَحْبِسُ نَفْسَهُ بِالتَّرَهُّبِ تَرَكْنَا قَتْلَهُ اتِّبَاعًا لِأَبِي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه ثُمَّ قال وَإِنَّمَا قُلْنَا هذا اتِّبَاعًا لَا قِيَاسًا وقال في كِتَابِ اخْتِلَافُ أبي حَنِيفَةَ وَابْنِ أبي لَيْلَى في بَابِ الْغَصْبِ أَنَّ عُثْمَانَ قَضَى فِيمَا إذَا شَرَطَ الْبَرَاءَةَ في الْعُيُوبِ في الْحَيَوَانِ قال وَهَذَا يَذْهَبُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إلَى هذا تَقْلِيدًا وَإِنَّمَا كان الْقِيَاسُ عَدَمُ الْبَرَاءَةِ وقال ابن الصَّبَّاغِ إنَّمَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ عُثْمَانَ في الْجَدِيدِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ إذَا لم يَنْتَشِرْ ولم يَظْهَرْ له مُخَالِفٌ كان حُجَّةً انْتَهَى وقال في عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا تَقْلِيدًا لِعُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه
الثَّالِثُ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ قِيَاسٌ فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ على قِيَاسٍ ليس معه قَوْلُ صَحَابِيٍّ نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ فقال وَأَقْوَالُ أَصْحَابِ النبي عليه السَّلَامُ إذَا تَفَرَّقُوا نَصِيرُ منها إلَى ما وَافَقَ الْكِتَابَ أو السُّنَّةَ أو الْإِجْمَاعَ أو كان أَصَحَّ في الْقِيَاسِ وإذا قال وَاحِدٌ منهم الْقَوْلُ لَا يُحْفَظُ عن غَيْرِهِ منهم له مُوَافَقَةٌ وَلَا خِلَافًا صِرْتُ إلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ وإذا لم أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إجْمَاعًا وَلَا شيئا يَحْكُمُ له بِحُكْمِهِ أو وُجِدَ معه قِيَاسٌ هذا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ وقال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ حَكَى الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَغَيْرُهُ من أَصْحَابِنَا عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرَى في الْجَدِيدِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ إذَا عَضَّدَهُ الْقِيَاسُ وَكَذَا حَكَاهُ ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ فقال نَقُولُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كان معه قِيَاسٌ انْتَهَى وَكَذَا قال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ فقال قال في الْجَدِيدِ إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا اعْتَضَدَ بِضَرْبٍ من الْقِيَاسِ يَقْوَى بِمُوَافَقَتِهِ إيَّاهُ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ في بَابِ الْقَوْلِ في مَنْعِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلْعَالَمِ إنَّ الذي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ في الْجَدِيدِ وَاسْتَقَرَّ عليه مَذْهَبُهُ وَحَكَاهُ عنه الْمُزَنِيّ فقال في الْجَدِيدِ أَقُولُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كان معه قِيَاسٌ وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ في تَعْلِيقِهِ في بَابِ الرِّبَا عِنْدَنَا أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا كان له قَوْلٌ وكان معه قِيَاسٌ وَإِنْ كان ضَعِيفًا فَالْمُضِيُّ إلَى قَوْلِهِ أَوْلَى خُصُوصًا إذَا كان إمَامًا وَلِهَذَا مَنَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ بِجِنْسِهِ وَغَيْرِهِ لِأَثَرِ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه قُلْت وَيَشْهَدُ له أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ في الْجَدِيدِ على عَدَمِ وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ في الْوُضُوءِ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما ثُمَّ قال وفي مَذْهَبِ كَثِيرٍ من أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى ثُمَّ الْأَخِيرَةَ ثُمَّ الْوُسْطَى أَعَادَ الْوُسْطَى ولم يُعِدْ الْأُولَى وهو دَلِيلٌ في قَوْلِهِمْ على أَنَّ تَقْطِيعَ الْوُضُوءِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُجْزِئَ عنه كما في الْجَمْرَةِ انْتَهَى فَاسْتَدَلَّ بِفِعْلِ الصَّحَابِيِّ الْمُعْتَضَدِ لِلْقِيَاسِ وهو رَمْيُ الْجِمَارِ وَعَلَى الْغُسْلِ أَيْضًا كما وَقَعَ في أَوَّلِ كَلَامِهِ نعم الْمُشْكِلُ على هذا الْقَوْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ نَفْسَهُ حُجَّةٌ فَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِاعْتِبَارِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فيه وَيُؤَوَّلُ حِينَئِذٍ هذا إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ على انْفِرَادِهِ وَلِهَذَا حَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ الْحُجَّةَ في الْقِيَاسِ أو في قَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ
قَطَعَ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا وَافَقَ الْقِيَاسَ وَلِأَجْلِ هذا الْإِشْكَالِ قال ابن الْقَطَّانِ أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ في الْمَسْأَلَةِ قِيَاسَانِ فَيَكُونُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ مع أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَوْلَى من الْقِيَاسِ الْمُجَرَّدِ قال وَهَذَا كَالْبَرَاءَةِ من الْعُيُوبِ فإنه اجْتَذَبَهُ قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا يُشْبِهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا عَلِمَهُ فَأَمَّا الْبَرَاءَةُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ فَمُمْتَنِعَةٌ وَهَذَا الذي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ على غَيْرِ الْحَيَوَانِ أَنْ يُوجِبَ قِيَاسًا آخَرَ وهو أَنَّ الْحَيَوَانَ مَخْصُوصٌ بِمَا سِوَاهُ من حَيْثُ يُغْتَذَى بِالصِّحَّةِ وَالسُّقُمِ وَيُخْفِي عُيُوبَهُ صَارَ إلَى تَقْلِيدِ عُثْمَانَ مع هذا الْقِيَاسِ وَالثَّانِي كان الشَّافِعِيُّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُقَالَ عنه إنَّهُ لَا يقول بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ فَاسْتَحْسَنَ الْعِبَارَةَ فقال بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كان معه الْقِيَاسُ انْتَهَى وقال ابن فُورَكٍ إنْ قِيلَ كَيْفَ قال الشَّافِعِيُّ إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا كان معه قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ في نَفْسِهِ حُجَّةٌ وَحْدَهُ قِيلَ اجْتَذَبَ الْمَسْأَلَةَ وَجْهَانِ من الْقِيَاسِ قَوِيٌّ وَضَعِيفٌ فَقَوِيَ الْقِيَاسُ الضَّعِيفُ بِقَوْلِ عُثْمَانَ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَرَكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ فإنه لو انْفَرَدَ الْقِيَاسَانِ عن قَوْلِ الصَّحَابِيِّ كان إمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فَيَسْقُطَا أو يَصِحُّ أَحَدُهُمَا فَيَبْطُلُ الْآخَرُ وَإِنْ كان قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مع الصَّحِيحِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ له قِيلَ له إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إذَا لم يُعْلَمْ له مُخَالِفٌ له قُوَّةٌ على قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الذي ظَهَرَ خِلَافُهُ كما نَقُولُ إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إذَا انْتَشَرَ قَوْلُهُ ولم يُعْلَمْ له مُخَالِفٌ أَقْوَى من قَوْلِ من لم يُنْشَرْ ولم يُعْلَمْ له مُخَالِفٌ فَكَانَ أَدْوَنُ هذه الْمَنَازِلِ إذَا عَضَّدَهُ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ مُلْحَقَةً بِمَنْزِلَةِ الشَّبَهِ وَإِنْ كان ذلك الشَّبَهُ لو انْفَرَدَ لم يَكُنْ حُجَّةً فَأَمَّا أَوْلَى الْقِيَاسَيْنِ فَلَا يَسْلَمُ من مُعَارَضَةِ ما تَبْطُلُ معه دَلَالَتُهُ وهو قَوْلُ الصَّحَابِيِّ الذي لَا مُخَالِفَ له مُقْتَرِنًا بِالشَّبَهِ الذي ذَكَرْنَاهُ وقال الصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ أَنَّهُ ليس بِحَجَّةٍ أَنَّهُ إذَا تَجَاذَبَ الْمَسْأَلَةُ أَصْلَانِ مُحْتَمَلَانِ يُوَافِقُ أَحَدُهُمَا قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فَيَكُونُ الدَّلِيلُ الذي معه قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى في هذا على التَّقْوِيَةِ وَأَنَّهُ أَقْوَى الْمَذْهَبَيْنِ فَلَا يُغْلَطُ على الشَّافِعِيِّ هذا وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ تَقْلِيدَهُ لَا يَلْزَمُ إلَّا أَنْ يُوجَدَ في الْكِتَابِ أو السُّنَّةِ ما يُخَالِفُهُ وَيُعَضِّدُهُ ضَرْبٌ من الْقِيَاسِ وَعَلَى هذا فَهُوَ مُقَوٍّ لِلْقِيَاسِ وَمُغَلِّبٌ له كما يُغَلَّبُ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ
وَظَاهِرُ نَصِّ الرِّسَالَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقْتَضِي تَسَاوِي الْقِيَاسَيْنِ لِأَنَّهُ لم يُفَرِّقْ بين قِيَاسٍ وَقِيَاسٍ نعم قَوْلُهُ وَلَا شيئا في مَعْنَاهُ يَحْكُمُ له بِحُكْمِهِ ظَاهِرٌ في تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ على قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وهو مُسْتَنَدُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في قَوْلِهِ إنَّ الشَّافِعِيَّ قال في بَعْضِ أَقْوَالِهِ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَلَمَّا حَكَى الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قال وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال الْقَوْلَانِ إذَا لم يَكُنْ معه قِيَاسٌ أَصْلًا فَإِنْ كان مع قَوْلِهِ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ فَقَوْلُهُ معه يُقَدَّمُ على الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ وهو اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَجَمَاعَةٍ وهو ضَعِيفٌ عِنْدِي لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ بِانْفِرَادِهِ وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الضَّعِيفُ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ ضَعِيفَانِ غَلَبَا الْقَوِيَّ انْتَهَى وما حَكَاهُ عن الْقَفَّالِ حَكَاهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ عن الصَّيْرَفِيِّ ثُمَّ خَطَّأَهُ وَحَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ عن حِكَايَةِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا كان مع قَوْلِ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ فَهُوَ أَوْلَى من الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ قَوْلًا وَاحِدًا ثُمَّ ضَعَّفَهُ ابن الصَّبَّاغِ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ في كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ من الْحَاوِي عن الْقَدِيمِ لَكِنَّهُ قال ذلك في الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ مع الْجَلِيِّ وَأَنَّ الْخَفِيَّ يُقَدَّمُ على الْجَلِيِّ إذَا كان مع الْأَوَّلِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ قال ثُمَّ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ عنه في الْجَدِيدِ وقال الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ أَوْلَى وقال الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا في الْحَاوِي في مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ من الْعُيُوبِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ أَنَّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى من قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَكَذَلِكَ قال أبو الْحَسَنِ الْجُورِيُّ في شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ قُلْت وهو ظَاهِرُ إطْلَاقِهِ في الرِّسَالَةِ وقال ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ إذَا قال الصَّحَابِيُّ قَوْلًا وَعَارَضَهُ الْقِيَاسُ الْقَوِيُّ نُظِرَ فَإِنْ كان مع الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ كان الْمَصِيرُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى لِقَضِيَّةِ عُثْمَانَ في بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ وَإِنْ كان قَوْلُ الصَّحَابِيِّ فَقَطْ وقد عَارَضَهُ الْقِيَاسُ فقال الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ إنَّ قَوْلَهُ يُقَدَّمُ لِعِلْمِهِ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وقال في الْجَدِيدِ أَوْلَى وَلِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى الْكِتَابِ وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ يَجُوزُ عليه السَّهْوُ الرَّابِعُ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ لِأَنَّهُ لَا مَحْمَلَ له إلَّا التَّوَقُّفُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالتَّحَكُّمَ في دِينِ اللَّهِ بَاطِلٌ فَيُعْلَمْ أَنَّهُ ما قَالَهُ إلَّا تَوْقِيفًا قال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وَهَذَا هو الْحَقُّ الْمُبِينُ قال وَمَسَائِلُ الْإِمَامَيْنِ أبي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنهما تَدُلُّ عليه فإن الشَّافِعِيَّ غَلَّظَ الدِّيَةَ بِالْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ بِأَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ وَقَدَّرَ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ بِقَوْلِ عُمَرَ وَأَبَا
حَنِيفَةَ قَدَّرَ الْجُعْلَ في رَدِّ الْآبِقِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا لِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ وقال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِهِ هو أَشْبَهُ الْمَذَاهِبِ وقال ابن الْمُنِيرِ هذا الْمَذْهَبُ لَا يَخْتَصُّ الصَّحَابِيَّ فَكُلُّ عَالِمٍ عَدْلٍ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ ظُنَّ بِهِ الْمُخَالَفَةُ لِلتَّوْقِيفِ وَالظَّاهِرُ إصَابَتُهُ في شُرُوطِهِ قُلْت وقد طَرَدَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ فيه كما سَيَأْتِي ثُمَّ قال ثُمَّ هو لَا يَخْتَصُّ غير الصَّحَابِيِّ إذَا كان الْمُخَالِفُ صَحَابِيًّا فَيَجِبُ إذًا على الصَّحَابِيِّ الِاقْتِدَاءُ بِالصَّحَابِيِّ الْمُخَالِفِ لِلْقِيَاسِ وَالْحَاصِلُ عن الشَّافِعِيِّ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ على الْقِيَاسِ كما نَصَّ عليه في اخْتِلَافِهِ مع مَالِكٍ وهو من الْجَدِيدِ وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس بِحَجَّةٍ مُطْلَقًا وهو الْمَشْهُورُ بين الْأَصْحَابِ أَنَّهُ الْجَدِيدُ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ قِيَاسٌ فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ على قِيَاسٍ ليس معه قَوْلُ صَحَابِيٍّ كما أَشَارَ إلَيْهِ في الرِّسَالَةِ ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فيها أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَتَقَدَّمَ في نَقْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عنه في قَوْلِ تَخْصِيصِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ بِتَقْدِيمِهِ على قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَعَلَى هذا يَكُونُ الْمُرَادُ ب الْقِيَاسُ يُعْتَضَدُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْقِيَاسَ الْخَفِيِّ وَيَكُونُ فِيمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ قَوْلٌ رَابِعٌ في الْمَسْأَلَةِ من أَصْلِهَا وَتَقَدَّمَ أَيْضًا عن الْمَاوَرْدِيِّ إذَا اعْتَضَدَ بِقِيَاسِ التَّقْرِيبِ فَهُوَ أَوْلَى من قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَعَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ إذَا اعْتَضَدَ بِقِيَاسٍ ضَعِيفٍ فَهُوَ أَوْلَى من الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ فَيَتَخَرَّجُ من هذا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ إنْ جَعَلْنَا الْقِيَاسَ الضَّعِيفَ أَعَمَّ من قِيَاسِ التَّقْرِيبِ وَغَيْرِهِ وَإِلَّا فَقَوْلٌ خَامِسٌ وَخَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِمَا إذَا كان مُوَافِقًا لِقِيَاسٍ جَلِيٍّ فَإِنْ لم يَكُنْ معه قِيَاسٌ جَلِيٌّ قَدَّمَ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ قَطْعًا وَخَصَّ الْقَدِيمَ بِمَا إذَا لم يَظْهَرْ له مُخَالِفٌ فَإِنْ ظَهَرَ خِلَافُهُ من صَحَابِيٍّ آخَرَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً على الْقَدِيمِ وفي كِتَابِ الرَّضَاعِ في الْكَلَامِ على اعْتِبَارِ الْعَدَدِ حِكَايَةٌ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ تَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ بِخُصُوصِهِمَا حُجَّةٌ فإنه حَكَى عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال من سَأَلَنِي عن شَيْءٍ أَجَبْتُهُ من الْقُرْآنِ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عن مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا فقال لَا شَيْءَ عليه فقال أَيْنَ هذا في كِتَابِ اللَّهِ فذكر قَوْله تَعَالَى وما آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ من بَعْدِي أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وقد سُئِلَ عُمَرُ عن مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا فقال لَا شَيْءَ عليه قال ابن الرِّفْعَةِ فَإِنْ صَحَّتْ هذه الْحِكَايَةُ عن الشَّافِعِيِّ لَزِمَ منها أَنْ يَكُونَ قَوْلُ كُلٍّ من الشَّيْخَيْنِ عِنْدَهُ حُجَّةٌ وَمَذْهَبُهُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ انْتَهَى وقال السِّنْجِيُّ في أَوَّلِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ قَوْلُ الْوَاحِدِ من الصَّحَابَةِ إذَا انْتَشَرَ ولم يُعْلَمْ له مُخَالِفٌ وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عليه كان عِنْدَنَا حُجَّةٌ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهَا وَهَلْ يُسَمَّى إجْمَاعًا على وَجْهَيْنِ فَقِيلَ لَا لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ وَالصَّحِيحُ من الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مَقْطُوعٌ على اللَّهِ بِصِحَّتِهِ وهو مَذْهَبُ كَافَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ ولم يُخَالِفْ فيه إلَّا الْجُعَلُ وَمَنْ تَابَعَهُ فَقَالُوا لَا يَكُون حُجَّةً قال فَأَمَّا إذَا لم يَنْتَشِرْ ولم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ فَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ الْقَدِيمُ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَالْجَدِيدُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى منه وقال في الْقَوَاطِعِ إذَا لم يَنْتَشِرْ ولم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ نُظِرَ فَإِنْ كان مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ فَهُوَ حُجَّةٌ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا هل الْحُجَّةُ في الْقِيَاسِ أو في قَوْلِهِ على وَجْهَيْنِ وَأَمَّا إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ أو كان مع الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ وَالْجَلِيُّ مُخَالِفٌ مثله فَهَذَا مَوْضِعُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فَفِي الْقَدِيمِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى من الْقِيَاسِ وفي الْجَدِيدِ الْقِيَاسُ أَوْلَى وقال السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ إنْ انْتَشَرَ وَرَضُوا بِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بها وَهَلْ يُسَمَّى إجْمَاعًا وَجْهَانِ وَإِنْ انْتَشَرَ ولم يُعْلَمْ منهم الرِّضَا بِهِ فَوَجْهَانِ وَإِنْ لم يَنْتَشِرْ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه على طَرِيقَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا وهو الْجَدِيدُ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ والثانية أَنَّهُ إنْ لَنْ يَنْتَشِرَ في الْبَاقِينَ فَهُوَ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا عَارَضَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ فَحِينَئِذٍ قَوْلٌ خَفِيٌّ انْتَهَى وقال إلْكِيَا إنْ لم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ فإذا اخْتَلَفُوا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فيه وَقِيلَ يَحْتَجُّ بِأَقْوَالِهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ على تَقْدِيرِ اتِّبَاعِ قَوْلِ الْأَعْلَمِ منهم وَبِهِ قال الشَّافِعِيُّ في رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ لِأَنَّهُ جَوَّزَ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ وقال إنْ اخْتَلَفُوا أَخَذَ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ أو بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ بِذَلِكَ وَرَجَّحَهُ على الْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ له قال إلْكِيَا وَإِنْ لم يَكُنْ بُدٌّ من تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَفْصِلَ بين أَنْ يَخْتَلِفُوا أو لَا لِأَنَّ
فَقْدَ مَعْرِفَةِ الْخِلَافِ لَا يَنْتَهِضُ إجْمَاعًا وفي جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ من هو أَعْلَمُ منه خِلَافٌ رَأَى محمد بن الْحَسَنِ جَوَازَهُ وَإِنْ لم يُنْقَلْ عنه وُجُوبُ ذلك قال ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَدِيمًا وَجَدِيدًا اتِّبَاعُ قَضَاءِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في تَقْدِيرِ دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَغْلِيظِ الدِّيَةِ بِالْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ اتِّبَاعًا لِآثَارِ الصَّحَابَةِ وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ في سَبَبِ ذلك فَقِيلَ لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ اشْتَهَرَتْ وَسَكَتُوا وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ وَقِيلَ لِأَنَّهُ يَرَى الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ من حَيْثُ لَا مَحْمَلَ له سِوَى التَّوْقِيفِ قال وَيَظْهَرُ هذا في التَّابِعِيِّ إذَا عَلِمَ مَسَالِكَ الْأَحْكَامِ وكان مَشْهُورًا بِالْوَرَعِ لَا يَمِيلُ إلَى الْأَهْوَاءِ إلَّا أَنْ يَلُوحَ لنا في مَجَارِي نَظَرِهِ فَسَادٌ في أَصْلٍ له عليه بَنَى ما بَنَى وَيَخْرُجُ من هذا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا لم يَكُنْ مُدْرِكًا بِالْقِيَاسِ دُونَ ما لِلْقِيَاسِ فيه مَجَالٍ وَهَذَا الْقَوْلُ هو الْمُخْتَارُ وَبِهِ تُجْمَعُ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه وَهَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْغَزَالِيُّ اسْتِنْبَاطًا من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في كِتَابِ اخْتِلَافِ الحديث أَنَّهُ رُوِيَ عن عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ صلى في لَيْلَةٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ كُلَّ رَكْعَةٍ بِسِتِّ سَجَدَاتٍ ثُمَّ قال إنْ ثَبَتَ ذلك عن عَلِيٍّ قُلْت بِهِ فإنه لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فيه فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَهُ تَوْقِيفًا هذا لَفْظُهُ قال الْقَاضِي وَهَذَا من قَوْلِهِ يَدُلُّ على أَنَّهُ كان يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا قال قَوْلًا ليس لِلِاجْتِهَادِ فيه مَدْخَلٌ فإنه لَا يَقُولُهُ إلَّا سَمْعًا وَتَوْقِيفًا وَأَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عليه لِأَنَّهُ لَا يقول ذلك إلَّا عن خَبَرٍ انْتَهَى لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ جَعَلَهُ من تَفَارِيعِ الْقَدِيمِ وهو مَرْدُودٌ لِأَنَّ اخْتِلَافُ الحديث من الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ قَطْعًا رَوَاهُ عنه الرَّبِيعُ بن سُلَيْمَانَ بِمِصْرَ وَبِهَذَا جَزَمَ ابن الصَّبَّاغِ في كِتَابِ الْكَامِلِ في الْخِلَافِ وقال إلْكِيَا في التَّلْوِيحِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَكَذَا صَاحِبُ الْمَحْصُولِ في بَابِ الْأَخْبَارِ وَعَلَى هذا يَنْزِلُ كُلُّ ما وَقَعَ في الْجَدِيدِ من التَّصْرِيحِ فيه بِالتَّقْلِيدِ كَاتِّبَاعِهِ الصِّدِّيقَ في عَدَمِ قَتْلِ الرَّاهِبِ وَتَقْلِيدِهِ عُثْمَانَ في الْبَرَاءَةِ وَعُمَرَ في أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ قال في الْأُمِّ إذَا أَصَابَ الرَّجُلُ بِمَكَّةَ حَمَامًا من حَمَامِهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ وقال في اخْتِلَافِ الحديث أَخَذْت بِقَوْلِ عُمَرَ في الْيَرْبُوعِ وَالضَّبُعِ حَمَلٌ وَحَكَى في الْقَدِيمِ هذا الْقَوْلَ عن الْكَرْخِيِّ وَاخْتَارَهُ الْبَزْدَوِيُّ وابن السَّاعَاتِيِّ وَغَيْرُهُمْ من الْحَنَفِيَّةِ وَهَذَا هو الذي يُعَبِّرُ عنه
ابن الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ نعم تَصَرُّفَاتُ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ تَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلِاجْتِهَادِ فيه مَجَالٌ الثَّانِي أَنْ يَرِدَ في مُوَافَقَةِ قَوْلِهِ نَصٌّ وَإِنْ كان لِلِاجْتِهَادِ فيه مَجَالٌ كما فَعَلَ في مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ مُقَلِّدًا زَيْدًا فيها لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَتْبَعَ مَذْهَبَ زَيْدٍ ولم يَضَعْ لِذَلِكَ كِتَابًا في الْفَرَائِضِ لِعِلْمِهِ بِعِلْمِ الناس بِمَذْهَبِ زَيْدٍ وَإِنَّمَا نَصَّ في مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ في الْكِتَابِ فَجَمَعَهَا الْمُزَنِيّ وَضَمَّ إلَيْهَا مَذْهَبَ زَيْدٍ في الْمَسَائِلِ ولم يَقُلْ تَحَرَّيْت مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِهِ في أَوَاخِرِ كُتُبٍ مَضَتْ فإن التَّحَرِّيَ اجْتِهَادٌ وَلَا اجْتِهَادَ في النَّقْلِ وقد تَحَقَّقَ اتِّبَاعُ الشَّافِعِيِّ زَيْدًا وَتَرَدَّدَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ تَرَدَّدَ قَوْلُ زَيْدٍ وَقَرَّبَ مَذْهَبَ زَيْدٍ إلَى الْقِيَاسِ أَنَّ جَعْلَ الْأُمَّ دُونَ الْأَبِ في النَّصِيبِ قِيَاسَ مِيرَاثِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَكَذَا قَوْلُهُ أَوْلَادُ الْأَبَوَيْنِ يُشَارِكُونَ وَلَدَ الْأُمِّ لِاشْتِرَاكِهِمْ في الْقَرَابَةِ وَجَعَلَ الْأَبَوَيْنِ مَانِعَيْنِ الْأُخُوَّةَ في رَدِّ الْأُمِّ إلَى السُّدُسِ قِيَاسًا على جَعْلِ الْبَنِينَ في مَعْنَى الْبَنَاتِ في اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ وقد أَوْرَدَ على هذا أَنَّهُ خَالَفَ الْقِيَاسَ في مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَالْمُعَادَةِ وَإِعْطَاءِ الْأُمِّ ثُلُثَ ما يَبْقَى وَلَيْسَ فيه كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا قِيَاسٌ لِأَنَّا سَوَّيْنَا بين الْأَبَوَيْنِ مع الِابْنِ وَمُشَارَكَةُ أَوْلَادِ الْأُمِّ خَارِجَةٌ عن الْقِيَاسِ لِأَنَّا نُعْطِي الْعَشَرَةَ من إخْوَةِ الْأَبَوَيْنِ نِصْفَ السُّدُسِ مَثَلًا وَنُعْطِي الْأُخْتَ الْوَاحِدَةَ لِلْأُمِّ السُّدُسَ فَأَيُّ مُرَاعَاةٍ لِاِتِّخَاذِ الْقَرَابَةِ فَإِنْ قِيلَ إذَا كان دَلِيلُ التَّقْلِيدِ الحديث السَّابِقَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبَعَ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه في قَضَائِهِ وَمُعَاذًا في الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لِقَوْلِهِ أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذٌ وَالْجَوَابُ كما قال إنَّ الْقَضَاءَ يَتَّسِعُ وَيَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يُسَوِّغُ التَّقْلِيدَ فيه وَكَذَلِكَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ قال وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمَذْهَبَ لَا يَسْتَقِلُّ بِتَقْلِيدِ زَيْدٍ وما انْتَحَلَ مَذْهَبُهُ إلَّا عن أَصْلٍ يَجُوزُ فيه الرَّأْيُ وَلِهَذَا خَالَفَ الصَّحَابَةُ وَالشَّافِعِيُّ لم يَخْلُ بِمَسْأَلَةٍ عن احْتِجَاجٍ وَإِنَّمَا اعْتَصَمَ بِشَهَادَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَرْجِيحًا وَبِهَذَا تَبَيَّنَ انْتَهَى وَجَرَى على ذلك
الرَّافِعِيُّ وَأَمَّا ابن الرِّفْعَةِ فقال الظَّاهِرُ أَنَّ اخْتِيَارَ الشَّافِعِيِّ لِمَذْهَبِ زَيْدٍ اخْتِيَارُ تَقْلِيدٍ كما يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْأُمِّ إذْ قال الشَّافِعِيُّ وَقُلْنَا إذَا وَرِثَ الْجَدُّ مع الْإِخْوَةِ قَاسَمَهُمْ ما كانت الْمُقَاسَمَةُ خَيْرًا له من الثُّلُثِ فإذا كان الثُّلُثُ خَيْرًا له منها أُعْطِيَهُ وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بن ثَابِتٍ وَعَنْهُ قَبْلَنَا أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ وَهِيَ التي لَا نَصَّ فيها وَلَا إجْمَاعَ وَجَعَلَ الرَّافِعِيُّ مَوْضِعَ الْقَوْلَيْنِ ما إذَا لم يَنْتَشِرْ فِيهِمْ قال ثُمَّ عن الصَّيْرَفِيِّ وَالْقَفَّالِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيمَا إذَا لم يَكُنْ معه قِيَاسٌ أَصْلًا فَإِنْ كان مع قَوْلِهِ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ احْتَجَّ بِهِ وَتَرَجَّحَ على الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ قال وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ لَا فَرْقَ قال وَإِنْ انْتَشَرَ فَإِمَّا أَنْ يُخَالِفَهُ غَيْرُهُ أو يُوَافِقُهُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ أو يَسْكُتُوا فَإِنْ خَالَفَهُ فَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ هو كَاخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ وَعَلَى الْقَدِيمِ هُمَا حُجَّتَانِ تَعَارَضَتَا فَتَرَجَّحَ من خَارِجٍ وَإِنْ وَافَقَهُ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ فَهُوَ إجْمَاعٌ منهم التَّفْرِيعُ على أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ إنْ قُلْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ فَلَا يَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَتُهُ وَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ كما يَحْتَجُّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ لَكِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عنها في الرُّتْبَةِ فَلَا يَتَمَسَّكُ بِشَيْءٍ منها إلَّا عِنْدَ عَدَمِهَا وفي تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عليه الْخِلَافُ السَّابِقُ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ في شَرْعِ من قَبْلَنَا لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ أَدِلَّةِ شَرْعِنَا وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ عُمُومَ كِتَابٍ أو سُنَّةٍ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ فَلَوْ اخْتَلَفُوا قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ كان قَوْلُ الْمُخَالِفِينَ قَبْلَهُمْ بِحُجَّتَيْنِ تَعَارَضَتَا وَبِهِ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ قال الشَّيْخُ فَيُرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ على الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فَإِنْ اسْتَوَيَا قُدِّمَ بِالْأَئِمَّةِ فَإِنْ كان في أَحَدِهِمَا الْأَكْثَرُ وفي الْآخَرِ الْأَقَلُّ لَكِنَّ مع الْأَقَلِّ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ تَسَاوَيَا فَإِنْ اسْتَوَيَا في الْعَدَدِ وَالْأَئِمَّةِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ والثاني تَرْجِيحُ الْقَوْلِ الذي معه أَحَدُ الْعُمَرَيْنِ لِحَدِيثِ اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ من بَعْدِي
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْفَرْقَ بين اخْتِلَافِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَاخْتِلَافِ الحديث في أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بين أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ بِتَنْزِيلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ وَتَأْوِيلِ ما يَحْتَمِلُ وَنَحْوَ ذلك مِمَّا يَجْمَعُ بِهِ بين الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّ جَمِيعَ الْأَخْبَارِ صَادِرٌ عن وَاحِدٍ وهو مَعْصُومٌ عليه السَّلَامُ فَلَا يَجُوزُ فيها الِاخْتِلَافُ وَالتَّضَادُّ من كل وَجْهٍ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا مَهْمَا أَمْكَنَ حتى لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ وإذا لم يُمْكِنْ ذلك كان الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَأَمَّا أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَقَاصِدِهِمْ وَأَنَّ ذلك ليس صَادِرًا عن مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ وقال ابن فُورَكٍ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ إلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ منهم أو أَكْثَرِهِمْ ما لم يَكُنْ فيه وَاحِدٌ من الْأَئِمَّةِ وَمَنْ قال من أَصْحَابِنَا بِتَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِمَنْ هو أَعْلَمُ منه قال بِهِ وهو قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وقال الرُّويَانِيُّ في أَوَّلِ الْبَحْرِ إذَا اخْتَلَفُوا على قَوْلَيْنِ فَإِنْ لم يَكُنْ فِيهِمْ إمَامٌ نُظِرَ فَإِنْ كَانُوا في الْعَدَدِ سَوَاءٌ فَهُمَا سَوَاءٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَدَدُ فَهَلْ يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فَعَلَى قَوْلِهِ في الْجَدِيدِ لَا يُرَجَّحُ وَيَقُولُ ما يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ وَعَلَى الْقَدِيمِ يُرَجَّحُ كما في الْأَخْبَارِ وَإِنْ كان منهم إمَامٌ فَإِنْ كَانُوا في الْعَدَدِ سَوَاءٌ فَاَلَّتِي فيها الْإِمَامُ هل هِيَ أَوْلَى قَوْلَانِ قال في الْقَدِيمِ نعم وقال في الْجَدِيدِ لَا وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَدَدُ وَالْإِمَامُ مع الْأَقَلِّ فَهُمَا سَوَاءٌ على كِلَا الْقَوْلَيْنِ وَلَوْ اتَّفَقَا في الْعَدَدِ وفي أَحَدِهِمَا أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَعَلَى الْقَدِيمِ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يُرَجَّحُ قَوْلُ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ على غَيْرِهِمَا قال الرَّافِعِيُّ وَيَنْبَغِي جَرَيَانُ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لو تَعَارَضَ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ حتى يَسْتَوِيَا على وَجْهٍ وَيُرَجَّحُ طَرَفُ أبي بَكْرٍ على غَيْرِهِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ إذَا اخْتَلَفُوا أَخَذْنَا بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ فَإِنْ اسْتَوَيَا أَخَذْنَا بِقَوْلِ من معه أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ رَجَعْنَا إلَى التَّرْجِيحِ وقال ابن الْقَطَّانِ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِهِ إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَكَانَ يقول في مَوْضِعٍ من اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ إنَّهُمَا سَوَاءٌ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ من الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَصِيرُ إلَى قَوْلِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهِمْ عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ فَدَلَّ على مَزِيَّةِ قَوْلِهِمْ على أَهْلِ
