كتاب : منهاج السنة النبوية
المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

هذا المعنى وذكر من كلامهم ما يبين ذلك فاختار هو هذا وأثبت الأحوال التي يسميها غيره أعراضا زائدة وعاد جمهور النزاع إلى أمور لفظية وإذا كان كذلك فمن المعلوم أنا نحن نميز بين الطعم واللون والريح بحواسنا فنجد الطعم بالفم ونرى اللون بالعين ونشم الرائحة بالأنف كما نسمع الصوت بالأذن فهنا الآلات التي تحس بها هذه الأعراض مختلفة فينا يظهر اختلافها في أنفسها لاختلاف الآلات التي تدركها بخلاف ما يقوم بأنفسنا من علم وإرادة وحب فإنا لا نميز بين هذا وهذا بحواس مختلفة وإن كان أدلة العلم بذلك مختلفة فالأدلة قد تكون أمورا منفصلة عن المستدل فهذا مما يقع به الفرق بين الصفات المدركة بالحس والصفات المعلومة بالعقل وإلا فمعلوم أن اتصاف الأترجة والتفاحة بصفاتها المتنوعة هو أمر ثابت في نفسه سواء وجدنا ذلك أو لم نجده ومعلوم أن طعمها نفسه ليس هو لونها ولونها ليس هو ريحها وهذا كلها صفات قائمة بها متنوعة بحقائقها وإن كان محلها الموصوف بها واحدا ثم الصفات نوعان نوع لا يشترط فيه الحياة كالطعم واللون والريح ونوع يشترط فيه الحياة كالعلم والإرادة والسمع والبصر فأما الأول فحكمه لا يتعدى محله فلا يتصف باللون والريح والطعم إلا ما قام به ذلك

وأما هذا الثاني فقد تنازع فيه النظار لما رأوا أن الإنسان يوصف بأنه عالم قادر مريد والعلم والإرادة لم تقم بعقبه ولا بظهره وإنما هو قائم بقلبه فمنهم من قال الأعراض المشروطة بالحياة يتعدى حكمها محلها فإذا قامت بجزء من الجملة وصف بها سائر الجملة كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم ومنهم من يقول بل الموصوف بذلك جزء منفرد في القلب ومنهم من يقول بل حكمها لا يتعدى محلها وإنه بكل جزء من أجزاء البدن حياة وعلم وقدرة ومن هؤلاء من يقول لا يشترط في قيام هذه الأعراض بالجوهر الفرد البنية المخصوصة كما يقوله الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي أحمد وغيرهم وهؤلاء بنوا هذا على ثبوت الجوهر الفرد وهو أساس ضعيف فإن القول به باطل كما قد بسط في موضعه ثم من المتفلسفة المشائين من ادعى أن محل العلم من الإنسان ما لا ينقسم ومعنى ذلك عندهم أن النفس الناطقة لا يتميز منها شيء عن شيء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يصعد ولا ينزل ولا يدخل في البدن ولا غيره من العالم ولا يخرج منه ولا يقرب من شيء ولا يبعد منه ثم منهم من يدعى أنها لا تعلم الجزئيات وإنما تعلم الكليات كما يذكر ذلك عن ابن سينا وغيره وكان أعظم ما اعتمدوا عليه من المعلومات ما لا ينقسم فالعلم به لا ينقسم لأن العلم مطابق للمعلوم

فمحل العلم لا ينقسم لأن ما ينقسم لا يحل في منقسم وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين بعض ما في هذا الكلام من الغلط مع أن هذا عندهم هو البرهان القاطع الذي لا يمكن نقضه وقواهم على ذلك أن بعض من عارضهم كأبي حامد والرازي لم يجيبوا عنه بجواب شاف بل أبو حامد قد يوافقهم على ذلك ومنشأ النزاع إثبات ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه في الوجود الخارجي فيقال لهم لا نسلم أن في الوجود ما لا يتميز منه شيء عن شيء فإذا قالوا النقطة قيل لهم النقطة والخط والسطح الواحد والإثنان والثلاثة قد يراد بها هذه المقادير مجردة عن موصوفاتها وقد يراد بها ما اتصف بها من المقدرات في الخارج فإذا أريد الأول فلا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان فليس في الخارج عدد مجرد عن المعدود ولا مقدار مجرد عن المقدر لا نقطة ولا خط ولا سطح ولا واحد ولا اثنان ولا ثلاثة بل الموجودات

المعدودات كالدرهم والحبة والإنسان والمقدرات كالأرض التي لها طول وعرض وعمق فما من سطح إلا وله حقيقة يتميز بها عن غيره من السطوح كما يتميز التراب عن الماء وكا يتميز سطوح كل جسم عن سطوح الآخر وإن قالوا ما لا ينقسم هي العقول المجردة التي تثبتها الفلاسفة كان دون إثبات هذه خرط القتادة فلا يتحقق منها إلا ما يقدر في الأذهان لا ما يوجد في الأعيان والملائكة التي وصفتها الرسل وأمروا بالإيمان بها بينها وبين هذه المجردات من أنواع الفرقان ما لا يخفى إلا على العميان كما قد بسط في غير هذا المكان وإن أرادوا بما لا ينقسم واجب الوجود وقالوا إنه واحد لا ينقسم ولا يتجزأ قيل إن أردتم بذلك نفى صفاته وأنه ليس لله حياة وعلم وقدرة تقوم به فقد علم أن جمهور المسلمين وسائر أهل الملل بل وسائر عقلاء بني آدم من جميع الطوائف يخالفونكم في هذا وهذا أول المسألة وأنتم وكل عاقل قد يعلم بعض صفاته دون بعض والمعلوم هو غير ما ليس بمعلوم فكيف ينكر أن يكون له معان متعددة وأدلة إثبات الصانع كثيرة ليس هذا موضعها فلم قلتم بإمكان وحود مثل هذا في الخارج فضلا عن تحقيق وجوده

وقد عرف فساد حجتكم على نفى الصفات وإن سميتم ذلك توحيدا فحينئذ الواحد الذي لا يتميز منه شيء عن شيء لم يعلم ثبوته في الخارج حتى يحتج على أن العلم به كذلك والعالم به كذلك وقد احتج بعضهم على وجود ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه بأن قالوا الوجود في الخارج إما بسيط وإما مركب والمركب لا بد له من بسيط وهذا ممنوع فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب من هذا البسيط الذي أثبتموه وإنما الموجود الأجسام البسيطة وهو ما يشبه بعضه بعضا كالماء والنار والهواء ونحو ذلك وأما ما لا يتميز منه شيء عن شيء فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب منه بل لا موجود إلا ما يتميز منه شيء عن شيء وإذا قالوا فذلك الشيء هو البسيط قيل لهم وذلك إنما يكون بعضا من غيره لا يعلم مفردا ألبتة كما لا يوجد مفردا ألبتة ثم يقال من المعلوم أن بدن الإنسان ينقسم بالمعنى الذي يذكرونه ويتميز منه شيء عن شيء والحياة والحس سار في بدنه فما المانع أن تقوم الحياة والعلم بالروح كما قامت الحياة والحس بالبدن وإن كان البدن منقسما عندكم وإن قلتم الحياة والحس منقسم عندكم قيل إن أردتم بذلك أنه يمكن كون البعض حيا حساسا مع مفارقة البعض

قيل هذا لا يطرد بل قد يذهب بعضه وتبقى الحياة والحس في بعضه وقد تذهب الحياة والحس عن بعضه بذهاب ذلك عن البعض كما في القلب وعلى التقديرين فالحياة والحس يتسع باتساع محله والأرواح متنوعة وما يقوم بها من العلم والإرادة وغير ذلك يتنوع بتنوعها فما عظم من الموصوفات عظمت صفاتها وما كان دونها كانت صفاته دونه وأيضا فالوهم عندهم قوة جسمانية قائمة بالجسم مع أنها تدرك في المحسوس ما ليس بمحسوس كالصداقة والعداوة وذلك المعنى مما لا ينقسم بانقسام محله عندهم وأيضا فقوة الإبصار التي في العين قائمة بجسم ينقسم عندهم مع أنها لا تنقسم بانقسام محلها بل الإتصال شرط فيها فلو فسد بعض محلها فسدت ولا يبقى بعضها مع فساد أي بعض كان فما كان المانع أن يكون قيام الحياة والعلم والقدرة والإرادة ببعض الروح إذا قيل يتميز بعضها عن بعض مشروطا بقيامه بالبعض الآخر بحيث يكون الإتصال شرطا في هذا الإتصاف كما يوجد ذلك في الحياة والحس في بعض البدن لا تقوم به الحياة والحس إلا إذا كان متصلا نوعا من الإتصال وبسط الكلام في كثير من هذه الأمور يتعلق بالكلام على روح الإنسان التي تسمى النفس الناطقة وعلى اتصافها بصفاتها فبهذا

يستعين الإنسان على الكلام في الصفات الإلهية وبذلك يستعين على ما يرد عليه من الشبهات وقد تكلمنا على ذلك في مواضع والناس قد تنازعوا في روح الإنسان هل هي جسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة أو جوهر لا يقبل الصعود والنزول والقرب والبعد ونحو ذلك وكلا القولين خطأ كما ذكر في غير هذا الموضع وأضعف من ذلك قول من يجعلها عرضا من أعراض البدن كالحياة والعلم وقد دخل في الأول قول من قال إن الإنسان ليس هو إلا هذه الجمل المشاهدة وهي البدن ومن قال إنها الريح التي تتردد في مخاريق البدن ومن قال إنها الدم ومن قال إنها البخار اللطيف الذي يجري في مجاري الدم وهو المسمى بالروح عند الأطباء ومن قال غير ذلك والثاني قول من يقول بذلك من المتفلسفة ومن وافقهم من النظار وقد ينظر الإنسان في كتب كثيرة من المصنفة في هذه الأمور ويجد في المصنف أقوالا متعددة والقول الصواب لا يجده فيها ومن تبحر في المعارف تبين له خلاصة الأمور وتحقيقها هو ما أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى في جميع هذه الأمور لكن إطالة القول في هذا الباب لا يناسب هذا

الكتاب وإنما المقصود التنبيه على أن ما تشنع به الرافضة على أهل السنة من ضعيف الأقوال هم به أخلق والضلال بهم أعلق ولكن لا بد من جمل يهتدى بها إلى الصواب وباب التوحيد والأسماء والصفات مما عظم فيه ضلال من عدل عما جاء به الرسول إلى ما يظنه من المعقول وليست المعقولات الصريحة إلا بعض ما أخبر به الرسول يعرف ذلك من خبر هذا وهذا.
*

فصل
وهذا الموضع أشكل على كثير من الناس لفظا ومعنى أما اللفظ فتنازعوا في الأسماء التي تسمى الله بها وتسمى بها عباده كالموجود والحي والعليم والقدير فقال بعضهم هي مقولة بالإشتراك اللفظي حذرا من إثبات قدر مشترك بينهما لأنهما إذا اشتركا في مسمى الوجود لزم أن يمتاز الواجب عن الممكن بشيء آخر فيكون مركبا وهذا قول بعض المتأخرين كالشهرستاني والرازي في أحد قوليهما وكالآمدي مع توقفه أحيانا وقد ذكر الرازي والآمدي ومن اتبعهما هذا القول عن الأشعري وأبي الحسين البصري وهو غلط عليهما وإنما ذكروا ذلك

لأنهما لا يقولان بالأحوال ويقولان وجود كل شيء عين حقيقته فظنوا أن من قال وجود كل شيء عين حقيقته يلزمه أن يقول إن لفظ الوجود يقال بالإشتراك اللفظي عليهما لأنه لو كان متواطئا لكان بينهما قدر مشترك فيمتاز أحدهما عن الآخر بخصوص حقيقته والمشترك ليس هو المميز فلا يكون الوجود المشترك هو الحقيقة المميزة والرازي والآمدي ونحوهما ظنوا أنه ليس في المسألة إلا هذا القول وقول من يقول بأن اللفظ متواطئ ويقول وجوده زائد على حقيقته كما هو قول أبي هاشم وأتباعه من المعتزلة والشيعة أو قول ابن سينا بأنه متواطئ أو مشكك مع أنه الوجود المقيد بسلب كل أمر ثبوتي عنه وذهب من ذهب من القرامطة الباطنية وغلاة الجهمية إلى أن هذه الأسماء حقيقة في العبد مجاز في الرب قالوا هذا في اسم الحي ونحوه حتى في اسم الشيء كان الجهم وأتباعه لا يسمونه شيئا وقيل عنه إنه لم يسمه إلا بالقادر الفاعل لأن العبد عنده ليس بقادر ولافاعل فلا يسميه باسم يسمى به العبد وذهب أبو العباس الناشئ إلى ضد ذلك فقال إنها حقيقة للرب مجاز للعبد وزعم ابن حزم أن أسماء الله تعالى الحسنى لا تدل على المعاني فلا يدل عليم على علم ولا قدير على قدرة بل هي أعلام

محضة وهذا يشبه قول من يقول بأنها تقال بالإشتراك اللفظي وأصل غلط هؤلاء شيئان إنا نفى الصفات والغلو في نفى التشبيه وإما ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج فالأول هو مأخذ الجهمية ومن وافقهم على نفى الصفات قالوا إذا قلنا عليم يدل على علم وقدير يدل على قدرة لزم من إثبات الأسماء إثبات الصفات وهذا مأخذ ابن حزم فإنه من نفاة الصفات مع تعظيمه للحديث والسنة والإمام أحمد ودعواه أن الذي يقوله في ذلك هو مذهب أحمد وغيره وغلطه في ذلك بسبب أنه أخذ أشياء من أقوال الفلاسفة والمعتزلة عن بعض شيوخه ولم يتفق له من يبين له خطأهم ونقل المنطق بالإسناد عن متى الترجمان وكذلك قالوا إذا قلنا موجود وموجود وحي وحي لزم التشبيه فهذا أصل غلط هؤلاءوأما الأصل الثاني فمنه غلط الرازي ونحوه فإنه ظن أنه إذا كان هذا موجودا وهذا موجودا والوجود شامل لهما كان بينهما وجود مشترك كلى في الخارج فلا بد من مميز يميز هذا عن هذا والمميز إنما هو الحقيقة فيجب أن يكون هناك وجود مشترك وحقيقة مميزة ثم إن هؤلاء يتناقضون فيجعلون الوجود ينقسم إلى واجب وممكن أو قديم ومحدث كما تنقسم سائر الأسماء العامة الكلية لا كما تنقسم الألفاظ المشتركة كلفظ سهيل القول على سهيل الكوكب وعلى سهيل بن عمرو فإن تلك لا يقال فيها إن هذا ينقسم إلى كذا

وكذا ولكن يقال إن هذا اللفظ يطلق على هذا المعنى وعلى هذا المعنى وهذا أمر لغوي لا تقسيم عقلي وهناك تقسيم عقلي تقسيم المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام مورد التقسيم مشترك بين الأقسام وقد ظن بعض الناس أنه يخلص من هذا بأن يجعل لفظ الوجود مشككا لكون الوجود الواجب أكمل كما يقال في لفظ السواد والبياض المقول على سواد القار وسواد الحدقة وبياض الثلج وبياض العاج ولا ريب أن المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها بل أكثرها كذلك وتخصيص هذا القسم بلفظ المشكك أمر اصطلاحي ولهذا كان من الناس من قال هو نوع من المتواطئ لأن واضع اللغة لم يضع اللفظ العام بإزاء التفاوت الحاصل لأحدهما بل بإزاء القدر المشترك وبالجملة فالنزاع في هذا لفظي فالمتواطئة العامة تتناول المشككة وأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة وإذ جعلت المتواطئة نوعين متواطئا عاما وخاصا كما جعل الإمكان نوعين عاما وخاصا زال اللبس والمقصود هنا أن يعرف أن قول جمهور الطوائف من الأولين والآخرينأن هذه الأسماء عامة كلية سواء سميت متواطئة أو مشككة ليست ألفاظا مشتركة اشتراكا لفظيا فقط وهذا مذهب المعتزلة والشيعة والأشعرية والكرامية وهو مذهب سائر المسلمين أهل السنة والجماعة والحديث وغيرهم إلا من شذ وأما الشبه التي أوقعت هؤلاء فجوابها من وجهين تمثيل وتخييل أما التمثيل فأن يقال القول في لفظ الوجود كالقول في لفظ الحقيقة والماهية والنفس والذات وسائر الألفاظ التي تقال على الواجب والممكن بل تقال على كل موجود فهم إذا قالوا يشتركان في الوجود ويمتاز أحدهما عن الآخر بحقيقته قيل لهم القول في لفظ الحقيقة كالقول في لفظ الوجود فإن هذا له حقيقة وهذا له حقيقة كما أن لهذا وجودا ولهذا وجودا وأحدهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به كما هو ممتاز عنه بحقيقته التي تختص به فقول القائل إنهما يشتركان في مسمى الوجود ويمتاز كل

واحد منهما بحقيقته التي تخصه كما لو قيل هما مشتركان في مسمى الحقيقة ويمتاز كل منهما بوجوده الذي يخصه وإنما وقع الغلط لأنه اخذ الوجود مطلقا لا مختصا وأخذت الحقيقة مختصة لا مطلقة ومن المعلوم أن كلا منهما يمكن أن يوجد مطلقا ويمكن أن يوجد مختصا فإذا أخذا مطلقين تساويا في العموم وإذا أخذا مختصين تساويا في الخصوص وأما أخذ أحدهما عاما والآخر مختصا فليس هذا بأولى من العكس وأما حل الشبهة فهو أنهم توهموا أنه إذا قيل إنهما مشتركان في مسمى الوجود يكون في الخارج وجود مشترك هو نفسه في هذا وهو نفسه في هذا فيكون نفس المشترك فيهما والمشترك لا يميز فلا بد له من مميز وهذا غلط فإن قول القائل يشتركان في مسمى الوجود أي يشتبهان في ذلك ويتفقان فيه فهذا موجود وهذا موجود ولم يشرك أحدهما الآخر في نفس وجوده ألبتةوإذا قيل يشتركان في الوجود المطلق الكلي فذاك المطلق الكلي لا يكون مطلقا كليا إلا في الذهن فليس في الخارج مطلق كلي يشتركان فيه بل هذا له حصة منه وهذا له حصة منه وكل من الحصتين ممتازة عن الأخرى ومن قال المطلق جزء من المعين والموجود جزء من هذا الموجود والإنسان جزء من هذا الإنسان إن أراد به أن المعين يوصف به فيكون صفة له ومع كونه صفة له فما هو صفة له لا توجد عينه لآخر فهذا معنى صحيح ولكن تسمية الصفة جزء الموصوف ليس هو المفهوم منها عند الإطلاق وإن أريد أن نفس ما في المعين من وجود أو إنسان هو في ذلك بعينه فهذا مكابرة وإن قال إنما أردت أن النوع في الآخر عاد الكلام في النوع فإن النوع أيضا كلى والكليات الخمسة كليات الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام والقول فيها واحد فليس فيها ما يوجد في الخارج كليا مطلقا ولا تكون كلية مطلقة إلا في الأذهان لا في الأعيان

وما يدعى فيها من عموم وكلية أو من تركيب كتركيب النوع من الجنس والفصل هي أمور عقلية ذهنية لا وجود لها في الخارج فليس في الخارج شيء يعم هذا وهذا ولا في الخارج إنسان مركب من هذا وهذا بل الإنسان موصوف بهذا وهذا وهذا بصفة يوجد نظيرها في كل إنسان وبصفة يوجد نظيرها في كل حيوان وبصفة يوجد نظيرها في كل نام وأما نفس الصفة التي قامت به ونفس الموصوف الذي قامت به الصفة فلا اشتراك فيه أصلا ولا عموم ولا هو مركب من عام وخاص وهذا الموضع منشأ زلل كثير من المنطقيين في الكليات وكثير من المتكلمين في مسألة الحل وبسبب ذلك غلط من غلط من هؤلاء وهؤلاء في الإلهيات فيما يتعلق بهذا فإن المتكلمين أيضا رأوا أن الأشياء تتفق بصفات وتختلف بصفات والمشترك عين المميز فصاروا حزبين حزبا أثبت هذه الأمور في الخارج لكنه قال لا موجودة ولا معدومة لأنها لو كانت موجودة لكانت أعيانا موجودة أو

صفات للأعيان ولو كانت كذلك لم يكن فيها اشتراك وعموم فإن صفة الموصوف الموجودة لا يشركه فيها غيره وآخرون علموا أن كل موجود مختص بصفة فقالوا لا عموم ولا اشتراك إلا في الألفاظ دون المعاني والتحقيق أن هذه الأمور العامة المشترك فيها هي ثابتة في الأذهان وهي معاني الألفاظ العامة فعمومها بمنزلة عموم الألفاظ فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى والمعنى عام وعموم اللفظ يطابق عموم المعنى وعموم الخط يطابق عموم اللفظ وقد اتفق الناس على أن العموم يكون من عوارض الألفاظ وتنازعوا هل يكون من عوارض المعاني فقيل يكون أيضا من عوارض المعاني كقولهم مطر عام وعدم عام وخصب عام وقيل بل ذلك مجاز لأن المطر الذي حل بهذه البقعة ليس هو المطر الذي حل بهذه البقعة وكذلك الخصب والعدل والتحقيق أن معنى المطر القائم بقلب المتكلم عام كعموم اللفظ سواء بل اللفظ دليل على ذلك المعنى فكيف يكون اللفظ عاما دون معناه الذي هو المقصود بالبيان فأما المعاني الخارجية فليس فيها

شيء بعينه عام وإنما العموم للنوع كعموم الحيوانية للحيوان والإنسانية للإنسان فمسألة الكليات والأحوال وعروض العموم لغير الألفاظ من جنس واحد ومن فهم الأمر على ما هو عليه تبين له أنه ليس في الخارج شيء هو بعينه موجود في هذا وهذا وإذا قال نوعه موجود أو الكلى الطبيعي موجود أو الحقيقة موجودة أو الإنسانية من حيث هي موجودة ونحو هذه العبارات فالمراد به أنه وجد في هذا نظير ما وجد في هذا أو شبهه ومثله ونحو ذلك والمتماثلان يجمعهما نوع واحد وذلك النوع هو الذي بعينه يعم هذا ويعم هذا لا يكون عاما مطلقا كليا إلا في الذهن وأنت إذا قلت الإنسانية موجودة في الخارج والكلى الطبيعي موجود في الخارج كان صحيحا بمعنى أن ما تصوره الذهن كليا يكون في الخارج لكنه إذا كان في الخارج لا يكون كليا كما أنك إذا قلت زيد في الخارج فليس المراد هذا اللفظ ولا المعنى القائم في الذهن بل المراد المقصود بهذا اللفظ موجود في الخارجومن هنا تنازع الناس في مسألة الإسم والمسمى ونزاعهم شبيه بهذا النزاع وأنت إذا نظرت في الماء أو المرآة فقلت هذه الشمس أو هذا القمر فهو صحيح وليس مرادك أن نفس ما في السماء حصل في الماء أو المرآة ولكن ذلك شوهد في المرآة وظهر في المرآة وتجلى في المرآة فإذا قلت الكليات في الخارج فصحيح أو الإنسان من حيث هو في الخارج فصحيح لكن لا يكون في الخارج إلا مقيدا مخصوصا لا يشركه في نفس الأمر شيء من الموجودات الخارجية وبهذا ينحل كثير من المواضع التي اشتبهت على كثير من المنطقيين وغلطوا فيها مثل زعمهم أن الماهية الموجودة في الخارج غير الوجود فإنك تتصور المثلث قبل أن تعلم وجوده وبنوا على ذلك الفرق بين الصفات الذاتية واللازمة العرضية وغير ذلك من مسائلهم ولا ريب أن الفرق ثابت بين ما هو في الذهن وما هو في الخارج فإذا

جعلت الماهية اسما لما في الذهن والوجود اسما لما في الخارج فالفرق ثابت كما لو جعل الوجود اسما لما في الذهن والماهية اسما لما في الخارج لكن لما كان لفظ الماهية مأخوذا من قول السائل ماهو وجواب هذا هو المقول في جواب ما هو وذلك كلام يتصور معناه المجيب عبر بالماهية عن الصور الذهنية وأما الوجود فهو تحقق الشيء في الخارج لكن هؤلاء لم يقتصروا على هذا بل زعموا أن ما هيات الأشياء ثابتة في الخارج وأنها غير الأعيان الموجودة وهذا غلط بالضرورة فإن المثلث الذي تعرفه قبل أن تعرف وجوده في الخارج هو المثلث المتصور في الذهن الذي لا وجود له في الخارج وإلا فمن الممتنع أن تعلم حقيقة المثلث الموجود في الخارج قبل أن تعلم وجوده في الخارج فما في الخارج لا تعلم حقيقته حتى تعلم وجوده وما علمت حقيقته قبل وجوده لم يكن له حقيقة بعد إلا في الذهنومن هذا الباب ظن من ظن من هؤلاء أن لنا عددا مجردا في الخارج أو مقدارا مجردا في الخارج وكل هذا غلط وهذا مبسوط في موضع آخر وإنما نبهنا هنا على هذا لأن كثيرا من أكابر أهل النظر والتصوف والفلسفة والكلام ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية ضلوا في مسألة وجود الخالق التي هي رأس كل معرفة والتبس الأمر في ذلك على من نظر في كلامهم لأجل هذه الشبهة وقد كتبنا في مسألة الكليات كلاما مبسوطا مختصا بذلك لعموم الحاجة وقوة المنفعة وإزالة الشبهة بذلك وبهذا يتبين غلط النفاة في لفظ التشبيه فإنه يقال الذي يجب نفيه عن الرب تعالى اتصافه بشيء من خصائص المخلوقين كما أن المخلوق لا يتصف بشيء من خصائص الخالق أو أن يثبت للعبد شيء يماثل فيه الرب وأما إذا قيل حي وحي وعالم وعالم وقادر وقادر أو قيل لهذا قدرة ولهذا قدرة ولهذا علم ولهذا علم كان نفس علم الرب لم يشركه فيه العبد ونفس علم العبد لا يتصف به الرب تعالى عن ذلك وكذلك في سائر الصفات بل ولا يماثل هذ هذا

وإذا اتفق العلماء في مسمى العلم والعالمان في مسمى العالم فمثل هذا التشبيه ليس هو المنفى لا بشرع ولا بعقل ولا يمكن نفى ذلك إلا بنفى وجود الصانع ثم الموجود والمعدوم قد يشتركان في أن هذا معلوم مذكور وهذا معلوم مذكور وليس في إثبات هذا محذور فإن المحذور إثبات شيء من خصائص أحدهما للآخر وقولنا إثبات الخصائص إنما يراد إثبات مثل تلك الخاصة وإلا فإثبات عينها ممتنع مطلقا فالأسماء والصفات نوعان نوع يختص به الرب مثل الإله ورب العالمين ونحو ذلك فهذا لايثبت للعبد بحال ومن هنا ضل المشركون الذين جعلوا لله أندادا والثاني ما يوصف به العبد في الجملة كالحي والعالم والقادر فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلا فإنه لو ثبت له مثل ما يثبت له للزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه وذلك يستلزم اجتماع النقيضين كما تقدم بيانهوإذا قيل فهذا يلزم فيما اتفقا فيه كالوجود والعلم والحياة قيل هذه الأمور لها ثلاثة اعتبارات أحدها ما يختص به الرب فهذا ما يجب له ويجوز ويمتنع عليه ليس للعبد فيه نصيب والثاني ما يختص بالعبد كعلم العبد وقدرته وحياته فهذا إذا جاز عليه الحدوث والعدم لم يتعلق ذلك بعلم الرب وقدرته وحياته فإنه لا اشتراك فيه والثالث المطلق الكلى وهو مطلق الحياة والعلم والقدرة فهذا المطلق ما كان واجبا له كان واجبا فيهما وما كان جائزا عليه كان جائزا عليهما وما كان ممتنعا عليه كان ممتنعا عليهما فالواجب أن يقال هذه صفة كمال حيث كانت فالحياة والعلم والقدرة صفة كمال لكل موصوف والجائز عليهما اقترانهما بصفة أخرى كالسمع والبصر والكلام فهذه الصفات يجوز أن تقارن هذه في كل محل اللهم إلا إذا كان هناك مانع من جهة المحل لا من جهة الصفة وأما الممتنع عليهما فيمتنع أن تقوم هذه الصفات إلا بموصوف

قائم بنفسه وهذا ممتنع عليها في كل موضع فلا يجوز أن تقوم صفات الله بأنفسها بل بموصوف وكذلك صفات العباد لا يجوز أن تقوم بأنفسها بل بموصوف وإذا تبين هذا فقول هذا المصنف وأشباهه قول المشبهة إن أراد بالمشبهة من أثبت من الأسماء ما يسمى به الرب والعبد فطائفته وجميع الناس مشبهة وإن أراد به من جعل صفات الرب مثل صفات العبد فهؤلاء مبطلون ضالون وهم في الشيعة أكثر منهم في غيرهم وليس هؤلاء طائفة معينة من أهل السنة والجماعة وإن قال أردت به من يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين والإستواء ونحو ذلك قيل له أولا ليس هي هؤلاء من التشبيه ما امتازوا به عن غيرهم فإن هؤلاء يصرحون بأن صفات الله ليست كصفات الخلق وأنه منزه عما يختص بالمخلوقين من الحدوث والنقص وغير ذلك فإن كان هذا تشبيها لكون العباد لهم ما يسمى بهذه الأسماء كان جميع الصفاتيةمشبهة بل والمعتزلة والفلاسفة أيضا مشبهة لأنهم يقولون حي عليم قدير ويقولون موجود وحقيقة وذات ونفس والفلاسفة تقول عاقل ومعقول وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق وغير ذلك من الأسماء الموجودة في المخلوقات وإن قال سموا مشبهة لأنهم يقولون إنه جسم والأجسام متماثلة بخلاف من أثبت الصفات ولم يقل هو جسم قيل أولا هذا باطل لأنك ذكرت الكرامية قسما غيرهم والكرامية تقول إنه جسم وقيل لك ثانيا لا يطلق لفظ الجسم إلا أئمتك الإمامية ومن وافقهم وقيل لك ثالثا فهذا مبنى على تماثل الأجسام وأكثر العقلاء يقولون إنها ليست متماثلة والقائلون بتماثلها من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وطائفة من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ليست لهم حجة على تماثلها أصلا كما قد بسط ذلك في موضعه

