كتاب : منهاج السنة النبوية
المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

وما مشيت إذا مشيت ولكن الله مشى وما لطمت ولكن الله لطم وما طعنت ولكن الله طعن وما ضربت بالسيف ولكن الله ضرب وما ركبت الفرس ولكن الله ركب وما صمت وما صليت وما حججت ولكن الله صام وصلى وحج ومن المعلوم بالضرورة بطلان هذا كله وهذا من غلو المثبتين للقدر ولهذا يروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنهم كانوا يرمونه بالحجارة لما حصر فقال لهم لماذا ترمونني فقالوا ما رميناك ولكن الله رماك فقال لو أن الله رماني لأصابني ولكن أنتم ترمونني وتخطئونني وهذا مما احتج به القدرية النفاة على أن الصحابة لم يكونوا يقولون إن الله خالق أفعال العباد كما احتج بعض المثبتة بقوله تعالى ولكن الله رمى (سورة الأنفال). وكلاهما خطأ فإن الله إذا خلق فيعبد فعلا لم يجب أن يكون ذلك المخلوق صوابا من العبد كما أنه إذا خلق في الجسم طعما أو ريحا لم يجب أن يكون ذلك طيبا وإذا خلق للعبد عينين ولسانا لم يجب أن يكون بصيرا ناطقا فاستناد الكذب الذي في الناس كاستناد جميع ما يكون في المخلوقين من الصفات القبيحة والاحوال المذمومة وذلك لا يقتضي أنه في نفسه مذموم ولا أنه موصوف بتلك الصفات ولكن لفظ الاستناد لفظ مجمل أتراه أنه إذا استند إليه العجز المخلوق في الناس لكونه خالقه يكون هو عاجزا فهذا مما يبين فساد هذه الحجة.
الوجه الثاني: أنهم يجوزون أنه يخلق القدرة على الكذب مع علمه بأن صاحبها يكذب ويخلق القدرة على الظلم والفواحش مع علمه أن صاحبها يظلم ويفحش ومعلوم أن الواحد منا يجري تمكينه من القبائح وإعانته عليها مجرى فعله لها فمن أعان غيره على الكذب بإعطاء أمور يستعين بها على الكذب كان بمنزلة الكذب في القبح

فلا يجوز لنا أن نعين على إثم ولا عدوان كما نهى الله عن ذلك فإن كان ما قبح منه قبح منا فيلزم أن يجوزوا عليه إذا أعان على الكذب أن يكذب ويلزمهم المحذور فإن قالوا إنما أعطاه القدرة ليطيع لا ليعصي قيل إذا كان عالما بأنه يعصي كان بمنزلة من يعطي الرجل سيفا ليقاتل به الكفار مع علمه بأنه يقتل به نبيا وهذا لا يجوز في حقنا فإن من فعل فعلا لغرض مع علمه بأن الغرض لا يحصل به كان سفيها فينا والله تعالى منزه عن ذلك فعلم أن حكمه في أفعاله مخالف لأفعال عباده وإن عللوا ذلك بعلة يمكن استقامتها قيل لهم وكذلك ما يخلقه في غير له حكمة كما للإعانة عليه بالقدرة حكمة.
الوجه الثالث: أن يقال ليس كل ما كان قادرا عليه وهو ممكن نشك في وقوعه بل نحن نعلم بالضرورة أنه لا يفعل أشياء مع أنه قادر عليها وهي ممكنة فنعلم أنه لا يقلب البحار أدهانا ولا الجبال يواقيت ولا يمسخ جميع الآدميين ثعالب ولا يجعل الشمس والقمر عودى ريحان وأمثال هذه الأمور التي لا تحصى وعلمنا بأن الله منزه عن الكذب وأنه يمتنع عليه أعظم من علمنا بهذا.
الوجه الرابع: أنا نقول نحن نعلم أن الله موصوف بصفات الكمال وأن كل كمال ثبت لموجود فهو أحق به وكل نقص تنزه عنه موجود فهو أحق بالتنزيه عنه ونحن نعلم أن الحياة والعلم القدرة صفات كمال فالرب تعالى أحق أن يتصف بها من العباد وكذلك الصدق هو صفة كمال فهو أحق بالاتصاف به من كل من اتصف به كما قال تعالى الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (سورة النساء). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله.
الوجه الخامس: أن يقال قد اتفق السلف وأتباعهم على أن كلام الله غير مخلوق بل قائم به ثم تنازعوا هل يتكلم بمشيئته وقدرته

على قولين معروفين فالأول قول السلف والجمهور والثاني قول ابن كلاب ومن تبعه ثم تنازع أتباع ابن كلاب هل القديم الذي لا يتعلق بمشيئته وقدرته معنى قائم بذاته أو حرف أو حروف وأصوات أزلية على قولين كما قد بسط في موضعه وإذا كان كذلك فمن قال إنه لا يتعلق بمشيئته امتنع أن يقوم به غير ما اتصف به والصدق عندهم هو العلم أو معنى يستلزمه العلم ومعلوم أن علمه من لوازم ذاته ولوازم العلم من لوازم ذاته فيكون الصدق من لوازم ذاته فيمتنع اتصافه بنقيضه فإن لازم الذات القديمة الواجبه بنفسها يمتنع عدمه كما يمتنع عدمها فإن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم وأيضا فالصدق والكذب حينئذ مثل البصر والعمى والسمع والصمم والكلام والخرس وكما وجب أن يتصف بالبصر دون العمى وبالسمع دون الصمم وبالكلام دون الخرس وجب أيضا أن يتصف بالصدق دون الكذب

وأما من قال الكلام يتعلق بمشيئته وقدرته فهؤلاء عامتهم يقولون إنه يتكلم لحكمة ويفعل لحكمة وأنه سبحانه منزه عن فعل القبيح وأدلة هؤلاء على تنزيهه عن فعل القبائح أعظم من أدلة المعتزلة وأقوى فإن كل دليل يدل على تنزيهه عن فعل قبيح منفصل عنه فإنه يدل على تنزيهه عن فعل قبيح يقوم به بطريق الأولى والأحرى فإن كون ما يقوم به من القبائح نقصا هو أظهر من كون فعل المستقبحات المنفصلة نقصا فإذا امتنع هذا فذاك أولى بالامتناع.
الوجه السادس: أن يقال الأدلة العقلية دلت على امتناع اتصافه سبحانه بالنقائص والقبائح وإنما يتصف بما يقوم به منها والكلام قائم بالمتكلم فيمتنع أن يتكلم بكذب لأن كلامه قائم به فيمتنع أن يقوم به القبيح الذي اختاره وهذا طريق يختص به أهل الإثبات لتنزيهه عن الكذب والمعتزلة لا يمكنهم ذلك لأن كلامه منفصل عنه عندهم فإذا قال لهم هؤلاء المثبتة الدليل إنما دل على تنزيهه عن الاتصاف في نفسه بالقبائح وعن فعله لها والفعل ما قام بالفاعل وأما المنفصل فهو مفعول له لا فعل له وأنتم لم تذكروا دليلا على امتناع وقوع ذلك في مفعولاته وهو محل النزاع كانت حجة هؤلاء حجة ظاهرة على القدرية.

الوجه السابع: أن كلامه القائم بذاته غير مخلوق عند أهل السنة فإن الكلام صفة كمال فلا بد أن يتصف بها سواء قالوا إنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته وهو معنى قائم بالنفس أو هو حروف وأصوات قديمة أو قالوا إنه يتعلق بمشيئته وقدرته أو إنه تكلم بعد أن لم يكن متكلما أو إنه لم يزل متكلما إذا شاء فعلى الأقوال كلها هو قائم بذاته والكذب صفة نقص كالصمم والبكم والعمى والله منزه عن قيام النقائص به مع أنه يخلق خلقه متصفين بالنقائص فيخلق العمى والصمم والبكم ولا يقوم به ذلك فكذلك يخلق الكذب في الكاذب ولا يقوم به الكذب.
الوجه الثامن: أن يقال هذا السؤال وارد عليهم فإنهم يقولون إن الله يخلق في غيره كلاما يكون هو كلامه مع كونه قائما بغيره وهو محدث مخلوق والكلام الذي يتكلم به العباد هوعندهمليس مخلوقا له ولا هو كلامه فإذا كان هذا صدقا وهذا صدقا فلا بد أن يعرفوا أن هذا كلامه وليس هذا بكلامه وأما قوله وجاز منه إرسال الكذاب فجوابه من وجوه أحدها أنه لا ريب أن الله يرسل الكذاب كإرسال الشياطين في قوله ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (سورة مريم). ويبعثهم كما في قوله تعالى بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد (سورة الإسراء). لكن هذا لا يكون إلا مقرونا بما يبين كذبهم كما في مسيلمة الكذاب والأسود العنسي ولكن ليس في مجرد إرسال الكذاب ما يمنع التمييز بينه وبين الصادق كما أنه يرسل الظالم وليس في إرساله ما يمنع التمييز بينه وبين العادل ويرسل الجاهل والفاجر والأعمى والأصم وليس في إرسال هؤلاء مايمنع التمييز بينهم وبين غيرهم ولفظ الإرسال يتناول إرسال الرياح وإرسال الشياطين وغير ذلك الثاني أن يقال هم يجوزون أن يخلق من يعلم أنه كاذب وإعطاءه القدرة على الكذب كما خلق مسيلمة الكذاب والعنسي فإن كان

خلقه لهذا جائزا مع أنه ميز بينه وبين الصادق كذلك خلق الكذاب بكذبه الثالث أنه إذا خلق من يدعي النبوة وهو كاذب فإن قالوا يجوز إظهار أعلام الصدق عليه كان هذا ممنوعا وهو باطل بالاتفاق وإن قالوا لم يجز ذلك لم يكن مجرد دعوى النبوة بلا علم على الصدق ضارا فإن الشخص لو ادعى أنه طبيب أو صانع بلا دليل يدل على صدقه لم يلتفت إليه فكيف بمدعي النبوة وإن قالوا إذا جوزتم عليه أن يخلق الكذب في الكذاب فجوزوا عليه أن يظهر على يديه أعلام الصدق قيل هذا ممتنع لأن أدلة الصدق تستلزم الصدق لأن الدليل مستلزم للمدلول فإظهار أعلام الصدق على يد الكذاب ممتنع لذاته فلا يمكن بحال وإن قالوا فجوزوا أن يظهر على يديه خارق قلنا نعم فنحن نجوز أن يظهر الخارق على يد من يدعيالإلهية كالدجال لأن ذلك لا يدل على صدقة لظهور كذبه في دعوى الإلهية والممتنع ظهور دليل الصدق على الكذب فإن قالوا فجوزوا ظهور الخوارق على يد مدعي النبوة مع كذبه قلنا نعم ويجوز ذلك على وجه لا يدل على صدقه مثل ما يظهر السحرة والكهان من الخوارق المقرونة بما يمنع صدقهم والكلام على هذا مبسوط في موضعه الوجه الرابع أن دليل النبوة وأعلامها وما به يعرف صدق النبي ليست محصورة في الخوارق بل طرق معرفة الصدق متنوعة كما أن طرق معرفة الكذب متنوعة كما قد بسط في موضعه.

*

فصل
قال الرافضي ومنها أنه يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي، فإن الزنا إذا كان واقعا بإرادة الله تعالى والسرقة إذا صدرت عن الله وإرادته هي المؤثرة لم يجز للسلطان المؤاخذة عليها لأنه يصد السارق عن مراد الله ويبعثه على ما يكرهه الله. ولو صد الواحد منا غيره عن مراده وحمله على ما يكرهه استحق منه اللوم ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين لأن المعصية مرادة لله والزجر عنها مراد له أيضا.
*فيقال فيما قدمناه ما يبين الجواب عن هذا، لكن نوضح جواب هذا إن شاء الله تعالى من وجوه...
أحدها: أن الذي قدره وقضاه من ذلك هو ما وقع دون ما لم يكن بعد وما وقع لا يقدر أحد أن يرده وإنما يرد بالحدود والزواجر ما لم يقع بعد فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فقوله لأنه يصد السارق عن مراد الله كذب منه لأنه إنمايصده عما لم يقع بعد وما لم يقع لم يرده الله ولهذا لو حلف ليسرقن هذا المال إن شاء الله ولم يسرقه لم يحنث باتفاق المسلمين لأن الله لم يشأ سرقته ولكن القدرية عندهم الإرادة لا تكون إلا بمعنى الأمر فيزعمون أن السرقة إذا كانت مرادة كانت مأمورا بها وقد أجمع المسلمون وعلم بالإضطرار من دينهم أن الله لم يأمر بالسرقة ومن قال إن ما وقع منها مراد يقول إنه مراد غير مأمور به فلا يقول إنه مأمور به إلا كافر لكن هذا قد يقال للمباحية المحتجين بالقدر على المعاصي فإن منهم من لا يرى أن يعارض الإنسان فيما يظنه مقدرا عليه من المعاصي ومنهم من يرى أن يعاونه على ذلك معاونة لما ظن أنه مراد وهذا الفعل وإن كان محرما ومعصية فهم لم يصدوا عن مراد الله فتبين أن الصد عن مراد الله ليس واقعا على كل تقدير.

الوجه الثاني: أن يقال قد تقدم أن تناهي الناس عن المعاصي والقبائح والظلم ودفع الظالم وأخذ حق المظلوم منه ورد احتجاج من احتج على ذلك بالقدر أمر مستقر في فطر جميع الناس وعقولهم مع إقرار جماهيرهم بالقدر وأنه لا يمكن صلاح حالهم ولا بقاؤهم في الدنيا إذا مكنوا كل أحد أن يفعل ما يشاء من مفاسدهم ويحتج بالقدر وقد بينا أن المحتجين بالقدر على المعاصي إذا طردوا قولهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى وهم شر من المكذبين بالقدر.
الوجه الثالث: أن الأمور المقدورة بالاتفاق إذا كان فيها فساد يحسن ردها وإزالتها بعد وقوعها كالمرض ونحوه فإنه من فعل الله بالاتفاق مراد لله مع هذا يحسن من الإنسان أن يمنع وجوده بالاحتماء واجتناب أسبابه ويحسن منه السعي في إزالته بعد حصوله وفي هذا إزالة مراد الله وإن قيل إن قطع السارق يمنع مراد الله كان شرب الدواء لزوال المرض مانعا لمراد الله وكذلك دفع السيل الآتي من صبب والنار التي تريد أن تحرق الدور وإقامة الجدار الذي يريد أن ينقض كما أقام الخضر ذلك الجدار وكذلك إزالة الجوع الحاصل بالأكل وإزالة البرد الحاصل بالاستدفاء وإزالة الحر بالظلوقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال هي من قدر الله فبين صلى الله عليه وسلم أنه يرد قدر الله بقدر الله إما دفعا وإما رفعا إما دفعا لما انعقد سبب لوجوده وإما رفعا لما وجد كرفع المرض ودفعه ومن هذا قوله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله (سورة الرعد). قيل معقبات من أمر الله يحفظونه وقيل يحفظونه من أمر الله الذي ورد ولم يحصل يحفظونه أن يصل إليه وحفظهم بأمر الله.
الوجه الرابع: قوله ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين لأن المعصية مرادة لله والزجر عنها مراد الله كلام ساقط فإن النقيضين ما لا يجتمعان ولا يرتفعان أو ما لا يجتمعان وهما المتضادان

والزجر ليس عما وقع وأريد بل هو عقوبة على الماضي وزجر عن المستقبل والزجر الواقع بإرادته إن حصل مقصوده لم يحصل المزجور عنه فلم يرده فيكون المراد الزجر فقط وإن لم يحصل مقصوده لم يكن زجرا تاما بل يكن المراد فعل هذا الزاجر وفعل ذاك كما يراد ضرب هذا لهذا بهذا السيف وحياة هذا وكما يراد المرض المخوف الذي قد يكون سببا للموت ويراد معه الحياة فإرادة السبب ليست موجبة لإرادة المسبب إلا إذا كان السبب تاما موجبا والزجر سبب للانزجار والامتناع كسائر الأسباب كما أن المرض المخوف سبب للموت وكما أن الأمر بالفعل والترغيب فيه سبب لوقوعه ثم قد يقع المسبب وقد لا يقع فإن وقع كانا مرادين وإلا كان المراد ما وقع خاصة.
الوجه الخامس: أنه قد تقدم أن الإرادة نوعان نوع بمعنى المشيئة لما خلق فهذا متناول لكل حادث دون ما لا يحدث ونوع بمعنى المحبة لما أمر به فهذا إنما يتعلق بالطاعات وإذا كان كذلك فما

وقع من المعاصي فهو مراد بالمعنى الأول فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما وقع فقد شاء كونه والزجر عنها مراد بالمعنى الثاني فإنه يحب النهي عن المنكر ويرضاه ويثيب فاعله بخلاف المنكر نفسه فإنه لا يحبه ولا يرضاه ولا يثيب فاعله ثم الزجر إنما يكون عما لم يقع والعقوبة تكون على ما وقع فإذا وقعت سرقة بالقضاء والقدر وقد أمر الله سبحانه بإقامة الحد فيها فإقامة الحد مأمور به يحبه ويرضاه ويريده إرادة أمر لا إرادة خلق فإن أعان عليه كان قد أراده خلقا وكان حينئذ إقامة الحد مرادة شرعا وقدرا خلقا وأمرا قد شاءها وأحبها وإن لم يقع كان ما وقع من المعصية قد شاءه خلقا ولم يرده ولم يحبه شرعا ويذكر أن رجلا سرق فقال لعمر سرقت بقضاء الله وقدره فقال له وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره وهكذا يقال لمن تعدى حدود الله وأعان العباد على عقوبته الشرعية كما يعين المسلمين على جهاد الكفار إن الجميع واقع بقضاء الله وقدره لكن ما أمر به يحبه ويرضاه ويريده شرعا ودينا كما شاءه خلقا وكونا بخلاف ما نهى عنهفصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم مخالفة المعقول والمنقول أما المعقول فلما تقدم من العلم الضروري باستناد أفعالنا الاختيارية إلينا ووقوعها بحسب إرادتنا فإذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة وبالعكس والشك في ذلك عين السفسطة فيقال الجواب من وجوه أحدها أن جمهور أهل السنة قائلون بهذا وأن أفعال الإنسان الأختيارية مستنده إليه وأنه فاعل لها ومحدث لها وإنما ينازع في هذا من يقول إنها ليست فعلا للعبد ولا لقدرته تأثير فيها ولا أحدثها العبد وهؤلاء طائفة من متكلمي أهل الإثبات والجمهور من أهل السنة لا يقولون بذلك كما جاءت به النصوص فإن الله ورسوله وصف العبد بأنه يعمل ويفعل

الوجه الثاني أن يقال بل النفاة خالفوا العلم الضروري فإن كون العبد مريدا فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا أمر حادث بعد أن لم يكن فإما أن يكون له محدث وأما أن لا يكون له محدث فإن لم يكن له محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث وإن كان له محدث فإما أن يكون هو العبد أو الرب تعالى أو غيرهما فإن كان هو العبد فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية كالقول في إحداث أحداثها ويلزم التسلسل وهو هنا باطل بالاتفاق لأن العبد كائن بعد أن لم يكن فيمتنع أن تقوم به حوادث لا أول لها وإن كان غير الله فالقول فيه كالقول في العبد فتعين أن يكون الله هو الخالق لكون العبد مريدا فاعلا وهو المطلوب وأهل السنة يقولون بهذا العلم الضروري فيقولون إن العبد فاعل والله خلقه فاعلا والعبد مريد مختار والله جعله مريدا مختار قال الله تعالى إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله سورة الإنسان وقال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين سورة التكويرفأثبت مشيئة العبد وجعلها لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى وقال الخليل صلى الله عليه وسلم رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي (سورة إبراهيم). وقال فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وقال هو وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك (سورة البقرة). وقال وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا (سورة الأنبياء). وقال وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار (سورة القصص). وأمثال ذلك في الكتاب والسنة فدليلهم اقتضى مشيئة العبد وأنه فاعل بالاختيار وهذا الدليل اقتضى أن هذه المشيئة والاختيار حصلت بمشيئة الرب فكلا الأمرين حق فمن قال إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار أو قال إنه لا قدرة له أو أنه لم يفعل ذلك الفعل أو لا أثر لقدرته فيه ولم يحدث تصرفاته فقد أنكر موجب الضرورة الأولى

ومن قال إن إرادته وفعله حدثت بغير سبب اقتضى حدوث ذلك وأن العبد أحدث ذلك وحاله عند إحداثه كما كان قبل إحداثه بل خص أحد الزمانين بالإحداث من غير سبب اقتضى تخصيصه وأنه صار مريدا فاعلا محدثا بعد أن لم يكن كذلك من غير شيء جعله كذلك فقد قال بحدوث الحوادث بلا فاعل وإذا قالوا الإرادة لا تعلل كان هذا كلاما لا حقيقة له فإن الأرادة أمر حادث فلا بد له من محدث وهذا كما قالوا إن البارىء يحدث إرادة لا في محل بلا سبب اقتضى حدوثها ولا إرادة فارتكبوا ثلاث محالات حدوث حادث بلا إرادة من الله وحدوث حادث بلا سبب حادث وقيام الصفة بنفسها لا في محل وإن شئت قلت كونه مريدا أمر ممكن والممكن لايترجح وجوده على عدمه ولا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام وهذا مما يحتج به الرازي عليهم وهو صحيح في نفسه لكنه تناقض في مسألة حدوث العالموالحجة التي ذكرها هذا الإمامي مذكورة عن أبي الحسين البصري وهي صحيحة كما أن الأخرى صحيحة فيجب القول بهما جميعا مع أن جمهور القدرية يقولون العلم بكون العبد محدثا لأفعاله نظري لا ضروري وهؤلاء يخالفون أبا الحسين وأبو الحسين يقول مع ذلك إن الفعل يتوقف على الداعي والقدرة وعندهما يجب الفعل وهو حقيقة قول أهل الإثبات ولهذا يعبر غير واحد منهم بنحو ذلك كأبي المعالي والرازي وغيرهما لكن إذا قيل مع ذلك إن الله خالق أفعال العباد أمكن الجمع بينهما عند من يقول إن الله خلق الأشياء بالأسباب ومن لم يقل ذلك يقول خلق الفعل عند هذه الأمور لا بها وهو قول من لم يجعل للقدرة أثرا في مقدورها كالأشعري وغيره فإن قيل كيف يكون الله محدثا لها والعبد محدثا لها قيل إحداث الله لها بمعنى أن خلقها منفصلة عنه قائمة بالعبد فجعل العبد فاعلا لها بقدرته ومشيئته التي خلقها الله تعالى

وإحداث العبد لها بمعنى أنه حدث منه هذا الفعل القائم به بالقدرة والمشيئة التي خلقها الله فيه وكل من الإحداثين مستلزم للآخر وجهة الإضافة مختلفة فما أحدثه الرب فهو مباين له قائم بالمخلوق وفعل العبد الذي أحدثه قائم به فلا يكون العبد فاعلا للفعل بمشيئته وقدرته حتى يجعله الله كذلك فيحدث قدرته ومشيئته والفعل الذي كان بذلك وإذا جعله الله فاعلا وجب وجود ذلك فخلق الرب لفعل العبد يستلزم وجود الفعل وكون العبد فاعلا له بعد أن لم يكن يستلزم كون الرب خالقا له بل جميع الحوادث بأسبابها هي من هذا الباب فإن قيل هذا قول من يقول هي فعل للرب وفعل للعبد قيل من قال هي فعل لهما بمعنى الشركة فقد أخطأ ومن قال إن فعل الرب هو ما انفصل عنه وقال إنها فعل لهما كما قاله أبو إسحاق الإسفراييني فلا بد أن يفسر كلامه بشيء يعقل وأما على قول جمهور أهل السنة الذين يقولون إنها مفعولة للربلا فعل له إذا فعله ما قام به والفعل عندهم غير المفعول فيقولون إنها مفعولة للرب لا فعل له وإنها فعل للعبد كما يقولون في قدرة العبد إنها قدرة للعبد مقدورة للرب لا أنها نفس قدرة الرب وكذلك إرادة العبد هي إرادة للعبد مرادة للرب وكذلك سائر صفات العبد هي صفات له وهي مفعولة للرب مخلوقة له ليست بصفات له ومما يبين ذلك أن الله تعالى قد أضاف كثيرا من الحوادث إليه وأضافه إلى بعض مخلوقاته إما أن يضيف عينه أو نظيره كقوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى (سورة الزمر). وقال تعالى هو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار (سورة الأنعام). مع قوله تعالى قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم (سورة السجدة). وقوله توفته رسلنا وهم لا يفرطون (سورة الأنعام). وكذلك قوله تعالى في الريح تدمر كل شيء بأمر ربها ((سورة الأحقاف).).

وقال ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون سورةالأعراف وقال تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم (سورة الإسراء). وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام (سورة المائدة). وقال نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن (سورة يوسف). وقال إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون (سورة النمل). وقال ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب (سورة النساء). أي ما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم فيهن وقال فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (سورة الحج). فأضاف الإنبات إليها وقال تعالى والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (سورة الحجرات).. وقال تعالى هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات (سورة النحل). وقال تعالى حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها

أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا (سورة يونس). وقال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها (سورة الكهف). وقال تعالى إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (سورة الصافات). وقال تعالى يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها (سورة الحديد). وقال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء (سورة النحل). وقال نزل به الروح الأمين (سورة الشعراء). وقال وبالحق أنزلناه وبالحق نزل (سورة الإسراء). وقال وأنزلنا من السماء ماء (سورة المؤمنون). وقال تعالى وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء (سورة فصلت). وقال سليمان عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء (سورة النمل). وقال تعالى فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ((سورة الذاريات).). فهم نطقوا وهو انطقهم وهو الذي أنطق كل شيء فإذا كان تبارك وتعالى قد جعل في الجمادات قوى تفعل وقد أضاف الفعل إليها ولم يمنع ذلك أن يكون خالقا لأفعالها فلأن لا

يمنع إضافة الفعل إلى الحيوان وإن كان الله خالقه بطريق الأولى فإن القدرية لا تنازع في أن الله خالق ما في الجمادات من القوى والحركات وقد أخبر الله أن الأرض تنبت وأن السحاب يحمل الماء كما قال تعالى فالحاملات وقرا (سورة الذاريات). والريح تنقل السحاب كما قال تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت (سورة الأعراف). وأخبر أن الريح تدمر كل شيء وأخبر أن الماء طغى بقوله تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية (سورة الحاقة). بل قد أخبر بما هو أبلغ من ذلك من سجود هذه الأشياء وتسبيحها كما في قوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب (سورة الحج). وهذا التفصيل يمنع حمل ذلك على أن المراد كونها مخلوقة دالة على الخالق وأن المراد شهادتها بلسان الحال فإن هذا عام لجميع الناس وقد قال تعالى يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (سورة سبأ). وقال إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب (سورة ص).

فأخبر أن الجبال تؤوب معه والطير وأخبر أنه سخرها تسبح وقال ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه (سورة النور). وقال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم (سورة الإسراء). وقال ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها (سورة الرعد). وقال ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله (سورة البقرة). وبسط الكلام على سجود هذه الأشياء وتسبيحها مذكور في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هذا كله مخلوق لله بالاتفاق مع جعل ذلك فعلا لهذه الأعيان في القرآن فعلم أن ذلك لا ينافي كون الرب تعالى خالقا لكل شيء فإن قيل قولكم إذا جعلنا الله فاعلا وجب وجود ذلك الفعل وخلق الفعل يستلزم وجوده ونحو ذلك من الأقوال يقتضي الجبر وهو قول باطل

قيل لفظ الجبر لم يرد في كتاب ولا سنة لا بنفي ولا إثبات واللفظ إنما يكون له حرمة إذا ثبت عن المعصوم وهي ألفاظ النصوص فتلك علينا أن نتبع معاينها وأما الألفاظ المحدثة مثل لفظ الجبر فهو مثل لفظ الجهة والحيز ونحو ذلك ولهذا كان المنصوص عن أئمة الإسلام مثل الأوزاعي والثوري وعبدالرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم أن هذا اللفظ لا يثبت ولا ينفي مطلقا فلا يقال مطلقا جبر ولا يقال لم يجبر فإنه لفظ مجمل ومن علماء السلف من أطلق نفيه كالزبيدي صاحب الزهري وهذا نظر إلى المعنى المشهور من معناه في اللغة فإن المشهور إطلاق لفظ الجبر والإجبار على ما يفعل بدون إرادة المجبور بل مع كراهته كما يجبر الأب ابنته على النكاح وهذا المعنى منتف في حق الله تعالى فإنه سبحانه لا يخلق فعل العبد الاختياري بدون اختياره بل هو الذي جعله مريدا مختارا وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله ولهذا قال من قال من السلف الله أعظم وأجل من أن يجبر إنما يجبر غيره من لا يقدر على جعله مختارا والله تعالى يجعل العبد مختارا فلا يحتاج إلى إجباره

ولهذا قال الاوزاعي والزبيدي وغيرهما نقول جبل ولا نقول جبر لأن الجبل جاءت به السنة كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبدالقيس إن فيك خلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما فقال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله فقد يراد بلفظ الجبر نفس فعل ما يشاؤه وإن خلق اختيار العبد كما قال محمد بن كعب القرظي الجبار هو الذي جبر العباد على ما أراده وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الدعاء المأثور عنه اللهم داحي المدحوات وسامك المسموكات جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها فإذا أريد بالجبر هذا فهذا حق وإن أريد به الأول فهو باطل ولكن الإطلاق يفهم منه الأول فلا يجوز إطلاقه فإذا قال السائل أنا أريد بالجبر المعنى الثاني وهو أن نفس جعل الله للعبد فاعلا قادرايستلزم الجبر ونفس كون الداعي والقدرة يستلزم وجود الفعل جبر قيل هذا المعنى حق ولا دليل لك على إبطاله وحذاق المعتزلة كأبي الحسين البصري وأمثاله يسلمون هذا فيسلمون أن مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود الفعل وصاحب هذا الكتاب قد سلك هذه الطريقة فلا يمكنه مع هذا إنكار الجبر بهذا التفسير ولهذا نسب أبو الحسين إلى التناقض في هذه المسألة فإنه وأمثاله من حذاق المعتزل إذا سلموا أنه مع الداعي والقدرة يجب وجود الفعل وسلموا أن الله خلق الداعي والقدرة لزم أن يكون الله خالق أفعال العباد فحذاق المعتزلة سلموا المقدمتين ومنعوا النتيجة والطوسي الذي قد عظمه هذا الإمامي ذكر في تلخيص المحصل لما ذكر احتجاج الرازي بأن الفعل يجب عند وجود المرجح التام ويمتنع عند عدمه فبطل قول المعتزلة بالكلية يعني الذين يقولون إنه يفعل على وجه

الجواز وهو المشهور من مذهبهم فاعترض عليه الطوسي وقال إنه قد ذكر فيما مر أن المختار متمكن من ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح وهنا حكم بأن ذلك محال ثم على تقدير الاحتياج إلى المؤثر وامتناع عدم حصول الأثر قال فقد بطل قول المعتزلة بالكلية قال وذلك غير وارد لأنه قد ذكر أن أبا الحسين من المعتزلةوقال في موضع آخر إنه رجل المعتزلة وقال هنا إنه قد ذهب إلى أن القدرة والإرادة يوجبان وجود المقدور فكيف بطل قولهم بالكلية وبيانه أنهم يقولون إن معنى الاختيار هو استواء الطرفين بالنسبة إلى القدرة وحدها ووجوب وقوع أحدهما بحسب الإرادة فمتى حصل المرجح التام وهو الإرادة وجب الفعل ومتى لم يحصل امتنع ذلك وذلك غير مناف لاستواء الطرفين بالقياس إلى القدرة وحدها فإذا اللزوم الذي ذكره غير قاطع في إبطال قولهم قلت القول الذي قطع بطلانه الرازي هو القول المشهور عنهم وهو أن الفعل لا يتوقف على الداعي بل القادر يرجح أحد مقدوريه على الأخر بلا مرجح فيحدث الداعي له الفعل كالإرادة بمجرد كونه قادرا مع استواء القدرة بالنسبة إلى وجود ذلك وعدمه والداعي قد يفسر بالعلم أو الاعتقاد أو الظن وقد يفسر بالإرادة وقد يفسر بالمجموع وقد يفسر بما اشتمل عليه المراد مما يقتضي إرادته والرازي يقول إن أبا الحسين متناقض فإن الرازي ذكر في الأقوال

قول الذين يقولون إن الفعل موقوف على الداعي فإذا حصلت القدرة وانضم إليها الداعي صار مجموعهما علة لوجوب الفعل قال وهذا قول جمهور الفلاسفة واختيار أبي الحسين البصري من المعتزلة وهو وإن كان يدعي الغلو في الاعتزال حتى ادعى أن العلم بأن العبد موجد لأفعاله ضروري إلا أنه كان من مذهبه أن الفعل موقوف على الداعي فإذا كان عند الاستواء يمتنع وقوعه فحال المرجوحية أولى بالامتناع وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح لأنه لا خروج عن النقيضين وهذا عين القول بالجبر لأن الفعل واجب الوقوع عند حصول المرجح وممتنع الوقوع عند عدم المرجح فثبت أن أبا الحسين كان عظيم الغلو في القول بالجبر وإن كان يدعي في ظاهر الأمر أنه عظيم الغلو في الاعتزال قلت هذا القول هو قول جماهير أهل السنة وأئمتهم ويقرب منه قول أبو المعالي الجويني والقاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى وقول الكرامية وهو حقيقة القول بأن الله خالق فعل العبد وهو ظاهر على قول جمهور أهل السنة المثبتين للأسباب الذين يقولون لقدرة العبد تأثير في الفعل