الْفَتْوَى ثُمَّ مَثَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ من الْعُيُوبِ فقال قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَوْلَى لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ بَاعَ عَبْدًا بِالْبَرَاءَةِ فقال الْمُشْتَرِي كان فيه عَيْبٌ عَلِمْتُهُ ولم تُسَمِّهِ لي فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَبْرَأُ من ذلك إذَا وَقَفَ عليه ولم يَسْمَعْهُ فقال عُثْمَانُ إنْ لم تَحْلِفْ بِاَللَّهِ على هذا لَزِمَك وإذا كان هذا هَكَذَا فَقَدْ صَارَ إلَى قَوْلِ عُثْمَانَ وَإِنَّمَا صَارَ إلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَعَلَى هذه الْقَاعِدَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ أَخَذْنَا بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ وَذَكَرَ في كِتَابِ اخْتِلَافُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَلِيًّا صلى في زَلْزَلَةِ رَكْعَتَيْنِ في كل رَكْعَةٍ سِتُّ سَجَدَاتٍ قال ابن الْقَطَّانِ وَإِنَّمَا سَلَكَ في هَذَيْنِ كَسُلُوكِهِ في الْأَخْبَارِ بِالتَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ وَلِهَذَا خَرَّجَهُ على قَوْلَيْنِ قال ابن قُدَامَةَ في الرَّوْضَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ على قَوْلَيْنِ لم يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ الْأَخْذُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ من غَيْرِ دَلِيلٍ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ ذلك ما لم يُنْكِرْ على الْقَائِلِ قَوْلَهُ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ دَلِيلٌ على تَسْوِيغِ الْخِلَافِ وَالْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ من الْقَوْلَيْنِ وَلِهَذَا يَرْجِعُ إلَى مُعَاذٍ في تَرْكِ رَجْمِ الْمَرْأَةِ قال وَهَذَا فَاسِدٌ فإن قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَا يَزِيدُ على الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ لم يَجُزْ الْأَخْذُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُونِ التَّرْجِيحِ وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ صَوَابٌ وَالْآخَرَ خَطَأٌ وَلَا نَعْلَمُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ اخْتِلَافُهُمْ على تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ في كِلَا الْقَوْلَيْنِ أَمَّا على الْأَخْذِ بِدُونِ مُرَجِّحٍ فَكَلَّا وَأَمَّا رُجُوعُهُمْ إلَى قَوْلِ مُعَاذٍ فَلِأَنَّهُ بَانَ له الْحَقُّ بِدَلِيلِهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ انْتَهَى تَنْبِيهٌ قال الشَّافِعِيُّ أَقُولُ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَسَكَتَ عن عَلِيٍّ فَرَدَّ عليه دَاوُد وقال ما بَالُهُ تَرَكَ عَلِيًّا وَلَيْسَ بِدُونِ من رَضِيَهُ في هذا قال ابن الْقَطَّانِ وَلَا نَظُنُّ بِالشَّافِعِيِّ الْإِعْرَاضَ عن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ وَلَهُ في هذا مَقَاصِدُ منها أَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَهُ اكْتِفَاءً لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ بِبَعْضِهِمْ فَنَبَّهَ على الْبَعْضِ وَلِهَذَا قال في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمِنْهَا أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ على مَالِكٍ لِأَنَّهُ يُخَالِفُهُ في هذه الْمَسْأَلَةِ فقال أَقُولُ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ إلَى آخِرِهِ لِأَنَّ كَلَامَهُ على من كان بِالْمَدِينَةِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في اخْتِلَافِ الحديث أَقُولُ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
فَدَلَّ على ما سَبَقَ وَمِنْهَا أَنَّ الْكَلَامَ على ظَاهِرِهِ وَأَرَادَ الثَّلَاثَةَ في صُورَةٍ وَهِيَ ما إذَا انْفَرَدُوا وكان عَلِيٌّ حَاضِرًا وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ وَسَكَتُوا عَمَّا حَكَمُوا بِهِ وَأَفْتَوْا صَارَ إجْمَاعًا وَحِينَئِذٍ فَيُصَارُ إلَى قَوْلِهِمْ لِأَنَّ عَلِيًّا مُوَافِقٌ في الْمَعْنَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَمْرُ عَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ إنَّمَا كان بِحَضْرَتِهِ من يَأْخُذُ عنه فلم يَكُنْ في سُكُوتِهِمْ له حُجَّةٌ قال ابن الْقَطَّانِ وَالْأَشْبَهُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وهو أَنْ يَكُونَ تَرَكَ ذلك اكْتِفَاءً وَكَذَلِكَ قال ابن الْقَاصِّ في التَّلْخِيصِ وقال السِّنْجِيُّ في شَرْحِهِ إنَّهُ الْأَصَحُّ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُعْظَمَ وَأَرَادَ الْكُلَّ قال وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال لَا يُرَجَّحُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ كما لَا يُرَجَّحُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ من الْخُلَفَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِذِكْرِ ما سَبَقَ إذَا لم يَكُنْ قَوْلُهُ صَادِرًا عن رَأْيِ الْكَافَّةِ بِخِلَافِ من قَبْلَهُ تَنْبِيهٌ آخَرُ حَاصِلُ الْخِلَافِ في اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالٍ سُقُوطُ الْحُجَّةِ وَأَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ قَوْلٌ منها التَّخْيِيرُ فَيَأْخُذُ بِقَوْلِ من شَاءَ منهم وَحَكَاهُ ابن عبد الْبَرِّ عن الْقَاسِمِ بن مُحَمَّدٍ وَعُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَعْدِلُ إلَى التَّرْجِيحِ وَنَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ فقال نَصِيرُ منها إلَى ما وَافَقَ الْكِتَابَ أو السُّنَّةَ أو الْإِجْمَاعَ أو كان أَصَحُّ في الْقِيَاسِ وهو الْأَصَحُّ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ وَاحْتَجَّ ابن عبد الْبَرِّ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ على تَخْطِئَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَرُجُوعِ بَعْضِهِمْ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ وهو دَلِيلٌ على أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عِنْدَهُمْ خَطَأٌ وَصَوَابٌ وقال أبو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُ في كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ وإذا كان من الصَّحَابَةِ خِلَافٌ في الْمَسْأَلَةِ لم يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ الْخُرُوجُ عن أَقَاوِيلِهِمْ لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَخْرُجَ الْحَقُّ عن جَمِيعِهِمْ أو يَشْمَلُ الْخَطَأُ كُلَّهُمْ وَقِيلَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ عن أَقْوَالِهِمْ وَقِيلَ يَتَخَيَّرُ من غَيْرِ دَلِيلٍ انْتَهَى وَلَعَلَّهُ فَرَّعَهُ على الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ ثُمَّ قال وإذا حَكَى الْقَوْلَ في حَادِثَةٍ عن وَاحِدٍ من الصَّحَابَةِ وَتَظَاهَرَ وَاشْتَهَرَ ولم يُخَالِفْ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ النَّكِيرِ منهم وإذا نَقَلَ الثِّقَاتُ عن وَاحِدٍ منهم قَوْلًا غير مُنْتَشِرٍ في جَمِيعِهِمْ ولم يُرْوَ عن
وَاحِدٍ منهم وِفَاقُهُ لَا خِلَافُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فيه وَالْوَاجِبُ عِنْدَنَا الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ في الْمَعْنَى رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْعَصْرَ قد انْخَرَمَ وَالْحَقُّ مَعْدُومٌ وَهَذَا مع اخْتِصَاصِ الصَّحَابَةِ بِمُشَاهَدَةِ الرَّسُولِ وَمَعْرِفَةِ الْخِطَابِ منه إذْ الشَّاهِدُ يَعْرِفُ بِالْحَالِ ما يَخْفَى على من بَعْدَهُ انْتَهَى فَائِدَةٌ قال ابن عبد السَّلَامِ في فَتَاوِيهِ الْمَوْصِلِيَّةِ إذَا صَحَّ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَذْهَبٌ في حُكْمٍ من الْأَحْكَامِ لم يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْضَحَ من دَلِيلِهِ وَلَا يَجِبُ على الْمُجْتَهِدِينَ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ في مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَلَا يَحِلُّ لهم ذلك مع ظُهُورِ أَدِلَّتِهِمْ على أَدِلَّةِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ ولم يُوجِبْ تَقْلِيدَ الْعُلَمَاءِ إلَّا على الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ أَدِلَّةَ الْأَحْكَامِ فَائِدَةٌ أُخْرَى ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال إذَا جاء اخْتِلَافٌ عن الصَّحَابَةِ نَظَرَ أَتْبَعَهُمْ لِلْقِيَاسِ إذَا لم يُوجَدْ أَصْلٌ يُخَالِفُهُ فَقَدْ خَالَفَ عَلِيٌّ عُمَرَ في ثَلَاثِ مَسَائِلَ الْقِيَاسُ فيها مع عَلِيٍّ وَبِقَوْلِهِ أَخَذَ منها الْمَفْقُودُ قال عُمَرُ يُضْرَبُ له أَجَلُ أَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ ثُمَّ تُنْكَحُ وقال عَلِيٌّ لَا تُنْكَحُ أَبَدًا وقد اخْتَلَفَ فيه عن عَلِيٍّ حتى يَصِحَّ مَوْتٌ أو فِرَاقٌ وقال عُمَرُ في الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ في سَفَرِهِ ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا فَيَبْلُغُهَا الطَّلَاقُ وَلَا تَبْلُغُهَا الرَّجْعَةُ حتى تَحِلَّ وَتُنْكَحَ أَنَّ زَوْجَهَا الْآخَرَ أَوْلَى إذَا دخل بها وقال عَلِيٌّ هِيَ لِلْأَوَّلِ أَبَدًا وهو أَحَقُّ بها وقال عُمَرُ في الذي يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ في الْعِدَّةِ وَيَدْخُلُ بها أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا وقال عَلِيٌّ يَنْكِحُهَا بَعْدَهُ مَسْأَلَةٌ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ أَرْبَعَةٌ من الصَّحَابَةِ تَكَلَّمُوا في جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَهُمْ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وابن عَبَّاسٍ وابن مَسْعُودٍ وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مَتَى أَجْمَعُوا على مَسْأَلَةٍ على قَوْلٍ فَالْأُمَّةُ فيها مُجْمِعَةٌ على قَوْلِهِمْ غَيْرُ مُبْتَدَعٍ لَا يَعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ انْفَرَدَ فيها عَلِيٌّ بِقَوْلٍ عن سَائِرِ الصَّحَابَةِ تَبِعَهُ فيها ابن أبي لَيْلَى وَالشَّعْبِيُّ وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ انْفَرَدَ فيها زَيْدٌ بِقَوْلٍ تَبِعَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ في أَكْثَرِهِ وَتَبِعَهُ خَارِجَةُ بن زَيْدٍ لَا مَحَالَةَ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ انْفَرَدَ بها ابن مَسْعُودٍ تَبِعَهُ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وأبو أَيُّوبَ
فَصْلٌ التَّفْرِيعُ على أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ ليس بِحُجَّةٍ وَإِنْ قُلْنَا ليس بِحُجَّةٍ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً على الْبَعْضِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ تَقْلِيدُ الْآخَرِ وَلَا يَمْنَعُ من تَقْلِيدِهِمْ من ليس بِمُجْتَهِدٍ لَكِنَّ الذي صَرَفَ الناس عن تَقْلِيدِهِمْ أَنَّهُمْ اشْتَغَلُوا بِالْجِهَادِ وَفَتْحِ الْبِلَادِ وَنَشْرِ الدَّيْنِ وَإِعْلَامِهِ فلم يَتَفَرَّغُوا لِتَفْرِيعِ الْفُرُوعِ وَتَدْوِينِهَا وَلَا انْتَشَرَ لهم مَذَاهِبُ يُعْرَفُ آحَادُهُمْ بها كما جَرَى ذلك لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لهم فَفِيهِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالِ لِلشَّافِعِيِّ ثَالِثُهَا يَجُوزُ إنْ انْتَشَرَ قَوْلُهُ ولم يُخَالَفْ وَإِلَّا فَلَا وقد أَفْرَدَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هذه الْمَسْأَلَةَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْكَلَامِ في أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ أَمْ لَا فقال في الْمُسْتَصْفَى إنْ قال قَائِلٌ إذَا لم يَجِبْ تَقْلِيدُهُمْ هل يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ قُلْنَا أَمَّا الْعَامِّيُّ فَيُقَلِّدُهُمْ وَأَمَّا الْعَالِمُ فَإِنْ جَازَ له تَقْلِيدُ الْعَالِمِ جَازَ له أَنْ يُقَلِّدَهُمْ وَإِنْ حَرَّمْنَا تَقْلِيدَ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ فقال في الْقَدِيمِ يَجُوزُ إذَا قال قَوْلًا وَانْتَشَرَ قَوْلُهُ ولم يُخَالَفْ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ يُقَلِّدُ وَإِنْ لم يَنْتَشِرْ وقال وَرَجَعَ في الْجَدِيدِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ الْعَالِمُ صَحَابِيًّا كما لَا يُقَلِّدُ الْعَالِمُ عَالِمًا آخَرَ نَقَلَ الْمُزَنِيّ عنه ذلك وَأَنَّ الْعَمَلَ على الْأَدِلَّةِ التي فيها يَجُوزُ لِلصَّحَابِيِّ الْفَتْوَى وهو الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا انْتَهَى وقد تَبِعَهُ على إفْرَادِ هذه الْمَسْأَلَةِ وَجَعَلَهَا فَرْعًا لِمَا قَبْلَهَا ابن السَّمْعَانِيِّ وَالرَّازِيُّ وَأَتْبَاعُهُ وَالْآمِدِيُّ وَيُوَافِقُهُ حِكَايَةُ ابْنِ الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ قَوْلَيْنِ في الصَّحَابِيِّ إذَا قال قَوْلًا ولم يَنْتَشِرْ أَحَدُهُمَا أَنَّ تَقْلِيدَهُ وَاجِبٌ وَلَيْسَ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَتُهُ والثاني أَنَّ له مُخَالَفَتَهُ وَالنَّظَرَ في الْأَدِلَّةِ وَأَعْرَضَ ابن الْحَاجِبِ عن إفْرَادِ هذه الْمَسْأَلَةِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عَيْنُ ما قَبْلَهَا وهو الْحَقُّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَيْثُ صَرَّحَ بِتَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ لم يُرِدْ بِهِ التَّقْلِيدَ الْمَشْهُورَ وهو قَبُولُ قَوْلِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عليه اتِّبَاعُهُ من غَيْرِ حُجَّةٍ بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ فإنه اسْتَعْمَلَهُ في مَوْضِعِ الْحُجَّةِ فقال في مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ في
بَابِ الْقَضَاءِ في الْكَلَامِ على الْمُشَاوِرِ وَلَا يُقْبَلُ وَإِنْ كان أَعْلَمَ منه حتى يَعْلَمَ كَعِلْمِهِ أَنَّ ذلك لَازِمٌ له فَأَمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فلم يَجْعَلْ اللَّهُ ذلك لِأَحَدٍ بَعْدَ الرَّسُولِ هذا نَصُّهُ فَأَطْلَقَ اسْمَ التَّقْلِيدِ على الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ النَّبِيّ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا سِيَّمَا مع ما اسْتَقَرَّ من قَوْلِهِ الْمُتَكَرِّرِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ بِالنَّهْيِ عن التَّقْلِيدِ وَالْمَنْعِ منه وَيَدُلُّ على ذلك قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ وَالْجَوْرِيِّ إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ بِمُفْرَدِهِ إذَا اشْتَهَرَ ولم يَظْهَرْ له مُخَالِفٌ قال الْمَاوَرْدِيُّ لَا سِيَّمَا إذَا كان الصَّحَابِيُّ إمَامًا وَأَغْرَبَ ابن الصَّبَّاغِ فَحَكَى ذلك عن الْجَدِيدِ وقد سَبَقَ ثُمَّ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ عنه في الْجَدِيدِ مُعَارِضٌ بِمَا نَصَّ عليه في كِتَابِ الْأُمِّ في غَيْرِ مَوْضِعٍ بِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ كما سَبَقَ في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ وَقَوْلُهُ قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ في مُخْتَصَرِهِ وَالرَّبِيعُ في اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنْ كان أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِالتَّقْلِيدِ لِلصَّحَابِيِّ في الْقَدِيمِ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفَ فَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا أَيْضًا في الْجَدِيدِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَأَطْلَقَ اسْمَ التَّقْلِيدِ عليه مَجَازًا كما أَطْلَقَهُ في الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقد قال الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى بَعْدَمَا سَبَقَ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ تَرَكَ الشَّافِعِيُّ في الْجَدِيدِ الْقِيَاسَ في تَغْلِيظِ الدِّيَةِ في الْحَرَمِ لِقَوْلِ عُثْمَانَ وَلِذَلِكَ فَرَّقَ بين الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ في شَرْطِ الْبَرَاءَةِ لِقَوْلِ عُثْمَانَ قُلْنَا له في مَسْأَلَةِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ أَقْوَالٌ فَلَعَلَّ هذا مَرْجُوعٌ عنه انْتَهَى وَهَذَا مَرْدُودٌ بِأَنَّا قد بَيَّنَّا أَنَّهُ نَصَّ عليه في غَيْرِ مَوْضِعٍ من كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ وقال إنَّهُ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ وَبِهِ قَطَعَ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وابن خَيْرَانَ وَغَيْرُهُمَا ولم يَجْعَلَا لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا في الْمَسْأَلَةِ غَيْرَهُ وهو الذي صَحَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فَقَدْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فيها بِمَا رُوِيَ عن عُثْمَانَ أَنَّهُ قَضَى في امْرَأَةٍ قُتِلَتْ بِالدِّيَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ وَرُوِيَ نَحْوَهُ عن عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لهم من الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ اعْتَمَدَ ذلك بِنَاءً على أَنَّهُ إجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ أو لِأَنَّهُ قَضَى بِهِ عُثْمَانُ وهو قد نَصَّ في الْجَدِيدِ على الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ أَحَدِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ يَشْتَهِرُ غَالِبًا بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفْتَى وقد حَكَى الْغَزَالِيُّ أَيْضًا في الْمَوْضِعِ الْمُشَارِ إلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْإِفْتَاءُ وَالْحُكْمُ من الصَّحَابَةِ فقال مَرَّةً الْحُكْمُ أَوْلَى لِأَنَّ الْعِنَايَةَ بِهِ أَشَدُّ
وَالْمَشُورَةَ فيه أَبْلَغُ وقال مَرَّةً الْفَتْوَى أَوْلَى لِأَنَّ سُكُوتَهُمْ على الْحُكْمِ يُحْمَلُ على الطَّاعَةِ لِأُولِي الْأَمْرِ وَعَزَا هذا الِاخْتِلَافُ لِلْقَدِيمِ وَجَعَلَهُ مَرْجُوعًا عنه وَفِيهِ من النَّظَرِ ما سَلَفَ نَصُّهُ في كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ تَنْبِيهٌ ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنْ ذَكَرَ الْمِنْهَاجُ هذا الْقَوْلَ الثَّالِثَ في أَصْلِ مَسْأَلَةِ الْحُجِّيَّةِ ليس بِغَلَطٍ كما زَعَمَ شُرَّاحُهُ بَلْ هو الصَّوَابُ
فَصْلٌ أَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْقِيَاسُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا إذَا تَعَارَضَ قَوْلُ صَحَابِيَّيْنِ وَاعْتَضَدَ أَحَدُهُمَا بِالْقِيَاسِ وقد سُبِقَتْ عن النَّصِّ الثَّانِيَةُ إذَا تَعَارَضَ قِيَاسَانِ وَاعْتَضَدَ أَحَدُهُمَا بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَحَكَى الرَّافِعِيُّ عن الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ قد قِيلَ تَمِيلُ نَفْسُ الْمُجْتَهِدِ إلَى ما يُوَافِقُ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ وَيُرَجَّحُ عِنْدَهُ قال النَّوَوِيُّ وقد صَرَّحَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَغَيْرُهُ من الْأَصْحَابِ بِالْجَزْمِ بِالْمُوَافِقِ انْتَهَى وأنا أَقُولُ من يَرَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ بِمُفْرَدِهِ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ على الْقِيَاسِ يَكُونُ احْتِجَاجُهُ هُنَا بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَمَنْ يَرَى أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسَانِ صَحِيحَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ أو لَا فَإِنْ كَانَا كَذَلِكَ ولم يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِمُرَجِّحٍ في الْأَصْلِ أو حُكْمِهِ أو في الْعِلَّةِ أو دَلِيلِهَا أو في الْفَرْعِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمُعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ مُقَدَّمٌ وَيَكُونُ ذلك من التَّرْجِيحَاتِ بِالْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ كما تَرَجَّحَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ الْمُعَارِضَيْنِ بِعَمَلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ دُونَ الْآخَرِ وَأَمَّا إذَا كان أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ مُرَجَّحًا على الْآخَرِ في شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وَمَعَ الْمَرْجُوحِ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهَذَا مَحَلُّ النَّظَرِ على الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ ليس بِحُجَّةٍ وَالِاحْتِمَالُ مُنْقَدِحٌ وقد تَقَدَّمَ حِكَايَةُ ابْنِ الصَّبَّاغِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِيَاسَ الضَّعِيفَ إذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ يُقَدَّمُ على الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ وَذَاكَ هُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَتَقَدَّمَ نَقْلُ الْمَاوَرْدِيِّ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّ رَأْيَهُ في الْجَدِيدِ أَنَّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ كان أَوْلَى من قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَمَثَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ في مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ من الْعُيُوبِ أَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُهُ ما سِوَاهُ لِأَنَّهُ يُغْتَذَى بِالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَتَحَوُّلِ طَبَائِعِهِ وَقَلَّمَا يَخْلُو من عَيْبٍ وَإِنْ خَفِيَ فَلَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عن عُيُوبِهِ الْخَفِيَّةِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَالْوُقُوفُ عليها وَلَيْسَ كَذَلِكَ غير الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ قد يَخْلُو من الْعُيُوبِ وَيُمْكِنُ الْإِخْبَارُ فيها بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا لِظُهُورِهَا فَدَلَّ على افْتِرَاقِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ من جِهَةِ الْمَعْنَى مع ما رُوِيَ معه من قِصَّةِ عُثْمَانَ وَحَاصِلُهُ على ما نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن الْجَدِيدِ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَرْجُوحَ إذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ كان مُقَدَّمًا على الْقِيَاسِ الرَّاجِحِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ هذا تَفْرِيعًا منه على أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ كما تَقَدَّمَ عنه في الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ على الْقَوْلِ الْآخَرِ الذي اشْتَهَرَ عِنْدَ الْأَصْحَابِ عن الْجَدِيدِ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ وقد تَرْجَمَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحَكَى خِلَافَ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ هل يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ بِذَلِكَ الْقِيَاسِ الضَّعِيفِ على الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ أو يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ ثُمَّ رَجَّحَ هذا الثَّانِي مَسْأَلَةٌ فَإِنْ قال التَّابِعِيُّ قَوْلًا لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فيه لم يَلْتَحِقْ بِالصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلسَّمْعَانِيِّ كما سَبَقَ قال صَاحِبُ الْغَايَةِ من الْحَنَابِلَةِ من قام من نَوْمِ اللَّيْلِ فَغَمَسَ يَدَهُ في إنَاءٍ قبل أَنْ يَغْسِلَهَا ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إلَى زَوَالِ طَهُورِيَّتِهِ وهو يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالتَّابِعِيُّ إذَا قال مِثْلَ ذلك كان حُجَّةً لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قال تَوْقِيفًا عن الصَّحَابَةِ أو عن نَصٍّ ثَبَتَ عِنْدَهُ قال صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِذَلِكَ بَلْ يُجْعَلُ كَمُجْتَهَدَاتِهِ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ قد مَرَّ الْكَلَامُ في الْقِيَاسِ في الْمُنَاسِبِ الذي اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ أو أَلْغَاهُ وَالْكَلَامُ فِيمَا جَهِلَ أَيْ سَكَتَ الشَّرْعُ عن اعْتِبَارِهِ وَإِهْدَارِهِ وهو الْمُعَبَّرُ عنه ب الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَيُلَقَّبُ ب الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ مُرْسَلَةً أَيْ لم تُعْتَبَرْ ولم تُلْغَ وَأَطْلَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن السَّمْعَانِيِّ عليه اسْمَ الِاسْتِدْلَالِ وَعَبَّرَ عنه الْخُوَارِزْمِيَّ في الْكَافِي ب الِاسْتِصْلَاحِ قال وَالْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُحَافَظَةُ على مَقْصُودِ الشَّرْعِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ على الْخَلْقِ وَفَسَّرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ بِأَنْ يُوجَدَ مَعْنَى يُشْعِرُ بِالْحُكْمِ مُنَاسِبٌ له عَقْلًا وَلَا يُوجَدُ أَصْلٌ مُتَّفِقٌ عليه وَالتَّعْلِيلُ الْمُصَوَّرُ جَارٍ فيه وَفَسَّرَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ بِأَنْ لَا يَسْتَنِدَ إلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ وَلَا جُزْئِيٍّ وَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا مَنْعُ التَّمَسُّكِ بِهِ مُطْلَقًا وهو قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ منهم الْقَاضِي وَأَتْبَاعُهُ وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ عن الشَّافِعِيِّ قال الْإِمَامُ وَبِهِ قال طَوَائِفُ من مُتَكَلِّمِي
الْأَصْحَابِ الثَّانِي الْجَوَازُ مُطْلَقًا وهو الْمَحْكِيُّ عن مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَأَفْرَطَ في الْقَوْلِ بِهِ حتى جَرَّهُ إلَى اسْتِحْلَالِ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ لِمَصَالِحَ تَقْتَضِيهَا في غَالِبِ الظَّنِّ وَإِنْ لم يَجِدْ لها مُسْتَنِدًا وَحَكَاهُ غَيْرُهُ قَوْلًا قَدِيمًا عن الشَّافِعِيِّ وقال أبو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحُ في حَوَاشِيهِ على الْبُرْهَانِ إنَّ هذا الْقَوْلَ لم يَصِحَّ نَقْلُهُ عن مَالِكٍ هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُهُ وَأَنْكَرَهُ ابن شَاسٍ أَيْضًا في التَّحْرِيرِ على الْإِمَامِ وقال أَقْوَالُهُ تُؤْخَذُ من كُتُبِهِ وَكُتُبِ أَصْحَابِهِ لَا من نَقْلِ النَّاقِلِينَ وَكَذَلِكَ اسْتَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ في كِتَابِهِ فقال ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ إلَى الِاعْتِمَادِ عليه وهو مَذْهَبُ مَالِكٍ قال وقد اجْتَرَأَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجَازَفَ فِيمَا نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ من الْإِفْرَاطِ في هذا الْأَصْلِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في كِتَابِ مَالِكٍ وَلَا في شَيْءٍ من كُتُبِ أَصْحَابِهِ وَهَذَا تَحَامُلٌ من الْقُرْطُبِيِّ فإن الْإِمَامَ قد حَمَلَ كَلَامَ مَالِكٍ على ما يَصِحُّ وَسَيَأْتِي وقد قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ نعم الذي لَا شَكَّ فيه أَنَّ لِمَالِكٍ تَرْجِيحًا على غَيْرِهِ من الْفُقَهَاءِ في هذا النَّوْعِ وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ وَلَا يَكَادُ يَخْلُو غَيْرُهُمَا عن اعْتِبَارِهِ في الْجُمْلَةِ وَلَكِنْ لِهَذَيْنِ تَرْجِيحٌ في الِاسْتِعْمَالِ على غَيْرِهِمَا انْتَهَى وقال الْقَرَافِيُّ هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ في جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ لِأَنَّهُمْ يَعْقِدُونَ وَيَقُومُونَ بِالْمُنَاسَبَةِ وَلَا يَطْلُبُونَ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ وَلَا يَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إلَّا ذلك قال وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ قد عَمِلَ في كِتَابِهِ الْغِيَاثِيِّ أُمُورًا وَحَرَّرَهَا وَأَفْتَى بها وَالْمَالِكِيَّةُ بَعِيدُونَ عنها وَحَثَّ عليها وَقَالَهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْمُطْلَقَةِ وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْغَلِيلِ مع أَنَّ الِاثْنَيْنِ شَدِيدَا الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا في الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ قُلْت وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الرَّجُلَيْنِ وقال الْبَغْدَادِيُّ في جَنَّةِ النَّاظِرِ لَا تَظْهَرُ مُخَالَفَةُ الشَّافِعِيِّ لِمَالِكٍ في الْمَصَالِحِ فإن مَالِكًا يقول إنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اسْتَقْرَأَ مَوَارِدَ الشَّرْعِ وَمَصَادِرَهُ أَفْضَى نَظَرُهُ إلَى الْعِلْمِ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ في جُزْئِيَّاتِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا وَأَنْ لَا مَصْلَحَةَ إلَّا وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ في جِنْسِهَا لَكِنَّهُ اسْتَثْنَى من هذه الْقَاعِدَةِ كُلَّ مَصْلَحَةٍ صَادَمَهَا أَصْلٌ من أُصُولِ الشَّرِيعَةِ قال وما حَكَاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عنه لَا يَعْدُو هذه الْمَقَالَةَ إذْ لَا أَخُصُّ منها إلَّا ا
لأخذ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِأَصْلٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ مُغَايِرٌ لِلِاسْتِرْسَالِ الذي اعْتَقَدُوهُ مَذْهَبًا فَبَانَ أَنَّ من أَخَذَ بِالْمَصْلَحَةِ غَيْرِ الْمُعْتَبَرَةِ فَقَدْ أَخَذَ بِالْمُرْسَلَةِ التي قال بها مَالِكٌ إذْ لَا وَاسِطَةَ بين الْمَذْهَبَيْنِ وَالثَّالِثُ إنْ كانت الْمَصْلَحَةُ مُلَائِمَةً لِأَصْلٍ كُلِّيٍّ من أُصُولِ الشَّرْعِ أو لِأَصْلٍ جُزْئِيٍّ جَازَ بِنَاءُ الْأَحْكَامِ وَإِلَّا فَلَا وَنَسَبَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ لِلشَّافِعِيِّ وقال إنَّهُ الْحَقُّ الْمُخْتَارُ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ في الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَالْوَطْءُ سَبَبُ الشَّغْلِ فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ في الْعِدَّةِ لَاجْتَمَعَ الضِّدَّانِ فَلَيْسَ لِهَذَا الْأَصْلِ جُزْئِيٌّ وَإِنَّمَا أَصْلُهُ كُلِّيٌّ مُهْدَرٌ وهو أَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ إلَى اعْتِمَادِ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِشَرْطِ مُلَائِمَتِهِ لِلْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَشْهُودِ لها بِالْأُصُولِ وَهَذَا قَرِيبٌ من نَقْلِ ابْنِ بَرْهَانٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ على ذلك قَوْلُ الْخُوَارِزْمِيِّ في الْكَافِي إنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا وَتَعْلِيقَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بها لَكِنْ إذَا قَيَّدْنَاهُ بهذا انْسَلَخَتْ الْمَسْأَلَةُ من الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ فإنه إذَا شَرَطَ التَّقْرِيبَ من الْأُصُولِ الْمُمَهَّدَةِ وَفَسَّرَهُ بِالْمُلَاءَمَةِ كان من بَابِ الْقِيَاسِ في الْأَسْبَابِ فَيَكُونُ من قِسْمِ الْمُعْتَبَرِ وَبِهِ يَخْرُجُ عن الْإِرْسَالِ وَيَعُودُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَلِهَذَا قال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ لَا يَظُنُّ بِمَالِكٍ على جَلَالَتِهِ أَنْ يُرْسِلَ النَّفْسَ على سَجِيَّتِهَا وَطَبِيعَتِهَا فَيَتْبَعُ الْمَصَالِحَ الْجَامِدَةَ التي لَا تَسْتَنِدُ إلَى أُصُولِ الشَّرْعِ بِحَالٍ لَا على كُلِّيٍّ وَلَا على جُزْئِيٍّ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ سَمِعُوا أَنَّهُ بَنَى الْأَحْكَامَ على الْمَصَالِحِ الْمُطْلَقَةِ فَأَطْلَقُوا النَّقْلَ عنه في ذلك وَمِثْلُهُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ وَلَا نَرَى التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ ولم يَرَ ذلك أَحَدٌ من الْعُلَمَاءِ قال وَمَنْ ظَنَّ ذلك بِمَالِكٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وقال ابن الْمُنِيرِ في الْخِلَافِ من الْعُلَمَاءِ من رَأَى أَنَّ وُرُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ على الْوَفْقِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ ثُمَّ الْمُلَائِمَةُ نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ تَزْكِيَةِ الْبَيِّنَةِ بِالشُّهُودِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ التُّهْمَةِ فَهَذَا يَرُدُّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ لِأَنَّ صَاحِبَهُ ما أَقَامَ على صِحَّتِهِ بَيِّنَةً غير دَعْوَاهُ فَلَا يَتَوَقَّعُ لِلتَّزْكِيَةِ وَلَا بَيِّنَةَ وَمِنْهُمْ من نَزَّلَ الْمُلَائِمَةَ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ على صِدْقِ الدَّعْوَى في صِدْقِ الْوَصْفِ وَجَعَلَ وُرُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ على الْوَفْقِ كَالِاسْتِظْهَارِ فلم يَضُرَّهُ فَوَاتُهُ في أَصْلِ الِاعْتِبَارِ وَالرَّابِعُ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرُهُمَا تَخْصِيصَ الِاعْتِبَارِ بِمَا إذَا كانت تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً فَإِنْ فَاتَ أَحَدُ هذه الثَّلَاثَةِ لم يَعْتَبِرْ
وَالْمُرَادُ ب الضَّرُورِيَّةِ ما يَكُونُ من الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ التي يَجْزِمُ بِحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ منها والكلية لِفَائِدَةٍ تَعُمُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ احْتِرَازًا عن الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ لِبَعْضِ الناس أو في حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ كَمَنْ أَجَازَ لِلْمُسَافِرِ إذَا أَعْجَلَهُ السَّفَرُ أَنْ يَدْفَعَ التِّبْرَ لِدَارِ الضَّرْبِ وَيَنْظُرُ مِقْدَارَ ما يَخْلُصُ منه فَيَأْخُذُ بِقَدْرِهِ بَعْدَ طَرْحِ الْمَئُونَةِ فَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ لِضَرُورَةِ الِانْقِطَاعِ من الرُّفْقَةِ لَكِنَّهَا جُزْئِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَحَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَمَثَّلَ الْغَزَالِيُّ لِاسْتِجْمَاعِهِ الشَّرَائِطَ بِمَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ وَهِيَ ما إذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ رَمَيْنَا التُّرْسَ لَقَتَلْنَا مُسْلِمًا من دُونِ جَرِيمَةٍ صَدَرَتْ منه قال الْغَزَالِيُّ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الْمُجْتَهِدُ هذا الْأَسِيرُ مَقْتُولٌ بِكُلِّ حَالٍّ لِأَنَّا لو كَفَفْنَا عن التُّرْسِ لَسَلَّطْنَا الْكُفَّارَ على جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُونَهُمْ ثُمَّ يَقْتُلُونَ الْأَسَارَى أَيْضًا فَحِفْظُ الْمُسْلِمِينَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ الشَّارِعَ يَقْصِدُ تَقْلِيلَ الْقَتْلِ كما يَقْصِدُ حَسْمَهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَحَيْثُ لم يَقْدِرْ على الْحَسْمِ فَقَدْ قَدَرْنَا على التَّقْلِيلِ وكان هذا الْتِفَاتًا على مَصْلَحَةِ عِلْمٍ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهَا مَقْصُودَةً بِالشَّرْعِ لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ بَلْ بِأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ عن الْحَصْرِ وَلَكِنَّ تَحْصِيلَ هذا الْمَقْصُودِ بهذا الطَّرِيقِ وهو قَتْلُ من لم يُذْنِبْ لم يَشْهَدْ له أَصْلٌ مُعَيَّنٌ فَيَنْقَدِحُ اعْتِبَارُ هذه الْمَصْلَحَةِ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ وهو كَوْنُهَا ضَرُورِيَّةً كُلِّيَّةً قَطْعِيَّةً فَخَرَجَ بِ الْكُلِّيَّةِ ما إذَا أَشْرَفَ جَمَاعَةٌ في سَفِينَةِ على الْغَرَقِ وَلَوْ غَرِقَ بَعْضُهُمْ لَنَجَوْا فَلَا يَجُوزُ تَغْرِيقُ الْبَعْضِ وَبِ الْقَطْعِيَّةِ ما إذَا شَكَكْنَا في أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَسَلَّطُونَ عِنْدَ عَدَمِ رَمْيِ التُّرْسِ وَبِ الضَّرُورِيَّةِ ما إذَا تَتَرَّسُوا في قَلْعَةٍ بِمُسْلِمٍ فَلَا يَحِلُّ رَمْيُ التُّرْسِ إذْ لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَى أَخْذِ الْقَلْعَةِ وَهَذَا من الْغَزَالِيِّ تَصْرِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْقَطْعِ بِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ لَكِنَّ الْأَصْحَابَ حَكَوْا في مَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ وَجْهَيْنِ ولم يُصَرِّحُوا بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ وقد يُقَالُ إنَّ هذا التَّفْصِيلَ يُؤَوَّلُ إلَى ما نُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ وَلِهَذَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هو لَا يَسْتَجِيزُ التَّأَنِّي وَالْإِفْرَاطَ في الْبُعْدِ وَإِنَّمَا يُسَوِّغُ تَعْلِيقَ الْأَحْكَامِ لِمَصَالِحَ رَآهَا شَبِيهَةً بِالْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ وَفَاءً بِالْمَصَالِحِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى أَحْكَامٍ ثَابِتَةِ الْأُصُولِ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أو نَحْوًا منه وقال الْقُرْطُبِيُّ هِيَ بِهَذِهِ الْقُيُودِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ في اعْتِبَارِهَا وَأَمَّا ابن الْمُنِيرِ فقال هو احْتِكَامٌ من قَائِلِهِ ثُمَّ هو تَصْوِيرٌ بِمَا لَا يُمْكِنُ عَادَةً وَلَا
