كتاب : منهاج السنة النبوية
المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

الله خالق كل شيء ومليكه وأن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما فحدثت هذه المخلوقات بعد أن لم تكن وإذا كان كذلك حصل لنا علم بمراد الأنبياء وجماهير العقلاء بهذه العبارات واستفدنا بذلك أن من قصد بها غير هذا المعنى لم يكن موافقا لهم في المراد بها فإذا ادعى أن مرادهم هو مراده في كونها ملازمة للرب أزلا وأبدا علم أنه كاذب على الأنبياء وجماهير العقلاء كذبا صريحا كما يصنعون مثل ذلك في لفظ الإحداث فإن الإحداث معناه معقول عند الخاصة والعامة وهو مما تواتر معناه في اللغات كلها وهؤلاء جعلوا لهم وضعا مبتدعا فقالوا الحدوث يقال على وجهين أحدهما زماني ومعناه حصول الشيء بعد أن لم يكن له وجود في زمان سابق والثاني أن لا يكون الشيء مستندا إلى ذاته بل إلى غيره سواء كان ذلك الاستناد مخصوصا بزمان معين أو كان مستمرا في كل الزمان قالوا وهذا هو الحدوث الذاتيوكذلك القدم فسروه بهذين المعنيين وجعلوا القدم بأحد معنييه معناه معنى الوجوب قالوا والدليل على إثبات الحدوث الذاتي أن كل ممكن لذاته فإنه لذاته يستحق العدم ومن غيره يستحق الوجود وما بالذات أقدم مما بالغير فالعدم في حقه أقدم من الوجود تقدما بالذات فيكون محدثا حدوثا ذاتيا وقد أورد عليهم الرازي سؤالا وهو أنه لا يجوز أن يقال الممكن يستحق العدم من ذاته فإنه لو استحق العدم من ذاته لكان ممتنعا لا ممكنا بل الممكن يصدق عليه أنه ليس من حيث هو موجود ولا يصدق عليه أنه من حيث هو ليس بموجود والفرق بين الاعتبارين معروف بل كما أن الممكن يستحق الوجود من وجود علته فإنه يستحق العدم من عدم علته وإذا كان استحقاقه الوجود والعدم من الغير ولم يكن واحد منها من مقتضيات الماهية لم يكن لأحدهما تقدم على الآخر فإذن لا يكون لعدمه تقدم ذاتي على وجوده قال ولعل المراد من هذه الحجة هو إن الممكن يستحق من

ذاته لا استحقاقية الوجود والعدم وهذه اللا استحقاقية وصف عدمي سابق على الاستحقاق فتقرر الحدوث الذاتي من هذا الوجه فيقال هذا السؤال سؤال صحيح يبين بطلان قولهم مع ما سلمه لهم من المقدمات الباطلة فإن هذا الكلام مبني على أن المعين في الخارج ذات تقبل الوجود والعدم وغير الوجود الثابت في الخارج وهذا باطل ومبني أيضا على أن عدم الممكن معلل بعدم علته وهو باطل وأما الاعتذار بأن المراد أنه لا يستحق من ذاته وجودا أو عدما فيقال إذا قدر أن هذا هو المراد لم يكن مستحقا للعدم بحال فإن نفسه لم تقتض وجوده ولا عدمه ولكن غيره اقتضى وجوده ولم يقتض عدمه فيبقى العدم لم يحصل من نفسه ولا من موجود آخر بخلاف الوجود فلا يكون عدمه سابقا لوجوده بحال وقوله اللا استحقاقية وصف عدمي جوابه أن هذا العدمي هو عدم النقيضين جميعا الوجود والعدم ليس هو عدم الوجود فقط والنقيضين لا يرتفعان كما لا يجتمعان فيمتنع أن يقال إن ارتفاع النقيضين جميعا سابق لوجوده وإن أريد أنه ليس واحد من

النقيضين منه فهذا حق وليس فيه سبق أحدهما للآخر وهم يقولون عدمه سابق لوجوده مع أنه موجود دائما فعلمت أنهم مع قولهم إن الممكن قديم أزلي يمتنع أن يكون هناك عدم يسبق وجوده بوجه من الوجوه وإنما كلامهم جمع بين النقيضين في هذا وأمثاله فإن مثل هذا التناقض كثير في كلامهم ولكن الإمكان الذي أثبته جمهور العقلاء وأثبته قدماؤهم أرسطو وأتباعه هو إمكان أن يوجد الشئ وأن يعدم وهذا الإمكان مسبوق بالعدم سبقا حقيقيا فإن كل ممكن محدث كائن بعد أن لم يكن وبسط هذه الأمور له موضع آخر والمقصود هنا أنهم أفسدوا الأدلة السمعية بما أدخلوه فيها من القرمطة وتحريف الكلم عن مواضعه كما أفسدوا الأدلة العقلية بما أدخلوه فيها من السفسطة وقلب الحقائق المعقولة عما هي عليه وتغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها ولهذا يستعملون الألفاظ المجملة والمتشابهة لأنها أدخل في التلبيس والتمويه مثل لفظ التأثير والاستناد ليقولوا ثبت أن ما هو ممكن الثبوت لما هو هو يجوز استناده إلى مؤثر يكون دائم الثبوت مع الأثر والمراد في الأصل الذي قاسوا عليه على قولهم إنه عدم لازم لوجوده في الفرع أنه مبدع لمبدع ومخلوق لخالق فأين هذا الاستناد من هذا الاستناد وأين هذا التأثير من هذا التأثير الوجه التاسع أن يقال حقيقة هذه الحجة هي قياس مجرد بتمثيل

مجرد خال عن الجامع فإن المدعي يدعي أنه لا يشترط في فعل الرب تعالى أن يكون بعد عدم كما أن صفاته لازمة لذاته بلا سبق عدم وصاغ ذلك بقياس شمول بقوله إن التأثير لا يشترط فيه سبق العدم فيقال له لا نسلم أن بينهما قدرا مشتركا كما يدل عليه ما ذكرته من اللفظ بل لا نسلم أن بينهما قدرا مشتركا يخصهما بل القدر المشترك الذي بينهما يتناول كل لازم لكل ملزوم فيلزمه أن يجعل كل لازم مفعولا لملزومه وإن سلمنا أن بينهما قدرا مشتركا فلا نسلم أنه مناط الحكم في الأصل حتى يلحق به الفرع وإن ادعى ذلك دعوى كلية وصاغه بقياس شمول قيل له الدعوى الكلية لا تثبت بالمثال الجزئي فهب أن ما ذكرته في الأصل أحد أفراد هذه القضية الكلية فلم قلت إن سائر أفرادها كذلك غايتك أن ترجع إلى قياس التمثيل ولا حجة معك على صحته هنا ثم بعد هذا نذكر نحن الفروق الكثيرة المؤثرة وهذا الوجه يتضمن الجواب من وجوه متعددة قال الرازي البرهان الثامن لوازم الماهية معلولة لها وهي غير متأخرة عنها زمانا فإن كون المثلث مساوي الزوايا لقائمتين ليس إلا لأنه مثلث وهذا الاقتضاء من لوازم المثلث بل نزيد فنقول إن الأسباب مقارنة

لمسبباتها مثل الإحراق يكون مقارنا للاحتراق والألم عقيب سوء المزاج أو تفرق الاتصال بل نذكر شيئا لا ينازعون فيه ليكون أقرب إلى الغرض وهو كون العلم علة للعالمية والقدرة للقادرية عند من يقول به وكل ذلك يوجد مقارنة لآثارها غير متقدمة عليها فعلمنا أن مقارنة الأثر والمؤثر في الزمان لا تبطل جهة الاستناد والحاجة والجواب أن يقال إن أريد بالماهية ما هو موجود في الخارج مثل المثلثات الموجودة فصفات تلك الماهية اللازمة لها ليست صادرة عنها بل الفاعل للملزوم هو الفاعل للصفة اللازمة له القائمة به ويمتنع فعله لأحدهما بدون الآخر ومن قال إن الموصوف علة للازمه فإن أراد بالعلة أنه ملزوم فلا حجة له فيه وإن أراد أنه فاعل أو مبدع أو علة فاعلة فقوله معلوم الفساد ببديهة العقل فإن الصفات القائمة بالموصوف اللازمة له إنما يفعلها من فعل الموصوف فإنه يمتنع فعله للموصوف بدون فعله لصفته اللازمة له وإن أريد بالماهية ما يقدر في الذهن فتلك صورة علمية والكلام فيها كالكلام في الخارجية

فالفاعل للملزوم هو الفاعل للازمه لم يكن الملزوم علة فاعلة للازم وقولهم هذا الاقتضاء من لوازم المثلث إن أرادوا بالاقتضاء والتعليل الاستلزام فهو حق ولا حجة فيه وإن أرادوا أنه علة فاعلة فهذا معلوم الفساد وأما الأسباب والمسببات الموجودة في الخارج كما في سوء المزاج والألم فمن الذي سلم أن زمانهما واحد والمستدلون أنفسهم قد قالوا في حجتهم إن وجود الألم عقب سوء المزاج وما يوجد عقب الشيء يكون وجوده بعده لكن غايته أن يكون بلا فصل لكن لا يكون معه في الزمان فإن ما مع الشيء في الزمان لا يقال إنه إنما يوجد عقبه وهكذا القول في كل الأسباب لا نسلم أن زمان وجودها كلها هو زمان وجود المسببات بل لا بد من حصول تقدم زماني وكذلك الكسر والانكسار والإحراق والاحتراق فإن الكسر هو فعل الكاسر الذي يقوم به مثل الحركة القائمة بالإنسان والانكسار هو التفرق الحاصل بالمكسور وذلك يحصل بحركة في زمان ومعلوم أن زمان تلك الحركة قبل زمان هذه لكن قد يتصل الزمان بالزمان والمتصل يقال إنه معه لكن فرق بين ما يكون زمانهما واحدا وما يكون زمانهما متعاقبا ومن الأسباب ما يقتضي مسببه شيئا فشيئا فإذا كمل السبب كمل مسببه مثل الأكل والشرب مع الشبع والري والسكر فكلما حصل بعض

الأكل حصل جزء من الشبع لا يحصل المسبب إلا بعد حصول السبب لا معه وهذا قول جماهير العقلاء من أهل الكلام والفقه والفلسفة وغيرهم يقرون بأن المسبب يحصل عقب السبب ولهذا كان أئمة الفقهاء وجماهيرهم على أنه إذا قال إذا مات أبي فأنت حرة أو طالق أو غيرهما أنه إنما يحصل المسبب عقب الموت لا مع الموت وشذ بعض المتأخرين فظن حصول الجزاء مع السبب وقال إن هذا بمنزلة العلة مع المعلول وأن المعلول يحصل زمن العلة ولفظ العلة مجمل يراد به المؤثر في الوجود ويراد به الملزوم فإذا سلم الاقتران في الثاني لم يسلم الاقتران في الأول فلا يعرف في الوجود مؤثر في وجود غيره مقارن له في الزمان من كل وجه بل لا بد أن يتقدم عليه زمانا ولا بد أن يحصل وجوده بعد عدم ولهذا جعل الفلاسفة العدم من جملة المبادىء كما قد ذكرنا كلامهم ومما يمثلون به حصول الصوت مع الحركة كالطنين مع النقرة وأن المسبب هنا مع السبب وهذا أيضا ممنوع فإن وجود الحركة التي هي

سبب الصوت يتقدم وجود الصوت وإن كان وجود الصوت متصلا بوجود الحركة لا ينفصل عنه لكن المقصود أنه لا يكون إلا بعده وليس أول زمن الحركة يكون أول زمن الصوت بل لا بد من وجود الحركة والصوت يعقبها ولهذا يعطف المسبب على السبب بحرف الفاء الدالة على التعقيب فيقال كسرته فانكسر وقطعته فانقطع ويقال ضربته بالسيف فمات أو فقتلته وأكل فشبع وشرب فروى وأكل حتى شبع وشرب حتى روى ونحو ذلك فالكسر والقطع فعل يقوم بالفاعل مثل أن يضربه بيده أو بآلة معه فإذا وصل إليه الأثر انكسر وانقطع فأحدهما يعقب الآخر لا يكون أول زمان هذا أول زمان هذا ولا آخر زمان هذا آخر زمان هذا بل يتقدم زمان السبب ويتأخر زمان المسبب ولهذا تنازع الناس في المسبب المتولد عن فعل الإنسان فقالت طائفة هو فعله وقالت طائفة هو فعل الرب وقالت طائفة بل الإنسان مشارك في فعله وهو حاصل بفعله وبسبب آخر مثل خروج السهم من القوس ومثل حصول الشبع والري بالأكل والشرب ولولا تقدم السبب على المسبب لم يحصل هذا النزاع فإن السبب حاصل في العبد في محل قدرته وحركته والمسبب حاصل في غير محل قدرته وحركته ومن هذا الباب حركة الكم مع حركة اليد وحركة آخر الحبل مع حركة أوله ونظائره كثيرة فعلم أنهم لم يجدوا في الوجود مفعولا يكون زمانه زمان فاعله بلا

تأخر أصلا لا مع الاتصال ولا مع الانفصال كما يدعونه في فعل رب العالمين خالق كل شيء ومليكه من أن السماوات لم تزل معه مقارنة له في الزمان زمان وجودها هو زمان وجوده لا يجوز أن يتقدم عليها بشيء من الزمان ألبتة وأما ما ذكره من كون العلم علة للعالمية فهذا أولا قول مثبتي الأحوال كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وقبلهما أبو هاشم وجمهور النظار يقولون إن العلم هو العالمية وهذا هو الصواب وعلى قول أولئك فلا يقولون إن العلم هنا علة فاعلة لا بإرادة ولا بذات ولا بغير ذلك بل المعلول عندهم لا يوصف بالوجود فقط ومعنى العلة عندهم الاستلزام وهذا لا نزاع فيه قال الرازي البرهان التاسع هو أن الشيء حال اعتبار وجوده من حيث هو موجود واجب الوجود لامتناع عدمه مع وجوده وكذلك هو في حال عدمه واجب العدم لامتناع كونه موجودا معدوما والحدوث عبارة عن ترتب هاتين الحالتين فإذا كانت الماهية في كلتا الحالتين

على كلتا الصفتين واجبة فالماهية من حيث هي واجبة غير مفتقرة إلى مؤثر فإن الواجب من حيث هو واجب يمتنع استناده إلى المؤثر فإذن الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة فإن لم تعتبر الماهية من حيث هي هي لم يرتفع الوجوب أي وجوب الوجود في زمنه ووجوب العدم في زمنه وهو بهذا الاعتبار لا يحتاج إلى المؤثر فعلمنا أن الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة وإنما المحوج هو الإمكان والجواب أن في هذه الحجة مغالطات متعددة وجوابها من وجوه أحدها أن يقال هب أنه في حال وجوده واجب الوجود لكنه واجب الوجود بغيره وذلك لا يناقض كونه مفتقرا إلى الفاعل مفعولا له محدثا بعد أن لم يكن فإذا لم يكن هذا الوجوب مانعا مما يستلزم افتقاره إلى الفاعل لم يمتنع كونه مفتقرا إلى الفاعل مع هذا الوجوب الثاني أن قوله الحدوث عبارة عن ترتب هاتين الحالتين يقال له الحدوث يتضمن هاتين الحالتين وهو يتضمن مع ذلك أنه وجد بفاعل أوجده هو مفتقر إليه لا يوجد بدون إيجاده له بعد أن لم يكن

موجودا فالحدوث يتضمن هذا المعنى أو يستلزمه وإذا كان الحدوث متضمنا للحاجة إلى الفاعل أو مستلزما للحاجة إلى الفاعل لم يجز أن يقال هو مانع عن الحاجة فإن الشيء لا يمنع لازمه وإنما يمنع ضده الثالث قوله الواجب من حيث هو واجب يمتنع استناده إلى المؤثر ممنوع بل الواجب بنفسه هو الذي يمتنع استناده إلى المؤثر وأما الواجب بغيره فلا يمتنع استناده إلى المؤثر بل نفس كونه واجبا بغيره يتضمن استناده إلى المؤثر ويستلزم ذلك فكيف يقال إن الوجوب بالغير يمنع الاستناد إلى الغير وإن قال أنا أريد الواجب من حيث هو واجب مع قطع النظر عن كونه واجبا بنفسه أو بغيره قيل له ليس في الخارج إلا واجب بنفسه أو بغيره وإذا أخذ مطلقا عن القيدين فهو أمر يقدر في الأذهان لا يوجد في الأعيان ثم يقال لا نسلم أن الواجب إذا أخذ مطلقا يمتنع استناده إلى المؤثر بل الواجب إذا أخذ مطلقا لا يستلزم المؤثر ولا ينفي المؤثر فإن من الواجب ما يستلزم المؤثر وهو الواجب بغيره ومنه ما ينفيه وهو الواجب

بنفسه وصار هذا كاللون إذا أخذ مجردا لا يستلزم السواد ولا ينفيه والحيوان إذا أخذ مجردا لا يستلزم النطق ولا ينفيه وكذلك سائر المعاني العامة التي تجري مجرى الأجناس إذا أخذت مع قطع النظر عن بعض الأنواع لم تكن مستلزمة لذلك ولا مانعة منه الرابع أن قول القائل الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة إلى المؤثر مما يعلم فساده ببديهة العقل والعلم بفساد ذلك أظهر من العلم بفساد قول من يقول الإمكان من حيث هو إمكان مانع عن الحاجة إلى المؤثر فإن علم الناس بأن ما حدث بعد أن لم يكن لا بد له من محدث أظهر وأبين من علمهم بأن ما قبل الوجود والعدم لا بد له من مرجح فإذا كانت الحجة النافية لهذا سوفسطائية فتلك أولى أن تكون سوفسطائية الخامس أن هذه الحجة مبنية على أن في الخارج ماهية غير الوجود الحاصل في الخارج وأنه يعتقب عليها الوجود والعدم وهذا ممنوع وباطل السادس أنه لو سلم ذلك فالماهية من حيث هي هي لا تستحق وجودا ولا عدما ولا تفتقر إلى فاعل فإن من يقول ذلك يقول الماهيات غير مجعولة وأن المجعول اتصافها بالوجود وإنما تفتقر إلى الفاعل إذا كانت

موجودة وإذا كانت موجودة فوجودها واجب فعلم أن افتقارها إلى الفاعل في حال وجوب وجودها بالغير لا في الحال التي لا تستحق فيها وجودا ولا عدما السابع أنه لو سلم أن هذه الماهية ثابتة في الخارج وإنما هي من حيث هي هي مفتقرة إلى المؤثر فليس في هذا ما يدل على وجوب كونها أزلية بل ولا على إمكان ذلك وإذا لم يكن فيه ما يدل على ذلك لم يمتنع أن يكون هذا الافتقار لا يثبت لها إلا مع الحدوث ولكون الحدوث شرطا في هذا الافتقار الثامن أنا إذا سلمنا أن علة الافتقار إلى الفاعل هو الإمكان فالإمكان الذي يعقله الجمهور إمكان أن يوجد الشيء وإمكان أن يعدم الشيء وهذا الإمكان ملازم للحدوث فلا يعقل إمكان كون الشيء قديما أزليا واجبا بغيره وهو مع ذلك يفتقر إلى الفاعل وهذا هو الذي يدعونه التاسع أنهم إذا جعلوا الوجوب مانعا من الاستناد إلى الغير وإن كان وجوبا حادثا فالوجوب القديم الأزلي أولى أن يكون مانعا من الاستناد إلى الغير والأفلاك عندهم واجبة الوجود أزلا وأبدا ووجوب ذلك

بغيرها فإذا كان هذا الوجوب لازما للماهية والوجوب مانع من الافتقار إلى الغير كان لازم الماهية مانعا لها من الافتقار فلا تزال الماهة القديمة ممنوعة من الإفتقار إلى الغير فيلزم أن لا تفتقر إلى الغير أبدا وهذا هو الذي يقوله جماهير العقلاء وأن ما كان قديما يمتنع أن يكون مفعولا العاشر أنه إذا قدر أن الإمكان هو المحوج إلى الغير المؤثر فالتأثير هو جعل الشيء موجودا وإبداع وجوده جعل ما يمكن عدمه موجودا لا يعقل إلا بإحداث وجود له بعد أن لم يكن وإلا فما كان وجوده واجبا أزليا يمتنع عدمه لا يعقل حاجته إلى من يجعله موجودا وإذا قالوا هو واجب الوجود أزلا وأبدا يمتنع عدمه وقالوا مع ذلك إن غيره هو الذي أبدعه وجعله موجودا وإنه يمكن وجوده وعدمه فقد جمعوا في كلامهم من التناقض أعظم مما يذكرونه عن غيرهم الحادي عشر أنه لو كان مجرد الإمكان مستلزما للحاجة إلى الفاعل لكان كل ممكن موجودا كما أنا إذا قلنا الحدوث هو المحوج إلى المؤثر كان كل محدث موجودا لأن المحتاج إلى الفاعل إنما يحتاج إليه إذا فعله الفاعل وإلا فبتقدير أن لا يفعله لا حاجة به إليه وإذا فعله الفاعل لزم

وجوده فيلزم وجود كل ممكن وهو معلوم الفساد بضرورة العقل فإن قيل المراد أن الممكن لا يوجد إلا بفاعل قيل فيكون الإمكان مع الوجود يستلزم الحاجة إلى الفاعل وحينئذ فيحتاجون إلى بيان أنه يمكن كون وجود الممكن أزليا وأن الفاعل يمكنه أن يكون مفعوله المعين أزليا وهذا إذا إثبتموه لم تحتاجوا إلى ما تقدم فإنه لا تثبت حاجة الممكن إلى الفاعل إلا في حال وجوده فعلم أن الاستدلال بمجرد الإمكان باطل قال الرازي البرهان العاشر جهة الاحتياج لابد وأن لا تبقى مع المؤثر كما كانت لا مع المؤثر وإلا لبقيت الحاجة مع المؤثر إلى مؤثر آخر فلو جعلنا الحدوث جهة الاحتي إلى المؤثر والحدوث مع المؤثر كهو لا مع المؤثر لأن الحدوث هو الوجود بعد العدم وسواء كان ذلك الوجود بالفاعل أو لا بالفاعل فهو وجود بعد العدم وسواء أخذ حال الحدوث أو حال البقاء فهو في كليهما وجود بعد العدم فإذن هو مع المؤثر كهولا مع

المؤثر فيلزم المحال المذكور أما إذا جعلنا الإمكان جهة الاحتياج فهو عند المؤثر لا يبقى كما كان عند عدم المؤثر فإن الماهية مع المؤثر لا تبقى ممكنة ألبتة فعلم أن الحدوث لا يصلح جهة الاحتياج فيقال هذا من جنس الذي قبله والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال كون الماهية مع المؤثر لا تبقى ممكنة ألبتة هو وصف ثابت لها مع الحدوث أيضا بل لا يعلم ذلك إلا مع الحدوث فإن الممكن الذي يعلم أنه يصير واجبا بالفاعل هو المحدث أما القديم الأزلي فهو مورد النزاع وجمهور العقلاء يقولون نعلم ببديهة العقل أنه لا يكون له فاعل وبتقدير أن تكون المسألة نظرية فالمنازع لم يقم على ذلك دليلا ألبتة إذ لا دليل يدل على قدم شيء من العالم ألبته وإنما غاية الأدلة الصحيحة أن تدل على دوام الفاعلية وذلك يحصل بإحداث شيء بعد شيء وبكل حال فلا ريب أن الممكن المحدث واجب بفاعله وحينئذ فيقال الحدوث بعد العدم إذا كان بالفاعل اقتضى وجوب المحدث وأما إذا لم يكن بالفاعل امتنع الحدوث فلم يكن الحدوث بعد العدم مع المؤثر كهو لا مع المؤثر فأنه في هذه الحال واجب وفي هذه ممتنع كما أن الممكن مع المؤثر واجب وبدون المؤثر ممتنع

وإذا كان واجبا مع المؤثر مع كونه حادثا لم يحتج مع ذلك إلى مؤثر آخر والجواب الثاني أن يقال قوله الماهية مع المؤثر لا تبقى ممكنة ألبتة إن أراد به أنها لا تبقى محتاجة إلى المؤثر أو لا يبقى علة احتياجها هو الإمكان فهذا باطل وهو خلاف ما يقولونه دائما وإن أراد به أنها لا تبقى ممكنة العدم لوجوبها بالغير فهذا يناقض ما يقولونه من أنها باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها مع كونها واجبة بالغير وحينئذ فبطل قولهم إن القديم الأزلي يكون ممكنا فليس شيء من القديم الأولى بممكن وهذا ينعكس بانعكاس النقيض فلا يكون شيء من الممكن بقديم أزلي فثبت أن كل ممكن لا يوجد إلا بعد عدمه وهو المطلوب وإذا بطل المذهب بطلت جميع أدلته لأن القول لازم عن الأدلة فإذا انتفى اللازم انتفت الملزومات كلها والجواب الثالث قوله جهة الاحتياج لا بد وأن لا تبقى مع المؤثر كما كانت لا مع المؤثر أتريد به أن المحتاج إلى المؤثر لا يكون مع عدم المؤثر كما يكون مع المؤثر أم تريد أن علة احتياجه أو شرط احتياجه أو دليل احتياجه يختلف في الحالين فإن أردت الأول فهذا صحيح فإن المحدث بعد العدم لا يكون مع المؤثر كما كان مع عدم المؤثر فإنه

مع عدمه معدوم بل واجب العدم ومع وجوده موجود بل واجب الوجود وقوله لأن الحدوث هو الوجود بعد العدم سواء كان الوجود بالفاعل أو بغير الفاعل تقدير ممتنع فإن كونه بغير الفاعل ممتنع فلا يكون حدوث بعد العدم بغير الفاعل حتى يسوى بينه في هذه الحال وفي حال عدمها بل هذا مثل أن يقال رجحان وجوده على عدمه سواء كان بالفاعل أو بغير الفاعل وإن أردت بذلك أنه ما كان علمة أو دليلا أو شرطا في أحد الحالين لا يكون كذلك في الحال الأخرى فهذا باطل فإن علة احتياج الأثر إلى المؤثر إذا قيل هو الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما فهو كذلك مطلقا فإنا نعلم أن المحدث لا يحدث إلا بفاعل سواء حدث أو لم يحدث والممكن لا يترجح وجوده إلا بمرجح سواء ترجح أو لم يترجح لكن هذا الاحتياج إنما يحقق في حال وجوده إذ ما دام معدوما فلا فاعل له وقولك وإلا لبقيت الحاجة مع المؤثر إلى موثر آخر إنما يدل على المعنى المسلم دون الممنوع فإنه يدل على أنه بالمؤثر يحصل وجوده لا يفتقر مع المؤثر إلى شيء آخر لا يدل على أنه مع المؤثر لا يكون

علة حاجتها أو دليلها أو شرطها الحدوث أو الإمكان أو مجموعهما بل هذا المعنى هو ثابت له حال وجوده أظهر من ثبوته له حال عدمه فإنه إنما يحتاج إلى ذلك حال وجوده لا حال عدمه وحينئذ فإذا قلنا احتاج إلى المؤثر لحدوثه بعد العدم وهذا الوصف ثابت له حال وجوده كنا قد أثبتنا علة حاجته وقت وجوده والعلة حاصلة وإذا قلنا العلة هي الإمكان وادعينا انتفاءها عند وجوده كنا قد عللنا حاجته إلى المؤثر بعد وقت وجوده بعلة منتفية وقت وجوده وهذا يدل على أن ما ذكره حجة عليهم لا لهم وهذا بين لمن تدبره وهذا وغيره مما يبين أن القوم لما غيروا فطرة الله التي فطر عليها عباده فخرجوا عن صريح المعقول وصحيح المنقول ودخلوا في هذا الإلحاد الذي هو من أعظم جوامع الكفر والعناد صار في أقوالهم من التناقض والفساد مالا يعلمه إلا رب العباد مع دعواهم أنهم أصحاب البراهين العقلية والمعارف الحكمية وأن العلوم الحقيقية فيما يقولونه لا فيما جاءت به رسل الله الذين هم أفضل الخليقة وأعلمهم بالحقيقة وهؤلاء الملاحدة يخالفون المعقولات والمسموعات بمثل هذه الضلالات إذ من البين أن المحتاج إلى الخالق الذي خلقه هو محتاج إليه في حال وجوده وكونه مخلوقا أما إذا قدر أنه باق على العدم ففي تلك الحال لا يحتاج عدمه إلى خالق لوجوده بل ولا فاعل لعدمه وهم

وإن قالوا عدمه يفتقر إلى فالمرجح فالمرجح عندهم عدم العلة فالجميع عدم لم يقولوا إن العدم يفتقر إلى موجود وإذا كان هذا بينا فقوله جهة الاحتجاج لا بد وأن لا تبقى مع المؤثر كما كانت لا مع المؤثر هو كلام ملبس فإن الاحتجاج إنما هو في حال كون المؤثر مؤثرا فكيف تزول حاجته إلى المؤثر في الحال التي هو فيها محتاج إلى المؤثر وكيف يكون محتاجا إلى المؤثر حين لم يؤثر فيه وهو معدوم لا يحتاج إلى مؤثر أصلا وفي حال احتياجه إليه لا يكون محتاجا إليه وإن قالوا هو في حال عدمه لا يمكن وجوده إلا بمؤثر قلنا فهذا بعض ما ذكرنا فإن كونه لا يوجد إلا بمؤثر أمر لازم له لا يقال إنه ثابت له في حال عدمه دون حال وجوده وإذا تبين أن الفعل مستلزم لحدوث المفعول وأن إرادة الفاعل أن يفعل مستلزمة لحدوث المراد فهذا يبين أن كل مفعول وكل ما أريد فعله فهو حادث بعد أن لم يكن عموما وعلم بهذا أنه يمتنع أن يكون ثم إرادة أزلية لشيء من الممكنات يقارنها مرادها أزلا وأبدا سواء كانت عامة لكل ما يصدر عنه أو كانت خاصة ببعض المفعولات ثم يقال أما كونها عامة لكل ما يصدر عنه فامتناعه ظاهر متفق

عليه بين العقلاء فإن ذلك يستلزم أن يكون كل ما صدر عنه بواسطة أو بغير واسطة قديما أزليا فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء وهو مخالف لما يشهده الخلق من حدوث الحوادث في السماء والأرض وما بينهما من حدوث الحركات والأعيان والأعراض كحركة الشمس والقمر والكواكب وحركة الرياح وكالسحاب والمطر وما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن وأما إرادة شيء معين فلما تقدم ولأنه حينئذ إما أن يقال ليس له إلا تلك الإرادة الأزلية وإما أن يقال له إرادات تحصل شيئا بعد شيء فإن قيل بالأول فإنه على هذا التقدير يكون المريد الأزلي في الأزل مقارنا لمراده الأزلي فلا يريد شيئا من الحوادث لا بالإرادة القديمة ولا بإرادة متجددة لأنه إذا قدر أن المريد الأزلي يجب أن يقارنه مرادة كان الحادث حادثا إما بإرادة أزلية فلا يقارن المريد مراده وإما حادثا بإرادة حادثة مقارنة له وهذا باطل لوجهين أحدهما أن التقدير أنه ليس له إلا إرادة واحدة أزلية الثاني أن حدوث تلك الإرادة يفتقر إلى سبب حادث والقول في ذلك السبب الحادث كالقول في غيره يمتنع أن يحدث بالإرادة الأزلية المستلزمة لمقارنة مرادها لها ويمتنع أن يحدث بلا إرادة لامتناع حدوث الحادث بلا إرادة فيجب على هذا التقدير أن تكون إرادة

الحادث المعين مشروط بإرادة له وبإرادة للحادث الذي قبله وأن الفاعل المبدع لم يزل مريدا لكل ما يحدث من المرادات وهذا هو التقدير الثاني وهو أن يقال لو أراد أن يحصل شيئا بعد شيء فكل مراد له محدث كائن بعد أن لم يكن وهو وحده المنفرد بالقدم ولأزلية وكل ما سواه مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وعلى هذا التقدير فليس فيه إلا دوام الحوادث وتسلسلها وهذا هو التقدير الذي تكلمنا عليه ويلزم أن يقوم بذات الفاعل ما يريده ويقدر عليه وهذا هو قول أئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفلسفة بل قول أساطينهم من المتقدمين والمتأخرين فتبين أنه يجب القول بحدوث كل ما سوى الله سواء سمى جسما أو عقلا أو نفسا وأنه يمتنع كون شيء من ذلك قديما سواء قيل بجواز دوام الحوادث وتسلسلها وأنه لا أول لها أوقيل بامتناع ذلك وسواء قيل بأن الحادث لا بد له من سبب حادث أو قيل بامتناع ذلك وأن القائلين بقدم العالم كالأفلاك والعقول والنفوس قولهم باطل في صريح العقل الذي لم يكذب قط على كل تقدير وهذا هو المطلوب وقد بسط الكلام على ما يتعلق يهذا في غير هذا الموضع فإن هذا الأصل هو الأصل الذي تصادمت فيه أئمة الطوائف من أهل

الفلسفة والكلام والحديث وغيرهم وهو الكلام في الحدث والقدم في أفعال الله وكلامه ويدخل في ذلك الكلام في حدوث العالم والكلام في كلام الله وأفعاله والكلام في هذين الأصلين من محارات العقول فالفلاسفة القائلون بقدم العالم كانوا في غاية البعد عن الحق الذي جاءت به الرسل الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول ولكنهم ألزموا أهل الكلام الذين وافقوهم على نفي قيام الأفعال والصفات بذاته أو على نفي قيام الأفعال بذاته بلوازم قولهم فظهر بذلك من تناقض أهل الكلام ما استطال به عليهم هؤلاء الملحدون وذمهم به علماء المؤمنين من السلف والأئمة وأتباعهم وكان كلامهم من الكلام الذي ذمهم به السلف لما فيه من الخطأ والضلال الذي خالفوا به الحق في مسائلهم ودلائلهم فبقوا فيه مذبذبين متناقضين لم يصدقوا بما جاءت به الرسل على وجهه ولا قهروا أعداء الملة بالحق الصريح المعقول وسبب ذلك أنهم لم يحققوا ما أخبرت به الرسل ولم يعلموه ولم يؤمنوا به ولا حققوا موجبات العقول فنقصوا في علمهم بالسمعيات والعقليات وإن كان لهم منهما نصيب كبير فوافقوا في بعض ما

قالوا الكفار الذين قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (سورة الملك). وفرعوا من الكلام في صفات الله وأفعاله ما هو بدعة مخالفة للشرع وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فهي مخالفة للعقل كما هي مخالفة للشرع والذي نبهنا عليه هنا يعلم به دلالة العقل الصريح على ما جاءت به الرسل ولا ريب أن كثيرا من طوائف المسلمين يخطئ في كثير من دلائله ومسائله فلا يسوغ ولا يمكن نصر قوله مطلقا بل الواجب أن لا يقال إلا الحق قال تعالى ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق (سورة الأعراف). وإذا كان المقصود نصر حق اتفق عليه أهل الملة أو رد باطل اتفقوا على أنه باطل نصر بالطريق الذي يفيد ذلك وإن لم يستقم دليله على طريقة طائفة من طوائف أهل القبلة بين كيف يمكن إثباته بطريقة مؤلفة من قولها وقول طائفة أخرى فإن تلك الطائفة أن توافق طائفة من طوائف المسلمين خير لها من أن تخرج عن دين الإسلام وكذلك أن توافق المعقول الصريح خير من أن تخرج عن المعقول بالكلية والقول كلما كان أفسد في الشرع كان أفسد في العقل فإن الحق لا يتناقض والرسل إنما أخبرت بالحق والله فطر عباده على معرفة الحق والرسل بعثت بتكميل الفطرة لا بتغيير الفطرة قال تعالى سنريهم آياتنا في

الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق (سورة فصلت). فأخبر أنه سيريهم الآيات الأفقية والنفسية المبينة لأن القرآن الذي أخبر به عباده حق فتتطابق الدلالة البرهانية القرآنية والبرهانية العيانية ويتصادق موجب الشرع المنقول والنظر المعقول لكن أهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من المنتسبين إلى السنة من المتأخرين ابتدعوا في أصول دينهم حكما ودليلا فأخبروا عن قول أهل الملل بما لم ينطق به كتاب ولا سنة واستدلوا على ذلك بطريقة لا أصل لها في كتاب ولا سنة فكان القول الذي أصلوه ونقلوه عن أهل الملل والدليل عليه كلاهما بدعة في الشرع لا أصل لواحد منهما في كتاب ولا سنة مع أن أتباعهم يظنون أن هذا هو دين المسلمين فكانوا في مخالفة المعقول بمنزلتهم في مخالفة المنقول وقابلتهم الملاحدة المتفلسفة الذين هم أشد مخالفة لصحيح المنقول وصريح المعقول وما ذكرناه هنا هو مما يعلم به حدوث كل ما سوى الله وامتناع قدم شيء بعينه من العالم بقدم الله يفيد المطلوب على كل تقدير من التقديرات ويمكن التغيير عنه بأنواع من العبارات وتأليفه على وجوه من التأليفات فإن المادة إذا كانت مادة صحيحة أمكن تصويرها بأنواع من الصور وهي في ذلك يظهر أنها صحيحة بخلاف الأدلة

المغالطية التي قد ركبت على وجه معين بألفاظ معينة فإنها متى غير ترتيبها وألفاظها ونقلت من صورة إلى صورة ظهر خطؤها فالأولى كالذهب الصحيح فإنه إذا نقل من صورة إلى صورة لم يتغير جوهره بل يتبين أنه ذهب وأما المغشوش فإنه إذا غير من صورة ظهر أنه مغشوش وهذه الأدلة المذكورة دالة على حدوث كل ما سوى الله وأن كل ما سوى الله حادث كائن بعد أن لم يكن سواء قيل بدوام نوع الفعل كما يقوله أئمة أهل الحديث وأئمة الفلاسفة أو لم يقل ولكن من لم يقل بذلك يظهر بينه وبين طوائف أهل الملل وغيرها من النزاع والخصومات والمكابرات ما أغنى الله عنه من لم يشركه في ذلك أو تتكافأ عنده الأدلة ويبقى في أنواع من الحيرة والشك والاضطراب قد عافى الله منها من هداه وبين له الحق قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (سورة البقرة).