وأما من قال لا تأثير لها كالأشعري فإذا فسر الوجوب بالوجوب العادي لم يمتنع ذلك وإن فسر بالعقلي امتنع وأما لفظ الجبر فالنزاع فيه لفظي كما تقدم وليس هو في اللغة ظاهرا في هذا المعنى ولهذا أنكر السلف إطلاقه فإذا قالت القدرية هذا ينافي كونه مختارا لأنه لا معنى للمختار إلا كونه قادرا على الفعل والترك وأنه إذا شاء فعل هذا وإذا شاء فعل هذا قيل لهم هذا مسلم ولكن يقال هو قادر على الفعل والترك على سبيل البدل أو على سبيل الجمع والثاني باطل فإنه في حال كونه فاعلا لا يقدر أن يكون تاركا مع كونه فاعلا وكذلك حال كونه تاركا لا يقدر على كونه فاعلا مع كونه تاركا فإن الفعل والترك ضدان واجتماعهما ممتنع والقدرة لا تكون على ممتنع فعلم أن قولنا قادر على الفعل والترك أي يقدر أن يفعل في حال عدم الترك ويقدر أن يترك في حال عدم الفعل وكذلك قول القائل القادر إن شاء فعل وإن شاء ترك هو على سبيل البدل لا يقدر أن يشاء الفعل والترك معا بل حال مشيئته للفعل لا يكون مريدا للترك وحال مشيئته للترك لا يكون مريدا للفعل وإذا كان كذلك فالقادر الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك حال كونه

شاء الفعل مع القدرة التامة يجب وجود الفعل وحال وجود الفعل يمتنع أن يكون مريدا للترك مع الفعل وأن يكون قادرا على وجود الترك مع الفعل بل قدرته على الفعل بمعنى أنه يكون بعد الفعل تاركا له فيكون قادرا على الترك في الزمن الثاني من وجود الفعل لا حال وجود الفعل وإذا قال القائل هذا يقتضي أن يكون الفعل واجبا لا ممكنا فإن أراد به أنه يصير واجبا بغيره بعد كونه ممكنا في نفسه فهذا حق كما أنه يصير موجودا بعد أن كان معدوما وفي حال وجوده يمتنع أن يكون معدوما وكل ما خلقه الله تعالى فهو بهذه المثابة فإنه ما شاء كان فوجب وجوده بمشيئة الله وقدرته وما لم يشأ لم يكن فيمتنع وجوده لعدم مشيئة الله له مع أن ما شاءه مخلوق محدث مفعول له وكان قبل أن يخلقه يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد فأما بعد أن صار موجودا بمشيئة الله وقدرته فلا يمكن أن يكون معدوما مع كونه موجودا وإنما يمكن أن يعدم بعد وجوده وليس في الأشياء ما يمكن وجوده وعدمه معا في حال واحدة بل يمكن وجوده بدلا عن عدمه وعدمه بدل عن وجوده

فإذا وجد كان وجوده مادام موجودا واجبا بغيره وإذا سمى ممكنا بمعنى أنه مخلوق ومفعول وحادث فهو صحيح لا بمعنى أنه في حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده فإنه إذا أريد أنه حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده فهذا باطل فإنه جمع بين النقيضين وإن أراد أنه يمكن عدمه بعد هذا الوجود فهو صحيح ولكن هذا لا يناقض وجوب وجوده بغيره مادام موجودا وهذا موجود بالقادر لا بنفسه وهو ممكن في هذه الحال بمعنى أنه محدث مخلوق مفتقر إلى الله تعالى لا بمعنى كونه يمكن أن يكون معدوما حال وجوده ومن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة أشكلت على كثير من الناس في مسائل القدر بل وفي إثبات كون الرب قادرا مختارا ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والقدر يتعلق بقدرة الله تعالى ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله تعالى يشير إلى أن من أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله تعالى وأنه يتضمن إثبات قدرة الله تعالى على كل شيء ولهذا جعل الأشعري وغيره أخص وصف الرب تبارك وتعالى قدرته علىالاختراع

وأيضا فقول القائل القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك بمعنى أنه قبل الفعل والترك إن شاء وجود الفعل في الزمن الثاني وإن شاء الترك فيه وهذا التخيير بينهما إنما يكون عند عدمهما جميعا فأما حال الفعل فيمتنع الترك وحال الترك فيمتنع الفعل وحينئذ فالفعل واجب حال وجوده لا في الحال التي يكون مخيرا فيها بين الفعل والترك فحال التخيير لم يكن واجبا وحال وجوبه لم يكن مخيرا نعم قد يكون حال الفعل شائيا للترك بعد الفعل وهذا ترك ثان ليس هو ترك ذلك الفعل في حال وجوده فالقادر قط لا يكون مخيرا بين الشيئين في حال وجود أحدهما إلا بمعنى التخيير في الزمن الثاني وإلا ففي حال وجود أحدهما لا يكون مخيرا بين وجوده وعدمه مع وجوده وحالما يكون الفاعل فاعلا يمتنع أن يكون تاركا فيمتنع أن يكون هذا الترك مقدورا له لأن الممتنع لا يكون مقدورا والقدرة على الضدين قدرة على كل واحد منهما على سبيل البدل ليست قدرة على جمعهما وهذا كما يقال إنه قادر على تسويد الثوب وتبييضه ويسافر إلى الشرق والغرب ويذهب يمينا وشمالا وقادر على أن يتزوج هذه الأخت وهذه الأختفصل قال الرافضي وأما المنقول فالقرآن مملوء من استناد أفعال البشر إليهم كقوله تعالى وإبراهيم الذي وفى (سورة النجم). فويل للذين كفروا (سورة مريم). ولا تزر وازرة وزر أخرى (سورة الأنعام). ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (سورة النحل). اليوم تجزى كل نفس بما كسبت (سورة غافر). اليوم تجزون ما كنتم تعملون (سورة الجاثية). لتجزى كل نفس بما تسعى (سورة طـــه). هل تجزون إلا ما كنتم تعملون (سورة النمل). من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها (سورة الأنعام). ليوفيهم أجورهم (سورة فاطر). لها ما كسبت وعليها ما

اكتسبت فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات (سورة النساء). كل امرىء بما كسب رهين (سورة الطور). من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها (سورة فصلت). ذلك بما قدمت يداك (سورة الحج). وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم (سورة الشورى). إلخ فيقال الجواب من وجوه أحدها أن يقال كل هذا حق وجمهور أهل السنة قائلون بذلك وهم قائلون إن العبد فاعل لفعله حقيقة لا مجازا وإنما نازع في ذلك طائفة من متكلمة أهل الاثبات كالأشعري ومن اتبعه الثاني أن يقال والقرآن مملوء بما يدل على أن أفعال العباد حادثة بمشيئة الله وقدرته وخلقه فيجب الإيمان بكل ما في القرآن ولا يجوز أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعضقال الله تعالى ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (سورة البقرة). وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (سورة الأنعام). وقال تعالى ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (سورة الأنعام). وقال تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل غدا إلا أن يشاء الله (سورة الكهف). وأجمع علماء المسلمين على أن الرجل لو قال لأصلين الظهر غدا إن شاء الله أو لأقضين الدين الذي علي وصاحبه مطالبه أو لأردن هذه الوديعة ونحو ذلك ثم لم يفعله أنه لا يحنث في يمينه ولو كانت المشيئة بمعنى الأمر لحنث وقال عن إبراهيم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا (سورة البقرة). وقال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا (سورة البقرة). وقال تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه (سورة الأنفال).

وقال تعالى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون (سورة يس). وقال تعالى وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (سورة الأنبياء). وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا (سورة الأنبياء). وقال عن بني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون (سورة السجدة). وقال عن آل فرعون وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون (سورة القصص). وقال عن الخليل صلى الله عليه وسلم رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء (سورة إبراهيم). وقال ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وقال تعالى وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (سورة يس).ن والفلك من مصنوعات بني آدم وهذا مثل قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون (سورة الصافات).فإن طائفة المثبتة للقدر قالوا إن ما هاهنا مصدرية وأن المراد خلقكم وخلق أعمالكم وهذا ضعيف جدا والصواب أن ما هاهنا بمعنى الذي وأن المراد والله خلقكم والأصنام التي تعملونها كما في حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق كل صانع وصنعته وأنه قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون (سورة الصافات). فذمهم وأنكر عليهم عبادة ما ينحتونه من الأصنام ثم ذكر أن الله خلق العابد والمعبود والمنحوت وهو سبحانه الذي يستحق أن يعبد ولو أريد والله خلقكم

وأعمالكم كلها لم يكن هذا مناسبا فإنه قد ذمهم على العبادة وهي من أعمالهم فلم يكن في ذكر كونه خالقا لأعمالهم ما يناسب الذم بل هو إلى العذر أقرب ولكن هذه الآية تدل على أنه خالق لأعمال العباد من وجه آخر وهو أنه إذا خلق المعمول الذي عملوه وهو الصنم المنحوت فقد خلق التأليف القائم به وذلك مسبب من عمل ابن آدم وخالق المسبب خالق السبب بطريق الأولى وصار هذا كقوله وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (سورة يس). ومعلوم أن السفن إنما ينجر خشبها ويركبها بنو آدم فالفلك معمولة لهم كما هي الأصنام معمولة لهم وكذلك سائر ما يصنعونه من الثياب والأطعمة والأبنية فإذا كان الله قد أخبر أنه خلق الفلك المشحون وجعل ذلك من آياته ومما أنعم الله به على عباده علم أنه خالق أفعالهم وعلى قول القدرية لم يخلق إلا الخشب الذي يصلح أن يكون سفنا وغير سفن ومعلوم أن مجرد خلق المادة لا يوجب خلق الصورة التي حصلت بأفعال بني آدم إن لم يكن خالقا للصورة

ومثل هذا قوله تعالى الله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم (سورة النحل). النحل إلى قوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ومعلوم أن خلق البيوت المبنية والسرابيل المصنوعة هو كخلق السفن المنجورة وقد أخبر الله أن الفلك صنعة بني آدم مع إخباره أنه خلقها كما قال تعالى عن نوح عليه السلام ويصنع الفلك وأيضا ففي القرآن من ذكر تفصيل أفعال العباد التي بقلوبهم وجوارحهم وأنه هو تبارك وتعالى يحدث من ذلك ما يطول وصفه كقوله تعالى فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة (سورة الأعراف). وقوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه (سورة البقرة). وقوله ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (سورة الحجرات). ومعلوم أنه لم يرد بذلك الهداية المشتركة بين المؤمن والكافر مثل إرسال الرسل والتمكين من الفعل وإزاحة العلل بل أراد ما يختص به المؤمن

كما دل عليه القرآن في مثل قوله تعالى واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (سورة الأنعام). وقوله وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم (سورة الصافات). ومنه قولنا في الصلاة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة فإن الهداية المشتركة حاصلة لا تحتاج أن تسأل وإنما تسأل الهداية التي خص بها المهتدين ومن تأول ذلك بمعنى زيادة الهدى والتثبيت وقال كان ذلك جزاء كان متناقضا فإنه يقال هذا المطلوب إن لم يكن حاصلا باختيار العبد لم يثب عليه فإنه إنما يثاب على ما فعله باختياره وإن كان باختيارة فقد ثبت أن الله يحدث الفعل الذي يختاره العبد وهذا مذهب أهل السنة وكذلك ما أخبر الله في القرآن من إضلال وهدى ونحو ذلك فإنهم قد يتأولون ذلك بأنه جزاء على ما تقدم وعامة تأويلاتهم مما يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه مع أن هذا الاجزاء مما يثاب الفاعل عليه وإن جوزوا أن الله يثيب العبد على ما ينعم به على العبد

من فعله الاختياري جاز أن ينعم عليه ابتداء باختياره الطاعة وإن لم يجز عندهم الثواب والعقاب على ما يجعل العبد فاعلا له بطل أن يريد هدى أو ضلالة يثاب عليها أو يعاقب عليها وامتنع أن يكون ما أخبر أنه فعله من جعل الأغلال في أعناقهم وجعله من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ونحو ذلك هو مما يعاقبون عليه وقد قال تعالى إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل (سورة النحل). فأخبر أنه من أضله اللهلا يهتدي وفي الجملة ففي القرآن من الآيات المبينة أن الله خالق أفعال العباد وأنه هو الذي يقلب قلوب العباد فيهدي من يشاء ويضل من يشاء وأنه هو المنعم بالهدى على من أنعم عليه ما يتعذر استقصاؤه في هذه المواضع وكذلك فيه ما يبين عموم خلقه لكل شيء كقوله الله خالق كل شيء (سورة الرعد). وغير ذلك وفيه ما يبين أنه فعال لما يريد وفيه ما يبين أنه لو شاء لهدى الناس جميعا وأمثال ذلك مما يطول وصفه وإذا قيل هذه متأولة عند القدرية لأنها من المتشابه عندهمكان الجواب من وجهين أحدهما أن هذا مقابل بتأويلات الجبرية لما احتجوا به وبقولهم هذا متشابه وهو لم يذكر إلا مجرد النصوص فذكرنا النصوص من الطرفين الثاني أن نبين فساد تأويلاتهم واحدا واحدا كما بسط في موضع آخر وفي تأويلاتهم من تحريف الكلم عن مواضعه ومخالفة اللغة وتناقض المعاني ومخالفة إجماع سلف الأمة وأئمتها ما يبين بعضه بطلان تحريفاتهم ويبين أنه ليس في القرآن محكم يناقض هذا حتى يقال إن هذا متشابه وذلك محكم بل القرآن يصدق بعضه بعضا ومن فتح هذا الباب من أهل البدع لم يكن له ثبات فإن خصمه يفعل كما يفعل فلا يبقى في يده حجة سليمة عن المعارضة بمثلها كيف وعامة تأويلاتهم مما يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه.

*

فصل
قال الرافضي قال الخصم القادر يمتنع أن يرجح مقدوره من غير مرجح ومع الترجيح يجب الفعل فلا قدرة ولأنه يلزم أن يكون الإنسان شريكا لله ولقوله تعالى والله خلقكم وما تعملون (سورة الصافات). قال والجواب عن الأول المعارضة بالله تعالى فإنه تعالى قادر فإن افتقرت القدرة إلى المرجح وكان المرجح موجبا للأثر لزم أن يكون الله موجبا لا مختارا فيلزم الكفر. والجواب عن الثاني أي شركة هنا والله هو القادر على قهر العبد وإعدامه ومثل هذا أن السلطان إذا ولى شخصا بعض البلاد فنهب وظلم وقهر فإن السلطان متمكن من قتله والانتقام منه واستعادة ما أخذه وليس يكون شريكا للسلطان والجواب عن الثالث أنه إشارة إلى الأصنام التي كانوا ينحتونها ويعبدونها فأنكر عليهم وقال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون (سورة الصافات).
*فيقال لم يذكر من أدلة أهل الإثبات إلا شيئا يسيرا ولم يذكر تقرير أدلتهم على وجهها ومع هذا فالأدلة الثلاثة التي ذكرها لهم ليس عنها جواب صحيح.
أما الأول: فإن المستدل بذلك الدليل لا يقول إنه إذا وجب الفعل فلا قدرة فإن أهل الإثبات يقولون إن العبد له قدرة وهذا مذهب عامة أهل السنة حتى غلاة المثبتين للقدر كالأشعرية فإنهم متفقون على أن العبد له قدرة وهذ الدليل المذكور قد احتج به أبو عبدالله الرازي وغيره وهو يصرح بأنه يقول بالجبر ومع هذا فإنه يقول إن للعبد قدرة وإن كانوا متنازعين هل هي مؤثرة في مقدورها أو في بعض صفاته أو لا تأثير لها قال أبو الحسين البصري وغيره من المعتزلة إن الفعل لا يكفي فيه مجرد القدرة بل يتوقف على الداعي فيقولون إن القادر المختار لا

يرجح بمجرد القدرة بل بداع يقرن مع القدرة كما يقول ذلك أكثر المثبتين للقدر فإنهم يقولون إن الرب تعالى لا يرجح بمجرد القدرة بل بإرادة مع القدرة وكذلك يقول كثير منهم في حق العبد لا يرجح بمجرد القدرة بل بداع مع القدرة وقد قال هذا كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وقاله من أصحاب أحمد القاضي أبو خازم بن القاضي أبي يعلى وقد تقدم أن القول الوسط في ذلك أن لها تأثيرا من جنس تأثير الأسباب في مسبباتها ليس لها تأثير الخلق والإبداع ولا وجودها كعدمها وتوجيه هذا الدليل أن القادر يمتنع أن يرجح أحد مقدوريه إلا بمرجح وذلك أنه إذا كان الفعل والترك نسبتهما إلى القادر سواء كان ترجيح أحدهما على الآخر ترجيحا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وهذا ممتنع في بدائه العقول وهذا مبسوط في موضع آخر وتبين فيه خطأ من زعم أن القادريرجح أحد المقدورين المتماثلين بلا مرجح وذلك المرجح لا يكون من العبد لأن القول فيه كالقول في فعل العبد فإن كان المرجح له قدرة العبد فالقادر لا يرجح إلا بمرجح فلا بد أن يكون المرجح من الله وعند وجود المرجح يجب وجود الفعل وإلا لم يكن مرجحا تاما فإنه إذا كان بعد وجود المرجح يجوز وجود الفعل وعدمه كما كان قبل المرجح كان ممكنا والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح فلا بد من مرجح تام يجب عنده وجود الفعل وإذا كان العبد لا يحصل فعله إلا بمرجح من الله تعالى وعند وجود ذلك المرجح يجب وجود الفعل كان فعله كسائر الحوادث التي تحدث بأسباب يخلقها الله تعالى يجب وجود الحادث عندها وهذا معنى كون الرب تبارك وتعالى خالقا لفعل العبد ومعنى ذلك أن الله تعالى يخلق في العبد القدرة التامة والإرادة الجازمة وعند وجودهما يجب وجود الفعل لأن هذا سبب تام للفعل فإذا وجد السبب التام وجب وجود المسبب

والله هو الخالق للمسبب أيضا كما أنه إذا خلق النار في الثوب فإنه لا بد من وجود الحريق عقيب ذلك والكل مخلوق لله تعالى وأما معارضة ذلك بفعل الله تعالى فالجواب عن ذلك من وجوه أحدها أن هذا برهان عقلي يقيني واليقينيات لا يمكن أن يكون لها معارض يبطلها وقدر أن المحتج بهذا من يقول بالموجب بالذات فهذا لا ينقطع بما ذكرته لا سيما وعندهم هذه المسألة من العقليات التي تعلم بدون السمع فلا بد فيها من جواب عقلي.
الثاني: أن يقال قدرة الرب لا يفعل بها إلا مع وجود مشيئته فإن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وليس كل ما كان قادرا عليه فعله قال تعالى بلى قادرين على أن نسوي بنانه (سورة القيامة). وقال تعالى قل هوالقادر علىأن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض (سورة الأنعام). وقد ثبت في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أنه لما نزلت هذه الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال

النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هاتان أهون وقال تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا (سورة يونس). وقد قال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة (سورة هود). وقال ولو شاء الله ما اقتتلوا (سورة البقرة). ومثل هذا متعدد في القرآن وإذا كان لو شاءه لفعله دل على أنه قادر عليه فإنه لا يمكن فعل غير المقدور وإذا كان كذلك علم أن الفعل لو وجد بمجرد كونه قادرا لوقع كل مقدور بل لا بد مع القدرة من الإرادة وحينئذ قول القائل فقدرة الرب تفتقر إلى مرجح لكن المرجح هو إرادة الله تعالى وإرادة الله لا يجوز أن تكون من غيره بخلاف إرادة العبد وإذا كان المرجح إرادة الله كان فاعلا باختياره لا موجبا بذاته بدون اختياره وحينئذ فلا يلزم الكفر.
الثالث: أن يقال ما تعني بقولك يلزم أن يكون الله موجبا بذاته أتعني به ان يكون موجبا للأثر بلا قدرة ولا إرادة أو تعنيبه أن يكون الأثر واجبا عند وجود المرجح الذي هو الإرادة مثلا مع القدرة فإذا عنيت الأول لم يسلم التلازم فإن الفرض أنه قادر وأنه مرجح بمرجح فهنا شيئان قدرة وأمر آخر وقد فسرنا ذلك بالإرادة فكيف يقال إنه مرجح بلا قدرة ولا إرادة وإن أردت أنه يجب وجود الأثر إذا حصلت الإرادة مع القدرة فهذا حق وهذا مذهب المسلمين وإن سمى مسم هذا موجبا بالذات كان نزاعا لفظيا والمسلمون يقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجوده وجب وجوده بمشيئته وقدرته وما لم يشأ وجوده امتنع وجوده لعدم مشيئته وقدرته فالأول واجب بالمشيئة والثاني ممتنع لعدم المشيئة وأما ما يقوله القدرية من أن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء فهذا الذي أنكره أهل السنة والجماعة عليهم.

والرابع أن يقال له إنه هو سبحانه قادر فإذا أراد حدوث مقدور فإما أن يجب وجوده وإما أن لا يجب فإن وجب حصل المطلوب وتبين وجوب الأثر عند المرجح سواء سميت هذا موجبا بالذات أو لم تسمه وإن لم يجب وجوده كان وجوده ممكنا قابلا للوجود والعدم فوجوده دون عدمه ممكن فلا بد له من مرجح وهكذا هلم جرا كل ما قدر قابلا للوجود ولم يجب وجوده كان وجوده ممكنا محتملا للوجود والعدم فلا يوجد حتى يحصل المرجح التام الموجب بالذات لوجوده فتبين أن كل ما وجد فقد وجب وجوده بمشيئة الله وقدرته وهوالمطلوب وهذا قول طائفة من المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره وطائفة من القدرية في هذا الباب يقولون عند وجود المرجح صار الفعل أولى به ولا تنتهي الأولوية إلى حد الوجوب كما يقول ذلك محمود الخوارزمي الزمخشري ونحوهوهو باطل فإنه إذا لم ينته إلى حد الوجوب كان ممكنا فيحتاج إلى مرجح فما ثم إلا واجب أو ممكن والممكن يقبل الوجود والعدم وطائفة ثالثة من القدرية والجهمية ومن اتبعهم من أصحاب أبي الحسين وغيرهم من المتكلمين وطوائف من أصحاب الأئمة الأربعة والشيعة وغيرهم يقولون القادر يرجح بلا مرجح فيجلعون الإرادة حادثة بلا مرجح لحدوثها ويجعلون إرادة الله حادثة لا في محل ويجعلون الفعل معها ممكنا لا واجبا وهذا من أصولهم التي اضطربوا فيها في مسألة فعل الله وحدوث العالم وفي مسألة فعل العبد والقدر الوجه الخامس أن يقال لفظ الموجب بالذات لفظ فيه إجمال فإن عني به ما يعنيه الفلاسفة من أنه علة تامة مستلزمة للعالم فهذا باطل لأن العلة التامة تستلزم معلولها ولو كان العالم معلولا لازما لعلة أزلية لم يكن فيه حوادث فإن الحوادث لا تحدث عن علة تامة أزلية وهذا خلاف المحسوس

وسواء إن تلك العلة التامة ذات مجردة عن الصفات كما يقوله نفاة الصفات من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله أو قيل إنه ذات موصوفة بالصفات لكنها مستلزمة لمعلولها فإنه باطل أيضا وإن فسر الموجب بالذات بأنه يوجب بمشيئته وقدرته كل واحد واحد من المخلوقات في الوقت الذي أحدثه فيه فهذا دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل ومذهب أهل السنة فإذا قالوا إنه بمشيئته وقدرته يوجب أفعال العباد وغيرها من الحوادث فهو موافق لهذا المعنى لا للمعنى الذي قالته الدهرية الوجه السادس أن يقال ما ذكرته أنت من الحجة العقلية وهو استناد أفعالنا الاختيارية إلينا ووقوعها بحسب اختيارنا معارض بما ليس من أفعالنا مثل الألوان فإن الإنسان يحصل اللون الذي يريد حصوله في الثوب بحسب اختياره وهو مستند إلى طبيعته وصنعته ومع هذا فليس اللون مفعولا لهوأيضا فما ينبت من الزرع والشجر قد يحصل بحسب اختياره وهو مستند إلى ازراعه وليس الإنبات من فعله فليس كل ما استند إلى العبد ووقع بحسب اختياره كان مفعولا له وهذه المعارضة أصح من تلك فإنها معارضة عقلية بنفس ألفاظ الدليل وتلك ليست معارضة عقلية ولا هي بنفس ألفاظ الدليل الوجه السابع أن يقال هذا الإمامي وأمثاله متناقضون فإنه قد ذكر في غير هذا الموضع أنه مع الداعي والقدرة يجب الفعل وهنا قال إنه مع الداعي والقدرة لا يجب الفعل فعلم أن القوم يتكلمون بحسب ما يرونه ناصرا لقولهم لا يعتمدون على حق يعلمونه ولا يعرفون حقا يقصدون نصره.

*

فصل
وأما قوله أي شركة هنا ... فيقال إذا كانت الحوادث حادثة بغير فعل الله ولا قدرته فهذه مشاركة لله صريحة ولهذا شبه هؤلاء بالمجوس الذين يجعلون فاعل الشر غير فاعل الخير فيجعلون لله شريكا آخر وما ذكره من التمثيل بالسلطان يقرر المشاركة فإن نواب السلطان شركاء له في ملكه وهو محتاج إليهم ليس هو خالقهم ولا ربهم بل ولا خالق قدرتهم بل هم معاونون له على تدبير الملك بأمور خارجة عن قدرته ولولا ذلك لكان عاجزا عن الملك فمن جعل أفعال العباد مع الله بمنزلة أفعال نواب السلطان معه فهذا صريح الشرك الذي لم يكن يرتضيه عباد الأصنام لأنه شرك في الربوبية لا في الألوهية فإن عباد الأصنام كانوا يعترفون بأنها مملوكة لله فيقولون لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه ملك وهؤلاء يجعلون ما يملكه العبد من أفعاله ملكا للهولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقص تكذيبه توحيده وقول القدرية يتضمن الإشراك والتعطيل فإنه يتضمن إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل ويتضمن إثبات فاعل مستقل غير الله وهاتان شعبتان من شعب الكفر فإن أصل كل كفر التعطيل أو الشرك وبيان ذلك أنهم يقولون إن الإنسان صار مريدا فاعلا بإرادته بعد أن لم يكن كذلك بدون محدث أحدث ذلك فإنه لم يكن مريدا للفعل ولا فاعلا له ثم صار مريدا للفعل فاعلا له وهذا الأمر حادث بعد أن لم يكن وهو عندهم حادث بلا إحداث أحد وهذا أصل التعطيل فمن جوز أن يحدث حادث بلا إحداث أحد وأن يترجح وجود الممكن على عدمه بلا مرجح وأن يتخصص أحد المتماثلين بلا مخصص كان هذا تعطيلا لجنس الحوادث والممكنات

أن يكون لها فاعل والله فاعلها بلا شك فهو تعطيل له أن يكون خالقا لمخلوقاته وأما الشرك فلأنهم يقولون العبد مستقل بإحداث هذا الفعل من غير أن يكون الله جعله محدثا له كأعوان الملوك الذين يفعلون أفعالا بدون أن يكون الملوك جعلتهم فاعلين لها وهذا إثبات شركاء مع الله يخلقون كبعض مخلوقاته وهذان المحذوران التعطيل والإشراك في الربوبية لازمان لكل من أثبت فاعلا مستقلا غير الله كالفلاسفة الذين يقولون إن الفلك يتحرك حركة اختيارية بسببها تحدث الحوادث من غير أن يكون قد حدث من جهة الله ما يوجب حركته ولا كان فوقه متجدد يقتضي حركته وذلك لأن حركة الفلك حينئذ باختياره تكون كحركة الإنسان باختياره فيقال مصير الفلك متحركا باختياره وقدرته أمر ممكن لا واجب بنفسه فلا بد له من مرجح تام وما من وقت إلا وهو يتحرك فيهباختياره وقدرته فلا بد لكونه متحركا من أمر أوجب ذلك وإلا لزم حدوث الحوادث بلا محدث فإن قيل الموجب بذاته هو المرجح أو الفاعل سواء كان بواسطة أو بلا واسطة وهي ما صدر عنه من العقل أو العقول قيل هذا باطل لأن الموجب بذاته على حال واحدة عندهم من الأزل إلى الأبد فيمتنع أن يصدر عنه حادث بعد أن لم يكن ذلك الحادث صادرا عنه وكل جزء من أجزاء الحركة حادث بعد أن لم يكن فيمتنع أن يكون ذلك الحادث ثابتا في الأزل فامتنع أن يكون فاعله علة تامة في الأزل فعلم امتناع صدور هذه الحوادث عن علة تامة في الأزل وأيضا فمرجح الحوادث إن كان مرجحا تاما في الأزل لزمه المفعول ولم يحدث عنه بعد ذلك شيء وإن لم يكن مرجحا تاما في الأزل فقد صار مرجحا بعد أن لم يكن ويمتنع أن يكون غيره جعله مرجحا فيكون المرجح له ما يقوم به من إرادته ونحو ذلك وتلك الأمور لم تكن

مرجحا تاما في الأزل وإلا لبطلت الحوادث فامتنع أن يكون صدر عن المرجح في الأزل شيء مقارن له فامتنع قدم الفلك وأيضا صار مرجحا لما يرجحه بعد أن لم يكن كذلك فوجب إضافة الحوادث إليه لوجوب إضافة الحوادث إلى المرجح التام فثبت أن فوق الأفلاك مؤثرا يتجدد تأثيره وهو المطلوب وهؤلاء إذا لم يثبتوا ذلك كانوا معطلين لحركة الفلك والحوادث أن يكون لها فاعل وهذا التعطيل أعظم من تعطيل أفعال العباد أن يكون لها محدث وأيضا فقد جعلوا الفلك يفعل بطريق الاستقلال كما جعلت القدرية الحيوان يفعل بطريق الاستقلال من غير أن يخلق الله له عند كل حركة قدرة مقارنة للحركة لأن الفلك عندهم تحدث عنه الثانية بعد الأولى فشرط الثانية انقضاء الأولى كالذي يقطع مسافة شيئا بعد شيء ولكن ذاك الذي يقطع المسافة إنما قطع الثانية بقدرة وإرادة قامت به وحركات قطع بها الثانية فالفاعل تجددد له من الإرادة والقوة ما قطع به المسافة الثانية فكان يجب أن يتجدد للفلك في كل وقت من

الإرادة والقدرة ما يتحرك به لكن المجدد له ذلك لا بد أن يكون غيره لأنه ممكن لا واجب فالحوادث فيه لا يجوز أن تكون منه لأنه إن أحدث الثاني بعد الأول لزم أن يكون المؤثر التام موجودا عند الثاني وإن كان حصل له كمال التأثير في الثاني بعد انقضاء الأول فلا بد لذلك الكمال من فاعل وهؤلاء يجوزون أن يكون فاعله ما تقدم فوجب أن يكون له في كل حال من الأحوال فاعل يحدث ما به يتحرك وهذا بخلاف الواجب بنفسه فإن ما يقوم به من الأفعال لا يجوز أن يصدر عن غيره وشرك هؤلاء المتفلسفة وتعطيلهم أعظم بكثير من شرك القدرية وتعطيلهم فإن هؤلاء يجعلون الفلك هوالمحدث للحوادث التي في الأرض كلها فلم يجعلوا لله شيئا أحدثه بخلاف القدرية فإنهم أخرجوا عن إحداثه أفعال الحيوان وما تولد عنها فقد لزمهم التعطيل من إثبات حوادث بلا محدث وتعطيل الرب عن إحداث شيء من الحوادث وإثبات شريك فعل جميع الحوادثومن العجب أنهم ينكرون علىالقدرية وغيرهم قولهم إن الرب ما زال عاطلا عن الفعل حتى أحدث العالم وهم يقولون ما زال ولا يزال معطلا عن الإحداث بل عن الفعل فإن ما لزم الذات فهو من باب الصفات بمنزلة لون الإنسان وطوله فإنه ذاته كالعقل والفلك ليس هو في الحقيقة فعلا له إذ الفعل لا يفعل إلا شيئا بعد شيء فأما ما لزم يمتنع أن يكون فعلا له بخلاف حركاته فإنها فعل له وإن قدر أنه لم يزل متحركا كما يقال في نفس الإنسان إنها لم تزل تتحول من حال إلى حال وإن القلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا فكون الفاعل الذي هو في نفسه يقوم به فعله يحدث شيئا بعد شيء معقول بخلاف ما لزمه لازم يقارنه في الأزل فهذا لا يعقل أن يكون مفعولا له فتبين أنهم في الحقيقة لا يثبتون للرب فعلا أصلا فهم معطلة حقا

وأرسطو وأتباعه إنما أثبتوا العلة الأولى من جهة كونها علة غائية كحركة الفلك فإن حركة الفلك عندهم بالاختيار كحركة الإنسان والحركة الاختيارية لا بد لها من مراد فيكون هو مطلوبها ومعنى ذلك عندهم أن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى كحركة المؤتم بإمامه والمقتدي بقدوته وهذا معنى تشبيهه بحركة المعشوق للعاشق ليس المعنى أن ذات الله محركة للفلك إنما مرادهم أن مراد الفلك أن يكون مثله بحسب الإمكان وهذا باطل من وجوه لبسطها موضع آخر فقالوا إن العلة الأولى وهي التي يتحرك الفلك لأجلها علة له تحركه كما تحرك العاشق للمعشوق بمنزلة الرجل الذي اشتهى طعاما فمد يده أحيه او رآى من يحبه فسعى إليه فذاك المحبوب هوالمحرك لكون المتحرك إليه لا لكونه أبدع الحركة ولا فعلهاوحينئذ فلا يكون قد أثبتوا لحركة الفلك محدثا أحدثها غير الفلك كما لم تثبت القدرية لأفعال الحيوان محدثا أحدثها غير الحيوان ولهذا كان الفلك عندهم حيوانا كبيرا بل يقولون إن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى لأن العلة الأولى معبودة له محبوبة له ولهذا قالوا إن الفلسفة هي التشبه بالإله على حسب الطاقة ففي الحقيقة ليس عندهم الرب إلا إلها للعالم ولا ربا للعالمين بل غاية ما يثبتونه أنه يكون شرطا في وجود العالم وأن كمال المخلوق في أن يكون متشبها به فهذا هو الألوهية عندهم وذلك هوالربوبية ولهذا كان قولهم شرا من قول اليهود والنصارى وهم أبعد عن المعقول والمنقول منهم كما قد بسط في غير هذا الموضع

