كتاب : منهاج السنة النبوية
المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

وأما قوله إنها خرجت في ملأ من الناس تقاتل عليا على غير ذنب فهذا أولا كذب عليها فإنها لم تخرج لقصد القتال ولا كان أيضا طلحة والزبير قصدهما قتال علي. ولو قدر أنهم قصدوا القتال فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم. فجعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال وإذا كان هذا ثابتا لمن هو دون أولئك المؤمنين فهم به أولى وأحرى.وأما قوله إن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان فجوابه من وجوه.
أحدها: أن يقال أولا: هذا من أظهر الكذب وأبينه فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله ولا شاركوا في قتله ولا رضوا بقتله أما أولا فلأن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة ومصر وخراسان وأهل المدينة بعض المسلمين وأما ثانيا فلأن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان

لا قتل ولا أمر بقتله وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن وكان علي رضي الله عنه يحلف دائما إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله ويقول اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل وغاية ما يقال إنهم لم ينصروه حق النصرة وأنه حصل نوع من الفتور والخذلان حتى تمكن أولئك المفسدون ولهم في ذلك تأويلات وما كانوا يظنون أن الأمر يبلع إلى ما بلغ ولو علموا ذلك لسدوا الذريعة وحسموا مادة الفتنة ولهذا قال تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة فإن الظالم يظلم فيبتلى الناس بفتنة تصيب من لم يظلم فيعجز عن ردها حينئذ بخلاف ما لو منع الظالم ابتداء فإنه كان يزول سبب الفتنة.
الثاني: أن هؤلاء الرافضة في غاية التناقض والكذب فإنه من المعلوم أن الناس أجمعوا على بيعة عثمان ما لم يجمعوا على قتله فإنهم كلهم بايعوه في جميع الأرض فإن جاز الاحتجاج بالإجماع الظاهر فيجب أن تكون بيعته حقا لحصول الإجماع عليها وإن لم يجز الاحتجاع به بطلت حجتهم بالإجماع على قتله لا سيما ومن المعلوم أنه لم يباشر قتله إلا طائفة قليلة ثم إنهم ينكرون الإجماع على بيعته وقولون إنما بايغ أهل الحق منهم خوفا وكرها ومعلوم أنهم لو اتفقوا كلهم على قتله وقال قائل كان أهل الحق كارهين لقتله لكن سكتوا خوفا وتقية على أنفسهم لكان هذا أقرب إلى الحق لأن العادة قد جرت بأن من يريد قتل الأئمة يخيف من ينازعه بخلاف من يريد مبايعته الأئمة فإنه لا يخيف المخالف كما يخيف من يريد قتله فإن المريدين للقتل أسرع إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعه فهذا لو قدر أن جميع الناس ظهر منهم الأمر بقتله فكيف وجمهورهم أنكروا قتله ودافع عنه من دافع في بيته كالحسن بن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهما وأيضا فإجماع الناس على بيعة أبي بكر أعظم من إجماعهم على بيعة

على وعلى قتل عثمان وعلى غير ذلك فإنه لم يتخلف عنها إلا نفر يسير كسعد بن عبادة وسعد قد علم سبب تخلفه والله يغفر له ويرضى عنه وكان رجلا صالحا من السابقين الأولين من الأنصار من أهل الجنة كما قالت عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك لما أخذ يدافع عن عبد الله بن أبي رأس المنافقين قالت وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية وقد قلنا غير مرة إن الرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها أو تمحوها حسناته أو تكفر عنه بالمصائب أو بغير ذلك فإن المؤمن إذا أذنب كان لدفع عقوبة النار عنه عشرة أسباب ثلاثة منه وثلاثة من الناس وأربعة يبتديها الله التوبة والاستغفار والحسنات الماحية ودعاء المؤمنين له وإهداؤهم العمل الصالح له وشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم والمصائب المكفرة في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة ومغفرة الله له بفضل رحمته والمقصود هنا أن هذا الإجماع ظاهر معلوم فكيف يدعى الإجماع على مثل قتل عثمان من ينكر مثل هذا الإجماع بل من المعلوم أن الذين تخلفوا عن القتال مع على من المسلمين أضعاف الذين أجمعوا على قتل عثمان فإن الناس كانوا في زمن علي على ثلاثة أصناف صنف قاتلوا معه وصنف قاتلوه وصنف لا قاتلوه ولا قاتلوا معه وأكثر السابقين الأولين كانوا من هذا الصنف ولو لم يكن تخلف عنه إلا من قاتل مع معاوية رضي الله عنه فإن معاوية ومن معه لم يبايعوه وهم أضعاف الذين قتلوا عثمان أضعافا مضاعفة والذين أنكروا قتل عثمان أضعاف الذين قاتلوا مع على فإن كان قول القائل إن الناس أجمعوا على قتال على باطلا فقوله إنهم أجمعوا على قتل عثمان أبطل وأبطل وإن جاز أن يقال إنهم أجمعوا على قتل عثمان لكون ذلك وقع في العالم ولم يدفع فقول القائل إنهم أجمعوا على قتال على أيضا والتخلف عن بيعته أجوز وأجوز فإن هذا وقع في العالم ولم يدفع

وإن قيل إن الذين كانوا مع على لم يمكنهم إلزام الناس بالبيعة له وجمعهم عليه ولا دفعهم عن قتاله فعجزوا عن ذلك قيل والذين كانوا مع عثمان لما حصر لم يكنهم أيضا دفع القتال عنه وإن قيل بل أصاب على فرطوا وتخاذلوا حتى عجزوا عن دفع القتال أو قهر الذين قاتلوه أو جمع النار عليه قيل والذين كانوا مع عثمان فرطوا وتخاذلوا حتى تمكن منه أولئك ثم دعوى المدعى الإجماع على قتل عثمان مع ظهور الإنكار من جماهير الأمة له وقيامهم في الانتصار له والانتقام ممن قتله أظهر كذبا من دعوى المدعى إجماع الأئمة على قتل الحسين رضي الله عنه فلو قال قائل إن الحسين قتل بإجماع الناس لأن الذين قاتلوه وقتلوه لم يدفعهم أحد من ذلك لم يكن كذبه بأظهر من كذب المدعى للإجماع على قتل عثمان فإن الحسين رضي الله عنه لم يعظم إنكار

الأمة لقتله كما عظم إنكارهم لقتل عثمان ولا انتصر له جيوش كالجيوش الذين انتصرت لعثمان ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه ولا حصل بقتله من الفتنة والشر والفساد ما حصل بقتل عثمان ولا كان قتله أعظم إنكارا عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان فإن عثمان من أعيان السابقين الأولين من المهاجرين من طبقة على وطلحة والبير وهو خليفة للمسلمين أجمعوا على بيعته بل لم يشهر في الأمة سيفا ولا قتل على ولايته أحدا وكان يغزو بالمسلمين الكفار بالسيف وكان السيف في خلافته كما كان في خلافة أبي بكر وعمر مسلولا على الكفار مكفوفا عن أهل القبلة ثم إنه طلب قتله وهو خليفة فصبر ولم يقاتل دفعا عن نفسه حتى قتل ولا ريب أن هذا أعظم أجرا وقتله أعظم إثما ممن لم يكن متوليا فخرج يطلب الولاية ولم يتمكن من ذلك حتى قاتله أعوان الذين كلب أخذ الأمر منهم فقاتل عن نفسه حتى قتل ولا ريب أن قتال الدافع عن نفسه وولايته أقرب من قتال الطالب لأن يأخذ الأمر من غيره وعثمان ترك القتال دفعا عن ولايته فكان حاله أفضل من حال الحسين وقتله أشنع من قتل الحسين كما أن الحسن رضي الله عنه لما لم يقاتل على الأمر بل أصلح بين الأمة بتركه القتال

مدحه النبي صلى الله ليه وسلم على ذلك فقال إن ابنة هذا سد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين والمنتصرون لعثمان معاوية وأهل الشام والمنتصرون من قتلة الحسين المختار بن أبي عبيد الثقفي وأعوانه ولا يشك عاقل أن معاوية رضي الله عنه خير من المختار فإن المختار كذاب ادعى النبوة وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يكون في ثقيف كذاب ومبير فالكذاب هو المختار والمبير هو الحجاج بن يوسف وهذا المختار كان أبوه رجلا صالحا وهو أبو عبيد الثقفي الذي قتل شهيدا في حرب المجوس وأخته صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله ابن عمر امرأة صالحة وكان المختار رجل سوء.وأما قوله إن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان وتقول في كل وقت اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا ولما بلغها قتله فرحت بذلك.
فيقال له أولا :أين النقل الثابت عن عائشة بذلك؟
ويقال ثانيا: المنقول الثابت عنها يكذب ذلك ويبيبن أنها أنكرت قتله وذمت من قتله ودعت على أخيها محمد وغيره لمشاركتهم في ذلك.
ويقال ثالثا: هب أن واحدا من الصحابة عائشة أو غيرها قال في ذلك على وجه الغضب إنكاره بعض ما ينكر فليس قوله حجة ولا يقدح ذلك لا في إيمان القائل ولا المقول له بل قد يكون كلاهما وليا لله تعالى من أهل الجنة ويظن أحدهما جواز قتل الاخر بل يظن كفره وهو مخطىء في هذا الظن. كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكان من أهل بدر والحديبية وقد ثبت في الصحيح أن غلامه قال يا رسول الله والله ليدخلن حاطب النار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كذبت إنه قد شهد بدرا والحديبية وفي حديث علي أن حاطبا كتب إلى المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك فقال لعلي والزبير اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فلما

أتيا بالكتاب قال ما هذا يا حاطب فقال والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتدادا ولا رضا بالكفر ولكن كنت امرءا ملصقا في قرش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذا فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي فقال عمر رضي الله عنه دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال إنه شهد بدرا وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأنزل الله تعالى أول (سورة الممتحنة). يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلفون إليهم بالمودة وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها وهي متواترة عندهم معروفة عند علماء التفسير وعلماء الحديث وعلماء المغازي والسير والتواريخ وعلماء الفقه وغير هؤلاء وكان على رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة وروى عنه كاتبه عبدالله بن أبي رافع ليبين لهم أن السابقين مغفور لهم ولو جرى منهم ما جرى فإن عثمان وعليا وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب

ابن أبي بلتعة وكان حاطب مسيئا إلى مماليكه وكان ذنبه في مكاتبة المشركين وإعانتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله وكذب من قل إنه يدخل النار لأنه شهد بدرا والحديبية وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر ومع هذا فقد قال عمر رضي الله عنه دعني أضرب عنق هذا المنافق فسماه منافقا واستحل قتله ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة وكذلك في الصحيحين وغيرهما في حديث الإفك لما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا على المنبر يعتذر من رأس المنافقين عبد الله بن أبي فقال من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا فقام سعد بن معاذ سيد الأوس وهو الذي اهتز لموته عرش الرحمن وهو الذي كان لا تأخذه في الله لومة لائم بل حكم في حلفائه من بني قريظة بأن يقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد حكمتن فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فقال يا رسول الله نحن نعذرك منه إن كان من إخواننا من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من أخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة فقال كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير فقال كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين وكادت تثور فتنة بين الأوس والخزرج حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم وخفضهم وهؤلاء الثلاثة من خيار السابقين الأولين وقد قال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة إنك منافق تجادل عن المنافقين وهذا مؤمن ولي لله من أهل الجنة وذاك مؤمن ولي الله من أهل الجنة فدل على أن الرجل قد يكفر اخر بالتأويل ولا يكون واحد منهما كافرا

وكذلك في الصحيحين حديث عتبال بن مالك لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم منزله في نفر من أصحابه فقام يصلي وأصحابه يتحدثون بينهم ثم أسندوا عظم ذلك إلى مالك بن الدخشم وودوا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه فيهلك فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته وقال أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قالوا بلى وإنه يقول ذلك وما هو في قلبه فقال لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه وإذا كان ذلك فإذا ثبت أن شخصا من الصحابة إما عائشة وإماعمار بن ياسر وإما غيرهما كفر اخر من الصحابة عثمان أو غيره أو أباح قتله على وجه التأويل كان هذا من باب التأويل المذكور ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة فإن عثمان وغيره أفضل من حاطب بن أبي بلتعة وعمر أفضل من عمار وعائشة وغيرهما وذنب حاطب أعظم فإذا غفر لحاطب ذنبه فالمغفرة لعثمان أولى وإذا جاز أن يجتهد مثل عمر وأسيد بن حضير في التكفير أو استحلال القتل ولا يكون ذلك مطابقا فصدور مثل ذلك من عائشة وعمار أولى ويقال رابعا إن هذا المنقول عن عائشة من القدح في عثمان إن كان صحيحا فإما أن يكون صوابا أو خطأ فإن كان صوابا لم يذكر في مساوىء عائشة وإن كان خطأ لم يذكر في مساوىء عثمان والجمع بين نقص عائشة وعثمان باطل قطعا وأيضا فعائشة ظهر منها من التألم لقتل عثمان والذم لقتلته وطلب الانتقام منهم ما يقتضي الندم على ما ينافى ذلك كما ظهر منها الندم على مسيرها إلى الجمل فإن كان ندمها على ذلك يدل على فضيلة على واعترافعها له بالحق فكذلك هذا يدل على فضيلة عثمان واعترافها له بالحق وإلا فلا

وأيضا فما ظهر من عائشة وجمهور الصحابة وجمهور المسلمين من الملام لعلي أعظم مما ظهر منهم من الملام لعثمان فإن كان هذا حجة في لوم عثمان فهو حجة في لوم علي وإن لم يكن حجة في لوم علي فليس حجة في لوم عثمان وإن كان المقصود بذلك القدح في عائشة لما لامت عثمان وعليا فعائشة في ذلك مع جمهور الصحابة لكن تختلف درجات الملام وإن كان المقصود القدح في الجميع في عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة واللائم والملوم قيل نحن لسنا ندعى لواحد من هؤلاء العصمة من كل ذنب بل ندعى أنهم من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين وأنهم من سادات أهل الجنة ونقول إن الذنوب جائزة على من هو أفضل منهم من الصديقين ومن هو أكبر من الصديقين ولكن الذنوب يرفع عقابها بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك وهؤلاء لهم من التوبة والاستغفار والحسنات ما ليس لمن هو دونهم وابتلوا بمصائب يكفر الله بها خطاياهم لم يبتل بها من دونهم فلهم من السعي المشكور والعمل المبرور ما ليس لمن يعدهم وهم بمغفرة الذنوب أحق من غيرهم ممن بعدهم

والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم كحال أهل البدع فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة تريد أن تجعل أحدهم معصوما من الذنوب والخطايا والاخر مأثوما فاسقا أو كافرا فيظهر جهلهم وتناقضهم كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوة موسى أو عيسى مع قدحه في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه فإنه ما من طريق يثبت بها نبوة موسى وعيسى إلا وتثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وتعرض في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام بما هو مثلها أو أقوى منها وكل من عمد إلى التفريق بين المتماثلين أو مدح الشيء وذم ما هو من جنسه أو أولى بالمدح منه أو بالعكس أصابه مثل هذا التناقض والعجز والجهل وهكذا أتباع العلماء والمشايخ إذا أراد أحدهم أن يمدح متبوعه ويذم نظيره أو يفضل أحدهم على الاخر بمثل هذا الطريق فإذا قال العراقي أهل المدينة خالفوا السنة في كذا وكذا وتركوا الحديث الصحيح في كذا وكذا واتبعوا الرأي في كذا وكذا مثل أن يقول عمن يقوله من أهل المدينة إنهم لا يرون التلبية إلى رمى جمرة

العقبة ولا الطيب للمحرم قبل الإحرام ولا قبل التحلل الثاني ولا السجود في المفصل ولا الاستفتاح والتعوذ في الصلاة ولا التسليمتين منها ولا تحريم كل ذي ناب من السباع ولا كل ذي مخلب من الطبر وأنهم يستحلون الحشوش ونحو ذلك مع ما في هذه المسائل من النزاع بينهم فيقول المدنيون نحن أتبع للسنة وأبعد عن مخالفتها وعن الرأي الخطأ من أهل العراق الذين لا يرون أن كل مسكر حرام ولا أن مياه الابار لا تنجس بمجرد وقوع النجاسات ولا يرون صلاة الاستسقاء ولا صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة ولا يحرمون حرم المدينة ولا يحكمون بشاهد ويمين ولا يبدأون في القسامة بأيمان المدعين ولا يجتزؤون بطواف واحد وسعى واحد من القران ويوجبون الزكاة في الخضروات ولا يجيزون الأحباس ولا يبطلون نكاح الشغار ولا نكاح المحلل ولا يجعلون الحكمين بين الزوجين إلا مجرد وكيلين ولا يجعلون الأعمال في العقود بالنيات ويستحلون محارم الله تعالى بأدنى الحيل فيسقطون الحقوق كالشفعة وغيرها بالحيل ويحلون المحرمات كالزنا والميسر والسفاح بالحيل ويسقطون الزكاةبالحيل ولا يعتبرون القصود في العقد ويعطلون الحدود حتى لا يمكن سياسة بلد برأيهم فلا يقطعون يد من يسرق الأطعمة والفاكهة وما أصله الإباحة ولا يحدون أحدا يشرب الخمر حتى يقر أو تقوم عليه بينة ولا يحدونه إذا رئي يستقيها أ وجدت رائحتها منه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه بخلاف ذلك ولا يوجبون القود بالمثقل ولا يفعلون بالقاتل كما فعل بالمقتول بل يكون الظالم قد قطع يدى المظلوم ورجليه وبقر بطنه فيكتفون بضرب عنقه ويقتلون الواحد من خيار المسلمين بقتل واحد كافر ذمى ويسوون بين دية المهاجرين والأنصار وديات الكفار من أهل الذمة ويسقطون الحد عمن وطىء ذات محرمه كأمه وابنته عالما بالتحريم لمجد صورة العقد كما يسقطون بعقد الاستئجار على المنافع ولا يجمعون بين

الصلاتين إلا بعرفة ومزدلفة ولا يستحبون التغليس بالفجر ولا يستحبون القراءة خلف الإمام في صلاة السر ولا يوجبون تبييت نية الصوم على من علم أن غدا من رمضان ولا يجوزون وقف المشاع ولا هبته ولا رهنه ويحرمون الضب والضبع وغيرهما مما أحله الله ورسوله ويحللون المسكر الذي حرمه الله ورسوله ولا يرون أن وقت العصر يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه ويقولون إن صلاة الفجر تبطل بطلوع الشمس ولا يجيزون القرعة ولا يأخذون بحديث المصراة ولا بحديث المشتري إذا أفلس ويقولون إن الجمعة وغيرها تدرك بأقل من رطعة ولا يجيزون القصر في مسيرة يوم أو يومين ويجيزون تأخير بعض الصلوات عن وقتها وكذلك بعض أتباع فقهاء الحديث لو قال بعضهم إنا نحن أتبع إنما نتبع الحديث الصحيح وأنتم تعلمون بالضعيف فقال له الاخرون نحن أعلم بالحديث الصحيح منكم وأتبع له منكمممن يروى عن الضعفاء ما يعتقد صحته ويظن أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت عنه كما يظن ثبوت كون النبي صلى الله عليه وسلم كان في السفر أحيانا يتم الصلاة أو أنه كان يقنت بعد الركوع في الفجر حتى فارق الدنيا أو أنه أحرم بالحج إحراما مطلقا لم ينو تمتعا ولا إفرادا ولا قرانا أو أن مكة فتحت صلحا وأن ما فعله عمر وعثمان وغيرهما من ترك قسمة العقار ينقض وينقض حكم الخلفاء الراشدين والصحابة كعمر وعثمان وعلي وابن عمر وغيرهم في المفقود ويحتج بحديث غير واحد من الضعفاء وأما نحن فقولنا إن الحديث الضعيف خير من الرأي ليس المراد به الضعيف المتروك لكن المراد به الحسن كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث إبراهيم الهجري وأمثالهما ممن يحسن الترمذي إما صحيح وإما ضعيف والضعيف نوعان ضعيف متروك وضعيف ليس بمتروك فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح فجاء من لم يعرف إلا اصطلاح الترمذي فسمع قول بعض الأئمة

الحديث الضعيف أحب إلى من القياس فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه أتبع للحديث الصحيح وهو في ذلك من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه وكذلك شيوخه الزهد إذا أراد الرجل أن يقدح في بعض الشيوخ ويعظم اخر وأولئك أولى بالتعظيم وأبعد عن القدح كمن يفضل أبا يزيد والشبلي وغيرهما ممن يحكى عنه نوع من الشطح على مثل الجنبيد وسهل بن عبد الله التستري وغيرهما ممن هو أولى بالاستقامة وأعظم قدرا وذلك لأن هؤلاء من جهلهم يجعلون مجرد الدعوى العظيمة موجبة لتفضيل المدعى ولا يعلمون أن تلك غايتها أن تكون من الخطأ المغفور لا من السعى المشكور وكان من لم يسلك سبيل العلم والعدل أصابه مثل هذا التناقض ولكن الإنسان كما قال الله تعالى وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما فهو ظالم جاهل إلا من تاب الله عليه

وأما قوله إنها سألت من تولة الخلافة فقالوا على فخرجت لقتاله على دم عثمان فأي ذنب كان لعلي في ذلك فيقال له أولا قول القائل إن عائشة وطلحة والزبير اتهموا عليا بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك كذب بين بل إنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيزوا إلى علي وهم يعلمون أن براءة علي من دم عثمان كبراءتهم وأعظم لكن القتلة كانوا قد أووا إليه فطلبوا قتل القتلة ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعلي لأن القوم كانت لهم قبائل يذبون عنهم والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها وهذا شأن الفتن كما قال تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله وأيضا فقوله أي ذنب كان لعلي في قتله تناقض منه فإنه يزعم أن عليا كان ممن يسحل قتله وقتالهوممن ألب عليه وقام في ذلك فإن عليا رضي الله عنه نسبه إلى قتل عثمان كثير م شيعته ومن شيعة عثمان هؤلاء لبغضهم لعثمان وهؤلاء لبغضهم لعلي وأما جماهير المسلمين فيلعمون كذب الطائفتين على علي والرافضة تقول إن عليا كان ممن يستحل قتل عثمان بل وقتل أبي بكر وعمر وترى أن الإعانة على قتله من الطاعات والقرابات فكيف يقول من هذا اعتقاده أي ذنب كان لعلي على ذلك وإنما يليق هذا التنزيه لعلي بأقوال أهل السنة لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضا وأما قوله وكيف استجار طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك وبأي وجه يلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الواحد منا لم تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة له فيقال هذا من تناقض الرافضة وجهلهم فإنهم يرمون عائشة

بالعظائم ثم منهم من يرميها بالفاحشة التي برأها الله منها وأنزل القران في ذلك ثم إنهم لفرط جهلهم يدعون ذلك في غيرها من نساء الأنبياء فيزعمون أن امرأة نوح كانت بغيا وأن الابن الذي دعاه نوح لم يكن منه وإنما كان منها وإن معنى قوله إنه عمل غير صالح أن هذا الولد من عمل غير صالح ومنهم من يقأ ونادى نوح ابنه يريدون ابنها ويتجون بقوله إنه ليس من أهلك ويتأولون قوله تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما على أن امرأة نوح خانته في فراشه وأنها كانت قحبة وضاهوا في ذلك المنافقين والفاسقين أهل الإفك الذين رموا عائشة بالإفك والفاحشة ولم يتوبوا وفيهم خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أيها الناس من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا والله ما علمت عليه إلا خيرا ومن المعلوم أنه من أعظم أنواع الأذى للإنسان أن يكذب على امرأتهرجل ويقول إنها بغى ويجعل الزوج زوج قحبة فإن هذا من أعظم ما يشتم به الناس بعضهم بعضا حتى أنهم يقولون في المبالغة شتمه بالزاى والقاف مبالغة في شتمه والرمى بالفاحشة دون سائر المعاصى جعل الله فيه حد القذف لأن الأذى الذي يحصل به للمرمى لا يحصل مثله بغيره فإنه لو رمى بالكفر أمكنه تكذيب الرامي بما يظهره من الإسلام بخلاف الرمى بالفاحشة فإنه لا يمكنه تكذيب المفترى بما يضاد ذلك فإن الفاحشة تخفى وتكتم مع تظاهر الإنسان بخلاف ذلك والله تعالى قد ذك من يحب إشاعتها في المؤمنين لما في إشاعتها من أذى الناس وظلمهم ولما في ذلك من إغراء النفوس بها لما فيها من التشبه والاقتداء فإذا رأى الانسان أن غيره فعلها تشبه به ففي القذف بها من الظلم والفواحش ما ليس في القذف بغيرها لأن النفوس تشتهيها بخلاف الكفر والقتل ولأن إظهار الكفر والقتل فيه التحذير للنفوس من

مضرة ذلك فمصلحة إظهار فعل فاعله في الجملة راجحة على مصلحة كتمان ذلك ولهذا يقبل فيه شاهدان ويقام الحد فيه بإقراره مرة واحدة بخلاف الفاحشة فإنها لا تثبت إلا بأربعة شهداء بالاتفاق ولا تثبت بالإقرار إلا بإقرار أربع مرات عند كثير من العلماء والرجل يتأذى برمي امرأته بالفاحشة كما يتأذى بفعل امرأته للفاحشه ولهذا شرع له الشارع اللعان إذا قذف امرأته وأن يدفع عنه حد القذف باللعان دون غيره فإنه إذا قذف محصنة لم يكن بد من إقامة الشهادة وإما الحد إن طلب ذلك المقذوف ولهذا لو قذفت إمرأة غير محصنة ولها زوج محصن وجب حد القذف على القاذف في أحد قولى العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد فهذه الشواهد الشرعية والعرفية مما يبين أن تأذى الإنسان برمى امرأته بالفاحشة أعظم من تأذيه بإخراجها من منزلها لمصلحة عامة يظنها المخرج مع أن طلحة والزبير لم يخرجاها من منزلها بل لما قتل عثمان رضي اله عنه كانت عائشة بمكة ولم تكن بالمدينة ولم تشهد قتله فذهب طلحة والزبير فاجتمعا بها في مكة

وهؤلاء الرافضة يرمون أزواج الأنبياء عائشة وامرأة نوح بالفاحشة فيؤذون نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء من الأذى بما هو من جنس أذى المنافقين المكذبين للرسل ثم ينكرون على طلحة والزبير أخذهما لعائشة معهما لما سافرا معها من مكة إلى البصرة ولم يكن في ذلك ريبة فاحشة بوجه من الوجوه فهل هؤلاء إلا من أعظم الناس جهلا وتناقضا وأما أهل السنة فعندهم أنه ما بغت امرأة نبي قط وأن ابن نوح كان ابنه كما قال تعالى وهو أصدق القائلين ونادى نوح ابنه وكما قال نوح يا بنى اركب معنا وقال إن ابنى من أهلي فالله ورسوله يقولان إنه ابنه وهؤلاء الكذابون المفتورن المؤذون للأنبياء يقولون إنه ليس ابنه والله تعالى لم يقل إنه ليس ابنك ولكن قال إنه ليس من أهلك وهو سبحانه وتعالى قال قلنا إحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ثم قال ومن امن أي واحمل من امن فلم يأمره بحمل أهله كلهم بل استثنة من سبق عليه القول منهم وكان ابنه قد سبق عليه القول ولم يكن نوح يعلم ذلك فلذلك قال رب إن ابنى من أهلى ظانا

أنه دخل في جملة من وعد بنجاتهم ولهذا قال من قال من العلماء إنه ليس من أهلك الذين وعدت بإنجائهم وهو وإن كان من الأهل نسبا فليس هو منهم دينا والكفر قطع الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما نقول إن أبا لهب ليس من ال محمد ولا من أهل بيته وإن كان من أقاربه فلا يدخل في قولنا اللهم صلى على محمد وعلى ال محمد وخيانة امرأة نوح لزوجها كانت في الدين فإنها كانت تقول إنه مجنون وخيانة امرأة لوظ أيضا كانت في الدين فإنها كانت تدل قومها على الأضياف وقومها كانوا يأتون الذكران لم تكن معصيتهم الزنا بالنساء حتى يزن أنها أتت فاحشة بل كانت تعينهم على المعصية وترضى عملهم ثم من جهل الرافضة أنهم يعظمون أنساب الأنبياء اباءهم وأبناءهم ويقدحون في أزواجهم كل ذلك عصبية واتباع هوى حتى يعظمون فاطمة والحسن والحسين ويقدحون في عائشة أم المؤمنين فيقولون أو من يقول منهم إن ازر أبا إبراهيم كان مؤمنا وإن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم كانا مؤمنين حتى لا يقولون إن النبي يكون أبوه

كافرا فإذا كان أبوه كافرا أمكن أن يكون ابنه كافرا فلا يكون في مجرد النسب فصيلة وهذا مما يدفعون به أن ابن نوح كان كافرا لكونه ابن نبى فلا يجعلونه كافرا مع كونه ابنه ويقولون أيضا إن أبا طالب كان مؤمنا ومنهم من يقول كان اسمه عمران وهو المذكور في قوله تعالى إن الله اصطفى ادم ونوحا وال إبراهيم وال عمران على العالمين وهذا الذي فعلوه مع ما فيه من الافتراء والبهتان ففيه من التناقض وعدم حصول حقصودهم مالا يخفى وذلك أن كون الرجل أبيه أو ابنه كافرا لا ينقصه ذلك عند الله شيئا فإن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحى ومن المعلوم أن الصحابة أفضل من ابائهم وكان اباؤهم كفارا بخلاف من كونه زوج بغى قحبة فإن هذا من أعظم ما يذم به ويعاب لأن مضرة ذلك تدخل عليه بخلاف كفر أبيه أو ابنه وأيضا فلو كان المؤمن لا يلد إلا مؤمنا لكان بنو ادم كلهم مؤمنين وقد قال تعالى واتل عليهم نبأ ادم بالحق إذقربا قربانا فتقبل منأحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين إلى اخر القصة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن ادم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل وأيضا فهم يقدحون في العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تواتر إيمانه ويمدحون أبا طالب الذي مات كافرا باتفاق أهل العلم كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ففي الصحيحين عن المسيب بن حزن قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم

يعرضها عليه ويعود له وفي رواية ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب اخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبي أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله تعالى ما كان للنبي والذين امنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وأنزل في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا وقال فيه قال أبو طالب لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى إنك لا تهدي من أحببت وفي الصحيحين عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فقال نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من الناروفي حديث أبي سعيد لما ذكر عنده قال لعله تنفعه شفاعتي فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ معيبه يغلى منهما دماغه أخرجاه في الصحيحين وأيضا فإن الله لم يثن على أحد بمجرد نسبه بل إنما يثنة عليه بإيمانه وتقواه كما قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن كان الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح فالمعدن هو مظنة حصول المطلوب فإن لم يحصل وإلا كان المعدن الناقص الذي يحصل منه المطلوب خيرا منه وأيضا من تناقفضهم أنهم يعظمون عائشة في هذا المقام طعنا في