فالخالق سبحانه يمتنع أن يكون مقارنا له في القدم شيء من العالم كائنا ما كان سواء قيل إنه يخلق بمشيئته وقدرته كما يقوله المسلمون وغيرهم أو قيل إنه موجب بذاته أو علة مستلزمة للمعلول أو سمى مؤثرا لكون لفظ التأثير يعم هذه الأنواع فيدخل فيه الفاعل باختياره ويدخل فيه بذاته وغير ذلك بل هو المختص بالقدم الذي استحق ما سواه كونه مسبوقا بالعدم ولكن الاستدلال على ذلك بالطريقة الجهمية المعتزلية طريقة الأعراض والحركة والسكون التي مبناها على أن الأجسام محدثة لكونها لا تخلو عن الحوادث وامتناع حوادث لا أول لها طريقة مبتدعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة وطريقة مخطرة مخوفة في العقل بل مذمومة عند طوائف كثيرة وإن لم يعلم بطلانها لكثرة مقدماتها وخفائها والنزاع فيها عند كثير من أهل النظر كالأشعري في رسالته إلى أهل الثغر ومن سلك سبيله في ذلك كالخطابي وأبي عمر الطلمنكي وغيرهم وهي طريقة باطلة في الشرع والعقل عند محققي الأئمة العالمين بحقائق المعقول والمسموع والاستدلال بهذه الطريق أوجب نفي صفات الله القائمة به ونفى أفعاله القائمة به وأوجبت من بدع الجهمية ما هو معروف عند سلف الأمة وسلطت بذلك الدهرية على القدح فيما جاءت به الرسل عن الله فلا قامت بتقرير الدين ولا قمعت أعداءه الملحدين وهي التي أوجبت على من سلكها قولهم إن الله لم يتكلم بل كلامه مخلوق فإنه بتقدير صحتها تستلزم هذا القول وأما ما أحدثه ابن كلاب ومن اتبعه من القول بقدم شيء منه معين إما معنى واحد وإما حروف وأصوات معينة يقترن بعضها ببعض أزلا وأبدا فهي أقوال محدثة بعد حدوث القول بخلق القرآن وفيها من الفساد شرعا وعقلا ما يطول وصفه لكن القائلون بها

بينوا فساد قول من قال هو مخلوق من الجهمية والمعتزلة فكان في كلام كل طائفة من هؤلاء من الفائدة بيان فساد قول الطائفة الأخرى لا صحة قولها إذ الأقوال المخالفه للحق كلها باطلة وكان الناس لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم في ضلال عظيم كما في صحيح مسلم من حديث عياش بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وإن ربي قال لي قم في قريش فأنذرهم فقلت أي رب إذن يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة فقال إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان فابعث جندا ابعث مثليهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق أنفق عليك وقال إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا الحديث بطوله وكان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول فلما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ووقعت الفتنة فاقتتل المسلمون بصفين مرقت المارقة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولي الطائفتين بالحق وكان مروقها لما حكم الحكمان وافترق الناس على غير اتفاق وحدثت أيضا بدعة التشيع كالغلاة المدعين لإلاهية علي والمدعين النص على علي رضي الله عنه السابين لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فعاقب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الطائفتين قاتل المارقين وأمر بإحراق أولئك الذين ادعوا فيه الإلاهية فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له فقال لهم ما هذا فقالوا أنت هو قال من أنا قالوا أنت الله الذي لا إله إلا هو فقال ويحكم

هذا كفر ارجعوا عنه وإلا ضربت أعناقكم فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك فأخرهم ثلاثة أيام لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام فلما لم يرجعوا أمر بأخاديد من نار فخدت عند باب كندة وقذفهم في تلك النار وروى عنه أنه قال لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا وقتل هؤلاء واجب باتفاق المسلمين لكن في جواز تحريقهم نزاع فعلي رضي الله عنه رأى تحريقهم وخالفه ابن عباس وغيره من الفقهاء قال ابن عباس أما أنا فلو كنت لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه وهذا الحديث في صحيح البخاري وأما السبابة الذين يسبون أبا بكر وعمر فإن عليا لما بلغه ذلك طلب ابن السوداء الذي بلغه ذلك وقيل إنه أراد قتله فهرب منه إلى أرض قرقيسيا وأما المفضلة الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر فروى عنه أنه قال لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري وقد تواتر عنه أنه كان يقول على منبر الكوفة خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر روى ذلك عنه من أكثر من ثمانين وجها ورواه البخاري وغيره ولهذا كانت الشيعة المتقدمون كلهم متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر كما ذكر ذلك غير واحد فهاتان البدعتان بدعة الخوارج والشيعة حدثنا في ذلك الوقت لما وقعت الفتنة ثم إنه في أواخر عصر الصحابة حدثت بدعة القدرية

والمرجئة فأنكر ذلك الصحابة والتابعون كعبد الله بن عمر وعبد الله ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع ثم إنه في أواخر عصر التابعين من أوائل المائة الثانية حدثت بدعة الجهمية منكرة الصفات وكان أول من أظهر ذلك الجعد بن درهم فطلبه خالد بن عبد الله القسري فضحى به بواسط فخطب الناس يوم النحر وقال أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله تعالى لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه ثم ظهر بهذا المذهب الجهم بن صفوان ودخلت فيه بعد ذلك المعتزلة وهؤلاء أول من عرف عنهم في الإسلام أنهم أثبتوا حدوث العالم بحدوث الإجسام وأثبتوا حدوث الأجسام بحدوث ما يستلزمها من الأعراض وقالوا الأجسام لا تنفك عن أعراض محدثة وما لا ينفك عن الحوادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها ثم إنهم تفرقوا عن هذا الأصل فلما قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي عورضوا بالمستقبل فطرد إماما هذه الطريقة هذا الأصل وهما إمام الجهمية الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة وقالا بامتناع دوام الحوادث في المستقبل والماضي ثم إن جهما قال إذا كان الأمر كذلك لزم فناء الجنة والنار وأنه يعدم كل ما سوى الله كما كان ما سواه معدوما وكان هذا مما أنكره السلف والأئمة على الجهمية وعدوه من كفرهم وقالوا إن الله تعالى يقول إن هذا لرزقنا ماله من نفاد (سورة ص). وقال تعالى أكلها دائم وظلها (سورة الرعد). إلى غير ذلك من النصوص الدالة على بقاء نعيم الجنة وأما أبو الهذيل فقال إن الدليل إنما دل على انقطاع الحوادث فقط فيمكن بقاء الجنة والنار لكن تنقطع الحركات فيبقى أهل الجنة والنار ساكنين ليس فيهما حركة أصلا ولا شيء يحدث ولزمه على ذلك أن يثبت أجساما باقية دائمة خالية عن الحوادث فيلزم وجود أجسام بلا

حوادث فينتقض الأصل الذي أصلوه وهو أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث وهذا هو الأصل الذي أصله هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي وغيرهما من المجسمة الرافضة وغير الرافضة كالكرامية فقالوا بل يجوز ثبوت جسم قديم أزلي لا أول لوجوده وهو خال عن جميع الحوادث وهؤلاء عندهم الجسم القديم الأزلي يخلو عن الحوادث وأما الأجسام المخلوقة فلا تخلو عن الحوادث ويقولون ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لكن لا يقولون إن كل جسم فإنه لا يخلو عن الحوادث ثم إن هؤلاء الجهمية أصحاب هذا الأصل المبتدع احتاجوا أن يلتزموا طرد هذا الأصل فقالوا إن الرب لا تقوم به الصفات ولا الأفعال فأنها أعراض وحوادث وهذه لا تقوم إلا بجسم والأجسام محدثة فيلزم أن لا يقوم بالرب علم ولا قدرة ولا كلام ولا مشيئة ولا رحمة ولا رضا ولا غضب ولا غير ذلك من الصفات بل جميع ما يوصف به من ذلك فإنما هو مخلوق منفصل عنه

والجهمية كانوا يقولون قولنا إنه يتكلم هو مجاز والمعتزلة قالوا إنه متكلم حقيقة لكن المعنى واحد فكان أصل هؤلاء هو المادة التي تشعبت عنها هذه البدع فجاء ابن كلاب بعد هؤلاء لما ظهرت المحنة المشهورة وامتحن الإمام أحمد بن حنبل وغيره من ائمة السنة وثبت الله الإمام أحمد بن حنبل وجرت أمور كثيرة معروفة وانتشر بين الأمة النزاع في هذه المسائل قام أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري وصنف في الرد على الجهمية والمعتزلة مصنفات وبين تناقضهم فيها وكشف كثيرا من عوراتهم لكن سلم لهم ذلك الأصل الذي هو ينبوع البدع فاحتاج لذلك أن يقول إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا نادى موسى حين جاء الطور بل ولا يقوم به نداء حقيقي ولا يكون إيمان العباد وعملهم الصالح هو السبب في رضاه ومحبته ولا كفرهم هو السبب في سخطه وغضبه فلا يكون بعد أعمالهم لا حب ولا رضا ولا سخط ولا فرج ولا غير ذلك مما أخبرت به نصوص الكتاب والسنة قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله سورة

آل عمران وقال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (سورة محمد). وقال تعالى فلما آسفونا انتقمنا منهم (سورة الزخرف). وقال تعالى إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم (سورة الزمر). وقال تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (سورة آل عمران). وقال تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة أسجدوا لآدم (سورة الأعراف). وأمثال ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى إلا بكلفة وهي تبلغ مئين من نصوص القرآن والحديث كما ذكرنا طرفا منها في غير هذا الموضع وذكرنا كلام السلف والخلف في هذا الأصل وذكرنا مذاهب القدماء من الفلاسفة أيضا وموافقة أساطينهم على هذا الأصل ثم إنه بسبب ذلك تفرق الناس في مسألة القرآن فاحتاج ابن كلاب ومتبعوه إلى أن يقولوا هو قديم وإنه لازم لذات الله وإن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته وجعلوا جميع ما يتكلم به قديم العين لم يقولوا إنه

يتكلم بمشيئته وقدرته أزلا وأبدا وإن كلامه قديم بمعنى أنه قديم النوع لم يزل الله متكلما بمشيئته كما قاله السلف والأئمة ثم قالوا إنه قديم العين وافترقوا على حزبين حزب قالوا يمتنع أن يكون القديم هو الحروف والأصوات لامتناع البقاء عليها وكونها توجد شيئا بعد شيء لأن المسبوق بغيره لا يكون قديما فالقديم هو المعنى ويمتنع وجود معان لا نهاية لها في آن واحد والتخصيص بعدد دون عدد لا موجب له فالقديم معنى واحد هو الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن وهو معنى آية الكرسي وآية الدين وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وأنكروا أن يكون الكلام العربي كلام الله والحزب الثاني قالوا بل الحروف أو الحروف والأصوات قديمة أزلية الأعيان وقالوا الترتيب في ذاتها لا في وجودها وفرقوا بين الحقيقة وبين وجود الحقيقة كما يفرق كثير من أهل الكلام بين وجود الرب وبين حقيقته وكثير منهم ومن الفلاسفة يفرق بين وجود الممكنات وبين حقيقتها وقالوا الترتيب هو في حقيقتها لا في وجودها بل هي موجودة أزلا وأبدا لم يسبق منها شيء شيئا وإن كانت حقيقتها

مرتبة ترتيبا عقليا كترتيب الذات على الصفات وكترتيب المعلول على العلة كما يقوله المتفلسفة القائلون بقدم العالم حيث قالوا إن الرب متقدم على العالم بذاته وحقيقته ولم يتقدم عليه تقدما زمانيا وقالوا في تقدم بعض كلامه على بعض كما قال هؤلاء في تقدمه على معلوله وهؤلاء يجعلون التقدم والتأخر والترتيب نوعين عقليا ووجوديا ويدعون أن ما أثبتوه من الترتيب والتقدم والتأخر هو عقلي لا وجودي وأما جمهور العقلاء فينكرون هذا ويقولون إن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة وإن الترتيب والتقدم والتأخر لا يعقل إلا وجود الشيء بعد غيره لا يمكن مع كونه معه إلا أن يكون بعده كما يقولون إن المعلول لا يكون إلا بعد العلة ولا يكون إلا معها وهذه الأمور قد بسطت في غير هذا الموضع بسطا كبيرا ولكن ذكر هنا ما تيسر والمقصود أن هذه الطريق الكلامية التي ابتدعتها الجهمية والمعتزلة وأنكرها سلف الأمة وأئمتها صارت عند كثير من النظار المتأخرين هي دين الإسلام بل يعتقدون أن من خالفها فقد خالف دين الإسلام مع أنه لم ينطق بما فيها من الحكم والدليل لا آية من كتاب الله ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة والتابعين لهمبإحسان فكيف يكون دين الإسلام بل أصل أصول دين الإسلام مما لم يدل عليه لا كتاب ول سنة ولا قول أحد من السلف ثم حدث بعد هذا في الإسلام الملاحدة من المتفلسفة وغيرهم حدثوا وانتشروا بعد انقراض العصور المفضلة وصار كل زمان ومكان يضعف فيه نور الإسلام يظهرون فيه وكان من أسباب ظهورهم أنهم ظنوا أن دين الإسلام ليس إلا ما يقوله أولئك المبتدعون ورأوا ذلك فسادا في العقل فرأوا دين الإسلام المعروف فاسدا في العقل فكان غلاتهم طاعنين في دين الإسلام بالكلية باليد واللسان كالخرمية أتباع بابك الخرمي وقرامطة البحرين أتباع أبي سعيد الجنابي وغيرهم

وأما مقتصدوهم وعقلاؤهم فرأوا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فيه من الخير والصلاح مالا يمكن القدح فيه بل اعترف حذاقهم بما قاله ابن سينا وغيره من أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموس محمد صلى الله عليه وسلم وكان هذا موجب عقلهم وفلسفتهم فإنهم نظروا في أرباب النواميس من اليونان فرأوا أن الناموس الذي جاء به موسى وعيسى أعظم من نواميس أولئك بأمر عظيم ولهذا لما ورد ناموس عيسى بن مريم عليه السلام على الروم انتقلوا عن الفلسفة اليونانية إلى دين المسيح وكان أرسطو قبل المسيح بن مريم عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة كان وزيرا للإسكندر بن فيلبس المقدوني الذي غلب على الفرس وهو الذي يؤرخ له اليوم بالتاريخ الرومي تؤرخ له اليهود والنصارى وليس هذا الإسكندر هو ذا القرنين المذكور في القرآن كما يظن ذلكطائفة من الناس فإن ذلك كان متقدما على هذا وذلك المتقدم هو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج وهذا المقدوني لم يصل إلى السد وذاك كان مسلما موحدا وهذا المقدوني كان مشركا هو وأهل بلده اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان وقد قيل إن آخر ملوكهم كان هو بطليموس صاحب المجسطى وأنهم بعده انتقلوا إلى دين المسيح فإن الناموس الذي بعث به المسيح كان أعظم وأجل بل النصارى بعد أن غيروا دين المسيح وبدلوا هم أقرب إلى الهدى ودين الحق من أولئك الفلاسفة الذين كانوا مشركين وشرك أولئك الغليظ هو مما أوجب إفساد دين المسيح كما ذكره طائفة من أهل العلم قالوا كان أولئك يعبدون الأصنام ويعبدون الشمس والقمر والكواكب ويسجدون لها

والله تعالى إنما بعث المسيح بدين الإسلام كما بعث سائر الرسل بدين الإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون س (سورة الزخرف). وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون (سورة الأنبياء). وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمه رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة (سورة النحل). وقد أخبر الله تعالى عن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وغيرهم من الرسل والمؤمنين إلى زمن الحواريين أن دينهم كان الإسلام قال تعالى عن نوح عليه السلام إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءهم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم أقضوا إلى ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين (سورة يونس). وقال تعالى عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه

نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (سورة البقرة). وقال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (سورة يونس). وقال إن أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا (سورة المائدة). وقال عن بلقيس رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (سورة النمل). وقال عن الحواريين وإذ أوحيت إلى الحواديين أن أمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون (سورة المائدة). ولما كان المسيح صلوات الله عليه قد بعث بما بعث به المرسلون قبله من عباده الله وحده لا شريك له وأحل لهم بعض ما كان حرم عليهم في التوراة وبقي أتباعه على ملته مدة قيل أقل من مائة سنة ثم ظهرت فيهم البدع بسبب معاداتهم لليهود صاروا يقصدون خلافهم فغلوا في المسيح وأحلوا أشياء حرمها وأباحوا الخنزير وغير ذلك

وابتدعوا شركاء بسبب شرك الأمم فإن أولئك المشركين من اليونان والروم وغيرهم كانوا يسجدون للشمس والقمر والأوثان فنقلتهم النصارى عن عبادة الأصنام المجسدة التي لها ظل إلى عبادة التماثيل المصورة في الكنائس وابتدعوا الصلاة إلى المشرق فصلوا إلى حيث تظهر الشمس والقمر والكواكب واعتاضوا بالصلاة إليها والسجود إليها عن الصلاة لها والسجود لها والمقصود أن النصارى بعد تبديل دينهم كان ناموسهم ودينهم خيرا من دين أولئك اليونان أتباع الفلاسفة فلهذا كان الفلاسفة الذين رأوا دين الإسلام يقولون إن ناموس محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع النواميس ورأوا أنه أفضل من نواميس النصارى والمجوس وغيرهم فلم يطعنوا في دين محمد صلى الله عليه وسلم كما طعن أولئك المظهرون للزندقة من الفلاسفة ورأوا أن ما يقوله أولئك المتكلمون فيه ما يخالف صريح المعقول فطعنوا بذلك عليهم وصاروا يقولون من أنصف ولم يتعصب ولم يتبع الهوى لا يقول ما يقوله هؤلاء في المبدأ والمعاد وكان لهم أقوال فاسدة في العقل أيضا تلقوها من سلفهم الفلاسفة ورأوا ما تقوله فيه ما يخالف العقول وطعنوا بذلك

الفلاسفة ورأوا أن ما تواتر عن الرسل يخالفها فسلكوا طريقتهم الباطنية فقالوا إن الرسل لم تبين العلم والحقائق التي يقوم عليها البرهان في الأمور العلمية ثم منهم من قال إن الرسل علمت ذلك وما بينته ومنهم من يقول إنها لم تعلمه وإنما كانوا بارعين في الحكمة العملية دون الحكمة العلمية ولكن خاطبوا الجمهور بخطاب تخييلي خيلت لهم في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما ينفعهم اعتقاده في سياستهم وإن كان ذلك اعتقادا باطلا لا يطابق الحقائق وهؤلاء المتفلسفة لا يجوزون تأويل ذلك لأن المقصود بذلك عندهم التخييل والتأويل يناقض مقصوده وهم يقرون بالعبادات لكن يقولون مقصودها إصلاح أخلاق النفس وقد يقولون إنها تسقط عن الخاصة العارفين بالحقائق فكانت بدعة أولئك المتكلمين مما أعانت إلحاد هؤلاء الملحدين وقد بسط الكلام في كشف أسرارهم وبيان مخالفتهم لصريح المعقول وصحيح المنقول في غير هذا الموضع وذكر أن المعقولات الصريحة موافقة لما أخبرت به الرسل لا تناقض ذلك ونبهنا في مواضع على ما يستوجب الاستغناء عن الطرق الباطلة المبتدعة وما به يعلم

ما يوافق خير الرسول وبينا أن الطرق الصحيحة في المعقول هي مطابقة لما أخبر به الرسول مثل هذه الطرق وغيرها فإنه يعلم بصريح المعقول أن فاعل العالم إذا قيل إنه علة تامة أزلية والعلة التامة تستلزم معلولها لزم أن لا يتخلف عنه في القدم شيء من المعلول فلا يحدث عنه شيء لا بواسطة ولا بغير واسطة ويمتنع أن يصير علة لمفعول بعد مفعول من غير أن يقوم به ما يصير علة للثاني فيمتنع مع تماثل أحواله أن تختلف مفعولاته ويحدث منها شيء وهذا مما لا ينازع فيه عاقل تصوره تصورا جيدا وحذاقهم معترفون بهذا كما يذكره ابن رشد الحفيد وأبو عبد الله الرازي وغيرهما من أن صدور المتغيرات المختلفة عن الواحد البسيط مما تنكره العقول وكذلك إذ سمى موجبا بالذات وكذلك إذا قيل مؤثر تام التأثير في الأزل أو مرجح تام الترجيح في الأزل أو نحو ذلك وكذلك إذا قيل هو قادر مختار يستلزم وجود مراده في الأزل فإنه إذا استلزم وجود مراده في الأزل لزم أن لا يحدث شيء من مراده فلا يحدث في العالم شيء إذ لا يحدث شيء إلا بإرادته فلو كانت إرادته أزلية مستلزمة لوجود مرادها معها في الأزل لزم أن لا يكون شيء من المرادات حادثا

فلا يكون في العالم حادث وهو خلاف المشاهدة وهم لا يقولون به ولا يقول عاقل إنه علة تامة أزلية لجميع معلولاتها ولا موجب أزلي لجميع العالم حتى أشخاصه ولا يقول أحد إن جميع مراده مقارن له في الأزل بل يقولون إن أصول العالم كالأفلاك والعناصر هي الأزلية القديمة بأعيانها وإن الحركات والمولدات قديمة النوع أو يقولون إن مواد هذا العالم كالجواهر المفردة أو الهيولى أو غير ذلك هي قديمة أزلية بأعيانها وهذا كله باطل إذ كان قدم شيء من ذلك يستلزم أن يكون فاعله مستلزما له في الأزل سواء سمى موجبا له بذاته في الأزل أو علة تامة قديمة مستلزمة لمعلولها أو قيل إنه فاعل بإرادته الأزلية المستلزمة للمفعول المراد في الأزل وإذا قيل هو علة تامة لأصول العالم دون حوادثه أو هو مريد بإرادة أزلية مستلزمة لاقتران مرادها بها في الأزل لكن تلك الإرادة الأزلية المقارنة لمرادها إنما تعلقت بأصول العالم دون حوادثه قيل لهم هذا باطل من وجوه منها أن مقارنة المفعول المعين لفاعله لا سيما مقارنته له أزلا

وأبدا ممتنع في صرائح العقول بل وفي بداية العقول بعد التصور التام وإذا قالوا العلوم الضرورية لا يجتمع على جحدها طائفة من العقلاء الذين لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب قيل لهم لا جرم هذا القول لم يتفق عليه طائفة من العقلاء من غير تواطؤ بل جماهير العقلاء من الأولين والآخرين ينكرونه غاية الإنكار وإنما تقوله طائفة واحدة بعضهم عن بعض على سبيل مواطأة بعضهم لبعض وتلقى بعضهم عن بعض ومع المواطأة تجوز المواطأة على تعمد الكذب وعلى الأمور المشتبهة كالمذاهب الباطلة التي يعلم فسادها بالضرورة وقد توارثها طائفة تلقاها بعضهم عن بعض بخلاف الأقوال التي يقر بها الناس عن غير مواطأة فتلك لا يكون منها ما يعلم فساده ببديهة العقل ولهذا كان في عامة أقوال الكفار وأهل البدع من المشركين والنصارى والرافضة والجهمية وغيرهم ما يعلم فساده بضرورة العقل ولكن قاله طائفة تلقاه بعضهم عن بعض ومنها أن يقال لو كان هذا حقا لامتنع حدوث الحوادث في العالم جملة ولم يكن للحوادث محدث أصلا وهذا من أظهر ما يعلم فساده بضرورة العقل فإن العلة إذا كانت تامة أزلية قارنها معلولها وكان ما

يحدث غير معلولها لأنه لو كان معلولا لها لكان قد تأخر المعلول أو بعض المعلول عن علته التامة والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها لا معلولها ولا بعض معلولها فكل ما حدث لا يحدث عن علة تامة أزلية وواجب الوجود عندهم علة تامة أزلية فيلزم أن لا يحدث عنه حادث لا بواسطة ولا بغير واسطة وما يعتذرون به في هذا المكان من قولهم إنما تأخرت الحوادث لتأخر الاستعداد ونحوه من أفسد الأقوال فإن هذا إنما يمكن أن يقال فيما يكون علة وجوده غير علة استعداده وقبوله كما يحدث عن الشمس فإنها تارة تلين وترطب كما تلين الثمار بعد يبسها بسبب ما يحصل فيها من الرطوبة فتجتمع الرطوبة المائية والسخونة الشمسية فتنضج الثمار وتلين وتارة تجفف وتيبس كما يحصل للثمار بعد تناهي نضجها فإنه ينقطع عنها الاستمداد من الرطوبة فتبقى حرارة تفعل في رطوبة من غير إمداد فتجففها كما تجفف الشمس والنار وغيرهما لغير ذلك من الأجسام الرطبة والمقصود أنه في مثل ذلك قد يتأخر فعل الفاعل لعدم استعداد القابل ولو قدر أن ما يدعونه من العقل الفعال له حقيقة لكان تأخر فيضه حتى تستعد القوابل من هذا الباب وأما واجب الوجود الفاعل لكل

ما سواه الذي لا يتوقف فعله على أمر آخر من غيره لا إعداد ولا إمداد ولا قبول ولا غير ذلك بل نفسه هي المستلزمة لفعله فلو قدر أنه علة تامة أزلية لوجب أن يقارنه معلوله كله ولا يتأخر عنه شيء من مفعولاته وإذا تأخر شيء من مفعولاته ولو كان مفعولا بواسطة علم أنه لم يكن علة تامة له في الأزل وأنه صار علة بعد أن لم يكن وإذا قيل الحركة الفلكية هي سبب حدوث الحوادث قيل وهذا أيضا مما يعلم بطلانه فإن الحركة الحادثة شيئا بعد شيء يمتنع أن يكون الموجب لها علة تامة أزلية فإن هذه يقارنها معلولها أزلا وأبدا والحركة الحادثة شيئا بعد شيء يمتنع أن تكون مقارنة لعلتها في الأزل فعلم أن الموجب لحدوثها ليس علة تامة أزلية بل لا بد أن يكون الرب متصفا بأفعال تقوم به شيئا بعد شيء بسبب ما يقوم به يحدث عنه ما يحدث مثل مشيئته القائمة بذاته وكلماته القائمة بذاته وأفعاله الاختيارية القائمة بذاته ومنها أن الحوادث بعد ذلك لا بد لها من محدث ويمتنع أن يحدثها غيره لأنه لا رب غيره ولأن القول فيه في ذلك الحدث كالقول فيه إما أن يكون علة تامة في الأزل وإما أن لا يكون ويعود التقسيم وإذا قالوا إنما تأخر الثاني لتأخر حدوث القوابل والشروط التي بها قبل الفيض

قيل لهم هذا يعقل فيما إذا كان حدوث القوابل من غيره كما في حدوث الشعاع عن الشمس وكما يقولونه في العقل الفعال وأما إذا كان هو الفاعل للقابل والمقبول والشرط والمشروط وهو علة تامة أزلية لما يصدر عنه وجب مقارنة معلوله كله له ولم يجز أن يتأخر عنه شيء فإنه يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن من غير إحداثه لشيءوإحداثه لشيء مع كونه علة تامة أزلية ممتنع وكونه علة لنوع الحوادث مع عدم حدوث فعل يقوم به ممتنع ولأن صدور العالم عن فاعلين ممتنع سواء كانا مشتركين في جميعه أو كان هذا فاعلا لبعضه وهذا فاعلا لبعضه كما قد بسط في غير هذا الموضع وهذا مما لا نزاع فيه فإنه لم يثبت أحد من العقلاء أن العالم صدر عن اثنين متكافئين في الصفات والأفعال ولا قال أحد من العقلاء إن أصول العالم القديمة صدرت عن واحد وحوادثه صدرت عن آخر فإن العالم لا يخلو من الحوادث وفعل الملزوم بدون لازمه ممتنع ولو كان الفاعل للوازمه غيره لزم أن لا يتم فعل واحد منهما إلا بالآخر فيلزم الدور في الفاعلين وكون كل واحد من الربين لا يصير ربا إلا بالآخر ولا يصير قادرا إلا بالآخر ولا يصير فاعلا إلا بالأخر فلا

يصير هذا قادرا حتى يجعله الآخر قادرا ولا يصير هذا قادرا حتى يجعله الآخر قادرا فيمتنع والحال هذه أن يصير واحد منهما قادرا وهذا مبسوط في موضعه وذلك مما يبين أنه لا فاعل للحوادث إلا هو وحينئذ فإن حدثت عنه بدون سبب حادث لزم حدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا إذا جاز جاز حدوث العالم كله بلا سبب حادث وأيضا فإنه يلزم أن يكون العالم قديما أزليا خاليا عن شئ من الحوادث وأن الحوادث حدثت فيه بعد ذلك بدون سبب حادث وهذا ممتنع بالاتفاق والبرهان لوجوه كثيرة مثل اقتضائه عدم القديم الواجب بنفسه أو بغيره فإنه إذا قدر معلول قديم أزلي على حال من الأحوال ثم حدثت فيه الحوادث فلا بد أن يتغير من صفة إلى صفة يزول ما كان موجودا ويحدث ما لم يكن موجودا وزوال ما كان موجودا ممتنع فإن القديم إنما يكون قديما إذا كان واجبا بنفسه أو بغيره فإن ما كان واجبا بنفسه أو بغيره يمتنع عدمه وما كان قديما يمتنع عدمه أيضا بل القديم لا يكون قديما إلا إذا كان واجبا بنفسه

أو بغيره فما علم أنه كان قديما واجبا بنفسه أو بغيره يكون العلم بامتناع عدمه أوكد وأوكد والعالم إذا كان شيء منه قديما أزليا لا حادث فيه ثم حدث فيه حادث فقد غيره من الحال القديمة الأزلية الواجبة بنفسها أو بغيرها إلى حال أخرى تخالفها وهذا مع أنه ممتنع فإذا كان هذا بدون سبب حادث كان ممتنعا من هذا الوجه ومن هذا الوجه وأيضا فالعالم لا يتصور انفكاكه عن مقارنة الحوادث فإن الأجسام لا تخلو عن مقارنة الحوادث الحركة وغيرها والعالم ليس فيه إلا ما هو قائم بنفسه أو بغيره بلا نزاع بين العقلاء وتلك الأعيان لا تخلو عن مقارنة الحوادث فإنها لو خلت عنها ثم قارنتها للزم حدوث الحوادث بلا سبب وهذا باطل وإن لم يكن هذا باطلا جاز حدوث الحوادث بلا سبب فبطل القول بقدم العالم ثم كثير من النظار يقول ليس في العالم إلا جسم أو عرض وهؤلاء منهم من يفسر الجسم بما يشار إليه ويمنع كون كل جسم مركبا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فلا يلزمهم من الإشكال ما يتوجه على غيرهم وإن قدر أن فيه ما يخرج عن ذلك كما يذكره من يثبت العقول

والنفوس ويقول إنها ليست أجساما فالنفوس لا تفارق الأجسام بل هي مقارنة لها مدبرة لها فلا تفارق الحوادث وأيضا فالنفوس لا تنفك عن تصورات وإرادات حادثة فهي دائما مقارنة للحوادث والعقول علة لذلك مستلزمة لمعلولها لا يتقدم عليها بالزمان فيمتنع أن يكون في العالم ما يسبق الحوادث فيمتنع أن يكون شيء منه قديما أزليا سابقا للحوادث وحينئذ فالمبدع لشيء منه يمتنع أن يبدعه بدون إبداع لوازمه ولوازمه يمتنع وجودها في الأزل فيمتنع وجود شيء منه في الأزل فإذا قيل فهو علة تامة أزلية للفلك مع حركته لزم أن يكون علة أزلية تامة للفلك مع حركته فتكون حركته أزلية والحركة لا توجد إلا شيئا فشيئا فيمتنع أن يكون جميع حركته أزليه وإذا قيل هو علة تامة أزلية للفلك دون حركته احتاجت حركته إلى مبدع آخر ولا مبدع غيره وإن قيل هو علة للحركة شيئا بعد شيء لم يكن علة تامة للحركة في الأزل لكن يصير علة تامة لشيء منها بحسب وجوده فتكون عليته وفاعليته وإرادته حادثة بعد أن لم تكن فيمتنع أن يكون علة تامة في

الأزل وهذا القول ظاهر لا ينازع فيه من فهمه وهو مما يبين امتناع كونه علة تامة أزلية لكل موجود وامتناع كونه علة تامة للفلك مع حركته الدائمة وهم لا يقولون إنه في الأزل علة لكل موجود بل يقولون إنه في الأزل علة لما كان قديما بعينه كالأفلاك وهو دائما علة لنوع الحوادث ويصير علة تامة للحادث المعين بعد أن لم يكن علة تامة له فهذا حقيقة قولهم فيقال لهم كونه يصير علة تامة لشيء بعد أن لم يكن علة له من غير أمر يحدث منه ممتنع لذاته لأنه لا محدث للحوادث سواه فيمتنع أن غيره يحدث فاعليته وكونه علة فلا يحدث كونه فاعلا للمعين إلا هو فيلزم أن يكون هو المحدث لكونه علة للمعين وفاعلا له وهذه الفاعلية كانت بعد أن لم تكن فيمتنع أن تكون صدرت عن علة تامة أزلية لأن العلة الأزلية يقارنها معلولها فتبين أنه أنه يمتنع أن يصير فاعلا لشيء بعد أن لم يكن مع القول بأنه لم يزل علة تامة أزلية وأنه لا بد أن يقوم به من الأحوال ما يوجب كونه فاعلا لما يحدث عنه من الحوادث سواء أحدثت بواسطة أم بغير واسطة وأيضا فإذا قدر أنه كما يقولون حاله قبل أن يحدث المعين ومع