فتبين أن هؤلاء المتفلسفة قدرية في جميع حوادث العالم وأنهم من أضل بني آدم ولهذا يضيفون الحوادث إلى الطبائع التي في الأجسام فإنها بمنزلة القوى التي في الحيوان فيجعلون كل محدث فاعلا مستقلا كالحيوان عند القدرية ولا يثبتون محدثا للحوادث وحقيقة قول القوم الجحود لكون الله رب العالمين فلا يثبتون أن يكون الله رب العالمين بل غايتهم أن يجعلوه شرطا في وجود العالم وفي التحقيق هم معطلة لكون الله رب العالمين كقول من قال أن الفلك واجب الوجود بنفسه منهم لكن هؤلاء أثبتوا علة إما غائية عند قدمائهم وإما فاعلية عند متأخريهم وعند التحقيق لا حقيقة لما أثبتوه ولهذا أنكره الطبائعيون منهم وإذا قدر أن الفلك يتحرك باختياره من غير أن يكون الله خالقا لحركته فلا دليل على أن المحرك له علة معشوقة يتشبه بها بل يجوزأن يكون المتحرك هو المحرك كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وتبين الكلام على بطلان ما ذكره أرسطو في العلم الإلهي من وجوه متعددة وأن هؤلاء من أجهل الناس بالله عز وجل من دخل في أهل الملل منهم كالمنتسبين إلى الإسلام كالفارابي وابن سينا ونحوهما من ملاحدة المسلمين وموسى بن ميمون ونحوه من ملاحدة اليهود ومتى ويحيى بن عدي ونحوهما من ملاحدة النصارى فهم مع كونهم من ملاحدة أهل الملل فهم أصح عقلا ونظرا في العلم الإلهي من المشائين كأرسطو وأتباعه وإن كان لأولئك من تفصيل الأمور الطبيعية والرياضية أمور كثيرة سبقوا هؤلاء إليها فالمقصود هنا أن الأمور الإلهية أولئك أجهل بها وأضل فيها فإن هؤلاء حصل لهم نوع ما من نور أهل الملل وعقولهم وهداهم فصاروا به أقل ظلمة من أولئك ولهذا عدل ابن سينا عن طريقة سلفه في إثبات العلة الأولى وسلك الطريقة المعروفة له في تقسيم الوجود إلى واجب وممكن وأن الممكن مستلزم للواجب

وهذه الطريقة هي المعروفة له ولمن اتبعه كالسهروردي المقتول ونحوه من الفلاسفة وأبي حامد والرازي والآمدي وغيرهم من متأخري أهل الكلام الذين خلطوا الفلسفة بالكلام وهؤلاء المتكلمون المتأخرون الذين خلطوا الفلسفة بالكلام كثر اضطرابهم وشكوكهم وحيرتهم بحسب ما ازدادوا به من ظلمة هؤلاء المتفلسفة الذين خلطوا الفلسفة بالكلام فأولئك قلت ظلمتهم بما دخلوا فيه من كلام أهل الملل وهؤلاء كثرت ظلمتهم بما دخلوا فيه من كلام أولئك المتفلسفة هذا مع أن في المتكلمين من أهل الملل من الاضطراب والشك في أشياء والخروج عن الحق في مواضع واتباع الأهواء في مواضع والتقصير في الحق في مواضع ما ذمهم لأجله علماء الملة وأئمة الدين فإنهم قصروا في معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه فعدلواعنها إلى طرق أخرى مبتدعة فيها من الباطل ما لأجله خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم وبين غيرهم ودخلوا في بعض الباطل المبتدع وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربه وهذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين قال الله عنهم ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله (سورة لقمان).وقال تعالى قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله الآيات ((سورة المؤمنون).). وقال عنهم ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (سورة يوسف). قال طائفة من السلف يقول لهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن

لتوحيد الربوبية بأن يعبد الله وحده لا يشركون به شيئا فيكون الدين كله لله ولا يخاف إلا الله ولا يدعى إلا الله ويكون الله أحب إلى العبد من كل شيء فيحبون لله ويبغضون لله ويعبدون الله ويتوكلون عليه والعبادة تجمع غاية الحب وغاية الذل فيحبون الله بأكمل محبة ويذلون له أكمل ذل ولا يعدلون به ولا يجعلون له أندادا ولا يتخذون من دونه أولياء ولا شفعاء كما قد بين القرآن هذا التوحيد في غير موضع وهو قطب رحى القرآن الذي يدور عليه القرآن وهو يتضمن التوحيد في العلم والقول والتوحيد في الإرادة والعمل فالأول كما في قوله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص ولهذا كانت هذه السورة تعدل ثلث القرآن لأنها صفة الرحمن والقرآن ثلثه توحيد وثلثه قصص وثلثه أمر ونهي لأنه كلام الله والكلام إما إنشاء وإما إخبار والإخبار إما عن الخالق وإما عنالمخلوق فصار ثلاثة أجزاء جزء أمر ونهي وإباحة وهو الإنشاء وجزء إخبار عن المخلوقين وجزء إخبار عن الخالق فقل هو الله أحد صفة الرحمن محضا وقد بسطنا الكلام على تحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن في مجلد وفي تفسيرها في مجلد آخر وأما التوحيد في العبادة والإرادة والعمل فكما في سورة قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين

الكافرون فالتوحيد الأول يتضمن إثبات نعوت الكمال لله بإثبات أسمائه الحسنى وما تتضمنه من صفاته والثاني يتضمن إخلاص الدين له كما قال وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين سورة البينة فالأول براءة من التعطيل والثاني براءة من الشرك وأصل الشرك إما التعطيل مثل تعطيل فرعون موسى والذي حاج إبراهيم في ربه خصم إبراهيم والدجال مسيح الضلال خصم مسيح الهدى عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم وإما الإشراك وهو كثير في الامم أكثر من التعطيل وأهله خصوم جمهور الأنبياء وفي خصوم إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم معطلة ومشركة لكن التعطيل المحض للذات قليل وأما الكثير فهو تعطيل صفات الكمال وهو مستلزم لتعطيل الذات فإنهم يصفون واجب الوجود بما يوجب أن يكون ممتنع الوجودثم إنه كل من كان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أقرب كان أقرب إلى كمال التوحيد والإيمان والعقل والعرفان وكل من كان عنهم أبعد كان عن ذلك أبعد فمتأخرو متكلمة الإثبات الذين خلطوا الكلام بالفلسفة كالرازي والآمدي ونحوهما هم دون أبي المعالي الجويني وأمثاله في تقرير التوحيد وإثبات صفات الكمال وأبو المعالي وأمثاله دون القاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله في ذلك وهؤلاء دون أبي الحسن والأشعري في ذلك والأشعري في ذلك دون أبي محمد بن كلاب وابن كلاب دون السلف والأئمة في ذلك ومتكلمة أهل الإثبات الذين يقرون بالقدر هم خير في التوحيد وإثبات صفات الكمال من القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم لأن أهل الإثبات يثبتون لله كمال القدرة وكمال المشيئة وكمال الخلق وأنه منفرد

بذلك فيقولون إنه وحده خالق كل شيء من الأعيان والأعراض ولهذا جعلوا أخص صفة الرب القدرة على الاختراع والتحقيق أن القدرة على الاختراع من جملة خصائصه ليست هي وحدها أخص صفاته وأولئك يخرجون أفعال الحيوان عن أن تكون مخلوقة له وحقيقة قولهم تعطيل هذه الحوادث عن خالق لها وإثبات شركاء لله يفعلونها وكثير من متأخرة القدرية يقولون إن العباد خالقون لها ولم يكن سلفهم يجترئون على ذلك وأيضا فمتكلمة أهل الإثبات يثبتون لله صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وهؤلاء يثبتون ذلك لكن قصروا في بعض صفات الكمال وقصروا في التوحيد فظنوا أن كمال التوحيد هو توحيد الربوبية ولم يصعدوا إلى توحيد الإلهية الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتبوذلك أن كثيرا من كلامهم أخذوه من كلام المعتزلة والمعتزلة مقصرون في هذا الباب فإنهم لم يوفوا توحيد الربوبية حقه فكيف بتوحيد الإلهية ومع هذا فأئمة المعتزلة وشيوخهم وأئمة الأشعرية والكرامية ونحوهم خير في تقرير توحيد الربوبية من متفلسفة الأشعرية كالرازي والآمدي وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء خلطوا ذلك بتوحيد الفلاسفة كابن سينا وأمثاله وهو أبعد الكلام عن التحقيق في التوحيد وإن كان خيرا من كلام قدمائهم أرسطو وذويه وذلك أن غايتهم أنهم أثبتوا واجب الوجود وهذا حق لم ينازع فيه لا معطل ولا مشرك بل الناس متفقون على إثبات وجود واجب اللهم إلا ما يحكى عن بعض الناس قال إن هذا العالم حدث بنفسه وكثير من الناس يقولون إن هذا لم تقله طائفة معروفة وإنما يقدر تقديرا كما تقدر الشبه السوفسطائية ليبحث عنها وهذا مما يخطر في قلوب

بعض الناس كما يخطر أمثاله من السفطسة لا أنه قول معروف لطائفة معروفة يذبون عنه فإن ظهور فساده أبين من أن يحتاج إلى دليل إذ حدوث الحوادث بلا محدث من أظهر الأمور امتناعا والعلم بذلك من أبين العلوم الضرورية ثم إنهم لما قرروا واجبا بذاته أرادوا أن يجعلوه واحدا وحده لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وهو وجود مطلق بشرط الإطلاق ليس له حقيقة في الخارج لأن الوجود المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان أو مقيدا بالسلوب والإضافات كما يقوله ابن سينا وأتباعه وهذا أدخل في التعطيل من الأول وزعمو أن هذا هو محض التوحيد مضاهاة للمعتزلة الذين شاركوهم في نفي الصفات وسموا ذلك توحيدا فصاروا يتباهون في التعطيل الذي سموه توحيدا أيهم فيه أحذق حتى فروعهم تباهوا بذلككتباهيهم كابن سبعين وأمثاله من أتباع الفلاسفة وابن التومرت وأمثاله من أتباع الجهمية فهذا يقول بالوجود المطلق وهذا يقول بالوجود المطلق وأتباع كل منهما يباهون أتباع الآخرين في الحذق في هذا التعطيل كما قد اجتمع بي طوائف من هؤلاء وخاطبتهم في ذلك وصنفت لهم مصنفات في كشف أسرارهم ومعرفة توحيدهم وبيان فساده فإنهم يظنون أن الناس لا يفهمون كلامهم فقالوا لي إن لم تبين و تكشف لنا حقيقة هذا الكلام الذي قالوه ثم تبين فساده وإلا لم

نقبل ما يقال من رده فكشفت لهم حقائق مقاصدهم فاعترفوا بأن ذلك هو المراد ووافقهم على ذلك رؤوسهم ثم بينت ما في ذلك من الفساد والإلحاد حتى رجعوا وصاروا يصنفون في كشف باطل سلفهم الملحدين الذين كانوا عندهم أئمة التحقيق والتوحيد والعرفان واليقين وعمدة هؤلاء الفلاسفة في توحيدهم الذين هو تعطيل محض في الحقيقة حجتان إحداهما أنه لو كان واجبان لاشتركا في الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم أن يكون واجب الوجود مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه والثانية أنهما إذا اتفقا في الوجوب وامتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه لزم أن يكون المشترك معلولا للمختص كما إذا اشترك اثنان في الإنسانية وامتاز كل منهما عن الآخر بشخصه فالمشترك معلول للمختص وهذا باطل هناوذلك لأن كلا من المشترك والمختص إن كان أحدهما عارضا للآخر لزم أن يكون الوجوب عارضا للواجب أو معروضا له وعلى التقديرين فلا يكون الوجوب صفة لازمة للواجب وهذا محال لأن الواجب لا يمكن أن يكون غير واجب وإن كان أحدهما لازما للآخر لم يجز أن يكون المشترك علة للمختص لأنه حيث وجدت العلة وجد المعلول فيلزم أنه حيث وجد المشترك وجد المختص والمشترك في هذا وهذا فيلزم أن يكون ما يختص بهذا في هذا وما يختص بهذا في هذا وهذا محال يرفع الاختصاص وهذا ملخص ما ذكره ابن سينا في إشاراته هو وشارحو الإشارات كالرازي والطوسي وغيرهما وهاتان الحجتان ملخص ما ذكره الفارابي والسهروردي وغيرهما من

الفلاسفة وقد ذكرهما بمعناهما أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة وقد أجاب عنهما الرازي والآمدي بمنع كون الوجوب صفة ثبوتية ونحو ذلك من الأجوبة التي نرضاها لكن الجواب من وجهين أحدهما المعارضة وذلك أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وكل واحد من الوجودين يمتاز عن الآخر بخاصته فيلزم أن يكون الواجب مركبا مما به الاشتراك ومما به الامتياز وأيضا فيلزم أن يكون الوجود الواجب معلولا والمعارضة أيضا بالحقيقة فإن الحقيقة تنقسم إلى واجب وممكن والواجب يمتاز عن الممكن بما يخصه فيلزم أن تكون الحقيقة الواجبة مركبة من المشترك والمختص ويلزم أن تكون الحقيقة الواجبة معلولة والمعارضة بلفظ الماهية فإنها تنقسم إلى واجب وممكن إلى آخره والثاني حل الشبهة وذلك أن الشيئين الموجودين في الخارج سواء كانا واجبين أو ممكنين وسواء قدر التقسيم في موجودين أو جوهرين أو جسمين أو حيوانين أو إنسانين أو غير ذلك لم يشركأحدهما الآخر في الخارج في شيء من خصائصه لا في وجوبه ولا في وجوده ولا في ماهيته ولا غير ذلك وإنما شابهه في ذلك والمطلق الذي اشتركا فيه لا يكون كليا مشتركا فيه إلا في الذهن وهو في الخارج ليس بكلي عام مشترك فيه بل إذا قيل الواجبان إذا اشتركا في الوجوب فلا بد أن يمتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه فهو مثل أن يقال إذا اشتركا في الحقيقة فلا بد أن يمتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه فالحقيقة توجد عامة وخاصة كما أن الوجوب يوجد عاما وخاصا فالعام لا يكون عاما مشتركا فيه إلا في الذهن ولا يكون في الخارج إلا خاصا لا اشتراك فيه فما فيه الاشتراك لا امتياز فيه وما فيه الامتياز لا اشتراك فيه فلم يبق في الخارج شيء واحد فيه مشترك ومميز لكن فيه وصف يشابه الآخر فيه ووصف لا يشابهه فيه وغلط هؤلاء في هذه الإلهيات من جنس غلطهم في المنطق في

الكليات الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام حيث توهموا أنه يكون في الخارج كلي مشترك فيه وقد قدمنا التنبيه على هذا وبينا أن الكلي المشترك فيه لا يوجد في الخارج إلا مختصا لا اشتراك فيه والاشتراك والعموم والكلية إنما تعرض له إذا كان ذهنيا لا خارجيا وهم قسموا الكلي ثلاثة أقسام طبيعي ومنطقي وعقلي فالطبيعي هو المطلق لا بشرط كالإنسان من حيث هو هو مع قطع النظر عن جميع قيوده والمنطقي كونه عاما وخاصا وكليا وجزئيا فنفس وصفه بذلك منطقي لأن المنطق يبحث في القضايا من جهة كونها كلية وجزئية والعقلي هو مجموع الأمرين وهو الإنسان الموصوف بكونه عاما ومطلقا وهذا لا يوجد إلا في الذهن عندهم إلا ما يحكى عن شيعة أفلاطون من إثبات المثل الأفلاطونية ولا ريب في بطلان هذا فإن الخارج لا يوجد فيه عام وأما المنطقي فهو كذلك في الذهن وأما الطبيعي فقد يقولون إنه ثابت في الخارج فإذا قلنا هذا الإنسان ففيه الإنسان من حيث هو هو لكن يقال هو ثابت في الخارج لكن بقيد التعيين والتخصيص لا بقيد الإطلاق ولا مطلقا لا

بشرط فليس في الخارج مطلق لا بشرط ولا مطلق بشرط الإطلاق بل إنما فيه المعين المخصص فالذي يقدره الذهن مطلقا لا بشرط التقييد يوجد في الخارج بشرط التقييد وهؤلاء اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا من غلط المنطقيين ما هو سبب الضلال في الأمور الإلهية والطبيعية كاعتقاد الأمور العقلية التي لا تكون إلا في العقل أمورا موجودة في الخارج وغير ذلك مما ليس هذا موضع بسطه وهؤلاء المنطقيون الإلهيون منهم وغيرهم يقولون أيضا إن الكليات لا تكون إلا في الأذهان لا في الأعيان فيوجد من كلامهم في مواضع ما يظهر به خطأ كلامهم في مواضع فإن الله فطر عباده على الصحة والسلامة وفساد الفطرة عارض فقل من يوجد له كلام فاسد إلا وفي كلامه ما يبين فساد كلامه الأول ويظهر به تناقضه والمقصود هنا التنبيه على توحيد هؤلاء الفلاسفة وهؤلاء أصابهم في لفظ الواجب ما أصاب المعتزلة في لفظ القديم فقالوا الواجب لا يكون إلا واحدا فلا يكون له صفة ثبوتية كما قال أولئك لا يكون القديم إلا واحدا فلا يكون له صفة ثبوتية وبهذا وغيره ظهر الزلل في كلام متأخري المتكلمين الذين خلطوا الكلام

بالفلسفة كما ظهر أيضا الغلط في كلام من خلط التصوف بالفلسفة كصاحب مشكاة الأنوار والكتب المضنون بها على غير أهلها وأمثال ذلك مما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع حتى أن هؤلاء المتأخرين لم يهتدوا إلى تقرير متقدميهم لدليل التوحيد وهو دليل التمانع واستشكلوه وأولئك ظنوا أن هذا الدليل هو الدليل المذكور في القرآن في قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وليس الأمر كذلك بل أولئك قصروا في معرفة ما في القرآن وهؤلاء قصروا في معرفة كلام أولئك المقصرين فلما قصروا في معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عدلوا إلى ما أورثهم الشك والحيرة والضلال وهذا مبسوط في غير هذا الموضع لكن ننبه عليه هنا وذلك أن دليل التمانع المشهور عند المتكلمين أنه لو كان للعالم صانعان لكان أحدهما إذا أراد أمرا وأراد الآخر خلافه مثل أنيريد أحدهما إطلاع الشمس من مشرقها ويريد الآخر إطلاعها من مغربها أو من جهة أخرى امتنع أن يحصل مرادهما لأن ذلك جمع بين الضدين فيلزم إما أن لا يحصل مراد واحد منهما فلا يكون واحد منهما ربا وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيكون الذي حصل مراده هو الرب دون الآخر وقد يقرر ذلك بأن يقال إذا أراد مالا يخلو المحل عنهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم ويريد الآخر تسكينه امتنع حصول مرادهما وامتنع عدم مرادهما جميعا لأن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون فتعين أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيكون هو الرب وعلى هذا سؤال مشهور وهو أنه يجوز أن تتفق الإرادتان فلا يفضي إلى الاختلاف وقد أجاب كثير من المتأخرين عن ذلك بوجوه عارضهم فيها غيرهم كما قد بسط في موضعه ولم يهتد هؤلاء إلى تقرير القدماء كالأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري والقاضي أبي يعلى وغيرهم

فإن هؤلاء علموا أن وجوب اتفاقهما في الإرادة يستلزم عجز كل منهما كما أن تمانعهما يستلزم عجز كل منهما فمنهم من أعرض عن ذكر هذا التقرير لأن مقصوده أن يبين أن فرض اثنين يقتضي عجز كل منهما فإذا قيل إن أحدهما لا يمكنه مخالفة الآخر كان ذلك أظهر في عجزه ومنهم من بين ذلك كما بينوا أيضا امتناع استقلال كل منهما وذلك أنه يقال إذا فرض ربان فإما أن يكون كل منهما قادرا بنفسه أو لا يكون قادرا إلا بالآخر فإن لم يكن قادرا إلا بالآخر كان هذا ممتنعا لذاته مقتضيا للدور في العلل والفاعلين فإنه يستلزم أن يكون كل منهما جعل الآخر قادرا ولا يكون أحدهما فاعلا حتى يكون الآخر قادرا فإذا كان كل منهما جعل الآخر قادرا فقد جعله فاعلا ولا يكون كل منهما جعل الآخر ربا لأن الرب لا بد أن يكون قادرا فيكون هذا جعل هذا قادرا فاعلا ربا وكذلك الآخر

وهذا ممتنع في الربين الواجبين بأنفسهما القديمين لأن هذا لا يكون قادرا ربا فاعلا حتى يجعله الآخر كذلك وكذلك الآخر فهو بمنزلة أن يقال لا يكون هذا موجودا حتى يجعله الآخر موجودا وهذا ممتنع بالضرورة كما تقدم فيما قبل بالإشارة إلى ذلك وهو أن الدور القبلي ممتنع لذاته باتفاق العقلاء كالدور في الفاعلين والعلل فيمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر وفاعلا له أو جزءا من العلة والفاعل فإذا كان كل منهما لا يكون قادرا أو فاعلا إلا بالآخر لزم أن يكون كل منهما علة فاعلة أو علة لتمام ما به يصير الآخر قادرا فاعلا وذلك ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء فلزم أن الرب لا بد أن يكون قادرا بنفسه وإذا كان قادرا بنفسه فإن أمكنه إرادة خلاف ما يريد الآخر أمكن اختلافهما وإن لم يمكنه أن يريد إلا ما يريده الآخر لزم لعجز فإذا فرض أن هذا لا يمكنه أن يريد ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعل لزم عجز كل منهما بل هذا أيضا ممتنع لنفسه كما أنه إذا كان هذا لا يقدر حتى يقدر هذا كان ذلك ممتنعا لذاته فإذا كان هذا

لا يكون ممكنا إلا بتمكين الآخر فهو بمنزلة أن يقال لا يكون قادرا إلا بإقدار الآخر وأيضا فإنه في هذا التقدير يكون المانع لكل منهما من الانفراد هو الآخر فيكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا لا يكون مانعا إلا إذا كان قادرا على المنع ومن كان قادرا على منع غيره من الفعل فقدرته على أن يكون فاعلا أولى فصار كل منهما لا يكون فاعلا حتى يكون قادرا على الفعل وإذا كان قادرا على الفعل امتنع أن يكون ممنوعا منه فامتنع كون كل واحد منهما مانعا ممنوعا وذلك لازم لوجوب اتفاقهما علىالفعل فعلم امتناع وجوب اتفاقهما على الفعل وثبت إمكان اختلافهما فمتى فرض لزوم اتفاقهما كان ذلك ممتنعا لذاته وإنما يمكن هذا في المخلوقين لأن القدرة لهم مستفادة من غيرهما فإذا قيل لا يقدر هذا حتى يقدر هذا كان يمكن أن يكون هناك ثالث يجعلهما قادرين ومن هنا أمكن المخلوق أن يعاون المخلوق وامتنعت المعاونة على خالقين لأن المخلوقين المتعاونين لكل منهما قدرة

من غير الآخر أعانه بها وجعله بها قادرا لأن كلا منهما كان قبل إعانة الآخر له قدرة وعند اجتماعهما زادت قوة كل منهما بقوة الآخر بمنزلة اليدين اللتين ضمت إحداهما إلى الأخرى فإن كل منهما كان لها قوة وبالاجتماع زادت قوتهما لأن هذا زاد ذلك تقوية وذاك زاد هذا تقوية فصار كل منهما معطيا للآخر وآخذا منه فزادت القوة بالاجتماع وهذا ممتنع في الخالقين فإن قدرة الخالق القديم الواجب بنفسه من لوازم ذاته لا يجوز أن تكون مستفادة من غيره لأن كل منهما إن كان قادرا عند الانفراد أمكنه أن يفعل عند الانفراد ما يقدر عليه ولم يشترط في فعله معاونة الآخر وحينئذ فيمكن أحدهما أن يفعل ما يريده الآخر أو ما يريد خلافه وإن لم يكن قادرا عند الانفراد امتنع أن يحصل عند الاجتماع لهما قوة لما في ذلك من الدور لأن هذا لا يقدر حتى يقدر ذاك ولا يقدر ذاك حتى يقدر هذا وليس هنا ثالث غيرهما يجعلهما قادرين فلا يقدر أحد منهما والمخلوقان اللذان لا قدرة لهما عند الانفراد لا يحصل لهما قدرة عند

الاجتماع إلا من غيرهما والخالقان لا يمكن أن يكون لهما ثالث يعطيهما قدرة فلا بد أن يكونا قادرين عند الانفراد وإذا قيل أحدهما يقدر على ما يوافقه الآخر عليه لم يمكن قادرا إلا بموافقته وإذا قيل يقدر على مالا يخالفه الآخر فيه كان كل منهما مانعا للآخر من مقدوره فلا يكون واحد منهما قادرا وأيضا فإن منع هذا لذاك لا يكون إلا بقدرته ومنع ذاك لهذا لا يكون إلا بقدرته فيلزم أن يكون كل منهما قادرا حال التمانع وهو حال المخالفة فيكونان قادرين عند الاتفاق وعند الاختلاف وأيضا فلا يكون هذا ممنوعا حتى يمنعه الآخر وبالعكس فلا يكون أحدهما ممنوعا إلا بمنع الآخر وأيضا فيكون هذا مانعا لذاك وذاك مانعا لهذا فيكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا جمع بين النقيضين وهذه الوجوه وغيرها مما يبين امتناع ربين كل منهما معاون للآخر أو كل منهما مانع للآخر فلم يبقى إلا أن يكون كل منهما قادرا مستقلا

وحينئذ فيمكن اختلافهما وإذا اختلفا لزم أن لا يفعل واحد منهما شيئا ولزم عجزهما ولزم كون كل واحد منهما مانعا ممنوعا فتبين امتناع ربين سواء فرضا متفقين أو مختلفين وأما إذا فرضا مستقلين وفرض كل منهما مستقلا بخلق العالم فهذا أظهر امتناعا لأن استقلال أحدهما يمنع أن يكون له فيه شريك فكيف إذا كان الآخر مستقلا به فتقدير استقلال كل منهما يقتضي أن يكون كل منهما فعله كله وأن لا يكون واحد منهما فعل منه شيئا فيلزم اجتماع النقيضين مرتين ولهذ امتنع أن يكون مؤثران تامان مستقلان يجتمعان على أثر واحد فإن مثال ذلك أن نقول هذا خاط الثوب وحده وهذا خاط ذلك الثوب بعينه وحده أو أن نقول هذا أكل جميع الطعام ونقول هذا أكل جميع ذاك الطعام بعينه وهذا كله مما يعرف امتناعه ببديهة العقل بعد تصوره ولكن بعض الناس لا يتصور هذا تصورا جيدا بل يسبق إلى ذهنه المشتركان من الناس في فعل من الأفعال والمشتركان لا يفعل أحدهما جميع ذلك الفعل ولا كانت قدرته حاصلة بالاشتراك بل بالاشتراك زادت قدرته وكان كل

منهما يمكنه حال الانفراد أن يفعل شيئا من الأشياء ويريد خلاف ما يريد الآخر وإذا آراد خلافه فإن تقاومت قدرتهما تمانعا فلم يفعلا شيئا وأن قوي أحدهما قهر الآخر وإن لم يكن لأحدهما قدرة حال الانفراد لم تحصل له حال الاجتماع إلا من غيرهما مع أن هذا لا يعرف له وجود بل المعروف أن يكون لكل منهما حال الانفراد قدرة ما فتكمل عند الاجتماع وأيضا فالمشتركان في الفعل والمفعول لا بد أن يتميز فعل كل منهما عن الآخر لا يكون الشيء الواحد بعينه مشتركا فيه بحيث يكون هذا فعله والآخر فعله فإن هذا ممتنع كما تقدم فلو كان ربان لكان مخلوق كل واحد منهما متميزا عن مخلوق الآخر كما قال تعالى إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض (سورة المؤمنون). فذكر سبحانه وجوب امتياز المفعولين ووجوب قهر أحدهما للآخر كما تقدم تقريره وكلاهما ممتنع فهذه الطرق وأمثالها مما يبين به بها أئمة النظار توحيد الربوبية وهي طرق صحيحة عقلية لم يهتد هؤلاء المتأخرون إلى معرفة توجيهها وتقريرها

ثم إن أولئك المتقدمين من المتكلمين ظنوا أنها هي طرق القرآن وليس الأمر كذلك بل القرآن قرر فيه توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية وقرره أكمل من ذلك واعتبر ذلك بقوله تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض (سورة المؤمنون). فهذه الآية ذكر فيها برهانين يقينيين على امتناع أن يكون مع الله إله آخر بقوله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض وقد عرف أنه لم يذهب كل إله بما خلق ولا علا بعضهم على بعض وترك ذكر هذا لعلم المخاطبين به وأن ذكره تطويل بلا فائدة وهذه طريقة القرآن وطريقة الكلام الفصيح البليغ بل وطريقة عامة الناس في الخطاب يذكرون المقدمة التي تحتاج إلى بيان ويتركون مالا يحتاج إلى بيان مثل أن يقال لم قلتم إن كل مسكر حرام فيقال لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مسكر خمر وكل خمرحرام وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة يجب اتباعها فلا يحتاج أن نذكر هذا ومثل هذا قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا (سورة الأنبياء). أي وما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله وهذا بين لا يحتاج إلى أن يبين بالخطاب فإن المقصود من الخطاب البيان وبيان البين قد يكون من نوع العي وبيان الدليل قد يكون محتاجا إلى مقدمة واحدة وقد يكون محتاجا إلى مقدمتين وإلى ثلاث وأكثر فيذكر المستدل ما يحتاج إلى بيان دون ما لا يحتاج إلى بيان وأما ما يقوله المنطقيون من أن كل دليل نظري فلا بد فيه من مقدمتين لا يحتاج إلى أكثر ولا يجزيء أقل وإذا اكتفى بواحدة قالوا حذفت

الأخرى ويسمونه قياس الضمير وإن كان ثلاثا أو أربعا قالوا هذه قياسات لا قياس واحد فهذا مجرد وضع ودعوى لا يستند إلى أصل عقلي ولا عادة عامة وقد بسطنا الكلام على هذا في الكلام على المنطق وغيره فقال سبحانه إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض (سورة المؤمنون). وهذا اللازم منتف فانتفى الملزوم وهو ثبوت إله مع الله وبيان التلازم أنه إذا كان معه إله امتنع أن يكون مستقلا بخلق العالم مع أن الله تعالى مستقل بخلق العالم كما تقدم أن فساد هذا معلوم بالضرورة لكل عاقل وأن هذا جمع بين النقيضين وامتنع أيضا أن يكون مشاركا للآخر معاونا له لأن ذلك يستلزم عجز كل منهما والعاجز لا يفعل شيئا فلا يكون لا ربا ولا إلها لأن أحدهما إذا لم يكن قادرا إلا بإعانة الآخر لزم عجزه حال الانفراد وامتنع أن يكون قادرا حال الاجتماع لأن ذلك دور قبلي فإن هذا لا يكون قادرا حتى يجعله الآخر قادرا أو حتى يعينه الآخر وذاك لا يجعله قادرا ولايعينه حتى يكون هو قادرا وهو لا يكون قادرا حتى يجعله ذاك أو يعينه فامتنع إذا كان كل منهما محتاجا إلى إعانة الآخر في الفعل أن يكون أحدهما قادرا فامتنع أن يكون لكل واحد منهما فعل حال الانفراد وحال الاجتماع فتعين أن يكون كل واحد منهما قادرا عند الانفراد فلا بد إذا فرض معه إله أن يكون كل منهما قادرا عند انفراده وإذا كان كذلك ففعل أحدهما إن كان مستلزما لفعل الآخر بحيث لا يفعل شيئا حتى يفعل الآخر فيه شيئا لزم أن لا يكون أحدهما قادرا علىالانفراد وعاد احتياجهما في أصل الفعل إلى التعاون وذلك ممتنع بالضرروة فلا بد أن يمكن أحدهما أن يفعل فعلا لا يشاركه الآخر فيه وحينئذ فيكون مفعول هذا متميزا عن مفعول هذا ومفعول هذا متميزا عن مفعول هذا فيذهب كل إله بما خلق هذا بمخلوقاته وهذا بمخلوقاته فتبين أنه لو كان معه إله لذهب كل إله بمخلوقاته وهذا غير

واقع فإنه ليس في العالم شيء إلا وهو مرتبط بغيره من أجزاء العالم كما تقدم التنبيه عليه ولهذا إذا فعل المتعاونان شيئا كان فعل كل منهما الذي يقوم به متميزا عن فعل الآخر وأما ما يحدث عنه في الخارج فلا يمكن أحدا أن يستقل بشيء منفصل عنه بل لا بد له فيه من معاون عند من يقول إن فعل العبد ينقسم إلى مباشر وغير مباشر وأما من يقول إن فعله لا يخرج عن محل قدرته فليس له مفعول منفصل عنه ثم إذا اختلط مفعول هذا بمفعول هذا كالحاملين للخشبة كان كل منها مفتقرا إلى الآخر حال الاجتماع ولكل منهما قدرة يختص بها حال الانفراد وحال الاجتماع يمكنه أن يفعل بها فعلا منفردا به عن الآخر ويمتاز به عن الآخر فلا بد أن يكون لكل منهما فعل يختص به متميز عن فعل الآخر فلا يتصور إلهان حتى يكون مفعول هذا متميزا عن مفعول ذاك فيذهب كل إله بما خلق واللازم منتف فانتفى الملزوم