وقد اعترف بذلك فضلاؤهم حتى الآمدي في كتاب أبكار الأفكار اعترف بأنه لا دليل لهم على تماثل الأجسام إلا تماثل الجواهر ولا دليل لهم على تماثل الجواهر والأشعري في الإبانة جعل هذا القول من أقوال المعتزلة التي أبطلها وسواء كان تماثلها حقا أو باطلا فمن قال إنه جسم كهشام بن الحكم وابن كرام لا يقول بتماثل الأجسام فإنهم يقولون إن حقيقة الله تعالى ليست مثل شيء من الحقائق فهم أيضا ينكرون التشبيه فإذا وصفوا به لاعتقاد الواصف أنه لازم لهم أمكن كل طائفة أن يصفوا الأخرى بالتشبيه لاعتقادها أنه لزم لها فالمعتزلة والشيعة توافقهم على أن أخص وصف الرب هو القدم وأن ما شاركه في القدم فهو مثله فإذا أثبتنا صفة قديمة لزم التشبيه وكل من أثبت صفة قديمة فهو مشبه وهم يسمون جميع من أثبت الصفات مشبها بناء على هذافإن قال هذا الإمامي فأنا ألتزم هذا قيل له تناقضت لأنك أخرجت الأشعرية والكرامية عن المشبهة في اصطلاحك فأنت تتكلم بألفاظ لا تفهم معناها ولا موارد استعمالها وإنما تقوم بنفسك صورة تبني عليها وكأنك والله أعلم عنيت بالحشوية المشبهة من ببغداد والعراق من الحنبلية ونحوهم أو الحنبلية دون غيرهم وهذا من جهلك فإنه ليس للحنبلية قول انفردوا به عن غيرهم من طوائف أهل السنة والجماعة بل كل ما يقولونه قد قاله غيرهم من طوائف أهل السنة بل يوجد في غيرهم من زيادة الإثبات ما لا يوجد فيهم ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة ومتنازعون في إجماع من بعدهم وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة والصبر في

المحنة فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على من امتحنه ليفارقها وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات اللهتعالى وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخروا الرافضة وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة حتى تهددوا بعضهم بالقتل وقيدوا بعضهم وعاقبوهم وأخذوهم بالرهبة والرغبة وثبت الإمام أحمد بن حنبل على ذلك الأمر حتى حبسوه مدة ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم ولم يأتوا بما يوجب موافقته لهم بل بين خطأهم فيما ذكروه من الأدلة وكانوا قد طلبوا له أئمة الكلام من أهل البصرة وغيرهم مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وأمثاله ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط بل كانتمع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية وأنواع المرجئة فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزليا لكن جهم أشد تعطيلا لأنه ينفى الأسماء والصفات والمعتزلة تنفى الصفات دون الأسماء وبشر المريسى كان من المرجئة لم يكن من المعتزلة بل كان من كبار الجهميةوظهر للخليفة المعتصم أمرهم وعزم على رفع المحنة حتى ألح عليه ابن أبي دؤاد يشير عليه إنك إن لم تضر به وإلا انكسر ناموس الخلافة فضربه فعظمت الشناعة من العامة والخاصة فأطلقوه ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة للصفات وصنف الناس في ذلك مصنفات وأحمد وغيره من علماء أهل السنة والحديث مازالوا يعرفون فساد

مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة ولكن بسبب المحنة كثر الكلام ورفع الله قدر هذا الإمام فصار إماما من أئمة السنة وعلما من أعلامها لقيامه بإعلامها وإظهارها واطلاعه على نصوصها وآثارها وبيانه لخفى أسرارها لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا ولهذا قال بعض شيوخ المغرب المذهب لمالك والشافعي والظهور لأحمد يعنى أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد وهو كما قال فتخصيص الكلام من أحمد وأصحابه في مسائل الإمامة والإعتزال كتخصيصه بالكلام معه في مسائل الخوارج الحرورية بل في نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم والرد على اليهود والنصارى والخطاب بتصديق الرسول فيما أخبر به وطاعته فيما أمر به قد شمل جميع العباد ووجب على كل أحد فأسعدهم أطوعهم لله وأتبعهم لرسول الله وإذا قدر أن في الحنبلية أو غيرهم من طوائفأهل السنة من قال أقوالا باطلة لم يبطل مذهب أهل السنة والجماعة ببطلان ذلك بل يرد على من قال ذلك الباطل وتنصر السنة بالدلائل ولكن الرافضي أخذ ينكت على كل طائفة بما يظن أنه يجرحها به في الأصول والفروع ظانا أن طائفته هي السليمة من الجرح وقد اتفق عقلاء المسلمين على أنه ليس في طائفة من طوائف أهل القبلة أكثر جهلا وضلالا وكذبا وبدعا وأقرب إلى كل شر وأبعد عن كل خير من طائفته ولهذا لما صنف الأشعري كتابه في المقالات ذكر أولا مقالتهم وختم بمقالة أهل السنة والحديث وذكر أنه بكل ما ذكر من أقوال أهل السنة والحديث يقول وإليه يذهب وتسمية هذا الرافضي وأمثاله من الجهمية معطلة الصفات لأهل الإثبات مشبهة كتسميتهم لمن أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة ناصبيا بناء على اعتقادهم فإنهم لما اعتقدوا أنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة من

هؤلاء جعلوا كل من لم يتبرأ من هؤلاء ناصبيا كما أنهم لما اعتقدوا أن القدمين متماثلان أو أن الجسمين متماثلان ونحو ذلك قالوا إن مثبتة الصفات مشبهة فيقال لمن قال هذا إن كان مرادك بالنصب والتشبيه بغض علي وأهل البيت وجعل صفات الرب مثل صفات العبد فأهل السنة ليسوا ناصبية ولا مشبهة وإن كنت تريد بذلك أنهم يوالون الخلفاء ويثبتون صفات الله تعالى فسم هذا بما شئت إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان والمدح والذم إنما يتعلق بالأسماء إذا كان لها أصل في الشرع كلفظ المؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل ثم من أراد أن يمدح أو يذم فعليه أن يبين دخول الممدوح والمذموم في تلك الأسماء التي علق الله ورسوله بها المدح والذم فأما إذا كان الإسم ليس له أصل في الشرع ودخول الداخل فيه مما ينازع فيه المدخل بطلت كل من المقدمتين وكان هذا الكلام مما لا يعتمد عليه إلا من لا يدري ما يقول

والكتاب والسنة ليس فيه لفظ ناصبية ولا مشبهة ولا حشوية ولا فيه أيضا لفظ رافضة ونحن إذا قلنا رافضة نذكره للتعريف لأن مسمى هذا الإسم يدخل فيه أنواع مذمومة بالكتاب والسنة من الكذب على الله ورسوله وتكذيب الحق الذي جاء به رسوله ومعاداة أولياء الله بل خيار أوليائه وموالاة اليهود والنصارى والمشركين كما تبين وجوه الذم وأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعمهم معنى مذموم في الكتاب والسنة بحال كما يعم الرافضة نعم يوجد في بعضهم ما هو مذموم ولكن هذا لا يلزم منه ذمهم كما أن المسلمين إذا كان فيهم من هو مذموم لذنب ركبه لم يستلزم ذلك ذم الإسلام وأهله القائمين بواجباته الوجه الرابع أن يقال أما القول بأنه جسم أو ليس بجسم فهذا مما تنازع فيه أهل الكلام والنظر وهي مسألة عقلية وقد تقدم أن الناس فها على ثلاثة أقوال نفي وإثبات ووقف وتفصيل وهذا هو الصواب الذي عليه السلف والأئمة ولهذا لما ذكر أبو عيسى برغوث لأحمد هذا في مناظرته إياه وأشار إلى أنه إذا قلت إن القرآن غير مخلوق لزم أن يكون الله جسما لأنالقرآن صفة وعرض ولا يكون إلا بفعل والصفات والأعراض والأفعال لا تقوم إلا بالأجسام أجابة الإمام أحمد بأنا نقول إن الله أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأن هذا الكلام لا يدرى مقصود صاحبه به فلا نطلقه لا نفيا ولا أثباتا أما من جهة الشرع فلأن الله ورسوله وسلف الأمة لم يتكلموا بذلك لا نفيا ولا إثباتا فلا قالوا هو جسم ولا قالوا هو ليس بجسم ولما سلك من سلك في الإستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام ودخلوا في هذا الكلام ذم السلف الكلام وأهله حتى قال أبو يوسف من طلب الدين بالكلام تزندق وقال الشافعي حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وقال لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله

ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خيرا له من أن يبتلى بالكلام وقد صنفت في ذمهم مصنفات مثل كتاب أبي عبد الرحمن السلمي وكتاب شيخ الإسلام الأنصاري وغير ذلك وأما من جهة العقل فلأن هذا اللفظ مجمل يدخل فيه نافيه معاني يجب أثباتها لله ويدخل فيه مثبته ما ينزه الله تعالى عنه فإذا لم يدر مراد المتكلم به لم ينف ولم يثبت وإذا فسر مراده قبل الحق وعبر عنه بالعبارات الشرعية ورد الباطل وإن تكلم بلفظ لم يرد عن الشارعللحاجة إلى إفهام المخاطب بلغته مع ظهور المعنى الصحيح لم يكن بذلك بأس فإنه يجوز ترجمة القرآن والحديث للحاجة إلى الإفهام وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له صحة القول وفساده وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب ترى أحدهم يذكر له المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ بلغتهم وبين به بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي خضعوا لذلك وأذعنوا له كالتركي والبربري والرومي والفارسي الذي يخاطبه بالقرآن العربي ويفسره فلا يفهمه حتى يترجم له شيئا بلغته فيعظم سروره وفرحه ويقبل الحق ويرجع عن باطله لأن المعاني التي جاء بها الرسول أكمل المعاني وأحسنها وأصحها لكن هذا يحتاج إلى كمال المعرفة لهذا ولهذا كالترجمان الذي يريد أن يكون حاذقا في فهم اللغتين

وهذا الإمامي يناظر في ذلك أئمته كهشام بن الحكم وأمثاله ولا يمكنه أن يقطعهم بوجه من الوجوه كما لا يمكنه أن يقطع الخوارج بوجه من الوجوه وإن كان في قول الخوارج والمجسمة من الفساد ما فيه فلا يقدر أن يدفعه إلا أهل السنة ونحن نذكر مثالا فنقول أهل السنة متفقون على أن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة لم يتنازع أهل السنة إلا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مع أن أئمة السنة على أنه لم يره أحد بعينه في الدنيا مطلقا وقد ذكر عن طائفة أنهم يقولون إن الله يرى في الدنيا وأهل السنة يردون على هذا بالكتاب والسنة مثل استدلالهم بأن موسى عليه السلام منع منها فمن هو دونه أولى وبقول النبي صلى الله عليه وسلم واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت رواه مسلم في صحيحه وروى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وبطرق عقلية كبيانهم عجز الأبصار في الدنيا عن الرؤية ونحو ذلكوأما هذا وأمثاله فليست لهم على هؤلاء حجة لا عقلية ولا شرعية فإن عمدتهم في نفى الرؤية أنه لو رئى لكان في جهة ولكان جسما وهؤلاء يقولون إنه يرى في الدنيا بل يقولون إنه في جهة وهو جسم فإن أخذوا في الإستدلال على نفى الجهة ونفى الجسم كان منتهاهم معهم إلى أنه لا تقوم به الصفات وهؤلاء يقولون تقوم به الصفات فإن استدلوا على ذلك كان منتهاهم معهم إلى أن الصفات أعراض وما قامت به الأعراض محدث وهؤلاء يقولون تقوم به الأعراض وهو قديم والأعراض عند هؤلاء تقوم بالقديم فإن قالوا الجسم لا يخلو عن الحركة أو السكون وما لا يخلو

عنهما فهو محدث لامتناع حوادث لا أول لها فهذا منتهى ما عند المعتزلة وأتباعهم من الشيعة قال لهم أولئك لا نسلم أن الجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون الوجوديي بل يجوز خلوه عن الحركة لأن السكون عدم الحركة مطلقا وعدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها فيجوز ثبوت جسم قديم ساكن لا يتحرك وقالوا لهم لا نسلم امتناع حوادث لا أول لها وطعنوا في أدلة نفى ذلك بالمطاعن المعروفة حتى حذاق المتأخرين كالرازي وأبي الحسن الآمدي وأبي الثناء الأرموي وغيرهم طعنوا في ذلك كله وطعن الرازي في ذلك في مواضع وإن كان اعتمد عليه فيمواضع والآمدي طعن في طرق الناس إلا طريقة ارتضاها وهي أضعف من غيرها طعن فيها غيره فهذان مقامان من المقامات العقلية لا يقدر هؤلاء أن يغلبوا فيها شيوخهم المتقدمين فإذا كانوا لا ينفون رؤيته في الدنيا إلا بهذه الطريق لم يكن لهم حجة إلا على من يقول إنه يرى ويصافح وأمثالذلك من المقالات مع أن هذا من أشنع المقالات عند أهل السنة والجماعة ولا يعرف له قائل معدود من أهل السنة والحديث وبيان هذا بالوجه الخامس وهو أن يقال هذه الأقوال حكاها الناس عن شرذمة قليلة أكثرهم من الشيعة وبعضهم من غلاة النساك وداود الجواربي قال الأشعري في المقالات وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان إن الله جسم وأنه جثة وأعضاء على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له

جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن داود الجواربي أنه كان يقول إنه أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وقال هشام بن سالم الجواليقي إن الله على صورة الإنسان وأنكر أن يكون لحما ودما وإنه نور ساطع يتلألأ بياضا وإنه ذوا حواس خمس كحواس الإنسان سمعه غير بصره وكذلك سائر حواسه له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم وإن له وفرة سوداء قلت أما داود الجواربي فقد عرف عنه القول المنكر الذي أنكره عليه أهل السنة وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمانفلعلهم زادوا في النقل عنه أو نقلو عنه أو نقلوا عن غير ثقة وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد وقد قال الشافعي من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة لكن لا ريب في علمه بالتفسير وغيره واطلاعه كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياءوأنكروها عليه فلا يستريب أحد في فقهه وفههمه وعلمه وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه وهي كذب عليه قطعا مثل مسألة الخنزير البري ونحوها وما يبعد أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب وهذا الإمامي نقل النقل المذكور عن داود الطائي وهذا جهل منه أو من نقله هو عنه فإن داود الطائي كان رجلا صالحا زاهدا عابدافقيها من أهل الكوفة في زمن أبي حنيفة والثوري وشريك وابن أبي ليلى وكان قد تفقه ثم انقطع للعبادة وأخباره وسيرته مشهورة عند العلماء ولم يقل الرجل شيئا من هذا الباطل وإنما القائل لذلك داود الجواربي فكأنه اشتبه عليه أو على شيوخه الجواربي بالطائي إن لم يكن الغلط في النسخة التي أحضرت إلى وداود الجواربي أظنه

كان من أهل البصرة متأخرا عن هذا وقصته معروفة قال الأشعري وفي الأمة قوم ينتحلون النسك يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا ندري لعلع ربما هو ومنهم من يقول إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن ومنهم من يجوز على الله تعالى المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض لحم ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان من الجوارح وكان من الصوفية رجل يعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه ويغتم ويحزن إذا عصوه وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة تزول عنهم العبادات وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنا وغيره مباحات لهم وفيهم من يزعم أن العبادة بتلغ بهم إلى أن يروا الله ويأكلوا من ثمار الجنة ويعانقوا الحور العين في الدنيا ويحاربوا الشياطين ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين قلت هذه المقالات التي حكاها الأشعري وذكروا أعظم منها موجودة في الناس قبل هذا الزمان وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله ومن هؤلاء من يسجد للأمرد ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والإتحاد العام لكنه يتعبد بمظاهر الجمال لما في ذلك من اللذة له فيتخذ إلهه هواه وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقا ولا يعين الصورة الجميلة بل يقولون إنهم يرونه في صور مختلفة ومنهم من يقول إن المواضع المخضرة خطا عليها وإنما اخضرت من وطئه عليها وفي

ذلك حكايات متعددة يطول وصفها وأما القول بالإباحة وحل المحرمات أو بعضها للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة ولهذا يضرب بهم المثل فيقال فلان يستحل دمى كاستحال الفلاسفة محظورات الشرائع وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم وبسط الكلام على هذا له موضع آخر ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة وهي وأشنع منها موجودة في الشيعة وكثير من النساك يظنون أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم وسبب ذلك أنه يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار ما يغيب به عن حسه الظاهر حتى يظن أن ذلك هو شيء يراه بعينه الظاهرة وإنما هو موجود في قلبه ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة التي يراها خطاب الربوبية

ويخاطبها أيضا بذلك ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه وإنما هو موجود في نفسه كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله فهذه الأمور تقع كثيرا في زماننا وقبله ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان ويرى نورا أو عرشا أو نورا على العرش ويقول أنا ربك ومنهم من يقول أنا نبيك وهذا قد وقع لغير واحد ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك ويكون المخاطب له جنيا كما قد وقع لغير واحد لكن بسط الكلام على ما يرى ويسمع وما هو في النفس والخارج وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع وكثير من الجهال أهل الحال وغيرهم يقولون إنهم يرون الله عيانا في الدنيا وأنه يخطوا خطوات وقد يقولون مع ذلك من المقالات ما هو أعظم من الكفر كقول بعضهم كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان لا أريده وقول بعضهم إن شيخهم هو شيخ الله ورسوله وأمثال ذلك من مقالات الغلاة في الشيوخ لكن يوجد في جنس المنتسبين إلى الشيعة من الإسماعيلية والغلاة من النصيرية وغيرهم ما هو أعظم غلوا وكفرا من هذه المقالاات فلا يكاد يوجد من المنتسبين إلى السنة مقالة خبيثة إلا وفي جنس الشيعة ما هو أخبث منها وأهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض يدعون أنهم يشاهدون الله دائما فإن عندهم مشاهدته في الدنيا والآخرة على وجه واحد إذ كانت ذاته الوجود المطلق الساري في الكائنات فهذه المقالات وأمثالها موجودة في الناس ولكن المقالات الموجودة في الشيعة أشنع وأقبح كما هو موجود في الغالية من النصيرية وأمثالهم ولهذا كان النصيرية يعظمون القائلين بوحدة الوجود وكان التلمساني شيخ القائلين بالوحدة الذي شرح مواقف

النفرى وصنف غير ذلك قد ذهب إلى النصيرية وصنف لهم كتابا وهم يعظمونه جدا وحدثني نقيب الأشراف عنه أنه قال قلت له أنت نصيري قال نصير جزء مني والنصيرية يعظمونه غاية التعظيم وأما ما ذكره هذا الإمامي من رمده وعيادة الملائكة له وبكائه على طوفان نوح عليه السلام فهذا قد رأيناهم ينقلونه عن بعض اليهود ولم أحد هذا منقولا عمن أعرفه من المسلمين فإن كان هذا قد قاله بعض أهل القبلة فلا ينكر وقوع مثل ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقدة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه لكن مشابهة الرافضة لليهود ووجود مثل هذا فيهم أظهر من وجوده في المنتسبين إلى السنة والجماعة وأما قوله إنه يفضل عنه العرش من كل جانب أربع أصابع فهذا لا أعرف قائلا له ولا ناقلا ولكن روى في حديث عبدالله بن خليقة أنه ما يفضل من العرش أربع أصابع يروى بالنفى ويروى بالإثبات والحديث قد طعن فيه غير واحد من المحدثين كالإسماعيلي وابن الجوزي ومن الناس من ذكر له شواهد وقواه ولفظ النفى لا يرد عليه شيء فإن مثل هذا اللفظ يرد لعموم النفى كقول النبي صلى الله عليه وسلم ما في السماء موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد أي ما فيها موضع

ومنه قول العرب ما في السماء قدر كف سحابا وذلك لأن الكف تقدر بها الممسوحات كما يقدر بالذراع وأصغر الممسوحات التي يقدرها الإنسان من أعضائه كفه فصار هذا مثلا لأقل شيء فإذا قيل إنه ما يفضل من العرش أربع أصابع كان المعنى ما يفضل منه شيء والمقصود هنا بيان أن الله أعظم وأكبر من العرش ومن المعلوم أن الحديث إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله فليس علينا منه وإن كان قد قاله فلم يجمع بين النفى والإثبات وإن كان قاله بالنفى لم يكن قاله بالإثبات والذين قالوه بالإثبات ذكروا فيه ما يناسب أصولهم كما قد بسط ي غير هذا الموضع فهذا وأمثاله سواء كان حقا أو باطلا لا يقدح في مذهب أهل السنة ولا يضرهم لأنه بتقدير أن يكون باطلا ليس هو قول جماعتهم بل غايته أنه قد قالته طائفة ورواه بعض الناس وما كان باطلا رده جمهور أهل السنة كما يردون غير ذلك فإن كثيرا من المسلمين يقول كثيرا من الباطل فما يكون هذا ضار لدين المسلمين وفي أقوال الإمامية من المنكرات ما يعرف مثل هذا فيه لو كان قد قاله بعض أهل السنة.
*

فصل
قال الإمامي وذهب بعضهم إلى أن الله ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد راكبا على حمار حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفا يضع كل ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب بالنداء هل من تائب هل من مستغفر تعالى الله عن مثل هذه العقائد الردية في حقه تعالى وحكى عن بعض المنقطعين المباركين من شيوخ الحشوية أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نفاط ومعه أمرد حسن الصورة قطط

الشعر على الصفات التي يصفون ربهم بها فألح الشيخ بالنظر إليه وكرره وأكثر تصويبه إليه فتوهم فيه النفاط فجاء إليه ليلا وقال أيها الشيخ رأيتك تلح بالنظر إلى هذا الغلام وقد أتيتك به فإن كان لك فيه نية فأنت الحاكم فحرد الشيخ عليه وقال إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله ينزل على صورته فتوهمت أنه الله تعالى فقال له النفاط ما أنا عليه من النفاطة أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة.
*فيقال هذه الحكاية وأمثالها دائرة بين أمرين إما أن تكون كذبا محضا ممن افتراها على بعض شيوخ أهل بغداد وإما أن تكون قد وقعت لجاهل مغمور ليس بصاحب قول ولا مذهب وأدنى العامة أعقل منه وأفقه وعلى التقديرين فلا يضر ذلك أهل السنة شيئا لأنه من المعلوم لكل ذي علم أنه ليس من العلماء المعروفين بالسنة من يقول مثل هذا الهذيان الذي لا ينطلي على صبي من الصبيان ومن المعلوم أن العجائب المحكية عن شيوخ الرافضة أكثر وأعظم من هذا مع أنها صحيحة واقعة وأما هذه الحكاية فحدثني طائفة من ثقات أهل بغداد أنها كذب محض عليهم وضعها إما هذا المصنف أو من حكاها له للشناعة وهذا هو الأقرب فإن أهل بغداد لهم من المعرفة والتمييز والذهن ما لا يروج عليهم معه مثل هذا ومما يبين كذب ذلك عليهم أن هذا الحديث الذي ذكره لم يروه أحد لا بإسناد صحيح ولا ضغيف ولا روى أحد من أهل الحديث أن الله تعالى ينزل ليلة الجمعة ولا أنه ينزل ليلة الجمعة إلى الأرض ولا أنه ينزل في شكل أمرد بل لا يوجد في الآثار شيء من هذا الهذيان بل ولا في شيء

من الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله ينزل إلى الأرض وكل حديث روى فيه هذا فإنه موضوع كذب مثل حديث الجمل الأورق وأن الله ينزل عشية عرفة فيعانق الركبان ويصافح المشاة وحديث آخر أنه رأى ربه في الطواف وحديث آخر أنه رأى ربه في بطحاء مكة وأمثال ذلك فإن هذه كلها أحاديث مكذوبة باتفاق أهل المعرفة بالحديث والذين وضعوها منهم طائفة وضعوها على أهل الحديث ليقال إنهم ينقلون مثل هذا كما وضعوا مثل حديث عرق الخيل عليهم وطائفة من الجهال والضلال وضعوا مثل هذا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كما وضعت الروافض ما هو أعظم وأكثر من هذا الكذب ولو لم يكن إلا ما ذكره هذا الإمامي في مصنفه هذا من الأحاديث فإن فيها من الكذب الذي أجمع أهل العلم بالحديث على كذبه ومن الكذب الذي لا يخفى أنه كذب إلا على مفرط في الجهل ما قد ذكره في منهاج الندامة وقد قدمنا القول بأن أهل السنة متفقون على أن الله لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي ولم يتنازع الناس في ذلك إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه أصلا وإنما روى ذلك بإسناد ضعيف موضوع من طريق أبي عبيدة ذكره الخلال والقاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل وأهل العلم بالحديث متفقون على أنه حديث موضوع كذب وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت

يا رسول الله هل رأيت ربك قال نور أنى أراه ولم يثبت أن أحدا من الصحابة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرؤية إلا ما في الحديث وما يرويه بعض العامة أن أبا بكر سأله فقال رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره كذب باتفاق أهل العلم لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد صحيح ولا ضعيف ولهذا اعتمد الإمام أحمد على قول أبي ذر في الرؤية وكذلك عثمان بن سعيد الدارمي وأما أحاديث النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة فهي الأحاديث المعروفة الثابتة عند أهل العلم بالحديث وكذلك حديث دنوه عشية عرفة رواه مسلم في صحيحه وأما النزول ليلة النصف من شعبان ففيه حديث اختلف في إسناده ثم إن جمهور أهل السنة يقولون إنه ينزل ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحان بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد يقول وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء وأنه لا يعلم كيف ينزل ولا تمثل صفاته بصفات خلقه وقد تنازعوا في النزول هل هو صفة فعل منفصل عن الرب في المخلوقات أو فعل من يقوم به على قولين معروفين لأهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والتصوف وكذلك تنازعهم في الإستواء على العرش هل هو فعل منفصل عنه يفعله بالعرش كتقريبه إليه أو فعل يقوم بذاته على قولين والأول قول ابن كلاب والأشعري والقاضي أبي يعلى وأبي الحسن التميمي وأهل بيته وأبي سليمان الخطابي وأبي بكر البيهقي وابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم ممن يقول إنه لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته والثاني قول أئمة الحديث وجمهورهم كابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي والبخاري وحرب الكرماني وابن خزيمة ويحيى بن عمار السجستاني وعثمان بن سعيد الدارمي وابن حامد وأبي بكر عبدالعزيز وأبي عبدالله بن مندة وأبي إسماعيل الأنصاري

وغيرهم وليس هذا موضعا لبسط الكلام في هذه المسائل وإنما المقصود التنبيه على أن ما ذكره هذا مما يعلم العقلاء أنه لا يقوله أحد من علماء أهل السنة ولا يعرف أنه قاله لا جاهل ولا عالم بل الكذب عليه ظاهر.
*

فصل
قال الرافضي المصنف وقالت الكرامية إن الله في جهة فوق ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة.
*فيقال له...
أولا: لا الكرامية ولا غيرهم يقولون إنه في جهة موجودة تحيط به أو يحتاج إليها بل كلهم متفقون على أن الله تعالى غني عن كل ما سواه سمى جهة أو لم يسم نعم قد يقولون هو في جهة ويعنون بذلك أنه فوق العالم فهذا مذهب الكرامية وغيرهم وهو أيضا مذهب أئمة الشيعة وقدمائهم كما تقدم ذكره وأنت لم تذكر حجة على إبطاله فمن شنع على الناس بمذاهبهم فلا بد أن يشير إلى إبطاله وجمهور الخلق على أن الله فوق العالم وإن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ الجهة فهم يعتقدون بقلوبهم ويقولون بألسنتهم أن ربهم فوق ويقولون إن هذا أمر فطروا عليه وجبلوا عليه كما قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني لبعض من أخذ ينكر الإستواء ويقولون لو استوى على العرش لقامت به الحوادث فقال أبو جعفر ما معناه إن الإستواء علم بالسمع ولو لم يرد به لم نعرفه وأنت قد تتأوله فدعنا من هذا وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا ألله إلا وقبل أن ينطق بلسانه يجد في قلبه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فهل عندك من حيلة في دفع هذه الضرورة عن قلوبنا فلطم المتكلم رأسه وقال حيرني الهمداني حيرني الهمداني حيرني الهمداني ومضمون كلامه أن دليلك على النفى لو صح فهو نظري ونحن نجد عندنا علما ضروريا بهذا فنحن مضطرون إلى هذا العلم وإلى