إحداث المعين وبعد إحداث المعين سواء امتنع إحداث المعين فيمتنع أن يحدث شيئا وأيضا فلم يكن إحداثه للأول بأولى من إحداثه للثاني ولا تخصيص الأول بقدره ووصفه الثاني إذا كان الفاعل لم يكن منه قط سبب يوجب التخصيص لا بقدر ولا بوصف ولا غير ذلك وهم أنكروا على من قال من النظار إنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا وقالوا العقل الصريح يعلم أن من فعل بعد أن لم يكن فاعلا فلا بد أن يتجدد له إما قدرة وإما إرادة وإما علم وإما زوال مانع وإما سبب ما فيقال لهم والعقل الصريح يعلم أن من فعل هذا الحادث بعد أن لم يكن فاعلا له فلا بد أن يتجدد له سبب اقتضى فعله فأنتم أنكرتم على غيركم ابتداء الفعل بلا سبب والتزمتم دوام المفعولات الحادثة بلا سبب فكان ما التزمتموه من حدوث الحوادث بلا سبب أعظم مما نفيتموه بل قولكم مستلزم أنه لا فاعل للحوادث ابتداء بل تحدث بلا فاعل فأن الموجب للحوادث عندكم هو حركة الفلك وحركة الفلك حركة نفسانية تتحرك بما يحدث لها من التصورات والإرادات المتعاقبة وإن

كانت تابعة لتصور كلي وإرادة كلية ثم تلك التصورات والإرادات والحركات تحدث بلا محدث لها أصلا على قولكم لأن واجب الوجود عندكم ليس فيه ما يوجب فعلا حادثا أصلا بل حاله قبل الحادث وبعده ومعه سواء وكون الفاعل يفعل الأمور الحادثة المختلفة مع أن حاله قبل وبعد ومع سواء أبعد من كونه يحدث حادثا مع أن حاله قبل وبعد ومع سواء وإذا قيل تغير فعله لتغير المفعولات قيل فعله إن كان هو المفعولات عندكم كما يقوله ابن سينا ونحوه من جهمية الفلاسفة نفاة الصفات والأفعال فالمتغير هو المنفصلات عنه وهي المفعولات وليس هنا فعل هو غيرها يوصف بالتغير فما الموجب لتغيرها واختلافها وحدوث ما يحدث منها مع أن الفاعل هو على حال واحدة وفساد هذا في صريح العقل أظهر من فساد ما أنكرتموه على غيركم وإن كان فعله قائما بنفسه كما يقوله مثبتة الأفعال الاختيارية من أئمة أهل الملل ومن الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين فمن المعلوم أن تغير المفعولات إنما سببه هذه الأفعال

وهو سبحانه المحدث لجميع المفعولات المتغيرة وتغيراتها فيمتنع أن تكون هي المؤثرة في تغير فعله القائم بنفسه لأن هذا يوجب كون المعلول المخلوق المصنوع هو المؤثر في الخالق الصانع الذي يسمونه علة تامة وهذا يوجب الدور الممتنع فإن كون كل من الشيئين مؤثرا في الآخر من غير أن يكون هناك أمر ثالث غيرهما يؤثر فيهما هو من الدور القبلي الممتنع فإن أحد الفاعلين لا يفعل في الآخر حتى يفعل الآخر فيه كما في هذه الصورة فإن التغير الحادث لا يحدث حتى يحدثه هو لما يقوم به من الفعل فلو كان ذلك الفعل لا يقوم حتى يحدثه ذلك التغير لزم أن لا يوجد حتى يوجد ذاك ولا يوجد ذاك حتى يوجد هذا فيلزم أن لا يوجد واحد منهما حتى يوجد هو قبل أن يوجد بمرتبتين فيلزم اجتماع النقيضين مرتين وإن قيل المفعول المتغير الأول أحدث في الفاعل تغيرا وذلك التغير أوجب تغيرا ثانيا قيل فذلك الأول إنما صدر عن فعل قائم بالفاعل فالفاعل ما قام به من الفعل هو الفاعل لكل ما سواه من الحوادث المتغيرة أولا وآخرا ولم يؤثر فيه غيره ألبتة وإن قيل وجود مفعوله الثاني مشروط بمفعوله الأول فهو الفاعل للأول والثاني فلم يحتج في شيء من فعله إلى غيره ولا أثر فيه

شيء سواه وهذا كما أنه سبحانه يلهم العباد أن يدعوه فيدعونه فيستجيب لهم ويلهمهم أن يطيعوه فيطيعونه فيثيبهم فهو سبحانه الفاعل للإجابة والإثابة كما أنه أولا جعل العباد داعين مطيعين ولم يكن في شيء من ذلك مفتقرا إلى غيره ألبتة وكل من تدبر هذه الأمور تبين له أنه سبحانه خالق كل شيء من الأعيان وصفاتها وأفعالها بأفعاله الاختيارية القائمة بنفسه كما دلت على ذلك نصوص الأنبياء واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ووافقهم على ذلك أساطين الفلاسفة القدماء وهذا مما يبين حدوث كل ما سواه وأنه ليس علة أزلية لمعلول قديم مع أنه دائم الفاعلية ولا يلزم من دوام كونه فاعلا أن يكون معه مفعول معين قديم بل هذا من أبطل الباطل وهؤلاء المتفلسفة القائلون بقدم العالم عن موجب بذاته هو علة تامة أزلية له يسلمون أنه ليس علة تامة في الأزل لكل حادث فإن هذا لا يقوله من يتصور ما يقول فإن العلة التامة هي التي تستلزم معلولها وتستعقبه فإذا كان المعلول حادثا بعد أن لم يكن لم يكن المستلزم له أزليا لما في ذلك من تأخر المعلول وتراخيه زمانا لا نهاية له عن العلة التامة الأزلية فإن كل حادث يوجد في العالم متأخر عن الأزل تأخرا لا نهاية له فلو كانت علته التامة ثابتة في الأزل لكان المعلول

متأخرا عن العلة التامة تأخرا لا نهاية له والعلة التامة لا يكون بينها وبين معلولها فصل أصلا بل النزاع هل يكون معها في الزمان أو يكون عقبها في الزمان ويكون معها كالجزء الثاني من الزمان مع الذي قبله هذا مما يتكلم فيه الناس إذ كانوا متفقين على أنه متأخر عنها تأخرا عقليا وأنه لا ينفصل عنها وهل يتصل بها اتصالا زمانيا أو يقترن بها اقترانا زمانيا هذا محل نظر الناس والمقصود هنا أن كل ما يحدث العالم فلا تكون علته التامة المستلزمة تامة قبله بحيث يكون بينهما انفصال فكيف تتقدم عليه تقدما لا نهاية له لكن غاية ما يقولون إنه علة تامة أزلية لما كان قديما من العالم كالأفلاك وأما ما يحدث فيه فإنما يصير علة تامة له عند حدوثه ويقولون إن حدوث الأول شرط في حدوث الثاني كالماشي الذي يقطع أرضا بعد أرض وكحركة الشمس التي تقطع بها مسافة بعد مسافة كالمتحرك لا يقطع المسافة الثانية حتى يقطع الأولى فقطع

الأولى بحركته شرط في قطع الثانية بحركته والعلة التامة لقطع الثانية إنما وجدت بعد الأولى وهذا غاية ما يقولونه ويعبرون عنه بعبارات فتارة يقولون فيض العلة الأولى والمبدأ الأول أو واجب الوجود وهو الله تعالى دائم لكن يتأخر ليحصل الاستعداد والقوابل وسبب الاستعداد والقوابل عند كثير منهم أو أكثرهم هو حركة الفلك فليس عند هؤلاء سبب لتغيرات العالم إلا حركة الفلك كما يقوله ابن سينا وأمثاله وهذا هو المعروف عند أصحاب أرسطو وأما آخرون أعلى من هؤلاء كأبي البركات وغيره فيقولون بل سبب التغيرات ما يقوم بذات الرب من إرادات متجددة بل ومن إدراكات كما قد بسطه في كتابه المعتبر فأولئك كابن سينا وأمثاله يقولون هو بنفسه علة تامة أزلية للعالم بما فيه من الحوادث المتجددة وإن الحادث الأول كان شرطا أعد القابل للحادث الثاني وهذا القول في غاية الفساد وهو ايضا في غاية المناقضة لأصولهم وذلك أن علة الحادث الثاني لا بد أن تكون بتمامها موجودة عند وجوده وعند وجود الحادث الثاني لم يتجدد للفاعل الأول أمر به يفعل إلا عدم الأول ومجرد عدم الأول لم يوجد عندهم للفاعل لا قدرة ولا إرادة ولا

غير ذلك فإن الأول عندهم لا يقوم به شيء من الصفات والأفعال ولا له أحوال متنوعة أصلا فكيف يتصور أن يصدر عنه الثاني بعد أن كان صدوره ممتنعا منه وحاله حاله لم يتجدد إلا أمر عدمي لم يوجب له زيادة قدرة ولا إرادة ولا علم ولا غير ذلك وهذا بخلاف ما يمثلون به من حركة الإنسان وغيره من المتحركة بالإرادة أو بالطبع فإن المتحرك إذا قطع المسافة الأولى صار له من القدرة ما لم يكن له قبل ذلك وحصل عنده من الإرادة ما لم يكن قبل ذلك كما يجده الإنسان من نفسه إذا مشى فإنه يجد من نفسه عجزا عن قطع المسافة البعيدة حتى يصل إليها وهو قبل وصوله عازم على قطعها إذا وصل ليس هو مريدا في هذا الحال لقطعها في هذا الحال فإذا وصل إليها صار مريدا لقطعها قادرا على قطعها وعند الإرادة الجازمة والقدرة التامة يجب وجود المراد فحينئذ تقطع لا لمجرد عدم الحركة التي بها قطع الأولى بل لما تجدد له من القدرة والإرادة فهذا المتجدد المقتضى له هو ما في نفسه من الإرادة الكلية

والاستعداد للقدرة وكان قطع الأولى مانعا من ذلك فلما زال المانع عمل المقتضى عمله فتمت إرادته وقدرته فقطع المسافة وهكذا حركة الحجر من فوق إلى أسفل كلما نزل تجدد فيه قوة وقبل ذلك لم يكن فيه ذلك وكذلك حركة الشمس والكواكب لا سيما وهم يقولون إن حركتها اختيارية لما يتجدد لها من التصورات الجزئية والإرادات الجزئية التي تحدث لها شيئا فشيئا هكذا صرح به أئمتهم أرسطو وغيره فإن حركتها عندهم نفسانية فالمقتضى التام للجزء الثاني من الحركة إنما وجد عنها لم يكن المقتضى التام موجودا قبل وهو قائم بنفس المتحرك او المحرك وهو النفس التي يتجدد لها تصورات وإرادات جزئية وقوة جزئية يتحرك بها شيئا بعد شيء كحركة الماشي فلا يمكنهم أن يذكروا محركا ولا متحركا حاله قبل الحركة وبعدها سواء والحركة تصدر عنه شيئا فشيئا فإن هذا لا وجود له والعقل الصريح يحيل ذلك فإن الحادث لا يحدث إلا عند حدوث موجبه التام وهو علته التامة وإن شئت قلت لا يترجح إلا إذا وجد مرجحه التام المستلزم له

والمستلمون يقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فالحركة الثانية لو كان مرجحها التام حاصلا عند الأولى لوجب حصولها عند الأولى بل إنما يتم حصولها عند حصول المرجح التام إما مقترنة به في الزمان أو متصلة به في الزمان وإذا كان المرجح التام لا بد أن يحصل بعد أن لم يكن حاصلا فلا بد أن يحصل للحركة سبب حادث يوجب أن يصيرها حادثة بعد أن لم تكن حادثة وكذلك السبب الأول القريب من الحركة وإن كان الفاعل له إرادة تامة عامة كلية لما يحدث شيئا بعد شيء فتلك وحدها لا تكفي بل لا بد من إرادة أخرى جزئية لحادث حادث يقارنه كما يجده الإنسان في نفسه إذا مشى في سفر أو غيره إلى مكة أو غيرها فلا ريب أن المقتضى العام إما بإرادة أو غيرها قد يكون مقتضاه عاما مطلقا لكن يتأخر لتأخر الاستعدادات والقوابل إذا كانت من غيره كما في طلوع الشمس فإنه من جهتها فيض عام لكن يتوقف على استعداد من القوابل وارتفاع الموانع ولهذا يختلف تأثيرها ويتأخر بحسب القوابل والشروط وتلك ليست منها وكذلك هم يقولون إن العقل الفعال دائم الفيض عنه يفيض كل

ما في العالم من الصور النفسانية والجسمانية فعنه تفيض العلوم والإرادات وغير ذلك وهم عندهم رب كل ما تحت فلك القمر لكن ليس مستقلا عندهم بل فيضه يتوقف على حصول الاستعدادات والقوابل التي تحصل بحركات الأفلاك وتلك الحركات التي فوق فلك القمر ليست منه بل من غيره وهذا العقل هو رب البشر عندهم ومنه يفيض الوحي والإلهام وقد يسمونه جبريل وقد يجعلون جبريل ما قام بنفس النبي من الصورة الخيالية وهذا كله كلام من أبطل الباطل كما قد بسط في موضعه لكن المقصود هنا أنهم يمثلون فيض واجب الوجود بفيض العقل الفعال وفيض الشمس وهو تمثيل باطل لأن المفيض هنا ليس مستقلا بالفيض بل فيضه متوقف على ما يحدثه غيره من الاستعداد والقبول وإحداث غيره له من فعل غيره فأما رب العالمين فهم يسلمون أنه لا شريك له في الفيض ولا يتوقف شيء من فيضه على فعل من غيره بل هو رب القابل والمقبول رب المستعد والمستعد له ومنه الإعداد ومنه الإمدادفإذا قالوا بعد هذا إنه علة تامة أزلية وإن فيضه عام لكنه يتوقف على حدوث القوابل والاستعدادات إما بحدوث الأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية وإما بغير ذلك قيل لهم إن قلتم هو علة أزلية لهذا الحادث لزم وجوده في الأزل وإن قلتم لا يصير علة تامة إلا بحدوث القوابل قيل لكم فإذا كان حدوث القوابل منه فهو المحدث لهما جيمعا فقبل إحداثهما لم يكن علة تامة لا لهذا ولا لهذا ثم أحدثهما جميعا القابل والمقبول فإذا كان أحدثهما بدون تجدد شيء لزم أن يكون لم يزل علة تامة لهما أو لم يصر علة تامة لهما فيلزم إما قدم هذين الحادثين وإما عدمهما فإنه إن لم يزل علتهما لزم قدمهما وإن لم يحدث لزم عدمهما وأنتم تجعلون علة هذين الحادثين حدثت بعد أن لم تكن أي حدثت بتمامها بعد أن لم تكن وليس هنا شيء أوجب حدوث التمام فإن الفاعل للتمام حالة بعد التمام وحالة قبل التمام سواء فيمتنع أن

يكون علة تامة له في إحدى الحالين دون الأخرى وكل ما يقدرونه مما حصل تمام العلة هو أيضا حادث عن الأول فحقيقة قولكم أن حوادث العالم تحدث عنه مع أنه لم يزل علة تامة لها أو مع أنه لم يصر علة تامة مع أن العلة التامة إنما تكون تامة عند معلولها لا قبل ولا بعد وهذا يتقضي عدم الحوادث أو قدم الحوادث وكلاهما مخالف للمشاهدة ولهذا كان حقيقة قولهم إن الحوادث تحدث بلا محدث لها وقولهم في حركة الفلك يشبه قول القدرية في حركة الحيوان فإن القدرية تقول إن الحيوان قادر مريد وإنه يفعل ما يفعل بدون سبب أوجب الفعل بل مع كون نسبة الأسباب الموجبة للحدوث إلى هذا الحادث وهذا الحادث سواء فإن عندهم كل ما يؤمن به المؤمن ويطيع به المطيع قد حصل لكل من أمر بالإيمان والطاعة لكن المؤمن المطيع رجح الإيمان والطاعة بدون سبب اختص به حصل به الرجحان والكافر بالعكسوهذا يقوله هؤلاء في حركة الفلك إنه يتحرك دائما بإرادته وقدرته من غير سبب أوجب كونه مريدا قادرا مع أن إرادته وقدرته وحركاته حادثة بعد أن لم تكن حادثة من غير شيء جعله مريدا متحركا فقد حصل الممكن بدون المرجح التام الذي أوجب رجحانه وحصل الحادث بدون السبب التام الذي أوجب حدوثه ثم إنهم ينكرون على القدرية قولهم إن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح بل بإرادة يحدثها هو من غير أن يحدث له غيره تلك الإرادة ويقولون إنه أوجب الإرادة بلا إرادة وهؤلاء يقولون ما هو أبلغ من ذلك في حركة الفلك وهو يناقض أصولهم الصحيحة فإذا كانوا يسلمون أن الإرادات الحادثة والحركات الحادثة لا تحدث إلا بسبب يوجب حدوثها وأنه عند كمال السبب يجب حدوثها وعند نقصه يمتنع حدوثها علموا أن ما قالوه في قدم العالم وسبب الحوادث باطل فإنه ليس فوق الفلك عندهم سبب يوجب حدوث ما يحدث له من التصورات والإرادات إلا من جنس ما للمخلوق الفقير إلى واجب

الوجود ومعلوم أن ما كان بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج فلا بد أن يكون فوق الفلك ما يوجب حدوث حركته وما يذكره أرسطو وأتباعه أن الأول هو يحرك الفلك حركة المعشوق لعاشقه وأن الفلك يتحرك للتشبه به وأنه بذلك علة العلل وبه قوام الفلك إذ كان قوام الفلك بحركته وقوام حركته بإرادته وشوقه وقيام إرادته وشوقه بوجود المحبوب السابق المراد الذي تحرك للتشبه به فهذا الكلام مع ما فيه من الكلام الباطل الذي بين في غير هذا الموضع غايته إثبات العلة الغائية لحركة الفلك ليس فيه بيان العلة الفاعلية لحركته إلا أن يقولوا هو المحدث لتصوراته وحركاته من غير احتياج إلى واجب الوجود وإلى العلة الأولى في كونه فاعلا لذلك كما أن المحب العاشق لا يحتاج إلى المحبوب المعشوق من جهة كونه فاعلا للحركة إليه بل من جهة كونه هو المراد المطلوب بالحركة وهذا قول باستغناء الحركات المحدثة والمتحركات عن رب العالمين وأنه لا يفعل شيئا من هذه الحوادث ولا هو ربها فإن قالوا مع ذلك بأنه لم يبدع الفلك بل هو قديم واجب الوجود بنفسه لم يكن رب شيء من العالم وإن قالوا هو الذي أبدعه كان تناقضا منهم كتناقض القدرية فإن إبداعه لذاته وصفاته يوجب أن لا

يحدث منه شيء إلا بفعل الرب لذلك وإحداثه له كما لا يحدث من سائر الحيوانات حادث إلا بخلق الرب لذلك وإحداثه له فقولهم متردد بين التعطيل العام وبين التعطيل الخاص الذي يكونون فيه شرا من القدرية وردهم إنما كان على القدرية وهم خير منهم على كل تقدير وقد ذكر ما ذكروه من كلام أرسطو في هذا المقام وبين ما فيه من الخطأ والضلال في غير هذا الموضع وأن القوم من أبعد الناس عن معرفة الله ومعرفة خلقه وأمره وصفاته وأفعاله وأن اليهود والنصارى خير منهم بكثير في هذا الباب وهذه الطريقة التي سلكها أرسطو والقدماء في إثبات العلة الأولى هي طريق الحركة الإرادية حركة الفلك وأثبتوا علة غائية كما ذكر فلما رأى ابن سينا وأمثاله من المتأخرين ما فيها من الضلال عدلوا إلى طريقة الوجود والوجوب والإمكان وسرقوها من طريق المتكلمين المعتزلة وغيرهم فإن هؤلاء احتجوا بالمحدث على المحدث فاحتج أولئك بالممكن على الواجب وهي طريقة تدل على إثبات وجود واجب وأما إثبات تعيينه فيحتاجون فيه إلى دليل آخر وهم سلكوا

طريقة التركيب وهي أيضا مسروقة من كلام المعتزلة وإلا فكلام أرسطو في الإلهيات في غاية القلة مع كثرة الخطأ فيه ولكن ابن سينا وأمثاله وسعوه وتكلموا في الإلهيات والنبوات وأسرار الآيات ومقامات العارفين بل وفي معاد الأرواح بكلام لا يوجد لأولئك وما فيه من الصواب فجروا فيه على منهاج الأنبياء وما فيه من خطأ بنوه على أصول سلفهم الفاسدة ولهذا كان ابن رشد وأمثاله من المتفلسفة يقولون إن ما ذكره ابن سينا في الوحي والمنامات وأسباب العلم بالمستقبلات ونحو ذلك هو أمر ذكره من تلقاء نفسه ولم يقله قبله المشاءون سلفه وأما أبو البركات صاحب المعتبر ونحوه فكانوا بسبب عدم تقليدهم لأولئك وسلوكهم طريقة النظر العقلي بلا تقليد واستنارتهم بأنوار النبوات أصلح قولا في هذا الباب من هؤلاء وهؤلاء فأثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه ردا جيدا وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله وبين ما بينه من خطاء سلفه ورأى فساد قولهم في أسباب الحوادث فعدل عن ذلك إلى أن أثبت للرب ما يقوم به الإرادات الموجبة للحوادث وقولهم مبسوط في غير هذا الموضع فهؤلاء يقولون إنما حدثت الحوادث شيئا بعد شيء لما يقوم بذات الرب من الأسباب الموجبة لذلك فلا يثبتون أمورا متجددات مختلفة

عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل كما قال أولئك بل وافقوا قول أساطين الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو الذين يثبتون ما يقوم بذات الرب من الصفات والأفعال ويقولون إن الحادث المعين إنما حدث لما حصلت علته التامة التي لم تتم إلا عند حدوثه وتمام العلة كان بما يحدثه الرب تعالى وما يقوم به من إرادته وأفعاله أو غير ذلك مما يقولونه في هذا المقام ولهذا يقولون إنه لا يمكن أن يكون الرب مدبرا لهذا العالم إلا على قولنا بحدوث الحوادث فيه من الإرادات والعلوم وغيرها ويقولون إن من نفى ذلك من أصحابنا وغيرهم فلم ينفه بدليل عقلي دل على ذلك بل لمجرد تنزيه وإجلال مجمل وإنه يجب التنزيه والإجلال من هذا التنزيه والإجلال فإذا قيل لهؤلاء فعند حدوث الحادث الثاني لا بد من وجود العلة التامة ولا يكفي عدم الأول قالوا بل حصل من كمال الإرادة الجازمة والقدرة التامة ما أوجب حدوث المقدور ولا نقول إن حال الفاعل قبل وبعد واحد لم يتجدد أمر يفعل به الثاني بل تتنوع أحوال الفاعل ونفسه هي الموجبة لتلك الأحوال القائمة به لكن وجود الحال الثاني مشروط بعدم ما

يضاده ونفس الفاعل هي الموجبة للأمور الوجودية الموجبة للحال الثاني فواجب الوجود لا يحتاج ما يحدث عنه أن يضاف إلى غيره كما في الممكنات بل نفسه الواجبة هي الموجبة لكل ما يحدث عنه وهو سبحانه الفاعل للملزوم ولوازمه والفاعل لأحد المتنافيين عند عدم الآخر وهو على كل شيء قدير لكن اجتماع الضدين ليس بشيء باتفاق العقلاء بل هو قادر على تحريك الجسم بدلا عن تسكينه وعلى تسكينه بدلا عن تحريكه وعلى تسويده بدلا عن تبيضه وعلى تبيضه بدلا عن تسويده وهو يفعل أحد الضدين دون الآخر إذا حصلت إرادته التامة مع قدرته الكاملة ونفسه هي الموجبة لذلك كله وإن كان فعلها للأول شرطا في حصول الثاني فليست في تلك مفتقرة إلى غيرها بل كل ما سواها فقير إليها وهي غنية عن كل ما سواها وهؤلاء تخلصوا مما ورد على من قبلهم ومن فساد تمثيلهم وكان هؤلاء إذا مثلوا قولهم بما يعقل من حركة الحيوان والشمس لا يرد عليهم من الفرق والنقض وغير ذلك ما يرد على من قبلهم لكن هؤلاء يقال لهم من أين لكم قدم شيء من العالم وليس في

العقل ما يدل على شيء من ذلك وأنتم فجميع ما تذكرونه أنتم وأمثالكم إنما يدل على دوام الفعل لا على دوام فعل معين ولا مفعول معين فمن أين لكم دوام الفلك أو مادة الفلك أو العقول أو النفوس أو غير ذلك مما يقول القائلون بالقدم إنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال مقارنا للرب تعالى قديما بقدمه أبديا بأبديته فيخاطبون أولا مخاطبة المطالبة بالدليل وليس لهم على ذلك دليل صحيح أصلا بل إنما طمعوا في مناظرتهم من أهل الكلام والفلسفة الذين قالوا إن جنس الكلام والفعل صار ممكنا بعد أن كان ممتنعا من غير تجدد شيء وصار الفاعل قادرا على ذلك بعد أن لم يكن وأنه يحدث الحوادث لا في زمان وإنه لم يزل القديم معطلا عن الفعل والكلام لا يتكلم ولا يفعل من الأزل إلى أن تكلم وفعل ثم يقول كثير منهم إنه يتعطل عن الفعل والكلام فتفنى الجنة والنار أو تفنى حركتهما كما قاله الجهم بن صفوان في فناء الجنة والنار وكما قاله أبو الهذيل العلاف في فناء الحركات وجعلوا مدة فعل الرب وكلامه مدة في غاية القلة بالنسبة إلى الأزل والأبد

فطمع هؤلاء في هؤلاء المبتدعين من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم في أصولهم وأقاموا الشناعة على أهل الملل بسبب هؤلاء المتكلمين والمبتدعين وظنوا أن لا قول إلا قول هؤلاء المبتدعين أو قول أولئك الفلاسفة الملحدين ورأوا أن العقل يفسد قول هؤلاء المبتدعين ورأوا السمع إلى هؤلاء المبتدعين أقرب وعن الملحدين أبعد فقالوا إن الأنبياء ضربوا الأمثال وخيلوا ولم يمكنهم الإخبار بالحقائق ودخلوا من باب الإلحاد وتحريف الكلم عن مواضعه بحسب ما أنكروه من السمعيات وإن كان أولئك الفلاسفة الذين نفوا صفات الرب وأفعاله القائمة به الذين قبل هؤلاء أعظم إلحادا وتحريفا للكلم عن مواضعه من هؤلاء الذين أثبتوا الصفات والأمور الأختيارية القائمة به وقالوا مع ذلك بقدم العالم وكلتا الطائفتين خرجت عن صريح المعقول كما خرجت عن صحيح المنقول بحسب ما أخطأته في هذا الباب وكل من أقر بشيء من الحق كان ذلك أدعى له إلى قبول غيره وكان يلزمه من قبوله ما لم يلزم من لم يعرف ذلك الحق وكان القول بنفي الصفات والأفعال

القائمة بالرب باختياره ينافى كونه فاعلا ومحدثا ولهذا لما ذكر ابن سينا في إشاراته أقوال القائلين بالقدم والحدوث لم يذكر إلا قول من أثبت قدماء مع الله تعالى غير معلولة كالقول الذي يحكي عن ذيمقراطيس بالقدماء الخمسة واختاره ابن زكريا المتطبب وقول المجوس القائلين بأصلين قديمين وقول المتكلمين من المتعزلة ونحوهم وقول أصحابه فلم يذكر قول أئمة الملل ولا أئمة الفلاسفة الذين أثبتوا ما يقوم بالرب من الأمور الاختيارية وأنه لم يزل متكلما بمشيئته إذا شاء فعالا بمشيئته وذكر حجج هؤلاء وهؤلاء ثم أمر الناظر أن يختار أي القولين ترجح مع تمسكه بالتوحيد الذي هو عنده نفي الصفات فإن هذا جعله أصلا متفقا عليه بينه وبين خصومه واعترض عليه الرازي بأن مسألة الصفات لا تتعلق بمسألة حدوث العالم وليس الأمر كما قاله الرازي بل نفى الصفات مما يقوي شبهةالقائلين بالقدم ومع إثبات الصفات والأفعال القائمة به يتبين فساد أدلتهم إلى الغاية بل فساد قولهم مع أن نفي الصفات يدل على فساد قوله أكثر مما يدل على فساد قول منازعيه ولكن ابن سينا نشأ بين المتكلمين النفاة للصفات وابن رشد نشأ بين الكلابية وأبو البركات نشأ ببغداد بين علماء السنة والحديث فكان كل من هؤلاء بعده عن الحق بحسب بعده عن معرفة آثار الرسل وقربه من الحق بحسب قربه من ذلك وهؤلاء المتفلسفة رأوا ما قاله أولئك في مسألة حدوث العالم باطلا ورأوا أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بقي قولهم وجعلوا القول بدوام الفاعلية مجملا كما جعل أولئك قولهم إن مالا يسبق الحوادث فهو حادث مجملا فقول هؤلاء أوجب أن ظن كثير ممن سمع قول هؤلاء امتناع كون الرب تعالى لم يزل متكلما إذا شاء إذ لم يفرقوا بين النوع والعين وقول أولئك أوجب أن ظن كثير ممن سمع قولهم دوام الفلك أو شئ من العالم إذ لم يفرقوا بين النوع والعين أيضا

ودوام الفاعلية مجمل يراد به دوام الفاعلية المعينة ودوام الفاعلية المطلقة ودوام الفاعلية العامة ومعلوم أن دوام الفاعلية العامة وهو دوام المفعولات كلها مما لا يقوله عاقل ودوام الفاعلية المعينة لمفعول معين مما ليس لهم عليه دليلا أصلا بل الأدلة العقلية تنفيه كما نفته الأدلة السمعية وأما دوام الفاعلية المطلقة فهذه لا تثبت قولهم بل إنما تثبت خطأ أولئك النفاة الذين خاصموهم من أهل الكلام والفلسفة ولا يلزم من بطلان هذا القول صحة القول الآخر إلا إذا لم يكن إلا هذان القولان فأما إذا كان هناك قول ثالث لم يلزم صحة أحد القولين فكيف إذا كان ذلك الثالث هو موجب الأدلة العقلية والنقلية والمقصود هنا أن كلتا الطائفتين التي قالت بقدم الأفلاك ملحدة سواء قالت بقيام الصفات والأفعال بالرب أو لم تقل ذلك فهؤلاء الفلاسفة مع كونهم متفاضلين في الخطأ والصواب في العلوم الإلاهية إنما ردهم المتوجه لهم على البدع التي أحدثها من أحدثها من أهل الكلام ونسبوها إلى الملة

وأولئك المتفلسفة أبعد عن معرفة الملة من أهل الكلام فمنهم من ظن أن ذلك من الملة ومنهم من كان أخبر بالسمعيات من غيره فجعلوا يردون من كلام المتكلمين مالم يكن معهم فيه سمع وما كان معهم فيه سمع كانوا فيه على أحد قولين إما أن يقروه باطنا وظاهرا إن وافق معقولهم وإلا ألحقوه بأمثاله وقالوا إن الرسل تكلمت به على سبيل التمثيل والتخييل للحاجة وابن رشد ونحوه يسلكون هذه الطريقة ولهذا كان هؤلاء أقرب إلى الإسلام من ابن سينا وأمثاله وكانوا في العمليات أكثر محافظة لحدود الشرع من أولئك الذين يتركون واجبات الإسلام ويستحلون محرماته وإن كان في كل من هؤلاء من الإلحاد والتحريف بحسب ما خالف به الكتاب والسنة ولهم من الصواب والحكمة بحسب ما وافقوا فيه ذلك ولهذا كان ابن رشد في مسألة حدوث العالم ومعاد الأبدان مظهرا للوقف ومسوغا للقولين وإن كان باطنه إلى قول سلفه أميل وقد رد على أبي حامد في تهافت التهافت ردا أخطأ في كثير منه والصواب مع أبي حامد وبعضه جعله من كلام ابن سينا لا من كلام سلفه وجعل الخطأ فيه من ابن سينا وبعضه استطال فيه على أبي حامد ونسبه فيه إلى قلة الإنصاف لكونه بناه على أصول كلامية فاسدة مثل كون الرب لا يفعل شيئا بسبب ولا لحكمة وكون القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وبعضه حار فيه جميعا لاشتباه المقام

وقد تكلمت على ذلك وبينت تحقيق ما قاله أبو حامد في ذلك من الصواب الموافق لأصول الإسلام وخطأ ما خالفه من كلام ابن رشد وغيره من الفلاسفة وأن ما قالوه من الحق الموافق للكتاب والسنة لا يرد بل يقبل وما قصر فيه أبو حامد من إفساد أقوالهم الفاسدة فيمكن رده بطريق أخرى يعان بها أبو حامد على قصده الصحيح وإن كان هذا وأمثاله إنما استطالوا عليه بما وافقهم عليه من أصول فاسدة وبما يوجد في كتبه من الكلام الموافق لأصولهم وجعل هذا وأمثاله ينشدون فيه يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن وإن لقيت معديا فعدناني ولهذا جعلوا كثيرا من كلامه برزخا بين المسلمين والفلاسفة المشائين فالمسلم يتفلسف به على طريقة المشائين تفلسف مسلم والفيلسوف يسلم به إسلام فيلسوف فلا يكون مسلما محضا ولا فيلسوفا محضا على طريقة المشائين وأما نفي الفلسفة مطلقا أو إثباتها فلا يمكن إذ ليس للفلاسفة مذهب معين ينصرونه ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات والمعاد والنبوات والشرائع بل وفي الطبيعيات والرياضيات بل ولا في كثير من المنطق ولا يتفقون إلا على ما يتفق عليه جميع بني آدم من الحسيات المشاهدة

والعقليات التي لا ينازع فيها أحد ومن حكى عن جميع الفلاسفة قولا واحدا في هذه الأجناس فإنه غير عالم بأصنافهم واختلاف مقالاتهم بل حسبه النظر في طريقة المشائين أصحاب أرسطو كثامسطيوس والإسكندر الأفروديسي وبرقلس من القدماء وكالفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد وأبي البركات ونحوهم من المتأخرين وإن كان لكل من هؤلاء في الإلهيات والنبوات والمعاد قول لا ينقل عن سلفه المتقدمين إذ ليس لهم في هذا الباب علم تستفيده الأتباع وإنما عامة علم القوم في الطبيعيات فهناك يسرحون ويتبجحون وبه بنحوه عظم من عظم أرسطو واتبعوه لكثرة كلامه في الطبيعيات وصوابه في أكثر ذلك فأم الإلهيات فهو وأتباعه من أبعد الناس عن معرفتها وجميع ما يوجد في كلام هؤلاء وغيرهم من العقليات الصحيحة ليس فيه ما يدل على خلاف ما أخبرت به الرسل وليس لهم أصلا دليل ظني فضلا عن قطعي على قدم الأفلاك بل ولا على قدم شيء منها وإنما عامة أدلتهم أمور مجملة تدل على الأنواع العامة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم فما أخبرت به الرسل أن الله خلقه كإخبارها أن الله

خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام لا يقدا أحد من الناس أن يقيم دليلا عقليا صحيحا على نفي ذلك وأما الكلام الذي يستدل به المتكلمون في الرد على هؤلاء وغيرهم فمنه صواب ومنه خطأ ومنه ما يوافق الشرع والعقل ومنه ما يخالف ذلك وبكل حال فهم أحذق في النظر والمناظرة والعلوم الكلية الصادقة وأعلم بالمعقولات المتعلقة بالإلهيات وأكثر صوابا وأسد قولا من هؤلاء المتفلسفة والمتفلسفة في الطبيعيات والرياضيات أحذق ممن لم يعرفها كمعرفتهم مع ما فيها من الخطأ والمقصود هنا أن يقال لأئمتهم وحذاقهم الذين ارتفعت عقولهم ومعارفهم في الإلهيات عن كلام أرسطو وأتباعه وكلام ابن سينا وأمثاله ما الموجب أولا لقولكم بقدم شيء من العالم وأنتم لا دليل لكم على قدم شيء من ذلك وأصل الفلسفة عندكم مبني على الإنصاف واتباع العلم والفيلسوف هو محب الحكمة والفلسفة محبة الحكمة وأنتم إذا نظرتم في كلام كل من تكلم في هذا الباب وفي غير ذلك لم تجدوا في ذلك ما يدل على قدم شيء من العالم مع علمكم أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون بأن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم

وذلك القول بحدوث هذا العالم هو قول أساطين الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو بل هم يذكرون أن أرسطو أول من صرح بقدم الأفلاك وأن المتقدمين قبله من الأساطين كانوا يقولون إن هذا العالم محدث إما بصورته فقط وإما بمادته وصورته وأكثرهم يقولون بتقدم مادة هذا العالم على صورته وهذا موافق لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم فإن الله أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء (سورة هود). وأخبر أنه استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض آئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (سورة فصلت). وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه علي الماءوقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض وفي رواية ثم خلق السموات والأرض والآثار متواترة عن الصحابة والتابعين بما يوافق القرآن والسنة من أن الله خلق السماوات من بخار الماء الذي سماه الله دخانا وقد تكلم علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في أول هذه المخلوقات على قولين حكاهما الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره أحدهما أنه هو العرش والثاني أنه هو القلم ورجحوا القول الأول لما دل عليه الكتاب والسنة أن الله تعالى لما قدر مقادير الخلائق بالقلم الذي أمره أن يكتب في اللوح كان عرشه على الماء فكان العرش مخلوقا قبل القلم وقالوا والآثار المروية أن أول ما خلق الله

القلم معناها من هذا العالم وقد أخبر الله أنه خلقه في ستة أيام فكان حين خلقه زمن يقدر به خلقه ينفصل إلى أيام فعلم أن الزمان كان موجودا قبل أن يخلق الله الشمس والقمر ويخلق في هذا العالم الليل والنهار وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته عام حجة الوداع إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا ومنها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان وفيالصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم وهكذا في التوراة ما يوافق خبر الله في القرآن وأن الأرض كانت مغمورة بالماء والهواء يهب فوق الماء وأن في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض وأنه خلق ذلك في أيام ولهذا قال من قال من علماء أهل الكتاب ما ذكره الله في التوراة يدل على أنه خلق هذا العالم من مادة أخرى وأنه خلق ذلك في زمان قبل أن يخلق الشمس والقمر وليس فيما أخبر الله تعالى به في القرآن وغيره أنه خلق السماوات والأرض من غير مادة ولا أنه خلق الإنس أو الجن أو الملائكة من غير مادة بل يخبر الله أنه خلق ذلك من مادة وإن كانت المادة مخلوقة من مادة أخرى كما خلق الإنس من آدم وخلق آدم من طين وفي صحيح

مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم والمقصود هنا أن المنقول عن أساطين الفلاسفة القدماء لا يخالف ما أخبرت به الأنبياء من خلق هذا العالم من مادة بل المنقول عنهم أن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن وأما قولهم في تلك المادة هل هي قديمة الأعيان أو محدثة بعد أن لم تكن أو محدثة من مادة أخرى بعد مادة قد تضطرب النقول عنهم في هذا الباب والله أعلم بحقيقة ما يقوله كل من هؤلاء فإنها أمة عربت كتبهم ونقلت من لسان إلى لسان وفي مثل ذلك قد يدخل من الغلط والكذب ما لا يعلم حقيقته ولكن ما تواطأت به النقول عنهم يبقى مثل المتواتر وليس لنا غرض معين في معرفة قول كل واحد منهم بل تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (سورة البقرة). لكن الذي لا ريب فيه أن هؤلاء أصحاب التعاليم كأرسطو وأتباعه كانوا مشركين يعبدون المخلوقات ولا يعرفون النبوات ولا المعاد البدني وأن اليهود والنصارى خير منهم في الإلهيات والنبوات والمعاد

وإذا عرف أن نفس فلسفتهم توجب عليهم أن لا يقولوا بقدم شيء من العالم علم أنهم مخالفون لصريح المعقول كما أنهم مخالفون لصحيح المنقول وأنهم في تبديل القواعد الصحيحة المعقولة من جنس اليهود والنصارى في تبديل ما جاءت به الرسل وهذا هو المقصود في هذا الباب ثم إنه إذا قدر أنه ليس عندهم من المعقول ما يعرفون به أحد الطرفين فيكفي في ذلك إخبار الرسل باتفاقهم عن خلق السماوات والأرض وحدوث هذا العالم والفلسفة الصحيحة المبنية على المعقولات المحضة توجب عليهم تصديق الرسل فيما أخبرت به وتبين أنهم علموا ذلك بطريق يعجزون عنها وأنهم أعلم بالأمور الإلهية والمعاد وما يسعد النفوس ويشقيها منهم وتدلهم على أن من اتبع الرسل كان سعيدا في الآخرة ومن كذبهم كان شقيا في الآخرة وأنه لو علم الرجل من الطبيعيات والرياضيات ما عسى أن يعلم وخرج عن دين الرسل كان شقيا وأن من أطاع الله ورسوله بحسب طاقته كان سعيدا في الآخرة وإن لم يعلم شيئا من ذلك ولكن سلفهم أكثروا الكلام في ذلك لأنهم لم يكن عندهم من آثار الرسل ما يهتدون به إلى توحيد الله وعبادته وما ينفع في الآخرة وكانالشرك مستحوذا عليهم بسبب السحر والأحوال الشيطانية وكانوا ينفقون أعمارهم في رصد الكواكب ليستعينوا بذلك على السحر والشرك وكذلك الأمور الطبيعية وكان منتهى عقلهم أمورا عقلية كلية كالعلم بالوجود المطلق وانقسامه إلى علة ومعلول وجوهر وعرض وتقسيم الجواهر ثم تقسيم الأعراض وهذا هو عندهم الحكمة العليا والفلسفة الأولى ومنتهى ذلك العلم بالوجود المطلق الذي لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان ومن هنا دخل من سلك مسلكهم من المتصوفة المتفلسفة كابن عربي وابن سبعين والتلمساني وغيرهم فكان منتهى معرفتهم

الوجود المطلق ثم ظن من ظن منهم أن ذلك هو الوجود الواجب وفي ذلك من الضلال ما قد بسط في غير هذا الموضع وجعلوا غاية سعادة النفس أن تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود وليس في ذلك إلا مجرد علوم مطلقة ليس فيها علم بموجود معين لا بالله ولا بالملائكة ولا بغير ذلك وليس فيها محبة لله ولا عبادة لله فليس فيها علم نافع ولا عمل صالح ولا ما ينجى النفوس من عذاب الله فضلا على أن يوجب لها السعادة وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما جاء ذكره هنا بالعرض لننبه على أن من عدل عن طريق المرسلين فليس معه في خلافهم لا معقول صريح ولا منقول صحيح وأن من قال بقدم العالم أو شيء منه فليس معه إلا مجرد الجهل والاعتقاد الذي لا دليل عليه وهذا الخطاب كاف في هذا الباب وتفصيله مذكور في غير هذا الموضع وقد سلك هذا المسلك غير واحد من أهل الملل المسلمين واليهودوالنصارى وغيرهم فبينوا فساد ما سلكه القائلون بقدم العالم من العقليات وذكروا الحجج المنقولة عن أرسطو وغير واحدة واحدة وبينوا فسادها ثم قالوا نتلقى هذه المسألة من السمع فالرسل قد أخبرت بما لا يقوم دليل عقلي على نقيضه فوجب تصديقهم في هذا ولم يمكن تأويل ذلك لوجوه أحدها أنه قد علم بالاضطرار مرادهم فليس في تأويل ذلك إلا التكذيب المحض للرسل والثاني أن هذا متفق عليه بين أهل الملل سلفهم وخلفهم باطنا وظاهرا فيمتنع مع هذا أن تكون الرسل كانت مضمرة لخلاف ذلك كما يقوله من يقوله من هؤلاء الباطنية الثالث أنه ليس في العقل ما ينافي ذلك بل كل ما ينافيه من المعقولات فهو فاسد يعلم فساده بصريح العقل الرابع أن في العقليات ما يصدق ذلك ثم كل منهم يسلك في ذلك ما تيسر له من العقليات الخامس أنه معلوم بالفطرة والضرورة أنه لا بد من محدث

للمحدثات وفاعل للمصنوعات وأن كون المفعول مقارنا لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع في فطر العقول وهذا مما يحتج به على هؤلاء كما قد بسط في موضعه فإنه إذا بين لهم فساد قول إخواتهم وتبين لهم أن الفاعل لا بد أن يقوم به من الأحوال مما يصير به فاعلا امتنع مع هذا أن يكون مفعوله المعين مقارنا له أزلا وأبدا فإن هذا إخراج له من أن يكون مفعولا له السادس أن يقال لهؤلاء وهؤلاء جميعا أصل ما أنتم عليه الرجوع إلى الوجود والفلسفة معرفة الوجود على ما هو عليه والفلسفة الحقيقية هي العلوم الوجودية التي بها يعرف الوجود وأنتم لا تثبتون شيئا في الغالب إلا بقياس إما شمولي وإما تمثيلي فهل علمتم فاعلا يلزمه مفعوله أو يقارنه في زمانه لا يحدث شيئا فشيئا سواء كان فاعلا بالإرادة أو بالطبع وهل علمتم فاعلا لم يزل موجبا لمفعوله ولم يزل مفعوله معلولا له فهذا شيء لا تعقلونه أنتم ولا غيركم فكيف تثبتون بالمعقول ما لا يعقل أصلا معينا فضلا عن أن يعقل مطلقا والمطلق فرع

المعين فما لا يكون موجودا معينا لا يعقل لا معينا ولا مطلقا ولكن يقدر تقديرا في الذهن كما تقدر الممتنعات يبين ذلك أن العلم بكون الشيء ممكنا في الخارج يكون العلم بوجوده أو بوجود ما ذلك الشيء أولى بالوجود منه كما يذكره الله في كتابه في تقرير إمكان المعاد كقوله لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس (سورة غافر). وقوله وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه (سورة الروم). وقوله ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والاثنى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى (سورة القيامة). وقوله أو لم يروا أن الله خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شيء قدير (سورة الأحقاف). وقوله وضرب لنا مثلا ونسي خلقه (سورة يس). إلى قوله أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى (سورة يس). وأمثال ذلك مما يدل على أن إعادة الخلق أولى بالإمكان من ابتدائه وخلق الصغير أولى بالإمكان من خلق العظيم فأما مالا يعلم أنه ممكن إذا عرض على العقل ولم يعلم امتناعه فإمكانه ذهني بمعنى عدم العلم بالامتناع ليس إمكانه خارجيا بمعنى العلم بالإمكان في الخارج ولهذا ما تذكره طائفة من النظار كالآمدي وغيره أراد أن يقرر

إمكان الشيء بأنه لو قدر وجوده لم يلزم منه محال مجرد دعوى وغايته أن يقول لا نعلم أنه يلزم منه محال وعدم العلم ليس علما بالعدم فهؤلاء إذا أرادوا أن يثبتوا إمكان كون المفعول لازما لفاعله لا بد أن يعلموا ثبوت ذلك في الخارج أو ثبوت ما ذاك أولى بالإمكان منة وكلاهما منتف فلا يعلم قط فاعل إلا فاعلا يحدث فعله أو مفعوله لا يقارنه مفعوله المعين ويلازمه بل هذا إلى نفي كونه فاعلا ووصفه بالعجز عن نفي اللازم له أقرب منه إلى كونه فاعلا قادرا فقد جعلوا الله مثل السوء وهذا باطل والواجب في الأدلة الإلهية أن يسلك بها هذا المسلك فيعلم أن كل كمان كان لمخلوق فالخالق أحق به فإن كمال المخلوق من كمال خالقه وعلى اصطلاحهم كمال المعلول من كمال العلة ولأن الواجب أكمل من الممكن فهو أحق بكل كمال ممكن لا نقص فيه من كل ممكن ويعلم أن كل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه فإن النقص يناقض الكمال فإذا كان أحق بثبوت الكمال كان أحق بنفي النقص وهذه برهانية يقينية وهم يسلمونها وهم يقولون أيضا إن الفعل صفة كمال ويردون على من يقول من

أهل الكلام إنه ليس صفة كمال ولا نقص وقد قال تعالى أفمن يخلق كمن لا بخلق أفلا تذكرون (سورة النحل). وإذا كان كذلك فمن المعقول أن الفاعل الذي يفعل بقدرته ومشيئته أكمل ممن لا قدرة له ولا إرادة والفاعل القادر المختار الذي يفعل شيئا بعد شيء أكمل ممن يكون مفعوله لازما له يقدر على إحداث شيء ولا تغييره من حال إلى حال إن كان يعقل فاعلا يلزمه مفعوله المعين فإن الذي يقدر أن يفعل مفعولات متعددة ويقدر على تغييرها من حال إلى حال أكمل ممن ليس كذلك فلماذا يصفون واجب الوجود بالفعل الناقص إن كان ذلك ممكنا كيف وما ذكروه ممتنع لا يعقل فاعل على الوجه الذي قالوه بل من قدر شيئا فاعلا للازمه الذي لا يفارقه بحال كان مخالفا لصريح المعقول عند الناس وقيل له هذا صفة له أو مشارك له ليس مفعولا له ولو قيل لعامة العقلاء السليمي الفطرة إن الله خلق السماوات والأرض ومع هذا فلم تزالا معه لقالوا هذا ينافي خلقه لهما فلا يعقل خلقه لهما إلا إذا خلقهما بعد أن لم تكونا موجودتين وأما إذا قيل لم تزالا موجودتين كان القول مع ذلك بأنه خلقهما جميعا

بين المتناقضين في فطر الناس وعقولهم التي لم تغير عن فطرتها ولهذا كان مجرد إخبار الرسل بأن الله خلق السماوات والأرض ونحو ذلك كافيا في الإخبار بحدوثهما لم يحتاجوا مع ذلك أن يقولوا خلقهما بعد عدمهما ولكن أخبروا بزمان خلقهما كما في قوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام (سورة يونس). والإنسان لما كان يعلم أنه خلق بعد أن لم يكن ذكر بذلك ليستدل به على قدرة الخالق على تغيير العادة ولهذا ذكر تعالى ذلك في خلق يحيى بن زكريا عليه السلام وفي النشأة الثانية قال تعالى يا زكريا إنا نبشرك بغلام أسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أني يكون لي غلام وكانت أمرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (سورة مريم). وقال تعالى ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (سورة مريم). فذكر الإنسان بما يعلمه من أنه خلقه ولم يك شيئا ليستدل بذلك على قدرته على مثل ذلك وعلى ما هو أهون منه

الوجه السابع إن هؤلاء الذين قالوا بقدم العالم عن علة قديمة قالوا مع ذلك بأنه في نفسه ممكن ليس له وجود من نفسه وإنما وجوده من مبدعه فوصفوا الموجود الذي لم يزل موجودا الواجب بغيره بأنه ممكن الوجود فخالفوا بذلك طريق سلفهم وما عليه عامة بني آدم من أن الممكن لا يكون إلا معدوما ولا يعقل ما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد إلا ما كان معدوما وهذا قول أرسطو وقدماء الفلاسفة ولكن ابن سينا وأتباعه خالفوا هؤلاء وقد تعقب ذلك عليهم ابن رشد وغيره وقالوا إنه لا يعقل الممكن إلا ما أمكن وجوده أمكن عدمه فجاز أن يكون موجودا وأن يكون معدوما أي مستمر العدم ولهذا قالوا إن الممكن لا بد له من محل كما يقال يمكن أن تحمل المرأة وأن تنبت الأرض وأن يتعلم الصبي فمحل الإمكان هو الرحم والأرض والقلب فيمكن أن يحدث في هذه المحال ما هي قابلة له من الحرث والنسل والعلم أما الشيء الذي لم يزل ولا يزال إما بنفسه وإما بغيره فكيف يقال يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد وإذا قيل هو باعتبار ذاته يقبل الأمرين قيل إن أردتم بذاته ما هو موجود في الخارج فذاك لا يقبل الأمرين فإن الوجود الواجب بغيره لا يقبل العدم إلا أن يريدوا أنه يقبل أن يعدم بعد وجوده وحينئذ فلا يكون واجبا بغيره دائما فمتى قبل العدم

في المستقيل أو كان معدوما لم يكن أزليا أبديا قديما واجبا بغيره دائما كما يقول هؤلاء في العالم فإن أريد بقبول الوجود والعدم في حال واحدة فهو ممتنع وإن أريد في الحالين أي يقبل الوجود تارة والعدم أخرى امتنع أن يكون أزليا أبديا لتعاقب الوجود والعدم عليه وإن أريد أن ذاته التي تقبل الوجود والعدم شيء غير الوجود في الخارج فذاك ليس بذاته وإن قيل يريد به أن ما يتصوره في النفس يمكن أن يصير موجودا في الخارج ومعدوما كما يتصوره الإنسان في نفسه من الأمور قيل هذا أيضا يبين أن الإمكان مستلزم للعدم لأن ما ذكرتموه إنما هو في شيء يتصوره الفاعل في نفسه يمكن أن يجعله موجودا في الخارج ويمكن أن يبقى معدوما وهذا إنما يعقل فيما يعدم تارة ويوجد أخرى وأما ما لم يزل موجودا واجبا بغيره فهذا لا يعقل فيه الإمكان أصلا وإذا قال قائل ذاته تقبل الوجود والعدم كان متكلما بما لا يعقل وهذا الموضع قد تفطن له أذكياء النظار فمنهم من أنكره على ابن سينا وأتباعه كما أنكر ذلك ابن رشد ومنهم من جعل هذا سؤالات واردة على الممكن كما يفعله الرازي وأتباعه ولم يجيبوا عنه بجواب صحيح

وسبب ذلك أنهم اتبعوا ابن سينا في تجويزه أن يكون الشيء ممكنا بنفسه واجبا بغيره دائما أزلا وأبدا بل هذا باطل كما عليه جماهير الأمم من أهل الملل والفلاسفة وغيرهم وعليه نظر المسلمين وعليه أئمة الفلاسفة أرسطو وأتباعه لا يكون الممكن عندهم إلا ما يكون معدوما تارة وموجودا أخرى فالإمكان والعدم متلازمان وإذا كان ما سوى الرب تعالى ليس موجودا بنفسه بل كان ممكنا وجب أن يكون معدوما في بعض الأحوال ولا بد ليصح وصفه بالإمكان وهذا برهان مستقل في أن كل ما سوى الله محدث كائن بعد أن لم يكن وأنه سبحانه خالق كل شيء بعد أن لم يكن شيئا فسبحان من تفرد بالبقاء والقدم وألزم ما سواه بالحدوث عن العدم يوضح ذلك أنه إما أن يقال وجود كل شيء في الخارج عين ماهيته كما هو قول نظار أهل السنة الذين يقولون إن المعدوم ليس بشيء في الخارج أصلا ويقولون إنه ليس في الخارج للموجودات ماهيات غير ما هو الموجود في الخارج فيخالفون من يقول المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم ومن قال إن وجود كل شيء الثابت في الخارج مغاير لماهيته ولحقيقته الثابتة في الخارج كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ونحوهم

وإما أن يقال وجود الشيء في الخارج زائد على ماهيته فإن قيل بالأول لم يكن للعالم في الخارج ذات غير ما هو موجود في الخارج حتى يقال إنها تقبل الوجود والعدم وإذا قيل بالثاني فإن قدر أنه لم يزل موجودا لم يكن للذات حال تقبل الوجود والعدم بل لم تزل متصفة بالوجود فقول القائل إن الممكن هو الذي يقبل الوجود والعدم مع قوله بأنه لم يزل موجودا جمع بين قولين متناقضين وإذا قيل هو ممكن باعتبار ذاته كان قوله أيضا متناقضا سواء عني بذاته الوجود في الخارج أو شيئا آخر يقبل الوجود في الخارج فإن تلك إذا لم تزل موجودة ووجودها واجب لم تكن قابلة للعدم أصلا ولم يكن عدمها ممكن أصلا وقول القائل هي باعتبار ذاتها غير موجودة مع قوله إنها لم تزل موجودة معناه أن الذات لم تزل موجودة واجبة بغيرها يمتنع عدمها هي باعتبار الذات تقبل الوجود والعدم ويمكن فيها هذا وهذا وبسط هذا بتمام الكلام على الممكن كما قد بسطوه في موضعه يبين ذلك أن الممكن هو الفقير الذي لا يوجد بنفسه وإنما يوجده غيره فلا بد أن يكون هنا شيء يوصف بالفقر والإمكان وقبول

العدم ثم يوصف بالغنى والوجود فأما ما لم يزل موجودا غنيا فكيف يوصف بفقر وإمكان فإنه إن حكم بالفقر والإمكان وقبول العدم على الموجود الغنى كان ذلك ممتنعا فيه كما تقدم إذا كان لا يقبل العدم ألبتة وإن حكم بالفقر والإمكان وقبول العدم على ما في الذهن بمعنى أنه يفتقر وجوده في الخارج إلى فاعل فهذا يؤيد ما قلناه من أنه لا بد أن يكون معدوما ثم يوجد وإن قيل بل فاعله يتصوره في نفسه مع دوام فعله له والممكن هو ما في النفس قيل ما في النفس الواجب واجب به لا يقبل العدم وما في الخارج واجب به لا يقبل العدم فأين القابل للوجود والعدم وإن قيل ما تصور في النفس يقبل الوجود والعدم في الخارج قيل هذا ممتنع مع وجوب وجوده دائما في الخارج بل هذا معقول فيما يعدم تارة ويوجد أخرى فإذا كان كل ما سوى الله ممكنا فقيرا وجب أن يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى وهذا الدليل مستقر في فطر الناس فكل من يتصور شيئا من الأشياء محتاجا إلى الله مفتقرا إليه ليس موجودا بنفسه بل وجوده بالله تصور أنه مخلوق كائن بعد أن لم يكن فأما إذا قيل هو فقير مصنوع محتاج وأنه دائما معه لم يحدث عن عدم لم يعقل هذا ولم يتصور إلا كما

تتصور الممتنعات بأن يقدر في الذهن تقديرا لا يتصور تحققه في الخارج فإن تحققها في الخارج ممتنع وعلى هذا فإذا قيل المحوج إلى المؤثر هو الإمكان أو هو الحدوث لم يكن بين القولين منافاة فإن كل ممكن حادث وكل حادث ممكن فهما متلازمان ولهذا جمع بين القولين من قال إن المحوج إلى المؤثر هو الإمكان والحدوث جميعا فالأقوال الثلاثة صحيحة في نفس الأمر وإنما وقع النزاع لما ظن من ظن أنه يكون الشيء ممكنا مع كونه غير حادث وهذا الذي قرر في امتناع كون العالم قديما وامتناع كون فاعله علة قديمة أزلية صحيح سواء قيل إنه مريد بإرادة أزلية مستلزمة لاقتران مرادها بها أو قيل ليس بمريد وسواء قيل إنه علة للفلك مع حركته أو للفلك بدون حركته وهكذا القول في كل ما يقدر قديما معه فإنه لا بد أن يكون مقارنا لشيء من الحوادث أو ممكنا أن يقارنه شيء من الحوادث وعلى التقديرين يمتنع أن يكون قديما مع الله تعالى لأن القديم لا يكون إلا عن موجب تام مستلزم لموجبه وثبوت هذا في الأزل يقتضي أنه لا يحدث عنه شيء والحوادث لا تحدث إلا عنه فلا يكون موجب أزلي

إلا إذا حدث عنه شيء ولكن فاعل العالم يمتنع أن لا يحدث عنه شيء فيمتنع أن يكون موجبا بالذات في الأزل وإذا قيل هو مريد بإرادة أزلية مقارنة لمرادها الذي هو العالم أو يتأخر عنها مرادها الذي هو حوادثه كان القول كذلك فإنه إذا لم يكن له إلا إرادة أزلية مقارنة لمرادها امتنع أن تحدث عنه الحوادث لكنه يمتنع أن لا تحدث عنه الحوادث فيمتنع أن لا يكون له إلا إرادة أزلية مقارنة لمرادها مع أن الإرادة لمفعولات لازمة للفاعل غير معقول بل إنما يعقل في حق الفاعل بإراداته أن يفعل شيئا بعد شيء ولهذا لم يقل أحد إن الرب يتكلم بمشيئته وقدرته وإن الكلام المقدور المعين قديم لازم لذاته فإذا لم يعقل هذا في المقدور القائم به فكيف يعقل في المباين له وإذا قيل له إرادة أزلية مقارنة للمراد وإرادة أخرى حادثة مع الحوادث قيل فحدوث هذه الإرادة الحادثة إن كان بتلك الإرادة الأزلية التي يجب مقارنة مرادها لها كان ذلك ممتنعا لأن الثانية حادثة فيمتنع أن

تكون مقارنة للقديمة التي قارنها مرادها وإن كان بدون تلك الإرادة لزم حدوث الحوادث بدون إرادته وهذا يقتضي جواز حدوث الحوادث بدون إرادته فلا يكون فاعلا مختارا فإن الإرادة الحادثة إن كانت فعله فقد حدثت بغير إرادة وإن لم تكن فعله كان قد حدث حادث بلا فعله وهذا ممتنع وهو مما أنكره جماهير الناس على المعتزلة البصريين في قولهم بحدوث إرادة الله بدون إرادة أخرى وبقيام إرادته لا في محل وإن قيل بل لم تزل تقوم به الإرادات للحوادث كما يقول ذلك من يقوله من أهل الحديث والفلاسفة الذي يقولون لم يزل يتكلم إذا شاء ولم يزل فعالا لما يشاء قيل فعلى هذا التقدير ليس هنا إرادة قديمة لمفعول قديم وإن قيل يجتمع فيه هذا وهذا قيل فهذا ممتنع من جهة امتناع كون المفعول المعين للفاعل لا سيما المختار ملازما له ومن جهة كون المفعول بالإرادة لا بد وأن تتقدمه الإرادة وأن تثبت إلى أن يوجد بل هذا في كل مفعول ومن جهة أن ما قامت به الإرادات المتعاقبة كانت مراداته أيضا متعاقبة وكذلك أفعاله القائمة بنفسه وكانت تلك الإرادات من لوازم نفسه

لم يجز أن تكون مرادة لإرادة قديمة لأنها إن كانت ملزومة لمرادها لزم كون الحادث المعين في الأزل وإن كان مرادها متأخرا عنها كانت تلك الإرادة كافية في حصول المرادات المتأخرة فلم يكن هناك ما يقتضي وجودها فلا توجد إذ الحادث لا يوجد إلا لوجود مقتضيه التام فإن قدر أن الفاعل يريد شيئا بعد شيء ويفعل شيئا بعد شيء لزم أن يكون هذا من لوازم نفسه فتكون نفسه مقتضية لحدوث أفعاله شيئا بعد شيء فتكون مفعولاته شيئا بعد شيء بطريق الأولى والأحرى وإذا كان كذلك كانت نفسه مقتضية لحدوث كل من هذه الأفعال والمفعولات وإذا كانت نفسه مقتضية لذلك امتنع مع ذلك أن يكون مقتضية لقدم فعل ومفعول مع إرادتهما المستلزمة لهما فإن ذاته تكون مقتضية لأمرين متناقضين لأن اقتضاءهما حدوث أفراد الفعل والمفعول وقدم النوع مناقض لاقتضائها قدم عين الفعل والمفعول

وإن قدر أن هذا المفعول غير تلك المفعولات فإنه ملزوم لها لا يوجد بدونها ولا توجد إلا به فهما متلازمان وإذا تلازمت المفعولات فتلازم أفعالها وإرادتها أولى فيكون كل من القدماء الثلاثة الإرادة المعينة وفعلها ومفعولها ملزوما لحوادث لا نهاية لها لازما وحينئذ فالذات في فعلها للمفعول المعين علة تامة أزلية موجبة له وهي في سائر الحوادث ليست علة أزلية تحدث فاعليتها وتمام إيجابها شيئا بعد شيء والذات موصوفة بغاية الكمال الممكن فإن كان كمالها في أن يكون ما فيها بالقوة هو بالفعل من غير إمكان ذلك ولا كون دوام الإحداث هو أكمل من أن لا يحدث عنها شيء كما قد يقوله هؤلاء الفلاسفة فيجب أن لا يحدث عنها شيء أصلا ولا يكون في الوجود حادث وإن كان كمالها في أن تحدث شيئا بعد شيء لأن ذلك أكمل من أن لا يمكنها إحداث شيء بعد شيء ولأن الفعل صفة كمال والفعل لا يعقل إلا على هذا الوجه ولأن حدوث الحوادث دائما أكمل من أن لا يحدث شيء ولأن هذا الذي بالقوة هو جنس الفعل وهذا بالفعل دائما وأما كون كل من المفعولات أو شيء من المفعولات أزليا فهذا ليس

بالقوة فيمتنع أن يكون بالفعل فليس في مقارنة مفعولها المعين لها كمال سواء كان ممتنعا أو كان نقصا ينافي الكمال الواجب لها لا سيما ومعلوم أن إحداث نوع المفعولات شيئا بعد شيء أكمل من أن يكون منها ما هو مقارن الفاعل أزليا معه فعلى التقديرين يجب نفيه عنها فلا يكون لها مفعول مقارن لها فلا يكون في العالم شيء قديم وهو المطلوب وهذا برهان مستقل متلقى من قاعدة الكمال الواجب له وتنزهه عن النقص ومما يوضح ذلك أن يقال من المعلوم بالضرورة أن إحداث مفعول بعد مفعول لا الى نهاية أكمل من أن لا يفعل إلا مفعولا واحدا لازما لذاته إن قدر ذلك ممكنا وإذا كان ذلك أكمل فهو ممكن لأن التقدير أن الذات يمكنها أن تفعل شيئا بعد شيء بل يجب ذلك لها وإذا كان هذا ممكنا بل هو واجب لها وجب اتصافها به دون نقيضه الذي هو أنقض منه وليس في هذا تعطيل عن الفعل بل هو اتصاف بالفعل على أكمل الوجوه وبيان هذا أن الفعل المعين والمفعول المعين المقارن له أزلا وأبدا إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممتنعا امتنع قدم

شيء من العالم وهو المطلوب وإن كان ممكنا فإما أن يكون هو الأكمل أو لا يكون فإن كان هو الأكمل وجب أن لا يحدث شيء وإحداثه حينئذ عدول عن الأكمل وهو محال وإن لم يكن هو الأكمل فالأكمل نقيضه وهو إحداث شيء بعد شيء فلا يكون شيء من الأفعال قديما وهذا لا يرد عليه إلا سؤالا معلوم الفساد وهو أن يقال ما كان يمكن إلا هذا فلا يمكن في الفلك أن يتأخر وجوده ولا في الحوادث أن يكون منها شيء قديم قيل إن أردتم امتناع هذا لذاته فهو مكابرة فإنه لو قدر قبل الفلك فلك وقبله فلك لم يكن امتناع هذا بأعظم من امتناع دوام الفلك بل إذا كان الواحد من النوع دوامه فدوام النوع أولي ولهذا لا يعقل أن يكون واحد من البشر قديما أزليا مع امتناع قدم نوعه واحدا بعد واحد وإن قدرتم إنه ممتنع لأمر يرجع إلى غيره لوجود مضاد له أو لانتفاء حكمة الفاعل ونحو ذلك فكل أمر ينافي قدم نوع المفعول فهو أشد منافاة لقدم عينه فإن جاز قدم عينه فقدم النوع من حدوث الأفراد أجوز وإن امتنع هذا الثاني فالأول أشد امتناعا وكل شيء أوجب حدوث أفراد بعض المفعولات الممكن قدمها فهو أيضا موجب لحدوث نظيره وهب أنهم يقولون الحركة لذاتها لا تقبل البقاء لكن الحوادث جواهر كثيرة شيئا بعد شيء فالعناصر الأربعة إن أمكن أن تكون قديمة

الأعيان أمكن إبقاؤها قديمة الصورة فلا يجوز استحالتها من حال إلى حال وهو خلاف المشاهدة وإن لم يمكن قدم أعيانها حصل المطلوب وإن قيل هذا ممكن دون هذا كان مكابرة وإن قيل الموجب لاستحالتها حركة الأفلاك قيل من المعلوم بالاضطرار إمكان تحرك الأفلاك دون استحالة العناصر كما أمكن تحرك الفلك الأعلى دون استحالة الثاني وتقدير استحالة الفلك الثاني والثالث وبقائهما كتقدير استحالة العناصر وبقائها لا يمكن أن يقال هذا ممكن لذاته دون الآخر فعلم إن ذلك يرجع إلى أمر خارج يتعلق بالمفعولات المتعلقة بمشيئة الفاعل وحكمته وهذا لا ريب فيه فإننا لا ننازع أن فعل الشيء يوجب فعل لوازمه وينافى وجود أضداده وأن الحكمة المطلوبة من فعل شيء قد يكون لها شروط وموانع فالخالق الذي اقتضت حكمته إحداث أنواع الحيوانات والنباتات والمعادن اقتضت أن تنقل موادها من حال إلى حال ولكن المقصود أنه ليس لأحد الجسمين حقيقة اقتضت

اختصاصه بالقدم بحسب ذاته دون الأخرى لا سيما ولا حقيقة لوجود شيء سوى الموجود الثابت في الخارج فلا اقتضاء لحقيقته قبل وجود حقيقته ولكن الباري تعالى يعلم ما يريد أن يفعله فعلمه وإرادته هو الذي يوجب الاختصاص فقد تبين أنه إذا كان مقارنة المفعول المعين للفاعل أزلا وأبدا ممتنعا أو نقصا امتنع قدم شيء من العالم فكيف إذا كان كل منهما ثابتا هو ممتنع ومع تقدير إمكانه فهو نقص فإن قدم نوعه أكمل من قدم عينه وهو أولى بالإمكان منه فإذا كان أولى بالإمكان وهو أكمل امتنع أن يكون نقيضه هو الممكن وإذا امتنع ذلك قدم شيء من العالم وعلي هذا فكل ما يذكرونه من دوام فاعلية الرب هو حجة عليهم فإن فاعلية النوع أكمل من فاعلية الشخص وهو الذي يشهد به الشخص قطعا وحسا فإنا نشهد بفاعلية نوع شيئا بعد شي فإن كان دوام الفاعلية ممكنا فهذا ممكن لوجوده ولسنا نعلم دوام الفاعلية لشيء معين فلا يلزم من علمنا بدوام الفاعلية دوام شيء معين أصلا ودوام النوع يقتضى حدوث أفراده فكل ما سوى الله حادث بعد أن لم يكن وهو المطلوب فتبين أن القول بمقارنة مراده له في الأزل ممتنع يمنع صدور الحوادث عنه وهذا لا يحتاج فيه إلى أن يقال الإرادة الحادثة لا يقارنها مرادها