وأما البرهان الثاني وهو قوله ولعلا بعضهم على بعض (سورة المؤمنون). فإنه يمتنع أن يكونا متساويين في القدرة لأنهما إذا كان متساويين في القدرة كان مفعول كل منهما متميزا عن مفعول الآخر وهو باطل كما تقدم ولأنهما إذا كان متكافئين في القدرة لم يفعلا شيئا لا حال الاتفاق ولا حال الاختلاف سواء كان الاتفاق لازما لهما أو كان الاختلاف هو اللازم أو جاز الاتفاق وجاز الاختلاف لأنه إذا قدر أن الاتفاق لازم لهما فلأن أحدهما لا يريد ولا يفعل حتى يريد الآخر ويفعل وليس تقدم أحدهما أولى من تقدم الآخر لتساويهما فيلزم أن لا يفعل واحد منهما وإذا قدر أن إرادة هذا وفعله مقارن لإرادة الآخر وفعله فالتقدير أنه لا يمكنه أن يريد ويفعل إلا مع الآخر فتكون إرادته وفعله مشروطة بإرادة الآخر وفعله فيكون بدون ذلك عاجزا عن الإرادة والفعل فيكون كل منهما عاجزا حال الانفراد ويمتنع مع ذلك أن يصيرا قادرين حال الاجتماع كما تقدم وإذا كان الاختلاف لازما لهما امتنع مع تساويهما أن يفعلا شيئا لأن هذا يمنع هذا وهذا يمنع هذا لتكافؤ القدرتين فلا يفعلان شيئا وأيضا فإن امتناع أحدهما مشروط بمنع الآخر فلا يكون هذا ممنوعا

حتى يمنعه ذاك ولا يكون ذاك ممنوعا حتى يمنعه هذا فيلزم أن يكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا ممتنع ولأن زوال قدرة كل منهما حال التمانع إنما هي بقدرة الآخر فإذا كانت قدرة هذا لا تزول حتى تزيلها قدرة ذاك وقدرة ذاك لا تزول حتى تزيلها قدرة هذا فلا تزول واحدة من القدرتين فيكونان قادرين وكونهما قادرين على الفعل مطيقين في حال كون كل منهما ممنوعا بالآخر عن الفعل عاجزا عنه بمنع الآخر له محال لأن ذلك كله جمع بين النقيضين وأما إذا قدر إمكان اتفاقهما وإمكان اختلافهما كان تخصيص الاتفاق بدون الاختلاف وتخصيص الاختلاف بدون الاتفاق محتاجا إلى من يرجح أحدهما علىالآخر ولا مرجح إلا هما وترجيح أحدهما بدون الآخر محال وترجيح أحدهما مع الآخر هو اتفاق فيفتقر تخصيصه إلى مرجح آخر فيلزم التسلسل في العلل وهو ممتنع باتفاق العقلاء وأيضا فاتفاقهما في نفسه ممتنع واختلافهما في نفسه ممتنع سواء قدر لازما أو لم يقدر لأنهما إذا اتفقا لم يمكن أحدهما حال الاتفاق أن يفعل إلا

أن يفعل الآخر معه فيكون كل منهما عند الاتفاق عاجزا عن فعل شيء يستقل به وإذا كان كل منهما عند الاتفاق عاجزا عن فعل شيء يستقل به كان عاجزا عند الانفراد ومن كان عاجزا عند الانفراد عن كل شيء كان عاجزا أيضا عند الاجتماع والناس المتشاركون كل منهم لا بد أن ينفرد عن الآخر بفعل حال الاشتراك فإن الحركة التي يفعلها أحدهما يستقل بها دون الآخر حال تمكنه وكذلك يمكنه حال الانفراد أن يؤثر أثرا دون الآخر فيمتنع اتفاق اثنين كل منهما عاجز عند الانفراد في مخلوق أو خالق سواء كان الاتفاق لازما أو ممكنا وإن قدر في المخلوقين أنهما لا يكونان قادرين إلا عند الاجتماع فذلك لأن هناك ثالثا غيرهما يجعل لهما قوة عند الاجتماع وهنا يمتنع أن يكون للخالق القديم الواجب بنفسه فوقه من يجعله قادرا فيمتنع أن يكون فوقهما من يجعل لهما قوة عند الاجتماع دون الانفراد إذ كل ما سواهما مخلوق فيمتنع أن يجعل الخالق قادرا

وأما امتناع اختلافهما وإن لم يكن لازما فهو أظهر فإنه عند الاختلاف يحصل التمانع وهذه المعاني كيفما عبرت عنها تجدها معاني صحيحة يمتنع وجود اثنين متفقين أو مختلفين إلا أن يكون كل منهما قادرا عند انفراده وإذا كان كل منهما قادرا عند الانفراد كان لكل منهما فعل ومفعول يختص به منفردا عن الآخر فلا يكونان متفقين في كل فعل وكل مفعول ولا يمكن أن يتفقا في شيء واحد أصلا لأن ذلك الفعل الحادث لا يكون ما يقوم بأحدهما نفس ما يقوم بالآخر فإن هذا ممتنع لذاته والمخلوق المنفصل لا يكون نفس أثر هذا فيه هو نفس أثر الآخر فيه بل لا بد من أثرين فإن كان أحدهما شرطا في الآخر كان كل منهما مفتقرا إلى الآخر فلا يكون قادرا عند الانفراد وإن لم يكن كذلك كان مفعول هذا ليس هو مفعول الآخر ولا بلازم له فلا يكون هناك اتفاق في مفعول واحد أصلا وهذا من جنس ما تقدم من ذهاب كل إله بما خلق لكن الذي يختص به هذا أن الشيئين اللذين يشترط في كل واحد منهما أن يكون مع الآخر لا بد أن يكون لهما ثالث غيرهما يحدثهما كما فيالأجيرين لملعم واحد والمفتيين الراجعين إلى النصوص والمتشاورين الراجعين إلى أمر يوجب اجتماعهما فلا بد أن يكون بين المتشاركين ثالث يجمعهما وأما الخالقان فلا شيء فوقهما ولو قيل إنهما يفعلان ماهو المصلحة أو غير ذلك فكل هذه المحدثات تابعة لهما وعنهما ولا يكون شيء إلا بعلمهما وقدرتهما بخلاف المخلوق الذي يحدث أمورا بدونه فيعاونه على ما هو المصلحة له وإذا قيل علما ما سيكون فالعلم بالحادث تابع للمعلوم الحادث والحادث تابع لإرادة محدثه والإرادة تابعة لهما وأما الخالقان فإنه لا بد أن تكون إرادة كل منهما من لوازم نفسه أو تكون نفسه مستقلة بإرادته وحينئذ لا تكون إرادته موقوفة على شرط إرادة غيره فإنها إذا توقفت على ذلك لم يكن مستقلا بالإرادة ولا كانت

من لوازم نفسه لأنه إذا كان هذا لا يريد ويفعل إلا مع إرادة الآخر وفعله كانت إرادة كل منهما وفعله جزءا من المقتضى لكون الآخر مريدا فاعلا وهذا دور في جزء العلة والدور في جزء المقتضي ممتنع كالدور في نفس المقتضي وإذا جوز في المتضايفين كالأبوة والبنوة أن يتلازما فلأن المقتضي التام لهما غيرهما فلو كانت الإرادتان والفعلان متلازمين لكان المقتضي التام لهما غير هذا وغير هذا وذلك ممتنع إذ لا شيء فوقهما يجعلهما كذلك فيلزم أن لا يكون كل واحد منهما مريدا ولا فاعلا وهذه كلها أمور معقولة محققة مبرهنة كلما تصورها المتصور تصورا صحيحا علم صحتها وهي مبسوطة في غير هذا الموضع فتين أنه لو قدر إلهان متكافئان في القدرة لم يفعلا شيئا لا حال الاتفاق ولا حال الاختلاف فلا بد حينئذ إذا قدر إلهان أن يكون أحدهما أقدر من الآخر والأقدر عال على من دونه في القدرة بالضرورة فلو كان ثم آلهة لوجب علو بعضهم على بعض ولو علا بعضهم علىبعض لميكن المستقل بالفعل إلا العالي وحده فإن المقهور إن كان محتاجا في فعله إلى إعانة الأول كان عاجزا بدون الإعانة وكانت قدرته من غيره وما كان هكذا لم يكن إلها بنفسه والله تعالى لم يجعل من مخلوقاته إلها فامتنع أن يكون المقهور إلها وإن كان المقهور يستقل بفعل بدون الإعانة من العالي لم يمكن العالي إذا أن يمنعه مما هو مستقل به فيكون العالي عاجزا عن منع المقهور فلا يكون عاليا وقد فرض أنه عال هذا خلف وهو جمع بين النقيضين فتبين أنه مع علو بعضهم على بعض لا يكون المغلوب إلها بوجه بل يمتنع أن يكون إلها مع إعانة الآخر له ويمتنع أن يكون إلها منفردا غنيا عن الآخر إذ كان الغني عن غيره لا يعلو غيره عليه ولا يقدر أن

يعلو غيره عليه ومتى قدر أن يعلو عليه كان مفتقرا إليه محتاجا إلى امتناعه من علوه عليه وانكفافه عن ذلك العلو ومن غلبه غيره لا يكون عزيزا منيعا يدفع عن نفسه فكيف يدفع عن غيره والعرب تقول عز يعز بالفتح إذا قوي وصلب وعز يعز بالكسر إذا امتنع وعز يعز بالضم إذا غلب فإذا قويت الحركة قوى المعنى والضم أقوى من الكسر والكسر أقوى من الفتح فإذا كان مغلوبا لم يكن منيعا وإذا لم يكن منيعا لم يكن قويا بطريق الأولى ومن لا يكون قويا لا يكون ربا فاعلا فتبين أنه لو كان معه إله لعلا بعضهم على بعض كما تبين أنه كان يذهب كل إله بما خلق وهذا بعض تقرير البرهانين اللذين في القرآن ومما يوضح ذلك أنكلا تجد في الوجود شريكين متكافئين إن لم يكن فوقهما ثالث يرجعان إليه فإذا قدر ملكان متكافئان في الملك لم يرجع أحدهما إلى الآخر ولا ثالث لهما يرجعان إليه كان ذلك ممتنعا بل إذا قدر طباخان لقدر واحدة متكافئان في العمل لا يرجع أحدهما إلى الآخر ولا فوقهما ثالث يرجعان إليه لم يمكن ذلك وكذلك البانيان لدار واحدة وكذلك الغارسان لشجرة واحدة وكذلك كل آمرين بمأمور واحد كالطبيبين والمفتيين وكذلك الخياطان لثوب واحد فلا يتصور في جميع هذه المشاركات اتفاق اثنين إلا أن يكون أحدهما فوق الآخر وأن يكون لهما ثالث فوقهما وذلك لأن فعل كل واحد منهما إذا كان مشروطا بفعل الآخر لم يرد هذا ولم يأمر ولم يفعل حتى يريد هذا ويأمر ويفعل الآخر كذلك فلا يريد واحد منهما ولا يأمر ولا يفعل فلا يفعلان شيئا فاشتراك اثنين متكافئين ليس فوقهما ثالث ممتنع وإذا اشترك شريكان

شرعيان كان ما يفعلانه من الأفعال راجعا إلى أمر الشارع الذي هو فوقهما أو راجعا إلى قول أهل الخبرة بالتجارة التي اشتركا فيها فعليهما أن يريدا ذلك فإن تنازعا فصل بينهما الشارع أو أهل الخبرة الذين عليهما أن يرجعا إليهم وعلى ذلك تشاركا وتشارطا وأما إن لم يرجعا إلى ثالث أو لم يكن أحدهما تابعا للآخر فيمتنع اشتراكهما لكن قد يرجع هذا إلى هذا تارة وهذا إلى هذا تارة كالمتعارضين وحينئذ فكل واحد منهما حال رجوع الآخر إليه هوالأصل والآخر فرع له ولهذا وجب نصب الإمارة في أقصر مدة وأقل اجتماع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لثلاثة أن يكونوا في سفر حتى يؤمروا أحدهم رواه الإمام أحمد فإن الرأس ضروري في الاجتماعفلا بد للناس من رأس وإذا لم يكن لهم رأس امتنع الاجتماع فإذا كان لهما رأسان متكافئان يشتركان في رياسة جماعة بطل الاجتماع وهذا مما هو مستقر في فطر الناس كلهم فإذا كان ولاة الأمر اثنين فلا بد أن يتناوبا في الأمر بحيث يطيع هذا هذا تارة وهذا هذا تارة كما يوجد في أعوان الملوك ووزرائهم إذا بدأ هذا بأمر أعانه الآخر عليه فإن لم يتفقا رجع الأمر إلى من فوقهما وإلا فالأمر الواحد لا يصدر عن اثنين معا إلا ان يكونا تابعين فيه لثالث فالتمانع حاصل بين الأصلين المتكافئين سواء قدر اتفاقهما أو اختلافهما ولكن التمانع مع الاختلاف أظهر وكذلك هما يتمانعان مع الاتفاق فإن أحدهما لا يمكنه أن يفعل حتى يفعل الآخر وذاك لا يمكنه حتى يفعل الآخر وليس لهما ثالث يحركهما إلى الفعل وليس تقدم أحدهما أولى من تقدم الآخر ووقوع الفعل منهما مع كون فعل كل منهما لا بد له من قدرة عليه وهو لا يقدر إلا

بالآخر ممتنع فإن هذا لا يقدر حتى يعينه الآخر وهذا لا يقدر حتى يعينه الآخر فتكون إعانة كل منهما سابقة مسبوقة وقدرة كل منهما سابقة مسبوقة إذ كان لا إعانة إلا بقدرته ولا قدرة له إلا بإعانة ذاك ولا إعانة لذاك إلا بقدرته ولا قدرة له إلا بإعانة هذا فتكون إعانة هذا موقوفة على قدرته الموقوفة على إعانة ذاك الموقوفة على قدرة هذا فيكون الشيء قبل قبل قبل نفسه وعلة علة علة نفسه فتبين امتناع اجتماع ربين متوافقين أو متخالفين وأنه إذا فرض مع الله إله لزم أن يذهب كل إله بما خلق وأن يعلو بعضهم على بعض وأحد البرهانين ليس مبنيا على الآخر بل كل منهما مستقل وكل منهما لازم على تقدير إله آخر ليس اللازم أحدهما فإنه لما امتنع الاشتراك في فعل واحد ومفعول واحد على سبيل الاستقلال وعلى سبيل التعاون لزم أن يذهب كل إله بما خلق ولما امتنع اجتماع ربين متكافئين لزم علو بعضهم على بعض وكل منهما منتف لأن المخلوقات مرتبط بعضها ببعض ولأن المقهور ليست قدرته من نفسه بل من غيره فيكون مربوبا لا ربا

والمشركون كانوا يقرون بهذا التوحيد الذي هو نفي خالقين لم يكن مشركو العرب تنازع فيه ولهذا قال الله لهم أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (سورة النحل). فكانوا يعترفون بأن آلهتهم لا تخلق ولهذا ذكر الله تعالى هذا التقرير بعد قوله قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون (سورة المؤمنون). ولم يكن إشراكهم أنهم جعلوهم خالقين بل أن جعلوهم وسائط في العبادة فاتخذوهم شفعاء وقالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى كما قال الله تعالى عنهم ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في

السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون سور يونس فالذين أثبتوا فاعلا مستقلا غير الله كالفلك والآدميين وجعلوا هذه الحركات الحادثة ليست مخلوقة لله فيهم من الشرك والتعطيل ما ليس في مشركي العرب فإن مشركي العرب كانوا يقرون بالقدر وأن الله وحده خالق كل شيء ولهذا قال في الآية الأخرى قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا (سورة الإسراء). فهم كانوا يقولون إنهم وسائل ووسائط وشفعاء لم يكونوا يقولون إنهم يخلقون كخلقه فقال تعالى لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا كما قال في الآية الأخرى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (سورة الإسراء). فتبين أن ما يدعى من دونه من الملائكة والأنبياء وغيرهم يبتغى به الوسيلة إلى الله والتقرب إليه وذلك لأنه هو الإله المعبود الحق الذي كل ما سواه مفتقر إليه من جهة أنه ربه ليس له شيء إلا منه ومن جهة أنه إلهه لا منتهى لإرادته دونه فلو لم يكن هو المعبود لفسد

العالم إذ لو كانت الإرادات ليس لها مراد لذاته والمراد إما لنفسه وإما لغيره والمراد لغيره لا بد أن يكون ذلك الغير مرادا حتى ينتهي الأمر إلى مراد لنفسه فكما أنه يمتنع التسلسل في العلل الفاعلية فيمتنع التسلسل في العلل الغائية وقد يظن أنه بهذا الطريق أثبت قدماء الفلاسفة أرسطو وأتباعه الأول لكنهم أثبتوه من جهة كونه علة غائية فقط لكن أولئك جعلوه علة غائية بمعنى التشبه به ولهذا قالوا الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة لم يجعلوه معبودا محبوبا لذاته كما جاءت الرسل بذلك ولهذا كان من تعبد وتصوف على طريقتهم من المتأخرين يقعون في دعوى الربوبية والإلهية وهم في نوع من الفرعونية بل قد يعظم بعضهم فرعون ويفضلونه على موسى عليه السلام كما يوجد ذلك في كلام طائفة منهموالواجب إثبات الأمرين أنه سبحانه رب كل شيء وإله كل شيء فإذا كانت الحركات الإرادية لا تقوم إلا بمراد لذاته وبدون ذلك يفسد ولا يجوز أن يكون مرادا لذاته إلا الله كما لا يكون موجودا بذاته إلا الله علم أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وهذه الآية فيها بيان أنه لا إله إلا الله وأنه لو كان فيهما آلهة غيره لفسدتا وتلك الآية قال فيها إذا لذهب كل إله بما خلق (سورة المؤمنون). ووجه بيان لزوم الفساد أنه إذا قدر مدبران ما تقدم من أنه يمتنع أن يكونا غير متكافئين لكون المقهور مربوبا لا ربا وإذا كانا متكافئين امتنع التدبير منهما لا على سبيل الاتفاق ولا على سبيل الاختلاف فيفسد العالم بعدم التدبير لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الاشتراك كما تقدم وهذا من جهة امتناع الربوبية لاثنين ويلزم من امتناعهما امتناع

الإلهية فإن ما لايفعل شيئا لا يصلح أن يكون ربا يعبد ولم يأمر الله أن يعبد ولهذا بين الله امتناع الإلهية لغيره تارة ببيان أنه ليس بخالق وتارة أنه لم يأمر بذلك لنا كقوله تعالى قل أرايتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ((سورة الأحقاف).). وذلك لأن عبادة ما سوى الله تعالى قد يقال إن الله أذن فيه لما فيه من المنفعة فبين سبحانه أنه لم يشرعه كما قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (سورة الزخرف). وهذ مبسوط في موضع آخر والمقصود هنا أن في هذه الآية بيان امتناع الألوهية من جهة الفساد الناشىء عن عبادة ما سوى الله تعالى لأنه لا صلاح للخلق إلا بالمعبود المراد لذاته من جهة غاية أفعالهم ونهاية حركاتهم وما سوى اللهلا يصلح فلو كان فيهما معبود غيره لفسدتا من هذه الجهة فإنه سبحانه هوالمعبود المحبوب لذاته كما أنه هو الرب خالق بمشيئته وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل ولهذا قال الله في فاتحة الكتاب إياك نعبد وإياك نستعين وقدم اسم الله على اسم الرب في أولها حيث قال الحمد لله رب العالمين فالمعبود هو المقصود المطلوب المحبوب لذاته وهو الغاية والمعين وهو البارىء المبدع الخالق ومنه ابتداء كل شيء والغايات تحصل بالبدايات والبدايات بطلب الغايات فالإلهية هي الغاية وبها تتعلق حكمته وهو الذي يستحق لذاته أن يعبد ويحب ويحمد ويمجد وهو سبحانه يحمد نفسه ويثني على نفسه ويمجد نفسه ولا أحد أحق بذلك منه حامدا ومحمودا

وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع وقد تبين بما ذكرناه أن من جعل عباد الله كأعوان السلطان فهو من أعظم المشركين بالله وأما جوابه عن احتجاجهم بقوله تعالى والله خلقكم وما تعملون (سورة الصافات). بأن المراد بذلك الأصنام فلا ننازعه في أن المراد بذلك الأصنام فإن هذا هو أصح القولين وما بمعنى الذي ومن قال إنها مصدرية والمراد والله خلقكم وعملكم فهو ضعيف فإن سياق الكلام إنما يدل على الأول لأنه قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون فأنكر عليهم عبادة المنحوت فالمناسب أن يذكر ما يتعلق بالمنحوت وأنه مخلوق لله والتقدير والله خلق العابد والمعبود ولأنه لو قال والله خلقكم وعملكم لم يكن في هذا ما يقتضي ذمهم على الشرك بل قد يقال إنه إقامة عذر لهم وذلك لأن الواو في قوله والله خلقكم وما تعملون واوالحال والحال هنا شبه الظرف كلاهما قد يتضمن معنى التعليل كما يقال أتذم فلانا وهو رجل صالح وتسيء إليه وهو محسن إليك فتقرر بذلك ما يوجب ذمه ونهيه عما أنكرته عليه وهو سبحانه ينكر عليهم عبادة ما ينحتون فذكر قوله والله خلقكم وما تعملون متضمنا ما يوجب ذمهم على ذلك ونهيهم عنه وذلك كون الله تعالى خلق معمولهم ولو أريد والله خلقكم وعملكم الذي هو الكفر وغيره لم يكن في ذلك ما يناسب ذمهم ولم يكن في بيان خلق الله تعالى لأفعال عباده ما يوجب ذمهم على الشرك لكن يقال هذه الآية تدل على أن أعمال العباد مخلوقة لأنه قال والله خلقكم والذي تعملونه من الأصنام والأصنام كانو ينحتونها فلا يخلو إما أن يكون المراد خلقه لها قبل النحت والعمل أو قبل ذلك وبعده فإن كان المراد ذكر كونها مخلوقة قبل ذلك لم يكن فيها حجة على أن المخلوق هو المعمول المنحوت لكن المخلوق ما لم يعمل ولم ينحت وإن كان المراد خلقها بعد العمل والنحت فمن المعلوم أن النحت الذي فيها هو أثرهم وعملهم

وعند القدرية أن المتولد عن فعل العبد فعله لا فعل الله فيكون هذا النحت والتصوير فعلهم لا فعل الله فإذا ثبت أن الله خلقها بما فيها من التصوير والنحت ثبت أنه خالق ما تولد عن فعلهم والمتولد لازم للفعل المباشر وملزوم له وخلق أحد المتلازمين ويسلتزم خلق الآخر فدلت الآية أنه خالق أفعالهم القائمة بهم وخالق ما تولد عنها وخالق الأعيان التي قام بها المتولد ولا يمكن أن يكون أحد المتلازمين عن الرب والآخر عن غيره فإنه يلزم افتقاره إلى غيره وأيضا فنفس حركاتهم تدخل في قوله تعالى والله خلقكم فإن أعراضهم داخلة في مسمى أسمائهم فالله تعالى خلق الإنسان بجميع أعراضه وحركاته من أعراضه فقد تبين أنه خلق أعمالهم بقوله والله خلقكم وما تولد عنهامن النحت والتصوير بقوله وما تعملون فثبت أنها دالة على أنه خالق هذا وهذا وهو المطلوب مع أن الآيات الدالة على خلق أعمال العباد كثيرة كما تقدم التنبيه عليها لكن خلقه للمصنوعات مثل الفلك والأبنية واللباس هو نظير خلق المنحوتات كقوله تعالى وآيه لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (سورة يس). وقوله تعالى والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون (سورة النحل).
*

فصل
قال الرافضي وذهبت الأشاعرة إلى أن الله يرى بالعين مع أنه مجرد من الجهات وقد قال الله تعالى لا تدركه الأبصار (سورة الأنعام). وخالفوا الضرورة من أن المدرك بالعين يكون مقابلا أو في حكمه وخالفوا جميع العقلاء في ذلك وذهبوا إلى تجويز أن يكون بين أيدينا جبال شاهقة من الأرض إلى السماء مختلفة الألوان لا نشاهدها وأصوات هائلة لا نسمعها وعساكر مختلفة متحاربة بانواع الأسلحة بحيث تماس أجسامنا أجسامهم لا نشاهد صورهم ولا حركاتهم ولا نسمع أصواتهم الهائلة وأن نشاهد

جسما أصغر الأجسام كالذرة في المشرق ونحن في المغرب مع كثرة الحائل بيننا وبينها وهذا هو السفسطة.
*فيقال له الكلام على هذا من وجوه...
أحدها: أن يقال أما إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة فهو قول سلف الأمة وأئمتها وجماهير المسلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرها. وقد تواترت فيه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند علماء الحديث وجمهور القائلين بالرؤية يقولون يرى عيانا مواجهة كما هو المعروف بالعقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم عز وجل يوم القيامة كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته وفي لفظ كما ترون الشمس والقمر صحوا وفي لفظ هل تضارون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضارون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب قالوا لا قال فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمروإذا كان كذلك فتقدير أن يكون بعض أهل السنة المثبتين للرؤية أخطأوا في بعض أحكامها لم يكن ذلك قدحا في مذهب أهل السنة والجماعة فإنا لا ندعي العصمة لكل صنف منهم وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة وأن كل مسألة اختلف فيها أهل السنة والجماعة والرافضة فالصواب فيها مع أهل السنة وحيث تصيب الرافضة فلا بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنة وللروافض خطأ لا يوافقهم أحد عليه من أهل السنة وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد انفردوا بها عن جميع أهل السنة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الاثني عشر وعصمتهم.
والجواب الثاني: أن الذين قالوا إن الله يرى بلا مقابلة هم الذين قالوا إن الله ليس فوق العالم فلما كانوا مثبتين للرؤية نافين للعلو احتاجوا إلى الجمع بين هاتين المسألتين وهذا قول طائفة من الكلابية والأشعرية وليس هو قولهم كلهم بل ولا قول أئمتهم بل أئمة القوم يقولون إن الله بذاته فوق العرش ومن نفى ذلك منهم فإنما نفاه

لموافقته المعتزلة في نفي ذلك ونفى ملزوماته فإنهم لما وافقوهم على صحة الدليل الذي استدلت به المعتزلة على حدوث العالم وهو أن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وما لا يخلو عنهما فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها قالوا فيلزم حدوث كل جسم فيمتنع أن يكون البارىء جسما لأنه قديم ويمتنع أن يكون في جهة لأنه لا يكون في الجهة إلا جسم فيمتنع أن يكون مقابلا للرائي لأن المقابلة لا تكون إلا بين جسمين ولا ريب أن جمهور العقلاء من مثبتي الرؤية ونفاتها يقولون إن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة ولهذا يذكر الرازي أن جميع فرق الأمة تخالفهم في ذلك لكن هم يقولون لهذا المشنع عليهم نحن أثبتنا الرؤية ونفينا الجهة فلا يلزم ما ذكرته فإن أمكن رؤية المرئي لا في جهة من الرائي صح قولنا وإن لم يكن لزم خطؤنا في إحدى المسالتين إما في نفي الرؤية وأما في نفي مباينة الله لخلقه وعلوه عليهموإذا لزم الخطأ في أحداهما لم يتعين الخطأ في نفي الرؤية بل يجوز أن يكون الخطأ في نفي العلو والمباينة وليست موافقتنا لك حجة لك فليس تناقضنا دليلا على صواب قولك في نفي علو الله على خلقه بل الرؤية ثابتة بالنصوص المستفيضة واجماع السلف مع دلالة العقل عليها وحينئذ فلازم الحق حق ونحن إذا أثبتنا هذا الحق ونفينا بعض لوازمه كان هذا التناقض أهون من نفي الحق ولوازمه وأنتم نفيتم الرؤية ونفيتم العلو والمباينة فكان قولكم أبعد عن المعقول والمنقول من قولنا وقولنا أقرب من قولكم وإن كان في قولنا تناقض فالتناقض في قولكم أكثر ومخالفتكم لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أظهر وهذا بين فإن ما في النصوص الإلهية ونصوص سلف الأمة من إثبات الصفات والرؤية وعلو الله متواتر مستفيض والنفاة لا يستندون لا إلى كتاب ولا إلى سنة ولا إلى

إجماع بل عارضوا برأيهم الفاسد ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وأما التناقض فإن هؤلاء النفاة للرؤية يقولون إنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يراه أحد ولا يحجب عن رؤيته شيء دون شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل من عنده شيء إلى أمثال ذلك وإذا قيل لهم هذا مخالف للعقل وهذا صفة المعلوم المعدوم الممتنع وجوده قالوا هذا النفي من حكم الوهم فيقال لهم إذا عرض على العقل موجود ليس بجسم قائم بنفسه يمكن رؤيته كان العقل قابلا لهذا لا ينكروه فإذا قيل مع ذلك إنه يرى بلا مواجهة فإن قيل هذا ممكن بطل قولهم وإن قيل هذا مما يمنعه العقل قيل منع العقل لما جعلتموه موجودا واجبا أعظمفإن قلتم إنكار ذلك من حكم الوهم قيل لكم وإنكار هذا حينئذ أولى أن يكون من حكم الوهم وإن قلتم بل هذا الإنكار من حكم العقل قيل لكم وذلك الإنكار من حكم العقل بطريق الأولى فإنكم تقولون حكم الوهم الباطل أن يحكم فيما ليس بمحسوس بحكم المحسوس وحينئذ إذا قلتم إن البارىء تعالى غير محسوس يمكن أن تقبلوا فيه الحكم الذي يمتنع في المحسوس وهو امتناع الرؤية بدون المقابلة وإن قلتم إنه محسوس أي يمكن الاحساس به لم يبطل فيه حكم الوهم فامتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه وحينئذ فيجوز رؤيته وإن قلتم إذا كان غير محسوس فهو غير مرئي قيل إن أردتم بالمحسوس الحس المعتاد فالرؤية التي يثبتها

مثبتة الرؤية بلا مقابلة ليست هي الرؤية المعتادة بل هي رؤية لا نعلم صفتها كما أثبتم وجود موجود لا نعلم صفته فكل ما تلزمونهم به من الشناعات والمناقضات يلزمكم أكثر منه.
الجواب الثالث: أن يقال أهل الحديث والسنة المحضة متفقون على إثبات العلو والمباينة وإثبات الرؤية وحينئذ فمن أثبت أحدهما ونفى الآخر أقرب إلى الشرع والعقل ممن نفاهما جميعا فالأشعرية الذين أثبتوا الرؤية ونفوا الجهة أقرب إلى الشرع والعقل من المعتزلة والشيعة الذين نفوهما أما كونهم أقرب إلى الشرع فلأن الآيات والأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة في دلالتها على العلو وعلى الرؤية أعظم من أن تحصر وليس مع نفاة الرؤية والعلو ما يصلح أن يذكر من الأدلة الشرعية وإنما يزعمون أن عمدتهم العقل فنقول قول الأشعرية المتناقضين خير من قول هؤلاء وذلكأنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا يشار إليه ولا يقرب منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا ترفع إليه الأيدي ونحو ذلك كانت الفطرة منكرة لذلك والعقلاء جميعهم الذين لم تتغير فطرتهم ينكرون ذلك ولا يقر بذلك إلا من لقن أقوال النفاة وحجتهم وإلا فالفطر السليمة متفقة على إنكار ذلك أعظم من إنكار خرق العادات لأن العادات يجوز انخراقها باتفاق أهل الملل وموافقة عقلاء الفلاسفة لهم على ذلك فنقول إن كان قول النفاة حقا مقبولا في العقل فإثبات وجود الرب على العرش من غير أن يكون جسما أقرب إلى العقل وأولى بالقبول وإذا ثبت أنه فوق العرش فرؤية ما هو فوق الإنسان وإن لم يكن جسما أقرب إلى العقل وأولى بالقبول من إثبات قول النفاة فتبين أن الرؤية على قول هؤلاء أقرب إلى العقل من قول النفاة وإذا قدر أن هذا خلاف المعتاد فتجويز انخراق العادة أولى من قول النفاة فإن قول النفاة ممتنع في فطر العقلاء لا يمكن جوازه وأما انخراق العادة فجائز.

الجواب الرابع: أن الأشعرية تقول إن الله قادر على أن يخلق بحضرتنا ما لا نراه ولا نسمعه من الأجسام والأصوات وأن يرينا ما بعد منا لا يقولون إن هذا واقع بل يقولون إن الله قادر عليه وليس كل ما كان قادرا عليه يشكون في وقوعه بل يعلمون أن هذا ليس واقعا الآن وتجويز الوقوع غير الشك في الوقوع وعبارة هذا الناقل تقتضي أنهم يجوزون أن يكون هذا الآن موجودا ونحن لا نراه وهذا لا يقوله عاقل ولكن هذا قيل لهم بطريق الإلزام قيل لهم إذا جوزتم الرؤية في غير جهة فجوزا هذا فقالوا نعم نجوز كما أنهم يقولون رؤية الله جائزة في الدنيا أي هو قادر على أن يرنا نفسه وهم يعلمون مع هذا أن أحدا من الناس لا يرينا الله في الدنيا إلا ما تنوزع فيه من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ومن شك منهم في وقوع الرؤية في الدنيا فلجهله بالأدلة النافية لذلك وقد ذكر الأشعري في وقوع الرؤية بالأبصار في الدنيا لغير النبي صلى تعالى الله عليه وسلم قولين لكن الذي عليه أهل السنة قاطبة أن الله لم يره أحد بعينيه في الدنيا وقد ذكر الإمام أحمد وغيره اتفاق السلف على هذاالنفي وأنهم لم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد سأل موسى عليه السلام الرؤية فمنعها فلا يكون آحاد الناس أفضل من موسى وفي الجملة ليس كل ما قال قائل إنه ممكن مقدور يشك في وقوعه فالأشعرية ومن وافقهم من أتباع الشافعي ومالك وأحمد وإن كانوا يقولون بجواز أمور ممتنعة في العادة في الرؤية فيقولون إنه لا حجاب بين الله وبين العبد إلا عدم خلق الرؤية في العين وكذلك يقولون في سائر المرئيات فكانوا ينفون أن يكون في العين قوة امتازت بها فحصلت بها الرؤية ويمنعون أن يكون بين الأسباب ومسبباتها ملازمة وأن يكون بين

الموانع وممنوعاتها ممانعة ويجعلون ذلك كله عادة محضة استندت إلى محض المشيئة ويجوزون خرقها بمحض المشيئة فهم يقولون إنا نعلم انتفاء كثير مما يعلم إمكانه كما نعلم أن البحر لم ينقلب دما ولا الجبال ياقوتا ولا الحيوانات أشجارا بل يجعلون العلم بمثل هذا من العقل الذي يتميز به العاقل عن المجنون وهم وإن كانوا يتناقضون وفي قولهم ماهو باطل عقلا ونقلا فأقوالهم في القدر والصفات والرؤية خير من أقوال المعتزلة وموافقيهم من الشيعة وإن كان الصواب هو ما عليه السلف وأئمة السنة وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور كبار أصحابهم والنصوص المأثورة في ذلك عن الأئمة المذكورين في غير هذا الموضع والبيان التام هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه أعلمالخلق بالحق وأنصح الخلق للخلق وأفصح الخلق في بيان الحق فما بينه من أسماء الله وصفاته وعلوه ورؤيته هو الغاية في هذا الباب ولله الموفق للصواب.
*

فصل
قال الرافضي وذهبت الأشاعرة إلى أن الله أمرنا ونهانا في الأزل ولا مخلوق عنده قائلا يا أيها النبي اتق الله (سورة الأحزاب). يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله (سورة البقرة). يا أيها الناس اتقوا ربكم (سورة النساء). ولو جلس شخص في مكان خال ولا غلام عنده فقال يا سالم قم يا غانم كل يا نجاح ادخل قيل لمن تنادي قال لعبيد أريد أن أشتريهم بعد عشرين سنة نسبه كل عاقل إلى السفه والحمق فكيف يحسن منهم أن ينسبوا إلى الله ذلك في الأزل.