شَرْعًا أَمَّا عَادَةً فَلِأَنَّ الْقَطْعَ في الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إذْ هو غَيْبٌ عنها وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ الصَّادِقَ الْمَعْصُومَ أخبرنا بِأَنَّ الْأُمَّةُ لَا يَتَسَلَّطُ عَدُوٌّ عليها لِيَسْتَأْصِلَ شَأْفَتِهَا قال وَحَاصِلُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ رَدُّ الِاسْتِدْلَالِ لِتَضْيِيقِهِ في قَبُولِهِ بِاشْتِرَاطِ ما لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ انْتَهَى وَهَذَا تَحَامُلٌ منه فإن الْفَقِيهَ يَفْرِضُ الْمَسَائِلَ النَّادِرَةَ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا بَلْ الْمُسْتَحِيلَةَ لِلرِّيَاضَةِ وَلَا حُجَّةَ له في الحديث لِأَنَّ الْمُرَادَ كَافَّةُ الْخَلْقِ وَصُورَةُ الْغَزَالِيِّ إنَّمَا هِيَ في أَهْلِ مَحَلَّةٍ بِخُصُوصِهِمْ اسْتَوْلَى عليهم الْكُفَّارُ لَا جَمِيعِ الْعَالَمِ وَهَذَا وَاضِحٌ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ لَسْت أُنْكِرُ على من اعْتَبَرَ أَصْلَ الْمَصَالِحِ لَكِنَّ الِاسْتِرْسَالَ فيها وَتَحْقِيقَهَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ شَدِيدٍ رُبَّمَا خَرَجَ عن الْحَدِّ الْمُعْتَبَرِ وقد نَقَلُوا عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَطَعَ لِسَانَ الْحُطَيْئَةَ بِسَبَبِ الْهَجْوِ فَإِنْ صَحَّ ذلك فَهُوَ من بَابِ الْعَزْمِ على الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ فَحَمْلُهُ على التَّهْدِيدِ الرَّادِعِ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى من حَمْلِهِ على حَقِيقَةِ الْقَطْعِ لِلْمَصْلَحَةِ وَهَذَا نَحْوُ النَّظَرِ فِيمَا يُسَمَّى مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً قال وقد شَاوَرَنِي بَعْضُ الْقُضَاةِ في قَطْعِ أُنْمُلَةِ شَاهِدٍ وَالْغَرَضُ مَنْعُهُ عن الْكِتَابَةِ بِسَبَبِ قَطْعِهَا وَكُلُّ هذه مُنْكَرَاتٌ عَظِيمَةُ الْوَقْعِ في الدِّينِ وَاسْتِرْسَالٌ قَبِيحٌ في أَذَى الْمُسْلِمِينَ تَنْبِيهٌ حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ الْمَصَالِحُ عِنْدَنَا بِالْمَعْنَى السَّابِقِ فَذَاكَ حَيْثُ لم يُعَارِضْهَا قِيَاسٌ فَإِنْ عَارَضَهَا خَرَجَ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فيه قَوْلَانِ من الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إذَا وَقَعَ في الْمَاءِ الْقَلِيلِ ما لَا نَفْسَ له سَائِلَةً وَلِهَذَا قال الشَّيْخُ في التَّنْبِيهِ تُنَجِّسُهُ في أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وهو الْقِيَاسُ ولم تُنَجِّسْهُ في الْآخَرِ وهو الْأَصْلَحُ لِلنَّاسِ وقال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ في كِتَابِ الْقِرَاضِ من السِّلْسِلَةِ إذَا تَاجَرَ الْعَامِلُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ أو اشْتَرَى بِغَيْرِ الْمَالِ وَرَبِحَ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ تِلْكَ الْعُقُودَ بَاطِلَةٌ والثاني أَنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ بين إجَازَةِ الْعُقُودِ وَبَيْنَ فَسْخِهَا قال وَالْقِيَاسُ مع الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالْمَصْلَحَةُ مع الثَّانِي
سَدُّ الذَّرَائِعِ قال الْبَاجِيُّ ذَهَبَ مَالِكٌ إلَى الْمَنْعِ من سَدِّ الذَّرَائِعِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ التي ظَاهِرُهَا الْإِبَاحَةُ وَيُتَوَصَّلُ بها إلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ بِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ وَيَشْتَرِيهَا بِخَمْسِينَ نَقْدًا فَهَذَا قد تَوَصَّلَ إلَى خَمْسِينَ بِذِكْرِ السِّلْعَةِ وقال أبو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ الْمَنْعُ من سَدِّ الذَّرَائِعِ قُلْنَا قَوْله تَعَالَى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقَوْلُهُ وَاسْأَلْهُمْ عن الْقَرْيَةِ التي كانت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ دَعْ ما يَرِيبُك إلَى ما لَا يَرِيبُك وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ انْتَهَى وقال الْقُرْطُبِيُّ وَسَدُّ الذَّرَائِعِ ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ الناس تَأْصِيلًا وَعَمِلُوا عليه في أَكْثَرِ فُرُوعِهِمْ تَفْصِيلًا ثُمَّ حَرَّرَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فقال اعْلَمْ أَنَّ ما يُفْضِي إلَى الْوُقُوعِ في الْمَحْظُورِ إمَّا أَنْ يَلْزَمَ منه الْوُقُوعُ قَطْعًا أو لَا وَالْأَوَّلُ ليس من هذا الْبَابِ بَلْ من بَابِ ما لَا خَلَاصَ من الْحَرَامِ إلَّا بِاجْتِنَابِهِ فَفِعْلُهُ حَرَامٌ من بَابِ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَاَلَّذِي لَا يَلْزَمُ إمَّا أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْمَحْظُورِ غَالِبًا أو يَنْفَكُّ عنه غَالِبًا أو يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ وهو الْمُسَمَّى ب الذَّرَائِعِ عِنْدَنَا فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ من مُرَاعَاتِهِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فيه فَمِنْهُمْ من يُرَاعِيهِ وَمِنْهُمْ من لَا يُرَاعِيهِ وَرُبَّمَا يُسَمِّيهِ التُّهْمَةَ الْبَعِيدَةَ وَالذَّرَائِعَ الضَّعِيفَةَ
وَقَرِيبٌ من هذا التَّقْرِيرِ قَوْلُ الْقَرَافِيِّ في الْقَوَاعِدِ إنَّ مَالِكًا لم يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يقول بها وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلْمَالِكِيَّةِ بها إلَّا من حَيْثُ زِيَادَتُهُ فيها قال فإن من الذَّرَائِعِ ما هو مُعْتَبَرٌ إجْمَاعًا كَالْمَنْعِ من حَفْرِ الْآبَارِ في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلْقَاءِ السُّمِّ في طَعَامِهِمْ وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ من يُعْلَمْ من حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ ومنها ما هو مَلْغِيٌّ إجْمَاعًا كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ خَشْيَةَ الْخَمْرِ وَإِنْ كان وَسِيلَةً إلَى الْمُحَرَّمِ ومنها ما هو مُخْتَلَفٌ فيه كَبُيُوعِ الْآجَالِ فَنَحْنُ نَعْتَبِرُ الذَّرِيعَةَ فيها وَخَالَفَنَا غَيْرُنَا فَحَاصِلُ الْقَضِيَّةِ أَنَّا قُلْنَا بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَكْثَرَ من غَيْرِنَا لَا أنها خَاصَّةٌ قال وَبِهَذَا نَعْلَمُ بُطْلَانَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا على الشَّافِعِيَّةِ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدُّوا مِنْكُمْ في السَّبْتِ فَقَدْ ذَمُّهُمْ بِكَوْنِهِمْ تَذَرَّعُوا لِلصَّيْدِ يوم السَّبْتِ الْمُحَرَّمِ عليهم بِحَبْسِ الصَّيْدِ يوم الْجُمُعَةِ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ الْحَدِيثُ وَبِالْإِجْمَاعِ على جَوَازِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُفْتَرِقَيْنِ وَتَحْرِيمِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ لِلذَّرِيعَةِ إلَيْهَا وَبِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَظَنِينٍ خَشْيَةَ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ وَمَنْعِ شَهَادَةِ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هذه الْأَدِلَّةَ لَا تُفِيدُ في مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ على اعْتِبَارِ الشَّرْعِ سَدَّ الذَّرَائِعِ في الْجُمْلَةِ وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عليه وَإِنَّمَا النِّزَاعُ في ذَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَنَحْوُهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ بِمَحِلِّ النِّزَاعِ وَإِنْ قَصَدُوا الْقِيَاسَ على هذه الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعُ عليها فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُمْ الْقِيَاسَ وَحِينَئِذٍ فَلْيَذْكُرُوا الْجَامِعَ حتى يَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِرَفْعِهِ بِالْفَارِقِ وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ دَلِيلَهُمْ الْقِيَاسُ فإن من أَدِلَّةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ حَدِيثَ زَيْدِ بن أَرْقَمَ أَنَّ أَمَةً قالت لِعَائِشَةَ إنِّي بِعْت منه عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إلَى الْعَطَاءِ وَاشْتَرَيْتُهُ نَقْدًا بِسِتِّمِائَةٍ فقالت عَائِشَةُ بِئْسَ ما اشْتَرَيْت وَأَخْبِرِي زَيْدَ بن أَرْقَمَ أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ قال أبو الْوَلِيدِ بن رُشْدٍ وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ كانت من أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بن أَرْقَمَ وَمَوْلَاهَا قبل الْعِتْقِ فَيَتَخَرَّجُ قَوْلُ عَائِشَةَ على تَحْرِيمِ الرِّبَا بين السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ مع الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ
هذه الذَّرَائِعِ وَلَعَلَّ زَيْدًا لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الرِّبَا بين السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ قال وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ في زَيْدٍ أَنَّهُ وَاطَأَ أُمَّ وَلَدِهِ على الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا إلَى أَجَلٍ وَقَوْلُ عَائِشَةَ أَحْبَطَ عَمَلَهُ مع أَنَّ الْإِحْبَاطَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالشِّرْكِ لم تُرِدْ إحْبَاطَ الْإِسْقَاطِ بَلْ إحْبَاطَ الْمُوَازَنَةِ وهو وَزْنُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِشَيْءٍ كَقَوْلِهِ من تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَالْقَصْدُ ثَمَّ الْمُبَالَغَةُ في الْإِنْكَارِ لَا التَّحْقِيقُ وَأَنَّ مَجْمُوعَ الثَّوَابِ الْمُتَحَصِّلِ من الْجِهَادِ ليس بَاقِيًا بَعْدَ هذه السَّيِّئَةِ بَلْ بَعْضُهُ فَيَكُونُ الْإِحْبَاطُ في الْمَجْمُوعِ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ بِحَيْثُ لو اقْتَدَى بِهِ الناس انْفَتَحَ بَابُ الرِّبَا نَسِيئَةً قال وَوَافَقَنَا أبو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ في سَدِّ ذَرَائِعِ بُيُوعَ الْآجَالِ وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وفي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أتى بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فقال لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ بِيعُوا تَمْرَ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَاشْتَرُوا بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا فَهَذَا بَيْعُ صَاعٍ بِصَاعَيْنِ وَإِنَّمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا عَقْدُ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ في الحديث أَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِي مع الْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَالْكَلَامَ فيه قُلْت وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ عَائِشَةَ إنَّمَا قالت ذلك بِاجْتِهَادِهَا وَاجْتِهَادُ وَاحِدٍ من الصَّحَابَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً على الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ كما سَبَقَ نَقْلُهُ عن الْقَاضِي ثُمَّ قَوْلُهَا مُعَارِضٌ لِفِعْلِ زَيْدِ بن أَرْقَمَ ثُمَّ إنَّمَا أَنْكَرَتْ ذلك لِفَسَادِ الْبَيْعَيْنِ فإن الْأَوَّلَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ فإن وَقْتَ الْعَطَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَالثَّانِي بِنَاءً على الْأَوَّلِ فَيَكُونُ أَيْضًا فَاسِدًا وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بن الرِّفْعَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَاوَلَ تَخْرِيجَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الذَّرَائِعِ من نَصِّهِ في بَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ من الْأُمِّ إذْ قال بَعْدَمَا ذَكَرَ النَّهْيَ عن بَيْعِ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ إنَّمَا كان ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لم يَحِلَّ وَكَذَا ما كان ذَرِيعَةً إلَى إحْلَالِ ما حَرَّمَ اللَّهُ ما نَصُّهُ وإذا كان هَكَذَا فَفِي هذا ما يَثْبُتُ أَنَّ الذَّرَائِعَ إلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يُشْبِهُ مَعَانِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ انْتَهَى وَنَازَعَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وقال إنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ لَا سَدَّ الذَّرَائِعِ وَالْوَسَائِلُ مُسْتَلْزَمَةُ الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ وَمِنْ هذا بَيْعُ الْمَاءِ فإنه مُسْتَلْزَمٌ عَادَةً
لِمَنْعِ الْكَلَأِ الذي هو حَرَامٌ وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ من الْوَسَائِلِ قال وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ في نَفْسِ الذَّرَائِعِ لَا في سَدِّهَا وَالنِّزَاعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّمَا هو في سَدِّهَا ثُمَّ قال الذَّرِيعَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما يَقْطَعُ بِتَوْصِيلِهِ إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ وَالثَّانِي ما يَقْطَعُ بِأَنَّهَا لَا تُوصِلُ وَلَكِنْ اخْتَلَطَتْ بِمَا يُوصِلُ فَكَانَ من الِاحْتِيَاطِ سَدُّ الْبَابِ وَإِلْحَاقُ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ التي قَطَعَ بِأَنَّهَا لَا تُوصِلُ إلَى الْحَرَامِ بِالْغَالِبِ منها الْمُوصِلُ إلَيْهِ وَهَذَا غُلُوٌّ في الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ وَالثَّالِثُ ما يَحْتَمِلُ وَيَحْتَمِلُ وَفِيهِ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ وَيَخْتَلِفُ التَّرْجِيحُ عِنْدَهُمْ بِسَبَبِ تَفَاوُتِهَا قال وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ في جَمِيعِهَا إلَّا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ لِانْضِبَاطِهِ وَقِيَامِ الدَّلِيلِ انْتَهَى وَقِيلَ أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ بَلْ نَقُولُ بِهِ في الْوَاجِبَاتِ كما نَقُولُ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ أَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ في الثَّانِي فَكَذَلِكَ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَعَلَّهُ الذي حَاوَلَ ابن الرِّفْعَةِ تَخْرِيجَ قَوْلٍ منه بِمَا ذَكَرَهُ عن النَّصِّ وقد عَرَفَ ما فيه وَاسْتَشْهَدَ له أَيْضًا بِالْوَصِيِّ يَبِيعُ شِقْصًا على الْيَتِيمِ فَلَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ على الْأَصَحِّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ وَبِالْمَرِيضِ يَبِيعُ الشِّقْصَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ على وَجْهٍ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشَّرْعِ وَحَاوَلَ ابن الرِّفْعَةِ بِذَلِكَ تَخْرِيجَ وَجْهٍ في مَسْأَلَةِ الْعَيِّنَةِ وَلَا يَتَأَتَّى له هذا فَتِلْكَ عُقُودٌ قَائِمَةٌ بِشُرُوطِهَا وَلَا خَلَلَ فيها وَإِنْ مَنَعَهَا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وقد يقول بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ في مَسَائِلَ منها إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ على قَوْلِ الْإِبْطَالِ وَلَيْسَ ذلك من سَدِّ الذَّرَائِعِ بَلْ لِأَنَّ الْمَرِيضَ مَحْجُورٌ عليه ثُمَّ هو قَوْلٌ ضَعِيفٌ ومنها إذَا ادَّعَتْ الْمُجْبَرَةُ مَحْرَمِيَّةً أو رَضَاعًا بَعْدَ الْعَقْدِ قال ابن الْحَدَّادِ يُقْبَلُ قَوْلُهَا لِأَنَّهُ من الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ وَرُبَّمَا انْفَرَدَتْ بِعِلْمِهِ وقال ابن سُرَيْجٍ لَا يُقْبَلُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَعْلُومٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَحْرَمِيَّةِ وَفَتْحُ هذا الْبَابِ طَرِيقُ الْفَسَادِ وَلَيْسَ هذا من سَدِّ الذَّرَائِعِ بَلْ اعْتِمَادٌ على الْأَصْلِ قُلْت وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الْبُوَيْطِيِّ على كَرَاهِيَةِ التَّجْمِيعِ بِالصَّلَاةِ في مَسْجِدٍ قد صُلِّيَتْ فيه تِلْكَ الصَّلَاةُ إذَا كان له إمَامٌ رَاتِبٌ قال وَإِنَّمَا كَرِهْتُهُ لِئَلَّا يَعْمِدَ قَوْمٌ لَا يَرْضَوْنَ إمَامًا فَيُصَلُّونَ بِإِمَامٍ غَيْرَهُ انْتَهَى وقال في الْأُمِّ في مَنْعِ
قَرْضِ الْجَارِيَةِ التي يَحِلُّ لِلْمُسْتَقْرِضِ وَطْؤُهَا وَتَجْوِيزُ ذلك يُفْضِي إلَى أَنْ يَصِيرَ ذَرِيعَةً أَنْ يَطَأَهَا وهو يَمْلِكُ رَدَّهَا قال الْمَحَامِلِيُّ يَعْنِي أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ بِالْقَرْضِ وَطْءَ الْجَارِيَةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا على الْمُقْرِضِ فَيَسْتَبِيحُ الْوَطْءَ من غَيْرِ عِوَضٍ قِيلَ وَفِيهِ مَنْعُ الذَّرَائِعِ الِاسْتِحْسَانُ وقد نُوزِعَ في ذِكْرِهِ في جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ بِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الْعَقْلِيَّ لَا مَجَالَ له في الشَّرْعِ وَالِاسْتِحْسَانُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ فما وَجْهُ ذِكْرِهِ وهو لُغَةً اعْتِمَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا سَوَاءٌ كان عِلْمًا أو جَهْلًا وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ فإنه لَا يُنَبِّئُ عن انْتِحَالِ مَذْهَبٍ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وما اقْتَضَتْهُ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ هو الدِّينُ سَوَاءٌ اسْتَحْسَنَهُ نَفْسُهُ أَمْ لَا وَنَسَبَ الْقَوْلَ بِهِ إلَى أبي حَنِيفَةَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ وقد حَكَاهُ عنه الشَّافِعِيُّ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَنْكَرَ أَصْحَابُهُ ما حَكَى الشَّافِعِيُّ عنه وَنَسَبَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى مَالِكٍ وَأَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وقال ليس مَعْرُوفًا من مَذْهَبِهِ وقد أَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ حتى قال الشَّافِعِيُّ من اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ وَهِيَ من مَحَاسِنِ كَلَامِهِ قال الرُّويَانِيُّ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَنْصِبَ من جِهَةِ نَفْسِهِ شَرْعًا غير شَرْعِ الْمُصْطَفَى قال أَصْحَابُنَا وَمَنْ شَرَّعَ فَقَدْ كَفَرَ وَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ عن الْمُقَدَّمَةِ الثَّانِيَةِ لِوُضُوحِهَا قال السِّنْجِيُّ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ مُرَادُهُ لو جَازَ الِاسْتِحْسَانُ بِالرَّأْيِ على خِلَافِ الدَّلِيلِ لَكَانَ هذا بَعْثَ شَرِيعَةٍ أُخْرَى على خِلَافِ ما أَمَرَ اللَّهُ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ أَكْثَرَ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيٌّ على خِلَافِ الْعَادَاتِ وَعَلَى أَنَّ النُّفُوسَ لَا تَمِيلُ إلَيْهَا وَلِهَذَا قال عليه السَّلَامُ حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانُ ما في الْعَادَاتِ على خِلَافِ الدَّلِيلِ وقال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ الِاسْتِحْسَانُ تَلَذُّذٌ وَلَوْ جَازَ لِأَحَدٍ
الِاسْتِحْسَانُ في الدِّينِ جَازَ ذلك لِأَهْلِ الْعُقُولِ من غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَجَازَ أَنْ يَشْرَعَ في الدِّينِ في كل بَابٍ وَأَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدِ لِنَفْسِهِ شَرْعًا وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ في سَفْكِ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى إيجَابِ الْحَدِّ على الْمَشْهُودِ عليه بِالزِّنَى في الزَّوَايَا قال أبو حَنِيفَةَ الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا رَجْمَ عليه وَلَكِنَّا نَرْجُمُهُ اسْتِحْسَانًا وقال في آخَرِ الرِّسَالَةِ تَلَذُّذٌ وَإِنَّمَا قال ذلك لِأَنَّهُ قد اشْتَهَرَ عَنْهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِ بِمَا يَقَعُ في خَاطِرِهِ من غَيْرِ دَلِيلٍ وقال ابن الْقَطَّانِ قد كان أَهْلُ الْعِرَاقِ على طَرِيقَةٍ في الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ وهو ما اسْتَحْسَنَتْهُ عُقُولُهُمْ وَإِنْ لم يَكُنْ على أَصْلٍ فَقَالُوا بِهِ في كَثِيرٍ من مَسَائِلِهِمْ حتى قالوا في الْجَزَاءِ إنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ فيه الْقِيمَة وَالِاسْتِحْسَانُ شَاةٌ وَقَالُوا في الشُّهُودِ بِالزَّوَايَا الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا قال وقد تَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ عن بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ حين بَعَثَ مُعَاذًا وَدَلَّهُ على الِاجْتِهَادِ عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ ولم يذكر له الِاسْتِحْسَانَ وقد نهى اللَّهُ عن اتِّبَاعِ الْهَوَى وَمِمَّنْ أَنْكَرُوا الِاسْتِحْسَانَ من الْحَنَفِيَّةِ الطَّحْطَاوِيُّ حَكَاهُ ابن حَزْمٍ وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حُرِّرَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ زَالَ التَّشْنِيعُ وأبو حَنِيفَةَ بَرِيءَ إلَى اللَّهِ من إثْبَاتِ حُكْمٍ بِلَا حُجَّةٍ قال الْفَارِضُ الْمُعْتَزِلِيُّ في النُّكَتِ وقد جَرَتْ لَفْظَةُ الِاسْتِحْسَانِ لِإِيَاسِ بن مُعَاوِيَةَ وَلِمَالِكِ بن أَنَسٍ في كِتَابِهِ وَلِلشَّافِعِيِّ في مَوَاضِعَ انْتَهَى وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قال مَالِكٌ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ الِاسْتِحْسَانُ قال أَصْبَغُ بن الْفَرَجِ الِاسْتِحْسَانُ في الْعِلْمِ يَكُونُ أَبْلَغُ من الْقِيَاسِ ذَكَرَهُ في كِتَابِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ من الْمُسْتَخْرَجَةِ نَقَلَهُ ابن حَزْمٍ في الْأَحْكَامِ وقال الْبَاجِيُّ ذَكَرَ محمد بن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ هو الْقَوْلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ كَتَخْصِيصِ بَيْعِ الْعَرَايَا من بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَتَخْصِيصُ الرُّعَافِ دُونَ الْقَيْءِ بِالْبِنَاءِ لِلْحَدِيثِ فيه وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لو لم تَرِدْ سُنَّةٌ بِالْبِنَاءِ في الرُّعَافِ لَكَانَ في حُكْمِ الْقَيْءِ في أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ لِأَنَّ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَتَابُعَ الصَّلَاةِ فإذا وَرَدَتْ السُّنَّةُ في الرُّخْصَةِ بِتَرْكِ التَّتَابُعِ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ صِرْنَا إلَيْهِ
وَأَبْقَيْنَا الْبَاقِي على الْأَصْلِ قال وَهَذَا الذي ذَهَبَ إلَيْهِ هو الدَّلِيلُ فَإِنْ سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا فَلَا مُشَاحَّةَ في التَّسْمِيَةِ انْتَهَى وقال الْإِبْيَارِيُّ الذي يَظْهَرُ من مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ لَا على ما سَبَقَ بَلْ حَاصِلُهُ اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ في مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ فَهُوَ يُقَدِّمُ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ على الْقِيَاسِ وَمِثَالُهُ لو اشْتَرَى سِلْعَةً بِالْخِيَارِ ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ فَقِيلَ يُرَدُّ وَقِيلَ يَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ قال أَشْهَبُ الْقِيَاسُ الْفَسْخُ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إنْ أَرَادَ الْإِمْضَاءَ أَنْ يَأْخُذَ من لم يَمْضِ إذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ من قَبُولِ نَصِيبِ الرَّادِّ وقال ابن الْقَاسِمِ قُلْت لِمَالِكٍ لم يَقْضِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ في جِرَاحِ الْعَمْدِ وَلَيْسَ بِمَالٍ فقال إنَّهُ لِشَيْءٍ اسْتَحْسَنَّاهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَاسَهُ على الْأَمْوَالِ وقال بَعْضُ مُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ بَحَثْت عن مَوَارِدِ الِاسْتِحْسَانِ في مَذْهَبِنَا فإذا هو يَرْجِعُ إلَى تَرْكِ الدَّلِيلِ بِمُعَارَضَةِ ما يُعَارِضُهُ بَعْضُ مُقْتَضَاهُ كَتَرْكِ الدَّلِيلِ لِلْعُرْفِ في رَدِّ الْأَيْمَانِ إلَى الْعُرْفِ أو الْمُصَالَحَةِ كما في تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ وَلِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كما في إيجَابِ غُرْمِ الْقِيمَةِ على من قَطَّ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْحَاكِمِ أو في الْيَسِيرِ كَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ كما جَازَ التَّفَاضُلُ الْيَسِيرُ في الْمُرَاطَلَةِ وَإِجَازَةِ بَيْعٍ وَصَرْفٍ في الْيَسِيرِ وقال بَعْضُهُمْ هو مَعْنَى ليس في سُلُوكِهِ إبْطَالُ الْقَوَاعِدِ وَلَا يَجْرِي عليها جَرْيًا مُخْلِصًا كما في مَسْأَلَةِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنْ كان الِاسْتِحْسَانُ هو الْقَوْلُ بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْإِنْسَانُ وَيَشْتَهِيهِ من غَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا أَحَدَ يقول بِهِ ثُمَّ حَكَى كَلَامُ أبي زَيْدٍ أَنَّهُ اسْمٌ لِضَرْبِ دَلِيلٍ يُعَارِضُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ حتى كان الْقِيَاسُ غير الِاسْتِحْسَانِ على سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ وَكَأَنَّهُمْ سَمَّوْهُ بهذا الِاسْمِ لِاسْتِحْسَانِهِمْ تَرْكَ الْقِيَاسِ أو الْوُقُوفَ عن الْعَمَلِ بِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَوْقَهُ في الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ أو مِثْلِهِ ولم يَكُنْ لهم من هذه التَّسْمِيَةِ إلَّا التَّمْيِيزُ بين حُكْمِ الْأَصْلِ الذي يُبْنَى على الْأَصْلِ قِيَاسًا وَاَلَّذِي قال اسْتِحْسَانًا وَهَذَا كما مَيَّزَ أَهْلُ النَّحْوِ بين وُجُوهِ النَّصْبِ فَقَالُوا هذا نُصِبَ على الظَّرْفِ وَهَذَا نُصِبَ على الْمَصْدَرِ ثُمَّ نَبَّهَ ابن السَّمْعَانِيِّ على أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ فإن تَفْسِيرَ الِاسْتِحْسَانِ بِمَا يُشَنَّعُ عليهم لَا يَقُولُونَ بِهِ وَاَلَّذِي يَقُولُونَ بِهِ إنَّهُ الْعُدُولُ في الْحُكْمِ من دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ هو أَقْوَى منه فَهَذَا مِمَّا لم يُنْكِرْهُ لَكِنْ هذا الِاسْمُ لَا نَعْرِفُهُ اسْمًا لِمَا يُقَالُ بِهِ بِمِثْلِ هذا الدَّلِيلِ وَقَرِيبٌ منه قَوْلُ الْقَفَّالِ إنْ كان الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ ما دَلَّ عليه الْأُصُولُ
لِمَعَانِيهَا فَهُوَ حَسَنٌ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ له وَتَحْسِينِ الدَّلَائِلِ فَهَذَا لَا نُنْكِرُهُ وَنَقُولُ بِهِ وَإِنْ كان ما يُقَبَّحُ في الْوَهْمِ من اسْتِقْبَاحِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ بِحُجَّةٍ دَلَّتْ عليه من أَصْلٍ وَنَظِيرٍ فَهُوَ مَحْظُورٌ وَالْقَوْلُ بِهِ غَيْرُ سَائِغٍ وقال السِّنْجِيُّ الِاسْتِحْسَانُ كَلِمَةٌ يُطْلِقُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَهِيَ على ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وهو أَنْ يُقَدَّمَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أو الْعَقْلِيُّ على حُسْنِهِ كَالْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَقِدَمِ الْمُحْدِثِ وَبَعْثِهِ الرُّسُلَ وَإِثْبَاتِ صِدْقِهِمْ وَكَوْنِ الْمُعْجِزَةِ حُجَّةً عليهم وَمِثْلُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ لِهَذَا الضَّرْبِ يَجِبُ تَحْسِينُهُ لِأَنَّ الْحُسْنَ ما حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَالْقُبْحُ ما قَبَّحَهُ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ على مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَحْظُورًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وفي عَادَاتِ الناس إبَاحَتُهُ وَيَكُونُ في الشَّرْعِ دَلِيلٌ يُغَلِّظُهُ وفي عَادَاتِ الناس التَّخْفِيفُ فَهَذَا عِنْدَنَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ وَيَجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ وَتَرْكُ الْعَادَةِ وَالرَّأْيِ وَسَوَاءٌ كان ذلك الدَّلِيلُ نَصًّا أو إجْمَاعًا أو قِيَاسًا وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّ ذلك الدَّلِيلَ إنْ كان خَبَرَ وَاحِدٍ أو قِيَاسًا اُسْتُحْسِنَ تَرْكُهُمَا وَالْأَخْذُ بِالْعَادَاتِ كَقَوْلِهِ في خَبَرِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَرَأَيْت لو كَانَا في سَفِينَةٍ فَرَدَّ الْخَبَرَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَعَادَةِ الناس وَكَقَوْلِهِ في شُهُودِ الزَّوَايَا انْتَهَى إذَا عَلِمْت هذا فَاعْلَمْ أَنَّهُ قد اخْتَلَفَتْ الْحَنَفِيَّةُ في حَقِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ على أَقْوَالٍ
أَحَدُهَا أَنَّهُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ وَعَلَى هذا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ كما قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ لِأَنَّا نُوَافِقُهُمْ عليه لِأَنَّهُ الْأَحْسَنُ وَالثَّانِي أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ كما خَصَّ خُرُوجَ الْجِصِّ وَالنُّورَةِ من عِلَّةِ الرِّبَا في الْبُرِّ وَإِنْ كان مَكِيلًا وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ قال شَارِحُهُ وفي حَصْرِهِ في هذا الْمَعْنَى نَظَرٌ عِنْدِي وَعَلَى هذا التَّفْسِيرِ قال الْقَفَّالُ وَالْمَاوَرْدِيُّ نَحْنُ نُخَالِفُهُمْ بِنَاءً على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ عِنْدَنَا قال ابن الصَّبَّاغِ وَلَوْ كان هذا التَّخْصِيصُ لَمَا جَازَ تَرْكُهُ إلَى الْقِيَاسِ كما لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ مع قِيَامِ دَلِيلِ الْمُخَصِّصِ الثَّالِثُ أَنَّهُ تَرَكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِأَضْعَفِهِمَا إذَا كان حَتْمًا كما قال في شُهُودِ الزِّنَى الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ وَلَكِنْ أَحَدَّهُ اسْتِحْسَانًا قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وهو بهذا التَّفْسِيرِ يُخَالِفُ فيه لِأَنَّ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ عِنْدَنَا أَحْسَنُ من أَضْعَفِهِمَا وَلِأَنَّ في مَسْأَلَةِ الزَّوَايَا لَا قِيَاسَ أَصْلًا وَلَا خَبَرًا الرَّابِعُ أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْقِيَاسِ بِالسُّنَّةِ حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَلِأَجْلِهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا يُسْنِدُونَ لِمَا يَرَوْنَهُ إلَى خَبَرٍ كَمَصِيرِهِمْ إلَى أَنَّ النَّاسِي بِالْأَكْلِ لَا يُفْطِرُ لِخَبَرِ أبي هُرَيْرَةَ الْخَامِسُ قال إلْكِيَا وهو أَحْسَنُ ما قِيلَ في تَفْسِيرِهِ ما قَالَهُ أبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ أَنَّهُ قَطَعَ الْمَسَائِلَ عن نَظَائِرِهَا لِدَلِيلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عن الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فيه إلَى الثَّانِي سَوَاءٌ كان قِيَاسًا أو نَصًّا يَعْنِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَعْدِلُ عن الْحُكْمِ من مَسْأَلَةٍ بِمَا يَحْكُمُ في نَظَائِرِهَا إنَّ الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ لِوَجْهٍ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عنه كَتَخْصِيصِ أبي حَنِيفَةَ قَوْلَ الْقَائِلِ ما لي صَدَقَةٌ على الزَّكَاةِ فإن هذا الْقَوْلَ منه عَامٌّ في التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ وقال أبو حَنِيفَةَ يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَالْمُرَادُ من الْأَمْوَالِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِمْ أَمْوَالُ الزَّكَاةِ فَعَدَلَ عن الْحُكْمِ في مَسْأَلَةِ الْمَالِ الذي ليس هو بِزَكَوِيٍّ بِمَا حَكَمَ بِهِ في نَظَائِرِهَا من الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ إلَى خِلَافِ ذلك الْحُكْمِ لِدَلِيلٍ اقْتَضَى الْعُدُولَ وهو الْآيَةُ وقال عبد الْوَهَّابِ هو قَوْلُ الْمُحَصِّلِينَ من الْحَنَفِيَّةِ قال وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هو الذي قال بِهِ أَصْحَابُنَا فقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذلك الدَّلِيلُ أَقْوَى من الْقِيَاسِ الذي اقْتَضَى إلْحَاقَهَا بِنَظَائِرِهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقِيَاسِ وَلَا غَيْرِهِ من الْأَدِلَّةِ إلَّا لِمَا هو أَقْوَى منه وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَذْهَبُهُ كُلُّهُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ عُدُولٌ بِالْخَاصِّ عن
بَقِيَّةِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِدَلِيلٍ وَحَكَى ابن الْقَطَّانِ عن الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِأَدَقِّ الْقِيَاسَيْنِ وقال في الْمَنْخُولِ الصَّحِيحُ في ضَبْطِهِ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ وقد قَسَّمَهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا اتِّبَاعُ الحديث وَتَرْكُ الْقِيَاسِ كما فَعَلُوا في مَسْأَلَةِ الْقَهْقَهَةِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ الثَّانِي اتِّبَاعُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ كما قالوا في أُجْرَةِ الْعَبْدِ الْآبِقِ بِأَرْبَعِينَ اتِّبَاعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ الثَّالِثُ اتِّبَاعُ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ كَالْمُعَاطَاةِ فإن اسْتِمْرَارَهَا يَشْهَدُ بِصِحَّةِ نَقْلِهَا خَلَفًا عن سَلَفٍ وَيَغْلِبُ على الظَّنِّ أَنَّهُ في عَصْرِ الرَّسُولِ الرَّابِعُ اتِّبَاعُ مَعْنَى خَفِيٍّ هو أَخَصُّ بِالْمَقْصُودِ كما في إيجَابِ الْحَدِّ بِشُهُودِ الزَّوَايَا لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ فَعْلَةً وَاحِدَةً كَأَنْ يَزْحَفُ فيها قال الْغَزَالِيُّ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ على الْقِيَاسِ وَجَبَ عِنْدَنَا لَكِنَّ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ يُتَّبَعُ عِنْدَنَا وَأَمَّا أَنَّ الْأَعْصَارَ لَا تَتَفَاوَتُ فَمَرْدُودٌ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ في الْكَثْرَةِ حَدَثَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ فَأَمَّا الْمَعْنَى الْخَفِيُّ إذَا كان أَخَصَّ فَهُوَ مُتَّبَعٌ وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لم يَكْتَفِ بِمُوجِبِهِ حتى أتى بِالْعَجَبِ فقال يَجِبُ الْحَدُّ على من شَهِدَ عليه أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى أَرْبَعُ زَوَايَا كُلُّ وَاحِدٍ يَشْهَدُ على زَاوِيَةٍ قال وَلَعَلَّهُ كان يَتَزَحَّفُ في زَنْيَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ في سَفْكِ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بهذا الْخَيَالِ انْتَهَى وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ في الثَّالِثِ فقال الْمَنْقُولُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَتَّبِعُ ما اُسْتُحْسِنَ بِالْعَادَةِ وَيَتْرُكُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَمَثَّلَهُ بِشُهُودِ الزِّنَى انْتَهَى وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ محمد بن أَحْمَدَ الْبَلْعَمِيُّ الْحَنَفِيُّ في كِتَابِ الْغَرَرِ في الْأُصُولِ أَنَّهُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْخَفِيِّ قال وَلَا عَيْبَ إذَنْ في إطْلَاقِهِ بَلْ الْعَيْبُ على من جَهِلَ حَقِيقَتَهُ وقال بِهِ من حَيْثُ عِيبَ عن قَائِلِهِ قال وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في كِتَابِهِ قال حدثني بَعْضُ قُضَاةِ مَدِينَةِ السَّلَامِ مِمَّنْ كان يَلِي الْقَضَاءَ في زَمَانِ الْمُسْتَعِينِ بِاَللَّهِ قال سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بن جَابِرٍ وكان رَجُلًا كَثِيرَ الْعِلْمِ صَنَّفَ في اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ وكان يقول بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَهُ
قُلْت له ما الذي أَوْجَبَ عِنْدَك الْقَوْلَ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَ الْقَوْلِ بِهِ قال قَرَأْت كِتَابَ إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ لِلشَّافِعِيِّ فَرَأَيْتُهُ صَحِيحًا في مَعْنَاهُ إلَّا أَنَّ جَمِيعَ ما احْتَجَّ بِهِ هو بِعَيْنِهِ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ وَصَحَّ بِهِ عِنْدِي بُطْلَانُهُ قال فَهَذِهِ حِكَايَةٌ تُنَادِي على الْخَصْمِ أَنَّهُ يقول بِمَا يَعُودُ عليه بِالنَّقْضِ قُلْت إنْ كان الِاسْتِحْسَانُ كما نَقُولُ فَهُوَ نَوْعٌ من الْقِيَاسِ فَلَا وَجْهَ لِتَسْمِيَتِك بِهِ بِاسْمٍ آخَرَ وَلَئِنْ قُلْت لَا مُشَاحَّةَ في الِاصْطِلَاحِ قُلْنَا هُنَا يُوهِمُ أَنَّهُ دَلِيلٌ غَيْرُ الْقِيَاسِ فَقُلْ هو قِيَاسٌ في الْمَعْنَى وَلَهُ اسْمٌ آخَرُ في اللَّفْظِ وهو أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ وَحِينَئِذٍ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ السَّادِسُ أَنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ في نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَقْتَصِرُ عنه عِبَارَتُهُ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ قال الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا هو بَيِّنٌ لِأَنَّ ما يَقْدِرُ على التَّعْبِيرُ عنه لَا يَدْرِي هو وَهْمٌ أو تَحْقِيقٌ وَرَدَّ عليه الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ ما يَحْصُلُ في النَّفْسِ من مَجْمُوعِ قَرَائِنِ الْأَقْوَالِ من عِلْمٍ أو ظَنٍّ لَا يَتَأَتَّى عن دَلِيلِهِ عِبَارَةٌ مُطَابِقَةٌ له ثُمَّ لَا يَلْزَمُ من الِاخْتِلَالِ بِالْعِبَارَةِ الْإِخْلَالُ بِالْمُعَبَّرِ عنه فإن تَصْحِيحَ الْمَعَانِي بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ لَا بِالنُّطْقِ اللَّفْظِيِّ قال وَيَظْهَرُ لي أَنَّ هذا أَشْبَهَ ما يُفَسَّرُ بِهِ الِاسْتِحْسَانُ قُلْت وَعَلَى هذا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَلَا يُسْمَعُ منه بَلْ لَا بُدَّ من بَيَانِهِ لِيَظْهَرَ خَطَؤُهُ من صَوَابِهِ وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا هو مَحَلُّ الْخِلَافِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً إذْ لَا شَاهِدَ له السَّابِعُ أَنَّهُ مِمَّا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَحَدِيثِهِ من غَيْرِ دَلِيلٍ وَهَذَا هو ظَاهِرُ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ وهو الذي حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ كما قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ قال وَأَنْكَرَهُ أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ وقال الشَّيْخُ الشِّيرَازِيُّ إنَّهُ الذي يَصِحُّ عنه وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ من اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ قَوْلٌ في الشَّرِيعَةِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَمُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وما اخْتَلَفْتُمْ فيه من شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُنْكِرُونَ هذا التَّفْسِيرَ لِمَا فيه من الشَّنَاعَةِ قُلْت وهو الصَّوَابُ في النَّقْلِ عن أبي حَنِيفَةَ وَفْد صَنَّفَ الشَّافِعِيُّ كِتَابًا في الْأُمِّ في الرَّدِّ على أبي حَنِيفَةَ في الِاسْتِحْسَانِ وقال من جُمْلَتِهِ قال أبو حَنِيفَةَ لَمَّا رَدَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ بين الْمُتَتَابِعَيْنِ أَرَأَيْت لو كَانَا في سَفِينَةٍ فَتَرَكَ الحديث الصَّحِيحَ بهذا
التَّخْمِينِ وقال في مَسْأَلَةِ شُهُودِ الزَّوَايَا الْقِيَاسُ أَنَّهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ لَكِنْ اسْتَحْسَنَ قَبُولَهَا وَرَجْمَ الْمَشْهُودِ عليه قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ في قَتْلِ مُسْلِمِينَ وقال في الزَّوْجَيْنِ إذَا تَقَاذَفَا قال لها يا زَانِيَةُ فقالت بَلْ أنت زَانٍ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ لِأَنِّي أَسْتَقْبِحُ أَنْ أُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَحُدُّهَا قال الشَّافِعِيُّ وَأَقْبَحُ منه تَعْلِيلُ حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا انْتَهَى وَهَذَا صَرِيحٌ في أَنَّ الشَّافِعِيَّ فَهِمَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالِاسْتِحْسَانِ هذا فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ أَصْحَابِهِ ذلك وقد احْتَجَّ أَصْحَابُنَا على بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إلَى ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فَجَعَلَ الْأَحْسَنَ ما كان كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ وما اخْتَلَفْتُمْ فيه من شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ولم يَقُلْ إلَى الِاسْتِحْسَانِ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى من الِاسْتِحْسَانِ بِدَلِيلِ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ دُونَ الِاسْتِحْسَانِ فلم يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عليه الِاسْتِحْسَانُ وقد اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ ما رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا على أَحْكَامٍ عَدَلُوا عن الْأُصُولِ فيها إلَى الِاسْتِحْسَانِ منها دُخُولُ الْوَاحِدِ إلَى الْحَمَّامِ لِيَسْتَعْمِلَ مَاءً غير مُقَدَّرٍ وَيَشْتَرِي الْمَأْكُولَ بِالْمُسَاوَمَةِ من غَيْرِ عَقْدٍ يَتَلَفَّظُ بِهِ فَدَلَّ على أَنَّ اسْتِحْسَانَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ وَإِنْ لم يَقْتَرِنْ بِحُجَّةٍ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عن الْآيَةِ بِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْأَخْذَ بِالْأَحْسَنِ دُونَ الْمُسْتَحْسَنِ وهو ما جاء بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا غَيْرُهُمَا وَالْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ على ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالِاسْتِحْسَانِ
فَصْلٌ ما اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ المراد ( ( ( والمراد ) ) ) منه قال ابن الْقَاصِّ لم يَقُلْ الشَّافِعِيُّ بِالِاسْتِحْسَانِ إلَّا في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ قال وَأَسْتَحْسِنُ في الْمُتْعَةِ أَنْ تُقَدَّرَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وقال رأيت بَعْضَ الْحُكَّامِ يَحْلِفُ على الْمُصْحَفِ وَذَلِكَ حَسَنٌ وقال في مُدَّةِ الشُّفْعَةِ وَأَسْتَحْسِنُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وقال الْخَفَّافُ في الْخِصَالِ قال الشَّافِعِيُّ بِالِاسْتِحْسَانِ في سِتَّةِ مَوَاضِعَ فذكر هذه الثَّلَاثَةَ وزاد قَوْلَهُ في بَابِ الصَّدَاقِ من أَعْطَاهَا بِالْخَلْوَةِ فَذَاكَ ضَرْبٌ من الِاسْتِحْسَانِ يَعْنِي قَوْلَهُ الْقَدِيمَ وَكَذَلِكَ في الشَّهَادَاتِ كَتَبَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ ذلك اسْتِحْسَانٌ وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ حَسَنٌ وقد أَجَابَ الْأَصْحَابُ منهم الْإِصْطَخْرِيُّ وابن الْقَاصِّ وَالْقَفَّالُ وَالسِّنْجِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا اسْتَحْسَنَ ذلك بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عليه وهو الِاسْتِحْسَانُ حُجَّةٌ أَيْ أَنَّهُ حَسَنٌ لِأَنَّ كُلَّ ما ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ كان حَسَنًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ عن ابْنِ عُمَرَ وهو صَحَابِيٌّ فَاسْتَحْسَنَهُ على قَوْلِ غَيْرِهِ وقال الْقَفَّالُ إنَّمَا ذَكَرَهُ في الْقَدِيمِ بِنَاءً على قَوْلِهِ في تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ وقال الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِ الرِّسَالَةِ إنَّمَا اسْتَحَبَّ الْفَضْلَ ولم يُوجِبْهُ وَإِنَّمَا يُنْكَرُ الْقَضَاءُ بِالِاسْتِحْسَانِ فَأَمَّا أَنْ يُسْتَحَبَّ الْكَرَمُ وَالزِّيَادَةُ فَلَا يُنْكَرُ وَأَمَّا الثَّانِي فإن ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ فَعَلَاهُ وَأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِاعْتِبَارِ ما فيه إرْهَابٌ وَزَجْرٌ عن الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ وَالتَّحْلِيفُ بِالْمُصْحَفِ تَعْظِيمٌ فَكَأَنَّهُ من بَابِ الْقِيَاسِ تَغْلِيظًا بِالْيَمِينِ كما غَلُظَتْ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الشَّرِيفَيْنِ وقال الْقَفَّالُ هذا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَلْبَتَّةَ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الناس أَجْمَعُوا على تَأْجِيلِ الشُّفْعَةِ في قَرِيبٍ من الزَّمَانِ فَجَعَلَهُ هو مُقَدَّرًا بِثَلَاثَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى تَمَتَّعُوا في دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهِيَ حَدُّ الْقُرْبِ وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ في خِيَارِ الشَّرْطِ وفي مَقَامِ الْمُسَافِرِ وفي
أَكْثَرِ مُدَّةِ الْمَسْحِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ في الْبَوَاقِي فإنه اسْتَحْسَنَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ لِأَنَّهُ وَجَدَهَا مُسْنَدَةً وَأَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عن صَحَابِيٍّ فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَيْثُ قال بِهِ كان لِدَلِيلٍ لَا بِاعْتِبَارِ مَيْلِ النَّفْسِ قال الْإِصْطَخْرِيُّ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يُسْتَحْسَنَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ إلَّا من بَابِ الْمُمَاثَلَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ إلَى الْأُولَى وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ من الِاسْتِحْسَانِ هو الذي يُحَدِّثُهُ الْإِنْسَانُ عن نَفْسِهِ بِلَا مِثَالٍ كما في إيجَابِ الْحَدِّ بِشُهُودِ الزَّوَايَا قُلْت لَكِنْ رَأَيْت في سُنَنِ الشَّافِعِيِّ التي يَرْوِيهَا الْمُزَنِيّ عنه قال الطَّحَاوِيُّ سَمِعْت الْمُزَنِيّ يقول قال الشَّافِعِيُّ إذَا عَلِمَ صَاحِبُ الشُّفْعَةِ فَأَكْثَرُ ما يَجُوزُ له طَلَبُ الشُّفْعَةِ في ثَلَاثِهِ أَيَّامٍ فإذا كان في ثَلَاثِهِ أَيَّامٍ لم يَجُزْ طَلَبُهُ هذا اسْتِحْسَانٌ مِنِّي وَلَيْسَ بِأَصْلٍ انْتَهَى وَالْمُشْكَلُ فيه قَوْلُهُ وَلَيْسَ بِأَصْلٍ وَيَنْبَغِي تَأْوِيلُهُ على أَنَّ الْمُرَادَ ليس بِأَصْلٍ خَاصٍّ يَدُلُّ عليه لَا نَفْيِ الدَّلِيلِ أَلْبَتَّةَ وقال الْغَزَالِيُّ في الْبَسِيطِ قال الشَّافِعِيُّ لو كان بِرَأْسِ الْمُحْرِمِ هَوَامُّ فَنَحَّاهَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ ثُمَّ قال لَا أَدْرِي من أَيْنَ قُلْت ما قُلْت قال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ وَالْغَزَالِيُّ في الْبَسِيطِ هذا من قَبِيلِ اسْتِحْسَانِ أبي حَنِيفَةَ وهو مُشْكِلٌ فَالصَّحِيحُ أَنَّ ذلك من الشَّافِعِيِّ اسْتِحْسَانٌ فإنه بَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ له قُلْت ليس هذا من الِاسْتِحْسَانِ بَلْ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنِّي لَا أَذْكُرُ دَلِيلَ ما قُلْتُهُ لِأَجْلِهِ لَا أَنَّهُ قَالَهُ من غَيْرِ دَلِيلٍ بِهَوَى نَفْسِهِ وقد وَقَعَ الِاسْتِحْسَانُ في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ في مَوَاضِعَ أُخْرَى منها قال وَحَسَنٌ أَنْ يَضَعَ الْمُؤَذِّنُ إصْبَعَهُ في أُذُنَيْهِ لِأَنَّ حَدِيثَ بِلَالٍ اشْتَمَلَ على ذلك ومنها قال في الْوَسِيطِ إنَّ الشَّافِعِيَّ ذَهَبَ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِمَنْعِ قَرْضِ الْجَوَارِي مِمَّنْ هِيَ حَلَالٌ له اسْتِحْسَانًا ومنها قال في التَّغْلِيظِ على الْمُعَطِّلِ أَسْتَحْسِنُ إذَا حَلَفَ أَنْ يُسْأَلَ بِاَللَّهِ الذي خَلَقَك وَرَزَقَك ومنها قال الشَّافِعِيُّ أَسْتَحْسِنُ أَنْ يُتْرَكَ شَيْءٌ من نُجُومِ الْكِتَابَةِ ومنها إذَا قَالَا نَشْهَدُ أَنَّهُ لَا وَارِثَ له قال الشَّافِعِيُّ سَأَلْتُهُمَا عن ذلك فَإِنْ قَالَا هو لَا نَعْلَمُ فَذَا وَإِنْ قالوا تَيَقَّنَّاهُ قَطْعًا فَقَدْ أَخْطَئُوا لَكِنْ لَا تُرَدُّ بِذَلِكَ
شَهَادَتُهُمَا وَلَكِنْ أَرُدُّهَا اسْتِحْسَانًا حَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ من بَابِ الْإِقْرَارِ من الشَّامِلِ ومنها قال أبو زَيْدٍ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوْجُهِ في الْجَارِيَةِ الْمُغَنِّيَةِ كُلُّ هذا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ الصِّحَّةُ ومنها قال الرَّافِعِيُّ في الْإِيلَاءِ في وَلِيِّ الْمَجْنُونَةِ وَحَسَنٌ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ لِلزَّوْجِ ومنها اسْتِحْسَانُ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيرَ نَفَقَةِ الْخَادِمِ ومنها قال في الْوَسِيطِ إذَا أَخْرَجَ السَّارِقُ يَدَهُ الْيُسْرَى بَدَلَ الْيُمْنَى فَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ لَا تُقْطَعَ وَقَالُوا في تَعَيُّنِ الرَّمْيِ في النِّضَالِ وَمِنْهَا قال الرُّويَانِيُّ فِيمَا إذَا قال أَمْهِلُونِي لِأَسْأَلَ الْفُقَهَاءَ أَعْنِي الْمُدَّعِيَ في الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ اسْتَحْسَنَ فيها قُلُوبُنَا إمْهَالَهُ يَوْمًا وَذَكَرَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في كِتَابِ اقْتِنَاصِ السَّوَانِحِ ثَلَاثَ صُوَرٍ تَرْجِعُ إلَى الِاسْتِحْسَانِ أو الْمَصَالِحِ قال بها الْأَصْحَابُ إحْدَاهَا الْحُصُرُ الْوَقْفُ وَنَحْوُهُ إذَا بَلِيَ قِيلَ إنَّهُ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ في مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ وَمِثْلُهُ الْجِذْعُ الْمُنْكَسِرُ وَالدَّارُ الْمُنْهَدِمَةُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَقِيلَ إنَّهُ يُحْفَظُ فإنه عَيْنُ الْوَقْفِ فَلَا يُبَاعُ وَهَذَا الْقِيَاسُ الثَّانِيَةُ حَقُّ التَّوْلِيَةِ على الْوَقْفِ قِيلَ إنَّهُ لِلْوَاقِفِ وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ الْمُتَقَرِّبُ بِصَدَقَتِهِ فَهُوَ أَحَقُّ من يَقُومُ بِإِمْضَائِهَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ الثَّالِثَةُ إذَا أَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فَبَنَى الْمُسْتَعِيرُ أو غَرَسَ ثُمَّ رَجَعَ وَاتَّفَقَا على أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ وَالْبِنَاءَ لِثَالِثٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَقِيلَ هو كما لو كان لِهَذَا عَبْدٌ وَلِهَذَا عَبْدٌ فَبَاعَاهُمَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ أو اسْتِصْلَاحٌ فَائِدَةٌ قَيَّدَ الطَّبَرِيُّ في الْعُدَّةِ مَحَلَّ الْخِلَافِ في الِاسْتِحْسَانِ بِالْمُخَالِفِ لِلْقِيَاسِ فَإِنْ لم يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَهُوَ جَائِزٌ كما اسْتَحْسَنَ الشَّافِعِيُّ الْحَلِفَ بِالْمُصْحَفِ وَنَظَائِرِهِ وهو رَاجِعٌ لِمَا سَبَقَ
دَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ قال بها الْمُزَنِيّ وابن أبي هُرَيْرَةَ وَالصَّيْرَفِيُّ مِنَّا وأبو يُوسُفَ من الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عن نَصِّ الْمَالِكِيَّةِ قال وَرَأَيْت ابْنَ نَصْرٍ يَسْتَعْمِلُهَا كَثِيرًا وَقِيلَ إنَّ مَالِكًا احْتَجَّ في سُقُوطِ الزَّكَاةِ عن الْخَيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً فَقَرَنَ في الذِّكْرِ بين الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ لَا زَكَاةَ فيها إجْمَاعًا فَكَذَلِكَ الْخَيْلُ وَأَنْكَرَهَا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ الْقِرَانُ في النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ في الْحُكْمِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَدْخُلَ حَرْفُ الْوَاوِ بين جُمْلَتَيْنِ تَامَّتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أو فِعْلٌ وَفَاعِلٌ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ في الْجَمِيعِ أو الْمَعْمُومَ في الْجَمِيعِ وَلَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا في الْعِلَّةِ ولم يَدُلَّ دَلِيلٌ على التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى كُلُوا من ثَمَرِهِ
إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وَقَوْلِهِ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ وَكَاسْتِدْلَالِ الْمُخَالِفِ في أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا يَبُولَنَّ أحدكم في الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلُ فيه من الْجَنَابَةِ لِكَوْنِهِ مَقْرُونًا بِالنَّهْيِ عن الْبَوْلِ فيه وَالْبَوْلُ فيه يُفْسِدُهُ فَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ فيه وهو غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عن الِاغْتِسَالِ فيه لِمَعْنَى غَيْرِ الْمَعْنَى الذي مُنِعَ من الْبَوْلِ فيه لِأَجْلِهِ وَلَعَلَّ الْمَعْنَى في النَّهْيِ عن الِاغْتِسَالِ لَا تَرْتَفِعُ جَنَابَتُهُ كما هو مَذْهَبُ الْحُصَرِيِّ من أَصْحَابِنَا وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بها بِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ وَقِيَاسًا على الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ إذَا عُطِفَتْ على الْكَامِلَةِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ في النَّاقِصَةِ لِافْتِقَارِهَا إلَى ما تَتِمُّ بِهِ فإذا تَمَّتْ بِنَفْسِهَا لَا تَجِبُ الْمُشَارَكَةُ إلَّا فِيمَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ وَيَدُلُّ على فَسَادِ هذا الْمَذْهَبِ قَوْله تَعَالَى مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ وَاَلَّذِينَ معه أَشِدَّاءُ على الْكُفَّارِ فإن هذه الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ على ما قَبْلَهَا وَلَا تَجِبُ لِلثَّانِيَةِ الشَّرِكَةُ في الرِّسَالَةِ وقَوْله تَعَالَى كُلُوا من ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ دُونَ الْأَكْلِ وَالْأَكْلُ يَجُوزُ في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالْإِيتَاءُ لَا يَجِبْ إلَّا في خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في كل كَلَامٍ تَامٍّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ وَلَا يُشَارِكُهُ فيه الْأَوَّلُ فَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ هذا في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلِدَلِيلٍ من خَارِجٍ لَا من نَفْسِ النَّظْمِ أَمَّا إذَا كان الْمَعْطُوفُ نَاقِصًا بِأَنْ لم يُذْكَرْ فيه الْخَبَرُ فَلَا خِلَافَ في مُشَارَكَتِهِ لِلْأَوَّلِ كَقَوْلِك زَيْنَبُ طَالِقٌ وَعَمْرَةٌ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ وَأَمَّا إذَا كان بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ في الْعِلَّةِ فَيَثْبُتُ التَّسَاوِي من هذه الْحَيْثِيَّةِ لَا من جِهَةِ الْقِرَانِ احْتِجَاجُ أَصْحَابِنَا أَنَّ اللَّمْسَ حَدَثٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ وَمِثْلُهُ عَطْفُ الْمُفْرَدَاتِ وَاحْتِجَاجُ الشَّافِعِيِّ على إيجَابِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ قال الْبَيْهَقِيُّ قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه الْوُجُوبُ أَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّهَا لِقَرِينَتِهَا إنَّمَا أَرَادَ بها لِقَرِينَةِ الْحَجِّ في الْأَمْرِ وهو قَوْلُهُ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَكَانَ احْتِجَاجُهُ بِالْأَمْرِ دُونَ الِاقْتِرَانِ وقال الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِ الرِّسَالَةِ في حديث أبي سَعِيدٍ غُسْلُ الْجُمُعَةِ على كل مُحْتَلِمٍ وَالسِّوَاكُ وَأَنْ تَمَسَّ الطِّيبَ فيه دَلَالَةٌ على أَنَّ الْغُسْلَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِالسِّوَاكِ وَالطِّيبِ وَهُمَا غَيْرُ وَاجِبَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وقال غَيْرُهُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ على أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى الصُّبْحُ من حَيْثُ قِرَانُهَا بِالْقُنُوتِ في قَوْلِهِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ولم يُحَرِّمْ الْأَصْحَابُ خِطْبَةَ النِّكَاحِ على الْمُحْرِمِ مع أنها مُقَارِنَةٌ لِلنِّكَاحِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يَخْطُبُ قال صَاحِبُ الْوَافِي وَلِأَصْحَابِنَا في الْأُصُولِ وَجْهٌ أَنَّ ما ثَبَتَ من الْحُكْمِ لِشَيْءٍ ثَبَتَ لِقَرِينِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ قَائِلَهُ يُحَرِّمُ الْخِطْبَةَ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ لِلْقَرِينِ إلَّا بِأَنْ يُسَاوِيَهُ في اللَّفْظِ أو يُشَارِكَهُ في الْعِلَّةِ وقد بَيَّنَّا مُفَارَقَةَ الْخِطْبَةِ لِلْعَقْدِ وَهَكَذَا إذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا في اللَّفْظِ ثُمَّ ثَبَتَ لِأَحَدِهِمَا
حُكْمٌ بِالْإِجْمَاعِ لم يَثْبُتْ أَيْضًا لِلْآخَرِ ذلك الْحُكْمُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ على التَّسْوِيَةِ كَاسْتِدْلَالِ الْمُخَالِفِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ بَلْ يَجُوزُ بِالْخَلِّ وَنَحْوِهِ بِقَوْلِهِ حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ فَقَرَنَ بين الْحَتِّ وَالْقَرْصِ وَالْغَسْلِ بِالْمَاءِ وَأَجْمَعْنَا على أَنَّ الْحَتَّ وَالْقَرْصَ لَا يَجِبَانِ فَكَذَلِكَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ يُقَوِّي الْقَوْلَ بِهِ إذَا وَقَعَتْ حَادِثَةٌ لَا نَصَّ فيها كان رَدُّهَا إلَى ما قُرِنَ مَعَهَا من الْأَعْيَانِ في بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْلَى من رَدِّهَا إلَى غَيْرِ شَيْءٍ أَصْلًا هذا ما يُمْكِنُ خُرُوجُهُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا إذَا عَطَفَ جُمْلَةً على جُمْلَةٍ فَإِنْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ كانت الْمُشَارَكَةُ في أَصْلِ الْحُكْمِ لَا في جَمِيعِ صِفَاتِهِ وقد لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةً أَصْلًا وَهِيَ التي تُسَمَّى وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ على قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ فَإِنْ قَوْلَهُ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا تَعَلُّقَ لها بِمَا قَبْلَهَا وَلَا هِيَ دَاخِلَةٌ في جَوَابِ الشَّرْطِ وَإِنْ كانت الثَّانِيَةُ نَاقِصَةً شَارَكَتْ الْأُولَى في جَمِيعِ ما هِيَ عليه فإذا قال هذه طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ ثَلَاثًا بِخِلَافِ ما إذَا قال وَهَذِهِ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ بِتَمَامِهَا وَعَلَى هذا بَنَوْا بَحْثَهُمْ الْمَشْهُورَ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَسَبَقَ في بَابِ الْعُمُومِ وقد الْتَزَمَ ابن الْحَاجِبِ في أَثْنَاءِ كَلَامٍ له في مُخْتَصَرِهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ ضَرَبَ زَيْدًا يوم الْجُمُعَةِ وَعَمْرًا يَتَقَيَّدُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ أَيْضًا وَهِيَ تَقْتَضِي أَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ عِنْدَهُ على الْكَامِلَةِ يَقْتَضِي مُشَارَكَتَهَا في أَصْلِ الْحُكْمِ وَتَفَاصِيلِهِ وَحُكِيَ ذلك عن ابْنِ عُصْفُورٍ من النَّحْوِيِّينَ
وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَكَلَامُهُمْ مُخْتَلِفٌ فَقَالُوا إذَا قال إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ أَنَّ الثَّانِيَةَ تَتَقَيَّدُ أَيْضًا بِالشَّرْطِ وَكَذَا لو قَدَّمَ الْجَزَاءَ وَقَالُوا فِيمَا إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ إنَّهُ لَا يَكُونُ الدِّرْهَمُ مُفَسِّرًا لِلْأَلْفِ بَلْ له تَفْسِيرُهَا بِمَا شَاءَ وهو مَذْهَبٌ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ وَأَشَارَ إلَى أُخْرَى فَهَلْ تَطْلُقُ أو تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَجْهَانِ وَلَوْ قال كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَأَنْتِ يا أُمَّ أَوْلَادِي فقال الْعَبَّادِيُّ لَا تَطْلُقُ فَرْعٌ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ من رَأْسِ الْمَالِ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بها من الثُّلُثِ فَلَوْ قَرَنَهَا بِأَشْيَاءَ تَخْرُجُ من الثُّلُثِ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَسَقْيِ الْمَاءِ فقال ابن أبي هُرَيْرَةَ تُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ لِأَنَّ الِاقْتِرَانَ قَرِينَةٌ تُفِيدُ أَنَّهُ قَصَدَ كَوْنَهُ من الثُّلُثِ وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ لِأَنَّ اقْتِرَانَ الشَّيْئَيْنِ في اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ اقْتِرَانَهُمَا في الْحُكْمِ دَلَالَةُ الْإِلْهَامِ ذَكَرَهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وقال ما وَقَعَ في الْقَلْبِ من عَمَلِ الْخَيْرِ فَهُوَ إلْهَامٌ أو الشَّرِّ فَهُوَ وَسْوَاسٌ وقال بها بَعْضُ الشِّيعَةِ فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ قال الْقَفَّالُ وَلَوْ ثَبَتَتْ الْعُلُومُ بِالْإِلْهَامِ لم يَكُنْ لِلنَّظَرِ مَعْنًى ولم يَكُنْ في شَيْءٍ من الْعَالَمِ دَلَالَةٌ وَلَا عِبْرَةٌ وقد قال تَعَالَى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الْآفَاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لهم أَنَّهُ الْحَقُّ فَلَوْ كانت الْمَعَارِفُ إلْهَامًا لم يَكُنْ لِإِرَادَةِ الْأَمَارَاتِ وَجْهٌ قال وَيُسْأَلُ الْقَاتِلُ بهذا عن دَلِيلِهِ فَإِنْ احْتَجَّ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ فَقَدْ نَاقَضَ قَوْلَهُ وَإِنْ احْتَجَّ بِهِ أَبْطَلَ بِمِنْ ادَّعَى إلْهَامًا في إبْطَالِ الْإِلْهَامِ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ في حُجِّيَّةِ الْإِلْهَامِ خِلَافًا وَفَرَّعَا عليه أَنَّ الْإِجْمَاعَ هل يَجُوزُ انْعِقَادُهُ لَا عن دَلِيلٍ فَإِنْ قُلْنَا لم يَصِحَّ جَعْلُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا جَوَّزْنَا الِانْعِقَادَ لَا عن دَلِيلٍ وَإِلَّا فَلَا قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَائِلُ بِانْعِقَادِهِ لَا عن دَلِيلٍ هو قَوْلُ من جَعَلَ الْإِلْهَامَ دَلِيلًا قُلْت وقد اخْتَارَ جَمَاعَةٌ من الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتِمَادَ الْإِلْهَامِ منهم الْإِمَامُ في تَفْسِيرِهِ في أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ وابن الصَّلَاحِ في فَتَاوِيهِ فقال إلْهَامُ خَاطِرٍ حَقٌّ من الْحَقِّ قال وَمِنْ عَلَامَاتِهِ أَنْ يُشْرَحَ له الصَّدْرُ وَلَا يُعَارِضَهُ مُعَارِضٌ من خَاطِرٍ آخَرَ وقال أبو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ في كِتَابِ التَّذْكِرَةِ في أُصُولِ الدِّينِ ذَهَبَ بَعْضُ
الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ تَقَعُ اضْطِرَارًا لِلْعِبَادِ على سَبِيلِ الْإِلْهَامِ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِشَرْطِ التَّقْوَى وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا أَيْ تُفَرِّقُونَ بِهِ بين الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجًا أَيْ مَخْرَجًا على كل ما الْتَبَسَ على الناس وَجْهُ الْحُكْمِ فيه وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ فَهَذِهِ الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ تَحْصُلُ لِلْعِبَادِ إذَا زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ وَسَلِمَتْ قُلُوبُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ إذْ خَبَرُهُ صِدْقٌ وَوَعْدُهُ حَقٌّ فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بَعْدَ الْقَلْبِ لِحُصُولِ الْمُعَارَضَةِ فيه بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ كَإِعْدَادِهِ بِإِحْضَارِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فيه مع التَّفَطُّنِ لِوُجُوهِ لُزُومِ النَّتِيجَةِ عَقِيبَ النَّظَرِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ اضْطِرَارًا وَلَا مَدْخَلَ لِلْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ فيه وَأَمَّا حُصُولُ هذه الْمَعَارِفِ على سَبِيلِ إلْهَامِ الْمُبْتَدَأِ من غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ يَكُونُ من الْعَبْدِ فَأَحَدُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ في الْعَقْلِ وَيَمْتَنِعُ في الْعَادَةِ وما ذُكِرَ من أَنَّ مَدَارَكَ الْعُلُومِ الْإِلْهَامُ يَحْتَاجُ إلَى هذا التَّفْصِيلِ وهو غَلَطٌ في الْحَصْرِ إذْ ليس هو جَمِيعُ الْمَدَارِكِ بَلْ مُدْرَكٌ وَاحِدٌ على ما بَيِّنَاهُ وَتَأَوَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُمْ وقال يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدُوا أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وقال الْإِمَامُ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِي رَحِمَهُ اللَّهُ في بَعْضِ أَمَالِيهِ مُحْتَجًّا على الْإِلْهَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى وَقَوْلِهِ وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ فَهَذَا الْوَحْيُ مَجْرَدُ الْإِلْهَامِ ثُمَّ إنَّ من الْإِلْهَامِ عُلُومًا تَحْدُثُ في النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ الْمُطْمَئِنَّةِ قال عليه السَّلَامُ إنَّ من أُمَّتِي لَمُحَدَّثِينَ وَمُكَلَّمِينَ وَإِنَّ عُمَرَ لَمِنْهُمْ وقال تَعَالَى وَنَفْسٍ وما سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا فَأَخْبَرَ أَنَّ النُّفُوسَ مُلْهَمَةٌ فَالنَّفْسُ الْمُلْهَمَةُ عُلُومٌ لَدُنِّيَّةٌ هِيَ التي تَبَدَّلَتْ صِفَتُهَا وَاطْمَأَنَّتْ بَعْدَ أَنْ كانت أَمَّارَةً قال وَهَذَا النَّوْعُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ من عَالِمِ الْمُلْكِ وَالشَّهَادَةِ بَلْ تَخْتَصُّ فَائِدَتُهُ بِصَاحِبِهِ دُونَ غَيْرِهِ إذْ لم تَكُنْ له ثَمَرَةُ السِّرَايَةِ إلَى الْغَيْرِ على طَرِيقِ الْعُمُومِ وَإِنْ كانت له فَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِبَارِ على وَجْهٍ خَاصٍّ قال وَإِنَّمَا لم تَكُنْ له السِّرَايَةُ إلَى الْغَيْرِ على طَرِيقِ الْعُمُومِ عن مَفَاتِيحِ الْمُلْكِ لِكَوْنِ مَحَلِّهَا النَّفْسَ وَقُرْبِهَا من
الْأَرْضِ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيُّ بِخِلَافِ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى وهو الْوَحْيُ الذي قام بِنَقْلِهِ الْمَلَكُ الْمُلَقَّى لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ الْمُجَانِسُ لِلرُّوحِ الرُّوحَانِيِّ الْعُلْوِيِّ قال وَبَيْنَهُمَا ثَالِثَةٌ وَهِيَ النَّفْثُ في الرَّوْعِ يَزْدَادُ بها الْقَلْبُ عِلْمًا بِاَللَّهِ وَبِإِدْرَاكِ الْمُغَيَّبَاتِ وَهِيَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ تَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ فيها نَصِيبٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْثًا في حَقِّ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَتَّصِلُ بِرُوحِ الْقُدْسِ وَتَرِدُ عليه كَمَوْجَةٍ تَرِدُ على الْبَحْرِ فَيَكْشِفُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم جِبْرِيلُ عَقِبَ وُرُودِهَا على جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ فَتَصِيرُ الرَّحْمَةُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ وَاصِلَةً إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِنَفْثٍ في رَوْعِهِ انْتَهَى وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِمَا في الصَّحِيحِ من قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قد كان في الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ في أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ قال ابن وُهَيْبٍ يَعْنِي مُلْهَمُونَ وَلِهَذَا قال صَاحِبُ نِهَايَةِ الْغَرِيبِ جاء في الحديث تَفْسِيرُهُ أَنَّهُمْ الْمُلْهَمُونَ وَالْمُلْهَمُ هو الذي يُلْقَى في نَفْسِهِ الشَّيْءُ فَيُخْبِرُ بِهِ حَدْسًا وَفِرَاسَةً وهو نَوْعٌ يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ من يَشَاءُ من عِبَادِهِ كَأَنَّهُمْ حُدِّثُوا بِشَيْءٍ فَقَالُوهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم اسْتَفْتِ قَلْبَك وَإِنْ أَفْتَاك الناس فَذَلِكَ في الْوَاقِعَةِ التي تَتَعَارَضُ فيها الشُّبَهُ وَالرِّيَبُ قال الْغَزَالِيُّ وَاسْتِفْتَاءُ الْقَلْبِ إنَّمَا هو حَيْثُ أَبَاحَ الشَّيْءَ أَمَّا حَيْثُ حُرِّمَ فَيَجِبُ الِامْتِنَاعُ ثُمَّ لَا يُعَوَّلُ على كل قَلْبٍ فَرُبَّ مُوَسْوَسٍ يَنْفِي كُلَّ شَيْءٍ وَرُبَّ مُسَاهِلٍ نَظَرَ إلَى كل شَيْءٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَيْنِ الْقَلْبَيْنِ وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِ الْعَالِمِ الْمُوَفَّقِ الْمُرَاقِبِ لِدَقَائِقِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ الْمِحَكُّ الذي تُمْتَحَنُ بِهِ حَقَائِقُ الصُّوَرِ وما أَعَزَّ هذا الْقَلْبَ وقال الْبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الْإِيمَانِ هذا مَحْمُولٌ على أَنَّهُ يُعْرَفُ في شَأْنِهِ من عِلْمِ الْغَيْبِ ما عَسَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ أو يحدث على لِسَانِ مَلَكٍ بِشَيْءٍ من ذلك كما وَرَدَ في بَعْضِ طُرُقِ الحديث وَكَيْفَ يُحَدَّثُ قال يَتَكَلَّمُ الْمَلَكُ على لِسَانِهِ وقد رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ بن سَعْدٍ أَنَّهُ قال في هذا الحديث يَعْنِي يُلْقَى في رَوْعِهِ تَنْبِيهٌ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بهذا في غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السَّلَامُ وَإِلَّا فَمِنْ جُمْلَةِ طُرُقِ الْوَحْيِ الْإِلْهَامُ