بل يمكن أن يقال مع ذلك إن الإرادة الحادثة يقارنها مرادها كما يقولون إن القدرة الحادثة يقارنها مقدورها وإن كان من الناس من ينازع في ذلك والمقصود هنا أنه إذا قيل بأن الإرادة يجب أن يقارنها مرادها وكان ذلك دليلا على حدوث كل ما سوى الله وإن قيل يجوز أن يقارنها مرادها ويجوز أن لا يقارنها أو قيل يمتنع مقارنة مرادها لها فعلى التقديرات الثلاثة يجب حدوث كل ما سوى الله أما على تقدير وجوب مقارنة المراد للإرادة فلأنه إن كانت الإرادة أزلية لزم أن يكون جميع المرادات أزلية فلا يحدث شيء وهو خلاف الحس والعيان وهذا مثل قولنا لو كان موجبا بذاته أزليا أو علة تامة لمعلوله لزم أن يكون جميع موجبه ومعلوله مقارنا له أزليا فيمتنع حدوث شيء عنه وإن كان هناك إرادة حادثة فإن الكلام فيها كالكلام في غيرها من الحوادث إن حدثت عن تلك الإرادة الأزلية التي يجب مقارنة مرادها لها كان ممتنعا وإن حدثت بلا إرادة ولا سبب حادث كان ذلك ممتنعا فتبين أنه على القول بوجوب مقارنة المراد للإرادة يمتنع قدم شيء من

العالم سواء قيل بقدم الإرادة أو حدوثها أو قدم شيء منها وحدوث شيء آخر وإن قيل بأن المراد يجوز مقارنته للإرادة ويجوز تأخره عنها فإنه على هذا التقدير يجوز حدوث جميع العالم بإرادة قديمة إزلية من غير تجدد شيء كما تقول ذلك الكلابية ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية والفقهاء المنسوبين إلى الأئمة الأربعة وغيرهم وعلى هذا التقدير فإنه يجوز حدوث الحوادث بلا سبب حادث وترجيح أحد المتماثلين على الآخر بمجرد الإرادة القديمة وعلى هذا التقدير فإنه يبطل حجة القائلين بقدم العالم وهؤلاء إنما قالوا هذا لاعتقادهم بطلان التسلسل في الآثار وامتناع حوادث لا أول لها فإن كان ما قالوه حقا وأنه يمتنع حوادث لا أول لها لزم حينئذ حدوث العالم وامتنع القول بقدمه لأنه لا يخلو شيء منه عن مقارنة شيء من الحوادث حتى العقول والنفوس عند من يقول بإثباتها فإنها عندهم لا بد أن تقارن الحوادث فإذا امتنع حوادث لا أول لها كان ما لم يسبق الحوادث بمنزلتها يمتنع قدمه كما يمتنع قدمها وإن كان ما قاله هؤلاء باطلا أمكن دوام الحوادث وعلى هذا التقدير فيجوز مقارنة المراد للإرادة في الأزل ويمتنع حدوث شيء إلا بسبب حادث وحينئذ فيمتنع كون شيء من العالم أزليا وإن جاز أن

يكون نوع الحوادث دائما لم يزل فإن الأزل ليس هو عبارة عن شيء محدد بل ما من وقت يقدر إلا وقبله وقت آخر فلا يلزم من دوام النوع قدم شيء بعينه وإنما قيل يمتنع قدم شيء بعينه لأنه إذا جاز أن يقارنها المراد في الأزل وجب أن يقارنها المراد لأن الإرادة التي يجوز مقارنة مرادها لها لا يتخلف عنها مرادها إلا لنقص في القدرة وإلا فإذا كانت القدرة تامة والإرادة التي يمكن مقارنة مرادها لها حاصلة لزم حصول المراد لوجود المقتضى التام للفعل إذ لو لم يلزم مع كون المراد ممكنا لكان حصوله بعد ذلك يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بدون مرجح وهو باطل على هذا التقدير ولهذا كان الذين يقولون بامتناع شيء من الحوادث في الأزل يقولون إن حصول شيء من الإرادات في الأزل ممتنع لا يقولون بأنه ممكن وأنه يمكن مقارنة مراده له لكن أورد الناس عليهم أنه إذا كان نسبة جميع الأوقات والحوادث إلى الإرادة الأزلية نسبة واحدة فترجيح أحد الوقتين أو ما يقدر فيه الوقت بالحدوث ترجيح بلا مرجح وتخصيص لأحد المتماثلين بلا مخصص

وهذا الكلام لا يقدح في مقصودنا هنا فإنا لم ننصر هذا القول ولكن بينا امتناع قدم شيء من العالم على كل تقدير وأن دوام الحوادث سواء كان ممكنا أو ممتنعا فإنه يجب حدوث كل شيء من العالم على التقديرين وأن الإرادة سواء قيل بوجوب مقارنة مرادها لها أو بجواز تأخره عنها يلزم حدوث كل شيء من العالم على كل من التقديرين فإن القائلين بتأخر مرادها إنما قالوا ذلك فرارا من القول بدوام الحوادث ووجود حوادث لا أول لها وعلى هذا التقدير فيلزم حدوث العالم وإلا فلو جاز دوام الحوادث لجاز عندهم وجود المراد في الأزل ولو جاز ذلك لم يقولوا بتأخر المراد عن الإرادة القديمة الأزلية مع ما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وما في ذلك من الشناعة عليهم ونسبة كثير من العقلاء إلى أنهم خالفوا صريح المعقول فإنهم إنما صاروا إلى هذا القول لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها فاحتاجوا لذلك أن يثبتوا إرادة قديمة أزلية يتأخر عنها المراد ويحدث بعد ذلك من غير سبب حادث واحتاجوا أن يقولوا إن نفس الإرادة تخصص أحد المتماثلين على الآخر وإلا فلو اعتقدوا جواز دوام الحوادث وتسلسلها لأمكن أن يقولوا بأنه

تحدث الإرادات والمرادات ويقولون بجواز قيام الحوادث بالقديم ولرجعوا عن قولهم بأن نفس الإرادة القديمة تخصص أحد المثلين في المستقبل وعن قولهم بحدوث الحوادث بلا سبب حادث وكانوا على هذا التقدير لا يقولون بقدم شيء من العالم بل يقولون إن كل ما سوى الله فإنه حادث كائن بعد أن لم يكن وكان هذا لازما على هذا التقدير لأنه حينئذ إذا لم يجز حدوث شيء من الحوادث إلا بسبب حادث ولم يترجح أحد الوقتين بحدوث شيء فيه إلا بمرجح يقتضى ذلك لا يكون تأخر المراد عن الإرادة إلا لتعذر المراد إذ لو كان المراد ممكنا أن يقارن الإرادة وممكنا أن يتأخر عنها لكان تخصيص أحد الزمانين بالإحداث تخصيصا بلا مخصص فعلم أنه يجب أحد الأمرين على هذا التقدير وجوب مقارنة المراد للإرادة أو أمتناعه وأنه يجب مقارنته للإرادة إذا كان ممكنا وأنه لا يتأخر إلا لتعذر مقارنته إما لامتناعه في نفسه وإما لامتناع لوازمه

وامتناع اللازم يقتضي امتناع الملزوم لكن يكون امتناعه لغيره لا لنفسه كما يقول المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب كونه بمشيئته لا بنفسه وما لم يشأ يمتنع كونه لا بنفسه بل لأنه لا يكون إلا بمشيئته فإذا لم يشأ امتنع كونه وإذا كان على هذا التقدير أحد الأمرين لازما إما مقارنة المراد للإرادة وإما امتناعه لنفسه أو لغيره دل ذلك على أنه لو كان شيء من العالم يمكن أن يكون قديما لوجب أن يكون قديما لوجوب مقارنته له في الأزل إذ التقدير أنه لا بد من وجوب المقارنة أو امتناع المراد فإن كان المراد ممكنا في الأزل لزم وجوب المقارنة لكن وجوب المقارنة ممتنع لأن ذلك يستلزم أن لا يحدث شيء من الحوادث كما تقدم فلزم القسم الآخر وهو امتناع شيء من المراد المعين في الأزل وهو المطلوب فأما إذا قيل بأنه يجب تأخر المراد عن الإرادة كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام فبتقدير كونه مريدا يمتنع قدم شيء من العالم وهو المطلوب فتبين حدوث كل ما سوى الله على كل تقدير وهو المطلوب واعلم أن من فهم هذه الطريق استفاد بها أموراأحدها ثبوت حدوث كل ما سوى الله حتى إذا قدر أن هناك موجودا سوى الأجسام كما يقول من يثبت العقول والنفوس من المتفلسفة والمتكلمة إنها جواهر قائمة بأنفسها وليست أجساما فإن هذه الطريق يعلم بها حدوث ذلك وطائفة من متأخري أهل الكلام كالشهرستاني والرازي والأمدي وغيرهم قالوا إن قدماء أهل الكلام لم يقيموا دليلا على نفي هذه ودليلهم على حدوث الأجسام لا يتناول هذه وقد بين في غير هذا الموضع أن هؤلاء النظار كأبي الهذيل والنظام والهشامين وابن كلاب وابن كرام والأشعري والقاضي أبي بكر وأبيالمعالي وأبي علي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وأبي بكر بن العربي وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن

عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغير هؤلاء يثبتون امتناع وجود موجود ممكن قائم بنفسه لا يشار إليه فبينوا بطلان ثبوت تلك المجردات في الخارج لكن منهم من أبطل ثبوت ما لا يشار إليه مطلقا ومنهم من أبطل ذلك في الممكنات ومما يستفاد بهذه الطريق التي قررناها الخلاص عن إثبات الحدوث بلا سبب حادث والخلاص عن نفي ما يقوم بذات الله من صفاته وأفعاله ومما يستفاد بذلك أنها برهان باهر على بطلان قول القائلين بقدم العالم أو شيء منه وهو متضمن الجواب عن عمدتهم ومما يستفاد بذلك الاستدلال على المطلوب من غير احتياج إلى الفرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار وذلك أن كثيرا من أهل النظر غلطوا في الفرق بين هذا وهذا من المعتزلة والشيعة وصار كثير من الناس كالرازي وأمثاله مضطربين في هذا المقام فتارة يوافقون المعتزلة على الفرق وتارة يخالفونهم وإذا خالفوهم فهم مترددون بين أهل السنة وبين الفلاسفة أتباع أرسطو وأصل ذلك أنا نعلم أن القادر المختار يفعل بمشيئته وقدرته لكن هل يجب وجود المفعول عند وجود الإرادة الجازمة والقدرة التامة أم لا

فمذهب الجمهور من أهل السنة المثبتين للقدر وغيرهم من نفاة القدر أنه يجب وجود المفعول عند وجود المقتضي التام وهو الإرادة الجازمة والقدرة التامة وطائفة أخرى من مثبتة القدر الجهمية وموافقيهم ومن نفاة القدر المعتزلة وغيرهم لا توجب ذلك بل يقولون القادر هو الذي يفعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب ويجعلون هذا هو الفرق بينه وبين الموجب بالذات وهؤلاء يقولون إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالجائع مع الرغيفين والهارب مع الطريقين ثم القدرية من هؤلاء يقولون العبد قادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح كما يقولون مثل ذلك في الرب ولهذا كان من قول هؤلاء القدرية إن الله لم ينعم على أهل الطاعة بنعم خصهم بها حتى أطاعوه بها بل تمكينه للمطيع وغيره سواء لكن هذا رجح الطاعة بلا مرجح بل بمجرد قدرته من غير سبب أوجب ذلك وهذا رجح المعصية بمجرد قدرته من غير سبب أوجب ذلك وأما الجبرية كجهم وأصحابه فعندهم أنه ليس للعبد قدرة ألبتة

والأشعري يوافقهم في المعنى فيقول ليس للعبد قدرة مؤثرة ويثبت شيئا يسميه قدرة يجعل وجوده كعدمه وكذلك الكسب الذي يثبته وهؤلاء لا يمكنهم أن يحتجوا على بطلان قول القدرية بأن رجحان فاعلية العبد على تاركيته لا بد لها من مرجح كما يفعل ذلك الرازي وطائفة من الجبرية ولهذا لم يذكر الأشعري وقدماء أصحابه هذه الحجة وطائفة من الناس كالرازي وأتباعه إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر أبطلوا هذا الأصل وبينوا أن الفعل يجب وجوده عند وجود المرجح التام وأنه يمتنع فعله بدون المرجح التام ونصروا أن القادر المختار لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بالمرجح التام وإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وإثبات الفاعل المختار وإبطال قولهم بالموجب بالذات سلكوا مسلك المعتزلة والجهمية في القول بأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وعامة الذين سلكوا مسلك أبي عبدالله بن الخطيب وأمثاله تجدهم يتناقضون هذا التناقض

وفصل الخطاب أن يقال أي شيء يراد بلفظ الموجب بالذات إن عنى به أنه يوجب بذات مجردة عن المشيئة والقدرة فهذه الذات لا حقيقة لها ولا ثبوت في الخارج فضلا عن أن تكون موجبة والفلاسفة يتناقضون فإنهم يثبتون للأول غاية ويثبتون العلل الغائية في إبداعه وهذا يستلزم الإرادة وإذا فسروا الغاية بمجرد العلم وجعلوا العلم مجرد الذات كان هذا في غاية الفساد والتناقض فإنا نعلم بالضرورة أن الإرادة ليست مجرد العلم وأن العلم ليس هو مجرد العالم لكن هذا من تناقض هؤلاء الفلاسفة في هذا الباب فإنهم يجعلون المعاني المتعددة معنى واحدا فيجعلون العلم هو القدرة وهو الإرادة ويجعلون الصفة هي نفس الموصوف كما يجعلون العلم هو نفس العالم والقادر هو القدرة والإرادة هي المريد والعشق هو العاشق وهذا قد صرح به فضلاؤهم وحتى المنتصرون لهم مثل ابن رشد الحفيد الذي رد على أبي حامد الغزالي في تهافت التهافت وأمثاله وأيضا فلو قدر وجود ذات مجردة عن المشيئة والاختيار فيمتنع أن يكون العالم صادرا عن موجب بالذات بهذا التفسير لأن الموجب

بالذات بهذا الاعتبار يستلزم موجبه ومقتضاه فلو كان مبدع العالم موجبا بالذات بهذا التفسير لزم أن لا يحدث في العالم شيء وهو خلاف المشاهدة فقولهم بالموجب بالذات يستلزم نفي صفاته ونفي أفعاله ونفي حدوث شيء من العالم وهذا كله معلوم البطلان وأبطل من ذلك أنهم جعلوه واحدا بسيطا وقالوا إنه لا يصدر عنه إلا واحد ثم احتالوا في صدور الكثرة عنه بحيل تدل على عظيم حيرتهم وجهلهم بهذا الباب كقولهم إن الصادر الأول هو العقل الأول وهو موجود واجب بغيره ممكن بنفسه ففيه ثلاث جهات فصدر عنه باعتبار وجوبه عقل آخر وباعتبار وجوده نفس وباعتبار إمكانه فلك وربما قالوا وباعتبار وجوده صورة الفلك وباعتبار إمكانه مادته وهم متنازعون في النفس الفلكية هل هي جوهر مفارق له أم عرض قائم به ولهذا أطنب الناس في بيان فساد كلامهم وذلك أن هذا الواحد الذي فرضوه لا يتصور وجوده إلا في الأذهان لا في الأعيان ثم قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد قضية كلية وهم لو علموا ثبوتها في بعض الصور لم يلزم أن تكون كلية إلا بقياس التمثيل فكيف وهم لا يعلمون واحدا صدر عنه شيء

وما يمثلون به من صدور التسخين عن النار والتبريد عن الماء باطل فإن تلك الآثار لا تصدر إلا عن شيئين فاعل وقابل والأول تعالى كل ما سواه صادر عنه ليس هناك قابل موجود وإن قالوا الماهيات الثابتة في الخارج الغنية عن الفاعل هي القابل كان هذا باطلا من وجوه منها أن هذا بناء على أصلهم الفاسد وهو إثبات ماهيات موجودة في الخارج مغايرة للأعيان الموجودة وهذا باطل قطعا وما يذكرونه من أن المثلث يتصور قبل أن يعلم وجوده لا يدل على ثبوت المثلث في الخارج بل يدل على ثبوته في الذهن ولا ريب في حصول الفرق بين ما في الأذهان وما في الأعيان ومن هنا كثر غلطهم فإنهم تصوروا أمورا في الأذهان فظنوا ثبوتها في الأعيان كالعقول والماهيات الكلية والهيولي ونحو ذلك ومنها أن الماهيات هي بحسب ما يوجد فكل ما وجد له عندهم ماهية كما يقوله من يقول إن المعدوم شيء من المعتزلة والشيعة فلا يجوز قصر الموجودات على أمور لتوهم أنه لا ماهية تقبل الوجود غيرها

ومنها أن يقال الماهيات الممكنة في نفسها لا نهاية لها ومنها أن يقال الواحد المشهود الذي تصدر عنه الآثار له قوابل موجودة والباري تعالى هو المبدع لوجود كل ما سواه فلا يعلم أمر صادر عن ممكن إلا عن شيئين فصاعدا مع أنه قد يكون هناك مانع يمنع التأثير وليس في الموجودات ما يصدر عنه وحده شيء إلا الله تعالى فقولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد قضية كلية إن أدرجوا فيها ما سوى الله فذاك لا يصدر عنه وحده شيء وإن لم يريدوا بها إلا الله وحده فهذا محل النزاع وموضع الدليل فكيف يكون المدلول عليه هو الدليل وذلك الواحد لا يعلمون حقيقته ولا كيفية الصدور عنه وأيضا فالواحد الذي يثبتونه هو وجود مجرد عن الصفات الثبوتية عن بعضهم كابن سينا وأتباعه أو عن الثبوتيه والسلبية عند بعضهم وهذا لا حقيقة له في الخارج بل يمتنع تحققه في الخارج وإنما هو أمر يقدر في الأذهان كما تقدر الممتنعات ولهذا كان ما ذكره ابن سينا في هذا الباب مما نازعه فيه ابن رشد وغيره من الفلاسفة وقالوا إن هذا ليس هو قول أئمة الفلاسفة وإنما ابن

سينا وأمثاله أحدثوه ولهذا لم يعتمد عليه أبو البركات صاحب المعتبرة وهو من أقرب هؤلاء إلى اتباع الحجة الصحيحة بحسب نظره والعدول عن تقليد سلفهم مع أن أصل آمرهم وحكمتهم أن العقليات لا تقليد فيها وأيضا فإذا لم يصدر عنه إلا واحد كما يقولونه في العقل الأول فذلك الصادر الأول إن كان واحدا من كل وجه لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد وهلم جرا وإن كان فيه كثرة ما بوجه من الوجوه والكثرة وجودية كان قد صدر عن الأول أكثر من واحد وإن كانت عدمية لم يصدر عنها وجود فلا يصدر عن الصادر الأول واحد وأما احتجاجهم على ذلك بقولهم لو صدر عنه شيئان لكان مصدر هذا غير مصدر ذلك ولزم التركيب فيقال أولا ليس الصدور عن الباري كصدور الحرارة عن النار بل هو فاعل بالمشيئته والاختيار ولو قدر تعدد المصدر فهو تعدد أمور إضافية وتعدد الإضافات والسلوب ثابتة له بالاتفاق ولو فرض أنه تعدد صفات فهذا يستلزم القول بثبوت الصفات وهذا حق وقولهم إن هذا تركيب والتركيب ممتنع قد بينا فساده بوجوه

كثيرة في غير هذا الموضع وبينا أن لفظ التركيب والافتقار والجزء والغير ألفاظ مشتركة مجملة وأنها لا تلزم بالمعنى الذي دل الدليل على نفيه وإنما تلزم بالمعنى الذي لا ينفيه الدليل بل يثبته الدليل والمقصود هنا أن الموجب بالذات إذا فسر بهذا فهو باطل وأما إذا فسر الموجب بالذات بأنه الذي يوجب مفعوله بمشيئته وقدرته لم يكن هذا المعنى منافيا لكونه فاعلا بالاختيار بل يكون فاعلا بالاختيار موجبا بذاته التي هي فاعل قادر مختار وهو موجب بمشيئته وقدرته وإذا تبين أن الموجب بالذات يحتمل معنيين أحدهما لا ينافى كونه فاعلا بمشيئته وقدرته والآخر ينافي كونه فاعلا بمشيئته وقدرته فمن قال القادر لا يفعل إلا على وجه الجواز كما يقوله من يقوله من القدرية والجهمي يجعل الفعل بالاختيار منافيا للإيجاب لا يجامعه بوجه من الوجوه ويقولون إن القادر المختار لا يكون قادرا مختارا إلا إذا فعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوبوالجمهور من أهل السنة وغيرهم يقولون القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل لكنه إذا شاء أن يفعل مع قدرته لزم وجود فعله فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإنه قادر على ما يشاء ومع القدرة التامة والمشيئة الجازمة يجب وجود الفعل ولهذا صارت الأقوال ثلاثة فالفلاسفة يقولون بالموجب بالذات المجردة عن الصفات أو الموصوف بالصفات الذي يجب أن يقارنه موجبه المعين أزلا وأبدا والقدرية من المعتزلة وغيرهم من الجهمية ومن وافقهم من غيرهم يقولون بالفاعل المختار الذي يفعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب ثم منهم من يقول يفعل لا بإرادة بل المريد عندهم هو الفاعل العالم ومنهم من يقول بحدوث الإرادة وما يحدثه من إرادة أو فعل فهو يحدثه بمجرد القدرة فإن القادر عندهم يرجح بلا مرجح ثم القدرية من هؤلاء يقولون يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد وقد يشاء ما لا يكون ويكون مالا يشاء بخلاف المجبرة

والجمهور من أهل السنة وغيرهم المثبتين للقدر والصفات يقولون إنه فاعل بالاختيار وإذا شاء شيئا كان وإرادته وقدرته من لوازم ذاته سواء قالوا بإرادة واحدة قديمة أو بإرادات متعاقبة أو بإرادات قديمة تستوجب حدوث إرادات أخر فعلى كل قول من هذه الأقوال الثلاثة يجب عندهم وجود مراده وإذا فسر الإيجاب بالذات بهذا المعنى كان النزاع لفظيا فالدليل الذي ذكرناه يمكن تصوره بلفظ الموجب بالذات ولفظ العلة والمعلول ولفظ المؤثر والأثر ولفظ الفاعل المختار وهو بجميع هذه العبارات يبين امتناع قدم شئ من العالم ووجوب حدوث كل ما سوى الله وهنا أمر آخر وهو أن الناس تنازعوا في الفاعل المختار هل يجب أن تكون إرادته قبل الفعل ويمتنع مقارنتها له أم يجب مقارنة إرادته التي هي القصد للفعل وما يتقدم الفعل يكون عزما لا قصدا أم يجوز كل من الأمرين على ثلاثة أقوال ونحن قد بينا وجوب حدوث كل ما سوى الله على كل قول من الأقوال الثلاثة قول من يوجب المقارنة وقول من يقول بأن المقارنة ممتنعة وقول من يجوز الأمرين

وكذلك تنازعوا في القدرة هل يجب مقارنتها للمقدور ويمتنع تقديمها أم يجب تقدمها على المقدور ويمتنع مقارنتها أم تتصف بالتقدم والمقارنة على ثلاثة أقوال أيضا وفصل الخطاب أن الإرادة الجازمة مع القدرة التامة مستلزمة للفعل ومقارنة له فلا يكون الفعل بمجرد قدرة متقدمة غير مقارنة ولا بمجرد إرادة متقدمة غير مقارنة بل لا بد عند وجود الأثر من وجود المؤثر التام ولا يكون الفعل بفاعل معدوم حين الفعل ولا بقدرة معدومة حين الفعل ولا بإرادة معدومة حين الفعل وقبل الفعل لا تجتمع الإرادة الجازمة والقدرة التامة فإن ذلك مستلزم للفعل فلا يوجد إلا مع الفعل لكن قد يوجد قبل الفعل قدرة بلا إرادة وإرادة بلا قدرة كما قد يوجد عزم على أن يفعل فإذا حضر وقت الفعل قوي العزم فصار قصدا فتكون الإرادة حين الفعل أكمل مما كانت قبله وكذلك القدرة حين الفعل أكمل مما كانت قبله وبهذا كان العبد قادرا قبل الفعل القدرة المشروطة في الأمر التي بها

يفارق العاجز كما قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم (سورة التغابن). وقوله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (سورة آل عمران). وقوله فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا (سورة المجادلة). فإن هذه الاستطاعة لو لم تكن إلا مقارنة للفعل لم يجب الحج على من لم يحج ولا وجب على من لم يتق الله أن يتقي الله ولكان كل من لم يصم الشهرين المتتابعين غير مستطيع للصيام وهذا كله خلاف هذه النصوص وخلاف إجماع المسلمين فمن نفى هذه القدرة من المثبتين للقدر وزعم أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل فقد بالغ في مناقضة القدرية الذين يقولون لا تكون الاستطاعة إلا قبل الفعل فإن هؤلاء أخطأوا حيث زعموا ذلك وقالوا إن كل ما يقدر به العبد على الإيمان والطاعة فقد سوى الله فيه بين المؤمن والكافر بل سوى بينهما في كل ما يمكن أن يعطيه للعبد مما به يؤمن ويطيع وهذا القول فاسد قطعا فإنه لو كانا متساويين في جميع أسباب الفعل لكان اختصاص أحدهما بالفعل دون الآخر ترجيحا لأحد المتماثلين على الآخر من غير مرجح وهذا هو أصل هؤلاء القدرية

الذين يقولون إن الفاعل القادر يرجح أحد طرفي مقدورية على الآخر بلا مرجح وهذا باطل وإن وافقهم عليه بعض المثبتين للقدر وإما المثبتون للقدر المخالفون لهم في هذا الأصل فمنهم طائفة إذا تكلموا في مسائل القدر وخلق أفعال العباد قالوا إن القادر لا يرجح احد مقدورية على الآخر إلا بمرجح لكن إذا تكلموا في مسائل فعل الله وحدوث العالم والفرق بين الموجب والمختار ومناظرة الدهرية تجد كثيرا منهم يناظرهم مناظرة من قال من القدرية والجهمية المجبرة بأن الفاعل المختار يرجح أحد مقدورية بلا مرجح وبهذا ظهر اضطرابهم في هذه الأصول الكبار التي يدورون فيها بين أصول القدرية والجهمية المجبرة المعطلة لحقيقة الأمر والنهي والوعد والوعيد ولصفة الله في خلقه وأمره وبين أصول الفلاسفة الدهريه المشركين وإن كانوا من الصابئين فهم من الصابئين المشركين لا من الصابئين الحنفاء الذين أثنى عليهم القرآن فإن أولئك يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل ويتخذون فيها الأصنام وهذا دين

المشركين وهو دين أهل مقدونية وغيرها من مدائن هؤلاء الفلاسفة الصابئة المشركين والإسكندر الذي وزر له أرسطو هو الإسكندر بن فيلبس المقدوني الذي تؤرخ له اليهود والنصارى وكان قبل المسيح عليه السلام بثلاثمائة عام ليس هو ذا القرنين المذكور في القرآن فإن هذا كان متقدما عليه وهو من الحنفاء وذاك هو ووزيره أرسطو كفار يقولون بالسحر والشرك ولهذا كانت الإسماعيلية أخذت ما يقوله هؤلاء في العقل والنفس وما تقوله المجوس من النور والظلمة فركبوا من ذلك ومن التشيع وعبروا عن ذلك بالسابق والتالي كما قد بسط في موضعه وأصل المشركين والمعطلة باطل وكذلك أصل المجوس والقدرية تخرج بعض الحوادث عن خلق الله وقدرته ويجعلون له شريكا في الملك وهؤلاء الدهرية شر منهم في ذلك فإن قولهم يستلزم إخراج جميع الحوادث عن خلق الله وقدرته وإثبات شركاء كثيرين له في الملك بل يستلزم تعطيل الصانع بالكلية ولهذا كان معلمهم الأول أرسطووأتباعه إنما يثبتون الأول الذي يسمونه العلة الأولى بالاستدلال بحركة الفلك فإنهم قالوا هي اختيارية شوقية فلا بد أن يكون لها محرك منفصل عنها وزعموا أن المتحرك بالإرادة لا بد له من محرك منفصل عنه وإن كان هذا قولا لا دليل عليه بل هو باطل قالوا والمحرك لها يحركها كما يحرك الإمام المقتدي به للمأموم المقتدي وقد يشبهونها بحركة المعشوق للعاشق فإن المحبوب المراد يتحرك إليه المحب المريد من غير حركة من المحبوب قالوا وذلك العشق هو عشق التشبه بالأول وهكذا وافقه متأخروهم كالفارابي وابن سينا وأمثالهما وهؤلاء كلهم يقولون إن سبب الحوادث في العالم إنما هو حركات الأفلاك وحركات الأفلاك حادثة عن تصورات حادثة وإرادات حادثة شيئا بعد شيء وإن كانت تابعة لتصور كلي وإرادة كلية كالرجل الذي يريد

القصد إلى بلد معين مثل مكة مثلا فهذه إرادة كلية تتبع تصورا كليا ثم إنه لا بد أن يتجدد له تصورات لما يقطعه من المسافات وإرادات لقطع تلك المسافات فهكذا حركة الفلك عندهم لكن مراده الكلي هو التشبه بالأول ولهذا قالوا الفلسفة هي التشبه بالأول بحسب الإمكان فإذا كان الأمر كذلك عندهم فمعلوم أن العلة الغائية المنفصلة عن المعلول لا تكون هي العلة الفاعلة وإذا كان الفلك ممكنا متحركا بإرادته واختياره فلا بد من مبدع له أبدعه كله بذاته وصفاته وأفعاله كالإنسان ولا بد لهذه التصورات والإرادات والحركات الحادثة أن تنتهي إلى واجب بنفسه قديم تكون صادرة عنه سواء قيل إنها صادرة بوسط أو بغير وسط وهؤلاء لم يثبوا شيئا من ذلك بل لم يثبتوا إلا علة غائية للحركةفكان حقيقة قولهم أن جميع الحوادث من العالم العلوي والسفلى ليس لها فاعل يحدثها أصلا بل ولا لما يستلزم هذه الحوادث والعناصر وكل من أجزاء العالم مستلزم للحوادث ومن المعلوم في بدائه العقول أن الممكن المفتقر إلى غيره ممتنع وجوده بدون واجب الوجود وأن الحوادث يمتنع وجودها بدون محدث ومتأخروهم كابن سينا وأمثاله يسلمون أن العالم كله ممكن بنفسه ليس بواجب بنفسه ومن نازع في ذلك من غلاتهم فقوله معلوم الفساد بوجوه كثيرة فإن الفقر والحاجة لازمان لكل جزء من أجزاء العالم لا يقوم منه شيء إلا بشيء منفصل عنه وواجب الوجود مستغن عنه بنفسه لا يفتقر إلى غيره بوجه من الوجوه وليس في العالم شيء يكون هو وحده محدثا لشيء من الحوادث وكل من الأفلاك له حركة تخصه ليست حركته عن حركة

الأعلى حتى يقال أن الأعلى هو المحدث لجميع الحركات ولا في الوجود شيء حادث عن سبب بعينه لا عن حركة الشمس ولا القمر ولا الأفلاك ولا العقل الفعال ولا شيء مما يظن بل أي جزء من العالم اعتبرته وجدته لا يستقل بإحداث شيء ووجدته إذا كان له أثر في شيء كالسخونة التي تكون للشمس مثلا فله مشاركون في ذلك الشيء بعينه كالفاكهة التي للشمس مثلا أثر في إنضاجها ثم إيباسها وتغيير ألوانها ونحو ذلك لا يكون إلا بمشاركة من الماء والهواء والتربة وغير ذلك من الأسباب ثم كل من هذه الأسباب لا يتميز أثره عن أثر الآخر بل هما متلازمان فإذا قالوا العقل الفعال للفعل خلع عليه صورة عند استعداده و بالامتزاج قبل الصورة مثلا كالطين الذي يحدث فيه عن امتزاج الماء والتراب أثر ملازم لهذا الامتزاج لا يمكن وجود أحدهما دون الآخر فإذا كان المؤثر فيهما اثنين لزم أن يكونا متلازمين لامتناعوجود أثر أحدهما دون الآخر ويمتنع اثنان متلازمان كل منهما واجب الوجود لأن واجب الوجود لا يكون وجوده مشروطا بوجود غيره ولا تأثيره مشروطا بتأثير غيره إذ لو كان كذلك لكان مفتقرا إلى غيره فلا يكون واجبا بنفسه غنيا عما سواه فكل ما افتقر إلى غيره في نفسه أو شيء من صفاته أو أفعاله لا يكون مستغنيا بنفسه بل يكون مفتقرا إلى غيره ومن كان فقيرا إلى غيره ولو بوجه لم يكن غناه ثابتا له بنفسه وقد علم بالاضطرار أنه لا بد من وجود غنى بنفسه عما سواه من كل وجه فإن الموجود إما ممكن وإما واجب والممكن لا بد له من واجب فثبت وجود الواجب على التقديرين وكذلك يقال للوجود إما محدث وإما قديم والمحدث لا بد له من قديم فثبت وجود القديم على التقديرين وكذلك يقال إما فقير وإما غني والفقير لا بد له من غنى فثبت وجود الغنى على التقديرين وكذلك يقال الموجود إما قيوم وإما غير قيوم وغير القيوم لا بد له من قيوم فثبت وجود القيوم على التقديرين

وكذلك يقال إما مخلوق وإما غير مخلوق والمخلوق لا بد له من خالق غير المخلوق فثبت وجود الموجود الذي ليس بمخلوق على التقديرين ثم ذلك الموجود الواجب بنفسه القديم الغني بنفسه القيوم الخالق الذي ليس بمخلوق يمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بجهة من الجهات فإنه إن افتقر إلى مفعوله ومفعوله مفتقر إليه لزم الدور في المؤثرات وإن افتقر إلى غيره وذلك الغير مفتقر إلى غيره لزم التسلسل في المؤثرات وكل من هذين معلوم البطلان بصريح العقل واتفاق العقلاء فإن امتنع أن يكون فاعلا لنفسه فهو يمتنع أن يكون فاعلا لفاعل بنفسه بطريق الأولى وسواء عبر بلفظ الفاعل أو الصانع أو الخالق أو العلة أو المبدأ أو المؤثر فالدليل يصح بجميع هذه العبارات وكذلك يمتنع تقدير مفعولات ليس فيها فاعل غير مفعول وهو تقدير آثار ليس فيها مؤثر وتقدير ممكنات ليس فيها واجب بنفسه فإن كل واحد من ذلك ممكن فقير ومجموعها مفتقر إلى كل من آحادها فهو

أيضا فقير ممكن وكلما زادت السلسلة زاد الفقر والاحتياج وهو في الحقيقة تقدير معدومات لا تتناهى فإن كثرتها لا تخرجها عن كونها معدومات فيمتنع أن يكون فيها موجود وهذا كله مبسوط في موضعه والمقصود هنا أنه لا بد من وجود الموجود الغني القديم الواجب بنفسه الغني عما سواه من كل وجه بحيث لا يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه وكل ما في العالم فهو مفتقر إلى غيره والفقر ظاهر في كل جزء من العالم لمن تدبره لا يحدث شيئا بنفسه ألبتة بل لا يستغنى بنفسه ألبتة فيمتنع أن يكون واجب الوجود فلا بد أن يكون الواجب القيوم الغني مباينا للعالم ويجب أن يثبت له كل كمال ممكن الوجود لا نقص فيه فإنه إن لم يتصف به لكان الكمال إما ممتنعا عليه وهو محال لأن التقدير أنه ممكن الوجود ولأن الممكنات متصفة بكمالات عظيمة والخالق أحق بالكمال من المخلوق والقديم أحق به من الحادث والواجب أحق به من الممكن لأنه أكمل وجودا منه والأكمل أحق بالكمال من غير الأكمل ولأن كمال المخلوق من الخالق فخالق الكمال أحق بالكمال وهم يقولون