هذا القصد فهل عندك من حيلة في دفع هذا العلم الضروري والقصد الضروري الذي يلزمنا لزوما لا يمكننا دفعه عن أنفسنا ثم بعد ذلك قرر نقيضه وأما دفع الضروريات بالنظريات فغير ممكن لأن النظريات غايتها أن يحتج عليها بمقدمات ضرورية فالضروريات أصل النظريات فلو قدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحا في أصل النظريات فتبطل الضروريات والنظريات فيلزمنا بطلان قدحه على كل تقدير إذ كان قدح الفرع في أصله يقتضى فساده في نفسه وإذا فسد بطل قدحه فيكون قدحه باطلا على تقدير صحته وعلى تقدير فساده فإن صحته مستلزمة لصحة أصله فإذا صح كان أصله صحيحا وفساده لا يستلزم فساد أصله إذ قد يكون الفساد منه ولو قدح في أصله للزم فساده وإذا كان فاسدا لم يقبل قدحه فلا يقبل قدحه بحال وهذا لأن الدليل النظري الموقوف على مقدمات وعلى تأليفها قد يكون فساده من فساد هذه المقدمة ومن فساد الأخرى ومن فساد النظم فلا يلزم إذا كان باطلا أن يبطل كل واحد من المقدمات بخلاف المقدمات فإنه متى كان واحد منها باطلا بطل الدليل

وأيضا فإن هؤلاء قرروا ذلك بأدلة عقلية كقولهم كل موجودين إما متباينان وإما متداخلان وقالوا إن العلم بذلك ضروري وقالوا إثبات موجود لا يشار إليه مكابرة للحس والعقل وأيضا فمن المعلوم أن القرآن نطق بالعلو في مواضع كثيرة جدا حتى قد قيل إنها نحو ثلثمائة موضع والسنن متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك وكلام السلف المنقول عنهم بالتواتر يقتضي اتفاقهم على ذلك وأنه لم يكن فيهم من ينكره ومن يريد التشنيع على الناس ودفع هذه الأدلة الشرعية والعقلية لا بد أن يذكر حجة ولنفرض أنه لا يناظره إلا أئمة أصحابه وهو لم يذكر دليلا إلا قوله ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة فيقال له لم يعلموا ذلك ولم تذكر ما به يعلم ذلك فإن قولك ما هو محتاج إلى تلك الجهة إنما يستقيم إذا كانت الجهة أمرا وجوديا وكانت لازمة له لا يستغنى عنها فلا ريب أن من قال إن الباري لا يقوم

إلا بمحل يحل فيه لا يستغنى عن ذلك وهي مستغنية عنه فقد جعله محتاجا إلى غيره وهذا لم يقله أحد أيضا لم نعلم أحدا قال إنه محتاج إلى شيء من مخلوقاته فضلا عن أن يكون محتاجا إلى غير مخلوقاته ولا يقول أحد إن الله محتاج إلى العرش مع أنه خالق العرش والمخلوق مفتقر إلى الخالق لا يفتقر الخالق إلى المخلوق وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات وهو العنى عن العرش وكل ما سواه فقير إليه فمن فهم عن الكرامية وغيرهم من طوائف الإثبات أنهم يقولون إن الله محتاج إلى العرش فقد افترى عليهم كيف وهم يقولون إنه كان موجودا قبل العرش فإذا كان موجودا قائما بنفسه قبل العرش لا يكون إلا مستغنيا عن العرش وإذا كان الله فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجا إليه فإن الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله فالهواء فوق الأرض وليس محتاجا إليها وكذلك السحاب فوقها وليس محتاجا إليها وكذلك السماوات فوق السحاب والهواء والأرض وليس محتاجا إلى ذلك فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء محتاجا إلى مخلوقاته لكونه فوقها عاليا عليها ونحن نعلم أن الله خالق كل شيء وأنه لا حول ولا قوة إلا به وأن القوة التي في العرش وفي حملة العرش هو خالقها بل نقول إنه خالق أفعال الملائكة الحاملين للعرش فإذا كان هو الخالق لهذا كله ولا حول ولا قوة إلا به امتنع أن يكون محتاجا إلى غيره ولو احتج عليه سلفه مثل يونس بن عبدالرحمن القمى وأمثاله ممن يقول بأن العرش يحمله بمثل هذا لم يكن له عليهم حجة فإنهم يقولون لم نقل إنه محتاج إلى غيره بل ما زال غنيا عن العرش وغيره ولكن قلنا إنه على كل شيء قدير فإذا جعلناه قادرا على هذا كان ذلك وصفا له بكمال الإقتدار لا بالحاجة إلى الأغيار

وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ الجهة يراد به أمر موجود وأمر معدوم فمن قال إنه فوق العالم كله لم يقل إنه في جهة موجودة إلا أن يراد بالجهة العرش ويراد بكونه فيها أنه عليها كما قد قيل في قوله إنه في السماء أي على السماء وعلى هذا التقدير فإذا كان فوق الموجودات كلها وهو غنى عنها لم يكن عنده جهة وجودية يكن فيها فضلا عن أن يحتاج إليها وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فذاك ليس بشيء ولا هو أمر موجود حتى يقال إنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالإشتراك وتوهموا وأوهموا أنه إذا كان في جهة كان في كل شيء غيره كما يكون الإنسان في بيته وكما يكون الشمس والقمر والكواكب في السماء ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره والله تعالى غنى عن كل ما سواه وهذه مقدمات كلها باطلة وكذلك قوله كل ما هو في جهة فهو محدث لم يذكر عليه دليلا وغايته ما تقدم من أن الله لو كان في جهة لكان جسما وكل جسممحدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث وكل هذه المقدمات فيها نزاع فمن الناس من يقول قد يكون في الجهة ما ليس بجسم فإذا قيل له هذا خلاف المعقول قال هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن قبل العقل ذاك قبل هذا بطريق الأولى وإن رد هذا رد ذاك بطريق الأولى وإذا رد ذاك تعين أن يكون في الجهة فثبت أنه في الجهة على التقديرين ومن الناس من لا يسلم أن كل جسم محدث كسلفه من الشيعة والكرامية وغيرهم والكلام معهم وهؤلاء لا يسلمون له أن الجسم لا يخلو من الحوادث بل يجوز عندهم خلو الجسم عن الحركة وكل حادث كما يجوز منازعوهم خلو الصانع من الفعل إلى أن فعل وكثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة ينازعهم في قولهم إن ما لا يخلو عن الحادث فهو حادث

وكل مقام من هذه المقامات تعجز شيوخ الرافضة الموافقين للمعتزلة عن تقرير قولهم فيه على إخوانهم القدماء من الرافضة فضلا عن غيرهم من الطوائف تم الجزء الثاني بحمد الله ويليه الجزء الثالث إن شاء الله وأوله..

بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب : منهاج السنة النبوية
///

الجزء الثالث
///
*فصل قال الرافضي وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العباد.
* فيقال له هذه المسألة من دقيق الكلام وليست من خصائص أهل السنة ولا القائلون بخلافة الخلفاء متفقون عليها بل بعض القدرية يقول بذلك وأما أهل السنة المثبتون للقدر فليس فيهم من يقول بذلك وإنما يقوله من شيوخ القدرية الذين هم شيوخ هؤلاء الإمامية المتأخرين في مسائل التوحيد والعدل فإن جميع ما يذكره هؤلاء الإمامية المتأخرون في مسائل التوحيد والعدل كابن النعمان والموسوي الملقب بالمرتضى وأبي جعفر الطوسي وغيرهم هو مأخوذ من كتب المعتزلة بل كثير منه منقول نقل المسطرة وبعضه قد تصرفوا فيه وكذلك ما يذكرونه من تفسير القرآن في آيات الصفات والقدر ونحو ذلك هو منقول من تفاسير المعتزلة كالأصم والجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني والرماني وأبي مسلم الأصبهاني وغيرهم لا ينقل عن قدماء الإمامية من هذا حرف واحد لا في الأصول العقلية ولا في تفسير القرآن وقدماؤهم كانوا أكثر اجتماعا بالائمة من متأخريهم يجتمعون بجعفر الصادق وغيره فإن كان هذا هو الحق فقدماؤهم كلهم ضلال وإن كان ضلالا فمتأخروهم هم الضلال
فصل
قال الرافضي وذهب الأكثر منهم إلى أن الله عز وجل يفعل القبائح وأن جميع أنواع المعاصي والكفر وأنواع الفساد واقعة بقضاء الله وقدره وأن العبد لا تأثير له في ذلك وأنه لا غرض لله في أفعاله وأنه لا يفعل لمصلحة العباد شيئا

وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة وهذا يستلزم أشياء شنيعة فيقال الكلام على هذا من وجوه أحدها أنه قد تقدم غير مرة أن مسائل القدر والتعديل والتجوير ليست ملزومة لمسائل الإمامة ولا لازمة فإن كثيرا من الناس يقر بإمامة الخلافاء الثلاثة ويقول ما قاله في القدر وكثير من الناس بالعكس وليس أحد من الناس مرتبطا بالآخر أصلا وقد تقدم النقل عن الإمامية هل أفعال العباد خلق الله تعالى على قولين وكذلك الزيدية قال الأشعرى واختلفت الزيدية في خلق الأفعال وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن أفعال العباد مخلوقة لله خلقها وأبدعها واخترعها بعد أن لم تكن فهي محدثة له مخترعة والفرقة الثانية منهم يزعمون أنها غير مخلوقة لله ولا محدثة وأنها كسب للعباد أحدثوها واخترعوها وابتدعوها وفعلوها قلت بل غالب الشيعة الأولى كانوا مثبتين للقدر وإنما ظهر إنكاره في متأخريهم كإنكار الصفات فإن غالب متقدميهم كانوا يقرون بإثبات الصفات والمنقول عن أهل البيت في إثبات الصفات والقدر لا يكاد يحصى وأما المقرون بإمامة الخلفاء الثلاثة مع كونهم قدرية فكثيرون في المعتزلة وغير المعتزلة فعامة القدرية تقر بإمامة الخلفاء ولا يعرف أحد من متقدمي القدرية كان ينكر خلافة الخلفاء وإنما ظهر هذا لما صار بعض الناس رافضيا قدريا جهميا فجمع أصول البدع كصاحب هذا الكتاب وأمثالة والزيدية المقرون بخلافة الخلفاء الثلاثة هم من الشيعة وفيهم قدرية وغير قدرية والزيدية خير من الإمامية وأشبههم بالإمامية هم

الجارودية أتباع أبي الجارود الذين يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالوصف لا بالتسمية فكان هو الإمام من بعده وان الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الحسن هو الإمام ثم الحسين ثم من هؤلاء من يقول أن عليا نص على إمامة الحسن والحسن نص على إمامة الحسين ثم هو شورى في ولدهما فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل ربه وكان عالما فاضلا فهو الإمام والفرقة الثانية من الزيدية السليمانية أصحاب سليمان بن جرير يزعمون أن الإمامة شورى وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين وأنها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر وقد قيل إنها كانت خطأ لا يفسق صاحبها لأجل التأويل والثالثة البترية أصحاب كثير النواء قيل سموا بترية لأن كثيرا كان يلقب بالأبتر يزعمون أن عليا أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالإمامة وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ لأن عليا ترك ذلك لهما ويقفون في عثمان وقتله ولا يقدمون عليه بإكفار كما يحكى عن السليمانية وهذه الطائفة أمثل الشيعة ويسمون

أيضا الصالحية لأنهم ينسبون إلى الحسن بن صالح بن حي الفقيه وهؤلاء الزيدية فيهم من هو في القدر على قول أهل السنة والجماعة وفيهم من هو على قول القدرية الوجه الثاني أن يقال نقله عن الأكثر أن العبد لا تأثير له في الكفر والمعاصي نقل باطل بل جمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وأن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب وينب النبات بالماء ولا يقولون إن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون أن لها تأثيرا لفظا ومعنى حتى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم وإن كان هناك التأثير هناك أعم منه في الآية لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبب ومع أنه خالق السبب فلا بد له من سبب آخر يشاركه ولابد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره مع خلق الله له إلا بأن يخلق الله السبب الآخر ويزيل الموانع ولكن هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى ولا طبائع ويقولون إن الله فعل عندها لا بها ويقولون إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل وأبلغ من ذلك قول الأشعري إن الله فاعل فعل العبد وإن عمل العبد ليس فعلا للعبد بل كسبا له وإنما هو فعل الله فقط وجمهور

الناس من أهل السنة من جميع الطوائف على خلاف ذلك وعلى أن العبد فاعل لفعله حقيقة وأما ما نقله من نفي الغرض الذي هو الحكمة وكون الله لا يفعل لمصلحة العباد فقد قدمنا أن هذا هو قول قليل منهم كالأشعري وطائفة توافقه في موضع ويتناقضون في قولهم في موضع آخر وجمهور أهل السنة يثبتون الحكمة في أفعال الله تعالى وأنه يفعل لنفع عباده ومصلحتهم ولكن لا يقولون بما تقوله المعتزلة ومن وافقهم بأن ما حسن منه حسن من خلقه وما قبح من خلقه قبح منه فلا هذا ولا هذا وأما لفظ الغرض فتطلقه المعتزلة وبعض المنتسبين لأهل السنة ويقولون إنه يفعل لغرض أي حكمة وكثير من أهل السنة يقولون يفعل لحكمة ولا يطلقون لفظ الغرض وأما قوله وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة فهذا قول طائفة منهم وهم الذين يوافقون القدرية فيجعلون المشيئة والإرادة والمحبة والرضا نوعا واحدا ويجعلون المحبة والرضا والغضب بمعنى الإرادة كما يقول ذلك الأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه وطائفة ممن يوافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأما جمهور أهل السنة من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري وغيرهم فيفرقون بين الإرادة وبين المحبة والرضا فيقولون إنه وإن كان يريد المعاصي فهو لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله وبين محبته وهذا قول السلف قاطبة وقد ذكر أبو المعالي الجويني أن هذا قول القدماء من أهل السنة وأن الأشعري خالفهم فجعل الإرادة هي المحبة فيقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ماشاء الله فقد خلقه وأما المحبة فهي متعلقة بأمره فما أمر به فهو يحبه ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال

والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله وإن كان واجبا أو مستحبا ولو قال إن أحب الله حنث إذا كان واجبا أو مستحبا والمحققون من هؤلاء يقولون الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان إرادة خلقية قدرية كونية وإرادة دينية أمرية شرعية فالإرادة الشرعية الدينية هي المتضمنة للمحبة والرضا والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث كقول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذا كقوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (سورة الأنعام). وقوله عن نوح ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون (سورة هود). فهذه الإرادة تعلقت بالإضلال والإغواء وهذه هي المشيئة فإن ما شاء الله كان ومنها قوله ولكن الله يفعل ما يريد (سورة البقرة). أي ما شاء خلقه لا ما يأمر به وقد يريد بالإرادة المحبة كما يقال لمن يفعل الفاحشة هذا فعل ما

لا يريده الله تعالى وقد يريد المشيئة كما يقولون لما لم يكن هذا لم يرده الله وأما الدينية فقول الله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (سورة البقرة). وقوله يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا سورةالنساء وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم (سورة المائدة). وقوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (سورة الأحزاب). فهذه الإرادة في هذه الآيات ليست هي التي يجب مرادها كما في قوله فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام (سورة الأنعام). وقول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن بل هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله أي لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به وهذا التقسيم في الإرادة قد ذكره غير واحد من أهل السنة وذكروا أن المحبة والرضا ليست الإرادة الشاملة لكل المخلوقات كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم كأبي بكر عبدالعزيز وغيره وإن كان طائفة أخرى يجعلون المحبة والرضا هي الإرادة والأول أصح وأيضا فالفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل وبين إرادته من غيره أن يفعل والأمر لا يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أمره به وقد لا يريد ذلك وإن كان مريدا منه فعله وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله هل هو مستلزم لإرادته أم لا فلما زعمت المعتزلة أنه لا بد أن يشاء ما يأمر به فيريده وزعموا أن ما نهى عنه ما شاء وجوده ولا أراده قابلهم كثير من متأخري المثبتين للقدر ممن اتبع أبا الحسن من المصنفين في أصول الفقه وغيرهم من أصحاب

مالك والشافعي وأحمد فقالوا إن الله يأمر بما لا يريده كالكفر والفسوق والعصيان واحتجوا على ذلك بما أنه لو حلف على واجب ليفعلنه وقال إن شاء الله فإنه لا يحنث وبأن الله أمر إبراهيم بذبح ولده ولم يرده منه بل نسخ ذلك قبل فعله وكذلك الخمسون صلاة ليلة المعراج وحقيقته أنه يأمر بما لا يشاء أن يخلقه لكن لا يأمر إلا بما يحبه ويرضاه فيريد من العبد أن يفعله بمعنى أنه يحب ذلك ولا يريد هو أن يخلقه فيعين العبد عليه وهذا كالكفر والفسوق والعصيان ولو حلف الحالف ليفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث وإن كان واجبا ولو قال إن أحب الله حنث كما لو قال إن أمر الله ولو قال لأفعلنه إذا أراد الله فقد يريد بالإرادة المحبة كما يقولون لمن يفعل القبائح يفعل ما لا يريده الله وقد يريد المشيئة كما يقولون لما لم يكن هذا لم يرده الله تعالى فإن أراد هذا حنث وأما أمر إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذبح ابنه فإنه كان الذي يحبه ويريده منه في نفس الأمر أن قصد إبراهيم الامتثال وعزم على الطاعة فأظهر الأمر امتحانا له وابتلاء فلما أسلما وتله للجبين ناداه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين وكذلك الأمر بالخمسين.
*

فصل
قال المصنف الرافضي وهذا يستلزم أشياء شنيعة منها أن يكون الله أظلم من كل ظالم لأنه يعاقب الكافر على كفره وهو قدره عليه ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان فكما أنه يلزم الظلم لو عذبه على لونه وطوله وقصره لأنه لا قدرة له فيها كذا يكون ظالما لو عذبه على المعصية التي فعلها فيه.
*فيقال الظلم قد تقدم أن للجمهور المثبتين للقدر في تفسيره قولين أحدهما أن الظلم ممتنع لذاته غير مقدور كما يصرح بذلك الأشعري والقاضي أبو بكر وأبو المعالي والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني وغير

هؤلاء يقولون إنه يمتنع أن يوصف بالقدرة على الكذب والظلم وغيرهما من أنواع القبائح ولا يصح وصفه بشيء من ذلك قالوا والدلالة على استحالة وقوع الظلم والقبيح منه أن الظلم والقبيح ما شرع الله وجوب ذم فاعله وذم الفاعل لما ليس له فعله ولن يكون كذلك حتى يكون متصرفا فيما غيره أملك به وبالتصرف فيه منه فوجب استحالة ذلك في حقه من حيث إنه لم يكن آمرا لنا بذمه ولا كان ممن يجوز دخول أفعاله تحت تكليف من نفسه لنفسه ولا يكون فعله تصرفا في شيء غيره أملك به فثبت بذلك استحالة تصوره في حقه وحقيقة قول هؤلاء أن الذم إنما يكون لمن تصرف في ملك غيره ومن عصى الآمر الذي فوقه والله سبحانه وتعالى يمتنع أن يأمره أحد ويمتنع أن يتصرف في ملك غيره فإن له كل شيء وهذا القول يروى عن إياس بن معاوية قال ما خاصمت بعقلي كله إلا القدرية قلت لهم أخبروني ما الظلم قالوا أن يتصرف الإنسان في ما ليس له قلت فلله كل شيء وهم لا يسلمون أنه لو عذبه بسبب لونه وطوله وقصره كان ظالما حتى يحتج عليهم بهذا القياس بل يجوزون التعذيب لا بجرم سابق ولا لغرض لاحق وهذا المشنع لم يذكر دليلا على بطلانه فلم يذكر دليلا على بطلان قولهم والقول الثاني أن الظلم مقدور والله تعالى منزه عنه وهذا قول الجمهور من المثبتين للقدر ونفاته وهو قول كثير من النظار المثبتة للقدر كالكرامية وغيرهم وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول القاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى وغيره وهذا كتعذيب الإنسان بذنب غيره كما قال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (سورة طـــه).

وهؤلاء يقولون الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الاختياري وغير فعله الاختياري مستقر في فطر العقول فإن الإنسان لو كان له ابن في جسمه مرض أو عيب خلق فيه لم يحسن ذمه ولا عقابه على ذلك ولو ظلم ابنه أحدا لحسن عقوبته على ذلك ويقولون الاحتجاج بالقدر على الذنوب مما يعلم بطلانه بضرورة العقل فإن الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتج ظالمه بالقدر أيضا فإن كان القدر حجة لهذا فهو حجة لهذا وإلا فلا والأولون أيضا يمنعون الاحتجاج بالقدر فإن الاحتجاج به باطل باتفاق أهل الملل وذوي العقول وإنما يحتج به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول متبع لهواه كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به ولو كان القدر حجة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحد أحدا ولا يعاقب أحد أحدا فكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح ويحتج بأن ذلك مقدر عليه والمحتجون على المعاصي بالقدر أعظم بدعة وأنكر قولا وأقبح طريقا من المنكرين للقدر فالمكذبون بالقدر من المعتزلة والشيعة وغيرهم المعظمون للأمر والنهي والوعد والوعيد خير من الذين يرون القدر حجة لمن ترك المأمور وفعل المحظور كما يوجد ذلك في كثير من المدعين للحقيقة الذين يشهدون القدر ويعرضون عن الأمر والنهي من الفقراء والصوفية والعامة وغيرهم فلا عذر لأحد في ترك مأمور ولا فعل محظور بكون ذلك مقدرا عليه بل لله الحجة البالغة على خلقه والقدرية المحتجون بالقدر على المعاصي شر من القدرية المكذبين بالقدر وهم أعداء الملل وأكثر ما أوقع الناس في التكذيب بالقدر احتجاج هؤلاء به ولهذا اتهم بمذهب القدر غير واحد ولم يكونوا قدرية بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر كما قيل للإمام أحمد كان ابن أبي ذئب قدريا فقال الناس كل من شدد عليهم المعاصي قالوا هذا قدري وقد قيل إنه بهذا السبب نسب إلى

الحسن القدر لكونه كان شديد الإنكار للمعاصي ناهيا عنها ولذلك نجد الواحد من هؤلاء ينكر على من ينكر المنكر ويقول هؤلاء قدر عليهم ما فعلوه فيقال لهذا وإنكار هذا المنكر أيضا بقدر الله فنقضت قولك بقولك وهؤلاء يقول بعض مشايخهم أنا كافر برب يعصى ويقول لو قتلت سبعين نبيا لم أكن مخطئا ويقول بعض شعرائهم أصبحت منفعلا لما يختاره مني ففعلي كله طاعات ومن الناس من يظن أن احتجاج آدم على موسى بالقدر كان من هذا الباب وهذا جهل عظيم فإن الأنبياء من أعظم الناس أمرا بما أمر الله به ونهيا عما نهى الله عنه وذما لمن ذمه الله وإنما بعثوا بالأمر بالطاعة لله والنهي عن معصية الله فكيف يسوغ أحد منهم أن يعصي عاص لله محتجا بالقدر ولأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ولأنه لو كان القدر حجة لكان حجة لإبليس وفرعون وسائر الكفار ولكن كان ملام موسى لآدم عليهما السلام لأجل المصيبة التي لحقتهم بسبب أكله ولهذا قال له لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة والمؤمن مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب لا عند الذنوب والمعاصي فيصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك (سورة غافر). وقال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها الأية (سورة الحديد). وقال ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه (سورة التغابن). قال ابن مسعود رضي الله عنه هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ولهذا قال غير واحد من السلف والصحابة والتابعين لهم بإحسان لا يبلغ الرجل حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما اخطأه لم يكن ليصيبه فالإيمان بالقدر والرضا بما قدره الله من المصائب والتسليم لذلك هو من حقيقة الإيمان وأما الذنوب فليس لأحد أن يحتج فيها بقدر الله

تعالى بل عليه أن لا يفعلها وإذا فعلها فعليه أن يتوب منها كما فعل آدم ولهذا قال بعض الشيوخ اثنان أذنبا ذنبا آدم وإبليس فآدم تاب فتاب الله عليه واجتباه وهداه وإبليس أصر واحتج بالقدر فمن تاب من ذنبه أشبه أباه آدم ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس وإذا كان الفرق بين الفاعل المختار وبين غيره مستقرا في بدائه العقول حصل المقصود وكذلك إذا كان مستقرا في بدائه العقول أن الأفعال الاختيارية تكسب نفس الإنسان صفات محمودة وصفات مذمومة بخلاف لونه وطوله وعرضه فإنها لا تكسبه ذلك فالعلم النافع والعمل الصالح والصلاة الحسنة وصدق الحديث وإخلاص العمل لله وأمثال ذلك تورث القلب صفات محمودة كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن للحسنة لنورا في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لسوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق

ففعل الحسنة له آثار محمودة موجودة في النفس وفي الخارج وكذلك فعل السيئات والله تعالى جعل الحسنات سببا لهذا والسيئات سببا لهذا كما جعل أكل السم سببا للمرض والموت وأسباب الشر لها أسباب تدفع بمقتضاها فالتوبة والأعمال الصالحة تمحى بها السيئات والمصائب في الدنيا تكفر بها السيئات كما أن السم تارة يدفع موجبه بالدواء وتارة يورث مرضا يسيرا ثم تحصل العافية وإذا قيل خلق الفعل مع حصول العقوبة عليه ظلم كان بمنزلة أن يقال خلق أكل السم ثم حصول الموت به ظلم والظلم وضع الشيء في غير موضعه واستحقاق هذا الفاعل لأثر فعله الذي هو معصية الله كاستحقاقه لأثره إذا ظلم العباد وهذا الآن ينزع إلى مسألة التحسين والتقبيح فإن الناس متفقون على أن كون الفعل يكون سببا لمنفعة العبد وحصول ما يلائمه وسببا لحصول مضرته وحصول ما ينافيه قد يعلم بالعقل وكذلك كونه قد يكون صفة كمال وصفة نقص وإنما تنازعوا في كونه يكون سببا للعقاب والذم على قولين مشهورين

والنزاع في ذلك بين أصحاب أحمد وبين اصحاب مالك وبين أصحاب الشافعي وغيرهم وأما أبو حنيفة وأصحابه فيقولون بالتحسين والتقبيح وهو قول جمهور الطوائف من المسلمين وغيرهم وفي الحقيقة فهذا النزاع يرجع إلى الملاءمة والمنافرة والمنفعة والمضرة فإن الذم والعقاب مما يضر العبد ولا يلائمه فلا يخرج الحسن والقبح عن حصول المحبوب والمكروه فالحسن ما حصل المحبوب المطلوب المراد لذاته والقبيح ما حصل المكروه البغيض فإذا كان الحسن يرجع إلى المحبوب والقبيح يرجع إلى المكروه بمنزلة النافع والضار والطيب والخبيث ولهذا يتنوع بتنوع الأحوال فكما أن الشيء الواحد يكون نافعا إذا صادف حاجة ويكون ضارا في موضع آخر كذلك الفعل كأكل الميتة يكون قبيحا تارة ويكون حسنا أخرى وإذا كان كذلك فهذا الأمر لا يختلف سواء كان العبد هو الفاعل بغير أن يخلق الله له القدرة والإرادة أو بأن يخلق الله له ذلك كما في سائر ما هو نافع وضار ومحبوب ومكروه وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه وفعل العبد من جملة الحوادث وكل ممكن يقبل الوجود والعدم فإن شاء الله كان وإن لم يشأ

لم يكن وفعل العبد من جملة الممكنات وذلك لأن العبد إذا فعل الفعل فنفس الفعل حادث بعد أن لم يكن فلا بد له من سبب وإذا قيل حدث بالإرادة فالإرادة أيضا حادثة فلا بد لها من سبب وإن شئت قلت الفعل ممكن فلا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وعلى طريقة بعضهم فلا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وكون العبد فاعلا له حادث ممكن فلا بد له من محدث مرجح ولا فرق في ذلك بين حادث وحادث والمرجح لوجود الممكن لا بد أن يكون تاما مستلزما وجود الممكن وإلا فلو كان مع وجود المرجح يمكن وجود الفعل تارة وعدمه أخرى لكان ممكنا بعد حصول المرجح يمكن وجوده وعدمه وحينئذ فلا يترجح وجوده علىعدمه إلا بمرجح وهذا المرجح إما أن يكون تاما مستلزما وجود الفعل وإما أن يكون الفعل معه يمكن وجوده وعدمه فإن كان الثاني لزم ان لا يوجد الفعل بحال ولزم التسلسل الباطل فعلم أن الفعل لا يوجد إلا إذا وجد مرجح تام يستلزم وجوده وذلك المرجح التام هو الداعي التام والقدرة وهذا مما سلمه طائفة من المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره سلموا أنه إذا وجد الداعي التام والقدرة التامة لزم وجود الفعل وأن الداعي والقدرة خلق لله عز وجل وهذا حقيقة قول أهل السنة الذين يقولون إن الله خالق أفعال العباد كما أن الله خالق كل شيء فإن أئمة أهل السنة يقولون إن الله خالق الأشياء بالأسباب وأنه خلق للعبد قدرة يكون بها فعله وأن العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم في خلق فعل العبد بإرادته وقدرته كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها ولكن ليس هذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي للعبد التي بها يكون الفعل ويقول إنه لا أثر لقدرة العبد أصلا في فعله كما يقول ذلك جهم وأتباعه والأشعري ومن وافقه وليس قول هؤلاء قول أئمة السنة ولا جمهورهم بل أصل هذا القول هو قول الجهم بن صفوان فإنه كان يثبت مشيئة الله تعالى وينكر أن يكون له