*والجواب عن هذا من وجوه...
أحدها: أن يقال هذا قول الكلابية وهم طائفة من الذين يقولون كلام الله غير مخلوق وهؤلاء طائفة من الذين يقولون بإمامة الخلفاء الثلاثة فقولهم سواء كان حقا أو باطلا لا يقتضي صحة مذهب الرافضة ولا بطلان قول اهل السنة والجماعة فهذا القول الذي ذكره إذا كان باطلا فأكثر القائلين بإمامة الخلفاء الثلاثة لا يقولون به لا من يقول القرآن مخلوق كالمعتزلة ولا من يقول هو كلام الله غير مخلوق كالكرامية والسالمية والسلف وأهل الحديث من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم فليس في ذكر مثل هذا حصول مقصود الرافضي.
الوجه الثاني: أن يقال أكثر أئمة الشيعة يقولون القرآن غير مخلوق وهو الثابت عن أئمة أهل البيت وحينئذ فهذا قول من أقوال هؤلاء فإن لم يكن حقا أمكن أن يقال بغيره من أقوالهمالوجه الثالث أن يقال إن كان الكلابية والأشعرية إنما قالوا هذا لموافقتهم المعتزلة في الأصل الذي اضطرهم إلى ذلك فإنهم وافقوهم كما تقدم على صحة دليل حدوث الأجسام فلزمهم أن يقولوا بحدوث ما لا يخلو عن الحوادث ثم قالوا وما يقوم به الحوادث لا يخلو منها فإذا قيل الجسم لم يخل عن الحركة والسكون فإن الجسم إما أن يكون متحركا وإما أن يكون ساكنا قالوا والسكون الأزلي يمتنع زواله لأنه موجود أزلي وكل موجود أزلي يمتنع زواله وكل جسم يجوز عليه الحركة فإذا جاز عليه الحركة وهو أزلي وجب أن تكون حركته أزلية لامتناع زوال السكون الأزلي ولو جاز أن تكون حركته أزلية لزم حوادث لا أول لها وذلك ممتنع فلزم من ذلك أن الباري لا تقوم به الحوادث لأنها لو قامت به لم يخل منها لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها وقد علموا بالأدلة اليقينية أن الكلام يقوم بالمتكلم كما يقوم العلم

بالعالم والقدرة بالقادر والحركة بالمتحرك وأن الكلام الذي يخلقه الله في غيره ليس كلاما له بل لذلك المحل الذي خلقه فيه فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ولم يعد على غيره واشتق لذلك المحل منه اسم ولم يشتق لغيره فلو كان الكلام المخلوق في غيره كلاما له لزم أربعة أمور باطلة ثبوت حكم الصفة والاسم المشتق منها لغير الله وانتفاء الحكم والاسم عن الله لازمان عقليان ولازمان سمعيان يلزمان بكون الكلام صفة لذلك المحل لا لله فيكون هو المنادى بما يقوم به فتكون الشجرة التي خلق فيها نداء موسى هي القائلة إنني أنا الله لا يكون الله هو المنادي بذلك ويلزم أن تسمى هي متكلمة منادية لموسى ويلزم أن لا يكون الله متكلما ولا مناديا ولا مناجياوهذا خلاف ما علم بالاضطرار من دين المسلمين وهذا قد بسط في غير هذا الموضع وقالوا أيضا لو لم يكن متكلما في الأزل لزم اتصافه بنقيض الكلام من السكوت أو الخرس وقالوا أيضا لو كان كلامه مخلوقا لكان إن خلقه في محل كان كلاما لذلك المحل وإن خلقه قائما بنفسه لزم أن تقوم الصفة والعرض بنفسها وإن خلقه في نفسه لزم أن تكون نفسه محلا للمخلوقات وهذه اللوازم الثلاثة باطلة تبطل كونه مخلوقا كما هو مبسوط في غير هذا الموضع فلما ثبت عندهم أن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم وقد وافقوا المعتزلة على أن الحوادث لا تقوم بالقديم لزم من هذين الأصلين أن يكون الكلام قديما قالوا وقدم الأصوات ممتنع لأن الصوت لا يبقى زمانين فتعين أن يكون القديم معنى ليس بحرف ولا صوت وإذا كان كذلك كان معنى واحد لأنه لو زاد على واحد لم يكن له حد محدود ويمتنع وجود معان لا نهاية لها

فهذا أصل قولهم فهم يقولون نحن وافقناكم على امتناع أن يقوم بالرب ما هو مراد له مقدور وخالفناكم في كون كلامه مخلوقا منفصلا عنه فلزم ما ذكرتموه من مناقضتنا فإن كان الجمع بين هذين ممكنا لم نكن متناقضين وإن تعذر ذلك لزم خطؤنا في إحدى المسألتين ولم يتعين الخطأ فيما خالفناكم فيه بل قد نكون مخطئين فيما وافقناكم فيه من كون الرب لا يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم به مع أن إثبات هذا القول هو قول جمهور أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام من المرجئة والكرامية والشيعة وغيرهم بل لعله قول أكثر أهل الطوائف وإن لزم خطؤنا في إحدى المسألتين لا بعينها لا يلزم صوابكم أنتم بل نحن إذا اضطررنا إلى موافقة إحدى الطائفتين كانت موافقتنا لمن يقول إن الرب يتكلم بكلام يقوم به بمشيئته وقدرته خيرا من موافقتنا لمن يقول إن كلامه إنما هو ما يخلقه في غيره فإن فسادهذا القول في الشرع والعقل أظهر من فساد القول بكونه يتكلم بكلام يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته ثم القائلون بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم به وهم جمهور المسلمين اختلفوا على قولين منهم قال إنه يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام بعد أن لم يكن الكلام موجودا فيه كما تقوله الكرامية وموافقوهم ومنهم من يقول لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء كما تقوله أئمة أهل السنة والحديث كعبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة أهل السنة والكلابية يقولون لو اضطررنا إلى موافقة من يقول كلامه مخلوق ومن يقول كلامه قائم بذاته وجنس الكلام حادث في ذاته بعد أن لم يكن كلام هؤلاء أخفى فسادا من قول المعتزلة وقول

المعتزلة أظهر فسادا فإن الحجة النافية لهذا وهو أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده حجة ضعيفة اعترف بضعفها حذاق الطوائف واعترف منصفوهم أنه لا يقوم لهم دليل عقلي بل ولا سمعي على نفي قيام الحوادث به إلا ما ينفي الصفات مطلقا وذلك في غاية الفساد فكيف يمكن أن يصير إلى القول الآخر قول السلف وأهل الحديث وبالجملة فكون الرب لم يزل متكلما إذا شاء كما هو قول أهل الحديث مبني على مقدمتين على أنه تقوم به الأمور الاختيارية وأن كلامه لا نهاية له قال الله تعالى قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (سورة الكهف). وقال ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (سورة لقمان).وقد قال غير واحد من العلماء إن مثل هذا الكلام يراد به الدلالةعلى أن كلام الله لا ينقضي ولا ينفد بل لا نهاية له ومن قال إنه يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم بذاته يقولون إنه لا نهاية له في المستقبل وأما في الماضي فلهم قولان منهم من يقول لها بداية في الماضي وأئمتهم يقولون لا بداية لها في الماضي كما لا نهاية لها في المستقبل وهذا يستلزم وجود ما لا نهاية له أزلا وأبدا من الكلمات والكلام صفة كمال والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل لا يعقل متكلم إلا كذلك ولا يكون الكلام صفة كمال إلا إذا قام بالمتكلم وأما الأمور المنفصلة عن الذات فلا يتصف بها ألبته فضلا عن أن تكون صفة كمال أو نقص قالوا ولم نعرف عن أحد من السلف لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا غيرهم من أئمة المسلمين من أنكر هذا الأصل ولا قال إنه يمتنع وجود كلمات لا نهاية لها لا في الماضي ولا في المستقبل ولا قالوا ما يستلزم امتناع هذا

وإنما قال ذلك أهل الكلام المحدث المبتدع المذموم عند السلف والأئمة الذين أحدثوا في الإسلام نفي صفات الله وعلوه على خلقه ورؤيته في الآخرة وقالوا إنه لا يتكلم ثم قالوا إنه يتكلم بكلام مخلوق منفصل عن الله قالوا وإنما قلنا ذلك لأنا استدللنا على حدوث العالم بحدوث الأجسام وإنما استدللنا على حدوثها بقيام الحوادث بها وأن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فلو قلنا إنه تقوم به الصفات والكلام لزم قيام الحوادث به لأنه هذه أعراض حادثة فقال لهم أهل السنة أحدثتم بدعا تزعمون أنكم تنصرون بها الإسلام فلا للإسلام نصرتم ولا لعدوه كسرتم بل سلطتم عليكم أهل الشرع والعقل فالعالمون بنصوص المرسلين يعلمون أنكم خالفتموها وأنكم أهل بدعة وضلالة والعالمون بالمعاني المعقولة يعلمون أنكم قلتم ما يخالف المعقول وأنكم أهل خطأ وجهالةوالفلاسفة الذين زعمتم أنكم تحتجون عليهم بهذه الطريق تسلطوا عليكم بها ورأوا أنكم خالفتم صريح العقل والفلاسفة أجهل منكم بالشرع والعقل في الإلهيات لكن لما ظنوا أن ما جئتم به هو الشرع وقد رأوه يخالف العقل صاروا أبعد عن الشرع والعقل منكم لكن عارضوكم بأدلة عقلية بل وشرعية ظهر بها عجزكم في هذا الباب عن بيان حقيقة الصواب وكان ذلك مما زادهم ضلالا في أنفسهم وتسلطا عليكم ولو سلكتم معهم طريق العارفين بحقيقة المعقول والمنقول لكان ذلك أنصر لكم وأتبع لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنكم كنتم بمنزلة من جاهد الكفار بنوع من الكذب والعدوان وأوهمهم أن هذا يدخل في حقيقة الإيمان فصار ما عرفه أولئك من كذب هؤلاء وعدوانهم مما يوجب القدح فيما ادعوه من إيمانهم ولما رأى أولئك في الملك والرياسة والمال من جنس هذه المخادعة والمحال سلكوا

طريقا أبلغ في المخادعة والمحال من طرق أولئك المبتدعين الضالين فسلطوا عليهم عقوبة لهم على خروجهم عن الدين قال الله تعالى أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم آل عمران وقال إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم آل عمران وقال وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين آل عمران فما جاء به الرسول حق محض يتصادق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول والأقوال المخالفة لذلك وإن كان كثير من أصحابها مجتهدين مغفورا لهم خطؤهم فلا يملكون نصرها بالأدلة العلمية ولا الجواب عما يقدح فيها بالأجوبة العلمية فإن الأدلة العقلية الصحيحة لا تدل إلا على القول الحق والأجوبة الصحيحة المفسدة لحجة الخصم لا تفسدها إلا إذا كانت باطلة فإن ما هو باطل لا يقوم عليه دليل صحيح وما هو حق لا يمكن دفعه بحجة صحيحةوالمقصود هنا أن من قال قولا أصاب فيه من وجه وأخطأ فيه من وجه آخر حتى تناقض في ذلك القول بحيث جمع فيه بين أمرين متناقضين يقول لمن يناقضه بمقدمة جدلية سلمها له تناقضي إنما يدل على خطئي في أحد القولين إما القول الذي سلمته لك وإما القول الذي ألزمتني بالتزامه وهذا لا يدل على صحة قولك بل يمكن أن يكون القول الآخر هو الصواب فالأشعرية العارفون بأن كلام الله غير مخلوق وبأن هذا قول السلف والأئمة وبما دل على ذلك من الأدلة الشرعية والعقلية إذا قيل لهم القول بقدم القرآن ممتنع أمكنهم أن يقولوا هنا قولان آخران لمن يقول أنه غير مخلوق كما تقدم ولا يلزم واحدا من القولين لازم إلا ولازم قول من يقول إنه مخلوق أعظم فسادا فالعاقل لا يكون مستجيرا من الرمضاء بالنار بل إذا انتقل ينتقل من قول مرجوح إلى راجح والذين قالوا إنه يتكلم بمشيئته وقدرته

بعد أن لم يكن متكلما لا حجة للمعتزلة ونحوهم عليهم إلا حجة نفي الصفات وهي حجة داحضة ولا حجة للكلابية عليهم إلا أن ذلك يستلزم دوام الحوادث لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ولأن القابلية للحوادث تكون من لوازم ذاته وهذه الحجج مما قد التزم هؤلاء ما هو أضعف منها كما قد بسط في مواضعه واعترف حذاقهم بضعف جميع هذه الحجج العقلية في هذا الباب وأما السمعيات فهي مع المثبتة لا مع النفاة والقول بدوام كونه متكلما إذا شاء وأن الكلام لازم لذات الرب معه من الحجج ما يضيق هذا الموضع عن استقصائها وأي القولين صح أمكن الانتقال إليه والرازي وغيره يقولون إن جميع طوائف العقلاء يلزمهم القول بقيام الحوادث به فإن صح هذا أمكن القول بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته وقد بسطنا الكلام على نهايات عقول العقلاء في هذه المسائل ومادل عليه الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة في كتاب درء تعارض العقل والنقل وغير ذلكوبالجملة فما ذكر من الحجة مبنى على أن السكون أمر وجودي وعلى أن الله يصير فاعلا بعد أن لم يكن كذلك فتكون الحوادث غير دائمة ومن المعلوم أن فساد هذين القولين ليس ظاهرا لا سيما وعند التحقيق يظهر صحتهما أو صحة أحدهما وأيهما صح أمكن معه القول بأن الله يتكلم بكلام يقوم به بمشيئته وقدرته قال الأشعرية وإذا كان هذا هو الحق فنحن إذا قلنا إن كلامه يقوم به فليس متعلقا بمشيئته وقدرته قلنا ببعض الحق وتناقضنا فكان هذا خيرا ممن يقول إنه ليس لله كلام إلا ما يخلقه في غيره لما في هذا القول من مخالفة الشرع والعقل الوجه الرابع أن يقال الخطاب لمعدوم لم يوجد بعد بشرط وجوده أقرب إلى العقل من متكلم لا يقوم به كلامه ومن كون الرب مسلوب صفات الكمال لا يتكلم ومن أن يخلق كلاما في غيره فيكون ذلك ليس كلاما لمن خلقه فيه بل لخالقه وهو إذا خلق في غيره حركة كانت الحركة حركة للمحل المخلوقة فيه لا للخالق لها وكذلك سائر

الأعراض فما خلق الله من عرض في جسم إلا كان صفة لذلك الجسم لا لله تعالى وأما خطاب من لم يوجد بشرط وجوده فإن الموصي قد يوصي بأشياء ويقول أنا آمر الوصي بعد موتي أن يعمل كذا ويعمل كذا فإذا بلغ ولدي فلان يكون هو الوصي وأنا آمره بكذا وكذا بل يقف وقفا يبقى سنين ويأمر الناظر الذي يخلفه بعد بأشياء وأما القائل يا سالم ويا غانم فإن قصد به خطاب حاضر ليس بموجود فهذا قبيح بالاتفاق وأما إن قصد به خطاب من سيكون مثل أن يقول قد أخبرني الصادق أن أمتي تلد غلاما ويسمى غانما فإذا ولدته فهو حر وقد جعلته وصيا على أولادي وأنا آمرك يا غانم بكذا وكذا لم يكن هذا ممتنعا وذلك لأن الخطاب هنا هو لحاضر في العلم وإن كان مفقودا في العين والإنسان يخاطب من يستحضره في نفسه ويتذكر أشخاصا قد أمرهم بأشياء فيقول يا فلان أما قلت لك كذاوالشيعة والسنية يروون عن علي رضي الله عنه أنه لما مر بكربلاء قال صبرا أبا عبد الله صبرا أبا عبدالله يخاطب الحسين لعلمه بأنه سيقتل وهذا قبل أن يحضر الحسين بكربلاء ويطلب قتله والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال وخروجه وأنه قال يا عباد الله اثبتوا وبعد لم يوجد عباد الله أولئك والمسلمون يقولون في صلاتهم السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وليس هو حاضرا عندهم ولكنه حاضر في قلوبهم وقد قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (سورة يس). وهذا عند أكثر العلماء هو خطاب يكون لمن يعلمه الرب تعالى في نفسه وإن لم يوجد بعد ومن قال إنه عبارة عن شرعة التكوين فقد خالف مفهوم الخطاب وحمل الآية على ذلك يستدعي استعمال الخطاب في مثل هذا المعنى وأن هذا من اللغة التي نزل بها القرآن وإلا فليس لأحد أن يحمل خطاب الله ورسوله على ما يخطر

بل القرآن نزل بلغة العرب بل بلغة قريش وقد علمت العادة المعروفة في خطاب الله ورسوله فليس لأحد أن يخرج عنها وبالجملة فنحن ليس مقصودنا هنا نصر قول من يقول القرآن قديم فإن هذا القول أول من عرف أنه قاله في الإسلام أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب واتبعه على ذلك طوائف فصاروا حزبين حزبا يقول القديم هو معنى قائم بالذات وحزبا يقول هو حروف أو حروف وأصوات وقد صار إلى كل من القولين طوائف من المنتسبين إلى السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وليس هذا القول ولا هذا القول قول أحد من الأئمة الأربعة بل الأئمة الأربعة وسائر الأئمة متفقون على أن كلام الله منزل غير مخلوق وقد صرح غير واحد منهم إن الله تعالى متكلم بمشيئته وقدرته وصرحوا بأنه لم يزل متكلما إذا شاء كيف شاء وغير ذلك من الأقوال المنقولة عنهم وهذه المسألة قد تكلم فيها السلف لكن اشتهر النزاع فيها في المحنة المشهورة لما امتحن أئمة الإسلام وكان الذي ثبته الله في المحنة وأقامه لنصر السنة هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وكلامه وكلام غيره في ذلك موجود في كتب كثيرة وإن كان طائفة من متأخريأصحابه وافقوا بن كلاب على قوله إن القرآن قديم فأئمة أصحابه على نفي ذلك وأن كلامه قديم بمعنى أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته ولهم قولان هل يوصف الله بالسكوت عن كل كلام أو أنه لم يزل متكلما وإنما يوصف بالسكوت عن بعض الأشياء ذكرهما أبو بكر عبدالعزيز وأبو عبدالله بن حامد وغيرهما وأكثر أئمتهم وجمهورهم على أنه لم يزل متكلما إنما يوصف بالسكوت عن بعض الأشياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه وأحمد وغيره من السلف يقولون إن الله تعالى يتكلم بصوت لكن لم يقل أحد منهم إن ذلك الصوت المعين قديم

يقولون إن الله تعالى يتكلم بصوت لكن لم يقل أحد منهم إن ذلك الصوت المعين قديم.
*

فصل
قال الرافضي وذهب جميع من عدا الإمامية والإسماعيلية إلى أن الأنبياء والأئمة غير معصومين فجوزوا بعثة من يجوز عليه الكذب والسهو والخطأ والسرقة فأي وثوق يبقى للعامة في أقوالهم وكيف يحصل الانقياد إليهم وكيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين بل كل من بايع قرشيا انعقدت إمامته عندهم ووجب طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال وإن كان على غاية من الكفر والفسوق والنفاق.
*فيقال الكلام على هذا من وجوه...
أحدها: أن يقال ما ذكرته عن الجمهور من نفي العصمة عن الأنبياء وتجويز الكذب والسرقة والأمر بالخطأ عليهم فهذا كذب على الجمهور فإنهم متفقون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين وكل ما يبلغونه عن الله عز وجل من الأمر والنهي يجب طاعته فيه باتفاق المسلمين وما أخبروا به وجب تصديقهم فيه بإجماع المسلمين وما أمروهم به ونهوهم عنه وجبت طاعتهم فيه عند جميع فرق الأمة إلا عند طائفة من الخوارج يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلغه عن الله لا فيما يأمر هو به وينهى عنه وهؤلاء ضلال باتفاق أهل السنة والجماعة، وقد ذكرنا غير مرة أنه إذا كان في بعض المسلمين من قال قولا خطأ لم يكن ذلك قدحا في المسلمين ولو كان كذلك لكان خطأ الرافضة

عيبا في دين المسلمين فلا يعرف في الطوائف أكثر خطأ وكذبا منهم وذلك لا يضر المسلمين شيئا فكذلك لا يضرهم وجود مخطىء آخر غير الرافضة وأكثر الناس أو كثير منهم لا يجوزون عليهم الكبائر والجمهور الذي يجوزون الصغائر هم ومن يجوز الكبائر يقولون إنهم لا يقرون عليها بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنزلة أعظم مما كان قبل ذلك كما تقدم التنبيه عليه وبالجملة فليس في المسلمين من يقول إنه يجب طاعة الرسول مع جواز أن يكون أمره خطأ بل هم متفقون على أن الأمر الذي يجب طاعته لا يكون إلا صوابا فقوله كيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ قول لا يلزم أحدا من الأمة وللناس في تجويز الخطأ عليهم في الاجتهاد قولان معروفان وهم متفقون على أنهم لا يقرون عليه وإنما يطاعون فيما أقروا عليه لا فيما غيره الله ونهى عنه ولم يأمر بالطاعة فيه

وأما عصمة الأئمة فلم يقل بها إلا كما قال الإمامية والإسماعيليه وناهيك بقول لم يوافقهم عليه إلا الملاحدة المنافقون الذين شيوخهم الكبار أكفر من اليهود والنصارى والمشركين وهذا دأب الرافضة دائما يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ويوالون الكفار والمنافقين وقد قال الله تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ماهم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا أنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب

الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز لا نجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون (سورة المجادلة). فهذه الآيات نزلت في المنافقين وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا أؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر أخرجاه في الصحيحين ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (سورة المائدة).

وقال تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا (سورة المائدة). وهم غالبا لا يتناهون عن منكر فعلوه بل ديارهم أكثر البلاد منكرا من الظلم والفواحش وغير ذلك وهم يتولون الكفار الذين غضب الله عليهم فليسوا مع المؤمنين ولا مع الكفار كما قال تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم (سورة المجادلة). ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر حتى أن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقطعون الطريق استحلالا لذلك وتدينا به فقاتلهم صنف من التركمان فصاروا يقولون نحن مسلمون فيقولون لا أنتم جنس آخر فهم بسلامة قلوبهم علموا أنهم جنس آخر خارجون عن المسلمين لامتيازهم عنهم وقد قال الله تعالى ويحلفون على الكذب وهم يعلمون (سورة المجادلة).. وهذا حال الرافضة وكذلك اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إلى قوله لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الأية (سورة المجادلة). وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادته للمسلمين ولهذا لما خرج الترك والكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ببلاد خرسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين وكذلك النصارى

الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم فهم دائما يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم.
ثم إن هذا ادعى عصمة الأئمة دعوى لم يقم عليها حجة إلا ما تقدم من أن الله لم يخل العالم من أئمة معصومين لما في ذلك من المصلحة واللطف ومن المعلوم المتيقن أن هذا المنتظر الغائب المفقود لم يحصل به شيء من المصلحة واللطف سواء كان ميتا كما يقوله الجمهور أو كان حيا كما تظنه الإمامية وكذلك أجداده المتقدمون لم يحصل بهم شيء من المصلحة واللطف الحاصلة من إمام معصوم ذي سلطان كما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة فإنه كان إمام المؤمنين الذي يجب عليهم طاعته ويحصل بذلك سعادتهم ولم يحصل بعدهأحد له سلطان تدعى له العصمة إلا علي رضي الله عنه زمن خلافته ومن المعلوم بالضرورة أن حال اللطف والمصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال والفتنة والافتراق فإذا لم يوجد من يدعي الإمامية فيه أنه معصوم وحصل له سلطان بمبايعة ذي الشوكة إلا علي وحده وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة علم بالضرورة أن ما يدعونه من اللطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعا وهو من جنس الهدى والإيمان الذي يدعى في رجال الغيب بجبل لبنان وغيره من الجبال مثل جبل قاسيون بدمشق ومغارة الدم وجبل الفتح بمصر ونحو ذلك من الجبال والغيران فإن

هذه المواضع يسكنها الجن ويكون بها الشياطين ويتراءون أحيانا لبعض الناس ويغيبون عن الأبصار في أكثر الأوقات فيظن الجهال أنهم رجال من الإنس وإنما هم رجال من الجن كما قال تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (سورة الجن). وهؤلاء يؤمن بهم وبمن ينتحلهم من المشايخ طوائف ضالون لكن المشايخ الذين ينتحلون رجال الغيب لا يحصل بهم من الفساد ما يحصل بالذين يدعون الإمام المعصوم بل المفسدة والشر الحاصل في هؤلاء أكثر فإنهم يدعون الدعوة إلى إمام معصوم ولا يوجد لهم أئمة ذوو سيف يستعينون بهم إلا كافر أو فاسق أو منافق أو جاهل لا تخرج رؤوسهم عن هذه الأقسام والإسماعيلية شر منهم فإنهم يدعون إلى الإمام المعصوم ومنتهى دعوتهم إلى رجال ملاحدة منافقين فساق ومنهم من هو شر في الباطن من اليهود والنصارى فالداعون إلى المعصوم لا يدعون إلى سلطان معصوم بل إلى سلطان كفور أو ظلوم وهذا أمر مشهور يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأوليالأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وذلك خير وأحسن تأويلا (سورة النساء). فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ولو كان للناس معصوم غير الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرهم بالرد إليه فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
*

فصل
وأما قوله ولم يجعلوا الائمة محصورين في عدد معين.... فهذا حق وذلك أن الله تعالى قال يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (سورة النساء). ولم يوقتهم بعدد معين وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقت ولاة الأمور في عدد معين ففي الصحيحين عن أبي ذر قال إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف

وفي صحيح مسلم عن أم الحصين أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أو بعرفات في حجة الوداع يقول لو استعمل عليكم عبد أسود مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا وروى البخاري عن أنس بن مالك قال قال رسول صلى الله عليه وسلم اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان. وفي البخاري ما بقي منهم اثنان.
وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة قال دخلت مع أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول إن هذا الأمر ما ينقضي حتى يمضي منهم اثنا عشر خليفة ثم تكلم بكلمة خفيفة لم أفهمها أو قال خفيت علي فقلت لأبي ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم من قريش.
وفي لفظ في الصحيحين قال لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة.
وفي الصحيحين عن جابرأيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر أمير كلهم من قريش.
وفي الصحيحين عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إلي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة عشية رجم الأسلمي قال لا يزال هذا الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم.

وعن جابر بن عبد الله قال قال النبي صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في الخير والشر.
وفي البخاري عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحدا إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين خرجه في باب الأمراء من قريش.
*

فصل
وأما قوله عنهم كل من بايع قرشيا انعقدت إمامته ووجبت طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال وإن كان على غاية من الفسق والكفر والنفاق.
*فجوابه من وجوه ...
أحدها: أن هذا ليس قول أهل السنة والجماعة وليس مذهبهم أنه بمجرد مبايعة واحد قرشي تنعقد بيعته ويجب على جميع الناس طاعته وهذا وإن كان قد قاله بعض أهل الكلام فليس هو قول أئمة أهل السنة والجماعة بل قد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بايع رجلا بغير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا الحديث رواه البخاري وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى

الوجه الثاني: أنهم لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة فلا يجوزون طاعته في معصية الله وإن كان إماما عادلا وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه مثل أن يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقا إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (سورة النساء). فأمر بطاعة الله مطلقا وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله ومن يطع الرسول فقد أطاع الله وجعل طاعة أولي الأمر داخلة في ذلك فقال وأولي الأمر منكم ولم يذكر لهم طاعة ثالثة لأن ولي الأمر لا يطاع طاعة مطلقة إنما يطاع في المعروفكما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف وقال لا طاعة في معصية الله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقال ومن أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه

وقول هؤلاء الرافضة المنسوبين إلى شيعة علي رضي الله عنه أنه تجب طاعة غير الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقا في كل ما أمر به أفسد من قول من كان منسوبا إلى شيعة عثمان رضي الله عنه من أهل الشام أنه يجب طاعة ولي الامر مطلقا فإن أولئك كانوا يطيعون ذا السلطان وهو موجود وهؤلاء يوجبون طاعة معصوم مفقود وأيضا فأولئك لم يكونوا يدعون في أئمتهم العصمة التي تدعيها الرافضة بل كانوا يجعلونهم كالخلفاء الراشدين وأئمة العدل الذين يقلدون فيما لم تعرف حقيقة أمره أو يقولون إن الله يقبل منهم الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات وهذا أهون ممن يقول إنهم معصومون لا يخطئون فتبين أن هؤلاء المنسوبين إلى النصب من شيعة عثمان وإن كانفيهم خروج عن بعض الحق والعدل فخروج الإمامية عن الحق والعدل أكثر وأشد فكيف بقول أئمة السنة الموافق للكتاب والسنة وهو الأمر بطاعة ولي الأمر فيما يأمر به من طاعة الله دون ما يأمر به من معصية الله.
الوجه الثالث: أن يقال إن الناس قد تنازعوا في ولي الأمر الفاسق والجاهل هل يطاع فيما يأمر به من طاعة الله وينفذ حكمه وقسمه إذا وافق العدل أو لا يطاع في شيء ولا ينفذ شيء من حكمه وقسمه أو يفرق في ذلك بين الإمام الأعظم وبين القاضي ونحوه من الفروع على ثلاثة أقوال أضعفها عند أهل السنة هو رد جميع أمره وحكمه وقسمه وأصحها عند أهل الحديث وأئمة الفقهاء هو القول الأول وهو أن يطاع في طاعة الله مطلقا وينفذ حكمه وقسمه إذا كان فعله عدلا مطلقا حتى أن القاضي الجاهل والظالم ينفذ حكمه بالعدل وقسمه بالعدل على هذا القول كما هو قول أكثر الفقهاء والقول الثالث هو الفرق بين الإمام الأعظم وبين غيره لأن ذلك لا يمكن عزله إذا فسق إلا بقتال وفتنة بخلاف الحاكم ونحوه فإنه

يمكن عزله بدون ذلك وهو فرق ضعيف فإن الحاكم إذا ولاه ذو الشوكة لا يمكن عزله إلا بفتنة ومتى كان السعي في عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه لم يجز الإتيان بأعظم الفسادين لدفع أدناهما وكذلك الإمام الأعظم ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كان ولا أمر بقتال الباغين ابتداء بل قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل (سورة الحجرات). فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر ابتداء

وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برىء ومن أنكر سلم ولكن رضي وتابع قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ماصلوا فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالهم مع إخباره أنهم يأتون أمورا منكرة فدل على أنه لا يجوز الإنكار عليهم بالسيف كما يراه من يقاتل ولاة الأمر من الخوارج والزيدية والمعتزلة وطائفة من الفقهاء وغيرهم وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الامراء يظلمون ويفعلون أمورا منكرة ومع هذا فأمرنا أن نؤتيهم الحق الذي لهم ونسأل الله الحق الذي لنا ولم يأذن في أخذ الحق بالقتال ولم يرخص في ترك الحق الذي لهم وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلىالله عليه وسلم قال من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية وفي لفظ فإنه من خرج من السلطان شبرا فمات مات ميتة جاهلية واللفظ للبخاري وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أنهم لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته قال حذيفة كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع فهذا أمر بالطاعة مع ظلم الأمير

وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا عن طاعة وهذا نهي عن الخروج عن السلطان وإن عصى وتقدم حديث عبادة بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا إن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وفي رواية وأن نقول أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم فهذاأمر بالطاعة مع استئثار ولي الأمر وذلك ظلم منه ونهى عن منازعة الأمر أهله وذلك نهي عن الخروج عليه لأن أهله هم أولو الأمر الذين أمر بطاعتهم وهم الذين لهم سلطان يأمرون به وليس المراد من يستحق أن يولى ولا سلطان له ولا المتولى العادل لأنه قد ذكر أنهم يستأثرون فدل على أنه نهى عن منازعة ولي الأمر وإن كان مستأثرا وهذا باب واسع.
الوجه الرابع: أنا إذا قدرنا أنه يشترط العدل في كل متول فلا يطاع إلا من كان ذا عدل لا من كان ظالما فمعلوم أن اشترط العدل في الولاة ليس بأعظم من اشتراطه في الشهود فإن الشاهد قد يخبر بما لا يعلم فإن لم يكن ذا عدل لم يعرف صدقه فيما أخبر به وأما ولي الأمر فهو يأمر بأمر يعلم حكمه من غيره فيعلم هل هو طاعة لله أو معصية

ولهذا قال تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا (سورة الحجرات). فأمر بالتبين إذا جاء الفاسق بنبأ ومعلوم أن الظلم لا يمنع من فعل الطاعة ولا من الأمر بها وهذا مما يوافق عليه الإمامية فإنهم لا يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار فالفسق عندهم لا يحبط الحسنات كلها بخلاف من خالف في ذلك من الزيدية والمعتزلة والخوارج الذين يقولون إن الفسق يحبط الحسنات كلها ولو حبطت حسناته كلها لحبط إيمانه ولو حبط إيمانه لكان كافرا مرتدا فوجب قتله ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد فدل على أنه ليس بمرتد وكذلك قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما الأية (سورة الحجرات). يدل على وجود الإيمان والأخوة مع الاقتتال والبغيوقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كانت عنده لأخيه مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار أخرجاه في الصحيحين فثبت أن الظالم يكون له حسنات فيستوفي المظلوم منها حقه وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما تعدون المفلس فيكم قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار قال المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال وقد شتم هذا وأخذ مال هذا وسفك دم هذا وقذف هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت

حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار رواه مسلم وقد قال تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات (سورة هود). فدل ذلك على أنه في حال إساءته يفعل حسنات تمحو إساءاته وإلا لو كانت السيئات قد زالت قبل ذلك بتوبة ونحوها لم تكن الحسنات قد أذهبتها وليس هذا موضع بسط ذلك والمقصود هنا أن الله جعل الفسق مانعا من قبل النبأ والفسق ليس مانعا من فعل كل حسنة وإذا كان كذلك وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يستشهد إلا ذوو العدل ثم يكفي في ذلك الظاهر فإذا اشترط العدل في الولاية فلأن يكفي في ذلك الظاهر أولى فعلم أنه لا يشترط في الولاية من العلم والعدالة أكثر مما يشترط فيالشهادة يبين ذلك أن الإمامية وجميع الناس يجوزون أن يكون نواب الإمام غير معصومين وأن لا يكون الإمام عالما بعصمتهم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط ثم أخبره بمحاربة الذين أرسله إليهم فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (سورة الحجرات). وعلي رضي الله عنه كان كثير من نوابه يخونه وفيهم من هرب عنه وله مع نوابه سير معلومة فعلم أنه ليس في كون الإمام معصوما ما يمنع اعتبار الظاهر ووجود مثل هذه المفاسد وأن اشتراط العصمة في الأئمة شرط ليس بمقدور ولا مأمور ولم يحصل به منفعة لا في الدين ولا في الدنيا

مثل كثير من النساك الذين يشترطون في الشيخ أن يعلم أمورا لا يكاد يعلمها أحد من البشر فيصفون الشيخ بصفات من جنس صفات المعصوم عند الإمامية ثم منتهى هؤلاء اتباع شيخ جاهل أو ظالم واتباع هؤلاء لمتول ظالم أو جاهل مثل الذي جاع وقال لا يأكل من طعام البلد حتى يحصل له مثل طعام أهل الجنة فخرج إلى البرية فصار لا يحصل له إلا علف البهائم فبينا هو يدعو إلى مثل طعام الجنة انتهى أمره إلى علف الدواب كالكلأ النابت في المباحات وهكذا من غلا في الزهد والورع حتى خرج عن حد العدل الشرعي ينتهي أمره إلى الرغبة الفاسدة وانتهاك المحارم كما قد رؤي ذلك وجرب.
*

فصل
قال الرافضي وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس والأخذ بالرأي فأدخلوا في دين الله ما ليس منهوحرفوا أحكام الشريعة وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن صحابته وأهملوا أقاويل الصحابة مع أنهم نصوا على ترك القياس وقالوا أول من قاس إبليس.
*فيقال الجواب عن هذا من وجوه...
أحدها: أن دعواه على جميع أهل السنة المثبتين لإمامة الخلفاء الثلاثة أنهم يقولون بالقياس دعوى باطلة فقد عرف فيهم طوائف لا يقولون بالقياس كالمعتزلة البغداديين وكالظاهرية كداود وابن حزم وغيرهما وطائفة من أهل الحديث والصوفية وأيضا ففي الشيعة من يقول بالقياس كالزيدية فصار النزاع فيه بين الشيعة كما هو بين أهل السنة والجماعة.