طلحة والزبير ولا يعلمون أن هذا إن كان متوجها فالطعن في علي بذلك أوجه فإن طلحة والزبير كانا معظمين عائشة موافقين لها مؤتمرين بأمرها وهما وهي من أبعد الناس عن الفواحش والمعاونة عليها فإن جاز لرافضي أن يقدح فيهما يقول بأي وجه تلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره حتى أخرجها من منزلها وسافر بها مع أن ذلك إنما جعلها بمنزلة الملكة التي يأتمر بأمرها ويطيعها ولم يكن أخراجها لمظان الفاحشة كان لنا صبي أن يقول بأي وجه يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاتل امرأته وسلط عليها أعوانه حتى عقروابها بعيرها وسقطت من هودجها وأعداؤها حولها يطوفون بها كالمسبية التي أحاط به من يقصد سباءها ومعلوم أن هذا في مظنة الإهانة لأهل الرجل وهتكها وسبائها وتسليط الأجانب على قهرها وإذلالها وسبيها وامتهانها أعظم من إخراجها من منزلها بمنزلة الملكة العظيمة المبجلة التي لا يأتى

إليها أحد إلا بإذنها ولا يهتك أحد سترها ولا ينظر في خدرها ولم يكن طلحة والزبير ولا غيرهما من الاجانب يحملونها بل كان في العسكر من محارمها مثل عبد الله بن الزبير ابن أختها وخلوة ابن الزبير بها ومسه لها جائز بالكتاب والسنة والإجماع وكذلك سفر المرأة مع ذي محرمها جائز بالكتاب والسنة والإجماع وهي لم تسافر إلا مع ذي محرم منها وأما العسكر الذين قاتلوها فلولا أنه كان في العسكر محمد بن أبي بكر مد يده إليها لمد يده إليها الأجانب ولهذا دعت عائشة رضي الله عنها على من مد يده إليها وقالت يد من هذه أحرقها الله بالنار فقال أي أخيه في الدنيا قبل الاخرة فقالت في الدنيا قبل الاخرة فأحرق بالنار بمصر ولو قال المشنع أنتم تقولون إن ال الحسين سبوا لما قتل الحسين ولم يفعل بهم إلا من جنس ما فعل بعائشة حيث استولى عليها وردت إلى بيتها وأعطيت نفقها وكذلك ال الحسين استولى عليهم وردوا إلى أهليهم وأعطوا نفقة فإن كان هذا سببا واستحلالا للحرمة النبوية فعائشة قد سببت واستحلت حرمة رسول الله صلى الله عليه

وسلم وهم يشنعون ويزعمون أن بعض أهل الشام طلب أن يسترق فاطمة بنت الحسين وأنها قالت لا ها لله حتى تكفر بديننا وهكذا إن كان وقع فالذين طلبوا من على رضي الله عنه أن يسبى من قاتلهم من أهل الجمل وصفين ويغنموا أموالهم أعظم جرما من هؤلاء وكان في ذلك لو سبوا عائشة وغيرها ثم إن هؤلاء الذين كلبوا ذلك من على كانوا متدينين به مصرين عليه إلى أن خرجوا على علي وقاتلهم على ذلك وذلك الذي كلب استرقاق فاكمة بنت الحسين واحد مجهول لا شوكة له ولا حجة ولا فعل هذا تدينا ولما منعه سلطانه من ذلك امتنع فكان المستحلون لدماء المؤمنين وحرمهم وأموالهم وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عسكر فإن الخوارج الذين مرقوا من عسكر على رضي الله عنه هم شر من شرار عسكر معاوية رضي الله عنه ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلاهم وأجمع الصحابة والعلماء على قتالهم والرافضة أكذب منهم وأظلم وأجهل وأقرب إلى الكفر والنفاق لكنهم أعجز منهم وأذل وكلا الطائفتين من عسكر على وبهذا

وأمثاله ضعف على وعجز عن مقاومة من كان بإزائه والمقصود هنا أن ما يذكرونه من القدح في طلحة والزبير ينقلب بما هو أعظم منه في حق علي فإن أجابوا عن ذلك بأن عليا كان مجتهدا فيما فعل وأنه أولى بالحق من طلحة والزبير قيل نعم وطلحة والزبير كانا مجتهدين وعلى وإن كان أفضل منهما لكن لم يبلغ فعلهما بعائشة رضي الله عنها ما بلغ فعل علي فعلى أعظم قجرا منهما ولكن إن كان فعل طلحة والزبير معها ذنبا ففعل على أعظم ذنبا فتقاوم كبر القدر وعظم الذنب فإن قالوا هما أخوجا عليا إلى ذلك لأنهما أتيا بها فما فعله على مضاف إليهما لا إلى علي قيل وهكذا معاوية لما قيل له قد قتل عمار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم تقتلك الفئة الباغية قال أو نحن قتلناه إنما قتله الذين جاءوا به حتى جعلوه تحت سيوفنا فإن كانت هذه الحجة مردودة فحجة من احتج بأن طلحة والزبير هما فعلا بعائشة ما جرى

عليها من إهانة عسكر على لها واستيلائهم عليها مردودة أيضا وإن قبلت هذه الحجة قبلت حجة معاوية رضي الله عنه والرافضة وأمثالهم من أهل الجهل والظلم يحتجون بالحجة التي تستلزم فساد قولهم وتناقضهم فإنه إن احتج بنظيرها عليهم فسد قولهم المنقوض بنظيرها وإن لم يحتج بنظيرها بطلت هي في نفسها لأنه لا بد من التسوية بين المتماثلين ولكن منتهاهم مجرد الهوى الذي لا علم معه ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين وجماهير أهل السنة متفقون على أن عليا أفضل من طلحة والزبير فضى عن معاوية وغيره ويقولون إن المسلنين لما افترقوا في خلافته فطائفة قاتلته وطائفة قاتلت معه كان هو وأصحابه أولى الطائفتين بالحق كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق هؤلاء هم الخوارج المارقون الذين مرقوا فقتلهم علي وأصحابه فعلم أنهم كانوا أولى بالحق من معاوية رضي الله عنه وأصحابه لكن أهل السنة يتكلمون بعلم وعدل ويعطون كل ذي حق حقه

وأما قوله كيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين وساعدوها على حرب أمير المؤمنين ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كلبت حقها من أبي بكر رضي الله عنه ولا شخص واحد كلمه بكلمة واحدة فيقال أولا هذا من أعظم الحجج عليك فإنه لا يشك عاقل أن القوم كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونه ويعظمون قبيلته وبنته أعظم مما يعظمون أبا بكر وعمر ولو لم يكن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف إذا كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم ولا يستريب عاقل أن العرب قريشا وغير قريش كانت تدين لبني عبد مناف وتعظمهم أعظم مما يعظمون بني تيم وعدي ولهذا لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر قبل لأبي قحافة مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حدث عظيم فمن ولى بعده قالوا أبو بكر

قال أو رضيت بنو عبد مناف وبنو مخزوم قالوا نعم قال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء أو كما قال ولهذا جاء أبو سفيان إلى على فقال أرضيتم أن يكون هذا الأمر في بني تيم فقال يا أبا سفيان إن أمر الإسلام ليس كأمر الجاهلية أو كما قال فإذا كان المسلمون كلهم ليس فيهم من قال إن فاطمة رضي الله عنها مظلومة ولا أن لها حقا عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا أنهما ظلماها ولا تكلم أحد في هذا بكلمة واحدة دل ذلك على أن القوم كانوا يعلمون أنها ليست نظلمة إذ لو علموا أنها مظلومة لكان تركهم لنصرتها إما عجزا عن نصرتها وإما إهمالا وإضاعة لحقها وإما بغضا فيها إذ الفعل الذي يقدر عليه الإنسان إذا أراده إرادة جازمة فعله لا محالة فإذا لم يرده مع قيام المقتضى لإرادته فإما أن يكون جاهلا به أو له معارض يمنعه من إرادته فلو كانت مظلمة مع شرفها وشرف قبيلها وأقاربها وأن أباها أفضل الخلق وأحبهم إلى أمته وهم يعلمون أنها مظلومة لكانوا إما عاجزين عن نصرتهما وإما أن يكون لهم معارض عارض إرادة النصر من بغضها وكلا الأمرين باطل فإن

القوم ما كانوا كلهم عاجزين أن يتكلم واحد منهم بكلمة حق وهم كانوا أقدر على تغيير ما هو أعظم من هذا وأب بكر لم يكن ممتنعا من سماع كلام أحد منهم ولا هو معروفا بالظلم والجبروت واتفاق هؤلاء كلهم مع توفر دواعيهم على بغض فاطمة مع قيام الأسباب الموجبة لمحبتها مما يعلم بالضرورة امتناعه وكذلك على رضى الله عنه لا سيما وجمهور قريش والأنصار والمسلمين لم يكن لعلى إلى أحد منهم إساءة لا في الجاهلية ولا في الإسلام ولا قتل أحدا من أقاربهم فإن الذين قتلهم علي لم يكونوا من أكبر القبائل وما من أحد من الصحابة إلا وقد قتل أيضا وكان عمر رضي الله عنه أشد على الكفار وأكثر عداوة لهم من علي فكلامهم فيه وعداوتهم له معروفة ومع هذا تولى عليهم فما مات إلا وكلهم يثنى عليه خيرا ويدعو له ويتوجع لمصاب المسلمين به وهذا وغيره مما يبين أن الأمر على نقيض ما تقوله الرافضة من أكاذيبهم وأن القوم كانوا يعلمون أن فاطمة لم تكن مظلومة أصلا فكيف ينتصر القوم لعثمان حتى سفكوا دماءهم ولا ينتصرون لمن هو

أحب إليهم من عثمان وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وكيف يقاتلون مع معاوية حتى سفكت دماؤهم معه وقد اختلف عليه بنو عبد مناف ولا يقاتلون مع علي وبنو عبد مناف معه فالعباس بن عبد المطلب أكبر بني هاشم وأبو سفيان بن حرب أكبر بني أمية وكلاهما كانا يميلان إلى علي فلم لا قاتل الناسمعه إذ ذاك والأمر في أوله والقتال إذ ذاك لو كان حقا كان مع علي أولى وولاية على أسهل فإنه لو عرض نفر قليل فقالوا الأمر لعلي وهو الخليفة والوصي ونحن لا نبايع إلا له ولا نعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نظلم وصيه وأهل بيته ولا نقدم الظالمين أو المنافقين من ال تيم على بني هاشم الذين هم خيرنا في الجاهلية والإسلام لكان القائل لهذا يستجيب له جمهور الناس بل يستجيبون له إلا القليل لا سيما وأبوبكر ليس عنده رغبة ولا رهبة وهب أن عمر وطائفة معه كانوا يشذون معه فليس هؤلاء أكثر ولا أعز من الذين كانوا مع معاوية رضي الله عنه ومع طلحة والزبير رضي الله عنهما ومع هذا فقد قاتلهم أعوان علي مع كونهم دون السابقين الأولين في العلم والدين وفيهم قليل من السابقين الأولين فهلا

قاتلهم من هو أفضل من هؤلاء إذ كان إذ ذاك علي على الحق وعدوه على الباطل مع أن وليه إذ ذاك أكثر وأعز وأعظم علما وإيمانا وعدوه إذ ذاك إن كان عدوا أذل وأعجز وأضعف علما وإيمانا وأقل عدوانا فإنه لو كان الحق كما تقوله الرافضة لكان أبو بكر وعمر والسابقون الأولون من شرار أهل الأرض وأعظمهم جهلا وظلما حيث عمدوا عقب موت نبيهم صلى الله عليه وسلم فبدلوا وغيروا وظلموا الوصي وفعلوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تفعله اليهود والنصارى عقب موت موسى والمسيح عليهما الصلاة والسلام فإن اليهود والنصارة لم يفعلوا عقب موت أنبيائهم ما تقوله الرافضة إن هؤلاء فعلوه عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم وعلى قولهم تكون هذه الأمة شر أمة أخرجت للناس ويكون سابقوها شرارها وكل هذا مما يعلم بالاضطرار فساده من دين الإسلام وهو مما يبين أن الذي ابتدع مذهب الرافضة كان زنديقا ملحدا عدوا لدين الإسلام وأهله ولم يكن من أهل البدع المتأولين كالخوارج والقدرية وإن كان قول الرافضة راج بعد ذلك على قوم فيهم إيمان لفرط جهلهم ومما يبين ذلك أن يقال أي داع كان للقوم في أن ينصروا عائشة بنت أبي بكر ويقاتلوا معها عليا منا ذكروا ولا ينصرون فاطمة بنت رسول

الله صلى الله عليه وسلم ويقاتلون معها ومع زوجها الوصي أبا بكر وعمر فإن كان القوم الذين فعلوا هذا يحبون الرياسة ويكرهون إمارة علي عليهم كان حبهم للرياسة يدعوهم إلى قتال أبي بكر بطريق الأولى فإن رياسة بيت علي أحب اليهم من رياسة بيت أبي بكر ولهذا قال صفوان بن أمية يوم حنين لما ولوا مدبرين وقال بعض الطلقاء والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من ثقيف وصفوان رأس الطلقاء كان أن يريه رجل من بني عبد مناف أحب إليه من أن يربه رجل من بني تيم فحب الرياسة إذا كان هو الداعي كان يدعوهم إلى تقديم بني هاشم على بني تيم باتفاق العقلاء ولو لم يقدموا عليا لقدموا العباس فإن العباس كان أقرب إلى موافقتهم على المطالب الدنيوية من أبي بكر فإن كانوا قد أقدموا على ظلمالوصى الهاشمي لئلا يحملهم على الحق الذي يكرهونه كان تقديم من يحصل مطالبهم مع الرياسة الهاشمية وهو العباس أولى وأحرى من أبي بكر الذي لا يعينهم على مطالبهم كإعانة العباس ويحملهم على الحق المر أكثر ما يحملهم عليه على فلو كره من علي حق مر لكان ذلك من أبي بكر أكره ولو أريد من أبي بكر دنيا حلوة لكان طلبها عند العباس وعلى أقرب فعدولهم عن علي وعن العباس وغيرهما إلى أبي بكر دليل على أن القوم وضعوا الحق في نصابه وأقروه في إهابه وأتوا الأمر الأرشد من بابه وأنهم علموا أن الله ورسوله كانا يرضيان تقديم أبي بكر رضي الله عنه وهذا أمر كن معلوما لهم علما ظاهرا بينا لما رأوه وسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مدة صحبتهم له فعلموا من تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بطول المشاهدة والتجربة والسماع ما أوجب تقديمه وطاعته ولهذا قال عمر رضي الله عنه ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر أراد أن فضيلته على غيره ظاهرة مكشوفة لا تحتاج إلى بحث ونظر

ولهذا قال له بمحضر من المهاجرين والأنصار أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقرونه على ذلك ولا ينازعه منهم أحد حتى أن المنازعين في الخلافة من الأنصار لم ينازعوا في هذا ولا قال أحد بل على أو غيره أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خير منه أو أفضل ومن المعلوم أنه يمتنع في العادة لا سيما عادة الصحابة المتضمنة كمال دينهم وقولهم بالحق ألا يتكلم أحد منهم بالحق المتضمن تفضيل علي بل كلهم موافقون على تفضيل أبي بكر من غير رغبة فيه ولا رهبة.
*

فصل
قال الرافضي وسموها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك ولم يسموا أخاها محمد بن أبي بكر مع عظم شأنه وقرب منزلته من أبيه وأخته عائشة أم المؤمنين فلم يسموه خال المؤمنين وسموا معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين لأن أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأخت محمد بن أبي بكر وأبوه أعظم من أخت معاوية ومن أبيها.
*والجواب أن يقال أما قوله إنهم سموا عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك فهذا من البهتان الواضح الظاهر لكل أحد وما أدرى هل هذا الرجل وأمثاله يتعمدون الكذب أم أعمى الله أبصارهم لفرط هواهم حتى خفى عليهم أن هذا كذب وهم ينكرون على بعض النواصب أن الحسين لما قال لهم أما تعلمون أني ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا والله ما نعلم ذلك وهذا لا يقوله ولا يجحد

نسب الحسين إلا متعمد للكذب والافتراء ومن أعمى الله بصيرته باتباع هواه حتى يخفى عليه مثل هذا. فإن عين الهوى عمياء والرافضة أعظم جحدا للحق تعمدا وأعمى من هؤلاء فإن منهم ومن المنتسبين إليهم كالنصيرية وغيرهم من يقول إن الحسن والحسين ما كانا أولاد علي بل أولاد سلمان الفارسي ومنهم من يقول إن عليا لم يمت وكذلك يقولون عن غيره. ومنهم من يقول إن أبا بكر وعمر ليسا مدفونين عند النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من يقول إن رقية وأم كلثوم زوجتي عثمان ليستا بنتى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هما بنتا خديجة من غيره ولهم في المكابرات وجحد المعلومات بالضرورة أعظم مما لأولئك النواصب الذين قتلوا الحسين وهذا مما يبين أنهم أكذب وأظلم وأجهل من قتلة الحسين وذلك أنه من المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم المؤمنين عائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة وسودة بنت زمعة وميمونة بنت الحارث الهلالية وجويرية بنت الحارث المصطلقية وصفية بنت حي بن

أخطب الهارونية رضي الله عنهن وقد قال الله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهذا أمر معلوم للأمة علما عاما وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره وعلى وجوب احترامهن فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية فلا يجوز لغير أقاربهن الخلوة بهن ولا السفر بهن كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارمه ولهذا أمرن بالحجاب فقال الله تعالى يا أيها النبي قل لآزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وقال تعالى وإذا سألتموهن متاعا فأسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ولما كن بمنزلة الأمهات في حكم التحريم دون المحرمية تنازع العلماء في إخوتهن هل يقال لأحدهم خال المؤمنين فقيل يقال لأحدهم خال المؤمنين وعلى هذا فهذا الحكم لا يختص بمعاوية بل يدخل في ذلك عبد الرحمن ومحمد ولدا أبي بكر وعبد الله وعبيد الله وعاصم أولاد عمر ويدخل في ذلك عمرو بن الحارث بن أبي ضرار أخو جزيرية بنت الحارث ويدخل في ذلك عتبة بن أبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان أخوا معاوية

ومن علماء السنة من قال لا يطلق على إخوة الأزواج أنهم أخوال المؤمنين فإنه لو أطلق ذلك لأطلق على أخواتهن أنهن خالات المؤمنين ولو كانوا أخوالا وخالات لحرم على المؤمنين أن يتزوج أحدهم خالته وحم على المرأة أن تتزوج خالها وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يجوز للمؤمنين والمؤمنات أن يتزوجوا أخواتهن وإخوتهن كما تزوج العباس أم الفضل أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين وولد له منها عبد الله والفضل وغيرهما وكما تزوج عبد الله بن عمر وعبيد الله ومعاوية وعبد الرحمن بن أبي بكر ومحمد بن أبي بكر من تزوجوهن من المؤمنات ولو كانوا أخوالا لهن لما جاز للمرأة أن تتزوج خالها قالوا وكذلك لا يطلق على أمهاتهن أنهن جدات المؤمنين ولا على ابائهن أنهم أجدد المؤمنين لأنه لم يثبت في حق الأمهات جميع أحكام النسب وإنما ثبت الحرمة والتحريم وأحكام النسب تتبعض كما يثبت بالرضاع التحريم والمحرمية ولا يثبت بها سائر أحكام النسب وهذا كله متفق عليه والذين أطلقوا على الواحد من أولئك أنه خال المؤمنين لم ينازعوا

في هذه الأحكام ولكن قصدوا بذلك الإطلاق أن لأحدهم مصاهرة مع النبي صلى الله عليه وسلم واشتهر ذكرهم لذلك عن معاوية رضي الله عنه كما اشتهر أنه كاتب الوحي وقد كتب الوحي غيره وأنه رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أردف غيره فهم لا يذكرون ما يذكرون من ذلك لاختصاصه به بل يذكرون ما له من الاتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم كما يذكرون في فضائل غيره ما ليس من خصائصه كقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الل هعنه لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وقوله إنه لعهد النبي الأمي إلى أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق وقوله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فهذه الأمور ليست من خصائص علي لكنها من فضائله ومناقبه التي تعرف بها فضيلته واشتهر رواية أهل السنة لها ليدفعوا بها قدح من قدح في علي وجعلوه كافرا أو ظالما من الخوارج وغيرهمومعاوية أيضا لما كان له نصيب من الصحبة والاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم وصار أقوام يجعلونه كافرا أو فاسقا ويستحلون لعنته ونحو ذلك احتاج أهل العلم أن يذكروا ما له من الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم ليرعى بذلك حق المتصلين برسول الله صلى الله عليه وسلم بحسب درجاتهم وهذا القدر لو اجتهد فيه الرجل واخطأ لكان خيرا ممن اجتهد في بغضهم وأخطأ فإن باب الإحسان إلى الناس والعفو عنهم مقدم على باب الإساءة والانتقام كما في الحديث ادرؤوا الحدود بالشبهات فإن اإمام أن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة وكذلك يعطى المجهول الذي يدعى الفقر من الصدقة كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجلين سألاه فراهما جلدين فقال إن شئتما أعكيتكما ولاحظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب وهذا لأن

إعطاء الغنى خير من حرمان الفقير والعفو عن المجرم خير من عقوبة البرىء فإذا كان هذا في حق احاد الناس فالصحابة أولى أن يسلك بهم هذا فخطأ المجتهد في الإحسان إليهم بالدعاء والثناء عليهم والذب عنهم خير من خطائه في الإساءة إليهم باللعن والذم والطعن وما شجر بينهم غايته أن يكون ذنبا والذنوب مغفورة بأسباب متعددة هم أحق بها ممن بعدهم وما تجد أحدا قدح فيهم إلا وهو يعظم عما هو أكبر من ذلك من زلات غيرهم وهذا من أعظم الجهل والظلم وهؤلاء الرافضة يقدحون فيهم بالصغائر وهم يغضون عن الكفر والكبائر فيمن يعاونهم من الكفار والمنافقين كاليهود والنصارى والمشركين والإسماعيلية والنصرية وغيرهم فمن ناقش المؤمنين على

الذنوب وهو لا يناقش الكفار والمنافقين على كفرهم ونفاقهم بل وربما يمدحهم ويعظمهم دل على أنه من أعظم الناس جهلا وظلما إن لم ينته به جهله وظلمه إلى الكفر والنفاق ومما يبين تناقضهم أنه ذكر معاوية ومحمد بن أبي بكر وأنهم سموا هذا خال المؤمنين ولم يسموا هذا خال المؤمنين ولم يذكر بقية من شاركهما في ذلك وهم أفضل منهما كعبد الله بن عمر بن الخطاب وأمثاله وقد بينا أن أهل السنة لا يخصون معاوية رضي الله عنه بذلك وأما هؤلاء الرافضة فخصوا محمد بن أبي بكر بالمعارضة وليس هو قريبا من عبد الله بن عمر في عمله ودينه بل ولا هو مثل أخيه عبد الرحمن بل عبد الرحمن له صحبة وفضيلة ومحمد بن أبي بكر إنما ولد عام حجة الوداع بذي الحليفة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم سنة ولم يدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا خمس ليال من ذي القعدة وذا الحجة والمحرم وصفر وأوائل شهر ربيع الأول ولا يبلغ ذلك أربعة أشهر ومات أبوه أبو بكر رضي الله عليه وسلم ولا قرب منزلة من أبيه إلا كما صحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا قرب منزلة من أبيه إلا كما يكون لمثله من الأطفال وتزوج على بعد أبي بكر بأمه أسماء بنت عميس فكان ربيب على وكان اختصاصه بعلي لهذا السبب

ويقال إنه أتى حدا فجلده عثمان عليه فبقى في نفسه على عثمان لما كان في نفسه من تشرفه بأبيه أبي بكر فلما قام أهل الفقتنه على عثمان قالوا إنه كان معهم وإنه دخل عليه وأخذ بلحيته وأن عثمان قال له لقد أخذت مأخذا عظيما ما كان أبوك ليأخذه ويقال إنه رجع لما قال له ذلك وأن الذي قتل عثمان كان غيره ثم إنه كان مع علي في حروبه وولاه مصر فقتل بمصر قتله شيعة هثمان لما كانوا يعلمون أنه كان من الخارجين عليه وحرق في بطن حمار قتله معاوية بن حديج والرافضة تغلو في تعظيمه على عادتهم الفاسدة في أنهم يمدحون رجال الفتنة الذين قاموا على عثمان ويبالغون في مدح من قاتل مع علي حتى يفضلون محمد بن أبي بكر على أبيه أبي بكر فيلعنون أفضل الأمة بعد نبيها ويمدحون ابنه الذي ليس له سحبة ولا سابقة ولا فضيلة ويتناقضون في ذلك في تعظيمالإنسان فإن كان الرجل لا يضره كفر أبيه أو فسقه لم يضر نبينا ولا إبراهيم ولا عليا كفر ابائهم وإن ضره لزمهم أن يقدحوا في محمد بن أبي بكر بأبيه وهم يعظمونه وابنه القاسم بن محمد وابن ابنه عبد الرحمن بن القاسم خير عند المسلمين منه ولا يذكرونهما بخير لكونهما ليسا من رجال الفتنة وأما قوله وعظم شأنه فإن أراد عظم نسبه فالنسب لا حرمة له عندهم لقدحهم في أبيه وأخته وأما أهل السنة فإنما يعظمون بالتقوى لا بمجرد النسب قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن أراد عظم شأنه لسابقته وعجرته ونصرته وجهاده فهو ليس من الصحابة لا من المهاجرين ولا الأنصار وإن أراد بعظم شأنه أنه كان من أعلم الناس وأدينهم فليس الأمر كذلك وليس هو معدودا

من أعيان العلماء والصالحين الذين في طبقته وإن أراد بذلك شرفه في المنزلة لكونه كان له جاه ومنزلة ورياسة فمعاوية كان أعظم جاها ورياسة ومنزلة منه بل معاوية خير منه وأعلم وأدين وأحلم وأكرم فإن معاوية رضي الله عنه روى الحديث وتكلم في الفقه وقد روى أهل الحديث حديثه في الصحاح والمساند وغيرها وذكر بعض العلماء بعض حديثه في الصحاح والمساند وغيرها وذكر بعض العلماء بعض فتاويه وأقضيته وأما محمد بن أبي بكر فليس له ذكر في الكتب المعتمدة في الحديث والفقه وأما قوله وأخت محمد وأبوه أعظم من أخت معاوية وأبيها فيقال هذه الحجة باطلة على الأصلين وذلك أن أهل السنة لا يفضلون الرجل إلا بنفسه فلا ينفع محمدا قربه من أبي بكر وعائشة ولا يضر معاوية أن يكون ذلك أفضل نسبا منه وهذا أصل معروف لأهل السنة كما لم يضر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا كبلال وصهيب وخباب وأمثالهم أنيكون من تأخر عنهم من الطلقاء وغيرهم كأبي سفيان بن حرب وابنيه معاوية ويزيد وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونحوهم أعظم نسبا منهم فإن هؤلاء من بني عبد مناف أشرف بيتا وأولئك ليس لهم نسب شريف ولكن فضلوهم بما فضل الله به من أنفق من قبل الفتح وقاتل على الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا فكيف على من بعد هؤلاء وأما الرافضة فهم إذا اعتبروا النسب لزمهم أن يكون محمد بن أبي بكر عندهم شر الناس نسبا لقبح قولهم في أبيه وأخته فعلى أصلهم لا يجوز تفضيله بقربه منهما وإن ذكروا ذلك على طريق الإلزام لأهل السنة فهم يفضلون من فضله الله حيث يقول إن أكرمكم عند الله أتقاكم.

*

فصل
قال الرافضي مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن معاوية الطليق بن الطليق اللعين بن اللعين وقال إذا رأيتهم معاوية على منبري فاقتلوه. وكان من المؤلفة قلوبهم وقاتل عليا وهو عندهم رابع الخلفاء إمام حق وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم. قال وسبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعلي عليه السلام ومفارقته لأبيه وبغض معاوية لعلي ومحاربته له. وسموه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي، بل كان يكتب له رسائل وقد كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر نفسا يكتبون الوحي أولهم وأخصهم وأقربهم إليه علي بن أبي طالب عليه السلام. مع أن معاوية لم يزل مشركا بالله تعالى في مدة كون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثا يكذب بالوحي ويهزأ بالشرع.
*والجواب أن يقال أما ما ذكره من أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن معاوية وأمر بقتله إذا رؤى على المنبر فهذا الحديث ليس في شيء من كتب الإسلام التي يرجع إليها في علم النقل، وهو عند أهل المعرفة بالحديث كذب موضوع مختلق على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الرافضي الراوي لا يذكر له إسنادا حتى ينظر فيه وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات، ومما يبين كذبه أن منبر النبي صلى الله عليه وسلم قد صعد عليه بعد معاوية من كان معاوية خيرا منه باتفاق المسلمين فإن كان يجب قتل من صعد عليه لمجرد الصعود على المنبر وجب قتل هؤلاء كلهم. ثم هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام فإن مجرد صعود المنبر لا يبيح قتل مسلم وإن أمر بقتله لكونه تولى الأمر وهو لا يصلح

فيجب قتل كل من تولى الأمر بعد معاوية ممن معاوية أفضل منه، وهذا خلاف ما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن قتل ولاة الأمور وقتالهم كما تقدم بيانه. ثم الأمة متفقة على خلاف هذا فإنها لم تقتل كل من تولى أمرها ولا استحلت ذلك. ثم هذا يوجب من الفساد والهرج ما هو أعظم من ولاية كل ظالم فكيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء يكون فعله أعظم فسادا من تركه؟.وأما قوله إنه الطليق ابن الطليق فهذا ليس نعت ذم فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح الذين أسلموا عام فتح مكة وأطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا نحوا من ألفي رجل. وفيهم من صار من خيار المسلمين كالحارث بن هشام وسهل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل ويزيد بن أبي سفيان وحكيم بن حزام وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يهجره ثم حسن أسلامه وعتاب بن أسيد الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة لما فتحها وغير هؤلاء ممن حسن إسلامه.

ومعاوية ممن حسن إسلامه باتفاق أهل العلم ولهذا ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه موضع أخيه يزيد بن أبي سفيان لما مات أخوه يزيد بالشام. وكان يزيد بن أبي سفيان من خيار الناس وكان أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر وعمر لفتح الشام يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حسنة وعمرو بن العاص مع أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد. فلما توفي يزيد بن أبي سفيان ولى عمر مكانه أخاه معاويه وعمر لم يكن تأخذه في الله لومة لائم وليس هو ممن يحابى في الولاية ولا كان ممن يحب أبا سفيان أباه بل كان من أعظم الناس عداوة لأبيه أبي سفيان قبل الإسلام، حتى أنه لما جاء به العباس يوم فتح مكة كان عمر حريصا على قتله حتى جرى بينه وبين العباس نوع من المخاشنة بسبب بغض عمر لأبي سفيان فتولية عمر لابنه معاوية ليس لها سبب دنيوي ولولا استحقاقه للإمارة لما أمره. ثم إنه بقى في الشام عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة ورعيته من أشد الناس محبة له وموافقة له وهو من أعظم الناس إحسانا إليهم وتأليفا لقلوبهم حتى أنهم قاتلوا معه على بن أبي طالب وصابروا

عسكره حتى قاوموهم وغلبوهم. وعلى أفضل منه وأعلى درجة وهو أولى بالحق منه باتفاق الناس وعسكر معاوية يعلمون أن عليا أفضل منه واحق بالأمر ولا ينكر ذلك منهم إلا معاند أو من أعمى الهوى قلبه ولم يكن معاوية قبل تحكيم الحكمين يدعى الأمر لنفسه ولا يتسمى بأمير المؤمنين بل إنما ادعى ذلك بعد حكم الحكمين وكان غير واحد من عسكر معاوية يقول له لم ذا تقاتل عليا وليس لك سابقته ولا فضله ولا صهره وهو أولى بالأمر منك فيعترف لهم معاوية بذلك لكن قاتلوا مع معاوية لظنهم أن عسكر على فيه ظلمة يعتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان وأنهم يقاتلونهم دفعا لصيالهم عليهم وقتال الصائل جائز ولهذا لم يبدؤوهم بالقتال حتى بدأهم أولئك ولهذا قال الأشتر النخعي إنهم ينصرون علينا لأنا نحن بدأناهم بالقتال وعلى رضي الله عنه كان عاجزا عن قهر الظلمة من العسكرين ولم

تكن أعوانه يوافقونه على ما يأمر به وأعوان معاوية يوافقونه وكان يرى أن القتال يحصل به المطلوب فما حصل به إلا ضد المطلوب وكان في عسكر معاوية من يتهم عليا بأشياء من الظلم هو برىء منها وطالب الحق من عسكر معاوية يقول لا يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ولا يظلمنا ونحن إذا بايعنا عليا ظلمنا عسكره كما ظلم عثمان وعلى إما عاجز عن العدل علينا أو غير فاعل لذلك وليس علينا أن نبايع عاجزا عن العدل علينا ولا تاركا له فأئمة السنة يعلمون أنه ما كان القتال مأمورا به لا واجبا ولا مستحبا ولكن يعذرون من اجتهد فأخطأ.وأما قوله كان معاوية من المؤلفة قلوبهم... فنعم وأكثر الطلقاء كلهم من المؤلفة قلوبهم كالحارث بن هشام وابن أخيه عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وحكيم بن حزام وهؤلاء من خيار المسلمين والمؤلفة قلوبهم غالبهم حسن إسلامه وكان الرجل منهم يسلم أول النهار رغبة منه في الدنيا فلا يجىء اخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس.