حكمة أو رحمة وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثرة وحكي عنه أنه كان يخرج إلى الجذمي ويقول أرحم الراحمين يفعل مثل هذا إنكارا لأن تكون له رحمة يتصف به وزعما منه أنه ليس إلا مشيئة محضة لا اختصاص لها بحكمة بل يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح وهذا قول طائفة من المتأخرين وهؤلاء يقولون إنه لم يخلق لحكمة ولم يأمر لحكمة وأنه ليس في القرآن لام كي لا في خلق الله ولا في أمر الله وهؤلاء الجهمية المجبرة هم والمعتزلة والقدرية في طرفين متقابلين وقول سلف الأمة وأئمة السنة وجمهورها ليس قول هؤلاء ولا قول هؤلاء وإن كان كثير من المثبتين للقدر يقول بقول جهم فالكلام إنما هو في أهل السنة المثبتين لإمامة أبي بكر وعمر وعثمان والمثبتين للقدر وهذا الاسم يدخل فيه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة التفسير والحديث والفقه والتصوف وجمهور المسلمين وجمهور طوائفهم لا يخرج عن هذا إلا بعض الشيعة وأئمة هؤلاء وجمهورهم على القول الوسط الذي ليس هو قول المعتزلة ولا قول جهم وأتباعه الجبرية فمن قال إن شيئا من الحوادث أفعال الملائكة والجن والإنس لم يخلقها الله تعالى فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف والأدلة العقلية ولهذا قال بعض السلف من قال إن كلام الآدميين أو أفعال العباد غير مخلوقة فهو بمنزلة من قال إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة والله تعالى يخلق ما يخلق لحكمة كما تقدم ومن جملة المخلوقات ما قد يحصل به ضرر عارض لبعض الناس كالأمراض والآلام وأسباب ذلك فخلق الصفات والأفعال التي هي أسبابه من جملة ذلك فنحن نعلم ان لله في ذلك حكمة وإذا كان قد فعل ذلك لحكمة خرج عن أن يكون سفها وإذا كان العقاب على فعل العبد الاختياري لم يكن ظلما فهذا الحادث بالنسبة إلى الرب له فيه حكمة يحسن لأجل تلك الحكمة وبالنسبة إلى العبد عدل لأنه عوقب على فعله فما ظلمه الله ولكن هو ظلم نفسه

واعتبر ذلك بأن يكون غير الله هو الذي عاقبه على ظلمه لو عاقبه ولي أمر على عدوانه على الناس فقطع يد السارق أليس ذلك عدلا من هذا الوالي وكون الوالي مأمورا بذلك يبين أنه عادل لكن المقصود هنا أنه مستقر في فطر الناس وعقولهم أن ولي الأمر إذا أمر الغاصب برد المغصوب إلى مالكه وضمن التالف بمثله أنه يكون حاكما بالعدل وما زال العدل معروفا في القلوب والعقول ولو قال هذا المعاقب أنا قد قدر علي هذا لم يكن هذا حجة له ولا مانعا لحكم الوالي أن يكون عدلا فالله تعالى أعدل العادلين إذا اقتص للمظلوم من ظالمه في الآخرة أحق بأن يكون ذلك عدلا منه فإن قال الظالم هذا كان مقدرا علي لم يكن هذا عذرا صحيحا ولا مسقطا لحق المظلوم وإذا كان الله هو الخالق لكل شيء فذاك لحكمة أخرى له في الفعل فخلقه حسن بالنسبة إليه لما له فيه من الحكمة والفعل القبيح المخلوق قبيح من فاعله لما عليه فيه من المضرة كما أن أمر الوالي بعقوبة الظالم يسر الوالي لما فيه من الحكمة وهو عدله وأمره بالعدل وذلك يضر المعاقب لما عليه فيه من الألم ولو قدر أن هذا الوالي كان سببا في حصول ذلك الظلم على وجه لا يلام عليه لم يكن عذرا للظالم مثل حاكم شهد عنده بينة بمال لغريم فأمر بحبسه أو عقوبته حتى ألجأه ذلك إلى أخذ مال آخر بغير حق ليوفيه إياه فإن الحاكم أيضا يعاقبه فيه فإذا قال أنت حبستني وكنت عاجزا عن الوفاء ولا طريق لي إلى الخلاص إلا أخذ مال هذا لكان حبسه الأول ضررا عليه وعقوبته ثانيا على أخذ مال الغير ضررا عليه والوالي يقول أنا حكمت بشهادة العدول فلا ذنب لي في ذلك وغايتي أني أخطأت والحاكم إذا أخطأ له أجر وقد يفعل كل من الرجلين بالآخر من الضرر ما يكون فيه معذورا والآخر معاقبا بل مظلوما لكن بتأويل

وهذه الأمثال ليست مثل فعل الله تعالى فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فإنه سبحانه يخلق الاختيار في المختار والرضا في الراضي والمحبة في المحب وهذا لا يقدر عليه إلا الله ولهذا أنكر الأئمة على من قال جبر الله العباد كالثوري والأوزاعي والزبيدي وأحمد بن حنبل وغيرهم وقالوا الجبر لا يكون إلا من عاجز كما يجبر الأب ابنته على خلاف مرادها والله خالق الإرادة والمراد فيقال جبل كما جاءت به السنة ولا يقال جبر فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال لأشج عبد القيس إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما قال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ومما يبين هذا أن الله سبحانه وتعالى جهة خلقه وتقديره غير جهة أمره وتشريعه فإن أمره وتشريعه مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه وما يضرهم بمنزلة أمر الطبيب للمريض بما ينفعه فأخبر الله على ألسن رسله بمصير السعداء والأشقياء وأمر بما يوصل إلى السعادة ونهى عما يوصل إلى الشقاوة

وخلقه وتقديره يتعلق به وبجملة المخلوقات فهو يفعل لما فيه حكمة متعلقة بعموم خلقه وإن كان في ضمن ذلك مضرة لبعض الناس كما أنه ينزل المطر لما فيه من الرحمة والنعمة العامة والحكمة وإن كان في ضمن ذلك تضرر بعض الناس بسقوط منزله وانقطاعه عن سفره وتعطيل معيشته وكذلك يرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لما في إرساله من الرحمة العامة وإن كان في ضمن ذلك سقوط رياسة قوم وتألمهم بذلك فإذا قدر على الكافر كفره قدره الله لما له في ذلك من الحكمة والمصلحة العامة وعاقبه لاستحقاقه ذلك بفعله الاختياري وإن كان مقدرا ولما له في عقوبته من الحكمة والمصلحة العامة وقياس أفعال الله علىأفعال العباد خطأ ظاهر لأن السيد إذا أمر عبده بأمر أمره لحاجته إليه ولغرض السيد فإذا أثابه على ذلك كان من باب المعاوضة وليس له حكمة يطلبها إلا حصول ذلك المأمور به وليس هو الخالق لفعل المأمور فإذا قدر أن السيد لم يعوض المأمور أو لم يقم بحق عبده الذي يقضي حوائجه كان ظالما كالذي يأخذ سلعة ولا يعطي ثمنها أو يستوفي منفعة الأجير ولم يوفه أجره

والله تعالى غني عن العباد إنما أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم فهو محسن إلى عباده بالأمر لهم محسن لهم بإعانتهم على الطاعة ولو قدر أن عالما صالحا أمر الناس بما ينفعهم ثم أعان بعض الناس على فعل ما أمرهم به ولم يعن آخرين لكان محسنا إلى هؤلاء إحسانا تاما ولم يكن ظالما لمن لم يحسن إليه وإذا قدر أنه عاقب المذنب العقوبة التي يقتضيها عدله وحكمته لكان أيضا محمودا على هذا وهذا وأين هذا من حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين فامره لهم إرشاد وتعليم وتعريف بالخير فإن أعانهم على فعل المأمور كان قد أتم النعمة على المأمور وهو مشكور علىهذا وهذا وإن لم يعنه وخذله حتى فعل الذنب كان له في ذلك حكمة أخرى وإن كانت مستلزمة تألم هذا فإنما تألم بأفعاله الاختيارية التي من شأنها أن تورثه نعيما أو ألما وإن كان ذلك الإيراث بقضاء الله وقدره فلا منافاة بين هذا وهذا فجعله المختار مختارا من كمال قدرته وحكمته وترتيب آثار الاختيار عليه من تمام حكمته وقدرته

لكن يبقى الكلام في نفس الحكمة الكلية في هذه الحوادث فهذه ليس على الناس معرفتها ويكفيهم التسليم لما قد علموا أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها ومن المعلوم ما لو علمه كثير من الناس لضرهم علمه ونعوذ بالله من علم لا ينفع وليس اطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكم الله في كل شيء نافعا لهم بل قد يكون ضارا قال تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وهذه المسألة مسألة غايات أفعال الله ونهاية حكمته مسألة عظيمة لعلها أجل المسائل الإلهية وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع وكذلك بسط الكلام على مسائل القدر وإنما نبهنا تنبيها لطيفا على امتناع أن يكون خلق الفعل ظلما سواء قيل إن الظلم ممتنع من الله أو قيل إنه مقدور فإن الظلم الذي هو ظلم أن يعاقب الإنسان على عمل غيره فأما عقوبته على فعله الاختياري وإنصاف المظلومين من الظالمين فهو من كمال عدل الله تعالى وهذا التفصيل في باب التعديل والتجوير بين مذهب القدرية الذين

يقيسون الله بخلقه في عدلهم وظلمهم وبين مذهب الجبرية الذين لا يجعلون لأفعال الله حكمة ولا ينزهونه عن ظلم يمكنه فعله ولا فرق عندهم بالنسبة إليه بين ما يقال هو عدل وإحسان وبين ما يقال هو ظلم وقول هؤلاء من الأسباب التي قويت بها شناعات القدرية حتى غلوا في الناحية الأخرى وخيار الأمور أوسطها ودين الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه وقد ظهر الفرق بين عقوبته على الكفر وغيره من المعاصي وبين عقوبته على اللون والطول كما يظهر الفرق بينهما إذا كان المعاقب بعض الناس فإن الكفر وإن كان خلق فيه إرادته وقدرته عليه فهو الذي فعله باختياره وقدرته وإن كان كذلك كله مخلوقا كما يعاقبه غيره عليه مع كون ذلك كله مخلوقا وأما قوله ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان فهذا قاله على قول من يقول من أهل الإثبات إن القدرة لا تكون إلا مع الفعل فكل من لم يفعل شيئا لم يكن قادرا عليه ولكن يكون عاجزا عنه وهؤلاء قد يقولون لا يكلف العبد ما يعجز عنه ولكن يكلف ما يقدر عليه بناء على أن القدرة لا تكون إلا مع الفعل وحقيقة قولهم أن كل من ترك واجبا لم يكن قادرا عليه وليس هذا قول جمهور أهل السنة بل جمهور أهل السنة يثبتون للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي وهذه قد تكون قبله لا يجب أن تكون معه ويقولون أيضا إن القدرة التي يكون بها الفعل لا بد ان تكون مع الفعل لا يجوزون أن يوجد الفعل بقدرة معدومة ولا بإرادة معدومة كما لا يوجد بفاعل معدوم وأما القدرية فيزعمون أن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ومن قابلهم من المثبتة يقولون لا تكون إلا مع الفعل وقول الأئمة والجمهور هو الوسط أنها لا بد أن تكون معه وقد تكون مع ذلك قبله كقدرة المأمور العاصي فإن تلك القدرة تكون متقدمة على الفعل بحيث تكون لمن لم يطع كما قال تعالى

ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (سورة آل عمران). فأوجب الحج على المستطيع فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج ولم يعاقب أحد على ترك الحج وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وكذلك قال تعالى فاتقوا الله مااستطعتم (سورة التغابن). فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ولا يعاقب من لم يتق وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وهؤلاء إنما قالوا هذا لأن القدرية والمعتزلة والشيعة وغيرهم قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل لتكون صالحة للضدين الفعل والترك وأما حين الفعل فلا يكون إلا الفعل فزعموا أو من زعم منهم أنه حينئذ لا يكون قادرا لأن القادر لا بد أن يقدر على الفعل والترك وحين الفعل لا يكون قادرا على الترك فلا يكون قادرا وأما أهل السنة فإنهم يقولون لا بد أن يكون قادرا حين الفعل ثم أئمتهم قالوا ويكون أيضا قادرا قبل الفعل وقالت طائفة منهم لا يكون

قادرا إلا حين الفعل وهؤلاء يقولون إن القدرة لا تصلح للضدين عندهم فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل وهي مستلزمة له لا توجد بدونه إذ لو صلحت للضدين على وجه البدل أمكن وجودها مع عدم أحد الضدين والمقارن للشيء مستلزم له لا يوجد مع عدمه فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع وما قالته القدرية فهو بناء على أصلهم الفاسد وهو أن إقدار الله المؤمن والكافر والبر والفاجر سواء فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان بل يقولون إن إعانته للمطيع والعاصي سواء ولكن هذا بنفسه رجح الطاعة وهذا بنفسه رجح المعصية كالوالد الذي أعطى كل واحد من ابنيه سيفا فهذا جاهد به في سبيل الله وهذا قطع به الطريق أو أعطاهما مالا فهذا أنفقه في سبيل الله وهذا أنفقه في سبيل الشيطان وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع المؤمن نعمة دينية خصه بها دون

الكافر وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر كما قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (سورة الحجرات). فبين أنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم فالقدرية تقول هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق أو هو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين ولهذا قال أولئك هم الراشدون والكفار ليسوا راشدين وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (سورة الأنعام). وقال أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون (سورة الأنعام). وقال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين (سورة الأنعام). وقال تعال يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين (سورة الحجرات).

وقد أمر الله عباده أن يقولوا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم والدعاء إنما يكون لشيء مستقبل غير حاصل يكون من فعل الله تعالى وهذه الهداية المطلوبة غير الهدي الذي هو بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وتبليغه وقال تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام (سورة المائدة). وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم أحد من أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم وقال الخليل صلى الله عليه وسلم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا (سورة البقرة). وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (سورة السجدة). وقال تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار (سورة القصص). ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يبين سبحانه وتعالى اختصاصه عباده المؤمنين بالهدى والإيمان والعمل الصالح والعقل يدل على ذلك فإنه إذا قدر أن جميع الأسباب الموجبة للفعل من الفاعل كما هي من التارك كان اختصاص الفاعل بالفعل ترجيحا لأحد المثلين على الآخر بلا مرجح وذلك معلوم الفساد بالضرورة وهو الأصل الذي بنوا عليه إثبات الصانع فإن قدحوا في ذلك انسد عليهم طريق إثبات الصانع وغايتهم أن قالوا القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالجائع والخائف وهذا فاسد فإنه مع استواء الأسباب الموجبة من كل وجه يمتنع الرجحان وأيضا فقول القائل يرجح بلا مرجح إن كان لقوله يرجح معنى زائد على وجود الفعل فذاك هو السبب المرجح وإن لم يكن له معنى زائد كان حال الفعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح وهذا مكابرة للعقل فما كان أصل قول القدرية أن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه

لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك وإنما تكون للفاعل والقدرة لا تكون إلا من الله وما كان من الله لم يكن مختصا بحال وجود الفعل ثم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل قالوا لا تكون مع الفعل لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك وحال وجود الفعل يمتنع الترك فلهذا قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل وهذا باطل قطعا لأن وجود الأثر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجودا عند الفعل فنقيض قولهم حق وهو أن الفعل لا بد أن يكون معه قدرة لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين حزبا قالوا لا تكون القدرة إلا معه ظنا منهم أن القدرة نوعا واحد لا تصلح للضدين وظنا من بعضهم أن القدرة عرض فلا تبقى زمانين فيمتنع وجودها قبل الفعل والصواب الذي عليه أئمة الفقه والسنة أن القدرة نوعان نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي فهذه تحصل للمطيع والعاصي وتكون قبل الفعل وهذه تبقى إلى حين الفعل إما ببقائها عند من يقول ببقاء الأعراض وإما بتجدد أمثالها عند من يقول إن الأعرض لا تبقى وهذه قد تصلح للضدين وأمر الله لعباده مشروط بهذه الطاقة فلا يكلف الله من ليست معه هذه الطاقة وضد هذه العجز وهذه المذكورة في قول الله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات (سورة النساء). وقوله تعالى وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (سورة التوبة). وقوله في الكفارة فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا (سورة المجادلة). فإن هذا نفي لاستطاعة من لم يفعل فلا يكون مع الفعل ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب فإنما نفى استطاعة لا فعل معها

وأيضا فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون مما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه فالشارع ييسر على عباده ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر وما جعل عليهم في الدين من حرج والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة مرضه وتأخر برئه فهذا في الشرع غير مستطيع لأجل حصول الضرر عليه وإن كان يسميه بعض الناس مستطيعا فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل بل ينظر إلى لوازم ذلك فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية كالذي يقدر أن يحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله أو يصلي قائما مع زيادة مرضه أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ونحو ذلك فإن كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة فكيف يكلف مع العجز ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل بل لا بد من إحداث إعانة

أخرى تقارن هذه مثل جعل الفاعل مريدا فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة والاستطاعة المقارنة للفعل تدخل فيها الإرادة الجازمة بخلاف المشروطة في التكليف فإنه لا يشترط فيها الإرادة والله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه وهذا الفرقان هو فصل الخطاب في هذا الباب وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض فإن الإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة لزم وجود الفعل ولا بد أن يكون هذا المستلزم للفعل مقارنا له لا يكفي تقدمه عليه إن لم يقارنه فإنه العلة التامة للفعل والعلة التامة تقارن المعلول لا تتقدمه ولأن القدرة شرط في وجود الفعل وكون الفاعل قادرا والشرط في وجود الشيء الذي به القادر يكون قادرا لا يكون الشيء مع عدمه بل مع وجوده وإلا فيكون الفاعل فاعلا حين لا يكون قادرا أو غير القادر لا يكون قادرا

وهذا معنى قول أهل الاثبات الذي يذكره مثل القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما لا خلاف بيننا وبين المعتزلة أن المصحح لكون الفاعل فاعلا هو كونه قادرا ووجدنا كل مصحح لأمر من الأمور فإنه يستحيل ثبوت ذلك الأمر والحكم مع عدم المصحح له ألا ترى أنه لما ثبت أن المصحح لكون القادر العالم كونه حيا استحال كونه عالما قادرا مع عدم كونه حيا وكذلك لما كان المصحح لكون المتلون متلونا وكونه متحركا كونه جوهرا استحال كونه متلونا ومتحركا وليس بجوهر وكذلك يستحيل كونه فاعلا في حال ليس هو فيها قادرا قالوا وهذا من الأدلة المعتمدة وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد من وجود القدرة على الفعل ولكن لا ينفي وجودها قبل الفعل فإن المصحح يصح وجوده قبل وجود المشروط وبدون ذلك كما يصح وجود الحياة بدون العلم والجوهر بدون الحركة وهذا مما يحتج به على الفلاسفة في مسألة حدوث العالم فإنهم إذا قالوا العلة القديمة تحدث الدورة الثانية بشرط انقضاء الأولى قيل لهم لا بد عند وجود المحدث من العلة التامة وكون الفاعل قادرا

تام القدرة مريدا تام الإرادة فلا يكفي في الإحداث مجرد وجود شيء متقدم على الإحداث فكيف يكفي مجرد عدم شيء يتقدم عدمه على الإحداث بل لا بد حين الإحداث من المؤثر التام ثم كذلك عند حدوث المؤثر التام لا بد له من مؤثر تام فإذا لم يكن إلا علة تامة أزلية يقارنها معلولها لزم حدوث الحوادث بلا محدث أصلا وهذا يدل على أن الرب تعالى يتصف بما به يفعل الحوادث المخلوقة من الأقوال القائمة به الحاصلة بقدرته ومشيئته كما قد بسط في موضعه وهذا التفصيل في الإرادة والقدرة وتقسيمها إلى نوعين يزيل الاشتباه والاضطراب الحاصل في هذا الباب وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق فإن من قال القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق وليس هذا الإطلاق قول جمهور أهل السنة وأئمتهم بل يقولون إن الله تعالى قد أوجب الحج على المستطيع حج أو لم يحج وكذلك أوجب صيام الشهرين في الكفارة على المستطيع كفر أو لم يكفر وأوجب العبادات على القادرين دون العاجزين فعلوا أو لم يفعلوا وما لا يطاق يفسر بشيئين يفسر بما لا يطاق للعجز عنه فهذا لم يكلفه

الله أحدا ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده فهذا هو الذي وقع فيه التكليف كما في أمر العباد بعضهم بعضا فإنهم يفرقون بين هذا وهذا فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف ويأمره إذا كان قاعدا أن يقوم ويعلم الفرق بين هذا وهذا بالضرورة وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا على نكتها بحسب ما يليق بهذا الموضع وعلى هذا فقوله لم يخلق فيه قدرة على الإيمان ليس هو قول جمهور أهل السنة بل يقولون خلق له القدرة المشروطة في التكليف المصححة للأمر والنهي كما في العباد إذا أمر بعضهم بعضا فما يوجد من القدرة في ذلك الأمر فهو موجود في أمر الله لعباده بل تكليف الله أيسر ورفعه للحرج أعظم والناس يكلف بعضهم بعضا أعظم مما أمرهم الله به ورسوله ولا يقولون إنه تكليف ما لا يطاق ومن تأمل أحوال من يخدم الملوك والرؤساء ويسعى في طاعتهم وجد عندهم من ذلك ما ليس عند المجتهدين في العبادة لله.
*

فصل
قال الرافضي ومنها إفحام الأنبياء وانقطاع حجتهم لأن النبي إذا قال للكافر آمن بي وصدقني، يقول قل للذي بعثك يخلق في الإيمان والقدرة المؤثرة فيه حتى أتمكن من الإيمان وأومن بك وإلا فكيف تكلفني الإيمان ولا قدرة لي عليه بل خلق في الكفر وأنا لا أتمكن من مقاهرة الله تعالى فينقطع النبي ولا يتمكن من جوابه.
* فيقال هذا مقام يكثر فيه خوض النفوس فإن كثيرا من الناس إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدرة وقال حتى يقدر الله لي ذلك أو يقدرني الله على ذلك أو حتى يقضي الله ذلك وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرم الله قال الله قضى علي بذلك أي حيلة لي في هذا ونحو هذا الكلام

والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه أو ترك ما يجب عليه من حقوقه بل يطلب منه ما له عليه ويعاقبه على عدوانه عليه وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم فكما أنك تعلم فسادها بالضرورة وإن كانت تعرض كثيرا لكثير من الناس حتى قد يشك في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف الضرورية فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك ولكن تعلم القلوب بالضرورة ان هذه شبهة باطلة ولهذا لا يقبلها أحد من أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة وهو المأمور به وهو الذي ينبغي فعله لم يحتج بالقدر وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورا به لم يحتج بالقدر بل إذا كان متبعا لهواه بغير علم احتج بالقدر

ولهذا لما قال المشركون لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء (سورة الأنعام). قال الله تعالى قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين (سورة الأنعام). فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة باطلة فإن أحدهم لو ظلم الآخر في ماله أو فجر بامرأته أو قتل ولده أو كان مصرا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال لو شاء الله لم أفعل هذا لم يقبلوا منه هذه الحجة ولا هو يقبلها من غيره وإنما يحتج بها المحتج دفعا للوم بلا وجه فقال الله لهم هل عندكم من علم فتخرجوه لنا بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله وأنه مصلحة ينبغي فعله إن تتبعون إلا الظن فإنه لا علم عندكم بذلك إن تظنون ذلك إلا ظنا وإن أنتم إلا تخرصون تحرزون وتفترون فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدره فإن مجرد المشيئة والقدر لا يكون عمدة لأحد في الفعل ولا حجة لأحد على أحد ولا

عذرا لأحد إذ الناس كلهم مشتركون في القدر فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبر والفاجر ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال وما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده والايمان به لو احتج به بعضهم على بعض في إسقاط حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضا ويعادي بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا على فعل ما يرونه تركا لحقهم أو ظلما فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة امره احتجوا بالقدر فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حق ربهم ومخالفة أمره بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم وخالف أمرهم وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك حقهم عليه أن لا يعذبهم فالاحتجاج بالقدر حال أهل الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره لا في ترك ما يرونه حقا لهم ولا في مخالفة أمرهم ولهذا تجد كثيرا من المحتجين به والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء والعامة والجند والفقهاء وغيرهم يفرون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلا بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم

وهذا أصل شريف من اعتنى به علم منشأ الضلال والغي لكثير من الناس ولهذا تجد المشايخ والصالحين المتبعين للأمر والنهي كثيرا ما يوصون أتباعهم باتباع العلم والشرع لأنه كثيرا ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنها دين الله وليس معهم إلا الظن والذوق والوجد الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها فيحتجون تارة بالقدر وتارة بالظن والخرص وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة فإذا اتبعوا العلم وهو ماجاء به الشارع صلى الله عليه وسلم خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس واتبعوا ما ماجاءهم من ربهم وهو الهدى كما قال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (سورة طـــه). وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى عن المشركين في (سورة الأنعام). والنحل والزخرف كما قال تعالى وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون (سورة الزخرف). فبين أنه لا علم لهم بذلك إن هم إلا يخرصون

وقال في (سورة الأنعام). قل فلله الحجة البالغة (سورة الأنعام). أي بإرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (سورة النساء). ثم أثبت القدر بقوله فلو شاء لهداكم أجمعين (سورة الأنعام). فأثبت الحجة الشرعية وبين المشيئة القدرية وكلاهما حق وقال في النحل وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين بين سبحانه أن هذا الكلام تكذيب للرسل فيما جاؤوهم به ليس حجة لهم فإن هذا لو كان حجة لاحتج به على تكذيب كل صدق وفعل كل ظلم ففي فطرة بني آدم أنه ليس حجة صحيحة بل من احتج به احتج لعدم العلم واتباع الظن كفعل الذين كذبوا الرسل بهذه المدافعة بل الحجة البالغة لله بإرسال الرسل وإنزال الكتب كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فبين أنه سبحانه يحب أن يمدح وأن يعذر ويبغض الفواحش فيحب أن يمدح بالعدل والإحسان وأن لا يوصف بالظلم ومن المعلوم أنه من تقدم إلى أتباعه بأن افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا وبين لهم وأزاح علتهم ثم تعدوا حدوده وأفسدوا أموره كان له أن يعذبهم وينتقم منهم فإذا قالوا أليس الله قدر علينا هذا لو شاء الله ما فعلنا هذا قيل لهم أنتم لا حجة لكم ولا عندكم ما تعتذرون به يبين أن ما فعلتموه كان حسنا أو كنتم معذورين فيه فهذا الكلام غير مقبول منكم وقد قامت الحجة عليكم بما تقدم من البيان والإعذار

ولو أن ولي الأمر أعطى قوما مالا ليوصلوه إلى بلد آخر فسافروا به وتركوه في البرية ليس عنده أحد وباتوا في مكان بعيد منه وكان ولي الأمر قد أرسل جندا له يغزون بعض الأعداء فاجتازوا تلك الطريق فرأوا ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا لكان يحسن منه أن يعاقب الأولين على تفريطهم وتضييعهم حفظ ما أمرهم بحفظه ولو قالوا له أنت لم تعلمنا أنك تبعث خلفنا جندا حتى نحترز المال منهم قال لهم هذا لا يجب علي ولو فعلته لكان زيادة إعانة لكم لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك كما تحفظ الودائع والأمانات وكانت حجته عليهم قائمة ولم يكن إن عاقبهم ظالما وإن كان لم يعنهم بالإعلام بذلك الجند لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين والله تعالى وله المثل الأعلى حكيم عدل في كل ما يفعله ولا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم كان ذلك من إحسانه إليهم وتعريفهم ما ينفعهم وإذا خلق أمورا أخرى فإذا فرطوا واعتدوا بسبب خلقه لأمور أخرى أوجبت الضرر الحاصل من تفريطهم وعدوانهم وكان له في خلق المخلوق الثاني حكمة ومصلحة أخرى كان عادلا حكيما في خلق هذا وخلق هذا والأمر بهذا والأمر بهذا وإن كان لم يمد الأولين بزيادة يحترسون بها من التفريط والعدوان لا سيما مع علمه بأن تلك الزيادة لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح منها فإن الضدين لا يجتمعان والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل لعدم اتباع الحق الذي بينه العلم فإن الإنسان حي حساس متحرك بالإرادة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم أصدق الأسماء الحارث وهمام فالحارث الكاسب العامل والهمام الكثير الهم والهم مبدأ

الإرادة والقصد فكل إنسان حارث همام وهو المتحرك بالإرادة وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور وما هو من جنسه كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب والحي مفطور على حب ما يلائمه وينفعه وبغض ما يكرهه ويضره فإذا تصور الشيء الملائم النافع أراده وأحبه وإذا تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه لكن ذلك التصور قد يكون علما وقد يكون ظنا وخرصا فإذا كان عالما بأن مراده هو النافع وهو المصلحة وهو الذي يلائمه كان على الهدى والحق وإذا لم يكن معه علم بذلك كان متبعا للظن وما تهوى نفسه فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة أخذ يحتج بالقدر حجة لدد وتعريج عن الحق لا حجة اعتماد على الحق والعلم فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر إلا لعدم العلم بأن ما هو عليه هو الحق

وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقرا بأن ما هو عليه ليس معه به علم وإنما تكلم بغير علم ومن تكلم بغير علم كان مبطلا في كلامه ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة فإما أن يكون جاهلا فعليه أن يتبع العلم وإما أن يكون قد عرف الحق واتبع هواه فعليه أن يتبع الحق ويدع هواه فتبين أن المحتج بالقدر متبع لهواه بغير علم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وحينئذ فالجواب في هذا المقام من وجوه أحدها أن هذا إنما يكون انقطاعا لو كان الاحتجاج بالقدر سائغا فأما إذا كان الاحتجاج بالقدر باطلا بطلانا ضروريا مستقرا في جميع الفطر والعقول لم يكن هذا السؤال متوجها وذلك أنه من المستقر في فطر الناس وعقولهم أنه من طلب منه فعل من الأفعال الاختيارية لم يكن له أن يحتج بمثل هذا ومن طلب دينا له على آخر لم يكن له أن يقول لا أعطيك حتى يخلق الله في العطاء ومن أمر عبده بأمر لم يكن له أن يقول لا أفعله حتى يخلق الله في فعله ومن ابتاع شيئا وطلب منه الثمن لم يكن له أن يقول لا أقضيه حتى يخلق الله في القضاء أو القدرة على هذا وهذا أمر جبل الله عليه الناس كلهم مسلمهم وكافرهم مقرهم بالقدر ومنكرهم له ولا يخطر ببال أحد منهم الاعتراض بمثل هذا مع اعترافهم بالقدر فإذا كان هذا الاعتراض معروف الفساد في بدائه العقول ولم يكن لأحد أن يحتج به على الرسول الثاني أن الرسول يقول له أنا نذير لك إن فعلت ما أمرتك به نجوت وسعدت وإن لم تفعله عوقبت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد على الصفا ونادى يا صباحاه فأجابوه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن عدوا مصبحكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد وقال أنا النذير العريان

ومن المعلوم أن من أنذر بعدو يقصده لم يقل لنذيره قل لله يخلق في قدرة على الفرار حتى أفر بل يجتهد في الفرار والله هو الذي يعينه على الفرار فهذا الكلام لا يقوله إلا مكذب للرسل إذ ليس في الفطرة مع تصديق النذير الاعتلال بمثل هذا وإذا كان هذا تكذيبا حاق به ما حاق بالمكذبين الوجه الثالث أن يقول له أنا ليس لي أن أقول لربي مثل هذا الكلام بل علي أن أبلغ رسالاته وإنما علي ما حملت وعليك ما حملت وليس علي إلا البلاغ المبين وقد قمت به الرابع أن يقول ليس لي ولا لغيري أن يقول له لم لم تجعل في هذا كذا وفي هذا كذا فإن الناس على قولين من يقول إنه لا حكمة إلا محض المشيئة يقول إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ومن يقول إن له حكمة يقول لم يفعل شيئا إلا لحكمة ولم يتركه إلا لانتفاء الحكمة فيه وإذا كان كذلك لم يكن للعبد أن يقول له مثل ذلك ولهذا قال تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (سورة الأنبياء). الوجه الخامس أن يقول إعانتك على الفعل هو من أفعاله هو فما فعله فالحكمة وما لم يفعله فلانتفاء الحكمة وأما نفس الطاعة فمن أفعالك التي تعود مصلحتها عليك فإن أعانك كان فضلا عليك منه وإن خذلك كان عدلا منه فتكليفك ليس لحاجة له إلى ذلك ليحتاج إلى اعانتك كما يأمر السيد عبده بمصلحته فإذا كان العبد غير قادر أعانه حتى يحصل مراد الآمر الذي يعود إليه نفعه بل التكليف إرشاد وهدى وتعريف للعباد بما ينفعهم في المعاش والمعاد ومن عرف أن هذا الفعل ينفعه وهذا الفعل يضره وأنه يحتاج إلى ذلك الذي ينفعه لم يمكنه أن يقول لا أفعل الذي أنا محتاج إليه وهو ينفعني حتى يخلق في الفعل بل مثل هذا يخضع ويذل لله حتى يعينه على فعل ما ينفعه كما لو قيل هذا العدو قد قصدك أو هذا السبع أو هذا السيل المنحدر فإنه لا يقول لا أهرب وأتخلص

منه حتى يخلق الله في الهرب بل يحرص على الهرب ويسأل الله الإعانة على ذلك ويفر منه إذا عجز وكذلك إذا كان محتاجا إلى طعام أو شراب أو لباس فإنه لا يقول لا آكل ولا أشرب ولا ألبس حتى يخلق الله في ذلك بل يريد ذلك ويسعى فيه ويسأل الله تيسيره عليه فالفطرة مجبولة على حب ما تحتاج إليه ودفع ما يضرها وأنها تستعين الله عز وجل على ذلك هذا هو موجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده وإيجابها ذلك ولهذا أمر الله العباد أن يسألوا الله أن يعينهم على فعل ما أمر الوجه السادس أن يقال مثل هذا الكلام إما أن يقوله من يريد الطاعة ويعلم أنها تنفعه أو من لا يريدها ولا يعلم أنها تنفعه وكلاهما يمتنع منه أن يقول مثل هذا الكلام أما الأول فمن أراد الطاعة وعلم أنها تنفعه أطاع قطعا إذا لم يكن عاجزا فإن نفس الإرادة الجازمة للطاعة مع القدرة توجب الطاعة فإنها مع وجود القدرة والداعي التام توجب وجود المقدور فإذا كانت الطاعة بالتكلم بالشهادتين فمن أراد ذلك إرادة جازمة فعله قطعا لوجود القدرة والداعي التام ومن لم يفعله علم أنه لم يرده وإن كان لا يريد الطاعة فيمتنع أن يطلب من الرسول أن يخلقها الله فيه فإنه إذا طلب من الرسول أن يخلقها الله فيه كان مريدا لها فلا يتصور أن يقول مثل ذلك إلا مريد ولا يكون مريدا للطاعة المقدورة إلا ويفعلها وهذا يظهر بالوجه السابع وهو ان يقال أنت متمكن من الإيمان قادر عليه فلو أردته فعلته وإنما لم تؤمن لعدم إرادتك له لا لعجزك وعدم قدرتك عليه وقد بينا أن القدرة التي هي شرط في الأمر تكون موجودة قبل الفعل في المطيع والعاصي وتكون موجودة مع الأمر في المطيع بخلاف المختصة بالمطيع فإنها لا توجد إلا مع الفعل

وقد بيينا أن من جعل القدرة نوعا واحدا إما مقارنا للفعل وإما سابقا عليه فقد أخطأ هذا إذا عني بأحد النوعين مجموع ما يستلزم الفعل كما هو إصطلاح كثير من النظار وأما إذا لم يرده بالقدرة إلا المصحح فهي نوع واحد فإن للناس في القدرة هل هي مع الفعل أو قبله عدة أقوال أحدها أنها لا تكون إلا مع الفعل وهذا بناء على أنها المستلزمة للفعل وتلك لا تكون إلا معه وقد يبنونه على أن القدرة عرض والعرض لا يبقى زمانين والثاني أنها لا تكون إلا قبله بناء على أنها المصححة فقط وأنها لا تكون مقارنة الثالث أنها تكون قبله ومعه وهذا أصح الأقوال ثم من هؤلاء من يقول القدرة نوعان مصححة ومستلزمة فالمصححة قبله والمستلزمة معه ومنهم من يقول بل القدرة هي المصححة فقط وهي تكون معه وقبله وأما الاستلزام فإنما يحصل بوجود الإرادة مع القدرة لا بنفس ما يسمى قدرة والإرادة ليست جزءا من مسمى القدرة وهذا القول هو الموافق للغة القرآن بل ولغات سائر الأمم هو أصح الأقوال وحينئذ فنقول أنت قادر متمكن خلق فيك القدرة على الإيمان ولكن أنت لا تريد الإيمان فإن قال له قل له يجعلني مريدا للإيمان قال له إن كنت تطلب منه ذلك فأنت مريد للإيمان وإن لم تطلب ذلك فأنت كاذب في قولك قل له يجعلني مريدا للإيمان فإن قال فكيف تأمرني بما لم يجعلني مريدا له لم يكن هذا طلبا للإرادة بل كان هذا مخاصمة وهذا ليس على الرسول جوابه بل ولا في ترك جوابه انقطاع فإن القدر ليس لأحد أن يحتج به الوجه الثامن أن يقال كل من دعاه غيره إلى فعل وأمره به فلا يخلو أن يكون مقرا بأن الله خالق أفعال العباد وإرادتهم وأنهم لا يفعلون إلا ما شاءه أو لا يكون مقرا بذلك بل يقول إنهم يفعلون ما لا يشاؤه وهم يحدثون إرادات أنفسهم بلا إرادته

فإن كان من القسم الأول فهو يقر بأن كل ظالم له أو لغيره قد خلقت إرادته للظلم فظلمه وهو لا يعذر الظالم في ذلك فيقال له أنت مقر بأن مثل هذا ليس بحجة لمن خالف ما أمر به كائنا ما كان فلا يسوغ لك الاحتجاج به وإن كان منكرا للقدر امتنع أن يحتج بهذا فثبت أن الاحتجاج بالقدر لإفحام الرسل لا يسوغ لا على قول هؤلاء ولا على قول هؤلاء فإن قال قائل المدعي ليس له مذهب يعتقده بل هو ساذج قيل له هب ان الأمر كذلك ففي نفس الأمر إما أن يكون الحق قول هؤلاء وإما أن يكون قول هؤلاء وعلى التقديرين فالاحتجاج بالقدر باطل فثبت بطلان الاحتجاج به باتفاق الطائفتين المثبتة والنفاة الوجه التاسع أن يقال مقصود الرسالة هوالإخبار بالعذاب لمن كذب وعصى كما قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى (سورة طـــه). وحينئذ فإذا قال هو خلق في الكفر ولم يخلق في إرادة الإيمان قيل له هذا لا يناقض وقوع العذاب بمن كذب وتولى فإن كان لم يخلق فيك الإيمان فأنت ممن يعاقبه وإن جعلك مؤمنا فأنت ممن يسعده ونحن رسل مبلغون لك منذرون لك فقد حصل مقصود الرسول وبلغ البلاغ المبين وإنما المكلف يخاصم ربه حيث أمره بما لم يعنه عليه وهذا لا يتعلق بالرسول ولا يضره والله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون الوجه العاشر أن يقال هذا السؤال وارد على هذا المصنف وعلى غيره من محققي المعتزلة والرافضة الذين اتبعوا أبا الحسين البصري حيث قال إنه مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور وذلك أن الله خلق الداعي في العبد وقول أبي الحسين ومتبعيه في القدر وهو قول محققي أهل السنة الذين يقولون إن الله خلق قدرة العبد وإرادته وذلك مستلزم لخلقه فعل العبد ويقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله والله سبحانه جعله فاعلا له محدثا له وهذا قول جماهير أهل

السنة من جميع الطوائف وهو قول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي والجويني الملقب بإمام الحرمين وغيرهما وإذا كان هذا قول محققي المعتزلة والشيعة وهو قول جمهور أهل السنة وأئمتهم بقي الخلاف بين القدرية الذين يقولون إن الداعي يحصل في قلب العبد بلا مشيئة من الله ولا قدرة وبين الجهمية المجبرة الذين يقولون إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله بوجه من الوجوه وأن العبد ليس فاعلا لفعله كما يقول ذلك الجهم بن صفوان إمام المجبرة ومن اتبعه وإن أثبت أحدهم كسبا لا يعقل كما أثبته الأشعري ومن وافقه وإذا كان هذا النزاع في هذا الأصل بين القدرية النفاة لكون الله يعين المؤمنين على الطاعة ويجعل فيهم داعيا إليها ويختصهم بذلك دون الكافرين وبين المجبرة الغلاة الذين يقولون إن العباد لا يفعلون شيئا ولا قدرة لهم على شيء أو لهم قدرة لا يفعلون بها شيئا ولا تأثير لها في شيء فكلا القولين باطل مع أن كثيرا من الشيعة يقولون بقول المجبرة وأما السلف والأئمة القائلون بإمامة الخلفاء الثلاثة فلا يقولون لا بهذا

ولا بهذا فتبين ان قول أهل السنة القائلين بخلافة الثلاثة هو الصواب وأن من أخطأ من أتباعهم في شيء فخطأ الشيعة أعظم من خطئهم وهذا السؤال إنما يتوجه على من يسوغ الاحتجاج بالقدر ويقيم عذر نفسه أو غيره إذا عصى بكون هذا مقدرا علي ويرى أن شهود هذا هو شهود الحقيقة أي الحقيقة الكونية وهؤلاء كثيرون في الناس وفيهم من يدعى أنه من الخاصة العارفين أهل التوحيد الذين فنوا في توحيد الربوبية ويقول إن العارف إذا فنى في شهود توحيد الربوبية لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة ويقول بعضهم من شهد الإرادة سقط عنه الأمر ويقول بعضهم الخضر إنما سقط عنه التكليف لأنه شهد الإرادة وهذا الضرب كثير في متأخري الشيوخ والنساك والصوفية والفقراء بل وفي الفقهاء والامراء والعامة ولا ريب أن هؤلاء شر من المعتزلة والشيعة الذين يقرون بالأمر والنهي

وينكرون القدر وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين إلى السنة فإن من أقر بالأمر والنهي والوعد والوعيد وفعل الواجبات وترك المحرمات ولم يقل إن الله خلق أفعال العباد ولا يقدر على ذلك ولا شاء المعاصي هو قد قصد تعظيم الامر وتنزيه الله عن الظلم وإقامة حجة الله على نفسه لكن ضاق عطنه فلم يحسن الجمع بين قدرة الله التامة ومشيئته العامة وخلقه الشامل وبين عدله وحكمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده فجعل لله الحمد ولم يجعل له تمام الملك والذين أثبتوا قدرته ومشيئته وخلقه وعارضو بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده شر من اليهود والنصارى كما قال هذا المصنف فإن قولهم يقتضي إفحام الرسل ونحن إنما نرد من أقوال هذا وغيره ما كان باطلا وأما الحق فعلينا أن نقبله من كل قائل وليس لأحد أن يرد بدعة ببدعة ولا يقابل باطلا بباطل والمنكرون للقدر وإن كانوا في بدعة فالمحتجون به على الأمر أعظم بدعة وإن كان أولئك يشبهون المجوس فهؤلاء يشبهون المشركين المكذبين للرسل الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وقد كان في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين جماعة من هؤلاء القدرية وأما المحتجون بالقدر على الأمر فلا تعرف لهم طائفة

من طوائف المسلمين معروفة وإنما كثروا في المتأخرين وسموا هذا حقيقة وجعلوا الحقيقة تعارض الشريعة ولم يميزوا بين الحقيقة الدينية الشرعية التي تتضمن تحقيق أحوال القلوب كالإخلاص والصبر والشكر والتوكل والمحبة لله وبين الحقيقة الكونية القدرية التي يؤمن بها ولا يحتج بها على المعاصي لكن يسلم إليها عند المصائب فالعارف يشهد القدر في المصائب فيرضى ويسلم ويستغفر ويتوب من الذنوب والمعايب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك (سورة غافر). فالعبد مأمور بأن يصبر على المصائب ويستغفر من المعايب ومن هذا الباب حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام قد أخرجاه في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه وروي بإسناد جبر عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال احتج آدم وموسى وفي لفظ أن موسى قال يا رب أرني آدم الذي أخرجنا من الجنة بخطيئته فقال موسى يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده فبكم تجد فيها مكتوبا وعصى آدم ربه فغوى قبل أن أخلق قال بأربعين سنة قال فحج آدم موسى فحج آدم موسى فهذا الحديث ظن فيه طوائف أن آدم احتج بالقدر على الذنب وأنه حج موسى بذلك فطائفة من هؤلاء يدعون التحقيق والعرفان يحتجون بالقدر على الذنوب مستدلين بهذا الحديث وطائفة يقولون الاحتجاج بهذا سائغ في الآخرة لا في الدنيا وطائفة يقولون هو حجة للخاصة المشاهدين للقدر دون العامة وطائفة كذبت هذا الحديث كالجبائي وغيره وطائفة تأولته تأويلات فاسدة مثل قول بعضهم إنما حجة لأنه كان

قد تاب وقول آخر كان أباه والابن لا يلوم أباه وقول بعضهم كان الذنب في شريعة واللوم في أخرى وهكذا كله تعريج عن مقصود الحديث فإن الحديث إنما تضمن التسليم للقدر عند المصائب فإن موسى لم يلم آدم لحق الله الذي في الذنب وإنم لامه لأجل ما لحق الذرية من المصيبة ولهذا قال أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة وقال لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة وهذا روي في بعض طرق الحديث وإن لم يكن في جميعها وهو حق فإن آدم كان قد تاب من الذنب وموسى أعلم بالله من أن يلوم تائبا وهو أيضا قد تاب حيث قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي (سورة القصص). وقال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين (سورة الأعراف). وقال فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك (سورة الأعراف). وأيضا فإن المذنبين من الآدميين كثير فتخصيص آدم باللون دون الناس لا وجه له وأيضا فآدم وموسى أعلم بالله من أن يحتج أحدهما على الذنب بالقدر ويقبله الآخر فإن هذا لو كان مقبولا لكان لإبليس الحجة بذلك أيضا ولقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وإن كان من احتج على موسى بالقدر لركوب الذنب قد حجه ففرعون أيضا يحجه بذلك وإن كان آدم إنما حج موسى لأنه رفع اللوم عن المذنب لأجل القدر فيحتج بذلك عليه إبليس من امتناعه من السجود لآدم وفي الحقيقة هذا إنما هو احتجاج على الله وهؤلاء هم خصماء الله القدرية الذين يحشرون يوم القيامة إلى النار حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد

والآثار المروية في ذم القدرية تتناول هؤلاء أعظم من تناولها المنكرين للقدر تعظيما وتنزيها عن الظلم ولهذا يقرنون القدرية بالمرجئة لأن المرجئة تضعف أمر الإيمان والوعيد وكذلك هؤلاء القدرية تضعف أمر الله بالإيمان والتقوى ووعيده ومن فعل هذا كان ملعونا في كل شريعة كما روي لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا والخائضون في القدر بالباطل ثلاثة أصناف المكذبون به والدافعون للأمر والنهي به والطاعنون على الرب عز وجل بجمعه بين الأمر والقدر وهؤلاء شر الطوائف ويحكى في ذلك مناظرة عن إبليس والدافعون به للأمر بعدهم في الشر والمكذبون به بعد هؤلاء وأنت إذا رأيت تغليظ السلف على المكذبين بالقدر فإنما ذاك لأن الدافعين للأمر لم يكونوا يتظاهرون بذلك ولم يكونوا موجودين كثيرين وإلا فهم شر منهم كما أن الروافض شر من الخوارج في الاعتقاد ولكن الخوارج أجرأ على السيف والقتال منهم فلإظهار القول ومقاتلة المسلمين عليه جاء فيهم ما لا يجيء فيمن هم من جنس المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم

فتبين أن آدم احتج على موسى بالقدر من جهة المصيبة التي لحقته ولحقت الذرية والمصيبة تورث نوعا من الجزع يقتضي لوم من كان سببها فتبين له أن هذه المصيبة وسببها كان مقدورا مكتوبا والعبد مأمور أن يصبر على قدر الله ويسلم لأمر الله فإن هذا من جملة ما أمره الله به كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه (سورة التغابن). قالت طائفة من السلف كابن مسعود هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فهذا الكلام الذي قاله هذا المصنف وأمثال هذا الكلام يقال لمن احتج بالقدر على المعاصي ثم يعلم أن هذه الحجة باطلة بصريح العقل عند كل أحد مع الإيمان بالقدر وبطلان هذه الحجة لا يقتضي التكذيب بالقدر وذلك أن بني آدم مفطورون على احتياجهم إلى جلب المنفعة ودفع المضرة لا يعيشون ولا يصلح لهم دين ولا دنيا إلا بذلك فلا بد أن يأتمروا وإنما فيه تحصيل منافعهم ودفع مضارهم سواء بعث إليهم رسول أو لم يبعث لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم والرسل صلوات الله عليهم

بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك والمكذبون للرسل انعكس الأمر في حقهم فصاروا يتبعون المفاسد ويعطلون المصالح فهم شر الناس ولا بد لهم مع ذلك من أمور يجتلبونها وأمور يجتنبونها وأن يتدافعوا جميعا ما يضرهم من الظلم والفواحش ونحو ذلك فلو ظلم بعضهم بعضا في دمه وماله وعرضه وحرمته فطلب المظلوم الاقتصاص والعقوبة لم يقبل أحد من ذوي العقول احتجاجه بالقدر ولو قال اعذروني فإن هذا كان مقدرا علي لقالوا له وأنت لو فعل بك هذا فاحتج عليك ظالمك بالقدر لم تقبل منه وقبول هذه الحجة يوجب الفساد الذي لا صلاح معه وإذا كان الاحتجاج بالقدر مردودا في فطر جميع الناس وعقولهم مع أن جماهير الناس مقرون بالقدر علم أن الإقرار بالقدر لا ينافي دفع الاحتجاج به بل لا بد من الإيمان به ولا بد من رد الاحتجاج به ولما كان الجدل ينقسم إلى حق وباطل والكلام ينقسم إلى حق وباطل وكان من لغة العرب أن الجنس إذا انقسم إلى نوعين أحدهما أشرف من الآخر خصوا الأشرف باسمه الخاص وعبروا عن الآخر بالاسم العام كما في لفظ الجائز العام والخاص والمباح العام والخاص وذوي الأرحام العام والخاص ولفظ الحيوان العام والخاص فيطلقون لفظ الحيوان على غير الناطق لاختصاص الناطق باسم الإنسان وعملوا في لفظ الكلام والجدل كذلك فيقولون فلان صاحب كلام ومتكلم إذا كان قد يتكلم بلا علم ولهذا ذم السلف أهل الكلام وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجة صحيحة لم يك إلا جدلا محضا والاحتجاج بالقدر من هذا الباب كما في الصحيح عن علي رضي الله عنه قال طرقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة فقال ألا تقومان تصليان فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء يبعثنا بعثنا قال فولى وهو يقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا (سورة الكهف). فإنه لما أمرهم بقيام الليل فاعتل علي

رضي الله عنه بالقدر وأنه لو شاء الله لأيقظنا علم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس فيه إلا مجرد الجدل الذي ليس بحق فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلا.
*

فصل
قال الرافضي ومنها تجويز أن يعذب الله سيد المرسلين على طاعته ويثيب إبليس على معصيته لأنه يفعل لا لغرض فيكون فاعل الطاعة سفيها لأنه يتعجل بالتعب في الاجتهاد في العبادة وإخراج ماله في عمارة المساجد والربط والصدقات من غير نفع يحصل له لأنه قد يعاقبه على ذلك ولو فعل عوض ذلك ما يلتذ به ويشتهيه من أنواع المعاصي قد يثيبه فاختيار الأول يكون سفها عند كل عاقل والمصير إلى المذهب يؤدي إلى خراب العالم واضطراب أمور الشريعة المحمدية وغيرها.
*والجواب من وجوه...
أحدها: أن هذا الذي قاله باطل باتفاق المسلمين فلم يقل أحد منهم أن الله قد يعذب أنبياءه ولا أنه قد يقع منه عذاب أنبيائه بل هم متفقون على أنه يثيبهم لا محالة لا يقع منه غير ذلك لأنه وعد بذلك وأخبر به وهو صادق الميعاد وعلم ذلك بالضرورة ثم من متكلمة أهل السنة المثبتين للقدر من يقول إنما علم ذلك بمجرد خبره الصادق وهي الدلالة السمعية المجردة ومنهم من يقول بل قد يعلم ذلك بغير الخبر ويعلم بأدلة عقلية وإن كان الشارع قد نبه عليها وأرشد إليها كما إذا علمت حكمته ورحمته وعدله علم أن ذلك يستلزم إكرام من هو متصف بالصفات المناسبة لذلك كما قالت خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تعلم أنه نبي والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق

وقد قال الله تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (سورة الجاثية). وهذا إستفهام إنكار يقتضي الإنكار على من يحسب ذلك ويظنه وإنما ينكر على من ظن أو حسب ما هو خطأ باطل يعلم بطلانه لا من ظن ظنا ما ليس بخطأ ولا باطل فعلم أن التسوية بين أهل الطاعة وبين أهل المعصية مما يعلم بطلانه وأن ذلك من الحكم السييء الذي ينزه الله عنه ومثله قوله تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (سورة ص). وقوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون (سورة القلم). وفي الجملة التسوية بين الأبرار والفجار والمحسنين والظالمين وأهل الطاعة وأهل المعصية حكم باطل يجب تنزيه الله عنه فإنه ينافي عدله وحكمته وهو سبحانه كما ينكر التسوية بين المختلفات فهو يسوي بين المتماثلات كقوله سبحانه وتعالى أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر وقوله كدأب آل فرعون والذين من قبلهم الآية وقوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وقوله فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وقوله وتلك الأمثال نضربها للناس.
الوجه الثاني: أن قوله ومنها تجويز تعذيب الأنبياء وإثابة الشياطين إن أراد به أنهم يقولون إن الله قادر على ذلك فهو لا ينازع في القدرة وإن أراد أنا هل نشك هل يفعله أو لا يفعله فمعلوم أنا لا نشك في ذلك بل نعلم انتفاءه وعلمنا بانتفائه مستلزم لانتفائه

وإن أراد أن من قال إنه يفعل لا لحكمة يلزمه تجويز وقوع ذلك منه وإمكان وقوعه منه وإنه لو فعل ذلك لم يكن ظالما فلا ريب أن هذا قول هؤلاء وهم يصرحون بذلك لكن أكثر أهل السنة لا يقولون بذلك بل عندهم أن الله منزه عن ذلك ومقدس عنه ولكن على هذا لا يلزم أن تكون الطاعة سفها فإنها إنما تكون سفها إذا كان وجودها كعدمها والمسلمون متفقون على أن وجودها نافع وعدمها مضر وإن كانوا متنازعين هل يجوز أن يفعل الرب خلاف ذلك فإن نزاعهم في الجواز لا في الوقوع.
الوجه الثالث: أن يقال لو قدر أن ذلك جائز الوقوع لم تكن الطاعة سفها فإن هؤلاء الإمامية مع أهل السنة والجماعة يجوزون الغفران لأهل الكبائر والمعتزلة مع أهل السنة يجوزون تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ومع هذا فلم يكن اجتناب الكبائر والصغائر سفها بل هذا الاجتناب واجب بالاتفاق.
الوجه الرابع: أن يقال فعل النوافل ليس سفها بالاتفاق وإن جاز أن يثيب الله العبد بدون ذلك لأسباب أخر فالشيء الذي علم نفعه يكون فعله حكمة محمودة وإن جوز المجوز أن يحصل النفع بدون ذلك كاكتساب الأموال وغيرها من المطالب بالأسباب المقتضية لذلك في العادة فإنه ليس سفها وإن جاز أن يحصل المال بغير سعي كالميراث.
الوجه الخامس: قوله لأنه يفعل لا لغرض قد تقدم جوابه وبينا أن أكثر أهل السنة يقولون إنه يفعل لحكمة وهو مراد هذا بالغرض وبعض أهل السنة يصرح بأنه يفعل لغرض ومن قال من المثبتين للقدر إنه يفعل لا لحكمة فإنه يقول وإن كان يفعل ما يشاء فقد يعلم ما يشاؤه مما لا يشاؤه إما بإضطراد العادة وإما بإخبار الصادق وإما بعلم ضروري يجعله في قلوبنا وإما بغير ذلك.
*

فصل
قال الرافضي ومنها أنه لا يتمكن أحد من تصديق أحد من الأنبياء لأن التوصل إلى ذلك والدليل عليه إنما يتم بمقدمتين إحداهما أن الله تعالى فعل المعجز على يد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التصديق والثانية أن

كل من صدقه الله فهو صادق وكلتا المقدمتين لا تتم على قولهم لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض استحال أن يظهر المعجز لأجل التصديق وإذا كان فاعلا للقبيح ولأنواع الإضلال والمعاصي والكذب وغير ذلك جاز أن يصدق الكذاب فلا يصح الاستدلال على صدق أحد من الأنبياء ولا المنذرين بشيء من الشرائع والأديان.
*الجواب من وجوه...
أحدها: أن يقال إنه قد تقدم أن أكثر القائلين بخلافة الخلفاء الثلاثة يقولون إن الله يفعل لحكمة بل أكثر أهل السنة المثبتين للقدر يقولون بذلك أيضا وحينئذ فإن كان هذا القول هو الصواب فهو من أقوال أهل السنة وإن كان نفيه هو الصواب فهو من أقوال أهل السنة أيضا فعلى التقديرين لا يخرج الحق عن قولهم بل قد يوجد في كل مذهب من المذاهب الأربعة النزاع بين أصحابه في هذا الأصل مع اتفاقهم على إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة وعلى إثبات القدر وأن الله خالق أفعال العباد ونزاع أصحاب أحمد في هذا الأصل معروف وغير واحد من أصحاب أحمد وغيرهم كابن عقيل والقاضي أبي خازم وغيرهما يثبتون المعجزات بأن الرب حكيم لا يجوز في حكمته إظهار المعجزات على يد الكذاب وكذلك قال أبو الخطاب وغيره وكذلك أصحاب مالك والشافعي ولعل أكثر أصحاب أبي حنيفة يقولون بإثبات الحكمة في أفعاله أيضا.
الوجه الثاني: أن يقال لا نسلم أن تصديق الرسول لا يمكن إلا بطريق الاستدلال بالمعجزات بل الطرق الدالة على صدقه طرق متعددة غير طريق المعجزات كما قد بسط في غير هذا الموضع ومن

قال إنه لا طريق إلا ذلك كان عليه الدليل فإن النافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل وهو لم يذكر دليلا على النفي.
الوجه الثالث: أن يقال لا نسلم أن دلالة المعجزة على الصدق موقوفة على أنه لا يجوز أن يفعل ما ذكر بل دلالة المعجزة عل الصدق دلالة ضرورية لا تحتاج إلى نظر فإن اقتران المعجزة بدعوى النبوة يوجب علما ضروريا بأن الله أظهرها لصدقه كما أن من قال لملك من الملوك إن كنت أرسلتني إلى هؤلاء فانقض عادتك وقم واقعد ثلاث مرات ففعل ذلك الملك علم بالضرورة أنه فعل ذلك لأجل تصديقه.
الوجه الرابع: قول من يقول لو لم تدل المعجزة على الصدق للزم عجز البارىء عن تصديق رسوله والعجز ممتنع عليه لأنه لا طريق إلى التصديق إلا بالمعجزة وهذه طريقة كثير من أصحاب الأشعري ومن وافقهم وهي طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلي وغيرهما والأولى طريقة كثير منهم أيضا وهي طريقة أبي المعالي ومن اتبعه وكلاهما طريقة للأشعري وعلى هذا فإظهار المعجزة على يد الكذاب المدعي للنبوة هل هو ممكن مقدور أم لا على القولين.