كمال المعلول من كمال العلة وإذا لم يكن الكمال ممتنعا عليه فلا بد أن يكون واجبا له إذ لو كان ممكنا غير واجب ولا ممتنع لافتقر في ثبوته له إلى غيره وما كان كذلك لم يكن واجب الوجود بنفسه فما أمكن له من الكمال فهو واجب له ويمتنع أن يكون مفعوله مقارنا له أزليا معه لوجوه أحدها أن مفعوله مستلزم للحوادث لا ينفك عنها وما يستلزم الحوادث يمتنع أن يكون معلولا لعلة تامة أزلية فإن معلول العلة التامة الأزلية لا يتأخر منه شيء ولو تأخر منه شيء لكانت علة بالقوة لا بالفعل ولافتقرت في كونها فاعلة له إلى شيء منفصل عنها وذلك ممتنع فوجب أن يكون مفعولا له لا يكون عنه إلا شيئا بعد شيء فكل ما هو مفعول له فهو حادث بعد أن لم يكن ولأن كونه مقارنا له في الأزل يمنع كونه مفعولا له فإن كون الشيء مفعولا مقارنا ممتنع عقلا ولا يعقل في الموجودات شيء معين هو علة تامة لمعلول مباين لهأصلا بل كل ما يقال إنه علة إما أن يكون تأثيره متوقفا على غيره فلا تكون تامة وإما أن لا يكون مباينا له على رأي من يقول العلم علة للعالمية عند من يثبت الأحوال وإلا فجمهور الناس يقولون العلم هو العالمية وأما إذا قيل الذات موجبة للصفات أو علة لها فليس لها في الحقيقة فعل ولا تأثير أصلا وإما إذا قدر شيء مؤثر في غيره وقدر أنهما متقارنان متساويان لم يسبق أحدهما الآخر سبقا زمانيا فهذا لا يعقل أصلا وأيضا فكونه متقدما على غيره من كل وجه صفة كمال إذ المتقدم على غيره من كل وجه أكمل ممن يتقدم من وجه دون وجه وإذا قيل الفعل أو تقدير الفعل لا يجوز أن يكون له ابتداء أو غير ذلك كالحركة أو الزمان قيل إن كان هذا باطلا فقد اندفع وإن كان صحيحا فالمثبت إنما هو الكمال الممكن الوجود وحينئذ فإذا كان النوع دائما فالممكن والأكمل هو التقدم على كل فرد من الأفراد بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يقارنه بوجه من

الوجوه وأما دوام الفعل فهو أيضا من الكمال فإن الفعل إذا كان صفة كمال فداوحه دوام الكمال وإن لم يكن صفة كمال لم يجب دوامه فعلى التقديرين لا يكون شيء من العالم قديما معه والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما كان المقصود هنا التنبيه على مآخذ المسلمين في مسألة التعليل فالمجوزون للتعليل يقولون الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله محدث كائن بعد أن لم يكن وأما كون الرب لم يزل معطلا عن الفعل ثم فعل فهذا ليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته بل كلاهما يدل على نقيضه وإذا عرف الفرق بين نوع الحوادث وبين أعيانها وعلم الفرق بين قول المسلمين وأهل الملل وأساطين الفلاسفة الذين يقولون بحدوث كل واحد واحد من العالم العلوي والسفلي وبين قول أرسطو وأتباعه الذين يقولون بقدم الأفلاك والعناصر تبين ما في هذا الباب من الخطأ والصواب وهو من أجل المعارف وأعلى العلوم فهذا جواب من يقول بالتعليل لمن احتج عليه بالتسلسل في الآثار وأما حجة الاستكمال فقالوا الممتنع أن يكون الرب تعالى مفتقرا

إلى غيره أو أن يكون ناقصا في الأزل عن كمال يمكن وجوده في الأزل كالحياة والعلم وإذا كان هو القادر الفاعل لكل شيء لم يكن محتاجا إلى غيره بوجه من الوجوه بل العلل المفعولة هي مقدورة ومرادة له والله تعالى يلهم عباده الدعاء ويجيبهم ويلهمهم التوبة ويفرح بتوبتهم إذا تابوا ويلهمهم العمل ويثيبهم إذا عملوا ولا يقال إن المخلوق أثر في الخالق أو جعله فاعلا للإجابة والإثابه والفرح بتوبتهم فإنه سبحانه هو الخالق لذلك كله له الملك وله الحمد شريك له في شيء من ذلك ولا يفتقر فيه إلى غيره والحوادث التي لا يمكن وجودها إلا متعاقبة لا يكون عدمها في الأزل نقصا قالوا وأما قولهم هذا يستلزم قيام الحوادث به فيقال أولا هذا قول من هم من أكبر شيوخ المعتزلة والشيعة كهشام بن الحكم وأبي الحسين البصري ومن تبعهما وهو لازم لسائرهم والشيعة المتأخرون أتباع المعتزلة البصريين في هذا الباب هم والمعتزلة البصريون يقولون إنه صار مدركا بعد أن لم يكن لأنالإدراك عندهم كالسمع والبصر إنما يتعلق بالموجود وهم يقولون صار مريدا بعد أن لم يكن وأما البغداديون فإنهم وإن أنكروا الإدراك والأرادة فهم يقولون صار فاعلا بعد أن لم يكن قالوا وهذا قول بتجدد أحكام له وأحوال ولهذا قيل إن هذه المسألة تلزم سائر الطوائف حتى الفلاسفة وقد قال بها من أساطينهم الأولين وفضلائهم المتأخرين غير واحد ويقال إن الأساطين الذين كانوا قبل أرسطو أو كثير منهم كانوا يقولون بها وقال بها أبو البركات صاحب المعتبر وغيره وهو قول طوائف من أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم كأبي معاذ التومني والهشامين وأما جمهور أهل السنة والحديث فإنهم يقولون بها أو بمعناها وإن كان منهم من لا يختار إلا أن يطلق الألفاظ الشرعية ومنهم من يعبر

عن المعنى الشرعي بالعبارات الدالة عليه مثل حرب الكرماني ونقله عن الأئمة ومثل عثمان بن سعيد الدارمي ونقله عن أهل السنة ومثل البخاري صاحب الصحيح وأبي بكر بن خزيمة الملقب إمام الأئمة ومثل أبي عبدالله بن حامد وأبي اسماعيل الأنصارى الملقب بشيخ الإسلام ومن لا يحصي عدده إلا الله والمعتزلة كانوا ينكرون أن يقوم بذات الله صفة أو فعل وعبروا عن ذلك بأنه لا تقوم به الأعراض والحوادث فوافقهم أبو محمد عبدالله ابن سعيد بن كلاب على نفى ما يتعلق بمشيئته وقدرته وخالفهم فينفي الصفات ولم يسمها أعراضا ووافقه على ذلك الحارث المحاسبي ويقال إنه رجع عن ذلك وبسبب مذهب ابن كلاب هجرة الإمام أحمد بن حنبل وقيل إنه تاب منه وصار النزاع في هذا الأصل بين طوائف الفقهاء فما من طائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد إلا وفيهم من يقول بقول ابن كلاب في هذا الأصل كأبي الحسن والتميمي والقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وابن عقيل وابن الزاغوني وفيهم من يقول بقول جمهور أهل الحديث كالخلال وصاحبه أبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن حامد وأبي

عبد الله بن منده وأبي اسماعيل الأنصاري وأبي نصر السجزى وأبي بكر محمد بن اسحق بن خزيمة وأتباعه وجماع القول في ذلك أن الباري تعالى هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته كالأفعال الاختيارية على هذين القولين قال المثبتون لذلك وللتعليل نحن نقول لمن أنكر ذلك من المعتزلة والشيعة ونحوهم أنتم تقولون إن الرب كان معطلا في الأزل لا يتكلم ولا يفعل شيئا ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب حادث أصلا فلزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح وبهذا استطالت عليكم الفلاسفة وخالفتهم أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة في ذلك وظننتم أنكم أقمتم الدليل على حدوث العالم بهذا حيث ظننتم أن ما لا يخلو عن نوع الحوادث يكون حادثا لامتناع حوادث لا نهاية لها وهذا الأصل ليس معكم به كتاب ولا سنة ولا أثر عن الصحابة والتابعين بل الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة والقرابة وأتباعهمبخلاف ذلك والنص والعقل دل على أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن ولكن لا يلزم من حدوث كل فرد فرد مع كون الحوادث متعاقبة حدوث النوع فلا يلزم من ذلك أنه لم يزل الفاعل المتكلم معطلا عن الفعل والكلام ثم حدث ذلك بلا سبب كما لم يلزم مثل ذلك في المستقبل فإن كل فرد فرد من المستقبلات المنقضية فإن وليس النوع فانيا كما قال تعالى أكلها دائم وظلها (سورة الرعد). وقال إن هذا لرزقنا ما له من نفاد (سورة ص). فالدائم الذي لا ينفد أي لا ينقضي هو النوع وإلا فكل فرد من أفراده نافد منقض ليس بدائم وذلك أن الحكم الذي توصف به الأفراد إذا كان لمعنى موجود في الجملة وصفت به الجملة مثل وصف كل فرد بوجود أو إمكان أو بعدم فإنه يستلزم وصف الجملة بالوجود والإمكان والعدم لأن طبيعة الجميع هي طبيعة كل واحد واحد وليس المجموع إلا الآحاد الممكنة أو الموجودة أو المعدومة

وأما إذا كان ما وصف به الأفراد لا يكون صفة للجملة لم يلزم أن يكون حكم الجملة حكم الأفراد كما في أجزاء البيت والإنسان والشجرة فإنه ليس كل منها بيتا ولا إنسانا ولا شجرة وأجزاء الطويل والعريض والدائم والممتد لا يلزم أن يكون كل منها طويلا وعريضا ودائما وممتدا وكذلك إذا وصف كل واحد واحد من المتعاقبات بفناء أو حدوث لم يلزم أن يكون النوع منقطعا أو حادثا بعد أن لم يكن لأن حدوثه معناه أنه وجد بعد أن لم يكن كما أن فناءه معناه أنه عدم بعد وجوده وكونه عدم بعد وجوده أو وجد بعد عدمه أمر يرجع إلى وجوده وعدمه لا إلى نفس الطبيعة الثابتة للمجموع كما في الأفراد الموجودة أو المعدومة أو الممكنة فليس إذا كان هذا المعين لا يدوم يلزم أن يكون نوعه لا يدوم لأن الدوام تعاقب الأفراد وهذا أمر يختص به المجموع لا يوصف به الواحد وإذا حصل للمجموع بالاجتماع حكميخالف به حكم الأفراد لم يجب مساواة المجموع للأفراد في أحكامه وبالجملة فما يوصف به الأفراد قد توصف به الجملة وقد لا توصف به فلا يلزم من حدوث الفرد حدوث النوع إلا إذا ثبت أن هذه الجملة موصوفة بصفة هذه الأفراد وضابط ذلك أنه إن كان بإنضمام هذا الفرد إلى هذا الفرد يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد لم يكن حكم المجموع حكم الأفراد وإن لم يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد كان حكم المجموع حكم أفراده مثال الأول أنا إذا ضممنا هذا الجزء إلى هذا الجزء صار المجموع أكثر وأطول وأعظم من كل فرد فلا يكون في مثل هذا حكم المجموع حكم الأفراد فإذا قيل إن هذا اليوم طويل لم يلزم أن يكون جزؤه طويلا وكذلك إذا قيل هذا الشخص أو الجسم طويل أو ممتد أو قيل إن هذه الصلاة طويلة أو قيل إن هذا النعيم دائم لم يلزم أن يكون كل جزء منه دائما قال الله تعالى أكلها دائم وظلها (سورة الرعد). وليس كل جزء

من أجزاء الأكل دائما وكذلك في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم أحب العمل إلى الله أدومه وقول عائشة رضي الله عنها وكان عمله ديمة فإذا كان عمل المرء دائما لم يلزم أن يكون كل جزء منه دائماوكذلك إذا قيل هذا المجموع عشر أوقية أو نش أو إستار لم يلزم أن يكون كل جزء من أجزائه عشر أوقية ولا نشا ولا إستارا لأن المجموع حصل بانضمام الأجزاء بعضها إلى بعض والاجتماع ليس موجودا للأفراد وهذا بخلاف ما إذا قيل كل جزء من الأجزاء معدوم أو موجود أو ممكن أو واجب أو ممتنع فإنه يجب في المجموع أن يكون معدوما أو موجودا أو ممكنا أو واجبا أو ممتنعا وكذلك إذا قلت كل واحد من الزنج أسود فإنه يجب أن يكون معدوما أو وجودا أو ممكنا أو واجبا أو ممتنعا وكذلك إذا قلت كل واحد من الزنج أسود فإنه يجب أن يكون المجموع سودا لأن اقتران الموجود بالموجود لا يخرجه عن كونه موجودا واقتران المعدوم بالمعدوم لا يخرجه عن العدم واقتران الممكن لذاته والممتنع لذاته بنظيره لا يخرجه عن كونه ممكنا لذاته وممتنعا لذاته بخلاف ما لا يكون ممتنعا لذاته إلا إذا انفرد وهو بالاقتران يصير

ممكنا كالعلم مع الحياة فإنه وحده ممتنع ومع الحياة ممكن وكذلك أحد الضدين هو وحده ممكن ومع الآخر ممتنع اجتماعهما فالمتلازمان يمتنع انفراد أحدهما والمتضادان يمتنع اجتماعهما وبهذا يتبين الفرق بين دوام الآثار الحادثة الفانية واتصالها وبين وجود علل ومعلولات ممكنة لا نهاية لها فإن من الناس من سوى بين القسمين في الامتناع كما يقوله كثير من أهل الكلام ومن الناس من توهم أن التأثير واحد في الإمكان والامتناع ثم لم يتبين له امتناع علل ومعلولات لا تتناهى وظن أن هذا موضع مشكل لا يقوم على امتناعه حجة وإن لم يكن قولا لأحد كما ذكر ذلك الآمدى في رموز الكنوز والأبهرى ومن اتبعهما والفرق بين النوعين حاصل فإن الحادث المعين إذا ضم إلى الحادث المعين حصل من الدوام والامتداد وبقاء النوع ما لم يكن حاصلا للأفراد فإذا كان المجموع طويلا ومديدا ودائما وكثيرا وعظيما لم يلزم أن يكون كل فرد طويلا ومديدا ودائما وكثيرا وعظيما وأما العلل والمعلولات المتسلسلة فكل منهما ممكن وبانضمامه إلى الآخر لا يخرج عن الإمكان وكل منهما معدوم وبانضمامه إلى الآخر لا يخرج

عن العدم فاجتماع المعدومات الممكنة لا يجعلها موجودة بل ما فيها من الافتقار إلى الفاعل حاصل عند اجتماعها أعظم من حصوله عند افتراقها وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وعمدة من يقول بامتناع ما لا نهاية له من الحوادث إنما هي دليل التطبيق والموازنة والمسامتة المقتضى تفاوت الجملتين ثم يقولون والتفاوت فيما لا يتناهى محال مثال ذلك أن يقدروا الحوادث من زمن الهجرة إلى مالا يتناهى في المستقبل أو الماضي والحوادث من زمن الطوفان إلى مالا يتناهى أيضا ثم يوازنون الجملتين فيقولون إن تساوتا لزم أن يكون الزائد كالناقص وهذا ممتنع فإن إحداهما زائدة على الأخرى بما بين الطوفان والهجرة وإن تفاضلتا لزم أن يكون فيما لا يتناهى تفاضل وهو ممتنع والذين نازعوهم من أهل الحديث والكلام والفلسفة منعوا هذه المقدمة وقالوا لا نسلم أن حصول مثل هذا التفاضل في ذلكممتنع بل نحن نعلم أنه من الطوفان إلى مالا نهاية له في المستقبل أعظم من الهجرة إلى مالا نهاية له في المستقبل وكذلك من الهجرة إلى مالا بداية له في الماضي أعظم من الطوفان إلى مالا بداية له في الماضي وإن كان كل منهما لا بداية له فإن مالا نهاية له من هذا الطرف وهذا الطرف ليس أمرا محصورا محدودا موجودا حتى يقال هما متماثلان في المقدار فكيف يكون أحدهما أكثر بل كونه لا يتناهى معناه أنه يوجد شيئا بعد شيء دائما فليس هو مجتمعا محصورا والاشتراك في عدم التباهى لا يقتضى التساوى في المقدار إلا إذا كان كل ما يقال عليه إنه لا يتناهى له قدر محدود وهذا باطل فإن ما لا يتناهى ليس له حد محدود ولا مقدار معين بل هو بمنزلة العدد المضعف فكما أن اشتراك الواحد والعشرة والمائة والألف في التضعيف الذي لا يتناهى لا يقتضى تساوى مقاديرها فكذلك هذا وأيضا فإن هذين هما متناهيان من أحد الطرفين وهو الطرف المستقبل وغير متناهيين من الطرف الآخر وهو الماضي

وحينئذ فقول القائل يلزم التفاضل فيما لا يتناهى غلط فإنه إنما حصل في المستقبل وهو الذي يلينا وهو متناه ثم هما لا يتناهيان من الطرف الذي لا يلينا وهو الأزل وهما متفاضلان من الطرف الذي يلينا وهو طرف الأبد فلا يصح أن يقال وقع التفاوت فيما لا يتناهى إذ هذا يشعر بأن التفاوت حصل في الجانب الذي لا آخر له وليس الأمر كذلك بل إنما حصل التفاضل من الجانب المنتهى الذي له آخر فإنه لم ينقض ثم للناس في هذا جوابان أحدهما قول من يقول ما مضى من الحوادث فقد عدم وما لم يحدث لم يكن فالتطبيق في مثل هذا أمر يقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج كتضعيف الأعداد فإن تضعيف الواحد أقل من تضعيف العشرة وتضعيف العشرة أقل من تضعيف المائة وكل ذلك لا نهاية له لكن ليس هو أمرا موجودا في الخارجومن قال هذا فإنه يقول إنما يمتنع اجتماع ما لا يتناهى إذا كان مجتمعا في الوجود سواء كانت أجزاؤه متصلة كالأجسام أو كانت منفصلة كنفوس الأدميين ويقول كل ما اجتمع في الوجود فإنه يكون متناهيا ومنهم من يقول المتناهى هو المجتمع المتعلق بعضه ببعض بحيث يكون له ترتيب وضعي كالأجسام أو طبيعي كالعلل وأما ما لا يتعلق بعضه ببعض كالنفوس فلا يجب هذا فيها فهذان قولان وأما القائلون بامتناع مالا يتناهى وإن عدم بعد وجوده فمنهم من قال به في الماضي والمستقبل كقول جهم وأبي الهذيل ومنهم من فرق بين الماضي والمستقبل وهو قول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم قالوا لأنك إذا قلت لا أعطيك درهما إلا أعطيك بعده درهما كان هذا ممكنا ولو قلت لا أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهما كان هذا ممتنعا وعلى هذا اعتمد أبو المعالي في إرشاده وأمثاله من النظار

وهذا التمثيل والموازنة ليست صحيحة بل الموازنة الصحيحة أن تقول ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله درهما فتجعل ماضيا قبل ماض كما جعلت هناك مستقبلا بعد مستقبل وأما قول القائل لا أعطيك حتى أعطيك فهو نفي للمستقبل حتى يحصل مثله في المستقبل ويكون قبله فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل وهذا ممتنع لم ينف الماضي حتى يكون قبله ماض فإن هذا ممكن والعطاء المستقبل ابتداؤه من المعطى والمستقبل الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله مالا نهاية له فإن وجود مالا نهاية له فيما يتناهى ممتنع فهذه الأقوال الأربعة للناس فيما لا يتناهى والتسلسل نوعان تسلسل في المؤثرات كالتسلسل في العلل والمعلولات وهو التسلسل في الفاعلين والمفعولات فهذا ممتنع باتفاق العقلاء ومن هذا الباب تسلسل الفاعلين والخالقين والمحدثين مثل أن يقول هذا المحدث له محدث وللمحدث محدث آخر إلى ما لا يتناهى فهذا مما اتفق العقلاء فيما أعلم على امتناعه لأن كل محدث لا

يوجد بنفسه فهو معدوم باعتبار نفسه وهو ممكن باعتبار نفسه فإذا قدر من ذلك مالا يتناهى لم تصر الجملة موجودة واجبة بنفسها فإن انضمام المحدث إلى المحدث والمعدوم إلى المعدوم والممكن إلى الممكن لا يخرجه عن كونه مفتقرا إلى الفاعل له بل كثرة ذلك تزيد حاجتها وافتقارها إلى الفاعل وافتقار المحدثين الممكنين أعظم من افتقار أحدهما كما أن عدم الاثنين أعظم من عدم أحدهما فالتسلسل في هذا والكثرة لا تخرجه عن الافتقار والحاجة بل تزيده حاجة وافتقارا فلو قدر من الحوادث والمعدومات والممكنات ما لا نهاية له وقدر أن بعض ذلك معلول لبعض أو لم يقدر ذلك فلا يوجد شيء من ذلك إلا بفاعل صانع لها خارج عن هذه الطبيعة المشتركة المستلزمة للافتقار والاحتياج فلا يكون فاعلها معدوما ولا محدثا ولا ممكنا يقبل الوجود والعدم بل لا يكون إلا موجودا بنفسه واجب الوجود لا يقبل العدم قديما ليس بمحدث فإن كل ما ليس كذلك فإنه مفتقر إلى من يخلقه وإلا لم يوجد وأما التسلسل في الآثار كوجود حادث بعد حادث فهذا فيه الأقوال الثلاثة المتقدمة إما منعه في الماضي والمستقبل كقول جهم وأبي الهذيل وإما منعه في الماضي فقط كقول كثير من أهل الكلام وإما

تجويزه فيهما كقول أكثر أهل الحديث والفلاسفة وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وكذلك الدور نوعان دور قبلي وهو أنه لا يكون هذا إلا بعد هذا ولا هذا إلا بعد هذا وهذا ممتنع باتفاق العقلاء وأما الدور المعي الاقتراني مثل المتلازمين اللذين يكونان في زمان واحد كالأبوة والبنوة وعلو أحد الشيئين على الآخر مع سفول الآخر وتيامن هذا عن ذاك مع تياسر الآخر عنه ونحو ذلك من الأمور المتلازمة التي لا توجد إلا معا فهذا الدور ممكن وإذا لم يكن واحد منهما فاعلا للآخر ولا تمام للفاعل بل كان الفاعل لهما غيرهما جاز ذلك وأما إذا كان أحدهما فاعلا للآخر أو من تمام كون الفاعل فاعلا صار من الدور الممتنع ولهذا امتنع ربان مستقلان أو متعاونان أما المستقلان فلأن استقلال أحدهما بالعالم يوجب أن يكون الآخر لم يشركه فيه فإذا كان الآخر مستقلا لزم أن يكون كل منهما فعله وكل منهما لم يفعله وهو جمع بين النقيضين وأما المتعاونان فإن قيل إن كلا منهما قادر على الاستقلال حال كون الآخر مستقلا به لزم القدرة على اجتماع النقيضين وهو ممتنع

فإنه حال قدرة أحدهما على الاستقلال يمتنع قدرة الآخر على الاستقلال ولا يكونان في حال واحدة كل منهما قادر على الاستقلال فإن ذلك يقتضي وجوده مرتين في حال واحدة لكن الممكن أن يقدر هذا إذا لم يكن الآخر فاعلا وبالعكس فقدرة كل منهما مشروطة بعدم فعل الآخر معه ففي حال فعل كل واحد منهما يمتنع قدرة الآخر وإن قيل إن المتعاونين لا يقدران في حال واحدة على الاستقلال كما هو الممكن الموجود في المتعاونين من المخلوقين كان هذا باطلا أيضا كما سيأتي والمقصود أنهما إن كانا قادرين على الاستقلال أمكن أن يفعل هذا مقدوره وهذا مقدوره فيلزم اجتماع النقيضين وإلا لزم أن تكون قدرة أحدهما مشروطة بتمكين الآخر له وهذا ممتنع كما سيأتي وأيضا فيمكن أن يريد أحدهما ضد مراد الآخر فيريد هذا تحريك جسم وهذا تسكينه واجتماع الضدين ممتنع وإن لم يمكن أحدهما إرادة الفعل إلا بشرط موافقة الآخر له كان عاجزا وحده ولم يصر قادرا إلا بموافقة الآخر

وكذا إذا قدر أنه ليس واحد منهما قادرا على الاستقلال بل لا يقدر إلا بمعاونه الآخر كما في المخلوقين أو قيل يمكن كل منهما الاستقلال بشرط تخلية الآخر بينه وبين الفعل ففي جميع هذه الأقسام يلزم أن تكون قدرة كل منهما لا تحصل إلا بإقدار الآخر له وهذا ممتنع فإنه من جنس الدور في المؤثرات في الفاعلين والعلل الفاعلة فإن ما به يتم كون الفاعل فاعلا يمتنع فيه الدور كما يمتنع في ذات الفاعل والقدرة شرط في الفعل فلا يكون الفاعل فاعلا إلا بالقدرة فإذا كانت قدرة هذا لا تحصل إلا بقدرة ذاك وقدرة ذاك لا تحصل إلا بقدرة هذا كان هذا دورا ممتنعا كما أن ذات ذاك إذا لم تحصل إلا بهذا وذات هذا لم تحصل إلا بذات ذاك كان هذا دورا ممتنعا إذا كان كل منهما هو الفاعل للآخر بخلاف ما إذا كان ملازما له أو شرطا فيه والفاعل غيرهما فإن هذا جائز كما ذكر في الأبوة والبنوة وكذلك الواحد الذي يريد أحد الضدين بشرط أن لا يريد الضد

الآخر فإن هذا لا يقدح في كونه قادرا وأما إذا كان لا يقدر حتى يعينه الآخر على القدرة أو حتى يخليه فلا يمنعه من الفعل فإن ذلك يقدح في كونه وحده قادرا وهذه المعاني قد بسطت في غير هذا الموضع لكن لما كان الكلام في التسلسل والدور كثيرا ما يذكر في هذه المواضع المشكلة المتعلقة بما يذكر من الدلائل في توحيد الله وصفاته وأفعاله وكثير من الناس قد لا يهتدى للفروق الثابتة بين الأمور المتشابهة حتى يظن فيما هو دليل صحيح أنه ليس دليلا صحيحا أو يظن ما ليس بدليل دليلا أو يحار ويقف ويشتبه الأمر عليه أو يسمع كلاما طويلا مشكلا لا يفهم معناه أو يتكلم بما لا يتصور حقيقته نبهنا على ذلك هنا تنبيها لطيفا إذ هذا ليس موضع بسطه والناس لأجل هذا دخلوا في أمور كثيرة فالذين قالوا القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الأخرة من المعتزلة والشيعة وغيرهم إنما أوقعهم ظنهم أن التسلسل نوع واحد فالتزموا لأجل ذلك أن الخالق لم يكن متكلما ولا متصرفا بنفسه حتى أحدث كلاما منفصلا عنه وجعلوا خلق كلامه كخلق السماوات والأرض فلما طالبهم الناس بأن الحادث لا بد له من سبب حادث وقعوا في المكابرة وقالوا يمكن

القادر أن يرجح أحد المثلين بلا مرجح كما في الجائع مع الرغيفين والهارب مع الطريقين وجمهور العقلاء قالوا نعلم بالاضطرار أنه إن لم يوجد المرجح التام لأحد المثلين امتنع الرجحان وإلا فمع التساوي من كل وجه يمتنع الرجحان والفلاسفة جعلوا هذا حجة في قدم العالم فقالوا الحدوث بلا سبب حادث ممتنع فيلزم أن يكون قديما صادرا عن موجب بالذات وكانوا أضل من المعتزلة من وجوه متعددة مثل كون قولهم يستلزم أن لا يحدث شيء ومن جهة أن قولهم يتضمن أن الممكنات لا فاعل لها فإن الفعل بدون الإحداث غير معقول ومن جهة أن في قلوبهم من وصف الله تعالى بالنقائص في ذاته وصفاته وأفعاله ما يطول وصفه ومن جهة أن العالم مستلزم للحوادث ضرورة لأن الحوادث مشهودة فإما أن تكون لازمة له أو حادثة فيه والموجب بالذات المستلزم لمعلوله لا يحدث عنه شيء فيلزم أن لا يكون للحوادث فاعل بحال وهم يجوزون حوادث لا تتناهى كما يوافقهم عليه جمهور أهل الحديث والسنة وحينئذ فلا يمتنع أن يكون كل شيء من العالم حادثا

والله تعالى لم يزل موصوفا بصفات الكمال لم يزل متكلما إذا شاء قادرا على الفعل وليس شيء من الفعل والمفعول إلا حادثا معينا إذ كل فعل معين يجب أن يكون مسبوقا بعدمه وإلا فالفاعل إن قدر موجبا بذاته لزمه مفعوله ولم يحدث عنه شيء هو مكابرة للحس وإن قدر غير موجب بذاته لم يقارنه شيء من المفعولات وإن كان دائم الفعل إذ كان نوع الفعل من لوازم ذاته وأما الأفعال والمفعولات المعينة فليست لازمة للذات بل كل منها معلق بما قبله لامتناع اجتماع الحوادث في زمان واحد فالفعل الذي لا يكون إلا حادثا يمتنع أن يجمع في زمان واحد فضلا عن أن يكون كل من أجزائه أزليا بل يوجد شيئا فشيئا وأما الفعل الذي لا يكون إلا قديما فهذا أولا ممتنع لذاته فإن الفعل والمفعول المعين المقارن للفاعل ممتنع فلا يحدث به شيء من الحوادث لأن الفعل القديم إذا قدر أنه فعل تام لزمه مفعوله وهذه المواضع قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع وبينانزاع الناس في كل واحد واحد منها وإنما كان القصد هنا التنبيه على أصل مسألة التعليل فإن هذا المبتدع أخد يشنع على أهل السنة فذكر مسائل لا يذكر حقيقتها ولا أدلتها وينقلها على الوجه الفاسد وما ينقله عن أهل السنة خطأ أو كذب عليهم أو على كثير منهم وما قدر انه صدق فيه عن بعضهم فقولهم فيه خير من قوله فإن غالب شناعته على الأشعرية ومن وافقهم والأشعرية خير من المعتزلة والرافضة عند كل من يدري ما يقول ويتقي الله فيما يقول وإذا قيل إن في كلامهم وكلام من قد وافقهم أحيانا من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ما هو ضعيف فكثير من ذلك الضعيف إنما تلقوه من المعتزلة فهم أصل الخطأ في هذا الباب وبعض ذلك أخطاؤا فيه لإفراط المعتزلة في الخطأ فقابلوهم مقابلة انحرفوا فيها كالجيش الذي يقاتل الكفار فربما حصل منه إفراط وعدوان وهذا مبسوط في موضعه

قال هؤلاء للمعتزلة والشيعة ولما كان هذا الدليل عمدتكم استطال عليكم الفلاسفة الدهرية كابن سينا وأمثاله وهذا الدليل مناف في الحقيقة لحدوث العالم لا مستلزم له فإنه إذا كان هذا الحادث لا بد له من سبب حادث وكان هذا الدليل مستلزما لحدوث الحادث بلا سبب لزم أن لا يكون الله أحدث شيئا فإذا جوزنا ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح أنسد طريق إثبات الصانع الذي سلكتموه وقالوا أيضا للمعتزلة والشيعة أنتم مع هذا عللتم أفعال الله تعالى بعلل حادثة فيقال لكم هل توجبون للحوادث سببا حادثا أم لا فإن قلتم نعم لزم تسلسل الحوادث وبطل ما ذكرتموه وإن لم توجبوا ذلك قيل لكم وكذلك ليس لها غاية حادثة بعدها فإن المعقول أن الفاعل المحدث لا بد لفعله من سبب ولا بد له من غاية فإذا قلتم لا سبب لإحداثه قيل لكم ولا غاية مطلوبة له بالفعل فإن قلتم لا يعقل فاعل لا يريد حكمة إلا وهو عابث قيل لكم ولا نعقل فاعلا يحدث شيئا بغير سبب حادث أصلا بل هذا أشد امتناعا في العقل من ذاك فلماذا أثبتم الغاية ونفيتم السبب الحادثوقيل لكم أيضا الذي يعقل من الفاعل أن يفعل لغاية تعود إليه وأما فاعل يفعل لغاية تعود إلى غيره فهذا غير معقول وإذا كان قول الشيعة المتبعين للمعتزلة في حكمة الله تعالى فقد يقال قول من يقول إنه يفعل لمحض المشيئة بلا علة خير من هذا القول فإن هذا سلم من التسلسل وسلم من كونه يفعل لحكمة منفصلة عنه والمعتزلة تسلم له امتناع التسلسل فعلم أن قول هؤلاء خير من قول هذا المنكر عليهم وأما من قال بالتعليل من أهل السنة والحديث كما تقدم فذاك سلم من هذا وهذا وقد كتبت في مسألة التعليل مصنفا مستقلا بنفسه لما سئلت عنها وليس هذا موضع بسطه والمقصود هنا التنبيه على أن أقوال أهل السنة خير من أقوال الشيعة وأنه إن كان قول بعض أهل السنة ضعيفا فقول الشيعة أضعف منه

*

فصل
وأما قول الرافضي وجوزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب.
*فيقال له ليس في طوائف المسلمين من يقول إن الله تعالى يفعل قبيحا أو يخل بواجب ولكن المعتزلة ونحوهم ومن وافقهم من الشيعة النافين للقدر يوجبون على الله من جنس ما يوجبون على العباد ويحرمون عليه ما يحرمونه على العباد ويضعون له شريعة بقياسه على خلقه فهم مشبهة الأفعال وأما المثبتون للقدر من أهل السنة والشيعة فمتفقون على أن الله تعالى لا يقاس بخلقه في أفعاله كما لا يقاس بهم في ذاته وصفاته فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وليس ما وجب على أحدنا وجب مثله على الله تعالى ولا ما حرم على أحدنا حرم مثله على الله تعالى ولا منا قبح منا قبح من الله ولا ما حسن من الله تعالى حسن من أحدنا وليس لأحد منا أن يوجب على الله تعالى شيئا ولا يحرم عليه شيئا فهذا أصل قولهم الذي اتفقوا عليه واتفقوا على أن الله تعالى إذا وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبا بحكم وعده فإن الصادق في خبره الذي لا يخلف الميعاد واتفقوا على أنه لا يعذب أنبياءه ولا عباده الصالحين بل يدخلهم الجنة كما أخبر لكن تنازعوا في مسألتين إحداهما أن العباد هل يعلمون بعقولهم حسن بعض الأفعال ويعلمون أن الله متصف بفعله ويعلمون قبح بعض الأفعال ويعلمون أن الله منزه عنه على قولين معروفين أحدهما أن العقل لا يعلم به حسن فعل ولا قبحه أما في خلق الله فلأن القبيح منه ممتنع لذاته وأما في حق العباد فلأن الحسن والقبح لا يثبت إلا بالشرع وهذا قول الأشعري وأتباعه وكثير من الفقهاء من

أصحاب مالك والشافعي وأحمد وهؤلاء لا ينازعون في الحسن والقبيح إذا فسر بمعنى الملائم والمنافى أنه قد يعلم بالعقل وكذلك لا ينازعون أولا ينازع أكثرهم أو كثير منهم في أنه إذا عنى به كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص أنه يعلم بالعقل والقول الثاني أن العقل قد يعلم به حسن كثير من الأفعال وقبحها في حق الله وحق عباده وهذا مع أنه قول المعتزلة فهو قول الكرامية وغيرهم من الطوائف وهو قول جمهور الحنفية وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كأبي بكر الأبهري وغيره من أصحاب ماللك وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب الكلوذاني من أصحاب أحمد وذكر أن هذا القول قول أكثر أهل العلموهو قول أبي علي بن أبي هريرة وأبي بكر القفال وغيرهما من أصحاب الشافعي وهو قول طوائف من أئمة أهل الحديث وعدو القول الأول من أقوال أهل البدع كما ذكر ذلك أبو نصر السجزى في رسالته المعروفة في السنة وذكره صاحبه أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني في شرح قصيدته المعروفة في السنة وفي المسألة قول ثالث اختاره الرازي في آخر مصنفاته وهو القول بالتحسين والتقبيح العقليين في أفعال العباد دون أفعال الله تعالى وقد تنازع أئمة الطوائف في الأعيان قبل ورود السمع فقالت الحنفية وكثير من الشافعية والحنبلية إنها على الإباحة مثل ابن سريج وأبي إسحاق المروزي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب

وقال طوائف إنها على الحظر كأبي علي بن أبي هريرة وابن حامد والقاضي أبي يعلى وعبد الرحمن الحلواني وغيرهم مع أن أكثر الناس يقولون إن القولين لا يصحان إلا على قولنا بأن العقل يحسن ويقبح وإلا فمن قال إنه لا يعرف بالعقل حكم امتنع أن يصفها قبل الشرع بحظر أو إباحة كما قال ذلك الأشعري وأبو الحسن الجزري وأبو بكر الصيرفي وأبو الوفاء بن عقيل وغيرهم المسألة الثانية تنازعوا هل يوصف الله تعالى بأنه أوجب على نفسه وحرم على نفسه أولا معنى للوجوب إلا إخباره بوقوعه ولا للتحريم إلا إخباره بعدم وقوعهفقالت طائفة بالقول الثاني وهو قول من يطلق أن الله لا يجب عليه شيء ولا يحرم عليه شيء وقال طائفة بل هو أوجب على نفسه وحرم على نفسه كما نطق بذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة (سورة الأنعام). وقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين (سورة الروم). وقوله في الحديث الإلهي الصحيح يا عبادي أني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما وأما أن العباد يوجبون عليه ويحرمون عليه فممتنع عند أهل السنة كلهم ومن قال إنه أوجب على نفسه أو حرم على نفسه فهذا الوجوب والتحريم يعلم عندهم بالسمع وهل يعلم بالعقل على قولين لأهل السنة وإذا كانت هذه الأقوال كلها معروفة لأهل السنة بل لأهل

المذهب الواحد منهم كمذهب أحمد وغيره من الأئمة فمن قال من أهل السنة إن الله لا يجب عليه شيء ولا يحرم عليه شيء امتنع عنده أن يكون مخلا بواجب أو فاعلا لقبيح ومن قال إنه أوجب على نفسه أو حرم على نفسه فهم متفقون على أنه لا يخل بما كتبه على نفسه ولا يفعل ما حرمه على نفسه فتبين أنه ليس في أهل السنة من يقول إنه يخل بواجب أو يفعل قبيحا لكن هذا المبتدع سلك مسلك أمثاله فحكى عن أهل السنة أنهم يجوزون عليه تعالى الإخلال بالواجب وفعل القبيح وهذا حكاه بطريق الإلزام لإحدى الطائفتين الذين يقولون لا يجب عليه شيء فله أن يخل بكل شيء فقال هؤلاء يقولون إنه يخل بالواجب أي ما هو عندي واجب وكذلك هؤلاء يقولون لا يقبح منه شيء فقال إنهم جوزوا عليه فعل القبيح أي فعل ما هو قبيح عندهم أو فعل ما هو قبيح من أفعال العباد فهذا نقل عنهم بطريق الإلزام الذي اعتقدوه.
وأيضا فأهل السنة يؤمنون بالقدر وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن الهدى بفضل منه والقدرية يقولون إنه يجب عليه أن يفعل بكل عبد ما يظنونه هم واجبا عليه ويحرم عليه ضد ذلك فيوجبون عليه أشياء ويحرمون عليه أشياء وهو لم يوجبها على نفسه ولا علم وجوبها بشرع ولا عقل ثم يحكون عن من لم يوجبها أنه يقول إن الله يخل بالواجب وهذا تلبيس في نقل المذهب وتحريف له وأصل قول هؤلاء القدرية تشبيه الله بخلقه في الأفعال فيجعلون ما حسن منه حسن من العبد وما قبح من العبد قبح منه وهذا تمثيل باطل.