وأما قوله وقاتل عليا وهو عندهم رابع الخلفاء إمام حق وكل من قاتل إمام حق فهو باغ ظالم.
فيقال له أولا: الباغى قد يكون متأولا معتقدا أنه على حق وقد يكون معتعمدا يعلم أنه باغ وقد يكون بغيه مركبا من شبهة وشهوة، وهو الغالب وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلا عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد. بل يقولون إن الذنوب لها أسباب تدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم.
والحكاية المعروفة عن المسور بن مخرمة وكان من خيار صغار الصحابة لما أتى معاوية وخلا به وطلب منه أن يخبره بجميع ما ينقمه عليه فذكر له المسور جميع ما ينقمه عليه فقال ومع هذا يا مسور ألك سيئات قال نعم قال أترجو أن يغفرها الله قال نعم قال فما جعلك أرجى لرحمة الله مني وإنى مع ذلك والله ما خيرت بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على غيره ووالله لما أليه من الجهاد وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل من عملك وأنا

على دين يقبل من أهله الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات فما جعلك أرجى لرحمة الله مني قال السمرو بن مخرمة فخصمني أو كما قال.
ويقال لهم ثانيا: أما أهل السنة فأصلهم مستقيم مطرد في هذا الباب وأما أنتم فمتناقضون. وذلك أن النواصب من الخوارج وغيرهم الذين يكفرون عليا أو يفسقونه أو يشكون في عدالته من المعتزلة والمروانية وغيرهم لو قالوا لكم ما الدليل على إيمان على وإمامته وعدله لم يكن لكم حجة فإنكم إن احتججتم بما تواتر من إسلامه وعبادته قالوا لكم وهذا متواتر عن الصحابة والتابعين والخلفاء الثلاثة وخلفاء بني أمية كمعاوية ويزيد وعبد الملك وغيرهم وأنتم تقدحون في إيمانهم فليس قدحنا في إيمان علي وغيره إلا وقد حكم في إيمان هؤلاء أعظم. والذين تقدحون أنتم فيهم أعظم من الذين نقدح نحن فيهم وإن احتججتم بما في القران من الثناء والمدح قالوا ايات القران عامة تتناول أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم مثل ما تتناول عليا أو أعظم من ذلك وأنتم قد أخرجتم هؤلاء من المدح والثناء فإخراجنا عليا أيسر. وإن قتلم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائله قالوا هذه الفضائل روتها الصحابة الذين رووا فضائل أولئك

فإن كانوا عدولا فاقبلوا الجميع وإن كانوا فساقا فإن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا. وليس لأحد أن يقول في الشهود إنهم إن شهدوا لي كانوا عدولا وإن شهدوا على كانو فساقا أو إن شهدوا بمدح من أحببته كانوا عدولا وإن شهدوا بمدح من أبغضته كانوا فساقا وأما إمامة على فهؤلاء ينازعونكم في إمامته هم وغيرهم فإن احتججتم عليهم بالنص الذي تدعونه كان احتجاجهم بالنصوص التي يدعونها لأبي بكر بل العباس معارضا لذلك ولا ريب عند كل من يعرف الحديث أن تلك أولى بالقبول والتصديق وكذلك يستدل على تصديقها بدلالات كثيرة يعملها من ليس من علماء أهل الحديث وإن احتججتم بمبايعة الناس له قالوا من المعلوم أن الناس اجتمعوا وأنتم قد قدحتم في تلك البيعة فالقدح في هذه أيسر فلا تحتجون على إمامة على بنص ولا اجماع إلا كان مع أولئك من النص والإجماع ما هو أقوى من حجتكم فيكون إثبات خلافة من قدحتم في خلافته أولى من إثبات خلافة من أثبتم خلافته وهذا لا يرد على أهل السنة فإنهم يثبتون خلافة الخلفاء كلهم

ويستدلون على صحة خلافتهم بالنصوص الدالة عليه ويقولون إنها انعقدت بمبايعة أهل الشوكة لهم وعلى بايعه أهل الشوكة وإن كانوا لم يجتمعوا عليه كما اجتمعوا على من قبله. لكن لا ريب أنه كان له سلطان وقوة بمبايعة أهل الشوكة له وقد دل النص على أن خلافته خلافة نبوة. وأما تخلف من تخلف عن مبايعته فهذرهم في ذلك أظهر من عذر سعد بن عبادة وغيره لما تخلفوا عن بيعة أبي بكر وإن كان لم يستقر تخلف أحد إلا سعد وحده وإما على وغيره فبايعوا الصديق بلا خلاف بين الناس لكن قيل إنهم تأخروا عن مبايعته ستة أشهر ثم بايعوه وهم يقولون للشيعة علي إما أن يكون تخلف أولا عن بيعة أبي بكر ثم بايعه بعد ستة أشهر كما تقول ذلك طائفة من أهل السنة مع الشيعة وإما أن يكون بايعه أول يوم كما يقول ذلك طائفة أخرى فإن كان الثاني بطل قول الشيعة إنه تخلف عن بيعته وثبت أنه كان من أول السابقين إلى بيعته وإن كان الأول فعذر من تخلف عن بيعة على أظهر من عذر من تخلف عن بيعة أبي بكر لأن النص والإجماع المثبتين لخلافة أبي بكر ليس في خلافة على مثلها فإنه ليس في الصحيحين ما يدل على خلافته وإنما روى ذلك أهل السنن

وقد طعن بعض أهل الحديث في حديث سفينة وأما الإجماع فقد تخلف عن بيعته والقتال معه نصف الأمة أو أقل أو أكثر والنصوص الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي أن ترك القتال كان خيرا للطائفتين وأن القعود عن القتال كان خيرا من القيام فيه وأن عليا مع كونه أولى بالحق من معاوية وأقرب إلى الحق عن معاوية لو ترك القتال لكان أفضل وأصلح وخيرا وأهل السنة يترجمون على الجميع ويستغفرون لهم كما أمرهم الله تعالى بقوله والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبوقنا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا إنك رؤوف رحيم وأما الرافضي فإذا قدح في معاوية رضي الله عنه بأنه كان باغيا ظالما قال له الناصبي وعلى أيضا كان باغيا ظالما لما قاتل المسلمين على إمارته وبدأهم بالقتال وصال عليهم وسفك دماء الأمة بغير فائدة لهم لا في دينهم ولا في دنياهم وكان السيف في خلافته مسلولا على أهل الملة مكفوفا عن الكفار والقادون في علي طوائف طائفة تقدح فيه وفيمن قاتله جميعا وطائفة تقول فسق أحدهما لا بعينه كما يقول ذلك عمرو بن عبيد

وغيره من شيوخ المعتزلة ويقولون في أهل الجمل فسق إحدى الطائفتين لا بعينها وهؤلاء يفسقون معاوية وطائفة تقول هو الظالم دون معاوية كما يقول ذلك المروانية وطائفة تقول كان في أول الأمر مصيبا فلما حكم الحكمين كفر وارتد عن الإسلام ومات كافرا وهؤلاء هم الخوارج فالخوارج والمروانية وكثير من المعتزلة وغيرهم يقدحون في علي رضي الله عنه وكلهم محطئون في ذلك ضالون مبتدعون وخطأ الشيعة في القدح في أبي بكر وعمر أعظم من خطأ أولئك فإن قال الذاب عن علي هؤلاء الذين قاتلهم على كانوا بغاة فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه تقتلك الفئة الباغية وهم قتلوا عمارا.
فههنا للناس أقوال منهم من قدح في حديث عمار، ومنهم من تأويله على أن الباغي الطالب وهو تأويل ضعيف. وأما السلف والأئمة فيقول أكثرهم كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية فإن الله لم يأمر بقتلاها ابتداء بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما، ثم إن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت التي تبغي، وهؤلاء قوتلوا ابتداء قبل أن يبدؤوا بقتال.
ومذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما أن مانعي الزكاة إذا قالوا نحن نؤديها بأنفسنا ولا ندفعها إلى الإمام لم يكن له قتالهم ولهذا كان هذا القتال عند أحمد وغيره كمالك قتال فتنة وأبو حنيفة يقول لا يجوز قتال البغاة حتى يبدؤوا بقتال الإمام وهؤلاء لم يبدؤوه بل الخوارج بدؤوا به وأما قتال الخوارج فهو ثابت بالنص والإجماع فإن قال الذاب عن علي كان علي مجتهدا في ذلك قال له منازعه ومعاوية كان مجتهدا في ذلك فإن قال كان مجتهدا مصيبا ففي الناس من يقول له ومعاوية كان مجتهد مصيبا أيضا بناء على أن كل مجتهد مصيب وهو قول الأشعري، ومنهم من يقول

بل معاوية مجتهد مخطىء وخطأ المجتهد مغفور، ومنهم من يقول بل المصيب أحدهما لا بعينه ومن الفقهاء من يقول كلاهما كان مجتهدا لكن علي كان مجتهدا مصيبا ومعاوية كان مجتهدا مخطئا والمصيب له أجران والمخطىء له أجر، ومنهم من يقول بل كلاهما مجتهد مصيب بناء على قولهم كل مجتهد مصيب، وهو قول الأشعري وكثير من أصحابه وطائفة من أصحاب أحمد وغيره ومنهم من يقول المصيب واحد لا بعينه وهذه الأقوال ذكرها أبو عبد الله بن حامد عن أصحاب الإمام أحمد، لكن المنصوص عنه نفسه وعن أمثاله من الأئمة أن ترك القتال كان خيرا من فعله وأنه قتال فتنة ولهذا كان عمران بن حصين رضي الله عنه ينهي عن بيع السلاح فيه ويقول لا يباع السلاح في الفتنة وهذا قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ومحمد بن مسلمة وابن عمر وأسامة بن زيد رضي الله عنهم وأكثر من كان بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهو قول أكثر أئمة الفقه والحديث.
وقالت الكرامية بل كلاهما إمام مصيب ويجوز عقد البيعة لإمامين للحاجة ومن نازعه في أنه كان إمام حق لم يمكن الرافضي أن يحتج على إمامته بحجة إلا نقضها ذلك المعارض ومن سلم له أنه كان إمام حق كأهل السنة فإنه يقول الإمام الحق ليس معصوما ولا يجب على الإنسان أن يقاتل معه كل من خرج عن طاعته ولا يطيعه الإنسان فيما يعلم أنه معصية لله أو أن تركه خير من فعله والصحابة الذين لم يقاتلوا معه كانوا يعتقدون أن ترك القتال خير من القتال أو أنه معصية فلم يجب عليهم موافقته في ذلك والذين قاتلوه لا يخلو إما أ يكونوا عصاة أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين وعلى كل تقدير فهذا لايقدح في إيمانهم ولا يمنعهم الجنة فإن الله تعالى قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصحلوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب

المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون فسماهم إخوة ووصفهم بأنهم مؤمنون مع وجود الاقتتال بينهم والبغي من بعضهم على بعض فمن قاتل عليا فإن كان باغيا فليس ذلك بمخرجه من الإيمان ولا بموجب له النيران ولا مانع له من الجنان.
فإن البغي إذا كان بتأويل كان صاحبه مجتهدا ولهذا اتفق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين وإن قالوا في إحداهما إنهم كانوا بغاة لأنهم كانوا متأولين مجتهدين والمجتهد المخطىء لا يكفر ولا يفسق وإن تعمد البغي فهو ذنب من الذنوب والذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة كالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاء المؤمنين وغير ذلك.وأما قوله إن سبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعلي ومفارقته لأبيه فكذب بين وذلك أن محمد بن أبي بكر في حياة أبيه لم يكن إلا طفلا له أقل من ثلاث سنين وبعد موت أبيه كان من أشد الناس تعظيما لأبيه وبه كان يتشرف وكانت له بذلك حرمة عند الناس

وأما قوله إن سبب قولهم لمعاوية إنه خال المؤمنين دون محمد أن محمدا هذا كان يحب عليا ومعاوية كان يبغضه.
فيقال هذا كذب أيضا فإن عبد الله بن عمر كان أحق بهذا المعنى من هذا وهذا وهو لم يقاتل لا مع هذا ولا مع هذا وكان معظما لعلي محبا له يذكر فضائله ومناقبه وكان مبايعا لمعاوية لما اجتمع عليه الناس غير خارج عليه وأخته أفضل من أخت معاوية وأبوه أفضل من أبي معاوية والناس أكثر محبة وتعظيما له من معاوية ومحمد ومع هذا فلم يشتهر عنه أنه خال المؤمنين فعلم أنه ليس سبب ذلك ما ذكره وأيضا فأهل السنة يحبون الذين لم يقاتلوا عليا أعظم مما يحبون من قاتله ويفضلون من له يقاتله على من قاتله كسعد بن أبي وقاص وأسامه بن زيد ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم فهؤلاء أفضل من الذين قاتلوا عليت عند أهل السنة والحب لعلي وترك قتاله خير بإجماع أهل السنة من بغضه وقتلاه وهم متفقون على وجوب موالاته ومحبته وهم من أشد الناس ذبا عنه وردا على من يطعن عليه من الخوارج وغيرهم من النواصب لكن لكل مقام مقال والرافضة لا مكنهم أن يثبتوا وجوب موالاته كما يمكن أهل السنة وأهل السنة متفقون على ذم الخوارج الذين هم أشد بغضا له وعداوة من غيرهم وأهل السنة متفقون على وجوب قتالهم فكيف يفترى المفتري

عليهم بأن قدخ هذا لبغضه عليا وذم هذا لحبه عليا مع أنه ليس من أهل السنة من يجعل بغض على طاعة ولا حسنة ولا يأمر بذلك ولا من يجعل مجرد حبه سيئة ولا معصية ولا ينهى عن ذلك وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءه بذكر فضائله ومناقبه وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق وهم ينكرون على من سبه وكارهون لذلك وما جرى من التساب والتلاعن بين العسكرين من جنس ما جرى من القتال وأهل السنة من أشد الناس بغضا وكراهة لأن يتعرض له بقتال أو سب بل هم كلهم متفقون على أنه أجل قدرا وأحق بالإمامة وأفضل عند اله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيرا منه وعلى أفضل ممن هو أفضل من معاوية رضي الله عنه فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم وعلى أفضل جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة بل هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة فليس في أهل السنة من يقدم عليه أحدا غير الثلاثة بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار

وما في أهل السنة من يقول إن طلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه بل غاية ما قد يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى وهؤلاء أهل الشورة عندهم أفضل السابقين الأولين والسابقون الأولون أفضل من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا وهم على أصح القولين الذين بايعوا تحت الشجرة عام الحديبية وقيل من صلى إلى البلتين وليس بشيء وممن أسلم بعد الحديبية خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وشيبة الحجبي وغيرهم وأما سهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وأبو سفيان بن حرب وابناه ييد ومعاوية وصفوان بن أمية وغيرهم فهؤلاء مسلمة الفتح ومن الناس من يقول إن معاوية رضي الله عنه أسلم قبل أبيه فيجعلونه من الصنف الأول وقد ثبت في الصحيح أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا خالد لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه فنهى خالدا ونحوه ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل أنيتعرضوا للذين صحبوه قبل ذلك وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وبين أن الواحد من هؤلاء لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فإذا كان هذا نهيه لخالد بن الوليد وأمثاله من مسلمة الحديبية فكيف مسلمة الفتح الذين لم يسلموا إلا بعد فتح مكة مع أن أولئك كانوا مهاجرين فإن خالدا وعمرا ونحوهما ممن أسلم بعد الحديبية وقبل فتح مكة وهاجر إلى المدينة هو من المهاجرين وأما الذين أسلموا بعد فتح مكة فلا عجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا رواه البخاري ولهذا كان إذا أتى بالواحد من هؤلاء ليبايعه بايعه على الإسلام ولا يبايعه على الهجرة ومن هؤلاء أكثر من هاشم كعقيل بن أبي طالب

وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وربيعه بن الحارث بن عبد المطلب وكذلك العباس فإنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق وهو ذاهب إلى مكة لم يصل إلى المدينة وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وهذا غير أبي سفيان بن حرب وكان شاعرا يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأدركه في الطريق وكان ممن حسن إسلامه وكان هو والعباس مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين لما انكشف الناس اخذين ببغلته فإذا كانت هذه مراتب الصحابة عند أهل السنة كما دل عليه الكتاب والسنة وهم متفقون على تأخر معاوية وأمثاله من مسلمة الفتح عمن أسلم بعد الحديبية وعلى تأخر هؤلاء عن السابقين الأولين أهل الحديبية وعلى أن البدريين أفضل من غير البدريين وعلى أن عليا أفضل من جماهير هؤلاء لم يقدم عليه أحد غير الثلاثة فكيف ينسب إلى أهل السنة تسويته بمعاوية أو تقديم معاوية عليه نعم مع معاوية طائفة كثيرة من المروانية وغيرهم كالذين قاتلوا معه وأتباعهم بعدهم يقولون إنه كان في قتلاه على الحق مجتهدا مصيبا وأن عليا ومن معه كانوا إما ظالمين وإما مجتهدين مخطئين وقد صنف

لهم في ذلك مصنفات مثل كتاب المروانية الذي صنفه الجاحظ وطائفة وضعوا لمعاوية فضائل ورووا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كلها كذب ولهم في ذلك حجج طويلة ليس هذا موضعها ولكن هؤلاء عند أهل السنة مخطئون في ذلك وإن كان خطأ الرافضة أعظم من خطئهم ولا يمكن الرافضة أن ترد على هؤلاء بحجة صحيحة مع اعتقادهم مذهب الإمامية فإن حجج الإمامية متناقضة يحتجون بالحجج التي ينقضونها في موضع اخر ويحتجون بالحجة العقلية أو السمعية مع دفعهم لما هو أعظم منها بخلاف أهل السنة فإن حججهم صحيحة مطردة كالمسلمين مع النصارى وغيرهم من أهل الكتاب فيمكن لأهل السنة الانتصار لعلي ممن يذمه ويسبه أو يقول إن الذين قاتلوه كانوا أولى بالحق منه كما يمكن المسلمين أن ينصروا المسيح ممن كذبه من الهود وغيرهم بخلاف النصارىفإنهم لا يمكنهم نصر قولهم في المسيح بالحجج العلمية على من كذبه من اليهود وغيرهم والمنتقصون لعلي من أهل البدع طوائف طائفة تكفرة كالخوارج وهؤلاء يكفرون معه عثمان وجمهور المسلمين فيثبت أهل السنة إيمان على ووجوب موالاته بمثل ما يثبتون به إيمان عثمان ووجوب موالاته وطائفة يقولون إنه وإن كان أفضل من معاوية لكن كان معاوية مصيبا في قتلاه ولم يكن علي مصيبا في قتال معاوية وهؤلاء كثيرون كالذين قاتلوه مع معاوية وهؤلاء يقولون أو جمهورهم إن عليا لم يكن إماما مفترض الطاعة لأنه لم تثبت خلافته بنص ولا إجماع وهذا القول قاله طائفة أخرةى ممن يراه أفضل من معاوية وأنه أقرب إلى الحق من معاوية ويقولون إن معاوية لم يكن مصيبا في قتاله لكن يقولون مع ذلك إن الزمان كان زمان فتنة وفرقة لم يكن هناك إمام جماعة ولا خليفة وهذا القول قاله كثير من علماء أهل الحديث البصريين والشاميين والأندلسيين وغيرهم وكان بالأندلس كثير من بني أمية يذهبون إلى هذا القول ويترحمون على علي ويثنون عليه لكن يقولون لم يكن

خليفة وإنما الخليفة من اجتمع الناس عليه ولم يجتمعوا على علي وكان من هؤلاء من يربع بمعاوية في خطبة الجمعة فيذكر الثلاثة ويربع بمعاوية ولا يذكر عليا ويحتجون بأن معاوية اجتمع عليه الناس بالمبايعه بما بايعه الحسن بخلاف علي فإن المسلمين لم يجتمعوا عليه ويقولون لهذا ربعنا بمعاوية لا لأنه أفضل من علي بل علي أفضل منه كما أن كثيرا من الصحابة أفضل من معاوية وإن لم يكونوا خلفاء وهؤلاء قد احتج عليهم الإمام أحمد وغيره بحديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا وقال أحمد من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله وتكلم بعض هؤلاء في أحمد بسب هذا الكلام وقال قد أنكر خلافته من الصحابة طلحة والزبير وغيرهما ممن لا يقال فيه هذاالقول واحتجوا بأن أكثر الأحاديث التي فيها ذكر خلافة النبوة لا يذكر فيها إلا الخلفاء الثلاثة مثل ما روى الإمام أحمد في مسنده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أيكم رأة رؤيا فقلت أنا يا رسول الله رأيت كأن ميزانا دلى من السماء فوزنت بأبي بكر فرجحت بأبي بكر ثم وزن أبو بكر بعمر فرجع أبو بكر بعمر ثم وزن عمر بعثمان فرجح عمر بعثمان ثم رفع الميزان فقال النبي صلى الله عليه وسلم خلافة نبوة ثم يؤتى الله الملك من يشاء وروى أبو داود حديثا عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الليلة رجل صالح أن ابا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه وروى أبو داود من حديث سمرة ب جندب أن رجلا قال يا رسول

الله رأيت كأن دلوا دلى من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء على فأخذ بعراقيها فانتشكت فانتضح عليه منها شيء وروى عن الشافعي وغيره أنهم قالوا الخلفاء ثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان وما جاءت به الأخبار النبوية الصحيحة حق كله فالخلافة التامة التي أجمع عليها المسلمون وقوتل بها الكافرون وظهر بها الدين كانت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وخلافة علي اختلف فيها أهل القبلة ولم يكن فيها زيادة قوة للمسلمين ولا قهر ونقص للكاقرين ولكن هذا لا يقدح في أن عليا كان خليفة راشدا مهديا ولكن لم يتمكن كما تمكن غيره ولا أطاعته الأمة كما أطاعت غيره فلم يحصل في زمنه من الخلافة التامة العامة ما حصل في زمن الثلاثة مع أنه من الخلفاء الراشدين المهديين وأما الذين قالوا إن معاوية رضي الله عنه كان مصيبا في قتاله له

ولم يكن علي رضي الله عنه مصيبا في قتاله لمعاوية فقولهم أضعف من قول هؤلاء وحجة هؤلاء أن معاوية رضي الله عنه كان طالبا بدم عثمان رضي اله عنه وكان هو ابن عمه ووليه وبنو عثمان وسائر عصبته اجتمعوا إليه وطلبوا من علي أن يمكنهم من قتلة عثمان أو يسلمهم إليهم فامتنع على من ذلك فتركوا مبايعته فلم يقاتلوه ثم إن عليا بدأهم بالقتال فقاتلوه دفعا عن أنفسهم وبلادهم قالوا وكان علي باغيا عليهم وأما الحديث الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمار تقتلك الفئة الباغية فبعضهم ضعفه وبعضهم تأوله فقال بعضهم معناه الطالبة لدم عثمان رضي الله عنه كما قالوا نبغي ابن عفان بأطراف الأسل وبعضهم قال ما يروى عن معاوية رضي الله عنه أنه قال لما ذكر له هذا الحديث أو نحن قتلناه إنما قتله علي وأصحابه حيث ألقوه بين أسيافنا وروى عن علي رضي الله عنه أنه ذكر له هذا التأويل فقال فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يكونون حينئذ قد قتلوا حمزة وأصحابه يوم أحد لأنه قاتل معهم المشركين

وهذا القول لا أعلم له قائلا من أصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة ولكن هو قول كثير من المروانية ومن وافقهم ومن هؤلاء من يقول إن عليا شارك في دم عثمان فمنهم من يقول إنه أمر علانية ومنهم من يقول إنه أمر سرا ومنهم من يقول بل رضى بقتله وفرح بذلك ومنهم من يقول غير ذلك وهذا كله كذب على علي رضي الله عنه وافتراء عليه فعلى رضي الله عنه لم يشارك في دم عثمان ولا أمر ولا رضى وقد روى عنه وهو الصادق البار أنه قال والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله وروى عنه أنه قال ما قتلت ولا رضيت وروى عنه أنه سمع أصحاب معاوية يلعنون قتلة عثمان فقال اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل وروى أن أقواما شهدوا عليه بالزور عند أهل الشام أنه شارك في دم عثمان وكان هذا مما دعاهم إلى ترك مبايعته لما اعتقدوا أنه ظالم وأنه من قتلة عثمان وأنه اوى قتلة عثمان لموافقته لهم على قتلهوهذا وأمثاله مما يبين شبهة الذين قاتلوه ووجه اجتهادهم في قتاله لكن لا يدل على أنهم كانوا مصيبين في ترك مبايعته وقتاله وكون قتلة عثمان من رعيته لا يوجب أنه كان موافقا لهم وقد اعتذر بعض الناس عن علي بأنه لم يكن يعرف القتلة بأعيانهم أو بأنه كان لا يرى قتل الجماعة بالواحد أو بأنه لم يدع عنده ولي الدم دعوى توجب الحكم له ولا حاجة إلى هذه الأعذار بل لم يكن علي مع تفرق الناس عليه متمكنا من قتل قتلة عثمان إلا بفتنة تزيد الأمر شرا وبلاء ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس لأنهم كانوا عسكرا وكان لهم قبائل تغضب لهم والمباشر منهم للقتل وإن كان قليلا فكان ردؤهم أهل الشوكة ولولا ذلك لم يتمكنوا ولما سار طلحة والزبير إلى البصرة ليقتلوا قتلة عثمان قام بسبب ذلك حرب قتل فيها خلق ومما يبين ذلك أن معاوية قد أجمع الناس عليه بعد موت علي

وصار أميرا على جميع المسلمين ومع هذا فلم يقتل قتلة عثمان الذين كانوا قد بقوا بل روى عنه أنه لما قدم المدينة حاجا فسمع الصوت في دار عثمان يا أمير المؤمنيناه يا أمير المؤمنيناه فقال ما هذا قالوا بنت عثمان تندب عثمان فصرف الناس ثم ذهب إليهم فقال يا ابنة عم إن الناس قد بذلوا لنا الطاعة على كره وبذلنا لهم حلما على غيظ فإن رددنا حلمنا ردوا طاعتهم ولأن تكوني بنت أمير المؤمنين خير من أن تكوني واحدة من عرض الناس فلا أسمعنك بعد اليوم ذكرت عثمان فمعاوية رضي الله عنه الذي يقول المنتصر له إنه كان مصيبا في قتال علي لأنه كان طالبا لقتل قتلة عثمان لما تمكن وأجمع الناس عليه لم يقتل قتلة عثمان فإن كان قتلهم واجبا وهو مقدور له كان فعله بدون قتال المسلمين أولى من أن يقاتل عليا وأصحابه لأجل ذلك ولو قتل معاوية قتلة عثمان لم يقع من الفتنة أكثر مما وقع لياليصفين وإن كان معاوية معذورا في كونه لم يقتل قتلة عثمان إما لعجزه عن ذلك أو لما يفضى إليه ذلم من الفتنة وتفريق الكلمة وضعف سلطانه فعلى أولى أن يكون معذورا أكثر من معاوية إذ كانت الفتنة وتفريق الكلمة وضعف سلطانه بقتل القتلة لو سعى في ذلك أشد ومن قال إن قتل الخلق الكثير الذين قتلوا بينه وبين علي كان صوابا منه لأجل قتل قتلة عثمان فقتل ما هو دون ذلك لأجل قتل قتلة عثمان أولى أن يكون صوابا وهو لم يفعل ذلك لما تولى ولم يقتل قتلة عثمان وذلك أن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت فأما إذا أقبلت فإنها تزين ويظن أن فيها خيرا فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء صار ذلك مبينا لهم مضرتها وواعظا لهم أن يعودوا في مثلها كما أنشد بعضهم الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ولت عجوزا غير ذات حليل

شمطاء ينكر لونها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل والذين دخلوا في الفتنة من الطائفتين لم يعرفوا ما في القتال من الشر ولا عرفوا مرارة الفتنة حتى وقعت وصارت عبرة لهم ولغيرهم ومن استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين المسلمين تبين له أنه ما دخل فيها أحد فحمد عاقبة دخوله لما يحصل له من الضرر في دينه ودنياه ولهذا كانت من باب المنهى عنه والإمساك عنها من المأمور به الذي قال الله فيه فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وأما قول القائل إن عليت بدأهم بالقتال قيل له وهم أولا امتنعوا من طاعته ومبايعته وجعلوه ظالما مشاركا في دم عثمان وقبلوا عليه شهادة الزور ونسبوه إلى ما هو برىء منه وإذا قيل هذا وحده لم يبح له قتالهمقيل ولا كان قتاله مباحا لكونه عاجزا عن قتل قتلة عثمان بل لو كان قادرا على قتل قتلة عثمان وقدر أنه ترك هذا الواجب إما متأولا وإما مذنبا لم يكن ذلك موجبا لتفريق الجماعة والامتناع عن مباعيته ولمقاتلته بل كانت مبايعته على كل حال أصلح في الدين وأنفع للمسلمين وأطوع لله ولرسوله من ترك مبايعته فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال على المرء المسلم السمع والكاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثره عليه ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة وفي الصحيحين عن عبادة رضي الله عنه قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم وفي الصحيح عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من رأى من أمير شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وفي رواية فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته ميتى جاهلية وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعه مات ميتة جاهلية وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم رجل لا يبايع إماما إلا لدنيا إن أعطاه منها رضى وإن منع سخط الحديثوفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة وعلى رضي الله عنه كان قد بايعه أهل الكوفة ولم يكن في وقته أحق منه بالخلافة وهو خليفة راشد تجب طاعته ومعلوم أن قتل القاتل إنما شرع عصمة للدماء فإذا أفضى قتل الطائفة القليلة إلى قتل أضعافها لم يكن هذا طاعة ولا مصلحة وقد قتل بصفين أضعاف أضعاف قتلة عثمان وأيضا فقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق يدل على أن عليا وأصحابه أدنى إلى الحق من معاوية وأصحابه فلا يكون معاوية وأصحابه في قتالهم لعلي أدنى إلى الحق وكذلك حديث عمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية قد رواه