الوجه الخامس: أن يقال قوله إنها موقوفة على أن كل من صدقه الله فهو صادق إنما يصح أن لو كان المعجز بمنزلة التصديق بالقول وهذا فيه نزاع فمن الناس من يقول بل هي بمنزلة إنشاء الرسالة والإنشاء لا يحتمل التصديق والتكذيب فقول القائل لغيره أرسلتك أو وكلتك أو نحو ذلك إنشاء وإذا كانت دلالة المعجزة على إنشاء الرسالة لم يكن ذلك موقوفا على أنه لا يفعل إلا لغرض ولا على أنه لا يفعل القبائح فإن الإنشاء كالأمر والنهي ونحو ذلك.
الوجه السادس: أن يقال قوله لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض استحال أن يظهر المعجز لأجل التصديق يجيب عنه من يقول إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء بأنه قد يفعل المتلازمين كما يفعل سائر الأدلة المستلزمة لمدلولاتها فيفعل المخلوقات الدالة على وجوده وقدرته وعلمه ومشيئته وهو قد أراد خلقها واراد أن تكون مستلزمة لمدلولها دالة عليه لمن نظر فيها كذلك خلق المعجزة هنا فأراد خلقها وأراد أن تكون مستلزمة لمدلوها الذي هو صدق الرسول دالة على ذلك لمن نظر فيها وإذا أراد خلقها وأراد هذا التلازم حصل المقصود من دلالتها على الصدق وإن لم يجعل أحد المرادين لأجل الآخر إذ المقصود يحصل بإرادتهما جميعا فإن قيل المعجز لا يدل بنفسه وإنما يدل للعلم بأن فاعله اراد به التصديق قيل هذا موضع النزاع ونحن ليس مقصودنا نصر قول من يقول إنه يفعل لا لحكمة بل هذا القول مرجوح عندنا وإنما المقصود أن نبين حجة القائلين بالقول الآخر وأرباب هذا القول خير من المعتزلة والشيعة وأما قوله إذا كان فاعلا للقبيح جاز أن يصدق الكذاب هذه حجة ثانية وجواب ذلك أن يقال ليس في المسلمين من يقول إن الله يفعل ما هو قبيح منه ومن قال إنه خالق أفعال العباد يقول إن ذلك الفعل قبيح منهم لا منه كما أنه ضار لهم لا له ثم منهم من يقول إنه فاعل ذلك الفعل والأكثرون يقولون

إن ذلك الفعل مفعول له وهو فعل للعبد وأما نفس خرق العادة فليست فعلا للعباد حتى يقال إنها قبيحة منهم فلو قدر فعل ذلك لكان قبيحا منه لا من العبد والرب منزه عن فعل القبيح فمن قال إذا خلق الله ما هو ضار للعابد جاز أن يفعل ما هو ضار كان قوله باطلا كذلك إذا جاز أن يخلق فعل العبد الذي هو قبيح من العبد وليس خلقه قبيحا منه لم يستلزم أن يخلق ما هو قبيح منه لا فعل للعبد فيه وتصديق الكذاب إنما يكون بإخبار أنه صادق سواء كان ذلك بقول أو فعل يجري مجرى القول وذلك ممتنع منه لأنه صفة نقص والله سبحانه منزه عن النقائص بالعقل وباتفاق العقلاء ومن قال إنه لا يتصور منه فعل قبيح بل كل ما يمكن فعله فهو حسن إذا فعله يقول إن ما يستلزم سلب صفات الكمال وإثبات النقص له فهو ممتنع عليه كالعجز والجهل ونحو ذلك والكذب صفة نقص بالضرورة والصدق صفة كمال وتصديق الكذاب نوع من الكذب كما أن تكذيب الصادق نوع من الكذب وإذا كان الكذب صفة نقص امتنع من الله ما هو نقص وهذا المقام له بسط مذكور في غير هذا الموضع ونحن لا نقصد تصويب قول كل من انتسب إلى السنة بل نبين الحق والحق أن أهل السنة لم يتفقوا قط على خطأ ولم تنفرد الشيعة عنهم قط بصواب بل كل ما خالفت فيه الشيعة جميع أهل السنة فالشيعة فيه مخطئون كما أن ما خالفت فيه اليهود والنصاري لجميع المسلمين فهم فيه ضالون وإن كان كثير من المسلمين قد يخطىء ومن وافق جهم بن صفوان من المثبتين للقدر على أن الله لا يفعل شيئا لحكمة ولا لسبب وأنه لا فرق بالنسبة إلى الله بين المأمور والمحظور ولا يحب بعض الأفعال ويبغض بعضها فقوله فاسد مخالف للكتاب والسنة واتفاق السلف وهؤلاء قد يعجزون عن بيان امتناع كثير من النقائص عليه لا سيما إذا قال من قال منهم إن تنزيهه عن النقص لا يعلم بالعقل بل بالسمع

فإذا قيل لهم لم قلتم إن الكذب ممتنع عليه قالوا لأنه نقص والنقص عليه محال فيقال لهم إن تنزيهه عندكم عن النقص لم يعلم إلا بالإجماع ومعلوم أن الإجماع منعقد على تنزيهه عن الكذب فإن صح الإحتجاج على هذا بالإجماع فلا حاجة إلى هذا التطويل وأيضا فالكلام إنما هو في العبارة الدالة على المعنى وهذا كما قاله بعضهم إن الله لا يجوز أن يتكلم بكلام ولا يعني به شيئا وقال خلافا للحشوية ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من المسلمين وإنما النزاع هل يجوز أن ينزل كلاما لا يعلم العباد معناه لا أنه هو في نفسه لا يعني به شيئا ثم بتقدير أن يكون في هذا نزاع فإنه احتج على ذلك بأن هذا عبث والعبث على الله تعالى ممتنع وهذا المحتج يجوز على الله فعل كل شيء لا ينزهه عن فعل فهذا وأمثاله من تناقض الموافقين لقول الجهمية الجبرية في القدر كثير لكن ليس هذا قول أئمة السنة ولا جمهورهم والله أعلم.
*

فصل
قال الرافضي ومنها أنه لا يصح أن يوصف الله أنه غفور حليم عفو لأن الوصف بهذه إنما يثبت لو كان الله مستحقا للعقاب في حق الفساق بحيث إذا أسقطه عنهم كان غفورا عفوا رحيما وإنما يستحق العقاب لو كان العصيان من العبد لا من الله تعالى.
*فيقال الجواب من وجوه...
أحدها: أن كثيرا من أهل السنة يقولون لا نسلم أن الوصف بهذه إنما يثبت لو كان مستحقا بل الوصف بهذه يثبت إذا كان قادرا على العقاب مع قطع النظر عن الاستحقاق فإن تخصيص الاستحقاق بهذه الامور يقتضي أنه يستحق شيئا دون شيء وهذا ممنوع عند هؤلاء بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فإذا كان قادرا على أن يعذب العصاة وهو يفعل ما يشاء صح منه مغفرته وحلمه وعفوه

الثاني: أن يقال أن قول القائل يستحق العقاب يعني به أن عقابه للعصاة عدل منه أو يعني به أنه محتاج إلى ذلك أما الأول فهو متفق عليه فإن عقوبته للعصاة عدل منه باتفاق المسلمين وإذا كان كذلك كان عفوه ومغفرته إحسانا منه وفضلا وهذا يقول به من يقول إنه خالق أفعالهم والقائلون بأنها أفعال لهم مخلوقة له والقائلون بأنها أفعال له كسب لهم متفقون على أن العقاب عدل منه وإن عني به كونه محتاجا إليه فهذا باطل باتفاق المسلمين.
الثالث: أن يقال المغفرة والرحمة والعفو إما أن يوصف بها وإن كان العقاب قبيحا على قول القائلين بذلك وإما أن لا يوصف بها إلا إذا كان العقاب سائغا غير قبيح فإن كان الأول لزم أن لا يكون غفارا لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى لأن عقاب هؤلاء قبيح والمغفرة لهم واجبة عند أهل هذا القول ويلزم أن لا يكون رحيما بمن يستحق الرحمة من الأنبياء والمؤمنين ويلزم ان لا يكون غفورا رحيما لمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ولما كان قد ثبت بالقرآن أنه غفار للتائبين رحيم بالمؤمنين علم أنه موصوف بالمغفرة والرحمة وإن كان العقاب منه ممتنعا بتقدير أن يكون مستحقا للعقاب فلا يمتنع أن يوصف بالمغفرة والرحمة كما في مغفرته ورحمته لمن لا يحسن عقابه عندهم.
الرابع: أن العصيان من العبد بمعنى أنه فاعله عند الجمهور وبمعنى أنه كاسبه لا فاعله عند بعضهم وبهذا القدر يستحق الإنسان أن يعاقب الظالم فاستحقاق الله أن يعاقب الظالم أولى بذلك وأما كونه خالقا لذلك فذاك أمر يعود إليه وله في ذلك حكمة عند الجمهور القائلين بالحكمة وذلك لم يصدر إلا لمحض المشيئة عند من لا يعلل بالحكمة والله أعلم.
*

فصل
قال الرافضي ومنها أنه يلزم تكليف ما لا يطاق لأنه تكليف للكافر بالإيمان ولا قدرة له عليه وهو قبيح عقلا

والسمع قد منع منه وقال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (سورة البقرة)..
*والجواب عنه من وجوه...
أحدها: أن المثبتين للقدر لهم في قدرة العبد قولان أحدهما أن قدرته لا تكون إلا مع الفعل وعلى هذا فالكافر الذي سبق في علم الله أنه لا يؤمن لا يقدر على الإيمان أبدا وما ذكره وارد على هؤلاء. والثاني أن القدرة نوعان فالقدرة المشروطة في التكليف تكون قبل الفعل وبدون الفعل وقد تبقى إلى حين الفعل والقدرة المستلزمة للفعل لا بد أن تكون موجودة عند وجوده وأصل قولهم إن الله خص المؤمنين بنعمة يهتدون بها لم يعطها الكافر وأن العبد لا بد أن يكون قادرا حين الفعل خلافا لمن زعم أنه لا يكون قادرا إلا قبل الفعل وأن النعمة على الكافر والمؤمن سواء وإذا كان لا بد من قدرته حال الفعل فإذا كان قادرا قبل الفعل وبقيت القدرة إلى حين الفعل لم ينقض هذا أصلهم لكن مجرد القدرة الصالحة للضدين يشترك فيها المؤمن والكافر فلا بد للمؤمن مما يخصه الله به من الأسباب التي بها يكون مؤمنا وهذا يدخل فيه إرادته للإيمان وهذه الإرادة يدخلونها في جملة القدرة المقارنة للفعل وهو نزاع لفظي وقد بين هذا في غير هذا الموضع كما تقدم وحينئذ فعلى قول الجمهور من أهل السنة الذين يقولون إن الكافر يقدر على الإيمان يبطل هذا الإيراد وعلى قول الآخرين فإنهم يلتزمونه وأي القولين كان هو الصواب فهو غير خارج عن أقوال أهل السنة ولله الحمد.
الوجه الثاني: أن يقال تكليف ما لا يطاق ينقسم إلى قسمين أحدهما ما لا يطاق للعجز عنه كتكليف الزمن المشي وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك فهذا غير واقع في الشريعة عند جماهير أهل السنة المثبتين للقدر وليس فيما ذكره ما يقتضي لزوم وقوع هذا والثاني ما لا يطاق للاشتغال بضده كاشتغال الكافر بالكفر فإنه هو الذي صده عن الإيمان وكالقاعد في حال قعوده فإن اشتغاله بالقعود

يمنعه أن يكون قائما والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الضد الآخر وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب ومثل هذا ليس بقبيح عقلا عند أحد من العقلاء بل العقلاء متفقون على أمر الإنسان ونهيه بما لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضده إذا أمكن أن يترك ذلك الضد ويفعل الضد المأمور به وإنما النزاع هل يسمى هذا تكليف ما لا يطاق لكونه تكليفا بما انتفت فيه القدرة المقارنة للفعل فمن المثبتين للقدر من يدخل هذا في تكليف ما لا يطاق كما يقوله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلي وغيرهما ويقولون ما لا يطاق على وجهين منه ما لا يطاق للعجز عنه وما لا يطاق للاشتغال بضده ومنهم من يقول هذا لا يدخل فيما لا يطاق وهذا هو الأشبه بما في الكتاب والسنة وكلام السلف فإنه لا يقال للمستطيع المأمور بالحج إذا لم يحج إنه كلف بما لا يطيق ولا يقال لمن أمر بالطهارة والصلاة فترك ذلك كسلا أنه كلف ما لا يطيق وقوله تعالى وكانوا لا يستطيعون سمعا (سورة الكهف). لم يرد

به هذا فإن جميع الناس قبل الفعل ليس معهم القدرة الموجبة للفعل فلا يختص بذلك العصاة بل المراد أنهم يكرهون سماع الحق كراهة شديدة لا تستطيع أنفسهم معها سماعه لبغضهم لذلك لا لعجزهم عنه كما أن الحاسد لا يستطيع الإحسان إلى المحسود لبغضه لا لعجزه عنه وعدم هذه الاستطاعة لا يمنع الأمر والنهي فإن الله يأمر الإنسان بما يكرهه وينهاه عما يحبه كما قال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم (سورة البقرة). وقال وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى سورة النازعات وهو قادر على فعل ذلك إذا أراده وعلى ترك ما نهى عنه وليس من شرط المأمور به أن يكون العبد مريدا له ولا من شرط المنهي عنه أن يكون العبد كارها له فإن الفعل يتوقف على القدرة والإرادة والمشروط في التكليف أن يكون العبد قادرا على الفعل لا أن يكون مريدا له لكنه لا يوجد إلا إذا كان مريدا له فالإرادة شرط في وجوده لا في وجوبه.
الوجه الثالث: أن تكليف ما لا يطاق إذا فسر بأنه الفعل الذي ليس له قدرة عليه تقارن مقدورها كان دعوى امتناعه بهذا التفسير مورد النزاع فيحتاج نفيه إلى دليل.
الوجه الرابع: أن من أهل الإثبات للقدر من يجوز تكليف ما لا يطاق للعجز عنه بل من غاليتهم من يجوز تكليف الممتنع لذاته وبعضهم يدعي أن ذلك واقع في الشريعة كتكليف أبي لهب الإيمان مع تكليف تصديق خبر الله أنه لا يؤمن وهذا القول وإن كان مرجوحا لكن هذا القدري لم يذكر دليلا على إبطال ذلك ولا على جواب معارضته بل اكتفى بمجرد قوله وهو قبيح عقلا وهؤلاء يقولون لا مجال للعقل في تحسين ولا تقبيح فإن لم يكمل البحث في هذه اللوازم لم يكن ما ذكره حجة عليهم فضلا عن أن يكون حجة على غيرهم من أهل الإثبات للقدر أو على المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

*

فصل
قال الرافضي ومنها أنه يلزم أن تكون أفعالنا الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا مثل حركتنا يمنة ويسرة وحركة البطش باليد والرجل في الصنائع المطلوبة لنا كالأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره، لكن الضرورة قاضية بالفرق بينهما فإن كل عاقل يحكم بأنا قادرون على الحركة الاختيارية وغير قادرين على الحركة إلى السماء من الطيران وغير ذلك. قال أبو الهذيل العلاف حمار بشر أعقل من بشر لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور فإنه يطفره ولو أتيت به إلى جدول كبير لم يطفره لأنه يفرق بين ما يقدر على طفره وما لا يقدر عليه وبشر لا يفرق بين المقدور عليه وغير المقدور عليه.
*والجواب أن هذا إنما يلزم من يقول إن العبد لا قدرة له على أفعاله الاختيارية وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من طوائف أهل السنة بل ولا من طوائف المثبتين للقدر إلا ما يحكى عن الجهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنهم سلبوا العبد قدرته وقالوا إن حركته كحركة الأشجار بالرياح إن صح النقل عنهم وأشد الطوائف قربا من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختيارا ويقول إن الفعل كسب للعبد لكنه يقول لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور فلهذا قال من قال إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول وجمهور أهل الإثبات على أن العبد فاعل لفعله حقيقة وله قدرة واختيار وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع وغير ذلك من الشروط والأسباب

فما ذكره لا يلزم جمهور اهل السنة وقد قلنا غير مرة نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنة من يقول الخطأ لكن لا يتفقون على خطأ كما تتفق الإمامية على خطأ بل كل مسألة خالفت فيها الإمامية أهل السنة فالصواب فيها مع أهل السنة وأما ما تنازع فيه أهل السنة وتنازعت فيه الإمامية فذاك لا اختصاص له بأهل السنة ولا بالإمامية وبالجملة فجمهور أهل السنة من السلف والخلف يقولون إن العبد له قدرة وإرادة وفعل وهو فاعل حقيقة والله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء كما دل على ذلك الكتاب والسنة قال تعالى عن إبراهيم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك (سورة البقرة). وقال تعالى عن إبراهيم رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي سورة ابراهيم وقالتعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا (سورة السجدة). وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين (سورة الأنبياء). وقال إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا (سورة المعارج). فأخبر أن الله يجعل المسلم مسلما والمقيم الصلاة مقيم للصلاة والإمام الهادي إماما هاديا

وقال عن المسيح صلى الله عليه وسلم وجعلني مباركا أينما كنت إلى قوله وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (سورة مريم). فبين أن الله هو الذي جعله برا بوالدته ولم يجعله جبارا شقيا وهذا صريح قول أهل السنة في أن الله عز وجل خالق أفعال العباد وقال تعالى عن فرعون وقومه وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار (سورة القصص). وقد قال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين سورة التكوير وقال تعالى إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما سورة الإنسان وقوله كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره (سورة المدثر). فأثبت مشيئة العبد وقوله كلا إلا بمشيئة الرب تعالى وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب وقد أخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويتقون ويفسقون ويصدقون ويكذبون ونحو ذلك في مواضع كثير وأخبر أن لهم استطاعة وقوة في غير موضع وأئمة أهل السنة وجمهورهم يقولون إن الله خالق هذا كله والخلق عندهم ليس هو المخلوق فيفرقون بين كون أفعال العباد مخلوقة مفعولة للرب وبين أن يكون نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلا فإنها فعل للعبد بمعنى المصدر وليست فعلا للرب تعالى بهذا الاعتبار بل هي مفعولة له والرب تعالى لا يتصف بمفعولاته ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرق بين فعل الرب ومفعوله ويقول مع ذلك إن أفعال العباد فعل لله كما يقول ذلك الجهم بن صفوان وموافقوه والأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أتباع الأئمة ولهذا ضاق بهؤلاء البحث في هذا الموضع كما قد بسط في موضعه وكذلك أيضا لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسبابا وقوى وطبائع ويقول إن الله يفعل عندها لا بها فلزمه أن لا يكون فرق بين القادر

والعاجز وإن أثبت قدرة وقال إنها مقترنة بالكسب قيل له لم تثبت فرقا معقولا بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل ولا بين القادر والعاجز إذا كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها وكذلك قول من قال إن القدرة مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله كما يقول القاضي أبو بكر ومن وافقه فإنه إن أثبت تأثيرا بدون خلق الرب لزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله تعالى وإن جعل ذلك معلقا بخلق الرب فلا فرق بين الأصل والصفة وأما أئمة أهل السنة وجمهورهم فيقولون بما دل عليه الشرع والعقل قال الله تعالى سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات (سورة الأعراف). وقال وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها (سورة البقرة). وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام (سورة المائدة). وقال يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا (سورة البقرة). ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يخبر الله تعالى أنه يحدث الحوادث بالأسباب وكذلك دل الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع التي جعلها الله في الحيوان وغيره كما قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم (سورة التغابن). وقال أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة (سورة فصلت). وقال الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء (سورة الروم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبدالقيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما فقال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ومثل هذا كثير ليس هذا موضع بسطه وهؤلاء يثبتون للعبد قدرة ويقولون إن تأثيرها في مقدورها كتأثير

سائر الأسباب في مسبباتها والسبب ليس مستقلا بالمسبب بل يفتقر إلى ما يعاونه فكذلك قدرة العبد ليست مستقلة بالمقدور وأيضا فالسبب له ما يمنعه ويعوقه وكذلك قدرة العبد والله تعالى خالق السبب وما يعينه وصارف عنه ما يعارضه ويعوقه وكذلك قدرة العبد وحينئذ فما ذكره هذا الإمامي من الفرق الضروري بين الأفعال الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا وبين الأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره حق يقوله جميع أهل السنة وجماعة أتباعهم لم ينازع في ذلك أحد من أئمة المسلمين الذين لهم في الأمة لسان صدق من الصحابة والتابعين لهم بإحسان والفقهاء المشهورين كمالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثال هؤلاء الذين هم أهل الاجتهاد في الدين وخلفاء المرسلين وإذا كان في المثبتين للقدر من يلزمه بطلان الفرق كان قوله باطلا ومع هذا فقول نفاة القدر أبطل منه فهذا القدري رد باطلا بما هو أبطل منه وأهل السنة لا يوافقونه لا على هذا ولا على هذا لكن يقولون الحق ويعلمون أن قوله أبطل وذلك أن أفعال العباد حادثة كائنة بعد ان لم تكن فحكمها حكم سائر الحوادث وهي ممكنة من الممكنات فحكمها حكم سائر الممكنات فما من دليل يستدل به على أن بعض الحوادث والممكنات مخلوقة لله إلا وهو يدل على أن أفعال العباد مخلوقة لله فإنه قد علم أن المحدث لا بد له من محدث وهذه المقدمة ضرورية عند جماهير العقلاء وكذلك الممكن لا بد له من مرجح تام فإذا كان فعل العبد حادثا بعد أن لم يكن فلا بد له من محدث وإذا قيل المحدث هو العبد فيكون العبد صار محدثا له بعد أن لم يكن هو أيضا أمر حادث فلا بد له من محدث إذ لو كان العبد

لم يزل محدثا له لزم دوام ذلك الفعل الحادث وإذا كان إحداثه له حادثا فلا بد له من محدث وإذا قيل المحدث إرادة العبد قيل فإرادته أيضا حادثة فلا بد لها من محدث وإن قيل حدثت بإرادة من العبد قيل تلك الإرادة أيضا لا بد لها من محدث فأي محدث فرضته في العبد إن كان حادثا فالقول فيه كالقول في الحادث الأول وإن جعلته قديما أزليا كان هذا ممتنعا لأن ما يقوم بالعبد لا يكون قديما أزليا وإن قلت هو وصف للعبد وهي قدرته المخلوقة فيه مثلا لم ينفعك هذا لوجوه أحدها أن يقال فإذا كانت هذه القدرة المخلوقة فيه موجودة قبل حدوث الفعل وحين حدوثه فلا بد من سبب آخر حادث ينضم إليها وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح وحدوث الحوادث بلا سبب حادث وإلا فإذا كان حال العبد قبل أن يفعل وحاله حين الفعل سواء لا مزية لأحد الحالين على الآخر وكان تخصيص هذه الحال بكونه فاعلا فيها دون الأخرى ترجيحا لأحد المتماثلين بدون مرجح وهكذا إذا قيل فعله يمكن أن يكون وأن لا يكون والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام والمرجح إذا كان من العبد فالقول فيه كالقول في الفعل فلا بد أن يكون المرجح التام من الله تعالى وأن يستلزم وجوده وجود الفعل وإلا لم يكن تاما ولأجل هذا اتفق أهل السنة المثبتون للقدر على أن الله خص المؤمنين بنعمة دون الكافرين بأن هداهم للإيمان ولو كانت نعمته على المؤمنين مثل نعمته على الكافرين لم يكن المؤمن مؤمنا كما قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (سورة الحجرات). وقال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين (سورة الحجرات). وقال تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (سورة البقرة). وقال تعالى أولئك

كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه (سورة المجادلة). وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (سورة الأنعام). والقدرية جعلوا نعمته الدينية على الصنفين سواء وقالوا إن العبد أعطي قدرة تصلح للإيمان والكفر ثم إنه يصدر عنه أحدهما بدون سبب حادث يصلح للترجيح وزعموا أن القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره على الآخر بلا مرجح وادعوا هذا في قدرة الرب وقدرة العبد وقد وافقهم على هذا في قدرة الرب كثير من المثبتين للقدر القائلين بأن الرب لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته بل ووافقهم فيها كثير من المثبتين للقدر وصار الرازي وأمثاله ممن يحتج على القدرية بتلك الحجة يتناقضون فإذا ناظروهم في مسألة خلق الأفعال احتجوا عليهم بتلك وقالوا إن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام سواء صدر عن قادر مختار أو غيره وإذا تكلموا في مسألة حدوث العالم وقيل لهم الحادث لا بد له من سبب حادث أجابوا بجواب القدرية فقالوا

القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره بلا مرجح وفرقوا بين القادر وغيره كما قالت القدرية وقد يفرقون بين فعل الرب وفعل العبد بأن الرب يرجح بمشيئته القديمة التي هي من لوازم ذاته بخلاف العبد فإن إرادته حادثة من غيره ولكن قال أكثر الناس هؤلاء الذين يقولون إن الإرادة القديمة الأزلية هي المرجحة من غير تجدد شيء قولهم من جنس قولهم فإن الإرادة نسبتها إلى جميع ما يقدر وقتا للحوادث نسبة واحدة ونسبتها إلى جميع الممكنات نسبة واحدة فترجح أحد المتماثلين على الآخر ترجيح بلا مرجح وإذا قدر حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء ثم قدر إختصاص أحد الحالين بالفعل لزم الترجيح بلا مرجح وهذا منتهى نظر هؤلاء الطوائف ولهذا كان من لم يعرف كلامهم كالرازي وأمثاله مترددين بين عله الدهرية وقادر القدرية ومريد الكلابية لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته وقدرته ولما كانت الجهمية والقدرية بهذه الحال لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته جعلت الفلاسفة الدهرية كابن سينا وأمثاله هذا عمدتهم في امتناع حدوث العالم

ووجوب قدمه ولكن لا حجة لهم في ذلك على مذهبهم فإن غاية هذا أن يستلزم دوام فاعلية الرب تعالى لا يدل على قدم الفلك ولا غيره من أعيان العالم ولكن هؤلاء قالوا هذا يستلزم التسلسل والتسلسل محال ومرادهم التسلسل في تمام التأثير كما تقدم وأما التسلسل في الآثار فهو قولهم وقد ذكرنا أن التسلسل الممتنع هنا هو من جنس الدور الممتنع فإنه إذا قيل لا يفعل هذا الحادث حتى يحدث ما به يصير فاعلا له ويكون ذلك حادثا مع حدوثه وكذلك الثاني صار هذا تسلسلا في تمام التأثير وإذا قيل لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا كان هذا دورا ممتنعا فهو تسلسل إذا أطلق الكلام في الحوادث ودور إذا عين الحادث وهي حجة إلزامية لأولئك المتكلمين من الجهمية والقدرية ومن تبعهم من الأشعرية والمعتزلة والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهمودوامها عند من جعله لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته وقدرته ثم صار ذلك ممكنا له يستلزم الترجيح بلا مرجح أو التسلسل المتفق على امتناعه والدور الممتنع وكل ذلك ممتنع والتسلسل المتفق على امتناعه هو التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير فأما التسلسل في الآثار فهو مورد النزاع وأولئك يبطلون القسمين بناء على أن ما لا يتناهى يمتنع فيه التفاوت وجماهير الفلاسفة مع أئمة أهل الملل فإنهم لا ينكرون القسم الثاني وحينئذ فيقال لهؤلاء المتفلسفة إن كان التسلسل في الآثار ممتنعا بطل قولكم وإذا بطل القول بطلت حجته بالضرورة لأن القول الباطل لا تقوم عليه حجة صحيحة وإن كان ممكنا بطلت حجتكم لإمكان أن تكون كلماته لا نهاية لها وأنه لم يزل متكلما بمشيئته أو فعالا بمشيئته فعلا بعد فعل من غير قدم شيء بعينه من الأفعال والمفعولات فالحجة باطلة على التقديرين فإنه إذا كان تسلسل الآثار ممكنا أمكن حدوث الأفلاك بأسباب قبلها حادثة

والرسل صلوات الله عليهم أجمعين أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك وهذا مما علم بالاضطرار والنقل المتواتر من دين الرسل وأدلتكم ليس فيها ما يوجب قدم السموات فقولكم بقدمها ليس فيه حجة عقلية فهو تكذيب للرسل بلا سبب وأيضا فالعقل الصريح يبطل قولكم فإن الأفلاك وغيرها من العالم مستلزم للحوادث فلو كان قديما للزم أن يكون صادرا عن موجب له قديم فحينئذ يكون الموجب مستلزما لموجبه ومقتضاه لا يتأخر عنه إذ لو جاز تأخر موجبه عنه لم تكن علة تامة لاستلزام العلة التامة معلولها وإذا لم تكن علة تامة امتنع أن يقارنه موجبه لامتناع قدم المعلول بدون علة تامة وأيضا فلو جاز تأخر موجبه مع جواز مقارنته له في الأزل لافتقر تخصيصه بأحدهما إلى مرجح غير الموجب بذاته وليس هناك مرجح غيره فامتنع