الْهَاتِفُ الذي يُعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ مِثْلُ الذي سَمِعُوهُ يَأْمُرُ بِغُسْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في قَمِيصِهِ كَذَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ في ذَيْلِ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فيها قال لَكِنَّهُ من بَابِ الْفَضَائِلِ وَكَذَلِكَ ما اسْتَخَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ كَقَوْلِ الْعَبَّاسِ في حَدْوِ الصَّارِخِ اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّك وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْعَةِ فَعَلَهُ تَكْرِيمًا له قُلْت وقد صَنَّفَ ابن أبي الدُّنْيَا كِتَابًا في الْهَوَاتِفِ وَصَدَّرَهُ بِحَدِيثِ هَتَفَ جِبْرِيلُ بين السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
رُؤْيَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في النَّوْمِ على وَجْهٍ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ وقد سَبَقَ فيه مَزِيدُ بَيَانٍ في صَدْرِ الْكِتَابِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنَامَ لَا يُثْبِتُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَلَا بَيِّنَةً وَإِنْ كانت رُؤْيَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَقًّا وَالشَّيْطَانُ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ وَلَكِنْ النَّائِمُ ليس من أَهْلِ التَّحَمُّلِ وَالرِّوَايَةِ لِعَدَمِ تَحَفُّظِهِ وَأَمَّا الْمَنَامُ الذي رُوِيَ في الْأَذَانِ وَأَمَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْعَمَلِ بِهِ فَلَيْسَ الْحُجَّةُ فيه الْمَنَامَ بَلْ الْحُجَّةُ فيه أَمْرُهُ بِذَلِكَ في مَدَارِكِ الْعِلْمِ
كتاب التعادل والتراجيح
كِتَابٌ التَّعَادُلُ وَالتَّرَاجِيحُ وَالْقَصْدُ منه تَصْحِيحُ الصَّحِيحِ وَإِبْطَالُ الْبَاطِلِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يُنَصِّبْ على جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَدِلَّةً قَاطِعَةً بَلْ جَعَلَهَا ظَنِّيَّةً قَصْدًا لِلتَّوْسِيعِ على الْمُكَلَّفِينَ لِئَلَّا يَنْحَصِرُوا في مَذْهَبٍ وَاحِدٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عليه وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ فَقَدْ تُعَارَضُ بِعَارِضٍ في الظَّاهِرِ بِحَسَبِ جَلَائِهَا وَخَفَائِهَا فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا وَالْعَمَلُ بِالْأَقْوَى وَالدَّلِيلُ على تَعَيُّنِ الْأَقْوَى أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أو أَمَارَتَانِ فَإِمَّا أَنْ يَعْمَلَا جميعا أو يُلْغَيَا جميعا أو يُعْمَلَ بِالْمَرْجُوحِ وَالرَّاجِحِ وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ وَفِيهِ فَصْلَانِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ في التَّعَارُضِ وَالنَّظَرِ في حَقِيقَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ أَمَّا حَقِيقَتُهُ فَهُوَ تَفَاعُلٌ من الْعُرْضِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وهو النَّاحِيَةُ وَالْجِهَةُ وَكَأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَعَارِضَ يَقِفُ بَعْضُهُ في عُرْضِ بَعْضٍ أَيْ نَاحِيَتِهِ وَجِهَتِهِ فَيَمْنَعُهُ من النُّفُوذِ إلَى حَيْثُ وُجِّهَ وفي الِاصْطِلَاحِ تَقَابُلُ الدَّلِيلَيْنِ على سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ أَمَّا شُرُوطُهُ فَمِنْهَا التَّسَاوِي في الثُّبُوتِ فَلَا تَعَارُضَ بين الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ إلَّا من حَيْثُ الدَّلَالَةُ وَمِنْهَا التَّسَاوِي في الْقُوَّةِ فَلَا تَعَارُضَ بين الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ بَلْ يُقَدَّمُ الْمُتَوَاتِرُ بِالِاتِّفَاقِ كَذَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ لَكِنْ قال ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ إذَا وَرَدَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرٌ وَالْآخَرُ آحَادٌ أو آيَةٌ وَخَبَرٌ ولم يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُمَا وَكَانَا يُوجِبَانِ الْعَمَلَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يَتَعَارَضَانِ وَيَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في لُزُومِ الْحُجَّةِ لو انْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا فلم يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ على الْآخَرِ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في تَعَارُضِ الظَّاهِرِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا يُقَدَّمُ الْكِتَابُ لِخَبَرِ مُعَاذٍ وَالثَّانِي يُقَدَّمُ السُّنَّةُ لِأَنَّهَا الْمُفَسِّرَةُ لِلْكِتَابِ وَالْمُبَيِّنَةُ له وَالثَّالِثُ التَّعَارُضُ وَصَحَّحَهُ وَاحْتَجَّ عليه بِالِاتِّفَاقِ السَّابِقِ وَزَيَّفَ الثَّانِيَ بِأَنَّهُ ليس الْخِلَافُ في السُّنَّةِ الْمُفَسِّرَةِ بَلْ الْمُعَارِضَةُ قُلْت وَلِهَذَا نُقِلَ عن أَحْمَدَ أَنَّهُ كان يُقَدِّمُ السُّنَّةَ على الْكِتَابِ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَنَحْوِهِ قال بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَلَيْسَ هذا مُخَالِفًا لِمَا حَكَى من تَقْدِيمِ الْكِتَابِ على السُّنَّةِ لِأَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ على كَوْنِهِ بَيَانًا فَيُرَجَّحُ بِاعْتِبَارِ ذلك لَا بِطَرِيقِ تَرْجِيحِ النَّوْعِ على النَّوْعِ وَسَبَقَ في بَابِ
التَّخْصِيصِ الْخِلَافُ في قِيَاسِ نَصٍّ خَاصٍّ إذَا عَارَضَ عُمُومَ نَصٍّ آخَرَ مَذَاهِبُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا اتِّفَاقُهُمَا في الْحُكْمِ مع اتِّحَادِ الْوَقْتِ وَالْمَحَلِّ وَالْجِهَةِ فَلَا امْتِنَاعَ بين الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ في زَمَانَيْنِ في مَحَلٍّ أو مَحَلَّيْنِ أو مَحَلَّيْنِ في زَمَانٍ أو بِجِهَتَيْنِ كَالنَّهْيِ عن الْبَيْعِ في وَقْتِ النِّدَاءِ مع الْجَوَازِ وَذَكَرَ الْمُنَاطَقَة شُرُوطَ التَّنَاقُضِ في الْقَضَايَا الشَّخْصِيَّةِ ثَمَانِيَةٌ اتِّحَادُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَالْإِضَافَةِ وَالْجُزْءِ وَالْكُلِّ وفي الْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ وفي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وزاد بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَاسِعًا وهو اتِّحَادُهَا في الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِيَخْرُجَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى وَتَرَى الناس سُكَارَى وما هُمْ بِسُكَارَى وهو رَاجِعٌ إلَى الْإِضَافَةِ أَيْ يَرَاهُمْ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سُكَارَى مَجَازًا وما هُمْ بِسُكَارَى بِالْإِضَافَةِ إلَى الْخَمْرِ وَمِنْهُمْ من رَدَّ الثَّمَانِيَةَ إلَى ثَلَاثَةٍ وَهِيَ اتِّحَادُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَالزَّمَانِ وَمِنْهُمْ من يَرُدُّهَا إلَى الْأَوَّلَيْنِ لِانْدِرَاجِ وَحِدَةِ الزَّمَانِ تَحْتَ وَحِدَةِ الْمَحْمُولِ وَمِنْهُمْ من يَرُدُّهَا إلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ وهو الِاتِّحَادُ في النِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ لَا غير فَتَنْدَرِجُ الشُّرُوطُ الثَّمَانِيَةُ تَحْتَ هذا الشَّرْطِ الْوَاحِدِ وَنَبَّهَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ على أَنَّ هذه الشُّرُوطَ ليس الْمُرَادُ بها اعْتِبَارُهَا في تَنَاقُضِ كل وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً من الْقَضَايَا بَلْ الْقَضِيَّةُ إنْ كانت مَكَانِيَّةً اُعْتُبِرَ فيها وَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَالْمَكَانِ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ جَالِسٌ زَيْدٌ ليس بِجَالِسٍ وَإِنْ كانت زَمَانِيَّةً اُعْتُبِرَ فيها وَحْدَةُ الزَّمَانِ وَبِالْجُمْلَةِ فَوَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ مُعْتَبَرَةٌ في تَنَاقُضِ الْقَضَايَا بِأَسْرِهَا وَأَمَّا بَقِيَّةُ الشُّرُوطِ فَبِحَسَبِ ما يُنَاسِبُهَا قَضِيَّةً قَضِيَّةً فَافْهَمْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَاحِثَ في أُصُولِ الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ في نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَجِدُ ما يُحَقِّقُ هذه الشُّرُوطَ فَإِذًا لَا تَنَاقُضَ فيها وَأَمَّا أَقْسَامُهُ فَبِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَشَرَةٌ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ أَرْبَعَةٌ ثُمَّ يَقَعُ بين كل وَاحِدٍ منها وَبَاقِيهَا فَيَقَعُ بين الْكِتَابِ وَالْكِتَابِ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ أَمَّا التَّعَارُضُ بين الْكِتَابِ وَالْكِتَابِ فَلَا حَقِيقَةَ له في نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا قد يُظَنُّ
التَّعَارُضُ بَيْنَهُ ثُمَّ لَا بُدَّ من دَفْعِهِ بِحَمْلِ عَامٍّ على خَاصٍّ أو مُطْلَقٍ على مُقَيَّدٍ أو مُجْمَلٍ على مُبَيَّنٍ وَغَيْرِ ذلك من التَّصَرُّفَاتِ فَأَمَّا التَّعَارُضُ بين الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ كان الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا فَالْقَوْلُ فيه كَتَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ وَإِنْ لم يَكُنْ مُتَوَاتِرًا فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ على ما سَبَقَ وَأَمَّا التَّعَارُضُ بين الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَةُ الْإِجْمَاعِ لم يُتَصَوَّرْ كَالْآيَتَيْنِ وَإِلَّا فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ وَأَمَّا التَّعَارُضُ بين الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ طَبْعًا لِعِصْمَتِهِ دُونَ الْقِيَاسِ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَتَا مُتَوَاتِرَيْنِ فَكَالْكِتَابِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَإِنْ كَانَتَا آحَادًا طُلِبَ تَرْجِيحُ إحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى بِطَرِيقَةٍ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَالْخِلَافُ في التَّخْيِيرِ أو التَّسَاقُطِ وَإِنْ كان إحْدَاهُمَا مُتَوَاتِرًا وَالْأُخْرَى آحَادًا فَالْمُتَوَاتِرُ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ لم يَكُنْ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا كَالْآيَتَيْنِ وَإِنْ كان الْإِجْمَاعُ قَطْعِيًّا مع خَبَرِ الْوَاحِدِ فَالْإِجْمَاعُ مُقَدَّمٌ وَإِنْ كان ظَنِّيًّا مع خَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَدْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ وَالِاحْتِمَالَاتُ ثَلَاثَةٌ ثَالِثُهَا يُقَدَّمُ الْإِجْمَاعُ اللَّفْظِيُّ الْمُتَوَاتِرُ دُونَ السُّكُوتِيِّ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ فَلَا شَكَّ في تَقَدُّمِ قَاطِعِ السُّنَّةِ عليه أَمَّا السُّنَّةُ غَيْرُ الْمَقْطُوعِ بها فَإِنْ كان الْقِيَاسُ جَلِيًّا فَفِي تَقْدِيمِهِ عليها وَعَكْسِهِ تَرَدُّدٌ بِنَاءً على أَنَّهُ دَلَالَةٌ لَفْظِيَّةٌ أو قِيَاسِيَّةٌ وَإِنْ كان غير جَلِيٍّ قُدِّمَ الْخَبَرُ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَتُهُمَا لم يَتَقَدَّرْ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا كَالْآيَتَيْنِ وَإِنْ لم يَثْبُتْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أو يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِقُوَّةِ مُسْتَنَدِهِ أو صِفَتِهِ كَتَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ النَّصِّيِّ على الْقِيَاسِيِّ وَالنُّطْقِيِّ على السُّكُوتِيِّ وَاللَّفْظِيِّ الْحَقِيقِيِّ على الْمَعْنَوِيِّ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَةُ الْإِجْمَاعِ قُدِّمَ وَإِنْ لم يَثْبُتْ فَهُوَ تَقَدُّمُ الشَّبَهِيِّ وَالطَّرْدِيِّ وَنَحْوِهِمَا من الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ أَمَّا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ مع الْإِجْمَاعِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسِ فَهُمَا إمَّا جَلِيَّانِ أو خَفِيَّانِ أو أَحَدُهُمَا جَلِيٌّ دُونَ الْآخِرِ فَالْجَلِيَّانِ يُسْتَعْمَلُ بَيْنَهُمَا التَّرْجِيحُ وَغَيْرُ الْجَلِيَّيْنِ لَا بُدَّ من التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا جَلِيًّا قُدِّمَ على غَيْرِ الْجَلِيِّ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ
وَأَمَّا تَقْدِيرُ أَقْسَامِ التَّعَارُضِ من جِهَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ قَطْعًا وَمَفْهُومًا وَعُمُومًا وَخُصُوصًا وَغَيْرَ ذلك فَكَثِيرٌ وَسَنُفَصِّلُهَا تَنْبِيهٌ يَقَعُ التَّعَارُضُ في الشَّرْعِ بين الدَّلِيلَيْنِ كما ذَكَرْنَا وَبَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ بِأَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ لِزَيْدٍ بِكَذَا وَلِعَمْرٍو بِهِ وَبَيْنَ الْأَصْلِيَّيْنِ كما لو قَدَّ مَلْفُوفًا وَزَعَمَ الْوَلِيُّ حَيَاتَهُ وَالْجَانِي مَوْتَهُ فإن الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ كَثِيَابِ الْكُفَّارِ وَيَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ في ذلك كُلِّهِ وَاتَّفَقُوا على تَغْلِيبِ الْأَصْلِ على الْغَالِبِ في الدَّعَاوَى وَعَلَى تَغْلِيبِ الْغَالِبِ على الْأَصْلِ في الْبَيِّنَةِ فإن الْغَالِبَ صِدْقُهَا وَالْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ من النِّهَايَةِ تَقَابُلُ الْأَصْلَيْنِ مِمَّا يَسْتَهِينُ بِهِ الْفُقَهَاءُ وهو من غَوَامِضِ مَآخِذِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَيْفَ يَسْتَجِيزُ الْمُحَصِّلُ اعْتِقَادَ تَقَابُلِ أَصْلَيْنِ لَا يَرْجَحُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ وَحَكَى فِيهِمَا النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ وَهَذَا لو فُرِضَ لَكَانَ مُبَاهَتَةً وَمُحَاوَرَةً لَا سَبِيلَ إلَى بَتِّ قَوْلٍ فيها في فَتْوَى أو حُكْمٍ إذَا عَلِمَتْ ذلك فَالتَّعَادُلُ بين الدَّلِيلَيْنِ الْقَطْعِيَّيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ مُمْتَنِعٌ اتِّفَاقًا سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أو نَقْلِيَّيْنِ وَكَذَلِكَ بين الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ لِتَقَدُّمِ الْقَطْعِيِّ لِأَنَّهُ لو وَقَعَ لَاجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ أو ارْتَفَعَا وَهَذَا فيه أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بِنَاءٌ منهم على أَنَّ الْعُلُومَ غَيْرُ مُتَفَاوِتَةٍ فَإِنْ قُلْنَا بِتَفَاوُتِهِمَا اتَّجَهَ التَّرْجِيحُ بين الْقَطْعِيَّاتِ لِأَنَّ بَعْضَهَا أَجْلَى من بَعْضٍ ثَانِيهَا أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ما في نَفْسِ الْأَمْرِ وَأَمَّا في الْأَذْهَانِ فَجَائِزٌ فإنه قد يَتَعَارَضُ عِنْدَ الْإِنْسَانِ دَلِيلَانِ قَاطِعَانِ بِحَيْثُ يَعْجِزُ عن الْقَدْحِ في أَحَدِهِمَا وقد ذَكَرُوا هذا التَّفْصِيلَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَمَارَتَيْنِ فَلْيَجِئْ مِثْلُهُ في الْقَاطِعَيْنِ وَأَمَّا التَّعَادُلُ بين الْأَمَارَتَيْنِ في الْأَذْهَانِ فَصَحِيحٌ وَأَمَّا في نَفْسِ الْأَمْرِ على مَعْنَى أَنَّهُ يُنَصِّبُ اللَّهُ تَعَالَى على الْحُكْمِ أَمَارَتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ في نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا مُرَجِّحٌ فَاخْتَلَفُوا فيه فَمَنَعَهُ الكرخي وَغَيْرُهُ وَقَالُوا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ أَرْجَحَ وَإِنْ جَازَ خَفَاؤُهُ على بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ اعْتِدَالِهِمَا قال إلْكِيَا وهو الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ قال الْعَنْبَرِيُّ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَنَصَرَهُ
وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وهو الذي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وأبو الْخَطَّابِ من أَصْحَابِهِ وَصَارَ صَائِرُونَ إلَى أَنَّ ذلك جَائِزٌ وهو مَذْهَبُ أبي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَنُقِلَ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ قال إلْكِيَا وهو الْمَنْقُولُ عن الشَّافِعِيِّ ثُمَّ اخْتَارَ إلْكِيَا قَوْلَ الْكَرْخِيِّ وَنَقَلَهُ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وقال إنَّهُ قَطَعَ بِهِ قال وَالِاسْتِحَالَةُ مُتَلَقَّاةٌ من الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ وما نَقَلَهُ عن الشَّافِعِيِّ إنْ كان من جِهَةِ قَوْلِهِ بِالْقَوْلَيْنِ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ فَلَا يَدُلُّ لِأَنَّهُ تَعَادُلٌ ذِهْنِيٌّ وَلَا نِزَاعَ فيه وَإِنْ كان من جِهَةِ قَوْلِهِ في الْبَيِّنَتَيْنِ فَالْمَأْخَذُ مُخْتَلِفٌ بَلْ نَصَّ على الِامْتِنَاعِ في الرِّسَالَةِ فقال في بَابِ عِلَلِ الْأَحَادِيثِ ولم نَجِدْ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم حَدِيثَيْنِ نُسِبَا لِلِاخْتِلَافِ فَكَشَفْنَاهُ إلَّا وَجَدْنَا لَهُمَا مَخْرَجًا وَعَلَى أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ بِمُوَافَقَةِ كِتَابٍ أو سُنَّةٍ أو غَيْرِهِ من الدَّلَائِلِ انْتَهَى وَقَرَّرَهُ الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِهَا فقال قد صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَبَدًا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ مُتَضَادَّانِ يَنْفِي أَحَدُهُمَا ما يُثْبِتُهُ الْآخَرُ من غَيْرِ جِهَةِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِيِّ وَالتَّفْسِيرِ إلَّا على وَجْهِ النَّسْخِ وَإِنْ لم يَجِدْهُ وقد حَكَى الْجُرْجَانِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ بِالْمَنْعِ ثُمَّ قال وهو اخْتِلَافُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في سُؤْرِ الْحِمَارِ لَمَّا تَسَاوَى عِنْدَهُ الدَّلِيلَانِ تَوَقَّفَ عنه وَلَيْسَ كما قال لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لم يُخَيِّرْ في الْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بَلْ أَخَذَ بِالْأَحْوَطِ وَجَمَعَ بين الدَّلِيلَيْنِ فقال يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ نعم حُكِيَ عنه التَّخْيِيرُ في وُجُوبِ زَكَاةِ الْخَيْلِ وَعَدَمِهِ وَهَذَا هو الْخِلَافُ الذي يُعَبِّرُونَ عنه بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَالرَّاجِحُ كما قَالَهُ في اللُّمَعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَلْ لَا بُدَّ من تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وهو الذي نَصَرَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الْأَشْبَهُ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ أُحَادِيَّةً تُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَتَعَارُضِهَا وهو خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ خُلُوُّ الْوَقَائِعِ عن حُكْمِ اللَّهِ وَفَصَّلَ الْقَاضِي من الْحَنَابِلَةِ بين مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَيَمْتَنِعُ وَبَيْنَ الْفُرُوعِ فَيَجُوزُ فَإِنْ أَرَادَ بِالْأُصُولِ الْقَطْعِيَّ فَلَيْسَ خِلَافُنَا فيه ثُمَّ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ هذا الْخِلَافُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ في الْوُقُوعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ في التَّجْوِيزِ الْعَقْلِيِّ قُلْت هو جَارٍ فِيهِمَا فَقَدْ حَكَى ابن فُورَكٍ قَوْلًا بِامْتِنَاعِ وُجُودِ خَبَرَيْنِ لَا تَرْجِيحَ بَيْنَهُمَا وَعَزَاهُ ابن بَرْهَانٍ لِأَحْمَدَ وَالْإِمَامِ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في خِلَافِ تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَنَقَلَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ على جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ وقد قال عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا سُئِلَ عن الْجَمْعِ بين
الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ فقال حَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَأَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ ثُمَّ قَضِيَّةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في مَوْضِعِ أَنَّ الْجَوَازَ جَارٍ سَوَاءٌ قُلْنَا الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أو كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وقال الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالْغَزَالِيُّ وابن الصَّبَّاغِ التَّرْجِيحُ بين الظَّوَاهِرِ الْمُتَعَارِضَةِ إنَّمَا يَصِحُّ على قَوْلِ من رَأَى أَنَّ الْمُصِيبَ في الْفُرُوعِ وَاحِدٌ وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا مَعْنَى لِتَرْجِيحِ ظَاهِرٍ على ظَاهِرٍ لِأَنَّ الْكُلَّ صَوَابٌ عِنْدَهُ وَاخْتَارَ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ أَنَّ تَعَادُلَ الْأَمَارَتَيْنِ على حُكْمٍ وَاحِدٍ في فِعْلَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ كَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْنِ من الْإِبِلِ فإن وَاجِبَهُ أَرْبَعُ حِقَاقٍ أو خَمْسُ بَنَاتٍ لَبُونٍ وَأَمَّا تَعَارُضُهُمَا على حُكْمَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ كَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ مَثَلًا فإنه جَائِزٌ عَقْلًا وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا التَّفْرِيعُ التَّعَادُلُ الذِّهْنِيُّ حُكْمُهُ الْوَقْفُ أو التَّسَاقُطُ أو الرُّجُوعُ إلَى غَيْرِهِمَا وَأَمَّا التَّعَادُلُ في نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ وَتَعَادَلَا وَعَجَزَ الْمُجْتَهِدُ عن التَّرْجِيحِ وَتَحَيَّرَ ولم يَجِدْ دَلِيلًا آخَرَ فَاخْتَلَفُوا على مَذَاهِبَ أَحَدِهَا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ وَبِهِ قال الْجُبَّائِيّ وَابْنُهُ أبو هَاشِمٍ قال إلْكِيَا وَسَوَّيَا في ذلك بين تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ وَالْقِيَاسَيْنِ وَنَقَلَهُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ عن الْقَاضِي وَاَلَّذِي في التَّقْرِيبِ أَنَّهُ رَأْيٌ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالثَّانِي التَّسَاقُطُ كَالْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا وَيُطْلَبُ الْحُكْمُ من مَوْضِعٍ آخَرَ وَيَرْجِعُ إلَى الْعُمُومِ أو إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهَذَا ما قَطَعَ بِهِ ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ قال لِأَنَّ دَلَائِلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا تَتَعَارَضُ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِتَعَارُضِهِمَا على وَهَائِهَا جميعا أو وَهَاءِ أَحَدِهَا غير أَنَّا لَا نَعْرِفُهُ فَأَسْقَطْنَاهَا جميعا وَكَلَامُهُ يُشْعِرُ بِتَفْرِيعِهِ على الْقَوْلِ بِمَنْعِ التَّعَادُلِ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عن الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَهْلِ الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَدِيثَيْنِ وَأَنْكَرَهُ ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِعْرَابِ وقال إنَّمَا هو بَعْضُ شُيُوخِنَا وهو خَطَأٌ بَلْ الْوَاجِبُ الْأَخْذُ بِالزَّائِدِ إذَا لم يَقْدِرْ على اسْتِعْمَالِهَا جميعا فَاسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا من الْآخِرِ الثَّالِثُ إنْ كان التَّعَارُضُ بين حَدِيثَيْنِ تَسَاقَطَا وَلَا يُعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أو بين قِيَاسَيْنِ فَيَتَخَيَّرُ حَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ عن الْقَاضِي وَنَصَرَهُ وَالْفَرْقُ أَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما يَتَكَلَّمُ بِهِمَا فَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ قَطْعًا ولم نَعْلَمْهُ فَتَرَكْنَاهُمَا بِخِلَافِ الْقِيَاسَيْنِ وقد عُرِفَ أَنَّ الْقَاضِيَ نُسِبَ إلَيْهِ كُلٌّ من هذه الْأَقْوَالِ
الرَّابِعُ الْوَقْفُ كَالتَّعَادُلِ الذِّهْنِيِّ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَاسْتَبْعَدَهُ الْهِنْدِيُّ إذْ الْوَقْفُ فيه إلَى غَايَةٍ وَأَمَدٍ إذْ لَا يُرْجَى فيه ظُهُورُ الرُّجْحَانِ وَإِلَّا لم تَكُنْ مَسْأَلَتَنَا بِخِلَافِ التَّعَادُلِ الذِّهْنِيِّ فإنه يَتَوَقَّفُ فيه إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْمُرَجِّحُ قُلْت لَعَلَّ قَائِلَهُ أَرَادَ بِالتَّوَقُّفِ عن الْحُكْمِ وَالْتِحَاقِهِمَا بِالْوَقَائِعِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فَيَجِيءُ فيه الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ لَا وَقْفُ خَبَرِهِ ولم يذكر الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ غَيْرَهُ قال وَهَذَا حُكْمُ الْأُصُولِيِّ وَلَكِنْ بِمَا يَرَاهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إذَا كانت مُتَعَلِّقَةً بِالْمُفْتِينَ ولم يَشْعُرْ الزَّمَانُ منهم فَلَا يَقَعُ مِثْلُ هذه الْوَقْعَةِ وَمِنْ هَاهُنَا حَكَى ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ عن الْإِمَامِ امْتِنَاعَ وُجُودِ خَبَرَيْنِ لَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وَالْخَامِسُ يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ كما حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالسَّادِسُ يُصَارُ إلَى التَّوْزِيعِ إنْ أَمْكَنَ تَنْزِيلُ كل أَمَارَةٍ على أَمْرٍ وَالْأُخْرَى على غَيْرِهِ كما في الثُّلُثَيْنِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا على قَوْلٍ وَكَمَا في الشُّفْعَةِ تُوَزَّعُ على عَدَدِ الرُّءُوسِ وَتَارَةً على عَدَدِ الْأَنْصِبَاءِ وَالسَّابِعُ إنْ وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَاجِبَاتِ فَالتَّخْيِيرُ إذْ لَا يَمْتَنِعُ التَّخْيِيرُ في الشَّرْعِ كَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْنِ من الْإِبِلِ وَإِنْ وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ كَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ فَالتَّسَاقُطُ وَالرُّجُوعُ إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ذَكَرَهُ في الْمُسْتَصْفَى وَالثَّامِنُ يُقَلِّدُ عَالِمًا أَكْبَرَ منه وَيَصِيرُ كَالْعَامِّيِّ لِعَجْزِهِ عن الِاجْتِهَادِ حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالتَّاسِعُ أَنَّهُ كَالْحُكْمِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فَتَجِيءُ فيه الْأَقْوَالُ الْمَشْهُورَةُ حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وهو غَيْرُ قَوْلِ الْوَقْفِ على ما سَبَقَ فيه تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ما فَرَضْنَاهُ من الْخِلَافِ عِنْدَ الْعَجْزِ عن التَّرْجِيحِ وَعَنْ دَلِيلٍ آخَرَ هو الصَّوَابُ وَصَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ الْخِلَافَ في مُطْلَقِ التَّعَادُلِ وَمُرَادُهُمْ ما ذَكَرْنَاهُ الثَّانِي سَتَأْتِي فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ على الْعَامِّيِّ جَوَابُ مُفْتِيَيْنِ مَذَاهِبُ أُخْرَى يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُهَا هُنَا لَكِنْ الْمَذْهَبُ هُنَاكَ التَّخْيِيرُ وَهُنَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في التَّرْجِيحِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَامِّيَّ يُضْطَرُّ إلَى الْمُرَجَّحِ وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَهُ تَصَرُّفٌ وَرَاءَ التَّعَارُضِ الثَّالِثُ إذَا تَخَيَّرَ فَلِلْمُنَاظِرِ ثَلَاثَة أَحْوَالٍ فَإِنْ كان مُجْتَهِدًا تَخَيَّرَ في إلْحَاقِهِ بِمَا شَاءَ
إنْ قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَإِنْ قُلْنَا الْحَقُّ في وَاحِدٍ امْتَنَعَ التَّخْيِيرُ قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَإِنْ كان مُفْتِيًا فقال الْقَاضِي قالت الْمُصَوِّبَةُ لَا يَجُوزُ له تَأْخِيرُ الْمُسْتَفْتِي بَلْ يَجْزِمُ بِمُقْتَضَى أَحَدِهِمَا وَقِيلَ يَجُوزُ وهو الْأَوْلَى عِنْدَنَا وَبِهِ أَجَابَ في الْمَحْصُولِ وَاسْتَشْكَلَ الْهِنْدِيُّ الْجَزْمَ بِأَحَدِهِمَا وقال ليس في التَّخْيِيرِ الْأَخْذُ بِأَيِّ الْحُكْمَيْنِ شَاءَ وَاخْتَارَ رَأْيًا ثَالِثًا وهو أَنَّ الْمُفْتِيَ بِالْخِيَارِ بين أَنْ يَجْزِمَ له الْفُتْيَا وَبَيْنَ أَنْ يُخَيِّرَهُ إذْ ليس في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالَفَةُ دَلِيلٍ وَلَا فَسَادٌ فَيَسُوغُ الْأَمْرَانِ وَإِنْ كان حَاكِمًا فقال الْقَاضِي أَجْمَعَ الْكُلُّ يَعْنِي الْمُصَوِّبَةَ وَالْمُخَطِّئَةَ أَنَّهُ ليس له تَخْيِيرُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ في الْحُكْمِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بَلْ عليه بَتُّ الْحُكْمِ بِاعْتِقَادِهِ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ وَلَوْ خَيَّرَهُمَا لَمَا انْقَطَعَتْ خُصُومَتُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْتَارُ الذي هو أَرْفَقُ له بِخِلَافِ حَالِ الْمُفْتِي فَلَوْ اخْتَارَ الْقَاضِي إحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ وَحَكَمَ بها لم يَكُنْ له أَنْ يَحْكُمَ بِالْأُخْرَى في وَقْتٍ آخَرَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اتِّهَامِهِ بِالْحُكْمِ بِالْبَاطِلِ حَكَاهُ الْقَاضِي عن كَثِيرٍ من الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكُلَّ مُصِيبٌ وَحُكِيَ عن الْعَنْبَرِيِّ جَوَازَهُ وَلَيْسَ ما قَالَهُ بِبَعِيدٍ لِأَنَّ هذه التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ في الْحُكْمِ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَحَكَمَ بِالْقَوْلِ وَضِدِّهِ وقد قال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه في الْمُشَرَّكَةِ ذلك على ما قَضَيْنَا وَهَذَا على ما نَقْضِي نعم احْتَجَّ في الْمَحْصُولِ وَالْمِنْهَاجِ لِلْمَنْعِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه لَا تَحْكُمْ في قَضِيَّةٍ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وقد أُنْكِرَ عليهم هذا الْحَدِيثُ وَسُئِلَ عنه الذَّهَبِيُّ فلم يَعْرِفْهُ قُلْت وهو تَحْرِيفٌ وَإِنَّمَا هو لِأَبِي بَكْرَةَ كَذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ في سُنَنِهِ في الْأَقْضِيَةِ مَسْأَلَةٌ تَنَاقَشُوا في الذي يُضَافُ إلَيْهِ التَّعَارُضُ فَمِنْهُمْ من تَسَمَّحَ وَأَضَافَهُ إلَى الْأَمَارَاتِ وَمِنْهُمْ من نَاقَشَ نَفْسَهُ وَأَضَافَهُ إلَى صُوَرِ الْأَمَارَاتِ بِنَاءً على أَنَّ الْمَرْجُوحِيَّةَ لَيْسَتْ بِأَمَارَةٍ حَقِيقَةً إذْ الْحُكْمُ عِنْدَهَا مَفْقُودٌ مَظْنُونٌ الْعَدَمُ نعم صُورَتُهَا مَحْفُوظَةٌ وَمَعْنَى الصُّورَةِ عِنْدَهُمْ رَاجِعٌ إلَى تَقْدِيرِ الِانْفِرَادِ أَيْ لو انْفَرَدَتْ هذه الْأَمَارَةُ عن
الْمُعَارِضِ لَكَانَتْ أَمَارَةً حَقِيقَةً وَيَلْزَمُ هذا الْقَائِلَ أَنْ يَقُولَ بِتَعَارُضِ الْقَاطِعَيْنِ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا بهذا الِاعْتِبَارِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْأَمَارَةَ وُجِدَ فيها مُقْتَضَى الصِّحَّةِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْعَمَلُ بها لِمُعَارِضٍ فَجَازَ أَنْ يُطْلَقَ عليها التَّصْحِيحُ وَالتَّرْجِيحُ وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فَلَا مُقْتَضَى فيها لِلصِّحَّةِ أَلْبَتَّةَ وإذا عُرِفَ الْفَرْقُ بين كَوْنِ الشَّيْءِ فيه مُقْتَضَى الصِّحَّةِ وَيَخْتَلِفُ عَمَلُهُ وَبَيْنَ كَوْنِهِ لَا مُقْتَضَى لِلصِّحَّةِ فيه فَبِاعْتِبَارِ مُقْتَضَى الصِّحَّةِ أَطْلَقْنَا على الْمَرْجُوحِيَّةِ أنها أَمَارَةٌ بِخِلَافِ الشُّبْهَةِ في الْقَوَاطِعِ مَسْأَلَةٌ قَوْلُ الْعَالِمِ في الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ لَا يُعْلَمُ قبل الشَّافِعِيِّ بِهِ تَصْرِيحًا وهو رَحِمَهُ اللَّهُ قد ابْتَكَرَ هذه الْعِبَارَةَ وَذَكَرَهَا في كُتُبِهِ وقد أَنْكَرَ عليه كَثِيرٌ من مُخَالِفِيهِ وَنَسَبُوهُ إلَى الْخَطَأِ وَقَالُوا هذا دَلِيلٌ على نُقْصَانِ الْآلَةِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ فَقَالُوا وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عن أبي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رضي اللَّهُ عنهما فَذَلِكَ في حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَالْمُجْتَهِدُ قد يَجْتَهِدُ في مُجْتَهَدٍ في وَقْتٍ فَيُؤَدِّي اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَجْتَهِدُ في وَقْتٍ آخَرَ فَيُؤَدِّي إلَى خِلَافِهِ إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ عن الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا الْمُسْتَنْكَرُ اعْتِقَادُهُ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في وَقْتٍ وَاحِدٍ في حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا طَعْنُ الْمُخَالِفِينَ في الْقَوْلَيْنِ قال وقد صَنَّفَ بَعْضُهُمْ في ذلك تَصْنِيفًا وَرَأَيْت لِأَبِي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ الْمُلَقَّبِ بِجُعَلٍ في هذا كِتَابًا مُفْرَدًا صَنَّفَهُ لِلْمَعْرُوفِ بِالصَّاحِبِ وهو إسْمَاعِيلُ بن عَبَّادٍ أَيْ في إنْكَارِ ذلك على الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه وقد قَسَّمَ أَصْحَابُنَا الْقَوْلَيْنِ تَقْسِيمًا بَيَّنُوا فيه فَسَادَ هذا الِاعْتِرَاضِ وَأَنَّ الذي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ليس هو مَوْضِعَ الْإِنْكَارِ ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الْمَاوَرْدِيِّ الْآتِيَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ في مَسْأَلَةِ الْقَوْلَيْنِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا ما طُعِنَ بِهِ على الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي في كَيْفِيَّةِ إضَافَتِهِمَا إلَيْهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ لَا عَيْبَ فيه بَلْ فيه دَلَالَةٌ على صِحَّةِ قَرِيحَتِهِ وَتَبَحُّرِهِ في الشَّرِيعَةِ مع التَّنْبِيهِ على النَّظَرِ في الْمَأْخَذِ وَمَعْرِفَةِ أُصُولِ الْحَوَادِثِ وَتَعْلِيمِهِمْ طُرُقَ