مسلم في صحيحه من غير وجه ورواه البخاري لكن في كثير من النسخ لم يذكره تاما وأما تأويل من تأوله أن عليا وأصحابه قتلوه وأن الباغية الطالبة بدم عثمان فهذا من التأويلات الظاهرة الفساد التي يظهر فسادها للعامة والخاصة والحديث ثابت في الصحيحين وقد صححه أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة وإن كان قد روى عنه أنه ضعفه فاخر الأمرين منه تصحيحه قال يعقوب بن شيبة في مسنده في المكيين في مسند عمار بن ياسر لما ذكر أخبار عمار سمعت أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عمار تقتلك الفئة الباغية فقال أحمد قتلته الفئة الباغية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال في هذا غير حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وكره أن يتكلم في هذا بأكثر من هذا وقال البخاري في صحيحه حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قالقال لي ابن عباس ولابنه انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه فأخذ رداءه فاحتبى ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار قال يقول عمار أعوذ بالله من الفتن ورواه البخاري من وجه اخر عن عكرمة عن أبي سعيد الخدري لكن في كثير من النسخ لا يذكر الحديث بتمامه بل فيها ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ولكن لا يختلف أهل العلم بالحديث أن هذه الزيادة هي في الحديث قال أبو بكر البيهقي وغيره قد رواه غير واحد عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما وظن البيهقي وغيره أن البخاري لم يذكر الزيادة واعتذر عن ذلك بأن هذه الزيادة لم يسمعها

أبو سعيد من النبي صلى الله عليه وسلم ولكن حدثه بها أصحابه مثل أبي قتادة كما رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال أخبرني من هو خير مني أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار تقتلك الفئة الباغية وفي حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تمرق مارقة فتقتلهم أولى الطائفتين بالله وكان عمار يحمل لبنتين لبنتين قال فلم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولكن جئت إلى أصحابي وهم يقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ويحك ابن سمية تقتلك الفئة الباغية رواه مسلمفي صحيحه والنسائي وغيرها من حديث ابن عون عن الحسن البصري عن أمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتل عمارا الفئة الباغية ورواه أيضا من حديث شعبة عن خالد عن سعيد بن أبي الحسن والحسن ع أمهما عن أم سلمة رضي الله عنها وفي بعض طرقه أنه قال ذلك في حفر الخندق وذكر البيهقي وغيره أن هذا غلط والصحيح أنه إنما قاله يوم بناء المسجد وقد قيل إنه يحتمل أنه قاله مرتين وقد روى هذا من وجوه أخرى من حديث عمرو بن العاص وابنه عبد الله ومن حديث عثمان بن عفان ومن حديث عمار نفسه وأسانيد هذه مقاربة وقد روى من وجوه أخرى واهية وفي الصحيح ما يغنى عن غيرهوالحديث ثابت صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث والذين قتلوه هم الذين باشرواقتله والحديث أطلق فيه لفظ البغى لم يقيده بمفعول كما قال تعالى لا يبغون عنها حولا وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم فيكم تبع لا يبغون أهلا ولا مالا ولفظ البغى إذا أطلق فهو الظلم كما قال تعالى فإن بغث إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي وقال فمن اشطر غير باغ ولا عاد

وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا لما كانوا ينقلون اللبن لبناء المسجد وكانوا ينقلون لبنة لبنة وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار وهذا ليس فيه ذم لعمار بل مدح له ولو كان القاتلون له مصيبين في قتله لم يكن مدحا له وليس في كونهم يطلبون دم عثمان ما يوجب مدحه وكذلك من تأول قاتله بأنهم الطائفة التي قاتل معها فتأويله ظاهر الفساد ويلزمهم ما ألزمهم إياه على وهو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد قتلوا كل من قتل معهم في الغزو كحمزة وغيره وقد يقال فلان قتل فلانا إذا أمره بأمر كان فيه حتفه ولكن هذا مع القرينة لا يقال عند الإطلاق بل القاتل عند الإطلاق الذي قتله دون الذي أمره ثم هذا يقال لمن أمر غيره وعمار لم يأمره أحد بقتال أصحاب معاوية بل هو كان من أحرص الناس على قتالهم وأشدهم رغبة في ذلك وكان حرصه على ذلك أعظم من حرص غيره وكان هو يحض عليا وغيره على قتالهم ولهذا لم يذهب أحد من أهل العلم الذين تذكر مقالاتهم إلى هذا التأويل بل أهل العلم في هذا الحديث على ثلاثة أقوال فطائفة ضعفته لما روى عندها بأسانيد ليست ثابته عندهم ولكن رواه أهل

الصحيح رواه البخاري كما تقدم من حديث أبي سعيد ورواه مسلم من غير وجه من حديث الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها ومن حديث أبي سعيد عن أبي قتادة وغيره ومنهم من قال هذا دليل على أن معاوية وأصحابه بغاة وأن قتال علي لهم قتال أهل العدل لأهل البغي لكنهم بغاة متأولون لا يكفرون ولا يفسقون ولكن يقال ليس في مجرد كونهم بغاة ما يوجب الأمر بقتالهم فإن الله لم يأمر بقتال كل باغ بل ولا أمر بقتال البغاة ابتداء ولكن قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بعث إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون فلم يأمر بقتال البغاة ابتداء بل أمر إذا اقتلت طائفتان من المؤمنين أن يصلح بينهما وهذا يتناول ما إذا كانتا باغيتين أو أحداهما باغية ثم قال فإن بغث إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفىء إلى أمر الله وقوله فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي قد يقال المراد به البغي بعد الإصلاح ولكن هذا خلاف ظاهر القران فإن قوله بغث إحداهما على الأخرى يتناول الطائفتين المقتتلتين سواء أصلح بينهما أو لم يصلح كما أن الأمر

بالإصلاح يتناول المقتتلتين مطلقا فليس في القران أمر بقتال الباغي ابتداء لكن أمر إذا اقتلت طائفتان أن يصلح بينهما وأنه إن بغت إحداهما على الأخرى بعد القتال أن تقاتل حتى تفىء وهذا يكون إذا لم تجب إلى الإصلاح بينهما وإلا فإذا أجابت إلى الإصلاح بينهما لم تقاتل فلو قوتلت ثم فاءت إلى الإصلاح لم تقاتل لقوله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين فأمر بعد القتال إلى أن تفىء أن يصلح بينهما بالعدل وأن يقسط وقتال الفتنة لا يقع فيه هذا وذلك قد يكون لأن الله لم يأمر بالقتال ابتداء ولكن أمر إذا اقتتلوا وبغت إحداهما على الأخرى بقتال الفئة الباغية وقد تكون الاية امرا بالإصلاح وقتال الباغية جميعا لم يأمر بأحدهما وقد تكون الاية أمرا بالإصلاح وقتال الباغية جميعا لم يأمر بأحدهما وقد تكون الطائفة باغية ابتداء لكن لما بغث أمر بقتالها وحينئذ لم يكن المقاتل لها قادرا لعدم الأعوان أو لغير ذلك وقد يكون عاجزا ابتداء عن قتال الفئة الباغية أو عاجزا عن قتال تفىء فيه إلى أمر الله فليس كل من كان قادرا على القتال كان قادرا على قتال يفىء فيه إلى أمر الله وإذا كان عاجزا عن قتالها حتى تفىء إلى أمر الله لم يكن مأمورا بقتلاها لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب ولكن قد يظن أنه قادرا

على ذلك فتبين له في اخر الأمر أنه لم يكن قادرا فهذا من الاجتهاد الذي يثاب صاحبه على حسن القصد وفعل ما أمر وإن أخطأ فيكون له فيه أجر ليس من الاجتهاد الذي يكون له في أجران فإن هذا إنما يكون إذا وافق حكم الله في الباطن كما قال النبي صلى الله عليه ولم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإذا اجتهد فأصاب فله أجران ومن الاجتهاد أن يكون ولى الأمر أو نائبه مخيرا بين أمرين فأكثر تخيير تحر للأصلح لا تخيير شهوة كما يخير الإمام في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء عند أكثر العلماء فإن قوله تعالى فإما منا بعد وإما فداء ليس بمنسوخ وكذلك تخيير من نزل العدو على حكمه كما نزل بنو قريظة على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فسأله حلفاؤهم من الأوس أن يمن عليهم كما من على بني النضير حلفاء الخزرج فقال النبي صلىاللهالله عليه وسلم ألا ترضون أن أحكم فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضيت الأوس بذلك فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم خلف سعد بن معاذ فجاء وهو راكب وكان تمرضا من أثر جح به في المسجد وبنو قريظة شرقي المدينة بينهم نصف نهار أو نحو ذلك فلما أقبل سعد رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم قوموا إلى سيدكم فقاموا وأقاربه في الطريق يسألونه أن يمن عليهم ويذكرونه بمعاونتهم ونصرهم له في الجاهلية فلما دنا قال لقد ان لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيهم فحكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات والحديث ثابت في الصحيحين وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على خكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم

ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك فدل هذان الحديثان الصحيحان على أن الله حكما معينا فيما يكون ولي الأمر مخيرا فيه تخيير مصلحة وإن كان لو حكم بغير ذلك نفذ حكمه في الظاهر فما كان من باب القتال فهو أولى أن يكون أحد الأمرين أحب إلى الله ورسوله إما فعله وإما تركه ويتبين ذلك بالمصلحة والمفسدة فما كان وجوده خيرا من عدمه لما حصل فيه من المصلحة الراجحة في الدين فهذا مما يأمر الله به أمر إيجاب أو استحباب وما كان عدمه خيرا من وجوده فليس بواجب ولا مستحب وإن كان فاعله مجتهدا مأجورا على اجتهاده والقتال إنما يكون لطائفة ممتنعة فلو بغث ثم أجابت إلى الصلحبالعدل لم تكن ممتنعة فلم يجز قتالها ولو كانت باغية وقد أمر بقتال الباغية إلى أن تفىء إلى أمر الله أي ترجع ثم قال فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل فأمر بالإصلاح بعد قتال الفئة الباغية كما أمر بالإصلاح إذا اقتتلتا ابتداء وقد قالت عائشة رضي الله عنها لما وقعت الفتنة ترك الناس العمل بهذه الاية وهو كما قالت فإنهما لما اقتتلتا لم يصلح ينهما ولو قدر أنه قوتلت الباغية فلم تقاتل حتى تفىء إلى أمر الله ثم أصلح بينهما بالعدل والله تعالى أمر بالقتال إلى الفىء ثم الإصلاح لم يأمر بقتال مجرد بل قال فقاتلوا التي تبغى حتى تفىء إلى أمر الله وما حصل قتال حتى تفىء إلى أمر الله فإن كان ذلك مقدورا فما وقع وإن كان معجوزا عنه لم يكن مأمورا به وعجز المسلمين يوم أحد عن القتال الذي يقتضي انتصارهم كان بترك طاعة الرسول وذنوبهم وكذلك التولى يوم حنين كان من الذنوب يبين ذلك أنه لو قدر أن طائفة بغت على طائفة وأمكن دفع البغي بلا قتال لم يجز القتال فلو اندفع البغي بوعظ أو فتيا أو أمر بمعروف لم يجز

القتال ولو اندفع البغي بقتل واحد مقدور عليه أو إقامة حد أو تعزيز مثل قطع سارق وقتل محارب وحد قاذف لم يحز القتال وكثيرا ما ثتور الفتنة إذا ظلم بعض طائفة لطائفة أخرى فإذا أمكن استيفاء حق المظلوم بلا قتال لم يجز القتال وليس في الاية أن كل من امتنع من مبايعه إمام عادل يجب قتاله بمجرد ذلك وإن سمى باغيا لترك طاعة الإمام فليس كل من ترك طاعة الإمام يقاتل والصديق قاتل ما نعى الزكاة لكونهم امتنعوا عن أدائها بالكلية فقوتلوا بالكتاب والسنة وإلا فلو أقروا بأدائها وقالوا لا نؤديها إليك لم يجز قتالهم عند أكثر العلماء وأولئك لم يكونوا كذلك ولهذا كان القول الثالث في هذا الحديث حديث عمار إن قاتل عمار طائفة باغية ليس لهم أن يقاتلوا عليا ولا يمتنعوا عن مبايعته وطاعته وإن لم يكن على مأمورا بقتالهم ولا كان فرضا عليه قتالهم لمجرد امتناعهم عن طاعته مع كونهم ملتزمين شرائع الإسلام وإن كان كل من المقتتلتين متأولين مسلمين مؤمنين وكلهم يستغفر لهم ويترحم عليهم عملا بقوله تعالى والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبوقنا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا إنك رؤوف رحيمفصل وأما قول الرافضي وسموه كاتب الوحى ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحى فهذا قول بلا حجة ولا علم فما الدليل على أنه لم يكتب له كلمة واحدة من الوحي وإما كان يكتب له رسائل وقوله إن كتاب الوحى كانوا بضعة عشر أخصم وأقربهم إليه على فلا ريب أن عليا كان ممن يكتب له أيضا كما كتب الصلح بينه وبين المشكرني عام الحديبية ولكن كان يكتب له أبو بكر وعمر أيضا ويكتب له زيد بن ثابت بلا ريب ففي الصحيحين أن زيد بن ثابت لما نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين كتبها له وكتب له أبو بكر وعمر

وعثمان وعلي وعامر بن فهيرة وعبد الله بن الأرقم وأبي بن كعب وثابت بن قيس وخالد بن سعيد بن العاص وحنظلة بن الربيع الأسدي وزيد بن ثابت ومعاوية وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم وأما قوله إن معاوية لم يزل مشركا مدة كون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثا فيقال لا ريب أن معاوية وأباه وأخاه وغيرهم أسلموا عام فتح مكة قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من ثلاث سنين فكيف يكون مشركا مدة المبعث ومعاوية رضي الله عنه كان حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم صغيرا كانت هند ترقصه ومعاوية رضي الله عنه أسلم مع مسلمة الفتح مثل أخيه يزيد وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن ابي جهل وأبي سفيان بن حربوهؤلاء كانوا قبل إسلامهم أعظم كفرا ومحاربة للنبي صلى الله عليه وسلم من معاوية فصفوان وعكرمة وأبو سفيان كانوا مقدمين للكفار يوم أحد رؤوس الأحزاب في غزوة الخندق مع هذا كان أبو سفيان وصفوان وعكرمة من أحسن الناس إسلاما واستشهدوا رضي الله عنهم يوم اليرموك ومعاوية لم يعرف عنه قبل الإسلام إذى للنبي صلى الله عليه وسلم لا بيد ولا بلسان فإذا كان من هو أعظم معاداة للنبي صلى الله عليه وسلم م معاوية قد حسن إسلامه وصار ممن يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فما المانع أن يكون معاوية رضي الله عنه كذلك وكان من أحسن الناس سيرة في ولايته وهو ممن حسن إسلامه ولولا محاربته لعلي رضي الله عنه وتوليه الملك لم يذكره أحد إلا بخير كما لم يذكر أمثاله الا بخير وهؤلاء مسلمة الفتح معاوية ونحوه قد شهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عدة غزوات كغزاة حنين والطائف وتبوك فله من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله لا لأمثاله فكيف يكون هؤلاء كفارا وقد صاروا مؤمنين مجاهدين تمام سنة ثمان وتسع وعشر وبعض سنة إحدى عشرة

فإن مكة فتحت باتفاق الناس في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم باتفاق الناس توفى في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة والناس كلهم كانوا كفارا قبل إيمانهم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيهم من هو أشد عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم من معاوية وأسلم وحسن إسلامه كأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أشد الناس بغضا للنبي صلى الله عليه وسلم وهجاء له قبل الإسلام وأما معاوية رضي الله عنه فكان أبوه شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أمه حتى أسلمت فقالت والله يا رسول الله ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك أخرجه البخاري وفيهم أنزل الله تعالى عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم فإن الله جعل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الذي عادوه كأبي سفيان وهند وغيرها مودة والله قدير على تبديل العداوة بالمودة وهو غفور لهم بتوبتهم من الشرك رحيم بالمؤمنين وقد صاروا من المؤمنينفصل قال الرافضي وكان باليمن يوم الفتح يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيره بإسلامه ويقول أصبوت إلى دين محمد وكتب إليه يا صخر لا تسلمن طوعا فتفضحنا بعد الذين ببدر أصبحوا فرقا جدى وخالى وعم الأم يا لهم قوما وحنظلة المهدى لنا أرقا فالموت أهون من قول الوشاة لنا خلى ابن عند عن العزى لقد فرقا والفتح كان في رمضان لثمان سنين من قدوم النبي صلى

الله عليه وسلم المدينة ومعاوية مقيم على شركه هارب من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان قد أهدر دمه فهرب إلى مكة فلما لم يجد له مأوى صار إلى النلي صلى الله عليه وسلم مضطرا فأظهر الإسلام وكان إسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر وطرح نفسه على العباس فسأل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا ثم شفع إليه أن يشرفه ويضيفه إلى جملة الكتاب فأجابه وجعله واحدا من أربعة عشر فكم كان حظه من هذه المدة لو سلمنا أنه كاتب الوحي حتى استحق أن يوصف بذلك دون غيره مع أن الزمخشري من مشايخ الحنفية ذكر في كتاب ربيع الأبرار أنه ادعى نبوته أربعة نفر على أن من جملة الكتبة عبد الله بن سعد بن أبي سرح وارتد مشركا وفيه نزل ولكن منشرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم وقد روى عبد الله بن عمر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فمسعته يقول يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي فطلع معاوية وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخج ولم يسمع الخطبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله القائد والمقود أي يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة وبالغ في محاربة علي عليه السلام وقتل جمعا كثيرا من خيار الصحابة ولعنه على المنابر واستمر سبه ثمانين سنة إلى أن قطعه عمر بن عبد العزيز وسم الحسن عليه السلام وقتل ابنه يزيد مولانا الحسين ونهب نساءه وكسر أبوه ثنية النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت أمه كبد حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم

والجواب أما قوله كان باليمن يطعن على النبي صلى الله عليه وسلم وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيره بإسلامه وكتب إليه الأبيات فهذا من الكذب المعلوم فإن معاوية إنما كان بمكة لم يكن باليمن وأبوه أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة بمر الظهران ليلة نزل بها وقال له العباس إن أبا سفيان يحب الشرف فقال النبي صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيا فهو امن ومن دخل المسجد فهو امن ومن ألفى السلاح فهو امن وأبو سفيان كان عنده من دلائل النبوة ما أخبره به هرقل ملك الروم لما سافر إلى الشام في الهدنة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم وما كان عنده من أمية بن أبي الصلت لكن الحسد منعه منالإيمان حتى أدخله الله عليه وهو كاره بخلاف معاوية فإنه لم يعرف عنه شيء من ذلك ولا عن أخيه يزيد وهذا الشعر كذب على معاوية قطعا فإنه قال فيه فالموت أهون من قول الوشاة لنا خلى ابن هند عن العزى لقد فرقا ومعلوم أنه بعد فتح مكة أسلم الناس وأزيلت العزى بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليها خالد بن الوليد فجعل يقول يا عز كفرانك لاسبحانك إني رأيت الله قد أهانك وكانت قريبا من عرفات فلم يبق هناك لا عزى ولا من يلومهم على ترك العزى فعلم أن هذا من وضع بعض الكذابين على لسان معاوية وهو كذاب جاهل لم يعلم كيف وقع الأمر وكذلك ما ذكره من حال جده أبي أمية عتبة بن ربيعة وخاله الوليد بن عتبة وعم أمه شيبة بن ربيعة وأخيه حنظلة أمر يشترك فيه هو وجمهور قريش فما منهم من أحد إلا وله أقارب كفار قتلوا كفارا أو ماتوا كفارا فهل كان في إسلامهم فضيحة وقد أسلم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وكانا من خيار المسلمين وأبواهما قتلا ببدر وكذلك الحارث بن هشام قتل أخوه يوم

بدر وفي الجملة الطعن بهذا طعن في عامة أهل الإيمان وهل يحل لأحد أن يطعن في علي بأن عمه أبا لهب كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم أو يطعن في العباس رضي الله عنه بأن أخاه كان معاديا للنبي صلى الله عليه وسلم أو يعير عليا بكفر أبي طالب أو يعير بذلك العباس وهل مثل ذلك إلا من كلام من ليس من المسلمين ثم الشعر المذكور ليس من جنس الشعر القديم بل هو شعر ردىء وأما قوله إن الفتح كان في رمضان لثمان من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فهذا صحيح وأما قوله إن معاوية كان مقيما على شركة هاربا من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان قد أهدر دمه فهرب إلى مكة فلما لم يجد له مأوى صار إلى النبي صلى الله عليه وسلم مضطرا فأظهر الإسلام وكان إسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر فهذا من أظهر الكذب فإن معاوية أسلم عام الفتح باتفاق الناس وقد تقدم قوله إنه من المؤلفة قلوبهم والمؤلفة قلوبهم أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين من غنائم هوازن وكان معاوية ممن أعطاه منها

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتألف السادة المطاعين في عشائرهم فان كان معاوية هاربا لم يكن من المؤلفة قلوبهم ولو لم يسلم إلا قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر لم يعط شيئا من غنائم حنين ومن كانت غايته أن يؤمن لم يحتج إلى تأليف وبعض الناس يقول إنه أسلم قبل ذلك فإن في الصحيح عنه أنه قال قصرت عن النبي صلى الله عليه وسلم على المروة رواه البخاري ومسلم ولفظه أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة بمشقص قاله لابن عباس وقال له لا أعلم هذا حجة إلا عليك وهذا قد قيل إنه كان في حجة الوداع ولكن هذا خلاف الأحاديث المروية المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنها كلها متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلمن إحرامه في حجة الوداع إلى يوم النحر وأنه أمر أصحابه أن يحلوا من إحرامهم الحل كله ويصيروا متمتعين بالعمرة إلى الحج إلا من ساق الهدى فإنه يبقى على إحرامه إلى أن يبلغ الهدى محله وكان النبي صلى الله عليه وسلم وعلى وطلحة وطائفة من أصحابه قد ساقواالهدى فلم يحلوا وكانت فاطمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدى فحللن والأحاديث بذلك معروفة في الصحاح والسنن والمساند فعرف أنه لم يقصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ولكن من اعتقد ذلك أباح للمتمتع السائق للهدى أن يقصر من شعره وهو إحدى الروايتين عن أحمد كما أن عنه رواية أنه إذا قدم قبل العشر حل من إحرامه ومالك والشافعي يبيحان لكل متمتع أن يحل من إحرامه وإن كان قد ساق الهدى وأما أبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه وغيرهما من العلماء فيلعمون بالسنة المتواترة أن سائق الهدى لا يحل إلى يوم النحر وتقصير معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم على هذا قد كان قبل حجة الوداع إما في عمرة القضية وعلى هذا فيكون قد أسلم قبل الفتح

كما زعم بعض الناس لكن لا يعرف صحة هذا وإما في عمرة الجعرانة كما روى أن هذا التقصير كان في عمرة الجعرانة وكانت بعد فتح مكة وبعد غزوة حنين وبعد حصاره للطائف فإنه صلى الله عليه وسلم رجع من ذلك فقسم غنائم حنين بالجعرانة واعتمر منها إلى مكة فقصر عنه معاوية رضي الله عنه وكان معاوية قد أسلم حينئذ فإنه أسلم عند فتح مكة واستكتبه النبي صلى الله عليه وسلم لخبرته وأمانته ولا يعرف عنه ولا عن أخيه يزيد بن أبي سفيان أنهما اذيا النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يؤذيه بعض المشركين وأخوه يزيد أفضل منه وبعض الجهال يظن أ يزيد هذا هو يزيد الذي تولى الخلافة بعد معاوية وقتل الحسين في زمنه فيظن يزيد بن معاوية من الصحابة وهذا دهل ظاهر فإن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان وأما يزيد عمه هذا فرجل صالح من خيار الصحابة واستعمله الصديق أحد أمراء الشام ومشة في ركابه ومات في خلافة عمر فولى عمر رضي الله عنه أخاه معاوية رضي الله عنه مكانه أميرا ثم لما ولى عثمان أقره على الإمارة وزاده وبقى أميرا إلى أن قتل عثمان ووقعت الفتنة إلى أن قتل أمير المؤمنين على رضي الله عنه وبايع أهل العراق الحسن بن

علي رضي الله عنهما فأقام ستة أشهر ثم سلم ألمر إلى معاوية تحقيقا لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن ابنى هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين وبقى معاوية بعد ذلك عشرين سنة ومات سنة ستين ومما يبين كذب ما ذكره هذا الرافضي أنه لم يتأخر إسلام أحد من قريش إلى هذه الغاية وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث أبا بكر عام تسع بعد الفتح بأكث رمن سنة ليقيم الجج وينادى أن لا حج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وفي تلك السنة نبذت العهود إلى المشركين وأجلوا أربع أشهر فانقضت المدة في سنة عشر فكان هذا أمانا عاما لكل مشرك من سائر قبائل العرب وغزا النبي صلى الله عليه وسلم غوة تبوك سنة تسع لقتال النصارى بالشام وقد ظهر الإسلام بأرض العرب ولو كان لمعاوية من الذنوب ما كان لكان الإسلام يجب ما قبله فكيف ولم يعرف له ذنب يهرب لأجله أو يهدر دمه لأجله وأهل السير والمغازى متفقون على أنه لم يكن معاوية ممن أهدر دمه عام الفتح فهذه مغازى عروة بن الزبير والزهري وموسة بن عقبة وابن إسحاق والواقدي وسعيد بن يحيى الأموي ومحمد بن عائذ وأبي إسحاق الفزاري وغيرهم وكتب التفسير والحديث كلها تنطق بخلاف ما ذكره ويذكرون

من إهدار النبي صلى الله عليه وسلم دمه مثل مقيس بن حبابة وعبد الله بن خطل وهذان قتلا وأهدر دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ثم بايعه والذين أهدر دماءهم كانوا نفرا قليلا العشرة وأبو سفيان كان أعظم الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم فهو في غزوة بدر الذي أرسل إلى قريش ليستنفرهم وفي غزوة أحد هو الذي جمع الأموال التي كانت معه للتجارة وطلب من قريش أن ينفقها في قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أعظم قواد الجيش يوم أحد وهو قائد الأحزاب أيضا وقد أخذه العباس بغير عهد ولا عقد ومشى عمر معه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله هذا عدو الله أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فاضرب عنقه فقاوله العباس في ذلك فأسلم أبو سفيان وأمنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال من دخل دار أبي سفيان فهو امن ومن دخل المسجد فهو امن ومن ألقى السلاح فهو امن فكيف يهدر دم معاوية وهو شاب صغير ليس له ذنب يختص بهولا عرف عنه أنه كان يحض على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمن رؤوس الأحزاب فهل يظن هذا إلا من هو من أجهل الناس بالسيرة وهذا الذي ذكرناه مجمع عليه بين أهل العلم مذكور في عامة الكتب المصنفة في هذا الشأن وقد بسطنا الكلام على هذا في كتاب الصارم لمسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه عام الفتح وذكرناهم واحدا واحدا نعم كان فيهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ثم إن عثمان رضي الله عنه أتى به فأسلم بمكة وحقن النبي صلى الله عليه وسلم دمه وأما قوله إنه استحق أن يوصف بذلك دون غيره ففريه على أهل السنة فإنه ليس فيهم من يقول إن هذا من خصائص معاوية بل هو واحد من كتاب الوحى وأما عبد الله بن

سعد بن أبي سجر فارتد عن الإسلام وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنه عاد إلى الإسلام وأما قوله إنه نزل فيه ولكن من شرح بالكفر صدرا فهو باطل فإن هذه الاية نزلت بمكة لما أكره عمار وبلال على الكفر وردة هذا كانت بالمدينة بعد الهجرة ولو قدر أنه نزلت فيه هذه الاية فالنبي صلى الله عليه وسلم قد قبل إسلامه وبايعه وقد قال تعالى كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم وأما قوله وقد روى عبد الله بن عمر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي فطلع معاوية وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله القائد والمقود أي يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءةفالجواب أنيقال أولا نحن نطالب بصحة هذا الحديث فإن الاحتجاج بالحديث لا يجوز إلا بعد ثبوته ونحن نقول هذا في مقام المناظرة وإلا فنحن نعلم قطعا أنه كذب ويقال ثانيا هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يرجع إليها في معرفة الحديث ولا له إسناد معروف وهذا المحتج به لم يذكر له إسنادا ثم من جهلة أن يروى مثل هذا عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمر كان من أبعد الناس عن ثلب الصحابة وأروى الناس لمناقبهم وقوله في مدح معاوية معروف ثابت عنه حيث يقول ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية قيل له ولا أبو بكر وعمر فقال كان أبو بكر وعمر خيرامنه وما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية

قال أحمد بن حنبل السيد الحليم يعني معاوية وكان معاوية كريما حليما ثم إن خطب النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن واحدة بل كان يخطب في الجمع والأعياد والحج وغير ذلك ومعاوية وأبوه يشهدان الخطب كما يشهدها المسلمون كلهم أفتراهما في كل خطبة كانا يقومان ويمكنان من ذلك هذا قدح في النبي صلى الله عليه وسلم وفي سائر المسلمين إذ يمكنون اثنين دائما يقومات ولا يحضران الخطبة ولا الجمعه وإن كانا يشهدان كل خطبة فما بالهما يمتنعان من سماع خطبة واحدة قبل أن يتكلم بها ثم من المعلوم من سيرة معاوية أنه كان من أحلم الناس وأصبرهم على من يؤذيه وأعظم الناس تأليفا لمن يعاديه فكيف ينفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه أعظم الخلق مرتبة في الدين والدنيا وهو محتاج إليه في كل أموره فكيف لا يصبر على سماع كلامه وهو بعد الملك كان يسمع كلام من يسبه في وجهه فلماذا لا يسمع كلام النبي صلى اللهعليه وسلم وكيف يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كاتبا من هذه حاله وقوله إنه أخذ بيد ابنه زيدا أو يزيد فمعاوية لم يكن له ابن اسمه زيد وما يزيد ابنه الذي تولى بعده الملك وجرى في خلافته ما جرى فإنما ولد في خلافة عثمان باتفاق أهل العلم ولم يكن لمعاوية ولد عل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحافظ أبو الفضل ابن ناصر خطب معاوية رضي الله عنه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزوج لأنه كان فقيرا وإنما تزوج في زمن عمر رضي الله عنه وولد له يزيد في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة سبه وعشرين من الهجرة ثم نقول ثالثا هذا الحديث يمكن معارضته بمثله من جنسه بما يدل على فضل معاوية رضي الله عنه قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات قد تعصب قوم ممن يدعى السنة فوضعوا في

فضل معاوية رضي الله عنه أحاديث ليغيظوا الرافضة وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمة أحاديث وكلا الفريقين على الخطأ القبيح وأما قوله إنه بالغ في محاربة علي فلا ريب أنه اقتتل العسكران عسكر علي ومعاوية بصفين ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء بل كان من أشد الناس حرصا على أن لا يكون قتال وكان غيره أحرص على القتال منه وقتال صفين للناس فيه أقوال فمنهم من يقول كلاهما كان نجتهدا مصيبا كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام والفقه والحديث ممن يقول كل مجتهد مصيب ويقول كانا مجتهدين وهذا قول كثير من الأشعرية والكرامية والفقهاء وغيرهم وهو قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم وتقول الكرامية كلاهما إمام مصيب ويجوز نصب إمامين للحاجة ومنهم من يقول بل المصيب أحدهما لا بعينه وهذا قول طائفة منهم ومنهم من يقول على هو المصيب وحده ومعاوية مجتهد مخطىء كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفقهاء أهل المذاهب الأربعةوقد حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الله بن حامد بن أصحاب أحمد وغيرهم ومنهم من يقول كان الصواب أن لا يكون قتال وكان ترك القتال خيرا للطائفتين فليس في الاقتاال صواب ولكن على كان أقرب إلى الحق من معاوية والقال قتال فتنة ليس بواجب ولا مستحب وكان ترك القتال خيرا للطائفتين مع أن عليا كان أولى بالحق وهذا هو قول أحمد وأكثر أهل الحديث وأكثر أئمة الفقهاء وهو قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان وهو قول عمران بن حصين رضي الله عنه وكان ينهى عن بيع السلاح في ذلك القتال ويقول هو بيع السلاح في الفتنة وهو قول أسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأكثر من بقى من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ولهذا كان من مذاهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة

فإنه قد ثبتت فضائلهم ووجبت موالاتهم ومحبتهم وما وقع منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان ومنه ما تاب صاحبه منه ومنه ما يكن مغفورا فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضا وذما ويكون هو في ذلك مخطئا بل عاصيا فيضر نفسه ومن خاض معه في ذلك كما جرى لأكثر من تكلم في ذلك فإنهم تكلموا بكلام لا يحبه الله ولا رسوله إما من ذم من لا يستحق الذم وإما من مدح أمور لا تستحق المدح ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف وأما غير هؤلاء فمنهم من يقول كان معاوية فاسقا دون علي كما يقوله بعض المعتزلة ومنهم من يقول بل كان كافرا كما يقوله بعض الرافضة ومنهم من يقول كلاهما كافر على ومعاوية كما يقوله الخوارج ومنهم من يقول فسق أحدهما لا بعينه كما يقوله بعض المعتزلة ومنهم من يقول بل معاوية على الحق وعلى كان ظالما كما تقوله المروانية والكتاب والسنة قد دل على أن الطائفتين مسلمون وأن ترك القتال كان خيرا من وجوده قال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا

فأصلحوا بينهما فإن بغث إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين فسماهم مؤمنين إخوة مع وجود الاقتاال والبغى وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق وهؤلاء المارقة مرقوا على علي فدل على أن طائفته أقرب إلى الحق من طائفة معاوية وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن ابنى هذا سيد وإن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين فأصلح الله به بين أصحاب علي وأصحاب معاوية فمدح النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بالإصلاح بينهما وسماهما مؤمنين وهذا يدل على أن الإصلاح بينهما هو المحمود ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يكن تركه محمودا وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من يستشرف لها تستشرفه ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به أخرجاه في الصحيحين وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوشك أنيكون خير مال المسلم غم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن وفي الصحيح عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كمواقع القطر والذين رووا أحاديث القعود في الفتنة والتحذير منها كسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد لم يقاتلوا لا مع على ولا مع معاوية وقال حذيفة رضي الله عنه ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا

أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له لا تضرك الفتنة وعن ثعلبه بن ضبيعة قال دخلنا على حذيفة فقال إني لأعرف رجلا لا تضره الفتنة شيئا فخرجنا فإذا فسطاط مضروب فدخلنا فإذا فيه محمد بن مسلمة فسألناه عن ذلك فقال ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصارهم حتى تنجلى عما انجلت رواهما أبو داود.
*

فصل
ومما ينبغي أن يعلم أن الأمة يقع فيها أمور بالتأويل في دمائها وأموالها وأعراضها كالقتال واللعن والتكفير وقد ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فعلوته بالسيففقال لا إله إلا الله فطعنته فقتلته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله قال قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا من السلاح ألا فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ وفي الصحيحين عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله بعد أن قالها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله فقلت يا رسول الله إنه قطعها ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله فإنك إنقتلته فإنه يمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أ يقول كلمته التي قالها فقد ثبت أن هؤلاء قتلوا قوما مسلمين لا يحل قتلهم ومع هذا فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا ضمن المقتول بقود ولادية

ولا كفارة لأن القاتل كان متأولا وهذا قول أكثر العلماء كالشافعي وأحمد وغيرهما ومن الناس من يقول بل كانوا أسلموا ولم يهاجروا فثبتت في حقهم العصمة المؤثمة دون المضمنة بمنزلة نساء أهل الحرب وصبيانهم كما يقوله أبو حنيفة وبعض المالكية ثم إن جماهير العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه والشافعي في أحد قوليه يقولون إن أهل العدل والبغاة إذا اقتتلوا بالتأويل لم يضمن هؤلاء ما أتلفوه لهؤلاء من النفوس والأموال حال القتال ولم يضمن هؤلاء ما أتلفوه لهؤلاء كما قال الزهري وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القران فإنه هدر أنزلوهم منزلة الجاهلية يعني بذلك أن القاتل لم يكن يعتقد أنه فعل محرما وإن قيل إنه محم في نفس الأمر فقد ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة واتفاق المسلمين أن الكافر الحربي إذا قتل

مسلما أو أتلف ما له ثم أسلم لم يضمنه بقود ولا دية ولا كفارة مع أن قتله له كان من أعظم الكبائر لأنه كان متأولا وإن كان تأويله فاسدا وكذلك المرتدون المتنعون إذا قتلوا بعض المسلمين لم يضمنوا دمه إذا عادوا إلى الإسلام عند أكثر العلماء كما هو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وإن كان من متأخري أصحابه من يحكيه قولا كأبي بكر عبد العزيز حيث قد نص أحمد على أن المرتد يضمن ما أتلفه بعد الردة فهذا النص في المرتد المقدور عليه وذاك في المحارب الممتنع كما يفرق بين الكافر الذمى والمحارب أو يكون في المسألة روايتان وللشافعي قولان وهذا هو الصواب فإن المرتدين الذين قاتلهم الصديق وسائر الصحابة لم يضمنهم الصحابة بعد عودهم إلى الإسلام بما كانوا قتلوه من المسلمين وأتلفوه من أموالهم لأنهم كانوا متأولين فالبغاة المتأولون كذلك لم تضمنهم الصحابة رضي الله عنهم وإذا كان هذا في الدماء والأموال مع أن من أتلفها خطأ ضمنها بنص القران فكيف في الأعراض مثل لعن بعضهم بعضا وتكفير بعضهم بعضا وقد ثبت في الصحيحين من حديث الإفك قال النبي صلى الله عليه وسلم من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على

أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا والله ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي قال سعد بن معاذ أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال ذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير فقال كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فاستب الحيان حتى جعل رسول الله صلى الله ليه وسلم يخفضهم وكان سعد بن عبادة رضي الله عنه يريد الدفع عن عبد الله بن أبي المنافق فقال له أسيد بن حضير إنك منافق وهذا كان تأويلا منه وكذلك ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لحاطب بن أبي بلتعه دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق لما كاتب المشركين بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه شهد بدرا وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكموثبت في الصحيحين أن طائفة من المسلمين قالوا في مالك بن الدخشن إنه منافق فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يكفرهم فقد ثبت أن في الصحابة من قال عن بعض أمته إنه منافق متأولا في ذلك ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم واحدا منهما وقد ثبت في الصحيح أن فيهم من لعن عبد الله حمارا لكثرة شربه

الخمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ولم يعاقب اللاعن لتأويله والمتأول المخطىء مغفور له بالكتاب والسنة قال الله تعالى في دعاء المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وثبت في الصحيح أن الله عز وجل قال قد فعلت وفي سنن أبن ماجه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان.
*

فصل
إذا تبين هذا فيقال قول الرافضة من أفسد الأقوال وأشدها تناقضا فإنهم يعظمون الأمر على من قاتل عليا ويمدحون من قتل عثمان مع أن الذم والإثم لمن قتل عثمان اعظم من الذم والإثم لمن قاتل عليا فإن عثمانكان خليفة اجتمع الناس عليه ولم يقتل مسلما وقدقاتلوه لينخلع من الأمر فكان عذره في أن يستمر على ولايته أعظم من عذر على في طلبه لطاعتهم له وصبر عثمان حتى قتل مظلوما شهيدا من غير أن يدفع عن نفسه وعلى بدأ بالقتال أصحاب معاوية ولم يكونوا يقاتلونه ولكن امتنعوا من بيعته فإن جاز قتال من امتنع عن بيعة الإمام الذي بايعه نصف المسلمين أو أكثرهم أو نحو ذلك فقتال من قاتل وقتل الإمام الذي أجمع المسلمون على بيعته أولى بالجواز وإن قيل إن عثمان فعل أشياء أنكروها قيل تلك الأشياء لم تبح خلعه ولا قتله وإن أباحت خلقه وقتله كان ما نقموه على علي أولى أن يبيح ترك مبايعته فإنهم إن ادعوا على عثمان نوعا من المحاباة لبني أمية فقد ادعوا على علي تحاملا عليهم وتركا لإنصافهم وأنه بادر بعزل معاوية ولم يكن ليستحق العزل فإن النبي

صلى الله عليه وسلم ولي أباه أبا سفيان على نجران ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمير عليها وكان كثير من أمراء النبي صلى الله عليه وسلم على الأعمال من بني أمية فإنه استعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صدقات مذحج وصنعاء اليمن ولم يزل عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم واستعمل عمرو على تيماء وخيبر وقرى عرينة وأبان بن سعيد بن العاص استعمله أيضا على البحرين برها وبحرها حين عزل العلاء بن الحضرمي فلم يزل عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وأرسله قبل ذلك أميرا على سرايا منها رية إلى نجد وولاه عمر رضي الله عنه ولا يتهم لا في دينه ولا في سياسته وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكمقالوا ومعاوية كانت رعيته تحبه وهو يحبهم ويصلون عليه وهو يصلي عليهم وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم قال مالك بن يخامر سمعت معاذا يقول وهم بالشام قالوا وهؤلاء كانوا عسكر معاوية وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يزل أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة قال أحمد بن حنبل أهل

الغرب هم أهل الشام وقد بسطنا هذا في موضع اخر وهذا النص يتناول عسكر معاوية قالوا ومعاوية أيضا كان خيرا من كثير ممن استنابه على فلم يكن يستحق أن يعزل ويولى من هو دونه في السياسة فإن عليا استناب زياد بن أبيه وقد أشاروا على علي بتولية معاوية قالوا يا أمير المؤمنين توليه شهرا واعزله دهرا ولا ريب أن هذا كان هو المصلحة إما لاستحقاقه وإما لتأليفه واستعطافه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي وولى أبا سفيان ومعاوية خير منه فولى من هو خير من علي من هو دون معاوية فإذا قيل إن عليا كان مجتهدا في ذلك قيل وعثمان كان مجتهدا فيما فعل وأين الاجتهاد في تخصيص بعض الناس بولاية أو إمارة أو مال من الاجتهاد في سفك المسلمين بعضهم دماء بعض حتى ذل المؤمنين وعجزوا عن مقاومة الكفار حتى طمعوا فيهم وفي الاستيلاء عليهم ولا ريب أنه لو لم يكن قتال بل كان معاوية مقيما على سياسة رعيته وعلى مقيما على سياسة رعيته لم يكن في ذلك

من الشر أعظم مما حصل بالاقتتال فإنه بالاقتتال لم تزل هذه الفرقة ولم يجتمعوا على إمام بل سفكت الدماء وقويت العداوة والبغضاء وضعفت الطائفة التي كانت أقرب إلى الحق وهي طائفة علي وصاروا يطلبون من الطائفة الأخرى من المسالمة ما كانت تلك تطلبه ابتداء ومعلوم أن الفعل الذي تكون مصلحته راجحة على مفسدته يحصل به من الخير أعظم مما يحصل بعدمه وهنا لم يحصل بالاقتتال مصلحة بل كان الأمر مع عدم القتال خيرا وأصلح منه بعد القتال وكان علي وعسكره أكثر وأقوى ومعاوية وأصحابه أقرب إلى موافقته ومسالمته ومصالحته فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفورا لصاحبه فاجتهاد عثمان أن يكون مغفورا أولى وأحرى وأما معاوية وأعوانه فيقولون إنما قاتلنا عليا قتال دفع عن أنفسنا وبلادنا فإنه بدأنا بالقتال فدفعناه بالقتال ولم نبتدئه بذلك ولا اعتدينا عليه فإذا قيل لهم هو الإمام الذي كانت تجب طاعته عليكم ومبايعته وأن لا تشقوا عصا المسلمين قالوا ما نعلم أنه إمام تجب طاعته لأن ذلك عند الشيعة إنما يعلم بالنص ولم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه

وسلم نص بإمامته ووجوب طاعته ولا ريب أن عذرهم في هذا ظاهر فإنه لو قدر أن النص الجلي الذي تدعيه الإمامية حق فإن هذا قد كتم وأخفى في زمن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم يجب أن يعلم معاوية وأصحابة مثل ذلك لو كان حقا فكيف إذا كان باطلا وأما قوله الخلافة ثلاثون سنة ونحو ذلك فهذه الأحاديث لم تكن مشهورة شهرة يعلمها مثل أولئك إنما هي من نقل الخاصة لا سيما وليست من أحاديث الصحيحين وغيرهما وإذا كان عبد الملك بن مروان خفى عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها ما بين ونحو ذلك حتى هدم ما فعله ابن الزبير ثم لما بلغه ذلك قال وددت أني وليته من ذلك ما تولاه مع أن حديث عائشة رضي الله عنها ثابت صحيح متفق على صحته عند أهل العلم فلأن يخفى على معاوية وأصحابه قوله الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا بطريق الأولى مع أن هذا في أول خلافة علي رضي الله عنه لا يدل على علي عينا وإنما علمت دلالته على ذلك لما مات رضي الله عنه مع أنه ليس نصا في إثبات خليفة معين

ومن جوز خليفتين في وقت يقول كلاهما خلافة نبوة فإن معاوية رضي الله عنه كان في أول خلافته محمودا عندهم أكثر مما كان في اخرها وإن قيل إن خلافة علي ثبتت بمبايعة أهل الشوكة كما ثبتت خلافة من كان قبله بذلك أو ردوا على ذلك أن طلحة بايعه مكرها والذين بايعوه قاتلوه فلم تتفق أهل الشوكة على طاعته وأيضا فإنما تجب مبايعته كمبايعة من قبله إذا سار سيرة من قبله وأولئك كانوا قادرين على دفع الظلم عمن يبايعهم وفاعلين لما يقدرون عليه من ذلك وهؤلاء قالوا إذا بايعناه كنا في ولايته نظلومين بولايته مع الظلم الذي تقدم لعثمان وهو لا ينصفنا إما لعجزه عن ذلك وإما تأويلا منه وإما لما ينسبه إليه اخرون منهم فإن قتلة عثمان وحلفاءهم أعداؤنا وهم كثيرون في عسكره وهو عاجز عن دفعهم بدليل ما جرى يوم الجمل فإنه لما طلب طلحة والزبير الانتصار من قتلة عثمان قامت قبائلهم فقاتلوهم ولهذا كان الإمساك عن مثل هذا هو المصلحة كما أشار به على علي طلحة والزبير واتفقوا على ذلك ثم إن القتلة أحسوا باتفاق الأكابر فأثاروا الفتنة وبدأوا بالحملة على عسكر طلحة والزبير وقالوا لعلي إنهم

حملوا قبل ذلك فقاتل كل من هؤلاء وهؤلاء دفعا عن نفسه ولم لعلي ولا لطلحة والزبير غرض في القتال أصلا وإنما كان الشر من قتلة عثمان وإذا كان لا ينصفنا إما تأويلا منه وإما عجزا منه عن نصرتنا فليس علينا أن نبايع من نظلم بولايته لا لتأوليه ولا لعجزه قالوا والذين جوزوا قتالنا قالوا إنا بغاة والبغي ظلم فإن كان مجرد الظلم مبيحا للقتال فلأن يكون مبيحا لترك المبايعة أولى وأحرى فإن القتال أعظم فسادا من ترك المبايعة بلا قتال وإن قيل علي رضي الله عنه لم يكن متعمدا لزلمهم بل كان مجتهدا في العدل لهم وعليهم قالوا وكذلك نحن لم نكن متعمدين للبغي بل مجتهدين في العدل له وعليه وإذا كنا بغاة كنا بغاة للتأويل والله تعالى لم يأمر بقتال الباغي ابتداء وليس مجرد البغي مبيحا للقتال بل قال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فأمر بالإصلاح عند الاقتتال ثم قال فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله وهذا بغي بعد الاقتتال فإنه بغي إحدى الطائفتين المقتتلتين لا بغي بدون الاقتتال فالبغي المجرد

لا يبيح القتال مع أن الذي في الحديث أن عمارا تقتله الفئة الباغية قد تكون الفئة التي باشرت قتله هم البغاة لكونهم قاتلوا لغير حاجة إلى القتال أو لغير ذلك وقد تكون غير بغاة قبل القتال لكن لما اقتتلتا بغيتا وحينئذ قتل عمارا الفئة الباغية فليس في الحديث ما يدل علي أن البغي كان منا قبل القتال ولما بغينا كان عسكر علي متخاذلا لم يقاتلنا ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها ترك الناس العمل بهذا الاية وأما قوله إن معاوية قتل جمعا كثيرا من خيار الصحابة فيقال الذين قتلوا قتلوا من الطائفتين قتل هؤلاء من هؤلاء وهؤلاء من هؤلاء وأكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا عليا ولا معاوية وكان علي ومعاوية رضي الله عنهما أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين لكن غلبا فيما وقع والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها وكان في العسكرين مثل الأشتر النخعي وهاشم بن عتبة المرقال وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وأبي الأعور السلمي ونحوهم من المحرضين على القتال قوم ينتصرون لعثمان

غاية الانتصار وقوم ينفرون عنه وقوم ينتصرون لعلي وقوم ينفرون عنه ثم قتال أصحاب معاوية معه لم يكن لخصوص معاوية بل كان لأسباب أخرة وقتال مثل قتال الجاهلية لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم كما قال الزهري وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القران فإنه هدر أنزلوهم منزلة الجاهلية وأما ما ذكره من لعن علي فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة وكان هؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم وهؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم وقيل إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان وهذا كله سواء كان ذنبا أو اجتهادا مخطئا أو مصيبا فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك ثم من العجب أن الرافضة تنكر سب علي وهم يسبون أبا بكر وعمر وعثمان ويكفرونهم ومن والاهم ومعاوية رضي الله عنه وأصحابه ما كانوا يكفرون عليا وإنما يكفره الخوارج المارقون والرافضة شر منهم فلو أنكرت الخوارج السب لكان تناقضا منهم فكيف إذا أنكرته الرافضة ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة لا علي ولا عثمان ولا غيرهما ومن سب أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثما ممن سب عليا

وإن كان متأولا فتأويله أفسد من تأويل من سب عليا وإن كان المتأول في سبهم ليس بمذموم لم يكن أصحاب معاوية مذمومين وإن كان مذموما كان ذم الشيعة الذين سبوا الثلاثة أعظم من سب الناصبة الذين سبوا عليت وحده فعلى كل تقدير هؤلاء أبعد عن الحق وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وأما قوله إن معاوية سم الحسن فهذا مما ذكره بعض الناس ولم يثبت ذلك ببينة شرعية أو إقرار معتبر ولا نقل يجزم به وهذا مما لا يمكن العلم به فالقول به قول بلا علم وقد رأينا في زماننا من يقال عنه إنه سم ومات مسموما من الملوك وغيرهم ويختلف الناس في ذلك حتى في نفس الموضع الذي مات فيه ذلك الملك والقلعة التي مات فيها فتجد كلا منهم يحدث بالشيء بخلاف ما يحدث به الاخر ويقول هذا سمه فلان وهذا يقول بل سمه غيره لأنه جرى كذا وهي واقعة في زمانك والذين كانوا في قلعته هم الذين يحدثونك والحسن رضي الله عنه قد نقل عنه أنه مات مسموما وهذا مما يمكنأن يعلم فإن موت المسموم لا يخفى لكن يقال إن امرأته سمته ولا ريب أنه مات بالمدينة ومعاوية بالشام فغاية ما يظن الظان أن يقال إن معاوية أرسل إليها وأمرها بذلك وقد يقال بل سمته امرأته لغرض اخر مما تفعله النساء فإنه كان مطلاقا لا يدوم مع امرأة وقد قيل إن أباها الأشعث بن قيس أمرها بذلك فإنه كان يتهم بالانحراف في الباطن عن علي وابنه الحسن وإذا قيل إن معاوية أمر أباها كان هذا ظنا محضا والنبي صلى الله عليه وسلم قال إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وبالجملة فمثل هذا لا يحكم به في الشرع باتفاق المسلمين فلا يترتب

عليه أمر ظاهر لا مدح ولا ذم والله أعلم ثم إن الأشعث بن قيس مات سنة أربعين وقيل سنة إحدى وأربعين ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين معاوية والحسن بن علي في العام الذي كان يسمى عام الجماعة وهو عام أحد وأربعين وكان الأشعث حما الحسن بن علي فلو كان شاهدا لكان يكون له ذكر في ذلك وإذا كان قد مات قبل الحسن بنحو عشر سنين فكيف يكون هو الذي أمر ابنته أن تسم الحسن والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحال وهو يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون فإن كان قد وقع شيء من ذلك فهو من باب قتال بعضهم بعضا كما تقدم وقتال المسلمين بعضهم بعضا بتأويل وسب بعضهم بعضا بتأويل وتكفير بعضهم بعضا بتأويل باب عظيم ومن لم يعلم حقيقة الواجب فيه وإلا ضلوأما قوله وقتل ابنه يزيد مولانا الحسين ونهب نساءه فيقال إن يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق والحسين رضي الله عنه كان يظن أن أهل العراق ينصرونه ويفون له بما كتبوا إليه فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل فلما قتلوا مسلما وغدروا به وبايعوا ابن زياد أراد الرجوع فأدركته السرية الظالمة فطلب أن يذهب إلى يزيد أو يذهب إلى الثغر أو يرجع إلى بلده قلم يمكنوه من شيء من ذلك حتى يستأسر لهم فامتنع فقاتلوه حتى قتل شهيدا مظلوما رضي الل هعنه ولما بلغ ذلك يزيد أظهر التوجع على ذلك وظهر البكاء في داره ولم يسب له حريما أصلا بل أكرم أهل بيته وأجازهم حتى ردهم إلى بلدهم ولو قدر أن يزيد قتل الحسين لم يكن ذنب ابنه ذنبا له فإن الله تعالى يقول ولا تزر وازرة وزر أخرى وقد اتفق الناس على أن معاوية رضي الله عنه وصى يزيد برعاية حق الحسين وتعظيم قدره وعمر بن سعد كان هو أمير السرية التي قتلت الحسين وأبوه سعد كان من أبعد الناس عن الفتن ولابنه هذا معه قصة معروفة لما حضه على

طلب الخلافة وامتناع سعد من ذلك ولم يكن بقى من أهل الشورى غيره ففي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال كان سعد بن أبي وقاص في إبله فجاءه ابنه عمر فلما راه سعد قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم فضرب سعد في صدره فقال اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ومحمد بن أبي بكر يقال إنه أعان على قتل عثمان وكان أبوه أبو بكر رضي الله عنه من أشد الناس تعظيما لعثمان فهل روى أحد من أهل السنة قدحا في أبي بكر لأجل فعل ابنه وإذا قيل إن معاوية رضي اله عنه استخلف يزيد وبسب ولايته فعلى هذا قيل اسخلافه إن كان جائزا لم يضره ما فعل وإن لم يكن جائزا فذاك ذنب مستقل ولو لم يقتل الحسين وهو مع ذلك كان من أحرص الناس على إكرم الحسين رضي الله عنه وصيانة حرمته فضلا عن دمه فمع هذا القصد والاجتهاد لا يضاف إليه فعل أهل الفسادوأما قوله وكسر أبوه ثنية النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت أمه كبد حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم فلا ريب أن أبا سفيان بن حرب كان قائد المشركين يوم أحد وكسرت ذلك اليوم ثنية النبي صلى الله عليه وسلم كسرها بعض المشركين لكن لم يقل أحد إن أبا سفيان باشر ذلك وإنما كسرها عتبة بن أبي وقاص وأخذت هند كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تبلعها فلفظتها وكان هذا قبل إسلامهم ثم بعد ذلك أسلموا وحسن إسلامهم وإسلام هند وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمها والإسلام يجب ما قبله وقد قال الله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ماقد سلف وفي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال حضرنا

عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار فجعل ابنه يقول ما يبكيك يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أما بشرك بكذا قال فأقبل بوجهه فقال إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إني قد كنت على أطباق ثلاث لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا أحب إلى أن أكون قج استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار فلما جعل الله عز وجل الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ابسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه قال فقبضت يدي فقال مالك يا عمرو قال قلت أريد أن اشترط قال تشترط بماذا قلت أن يغفر لي قال أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله وذكر الحديث وفي البخاري لما أسلمت هند أم معاوية رضي الله عنهما قالتوالله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب أن يعزوا من أهل خبائك.
*

فصل
قال الرافضي وسموا خالد بن الوليد سيف الله عنادا لأمير المؤمنين الذي هو أحق بهذا الاسم حيث قتل بسيفه الكفار وثبت بواسطته قواعد الدين وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سيف الله وسهم الله وقال علي على المنبر أنا سيف الله على أعدائه ورحمته لأوليائه وخالد لم يزل عدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكذبا له وهو كان السبب في قتل المسلمين يوم أحد وفي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم وفي قتل حمزه عمه ولما تظاهر بالإسلام بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني جذيمة ليأخذ منهم

الصدقات فخانه وخالفه على أمره وقتل المسلمين فقام النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه خطيبا بالإنكار عليه رافعا يديه إلى السماء حتى شوهد بياض إبطيه وهو يقول اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ثم أنف إليه بأمير المؤمنين لتلافى فارطه وأمره بأن يسترضى القوم من فعله.
*فيقال أما تسمية خالد بسيف الله فليس هو مختصا به بل هو سيف من سيوف الله سلة الله على المشركين هكذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم هو أول من سماه بهذا الاسم كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أيوب السختياني عن حميد بن هلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن البي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيه خبرهم فقال أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها ابن رواحه فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذها سيف من سيوف الله خالد حتى فتح الله عليهم وهذا لا يمنع أن يكون غيره سيفا لله تعالى بل هو يتضمن أن سيوف الله متعددة وهو واحد منها ولا ريب أن خالدا قتل من الكفار أكثر مما قتل غيره وكان سعيدا في حروبه وهو أسلم قبل فتح مكة بعد الحديبية وهو وعمرو بن العاص وشيبة بن عثمان وغيرهم ومن حين أسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمره في الجهاد وخرج في غزوة مؤته التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل

فعبد الله بن رواحة وكانت قبل فتح مكة ولهذا لم يشهد هؤلاء فتح مكة فلما قتل هؤلاء الأمراء أخذ الراية خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح الله على يديه وانقطع في يده يوم مؤتة تسعة أسياف وما ثبت معه إلا صفيحة يمانية رواه البخاري ومسلم ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره يوم فتح مكة وأرسله إلى هدم العزى وأرسله إلى بنة جذيمة وأرسله إلى غير هؤلاء وكان أحيانا يفعل ما ينكره عليه كما فعل يوم بني جذيمة وتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ثم إنه مع هذا لا يعزله بل يقره على إمارته وقد اختصم هو وعبد الرحمن بن عوف يوم بني جذيمة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فوالدي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وأمره أبو بكر على قتال أهل الردة وفتح العراق والشام فكان من أعظم الناس غناء في قتال العدو وهذا أمر لا يمكن أحد إنكاره فلا ريب إنه سيف من سيوف الله سله الله على المشركين

وأما قوله على أحق بهذا الاسم فيقال أولا من الذي نازع في ذلك ومن قال إن عليا لم يكن سيفا من سيوف الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت في الصحيح يدل على أن لله سيوفا متعددة ولا ريب أن عليا من أعظمها وما في المسلمين من يفضل خالدا على علي حتى يقال إنهم جعلوا هذا مختصا بخالد والتسمية بذلك وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فهو صلى الله عليه وسلم الذي قال إن خالدا سيف من سيوف الله ثم يقال ثانيا على أجل قدرا من خالد وأجل من أن تجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله فإن عليا له من العلم والبيان والدين والإيمان والسابقة ما هو به أعظم من أن تجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله فإن السيف خاصته القتال وعلي كان القتال أحد فضائله بخلاف خالد فإنه كان هو فضيلته التي تميز بها عن غيره لم يتقدم بسابقة ولا كثرة علم ولا عظيم زهد وإنما تقدم بالقتال فلهذا عبر عن خالد بأنه سيف من سيوف الله وقوله إن عليا قتل بسيفه الكفارفلا ريب أنه لم يقتل إلا بعض الكفار وكذلك سائر المشهورين بالقتال من الصحابة كعمر والزبير وحمزة والمقداد وأبي طلحة والبراء بن مالك وغيرهم رضي الله عنهم ما منهم من أحد إلا قتل بسيفه طائفة من الكفار والبراء بن مالك قتل مائة رجل مبارزة غير من شرك في دمه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة وقال إن لكل نبي حوارة وإن حوارة الزبير وكلا الحديثين في الصحيح وفي المغازى انه قال لعلي يوم أحد لما قال لفاطمة عن السيف اغسليه غير ذميم إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان

وقال عن البراء بن مالك إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك وكانو يقولون في المغازى للبراء بن مالك يا براء أقسم على ربك فيقسم على ربه فيهزم الكفار ثم في اخر غزوة فزاها قال أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد فاستشهد رضي الله عنه والقتال يكون بالدعاء كما يكون باليد قال النبي صلى الله عليه وسلم هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهموكان صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين ومع هذا فعلى أفضل من البراء بن مالك وأمثاله فكيف لا يكون أفضل من خالد وأما قوله وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سيف الله وسهم الله فهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث ولا له إسناد معروف ومعناه باطل فإن عليا ليس هو وحده سيف الله وسهمه وهذه العبارة يقتضي ظاهرها الحصروالذي في الصحيح أن أبا بكر قال يوم حنين لا ها الله إذن لا نعمد إلى أسد من أسود الله تعالى يقاتل عن الله عز وجل وعن رسوله فنعطيك سلبه فإن أريد بذلك أن علي وحده سيف الله وسهم الله فهذا باطل وإن أريد به أنه سيف من سيوف الله فعلى أجل من ذلك وأفضل وذلك بعض فضائله وكذلك ما نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال على المنبر أنا سيف الله على أعدائه ورحمته لأوليائه فهذا لا إسناد له ولا يعرف له صحة لكن إن كان قاله فمعناه صحيح وهو قدر مشترك بينه وبين أمثاله قال الله تعالى فيهم أشداء على الكفار رحماء بينهم وقال أذلة على المؤمنين أعزة على الكفافرين وكل من المهاجرين المجاهدين كان سيفا على أعداء الله ورحمة لأولياء الله ولا يجوز أن يريد أني أنا وحدي سيف الله وأنا وحدي رحمة

على أولياء الله فغن هذا من الكذب الذي يجب تنزيه على عن أن يقوله وإن أريد أنه في ذلك أكمل من غيره فالحصر للكمال فهذا صحيح في زمنه وإلا فمعلوم أن عمر كان قهره للكفار أعظم وانتفاع المؤمنين به أعظم وانتفاع المؤمنين به أعظم وهذا مما يعرفه كل من عرف السيرتين فإن المؤمنين جميعهم حصل لهم بولاية عمر رضي الله عنه من الرحمة في دينهم ودنياهم ما لم يحصل شيء منه بولاية علي وحصل لجميع أعداء الدين من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين من القهر والقتل والذل بولاية عمر رضي الله عنه ما لم يحصل شيء منه بولاية علي هذا أمر معلوم للخاصة والعامة ولم يكن في خلافة علي للمؤمنين الرحمة التي كانت في زمن عمر وعثمان بل كانوا يقتتلون ويتلاعنون ولم يكن لهم على الفار سيف بل الكفار كانوا قد طمعوا فيهم وأخذوا منهم أموالا وبلادا فكيف يظن مع هذا تقدم على في هذا الوصف على عمر وعثمان ثم الرافضة يتناقضون فإنهم يصفون عليا بأنه كان هو الناصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لولا هو لما قام دينه ثم يصفونه بالعجز والذل والمنفى لذلك