وجود الأفلاك وغيرها وهذا باطل فإنها موجودة مشهودة عيانا وهم يسلمون هذا ويقولون بأنها معلول علة قديمة وهو موجب بالذات لا يتأخر عنه موجبه وإذا كان هذا معلوما بالعقل الصريح وهم يوافقون عليه بل هو أصل قولهم قيل لهم فما يستلزم الحوادث يمتنع أن يصدر عن موجب بالذات لأن الحوادث تحدث شيئا بعد شيء وما يحدث شيئا فشيئا لا تكون أجزاؤه قديمة أزلية فلا تكون صادرة عن موجب بالذات فامتنع أن تكون الحوادث صادرة عن موجب بالذات وامتنع صدور شيء من العالم بدون الحوادث اللازمة له لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع فتبين أنه يمتنع أن يكون الفلك قديما أزليا ولا يمكن أن يقال كان خاليا عن الحوادث في الأزل ثم حدثت فيه لأنه يقال حينئذ فلا بد لتلك الحوادث من سبب فالقول فيها كالقول في غيرها فإن جاز أن يحدث بدون سبب حادث أمكن ذلك في الفلك وبطلت حجتهم ولزم من ذلك ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وإن كان لا بد لها من سبب لزم التسلسل ودوام الحوادث وأن الفلك وكل ما سوى الله لم يزل مقارنا للحوادث وكل ممكن قارن الحوادث امتنع أن يكون صادرا عن موجب بالذات فامتنع أن يكون قديما

والناس قد تنازعوا فيما يستلزم الحوادث وهو ما لا يخلو عن الحوادث وما لا بد أن تقارنه الحوادث هل يجب أن يكون حادثا أو لا يجب حدوثه بل يجوز قدمه سواء كان هو الواجب الفني عما سواه أو كان ممكنا أو يفرق بين الواجب بنفسه الفني عما سواه وبين الممكن الفقير إلى غيره على ثلاثة أقوال فالأول قول من يقول من طوائف النظار وأهل الكلام بامتناع دوام فاعلية الرب وامتناع فعل الرب وتكلمه بمشيئته وقدرته في الأزل وأن ذلك غير ممكن وهؤلاء متنازعون في إمكان دوام فاعليته في المستقبل على قولين والقول الثاني قول الفلاسفة الذين يقولون بقدم ما سوى الله إما الأفلاك وإما العقول وإما غير ذلك ويجعلون الرب سبحانه موجبا بذاته لا يمكنه إحداث شيء ولا تغيير شيء من العالم بل حقيقة قولهم إن الحوادث لم تصدر عنه بل صدرت وحدثت بلا محدث والقول الثالث قول أئمة أهل الملل الذين يقولون إن الله خالقكل شيء وكل ما سوى الله كائن بعد أن لم يكن مع دوام قادرية الله وأنه لم يزل متكلما إذا شاء بل لم يزل فاعلا أفعالا تقوم بنفسه وأقوال أئمة الفلاسفة وأساطينهم الذين كانوا قبل أرسطو توافق قول هؤلاء بخلاف أرسطو وأتباعه الذين قالوا بقدم الأفلاك فإن قول هؤلاء معلوم الفساد بصحيح المنقول وصريح المعقول وأيضا فإن كون المفعول المعين لازما للفعل قديما بقدمه دائما بدوامه ممتنع لذاته وإن قدر أن الفاعل غير مختار فكيف إذا ثبت أنه يفعل بمشيئته وقدرته

وما يذكرونه من تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان لا يعقل ولا يوجد إلا فيما يكون شرطا فإن الشرط قد يقارن المشروط أما العلة التي هي فعل فاعل للمعلول فهذه لا يعقل فيها مقارنتها للمعلول في الزمان وهم يمثلون تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم وتقدم الحركة على الصوت وغير ذلك وجميع ما يمثلون به إما أن يكون شرطا لا فاعلا وإما أن يكون متقدما بالزمان وأما فاعل غير متقدم فلا يعقل قط وليس هذا موضع بسط هذه الأمور فإنها أضل مقالات أهل الأرض وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على أصل القدرية فإن حقيقة قولهم أن أفعال الحيوان تحدث بلا فاعل كما أن أصل قول الفلاسفة الدهرية أن حركة الفلك وجميع الحوادث تحدث بلا سبب حادث وكذلك من وافقالقدرية من أهل الإثبات على أن الرب تعالى لا تقوم به الأفعال وقالوا إن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق كما تقوله الأشعرية ومن وافقهم فإنه يلزمه في فعل الرب ما لزم القدرية ولهذا عامة شناعات هذا الرافضي القدري هي على هؤلاء وهؤلاء طائفة من طوائف المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وقد وافقهم في ذلك كثير من الشيعة الزيدية والإمامية وغيرهم وقولهم على كل حال أقل خطأ من قول القدرية بل أصل خطئهم موافقتهم للقدرية في بعض خطئهم وأئمة أهل السنة لا يقولون بشيء من هذا الخطأ وكذلك جماهير أهل السنة من أهل الحديث والفقه والتفسير والتصوف لا يقرون بهذه الأقوال المتضمنة للخطأ بل هم متفقون على أن الله خالق أفعال العباد وعلى أن العبد قادر مختار يفعل بمشيئته وقدرته والله خالق ذلك

كله وعلى الفرق بين الأفعال الاختيارية والاضطراية وعلى أن الرب يفعل بمشيئته وقدرته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لم يزل قادرا على الأفعال موصوفا بصفات الكمال متكلما إذا شاء وأنه موصوف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل فيثبتون علمه المحيط ومشيئته النافذة وقدرته الكاملة وخلقه لكل شيء ومن هداه الله إلى فهم قولهم علم أنهم جمعوا محاسن الأقوال وأنهم وصفوا الله بغاية الكمال وأنهم هم المستمسكون بصحيح المنقول وصريح المعقول وأن قولهم هو القول السديد السليم من التناقض الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه.
*

فصل
قال الرافضي الإمامي القدري ومنها أنه يلزم أن لا يبقى عندنا فرق بين من أحسن إلينا غاية الإحسان طول عمره وبين من أساء إلينا غاية الإساءة طول عمره ولم يحسن منا شكر الأول وذم الثاني لأن الفعلين صادران من الله تعالى عندهم.
*فيقال هذا باطل فإن اشتراك الفعلين في كون الرب خلقهما لا يستلزم إشتراكهما في سائر الأحكام فإنه من المعلوم بصريح العقل أن الأمور المختلفة تشترك في أمور كثيرة لا سيما في مثل هذا المقام فإن جميع ما سوى الله مشترك في أن الله خلقه وأنه ربه ومليكه ثم من المعلوم أن المخلوقات بينها من الافتراق ما لا يحصيه إلا الخلاق فالله تعالى جعل الظلمات والنور وقال وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور (سورة فاطر). والله خالق الجنة والنار ولا تستوي الجنة ولا النار والله خالق الظل والحرور ولا يستوي الظل ولا الحرور والله خالق الأعمى والبصير ولا يستوي الأعمى والبصير والله خالق الحي والميت والقادر والعاجز والعالم والجاهل ولا يستوي هذا وهذا والله خالق ما ينفع وما يضر وما يوجب اللذة وما يوجب الألم ولا يستوي هذا وهذا فإذا كان الله خالق الأطعمة

الطيبة والخبيثة ثم إن الطيب يحب ويشتهى ويمدح ويبتغى والخبيث يذم ويبغض ويجتنب والله خالق هذا وهذا والله خالق الملائكة والأنبياء وخالق الشياطين والحيات والعقارب وغيرها من الفواسق فهذا محمود معظم وهذا فاسق يقتل في الحل والحرم وهو سبحانه وتعالى خالق في هذا طبيعة كريمة تقتضي الخير والإحسان وفي هذا طبيعة خبيثة توجب الشر والعدوان مع ما بينهما من الفرق في الحب والبغض والمدح والذم ونحو ذلك وإذا كان الشرع والعقل متطابقين على أن ما جعل الله فيه منفعة للناس ومصلحة لهم يحب ويمدح ويطلب وإن كان جمادا أو حيوانا بهيميا فكيف لا يكون من جعله محسنا للناس يحصل لهم به منافع ومصالح أحق بأن يحب ويمدح ويثنى عليه وكذلك في جانب الشر والقدري يقول لا يكون العبد محمودا ومشكورا على إحسانه ومذموما على إساءته إلا بشرط أن لا يكون الله جعله محسنا إلينا ولا من به علينا إذا فعل الخير ولا ابتلانا به إذا فعل الشر وهذا حقيقة ما قاله هذا الرافضي القدري

ومعلوم فساد هذا القول شرعا وعقلا فإن حقيقته أنه حيث يشكر العبد لا يشكر الرب وحيث يشكر الرب لا يشكر العبد وحقيقته أنه لا يكون لله علنيا منة في تعليم الرسول وتبليغه إلينا رسالات ربه وقد قال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة (سورة آل عمران). وعلى قول القدري يكون إرسال الله له من جنس إرسال مخلوق إلى مخلوق فذاك تفضل بنفس الإرسال لا بأن جعل الرسل تتلوا وتعلم وتزكي بل هذه الأفعال منتسبة عندهم فيها للرسول الذي خلقها عندهم دون المرسل الذي لم يحدث شيئا منها والقدري يقول الرسول نطق بنفسه لم ينطقه الله ولا أنطق الله شيئا بل جعل فيه قدرة على أن ينطق وأن لا ينطق وهو يحدث أحدهما مع استواء الحال قبل الإحداث وبعده بدون معونة الله له على إحداث النطق وتيسيره له وعلى قول القدري لا يكون لله نعمة على عباده باستغفار الملائكة لهموتعليم العلماء لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وعدل ولاة الأمور عليهم ولا يكون الله مبتليا لهم إذا ظلمهم ولاة الأمور وفي الأثر المعروف يقول الله عز وجل أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسب الملوك وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم وعند القدري لا يقدر الله أن يجعل الملوك لا عادلين ولا جائرين ولا محسنين ولا مسيئين ولا يقدر أن يجعل أحدا محسنا إلى أحد ولا مسيئا إلى أحد ولا يقدر أن ينعم على أحد بمن يحسن إليه ويكرمه ولا يقدر على أن يبتليه بمن يعذبه ويهينه وعلى قول القدري لم يبعث الله عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار فإنه لم يأمرهم بذلك ولا جعلهم فاعلين بل أعطاهم قدرة وكذلك عندهم لم يرسل الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا

وقد قال بعضهم إنه على قول القدري لايستحق الله أن يشكر بحال فإن الشكر إنما يكون على النعم والنعم إما دينية وأما دنيوية وإما أخروية فالنعم الدنيوية هي عنده واجبة على الله وكذلك ما يقدر عليه من الدينية كالإرسال وخلق القدرة وأما نفس الإيمان والعمل الصالح فهو عنده لا يقدر أن يجعل أحدا مؤمنا ولا مهتديا ولا صالحا ولا برا ولا تقيا فلا يستحق أن يشكر على شيء من هذه الامور التي لم يفعلها ولا يقدر عليها عنده وأما النعم الأخروية فالجزاء واجب عليه عنده كما يجب على المستأجر أن يوفي الأجير أجره ومعلوم أن هذا عنده من باب العدل المستحق لا من باب الفضل والإحسان بمنزلة من قضى دينا كان عليه فلا يستحق الشكر على فضل ولا إحسان ومن هذا حقيقة قوله كيف يعيب أهل الإيمان الذين يشكرون الله على كل حال ونعمة ويشكرون من أجرى الله الخير على يديهفإنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله ومن أساء إليهم يعتقدون جواز مقابلته بالعدل وأن العفو عنه أفضل إذا لم يكن في عقوبته حق لله ويرى أحدهم أن الله أنعم عليه بإحسان الأول ليشكره عليه وأنه ابتلاه بإساءة هذا إليه كما يبتليه بأنواع البلاء ليصبر ويستغفر من ذنوبه ويرضى بقضائه كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء فشكر كان خير له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن

وقد قال تعالى إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (سورة مريم). وقال تعالى فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (سورة الإسراء). فإرساله الشياطين وبعثه لهؤلاء المعتدين على بني اسرائيل أهو أمر شرعي أمرهم به كما أرسل رسله بالبينات والهدى وكما بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم أم هو تقدير وتسليط وإن كان المسلط ظالما معتديا عاصيا لدين الله وشرعه ثم من المعلوم أن عامة أهل الأرض مقرون بالقدر وهم مع هذا يمدحون المحسن ويذمون المسيء فطروا على هذا وعلى هذا فيقرون أن الله تعالى خالق كل شيء وربه وأنه قدر ذلك كله وسلط هذا ويسر هذا ويمدحون هذا ويذمون هذا وأهل الإثبات المقرون بالقدر يمدحون المحسن ويذمون المسيء مع اتفاقهم على أن الله خالق الفعلين فقولهم إنه يلزمهم أن لا يفرقوا بين هذا وهذا لزوم ما لا يلزموغاية الأمر أن يكون الله جعل هذا مستحقا للمدح والثواب وهذا مستحقا للذم والعقاب فإذا كان قد جعل هذا مستحقا وهذا مستحقا لم يمتنع أن يمدح هذا ويذم هذا لكن خلقه لهذين الزوجين كخلقه لغير ذلك يتعلق بالحكمة الكلية في خلق المخلوقات كما قد ذكر في غير هذا الموضع وعلى رأي القدري لا يستحق المدح والثناء والشكر إلا من لم يجعله الله محسنا ولا يستحق الذم إلا من لم يجعله الله مسيئا بل من لا يقدر الله أن يجعله محسنا ولا مسيئا فعنده لا مدح ولا ذم إلا بشرط عجز الله تعالى وقصور مشيئته وخلقه وحدوث الحوادث بدون محدث.
*

فصل
قال الرافضي ومنها التقسيم الذي ذكره سيدنا ومولانا الإمام موسى بن جعفر الكاظم وقد سأله أبو حنيفة وهو صبي فقال المعصية ممن فقال الكاظم المعصية إما

من العبد أو من الله أو منهما فإن كانت من الله فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله وإن كانت المعصية منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف وإن كانت المعصية من العبد وحده فعليه وقع الأمر وإليه توجه المدح والذم وهو أحق بالثواب والعقاب ووجب له الجنة أو النار. فقال أبو حنيفة ذرية بعضها من بعض.
*فيقال...
أولا: هذه الحكاية لم يذكر لها إسنادا فلا تعرف صحتها فإن المنقولات إنما تعرف صحتها بالأسانيد الثابتة لا سيما مع كثرة الكذب في هذا الباب كيف والكذب عليها ظاهر فإن أبا حنيفة من المقرين بالقدر باتفاق أهل المعرفة به وبمذهبه وكلامه في الرد علىالقدرية معروف في الفقه الأكبر وقد بسط الحجج في الرد عليهم بما لم يبسطه على غيرهم في هذا الكتاب وأتباعه متفقون على أن هذا هو مذهبه وهو مذهب الحنفية المتبعين له ومن انتسب إليه في الفروع وخرج عن هذا من المعتزلة ونحوهم فلا يمكنه أن يحكى هذا القول عنه بل هم عند أئمة الحنفية الذين يفتى بقولهم مذمومون معيبون من أهل البدع والضلالة فكيف يحكى عن أبي حنيفة أنه استصوب قول من يقول إن الله لم يخلق أفعال العباد وأيضا فموسى بن جعفر وسائر علماء أهل البيت متفقون على إثبات القدر والنقل بذلك عنهم ظاهر معروف وقدماء الشيعة كانوا متفقين على إثبات القدر والصفات وإنما شاع فيهم رد القدر من حين اتصلوا بالمعتزلة في دولة بني بويه

وأيضا فهذا الكلام المحكي عن موسى بن جعفر يقوله أصاغر القدرية وصبيانهم وهو معروف من حين حدثت القدرية قبل أن يولد موسى بن جعفر فإن موسى بن جعفر ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة قبل الدولة العباسية بنحو ثلاث سنين وتوفي ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة قال أبو حاتم ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين والقدرية حدثوا قبل هذا التاريخ بل حدثوا في أثناء المائة الأولى من زمن الزبير وعبد الملك وهذا مما يبين أن هذه الحكاية كذب فإن أبا حنيفة إنما اجتمع بجعفر بن محمد وأما موسى بن جعفر فلم يكن ممن سأله أبو حنيفة ولا اجتمع به وجعفر بن محمد هو من أقران أبي حنيفة ولم يكن أبو حنيفة ممن يأخذ عنه مع شهرته بالعلم فكيف يتعلم من موسى بن جعفروما ذكره في هذه الحكاية من قول القائل هو أعدل من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله هو أصل كلام القدرية الذي يعرفه عامتهم وخاصتهم وهو أساس مذهبهم وشعاره ولهذا سموا أنفسهم العدلية فإضافة هذا إلى موسى بن جعفر لو كان حقا ليس فيه فضيلة له ولا مدح إذا كان صبيان القدرية يعرفونه فكيف إذا كان كذبا مختلقا عليه.
ويقال ثانيا: الجواب عن هذا التقسيم أن يقال هذا التقسيم ليس بمنحصر وذلك أن قول القائل المعصية ممن لفظ

مجمل فإن المعصية والطاعة عمل وعرض قائم بغيره فلا بد له من محل يقوم به وهي قائمة بالعبد لا محالة وليست قائمة بالله تبارك وتعالى بلا ريب ومعلوم أن كل مخلوق يقال هو من الله بمعنى أنه خلقه بائنا عنه لا بمعنى أنه قام به واتصف به كما في قوله تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه (سورة الجاثية). وقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله (سورة النحل). والله تعالى وإن كان خالقا لكل شيء فإنه خلق الخير والشر لما له في ذلك من الحكمة التي باعتبارها كان فعله حسنا متقنا كما قال الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (سورة السجدة). وقال اتقن كل شيء (سورة النمل).فلهذا لا يضاف إليه الشر مفردا بل إما أن يدخل في العموم وإما أن يضاف إلى السبب وإما أن يحذف فاعله فالأول كقول الله تعالى الله خالق كل شيء (سورة الزمر). والثاني كقوله قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق سورة الفلق والثالث كقوله فيما حكاه عن الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا (سورة الجن). وقد

قال في أم القرآن اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة فذكر أنه فاعل النعمة وحذف فاعل الغضب وأضاف الضلال إليهم وقال الخليل عليه السلام وإذا مرضت فهو يشفين (سورة الشعراء). ولهذا كان لله الأسماء الحسنى فسمى نفسه بالأسماء الحسنى المقتضية للخير وإنما يذكر الشر في المفعولات كقوله اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (سورة المائدة). وقوله في آخر (سورة الأنعام). إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم (سورة الأعراف). وقوله في الأعراف إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقوله نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم (سورة الحجرات). وقوله حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو وهذا لأن ما يخلقه من الأمور التي فيها شر بالنسبة إلى بعض الناسفله فيها حكمة هو بخلقه لها حميد مجيد له الملك وله الحمد فليست بالإضافة إليه شرا ولا مذمومة فلا يضاف إليه ما يشعر بنقيض ذلك كما أنه سبحانه خالق الأمراض والأوجاع والروائح الكريهة والصور المستقبحة والأجسام الخبيثة كالحيات والعذرات لما له في ذلك من الحكمة البالغة فإذا قيل هذه العذرة وهذه الروائح الخبيثة من الله أوهم ذلك أنها خرجت منه والله منزه عن ذلك وكذلك إذا قيل القبائح من الله أو المعاصي من الله قد يوهم ذلك أنها خارجة من ذاته كما تخرج من ذات العبد وكما يخرج الكلام من المتكلم والله منزه عن ذلك أو يوهم ذلك أنها منه قبيحة وسيئة والله منزه عن ذلك بل جميع خلقه خلقه له حسن على قولي التفويض والتعليل وكذلك إذا قيل للطعوم والألوان والروائح ونحوها من الأعراض هذا الطعم الحلو والمر من الله أو من هذا النبات وهذه الروائح الطيبة أو الخبيثة من الله أو من هذه العين وأمثال ذلك وقد يوهم إذا قيل

إنها من الله أنه أمر بها والله لا يأمر بالفحشاء ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وهذا مثل قول ابن مسعود لما سئل عن المفوضة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه وكذلك قال أبو بكر في الكلالة وقال عمر نحو ذلك ومرادهم أن الصواب قد أمر الله به وشرعه وأحبه ورضيه والخطأ لم يأمر به ولم يحبه ولم يشرعه بل هو مما زينه الشيطان لنفسي ففعلته بأمر الشيطان فهو مني ومن الشيطان وحينئذ فالجواب من وجوه أحدها أن يقال الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي من العبد بمعنى أنها قائمة به وحاصلة بمشيئته وقدرته وهو المتصف بها المتحرك بها الذي يعود حكمها عليه فإنه قد يقال لما اتصف به المحل وخرج منه هذا منه وإن لم يكن له اختيار كما يقال هذه الريح من هذا الموضع وهذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع منهذه الأرض فلأن يقال ما صدر من الحي باختياره هذا منه بطريق الأولى وهي من الله بمعنى أنه خلقها قائمة بغيره وجعلها عملا له وكسبا وصفة وهو خلقها بمشيئة نفسه وقدرة نفسه بواسطة خلقه لمشيئة العبد وقدرته كما يخلق المسببات بأسبابها فيخلق السحاب بالريح والمطر بالسحاب والنبات بالمطر والحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار وإلى أسبابها باعتبار فهي من الله مخلوقة له في غيره كما أن جميع حركات المخلوقات وصفاتها منه وهي من العبد صفة قائمة به كما أن الحركة من المتحرك المتصف بها وإن كان جمادا فكيف إذا كان حيوانا وحينئذ فلا شركة بين الرب وبين العبد لاختلاف جهة الإضافة كما أنا إذا قلنا هذا الولد من هذه المرأة بمعنى أنها ولدته ومن الله بمعنى أنه خلقه لم يكن بينهما تناقض وإذا قلنا هذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع من الأرض بمعنى أنه حدث فيها ومن الله بمعنى أنه خلقه منها لم يكن بينهما تناقض

وقد قال تعالى أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (سورة الطور). فالمشهور أم خلقوا من غير رب وقيل أم خلقوا من غير عنصر وكذلك قال موسى لما قتل القبطي هذا من عمل الشيطان (سورة القصص). وقال تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك (سورة النساء). مع قوله فيما تقدم قل كل من عند الله (سورة النساء). فالحسنات والسيئات المراد بها هنا النعم والمصائب ولهذا قال ما أصابك ولم يقل ما أصبت كما في قوله إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وقوله إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا ما أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون (سورة التوبة). فبين أن النعم والمصائب من عند الله فالنعمة من الله ابتداء والمصيبة بسبب من نفس الإنسان وهي معاصيه كما قال في الآية الأخرى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير (سورة الشورى). وقال في الآية الأخرىأولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم (سورة آل عمران). وهذا لأن الله محسن عدل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل فهو محسن إلى العبد بلا سبب منه تفضلا وإحسانا ولا يعاقبه إلا بذنبه وإن كان قد خلق الأفعال كلها لحكمة له في ذلك فإنه حكيم عادل يضع الأشياء مواضعها ولا يظلم ربك أحدا وإذا كان غير الله يعاقب عبده على ظلمه وإن كان مقرا بأن الله خالق أفعال العباد وليس ذلك ظلما منه فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه وإذا كان الإنسان قد يفعل مصلحة اقتضتها حكمته لا تحصل إلا بتعذيب حيوان ولا يكون ذلك ظلما منه فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه الوجه الثاني أن يقال هي من الله خلقا لها في غيره وجعلا لها عملا لغيره وهي من العبد فعلا له قائما به وكسبا يجر به منفعة إليه أو يدفع به مضرة وكون العبد هو الذي قام به الفعل وإليه يعود حكمه الخاص انتفاعا به أو تضررا جهة لا تصلح لله فإن الله لا تقوم

به أفعال العباد ولا يتصف بها ولا تعود إليه أحكامها التي تعود إلى موصوفاتها وكون الرب هو الذي خلقها وجعلها عملا لغيره بخلق قدرة العبد ومشيئته وفعله جهة لا تصلح للعبد ولا يقدر على ذلك إلا الله ولهذا قال أكثر المثبتين للقدر إن أفعال العباد مخلوقة لله وهي فعل العبد وإذا قيل هي فعل الله فالمراد أنها مفعولة له لا أنها هي الفعل الذي هو مسمى المصدر وهؤلاء هم الذين يفرقون بين الخلق والمخلوق وهم أكثر الأئمة وهو آخر قولي القاضي ابي يعلي وقول اكثر أصحاب الإمام أحمد وهو قول ابنيه يعني أبني القاضي أبي يعلي القاضي أبي حازم والقاضي أبي الحسين وغيرهما الوجه الثالث أن قول القائل الله أعدل من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعل فنحن نقول بموجبه فإن الله لم يظلم عبده ولم يؤاخذهإلا بما فعله العبد باختياره وقوته لا بفعل غيره من المخلوقين وأما كون الرب خالق كل شيء فذلك لا يمنع كون العبد هو الملوم على ذلك كما أن غيره من المخلوقين يلومه على ظلمه وعدوانه مع إقراره بأن الله خالق أفعال العباد وجماهير الأمم مقرة بالقدر وأن الله خالق كل شيء وهم مع هذا يذمون الظالمين ويعاقبونهم لدفع ظلمهم وعدوانهم كما أنهم يعتقدون أن الله خالق الحيوانات المضرة والنباتات المضرة وهم مع هذا يسعون في دفع ضررها وشرها وهم أيضا متفقون على أن الكاذب والظالم مذموم بكذبه وظلمه وأن ذلك وصف سيء فيه وأن نفسه المتصفة بذلك خبيثة ظالمة لا تستحق الإكرام الذي يناسب أهل الصدق والعدل وإن كانوا مقرين بأن كل ذلك مخلوق وليس في فطر الناس أن يجعلوا مقابلة الظالم على ظلمه ظلما له وإن كانوا مقرين بالقدر فالله أولى أن لا ينسب إلى الظلم لذلك وهذا على طريقة أهل الحكمة والتعليل من أهل السنة وأما على

طريقة أهل المشيئة والتفويض فالظلم ممتنع منه لذاته لأنه تصرف في ملك الغير أو تعدى ما حد له وكلاهما ممتنع في حق الله تعالى وبكل حال فالرب تعالى لا يمثل بالخلق لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله بل له المثل الأعلى فما ثبت لغيره من الكمال فهو أحق به وما تنزه عنه من النقص فهو أحق بتنزيهه وما كان سائغا للقادر الغني فهو أولى أن يكون سائغا له وليس كل ما قبح ممن يتضرر منه يكون قبيحا منه فإن العباد لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه الوجه الرابع أن يقال لا نزاع بين المسلمين أن الله عادل ليس ظالما لكن ليس كل ما كان ظلما من العبد يكون ظلما من الرب ولا ما كان قبيحا من العبد يكون قبيحا من الرب فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله تحقيق ذلك أنه لو كان الأمر كذلك كما يقوله من يقوله من القدرية للزم أن يقبح منه أمور فعلها فإن الواحد من العباد إذا أمر غيره بأمر لا ينتفع به الآمر وتوعده عليه بالعقاب وهو يعلم أن المأمور لا يفعله بل يعصيه فيستحق العقاب كان ذلك منه عبثا وقبيحا لعدم الفائدة في ذلك للآمر والمأمور

وكذلك لو قال مرادي مصلحة المأمور وهو يعلم أنه لا يترتب عليه مصلحة بل مفسدة لكان ذلك قبيحا منه وكذلك إذا فعل فعلا لمراد وهو يعلم أن ذلك المراد لا يحصل لكان ذلك قبيحا منه والقدرية يقولون إن الله خلق الكفار لينفعهم ويكرمهم وأراد ذلك بخلقهم وأمرهم مع علمه بأنهم يتضررون لا ينتفعون وكذلك الواحد من العباد لو رأى عبيده أو إماءه يزنون ويظلمون وهو قادر على منعهم ولم يمنعهم لكان مذموما مسيئا والله منزه عن أن يكون مذموما مسيئا والقدري يقول هو أراد بخلقه لهم أن يطيعوه ويثيبهم فخلقهم للنفع مع علمه أنهم لا ينتفعون ومعلوم أن مثل هذا قبيح من الخلق ولا يقبح من الخالق ومن المعلوم أن المخلوق إذا كان قادرا على منع عبيده من القبائح فمنعه لهم خير من أن يعرضهم للثواب مع علمه أنه لا يحصل لهم إلا العقاب كالرجل الذي يعطي ولده أو غلامه مالا ليربح فيه وهو يعلم أنه يشتري به سما يأكله فمنعه له من المال خير من أن يعطيه إياه مع علمه أنه يتضرر به

وكذلك إذا أعطى غيره سيفا ليقاتل به الكفار وهو يعلم أنه لا يقاتل به إلا الأنبياء والمؤمنين لكان ذلك قبيحا منه وإن قال قصدت تعريض هذا للثواب والله لا يقبح ذلك منه وهذا حال قدرة العبد عند القدرية والقدرية مشبهة الأفعال قاسوا أفعال الله على أفعال خلقه وعدله على عدلهم وهو من أفسد القياس الوجه الخامس أن يقال المعصية من العبد كما أن الطاعة من العبد ومعلوم أنه إذا كانت الطاعة منه بمعنى أنه فعلها بقدرته ومشيئته لم يمتنع أن يكون الله هو الذي جعله فاعلا لها بقدرته ومشيئته بل هذا هو الذي يدل عليه الشرع والعقل كما قال الخليل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك (سورة البقرة). وقال رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي سورة ابراهيم وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا (سورة السجدة). ولأن كونه فاعلا بعد أن لم يكن أمر حادث فلا بد له من محدث والعبد يمتنع أن يكون هو الفاعل لكونه فاعلا لأن كونه فاعلا إن كان حدث بنفس كونه فاعلا لزم أن يكون الشيء حدث بنفسه من غير إحداث وهو ممتنع وإن كان بفاعليه أخرى فإن كانت هذه حدثت بالأولى لزم الدور القبلي وإن كانت حدثت بغيرها لزم التسلسل في الأمور المتناهية وكلاهما باطل فعلم أن كون الطاعة والمعصية من العبد يستحق عليها المدح والذم والثواب والعقاب لا يمنع أن يكون العبد فقيرا إلى الله في كل شيء لا يستغني عن الله في شيء قط وأن يكون الله خالق جميع أموره وأن يكون نفس فعله من الحوادث والممكنات المستندة إلى قدرة الله ومشيئته.
*

فصل
قال الرافضي ومنها أنه يلزم أن يكون الكافر مطيعا بكفره لأنه قد فعل ما هو مراد الله تعالى لأنه أراد منه الكفر وقد فعله ولم يفعل الإيمان الذي كرهه الله منه فيكون قد أطاعه لأنه فعل مراده ولم يفعل ما كرهه ويكون النبي عاصيا لأنه يأمره بالإيمان الذي يكرهه الله منه وينهاه عن الكفر الذي يريده الله منه.