الِاسْتِنْبَاطِ وقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ الْقَوْلَيْنِ وَقَالُوا إنَّمَا يَسُوغُ ذلك على الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَأَمَّا على قَوْلِهِ إنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَلَا وقال الْمُحَقِّقُونَ بَلْ لِمَخْرَجِهَا طُرُقٌ فَذَكَرَهَا وقال ابن كَجٍّ وابن فُورَكٍ وَغَيْرُهُمَا من قُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ الْمُسْتَنْكَرُ اعْتِقَادُهُمَا مَعًا في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كما يَسْتَحِيلُ كَوْنُ الشَّيْءِ على ضِدَّيْنِ من الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هذا ليس كَذَلِكَ بَلْ لِقَوْلِهِ مَخَارِجُ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا اعْتِقَادُهُ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِ ما عَدَا ذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وقد يَكُونُ وَاقِفًا فِيهِمَا وقد أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ على قَوْلَيْنِ ولم يُنْكَرْ عليهم ثَانِيهَا أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُ لِتَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ كَقَوْلِ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ ثَالِثِهَا أَنْ يَقُولَهُ على طَرِيقِ التَّخْيِيرِ لِتَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ عِنْدَهُ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ بِنَاءً على أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وهو كما عَمِلَ عُمَرُ في الشُّورَى جَعَلَ الْأَمْرَ بين سِتَّةٍ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الِاعْتِذَارَ الْأَوَّلَ عن أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيّ وَزَيَّفَهُ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقْطَعُ بِتَخْطِئَةِ مُخَالِفِهِ وَمَنْ تَدَبَّرَ أُصُولَهُ عَرَفَ ذلك وَحَكَى الثَّالِثَ عن الْقَاضِي وقال إنَّهُ بَنَاهُ على اعْتِقَادِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ ثُمَّ لَا يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيمَا إذَا كان أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ تَحْرِيمًا وَالْآخَرُ تَحْلِيلًا إذْ يَسْتَحِيلُ التَّخْيِيرُ بين حَرَامٍ وَمُبَاحٍ قال وَعِنْدِي أَنَّهُ حَيْثُ نَصَّ على قَوْلَيْنِ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ له فيها مَذْهَبٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ لِتَرَدُّدِهِ فِيهِمَا وَعَدَمِ اخْتِيَارِهِ لِأَحَدِهِمَا وَلَا يَكُونُ ذلك خَطَأً منه بَلْ يَدُلُّ على عُلُوِّ رُتْبَةِ الرَّجُلِ وَتَوَسُّعِهِ في الْعِلْمِ وَعَمَلِهِ بِطُرُقِ الْأَشْبَاهِ فَإِنْ قِيلَ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ إذْ ليس له على هذه الْمَسَائِلِ قَوْلٌ وَلَا قَوْلَانِ قُلْنَا هَكَذَا نَقُولُ وَلَا نَتَحَاشَى منه وَإِنَّمَا وَجْهُ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ هو ذِكْرُهُ لَهُمَا وَاسْتِقْصَاؤُهُ وُجُوهَ الْأَشْبَاهِ فِيهِمَا هذا أَسَدُّهَا وَأَوْضَحُهَا وَأَمَّا الثَّانِي فَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عن مُجْتَهِدٍ في مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلَانِ مُتَنَافِيَانِ فَلَهُ حَالَتَانِ الْحَالَةُ الْأُولَى أَنْ يَكُونَ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَقُولَ في هذه الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ ثُمَّ إمَّا أَنْ يُعَقِّبَ بِمَا يُشْعِرُ بِالتَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا بِأَنْ يَقُولَ أَحَبُّهُمَا إلَيَّ وَأَشْبَهُهُمَا
بِالْحَقِّ عِنْدِي وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فيه أو يقول هذا قَوْلٌ مَدْخُولٌ أو مُنْكَرٌ فَيَكُونُ ذلك قَوْلَهُ لِأَنَّهُ الذي تَرَجَّحَ عِنْدَهُ قال أبو الْقَاسِمِ بن كَجٍّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ على قَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الْآخَرَ لِيَبْعَثَ على طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَفْعَلَ ذلك فَاخْتَلَفُوا فيه على ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ أَصَحِّهَا أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ قَوْلٌ في الْمَسْأَلَةِ بَلْ هو مُتَوَقِّفٌ لِعَدَمِ تَرْجِيحِ دَلِيلِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ في نَظَرِهِ وَقَوْلُهُ فيه قَوْلَانِ أَيْ احْتِمَالَانِ لِوُجُودِ دَلِيلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ لَا أَنَّهُمَا مَذْهَبَانِ لِمُجْتَهِدَيْنِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَلَا نَعْرِفُ مَذْهَبَهُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَذْهَبَيْنِ وَهَذَا ما جَزَمَ بِهِ في الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ وَالثَّانِي يَجِبُ اعْتِقَادُ نِسْبَةِ أَحَدِهِمَا إلَيْهِ وَرُجُوعِهِ عن الْآخَرِ غير مُعَيَّنٍ دُونَ نِسْبَتِهِمَا جميعا وَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِمَا حتى يَتَبَيَّنَ كَالنَّصَّيْنِ إذَا عَلِمْنَا نَسْخَ أَحَدِهِمَا غير مُعَيَّنٍ وَكَالرَّاوِي إذَا اشْتَبَهَ عليه ما رَوَاهُ من شَيْئَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ الْآمِدِيَّ وهو أَحْسَنُ من الذي قَبْلَهُ وَإِنْ كان خِلَافَ عَمَلِ الْفُقَهَاءِ وَالثَّالِثِ أَنَّ له قَوْلَيْنِ وَحُكْمُهُمَا التَّخْيِيرُ قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَهَذَا بَنَاهُ الْقَاضِي على اعْتِقَادِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ لَكِنْ الصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَلَا يُمْكِنُ منه الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْقَوْلَانِ بِتَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ وَيَسْتَحِيلُ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا وَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ ذلك في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ من دُونِ تَرْجِيحٍ قَلِيلٌ حتى نَقَلَ ابن كَجٍّ عن الْقَاضِي أبي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيّ أَنَّهُ ليس لِلشَّافِعِيِّ مِثْلُ ذلك إلَّا سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ إلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا سِتَّةَ عَشَرَ أو سَبْعَةَ عَشَرَ وَوَقَعَ في الْمَحْصُولِ ذلك لِلشَّيْخِ أبي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَجَزَمَ بِأَنَّهَا سَبْعَةَ عَشَرَ وَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عليه لَكِنْ رأيت بِخَطِّ الشَّيْخِ أبي عَمْرِو بن الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا انْتَخَبَهُ من كِتَابِ شَرْحِ التَّرْتِيبِ لِلْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ ما لَفْظُهُ كان أبو حَامِدٍ يَذْكُرُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَبْلُغُ ما له من الْمَسَائِلِ التي اخْتَلَفَ أَقَاوِيلُهُ فيها أَكْثَرَ من أَرْبَعٍ أو خَمْسٍ وَالْبَاقِيَ كُلَّهَا قَطَعَ فيها بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْأَقَاوِيلِ فإنه ذَكَرَ في بَعْضِهَا وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْحَقِّ وفي بَعْضِهَا وهو الْأَقْيَسُ وفي بَعْضِهَا وهو أَوْلَاهَا وَغَيْرُ ذلك من الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ على الْقَطْعِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ قال الْمُحَقِّقُونَ إنَّ ذلك لَا يَبْلُغُ عَشَرًا
وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ قال أَصْحَابُنَا لم يُوجَدْ له من هذا النَّوْعِ إلَّا سِتَّةَ عَشَرَ قالوا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قد تَعَيَّنَ له الْحَقُّ مِنْهُمَا وَمَاتَ قبل بَيَانِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قد تَعَيَّنَ له وكان مُتَوَقِّفًا فِيهِمَا فَإِنْ قِيلَ فإذا لم يَكُونَا مَذْهَبَيْنِ فَلَيْسَ لِذِكْرِهِمَا في مَوْضِعٍ وَاخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا مَعْنًى وَكَذَلِكَ إذَا لم يَتَبَيَّنْ له الْحَقُّ فِيهِمَا فَلَيْسَ لِذِكْرِهِمَا فَائِدَةٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُمَا لَيُعَلِّمَ أَصْحَابَهُ طُرُقَ اسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ وَالِاجْتِهَادِ وَبَيَانَ ما يُصَحِّحُ الْعِلَلَ وَيُفْسِدُهَا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُبَيِّنَ مَدَارِكَ الْأَحْكَامِ كما يُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ وَلِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ ما عَدَاهُمَا بَاطِلٌ وَأَنَّ الْحَقَّ في أَحَدِهِمَا انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي وقال الْغَزَالِيُّ إنَّمَا يَذْكُرُ الْقَوْلَيْنِ في هذه الْحَالَةِ إمَّا لِأَنَّهُ لم يَتِمَّ نَظَرُهُ في الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّهُ في مُدَّةِ النَّظَرِ وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى الْوَقْفِ وَالِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ غَايَةُ الْوَرَعِ وهو دَأْبُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ كما قال عُثْمَانُ في الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ في مِلْكِ الْيَمِينِ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ قال وَيُتَّجَهُ في هذا ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ أَحَدِهَا أَنَّ الْمُفْتِيَ إنَّمَا يُفْتِي بِالْحُكْمِ لَا بِالتَّرَدُّدِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْمَنْقُولَةَ عن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في مَسَائِلِ الْفُرُوعِ قَرِيبٌ من سِتِّينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ على ما حَكَى بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا جَمْعُ الْقَوْلِ مُتَرَدِّدٌ في بِضْعِ عَشْرَةِ مَسْأَلَةٍ وما نَصَّ عليه يُوجَدُ منه حُكْمُ هذا التَّرَدُّدِ الثَّانِي إنْ كان حَاصِلُهُ التَّرَدُّدَ فما فَائِدَةُ ذِكْرِهَا وَجَوَابُهُ له خَمْسُ فَوَائِدَ 1 وَضْعُ تَصْوِيرِ الْمَسَائِلِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ صَعْبٌ 2 وَالتَّحْرِيكُ لِدَاعِيَةِ النَّظَرِ فيها 3 وَحَثُّهُ لِأَصْحَابِهِ لِتَخْرِيجِهَا على أَشْبَهِ أُصُولِهِ 4 وَإِنَّهُ يَكْفِي مُؤْنَةَ النَّظَرِ من الِاحْتِمَالَاتِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ سِوَى ما ذَكَرَهُ 5 وَذَكَرَ تَوْجِيهَهَا فإنه لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ وَجْهَ كُلٍّ فَتَحْصُلُ مَعْرِفَةُ الْأَدِلَّةِ وَمَدَارِكُ الْعُلَمَاءِ وَيَهُونُ النَّظَرُ في طَلَبِ التَّرْجِيحِ فإن طَلَبَ التَّرْجِيحِ وَحْدَهُ أَهْوَنُ من طَلَبِ الدَّلِيلِ فَعَلَى كل نَاظِرٍ في الْمَسْأَلَةِ هذه الْوَظَائِفُ الْخَمْسُ تَصْوِيرُهَا وَطَلَبُ الِاحْتِمَالَاتِ فيها وَحَصْرُ ما يَنْقَدِحُ من تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ وَطَلَبُ أَدِلَّتِهَا وَطَلَبُ التَّرْجِيحِ وَالشَّافِعِيُّ قام بِالْوَظَائِفِ الْأَرْبَعِ ولم يَتْرُكْ إلَّا الْخَامِسَةَ فَكَيْفَ تُنْكِرُ فَائِدَةَ الْقَوْلَيْنِ الثَّالِثِ ما يَلْزَمُ عليه أَنْ لَا قَوْلَ لِلشَّافِعِيِّ في الْمَسْأَلَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ له
قَوْلَانِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ لِفُلَانٍ في الْحَادِثَةِ رَأْيَانِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا انْتَهَى وَكَذَلِكَ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ لَا يَمْتَنِعُ من إطْلَاقِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا وَجْهُ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ ذِكْرُهُ لها وَاسْتِقْصَاؤُهُ وُجُوهَ الْأَشْبَاهِ فيها الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ في مَوْضِعَيْنِ بِأَنْ يَنُصَّ في مَوْضِعٍ على إبَاحَةِ شَيْءٍ وفي آخَرَ على تَحْرِيمِهِ فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ الْمُتَأَخِّرَ مِنْهُمَا فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَيَكُونُ الْأَوَّلُ مَرْجُوعًا عنه وَيَجْعَلُ الْأَوَّلَ كَالْمَنْسُوخِ فَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ قَوْلًا له قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن السَّمْعَانِيِّ وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنُصَّ على الرُّجُوعِ فَلَوْ لم يَنُصَّ في الْجَدِيدِ الرُّجُوعَ عن الْقَدِيمِ لم يَكُنْ رُجُوعًا حَكَاهُ الشَّيْخُ وَكَذَا الرَّافِعِيُّ في بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ عن الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا في نَصِّ الشَّافِعِيِّ إذَا خَالَفَ الْآخِرُ الْأَوَّلَ هل يَكُونُ الْآخِرُ رُجُوعًا عن الْأَوَّلِ أَمْ لَا على وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّهُ قد يَنُصُّ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ على قَوْلَيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَهُمَا مُتَعَاقِبَيْنِ والثاني يَكُونُ رُجُوعًا ولم يُرَجِّحْ الرَّافِعِيُّ شيئا وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لو صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ عن الْأَوَّلِ فَلَيْسَ الْأَوَّلُ مَذْهَبًا بِهِ قَطْعًا وَإِنْ لم يُصَرِّحْ فَوَجْهَانِ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ رُجُوعٌ إلَّا في مَسَائِلَ مُسْتَثْنَاةٍ عِنْدَ الْأَصْحَابِ لِقِيَامِ دَلِيلٍ على الْقَوْلِ بِهِ قال سُلَيْمٌ وَيَكُونُ إضَافَةُ الْقَدِيمِ إلَيْهِ على مَعْنَى أَنَّهُ قَالَهُ في وَقْتٍ لَا على وَجْهٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْآخِرِ كما يُقَالُ مِثْلُهُ في إضَافَةِ الرِّوَايَتَيْنِ إلَى أبي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا قُلْت وقد صَحَّ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال لَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْقَدِيمَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالرُّجُوعِ عَمَّا فيه فَلَا يَبْقَى لِلتَّفْصِيلِ السَّابِقِ وَجْهٌ نعم هذا يُشْكِلُ على أَصْحَابِنَا في مَسَائِلَ عَمِلُوا بها على الْقَدِيمِ حَيْثُ لم يَجِدُوا في الْجَدِيدِ ما يُخَالِفُهَا وَإِمَّا أَنْ يُجْهَلَ الْحَالُ وَلَا يُعْلَمُ التَّارِيخُ فَإِنْ بَيَّنَ اخْتِيَارَهُ من الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَإِنْ لم يُبَيِّنْهُ فَالْوَقْفُ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَالْوَقْفُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ الْوَقْفُ عن الْحُكْمِ بِأَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ مَذْهَبُهُ والثاني أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ وَاقِفٌ غَيْرُ حَاكِمٍ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا الثَّانِي إنَّمَا يَقْوَى إذَا
قَالَهُمَا الْمُجْتَهِدُ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ ذلك صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ وَحِينَئِذٍ فَيُحْكَى عنه قَوْلَانِ من غَيْرِ الْحُكْمِ على أَحَدِهِمَا بِالتَّرْجِيحِ وقد وَقَعَ الْحَالَانِ لِلشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه وهو دَلِيلٌ على عُلُوِّ شَأْنِهِ في الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَمَّا الْعِلْمُ فَلِأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ الْمُجْتَهِدُ عِلْمًا وَتَدْقِيقًا كان نَظَرُهُ أَتَمَّ وَاطِّلَاعُهُ على الْأَدِلَّةِ أَعَمَّ وَأَمَّا الدِّينُ فلم يَكُنْ مِمَّنْ إذَا ظَهَرَ له وَجْهُ الرُّجْحَانِ أَقَامَ على مَقَالَتِهِ الْأُولَى بَلْ صَرَّحَ على بُطْلَانِهَا وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنْ تَشْنِيعَ الْخَصْمِ بَاطِلٌ وقد صَنَّفَ أَصْحَابُنَا في نُصْرَةِ الْقَوْلَيْنِ منهم ابن الْقَاصِّ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَالرُّويَانِيُّ وَتَكَلَّمَ عليه الْأَصْحَابُ في كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ وقد سَبَقَ بِذَلِكَ السَّلَفُ فإن عُمَرَ نَصَّ في الشُّورَى على سِتَّةٍ وَحَصَرَ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ تَنْبِيهًا على حَصْرِ الِاسْتِحْقَاقِ ولم يَعْتَرِضْ أَحَدٌ عليه وَاعْلَمْ أَنَّهُ في هذه الْحَالَةِ تَرَجَّحَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ على الْآخِرِ بِأُمُورٍ منها أَنْ تَكُونَ أُصُولُ مَذْهَبِهِ مُوَافِقَةً دُونَ الْآخَرِ فَيَكُونُ هو الْمَذْهَبُ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ومنها أَنْ يُكَرَّرَ أَحَدُهُمَا أو يُفَرَّعَ عليه فَهَلْ يَكُونُ رُجُوعًا عن الْآخَرِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَنَسَبَ ابن كَجٍّ الرُّجُوعَ في حَالَةِ التَّفْرِيعِ إلَى الْمُزَنِيّ قال وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّ ذلك ليس بِرُجُوعٍ وَجَزَمَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ أَنَّهُ رُجُوعٌ في التَّفْرِيعِ وَحَكَى خِلَافَ الْمُزَنِيّ في التَّكْرِيرِ وقال خَالَفَهُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيّ فقال هذا لَا يَدُلُّ على اخْتِيَارِهِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَهُ قال الْقَاضِي وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيّ هو الصَّحِيحُ وَكَذَا قال ابن السَّمْعَانِيِّ ومنها ما لو كان أَحَدُهُمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَ أبي حَنِيفَةَ فقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ ما يُخَالِفُهُ مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ أَرْجَحُ وَعَكَسَ الْقَفَّالُ وَاخْتَارَهُ ابن الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ وَالْأَصَحُّ التَّرْجِيحُ بِالنَّظَرِ فَإِنْ لم يَظْهَرْ تَرْجِيحٌ فَالْوَقْفُ ومنها أَنْ يَنُصَّ على أَحَدِهِمَا في مَوْضِعٍ آخَرَ فَهَلْ يَكُونُ ذلك اخْتِيَارًا منه لِذَلِكَ الْقَوْلِ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ قبل الدِّيَاتِ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ عن الْقَاضِي والماوردي أَنَّهُ قَسَمَ الْقَوْلَيْنِ في هذه الْحَالَةِ إلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِسْمًا أَحَدِهَا أَنْ يُقَيِّدَ جَوَابَهُ في مَوْضِعٍ وَيُطْلِقَهُ في آخَرَ كَقَوْلِهِ في أَقَلِّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وفي مَوْضِعٍ آخَرَ يُرِيدُ مع لَيْلَتِهِ فَحَمَلَ الْمُطْلَقَ على الْمُقَيَّدِ لَكِنْ لَا يُقَالُ له قَوْلَانِ
وَإِنَّمَا هو وَاحِدٌ ثَانِيهَا أَنْ تَخْتَلِفَ أَلْفَاظُهُ مع اتِّفَاقِ مَعَانِيهَا من وَجْهٍ وَاخْتِلَافِهَا من وَجْهٍ فَغَلَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا حُكْمَ الِاخْتِلَافِ ولم يُغَلِّبْ حُكْمَ الِاتِّفَاقِ فَخَرَّجَهُمَا على قَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ في الْمُظَاهِرِ أُحِبُّ أَنْ يَمْتَنِعَ عن الْقُبْلَةِ وقال في الْقَدِيمِ رَأَيْت ذلك فَيُحْتَمَلُ حَمْلُهُ على الْإِيجَابِ أو الِاسْتِحْبَابِ فَحَمْلُهَا على ما صَرَّحَ بِهِ من الِاسْتِحْبَابِ أَوْلَى ثَالِثِهَا أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُ لِاخْتِلَافِ حَالَيْهِ كَصَدَاقِ السِّرِّ فإنه قال في مَوْضِعٍ بِاعْتِبَارِهِ وفي مَوْضِعٍ بِاعْتِبَارِ الْعَلَانِيَةِ وَلَيْسَ ذلك بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هو لِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَإِنْ اقْتَرَنَ الْعَقْدُ بِصَدَاقِ السِّرِّ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ وَإِلَّا فَعَكْسُهُ رَابِعِهَا لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ كَتَرَدُّدِهِ في نَقْضِ الْمَلْمُوسِ لِأَجْلِ لَمَسْتُمْ أو لَامَسْتُمْ وَكَاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ في صَلَاةِ الْعِشَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ أو ثُلُثَهُ خَامِسِهَا لِأَنَّهُ عَمِلَ في أَحَدِهِمَا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ثُمَّ بَلَغَتْهُ سُنَّةٌ نَقَلَتْهُ عن الْأَوَّلِ كَصِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ ثُمَّ جاء النَّهْيُ عن صِيَامِهَا فَأَوْجَبَ صِيَامَهَا بَعْدَ إحْرَامِهِ وَقِيلَ يوم عَرَفَةَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَمِثْلُ هذا قال في الصَّلَاةِ الْوُسْطَى سَادِسِهَا لِأَنَّهُ عَمِلَ في أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ ثُمَّ بَلَغَتْهُ سُنَّةٌ لم تَثْبُتْ عِنْدَهُ فَجَعَلَ مَذْهَبَهُ من بَعْدُ مَوْقُوفًا على ثُبُوتِ السُّنَّةِ كَالصِّيَامِ عن الْمَيِّتِ وَالْغُسْلِ من غَسْلِهِ سَابِعِهَا أَنْ يَقْصِدَ بِذَكَرِهِمَا إبْطَالَ ما عَدَاهُمَا فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ مَقْصُودًا عَلَيْهِمَا وَلَا يَعْدُوهُمَا ثَامِنِهَا أَنْ يَقْصِدَ بِذِكْرِهِمَا إبْطَالَ ما يَتَوَسَّطُهُمَا وَيَكُونُ مَذْهَبُهُ مِنْهُمَا ما حَكَمَ بِهِ وَفُرِّعَ عليه مِثْلُ قَوْلِهِ في وَضْعِ الْجَوَائِحِ وقد قَدَّرَهَا مَالِكٌ بِالثُّلُثِ فقال الشَّافِعِيُّ ليس إلَّا وَاحِدٌ من قَوْلَيْنِ إمَّا أَنْ يُوضَعَ جَمِيعُهَا أو لَا يُوضَعَ شَيْءٌ منها تَاسِعِهَا أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في مَسْأَلَتَيْنِ مُتَّفِقَتَيْنِ فَخَرَّجَهُمَا أَصْحَابُهُ على قَوْلَيْنِ وَهَذَا على الْإِطْلَاقِ خَطَأٌ لِأَنَّهُ إنْ كان بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لم يَسَعْ التَّخْرِيجُ وَإِنْ لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لم يَخْلُ قَوْلَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَا في وَقْتٍ أو وَقْتَيْنِ فَإِنْ كَانَا في وَقْتٍ كما لو قال في مَسْأَلَةٍ بِقَوْلٍ ثُمَّ قال بَعْدَهُ فيها بِقَوْلٍ آخَرَ فَيَكُونُ على ما سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ قَالَهُمَا في وَقْتٍ فَيَكُونُ على ما نَذْكُرُهُ في قَوْلِهِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَاشِرِهَا لِأَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَحَدِهِمَا فقال بِهِ ثُمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى الْآخَرِ
فَعَدَلَ إلَيْهِ فَمَذْهَبُهُ الثَّانِي وَلَا يُرْسِلُ الْقَوْلَيْنِ إلَّا بَعْدَ التَّقْيِيدِ بِالْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ حَادِيَ عَشَرَهَا أَنْ يَكُونَ قال في مَسْأَلَةٍ بِقَوْلٍ في مَوْضِعٍ وقال فيها بِقَوْلٍ في مَوْضِعٍ آخَرَ فَيُخَرِّجُهَا أَصْحَابُهُ على قَوْلَيْنِ وَهَذَا وَإِنْ كان النَّقْلُ صَحِيحًا فَهُوَ في إضَافَتِهِمَا إلَيْهِ على التَّسَاوِي غَلَطٌ وَيُنْظَرُ إنْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا فَالْعَمَلُ لِلْمُتَأَخِّرِ وَإِنْ جَهِلَ تَوَقَّفَ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِأَحَدِهِمَا من أُصُولِ مَذْهَبِهِ ما يُوَافِقُهُ فَيَكُونُ هو الْمَذْهَبُ فَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أو فَرَّعَ عليه قال الْمُزَنِيّ وَطَائِفَةٌ من الْأَصْحَابِ إنَّ الْمُتَكَرِّرَ وَذَا التَّفْرِيعِ مَذْهَبُهُ دُونَ الْآخَرِ ثَانِيَ عَشَرَهَا أَنْ يَذْكُرَهُمَا حِكَايَةً عن مَذْهَبِ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُمَا إلَيْهِ وَمَثَّلَهُ ابن كَجٍّ بِقَوْلِهِ في الْجَدِّ مع الْإِخْوَةِ في الْوَلَاءِ قال طَائِفَةٌ بِكَذَا وَقَالَتْ طَائِقَةٌ بِكَذَا ثُمَّ قَطَعَ بِأَحَدِ الْأَقْوَالِ فَإِنْ أَشَارَ إلَيْهِمَا بِالْإِنْكَارِ كان الْحَقُّ عِنْدَهُ في غَيْرِهِمَا أو بِالْجَوَازِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عِنْدَهُ فِيهِمَا وفي غَيْرِهِمَا أو بِالِاخْتِيَارِ فِيهِمَا ثَالِثَ عَشَرَهَا أَنْ يَذْكُرَهُمَا مُعْتَقِدًا لِأَحَدِهِمَا وَزَاجِرًا بِالْآخَرِ كما فَعَلَ في قَضَاءِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ وفي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَعَبَّرَ عنه الشَّيْخُ نَصْرٌ فقال أَنْ يَذْكُرَ أَحَدَهُمَا على طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ وَمَذْهَبُهُ الْأَخِيرُ رَابِعَ عَشَرَهَا أَنْ يَقُولَهُمَا في مَوْضِعٍ فَإِنْ نَبَّهَ على اخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَذْهَبُهُ وزاد الْغَزَالِيُّ أَنْ يَذْكُرَهُمَا على سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ وَأَنْ يَذْكُرَهُمَا على سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا على الْبَدَلِ لَا الْجَمْعِ وقال وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَنْكَرَهُ جَمِيعُ الْأَصْحَابِ وَلَيْسَ عِنْدِي بِمُنْكَرٍ بَلْ مُتَّجَهٌ قُلْت ذَكَرَهُ ابن كَجٍّ كما سَبَقَ مَسْأَلَةٌ إذَا قال الشَّافِعِيُّ في مَوْضِعٍ بِقَوْلٍ ثُمَّ قال وَلَوْ قال قَائِلٌ كَذَا وَكَذَا كان مَذْهَبًا لم يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ ذلك قَوْلًا له على الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عن احْتِمَالٍ في الْمَسْأَلَةِ وَوَجْهٌ من وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ
مَسْأَلَةٌ إذَا لم يُعْرَفْ لِلْمُجْتَهِدِ قَوْلٌ في الْمَسْأَلَةِ لَكِنْ له قَوْلٌ في نَظِيرِهَا ولم يُعْلَمْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَهُوَ الْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ فيها وَلَا يَجُوزُ التَّخْرِيجُ حَيْثُ أَمْكَنَ الْفَرْقُ كما قال ابن كَجٍّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَأَشَارَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ إلَى خِلَافٍ فيه فقال لَا يَجُوزُ على الصَّحِيحِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ لِلشَّافِعِيِّ ما يَتَخَرَّجُ على قَوْلِهِ فَيُجْعَلُ قَوْلًا له على الْأَصَحِّ بِنَاءً على أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ ليس بِمَذْهَبٍ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ مع قِيَامِ الِاحْتِمَالِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ما يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ قَوْلِهِمَا فَكَذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى صَاحِبِ الْمَذْهَبِ ما يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ قَوْلِهِ قُلْنَا ما دَلَّ عليه الْقِيَاسُ في الشَّرْعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ وَلَا قَوْلُ رَسُولِهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ هذا دِينُ اللَّهِ وَدِينُ رَسُولِهِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ دَلَّ عليه وَمِثْلُهُ لَا يَصِحُّ في قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ فَرْعٌ الْأَوْجُهُ الْمَحْكِيَّةُ عن الْأَصْحَابِ هل تُنْسَبُ إلَى الشَّافِعِيِّ لم أَرَ فيها كَلَامًا وَيُشْبِهُ تَخْرِيجُهَا على التي قَبْلَهَا وَيَكُونُ على طَرِيقِ التَّرْتِيبِ وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ لِأَنَّهُمْ يُخَرِّجُونَهَا على قَوَاعِدَ عَامَّةٍ في الْمَذْهَبِ وَالْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ إنَّمَا يَكُونُ في صُوَرٍ خَاصَّةٍ
فَصْلٌ وَأَمَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ هو من بَابِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ نَقْطَعُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُمَا بِالنَّصِّ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فإن الِاخْتِلَافَ جاء من جِهَةِ النَّاقِلِ لَا من جِهَةِ الْمَنْقُولِ عنه لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لم يُدَوِّنْ قال أبو بَكْرٍ الْبَلْعَمِيُّ في الْغَرَرِ الِاخْتِلَافُ في الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ من وُجُوهٍ منها الْغَلَطُ في السَّمَاعِ كَأَنْ يُجِيبَ بِحَرْفِ النَّفْيِ إذَا سُئِلَ عن حَادِثَةٍ يقول لَا يَجُوزُ فَيُشْتَبَهُ على الرَّاوِي فَيَنْقُلُ ما سمع ومنها أَنْ يَكُونَ لِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلٌ قد رَجَعَ عنه يَعْلَمُ بَعْضُ من يَخْتَلِفُ إلَيْهِ رُجُوعَهُ عنه فَيَرْوِي الْقَوْلَ الثَّانِيَ وَالْآخَرُ لم يَعْلَمْهُ فَيَرْوِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ومنها أَنْ يَكُونَ قال أبو حَنِيفَةَ الثَّانِيَ على وَجْهِ الْقِيَاسِ ثُمَّ قال ذلك على وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فَيَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ منه أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فَيَنْقُلُ كما سمع ومنها أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ في الْمَسْأَلَةِ من وَجْهَيْنِ من جِهَةِ الْحُكْمِ وَمِنْ جِهَةِ الْبَرَاءَةِ لِلِاحْتِيَاطِ فَيَذْكُرُ الْجَوَابَ من جِهَةِ الْحُكْمِ في مَوْضِعٍ وَمِنْ جِهَةِ الِاحْتِيَاطِ في مَوْضِعٍ آخَرَ فَيَنْقُلُ كما سمع قال وَأَمَّا الْفَرْقُ بين الْقَوْلَيْنِ وَالرِّوَايَتَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ في الرِّوَايَةِ وَقَعَ من جِهَةِ النَّاقِلِ دُونَ الْمَنْقُولِ عنه فَأَبُو حَنِيفَةَ حَصَلَ على قَوْلٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلَيْنِ وَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ من غَيْرِ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا فَعَجَبٌ انْتَهَى
الْفَصْلُ الثَّانِي في التَّرْجِيحِ وهو تَقْوِيَةُ إحْدَى الْإِمَارَتَيْنِ على الْأُخْرَى بِمَا ليس ظَاهِرًا مَأْخُوذٌ من رُجْحَانِ الْمِيزَانِ وَفَائِدَةُ الْقَيْدِ الْأَخِيرِ أَنَّ الْقُوَّةَ لو كانت ظَاهِرَةً لم يَحْتَجْ إلَى التَّرْجِيحِ قال إلْكِيَا التَّرْجِيحُ إظْهَارُ الزِّيَادَةِ لِأَحَدِ الْمِثْلَيْنِ على الْآخَرِ أَصْلًا مَأْخُوذٌ من رَجَّحْت الْوَزْنَ إذَا زِدْتَ جَانِبَ الْمَوْزُونِ حتى مَالَتْ كِفَّتُهُ وَلَوْ أَفْرَدْتَ الزِّيَادَةَ على الْوَزْنِ لم يَقُمْ بها الْوَزْنُ في مُقَابِلَةِ الْكِفَّةِ الْأُخْرَى قُلْت هذا حَدٌّ لِلْمُرَجِّحِ لَا لِلتَّرْجِيحِ وَقِيلَ بَيَانُ اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ بِمَزِيدِ قُوَّةٍ عن مُقَابِلِهِ لِيَعْمَلَ بِالْأَقْوَى وَرَجَحَ على الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ يَجْرِي في الظَّوَاهِرِ وَالْأَخْبَارِ تَارَةً وفي الْمَعَانِي أُخْرَى فَالتَّعْرِيفُ الْأَوَّلُ يَخْرُجُ منه الْأَخْبَارُ وَالظَّوَاهِرُ لِاخْتِصَاصِ اسْمِ الْأَمَارَةِ بِالْمَعَانِي وَهَذَا مُنْدَفِعٌ بِالْغَايَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأُولَى أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ التَّرْجِيحُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَإِهْمَالُ الْآخَرِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على الْعَمَلِ بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُمْ من الْأَخْبَارِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ التَّرْجِيحَ في الْأَدِلَّةِ كما يَنْبَغِي في الْبَيِّنَاتِ وقال عِنْدَ التَّعَارُضِ يَلْزَمُ التَّخْيِيرُ أو الْوَقْفُ قال الْإِمَامُ وقد حَكَاهُ الْقَاضِي عن الْبَصْرِيِّ الْمُلَقَّبِ بِ جُعَلٍ قال ولم أَرَ في شَيْءٍ من مُصَنَّفَاتِهِ مع بَحْثِي عنها وَلَعَلَّ الْقَاضِيَ أَلْزَمَهُ إنْكَارَ الرَّاجِحِ إلْزَامًا على مَذْهَبِهِ في إنْكَارِ التَّرْجِيحِ في الْبَيِّنَاتِ وَاسْتَبْعَدَ الْإِبْيَارِيُّ وُقُوعَ الْقَاضِي في مِثْلِ ذلك وقال ابن الْمُنِيرِ ليس بِبَعِيدٍ لِلْخِلَافِ في أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ هل هو مَذْهَبٌ فَإِنْ كان الْقَاضِي وَجَدَ له نَصًّا فَذَاكَ وَإِنْ لم يَجِدْهُ بَلْ أَلْزَمَهُ بِجَعْلِهِ مَذْهَبًا له فَصَحِيحٌ عِنْدَ من يَرَى ذلك وَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ وهو مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ على اسْتِعْمَالِهِ التَّرْجِيحَ الثَّانِيَةُ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا كان التَّرْجِيحُ مَعْلُومًا أو مَظْنُونًا قال الْقَاضِي لَا يَجُوزُ
الْعَمَلُ بِالتَّرْجِيحِ الْمَظْنُونِ لِأَنَّ الْأَصْلَ امْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِشَيْءٍ من الْمَظْنُونِ وَخَرَجَ من ذلك الظُّنُونُ الْمُسْتَقِلَّةُ بِأَنْفُسِهَا لِانْعِقَادِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عليها وما وَرَاءَ ذلك يَبْقَى على الْأَصْلِ وَالتَّرْجِيحُ عَمَلُ نَظَرٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ دَلِيلًا وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ على وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الذي لَا يَسْتَقِلُّ كما انْعَقَدَ على الْمُسْتَقِلِّ الثَّالِثَةُ أَنَّ الْمَرْجُوحَ هل هو كَالْعَدَمِ شَرْعًا أَمْ نَجْعَلُ له أَثَرًا يَخْرُجُ من كَلَامِهِمْ فيه خِلَافٌ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي الْأَوَّلَ وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الثَّانِيَ وَادَّعَى الْإِبْيَارِيُّ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ وقال لو كان كَالْعَدَمِ لَمَا ضَعُفَ الظَّنُّ بِالرَّاجِحِ وَلِذَلِكَ لَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ على ظَنِّهِ في الرَّاجِحِ بِمَثَابَةِ ما لو كان الرَّاجِحُ مُنْفَرِدًا بَلْ ظَنًّا بِالرَّاجِحِ إذَا لم يُعَارِضْ أَقْوَى من ظَنِّنَا بِهِ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ وَخَالَفَ ابن الْمُنِيرِ وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ على أَنَّ الْمَرْجُوحَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ ثُمَّ لِلتَّرْجِيحِ شُرُوطٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ بَيِّنَ الْأَدِلَّةِ فَالدَّعَاوَى لَا يَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ وَانْبَنَى عليه أَنَّهُ لَا يَجْرِي في الْمَذَاهِبِ لِأَنَّهَا دَعَاوَى مَحْضَةٌ تَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَالتَّرْجِيحُ بَيَانُ اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ بِمَزِيدِ قُوَّةٍ فَلَيْسَ هو دَلِيلًا وَإِنَّمَا هو قُوَّةٌ في الدَّلِيلِ وَحَكَى عبد الْجَبَّارِ في الْعُمْدَةِ عن بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ دُخُولَ التَّرْجِيحِ منها وَضَعُفَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ يَنْشَأُ من مُنْتَهَى الدَّلِيلِ فإذا لم يَكُنْ دَلِيلًا لم يَثْبُتْ التَّرْجِيحُ وَالْحَقُّ أَنَّ التَّرْجِيحَ يَدْخُلُ الْمَذَاهِبَ بِاعْتِبَارِ أُصُولِهَا وَنَوَادِرِهَا وَبَيَانِهَا فإن بَعْضَهَا قد يَكُونُ أَرْجَحَ من بَعْضٍ وَلِذَلِكَ جَرَى التَّرْجِيحُ في الْبَيِّنَاتِ وَأَمَّا إذَا تَعَارَضَ عِنْدَ عَامِّيٍّ قَوْلُ مُجْتَهِدَيْنِ وَقُلْنَا يَجِبُ تَقْلِيدُ الْأَعَمِّ فَلَيْسَ هو من بَابِ التَّرْجِيحِ الثَّانِي قَبُولُ الْأَدِلَّةِ التَّعَارُضَ في الظَّاهِرِ وَيُبْنَى عليه مَسَائِلُ أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا مَجَالَ له في الْقَطْعِيَّاتِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ عِبَارَةٌ عن تَقْوِيَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ على الْآخَرِ كَيْ يَغْلِبَ على الظَّنِّ صِحَّتُهُ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ مَقْطُوعٌ بها فَلَا يُفِيدُ التَّرْجِيحُ فيها شيئا وما يُوجَدُ من ذلك في كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّمَا هو تَعَارُضٌ بين دَلِيلٍ وَشِبْهِهِ وَهَذَا وَإِنْ أَطْبَقُوا عليه لَكِنْ سَبَقَ أَنَّ التَّعَادُلَ بين الْقَطْعِيَّيْنِ مُمْكِنٌ في الْأَذْهَانِ فَهَلَّا قِيلَ يَتَطَرَّقُ التَّرْجِيحُ إلَيْهِ بِنَاءً على هذا التَّعَارُضِ كما في الْأَمَارَاتِ ثُمَّ رَأَيْت أَبَا الْحُسَيْنِ صَرَّحَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْلُومَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ وَلَا شَكَّ في جَرَيَانِ هذا النَّصِّ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ وَلَا بُعْدَ فيه فإن ما مُقَدَّمَاتُهُ أَعْلَى وَأَوْضَحُ رَاجِحًا على