وأما قوله وخالد لم يزل عدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكذبا له فهذا كان قبل إسلامه كما كان الصحابة كلهم مكذبين له قبل الإسلام من بني هاشم وغير بني هاشم مثل أبي سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب وأخيه ربيعة وحمزة عمه وعقيل وغيرهم وقوله وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني جذيمة ليأخذ منهم الصدقات فخانه وخالفه على أمره وقتل المسلمين فقام النبي صلى الله عليه وسلم خيبا بالإنكار عليه رافعا يديه إلى السماء حتى شوهد بياض إبطيه وهو يقول اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ثم أنفذ إليه بأمير المؤمنين لتلافى فارطه وأمره أن يسترضى القوم من فعله فيقال هذا النقل فيه من الجهل والتحريف مالا يخفى على من يعلم السيرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إليهم بعد فتح مكة ليسلموا فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبأنا صبأنا فلم يقبل ذلك منهم وقال إن هذا ليس بإسلام فقتلهم فأنكر ذلك عليه من معه من أعيان الصحابة كسالم مولى أبي حذيفة وعبد الله بن عمر وغيرهما ولما بلغ ذلك النبي صلى وسلم رفع يديه إلى السماء وقالاللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد لأنه خاف أن يطالبه الله بما جرى عليهم من العدوان وقد قال تعالى فإن عصوك فقل إني برىء مما تعلمون ثم أرسل عليا وأرسل معه مالا فأعطاهم نصف الديات وضمن لهم ما تلف حتى ميلغة الكلب ودفع إليهم ما بقي احتياطا لئلا يكون بقى شيء لم يعلم به ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعزل خالدا عن الإمارة بل ما زال يؤمره ويقدمه لأن الأمير إذا جرى منه خطأ أو ذنب أمر بالرجوع عن ذلك وأقر على ولايته ولم يكن خالد معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم بل كان مطيعا له ولكن لم يكن في الفقه والدين بمنزلة غيره فخفي عليه حكم هذه القضية ويقال إنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية وكان ذلك مما حركة على قتلهم وعلي كان رسولا في ذلك

وأما قوله إنه أمره أن يسترضي القوم من فعله فكلام جاهل فإنما أرسله لإنصافهم وضمان ما تلف لهم لا لمجرد الاسترضاء وكذلك قوله عن خالد إنه خانه وخالف أمره وقتل المسلمين كذب على خالد فإن خالدا لم يتعمد خيانة النبي صلى الله عليه وسلم ولا مخالفة أمره ولا قتل من هو مسلم معصوم عنده ولكنه أخطأ كما أخطأ أسامة بن زيد في الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله وقتل السرية لصاحب الغنيمة الذي قال أنا مسلم فقتلوه وأخذوا غنمه السرية لصاحب الغنيمة الذي قال أنا مسلم فقتلوه وأخذوا غنمه وأنزل الله في ذلك يا أيها الذين امنوا إذا ضربتم في سبيل لله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون خبيرا وفي صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقات من جهينة فصبحنا القوم فهزمناهم قال ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا المدينة بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله قال قلت يا رسول الله إنما قالها متعوذا

قال فقتله بعد أن قال لا إله إلا الله فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
*

فصل
قال الرافضي ولما قبض الني صلى الله عليه وسلم وأنفذه أبو بكر لقتال أهل اليمامة قتل منهم ألفا ومائتي نفر مع تظاهرهم بالإسلام وقتل مالك بن نويرة صبرا وهو مسلم وعرس بامرأته وسموا بني حنيفة أهل الردة لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر لأنهم لم يعتقدوا إمامته واستحل دماءهم وأموالهم ونساءهم حتى أنكر عمر عليه فسموا مانع الزكاة مرتدا ولم يسموا من استحل دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين مرتدا مع أنهم سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم يا عليحربك حربي وسلمك سلمي ومحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر بالإجماع.
*والجواب بعد أن يقال الله أكبر على هؤلاء المرتدين المفترين أتباع المرتدين الذين برزوا بمعاداة الله ورسوله وكتابه ودينه ومرقوا من الإسلام ونبذوه وراء ظهورهم وشاقوا الله ورسوله وعباده المؤمنين وتولوا أهل الردة والشقاق فإن هذا الفصل وأمثاله من كلامهم يحقق أن هؤلاء القوم المتعصبين على الصديق رضي الله عنه وحزبه من أصولهم من جنس المرتدين الكفار كالمرتدين الذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه وذلك أن أهل اليمامة هم بنو حنيفة الذين كانوا قد امنوا بمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد قدم المدينة وأظهر الإسلام وقال إن جعل محمد لي الأمر من بعده امنت به ثم لما صار إلى اليمامة ادعى أنه شريك النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة وأن النبي صلى الله عليه وسلم صدقه على ذلك وشهد له الرجال بن عنفوة وكان قد صنف قرانا يقول فيه والطاحنات طحنا فالعاجنات عجنا فالخابزات خبزا إهالة وسمنا إن الأرض بيننا وبين

قريش نصفين ولكن قريشا قوم لا يعدلون ومنه قوله لعنه الله يا ضفدع بنت ضفدعين نقى كم تنقين لا الماء تدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء ودنبك في الطين ومنه قوله لعنه الله الفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا الجليل ونحو ذلك من الهذيان السج الذي قال فيه الصديق رضي الله عنه لقومه لما قرؤوه عليه ويلكم أين يذهب بعقولكم إن هذا كلام لم يخرج من إل وكان هذا الكذاب قد كتب للنبي صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فقاتله بمن معه من المسلمين بعد أن قاتلخالد بن الوليد طليحة الأسدي الذي كان أيض قد ادعى النبوة واتبعه طوائف من أهل نجد فلما نصر الله المؤمنين على هؤلاء وهزموهم وقتل ذلك اليوم عكاشة بن محصن الأسدي وأسلم بعد ذلك طليحة الأسدي هذا ذهبوا بعد ذلك إلى قتال مسيلمة الكذاب البيمامة ولقي المؤمنون في حربه شدة عظيمة وقتل في حربه طائفة من خيار الصحابة مثل زيد بن الخطاب وثابت بن قيس بن الشماس وأسيد بن حضير وغيرهم وفي الجملة فأمر مسيلمة الكذاب وادعاؤه النبوة واتباع بني حنيفة له باليمامة وقتال الصديق لهم على ذلك أمر متواتر مشهور قد علمه الخاص والعام كتواتر أمثاله وليس هذا من العلم الذي تفرد به الخاصة بل علم الناس بذلك أظهر من علمهم بقتال الجمل وصفين فقد ذكر عن بعض أهل الكلام أنه أنكر الجمل وصفين وهذا الإنكار وإن كان باطلا فلم نعلم أحدا أنكر قتال أهل اليمامة وأن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة وأنهم قاتلوه على ذلك

لكن هؤلاء الرافضة من جحدهم لهذا وجهلهم به بمنزلة إنكارهم لكون أبي بكر وعمر دفنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وإنكارهم لموالاة أبي بكر وعمر للنبي صلى اله عليه وسلم ودعواهم أنه نص على علي بالخلافة بل منهم من ينكر أن تكون زينب ورقية وأم كلثوم من بنات النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون إنهن لخديجة من زوجها الذي كان كافرا قبل النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول إن عمر غصب بنت علي حتى زوجه بها وأنه تزوج غصبا في الإسلام ومنهم من يقول إنهم بعجوا بطن فاطمة حتى أسقطت وهدموا سقف بيتها على من فيه وأمثال هذه الأكاذيب التي يعلم من له أدنى علم ومعرفة أنها كذب فهم دائما يعمدون إلى الأمور المعلومة المتواترة ينكرونها وإلى الأمور المعدومة التي لا حقيقة لها يثبتونها فلهم أوفر نصيب من قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق فهم يفترون الكذب ويكذبون بالحق وهذا حال المرتدين وهم يدعون أن أبا بكر وعمر ومن اتبعهما ارتدوا عن الإسلام وقد علم الخاص والعام أن أبا بكر هو الذي قاتل المرتدين فإذا كانوا يدعون أن أهل اليمامة مظلومون قتلوا بغير حق وكانوا منكرين لقتال أولئك

متأولين لهم كان هذا مما يحقق أن هؤلاء الخلف تبع لأولئك السلف وأن الصديق وأتباعه يقاتلون المرتدين في كل زمان وقوله إنهم سموا بني حنيفة مرتدين لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر فهذا من أظهر الكذب وأبينه فإنه إنما قاتل بني حنيفة لكونهم امنوا بمسيلمة الكذاب واعتقدوا نبوته وأما مانعو الزكاة فكانوا قوما اخرين غير بني حنيفة وهؤلاء كان قد وقع لبعض الصحابة شبهة في جواز قتالهم وأما بنو حنيفة فلم يتوقف أحد في وجوب قتالهم وأما مانعو الزكاة فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال له أبو بكر ألم يقل إلا بحقها فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا أو عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه

وهؤلاء لم يقاتلوهم لكونهم لم يؤدوها إلى الصديق فإنهم لو أعطوها بأنفسهم لمستحقيها ولم يؤدوها إليه لم يقاتلهم هذا قول جمهور العلماء كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما وقالوا إذا قالوا نحن نؤديها بأنفسنا ولا ندفعها إلى الإمام لم يكن له قتالهم فإن الصديق رضي الله عنه لم يقاتل أحدا على طاعته ولا ألزام أحدا بمبايعته ولهذا لما تخلف عن بيعته سعد لم يكرهه على ذلك فقول القائل سموا بني حنيفة أهل الردة لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر لأنهم لم يعتقدوا إمامته من أظهر الكذب والفرية وذلك قوله إن عمر أنكر قتال بني حنيفة وأما قوله ولم يسموا من استحل دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين مرتدا مع أنهم سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم يا علي حربك حربي وسلمك سلمي ومحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر بالإجماع فيقال في الجواب أولا دعواهم أنهم سمعوا هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم أو عنه كذب عليهم فمن الذي نقل عنهم أنهم سمعوا ذلك وهذا الحديث ليس في شيء من كتب علماء الحديث

المعروفة لا روي بإسناد معروف ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله لم يجب أن يكونوا قد سمعوه فإنه لم يسمع كل منهم كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف إذا لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ولا روي بلإسناد معروف بل كيف إذا علم أنه كذب موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم بالحديث وعلي رضي الله عنه لم يكن قتاله يوم الجمل وصفين بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان رأياه راه وقال أبو داوود في سننه حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الهذلي حدثنا اب علية عن يونس عن الحسن عن قيس بن عباد قال قلت لعلي رضي الله عنه أخبرنا عن مسيرك هذا أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته قال ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولكنه رأى رأيته ولو كان محارب علي محاربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرتدا لكان علي يسير فيهم السيرة في المرتدين وقد تواتر عن علي يوم الجمل لما قاتلهم أنه لم يتبع مدبرهم ولم يجهز على جريحهم ولم يغنم لهم مالا ولا سبىلهم ذرية وأمر مناديه ينادي في عسكره أن لا يتبع لهم مدبر ولا يجهز على جريحهم ولا تغنم أموالهم ولو كانوا عنده مرتدين لأجهز على جريحهم واتبع مدبرهم وهذا مما أنكره الخوارج عليه وقالوا له إن كانوا مؤمنين فلا يحل قتالهم وإن كانوا كفارا فلم حرمت أموالهم ونساءهم فأرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنهما فناظرهم وقال لهم كانت عائشة فيهم فإن قلتم إنها ليست أمنا كفرتم بكتاب الله وإن قلتم هي أمنا استحللتم وطأها كفرتم بكتاب الله وكذلك أصحاب الجمل كان يقول فيهم إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف وقد نقل عنه رضي الله عنه أنه صلى على قتلى الطائفتين وسيجىء إن شاء الله بعض الاثار بذلك وإن كان أولئك مرتدين وقد نزل الحسن عن أمر المسلمين

وسلمه إلى كافر مرتد كان المعصوم عندهم قد سلم أمر المسلمين إلى المرتدين وليس هذا من فعل المؤمنين فضلا عن المعصومين وأيضا المرتدون منتصرين على المؤمنين دائما والله تعالى يقول في كتابه إنا لننصر رسلنا والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ويقول في كتابه ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرلسني إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ويقول في كتابه ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وهؤلاء الرافضة الذين يدعون أنهم المؤمنون إنما لهم الذل والصغار ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وأيضا فإن الله تعالى يقول في كتابه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فقد جعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال والبغي وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالتمرق مارقة علي حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق وقال إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظئمتين من المسلمين وقال لعمار تقتلك الفئة الباغية لم يقل الكافرة وهذه الأحاديث صحيحة عند أهل العلم بالحديث وهي مروية بأسانيد متنوعة لم يأخذ بعضهم عن بعض وهذا مما يوجب العلم بمضمونها وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الطائفتين المفترقتين مسلمتان ومدح من أصلح الله به بينهما وقد أخبر أنه تمرق مارقة وأنه تقتلها أدنى الطائفتين إلي الحق.
ثم يقال لهؤلاء الرافضة لو قالت لكم النواصب علي قد استحل دماء المسلمين وقاتلهم بغير أمر الله ورسوله على رياسته وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وقال

ولا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فيكون علي كافرا لذلك لم تكن حجتكم أقوى من حجتهم لأن الأحاديث التي احتجوا بها صحيحة وأيضا فيقولون قتل النفوس فساد فمن قتل النفوس على طاعته كان مريدا للعلو في الأرض والفساد وهذا حال فرعون والله تعالى يقول تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين فمن أراد العلو في الأرض والفساد لم يكن من أهل السعادة في الاخرة وليس هذا كقتال الصديق للمرتدين ولمانعي الزكاة فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله لا على طاعته، فإن الزكاة فرض عليهم فقاتلهم عللا الإقرار بها وعلى أدائها. بخلاف من قاتل ليطاع هو.
ولهذا قال للإمام أحمد وأبو حنيفة وغيرهما من قال أنا أؤدي الزكاة ولا أعطيها للإمام لم يكن للإمام أن يقاتله وهذا فيه نزاع بين الفقهاء فمن يجوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوز قتال هؤلاء وهو قول طائفة من الفقهاء ويحكى هذا عن الشافعي رحمه الله

ومن لم يجوز القتال إلا على ترك طاعة الله ورسوله لا على ترك طاعة شخص معين لم يجوز قتال هؤلاء وفي الجملة فالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء به فلهذا كانوا مرتدين بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين كمعاوية وأهل الشام فإن هؤلاء كانوا مقرين بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وقالوا نحن نقوم بالواجبات من غير دخول في طاعة علي رضي الله عنه لما علينا في ذلك من الضرر فأين هؤلاء من هؤلاء وأعلم أن طائفة من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد جعلوا قتال مانعي الزكاة وقتال الخوارج جميعا من قتال البغاة وجعلوا تال الجمل وصفين من هذا الباب وهذا القول خطأ مخالف لقول الأئمة الكبار وهو خلاف نص مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من أئمة السلف ومخالف للسنة الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الخوارج أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم واتفق على ذلك الصحابة وأما القتال بالجمل وصفين فهو قتال فتنة وليس فيه أمر من الله ورسوله ولا إجماع من الصحابة وأما قتال مانعي الزكاة إذا كانوا ممتنعين عن أدائها بالكلية أو عن الإقرار بها فهو أعظم من قتال الخوارج

وأهل صفين لم يبدؤوا عليا بالقتال وأبو حنيفة وغيره ولا يجوزون قال البغاة إلا أن يبدؤوا الإمام بالقتال وكذلك أحمد وأبو حنيفة ومالك لا يجوزون قتال من قام بالواجب إذا كانت طائفة ممتنعة قالت لا نؤدي وكاتنا إلى فلان فيجب الفرق بين قتال المرتدين وقتال الخوارج المارقين وأما قتال البغاة المذكورين في القران فنوع ثالث غير هذا وهذا فإن الله تعالى لم يأمر بقتال البغاة ابتداء بل أمر إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين بالإصلاح بينهما وليس هذا حكم المرتدين ولا حكم الخوارج والقتال يوم الجمل وصفين فيه نزاع هل هو من باب قتال البغاة المأمور به في القران أو هو قتال فتنة القاعد فيه خير من القائم فالقاعدون من الصحابة وجمهور أهل الحديث والسنة وأئمة الفقهاء بعدهم يقولون هو قتال فتنة ليس هو قتال البغاة المأمور به في القران فإن الله لم يأمر بقتال المؤمنين البغتة ابتداء لمجرد بغيهم بل إنما أمر إذا اقتتل المؤمنون بالإصلاح بينهم

وقوله فإن بغت إحداهما على الأخرى ويعود الضمير فيه إلى الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين لا يعود إلى طائفة مؤمنة لم تقاتل بالتقدير فإن بغت أحدى الطائفتين المؤمنتين المقتتلتين على الأخرى فقاتلوا الباغية حتى تفىء إلى أمر الله فمتي كانت طائفة باغية ولم تقاتل لم يكن في الاية أمر بقتالها ثم إن كان قوله فإن بغت إحداهما على الأخرى بعد الإصلاح فهو أوكد وإن كان بعد الاقتتال حصل المقصود وحينئذ فأصحاب معاوية إن كانوا قد بغوا قبل القتال لكونهم لم يبايعوا عليا فليس في الاية الأمر بقتال من بغى ولم يقاتل وإن كان بغيهم بعد الاقتتال والإصلاح وجب قتالهم لكن هذا لم يوجد فإن أحدا لم يصلح بينهما ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها هذه الاية ترك الناس العمل بها يعنب إن ذاك وإن كان بغيهم بعد الاقتتال وقبل الإصلاح فهنا إذا قيل بجواز القتال فهذا القدر إنما حصل في أثناء القتال وحينئذ فشل أصحاب علي ونكلوا عن القتال لما رفعوا المصاحف ففي الحال التي أمر بقتالهم فيها لم يقاتلوهم وفي الحال التي قاتلوهم لم يكن قتالهم مأمورا به فإن كانأولئك بغاة معتدين فهؤلاء مفرطون مقصرون ولهذا ذلوا وعجزوا وتفرقوا وليس الإمام مأمورا بأن يقاتل بمثل هؤلاء وفي الجملة فالبحث في هذه الدقائق من وظيفة خواص أهل العلم بخلاف الكلام في تكفيرهم فإن هذا أمر يعلم فساده الخاصة والعامة بالدلائل الكثيرة ومما يبين كذب هذا الحديث أنه لو كان حرب علي حربا لرسول الله صلى لله عليه وسلم والله تعالى قد تكفل بنصر رسوله كما في قوله تعالى إنا لننصر رسلنا والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وكما في قوله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن القتال وإن كان واقعا باجتهاد فليس هو من القتال

الذي يكون محارب أصحابه محاربا له ورسوله ثم إنه لو قدر أنه محارب لله ورسوله فالمحاربون قطاع الطريق لا يكفرون إذا كانوا مسلمين وقد تنازع الناس في قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوه وتسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا هل هي في الكفار أو في المسلمين ومن يقول إنها في المسلمين يقول إن الله تعالى يقول إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ولو كانوا كفارا مرتدين لم يجز أن يقتصر على قطع أيدهم ولا نفيهم بل يجب قتلهم فإن المرتد يجب قتله وكذلك من كان متأولا في محاربته مجتهدا لم يكن كافرا كقتل أسامة بن زيد لذلك المسلم متأولا لم يكن به كافرا وإن كان استحلال قتل المسلم المصعوم كفرا وكذلك تكفير المؤمن كفر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ومع هذا إذا قالها متأولا لم يكفر كما قال بن عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعةدعني أضرب عنق هذا المنافق وأمثاله وكقول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة إنك لمنافق تجادل عن المنافقين في قصة الإفك.
*

فصل
قال الرافضي وقد أحسن بعض الفضلاء في قوله شر من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعته وجرى معه في ميدان معصيته ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد من الملائكة وكان يحمل العرش وحده ستة الاف سنة ولما خلق الله ادم وجعله خليفة في الأرض وأمره بالسجود فاستكبر فاستحق اللعنه والطرد ومعاوية لم يزل في الإشراك وعبادة الأصنام إلى أن أسلم بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة ثم استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين عليه إماما وبايعه الكل بعد قتل عثمان وجلس مكانه فكان شرا من إبليس.

*فيقال هذا الكلام فيه من الجهل والضلال والخروج عن دين الإسلام وكل دين بل وعن العقل الذي يكون لكثير من الكفار مالا يخفى عن من تدبره...
أما أولا: فلأن إبليس أكثر من كل كافر وكل من دخل النار فمن أتباعه كما قال تعالى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وهو الامر لهم بكل قبيح الزين له فكيف يكون أحد شرا منه لا سيما من المسلمين لا سيما من الصحابة وقول هذا القائل شر من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة وجرى معه في ميدان المعصية يقتضي أن كل من عصى الله فهو شر من إبليس لأنه لم يسبقه في سالف طاعة وجرى معه في ميدان المعصية وحينئذ فيكون ادم وذريته شرا من إبليس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل بني ادم خطاء وخير الخطائين التوابون ثم هل يقول من يؤمن بالله واليوم الاخر إن من أذنب ذنبا من المسلمين يكون شرا من إبليس أو ليس هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين

الإسلام وقائل هذا كافر كفرا معلوما بالضرورة من الدين وعلى هذا فالشيعة دائما يذنبون فيكون كل منهم شرا من إبليس ثم إذا قالت الخوارج إن عليا أذنب فيكون شرا من إبليس لم يكن للروافض حجة الا دعوى عصمته وهم لا يقدرون أن يقيموا حجة على الخوارج بإيمانه وإمامته وعدالته فكيف يقيمون حجة عليهم بعصمته ولكن أهل السنة تقدر أن تقيم الحجة بإيمانه وإمامته لأن ما تحتج به الرافضة منقوض ومعارض بمثله فيبطل الاحتجاج به ثم إذا قام الدليل على قول الجمهور الذي دل عليه القرن كقوله تعالى وعصى ادم ربه فغوى لزم أن يكون ادم شرا من إبليس وفي الجملة فلوازم هذا القول وما فيه من الفساد يفوق الحصر والتعداد.
وأما ثانيا: فهذا الكلام كلام بلا حجة بل هو باطل في نفسه فلم قلت إن شرا من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة وجرى معه في ميدان معصية وذلك أن أحدا لا يجري مع إبليس في ميدان معصيته كلها فلا يصور أن يكون في الادميين من يساوي إبليس في معصيته بحيث يضل الناس كلهم ويغويهم وأما طاعة إبليس المتقدمة فهي حابطة بكفره بعد ذلك فإن الردة

تحبط العمل فما تقدم من طاعته إن كان طاعة فهي حابطة بكفره وردته وما يفعله من المعاصي لا يماثله أحد فيه فامتنع أن يكون أحد شرا منه وصار نظير هذا المرتد الذي يقتل النفوس ويزني ويفعل عامة القبائح بعد سابق طاعاته فمن جاء بعده ولم يسبقه إلى تلك الطاعات الحابطة وشاركه في قليل من معاصيه لا يكون شرا منه فكيف يكون أحد شرا من إبليس وهذا ينقض أصول الشيعة حقها وباطلها وأقل ما يلزمهم أن يكون أصحاب علي الذين قاتلوا معه وكانوا أحيانا يعصونه شرا من الذين امتنعوا عن مبايعته من الصحابة لأن هؤلاء عبدوا الله قبلهم وأولئك جروا معهم في ميدان المعصية.
ويقال ثالثا: ما الدليل على أن إبليس كان أعبد الملائكة وأنه كان يحمل العرش وحده ستة الاف سنة أو أنه كان من حملة العرش في الجملة أو أنه كان طاووس الملائكة أو أنه ما ترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سحدة وركعة ونحو ذلك مما يقوله بعض الناس فإن هذا أمرإنما يعلم بالنقل الصادق وليس في القران شيء من ذلك ولا في ذلك خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهل يحتج بمثل هذا في أصول الدين إلا من هو من أعظم الجاهلين

وأعجب من ذلك قوله ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد الملائكة فيقال من الذي قال هذا من علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين فضلا عن أن يكون هذا متفقا عليه بين العلماء وهذا شيء لم يقله قط عالم يقبل قوله من علماء المسلمين وهو أمر لا يعرف إلا بالنقل ولم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف فإن كان قاله بعض الوعاظ أو المصنفين في الرقائق أو بعض من ينقل في التفسير من الاسرائيليات مالا إسناد له فمثل هذا لا يحتج به في جرزة بقل فكيف يحتج به في جعل إبليس خيرا من كل من عصى الله من بني ادم ويجعل الصحابة من هؤلاء الذين إبليس خير منهم وما وصف الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إبليس بخير قط ولا بعبادة متقدمة ولا غيرها مع أنه لو كان له عبادة لكانت قد حبطت بكفره وردته وأعجب من ذلك قوله لا شك بين العلماء أنه كان يحمل العرشوحده ستى الاف سنة فيا سبحان الله هل قال ذلك أحد من علماء المسلمين المقبولين عند المسلمين وهل يتكلم بذلك إلا مفرط في الجهل فإن هذا لا يعرف لو كان حقا إلا بنقل الأنبياء وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء ثم حمل واحد من الملائكة العرش خلاف ما دل عليه النقل الصحيح ثم ما باله حمل العراش وحده ستة الاف سنة ولم يكن يحمله وحده دائما ومن الذي نقل أن إبليس من حملة العرش وهذا من أكذب الكذب فإن الله تعالى يقول الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين امنوا فأخبر أن له حملة لا واحدة وأنهم كلهم مؤمنون مسبحون بحمد ربهم مستغفرون للذين امنوا

وإذا قيل هذا إخبار عن الحمل المطلق ليس فيه أنه لم يزل له حملة قيل قد جاءت الاثار بأنه لم يزل له حملة كحديث عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح أن الله تعالى لما خلق العرش أمر الملائكة بحمله قالوا ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك فقال قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فقالوها فأطاقوا حمله.
ويقال رابعا: إن إبليس كفر كما أخبر الله تعالى بقوله إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين فلو قدر أنه كان له عمل صالح حبط بكفره كذلك غيره إذا كفر حبط عمله فأين تشبيه المؤمنين بهذا.
ويقال خامسا: قوله إن معاوية لم يزل في الإشراك إلى أن أسلم به يظهر الفرق فيما قصد به الجمع فإن معاوية أسلم بعد الكفر وقد قال تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وتاب من شركه وأقام الصلاة واتى الزكاة وقد قال تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فإخوانكم في الدين وإبليس كفر بعد إيمانه فحبط إيمانه بكفره وذاك حبط كفره

بإيمانه فكيف يقاس من امن بعد الكفر بمن كفر بعد الإيمان.
ويقال سادسا: قد ثبت إسلام معاوية رضي الله عنه والإسلام يجب ما قبله فمن ادعى أنه ارتد بعد ذلك كان مدعيا دعوى بلا دليل لو لم يعلم كذب دعواه فكيف إذا علم كذب دعواه وأنه ما زال على الإسلام إلى أن مات كما علم بقاء غيره على الإسلام فالطريق الذي يعلم به بقاء إسلام أكثر الناس من الصحابة وغيرهم يعلم به بقاء إسلام معاوية رضي الله عنه والمدعي لارتداد معاوية وعمان وابي بكر وعمر رضي الله عنهم ليس هو أظهر حجة من المدعي لارتداد علي فإن كان المدعي لارتداد علي كاذبا فالمدعي لارتداد هؤلاء أظهر كذبا لأن الحجة على بقاء إيمان هؤلاء أظهر وشبهة الخوارج أظهر من شبهة الروافض.
ويقال سابعا: هذه الدعوى إن كانت صحيحة ففيها من القدح والغضاضة بعلي والحسن وغيرهما مالا يخفي وذلك أنه كان مغلوبا مع المرتدين وكان الحسن قد سلم أمرالمسلمين إلى المرتدين وخالد بن الوليد قهر المرتدين فيكون نصر الله لخالد على الكفارأعظم من نصره لعلي والله سبحانه وتعالى عدل لا يظلم واحدا منهما فيكون ما استحقه خالد من النصر أعظم مما استحقه علي فيكون أفضل عند الله منه بل وكذلك جيوش أبو بكر وعمر وعثمان ونوابهم فإنهم كانوا منصورين على الكفار وعلي عاجز عن مقاومة المرتدين الذين هم من الكفار أيضا فإن الله سبحانه وتعالى يقول ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين وقال تعالى فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم وعلي رضي الله عنه دعا معاوية إلم السلم في اخر الأمر لما عجز عن دفعه عن بلاده وطلب منه أن يبقى كل واحد منهما على ما هو عليه وقد قال تعالى ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين فإن كان أصحابه مؤمنين وأولئك مرتدين وجب أن يكونوا الأعلين وهو خلاف الواقع.