*

فصل
وأما قوله وذهبوا إلى أنه لا يفعل لغرض بل كل أفعاله لا لغرض من الأغراض ولا لحكمة ألبتة.
*فيقال له أما تعليل أفعاله وأحكامه بالحكمة ففيه قولان مشهوران لأهل السنة والنزاع في كل مذهب من المذاهب الأربعة والغالب عليهم عند الكلام في الفقه وغيره التعليل وأما في الأصول فمنهم من يصرح بالتعليل ومنهم من يأباه وجمهور أهل السنة على إثبات الحكمة والتعيل في أفعاله وأحكامه وأما لفظ الغرض فالمعتزلة تصرح به وهم من القائلين بإمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وأما الفقهاء ونحوهم فهذا اللفظ يشعر عندهم بنوع من النقص إما ظلم وإما حاجة فإن كثيرا من الناس إذا قال فلان له غرض في هذا أو فعل هذا لغرضه أرادوا أنه فعله لهواه ومراده المذموم والله منزه عن ذلك فعبر أهل السنة بلفظ الحكمة والرحمة والإرادة ونحو ذلك مما جاء به النص وطائفة من المثبتين للقدر من المعتزلة يعبرون بلفظ الغرض أيضا ويقولون إنه يفعل لغرض كما يوجد ذلك في كلام طائفة من المنتسبين إلى السنة وأما قوله إنه يفعل الظلم والعبث فليس في أهل الإسلام من يقول إن الله يفعل ما هو ظلم منه ولا عبث منه تعالى الله عن ذلك

بل الذين يقولون إنه خالق كل شيء من أهل السنة والشيعة يقولون إنه خلق أفعال عباده فإنها من جملة الإشياء ومن المخلوقات ما هو مضر لبعض الناس ومن ذلك الأفعال التي هي ظلم من فاعلها وإن لم تكن ظلما من خالقها كما أنه إذا خلق فعل العبد الذي هو صوم لم يكن هو صائما وإذا خلق فعله الذي هو طواف لم يكن هو طائفا وإذا خلق فعله الذي هو ركوع وسجود لم يكن هو راكعا ولا ساجدا وإذا خلق جوعه وعطشه لم يكن جائعا ولا عطشانا فالله تعالى إذا خلق في محل صفة أو فعلا لم يتصف هو بتلك الصفة ولا ذلك الفعل إذ لو كان كذلك لاتصف بكل ما خلقه من الأعراض ولكن هذا الموضع زلت فيه الجهمية من المعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة الذين يقولون ليس لله كلام إلا ما خلقه في غيره وليس له فعل إلا ما كان منفصلا عنه فلا يقوم به عندهم لا فعل ولا قول وجعلوا كلامه الذي يكلم به ملائكته وعباده والذي كلم به موسى والذي أنزله على عباده هو ما خلقه في غيره فيقال لهم الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل

لا على غيره فإذا خلق حركة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك بها لم يكن المتحرك بها هو الخالق لها وكذلك إذا خلق لونا أو ريحا أو علما أو قدرة في محل كان ذلك المحل هو المتلون بذلك اللون المتروح بتلك الريح العالم بذلك العلم القادر بتلك القدرة فكذلك إذا خلق كلاما في محل كان ذلك المحل هو المتكلم بذلك الكلام وكان ذلك الكلام كلاما لذلك المحل لا لخالقه فيكون الكلام الذي سمعه موسى وهو قوله إنني أنا الله (سورة طـــه). كلام الشجرة لا كلام الله لو كان ذلك مخلوقا واحتجت المعتزلة وأتباعهم الشيعة على ذلك بالأفعال فقالت كما أنه عادل محسن بعدل وإحسان يقوم بغيره فكذلك هو متكلم بكلام يقوم بغيره وكان هذا حجة على من سلم الأفعال لهم كالأشعري ونحوه فإنه ليس عنده فعل يقوم به بل يقول الخلق هو المخلوق لا غيره وهو قول طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وهو أول قولي القاضي أبي يعلى لكن جمهور الناس يقولون الخلق غير المخلوق وهذا مذهب الحنفية وهو الذي ذكره البغوي عن أهل السنة والذي ذكرهأبو بكر الكلاباذي عن الصوفية في كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي بكر عبد العزيز وابن حامد وابن شاقلا وغيرهم وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى واختيار أكثر أصحابه كأبي الحسين ابنه وغير هؤلاء وإنما اختار القول الآخر طائفة منهم كابن عقيل ونحوه ولما كان هذا قول الأشعري ونحوه وهو مع سائر أهل السنة

يقولون إن الله خالق أفعال العباد لزمه أن يقول إن أفعال العباد فعل لله تعالى إذ كان فعله عنده هو مفعوله فجعل أفعال العباد فعلا لله ولم يقل هي فعلهم في المشهور عنه إلا على وجه المجاز بل قال هي كسبهم وفسر الكسب بأنه ما يحصل في محل القدرة المحدثة مقرونا بها ووافقه على ذلك طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأكثر الناس طعنوا في هذا الكلام وقالوا عجائب الكلام ثلاثة طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري وأنشد في ذلك مما يقال ولا حقيقة تحته معقولة تدنو إلى الأفهام الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام وأما سائر أهل السنة فيقولون إن أفعال العباد فعل لهم حقيقة وهو أحد القولين للأشعري ويقول جمهورهم الذين يفرقون بين الخلق والمخلوق إنها مخلوقة لله ومفعولة له ليست هي نفس فعله وخلقه الذي هو صفته القائمة به فهذه الشناعات التي يذكرها هؤلاء لا تتوجه على قول جمهور أهل السنة وإنما ترد على طائفة من المثبتة كالأشعري وغيره فقوله عن أهل السنة إنهم يقولون إنه يفعل الظلم والعبث إن أراد ما هو منه ظلم وعبث فهذا منه فرية عليهم وإن قاله بطريق الإلزام فهم لا يسلمون له أنه ظلم ولهم في تفسير الظلم نزاع قد تقدم تفسيره وإن أراد ما هو ظلم وعبث من العبد فهذا لا محذور في كون الله يخلقه وجمهورهم لا يقولون إن هذا الظلم والعبث فعل الله بل يقولون إنه فعل العبد لكنه مخلوق لله كما أن قدرة العبد وسمعه وبصره مخلوق لله تعالى وليس هو سمع الحق ولا بصره ولا قدرته.

*

فصل
وأما قوله عنهم إنهم يقولون إنه لا يفعل ما هو الأصلح لعباده بل ما هو الفساد لأن فعل المعاصي وأنواع الكفر وجميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مسندة إليه تعالى الله عن ذلك.
*يقال هذا الكلام وإن قاله طائفة من متكلمي أهل الإثبات فهو قول طائفة من متكلمي الشيعة أيضا وأئمة أهل السنة وجمهورهم لا يقولون ما ذكر بل الذي يقولونه إن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وإنه لا يخرج عن ملكه وخلقه وقدرته شيء وقد دخل في ذلك جميع أفعال الحيوان فهو خالق لعبادات الملائكة والمؤمنين وسائر حركات العباد والقدرية ينفون عن ملكه خيار ما في ملكه وهو طاعة الملائكة والأنبياء والمؤمنين فيقولون لم يخلقها الله تعالى ولا يقدر على أن يستعمل العبد فيها ولا يلهمه إياها ولا يقدر أن يجعل من لم يفعلها فاعلا لها وقد قال الخليل عليه السلام ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك (سورة البقرة). فطلب من الله أن يجعله مسلما لله ومن ذريته أمة مسلمة له وهو صريح في أن الله تعالى يجعل الفاعل فاعلا وقال رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي (سورة إبراهيم). فقد طلب من الله تعالى أن يجعله مقيم الصلاة فعلم أن الله هو الذي يجعل المصلي مصليا وقد أخبر عن الجلود والجوارح إخبار مصدق لها أنها قالت أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء (سورة فصلت). فعلم أنه ينطق جميع الناطقين وأما كونه لا يفعل ما هو الأصلح لعباده أو لا يراعي مصالح العباد فهذا مما اختلف فيه الناس فذهبت طائفة من المثبتين للقدر إلى ذلك وقالوا خلقه وأمره متعلق بمحض المشيئة لا يتوقف على مصلحة وهذا قول الجهم وذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم وأن فعل المأمور به مصلحة عامة لمن فعله وأن إرساله الرسل مصلحة عامة وإن كان فيه ضرر على بعض الناس لمعصيته فإن الله كتب في كتاب فهو عنده موضوع فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي وفي رواية إن رحمتي سبقت عضبي أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم


فهم يقولون فعل المأمور به وترك المنهى عنه مصلحة لكل فاعل وتارك وأما نفس الأمر وإرسال الرسل فمصلحة عامة للعباد وإن تضمن شرا لبعضهم وهكذا سائر ما يقدره الله تغلب فيه المصلحة والرحمة والمنفعة وإن كان في ضمن ذلك ضرر لبعض الناس فلله في ذلك حكمة أخرى وهذا قول أكثر الفقهاء وأهل الحديث والتصوف وطوائف من أهل الكلام غير المعتزلة مثل الكرامية وغيرهم وهؤلاء يقولون وإن كان في بعض ما يخلقه ما فيه ضرر لبعض الناس أو هو سبب ضرر كالذنوب فلا بد في كل ذلك من حكمة ومصلحة لأجلها خلقها الله وقد غلبت رحمته غضبه وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وهو لم يذكر إلا مجرد حكاية الأقوال فبينا ما في ذلك النقل من الصواب والخطأ فإن هذا الذي نقله ليس من كلام شيوخه الرافضة بل هو من كلام المعتزلة كأصحاب أبي علي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وغيرهم وهؤلاء ذكروا ذلك ردا على الأشعرية خصوصا فإن الأشعرية وبعض المثبتين للقدر وافقوا الجهم بن صفوان في أصل قوله في الجبر وإن نازعوه في بعض ذلك نزاعا لفظيا أتوا بما لا يعقل لكن لا يوافقونهعلى قوله في نفي الصفات بل يثبتون الصفات فلهذا بالغوا في مخالفة المعتزلة في مسائل القدر حتى نسبوا إلى الجبر وأنكروا الطبائع والقوى التي في الحيوان أن يكون لها تأثير أو سبب في الحوادث أو يقال فعل بها وأنكروا أن يكون للمخلوقات حكمة وعلة ولهذا قيل إنهم أنكروا أن يكون الله يفعل لجلب منفعة لعباده أو دفع مضرة وهم لا يقولون إنه لا يفعل مصلحة ما فإن هذا مكابرة بل يقولون إن ذلك ليس بواجب عليه وليس بلازم وقوعه منه ويقولون إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء ولا بشيء وإنما اقترن هذا بهذا لإرادته لكليهما فهو يفعل أحدهما مع صاحبه لا به ولا لأجله والاقتران بينهما مما جرت به عادته لا لكون أحدهما سببا للآخر ولا حكمة له ويقولون إنه ليس في القرآن في خلقه وأمره لام تعليل

وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم مع أن أكثر الفقهاء الذين يوافقونهم على هذا في كتب الكلام يقولون بضد ذلك في مسائل الفقه والتفسير والحديث وأدلة الفقه وكلامهم في أصول الفقه تارة يوافق هؤلاء وتارة يوافق هؤلاء لكن جمهور أهل السنة من هؤلاء الطوائف وغيرهم يثبتون القدر ويثبتون الحكمة إيضا والرحمة وأن لفعله غاية محبوبة وعاقبة محمودة وهذه مسألة عظيمة جدا قد بسطت في غير هذا الموضع ففي الجملة لم تثبت المعتزلة والشيعة نوعا من الحكمة والرحمة إلا وقد أثبت أئمة أهل السنة ما هو أكمل من ذلك وأجل منه مع إثباتهم قدرة الله التامة ومشيئته النافذة وخلقه العام هؤلاء لا يثبتون هذا ومتكلموا الشيعة المتقدمون كالهشامين وغيرهما كانوا يثبتون القدر كما يثبته غيرهم وكذلك الزيدية منهم من يثبته ومنهم من ينفيه فالشيعة في القدر على قولين كما أن المثبتين لخلافة الخلفاء الثلاثة في القدر على قولين فلا يوجد لأهل السنة قول ضعيف إلا وفي الشيعة من يقوله ويقول ما هو أضعف منه ولا يوجد للشيعة قول قوي إلا وفي أهل السنة من يقوله ويقول ما هو أقوى منه ولا يتصور أن يوجد للشيعة قول قوي لم يقله أحد من أهل السنة فثبت أن أهل السنة أولى بكل خير منهم كما أن المسلمين أولى بكل خير من اليهود والنصارى.
*

فصل
وأما قوله إنهم يقولون إن المطيع لا يستحق ثوابا والعاصي لا يستحق عقابا بل قد يعذب المطيع طول عمره المبالغ في امتثال أوامره كالنبي ويثيب العاصي طول عمره بأنواع المعاصي وأبلغها كإبليس وفرعون.
*فهذا فرية على أهل السنة ليس فيهم من يقول إن الله يعذب نبيا ولا مطيعا ولا من يقول إن الله يثيب إبليس وفرعون بل ولا يثيب عاصيا على معصيته لكن يقولون إنه يجوز أن يعفو عن

المذنب من المؤمنين وأنه يخرج أهل الكبائر من النار فلا يخلد فيها أحدا من أهل التوحيد ويخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان والإمامية توافقهم على ذلك وأما الاستحقاق فهم يقولون إن العبد لا يستحق بنفسه على الله شيئا وليس له أن يوجب على ربه شيئا لا لنفسه ولا لغيره ويقولون إنه لا بد أن يثيب المطيعين كما وعد فإنه صادق في وعده لا يخلف الميعاد فنحن نعلم أن الثواب يقع لإخباره لنا بذلك وأما إيجابه ذلك على نفسه وإمكان معرفة ذلك بالعقل فهذا فيه نزاع بين أهل السنة كما تقدم التنبيه عليه فقول القائل إنهم يقولون إن المطيع لا يستحق ثوابا إن أراد أنه هو لا يوجب بنفسه على ربه ثوابا ولا أوجيه غيره من المخلوقين فهكذا تقول أهل السنة وإن أراد أن هذا الثواب ليس أمرا ثابتا معلوما وحقا واقعا فقد أخطأ وإن أراد أنه هو سبحانه وتعالى لا يحقهبخبره فقد أخطأ على أهل السنة وإن أراد أنه لم يحقه بمعنى أنه لم يوجبه على نفسه ويجعله حقا على نفسه كتبه على نفسه فهذا فيه نزاع قد تقدم وهو بعد أن وعد بالثواب أو أوجب مع ذلك على نفسه الثواب يمتنع منه خلاف خبره وخلاف حكمه الذي كتبه على نفسه وخلاف موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلي ولكن لو قدر أنه عذب من يشاء لم يكن لأحد منعه كما قال تعالى قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا (سورة المائدة). وهو سبحانه لو ناقش من ناقشه من خلقه يعذبه كما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نوقش الحساب عذب قالت قلت يا رسول الله أليس الله يقول فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحساب حسابا يسيرا سورة الانشقاق فقال ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل وفي الحديث الذي رواه أبو داود وغيره لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا لهم من أعمالهم وهذا قد يقال لأجل المناقشة في الحساب والتقصير في حقيقة الطاعة وهو قول من يجعل الظلم مقدورا غير واقع وقد يقال بأن الظلم لا حقيقة له وأنه مهما قدر من الممكنات لم يكن ظلما والتحقيق أنه إذا قدر أن الله فعل ذلك فلا يفعله إلا بحق لا يفعله وهو ظالم لكن إذا لم يفعله فقد يكون ظلما يتعالى الله عنه.
*

فصل
وأما ما نقله عنهم أنهم يقولون إن الأنبياء غير معصومين.
* فهذا الإطلاق نقل باطل عنهم فإنهم متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى وهذا هو مقصود الرسالة فإن الرسول هو الذي يبلغ عن الله أمره ونهيه وخبره وهم معصومون في تبليغ الرسالة باتفاق المسلمين بحيث لا يجوز أن يستقر في ذلك شيء من الخطأ.
وتنازعوا هل يجوز أن يسبق على لسانه ما يستدركه الله تعالى ويبينه له بحيث لا يقره على الخطأ كما نقل أنه ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ثم إن الله تعالى نسخ ما ألقاه الشيطان وأحكم آياته فمنهم من لم يجوز ذلك ومنهم من جوزه إذ لا محذور فيه فإن الله تعالى ينسخ ما يلقى الشيطان ويحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد (سورة الحج)..

وأما قوله بل قد يقع منهم الخطأ.
فيقال له هم متفقون على أنهم لا يقرون علي خطأ في الدين أصلا ولا على فسوق ولا كذب ففي الجملة كل ما يقدح في نبوتهم وتبليغهم عن الله فهم متفقون على تنزيههم عنه.
وعامة الجمهور الذين يجوزون عليهم الصغائر يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها فلا يصدر عنهم ما يضرهم كما جاء في الأثر كان داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة والله يحب التوابين ويحب المتطهرين (سورة البقرة). وإن العبد ليفعل السيئة فيدخل بها الجنة.
وأما النسيان والسهو في الصلاة فذلك واقع منهم وفي وقوعه حكمة استنان المسلمين بهم كما روى في موطأ مالك إنما أنسى أو أنسى لأسن وقد قال صلى الله عليه وسلم إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني أخرجاه في الصحيحين. ولما صلى بهم خمسا فلما سلم قالوا له يا رسول الله أزيد في الصلاة قال وما ذاك قالوا صليت خمسا فقال الحديث.
وأما الرافضة فأشبهوا النصارى فإن الله تعالى أمر الناس بطاعة الرسل فيما أمروا به وتصديقهم فيما أخبروا به ونهى الخلق عن الغلو والإشراك بالله فبدلت النصارى دين الله فغلوا في المسيح فأشركوا به وبدلوا دينه فعصوه وعظموه فصاروا عصاة بمعصيته وبالغوا فيه خارجين عن أصلي الدين وهما الإقرار لله بالوحدانية ولرسله بالرسالة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فالغلو أخرجهم عن التوحيد حتى قالوا بالتثليث والاتحاد وأخرجهم عن طاعة الرسول وتصديقه حيث أمرهم أن يعبدوا الله ربه وربهم فكذبوه في قوله إن الله ربه ربهم وعصوه فيما أمرهم به

وكذلك الرافضة غلوا في الرسل بل في الأئمة حتى اتخذوهم أربابا من دون الله فتركوا عبادة الله وحده لا شريك له التي أمرهم بها الرسل وكذبوا الرسل فيما أخبر به من توبة الأنبياء واستغفارهم فتجدهم يعطلون المساجد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فلا يصلون فيها جمعة ولا جماعة وليس لها عندهم كبير حرمة وإن صلوا فيها صلوا فيها وحدانا ويعظمون المشاهد المبنية على القبور فيعكفون عليها مشابهة للمشركين ويحجون إليها كما يحج الحاج إلى البيت العتيق ومنهم من يجعل الحج إليها أعظم من الحج إلى الكعبة بل يسبون من لا يستغني بالحج إليها عن الحج الذي فرضه الله على عباده ومن لا يستغنى بها عن الجمعة والجماعة وهذا من جنس دين النصارى والمشركين الذين يفضلون عبادة الأوثان على عبادة الرحمن وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وقال قبل أن يموت بخمس إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنها كم عن ذلك رواه مسلم وقال إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه وقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد رواه مالك في الموطأ

وقد صنف شيخهم ابن النعمان المعروف عندهم بالمفيد وهو شيخ الموسوي والطوسي كتابا سماه مناسك المشاهد جعل قبور المخلوقين تحج كما تحج الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قياما للناس وهو أول بيت وضع للناس فلا يطاف إلا به ولا يصلى إلا إليه ولم يأمر الله إلا بحجه وقد علم بالإضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بما ذكروه من آمر المشاهد ولا شرع لأمته مناسك عند قبور الأنبياء والصالحين بل هذا من دين المشركين الذين قال الله فيهم وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (سورة نوح). قال ابن عباس وغيره هؤلاء كانوا قوما صالحين فيقوم نوح لما ماتوا عكفوا على قبورهم فطال عليهم الأمد فصوروا تماثيلهم ثم عبدوهم وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته فقرن بين طمس التماثيل وتسوية القبور المشرفة لأن كليهما ذريعة إلى

الشرك كما في الصحيحين أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا النبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها بأرض الحبشة وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فقال إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة والله أمر في كتابه بعمارة المساجد ولم يذكر المشاهد فالرافضة بدلوا دين الله فعمروا المشاهد وعطلوا المساجد مضاهاة للمشركين ومخالفة للمؤمنين قال تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد (سورة الأعراف). لم يقل عند كل مشهد وقال ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (سورة التوبة). ولم يقل إنما يعمر مشاهد الله بل عمار المشاهد يخشون بها غير الله ويرجون غير الله

وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (سورة الجن). ولم يقل وأن المشاهد لله وقال ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا (سورة الحج). ولم يقل ومشاهد وقال في بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة (سورة النور). وأيضا فقد علم بالنقل المتواتر بل علم بالإضطرار من دين الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع لأمته عمارة المساجد بالصلوات والاجتماع للصلوات الخمس ولصلاة الجمعة والعيدين وغير ذلك وأنه لم يشرع لأمته أن يبنوا على قبر نبي ولا رجل صالح لا من أهل البيت ولا غيرهم لا مسجدا ولا مشهدا ولم يكن على عهده صلى الله عليه وسلم في الإسلام مشهد مبني على قبر وكذلك على عهد خلفائه الراشدين وأصحابه الثلاثة وعلي بن أبي طالب ومعاوية لم يكن على عهدهم مشهد مبني لا على قبر نبي ولا غيره لا على قبر إبراهيم الخليل ولا على غيرهبل لما قدم المسلمون إلى الشام غير مرة ومعهم عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم ثم لما قدم عمر لفتح بيت المقدس ثم لما قدم لوضع الجزية على أهل الذمة ومشارطتهم ثم لما قدم إلى سرغ ففي جميع هذه المرات لم يكن أحدهم يقصد السفر إلى قبر الخليل ولا كان هناك مشهد بل كان هناك البناء المبني على المغارة وكان مسدودا بلا باب له مثل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم ثم لم يزل الأمر هكذا في خلافة بني أمية وبني العباس إلى أن ملك النصاري تلك البلاد في أواخر المائة الخامسة فبنوا ذلك البناء واتخذوه كنيسة ونقبوا باب البناء فلهذا تجد الباب منقوبا لا مبنيا ثم لما استنقذ المسلمون منهم تلك الأرض اتخذها من اتخذها مسجدا بل كان الصحابة إذ رأوا أحدا بني مسجدا على قبر نهوه عن ذلك ولما ظهر قبر دانيال بتستر كتب فيه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه

ألى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر أن تحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وتدفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به وكان عمر بن الخطاب إذا رآهم يتناوبون مكانا يصلون فيه لكونه موضع نبي ينهاهم عن ذلك ويقول إنما هلك من كان قبلكم باتخاذ آثار أنبيائهم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب فهذا وأمثاله مما كانوا يحققون به التوحيد الذي أرسل الله به الرسول إليهم ويتبعون في ذلك سنته صلى الله عليه وسلم والإسلام مبني على أصلين أن لا تعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع فالنصارى خرجوا عن الأصلين وكذلك المبتدعون من هذه الأمة من الرافضة وغيرهم وأيضا فإن النصارى يزعمون أن الحواريين الذين اتبعوا المسيح أفضل من إبراهيم وموسى وغيرهما من الأنبياء والمرسلين ويزعمون أن الحواريين رسل شافههم الله بالخطاب لأنهم يقولون إن الله هو المسيح ويقولون أيضا إن المسيح ابن الله والرافضة تجعل الأئمة الاثنى عشر أفضل من السابقين الأولين من

المهاجرين والأنصار وغاليتهم يقولون إنهم أفضل من الأنبياء لأنهم يعتقدون فيهم الإلهية كما اعتقدته النصارى في المسيح والنصارى يقولون إن الدين مسلم للأحبار والرهبان فالحلال ما حللوه والحرام ما حرموه والدين ما شرعوه والرافضة تزعم أن الدين مسلم إلى الأئمة فالحلال ما حللوه والحرام ما حرموه والدين ما شرعوه وأما من دخل في غلوة الشيعة كالإسماعيلية الذين يقولون بإلهية الحاكم ونحوه من أئمتهم ويقولون إن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله وغير ذلك من المقالات التي هي من مقالات الغالية من الرافضة فهؤلاء شر من أكثر الكفار من اليهود والنصارى والمشركين وهم ينتسبون إلى الشيعة يتظاهرون بمذاهبهم فإن قيل ما وصفت به الرافضة من الغلو والشرك والبدع موجود كثير منه في كثير من المنتسبين إلى السنة فإن في كثير منهم غلوا في مشايخهم وإشراكا بهم وابتداعا لعبادات غير مشروعة وكثير منهم يقصد قبر من يحسن الظن به إما ليسأله حاجاته وإما ليسأله الله به حاجة وإما لظنه أن الدعاء عند قبره أجوب منه في المساجد

ومنهم من يفضل زيارة قبور شيوخهم على الحج ومنهم من يجد عند قبر من يعظمه من الرقة والخشوع ما لا يجده في المساجد والبيوت وغير ذلك مما يوجد في الشيعة ويروون أحاديث مكذوبة من جنس أكاذيب الرافضة مثل قولهم لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه الله به وقولهم إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وقولهم قبر فلان هو الترياق المجرب ويروون عن بعض شيوخهم أنه قال لصاحبه إذا كان لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث بي ونحو ذلك فإن في المشايخ من يفعل بعد مماته كما كان يفعل في حياته وقد يستغيث الشخص بواحد منهم فيتمثل له الشيطان في صورته إما حيا وإما ميتا وربما قضى حاجته أو قضى بعض حاجته كما يجري نحو ذلك للنصارى مع شيوخهم ولعباد الأصنام من العرب والهند والترك وغيرهم قيل هذا كله مما نهى الله عنه ورسوله وكل ما نهى الله عنه ورسوله فهو مذموم منهى عنه سواء كان فاعله منتسبا إلى السنة أو إلى التشيع ولكن الأمور المذمومة المخالفة للكتاب والسنة في هذا وغيره هي في الرافضة أكثر منها في أهل السنة فما يوجد في أهل السنة من الشر ففي الرافضة أكثر منه وما يوجد في الرافضة من الخير ففي أهل السنة أكثر منه

وهذا حال أهل الكتاب مع المسلمين فما يوجد في المسلمين شر إلا وفي أهل الكتاب أكثر منه ولا يوجد في أهل الكتاب خير إلا وفي المسلمين أعظم منه ولهذا يذكر سبحانه مناظرة الكفار من المشركين وأهل الكتاب بالعدل فإن ذكروا عيبا في المسلمين لم يبرئهم منه لكن يبين أن عيوب الكفار أعظم كما قال تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل (سورة البقرة). وهذه الآية نزلت لأن سرية من المسلمين ذكر أنهم قتلوا ابن الحضرمي في آخر يوم من رجب فعابهم المشركون بذلك فأنزل الله هذ الآية وقال تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مئوية عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (سورة المائدة). أي من لعنه الله وجعل منهم الممسوخين وعبدةالطاغوت ف جعل معطوف على لعن ليس المراد وجعل منهم من عبد الطاغوت كما ظنه بعض الناس فإن اللفظ لا يدل على ذلك والمعنى لا يناسبه فإن المراد ذمهم على ذلك لا الإخبار بأن الله جعل فيهم من يعبد الطاغوت إذ مجرد الإخبار بهذا لاذم فيه لهم بخلاف جعله منهم القردة والخنازير فإن ذلك عقوبة منه لهم على ذنوبهم وذلك خزي لهم فعابهم بلعنة الله وعقوبته بالشرك الذي فيهم وهو عبادة الطاغوت والرافضة فيهم من لعنة الله وعقوبته بالشرك ما يشبهونهم به من بعض الوجوه فإنه قد ثبت بالنقول المتواترة أن فيهم من يمسخ كما مسخ أولئك وقد صنف الحافظ أبو عبدالله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابا سماه النهي عن سب الأصحاب وما ورد فيه من

الذم والعقاب وذكر فيه حكايات معروفة في ذلك وأعرف أنا حكايات أخرى لم يذكرها هو وفيهم من الشرك والغلو ما ليس في سائر طوائف الأمة ولهذا أظهر ما يوجد الغلو في طائفتين في النصارى والرافضة ويوجد أيضا في طائفة ثالثة من أهل النسك والزهد والعبادة الذين يغلون في شيوخهم ويشركون بهم.
*

فصل
وأما قوله عن أهل السنة إنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمامة أحد وإنه مات عن غير وصية.
* فالجواب أن يقال ليس هذا قول جميعهم بل قد ذهبت طوائف من أهل السنة إلى أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره من الأئمة.
وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك روايتين عن الإمام أحمد إحداهما أنها ثبتت بالاختيار قال وبهذا قال جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية وهذا اختيار القاضي أبي يعلى وغيره.
والثانية أنها ثبتت بالنص الخفى والإشارة قال وبهذا قال الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث وبكر من أخت عبدالواحد والبيهسية من الخوارج.
وقال شيخه أبو عبد الله بن حامد فأما الدليل على استحقاق أبي بكر الخلافة دون غيره من أهل البيت والصحابة فمن كتاب الله وسنة نبيه قال وقد اختلف أصحابنا في الخلافة هل أخذت من حيث النص أو الاستدلال فذهب طائفة من أصحابنا إلى ان ذلك بالنص وأنه صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك نصا وقطع البيان على عينه حتما ومن أصحابنا من قال إن ذلك بالاستدلال الجلي قال ابن حامد والدليل على إثبات ذلك بالنص أخبار من ذلك ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم قال أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه فقالت أرأيت إن جئت فلم أجدك كأنها تريد الموت قال إن لم تجديني فأتى أبا بكر وذكر له سياقا آخر وأحاديث أخر قال وذلك نص على إمامته

قال وحديث سفيان عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قال وأسند البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعة ضعف والله يغفر له ثم استحالت غربا فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقريا يفرى فرية حتى ضرب الناس بعطن قال وذلك نص في الإمامةقال ويدل عليه ما أخبرنا أبو بكر بن مالك وروى عن مسند أحمد عن حماد ابن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أيكم رأى رؤيا فقلت أنا رأيت يا رسول الله كأن ميزانا دلي من السماء فوزنت بأبي بكر فرجحت بأبي بكر ثم وزن أبو بكر بعمر فرجح أبو بكر بعمر ثم وزن عمر بعثمان فرجح عمر بعثمان ثم رفع الميزان فقال النبي صلى الله عليه وسلم خلافة نبوة ثم يؤتى الله الملك لمن يشاءقال وأسند أبو داود عن جابر الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه قال ومن ذلك حديث صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل على رسول الله صلى الله

