كتاب : منهاج السنة النبوية
المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

وأهل العلم بالنسب يعلمون أن نسبهم باطل وأن جدهم يهودي في الباطن وفي الظاهر وجدهم ديصاني من المجوس تزوج أمرأة هذا اليهودي وكان ابنه ربيبا لمجوسي فانتسب إلى زوج أمه المجوسي وكانوا ينتسبون إلى بأهله على أنهم من مواليهم وادعى هو أنه من ذرية محمد بن إسماعيل بن جعفر وإليه انتسب الإسماعيلية وادعوا أن الحق معهم دون الاثني عشرية فإن الإثنى عشرية يدعون إمامه موسى ابن جعفر وهؤلاء يدعون إمامه إسماعيل بن جعفر وأئمة هؤلاء في الباطن ملاحدة زنادقة شر من الغالية ليسوا من جنس الاثنى عشرية لكن إنما طرقهم على هذا المذاهب الفاسدة ونسبتها إلى علي ما فعلته الاثنا عشرية وأمثالهم كذب أولئك عليه نوعا من الكذب ففرعه هؤلاء وزادوا عليه حتى نسبوا الإلحاد إليه كما نسب هؤلاء إليه مذهب الجهمية والقدرية وغير ذلك ولما كان هؤلاء الملاحدة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم ينتسبون إلى علي وهم طرقية وعشرية وغرباء وأمثال هؤلاء صاروا يضيفون إلى علي ما براه الله منه حتى صار اللصوص من العشرية يزعمون أن معهم كتابا من علي بالإذن لهم في سرقة أموال الناس كما ادعت اليهود الخيابرة أن معهم كتابا من على بإسقاط الجزية عنهم

وإباحة عشر أموال أنفسهم وغير ذلك من الأمور المخالفة لدين الإسلام وقد أجمع العلماء على أن هذا كله كذب على علي وهو من أبرأ الناس من هذا كله ثم صار هؤلأء يعدون ما افتروه عليه من هذه الأمور مدحا له يفضلونه بها على الخلفاء قبله ويجعلون تنزه أولئك من مثل الإباطيل عيبا فيهم وبغضا حتى صار رؤوس الباطنية تجعل منتهى الإسلام وغايته هو الإقرار بربوبية الأفلاك وأنه ليس وراء الأفلاك صانع لها ولا خالق ويجعلون هذا هو باطن دين الإسلام الذي بعث به الرسول وأن هذا هو تأويله وأن هذا التأويل ألقاه على إلى الخواص حتى اتصل بمحمد ابن إسماعيل بن جعفر وهو عندهم القائم ودولته هي القائمة عندهم وأنه ينسخ ملة محمد بن عبدالله ويظهر التأويلات الباطنة التي يكتمها التي أسرها إلى علي وصار هؤلاء يسقطون عن خواص أصحابهم الصلاة والزكاة والصيام والحج ويبيحون لهم المحرمات من الفواحش والظلم والمنكر وغير ذلك

وصنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتبا معروفة لما علموه من إفسادهم الدين والدنيا وصنف فيهم القاضي عبد الجبار والقاضي أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى والغزالي وابن عقيل وأبو عبد الله الشهرستاني وطوائف غير هؤلاء وهم الملاحدة الذين ظهروا بالمشرق والمغرب واليمن والشام ومواضع متعددة كأصحاب الألموت وأمثالهم وكان من أعظم ما به دخل هؤلاء على المسلمين وأفسدوا الدين هو طريق الشيعة لفرط جهلهم وأهوائهم وبعدهم من دين الإسلام وبهذا وصوا دعاتهم أن يدخلوا على المسلمين من باب التشيع وصاروا يستعينون بما عند الشيعة من الأكاذيب والأهواء ويزيدون هم على ذلك ما ناسبهم من الافتراء حتى فعلوا في أهل الإيمان مالم يفعله عبدة الأوثان والصلبان وكان حقيقة أمرهم دين فرعون الذي هو شر من دين اليهود والنصارى وعباد الأصنام وأول دعوتهم التشيع وآخرها الانسلاخ من الإسلام بل من الملل كلها ومن عرف أحوال الإسلام وتقلب الناس فيه فلا بد أنه قد عرف شيئا من هذا

وهذا تصديق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن وفي الحديث الآخر المتفق عليه لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال ومن الناس إلا هولاء وهذا بعينه صار في هؤلاء المنتسبين إلى التشيع فإن هؤلاء الإسماعيلية أخذوا من مذاهب الفرس وقولهم بالأصلين النور والظلمة وغير ذلك أمورا وأخذوا من مذاهب الروم من النصرانية وما كانوا عليه قبل النصرانية من مذهب اليونان وقولهم بالنفس والعقل وغير ذلك امورا ومزجوا هذا بهذا وسموا ذلك باصطلاحهم السابق والتالي وجعلوه هو القلم واللوح وأن القلم هو العقل الذي يقول هؤلاء إنه أول المخلوقات واحتجوا بحديث يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطى وبك الثواب وبك العقاب وهذا الحديث رواه بعض من صنف في فضائل العقل كداود بنالمحبر ونحوه وهو حديث موضوع كذب على النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك أبو حاتم بن حبان البستي والدارقطني وابن الجوزي وغيرهم لكن لما وافق رأي هؤلاء استدلوا به على عادتهم مع أن لفظ الحديث يناقض مذهبهم فإن لفظه أول بالنصب وروى أنه لما خلق الله العقل أي أنه قال له هذا الكلام في أول أوقات خلقه فالمراد به أنه خاطبه حين خلقه لا أنه أول المخلوقات ولهذا قال في أثنائه ما خلقت خلقا أكرم علي منك فدل على أنه خلق قبله غيره ووصفه بأنه يقبل ويدبر

والعقل الأول عندهم يمتنع عليه هذا وقال بك آخذ وبك أعطى وبك الثواب وهذا العقل عندهم هو رب العالم كله هو المبدع له كله وهو معلول الأول لا يختص به أربعة أعراض بل هو عندهم مبدع الجواهر كلها العلوية والسفلية والحسية والعقلية والعقل في لغة المسلمين عرض قائم بغيره وإما قوة في النفس وأما مصدر العقل عقل يعقل عقلا وأما العاقل فلا يسمى في لغتهم العقل وهؤلاء في اصطلاحهم العقل جوهر قائم بنفسه وقد بسطنا الكلام على هذا وبينا حقيقة أمره بالمعقول والمنقول وأن ما يثبتونه من المفارقات عند التحقيق لا يرجع إلا إلى أمر وجودها في الأذهان لا في الأعيان إلا النفس الناطقة وقد أخطأوا في بعض صفاتها وهؤلاء قولهم إن العالم معلول علة قديمة أزلية واجبة الوجود وإن العالم لازم لها لكن حقيقة قولهم إنه علة غائية وإن الأفلاك تتحرك حركة إرادية شوقية للتشبه به وهو محرك لها كما يحرك

المحبوب المتشبه به لمحبه الذي يتشبه به ومثل هذا لا يوجب أن يكون هو المحدث لتصوراته وإرادته وحركاته فقولهم في حركة الفلك من جنس قول القدرية في أفعال الحيوان لكن هؤلاء يقولون حركة الفلك هي سبب الحوادث فحقيقة قولهم إن الحوادث كلها تحدث بلا محدث أصلا وإن الله لا يفعل شيئا ولكل مقام مقال وهم جعلوا العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الباطن في الوجود ولواحقه وقسموا الوجود إلى جوهر وعرض ثم قسموا الأعراض إلى تسعة أجناس ومنهم من ردها إلى خمسة ومنهم من ردها إلى ثلاثة فإنه لم يقم لها دليل على الحصر وقسموا الجواهر إلى خمسة أنواع العقل والنفس والمادة والصورة والجسم وواجب الوجود تارة يسمونه جوهرا وهو قول قدمائهم كأرسطو وغيره وتارة لا يسمونه بذلك كما قاله ابن سينا وكان قدماء القوم يتصورون في أنفسهم أمورا عقلية فيظنونها ثابتة في الخارج كما يحكى عن شيعة فيثاغورس وأفلاطون وأن أولئك أثبتوا أعدادا مجردة في الخارج وهؤلاء أثبتوا المثل الأفلاطونية وهي الكليات المجردة عن الأعيان وأثبتوا المادة المجردة وهي الهيولي الأولية وأثبتوا المدة

المجردة وهي الدهر العقلي المجرد عن الجسم وأعراضه وأثبتوا الفضاء المجرد عن الجسم وأعراضه وارسطو وأتباعه خالفوا سلفهم في ذلك ولم يثبتعوا من هذه شيئا مجردا ولكن أثبتوا المادة المقارنة للصورة وأثبتوا الكليات المقارنة للأعيان وأثبتوا العقول العشرة وأما النفس الفلكية فأكثرهم يجعلها قوة جسمانية ومنهم من يقول هي جوهر قائم بنفسه كنفس الإنسان ولفظ الصورة يريدون به تارة ما هو عرض كالصورة الصناعية مثل شكل السرير والخاتم والسيف وهذه عرض قائم بمحله والمادة هنا جوهر قائم بنفسه ويريدون بالصورة تارة الصورة الطبيعية وبالمادة المادة الطبيعية ولا ريب أن الحيوان والمعادن والنبات لها صورة هي خلقت من مواد لكن يعنون بالصورة جوهرا قائما بنفسه وبالمادة جوهرا آخر مقارنا لهذه وآخرون في مقابلتهم من أهل الكلام القائلين بالجوهر الفرد ويزعمون أنه ما ثم من حادث يعلم حدوثه بالمشاهدة إلا الأعراض وأنهم لا يشهدون حدوث جوهر من الجواهر

وكلا القولين خطأ وقد بسطنا عليهما في غير هذا الموضع وقد يراد بالمادة الكلية المشتركة بين الأجسام وبالصورة الصورة الكلية المشتركة بين الأجسام ويدعون أن كليهما جوهر عقلي وهو غلط فإن المشترك بين الأجسام أمر كلي والكليات لا توجد كليات إلا في الأذهان لا في الأعيان وكل ما وجد في الخارج فهو مميز بنفسه عن غيره لا يشركه فيه غيره إلا في الذهن إذا أخذ كليا والأجسام يعرض لها الاتصال والانفصال وهو الاجتماع والافتراق وهما من الأعراض ليس الانفصال شيئا قائما بنفسه كما أن الحركة ليست شيئا قائما بنفسه غير الجسم المحسوس يرد عليه الاتصال والانفصال ويسمونه الهيولي والمادة وهذا وغيره مبسوط في غير هذا الموضع وكثير من الناس قد لا يفهمون حقيقة ما يقولون وما يقول غيرهم وما جاءت به الرسل حتى يعرفوا ما فيه من حق وباطل فيعلمون هل هم موافقون لصريح المعقول أو هم مخالفون له ومن أراد التظاهر بالإسلام منهم عبر عن ذلك بالعبارات الإسلامية فيعبر عن الجسم بعالم الملك وعن النفس بعالم الملكوت وعن العقل بعالم الجبروت أو بالعكس ويقولون إن العقول والنفوس هي الملائكة

وقد يجعلون قوى النفس التي تقتضي فعل الخير هي الملائكة وقواها التي تقتضي الشر هي الشياطين وأن الملائكة التي تنزل على الرسل والكلام الذي سمعه موسى بن عمران إنما هو في نفوس الأنبياء ليس في الخارج بمنزله ما يراه النائم وما يحصل لكثير من الممرورين وأصحاب الرياضة حيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية ويسمع في نفسه أصواتا فتلك هي عندهم ملائكة الله وذلك هو كلام الله ليس له كلام منفصل ولهذا يدعى أحدهم أن الله كلمة كما كلم موسى بن عمران أو أعظم مما كلم موسى لأن موسى كلم عندهم بحروف وأصوات في نفسه وهم يكلمون بالمعاني المجردة العقلية وصاحب مشكاة الأنوار والكتب المضنون بها على غير أهلها وقع في كلامه قطعة من هذا النمط وقد كفرهم بذلك في مواضع آخر ورجع عن ذلك واستقر أمرة على مطالعة البخاري ومسلم وغيرهما ومن هنا سلك صاحب خلع النعلين ابن قسى وأمثاله وكذلكابن عربي صاحب فصوص الحكم والفتوحات المكية ولهذا أدعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الأنبياء والنبي عنده يأخذ من الملك الذي يوحى به إلى الرسل لأن النبي عنده يأخذ من الخيالات التي تمثلت في نفسه لما صورت له المعاني العقلية في الصور الخيالية وتلك الصور عنده هي الملائكة وهي بزعمه تأخذ عن عقله المجرد قبل أن تصير خيالا ولهذا يفضل الولاية على النبوة ويقول مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولى والولى على أصله الفاسد يأخذ عن الله بلا واسطة لأنه يأخذ عن عقله وهذا عندهم هو الأخذ عن الله بلا واسطة إذ ليس عندهم ملائكة منفصلة تنزل بالوحي والرب عندهم ليس هو موجودا مباينا

للمخلوقات بل هو وجود مطلق أو مشروط بنفي الأمور الثبوتية عن الله أو نفي الأمور الثبوتية والسلبية وقد يقولون هو وجود المخلوقات أو حال فيها أو لا هذا ولا هذا فهذا عندهم غاية كل رسول ونبي النبوة عندهم الأخذ عن القوة المتخيلة التي صورت المعاني العقلية في المثل الخيالية ويسمونها القوة القدسية فلهذا جعلوها الولاية فوق النبوة وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقيق والتأله وأولئك ظهروا في قالب التشيع والموالاة فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة وهؤلاء يعظمون أمر الإمامة حتى قد يجعلون الأئمة أعظم من الأنبياء والإمام أعظم من النبي كما يقوله الإسماعيلية وكلاهما أساطين الفلاسفة الذين يجعلون النبي فيلسوفا ويقولون إنه يختص بقوة قدسية ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي ويزعمون أن النبوة

مكتسبة وهؤلاء يقولون إن النبوة عبارة عن ثلاث صفات من حصلت له فهو نبي أن يكون له قوة قدسية حدسية ينال بها العلم بلا تعلم وأن تكون نفسه قوية لها تأثير في هيولى العالم وأن يكون له قوة يتخيل بها ما يعقله ومرئيا في نفسه ومسموعا في نفسه هذا كلام ابن سينا وأمثاله في النبوة وعنه أخذ ذلك العزالي في كتبه المضنون بها على غير أهلها وهذا القدر الذي ذكروه يحصل لخلق كثير من آحاد الناس ومن المؤمنين وليس هو من أفضل عموم المؤمنين فضلا عن كونه نبيا كما بسط في موضعه وهؤلاء قالوا هذا لما احتاجوا إلى الكلام في النبوة على أصول سلفهم الدهرية القائلين بأن الأفلاك قديمة أزلية لا مفعولة لفاعل بقدرته واختياره وأنكروا علمه بالجزئيات ونحو ذلك من أصولهم الفاسدة فتكلم هؤلاء في النبوة على أصول أولئك وأما القدماء ارسطو وأمثاله فليس لهم في النبوة كلام محصل والواحد من هؤلاء يطلب أن يصير نبيا كما كان السهروردي المقتول يطلب أن يصير نبيا وكان قد جمع بين النظر والتأله وسلك نحوا من مسلك الباطنية وجمع بين فلسفة الفرس واليونان وعظم أمر الأنوار وقرب دين المجوس الأول وهو نسخة الباطنية الإسماعيلية وكان له

يد في السحر والسيمياء فقتله المسلمون على الزندقة بحلب في زمن صلاح الدين وكذلك ابن سبعين الذي جاء من المغرب إلى مكة وكان يطلب أن يصير نبيا وجدد غار حراء الذي نزل فيه الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء وحكى عنه أنه كان يقول لقد ذرب ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدي وكان بارعا في الفلسفة وفي تصوف المتفلسفة وما يتعلق بذلك وهو وابن عربي وأمثالهما كالصدر القونوي وابن الفارض والتلمساني منتهى أمرهم القول بوحدة الوجود وأن الوجود الواجب القديم الخالق هو الوجود الممكن المحدث المخلوق ما ثم لا غير ولا سوى لكن لما رأوا تعدد المخلوقات صاروا تارة يقولون مظاهر ومجالي فإذا قيل لهم فإن كانت المظاهر أمرا وجوديا تعدد الوجود وإلا لم يكن لها حينئذ حقيقة وما هو نحو هذا الكلام الذي يبين أن الوجود نوعان خالق ومخلوق قالوا نحن نثبت عندنا في الكشف ما يناقص صريح العقل ومنأراد أن يكون محققا مثلنا فلا بد أن يلتزم الجمع بين النقيضين وأن الجسم الواحد يكون في وقت واحد في موضعين وهؤلاء الأصناف قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع فإن هؤلاء يكثرون في الدول الجاهلية وعامتهم تميل إلى التشيع كما عليه ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما فاحتاج الناس إلى كشف حقائق هؤلاء وبيان أمورهم على الوجه الذي يعرف به الحق من الباطل فإن هؤلاء يدعون في أنفسهم أنهم أفضل أهل الأرض وأن الناس لا يفهمون حقيقة إشاراتهم فلما يسر الله أني بينت لهم حقائقهم وكتبت في ذلك من المصنفات ما علموا به أن هذا هو تحقيق قولهم وتبين لهم بطلانه بالعقل الصريح والنقل الصحيح والكشف المطابق رجع عن ذلك من علمائهم وفضلائهم من رجع وأخذ هؤلاء يثبتون للناس تناقضهم ويردونهم إلى الحق وكان من أصول ضلالهم ظنهم أن الوجود المطلق يوجد في الخارج إما مطلق لا بشرط وإما مطلق بشرط فالمطلق لا

بشرط الذي يسمونه الكلي الطبيعي إذا قيل إنه موجود في الخارج فإن الذي يوجد في الخارج مقيدا معينا هو مطلق في الذهن مقيد في الخارج وأما من زعم أن في الذهن شيئا مطلقا وهو مطلق حال تحققه في الخارج فهو غالط غلطا ضل فيه كثير من أهل المنطق والفلسفة وأما المطلق بشرط الإطلاق فهو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية والسلبية كما يوجد الإنسان مجردا عن كل قيد فإذا قلت موجود أو معدوم أو واحد أو كثير أو في الذهن أو في الخارج كان ذلك قيدا زائدا على الحقيقة المطلقة بشرط الإطلاق وهكذا الوجود تأخذه عن كل قيد ثبوتي وسلبي فلا تصفه لا بالصفات السلبية ولا الثبوتية وهذا هو واجب الوجود عند أئمة الباطنية كأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله لكن من هؤلاء من لا يعرف يرفع النقيضين فيقول لا موجود ولا معدوم ومنهم من يقول بل أمسك عن إثبات أحد النقيضين فلا أقول موجود ولا معدوم كأبي يعقوب وهو منتهى تجريد هؤلاء القائلين بوحدة الوجود

وابن سينا وأتباعه يقولون الوجود الواجب هو الوجود المقيد بسلب الأمور الثبوتية دون السلبية وهذا أبعد عن الوجود في الخارج من المقيد بسلب الوجود والعدم وإن كان ذلك ممتنعا في الموجود والمعدوم فقلت لأولئك المدعين للتحقيق أنتم بنيتم أمركم على القوانين المنطقية وهذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق المقيد بسلب النقيضين عنه لا يوجد في الخارج باتفاق العقلاء وإنما يقدر في الذهن تقديرا وإلا فإذا قدرنا إنسانا مطلقا واشترطنا فيه أن لا يكون موجودا ولا معدوما ولا واحدا ولا كثيرا لم يوجد في الخارج بل نفرض في الذهن كما نفرض الجمع بين النقيضين ففرض رفع النقيضين كفرض الجمع بين النقيضين ولهذا كان هؤلاء تارة يصفونه بجمع النقيضين أو الإمساك عنهما كما يفعل ابن عربي وغيره كثيرا وتارة يجمعون بين هذا وهذا كما يوجد أيضا في كلام اصحاب البطاقة وغيرهم فإذا قالوا مع ذلك إنه مبدع العالم وشرطوا فيه أنه لا يوصف بثبوت ولا انتفاء كان تناقضا فإن كونه مبدعا لا يخرج عن هذا وهذا وكذلك إذا قالوا موجود واجب وشرطوا فيه التجريد عن النقيضين كان تناقضا

وحقيقة قولهم موجود لا موجود وواجب لا واجب وهذا منتهى أمرهم وهو الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين ولهذا يصيرون إلى الحيرة ويعظمونها وهي عندهم منتهى معرفة الأنبياء والأولياء والأئمة والفلاسفة ومن أصول ضلالهم ظنهم أن هذا تنزيه عن التشبيه وأنهم متى وصفوا بصفة إثبات أو نفي كان فيه تشبيه بذلك ولم يعلموا أن التشبيه المنفي عن الله هو ما كان وصفه بشيء من خصائص المخلوقين أو أن يجعل شيء من صفاته مثل صفات المخلوقين بحيث يجوز عليه ما يجوز عليهم أو يجب له ما يجب لهم أو يمتنع عليه ما يمتنع عليهم مطلقا فإن هذا هو التمثيل الممتنع المنفى بالعقل مع الشرع فيمتنع وصفه بشيء من النقائض ويمتنع مماثلة غيره له في شيء من صفات الكمال فهذان جماع لما ينزه الرب تعالى عنه كما بسطنا ذلك في مواضع كثيرة وعلى هذا وهذا دل قوله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص كما قد بسطنا ذلك في مصنف مفرد في تفسير هذه الشواهد فأما الموافقة في الاسم كحي وحي وموجود وموجود وعليم وعليم فهذا لا بد منه ويلزم من نفى هذا التعطيل المحض فإن كل

موجودين قائمين بأنفسهما فحينئذ لا بد أن يجمعهما اسم عام يدل على معنى عام لكن المعنى العام لا يوجد عاما إلا في الذهن لا في الخارج فإذا قيل هذا الموجود وهذا الموجود مشتركان في مسمى الوجود كان ما اشتركا فيه لا يوجد مشتركا إلا في الذهن لا في الخارج وكل موجود فهو يختص بنفسه وصفات نفسه لا يشركه غيره في شيء من ذلك في الخارج وإنما الاشتراك هو نوع من التشابه والاتفاق والمشترك فيه الكلي لا يوجد كذلك إلا في الذهن فإذا وجد في الخارج لم يوجد إلا متميزا عن نظيره لا يكون هو إياه ولا هما في الخارج مشتركان في شيء في الخارج فاسم الخالق إذا وافق اسم المخلوق كالموجود والحي وقيل إن هذا الاسم عام كلي وهو من الأسماء المتواطئة أو المشككة لم يلزم من ذلك أن يكون ما يتصف به الرب من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه المخلوق بل ولا يكون ما يتصف به أحد المخلوقين من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه مخلوق آخر بل وجود هذا يخصه

ووجود هذا يخصه لكن ما يتصف به المخلوق قد يماثل ما يتصف به المخلوق ويجوز على أحد المثلين ما يجوز على الآخر وأما الرب سبحانه وتعالى فلا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته بل التباين الذي بينه وبين كل واحد من خلقه في صفاته أعظم من التباين الذي بين أعظم المخلوقات وأحقرها وأما المعنى الكلي العام المشترك فيه فذاك كما ذكرنا لا يوجد كليا إلا في الذهن وإذا كان المتصفان به بينهما نوع موافقة ومشاركة ومشابهة من هذا الوجه فذاك لا محذور فيه فإنه ما يلزم ذلك القدر المشترك من وجوب وجواز وامتناع فإن الله متصف به فالموجود من حيث هو موجود أو العليم أو الحي مهما قيل إنه يلزمه من وجوب وامتناع وجواز فالله موصوف به بخلاف وجود المخلوق وحياته وعلمه فإن الله لا يوصف بما يختص به المخلوق من وجوب وجواز واستحالة كما أن المخلوق لا يوصف بما يختص به الرب من وجوب وجواز واستحالة فمن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة يعثر فيها كثير من الأذكياء الناظرين في العلوم الكلية والمعارف الإلهية فهذا أحد أقوالهم في الوجود الواجب وهو المطلق بشرط الإطلاق عن النفي والإثبات وهو أكملها في التعطيل والإلحاد والثاني قول ابن سينا وأتباعه إنه هو الوجود المقيد بالقيود السلبية

لا الثبوتية وقد يعبر عنه بأنه الوجود المقيد تارة لا يعرض له شيء من الماهيات كما يعبر الرازي وغيره وهذه العبارات بناء على قولهم إن الوجود يعرض للماهية الممكنة فإن للناس ثلاثة أقوال قيل إن الوجود زائد على الماهية في الواجب والممكن كما يقول ذلك أبو هاشم وغيره وهو أحد قولي الرازي وقد يقوله بعض النظار من أصحاب أحمد وغيرهم وقيل بل الوجود في الخارج هو الحقيقة الثابتة في الخارج ليس هناك شيئان وهذا قول الجمهور من أهل الإثبات وهذا قول عامة النظار من مثبتة الصفات من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم لكن ظن الشهرستاني والرازي والأمدي ونحوهم أن قائل هذا القول يقول إن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي ونقلوا ذلك عن الأشعري وغيره وهو غلط عليهم فإن أصحاب هذا القول هم جماهير الخلق من الأولين والآخرين وليس فيهم من يقول بأن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي إلا طائفة قليلة وليس هذا قول الأشعري وأصحابه بل هم متفقون على أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث واسم الوجود يعمهما لكن الأشعري ينفي الأحوال ويقول العموم والخصوص يعود إلى الأقوال ومقصوده أنه ليس في الخارج معنى كلي عام ليس مقصوده أن الذهن لا يقوم به معنى عام كلي

وهؤلاء االذين قالوا إن من قال وجود كل شيء هو نفس حقيقته الموجودة إنما هذا هو قول بالاشتراك اللفظي لأنهم قالوا إذا جعلنا الوجود عاما من الألفاظ المتواطئة المتساوية أو المتفاضلة التي تسمى المشككة وقلنا إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث كان النوعان قد اشتركا في مسمى الوجود وهو كلي مطلق فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهو حقيقة فيلزم أن يكون لكل منهما حقيقة غير الوجود فمن قال إن الشيء الموجود في الخارج ليس شيئا غير الحقيقة الموجودة في الخارج لم يمكنه أن يقول لفظ الوجود يعمهما بل يقول هو مقول عليهما بالاشتراك اللفظي وهذا غلط ضلت فيه طوائف كالرازي وأمثاله بيان ذلك من ثلاثة وجوه أحدها أن يقال لفظ الوجود كلفظ الحقيقة وكلفظ الماهية وكلفظ الذات والنفس فإذا قلتم الوجود ينقسم إلى واجب وممكن أو قديم ومحدث كان بمنزلة قولكم الحقيقة تنقسم إلى واجبة وممكنة أو إلى قديمة ومحدثة وبمنزلة قولهم الذات تنقسم إلى هذا وهذا وهذا والماهية تنقسم إلى هذا وهذا ونحو ذلك من الأسماء العامة وبمنزلة قولهم الشيء ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث وحينئذ فإذا قلتم يشتركان في الوجود أو الوجوب ويمتاز أحدهما

عن الآخر بالحقيقة أو الماهية كان بمنزلة أن يقال يشتركان في الماهية أو الحقيقة ويمتاز أحدهما عن الآخر بالوجود أو الوجوب فإن قلتم إنما اشتركا في الرجود العام الكلي وامتاز كل منهما بالحقيقة التي تخصه قيل وكذلك يقال إنما اشتركا في الحقيقة العامة الكلية وامتاز كل منهما بالوجود الذي يخصه فلا فرق حينئذ بين ما جعلتموه كليا مشتركا كالجنس والعرض العام وبين ما جعلتموه مختصا مميزا جزئيا كالفصل والخاصة لكن عمدتم إلى شيئين متساويين في العموم والخصوص فقدرتم أحدهما في حال عمومه والآخر في حال خصوصه فهذا كان من تقديركم وإلا فكل منهما يمكن فيه التقدير كما أمكن في الآخر وكل منهما في نفس الأمر مساو للآخر في عمومه وخصوصه وكونه مشتركا ومميزا فلا فرق في نفس الأمر بين ما جعلتموه جنسا أو عرضا عاما وما جعلتموه فصلا أو خاصة إلا أنكم قدرتم أحد المتساويين عاما والاخر خاصا الوجه الثاني أن يقال إذا قلتم الموجودان يشتركان في مسمى الوجود فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بأمر آخر قيل لكم المميز أن يكون وجودا خاصا فلم قلتم إنه

يكون شيء خارج عن مسمى الوجود حتى تثبتون حقيقة أخرى وهذا كما إذا قلنا الإنسانان يشتركان في مسمى الإنسانية وأحدهما يمتاز عن الآخر بخصوصية أخرى كان المميز إنسانيتة التي تخصه لم يحتج أن يجعل المميز شيئا غير الإنسانية يعرض له الإنسانية ولكن هؤلاء يظنون أن الأنواع المشتركة في كلي لا يفصل بينها إلا مواد أخرى وفي هذا الموضع كلام مبسوط على غلط أهل المنطق فيما غلطوا فيه في الكلمات وتقسيم الكليات وتركيب الحدود من الذاتيات وغير ذلك ومواد الأقيسة والفرق بين اليقيني وغير اليقيني منها وغير ذلك مما هو مكتوب في غير هذا الموضع الوجه الثالث أن يقال إذا قلنا الموجودان يشتركان في مسمى الوجود وأحدهما لا بد أن يمتاز عن الآخر فليس المراد أنهما اشتركا في أمر بعينه موجود في الخارج فإن هذا ممتنع بل المراد أنهما اتفقا في ذلك وتشابها فيه من هذه الجهة ونفس ما اشتركا فيه لا يكون بعينه مشتركا فيه إلا في الذهن لا في الخارج وإلا فنفس وجود هذا لم يشركه فيه هذا وحينئذ فإذا قلنا لفظ الوجود من الألفاظ العامة الكلية المتواطئة أو المشككة وهي المتواطئة التي تتفاضل معانيها لا تتماثل مع الاتفاق في أصل المسمى كالبياض المقول على بياض الثلج القوي وبياض

العاج الضعيف والسواد المقول على سواد القار وعلى سواد الحبشة والعلو المقول على علو السماء وعلى علو السقف والواسع المقول على البحر وعلى الدار الواسعة والوجود المقول على الواجب بنفسه وعلى الممكن الموجود بغيره وعلى القائم بنفسه والقائم بغيره والقديم المقول على العرجون وعلى ما لا أول له والمحدث المقول على ما أحدث في اليوم وعلى كل ما خلقه الله بعد أن لم يكن والحي الذي يقال على الإنسان والحيوان والنبات وعلى الحي القيوم الذي لا يموت أبدا بل أسماء الله الحسنى تعالى التي تسمى بها خلقه كالملك والسميع والبصير والعليم والخبير ونحو ذلك كلها من هذا الباب فإذا قيل في جميع الألفاظ العامة ومعانيها العامة سواء كانت متماثلة أو متفاضلة إن أفرادها اشتركت فيها أو اتفقت ونحو ذلك لم يرد به أن في الخارج معنى عاما يوجد عاما في الخارج وهو نفسه مشترك بل المراد أن الموجودات المعينة اشتركت في هذا العام الذي لا يكون عاما إلا في علم العالم كما أن اللفظ العام لا يكون عاما إلا في لفظ اللافظ والخط العام لا يكون عاما إلا في خط الكاتب والمراد بكونه عاما شموله للأفراد الخارجة لا أنه نفسه شيء

موجود يكون هو نفسه مع هذا المعين وهو نفسه مع هذا المعين فإن هذا مخالف للحس والعقل والمقصود هنا أن ابن سينا مذهبه أن الوجود الواجب لنفسه هو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية لا بجعله مقيدا بسلب النقيضين أو بالإمساك عن النقيضين كما فعل السجستاني وأمثاله من القرامطة وغيرهم وعبر ابن سينا عن قولهم بأنه الوجود المقيد بأنه لا يعرض لشيء من الحقائق أو لشيء من الماهيات لاعتقادهم أن الوجود يعرض للممكنات وهو يقول وجود الواجب نفس ماهيته والجمهور من أهل السنة يقولون ذلك لكن الفرق بينهما أن عنده هو وجود مطلق بشرط سلب الماهيات عنه فليس له ماهية سوى الوجود المقيد بالسلب وأما الأنبياء وأتباعهم وجماهير العقلاء فيعلمون أن الله له حقيقة يختص بها لا تماثل شيئا من الحقائق وهي موجودة وطائفة من المعتزلة ومن وافقهم يقولون هي موجودة بوجود زائد على حقيقتها

وأما الجمهور فيقولون الحقائق المخلوقة ليست في الخارج إلا الموجود الذي هو الحقيقة التي في الخارج وإنما يحصل الفرق بينهما بأن يجعل أحدهما ذهنيا والآخر خارجيا فإذا جعلت الماهية أو الحقيقة أسما لما في الذهن كان ذلك غير ما في الخارج وأما إذا قيل الوجود الذهني فهو الماهية الذهنية وإذا قيل الماهية الخارجية فهي الوجود الخارجي فإذا كان هذا في المخلوق فالخالق أولى ومذهب ابن سينا معلوم الفساد بضرورة العقل بعد التصور التام فإنه إذا اشترك الموجودان في مسمى الوجود لم يميز أحدهما عن الآخر بمجرد السلب فإن التمييز في نفس الأمر بين المشتركين لا يكون بمجرد العدم المحض إذ العدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء لا يحصل منه الامتياز في نفس الأمر ولا يكون الفاصل بين الشيئين الموجودين الذي يختص بأحدهما إلا أمرا ثبوتيا أو متضمنا لأمر ثبوتي وهذا مستقر عندهم في المنطق فكيف يكون وجود الرب مماثلا لوجود الممكنات في مسمى الوجود ولا يمتاز عن المخلوقات إلا بعدم محض لا ثبوت فيه بل على هذا التقدير يكون أي موجود قدر أكمل من هذا الموجود فإن ذلك الموجود مختص مع وجوده بأمر ثبوتي عنده والوجود الواجب لا يختص عنده إلا بأمر عدمي مع تماثلهما في مسمى الوجود فهذا القول يستلزم مماثلة الوجود الواجب لوجود كل ممكن في

