كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي
منهم الصَّيْرَفِيُّ كما رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ في كِتَابِهِ الدَّلَائِلِ وَنَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ قال وَاخْتَارَهُ من أَصْحَابِنَا الدَّقَّاقُ وأبو الْقَاسِمِ بن كَجٍّ وقال ابن فُورَكٍ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَكَذَا صَحَّحَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ وَنَقَلَهُ عن كَثِيرٍ من أَصْحَابِنَا منهم ابن كَجٍّ وَالدَّقَّاقُ وَالسُّرَيْجِيُّ قال وَقَالُوا لَا نَدْرِي إنَّهُ لِلْوُجُوبِ أو لِلنَّدَبِ أَوَلِلْإِبَاحَةِ لِاحْتِمَالِ هذه الْأُمُورِ كُلِّهَا وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ من خَصَائِصِهِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْأَشْعَرِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ وقال ابن الْقَطَّانِ هذا الْقَوْلُ بَعِيدٌ جِدًّا عن الْمَذْهَبِ إلَّا أَنَّهُ أَقْيَسُ من الذي قَبْلَهُ وَصَحَّحَهُ أبو الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ وَذَكَرَهُ عن أَحْمَدَ قال بَعْضُهُمْ وَلِلْوَقْفِ في أَفْعَالِهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا الْوَقْفُ في تَعْدِيَةِ حُكْمِهِ إلَى الْأُمَّةِ وَثُبُوتِ التَّأَسِّي وَإِنْ عُرِفَتْ جِهَةُ فِعْلِهِ وَالثَّانِي الْوَقْفُ في تَعْيِينِ جِهَةِ فِعْلِهِ من وُجُوبٍ أو اسْتِحْبَابٍ وَإِنْ كان التَّأَسِّي ثَابِتًا وهو بهذا يَئُولُ إلَى قَوْلِ النَّدْبِ وَالْخَامِسُ أَنَّهُ يَدُلُّ على الْحَظْرِ قال الْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وهو قَوْلُ من جَوَّزَ على الْأَنْبِيَاءِ الْمَعَاصِي وهو سُوءُ فَهْمٍ فإن هذا الْقَائِلَ يقول إنَّ غَيْرَهُ يَحْرُمُ عليه اتِّبَاعُهُ فيها لَا إنْ وَقَعَ منه يَكُونُ حَرَامًا كما صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن الْقُشَيْرِيّ فَقَالَا ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اتِّبَاعُهُ وَهَذَا بِنَاءً على أَصْلِهِمْ في الْأَحْكَامِ قبل وُرُودِ الشَّرَائِعِ فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أنها على الْحَظْرِ ولم يَجْعَلُوا فِعْلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلَمًا في تَثْبِيتِ حُكْمٍ فَبَقِيَ الْحُكْمُ على ما كان عليه في قَضِيَّةِ الْعَقْلِ قبل وُرُودِ الشَّرَائِعِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الظَّاهِرُ أَنَّ هذا الْخِلَافَ يَجْرِي في حُكْمِ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ حُكْمَنَا حُكْمُهُ في الْأَفْعَالِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَحْكَامِ ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ النَّفِيسِ قال في كِتَابِهِ الْإِيضَاحِ الذي يَظْهَرُ لي أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّ ما يَكُونُ من الْعِبَادَاتِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بين الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وما كان من غَيْرِهَا وهو دُنْيَوِيٌّ كَالتَّنَزُّهِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بين الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَإِلَّا كان ظَاهِرًا في النَّدْبِ وَيَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَأَمَّا كَوْنُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ وَحَكَى الْخِلَافَ السَّابِقَ الثَّانِي ما أَطْلَقُوهُ من أَنَّ الْفِعْلَ إذَا وَقَعَ بَيَانًا يَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُبَيِّنِ في الْوُجُوبِ أو النَّدْبِ أَثَارَ فيه ابن دَقِيقِ الْعِيدِ بَحْثًا وهو أَنَّ الْخِطَابَ الْمُجْمَلَ مُبَيَّنٌ بِأَوَّلِ الْأَفْعَالِ وُقُوعًا فإذا تَبَيَّنَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ لم يَكُنْ ما وَقَعَ بَعْدَهُ بَيَانًا لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِالْأَوَّلِ فَيَبْقَى فِعْلًا
مُجَرَّدًا لَا يَدُلُّ على الْوُجُوبِ مِثَالُهُ قَوْلُهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَصَحَّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وفي حديث عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّهُ افْتَتَحَهَا بَعْدَ التَّكْبِيرِ بِالْفَاتِحَةِ فَيَتَعَارَضَانِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على وُقُوعِ ذلك الْفِعْلِ الْمُسْتَدَلِّ بِهِ بَيَانًا فَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ على وُجُودِ ذلك الدَّلِيلِ بَلْ قد يَقُومُ الدَّلِيلُ على خِلَافِهِ كَرِوَايَةِ من رَأَى فِعْلًا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَسَبَقَنَا له هذه التَّقَاسِيمُ كُلُّهَا في الْأَفْعَالِ بَعْدَ السَّمْعِ وَأَمَّا أَفْعَالُهُ قبل وُرُودِ السَّمْعِ فَحُكْمُهَا مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِشَرِيعَةِ من قَبْلَنَا وَسَيَأْتِي مَسْأَلَةٌ حُكْمُ التَّأَسِّي بِالرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في فِعْلِهِ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ عليه السَّلَامُ وَاجِبٌ فِيمَا سِوَى خَوَاصِّهِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وما آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وقال عُمَرُ لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ يُقَبِّلُك ما قَبَّلْتُك وَقِيلَ إنَّ ذلك إنَّمَا يَجِبُ في الْعِبَادَاتِ وَفَسَّرُوا التَّأَسِّي بِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا فَعَلَ فِعْلًا على وَجْهِ الْوُجُوبِ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَهُ كَذَلِكَ وَإِنْ فَعَلَهُ على وَجْهِ الْإِبَاحَةِ أو النَّدْبِ وَجَبَ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بهذا من عَرَفَ الْفِعْلَ وَحُكْمَهُ إذْ لو وَجَبَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ لَكَانَ تَعَلُّمُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ من فُرُوضِ الْأَعْيَانِ
فصل في بَيَانِ الطُّرُقِ التي بها تُعْرَفُ جِهَةُ الْفِعْلِ من كَوْنِهِ وَاجِبًا وَمَنْدُوبًا وَمُبَاحًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْمُتَابَعَةِ يَتَوَقَّفُ على ذلك اعْلَمْ أَنَّ فِعْلَهُ عليه السَّلَامُ يَنْحَصِرُ فِيمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ منه إجْمَاعًا وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ عِنْدَنَا بَلْ لَا يَتَصَوَّرُ منه وُقُوعُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ فَهُوَ أَفْضَلُ في حَقِّهِ من التَّرْكِ وَإِنْ كان فِعْلُهُ مَكْرُوهًا لنا ثُمَّ الطَّرِيقُ قد يَعُمُّ هذه الْأُمُورَ وقد يَخُصُّ الْبَعْضَ فَالْعَامُّ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا أَنْ يَنُصَّ على كَوْنِهِ من الْقِسْمِ الْفُلَانِيِّ ثَانِيهَا أَنْ يُسَوِّيَهُ بِفِعْلٍ عُلِمَتْ جِهَتُهُ ثَالِثُهَا أَنْ يَقَعَ امْتِثَالًا لِآيَةٍ مُجْمَلَةٍ دَلَّتْ على أَحَدِ هذه الثَّلَاثَةِ رَابِعُهَا أَنْ يَقَعَ بَيَانًا لِآيَةٍ مُجْمَلَةٍ دَلَّتْ على أَحَدِهَا وَأَمَّا الْخَاصُّ بِالْوُجُوبِ فَعُرِفَ بِطُرُقٍ أَحَدُهَا أَنْ يَقَعَ على صِفَةٍ تَقَرَّرَ في الشَّرْعِ أنها أَمَارَةُ الْوُجُوبِ كَالصَّلَاةِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثَانِيهَا أَنْ يَقَعَ قَضَاءً لِعِبَادَةٍ عُلِمَ وُجُوبُهَا عليه ثَالِثُهَا أَنْ يَقَعَ جَزَاءَ شَرْطٍ كَفِعْلِ ما وَجَبَ بِالنَّذْرِ قُلْنَا إنَّ النَّذْرَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ رَابِعُهَا أَنْ يُدَاوِمَ على الْفِعْلِ مع عَدَمِ ما يَدُلُّ على عَدَمِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لو كان غير وَاجِبٍ لَأَخَلَّ بِتَرْكِهِ خَامِسُهَا ذَكَرَ الصَّيْرَفِيُّ أَنْ يَفْعَلَهُ فَصْلًا بين الْمُتَدَاعِيَيْنِ جَزَاءً فَهُوَ دَلِيلٌ على وُجُوبِهِ قال تَعَالَى ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَكَذَلِكَ ما أَخَذَهُ من مَالِ رَجُلٍ وَأَعْطَاهُ لِآخَرَ فَيُعْلَمُ أَنَّ ذلك الْأَخْذَ وَاجِبٌ سَادِسُهَا أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا منه لو لم يَجِبْ كَالْإِتْيَانِ بِالرُّكُوعَيْنِ في صَلَاةِ الْخُسُوفِ فإن الزِّيَادَةَ في الصَّلَاةِ مُبْطِلَةٌ في غَيْرِ الْخُسُوفِ فَمَشْرُوعِيَّتُهَا دَلِيلٌ على وُجُوبِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى نَقَلُوهُ عن ابْنِ سُرَيْجٍ في إيجَابِ الْخِتَانِ وهو مُنْتَقِضٌ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ منها سُجُودُ السَّهْوِ وَالتِّلَاوَةِ في الصَّلَاةِ فإنه مَمْنُوعٌ منه وَلَمَّا جَازَ لم يَجِبْ وَكَذَلِكَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ على التَّوَالِي في تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَغَيْرِهِ وقال الْخَفَّافُ في الْخِصَالِ فِعْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْنَا إلَّا في خَصْلَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بَيَانًا أو يُقَارِنُهُ دَلَالَةٌ
وَأَمَّا الْخَاصُّ بِالنَّدْبِ فَأُمُورٌ منها قَصْدُ الْقُرْبَةِ مُجَرَّدًا عن أَمَارَةٍ دَالَّةٍ على الْوُجُوبِ فإنه يَدُلُّ على كَوْنِهِ مَنْدُوبًا وَبِكَوْنِهِ قَضَاءً لِمَنْدُوبٍ وَمُدَاوَمَتُهُ على الْفِعْلِ ثُمَّ يُخِلُّ بِتَرْكِهِ كَتَرْكِهِ الْجُلُوسَ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَكَذَا تَرْكُهُ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ بَعْدَ وُجُوبِهِ فيه دَلِيلٌ على أَنَّهُ كان غير وَاجِبٍ فيه قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَمِنْهَا بِالدَّلَالَةِ على أَنَّهُ كان مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلٍ آخَرَ ثَبَتَ عَدَمُ وُجُوبِهِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يَقَعُ بين وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ وقد يَكُونُ بَعْضُ النُّدُوبِ آكِدٌ من بَعْضٍ قال الْقَفَّالُ في مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمِمَّا تُعْرَفُ بها الْآكَدِيَّةُ الْمُدَاوَمَةُ عليه لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَوَاقِعِ الشُّكْرِ فَيُقَدَّمُ على ما لم يُدَاوِمْ عليه وَمِنْهَا أَدَاؤُهُ في جَمَاعَةٍ فَيَكُونُ آكَدَ مِمَّا شَرَعَهُ مُنْفَرِدًا لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ من شَعَائِرِ الْفَرَائِضِ وَمِنْهَا التَّوْقِيتُ فَالْفِعْلُ الْمُؤَقَّتُ أَفْضَلُ مِمَّا لَا وَقْتَ له لِأَنَّ التَّوْقِيتَ من مَعَالِمِ الْفُرُوضِ وَجُعِلَ منه الْوِتْرُ وَالرَّوَاتِبُ وما نَقَصَ عن ذلك كان بَعْدَهُ في الرُّتْبَةِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ من أَسْبَابِ الْآكَدِيَّةِ أَنَّ ما اُتُّفِقَ عليه آكَدُ مِمَّا اُخْتُلِفَ فيه وَهَذَا خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ فيه وَتُعْرَفُ الْإِبَاحَةُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ وَتَنْتَفِي نَدْبِيَّتُهُ وَوُجُوبُهُ بِالْبَقَاءِ على حُكْمِ الْأَصْلِ فَيُعْرَفُ أَنَّهُ مُبَاحٌ قال في الْمَحْصُولِ وَبِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ رَاجِحَ التَّرْكِ فَيُعْلَمُ أَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ رَاجِحِ التَّرْكِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ رُجْحَانِ الْفِعْلِ فَثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ قال الصَّيْرَفِيُّ وَبِأَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ نَهْيٍ منه فَيُعْلَمُ زَوَالُ النَّهْيِ وَمِثْلُهُ بِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ قُعُودًا خَلْفَ الْإِمَامِ الْقَاعِدِ ثُمَّ صلى قَاعِدًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ خَلْفَهُ قال وَهَذَا إنَّمَا يَقَعُ في السُّنَّةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ مَسْأَلَةٌ ما فَعَلَهُ الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّةً وَاحِدَةً يَأْتِي بِهِ على أَكْمَلِ وَجْهٍ فِعْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا يُحْمَلُ على بَيَانِ الْجَوَازِ في شَيْءٍ يَتَكَرَّرُ فِعْلُهُ كَثِيرًا فَيَفْعَلُهُ مَرَّةً أو مَرَّاتٍ على الْوَجْهِ الْجَائِزِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَيُوَاظِبُ غَالِبًا على فِعْلِهِ على أَكْمَلِ وُجُوهِهِ كَالْوُضُوءِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا كُلُّهُ ثَابِتٌ وَالْكَثِيرُ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَأَمَّا الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فلم يَتَكَرَّرْ وَإِنَّمَا جَرَى منه مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا يَقَعُ منه إلَّا على أَكْمَلِ وُجُوهِهِ كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ وَرَدَّ بِهِ قَوْلَ من قال إنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا أَحْرَمَ من الْمِيقَاتِ
دُونَ بَلَدِهِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِيمَا وَقَعَ من الْأَفْعَالِ لِلْبَيَانِ إذَا فَعَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِعْلًا لِبَيَانٍ دخل في ذلك هَيْئَةُ الْفِعْلِ وَأَمَّا الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فَإِنَّمَا يَدْخُلَانِ حَيْثُ يَلِيقُ دُخُولُهُمَا كما في الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالصَّلَوَاتِ في أَوْقَاتِهَا وَقِيلَ إنَّ تَكْرِيرَهُ لِلْفِعْلِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ أو مَكَان وَاحِدٍ يَدُلُّ على اعْتِبَارِ ما وَقَعَ فيه وقد سَبَقَتْ في مَبَاحِثِ الْبَيَانِ مَسْأَلَةٌ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَفِعْلُهُ الْمُوَافِقَانِ لِلْقُرْآنِ هل هُمَا بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ أو بَيَانُ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ نَقَلَ السَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ عن أَصْحَابِهِمْ أَنَّ فِعْلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو قَوْلَهُ مَتَى وَرَدَ مُوَافِقًا لِلْقُرْآنِ يُجْعَلُ صَادِرًا عن الْقُرْآنِ وَبَيَانًا لِمَا فيه قال وَالشَّافِعِيَّةُ يَجْعَلُونَهُ بَيَانَ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ حتى يَقُومَ الدَّلِيلُ على خِلَافِهِ قال وَعَلَى هذا قُلْنَا بَيَانُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم التَّيَمُّمَ في حَقِّ الْجُنُبِ صَادِرٌ عَمَّا في الْقُرْآنِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أو لَامَسْتُمْ الْجِمَاعُ دُونَ الْمَسِّ بِالْيَدِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ ذلك بَيَانَ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ وَيَحْمِلُونَ قَوْلَهُ أو لَامَسْتُمْ على الْمَسِّ بِالْيَدِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَمَّا في الْقُرْآنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شُرِعَ في الْحُكْمِ ابْتِدَاءً وهو في الظَّاهِرِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْآيَةِ فَيُحْمَلُ على أَنَّهُ بَيَانُ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَلِمَا فيه من زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ قُلْت وَسَبَقَ في أَوَّلِ الْبَابِ عَكْسُهَا مَسْأَلَةٌ طُرُقُ إثْبَاتِ فِعْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا قُلْنَا في أَمْرٍ من الْأُمُورِ إنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَعَلَهُ فَلَنَا في مَعْرِفَتِهِ ثَلَاثَ طُرُقٍ الْأَوَّلُ أَنْ يُنْقَلَ إلَيْنَا أَنَّهُ فَعَلَهُ تَوَاتُرًا أو آحَادًا كَفِعْلِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ التَّحَرُّمِ وَالطُّمَأْنِينَةِ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاعْتِدَالِ فإنه مَنْقُولٌ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ فَعَلَ ذلك وَكُلُّ ما فَعَلَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا فِعْلُهُ الثَّانِي أَنْ نَقُولَ هذا الْفِعْلُ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ لَا يُوَاظِبُ على
تَرْكِ الْأَفْضَلِ فَيَلْزَمُ أَنْ يُوَاظِبَ على الْأَفْضَلِ وَكَقَوْلِنَا الْوُضُوءُ الْمُرَتَّبُ الْمَنْوِيُّ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ أَفْضَلَ الْخَلْقِ لَا يُوَاظِبُ على تَرْكِ الْأَفْضَلِ فَثَبَتَ إتْيَانُهُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا مِثْلُهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لو تَرَكَ النِّيَّةَ وَالتَّرْتِيبَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا تَرْكُهُ لِدَلِيلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ كما تَكُونُ في الْأَفْعَالِ تَكُونُ في التُّرُوكِ وَلَمَّا لم يَجِبْ عَلَيْنَا تَرْكُهُ ثَبَتَ أَنَّهُ ما تَرَكَهُ بِفِعْلِهِ وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاظَبَ على التَّكْبِيرِ وَالتَّحِيَّاتِ فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ من إجْمَاعٍ أو نَصٍّ على عَدَمِ وُجُوبِهَا حَكَمْنَا بِهِ وَيَكُونُ تَخْصِيصُ عُمُومٍ وَإِلَّا فَهِيَ وَاجِبَةٌ لَكِنْ لَا نَطْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِمُخَالَفَةِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَلَا يُفِيدُ الْقِيَاسُ كَقَوْلِهِمْ الْقِيَامُ هَيْئَةٌ مُعْتَادَةٌ وَلَا تَتَمَيَّزُ الْعَادَةُ فيه من الْعِبَادَةِ إلَّا بِسَبَبِ ما فيه من الْقِرَاءَةِ فَلَا جَرَمَ كانت وَاجِيَةً أَعْنِي الْقِرَاءَةَ لَا غَيْرُ وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَهَاهُنَا مُخَالَفَةٌ لِلْعَادَةِ فلم يَكُنْ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً حَاجَةٌ إلَى الذِّكْرِ فَلَا تَجِبُ التَّسْبِيحَاتُ فَهَذِهِ ضَعِيفَةٌ في مُقَابَلَةِ ما ذَكَرْنَا من الدَّلِيلِ مَسْأَلَةٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ كَنَهْيِهِ عن الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ رُوِيَ أَنَّهُ صلى صَلَاةً لها سَبَبٌ فَكَانَ ذلك تَخْصِيصًا لِعُمُومِ النَّهْيِ وَكَنَهْيِهِ عن الْقَوَدِ في الطَّرَفِ قبل الِانْدِمَالِ ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ أَقَادَ قبل الِانْدِمَالِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّهْيِ الْكَرَاهَةَ في وَقْتٍ دُونَ التَّحْرِيمِ وَالرَّابِعُ وهو النَّسْخُ في بَابِهِ فَإِنْ تَعَارَضَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ في الْبَيَانِ فَفِيهِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا تَقْدِيمُ الْقَوْلِ لِتَعَدِّيهِ بِصِيغَتِهِ وَالثَّانِي تَقْدِيمُ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ أَوْلَى وَأَقْوَى في الْبَيَانِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَلَا بُدَّ من دَلِيلٍ آخَرَ لِتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا قال وَهَذَا هو الْأَوْلَى
فَصْلٌ سَنَتَكَلَّمُ في بَابِ التَّرْجِيحِ على تَعَارُضِ الْقَوْلَيْنِ وَهُنَا على تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ لِتَعَلُّقِهِ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى تَعَارُضِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ تَعَارُضُ الْفِعْلَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَارُضُ بين الْأَفْعَالِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْبَعْضُ منها نَاسِخًا لِبَعْضٍ أو مُخَصِّصًا له لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ في ذلك الْوَقْتِ وَاجِبًا وفي مِثْلِ ذلك الْوَقْتِ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ له وَتَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ هو النَّاسِخُ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ فِعْلَهُ الْأَوَّلَ لَا يَنْتَظِمُ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَلَا يَدُلُّ على التَّكْرَارِ هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ من الْأُصُولِيِّينَ على اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ وَحَكَى ابن الْعَرَبِيِّ في كِتَابِ الْمَحْصُولِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا التَّخْيِيرُ وَثَانِيهَا تَقْدِيمُ الْمُتَأَخِّرِ كَالْأَقْوَالِ إذَا تَأَخَّرَ بَعْضُهَا وَالثَّالِثُ حُصُولُ التَّعَارُضِ وَطَلَبُ التَّرْجِيحِ من خَارِجٍ قال كما اتَّفَقَ في صَلَاةِ الْخَوْفِ صُلِّيَتْ على أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ صِفَةٍ يَصِحُّ منها سِتَّةَ عَشَرَ خَيَّرَ أَحْمَدُ فيها وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَتَرَجَّحُ بِمَا هو أَقْرَبُ لِهَيْئَةِ الصَّلَاةِ وَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ الْأَخِيرَ منها إذَا عُلِمَ وَحَكَى صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ عن ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ الْحُكْمَ في الْأَفْعَالِ كَالْحُكْمِ في الْأَقْوَالِ وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ وَائِلٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَفْعُ الْيَدَيْنِ في تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ وَعَدَمُ ذلك وقال الْقُرْطُبِيُّ يَجُوزُ التَّعَارُضُ بين الْفِعْلَيْنِ عِنْدَ من قال بِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ على الْوُجُوبِ فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فَالنَّسْخُ وَإِنْ جُهِلَ فَالتَّرْجِيحُ وَإِلَّا فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ كَالْقَوْلَيْنِ وَأَمَّا على الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ على النَّدْبِ أو الْإِبَاحَةِ فَلَا تَعَارُضَ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ إذَا نُقِلَ فِعْلٌ وَحُمِلَ على الْوُجُوبِ ثُمَّ نُقِلَ فِعْلٌ يُنَاقِضُهُ قال الْقَاضِي لَا يُقْطَعُ على أَنَّهُ نَاسِخٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتِهَاءٌ لِمُدَّةِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ قال وَهَذَا مُحْتَمَلٌ فَيُتَوَقَّفُ في كَوْنِهِ نَاسِخًا وَنَعْلَمُ انْتِهَاءَ ذلك الْحُكْمِ قَطْعًا لِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ
قال وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ إلَى أَنَّهُ نَسْخٌ وَتَرَدَّدَ في الْقَوْلِ الطَّارِئِ على الْفِعْلِ قال الْغَزَالِيُّ وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْفَرْقِ وَالْأَصَحُّ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَطْلَقَ إلْكِيَا عَدَمَ تَصَوُّرِ تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ ثُمَّ اسْتَثْنَى من ذلك ما إذَا عُلِمَ بِدَلَالَةٍ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إدَامَتُهُ في الْمُسْتَقْبَلِ فإنه يَكُونُ ما بَعْدَهُ نَاسِخًا له قال وَعَلَى مِثْلِهِ بَنَى الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَهُ في سُجُودِ السَّهْوِ قبل السَّلَامِ وَبَعْدَهُ فقال وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَخْبَارُ في فِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في ذلك وَلَكِنْ كان آخَرُ الْأَمْرَيْنِ على ما رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ قبل السَّلَامِ وكان يُؤْخَذُ من مَرَاسِيمِ الرَّسُولِ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ وَاسْتَثْنَى ابن الْقُشَيْرِيّ من الْأَفْعَالِ ما وَقَعَ بَيَانًا كَقَوْلِهِ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَآخِرُ الْفِعْلَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْسَخَ الْأَوَّلَ كَآخِرِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ هذا الْفِعْلَ بِمَثَابَةِ الْقَوْلِ ا هـ وَهَذَا من صُوَرِ ما ذَكَرَهُ إلْكِيَا وَصَرَّحَ ابن الْقُشَيْرِيّ عن الْقَاضِي بِأَنَّ الْأَفْعَالَ التي لَا يَقَعُ فيها التَّعَارُضُ هِيَ الْمُطْلَقَةُ التي لم تَقَعْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ من الرَّسُولِ وَهِيَ التي يَتَوَقَّفُ فيها الْوَاقِفِيَّةُ فَلَا يَتَحَقَّقُ فيها التَّعَارُضُ فإن الْأَفْعَالَ صِيَغٌ فيها وَلَا يُتَصَوَّرُ تَعَارُضُ الذَّوَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَغَايِرَةِ الْوَاقِعَةِ في الْأَوْقَاتِ ولم تَقَعْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِيُصْرَفَ التَّعَارُضُ إلَى مُوجِبَاتِ الْأَحْكَامِ وَأَمَّا الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ مَوْقِعَ الْبَيَانِ فإذا اخْتَلَفَا وَتَنَافَيَا ولم يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا في الْحُكْمِ فَالتَّعَارُضُ في مُوجِبِهِمَا كَالتَّعَارُضِ في مُوجِبِ الْقَوْلَيْنِ قال وَلَا يَرْجِعُ التَّعَارُضُ إلَى ذَاتَيْ الْفِعْلَيْنِ بَلْ التَّلَقِّي وَالْبَيَانِ الْمَنُوطِ بِهِمَا وَكَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ في مَعْنَى الْقَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ في الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ من ظَاهِرِهِمَا ثُمَّ قال وَحَاصِلُ ما نَقُولُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ تَجْوِيزُهُمَا إذَا لم يَكُنْ في أَحَدِهِمَا ما يَتَضَمَّنُ حَظْرًا سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا أَمْ لَا قال وَهَذَا ظَاهِرٌ في نَظَرِ الْأُصُولِيِّ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَا صِيَغَ لها ثُمَّ فَصَّلَ ابن الْقُشَيْرِيّ بين ما يَقَعُ بَيَانًا وما لَا يَقَعُ بَيَانًا كَقَوْلِهِ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَآخِرُ الْفِعْلَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْسَخَ الْأَوَّلَ كَآخِرِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ هذا الْفِعْلَ بِمَثَابَةِ الْقَوْلِ وَأَمَّا ما ليس بَيَانًا فَإِنْ كان في مَسَاقِ الْقُرَبِ فَالِاخْتِيَارُ أَنَّهُ على النَّدْبِ فَلْيَجْرِ
ذلك في آخِرِ الْفِعْلَيْنِ لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ كَالْقَوْلَيْنِ الْمُؤَخَّرَيْنِ وقد نُقِلَ عن الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَجَدَ عليه السَّلَامُ قبل السَّلَامِ وَبَعْدَهُ وكان آخِرُ الْأَمْرَيْنِ منه قَبْلُ فَرَأَى الْعُلَمَاءُ الْأَخْذَ بِذَلِكَ أَوْلَى ثُمَّ قال تَبَعًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَذَهَبَ كَثِيرٌ من الْأَئِمَّةِ فِيمَا إذَا نُقِلَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِعْلَانِ مُؤَرَّخَانِ مُخْتَلِفَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ التَّمَسُّكُ بِآخِرِهِمَا وَاعْتِقَادُ كَوْنِهِ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وقال وقد ظَهَرَ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ إلَى هذا فإنه قال في صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَحَّ فيها رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ وَرِوَايَةُ خَوَّاتٍ ثُمَّ رَأَى الشَّافِعِيِّ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ مُتَأَخِّرَةٌ وَقَدَّرَ ما رَوَاهُ ابن عُمَرَ في غَزْوَةٍ سَابِقَةٍ وَرُبَّمَا سَلَكَ مَسْلَكًا آخَرَ فَسُلِّمَ اجْتِمَاعُ الرِّوَايَتَيْنِ في غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ وَرَآهُمَا مُتَعَارِضَيْنِ ثُمَّ رَجَّحَ أَحَدَهُمَا فَرَجَّحَ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ لِقُرْبِهَا من الْأُصُولِ فإن فيها قِلَّةَ الْحَرَكَةِ وَالْأَفْعَالِ وَهِيَ أَقْرَبُ إلَى الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ بَلْ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ يَقْتَضِي عَكْسَ ذلك فإنه قال وَخَوَّاتٌ مُتَقَدِّمُ الصُّحْبَةِ وَالسِّنِّ فَجَعَلَ ذلك مُرَجِّحًا على رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَصَرَّحَ قَبْلَهُ بِأَنَّهُ رَجَّحَهَا لِمُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ أَقْوَى في مُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ وَنَقَلَ إلْكِيَا في مِثْلِ هذا عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَتَلَقَّى مِنْهُمَا جَوَازَ الْفِعْلَيْنِ وَيُحْتَاجُ في تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ إلَى دَلِيلٍ قال إلْكِيَا وَهَذَا هو الْحَقُّ الذي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَهَذَا ما نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وقال إنَّهُ ظَاهِرُ نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ إنْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ على صِحَّةِ الْفِعْلَيْنِ وَاخْتَلَفُوا في الْأَفْضَلِ تَوَقَّفْنَا في الْأَفْضَلِ وَإِنْ ادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ يَتَمَسَّكُ بِرِوَايَةٍ بُطْلَانَ مَذْهَبِ صَاحِبِهِ فَيُتَوَقَّفُ وَلَا يُفْهَمُ الْجَوَازُ فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْوَاقِعَ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَحَدُهُمَا وَلَا يُرَجَّحُ وَإِنْ اتَّفَقُوا على صِحَّةِ وَاحِدٍ فَنَحْكُمُ بِهِ وَنَتَوَقَّفُ في الْآخَرِ وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا قال ذلك في صَلَاةِ الْخُسُوفِ وقد رَجَّحَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِقُرْبِهِ إلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ وقال الْمَازِرِيُّ إذَا نُقِلَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِعْلَانِ ولم يُمْكِنْ تَأْوِيلُ أَحَدِهِمَا طُلِبَ التَّأْرِيخُ حتى يُعْلَمَ الْآخِرُ فَيَكُونُ هو النَّاسِخَ كَتَعَارُضِ الْقَوْلَيْنِ هذا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَرَأَى الْقَاضِي أَنَّ النُّسَخَ هَاهُنَا لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ كما دَعَتْ في الْأَقْوَالِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَقْصُورٌ على فَاعِلِهِ لَا يَتَعَدَّاهُ وَلَيْسَ كَالصِّيَغِ الْمُشْتَمِلَةِ على مَعَانٍ مُتَضَادَّةٍ فإذا وَجَدْنَا فِعْلَيْنِ
مُتَعَارِضَيْنِ حَمَلْنَاهُمَا على التَّجْوِيزِ وَالْإِبَاحَةِ وَهَذَا فيه نَظَرٌ إلَّا على رَأْيِ من يقول إنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ على الْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ الْقَاضِي من الْقَائِلِينَ بِهِ وَالصَّحِيحُ اتِّبَاعُ آخِرِ الْفِعْلَيْنِ قال وَادَّعَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قَدَّمَ في صَلَاةِ الْخَوْفِ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ على رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ لِتَأَخُّرِ رِوَايَةِ خَوَّاتٍ فَإِنَّهَا في غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَرِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ في غَيْرِهَا وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ مُتَأَخِّرَةٌ عنها قال وَلِهَذَا قال الْإِمَامُ بَعْدَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ قَدَّمَ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ لِضَرْبٍ من التَّرْجِيحِ وفي التَّعَادُلِ بَيْنَهُمَا نَظَرٌ فَذَكَرَهُ قال وَأَشَارَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّ الْمُخْتَارَ ما قَالَهُ الْفُقَهَاءُ من الْأَخْذِ بِآخِرِ الْأَمْرَيْنِ تَارِيخًا وَإِنْ كان لَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ عن الصَّحَابَةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُ من أَفْعَالِهِمْ اتِّبَاعُ آخِرِ الْفِعْلَيْنِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قَدَّمُوا الْمُتَأَخِّرَ تَقْدِمَةً أَوْلَى وَأَفْضَلَ لَا تَقْدِمَةَ نَاسِخٍ على مَنْسُوخٍ ا هـ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تُخَالِفُ ما سَبَقَ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِي نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ إلَّا إذَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ على تَكَرُّرِ هذا الْفِعْلِ الْخَاصِّ في حَقِّهِ وَحَقِّ الْأُمَّةِ فَحِينَئِذٍ إذَا تَرَكَهُ بَعْدَ ذلك وَأَتَى بِمُنَاقِضٍ له أو أَقَرَّ أَحَدًا من الْأُمَّةِ على عَمَلٍ يُنَاقِضُهُ كان ذلك مُقْتَضِيًا لِنَسْخِ الثَّانِي وَعَلَى قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمَازِرِيِّ لَا يُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بَلْ يَكْتَفُونَ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ على اقْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِفِعْلِهِ عليه السَّلَامُ مُطْلَقًا أو وُجُوبًا أو نَدْبًا أو إبَاحَةً على اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَمَتَى وَقَعَ منه عليه السَّلَامُ نَقِيضُ ذلك الْفِعْلِ شُرِعَ لِلْأُمَّةِ الثَّانِي أَيْضًا كما كان الْأَوَّلُ مَشْرُوعًا لهم لَكِنْ هل يَقْتَضِي ذلك نَسْخَ الْأَوَّلِ وَإِزَالَةَ الْحُكْمِ أو يَكُونُ كُلٌّ من الْفِعْلَيْنِ جَائِزًا وَالثَّانِي هو الْأَوَّلُ هذا هو مَحَلُّ نَظَرِ الْإِمَامِ وَالْمَازِرِيُّ يَمِيلُ إلَى النَّسْخِ أَمَّا إذَا نُقِلَ إلَيْنَا أَخْبَارٌ مُتَعَارِضَةٌ في فِعْلٍ وَاحِدٍ ولم يَصِحَّ عِنْدَنَا أَحَدُهَا كَيْفَ كان فَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ في الْكُلِّ كَسُجُودِ السَّهْوِ قبل السَّلَامِ أو بَعْدَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ في رَفْعِ الْيَدَيْنِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ أو الْأُذُنَيْنِ فَهُنَا يُرَجَّحُ ما يَتَأَيَّدُ بِالْأَصْلِ فَنُرَجِّحُ الْمَنْكِبَيْنِ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَقْلِيلُ الْأَفْعَالِ في الصَّلَاةِ وَهَذَا أَقَلُّ فَإِنْ لم يُوجَدْ هذا التَّرْجِيحُ حُكِمَ بِالتَّخْيِيرِ كَأَخْبَارِ قَبْضِ الْأَصَابِعِ في التَّشَهُّدِ
التَّعَارُضُ بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَأَمَّا الثَّانِي وهو التَّعَارُضُ بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَيَتَحَصَّلُ من أَفْرَادِهِ سِتُّونَ صُورَةً وَبَيَانُهُ بِانْقِسَامِهَا أَوَّلًا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْقَوْلِ على الْفِعْلِ وَثَانِيهَا أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ على الْقَوْلِ وَثَالِثُهَا أَنْ يُجْهَلَ التَّارِيخُ وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إمَّا أَنْ يَتَعَقَّبَ الثَّانِي الْأَوَّلُ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ أو يَتَرَاخَى أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ وَهَذَانِ قِسْمَانِ آخَرَانِ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأُمَّتِهِ أو خَاصًّا بِهِ أَوَخَاصًّا بِهِمْ وَالْفِعْلُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على وُجُوبِ تَكْرَارِهِ في حَقِّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَوُجُوبِ تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ فيه وَإِمَّا أَلَا يَدُلَّ دَلِيلٌ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على التَّكْرَارِ دُونَ التَّأَسِّي أو الْعَكْسُ هذا حَصْرُ التَّقْسِيمِ فيها وَبَيَانُ ارْتِقَائِهَا إلَى الْعَدَدِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّك إذَا ضَرَبْتَ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ التي يُعْلَمُ بها تَعَقُّبُ الْفِعْلِ لِلْقَوْلِ أو تَرَاخِيهِ عنه وَتَعَقُّبُ الْقَوْلِ لِلْفِعْلِ أو تَرَاخِيهِ عنه في الثَّلَاثَةِ التي يَنْقَسِمُ إلَيْهَا من كَوْنِهِ يَعُمُّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو يَخُصُّهُ أو يَخُصُّ الْأُمَّةَ حَصَلَ فيها اثْنَا عَشَرَ قِسْمًا وَمَجْهُولُ الْحَالِ من التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْقَوْلِ وَخُصُوصِهِ له ثَلَاثَةٌ أَيْضًا فَهَذِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ قِسْمًا تَضْرِبُهَا في أَقْسَامِ الْفِعْلِ الْأَرْبَعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّكْرَارِ وَالتَّأَسِّي أو عَدَمِهَا أو وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَنْتَهِي إلَى السِّتِّينَ صُورَةً من غَيْرِ تَدَاخُلٍ وَأَكْثَرُهَا لَا يُوجَدُ في السُّنَّةِ وَالْحُكْمُ فيها على وَجْهِ التَّفْصِيلِ يَخْتَلِفُ وَيَطُولُ الْكَلَامُ فيه وَلَا تُوجَدُ هذه السِّتُّونَ مَجْمُوعَةً هَكَذَا في كِتَابِ أَحَدٍ من الْأُصُولِيِّينَ وَذَكَرَ ابن الْخَطِيبِ في الْمَحْصُولِ منها خَمْسَةَ عَشَرَ وهو أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ من الْقَوْلِ أو الْفِعْلِ إمَّا أَنْ يَتَعَقَّبَ الْمُتَقَدِّمَ أو يَتَرَاخَى عنه فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ تُضْرَبُ في الثَّلَاثَةِ التي يَنْقَسِمُ الْقَوْلُ إلَيْهَا من كَوْنِهِ عَامًّا لنا وَلَهُ أو خَاصًّا بِهِ أو خَاصًّا بِنَا فَيَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا وَالْمَجْهُولُ الْحَالِ من الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ ثَلَاثَةٌ أُخْرَى بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْقَوْلِ وَخُصُوصِهِ أَيْضًا وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ في الْإِحْكَامِ انْقِسَامَ الْفِعْلِ إلَى الْأَرْبَعَةِ وهو إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ
على تَكَرُّرِهِ وَتَأَسِّي الْأُمَّةِ أو لَا أو يَدُلُّ على التَّكْرَارِ دُونَ التَّأَسِّي أو عَكْسُهُ فإذا جَمَعْتَ بين الْكَلَامَيْنِ وَضَرَبْتَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ صُورَةً في الْأَرْبَعَةِ حَصَلَ سِتُّونَ وقد ذَكَرَ خِلَافًا في الْمَوْضِعَيْنِ وهو دَاخِلٌ في هذه الصُّوَرِ السِّتِّينَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَاطَبِينَ وقد فَعَلَهُ عليه السَّلَامُ مُطْلَقًا وَوَرَدَ في بَعْضِ صُوَرِ الْعُمُومِ كَنَهْيِهِ عن الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ ثُمَّ صَلَاتُهُ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا قَضَاءً لِسُنَّةِ الظُّهْرِ وَمُدَاوَمَتُهُ عليها بَعْدَ ذلك وَكَنَهْيِهِ عن اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ ثُمَّ فَعَلَ ذلك في الْبُيُوتِ فَفِي مِثْلِ هذه ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِفِعْلِهِ في الْحَالَةِ التي وَرَدَ فيها وَجَعَلُوا الْفِعْلَ أَحَدَ الْأَنْوَاعِ التي خُصِّصَ بها الْعُمُومُ وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ أو تَأَخَّرَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ وَبُنِيَ الْعَامُّ على الْخَاصِّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إنْ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ دَلَّ الْقَوْلُ على نَسْخِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِدُخُولِ الْمُخَاطَبِ في عُمُومِ خِطَابِهِ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ عِنْدَ الْمَانِعِينَ له وَالثَّانِي جَعْلُ الْفِعْلِ خَاصًّا بِهِ عليه السَّلَامُ وَإِمْضَاءُ الْقَوْلِ على عُمُومِهِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن عبد الْجَبَّارِ قال وَنَسَبَهُ إلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال وَعَلَى
جَعْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ عليه السَّلَامُ من قَرَنَ حَجًّا إلَى عُمْرَةٍ فَلْيَطُفْ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا أَوْلَى مِمَّا رُوِيَ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ طَافَ طَوَافَيْنِ لَمَّا كان الْأَوَّلُ قَوْلًا وَالثَّانِي حِكَايَةَ فِعْلٍ وَالثَّالِثُ التَّوَقُّفُ كَدَلِيلَيْنِ تَعَارَضَا في الظَّاهِرِ وَيُطْلَبُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا وَرَدَ قَوْلٌ مُجْمَلٌ ثُمَّ صَدَرَ بَعْدَهُ فِعْلٌ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مَحَلَّ الْخِلَافِ ما إذَا لم يَقُمْ دَلِيلٌ خَاصٌّ على تَأَسِّي الْأُمَّةِ في هذا الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ فَإِنْ دَلَّ عليه دَلِيلٌ خَاصٌّ كان نَاسِخًا لِلْقَوْلِ إنْ تَأَخَّرَ وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَفِيهِ ما يَأْتِي من الْخِلَافِ وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ الْقَوْلُ من صِيَغِ الْعُمُومِ وَيُجْهَلُ التَّارِيخُ في تَقَدُّمِهِ على الْفِعْلِ أو تَأَخُّرِهِ عنه كَقَوْلِهِ لِعُمَرَ بن أبي سَلَمَةَ كُلْ مِمَّا يَلِيك وَتَتَبُّعُهُ الدُّبَّاءَ في جَوَانِبِ الصَّحْفَةِ وَكَنَهْيِهِ عن الشُّرْبِ قَائِمًا وَعَنْ الِاسْتِلْقَاءِ وَوَضْعِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ على الْأُخْرَى وَثَبَتَ عنه أَنَّهُ فَعَلَ ذلك فَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ من
الْمُصَنِّفِينَ في مِثْلِ هذا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا وهو مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ لِقُوَّتِهِ بِالصِّيغَةِ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَرْهَانٍ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَجَزَمَ بِهِ إلْكِيَا قال لِأَنَّ فِعْلَهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَحَقُّ قَوْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّاهُ فإذا اجْتَمَعَا تَمَسَّكْنَا بِقَوْلِهِ وَحَمَلْنَا فِعْلَهُ على أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَالْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وَالْآمِدِيَّ في الْأَحْكَامِ وَالْقُرْطُبِيُّ وابن حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَالثَّانِي تَقْدِيمُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ فيه وَنُقِلَ عن اخْتِيَارِ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمَا شَيْئَانِ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَحَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَنَصَرَهُ وَاخْتَارَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ مَحَلَّ هذه الْأَقْوَالِ فِيمَا إذَا تَعَارَضَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ في بَيَانِ مُجْمَلٍ دُونَ ما إذَا كَانَا مُبْتَدَأَيْنِ وَبِهِ صَرَّحَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وابن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَعَكَسَ الْقُرْطُبِيُّ فَجَعَلَ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لم تَقُمْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ على أَنَّهُ بَيَانٌ وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ مَحَلَّ هذا الْخِلَافِ أَيْضًا فِيمَا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ الْخَاصُّ على تَكَرُّرِ هذا الْفِعْلِ في حَقِّهِ وَعَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ وَعَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْمُعَارِضَ له خَاصٌّ بِهِ أو بِالْأُمَّةِ وَجُهِلَ التَّارِيخُ في تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ تَقْدِيمَ الْقَوْلِ وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ إذَا كان الْقَوْلُ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ وَأَمَّا إذَا كان خَاصًّا بِالنَّبِيِّ عليه السَّلَامُ فَالْوَقْفُ وَلِلْفُقَهَاءِ في مِثْلِ ما مَثَّلْنَا بِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى لم يَذْكُرْهَا أَهْلُ الْأُصُولِ هُنَا وهو حَمْلُ الْأَمْرِ على النَّدْبِ وَالنَّهْيِ على الْكَرَاهَةِ وَجَعْلُ الْفِعْلِ بَيَانًا لِذَلِكَ أو حَمْلُ كُلٍّ من الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ على صُورَةٍ خَاصَّةٍ لَا تَجِيءُ في الْأُخْرَى كَالِاسْتِلْقَاءِ مَنْهِيٌّ عنه إذَا بَدَتْ منه الْعَوْرَةُ وَجَائِزٌ إذَا لم تَبْدُ منه إلَى غَيْرِ ذلك من الصُّوَرِ التي يُمْكِنُ الْجَمْعُ فيها بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَيَخْرُجُ من هذا تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِحَالَةِ تَعَذُّرِ إمْكَانِ الْجَمْعِ فإنه الذي يَقَعُ فيها التَّعَارُضُ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الْخِلَافَ إنَّمَا يَتَّجِهُ من الْقَائِلِينَ بِحَمْلِ فِعْلِهِ على الْوُجُوبِ فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِحَمْلِهِ على الْإِبَاحَةِ وَالْوَقْفِ فَلَا شَكَّ عِنْدَهُمْ في تَقْدِيمِ الْقَوْلِ مُطْلَقًا وقال
الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَإِلْكِيَا إنْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ وَمَضَى وَقْتُ وُجُوبِهِ ولم يَفْعَلْهُ أو فَعَلَ ضِدَّهُ عَلِمْنَا نَسْخَهُ كَتَرْكِهِ قَتْلَ شَارِبِ الْخَمْرِ في الرَّابِعَةِ بَعْدَ أَمْرِهِ بِهِ وَإِنْ فَعَلَ ما يُضَادُّهُ قبل وَقْتِ وُجُوبِهِ دَلَّ على نَسْخِ حُكْمِ قَوْلِهِ عِنْدَ من أَجَازَ نَسْخَ الشَّيْءِ قبل مَجِيءِ وَقْتِهِ ولم يُنْسَخْ عِنْدَ من مَنَعَهُ وَإِنْ قَدَّمَ الْفِعْلَ كان الْقَوْلُ نَاسِخًا له وقد اسْتَشْكَلَ جَعْلُ الْفِعْلِ نَاسِخًا لِأَنَّ شَرْطَ النَّاسِخِ مُسَاوَاتُهُ لِلْمَنْسُوخِ أو أَقْوَى وَالْفِعْلُ أَضْعَفُ وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَاوَاةُ بِاعْتِبَارِ السَّنَدِ لَا غَيْرُ وَذَلِكَ لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ فِعْلًا وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يُفَصَّلَ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَيُقَالُ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ إنْ كان في زَمَنِهِ عليه السَّلَامُ وَبِحَضْرَتِهِ فَقَدْ اسْتَوَيَا وَإِنْ نُقِلَا إلَيْنَا تَعَيَّنَ أَنْ لَا يُقْضَى بِالنَّسْخِ إلَّا بَعْدَ اسْتِوَاءِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرًا وَالْآخَرُ آحَادًا مَنَعْنَا نَسْخَ الْآحَادِ لِلْمُتَوَاتِرِ قال وَهَذَا لَا بُدَّ منه ثُمَّ قال الْأُسْتَاذُ هذا كُلُّهُ فِيمَا إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الصَّادِرِ منه عليه السَّلَامُ فَأَمَّا الْقَوْلُ من الْقُرْآنِ وَالْفِعْلُ من النبي عليه السَّلَامُ إذَا تَعَارَضَا فإنه يُحْمَلُ الْفِعْلُ على خَصَائِصِهِ بِهِ وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ
الْقِسْمُ الثَّالِثُ التَّقْرِيرُ وَصُورَتُهُ أَنْ يَسْكُتَ النبي عليه السَّلَامُ عن إنْكَارِ قَوْلٍ أو فِعْلٍ قِيلَ أو فُعِلَ بين يَدَيْهِ أو في عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ فَذَلِكَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ فِعْلِهِ في كَوْنِهِ مُبَاحًا إذْ لَا يُقِرُّ على بَاطِلٍ وقال الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ هو أَنْ يَرَاهُمْ أو بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ أو يُخْبَرُ عَنْهُمْ أو بَعْضِهِمْ وَذَلِكَ الْفِعْلُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الطَّاعَةَ من عَمَلٍ في فَرْضٍ أو عَمَلٍ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الْحِلَّ أو التَّحْرِيمَ عِنْدَهُمْ لَا يَنْهَاهُمْ عنه كَأَكْلِهِمْ الضَّبَّ بِحَضْرَتِهِ وَنَحْوِهِ ثُمَّ قال ابن سُرَيْجٍ في كِتَابِ الْوَدَائِعِ هو على النَّدْبِ فَقَطْ بِخِلَافِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْمَانِعُونَ من التَّعَلُّقِ بِفِعْلِهِ عليه السَّلَامُ يُسَلِّمُونَ أَنَّ تَقْرِيرَهُ لِغَيْرِهِ شُرِعَ لِنَفْيِ رَفْعِ الْحَرَجِ من حَيْثُ تَعَلُّقُ التَّقْرِيرِ بِالْمُقَرَّرِ فَكَانَ ذلك في حُكْمِ الْخِطَابِ بِرَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فيه كما قَالَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا دَلَّ التَّقْرِيرُ على انْتِفَاءِ الْحَرَجِ فَهَلْ يَخْتَصُّ بِمَنْ قُرِّرَ أو يَعُمُّ سَائِرَ الْمُكَلَّفِينَ فَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ ليس له صِيغَةٌ تَعُمُّ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ على أَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ارْتَفَعَ في حَقِّ وَاحِدٍ ارْتَفَعَ في حَقِّ الْكَافَّةِ وَذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى الثَّانِي وهو الْأَظْهَرُ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ في حُكْمِ الْخِطَابِ وقد تَقَرَّرَ أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيُّ وَنَقَلَهُ عن الْجُمْهُورِ هذا إذَا لم يَكُنْ التَّقْرِيرُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنْ كان كَذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا فيه أَيْضًا وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ لِذَلِكَ الْفِعْلِ مَعْنًى يَقْتَضِي جَوَازَ مُخَالَفَةِ ذلك الْوَاحِدِ لِلْعُمُومِ فإنه يَتَعَدَّى إلَى كل من وُجِدَ فيه ذلك الْمَعْنَى بِالْقِيَاسِ على ما قُرِّرَ
وقال الرَّازِيَّ إنْ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهُ عليه السَّلَامُ في الْوَاحِدِ حُكْمُهُ في الْكُلِّ كان ذلك التَّقْرِيرُ تَخْصِيصًا في حَقِّ الْكُلِّ وَإِلَّا فَلَا وَاخْتَارَ ابن الْحَاجِبِ عِنْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى قَطْعَ الْإِلْحَاقِ وَالِاخْتِصَاصِ بِمَنْ قُرِّرَ فَقَطْ وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ التَّعَدِّيَ إلَى الْكُلِّ وقد صَرَّحَ جَمْعٌ من الْأُصُولِيِّينَ بِأَنَّ الْفِعْلَ إذَا سَبَقَ تَحْرِيمُهُ فَيَبْقَى تَقْرِيرُهُ نَسْخًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَلَوْلَا أَنَّ التَّقْرِيرَ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ لَكَانَ تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا وقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ على أَنَّ تَقْرِيرَ النبي عليه السَّلَامُ لِلصَّلَاةِ قِيَامًا خَلْفَهُ وهو جَالِسٌ نَاسِخٌ لِأَمْرِهِ السَّابِقِ بِالْقُعُودِ الْأَمْرُ الثَّانِي إذَا تَضَمَّنَ رَفْعَ الْحَرَجِ إمَّا خَاصًّا أو عَامًّا فَهَلْ يُحْمَلُ على الْإِبَاحَةِ أو لَا يَقْضِي بِكَوْنِهِ مُبَاحًا أو وَاجِبًا أو نَدْبًا بَلْ يُحْتَمَلُ فَيَتَوَقَّفُ ذَهَبَ الْقَاضِي إلَى الثَّانِي وابن الْقُشَيْرِيّ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ وإذا قُلْنَا بِالْإِبَاحَةِ وهو الْمَشْهُورُ فَاخْتَلَفُوا في حُكْمِ الِاسْتِبَاحَةِ لِمَا أَقَرَّ على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا إلْكِيَا وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُبَاحٌ بِالْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ وهو بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا بِسَبَبٍ وَهَذَا منهم تَعَلُّقٌ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مُبَاحٌ بِالشَّرْعِ حين أُقِرُّوا عليها وَهُمَا الْوَجْهَانِ في أَصْلِ الْأَشْيَاءِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ هل كانت على الْإِبَاحَةِ حتى حَظَرَهَا الشَّارِعُ أو على الْحَظْرِ حتى أَبَاحَهَا ولم يَقِفْ الشَّيْخُ السُّبْكِيُّ على هذا الْخِلَافِ وَسَأَلَهُ الصَّدْرُ بن الْوَكِيلِ فلم يَسْتَحْضِرْ فيه نَصًّا وَرَجَّحَ أَنَّهُ يَدُلُّ على الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ على فِعْلٍ حتى يُعْرَفَ حُكْمُهُ فَمِنْ هُنَا دَلَّ التَّقْرِيرُ على الْإِبَاحَةِ شُرُوطُ حُجِّيَّةِ التَّقْرِيرِ إذَا ثَبَتَ هذا فَإِنَّمَا يَكُونُ التَّقْرِيرُ حُجَّةً بِشُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً وهو ظَاهِرٌ من لَفْظِ التَّقْرِيرِ وَخَرَجَ من هذا ما فُعِلَ في عَصْرِهِ مِمَّا لم يَطَّلِعْ عليه غَالِبًا كَقَوْلِهِمْ كنا نُجَامِعُ وَنَكْسَلُ وما فُعِلَ في عَهْدِهِ عليه السَّلَامُ ولم يُعْلَمْ انْتِشَارُهُ انْتِشَارًا يَبْلُغُ النبي عليه السَّلَامُ فَهَلْ يُجْعَلُ ذلك سُنَّةً وَشَرِيعَةً من شَرَائِعِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فيه وَلِهَذَا قال في الْأَقِطِ هل يَجُوزُ في الْفِطْرَةِ أَمْ لَا على قَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ قد عُلِمَ أَنَّهُ بَلَغَ النبي عليه السَّلَامُ ما كَانُوا يُخْرِجُونَهُ في الزَّكَاةِ في الْأَقِطِ لِأَنَّهُ رُوِيَ عن بَعْضِ
الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قال كنا نُخْرِجُ على عَهْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَاعًا من أَقِطٍ فَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ في هذا على وَجْهَيْنِ ا هـ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إذَا قال الصَّحَابِيُّ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا وَأَضَافَهُ إلَى عَصْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وكان مِمَّا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ حُمِلَ على الْإِقْرَارِ وَيَكُونُ شَرْعًا لنا وَإِنْ كان مِثْلُهُ يَخْفَى فَإِنْ تَكَرَّرَ منه ذِكْرُهُ حُمِلَ على إقْرَارِهِ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيمَا كَثُرَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى كَقَوْلِ أبي سَعِيدٍ كنا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ في زَمَنِ النبي عليه السَّلَامُ صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ أو صَاعًا من بُرٍّ قال وَعَلَى هذا إذَا خَرَّجَ الرَّاوِي الرِّوَايَةَ مَخْرَجَ الْكَثِيرِ بِأَنْ قال كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا حُمِلَتْ الرِّوَايَةُ على عَمَلِهِ وَإِقْرَارِهِ وَصَارَ كَالْمَنْقُولِ شَرْعًا وَإِنْ تَجَرَّدَ عن لَفْظِ التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ فَعَلُوا كَذَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَلَا يَثْبُتُ شَرْعٌ بِاحْتِمَالٍ أَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ أو أَطْلَقَ فَسَيَأْتِي الشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَادِرًا على الْإِنْكَارِ كَذَا قال ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ من خَصَائِصِهِ عَدَمَ سُقُوطِ وُجُوبِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْخَوْفِ على النَّفْسِ وَعَدَمَ السُّقُوطِ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ منه خَوْفٌ على نَفْسِهِ بَعْدَ إخْبَارِ اللَّهِ بِعِصْمَتِهِ في قَوْلِهِ وَاَللَّهُ يَعْصِمُك من الناس قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ عليه السَّلَامُ بِوُجُوبِهِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ له النَّصْرَ وَالظَّفَرَ بِقَوْلِهِ إنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ الثَّانِي أَنَّهُ لو لم يُنْكِرْهُ لَكَانَ يُوهِمُ أَنَّ ذلك جَائِزٌ وَإِلَّا لَأَمَرَ بِتَرْكِهِ ا هـ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُعْقَلُ هذا الشَّرْطُ الشَّرْطُ الثَّالِثُ كَوْنُ الْمُقَرِّ على الْفِعْلِ مُنْقَادًا لِلشَّرْعِ سَامِعًا مُطِيعًا فَالْمُمْتَنِعُ كَالْكَافِرِ لَا يَكُونُ التَّقْرِيرُ في حَقِّهِ دَالًّا على الْإِبَاحَةِ وَأَلْحَقَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُنَافِقَ وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ لِأَنَّا نُجْرِي عليه الْأَحْكَامَ ظَاهِرًا وهو كما قال لِأَنَّهُ من أَهْلِ الِالْتِزَامِ وَالِانْقِيَادِ في الْجُمْلَةِ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ في تَقْرِيرِ الْمُنَافِقِ خِلَافًا وَمَالَ إلْكِيَا إلَى ما قَالَهُ إمَامُهُ قال لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ كان كَثِيرًا ما يَسْكُتُ عن الْمُنَافِقِينَ عِلْمًا منه أَنَّ الْعِظَةَ لَا تَنْفَعُ مَعَهُمْ وَإِنْ كان الْعَذَابُ حَقِيقًا بِهِمْ وَشَرَطَ ابن أبي هُرَيْرَةَ في تَعْلِيقِهِ كَوْنَ التَّقْرِيرِ بَعْدَ ثُبُوتِ الشَّرْعِ وَأَمَّا ما كان يُقِرُّ
عليه قبل اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ حين كان دَاعِيًا إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الثَّانِي وَشَرَطَ ابن السَّمْعَانِيِّ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ إنْكَارٌ سَابِقٌ قال وإذا ذَمَّ الرَّسُولُ فَاعِلًا بَعْدَ إقْرَارِهِ على فِعْلِ مِثْلِهِ دَلَّ على حَظْرِهِ بَعْدَ إبَاحَتِهِ وَإِنْ كان الْآخَرُ هو الذَّمُّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ دَلَّ على الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ قال وإذا عُلِمَ من حَالِ مُرْتَكِبِ الْمُنْكَرِ أَنَّ الْإِنْكَارَ عليه يَزِيدُهُ إغْرَاءً على مِثْلِهِ فَإِنْ عَلِمَ بِهِ غَيْرُ الرَّسُولِ لم يَجِبْ عليه الْإِنْكَارُ لِئَلَّا يَزْدَادَ من الْمُنْكَرِ بِالْإِغْرَاءِ وَإِنْ عَلِمَ بِهِ الرَّسُولُ فَفِي إنْكَارِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ لِمَا ذُكِرَ وهو قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالثَّانِي يَجِبُ إنْكَارُهُ لِيَزُولَ بِالْإِنْكَارِ تَوَهُّمُ الْإِبَاحَةِ قال وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ وهو قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَعَلَيْهِ يَكُونُ الرَّسُولُ مُخَالِفًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْحَظْرَ شَرْعٌ مُخْتَصٌّ بِالرَّسُولِ دُونَ غَيْرِهِ وَشَرَطَ ابن الْقُشَيْرِيّ أَنْ لَا نَجِدَ لِلسُّكُوتِ مَحْمَلًا سِوَى التَّقْرِيرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ فَلَوْ كان مُشْتَغِلًا بِبَيَانِ حُكْمٍ مُسْتَغْرِقًا فيه فَرَأَى إنْسَانًا على أَمْرٍ ولم يَتَعَرَّضْ له فَلَا يَكُونُ تَرْكُهُ ذلك تَقْرِيرًا إذْ لَا يُمْكِنُهُ تَقْرِيرُ جَمِيعِ الْمَوَانِعِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ قال وَلِهَذَا أَقُولُ ليس كُلُّ ما كان عليه الناس في صَدْرِ الشَّرْعِ ثُمَّ تَغَيَّرَ الْأَمْرُ لَا يُدَّعَى فيه النَّسْخُ بَلْ إذَا ثَبَتَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثُمَّ تَغَيَّرَ فَهُوَ النَّسْخُ فَأَمَّا ما كان عليه الناس في الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَرَّرَ الرَّسُولُ فيه حُكْمًا فَلَا يُقَالُ كان ذلك الْمُتَقَدِّمُ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا ثُمَّ نُسِخَ إذْ رُبَّمَا لم يَتَفَرَّغْ الرَّسُولُ لِبَيَانِهِ أو لم يَتَذَكَّرْهُ مِثَالُهُ قَوْلُ الْخَصْمِ في نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ كان قد تَقَرَّرَ في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ انْتِفَاءُ الْحَظْرِ في الْمَنْكُوحَاتِ ثُمَّ طَرَأَ الْحَظْرُ فَنُسِخَ ذلك الْحُكْمُ وَهَذَا مُجَازَفَةٌ إذْ من الْمُمْكِنِ أَنَّهُمْ كَانُوا ولم يَكُنْ ذلك شَرْعًا بَلْ جَرْيًا على حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ بَيَّنَ النبي عليه السَّلَامُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ على أَرْبَعٍ بَيَانًا مُبْتَدَأً وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ مَحْمُولًا على أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ لم يُبَيِّنْ له بَعْدَ ذلك الْحُكْمَ لم يُقْطَعْ بِمَشْرُوعِيَّةِ ذلك التَّقْرِيرِ بَلْ يُقَالُ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ إذْ لَا عُثُورَ فيه على شَرْعٍ لِانْدِرَاسِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهَذَا لَا يُقْضَى فيه بِحُكْمٍ أَصْلًا ا هـ صُوَرُ التَّقْرِيرِ ثُمَّ في التَّقْرِيرِ صُوَرٌ تَعَرَّضَ لها الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ إحْدَاهَا أَنْ يُخْبِرَ النبي عليه السَّلَامُ عن وُقُوعِ فِعْلٍ في الزَّمَنِ الْمَاضِي على وَجْهٍ من الْوُجُوهِ وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمٍ من الْأَحْكَامِ هل هو من لَوَازِمِ ذلك الْفِعْلِ فإذا
سَكَتَ عن بَيَانِ كَوْنِهِ لَازِمًا دَلَّ على أَنَّهُ ليس من لَوَازِمِ ذلك الْفِعْلِ كما لو أَخْبَرَ بِإِتْلَافٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ تَعَلُّقِ الضَّمَانِ أو عَدَمِهِ كَإِتْلَافِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ مَثَلًا فَسُكُوتُهُ يَدُلُّ على عَدَمِ تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهِ وَكَمَا لو أَخْبَرَ عن وُقُوعِ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ على وَجْهٍ ما وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا فإذا لم يُبَيِّنْهُ دَلَّ على عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَثَانِيَتُهَا أَنْ يُسْأَلَ عن قَوْلٍ أو فِعْلٍ لَا يَلْزَمُ من سُكُوتِهِ عليه مَفْسَدَةٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنْ قد يَكُونُ ظَنُّ الْفَاعِلِ أو الْقَائِلِ يَقْتَضِي أَنْ تَتَرَتَّبَ عليه مَفْسَدَةٌ على تَقْدِيمِ امْتِنَاعِهِ فَهَلْ يَكُونُ هذا السُّكُوتُ دَلِيلًا على الْجَوَازِ بِنَاءً على ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ أو لَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ منه مَفْسَدَةٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنَّ الْمُطَلِّقَ إنَّمَا أَرْسَلَ الثَّلَاثَ بِنَاءً على ظَنِّهِ بَقَاءَ النِّكَاحِ فَيَقْضِي ظَنُّهُ بِكَوْنِ الْمَفْسَدَةِ وَاقِعَةً على تَقْدِيرِ امْتِنَاعِ الْإِرْسَالِ هذا إذَا ظَهَرَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ وَالْحَاضِرِينَ عَقِبَ طَلَاقِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِاللِّعَانِ وَإِلَّا فَيَكُونُ الْبَيَانُ وَاجِبًا لِمَفْسَدَةِ الْوُقُوعِ في الْإِرْسَالِ وَمِثَالُهُ أَيْضًا اسْتِبْشَارُهُ عليه السَّلَامُ بِإِلْحَاقِ الْقَائِفِ عليه السَّلَامُ نَسَبَ أُسَامَةَ بن زَيْدٍ فإن الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ إلْحَاقَ الْقَائِفِ يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ الْإِلْحَاقَ مَفْسَدَةٌ في صُورَةِ الِاشْتِبَاهِ وَنَسَبُ أُسَامَةَ لَاحِقٌ بِالْفِرَاشِ في حُكْمِ الشَّرْعِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمَفْسَدَةُ عِنْدَهُمْ في نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنْ لَمَّا كان الطَّاعِنُونَ في النِّسْبَةِ اعْتَقَدُوا أَنَّ إلْحَاقَ الْقَافَةِ صَحِيحٌ اقْتَضَى ذلك الظَّنُّ منهم مع ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا عَدَمَ الْمَفْسَدَةِ في إلْحَاقِ الْقَائِفِ وَثَالِثَتُهَا أَنْ يُخْبَرَ عن حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِحَضْرَتِهِ عليه السَّلَامُ فَيَسْكُتُ عنه فَيَدُلُّ ذلك على الْحُكْمِ كما لو قِيلَ بِحَضْرَتِهِ هذا الْفِعْلُ وَاجِبٌ أو مَحْظُورٌ إلَى غَيْرِهِمَا من الْأَحْكَامِ وَرَابِعَتُهَا أَنْ يُخْبَرَ بِحَضْرَتِهِ عن أَمْرٍ ليس بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا وَأَنْ لَا يَكُونَ فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ دَلِيلًا على مُطَابَقَتِهِ كَحَلِفِ عُمَرَ بِحَضْرَتِهِ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ الدَّجَّالُ ولم يُنْكِرْ عليه فَهَلْ يَدُلُّ على كَوْنِهِ هو وفي تَرْجَمَةِ بَعْضِ أَهْلِ
الحديث ما يُشْعِرُ بِأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى ذلك قال الشَّيْخُ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَدُلُّ لِأَنَّ مَأْخَذَ الْمَسْأَلَةِ وَمَنَاطَهَا أَعْنِي كَوْنَ التَّقْرِيرِ حُجَّةً هو الْعِصْمَةُ من التَّقْرِيرِ على بَاطِلٍ وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ على تَحَقُّقِ الْبُطْلَانِ وَلَا يَكْفِي فيه تَحَقُّقُ الْعِصْمَةِ نعم التَّقْرِيرُ يَدُلُّ على جَوَازِ الْيَمِينِ على حَسَبِ الظَّنِّ وَأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّفُ على الْعِلْمِ لِأَنَّ عُمَرَ حَلَفَ على حَسَبِ ظَنِّهِ وَأَقَرَّهُ عليه ا هـ وَيَلْتَحِقُ بِالتَّقْرِيرِ صُوَرٌ أُخْرَى إحْدَاهَا ذَكَرَهَا ابن السَّمْعَانِيِّ وَهِيَ ما يَبْلُغُ النبي عليه السَّلَامُ عَنْهُمْ وَيَعْلَمُهُ ظَاهِرًا من حَالِهِمْ وَتَقَرَّرَ عِنْدَهُ من عَادَاتِهِمْ مِمَّا سَبِيلُهُ الِانْتِشَارُ وَالِاشْتِهَارُ فَلَا يَتَعَرَّضُ له بِنَكِيرٍ كَنَوْمِ الصَّحَابَةِ قُعُودًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فَلَا يَأْمُرُهُمْ بِتَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ وَكَعِلْمِهِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَلَا يَتَعَرَّضُ لهم قال وَيَتَّصِلُ بهذا ما اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِهِ من إسْقَاطِ الزَّكَاةِ في أَشْيَاءَ سَكَتَ النبي عليه السَّلَامُ عنها من الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِمَا وَذَلِكَ أَنَّهُ كان لَا يَخْفَى عليه أَنَّ الناس يَتَّخِذُونَهَا كما يَتَّخِذُونَ الْكُرُومَ وَالنَّخِيلَ وكان الْأَمْرُ في إرْسَالِهِ الْمُصَدِّقِينَ وَالسُّعَاةَ في أَقْطَارِ الْأَرْضِ ظَاهِرًا بَيِّنًا وكان إذَا بَعَثَهُمْ كَتَبَ لهم الْكُتُبَ فَتُقْرَأُ بِحَضْرَتِهِ وَيَشْهَدُ عليها فَلَوْ كان يَجِبُ فيها شَيْءٌ لَأَمَرَ بِأَخْذِهِ وَلَوْ أَمَرَ لَظَهَرَ كما ظَهَرَ غَيْرُهُ من الْأَشْيَاءِ التي فيها الْوُجُوبُ لِلْأَخْذِ فلما لم يَكُنْ كَذَلِكَ دَلَّ على سُقُوطِ الزَّكَاةِ عنها وَأَمَّا قَوْلُ من رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبِيعُونَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ على عَهْدِ النبي عليه السَّلَامُ فَإِنَّهَا لم تَجْرِ بهذا الْمَجْرَى في الدَّلَالَةِ على جَوَازِ بَيْعِهِنَّ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هل كان يَبْلُغُهُ هذا الْفِعْلُ عَنْهُمْ أو لم يَظْهَرْ له ذلك وقد قام الدَّلِيلُ على فَسَادِ بَيْعِهِنَّ من وُجُوهٍ فلم يُعْتَرَضْ بِهِ على تِلْكَ الدَّلَالَةِ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ من صُوَرِ كَوْنِ الشَّيْءِ من الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَلَا يَتَعَرَّضُ فيه بِالْأَخْذِ وَالْإِيجَابِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ كما قال الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ في الْخَضْرَاوَاتِ كانت على عَهْدِ الرَّسُولِ فلم يَبْلُغْهُمَا أَنَّهُ أَخَذَ منها الزَّكَاةَ أو أَوْجَبَهَا
قال وَهَذَا فِيمَا إذَا كان تَرْكُهُ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْفَرْضِ فَأَمَّا الْمُبَايَعَاتُ وَالْإِجَارَةُ التي لم تَرِدْ فيها النُّصُوصُ الْمُبَيِّنَةُ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَلَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ عنه دَلِيلًا على الصِّحَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوَاتِ وقد أَقَامَ الدَّلِيلَ عليه من الْمَعَانِي الْمُودَعَةِ في النُّصُوصِ وَلَا يَكْفِي إقَامَةُ الدَّلَالَةِ في مِثْلِ الْخَضْرَاوَاتِ بَلْ الْأَخْذُ وَالتَّقَدُّمُ بِالْإِحْرَامِ إنْ كان فيها فَرْضٌ ا هـ أَحْكَامُ سُكُوتِهِ ثُمَّ تَكَلَّمَ ابن السَّمْعَانِيِّ على أَحْكَامِ سُكُوتِهِ وقد نَقَلَهَا إلَى دَلِيلِ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا هُنَاكَ فَلْتُرَاجَعْ وقد ذَكَرَهَا إلْكِيَا وهو أَنْ يَسْكُتَ عَمَّا لم تَشْتَمِلْ عليه أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَمِمَّا ذُكِرَ له في الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَفْتِي ليس خَبِيرًا بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ بَصِيرًا بِالْأَحْكَامِ قال فَسُكُوتُ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في مِثْلِ ذلك حُجَّةٌ وَإِلَّا لَزِمَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ فإنه لو كان وَاجِبًا عليه لَبَيَّنَهُ وَمِثَالُهُ ما رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا مُحْرِمًا جاء إلَى الرَّسُولِ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مُضَمَّخٌ بِالْخَلُوقِ فقال له عليه السَّلَامُ انْزِعْ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ الصُّفْرَةَ وَاصْنَعْ في حَجَّتِك ما تَصْنَعُ في عُمْرَتِك ولم يَتَعَرَّضْ لِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهَا لِجَهْلِ الْأَعْرَابِيِّ فإن من جَهِلَ جَوَازَ اللُّبْسِ فَهُوَ بِالْفِدْيَةِ أَجْهَلُ وَكَذَلِكَ سُكُوتُهُ في قَضِيَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الْمَجَامِعِ عن بَيَانِ حَالِ الْمَرْأَةِ قال وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ في مَسْأَلَةِ الْخَارِجِ من غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ بِأَنَّهُ ليس من الْأَحْدَاثِ لِأَنَّ الْأَحْدَاثَ مُقْصَاةٌ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ كان من قَبِيلِ الْأَحْدَاثِ لَذُكِرَ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَوْ كان حَدَثًا كان من الْأَحْدَاثِ الْمَشْهُورَةِ التي تَعُمُّ بها الْبَلْوَى وَاقْتِبَاسُ ذلك من الْقِيَاسِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَكَذَلِكَ قال في صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بَيَّنَ جِبْرِيلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتَيْنِ ولم يُبَيِّنُ لِلْمَغْرِبِ وَقْتَيْنِ وَإِنَّمَا جاء مُبَيِّنًا لِلْأَوْقَاتِ فَلَوْ كان لها وَقْتَانِ لَبَيَّنَهُ جِبْرِيلُ قال وَيُشْتَرَطُ في هذا أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عنه لم تَشْمَلْهُ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ فَلَوْ كان له ذِكْرٌ فيها كما لو أتى بِزَانٍ فَأَمَرَ بِالْجَلْدِ ولم يذكر الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ وَنَحْوَهُمَا
فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِأَنَّ ذلك يُحَالُ بِهِ على الْبَيَانِ في غَيْرِ الْمَوْضِعِ قال وَعَلَى هذا سُكُوتُ الرَّاوِي قد يُحْتَجُّ بِهِ وقد لَا يُحْتَجُّ بِهِ فإذا سَاقَ الرَّاوِي قَضِيَّةً ظَهَرَ منها أَنَّهُ بَعْدَ اسْتِغْرَاقِهَا بِالْحِكَايَةِ أَنَّهُ لم يُغَادِرُ من مَشَاهِيرِ أَحْكَامِهَا شيئا كما نَقَلَ الرَّاوِي قَضِيَّةَ مَاعِزٍ من مُفْتَتَحِهَا إلَى مُخْتَتَمِهَا ولم يَنْقُلْ أَنَّهُ جَلَدَ وَرُدَّ على هذا من ظَنِّ الْمُعْتَرِضِ أَنَّ الْجَلْدَ لَا يَتَشَوَّفُ إلَى نَقْلِهِ عِنْدَ نَقْلِ الرَّجْمِ فإنه غَيْرُ مُحْتَفَلٍ بِهِ في مِثْلِ ذلك وَيُجَابُ بِأَنَّ سِيَاقَ الْقَضِيَّةِ وَاسْتِغْرَاقَهُ بِتَفَاصِيلِهَا بِالْحِكَايَةِ من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْجَلْدِ دَلِيلٌ على نَفْيِ الْجَلْدِ إذْ لو جَرَى الْجَلْدُ لَنَقَلَهُ وَمِنْهُ حِكَايَةُ الْمَوَاقِعِ في الصُّوَرِ النَّادِرَةِ وَالظَّنُّ بِالرَّاوِي أَنَّهُ إذَا نَقَلَ الحديث أَنْ يَنْقُلَ بِصُورَتِهَا إذَا كانت الصُّورَةُ نَادِرَةً فإذا سَكَتَ عنها فَسُكُوتُهُ حُجَّةٌ مِثَالُهُ ما رُوِيَ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ أَقَادَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ وقال أنا أَحَقُّ من وَفَّى بِذِمَّتِهِ قال بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ لَعَلَّ كَافِرًا قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ وفي ذلك نَظَرٌ فإنه لو كان لَنُقِلَ مِثْلُ ذلك على نُدُورٍ وَتَشَوُّفِ الطِّبَاعِ إلَى نَقْلِ الْغَرَائِبِ وَهَذَا حَسَنٌ ا هـ الثَّانِيَةُ إذَا اسْتَبْشَرَ من فِعْلِ الشَّيْءِ أو قَوْلِهِ كان ذلك دَلِيلًا على كَوْنِهِ جَائِزًا حَسَنًا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحْسِنُ مَمْنُوعًا منه يَبْقَى أَنَّهُ هل اسْتَحْسَنَهُ لِكَوْنِهِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ شَرْعًا أو لِكَوْنِهِ لِغَرَضٍ عَادِيٍّ فيه احْتِمَالٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرُقَهُ الْخِلَافُ السَّابِقُ وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ على الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ من حَالِهِ عليه السَّلَامُ وَلِكَوْنِهِ مَبْعُوثًا لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ وَأَمَّا غَضَبُهُ وَتَغَيُّرُ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ من شَيْءٍ فَذَلِكَ يَدُلُّ على مَنْعِ ذلك الشَّيْءِ ثُمَّ هل ذلك الْمَنْعُ على جِهَةِ التَّحْرِيمِ أو الْكَرَاهِيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجِيءَ فيه الْخِلَافُ وَالْمَرْجِعُ في هذا النَّظَرُ في قَرَائِنِ أَحْوَالِهِ وَقْتَ غَضَبِهِ فَيُحْكَمُ بها فَإِنْ لم تَكُنْ قَرِينَةٌ أو لم يَفْعَلْ فَالظَّاهِرُ التَّحْرِيمُ وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِبْشَارَ أَقْوَى في الدَّلَالَةِ على الْجَوَازِ من السُّكُوتِ وَلِذَلِكَ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ في إثْبَاتِ الْقِيَافَةِ وَإِلْحَاقِ النَّسَبِ بها بِاسْتِبْشَارِ النبي بِقَوْلِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ وقد بَدَتْ
له أَقْدَامُ زَيْدٍ وَأُسَامَةَ إنَّ هذه الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا من بَعْضٍ وَاسْتَضْعَفَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وقال إنَّمَا سُرَّ بِكَلِمَةِ صِدْقٍ صَدَرَتْ مِمَّنْ هو مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيمَا بين الْكُفَّارِ على مُنَاقَضَةِ قَوْلِهِمْ لَمَّا قَدَحُوا في نِسْبَةِ أُسَامَةَ إلَى زَيْدٍ إذْ كان رسول اللَّهِ قد تَأَذَّى بِهِ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَلْحَقَ نَسَبَهُ بِمَعْلُومٍ عِنْدَهُ ا هـ وَرَدَّ عليه الطَّرَسُوسِيُّ وقال لو احْتَجَّ النبي عليه السَّلَامُ عليه بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ لَدُحِضَتْ حُجَّتُهُ عِنْدَهُمْ وَلَقَالُوا كَيْفَ تَحْتَجُّ عَلَيْنَا بِالرَّمْزِ وَالْقِيَافَةِ وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهِ وَنَقَلَ إلْكِيَا أَنَّ هذا السُّؤَالَ أُورِدَ على الشَّافِعِيِّ فَقِيلَ له إنَّمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ بِالرَّسُولِ وَقَوْلُ مُجَزِّزٍ لَغْوٌ إذْ الْقَائِفُ يُقْضَى بِهِ في بَيَانِ نَسَبٍ مُلْتَبِسٍ وَلَكِنْ كان الِاسْتِبْشَارُ لِانْقِطَاعِ مَظَاهِرِ الْكُفَّارِ عن نَسَبِ أُسَامَةَ بن زَيْدٍ فقال مُجِيبًا لو لم يَكُنْ لِلْقِيَافَةِ أَصْلٌ لم يَسْتَبْشِرْ فإن ذلك يُوهِمُ التَّلْبِيسَ وقد كان شَدِيدَ النَّكِيرِ على الْكُهَّانِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَمَنْ لَا يَسْتَنِدُ قَوْلُهُمْ إلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ وَلَوْ لم تَكُنْ الْقِيَافَةُ مُعْتَبَرَةً لَكَانَتْ من هذا الْقَبِيلِ
الْقِسْمُ الرَّابِعُ ما هَمَّ بِهِ وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ في الْجَدِيدِ لِلْخَطِيبِ في الِاسْتِسْقَاءِ مع تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ تَنْكِيسَهُ بِجَعْلِ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَسْفَلَهَا فَيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا فلما ثَقُلَتْ عليه قَلَبَهَا على عَاتِقِهِ قال الشَّافِعِيُّ فَيُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِمَا هَمَّ بِهِ الرَّسُولُ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ قال الْأَصْحَابُ وَمِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْإِحْرَامِ نَقْلًا عن الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يُقَدَّمُ الْقَوْلُ على الْفِعْلِ ثُمَّ الْهَمُّ الْقِسْمُ الْخَامِسُ ما أَشَارَ إلَيْهِ كَإِشَارَتِهِ عليه السَّلَامُ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إلَى أَيَّامِ الشَّهْرِ الْكَامِلِ حَيْثُ قال الشَّهْرُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ أَشَارَ مِثْلَ ذلك وَقَبَضَ في الثَّالِثَةِ الْإِبْهَامَ فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ أَنَّ الشَّهْرَ قد يَكُونُ ثَلَاثِينَ وقد يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَقَوْلُهُ الشَّهْرُ عَامٌّ في الشُّهُورِ كُلِّهَا من حَيْثُ إنَّهُ لَا مَعْهُودَ يَصِيرُ إلَيْهِ وَهَذَا مُبْطِلٌ لِقَوْلِ من قال إنَّ رَمَضَانَ لَا يَنْقُصُ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ
الْقِسْمُ السَّادِسُ الْكِتَابَةُ مِثْلُ كِتَابَتِهِ إلَى عُمَّالِهِ في الصَّدَقَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وزاد الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ التَّنْبِيهَ على الْعِلَّةِ كَحَصْرِهِ الرِّبَا في سِتَّةِ أَشْيَاءَ تَنْبِيهًا على جَرَيَانِهِ في كل ما شَارَكَهَا قال وَيُقَدَّمُ الْقَوْلُ ثُمَّ الْفِعْلُ ثُمَّ الْإِشَارَةُ ثُمَّ الْكِتَابَةُ ثُمَّ التَّنْبِيهُ على الْعِلَّةِ وَهَذَا ذَكَرَهُ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ فذكر أَنَّ سُنَّتَهُ مُنْحَصِرَةٌ في أَرْبَعٍ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالتَّقْرِيرِ ثُمَّ قال وَالرَّابِعُ أَنْ يَرَوْهُ عليه السَّلَامُ يَفْعَلُ أو يَتْرُكُ فَيَفْهَمُهُ أَخِصَّاؤُهُ عنه وما أَرَادَ بِهِ فَيَتَدَيَّنُوا بِذَلِكَ لِفَهْمِهِمْ عن نَبِيِّهِمْ مُرَادَ اللَّهِ في قَوْلِهِ أو فِعْلِهِ وَإِنْ كان الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ في الظَّاهِرِ أَقَلَّ من الْمَعْنَى كَنَهْيِهِ عن الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الرِّبَوِيَّةِ فَأَجْمَعُوا على أَنَّ كُلَّ طَعَامٍ له مَرْجُوعٌ وَاحِدٌ يَقُومُ مَقَامَ ذلك في الرَّبَّا وَأَجْمَعُوا فَقَالُوا كُلُّ ما لم يُسَمِّهِ لنا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِعَيْنِهِ فَهُوَ لنا مُبَاحٌ وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ في الْبَقَرِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْجَوَامِيسَ كَذَلِكَ إذْ هو في مَعْنَاهُ وَذَكَرَ لِذَلِكَ نَظَائِرَ