الثاني: أن يقال القياس ولو قيل إنه ضعيف هو خير من تقليد من لم يبلغ في العلم مبلغ المجتهدين فإن كل من له علم وإنصاف يعلم أن مثل مالك والليث بن سعد والأوزاعي وأبي حنيفة والثوري وابن أبي ليلى ومثل الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور أعلم وأفقه من العسكريين وأمثالهما وأيضا فهؤلاء خير من المنتظر الذي لا يعلم ما يقول فإن الواحد من هؤلاء إن كان عنده نص منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا ريب أنلا النص الثابت عن النبي مقدم على القياس بلا ريب وإن لم يكن عنده نص ولم يقل بالقياس كان جاهلا فالقياس الذي يفيد الظن خير من الجهل الذي لا علم معه ولا ظن فإن قال هؤلاء كل ما يقولونه هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا أضعف من قول من قال كل ما يقوله المجتهد فإنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا يقوله طائفة من أهل الرأي وقولهم أقرب من قول الرافضة فإن قول أولئك كذب صريح وأيضا فهذا كقول من يقول عمل أهل المدينة متلقى عنالصحابة وقول الصحابة متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول من يقول ما قاله الصحابة في غير مجاري القياس فإنه لا يقوله إلا توقيفا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول من يقول قول المجتهد أو الشيخ العارف هو إلهام من الله ووحي يجب اتباعه فإن قال هؤلاء تنازعوا قيل وأولئك تنازعوا فلا يمكن أن يدعى دعوى باطلة إلا أمكن معارضتهم بمثلها أو بخير منها ولا يقولون حقا إلا كان في أهل السنة والجماعة من يقول مثل ذلك الحق أو ما هو خير منه فإن البدعة مع السنة كالكفر مع الإيمان وقد قال تعالى ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا (سورة الفرقان).

الثالث: أن يقال الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرفوا أحكام الشريعة ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكذبه غيرهم وردوا من الصدق ما لم يرده غيرهم وحرفوا القرآن تحريفا لم يحرفه غيرهم مثل قولهم إن قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (سورة المائدة). نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وقوله تعالى مرج البحرين (سورة الرحمن). علي وفاطمة يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (سورة الرحمن). الحسن والحسين وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (سورة يس). علي بن أبي طالب إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وعمران (سورة آل عمران). هم آل أبي طالب وإسم أبي طالب عمران فقاتلوا أئمة الكفر (سورة التوبة). طلحة والزبير والشجرة الملعونة في القرآن (سورة الإسراء).هم بنو أمية إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة (سورة البقرة). عائشة و لئن أشركت ليحبطن عملك (سورة الزمر). لئن اشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم ثم من هذا دخلت الإسماعيليه والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرمات فهم أئمة التأويل الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات والتكذيب بالحق منها والتحريف لمعانيها ما لا يوجد في صنف من المسلمين فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد وحرفوا كتابه تحريفا لم يصل غيرهم إلى قريب منه.
الوجه الرابع: قوله وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن صحابته وأهملوا أقاويل الصحابة، فيقال له متى كان مخالفة الصحابة والعدول عن أقاويلهم منكرا

عند الإمامية وهؤلاء متفقون على محبة الصحابة وموالاتهم وتفضيلهم على سائر القرون وعلى أن إجماعهم حجة وعلى أنه ليس لهم الخروج عن إجماعهم بل عامة الأئمة المجتهدين يصرحون بأنه ليس لنا أن نخرج عن أقاويل الصحابة فكيف يطعن عليهم بمخالفة الصحابة من يقول إن إجماع الصحابة ليس بحجة وينسبهم إلى الكفر والظلم فإن كان إجماع الصحابة حجة فهو حجة على الطائفتين وإن لم يكن حجة فلا يحتج به عليهم وإن قال أهل السنة يجعلونه حجة وقد خالفوه قيل أما أهل السنة فلا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة وأما الإمامية فلا ريب أنهم متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية مع مخالفة إجماع الصحابة فإنه لم يكن في العترة النبوية بنو هاشم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكروعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم من يقول بإمامة الإثني عشر ولا بعصمة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا بكفر الخلفاء الثلاثة بل ولا من يطعن في إمامتهم بل ولا من ينكر الصفات ولا من يكذب بالقدر فالإمامية بلا ريب متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية مع مخالفتهم لإجماع الصحابة فكيف ينكرون على من لم يخالف لا إجماع الصحابة ولا إجماع العترة.
الوجه الخامس: أن قوله أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أراد بذلك أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة فهذا كذب عليهم فإن هؤلاء الأئمة لم يكونوا في عصر واحد بل أبو حنيفة توفي سنة خمسين ومائة ومالك سنة تسع وسبعين ومائة والشافعي سنة أربع ومائتين وأحمدبن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين وليس في هؤلاء

من يقلد الآخر ولا من يأمر باتباع الناس له بل كل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب والسنة وإذا قال غيره قولا يخالف الكتاب والسنة عنده رده ولا يوجب على الناس تقليده وإن قلت إن أصحاب هذه المذاهب اتبعهم الناس فهذا لم يحصل بموطأة بل اتفق أن قوما اتبعوا هذا وقوما اتبعوا هذا كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق فرأى قوم هذا دليلا خبيرا فاتبعوه وكذلك الآخرون وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك اتفاق أهل السنة على باطل بل كل قوم منهم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ فلم يتفقوا على أن الشخص المعين عليه أن يقبل من كل هؤلاء ما قاله بل جمهورهم لا يأمرون العامي بتقليد شخص معين غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله والله تعالى قد ضمن العصمة للأمة فمن تمام العصمة أن يجعلعددا من العلماء إن أخطأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه حتى لا يضيع الحق ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل كبعض المسائل التي اوردها كان الصواب في قول الآخر فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلا وأما خطأ بعضهم في بعض الدين فقد قدمنا غير مرة أن هذا لا يضر كخطأ بعض المسلمين وأما الشيعة فكل ما خالفوا فيه أهل السنة كلهم فهم مخطئون فيه كما أخطأ اليهود والنصارى في كل ما خالفوا فيه المسلمين.
الوجه السادس: أن يقال قوله إن هذه المذاهب لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة إن أراد أن الأقوال التي لهم لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة بل تركوا قول النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وابتدعوا خلاف ذلك فهذا كذب عليهم فإنهم لم يتفقوا على مخالفة الصحابة بل هم وسائر أهل السنة متبعون للصحابة في أقوالهم وإن قدر أن بعض أهل السنة خالف الصحابة لعدم علمه بأقاويلهم فالباقون يوافقونهم ويثبتون خطأ من يخالفهم وإن أراد أن نفس أصحابها لم

يكونوا في ذلك الزمان فهذا لا محذور فيه فمن المعلوم أن كل قرن يأتي يكون بعد القرن الأول.
الوجه السابع: قوله وأهملوا أقاويل الصحابة كذب منه بل كتب أرباب المذاهب مشحونة بنقل أقاويل الصحابة والاستدلال بها وإن كان عند كل طائفة منها ما ليس عند الأخرى وإن قال أردت بذلك أنهم لا يقولون مذهب أبي بكر وعمر ونحو ذلك فسبب ذلك أن الواحد من هؤلاء جمع الآثار وما استنبطه منها فأضيف ذلك إليه كما تضاف كتب الحديث إلى من جمعها كالبخاري ومسلم وأبي داود وكما تضاف القراءات إلى من اختارها كنافع وابن كثير وغالب ما يقوله هؤلاء منقول عمن قبلهم وفي قول بعضهم ما ليس منقولا عمن قبله لكنه استنبطه من تلك الاصول ثم قد جاء بعده من تعقب أقواله فبين منها ما كان خطأ عنده كل ذلك حفظا لهذا الدين حتى يكون أهله كما وصفهم الله به يأمرونبالمعروف وينهون عن المنكر (سورة التوبة). فمتى وقع من أحدهم منكر خطأ أو عمدا أنكره عليه غيره وليس العلماء بأكثر من الأنبياء وقد قال تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما (سورة الأنبياء). وثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه عام الخندق لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم صلاة العصر في الطريق فقال بعضهم لم يرد منا تفويت الصلاة فصلوا في الطريق وقال بعضهم لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا العصر بعد ما غربت الشمس فما عنف واحدة من الطائفتين فهذا دليل على أن

المجتهدين يتنازعون في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كل واحد منهم آثما.
الوجه الثامن: أن أهل السنة لم يقل أحد منهم إن إجماع الأئمة الأربعة حجة معصومة ولا قال إن الحق منحصر فيها وإن ما خرج عنها باطل بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة كسفيان الثوري والأوزعي والليث بن سعد ومن قبلهم ومن بعدهم من المجتهدين قولا يخالف قول الأئمة الأربعة رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله وكان القول الراجح هو القول الذي قام عليه الدليل.
الوجه التاسع: قوله الصحابة نصوا على ترك القياس يقال له الجمهور الذين يثبتون القياس قالوا قد ثبت عن الصحابة أنهم قالوا بالرأي واجتهاد الرأي وقاسوا كما ثبت عنهم ذم ماذموه من القياس قالوا وكلا القولين صحيح فالمذموم القياس المعارض للنص كقياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا وقياس إبليس الذي عارض به أمر الله له بالسجود لآدم وقياس المشركين الذين قالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله قال الله تعالى وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (سورة الأنعام). وكذلك القياس الذي لا يكون الفرع فيه مشاركا للأصل في مناط الحكم فالقياس يذم إما لفوات شرطه وهو عدم المساواة في مناط الحكم وإما لوجود مانعه وهوالنص الذي يجب تقديمه عليه وإن كانا متلازمين في نفس الأمر فلا يفوت الشرط إلا والمانع موجود ولا يوجد المانع إلا والشرط مفقود فأما القياس الذي يستوي فيه الأصل والفرع في مناط الحكم ولم يعارضه ما هو أرجح منه فهذا هو القياس الذي يتبع ولا ريب أن القياس فيه فاسد وكثير من الفقهاء قاسوا أقيسة فاسدة

بعضها باطل بالنص وبعضها مما أتفق السلف على بطلانه لكن بطلان كثير من القياس لا يقتضي بطلان جميعه كما أن وجود الكذب في كثير من الحديث لا يوجب كذب جميعه ومدار القياس على أن الصورتين يستويان في موجب الحكم ومقتضاه فمتى كان كذلك كان القياس صحيحا لا شك ولكن قد يظن القايس ما ليس مناط الحكم مناطا فيغلط ولهذا كان عمدة القياس عند القايسين على بيان تأثير المشترك الذي يسمونه جواب سؤال المطالبة وهو أن يقال لا نسلم أن علة الحكم في الأصل هو الوصف المشترك بين الأصل والفرع حتى يلحق هذا الفرع به فإن القياس لا تثبت صحته حتى تكون الصورتان مشتركتين في المشترك المستلزم للحكم إما في العلة نفسها وإما في دليل العلة تارة بإبداء الجامع وتارة بإلغاء الفارق فإذا عرف أنه ليس بين الصورتين فرق يؤثر علم استواؤهما في الحكم وإن لم يعلم عين الجامع وهم يثبتون قياس الطرد وهو إثبات مثل حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في مناط الحكم وقياس العكس وهو نفي حكم الأصل عن الفرع لافتراقهما في مناط الحكم فهذا يفرق بينهما لأن العلة المثبتة للحكم في الأصلمنتفية في الفرع وذاك يجمع بينهما لوجود العلة المثبتة في الفرع وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
*

فصل
قال الرافضي وذهبوا بسبب ذلك إلى أمور شنيعة كإباحة البنت المخلوقة من الزنا. وسقوط الحد عمن نكح أمه أو أخته أو بنته مع علمه بالتحريم والنسب بواسطة عقد يعقده وهو يعلم بطلانه وعمن لف على ذكره خرقه وزنى بأمه أو بنته. وعن اللائط مع أنه أفحش من الزنا وأقبح وإلحاق نسب المشرقية بالمغربي فإذا زوج الرجل ابنته وهي في المشرق برجل هو وأبوها في المغرب ولم يفترقا ليلا ولا نهارا حتى مضت مدة ستة أشهر فولدت البنت في المشرق التحق الولد بالرجل وهو وأبوها في المغرب

مع أنه لا يمكنه الوصول إليها إلا بعد سنين متعددة بل لو حبسه السلطان من حين العقد وقيده وجعل عليه حفظة مدة خمسين سنة ثم وصل إلى بلد المرأة فرأى جماعة كثيرة من أولادها وأولاد أولادها إلى عدة بطون التحقوا كلهم بالرجل الذي لم يقرب هذه المرأة ولا غيرها ألبتة وإباحة النبيذ مع مشاركته الخمر في الإسكار والوضوء به والصلاة في جلد الكلب وعلى العذرة اليابسة وحكى بعض الفقهاء لبعض الملوك وعنده بعض فقهاء الحنفية صفة صلاة الحنفي فدخل دارا مغصوبة وتوضأ بالنبيذ وكبر وقرأ بالفارسية من غير نية وقرأ مدهامتان (سورة الرحمن). لا غير بالفارسية ثم طأطأ رأسه من غير طمأنينة وسجد كذلك ورفع رأسه بقدر حد السيف ثم سجد وقام ففعل كذلك ثانية ثم أحدث في مقام التسليم فتبرأ الملك وكان حنفيا من هذا المذهب وأباحوا المغصوب لو غير الغاصب الصفة فقالوا لو أن سارقا دخل بدار شخص له فيه دواب ورحى وطعام فطحن السارق الطعام بالدواب والأرحية ملك ذلك الطحين بذلك فلو جاء المالك ونازعه كان المالك ظالما والسارق مظلوما فلو تقاتلا فإن قتل المالك كان هدرا وإن قتل السارق كان شهيدا وأوجبوا الحد على الزانى إذا كذب الشهود وأسقطوه إذا صدقهم فأسقط الحد مع إجتماع الإقرار والبينة وهذا

ذريعة إلى إسقاط حدود الله تعالى فإن كل من شهد عليه بالزنا فصدق الشهود يسقط عنه الحد وإباحة أكل الكلب واللواط بالعبيد وإباحة الملاهي كالشطرنج والغناء وغير ذلك من المسائل التي لا يحتملها هذا المختصر.
*والجواب من وجوه...
أحدها: أنه في هذه المسائل ما هو كذب على جميع أهل السنة، وأما سائرها فليس في هذه المسائل مسألة إلا وجمهور أهل السنة على خلافه،ا وإن كان قد قالها بعضهم فإن كان قوله خطأ فالصواب مع غيره من أهل السنة، وإن كان صوابا فالصواب مع أهل السنة أيضا فعلى التقديرين لا يخرج الصواب عن قول أهل السنة.
الثاني: أن يقال الرافضة يوجد فيهم من المسائل ما لا يقوله مسلم يعرف دين الإسلام منها ما يتفقون عليه ومنها ما يقوله بعضهم مثل ترك الجمعة والجماعة، فيعطلون المساجد التي أمرالله أن ترفع ويذكر فيها اسمه عن الجمعة والجماعات ويعمرون المشاهد التي حرم الله ورسوله بناءها ويجعلونها بمنزلة دور الأوثان. ومنهم من يجعل زيارتها كالحج كما صنف المفيد كتاب سماه مناسك حج المشاهد، وفيه من الكذب والشرك ما هو من جنس كذب النصارى وشركهم ومنها تأخير صلاة المغرب مضاهاة لليهود. ومنها وتحريم ذبائح أهل الكتاب وتحريم نوع من السمك، وتحريم بعضهم لحم الجمل، واشتراط بعضهم في الطلاق الشهود على الطلاق. وإيجابهم أخذ خمس مكاسب المسلمين، وجعلهم الميراث كله للبنت دون العم وغيره من العصبة. والجمع الدائم بين الصلاتين ومثل صوم بعضهم بالعدد لا بالهلال يصومون قبل الهلال ويفطرون قبله. ومثل ذلك من الأحكام التي يعلم علما يقينيا أنها خلاف دين المسلمين الذي

بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه. وقد قدمنا ذكر بعض أمورهم التي هي من أظهر الأمور إنكارا في الشرع والعقل ولهم مقالات باطلة، وإن كان قد وافقهم عليها بعض المتقدمين مثل إحلال المتعة وأن الطلاق المعلق بالشرط لا يقع وإن قصد إيقاعه عند الشرط، وأن الطلاق لا يقع بالكنايات وأنه يشترط فيه الإشهاد.
الثالث: أن يقال هذه المسائل لها مأخذ عند من قالها من الفقهاء وإن كانت خطأ عند جمهورهم فأهل السنة أنفسهم يثبتون خطأها فلا يخرج بيان الصواب عنهم، كما لا يخرج الصواب عنهم، فالمخلوقات من ماء الزنا يحرمها جمهورهم كأبي حنيفة وأحمد ومالك في أظهر الروايتين. وحكى ذلك قولا للشافعي وأحمد لم يكن يظن أن في هذه المسائل نزاعا حتى أفتى بقتل من فعل ذلك، والذين قالوها كالشافعي وابن الماجشون رأوا النسب منتفيا لعدم الإرث فانتفت أحكامه كلها والتحريم من أحكامه والذين أنكروها قالوا أحكام الأنساب تختلف فيثبت لبعض الأنساب من الأحكام ما لا يثبت لبعض. فباب التحريم يتناول ما شمله اللفظ ولو مجازا حتى تحرم بنت البنت بل يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فالمخلوقة من مائه أولى بالتحريم، بخلاف الإرث فإنه يختص بمن ينسب إلى الميت من ولده فيثبت لولد البنين دون ولد البنات وأما عقده على ذوات المحارم فأبو حنيفة جعل ذلك شبهة تدرأ الحد لوجود صورة العقد وأما جمهور الفقهاء فلم يجعلوا ذلك شبهة بل قالوا هذا مما يوجب تغليظ الحد وعقوبه لكونه فعل محرمين العقد والوطء.

وكذلك اللواط أكثر السلف يوجبون قتل فاعله مطلقا وإن لم يكن محصنا وقيل إن ذلك إجماع الصحابة وهو مذهب أهل المدينة كمالك وغيره ومذهب أحمد في أصح الروايتين عنه والشافعي في أحد قوليه وعلى هذا القول يقتل المفعول به مطلقا إذا كان بالغا والقول الآخر أن حده حد الزاني وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد في أحد قوليهما. وإذا قيل الفاعل كالزاني فقيل يقتل المفعول به مطلقا وقيل لا يقتل وقيل بالفرق كالفاعل وسقوط الحد من مفردات أبي حنيفة وأما إلحاق النسب في تزويج المشرقية بالمغربي فهذا أيضا من مفاريد أبي حنيفة وأصله في هذا الباب أن النسب عنده يقصد به المال فهو يقسم المقصود به فإذا ادعت امرأتان ولدا ألحقه بهما بمعنى أنهما يقتسمان ميراثه لا بمعنى أنه خلق منهما وكذلك فيما إذا طلق المرأة قبل التمكن من وطئها فجعل الولد له بمعنى أنهما يتوارثان لا بمعنى أنه خلق من مائهوحقيقة مذهبه أنه لا يشترط في الحكم بالنسب ثبوت الولادة الحقيقية بل الولد عنده للزوج الذي هو للفراش مع قطعه أنه لم يحبلها وهذا كما أنه إذا طلق إحدى امرأتيه ومات ولم تعرف المطلقة فإنه يقسم الميراث بينهما وأما أحمد فإنه يقرع بينهما وأما الشافعي فتوقف في الأمر فلم يحكم بشيء حتى يتبين له الأمر أو يصطلحا وجمهور العلماء يخالفونه ويقولون إذا علم انتفاء الولادة لم يجز إثبات النسب ولا حكم من أحكامه وهو يقول قد ثبت بعض الأحكام مع انتفاء الولادة كما يقول فيما إذا قال لمملوكه الذي هو أكبر منه أنت ابني يجعل ذلك كناية في عتقه لا إقرارا بنسبه وجمهور العلماء يقولون هو إقرار علم كذبه فيه فلا يثبت به شيء فالشناعة التي شنع بها على أبي حنيفة إن كان حقا فجمهور أهل السنة يوافقون عليها وإن كانت باطلا لم تضرهم شيئا مع

أنه يشنع تشنيع من يظن أن أبا حنيفة يقول إن هذا الولد مخلوق من ماء هذا الرجل الذي لم يجتمع بامرأته وهذا لا يقوله أقل الناس عقلا فكيف بمثل أبي حنيفة ولكنه يثبت حكم النسب بدون الولادة وهو أصل انفرد به وخالفه فيه الجمهور وخطأوا من قال به ثم منهم من يثبت النسب إذا أمكن وطء الزوج لها كما يقوله الشافعي وكثير من أصحاب أحمد ومنهم من يقول لا يثبت النسب إلا إذا دخل بها وهذا هو القول الآخر في مذهب أحمد وقول مالك وغيره وكذلك مسألة حل الأنبذة قد علم أن جمهور أهل السنة يحرمون ذلك ويبالغون فيه حتى يحدون الشارب المتأول ولهم في فسقه قولان مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين يفسق ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى لا يفسق ومحمد بن الحسن يقول بالتحريم وهذا هو المختار عند أهل الإنصاف من أصحاب أبي حنيفة كأبي الليث السمرقندي ونحوه وقول هذا الرافضي وإباحة النبيذ مع مشاركته الخمر فيالإسكار احتجاج منه على أبي حنيفة بالقياس فإن كان القياس حقا بطل إنكاره وإن كان باطلا بطلت هذه الحجة ولو احتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام لكان أجود وأما الوضوء بالنبيذ فجمهور العلماء ينكرونه وعن أبي حنيفة فيه روايتان أيضا وإنما أخذ ذلك لحديث روي في هذا الباب حديث ابن مسعود وفيه تمرة طيبة وماء طهور والجمهور منهم من يضعف هذا الحديث ويقولون إن كان صحيحا فهو منسوخ

بآية الوضوء وآية تحريم الخمر مع أنه قد يكون لم يصر نبيذا وإنما كان الماء باقيا لم يتغير أو تغير تغيرا يسيرا أو تغيرا كثيرا مع كونه ماء على قول من يجوز الوضوء بالماء المضاف كماء الباقلاء وماء الحمص ونحوهما وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في أكثر الروايات عنه وهو أقوى في الحجة من القول الآخر لأن قوله فلم تجدوا ماء (سورة النساء). نكرة في سياق النفي فيعم ما تغير بإلقاء هذه الطاهرات فيه كما يعم ما تغير بأصل خلقته أو بما لا يمكن صونه عنه إذ شمول اللفظ لهما سواء كما يجوز التوضؤ بماء البحر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له أنتوضأ من ماء البحر فإنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الطهور ماؤه الحل ميتته قال الترمذي حديث صحيح فماء البحر طهور معكونه في غاية الملوحة والمرارة والزهومة فالمتغير بالطاهرات أحسن حالا منه لكن ذاك تغير أصلي وهذا طارىء وهذا الفرق لا يعود إلى اسم الماء ومن اعتبره جعل مقتضى القياس أنه لا يتوضأ بماء البحر ونحوه ولكن أبيح لأنه لا يمكن صونه عن المغيرات والأصل ثبوت الأحكام على وفق القياس لا على خلافه فإن كان هذا داخلا في اللفظ دخل الآخر وإلا فلا وهذه دلالة لفظية لا قياسية حتى يعتبر فيها المشقة وعدمها وأما الصلاة في جلد الكلب فإنما يجوز ذلك أبو حنيفة إذا كان مدبوغا وهذا قول طائفة من العلماء ليس هذا من مفاريده وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر وهذه مسألة اجتهاد وليست هذه من مسائل الشناعات ولو قيل

لهذا المنكر هات دليلا قاطعا على تحريم ذلك لم يجده بل لو طولب بدليل على تحريم الكلب ليرد به على مالك في إحدى الروايتين عنه فإنه يكرهه ولا يحرمه لم يكن هذا الرد من صناعته مع أن الصحيح الذي عليه جمهور العلماء أن جلد الكلب بل وسائر السباغ لا يطهر بالدباغ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة أنه نهى عن جلود السباع وقوله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر ضعفه أحمد وغيره من أئمة الحديث وقد رواه مسلموكذلك تحريم الكلب دلت عليه أدلة شرعية لكن هؤلاء الإمامية تعجز عن إقامة دليل يردون به على مالك في إحدى الروايتين وأما الصلاة علىالعذرة اليابسة بلا حائل فليس هذا مذهب أبي حنيفة ولا أحد من الأئمة الأربعة ولكن إذا أصابت الأرض نجاسة فذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة فمذهب الأكثرين طهارة الأرض وجواز الصلاة عليها هذا مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد وهو القول القديم للشافعي وهذا القول أظهر من قول من لا يطهرها بذلك وأما ما ذكره من صفة الصلاة التي يجيزها أبو حنيفة وفعلها عند بعض الملوك حتى رجع عن مذهبه فليس بحجة على فساد مذهب أهل السنة لأن أهل السنة يقولون إن الحق لا يخرج عنهم لا يقولون إنه لم يخطىء أحد منهم وهذه الصلاة ينكرها جمهور أهل السنة كمذهب مالك والشافعي وأحمد والملك الذي ذكره هو محمود بن سبكتكين وإنما رجع إلى ما ظهر عنده أنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكان من خيار الملوك

وأعدلهم وكان من أشد الناس قياما على أهل البدع لا سيما الرافضة فإنه كان قد أمر بلعنتهم ولعنة أمثالهم في بلاده وكان الحاكم العبيدي بمصر كتب إليه يدعوه فأحرق كتابه على رأس رسوله ونصر أهل السنة نصرا معروفا عنه قوله وأباحوا المغصوب لو غير الغاصب الصفة فقالوا لو أن سارقا دخل مدارا لشخص له فيه دواب ورحى وطعام فطحن السارق طعام صاحب المدار بدوابه وأرحيته ملك الطحين بذلك فلو جاء المالك ونازعه كان المالك ظالما والسارق مظلوما فلو تقاتلا فإن قتل المالك كان هدرا وإن قتل السارق كان شهيدا فيقال أولا هذه المسألة ليست قول جمهور علماء السنةوإنما قالها من ينازعه فيها جمهورهم ويردون قوله بالأدلة الشرعية فهي قول بعض العلماء ولكن الفقهاء متنازعون في الغاصب إذا غير المغصوب بما أزال اسمه كطحن الحب فقيل هذا بمنزلة إتلافه فيجب للمالك القيمة وهذا قول أبي حنيفة وقيل بل هو باق على ملك صاحبه والزيادة له والنقص على الغاصب وهو قول الشافعي وقيل بل يخير المالك بين أخذ العين والمطالبة بالنقص إن نقص وبين المطالبة بالبدل وترك العين للغاصب وهذا هو المشهور من مذهب مالك وإذا أخذ العين فقيل يكون الغاصب شريكا بما أحدثه فيه من الصنعة وقيل لا شيء له وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره وحينئذ فالقول الذي أنكره خلاف قول جمهور أهل السنة ثم إنه كذب في نقله بقوله لو تقاتلا كان المالك ظالما فإن

المالك إن كان متأولا لا يعتقد غير هذا القول لم يكن ظالما ولم تجز مقاتلته بل إذا تنازعا ترافعا إلى من يفصل بينهما إذا كان اعتقاد هذا أن هذه العين ملكه واعتقاد الآخر أنها ملكه وأيضا فقد يفرق بين من غصب الحب ثم اتفق أنه طحنه وبين من قصد بطحنه تملكه فإن معاقبة هذا بنقيض قصده من باب سد الذرائع وبالجملة فهذه المسائل التي أنكرها كلها من مذهب أبي حنيفة ليس فيها لغيره إلا مسألة المخلوقة من ماء الزنا للشافعي فيقال له الشيعة تقول إن مذهب أبي حنيفة أصح من بقية المذاهب الثلاثة ويقولون إنه إذا اضطر الإنسان إلى استفتاء بعض المذاهب الأربعة استفتى الحنفية ويرجحون محمد بن الحسن على أبي يوسف فإنهم لنفورهم عن الحديث والسنة ينفرون عمن كان أكثر تمسكا بالحديث والسنة فإذا كان كذلك فهذه الشناعات في مذهب أبي حنيفة فإن كان قوله هو الراجح من مذاهب الأئمة الأربعة كان تكثير التشنيع عليه دون غيره تناقضا منهم وكانوا قد رجحوا مذهبا وفضلوه على غيره ثم بينوا فيه

من الضعف والنقص ما يقتضي أن يكون أنقص من غيره وما هذا التناقض بعيد منهم فإنهم لفرط جهلهم وظلمهم يمدحون ويذمون بلا علم ولا عدل فإن كان مذهب أبي حنيفة هو الراجح كان ما ذكروه من اختصاصه بالمسائل الضعيفة التي لا يوجد مثلها لغيره تناقضا وإن لم يكن الراجح كان ترجيحه على بقية المذاهب باطلا فيلزم بالضرورة أن يكون الشيعة على الباطل على كل تقدير ولا ريب أنهم أصحاب جهل وهوى فيتكلمون في كل موضع بما يناسب أغراضهم سواء كان حقا أو باطلا وقصدهم في هذا المقام ذم جميع طوائف أهل السنة فينكرون من كل مذهب ما يظنونه مذموما فيه سواء صدقوا في النقل أو كذبوا وسواء كان ما ذكروه من الذم حقا أو باطلا وإن كان في مذهبهم من المعايب أعظم وأكثر من معايب غيرهم وأما قوله وأوجب الحد على الزاني إذا كذب الشهود وأسقطه إذا صدقهم فأسقط الحد مع اجتماع الإقرار والبينة وهذا ذريعة إلى إسقاط حدود الله تعالى فإن كل من شهد عليه بالزنا فصدق الشهود يسقط عنه الحدفيقال وهذا أيضا من أقوال أبي حنيفة وخالفه فيها الجمهور كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم ومأخذ أبي حنيفة أنه إذا أقر سقط حكم الشهادة ولا يؤخذ بالإقرار إلا إذا كان أربع مرات وأما الجمهور فيقولون الإقرار يؤكد حكم الشهادة ولا يبطلها لأنه موافق لها لا مخالف لها وإن لم يحتج إليه كزيادة عدد الشهود على الأربعة وكإقراره أكثر من أربع مرات وبالجملة فهذا قول جمهور أهل السنة فإن كان صوابا فهو قولهم وإن كان الآخر هو الصواب فهو قولهم ثم يقال له من المعلوم أن جمهور أهل السنة ينكرون هذه المسائل ويردون على من قالها بحجج وأدلة لا تعرفها الإمامية وأما قوله وإباحة أكل الكلب واللواط بالعبيد وإباحة الملاهي كالشطرنج والغناء وغير ذلك من المسائل التي لا يحتملها هذا المختصر فيقال نقل هذا عن جميع أهل السنة كذب وكذلك نقله عن جمهورهم بل فيه ما قاله بعض المقرين بخلافة الخلفاء الثلاثة