الوجود وأن لا يمتاز عنه إلا بسلب الأمور الثبوتية والكمال هو في الوجود لا في العدم إذ العدم المحض لا كمال فيه فحينئذ يمتاز عن الممكنات بسلب جميع الكمالات وتمتاز عنه بإثبات جميع الكمالات وهذا غاية ما يكون من تعظيم الممكنات في الكمال والوجود ووصف الوجود الواجب بالنقص والعدم وأيضا فهذا الوجود الذي لا يمتاز عن غيره إلا بالأمور العدمية يمتنع وجودة في الخارج بل لا يمكن إلا في الذهن لأنه إذا شارك سائر الموجودات في مسمى الوجود كان هذا كليا والوجود لا يكون كليا إلا في الذهن لا في الخارج والأمور العدمية المحضة لا توجب ثبوته في الخارج فإن ما في الذهن هو بسلب الحقائق الخارجية عنه أحق بسلبها عما في الخارج لو كان ذلك ممكنا في الخارج فكيف إذا كان ممتنعا فإذا كان الكلي لا يكون إلا ذهنيا والقيد العدمي لا يخرجه عن أن يكون كليا ثبت أنه لا يكون في الخارج وأيضا فإن ما في الخارج لا يكون إلا معينا له وجود يخصه فما لا يكون كذلك لا يكون إلا في الذهن

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة وغيرها أن ما ذكره في واجب الوجود لا يتحقق إلا في الذهن لا في الخارج فهذا قول من قيده بالأمور العدمية ولهم قول ثالث وهو الوجود المطلق لا بشرط الإطلاق الذي يسمونه الكلي الطبيعي وهذا لا يكون في الخارج إلا معينا فيكون من جنس القولين قبله ومنهم من يظن أنه ثابت في الخارج وأنه جزء من المعينات فيكون الوجود الواجب المبدع لكل ما سواه إما عرضا قائما بالمخلوقات وإما جزءا منها فيكون الواجب مفتقرا إلى الممكن عوضا فيه أو جزءا منه بمنزلة الحيوانية في الحيوانات لا تكون هي الخالقة للحيوان ولا الإنسانية هي المبدعة للإنسان فإن جزء الشئ وعرضه لا يكون هو الخالق له بل الخالق مباين له منفصل عنه إذ جزؤه وعرضه داخل فيه والداخل في الشئ لا يكون هو المبدع له كله فما وصفوا به رب العالمين يمتنع معه أن يكون خالقا لشئ من الموجودات فضلا عن أن يكون خالقا لكل شئ وهده الأمور مبسوطة في موضع آخر

والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة حقيقة قولهم تعطيل الخالق وجحد حقيقة النبوات والمعاد والشرائع وينتسبون إلى موالاة علي ويدعون أنه كان على هذه الأقوال كما تدعى القدرية والجهمية والرافضة أنه كان على قولهم أيضا ويدعون أن هذه الأقوال مأخوذة عنه وهذا كله باطل كذب على علي رضي الله عنه.
*

فصل
قال الرافضي وعلم التفسير إليه يعزي لأن ابن عباس كان تلميذه فيه.
قال ابن عباس حدثنى أمير المؤمنين في تفسير الباء من بسم الله الرحمن الرحيم من أول الليل إلى آخره.
*والجواب أن يقال...
أولا: أين الإسناد الثابت بهذا النقل عن ابن عباس فإن أقل مايجب على المحتج بالمنقولات أن يذكر الإسناد الذي يعلم به صحة النقل، وإلا فمجرد ما يذكر في الكتب من المنقولات لا يجوز الاستدلال به، مع العلم بأن فيه شيئا كثير من الكذب.
ويقال ثانيا: أهل العلم بالحديث يعلمون أن هذا من الكذب فإن هذا الأثر المأثور عن ابن عباس كذب عليه وليس له إسناد يعرف وإنما

يذكر مثل هذه الحكايات بلا إسناد وهذه يرويها أهل المجهولات الذين يتكلمون بكلام لا حقيقة له ويجعلون كلام علي وابن عباس من جنس كلامهم كما يقولون عن عمر أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما فإن هذا كذب على عمر باتفاق أهل العلم وكما ينقلون عن عمر أنه تزوج امرأة أبي بكر ليسألها عن علمه في السر فقالت كنت أشم من فيه رائحة الكبد المحترقة وهذا أيضا كذب وعمر لم يتزوج امرأة أبي بكر وإنما تزوجها علي تزوج أسماء بنت عميس ومعها ربيبه محمد بن أبي بكر فتربى عنده وهذا ابن عباس نقل عنه من التفسير ما شاء الله بالأسانيد الثابتة ليس في شيء منها ذكر علي وابن عباس يروى عن غير واحد من الصحابة يروى عن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وعن زيد بن ثابت وأبي بن كعب وأسامة بن زيد وغير واحد من المهاجرين والأنصار وروايته عن علي قليلة جدا ولم يخرج أصحاب الصحيح شيئا من حديثه عن علي وخرجوا حديثه عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم وأيضا فالتفسير أخذ عن غير ابن عباس أخذ عن ابن مسعود وغيره

من الصحابة الذين لم يأخذوا عن علي شيئا وما يعرف بأيدي المسلمين تفسير ثابت عنه وهذه كتب الحديث والتفسير مملوءة بالآثار عن الصحابة والتابعين والذي فيها عن علي قليل جدا وما ينقل في حقائق السلمى من التفسير عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر كما قد كذب عليه غير ذلك كما تقدم.
*

فصل
قال الرافضي وأما علم الطريقة فإليه منسوب فإن الصوفية كلهم يسندون الخرقة إليه.
*والجواب أن يقال...
أولا: أما أهل المعرفة وحقائق الإيمان المشهورين في الأمة بلسان الصدق فكلهم متفقون على تقديم أبي بكر، وأنه أعظم الأمة في الحقائق الإيمانية والأحوال العرفانية وأين من يقدمونه في الحقائق التي هي أفضل الأمور عندهم إلى من ينسب إليه الناس لباس الخرقة، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم فأين حقائق القلوب من لباس الأبدان.

ويقال ثانيا: الخرق متعددة أشهرها خرقتان خرقة إلى عمر وخرقة إلى علي فخرقة عمر لها إسنادان إسناد إلى أويس القرني وإسناد إلى أبي مسلم الخولاني وأما الخرقة المنسوبة إلى علي فإسنادها إلى الحسن البصري والمتأخرون يصلونها بمعروف الكرخي فإن الجنيد صحب السري السقطى والسري صحب معروفا الكرخي بلا ريب وأما الإسناد من جهة معروف فينقطع فتارة يقولون إن معروفا صحب علي بن موسى الرضا وهذا باطل قطعا لم يذكره المصنفون لأخبار معروف بالإسناد الثابت المتصل كأبي نعيم وأبي الفرج بن الجوزي في كتابه الذي صنفه في فضائل معروف ومعروف كان منقطعا في الكرخ وعلي بن موسى كان المأمون قد جعله ولي العهد بعده وجعل شعاره لباس الخضرة ثم رجع عن ذلك وأعد شعار السواد ومعروف لم يكن ممن يجتمع بعلي بن موسى ولا نقل عنه ثقة أنه اجتمع به أوأخذ عنه شيئا بل ولا يعرف أنه رآه ولا كان معروف بوابه ولا أسلم على يديه وهذا كله كذب وأما الإسناد الآخر فيقولون إن معروفا صحب داود الطائي وهذا أيضا لا أصل له وليس في أخباره المعروفة ما يذكر فيها وفي إسناد الخرقة أيضا أن داود الطائي صحب حبيبا العجمي وهذا أيضا لم يعرف له حقيقة

وفيها أن حبيبا العجمي صحب الحسن البصري وهذا صحيح فإن الحسن كان له أصحاب كثيرون مثل أيوب السختياني ويونس بن عبيد وعبد الله بن عوف ومثل محمد بن واسع ومالك بن دينار وحبيب العجمي وفرقد السبخي وغيرهم من عباد البصرة وفيها أن الحسن صحب عليا وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة فإنهم متفقون على أن الحسن لم يجتمع بعلي وإنما أخذ عن أصحاب علي أخذ عن الأحنف بن قيس وقيس بن عباد وغيرهما عن علي وهكذا رواه أهل الصحيح والحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر وقتل عثمان وهو بالمدينة كانت أمه أمة لأم سلمة فلما قتل عثمان حمل إلى البصرة وكان علي بالكونة والحسن في وقته صبي من الصبيان لا يعرف ولا له ذكر والأثر الذي يروى عن علي أنه دخل إلى جامع البصرة وأخرج القصاص إلا الحسن كذب باتفاق أهل المعرفة ولكن المعروف أن عليا دخل المسجد فوجد قاصا يقص فقال ما اسمك قال أبو يحيى قال هل تعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قالهلكت وأهلكت إنما أنت أبو اعرفوني ثم أخذ بأذنه فأخرجه من المسجد فروى أبو حاتم في كتاب الناسخ والمنسوخ حدثنا الفضل بن دكين حدثنا سفيان عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمى قال انتهى علي إلى قاص وهو يقص فقال أعلمت الناسخ والمنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت قال وحدثنا زهير بن عباد الرواسي حدثنا أسد بن حمران عن جويبر عن الضحاك أن علي بن أبي طالب دخل مسجد الكوفة فإذا قاص يقص فقام على رأسه فقال يا هذا تعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال أفتعرف مدنى القرآن من مكيه قال لا قال هلكت وأهلكت قال أتدرن من هذا هذا يقول اعرفوني اعرفوني اعرفوني وقد صنف ابن الجوزي مجلدا في مناقب الحسن البصري

وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءا فيمن لقيه من الصحابة وأخبار الحسن مشهورة في مثل تاريخ البخاري وقد كتبت أسانيد الخرقة لأنه كان لنا فيها أسانيد فبينتها ليعرف الحق من الباطل ولهم إسناد آخر بالخرقة المنسوبة إلى جابر وهو منطقع جدا وقد عقل بالنقل المتواتر أن الصحابة لم يكونوا يلبسون مريديهم خرقة ولا يقصون شعورهم ولا التابعون ولكن هذا فعله بعض مشايخ المشرق من المتأخرين وأخبار الحسن مذكورة بالأسانيد الثابتة من كتب كثيرة يعلم منها ما ذكرنا وقد أفرد أبو الفرج بن الجوزي له كتابا في مناقبه وأخباره وأضعف من هذا نسبة الفتوة إلى علي وفي إسنادها من الرجال المجهولين الذين لا يعرف لهم ذكر ما يبين كذبها وقد علم كل من له علم بأحوال الصحابة والتابعين أنه لم يكن فيهم أحد يلبس سراويل ولا يسقى ملحا ولا يختص أحد بطريقة تسمى الفتوة لكن كانوا قد اجتمع بهم التابعون وتعلموا منهم وتأدبوا بهم واستفادوا منهم وتخرجوا على أيديهم وصحبوا من صحبوه منهم وكانوا يستفيدون من جميع الصحابة

وأصحاب ابن مسعود كانوا يأخذون من عمر وعلي وأبي الدرداء وغيرهم وكذلك أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه كانوا يأخذون عن ابن مسعود وغيره وكذلك أصحاب ابن عباس يأخذون عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما وكذلك أصحاب زيد بن ثابت يأخذون عن أبي هريرة وغيره وقد انتفع بكل منهم من نفعه الله وكلهم متفقون على دين واحد وطريق واحدة وسبيل واحدة يعبدون الله ويطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن بلغهم من الصادقين عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قبلوه ومن فهم من القرآن والسنة ما دل عليه القرآن والسنة استفادوه ومن دعاهم إلى الخير الذي يحبه الله ورسوله أجابوه ولم يكن أحد منهم يجعل شيخه ربا يستغيث به كالإله الذي يسأله ويرغب إليه ويعبده ويتوكل عليه ويستغيث به حيا وميتا ولا كالنبي الذي تجب طاعته في كل ما أمر فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه فإن هذا ونحوه دين النصارى الذين قال الله فيهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (سورة التوبة). وكانوا متعاونين على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان متواصين بالحق متواصين بالصبر

والإمام والشيخ ونحوهما عندهم بمنزلة الإمام في الصلاة وبمنزلة دليل الحاج فالإمام يفتدى به المأمومون فيصلون بصلاته لا يصلى عنهم وهو يصلى بهم الصلاة التي أمر الله ورسوله بها فإن عدل عن ذلك سهوا أو عمدا لم يتبعوه ودليل الحاج يدل الوفد على طريق البيت ليسلكوه ويحجوه بأنفسهم فالدليل لا يحج عنهم وإن أخطأ الدلالة لم يتبعوه وإذا اختلف دليلان وإمامان نظر أيهما كان الحق معه اتبع فالفاصل بينهم الكتاب والسنة قال تعالى يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر الآية (سورة النساء). وكل من الصحابة الذين سكنوا الأمصار أخذ عنه الناس الإيمان والدين وأكثر المسلمين بالمشرق والمغرب لم يأخذوا عن علي شيئا فإنه رضي الله عنه كان ساكنا بالمدينة وأهل المدينة لم يكونوا يحتاجون إليه إلا كما يحتاجون إلى نظرائه كعثمان في مثل قصة شاورهم فيها عمر ونحو ذلك ولما ذهب إلى الكوفة كان أهل الكوفة قبل أن يأتيهم قد أخذوا الدين

عن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وحذيفة وعمار وأبي موسى وغيرهم ممن أرسله عمر إلى الكوفة وأهل البصرة أخذوا الدين عن عمران بن حصين وأبي بكرة وعبد الرحمن بن سمرة وأنس وغيرهم من الصحابة وأهل الشام أخذوا الدين عن معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وبلال وغيره من الصحابة والعباد والزهاد من أهل هذه البلاد أخذوا الدين عمن شاهدوه من الصحابة فكيف يجوز أن يقال إن طريق أهل الزهد والتصوف متصل به دون غيره وهذه كتب الزهد مثل الزهد للإمام أحمد والزهد لابن المبارك ولوكيع بن الجراح ولهناد بن السري ومثل كتب أخبار الزهاد كحلية الأولياء وصفوة الصفوة وغير ذلك فيها من أخبار الصحابة والتابعين أمور كثيرة وليس الذي فيها لعلي أكثر مما فيها لأبي بكر وعمر ومعاذ وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي ذر وأبي الدرداء وأبي أمامة وأمثالهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

*

فصل
قال الرافضي وأما علم الفصاحة فهو منبعه حتى قيل كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، ومنه تعلم الخطباء.
*والجواب أن يقال لا ريب أن عليا كان من أخطب الصحابة، وكان أبو بكر خطيبا، وعمر خطيبا، وكان ثابت بن قيس بن شماس خطيبا معروفا بأنه خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان حسان ابن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة شعراءه.
ولكن كان أبو بكر يخطب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حضوره وغيبته فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج في الموسم يدعو الناس إلى الإسلام وأبو بكر معه يخطب معه ويبين بخطابه ما يدعو الناس إلى متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، ونبي الله ساكت يقره على ما يقول، وكان كلامه تمهيدا وتوطئة لما يبلغه الرسول معونة له، لا تقدما بين يدي الله ورسوله كما كان ثابت بن قيس بن شماس يخطب أحيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يسمى خطيب رسول الله وكان عمر من أخطب الناس وأبو بكر أخطب منه يعترف له عمر بذلك وهو الذي خطب المسلمين وكشف لهم عن موت النبي صلى الله عليه وسلم وثبت الإيمان في قلوب المسلمين حتى لا يضطرب الناس لعظيم المصيبة التي نزلت بهم.

ولما قدم هو وأبو بكر مهاجرين إلى المدينة قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أبو بكر يخاطب الناس عنه، حتى ظن من لم يعرفهما أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن عرف بعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القاعد، وكان يخرج معه إلى الوفود فيخاطب الوفود وكان يخاطبهم في مغيبه.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي خطب الناس وخطب يوم السقيفة خطبة بليغة انتفع بها الحاضرون كلهم، حتى قال عمر كنت قد زورت في نفسي مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر وكان أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة اعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها. وقال أنس خطبنا أبو بكر رضي الله عنه ونحن كالثعالب فما زال يثبتنا حتى صرنا كالأسود وكان زياد بن أبيه من أخطب الناس وأبلغهم حتى قال الشيعي ما تكلم أحد فأحسن إلا تمنيت أن يسكت خشية أن يزيد فيسيء إلا زيادا كان كلما أطال أجاد أو كما قال وقد كتب الناس خطب زياد

وكان معاوية خطيبا، وكانت عائشة من أخطب الناس حتى قال الأحنف بن قيس سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فما سمعت الكلام من مخلوق أفحم ولا أحسن من عائشة.
وكان الخطباء الفصحاء كثيرين في العرب قبل الإسلام وبعده وجماهير هؤلاء لم يأخذوا عن علي شيئا فقول القائل إنه منبع علم الفصاحة كذب بين، ولو لم يكن إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أخطب منه وأفصح ولم يأخذ منه شيئا وليست الفصاحة التشدق في الكلام والتقعير في الكلام ولا سجع الكلام ولا كان في خطبة علي ولا سائر خطباء العرب من الصحابة وغيرهم تكلف الأسجاع ولا تكلف التحسين الذي يعود إلى مجرد اللفظ الذي يسمى علم البديع كما يفعله المتأخرون من أصحاب الخطب والرسائل والشعر وما يوجد في القرآن من مثل قوله وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (سورة الكهف). و إن ربهم بهم سورة العاديات ونحو ذلك. فلم يتكلف لأجل التجانس بل هذا تابع غير مقصود بالقصد الأول كما يوجد في القرآن من أوزان الشعر ولم يقصد به الشعر كقوله تعالى وجفان كالجواب وقدور راسيات (سورة سبأ).

وقوله نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم (سورة الحجرات).. ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك سورة الشرح ونحو ذلك وإنما البلاغة المأمور بها في مثل قوله تعالى وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا (سورة النساء). هي علم المعاني والبيان فيذكر من المعاني ما هو أكمل مناسبة للمطلوب ويذكر من الألفاظ ما هو أكمل في بيان تلك المعاني فالبلاغة بلوغ غاية المطلوب أو غاية الممكن من المعاني بأتم ما يكون من البيان فيجمع صاحبها بين تكميل المعاني المقصودة وبين تبيينها بأحسن وجه ومن الناس من تكون همته إلى المعاني ولا يوفيها حقها من الألفاظ المبينة ومن الناس من يكون مبينا لما في نفسه من المعاني لكن لا تكون تلك المعاني محصلة للمقصود المطلوب في ذلك المقام فالمخبر مقصودة تحقيق المخبر به فإذا بينه وبين ما يحقق ثبوته لم يكن بمنزلة الذي لا يحقق ما يخبر به أو لا يبين ما يعلم به ثبوته والأمر مقصودة تحصيل الحكمة المطلوبة فمن أمر ولم يحكم ما أمر به أو لم يبين الحكمة في ذلك لم يكن بمنزلة الذي أمر بما هو حكمة وبين وجه الحكمة فيه وأما تكلف الأسجاع والأوزان والجناس والتطبيق ونحو ذلك مما

تكلفه متأخروا الشعراء والخطباء والمترسلين والوعاظ فهذا لم يكن من دأب خطباء الصحابة والتابعين والفصحاء منهم ولا كان ذلك مما يهتم به العرب وغالب من يعتمد ذلك يزخرف اللفظ بغير فائدة مطلوبة من المعاني كالمجاهد الذي يزخرف السلاح وهو جبان ولهذا يوجد الشاعر كلما أمعن في المدح والهجو خرج في ذلك إلى الإفراط في الكذب يستعين يالتخيلات والتمثيلات وأيضا فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب نهج البلاغة كذب على علي وعلي رضي الله عنه أجل وأعلى قدرا من أن يتكلم بذلك الكلام ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا انها مدح فلا هي صدق ولا هي مدح ومن قال إن كلام علي وغيره من البشر فوق كلام المخلوق فقد أخطأ وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فوق كلامه وكلاهما مخلوق ولكن هذا من جنس كلام ابن سبعين الذي يقول هذا كلام بشير يشبه بوجه ما كلام البشر وهذا ينزع إلى أن يجعل كلام الله ما في نفوس البشر وليس هذا من كلام المسلمين وأيضا فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غيره لكن صاحب نهج البلاغة وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس

فجعلوه من كلام علي ومنه ما يحكى عن علي أنه تكلم به ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره ولهذا يوجد في كلام البيان والتبيين للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير علي وصاحب نهج البلاغة يجعله عن علي وهذه الخطب المنقولة في كتاب نهج البلاغة لو كانت كلها عن علي من كلامه لكانت موجودة قبل هذا المصنف منقوله عن علي بالأسانيد وبغيرها فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرا منها بل أكثرها لا يعرف قبل هذا علم أن هذا كذب وإلا فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك ومن الذي نقله عن علي وما إسناده وإلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد وتبين صدقها من كذبها علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن علي من أبعد الناس عن المنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها.

*

فصل
قال الرافضي وقال سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض.
*والجواب أن يقال لا ريب أن عليا لم يكن يقول هذا بالمدينة بين المهاجرين والأنصار الذين تعلموا كما تعلم وعرفوا كما عرف. وإنما قال هذا لما صار إلى العراق وقد دخل في دين الإسلام خلق كثير لا يعرفون كثيرا من الدين وهو الإمام الذي يجب عليه أن يفتيهم ويعلمهم، فكان يقول لهم ذلك ليعلمهم ويفتيهم كما أن الذين تأخرت حياتهم من الصحابة واحتاج الناس إلى علمهم نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة لم ينقلها الخلفاء الأربعة ولا أكابر الصحابة لأن أولئك كانوا مستغنين عن نقلها لأن الذين عندهم قد علموها كما علموها ولهذا يروى لابن عمر وابن عباس وعائشة وأنس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الصحابة من الحديث مالا يروى لعلي ولا لعمر وعمر وعلي أعلم من هؤلاء كلهم لكن هؤلاء احتاج الناس إليهم لكونهم تأخرت وفاتهم وأدركهم من لم يدرك أولئك السابقين فاحتاجوا أن يسألوهم واحتاج أولئك أن يعلموهم ويحدثوهم فقول علي لمن عنده بالكوفة سلوني هو من هذا الباب لم يقل هذا لابن مسعود ومعاذ وأبي بن كعب وأبي الدرداء وسلمان وأمثالهم فضلا عن أن يقول ذلك لعمر وعثمان ولهذا لم يكن هؤلاء ممن يسأله فلم يسأله قط لا معاذ ولا أبي ولا ابن مسعود ولا من هو دونهم من الصحابة وإنما كان يستفتيه المستفتي كما يستفتي أمثاله من الصحابة وكان عمر وعثمان

يشاورانه كما يشاوران أمثاله فكان عمر يشاور في الأمور لعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى ولغيرهم حتى كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه وهذا مما أمر الله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله وأمرهم شورى بينهم (سورة الشورى). ولهذا كان رأي عمر وحكمه وسياسته من أسد الأمور فما رؤى بعده مثله قط ولا ظهر الإسلام وانتشر وعز كظهوره وانتشاره وعزه في زمنه وهو الذي كسر كسرى وقصر قيصر والروم والفرس وكان أميره الكبير على الجيش الشامي أبا عبيدة وعلى الجيش العراقي سعد بن أبي وقاص ولم يكن لأحد بعد أبي بكر مثل خلفائه ونوابه وعماله وجنده وأهل شوراه وقوله أنا أعلم بطرق السماء من طرق الأرض كلام باطل لا يقوله عاقل ولم يصعد أحد ببدنه إلى السماء من الصحابة والتابعين وقد تكلم الناس في معراج النبي صلى الله عليه وسلم هل هو ببدنه أو بروحه وإن كان الأكثرون على أنه ببدنه فلم ينازع السلف في غير النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرج ببدنه ومن اعتقد هذا من الغلاة في أحد من المشايخ وأهل البيت فهو من الضلال من جنس من اعتقد من الغلاة في أحد من هؤلاء النبوة أو ما هو أفضل من النبوة أو الإلهية

وهذه المقالات كلها كفر بين لا يستريب في ذلك أحد من علماء الإسلام وهذا كاعتقاد الإسماعيلية أولاد ميمون القداح الذين كان جدهم يهوديا ربيبا لمجوسي وزعموا أنهم أولاد محمد بن إسماعيل بن جعفر واعتقد كثير من أتباعهم فيهم الإلهية أو النبوة وأن محمد بن إسماعيل بن جعفر نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك طائفة من الغلاة يعتقدون الإلهية أو النبوة في علي وفي بعض أهل بيته إما الاثنا عشر وإما غيره وكذلك طائفة من العامة والنساك يعتقدون في بعض الشيوخ نوعا من الإلهية أو النبوة أو أنهم أفضل من الأنبياء ويجعلون خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وكذلك طائفة من هؤلاء يجعلون الأولياء أفضل من الأنبياء ويعتقد ابن عربي ونحوه أن خاتم الأنبياء يستفيد من خاتم الأولياء وأنه هو خاتم الأولياء ويعتقد طائفة أخرى أن الفيلسوف الكامل أعلم من النبي بالحقائق العلمية والمعارف الإلهية فهذه الأقوال ونحوها هي من الكفر المخالف لدين الإسلام باتفاق أهل الإسلام ومن قال منها شيئا فإنه يستتاب منه كما يستتاب نظراؤه

ممن يتكلم بالكفر كاستتابة المرتد إن كان مظهرا لذلك وإلا كان داخلا في مقالات أهل الزندقة والنفاق وإن قدر أن بعض الناس خفى عليه مخالفة ذلك لدين الإسلام إما لكونه حديث عهد بالإسلام أو لنشأته بين قوم جهال يعتقدون مثل ذلك فهذا بمنزلة من يجهل وجوب الصلاة أو بعضها أو يرى الواجبات تجب على العامة دون الخاصة وأن المحرمات كالزنا والخمر مباح للخاصة دون العامة وهذه الأقوال قد وقع في كثير منها كثير من المنتسبين إلى التشيع والمنتسبين إلى كلام أو تصوف أو تفلسف وهي مقالات باطلة معلومة البطلان عند أهل العلم والإيمان لا يخفى بطلانها على من هو من أهل الإسلام والعلم.
*

فصل
قال الرافضي وإليه يرجع الصحابة في مشكلاتهم ورد عمر في قضايا كثيرة قال فيها لولا علي لهلك عمر.
*والجواب أن يقال ما كان الصحابة يرجعون إليه ولا إلى غيره وحده في شيء من دينه لا واضحة ولا مشكلة بل كان إذا نزلت النازلة يشاورهم عمر رضي الله عنه فيشاور عثمان وعليا وعبد الرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبا موسى حتى يشاوره ابن عباس وكان من أصغرهم سنا وكان السائل يسأل عليا تارة وأبي بن كعب تارة وعمر تارة وقد سئل ابن عباس أكثر مما سئل علي وأجاب عن المشكلات أكثر من علي وما ذاك لأنه أعلم منه بل علي أعلم منه لكن احتاج إليه من لم يدرك عليا فأما أبو بكر رضي الله عنه فما ينقل عنه احد أنه استفاد من علي شيئا من العلم والمنقول أن عليا هو الذي استفاد منه كحديث صلاة التوبة وغيره وأما عمر فكان يشاورهم كلهم وإن كان عمر أعلم منهم وكان كثير من القضايا يقول فيها أولا ثم يتعبونه كالعمريتين والعول وغيرهما فإن عمر هو أول من أجاب في زوج وأبوين أو أمرأة وأبوين بأن للأم ثلث الباقي واتبعه أكابر الصحابة وأكابر الفقهاء كعثمان وابن مسعود

وعلي وزيد والأئمة الأربعة وخفى وجه قوله على ابن عباس فأعطى الأم الثلث ووافقه طائفة وقول عمر أصوب لأن الله إنما أعطى الأم الثلث إذا ورثه أبواه كما قال فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث (سورة النساء). فأعطاها الثلث إذا ورثه أبواه والباقي بعد فرض الزوجين هو ميراث بين الأبوين يقتسمانه كما اقتسما الأصل كما لو كان على الميت دين أو وصية فإنهما يقتسمان ما يبقى أثلاثا وأما قوله إنه رد عمر إلى قضايا كثيرة قال فيها لولا علي لهلك عمر فيقال هذا لا يعرف أن عمر قاله إلا في قضية واحدة أن صح ذلك وكان عمر يقول مثل هذا لمن هو دون علي قال للمرأة التي عارضته في الصداق رجل أخطأ وامرأة اصابت وكان قد رأى أن الصداق ينبغي أن يكون مقدرا بالشرع فلا يزاد على صداق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته كما رأى كثير من الفقهاء أن أقله مقدر بنصاب السرقة وإذا كان مقدرا بالشرع والفاضل قد بذله الزوج واستوفى عوضه والمرأة لا تستحقه فيجعل في بيت المال كما يجعل في بيت المال ثمن عصير الخمر إذا باعه المسلم

وأجره من أجر نفسه لحمل الخمر ونحو ذلك على أظهر أقوال العلماء فإن من استوفى منفعة محرمة بعوضها كالذي يزني بالمرأة بالجعل أو يستمع الملاهي بالجعل أو يشرب الخمر بالجعل إن أعيد إليه جعله بعد قضاء غرضه فهذا زيادة في إعانته على المعصية فإن كان يطلبها بالعوض فإذا حصلت له هي والعوض كان ذلك أبلغ في إعانته على الإثم والعدوان وإن أعطى ذلك للبائع والمؤجر كان قد أبيح له العوض الخبيث فصار مصروف هذا المال في مصالح المسلمين وعمر إمام عدل فكان قد رأى أن الزائد على المهر الشرعي يكون هكذا فعارضته امرأة وقالت لم تمنعنا شيئا أعطانا الله إياه في كتابه فقال وأين في كتاب الله فقالت في قوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا (سورة النساء). وروى أنها قالت له أمنك نسمع أم من كتاب الله تعالى قال بل من كتاب الله فقرأت عليه الآية فقال رجل أخطأ وامرأة أصابتومع هذا فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حق عمر من العلم والدين والإلهام لما لم يخبر بمثله لا في حق عثمان ولا علي ولا طلحة ولا الزبير وفي الترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه قال وقال ابن عمر ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر فيه إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر وفي سنن أبي داود عن أبي ذر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به وفي الترمذي عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان بعدي نبي لكان عمر وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن

يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي أحد فعمر قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون وقال ابن عيينة محدثون أي مفهمون وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص فنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك وعرض علي عمر وعليه قميص يجره قالوا فما أولته يا رسول الله قال الدين وفي الصحيحين عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من تحت أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قال من حوله فما أولت ذلك يا رسول الله قال العلم وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك وفي الصحيحين عن أنس أن عمر قال وافقت ربي في ثلاثقلت لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى (سورة البقرة). وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن (سورة التحريم). فنزلك ذلك وهذا الباب في فضائل عمر كثيرا جدا وأما قصة الحكومة في الأرغفة فهي مما يحكم فيها وما هو أدق منها من هو دون علي وللفقهاء في تفاريع مسائل القضاء والقسمة وغير ذلك من الدقائق ما هو أبلغ من هذه وليسوا مثل علي وأما مسألة القرعة فقد رواها أحمد وأبو داود عن زيد بن أرقملكن جمهور الفقهاء لا يقولون بهذه وأما أحمد فنقل عنه تضعيف الخبر فلم يأخذ به وقيل أخذ به وأحمد أوسع الأئمة أخذا بالقرعة وقد أخذ بقضاء علي في الزبية وحديثها أثبت من هذا رواه سماك ابن حرب وأخذ به أحمد وأما الثلاثة فما بلغهم لا هذا ولا هذا أو بلغهم ولم يثبت عندهم وكان عند أحمد من العلم بالآثار ومعرفة صحتها من سقمها ما ليس لغيره

وهذا يدل على فضل علي ولا نزاع في هذا لكن لا يدل على أنه أقضى الصحابة وأما قوله معرفة القضايا بالإلهام فهذا خطأ لأن الحكم بالإلهام بمعنى أنه من ألهم أنه صادق حكم بذلك بمجرد الإلهام فهذا لا يجوز في دين المسلمين وفي الصحيح عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال انكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فأخبر أنه يقضي بالسمع لا بالإلهام فلو كان الإلهام طريقا لكان النبي صلى الله عليه وسلم أحق بذلك وكان الله يوحى إليه معرفة صاحب الحق فلا يحتاج إلى بينة ولا إقرار ولم يكن ينهى أحدا أن يأخذ مما يقضى له ولما حكم في اللعان بالفرقة قال إن جاءت به كذا فهو الزوج وإن جاءت به فهو الذي للذي رميت به فجاءت به على النعت المكروه فقال لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأنفأنفذ الحكم باليمين ولم يحكم بالبينة وأما إن قيل إنه يلهم الحكم الشرعي فهذا لا بد فيه من دليل شرعي لا يجوز الحكم بمجرد الإلهام فإن الذي ثبت بالنص أنه كان ملهما هو عمر بن الخطاب كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر ومع هذا فلم يكن يجوز لعمر أن يفتى ولا يقضى ولا يعمل بمجرد ما يلقى في قلبه حتى يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإن وافقه قبله وإن خالفه رده وأما ما ذكره من الحكومة في البقرة التي قتلت حمارا فهذا