الْقِسْمُ السَّابِعُ التَّرْكُ لم يَتَعَرَّضُوا لِتَرْكِهِ عليه السَّلَامُ وقد احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ دَلَالَةِ الْفِعْلِ على الْوُجُوبِ أَنَّهُ لو دَلَّ عليه لَدَلَّ التَّرْكُ على الْوُجُوبِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إذَا تَرَكَ الرَّسُولُ شيئا وَجَبَ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُ فيه أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه السَّلَامُ لَمَّا قُدِّمَ إلَيْهِ الضَّبُّ فَأَمْسَكَ عنه وَتَرَكَ أَكْلَهُ فَأَمْسَكَ عنه الصَّحَابَةُ وَتَرَكُوهُ إلَى أَنْ قال لهم إنِّي أَعَافُهُ وَأَذِنَ لهم في ذلك لِمَعْنًى فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ فِيمَا إذَا فَعَلَهُ لِمَعْنًى زَالَ هل يَبْقَى سُنَّةً وَمِثَالُهُ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فإنه عليه السَّلَامُ تَرَكَهَا خَشْيَةَ الِافْتِرَاضِ على الْأُمَّةِ وَهَذَا الْمَعْنَى زَالَ بَعْدَهُ فَمِنْ ثَمَّ حَصَلَ الْخِلَافُ في اسْتِحْبَابِهَا الْحُكْمُ في حَادِثَةٍ لم يَحْكُمْ الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم في نَظِيرِهَا بِشَيْءٍ إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ بِحَضْرَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يَحْكُمْ فيها بِشَيْءٍ فقال الْقَاضِي أبو يَعْلَى لنا أَنْ نَحْكُمَ في نَظِيرِهَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ في قَوْلِهِمْ تَرْكُهُ عليه السَّلَامُ الْحُكْمَ في حَادِثَةٍ يَدُلُّ على وُجُوبِ تَرْكِ الْحُكْمِ في نَظِيرِهَا وقال هذا كَرَجُلٍ شَجَّ رَجُلًا شَجَّةً فلم يَحْكُمْ فيها رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِحُكْمٍ فَيُعْلَمُ بِتَرْكِهِ لِذَلِكَ أَنْ لَا حُكْمَ لِهَذِهِ الشَّجَّةِ في الشَّرِيعَةِ وقال بَعْضُهُمْ يُحْتَمَلُ التَّوَقُّفُ وَلَنَا أَنَّ عَدَمَ نَصِّ اللَّهِ في الْحَادِثَةِ على حُكْمٍ لَا يُوجِبُ تَرْكَ الْحُكْمِ في نَظِيرِهَا فَكَذَلِكَ في السُّنَّةِ
الْكَلَامُ في الْأَخْبَارِ اعْلَمْ أَنَّ أَسَاسَ النُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْأَخْبَارِ وَأَكْثَرُ الْأَخْبَارِ مُسْتَفَادٌ منها وما هذا شَأْنُهُ فَحَقِيقٌ الِاهْتِمَامُ بِهِ لِمَا يُؤَمَّلُ لِمَعْرِفَتِهِ من صَلَاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْكَلَامُ في الْخَبَرِ في مَوَاطِنَ الْمَوْطِنُ الْأَوَّلُ في مَدْلُولِهِ أَمَّا لُغَةً فَمُشْتَقٌّ من الْخَبَارِ وَهِيَ الْأَرْضُ الرَّخْوَةُ لِأَنَّ الْخَبَرَ يُثِيرُ الْفَائِدَةَ كما أَنَّ الْأَرْضَ الْخَبَارَ تُثِيرُ الْغُبَارَ إذَا قَرَعَهَا الْحَافِرُ وَيُطْلَقُ في اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ على أُمُورٍ أَحَدُهَا الْمُحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وهو اصْطِلَاحُ الْأُصُولِيِّينَ وَثَانِيهَا على مُقَابِلُ الْمُبْتَدَأِ نَحْوُ قَائِمٍ من زَيْدٌ قَائِمٌ فإنه خَبَرٌ نَحْوِيٌّ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ من حَيْثُ هو مُفْرَدٌ لَا يَحْتَمِلُهُمَا وَاَلَّذِي يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ إنَّمَا هو الْمُرَكَّبُ قَسِيمُ الْإِنْشَاءِ لَا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ على أَنَّ أَصْلَ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْإِفْرَادُ وَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إنَّمَا هو من صِفَاتِ الْكَلَامِ وَلِهَذَا ضُعِّفَ مَنْعُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ كَوْنَ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ طَلَبِيَّةً نَظَرًا إلَى أَنَّ الْخَبَرَ ما احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَالطَّلَبُ ليس كَذَلِكَ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ وما عُلِّلَ بِهِ بَاطِلٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَثَالِثُهَا على ما هو أَعَمُّ من الْإِنْشَاءِ وَالطَّلَبِ وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ أَخْبَارُ الرَّسُولِ مع اشْتِمَالِهَا على الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ تَسْمِيَةُ الحديث بِالْخَبَرِ وَمُعْظَمُ السُّنَّةِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي فَالْجَوَابُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَاصِلَ جَمِيعِهَا آيِلٌ إلَى الْخَبَرِ فَالْمَأْمُورُ بِهِ في حُكْمِ الْمُخْبَرِ عن وُجُوبِهِ وَكَذَا الْقَوْلُ في النَّوَاهِي قال وَالسِّرُّ فيه أَنَّهُ عليه السَّلَامُ ليس آمِرًا على سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ وَإِنَّمَا الْآمِرُ حَقًّا هو اللَّهُ تَعَالَى وَصِيَغُ الْأَمْرِ من الْمُصْطَفَى في حُكْمِ الْإِخْبَارِ عن اللَّهِ
وَالثَّانِي إنَّمَا سُمِّيَتْ أَخْبَارًا لِنَقْلِ الْمُتَوَسِّطِينَ وَهُمْ يُخْبِرُونَ عَمَّنْ يَرْوِي لهم وَمَنْ عَاصَرَ الرَّسُولَ كان إذَا بَلَغَهُ لَا يقول أخبرنا رسول اللَّهِ بَلْ يقول أَمَرَنَا فَالْمَنْقُولُ إذًا اسْتِجْدَادُ اسْمِ الْخَبَرِ في الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ إلَى حَيْثُ انْتَهَى تَعْرِيفُ الْخَبَرِ في اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ وَأَمَّا في اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَيُطْلَقُ الْخَبَرُ على الصِّيغَةِ كَقَوْلِنَا قام زَيْدٌ وَيُطْلَقُ على الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ الذي هو مَدْلُولُ اللَّفْظِ ثُمَّ قال ابن الْحَاجِبِ هو حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَقِيلَ حَقِيقَةٌ في النَّفْسَانِيِّ مَجَازٌ في اللِّسَانِيِّ وَقِيلَ عَكْسُهُ كَالْخِلَافِ في الْكَلَامِ لِأَنَّ الْخَبَرَ قِسْمٌ من أَقْسَامِهِ وَنُقِلَ عن الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْخَبَرِ وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ خَبَرًا إذَا انْضَمَّ إلَى اللَّفْظِ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ إلَى الْإِخْبَارِ بِهِ كما قالوا في الْأَمْرِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ له صِيغَةً تَدُلُّ عليه في اللُّغَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ زَيْدٌ قَائِمٌ وما أَشْبَهَهُ وقد اخْتَلَفُوا في الْخَبَرِ هل يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ فَاخْتَارَ السَّكَّاكِيُّ أَنَّهُ غَنِيٌّ عن التَّعْرِيفِ وَكَذَا الْإِمَامُ الرَّازِيَّ قال لِأَنَّ تَصَوُّرَهُ ضَرُورِيٌّ إذْ تَصَوُّرُنَا مَوْجُودٌ ضَرُورِيٌّ وهو خَبَرٌ خَاصٌّ وَالْعَامُّ جُزْؤُهُ فَتَصَوُّرُهُ تَابِعٌ لِتَصَوُّرِ الْكُلِّ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُفَرِّقُ بِالضَّرُورَةِ بين مَعْنَى الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ وَالضَّرُورِيُّ لَا يُحَدُّ فَكَذَا الْخَبَرُ قال الْآمِدِيُّ وَهَذَا ضَعِيفٌ إذْ الضَّرُورِيُّ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه كما فُعِلَ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ لَا بِالْخَبَرِ من جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرًا وَقَوْلُهُمْ الْعَامُّ هو جُزْءُ الْخَاصِّ قُلْنَا يَلْزَمُ انْحِصَارُ الْأَعَمِّ في الْأَخَصِّ وهو مُحَالٌ ثُمَّ هو مَنْقُوضٌ بِالْعَرَضِ الْعَامِّ كَالْأَسْوَدِ وَلَيْسَ السَّوَادُ جُزْءًا من مَعْنَى الْإِنْسَانِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ انْتِقَاضُهُ بِالْحَدِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ إنَّهُ الذي يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ أو الْكَذِبَ لِذَاتِهِ أَيْ الصَّالِحَ لَأَنْ يُجَابَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ بِصِدْقٍ أو كَذَبَ وَقُلْنَا لِذَاتِهِ لِيَخْرُجَ ما يَصْلُحُ لِذَلِكَ بِالتَّقْدِيرِ كما يُقَدِّرُ النَّحْوِيُّ في النِّدَاءِ وَالتَّعَجُّبِ وَالْمُرَادُ ما يَحْتَمِلُهُ بِصِيغَتِهِ من حَيْثُ هو مع قَطْعِ النَّظَرِ عن الْعَوَارِضِ لِكَوْنِ مُخْبِرِهِ صَادِقًا أو كَاذِبًا وَأَتَى بِصِيغَةٍ أو لِيَحْتَرِزَ بها عن السُّؤَالِ الْمَشْهُورِ وهو أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ وَخَبَرَ رَسُولِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ وَهَذَا إنَّمَا يَرِدُ إذَا ذُكِرَ بِالْوَاوِ وَأَمَّا إذَا قِيلَ بِاحْتِمَالِهِ أَحَدَهُمَا فَلَا يَرِدُ
وقد فَسَّرْنَا الِاحْتِمَالَ بِالْقَبُولِ الذي يُقَابِلُهُ عَدَمُ الْقَبُولِ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَعَلَى هذا فَلَا يَنْتَفِي ذلك الْوُجُوبُ بِأَنَّ كُلَّمَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ بهذا التَّفْسِيرِ وَلَا يَضُرُّ اسْتِعْمَالُ أو فيه لِأَنَّ التَّرْدِيدَ في أَقْسَامِ الْمَحْدُودِ لَا الْحَدِّ وَالِاعْتِرَاضُ بِلُزُومِ اجْتِمَاعِهِمَا فَاسِدٌ لِأَنَّ شَرْطَ التَّعْبِيرِ اتِّحَادُ الْمَحْمُولِ وَالْمَوْضُوعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هذا إلَّا في الْجُزْئِيِّ وَالْمَحْدُودُ إنَّمَا هو الْكُلِّيُّ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ فَإِنْ قِيلَ ما حَدُّ الْخَبَرِ قُلْنَا ما يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَهُ الصِّدْقُ أو الْكَذِبُ وَذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّهُ ما يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وما قُلْنَا أَوْلَى لِأَنَّ من الْأَخْبَارِ ما لَا يَصِحُّ دُخُولُ الْكَذِبِ فيه وَمِنْهَا ما لَا يَصِحُّ دُخُولُ الصِّدْقِ فيه وَرَدَّهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَجِيءَ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ يُشْعِرُ بِقَبُولِ الضِّدَّيْنِ وَالْمَحَلُّ لَا يَقْبَلُ إلَّا أَحَدَهُمَا لَا هُمَا مَعًا فَالْمُقْتَضِي الْمَجِيءُ بِأَوْ وَغَلَّطَهُ الْقَرَافِيُّ وقال بَلْ الْمَحَلُّ يَقْبَلُ الضِّدَّيْنِ مَعًا كما يَقْبَلُ النَّقِيضَيْنِ مَعًا وَإِنَّمَا الْمَشْرُوطُ بِعَدَمِ هذا وُقُوعُ الْآخَرِ الْمَقْبُولِ لَا قَبُولُهُ وَالْمُحَالُ اجْتِمَاعُ الْمَقْبُولَيْنِ لَا إجْمَاعُ الْقَبُولَيْنِ وَهَذَا وَاجِبٌ وَالْأَوَّلُ مُسْتَحِيلٌ وَلَا يَلْزَمُ من تَنَافِي الْمَقْبُولَيْنِ تَنَافِي الْقَبُولَيْنِ وَلِهَذَا يُقَالُ الْمُمْكِنُ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَهُمَا مُتَنَاقِضَانِ وَالْقَبُولَانِ يَجِبُ اجْتِمَاعُهُمَا له لِذَاتِهِ لِأَنَّهُ لو وُجِدَ أَحَدُ الْقَبُولَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لم يَكُنْ مُمْكِنًا فإنه لو لم يَقْبَلْ الْوُجُودَ كان مُسْتَحِيلًا وَلَوْ لم يَقْبَلْ الْعَدَمَ كان وَاجِبًا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِمْكَانُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الْقَبُولَيْنِ وَإِنْ تَنَافِي الْمَقْبُولَانِ وَإِنَّمَا أَوْقَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في ذلك الْتِبَاسَ الْمَقْبُولَيْنِ بِالْقَبُولَيْنِ قُلْت لم يَنْفِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَّا الْمَقْبُولَيْنِ فإنه لم يَتَكَلَّمْ في غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لم يَقُلْ إنَّ الْحَدَّ يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمَقْبُولَيْنِ وَقِيلَ ما يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ يَرْجِعَانِ إلَى نِسْبَتَيْنِ وَإِضَافَتَيْنِ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُمَا الْمُطَابَقَةُ في الصِّدْقِ وَعَدَمُهَا في الْكَذِبِ وَالْمُطَابَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ نِسْبَتَانِ بين اللَّفْظِ وَمَدْلُولِهِ وَأَمَّا التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ فَيَرْجِعَانِ إلَى الْإِخْبَارِ عنهما فَقَدْ يُوجَدُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ مع الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عِنْدَ مُوَافَقَةِ الْأَخْبَارِ لِلْوَاقِعِ وَبِدُونِهِمَا إنْ كان كَذِبًا فَقَدْ يَصْدُقُ وَلَيْسَ بِصَادِقٍ وَيَكْذِبُ وَلَيْسَ بِكَاذِبٍ فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ من وَجْهٍ وَهَذَا الْحَدُّ سَلِمَ مِمَّا وَرَدَ على الْأَوَّلِ من اجْتِمَاعِهِمَا في كل خَبَرٍ وفي هذا رَدٌّ على السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ قال إنَّ صَاحِبَ هذا الْحَدِّ ما زَادَ على أَنْ وَسَّعَ الدَّائِرَةَ وَأَوْرَدَ عليه أَنَّهُمَا نَوْعَانِ لِلْخَبَرِ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِهِ فَلَوْ عُرِفَ بِهِمَا لَزِمَ الدَّوْرُ وَأُجِيبَ بِمَنْعِ نَوْعِيَّتِهِمَا بَلْ هُمَا صِفَتَانِ عَارِضَتَانِ له على سَبِيلِ الْبَدَلِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لِلْإِنْسَانِ
مَسْأَلَةٌ تَعْرِيفُ الْكَذِبِ الْكَذِبُ الْإِخْبَارُ عن الشَّيْءِ بِخِلَافِ ما هو بِهِ مع السَّهْوِ وَالْعَمْدِ وَشَرَطَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الْعَمْدَ وفي الصَّحِيحِ من كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ما ذَكَرْنَا من أَنَّ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لَهُمَا هو الْمَشْهُورُ وَخَالَفَ في ذلك الْقَرَافِيُّ وَادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ لم تَضَعْ الْخَبَرَ إلَّا لِلصِّدْقِ وَلَيْسَ لنا خَبَرُ كَذِبٍ قال وَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إنَّمَا جاء من جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا من جِهَةِ الْوَضْعِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُنَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْمَجَازَ ليس من الْوَضْعِ الْأَوَّلِ قال وَظَنَّ جَمَاعَةٌ من الْفُقَهَاءِ أَنَّ احْتِمَالَ الْخَبَرِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مُسْتَفَادٌ من الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ من حَيْثُ الْوَضْعُ إلَّا الصِّدْقَ لِاتِّفَاقِ اللُّغَوِيِّينَ وَالنُّحَاةِ على أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا قام زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ في الزَّمَنِ الْمَاضِي ولم يَقُلْ أَحَدٌ منهم إنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أو عَدَمُهُ وَإِنَّمَا احْتِمَالُهُ من جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا من جِهَةِ اللُّغَةِ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْقَرَافِيُّ مُصَادِمٌ لِإِجْمَاعِ الناس على أَنَّ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لِأَعَمَّ من ذلك وَقَوْلُهُ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا قام زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ مَمْنُوعٌ وَإِنَّمَا مَدْلُولُهُ الْحُكْمِ بِحُصُولِ الْقِيَامِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ الثَّانِي الْمَشْهُورُ أَنَّ الْكَذِبَ الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِلْمُخْبَرِ عنه مَاضِيًا كان أو مُسْتَقْبَلًا خِلَافًا لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ في كِتَابِ الْأَذْكَارِ بِالْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ وَلِابْنِ قُتَيْبَةَ حَيْثُ خَصَّا الْكَذِبَ بِمَا مَضَى وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَيُقَالُ له خُلْفٌ وَلَا يُقَالُ له كَذِبٌ لنا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عن الَّذِينَ نَافَقُوا لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَكَذِبُهُمْ في خَبَرِهِمْ عن الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَا قَوْلُهُ وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا على النَّارِ إلَى قَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عن جَابِرٍ أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جاء يَشْكُوا حَاطِبًا
فقال يا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا فإنه شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ وفي جَانِبِ الصِّدْقِ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ فَاسْتَعْمَلَ الصِّدْقَ في الْخَبَرِ عن الْمُسْتَقْبَلِ فَالْحَقُّ أَنَّهُ يُوصَفُ بِهِمَا مَاضِيًا وَمُسْتَقْبَلًا لَكِنْ له وَصْفٌ خَاصٌّ وهو الْخُلْفُ وَالْوَفَاءُ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ يُفْهِمُ أَنَّ الْكَذِبَ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي إذْ قال لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ وَضَعَّفَ سُؤَالَ من قال لِصَاحِبِهِ غَدًا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا ثُمَّ لم يَفْعَلْ كان كَاذِبًا وَالْكَذِبُ حَرَامٌ فَكَيْفَ لَا يُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ فقال وَالْحَالَةُ هذه آيَةٌ أَنَّهُ حَاكِمٌ على أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ وَلَا كَذِبَ فيه وَالْوَعْدُ إنْشَاءٌ لَا خَبَرٌ وَإِنَّمَا يُسَمَّى من لم يَفِ بِالْوَعْدِ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا وَلِهَذَا قال عليه السَّلَامُ في حَقِّ الْمُنَافِقِ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ فَسَمَّاهُ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا وَلَوْ كان الْإِخْلَافُ كَذِبًا دخل تَحْتَ عُمُومِ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وقد يُقَالُ إذَا لم يَدْخُلْهُ الْكَذِبُ لَا يَكُونُ خَبَرًا لِأَنَّ الْخَبَرَ ما يُفِيدُ الْكَذِبَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ كما تَقُولُ سَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ وَيَصِحُّ فيه التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ وَالْوَعْدُ إنْشَاءٌ لَا خَبَرٌ الثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُمْ الْخَبَرُ ما يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ هل هو خَاصٌّ بِالْكَلَامِ الذي له خَارِجٌ عن كَلَامِ النَّفْسِ أَمْ يَجْرِي في لَفْظِ خَ بَ رَ وقد اضْطَرَبَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ في الثَّانِي فَجَعَلُوهُ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مَخْصُوصًا بِالصِّدْقِ وَلِهَذَا لو قال إنْ لم تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ هذا النَّوَى فَأَنْتِ طَالِقٌ ولم يَكُنْ قَصْدُهُ التَّمْيِيزَ فَلَا يَكْتَفِي بِأَيِّ عَدَدٍ كان إنْ كان الْمُعَلَّقُ عليه لَفْظُ الْإِخْبَارِ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ في الْحَاوِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الْبِشَارَةِ وَالْخَبَرِ فِيمَا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ عليه في أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الصِّدْقُ في وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِمَا وما ذَكَرَهُ في الْبِشَارَةِ صَحِيحٌ وَأَمَّا في الْخَبَرِ فَكَلَامُهُمْ مُخْتَلِفٌ فيه فَقَدْ قالوا فِيمَا لو قال إنْ لم تُخْبِرِينِي بِمَجِيءِ زَيْدٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَجِيئِهِ كَاذِبَةً أنها لَا تَطْلُقُ لِوُجُودِ الْإِخْبَارِ بِقُدُومِهِ وهو لَا يَشْتَرِطُ فيه الْمُطَابَقَةَ وَلَوْ قال من أَخْبَرَتْنِي مِنْكُمَا بِكَذَا فَهِيَ طَالِقٌ فَأَخْبَرَتَاهُ صَدَقَتَا أو كَذَبَتَا طَلُقَتَا
وَجَعَلَ الْفُورَانِيُّ الْخَبَرَ لِلصِّدْقِ فَقَطْ إذَا قُرِنَ بِحَرْفِ الْبَاءِ لِأَنَّهُ لِلْإِلْصَاقِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْمُخْبَرِ بِهِ حتى يُلْصَقَ بِهِ الْخَبَرُ فإذا قال إنْ أَخْبَرْتِنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَخْبَرَهُ صَادِقًا أو كَاذِبًا عَتَقَ الْعَبْدُ وَلَوْ قال إنْ أَخْبَرْتِنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَخْبَرَهُ كَاذِبًا لَا يَحْنَثُ عِنْدَ الْفُورَانِيِّ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ وفي فَتَاوَى الْقَفَّالِ لو قال رَجُلٌ لِآخَرَ إنْ أَخْبَرْتَنِي بِخُرُوجِ فُلَانٍ من هذا الْبَلَدِ فَلَكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَأَخْبَرَهُ هل يَسْتَحِقُّ الْعَشَرَةَ نُظِرَ إنْ كان له غَرَضٌ في خُرُوجِهِ من الْبَلَدِ اسْتَحَقَّ وَإِلَّا فَلَا وَالنُّكْتَةُ في الْجَعَالَةِ فَقَدْ حَكَاهُ عنه الرَّافِعِيُّ ثُمَّ بَحَثَ معه في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ هل يَتَقَيَّدُ الْخَبَرُ بِالصِّدْقِ فَلَوْ كان كَاذِبًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شيئا لِانْتِفَاءِ الْمَعْنَى الذي عَلَّلَ بِهِ قُلْت وَلَعَلَّ الْقَفَّالَ يَخُصُّ ذلك بِحَالَةِ وُجُودِ الْبَاءِ كما حَكَيْنَاهُ عن تِلْمِيذِهِ الْفُورَانِيِّ وَالثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ هل يَنَالُهُ تَعَبٌ أَمْ لَا قُلْت وقد حَكَى النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ من زَوَائِدِهِ قبل هذا تَصْرِيحَ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ لو قال من أخبرني بِكَذَا فَلَهُ كَذَا فَأَخْبَرَهُ إنْسَانٌ فَلَا شَيْءَ له لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فيه إلَى عَمَلٍ ا هـ فَجُعِلَ هذا من زَوَائِدِهِ وَأَقَرَّ الرَّافِعِيَّ على الْبَحْثِ الثَّانِي هُنَاكَ وَيَتَحَصَّلُ في الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ ثَالِثُهَا إنْ اقْتَرَنَ بِالْبَاءِ وَإِلَّا فَلَا الْمَوْطِنُ الثَّانِي في أَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ وَكَذِبَهُ بِمَاذَا يَكُونَانِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ صِدْقُ الْخَبَرِ وَكَذِبُهُ بِنَفْسِ الْخَبَرِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِدَلِيلٍ يُضَافُ إلَيْهِ وَالْمَشْهُورُ على الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوَاسِطَةِ أَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ سَوَاءٌ وَافَقَ الِاعْتِقَادَ أَمْ لَا وَكَذِبَهُ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ وَعَنْ صُورَةِ الْجَهْلِ احْتَرَزَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِقَوْلِهِ من كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا الحديث وقال النَّظَّامُ صِدْقُهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ سَوَاءٌ وَافَقَ الْوَاقِعَ أَمْ لَا وَاحْتَجَّ عليه بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ من اعْتَقَدَ شيئا فَأَخْبَرَ بِهِ ثُمَّ ظَهَرَ على خِلَافِ الْوَاقِعِ يُقَالُ له ما كَذَبَ وَلَكِنْ أَخْطَأَ كما رُوِيَ عن عَائِشَةَ فِيمَنْ شَأْنُهُ كَذَلِكَ وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ لَا الْكَذِبُ مُطْلَقًا الثَّانِي في قَوْله تَعَالَى وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ كَذَّبَهُمْ في قَوْلِهِمْ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ مع كَوْنِهِ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ لم يَعْتَقِدُوهُ فَلَوْ كانت الْعِبْرَةُ بِمَا في نَفْسِ الْأَمْرِ لم يُكَذِّبْهُمْ وَأُجِيبَ
بِأَنَّ الْمَعْنَى لَكَاذِبُونَ في الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ فَهِيَ إخْبَارٌ عن اعْتِقَادِهِمْ وهو غَيْرُ مَوْجُودٍ أو كَاذِبُونَ في تَسْمِيَتِهِمْ إخْبَارَهُمْ شَهَادَةً لِأَنَّ الْإِخْبَارَ إذَا خَلَا عن مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ لم يَكُنْ في الْحَقِيقَةِ شَهَادَةً أو لَكَاذِبُونَ في الْمَشْهُودِ بِهِ في زَعْمِهِمْ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ خَبَرٌ على خِلَافِ ما عليه حَالُ الْمُخْبَرِ عنه لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ فَيَكُونُ كَذِبًا عِنْدَهُمْ وقد يُقَالُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَاحْتَجَّ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ لِلْمَشْهُورِ بِ لقد كَفَرَ الَّذِينَ قالوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وما من إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ وَلَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْقَائِلِينَ لِذَلِكَ غَيْرُ عَالِمِينَ بِأَنَّهُ تَعَالَى ليس ما أَخْبَرُوا عنه فَدَلَّ على أَنَّ التَّكْذِيبَ بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ وَأَصْرَحُ منها قَوْلُهُ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فإنه يَدُلُّ على أَنَّ الِاعْتِبَارَ في الْكَذِبِ بِالْمُطَابَقَةِ الْخَارِجِيَّةِ أو بها مع الِاعْتِقَادِ فَائِدَةٌ مِمَّا يَتَفَرَّعُ على هذا الْخِلَافِ لو أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً ثُمَّ قال هِيَ كَذِبٌ امْتَنَعَ الْحُكْمُ بها وفي بُطْلَانِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ اخْتِيَارُ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ نعم لِأَنَّ الْكَذِبَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِمَا في الْخَارِجِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ الشَّخْصُ ذلك وَأَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ بِكَذِبِ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عن غَيْرِ عِلْمٍ فَلَهُمْ حُكْمُ الْكَاذِبِينَ إذْ رَضَوْا بِخَبَرٍ يُجَوِّزْنَ كَذِبَهُ جَوَازًا غير بَعِيدٍ وَذَلِكَ رِضًى بِالْكَذِبِ الْمَوْطِنُ الثَّالِثُ في انْحِصَارِهِ في ذِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بين الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ من كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا لِدَلَالَتِهِ على انْقِسَامِ الْكَذِبِ إلَى عَمْدٍ وَغَيْرِهِ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَذَبَ نَوْفٌ أَيْ الْبِكَالِيُّ ليس صَاحِبَ الْخَضِرِ مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَمِنْهُمْ من أَثْبَتَ الْوَاسِطَةَ وَاخْتَلَفُوا فيه على أَقْوَالٍ أَحَدُهَا وَنُقِلَ عن أبي عُثْمَانَ الْجَاحِظِ أَنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ مع اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ وَكَذِبَهُ عَدَمُهُمَا وَغَيْرُهُمَا ليس بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ وَكَأَنَّهُ أَجْرَى الصِّدْقَ مَجْرَى الْعِلْمِ فَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ على ما هو بِهِ من جِهَةِ صِحَّتِهِ فَكَذَلِكَ الْخَبَرُ وَيَجُوزُ أَنَّهُ رَاعَى أَصْلَهُ الْفَاسِدَ في التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ فَرَاعَى في كَوْنِهِ صِدْقًا وُقُوعَهُ حَسَنًا لِمُفَارَقَةِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ في حُسْنِ أَحَدِهِمَا وَقُبْحِ الْآخَرِ وَلَا يَكُونُ الْخَبَرُ حَسَنًا إلَّا مع الْمُخْبِرِ
بِحَالِ الْمَخْبَرِ عنه لِأَنَّ تَجْوِيزَهُ على خِلَافِ ما أَخْبَرَ يَقْتَضِي قُبْحَهُ وَنَحْنُ قد بَيَّنَّا أَنَّ الصِّدْقَ قد يَقْبُحُ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ صِدْقًا عِلَّةً لِحُسْنِهِ كَكَوْنِهِ كَذِبًا عِلَّةٌ لِقُبْحِهِ بَلْ لو كان كَوْنُهُ صِدْقًا عِلَّةً تَقْتَضِي الْحُسْنَ لَكَانَ الْحُسْنُ إنَّمَا ثَبَتَ إذَا انْتَفَتْ وُجُوهُ الْقُبْحِ الثَّانِي أَنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ سَوَاءٌ طَابَقَ الْخَارِجَ أو لَا وَكَذِبُهُ عَدَمُهُمَا فَالسَّاذَجُ وَاسِطَةٌ وَالثَّالِثُ هو قَوْلُ الرَّاغِبِ إنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِلْخَارِجِ وَالِاعْتِقَادِ مَعًا فَإِنْ فُقِدَا منه لم يَكُنْ صِدْقًا بَلْ لَا يَكُونُ صِدْقًا وقد يُوصَفُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِنَظَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كما لو كان مُطَابِقًا لِلْخَارِجِ غير مُطَابِقٍ لِلِاعْتِقَادِ كَقَوْلِ الْكَافِرِ أَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَعْرِيفُهُمْ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وقال ابن الْحَاجِبِ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ لِأَنَّهُ إنْ عَنَى بِالْخَبَرِ الصِّدْقَ ما يَكُونُ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ عنه كَيْفَمَا كان وَبِالْكَذِبِ ما لَا يَكُونُ مُطَابِقًا كَيْفَمَا كان فَالْعِلْمُ بِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا ضَرُورِيٌّ وَإِنْ عَنَى بِهِمَا ما يَكُونُ مُطَابِقًا وَغَيْرَ مُطَابِقٍ لَكِنْ مع الْعِلْمِ بِهِمَا فَإِمْكَانُ حُصُولِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ وهو ما لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِمُطَابَقَتِهِ وَعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ قلت يَتَفَرَّعُ على هذا الْخِلَافِ ما لو قال لَا أُنْكِرُ ما تَدَّعِيهِ وَهِيَ عِبَارَةُ التَّنْبِيهِ أو لَسْتُ مُنْكِرًا له وَهِيَ عِبَارَةُ الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ فَهُوَ إقْرَارٌ وَهَذَا بِنَاءً على أَنَّهُ لَا وَسَاطَةَ بين الْإِقْرَارِ وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ فَإِنْ قُلْنَا بَيْنَهُمَا وَسَاطَةٌ وَهِيَ السُّكُوتُ فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ وهو اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمَوْطِنُ الرَّابِعُ في مَدْلُولِ الْخَبَرِ مَدْلُولُهُ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا بِثُبُوتِهَا فإذا قِيلَ زَيْدٌ قَائِمٌ فَلَيْسَ مَدْلُولُهُ نَفْسَ ثُبُوتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ في الْخَارِجِ وَإِلَّا لم يَكُنْ شَيْءٌ من الْخَبَرِ كَذِبًا وَإِنَّمَا يُفِيدُ أَنَّكَ حَكَمْتَ بِقِيَامِ زَيْدٍ وَأَخْبَرْتَ عنه ثُمَّ إنْ طَابَقَ ذلك الْوَاقِعَ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ على الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَإِلَّا فَلَا هَكَذَا قال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وهو مَبْنِيٌّ على أَنَّ الْأَلْفَاظَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ لَا الْخَارِجِيَّةِ لَكِنْ في كَلَامِ الْإِمَامِ إبْهَامٌ فإنه قال إذَا قِيلَ الْعَالَمُ حَادِثٌ فَمَدْلُولُهُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ
لَا نَفْسُ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ إذْ لو كان مَدْلُولُهُ نَفْسَ ثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ لَكَانَ حَيْثُمَا وَجَدْنَا قَوْلَنَا الْعَالَمُ مُحْدَثٌ كان الْعَالَمُ مُحْدَثًا لَا مَحَالَةَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ خَبَرًا وَلَمَّا بَطَلَ ذلك عَلِمْنَا أَنَّ مَدْلُولَ الصِّيغَةِ هو الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا نَفْسِ النِّسْبَةِ انْتَهَى وَاعْتَرَضَ الْقَرَافِيُّ وَصَاحِبُ الْحَاصِلِ والتحصيل على قَوْلِهِ وَإِلَّا لم يَكُنْ الْكَذِبُ خَبَرًا وَقَالُوا صَوَابُهُ الْعَكْسُ أَيْ لَا يَكُونُ الْخَبَرُ كَذِبًا لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَحَقُّقَ الْكَذِبِ لَا بِصِيغَتِهِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْوَاقِعُ على هذا التَّقْدِيرِ انْتِفَاءُ الْكَذِبِ قال الْقَرَافِيُّ لِأَنَّ الْكَذِبَ إذَا تَعَذَّرَ لَا يَتَّصِفُ الْخَبَرُ أَبَدًا إلَّا بِالصِّدْقِ فَلَا يَكُونُ كَذِبًا وَأَمَّا الْكَذِبُ في نَفْسِهِ فَهُوَ مُتَعَذَّرٌ مُطْلَقًا فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِنَا لَا يَكُونُ الْكَذِبُ خَبَرًا لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ قد يَكُونُ غير خَبَرٍ وَالتَّعَذُّرُ في نَفْسِهِ على هذا التَّقْدِيرِ لَا يُوجَدُ مع الْخَبَرِ وَلَا مع غَيْرِهِ وَقِيلَ الصَّوَابُ عِبَارَةُ الْإِمَامِ وَالِانْتِقَادَاتُ عليهم لَا عليه أَمَّا تَقْرِيرُ عِبَارَتِهِ فَلِأَنَّ مَدْلُولَ النِّسْبَةِ لو كان ثُبُوتِيًّا لَكَانَ الْكَذِبُ غير خَبَرٍ لَكِنَّ اللَّازِمَ مُنْتَفٍ ضَرُورَةً لِأَنَّ الْكَذِبَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْخَبَرِ الذي هو صِدْقٌ وَكَذِبٌ فَالْمَلْزُومُ مُنْتَفٍ وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ ثُبُوتَ النِّسْبَةِ وَوُقُوعَهَا في الْخَارِجِ قد يَكُونُ الْإِخْبَارُ عنه كَذِبًا وهو وَاضِحٌ وَأَمَّا تَبْيِينُ فَسَادِ عِبَارَتِهِمْ فإن مَعْنَى قَوْلِنَا وَإِلَّا لم يَكُنْ الْخَبَرُ كَذِبًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ من الْخَبَرِ صِدْقٌ كما أَنَّ منه كَذِبًا نعم اسْتِدْلَالُ الْإِمَامِ على أَنَّ مَدْلُولَهُ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا ثُبُوتُهَا بِأَنَّهُ لو لم يَكُنْ كَذَلِكَ لم يَكُنْ شَيْءٌ من الْخَبَرِ بِكَذِبٍ وقد مَنَعَ الْقَرَافِيُّ انْتِفَاءَ الْمُلَازَمَةِ وَادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ لم تَضَعْ الْخَبَرَ إلَّا لِلصِّدْقِ وَسَبَقَ الرَّدُّ عليه الْمَوْطِنُ الْخَامِسُ أَنَّ مَوْرِدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ النِّسْبَةُ التي تَضَمَّنَهَا فَقَطْ لَا وَاحِدٌ من طَرَفَيْهَا فَهُمَا يَتَوَجَّهَانِ إلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لَا إلَى صِفَتِهِ فإذا كَذَّبْت الْقَائِلَ في قَوْلِهِ زَيْدُ بن عَمْرٍو كَرِيمٌ فإن التَّكْذِيبَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى كَوْنِهِ ابْنَ عَمْرٍو بَلْ إلَى كَوْنِهِ كَرِيمًا لِأَنَّ الصِّفَةَ ثَابِتَةٌ حَالَ النَّفْيِ ثُبُوتَهَا حَالَ الْإِثْبَاتِ وَلِأَنَّ عِلْمَ الْمُخَاطَبِ بِثُبُوتِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ ليس لِإِثْبَاتِ الْمُتَكَلِّمِ إيَّاهَا له وَأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إلَى ذِكْرِهَا لِإِزَالَةِ اللَّبْسِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ وَإِلَّا فَلَا يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ وإذا كانت مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ فَلَا يَقْصِدُهَا الْمُتَكَلِّمُ بِإِخْبَارِهِ إيَّاهَا وَالتَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إنَّمَا يَتَوَجَّهَانِ إلَى ما يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ لَا إلَى ما لَا يَقْصِدُهُ فإذا قِيلَ قام زَيْدٌ فَقِيلَ صِدْقٌ أو كَذِبٌ انْصَرَفَ ذلك إلَى قِيَامِ زَيْدٍ لَا إلَى ذلك الْمُشَارِ إلَيْهِ بِالْقِيَامِ هل اسْمُهُ زَيْدٌ أو عَمْرٌو وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هذا فِيمَا لو كان مُخْتَلَفًا في اسْمِهِ فَلَا يُسْتَفَادُ من ذلك أَنَّك حَاكِمٌ بِأَنَّ ذلك اسْمُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ اُسْتُشْكِلَ قِرَاءَةُ من قَرَأَ وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ بِإِسْقَاطِ
التَّنْوِينِ على أَنَّ الِابْنَ صِفَةٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ هو عُزَيْرُ ابن اللَّهِ أو عُزَيْرُ ابن اللَّهِ إلَهُنَا إمَّا بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ أو الْخَبَرِ وهو خَطَأٌ لِأَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ عن مُبْتَدَأٍ مَوْصُوفٍ أو عن مَوْصُوفٍ غَيْرِ الْمُبْتَدَأِ فإن الْكَذِبَ يَنْصَرِفُ إلَى الْخَبَرِ وَتَبْقَى الصِّفَةُ على أَصْلِ الثُّبُوتِ فَحِينَئِذٍ يَبْقَى كَوْنُهُ ابْنًا لِلَّهِ ثَابِتًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يقول الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَاَلَّذِي يُقَالُ في تَوْجِيهِ هذه الْقِرَاءَةِ أَنَّ هذا الْكَلَامَ سَبَقَ لِنَفْيِ إلَهِيَّةِ مِثْلِ هذا بَلْ بَيَّنَ جَهْلَهُمْ إذْ ادَّعَوْا الْوَلَدِيَّةَ فيه وَلَا رَيْبَ أَنَّ دَعْوَى الشَّرْطِ أَسْهَلُ من إثْبَاتِ الْوَلَدِيَّةِ له أو على طَرِيقِ الْحِكَايَةِ أَيْ قالوا هذه الْعِبَارَةَ الْمُنْكَرَةَ ولم يَتَعَرَّضْ لِمَا قالوا خَبَرًا عنها فَلَا يُقَدَّرُ هُنَاكَ مَحْذُوفٌ أَصْلًا أو غَيْرُ ذلك كما بَيَّنْته في كِتَابٍ الْبُرْهَانِ في عُلُومِ الْقُرْآنِ وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ قال مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِأَنَّ فُلَانَ بن فُلَانٍ وَكِيلُ فُلَانٍ إنَّ شَهَادَتَهُمَا بِالتَّوْكِيلِ لَا يُسْتَفَادُ منها أَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْبُنُوَّةِ فَلَيْسَ له إنْ نُوزِعَ في مُحَاكَمَةٍ أُخْرَى في الْبُنُوَّةِ أَنْ يَقُولَ هَذَانِ شَهِدَا لي بِالْبُنُوَّةِ لِقَوْلِهِمَا في شَهَادَةِ التَّوْكِيلِ إنَّ فُلَانَ بن فُلَانٍ لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أنها شَهَادَةٌ له بِالْوَكَالَةِ أَصْلًا وَبِالنِّسْبَةِ ضِمْنًا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي في بَابِ التَّحَفُّظِ في الشَّهَادَةِ وَالْعِلْمِ بها وَكَذَلِكَ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَالْهَرَوِيُّ في الْأَشْرَافِ فَإِنْ قُلْتَ فَهَذَا يُشْكِلُ على هذا الْأَصْلِ قلت لَا إشْكَالَ لِأَنَّا لَمَّا صَدَّقْنَا الشَّاهِدَيْنِ كان قَوْلُهُمَا مُتَضَمِّنًا لِذَلِكَ نعم احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ على صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَبِقَوْلِهِ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فقال ما مَعْنَاهُ سَمَّى كُلًّا مِنْهُمَا امْرَأَةً لِكَافِرٍ وَلَفْظُ الشَّارِعِ مَحْمُولٌ على الشَّرْعِيِّ فَدَلَّ على أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا زَوْجَةٌ لَهُمَا فَعَلَى هذا يَتَوَجَّهُ صِدْقُ الْخَبَرِ لِلطَّرَفَيْنِ وَالنِّسْبَةِ الْمَوْطِنُ السَّادِسُ يَقَعُ الْخَبَرُ الْمُوجَبُ بِهِ مَوْقِعَ الْأَمْرِ وَبِالْعَكْسِ فَمِنْ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ أَيْ لِيُرْضِعْنَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِأَنَّ الرَّضَاعَ في الْوَاقِعِ قد يَكُونُ أَقَلَّ أو أَكْثَرَ منه
وَمِنْهُ قَوْلُهُ هل أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ من عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ قال يَغْفِرْ لَكُمْ وَالْمَعْنَى آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ هَكَذَا جَعَلَ النُّحَاةُ يَغْفِرْ جَوَابًا لِ تُؤْمِنُونَ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ آمِنُوا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِ هل أَدُلُّكُمْ على حَدِّ قَوْلِهِ هل تَأْتِينِي أُكْرِمْكَ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ لَا تَجِبُ بِالدَّلَالَةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَقِيلَ إنَّهُ نَهْيٌ مَجْزُومٌ وَلَكِنْ ضُمَّتْ السِّينُ إتْبَاعًا لِلضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمِنْ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى فَلْيَمْدُدْ له الرَّحْمَنُ مَدًّا الْمَعْنَى مَدَّ وَقَوْلُهُمْ في التَّعَجُّبِ أَحْسِنْ بِزَيْدٍ كَقَوْلِهِ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أَيْ ما أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ وَقَوْلُهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ قِيلَ إنَّهُ خَبَرٌ مَنْفِيٌّ وَاقِعٌ مَوْقِعَ النَّهْيِ هذا هو الْمَشْهُورُ وَمَنَعَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالسُّهَيْلِيُّ وُرُودَ الْخَبَرِ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرَ وقال هو بَاقٍ على خَبَرِيَّتِهِ وَلَا يَلْزَمُ الْخُلْفَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُصَاةِ فإنه خَبَرٌ عن حُكْمِ الشَّرْعِ أَيْ أَنَّ حُكْمَهُنَّ أَنْ يَجِبَ أو يُشْرَعَ رَضَاعُهُنَّ أو عَلَيْهِنَّ الرَّضَاعَةُ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ بَلْ قِيلَ إنَّهُ أَبْلَغُ من الْأَمْرِ الْمَحْضِ إذَا عَلِمْتَ هذا وَوَرَدَ الْخَبَرُ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرَ فَهَلْ يَتَرَتَّبُ عليه ما يَتَرَتَّبُ على الْأَمْرِ من الْوُجُوبِ إذَا قُلْنَا الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أو يَكُونُ مَخْصُوصًا بِالصِّيغَةِ الْمُعَيَّنَةِ التي هِيَ صِيغَةُ افْعَلْ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ فيه نَظَرٌ قُلْتَ الْمَنْقُولُ عِنْدَنَا هو الْأَوَّلُ كَذَا رأيت التَّصْرِيحَ بِهِ في كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في بَابِ الْأَمْرِ الْمَوْطِنُ السَّابِعُ في الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَذَلِكَ من وُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ سَبَبًا لِمَدْلُولِهِ فإن الْعُقُودَ إنْشَاءَاتٌ مَدْلُولَاتُهَا وَمَنْطُوقَاتُهَا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ الثَّانِي أَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ يَتْبَعُهَا مَدْلُولُهَا وَالْإِخْبَارَاتِ تَتْبَعُ مَدْلُولَاتِهَا فإن الْمِلْكَ وَالطَّلَاقَ مَثَلًا يَثْبُتَانِ بَعْدَ صُدُورِ صِيَغِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وفي الْخَبَرِ قَبْلَهُ فإن قَوْلَنَا قام زَيْدٌ