ويقال ثامنا: من قال إن معاوية رضي الله عنه استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين ولم قلت إنه علم أن ولايته صحيحة وأن طاعته واجبة عليه فإن الدليل على ثبون ولايته ووجوب طاعته من المسائل المشتبهة التي لا تظهر إلا بعد بحث ونظر بخلاف من أجمع الناس على طاعته وبتقدير أن يكون علم ذلك فليس كل من عصى يكون مستكبرا عن طاعة الله والمعصية تصدر تارة عن شهوة وتارة عن كبر وهل يحكم على كل عاص بأنه مستكبر عن طاعة الله كاستكبار إبليس.
ويقال تاسعا: قوله وبايعه الكل بعد عثمان إن لم يكن هذا حجة فائدة فيه وإن كان حجة فمبايعتهم لعثمان كان اجتماعهم عليها أعظم وأنتم لا ترون الممتنع عن طاعة عثمان كافرا بل مؤمنا تقيا.
ويقال عاشرا: اجتماع الناسعلى مبايعة أبي بكر كانت على قولكم أكمل وأنتم وغيركم تقولون إن عليا تخلف عنها مدة فيلزم على قولكم أن يكون علي مستكبرا عن طاعة الله في نصب أبي بكر عليه إماما فيلزم حينئذ كفر علي بمقتضى حجتكم أو بطلانها في نفسها وكفر علي باطل فلزم بطلانها.
ويقال حادى عشر: قولكم بايعه الكل بعد عثمان من أظهر الكذب فإن كثيرا من المسلمين إما النصف وإما أقل

أو أكثر لم يبايعوه ولم يبايعه سعد بن أبي وقاص ولا ابن عمر ولا غيرهما.
ويقال ثاني عشر: قولكم إنه جلس مكانه كذب فإن معاوية لم يطلب الأمر لنفسه ابتداء ولا ذهب إلى علي لينزعه عن إمارته ولكن امتنع هو وأصحابه عن مبايعته وبقى على ما كان عليه واليا على من كان واليا عليه في زمن عمر وعثمان ولما جرى حكم الحكمين إنما كان متوليا على رعيته فقط فإن أريد بجلوسه في مكانه أنه استبد بالأمر دونه في تلك البلاد فهذا صحيح لكن معاوية رضي الله عنه يقول إني لم أنازعه شيئا هو في يده ولم يثبت عندي ما يوجب علي دخولي في طاعته وهذا الكلام سواء كان حقا أو باطلا لا يوجب كون صاحبه شرا من إبليس ومن جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شرا من إبليس فما أبقى غاية في الافتراء على الله ورسوله والمؤمنين والعدوان على خير القرون في مثل هذا المقام والله ينصر رسله والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد والهوى إذا بلغ بصاحبه إلى هذا الحد فقد أخرد صاحبه عن ربقة العقل فضلا عن العلم والدين فنسأل الله العافية من كل بلية وإن حقا على الله أن يذل أصحاب مثل هذاالكلام وينتصر لعباده المؤمنين من أصحاب نبيه وغيرهم من هؤلاء المفترين الظالمين.
*

فصل
قال الرافضي وتمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقد إمامة يزيد بن معاوية مع ما صدر عنه من الأفعال القبيحة من قتل الإمام الحسين ونهب أمواله وسبى نسائه ودورانهم في البلاد على الجمال بغير قتب ومولانا زين العابدين مغلول اليدين ولم يقنعوا بقتله حتى رضوا أضلاعه وصدره بالخيول وحملوا رؤوسهم على القنا مع أن مشايخهم رووا أن يوم قتل الحسين مطرت السماء دما وقد ذكر ذلك الرافعي في شرح الوجيز وذكر ابن سعد في الطبقات أن الحمرة ظهرت في السماء يوم قتل الحسين ولم تر قبل ذلك وقال أيضا ما رفع حجر في الدنيا

إلا وتحته دم عبيط ولقد مطرت السماء مطرا بقى أثره في الثياب مدة حتى تقطعت قال الزهري ما بقى أحد من قاتلي الحسين إلا وعوقب في الدنيا إما بالقتل وإما بالعمى أو سواد الوجه أو زوال الملك في مدة يسيرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الوصية للمسلمين في ولديه الحسن والحسين ويقول لهم هؤلاء وديعتي عندكم وأنزل الله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى.
*والجواب أما قوله وتمادي بعضهم في التعصب حتى اعتقد إمامة يزيد بن معاوية إن أراد بذلك أنه اعتقد أنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فهذا لم يعتقده أحد من علماء المسلمين، وإن اعتقد مثل هذا بعض الجهال كما يحكي عن بعض الجهال من الأكراد ونحوهم أنه يعتقد أن يزيد من الصحابة وعن بعضهم أنه من الأنبياء وبعضهم يعتقد أنه من الخلفاء الراشدين المهديين فهؤلاء ليسوا من أهل العلم الذين يحكي قولهم، وهم من هذا الجهل خير من جهال الشيعة وملاحدتهم الذين يعتقدون إلاهية علي أو نبوته أو يعتقدون أن باطن الشريعة يناقض ظاهرها كما تقوله الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم من أنه يسقط عن خواصخم الصوم والصلاة والحج والزكاة وينكرون المعاد بل غلاتهم يجحدون الصانعه وهم يعتقدون في محمد بن إسماعيل أنه أفضل من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وأنه نسخ شريعته ويعتقدون في أئمتهم كالذي يسمونه المهدي وأولاده مثل المعز والحاكم وأمثالهم أنهم أئمة معصومون فلا ريب أن من اعتقد عصمة خلفاء بني أمية وبني العباس كلهم كان خيرا من هؤلاء من وجوه كثيرا فإن خلفاء بني أمية وبني العباس مسلمون ظاهرا وباطنا وذنوبهم من جنس ذنوب المسلمين ليسوا كفارا منافقين وهؤلاء الباطنية هم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى فمن اعتقد عصمة هؤلاء كان أعظم جهلا وضلالا ممن اعتقد عصمة خلفاء بني أمية

وبني العباس بل ولو اعتقد معتقد عصمة سائر ملوك المسلمين الذين هم مسلمون ظاهرا وباطنا لكان خيرا ممن اعتقد عصمة هؤلاء فقد تبين أن الجهل الذي يوجد فيمن هو من أجهل أهل السنة يوجد في الشيعة من الجهل ما هو أعظم منه لا سيما وجهل أولئك أصله جهل نفاق وزندقة لا جهل تأويل وبدعة وهؤلاء أصل جهلهم لم يكن جهل نفاق وزندقة بل جهل بدعه وتأويل وقلة علم بالشريعة ولهذا إذا تبين لهؤلاء حقيقة ما بعث الله به محمدا رسوله رجعوا عن جهلهم وبدعتهم وأما أئمة الملاحدة فيعلمون في الباطن أن ما يقولونه مناقض لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهم يخالفونه لاعتقادهم أنه وضع ناموسا بعقله وفضيلته فيجوز لنا أن نضع ناموسا كما وضع ناموسا إذ كانت النبوة عندهم مكتسبة وهي عندهم من جنس فضيلة العلماء العباد والشرائع من جنس سياسة الملوك العادية فيجوزون أن نسخ شريعته بشريعة يضعها الواحد من أئمتهم ويقولون إن الشريعة إنما هي للعامة فأما الخاصة إذا علموا باطنها فإنه تسقط عنهم الواجبات وتباح لهم المحظورات وهؤلاء ونحوهم أكثر من اليهود والنصارى بل إذا قدر قوم يعتقدون عصمة الواحد من بني أمية أو بني العباس أو أنه لا ذنوب لهم أو أن الله

لا يؤاخذهم بذنوبهم كما يحكي عن بعض أتباع بني أمية أنهم كانوا يقولون إن الخليفة يتقبل الله منه الحسنات ويتجاوز له عن السيئات فهؤلاء مع ضلالهم أقل ضلالا ممن يقول بإمامة المنتظر والعسكريين ونحوهم ويقولون إنهم معصومون فإن هؤلاء اعتقدوا العصمة والإمامة في معدوم أو فيمت ليس له سلطان ينتفعون به ولا عنده من العلم والدين أكثر مما عند كثير من عامة المسلمين وأولئك اعتقدوا أن الإمام له حسنان كثيرة تغمر سيئاته وهذا ممكن في الجملة فإن يمكن أن يكون للمسلم حسنات تغمر سيئاته وإن كان ذلك لا يشهد به لمعين إلا بما يدل على التعيين أما كون واحد ممن يوجد في المسلمين من هو أعلم منه وأدين معصوما عن الخطأ فهذا باطل قطعا بل دعوى العصمة فيمن سوى الرسول صلى الله عليه وسلم دعوى باطلة قطعا فتبين أن أولئك مع جهالتهم هم أقرب إلى الحق وأقل جهلا من هؤلاء الروافض وأن من اعتقد أن يزيد من الصحابة أو الأنبياء لم يكن جهلة وضلاله أعظم من جهل وضلال من اعتقد الإلهية والنبوة في شيوخ الشيعة لا سيما شيوخ الإسماعيلية والنصيرية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى وأتباعهم يعتقدون فيهم الإلهية

وأما علماء أهل السنة الذين لهم قول يحكي فليس فيهم من يعتقد أن يزيد وأمثاله من لخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم بل أهل السنة يقولون بالحديث الذي في السنن خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا وإن أراد باعتقادهم إمامة يزيد أنهم يعتقدون أنه كان ملك جمهور المسلمين وخليفتهم في زمانه صاحب السيف كما كان أمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس فهذا مر معلوم لكل أحد ومن نازع في هذا كان مكابرا فإن يزيد بويع بعد موت أبيه معاوية وصار متوليا على أهل الشام ومصر والعراق وخراسان وغير ذلك من بلاد السلمين والحسين رضي الله عنه استشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وهي أول سنة ملك يزيد والحسين استشهد قبل أن يتولى على شيء من البلاد ثم إن ابن الزبير لما جرى بينه وبين يزيد ما جرى من الفتنة واتبعه من اتبعه من أهل مكة والحجاز وغيرهما وكان إظهاره طلب الأمر لنفسه بعد

موت يزيد فإنه حينئذ تسمى بأمير المؤمنين وبايعه عامة أهل الأمصار إلا أهل الشام ولهذا إنما تعد ولايته من بعد موت يزيد وأما في حياة يزيد فإنه امتنع عن مبايعته أولا ثم بذل المبايعه له فلم يرض يزيد إلا بأن يأتيه أسيرا فجرت بيهما فتنة وأرسل إليه يزيد من حاصره بمكة فمات يزيد وهو محصور فلما مات يزيد بايع ابن الزبير طائفة من أهل الشام والعراق وغيرهم وتولى بعد يزيد ابنه معاوية بن يزيد ولم تطل أيامه بل أقام أربعين يوما أو نحوها وكان فيه صلاح وزهد ولم يستخلف أحدا فتأمر بعده مروان بن الحكم على الشام ولم تطل أيامه ثم تأمر بعده ابنه عبد الملك وسار إلى مصعب بن الزبير نائب أخيه على العراق فقتله حتى ملك العراق وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره وقاتله حتى قتل ابن الزبير واستوثق الأمر بعبد الملك ثم لأولاده من بعده وفتح في أيامه بخاري وغيرها من بلاد ما وراء النهر فتحها قتيبة بن مسلم نائب الحجاج بن يوسف الذي كان نائب عبد الملك بن مروان على العراق مع ما كان فيه من الظلم وقاتل المسلمون ملك الترك خاقان وهزموه وأسروا أولاده وفتحوا أيضا بلاد السند وفتحوا أيضا بلاد الأندلس وغزوا القسطنطينية وحاصروها مدة وكانت لهم الغزوات الشاتية والصائفة

ثم لما انتقل الأمر إلى بني العباس تولوا على بلاد العراق والشام ومصر والحجاز واليمن وخراسان وغيرهما مما كان قد تولى عليه بنو أمية إلا بلاد المغرب فإن الأندلس تولى عليه بنو أمية وبلاد القيروان كانت دولة بين هؤلاء وهؤلاء فيزيد في ولايته هو واحد من هؤلاء الملوك ملوك المسلمين المتسخلفين في الأرض ولكنه مات وابن الزبير ومن بايعه بمكة خارجون عن طاعته لم يتول على جميع بلاد المسلمين كما أن ولد العباس لم يتولوا على جميع بلاد المسلمين بخلاف عبد الملك وأولاده فإنهم تولوا على جميع بلاد المسلمين وكذلك الخلفاءالثلاثة ومعاوية تولوا على جميع بلاد المسلمين وعلي رضي الله عنه لم يتول على جميع بلاد المسلمين فكون الواحد من هؤلاء إماما بمعنى أنه كان له سلطان ومعه السيف يولي ويعزل ويعطى ويحرم ويحكم وينفذ ويقيم الحدود ويجاهد الكفار ويقسم الأموال أمر مشهور متواتر لا يمكن جحده وهذا معنى كونه إماما وخليفة وسلطانا كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلي بالناس فإذا رأينا رجلا يصلي بالناس كان القول بأنه إمام أمرا مشهودا محسوسا لا يمكن المكابرة فيه وأما كونه برا أو فاجرا أو مطيعا أو عاصيا فذاك أمر اخر

فأهل السنة إذا اعتقدوا إمامة الواحد من هؤلاء يزيد أو عبد الملك أو المنصور أو غيرهم كان بهذا الاعتبار ومن نازع في هذا فهو شبيه بمن نازع في ولاية أبي بكر وعمر وعثمان وفي ملك كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك وأما كون الواحد من هؤلاء معصوما فليس هذا اعتقاد أحد من علماء المسلمين وكذلك كونه عادلا في كل أموره مطيعا لله في جميع أفعاله ليس هذا اعتقاد أحد من أئمة المسلمين وكذلك وجوب كاعته في كل ما يأمر به وإن كان معصية لله ليس هو اعتقاد أحد من أئمة المسلمين ولكن مذهب أهل السنة والجماعة أن هؤلاء يشركون فيما يحتاد إليهم فيه من طاعة الله فتصلي خلفهم الجمعة والعيدان وغيرهما من الصلوات التي يقيمونها هم لأنها لو لم تصل خلفهم أفضى إلى تعطيلها ونجاهد معهم الكفار ونحج معهم البيت العتيق ويستعان بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود فإن الإنسان لو قدر أنه حج في رفقة لهم ذنوب وقد داءوا يحجون لم يضره هذا شيئا وكذلك الغزو وغيره من الأعمال الصالحة إذا فعلها البر وشاركه في ذلك الفاجر لم يضره ذلك شيئا فكيف إذا لم يمكن فعلها إلا على هذا الوجه فكيف إذا كان

الوالي الذي يفعلها فيه معصية ويستعان بهم أيضا في العدل في الحكم والقسم فإنه لا يمكن عاقل أن ينازع في أنهم كثيرا ما يعدلون في حكمهم وقسمهم ويعاونون على البر والتقوى ولا يعاونون على الإثم والعدوان وللناس نزاع في تفاصيل تتعلق بهذه الجملة ليس هذا موضعها مثل إنفاذ حكم الحاكم الفاسق إذا كان الحكم عدلا ومثل الصلاة خلف الفسق هل تعاد أم لا والصواب الجامع في هذا الباب أن من حكم بعدل أو قسم بعدل نفذ حكمه وقسمه ومن أمر بمعروف أو نهى عن منكر أعين على ذلك إذا لم يكن في ذلك مفسدة راجحة وأنه لا بد من إامة الجمعة والجماعة فإن أمكن تولية إمام بر لم يجز تولية فاجر ولا مبتدع يظهر يدعته فإن هؤلاء يجب الإنكار عليهم بحسب الإمكان ولا يجوز توليتهم فإن لم يمكن إلا تولية أحد رجلين كلاهما فيه بدعة وفجور كان تولية أصلحهما ولاية هو الواجب وإذا لم يمكن في الغزو إلا تأمير أحد رجلين أحدهما فيه دين وضعف عن الجهاد والاخر فيه منفعة في الجهاد مع ذنوب له كان تولية هذا الذي ولايته أنفع للمسلمين خيرا من تولية من ولايته أضر على المسلمين وإذا لم يمكن صلاة الجمعة

والجماعة وغيرهما إلا خلف الفاجر والمبتدع صليت خلفه ولم تعد وإن أمكن الصلاة خلف غيره وكان في ترك الصلاة خلفه هجر له ليرتدع هو وأمثاله به عن البدعة والفجور فعل ذلك وإن لم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة دينية صلى خلفه وليس على أحد أن يصلي الصلاة مرتين ففي الجملة أهل السنة يجتهدون في طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان كما قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم وقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ويعلمون أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بصلاح العباد في المعاش والمعاد وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد فإذا كان الفعل فيه صلاح وفساد رجحوا الراجح منهما فإذا كان صلاحه أكثر من فساده رجحوا فعله وإن كان فساده أكثر من صلاحه رجحوا تركه فإن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فإذا تولى خليفة من الخلفاء كيزيد وعبد الملك والمنصور وغيرهم فإما أن يقال يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يولى غيره كما يفعله من يرى السيف فهذا رأى فاسد فإن مفسدة هذا أعظم من مصلحته وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان

ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرد عليهم بخراسان أيضا وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقا كثيرا وكلاهما قتله أبو دعفر المنصور وأما أهل الحرة وابن الأشعث واب المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق وكذلك

أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهلالعلم والدين والله يغفر لهم كلهم وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث أين كنت يا عامر قال كنت حيث يقول الشاعر عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياءولا فجرة أقوياء وكان الحسن البصري يقول إن الحجاج عذاب الله فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع فإن الله تعالى يقول ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون وكان طلق بن حبيب يقول اتقوا الفتنة بالتقوى فقيل له أجمل لنا التقوى فقال أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله رواه أحمد وابن أبي الدنيا وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا فيعقائدهم ويأمرون بالصبر على جور

الأئمة وترك قتالهم وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين وباب قتال أهل البغي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشتبه بالقتال في الفتنة وليس هذا موضع بسطه ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب واعتبر أيضا اعتبار أولى الأبصار علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج وغلب على ظنهم أنه يقتل حتى إن بعضهم قال أستودعك الله من قتيل وقال بعضهم لولا الشفاعة لأمسكتك ومصلحة المسلمين والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد لكن الرأي يصيب تارة ويخطيء أخرى فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتلوه مظلوما شهيدا وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص

الخير بذلك وصار ذلك سببا لشر عظيم وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتلاهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة ولا بخروج على الأئمة ولا نزع يد من طاعة ولا مفارقة للجماعة وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابته في الصحيح كلها تدل على هذا كما في صحيح البخاري من حديث الحسن البصري سمعت أبا بكرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد وحقق ما أشار إليه من أن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين وهذا يبين أن الإصلاج بين الطائفتين كان محبوبا ممدوحا يحبه الله

ورسوله وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بترك واجب أو مستحب ولهذا لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بما جرى من القتال يوم الجمل وصفين فضلا عما جرى في المدينة يوم الحرة وما جرى بمكة في حصار ابن الزبير وما جرى في فتنة ابن الأشعث وابن المهلب وغير ذلك من الفتن ولكن تواتر عنه أنه أمر بقتال الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنهروان بعد حروجهم عليه بحروراء فهؤلاء استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بقتالهم ولما قاتلهم علي رضي الله عنه فرح بقتالهم وروى الحديث فيهم واتفق الصحابة على قتال هؤلاء وكذلك أئمة أهل العلم بعدهم لم يكن هذا القتال عندهم كقتال أهل الجمل وصفين وغيرهما مما لم يأت فيه نص ولا إجماع ولا حمده أفاضل الداخلين فيه بل ندموا عليه ورجعوا عنه وهذا الحديث من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث ذكر في الحسن ما ذكره وحمد منه ما حمده فكان ما ذكره وما حمده مطابقا للحق الواقع بعد أكثر من ثلاثين سنة فإن إصلاح الله بالحسن بين الفئتين

كان سنة إحدى وأربعين من الهجرة وكان علي رضي الله عنه استشهد في رمضان سنة أربعين والحسن حين مات النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره نحو سبع سنين فإنه ولد عام ثلاث من العجرة وأبو بكرة أسلم عام الطائف تدلى ببكرة فقيل له أبو بكرة والطائف كانت بعد فتح مكة فهذا الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن كان بعد ما مضى ثمان من الهجرة وكان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين سنة التي هي خلافة النبوة فلا بد أن يكون قد مضى له أكثر من ثلاثين سنه فإنه قاله قبل موته صلى الله عليه وسلم ومما يناسب هذا ما ثبت في الصحيح من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذه والحسن ويقول اللهم إني أحبهما فأحبهما ففي هذا الحديث جمعه بين الحسن وأسامة رضي الله عنهما وإخباره بأنه يحبهما ودعاؤه الله أن يحبهما وحبه صلى الله عليه وسلم لهذين مستفيض عنه ف أحاديث صحيحة كما في الصحيحين من حديث شعبة عن عدى بن ثابت قال سمعت البراء بن عازب رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلموالحسن بن علي على عاتقه وهو يقول اللهم إني أحبه فأحبه وفي الصحيحين عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا ومن يجترىء عليه إلا إسامه بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن دينار قال نظر ابن عمر يوما وهو في المسجد إلى رجل يسحب ثيابه في ناحية من المسجد فقال انظر من هذا ليت هذا

عندي قال له إنسان أما تعرف هذا يا أبا عبد الرحمن هذا محمد بن أسامة قال فطأطأ ابن عمر رضي الله عنه رأسه ونقر بيديه على الأرض وقال لو راه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبه وهذان اللذان جمع بينهما في محبته ودعا الله لهما بالمحبة وكان يعرف حبه لكل واحد منهما منفردا لم يكن رأيهما القتال في تلك الحروب بل أسامة قعد عن القتال يوم صفين لم يقاتل مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وكذلك الحسن كان دائما يشير على أبيه وأخيه بترك القتال ولما صار الأمر إليه ترك القتال وأصلح الله به بين الطائفتين المقتتلتين وعلي رضي الله عنه في اخر الأمر تبين له أن المصلحة في ترك القتال أعظم منها في فعله وكذلك الحسين رضي الله عنه لم يقتل إلا مظلوما شهيدا تاركا لطلب الإمارة طالبا للرجوع إما إلى بلده أو إلى الثغر أو إلى المتولي على الناس يزيد

وإذا قال القائل إن عليا والحسين إنما تركا القتال في اخر الأمر للعجز لأنه لم يكن لهما أنصار فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة قيل له وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج على الأمراء وندب إلى ترك القتال في الفتنة وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالذين خرجوا بالحرة وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه صار إزالته على هذا الوجه منكرا وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرا وبهذا الوجه صارت الخوارج تستحل السيف على أهل القبلة حتى قاتلت عليا وغره من المسلمين وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف في الجملة من المعتزلة والزيدية والفقهاء وغيرهم كالذين خرجوا مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسين وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسين وغير هؤلاء فإن اهل الديانة من هؤلاء يقصدون تحصيل ما يرونه دينا

لكن قد يخطئون من وجهين أحدهما أن يكون ما رأوه دينا ليس بدين كرأي الخوارج وغيرهم من أهل الأهواء فإنهم يعتقدون رأيا هو خطأ وبدعة ويقاتلون الناس عليه بل يكفرون من خالفهم فيصيرون مخطئين في رأيهم وفي قتال من خالفهم أو تكفيرهم ولعنهم وهذه حال عامة أهل الأهواء كالجهمية الذين يدعون الناس إلى إنكار حقيقة أسماء الله الحسنة وصفاته العلى ويقولون إنه ليس له كلام إلا ما خلقه في غيره وإنه لا يرى ونحو ذلك وامتحنوا الناس لما مال إليهم بعض ولاة الأمور فصاروا يعاقبون من خالفهم في رأيهم إما بالقتل وإما بالحبس وإما بالعزل ومنع الرزق وكذلك قد فعلت الجهيمة ذلك غير مرة والله ينصر عباده المؤمنين عليهم والرافضة شر منهم إذا تمكنوا فإنهم يوالون الكفار وينصرونهم ويعادون من المسلمين كل من لم يوافقهم على رأيه وكذلك من فيه نوع من البدع إما من بدع الحلولية حلولية الذات أو الصفات وإما من بدع النفاة أو الغلو في الإثبات وإما من بدع القدرية أو الإرجاء

أو غير ذلك تجده يعتقد اعتقادات فاسدة ويكفر من خالفه أو يلعنه والخوارج المارقون أئمة هؤلاء في تكفير أهل النة والجماعة وفي قتالهم الوجه الثاني من يقاتل على اعتقاد رأي يدعو إليه مخالف للسنة والجماعة كأهل الجمل وصفين والحرة والجماجم وغيرهم لكن يظن أنه بالقتال تحصل المصلحة المطلوبة فلا يحصل بالقتال ذلك بل تعظم المفسدة أكثر مما كانت فيتبين لهم في اخر الأمر ما كان الشارع دل عليه من أول الأمر وفيهم من لم تبلغه نصوص الشارع أو لم تثبت عنده وفيهم من يظنها منسوخة كابن حزم وفيهم من يتأولها كما يجري لكثير من المجتهدين في كثير من النصوص فإن بهذه الوجوه الثلاثة يترك من يترك من أهل الاستدلال العمل ببعض النصوص إما أن لا يعتقد ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وإما أن يعتقدها غير دالة على مورد الاستدلال وإما أن يعتقدها منسوخة ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب هذه الفتن تكون مشتركة فيرد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية والجاهلية ليس فيها معرفة الحق ولا قصده والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح بمعرفة الحق وقصده فيتفق أن بعض

الولاة يظلم باستئثار فلا تصبر النفوس على ظلمة ولا يمكنها دفع ظلمة إلا بما هو أعظم فسادا منه ولكن لأجل محبة الإنسان لأخذ حقه ودفع الظلم عنه لا ينظر في الفساد العام الذي يتولد عن فعله ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إنكم ستلقون بعدي أثرة فأصبروا حتى تلقوني على الحوض وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك وأسيد بن حضير رضي الله عنهما أن رجلا من الأنصار قال يا رسول الله ألا تستعملني كما اتعملت فلانا قال ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض وفي رواية للخباري عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا منالمهاجرين مثلها فقال أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه ستصيبكم أثرة بعدي وكذلك ثبت عنه في الصحيح أنه قال على المرء المسلم السمع والطاعة في يسره وعسره ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادة قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يصبروا على الاستئثار عليهم وأن يطيعوا ولاة أمورهم وإن استأثروا عليهم وأن لا ينازعوهم الأمر وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه ولم يصبروا على الاستئثار ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم تلك السيئات ويبقى

المقاتل له ظانا أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ومن أعظم ما حركه عليه طلب غرضه إما ولاية وإما مال كما قال تعالى فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء يمنعه من ابن السبيل يقول الله له يوم القيامه اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ورجل بايع إماما لا يباعه إلا لدينا إن أعطاه منها رضى وإن منعه سخط ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا لقد أعطى بها أكثر مما أعطي فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة ومن هذه الجهة شهوة وشبهة قامت الفتنة والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم حتى قال ما من راع يسترعيه اللهرعية يموت يوم وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة وأمر الرعية بالطاعة والنصح كما ثبت في الحديث الصحيح الدين النصيحة ثلاثا قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وأمر بالصبر على استئثارهم ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم لأن الفساد الناشىء من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر فلا يزال أخف الفسادين بأعظمهما ومن تدبر الكتاب والسنة الثابته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتبر ذلك بما يجده في نفسه وفي الافاق علم تحقيق قول الله تعالى سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق

فإن الله تعالى يرة عباده اياته في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم ان القران حق فخبره صدق وأمره عدل وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن ونوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك مالا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل وابتاعه عليه وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحا في ولايته وتقواه بل في بره وكونه من أهل الجنة بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان وكلا هذين الطرفين فاسد والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه فيعظم الحق ويرحم الخلق ويعلم

أن الرجل الواحد تكون له حسنان وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه ويبغض من وجه هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم وقد بسط هذا في موضعه وإذا تبين ذلك فالقول في يزيد كالقول في أشباهه من الخلفاء والملوك من وافقهم في طاعة الله تعالى كالصلاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود كان مأجورا على مافعله من طاعة الله ورسوله وكذلك كان صالحو المؤمنين يفعلون كعبد الله بن عمر وأمثاله ومن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم كان من المعينين على الإثم والعدوان المستحقين للذم والعقاب ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يغزون مع يزيد وغيره فإنه غزا القسطنطينية في حياة أبيه معاوية رضي الله عنه وكان معهم في الجيش أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وذلك الجيش أول جيش غزا القسطنطينية وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهموعامة الخلفاء الملزك جرى في أوقاتهم فتن كما جرى في زمن يزيد بن معاوية قتل الحسين ووقعة الحرة وحصار ابن الزبير بمكة وجرى في زمن مروان بن الحكم فتنة مرج راهط بينه وبين النعمام بن بشير وجرى في زمن عبد الملك فتنة مصعب بن الزبير وأخيه عبد الله بن الزبير وحصاره أيضا بمكة وجرى في زمن هشام فتنة زيد بن علي وجرى في زمن مروان بن محمد فتنة أبي مسلم حتى خرج عنهم الأمر إلى ولد العباس ثم كان في زمن المنصور فتنة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة إلى فتن يطول وصفها والفتن في كل زمان بحسب رجاله فالفتنة الأولى فتنة قتل عثمان رضي الله عنه هي أول الفتن وأعظمها ولهذا جاء في الحديث المرفوع الذي رواه الإمام أحمد في المسند وغيره ثلاث من نجا منهن فقد نجا موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال

ولهذا جاء في حديث عمر لما سأل عن الفتنة التي تموج موج البحر وقال له حذيفة إن بينك وبينها بابا مغلقا فقال أيكسر الباب أم يفتح فقال بل يكسر فقال لو كان يفتح لكاد يعاد وكان عمر هو الباب فقتل عمر وتولى عثمان فحدثت أسباب الفتنة في اخر خلافته حتى قتل وانفتح باب الفتنة إلى يوم القيامة وحدث بسبب ذلك فتنة الجمل وصفين ولا يقاس رجالهما بأحد فإنهم أفضل من كل من بعدهم وكذلك فتنة الحرة وفتنة ابن الأشعث كان فيها من خيار التابعن من لا يقاس بهم م بعدهم وليس في وقوع هذه الفتن في تلك الأعصار ما وجب أن أهل ذلك العصر كانوا شرا من غيرهم بل فتنة كل زمان بحسب رجاله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وفتن ما بعد ذلك الزمان بحسب أهله وقد روى أنه قال كما تكونوا يولى عليكم وفي أثر اخر يقول الله تعالى أنا الله عز وجل ملكالملوك قلوب الملوك ونواصبهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسب الملوك وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم ولما انهزم المسلمون يوم أحد هزمهم الكفار قال الله تعالى أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم والذنوب ترفع عقوبتها بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة والقتل الذي وقع في الأمة مما يكفر الله به ذنوبها كما جاء في الحديث والفتنة هي من جنس الجاهلية كما قال الزهري وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القران فإنه هدر أنزلوهم منزلة الجاهلية وذلك أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق فبالهدى يعرف الحق وبدين الحق يقصد الخير ويعمل به فلا بد من علم بالحق وقصد له وقدرة عليه والفتنة تضاد ذلك فإنها تمنع معرفة

الحق أو قصده أو القدرة عليه فيكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل حتى لا يتميز لكثير من الناس أو أكثرهم ويكون فيه من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته ويكون فيها من ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة فيرد على القلوب ما يمنعها من معرفة الحق وقصده ولهذا يقال فتنة عمياء صماء ويقال فتن كقطع الليل المظلم ونحن ذلك من الألفاظ التي يتبين ظهور الجهل فيها وخفاء العلم فلهذا كان أهلها بمنزلة أهل الجاهلية ولهذا لا تضمن فيها النفوس والأموال لأن الضمان يكون لم يعرف أنه أتلف نفس غيره أو ماله بغير حق فأما من لم يعرف ذلك كأهل الجاهلية من الكفار والمرتدين والبغاة المتأولين فلا يعرفون ذلك فلا ضمان عليهم كما لا يضمن من علم أنه أتلفه بحق وإن كان هذا مثابا مصيبا وذلك من أهل الجاهلية إما أن يتوبوا من تلك الجهالة فيغفر لهم بالتوبة جاهليتهم وما كان فيها وإما أن يكونوا ممن يستحق العذاب علىالجهالة كالكفار فهؤلاء حسبهم عذاب الله في الاخرة وإما أن يكون أحدهم متأولا مجتهدا مخطئا فهؤلاء إذا غفر لهم خطؤهم غفر لهم موجبات الخطأ أيضا.
*

فصل
(يزيد بن معاوية)
إذا تبين هذا فنقول الناس في يزيد طرفان ووسط قوم يعتقدون أنه كان من الصحابة أو من الخلفاء الراشدين المهديين أو من الأنبياء وهذا كله باطل وقوم يعتقدون أنه كان كافرا منافقا في الباطن وأنه كان له قصد في أخذ ثأر كفار أقاربه من أهل المدينة وبني هاشم و أنه أنشد لما بدت تلك الحمول وأشرفت تلك الرؤوس على ربى جيرون نعق الغراب فقلت نح أولا لا تنح فلقد قضيت من النبي ديوني