الحديث لا يعرف وليس هو في شيء من كتب الحديث والفقه مع احتياج الفقهاء في هذه المسألة إلى نص ولم يذكر له إسنادا فكيف يصدق بشيء لا دليل على صحته بل الأدلة المعلومة تدل على انتفائه ومع هذا فهذا الحكم الذي نقله عن علي وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره إذا حمل على ظاهرة كان مخالفا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال العجماء جبار وهذا في الصحيحين وغيرهما واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق والعمل به والعجماء تأنيث أعجم وكل بهيمة فهي عجماء كالبقرة والشاة وغيرهما وهذه إذا كانت ترعى في المراعي المعتادة فأفلتت نهارا من غير تفريط من صاحبها حتى دخلت على حمار فأفسدته أوأفسدت زرعا لم يكن على صاحبها ضمان باتفاق المسلمين فإنها عجماء لم يفرط صاحبها وأما أن كانت خرجت بالليل فعلى صاحبها الضمان عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد لقصة سليمان بن داود في النفش ولحديث ناقة البراء بن عازب فإنها دخلت حائطا فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن علي أهل المواشي ما أفسدت مواشيهم باليل وقضى على أهل الحوائط بحفظ حوائطهموذهب أبو حنيفة وابن حزم وغيرهما إلى أنه لا ضمان في ذلك وجعلوها داخلة في العجماء وضعف بعضهم حديث ناقة البراء وأما إن كان صاحبها اعتدى وأرسلها في زرع قوم أو بقرب زرعهم أو أدخلها إلى اصطبل الحمار بغير إذن صاحبها فأتلفته فهنا يضمن لعدوانه فهذه قضية البقرة والحمار إن كان صاحب البقرة لم يفرط فالتفريط

من صاحب الحمار كما لو دخلت الماشية نهارا فأفسدت الزرع فإن صاحب الحمار لم يغلق عليه الباب كما لو دخلت البقرة على الحمار إن كان الحمار نائما وإن كان المفرط بإدخالها إلى الحمار كان ضامنا وأما أن يجعل مجرد اعتداء الحمار على البقرة أو البقرة على الحمار بدون تفريط صاحبها كاعتداء صاحبها فهذا يوجب كون البهيمة كالعبد ما أتلفه يكون في رقبتها ولا يكون جبارا وهذا ليس من حكم المسلمين ومن نقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب عليه وقد قلنا غير مرة إن هؤلاء الجهال يكذبون ما يظنونه مدحا ويمدحون به فيجمعون بين الكذب وبين المدح فلا صدق ولا علم ولا عدل فيضلون في الخير والعدل وقد تقدم الكلام على قوله يهدي إلى الحق (سورة يونس).
*

فصل
قال الرافضي والرابع أنه كان أشجع الناس وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الإيمان ما انهزم في مواطن قط ولا ضرب بسيف إلا قط طالما كشف الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفر كما فر غيره ووقاه بنفسه لما بات على فراشه مستترا بإزاره فظنه المشركون إياه وقد اتفق المشركون على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحدقوا به وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتليه من جميع القبائل ولا يتم لهم الأخذ بثأره لاشتراك الجماعة في دمه ويعود كل قبيل عن قتال رهطه وكان ذلك

سبب حفظ دم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمت السلامة وانتظم به الغرض في الدعاء إلى الملة فلما أصبح القوم ورأوا الفتك به ثار إليهم فتفرقوا عنه حين عرفوه وانصرفوا وقد ضلت حيلهم وانتقض تدبيرهم.
*والجواب أنه لا ريب أن عليا رضي الله عنه كان من شجعان الصحابة وممن نصر الله الإسلام بجهاده ومن كبار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن سادات من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله وممن قتل بسيفه عددا من الكفار، لكن لم يكن هذا من خصائصه بل غير واحد من الصحابة شاركه في ذلك فلا يثبت بهذا فضله في الجهاد على كثير من الصحابة فضلا عن أفضليته على الخلفاء فضلا عن تعيين للإمامة.
أما قوله إنه كان أشجع الناس فهذا كذب بل كان أشجع الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول لن تراعوا قال البخاري استقبلهم وقد استبرأ الخبر وفي المسند عن علي رضي الله عنه قال كان إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كان أقرب إلى العدو منا والشجاعة تفسر بشيئين أحدهما قوة القلب وثباته عند المخاوف والثاني شدة القتال بالبدن بأن يقتل كثيرا ويقتل قتلا عظيما والأول هو الشجاعة وأما الثاني فيدل على قوة البدن وعمله وليس كل من كان قوي البدن كان قوي القلب ولا بالعكس ولهذا

تجد الرجل الذي يقتل كثيرا يقال إذا كان معه من يؤمنه إذا خاف أصابه الجبن وانخلع قلبه وتجد الرجل الثابت القلب الذي لم يقتل بيديه كثيرا ثابتا في المخاوف مقداما على المكاره وهذه الخصلة يحتاج إليها في أمراء الحروب وقواده ومقدميه أكثر من الأولى فإن المقدم إذا كان شجاع القلب ثابتا أقدم وثبت ولم ينهزم فقاتل معه أعوانه وإذا كان جبانا ضعيف القلب ذل ولم يقدم ولم يثبت ولو كان قوي البدن والنبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس في هذه الشجاعة التي هي المقصودة في أئمة الحرب ولم يقتل بيده إلا أبي بن خلف قتله يوم أحد ولم يقتل بيده أحدا لا قبلها ولا بعدها وكان أشجع من جميع الصحابة حتى أن جمهور أصحابه انهزموا يوم حنين وهو راكب على بغلة والبغلة لا تكر ولا تفر وهو يقدم عليها إلى ناحية العدو وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فيسمى نفسه وأصحابه قد انكفوا عنه وعدوه مقدم عليه وهو مقدم على عدوه على بغلته والعباس آخذ بعنانها وكان علي وغيره يتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه

أشجع منهم وإن كان أحدهم قد قتل بيده أكثر مما قتل النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة بشجاعة القلب فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير وهذا يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم فإن أبا بكر رضي الله باشر الأهوال التي كان يباشرها النبي صلى الله عليه وسلم من أول الإسلام إلى آخره ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل وكان يقدم على المخاوف يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله وهو في ذلك كله مقدم وكان يوم بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ثابت القلب ربيط الجأش يظاهر النبي صلى الله عليه وسلم ويعاونه ولما قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويستغيث ويقول اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذا العصابة لا تعبد اللهم اللهم جعل أبو بكر يقول له يا رسول الله هكذا مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك وهذا يدل على كمال يقين الصديق وثقته بوعد الله وثباته وشجاعته شجاعة إيمانه إيمانية زائدة على الشجاعة الطبيعية

وكان حال رسول الله أكمل من حاله ومقامة أعلى من مقامه ولم يكن الأمر كما ظنه بعض الجهال أن حال أبي بكر أكمل نعوذ بالله من ذلك ولا نقص في استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم ربه في هذا المقام كما توهمه بعض الناس وتكلم ابن عقيل وغيره في هذا الموضع بخطل من القول مردود على من قاله بل كان رسول الله صلى الله عليه جامعا كاملا له من كل مقام ذروة سنامة ووسيلته فيعلم أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع ويعلم أن عليه أن يجاهد المشركين ويقيم الدين بكل ما يقدر عليه من جهاده بنفسه وماله وتحريضه للمؤمنين ويعلم أن الاستنصار بالله والاستغاثة به والدعاء له فيه أعظم الجهاد وأعظم الأسباب في تحصيل المأمور ودفع المحذور ولهذا كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبلت قريش ومعه أصحابه أخبر أصحابه بمصارعهم وقال هذا مصرع عتبة بن ربيعة وهذا مصرع شيبة بن ربيعة وهذا مصرع أمية بن خلف وهذا مصرع أبي جهل بن هشاموهذا مصرع فلان ثم مع علمه أن ذلك سيكون يعلم أن الله إذا قضى شيئا يكون فلا يمنع ذلك أن يقضيه بأسباب تكون وأن من الأسباب ما يكون العباد مأمورين به ومن أعظم ما يؤمر به الاستغاثة بالله فقام بما يؤمر به مع علمه بأنه سيكون ما وعد به كما أنه يعبد الله ويطيعه مع علمه بأن له السعادة في الآخرة والقلب إذا غشيته الهيبة والمخافة والتضرع قد يغيب عنه شهود ما يعلمه ولا يمنعه ذلك أن يكون عالما به مصدقا له ولا أن يكون في اجتهاد وجهاد بمباشرة الأسباب ومن علم أنه إذا مات يدخل الجنة

لم يمنع أن يجد بعض ألم الموت والمريض الذي إذا أخبر أن في دوائه العافية لا يمنعه أن يجد مرارة الدواء فقام مجتهدا في الدعاء المأمور به وكان هو رأس الأمر وقطب رحى الدين فعليه أن يقول بأفضل مما يقوم به غيره وذلك الدعاء والاستغاثة كان أعظم الأسباب التي نزل بها النصر ومقام أبي بكر دون هذا وهو معاونه الرسول والذب عنه وإخباره بأنا واثقون بنصر الله تعالى والنظر إلى جهة العدو وهل قاتلوا المسلمين أم لا والنظر إلى صفوف المسلمين لئلا تختل وتبليغ المسلمين ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال ولهذا قال تعالى إلا تنصروه فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار (سورة التوبة). وأخبر تعالى أن الناس إذا لم ينصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار وهذه الحال كان الخوف فيها على النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وسيأتي الكلام على هذه القصة في آخر الكتاب والوزير مع الأمير له حال وللأمير حال والمقصود هنا أن أبا بكر كان أشجع الناس ولم يكن بعد الرسول

صلى الله عليه وسلم أشجع منه ولهذا لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم حتى أوهنت العقول وطيشت الألباب واضطربوا اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة القعر فهذا ينكر موته وهذا قد أقعد وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه ومن يسلم عليه وهؤلاء يضجون بالبكاء وقد وقعوا في نسخه القيامة وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين وذلت كماتة فقام الصديق رضي الله عنه بقلب ثابت وفؤاد شجاع فلم يجزع ولم ينكل قد جمع له بين الصبر واليقين فأخبرهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله اختار له ما عنده وقال لهم من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين (سورة آل عمران). فكان الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق فلا تجد أحدا إلا وهو يتلوها ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم قال أنس خطبنا أبو بكر رضي الله عنه وكنا كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود

وأخذ في تجهيز أسامة مع إشارتهم عليه وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة فهو من الصحابة يعلمهم إذا جهلوا ويقويهم إذا ضعفوا ويحثهم إذا فتروا فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم حتى كان عمر مع كمال قوته وشجاعته يقول له يا خليفة رسول الله تألف الناس فيقول علام أتالفهم أعلى دين مفترى أم على شعر مفتعل وهذا باب واسع يطول وصفه فالشجاعة المطلوبة من الإمام لم تكن في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل منها في أبي بكر ثم عمر وأما القتل فلا ريب أن غير علي من الصحابة قتل من الكفار أكثر مما قتل علي فإن كان من قتل أكثر يكون أشجع فكثير من الصحابة أشجع من علي فالبراء ابن مالك أخو أنس قتل مائة رجل مبارزة غير من شورك في دمه وأما خالد بن الوليد فلا يحصى عدد من قتله إلا الله وقد انكسر في يده في غزوة مؤته تسعة أسياف ولا ريب أنه قتل أضعاف ما قتله علي وكان لأبي بكر مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية وهي قوة يقينية بالله عز وجل وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين وهذه الشجاعة لا تحصل بكل من كان قوي القلب لكن هذه تزيد بزيادة الإيمان واليقينوتنقص بنقص ذلك فمتى تيقن أنه يغلب عدوه كان إقدامه بخلاف إقدام من لم يكن كذلك وهذا كان من أعظم أسباب شجاعة المسلمين وإقدامهم على عدوهم فإنهم كانوا أيقنوا بخبر الله ورسوله أنهم منصورون وأن الله يفتح لهم البلاد ومن شجاعة الصديق ما في الصحيحين عن عروة بن الزبير قال سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله قال رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر فدفعه عنه وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم (سورة غافر).

*

فصل
ومما ينبغي أن يعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله كانت إما وبالا عليه إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان وإما غير نافعة له إن استعملها فيما لا يقربه إلى الله تعالى فشجاعة علي والزبير وخالد وأبي دجانة والبراء بن مالك وأبي طلحة وغيرهم من شجعان الصحابة إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله فإنهم بذلك استحقوا ما حمد الله به المجاهدين وإذا كان كذلك فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة قال الله تعالى ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا (سورة الفرقان). فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادا كبيرا وهذه السورة مكية نزلت بمكة قبل أن يهاجر النبي وقبل أن يؤمر بالقتال ولم يؤذن له وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي

ويحتاج إلى شجاعة القلب وإلى القتال باليد وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما مقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن قال أبو محمد بن حزم وجدناهم يحتجون بأن عليا كان أكثر الصحابة جهادا وطعنا في الكفار وضربا والجهاد أفضل الأعمال قال وهذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة أحدها الدعاء إلى الله تعالى باللسان والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير الجهادر باليد في الطعن والضرب فوجدنا الجهاد باللسان لا يلحق فيه أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا عمر أما أبو بكر فإن أكابر الصحاب أسلموا على يديه فهذا أفضل عمل وليس لعلي من هذا كثير حظ وأما عمر فإنه من يوم أسلم عز الإسلام وعبد الله علانية وهذا أعظم الجهاد وقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين اللذين لا نظير لهما ولا حظ لعلي في هذا وبقي القسم الثاني وهو الرأي والمشورة فوجدناه خالصا لأبي بكر ثم لعمر

بقي القسم الثالث وهو الطعن والضرب والمبارزة فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشك عند كل مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة فوجدنا جهاده صلى الله عليه وسلم إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة وكان أقل عمله الطعن والضرب والمبارزة لا عن جبن بل كان أشجع أهل الأرض قاطبة نفسا ويدا وأتمهم نجدة ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال فيقدمه ويشتغل به ووجدناه يوم بدر وغيره كان أبو بكر معه لا يفارقه إيثارا من النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك واستظهارا برأيه في الحرب وأنسا بمكانه ثم كان عمر ربما شورك في ذلك وقد أنفرد بهذا المحل دون علي ودون سائر الصحابة إلا في الندرة ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد الذي هو الطعن والضرب والمبارزة فوجدنا عليا لم ينفرد بالسيوف فيه بل قد شاركه فيه غيره شركة العيان كطلحة والزبير وسعد ومن قتل في صدر الإسلام كحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومصعب بنعمير ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرشة يعني أبا دجانة وغيرهما ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤازرته في حين الحرب وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليا وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم وبعث عمر إلى بني فلان وما نعلم لعلي بعثا إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه فحصل أرفع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر وقد شاركا عليا في أقل أنواع الجهاد مع جماعة غيرهم.

*

فصل
. قلت، وأما قوله بسيفه ثبت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الدين فهذا كذب ظاهر لكل من عرف الإسلام بل سيفه جزء من أجزاء كثيرة جزء من أجزاء أسباب تثبيت قواعد الإسلام وكثر من الوقائع التي ثبت بها الإسلام لم يكن لسيفه فيها تأثير كيوم بدر كان سيفا من سيوف كثيرة وقد قدمنا غير مرة أن عزوات القتال كلها كانت تسع غزوات وعلي بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد قتال الروم وفارس ولم يعرف لعلي غزاة أثر فيها تأثيرا منفردا كثيرا عن النبي صلى الله عليه وسلم بل كان نصره في المغازي تبعا لنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والحروب الكبار التي كان فيها هو الأمير ثلاثة يوم الجمل والصفين والنهروان وفي الجمل والنهروان كان منصورا فإن جيشه كان أضعاف المقاتلين له ومع هذا لم يستظهر على المقاتلين له بل ما زالوا مستظهرين عليه إلى أن استشهد إلى كرامه الله ورضوانه وأمره يضعف وأمر المقاتلين له يقوى وهذا مما يدل على أن الانتصار الذي كان يحصل له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان نصرا من الله لرسوله ولمن قاتل معه على دينه فإن الله يقول إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (سورة غافر). وكذلك انتصار غير علي كانتصار أبي بكر وعمر وعثمان وعلى من قاتلوه إنما كان نصرا من الله لرسوله كما وعده بذلك في كتابه

*

فصل
وأما قوله:( ما انهزم قط فهو في ذلك كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم).
فالقول في أنه ما انهزم كالقول في أن هؤلاء ما انهزموا قط ولم يعرف لأحد من هؤلاء هزيمة وإن كان قد وقع شيء في الباطن ولم ينقل فيمكن أن عليا وقع منه مالم ينقل والمسلمون كانت لهم هزيمتان يوم أحد ويوم حنين ولم ينقل أن أحدا من هؤلاء انهزم بل المذكور في السير والمغازي أن أبا بكر وعمر ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ويوم حنين ولم ينهزما مع من انهزم ومن نقل أنهما انهزما يوم حنين فكذبه معلوم وإنما الذي انهزم يوم أحد عثمان وقد عفا الله عنه وما نقل من انهزام أبي بكر وعمر بالراية يوم حنين فمن الأكاذيب المختلقة التي افتراها المفترون وقوله ما ضرب بسيفه إلا قط فهذا لا يعلم ثبوته ولا انتفاؤه وليس معنا في ذلك نقل يعتمد عليه ولو قال قائل في خالد والزبير والبراء بن مالك وأبي دجانة وأبي طلحة ونحوهم إنه ما ضرب بسيفه إلا قط كان القول في ذلك كالقول في علي بل صدق هذا في مثل خالد والبراء بن مالك أولى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال خالد سيف من سيوف الله سله الله على المشركين فإذا قيل فيمن جعله الله من سيوفه إنه ما

ضرب إلا قط كان أقرب إلى الصدق مع كثرة ما علم من قتل خالد في الحروب وأنه لم يزل منصورا وأما قوله وطالما كشف الكروب عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كذب بين من جنس أكاذيب الطرقية فإنه لا يعرف أن عليا كشف كربة عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم قط بل ولا يعرف ذلك عن أبي بكر وعمر وهما كانا أكثر جهادا منه بل هو صلى الله عليه وسلم الذي طالما كشف عن وجوههم الكرب لكن أبو بكر دفع عنه لما أراد المشركون أن يضربوه ويقتلوه بمكة جعل يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله حتى ضربوا أبا بكر ولم يعرف أن عليا فعل مثل هذا وأما كون المشركين أحاطوا به حتى خلصه أبو بكر أو علي بسيفه فهذا لم ينقله أحد من أهل العلم ولا حقيقة له لكن هذا الرافضي وأمثاله كأنهم قد طالعوا السير والمغازي التي وضعها الكذابون والطرقية مثل كتاب تنقلات الأنوار للبكرى الكذاب وأمثاله مما هو من جنس ما يذكر في سيرة البطال ودلهمة والعيار وأحمد الدنف والزيبق المصري والحكايات التي يحكونها عن هارون ووزيره مع العامة والسيرة الطويلة التي وضعت لعنترة بن شداد وقد وضع الكذابون في مغاري رسول اله صلى الله عليه وسلم ما هو

من هذا الجنس وهذا يصدقه الجهال ومن لم يكن عارفا بما ذكره العلماء من الأخبار الصحيحة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأما أهل العلم فيعلمون أن هذا كذب وما ذكره من مبيته على فراشه فقد قدمنا أنه لم يكن هناك خوف على علي أصلا وأشهر ما نقل من ذلك ذب المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لما ولى أكثر المسلمين مدبرين فطمع العدو في النبي صلى الله عليه وسلم وحرصوا على قتله وطلب أمية بن خلف قتله فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده وشج المشركون جبينه وهشموا البيضة على رأسه وكسروا رباعيته وذب عنه الصحابة الذين حوله كسعد بن أبي وقاص عل يرمي والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له ارم فداك أبي وأمي ووقاه طلحة بيده فشلت يد طلحة وقتل حوله جماعة من خيار المسلمينوفي الحديث أن عليا لما أمر فاطمة بغسل سيفه يوم أحد قال اغسليه غير ذميم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان وعد جماعة من الصحابة.
*

فصل
قال الرافضي وفي غزاة بدر وهي أول الغزوات كانت على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه إلى المدينة وعمره سبع وعشرون سنة قتل منهم ستة وثلاثين رجلا بانفراده وهم أعظم من نصف المقتولين وشرك في الباقين.
*والجواب أن هذا من الكذب البين المفتري باتفاق أهل العلم العالمين بالسير والمغازي ولم يذكر هذا أحد يعتمد عليه في النقل وإنما هو من وضع جهال الكذابين بل في الصحيح قتل غير واحد لم يشرك علي في واحد منهم مثل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط ومثل أحد ابني ربيعة إما عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة وأبي بن خلف وغيرهم وذلك أنه لما برز من المشركين ثلاثة عتبة وشيبة والوليد فانتدب

لهم ثلاثة من الأنصار فقالوا من أنتم فسموا أنفسهم فقالوا أكفاء كرام ولكن نريد بني عمنا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاربه بالبروز إليهم فقال قم ياحمزة قم يا عبيدة قم يا علي وكان أصغر المشركين هو الوليد وأصغر المسلمين علي فبرز هذا إلى هذا فقتل علي قرنه وقتل حمزه قرنه قيل إنه كان عتبة وقيل كان شيبة وأما عبيدة فجرح قرنه وساعده حمزة على قتل قرنه وحمل عبيدة بن الحارث وقيل إن عليا لم يقتل ذلك اليوم إلا نفرا دون العشرة أو أقل أو أكثر وغاية ما ذكره ابن هشام وقبله موسى بن عقبة وكذلك الأمويجميع ما ذكروه أحد عشر نفسا واختلف في ستة أنفس هل قتلهم هو أو غيره وشارك في ثلاثة هذا جميع ما نقله هؤلاء الصادقون.
*

فصل
قال الرافضي وفي غزاة أحد لما انهزم الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا علي بن أبي طالب ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر يسير أولهم عاصم بن ثابت وأبو دجانة وسهل بن حنيف وجاء عثمان بعد ثلاثة أيام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لقد ذهبت فيها عريضة وتعجبت الملائكة من شأن على فقال جبريل وهو يعرج إلى السماء لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي وقتل أكثر المشركين في هذه الغزاة وكان الفتح فيها على يده وروى قيس بن سعد قال سمعت عليا يقول أصابني

يوم أحد ستة عشر ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن فجاءني رجل حسن الوجه اللمة طيب الريح فأخذ بضبعي فأقامني ثم قال أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسوله فهما عنك راضيان قال علي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته فقال يا علي أما تعرف الرجل قلت لا ولكن شبهته بدحية الكلبي فقال يا علي أقر الله عينيك كان ذاك جبريل.
*والجواب أن يقال قد ذكر في هذه من الأكاذيب العظام التي لا تنفق إلا على من لم يعرف الإسلام، وكأنه يخاطب بهذه الخرافات من لا يعرف ما جرى في الغزوات، كقوله إن عليا قتل أكثر المشركين في هذه الغزاة وكان الفتح فيها على يده، فيقال آفة الكذب الجهل وهل كان في هذه الغزاة فتح بل كان المسلمون قد هزموا العدو أولا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وكل بثغرة الجبل الرماة وأمرهم بحفظ ذلك المكان وأن لا يأتوهم سواء غلبوا أو غلبوا فلما انهزم المشركون صاح بعضهم أي قوم الغنيمة فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير ورجع العدو عليهم وأمير المشركينإذ ذاك خالد بن الوليد فأتاهم من ظهورهم فصاح الشيطان قتل محمد واستشهد في ذلك اليوم نحو سبعين ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم إلا اثنا عشر رجلا فيهم أبو بكر وعمر وأشرف أبو سفيان فقال أفي القوم محمد أفي القوم محمد والحديث في الصحيحين وقد تقدم لفظه وكان يوم بلاء وفتنة وتمحيص وانصراف العدو عنهم منتصرا حتى هم بالعود إليهم فندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين للحاقه وقيل إن في هؤلاء نزل قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح (سورة آل عمران). وكان في هؤلاء المنتدبين أبو بكر والزبير قالت عائشة لابن الزبير أبوك وجدك ممن قال الله فيهم الذين استجابوا لله والرسول من بعد ماأصابهم القرح ولم يقتل يومئذ من المشركين إلا نفر قليل وقصد العدو رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهدوا في قتله وكان ممن ذب عنه

يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وجعل يرمي عنه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له ارم فداك أبي وأمي وفي الصحيحين عن سعد قال جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه يوم أحد وكان سعد مجاب الدعوة مسدد الرمية وكان فيهم أبو طلحة راميا وكان شديد النزع وطلحة بن عبيد الله وقي النبي صلى الله عليه وسلم بيده فشلت يده وظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين وقتل دونه نفر قال ابن إسحاق في السيرة في النفر الذين قاموا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ترس دون النبي صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه متى كثر فيه النبل ورمى سعد بن أبي وقاص دون النبي صلى الله عليه وسلم قال سعد فلقد رأيته يناولني النبل ويقول ارم فداك أبي وأمي حتى إنه ليناولني السهم ماله نصل فيقول ارموقال النبي صلى الله عليه وسلم حين غشيه القوم من رجل يشرى لنا نفسه فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار وبعض الناس يقول إنما هو عمارة بن زيد بن السكن فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ثم رجلا يقتلون دونه حتى كان آخرهم زياد أو عمارة فقاتل حتى أثبتته الجراح ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أدنوه منى فأدنوه منه فوسده قدمه فمات وخده على قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال وحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى انعرقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنيه وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بيده وكانت أحسن عينيه وأحدهما

ولم يكن علي ولا أبو بكر ولا عمر من الذين كانوا يدفعون عن النبي صلى الله عليه وسلم بل كانوا مشغولين بقتال آخرين وجرح النبي صلى الله عليه وسلم في جبينه ولم يجرح علي فقوله إن عليا قال أصابتني يوم أحد شت عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن كذب على علي وليس هذا الحديث في شئ من الكتب المعروفة عند أهل العلم فأين إسناد هذا ومن الذي صححه من أهل العلم وفي أي كتاب من الكتب التي يعتمد على نقلها ذكر هذا بل الذي جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير من الصحابة قال ابن إسحاق فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس فجاءبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه فوجد له ريحا فعافه فلم يشرب منه وغسل عن وجه الدم وصب على رأسه وهو يقول اشتد غضب الله على من أدمى وجه نبيه وقوله إن عثمان جاء بعد ثلاثة أيام كذب آخر وقوله إن جبريل قال وهو يعرج لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي كذب باتفاق الناس فإن ذا الفقار لم يكن لعلي ولكن كان سيفا لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس قال تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفهذا الفقار يوم بدر وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد قال رأيت في سيفي ذي الفقار فلا فأولته فلا يكون فيكم ورأيت أني مردف كبشا فأولته كبش الكتيبة ورأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة ورأيت بقرا تذبح فبقر والله خير فكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الكذب المذكور في ذي الفقار من جنس كذب بعض الجهال أنه كان له سيف يمتد إذا ضرب به كذا وكذا ذراعا فإن هذا مما يعلم العلماء أنه لم يكن قط لا سيف علي ولا غيره ولو كان سيفه يمتد لمده يوم قاتل معاوية

وقال بعض الجهال إنه مد يده حتى عبر الجيش على يده بخيبر وإنه قال للبغلة قطع الله نسلك فانقطع نسلها هذا من الكذب البين فإنه يوم خيبر لم يكن معهم بغلة ولا كان للمسلمين بغلة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بغلته التي أهداها له المقوقس وذلك بعد غزوة خيبر بعد أن أرسل إلى الأمم وأرسل إلى ملوك الأرض هرقل ملك الشام وإلى المقوقس ملك مصر وإلى كسرى ملك الفرس وأرسل إلى ملوك العرب مثل صاحب اليمامة وغيره وأيضا فالجيش لم يعبر أحد منهم على يد علي ولا غيره والبغلة لم تزل عقيما قبل ذلك ولم تكن قبل ذلك تلد فعقمت ولو قدر أنه دعا على بغلة معينة لم تعم الدعوة جنس البغال ومثل هذا الكذب الظاهر قول بعض الكذابين إنه لما سبى بعض أهل البيت حملوا على الجمال عرايا فنبتت لهم سنامات من يومئذ وهي البخاتي وأهل البيت لم يسب أحد منهم في الإسلام ولا حمل أحد من نسائهم مكشوف العورة وإنما جرى هذا على أهل البيت في هذه الأزمان بسبب الرافضة كما قد علمه الخاص والعام بل هذا الكذب مثل كذب من يقول إن الحجاج قتل الأشراف والحجاج لم يقتل أحدا من بني هاشم مع ظلمة وفتكه بكثير من

غيرهم لكن قتل كثيرا من أشراف العرب وكان الملك قد أرسل إليه أن لا يقتل أحدا من بني هاشم وذكر له أنه لما قتل الحسين في ولاية بني حرب يعني ملك يزيد أصابهم شر فاعتبر عبد الملك بذلك فنهاه أن يقتل أحدا من بني هاشم حتى أن الحجاج طمع أن يتزوج هاشمية فخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته وأصدقها صداقا كثيرا فأجابه عبد الله إلى ذلك فغضب من ذلك من غضب من أولاد عبد الملك ولم يروا الحجاج أهلا لأن يتزوج واحدة من بني هاشم ودخلوا على عبد الملك وأخبروه بذلك فمنع الحجاج من ذلك ولم يروه كفؤا لنكاح هاشمية ولا أن يتزوجها وبالجملة فالأحاديث التي ينقلها كثير من الجهال لا ضابط لها لكن منها ما يعرف كذبه بالعقل ومنها ما يعرف كذبه بالعادة ومنها ما يعرف كذبه بأنه خلاف ما علم بالنقل الصحيح ومنها ما يعرف كذبه بطرق أخرى.
*

فصل
قال الرافضي وفي غزاة الأحزاب وهي غزاة الخندق لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من عمل الخندق أقبلتقريش يقدمها أبو سفيان وكنانة أهل تهامة في عشرة آلاف وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد ونزلوا من فوق المسلمين ومن تحتهم كما قال تعالى إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم (سورة الأحزاب). فخرج عليه الصلاة والسلام بالمسلمين مع ثلاثة آلاف وجعلوا الخندق بينهم واتفق المشركون مع اليهود وطمع المشركون بكثرتهم وموافقة اليهود وركب عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل ودخلا من مضيق في الخندق إلى المسلمين وطلبا المبارزة فقام علي وأجابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه عمرو فسكت ثم طلب المبارزة ثانيا وثالثا وكل ذلك يقوم علي ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم أنه عمرو فأذن له في الرابعة فقال له عمرو ارجع يا ابن أخي فما أحب أن أقتلك فقال له علي كنت عاهدت الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه وأنا أدعوك

إلى الإسلام قال عمرو لا حاجة لي بذلك قال أدعوك إلى البراز قال ما أحب أن أقتلك قال علي بل أنا أحب أن أقتلك فحمى عمرو ونزل عن فرسه وتجاولا فقتله علي وانهزم عكرمة ثم انهزم باقي المشركين واليهود وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين.
*والجواب أن يقال...
أولا: أين إسناد هذا النقل وبيان صحته.
ثم يقال ثانيا: قد ذكر في هذه الغزوة أيضا عدة أكاذيب، منها قوله أن قريشا وكنانة وأهل تهامة كانوا في عشرة آلاف فالأحزاب كلهم من هؤلاء ومن أهل نجد تميم وأسد وغطفان ومن اليهود كانوا قريبا من عشرة آلاف والأحزاب كانوا ثلاثة أصناف قريش وحلفاؤها وهم أهل مكة ومن حولها وأهل نجد تميم وأسد وغطفان ومن دخل معهم واليهود بنو قريظة وقوله إن عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل ركبا ودخلا من مضيق في الخندق

وقوله إن عمرا لما قتل وانهزم المشركون واليهود هذا من الكذب البارد فإن المشركين بقوا محاصرين للمسلمين بعد ذلك هم واليهود حتى خبب بينهم نعيم بن مسعود وأرسل الله عليهم الريح الشديدة ريح الصبا والملائكة من السماء كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاءتكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذا يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا سورة الآحزاب إلى قوله وكفى الله المؤمنين القتال (سورة الأحزاب). وهذا يبين أن المؤمنين لم يقاتلوا فيها وأن المشركين ماردهم الله بقتال وهذا هو المعلوم المتواتر عند أهل العلم بالحديث والتفسير والمغازي والسير والتاريخ فكيف يقال بأنه باقتتال علي وعمرو بن عبد ود وقتله له انهزم المشركون والحديث الذي ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين من الأحاديث

الموضوعة ولهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين في شئ من الكتب التي يعتمد عليها بل ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف وهو كذب لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز أن يكون قتل كافر أفضل من عبادة الجن والإنس فإن ذلك يدخل فيه عبادة الأنبياء وقد قتل من الكفار من كان قتله أعظم من قتل عمرو بن عبد ود وعمرو هذا لم يكن فيه من معاداة النبي صلى الله عليه وسلم ومضارته له وللمؤمنين مثل ما كان في صناديد قريش الذين قتلوا ببدر مثل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط وشبية بن ربيعة والنضر بن الحارث وأمثالهم الذين نزل فيهم القرآن وعمرو هذا لم ينزل فيه شئ من القرآن ولاعرف له شئ ينفرد به في معاداة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وعمرو بن عبد ود هذا لم يعرف له ذكر في غزاة بدر ولا أحد ولا غير ذلك من مغازى قريش التي غزوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولا في شئ من السرايا ولم بشتهر ذكره إلا في قصة الخندق مع أن قصته ليست مذكورة في الصحاح ونحوها كما نقلوا في الصحاح مبارزة الثلاثة يوم بدر إلى الثلاثة مبارزة حمزة وعبيدة وعلي مع عتبة وشبية والوليد وكتب التفسير والحديث مملوءة بذكر المشركين الذين كانوا يؤذون

النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وغيرهم وبذكر رؤساء الكفار مثل الوليد بن المغيرة وغيره ولم يذكر أحد عمرو بن عبد ود لا في هؤلاء ولا في هؤلاء ولا كان من مقدمي القتال فكيف يكون قتل مثل هذا أفضل من عبادة الثقلين ومن المنقول بالتواتر أن الجيش لم ينهزم بقتله بل بقوا بعده محاصرين مجدين كما كانوا قبل قتله.
*

فصل
قال الرافضي وفي غزاة بني النضير قتل علي رامي ثنية النبي صلى الله عليه وسلم وقتل بعده عشرة وانهزم الباقون.
*والجواب أن يقال ما تذكره في هذه الغزاة وغيرها من الغزاوات من المنقولات لابد من ذكر إسناده أولا وإلا فلو أراد إنسان أن يحتج بنقل لا يعرف إسناده في جزرة بقل لم يقبل منه فكيف يحتج به في مسائل الأصول.
ثم يقال ثانيا: هذا من الكذب الواضح فإن بني النضير هم الذين أنزل الله فيهم (سورة الحشر). باتفاق الناس وكانوا من اليهود وكانت قصتهم قبل الخندق وأحد ولم يذكر فيها مصاف ولا هزيمة ولارمي أحد ثنية النبي صلى الله عليه وسلم فيها وإنما أصيبت ثنيته يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في غزاة بني النضير قد حاصروهم حصارا شديدا وقطعوا نخيلهم وفيهم أنزل الله تعالى ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين (سورة الحشر). ولم يخرجوا لقتال حتى ينهزم أحد منهم وإنما كانوا في حصن يقاتلون من ورائه كما قال تعالى لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى (سورة الحشر). ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم إجلاء لم يقتلهم فيه قال تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ماظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتهم الله من حيث لم يحتسبوا (سورة الحشر). إلى قوله تعالى فاعتبروا يا أولى الأبصار (سورة الحشر).