تَبَعٌ لِقِيَامِهِ في الزَّمَنِ الْمَاضِي الثَّالِثُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ قال امْرَأَتِي طَالِقٌ صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِخْبَارَ عن طَلَاقِهَا الرَّابِعُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ يَقَعُ مَنْقُولًا غَالِبًا عن أَصْلِ الصِّيَغِ في صِيَغِ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا وَلِهَذَا لو قال لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ مَرَّتَيْنِ يَجْعَلُ الثَّانِي خَبَرًا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى النَّقْلِ وقد يَكُونُ إنْشَاءً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَإِنَّهَا لِلطَّلَبِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَالْخَبَرُ يَكْفِي فيه الْوَضْعُ الْأَوَّلُ في جَمِيعِ صُوَرِهِ هذا حَاصِلُ ما ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ وَيَفْتَرِقَانِ أَيْضًا من جِهَةِ أَنَّ الْإِنْشَاءَ كَلَامٌ نَفْسِيٌّ عَبَّرَ عنه لَا بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْأَعْيَانِ وَالْجِنَانِ فإنه إذَا قام بِالنَّفْسِ طَلَبٌ مَثَلًا وَقَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ التَّعْبِيرَ عنه بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ وَالْجِنَانِ قال طَلَبْتُ من زَيْدٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَبِّرَ عنه لَا بِاعْتِبَارِ ذلك قال افْعَلْ أو لَا تَفْعَلْ وَاعْلَمْ أَنَّ كُلًّا من الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ يَسْتَحِيلُ تَعْلِيقُهُ إذْ هُمَا نَوْعَانِ من أَنْوَاعِ الْكَلَامِ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُمَا حَيْثُ لَا كَلَامَ وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا هو في النِّسْبَةِ الْحَاصِلَةِ بين جُزْأَيْ الْجُمْلَةِ غير أَنَّ النِّسْبَةَ مَوْقُوفَةٌ على ذلك الشَّرْطِ
أَقْسَامُ الْإِنْشَاءِ إذَا عَلِمْتَ هذا فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا على أَنَّ أَقْسَامَ الْإِنْشَاءِ الْقَسَمُ وَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي وَالتَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي وَالْعَرْضُ وَالتَّحْضِيضُ وَالْفَرْقُ بين هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَنَّ الْعَرْضَ طَلَبٌ بِلِينٍ بِخِلَافِ التَّحْضِيضِ وَالْفَرْقُ بين التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي أَنَّ التَّرَجِّيَ لَا يَكُونُ في الْمُسْتَحِيلَاتِ وَالتَّمَنِّيَ يَكُونُ فيها وفي الْمُمْكِنَاتِ وقال التَّنُوخِيُّ في الْأَقْصَى الْقَرِيبِ الْمُتَمَنَّى يَكُونُ مُتَشَوَّفًا لِلنَّفْسِ وَالْمَرْجُوُّ قد لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَيَكُونُ الْمَرْجُوُّ مُتَوَقَّعًا وَالْمُتَمَنَّى قد لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَالتَّرَجِّي أَعَمُّ من التَّمَنِّي من وَجْهٍ وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيّ أَنَّ الِاسْتِعْطَافَ نَحْوُ بِاَللَّهِ هل قام زَيْدٌ قَسَمٌ وقال ابن النَّحَّاسِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ ليس بِقَسَمٍ لِكَوْنِهِ ليس خَبَرًا وَأَمَّا النِّدَاءُ نَحْوُ يا زَيْدُ فَاتَّفَقُوا على أَنَّهُ إنْشَاءٌ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ فيه فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ أُنَادِي أو الْحَرْفُ وَحْدَهُ مُفِيدٌ لِلنِّدَاءِ فَقِيلَ على الْأَوَّلِ لو كان الْفِعْلُ مُضْمَرًا لَقَبِلَ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَأَجَابَ الْمُبَرِّدُ بِأَنَّ الْفِعْلَ مُضْمَرٌ وَلَا يَلْزَمُ قَبُولُهُ لَهُمَا لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ وَالْإِنْشَاءُ لَا يَقْبَلُهُمَا وَاخْتَلَفُوا في صِيَغِ الْعُقُودِ كما سَبَقَ في مَبَاحِثِ اللُّغَةِ وَمِمَّا لم يَسْبِقْ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ في ذلك كما قال بَعْضُهُمْ أَنَّ لِهَذِهِ الصِّيَغَ نِسْبَتَيْنِ نِسْبَةٌ إلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا الْخَارِجِيَّةِ وَهِيَ من هذه الْجِهَةِ إنْشَاءَاتٌ مَحْضَةٌ وَنِسْبَةٌ إلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ وَهِيَ من هذه الْجِهَةِ خَبَرٌ عَمَّا قُصِدَ إنْشَاؤُهُ فَهِيَ إخْبَارَاتٌ بِالنَّظَرِ إلَى مَعَانِيهَا الذِّهْنِيَّةِ وَإِنْشَاءَاتٌ بِالنَّظَرِ إلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا الْخَارِجِيَّةِ وَعَلَى هذا فَإِنَّمَا لم يَحْسُنْ أَنْ يُقَابَلَ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَإِنْ كانت أَخْبَارًا لِأَنَّ مُتَعَلَّقَ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ وَمَعْنَاهُمَا مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِمُخْبِرِهِ أو عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ وَهُنَاكَ الْمُخْبَرُ عنه حَصَلَ بِالْخَبَرِ حُصُولُ الْمُسَبَّبِ لِسَبَبِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فيه تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ في خَبَرٍ لَا يَحْصُلُ مُخْبَرُهُ ولم يَقَعْ بِهِ كَقَوْلِكَ قام زَيْدٌ قال ابن الْحَاجِبِ في كُتُبِهِ النَّحْوِيَّةِ وَهِيَ مَسْلُوبَةُ الدَّلَالَةِ على الزَّمَانِ وَخَالَفَهُ ابن مَالِكٍ فقال وَهِيَ مَاضِيَةُ اللَّفْظِ حَاضِرَةُ الْمَعْنَى وَمِنْ الْإِنْشَاءَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الظِّهَارُ كما قَالَهُ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الظِّهَارِ وَقِيلَ في تَقْرِيرِهِ لو كان خَبَرًا لَمَا أَحْدَثَ حُكْمًا وَحَكَى الرَّافِعِيُّ في الْفَصْلِ الثَّانِي في التَّعَلُّقِ بِالْمَشِيئَةِ من كِتَابِ الطَّلَاقِ وَجْهًا أَنَّهُ إخْبَارٌ وهو الذي صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ في الْوَجِيزِ وَنَصَرَهُ
الْقَرَافِيُّ وَغَلِطَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ بِقَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا من الْقَوْلِ وَزُورًا وَبِقَوْلِهِ ما هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ وَقَرَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ثَمَّ أَلْفَاظًا أَبْقَاهَا الشَّارِعُ على مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ وَلَكِنْ من قَالَهَا يُلْزَمُ بِأَمْرٍ فإذا قال أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ بَاقٍ على وَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ وَذَلِكَ كَذِبٌ وَلِهَذَا أَسْمَاهُ اللَّهُ زُورًا وَحُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ كَذَبَ هذا الْكَذِبَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْعَوْدِ وَكَانَتْ عَلَيَّ حَرَامٌ بَاقٍ على مَوْضُوعِهِ وهو كَذِبٌ وَحُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ قَالَهُ عِنْدَنَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَيْسَ ذلك كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ فإن الشَّرْعَ وَضَعَهُمَا لِإِحْدَاثِ ما دَلَّا عليه فَالْأَلْفَاظُ ثَلَاثَةٌ نَحْوُ قام زَيْدٌ وَذَلِكَ خَبَرٌ من كل وَجْهٍ وَنَحْوُ بِعْتُ وَذَلِكَ إنْشَاءٌ مَحْضٌ وَنَحْوُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَذَلِكَ خَبَرٌ وَمِنْ الْإِنْشَاءَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الطَّلَاقُ على الْمَذْهَبِ وَلَا يَقُومُ الْإِقْرَارُ مَقَامَهُ نعم يُؤَاخَذُ ظَاهِرًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْإِقْرَارَ على صِيغَتِهِ إنْشَاءً في صُوَرٍ منها إذَا أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ يَصِيرُ إنْشَاءً حتى يَحْرُمَ بِهِ بَاطِنًا قال الْإِمَامُ وهو تَلْبِيسٌ فإن الْإِقْرَارَ وَالْإِنْشَاءَ يَتَنَافَيَانِ فَذَلِكَ إخْبَارٌ عن مَاضٍ وَهَذَا إحْدَاثٌ في الْحَالِ وَذَلِكَ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَهَذَا بِخِلَافِهِ وَمِنْهَا حُكْمُ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي إنْ كان في مَعْرِضِ الْحُكْمِ فَإِنْ لم يَكُنْ فَإِنْ كان في مَعْرِضِ الْحِكَايَاتِ وَالْأَخْبَارِ كَقَوْلِهِ لِزَيْدٍ على عَمْرٍو كَذَا وَفُلَانٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ لم يَكُنْ حُكْمًا بَلْ هو كَغَيْرِهِ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْإِقْرَارِ فَإِنْ قال بَعْدَهُ أَرَدْتُ الْحُكْمَ فَيَتَّجِهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ وَعَلَى هذا فإذا شَكَكْنَا في ذلك لم يَكُنْ حُكْمًا لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ على الْإِخْبَارِ وَعَدَمُ نَقْلِهِ وَمِنْهَا قَوْلُ الشَّاهِدِ أَشْهَدُ إنْشَاءٌ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ التَّكْذِيبُ شَرْعًا وَقِيلَ إخْبَارٌ وَقِيلَ إنْشَاءٌ تَضَمَّنَ الْإِخْبَارَ عَمَّا في النَّفْسِ وَكَأَنَّهُ جَمَعَ بين الْقَوْلَيْنِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في قَوْلِ الْمُلَاعِنِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ هل هو يَمِينٌ مُؤَكَّدٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أو يَمِينٌ فيها ثُبُوتُ شَهَادَةٍ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ الْمَوْطِنُ الثَّامِنُ في تَقْسِيمَاتِهِ اعْلَمْ أَنَّ الْخَبَرَ من حَيْثُ هو مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَكِنْ قد يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ أو صِدْقِهِ بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ أو لَا يُقْطَعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِفُقْدَانِ ما يُوجِبُ الْقَطْعَ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يُظَنُّ الصِّدْقُ وقد يُظَنُّ الْكَذِبُ وقد يَسْتَوِيَانِ
الْأَوَّلُ ما يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وهو إمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالضَّرُورَةِ أو النَّظَرِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِنَا الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّانِي ضَرْبَانِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على صِدْقِ الْخَبَرِ في نَفْسِهِ فَيَكُونُ كُلُّ من يُخْبِرُ بِهِ صَادِقًا وهو ضُرُوبٌ أَحَدُهَا خَبَرُ من دَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّ الصِّدْقَ وَصْفٌ وَاجِبٌ له وهو اللَّهُ تَعَالَى الثَّانِي من دَلَّتْ الْمُعْجِزَةُ على صِدْقِهِ وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ لِأَنَّهُمْ ادَّعَوْا الصِّدْقَ وَظَهَرَتْ الْمُعْجِزَاتُ على الْوَفْقِ الثَّالِثُ من صَدَّقَهُ اللَّهُ أو رَسُولُهُ وهو خَبَرُ كل الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ إنْ قُلْنَا إنَّهُ قَطْعِيٌّ الرَّابِعُ خَبَرُ الْعَدَدِ الْعَظِيمِ عن الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِقُلُوبِهِمْ من الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ فَلَيْسَ هذا من التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ لِعَدَمِ تَوَارُدِهِ على شَيْءٍ وَاحِدٍ وَالثَّابِتُ في الْمَعْنَوِيِّ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الْمُتَوَاتِرُ الْخَامِسُ الْمُتَوَاتِرُ وهو لُغَةً تَرَادُفُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَاقِبَةِ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ بِمُهْلَةٍ وَاصْطِلَاحًا خَبَرُ جَمْعٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ من حَيْثُ كَثْرَتُهُمْ عن مَحْسُوسٍ وَإِنَّمَا قال من حَيْثُ كَثْرَتُهُمْ لِيَحْتَرِزَ بِهِ عن خَبَرِ قَوْمٍ يَسْتَحِيلُ كَذِبُهُمْ لِسَبَبٍ آخَرَ خَارِجٍ عن الْكَثْرَةِ وَلَهُ شُرُوطٌ منها ما يَرْجِعُ إلَى الْمُخْبِرِينَ وَمِنْهَا ما يَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ التي تَرْجِعُ إلَى الْمُخْبِرِينَ فَاَلَّذِي رَجَعَ إلَى الْمُخْبِرِينَ أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ غير مُجَازِفِينَ فَلَوْ كَانُوا ظَانِّينَ ذلك لم يُفِدْ الْقَطْعَ هَكَذَا شَرَطَهُ جَمَاعَةٌ منهم الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وقال ابن الْحَاجِبِ إنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ عِلْمُ الْجَمِيعِ فَبَاطِلٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ ظَاهِرًا وَمَعَ ذلك يُحَصِّلُ الْعِلْمَ وَإِنْ أُرِيدَ عِلْمُ الْبَعْضِ فَلَازِمٌ من شَرْطِ الْحِسِّ
ثَانِيهَا أَنْ يَعْلَمُوا ذلك عن ضَرُورَةٍ إمَّا بِعِلْمِ الْحِسِّ من مُشَاهَدَةٍ أو سَمَاعٍ وَإِمَّا أَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ لِأَنَّ ما لَا يَكُونُ كَذَلِكَ يُحْتَمَلُ دُخُولُ الْغَلَطِ فيه فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ فَأَمَّا إذَا تَوَاتَرَتْ أَخْبَارُهُمْ عن شَيْءٍ قد عَلِمُوهُ وَاعْتَقَدُوهُ بِالنَّظَرِ أو الِاسْتِدْلَالِ أو عن شُبْهَةٍ فإن ذلك لَا يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مع تَوَاتُرِهِمْ يُخْبِرُونَ الدَّهْرِيَّةَ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَتَوْحِيدِ الصَّانِعِ وَيُخْبِرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا يَقَعُ لهم الْعِلْمُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ من طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ فإن الْمَطْلُوبَ صُدُورٌ عن الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ ثُمَّ قد يَتَرَتَّبُ على الْحَوَاسِّ وَدَرْكِهَا وقد يَحْصُلُ عن قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَلَا أَثَرَ لِلْحِسِّ فيها على الِاخْتِصَاصِ فإن الْحِسَّ لَا يُمَيِّزُ احْمِرَارَ الْخَجَلِ وَالْغَضْبَانِ عن اصْفِرَارِ الْمَحْبُوبِ وَالْمَرْغُوبِ وَإِنَّمَا الْعَقْلُ يُدْرِكُ تَمْيِيزَ هذه الْأَحْوَالِ قال فَالْوَجْهُ اشْتِرَاطُ صُدُورِ الْأَخْبَارِ عن الْبَدِيهَةِ وَالِاضْطِرَارِ هذا كَلَامُهُ وَغَايَتُهُ الْحِسُّ أَيْضًا لِأَنَّ الْقَرَائِنَ الْمُفِيدَةَ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْحِسِّ ثَالِثُهَا أَنْ تَكُونَ مُشَاهَدَةُ الشَّاهِدَيْنِ لِلْمُخْبَرِ عنه حَقِيقَةً وَصَحِيحَةً فَلَا تَكُونُ على سَبِيلِ غَلَطِ الْحِسِّ فَلِذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إخْبَارِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ رَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ بِصِفَةٍ يُوثَقُ مَعَهَا بِقَوْلِهِمْ فَلَوْ أَخْبَرُوا مُتَلَاعِبِينَ أو مُكْرَهِينَ على ذلك الْخَبَرِ لم يُلْتَفَتْ إلَيْهِ خَامِسُهَا أَنْ يَبْلُغَ عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ إلَى مَبْلَغٍ يَمْتَنِعُ عَادَةً تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ وَالْوَقَائِعِ وَالْمُخْبِرِينَ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ بَلْ هذا الْقَدْرُ كَافٍ وَمِنْهُمْ من عَبَّرَ عنه بِأَنْ تَكُونَ شَوَاهِدُ أَحْوَالِهِمْ تَنْفِي عن مِثْلِهِمْ الْمُوَاطَأَةَ وَالْغَلَطَ وَلَا خِلَافَ في هذا وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا هل يُشْتَرَطُ فيه عَدَدٌ مُعَيَّنٌ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ ليس فيه حَصْرٌ وَإِنَّمَا الضَّابِطُ حُصُولُ الْعِلْمِ فَمَتَى أَخْبَرَ هذا الْجَمْعُ وَأَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ وَإِلَّا فَلَا لَكِنْ منهم من قَطَعَ بِهِ في جَانِبِ النَّفْيِ ولم يَقْطَعْ في جَانِبِ الْإِثْبَاتِ فقال بِعَدَمِ إفَادَةِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ له وَتَوَقَّفَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وقال يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ من أَرْبَعَةٍ لِأَنَّهُ لو كان خَبَرُ الْأَرْبَعَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمَا سَأَلَ الْحَاكِمُ عن عَدَالَتِهِمْ إذَا شَهِدُوا عِنْدَهُ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ ذَهَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِأَقَلَّ من خَمْسَةٍ فما زَادَ فَعَلَى هذا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِأَرْبَعَةٍ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ في
الشَّهَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ دُونَ الْعِلْمِ ا هـ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْجُبَّائِيُّ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ عَدَدُ أُولِي الْعَزْمِ وَهُمْ على الْأَشْهَرِ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم وَالْمُشْتَرِطُونَ لِلْعَدَدِ اخْتَلَفُوا وَاضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا كَثِيرًا فَقِيلَ يُشْتَرَطُ عَشَرَةٌ وَنُسِبَ لِلْإِصْطَخْرِيِّ وَاَلَّذِي في الْقَوَاطِعِ عنه لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِأَقَلَّ من عَشَرَةٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِالْعَشَرَةِ فما زَادَ لِأَنَّ ما دُونَهَا جَمْعُ الْآحَادِ فَاخْتَصَّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْعَشَرَةُ فما زَادَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ قال وقال قَوْمٌ من غَيْرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَقَلُّ ما يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ اثْنَا عَشَرَ لِأَنَّهُمْ عَدَدُ النُّقَبَاءِ وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عن غَيْرِهِ اعْتِبَارَ الْعَشَرَةِ بِعَدَدِ بَيْعَةِ أَهْلِ الرِّضْوَانِ وهو وَهْمٌ لِمَا سَيَأْتِي وَقِيلَ عِشْرُونَ أَيْ إذَا كَانُوا عُدُولًا كَذَا قَيَّدَهُ الصَّيْرَفِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ وَنُقِلَ عن أبي الْهُذَيْلِ وَغَيْرِهِ من الْمُعْتَزِلَةِ وَقِيلَ أَرْبَعُونَ وَقِيلَ سَبْعُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا وَقِيلَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَدَدُ أَهْلِ بَدْرٍ وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ وَوَقَعَ في التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي وَالْبُرْهَانِ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِمَا تَقْيِيدُهُمْ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَحَكَى الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ وَغَيْرُهُ ذلك وَقَوْلًا آخَرَ أَنَّهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعَشَرَةُ رِجَالٍ وَالْجَمْعُ بين الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مع النبي في غَزْوَةِ بَدْرٍ لِلْمُقَاتَلَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةُ رِجَالٍ ولم يَحْضُرْ الْغَزْوَةَ ثَمَانِيَةٌ من الْمُؤْمِنِينَ أَدْخَلَهُمْ النبي عليه السَّلَامُ في حُكْمِ عِدَادِ الْحَاضِرِينَ وَأَجْرَى عليهم حُكْمَهُمْ فَكَانَتْ الْجُمْلَةُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ فَاعْرِفْ ذلك وَقِيلَ عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَهُمْ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةٍ قلت وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عن جَابِرٍ أَنَّ عَدَدُهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً وفي رِوَايَةٍ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ ثُمَّ رُوِيَ عن قَتَادَةَ قلت لِسَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ كَمْ كان الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ قال خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً قلت قال جَابِرُ بن عبد اللَّهِ كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً قال رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَمَ هو حدثني أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً قال الْبَيْهَقِيُّ هذه الرِّوَايَةُ تَدُلُّ على أَنَّهُ كان في الْقَدِيمِ يقول خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً ثُمَّ ذَكَرَ الْوَهْمَ وقال أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً
وَقِيلَ لَا بُدَّ من خَبَرِ كل الْأُمَّةِ وهو الْإِجْمَاعُ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن ضِرَارِ بن عَمْرٍو قال طَوَائِفُ من الْفُقَهَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغُوا مَبْلَغًا عَظِيمًا أَيْ لَا يَحْوِيهِمْ بَلَدٌ وَلَا يَحْصُرُهُمْ عَدَدٌ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وهو سَرَفٌ وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ لِتَعَارُضِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَلَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِهَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلَوْ عَنَّ مُرَجِّحٌ فَلَيْسَ ذلك من مَدْلُولِ الْخَبَرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فإن التَّرْجِيحَاتِ ثَمَرَاتُهَا غَلَبَةُ الظُّنُونِ في مُطَّرِدِ الْعَادَةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ أَمْثَلُ الْأَقَاوِيلِ وَالْبَاقِي ليس بِشَيْءٍ أَيْ فَإِنَّهَا تَحَكُّمَاتٌ فَاسِدَةٌ لَا تُنَاسِبُ الْغَرَضَ وَلَا تَدُلُّ عليه وَتَعَارُضُ أَقْوَالِهِمْ دَلِيلٌ على فَسَادِهَا وَأَمَّا اسْتِخْرَاجُ أبي الْهُذَيْلِ من قَوْلِهِ إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ فَمَرْدُودٌ لِأَنَّ هذا مَنْسُوخٌ ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ الْوَاحِدَ يَقُومُ بِإِزَاءِ الِاثْنَيْنِ فَهَذِهِ الْآيَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْلَى لِأَنَّ فَرْضَ الْعِشْرِينَ أَنْ يَقُومُوا لِمِائَتَيْنِ مَنْسُوخٌ وَصَارَ ثُبُوتُ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ فَلَوْ اُحْتُجَّ بها عليه في ثُبُوتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَكَانَ أَقْرَبَ الْأَدِلَّةِ وَبَاقِي الْأَدِلَّةِ لَا تَدُلُّ لِأَنَّهَا أُمُورٌ اتِّفَاقِيَّةٌ فَالْحَقُّ عَدَمُ التَّعْيِينِ مع الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ من عَدَدٍ يَحْصُلُ بِخَبَرِهِمْ الْعِلْمُ وَهَلْ ذلك الْعَدَدُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ في وَاقِعَةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يُفِيدَ في وَاقِعَةٍ أُخْرَى قال الْقَاضِي ذلك مُحَالٌ بَلْ لَا بُدَّ إلَى تَحْصِيلِ ذلك الْعَدَدِ الْعِلْمُ لِكُلِّ من سَمِعَهُ وَمَهْمَا حَصَلَ هذا الْعِلْمُ لِشَخْصٍ فَلَا بُدَّ من حُصُولِهِ لِجَمِيعِ الْأَشْخَاصِ لِتَحَقُّقِ الْمُوجَبِ لِلْعَمَلِ عِنْدَ كل وَاحِدٍ منهم وَهَذَا بَنَاهُ على أَنَّ الْإِخْبَارَ بِمُجَرَّدِهِ يُفِيدُ الْعِلْمَ عَادَةً دُونَ الْقَرَائِنِ وَمَنْعُ إفَادَتِهِ الْعِلْمَ من حَيْثُ انْضِمَامُ الْقَرَائِنِ التي لم يُجْعَل لها أَثَرٌ قال الْغَزَالِيُّ وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ يَجُوزُ أَنْ يُورِثَ الْعِلْمَ وَإِنْ لم تَكُنْ قَرِينَةٌ وَمُجَرَّدُ الْقَرَائِنِ أَيْضًا قد تُورِثُ الْعِلْمَ وَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهَا إخْبَارٌ كَعِلْمِنَا بِخَجَلِ الْخَجِلِ وَوَجِلِ الْوَجِلِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُضَمَّ الْقَرَائِنُ إلَى الْأَخْبَارِ فَيَقُومُ بَعْضُ الْقَرَائِنِ مَقَامَ بَعْضِ الْعَدَدِ فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِمَجْمُوعِهِمَا قال وَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ وَالتَّجْرِبَةُ تَدُلُّ عليه وَتَوَسَّطَ الْهِنْدِيُّ فقال الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ إنْ كان حُصُولُ الْعِلْمِ في الصُّورَةِ التي حَصَلَ الْعِلْمُ فيها بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ من غَيْرِ احْتِفَافِ قَرِينَةٍ بِهِ لَا من جِهَةِ الْمُخْبِرِينَ وَلَا من جِهَةِ السَّامِعِينَ حَالِيَّةً كانت أو مَالِيَّةً كان الْإِطْرَادُ وَاجِبًا وَإِنْ لم يَكُنْ بِمُجَرَّدِهِ بَلْ بِانْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ إلَيْهِ فَلَا يَجِبُ الْإِطْرَادُ
سَادِسُهَا أَنْ يَتَّفِقُوا على الْخَبَرِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنْ اخْتَلَفُوا في الْعِبَارَةِ فَإِنْ اخْتَلَفُوا في الْمَعْنَى بَطَلَ تَوَاتُرُهُمْ وَشَرَطَ ابن عَبْدَانِ في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالشَّرَائِطِ في النَّاقِلِينَ شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَدَالَةُ قال فَلَا يُقْبَلُ التَّوَاتُرُ من الْفُسَّاقِ وَمَنْ ليس بِعَدْلٍ على الصَّحِيحِ من الْمَذْهَبِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قَبِلَهُ وَالثَّانِي الْإِسْلَامُ قال فَالتَّوَاتُرُ من الْكُفَّارِ لَا يَصِحُّ على الصَّحِيحِ من الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا تُقْبَلُ من الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فَالتَّوَاتُرُ الذي يُوجِبُ الْعِلْمَ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ منهم وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال يُقْبَلُ تَوَاتُرُ الْكُفَّارِ ا هـ وَالصَّحِيحُ خِلَافُ ما قال قال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ لَا يُشْتَرَطُ في وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ صِفَاتُ الْمُخْبِرِينَ بَلْ يَقَعُ ذلك بِإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَفَّارِ وَالْعُدُولِ وَالْفُسَّاقِ وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ وَالْكِبَارِ وَالصِّغَارِ إذَا اجْتَمَعَتْ الشُّرُوطُ وَكَذَا قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ ذَهَبَ قَوْمٌ من أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ شَرْطَ التَّوَاتُرِ في الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ منهم مُسْلِمُونَ لِلْعِصْمَةِ وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بين الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ في الْخَبَرِ وَإِنَّمَا غَلِطَتْ هذه الْفِرْقَةُ فَنَقَلَتْ ما طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ إلَى ما طَرِيقُهُ الْخَبَرُ وَصَرَّحَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ ليس بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا رَدَدْنَا خَبَرَ النَّصَارَى بِقَتْلِ عِيسَى لِأَنَّ أَصْلَهُ ليس بِمُتَوَاتِرٍ لِأَنَّهُمْ بَلَّغُوهُ عن خَبَرِ وَلَوْ ما وَمَارِقِينَ ثُمَّ تَوَاتَرَ الْخَبَرُ من بَعْدِهِمْ وَكَذَلِكَ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ نَقَلَتُهُ مُؤْمِنِينَ أو عُدُولًا وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ اشْتَرَطَ الْإِيمَانَ وَالْعَدَالَةَ فيه أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَاعْتُبِرَ في أَهْلِهِ كَوْنَهُمْ من أَهْلِ الشَّرِيعَةِ وقال ابن بُرْهَانٍ لَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُمْ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَجَرَى عليه الْمُتَأَخِّرُونَ من الْأُصُولِيِّينَ وَقَطَعَ بِهِ ابن الصَّبَّاغِ في بَابِ السَّلَمِ من الشَّامِلِ فإن الشَّافِعِيَّ قال في الْمُخْتَصَرِ وَلَوْ وَقَّتَ بِفَصْحِ النَّصَارَى لم يَجُزْ لِأَنَّهُ قد يَكُونُ عَامًا في شَهْرٍ وَعَامًا في غَيْرِهِ على حِسَابٍ يَنْسَئُونَ فيه أَيَّامًا فَلَوْ اخْتَرْنَاهُ كنا قد عَمِلْنَا في ذلك بِشَهَادَةِ النَّصَارَى وَهَذَا غَيْرُ حَلَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ قال ابن الصَّبَّاغِ هذا ما لم يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ فَإِنْ بَلَغُوهُ بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ فإنه يَكْفِي لِحُصُولِ الْعِلْمِ وَمِنْهُمْ من حَكَى فيه قَوْلًا ثَالِثًا وهو التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ فَيُعْتَبَرُ
الْإِسْلَامُ لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ وَإِلَّا فَلَا يُعْتَبَرُ حَكَاهُ الشَّيْخُ في التَّبْصِرَةِ وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ بين ما طَرِيقُهُ الدَّيَّانَاتُ فَلَا مَدْخَلَ لهم فيه وما طَرِيقُهُ الْأَقَالِيمُ وَشَبَهُهَا فَهَلْ لهم مَدْخَلٌ بِالتَّوَاتُرِ فيه هو مَحَلُّ الْخِلَافِ وقد سَبَقَ عن الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ في التَّوَاتُرِ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ وَجَزَمَ الرُّويَانِيُّ بِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تُشْتَرَطُ وَذَكَرَ وَجْهَيْنِ في انْفِرَادِ الصِّبْيَانِ بِهِ مع شَوَاهِدِ الْحَالِ بِانْتِفَاءِ الْمُوَاطَأَةِ فَتَحَصَّلْنَا على وُجُوهٍ وَلَا يُعْتَبَرُ في الْمُخْبِرِينَ أَنْ لَا يَحْصُرَهُمْ عَدَدٌ وَلَا يَحْوِيَهُمْ بَلَدٌ خِلَافًا لِقَوْمٍ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَامِعِ لو أَخْبَرُوا عن سُقُوطِ الْمُؤَذِّنِ عن الْمَنَارَةِ فِيمَا بين الْخَلْقِ لَأَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُخْتَلِفِي الْأَدْيَانِ وَالْأَنْسَابِ وَالْأَوْطَانِ خِلَافًا لِلْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ لَا يَكُونَ نَسَبُهُمْ وَاحِدًا وَأَنْ لَا يَكُونَ سَكَنُهُمْ وَاحِدًا وَالدَّلِيلُ على فَسَادِ ذلك أَنَّ قَبِيلَةً من الْقَبَائِلِ الْمُتَّفِقَةِ أَدْيَانُهُمْ وَأَنْسَابُهُمْ لو أَخْبَرُوا بِوَاقِعَةٍ في نَاحِيَتِهِمْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ضَرُورَةً وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ وَلِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ وَاعْلَمْ أَنَّ هذه الشُّرُوطَ لَا بُدَّ منها سَوَاءٌ أَخْبَرَ الْمُخْبِرُونَ عن مُشَاهَدَةٍ أو لَا عن مُشَاهَدَةٍ بَلْ عن سَمَاعٍ من آخَرِينَ فَأَمَّا إذَا حَصَلَ الْوَسَائِطُ فَيُعْتَبَرُ شَرْطٌ آخَرُ وهو وُجُودُ الشُّرُوطِ في كل الطَّبَقَاتِ وهو مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا بُدَّ من اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ فَيَرْوِي الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ بِالصِّفَةِ السَّابِقَةِ عن مِثْلِهِ إلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِالْمُخْبَرِ عنه أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُ من نَقَلَ عن الْأَوَّلِينَ كَحَالِ الْأَوَّلِينَ فِيمَا عَلِمُوهُ ضَرُورَةً وَكَذَلِكَ النَّقَلَةُ في الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ الثَّالِثَةِ ثُمَّ الرَّابِعَةِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَيْنَا وَلِهَذَا لم يَصِحَّ ما نَقَلَهُ النَّصَارَى عن صَلْبِ عِيسَى عليه السَّلَامُ لِأَنَّهُمْ نَقَلُوهُ عن عَدَدٍ لَا تَقُومُ بِهِمْ الْحُجَّةُ ابْتِدَاءً وَكَذَا ما نَقَلَتْهُ الرَّوَافِضُ من النَّصِّ على إمَامَةِ عَلِيٍّ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّوَاتُرَ يَنْقَلِبُ آحَادًا وَرُبَّمَا انْدَرَسَ دَهْرًا فَالْمُتَوَاتِرُ من أَخْبَارِ النبي عليه السَّلَامُ ما اطَّرَدَتْ الشَّرَائِطُ فيه عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ حتى انْتَهَى إلَيْنَا وَهَذَا لَا خَفَاءَ فيه قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلَكِنَّهُ ليس من شَرْطِهِ التَّوَاتُرُ قال بَلْ حَاصِلُهُ أَنَّ التَّوَاتُرَ قد يَنْقَلِبُ آحَادًا وَلَيْسَ من شَرَائِطِ وُقُوعِ التَّوَاتُرِ فَلَا يَصِحُّ تَعْبِيرُهُمْ بِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ وَخَالَفَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وقال ما هو من شُرُوطِهِ لَا من شَرْطِ حُصُولِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ قد يَحْصُلُ من غَيْرِ تَوَاتُرٍ وقد يَنْبَنِي على التَّوَاتُرِ
شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ التي تَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ وَأَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ فَأُمُورٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ له من أَهْلِ الْعِلْمِ إذْ يَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْعِلْمِ من غَيْرِ مُتَأَهِّلٍ له فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ مَجْنُونًا وَلَا غَافِلًا ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ غير عَالِمٍ بِمَدْلُولِهِ ضَرُورَةً وَإِلَّا يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ فَلَوْ أَخْبَرُوا بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ لم يُفِدْ عِلْمًا قال ابن الْحَاجِبِ وَهَذَا إنَّمَا نَشْرُطُهُ على الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعِلْمَ غَيْرُ نَظَرِيٍّ فَإِنْ قُلْنَا ضَرُورِيٌّ فَلَا يُشْتَرَطُ وَنَازَعَ الْجَزَرِيُّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ في تَمْثِيلِهِ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ وقال ليس هذا من بَابِ ما ثَبَتَ بِالْخَبَرِ وهو عَجِيبٌ فإن مَقْصُودَ الْإِمَامِ أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَهُ السَّامِعُ صَارَ مَعْلُومًا له بِالضَّرُورَةِ بِإِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ كَإِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ وهو مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُنْفَكًّا عن اعْتِقَادِ ما يُخَالِفُ الْخَبَرَ إذَنْ لِشُبْهَةِ دَلِيلٍ أو تَقْلِيدِ إمَامٍ ذَكَرَهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَأَمَّا إذَا كان عِنْدَهُ شُبْهَةٌ مُشْكِلَةٌ في صِدْقِ الْخَبَرِ لم يُفِدْ الْعِلْمَ وَمُرَادُ الشَّرِيفِ بِذَلِكَ إثْبَاتُ إمَامَةِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه بِالتَّوَاتُرِ وَإِنَّمَا لم يَحْصُلْ الْعِلْمُ لنا لِاعْتِقَادِ مُتَابِعِي النَّصِّ لِأَجْلِ الشُّبَهِ الْمَانِعَةِ لنا عنه وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَقْوَى على دَفْعِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَبَنَاهُ على أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ عَقِبَ التَّوَاتُرِ بِالْعَادَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّوَلُّدِ فَجَازَ إخْلَافُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ السَّامِعِينَ فَيَحْصُلُ لِلسَّامِعِ إذَا لم يَكُنْ قد اعْتَقَدَ نَقِيضَ ذلك الْحُكْمِ قبل ذلك وَلَا يَحْصُلُ له إذَا اعْتَقَدَ نَقِيضَهُ قال الْقُرْطُبِيُّ وهو بَاطِلُ بِآيَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ فإنه قد اسْتَوَى في الْعِلْمِ بِتَوَاتُرِهَا من اعْتَقَدَ ظَاهِرَهَا وَمَنْ لم يَعْتَقِدْ وقال الْهِنْدِيُّ هذا وَإِنْ بَنَاهُ على أَصْلِهِ الْفَاسِدِ وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ وَقِيلَ يَلْزَمُ عليه أَنْ يُجَوَّزَ صِدْقُ من أخبرنا بِأَنَّهُ لم يَعْلَمْ وُجُودَ الْكِبَارِ وَالْحَوَادِثَ الْعَظِيمَةَ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ اعْتَقَدَهَا في نَفْيِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وهو بَاطِلٌ
ثُمَّ فيه مَسَائِلُ الْأَوَّلُ أَنَّ التَّوَاتُرَ يَدُلُّ على الصِّدْقِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَزَعَمَ النَّظَّامُ وَأَتْبَاعُهُ من الْقَدَرِيَّةِ أَنَّهُ قد يَكُونُ كَذِبًا وَأَنَّ الْحُجَّةَ فِيمَا غَابَ عن الْحَوَاسِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْخَبَرِ الذي يَضْطَرُّ سَامِعُهُ إلَى أَنَّهُ صِدْقٌ سَوَاءٌ أَخْبَرَ بِهِ جَمْعٌ أو وَاحِدٌ وَأَجَازَ إجْمَاعُ أَهْلِ التَّوَاتُرِ على الْكَذِبِ وَأَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ وَاقِعًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وهو بَاطِلٌ الثَّانِيَةُ الْجُمْهُورُ على أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ سَوَاءٌ كان عن أَمْرٍ مَوْجُودٍ في زَمَانِنَا كَالْإِخْبَارِ عن الْبُلْدَانِ الْبَعِيدَةِ وَالْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ كَوُجُودِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَتْ السُّمَنِيَّةُ وَالْبَرَاهِمَةُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بَلْ الظَّنَّ وَجَوَّزَ الْبُوَيْطِيُّ فيه وَفَصَّلَ آخَرُونَ فَقَالُوا إنْ كان خَبَرًا عن مَوْجُودٍ أَفَادَ الْعِلْمَ أو عن مَاضٍ فَلَا يُفِيدُهُ لنا أَنَّا بِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ وُجُودَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ كَبَغْدَادَ وَالْأَشْخَاصَ الْمَاضِيَةَ كَالشَّافِعِيِّ فَصَارَ وُرُودُهُ كَالْعِيَانِ في وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ اضْطِرَارًا وقد قال الطُّفَيْلُ الْغَنَوِيُّ مع أَعْرَابِيَّتِهِ في وُقُوعِ الْعِلْمِ بِاسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ ما دَلَّتْ عليه الْفِطْرَةُ وَقَادَ إلَيْهِ الطَّبْعُ فقال تَأَوَّبَنِي هَمٌّ من اللَّيْلِ مُنْصِبٌ وَجَاءَ من الْأَخْبَارِ ما لَا يُكَذَّبُ تَظَاهَرْنَ حتى لم يَكُنْ لي رِيبَةٌ ولم يَكُ عَمَّا أَخْبَرُوا مُتَعَقَّبُ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وما نُقِلَ عن السُّمَنِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ مَحْمُولٌ على أَنَّ الْعَدَدَ وَإِنْ كَثُرَ فَلَا اكْتِفَاءَ بِهِ حتى يَنْضَمَّ إلَيْهِ ما يَجْرِي مَجْرَى الْقَرِينَةِ من انْتِفَاءِ الْحَالَاتِ الْمَانِعَةِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ وُقُوعَ الْعِلْمِ على الْجُمْلَةِ لَكِنَّهُمْ لم يُضِيفُوا وُقُوعَهُ إلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ بَلْ إلَى قَرِينَةٍ وَوُقُوعُ الْعِلْمِ عن الْقَرَائِنِ لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ وقال أبو الْوَلِيدِ بن رُشْدٍ في مُخْتَصَرِ الْمُسْتَصْفَى لم يَقَعْ خِلَافٌ في أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْيَقِينَ إلَّا مِمَّنْ لَا يُؤْبَهُ بِهِ وَهُمْ السُّوفِسْطَائِيَّة وَجَاحِدُ ذلك يَحْتَاجُ إلَى عُقُوبَةٍ لِأَنَّهُ كَاذِبٌ بِلِسَانِهِ على ما في نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في جِهَةِ وُقُوعِ الْيَقِينِ عنه فَقَوْمٌ رَأَوْهُ بِالذَّاتِ وَقَوْمٌ رَأَوْهُ بِالْعَرَضِ وَقَوْمٌ مُكْتَسَبًا تَنْبِيهٌ ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا في الْفُرُوعِ جَرَيَانُ خِلَافٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ فإن بَيْعَ الْغَائِبِ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ فَلَوْ كان الْبَيْعُ مُنْضَبِطًا بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ فَفِي الْبَحْرِ قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا
بِخُرَاسَانَ فيه طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُطْلَقًا كَالْمَرْئِيِّ وَقِيلَ فيه قَوْلَانِ الثالثة أن هذا العلم ضروري لا نظري ولا حاجة معه إلى كسب كما نقله القاضي في التقريب عن الكل من الفقهاء والمتكلمين وبه قال ابن عبدان في شرائط الأحكام وابن الصباغ وقال ابن فورك إنه الصحيح وقال أبو الطيب إنه الصحيح المشهور وقال سليم إنه قول الكافة إلا البلخي واختاره الإمام الرازي وأتباعه وابن الحاجب وقال صاحب الواضح إنه قول عامة متكلمينا ونقله في المعتمد عن الجبائي وأبي هاشم وذهب الكعبي إلى أنه مستثنى مفتقر إلى تقدم استدلال ويثمر علما نظريا كغيره من العلوم النظرية ووافقه أبو الحسين البصري وابن القطان كما رأيته في كتابه ونقله القاضي أبو الطيب عن الدقاق ونقله الإمام فخر الدين عن الغزالي والذي في المستصفى أنه ضروري بمعنى أنه لا يحتاج إلى حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن وليس ضروريا بمعنى أنه حاصل من غير واسطة كقولنا القديم لا يكون محدثا والموجود لا يكون معدوما فإنه لا بد فيه من حصول مقدمتين في النفس عدم اجتماع هذا الجمع على الكذب واتفاقهم على الإخبار عن هذه الواقعة وهذا الذي ذكره الغزالي يقرب منه قول إمام الحرمين إنه قد كثر الطاعن على قول الكعبي إنه نظري والذي أراه تنزيل مذهبه عند كثرة المخبرين على النظر في ثبوت أمارات جامعة وانتفائها فلم يعن الرجل نظرا عقليا وفكرا سبريا على مقدمات ونتائج فليس ما ذكره إلا الحق وتبعه ابن القشيري وإذا تبين توارد إمام الحرمين وتلميذه على ذلك وتنزيل مذهب الكعبي عليه لم يبق خلاف وقال إلكيا ما ذكره الكعبي يرجع إلى سبب العلم يعني أن العلم لم يحصل وليس الخلاف في هذا إنما الخلاف في أن الخبر إذا حصل بشرائطه هل يوجب العلم من غير نظر واعلم أن الكعبي لا يجوز أن يخالف في هذا فإنا نرى العلم يحصل للنساء والصبيان من غير نظر وإلا فالكعبي لا ينكر المحسوس ويقول لم أعلم البلاد الغائبة إلا بالنظر وما كان ضروريا يعلم ضرورة لأنه لا يربط النظر قال وقاضينا أبو بكر يقول أعلم أن العلم ضرورة وأعلم بالنظر أنه ضروري فجعل العلم به بالنظر يدرك
والمعلوم الثاني وهو صدق المخبرين مدركا بالنظر ووجه النظر تيسير مدارك البحث الذي يظن المخالف أنه يتطرق منه إلى العلم وإذن بطل تعين كونه مدركا بالضرورة وهذا بعيد فإنه يلزم مثله في العلم باستحالة اجتماع الضدين فبطل ما رآه القاضي وصح ما قلناه من أن الكعبي إنما ادعى النظر في السبب الأول لا في العلم بصدق المخبرين ا هـ ويدل له أن ابن القطان احتج على أنه ليس ضروريا بأن العلم به لا يزيد المعجزة ونحن لم نعلمها إلا بالاستدلال فكذا الخبر وفي المسألة مذهب ثالث وهو أنه بين المكتسب والضروري وهو أقوى من المكتسب وليس في قوة الضروري قاله صاحب الكبريت الأحمر ورابع وهو الوقف ذهب إليه الشريف المرتضى وقال صاحب المصادر إنه الصحيح واختاره الآمدي وإذا قلنا بأنه نظري فهو بطريق التوليد عند القائلين به وإلا ففيه خلاف عندهم لترتبه على فعل اختياري ووجه الآخر القياس على سائر الضروريات الرَّابِعَةُ إذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الْعِلْمِ عنه وَأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ فَاخْتَلَفُوا إلَى مَاذَا يَسْتَنِدُ فَالْجُمْهُورُ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِاسْتِنَادِهِ إلَى الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَأَنْكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هذا وَرَأَى أَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى الْقَرَائِنِ وَمِنْهَا كَثْرَةُ الْعَدَدِ الذي لَا يُمْكِنُ معه التَّوَاطُؤُ على الْكَذِبِ وَطَرْدُ أَصْلِهِ هذا في خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا احْتَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ وقال إنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ الْخَامِسَةُ أَنَّ هذا الْعِلْمَ عَادِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ الْكَذِبَ على كل عَدَدٍ وَإِنْ عَظُمَ وَإِنَّمَا هذه الِاسْتِحَالَةُ عَادِيَةٌ السَّادِسَةُ قال ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ غير شُذُوذٍ على أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُوَلِّدُ الْعِلْمَ لنا أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَمُمْكِنٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٍ ليس إلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ الْقَوْلُ في أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَقَعُ مُبْتَدَأً من فِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ غير مُتَوَلِّدٍ عن الْخَبَرِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوَلُّدِ بَاطِلٌ في أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِ خَلْقِهِ على ما بَيَّنَّاهُ في أُصُولِ الدِّيَانَاتِ السَّابِعَةُ إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يَجُوزُ عليهم التَّوَاطُؤُ على الْكَذِبِ ولم يَكْذِبُوهُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لو كان كَذِبًا لَعَلِمُوهُ وَلَا حَامِلَ لهم على سُكُوتِهِمْ
كَالْخَوْفِ وَالطَّمَعِ يَدُلُّ على صِدْقِهِ قَطْعًا قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وابن الصَّبَّاغِ وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ قال الْأُسْتَاذُ وَبِهَذَا النَّوْعِ أَثْبَتْنَا كَثِيرًا من مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ قال ابن الصَّبَّاغِ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ نَظَرِيٌّ بِخِلَافِ الْمُتَوَاتِرِ فإنه ضَرُورِيٌّ وَقِيلَ ليس صِدْقُهُ قَطْعِيًّا وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لهم اطِّلَاعٌ على كَذِبِهِ أو صِدْقِهِ أو اطَّلَعَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَالْعَادَةُ لَا تُحِيلُ سُكُوتَ هذا الْبَعْضِ وَبِتَقْدِيرِ اطِّلَاعِ الْكُلِّ يُحْتَمَلُ أَنَّ مَانِعًا مَنَعَهُمْ من التَّصَرُّفِ بِتَكْذِيبِهِ وَمَعَ هذه الِاحْتِمَالَاتِ يَمْتَنِعُ الْقَطْعُ بِتَصْدِيقِهِ وَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ عِنْدَ انْتِفَائِهَا كما نَبَّهَ عليه ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ سُكُوتُهُمْ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِمْ صَدَقْت وَفَصَّلَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وابن الْقُشَيْرِيّ فَقَالَا إنْ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ دَلَّ على الصِّدْقِ وَإِنْ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ نَظَرِيٍّ فَسَكَتُوا لم يَكُنْ سُكُوتُهُمْ بِمَثَابَةِ تَصْرِيحِهِمْ بِالْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ وَفَصَّلَ ابن السَّمْعَانِيِّ بين أَنْ يَتَمَادَى على ذلك الزَّمَنَ الطَّوِيلَ وَلَا يَظْهَرُ منهم مُنْكِرٌ فَيَدُلُّ على الصِّدْقِ وَإِلَّا فَلَا قال وَأَلْحَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُضَافًا إلَى حَالٍ قد شَاهَدَهَا كَثِيرٌ من الناس ثُمَّ يَرْوِيهِ وَاحِدٌ وَاثْنَانِ وَيَسْمَعُ بِرِوَايَاتِهِ سَائِرُ من شَهِدَ الْحَالَ فَلَا يُكْرَهُ فَيَدُلُّ تَرْكُ إنْكَارِهِمْ له على صِدْقِهِ لِأَنَّهُ ليس في جَارِي الْعَادَةِ إمْسَاكُهُمْ جميعا عن رَدِّ الْكَذِبِ وَتَرْكِ الْإِنْكَارِ وقال وَعَلَى هذا وَرَدَتْ أَكْثَرُ سِيَرِ النبي عليه السَّلَامُ وَأَكْثَرُ أَحْوَالِهِ في مَغَازِيهِ قال وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ جِدًّا الثَّامِنَةُ إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَتِهِ عليه السَّلَامُ وَلَا حَامِلَ له على الْكَذِبِ ولم يُنْكِرْهُ فَيَدُلُّ على صِدْقِهِ قَطْعًا في الْمُخْتَارِ خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَمِمَّنْ جَزَمَ بِالْأَوَّلِ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وابن السَّمْعَانِيِّ لَكِنَّ شَرْطًا أَنْ يَدَّعِيَ عِلْمَ النبي عليه السَّلَامُ بِهِ وَلَا يُكَذِّبَهُ وَقِيلَ إنْ كان عن أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لم يَدُلَّ على صِدْقِهِ أو دِينِيٍّ دَلَّ وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيُّ بِشُرُوطِ التَّقْرِيرِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ فإنه قال إذَا أَخْبَرَ الْمُخْبِرُ بين يَدَيْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَتَقْرِيرُ الرَّسُولِ على إخْبَارِهِ وَلَا يُنْكِرُهُ عليه مع دَلَالَةِ الْحَالِ على انْتِفَاءِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ عنه عليه السَّلَامُ يَدُلُّ على صِدْقِهِ قَطْعًا
وَالْحَقُّ أَنَّ هذا الْخَبَرَ إنْ كان عن أَمْرٍ دِينِيٍّ فَإِنَّمَا يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ بِشُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْعَمَلِ بِهِ قد دخل وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ يُحْتَمَلُ لِأَنَّ له تَأْخِيرَ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ ثَانِيهَا أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتُ النبي عليه السَّلَامُ قد تَقَدَّمَهُ بَيَانُ حُكْمِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فإنه لَا يَجِبُ عليه تَكْرِيرُ الْبَيَانِ كُلَّ وَقْتٍ فَلَعَلَّهُ حِينَئِذٍ إنَّمَا تَرَكَ الْإِنْكَارَ لِاعْتِمَادِهِ على ما تَقَدَّمَ من الْبَيَانِ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ ما أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرَعَ فَلَوْ قال قَائِلٌ أَوْجَبَ اللَّهُ على الناس الطَّيَرَانَ أو تَرْكَ التَّنَفُّسِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ عن الْإِنْكَارِ لِعِلْمِهِ أَنَّ مِثْلَ هذا الْقَوْلِ مِمَّا لَا يُصْغَى إلَيْهِ وَإِنْ كان عن أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ فَقَدْ قِيلَ أَيْضًا إنَّهُ يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ إذَا عُلِمَ عِلْمُ الرَّسُولِ بِالْوَاقِعَةِ وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ وَقَالُوا الرَّسُولُ لَا يَلْزَمُهُ تَبْيِينُ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِنْكَارُ على الْكَاذِبِ إذَا لم يَحْلِفْ تَنْبِيهٌ الْعِلْمُ في هذا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ نَظَرِيٌّ لِوُقُوعِهِ عن النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ التَّاسِعَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا صَارَ إلَى التَّوَاتُرِ في الْعَصْرِ الثَّانِي أو الثَّالِثِ أو الرَّابِعِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَخَالَفَ أَهْلُ الْبِدَعِ وَمِثْلُهُ بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ في الرُّؤْيَةِ وَالْقَدَرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْحَوْضِ وَالْمِيزَانِ وَالشَّفَاعَةِ وَخَبَرِ الرَّجْمِ وَالْمَسْحِ على الْخُفِّ وَنَحْوِهِ الْعَاشِرَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالطَّائِفَةِ الْمَحْصُورَةِ إذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ على قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَإِجْمَاعِهِمْ على الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ في مِيرَاثِ الْجَدَّةِ وفي إنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وفي أَنَّهُ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا يَدُلُّ على الصِّدْقِ قَطْعًا عِنْدَ الْأُسْتَاذَيْنِ أبي إِسْحَاقَ وَتِلْمِيذِهِ أبي مَنْصُورٍ وَالْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٍ الرَّازِيَّ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ عن الْأُصُولِيِّينَ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عن الْأَكْثَرِينَ وَنُقِلَ عن الْكَرْخِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ
وقال الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ في كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ إنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ على إثْبَاتِهِ وَأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَمَثَّلَهُ بِخَبَرِ في خَمْسِ أَوَاقٍ وَخَمْسِ ذَوْدٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا وَأَرْبَعِينَ من الْغَنَمِ الزَّكَاةُ قال كما أنها إذَا أَجْمَعَتْ على تَرْكِ الْخَبَرِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ دَلَّ على خِلَافِهِ وَذَهَبَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على الْقَطْعِ بِصِدْقِهِ وَإِنْ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ قَوْلًا وَنُطْقًا وَقُصَارَاهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ فإن تَصْحِيحَ الْأُمَّةِ لِلْخَبَرِ يَجْرِي على حُكْمِ الظَّاهِرِ فإذا اسْتَجْمَعَ شُرُوطَ الصِّحَّةِ أَطْلَقَ عليه الْمُحَدِّثُونَ الصِّحَّةَ فَلَا وَجْهَ لِلْقَطْعِ وَالْحَالَةُ هذه وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ بين أَنْ يَتَّفِقُوا على الْعَمَلِ بِهِ فَلَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَحُمِلَ الْأَمْرُ على اعْتِقَادِهِمْ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ قَوْلًا وَنُطْقًا حُكِمَ بِصِدْقِهِ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن ابْنِ فُورَكٍ وقال الْمَازِرِيُّ الْإِنْصَافُ التَّفْصِيلُ فَإِنْ لَاحَ من سَائِرِ الْعُلَمَاءِ مَخَايِلُ الْقَطْعِ وَالتَّصْمِيمِ وَأَنَّهُمْ أَسْنَدُوا التَّصْدِيقَ إلَى يَقِينٍ فَلَا وَجْهَ لِلتَّشْكِيكِ وَيُحْمَلُ على أَنَّهُمْ عَلِمُوا صِحَّةَ الحديث من طُرُقٍ خَفِيَتْ عَلَيْنَا إمَّا بِأَخْبَارٍ نُقِلَتْ مُتَوَاتِرَةً ثُمَّ انْدَرَسَتْ أو بِغَيْرِهَا وَإِنْ لَاحَ منهم التَّصْدِيقُ مُسْتَنِدًا إلَى تَحْسِينِ الظَّنِّ بِالْعُدُولِ بِالْبِدَارِ إلَى الْقَبُولِ فَلَا وَجْهَ لِلْقَطْعِ ا هـ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ على الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَجْلِهِ فَهَذَا هو الْمُسَمَّى مَشْهُورًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وهو الذي يَكُونُ وَسَطُهُ وَآخِرُهُ على حَدِّ التَّوَاتُرِ وَأَوَّلُهُ مَنْقُولٌ عن الْوَاحِدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذلك لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ضَرُورَةً فإنه لو أَوْجَبَهُ ثَبَتَتْ حُجَّةُ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمَجُوس في أَشْيَاءَ نَقَلُوهَا عن أَسْلَافِهِمْ وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ وقد قال أبو هَاشِمٍ في مِثْلِ ذلك إنَّ تَوَافُقَ الْأُمَّةِ على الْعَمَلِ بِهِ يَدُلُّ على أَنَّ الْحُجَّةَ قد قَامَتْ بِهِ في الْأَصْلِ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ فِيمَا قَبِلُوهُ من الْأَخْبَارِ قد جَرَتْ بِأَنَّ ما لم تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ لَا يُطْبِقُونَ على قَبُولِهِ فلما أَطْبَقُوا على قَبُولِهِ فَقَدْ عَظَّمُوا النَّكِيرَ على من خَالَفَهُمْ وَمِنْهُ أَخْبَارُ أُصُولِ الزَّكَاةِ وَالْعِبَادَاتِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لم تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ من الْأَخْبَارِ كَرِوَايَةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَرِوَايَاتِ أبي هُرَيْرَةَ قال وَبِمِثْلِهِ احْتَجَجْنَا بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ على صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كانت أَخْبَارَ آحَادٍ وَلَكِنْ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَمَنَعَتْ بِسَبَبِهَا مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ وَشَدَّدَتْ النَّكِيرَ على الْمُخَالِفِ
فَإِنْ قِيلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ وَلَا يَتَّفِقُ جَمْعٌ لَا يُحْصَوْنَ على الظَّنِّ كما لَا يَتَّفِقُونَ على الْقِيَاسِ قِيلَ الصَّحِيحُ جَوَازُ اسْتِنَادِ الْإِجْمَاعِ إلَى الْقِيَاسِ وَنَقَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّهُ قال لَا تُتَصَوَّرُ هذه الْمَسْأَلَةُ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا لم يُوجِبْ الْعِلْمَ فَلَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ على انْقِطَاعِ الِاحْتِمَالِ حَيْثُ لَا يَنْقَطِعُ وَاخْتَارَ ذلك ابن بَرْهَانٍ فقال عَدَدُ التَّوَاتُرِ إذَا أَجْمَعُوا على الْعَمَلِ عن الْوَاحِدِ لم يَصِرْ مُتَوَاتِرًا وَهَلْ يُفِيدُ الْقَطْعَ أَمْ لَا قال وَلَا يُتَصَوَّرُ هذا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَظْنُونٌ وَالظَّنِّيُّ لَا يَنْقَلِبُ قَطْعِيًّا وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّ تَلَقِّيَ الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ لَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِالصِّدْقِ لِلِاحْتِمَالِ ثُمَّ قال ثُمَّ قِيلَ لِلْقَاضِي لو دَفَعُوا هذا الظَّنَّ وَبَاحُوا بِالصِّدْقِ فقال مُجِيبًا لَا يُتَصَوَّرُ هذا فَإِنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ وَلَوْ نَطَقُوا لَكَانُوا مُجَازِفِينَ وَأَهْلُ الْإِجْمَاعِ لَا يُجْمِعُونَ على بَاطِلٍ قال أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وقد حُكِيَتْ عن الْقَاضِي أَنَّهُ بَيَّنَ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا أَجْمَعَتْ أو أَجْمَعَ أَقْوَامٌ لَا يَجُوزُ عليهم التَّوَاطُؤُ على الْكَذِبِ من غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ فِيهِمْ التَّوَاطُؤُ على أَنَّ هذا الْخَبَرَ صِدْقٌ كان ذلك دَلِيلًا على الصِّدْقِ قال فَهَذَا عَكْسُ ما حَكَاهُ الْإِمَامُ عنه وَقَوْلُهُ إنَّهُمْ لو نَطَقُوا بهذا عن أَمْرٍ عَلِمُوهُ ذلك كَلَامٌ لَا يَسْتَنِدُ لِأَنَّا لَا نُطَالِبُ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ بِمُسْتَنِدِ إجْمَاعِهِمْ وقال وَلَعَلَّ ما حَكَاهُ الْإِمَامُ فِيمَا إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَلَكِنْ لم يَحْصُلْ إجْمَاعٌ على تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ ا هـ وهو بَعِيدٌ وَكَلَامُ الْإِمَامِ يَأْبَاهُ وَجَزَمَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ بِصِحَّةِ ما إذَا تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ قال وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا أَجْمَعَتْ على الْعَمَلِ بِمُوجَبِ الْخَبَرِ لِأَجْلِهِ هل يَدُلُّ ذلك على صِحَّتِهِ أَمْ لَا على قَوْلَيْنِ قال وَكَذَلِكَ إذَا عَمِلَ بِمُوجَبِهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَأَنْكَرُوا على من عَدَلَ عنه فَهَلْ يَدُلُّ على صِحَّتِهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ كَحَدِيثِ أبي سَعِيدٍ وَعُبَادَةَ في الرِّبَا وَتَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِذَلِكَ وَذَهَبَ عِيسَى بن أَبَانَ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ على حُجِّيَّتِهِ قال فَهَذَا فَرْعُ الْكَلَامِ في خِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ هل يَكُونُ خِلَافًا مُعْتَدًّا بِهِ وَالصَّحِيحُ الِاعْتِدَادُ بِهِ وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ مع هذا أَنْ لَا يَدُلَّ على صِحَّةِ الْخَبَرِ ا هـ وقال ابن الصَّلَاحِ إنَّ جَمِيعَ ما اتَّفَقَ عليه الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ
لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا على صِحَّةِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ ليس كَذَلِكَ إذْ الِاتِّفَاقُ إنَّمَا وَقَعَ على جَوَازِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِمَا وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ ما فِيهِمَا مَظْنُونُ الصِّحَّةِ فإن اللَّهَ تَعَالَى لم يُكَلِّفْنَا الْقَطْعَ وَلِذَلِكَ يَجِبُ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْبَيِّنَةِ وَإِنْ لم تُفِدْ إلَّا الظَّنَّ مَسْأَلَةٌ إجْمَاعُهُمْ على الْعَمَلِ على وَفْقِ الْخَبَرِ لَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْخَبَرِ أَمَّا إجْمَاعُهُمْ على الْعَمَلِ على وَفْقِ الْخَبَرِ فَلَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ فَضْلًا عن الْقَطْعِ بِهِ فَقَدْ يَعْمَلُونَ على وَفْقِهِ بِغَيْرِهِ جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ في كِتَابِ الْقَضَاءِ وفي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ سَيَأْتِي في بَابِ الْإِجْمَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَمَّا إذَا افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ شَطْرَيْنِ شَطْرٌ قَبِلُوهُ وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهُ وَالشَّطْرُ الْآخَرُ اشْتَغَلَ بِتَأْوِيلِهِ فَلَا يَدُلُّ على صِحَّتِهِ على وَجْهِ الْقَطْعِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كما قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وقال إنَّهُ الْحَقُّ وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ في اللُّمَعِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ فإنه قال خَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ سَوَاءٌ عَمِلَ الْكُلُّ بِهِ أو الْبَعْضُ وَتَأَوَّلَهُ الْبَعْضُ ا هـ وَتَبِعَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْمَحْفُوفُ بِالْقَرَائِنِ ذَهَبَ النَّظَّامُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ وهو الْمُخْتَارُ وَيَكُونُ الْعَمَلُ نَاشِئًا عن الْمَجْمُوعِ من الْقَرِينَةِ وَالْخَبَرِ وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ يَنْقَسِمُ التَّوَاتُرُ بِاعْتِبَارَاتٍ أَحَدُهَا إلَى ما يَتَوَاتَرُ عِنْدَ الْكَافَّةِ وَإِلَى ما يَتَوَاتَرُ عِنْدَ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ كَمَسْأَلَةِ عَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ فَإِنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ دُونَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَوَّلُ مُنْكِرُهُ مُعَانِدٌ كَافِرٌ كَمُنْكِرِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ السُّنَّةِ إذْ جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ أَهْلُ الحديث دُونَ غَيْرِهِمْ فَإِنْ قِيلَ فما قَوْلُك في الْبَسْمَلَةِ إذَا ادَّعَيْتُمْ التَّوَاتُرَ بِكَوْنِهَا من الْفَاتِحَةِ وَخَالَفَكُمْ فيه الْأَئِمَّةُ قُلْنَا لم يَقَعْ النِّزَاعُ في كَوْنِهَا آيَةً من كِتَابِ اللَّهِ لِيَكُونَ جَاحِدُهَا كَافِرًا وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ في تَعَدُّدِ الْمَوْضِعِ وَاتِّحَادِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ على تَوَاتُرِ أَصْلِهَا من الْقُرْآنِ قَالَهُ أبو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحُ وهو أَحْسَنُ من جَوَابِ ابْنِ الْحَاجِبِ بِقُوَّةِ الشُّبْهَةِ
ثَانِيهَا التَّوَاتُرُ قد يَكُونُ لَفْظِيًّا وقد يَكُونُ مَعْنَوِيًّا وهو أَنْ يَجْتَمِعَ من سَبَقَ ذِكْرُهُمْ على أَخْبَارٍ تَرْجِعُ إلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وُجُودِ حَاتِمٍ قالوا وَمُعْجِزَاتُ النبي تَثْبُتُ بهذا النَّوْعِ وهو دُونَ التَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ في طَرِيقِ النَّقْلِ قال أبو نَصْرِ بن الصَّبَّاغِ في كِتَابِ الطَّرِيقِ السَّالِمِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَنْقُولِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ مُتَقَوَّلًا أَلَا تَرَى أَنَّ من قال إنَّ الْآحَادَ كُلَّهَا الْمَرْوِيَّةَ عنه عليه السَّلَامُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ حَكَمَتْ الْعُقُولُ بِكَذِبِهِ وَنَطَقَتْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا مُتَقَوَّلَةً وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فيها شَيْءٌ من ذلك وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَلَا يَكَادُ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إلَّا في شَيْءٍ من الْأُصُولِ وَمَسَائِلَ قَلِيلَةٍ في الْفُرُوعِ كَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مع الرَّوَافِضِ وَالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ مع الْخَوَارِجِ وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ في التَّمْثِيلِ بِشَجَاعَةِ عَلِيٍّ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ في الْجَمَلِ وَصِفِّينَ بِأَنْ نَقَلَهُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ الْمُحَصِّلِينَ فَشَجَاعَتُهُ مُتَوَاتِرَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى تَنْبِيهٌ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ عِنْدَ أَهْلِ الحديث الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ قال ابن الصَّلَاحِ وَأَهْلُ الحديث لَا يَذْكُرُونَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ الْمُشْعِرِ بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ وَإِنْ كان الْخَطِيبُ ذَكَرَهُ فَفِي كَلَامِهِ ما يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ أَهْلَ الحديث قُلْت قد ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ وابن عبد الْبَرِّ وابن حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ وَادَّعَى ابن الصَّلَاحِ أَنَّهُمْ إنَّمَا لم يَذْكُرُوهُ لِأَنَّهُ لم تَشْمَلْهُ صِنَاعَتُهُمْ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ في رِوَايَاتِهِمْ لِنُدْرَتِهِ وَمَنْ سُئِلَ عن مِثَالٍ له أَعْيَاهُ طَلَبُهُ قال وَلَيْسَ منه حَدِيثُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ لِأَنَّ التَّوَاتُرَ طَرَأَ عليه في وَسَطِ إسْنَادِهِ نعم حَدِيثُ من كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النَّارِ مُتَوَاتِرٌ رَوَاهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ من الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَنْهُمْ وَذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّهُ رَوَاهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا من الصَّحَابَةِ قُلْت وَأَنْكَرَ الْحَافِظُ ابن حِبَّانَ في صَدْرِ صَحِيحِهِ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ فقال وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ لِأَنَّ ليس يُوجَدُ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَبَرٌ من رِوَايَةِ عَدْلَيْنِ رَوَى أَحَدُهُمَا عن عَدْلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن عَدْلَيْنِ حتى يَنْتَهِي ذلك إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فلما اسْتَحَالَ هذا وَبَطَلَ ثَبَتَ أَنَّ الْأَخْبَارَ كُلَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ وَمَنْ رَدَّ قَبُولَهُ فَقَدْ رَدَّ السُّنَّةَ كُلَّهَا لِعَدَمِ وُجُودِ السُّنَنِ إلَّا من رِوَايَةِ الْآحَادِ ا هـ وفي هذا ما يَرُدُّ على الْحَاكِم دَعْوَاهُ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ اشْتَرَطَا أَنْ لَا يَرْوِيَا الحديث إلَّا بِرِوَايَةِ اثْنَيْنِ عن اثْنَيْنِ وَهَكَذَا
فَصْلٌ في الْمُسْتَفِيضِ تَعْرِيفُ الْمُسْتَفِيضِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ قِيلَ إنَّهُ وَالْمُتَوَاتِرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وهو الذي جَرَى عليه أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ كما رَأَيْته في كِتَابَيْهِمَا وَقِيلَ بَلْ الْمُسْتَفِيضُ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بين الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَتْبَاعُهُ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَجَرَى عليه تِلْمِيذُهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ في كِتَابِ مِعْيَارِ النَّظَرِ وابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ فقال ضَابِطُهُ أَنْ يَنْقُلَهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ يَرْبُو على الْآحَادِ وَيَنْحَطُّ عن عَدَدِ التَّوَاتُرِ وَجَعَلَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ قِسْمًا من الْآحَادِ قال الْآمِدِيُّ وهو ما نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ تَزِيدُ على الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ وهو الْمَشْهُورُ في اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ وَقِيلَ الْمُسْتَفِيضُ ما تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَعَنْ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ ما اُشْتُهِرَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الحديث ولم يُنْكِرُوهُ وَكَأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالِاشْتِهَارِ مع التَّسْلِيمِ وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ على صِحَّةِ الحديث وقد أَشَارَ ابن فُورَكٍ في صَدْرِ كِتَابِهِ مُشْكِلِ الحديث إلَى هذا أَيْضًا وَمَثَّلَهُ بِخَبَرِ في الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ وفي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ الْمُسْتَفِيضُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَلَيْسَ هُنَاكَ رُتْبَةٌ تَدُلُّ على خِلَافِهِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ الشَّائِعُ بين الناس وقد صَدَرَ عن أَصْلٍ لِيُخْرِجَ الشَّائِعَ لَا عن أَصْلٍ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ تَقْسِيمًا غَرْبِيًّا جَعَلَا فيه الْمُسْتَفِيضَ أَعْلَى رُتْبَةً من الْمُتَوَاتِرِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَقَالَا الْخَبَرُ على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا الِاسْتِفَاضَةُ وهو أَنْ يَنْتَشِرَ من ابْتِدَائِهِ بين الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَيَتَحَقَّقُهُ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَلَا يُخْتَلَفُ فيه وَلَا يَشُكُّ فيه سَامِعٌ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ وَعَنَيَا بِذَلِكَ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ
وَالْوَسَطِ قَالَا وَهَذَا أَقْوَى الْأَخْبَارِ وَأَثْبَتُهَا حُكْمًا وَالثَّانِي التَّوَاتُرُ وهو أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ حتى يَكْثُرَ عَدَدُهُمْ وَيَبْلُغُوا قَدْرًا يَنْتَفِي عن مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَالْغَلَطُ فَيَكُونُ في أَوَّلِهِ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وفي آخِرِهِ من الْمُتَوَاتِرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِفَاضَةِ من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا ما ذَكَرْنَاهُ من اخْتِلَافِهِمَا في الِابْتِدَاءِ وَاتِّفَاقِهِمَا في الِانْتِهَاءِ الثَّانِي أَنَّ خَبَرَ الِاسْتِفَاضَةِ لَا تُرَاعَى فيه عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ وفي الْمُتَوَاتِرِ يُرَاعَى ذلك وَالثَّالِثُ أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ تَنْتَشِرُ من غَيْرِ قَصْدٍ له وَالْمُتَوَاتِرُ ما انْتَشَرَ عن قَصْدٍ لِرِوَايَتِهِ وَيَسْتَوِيَانِ في انْتِفَاءِ الشَّكِّ وَوُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِمَا وَلَيْسَ الْعَدَدُ فِيهِمَا مَحْصُورًا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ انْتِفَاءُ التَّوَاطُؤِ على الْكَذِبِ من الْمُخْبِرِينَ قَالَا وَالْمُسْتَفِيضُ من أَخْبَارِ السُّنَّةِ مِثْلُ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَالتَّوَاتُرُ منها مِثْلُ وُجُوبِ الزَّكَوَاتِ هَكَذَا قَالَا وهو غَرِيبٌ لَكِنَّ قَوْلَهُمَا في الِاسْتِفَاضَةِ مُوَافِقٌ لِمَا اخْتَارَاهُ من أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالِاسْتِفَاضَةِ من طُرُقِهَا أَنْ يَكُونَ قد سمع ذلك من عَدَدٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ وهو اخْتِيَارُ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُتَأَخِّرِينَ قال الرَّافِعِيُّ وهو أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وأبو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ أَنَّ أَقَلَّ ما ثَبَتَتْ بِهِ الِاسْتِفَاضَةُ سَمَاعُهُ من اثْنَيْنِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ في مَوْضِعٍ آخَرَ عن ابْنِ كَجٍّ وَنَقَلَ وَجْهَيْنِ في أَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ أَنْ يَقَعَ في قَلْبِ السَّامِعِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ قال وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هذا غير الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ في أَنَّهُ هل يُعْتَبَرُ خَبَرُ عَدَدٍ يُؤْمَنُ فِيهِمْ التَّوَاطُؤُ مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ الْمُسْتَفِيضِ الْعِلْمَ وَالْمُسْتَفِيضُ على الْقَوْلِ بِالْوَاسِطَةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ في قَوْلِ الْأُسْتَاذَيْنِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبِي مَنْصُورٍ التَّمِيمِيِّ وابن فُورَكٍ وَمَثَّلَهُ أبو مَنْصُورٍ في كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ في الْمَسْحِ على الْخُفِّ وَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَمَثَّلَهُ ابن بَرْهَانٍ بِحَدِيثِ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَحَدِيثِ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتِهَا وقال الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا
مُتَأَخِّرًا عن الْعَمَلِ مُقَارِبًا لِلْيَقِينِ وَسَبَقَهُ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَضَعَّفَ مَقَالَةَ الْأُسْتَاذِ بِأَنَّ الْعُرْفَ وَإِطْرَادَ الِاعْتِبَارِ لَا يَقْتَضِي الصِّدْقَ قَطْعًا بَلْ قُصَارَاهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ وقال الْإِبْيَارِيُّ كَأَنَّ الْأُسْتَاذَ أَرَادَ أَنَّ النَّظَرَ في أَحْوَالِ الْمُخْبِرِينَ من أَهْلِ الثِّقَةِ وَالتَّجْرِبَةِ يَحْصُلُ ذلك وقد مَالَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَلَا وَجْهَ له نعم هو بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لَا الْعِلْمِ وإذا قُلْنَا إنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُوَ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ في قَوْلِ الْأُسْتَاذَيْنِ
الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ وهو أَقْسَامٌ أَحَدُهَا الْخَبَرُ الْمَعْلُومُ خِلَافُهُ إمَّا بِالضَّرُورَةِ كَالْإِخْبَارِ بِاجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ أو ارْتِفَاعِهِمَا أو بِالِاسْتِدْلَالِ كَإِخْبَارِ الْفَيْلَسُوفِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ الثَّانِي الْخَبَرُ الذي لو كان صَحِيحًا لَتَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي على نَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا إمَّا لِكَوْنِهِ من أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ أَمْرًا غَرِيبًا كَسُقُوطِ الْخَطِيبِ عن الْمِنْبَرِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ وَيَتَفَرَّعُ على هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ منها بُطْلَانُ النَّصِّ الذي تَزْعُمُ الرَّوَافِضُ أَنَّهُ دَلَّ على إمَامَةِ عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَعَدَمُ تَوَاتُرِهِ دَلِيلٌ على عَدَمِ صِحَّتِهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلَوْ كان حَقًّا لَمَا خَفِيَ على أَهْلِ بَيْعَةِ الثَّقِيفَةِ وَلَتَحَدَّثَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ على مِغْزَلِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يُخَالِفَ أو يُوَافِقَ وَبِهَذَا الْمَسْلَكِ أَيْضًا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِ من يقول إنَّ الْقُرْآنَ قد عُورِضَ فإن ذلك لو جَرَى لَمَا خَفِيَ وَالنَّصُّ الذي تَزْعُمُ الْعِيسَوِيَّةُ أَنَّ في التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى عليه السَّلَامُ آخِرُ مَبْعُوثٍ وَمُسْتَنَدُ هذا الْحُكْمِ الرُّجُوعُ إلَى الْعَادَةِ وَاقْتِضَائِهَا الِاشْتِهَارَ في ذلك وَالشِّيعَةُ تُخَالِفُ في ذلك وَيَقُولُونَ يَجُوزُ أَنْ لَا يَشْتَهِرَ لِخَوْفٍ أو فِتْنَةٍ وهو بَاطِلٌ لِمَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ في مِثْلِهِ وَلَيْسَ من هذا ما قَدَحَ بِهِ الرَّوَافِضُ عَلَيْنَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ عليه السَّلَامُ حَجَّ مَرَّةً وَاحِدَةً وَاخْتَلَفَ الناس في نَفْسِ حَجَّتِهِ اخْتِلَافًا لم يَتَحَصَّلْ الْمُخْتَلِفُونَ فيه على يَقِينٍ وَكَذَا الِاخْتِلَافُ في فَتْحِ مَكَّةَ هل كان صُلْحًا أو عَنْوَةً وَكَذَا الْإِقَامَةُ في طُولِ عَهْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ يَخْتَلِفُونَ في تَثْنِيَتِهَا وَإِفْرَادِهِ مع أَنَّ ذلك مِمَّا تَتَوَفَّرُ فيه الدَّوَاعِي على نَقْلِهِ قُلْنَا أَمْرُ الْقِرَانِ وَالْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَاضِحٌ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَ الْكُلِّ جَوَازُ الْكُلِّ لم يَعْتَنُوا بِالتَّفْتِيشِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُلَقِّنُ الْخَلْقَ إضَافَةَ الْحَجِّ فَنَاقِلُ الْإِفْرَادِ سَمِعَهُ يُلَقِّنُ غَيْرَهُ ذلك وَنَاقِلُ التَّمَتُّعِ كَذَلِكَ