وفيه ما هو كذب عليهم لم يقله أحد منهم وذلك الذي قاله بعض هؤلاء أنكره جمهورهم فلم يتفقوا على ضلالة ثم أن الموجود في الشيعة من الأمور المنكرة الشنيعة المخالفة للكتاب والسنة والإجماع أعظم وأشنع مما يوجد في أي طائفة فرضت من طوائف السنة فما من طائفة من طوائف السنة يوجد في قولها ما هو ضعيف إلا ويوجد ما هو أضعف منه وأشنع من أقوال الشيعة فتبين على كل تقدير أن كل طائفة من أهل السنة خير منهم فإن الكذب الذي يوجد فيهم والتكذيب بالحق وفرط الجهل والتصديق بالمحالات وقلة العقل والغلو في اتباع الأهواء والتعلق بالمجهولات لا يوجد مثله في طائفة أخرى وأما ما حكاه من إباحة اللواط بالعبيد فهو كذب لم يقله أحد من علماء أهل السنة وأظنه قصد التشنيع به على مالك فإني رأيت من الجهال من يحكي هذا عن مالك وأصل ذلك ما يحكى عنه في حشوشالنساء فإنه لما حكي عن طائفة من أهل المدينة إباحة ذلك وحكي عن مالك فيه روايتان ظن الجاهل أن أدبار المماليك كذلك وهذا من أعظم الغلط على من هو دون مالك فكيف على مالك مع جلالة قدره وشرف مذهبه وكمال صيانته عن الفواحش وأحكامه بسد الذرائع وأنه من أبلغ المذاهب إقامة للحدود ونهيا عن المنكرات والبدع ولا يختلف مذهب مالك في أن من استحل إتيان المماليك أنه يكفر كما أن هذا قول جميع أئمة المسلمين فإنهم متفقون على أن استحلال هذا بمنزلة استحلال وطء أمته التي هي بنته من الرضاعة أو أخته من الرضاعة أو هي موطوءة ابنه أو أبيه فكما أن مملوكته إذا كانت محرمة برضاع أو صهر لا تباح له باتفاق المسلمين فملوكه أولى بالتحريم فإن هذا الجنس محرم مطلقا لا يباح بعقد نكاح ولا ملك يمين بخلاف وطء الإناث ولهذا كان مذهب مالك وعلماء المدينة أن اللوطي يقتل رجما

محصنا كان أو غير محصن سواء تلوط بمملوكه أو غير مملوكه فإنه يقتل عندهم الفاعل والمفعول به كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقتلوا الفاعل والمفعول به رواه أبو داود وغيره وهذا مذهب أحمد في الرواية المنصوصة عنه وهو أحد قولي الشافعي فمن يكون مذهبه أن هذا أشد من الزنا كيف يحكى عنه أنه أباح ذلك وكذلك لم يبحه غيره من العلماء بل هم متفقون على تحريم ذلك ولكن كثير من الأشياء يتفقون على تحريمها ويتنازعون في إقامة الحد على فاعلها هل يحد أو يعزر بما دون الحد كما لو وطيء أمته التي هي ابنته من الرضاعة وأما قوله وإباحة الملاهي كالشطرنح والغناء فيقال مذهب جمهور العلماء أن الشطرنج حرام وقد ثبت عنعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وكذلك النهي عنها معروف عن أبي موسى وابن عباس وابن عمر وغيره من الصحابة وتنازعوا في أيهما أشد تحريما الشطرنج أوالنرد فقال مالك الشطرنج أشد من النرد وهذا منقول عن ابن عمر وهذا لأنها تشغل القلب بالفكر الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النرد وقال أبو حنيفة وأحمد النرد أشد فإن العوض يدخل فيها أكثر وأما الشافعي فلم يقل إن الشطرنج حلال ولكن قال النرد حرام والشطرنج دونها ولا يتبين لي أنها حرام فتوقف في التحريم ولأصحابه في تحريمها قولان فإن كان التحليل هو الراجح فلا ضرر

وإن كان التحريم هو الراجح فهو قول جمهور أهل السنة فعلى التقديرين لا يخرج الحق عنهم قوله وإباحة الغناء فيقال له هذا من الكذب على الأئمة الأربعة فإنهم متفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه ولو أتلفها متلف عندهم لم يضمن صورة التالف بل يحرم عندهم اتخاذها وهل يضمن المادة على قولين مشهورين لهم كما لو أتلف أوعية الخمر فإنه لو أتلف ما يقوم به المحرم من المادة لم يضمنه في أحد قوليهم كما هو مذهب مالك وأشهر الروايتين عن احمد كما أتلف موسى العجل المتخذ من الذهب وكما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبدالله بن عمرو أن يحرق الثوبين المعصفرين اللذين كانا عليهوكما أمرهم عام خيبر بكسر القدور التي كان فيها لحوم الحمر ثم أذن لهم في إراقة ما فيها فدل على جواز الأمرين وكما أمر لما حرمت الخمر بشق الظروف وكسر الدنان وكما أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أمرا بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر ومن لم يجوز ذلك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في

إحدى الروايتين عنه قالوا هذه عقوبات مالية وهي منسوخة وأولئك يقولون لم ينسخ ذلك شيء فإن النسخ لا يكون إلا بنص متأخر عن الأول يعارضه ولم يرد شيء من ذلك بل العقوبات المالية كالعقوبات البدنية تستعمل على الوجه المشروع بل هي أولى بالاستعمال فإن إتلاف الأبدان والأعضاء أعظم من إتلاف الأموال فإذا كان جنس الأول مشروعا فجنس الثاني بطريق الأولى وقد تنازعوا أيضا في القصاص في الأموال إذا خرق له ثوبا هل له أن يخرق نظيره من ثيابه فيتلف ماله كما أتلف ماله على قولين هما روايتان عن أحمد فمن قال لا يجوز ذلك قال لأنه فساد ومن قال يجوز قال إتلاف النفس والطرف أشد فسادا وهو جائز على وجه العدل والاقتصاص لما فيه من كف العدوان وشفاء نفس المظلوم ومن منع قال النفوس لو لم يشرع فيها القصاص لم تنكف النفوس فإن القاتل إذا علم أنه لا يقتل بل يؤدي دية أقدم على القتل وأدى الديةبخلاف الأموال فإنه يؤخذ من المتلف نظير ما أتلفه فحصل القصاص بذلك الزجر وأما إتلاف ذلك فضرره علىالمتلف عليه فإنه يذهب ماله وعوض ماله عليه وذلك يقول بل فيه نوع من شفاء غيظ المظلوم وأما إذا تعذر القصاص منه إلا بإتلاف ماله فهذا أظهر جوازا لأن القصاص عدل وجزاء سيئة سيئة مثلها فإذا أتلف ماله ولم يكن الاقتصاص منه إلا بإتلافه جاز ذلك ولهذا اتفق العلماء على جواز إتلاف الشجر والزرع الذي للكفار إذا فعلوا بنا مثل ذلك أو لم يقدر عليهم إلا به وفي جوازه بدون ذلك نزاع معروف وهو روايتان عن أحمد والجواز مذهب الشافعي وغيره والمقصود هنا أن آلات اللهو محرمة عند الأئمة الأربعة ولم يحك عنهم نزاع في ذلك إلا أن المتأخرين من الخراسانيين من أصحاب الشافعي ذكروا في النزاع وجهين والصحيح التحريم وأما

العراقيون وقدماء الخراسانيين فلم يذكروا في ذلك نزاعا وأما الغناء المجرد فمحرم عن أبي حنيفة ومالك وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وعنهما أنه مكروه وذهبت طائفة من أصحاب أحمد إلى أن الغناء المجرد مباح فإن كان هذا القول حقا فلا ضرر وإن كان باطلا فجمهور أهل السنة على التحريم فلم يخرج الحق عن أهل السنة.
*

فصل
قال الرافضي الوجه الثاني في الدلالة على وجوب اتباع مذهب الإمامية ما قاله شيخنا الإمام الأعظم خواجه نصير الملة والحق والدين محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه وقد سألته عن المذاهب فقال بحثنا عنها وعن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية والباقي في النار وقد عين الفرقة الناجية والهالكة في حديث آخر صحيح متفق عليه وهو في قوله مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق فوجدنا الفرقة الناجية هي فرقة الإمامية لأنهم باينوا جميع المذاهب وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد.
* فيقال الجواب: من وجوه...
أحدها: أن هذا الإمامي قد كفر من قال إن الله موجب بالذات كما تقدم من قوله يلزم أن يكون الله موجبا بذاته لا مختار فيلزم الكفر وهذا الذي قد جعله شيخه الأعظم واحتج بقوله هو ممن يقول بأن الله موجب بالذات ويقول بقدم العالم كما ذكر في كتاب شرح الإشارات له فيلزم على قوله أن يكون شيخه هذا الذي احتج به كافرا والكافر لا يقبل قوله في دين المسلمين.
الثاني: أن هذا الرجل اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزير الملاحدة الباطنية الإسماعيلية بالألموت ثم لما قدم الترك المشركون إلى بلاد المسلمين وجاءوا إلى بغداد دار الخلاقة كان هذا منجما مشيرا لملك الترك المشركين هولاكو أشار عليه بقتل الخليفة

وقتل أهل العلم والدين واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا وأنه استولى على الوقف الذي للمسلمين وكان يعطي منه ما شاء الله لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السحرة وأمثالهم وأنه لما بنى الرصد الذي بمراغة على طريقة الصابئة المشركين كان أبخس الناس نصيبا منه من كان إلى أهل الملل أقرب وأوفرهم نصيبا من كان أبعدهم عن الملل مثل الصابئة المشركين ومثل المعطلة وسائر المشركين وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك ومن المشهور عنه وعن أتباعه الاستهتار بواجبات الإسلام ومحرماته لا يحافظون على الفرائض كالصلوات ولا ينزعون عن محارم الله من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات حتى أنهم في شهر رمضان يذكر عنهم من إضاعة الصلوات وارتكاب الفواحش وشرب الخمور ما يعرفه أهل الخبرة بهم ولم يكن لهم قوة وظهور إلا مع المشركين الذين دينهم شر من دين اليهود والنصارى ولهذا كان كلما قوي الإسلام في المغل وغيرهم من الترك ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله ولهذا كانوا من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله الشهيد الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام والتزم له أن ينصره إذا أسلم وقتل المشركين الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم

وهدم البذخانات وكسر الأصنام ومزق سدنتها كل ممزق وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار وبسببه ظهر الإسلام في المغل وأتباعهم وبالجملة فأمر هذا الطوسي وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرف ويوصف ومع هذا فقد قيل إنه كان في آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوى وبالفقه ونحو ذلك فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات والله تعالى يقول يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا (سورة الزمر). لكن ما ذكره عنه هذا إن كان قبل التوبة لم يقبل قوله وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض بل من الإلحاد وحده وعلى التقديرين فلا يقبل قوله والأظهر أنه إنما كان يجتمع به وبأمثاله لما كان منجما للمغل المشركين والإلحاد معروف من حاله إذ ذاك فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ويطعن على مثل مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويستحلون المحرمات المجمع على تحريمها كالفواحش والخمر في مثل شهر رمضان الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وخرقوا سياج الشرائع واستخفوا بحرمات الدين وسلكوا غير طريق المؤمنين فهم كما قيل فيهم الدين يشكو بلية من فرقة فلسفية لا يشهدون صلاة إلا لأجل التقية ولا ترى الشرع إلا سياسة مدنية ويؤثرون عليه مناهجا فلسفية

ولكن هذا حال الرافضة دائما يعادون أولياء الله المتقين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ويوالون الكفار والمنافقين فإن أعظم الناس نفاقا في المنتسبين إلى الإسلام هم الملاحدة الباطنية الإسماعيلية فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله مع ما تقدم من طعنه على أقوال أئمة المسلمين كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق ومعاداة لأهل الإيمان ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذاب المفتري يذكر أبا بكر وعمر وعثمان وسائر السابقين الأولين والتابعين وسائر أئمة المسلمين من أهل العلم والدين بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه ويجيء إلى من قد اشتهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله فيقول قال شيخنا الأعظم ويقول قدس الله روحه مع شهادته بالكفر عليه وعلى أمثاله ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرينوهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن يجد له نصيرا (سورة النساء). فإن هؤلاء الإمامية أوتوا نصيبا من الكتاب إذ كانوا مقرين ببعض ما في الكتاب المنزل وفيهم شعبة من الإيمان بالجبت وهو السحر والطاغوت وهو يعبد من دون الله فإنهم يعظمون الفلسفة المتضمنة لذلك ويرون الدعاء والعبادة للموتى واتخاذ المساجد على القبور ويجعلون السفر إليها حجا له مناسك ويقولون مناسك حج المشاهد وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت وهم يقولون لمن يقرون بكفره من القائلين بقدم العالم ودعوة الكواكب والمسوغين للشرك هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فإنهم فضلوا هؤلاء الملاحدة المشركين على السابقين الأولين من

المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وليس هذا ببدع من الرافضة فقد عرف من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين ومعاونتهم على قتال المسلمين ما يعرفه الخاص والعام حتى قيل إنه ما اقتتل يهودي ومسلم ولا نصراني ومسلم ولا مشرك ومسلم إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك.
والوجه الثالث: أنه قد عرف كل أحد أن الإسماعيلية والنصيرية هم من الطوائف الذين يظهرون التشيع وإن كانوا في الباطن كفارا منسلخين من كل ملة والنصيرية هم من غلاة الرافضة الذين يدعون إلهية علي وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى باتفاق المسلمين والإسماعيلية الباطنية أكفر منهم فإن حقيقة قولهم التعطيل أما أصحاب الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم الذي هو آخر المراتب عندهم فهم من الدهرية القائلين بأن العالم لا فاعل له لا علة ولاخالق ويقولون ليس بيننا وبين الفلاسفة خلاف إلا في واجب الوجود فإنهم يثبتونه وهو شيء لا حقيقة له ويستهزئون بأسماء الله عز وجل ولا سيما هذا الاسم الذي هوالله فإن منهم من يكتبه على أسفل قدميه ويطؤه وأما من هو دون هؤلاء فيقولون بالسابق والتالي الذين عثروا بهما عن العقل والنفس عند الفلاسفة وعن النور والظلمة عند المجوس وركبوا لهم مذهبا من مذاهب الصابئة والمجوس ظاهره التشيع ولا ريب أن المجوس والصابئة شر من اليهود والنصارى ولكن تظاهروا بالتشيع قالوا لأن الشيعة أسرع الطوائف استجابة لنا لما فيهم من الخروج عن الشريعة ولما فيهم من الجهل وتصديق المجهولات

ولهذا كان أئمتهم في الباطن فلاسفة كالنصير الطوسي هذا وكسنان البصري الذي كان بحصونهم بالشام وكان يقول قد رفعت عنهم الصوم والصلاة والحج والزكاة فإذا كانت الإسماعيلية إنما يتظاهرون في الإسلام بالتشيع ومنه دخلوا وبه ظهروا وأهله هم المهاجرون إليهم لا إلى الله ورسوله وهم أنصارهم لا أنصار الله ورسوله علم أن شهادة الإسماعيلية للشيعة بأنهم على الحق شهادة مردودة باتفاق العقلاء فإن هذا الشاهد إن كان يعرف أن ما هو عليه مخالف لدين الإسلام في الباطن وإنما أظهر التشيع لينفق له عند المسلمين فهو محتاج إلى تعظيم التشيع وشهادته له شهادة المرء لنفسه فهو كشهادة الآدمي لنفسه لكنه في هذه الشهادة يعلم أنه يكذب وإنما ذكب فيها كماكذب في سائر أحواله وإن كان يعتقد دين الإسلام في الباطن ويظن أن هؤلاء على دين الإسلام كان أيضا شاهدا لنفسه لكن مع جهله وضلاله وعلى التقديرين فشهادة المرء لنفسه لا تقبل سواء علم كذب نفسه أو اعتقد صدق نفسه كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه وهؤلاء خصماء أظناء متهمون ذوو غمر على أهل السنة والجماعة فشهادتهم مردودة بكل طريق.

الوجه الرابع: أن يقال أولا أنتم قوم لا تحتجون بمثل هذه الأحاديث فإن هذا الحديث إنما يرويه أهل السنة بأسانيد أهل السنة والحديث نفسه ليس في الصحيحين بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره ولكن قد رواه أهل السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجه ورواه أهل الأسانيد كالإمام أحمد وغيره فمن أين لكم على أصولكم ثبوته حتى تحتجوا به وبتقدير ثبوته فهو من أخبار الأحاد فكيف يجوز أن تحتجوا في أصل من أصول الدين وإضلال جميع المسلمين إلا فرقة واحد بأخبار الآحاد التي لا يحتجون هم بها في الفروع العلمية وهل هذا إلا من أعظم التنافض والجهل.
الوجه الخامس: أن الحديث روي تفسيره فيه من وجهين أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرقة الناجية فقال من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي وفي الرواية الأخرى قال هم الجماعة وكل من التفسيرين يناقض قول الإمامية ويتقضي أنهمخارجون عن الفرقة الناجية فإنهم خارجون عن جماعة المسلمين يكفرون أو يفسقون أئمة الجماعة كأبي بكر وعمر وعثمان دع معاوية وملوك بني أمية وبني العباس وكذلك يكفرون أو يفسقون علماء الجماعة وعبادهم كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحق وأبي عبيد وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأمثال هؤلاء وهم أبعد الناس عن معرفة سير الصحابة والاقتداء بهم لا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده فإن هذا إنما يعرفه أهل العلم بالحديث والمنقولات والمعرفة بالرجال الضعفاء والثقات وهم من أعظم الناس جهلا بالحديث وبغضا له ومعاداة لأهله فإذا كان وصف الفرقة الناجية أتباع الصحابة علىعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك شعار السنة والجماعة كانت الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة فالسنة ما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه عليه

في عهده مما أمرهم به أو أقرهم عليه أو فعله هو والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرقوا دينهم وكانوا شيعا فالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا خارجون عن الجماعة قد برأ الله نبيه منهم فعلم بذلك أن هذا وصف أهل السنة والجماعة لا وصف الرافضة وأن الحديث وصف الفرقة الناجبة باتباع سنته التي كان عليها هو وأصحابه وبلزوم جماعةالمسلمين فإن قيل فقد قال في الحديث من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي فمن خرج عن تلك الطريقة بعده لم يكن على طريقة الفرقة الناجية وقد ارتد ناس بعده فليسوا من الفرقة الناجية قلنا نعم وأشهر الناس بالردة خصوم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأتباعه كمسيلمة الكذاب وأتباعه وغيرهم وهؤلاء تتولاهم الرافضة كما ذكر ذلك غير واحد من شيوخهم مثل هذا الإمامي وغيره ويقولون إنهم كانوا على الحق وأن الصديق قاتلهم بغير حق ثم من أظهرالناس ردة الغالية الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار لما ادعوا فيه الإلهية وهم السبائية أتباع عبدالله بن سبأ الذين أظهروا سب أبي بكر وعمر وأول من ظهر عنه دعوى النبوة من المنتسبين إلى الإسلام المختار بن ابي عبيد وكان من الشيعة فعلم أن أعظم الناس ردة هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف ولهذا لا يعرف ردة أسوأ حالا من ردة الغالية كالنصيرية ومن ردة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم وأشهر الناس بقتال المرتدين هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر منها في خصوم أبي بكر الصديق فدل ذلك على أن المرتدين الذين لم يزالون مرتدين على اعقابهم هم بالرافضة أولى منهم بأهل السنة والجماعة وهذا بين يعرفه كل عاقل يعرف الإسلام وأهله ولا يستريب أحد أن جنس المرتدين في المنتسبين إلى التشيع أعظم وأفحش كفرا من

جنس المرتدين والمنتسبين إلى أهل السنة والجماعة إن كان فيهم مرتد.
الوجه السادس: أن يقال هذه الحجة التي احتج بها هذا الطوسي على أن الإمامية هم الفرقة الناجية كذب في وصفها كما هي باطلة في دلاتها وذلك أن قوله باينوا جميع المذاهب وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد إن أراد بذلك أنهم باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به فهذا شأن جميع المذاهب فإن الخوارج أيضا باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به من التكفير بالذنوب ومن تكفير علي رضي الله عنه ومن إسقاط طاعة الرسول فيما لم يخبر به عن الله وتجويز الظلم عليه في قسمه والجور في حكمه وإسقاط أتباع السنة المتواترة التي تخالف ما يظن أنه ظاهر القرآن كقطع السارق من المنكب وأمثال ذلك قال الأشعري في المقالات أجمعت الخوارج على إكفارعلي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ حكم وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا قال وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات فإنها لا تقول بذلك وأجمعوا على أن الله يعذب أصحاب الكبائر عذابا دائما إلا النجدات أصحاب نجدة وكذلك المعتزلة باينوا جميع الطوائف فيما اختصوا به من المنزلة بين المنزلتين وقولهم إن أهل الكبائر يخلدون في النار وليسوا بمؤمنين ولا كفار فإن هذا قولهم الذي سموا به معتزلة فمن وافقهم فيه بعد ذلك من الزيدية فعنهم أخذوا بل الطوائف المنتسبون إلى السنة والجماعة تباين كل طائفة منهم سائر أهل السنة والجماعة فيما اختصت به فالكلابية باينوا سائر الناس في قولهم إن الكلام معنى واحد أو معان متعددة أربعة أو

خمسة تقوم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة فإن هذا لم يقله أحد من الطوائف غيرهم وكذلك الكرامية باينوا سائر الطوائف في قولهم إن الإيمان هو القول باللسان فمن أقر بلسانه كان مؤمنا وإن جحد بقلبه قالوا وهو مؤمن مخلد في النار فإن هذا لم يقله غيرهم بل طوائف أهل السنة والعلم لكل طائفة قول لا يوافقهم عليه بقية الطوائف فلكل واحد من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد مسائل تفرد بها عن الأئمة الثلاثة كثيرة وإن أراد بذلك أنهم اختصوا بجميع أقوالهم فليس كذلك فإنهم في توحيدهم موافقون للمعتزلة وقدماؤهم كانوا مجسمة وكذلك في القدر هم موافقون للمعتزلة فقدماؤهم كان كثير منهم يثبت القدر وإنكار القدر في قدمائهم أشهر من إنكار الصفات وخروج أهل الذنوب من النار وعفو الله عز وجل عن أهل الكبائر لهم فيه قولان ومتأخروهم موافقون فيه الواقفية الذين يقولون لا ندري هل يدخل

النار أحد من أهل القبلة أم لا وهم طائفة من الأشعرية وإن قالوا إنا نجزم بأن كثيرا من أهل الكبائر يدخل النار فهذا قول الجمهور من أهل السنة ففي الجملة لهم أقوال اختصوا بها وأقوال شاركهم غيرهم فيها كما أن الخوارج والمعتزلة وغيرهم كذلك وأما أهل الحديث والسنة والجماعة فقد اختصوا باتباعهم الكتاب والسنة والثابتة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع وما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الخوارج والمعتزلة والروافض ومن وافقهم في بعض أقوالهم فإنهم لا يتبعون الأحاديث التي رواها الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم التي يعلم أهل الحديث صحتها فالمعتزلة يقولون هذه أخبار آحاد وأما الرافضة فيطعنون في الصحابة ونقلهم وباطن أمرهم الطعن في الرسالة والخوارج يقول قائلهم أعدل يا محمد فإنك لم تعدل فيجوزون على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يظلم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلملأولهم ويلك من يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل فهم جهال فارقوا السنة والجماعة عن جهل وأما الرافضة فأصل بدعتهم عن نفاق ولهذا فيهم من الزندقة ما ليس في الخوارج قال الأشعري في المقالات هذه حكاية أصحاب الحديث وأهل السنة جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا وأنه إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة

آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وأن له يدين بلا كيف كما قال خلقت بيدي (سورة ص). وكما قال بل يداه مبسوطتان (سورة المائدة). وساق الكلام إلى آخره فإن قال أن مراده بالمباينة انهم يكفرون كل أهل دار غير دارهم كما أفتى غير واحد من شيوخهم بأن الدار إذا كان الظاهر فيها مذهب النصب مثل المسح على الخفين وحل شرب الفقاع وتحريم المتعة كانت دار كفر وحكم بنجاسة ما فيها من المائعات وإن كان الظاهر مذهب الطائفة المحقة يعني الإمامية حكم بطهارة ما فيها من المائعات وإن كان كلا الأمرين ظاهرا كانت دار وقف فينظر فمن كان فيها من طائفتهم كان ما عنده من المائعات طاهرا ومن كان من غيرهم حكم بنجاسة ما عنده من المائعات قيل هذا الوصف يشاركهم فيه الخوارج والخوارج في ذلك أقوى منهم فإن الخوارج ترى السيف وحروبهم مع الجماعة مشهورة وعندهم كل دار غير دارهم فهي دار كفر وقد نازع بعضهمفي التكفير العام كما نازع بعض الإمامية في التكفير العام وقد وافقوهم في أصل التكفير وأما السيف فإن الزيدية ترى السيف والإمامية لا تراه قال الأشعري وأجمعت الروافض على إبطال الخروج وإنكار السيف ولو قتلت حتى يظهر لها الإمام وحتى يأمرها بذلك قلت ولهذا لا يغزون الكفار ولا يقاتلون مع أئمة الجماعة إلا من يلتزم مذهبه منهم فقد تبين أن المباينة والمشاركة في أصول العقائد قدر مشترك بين الرافضة وغيرهم.
الوجه السابع: أن يقال مباينتهم لجميع المذاهب هو على فساد قولهم أدل منه على صحة قولهم فإن مجرد انفراد طائفة عن جميع الطوائف لا يدل على أنه هو الصواب واشتراك أولئك في قول لا يدل على أنه باطل فإن قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمته ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فدل على أنها لا بد أن تفارق هذه الواحدة سائر الاثنتين وسبعين فرقة

قلنا نعم وكذلك يدل الحديث على مفارقة الثنتين وسبعين بعضها بعضا كما فارقت هذه الواحدة فليس في الحديث ما يدل على اشتراك الثنتين والسبعين في أصول العقائد بل ليس في ظاهر الحديث إلا مباينة الثلاث والسبعين كل طائفة للأخرى وحينئذ فمعلوم أن جهة الافتراق جهة ذم لا جهة مدح فإن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف وذم التفرق والاختلاف فقال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (سورة آل عمران). وقال ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذي اسودت وجوههم الأية (سورة آل عمران). قال ابن عباس وغيره تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة وقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء (سورة الأنعام). وقال وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم البقرة وقال وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة سورة البينة وإذا كان كذلك فأعظم الطوائف مفارقة للجماعة وافتراقا في نفسهاأولى الطوائف بالذم وأقلها افتراقا ومفارقة للجماعة أقربها إلى الحق وإذا كانت الإمامية أولى بمفارقة سائر طوائف الأمة فهم أبعد عن الحق لا سيما وهم في أنفسهم أكثر اختلافا من جميع فرق الأمة حتى يقال إنهم ثنتان وسبعون فرقة وهذا القدر فيما نقله عن هذا الطوسي بعض أصحابه وقال كان يقول الشيعة تبلغ فرقهم ثنتين وسبعين فرقة أو كما قال وقد صنف الحسن بن موسى النوبختي وغيره في تعديد فرق الشيعة وأما أهل الجماعة فهم أقل اختلافا في أصول دينهم من سائر الطوائف وهم أقرب إلى كل طائفة من كل طائفة إلى ضدها فهم الوسط في أهل الإسلام كما أن أهل الإسلام هم الوسط في أهل الملل هم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل

وقال صلى الله عليه وسلم خير الأمور أوسطها وحينئذ أهل السنة والجماعة خير الفرق وفي باب القدر بين أهل التكذيب به وأهل الاحتجاج به وفي باب الأسماء والأحكام بين الوعيدية والمرجئة وفي باب الصحابة بين الغلاة والجفاة فلا يغلون في علي غلو الرافضة ولا يكفرونه تكفير الخوارج ولا يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان كما تكفرهم الروافض ولا يكفرون عثمان وعليا كما يكفرهما الخوارج.
الوجه الثامن: أن يقال إن الشيعة ليس لهم قول واحد اتفقوا عليه فإن القول الذي ذكره هذا قول من أقوال الإمامية ومن الإمامية طوائف تخالف هؤلاء في التوحيد والعدل كما تقدم حكايته وجمهور الشيعة تخالف الإمامية في الاثني عشرفالزيدية والإسماعيلية وغيرهم متفقون على إنكار إمامة الإثني عشر قال الناقلون لمقالات الناس الشيعة ثلاثة أصناف وإنما قيل لهم الشيعة لأنهم شايعوا عليا وقدموه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم الغالية سموا بذاك لأنهم غلوا في علي وقالوا فيه قولا عظيما مثل اعتقادهم إلاهيته أو نبوته وهؤلاء أصناف متعددة والنصيرية منهم والصنف الثاني من الشيعة الرافضة قال الأشعري وطائفة سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر

قلت الصحيح أنهم سموا رافضة لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما خرج بالكوفة أيام هشام بن عبد الملك وقد ذكر هذا أيضا الاشعري وغيره قالوا وإنما سمو الزيدية لتمسكهم بقول زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكان زيد بويع له بالكوفة في أيام هشام بن عبدالملك وكان أمير الكوفة يوسف بن عمر الثقفي وكان زيد يفضل علي بن أبي طالب على سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويتولى أبا بكر وعمر ويرى الخروج على أئمة الجور فلما ظهر بالكوفة في أصحابة الذين بايعوه وسمع من بعضهم الطعن على أبي بكر وعمر فأنكر ذلك على من سمعه منه فتفرق عنه الذين بايعوه فقال لهم رفضمتوني قالوا نعم فيقال إنهمسموا رافضة لقول زيد بن علي لهم رفضتموني وبقي في شرذمة فقاتل يوسف بن عمر فقتل قالوا والرافضة مجمعون على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استخلاف علي بن أبي طالب باسمه وأظهر ذلك وأعلنه وأن أكثر الصحابة ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف وأنها قرابة وأنه جائز للإمام في حال التقية أن يقول إنه ليس بإمام وأبطلوا جميعا الاجتهاد في الأحكام وزعموا أن الإمام لا يكون إلا أفضل الناس وزعموا أن عليا كان مصيبا في جميع أحواله وأنه لم يخطىء في شيء من أمور الدين إلا الكاملية أصحاب أبي كامل فإنهم أكفروا الناس بترك الاقتداء به وأكفروا عليا بترك الطلب وأنكروا الخروج على أئمة الجور وقالوا ليس يجوز ذلك دون الإمام

المنصوص على إمامته وهم سوى الكاملية أربع وعشرون فرقة وهم يدعون الإمامية لقولهم بالنص على إمامة علي فالفرقة الأولى وهم القطعية وإنما سموا القطعية لأنهم قطعوا على موت موسى بن جعفر بن محمد وهم وجمهور الشيعة يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي وأن عليا نص على إمامة الحسن وأن الحسن نص على إمامة الحسين والحسين نص على إمامة ابنه علي بن الحسين وعلي بن الحسين نص على إمامة ابنه أبي جعفر محمد ومحمد نص على إمامة جعفر بن محمد وجعفر نص على إمامة ابنه موسى وموسى نص على إمامة ابنه علي وعلينص على إمامة ابنه محمد بن علي ومحمد نص على إمامة ابنه علي بن محمد وعلي بن محمد نص على إمامة ابنه الحسن والحسن نص على إمامة ابنه محمد بن الحسن وهو الغائب المنتظر عندهم الذين يدعون أنه يظهر فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا والفرقة الثانية منهم الكيسانية وهم إحدى عشرة فرقة سموا كيسانية لأن المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي ودعا إلى محمد بن الحنفية كان يقال لهكيسان ويقال إنه مولى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن الكيسانية من يدعي أن عليا نص على إمامة محمد بن الحنفية لأنه دفع إليه الراية بالبصرة ومنهم من يقول بل الحسين نص على إمامة محمد بن الحنفية ومنهم من يقول إن محمد بن الحنفية حي بجبال رضوى أسد عن يمينه ونمر عن شماله يحفظانه يأتيه رزقه غدوة وعشية إلى وقت خروجه وزعموا أن السبب الذي من أجله صبر على هذه الحال أن يكون مغيبا عن الخلق أن لله فيه تدبيرا لا يعلمه غيره قالوا ومن القائلين بهذا المذهب كثير الشاعر وفي ذلك يقول ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء

علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلا وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللوا تغيب لا يرى فيهم زمانا برضوى عنده عسل وماء ومعلوم أن هؤلاء مع أن قولهم معلوم البطلان ضرورة فقول الإمامية أبطل من قولهم فإن هؤلاء ادعوا بقاء من كان موجودا حيا معروفا وأولئك ادعوا بقاء من لم يوجد بحال ومن هؤلاء من يقول إن محمد ابن الحنفية مات وإن الإمام بعده ابنه أبو هاشم عبدالله ثم من هؤلاء من يقول إن أبا هاشم عبدالله أوصى إلى أخيه الحسن وإن الحسن أوصى إلى ابنه علي بن الحسن وإن عليا هلك ولم يعقب فهم ينتظرون رجعة محمد بن الحنفية ويقولون إنه يرجع ويملك فهماليوم في التيه لا إمام لهم إلى أن يرجع إليهم محمد بن الحنفية في زعمهم ومنهم من يقول إن الإمام بعد أبي هاشم محمد بن علي بن عبدالله بن عباس أو أبوه علي قالوا وذلك أن أبا هاشم مات بأرض الشراة منصرفة من الشام وأوصى هناك إلى محمد بن علي بن عبدالله بن عابس وأوصى محمد بن علي إلى ابنه إبراهيم بن محمد ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى ابي العباس السفاح ثم أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور بوصية بعضهم إلى بعض قال ثم رجع بعض هؤلاء عن هذا القول وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العباس بن عبدالمطلب ونصبه إمام ثم نص العباس على إمامة ابنه عبدالله ونص عبدالله على إمامة ابنه علي بن عبدالله ثم ساقوا الإمامة إلى أن انتهوا بها إلى أبي جعفر المنصور وهؤلاء هم الراوندية