قال ابن إسحاق بعد أن ذكر نقضهم العهد وأنهم أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إليهم يستعين بهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية قال فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير إليهم وبالتهيؤ لحربهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فيما ذكر ابن هشام ونزل تحريم الخمر قال اين إسحاق فتحصنوا في الحصون فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها فنادوه أي محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها قال وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله في قلوبهم الرعب وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنيجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام قال وحدثنى عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقلوا بالنساء والأموال والأبناء معهم الدفوف والمزامير والقينات يعزفن خلفهم بزهو وفخر ما رئي مثله من حي من الناس وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فاقة وفقرا فأعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم

قال وأنزل الله تعالى في بني النضير (سورة الحشر). بأسرها يذكر فيها ماأصابهم من نقمة وما سلط به رسوله عليهم وما عمل فيهم وفي الصحيحين عن ابن عمر أن يهود بني النضير وبني قريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وسبى نساءهم وأولادهم وأموالهم وقسم أنفالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم بني قينقاع وهم قوم عبد الله ابن سلام ويهود بني حارثة وكل يهودي كان بالمدينةفصل قال الرافضي وفي غزوة السلسلة جاء أعرابي فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جماعة من العرب قصدوا أن يكبسوا عليه بالمدينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من للوائي فقال أبو بكر أنا له فدفع إليه اللواء وضم إليه سبعمائة فلما وصل إليهم قالوا ارجع إلى صاحبك فإنا في جمع كثير فرجع فقال في اليوم الثاني من للوائي فقال عمر نا فدفع إليه الراية ففعل كالأول فقال في اليوم الثالث أين علي فقال علي أنا ذا يا رسول الله

فدفع إليه الراية ومضى إلى القوم ولقيهم بعد صلاة الصبح فقتل منهم ستة أو سبعة وانهزم الباقون وأقسم الله تعالى بفعل أمير المؤمنين فقال والعاديات ضبحا السورة سورة العاديات فالجواب أن يقال له أجهل الناس يقول لك بين لنا سند هذا حتى نثبت أن هذا نقل صحيح والعالم يقول له إن هذه الغزاة وما ذكر فيها من جنس الكذب الذي يحكيه الطرقية الذين يحكون الأكاذيب الكثيرة من سيرة عنترة والبطال وإن كان عنترة له سيرة مختصرة والبطال له سيرة يسيرة وهي ما جرى له في دولة بني أمية وغزوة الروم لكن ولدها الكذابون حتى صارت مجلدات وحكايات الشطار كأحمد الدنف والزيبق المصري وصاروا يحكون حكايات يختلقونها عن الرشيد وجعفر فهذه الغزاة من جنس هذه الحكايات لم يعرف في شئ من كتب المغازى والسير المعروفة عند أهل العلم ذكر هذه الغزاة ولم يذكرها أئمة هذا الفن فيه كموسى بن عقبة وعروة بن الزبير والزهري وابن إسحاق وشيوخه والواقدي ويحيى بن سعيد الأموي والوليد بن مسلم ومحمد بن عائذ وغيرهم ولا لها ذكر في الحديث ولا نزل فيها شئ من القرآن

وبالجملة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما غزوات القتال معروفة مشهورة مضبوطة متواترة عند أهل العلم بأحواله مذكورة في كتب أهل الحديث والفقه والتفسير والمغازي والسير ونحو ذلك وهي مما تتوفر الدواعي على نقلها فيمتنع عادة وشرعا أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم غزاة يجري فيها مثل هذه الأمور لا ينقلها أحد من أهل العلم بذلك كما يمتنع أن يكون قد فرض في اليوم والليلة أكثر من خمس صلوات أو فرض في العام أكثر من صوم شهر رمضان ولم ينقل ذلك وكما يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد غزا الفرس بالعراق وذهب إلى اليمن ولم ينقل ذلك أحدا وكما يمتنع أمثال ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو كان ذلك موجودا وسورة والعاديات فيها قولان أحدهما أنها نزلت بمكة وهذا يروى عن ابن مسعود وعكرمة وعطاء وغيرهم فعلى هذا يظهر كذب هذا القول والثاني أنها نزلت بالمدينة وهو مروى عن ابن عباس وقتادة وهذا القول يناسب قول من فسر العاديات بخيل المجاهدين لكن المشهور عن علي المنقول عنه في كتب التفسير أنه كان يفسر العاديات بإبل الحجاج وعدوها من مزدلفة إلى منى وهذا يوافق القول الأول فيكون على ما قاله علي يكذب هذا القول وكان ابن عباس والأكثر يفسرونها بالخيل العاديات في سبيل الله

وأيضا ففي هذه الغزاة أن الكفار نصحوا المسلمين وقالوا لأبي بكر ارجع إلى صاحبك فإنا في جمع كثير ومعلوم أن هذا خلاف عادة الكفار المحاربين وأيضا فأبو بكر وعمر لم ينهزما قط وما ينقله بعض الكذابين من انهزامهما يوم حنين فهو من الكذب المفترى فلم يقصد أحد المدينة إلا يوم الخندق وأحد ولم يقرب أحد من العدو المدينة للقتال إلا في هاتين الغزاتين وفي غزوة الغبة الغاية بعض الناس على سرح المدينة وأما ما ذكر في غزوة السلسلة فهو من الكذب الظاهر الذي لا يذكره إلا من هو من أجهل الناس وأكذبهم وأما غزوة ذات السلاسل فتلك سرية بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص أميرا فيها لأن المقصودين كانوا بني عذرة وكان بينهم وبين عمرو بن العاص قرابة فأرسله إليهم لعلهم يسلمون ثم أردفه بأبي عبيدة بن الجراح وليس لعلي فيها ذكر وكانت قريبا من الشام بعيدة من المدينة وفيها احتلم عمرو بن العاص في ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه فلما أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم قاليا عمر أصليت بأصحابك وأنت جنب قال إني سمعت الله يقول ولا تقتلوا أنفسكم (سورة النساء). فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على فعله ولم ينكره لما بين له عذره وقد تنازع الفقهاء هل قوله أصليت بأصحابك وأنت جنب استفهام أي هل صليت مع الجنابة فلما أخبره أنه تطهر بالتيمم ولم يكن جنبا أقره أو هو إخبار بأنه جنب والتيمم يبيح الصلاة وكان يرفع الجنابة على قولين والأول هو الأظهر.

*

فصل
قال الرافضي وقتل من بني المصطلق مالكا وابنه وسبى كثيرا من جملتهم جويرية بنت الحرث ين أبي ضرار فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم فجاءها أبوها في ذلك اليوم فقال يا رسول الله ابنتي كريمة لا تسبي فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخيرها فقال أحسنت وأجملت ثم قال يا بنية لا تفضحي قومك قالت اخترت الله ورسوله.
*والجواب أن يقال أولا لا بد من بيان إسناد كل ما يحتج به من المنقول أو عزوه إلى كتاب تقوم به الحجة وإلا فمن أين يعلم أن هذا وقع ثم يقول من يعرف السيرة هذا كله من الكذب من أخبار الرافضة التي يختلقونها فإنه لم ينقل أحد أن عليا فعل هذا في غزوة بني المصطلق ولا سبي جويرية بنت الحارث وهي لما سبيت كاتبت على نفسها فأدى عنها النبي صلى الله عليه وسلم وعتقت من الكتابة وأعتق الناس السبي لأجلها وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقدم أبوها أصلا ولا خيرها وروى أبو داود عن عائشة قالت وقعت جويرية بنت الحارث بنالمصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له فكاتبت على نفسها وكانت امرأة ملاحة لها في العين حظ تأخذها العين قالت عائشة فجاءت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابتها فملا قامت على الباب فرأيتها كرهت مكانها وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرى منها مثل الذي رأيت فقالت يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث وإنه كان من أمري ما لا يخفى عليك وإني وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وإني كاتبت على نفسي وجئتك تعينني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل لك فيما هو خير لك قالت وما هو يا رسول الله قال أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت قد فعلت فلما تسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية أرسلو ما في أيديهم من السبي واعتقوهم وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها أعتق في سببها أكثر من مائة أهل بيت من بني المصطلق .

*

فصل
قال الرافضي وفي غزوة خيبر كان الفتح فيها على يد أمير المؤمنين ودفع الراية إلى أبي بكر فانهزم ثم إلى عمر فانهزم ثم إلى علي وكان أرمد فتفل في عينيه وخرج فقتل مرحبا فانهزم الباقون وغلقوا عليهم الباب فعالجه أمير المؤمنين فقلعه وجعله جسرا على الخندق وكان الباب يغلقه عشرون رجلا ودخل المسلمون الحصن ونالوا الغنائم وقال عليه السلام والله ما قلعه بقوة خمسمائة رجل ولكن بقوةربانية وكان فتح مكة بواسطته.
*والجواب - بعد أن يقال لعنة الله على الكاذبين- أن يقال من ذكر هذا من علماء النقل وأين إسناده وصحته وهو من الكذب فإن خيبر لم تفتح كلها في يوم واحد بل كانت حصونا متفرقة بعضها فتح عنوة وبعضها فتح صلحا، ثم كتموا ما صالحهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فصاروا محاربين ولم ينهزم فيها أبو بكر ولا عمر وقد روى أن عليا اقتلع باب الحصن وأما جعله جسرا فلا وقوله كان فتح مكة بواسطته من الكذب أيضا فإن عليا ليس له في فتح مكة أثر أصلا إلا كما لغيره ممن شهد الفتح والأحاديث الكثيرة المشهورة في غزوة الفتح تتضمن هذا وقد عزم علي على قتل حموين لأخته أجارتهما أخته أم هانئ فأجار رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجارت وقد هم بتزوج بنت أبي جهل حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم فتركه وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال كنا يوم الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليسرى

وجعل الزبير على المجنبة اليمنى وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي فقال يا أبا هريرة ادع لي الأنصار فجاءوا يهرولون فقال يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش قالوا نعم قال انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا وأحفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال موعدكم الصفا فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه قال فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهوآمن وفي الصحيحين من حديث عروة بن الزبير قال لما سار رسولالله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان ابن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان ما هذه لكأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان ما هذه لكأنها نيران عرفة فقال بديل بن ورقاء نيران بني عمرو فقال أبو سفيان عمرو أقل من ذلك فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان فلما سار قال للعباس أمسك أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال يا عباس من هذه قال هذه غفار قال مالي ولغفار ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك ثم مرت سعد بن هذيم فقال

مثل ذلك ثم مرت سليم فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال من هؤلاء قال الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية فقال سعد بن عبادة يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة فقال أبو سفيان يا عباس حبذا يوم الذمار ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة قال وما قال قال قال كذا وكذا فقال كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة ثم أمر أن تركز رايته بالحجون.
*

فصل
قال الرافضي وفي غزاة حنين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها في عشر آلاف من المسلمينفعانهم أبو بكر وقال لن نغلب اليوم من كثرة فنهزموا ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا تسعة من بني هاشم وأيمن بن أم أيمن وكان أمير المؤمنين يضرب بين يديه بالسيف وقتل من المشركين أربعين نفسا فانهزموا.
*والجواب بعد المطالبة بصحة النقل، أما قوله فعانهم أبو بكر فكذب مفترى، وهذه كتب الحديث والسير والمغازي والتفسير لم يذكر أحد قوله إن أبا بكر عانهم واللفظ المأثور لن نغلب اليوم من قلة، فإنه قد قيل إنه قد قاله بعض المسلمين وكذلك قوله لم يبق معه إلا تسعة من بني هاشم، هو كذب أيضا قال ابن إسحاق في السيرة بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته وممن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث

وابنه والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن بن أم أيمن وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس ولا يعد ابن أبي سفيان هذا من كلام ابن إسحاق وقوله إن عليا كان بين يديه يضرب بالسيف وإنه قتل أربعين نفسا فكل هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث والمغازي والسير والذي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما وافوا وادي حنين عند الفجر وكان القوم رماه فرموهم رمية واحدة فولوا وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث وكان شاعرا يهجو النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فحسن إسلامه فثبت معه يومئذ قال العباس لزمت أنا وأبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه قال البراء بن عازب وأمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس أن ينادى فيهم وكان العباس جهوري الصوت فنادىيا أهل الشجرة يا أهل (سورة البقرة). يعني الشجرة التي بايعوا تحتها فذكرهم ببيعته لهم هناك على أن لا يفروا وعلى الموت فتنادوا يالبيك وعطفوا عليه عطفة البقر على أولادها فقاتلوا حتى انهزم المشركون وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ كفا من حصباء فرمى بها القوم وقال انهزموا ورب الكعبة وكان علي بغلته وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وهذا مارواه أهل الصحيحين وفي الصحيحين عن البراء وسأله رجل قال أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة فقال أشهد أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحسر إلى هذا الحي من هوازن وهم

قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك قال البراء وكنا إذا احمر البأس نتقي به وكان الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث سلمة بن الأكوع لما غشوا النبي صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض واستقبل بها وجوههم فقال شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله وقسم رسول اللهصلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين رواه مسلم.
*

فصل
قال الرافضي الخامس إخباره بالغائب والكائن قبل كونه، فأخبر أن طلحة والزبير لما استأذناه في الخروج إلى العمرة قال لا والله ما تريدان العمرة وإنما تريدان البصرة، وكان كما قال وأخبر. وهو بذى قار جالس لأخذ البيعة يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون ولا ينقصون يبايعونني على الموت وكان كذلك وكان آخرهم أويس القرني وأخبر بقتل ذى الثدية وكان كذلك وأخبره شخص بعبور القوم في قصة النهروان فقال لنيعبروا ثم أخبره آخر بذلك فقال لم يعبروا وإنه والله لمصرعهم فكان كذلك وأخبر بقتل نفسه الشريفة وأخبر شهربان بأن اللعين يقطع يديه ورجليه ويصلبه ففعل به معاوية ذلك وأخبر ميثم التمار بأنه يصلب على باب دار عمرو بنحريث عاشر عاشرة وهو أقصرهم خشبة وأراه النخلة التي يصلب عليها فوقع كذلك وأخبر رشيد الهجري بقطع يديه ورجليه وصلبه وقطع لسانه فوقع وأخبر كميل بن زياد أن الحجاج يقتله وأن قنبرا يذبحه الحجاج فوقع

وقال للبراء بن عازب إن ابني الحسين يقتل ولا تنصره فكان كما قال وأخبره بموضع قتله وأخبر بملك بني العباس وأخذ الترك الملك منهم فقال ملك بني العباس يسير لا عسر فيه لو اجتمع عليهم الترك والديلم والهند والبربر والطيلسان على أن يزيلوا ملكهم ما قدروا أن يزيلوه حتى يشذ عنهم مواليهم وأرباب دولتهم ويسلط عليهم ملك من الترك يأتي عليهم من حيث بدأ ملكهم لا يمر بمدينة إلا فتحها ولا يرفع له راية إلا نكسها الويل ثم الويل لمن ناوأه فلا يزال كذلك حتى يظفر بهم ثم يدفع ظفره إلى رجل من عترتي يقول بالحق ويعمل به ألا وإن الأمر كذلك حيث ظهر هولاكو من ناحية خراسانومنه ابتدأ ملك بني العباس حتى بايع لهم أبو مسلم الخراساني.
*والجواب أن يقال أما الإخبار ببعض الأمور الغائبة فمن هو دون علي يخبر بمثل ذلك فعلى أجل قدرا من ذلك وفي أتباع أبي بكر وعمر وعثمان من يخبر بأضعاف ذلك وليسوا ممن يصلح للإمامة ولا هم أفضل أهل زمانهم ومثل هذا موجود في زماننا وغير زماننا وحذيفة بن اليمان وأبو هريرة وغيرهما من الصحابة كانوا يحدثون الناس بأضعاف ذلك وأبو هريرة يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحذيفة تارة يسنده وتارة لا يسنده وإن كان في حكم المسند وما أخبر به هو وغيره قد يكون مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقد يكون مما كوشف هو به وعمر رضي الله عنه قد أخبر بأنواع من ذلك والكتب المصنفة في كرامات الأولياء وأخبارهم مثل ما في كتاب الزهد للإمام أحمد وحلية الإولياء وصفوة الصفوة وكرامات الأولياء لأبي محمد الخلال وابن أبي الدنيا واللالكائي فيها من الكرامات عن بعض أتباع أبي بكر وعمر كالعلاء بن الحضرمي نائب أبي بكر وأبي مسلم الخولاني تعض أتباعهما وأبي الصهباء وعامر ابن عبد قيس وغير هؤلاء ممن على أعظم منه وليس في ذلك ما يدل

على أنه يكون هو الأفضل من أحد من الصحابة فضلا عن الخلفاء وهذه الحكايات التي ذكرها عن علي لم يذكر لشئ منها إسنادا وفيها ما يعرف صحته وفيها ما يعرف كذبه وفيها مالا يعرف هل هو صدق أم كذب فالخبر الذي ذكره عن ملك الترك كذب على علي فإنه لم يدفع ظفره إلى رجل من العترة وهذا مما وضعه متأخروهم والكتب المنسوبة إلى علي أو غيره من أهل البيت في الأخبار بالمستقبلات كلها كذب مثل كتاب الجفر والبطاقة وغير ذلك وكذلك ما يضاف إليه من أنه كان عنده علم من النبي صلى الله عليه وسلم خصه به دون غيره من الصحابة وفي صحيح البخاري عن أبي حذيفة قال قلت لعلي هل عندكم شئ من الوحي مما ليس في القرآن فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت وما في هذه الصحيفة قال العقل وفكالك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وكذلك ما ينقل عن غير علي من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بشئ من علم الدين الباطن كل ذلك باطلولا ينافى ذلك ما في الصحيحين عن أبي هريرة قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين أما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو أبثه لقطعتم هذا البلعوم فإن هذا حديث صحيح ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خص أبا هريرة بما في ذلك الجراب بل كان أبو هريرة أحفظ من غيره فحفظ مالم يحفظه غيره وكذلك قال حذيفة والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة بيني وبين الناس وما بي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى في ذلك شيئا لم يحدثه غيري ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه الحديث وقال إنه لم يبق من الرهط غيره وفي الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه وحديث أبي زيد عمرو بن أخطب في صحيح مسلم قال صلى

بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وصعد المنبر ثم خطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى بنا ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر فنزل فصلى بنا ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا وأبو هريرة أسلم عام خيبر فلم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أقل من أربع سنين وذلك الجراب لم يكن فيه شئ من علم الدين علم الإيمان والأمر والنهي وإنما كان فيه الإخبار عن الأمور المستقبلة مثل الفتن التي جرت بين المسلمين فتنة الجمل وصفين وفتنة ابن الزبير ومقتل الحسين ونحو ذلك ولهذا لم يكن أبو هريرة ممن دخل في الفتن ولهذا قال ابن عمر لو حدثكم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتفعلون كذا وكذا لقلتم كذب أبو هريرة وأما الحديث الذي يروي عن حذيفة أنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره فرواه البخاري عن إبراهيم النخعي قال ذهب علقمة إلى الشام فلما دخل المسجد قال اللهم يسر لي جليسا صالحا فجلس إلى أبي الدرداء فقال أبو الدرداء ممن أنت قال من أهل الكوفة قال أليس منكم أو فيكم الذي أجاره الله على لسان نبيه يعني من

الشيطان يعني عمارا قال قلت بلى قال أليس منكم أو فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره قال قلت بلى الحديث وذلك السر كان معرفته بأعيان ناس من المنافقين كانوا في غزوة تبوك هموا بأن يحلوا حزام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ليسقط فأعلمه الله بهم وكان حذيفة قريبا فعرفه بهم وكان إذا مات الميت المجهول حاله لا يصلى عليه عمر حتى يصلى عليه حذيفة خشية أن يكون من المنافقين ومعرفة بعض الصحابة والصالحين ببعض المستقبلات لا توجب أن يكون عالما بها كلها والغلاة الذين كانوا يدعون علم علي بالمستقبلات مطلقا كذب ظاهر فالعلم ببعضها ليس من خصائصه والعلم بها كلها لم يحصل له ولا لغيره ومما يبين لك أن عليا لم يكن يعرف المستقبلات أنه في ولايته وحروبه في زمن خلافته كان يظن أشياء كثيرة فيتبين له الأمر بخلاف ما

ظن ولو ظن أنه إذا قاتل معاوية وأصحابه يجري ما جرى لم يقاتلهم فإنه كان لو لم يقاتل أعز وانتصر وكان أكثر الناس معه وأكثر البلاد تحت ولايته فلما قاتلهم ضعف أمره حتى صار معهم كثير من البلاد التي كانت في طاعته مثل مصر واليمن وكان الحجاز دولا ولو علم أنه إذا حكم الحكمين يحكمان بما حكم لم يحكمهما ولو علم أن أحدهما يفعل بالآخر ما فعل حتى يعزلاه لم يول من يوافق على عزل ولا من خذله الحكم الآخر بل قد أشار عليه من أشار أن يقر معاوية على إمارته في ابتداء الأمر حتى يستقيم له الأمر وكان هذا الرأي أحزم عند الذين ينصحونه ويحبونه ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولى أبا سفيان أبا معاوية نجران وكان واليا عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وقد اتفق الناس على أن معاوية كان أحسن إسلاما من أبيه ولم يتهم أحد من الصحابة والتابعين معاوية بنفاق واختلفوا في أبيه والصديق كان قد ولى أخاه يزيد بن أبي سفيان أحد الأمراء في فتح الشام لما ولى خالدا وأبا عبيدة ويزيد بن أبي سفيان لما فتحوا الشام بقي أمير إلى أن مات بالشام وكان من خيار الصحابة رجلا صالحاأفضل من أخيه وأبيه ليس هذا هو يزيد بن معاوية الذي تولى بعد معاوية الخلافة فإن ذاك ولد في خلافة عثمان لم يكن من الصحابة ولكن سمى باسم عمه فطائفة من الجهال يظنون يزيد هذا من الصحابة وبعض غلاتهم يجعله من الأنبياء كما أن آخرين يجعلونه كافرا أو مرتدا وكل ذلك باطل بل هو خليفة من بني أمية والحسين رضي الله عنه ولعن قاتله قتل مظلوما شهيدا في خلافته بسبب خلافة لكنه هو لم يأمر بقتله ولم يظهر الرضا به ولا انتصر ممن قتله ورأس الحسين حمل إلى قدام عبيدة الله بن زياد وهو الذي ضربه بالقضيب على ثناياه وهو الذي ثبت في الصحيح

وأما حمله إلى عند يزيد فباطل وإسناده منقطع وعمه يزيد الرجل الصالح هو من الصحابة توفي في خلافة عمر فلما مات ولى معاوية مكان أخيه وعمر من أعلم الناس بأحوال الرجال وأحذقهم في السياسة وأبعد الناس عن الهوى لم يول في خلافته أحدا من أقاربه وإنما كان يختار للولاية من يراه أصلح لها فلم يول معاوية إلا وهو عنده ممن يصلح للإمارة ثم لما توفي زاد عثمان في ولاية معاوية حتى جمع له الشام وكانت الشام في خلافة عمر أربعة أرباع فلسطين ودمشق وحمص والأردن ثم بعد ذلك فصلت قنسرين والعواصم من ربع حمص ثم بعد هذا عمرت حلب وخربت قنسرين وصارت العواصم دولا بين المسلمين وأهل الكتاب وأقام معاوية نائبا عن عمر وعثمان عشرين سنة ثم تولى عشرين سنة ورعيته شاكرون لسيرته وإحسانه راضون به حتى أطاعوه في مثل قتال علي ومعلوم أنه خير من أبيه أبي سفيان وكانت ولايته أحق بالجواز من ولاية أبيه فلا يقال إنه لم تكن تحل ولايته ولو قدر أن غيره كان

أحق بالولاية منه أو أنه ممن يحصل به معونة لغيره ممن فيه ظلم لكان الشر المدفوع بولايته أعظم من الشر الحاصل بولايته وأين أخذ المال وارتفاع بعض الرجال من قتل الرجال الذين قتلوا بصفين ولم يكن في ذلك عز ولا ظفر فدل هذا وغيره على أن الذين أشارو على أمير المؤمنين كانوا حازمين وعلى إمام مجتهد لم يفعل إلا ما رآه مصلحة لكن المقصود أنه لو كان يعلم الكوائن كان قد علم إن إقراره على الولاية أصلح له من حرب صفين التي لم يحصل بها إلا زيادة الشر وتضاعفه لم يحصل بها من المصلحة شيء وكانت ولايته أكثر خيرا وأقل شرا من محاربته وكل ما يظن في ولايته من الشر فقد كان في محاربته أعظم منه وهذا وأمثاله كثير مما يبين جهل من يقول إنه كان يعلم الأمور المستقبلية بل الرافضة تدعى الأمور المتناقضة يدعون عليه علم الغيب مع هذه الأمور المنافية لذلك ويدعون له من الشجاعة ما يزعمون معه أنه كان هو الذي ينصر النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه وهو الذي قام الإسلام بسيفه في أول الأمر مع ضعف الإسلام ثم يذكرون من عجزه عن مقاومة أبي بكر رضي الله عنه مع ضعفه عندهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ما يناقض ذلك فإن

أبا بكر رضي الله عنه لم يكن له بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم مال يستعطف به الناس ولا كان له قبيلة عظيمة ينصرونه ولا موال ولا دعا الناس إلى بيعته لا برغبة ولا برهبة وكان علي رضي الله عنه على دفعه أقدر منه على دفع الكفار الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم بكثير فلو كان هو الذي دفع الكفار ولو كان مريدا لدفع أبي بكر رضي الله عنه لكان على ذلك أقدر لكنهم يجمعون بين المتناقضين وكذلك في حربه لمعاوية قد قهر وعسكره أعظم وتحت طاعته من هم أفضل وأكثر من الذين تحت طاعة معاوية وهو رضي الله عنه لا ريب أنه كان يريد أن يقهر معاوية وعكسره فلو كان هو الذي نصر النبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة الكفار وضعف المسلمين وقلتهم لكان مع كثرة عسكره على عسكر معاوية أقدر على قهر معاوية وجيشه منه على قهر الكفار الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يجمع بين تلك الشجاعة والقوة وبين هذا العجز والضعف إلا من هو جاهل متناقض بل هذا يدل على أن النصر كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله أيده بنصره وبالمؤمنين كلهم وعلي وغيره من المؤمنين الذين أيده الله بهم وكان تأييده بأبي بكر وعمر أعظم من تأييده بغيرهما من وجوه كثيرة

ومما يبين أن عليا لم يكن يعلم المستقبل أنه ندم على أشياء مما فعلها وكان يقول لقد عجزت عجزة لا أعتذر سوف أكيس بعدها وأستمر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر وكان يقول ليالي صفين يا حسن يا حسن ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ هذا لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر إن كان برا إن أجره لعظيم وإن كان إثما إن خطره ليسير وهذا رواه المصنفون وتواتر عنه أنه كان يتضجر ويتململ من اختلاف رعيته علي وأنه ما كان بعض يظن أن الأمر يبلغ ما بلغ وكان الحس رأيه ترك القتال وقد جاء النص الصحيح بتصويب الحسن وفي البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن ابني هذا سيد وإن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فمدح الحسن على الإصلاح بين الطائفتين وسائر الأحاديث الصحيحة تدل على أن القعود عن القتال والإمساك عن الفتنة كان أحب إلى الله ورسوله وهذا قول أئمة السنة وأكثر ائمة الإسلام وهذا ظاهر في الاعتبار فإن محبة الله ورسوله للعمل بظهور ثمرته فما كان أنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم كان أحب إلى الله

ورسوله وقد دل الواقع على أن رأى الحسن كان أنفع للمسلمين لما ظهر من العاقبة في هذا وفي هذا وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول للحسن وأسامة اللهم أني أحبها فأحبهما وأحب من يحبهما وكلاهما كان يكره الدخول في القتال أما أسامة فإنه اعتزل القتال فطلبه علي ومعاوية فلم يقاتل مع واحد من هؤلاء كما اعتزل أكثر فضلاء الصحابة رضي الله عنهم مثل سعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعمران بن حصين وأبي بكرة وغيرهم وكان ما فعله الحسن أفضل عند الله مما فعله الحسين فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة فقتل الحسين شهيدا مظلوما وصار الناس في قتله ثلاثة أحزاب حزب يرون أنه قتل بحق ويحتجون بما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان قالوا وهو جاء والناس على رجل واحد فأراد أن يفرق جماعتهم وحزب يرون أن الذين قاتلوه كفارا بل يرون أن من لم يعتقد إمامته كافر

والحزب الثالث وهم أهل السنة والجماعة يرون أنه قتل مظلوما شهيدا والحديث المذكور لا يتناوله بوجه فإنه رضي الله عنه لما بعث ابن عمه عقيلا إلى الكوفة فبلغه أنه قتل بعد أن بايعه طائفة فطلب الرجوع إلى بلده فخرج إليه السرية التي قتلته فطلب منهم أن يذهبوا به إلى يزيد أو يتركوه يرجع إلى مدينته أو يتركوه يذهب إلى الثغر للجهاد فامتنعوا من هذا وهذا وطلبوا أن يستأسر لهم ليأخذوه أسيرا ومعلوم باتفاق المسلمين أن هذا لم يكن واجبا عليه وأنه كان يجب تمكينه مما طلب فقاتلوه ظالمين له ولم يكن حينئذ مريدا لتفريق الجماعة ولا طالبا للخلافة ولا قاتل على طلب خلافة بل قائل دفعا عن نفسه لمن صال عليه وطلب اسره وظهر بطلان قول الحزب الأول وأما الحزب الثاني فبطلان قوله يعرف من وجوه كثيرة من أظهرها أن عليا لم يكفر أحدا ممن قاتله حتى ولا الخوارج ولا سبى ذرية أحد منهم ولا غنم ما له ولا حكم في أحد ممن قاتله بحكم المرتدين كما حكم أبو بكر وسائر الصحابة في بني حنيفة وأمثالهم من المرتدين بل على كان يترضى عن طلحة والزبير وغيرهما ممن قاتله ويحكم فيهم وفي أصحاب معاوية ممن قاتله بحكم المسلمين وقد ثبت بالنقل الصحيح أن مناديه نادى يوم الجمل لا يتبع مدبر

ولا يجهز على جريح ولا يغنم مال وهذا مما أنكرته الخوارج عليه حتى ناظرهم ابن عباس رضي الله عنه في ذلك كما ذكر ذلك في موضعه واستفاضت الآثار عنه أنه كان يقول عن قتلى عسكر معاوية إنهم جميعا مسلمون ليسوا كفارا ولا منافقين كما قد ذكر في غير هذا الموضع وكذلك عمار وغيره من الصحابة وكانت هذه الأحزاب الثلاثة بالعراق وكان بالعراق أيضا طائفة ناصبة من شيعة عثمانتبغض عليا والحسين وطائفة من شيعة علي تبغض عثمان وأقاربه وقد ثبت في صحيح مسلم عن أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب الذي فيها هو المختار بن عبيد وكان الحجاج هو المبير وكان هذا يتشيع لعثمان ويبغض شيعة علي وكان الكذاب يتشيع لعلي حتى قاتل عبيد الله بن زياد وقتله ثم أدعى أن جبريل يأتيه فظهر كذبه وانقسم الناس بسبب هذا يوم عاشوراء الذي قتل فيه الحسين إلى قسمين فالشيعة اتخذته يوم مأتم وحزن يفعل فيه من المنكرات ما

لا يفعله إلا من هو من إجهل الناس وأضلهم وقوم اتخذوه بمنزلة العيد فصاروا يوسعون فيه النفقات والأطعمة واللباس ورووا فيه أحاديث موضوعة كقوله من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته وهذا الحديث كذب على النبي صلى الله عليه وسلم قال حرب الكرماني سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال لا أصل له والمعروف عند أهل الحديث أنه يرويه سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه أنه قال بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته قال ابن عيينة جربناه من ستين سنة فوجدناه صحيحا قلت ومحمد بن المنتشر هذا من فضلاء الكوفيين لكن لم يكن يذكر ممن سمعه ولا عمن بلغه ولا ريب أن هذا أظهره بعض المتعصبين إلى السنة حتى على الحسين ليتخذ يوم قتله عيدا فشاع هذا عند الجهال المنتسبين روى في حديث أن يوم عاشوراء لأجرى كذا وجرى كذا حتى جعلوا أكثر حوادث الأنبياء كانت يوم عاشوراء مثل مجيء قميص يوسف إلى يعقوب ورد بصره وعافية أيوب وفداء الذبيح وأمثال هذا وهذا الحديث كذب موضوع وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وإن كان قد رواه هو في كتاب النور في

فضائل الأيام الشهورة وذكر عن ابن ناصر شيخه أنه قال حديث صحيح وإسناده علي شرط الصحيح فالصواب ما ذكره في الموضوعات وهو آخر الأمرين منه وابن ناصر راج عليه ظهور حال رجاله وإلا فالحديث مخالف للشرع والعقل لم يروه أحد من أهل العلم المعروفين في شيء من الكتب وإنما دلس على بعض الشيوخ المتأخرين كما جرى مثل ذلك في أحاديث أخر حتى في أحاديث نسبت إلى مسند أحمد وليست منه مثل حديث رواه عبد القادر بن يوسف عن ابن المذهب عن القطيعي عن عبد الله عن أبيه عن عبد الله بن المثنى عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعودة وهذا القول صحيح متواتر عن السلف أنهم قالوا ذلك لكن رواية هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب وعزوه إلى المسند لأحمد كذب ظاهر فإن مسنده موجود وليس هذا فيهوأحمد إمام أهل السنة في زمن المحنة وقد جرى له في مسألة القرآن ما اشتهر في الآفاق وكان يحتج لأن القرآن كلام الله غير مخلوق بحجج كثيرة معروفة عنه ولم يذكر هذا الحديث قط ولا احتج به فكيف يكون هذا الحديث عنده ولا يحتج به وهذا الحديث إنما عرف عن هذا الشيخ وكان بعض من قرأ عليه دسه في جزء فقرأه عليه مع غيره فراج ذلك على من لم يكن له معرفة وكذلك حديث عاشوراء والذي صح في فضله هو صرمه وأنه يكفر سنة وأن الله نجى فيه موسى من الغرق وقد بسطنا الكلام عليه في موضع آخر وبينا أن كل ما يفعل فيه سوى الصوم بدعة مكروهة لم يستحبها أحد من الأئمة مثل الاكتحال والخضاب وطبخ الحبوب وأكل لحم الأضحية والتوسيع في النفقة وغير ذلك وأصل هذا من ابتداع قتلة الحسين ونحوهم وأقبح من ذلك وأعظم ما تفعله الرافضة من اتخاذه مأتما يقرأ فيه المصرع وينشد فيه قصائد النياحة ويعطشون فيه أنفسهم ويلطمون في الخدود ويشقون الجيوب ويدعون فيه بدعوى الجاهلية

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية وهذا مع حدثان العهد بالمصيبة فكيف إذا كانت بعد ستمائة ونحو سبعين سنة وقد قتل من هو أفضل من الحسين ولم يجعل المسلمون ذلك اليوم مأتما وفي مسند أحمد عن فاطمة بنت الحسين وكانت قد شهدت قتله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها فهذا يبين أن السنة في المصيبة إذا ذكرت وإن تقادم عهدها أن يسترجع كما جاء بذلك الكتاب والسنة قال تعالى وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (سورة البقرة). وأقبح من ذلك نتف النعجة تشبيها لها بعائشة والطعن في الجبس الذي في جوفه سمن تشبيها له بعمر وقول القائل يا ثارات أبي لؤلؤة إلى غير ذلك من منكرات الرافضة فإنه يطول وصفهاوالمقصود هنا أن ما أحدثوه من البدع فهو منكر وما أحدثه من يقابل بالبدعة البدعة وينسب إلى السنة هو أيضا منكر مبتدع والسنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي برية من كل بدعة فما يفعل يوم عاشوراء من اتخاذه عيدا بدعة أصلها من بدع النواصب وما يفعل من اتخاذه مأتماص بدعة أشنع منها وهي من البدع المعروفة في الروافض وقد بسطنا هذه الأمور.