وَكَذَلِكَ فَتْحُ مَكَّةَ نُقِلَ أَنَّهُ على هَيْئَةِ الْعَنْوَةِ وَالْقَهْرِ وَصَحَّ أَنَّهُ لم يَأْخُذْ مَالًا وَتَوَاتَرَ ذلك وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في أَحْكَامٍ جُزْئِيَّةٍ كَمُصَالَحَةٍ جَرَتْ على الْأَرَاضِي وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بها مَنْعُ بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ أو تَجْوِيزُهُ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَصُورَةُ دُخُولِهِ عليه السَّلَامُ مُتَسَلِّحًا بِالْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ وَبَذْلُهُ الْأَمَانَ لِمَنْ دخل دَارَ أبي سُفْيَانَ وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَاعْتَصَمَ بِالْكَعْبَةِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فيه وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ على أَنَّهُ كان صُلْحًا بِأَنَّهُ وَدَى قَوْمًا قَتَلَهُمْ خَالِدٌ وَنَهْيُهُ عن ذلك وَغَيْرُ هذا مِمَّا يَجُوزُ فيه التَّأْوِيلُ وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَتَثْنِيَتُهَا وَإِفْرَادُهَا ليس من عَظَائِمِ الْعَزَائِمِ وَلَوْلَا اشْتِهَارُهَا بين أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ لم تَعْلَمْ الْعَامَّةُ تَفْصِيلَهَا فَإِنَّهَا لَا تَهُمُّهُمْ وَالْعُصُورُ تَنَاسَخَتْ وَتَعَلَّقَتْ الْإِقَامَةُ بِالْبَدَلِ وَشَعَائِرُ الْمُلُوكِ وَلَا كَذَلِكَ أَمْرُ الْإِمَامَةِ فَإِنَّهَا من مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَتَتَعَلَّقُ بِعَزَائِمِ الْخُطُوبِ وَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُ دُثُورِهَا على قُرْبِ الْعَهْدِ بِالرَّسُولِ وَأَمَّا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ فَمِنْهُمْ من أَنْكَرَهُ لِأَنَّهُ لم يَتَوَاتَرْ وهو لَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي على نَقْلِهِ وَنُقِلَ ذلك عن الْحَلِيمِيِّ هَكَذَا حَكَاهُ عنه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ إنَّمَا لم يَتَوَاتَرْ لِأَنَّهُ آيَةٌ لَيْلِيَّةٌ تَكُونُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ غَافِلُونَ وَإِنَّمَا يَرَى ذلك من نَاظَرَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من قُرَيْشٍ وَصَرَفَ هِمَّتَهُ إلَى النَّظَرِ فيه وَإِنَّمَا انْشَقَّ منه شُعْبَةٌ في مِثْلِ طَرَفِ الْقَمَرِ ثُمَّ رَجَعَ صَحِيحًا وَكَمْ من انْقِضَاضٍ وَرِيَاحٍ تَحْدُثُ بِاللَّيْلِ وَلَا يَشْعُرُ بها أَحَدٌ فَلِهَذَا لم يُنْقَلْ ظَاهِرًا وَإِنَّمَا يَسْتَدِلُّ أَكْثَرُ الناس على انْشِقَاقِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَأَنَّهُ لو أَرَادَ الْإِخْبَارَ عن اقْتِرَابِ انْشِقَاقِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَقُولَ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ وَلَوَجَبَ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ الرَّسُولُ أَنَّ من الْآيَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ انْشِقَاقَهُ ا هـ وَالْحَقُّ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ وقد رَوَاهُ خَلْقٌ من الصَّحَابَةِ وَعَنْهُمْ خَلْقٌ كما أَوْضَحْته في تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمُخْتَصَرِ وَمِنْهَا أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا في الْمُصْحَفِ لِأَنَّ الِاهْتِمَامَ بِهِ من الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ في إحْيَاءِ مَعَالِمِ الدِّينِ يَمْنَعُ تَقَدُّرَ دَرْسِهِ وَارْتِبَاطَ مَسَائِلِهِ بِلَا حَاجَةٍ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ اخْتَلَفُوا في الْبَسْمَلَةِ أنها من الْقُرْآنِ أَمْ لَا قِيلَ لِأَنَّهُ لم يَجُزْ دُرُوسُ رَسْمِهَا وَنَظْمِهَا فلم يَكُنْ لِنَقْلِ كَوْنِهَا من السُّوَرِ كَبِيرُ أَثَرٍ في الدِّينِ بَعْدَ الِاهْتِمَامِ بِهِ وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمِنْهَا ما نُقِلَ مُتَوَاتِرًا وَمِنْهَا ما نُقِلَ آحَادًا مع أنها أَعَاجِيبُ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ وَكَذَا إذَا كَثُرَتْ
الْمُعْجِزَاتُ وَكَثُرَتْ فيها عُسْرَتُهُمْ مِثْلُ تَشَوُّقِهِمْ إلَى نَقْلِ آحَادِهَا وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ في الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ ولم يَهْتَمَّ عُثْمَانُ بِجَمْعِ الناس على بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَحَرَصَ ابن مَسْعُودٍ على ذلك فَإِنْ قِيلَ يَجْرِي ذلك في الْقُرْآنِ قُلْنَا لَمَّا كان الْقُرْآنُ رُكْنَ الدِّينِ اسْتَوَتْ الْأُمَّةُ في الِاعْتِنَاءِ بِهِ فلم نُجِزْ أَنْ يُنْقَلَ بَعْضُهُ مُتَوَاتِرًا وَبَعْضُهُ آحَادًا مع اسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ في تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي على نَقْلِهِ بِخِلَافِ بَاقِي الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّهُمْ اعْتَنَوْا بِنَقْلِ ما يَبْقَى رَسْمُهُ أَبَدَ الدَّهْرِ وقد صَنَّفَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في هذا النَّوْعِ كِتَابِ الِانْتِصَارِ وما أَعْجَبَهُ من كِتَابٍ فَقَدْ أَزَالَ بِهِ الْحَائِكَ عن صُدُورِ الْمُرْتَابِينَ وَمِنْهَا لو غَصَّ الْمَجْلِسُ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ وَنَقَلَ كلهم عن صَاحِبِ الْمَجْلِسِ حَدِيثًا وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ منهم وهو ثِقَةٌ بِنَقْلِ زِيَادَةٍ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أنها تُرَدُّ وَإِلَّا لَنَقَلَهَا الْبَاقُونَ وهو بَعِيدٌ فإن انْفِرَادَ بَعْضِ النَّقَلَةِ بِمَزِيدِ حِفْظٍ لَا يُنْكَرُ وَالْقَرَائِحُ وَالْفِطَنُ تَخْتَلِفُ وَلَيْسَتْ الرِّوَايَاتُ مِمَّا تَتَكَرَّرُ على الْأَلْسِنَةِ حتى لَا يَشِذَّ شَيْءٌ منها وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبَنَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ على هذا الْأَصْلِ رَدَّ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى كَمَسِّ الذَّكَرِ وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَسَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَإِنَّمَا قُبِلَتْ من الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ لم يَقَعْ الْإِخْبَارُ بها بِحَضْرَةِ من يَجِبُ تَوَفُّرُ دَوَاعِيهِمْ على النَّقْلِ وَالْإِظْهَارِ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا كان يُلْقِيهِ إلَى الْآحَادِ الثَّالِثُ ما نُقِلَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْأَخْبَارِ ثُمَّ فَتَّشَ عنه فلم يُوجَدْ في بُطُونِ الْكُتُبِ وَلَا في صُدُورِ الرُّوَاةِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ وَغَايَتُهُ الظَّنُّ لَا الْقَطْعُ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْأَخْبَارِ عَمَّا قبل ذلك في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ حَيْثُ كانت الْأَخْبَارُ مُنْتَشِرَةً ولم تَعْتَنِ الرُّوَاةُ بِتَدْوِينِهَا قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَفِيمَا ذَكَرُوهُ نَظَرٌ عِنْدِي لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا جَمِيعَ الدَّفَاتِرِ وَجَمِيعَ الرُّوَاةِ فَالْإِحَاطَةُ بِذَلِكَ مُتَعَذِّرَةٌ مع انْتِشَارِ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ أَرَادُوا أَكْثَرَ من الدَّفَاتِرِ وَالرُّوَاةُ فَهَذَا لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ الْعُرْفِيَّ وَلَا يُفِيدُ الْقَطْعَ الرَّابِعُ خَبَرُ مُدَّعِي الرِّسَالَةَ من غَيْرِ مُعْجِزَةٍ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ قال وَعِنْدِي فيه تَفْصِيلٌ فَأَقُولُ إنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَلْقَ كُلِّفُوا مُتَابَعَتَهُ وَتَصْدِيقَهُ من غَيْرِ آيَةٍ فَهُوَ كَذِبٌ فَإِنْ قال ما أُكَلِّفُ الْخَلْقَ اتِّبَاعِي وَلَكِنْ أُوحِيَ إلَيَّ فَلَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ ا هـ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا قبل نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَمَّا بَعْدَهَا فَنَقْطَعُ بِكَذِبِهِ بِكُلِّ حَالٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ على أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ
الْخَامِسُ كُلُّ خَبَرٍ أَوْهَمَ بَاطِلًا ولم يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ إمَّا لِمُعَارَضَتِهِ لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أو الْقَطْعِيِّ النَّقْلِيِّ وهو الْمُتَوَاتِرُ عن صَاحِبِ الشَّرْعِ مُمْتَنِعٌ صُدُورُهُ عنه قَطْعًا كَأَخْبَارٍ رَوَتْهَا الزَّنَادِقَةُ تُخَالِفُ الْقَطْعَ قَصْدًا لِشَيْنِ الدِّينِ وقد نُقِلَ عن بَعْضِ من يُنَافِرُ أَهْلَ الحديث كَحَدِيثِ عَرَقِ الْخَيْلِ أَسْبَابُ الْوَضْعِ وَسَبَبُ الْوَضْعِ إمَّا نِسْيَانُ الرَّاوِي لِطُولِ عَهْدِهِ بِالْخَبَرِ الْمَسْمُوعِ وَإِمَّا غَلَطُهُ بِأَنْ أَرَادَ النُّطْقَ بِلَفْظٍ فَسَبَقَ لِسَانُهُ إلَى سِوَاهُ أو وَضَعَ لَفْظًا مَكَانَ آخَرَ ظَانًّا أَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ وَإِمَّا افْتِرَاءُ الزَّنَادِقَةِ وَغَيْرِهِمْ من أَعْدَاءِ الدِّينِ الْوَاضِعِينَ أَحَادِيثَ تُخَالِفُ الْعُقُولَ تَنْفِيرًا عن الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَغَيْرُ ذلك السَّادِسُ بَعْضُ الْمَنْسُوبِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِطَرِيقِ الْآحَادِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سَيَكْذِبُ عَلَيَّ فَإِنْ صَحَّ هذا الحديث لَزِمَ وُقُوعُ الْكَذِبِ ضَرُورَةً وَإِنْ لم يَصِحَّ مع كَوْنِهِ رُوِيَ عنه فَقَدْ حَصَلَ الْكَذِبُ فِيمَا رُوِيَ عنه ضَرُورَةً أَخْبَارُ الْآحَادِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ما لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ وهو إمَّا أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ احْتِمَالَاتُ صِدْقِهِ كَخَبَرِ الْعَدْلِ أو كَذِبِهِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ أو يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ كَخَبَرِ الْمَجْهُولِ وَهَذَا الضَّرْبُ لَا يَدْخُلُ إلَّا في الْجَائِزِ الْمُمْكِنِ وُقُوعُهُ وَعَدَمُهُ وَالْكَلَامُ إنَّمَا هو في الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ الذي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ما يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ فَقَطْ وَإِنْ كان مَوْضُوعُ خَبَرِ الْوَاحِدِ في اللُّغَةِ يَقْتَضِي وَحْدَهُ الْمُخْبَرَ الذي يُنَافِيهِ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ لَكِنْ وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ بِهِ على كل ما لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَإِنْ كان الْمُخْبِرُ بِهِ جَمْعًا إذَا نَقَصُوا عن حَدِّ التَّوَاتُرِ وَمِنْهُمْ من قال ما لم يَنْتَهِ نَاقِلُهُ إلَى حَدِّ الِاسْتِفَاضَةِ وَالشُّهْرَةِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَرْهَانٍ قال الْهِنْدِيُّ وهو ضَعِيفٌ على رَأْيِ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ على رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يُفْرِدُونَ له أَحْكَامًا أُصُولِيَّةً قَرِيبًا من أَحْكَامِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَمَّا أَصْحَابُنَا فَلَا وَهَذَا الذي قَالَهُ الْهِنْدِيُّ بَنَاهُ على أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ من جُمْلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وقد سَبَقَ أَنَّ الْأَمْرَ ليس كَذَلِكَ
مسألة أقسام خبر الواحد
قسم الأقدمون من أصحابنا منهم القفال الشاشي في كتابه والماوردي وابن السمعاني خبر الواحد إلى أقسام أحدها ما يحتج به فيه إجماعا كالشهادات والمعاملات قال القفال ولا خلاف في قبوله لقوله تعالى إذا دعيتم فادخلوا قال الماوردي ومن بعده ولا يراعى فيها عدالة المخبر وإنما يراعى فيها سكون النفس إلى خبره فيقبل من كل بر وفاجر ومسلم وكافر وحر وعبد فإذا قال الواحد منهم هذه هدية فلان إليك أو هذه الجارية وهبها فلان إليك أو كنت أمرته بشرائها فاشتراها كلف المخبر قبول قوله إذا وقع في نفسه صدقه ويحل له استمتاع بالجارية والتصرف في الهدية وكذا الإذن في دخول الدار وهذا شيء متعارف في الأعصار من غير نكير ويلتحق به خبر الصبي في ذلك على الصحيح وأما خبر الشهادات فيعتبر فيه شرطان بالإجماع العدالة والعدد قال القفال وقد ورد الكتاب والإجماع بقبولها في الجملة وإن اختلف في شرط بعضها الأكثرون منا ومن المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار إلى نفيه وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية وذهب الأقلون من الفريقين كابن سريج والصيرفي والقفال منا وأبي الحسين البصري من المعتزلة إلى أن الدليل العقلي دل عليه أيضا لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء من جهة الخبر ومن بعدها أعظم الضرر إذ لا يمكنهم التلافي بأجمعهم ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل والأول هو الصحيح وفصل أبو عبد الله البصري بين الخبر الدال على ما يسقط بالشبهة وما لا يسقط بها فمنعه في الأول وجوزه في الثاني حكاه في الأحكام وقد بسط الشافعي كلامه في هذا الفصل في كتاب الرسالة وقد احتجوا على وجوب العمل بخبر الواحد بقوله تعالى إن جاءكم فاسق وبقوله فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وهذا لا يفيد إلا الظن والاستدلال بالثانية أضعف من الأولى قال ابن دقيق العيد والحق عندنا في الدليل بعد اعتقاد أن المسألة علمية أناقاطعون بعمل السلف والأمة بخبر الواحد وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ورد منه ما يقتضي العمل بخبر الواحد وهذا القطع حصل لنا من تتبع الشريعة وبلوغ جزيئات لا يمكن حصرها ومن تتبع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وجمهور الأمة ما عدا هذه الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعا ا هـ ولنا على وجوب العمل به ثلاثة مسالك الأول ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إنفاذ ولاته ورسله آحادا إلى أطراف البلاد النائية ليعلموا الناس الدين وليوقفوهم على أحكام الشريعة ومن طالع كتب السير ارتوى بذلك والثاني ما علم بالتواتر من عمل الصحابة ورجوعهم إليه عندما يقع لهم من الحوادث والثالث أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا لأن العدل إذا أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بكذا حصل ظن أنه وجد الأمر وأنا لو تركناه لصرنا إلى العذاب وبهذا الدليل استدل ابن سريج ومتابعوه على وجوب العمل به عقلا ونقول سبب الاضطرار إلى العمل به أما في الشهادات والفتوى والأمور الدنيوية كالإذن في دخول الدار ونحوها فظاهر فإنه يشق على الناس الرجوع في ذلك ونحوه إلى الأخبار المتواترة ووقوفهم عندها وقد وقع الاتفاق على ذلك بين جميع العلماء وأما في الأحكام الشرعية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ليعلمها الناس وهو صلى الله عليه وسلم مبعوث لجميع الناس مضطر إلى تبليغ الناس كلهم تلك الأحكام وليس يمكنه ذلك بمشافهة الجميع فلا بد من بعث الرسل إليهم بالتبليغ وليس عليه أن يسير إلى كل بقعة عددا متواترا فلزم بالضرورة أن التبليغ يكون بأخبار الآحاد ويلزم من ذلك وجوب العمل بها وإلا لم يلزم المبعوث إليهم العمل بما يقوله الرسل فبطل فائدتهم هذا إذا كان أكثر عنه مما يكتفى فيه بالظن أما ما يطلب فيه اليقين كالعلم بالله وصفاته فإن ذلك لا يجوز العمل فيه بهذه الأخبار لأنها لا تفيد العلم والظن في ذلك غير جائز فكيف يمكن تبليغ هذه إلى الناس كلهم
فنقول إن ذلك يمكن بأن يرسل فيها الآحاد أيضا ولكنه يشير في كلامه إلى البرهان العقلي مما يخبرهم به ممن يكون له فطانة فيتنبه بذلك الخبر إلى ذلك البرهان بطريق العقل ومن لا فطانة له فقد يتعلم على الطول وقد يسافر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستقصي به ذهنه شرعا فإن قيل فهلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في جميع الأحكام الشرعية فكانت كلها علمية قلنا هذا غير ممكن أما إذا قلنا إن الأحكام لا تعرف إلا بالشرع فظاهر وإن قلنا بالعقل فتكليف الناس الوقوف على براهين جميع الأحكام الشرعية مما يشق جدا ويشغلهم عن الأعمال التي لا بد منها في عمارة البلد فلذلك اكتفى الشارع في هذه الأحكام بالظن فكفت فيها أخبار الآحاد وإشارات البراهين العقلية في الأحكام التي لا بد فيها من اليقين وهي التي يتوقف عليها الإيمان فيتم بذلك تبليغه الناس كلهم جميع الأحكام تنبيهات الأول قولهم إنه يوجب العمل قال إمام الحرمين في العبارة تساهل لأن نفس الخبر لو أوجب العمل لعلم ذلك منه وهو لا يثمر علما وإنما وجب العمل عند سماعه بدليل آخر فالتحقيق أنه يجب العمل عنده لا به وهذا سهل الثاني أن الشافعي صنف كتابا في إثبات العمل بخبر الواحد وذكر في أوله الحديث المشهور رحم الله امرأ سمع مقالتي فاعترض أبو داود وقال أثبت خبر الواحد بخبر الواحد والشيء لا يثبت بنفسه كمن ادعى شيئا فقيل له من يشهد لك فقال أنا أشهد لنفسي قال الأصحاب هذا الذي ذكره باطل فإن الشافعي لم يستدل بحديث واحد وإنما ذكر نحوا من ثلاثمائة حديث وذكر وجوه الاستدلال فيها فالمجموع هو الدال عليه ثم قال الشافعي بعد ذلك ومن الذي ينكر خبر الواحد والحكام آحاد والمفتون آحاد والشهود آحاد
مَسْأَلَةٌ إثْبَاتُ أَسْمَاءِ اللَّهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ اُخْتُلِفَ في أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى هل تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالصَّحِيحُ كما قَالَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ وَالْآمِدِيَّ في الْإِحْكَامِ الثُّبُوتُ كما في سَائِرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِكَوْنِ التَّجْوِيزِ وَالْمَنْعِ من الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَقِيلَ لَا يَثْبُتُ بَلْ لَا بُدَّ من الْقَاطِعِ كَأَصْلِ الصِّفَاتِ مَسْأَلَةٌ إثْبَاتُ الْعَقِيدَةِ بِخَبَرِ الْآحَادِ سَبَقَ مَنْعُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ من التَّمَسُّكِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْقَطْعُ من الْعَقَائِدِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَالْعَقِيدَةُ قَطْعِيَّةٌ وَالْحَقُّ الْجَوَازُ وَالِاحْتِجَاجُ إنَّمَا هو بِالْمَجْمُوعِ منها وَرُبَّمَا بَلَغَ مَبْلَغَ الْقَطْعِ وَلِهَذَا أَثْبَتْنَا الْمُعْجِزَاتِ الْمَرْوِيَّةَ بِالْآحَادِ وقال الْإِمَامُ في الْمَطْلَبِ إلَّا أَنَّ هذا الطَّرِيقَ يَنْتَقِضُ بِأَخْبَارِ التَّشْبِيهِ فإن لِلْمُشَبِّهَةِ أَنْ يَقُولُوا إنَّ مَجْمُوعَهَا بَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ فَإِنْ مَنَعْنَاهُمْ عن ذلك كان لِخُصُومِنَا في هذه الْمَسْأَلَةِ مَنْعُنَا عنه وَأَيْضًا فَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ إذَا صَحَّتْ وَسَاعَدَتْ أَلْفَاظُ الْأَخْبَارِ تَأَكَّدَ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَقَوِيَ الْيَقِينُ مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَهَلْ يُفِيدُ الْعِلْمَ اخْتَلَفُوا فيه فَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُهُ وَحَكَاهُ ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِحْكَامِ عن دَاوُد وَالْحُسَيْنِ بن عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيِّ وَالْحَارِثِ بن أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيِّ وَغَيْرِهِمْ قال وَبِهِ نَقُولُ قال وَحَكَاهُ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عن مَالِكِ بن أَنَسٍ ا هـ وَفِيمَا حَكَاهُ عن الْحَارِثِ نَظَرٌ فَإِنِّي رَأَيْت كَلَامَهُ في كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ نَقَلَ عن أَكْثَرِ أَهْلِ الحديث وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ثُمَّ قال وقال أَقَلُّهُمْ يُفِيدُ
الْعِلْمَ ولم يَخْتَرْ شيئا وَاحْتَجَّ بِإِمْكَانِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ من نَاقِلِهِ كَالشَّاهِدَيْنِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِمَا لَا الْعِلْمُ وَنَقَلَهُ ابن عبد الْبَرِّ عن الْكَرَابِيسِيِّ وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عن أَحْمَدَ وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وقال الْمَازِرِيُّ ذَهَبَ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَنَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ وَأَنَّهُ نَصَّ عليه وَأَطَالَ في تَقْرِيرِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ لَكِنْ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ وقال لم يُعْثَرْ لِمَالِكٍ على نَصٍّ فيه وَلَعَلَّهُ رَأَى مَقَالَةً تُشِيرُ إلَيْهِ وَلَكِنَّهَا مُتَأَوَّلَةٌ قال وَقِيلَ إنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُثْمِرُ الظَّنَّ الْقَوِيَّ وَحَكَى أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ له قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ في إسْنَادِهِ إمَامٌ مِثْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَسُفْيَانَ وَإِلَّا فَلَا يُوجِبُهُ وَعَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ يُوجِبُهُ مُطْلَقًا وَنَقَلَ الشَّيْخُ في التَّبْصِرَةِ عن بَعْضِ أَهْلِ الحديث أَنَّ منها ما يُوجِبُ الْعِلْمَ كَحَدِيثِ مَالِكٍ عن نَافِعٍ عن ابْنِ عُمَرَ وما أَشْبَهَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هو الْقَوْلُ الذي حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الْبَاطِنَ قَطْعًا بِخِلَافِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ وَهَلْ يُوجِبُ الظَّاهِرَ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعِلْمِ من نَتَائِجِ بَاطِنِهِ فلم يَفْتَرِقَا وَالثَّانِي يُوجِبُهُ لِأَنَّ سُكُونَ النَّفْسِ إلَيْهِ مُوجِبٌ له وَلَوْلَاهَا كان ظَنًّا ا هـ وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن أبي بَكْرٍ الْقَفَّالِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ وَكَأَنَّ مُرَادَهُ غَالِبُ الظَّنِّ وَإِلَّا فَالْعِلْمُ لَا يَتَفَاوَتُ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ فقال قَائِلُ هذا أَرَادَ غَلَبَةَ الظَّنِّ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ في الْعِلْمِ ظَاهِرٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْلُومٌ وَجَزَمَ بِهِ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فقال خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ وقال يَعْنِي بِالْعِلْمِ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ لَا عِلْمَ الظَّاهِرِ وَنَقَلَهُ عن جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ منهم الشَّافِعِيُّ قال وَالْقَائِلُ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ إنْ أَرَادَ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ فَقَدْ أَصَابَ وَإِنْ أَرَادَ الْقَطْعَ حتى يَتَسَاوَى مع التَّوَاتُرِ فَبَاطِلٌ وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ كَجٍّ في كِتَابِهِ إنَّا نَقْطَعُ على اللَّهِ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النَّصِّ أَلَا تَرَى أَنَّا نَنْقُضُ حُكْمَ من تَرَكَ أَخْبَارَ الْآحَادِ وَحَكَى عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ أَنَّهُ هل يُفِيدُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ أَمْ لَا ثُمَّ قال إنَّهُ
خِلَافٌ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ فَصَارَ الْخِلَافُ في أَنَّهُ هل يُسَمَّى عِلْمًا أَمْ لَا وقال الْهِنْدِيُّ إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ أو أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَعْنَى الظَّنِّ فَلَا نِزَاعَ فيه لِتَسَاوِيهِمَا وَبِهِ أَشْعَرَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ أو قالوا يُورِثُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلْمَ ليس له ظَاهِرٌ فَالْمُرَادُ منه الظَّنُّ وَإِنْ أَرَادُوا منه أَنَّهُ يُفِيدُ الْجَزْمَ صَدَقَ مَدْلُولُهُ سَوَاءٌ كان على وَجْهِ الِاطِّرَادِ كما نَقَلَ بَعْضُهُمْ عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ أو لَا على وَجْهِ الِاطِّرَادِ بَلْ في بَعْضِ أَخْبَارِ الْآحَادِ دُونَ الْكُلِّ كما نُقِلَ عن بَعْضِهِمْ فَهُوَ بَاطِلٌ ا هـ وَلَعَلَّ مُرَادَ أَحْمَدَ إنْ صَحَّ عنه إفَادَةُ الْخَبَرِ لِلْعِلْمِ بِمُجَرَّدِهِ ما إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَسَلِمَتْ عن الطَّعْنِ فإن مَجْمُوعَهَا يُفِيدُ ذلك وَلِهَذَا قال يحيى بن مَعِينٍ لو لم نَكْتُبْ الحديث من ثَلَاثِينَ وَجْهًا ما عَقَلْنَاهُ وَحَكَى الْقَاضِي أبو يَعْلَى قَوْلَ أَحْمَدَ في أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ نُؤْمِنُ بها وَنَعْلَمُ أنها حَقٌّ يَقْطَعُ على الْعِلْمِ بها قال فَذَهَبَ إلَى ظَاهِرِ هذا الْكَلَامِ طَائِفَةٌ من أَصْحَابِنَا وَقَالُوا خَبَرُ الْوَاحِدِ إنْ كان شَرْعِيًّا أَوْجَبَ الْعِلْمَ قال وَعِنْدِي هو مَحْمُولٌ على أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ من طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لَا من جِهَةِ الضَّرُورَةِ وَأَنَّ الْقَطْعَ حَصَلَ اسْتِدْلَالًا بِأُمُورٍ انْضَمَّتْ إلَيْهِ من تَلَقِّي الْأُمَّةِ لها بِالْقَبُولِ أو دَعْوَى الْمُخْبِرِ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ سَمِعَهُ منه بِحَضْرَتِهِ فَيَسْكُتُ وَلَا يُنْكِرُ عليه أو دَعْوَاهُ على جَمَاعَةٍ حَاضِرِينَ السَّمَاعَ منه فما يُنْكِرُونَهُ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ قد أَكْثَرَ الْأُصُولِيُّونَ من حِكَايَةِ إفَادَتِهِ الْقَطْعَ عن الظَّاهِرِيَّةِ أو بَعْضِهِمْ وَتَعَجَّبَ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ منهم لِأَنَّا نُرَاجِعُ أَنْفُسَنَا فَنَجِدُ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُحْتَمِلًا لِلْكَذِبِ وَالْغَلَطِ وَلَا قَطْعَ مع هذا الِاحْتِمَالِ لَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ له مُسْتَنَدٌ لم يَتَعَرَّضْ له الْأَكْثَرُونَ وهو أَنْ يُقَالَ ما صَحَّ من الْأَخْبَارِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ لَا من جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فإنه من حَيْثُ هو كَذَلِكَ مُحْتَمِلٌ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ من الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ وَإِنَّمَا وَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ بِصِحَّتِهِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عن هذه الْجِهَةِ وهو أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَحْفُوظَةٌ وَالْمَحْفُوظُ ما لَا يَدْخُلُ فيه ما ليس منه وَلَا يَخْرُجُ عنه ما هو منه فَلَوْ كان ما ثَبَتَ عِنْدَنَا من الْأَخْبَارِ كَذِبًا لَدَخَلَ في الشَّرِيعَةِ ما ليس منها وَالْحِفْظُ يَنْفِيهِ وَالْعِلْمُ بِصِدْقِهِ من هذه الْجِهَةِ لَا من جِهَةِ ذَاتِهِ فَصَارَ هذا كَالْإِجْمَاعِ فإن قَوْلَ الْأُمَّةِ من حَيْثُ هو وَحُكْمُهُمْ لَا يَقْتَضِي الْعِصْمَةَ لَكِنْ لَمَّا قام الدَّلِيلُ على ذلك وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ
من هذا الْوَجْهِ لَا من حَيْثُ كَوْنُهُ قَوْلًا لهم وَحُكْمًا وَأَخَذُوا الْحِفْظَ من وَجْهٍ آخَرَ قَرَّرُوهُ يَقَعُ فيه الْبَحْثُ مَعَهُمْ قال وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هذا لِأَنَّ كَثِيرًا من الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ خَارِجٌ عن ضُرُوبِ الْعَقْلِ فَبَيَّنَّا هذا دَفْعًا لِهَذَا الْوَهْمِ وَتَنْبِيهًا لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ وَيُبْحَثَ مَعَهُمْ فيه وهو الْمَحَلُّ الذي ادَّعَوْهُ من قِيَامِ الْقَاطِعِ على ما ذَكَرُوهُ وَأَقْرَبُ ما يُقَالُ لهم فيه إنَّ هذا الْقَاطِعَ أَعْنِي الْعِلْمَ بِصِحَّةِ كل ما صَحَّ عِنْدَنَا وَبِكَذِبِ كل ما لم يَصِحَّ إمَّا أَنْ يُؤْخَذَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أو إلَى بَعْضِهَا فَإِنْ أُخِذَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل فَرْدٍ هُنَا إلَّا إذَا أَثْبَتْنَا الْعَزْمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل الْأُمَّةِ لَكِنَّ ذلك مُتَعَذِّرٌ وَإِنْ أَخَذْنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَعْضِ لم يُفِدْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأُمَّةِ قد وَصَلَ إلَيْهِ ذلك الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ وقد وَقَعَ كَثِيرٌ من هذا وهو اطِّلَاعُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ على حَدِيثٍ لم يَطَّلِعْ عليه غَيْرُهُ وَإِنْ قال إذَا لم أَطَّلِعْ عليه فَالْأَصْلُ عَدَمُ اطِّلَاعِ غَيْرِي عليه فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ قُلْنَا أنت تَدَّعِي الْقَطْعَ وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ هذا كُلُّهُ فِيمَا إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهِ قَرِينَةٌ لِغَيْرِ التَّعْرِيفِ فَإِنْ كان لِلتَّعْرِيفِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ فَقَدْ يَدُلُّ على الْقَطْعِ في صُوَرٍ كَثِيرَةٍ قد سَبَقَتْ منها الْإِخْبَارُ بِحَضْرَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا يُنْكِرُهُ أو بِحَضْرَةِ جَمْعٍ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ وَيُقِرُّوهُ أو بِأَنْ تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أو الْعَمَلِ أو بِأَنْ يَحْتَفَّ بِقَرَائِنَ على الْخِلَافِ السَّابِقِ الثَّانِي لم يَتَعَرَّضُوا لِضَابِطِ الْقَرَائِنِ وقال الْمَازِرِيُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إلَيْهَا بِعِبَارَةٍ تَضْبِطُهَا قُلْت وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هِيَ ما لَا يَبْقَى مَعَهَا احْتِمَالٌ وَتَسْكُنُ النَّفْسُ عِنْدَهُ مِثْلُ سُكُونِهَا إلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أو قَرِيبًا منه الثَّالِثُ زَعَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هو مَعْنَوِيٌّ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ هل يَكْفُرُ جَاحِدُ ما ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إنْ قُلْنَا يُفِيدُ الْقَطْعَ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا وقد حَكَى ابن حَامِدٍ من الْحَنَابِلَةِ أَنَّ في تَكْفِيرِهِ وَجْهَيْنِ وَلَعَلَّ هذا مَأْخَذُهَا
الثَّانِيَةُ أَنَّهُ هل يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ في أُصُولِ الدِّيَانَاتِ فَمَنْ قال يُفِيدُ الْعِلْمَ قَبِلَهُ وَمَنْ قال لَا يُفِيدُ لم يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِهِ إذْ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ فِيمَا هو مَحَلُّ الْقَطْعِ مُمْتَنِعٌ
فَصْلٌ في شَرْطِ الْفِعْلِ بِخَبَرِ الْآحَادِ منها ما هو في الْمُخْبِرِ وهو الرَّاوِي وَمِنْهَا ما هو في الْمُخْبَرِ عنه وهو مَدْلُولُ الْخَبَرِ وَمِنْهَا ما هو في الْخَبَرِ نَفْسِهِ وهو اللَّفْظُ الشُّرُوطُ التي يَجِبُ تَوَفُّرُهَا في الْمُخْبِرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَهُ شُرُوطٌ الْأَوَّلُ التَّكْلِيفُ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ مُمَيِّزًا كان أو لَا لِعَدَمِ الْوَازِعِ عن الْكَذِبِ وَاعْتَمَدَ الْقَاضِي في رَدِّ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ الْإِجْمَاعَ وقال الْمُعَلِّقُ عنه وقد كان الْإِمَامُ يَحْكِي وَجْهًا في صِحَّةِ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ فَلَعَلَّهُ أَسْقَطَهُ ا هـ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ مَشْهُورٌ حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ مُعْتَرِضًا بِهِ على الْقَاضِي بَلْ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ في إخْبَارِهِ عن الْقُبْلَةِ كما حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ وَلِأَصْحَابِنَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ في قَبُولِ رِوَايَتِهِ في هِلَالِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بَلْ قال الْفُورَانِيُّ في الْإِبَانَةِ في كِتَابِ الصِّيَامِ الْأَصَحُّ قَبُولُ رِوَايَتِهِ وَحَكَى إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ خَبَرًا في مُسْتَنَدِ رَدِّ أَحَادِيثِ الصَّبِيِّ فَقِيلَ هو مُقْتَبَسٌ من رِوَايَةِ الْفَاسِقِ لِأَنَّ مُلَابَسَةَ الْفِسْقِ تُهَوِّنُ عليه تَوَقِّي الْكَذِبِ وَالصَّبِيُّ أَوْلَى بِذَلِكَ فإن الْفَاسِقَ لَا يَخْلُو عن خِيفَةٍ يَسْتَوْحِشُهَا وَالصَّبِيُّ يُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ وَقِيلَ بَلْ ذلك مُتَلَقًّى من الْإِجْمَاعِ قال وَهَذَا أَسَدُّ فإن الصَّحَابَةَ لم يُرَاجِعُوا صَبِيًّا قَطُّ ولم يَسْتَخْبِرُوهُ وقد رَاجَعُوا النِّسَاءَ وَرَاءَ الْخُدُورِ وكان في الصِّبْيَانِ من يَلِجُ على رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيَطَّلِعُ على أَحْوَالٍ له بِحَيْثُ لو نَقَلَهَا لم يَخْلُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ من فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ ثُمَّ لم يُرَاجَعُوا قَطُّ ا هـ وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ مَحَلَّ الْخِلَافِ في الْمُرَاهِقِ الْمُتَثَبِّتِ في كَلَامِهِ قال أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَطْعًا كَالْبَالِغِ الْفَاسِقِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ قَوْلًا ثَالِثًا في الْمَسْأَلَةِ وهو التَّفْصِيلُ بين الْمُرَاهِقِ وَمَنْ دُونَهُ وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ اخْتَلَفُوا هل ذلك
مَظْنُونٌ أو مَقْطُوعٌ بِهِ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ مَظْنُونٌ هذا كُلُّهُ إذَا أَدَّى في حَالِ صِبَاهُ فَإِنْ تَحَمَّلَ في صِبَاهُ ثُمَّ أَدَّاهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَقَوْلَانِ في شَرْحِ اللُّمَعِ ومختصر التَّقْرِيبِ وَأَصَحُّهُمَا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُقْبَلُ لِلْإِجْمَاعِ على قَبُولِ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَمُعَاذِ بن بَشِيرٍ من غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بين ما تَحَمَّلُوهُ قبل الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ وقد رَوَى مَحْمُودُ بن الرَّبِيعِ حَدِيثَ الْمَجَّةِ التي مَجَّهَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو ابن خَمْسِ سِنِينَ وَاعْتَمَدَ الْعُلَمَاءُ رِوَايَتَهُ ذلك بَعْدَ بُلُوغِهِ وَجَعَلُوهُ أَصْلًا في سَمَاعِ الصَّغِيرِ وَالْإِجْمَاعُ على إحْضَارِ الصِّبْيَانِ مَجَالِسَ الرِّوَايَاتِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَلَوْ قِيلَ هذا لِقَبُولِ الْأُمَّةِ رِوَايَاتِ من سَبَقَ كان عِنْدِي أَوْلَى لِتَوَقُّفِ الْأَوَّلِ على أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَصَاغِرَ رَوَوْا لِلْأَكَابِرِ ما لم يَعْلَمُوهُ إلَّا من جِهَتِهِمْ فَقَبِلُوهُ وَثُبُوتُ مِثْلِ هذا عن كل الصَّحَابَةِ قد يَتَعَذَّرُ وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ بَعْدَهُمْ قد قَبِلُوا رِوَايَةَ هَؤُلَاءِ قال وَالتَّمْثِيلُ بِابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ وفي مُطَابَقَتِهِ لِحَالِ بَعْضِهِمْ نَظَرٌ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَإِنَّمَا يَصِحُّ من الصَّبِيِّ تَحَمُّلُ الرِّوَايَةِ ثُمَّ أَدَاؤُهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا كان وَقْتَ التَّحَمُّلِ مُمَيِّزًا فَأَمَّا إذَا كان غير مُمَيِّزٍ ثُمَّ بَلَغَ لم تَصِحَّ رِوَايَتُهُ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ نَقْلُ ما سَمِعَهُ وَلَا يَتَحَقَّقُ نَقْلُ ما سَمِعَهُ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ وَهَذَا إجْمَاعٌ وَلِهَذَا قُلْنَا لو سمع الْمَجْنُونُ ثُمَّ أَفَاقَ لم تُسْمَعْ رِوَايَتُهُ وقال قَوْمٌ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ إلَّا من بَالِغٍ عَاقِلٍ وما سَمِعَهُ الصَّبِيُّ في حَالِ صِبَاهُ لَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ وَكَذَا لو تَحَمَّلَ وهو فَاسِقٌ أو كَافِرٌ ثُمَّ رَوَى وهو عَدْلٌ مُسْلِمٌ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَحَكَاهُ في الْقَوَاطِعِ عن الْأُصُولِيِّينَ الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ الْمُعْتَبَرُ هُنَا التَّيَقُّظُ وَكَثْرَةُ التَّحَفُّظِ وَلَا يَكْفِي الْعَقْلُ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ قال ابن السَّمْعَانِيِّ فَإِنْ كان يُفِيقُ يَوْمًا وَيُجَنُّ يَوْمًا فَإِنْ أَثَّرَ جُنُونُهُ في زَمَنِ إفَاقَتِهِ لم يُقْبَلْ وَإِلَّا قُبِلَ الثَّانِي كَوْنُهُ من أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إجْمَاعًا سَوَاءٌ عُلِمَ من دِينِهِ الِاحْتِرَازُ عن الْكَذِبِ أَمْ لَا وَسَوَاءٌ عُلِمَ أَنَّهُ عَدْلٌ في دِينِهِ أَمْ لَا لِأَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ مَنْصِبٌ شَرِيفٌ وَمَكْرُمَةٌ عَظِيمَةٌ وَالْكَافِرُ ليس أَهْلًا لِذَلِكَ
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في الْمُسْنَدِ من جِهَةِ مُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ عن عُرْوَةَ بن عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ سَمِعْت أَبَا طَالِبٍ قال سَمِعْت ابْنَ أَخِي الْأَمِينَ يقول اُشْكُرْ تُرْزَقْ وَلَا تَكْفُرْ فَتُعَذَّبَ وَرَوَاهُ الْحَافِظُ الصُّرَيْفِينِيُّ وقال غَرِيبٌ عَجِيبٌ رِوَايَةُ أبي طَالِبٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حكم ما رواه أهل البدع وأما الذي من أهلها وهم المبتدعة فإن كفر ببدعته كالمجسمة إذا قلنا بتكفيرهم فإن علمنا من مذهبهم جواز الكذب إما لنصرة رأيهم أو غير ذلك لم تقبل روايتهم قطعا كذا قالوه وقيده بعضهم بما إذا اعتقدوا جوازه مطلقا فإن اعتقدوا جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة العقيدة أو الترغيب في الطاعة أو الترهيب عن المعصية ردت روايتهم فيما هو متعلق بذلك الأمر الخاص فقط وإن اعتقدوا حرمة الكذب فقولان قال الأكثرون لا تقبل ومنهم القاضيان أبو بكر وعبد الجبار والغزالي والآمدي قياسا على الفاسق بل هو أولى وقال أبو الحسين البصري يقبل وهو رأي الإمام وأتباعه لأن اعتقادهم حرمة الكذب يمنعهم من الإقدام عليه فيحصل صدقه فيجب العمل به وهذا التفصيل في الكافر بالبدعة ذكره في المحصول أطلق القاضي عبد الوهاب في الملخص وابن برهان في الأوسط عدم قبول رواياتهم مطلقا وقال لا خلاف فيه وجرى عليه ابن الصلاح وغيره من المحدثين وأما المبتدع إذا لم يكفر ببدعته فإن كان ممن يرى الكذب والتدين به لم يقبل بالاتفاق وإلا فاختلفوا فيه على أقوال أحدها رد روايته مطلقا لأنه فاسق ببدعته وإن كان متأولا يرد كالفاسق بغير التأويل كما لا يقبل الكافر مطلقا وبه قال القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق في اللمع قال الخطيب البغدادي ويروى عن مالك واستبعده ابن الصلاح لأن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة وقال ابن دقيق العيد لعل هذا القول مبني على القول بتكفيرهم ورواية