وافترقت هذه الفرقة في أمر أبي مسلم على مقالتين فزعمت فرقة منهم تدعى الرزامية أصحاب رجل يقال له رزام أن أبا مسلم قتل وقالت فرقة أخرى إن أبا مسلم لم يمت ويحكى عنهم الاستحلال لما لم يحلل لهم أسلافهم ومن الكيسانية طائفة يزعمون أن أبا هاشم نصب عبدالله بن عمرو بن حرب إماما وتحولت روح أبي هاشم فيه ثم وقفوا على كذب عبدالله بن عمرو فصاروا إلى المدينة يلتمسون إماما فلقوا عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن ابي طالب فدعاهم إلى أن يأتموا به فاتخذوه إماما وادعوا له الوصية ثم منهم من قال إنه مات ومنهم من قال إنه لم يمت حتى يقوم ومنهم من قال بل هو المهدي المبشر به وأنه حي بجبال أصبهانومنهم من يقول إن أبا هاشم أوصى إلى بيان بن سمعان ومنهم من يقول أوصى إلى علي بن الحسين فهذه أقوال من يقول بوصول النص إلى محمد بن الحنفية ثم أبي هاشم ومن الرافضة من قال بل النص بعد الحسين بن علي على ابنه علي بن الحسين ثم إلى ابنه أبي جعفر وأن أبا جعفر أوصى إلى المغيرة بن سعيد فهم يأتمون به إلى أن يخرج المهدي والمهدي فيما زعموا هو محمد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب وزعموا أنه حي مقيم بناحية الحاجر وأنه لا يزال مقيما هناك إلى أوان خروجه ومن الرافضة من يقول إن الإمام بعد أبي جعفر محمد بن علي هو محمد بن عبدالله بن الحسن الخارج بالمدينة في خلافة أبي جعفر المنصور وقصته مشهورة وزعموا أنه المهدي وأنكروا إمامة المغيرة بن سعيد

ومن الرافضة من قال إن أبا جعفر اوصى إلى أبي منصور ثم من هؤلاء من قال إنه أوصى إلى ابنه الحسن بن أبي منصور ومنهم من مال إلى تثبيت أمر محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسين وقالوا إنما أوصى أبو جعفر إلى أبي منصور دون بني هاشم كما أوصى موسى عليه السلام إلى يوشع بن نون دون ولده ودون ولد هارون عليه السلام ثم إن الأمر بعد أبي منصور راجع إلى ولد علي كما رجع الأمر بعد يوشع إلى ولد هارون ومنهم من قال إن أبا جعفر نص على ابنه جعفر بن محمد وأن جعفرا حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر امره وهو القائم المهديومن الرافضة من يقول إن جعفر بن محمد مات وأن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل وأنكروا أن يكون إسماعيل مات في حياة أبيه وقالوا لا يموت حتى يملك لأن أباه قد كان يخبر أنه وصيه والإمام بعده ومن الرافضة القرامطة يزعمون أن خلافة النبي صلى الله عليه وسلم اتصلت بالنص إلى جعفر كما يقوله الاثنا عشرية وأن جعفرا نص على إمامة ابن ابنه محمد بن إسماعليل وزعموا أن محمد بن إسماعيل حي إلى اليوم يعني إلى اوائل المائة والرابعة لم يمت ولا يموت حتى يملك الأرض وأنه هو المهدي الذي تقدمت البشارة به واحتجوا في ذلك باخبار رووها عن أسلافهم يخبرون فيها أن سابع الأئمة قائمهم وهؤلاء يقال لهم السبعية كما يقال لأولئك الاثنا عشرية وهؤلاء ذكر المصنفون مقالاتهم في أوائل الأمر قبل المائة الرابعة قبل ظهورهم بالمغرب والقاهرة فإن هؤلاء انتشر من أمرهم في أثناء المائة

الرابعة وبعدها ما يطول وصفه وظهر فيهم من الزندقة والإلحاد ما لم يعهد مثله لا في الغلاة ولا غيرهم ومن بقايا هؤلاء الملاحدة الذين كانوا بخراسان والشام وغيرهما وكان أهل بيت ابن سينا من المستجيبين لدعوتهم زمن الحاكم وكذلك هذا الطوسي وأمثاله من أعوانهم وكذلك سنان وغيره وأذكياءهم يعلمون كذبهم وجهلهم ولكن بسبب خدمتهم يحصل لهم من الرياسة والمال والشهوات ما لا يحصل بدون ذلك فهم يعاونونهم كما يعاون أمثالهم من أهل الكذب والظلم لتنال بهم الأغراض ومن الرافضة من يقول إنها في ولد محمد بن إسماعيل ومنهم من يقول إنها في ولد محمد بن جعفر بن محمد لا في إسماعيل وابنه ولا في موسى بن جعفر ومنهم من يقول إنها في ابنه عبدالله بن جعفر وكان أكبر من خلف من ولده وهؤلاء يقال لهم الفطحية لأن عبدالله بن جعفر كان أفطح الرجلين قالوا وهؤلاء عدد كثيرومن الرافضة من يقول بإمامة موسى بن جعفر بن محمد بعد أبيه ولكن يقول إن موسى بن جعفر حي لم يمت ولا يموت حتى يملك مشرق الأرض ومغربها وهذا الصنف يدعون الواقفة لأنهم وقفوا على موسى بن جعفر ولم يجاوزوه ويسمون الممطورة لأن يونس بن عبدالرحمن ناظرهم فقال أنتم أهون علي من الكلاب الممطورة فلزمهم هذا اللقب ومنهم قوم وقفوا في أمر موسى بن جعفر فقالوا لا ندري أمات أم لم يمت ومنهم من يقول إن موسى بن جعفر نص على إمامة ابنه أحمد ومن الرافضة من قال إن بعد محمد بن الحسن المنتظر عند الأثني

عشرية إماما آخر هوالقائم الذي يظهر فيملأ الدنيا عدلا ويقمع الظلم فهذا بعض اختلاف الرافضة القائلين بالنص فإذا كانوا أعظم تباينا واختلافا من سائر طوائف الأمة امتنع ان تكون هي الطائفة الناجية لأن أقل ما في الطائفة الناجية أن تكون متفقة في أصول دينها كاتفاق أهل السنة والجماعة على أصول دينهم وهؤلاء الإمامية الاثنا عشرية يقولون إن اصول الدين أربعة التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وهم مختلفون في التوحيد والعدل والإمامة وأما النبوة فغايتهم أن يكونوا مقرين بها كإقرار سائر الأمة واختلافهم في الإمامة أعم من اختلاف سائر الأمة فإن قالت الإثنا عشرية نحن أكثر من هذه الطوائف فيكون الحق معنادونهم قيل لهم وأهل السنة أكثر منكم فيكون الحق معهم دونكم فغايتكم أن تكون سائر فرق الإمامية معكم بمنزلتكم مع سائر المسلمين والإسلام هو دين الله الذي يجمع أهل الحق.
*

فصل
قال الرافضي: الوجه الثالث أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم ولأئمتهم قاطعون بذلك وبحصول ضدها لغيرهم وأهل السنة لا يجيزون ولا يجزمون بذلك لا لهم ولا لغيرهم فيكون اتباع أولئك أولى. لأنا لو فرضنا مثلا خروج شخصين من بغداد يريدان الكوفة فوجدا طريقين سلك كل منهما طريقا فخرج ثالث يطلب الكوفة فسأل أحدهما إلى أين تذهب فقال إلى الكوفة فقال له هل طريقك

توصلك إليها وهل طريقك آمن أم مخوف وهل طريق صاحبك تؤديه إلى الكوفة وهل هو آمن أم مخوف فقال لا أعلم شيئا من ذلك ثم سأل صاحبه عن ذلك فقال أعلم أن طريقي يوصلني إلى الكوفة وأنه آمن وأعلم أن طريق صاحبي لا يؤديه إلى الكوفة وأنه ليس بآمن فإن الثالث إن تابع الأول عده العقلاء سفيها وإن تابع الثاني نسب إلى الأخذ بالحزم هكذا ذكره في كتابه والصواب أن يقال وسأل الثاني فقال له الثاني لا أعلم أن طريقي تؤديني إلى الكوفة ولا أعلم أنه آمن أم مخوف.
*والجواب على هذا من وجوه...
أحدها: أن يقال إن كان اتباع الأئمة الذين تدعي لهم الطاعة المطلقة وأن ذلك لا يوجب لهم النجاة واجبا كان اتباع خلفاءبني أمية الذين كانوا يوجبون طاعة أئمتهم طاعة مطلقا ويقولون إن ذلك يوجب النجاة مصيبين على الحق وكانوا في سبهم عليا وغيره وقتالهم لمن قاتلوه من شيعة على مصيبين لأنهم كانوا يعتقدون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيء وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب وأنه لا ذنب لهم فيما أطاعوا فيه الإمام بل أولئك أولى بالحجة من الشيعة لأنهم كانوا مطيعين أئمة أقامهم الله ونصبهم وأيدهم وملكهم فإذا كان من مذهب القدرية أن الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح لعباده كان تولية أولئك الأئمة مصلحة لعباده ومعلوم أن اللطف والمصلحة التي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة التي حصلت بإمام معدوم أو عاجز ولهذا حصل لأتباع خلفاء بني أمية من المصلحة في دينهم ودنياهم أعظم مما حصل لأتباع المنتظر فإن هؤلاء لم يحصل لهم إمام يأمرهم بشيء من المعروف ولا ينهاهم عن شيء من المنكر ولا يعينهم على شيء من مصلحة دينهم ولا دنياهم بخلاف أولئك فإنهم انتفعوا بأئمتهم منافع كثيرة في دينهم ودنياهم أعظم مما انتفع هؤلاء بأئمتهم

فتبين أنه إن كانت حجة هؤلاء المنتسبين إلى مشايعة علي رضي الله عنه صحيحة فحجة أولئك المنتسبين إلى مشايعة عثمان رضي الله عنه أولى بالصحة وإن كانت باطلة فهذه أبطل منها فإذا كان هؤلاء الشيعة متفقين مع سائر أهل السنة على أن جزم اولئك بنجاتهم إذا أطاعوا أولئك الأئمة طاعة مطلقة خطأ وضلال فخطأ هؤلاء وضلالهم إذا جزموا بنجاتهم لطاعتهم لمن يدعي أنه نائب المعصوم والمعصوم لا عين له ولا أثر أعظم وأعظم فإن الشيعة ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله ويصدونهم عن سبيل الله.
الوجه الثاني: أن هذا المثل إنما كان يكون مطابقا لو ثبت مقدمتنان إحداهما أن لنا إماما معصوما والثانية أنه أمر بكذا وكذا وكلتا المقدمتين غير معلومة بل باطلة دع المقدمة الأولى بل الثانية فإن الأئمة الذين يدعى فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنينكثيرة والمنتظر له غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة وعند آخرين هو معدوم لم يوجد والذين يطاعون شيوخ من شيوخ الرافضة أو كتب صنفها بعض شيوخ الرافضة وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين وهؤلاء الشيوخ المصنفون ليسوا معصومين بالاتفاق ولا مقطوعا لهم النجاة فإذا الرافضة لا يتبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتهم ولا بنجاة أئمتهم الذين يباشرونهم بالأمر والنهي وهم أئمتهم حقا وإنما هم في انتسابهم إلى أولئك الأئمة بمنزلة كثير من أتباع شيوخهم الذين ينتسبون إلى شيخ قد مات من مدة ولا يدرون بماذا أمر ولا عماذا نهى بل له أتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل الله يأمرونهم بالغلو في ذلك الشيخ وفي خلفائه وأن يتخذوهم أربابا وكما تأمر شيوخ الشيعة

أتباعهم وكما تأمر شيوخ النصارى أتباعهم فهم يأمرونهم بالإشراك بالله وعبادة غير الله ويصدونهم عن سبيل الله فيخرجون عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده فلا يدعى إلا هو ولا يخشى إلا هو ولا يتقى إلا هو ولا يتوكل إلا عليه ولا يكون الدين إلا له لا لأحد من الخلق وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أربابا فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله أمره ونهيه فلا يطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو فإذا جعل الإمام والشيخ كأنه إله يدعى مع مغيبة وبعد موته ويستغاث به ويطلب منه الحوائج والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يريد وينهى عما يريد كان الميت مشبها بالله تعالى والحي مشبها برسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله

ثم إن كثيرا منهم يتعلقون بحكايات تنقل عن ذلك الشيخ وكثير منها كذب عليه وبعضها خطأ منه فيعدلون عن النقل الصدق عن القائل المعصوم إلى نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم فإذا كان هؤلاء مخطئين في هذا فالشيعة أكثر وأعظم خطأ لأنهم أعظم كذبا فيما ينقلونه عن الأئمة وأعظم غلوا في دعوى عصمة الأئمة وإذا كان الواحد من هؤلاء أتباع الشيوخ الأحياء المضلين الغالين في شيخ قد مات مخطئين في قطعهم بالنجاة فخطأ الشيعة في قطعهم بالنجاة أعظم وأعظم وإن قدر أن طريق الشيعة صواب لما فيه من القطع والجزم بالنجاة فطريق المشايخية صواب لما فيه من القطع بالنجاة وحينئذ فيكون طريق من يعتقد أن يزيد بن معاوية كان من الأنبياء الذين يشربون الخمر وأن الخمر حلال له لأنه شربها الأنبياء ويزيد كان منهم طريقا صوابا وإذا كان يزيد نبيا كان من خرج على نبي كافرا فيلزم من ذلك كفر الحسين وغيره ويلزم من ذلك أن يكون طريق من يقول كل رزق لا يرزقنيه الشيخ لا أريده طريقاصحيحا وطريق من يقول إن الله ينزل إلى الأرض وأن كل مسجد فإن الله قد وضع قدمه عليه طريقا صحيحا وطريق من يقول على الدرة البيضاء كان اجتماعنا وفي قاب قوسين اجتماع الأحبة طريقا صحيحا وطريق من يقول إن شيخه قد أسقط عنه الصلاة طريقا صحيحا وأمثال هذه الضلالات التي توجد في كثير من العامة أتباع المشايخ فإن كثيرا من هؤلاء جازمون بنجاتهم وسعادة مشايخهم أعظم من قطع الإثني عشرية للأئمة وأتباعهم فإن كان ما ذكره من أتباع الجازم بالنجاة واجبا وجب أتباع هؤلاء ومن جملة اتباع هؤلاء القدح في الشيعة وإبطال طريقتهم فيلزم من اتباع الجازم إبطال قول الشيعة وإن لم يكن اتباع الجازم مطلقا طريقا صحيحا بطلت حجته وكذلك يقال لهؤلاء وهؤلاء إن كان اتباع أهل الجزم أولى بالاتباع من طريقة الذين يأمرون بطاعة الله ورسوله ويتبعون أهل

العلم والدين فيما يأمرون به من طاعة الله ورسوله ولا يوجبون طاعة معين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يضمنون السعادة إلا لمن أطاع الله ورسوله ويقولون إن من سواه يخطىء ويصيب فلا يطاع مطلقا فإن كان اتباع هؤلاء نقصا وخطأ والصواب اتباع أهل الجزم مطلقا وجب أتباع شيعة الأئمة المعصومين وشيعة المشايخ المحفوظين وشيعة هؤلاء يقدحون في هؤلاء وشيعة هؤلاء يقدحون في هؤلاء فيلزم أن يكون كل من الطريقين باطلا حقا وهذا جمع بين النقيضين وهذا إنما لزم لأن الأصل فاسد وهو اتباع من يجزم بلا علم ولا دليل فكل من جعل اتباع الشيخ الجازم والمجازف بلا حجة ولا دليل أو الإمامي الجازم المجازف بالنجاة بلا حجة ولا دليل مما يجب اتباعه لزم تناقض أقوالهم بخلاف الاقوال التي ترجع إلى أصل صحيح فإنها لا تتناقض.
الوجه الثالث: منع الحكم في هذا المثال الذي ضربه وجعله أصلا قاس عليه فإن الرجل إذا قال له أحد الرجلين طريقي آمن يوصلني وقال له الآخر لا علم لي بأن طريقي آمن يوصلني أو قال ذلك الأول لم يحسن في العقل تصديق الأول بمجرد قوله بل يجوز عند العقلاء أن يكون هذا محتالا عليه يكذب حتى يصحبه في الطريق فيقتله ويأخذ ماله ويجوز أن يكون جاهلا لا يعرف ما في الطريق من الخوف وأما ذاك الرجل فلم يضمن للسائل شيئا بل رده إلى نظره فالحزم في مثل هذا أن ينظر الرجل أي الطريقين أولى بالسلوك أحد ذينك الطريقين أو غيرهما ولو كان كل من قال إن طريقي آمن موصل يكون أولى بالتصديق ممن توقف لكان كل مفتر وجاهل يدعي في المسائل المشتبهة أن قولي فيها هو الصواب وأنا قاطع بذلك فيكون اتباعي أولى من طريق هؤلاء الذين ينظرون ويستدلون وكان ينبغي أن يكون الشيوخ الكذابون الذين يضمنون لمريدهم الجنة وأن لهم في الآخرة كذا وكذا وأن كل من أحبهم دخل الجنة وأن من أعطاهم المال أعطوه

الحال الذي يقر به إلى ذي الجلال أولى بالاتباع من ذوي العلم والصدق والعدل الذين لا يضمنون له إلا ما ضمنه الله ورسوله لمن أطاعه وكان أيضا ينبغي أن يكون أئمة الإسماعيلية كالمعز والحاكم وأمثالهما أولى بالاتباع من أئمة الإثني عشرية لأن أولئك يدعون من علم الغيب وكشف باطن الشريعة وعلو الدرجة أعظم مما تدعيه الإثنا عشرية لأصحابهم ويضمنون له هذا مع استحلال المحرمات وترك الواجبات فيقولون له قد أسقطنا عنك الصلاة والصوم والحج والزكاة وضمنا لك بموالاتنا الجنة ونحن قاطعون بذلك والاثنا عشرية يقولون لا يستحق الجنة حتى يؤدي الواجبات ويترك المحرمات فإن كان اتباع الجازم بمجرد جزمه أولى كان اتباع هؤلاء أولى من اتباع من يقول أنت إذا أذنبت يحتمل أن تعاقب ويحتمل أن يعفى عنك فيبقى بين الخوف والرجاء ونظائر هذا كثيرة فتبين أن مجرد الإقدام على الجزم لا يدل على علم صاحبه ولا على صدقه وأن التوقف والإمساك حتى يتبين الدليل هو عادة العقلاء.
الوجه الرابع: أن يقال قوله إنهم جازمون بحصول النجاة لهم دون أهل السنة كذب فإنه إن أراد بذلك أن كل واحد ممناعقتد اعتقادهم يدخل الجنة وإن ترك الواجبات وفعل المحرمات فليس هذا قول الإمامية ولا يقوله عاقل وإن كان حب علي حسنة لا يضر معها سيئة فلا يضره ترك الصلوات ولا الفجور بالعلويات ولا نيل أغراضه بسفك دماء بني هاشم إذا كان يحب عليا فإن قالوا المحبة الصادقة تستلزم الموافقة عاد الأمر إلى انه لا بد من أداء الواجبات وترك المحرمات وإن أراد بذلك أنهم يعتقدون أن كل من اعتقد الاعتقاد الصحيح وأدى الواجبات وترك المحرمات يدخل الجنة فهذا اعتقاد أهل السنة فإنهم يجزمون بالنجاة لكل من اتقى الله كما نطق به القرآن وإنما يتوقفون في الشخص المعين لعدم العلم بدخوله في المتقين فإنه إذا علم أنه مات على التقوى علم أنه من أهل الجنة ولهذا يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى

الله عليه وسلم ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولان فتبين أنه ليس في الإمامية جزم محمود اختصوا به عن أهل السنة والجماعة وإن قالوا إنا نجزم لكل شخص رأيناه ملتزما للواجبات عندنا تاركا للمحرمات بأنه من أهل الجنة من غير أن يخبرنا بباطنه معصوم قيل هذه المسألة لا تتعلق بالإمامية بل إن كان إلى هذا طريق صحيح فهو طريق لأهل السنة وهم بسلوكه أحذق وإن لم يكن هنا طريق صحيح إلى ذلك كان ذلك قولا بلا علم فلا فضيلة فيه بل في عدمه ففي الجملة لا يدعون علما صحيحا إلا وأهل السنة أحق به وما ادعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه والقول بكون الرجل المعين من أهل الجنة قد يكون سببه إخبار المعصوم وقد يكون سببه تواطؤ شهادات المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرضكما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت وجبت فقالوا يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم يا ر سول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيءوقد يكون سبب ذلك تواطؤ رؤيا المؤمنين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لم يبق بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل المؤمن الصالح أو ترى له وسئل عن قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة (سورة يونس). قال هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له وقد فسرها أيضا بثناء المؤمنين فقيل يا رسول الله الرجل يعمل

العمل لنفسه فيحمده الناس عليه فقال تلك عاجل بشرى المؤمن والرؤيا قد تكون من الله وقد تكون من حديث النفس وقد تكون من الشيطان فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على أمر كان حقا كما إذا تواطأت رواياتهم أو رأيهم فإن الواحد قد يغلط أو يكذب وقد يخطىء في الرأي أو يتعمد الباطل فإذا إجتمعوا لم يجتمعوا على ضلالة وإذا تواترت الروايات أورثت العلم وكذلك الرؤيا قال النبي صلى الله عليه وسلم أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في السبع الأواخر فمن كان منكم متحريها فيلتحرها في السبع الأواخروهذه الأسباب كلها عند أهل السنة أكمل وأتم مما هي عند الشيعة فلا طريق لهم إلى العلم بالسعادة وحصولها إلا وذلك الطريق أكمل لأهل السنة.
الوجه الخامس: أن أهل السنة يجزمون بحصول النجاة لأئمتهم أعظم من جزم الرافضة وذلك أن أئمتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وهم جازمون بحصول النجاة لهؤلاء فإنهم يشهدون أن العشرة في الجنة ويشهدون أن الله قال لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم بل يقولونإنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء أكثر من ألف وأربعمائة إمام لأهل السنة يشهدون أنه لا يدخل النار منهم أحد وهي شهادة بعلم كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
الوجه السادس: أن يقال أهل السنة يشهدون بالنجاة إما مطلقا وإما معينا شهادة مستندة إلى علم وأما الرافضة فإنهم إن شهدوا شهدوا بما لا يعلمون أو شهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب فهم كما قال الشافعي رحمه الله ما رأيت قوما أشهد بالزور من الرافضة.

الوجه السابع: أن الإمام الذي شهد له بالنجاة إما أن يكون هو المطاع في كل شيء وإن نازعه غيره من المؤمنين أو هو المطاع فيما يأمر به من طاعة الله ورسوله وفيما يقوله باجتهاده إذا لم يعلم أن غيره أولى منه ونحو ذلك فإن كان الإمام هو الأول فلا إمام لأهل السنة بهذا الإعتبار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس عندهم من يجب أن يطاع في كل شيء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون كما قال مجاهد والحاكم ومالك وغيرهم كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون لإمامهم أنه خير الخلائق ويشهدون بأن كل من ائتم به ففعل ما أمر به وترك ما نهى عنه دخل الجنة وهذه الشهادة بهذا وهذا هم فيها أتم من الرافضة من شهادتهم للعسكريين وأمثالهما بانه من أطاعهم دخل الجنة فثبت أن إمام أهل السنة أكمل وشهادتهم له ولهم إذا أطاعوهأكمل ولا سواء ولكن قال الله تعالى آلله خير أما يشركون (سورة النمل). فعند المقابلة يذكر فضل الخير المحض على الشر المحض وإن كان الشر المحض لا خير فيه وإن أرادوا بالإمام الإمام المقيد فذاك لا يوجب أهل السنة طاعته إن لم يكن ما أمر به موافقا لأمر الإمام المطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه فإنما هم مطيعون لله ورسوله فلا يضرهم توقفهم في الإمام المقيد هل هو في الجنة أم لا كما لا يضر أتباع المعصوم عندهم إذا أطاعوا نوابه مع أن نوابه قد يكونون من أهل النار لا سيما ونواب المعصوم عندهم لا يعلم أنهم يأمرون بما يأمر به المعصوم لعدم العلم بما يقوله معصومهم وأما أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فهي معلومة فمن أمر بها فقد علم أنه وافقها ومن أمر بخلافها علم أنه خالفها وما خفى منها فاجتهد فيه نائبه فهذا خير من طاعة نائب لمن تدعى

عصمته ولا أحد يعلم بشيء مما أمر به هذا الغائب المنتظر فضلا عن العلم بكون نائبه موافقا أو مخالفا فإن ادعوا أن النواب عالمون بأمر من قبله فعلم علماء الأمة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل من علم هؤلاء بقول من يدعون عصمته ولو طولب أحدهم بنقل صحيح ثابت بما يقولونه عن علي أو عن غيره لما وجدوا إلى ذلك سبيلا وليس لهم من الإسناد والعلم بالرجال الناقلين ما لأهل السنة.
الوجه الثامن: أن يقال إن الله قد ضمن السعادة لمن أطاعه وأطاع رسوله وتوعد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك فمناط السعادة طاعة الله ورسوله كما قال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (سورة النساء). وأمثال ذلك وإذا كان كذلك والله تعالى يقول فاتقوا الله مااستطعتم (سورة التغابن). فمن اجتهد في طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته كان من أهل الجنة فقول الرافضة لن يدخل الجنة إلا من كان إماميا كقول اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم

قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ومن المعلوم أن المنتظر الذي يدعيه الرافضي لا يجب على أحد طاعته فإنه لا يعلم له قول منقول عنه فإذا من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الجنة وإن لم يؤمن بهذا الإمام ومن آمن بهذا الإمام لم يدخل الجنة إلا إذا أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي مدار السعادة وجودا وعدما وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس والله سبحانه وتعالى قد دل الخلق على طاعته بما بينه لهم فتبين أن أهل السنة جازمون بالسعادة والنجاة لمن كان من أهل السنة.تم بحمد الله الجزء الثالث من كتاب منهاج السنة في نقض كلام الشيعة القدرية لابن تيمية ويتلوه إن شاء الله

بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب: منهاج السنة النبوية
///

الجزء الرابع
///
بسم الله الرحمن الرحيم
*
فصل
قال الرافضي: الوجه الرابع أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين المشهورين بالفضل والعلم والزهد والورع والاشتغال في كل وقت بالعبادة والدعاء وتلاوة القران والماداومة على ذلك من زمن الكفولية الى اخر العمر ومنهم من يعلم الناس العلوم ونزل في حقهم هل أتى واية الطهارة وإيجاب المودة لهم واية الابتهال وغير ذلك وكان علي رضي الله عنه يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة ويتلو القران مع شدة ابتلائه بالحروب والجهاد فأولهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله الله نفس رسول الله حيث قال وأنفسنا وأنفسكم وواخاه رسول الله وزوجه ابنته وفضله لا يخفى وظهرت منه معجزات كثيرة حتى ادعى قوم فيه الربوية وقتلهم وصار إلى مقالتهم اخرون إلى هذه الغاية كالغلاة والنصيرية وكان ولداه سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدا شباب أهل الجنة إمامين بنص النبي صلى الله عليه وسلم وكانا أزهد الناس وأعلمهم في زمانهما وجاهدا في الله حق جهادة حتى قتلا ولبس الحسن الصوف تحت ثيابه الفاخرة من

غير أن يشعر أحد بذلك وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يوما الحسين على فخذه الأيمن وإبراهيم على فخذه الأيسر فنزل جبرائيل عليه السلام وقال إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما فاختر من شئت منهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات الحسين بكيت أنا وعلى وفاطمة وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه فاختار موت إبراهيم فمات بعد ثلاثة أيام وكان أذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول أهلا ومرحبا بمن فديته بابني إبراهيم وكان علي بن الحسين زين العابدين يصوم نهاره ويقوم ليله ويتلو الكتاب العزيز ويصلى كل يوم وليلة ألف ركعة ويدعو كل ركعتين بالأدعية المنقولة عنه وعن ابائه ثم يرمي الصحيفة كالمتضجر ويقول أني لي بعبادة على وكان يبكي كثيرا حتى أخذت الدموع من لحم خديه وسجد حتى سمى ذا الثفنات وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد العابدين وكان قد حج هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يكنه من الزحام فجاء زين العابدين فوقف الناس له وتنحوا عن الحجر حتى استلمه ولم يبق عند الحجر سواه فقال هشام بن عبد الملك من هذا فقال الفرزدق الشاعر هذا الذي تعرف البحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم وهذا التقى النقى الطاهر العلم يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحكيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها إلى مكامر هذا ينتهى الكرم إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم هذا ابن فاكمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا يغضي حياء ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم ينشق نور الهدى عن صبح غرته كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم مشتقة من رسول الله نبعته طابت عناصره والخيم والشيم الله شرفه قدنا وفضله جرى بذاك له في لوجه القلم من معشر حبهم دين ويغضهم كفر وقربهم ملجا ومعتصم لا يستطيع جواد بعد غايتهم ولا يدانيهم قوم وإن كرموا هم الغيوث إذا أومة أزمت والأسد أسد الشرى والرأى محتدم لا ينقص العسر بسطا من أكفهم سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا ما قال لا قط إلا في تشهده ويترق به الإحسان والنعم يستدفع السوء والبلوي بحبهم ويسترق به الإحسان والنعم مقدم بعد ذكر الله ذكرهم في كل بر ومختوم به الكلم من يعرف الله يعف أولية ذا فالدين من بيت هذا ناله الأمم فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بين مكة والمدينة فقال الفرزدق هذه الأبيات وبعث بها إليه أتحبسني بين المدينة والتي إليها قلوب الناس يهوى منبيها تقلب رأسا لم يكن رأس سيد وعينا له حولاء باد عيوبها فبعث إليه الإمام زين العابدين بألف دينار فردها وقال إنما قلت هذا غضبا لله ولرسوله فما اخذ عليه أجرا فقال علي بن الحسن نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما خرج منا فقبلها الفرزدق

وكان بالمدينة قوم يأتيهم رزقهم ليلا ولا يعرفون ممن هو فلما مات زين العابدين انقطع ذلك عنهم وعرفوا أنه كان مه وكان ابنه محمد الباقر أعظم الناس زهدا وعبادة بقر السجود جبهته وكان أعلم أهل وقته سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الباقر وجاء جابر بن عبد الله الأنصاري إليه وهو صغير في الكتاب فقال له جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليك فقال وعلى جدي السلام فقيل لجابر كيف هذا قال كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسين في حجره وهو يلاعبه فقال يا جابر يولد له ولد اسمه على إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم سيد العابدين فيقوم ولده ثم يولد له مولود اسمه محمد الباقر يبقر العلم بقرا فإذا رأيته فاقرئه مني السلام وروى عنه أبو حنيفة وغيره وكان ابنه الصادق عليه السلام أفضل أهل زمانه وأعبدهم قال علماء السيرة إنه اشتغل بالعبادة عن طلب الرياسة وقال عمربن أبي المقدام كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد الصادق علمت أنه من سلالة النبيين وهو الذي نشر فقه الإمامية والمعارف الحقيقة والعقائد اليقينية وكان لا يخبر بأمر إلا وقع وبه سموه الصادق الأمين وكان عبد الله بن الحسن جمع أكابر العلويين للبيعة لولديه فقال الصادق هذا الأمر لا يتم فاغتاظ من ذلك فقال أنه لصاحب القباء الأصفر وأشار بذلك إلى المنصور فلما سمع المنصور بذلك فرح لعلمه بوقوع ما يخبر به وعلم أن الأمر يصل إليه ولما هرب كان يقول أين قول صادقهم وبعد ذلك انتهى الأمر إليه وكان ابنه موسى الكائط يدعى بالعبد الصالح وكان أعبد أهل زمانه يقوم الليل ويصوم النهار وسمي الكاظم لأنه كان إذ بلغه عن

أحد شيء بعث إليه بمال ونقل فضله الموافق والمخالف قال ابن الجوزي من الحنابلة روى عن شقيق البلخي قال خرجت حاجا سنة تسع وأربعين ومائة فنزلت القادسية فإذا شاب حسن الوجه شديد السمرة عليه ثوب صوف مشتمل بشملة في رجليه نعلان وقد جلس منفردا عن الناس فقلت في نفسي هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلا على الناس والله لأمضين إليه أوبخه فدنوت منه فلما راني مقبلا قال يا شقيق اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم فقلت في نفسي هذا عبد صالح قد نطق على ما في خاطري لألحقنه ولأسألته أن يحاللني فغاب عن عيني فلما نزلنا واقصة إذا به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تتحادر فقلت أمضي إليه وأعتذر فأوجز في صلاته ثم قال يا شقيق وإني لغفار لمن تاب وامن وعمل صالحا ثم اهتدى فقلت هذا من الأبدال قد تكلم على سرى مرتين فلما نزلنا زبالة إذا به قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقى ماء فسقطت الركوة من يده في البئر فرفع طرفه إلى السماء وقال أنت ربى إذا ظمئت إلى الما وقوتي إذا أردت الطعاما يا سيدي مالي سواها قال شقيق فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها فأخذ الركوة وملأها توضأ وصلى أربع ركعات ثم مال إلى كثيب رمل هناك فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب فقلت أطعمني من فضل ما رزقك الله أو ما أنعم الله عليك فقال يا شقيق لم تزل نعم الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر ما شربت والله ألذ منه ولا أطيب منه ريحا فشبعت ورويت وأقمت أياما لا أشتهى طعاما

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17