*

فصل
قال الرافضي السادس أنه كان مستجاب الدعاء دعا علي بسر بن أرطاة بأن يسلبه الله عزو جل عقله فخولط فيه ودعا على العيزار بالعمى فعمي ودعا على أنس لما كتم شهادته بالبرص فأصابه وعلى زيد بن أرقم بالعمى فعمي.
*والجواب أن هذا موجود في الصحابة أكثر منه وممن بعد الصحابة ما دام في الأرض مؤمن وكان سعد بن أبي وقاص لا تخطىء له دعوة. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اللهم سدد رميته واجب دعوته. وفي صحيح مسلم أن عمر لما أرسل إلى الكوفة من يسأل عن سعد فكان الناس يثنون خيرا حتى سئل عنه رجل من بني عبس فقال أما إذا أنشدتمونا سعدا فكان لا يخرج في السرية ولا يعدل في الرعية ولا يقسم بالسوية فقال سعد اللهم إن كان كاذبا قام رياء وسمعه فأطل عمر وعظم فقره وعرضه للفتن فكان يرى وهو شيخ كبير تدلى حاجباه من الكبر يتعرض للجواري يغمزهن في الطرقات ويقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعدوكذلك سعيد بن زيد كان مستجاب الدعوة فروى حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه أن أروى بنت أوس استعدت مروان على سعيد وقالت سرق من أرضي ما أدخله في أرضه فقال سعيد اللهم إن كانت كاذبة فأذهب بصرها واقتلها في أرضها فذهب بصرها وماتت في أرضها والبراءة بن مالك كان يقسم على الله فيبر قسمه كما في الصحيح إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك والعلاء بن الحضرمي نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نائب أبي بكر رضي الله عنه على البحرين مشهور بإجابة الدعاء روى ابن أبي الدنيا بإسناده قال سهم بن منجاب غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين فدعا بثلاث دعوات فاستجاب الله له فيهن كلهن قال سرنا معه ونزلنا منزلا وطلبنا الوضوء فلم نقدر عليه فقام فصلى ركعتين ثم دعا الله فقال الله يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فاسقنا غيثا نشرب منه

ونتوضأ من الإحداث وإذا تركناه فلا تجعل فيه نصيبا لأحد غيرنا قال فما جاوزنا غير بعيد فإذا نحن ببئر من ماء السماء تتدفق قال فنزلنا فروينا وملأت إدواتي ثم تركتها وقلت لأنظرن هل استجيب له فسرنا ميلا أو نحوه فقلت لأصحابي إني نسيت إدواتي فجئت إلى ذلك المكان فكأنما لم يكن فيه ماء قط فأخذت إدواتي فلما أتيت دارين وبيننا وبينهم البحر فدعا لله فقال الله يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فاجعل لنا سبيلا إلى عدوك ثم اقتحم بنا البحر فوالله ما ابتلت سروجنا ثم خرجنا إليهم فلما رجعنا اشتكى البطن فمات فلم نجد ماء نغسله فلففناه في ثيابه فدفناه فلما سرنا غير بعيد إذا نحن بماء كثير فقال بعضهم لبعض ارجعوا نستخرجه فنغسله فرجعنا فخفى علينا قبره فلم نقدر عليه فقال رجل من القوم إني سمعته يدعو الله يقول اللهم يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم اخف حفرتي ولا تطلع على عورتي أحدا فرجعناه وتركناه وقد كان عمر دعا بدعوات أجيب فيها من ذلك أنه لما نازعه بلال وطائفة معه في القسمة قسمة الأرض فقال اللهم اكفني بلالا وذويه فما حال الحول ومنهم عين تطرفوقال اللهم قد كبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيع فمات من عامه ومثل هذا كثير جدا وقد صنف ابن أبي الدنيا في مجابي الدعوة كتابا مع أن هذه القصص المذكورة عن علي لم يذكر لها إسنادا فتتوقف على معرفة الصحة مع أن فيها ما هو كذب لا ريب فيه كدعائه عن أنس بالبرص ودعائه على زيد بن أرقم بالعمى.
*

فصل
قال الرافضي: السابع أنه لما توجه إلى صفين لحق أصحابه عطش شديد فعدل بهم قليلا فلاح لهم دبر فصاحوا بساكنه فسألوه عن الماء فقال بيني وبينه أكثر من فرسخين ولولا أني أوتي ما يكفيني كل شهر على التقتير لتلفت عطشا

فأشار أمير المؤمنين إلى مكان قريب من الدير وأمر بكشفه فوجدوا صخرة عظيمة فعجزرا عن إزالتها فقلعها وحده ثم شربوا الماء فنزل إليهم الراهب فقال أنت نبي مرسل أو ملك مقرب فقال لا ولكني وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم على يده وقال إن هذا الدير بني على طالب هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها وقد مضى جماعة قبلي لم يدركوه وكان الراهب من جملة من استشهد معه ونظم القصة السيد الحميري في قصيدته.
*والجواب أن هذا من جنس أمثاله من الأكاذيب التي يظنها الجهال من أعظم مناقب علي وليست كذلك، بل الذي وضع هذه كان جاهلا بفضل علي وبما يستحقه من الممادح، فإن الذي فيه من المنقبة أنه أشار إلى صخرة فوجدوا تحتها الماء وأنه قلعها ومثل هذا يجري لخلق كثير، علي رضي الله عنه أفضل منهم، بل في المحبين لأبي بكر

وعمر وعثمان من يجري لهم أضعاف هذا وأفضل من هذا، وهذا وإن كان إذا جرى على يد بعض الصالحين كان نعمة من الله وكرامة له فقد يقع مثل ذلك لمن ليس من الصالحين كثيرا.
وأما سائر ما فيها مثل قوله إن هذا الدير بنى على طالب هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها فليس هذا من دين المسلمين وإنما تبنى الكنائيس والديارات والصوامع على أسماء المقتدية بسير النصارى، فأما المسلمون فلا يبنون معابدهم وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه إلا على اسم الله لا على اسم مخلوق وقول الراهب أنت نبي مرسل أو ملك مقرب يدل على جهله وأنه من أضل الخلق فإن الملائكة لا تشرب الماء ولا تحتاج إلى أن تستخرجه من تحت صخرة ومحمد لا نبي بعده ومعلوم أن هذا الراهب قد سمع بخبر المسلمين الذين فتحوا تلك المواضع فإن كان يجوز أن يبعث رسول بعد المسيح فمحمد هو الرسول ومعجزاته ظاهرة باطنة فإن صدقه فقد علم أنه لا نبي بعده وإن لم يصدقه فكيف يعتقد في غيره أنه نبي مرسل بمجرد دلالته على ماء تحت صخرة أو لكون الدير بني على اسمه وهم وهم يبنون الديارات على أسماء خلق كثير ليسوا من الملائكة ولا الرسل وما فيه من قول علي ولكني وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم

هو مما يبين أنه كذب على علي وأن عليا لم يدع هذا قط لا في خلافة الثلاثة ولا ليالي صفين وقد كانت له مع منازعيه مناظرات ومقامات ما ادعى هذا قط ولا ادعاه أحد له وقد حكم الحكمين وأرسل ابن عباس لمناظرة الخوارج فذكروا فضائله وسوابقه ومناقبه ولم يذكر أحد منهم قط أنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بدون هذه الأسباب الموجبة لنقله لو كان حقا فكيف مع هذه الأسباب فلما رووا فضائله ومناقبه كقوله عليه السلام لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وكقوله عام تبوك ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وقوله أنت مني وأنا منك وغير ذلك من فضائله ولم يرووا هذا مع مسيس الحاجة إلى ذكره ولا ادعاه علي قط مع مسيس الحاجة إلى ذكره علم أنه من جملة ما افتراه الكذابون.
*

فصل
قال الرافضي: الثامن ما رواه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بني المصطلق حيث خرجوا عن الطريق، وأدركه الليل بقرب واد وعر، فهبط جبريل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه، فدعا بعلي وعوذه وأمره بنزول الوادي فقتلهم.
*والجواب أن يقال...
أولا: علي أجل قدرا من هذا، وإهلاك الجن موجود لمن هو دون علي، لكن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى علي عند أهل المعرفة بالحديث، ولم يجر في غزوة بني المصطلق شيء من هذا.
وقوله إن هذا رواه الجمهور إن أريد بذلك أنه مروى بإسناد ثابت أو في كتاب يعتمد على مجرد نقله أو صححه من يرجع إلى تصحيحه فليس كذلك. وإن أراد أن جمهور العلماء رووه فهذا كذب. وإن أراد أنه رواه من لا يقوم بروايته حجة فهذا لا يفيد ومن هذا الجنس ما يروى أنه قاتل الجن في بئر ذات العلم وهو حديث موضوع عند أهل المعرفة

وعلي أجل قدرا من أن تثبت الجن لقتاله ولم يقاتل أحد من الإنس الجن بل كان الجن المؤمنون يقاتلون الجن الكفار.
وكان من أهل المعرفة أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي رحمه الله سأله بعض الشيعة عن قتال علي الجن.
فقال أنتم معشر الشيعة ليس لكم عقل أيما أفضل عندكم عمر أو علي فقالوا بل علي فقال إذا كان الجمهور يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك، فإذا كان الشيطان يهرب من عمر فكيف يقاتل عليا، وأيضا فدفع الجن والشياطين وإهلاكهم موجود لكثير من أتباع أبي بكر وعمر وعثمان وفي ذلك قصص يطول وصفها.
وقد روى ابن الجوزي في كتاب الموضوعات حديثا طويلا في محاربته للجن وأنه كان في الحج عام الحديبية وأنه حاربهم ببئر ذات العلم. من طريق أبي بكر محمد بن جعفر بن محمد السامري حدثنا عبد الله بن أحمد السكوني حدثنا عمار بن يزيد حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عبيد الله بن الحارث عن أبيه عن ابن عباس قال لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إلى مكة أصاب الناس عطش شديد وحر شديد فنزل

رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجفة معطشا والناس عطاش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل من رجل يمضي في نفر من المسلمين معهم القرب فيردون بئر ذات العلم ثم يعود يضمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة فذكر حديث طويلا فيه أنه بعث رجلا من الصحابة ففزع من الجن فرجع ثم بعث آخر وانشد شعرا فذعر من الجن فرجع ثم أرسل علي بن أبي طالب فنزل البئر وملأ القرب بعد هول شديد وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الذي هتف بك من الجن هو سماعة بن غراب الذي قتل عدو الله مسعرا شيطان الأصنام الذي يكلم قريشا منها وفزع من هجائي ثم قال الشيخ أبو الفرج وهذا الحديث موضوع محال والفنيد ومحمد بن جعفر والسكوني مجروحون قال أبو الفتح الأودي وعمارة يضع الحديث قلت وكتب ابن إسحاق التي رواها عنه الناس ليس فيها شيء من هذا.
*

فصل
قال الرافضي التاسع رجوع الشمس له مرتين إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والثانية بعده أما الأولى فروى جابر وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل يوما يناجيه من عند الله فلما تغشاه الوحي توسد فخذ أمير المومنين فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس فصلى على العصر بالإيماء فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم قال له سل الله تعالى يرد عليك الشمس لتصلي العصر قائما فدعا فردت الشمس فصلى العصر قائما.وأما الثانية فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم وصلى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر وفات كثير منهم فتكلموا في ذلك فسأل الله رد الشمس فردت ونظمه الحميري فقال

ردت عليه الشمس لما فاته وقت الصلاة وقد دنت للمغرب حتى تبلج نورها في وقتها للعصر ثم هوت هوى الكوكب وعليه قد ردت ببابل مرة أخرى وما ردت لخلق معرب.
* والجواب أن يقال فضل علي وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم ولله الحمد من طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني لا يحتاج معها إلى كذب ولا إلى مالا يعلم صدقه وحديث رد الشمس له قد ذكره طائفة كالطحاوي والقاضي عياض وغيرهما وعدوا ذلك من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع كما ذكره ابن الجوزي في كتاب الموضوعات فرواه من كتاب أبي جعفر العقيلي في الضعفاء من طريق عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق عن إبراهيم بن الحسن بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين عن أسماء بنت عميس قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحي إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم صليت يا علي قال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس فقالت أسماء فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت قال ابو الفرج وهذا حديث موضوع بلا شك وقد اضطرب الرواة فيه فرواه سعيد بن مسعود عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن علي بن الحسين عن فاطمة بنت علي عن أسماء قال وفضيل بن مرزوق ضعفه يحيى وقال أبو حاتم بن حبان يروي الموضوعات ويخطىء على الثقات قال ابو الفرج وهدا الحديث مداره على عبيد الله بن موسى عنه قلت والمعروف أن سعيد بن مسعود رواه عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق عن إبراهيم بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين عن أسماء ورواه محمد بن مرزوق عن حسين الأشقر عن علي بن عاصم عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن علي بن

الحسين عن فاطمة بنت علي عن أسماء كما سيأتي ذكره قال أبو الفرج وقد روى هذا الحديث ابن شاهين حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن عروة بن عبد الله بن قشير قال دخلت على فاطمة بنت علي بن أبي طالب فحدثتني أن أسماءبنت عميس حدثتها أن علي بن أبي طالب وذكر حديث رجوع الشمس قال أبو الفرج وهذا حديث باطل أما عبدالرحمن بن شريك فقال أبو حاتم هو واهي الحديث قال وأنا لا أتهم بهذا الحديث الا ابن عقدة فإنه كان رافضيا يحدث بمثالب الصحابة قال أبو أحمد بن عدي الحافظ سمعت أبا بكر بن أبي طالب يقول ابن عقدة لا يتدين بالحديث كان يحمل شيوخا بالكوفة على الكذب يسوى لهم نسخا ويأمرهم أن يرووها وقد بينا ذلك منه في غير نسخة وسئل عنه الدارقطني فقال رجل سوء قال أبو الفرج وقد رواه ابن مردويه من حديث داود بن فراهيج عن أبي هريرة قال وداود ضعيف ضعفه شعبة قلت فليس في هؤلاء من يحتج به فيما دون هذا وأما الثاني ببابل فلا ريب أن هذا كذب وإنشاد الحميري لا حجة فيه لأنه لم يشهد ذلك والكذب قديم فقد سمعه فنظمه وأهل الغلو في المدح والذم ينظمون ما لا تتحقق صحته لا سيما والحميري معروف بالغلو وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي هريرة قال غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة يضع امرأة يريد أن يبني بها ولما

يبن ولا رجل قد بنى بيتا ولم يرفع سقفه ولا رجل اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها قال فغزوا فدنا من القرية حتى صلى العصر قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا فحسبت عليه حتى فتح الله عليه الحديث فإن قيل فهذه الأمة أفضل من بني اسرائيل فإذا كانت قد ردت ليوشع فما المانع أن ترد لفضلاء هذه الأمة؟
فيقال يوشع لم ترد له الشمس ولكن تأخر غروبها طول له النهار وهذا قد لا يظهر للناس فإن طول النهار وقصره لا يدرك ونحن إنما علمنا وقوفها ليوشع بخبر صلى الله عليه وسلم وأيضا لا مانع من طول ذلك لو شاء الله لفعل ذلك لكن يوشع كان محتاجا إلى ذلك لأن القتال كان محرما عليه بعد غروب الشمس لأجل ما حرم الله عليهم من العمل ليلة السبت ويوم السبت.وأما أمة محمد فلا حاجة لهم إلى ذلك ولا منفعة لهم فيه فإن الذي فاتته العصر إن كان مفرطا لم يسقط ذنبه إلا بالتوبة ومع التوبة لا يحتاج إلى

رد وإن لم يكن مفرطا كالنائم والناسي فلا ملام عليه في الصلاة بعد الغروب وأيضا فبنفس غروب الشمس حرج الوقت المضروب للصلاة فالمصلي بعد ذلك لا يكون مصليا في الوقت الشرعي ولو عادت الشمس وقول الله تعالى وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها (سورة طـــه). يتناول الغروب المعروف فعلى العبد أن يصلي قبل هذا الغروب وإن طلعت ثم غربت والأحكام المتعلقة بغروب الشمس حصلت بذلك الغروب فالصائم يفطر ولو عادت بعد ذلك لم يبطل صومه مع أن هذه الصورة لا تقع لأحد ولا وقعت لأحد فتقديرها تقدير ما لا وجود له ولهذا لا يوجد الكلام على حكم مثل هذا في كلام العلماء المفرعين وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم فاتته العصر يوم الخندق فصلاها قضاء هو وكثير من أصحابه ولم يسأل الله رد الشمس وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه بعد ذلك لما أرسلهم إلى بني قريظة لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريطة فلما أدركتهم الصلاة في الطريق قال بعضهم لم يرد منا تفويت الصلاة فصلوا في الطريق فقالت طائفة لا نصلي إلا في بني قريظة فلم يعنف واحدة من الطائفتين فهؤلاء الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوا العصر بعد

غروب الشمس وليس علي بأفضل من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا صلاها هو وأصحابه معه بعد الغروب فعلي وأصحابه أولى بذلك فإن كانت الصلاة بعد الغروب لا تجزىء أو ناقصة تحتاج إلى رد الشمس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى برد الشمس وإن كانت كاملة مجزئة فلا حاجة إلى ردها وأيضا فمثل هذه القضية من الأمور العظام الخارجة عن العادة التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها فإذا لم ينقلها إلا الواحد والاثنان علم بيان كذبهم في ذلك وانشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس ومع هذا فقد رواه الصحابة من غير وجه وأخرجوه في الصحاح والسنن والمساند من غير وجه ونزل به القرآن فكيف برد الشمس التي تكون بالنهار ولا يشتهر ذلك ولا ينقله أهل العلم نقل مثلهولا يعرف قط أن الشمس رجعت بعد غروبها وإن كان كثير من الفلاسفة والطبيعين وبعض أهل الكلام ينكر انشقاق القمر وما يشبه ذلك فليس الكلام في هذا المقام لكن الغرض أن هذا من أعظم خوارق العادات في الفلك وكثير من الناس ينكر إمكانه فلو وقع لكان ظهوره ونقله أعظم من ظهور ما دونه ونقله فكيف يقبل وحديثه ليس له إسناد مشهور فإن هذا يوجب العلم اليقيني بأنه كذب لم يقع وإن كانت الشمس احتجبت بغيم ثم ارتفع سحابها فهذا من الأمور المعتادة ولعلهم ظنوا أنها غربت ثم كشف الغمام عنها وهذا وإن كان قد وقع ففيه أن الله بين له بقاء الوقت حتى يصلي فيه ومثل هذا يجري لكثير من الناس وهذا الحديث قد صنف فيه مصنف جمعت فيه طرقه صنفه أبو القاسم عبد الله بن عبد الله ابن احمد الحكاني سماه مسألة في تصحيح رد الشمس وترغيب النواصب الشمس وقال هذا حديث روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أسماء بنت عميس الخثعمية ومن طريق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن طريق أبي هريرة وأبي سعيد وذكر حديث أسماء من طريق محمد بن أبي فديك

قال أخبرني محمد بن موسى وهو القطري عن عون بن محمد عن أمه أم جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ثم أرسل عليا في حاجة فرجع وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني العصر فوضع رأسه في حجر علي ولم يحركه حتى غابت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إن عبدك عليا في طاعتك وطاعة رسولك احتبس نفسه على نبيه فرد عليه شرقها قال أسماء فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال فقام علي فتوضأ وصلى العصر ثم غابت الشمس قال أبو القاسم المصنف أم جعفر هذه هي أم محمد بن جعفر بن أبي طالب والراوي عنها هو ابنها عون بن محمد بن علي المعروف أبوه محمد بن الحنفية والراوي عنه هو محمد بن موسى المديني المعروف بالقطري محمود في روايته ثقة والراوي عنه محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني ثقة وقد رواه عنه جماعة منهم هذا الذي ذكرت روايته وهو أحمد بن الوليد الأنطاكي وقد رواه عنه نفر منهم أحمد بن عمير بن حوصاء وذكره بإسناده من طريقة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالصهباء ثم أرسل عليا في حاجة فرجع وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر فوضع رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غربت الشمس فقال النبي صلى الله عليه

وسلم اللهم إن عبدك عليا احتبس نفسه على نبيه فرد عليها شرقها قال أسماء فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض فقام علي وتوضأ وصلى العصر وذلك في الصهباء في غزوة خيبر قال ومنهم أحمد بن صالح المصري عن ابن أبي فديك رواه أبو جعفر الطحاوي في كتاب تفسير متشابه الأخبار من تأليفه من طريقه ومنهم الحسن بن داود عن ابن أبي فديك وذكره بإسناده ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالصهباء من أرض خيبر ثم أرسل عليا في حاجة فرجع وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غربت الشمس فاستيقظ وقال يا علي صليت العصر قال لا وذكره قال ويرويه عن اسماء فاطمة بنت الحسين الشهيد ورواه من طريق أبي جعفر الحضرمي حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا حسين الأشقر حدثنا فضيل بن مرزوق عن إبراهيم ابن الحسن عن فاطمة عن أسماء بنت عميس قالت نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما صلى العصر فوضع رأسه أو خده لا أدري أيهما قال في حجر علي ولم يصل العصر حتى غابت الشمس وذكره قال المصنف ورواه عن فضيل بن مرزوق جماعة منهم عبيد الله

ابن موسى العبسي ورواه الطحاوي من طريقه ولفظه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غابت الشمس ورواه أيضا من حديث عمار بن مطر عن فضيل بن مرزوق من طريق أبي جعفر العقيلي صاحب كتاب الضعفاء قلت وهذا اللفظ يناقض الأول ففيه أنه نام في حجره من صلاة العصر إلى غروب الشمس وأن ذلك في غزوة خيبر بالصهباء وفي الثاني أنه كان مستيقظا يوحى اليه جبريل ورأسه في حجر علي حتى غربت الشمس وهذا التناقض يدل على أنه غير محفوظ لأن هذا صرح بأنه كان نائما هذا الوقت وهذا قال كان يقظان يوحى إليه وكلاهما باطل فإن النوم بعد العصر مكروه منهى عنه والنبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه فكيف تفوت عليا صلاة العصر ثم تفويت الصلاة بمثل هذا إما أن يكون جائزا وإما أنه لا يجوز فإن كان جائزا لم يكن على علي إثم إذا صلى العصر بعد الغروب وليس علي أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم فاتته العصر يوم الخندق حتى غربت الشمس ثم صلاها ولم ترد عليه الشمس وكذلك لم ترد لسليمان لما توارت بالحجاب

وقد نام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه علي وسائر الصحابة عن الفجر حتى طلعت الشمس ولم ترجع لهم إلى الشرق وإن كان التفويت محرما فتفويت العصر من الكبائر وقال النبي صلى الله عليه وسلم من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وعلي كان يعلم أنها الوسطى وهي صلاة العصر وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين لما قال شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس ملأ الله أجوافهم وبيوتهم نارا وهذا كان في الخندق وخيبر بعد الخندق فعلي أجل قدرا من أن يفعل مثل هذه الكبيرة ويقره عليها جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومن فعل هذا كان من مثالبه لا من مناقبه وقد نزه الله عليا عن ذلك ثم إذا فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس وأيضا فإذا كانت هذه القصة في خيبر في البرية قدام العسكر والمسلمون أكثر من ألف وابعمائة كان هذا مما يراه العسكر

ويشاهدونه ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي عن نقله فيمتنع أن ينفرد بنقله الواحد والاثنان فلو نقله الصحابة لنقله منهم أهل العلم كما نقلوا أمثاله لم ينقله المجهولون الذين لا يعرف ضبطهم وعدالتهم وليس في جميع أسانيد هذا الحديث إسناد واحد يثبت تعلم عدالة ناقليه وضبطهم ولا يعلم اتصال إسناده وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فنقل ذلك غير واحد من الصحابة وأحاديثهم في الصحاح والسنن والمساند وهذا الحديث ليس في شيء من كتب الحديث المعتمدة لا رواه أهل الصحيح ولا أهل السنن ولا المساند أصلا بل اتفقوا على تركه والإعراض عنه فكيف يكون مثل هذه الواقعة العظيمة التي هي لو كانت حقا من أعظم المعجزات المشهورة الظاهرة ولم يروها أهل الصحاح والمساند ولا نقلها أحد من علماء المسلمين وحفاظ الحديث ولا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة والإسناد الأول رواه القطري عن عون عن أمه عن أسماء بنت عميس وعون وأمه ليسا ممن يعرف حفظهم وعدالتهم ولا منالمعروفين بنقل العلم ولا يحتج بحديثهم في أهون الأشياء فكيف في مثل هذا ولا فيه سماع المرأة من أسماء بنت عميس فلعلها سمعت من يحكيه عن أسماء فذكرته وهذا المصنف ذكر عن ابن أبي فديك أنه ثقة وعن القطري أنه ثقة ولم يمكنه أن يذكر عمن بعدهما أنه ثقة وإنما ذكر أنسابهم ومجرد المعرفة بنسب الرجل لا توجب أن يكون حافظا ثقة وأما الإسناد الثاني فمداره على فضيل بن مرزوق وهو معروف بالخطأ على الثقات وإن كان لا يعتمد الكذب قال فيه ابن حبان يخطىء على الثقات ويروى عن عطية الموضوعات وقال فيه أبو حاتم الرازي لا يحتج به وقال فيه يحيى بن معين مرة هو ضعيف وهذا لا يناقضه قول أحمد بن حنبل فيه لا أعلم إلا خيرا وقول سفيان هو ثقة وقول يحيى مرة هو ثقة فإنه ليس ممن يتعمد الكذب ولكنه

يخطىء وإذا روى له مسلم ما تابعه غيره عليه لم يلزم أن يروى ما انفرد به مع أنه لم يعرف سماعه عن إبراهيم ولا سماع إبراهيم من فاطمة ولا سماع فاطمة من أسماء ولا بد في ثبوت هذا الحديث من أن يعلم أن كلا من هؤلاء عدل ضابط وأنه سمع من الآخر وليس هذا معلوما وإبراهيم هذا لم يرو له أهل الكتب المعتمدة كالصحاح والسنن ولا له ذكر في هذه الكتب بخلاف فاطمة بنت الحسين فإن لها حديثا معروفا فكيف يحتج بحديث مثل هذا ولهذا لم يروه أحد من علماء الحديث المعروفين في الكتب المعتمدة وكون الرجل أبوه كبير القدر لا يوجب أن يكون هو من العلماء المأمونين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه وأسماء بنت عميس كانت عند جعفر ثم خلف عليها أبو بكر ثم خلف عليها علي ولها من كل من هؤلاء ولد وهم يحبون عليا ولم يرو هذا أحد منهم عن أسماء ومحمد بن أبي بكر الذي في حجر علي هو ابنها ومحبته لعلي مشهورة ولم يرو هذا عنها وأيضا فأسماء كانت زوجة جعفر بن أبي طالب وكانت معه في الحبشة وإنما قدمت معه بعد فتح خيبر وهذه القصة قد ذكر أنها كانت بخيبر فإن كانت صحيحة كان ذلك بعد فتح خيبر وقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد خيبر أهل الحديبية ألف وأربعمائة

وإزداد العسكر بجعفر ومن قدم معه من الحبشة كأبي موسى الأشعري وأصحابه والحبشة الذين قدموا مع جعفر في السفينة وازدادوا أيضا بمن كان معهم من أهل خيبر فلم يرو هذا أحد من هؤلاء وهذا مما يوجب القطع بأن هذا من الكذب المختلق والطعن في فضيل ومن بعده إذا تيقن بأنهم رووه وإلا ففي إيصاله إليهم نظر فإن الراوي الأول عن فضيل الحسين بن الحسن الأشقر الكوفي قال البخاري عنده مناكير وقال النسائي وقال الدارقطني ليس بالقوي وقال الأزدي ضعيف وقال السعدي حسين الأشقر غال من الشاتمين للخيرة وقال ابن عدي روى حديثا منكرا والبلاء عندي منه وكان جماعة من ضعفاء الكوفة يحيلون ما يروون عنه من الحديث فيه وأما الطريق الثالث ففيه عمار بن مطر عن فضيل بن مرزوق قالالعقيلي يحدث عن الثقات بالمناكير وقال الرازي كان يكذب أحاديث بواطل وقال ابن عدي متروك الحديث والطريق الأول من حديث عبيد الله بن موسى العبسي وفي بعض طرقه عن فضيل وفي بعضها حدثنا فإذا لم يثبت أنه قال حدثنا أمكن أن لا يكون سمعه فإنه من الدعاة إلى التشيع الحراص على جمع أحاديث التشيع وكان يروي الأحاديث في ذلك عن الكذابين وهو من المعروفين بذلك وإن كانوا قد قالوا فيه ثقة وإنه

لا يكذب فالله أعلم أنه هل كان يتعمد الكذب أم لا لكنه كان يروى عن الكذابين المعروفين بالكذب بلا ريب والبخاري لا يروى عنه إلا ما عرف به أنه صحيح من غير طريقه وأحمد بن حنبل لم يرو عنه شيئا قال المصنف وله روايات عن فاطمة سوى ما قدمنا ثم رواه بطريق مظلمة يظهر أنها كذب لمن له معرفة منوطة بالحديث فرواه من حديث أبي حفص الكتاني حدثنا محمد بن عمر القاضي هو الجعاني حدثنا محمد بن إبراهيم بن جعفر العسكري من أصل كتابه حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم حدثنا خلف بن سالم حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أمه عن فاطمة عن أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لعلي حتى ردت عليه الشمس وهذا مما لا يقبل نقله إلا ممن عرف عدالته وضبطه لا من مجهول الحال فكيف إذا كان مما يعلم أهل الحديث أن الثوري لم يحدث به ولا حدث به عبد الرزاق وأحاديث الثوري وعبدالرزاق يعرفها أهل العلم بالحديث ولهم أصحاب يعرفونها ورواه خلف بن سالم ولو قدر أنهم رووه فأم أشعث مجهولة لا يقوم بروايتها شيء وذكر طريقا ثانيا من طريق محمد بن مرزوق حدثنا حسين الأشقر عن علي بن هاشم عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن

علي بن الحسين عن فاطمة بنت علي عن أسماء بنت عميس الحديث قلت وقد تقدم كلام العلماء في حسين الأشقر فلو كان الإسناد كلهم ثقات والإسناد متصل لم يثبت بروايته شيء فكيف إذا لم يثبت ذلك وعلي بن هاشم بن البريد قال البخاري هو وأبوه غاليان في مذهبهما وقال ابن حبان كان غاليا في التشيع يروى المناكير عن المشاهير وإخراج أهل الحديث لما عرفوه من غير طريقه لا يوجب أن يثبت ما انفرد به ومن العجب أن هذا المصنف جعل هذا والذي بعده من طريق رواية فاطمة بنت الحسين وهذه فاطمة بنت علي لا بنت الحسين وكذلك ذكر الطريق الثالث عنها من رواية عبد الرحمن بن شريك حدثنا أبي عن عروة بن عبد الله عن فاطمة بنت علي عن أسماء عن علي بن أبي طالب رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوحى إليه فجلله بثوبه فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس يقول غابت أو كادت تغيب وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم سرى عنه فقال أصليت يا علي قال لا قال اللهم رد على علي الشمس فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجدفيقتضي أنها رجعت إلى قريب وقت العصر وأن هذا كان بالمدينة وفي ذاك الطريق أنه كان بخيبر وأنها إنما ظهرت على رؤوس الجبال وعبد الرحمن بن شريك قال أبو حاتم الرازي هو واهي الحديث وكذلك قد ضعفه غيره ورواه من طريق رابع من حديث محمد بن عمر القاضي وهو الجعاني عن العباس بن الوليد عن عباد وهو الرواجني حدثنا علي بن هاشم عن صباح بن عبدالله بن الحسين أبي جعفر عن حسين المقتول عن فاطمة عن أسماء بنت عميس قالت كان يوم خيبر شغل عليا ما كان من قسم المغانم حتى غابت الشمس أو كادت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما صليت قال لا فدعا الله فارتفعت حتى توسطت السماء فصلى علي فلما غابت الشمس سمعت لها صريرا كصرير المنشار في الحديد وهذا اللفظ الرابع يناقض الألفاظ الثلاثة المتناقضة وتبين أن

الحديث لم يروه صادق ضابط بل هو في نفس الأمر مما اختلقه واحد وعملته يداه فتشبه به آخر فاختلق ما يشبه حديث ذلك والقصة واحده وفي هذا أن عليا إنما اشتغل بقسم المغانم لا برسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي لم يقسم مغانم خيبر ولا يجوز الاشتغال بقسمتها عن الصلاة فإن خيبر بعد الخندق سنة سبع وبعد الحديبية سنة ست وهذا من المتواتر عند أهل العلم والخندق كانت قبل ذلك إما سنة خمس أو أربع وفيها أنزل الله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى (سورة البقرة). ونسخ التأخير بها يوم الخندق مع أنه كان للقتال عند أكثر أهل العلم ومن قال إنه لم ينسخ بل يجوز التأخير للقتال كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين فلم يتنازع العلماء أنه لم يجز تفويت الصلاة لأجل قسم الغنائم فإن هذا لا يفوت والصلاة تفوت وفي هذا انها توسطت المسجد وهذا من الكذب الظاهر فإن مثل هذا من أعظم غرائب العالم التي لو جرت لنقلها الجم الغفير وفيه أنها لما غابت سمع لها صرير كصرير المنشار وهذا أيضا من الكذب الظاهر فإن هذا لا موجب له أيضا والشمس عند غروبها لا تلاقى من الأجسام ما يوجب هذا الصوت العظيم الذي يصل من الفلك الرابع إلى

الأرض ثم لو كان هذا حقا لكان من أعظم عجائب العالم التي تنقلها الصحابة الذين نقلوا ما هو دون هذا مما كان في خيبر وغير خيبر وهذا الإسناد لو روى به ما يمكن صدقه لم يثبت به شيء فإن علي ابن هاشم بن البريد كان غاليا في التشيع يروى عن كل أحد يحرضه على ما يقوى به هواه ويروى عن مثل صباح هذا وصباح هذا لا يعرف من هو ولهم في هذه الطبقة صباح بن سهل الكوفي يروى عن حصين بن عبد الرحمن قال البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم منكر الحديث وقال الدارقطني ضعيف وقال ابن حبان يروى المناكير عن أقوام مشاهير لا يجوز الاحتجاج بخبره ولهم آخر يقال له صباح بن محمد بن أبي حازم البجلي الأحمسي الكوفي يروى عن مرة الهمداني قال ابن حبان يروى عن الثقات الموضوعات ولهم شخص يقال له صباح العبدي قال الرازي هو مجهول وآخر يقال له ابن مجالد مجهول يروى عنه بقية قال ابن عدي ليس بالمعروف هو من شيوخ بقية المجهولين

وحسين المقتول إن أريد به الحسين بن علي فذلك أجل قدرا من أن يروى عن واحد عن أسماء بنت عميس سواء كانت فاطمة أخته أو ابنته فإن هذه القصة لو كانت حقا لكان هو أخبر بها من هؤلاء وكان قد سمعها من أبيه ومن غيره ومن أسماء امرأة أبيه وغيرها لم يروها عن بنته أو أخته عن أسماء امرأة أبيه ولكن ليس هو الحسين بن علي بل هو غيره أو هو عبد الله بن الحسن أبو جعفر ولهما أسوة أمثالهما والحديث لا يثبت إلا برواية من علم أنه عدل ضابط ثقة يعرفه أهل الحديث بذلك ومجرد العلم بنسبتة لا يفيد ذلك ولو كان من كان وفي أبناء الصحابة والتابعين من لا يحتج بحديثه وإن كان أبوه من خيار المسلمين هذا إن كان علي بن هاشم رواه وإلا فالراوي عنه عباد بن يعقوب الرواجني قال ابن حبان كان رافضيا داعية يرى المناكير عن المشاهير فاستحق الترك وقال ابن عدي روى أحاديث أنكرت عليه في فضائل أهل البيت ومثالب غيرهم والبخاري وغيره روى عنه من الأحاديث ما يعرف صحته وإلا فحكاية قاسم المطرز عنه أنه قال إن عليا حفر البحر وإن الحسن أجرى فيه الماء مما يقدح فيه قدحا بينا

قال المصنف قد رواه عن أسماء سوى هؤلاء وروى من طريق أبي العباس بن عقدة وكان من حفظه جماعا لأكاذيب الشيعة قال أبو أحمد بن عدي رأيت مشايخ بغداد يسيئون الثناء عليه يقولون لا يتدين بالحديث ويحمل شيوخا بالكوفة على الكذب ويسوى لهم نسخا ويأمرهم بروايتها وقال الدارقطني كان ابن عقدة رجل سوء قال ابن عقدة حدثنا يحيى بن زكريا أخبرنا يعقوب بن معبد حدثنا عمرو بن ثابت قال سألت عبد الله بن حسن بن حسن بن علي عن حديث رد الشمس على علي هل ثبت عندكم فقال لي ما أنزل الله في علي في كتابه أعظم من رد الشمس قلت صدقت جعلني الله فداك ولكني أحب أن أسمعه منك قال حدثني عبد الله حدثني أبي الحسن عن أسماء بنت عميس أنها قالت أقبل علي ذات يوم وهو يريد أن يصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافق

رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انصرف ونزل عليه الوحي فأسنده إلى صدره فلم يزل مسنده إلى صدره حتى أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصليت العصر يا علي قال جئت والوحي ينزل عليك فلم أزل مسندك إلى صدري حتى الساعة فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة وقد غربت الشمس فقال اللهم إن عليا كان في طاعتك فارددها عليه قالت أسماء فأقبلت الشمس ولها صرير كصرير الرحي حتى ركدت في موضعها وقت العصر فقام علي متمكنا فصلى العصر فلما فرغ رجعت الشمس ولها صرير كصرير الرحى فلما غابت الشمس اختلط الظلام وبدت النجوم قلت بهذا اللفظ الخامس يناقض تلك الألفاظ المتناقضة ويزيد الناظر بيانا في أنها مكذوبة مختلقة فإنه ذكر فيها أنها ردت إلى موضعها وقت العصر وفي الذي قبله إلى نصف النهار وفي الآخر حتى ظهرت على رؤوس الجبال وفي هذا أنه كان مسنده إلى صدره وفي ذاك أنه كان رأسه في حجره وعبد الله بن الحسن لم يحدث بهذا قط وهو كان أجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب ولا أبوه الحسن روى هذا عن أسماء وفيه ما أنزل الله في علي في كتابه أعظم من رد الشمس شيئا ومعلوم أن الله لم ينزل في علي ولا غيره في كتابه في رد الشمس شيئا

وهذا الحديث إن كان ثابتا عن عمرو بن ثابت الذي رواه عن عبد الله فهو الذي اختلقه فإنه كان معروفا بالكذب قال أبو حاتم بن حبان يروى الموضوعات عن الأثبات وقال يحيى بن معين ليس بشيء وقال مرة ليس بثقة ولا مأمون وقال النسائي متروك الحديث قال المصنف وأما رواية أبي هريرة فأنبأنا عقيل بن الحسن العسكري حدثنا أبو محمد صالح بن أبي الفتح الشناسي حدثنا أحمد بن عمرو بن حوصاء حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي عن أبيه قال حدثنا داود بن فراهيج عن عمازة بن فرو عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكره قال المصنف اختصرته من حديث طويل قلت هذا إسناد مظلم لا يثبت به شيء عند أهل العلم بل يعرفكذبه من وجوه فإنه وإن كان داود بن فراهيج مضعفا كان شعبة يضعفه وقال النسائي ضعيف الحديث لا يثبت الإسناد إليه فإن فيه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو الذي رواه عنه وعن عمارة قال البخاري أحاديثه شبه لا شيء وضعفه جدا وقال النسائي متروك ضعيف الحديث وقال الدارقطني منكر الحديث جدا وقال أحمد عنده مناكير وقال الدارقطني ضعيف وإن كان حدث به إبراهيم بن سعيد الجوهري فالآفة من هذا وإن كان يقال إنه لم يثبته لا إلى إبراهيم بن سعيد الجوهري ولا إلى ابن حوصاء فإن هذين معروفان وأحاديثهما معروفقد رواها عنهما الناس ولهذا لما روى ابن حوصاء الطريق الأول كان الإسناد إليه معروفا عنه رواه بالأسانيد المعروفة لكن الآفة فيه ممن بعده وأما هذا فمن قبل ابن حوصاء لا يعرفون وإن قدر أنه ثابت عنه فالآفة بعده وذكر أبو الفرج بن الجوزي أن ابن مردويه رواه من طريق داود بن فراهيج وذكر ضعف ابن فراهيج ومع هذا فالإسناد إليه فيه الكلام أيضا قال المصنف وأما رواية أبي سعيد الخدري فأخبرنا محمد بن

إسماعيل الجرجاني كتابه أن أبا طاهر محمد بن علي الواعظ أخبرهم أنبأنا محمد بن أحمد بن منعم أنبأنا القاسم بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر حدثني أبي عن أبيه محمد عن أبيه عبد الله عن أبيه محمد عن أبيه عمر قال قال الحسين بن علي سمعت أبا سعيد الخدري يقول دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأسه في حجر علي وقد غابت الشمس فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا علي صليت العصر قال لا يا رسول الله ما صليت كرهت أن أضع رأسك من حجري وأنت وجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادع يا علي أن ترد عليك الشمس فقال علي يا رسول الله ادع أنت أومن قال يا رب إن عليا في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس قال ابو سعيد فوالله لقد سمعت للشمس صريرا كصرير البكرة حتى رجعت بيضاء نقية قلت هذا الإسناد لا يثبت بمثله شيء وكثير من رجاله لا يعرفون بعدالة ولا ضبط ولا حمل للعلم ولا لهم ذكر في كتب العلم وكثير من رجاله لو لم يكن فيهم إلا واحد بهذه المنزلة لم يكن ثابتا فكيف إذا كان كثير منهم أو أكثرهم كذلك ومن هو معروف بالكذب مثل عمرو بن ثابت

وفيه أنه كان وجعا وأنه سمع صوتها حين طلعت كصرير البكرة وهذا باطل عقلا ولم يذكره أولئك ولو كان مثل هذا الحديث عن أبي سعيد مع محبته لعلي وروايته لفضائله لرواه عنه أصحابه المعروفون كما رووا غير ذلك من فضائل علي مثل رواية أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الخوارج قال تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ومثل روايته أنه قال لعمار تقتلك الفئة الباغية فمثل هذا الحديث الصحيح عن أبي سعيد بين فيه أن عليا وأصحابه أولى بالحق من معاوية وأصحابه فكيف لا يروى عنه مثل هذا لو كان صحيحا ولم يحدث بمثل هذا الحسين ولا أخوه عمر ولا علي ولو كان مثل هذا عندهما لحدث به عنهما المعروفون بالحديث عنهما فإن هذا أمر عظيم قال المصنف وأما رواية أمير المؤمنين فأخبرنا أبو العباس الفرغاني أخبرنا أبو الفضل الشيباني حدثنا رجاء بن يحيى الساماني حدثنا هارون بن مسلم بن سعيد بسامرا سنة أربعين ومائتينحدثنا عبد الله بن عمرو الأشعث عن داود بن الكميت عن عمه المستهل بن زيد عن زبي زيد بن سهلب عن جويرية بنت مسهر قالت خرجت مع علي فقال يا جويرية إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجري وذكره قلت وهذا الإسناد أضعف مما تقدم وفيه من الرجال المجاهيل الذين لا يعرف أحدهم بعدالة ولا ضبط وانفرادهم بمثل هذا الذي لو كان علي قاله لرواه عنه المعرفون من أصحابه وبمثل هذا الإسناد عن هذه المرأة ولا يعرف حال هذه المرأة ولا حال هؤلاء الذين رووا عنها بل ولا تعرف أعيانهم فضلا عن صفاتهم لا يثبت فيه شيء وفيه ما يناقض الرواية التي هي أرجح منه مع أن الجميع كذب فإن المسلمين رووا من فضائل علي ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ما هو دون هذا وهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث وقد صنف جماعة من علماء الحديث في فضائل علي كما صنف الإمام أحمد فضائله وصنف أبو نعيم في فضائله وذكر فيها أحاديث

كثيرة ضعيفة ولم يذكر هذا لأن الكذب ظاهر عليه بخلاف غيره وكذلك لم يذكره الترمذي مع أنه جمع في فضائل علي أحاديث كثير منها ضعيف وكذلك النسائي وأبو عمر بن عبدالبر وجمع النسائي مصنفا في خصائص علي قال المصنف وقد حكى أبو جعفر الطحاوي عن علي بن عبد الرحمن عن أحمد بن صالح المصري أنه كان يقول لا ينبغي لمن كان سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء في رد الشمس لأنه من علامات النبوة قلت أحمد بن صالح رواه من الطريق الأول ولم يجمع طرقه وألفاظه التي تدل من وجوه كثيرة على أنه كذب وتلك الطريق راويها مجهول عنده ليس معلوم الكذب عنده فلم يظهر له كذبه والطحاوي ليست عادته نقد الحديث كنقد أهل العلم ولهذا روى في شرح معاني الآثار الأحاديث المختلفة وإنما يرجح ما يرجحه منها في الغالب من جهة القياس الذي رآه حجة ويكون أكثرها مجروحا من جهة الإسناد لا يثبت ولا يتعرض لذلك فإنه لم تكن معرفته بالإسنادكعرفة أهل العلم به وإن كان كثير الحديث فقيها عالما قال المصنف وقال عبد الله البصري عود الشمس بعد مغيبها آكد حالا فيما يقتضي نقله لأنه وإن كان فضيلة لأمير المؤمنين فإنه من أعلام النبوة وهو مفارق لغيره من فضائله في كثير من أعلام النبوة قلت وهذا من أظهر الأدلة على أنه كذب فإن أهل العلم بالحديث رووا فضائل علي التي ليست من أعلام النبوة وذكروها في الصحاح والسنن والمساند رووها عن العلماء الأعلام الثقات المعروفين فلو كان هذا مما رواه الثقات لكانوا أرغب في روايته وأحرص الناس على بيان صحته لكنهم لم يجدوا أحدا رواه بإسناد يعرف أهله بحمل العلم ولا يعرفون بالعدالة والضبط مع ما فيه من الأدلة الكثيرة على تكذيبه

قال وقال أبو العباس بن عقدة حدثنا جعفر بن محمد بن عمرو أنبأنا سليمان بن عباد سمعت بشار بن دراع قال لقى أبو حنيفة محمد بن النعمان فقال عمن رويت حديث رد الشمس فقال عن غير الذي رويت عنه يا سارية الجبل قال المصنف وكل هذه أمارات ثبوت الحديث قلت هذا يدل على أن أئمة أهل العلم لم يكونوا يصدقون بهذا الحديث فإنه لم يروه أمام من أئمة المسلمين وهذا أبو حنيفة أحد الأئمة المشاهير وهو لا يتهم على علي فإنه من أهل الكوفة دار الشيعة وقد لقي من الشيعة وسمع من فضائل علي ما شاء الله وهو يحبه ويتولاه ومع هذا أنكر هذا الحديث علي محمد بن النعمان وأبو حنيفة أعلم وأفقه من الطحاوي وأمثاله ولم يجبه ابن النعمان بجواب صحيح بل قال عن غير من رويت عنه حديث يا سارية الجبل فيقال له هب أن ذلك كذب فأي شيء في كذبه مما يدل علىصدق هذا فإن كان كذلك فأبو حنيفة لا ينكر أن يكون لعمر وعلي وغيرهما كرامات بل أنكر هذا الحديث للدلائل الكثيرة على كذبه ومخالفته للشرع والعقل وأنه لم يروه أحد من العلماء المعروفين بالحديث من التابعين وتابعيهم وهم الذين يروون عن الصحابة بل لم يروه إلا كذاب أو مجهول لا يعلم عدله وضبطه فكيف يقبل هذا من مثل هؤلاء وسائر علماء المسلمين يودون أن يكون مثل هذا صحيحا لما فيه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وفضيلة علي على الذين يحبونه ويتولونه ولكنهم لا يستجيزون التصديق بالكذب فردوه ديانة.
*

فصل
قال الرافضي العاشر ما رواه أهل السير أن الماء زاد بالكوفة وخافوا الغرق ففزعوا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فركب بغله رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج الناس معه فنزل على شاطىء الفرات فصلى ثم دعا وضرب صفحة الماء بقضيب كان في يديه فغاص الماء فسلم عليه كثير من الحيتان ولم ينطق الجري ولا المرماهى فسئل عن ذلك فقال أنطق الله ما طهره من السمك وأسكت ما أنجسه وأبعده.

*والجواب من وجوه...
أحدها: المطالبة بأن يقال أين إسناد هذه الحكاية الذي يدل على صحتها وثبوتها وإلا فمجرد الحكايات المرسلة بلا إسناد يقدر عليه كل أحد لكن لا يفيد شيئا.
الثاني: أن بغله النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن عنده.
الثالث: أن هذا لم ينقله أحد من أهل الكتب المعتمد عليهم ومثل هذه القصة لو كانت صحيحة لكانت مما تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وهذا الناقل لم يذكر لها إسنادا فكيف يقبل ذلك بمجرد حكاية لا اسناد لها.
الرابع: أن السمك كله مباح، كما ثبت عن النبي النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته. وقد قال تعالى أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة (سورة المائدة). وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على حل السمك كله وعلي مع سائر الصحابة يحلون هذه الأنواع فكيف يقولون إن الله أنجسه، ولكن الرافضة جهال يحرمون ما أحل الله بمثل هذه الحكاية المكذوبة.
الخامس: أن يقال نطق السمك ليس مقدورا له في العادة ولكن هو من خوارق العادات فالله تعالى هو الذي أنطق ما أنطق منها وأسكت ما أسكته إن كان قد وقع فأي ذنب لمن أسكته الله حتى يقال هو نجس ومن جعل للعجماء ذنبا بأن الله لم ينطقها كان ظالما لها وإن قال قائل بل الله أقدرها على ذلك فامتنعت منه فيقال إقداره لها على ذلك لو وقع إنما كان كرامة لعلي رضي الله عنه والكرامة إنما تحصل بالنطق بالسلام عليه لا بمجرد القدرة عليه مع الامتناع منه فإذا لم يسلم عليه لم يكن في إقدارها مع امتناعها كرامة له. بل فيه تحريم الطيبات على الناس فإن لحمها طيب وذلك من باب العقوبات كما قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (سورة النساء).
وقد قيل إن تحريم ذلك كان من أخلاق اليهود وما هو من إخوانهم الرافضة ببعيد.

السادس: أن يقال المقصود هنا كان حاصلا بنضوب الماء فأما تسليم السمك فلم يكن إليه حاجة ولا كان هناك سبب يقتضي خرق العادة لتقوية الإيمان فإن ذلك يكون حجة وحاجة ولم يكن هناك حجة ولا حاجة ألا ترى أن انفلاق البحر لموسى كان أعظم من نضوب الماء ولم يسلم السمك على موسى.
ولما ذهب موسى إلى الخضر وكان معه حوت مالح في مكتل فأحياه الله حتى انساب ونزل في الماء وصار البحر عليه سربا، ولم يسلم على موسى ولا على يوشع والبحر دائما يجزر ويمد ولم يعرف أن السمك سلم على أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم وعلى أجل قدرا من أن يحتاج إلى إثبات فضائله بمثل هذه الحكايات التي تعلم العقلاء أنها من المكذوبات.
*

فصل
قال الرافضي الحادي عشر روى جماعة أهل السير أن عليا كان يخطب على منبر الكوفة فظهر ثعبان فرقى المنبر وخاف الناس وأرادوا قتله فمنعهم فخاطبه ثم نزل فسأل الناس عنه فقال إنه حاكم الجن التبست عليه قصة فأوضحتها له وكان أهل الكوفة يسمون الباب الذي دخل منه الثعبان باب الثعبان فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة فنصبوا على ذلك الباب قتلى مدة حتى سمى باب القتلى.
*والجواب أنه لا ريب أن من دون علي بكثير تحتاج الجن إليه وتستفتيه وتسأله وهذا معلوم قديما وحديثا فإن كان هذا قد وقع فقدره أجل من ذلك وهذا من أدنى فضائل من هو دونه وإن لم يكن وقع لم ينقص فضله بذلك وإنما يحتاج أن يثبت فضيلة علي بمثل هذه الأمور من يكون مجدبا منها فأما من باشر أهل الخير والدين الذين لهم أعظم من هذه الخوارق أو رأى في نفسه ما هو أعظم من هذه الخوارق لم يكن هذا مما يوجب أن يفضل بها علي ونحن نعلن أن من هو دون علي بكثير من الصحابة خير منا بكثير

فكيف يمكن مع هذا أن يجعل مثل هذا حجة على فضيلة علي على الواحد منا فضلا عن أبي بكر وعمر؟.
ولكن الرافضة لجهلهم وظلمهم وبعدهم عن طريق أولياء الله سمعوا ليس لهم من كرامات الأولياء المتقين ما يعتد به فهم لإفلاسهم منها إذا سمعوا شيئا من خوارق العادات عظموه تعظيم المفلس للقليل من النقد والجائع للكسرة من الخبز. ولو ذكرنا ما باشرناه نحن من هذا الجنس مما هو أعظم من ذلك مما قد رآه الناس لذكرنا شيئا كثيرا والرافضة لفرط جهلهم وبعدهم عن ولاية الله وتقواه ليس لهم نصيب كثير من كرامات الأولياء فإذا سمعوا مثل هذا عن علي ظنوا أن هذا لا يكون إلا لأفضل الخلق بل هذه الخوارق المذكورة وما هو أعظم منها يكون لخلق كثير من أمة محمد النبي صلى الله عليه وسلم المعروفين بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا خير منهم الذين يتولون الجميع ويحبونهم ويقدمون من قدم الله ورسوله لاسيما الذين يعرفون قدر الصديق ويقدمونه، فإنهم أخص هذه الأمة بولاية الله وتقواه. واللبيب يعرف ذلك بطرق إما أن يطالع الكتب المصنفة في أخبار الصالحين وكرامات الأولياء مثل كتاب ابن أبي الدنيا وكتاب الخلال واللالكائي وغيرهم ومثل ما يوجد من ذلك في أخبار الصالحين مثل الحلية لأبي نعيم وصفوة الصفوة وغير ذلك

وأما أن يكون قد باشر من رأى ذلك، وإما أن يخبره بذلك من هو عنده صادق.
فما زال الناس في كل عصر يقع لهم من ذلك شيء كثير ويحكى ذلك بعضهم لبعض وهذا كثير في هذا كثير من المسلمين وأما أن يكون بنفسه وقع له بعض ذلك وهذه جيوش أبي بكر وعمر ورعيتها لهم من ذلك أعظم من ذلك مثل العلاء ابن الحضرمي وعبوره على الماء كما تقدم ذكره فإن هذا أعظم من نضوب الماء ومثل استقائه ومثل البقر الذي كلم سعد بن أبي وقاص في وقعة القادسية ومثل نداء عمر يا سارية الجبل وهو بالمدينة وسارية بنهاوند ومثل شرب خالد بن الوليد السم ومثل إلقاء أبي مسلم الخولاني في النار فصارت عليه النار بردا وسلاما لما ألقاه فيها الأسود العنسى المنتبىء الكذاب وكان قد استولى على اليمن فلما امتنع أبو مسلم من الإيمان به ألقاه في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما فخرج منها يمسح جبينه وغير ذلك مما يطول وصفه ومما ينبغي أن يعلم أن خوارق العادات تكون لأولياء الله بحسب حاجتهم فمن كان بين الكفار أو المنافقين أو الفاسقين احتاج إليها لتقوية اليقين فظهرت عليه كظهور النور في الظلمة فلهذا يوجد بعضها لكثير من المفضولين أكثر مما يوجد للفاضلين لحاجتهم إلى ذلك.

وهذه الخوارق لا تراد لنفسها بل لأنها وسيلة إلى طاعة الله ورسوله فمن جعلها غاية له ويعبد لأجلها لعبت به الشياطين وأظهرت له خوارق من جنس خوارق السحرة والكهان فمن كان لا يتوصل إلى ذلك إلا بها كان أحوج إليها فتكثر في حقه أعظم مما تكثر في حق من استغنى عنها ولهذا كانت في التابعين أكثر منها في الصحابة ونظير هذا في العلم علم الأسماء واللغات فإن المقصود بمعرفة النحو واللغة التوصل إلى فهم كتاب الله ورسوله وغير ذلك وأن ينحو الرجل بكلامه نحو كلام العرب والصحابة لما استغنوا عن النحو واحتاج إليه من بعدهم صار لهم من الكلام في قوانين العربية ما لا يوجد مثله للصحابة لنقصهم وكمال الصحابة وكذلك صار لهم من الكلام في أسماء الرجال وأخبارهم ما لا يوجد مثله للصحابة لأن هذه وسائل تطلب لغيرها فكذلك كثير من النظر والبحث احتاج إليه كثير من المتأخرين واستغنى عنه الصحابة وكذلك ترجمة القرآن لمن لا يفهمه بالعربية يحتاج إليه من لغته فارسية تركية ورومية والصحابة لما كانوا عربا استغنوا عن ذلك وكذلك كثير من التفسير والغريب يحتاج إليه كثير من الناس والصحابة استغنوا عنه فمن جعل النحو ومعرفة الرجال والاصطلاحات النظرية والجدلية المعينة على النظر والمناظرة مقصودة لنفسها رأى أصحابها أعلم من

الصحابة كما يظنه كثير ممن أعمى الله بصيرته ومن علم أنها مقصودة لغيرها علم أن الصحابة الذين علموا المقصود بهذه أفضل ممن لم تكن معرفتهم مثلهم في معرفة المقصود وإن كان بارعا في الوسائل وكذلك الخوارق كثير من المتأخرين صارت عنده مقصودة لنفسها فيكثر العبادة والجوع والسهر والخلوة ليحصل له نوع من المكاشفات والتأثيرات كما يسعى الرجل ليحصل له من السلطان والمال وكثير من الناس إنما يعظم الشيوخ لأجل ذلك كما تعظم الملوك والأغنياء لأجل ملكهم وملكهم وهذا الضرب قد يري أن هؤلاء أفضل من الصحابة ولهذا يكثر في هذا الضرب المنكوس الخروج عن الرسالة وعن أمر الله ورسوله ويقفون مع أذواقهم وإراداتهم لا عند طاعة الله رسوله ويبتلون بسلب الأحوال ثم الأعمال ثم أداء الفرائض ثم الإيمان كما أن من أعطى ملكا ومالا فخرج فيه عن الشريعة وطاعة الله ورسوله واتبع فيه هواه وظلم الناس عوقب على ذلك إما بالعزل وإما بالخوف والعدو وإما بالحاجة والفقر وإما بغير ذلك والمقصود لنفسه في الدنيا هو الاستقامة على ما يرضاه الله ويحبه باطنا وظاهرا فكلما كان الرجل أتبع لما يرضاه الله ورسوله وأتبع لطاعة الله ورسوله كان أفضل ومن حصل له المقصود من الإيمان واليقين والطاعة بلا خارق لم يحتج إلى خارق

كما أن صديق الأمة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير وأمثالهم من السابقين الأولين لما تبين لهم أن محمدا النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله آمنوا به ولم يحتاجوا مع ذلك من الخوارق إلى ما احتاج إليه من لم يعرف كمعرفتهم ومعرفة الحق له أسباب متعددة وقد نبهنا على ذلك في غير هذا الموضع في تقرير الرسالة وأعلام النبوة وبينا أن الطريق إلى معرفة صدق الرسول كثيرة جدا وأن طريق المعجزات طريق من الطرق وأن من قال من النظار إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بالمعجزة كان كمن قال إن معرفة الصانع لا تحصل إلا بالمعرفة بحدوث العالم وهذا وأمثاله مما يقوله كثير من النظار الذين يحصرون نوعا من العلم بدليل معين يدعون أنه لا يحصل إلا بذلك مما أوجب تفرق الناس فطائفة توافقهم على ذلك فيوجبون على كل أحد مالم يوجبه الله ورسوله لا سيما إن كان ذلك الطريق الذي استدلوا به مقدوحا في بعض مقدماته كأدلتهم على حدوث العالم بحدوث الأجسام وطائفة تقدح في الطرق النظرية جملة وتسد باب النظر والمناظرة وتدعى تحريم ذلك مطلقا واستغناء الناس عنه فتقع الفتنة بين هؤلاء وهؤلاء

وحقيقة الأمر أن طرق العلم متعددة وقد يغنى الله كثيرا من الناس عن تلك الطرق المعينة بل عن النظر بعلوم ضرورية تحصل لهم وإن كانت العبادة قد تعد النفس لتلك العلوم الضرورية حتى تحصل إلهاما وطائفة من الناس يحتاجون إلى النظر أو إلى تلك الطرق إما لعدم ما يحصل لغيرهم وإما لشبه عرضت لهم لا تزول إلا بالنظر وكذلك كثير من الأحوال التي تعرض لبعض السالكين من الصعق والغشى والاضطراب عند الذكر وسماع القرآن وغيره ومن الفناءعن شهود المخلوقات بحيث يصطلم ويبقى لا يشهد قلبه إلا الله حتى يغيب بمشهوده عن نفسه فمن الناس من يجعل هذا لازما لا بد لكل من سلك منه ومنهم من يجعله هو الغاية ولا مقام وراءه ومنهم من يقدح في هذا ويجعله من البدع التي لم تنقل عن الصحابة والتحقيق أن هذا أمر يقع لبعض السالكين بحسب قوة الوارد

عليه وضعف القلب عن التمكين بحبه فمن لم يجد ذلك قد يكون لكمال قوته وكمال إيمانه وقد يكون لضعف إيمانه مثل كثير من البطالين والفساق وأهل البدع وليس هذا من لوازم الطرق بل قد يستغنى عنه كثير من السالكين وليس هو الغاية بل كمال الشهود بحيث يميز بين المخلوق والخالق ويشهد معاني أسماء الله وصفاته ولا يشغله هذا عن هذا هو أكمل في الشهود وأقوى في الإيمان ولكن من عرض له تلك الحال التي تعرض احتاج إلى ما يناسبها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع لكن المقصود أن تعرف مرتبة الخوارق وأنها عند أولياء الله الذين يريدون وجهه ويحبون ما أحبه الله ورسوله في مرتبة الوسائل التي يستعان بها كما يستعان بغير الخوارق فإن لم يحتاجوا إليها استغناء بالمعتادات لم يتلفتوا إليها وأما عند كثير ممن يتبع هواه ويحب الرياسة عند الجهال ونحو ذلك فهي عندهم أعلى المقاصد كما أن كثيرا من طلبة العلم ليس مقصودهم به إلا تحصيل رياسة أو مال ولكل امرىء ما نوى وأما أهل العلم والدين الذين هم أهله فهو مقصود عندهم لمنفعته لهم وحاجتهم إليه في الدنيا والآخرة كما قال معاذ بن جبل في صفة العلم إن طلبة لله عبادة ومذكراته

تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة به يعرف الله ويعبدونه ويمجد الله ويوحد ولهذا تجد أهل الانتفاع به يزكون به نفوسهم ويقصدون فيه اتباع الحق لا اتباع الهوى ويسلكون فيه سبيل العدل والإنصاف ويحبونه ويلتذون به ويحبون كثرته وكثرة أهله وتنبعث هممهم على العمل به وبموجبه ومقتضاه بخلاف ما لم يذق حلاوته وليس مقصوده إلا مالا أو رياسة فإن ذلك لو حصل له بطريق آخر سلكه وربما رجحه إذا كان أسهل عليه ومن عرف هذا تبين له أن المقاصد التي يحبها الله ويرضاها التي حصلت لأبي بكر أكمل مما حصل لعمر والتي حصلت لعمر أكمل مما حصل لعثمان والتي حصلت لعثمان أكمل مما حصل لعلي وإن الصحابة كانوا أعلم الخلق بالحق وأتبعهم له وأحقهم بالعدل وإيتاء كل ذي حق حقه وأنه لم يقدح فيهم إلا مفرط في الجهل بالحقائق التي بها يستحق المدح والتفضيل وبما آتاهم الله من الهدى إلى سواء السبيل ولهذا من لم يسلك في عبادته الطريق الشرعية التي أمر الله بها