ما ليس كَذَلِكَ وَرَأَيْت الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَنَعَ ذلك بِنَاءً على أَنَّ الْعُلُومَ لَا تَتَفَاوَتُ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ سَبَقَتْ أَوَّلَ الْكِتَابِ والثانية قِيلَ إنَّ الظَّنِّيَّاتِ لَا تَتَعَارَضُ وَالْمُرَادُ بِهِ اجْتِمَاعُ ظَنَّيْنِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ بِأَمَارَتَيْنِ وَسَيَأْتِي في أَوَّلِ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عن الْقَاضِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ التَّرْجِيحُ في الْأَقْيِسَةِ الْمَظْنُونَةِ وَتَأَوَّلْنَاهُ الثَّالِثَةُ لَا مَجَالَ له في الْعَقْلِيَّاتِ أَعْنِي التَّقْلِيدَ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن إطْلَاقِ الْأَئِمَّةِ وَحَكَاهُ في الْمَنْخُولِ عن الْأُسْتَاذِ وقال هذا إشَارَةٌ منه إلَى أنها مَعَارِفُ وَلَا تَرْجِيحَ في الْمَعَارِفِ قال وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْعَقَائِدَ يُرَجَّحُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عُلُومًا وَالثِّقَةُ بها مُخْتَلِفَةٌ وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بين عَقَائِدِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَيَجُوزُ في عَقَائِدِ الْعَامَّةِ بِنَاءً على أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالِاعْتِقَادِ لَا بِالْعِلْمِ وقال الْأُرْمَوِيُّ الْحَقُّ أَنَّا إنْ جَوَّزْنَا لِلْعَوَامِّ التَّقْلِيدَ فيها لم يَمْتَنِعْ ذلك وقال ابن النَّفِيسِ في الْإِيضَاحِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مُخْتَصًّا بِالْبُرْهَانِيَّةِ منها أَمَّا التي تَكُونُ فيها الْحُجَجُ الظَّنِّيَّةُ فَلَا مَانِعَ من دُخُولِهِ فيها وَكَذَا قال الْهِنْدِيُّ الْقَطْعِيُّ منها لَا يَقْبَلُ التَّرْجِيحَ لَكِنَّهُ ليس مَخْصُوصًا بِهِ بَلْ الْقَطْعِيَّاتُ الشَّرْعِيَّاتُ أَيْضًا لَا تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ الثَّالِثُ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على التَّرْجِيحِ وَهَذَا على طَرِيقَةِ كَثِيرٍ من الْأُصُولِيِّينَ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُخَالِفُونَهُمْ وَتَابَعَهُمْ في الْمَحْصُولِ وَشَرَطُوا أَنْ لَا يُمْكِنَ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ أَمْكَنَ وَلَوْ من وَجْهٍ امْتَنَعَ بَلْ يُصَارُ إلَى ذلك لِأَنَّهُ أَوْلَى من إلْقَاءِ أَحَدِهِمَا وَالِاسْتِعْمَالُ أَوْلَى من التَّعْطِيلِ قال في الْمَحْصُولِ الْعَمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا من وَجْهٍ أَوْلَى من الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ من كل وَجْهٍ وَتَرْكِ الْآخَرِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ على بَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ تَابِعَةٌ لِدَلَالَتِهِ على كُلِّهَا لِأَنَّ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ تَابِعَةٌ لِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَتَرْكُ التَّبَعِ أَوْلَى من تَرْكِ الْأَصْلِ فإذا عَمِلْنَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَقَدْ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِالدَّلَالَةِ التَّضْمِينِيَّةِ وَإِنْ عَمِلْنَا بِأَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي فَقَدْ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِالدَّلَالَةِ السَّمْعِيَّةِ إذَا عَلِمْت هذا فَالْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من وَجْهٍ يَقَعُ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدِهَا تَوْزِيعُ مُتَعَلَّقِ الْحُكْمِ إنْ أَمْكَنَ كما تُقْسَمُ الدَّارُ الْمُدَّعَى مِلْكُهَا عِنْدَ
تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ ثَانِيهَا يَنْزِلُ على الْأَحْكَامِ بَعْضُ كل وَاحِدٍ عِنْدَ التَّعَدُّدِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقْتَضِيًا أَحْكَامًا فَيَعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا في بَعْضِهَا وَبِالْآخِرِ في الْبَعْضِ الْآخَرِ كَالنَّهْيِ عن الشُّرْبِ وَالْبَوْلِ قَائِمًا ثُمَّ فَعَلَهُ فإن فِعْلَهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْحَرَجِ وَنَهْيُهُ بِالْعَكْسِ فَيُحْمَلُ النَّهْيُ على عَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْفِعْلُ على رَفْعِ الْحَرَجِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ وَكَنَهْيِهِ عن الِاغْتِسَالِ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ فَعَلَهُ مع عَائِشَةَ ثَالِثِهَا التَّنْزِيلُ على بَعْضِ الْأَحْوَالِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِهِ أَلَا أُخْبِرُكُمْ عن خَيْرِ الشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلُ قبل أَنْ يَسْتَشْهِدَ وَقَوْلِهِ في حَدِيثٍ آخَرَ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حتى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قبل أَنْ يَسْتَشْهِدَ فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ على حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي على حَقِّ الْآدَمِيِّينَ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَطْبَقَ عليها الْفُقَهَاءُ أَعْنِي الْجَمْعَ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ من غَيْرِ إقَامَةِ دَلِيلٍ وَعَزَوْا ذلك إلَى تَعَارُضِ الْقِرَاءَتَيْنِ كَقِرَاءَةِ أَرْجُلَكُمْ بِالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ فَحَمَلُوا إحْدَاهُمَا على مَسْحِ الْخُفِّ وَالْأُخْرَى على غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ يَطْهُرْنَ ويطهرن إحْدَاهُمَا على ما دُونَ الْعَشَرَةِ وَالْأُخْرَى على الْعَشَرَةِ وقد ذَكَرَ ذلك من أَصْحَابِنَا الْأُصُولِيِّينَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ فقال إذَا تَعَارَضَ عَامَّانِ فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا في حَالَيْنِ اُسْتُعْمِلَا وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ وَكَذَا قال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ إذَا وَرَدَ مِثْلُ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لَا تَقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فَيُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا على بَعْضِ ما تَنَاوَلَهُ وَيَخُصُّ في الثَّانِي وَقِيلَ يَتَوَقَّفُ فِيهِمَا وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَنَقَلَ ذلك عن الْفُقَهَاءِ وقال هو مَرْدُودٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بَلْ لَا بُدَّ من دَلِيلٍ خَارِجٍ عن ذلك وَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَهُمَا دَلِيلًا في تَخْصِيصِ التَّالِي وَالثَّانِيَ في تَخْصِيصِ الْأَوَّلِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَهَذَا تَابَعَ فيه الْقَاضِي ثُمَّ قال وَكَأَنَّ الْفُقَهَاءَ رَأَوْا تَصَرُّفًا في الظَّوَاهِرِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا على تَعَارُضِهِمَا إلَّا أَنْ يَتَّجِهَ تَأْوِيلٌ وَيَنْتَصِبَ عليه دَلِيلٌ قال ابن الْمُنِيرِ وَكَأَنَّ الْإِمَامَ ظَنَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَحَكَّمُونَ بِتَعْيِينِ
صُورَةٍ من صُورَةٍ حتى تَكُونَ هذه ثَابِتَةً وَهَذِهِ مُخْرَجَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ صَنِيعُهُمْ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ مع الْإِمْكَانِ خَيْرٌ من التَّعْطِيلِ وَالْقَائِلُ بِالتَّعَارُضِ عَطَّلَهُمَا جميعا وَالْقَائِلُ بِتَخْصِيصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِبَعْضِ صُوَرِهِ عَمِلَ بِهِمَا جميعا حَسَبَ إمْكَانِهِ ثُمَّ لهم في التَّعْيِينِ طَرِيقَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ صُوَرَ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ تَتَفَاوَتَ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ ذلك الْحُكْمِ فَتَعْيِينُ الْفُقَهَاءِ أَوْلَى الصُّوَرِ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ لو عَيَّنُوا الْقِسْمَ الْآخَرَ لَزِمَ عُمُومُ الْحُكْمِ ضَرُورَةَ أَنَّ ثُبُوتَهُ في الْأَدْنَى يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ في الْأَعْلَى مِثَالُهُ إذَا قَابَلْنَا بين حديث أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مع قَوْلِهِ خُذْ من كل حَالِمٍ دِينَارًا كان الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُقْبَلَ الْجِزْيَةُ من أَحَدٍ وَالثَّانِي يَقْتَضِي قَبُولَهَا من كل أَحَدٍ فإذا حَمَلْنَا كُلًّا مِنْهُمَا على بَعْضِ صُوَرِهِ نَظَرْنَا في صُوَرِ الْكُفَّارِ وَجَدْنَاهَا قِسْمَيْنِ كِتَابِيًّا وَغَيْرَ كِتَابِيٍّ فَعَيَّنَّا الْكِتَابِيَّ لِلْجِزْيَةِ وَغَيْرَهُ لِلسَّيْفِ وَلَيْسَ هذا احْتِكَامًا وَلَكِنْ لَمَّا لم يَكُنْ بُدٌّ من التَّخْصِيصِ وَجَدْنَا الْكِتَابِيَّ أَوْلَى بِالْقَبُولِ من غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يُسْتَبْقَى إذْ له عَقِيدَةٌ ما وَلِهَذَا أَجَازَ الشَّرْعُ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ دُونَ الْوَثَنِيَّاتِ وَلِهَذَا لَمَّا نَشِبَتْ الْحَرْبُ بين فَارِسَ وَالرُّومِ كان الْمُسْلِمُونَ يَتَمَنَّوْنَ نُصْرَةَ الرُّومِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وكان الْمُشْرِكُونَ يَتَمَنَّوْنَ نُصْرَةَ فَارِسٍ لِأَنَّهُمْ مِثْلُهُمْ بِلَا كِتَابٍ فَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُعَيِّنُ الْفُقَهَاءُ صُوَرَ الْإِثْبَاتِ من صُوَرِ الْإِخْرَاجِ لَا بِالِاحْتِكَامِ وَبِذَلِكَ يَزُولُ عَنْهُمْ أَلْسِنَةُ الطَّاعِنِينَ وَأَمَّا قَوْلُ الْإِبْيَارِيِّ تَخْصِيصُ الْعُمُومَيْنِ تَعْطِيلٌ لَهُمَا فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ في الْجَمْعِ عَمَلٌ بِهِمَا فَهَذَا يَنْتَقِضُ عليه بِمَا إذَا تَعَارَضَ عَامٌّ وَخَاصٌّ فإنه وَافَقَ على أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْخَاصِّ على الْعَامِّ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِهِمَا قُلْت وَالتَّحْقِيقُ إنَّهُ إذَا لم نَجِدْ مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا تَصَدَّى لنا الْإِلْغَاءُ وَالْجَمْعُ وَالْأَلْيَقُ بِالشَّرْعِ الْجَمْعُ وَإِنْ وَجَدْنَا مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا فَالْمُتَعَلِّقُ هو الْمُتَّبَعُ وهو الظَّاهِرُ من تَصَرُّفِ الشَّافِعِيِّ فإنه حَمَلَ حَدِيثَ ابْنِ بُرَيْدَةَ على عُمُومِهِ في أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَدِيثَ أبي هُرَيْرَةَ في أَهْلِ الْأَوْثَانِ فقال لَا يَقْضِي بِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ لِتَسَاوِيهِمَا في الْقَضَاءِ إلَّا أَنَّهُ
ليس له أَنْ يَقُولَ حتى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أو يُعْطُوا إلَّا وَلِلْآخَرِ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى إحْدَى خِلَالٍ إذَا كَانُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِذْ تَعَارَضَا رَجَعْنَا إلَى دَلَالَةِ الْكِتَابِ فَقَدْ قال تَعَالَى وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فَدَلَّ على أَنَّ من لم يَكُنْ من أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تُؤْخَذُ منه الْجِزْيَةُ وَلِهَذَا امْتَنَعَ عُمَرُ من أَخْذِهَا من مَجُوسِ هَجَرَ وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ قَوْلَيْهِ في إتْمَامِ وُضُوءِ الْجَنَابَةِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ رِوَايَتَيْ عَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ ولم يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا كما فَعَلَ مَالِكٌ بَلْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَائِشَةَ لِمُوَافَقَتِهِ تَشْرِيعَ الْعِبَادَةِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ في الْقِرَاءَتَيْنِ فإنه اخْتَلَفَ قَوْلَاهُ في انْتِقَاضِ وُضُوءِ الْمَلْمُوسِ لِأَجْلِ تَعَارُضِ قِرَاءَةِ لَمَسْتُمْ ولامستم وَرَجَّحَ النَّقْضَ بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ لَمَّا كَثُرَ على عَادَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ طَرِيقَةُ الْجَمْعِ وَتَقْدِيمُهَا على طَرِيقَةِ التَّرْجِيحِ أَخَذَهَا الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ مُسَلَّمَةً وزاد فيها قَيْدًا فقال هو عِنْدِي فِيمَا إذَا كان التَّأْوِيلُ في طَرِيقَةِ الْجَمْعِ مَقْبُولًا عِنْدَ النَّفْسِ مُطْمَئِنَّةً بِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْأَشْبَهُ تَقْدِيمُ رُتْبَةِ التَّرْجِيحِ على رُتْبَةِ الْجَمْعِ فَيُنْظَرُ إلَى التَّرْجِيحِ بين الرُّوَاةِ بِحَسَبِ حَالِهِمْ في الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في التَّرْجِيحِ هو سُكُونُ النَّفْسِ وَسُكُونُهَا إلَى احْتِمَالِ الْغَلَطِ في بَعْضِهِمْ أَقْوَى من سُكُونِهَا إلَى التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَبْعَدَةِ الْمُسْتَنْكَرَةِ عِنْدَهَا لَا سِيَّمَا مع من كانت رِوَايَتُهُ خَطَأً قال فَهَذَا هو الذي اسْتَقَرَّ عليه رَأْيِي وَنَظَرِي وَلَا أَقُولُ هذا في كل تَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ مَرْجُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا ذلك حَيْثُ يَشْتَدُّ اسْتِكْرَاهُهُ ذَكَرَ ذلك في اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ في تَقْدِيرِ مَدَى حَوْضِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال وَلَقَدْ سَمِعْت الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدِ بن عبد السَّلَامِ يقول قَوْلًا أَوْجَبَتْهُ شَجَاعَةُ نَفْسِهِ لَا أَرَى ذِكْرَهُ وَإِنْ كان صَحِيحًا قُلْت وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْخَ سُئِلَ عن حديث أَنَسٍ الْمُخَرَّجِ في الصَّحِيحَيْنِ ما بين نَاحِيَتَيْهِ كما بين جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ قال عبد اللَّهِ فَسَأَلْت عنهما فقال هُمَا قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ فَأَجَابَ الشَّيْخُ الْمُرَادُ بِالنَّاحِيَتَيْنِ في حديث الْحَوْضِ الْمُقَدَّرُ بِمَا بين مَكَّةَ وَبُصْرَى نَاحِيَتَاهُ من الْعَرْضِ قُلْت
وَهَذَا الْجَوَابُ ليس بِصَحِيحٍ كما زَعَمَهُ الشَّيْخُ لِلْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّسْوِيَةِ بين الْعَرْضِ وَالطُّولِ وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ وفي الصَّحِيحَيْنِ رِوَايَاتٌ سَوَاءٌ أَيْ عَرْضُهُ وَطُولُهُ سَوَاءٌ الثَّانِي سَبَقَ أَنَّ طَرِيقَةَ التَّنْزِيلِ على حَالَتَيْنِ لَيْسَتْ على الْحُكْمِ فَعَلَى هذا إذَا تَعَارَضَ الْخَبَرَانِ وَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا في مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَهُوَ أَوْلَى من اسْتِعْمَالِهِمَا في غَيْرِ الْمُخْتَلَفِ فيه ذَكَرَهُ ابن الْقَطَّانِ قال وَهَذَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا في قَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ على الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ وَحَمَلُوا الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا من وَلِيِّهَا وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ مع الثَّيِّبِ أَمْرٌ فَاسْتَعْمَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ في الْمَرْأَتَيْنِ وَحَمَلُوا قَوْلَهُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ على الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ وَحَمَلُوا الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا على الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ قال أَصْحَابُنَا وَنَحْنُ نَسْتَعْمِلُهَا في الْمَوْضِعِ الْمُخْتَلَفِ فيه وَهِيَ الْبَالِغَةُ لِأَنَّا اسْتَفَدْنَا كَوْنَ الصِّغَارِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِنَّ إلَّا الْوَلِيُّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ النِّكَاحِ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ فإذا صَحَّ هذا كان حَمْلُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةٍ الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنْ يَتَرَجَّحَ بِالْمَزِيَّةِ التي لَا تَسْتَقِلُّ وَهَلْ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ الْمُسْتَقِلِّ فيه قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا نعم كَالْمَزِيَّةِ بَلْ أَوْلَى فإن الْمُسْتَقِلَّ أَقْوَى من غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ والثاني
وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَعَزَاهُ إلَى الْأَكْثَرِينَ الْمَنْعُ لِأَنَّ الرُّجْحَانَ وَصْفٌ لِلدَّلِيلِ وَالْمُسْتَقِلُّ ليس وَصْفًا له وَلِأَنَّهُ إنْ كان دُونَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا تَرْجِيحَ فيه وَإِنْ كان فَوْقَهُ فَهُوَ مُسْتَمْسِكٌ بِهِ لَا بِطَرِيقِ التَّرْجِيحِ وَإِنْ كان مثله رَجَعَ الْبَحْثُ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْعَدَدِ وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ إذَا تَمَاثَلَتْ سَقَطَ الزَّائِدُ لِأَنَّ أَثَرَهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَإِلَّا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْمِثْلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَزِيَّةِ أَنَّ الْفَضْلَةَ مُسْتَغْنًى عنها لَا اتِّصَالَ لها بِالدَّلِيلِ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ فإنه لَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عنه وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ بِنَاءً على رُجُوعِهِ إلَى أَوْصَافٍ لَا إلَى ذَوَاتٍ وهو كَثْرَةُ النَّظَائِرِ وَكَثْرَتُهَا وَصْفٌ في الدَّلِيلِ وَلِأَنَّ الْمِزْيَةَ أَيْضًا مُسْتَغْنًى عنها وَلِهَذَا لو فَرَضْنَا خُلُوَّ الدَّلِيلِ منها لَاسْتَقَلَّ وَقَوْلُ النَّافِي يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْمِثْلَيْنِ مَمْنُوعٌ بَلْ التَّقْوِيَةُ تَرْجِعُ إلَى التَّرْجِيحِ بِأَوْصَافٍ لَا بِذَوَاتٍ وهو كَثْرَةُ النَّظَائِرِ فإن ذلك وَصْفٌ في الدَّلِيلِ وَكَأَنَّا رَجَّحْنَا بِالتَّأْكِيدِ لَا بِالتَّأْسِيسِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يُبْعِدُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ وَفَصَّلَ صَاحِبُ الْمُقْتَرَحِ فقال إنْ كان الدَّلِيلُ الْمُسْتَقِلُّ مُغْنِيًا عن الْأَوَّلِ لم يَصِحَّ التَّرْجِيحُ بِهِ لِأَنَّهُ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ وَإِنْ لم يَكُنْ مُغْنِيًا عنه صَحَّ التَّرْجِيحُ بِهِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ منه وَمَثَّلَ الْأَوَّلَ بِمَا إذَا تَمَسَّكَ بِقِيَاسٍ فَعُورِضَ بِقِيَاسٍ فَرَجَحَ قِيَاسُهُ بِالنَّصِّ فَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ النَّصَّ الذي رَجَحَ بِهِ يُغْنِي عن الْقِيَاسِ فإن ذِكْرَ الْقِيَاسِ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ وَمَثَّلَ الثَّانِيَ بِمَا إذَا تَمَسَّكَ بِنَصٍّ وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ أُصُولِيٍّ بَلْ إلَى أَمْرٍ جَدَلِيٍّ اصْطِلَاحِيٍّ وَانْبَنَى على هذا الْخِلَافِ في هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ منها أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّ الظَّنَّيْنِ أَقْوَى من الظَّنِّ الْوَاحِدِ فَيُعْمَلُ بِالْأَقْوَى ومنها تَرْجِيحُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ على الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْعَدَدَ إذَا كَثُرَ قَرُبَ من التَّوَاتُرِ فَالْتَحَقَ بِتَقْدِيمِ الْمُتَوَاتِرِ على الْآحَادِ وَالْخِلَافُ في هذا أَضْعَفُ وَلِهَذَا وَافَقَ هُنَا من خَالَفَ وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ الْمَنْعَ كَالشَّهَادَةِ وقال الذي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ التَّرْجِيحُ بِهِ لِأَنَّهُ يُورِثُ مَزِيدًا في غَلَبَةِ الظَّنِّ وَسَيَأْتِي فيه مَزِيدُ كَلَامٍ ومنها أَنَّهُ انْضَمَّ إلَى أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ قِيَاسٌ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ الشَّافِعِيُّ تَقْدِيمُ الحديث الْمُوَافِقِ لِلْقِيَاسِ وقال الْقَاضِي لَا مُرَجِّحَ بِهِ لِأَنَّهُ ظَنٌّ مُسْتَقِلٌّ فَتَسَاقَطَا وَيَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ فَالْمَسْلَكَانِ يُفْضِيَانِ إلَى حُكْمِ الْقِيَاسِ وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْخَبَرِ الرَّاجِحِ بِمُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ فَالْقَاضِي يَعْمَلُ بِالْقِيَاسِ وَيَسْقُطُ
الْخَبَرُ فَإِنْ قُلْت فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ قُلْت بَلْ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ أو قِيَاسِيَّةٌ وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذلك فِيمَا لو حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ يَنْقُضُ وَالصُّورَةُ أَنَّهُ غَيْرُ جَلِيٍّ وفي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ أبو الْعِزِّ في شَرْحِ الْمُقْتَرَحِ التَّفْصِيلُ بين ما يَظْهَرُ من قَصْدِ الشَّارِعِ إرَادَةَ الْمُجْمَلِ الظَّاهِرِ فَلَا يَصِحُّ عَضُدُهُ بِقِيَاسٍ وَإِنْ لم يَظْهَرْ قَصْدُهُ لِذَلِكَ فَيَصِحُّ تَفْرِقَةً بين تَأْيِيدِهِ ظُهُورَ اللَّفْظِ في الْمَعْنَى لِظُهُورِ الْقَصْدِ وَبَيْنَ ما لم يَتَأَيَّدْ بِذَلِكَ وقال إلْكِيَا إنْ كان مع أَحَدِهِمَا قِيَاسٌ وفي الْجَانِبِ الْآخَرِ مَزِيدُ وُضُوحٍ كَزِيَادَةِ الرُّوَاةِ وَالْعَدَالَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْمَلَ بِالْقِيَاسِ لِاسْتِقْلَالِهِ وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ من جِهَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ ضَرُورَةً عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ وَدَلَالَةُ النَّصِّ ثَابِتَةٌ في أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهَا ضَعُفَتْ بِالتَّعَارُضِ وَالْقِيَاسُ مُسْتَقِلٌّ فَيَتَعَارَضُ النَّظَرَانِ قال وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ الرَّاجِحِ ثُمَّ حَكَى قَوْلًا أَنَّهُ كَالْحُكْمِ قبل وُرُودِ الشَّرِيعَةِ فَيَجِيءُ فيه الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ ومنها أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَقْرَبَ إلَى الْقَوَاعِدِ وَالْفَرْقُ بين هذا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ في هذا له مُخَالَفَةَ الْقِيَاسِ فإذا ثَبَتَ أَنَّ مُخَالِفَ الْقِيَاسِ يُرَجَّحُ فَكُلَّمَا كان أَقَلَّ مُخَالَفَةً كان أَكْثَرَ قُرْبًا فَكَانَ أَرْجَحَ فَإِنَّا لو أَرَدْنَا أَنْ نُثْبِتَ الْقِيَاسَ على وَفْقِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ لَعَجَزْنَا وَلَا يَجِيءُ هُنَا خِلَافُ الْقَاضِي بِالتَّسَاقُطِ إذْ لو أَسْقَطْنَاهَا لم نَقْدِرْ على إثْبَاتِ هَيْئَةِ الْقِيَاسِ فَتَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا بِمُرَجِّحِ الْقُرْبِ مَسْأَلَةٌ قال ابن كَجٍّ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِوُجُوهٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ أَحَدِهَا بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ على اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ ثَانِيهَا بِالنَّقْلِ فإنه يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِمَا قبل الشَّرْعِ وَالْآخَرُ نَاقِلًا فَيُقَدَّمُ لِأَنَّ معه زِيَادَةً كما لو شَهِدَا بِأَنَّ هذه الدَّارَ لِزَيْدٍ خَلَفَهَا لِوَرَثَتِهِ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَنَّهُ بَاعَهَا من عَمْرٍو تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْبَيْعِ لِأَنَّ أُولَئِكَ بَنَوْا على الْحَالِ الْأَوَّلِ ثَالِثِهَا أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا فَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ كنا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ رَابِعِهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِاسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ
خَامِسِهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِاسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ سَادِسِهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ السُّنَنَ أَكْثَرُهَا لها أَصْلٌ في الْكِتَابِ إمَّا نَصًّا أو اسْتِدْلَالًا سَابِعِهَا أَنْ يَكُونَ أَشْبَهَ بِالْقِيَاسِ وَهَذَا كُلُّهُ سَيَأْتِي مُفَصَّلًا وَلَكِنْ أَحْبَبْت مَعْرِفَتَهُ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَجْمُوعًا قال ابن كَجٍّ وإذا اجْتَمَعَ مُرَجَّحَاتٌ في خَبَرٍ وَاثْنَانِ في خَبَرٍ فَاَلَّذِي اجْتَمَعَ فيه الثَّلَاثَةُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ أو خَاصَّيْنِ أو أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا أو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا من وَجْهٍ خَاصًّا من وَجْهٍ آخَرَ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ من هذه الْأَنْوَاعِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ لِأَنَّهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ أو مَظْنُونَيْنِ أو أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا فَحَصَلَ اثْنَا عَشَرَ وَكُلٌّ منها إمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُهُ أو تَأَخُّرُهُ أو يُجْهَلَ فَتَصِيرُ الْقِسْمَةُ من سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ وَيَقَعُ على ثَلَاثِهِ أَضْرُبٍ الضَّرْبُ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ وَعُلِمَ التَّارِيخُ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ سَوَاءٌ كَانَا آيَتَيْنِ أو خَبَرَيْنِ أو أَحَدُهُمَا آيَةً وَالْآخَرُ خَبَرًا عِنْدَ من يُجَوِّزُ النَّسْخَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ أَمَّا من يَمْنَعُهُ فَيَمْنَعُ الْفَسْخَ في هذا الْأَخِيرِ قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وقال الْأُرْمَوِيُّ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ لم نَقُلْ بِوُقُوعِ نَسْخِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْكِتَابِ وَلَا بِالْعَكْسِ وَلَكِنَّهُ إذَا تَعَارَضَا وَأَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمٌ تَعَيَّنَ الْمُتَأَخِّرُ وَهَذَا إذَا كان حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ قَابِلًا لِلنَّسْخِ وَإِلَّا كَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قال الْإِمَامُ فَيَتَسَاقَطَانِ وَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى دَلِيلٍ وَاعْتَرَضَ عليه النقشواني فإن الْمَدْلُولَ إذَا لم يَقْبَلْ النَّسْخَ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ فَلَا يُعَارِضُ الْمُتَقَدِّمَ بَلْ يَجِبُ إعْمَالُ الْمُتَقَدِّمِ كما كان قبل وُرُودِ الْمُتَأَخِّرِ قُلْت وَهَذَا إذَا كان نَقْلُ التَّارِيخِ مُتَوَاتِرًا أَيْضًا فَإِنْ كان النَّصَّانِ مُتَوَاتِرَيْنِ وَالنَّسْخُ آحَادًا فَيُتَّجَهُ فيه طَرِيقَتَانِ
إحْدَاهُمَا إجْرَاءُ خِلَافٍ مَبْنِيٍّ على النَّسْخِ بِالْآحَادِ فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ نَسَخْنَا بِمَا دَلَّتْ الْآحَادُ على أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ وَعَمِلْنَا بِالْمُتَأَخِّرِ وَإِنْ مَنَعْنَاهُ حَكَمْنَا بِتَعَارُضِ الظَّنَّيْنِ وَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ أو التَّخْيِيرِ والثانية الْقَطْعُ بِقَبُولِ الْآحَادِ في تَارِيخِ الْمُتَوَاتِرِ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ لِأَنَّ انْسِحَابَ الْعَمَلِ بِالْمُتَوَاتِرِ في سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ مَظْنُونٌ فما رَفَضْنَا إلَّا مَظْنُونًا بِمَظْنُونٍ وَأَمَّا عَكْسُ هذه الصُّورَةِ أَنْ يُفْرَضَ التَّارِيخُ مُتَوَاتِرًا أو الْمَتْنُ آحَادًا فَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ هذا كُلُّهُ إذَا عُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ فَإِنْ عُلِمَ مُقَارَنَتُهُمَا فَإِنْ أَمْكَنَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِهِ فإنه إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ لم يَبْقَ إلَّا التَّخْيِيرُ وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ تَسَاقَطَا وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى غَيْرِهِمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هو الْمُتَأَخِّرُ فَيَكُونُ نَاسِخًا إذْ التَّقَدُّمُ يَكُونُ مَنْسُوخًا هَكَذَا أَطْلَقُوهُ وَهَذَا إذَا لم يُمْكِنْ تَطَرُّقُ النَّسْخِ إلَى أَحَدِهِمَا فَإِنْ أَمْكَنَ فَالشَّافِعِيُّ يُرَجِّحُ ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ ذلك وَرَآهُ أَوْلَى من الْحُكْمِ بِتَسَاقُطِهِمَا حَكَاهُ عنه الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَذَكَرَ له مِثَالَيْنِ تَخْرُجُ مِنْهُمَا صُورَتَانِ إحْدَاهُمَا إذَا أَرَّخَ أَحَدُهُمَا وَسَكَتَ الْآخَرُ عن التَّارِيخِ كَحَدِيثِ إذَا صلى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ مع جُلُوسِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في مَرَضِ وَفَاتِهِ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ قِيَامٌ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مُطْلَقٌ فَغَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّهُ كان قَالَهُ في صِحَّتِهِ والثانية أَنْ يَكُونَ إسْلَامُ رَاوِي أَحَدِهِمَا مُتَأَخِّرًا عن إسْلَامِ الْآخَرِ كَحَدِيثِ قَيْسِ بن طَلْقٍ في عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ وهو مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ
مع حديث أبي هُرَيْرَةَ بِالنَّقْضِ وهو مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ فَيَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إلَى حديث قَيْسٍ ثُمَّ حَكَى الْإِمَامُ عن قَوْمٍ بَقَاءَ التَّعَارُضِ إذْ لَا يُصَارُ إلَى الْفَسْخِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ ثُمَّ تَوَسَّطَ فقال إنْ عَدِمَ الْمُجْتَهِدُ مُتَعَلَّقًا سِوَاهُ فَكَقَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَوْلَى من تَعْطِيلِ الْحُكْمِ وَتَعْرِيَةِ الْحَادِثِ عن مُوجِبِ الشَّرْعِ وَإِنْ وَجَدَ غَيْرَهَا وَوَجَدَ الْقِيَاسَ مُضْطَرِبًا عَدَلَ عنهما وَتَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ الْخَبَرُ الذي بَعْدَ ظَنِّ النَّسْخِ يُسْتَعْمَلُ مُرَجِّحًا لِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ على الْآخَرِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَفْرِضُ الْمَسْأَلَةَ في قِيَاسَيْنِ تَعَارَضَا أو خَبَرَيْنِ كَذَلِكَ وهو مُخَالِفٌ لِتَصْوِيرِهِ السَّابِقِ في تَعَارُضِ خَبَرَيْنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ وُجِدَ الْقِيَاسُ مع كُلٍّ مِنْهُمَا أو مع أَحَدِهِمَا أو لم يُوجَدْ أَلْبَتَّةَ وَأَوْرَدَ الْإِبْيَارِيُّ على تَفْصِيلِهِ أَنَّهُ هَلَّا عَمِلَ بِالْخَبَرِ الرَّاجِحِ وَجَعَلَ الْقِيَاسَ الْمُوَافِقَ له مُرَجِّحًا وَأَجَابَ ابن الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَمَّا لم يَجِدْ في التَّوْقِيفِ مُسْتَنَدًا اسْتَأْنَفَ الظَّنَّ في الْأَقْيِسَةِ فَوَجَدَهَا أَيْضًا مُتَعَارِضَةً وَلَكِنْ وَجَدَ أَحَدَ قِيَاسَيْهِ على وَفْقِ الْخَبَرِ الرَّاجِحِ فَجَعَلَ الْقِيَاسَ مُسْتَنَدًا لِأَنَّهُ لو جَعَلَ الْخَبَرَ الرَّاجِحَ مُسْتَنَدًا بَعْدَ أَنْ سَبَقَ منه إلْغَاءُ كَوْنِهِ مُسْتَنَدًا لَكَانَ نَقْضًا لِحُكْمٍ ثَبَتَ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ أو قِيَاسِيَّةٌ وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ في نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَنَقَلَ ابن الْمُنِيرِ في الصُّورَةِ الْأُولَى أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ يُقَدَّمُ الْمُؤَرَّخُ على الْمُهْمَلِ لِأَنَّ الْمُؤَرَّخَ يَقْطَعُ بِهِ في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِخِلَافِ الْمُهْمَلِ فإنه ما من وَقْتٍ إلَّا وَيُحْتَمَلُ فيه الثُّبُوتُ وَالْعَدَمُ فَيُقَدَّمُ الْمَقْطُوعُ بِهِ في تَارِيخٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّ الْمُبَيَّنُ مُقَدَّمٌ على الْمُجْمَلِ فَالتَّرْجِيحُ في هذه الصُّورَةِ مَبْنِيٌّ على الْمُقَابَلَةِ بين الْبَيَانِ وَالْإِجْمَالِ وَالتَّرْجِيحُ في الثَّانِيَةِ مَبْنِيٌّ على الْمُقَابَلَةِ بين الْإِجْمَالِ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَهَذَا يَرُدُّ إيرَادَ الْإِبْيَارِيّ على الْمَنْقُولِ عن الشَّافِعِيِّ احْتِمَالَ أَنَّ مُتَأَخِّرَ الْإِسْلَامِ تَحَمَّلَ في حَالِ الْكِبَرِ وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّحَمُّلَ في حَالِ الْإِسْلَامِ أَغْلَبُ وَقَبْلَ الْإِسْلَامِ أَنْدَرُ فَيُقَدَّمُ الْغَالِبُ على النَّادِرِ وَلَيْسَ كُلُّ احْتِمَالٍ وَاقِعًا فَتَأَمَّلْ هذا الْفَصْلَ فإن مَعْرِفَتَهُ من غَايَاتِ الْآمَالِ الضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَا مَظْنُونَيْنِ فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ نَسَخَ الْمُتَأَخِّرُ الْمُتَقَدِّمَ وَإِلَّا وَجَبَ التَّرْجِيحُ فَيُعْمَلُ بِالْأَقْوَى الضَّرْبُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا وكان هو الْمَظْنُونُ كان
الْمَعْلُومُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا وَإِنْ كان الْمَعْلُومُ مُتَقَدِّمًا ما لم يَنْسَخْهُ الْمَظْنُونُ فَنَعْمَلُ بِالْمَعْلُومِ وَإِنْ جُهِلَ عُمِلَ بِالْمَعْلُومِ سَوَاءٌ عُلِمَتْ الْمُقَارَنَةُ أو لَا النَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَا خَاصَّيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ أو مَظْنُونَيْنِ أو أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا وَالْحُكْمُ فيها ما تَقَدَّمَ في النَّوْعِ الْأَوَّلِ قال سُلَيْمٌ إنْ تَعَارَضَ نَصَّانِ فَإِنْ كَانَا من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَعُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا نَسَخَهُ الْمُتَأَخِّرُ وَإِلَّا قُدِّمَ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِضَرْبٍ من التَّرْجِيحِ وَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ كَالْآيَتَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ وَعُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا نَسَخَهُ الْمُتَأَخِّرُ وَإِنْ لم يُعْلَمْ تَوَقَّفَ فِيهِمَا ولم يُقَدَّمْ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِتَرْجِيحٍ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ طَرِيقَةُ غَلَبَةِ الظَّنِّ فَلَا يَدْخُلُ في تَقْوِيَةِ ما طَرِيقُهُ الْقَطْعُ النَّوْعُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتى يُؤْمِنَّ مع قَوْلِهِ وَالْمُحْصَنَاتُ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِكُمْ فَفِيهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ فَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْعَامِّ وَتَأَخُّرُ الْخَاصِّ فَأَطْلَقَ في الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْخَاصَّ يَكُونُ نَاسِخًا أَيْ الْعَامَّ في ذلك الْفَرْدِ الذي تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ وَهَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ عن بَعْضِ الْأَصْحَابِ وقال إنَّهُ بِنَاءً على أَنَّ تَأَخُّرَ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْخِطَابِ لَا يَجُوزُ وهو قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ قال وَالْمَذْهَبُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْخَاصِّ على الْعَامِّ مُطْلَقًا وَقِيلَ يَتَعَارَضَانِ وهو قَوْلُ الْقَاضِي وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ إنْ كان الْخَاصُّ مُخْتَلَفًا فيه وَالْعَامُّ مُجْمَعًا عليه لم يَقْضِ بِهِ على الْعَامِّ وَإِنْ كان مُتَّفَقًا عليه قَضَى بِهِ على الْعَامِّ وقال الْهِنْدِيُّ ما قال في الْمَحْصُولِ مَوْضِعُهُ إذَا وَرَدَ بَعْدَ مَظْنُونٍ وَقْتَ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ فَإِنْ وَرَدَ قبل حُضُورِ وَقْتِهِ كان الْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ وَأَمَّا من لَا يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عن وَقْتِ الْخِطَابِ فَعِنْدَهُ في الصُّورَتَيْنِ يَكُونُ الْخَاصُّ خَاصًّا وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ الْمَحْصُولِ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْخَاصِّ فَعِنْدَنَا يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَنْسَخُهُ وَإِنْ عُلِمَ مُقَارَنَتُهُمَا فَيَكُونُ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ وَإِنْ جُهِلَ يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ يَتَوَقَّفُ فيه وقال سُلَيْمٌ الْحُكْمُ في الْمَسْأَلَتَيْنِ أَعْنِي الْمُقَارَنَةَ وَجَهْلَ التَّارِيخِ أَنْ يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ وقال عِيسَى بن أَبَانَ وَالْكَرْخِيُّ إنْ عُلِمَ لِلصَّحَابَةِ فيه اسْتِعْمَالٌ عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا وَجَبَ