عليه وسلم اليوم الذي بدىء به فيه فقال ادعى لي أباك وآخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا ثم قال يأبي الله والمسلمون إلا أبا بكر وفي لفظ فلا يطمع في هذا الأمر طامع وهذا الحديث في الصحيحين ورواه من طريق أبي داود الطيالسي عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ادعى لي عبد الرحمن بن أبي بكر لأكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس ثم قال معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر وذكر أحاديثتقديمه في الصلاة وأحاديث أخر لم أذكرها لكونها ليست مما يثبته وقال أبو محمد بن حزم في كتابه في الملل والنحل اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت طائفة إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا ثم اختلفوا فقال بعضهم لكن لما استخلف أبا بكر على الصلاة كان ذلك دليلا على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمر وقال بعضهم لا ولكن كان أبنهم فضلا فقدموه لذلك وقالت طائفة بل نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على استخلاف أبي بكر بعده على أمور الناس نصا جليا قال أبو محمد وبهذا نقول لبراهين أحدها إطباق الناس كلهموهم الذين قال الله فيهم للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (سورة الحشر). فقد اتفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه المرء لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو لا يجوز غير هذا ألبتة في اللغة بلا خلاف تقول استخلف فلان فلانا يستخلفه فهو خليفة ومستخلفه فإن قام مكانه دون أن يستخلفه لم يقل إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف قال ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضرورين أحدهما أنه لم يستحق أبو بكر قط هذا الاسم على

الإطلاق في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حينئذ خليفته على الصلاة فصح يقينا أن خلافته المسمى بها هي غير خلافته على الصلاة والثاني أن كل من استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كعلي في غزوة تبوك وابن أم مكتوم في غزوة الخندق وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع وسائر من استخلفه على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف بين أحد من الأمة أن يسمى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصح يقينا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها الخلافة بعده على أمته ومن المحال أن يجمعوا على ذلك وهو لم يستخلفه نصا ولو لم يكن ههنا إلا استخلافه في الصلاة لم يكن أبو بكر أولى بهذه التسمية من سائر من ذكرناقال وأيضا فإن الرواية قد صحت أن امرأة قالت يا رسول الله أرأيت إن رجعت فلم أجدك كأنها تعنى الموت قال فأتى أبا بكر قال وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر قال وأيضا فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة في مرضه الذي توفي فيه لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك وأكتب كتابا وأعهد عهدا لكيلا يقول قائل أنا أحق أو يتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر وروى ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر وروىأيضا ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر قال فهذا نص جلي على استخلافه صلى الله عليه وسلم أبا بكر على ولاية الأمة بعده قال واحتج من قال لم يستخلف أبا بكر بالخبر المأثور عن عبد الله ابن عمر عن عمر أنه قال إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وإلا استخلف فلم يستخلف من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما روى عن عائشة رضي الله عنها إذ سئلت من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلف

قال ومن المحال أن يعارض إجماع الصحابة الذي ذكرنا عنهم والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من لفظه بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة رضي الله عنهما مما لا تقوم به حجة ظاهرة من أن هذا الأثر خفي على عمر كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالاستئذانوغيره أو أنه أراد استخلافا بعهد مكتوب ونحن نقر أن استخلاف أبي بكر لم يكن بعهد مكتوب وأما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك أيضا وقد يخرج كلاهما على سؤال سائل وإنما الحجة في روايتهما لا في قولهما قلت والكلام في تثبيت خلافة أبي بكر وغيره مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود هنا البيان لكلام الناس في خلافته هل حصل عليها نص جلي أو نص خفي وهل ثبتت بذلك أو بالاختيار من أهل الحل والعقد فقد تبين أن كثيرا من السلف والخلف قالوا فيها بالنص الجلي أو الخفي وحينئذ فقد بطل قدح الرافضي في أهل السنة بقوله إنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمامة أحد وأنه مات من غير وصية وذلك أن هذا القول لم يقله جميعهم فإن كانحقا فقد قاله بعضهم وإن كان الحق هو نقيضه فقد قال بعضهم ذلك فعلى التقديرين لم يخرج الحق عن أهل السنة وأيضا فلو قدر أن القول بالنص هو الحق لم يكن في ذلك حجة للشيعة فإن الراوندية تقول بالنص على العباس كما قالوا هم بالنص على علي قال القاضي أبو يعلى وغيره واختلف الرواندية فذهب جماعة منهم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العباس بعينه واسمه وأعلن ذلك وكشفه وصرح به وأن الأمة جحدت هذا النص وارتدت وخالفت أمر النبي صلى الله عليه وسلم عنادا ومنهم من قال إن النص على العباس وولده من بعده إلى أن تقوم الساعة يعني هو نص خفي فهذان قولان للرواندية كالقولين للشيعة فإن الإمامية تقول إنه نص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه من طريق التصريح والتسمية

بأن هذا هو الإمام من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا والزيدية تخالفهم في هذا ثم من الزيدية من يقول إنما نص عليه بقوله من كنت مولاه فعلي مولاه وأنت منى بمنزلة هارون من موسى وأمثال ذلك من النصالخفي الذي يحتاج إلى تأمل لمعناه وحكى عن الجارودية من الزيدية أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بصفة لم تكن توجد إلا فيه لا من جهة التسمية فدعوى الرواندية في النص من جنس دعوى الرافضة وقد ذكر في الإمامية أقوال أخر قال أبو محمد بن حزم اختلف القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في صليبة قريش فقالت طائفة هي جائزة فيجميع ولد فهر بن مالك بن النضر وهذا قول أهل السنة وجمهور المرجئة وبعض المعتزلة وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد العباس بن عبد المطلب وهم الرواندية وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد على بن أبي طالب وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد جعفر بن أبي طالب ثم قصروها على عبدالله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وبلغنا عن بعض بني الحارث بن عبد المطلب أنه كانيقول لا تجوز الخلافة إلا لبني عبد المطلب خاصة ويراها في جميع ولد عبد المطلب وهم أبو طالب وأبو لهب والعباس والحارث قال وبلغنا عن رجل كان بالأردن يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني عبد شمس وكان له في ذلك تأليف مجموع قال ورأينا كتابا مؤلفا لرجل من ولد عمر بن الخطاب يحتج فيه أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد أبي بكر وعمر خاصة وسيأتي تمام الكلام على تنازع الناس في الإمامة إن شاء الله تعالى والمقصود هنا أن أقوال الرافضة معارضة بنظيرها فإن دعواهم النص على علي كدعوى أولئك النص على العباس وكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار ولم يقل أحد من أهل العلم شيئا من هذين القولين

وإنما ابتدعهما أهل الكذب كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه ولهذا لم يكن أهل الدين من ولد العباس وعلي يدعوان هذا ولا هذا بخلاف النص على أبي بكر فإن القائلين به طائفة من أهل العلم وسنذكر إن شاء الله تعالى فصل الخطاب في هذا الباب لكن المقصود أن لهم أدلة وحججا من جنس أدلة المستدلين في موارد النزاع ويكفيك أن أضعف ما استدلوا به استدلالهم بتسميته خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد تقدم أن القائلين بالنص على أبي بكر منهم من قال بالنص الخفي ومنهم من قال بالنص الجلي وأيضا فقد روى ابن بطة بإسناده قال حدثنا أبو الحسن بن أسلم الكاتب حدثنا الزعفراني حدثنا يزيد بن هارون حدثنا المبارك بن فضالة أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبيرالحنظلي إلى الحسن فقال هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر فقال أو في شك صاحبك نعم والله الذي لا إله إلا هو استخلفه لهو أتقى من أن يتوثب عليها قال ابن المبارك استخلافه هو أمره أن يصلى بالناس وكان هذا عند الحسن استخلافا قال وأنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا يحيى بن سليم حدثنا جعفر بنمحمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال ولينا أبو بكر فخير خليفة أرحمه بنا وأحناه علينا قال وسمعت معاوية بن قرة يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر ثم القائلون بالنص على أبي بكر من قال بالنص الجلي واستدلوا على ذلك باتفاق الصحابة على تسميته خليفة رسول الله صلى

الله عليه وسلم قالوا والخليفة إنما يقال لمن استخلفه غيره واعتقدوا أن الفعيل بمعنى المفعول فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف على أمته والذين نازعوهم في هذه الحجة قالوا الخليفة يقال لمن استخلفه غيره ولمن خلف غيره فهو فعيل بمعنى فاعل كما يقال خلف فلان فلانا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا وفي الحديث الآخر اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم أصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلناوقال تعالى وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات (سورة الأنعام). وقال تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون (سورة يونس). وقال تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة (سورة البقرة). وقال يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق (سورة ص). أي خليفة عمن قبلك من الخلق ليس المراد أنه خليفة عن الله وأنه من الله كإنسان العين من العين كما يقول ذلك بعض الملحدين القائلين بالحلول والاتحاد كصاحب الفتوحات المكية وأنه الجامع لأسماء الله الحسنى وفسروا بذلك قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها (سورة البقرة). وأنه مثل الله الذي نفى عنهالشبه بقوله ليس كمثله شيء (سورة الشورى). إلى أمثال هذه المقالات التي فيها من تحريف المنقول وفساد المعقول ما ليس هذا موضع بسطه والمقصود هنا أن الله لا يخلفه غيره فإن الخلافة إنما تكون عن غائب وهو سبحانه شهيد مدبر لخلقه لا يحتاج في تدبيرهم إلى غيره وهو سبحانه خالق الأسباب والمسببات جميعا بل هو سبحانه يخلف عبده المؤمن إذا غاب عن أهله ويروى أنه قيل لأبي بكر يا خليفة الله فقال بل أنا خليفة رسول الله وحسبي ذاك وقالت طائفة بل ثبتت بالنص المذكور في الأحاديث التي تقدم

إيراد بعضها مثل قوله في الحديث الصحيح لما جاءته المرأة تسأله عن أمر فقالت أرأيت إن لم أجدك كأنها تعني الموت فقال ائتي أبا بكر ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة رضي الله عنها ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر ومثله قوله في الحديث الصحيح رأيت كأني على قليب أنزع منها فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غربا فلم أر عبقريا من الناس يفري فرية حتى ضرب الناس بعطنومثل قوله مروا أبا بكر فليصل بالناس وقد روجع في ذلك مرة بعد مرة فصلى بهم مدة مرض النبي صلى الله عليه وسلم من يوم الخميس إلى يوم الخميس إلى يوم الاثنين وخرج النبي صلى الله عليه وسلم مرة فصلى بهم جالسا وبقي أبو بكر يصلي بأمره سائر الصلوات وكشف الستارة يوم مات وهم يصلون خلف أبي بكر فسر بذلك وقد قيل إن آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كانت خلف أبي بكر وقيل ليس كذلك ومثل قوله في الحديث الصحيح على منبره لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكروفي سنن أبي داود وغيره من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم من رأى منكم رؤيا فقال رجل أنا رأيت كأن ميزان نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر ثم وزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر ووزن عمر وعثمان فرجح عمر ثم رفع الميزان فرأيت الكراهية في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ورواه أيضا من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه فذكر مثله ولم يذكر الكراهية فاستاء لها النبي صلى الله عليه وسلم يعني ساءه فقال خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء فبين النبي صلى

الله عليه وسلم أن ولاية هؤلاء خلافة نبوة ثم بعد ذلك ملك وليس فيه ذكر علي لأنه لم يجتمع الناس في زمانه بل كانوا مختلفين لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك وروى أبو داود أيضا من حديث ابن شهاب عن عمرو بن أبان عن جابر أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أرى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما المنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه وروى أبو داود أيضا من حديث حماد بن سلمة عن أشعث بن عبد الرحمن عن أبيه عن سمرة بن جندب أن رجلا قال يا رسول الله رأيت كأن دلوا أدلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلعثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت فانتضح عليه منها شيء وعن سعيد بن جهمان عن سفينة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء أو قال الملك قال سعيد قال لي سفينة أمسك مدة أبي بكر سنتان وعمر عشر وعثمان اثنتا عشرة وعلي كذا قال سعيد قلت لسفينة إن هؤلاء يزعمون أن عليا لم يكن بخليفة قال كذبت أستاه بني الزرقاء يعني بني مروان وأمثال

هذه الأحاديث ونحوها مما يستدل بها من قال إن خلافته ثبتت بالنص والمقصود هنا أن كثيرا من أهل السنة يقولون أن خلافته ثبتت بالنص وهم يسندون ذلك إلى أحاديث معروفة صحيحة ولا ريب أن قول هؤلاء أوجه من قول من يقول إن خلافة علي أو العباس ثبتت بالنص فإن هؤلاء ليس معهم إلا مجرد الكذب والبهتان الذي يعلم بطلانه بالضرورة كل من كان عارفا بأحوال الإسلام أو استدلال بألفاظ لا تدل على ذلك كحديث استخلافه في غزوة تبوك ونحوه مما سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى فيقال لهذا إن وجب أن يكون الخليفة منصوصا عليه كان القول بهذا النص أولى من القول بذاك وإن لم يجب هذا بطل ذاك والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهدا ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس ثم لما حصل لبعضهم شك هلذلك القول من جهة المرض أو هو قول يجب اتباعه ترك الكتابة اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر رضي الله عنه فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا قاطعا للعذر لكن لما دلتهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود والأحكام يبينها صلى الله عليه وسلم تارة بصيغة عاصة وتارة الصيغة خاصة ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار وليس فيكم من يقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر رواه البخاري ومسلم

وفي الصحيحين أيضا عنه أنه قال يوم السقيفة بمحضر من المهاجرين والأنصار أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر ذلك منهم منكر ولا قال أحد من الصحابة إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار طمعا في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بطلانه ثم الأنصار جميعهم بايعوا أبا بكر إلا سعد بن عبادة لكونه هو الذي كان يطلب الولايةولم يقل قط أحد من الصحابة إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على غير أبي بكر رضي الله عنه لا على العباس ولا على علي ولا على غيرهما ولا ادعى العباس ولا علي ولا أحد ممن يحبهما الخلافة لواحد منهما ولا أنه منصوص عليه بل ولا قال أحد من الصحابة إن في قريش من هو أحق بها من أبي بكر لا من بني هاشم ولا من غير بني هاشم وهذا كله مما يعلمه العلماء العالمون بالآثار والسنن والحديث وهو معلوم عندهم بالاضطرار وقد نقل عن بعض بني عبد مناف مثل أبي سفيان وخالد بن سعيد أنهم أرادوا أن لا تكون الخلافة إلا في بني عبد مناف

وأنهم ذكروا ذلك لعثمان وعلي فلم يلتفتا إلى من قال ذلك لعلمهما وعلم سائر المسلمين أنه ليس في القوم مثل أبي بكر ففي الجملة جميع من نقل عنه من الأنصار وبني عبد مناف أنه طلب تولية غير أبي بكر لم يذكر حجة دينية شرعية ولا ذكر أن غير أبي بكر أحق وأفضل من أبي بكر وإنما نشأ كلامه عن حب لقومه وقبيلته وإرادة منه أن تكون الإمامة في قبيلته ومعلوم أن مثل هذا ليس من الأدلة الشرعية ولا الطرق الدينية ولا هو مما أمر الله ورسوله المؤمنين باتباعه بل هو شعبة جاهلية ونوع عصبية للأنساب والقبائل وهذا مما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بهجره وإبطاله وفي الصحيح عنه أنه قال أربع من أمر الجاهلية في أمتي لن يدعوهن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والنياحة على الميت والاستقاء بالنجوموفي المسند عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه هن أمه ولا تكنوا وفي السنن عنه أنه قال إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء الناس رجلان مؤمن تقي وفاجر شقي وأما كون الخلافة في قريش فلما كان هذا من شرعه ودينه كانت النصوص بذلك معروفة منقولة مأثورة يذكرها الصحابة بخلاف

كون الخلافة في بطن من قريش أو غير قريش فإنه لم ينقل أحد من الصحابة فيه نصا بل ولا قال أحد إنه كان في قريش من هو أحق بالخلافة في دين الله وشرعه من أبي بكر ومثل هذه الأمور كلما تدبرها العالم وتدبر النصوص الثابتة وسير الصحابة حصل له علوم ضرورية لا يمكنه دفعها عن قلبه أنه كان من الأمور المشهورة عند المسلمين أن أبا بكر مقدم على غيره وأنه كان عندهم أحق بخلافة النبوة وأن الأمر في ذلك بين ظاهر عندهم ليس فيه اشتباه عليهم ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ومعلوم أن هذا العلم الذي عندهم بفضله وتقدمه إنما استفادوه من النبي صلى الله عليه وسلم بأمور سمعوها وعاينوها وحصل بها لهم من العلم ما علموا به أن الصديق أحق الأمة بخلافة نبيهم وأفضلهم عند نبيهم وأنه ليس فيهم من يشابهه حتى يحتاج في ذلك إلى مناظرةولم يقل أحد من الصحابة قط إن عمر بن الخطاب أو عثمان أو عليا أو غيرهم أفضل من أبي بكر أو أحق بالخلافة منه وكيف يقولون ذلك وهم دائما يرون من تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر على غيره وتفضيله له وتخصيصه بالتعظيم ما قد ظهر للخاص والعام حتى أن أعداء النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين يعلمون أن لأبي بكر من الاختصاص ما ليس لغيره كما ذكره أبو سفيان بن حرب يوم أحد قال أفي القوم محمد أفي القوم محمد ثلاثا ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة ثم قال أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب وكل ذلك يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه أخرجاه في الصحيحين كما سيأتي ذكره بتمامه إن شاء الله تعالى

حتى أني أعلم طائفة من حذاق المنافقين ممن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان رجلا عاقلا أقام الرياسة بعقله وحذقه يقولون إن أبا بكر كان مباطنا له على ذلك يعلم أسراره على ذلك بخلاف عمر وعثمان وعلي فقد ظهر لعامة الخلائق أن أبا بكر رضي الله عنه كان أخص الناس بمحمد صلى الله عليه وسلم فهذا النبي وهذا صديقه فإذا كان محمد أفضل النبيين فصديقه أفضل الصديقين فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختيارا استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعا ولكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بهذا وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلا على

ان الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه احقهم بالخلافة وأن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب لأبي بكر فقال لعائشة ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر اخرجاه في الصحيحين وفي البخاري لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ويدفع الله ويأبى المؤمنون فبين صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يكتب كتابا خوفا ثم علم أن الأمر واضح ظاهر ليس مما يقبل النزاع فيه والأمة حديثة عهد بنبيها وهم خير أمة أخرجت للناس وأفضل قرون هذه الأمة فلا يتنازعون في هذا الأمر الواضح الجلي فإن النزاع إنما يكون لخفاء العلم أو لسوء القصد وكلا الأمرين منتف فإن العلم بفضيلة أبي بكر جلي وسوء القصد لا يقع من جمهور الأمة الذين هم أفضل القرون ولهذا قال يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر فترك ذلك لعلمه بأن ظهور فضيلة أبي بكر الصديق واستحقاقه لهذا الأمر يغنى عن العهد فلا يحتاج إليه فتركه لعدم الحاجة وظهور فضيلة الصديق واستحقاقه وهذا أبلغ من العهد.
*

فصل
وأما قول الرافضي إنهم يقولون إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر بمبايعة عمر برضا أربعة.
* فيقال له ليس هذا قول أئمة أهل السنة وإن كان بعض أهل الكلام يقولون إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة كما قال بعضهم تنعقد ببيعة

اثنين وقال بعضهم تنعقد ببيعة واحد. فليست هذه أقوال أئمة السنة بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما ولهذا قال أئمة السلف من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية فهو من أولى الأمر الذين أمر الله بطاعتهم مالم يأمروا بمعصية الله فالإمامة ملك وسلطان والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكا بذلك وهكذا كل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه ولهذا لما بويع علي رضي الله عنه وصار معه شوكة صار إماما ولو كان جماعة في سفر فالسنة أن يؤمروا أحدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أن يؤمروا واحدا منهم فإذا أمره أهل القدرة منهم صار أميرا فكون الرجل أميرا وقاضيا وواليا وغير ذلك من الأمور التي مبناها على القدرة والسلطان متى حصل ما يحصل به من القدرة والسلطان حصلت وإلا فلا إذ المقصود بها عمل أعمال لا تحصل إلا بقدرة فمتى حصلت القدرة التي بها يمكن تلك الأعمال كانت حاصلة وإلا فلا وهذا مثل كون الرجل راعيا للماشية متى سلمت إليه بحيث يقدر أن يرعاها كان راعيا لها وإلا فلا فلا عمل إلا بقدرة عليه فمن لم يحصل له القدرة على العمل لم يكن عاملا والقدرة على سياسة الناس إما بطاعتهم له وإما بقهره لهم فمتى

صار قادرا على سياستهم بطاعتهم أو بقهره فهو ذو سلطان مطاع إذا أمر بطاعة الله ولهذا قال أحمد في رسالة عبدوس بن مالك العطار أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين فدفع الصدقات إليه جائز برا كان أو فاجرا وقال في رواية إسحاق بن منصور وقد سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية ما معناه فقال تدري ما الإمام الإمام الذي يجمع عليه المسلمون كلهم يقول هذا إمام فهذا معناه والكلام هنا في مقامين أحدهما في كون أبي بكر كان هو المستحق للإمامة وأن مبايعتهم له مما يحبه الله ورسوله فهذا ثابت بالنصوص والإجماع والثاني أنه متى صار إماما فذلك بمبايعة أهل القدرة له وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماما سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز فالحل والحرمة متعلق بالأفعال وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله كسلطان الخلفاء الراشدين وقد تحصل على وجه فيه معصية كسلطان الظالمين ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه وامتنع سائر الصحابة عن البيعة لم يصر إماما بذلك وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية فإن المقصود حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك

فمن قال إنه يصير إماما بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط كما أن من ظن أن تخلف الواحد او الاثنين والعشرة يضره فقد غلط وأبو بكر بايعه المهاجرون والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة وبهم قهر المشركون وبهم فتحت جزيرة العرب فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر وأما كون عمر أو غيره سبق إلى البيعة فلا بد في كل بيعة من سابق ولو قدر أن بعض الناس كان كارها للبيعة لم يقدح ذلك في مقصودها فإن نفس الاستحقاق لها ثابت بالأدلة الشرعية الدالة على أنه أحقهم بها ومع قيام الأدلة الشرعية لا يضر من خالفها ونفس حصولها ووجودها ثابت بحصول القدرة والسلطان بمطاوعة ذوي الشوكة فالدين الحق لا بد فيه من الكتاب الهادي والسيف الناصر كما قال تعالى لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب (سورة الحديد).. فالكتاب يبين ما أمر الله به وما نهى عنه والسيف ينصر ذلك ويؤيده وأبو بكر ثبت بالكتاب والسنة إن الله أمر بمبايعته والذين بايعوه كانوا أهل السيف المطيعين لله في ذلك فانعقدت خلافة النبوة في حقه بالكتاب والحديد وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماما لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم له وأما قوله ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم فيقال أيضا عثمان لم يصر إماما باختيار بعضهم بل بمبايعة الناس له وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان ولم يتخلف عن بيعته أحد قال الإمام أحمد في رواية حمدان بن علي ما كان في القوم

أوكد بيعة من عثمان كانت بإجماعهم فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماما وإلا فلو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماما ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف واتفق الثلاثة باختيارهم على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى ويولى أحد الرجلين وأقام عبد الرحمن ثلاثا حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان ويشاور أمراء الأنصار وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد ابن حنبل والدارقطني وغيرهم من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وهذا من الأدلة الدالة على أن عثمان أفضل لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم وأما قوله ثم علي بمبايعة الخلق له فتخصيصه عليا بمبايعة الخلق له دون أبي بكر وعمر وعثمان كلام ظاهر البطلان وذلك أنه من المعلوم لكل من عرف سيرة القوم أن اتفاق الخلق ومبايعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان أعظم من اتفاقهم على بيعة علي رضي الله عنه وعنهم أجمعين وكل أحد يعلم أنهم اتفقوا على بيعة عثمان أعظم مما اتفقوا على بيعة علي والذين بايعوا عثمان في أول الأمر أفضل من الذين بايعوا عليا فإنه بايعه علي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وعبد الله بن مسعود والعباس بن

عبد المطلب وأبي بن كعب وأمثالهم مع سكينة وطمأنينة بعد مشاورة المسلمين ثلاثة أيام وأما علي رضي الله عنه فإنه بويع عقيب قتل عثمان رضي الله عنه والقلوب مضطربة مختلفة وأكابر الصحابة متفرقون وأحضر طلحة إحضارا حتى قال من قال إنهم جاءوا به مكرها وأنه قال بايعت واللج أي السيف على قفى وكان لأهل الفتنة بالمدينة شوكة لما قتلوا عثمان وماج الناس لقتله موجا عظيما وكثير من الصحابة لم يبايع عليا كعبدالله بن عمر وأمثاله وكان الناس معه ثلاثة أصناف صنف قاتلوا معه وصنف قاتلوه وصنف لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه فكيف يجوز أن يقال في علي بمبايعة الخلق له ولا يقال مثل ذلك في مبايعة الثلاثة ولم يختلف عليهم أحد بل بايعهم الناس كلهم لا سيما عثمان.
وأما أبو بكر فتخلف عن بيعته سعد لأنهم كانوا قد عينوه للإمارة فبقي في نفسه ما يبقى في نفوس البشر ولكن هو مع هذا رضي الله عنه لم يعارض ولم يدفع حقا ولا أعان على باطل بل قد روى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسند الصديق عن عفان عن أبي عوانه عن داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن هو الحميري فذكر حديث السقيفة وفيه أن الصديق قال ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم قال فقال له سعد صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء فهذا مرسل حسن ولعل حميدا أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا ذلك وفيه فائدة

جليلة جدا وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالإمارة فرضى الله عنهم أجمعين ولهذا أضطرب الناس في خلافة علي على اقوال فقالت طائفة إنه إمام وإن معاوية إمام وإنه يجوز نصب إمامين في وقت إذا لم يمكن الاجتماع على إمام واحد وهذا يحكى عن الكرامية وغيرهم وقالت طائفة لم يكن في ذلك الزمان أمام عام بل كان زمان فتنة وهذا قول طائفة من أهل الحديث البصريين وغيرهم ولهذا لما أظهر الإمام أحمد التربيع بعلي في الخلافة وقال من لم يربح بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله أنكر ذلك طائفة من هؤلاء وقالوا قد أنكر خلافته من لا يقال هو أضل من حمار أهله يريدون من تخلف عنها من الصحابة واحتج أحمد وغيره على خلافة علي بحديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا و هذا الحديث قد رواه أهل السنن كأبي داود وغيره وقالت طائفة ثالثة بل علي هو الإمام وهو مصيب في قتاله لمن قاتله وكذلك من قاتله من الصحابة كطلحة والزبير كلهم مجتهدون
مصيبون وهذا قول من يقول كل مجتهد مصيب كقول البصريين من المعتزلة أبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم ومن وافقهم من الأشعرية كالقاضي أبي بكر وأبي حامد وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري وهؤلاء ايضا يجعلون معاوية مجتهدا مصيبا في قتاله كما أن عليا مصيب وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم ذكره أبو عبد الله ابن حامد ذكر لأصحاب أحمد في المقتتلين يوم الجمل وصفين ثلاثة أوجه أحدها كلاهما مصيب والثاني المصيب واحد لا بعينه والثالث أن عليا هو المصيب ومن خالفه مخطىء والمنصوص عن أحمد وأئمة السلف أنه لا يذم أحد منهم وأن عليا أولى بالحق من غيره أما تصويب القتال فليس هو قول أئمة السنة بل هم يقولون إن تركه كان أولى

وطائفة رابعة تجعل عليا هو الإمام وكان مجتهدا مصيبا في القتال ومن قاتله كانوا مجتهدين مخطئين وهذا قول كثير من أهل الرأي والكلام من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وطائفة خامسة تقول إن عليا مع كونه كان خليفة وهو أقرب إلى الحق من معاوية فكان ترك القتال أولى وينبغي الإمساك عن القتال لهؤلاء وهؤلاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الساعي وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الحسن إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فأثنى على الحسن بالإصلاح ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لما مدح تاركه قالوا وقتال البغاة لم يأمر الله به ابتداء ولم يأمر بقتال كل باغ بل قال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصحلوا بينهما فإن بغث إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله (سورة الحجرات). فأمر إذا اقتتل المؤمنون بالإصلاح بينهم فإن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت قالوا ولهذا لم يحصل بالقتال مصلحة والأمر الذي يأمر الله به لا بد أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته وفي سنن أبي داود حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد أنبأنا هشام عن محمد يعني ابن

سيرين قال قال حذيفة ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تضرك الفتنة قال أبو داود حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا شعبة عن الأشعث بن سليم عن أبي بردة عن ثعلبة بن ضبيعة قال دخلنا على حذيفة فقال إني لأعرف رجلا لا تضره الفتن شيئا قال فخرجنا فإذا فسطاط مضروب فدخلنا فإذا فيه محمد بن مسلمة فسألناه عن ذلك فقال ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصاركم حتى تجلى عما انجلت فهذا الحديث يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن محمد بن مسلمة لا تضره الفتنة وهو ممن اعتزل في القتال فلم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية كما اعتزل سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله ابن عمر وأبو بكرة وعمران بن حصين وأكثر السابقين الأولين وهذا يدل على أنه ليس هناك قتال واجب ولا مستحب إذ لو كان كذلك لم يكن ترك ذلك مما يمدح به الرجل بل كان من فعل الواجب أو المستجب أفضل ممن تركه ودل ذلك على أن القتال قتال فتنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي والساعي خير من الموضع وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تبين أن ترك القتال كان خيرا من فعله من الجانبين وعلى هذا جمهور أئمة أهل الحديث والسنة وهذا مذهب مالك والثوري وأحمد وغيرهم وهذه أقوال من يحسن القول في علي وطلحة والزبير ومعاوية ومن سوى هؤلاء من الخوارج والروافض والمعتزلة فمقالاتهم في الصحابة لون آخر فالخوارج تكفر عليا وعثمان ومن والاهما والروافض تكفر جمهور الصحابة كالثلاثة ومن والاهم وتفسقهم ويكفرون من قاتل

عليا ويقولون هو إمام معصوم وطائفة من المروانيه تفسقه وتقول إنه ظالم معتد وطائفة من المعتزلة تقول قد فسق إما هو وإما من قاتله لكن لا يعلم عينه وطائفة أخرى منهم تفسق معاوية وعمرا دون طلحة والزبير وعائشة. والمقصود أن الخلاف في خلافة علي وحروبه كثير منتشر بين السلف والخلف فكيف تكون مبايعة الخلق له أعظم من مبايعتهم للثلاثة قبله رضي الله عنهم أجمعين فإن قال أردت بقولي أن أهل السنة يقولون إن خلافتة انعقدت بمبايعة الخلق له لا بالنص فلا ريب أن أهل السنة وإن كانوا يقولون إن النص على أن عليا من الخلفاء الراشدين لقوله خلافة النبوة ثلاثون سنة فهم يروون النصوص الكثيرة في صحة خلافة غيره وهذا أمر معلوم عند أهل العلم بالحديث يروون في صحة خلافة الثلاثة نصوصا كثيرة بخلاف خلافة علي فإن نصوصها قليلة فإن الثلاثة اجتمعت الأمة عليهم فحصل بهم مقصود الإمامة وقوتل بهم الكفار وفتحت بهم الأمصار وخلافة علي لم يقاتل فيها كفار ولا فتح مصر وإنما كان السيف بين أهل القبلة وأما النص الذي تدعيه الرافضة فهو كالنص الذي تدعيه الراوندية على العباس وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة عند أهل العلم ولو لم يكن في إثبات خلافة علي إلا هذا لم تثبت له إمامة قط كما لم تثبت للعباس إمامة بنظيره وأما قوله ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الإمام بعده الحسن وبعضهم قال إنه معاوية فيقال أهل السنة لم يتنازعوا في هذا بل هم يعلمون أن الحسن بايعه أهل العراق مكان أبيه وأهل الشام كانوا مع معاوية قبل ذلك وقوله ثم ساقوا الإمامة في بني أمية ثم في بني العباس

فيقال أهل السنة لا يقولون إن الواحد من هؤلاء كان هو الذي يجب أن يولى دون من سواه ولا يقولون إنه تجب طاعته في كل ما يأمر به بل أهل السنة يخبرون بالواقع ويأمرون بالواجب فيشهدون بما وقع ويأمرون بما أمر الله ورسوله فيقولون هؤلاء هم الذين تولوا وكان لهم سلطان وقدرة يقدرون بها على مقاصد الولاية من إقامة الحدود وقسم الأموال وتولية الولايات وجهادالعدو وإقامة الحج والأعياد والجمع وغير ذلك من مقاصد الولايات ويقولون إن الواحد من هؤلاء ونوابهم وغيرهم لا يجوز أن يطاع في معصية الله بل يشارك فيما يفعله من طاعة الله فيغزى معه الكفار ويصلي معه الجمعة والعيدان ويحج معه ويعاون في إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمثال ذلك فيعاونون على البر والتقوى ولا يعاونون على الإثم والعدوان ويقولون إنه قد تولى غير هؤلاء تولى بالغرب طائفة من بني أمية وطائفة من بني علي ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة وأنه لو تولى من هو دون هؤلاء من الملوك الظلمة لكان ذلك خيرا من

عدمهم كما يقال ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة قيل له هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة قال يؤمن بها السبيل ويقام به الحدود ويجاهد به العدو ويقسم بها الفيء ذكره علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية وكل من تولى كان خيرا من المعدوم المنتظر الذي تقول الرافضة إنه الخلف الحجة فإن هذا لم يحصل بإمامته شيء من المصلحة لا في الدنيا ولا في الدين أصلا فلا فائدة في إمامته إلا الاعتقادات الفاسدة والأماني الكاذبة والفتن بين الأمة وانتظار من لا يجيء فتطوى الأعمار ولم يحصل من فائدة هذه الإمامة شيء والناس لا يمكنهم بقاء أيام قليلة بلا ولاة أمور بل كانت تفسد امورهم فكيف تصلح أمورهم إذا لم يكن لهم إمام إلا من لا يعرف ولا يدري ما يقول ولا يقدر على شيء من أمور الإمامة بل هو معدوموأما آباؤه فلم يكن لهم قدرة ولا سلطان الإمامة بل كان لأهل العلم والدين منهم إمامة أمثالهم من جنس الحديث والفتيا ونحو ذلك لم يكن لهم سلطان الشوكة فكانوا عاجزين عن الإمامة سواء كانوا أولى بالإمامة أو لم يكونوا أولى فبكل حال ما مكنوا ولا كان ولوا يحصل لهم المطلوب من الولاية لعدم القدرة والسلطان ولو أطاعهم المؤمن لم يحصل له بطاعتهم المصالح التي تحصل بطاعة الأئمة من جهاد الأعداء وإيصال الحقوق إلى مستحقيها أو بعضهم وإقامة الحدود فإن قال القائل إن الواحد من هؤلاء أو من غيرهم إمام أي ذو سلطان وقدرة يحصل بهما مقاصد الإمامة كان هذا مكابرة للحس ولو كان ذلك كذلك لم يكن هناك متول يزاحمهم ولا يستبد بالأمر دونهم وهذا لا يقوله أحد وإن قال إنهم أئمة بمعنى أنهم هم الذين كانوا يجب أن يولوا وأن الناس عصوا بترك توليتهم فهذا بمنزلة أن يقال فلان كان يستحق أن يولى إمامة الصلاة وأن يولى القضاء ولكن لم يول ظلما وعدوانا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17