ورسوله وتعلقت همته بالخوارق فإنه قد يقترن به من الجن والشياطين من يحصل له به نوع من الخبر عن بعض الكائنات أو يطير به في الهواء أو يمشي به على الماء فيظن ذلك من كرامات الأولياء وأنه ولي لله ويكون سبب شركه أو كفره أو بدعته أو فسقه فإن هذا الجنس قد يحصل لبعض الكفار وأهل الكتاب وغيرهم وقد يحصل لبعض الملحدين المنتسبين إلى المسلمين مثل من لا يرى الصلوات واجبة بل ولا يقر بأن محمدا رسول الله بل يبغضه ويبغض القرآن ونحو ذلك من الأمور التي توجب كفره ومع هذا تغويه الشياطين ببعض الخوارق كما تغوي المشركين كما كانت تقترن بالكهان والأوثان وهي اليوم كذلك في المشركين من أهل الهند والترك والحبشة وفي كثير من المشهورين في البلاد التي فيها الإسلام ممن هو كافر أو فاسق أو جاهل مبتدع كما قد بسط في موضع آخر.
*

فصل
قال الرافضي الثاني عشر الفضائل إما نفسانية أو بدنية أو خارجية وعلى التقديرين الأولين فإما أن تكون متعلقة بالشخص نفسه أو بغيره وأمير المؤمنين علي جمع الكل. أما فضائله النفسانية المتعلقة به كعلمه وزهده وكرمه وحلمه فأشهر من أن تحصى والمتعلقة بغيره كذلك كظهور العلوم عنه واستيفاء غيره منه وكذا فضائله البدنية كالعبادة والشجاعة والصدقة وأما الخارجية كالنسب فلم يلحقه فيه أحد لقربه من النبي النبي صلى الله عليه وسلم وتزويجه إياه بابنته سيدة نساء العالمين وقد روى أخطب خوارزم من كتاب السنة بإسناده عن جابر قال لما تزوج علي فاطمة زوجها الله إياه من فوق سبع سماوات وكان الخاطب جبريل وكان ميكائيل وإسرافيل في

سبعين ألفا من الملائكة شهودا فأوحى الله إلى شجرة طوبى انثري ما فيك من الدر والجوهر ففعلت فأوحى الله إلى الحور العين أن القطن فلقطن منهن إلى يوم القيامة وأورد أخبارا كثيرة في ذلك وكان أولاده رضي الله عنه أشرف الناس بعد رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أبيهم وعن حذيفة بن اليمان قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد الحسين بن علي فقال أيها الناس هذا الحسين ألا فاعرفوه وفضلوه فوالله لجده أكرم على الله من جد يوسف بن يعقوب هذا الحسين جده في الجنة وجدته في الجنة وأمه في الجنة وأبوه في الجنة وخاله في الجنة وعمه في الجنةوعمته في الجنة وأخوه في الجنة وهو في الجنة ومحبوه في الجنة ومحبو محبيهم في الجنة وعن حذيفة قال بت عند النبي النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فرأيت عنده شخصا فقال لي هل رأيت قلت نعم قال هذا ملك لم ينزل إلى منذ بعثت أتاني من الله فبشرني أن الحسن والحسين سيد شباب أهل الجنة والأخبار في ذلك كثيرة وكان محمد بن الحنفية فاضلا عالما حتى ادعى قوم فيه الإمامة.
*والجواب أما الأمور الخارجية عن نفس الإيمان والتقوى فلا يحصل بها فضيلة عند الله تعالى، وإنما يحصل بها الفضيلة عند الله إذا كانت معينة على ذلك، فإنها من باب الوسائل لا المقاصد كالمال والسلطان والقوة والصحة ونحو ذلك، فإن هذه الأمور لا يفضل بها الرجل عند الله إلا إذا أعانته على طاعة الله بحسب ما يعينه، قال الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم

شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم (سورة الحجرات). وفي الصحيحين عن النبيي النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الناس أكرم فقال أتقاهم لله قيل ليس عن هذا نسألك قال يوسف نبي الله بن يعقوب نبي الله بن إسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله قيل ليس عن هذا نسألك قال أفعن معادن العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا بين لهم أولا أن اكرم الخلق عند الله أتقاهم وإن لم يكن ابن نبي ولا أبا نبي فإبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم أكرم على الله من يوسف وإن كان أبوه آزر وهذا أبوه يعقوب وكذلك نوح أكرم على الله من إسرائيل وإن كان هذا اولاده أنبياء وهذا أولاده ليسوا بأنبياء فلما ذكروا أنه ليس مقصودهم إلا الأنساب قال لهم فأكرم أهل الأنساب من انتسب إلى الأنبياء وليس في ولد آدم مثل يوسف فإنه نبي ابن نبي ابن نبي فلما أشاروا إلى أنه ليس مقصودهم إلا ما يتعلق بهم قال أفعن معادن العرب تسألوني الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا بين أن الأنساب كالمعادن فإن الرجل يتولد منه كما يتولد من المعدن الذهب والفضة

ولا ريب أن الأرض التي تنبت الذهب أفضل من الأرض التي تنبت الفضة فهكذا من عرف أنه يلد الأفاضل كان أولاده أفضل ممن عرف أنه يلد المفضول لكن هذا سبب ومظنه وليس هو لازما فربما تعطلت أرض الذهب وربما قل نبتها فحينئذ تكون أرض الفضة أحب إلى الإنسان من أرض معطلة والفضة الكثيرة أحب إليهم من ذهب قليل لا يماثلها في القدر فلهذا كان أهل الأنساب الفاضلة يظن بهم الخير ويكرمون لأجل ذلك فإذا تحقق من أحدهم خلاف ذلك كانت الحقيقة مقدمة على المظنة وأما ما عند الله فلا يثبت على المظان ولا على الدلائل إنما يثبت على ما يعلمه هو من الأعمال الصالحة فلا يحتاج إلى دليل ولا يجتزىء بالمظنة فلهذا كان أكرم الخلق عنده أتقاهم فإذا قدر تماثل اثنين عنده في التقوى تماثلا في الدرجة وإن كان أبو أحدهما أو ابنه أفضل من أبي الآخر أو ابنه لكن إن حصل له بسبب نسبه زيادة في التقوى كان أفضل لزيادة تقواه ولهذا حصل الأزواج النبي النبي صلى الله عليه وسلم إذا قنتن لله ورسوله وعملن صالحا لا لمجرد المصاهرة بل لكمال الطاعة كما أنهن لو أتين بفاحشة مبينة لضوعف لهن العذاب ضعفين لقبح المعصيةفإن ذا الشرف إذا ألزم نفسه التقوى كما تقواه أكمل من تقوى غيره كما أن الملك إذا عدل كان عدله أعظم من عدل الرجل في أهله ثم إن الرجل إذا قصد الخير قصدا جازما وعمل منه ما يقدر عليه كان له أجر كامل كما قال النبي النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا وهم في المدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر ولهذا قال النبي النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من أتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا وهذا مبسوط في موضع آخر

ولهذا لم يثن الله على أحد في القرآن بنسبه أصلا لا على ولد نبي ولا على أبي نبي وإنما أثنى على الناس بإيمانهم وأعمالهم وإذا ذكر صنفا وأثنى عليهم فلما فيهم من الإيمان والعمل لا لمجرد النسب ولما ذكر الأنبياء ذكرهم في الأنعام وهم ثمانية عشر قال ومن آبائهم وذرياتهم وإخواتهم وأجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (سورة الأنعام). فبهذا حصلت الفضيلة باجتبائه سبحانه وتعالى وهدايته إياهم إلى صراط مستقيم لا بنفس القرابة وقد يوجب النسب حقوقا ويوجب لأجله حقوقا ويعلق فيه أحكاما من الإيجاب والتحريم والإباحة لكن الثواب والعقاب والوعد والوعيد على الأعمال لا على الأنساب ولما قال تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين (سورة آل عمران). وقال أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (سورة النساء). كان هذا مدحا لهذا المعدن الشريف لما فيهم من الإيمان والعمل الصالح ومن لم يتصف بذلك منهم لم يدخل في المدح كما في قوله تعالى ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون (سورة الحديد). وقال تعالى وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (سورة الصافات).

وفي القرآن الثناء والمدح للصحابة بإيمانهم وأعمالهم في غير آية كقوله والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه (سورة التوبة). وقوله لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى (سورة الحديد). وقوله لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (سورة الفتح). وقوله هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم (سورة الفتح). وقوله للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويوثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة (سورة الحشر). وقوله محمد رسول الله والذين معه (سورة الفتح). الآية وهكذا في القرآن الثناء على المؤمنين من الأمة أولها وآخرها على المتقين والمحسنين والمقسطين والصالحين وأمثال هذه الأنواع وأما النسب ففي القرآن إثبات حق لذوي القربى كما ذكروا هم في

آية الخمس والفيء وفي القرآن أمر لهم بما يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا وفي القرآن الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد فسر ذلك بأن يصلى عليه وعلى آله وفي القرآن الأمر بمحبة الله ومحبه رسوله ومحبة أهله من تمام محبته وفي القرآن أن أزواجه أمهات المؤمنين وليس في القرآن مدح أحد لمجرد كونه من ذوي القربى وأهل البيت ولا الثناء عليهم بذلك ولا ذكر استحقاقه الفضيلة عند الله بذلك ولا تفضيله على من يساويه في التقوى بذلك وإن كان قد ذكر ما ذكره من اصطفاء آل إبراهيم واصطفاء بني إسرائيل فذاك أمر ماض فأخبرنا بي في جعله عبرة لنا فبين مع ذلك أن الجزاء والمدح بالأعمال ولهذا ذكر ما ذكره من اصطفاء بني إسرائيل وذكر ما ذكره من كفر من كفر منهم وذنوبهم وعقوبتهم فذكر فيهم النوعين الثواب والعقاب وهذا من تمام تحقيق أن النسب الشريف قد يقترن به المدح تارة إن كان صاحبه من أهل الإيمان والتقوى وإلا فإن ذم صاحبه أكثر كما كان الذم لمن ذم من بني إسرائيل وذرية إبراهيم وكذلك المصاهرة قال تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهم من الله شيئا

وقيل أدخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين (سورة التحريم). وإذا تبين هذا فيقال إذا كان الرجل أعجميا والآخر من العرب فنحن وإن كنا نقول مجملا إن العرب أفضل جملة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وغيره لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب وقال إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء الناس رجلان مؤمن تقى وفاجر شقى ولذلك إذا كان الرجل من أفناء العرب والعجم وآخر من قريش فهما عند الله بحسب تقواهما إن تماثلا فيها تماثلا في الدرجة عند الله وإن تفاضلا فيها تفاضلا في الدرجة وكذلك إذا كان رجل من بني هاشم ورجل من الناس أو العرب أو العجم فاضلهما عند الله أتقاهما فإن تماثلا في التقوى تماثلا في الدرجة ولا يفضل أحدهما عند الله لا بأبيه ولا ابنه ولا بزوجته ولا بعمه ولا بأخيهكما أن الرجلين إن كانا عالمين بالطب أو الحساب أو الفقه أو النحو أو غير ذلك فأكملهما بالعلم بذلك أعلمهما به فإن تساويا في ذلك تساويا في العلم ولا يكون أحدهما أعلم بكون أبيه أو ابنه أعلم من الآخر وهكذا في الشجاعة والكرم والزهد والدين إذا تبين ذلك فالفضائل الخارجية لا عبرة بها عند الله تعالى إلا أن تكون سببا في زيارة الفضائل الداخلية وحينئذ فتكون الفضيلة بالفضائل الداخلية وأما الفضائل البدنية فلا اعتبار بها إن لم تكن صادرة عن الفضيلة النفسانية وإلا فمن صلى وصام وقاتل وتصدق بغير نية خالصة لم يفضل بذلك فالاعتبار بالقلب كما في الصحيحين عن النبيصلى الله عليه وسلم أنه قال ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب

وحينئذ فمن كام أكمل في الفضائل النفسانية فهو أفضل مطلقا وأهل السنة لا ينازعون في كمال علي وأنه في الدرجة العليا من الكمال وإنما النزاع في كونه أكمل من الثلاثة وأحق بالإمامة منهم وليس فيما ذكره ما يدل على ذلك وهذا الباب للناس فيه طريقان منهم من يقول إن تفضيل بعض الأشخاص على بعض عند الله لا يعلم إلا بالتوقيف فإن حقائق ما في القلوب ومراتبها عند الله مما استأثر الله به فلا يعلم ذلك إلا بالخبر الصادق الذي يخبر عن الله ومنهم من يقول قد يعلم ذلك بالاستدلال وأهل السنة يقولون إن كلا من الطريقين إذا أعطى حقه من السوك دل على أن كلا من الثلاثة أكمل من علي ويقولون نحن نقرر ذلك في عثمان فإذا ثبت ذلك في عثمان كان في أبي بكر وعمر بطريق الأولى فإن تفضيل أبي بكر وعمر على عثمان لم ينازع فيه أحد بل وتفضيلهما على عثمان وعلي لم يتنازع فيه من له عند الأمة قدر لا من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة السنة بل إجماع المسلمين على

ذلك قرنا بعد قرن أعظم من إجماعهم على إثبات شفاعة نبينا في أهل الكبائر وخروجهم من النار وعلى إثبات الحوض والميزان وعلى قتال الخوارج ومانعي الزكاة وعلى صحة إجارة العقار وتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها بل إيمان أبي بكر وعمر وعدالتهما مما وافقت عليه الخوارج مع تعنتهم وهم ينازعون أيمان علي وعثمان واتفقت الخوارج على تكفير علي وقدحهم فيه أكثر من قدحهم في عثمان والزيدية بالعكس والمعتزلة كان قدماؤهم يميلون إلى الخوارج ومتأخروهم يميلون إلى الزيدية كما أن الرافضة قدماؤهم يصرحون بالتجسيم ومتأخروهم على قول الجهمية والمعتزلة وكانت الشيعة الأولى لا يشكون في تقديم أبي بكر وعمر وأما عثمان فكثير من الناس يفضل عليه عليا وهذا قول كثير من الكوفيين وغيرهم وهو القول الأول للثورى ثم رجع عنه وطائفة أخرى لا تفضل أحدهما على صاحبه وهو الذي حكاه ابن القاسم عن مالك عمن أدركه من المدنيين لكن قال ما أدركت أحدا ممن يقتدي به يفضل أحدهما على صاحبه وهذا يحتمل السكوت عن الكلام في ذلك فلا يكون قولا وهو الأظهر ويحتمل التسوية بينهما وذكر ابن القاسم عنه أنه لم يدرك

أحدا ممن يقتدي به يشك في تقديم أبي بكر وعمر على عثمان وعلي وأما جمهور الناس ففضلوا عثمان وعليه استقر أمر أهل السنة وهو مذهب أهل الحديث ومشايخ الزهد والتصوف وأئمة الفقهاء كالشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وإحدى الروايتين عن مالك وعليها أصحابة قال مالك لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها وقال الشافعي وغيره إنه بهذا قصد والى المدينة الهاشمي ضرب مالك وجعل طلاق المكره سببا ظاهرا وهو أيضا مذهب جماهير أهل الكلام الكرامية والكلابية والأشعرية والمعتزلة وقال أيوب السختياني من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وهكذا قال أحمد والدارقطني وغيرهما أنهم اتفقوا على تقديم عثمان ولهذا تنازعوا فيمن لم يقدم عثمان هل يعد مبتدعا على قولين هما روايتان عن أحمد فإذا قام الدليل على تقديم عثمان كان ما سواه أوكد وأما الطريق التوفيقي فالنص والاجماع أما النص ففي الصحيحين عن ابن عمر قال كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان

وأما الإجماع فالنقل الصحيح قد أثبت أن عمر قد جعل الأمر شورى في ستة وأن ثلاثة تركوه لثلاثه عثمان وعلي وعبد الرحمن وأن الثلاثة اتفقوا على أن عبد الرحمن يختار واحدا منهما وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام حلف أنه لم ينم فيها كبير نوم يشاور المسلمين وقد اجتمع بالمدينة أهل الحل والعقد حتى أمراء الأنصار الأنصار وبعد ذلك اتفقوا على مبايعة عثمان بغير رغبة ولا رهبة فيلزم أن يكون عثمان هو الأحق ومن كان هو الأحق كان هو الأفضل فإن أفضل الخلق من كان أحق أن يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وإنما قلنا يلزم أن يكون هو الأحق لأنه لو لم يكن ذلك للزم إما جهلهم وإما ظلمهم فإنه إذا لم يكن أحق وكان غيره أحق فإن لم يعلموا ذلك كانوا جهالا وإن علموه وعدلوا عن الأحق إلى غيره كانوا ظلمة فتبين أن عثمان إن لم يكن أحق لزم إما جهلهم وإما ظلمهم وكلاهما منتف لأنهم أعلم بعثمان وعلي منا وأعلم بما قاله الرسول فيهما منا وأعلم بما دل عليه القرآن في ذلك منا ولأنهم خير القرون فيمتنع أن نكون نحن أعلم منهم بمثل هذه المسائل مع أنهم أحوج إلى علمها منا فإنهم لو جهلوا مسائل أصول دينهم وعلمناها نحن لكنا أفضل منهم وذلك ممتنع

وكونهم علموا الحق وعدلوا عنه أعظم وأعظم فإن ذلك قدح في عدالتهم وذلك يمنع أن يكونوا خير القرون بالضرورة ولأن القرآن آثنى عليهم ثناء يقتضي غاية المدح فيمتنع إجماعهم وإصرارهم على الظلم الذي هو ضرر في حق الأمة كلها فإن هذا ليس ظلما للممنوع من الولاية فقط بل هو ظلم لكل من منع نفعه من ولاية الأحق بالولاية فإنه إذا كان راعيان أحدهما هو الذي يصلح للرعاية ويكون أحق بها كان منعه من رعايتها يعود بنقص الغنم حقها من نفعه ولأن القرآن والسنة دلا على أن هذه الأمة خير الأمم وأن خيرها أولها فإن كانوا مصرين على ذلك لزم أن تكون هذه الأمة شر الأمم وأن لا يكون أولها خيرها ولأنا نحن نعلم أن المتأخرين ليسوا مثل الصحابة فإن كان أولئك ظالمين مصرين على الظلم فالأمة كلها ظالمة فليست خير الأمم وقد قيل لابن مسعود لما ذهب إلى الكوفة من وليتم قال ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل وذو الفوق هو السهم يعني أعلانا سهما في الإسلام فإن قيل قد يكون أحق بالإمامة وعلي أفضل منه

قيل أولا هذا السؤال لا يمكن أن يورده أحد من الإمامية لأن الأفضل عندهم أحق بالإمامة وهذا قول الجمهور من أهل السنة وهنا مقامان إما أن يقال الأفضل أحق بالإمامة لكن يجوز توليه المفضول إما مطلقا وإما للحاجة وإما أن يقال ليس كل من كان أفضل عند الله يكون أحق بالإمامة وكلاهما منتف ههنا أما الأول فلأن الحاجة إلى تولية المفضول في الاستحقاق كانت منتفية فإن القوم كانوا قادرين على تولية علي وليس هناك من ينازع أصلا ولا يحتاجون إلى رغبة ولا رهبة ولم يكن هناك لعثمان شوكة تخاف بل التمكن من تولية هذا كان كالتمكن من تولية هذا فامتنع أن يقال ما كان يمكن إلا تولية المفضول وإذا كانوا قادرين وهم يتصرفون للأمة لا لأنفسهم لم يجز لهم تفويت مصلحة الأمة من ولاية الفاضل فإن الوكيل والولي المتصرف لغيره ليس له أن يعدل عما هو أصلح لمن ائتمنه مع كونه قادرا على تحصيل المصلحة فكيف إذا كانت قدرته على الأمرين سواء وأما الثاني فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وكل من كان به أشبه فهو أفضل ممن لم يكن كذلك والخلافة كانت خلافة نبوة لم تكن ملكا فمن خلف النبي وقام مقامه كان أشبه به ومن كان أشبه به كان أفضل فالذي يخلفه أشبه به من غيره والأشبة به أفضل فالذي يخلفه أفضل

وأما الطريق النظرية فقذ ذكر من ذكره من العلماء فقالوا عثمان كان أعلم بالقرآن وعلي أعلم بالسنة وعثمان أعظم جهادا بماله وعلي أعظم جهادا بنفسه وعثمان أزهد في الرياسة وعلي أزهد في المال وعثمان أورع عن الدماء وعلي أورع عن الأموال وعثمان حصل له من جهاد نفسه حيث صبر عن القتال ولم يقاتل مالم يحصل مثله لعلي وقال النبي صلى الله عليه وسلم المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله وسيرة عثمان في الولاية كانت أكمل من سيرة علي فقالوا فثبت أن عثمان أفضل لأن علم القرآن أعظم من علم السنة وفي صحيح مسلم وغيره أنه قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة وعثمان جمع القرآن كله بلا ريب وكان أحيانا يقرؤه في ركعة وعلي قد اختلف فيه هل حفظ القرآن كله أم لا

والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس كما في قوله تعالى وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله (سورة التوبة). الآية وقوله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم (سورة التوبة). الآية وقوله إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض (سورة الأنفال). وذلك لأن الناس يقاتلون دون أموالهم فإن المجاهد بالمال قد أخرج ماله حقيقة لله والمجاهد بنفسه لله يرجو النجاة لا يوافق أنه يقتل في الجهاد ولهذا أكثر القادرين على القتال يهون على أحدهم أن يقاتل ولا يهون عليه إخراج ماله ومعلوم أنهم كلهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم لكن منهم من كان جهاده بالمال أعظم ومنهم من كان جهاده بالنفس أعظم وأيضا فعثمان له من الجهاد بنفسه بالتدبير في الفتوح ما لم يحصل مثله لعلي وله من الهجرة إلى أرض الحبشة مالم يحصل مثله لعلي وله من الذهاب إلى مكة يوم صلح الحديبيية مالم يحصل مثله لعلي وإنما بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان لما بلغه أن المشركين قتلوا عثمان وبايع بإحدى يديه عن عثمان وهذا من أعظم الفضل حيث بايع عنه النبي صلى الله عليه وسلم

وأما الزهد والورع في الرياسة والمال فلا ريب أن عثمان تولى ثنتى عشر سنة ثم قصد الخارجون عليه قتله وحصروه وهو خليفة الأرض والمسلمون كلهم رعيته وهو مع هذا لم يقتل مسلما ولا دفع عن نفسه بقتال بل صبر حتى قتل لكنه في الأموال كان يعطي لأقاربه من العطاء مالا يعطيه لغيرهم وحصل منه نوع توسع في الأموال وهو رضى الله عنه ما فعله إلا متأولا فيه له اجتهاد وافقه عليه جماعة من الفقهاء منهم من يقول إن ما أعطاه الله للنبي من الخمس والفيء هو لمن يتولى الأمر بعده كما هو قول أبي ثور وغيره ومنهم من يقول ذوو القربى المذكورون في القرآن هم ذوو قربى الإمام ومنهم من يقول الإمام العامل على الصدقات يأخذ منها مع الغنى وهذه كانت مآخذ عثمان رضي الله عنه كما هو منقول عنه فما فعله هو نوع تأويل يراه طائفة من العلماء وعلي رضي الله عنه لم يخص أحدا من أقاربه بعطاء لكن ابتدأ بالقتال لمن لم يكن مبتدئا بالقتال حتى قتل بينهم ألوف مؤلفة من المسلمين وإن كان ما فعله هو متأول فيه تأويلا وافقه عليه طائفة من العلماء وقالوا إن هؤلاء بغاة والله تعالى أمر بقتال البغاة بقوله فقاتلوا التي تبغي (سورة الحجرات).

لكن نازعة أكثر العلماء كما نازع عثمان أكثرهم وقالوا إن الله تعالى قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل الآية (سورة الحجرات). قالوا فلم يأمر الله بقتال البغاة ابتداء بل إذا وقع قتال بين طائفتين من المؤمنين فقدأمر الله بالإصلاح بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت ولم يقع الأمر كذلك ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها ترك الناس العمل بهذه الآية رواه مالك بإسناده المعروف عنها ومذهب أكثر العلماء أن قتال البغاة لا يجوز إلا أن يبتدؤوا الإمام بالقتال كما فعلت الخوارج مع علي فإن قتاله الخوارج متفق عليه بين العلماء ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف قتال صفين فإن أولئك لم يبتدؤوا بقتال بل امتنعوا عن مبايعته

ولهذا كان أئمة السنة كمالك وأحمد وغيرهما يقولون إن قتاله للخوارج مأمور به وأما قتال الجمل وصفين فهو قتال فتنة فلو قام قوم نحن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ولا ندفع زكاتنا إلى الإمام ونقوم بواجبات الإسلام لم يجز للإمام قتلهم عند أكثر العلماء كأبي حنيفة وأحمد وأبو بكر الصديق رضي الله عنه إنما قاتل مانعي الزكاة لأنهم امتنعوا عن أدائها مطلقا وإلا فلو قالوا نحن نؤديها بأيدينا ولا ندفعها إلى أبي بكر لم يجز قتالهم عند الأكثرين كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما ولهذا كان علماء الأمصار على أن القتال كان قتال فتنة وكان من قعد عنه أفضل ممن قاتل فيه وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة والأوزاعي بل والثوري ومن لا يحصى عدده مع أن ابا حنيفة ونحوه من فقهاء الكوفيين فيما نقله القدوري وغيره عندهم لا يجوز قتال البغاة إلا إذا ابتدؤوا الإمام بالقتال وأما إذا أدوا الواجب من الزكاة وامتنعوا عن دفعها إليه لم يجز قتالهم وكذلك مذهب أحمد وغيره وهكذا جمهور الفقهاء على أن ذوي القربى هم قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ليس للإمام ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود أن كليهما رضي الله عنه وإن كان ما فعله فيه هو متأول

مجتهد يوافقه عليه طائفة من العلماء المجتهدين الذين يقولون بموجب العلم والدليل ليس لهما عمل يتهمون فيه لكن اجتهاد عثمان كان أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة فإن الدماء خطرها أعظم من الأموال ولهذا كانت خلافة عثمان هادية مهدية ساكنة والأمة فيها متفقة وكانت ست سنين لا ينكر الناس عليه شيئا ثم أنكروا أشياء في الست الباقية وهي دون ما أنكروه على علي من حين تولى والذين خرجوا على عثمان طائفة من أوباش الناس وأما علي فكثير من السابقين الأولين لم يتبعوه ولم يبايعوه وكثير من الصحابة والتابعين قاتلوه وعثمان في خلافته فتحت الأمصار وقوتلت الكفار وعلي في خلافته لم يقتل كافر ولم تفتح مدينة فإن كان ما صدر عن الرأي فرأى عثمان أكمل وإن كان عن القصد فقصده أتم قالوا وإن كان علي تزوج بفاطمة رضي الله عنهما فعثمان قد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنتين من بناته وقال لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان وسمى ذو النورين بذلك إذ لم يعرف أحد جمع بين بنتي نبي غيره

وقد صاهر النبي صلى الله عليه وسلم من بني أمية من هو دون عثمان أبو العاص بن الربيع فزوجه زينب أكبر بناته وشكر مصاهرته محتجا به على علي لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل فإنه قال إن بني المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا فتاتهم علي بن أبي طالب وإني لا آذان ثم لا آذان إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل أبدا إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وهكذا مصاهرة عثمان له لم يزل فيها حميدا لم يقع منه ما يعتب عليه فيها حتى قال لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان وهذا يدل على أن مصاهرته للنبي صلى الله عليه وسلم أكمل من مصاهرة علي له وفاطمة كانت أصغر بناته وعاشت بعده وأصيبت به فصار لها من الفضل ما ليس لغيرها ومعلوم أن كبيرة البنات في العادة تزوج قبل الصغيرة فأبو العاص تزوج أولا زينب بمكة ثم عثمان تزوج برقية وأم كلثوم واحدة بعد واحدة

قالوا وشيعة عثمان المختصون به كانوا أفضل من شيعة علي المختصين به وأكثر خيرا وأقل شرا فإن شيعة عثمان أكثر ما نقم عليهم من البدع أنحرافهم عن علي وسبهم له على المنابر لما جرى بينهم وبينه من القتال ما جرى لكن مع ذلك لم يكفروه ولا كفروا من يحبه وأما شيعة علي ففيهم من يكفر الصحابة والأمة ويلعن أكابر الصحابة ما هو أعظم من ذاك بأضعاف مضاعفة وشيعة عثمان تقاتل الكفار والرافضة لا تقاتل الكفار وشيعة عثمان لم يكن فيها زنديق ولا مرتد وقد دخل في شيعة علي من الزنادقة والمرتدين مالا يحصى عدده إلا الله تعالى وشيعة عثمان لم توال الكفار والرافضة يوالون اليهود والنصارى والمشركين على قتال المسلمين كما عرف منهم وقائع وشيعة عثمان ليس فيهم من يدعي فيه الإلهية ولا النبوة وكثير من الداخلين في شيعة علي من يدعي نبوته أو إلهيتة وشيعة عثمان ليس فيهم من قال إن عثمان إمام معصوم ولا منصوص عليه والرافضة تزعم أن عليا منصوص عليه معصوم

وشيعة عثمان متفقة على تقديم أبي بكر وتفضيلهما على عثمان وشيعة علي المتأخرون أكثرهم يذمونهما ويسبونهما وإما الرافضة فمتفقة على بغضها وذمهما وكثير منهم يكفرونهما وأما الزيدية فكثير منهم أيضا يذمهما ويسبهما بل ويلعنهما وخيار الزيدية الذين يفضلونه عليهما ويذمون عثمان أو يقعون به وقد كان أيضا في شيعة عثمان من يؤخر الصلاة عن وقتها يؤخر الظهر أو العصر ولهذا لما تولى بنو العباس كانوا أحسن مراعاة للوقت من بني أمية لكن شيعة علي المختصون به الذين لا يقرون بإمامة أحد من الأئمة الثلاثة وغيرهم أعظم تعطيلا للصلاة بل ولغيرها من الشرائع وأنهم لا يصلون جمعة ولا جماعة فيعطلون المساجد ولهم في تقديم العصر والعشاء وتأخير المغرب ما هم أشد انحرافا فيه من أولئك وهم مع هذا يعظمون المشاهد مع تعطيل المساجد مضاهاة للمشركين وأهل الكتاب الذين كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا فأين هذا من هذا فالشر والفساد الذي في شيعة علي أضعاف أضعاف الشر والفساد الذي في شيعة عثمان والخير والصلاح الذي في شيعة عثمان اضعاف أضعاف الخير الذي في شيعة علي وبنو أمية كانوا شيعة

عثمان فكان الإسلام وشرائعه في زمنهم أظهر وأوسع مما كان بعدهم وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثنى عشر خليفة كلهم من قريش ولفظ البخاري اثنى عشر أميرا وفي لفظ لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم أثنا عشر رجلا وفي لفظ لا يزال الإسلام عزيزا إلى أثنى عشر خليفة كلهم من قريش وهكذا كان فكان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عز ومنعة معاوية وابنه يزيد ثم عبد الملك وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام من النقص ما هو باق إلى الآن فإن بني أمية تولوا على جميع أرض الإسلام وكانت الدولة في زمنهم عزيزة والخليفة يدعى باسمه عبد الملك وسليمان لا يعرفون عضد الدولة ولا عز الدين وبهاء الدين وفلان الدين وكان أحدهم هو الذي يصلي بالناس الصلوات الخمس وفي المسجد يعقد الرايات ويؤمر الأمراء وإنما يسكن داره لا يسكنون الحصون ولا يحتجبون عن الرعية

وكان من أسباب ذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام في القرون المفضلة قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم وأعظم ما نقمه الناس على بني أمية شيئان أحدهما تكلمهم في علي والثاني تأخير الصلاة عن وقتها ولهذا روى عمر بن مرة الجملي بعد موته فقيل له ما فعل الله بك قال غفر لي بمحافظتي على الصلوات في مواقيتها وحبي علي بن أبي طالب فهذا حافظ على هاتين السنتين حين ظهر خلافهما فغفر الله له بذلك وهكذا شأن من تمسك بالسنة إذا ظهرت بدعة مثل من تمسك بحب الخلفاء الثلاثة حيث يظهر خلاف ذلك وما أشبهه ثم كان من نعم الله سبحانه ورحمته بالإسلام أن الدولة لما انتقلت إلى بني هاشم صارت في بني العباس فإن الدولة الهاشمية أول ما ظهرت كانت الدعوة إلى الرضا من آل محمد وكانت شيعة الدولة محبين لبني هاشم وكان الذي تولى الخلافة من بني هاشم يعرف قدر الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فلم يظهر في دولتهم إلا تعظيم الخلفاء الراشدين وذكرهم على المنابر والثناء عليهم وتعظيم الصحابة وإلا فلو تولى والعياذ بالله رافضي يسب الخلفاء والسابقين الأولين لقلب الإسلام

ولكن دخل في غمار الدولة من كانوا لا يرضون باطنه ومن كان لا يمكنهم دفعه كما لم يمكن عليا قمع الأمراء الذين هم أكابر عسكره كالأشعث بن قيس والأشتر النخعي وهاشم المرقال وأمثالهم ودخل من أبناء المجوس ومن في قلبه غل على الإسلام من أهل البدع والزنادقة وتتبعهم المهدي بقتلهم حتى اندفع بذلك شر كبير وكان من خيار خلفاء بني العباس وكذلك الرشيد كان فيه من تعظيم العلم والجهاد والدين ما كانت به دولته من خيار دول بني العباس وكأنما كانت تمام سعادتهم فلم ينتظم بعدها الأمر لهم مع أن أحدا من العباسيين لم يستولوا على الأندلس ولا على أكثر المغرب وإنما غلب بعضهم على إفريقية مدة ثم أخذت منهم بخلاف أولئك فإنهم استولوا على جميع المملكة الإسلامية وقهروا جميع أعداء الدين وكانت جيوشهم جيشا بالأندلس يفتحه وجيشا ببلاد الترك يقاتل القان الكبير وجيشا ببلاد العبيد وجيشا بأرض الروم وكان الإسلام في زيادة وقوة عزيزا في جميع الأرض وهذا تصديق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لا

يزال هذا الدين عزيزا ما تولى اثنا عشر خليفة كلهم من قريش وهؤلاء الاثنا عشر خليفة هم المذكورون في التوراة حيث قال في بشارته بإسماعيل وسيلد اثنى عشر عظيما.
ومن ظن أن هؤلاء الاثنى عشر هم الذين تعتقد الرافضة إمامتهم فهو في غاية الجهل، فإن هؤلاء ليس فيهم من كان له سيف إلا علي بن أبي طالب ومع هذا فلم يتمكن في خلافته من غزو الكفار ولا فتح مدينة ولا قتل كافرا بل كان المسلمون قد اشتغل بعضهم بقتال بعض حتى طمع فيهم الكفار بالشرق والشام من المشركين وأهل الكتاب حتى يقال إنهم أخذوا بعض بلادالمسلمين وإن بعض الكفار كان يحمل إليه كلام حتى يكف عن المسلمين. فأي عز للإسلام في هذا والسيف يعمل في المسلمين وعدوهم قد طمع فيهم ونال منهم.
وأما سائر الأئمة غير علي فلم يكن لأحد منهم سيف لا سيما المنتظر بل هو عند من يقول بإمامته إما خائف عاجز وإما هارب مختف من أكثر من أربعمائة سنة. وهو لم يهد ضالا ولا أمر بمعروف ولا نهى عن منكر ولا نصر مظلوما ولا أفتى أحدا في مسألة ولا حكم

في قضية ولا يعرف له وجود. فأي فائدة حصلت من هذا؟ لو كان موجودا فضلا عن أن يكون الإسلام به عزيزا.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام لا يزال عزيزا ولا يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى يتولى اثنا عشر خليفة فلو كان المراد بهم هؤلاء الاثنا عشر وآخرهم المنتظر، وهو موجود الآن إلى أن يظهر عندهم كان الإسلام لم يزل عزيزا في الدولتين الأموية والعباسية وكان عزيزا وقد خرج الكفار بالمشرق والمغرب وفعلوا بالمسلمين ما يطول وصفه، وكان الإسلام لا يزال عزيزا إلى اليوم، وهذا خلاف ما دل عليه الحديث.
وأيضا فالإسلام عند الإمامية هو ما هم عليه وهم اذل فرق الأمة فليس في أهل الأهواء أذل من الرافضة ولا أكتم لقوله منهم ولا أكثر استعمالا للتقية منهم وهم على زعمهم شيعة الاثنى عشر وهم في غاية الذل فأي عز للإسلام بهؤلاء الاثنى عشر على زعمهم وكثير من اليهود إذا أسلم يتشيع لأنه رأى في التوراة ذكر الاثنى عشر فظن أن هؤلاء هم أولئك وليس الأمر كذلك بل الاثنا عشر هم الذين ولوا على الأمة من قريش ولاية عامة فكان الإسلام في زمنهم عزيزا وهذا معروف.