التَّوَقُّفُ وَإِنْ كَانَا مَظْنُونَيْنِ فَالْحُكْمُ فيه كما كَانَا مَعْلُومَيْنِ إنْ كان أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا قال الْإِمَامُ فَهَاهُنَا اتَّفَقُوا على تَقْدِيمِ الْمَعْلُومِ على الْمَظْنُونِ إلَّا إذَا كان الْمَعْلُومُ عَامًّا وَالْمَظْنُونُ خَاصًّا وَوَرَدَا مَعًا وَذَلِكَ مِثْلُ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ قال الْهِنْدِيُّ وهو غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ ذلك يَخْتَصُّ بِحَالَةِ وُرُودِهِمَا مَعًا لَكِنَّهُ ليس كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا لو تَأَخَّرَ الْخَاصُّ الْمَظْنُونُ عن الْعَامِّ الْمَعْلُومِ وكان قبل حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ الْمَعْلُومِ كان أَيْضًا مُخَصِّصًا وكان اخْتِلَافُ الناس فيه كما في الْمُتَقَارِنَيْنِ نعم يَسْتَقِيمُ ذلك على مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وثانيهما لو تَقَدَّمَ الْخَاصُّ الْمَظْنُونُ على الْعَامِّ الْمَعْلُومِ فإنه يُبْنَى الْعَامُّ عليه عِنْدَنَا وهو تَقْدِيمُ الْخَاصِّ الْمَظْنُونِ على الْعَامِّ الْمَعْلُومِ مع أَنَّهُمَا لم يَرِدَا مَعًا وَحِينَئِذٍ فَالْحُكْمُ في هذا تَقْدِيمُ الْمَعْلُومِ على الْمَظْنُونِ إلَّا في هذه الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الصُّورَةِ التي ذَكَرَهَا الْإِمَامُ وَالصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا النَّوْعُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَامًّا من وَجْهٍ خَاصًّا من وَجْهٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَخُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُمُومَ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الْأُخْتَيْنِ مع قَوْلِهِ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فإن الْأُولَى خَاصَّةٌ في الْأُخْتَيْنِ عَامَّةٌ في الْجَمْعِ في مِلْكِ الْيَمِينِ وَالثَّانِيَةَ عَامَّةٌ في الْأُخْتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا خَاصَّةٌ في مِلْكِ الْيَمِينِ وَكَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من نَامَ عن صَلَاةٍ أو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا مع نَهْيِهِ عن الصَّلَاةِ في الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فإن الْأَوَّلَ خَاصٌّ في وَقْتِ الْقَضَاءِ عَامٌّ في الْأَوْقَاتِ وَالثَّانِيَ عَامٌّ في الصَّلَاةِ خَاصٌّ في الْأَوْقَاتِ فَفِيهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا فَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ وَعُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ عِنْدَ من يقول إنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ الْخَاصَّ الْمُتَقَدِّمَ بَلْ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لم يَخْلُصْ خُصُوصُ الْأَوَّلِ وَأَمَّا عِنْدَ من لَا يقول بِهِ فَاللَّائِقُ بِمَذْهَبِهِ أَنْ لَا يَقُولَ بِالنَّسْخِ هُنَا كما في الْأَوَّلِ من جِهَةِ الْخُصُوصِ وفي
الثَّانِي من جِهَةِ الْعُمُومِ بَلْ يَذْهَبُ في التَّرْجِيحِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ ذلك سَوَاءٌ عُلِمَتْ الْمُقَارَنَةُ أو لم تُعْلَمْ أَيْضًا فَاللَّائِقُ بِالْمَذْهَبَيْنِ أَنْ يُصَارَ إلَى التَّرْجِيحِ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا حَظْرًا وَالْآخَرِ إبَاحَةً أو بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا مُثْبَتًا وَالْآخَرِ مَنْفِيًّا أو شَرْعِيًّا وَالْآخَرِ فِعْلِيًّا لِأَنَّ الْحُكْمَ بِذَلِكَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَلَيْسَ في تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ إطْرَاحُ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمُتَعَارِضَيْنِ من كل وَجْهٍ وَأَمَّا إذَا كَانَا مَظْنُونَيْنِ فَكَمَا في الْمَعْلُومَيْنِ إلَّا أَنَّهُ يُرَجَّحُ فيها بِقُوَّةِ الْأَشْبَاهِ وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْمَعْلُومِ عُمِلَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا وَإِنْ عُلِمَ تَأْخِيرُهُ عُمِلَ بِهِ لِكَوْنِهِ نَاسِخًا وَهَذَا على رَأْيِ من يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ وَأَمَّا على رَأَيْنَا فَالْعَمَلُ بِالْمَعْلُومِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لِتَعَذُّرِ النَّسْخِ وَإِنْ لم يُعْلَمْ ذلك سَوَاءٌ عُلِمَ التَّقَارُنُ أو جُهِلَ فَإِنَّا نَحْكُمُ بِالْمَعْلُومِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا هذا حَاصِلُ ما ذَكَرَهُ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ وَأَطْلَقَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِدَلِيلٍ وفي جَوَازِ خُلُوِّ مِثْلِ هذا عن التَّرْجِيحِ قَوْلَانِ وإذا خَلَا سَقَطَا وَرَجَعَ الْمُجْتَهِدُ إلَى الْبَرَاءَةِ وَنَقَلَ سُلَيْمٌ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ الذي فيه ذِكْرُ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ في الْوَقْتِ فَقُدِّمَ ما فيه وَذَكَرَ الصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ في تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ إنْ كان هُنَاكَ تَوْقِيفٌ صِرْنَا إلَيْهِ وَإِنْ لم يَكُنْ إلَّا الْعُمُومُ فَفِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّا نَنْظُرُ إلَى أَيِّهِمَا أَعَمَّ اللَّفْظَيْنِ بِوَجْهٍ فَيُجْعَلُ الْآخَرُ في الْخَاصَّةِ والثاني إلَى أَيِّ اللَّفْظَتَيْنِ اُبْتُدِئَ بها فَالْأُخْرَى مَعْطُوفَةٌ عليها لِأَنَّك لو أَثْبَتَّ اللَّفْظَةَ الثَّانِيَةَ كان فيها رَفْعُ ما اُبْتُدِئَ بِذِكْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ من الثَّانِيَةِ إلَّا ما لَا يُبْطِلُ الْأُولَى فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلثَّانِي على ما قُلْنَا في التَّرْتِيبِ كَأَنَّا قُلْنَا كُلُّ مِلْكِ يَمِينٍ فَهُوَ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فذكر عُمُومَ الزَّوْجَاتِ وَعُمُومَ مِلْكِ الْيَمِينِ فَكَانَ أَخَصَّ مِمَّا ذَكَرْت من الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فَثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بين الْأُخْتَيْنِ الْمِلْكُ وَالنِّكَاحُ مُسْتَثْنَى من عُمُومِ قَوْلِهِ إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ولم يَصِحَّ أَنْ تُقَابِلَ الْآيَةَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى لِمَا وَصَفْتُهُ انْتَهَى قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ هذه الْمَسْأَلَةُ من مُشْكِلَاتِ الْأُصُولِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْوَقْفُ إلَّا بِتَرْجِيحٍ يَقُومُ على أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ قال وَكَأَنَّ
مُرَادَهُمْ التَّرْجِيحُ الْعَامُّ الذي لَا يَخُصُّ مَدْلُولَ الْعُمُومِ كَالتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عن مَدْلُولِ الْعُمُومِ من حَيْثُ هو مَدْلُولُ الْعُمُومِ وَذَكَرَ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ التَّفْصِيلَ السَّابِقَ ثُمَّ قال وقال الْفَاضِلُ أبو سَعِيدٍ محمد بن يحيى فِيمَا وَجَدْتُهُ مُعَلَّقًا عنه الْعَامَّانِ إذَا تَعَارَضَا فَكَمَا يُخَصَّصُ هذا بِذَاكَ لِمُعَارِضَتِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُخَصَّصَ ذلك بهذا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَيُنْظَرُ فِيهِمَا إنْ دخل أَحَدَهُمَا تَخْصِيصٌ مُجْمَعٌ عليه فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ وَكَذَلِكَ إذَا كان أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا بِالْعُمُومِ رَجَحَ على ما كان عُمُومُهُ اتِّفَاقًا انْتَهَى قُلْت وَهَذَا هو اللَّائِقُ بِتَصَرُّفِ الشَّافِعِيِّ في أَحَادِيثِ النَّهْيِ عن الصَّلَاةِ في الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فإنه قال لَمَّا دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ضَعُفَتْ دَلَالَتُهَا تَقَدَّمَ عليها أَحَادِيثُ الْمَقْضِيَّةِ وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَغَيْرُهَا وَلِذَلِكَ نَقُولُ دَلَالَةُ وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الْأُخْتَيْنِ على تَحْرِيمِ الْجَمْعِ مُطْلَقًا في النِّكَاحِ وَالْمِلْكُ أَوْلَى من دَلَالَةِ الثَّانِيَةِ على جَوَازِ الْجَمْعِ بِالْيَمِينِ لِأَنَّ هذه الْآيَةَ ما سِيقَتْ لِبَيَانِ حُكْمِ الْجَمْعِ مَسْأَلَةٌ إذَا عَارَضَ قِيَاسٌ مُسْتَنْبَطٌ من نَصِّ كِتَابٍ ما في حديث آحَادٍ فَقِيلَ إنْ سَمَّيْنَاهُ قِيَاسًا رَجَّحْنَا عليه الْخَبَرَ لِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ قال في الْمَنْخُولِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ عليه لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ قِيَاسًا يَرْجِعُ لِلَّقَبِ وهو مَقْطُوعٌ بِهِ كَالْمَنْصُوصِ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ تُقَدَّمُ على قِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ من الْقُرْآنِ مَسْأَلَةٌ قال الصَّيْرَفِيُّ كُلُّ مُتَعَارِضَيْنِ لَا يَخْرُجَانِ عن وَجْهٍ من أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَكُونَ لها في الْأَصْلِ حُكْمٌ مَعْلُومٌ كَالْوَاقِعِ بِابْتِدَاءِ الشَّرْعِ مِثْلُ الْإِحْدَاثِ في الْوُضُوءِ فَيَتْرُكُ اعْتِقَادَ الْأَمْرِ بِأَحَدِهِمَا وَالنَّهْيَ عن الْآخَرِ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَيَّهُمَا الْأَوْلَى وَيُصَارُ إلَى ما عَضَّدَهُ الدَّلِيلُ أو رَجَّحَهُ بِقِيَاسٍ أو حِفْظٍ أو كَثْرَةِ عَدَدٍ وثانيها أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجِبُ إبَاحَتُهُ أو حَظْرُهُ فَأَيُّ الْخَبَرَيْنِ جاء بِخِلَافِ ما كان مُتَقَدِّمًا في الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَالْخَبَرُ هو الذي معه دَلِيلُ الِانْتِقَالِ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا جاء بِتَوْكِيدِ ما تَقَدَّمَ وقد عُلِمَ زَوَالُ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي ولم يُعْلَمْ زَوَالُ الثَّانِي كَقَوْلِهِ عليه
السَّلَامُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَقَوْلِهِ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وثالثها أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فَيَأْتِي بِمِثْلِ ما جاء بِهِ الْحُكْمُ كَالْمُزَارَعَةِ فإن الناس كَانُوا يَسْتَبِيحُونَ الْمُزَارَعَةَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَنَهَى عنهما وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِإِجَازَتِهِمَا ولم يَفِدْ شيئا أَفَادَ فِيمَا كان الناس عليه فَخَبَرُ النَّهْيِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ هذا إذَا عَلِمَ تَقْرِيرَهُ على الْمُزَارَعَةِ مُدَّةً ثُمَّ جاء الْخَبَرَانِ فَإِنْ كَانُوا مُسْتَعْمَلَيْنِ لها وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا عليها فإذا جاء النَّهْيُ عنها ثُمَّ جاء الْخَبَرُ بِإِجَازَتِهَا نَظَرَ فِيهِمَا على هذا الْحَالِ فَأَمَّا آيُ الْقُرْآنِ فَكُلُّ آيَةٍ وَرَدَتْ بِإِبَاحَةِ شَيْءٍ في جُمْلَةِ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا فَأَخْبَرَ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ جاء خَبَرٌ بِتَحْلِيلِ ما جاء الْخَبَرُ الْآخَرُ بِتَحْرِيمِهِ نَظَرَ في الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُوجِبُ خُصُوصَ الْآيَةِ وَالْآخَرَ يُوجِبُ عُمُومَهَا وَلَيْسَ هذا مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ الْحَظْرِ وَلَا قَبْلَهُ وَلَا في الْأَخْبَارِ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ فَإِنْ كان الْحَظْرُ بَيَانَ الْآيَةِ لم يَجُزْ أَنْ يُرْفَعَ ذلك بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ وَيَكُونُ خَبَرُ التَّحْلِيلِ بِإِزَاءِ خَبَرِ التَّحْرِيمِ فَكَأَنَّهُ لم يَقُمْ دَلِيلُ الْخُصُوصِ فَإِنْ قَوِيَ أَحَدُهُمَا على صَاحِبِهِ فَالْحُكْمُ له قال وَيَجِيءُ الْخَبَرَانِ مُخْتَلِفَيْنِ وَالْإِنْسَانُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا كَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ لِلْحَاجِّ فَلَا يَضُرُّ ذلك الِاخْتِلَافُ وَإِنْ كان مُحَالًا أَنْ يَفْعَلَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ لم يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُمَا كَخَبَرِ مَيْمُونَةَ نَكَحَهَا وهو مُحْرِمٌ وما نَكَحَهَا إلَّا وهو حَلَالٌ فَأَحَدُهُمَا غَلَطٌ من الرَّاوِي فَيُصَارُ إلَى الدَّلِيلِ يُعَضِّدُ أَحَدَهُمَا سَبَبُ الِاخْتِلَافِ في الرِّوَايَاتِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الرِّسَالَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول الْقَوْلَ عَامًّا يُرِيدُ بِهِ الْعَامَّ وَعَامًّا يُرِيدُ بِهِ الْخَاصَّ وَيُسْأَلُ عن الشَّيْءِ فَيُجِيبُ على قَدْرِ الْمَسْأَلَةِ وَيُؤَدِّي عنه الْمُخْبَرُ الْخَبَرَ مُبَعَّضًا وَالْخَبَرَ مُخْتَصَرًا وَالْخَبَرُ يَأْتِي بِبَعْضِ مَعْنَاهُ دُونَ بَعْضٍ وَيُحَدِّثُ الرَّجُلُ عنه الحديث قد أَدْرَكَ جَوَابَهُ ولم يُدْرِكْ الْمَسْأَلَةَ على حَقِيقَةِ الْجَوَابِ
لِمَعْرِفَتِهِ السَّبَبَ الذي يُخَرَّجُ عليه الْجَوَابُ وَيَسُنُّ في الشَّيْءِ سُنَّةً وَفِيمَا يُخَالِفُهُ أُخْرَى فَلَا يَخْلُصُ بَعْضُ السَّامِعِينَ من اخْتِلَافِ الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سُنَّ فِيهِمَا وَيَسُنُّ سُنَّةً في نَصِّ مَعْنَاهُ فَيَحْفَظُهُمَا حَافِظٌ آخَرُ في مَعْنَى يُخَالِفُهُ في مَعْنَى وَيُجَامِعُهُ في مَعْنَى سُنَّةِ غَيْرِهَا لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فَيَحْفَظُ غَيْرُهُ تِلْكَ السُّنَّةَ فإذا أَدَّى كُلٌّ ما حَفِظَ رَآهُ بَعْضُ السَّامِعِينَ اخْتِلَافًا وَلَيْسَ فيه شَيْءٌ وَيَسُنُّ بِلَفْظٍ مَخْرَجُهُ عَامٌّ جُمْلَةً بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ أو تَحْلِيلِهِ وَلَيْسَ في غَيْرِهِ خِلَافُ الْجُمْلَةِ فَيُسْتَدَلُّ على أَنَّهُ لم يُرِدْ بِمَا حَرَّمَ ما أَحَلَّ وَلَا بِمَا أَحَلَّ ما حَرَّمَ قال ولم نَجِدْ عنه شيئا مُخْتَلِفًا فَكَشَفْنَاهُ إلَّا وَجَدْنَا له وَجْهًا يَحْتَمِلُ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخْتَلِفًا وَأَنْ يَكُونُ دَاخِلًا في الْوُجُوهِ التي وُصِفَتْ انْتَهَى الْقَوْلُ في تَرْجِيحِ الظَّوَاهِرِ من الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ وهو إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أو بِمَا يَحْصُلُ من خَلَلٍ بِسَبَبِ الرُّوَاةِ كما سَبَقَ وَأَمَّا التَّعَارُضُ في نَفْسِ الْأَمْرِ بين حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ قال ابن خُزَيْمَةَ لَا أَعْرِفُ أَنَّهُ رُوِيَ عن الرَّسُولِ حَدِيثَانِ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ وَمَنْ كان عِنْدَهُ فَلِيَأْتِ بِهِ حتى أُؤَلِّفَ بَيْنَهُمَا وقال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ ولم نَجِدْ حَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ إلَّا وَلَهُمَا مَخْرَجٌ أو على أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ إمَّا مُوَافِقَةُ كِتَابِ اللَّهِ أو غَيْرِهِ من السُّنَّةِ أو بَعْضِ الدَّلَائِلِ انْتَهَى وهو بِاعْتِبَارَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ يُرَجَّحَ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ من جِهَةِ الْإِسْنَادِ والثاني بِالْمَتْنِ أَمَّا التَّرْجِيحُ بِالْإِسْنَادِ فَلَهُ اعْتِبَارَاتٌ أَوَّلُهَا بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ فَيُرَجَّحُ ما رُوَاتُهُ أَكْثَرُ على ما رُوَاتُهُ أَقَلُّ بِخِلَافِهِ كَاحْتِجَاجِ الْحَنَفِيَّةِ على عَدَمِ الرَّفْعِ في الرُّكُوعِ بِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ عن عَلْقَمَةَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ثُمَّ لَا يَعُودُ فيقول قد رَوَى الرَّفْعَ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ
صَحَابِيًّا وَكَثِيرٌ منها في الصَّحِيحَيْنِ وَكَرِوَايَةِ التَّغْلِيسِ بِالصُّبْحِ على رِوَايَةِ الْإِسْفَارِ هذا مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ وهو الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَنَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ وقال الْأَخْذُ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ في الرِّبَا أَوْلَى من حديث
أُسَامَةَ إنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ لِأَنَّهُ رَوَاهُ مع عُبَادَةَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وأبو سَعِيدٍ وأبو هُرَيْرَةَ وَرِوَايَةُ خَمْسَةٍ أَوْلَى من رِوَايَةِ وَاحِدٍ وَقَرَّرَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَاحْتَجَّ له بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الزِّيَادَةَ من الْعَدَدِ بِالنِّسْبَةِ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُوجِبًا لِلتَّذَكُّرِ فقال أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَكَذَلِكَ جِنْسُ الرِّجَالِ كُلَّمَا كَثُرَ الْعَدَدُ قَوِيَ الْحِفْظُ وَنَقَلَهُ ابن الْقَطَّانِ عن الْجَدِيدِ قال وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بِأَنَّ الشُّهُودَ مَنْصُوصٌ على عَدَالَتِهِمْ فَكُفِينَا مَئُونَةَ الِاجْتِهَادِ وَالْأَخْبَارُ مَبْنِيَّةٌ على الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْأَوْلَى تَرْجِيحُ الْأَكْثَرِ لِأَنَّهُمْ عن الْخَطَأِ أَبْعَدُ قال وَذَهَبَ في الْقَدِيمِ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَشَبَّهَ بِالشَّهَادَاتِ قلت وَعَكَسَ ابن كَجٍّ وابن فُورَكٍ في كِتَابَيْهِمَا هذا النَّقْلَ فَقَالَا قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الْقَدِيمِ يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الذي هو أَكْثَرُ رُوَاةً لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْأَخْبَارِ إنَّمَا هو من طَرِيقِ عِلْمِ الظَّاهِرِ وَيُحْتَمَلُ الْغَلَطُ وَالْكَثْرَةُ تَدْفَعُ الْغَلَطَ وقال في الْجَدِيدِ إنَّهُمَا سَوَاءٌ وَعَوَّلَ في ذلك على أَنَّهُمَا قد اسْتَوَيَا جميعا في لُزُومِ الْحُجَّةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فإذا اجْتَمَعَا فَقَدْ اسْتَوَيَا وَيَطْلُبُ دَلَالَةً سِوَاهُمَا وَبِالْقِيَاسِ على الشَّهَادَةِ انْتَهَى وقال سُلَيْمٌ أَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ في مَوْضِعٍ آخَرَ وَحَيْثُ قُلْنَا يُرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ فقال الْقَاضِي لَا أَرَاهُ قَطْعِيًّا وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنْ لم يُمْكِنْ الرُّجُوعُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ قُطِعَ بِاتِّبَاعِ الْأَكْثَرِ فإنه أَوْلَى من الْإِلْغَاءِ وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لو تَعَارَضَ لهم خَبَرَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لم يُعَطِّلُوا الْوَاقِعَةَ بَلْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ هذا قال وَأَمَّا إذَا كان في الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ وَخَبَرَانِ مُتَعَارِضَانِ كَثُرَتْ رُوَاةُ أَحَدِهِمَا فَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ وَالِاعْتِمَادُ على ما يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ النَّاظِرِ
وفي الْمَسْأَلَةِ رَأْيٌ رَابِعٌ صَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ الِاعْتِمَادَ على ما غَلَبَ على ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَرُبَّ عَدْلٍ أَقْوَى في النَّفْسِ من عَدْلَيْنِ لِشِدَّةِ تَيَقُّظِهِ وَضَبْطِهِ فلما كَثُرَ الْعَدَدُ ولم يَقْوَ الظَّنُّ بِصِدْقِهِمْ كان خَبَرُهُمْ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَالرَّاجِحُ هو الْأَوَّلُ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ بَلْ هو أَقْوَى الْمُرَجَّحَاتِ فإن الظَّنَّ يَتَأَكَّدُ عن تَرَادُفِ الرِّوَايَاتِ وَلِهَذَا يَقْوَى الظَّنُّ إلَى أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ بِهِ مُتَوَاتِرًا وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ لو تَعَارَضَتْ الْكَثْرَةُ من جَانِبٍ وَالْعَدَالَةُ من جَانِبٍ آخَرَ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِإِلْكِيَا إحْدَاهُمَا تَرْجِيحُ الْكَثْرَةِ لِقُرْبِهَا من الْمُسْتَفِيضِ وَالتَّوَاتُرِ والثاني تَرْجِيحُ الْعَدَالَةِ فإنه رُبَّ رَجُلٍ يَعْدِلُ أَلْفَ رَجُلٍ في الثِّقَةِ وَنَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُقَدِّمُونَ رِوَايَةَ الصِّدِّيقِ على رِوَايَةِ عَدَدٍ من أَوْسَاطِ الناس قال وَهَذَا لَا نَجِدُ له مِثَالًا من النَّصِّ فإن الذي أَوْرَدَهُ كَثِيرٌ من الْعُلَمَاءِ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ في الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ في الْأَذَانِ لِلصُّبْحِ قبل الْوَقْتِ وَلِلْقِيَاسِ مَجَالٌ وَرَاءَ الْخَبَرِ وَإِنْ وَجَدْنَا مِثَالًا فَحُكْمُهُ ما ذَكَرْنَا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قد ذَكَرَهَا أُسْتَاذُهُ في الْبُرْهَانِ وَحَكَى فيها الْخِلَافَ عن الْمُحَدِّثِينَ وَأَنَّ منهم من يُقَدِّمُ الْعَدَدَ وَمِنْهُمْ من يُقَدِّمُ مَزِيَّةَ الثِّقَةِ ثُمَّ قال وَالْمَسْأَلَةُ لَا تَبْلُغُ الْقَطْعَ وَالْغَالِبُ تَقْدِيمُ مَزِيَّةِ الثِّقَةِ الثَّانِي لَا يَخْفَى أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا يَبْلُغَ عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ في الْكَثْرَةِ إلَى حَالَةٍ تَقْتَضِي الْعِلْمَ الثَّالِثُ أَنَّ هذا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَخْبَارِ أَمَّا الْآيَاتُ فإذا جَاءَتْ آيَتَانِ تَدُلُّ على مَعْنًى وَاحِدٍ وَآيَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ على خِلَافِهِ فَهَلْ تُرَجَّحُ الْأُولَى قال ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى تَخَرُّجِهِ على قَوْلَيْنِ فَيُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْآيِ كما يُرَجَّحُ الْخَبَرُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْخَطَأَ من الرُّوَاةِ مُمْكِنٌ وهو شَيْءٌ مَبْنِيٌّ على الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ الْآيِ وَمَنْ قال بِالْأَوَّلِ قال إنَّ ذلك يُسَاوِي الْأَخْبَارَ في قُوَّةِ الدَّلَالَةِ عليها وَالْعُمُومَانِ أَقْوَى في النَّفْسِ من عُمُومٍ وَاحِدٍ كما قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه في شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَشَاهِدَيْنِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْأَقْوَى وَتِلْكَ على قَوْلَيْنِ وَهَذِهِ على وَجْهَيْنِ
ثَانِيهَا بِقِلَّةِ الْوَسَائِطِ وَعُلُوِّ الْإِسْنَادِ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ فِيمَا قَلَّتْ وَسَائِطُهُ أَقَلُّ وهو أَحَدُ فَوَائِدِ طَلَبِ الْإِسْنَادِ الْعَالِي كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ الْإِقَامَةُ مَثْنَى كَالْأَذَانِ لِمَا رَوَى عَامِرٌ الْأَحْوَلُ عن مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا مُحَيْرِيزٍ حدثه أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ حدثه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلَّمَهُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَذَكَرَ فيه الْإِقَامَةَ مَثْنَى مَثْنَى فَنَقُولُ بَلْ هِيَ فُرَادَى لِمَا رَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عن أبي قِلَابَةَ عن أَنَسٍ قال أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ فإن خَالِدًا وَعَامِرًا من طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ رَوَى عنهما شُعْبَةُ وَحَدِيثُ عَامِرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثَلَاثَةٌ وَخَالِدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اثْنَانِ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرْجِيحَ بهذا ظَاهِرٌ إذَا كان لَا يَعِزُّ وُجُودُ مِثْلِهِ فَإِنْ كان فَهُوَ مَرْجُوحٌ من هذه الْحَيْثِيَّةِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْأَغْلَبِ مُقَدَّمٌ على الْأَنْدَرِ وَثَالِثُهَا تَقَدُّمُ رِوَايَةِ الْكَبِيرِ على رِوَايَةِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ وَمَثَّلُوهُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْإِفْرَادَ في الْحَجِّ وَرِوَايَةِ أَنَسٍ الْقِرَانَ وما قِيلَ فيه يَتَوَلَّجُ على النَّسَا وَسَبَبُ هذا التَّرْجِيحِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ زِيَادَةُ الظَّنِّ بِالضَّبْطِ وقد رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ بِتَقْدِيمِ أَنَسٍ في أَحَادِيثِ رِبَا الْفَضْلِ وفي صَلَاةِ الْخَوْفِ فقال بِتَقَدُّمِ أَنَسٍ في الصُّحْبَةِ وَهَلْ تَتَقَدَّمُ رِوَايَةُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ على غَيْرِهِمْ أَمْ لَا فيه رِوَايَتَانِ عن أَحْمَدَ وَمِثْلُهُ رِوَايَةُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ على غَيْرِ الْأَكَابِرِ وَرَابِعُهَا بِفِقْهِ الرَّاوِي سَوَاءٌ كانت الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى أو بِاللَّفْظِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْفَقِيهِ على من دُونَهُ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ وَقِيلَ هذا في خَبَرَيْنِ مَرْوِيَّيْنِ بِالْمَعْنَى فَإِنْ رُوِيَا بِاللَّفْظِ فَلَا مُرَجِّحَ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ لِلْفَقِيهِ مَزِيَّةُ التَّمْيِيزِ بين ما يَجُوزُ وما لَا يَجُوزُ قال ابن بَرْهَانٍ أو يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَفْقَهَ من الْآخَرِ مِثْلُ رِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُصْبِحُ جُنُبًا من غَيْرِ احْتِلَامٍ وَيَصُومُ على رِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ من أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ
له قال وَسَبَبُ تَقْدِيمِهِ أَنَّ عَائِشَةَ كانت أَفْقَهَ من أبي هُرَيْرَةَ قُلْت وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ هذا مِثَالًا لِتَقْدِيمِ شَاهِدِ الْقِصَّةِ على من لم يُشَاهِدْهَا وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بها فإن أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا سُئِلَ عن ذلك ذَكَرَ أَنَّ الْفَضْلَ بن عَبَّاسٍ حدثه بِهِ وَعَائِشَةُ كانت مُبَاشِرَةً لِلْوَاقِعَةِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي تَمْثِيلُهُ بِالصَّحَابَةِ تَأَدُّبًا وقد مَثَّلَ بِرِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ عن عَلْقَمَةَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ مع رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عن أبي وَائِلٍ عن ابْنِ مَسْعُودٍ فإن الْأَوَّلَيْنِ فَقِيهَانِ مَشْهُورَانِ وَالْأَخِيرَيْنِ إمَّا شَيْخَانِ أو دُونَهُمَا في الْفِقْهِ خَامِسُهَا بِعِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ الْعَالِمَ بها يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ عن مَوَاقِعِ الزَّلَلِ فَيَكُونُ الْوُثُوقُ بِرِوَايَتِهِ أَكْثَرَ قال وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَرْجُوحٌ لِأَنَّ الْعَالِمَ بها يَعْتَمِدُ على مَعْرِفَتِهِ فَلَا يُبَالِغُ في الْحِفْظِ وَالْجَاهِلُ بها يَكُونُ خَائِفًا فَيُبَالِغُ في الْحِفْظِ سَادِسُهَا الْأَفْضَلِيَّةُ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ في رَفْعِ الْيَدَيْنِ على رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ سَابِعُهَا حُسْنُ الِاعْتِقَادِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ السُّنِّيِّ على الْمُبْتَدِعِ كَرِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بن أبي يحيى مع غَيْرِهِ قال الْهِنْدِيُّ وَهَذَا فيه نَظَرٌ لِأَنَّ بِدْعَتَهُ إنْ كانت بِذَهَابِهِ إلَى أَنَّ الْكَذِبَ كَبِيرَةٌ كان ظَنُّ صِدْقِهِ أَكْبَرَ ثَامِنُهَا كَوْنُ الرَّاوِي صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْقِصَّةِ كَقَوْلِ مَيْمُونَةَ تَزَوَّجَنِي رسول صلى اللَّهُ عليه وسلم وَنَحْنُ حَلَالَانِ فَتُقَدَّمُ على رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَكَحَهَا وهو مُحْرِمٌ وقد خَالَفَ في هذا الْجُرْجَانِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ
تَاسِعُهَا كَوْنُ أَحَدِهِمَا مُبَاشِرًا لِمَا رَوَاهُ كَتَرْجِيحِ خَبَرِ أبي رَافِعٍ في تَزْوِيجِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُمَا حَلَالَانِ على خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ أَبَا رَافِعٍ كان السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا وَحَدِيثِ عَائِشَةَ في صَوْمِ الْجُنُبِ على أبي هُرَيْرَةَ عَاشِرُهَا الْأَقْرَبُ إلَى الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على غَيْرِهِ وَإِنَّمَا كان سَبَبًا لِلتَّرْجِيحِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَالْغَالِبَ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُخَالَطَةِ تَقْتَضِي زِيَادَةً في الِاطِّلَاعِ وَهَذَا ذَكَرَهُ ابن بَرْهَانٍ وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما كان يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عن الْقُرْآنِ سِوَى الْجَنَابَةِ على رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذلك كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَعْرَفَ بِحَالِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من غَيْرِهِ كَأَزْوَاجِهِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَتُهُنَّ على رِوَايَةِ غَيْرِهِنَّ حَادِي عَشَرَهَا إذَا كان أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْجِسْمِ كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْإِفْرَادَ على غَيْرِهِ فإنه قال كنت آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ ذَوُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثَانِي عَشَرَهَا كَوْنُ أَحَدِهِمَا جَلِيسَ الْمُحَدِّثِينَ أو أَكْثَرَ مُجَالَسَةً من الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَعْرِفَةِ ما يَعْتَوِرُ الرِّوَايَةَ وَيُدَاخِلُهَا من الْخَلَلِ ثَالِثُ عَشَرَهَا كَثْرَةُ الصُّحْبَةِ تُرَجَّحُ رِوَايَتُهُ على قَلِيلِهَا لِمَا يَحْصُلُ من زِيَادَةِ الظَّنِّ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الصُّحْبَةِ في الْمَعْرِفَةِ بِأَحْوَالِ الْمَصْحُوبِ وقد نُقِلَ هذا عن بَعْضِ التَّابِعِينَ فَقَدَّمَ رِوَايَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ على رِوَايَةِ وَائِلٍ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَبِسَبَبِ طُولِ الصُّحْبَةِ رَابِعُ عَشَرَهَا بِكَوْنِهِ مُخْتَبَرًا فَيُرَجَّحُ الْعَدْلُ بِالتَّزْكِيَةِ على الْعَدْلِ بِالظَّاهِرِ هذا إنْ قَبِلْنَا رِوَايَةَ الْمَسْتُورِ وَإِلَّا فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا
خَامِسُ عَشَرَهَا الْعَدْلُ بِالْمُمَارَسَةِ وَالِاخْتِبَارِ على من عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ بِالتَّزْكِيَةِ فإنه ليس الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ سَادِسَ عَشَرَهَا بِكَوْنِهِ مُعَدَّلًا بِصَرِيحِ التَّزْكِيَةِ فَيُرَجَّحُ على الْمُعَدَّلِ بِالْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ ضِمْنِيَّةٌ سَابِعُ عَشَرَهَا بِكَوْنِهِ مُعَدَّلًا بِالْحُكْمِ بها على الْمُعَدَّلِ بِالْعَمَلِ على رِوَايَتِهِ لِلْخِلَافِ في كَوْنِ ذلك تَعْدِيلًا وَأَطْلَقَ في الْمَحْصُولِ أَنَّ عَمَلَ الْمُزَكَّى بِرِوَايَةِ من زَكَّاهُ مُرَجِّحٌ لِرِوَايَتِهِ على من لم يَعْمَلْ بها ثَامِنُ عَشَرَهَا التَّزْكِيَةُ مع ذِكْرِ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ أَرْجَحُ من التَّزْكِيَةِ الْمُجَرَّدَةِ قَالَهُ في الْمَحْصُولِ تَاسِعُ عَشَرَهَا بِكَثْرَةِ الْمُزَكِّينَ لِلرَّاوِي كَتَقْدِيمِ حديث بُسْرَةَ على حديث طَلْقٍ لِكَثْرَةِ الْمُزَكِّينَ وَالرُّوَاةِ لِبُسْرَةَ وَقِلَّةِ ذلك في حديث طَلْقٍ الْعِشْرُونَ حِفْظُ الرَّاوِي لِلَفْظِ الحديث وَاعْتِمَادُ الْآخَرِ على الْمَكْتُوبِ فَالْحَافِظُ أَوْلَى لِمَا لَعَلَّهُ يَعْتَوِرُ الْخَطَّ من نَقْصٍ وَتَغَيُّرٍ قال الْإِمَامُ وَفِيهِ احْتِمَالٌ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى في كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ في رَفْعِ الْيَدَيْنِ رَوَى حَدِيثَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عن عَاصِمِ بن كُلَيْبٍ عن عبد الرحمن بن الْأَسْوَدِ عن عَلْقَمَةَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ قال أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فلم يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا في أَوَّلِ مَرَّةٍ ثُمَّ لم يُعِدْ قال قال أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ عن يحيى بن آدَمَ نَظَرْتُ في كِتَابِ عبد اللَّهِ بن إدْرِيسَ قال عَاصِمٌ فلم أَجِدْ فيه ثُمَّ لم يُعِدْ قال الْبُخَارِيُّ هذا أَصَحُّ لِأَنَّ الْكِتَابَ أَثْبَتُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ قُلْت وَمِنْ هذا يُؤْخَذُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ على رِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عن أبي هُرَيْرَةَ قال ما من أَصْحَابِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرُ حَدِيثًا عنه مِنِّي إلَّا ما كان من عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو فإنه كان يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