وأنه تمثل بشعر ابن الزبعري ليث أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل قد قتلنا القرن من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل وكلا القولين باطل يعلم بطلانه كل عاقل فإن الرجل ملك من ملوك المسلمين وخليفة من الخلفاء الملوك لا هذا ولا هذا وأما مقتل الحسين رضي الله عنه فلا ريب أنه قتل مظلوما شهيدا كما قتل أشباهه من المظلومين الشهداء وقتل الحسين معصية لله ورسوله ممن قتله أو أعان على قتله أو رضى بذلك وهو مصيبة أصيب بها المسلمون من أهله وغير أهله وهو في حقه شهادة له ورفع حجة وعلو منزلة فإنه وأخاه سبقت لهما من الله السعادة التي لا تنال إلا بنوع من البلاء ولم يكن لهما من السوابق ما لأهل بيتهما فإنهما تربيا في حجر الإسلام في عز وأمان فمات هذا مسموما وهذا مقتولا لينالا بذلك منازل السعداء وعيش الشهداء وليس ما وقع من ذلك بأعظم من قتل الأنبياء فإن الله تعالى قد أخبر أن بني إسرائيل كانوا يقتلون النبيين بغير حق وقتل الأنبياء فإن الله تعالى قد أخبر أن بني إسرائيل كانوا يقتلون النبيين بغير حق وقتل النبي أعظم ذنبا ومصيبة وكذلك قتل علي رضي الله عنه أعظم ذنبا ومصيبة وكذلك قتل عثمان رضي الله عنه أعظم ذنبا ومصيبة

إذا كان كذلك فالواجب عند المصائب الصبر والاسترجاع كما يحبه الله ورسوله قال الله تعالى وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها ورواية الحسين وابنته التي شهدت مصرعه لهذا الحديث اية فإن مصيبة الحسين هي ما يذكر وإن قدمت فيشرع للمسلم أن يحدث لها استرجاعا وأما ما يكرهه الله ورسوله من لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية فهذا محرم تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فاعله كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية وتبرأ من الصالقة والحالقة والشاقة فالصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة والحالقة التي تحلق شعرها والشاقة التي تشق ثبايهاوفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران ورفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه نائحة فأمر بضربها فقيل يا أمير المؤمنين إنه قد بدا شعرها فقال إنه لا حرمة لها أنها تنهى عن الصبر وقد أمر الله به وتأمر بالجزع وقد نهى الله عنه وتفتن الحي وتؤذي الميت وتبيع عبرتها وتبكي بشجو غيرها إنها لا تبكي على ميتكم إنما تبكي على أخذ دراهمكم

*فصل:(مقتل الحسين)
وصار الناس في قتل الحسين رضي الله عنه ثلاثة أصناف طرفين ووسطا أحد الطرفين يقول إنه قتل بحق فإنه أراد أن يشق عصا المسلمين ويفرق الجماعة وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه قالوا والحسين جاء وأمر المسلمين على رجل واحد فأراد أن يفرق جماعتهم وقال بعض هؤلاء هو أول خارج خرج في الإسلام على ولاة الأمر والطرف الاخر قالوا بل كان هو الإمام الواجب طاعته الذي لا ينفذ أمر من أمور الإيمان إلا به ولا تصلي جماعة ولا جمعة إلا خلف من يوليه ولا يجاهد عدو بإذنه ونحو ذلك وأما الوسط فهم أهل السنة الذين لا يقولون لا هذا ولا هذا بل يقولون قتل مظلوما شهيدا ولم يكن متوليا لأمر الأمة والحديث المذكور لا يتناوله فإنه لما بلغه ما فعل بابن عمه مسلم بن عقيل ترك طلب الأمر وطلب أن يذهب إلى يزيد ابن عمه أو إلى الثغر أو إلى بلده فلم يمكنوه وطلبوا منه أن يستأسر لهم وهذا لم يكن واجبا عليه

فصل
وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يحدث للناس بدعتين بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثى وما يفضي إليه ذلك من سب السلف ولعنتهم وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب حتى يسب السابقون الأولون وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب وكان قصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة فإن هذا ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرمه الله ورسوله وكذلك بدعة السرور والفرح وكانت الكوفة بها قوم من الشيعة المنتصرين للحسين وكان رأسهم المختار بن أبي عبيد الكذاب وقوم من الناصبة المبغضين لعلي رضي الله عنه وأولاده ومهم الحجاج بن يوسف الثقفي وقد ثبت في الصحيح عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون في ثقيف كذاب ومبير فكان ذلك الشيعي هو الكذاب وهذا الناصبي هو المبير فأحدث أولئك الحزن وأحدث هؤلاء السرور ورووا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته قال حرب الكرماني سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال لا أصل له وليس له إسناد يثبت إلا ما رواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه أنه قال بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء الحديث وابن المنتشر كوفي سمعه ورواه عمن لا يعرف ورووا أنه من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام فصار أقوام يستحبون يوم عاشوراء الاكتحال والاغتسال والتوسعة على العيال وإحداث أطعمة غير معتادة وهذه بدعة أصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين رضي الله عنه وتلك بدعة أصلها من المتعصبين بالباطل له وكل بدعة ضلالة ولم يستحب أحد من أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم لا هذا ولا هذا ولا في

شيء من استحباب ذلك حجة شرعية بل المستحب يوم عاشوءا الصيام عند جمهور العلماء ويستحب أن يصام معه التاسع ومنهم من يكره إفراده بالصيام كما قد بسط في موضعه والذين نقلوا مصرع الحسين زادوا أشياء من الكذب كما زادوا في قتل عثمان وكما زادوا فيما يراد تعظيمه من الحوادث وكما زادوا في المغازي والفتوحات وغير ذلك والمصنفون في أخبار قتل الحسين منهم من هو من أهل العلم كالبغوي وابن أبي الدنيا وغيرهما ومع ذلك فيما يروونه اثار منقطعة وأمور باطلة وأما ما يرويه المصنفون في المصرح بلا إسناد فالكذب فيه كثير والذي ثبت في الصحيح أن الحسين لما قتل حمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد وأنه نكت بالقضيب على ثناياه وكان بالمجلس أنس بن مالك رضي الله عنه وأبو برزة الأسلمي ففي صحيح البخاري عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت وقال في حسنه شيئا فقال أنس كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مخضوبا بالوسمة وفيه أيضا عن ابن أبي نعم قال سمعت ابن عمر وسأله رجل

عن المحرم يقتل الذباب فقال يا أهل العراق تسألوني عن قتل الذباب وقد قتلتم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم هما ريحانتاي من الدنيا وقد روى بإسناد مجهول أن هذا كان قدام يزيد وأن الرأس حمل إليه وأنه هو الذي نكت على ثناياه وهذا مع أنه لم يثبت ففي الحديث ما يدل على أنه كذب فإن الذين حضروا نكته بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام وإنما كانوا بالعراف والذي نقله غير واحد أن يزيد لم يأمر بقتل الحسين ولا كان له غرض في ذلك بل كان يختار أن يكرمه ويعظمه كما أمره بذلك معاوية رضي الله عنه ولكن كان يختار أن يمتنع من الولاية والخروج عليه فلما قدم الحسين وعلم أن أهل العراق يخذلونه ويسلمونه طلب أن يرجع إلى يزيد أو يرجع إلى وطنه أو يذهب إلى الثغر فمنعوه من ذلك حتى يستأسر فقاتلوه حتى قتل مظلوما شهيدا رضي الله عنه وأن خبر قتله لما بلغ يزيد وأهله ساءهم ذلك وبكوا على قتله وقال يزيد لعن الله ابن مرجانة يعني عبيد الله بن زياد أما والله

لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله وقال قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين وأنه جهز أهله بأحسن الجهاز وأرسلهم إلى المدينة لكنه مع ذلك ما انتصر للحسين ولا أمر بقتل قاتله ولا أخذ بثأره وأما ما ذكره من سبي نسائه والذراري والدوران بهم في البلاد وحملهم على الجمال بغير أقتاب فهذا كذب وباطل ما سبى المسلمون ولله الحمد هاشمية قط ولا استحلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم سبى بني هاشم قط ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرا كما تقول طائفة منهم إن الحجاج قتل الأشراف يعنون بني هاشم وبعض الوعاظ وقع بينه وبين بعض من كانوا يدعون أنهم علويون ونسبهم مطعون فيه فقال على منبره إن الحجاج قتل الأشراف كلهم فلم يبق لنسائهم رجل فمكنوا منهن رجالا فهؤلاء من أولاد أولئك وهذا كله كذب فإن الحجاج لم يقتل من بني هاشم أحدا قط مع كثرة قتله لغيرهم فإن عبد الملك أرسل إليه يقول له إياك وبنى هاشم أن تتعرض لهم فقد رأيت بني حرب لما تعرضوا للحسين أصابهم ما أصابهم أو كما قال ولكن قتل الحجاج كثيرا من أشراف العرب أي

سادات العرب ولما سمع الجاهل أنه قتل الأشراف وفي لغته أن الأشراف هم الهاشميون أو بعض الهاشميين أو بعض الهاشميين ففي بعض البلاد أن الأشراف عندهم ولد العباس وفي بعضها الأشراف عندهم ولد علي ولفظ الأشراف لا يتعلق به حكم شرعي وإنما الحكم يتعلق ببنى هاشم كتحريم الصدقة وأنهم ال محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك والحجاج كان قج تزوج ببنت عبد الله بن جعفر فلم يرض بذلك بنو أمية حتى نزعوها منه لأنهم معظمون لبني هاشم وفي الجملة فما يعرف في الإسلام أن المسلمين سبوا امرأة يعرفون أنها هاشمية ولا سبى عيال الحسين بل لما دخلوا إلى بيت يزيد قامت النياحة في بيته وأكرمهم وخيرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة ولا طيف برأس الحسين وهذه الحوادث فيها من الأكاذيب ما ليس هذه موضع بسطه وأما ما ذكره من الأحداث والعقوبات الحاصلة بقتل الحسين فلا ريب أن قتل الحسين من أعظم الذنوب وأن فاعل ذلك والراضي به والمعين عليه مستحق لعقاب الله الذي يستحقه أمثاله لكن قتله ليس بأعظم من قتل من هو أفضل منه من النبيين والسابقين الأولين ومن قتل في حرب مسيلمة وكشهداء أحد والذين قتلوا ببئر معونة وكقتل عثمان وقتل

على لا سيما والذين قتلوه أباه عليا كانوا يعتقدونه كافرا مرتدا وإن قتله من أعظم القربات بخلاف الذين قتلوا الحسين فإنهم لم يكونوا يعتقدون كفره وكان كثير منهم أو أكثرهم يكرهون قتله ويرونه ذنبا عظيما لكن قتلوه لغرضهم كما يقتل الناس بعضهم بعضا على الملك وبهذا وغيره يتبين أن كثيرا مما روى في ذلك كذب مثل كون السماء أمطرت دما فإن هذا ما وقع قط في قتل أحد ومثل كون الحمرة ظهرت في السماء يوم قتل الحسين ولم تظهر قبل ذلك فإن هذا من الترهات فما زالت هذه الحمرة تظهر ولها سبب طبيعي من جهة الشمس فهي بمنزلة الشفق وكذلك قول القائل إنه ما رفع حجر في الدنيا إلا وجد تحته دم عبيط هو أيضا كذب بين وأماقول الزهري ما بقى أحد من قتلة الحسين إلا عوقب في الدنيا فهذا ممكن وأسرع الذنوب عقوبة البغي والبغي على الحسين من أعظم البغي وأما قوله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الوصية للمسلمين في ولديه الحسن والحسصين ويقول لهم هؤلاء وديعتي عندكم وأنزل الله

فيهم قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى فالجواب أما الحسن والحسين فحقهما واجب بلا ريب وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال إني تارك فيكم الثقفلين أحدهما كتاب الله فذكر كتاب الله وحض عليه ثم قال وعترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي والحسن والحسين من أعظم أهل بيته اختصاصا به كما ثبت في الصحيح أنه دار كساءه على علي وفاطمة وحسن وحسين ثم قال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وأما قوله إنه كان يكثر الوصية بهما ويقوله لهم هؤلاء وديعتي عندكم فهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها والنبي صلى الله ليه وسلم أعظم من أن يودع ولديه لمخلوق فإن ذلك أن أريد به حفظهما كما يحفظ المال المودع فالرجال لا يودعون وإن كان كما يستودع الرجل أطفاله لمن يحفظهم ويربيهم فهما كانا في حضانة أبيهما

ثم لما بلغا رفع عنهما حجر الحضانة فصار كل منهما في يد نفسه وإن أريد بذلك أنه أراد أن الأمة تحفظهما وتحرسهما فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين وكيف يمكن واحد من الأمة أن يدفع عنهما الافات وإن أراد بذكل المنع من أذاهما بالعدوان عليهما ونصرهما ممن يبغى عليهما فلا ريب أن هذا اجب لمن هو دونهما فكيف لا يجب لهما وهذا من حقوق المسلم على المسلم وحقهما أوكد من حق غيرهما وأما قوله وأنزل الله فيهم قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى فهذا كذب ظاهر فإن هذه الاية في (سورة الشورى). و(سورة الشورى). مكية بلا ريب نزلت قبل أن يتزوج على بفاطمة رضي الله عنهما وقبل أن يولد له الحسن والحسين فإن عليت إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد الهجرة في العام الثاني ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر وكانت بدر في شهر رمضان سنة اثنتين وقد تقدم الكلام على الاية الكريمة وأن المراد بها ما بينه ابن عباس رضي الله عنهما من أنه لم

تكن قبيلة من قريش إلا وبينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة فقال لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى إلا أن تودوني في القرابة التي بين وبينكم رواه البخاري وغيره وقد ذكر طائفة من المصنفين من أهل السنة والجماعة والشيعة من أصحاب أحمد وغيرهم حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الاية لما نزلت قالوا يا رسول الله من هؤلاء قال علي وفاطمة وابناهما وهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ومما يبين ذلك أن هذه الاية نزلت بمكة باتفاق اهل العلم فإن (سورة الشورى). جميعها مكية بل جميع ال حم كلهن مكيات وعلى لم يتزوج فاطمة إلا بالمدينة كما تقدم ولم يولد له الحسن والحسين إلا في السنة الثالثة والرابعة من الهجرة فكيف يمكن أنها لما نزلت بمكة قالوا يا رسول الله من هؤلاء قال على وفاطمة وابناهما قال الحافظ عبد الغني المقدسي ولد الحسن سنة ثلاث من الهجرة في النصف من شهر رمضان هذا أصح ما قيل فيه وولد الحسين لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة قال وقيل سنة ثلاث قلت ومن قال هذا يقول إن الحسن ولد سنة اثنتين وهذا ضعيف فقد ثبت في الصحيح أن عليا لم يدخل بفاطمة رضي الله عنهما إلا بعد غزوة بدر.
*

فصل
قال الرافضي وتوقف جماعة ممن لا يقول بإمامته في لعنه مع أنه عندهم ظالم بقتل الحسين ونهب حريمه. وقد قال الله تعالى: ألا لعنة الله على الظالمين. وقال أبو الفرج بن الجوزي من شيوخ الحنابلة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا وإني قاتل بابن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا وحكى السدى وكان من فضلائهم قال نزلت بكربلاء ومعى طعام للتجارة فنزلنا على رجل فتعشينا

عنده وتذاكرنا قتل الحسين وقلنا ما شرك أحد في قتل الحسين إلا ومات أقبح موتة فقال الرجل ما أكذبكم أنا شركت في دمه وكنت ممن قتله فما أصابني شيء قال فلما كان من اخر الليل إذا أنا بصائح قلنا ما الخبر قالوا قام الرجل يصلح المصباح فاحترقت إصبعه ثم دب الحريق في جسده فاحترق قال السدي فأنا والله رأتيه وهو حممة سوداء وقد سأل مهنا بن يحيى أحمد بن حنبل عن يزيد فقال هو الذي فعل ما فعل قلت وما فعل قال نهب المدينة وقال له صالح ولده يوما إن قوما ينسبوننا إلى تولى يزيد فقال يا بني وهل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الاخر فقال لم لا تلعنه فقال وكيف لا ألعن من لعنة الله في كتابه فقلت وأين لعن يزيد فقال في قوله تعالى فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. فهل يكون فساد أعظم من القتل ونهب المدنية ثلاثة أيام وسبى أهلها وقتل جمعا من وجوه الناس فيها من قريش والأنصار والمهاجرين من يبلغ عددهم سبعمائة وقتل من لم يعرف من عبد أو حر أو امرأة عشرة الاف وخاض الناس في الدماء حتى وصلت الدماء إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتلأت الروضة والمسجد ثم ضرب لكعبة بالمنجنيق وهدمها وأحرقها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار وقد شد يداه ورجلاه بسلاسل من نار ينكس في النار حتى يقع في قعر جهنم

وله ريح يتعوذ أهل النار إلى ربهم من شدة نتن ريحه وهو فيها خالد وذائق العذاب الأليم كلما نضجت جلودهم بدل الله لهم الجلود حتى يذوقوا العذاب لا يفتر عنهم ساعة ويسقى من حميم جهنم الويل لهم من عذاب الله عز وجل. وقال عليه الصلاة والسلام اشتد غضب الله وغضبى على من أوراق دم أهلي واذاني في عترتي.
*والجواب أن القول في لعنة يزيد كالقول في لعنة أمثاله من الملوك الخلفاء وغيرهم ويزيد خير من غيره خير من المختار بن أبي عبيد الثقفي أمير العراق الذي أظهر الانتقام من قتلة الحسين فإن هذا ادعى أن جبريل يأتيه وخير من الحجاج بن يوسف فإنه أظلم من يزيد باتفاق الناس ومع هذا فيقال غاية يزيد وأمثاله من الملوك أن يكونوا فساقا فلعنة الفاسق المعين ليست مأمورا بها. إنما جاءت السنة بلعنة الأنواع كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده. وقوله لعن الله من أحدث حدثا أو اوى محدثا وقوله لعن الله اكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. وقوله لعن الله المحلل والمحلل له لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه

وساقيها وشاربها واكل ثمنها.
وقد تنازع الناس في لعنة الفاسق المعين فقيل إنه جائز كما قال ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الفرج بن الجوزي وغيره. وقيل إنه لا يجوز كما قال ذلك طائفة أخرى من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي بكر عبد العزيز وغيره والمعروف عن أحمد كراهة لعن المعين كالحجاج بن يوسف وأمثاله وأن يقول كما قال الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين.
وقد ثبت في صحيح البخاري أن رجلا كان يدعى حمارا وكان يشرب الخمر وكان يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه فأتى به إليه مرة فقال رجل لعنة الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنه فإنه يجب الله ورسوله. فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنة هذا المعين الذي كان يكثر شرب الخمر معللا ذلك بأنه يحب الله ورسوله مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر مطلقا، فدل ذلك على أنه يجوز أن يلعن المطلق ولا تجوز لعنة المعين الذي يجب الله ورسوله. ومن المعلوم أن كل مؤمن فلا بد أن يحب الله ورسوله ولكن في المظهرين للإسلام من هم منافقون فأولئك ملعونون لا يحبون الله ورسوله ومن علم حال الواحد من هؤلاء لم يصل عليه إذا مات لقوله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره.
ومن جوز من أهل السنة والجماعة لعنة الفاسق المعين فإنه يقول يجوز أن أصلي عليه وأن ألعنه، فإنه مستحق للثواب مستحق للعقاب فالصلاة عليه لاستحقاقه الثواب واللعنه له لاستحقاقه العقاب، واللعنة البعد عن الرحمة والصلاة عليه سبب لرحمة فيرحم من وجه ويبعد عنها من وجه. وهذا كله على مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة ومن يدخل فيهم من الكرامية والمرجئة والشيعة ومذهب كثير من الشيعة الإمامية وغيرهم الذين يقولون إن الفاسق لا يخلد في

النار وأما من يقول بتخليده في النار كالخوارج والمعتزلة وبعض الشيعة فهؤلاء عندهم لا يجتمع في حق الشخص الواحد ثواب وعقاب وقد استفاضت السنن النبوية بأنه يخرج من النار قوم بالشفاعة ويخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وعلى هذا الأصل فالذي يجوز لعنة يزيد وأمثاله يحتاج إلى شيئين، إلى ثبوت أنه كان من الفساق الظالمين الذين تباج لعنتهم وأنه مات مصرا على ذلك، والثاني أن لعنة المعين من هؤلاء جائزة والمنازع يطعن في المقدمتين لا سيما الأولى.
فأما قول الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين فهي اية عامة كايات الوعيد بمنزلة قوله إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ويصلون سعيرا. وهذا يقتضي أن هذا الذنب سبب اللعن والعذاب لكن قد يرتفع موجبة لمعارض راجح إما توبة وإما حسنات ماحية وإما مصائب مكفرة.
فمن أين يعلم الإنسان أن يزيد أو غيره من الظلمة لم يتب من هذه أو لم تكن له حسنات ماحية تمحو ظلمه ولم يبتل بمصائب تكفر عنه وأن الله لا يغفر له ذلك مع قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أول جيش شخص يغزو القسطنكينية مغفور لهم وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد والجيش عدد معين لا مطلق وشمول المغفرة لاحاد هذا الجيش أقوى من شمول اللعنة لكل واحد واحد من الظالمين فإن هذا أخص والجيش معينون ويقال إن يزيد إنما غزا القسطنطينية لأجل هذا الحديث.
ونحن نعلم أن أكثر المسلمين لا بد لهم من ظلم فإن فتح هذا الباب ساغ أن يلعن أكثر موتى المسلمين والله تعالى أمر بالصلاة على موتى المسلمين لم يأمر بلعنتهم ثم الكلام في لعنة الأموات أعظم من لعنة الحي فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبوا الأموات

فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا. حتى أنه قال لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا. لما كان قوم يسبون أبا جهل ونحوه من الكفار الذين أسلم أقاربهم فإذا سبوا ذلك اذوا قرابته وأما ما نقله عن أحمد فالمنصوص الثابت عنه من رواية صالح أنه قال ومتى رأيت أباك يلعن أحدا لما قيل له ألا تلعن يزيد فقال ومتى رأيت أباك يلعن أحدا.
وثبت عنه أن الرجل إذا ذكر الحجاج ونحو من الظلمة وأراد أ يلعن يقول ألا لعنة الله على الظالمين وكره أن يلعن المعين باسمه ونقلت عنه رواية في لعنة يزيد وأنه قال ألا ألعن من لعنة الله واستدل بالاية لكنها رواية منقطعة ليست ثابته عنه والاية لا تدل على لعن المعين ولو كان كل ذنب لعن فاعله يلعن المعين الذي فعله للعن جمهور الناس وهذا بمنزلة الوعيد المطلق لا يستلزم ثبوته في حق المعين إلا إذا وجدت شروطة وانتفت موانعه وهكذا اللعن وهذا بتقدير أن يكون يزيد فعل ما يقطع به الرحم ثم إن هذا تحقق في كثير من بني هاشم الذين تقاتلوا من العاسيين والطالبيين فهل يلعن هؤلاء كلهم وكذلك من ظلم قرابة له لا سيما وبينه وبينه عدة اباء أيلعنه بعينه ثم إذا لعن هؤلاء لعن كل من شمله ألفاظه وحينئذ فيلعن جمهور المسلمين وقوله تعالى فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئط الذين لعنهم الله فأسمهم وأعمى أبصارهم وعيد عام في حق كل من فعل ذلك وقد فعل بنو هاشم بعضهم ببعض أعظم مما فعل يزيد فإن قيل بموجب هذا لعن ما شاء الله من بني هاشم العلويين والعباسيين وغيرهم من المؤمنين وأما أبو الفرج بن الجوزي فله كتاب في إباحة لعنة يزيد رد فيه على الشيخ عبد المغيث الحربي فإنه كان ينهى عن ذلك وقد قيل إن الخليفة الناصر لما بلغه نهى الشيخ عبد المغيث عن ذلك قصده وسأله عن ذلك وعرف عبد المغيث أنه الخليفة ولم يظهر أنه يعلمه فقال يا هذا أنا قصدي كف ألسنة الناس عن لعنة خلفاء المسلمين وولاتهم.

وإلا فلو فتحنا هذا الباب لكان خليفة وقتنا أحق باللعن فإنه يفعل أمورا منكرة أعظم مما فعله يزيد فإن هذا يفعل كذا ويفعل كذا ودعل يعدد مظالم الخليفة حتى قال له ادع لي يا شيخ وذهب وأما ما فعله بأهل الحرة فإنهم فإنهم لما خلعوه وأخرجوا نوابه وعشيرته أرسل إليهم مرة بعد مرة يطلب الطاعة فامتنعوا فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المرى وأمره إذا ظهر عليهم أن يبيح المدينة ثلاثة إيام وهذا هو الذي عظم إنكار الناس له من فعل يزيد ولهذا قيل لأحمد أتكتب الحديث عن يزيد قال لا ولا كرامة أو ليسه و الذي فعل بأهل المدينة ما فعل لكن لم يقتل جميع الأشراف ولا بلغ عدد القتلى عشرة الاف ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى الروضة ولا كان القتل في المسجد وأما الكعبة فإن الله شرفها وعظمها وجعلها محرمة فلم يمكن الله أحدا من إهانتها لا قبل الإسلام ولا بعده بل لما قصدها أهل الفيل عاقبهم الله العقوبة المشهورة كما قال تعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول وقال تعالى إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم قال ابن مسعود رضي الله عنه لو هم رجل بعدن أبين أن يلحج في الحرم لأذاقه الله من عذاب أليم رواه الإمام أحمد في مسنده موقوفا ومرفوعا ومعلوم أن من أعظم الناس كفرا القرامطة الباطنية الذين قتلوا

الحجاج وألقوهم في بئر زمزم وأخذوا الحجر الأسود وبقى عندهم مدة ثم أعادوزه وجرى فيه عبرة حتى أعيد ومع هذا فلم يسلطوا على الكعبة بإهانة بل كانت معظمة مشرفة وهم كانوا من أكفر خلق الله تعالى وأما ملوك المسلمين من بني أمية وبني العباس ونوابهم فلا ريب أن أحدا منهم لم يقصد أهانة الكعبة لا نائب يزيد ولا نائب عبد الملك الحجاج بن يوسف ولا غيرهما بل كان المسلمين كانوا معظمين للكعبة وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير والضرب بالمنجنيق كان له لا للكعبة ويزيد لم يهدم الكعبة ولم يقصد إحراقها لا وهو ولا نوبه باتفاق المسلمين ولكن ابن الزبير هدمها تعظيما لها لقصد إعادتها وبنائها على الوجه الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها وكانت النار قد أصابت بعض ستائرها فتفجر بعض الحجارة ثم إن عبد الملك أمر الحجاج بإعادتها إلى البناء الذي كانت عليه زمن رسول لله صلى الله عليه وسلم إلا ما زاد في طولها في السماء فأمره أن يدعه فهي على هذه الصفة إلى الان وهذه مسألة اجتهاد فابن الزبير ومن وافقه من السلف رأوا إعادتها إلى الصفة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لعائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قرشا حين بنت الكعبة استقصرت ولجعلت لها خلفا قال البخاري يعني بابا وعنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر وفي رواية في صحيح مسلم ولجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر وروى مسلم في صحيحه عن عطاء بن أبي رباح قال لما

احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يجرئهم على أهل الشام فلما صدر الناس قال يا أيها الناس أشيروا على في الكعبة أنقضها ثم أبنى بناءها أم أصلح ما وهي منها قال ابن عباس رضي الله عنهما فإني قد فرق لي فيها رأى أرى أن تصلح ما وهي منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجارا أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال ابن الزبير لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجده فكيف بيت ربكم إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمرى فلما مضت الثلاث أجمع أمره على أن ينقضها فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا الأرض فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه قال ابن الزبير سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمس أذرع ولجعلت لها مابين بابا يدخل الناس منه وباب يخرجون منه قال فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس قال فزاد فيه خمس أذرع من الجر حتى أبدى أسا نظر إليه الناس قال فزاد فيه خمس أذرع من الحجر حتى أبدى أسا نظر إليه الناس فبنة عليه البناء وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل لها بابين أحدهما يدخل منه والاخر يخرج منه فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة فكتب إليه عبد الملك إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء أما ما زاد في طوله فأقره وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد الباب

الذي فتحه فنقضه وأعاده إلى بنائه وعن عبد الله بن عبيد قال وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال عبد الملك ما أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة رضي الله عنها ما كان زعم أنه سمعه منها قال الحارث بلى أنا سمعته منها قال سمعتها تقول ماذا قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمى لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع هذا حديث عبد الله بن عبيد وعن الوليد بن عطاء عن الحارث في هذا الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم ولجعلت لها بابين موضعين بالأرض شرقيا وغربيا وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها قالت قلت لا قال تعززا ألا يدخلها إلا من أرادوا فكان الرجل إذا هو أراد أ يدخلها يدعونه يرتقى حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط قال عبد الملك للحارث أنت سمعتها تقول هذا قال نعم فنكت ساعة بعصاه ثم قال وددت أني تركته وما تحمل وذكر البخاري عن يزيد بن رومان شهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسمنة الإبل فذكر الزيادة ستة أذرع أو نحوها قلت وابن عباس وطائفة أخرى رأوا إقرارها على الصفة التي كانت عليها زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها كذلك ثم إنه لما قتل ابن الزبير رأة عبد الملك أن تعاد كما كانت لاعتقاده أن ما فعله ابن الزبير لا مستند له فيه ولما بلغه الحديث ود أنه تركه فلما كانت خلافة الرشيد رحمه الله شاور مالك بن أنس في أن يفعل كما فعل ابن الزبير فأشار عليه مالك بن أنس أن لا يفعل ذلك وقيل عن الشافعي إنه رجح فعل ابن الزبيروكل من الأمراء والعلماء الذين رأوا هذا وهذا معظمون للكعبة مشرفون لها إنما يقصدون ما يرونه أحب إلى الله ورسوله وأفضل عند الله

ورسوله ليس فيهم من يقصد إهانة الكعبة ومن قال إن أحدا من خلق الله قصد رمى الكعبة بمنجنيق أو عذرة فقد كذب فإن هذا لم يكن لا في الجاهلية ولا في الإسلام والذين كانوا كفارا لا يحترمون الكعبة كأصحاب الفيل والقرامطة لم يفعلوا هذا فكيف بالمسلمين الذين كانوا يعظمون الكعبة وأيضا فلو قدر والعياذ بالله أن أحدا يقصد إهانة الكعبة وهو قادر على ذلك لم يحتج إلى رميها بالمنجنيق بل يمكن تخريبها بدون ذلك كما تخرب في اخر الزمان إذا أراد الله أن يقيم القيامة فيخرب بيته ويرفع كلامه من الأرض فلا يبقى في المصاحف والقلوب قران ويبعث ريحا طيبة فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ولا يبقى في الأرض خير من ذلك وتخريبها بأن يسلط عليها ذو السويقتين كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الني صلى الله عليه وسلم قال يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة

وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله ليه وسلم قال كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا وقال الله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد قال ابن عباس رضي الله عنهما لو ترك الناس الحج سنة واحدة لما نوظروا وقال لو اجتمع الناس على أن لا يحجوا لسقطت السماء على الأرض ذكره الإمام أحمد في المناسك ولهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد إن الحج كل عام فرض على الفاية والمنجنيق إنما يرمى به مالا يقدر عليه بدونه كما رمى النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بالمنجنيق لما دخلوا حصنهم وامتنعوا فيه والذين حاصروا ابن الزبير لما استجار هو وأصحابه بالمسجد الحرام رموهم بالمنجنيق حيث لم يقدروا عليهم بدونه ولما قتل ابن الزبير دخلوا بعد هذا إلى المسجد الحرام فطافوا بالكعبة وحج الحجاج بن يوسف ذلك العام بالناس وأمره عبد الملك بن مروان أن لا يخالف ابن عمر في أمر الحج فلو كان قصدهم بالكعبة شرا لفعلوا ذلك بعد أن تمكنوا منها كما أنهم لما تمكنوا من ابن الزبير قتلوه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17