وقد تأول ابن هيبرة الحديث على أن المراد أن قوانين المملكة باثنى عشر مثل الوزير والقاضي ونحو ذلك وهذا ليس بشيء. بل الحديث على ظاهره لا يحتاج إلى تكلف.
وآخرون قالوا فيه مقالة ضعيفة كأبي الفرج بن الجوزي وغيره ومنهم من قال لا افهم معناه كأبي بكر بن العربي وأما مروان وابن الزبير فلم يكن لواحد منهما ولاية عامة بل كان زمنه زمن فتنة لم يحصل فيها من عز الإسلام وجهاد أعدائه ما يتناوله الحديث ولهذا جعل طائفة من الناس خلافة على من هذا الباب وقالوا لم تثبت بنص ولا إجماع وقد أنكر الإمام أحمد وغيره على هؤلاء وقالوا من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله واستدل على ثبوت خلافته بحديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تكون ملكا فقيل للرواي إن بني أمية يقولون إن عليا لم يكن خليفة فقال كذبت أستاه بني الزرقاء والكلام على هذه المسألة لبسطه موضع آخروالمقصود هنا أن الحديث الذي فيه ذكرالاثنى عشر خليفة سواء قدر أن عليا دخل فيه أو قدر انه لم يدخل فالمراد بهم من تقدم من الخلفاء من قريش وعلي أحق الناس بالخلافة في زمنه بلا ريب عند أحد من العلماء.
*

فصل
إذ تبين هذا فما ذكره من فضائله التي هي عند الله فضائل فهي حق، لكن للثلاثة ما هو أكمل منها. وأما ما ذكره من الفضيلة بالقرابة... فعنه أجوبة...
أحدها: أن هذا ليس هو عند الله فضيلة فلا عبرة به فإن العباس أقرب منه نسبا وحمزة من السابقين الأولين من المهاجرين وقد روى أنه سيد الشهداء وهو أقرب نسبا منه وللنبي صلى الله عليه وسلم من بني العم عدد كثير كجعفر وعقيل وعبد الله وعبيد الله والفضل وغيرهم من بني العباس وكربيعة وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب

وليس هؤلاء أفضل من أهل بدر ولا من أهل بيعة الرضوان ولا من السابقين الأولين إلا من تقدم بسابقته كحمزة وجعفر فإن هذين رضي الله عنهما من السابقين الأولين وكذلك عبيدة بن الحارث الذي استشهد يوم بدر وحينئذ فما ذكره من فضائل فاطمة والحسن والحسين لا حجة فيه مع أن هؤلاء لهم من الفضائل الصحيحة ما لم يذكره هذا المصنف ولكن ذكر ما هو ذكب كالحديث الذي رواه أخطب خوارزم أنه لما تزوج علي بفاطمة زوجه الله إياها من فوق سبع سموات وكان الخاطب جريل وكان إسرافيل وميكائيل في سبعين ألف من الملائكة شهودا وهذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وكذلك الحديث الذي ذكره عن حذيفة.
الثاني: أن يقال إن كان إيمان الأقارب فضيلة فأبو بكر متقدم في هذا الفضيلة فإن أباه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم باتفاق الناس وأبو طالب لم يؤمن وكذلك أمة آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأولاده وأولاد وأولاده وليس هذا لأحد من الصحابة غيره فليس في أقارب أبي بكر ذرية أبي قحافة لا من الرجال ولا من النساء إلا من قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بنته وكانت أحب أزواجه إليه وهذا أمر لم يشركه فيه أحد من الصحابة إلا عمر ولكن لم تكن حفصة

ابنته بمنزله عائشة بل حفصة طلقها ثم راجعها وعائشة كان يقسم لها ليلتين لما وهبتها سودة ليلتها ومصاهرة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم كانت على وجه لا يشاركه فيه أحد وأما مصاهرة علي فقد شركه فيها عثمان وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بنتا بعد بنت وقال لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان ولهذا سمى ذو النورين لأنه تزوج بنتي نبي وقد شركه في ذلك أبو العاص بن الربيع زوجه النبي صلى الله عليه وسلم أكبر بناته زينب وحمد مصاهرته وأراد أن يتشبه به علي في حكم المصاهرة لما أراد علي أن يتزوج بنت أبي جهل فذكر صهره هذا قال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وأسلمت زينب قبل إسلامه بمدة وتأيمت عليه حتى أعادها إليه النبي صلى الله عليه وسلم قيل أعادها بالنكاح الأول وقيل بل جدد لها نكاحا والصحيح أنه أعادها بالنكاح الأول هذا الذي ثبته أئمة الحديث كأحمد وغيره وقد تنازع الناس في مثل هذه المسألة إذا أسلمت الزوجة قبل زوجها على أقوال مذكورة في غير هذا الموضع.
*باب قال الرافضي الفصل الرابع في إمامة باقي الأئمة الاثنى عشر لنا في ذلك طرق أحدها النص وقد توارثته الشيعة في البلاد المتباعدة خلفا عن سلف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للحسين هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما.
*والجواب من وجوه...
أحدها: أن يقال أولا هذا كذب على الشيعة فإن هذا لا ينقله إلا طائفة من طوائف الشيعة وسائر طوائف الشيعة تكذب هذا والزيدية بأسرها تكذب هذا وهم أعقل الشيعة وأعلمهم وخيارهم والإسماعيلية كلهم يكذبون بهذا وسائر فرق الشيعة تكذب بهذا إلا الاثنى عشرية وهم فرقة من نحو سبعين فرقة من طوائف الشيعة

وبالجملة فالشيعة فرق متعددة جدا وفرقهم الكبار أكثر من عشرين فرقة كلهم تكذب هذا إلا فرقة واحدة فأين تواتر الشيعة.
الثاني: أن يقال هذا معارض بما نقله غير الاثنى عشرية من الشيعة من نص آخر يناقض هذا كالقائلين بإمامة غير الاثنى عشر وبما نقله الرواندية أيضا فإن كلا من هؤلاء يدعى من النص غير ما تدعيه الاثنا عشرية.
الثالث: أن يقال علماء الشيعة المتقدمون ليس فيهم من نقل هذا النص ولا ذكره في كتاب ولا احتج به في خطاب وأخبارهم مشهورة متواترة فعلم أن هذا من اختلاف المتأخرين وإنما اختلق هذا لما مات الحسن بن علي العسكري وقيل إن ابنه محمدا غائب فحينئذ ظهر هذا النص بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من مائتين وخمسين سنة.
الرابع: أن يقال أهل السنة وعلماؤهم أضعاف أضعاف الشيعة كلهم يعلمون أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم علما يقينا لا يخالطه الريب ويباهلون الشيعة على ذلك كعوام الشيعة مع علي فإن ادعى علماء الشيعة أنهم يعلمون تواتر هذا لم يكن هذا أقرب من دعوى علماء السنة بكذب هذا.

الخامس: أن يقال إن من شروط التواتر حصول من يقع به العلم من الطرفين والوسط وقبل موت الحسن بن علي العسكري لم يكن أحد يقول بإمامة هذا المنتظر ولا عرف من زمن علي ودولة بني أمية أحد أدعى إمامة الاثنى عشر وهذا القائم وإنما كان المدعون يدعون النص على علي أو على ناس بعده وأما دعوى النص على الاثنى عشر وهذا القائم فلا يعرف أحد قاله متقدما فضلا عن أن يكون نقله متقدما.
السادس: أن الصحابة لم يكن فيهم أحد رافضي أصلا وإن ادعى مدع على عدد قليل منهم أنهم كانوا رافضة فقد كذب عليهم ومع هذا فأولئك لا يثبت بهم التواتر لأن العدد القليل المتفقين على مذهب يمكن عليهم التواطؤ على الكذب والرافضة تجوز الكذب على جمهور الصحابة فكيف لا يجوز على من نقل هذا النص مع قلتهم إن كان نقله أحد منهم وإذا لم يكن في الصحابة من تواتر به هذا النقل انقطع التواتر من أوله.
السابع: أن الرافضة يقولون إن الصحابة ارتدوا عن الإسلام بجحد النص إلا عددا قليلا نحو العشرة أو أقل أو أكثر مثل عمار وسلمان وأبي ذر والمقداد ومعلوم أن أولئك الجمهور لم ينقلوا هذا النص فإنهم قد كتموه عندهم فلا يمكنهم أن يضيفوا نقله إلى هذه

الطائفة وهؤلاء كانوا عندهم مجتمعين على موالاة علي متواطئين على ذلك وحينئذ فالطائفة القليلة التي يمكن تواطؤها على النقل لا يحصل بنقلها تواتر لجواز اجتماعهم على الكذب فإذا كانت الرافضة تجوز على جماهير الصحابة مع كثرتهم الارتداد عن الإسلام وكتمان ما يتعذر في العادة التواطؤ على كتمانه فلأن يجوز على قليل منهم تعمد الكذب بطريق الأولى والأخرى والأحرى وهم يصرحون بكذب الصحابة إذا نقلوا ما يخالف هواهم فكيف يمكنهم مع ذلك تصديقهم في مثل هذا إذا كان الناقلون له ممن له هوى ومعلوم أن شيعة علي لهم في نصره فكيف يصدقون في نقل النص عليه هذا مع أن العقلاء وأهل العلم بالنقل يعلمون أنه ليس في فرق المسلمين أكثر تعمدا للكذب وتكذيبا للحق من الشيعة بخلاف غيرهم فإن الخوارج وإن كانوا مارقين فهم يصدقون لا يتعمدون الكذب وكذلك المعتزلة يتدينون بالصدق وأما الشيعة فالكذب عليهم غالب من حين ظهروا

الوجه الثامن: أن يقال قد علم أهل العلم أن أول ما ظهرت الشيعة الإمامية المدعية للنص في أواخر أيام الخلفاء الراشدين وافترى ذلك عبدالله بن سبأ وطائفة الكذابون فلم يكونوا موجودين قبل ذلك فأي تواتر لهم.
التاسع: أن الأحاديث التي نقلها الصحابة في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان أعظم تواترا عند العامة والخاصة من نقل هذا النص فإن جاز أن يقدح في نقل جماهير الصحابة لتلك الفضائل فالقدح في هذا أولى وإن كان القدح في هذا متعذرا ففي تلك أولى وإذا ثبتت فضائل الصحابة التي دلت عليها تلك النصوص الكثيرة المتواترة امتنع اتفاقهم على مخالفة هذا النص فإن مخالفته لو كان حقا من أعظم الإثم والعدوان.
العاشر: أنه ليس أحد من الإمامية ينقل هذا النص بإسناد متصل فضلا عن أن يكون متواترا وهذه الألفاظ تحتاج إلى تكرير فإن لم يدرس ناقلوها عليها لم يحفظوها وأين العدد الكبير الذين حفظوا هذه الألفاظ كحفظ ألفاظ القرآن وحفظ التشهد والأذان جيلا بعد جيل إلى الرسول ونحن إذا ادعينا التواتر في فضائل الصحابة ندعى تارة التواتر من جهة المعنى كتواتر خلافة الأربعة ووقعة الجمل وصفين

وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وعلي بفاطمة ونحو ذلك مما لا يحتاج فيه إلى نقل لفظ معين يحتاج إلى درس وكتواتر ما للصحابة من السابقة والأعمال وغير ذلك وتارة التواتر في نقل ألفاظ حفظها من يحصل العلم بنقله.
الوجه الحادي عشر: أن المنقول بالنقل المتواتر عن أهل البيت يكذب مثل هذا النقل وأنهم لم يكونوا يدعون أنهم منصوص عليهم بل يكذبون من يقول ذلك فضلا عن أن يثبتوا النص على اثنى عشر.
الوجه الثاني عشر: أن الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدد الاثنى عشر مما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن سمرة قال دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم اثنا عشر رجلا ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني فسألت أبي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال قال كلهم من قريش. وفي لفظ لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثنى عشر خليفة ثم قال كلمة لم أفهمها قلت لأبي ما قال قال كلهم من قريش. وفي لفظ لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثنى عشر خليفة.

والذي في التوراة يصدق هذا.
وهذا النص لا يجوز أن يراد به هؤلاء الاثنا عشر لأنه قال لا يزال الإسلام عزيزا ولا يزال هذا الأمر عزيزا ولا يزال أمر الناس ماضيا... وهذا يدل على أنه يكون أمر الإسلام قائما في زمان ولايتهم ولا يكون قائما إذا انقطعت ولايتهم. وعند هؤلاء الاثنى عشرية لم يقم أمر الأمة في مدة أحد من هؤلاء الاثنى عشر بل مازال أمر فاسدا منتقضا يتولى عليهم الظالمون المعتدون بل المنافقون الكافرون وأهل الحق أذل من اليهود.
وأيضا فإن عندهم ولاية المنتظر دائمة إلى آخر الدهر وحينئذ فلا يبقى زمان يخلو عندهم من الاثنى عشر وإذا كان كذلك لم يبق الزمان نوعين نوع يقوم فيه أمر الأمة ونوع لا يقوم بل هو قائم في الأزمان كلها وهو خلاف الحديث الصحيح.
وأيضا فالأمر الذي لا يقوم بعد ذلك إلا إذا قام المهدي إما المهدي الذي يقر به أهل السنة وإما مهدي الرافضة ومدته قليلة لا ينتظم فيها أمر الأمة وأيضا فإنه قال في الحديث كلهم من قريش ولو كانوا مختصين بعلى وأولاده لذكر ما يميزون به ألا ترى أنه لم يقل كلهم من ولد إسماعيل ولا من العرب وإن كانوا كذلك لأنه قصد القبيلة التي يمتازون بها فلو امتازوا بكونهم من بني هاشم أو من قبيل علي مع علي لذكروا بذلك فلما جعلهم من قريش مطلقا علم أنهم من قريش بل لا يختصون بقبيلة بل بنو تيم وينو عدي وينو عبد شمس وبنو هاشم فإن الخلفاء الراشدين كانوا من هذه القبائل.
*

فصل
وأما الحديث الذي رواه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وذلك هو المهدي.
*فالجواب أن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره

كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه رجل منى أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة.
وأيضا فيه المهدي من عترتي من ولد فاطمة ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه يملك الأرض سبع سنين ورواه عن علي رضي الله عنه أنه نظر إلى الحسن وقال إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض قسطا.
وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف طائفة أنكروها واحتجوا بحديث ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا مهدي إلا عيسى بن مريم وهذا الحديث ضعيف وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه ورواه ابن ماجه عن يونس عن الشافعي والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن يقال له محمد ابن خالد الجندي وهو ممن لا يحتج به ولس هذا في مسند الشافعي وقد قيل إن الشافعي لم يسمعه وأن يونس لم يسمعه من الشافعي الثاني أن الاثنى عشرية الذين أدعوا أن هذا هو مذهبهم مهديهم اسمه محمد بن الحسن والمهدي المنعوت الذي وصفه النبي صلى

الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله ولهذا حذفت طائفة ذكر الأب من لفظ الرسول حتى لا يناقض ما كذبت وطائفة حرفته فقالت جده الحسين وكنيته أبو عبد الله فمعناه محمد بن أبي عبد الله وجعلت الكنية اسما وممن سلك هذا ابن طلحة في كتابه الذي سماه غاية السول في مناقب الرسول ومن أدنى نظر يعرف أن هذا تحريف صريح وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يفهم أحد من قوله يواطىء اسمه اسمي واسم ابيه اسم أبي إلا أن اسم أبيه عبد الله وهل يدل هذا اللفظ على أن جده كنيته أبو عبد الله ثم أي تمييز يحصل له بهذا فكم من ولد الحسين من اسمه محمد وكل هؤلاء يقال في أجدادهم محمد بن أبي عبد الله كما قيل في هذا وكيف يعدل من يريد البيان إلى من اسمه محمد بن الحسن فيقول اسمه محمد بن عبدالله ويعنى بذلك أن جده أبو عبد الله وهذا كان تعريفه بأنه محمد بن الحسن أو ابن أبي الحسن لأن

جده على كنيته أبو الحسن أحسن من هذا وأبين لمن يريد الهدى والبيان وأيضا فإن المهدي المنعوت من ولد الحسن بن علي لا من ولد الحسين كما تقدم لفظ حديث علي الثالث أن طوائف ادعى كل منهم أن المهدي المبشر به مثل مهدي القرامطة الباطنية الذي أقام دعوتهم بالمغرب وهو من ولد ميمون القداح وأدعوا أن ميمونا هذا هو من ولد محمد بن إسماعيل وإلى ذلك انتسب الإسماعيلية وهم ملاحدة في الباطن خارجون عن جميع الملل أكفر من الغالية كالنصيرية ومذهبهم مركب من مذهب المجوس والصابئة والفلاسفة مع إظهار التشيع وجدهم رجل يهودي كان ربيبا لرجل مجوسي وقد كانت لهم دولة وأتباع وقد صنف العلماء كتبا في كشف أسرارهم وهناك أستارهم مثل كتاب القاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار الهمداني وكتاب الغزالي ونحوهم وممن ادعى أنه المهدي ابن التومرت الذي خرج أيضا بالمغرب وسمى أصحابه الموحدين وكان يقال له في خطبهم الإمام المعصوم والمهدي المعصوم الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا

وظلما وهذا ادعى أنه من ولد الحسن دون الحسين فإنه لم يكن رافضيا وكان له من الخبرة بالحديث ما ادعى به دعوى تطابق الحديث وقد علم بالاضطرار أنه ليس هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ومثل عدة آخرين ادعوا ذلك منهم من قتل ومنهم من ادعى ذلك فيه أصحابه وهؤلاء كثيرون لا يحصى عددهم إلا الله وربما حصل بأحدهم نفع لقوم وإن حصل به ضرر لآخرين كما حصل بمهدي المغرب انتفع به طوائف وتضرر به طوائف وكان فيه ما يحمد وإن كان فيه ما يذم وبكل حال فهو وأمثاله خير من مهدي الرافضة الذي ليس له عين ولا أثر ولا يعرف له حس ولا خبر لم ينتفع به أحد لا في الدنيا ولا في الدين بل حصل باعتقاد وجوده من الشر والفساد مالا يحصيه إلا رب العباد وأعرف في زماننا غير واحد من المشايخ الذين فيهم زهد وعبادة يظن كل منهم أنه المهدي وربما يخاطب أحدهم بذلك مرات متعددة ويكون المخاطب له بذلك الشيطان وهو يظن أنه خطاب من قبل الله ويكون أحدهم اسمه أحمد بن إبراهيم فيقال له محمد وأحمد سواء وإبراهيم الخليل هو جد رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم وأبوك إبراهيم فقد واطأ اسمك اسمه واسم ابيك اسم أبيه ومع هذا فهؤلاء مع ما وقع لهم من الجهل والغلط كانوا خيرا من منتظر الرافضة ويحصل بهم من النفع مالا يحصل بمنتظر الرافضة ولم يحصل بهم من الضرر ما حصل بمنتظر الرافضة بل ما حصل بمنتظر الرافضة من الضرر أكثر منه.
*

فصل
قال الرافضي: الثاني: أنا قد بينا أنه يجب في كل زمان إمام معصوم ولا معصوم غير هؤلاء إجماعا.
*والجواب من وجوه..
أحدها: منع المقدمة الأولى كما تقدم.
والثاني: منع طوائف لهم المقدمة الثانية.

الثالث: أن هذا المعصوم الذي يدعونه في وقت ما له منذ ولد عندهم أكثر من أربعمائة وخمسين سنة فإنه دخل السرداب عندهم سنة ستين ومائتين وله خمس سنين عند بعضهم وأقل من ذلك عند آخرين ولم يظهر عنه شيء مما يفعله أقل الناس تأثيرا مما يفعله آحاد الولاة والقضاة والعلماء فضلا عما يفعله الإمام المعصوم فأي منفعة للوجود في مثل هذا لو كان موجودا فكيف إذا كان معدوما والذين آمنوا بهذا المعصوم أي لطف وأي منفعة حصلت لهم به نفسه في دينهم أو دنياهم وهل هذا إلا أفسد مما يدعيه كثير من العامة في القطب والغوث ونحو ذلك من أسماء يعظمون مسماها ويدعون في مسماها ما هو أعظم من رتبة النبوة من غير تعيين لشخص معين يمكن أن ينتفع به الانتفاع المذكور في مسمى هذه الأسماء وكما يدعى كثير منهم حياة الخضر مع أنهم لم يستفيدوا بهذا الدعوى منفعة لا في دينهم ولا في دنياهم وإنما غاية من يدعى ذلك أن يدعى جريان بعض ما يقدره الله على يدى مثل هؤلاء وهذا مع أنه لا حاجة لهم به فلا حاجة بهم إلى معرفته ولم ينتفعوا بذلك لو كان حقا فكيف إذا كان ما يدعونه باطلا ومن هؤلاء من يتمثل له الجنى في صورة ويقول أنا الخضر ويكون كاذبا وكذلك الذين يذكرون رجال الغيب ورؤيتهم إنما رأوا الجن وهم رجال غائبون وقد يظنون أنهم إنس وهذا قد بيناه في مواضع تطول حكايتها مما تواتر عندنا وهذا الذي تدعيه الرافضة إنما مفقود عندهم وإما معدوم عند العقلاء وعلى التقديرين فلا منفعة لأحد به لا في دين ولا في دنيا فمن علق به دينه بالمجهولات التي لا يعلم ثبوتها كان ضالا في دينه لأن ما علق به دينه لم يعلم صحته ولم يحصل له به منفعة فهل يفعل مثل هذا إلا جاهل لكن الذين يعتقدون حياة الخضر لا يقولون إنه يجب على الناس طاعته مع أن الخضر كان حيا موجودا

*

فصل
قال الرافضي: الثالث: الفضائل التي اشتمل كل واحد منهم عليها الموجبة لكونه إماما.
*والجواب من وجوه..
أحدها: أن تلك الفضائل غايتها أن يكون صاحبها أهلا أن تعقد له الإمامة لكنه لا يصير إماما بمجرد كونه أهلا كما أنه لا يصير الرجل قاضيا بمجرد كونه أهلا لذلك.
الثاني: أن أهلية الإمامة ثابتة لأخرين من قريش كثبوتها لهؤلاء وهم أهل أن يتولوا الإمامة فلا موجب للتخصيص ولم يصيروا بذلك أئمة.
الثالث: أن الثاني عشر منهم معدوم عند جمهور العقلاء فامتنع أن يكون إماما.
الرابع: أن العسكريين ونحوهما من طبقة أمثالهما لم يعلم لها تبريز في عالم أو دين كما عرف لعلي بن الحسين وأبي جعفر وجعفر بن محمد.
*باب قال الرافضي والفصل الخامس أن من تقدمه لم يكن إماما ويدل عليه وجوه.
*قلت والجواب أنه إن أريد بذلك أنهم لم يتولوا على المسلمين ولم يبايعهم المسلمون ولم يكن لهم سلطان يقيمون به الحدود ويوفون به الحقوق ويجاهدون به العدو ويصلون بالمسلمين الجمع والأعياد وغير ذلك مما هو داخل في معنى الإمامة فهذا بهت ومكابرة فإن هذا أمر معلوم بالتواتر والرافضة وغيرهم يعلمون ذلك ولو لم يتولوا الإمامة لم تقدح فيهم الرافضة لكن هم يطلقون ثبوت الإمامة وانتفاءها ولا يفصلون هل المراد ثبوت نفس الإمامة ومباشرتها أو نفس استحقاق ولاية الإمامة ويطلقون لفظ الإمام على الثاني ويوهمون أنه يتناول النوعين

وإن أريد بذلك أنهم لم يكونوا يصلحون للإمامة وأن عليا كان يصلح لها دونهم أو أنه كان أصلح لها منهم فهذا كذب وهو مورد النزاع ونحن نجيب في ذلك جوابا عاما كليا ثم نجيب بالتفصيل أما الجواب العام الكلي فنقول نحن عالمون بكونهم أئمة صالحين للإمامة علما يقينا قطعيا وهذا لا يتنازع فيه اثنان من طوائف المسلمين غير الرافضة بل أئمة الأمة وجمهورها يقولون إنا نعلم أنهم كانوا أحق بالإمامة بل يقولون إنا نعلم أنهم كانوا أفضل الأمة وهذا الذي نعلمه ونقطع به ونجزم به لا يمكن أن يعارض بدليل قطعي ولا ظني أما القطعي فلأن القطعيات لا يتناقض موجبها ومقتضاها وأما الظنيات فلأن الظني لا يعارض القطعي وجملة ذلك أن كل ما يورده القادح فلا يخلو عن أمرين إما نقل لا نعلم صحته أو لا نعلم دلالته على بطلان إمامتهم وأي المقدمتين لم يكن معلوما لم يصلح لمعارضته ما علم قطعا وإذا قام الدليل القطعي على ثبوت إمامتهم لم يكن علينا أن نجيب عن الشبه المفضلة كما أن ما علمناه قطعا لم يكن علينا أن نجيب عما يعارضه من الشبه السوفسطائية وليس لأحد أن يدفع ما علم أيضا يقينا بالظن سواء كان ناظرا أو مناظرا بل أن تبين له وجه فساد الشبهة وبينه لغيره كان ذلك زيادة علم ومعرفة وتأييد للحق في النظر والمناظرة وإن لم يتبين ذلك لم يكن له أن يدفع اليقين بالشك وسنبين إن شاء الله تعالى الأدلة الكثيرة على استحقاقهم للإمامة وأنهم كانوا أحق بها من غيرهم.

*

فصل
قال الرافضي الأول قول أبي بكر إن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني ومن شأن الإمام تكميل الرعية فكيف يطلب منهم الكمال.
*والجواب من وجوه...
أحدها: أن المأثور عنه أنه قال وإن لي شيطانا يعتريني يعني عند الغضب فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أؤثر في أبشاركم وقال أطيعوني ما أطعت الله فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم وهذا الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه من أعظم ما يمدح به - كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
الثاني: أن الشيطان الذي يعتريه قد فسر بأنه يعرض لابن آدم عند الغضب فخاف عند الغضب أن يعتدى على أحد من الرعية فأمرهم بمجانبته عند الغضب كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان فنهى عن الحكم عند الغضب وهذا هو الذي أراده أبو بكر أراد أن لا يحكم وقت الغضب وأمرهم أن لا يطلبوا منه حكما أو يحملوه على حكم في هذا الحال وهذا من طاعته لله ورسوله.
الثالث: أن يقال الغضب يعتري بني آدم كلهم حتى قال سيد ولد آدم اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وإني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه أيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة

وقربة تقربه إليك يوم القيامة أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة وأخرجه مسلم عن عائشة قال دخل رجلان على النبي صلى الله عليه وسلم فأغضباه فسبهما ولعنهما فلما خرجا قلت يا رسول الله من أصاب من الخير ما أصاب هذان الرجلان قال وما ذاك قلت لعنتهما وسببتهما قال أو ما علمت ما شارطت عليه ربي قلت إنما أنا بشر فأي المسلمين سببته أو لعنته فاجعله له زكاة وأجرا وفي رواية أنس إني اشترطت على ربي فقلت إنما انا بشر أرضى كما يرضى البشر وأعضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة وأيضا فموسى رسول كريم وقد أخبر الله عن غضبه بما ذكره في كتابه فإذا كان مثل هذا لا يقدح في الرسالة فكيف يقدح في الإمامة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه أبا بكر بإبراهيم وعيسى في لينه وحلمه وشبه عمر بنوح وموسى في شدته في الله فإذا كانت هذه الشدة لا تنافي الإمامة فكيف تنافيها شدة أبي بكر.
الرابع: أن يقال أبو بكر رضي الله عنه قصد بذلك الاحتراز أن يؤذى أحدا منهم فأنما أكمل هذا أو غيره ممن غضب علي من عصاه وقاتلهم وقاتلوه بالسيف وسفك دماءهم فإن قيل كانوا يستحقون القتال بمعصية الإمام وإغضابه قيل ومن عصى أبا بكر وأغضبه كان أحق بذلك لكن أبو بكر ترك ما يستحقه إن كان علي يستحق ذلك وإلا فيمتنع أن يقال من عصى

عليا وأغضبه جاز أنه يقاتله ومن عصى أبا بكر لم يجز له تأديبه فدل على أن ما فعله أبو بكر أكمل من الذي فعله علي وفي المسند وغيره عن أبي برزة أن رجلا أغضب أبا بكر قال فقلت له أتأذن لي أن أضرب عنقه يا خليفة رسول الله فال فأذهبت كلمتي غضبه ثم قال ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستحل أن يقتل مسلما بمجرد مخالفة أمره والعلماء في حديث أبي برزة على قولين منهم من يقول مراده أنه لم يكن لأحد أن يقتل أحدا سبه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول ما كان لأحد أن يحكم بعلمه في الدماء إلا الرسول وقد تخلف عن بيعته سعد بن عبادة فما آذاه بكلمة فضلا عن فعل وقد قيل إن عليا وغيره امتنعوا عن بيعته ستة أشهر فما أزعجهم ولا ألزمهم بيعته فهل هذا كله إلا من كمال ورعه عن أذى الأمة وكمال عدله وتقواه وهكذا قوله فإن اعتراني فاجتنبوني.
الخامس: أن في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي ولكن ربي أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير وفي الصحيح عن عائشة قالت يا رسول الله أو معي شيطان قال نعم قالت ومع كل إنسان قال نعم ومعك يا رسول الله قال نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم والمراد في أصح القولين استسلم وانقاد لي ومن قال حتى أسلم أنا فقد حرف معناه ومن قال الشيطان صار مؤمنا فقد حرف لفظه وقد قال موسى لما قتل القبطي هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (سورة القصص). وقال فتى موسى وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره (سورة الكهف).. وذكر الله في قصة آدم وحواء فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه (سورة البقرة). وقوله

فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وورى عنهما من سوءآتهما (سورة الأعراف). فإذا كان عرض الشيطان لا يقدح في نبوة الأنبياء عليهم السلام فكيف يقدح في إمامة الخلفاء وإن ادعى مدح أن هذه النصوص مؤولة قيل له فيجوز لغيرك أن يتأول قول الصديق لما ثبت بالدلائل الكثيرة من إيمانه وعلمه وتقواه وورعه فإذا ورد لفظ مجمل يعارض ما علم وجب تأويله وأما قوله فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني فهذا من كمال عدله وتقواه وواجب على كل إمام أن يقتدي به في ذلك وواجب على الرعية أن تعامل الأئمة بذلك فإن استقام الإمام أعانوه على طاعة الله تعالى وإن زاغ وأخطأ بينوا له الصواب ودلوه عليه وإن تعمد ظلما منعوه منه بحسب الإمكان فإذا كان منقادا للحق كأبي بكر فلا عذر لهم في ترك ذلك وإن كان لا يمكن دفع الظلم إلا بما هو أعظم فسادا منه لم يدفعوا الشر القليل بالشر الكثير.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17