الكافر غير مقبولة وغاية ما يقال في الفرق أنه غير عالم بكفره وذلك ضم جهل إلى كفر فهو أولى بعدم القبول وما قاله ممنوع فإن التفريع على عدم تكفيره بالبدعة وإنما مأخذ الرد عندهم الفسق ولم يعذروه بتأويله وقالوا هو فاسق بقوله وفاسق لجهله ببدعته فتضاعف فسقه والثاني يقبل سواء دعا إلى بدعته أو لا إذا كان ممن لا يستحل الكذب كما سبق من تصوير المسألة وهو قضية مذهب الشافعي قال الحافظ ابن عدي قلت للربيع ما حمل الشافعي على روايته عن إبراهيم بن أبي يحيى مع وصفه إياه بأنه كان قدريا فقال كان الشافعي يقول لأن يخر إبراهيم من السماء أحب إليه من أن يكذب وقال الخطيب وهذا مذهب الشافعي لقوله هل هو إلا من الخطابية الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم قال ويحكى عن ابن أبي ليلى والثوري وأبي يوسف القاضي وقال أبو نصر بن القشيري إلى هذا ميل الشافعي وقبل شهادة هؤلاء والخوارج مع استحلالهم الدماء والأموال لتوقيهم الكذب واعتقادهم كفر فاعله وقال ابن برهان إنه الصحيح وقول الشافعي لقوله أقبل شهادة أهل الأهواء والبدع إلا الخطابية فإنهم يتدينون بالكذب وقال محمد بن الحسن إذا كنا نقبل رواية أهل العدل وهم يعتقدون أن من كذب فسق فلأن نقبل رواية أهل الأهواء وهم يعتقدون أن من كذب كفر بطريق الأولى قال وتحقيق ما ذكرناه أن أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وغيرهما رووا في كتبهم عن أهل الأهواء حتى قيل لو حذفت رواياتهم لابيضت الكتب ا هـ وقد اعترض الشيخ الهندي في النهاية على كون الخطابية من هذا القبيل بأن المحكي في كتب المقالات ما يوجب تكفيرهم قطعا قال فإن صح ذلك عنهم لم يكونوا من قبيل ما نحن فيه بل من قبيل الكفرة من أهل القبلة فيكون الاستثناء في كلام الشافعي منقطعا وقال ابن دقيق العيد هذا هو المذهب الحق لأنا لا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر عن صاحب الشرع وإذا لم نكفره وانضم إليه التقوى المانعة من الإقدام على ما يعتقد تحريمه فالموجب للقبول موجود وهو الإسلام مع العدالة الموجبة لظن الصدق والمانع المتخيل لا يعارض ذلك الموجب بل قد يقويه كما في الخوارج الذين يكفرون بالذنب والوعيدية الذين يرون الخلود بالذنب وإذا وجد المقتضى
وزال المانع وجب القبول وأطلق الماوردي والروياني القول بقبول رواياتهم وهو محمول على هذا التفصيل وكذلك قال إلكيا الطبري الفساق بسبب العقيدة كالخوارج والروافض وغيرهم من أهل البدع اختلف في قبول روايتهم والصحيح الذي عليه الجمهور أن رواياتهم مقبولة فإن العقائد التي تحلوا بها لا تهون عليهم افتعال الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصل الثقة وهو في حق المتأول والمحق سواء نعم الشافعي لا يقبل شهادة الكافر على الكافر مع أنه عدل في دينه من حيث إن الشهادة تستدعي رتبة ووقارا ولذلك لم يكن العبد من أهلها بخلاف الرواية فإنها إثبات الشرع على نفسه وغيره فاستدعت مزيد منصب والثالث إن كان داعيا إلى بدعته لم يقبل وإلا قبل وبه جزم سليم في التقريب وحكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص عن مالك لقوله لا تأخذ الحديث عن صاحب هوى يدعو إلى هواه قال القاضي عياض وهذا يحتمل أن يريد أنه إذا لم يدع يقبل ويحتمل أنه أراد لا يقبل مطلقا ويكون قوله يدعو لبيان سبب تهمته أي لا تأخذ عن مبتدع فإنه ممن يدعو إلى هواه وهذا هو المعروف من مذهبه ا هـ قال الخطيب وهو مذهب أحمد ونسبه ابن الصلاح للأكثرين قال وهو أعدل المذاهب وأولاها وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجا واستشهادا كعمران بن حطان وداود بن الحصين وغيرهما وقد نقل أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات الإجماع على الأمرين فقال في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي فليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف في أن الصدوق التقي إذا كان فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره ا هـ وقال ابن دقيق العيد جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقا عليه وليس كما قاله نعم في هذا المذهب وجه أنه إذا روى المبتدع الداعية ما يقوي به حجته على خصمه وكذلك إذا لم يكن داعية إلا أنه أضعف من الأول قال نعم الذي أختاره أن الداعية إذا روى فإما أن يروي ما ينفرد به عن غيره ولا يوجد إلا عنده أو ما يوجد عند غيره فإن كان الأول روي عنه لأن الرواية عنه هاهنا في مرتبة الضرورة وإن كان يوجد عند غيره لم يرو عنه لا لأن روايته
باطلة بل لإهانته وعدم تعظيمه ا هـ وهو تفصيل غريب وما حكاه عن بعض المتأخرين كأنه يريد به ابن القطان المحدث فإنه قال في كتاب الوهم والإيهام الخلاف في غير الداعية أما الداعية فهو ساقط عند الجميع وليس كما قال وفعل أبو علي الغساني من المحدثين فقال إن ضم إلى بدعته افتعاله الحديث وتحريف الرواية لنصرة مذهبه لم يقبل وإلا قبل وهذا التفصيل لا وقع له فإن ذلك متروك ولو لم يكن صاحب بدعة
تنبيهات الأول المراد بالداعية إلى البدعة
الأول يتبادر أن المراد بالداعية الحامل على بدعته لكن قال أبو الوليد الباجي الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهرها ويحقق عليها فأما الداعي بمعنى حمل الناس عليها فلم يختلف في ترك حديثه الثَّانِي مَتَى تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ إذَا رَوَى في حَالِ كُفْرِهِ أَمَّا لو تَحَمَّلَ وهو كَافِرٌ ثُمَّ أَدَّى في الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ على الصَّحِيحِ قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ قَالَا وَكَذَلِكَ لو رَوَى وهو فَاسِقٌ ثُمَّ أَدَّى وقد اعْتَدَلَ وفي الصَّحِيحِ عن جُبَيْرٍ بن مُطْعِمٍ أَنَّهُ سمع النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ وَلَمَّا سمع هذا كان كَافِرًا عَقِبَ أَسْرِهِ في غَزْوَةِ بَدْرٍ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ في الحديث ثُمَّ أَنَّهُ رَوَاهُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ وَأَجْمَعُوا على قَبُولِهِ الشَّرْطُ الثَّالِثُ الْعَدَالَةُ في الدِّينِ فَالْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ كما لَا يَوْثُقُ بِشَهَادَتِهِ وَالْعَدْلُ هو الْعَادِلُ تَوَسُّعًا مَأْخُوذٌ من الِاعْتِدَالِ وفي الِاصْطِلَاحِ من تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَيُحْكَمُ بها وَالْعَدَالَةُ في الْأَصْلِ هِيَ الِاسْتِقَامَةِ يُقَالُ طَرِيقٌ عَدْلٌ لِطَرِيقِ الْجَادَّةِ وَضِدُّهَا الْفِسْقُ وهو الْخُرُوجُ عن الْحَدِّ الذي جُعِلَ له وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا تُقْبَلَ رِوَايَتُهُ من حَيْثُ إنَّ هَوَاهُ غَالِبٌ على تَقْوَاهُ فَلَا تَصِحُّ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ ضَابِطُ الشَّرْعِ في ذلك مُعْتَبَرٌ فَلَوْ لَاحَ بِالْمَخَايِلِ صِدْقُهُ لم يَجُزْ قَبُولُ رِوَايَتِهِ فإنه يُخَالِفُ ضَابِطَ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لنا أَنْ نَعْمَلَ بِكُلِّ ظَنٍّبَلْ ظَنٍّ له أَصْلٌ شَرْعًا هذا إذَا رَجَعَ الْفِسْقُ إلَى الدِّيَانَةِ فَلَا خِلَافَ فيه كما قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ فَإِنْ رَجَحَ إلَى الْعَقِيدَةِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ قال الْقَاضِي وَلَا تُقْبَلُ مِمَّنْ اُتُّفِقَ على فِسْقِهِ وَإِنْ كان مُتَأَوِّلًا تَعْرِيفُ الْعَدَالَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ في مَعْنَاهَا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عِبَارَةٌ عن الْإِسْلَامِ مع عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْفِسْقِ وَعِنْدَنَا مَلَكَةٌ في النَّفْسِ تَمْنَعُ عن اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالرَّذَائِلِ الْمُبَاحَةِ كَالْبَوْلِ في الطَّرِيقِ وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكَبَائِرِ وَالرَّذَائِلِ الصَّادِقِ بِوَاحِدَةٍ لَا حَاجَةَ لِلْإِصْرَارِ على الصَّغِيرَةِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ كَبِيرَةً قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَاَلَّذِي صَحَّ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال ليس من الناس من يَمْحُضُ الطَّاعَةَ فَلَا يَمْزُجُهَا بِمَعْصِيَةٍ وَلَا في الْمُسْلِمِينَ من يَمْحُضُ الْمَعْصِيَةَ فَلَا يَمْزُجُهَا بِالطَّاعَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى رَدِّ الْكُلِّ وَلَا إلَى قَبُولِ الْكُلِّ فَإِنْ كان الْأَغْلَبُ على الرَّجُلِ من أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كان الْأَغْلَبُ الْمَعْصِيَةَ وَخِلَافَ الْمُرُوءَةِ رَدَدْتهَا وهو ظَاهِرٌ في جَرْيِ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ مَجْرًى وَاحِدًا وَعَلَيْهِ جَرَى الْقَاضِي وقال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ من قَارَفَ كَبِيرَةً رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَمَنْ اقْتَرَفَ صَغِيرَةً لم تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ قال وَالْمُوَاظَبَةُ على الصَّغِيرَةِ كَمُقَارَفَةِ الْكَبِيرَةِ وقال لو ثَبَتَ كَذِبُ الرَّاوِي رُدَّتْ رِوَايَتُهُ إذَا تَعَمَّدَ وَإِنْ كان لَا يُعَدُّ ذلك الْكَذِبَ من الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ قَادِحٌ في نَفْسِ الْمَقْصُودِ بِالرِّوَايَةِ وقال الْقَاضِي ما مَعْنَاهُ الْمَعْنِيُّ في الرِّوَايَةِ الثِّقَةُ فَكُلُّ ما لَا يَخْرِمُ الثِّقَةَ لَا يَقْدَحُ في الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا الْقَادِحُ ما يَخْرِمُ الثِّقَةَ ا هـ وقال الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ الْمُرَادُ بِالْعَدْلِ من كان مُطِيعًا لِلَّهِ في نَفْسِهِ ولم يُكْثِرْ من الْمَعَاصِي إلَّا هَفَوَاتٍ وَزَلَّاتٍ إذْ لَا يَعْرَى وَاحِدٌ من مَعْصِيَةٍ فَكُلُّ من أتى كَبِيرَةً فَاسِقٌ أو صَغِيرَةً فَلَيْسَ بِفَاسِقٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ ما تُنْهَوْنَ عنه وَمَنْ تَتَابَعَتْ منه الصَّغِيرَةُ وَكَثُرَتْ وُقِفَ خَبَرُهُ وَكَذَا من جُهِلَ أَمْرُهُ قال وما ذَكَرْتُ من مُتَابَعَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعَاصِي أنها عِلْمُ الْإِصْرَارِ لِعِلْمِ الظَّاهِرِ كَالشَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَعَلَى أَنِّي على حَقِّ النَّظَرِ لَا أَجْعَلُ الْمُقِيمَ على الصَّغِيرَةِ الْمَعْفُوِّ عنها مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا على الْمَعْصِيَةِ الْمُخَالِفَةِ أَمْرَ اللَّهِ دَائِمًا قال فَكُلُّ من
ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ فَمَقْبُولٌ حتى يُعْلَمَ الْجَرْحُ وَلَيْسَ لِذَلِكَ غَايَةٌ يُحَاطُ بها وَأَنَّهُ عَدْلٌ في الْحَقِيقَةِ وَلَا يَكُونُ مَوْقُوفًا حتى يُعْلَمَ الْجَرْحُ ا هـ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ لَا بُدَّ في الْعَدْلِ من أَرْبَعِ شَرَائِطَ 1 الْمُحَافَظَةُ على فِعْلِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ وَأَنْ لَا يَرْتَكِبَ من الصَّغَائِرِ ما يَقْدَحُ في دِينٍ أو عِرْضٍ 3 وَأَنْ لَا يَفْعَلَ من الْمُبَاحَاتِ ما يُسْقِطُ الْقَدْرَ وَيُكْسِبُ النَّدَمَ 4 وَأَنْ لَا يَعْتَقِدَ من الْمَذَاهِبِ ما تَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرْعِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الثِّقَةُ من الْمُعْتَمَدِ عليها فَمَتَى حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِالْخَبَرِ قُبِلَ وَهَذَا مَفْهُومٌ من عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ فإنه قال وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ عَلَامَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْعَدْلِ في بَدَنِهِ وَلَا لَفْظِهِ وَإِنَّمَا عَلَامَةُ صِدْقِهِ بِمَا يُخْتَبَرُ من حَالِهِ في نَفْسِهِ فَإِنْ كان الْأَغْلَبُ من أَمْرِهِ ظَاهِرَ الْخَيْرِ قُبِلَ وَإِنْ كان فيه تَقْصِيرٌ من بَعْضِ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى أَحَدٌ رَأَيْنَاهُ من الذُّنُوبِ فإذا خَلَطَ الذُّنُوبَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَلَيْسَ فيه إلَّا الِاجْتِهَادُ على الْأَغْلَبِ من أَمْرِهِ وَالتَّمْيِيزُ بين حُسْنِهِ وَقُبْحِهِ ا هـ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ في الرِّوَايَةِ وَإِنْ كانت عِنْدَنَا شَرْطًا بِلَا خِلَافٍ لَكِنْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هل يَنْتَهِي إلَى الْعَدَالَةِ الْمُشْتَرَطَةِ في الشَّهَادَةِ أَمْ لَا وَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن عَبْدَانِ في شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ أَحَدُهُمَا أَنْ تُعْتَبَرَ الْعَدَالَةُ مِمَّنْ يَقْبَلُهُ الْحَاكِمُ في الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ أو زَكَّاهُ مُزَكِّيَانِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ في نَاقِلِ الْخَبَرِ وَعَدَالَتِهِ ما يُعْتَبَرُ في الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ بَلْ إذَا كان ظَاهِرُهُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ قُبِلَ خَبَرُهُ هذا كَلَامُهُ قُلْت وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ على الْأَوَّلِ فإنه قال في اخْتِلَافِ الحديث في جَوَابِ سُؤَالٍ أَوْرَدَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ شَهَادَتُهُمَا إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ في الظَّاهِرِ ا هـ وهو ظَاهِرٌ في أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ من يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ
ثُمَّ اخْتَلَفُوا في مَوَاطِنَ أَقْسَامُ الذُّنُوبِ أَحَدُهَا أَنَّ الذُّنُوبَ إلَى كَمْ تَنْقَسِمُ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا إلَى قِسْمَيْنِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وهو الْمَشْهُورُ بين الْفُقَهَاءِ وَيُسَاعِدُهُمْ إطْلَاقَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَرَّهَ إلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَجَعَلَ الْفُسُوقَ وهو الْكَبَائِرُ تَلِي رُتْبَةَ الْكُفْرِ وَجَعَلَ الصَّغَائِرَ تَلِي رُتْبَةَ الْكَبِيرَةِ وقد خَصَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعْضَ الذُّنُوبِ بِاسْمِ الْكَبَائِرِ الثَّانِي هو قِسْمٌ وَاحِدٌ وهو الْكَبَائِرُ وهو طَرِيقَةُ جَمْعٍ من الْأُصُولِيِّينَ منهم الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَنَفْيُ الصَّغَائِرِ وَجَرَى عليه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْإِرْشَادِ وابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ فقال الْمَعَاصِي عِنْدَنَا كَبَائِرُ وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى ما هو أَكْبَرُ منها كما يُقَالُ الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُفْرِ وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا وَكُلُّهَا كَبَائِرُ قال وَمَعْنَى الْآيَةِ إنْ اجْتَنَبْتُمْ كَبَائِرَ ما نَهَاكُمْ عنه وهو الْكُفْرُ بِاَللَّهِ كَفَّرْت عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ التي دُونَ الْكُفْرِ إنْ شِئْت ثُمَّ حَكَى انْقِسَامَ الذُّنُوبِ إلَى صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عن الْمُعْتَزِلَةِ وَغَلَّطَهُمْ وَلَعَلَّ أَصْحَابَ هذا الْوَجْهِ كَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ صَغِيرَةً إجْلَالًا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ مع أَنَّهُمْ وَافَقُوا في الْجَرْحِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ وَالثَّالِثُ قَوْلُ الْحَلِيمِيِّ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ وَفَاحِشَةٍ فَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ فإذا قَتَلَ ذَا رَحِمٍ فَفَاحِشَةٌ فَأَمَّا الْخَدْشَةُ وَالضَّرْبَةُ مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ فَصَغِيرَةٌ وَجَعَلَ سَائِرَ الذُّنُوبِ هَكَذَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ فإن رُتْبَةَ الْكَبَائِرِ تَتَفَاوَتُ قَطْعًا تَعْرِيفُ الْكَبِيرَةِ الثَّانِي إذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ فَاخْتَلَفُوا في الْكَبِيرَةِ هل تُعَرَّفُ بِالْحَدِّ أو بِالْعَدِّ على وَجْهَيْنِ وَبِالْأَوَّلِ قال الْجُمْهُورُ وَاخْتَلَفُوا على أَوْجُهٍ قِيلَ الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ وَقِيلَ ما لَحِقَ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَقِيلَ ما تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقِيلَ ما نَصَّ الْكِتَابُ على تَحْرِيمِهِ أو وَجَبَ في جِنْسِهِ حَدٌّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ قَائِلٍ ذَكَرَ بَعْضَ أَفْرَادِهَا وَيَجْمَعُ الْكَبَائِرَ جَمِيعُ ذلك وَالْقَائِلُونَ بِالْعَدِّ اخْتَلَفُوا في أنها هل تَنْحَصِرُ فَقِيلَ تَنْحَصِرُ وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ
مُعَيَّنَةٌ وقال الْوَاحِدِيُّ في الْبَسِيطِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ ليس لِلْكَبَائِرِ حَدٌّ يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ وَتَتَمَيَّزُ بِهِ عن الصَّغَائِرِ تَمْيِيزَ إشَارَةٍ وَلَوْ عُرِفَ ذلك لَكَانَتْ الصَّغَائِرُ مُبَاحَةً وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْفَى ذلك على الْعِبَادِ لِيَجْتَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ في اجْتِنَابِ ما نُهِيَ عنه رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ وَنَظِيرُهُ إخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى في الصَّلَوَاتِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ في رَمَضَانَ ا هـ ثُمَّ قِيلَ هِيَ سَبْعَةٌ وَقِيلَ أَرْبَعَةَ عَشْرَ وقال ابن عَبَّاسٍ هِيَ إلَى سَبْعِينَ أَقْرَبُ منها إلَى السَّبْعِ وَالصَّحِيحُ أنها لَا تَنْحَصِرُ إذْ لَا يُؤْخَذُ ذلك إلَّا من السَّمْعِ ولم يَرِدْ فيه حَصْرُهَا وقد أَنْهَاهَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيِّ في جُزْءٍ صَنَّفَهُ إلَى السَّبْعِينَ وَمِنْ الْمَنْصُوصِ عليه الْقَتْلُ وَالزِّنَا وَاللِّوَاطُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَمُطْلَقُ السُّكْرِ وَالسَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ وَالْقَذْفُ وَالنَّمِيمَةُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَالْعُقُوقُ وَالْفِرَارُ وَمَالُ الْيَتِيمِ وَخِيَانَةُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَتَقَدُّمُ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرُهَا وَالْكَذِبُ على مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَضَرْبُ الْمُسْلِمِ وَسَبُّ الصَّحَابَةِ وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ وَالرِّشْوَةُ وَالدِّيَاثَةُ وَهِيَ الْقِيَادَةُ على أَهْلِهِ وَالْقِيَادَةُ وَهِيَ على أَجْنَبِيٍّ وَالسِّعَايَةُ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ وَالْيَأْسُ من رَحْمَةِ اللَّهِ وَأَمْنُ الْمَكْرِ وَالظِّهَارُ وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَفِطْرُ رَمَضَانَ وَالْغُلُولُ وَالْمُحَارَبَةُ وَالسِّحْرُ وَالرِّبَا وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ وَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ بَعْدَ حِفْظِهِ وَإِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ وَامْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ من زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ وَتَوَقَّفَ الرَّافِعِيُّ في تَرْكِ الْأَمْرِ وما بَعْدَهُ وَنَقَلَ عن صَاحِبِ الْعُدَّةِ جَعْلَ الْغِيبَةِ من الصَّغَائِرِ وهو يُخَالِفُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ كَيْفَ وَهِيَ أُخْتُ النَّمِيمَةِ وقد رَوَى الطَّبَرَانِيُّ حَدِيثَ الْمُعَذَّبَيْنِ في قَبْرِهِمَا فذكر الْغِيبَةَ بَدَلَ النَّمِيمَةِ وَمِنْهَا إدْمَانُ الصَّغِيرَةِ الثَّالِثُ أَنَّ الْإِصْرَارَ على الصَّغَائِرِ حُكْمُهُ حُكْمُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ الْوَاحِدَةِ على الْمَشْهُورِ وقال أبو طَالِبٍ الْقُضَاعِيُّ في كِتَابِ تَحْرِيرِ الْمَقَالِ في مُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ إنَّ الْإِصْرَارَ حُكْمُهُ حُكْمُ ما أُصِرَّ بِهِ عليه فَالْإِصْرَارُ على الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ قال وقد جَرَى على أَلْسِنَةِ الصُّوفِيَّةِ لَا صَغِيرَةَ مع الْإِصْرَارِ وَرُبَّمَا يَرْوِي حَدِيثًا وَلَا يَصِحُّ وَالْإِصْرَارُ يَكُونُ بِاعْتِبَارَيْنِ أَحَدُهُمَا حُكْمِيٌّ وهو الْعَزْمُ على فِعْلِ تِلْكَ الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ منها فَهَذَا
حُكْمُهُ حُكْمُ من كَرَّرَهَا فِعْلًا بِخِلَافِ التَّائِبِ منها فَلَوْ ذَهَلَ من ذلك ولم يَعْزِمْ على شَيْءٍ فَهَذَا هو الذي تُكَفِّرُهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ من الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالْجُمُعَةِ وَالصِّيَامِ كما دَلَّ عليه الْأَحَادِيثُ لَكِنْ اُخْتُلِفَ في هذا هل شَرْطُ التَّكْفِيرِ عَدَمُ مُلَابَسَتِهِ لِشَيْءٍ من الْكَبَائِرِ أو لَا يُشْتَرَطُ ذلك على قَوْلَيْنِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الصَّلَاةُ إلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةُ ما بَيْنَهُمَا ما اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ وَحَكَى ابن عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ عن الْجُمْهُورِ الِاشْتِرَاطَ لِظَاهِرِ الحديث وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قال وَالشَّرْطُ في الحديث بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْدِيرُ مُكَفِّرَاتُ ما بَيْنَهُنَّ إلَّا الْكَبَائِرَ وَهَذَا يُسَاعِدُهُ مُطْلَقُ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّكْفِيرِ من غَيْرِ شَرْطٍ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبَائِرِ في الْآيَةِ السَّابِقَةِ الْكُفْرُ كما قال ابن فُورَكٍ فَنَحْمِلُ الحديث عليها وَتَسْقُطُ الدَّلَالَةُ بها لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي الْإِصْرَارُ بِالْفِعْلِ وَيَحْتَاجُ إلَى ضَابِطٍ قال ابن الرِّفْعَةِ لم أَظْفَرْ فيه بِمَا يُثْلِجُ الصُّدُورَ وقد عَبَّرَ عنه بَعْضُهُمْ بِالْمُدَاوَمَةِ وَحِينَئِذٍ هل تُعْتَبَرُ الْمُدَاوَمَةُ على نَوْعٍ وَاحِدٍ من الصَّغَائِرِ أَمْ الْإِكْثَارِ من الصَّغَائِرِ سَوَاءٌ كانت من نَوْعٍ وَاحِدٍ أو أَنْوَاعٍ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْأَصْحَابِ عنه وَجْهَانِ قال الرَّافِعِيُّ وَيُوَافِقُ الثَّانِي قَوْلَ الْجُمْهُورِ من تَغْلِبُ مَعَاصِيهِ طَاعَتَهُ كَأَنْ يُزَوِّرَ الشَّهَادَةَ قال وإذا قُلْنَا بِهِ لم يَضُرَّهُ الْمُدَاوَمَةُ على نَوْعٍ وَاحِدٍ من الصَّغَائِرِ إذَا غَلَبَتْ الطَّاعَاتُ وَعَلَى الْأَوَّلِ تَضُرُّهُ قال ابن الرِّفْعَةِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ مُدَاوَمَةَ النَّوْعِ تَضُرُّ على الْوَجْهَيْنِ أَمَّا على الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا على الثَّانِي فَلِأَنَّهُ في ضِمْنِ حِكَايَتِهِ قال إنَّ الْإِكْثَارَ من النَّوْعِ الْوَاحِدِ كَالْإِكْثَارِ من الْأَنْوَاعِ وَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ معه التَّفْصِيلُ نعم يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيمَا إذَا أتى بِأَنْوَاعٍ من الصَّغَائِرِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لم يَضُرَّ وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي ضَرَّ
ويتفرع على اشتراط العدالة مسائل
أحدها عدم قبول خبر الفاسق والفسق نوعان أحدهما من حيث الأفعال فلا خلاف في ردهالثاني من جهة الاعتقاد كالمبتدعة وفيه خلاف وحكى مسلم في صحيحه الإجماع على رد خبر الفاسق قال إنه غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم وذكر إمام الحرمين أن الحنفية وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فلم يبوحوا بقبول روايته فإن قال به قائل فهو مسبوق بالإجماع وللمقدم على الفسق أحوال أحدها أن يعلم حرمة ما أقدم عليه والإجماع على رده كذا قال في المحصول وغيره ويتجه تقييده بالمقطوع بكونه فسقا أما المظنون فيشبه تخريج خلاف فيه إذ حكوا وجها فيمن شرب النبيذ وهو يعتقد تحريمه أن شهادته لا ترد والرواية ملحقة بالشهادة فيما يرجع إلى العدالة الثاني أن يقدم على الفسق معتقدا جوازه لشبهة أو تقليد فأقوال ثالثها الفرق بين المظنون والمقطوع وهو ظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه فإنه قال في المظنونات أقبل شهادة الحنفي إذا شرب النبيذ وأحده وقال في القطعيات أقبل شهادة أهل البدع والأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون شهادة الزور لموافقيهم وحكي في المحصول الاتفاق في المظنون على القبول قال الهندي والأظهر ثبوت الخلاف فيه كما في الشهادة وهذا من الشافعي في المقطوع به إذا لم ير صاحبه جواز الكذب والأكثرون قبلوا روايته وهو اختيار الغزالي والإمام الرازي وأبي الحسين البصري وقال ابن الصباغ في العدة إذا كان فسقه من جهة الاعتقاد لم يرد خبره وقد قبل التابعون أخبار الخوارج وقال الشافعي لا أرد شهادة أهل الأهواء واختار القاضي أبو بكر والجبائي وأبو هاشم عدم القبول وقد نازع في كونه صورة النبيذ ونحوها من الفسق المظنون طائفتان فطائفة قالت ليس هو من الفسق أصلا لأنه مجتهد فيه والمسائل الاجتهادية لا إنكار فيها على المخالف ولا فسق لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد لا نعلمه ولا إثم على المخطئ وإلى هذا جنح العبدري في شرح المستصفى وطائفة قالت بل هو من المقطوع به لأن الحد إنما يصح مع التفسيق والفسق رد الشهادة ولهذا قال مالك أحده ولا أقبل شهادته وإلى هذا جنح ابن الحاجب والقرافي وجعل ذلك من الشافعي تناقضا
لكن الشافعي حقق اختلاف الجهتين فقال الحد للزجر فلم يراع فيه مذهب الشارب للنبيذ والشهادة ترد للكبيرة وهذا يتأول فيمن شرب معتقدا إباحة فعذر بتأويله الثالث أن يقدم غير معتقد بحل ولا حرمة عالما بالخلاف في إباحته وحظره فيحد وفي فسقه ورد شهادته وجهان حكاهما الماوردي ولا يبعد تخريجهما في الرواية أحدهما أنه فاسق مردود الشهادة لأن ترك الإرشاد في الشبهات تهاون والثاني لا يفسق لأن اعتقاد الإباحة أغلظ من التعاطي ولا يفسق معتقد الإباحة الثانية من ظهر عناده فيما ذهب إليه لا تقبل روايته لأنه كذب مع علمه به الثالثة إذا ثبت أن عدالة الراوي شرط فله ثلاثة أحوال لأنه إما أن يعلم عدالته ولا إشكال في قبوله وإما أن يعلم جرحه فلا إشكال في رده وإما أن يجهل حاله وَلَهُ أَحْوَالٌ الرَّاوِي الْمَجْهُولُ الْحَالِ أَحَدُهَا مَجْهُولُ الْحَالِ في الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مع كَوْنِهِ مَعْرُوفَ الْعَيْنِ بِرِوَايَةِ عَدْلَيْنِ عنه وَفِيهِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا وهو قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ كما حَكَاهُ ابن الصَّلَاحِ أَنَّ رِوَايَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَالثَّانِي تُقْبَلُ مُطْلَقًا وَالثَّالِثُ إنْ كان الرَّاوِيَانِ أو الرُّوَاةُ عنه لَا يَرْوُونَ عن غَيْرِ عَدْلٍ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا الرَّاوِي الْمَسْتُورُ الْحَالِ الثَّانِي الْمَجْهُولُ بَاطِنًا وهو عَدْلٌ في الظَّاهِرِ وهو الْمَسْتُورُ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُقْبَلُ ما لم يُعْلَمْ الْجَرْحُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُقْبَلُ ما لم تُعْلَمْ الْعَدَالَةُ كَالشَّهَادَةِ وَكَذَا قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَمِمَّنْ نَقَلَهُ عن جَزْمِ الشَّافِعِيُّ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عن الْأَكْثَرِينَ وَنَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عن مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وقال نُصَّ في كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ على أَنَّ خَبَرَ الْمَسْتُورِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَالْعَدْلِ وهو قِيَاسُ قَوْلِهِ في الشَّهَادَةِ قال أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ على قَوْلِهِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَإِنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ على جَهَالَةِ الْحَالِ وَالْفَرْقُ أَنَّ في الشَّهَادَةِ خَصْمًا يُطَالِبُ
بِالْعَدَالَةِ فَجَازَ لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ إذَا تَرَكَ الْخَصْمُ حَقَّهُ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ كما قُلْنَا بِالِاتِّفَاقِ في الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ مِنَّا الْأُسْتَاذُ أبو بَكْرِ بن فُورَكٍ كما رَأَيْت نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في كِتَابِهِ وَكَذَا وَافَقَهُمْ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ مَبْنِيٌّ على حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي وَلِأَنَّ رِوَايَةَ الْأَخْبَارِ تَكُونُ عِنْدَ من يَتَعَذَّرُ عليه مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ في الْبَاطِنِ فَاقْتُصِرَ فيه على مَعْرِفَةِ ذلك في الظَّاهِرِ وَيُفَارِقُ الشَّهَادَةَ فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ الْحُكَّامِ وَلَا يَتَعَذَّرُ عليهم ذلك فَاعْتُبِرَ فيها الْعَدَالَةُ في الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ قال ابن الصَّلَاحِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ على هذا الرَّأْيِ في كَثِيرٍ من كُتُبِ الحديث الْمَشْهُورَةِ في غَيْرِ وَاحِدٍ من الرُّوَاةِ الَّذِينَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِهِمْ وَتَعَذَّرَتْ الْخِبْرَةُ الْبَاطِنَةُ بِهِمْ وَإِلَى نَحْوِهِ مَالَ ابن عبد الْبَرِّ فِيمَنْ عُرِفَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ وَسَنَذْكُرُهُ قُلْت وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْحَنَفِيَّةِ قَيَّدُوا ما سَبَقَ عَنْهُمْ بِصَدْرِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ الْغَالِبُ على الناس الْعَدَالَةُ وَأَمَّا الْمَسْتُورُ في زَمَانِنَا فَلَا يُقْبَلُ لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الرَّشَادِ وَإِنَّمَا كان يُقْبَلُ في زَمَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ الْمَجْهُولُ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إنْ نَقَلَ عنه السَّلَفُ وَعَمِلُوا بِهِ أو سَكَتُوا عن رَدِّهِ فَإِنْ لم يَظْهَرْ فَيُعْمَلْ بِهِ ما لم يُخَالِفْ الْقِيَاسَ انْتَهَى وَهَذَا تَفْصِيلٌ في الْمَسْأَلَةِ وقد جَرَتْ عَادَةُ ابْنِ حِبَّانَ في كِتَابِ الثِّقَاتِ أَنْ يُوَثِّقَ من كان في الطَّبَقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ من التَّابِعِينَ قال بَعْضُ الْأَئِمَّةِ اسْتَقْرَيْت ذلك منه لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ على ذلك الْعَصْرِ مع عَدَمِ ظُهُورِ ما يَقْتَضِي التَّضْعِيفَ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يُوقَفُ وَيَجِبُ الِانْكِفَافُ إذَا رُوِيَ التَّحْرِيمُ إلَى الظُّهُورِ فَتَحَصَّلْنَا على أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ وَأَطْلَقَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَصْحِيحَ قَبُولِ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ وَرُبَّمَا أَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ على انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِمَسْتُورِي الْعَدَالَةِ فَالرِّوَايَةُ أَوْلَى وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ وقال قَبُولُ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ إنَّمَا تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْقَضَاءِ بِالنِّكَاحِ لَا مَنْزِلَةَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ لَا يُقْضَى فيه عِنْدَ التَّجَاحُدِ بِشَهَادَةِ مَسْتُورٍ فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَشْهُورِ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنْ كان الشَّافِعِيُّ قد اعْتَقَدَ أَنَّ شُهُودَ النِّكَاحِ عُدُولٌ في ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ نَاقَضَ ما قَالَهُ في حَدِّ الْعَدَالَةِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ
الْإِسْلَامَ أَصْلُ الْعَدَالَةِ وَمُعْظَمُهَا وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ عَدَالَةً فَذَلِكَ بَعِيدٌ من قَوْلِهِ انْتَهَى وَجَوَابُهُ ما ذُكِرَ وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ كَلَامَهُ في اخْتِلَافِ الحديث أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمَجْهُولُ وهو الذي نَقَلَهُ عنه الْبَيْهَقِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمَسْتُورِ من يَكُونُ عَدْلًا في الظَّاهِرِ وَلَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ بَاطِنًا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَذُكِرَ في كِتَابِ الصِّيَامِ تَبَعًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ أَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ هِيَ التي تَرْجِعُ فيها الْقُضَاةُ إلَى قَوْلِ الْمُزَكِّينَ وَسَبَقَ عن النَّصِّ في اخْتِلَافِ الحديث ما يُؤَيِّدُهُ وَفَسَّرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَسْتُورَ بِاَلَّذِي لم يَظْهَرْ منه نَقِيضُ الْعَدَالَةِ ولم يَبْقَ الْبَحْثُ على الْبَاطِنِ في عَدَالَتِهِ وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَمِنْهُمْ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ صَرِيحٌ في أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ الِاسْتِقَامَةُ بِلُزُومِ أَدَاءِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَتَجَنُّبِ مَنَاهِيهِ وما يَثْلِمُ مُرُوءَتَهُ أَيْ سَوَاءٌ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَمْ لَا قال الْقَاضِي وَلَا يَكْفِيهِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ حتى يَتَوَقَّى مع ذلك لِمَا يقول كَثِيرٌ من الناس إنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً كَالضَّرْبِ الْخَفِيفِ وَتَطْفِيفِ الدَّانِقِ وَنَحْوِهِ الثَّالِثُ مَجْهُولُ الْعَيْنِ وهو من لم يَشْتَهِرْ ولم يَرْوِ عنه إلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ فَالصَّحِيحُ لَا يُقْبَلُ وَقِيلَ يُقْبَلُ مُطْلَقًا وهو قَوْلُ من لم يَشْتَرِطْ في الرَّاوِي مَزِيدًا على الْإِسْلَامِ وَقِيلَ إنْ كان الْمُنْفَرِدُ بِالرِّوَايَةِ عنه لَا يَرْوِي إلَّا عن عَدْلٍ كَابْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بن سَعِيدٍ فَاكْتَفَيْنَا في التَّعْدِيلِ بِوَاحِدٍ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ إنْ كان مَشْهُورًا في غَيْرِ الْعِلْمِ بِالزُّهْدِ وَالنَّجْدَةِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا وهو قَوْلُ ابْنِ عبد الْبَرِّ وَقِيلَ إنْ زَكَّاهُ أَحَدٌ من أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مع رِوَايَتِهِ وَأَخَذَهُ عنه قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا وهو اخْتِيَارُ أبي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثِ صَاحِبِ كِتَابِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ قال الْخَطِيبُ وَأَقَلُّ ما تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَهَالَةُ أَنْ يَرْوِيَ عنه اثْنَانِ فَصَاعِدًا من الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ إلَّا أَنَّهُ لم يَثْبُتْ له حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِرِوَايَتِهِمَا عنه وقد رَوَيْنَا ذلك عن مُحَمَّدِ بن يحيى الذُّهْلِيِّ وَغَيْرِهِ قُلْت وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ ابْنِ حِبَّانَ في ثِقَاتِهِ وَصَحِيحِهِ ارْتِفَاعُ الْجَهَالَةِ بِرِوَايَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ وَحُكِيَ ذلك عن النَّسَائِيّ أَيْضًا وقال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الحديث إلَى أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا رَوَى عنه وَاحِدٌ فَقَطْ فَهُوَ مَجْهُولٌ وإذا رَوَى عنه اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مَعْلُومٌ انْتَفَتْ عنه الْجَهَالَةُ قال وَهَذَا ليس بِصَحِيحٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِ الْأُصُولِ لِأَنَّهُ قد يَرْوِي الْجَمَاعَةُ عن الرَّجُلِ لَا يَعْرِفُونَ وَلَا يُخْبِرُونَ شيئا من
أَمْرِهِ وَيُحَدِّثُونَ بِمَا رَوَوْا عنه وَلَا تُخْرِجُهُ رِوَايَتُهُمْ عنه عن الْجَهَالَةِ إذَا لم يَعْرِفُوا عَدَالَتَهُ قُلْت مُرَادُ الْمُحَدِّثِينَ ارْتِفَاعُ جَهَالَةِ الْعَيْنِ لَا الْحَالِ وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ رِوَايَةَ الِاثْنَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْجَمَةِ في الشَّهَادَةِ قَبُولُ رِوَايَةِ التَّائِبِ عن الْكَذِبِ الرَّابِعَةُ من عُرِفَ بِالْكَذِبِ في أَحَادِيثِ الناس لم تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ وَإِنْ كان يُصَدَّقُ في حديث النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَكَاهُ عبد الْوَهَّابِ عن مَالِكٍ وَأَمَّا إذَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ في أَحَادِيثِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَبَدًا وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ كما قَالَهُ جَمَاعَةٌ من الْأَئِمَّةِ منهم أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ وأبو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ بِخِلَافِ التَّائِبِ من الْكَذِبِ في حديث الناس قال ابن الصَّلَاحِ وَأَطْلَقَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ كُلُّ من أَسْقَطْنَا خَبَرَهُ من أَهْلِ النَّقْلِ بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عليه لم نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَرُ منه وَمَنْ ضَعَّفْنَا نَقْلَهُ لم نَجْعَلْهُ قَوِيًّا بَعْدَ ذلك وَذَكَرَ أَنَّ ذلك مِمَّا فَارَقَتْ فيه الرِّوَايَةُ الشَّهَادَةَ قال وَذَكَرَ أبو الْمُظَفَّرِ بن السَّمْعَانِيِّ أَنَّ من يَكْذِبُ في خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إسْقَاطُ ما تَقَدَّمَ من حَدِيثِهِ قُلْت وَكَذَا قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ من كَذَبَ في حَدِيثٍ رُدَّ بِهِ جَمِيعُ أَحَادِيثِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَوَجَبَ نَقْضُ ما عُمِلَ بِهِ منها وَإِنْ لم يَنْتَقِضْ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ من حُدِّثَ فِسْقُهُ لِأَنَّ الحديث حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ الناس فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ ا هـ وَحَكَى الرُّويَانِيُّ في بَابِ الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ عن الْقَفَّالِ أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَذَبَ في حديث النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يُقْبَلْ حَدِيثُهُ أَبَدًا وَكَذَا قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ من قال كَذَبْت في هذا الحديث فَقَدْ فَسَقَ ولم يُؤْخَذْ بَعْدَ ذلك بِحَدِيثٍ حَدَّثَ بِهِ قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ قال ثُمَّ إنْ كان له رَاوٍ غَيْرَهُ اُكْتُفِيَ بِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ له رَاوٍ غَيْرَهُ فَقَدْ كان بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ ذلك كَالشَّهَادَةِ وَيَقْبَلُهُ وَبَعْضُهُمْ قال وَلَيْسَ هذا مُتَعَلِّقًا بِالشَّهَادَةِ وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ الْحُكْمُ وَلَا يُسْمَعُ ما لم يَنْفُذْ الْحُكْمُ وَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِيمَا حُكِمَ وَفِيمَا لم يُحْكَمْ يُعْلَمُ أَنَّ أَخْبَارَهُ كُلَّهَا مَرْدُودَةٌ قال وَجُمْلَتُهُ أَنَّ من قال إذَا رُجِعَ عن خَبَرٍ لَا أَحْكُمُ بِهِ وَمَتَى حَكَمْت بِهِ لم أَنْقُضْ فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ إذَا فَسَقَ قال وَأَمَّا إذَا ارْتَدَّ أو عَمِلَ بِمَا يُوجِبُ رِدَّتَهُ أو فِسْقَهُ لم يُمْنَعْ من قَبُولِ ما تَقَدَّمَ من أَخْبَارِهِ ا ه
وما حَكَاهُ عن بَعْضِ الْأَصْحَابِ هو الذي أَجَابَ بِهِ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الشَّامِيُّ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ خَبَرَهُ فِيمَا رُدَّ وَيَقْبَلُ في غَيْرِهِ اعْتِبَارًا بِالشَّهَادَةِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَظَهَرَ بهذا أَنَّ قَوْلَ النَّوَوِيِّ الْمُخْتَارُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ وَقَبُولِ رِوَايَاتِهِ بَعْدَهَا ليس بِمُوَافِقٍ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ في الْمُعَامَلَاتِ الْخَامِسَةُ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ الْعَدَالَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ في خَبَرِ الْوَاحِدِ في الشَّهَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالسُّنَنِ أَمَّا في الْمُعَامَلَاتِ فَلَا بَلْ الْمُعْتَبَرُ فيها سُكُونُ النَّفْسِ إلَى خَبَرِهِ فإذا قال هذه هَدِيَّةُ فُلَانٍ جَازَ قَبُولُهَا وَالتَّصَرُّفُ فيها وَكَذَا الْإِذْنُ في دُخُولِ الدَّارِ وَتَأْتِي مَسْأَلَةٌ في الصَّبِيِّ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ التَّيَمُّمِ من الْحَاوِي أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ فَأَرَادَ الطَّلَبَ قبل التَّيَمُّمِ فَأَخْبَرَهُ فَاسِقٌ أَنَّهُ لَا مَاءَ في تِلْكَ الْجِهَةِ فإنه يُعْتَمَدُ عليه فيه بِخِلَافِهِ ما إذَا أخبره بِوُجُودِ الْمَاءِ فإنه لَا يَعْتَمِدُهُ وَسَبَبُهُ أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ هو الْأَصْلُ فَيَتَقَوَّى خَبَرُ الْفَاسِقِ بِهِ بِخِلَافِ وُجُودِ الْمَاءِ السَّادِسَةُ قَالَا أَيْضًا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عن غَيْرِ الْعَدْلِ في الْمَشَاهِيرِ وَلَا تَجُوزُ في الْمَنَاكِيرِ السَّابِعَةُ أَصْحَابُ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ كَالدَّبَّاغِ وَالْجَزَّارِ وما أَشْبَهَهُمَا إذَا حَسُنَتْ طَرِيقَتُهُمْ في الدِّينِ لَا نَصَّ فيه وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ أَخْبَارَهُمْ تَنْبَنِي على الْوَجْهَيْنِ في شَهَادَتِهِمْ فَإِنْ قُلْنَا تُقْبَلُ فَرِوَايَتُهُمْ أَوْلَى وَإِنْ قُلْنَا لَا تُقْبَلُ فَفِي رِوَايَاتِهِمْ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْقَبُولُ لِأَنَّ هذه مَكَاسِبُ مُبَاحَةٌ وَبِالنَّاسِ إلَيْهَا حَاجَةٌ وَالثَّانِي لَا تُقْبَلُ لِمَا فيها من اخْتِرَامِ الْمُرُوءَةِ الثَّامِنَةُ تَعَاطِي الْمُبَاحَاتِ الْمُسْقِطَةِ لِلْمُرُوءَةِ كَالْجُلُوسِ لِلنُّزْهَةِ على قَارِعَةِ الطُّرُقِ وَالْأَكْلِ فيه وَصُحْبَةِ أَرَاذِلِ الْعَامَّةِ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ فَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّهُ شَرْطٌ في عَدَالَةِ الرَّاوِي وَعِنْدَنَا أَنَّ ذلك مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْعَالِمِ وَالْحَاكِمِ
فَصْلٌ الطَّرِيقُ الذي تَثْبُتُ الْعَدَالَةُ بِهِ وإذا عَرَفْت أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ من طَرِيقِهَا فَنَقُولُ تَثْبُتُ عَدَالَةُ الرَّاوِي بِالِاخْتِبَارِ أو التَّزْكِيَةِ أَمَّا الِاخْتِبَارُ فَهُوَ الْأَصْلُ إذْ التَّزْكِيَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِهِ وهو إنَّمَا يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِهِ وَاخْتِبَارِ سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ بِطُولِ الصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ سَفَرًا وَحَضَرًا وَالْمُعَامَلَةِ معه وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ مُوَافَقَةِ الصَّغِيرَةِ وَلَكِنْ إذَا لم يُعْثَرْ منه على كَبِيرَةٍ تُهَوِّنُ على مُرْتَكِبِهَا الْأَكَاذِيبَ وَافْتِعَالَ الْأَحَادِيثِ وَلَا تُسْقِطُ الثِّقَةَ وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ فَبِأُمُورٍ منها تَنْصِيصُ عَدْلَيْنِ على عَدَالَتِهِ كَالشَّهَادَةِ وَأَعْلَاهُ أَنْ يَذْكُرَ السَّبَبَ معه وهو تَعْدِيلٌ بِاتِّفَاقٍ وَدُونَهُ أَنْ لَا يَذْكُرَهُ وَإِنَّمَا انْحَطَّ عَمَّا قَبْلَهُ لِلِاخْتِلَافِ فيه وَأَنَّهُ لَا بُدَّ من ذِكْرِ السَّبَبِ على قَوْلٍ وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ هو عَدْلٌ وَقِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ عَدْلٌ لي وَعَلَيَّ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهَذَا تَأْكِيدٌ وقال الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَنَا لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ عَدْلٌ مَرْضِيٌّ وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ على أَحَدِهِمَا وَلَا يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِمَا وَهَلْ تَثْبُتُ بِوَاحِدٍ فيه أَقْوَالٌ أَحَدُهَا لَا لِاسْتِوَاءِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ من أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ وقال الْإِبْيَارِيُّ هو قِيَاسُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالثَّانِي الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْخَبَرِ قال الْقَاضِي وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ وُجُوبُ قَبُولِ تَزْكِيَةِ كل عَدْلٍ مَرْضِيٍّ ذَكَرٍ أو أُنْثَى حُرٍّ أو عَبْدٍ لِشَاهِدٍ وَمُخْبِرٍ وَالثَّالِثُ الْفَرْقُ بين الشَّهَادَةِ فَيُشْتَرَطُ فيها اثْنَانِ وَالرِّوَايَةُ يُكْتَفَى فيها بِوَاحِدٍ كما يُكْتَفَى بِهِ في الْأَصْلِ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَزِيدُ على الْأَصْلِ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ عن الْأَكْثَرِينَ قال ابن الصَّلَاحِ وهو الصَّحِيحُ الذي اخْتَارَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يُشْتَرَطُ في قَبُولِ الْخَبَرِ فَلَا تُشْتَرَطُ في جَرْحِ رِوَايَتِهِمْ وَتَعْدِيلِهِمْ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ
وَحَاصِلُ الْخِلَافِ كما قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَنَّ تَعْدِيلَ الرَّاوِي هل يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ أو مَجْرَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ على غَائِبٍ قَالَا وفي جَوَازِ كَوْنِ الْمُحَدِّثِ أَحَدَهُمَا وَجْهَانِ كما لو عُدِلَ بِشُهُودِ الْأَصْلِ وَجَعَلَا الْخِلَافَ السَّابِقَ في التَّعْدِيلِ وَجَزَمَا في الْجَرْحِ بِالتَّعَدُّدِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ على بَاطِنٍ مَغِيبٍ وَأَجْرَى الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ الْخِلَافَ فيه كَالتَّعْدِيلِ بِوَاحِدٍ تَزْكِيَةُ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَحَيْثُ اكْتَفَيْنَا بِتَعْدِيلِ الْوَاحِدِ فَأُطْلِقَ في الْمَحْصُولِ قَبُولُ تَزْكِيَةِ الْمَرْأَةِ وَحَكَى الْقَاضِي أبو بَكْرٍ عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ النِّسَاءُ في التَّعْدِيلِ لَا في الشَّهَادَةِ وَلَا في الرِّوَايَةِ ثُمَّ اخْتَارَ قَبُولَ قَوْلِهَا فِيهِمَا كما تُقْبَلُ رِوَايَتُهَا وَشَهَادَتُهَا في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَبْدِ فقال الْقَاضِي يَجِبُ قَبُولُهَا في الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ خَبَرَهُ مَقْبُولٌ وَشَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ قال الْخَطِيبُ وَالْأَصْلُ في هذا سُؤَالُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَرِيرَةَ في قِصَّةِ الْإِفْكِ عن حَالِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَجَوَابُهَا له وَمِنْهَا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ قَالَهُ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ وَغَيْرُهُمَا وقال الْقَاضِي وهو أَقْوَى من تَزْكِيَتِهِ بِاللَّفْظِ وَحَكَى الْهِنْدِيُّ فيه الِاتِّفَاقَ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِ إلَّا وهو عَدْلٌ عِنْدَهُ قال وهو أَقْوَى من الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ وَقَيَّدَهُ الْآمِدِيُّ بِمَا إذَا لم يَكُنْ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى قَبُولَ الْفَاسِقِ الذي لَا يَكْذِبُ وهو قَيْدٌ صَحِيحٌ يَأْتِي في الْعَمَلِ بِخَبَرِهِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا قَوِيٌّ إذَا مَنَعْنَا حُكْمَ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ أَمَّا إذَا أَجَزْنَا فَعِلْمُهُ بِالشَّهَادَةِ ظَاهِرًا يَقُومُ معه احْتِمَالٌ أَنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمِهِ بَاطِنًا قُلْت وَحِينَئِذٍ يُتَّجَهُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّهُ حُكْمٌ بِشَهَادَتِهِ فَتَعْدِيلٌ وَأَنْ لَا يَعْلَمَهُ فَلَا وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْعَبْدَرِيُّ شَارِحُ الْمُسْتَصْفَى
وَمِنْهَا الِاسْتِفَاضَةُ فَمَنْ اُشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بين أَهْلِ الْعِلْمِ وَشَاعَ الثَّنَاءُ عليه بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ اُسْتُغْنِيَ بِذَلِكَ عن تَعْدِيلِهِ قَضَاءً قال ابن الصَّلَاحِ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ من الْمُحَدِّثِينَ الْخَطِيبُ وَنَقَلَهُ مَالِكٌ وَشُعْبَةَ وَالسُّفْيَانَانِ وَأَحْمَدُ وابن مَعِينٍ وابن الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُمْ فَلَا يُسْأَلُ عَنْهُمْ وقد سُئِلَ أَحْمَدُ عن إِسْحَاقَ بن رَاهْوَيْهِ فقال مِثْلُ إِسْحَاقَ يُسْأَلُ عنه وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ يَحْتَاجَانِ إلَى التَّزْكِيَةِ مَتَى لم يَكُونَا مَشْهُورَيْنِ بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا وكان أَمْرُهُمَا مُشْكِلًا مُلْتَبِسًا وَيَجُوزُ فيه الْعَدَالَةُ وَغَيْرُهَا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ من الِاسْتِفَاضَةِ أَقْوَى من تَعْدِيلِ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْكَذِبُ وَالْمُحَابَاةُ في تَعْدِيلِهِ وقال ابن عبد الْبَرِّ كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفٌ بِالْعِنَايَةِ بِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ في أَمْرِهِ على الْعَدَالَةِ حتى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَحْمِلُ هذا الْعِلْمَ من كل خَلْفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عنه تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَبِعَهُ على ذلك جَمَاعَةٌ من الْمَغَارِبَةِ وَهَذَا أَوْرَدَهُ الْعُقَيْلِيُّ في ضُعَفَائِهِ من جِهَةِ مُعَافَى بن رِفَاعَةَ السُّلَامِيِّ عن إبْرَاهِيمَ بن عبد الرحمن الْعُذُرِيِّ وقال لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهِ وهو مُرْسَلٌ أو مُعْضَلٌ ضَعِيفٌ وَإِبْرَاهِيمُ الذي أَرْسَلَهُ قال فيه ابن الْقَطَّانِ لَا نَعْرِفُهُ أَلْبَتَّةَ في شَيْءٍ من الْعِلْمِ غير هذا لَكِنْ في كِتَابِ الْعِلَلِ لِلْخَلَّالِ سُئِلَ أَحْمَدُ عن هذا الحديث فَقِيلَ له كما تَرَى إنَّهُ مَوْضُوعٌ فقال لَا هو صَحِيحٌ قال ابن الصَّلَاحِ وَفِيمَا قَالَهُ اتِّسَاعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَمِنْهَا أَنْ يُعْمَلَ بِخَبَرِهِ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ ذلك الْخَبَرُ ولم يَكُنْ عَمَلُهُ على الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ تَعْدِيلٌ حَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ عن الْأَصْحَابِ وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ فيه الِاتِّفَاقَ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ فَقَدْ حَكَى الْخِلَافَ فيه الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْغَزَالِيُّ في
الْمَنْخُولِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ فيه أَقْوَالٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ تَعْدِيلٌ له وَالثَّانِي ليس بِتَعْدِيلٍ وَالثَّالِثُ قال وهو الصَّحِيحُ إنْ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمَلٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَوَافَقَ عَمَلَهُ من حَيْثُ الْخَبَرُ الذي رَوَاهُ فَعَمَلُهُ ليس بِتَعْدِيلٍ وَإِنْ بَانَ بِقَوْلِهِ أو بِقَرِينَةٍ إنَّمَا عُمِلَ بِالْخَبَرِ الذي رَوَاهُ ولم يُعْمَلْ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كان ذلك من مَسَائِلِ الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ تَعْدِيلٌ وَإِلَّا فَلَا وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ قال وَفَرْقٌ بين قَوْلِنَا عَمَلٌ بِالْخَبَرِ وَبَيْنَ قَوْلِنَا عَمَلٌ بِمُوجِبِ الْخَبَرِ فإن الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُسْتَنَدُهُ وَالثَّانِيَ لَا يَقْتَضِي ذلك لِجَوَازِ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ لِدَلِيلٍ غَيْرِهِ وقال الْغَزَالِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ حَمْلُ عَمَلِهِ على الِاحْتِيَاطِ فَلَا وَإِنْ لم يُمْكِنْ فَهُوَ كَالتَّعْدِيلِ لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ الثِّقَةَ وَكَذَا قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إنْ كان الذي عُمِلَ بِهِ من بَابِ الِاحْتِيَاطِ ولم يَكُنْ من الْمَحْظُورَاتِ التي يَخْرُجُ الْمُتَحَلِّي بها عن سِمَةِ الْعَدَالَةِ لم يَكُنْ تَعْدِيلًا وَإِلَّا كان تَعْدِيلًا على التَّفْصِيلِ السَّابِقِ قال هذا كُلُّهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ ما عُمِلَ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِظَاهِرٍ أو قِيَاسٍ جَلِيٍّ وقد يَنْقَدِحُ في خَاطِرِ الْفَقِيهِ أَنَّهُ وَإِنْ لم يُتَوَصَّلْ إلَيْهِ بِقِيَاسٍ أو ظَاهِرٍ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمَلٌ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ لِهَذَا الحديث لَا من رِوَايَتِهِ وَيُتَّجَهُ على هذا أَنَّهُ إذَا لم يَظْهَرْ عنه رِوَايَةٌ فَلَا مَحْمَلَ له إلَّا رِوَايَتُهُ قال وَمِنْ فُرُوعِ هذا قَبُولُ الْمُرْسَلِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ شَرَطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ ذلك الْعَمَلُ مِمَّا لَا يُؤْخَذُ فيه بِالِاحْتِيَاطِ حتى يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي احْتَاطَ لِلْعَمَلِ بِأَنْ أَخَذَ بِالرِّوَايَةِ قال وَهَذَا في الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ لِقَوْلِنَا أَوَّلًا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا عُدِلَ عن الحديث وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ ضَرْبٌ منه وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بين أَنْ يُعْمَلَ بِذَلِكَ في التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَلَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فيه بِالضَّعْفِ أو غَيْرِهِمَا فَيَكُونُ تَعْدِيلًا وهو حَسَنٌ وَأَمَّا تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَا رَوَاهُ فَهَلْ يَكُونُ جَرْحًا قال الْقَاضِي إنْ تَحَقَّقَ تَرْكُهُ لِلْعَمَلِ بِالْخَبَرِ مع ارْتِفَاعِ الدَّوَافِعِ وَالْمَوَانِعِ وَتَقَرَّرَ عِنْدَنَا تَرْكُهُ مُوجَبَ الْخَبَرِ مع أَنَّهُ لو كان ثَابِتًا لَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهِ فَيَكُونُ ذلك جَرْحًا وَإِنْ كان مَضْمُونُ الْخَبَرِ مِمَّا يَسُوغُ تَرْكُهُ ولم
يُتَبَيَّنْ قَصْدُهُ إلَى مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ فَلَا يَكُونُ جَرْحًا كما لو عَمِلَ بِالْخَبَرِ وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ كان ذلك بِخَبَرٍ آخَرَ فإنه ليس بِتَعْدِيلٍ وَمِنْهَا أَنْ يَرْوِيَ عنه من لَا يَرْوِي عن غَيْرِ الْعَدْلِ كَيَحْيَى بن سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَشُعْبَةَ وَمَالِكٍ فإنه يَكُونُ تَعْدِيلًا على الْمُخْتَارِ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيِّ وَالْهِنْدِيِّ وَالْبَاجِيِّ وَغَيْرِهِمْ لِشَهَادَةِ ظَاهِرِ الْحَالِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ في صَحِيحَيْهِمَا وقال الْمَازِرِيُّ هو قَوْلُ الْحُذَّاقِ وَهَذَا على قَوْلِنَا لَا حَاجَةَ لِبَيَانِ سَبَبِ التَّعْدِيلِ فَإِنْ رَوَى عنه من لم يَشْتَرِطْ الرِّوَايَةَ عن الْعَدْلِ فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ لِأَنَّا رَأَيْنَاهُمْ يَرْوُونَ عن أَقْوَامٍ وَيَجْرَحُونَهُمْ لو سُئِلُوا عَنْهُمْ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ نعم هَاهُنَا أَمْرٌ آخَرُ وهو النَّظَرُ في الطَّرِيقِ التي منها يُعْرَفُ كَوْنُهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن عَدْلٍ فَإِنْ كان ذلك بِتَصْرِيحِهِ فَهُوَ أَقْصَى الدَّرَجَاتِ وَإِنْ كان ذلك بِاعْتِبَارِنَا بِحَالِهِ في الرِّوَايَةِ وَنَظَرْنَا إلَى أَنَّهُ لم يَرْوِهِ من عَرَفْنَاهُ إلَّا عن عَدْلٍ فَهَذَا دُونَ الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَهَلْ يُكْتَفَى بِذَلِكَ في قَبُولِ رِوَايَتِهِ عَمَّنْ لَا نَعْرِفُهُ فيه وَقْفَةٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الحديث مِمَّنْ قَارَبَ زَمَانُنَا زَمَانَهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ ا هـ وقال الْمَازِرِيُّ نَعْرِفُ ذلك من عَادَتِهِ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ يُعْرَفُ ذلك بِإِخْبَارِهِ صَرِيحًا أو عَرَفْنَاهُ بِالْقَرَائِنِ الْكَاشِفَةِ عن سِيرَتِهِ قال وَجَرَتْ عَادَةُ الْمُحَدِّثِينَ في التَّعْدِيلِ أَنْ يَقُولُوا فُلَانٌ عَدْلٌ رَوَى عنه مَالِكٌ أو الزُّهْرِيُّ أو هو من رِجَالِ الْمُوَطَّإِ أو من رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ وَالتَّحْقِيقُ في هذا أَنَّهُ إنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالرِّوَايَةِ عن الْعَدْلِ وَغَيْرِهِ فَلَيْسَتْ رِوَايَتُهُ تَعْدِيلًا وَكَذَلِكَ إذَا لم يُعْلَمْ ذلك من حَالِهِ فإن من الْمُمْكِنِ رِوَايَتَهُ عن رَجُلٍ لم يُعْتَقَدْ عَدَالَتُهُ حتى إذَا اسْتَقْرَى أَحْوَالَهُ وَعَرَفَ عَدَالَتَهُ بِبَيِّنَةٍ فَلَا يَظْهَرُ بِذَلِكَ عَدَالَةُ الْمَرْوِيِّ عنه وَإِنْ اطَّرَدَتْ عَادَتُهُ بِالرِّوَايَةِ عَمَّنْ عَدَّلَهُ وَلَا يَرْوِي عن غَيْرِهِ أَصْلًا فَإِنْ لم يُعْلَمْ مَذْهَبُهُ في التَّعْدِيلِ فَلَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ لِأَنَّهُ لو صَرَّحَ بِالتَّعْدِيلِ لم يُقْبَلْ فَكَيْفَ إذَا رُوِيَ وَإِنْ عَلِمْنَا مَذْهَبَهُ في التَّعْدِيلِ ولم يَكُنْ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِنَا لم يُعْتَمَدْ تَعْدِيلُهُ وَرِوَايَتُهُ عنه وَإِنْ كان مُوَافِقًا عُمِلَ بِهِ ا هـ وَقِيلَ الرِّوَايَةُ تَعْدِيلٌ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لو كان عِنْدَهُ غير عَدْلٍ لَكَانَ رِوَايَتُهُ عنه مع السُّكُوتِ عَبَثًا وَظَاهِرُ الْعَدْلِ التَّقِيِّ الِاحْتِرَازُ عن ذلك حَكَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ ثُمَّ قال وقد لَا يَعْلَمُهُ بِعَدَالَةٍ وَلَا جَرْحٍ وَحَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وابن فُورَكٍ عن الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ بن إِسْحَاقَ في هذا وفي الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لم يَذْكُرْهُ
بِالْعَدَالَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ على الْعَدَالَةِ حتى يُعْلَمَ خِلَافُهَا قَالَا وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عَدْلًا وَعِنْدَ غَيْرِهِ ليس بِعَدْلٍ وَقِيلَ ليس بِتَعْدِيلٍ مُطْلَقًا كما أَنَّ تَرْكَهَا ليس بِجَرْحٍ وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ وَحُكِيَ عن أَكْثَرِ أَهْلِ الحديث وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ قال وَالْأَقْرَبُ فيه رِوَايَةُ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عنه أو رِوَايَةُ الْعُدُولِ الْكَثِيرِ في أنها غَيْرُ تَعْدِيلٍ له قُلْت وَيَخْرُجُ من تَصَرُّفِ الْبَزَّارِ في مُسْنَدِهِ التَّعْدِيلُ إذَا رَوَى عنه كَثِيرٌ من الْعُدُولِ فَوَجَبَ إثْبَاتُ قَوْلٍ بِالتَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ لَا يَرْوُونَ إلَّا عن عُدُولٍ ذَكَرَ ابن عبد الْبَرِّ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ لَا يَرْوُونَ إلَّا عن عُدُولٍ ثَلَاثَةٌ شُعْبَةُ وَمَالِكٌ وَيَحْيَى بن سَعِيدٍ وَذَكَرَ الْخَطِيبُ عن عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ ذلك وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وزاد عليه مَالِكٌ وَيَحْيَى قال وقد يُوجَدُ في رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ الرِّوَايَةُ عن بَعْضِ الضُّعَفَاءِ لِخَفَاءِ حَالِهِ كَرِوَايَةِ مَالِكٍ عن عبد الْكَرِيمِ بن أبي الْمُخَارِقِ مَسْأَلَةٌ التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ كَقَوْلِهِ حدثني الثِّقَةُ وَنَحْوُهُ من غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهُ لَا يَكْفِي في التَّوْثِيقِ كما جَزَمَ بِهِ أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن الصَّبَّاغِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ قال وهو كَالْمُرْسَلِ قال ابن الصَّبَّاغِ وقال أبو حَنِيفَةَ يُقْبَلُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان عَدْلًا عِنْدَهُ فَرُبَّمَا لو سَمَّاهُ لَكَانَ مِمَّنْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ بَلْ قال الْخَطِيبُ لو صَرَّحَ بِأَنَّ جَمِيعَ شُيُوخِهِ ثِقَاتٌ ثُمَّ رَوَى عَمَّنْ لم يُسَمِّهِ أَنَّا لَا نَعْمَلُ بِرِوَايَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ نَعْرِفَهُ إذَا ذَكَرَهُ بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ قال نعم لو قال الْعَالِمُ كُلُّ من أَرْوِي عنه وَأُسَمِّيهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَرْضِيٌّ مَقْبُولُ الحديث كان هذا الْقَوْلُ تَعْدِيلًا لِكُلِّ من رَوَى عنه وَسَمَّاهُ كما سَبَقَ
وفي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى أَحَدُهَا أَنَّهُ يُقْبَلُ مُطْلَقًا كما لو عَيَّنَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ في الْحَالِ وَالثَّانِي التَّفْصِيلُ بين من يُعْرَفُ من عَادَتِهِ إذَا قال أخبرني الثِّقَةُ أَنَّهُ أَرَادَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ وكان ثِقَةً فَيُقْبَلُ وَإِلَّا فَلَا حَكَاهُ شَارِحُ اللُّمَعِ الْيَمَانِيُّ عن صَاحِبِ الْإِرْشَادِ الثَّالِثُ وَحَكَاهُ ابن الصَّلَاحِ عن اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ إنْ كان الْقَائِلُ لِذَلِكَ عَالِمًا أَجْزَأَ ذلك في حَقِّ من يُوَافِقُهُ في مَذْهَبِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ أخبرني الثِّقَةُ وَكَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ذلك في مَوَاضِعَ وهو اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ فإنه قال إنَّ الشَّافِعِيَّ لم يُورِدْ ذلك احْتِجَاجًا بِالْخَبَرِ على غَيْرِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ لِأَصْحَابِهِ قِيَامَ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ على الْحُكْمِ وقد عَرَفَ هو من رَوَى عنه الْمُرَادُ بِالثِّقَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ إنَّمَا يقول الشَّافِعِيُّ ذلك لِبَيَانِ مَذْهَبِهِ وما وَجَبَ عليه مِمَّا صَحَّ عِنْدَهُ من الْخَبَرِ ولم يَذْكُرْهُ احْتِجَاجًا على غَيْرِهِ وَقِيلَ إنَّهُ قد كان أَعْلَمَ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ وَلِهَذَا قِيلَ في بَعْضِهِمْ إنَّهُ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ وفي بَعْضِهِمْ عَلِيُّ بن حَسَّانَ وفي بَعْضِهِمْ ابن أبي فُدَيْكٍ وَسَعِيدُ بن سَالِمٍ الْقَدَّاحُ وَغَيْرُهُمْ وَقِيلَ إنَّهُ ذُكِرَ فِيمَا يَثْبُتُ من طُرُقٍ مَشْهُورَةٍ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَأَمَّا تَعْبِيرُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ فَقَدْ اُشْتُهِرَ أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ إبْرَاهِيمَ بن إسْمَاعِيلَ فَصَارَ كَالتَّسْمِيَةِ له وقال ابن بَرْهَانٍ اُخْتُلِفَ فيه فَقِيلَ إنَّهُ كان يُرِيدُ مَالِكًا وَقِيلَ بَلْ مُسْلِمُ بن خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ إلَّا أَنَّهُ كان يَرَى الْقَدَرَ فَاحْتَرَزَ عن التَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى ا هـ وقال أبو حَاتِمٍ إذَا قال الشَّافِعِيُّ أخبرني الثِّقَةُ عن ابْنِ أبي ذِئْبٍ فَهُوَ ابن أبي فُدَيْكٍ وإذا قال أخبرني الثِّقَةُ قال اللَّيْثُ بن سَعْدٍ فَهُوَ يحيى بن حَسَّانَ وإذا قال أخبرني الثِّقَةُ عن الْوَلِيدِ بن كَثِيرٍ فَهُوَ عَمْرُو بن أبي سَلَمَةَ وإذا قال أخبرني الثِّقَةُ عن ابْنِ جُرَيْجٍ فَهُوَ مُسْلِمُ بن خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ وإذا قال أخبرني الثِّقَةُ عن صَالِحٍ مولى التَّوْأَمَةَ فَهُوَ إبْرَاهِيمُ بن أبي يحيى وقال بَعْضُهُمْ حَيْثُ قال مَالِكٌ عن الثِّقَةِ عِنْدَهُ عن بُكَيْر بن عبد اللَّهِ بن
الْأَشَجِّ فَالثِّقَةُ مَخْرَمَةُ بن بُكَيْر وَحَيْثُ قال عن الثِّقَةِ عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ فَقِيلَ الثِّقَةُ عبد اللَّهِ بن وَهْبٍ وَقِيلَ الزُّهْرِيُّ وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ في بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ من الْمَعْرِفَةِ عن الرَّبِيعِ إذَا قال الشَّافِعِيُّ أخبرنا الثِّقَةُ يُرِيدُ يحيى بن حَسَّانَ وإذا قال من لَا أَتَّهِمُ فَإِبْرَاهِيمُ بن أبي يحيى وإذا قال بَعْضُ الناس يُرِيدُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وإذا قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُرِيدُ بِهِ أَهْلَ الْحِجَازِ ثُمَّ قال قال الْحَاكِمُ قد أَخْبَرَ الرَّبِيعُ عن الْغَالِبِ من هذه الرِّوَايَاتِ فإن أَكْثَرَ ما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عن الثِّقَةِ هو يحيى بن حَسَّانَ وقد قال في كُتُبِهِ أخبرنا الثِّقَةُ وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ يحيى بن حَسَّانَ وقال الْبَيْهَقِيُّ وقد فَصَّلَ ذلك شَيْخُنَا الْحَاكِمُ تَفْصِيلًا على غَالِبِ الظَّنِّ فذكر في بَعْضِ ما قَالَهُ أخبرنا الثِّقَةُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إسْمَاعِيلَ بن عُلَيَّةَ وفي بَعْضِهِ أَبَا أُسَامَةَ وفي بَعْضِهِ عبد الْعَزِيزِ بن مُحَمَّدٍ وفي بَعْضِهِ هِشَامُ بن يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ وفي بَعْضِهِ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ أو غَيْرُهُ من أَصْحَابِهِ وَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ ذلك بِالْيَقِينِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَيَّدَ كَلَامَهُ في مَوَاضِعَ أُخَرَ ا هـ مَسْأَلَةٌ قَوْلُ لَا أَتَّهِمُ هل هو تَعْدِيلٌ فَلَوْ قال لَا أَتَّهِمُ فَلَا يُقْبَلُ في التَّعْدِيلِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَكَذَا قال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الْأَعْلَامِ إذَا قال الْمُحَدِّثُ حدثني الثِّقَةُ عِنْدِي أو حدثني من لَا أَتَّهِمُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ الثِّقَةَ عِنْدَهُ قد لَا يَكُونُ ثِقَةً عِنْدِي فَأَحْتَاجُ إلَى عِلْمِهِ ا هـ مَسْأَلَةٌ هل يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ هل يُقْبَلَانِ أو أَحَدُهُمَا من غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ فيه خِلَافٌ مَنْشَؤُهُ أَنَّ الْمُعَدِّلَ وَالْمُجَرِّحَ هل هو مُخْبِرٌ فَيُصَدَّقُ أو حَاكِمٌ وَمُفْتٍ فَلَا يُقَلَّدُ أَحَدُهَا وهو الصَّحِيحُ يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ من غَيْرِ سَبَبٍ بِخِلَافِ الْجَرْحِ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّعْدِيلِ كَثِيرَةٌ فَيَشُقُّ ذِكْرُهَا بِخِلَافِ الْجَرْحِ فإنه يَحْصُلُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ وَالِاخْتِلَافُ في سَبَبِ الْجَرْحِ فَرُبَّمَا ذَكَرَ شيئا لَا جَرْحَ فيه كما حُكِيَ عن شُعْبَةَ أَنَّهُ قِيلَ
له لِمَ تَرَكْت حَدِيثَ فُلَانٍ قال رَأَيْته يُرْكِضُ بِرْذَوْنًا فَتَرَكْت حَدِيثَهُ قال الصَّيْرَفِيُّ وَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ حَكَى أَنَّهُ وَقَفَ عِنْدَ بَعْضِ الْقُضَاةِ على رَجُلٍ يَجْرَحُ رَجُلًا فَسُئِلَ فقال رَأَيْته يَبُولُ قَائِمًا فَقِيلَ له فما بَوْلُهُ قَائِمًا قال يَتَرَشْرَشُ عليه وَيُصَلِّي فَقِيلَ له رَأَيْته بَالَ قَائِمًا يَتَرَشْرَشُ عليه ثُمَّ صلى فلم يَكُنْ عِنْدَهُ جَوَابٌ وَلِأَنَّهُ بَالَ قَائِمًا وَهَذَا الْقَوْلُ هو الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ وقال الْقُرْطُبِيُّ هو أَكْثَرُ من قَوْلِ مَالِكٍ قال الْخَطِيبُ وَذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ من حُفَّاظِ الحديث وَنُقَّادِهِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالثَّانِي عَكْسُهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجَرْحِ مُبْطِلُ الثِّقَةِ وَمُطْلَقَ التَّعْدِيلِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الثِّقَةُ لِتَسَارُعِ الناس إلَى الظَّاهِرِ فَلَا بُدَّ من السَّبَبِ وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَإِلْكِيَا في التَّلْوِيحِ وابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ عن الْقَاضِي وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ أَوْقَعُ في مَأْخَذِ الْأُصُولِ وما حَكَوْهُ عن الْقَاضِي وَهْمٌ لِمَا سَيَأْتِي وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا بُدَّ من السَّبَبِ فِيهِمَا أَخْذًا بِمَجَامِعِ كُلٍّ من الْفَرِيقَيْنِ وَبِهِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وقد رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه زُكِّيَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَ الْمُزَكِّي عن أَحْوَالِهِ فَظَهَرَ له ما لَا يُكْتَفَى بِهِ وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ وهو أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ السَّبَبِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ بَصِيرًا بهذا الشَّأْنِ لم يَصْلُحْ لِلتَّزْكِيَةِ وَإِنْ كان بَصِيرًا بِهِ فَلَا مَعْنَى لِلسُّؤَالِ وَهَذَا هو اخْتِيَارُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ كَذَا نَصَّ عليه في التَّقْرِيبِ وَكَذَا نَقَلَهُ عنه الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ في الْكِفَايَةِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وأبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ وَرَدَّ على إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في نَقْلِهِ عنه ما سَبَقَ وَكَذَا نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ وَالْقُرْطُبِيُّ في الْأُصُولِ وَالْآمِدِيَّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْهِنْدِيُّ وَالْخَامِسُ إنْ كان الْمُزَكِّي عَالِمًا بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ اكْتَفَيْنَا بِإِطْلَاقِهِ فِيهِمَا وَإِنْ لم يُعْرَفْ اطِّلَاعُهُ على شَرَائِطِهِمَا اسْتَخْبَرْنَاهُ عن أَسْبَابِهِمَا وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ قُلْت وهو ظَاهِرُ تَصَرُّفِهِ فَإِنْ وُجِدَ له نَصٌّ بِالْإِطْلَاقِ حُمِلَ على ذلك وَلَا يَخْرُجُ قَوْلَانِ وقد حَكَى الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ في تَعْلِيقِهِ في بَابِ الْأَوَانِي أَنَّ من أَخْبَرَ
بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إذَا بَيَّنَ السَّبَبَ ثُمَّ قال قال الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ من حَالِ الْمُخْبِرِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ طَاهِرٌ وَأَنَّ الْمَاءَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَا يُنَجَّسُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هذا كَلَامُهُ وهو قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَالرَّازِيِّ وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَإِلَيْهِ مَيْلُ كَلَامِ الْخَطِيبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا هو مَذْهَبُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عَارِفًا بِشُرُوطِ الْعَدَالَةِ لم يَصْلُحْ لِلتَّزْكِيَةِ وَهَذَا حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ قال وقد أَشَارَ الْقَاضِي إلَى هذا في التَّقْرِيبِ أَيْضًا وَحَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِلَفْظِ إنْ كان لَا يُطْلَقُ التَّعْدِيلُ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْصَاءٍ كَمَالِكٍ فَمُطْلَقُ تَعْدِيلِهِ كَافٍ وَإِنْ كان من الْمُتَسَاهِلِينَ فَلَا ثُمَّ قال وَيَرِدُ عليه أَنَّهُ إذَا كان من الْعَالِمِينَ بِشَرَائِطِ الْعَدَالَةِ فَالظَّنُّ أَنَّهُ اسْتَقْصَى وَتَقْدِيرُ خِلَافِ ذلك فيه نِسْبَةٌ إلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فَإِنْ عُلِمَ من حَالِهِ ذلك وَإِلَّا فَلَيْسَ هو من أَهْلِ التَّعْدِيلِ وَكَلَامُنَا في التَّعْدِيلِ الْمُطْلَقِ فِيمَنْ هو من أَهْلِ التَّعْدِيلِ فإن من الناس من يقول هو وَإِنْ كان من أَهْلِ التَّعْدِيلِ إلَّا أَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْغَلَطِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ لنا الْمُسْتَنَدَ لِئَلَّا نَكُونَ مُقَلِّدِينَ غير مَعْصُومٍ وَهَذَا هو الْأَصْلُ إلَّا أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ وَالْإِمَامُ يقول الْمُعْتَبَرُ غَلَبَةُ الظَّنِّ مَتَى حَصَلَتْ وإذا لَاحَ لنا من حَالِ مِثْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَتَسَاهَلُ حَصَلَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ فَيُقَالُ غَلَبَةُ الظَّنِّ لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَنِدَ إلَى ضَابِطِ الشَّرْعِ الْوَاضِحِ وقد رَوَيْنَا من رَوَى عنه مَالِكٌ في الْمُوَطَّإِ وقد طَعَنَ فيه غَيْرُهُ مِثْلُ عبد اللَّهِ بن أبي بَكْرٍ فإنه من رِجَالِ الْمُوَطَّإِ وقد قَدَحَ فيه سُفْيَانُ بن عُيَيْنَةَ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ حَالِهِ إلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ ذلك عُسْرًا كما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ا هـ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ وقد حَكَى هذا الْمَذْهَبَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ في هذا عِنْدَ التَّعْدِيلِ بين يَدَيْ الْحَاكِمِ شَرْطٌ آخَرُ وهو اتِّفَاقُ مَذْهَبِهِ مع مَذْهَبِ الْمُعَدِّلِ في الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ في التَّزْكِيَةِ وَإِلَّا فَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُسْلِمَ على الْعَدَالَةِ وَيَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْحَالِ فَقَدْ يُزَكِّي من لَا يَقْبَلُهُ من يُخَالِفُهُ في هذا الْمَذْهَبِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ في مُزَكِّي الرُّوَاةِ أَنَّ هذا مَذْهَبٌ لِذَلِكَ الْمُزَكِّي فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ من يُخَالِفُهُ في هذا الْمَذْهَبِ
تَفْرِيعٌ هل يَكْفِي في الْجَرْحِ الْمُجْمَلِ وَإِذْ ثَبَتَ أَنَّ بَيَانَ السَّبَبِ في الْجَرْحِ شَرْطٌ قال أَصْحَابُنَا وَمِنْهُمْ الصَّيْرَفِيُّ وابن فُورَكٍ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ ليس بِشَيْءٍ وَلَا فُلَانٌ ضَعِيفٌ وَلَا لَيِّنٌ مَاذَا بِالْكَذَّابِ اُسْتُفْسِرَ وَقِيلَ له ما تَعْنِي أَتَعَمَّدَ الْكَذِبَ فَإِنْ قال نعم تُوُقِّفَ في خَبَرِهِ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ الْكَذِبَ لُغَةً يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَوَضْعَ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ كَذَبَ أبو مُحَمَّدٍ في حديث الْوِتْرِ يَعْنِي غَلِطَ وَادَّعَى النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ وُجُوبُ التَّوَقُّفِ عن الْعَمَلِ بِحَدِيثِهِ إلَى أَنْ يُبْحَثَ عن السَّبَبِ قُلْت وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ وَيُحْتَمَلُ التَّفْصِيلُ بين من عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ فَلَا أَثَرَ لِلْجَرْحِ الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَاسْتَثْنَى ابن الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثُ من هذا الْأَصْلِ ما إذَا كان الرَّاوِي لَا يُعْلَمُ حَالُهُ وَلَا وَثَّقَهُ مُوَثِّقٌ قال فَيُقْبَلُ فيه الْجَرْحُ وَإِنْ لم يُفَسَّرْ ما بِهِ جَرْحُهُ لِأَنَّا قد كنا نَتْرُكُ حَدِيثَهُ بِمَا عَدِمْنَا من مَعْرِفَةِ ثِقَتِهِ قُلْت وفي الْحَقِيقَةِ لَا يُسْتَثْنَى وَحَكَى ابن عبد الْبَرِّ في التَّمْهِيدِ عن مُحَمَّدِ بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ من ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ بِرِوَايَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ عنه وَحَمْلِهِمْ حَدِيثَهُ فَلَيْسَ يُقْبَلُ فيه تَجْرِيحُ أَحَدٍ حتى يَثْبُتَ عليه ذلك بِأَمْرٍ لَا يُجْهَلُ يَكُونُ بِهِ جَرْحُهُ فَأَمَّا قَوْلُهُمْ فُلَانٌ كَذَّابٌ فَلَيْسَ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ جَرْحٌ حتى يُبَيِّنَ ما قَالَهُ وَوَافَقَهُ على ذلك وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمَا أبو الْحَسَنِ بن الْمُفَوَّزِ وقال بَلْ الذي عليه أَئِمَّةُ الحديث قَبُولُ تَعْدِيلِ من عَدَّلَ وَتَعْدِيلِ وَتَجْرِيحِ من جَرَّحَ لِمَنْ عُرِفَ وَاشْتُهِرَ بِأَمَانَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فيه إذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ الْمُفَسَّرُ وَالتَّعْدِيلُ في رَاوٍ وَاحِدٍ فَأَقْوَالٌ أَحَدُهَا يُقَدَّمُ الْجَرْحُ مُطْلَقًا وَإِنْ كان الذي عَدَّلَ أَكْثَرَ وَهَذَا ما جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وابن الْقُشَيْرِيّ وقال نَقَلَ الْقَاضِي فيه الْإِجْمَاعَ وَنَقَلَهُ الْخَطِيبُ وَالْبَاجِيُّ عن جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وقال الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ وابن الصَّلَاحِ إنَّهُ الصَّحِيحُ لِأَنَّ مع الْجَارِحِ زِيَادَةَ عِلْمٍ لم يَطَّلِعْ عليها الْمُعَدِّلُ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ مع اعْتِقَادِ الْمَذْهَبِ الْآخَرِ وهو أَنَّ الْجَرْحَ لَا يُقْبَلُ إلَّا مُفَسَّرًا وَبِشَرْطٍ آخَرَ وهو أَنْ يَكُونَ الْجَرْحُ بِنَاءً على أَمْرٍ مَجْزُومٍ بِهِ أَيْ بِكَوْنِهِ جَارِحًا لَا بِطَرِيقٍ اجْتِهَادِيٍّ كما اصْطَلَحَ أَهْلُ الحديث على الِاعْتِمَادِ في الْجَرْحِ