*الجواب من وجوه...
الأول: أن هذا مبني على أن الطاعة هل هي موافقة الأمر أو موافقة الإرادة وهي مبنية على أن الأمر هل يستلزم الإرادة أم لا وأن نفس الطلب والاستدعاء هل هو الإرادة أو مستلزم للإرادة أو ليس واحدا منهما ومن المعلوم أن كثيرا من نظار أهل الإثبات للقدر يطلقون القول بأن الطاعة موافقة الأمر لا موافقة الإرادة وأن الأمر لا يستلزم الإرادة والكلام في ذلك مشهور وإذا كان كذلك فهذا القدري لم يبين صحة قوله ولا فساد قول منازعيه بل أخذ ذلك دعوى مجردة بناء على أن الطاعة موافقة الإرادة فإذا قال له منازعوه لا نسلم ذلك كفى في هذا المقام لعدم الدليل.
الثاني: أنهم يستدلون على أن الأمر لا يستلزم الإرادة بما تقدم من أن الله خالق أفعال العباد وإنما يخلقها بإرادته وهو لم يأمر بالكفر والفسوق والعصيان فعلم بأنه قد يخلق بإرادته ما لم يأمر به وأيضا فقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع العلماء أنه لو حلف ليقضينه حقه في غد إن شاء الله تعالى فخرج الغد ولم يقضه مع

قدرته على القضاء من غير عذر وطالبه المستحق له لم يحنث ولو كانت المشيئة بمعنى الأمر لحنث لأنه مأمور بذلك وكذلك سائر الحلف على فعل مأمور إذا علقه بالمشيئة وأيضا فإنه قد قال تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا (سورة يونس). مع أنه قد أمرهم بالإيمان فعلم أنه قد أمرهم بالإيمان ولم يشأه وكذلك قوله ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا (سورة الأنعام). دليل على أنه أراد ضلاله وهو لم يأمره بالضلال.
الوجه الثالث: طريقة أئمة الفقهاء وأهل الحديث وكثير من أهل النظر وغيرهم أن الإرادة في كتاب الله نوعان إرادة تتعلق بالأمر وإرادة تتعلق بالخلق فالإرادة المتعلقة بالأمر أن يريد من العبد فعل ما أمره به وأما إرادة الخلق فأن يريد ما يفعله هو فإرادة الأمر هي المتضمنة للمحبة والرضا وهي الإرادة الدينية والثانية المتعلقة بالخلق هي المشيئة وهي الإرادة الكونية القدرية

فالأولى كقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (سورة البقرة). وقوله تعالى يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم (سورة النساء). إلى قوله يريد الله أن يخفف عنكم (سورة النساء). وقوله ما يريد الله يجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم (سورة المائدة). وقوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (سورة الأحزاب). والثانية كقوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا وقول نوح لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ومن هذا النوع قول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ومن النوع الأول قولهم لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله وإذا كان كذلك فالكفر والفسوق والعصيان ليس مرادا للرب بالاعتبار الأول والطاعة موافقة تلك الإرادة أو موافقة للأمر المستلزم لتك الإرادة فأما موافقة مجرد النوع الثاني فلا يكون به مطيعا وحينئذ فالنبي يقول له بل الرب يبغض كفرك ولا يحبه ولا يرضاه لك

أن تفعله ولا يريده بهذا الاعتبار والنبي يأمره بالإيمان الذي يحبه الله ويرضاه له ويريده بهذا الاعتبار.
الوجه الرابع: أن يقال هذه المسألة مبنية على أصل وهو أن الحب والرضا هل هو الإرادة أو هو صفة مغايرة للإرادة فكثير من أهل النظر من المعتزلة والأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والشافعي وغيرهما يجعلونهما جنسا واحدا ثم القدرية يقولون بل هو يريد ذلك فيكون قد أحبه ورضيه وأولئك يتأولون الآيات المثبتة لإرادة هذه الحوادث كقوله تعالى ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا و(سورة الأنعام). قوله إن كان الله يريد أن يغويكم (سورة هود). وهؤلاء يتأولون الآيات النافية لمحبة الله ورضاه بها كقوله تعالى والله لا يحب الفساد (سورة البقرة). ولا يرضى لعباده الكفر (سورة الزمر). وقوله إذ يبيتون ما لا يرضى من القول (سورة النساء).. وأما جماهير الناس من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف فيفرقون بين النوعين وهو قول أئمة الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول المثبتين للقدر قبل الأشعري مثل ابن كلاب كما ذكره أبو المعالي الجويني فإن النصوص قد صرحت بأن الله لا يرضى الكفر والفسوق والعصيان ولا يحب ذلك مع كون الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى وتأويل ذلك بمعنى لا يرضاها من المؤمنين أو لا يرضاها ولا يحبها دينا بمعنى لا يريدها يقتضي أن يقال لا يرضى الإيمان أي من الكافر أو لا يريده غير دين والله تعالى قد أخبر أنه يكره المعاصي بقوله كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها (سورة الإسراء). وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى كره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال

والأمة متفقة على أن الله يكره المنهيات دون المأمورات ويحب المأمورات دون المنهيات وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأنه يمقت الكافرين ويغضب عليهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ما أحد أحب إليه المدح من الله وما أحد أحب إليه العذر من الله وقال ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته وقال إن الله وتر يحب الوتر إن الله جميل يحب الجمال وقال إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته وقال إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم وقال لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فاضطجع ينتظر الموت فلما أفاق إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا الرجل براحلته وهذا الحديث في الصحاح من وجوه متعددة وهو مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم متفق على صحته وثبوته وكذلك أمثاله وإذا كان كذلك فالطاعات يريدها من العباد الإرادة المتضمنة

لمحبته لها ورضاه بها إذا وقعت وإن لم يفعلها والمعاصي يبغضها ويمقتها ويكره من العباد أن يفعلوها وإن أراد أن يخلقها هو لحكمة اقتضت ذلك ولا يلزم إذا كرهها للعبد لكونها تضر العبد ويبغضها أيضا أن يكره أن يخلقها هو لما له فيها من الحكمة فإن الفعل قد يحسن من أحد المخلوقين ويقبح من الآخر لاختلاف حال الفاعلين فكيف يلزم أنه ما قبح من العبد قبح من الرب مع أنه لا نسبة للمخلوق مع الخالق وإذا كان المخلوق قد يريد ما لا يحبه كإرادة المريض لشرب الدواء الذي يبغضه ويحب ما لا يريده كمحبة المريض الطعام الذي يضره ومحبة الصائم الطعام والشراب الذي لا يريد أن يأكله ومحبة الإنسان للشهوات التي يكرهها بعقله ودينه فقد عقل ثبوت أحدهما دون الآخر وأن أحدهما ليس بمستلزم للآخر في المخلوقات فكيف لا يمكن ثبوت أحدهما دون الآخر في حق الخالق تعالى وقد يقال كل هذه الأمور مرادة محبوبة لكن فيها ما يراد لنفسه فهو مراد بالذات محبوب لله مرضي له وفيها ما يراد لغيره وهو مراد بالعرض لكونه وسيلة إلى المراد المحبوب لذاته فالإنسان يريد العافية لنفسها ويريد شرب الدواء لكونه وسيلة إليها وهو يريد ذلك من هذه الجهة وإن لم يكن محبوبا في نفسه وإذا كان المراد ينقسم إلى مراد لنفسه وهو المحبوب لنفسه وإلى مراد لغيره لكونه وسيلة إلى غيره وهذا قد لا يحب لنفسه أمكن أن يجعل الفرق بين المحبة والإرادة من هذا الباب والإرادة نوعان فما كان محبوبا فهو مراد لنفسه وما كان في نفسه غير محبوب فهو مراد لغيره وعلى هذا تنبني مسألة محبة الرب عز وجل نفسه ومحبته لعباده فإن الذين جعلوا المحبة والرضا هو

الإرادة العامة قالوا إن الرب لا يحب في الحقيقة ولا يحب وتأولوا محبته تعالى لعباده بإرادته ثوابهم ومحبتهم له بإرادة طاعتهم له والتقرب إليه ومنهم طائفة كثيرة قالوا هو محبوب يستحق أن يحب ولكن محبته لغيره بمعنى مشيئته وأما السلف والأئمة وأئمة أهل الحديث وأئمة التصوف وكثير من أهل الكلام والنظر فأقروا بأنه محبوب لذاته بل لا يستحق أن يحب لذاته إلا هو وهذا حقيقه الأولوهية وهو حقيقة ملة إبراهيم ومن لم يقر بذلك لم يفرق بين الربوبية والإلهية ولم يجعل الله معبودا لذاته ولا اثبت التلذذ بالنظر إليه ولا أنه أحب إلى أهل الجنة من كل شيء وهذا القول في الحقيقة هو من أقوال الخارجين عن ملة إبراهيم من المنكرين لكون الله هو المعبود دون ما سواه ولهذا لما ظهر هذا القول في اوائل الإسلام قتل من أظهره وهو الجعد بن درهم يوم الأضحى قتله خالد بن عبد الله القسري برضا علماء الإسلام وقال ضحوا أيها الناس تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناديا يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة وقد روي في السنن من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وروى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول في دعائه أسألك

لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة وأما الذين أثبتوا أنه محبوب وأن محبته لغيره بمعنى مشيئته فهؤلاء ظنوا أن كل ما خلقه فقد أحبه وهؤلاء قد يخرجون إلى مذاهب الإباحة فيقولون إنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى ذلك وأن العارف إذا شهد هذا المقام لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة لشهوده القيومية العامة وخلق الرب لكل شيء وقد وقع في هذا طائفة من الشيوخ الغالطين من شيوخ الصوفية والنظار وهو غلط عظيم والكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة يبين أن الله يحب أنبياءه وأولياءه ويحب ما أمر به ولا يحب الشياطين ولا ما نهى عنه وإن كان كل ذلك بمشيئته وهذه المسألة وقع النزاع فيها بين الجنيد بن محمد وطائفة من أصحابه فدعاهم إلى الفرق الثاني وهو أن يفرقوا في المخلوقات بين ما يحبه وما لا يحبه فأشكل هذا عليهم لما رأوا أن كل مخلوق فهو مخلوق بمشيئته ولم يعرفوا أنه قد يكون فيما خلقه بمشيئته ما لا يحبه ولا يرضاه وكان ما قاله الجنيد وأمثاله هو الصواب.
الوجه الخامس: أن يقال الإرادة نوعان أحدهما بمعنى المشيئة وهو أن يري الفاعل أن يفعل فعلا فهذه الإرادة المتعلقة بفعله والثاني أن يريد من غيره أن يفعل فعلا فهذه إرادة لفعل الغير وكلا النوعين معقول في الناس لكن الذين قالوا إن الأمر لا يتضمن الإرادة لم يثبتوا إلا النوع الأول من الإرادة والذين

قالوا أن الله لم يخلق أفعال العباد لم يثبتوا إلا النوع الثاني وهؤلاء القدرية يمتنع عندهم أن يريد الله خلق أفعال العباد بالمعنى الأول لأنه لا يخلقها عندهم وأولئك المقابلون لهم يمتنع عندهم الإرادة من الله إلا بمعنى إرادة أن يخلق فما لم يرد أن يخلقه لا يوصف بأنه مريد له فعندهم هو مريد لكل ما خلق وإن كان كفرا لم يرد ما لم يخلقه وإن كان إيمانا وهؤلاء وإن كانوا أقرب إلى الحق لكن التحقيق إثبات النوعين كما أثبت ذلك السلف والأئمة ولهذا قال جعفر أراد بهم وأراد منهم فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريدا لنصحه وبيانا لما ينفعه وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل إذ ليس كل ما يكون مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه بل تكون مصلحتى إرادة ما يضاده كالرجل الذي يستشيره غيره في خطبة امرأة يأمره أن يتزوجها لأن ذلك مصلحة المأمور والآمر يرى أن مصلحته في أن يتزوجها هو دونه فجهة أمره لغيره نصحا غير جهة فعله لنفسه وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين فهو في حق الله أولى بالإمكان فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله فأراد هو سبحانه أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلا له ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة وهو سبحانه إذا أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان كان قد بين لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له فإنه يخلق ما يخلق لحكمة له ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو أو جعل المأمور فاعلا له فأين جهة الخلق من جهة الأمر

والقدرية تضرب مثلا فيمن أمر غيره بأمر فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله كالبشر والطلاقة وتهيئة المقاعد والمساند ونحو ذلك فيقال لهم هذا يكون على وجهين أحدهما أن يكون الآمر أمر غيره لمصلحة تعود إليه كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه وأمر السيد عبده بما يصلح ماله وأمر الإنسان شريكه بما يصلح الأمر المشترك بينهما ونحو ذلك والثاني أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له كالأمر بالمعروف إذا أعان المأمور على البر والتقوى فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة وأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه فأما إذا قدر الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور لا لنفع يعود عليه من فعله كالناصح المشير وقدر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة له لأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر كمن يأمر مظلوما أن يهرب من ظالمه وهو لو أعانه حصل بذلك ضرر لهما أو لأحدهما مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (سورة القصص). فهذا مصلحته في أن يأمر موسى بالخروج لا في أن يعينه على ذلك إذ لو أعانه لضره قومه ومثل هذا كثير كالذي يأمر غيره بتزويج امرأة يريد أن يتزوجها أو شراء سلعة يريد شراءها أو استئجار مكان يريد استئجاره أو مصالحة قوم ينتفع بهم وهم أعداء الآمر يتقوون بمصالحته ونحو ذلك فإنه في مثل هذه الأمور لا يفعل ما يعين المأمور وإن كان ناصحا له بالأمر مريدا لذلك ففي الجملة أمر المأمور بالفعل لكون الفعل مصلحة له غير كون الآمر يعينه عليه إن كان من أهل الإعانة له

فإذا قيل إن الله أمر العباد بما يصلحهم وأراد مصلحتهم بالأمر لم يلزم من ذلك أن يعينهم هو على ما أمرهم به لا سيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحدا على ما به يصير فاعلا فإنه إن لم يعلل أفعاله بالحكمة فإنه يفعل ما يشاء من غير تمييز مراد عن مراد ويمتنع على هذا أن يكون لفعله لمية فضلا عن أن يطلب الفرق وإن عللت أفعاله بالحكمة وقيل إن اللمية ثابتة في نفس الأمر وإن كنا نحن لا نعلمها فلا يلزم إذا كان في نفس الأمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة على المأمور به حكمة بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه على ذلك فإنه إذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر غيره بأمر لمصلحة المأمور وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأحرى فالله تعالى أمر الكفار بما هو مصلحة لهم لو فعلوه وهو لم يعنهم على ذلك ولم يخلق ذلك كما لم يخلق غيره من الأمور التي يكون من تمام الحكمة والمصلحة أن لا يخلقها والمخلوق إذا رأى أن مصلحة بعض رعيته أن يتعلم الرمي وأسباب الملك لينال الملك ورأى هو أن مصلحة ولده أن لا يتقوى ذلك الشخص لئلا يأخذ ذلك الملك من ولده أو يعدو عليه أمكن أن يأمر ذلك الشخص بما هو مصلحة له ويفعل هو ما هو مصلحة ولده ورعيته والمصالح والمفاسد بحسب ما يلائم النفوس وينافيها فالملائم للمأمور ما أمره به الناصح له والملائم للآمر أن لا يحصل لذلك مراده لما في ذلك من تفويت مصالح الآمر ومراداته وهذا نظر شريف وإنما يحققه من علم جهة حكمة الله في خلقه

وأمره واتصافه سبحانه بالمحبة والفرح ببعض الأمور دون بعض وأنه قد لا يمكن حصول المحبوب إلا بدفع ضده ووجود لازمه لامتناع اجتماع الضدين وامتناع وجود الملزوم بدون اللازم ولهذا كان الله سبحانه محمودا على كل حال له الملك وله الحمد في الدنيا والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون فكل ما في الوجود فهو محمود عليه وكل ما يعلم ويذكر فهومحمود عليه له الحمد على ماهو متصف به في ذاته من أسمائه وصفاته وله الحمد على خلقه وأمره فكل ما خلقه فهو محمود عليه وإن كان في ذلك نوع ضرر لبعض الناس لما له في ذلك من الحكمة وكل ما أمر به فله الحمد عليه لما له في ذلك من الهداية والبيان ولهذا كان له الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما ومل ما شاء من شيء بعد فإن هذا كله مخلوق له وكل ما يشاؤه بعد ذلك مخلوق له له الحمد على كل ما خلقه والأمثلة التي تذكر في المخلوقين وإن لم يكن ذكر نظيرها في حق الرب فالمقصود هنا أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به تعلق به خلقه وأمره فشاءه خلقا ومحبة فكان مرادا لجهة الخلق ومرادا لجهة الأمر ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به ولحصول الحكمة المتعلقة بخلق ضده وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه ودعاؤه لربه وتوبته من ذنوبه وتكفيره خطاياه ويرق به قلبه ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان يضاد خلق الصحة التي لا يحصل معها هذه المصالح وكذلك خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل

وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة مثلوا الله فيها بخلقه ولم يثبتوا حكمة تعود إليه فسلبوه قدرته وحكمته ومحبته وغير ذلك من صفات كماله فقابلهم خصومهم الجهمية المجبرة ببطلان التعليل في نفس الأمر كما تنازعوا في مسألة الحسن والقبح فأولئك أثبتوه على طريقة سووا فيها بين الله وخلقه وأثبتوا حسنا وقبحا لا يتضمن محبوبا ولا مكروها وهذا لا حقيقة له كما أثبتوا تعليلا لا يعود إلى الفاعل حكمه وخصومهم سووا بين جميع الأفعال ولم يثبتوا لله محبوبا ولا مكروها وزعموا أن الحسن لو كان صفة ذاتية للفعل لم يختلف حاله وغلطوا فإن الصفة الذاتية للموصوف قد يراد بها اللازمة له والمنطقيون يقسمون اللازم إلى ذاتي وعرضي وإن كان هذا التقسيم خطأ وقد يراد بالصفة الذاتية ما تكون ثبوتية قائمة بالموصوف احترازا عن الأمور النسبية الإضافية ومن هذا الباب اضطربوا في الأحكام الشرعية فزعم نفاة الحسن

والقبح العقليين أنها ليست صفة ثبوتية للأفعال ولا مستلزمة صفة ثبوتية للأفعال بل هي من الصفات النسبية الإضافية فالحسن هو المقول فيه أفعله أو لا بأس بفعله والقبيح هو المقول فيه لا تفعله قالوا وليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية وذكروا عن منازعيهم أنهم قالوا الأحكام صفات ذاتية للأفعال ونقضوا ذلك بجواز تبدل أحكام الفعل مع كون الجنس واحدا وتحقيق الأمر أن الأحكام للأفعال ليست من الصفات اللازمة بل هي من العارضة للأفعال بحسب ملاءمتها ومنافرتها فالحسن والقبح بمعنى كون الشيء محبوبا ومكروها ونافعا وضارا وملائما ومنافرا وهذه صفة ثبوتية للموصوف لكنها تتنوع بتنوع أحواله فليست لازمة له ومن قال إن الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحسن والقبح فهو بمنزلة قوله ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين والتبريد والإشباع والإرواء فسلب صفات الأعيان المقتضية للآثار كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار وأما جمهور المسلمين الذين يثبتون طبائع الأعيان وصفاتها فهكذا يثبتون ما في الأفعال من حسن وقبح باعتبار ملاءمتها ومنافرتها كما قال تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث (سورة الأعراف). فدل ذلك على أن الفعل في نفسه معروف ومنكر والمطعوم طيب وخبيث ولو كان لا صفة للأعيان والأفعال إلا بتعلق الأمر والنهي لكان التقدير يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم ويحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم والله منزه عن مثل هذا الكلام وكذلك قوله تعالى ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا (سورة الإسراء). وقال إن الله لا يأمر بالفحشاء (سورة الأعراف). ونظائر هذا كثيرة.
*

فصل
قال الرافضي الإمامي ومنها أنه يلزم نسبة السفه إلى الله تعالى لأنه يأمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه وينهاه عن المعصية وقد أرادها منه وكل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد إلى السفه تعالى الله عن ذلك.

*فيقال له قد تقدم أن المحققين من أهل السنة يقولون إن الإرادة نوعان إرادة الخلق وإرادة الأمر فإرادة الأمر أن يريد من المأمور فعل ما أمر به.
وإرادة الخلق أن يريد هو خلق ما يحدثه من أفعال العباد وغيرها والأمر مستلزم للإرادة الأولى دون الثانية والله تعالى أمر الكافر بما أراده منه بهذا الاعتبار وهو ما يحبه ويرضاه ونهاه عن المعصية التي لم يردها منه أي لم يحبها ولم يرضها بهذا الاعتبار فإنه لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد وقد قال تعالى إذ يبيتون ما لا يرضى من القول (سورة النساء). وإرادة الخلق هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد فهذه الإرادة لا تتعلق إلا بالموجود فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وفرق بين أن يريد هو أن يفعل فإن هذا يكون لا محالة لأنه قادر على ما يريده فإذا اجتمعت الإرادة والقدرة وجب وجود المراد وبين أن يريد من غيره أن يفعل ذلك الغير فعلا لنفسه فإن هذا لا يلزم أن يعينه عليه.
وأما طائفة من المثبتين للقدر فظنوا أن الإرادة نوع واحد وأنها هي المشيئة فقالوا يأمر بما لا يريده ثم هؤلاء على قسمين فقسم قالوا يأمر بما يحبه ويرضاه وإن لم يرده أي لم يشأ وجوده وهذا مذهب جمهور القائلين بهذا القول من الفقهاء وغيرهم وقسم قالوا بل المحبة والرضا هي الإرادة وهي المشيئة فهو يأمر بما لم يرده ولم يحبه ولم يرضه وما وقع من الكفر والفسوق عند هؤلاء أحبه ورضيه كما أراده وشاءه ولكن يقولون لا يحبه ولا يرضاه دينا كما لا يريده دينا ولا يشاؤه دينا ولا يحبه ولا يرضاه ممن لم يقع منه كما لم يرده ممن لم يقع منه ولم يشأه ممن لم يقع منه وهذا قول الأشعري وأكثر أصحابه وحكاه هو عن طائفة من أهل الإثبات وحكي عنه كالقول الأول وأصحاب هذا القول هم القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم

يجعلون الرضا والمحبة بمعنى الإرادة ثم قالت القدرية النفاة والكفر والفسوق والمعاصي لا يحبها ولا يرضاها بالنص وإجماع الفقهاء فلا يريدها ولا يشاؤها وقال هؤلاء المثبتة هو شاء ذلك بالنص وإجماع السلف فيكون قد أحبه ورضيه وأراده وأما جمهور الناس فيفرقون بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا كما يوجد الفرق بينهما في الناس فإن الإنسان قد يريد شرب الدواء ونحوه من الأشياء الكريهة التي يبغضها ولا يحبها ويحب أكل الأشياء التي يشتهيها كاشتهاء المريض لما حمي عنه واشتهاء الصائم الماء البارد مع عطشه ولا يريد فعل ذلك فقد تبين أنه يحب ما لا يريده ويريد ما لا يحبه وذلك أن المراد قد يراد لغيره فيريد الأشياء المكروهة لما في عاقبتها من الأشياء المحبوبة ويكره فعل بعض ما يحبه لأنه يفضي إلى ما يبغضه والله تعالى له الحكمة فيما يخلقه وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والتوابين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في مهلكة إذا وجدها بعد الإياس منها كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من غير وجه كقوله لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فنام ينتظر الموت فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته والمتفلسفة يعبرون بلفظ البهجة واللذه والعشق ونحو ذلك عن الفرح والمحبة وما يتبع ذلك وإذا كان كذلك فهو سبحانه يريد وجود بعض الأشياء لإفضائها إلى ما يحبه ويرضاه وهو سبحانه قد لا يفعل بعض ما يحبه لكونه يستلزم وجود ما يكرهه ويبغضه فهو سبحانه قادر على أن يخلق من كل نطفة رجلا يجعله مؤمنا به يحبه ويحب إيمانه لكنه لم يفعل ذلك لما له في ذلك من الحكمة وقد يعلم أن ذلك يفضي إلى ما يبغضه ويكرهه

وإذا قيل فهلا يفعل هذا ويمنع ما يبغضه قيل من الأشياء ما يكون ممتنعا لذاته ومنها ما يكون ممتنعا لغيره واللذة الحاصلة بالأكل لا تحصل هي ولا نوعها بالشرب والسماع والشم وإنما تحصل لذة أخرى ووجود لذة الأكل في الفم تنافي حصول لذة الشرب في تلك الحال وتلذذ العبد بسماع بعض الأصوات يمنع تلذذه بسماع صوت آخر في تلك الحال فليس كل ما هو محبوب للعبد ولذيذ له يمكن اجتماعه في آن واحد بل لا يمكن حصول أحد الضدين إلا بتفويت الآخر وما من شيء مخلوق إلا له لوازم وأضداد فلا يوجد إلا بوجود لوازمه ومع عدم أضداده والرب تعالى إذا كان يحب من عبده أن يسافر للحج ويسافر للجهاد فأيهما فعله كان محبوبا له لكن لا يمكن في حال واحدة أن يسافر العبد إلى الشرق وإلى الغرب بل لا يمكن حصول هذين المحبوبين جميعا في وقت واحد فلا يحصل أحدهما إلا بتفويت الآخر فإن كان الحج فرضا معينا والجهاد تطوعا كان الحج أحبهما إليه وإن كان كلاهما تطوعا أو فرضا فالجهاد أحبهما إليه فهو سبحانه يحب هذا المحبوب المتضمن تفويت ذلك المحبوب وذلك أنه لو قدر وجوده بدون تفويت هذا المحبوب لكان أيضا محبوبا ولو قدر وجوده بتفويت ما هو احب إليه منه لكان محبوبا من وجه مكروها من وجه آخر أعلى منه وهو سبحانه إذا لم يقدر طاعة بعض الناس كان له في ذلك حكمة كما أنه إذا لم يأمر هذا بأدنى المحبوبين كان له في ذلك حكمة والله تعالى على كل شيء قدير لكن اجتماع الضدين لا يدخل في عموم الأشياء فإنه محال لذاته وهذا بمنزلة أن يقال هلا أقدر هذا العبد أن يسافر في هذه الساعة إلى الغرب للحج وإلى الشرق للجهاد فيقال لأن كون الجسم الواحد في مكانين محال لذاته فلا

يمكن هذان السفران في آن واحد وليس هذا بشيء حتى يقال إنه مقدر بل هذا لا حقيقة له وليس بشيء بل هو أمر يتصوره الذهن كتصوره لنظيره في الخارج ليحكم عليه بالامتناع في الخارج وإلا فما يمكن الذهن أن يتصور هذا في الخارج ولكن الذهن يتصور اجتماع اللون والطعم في محل واحد كالحلاوة البيضاء والبياض ثم يقدر الذهن في نفسه هل يمكن أن يجتمع السواد والبياض في محل واحد كاجتماع اللون والطعم فيعلم أن هذا الاجتماع ممتنع في الخارج ويعلم أنه يمكن أن زيدا قد يكون في الشرق وعمرا في الغرب ويقدر في ذهنه هل يمكن أن يكون زيد نفسه في هذين المكانين كما كان هو وعمرو فيعلم أن هذا ممتنع فهذا ونحوه كلام من جعل الإرادة نوعين ويفرق بين أحد نوعيها وبين المحبة والرضا وأما من يجعل الجميع نوعا واحدا فهو بين أمرين إن جعل الحب والرضا من هذا النوع لزمته تلك المحاذير الشنيعة وإن جعل الحب والرضا نوعا لا يستلزم الإرادة وقال إنه قد يحب ويرضى ما لا يريده بحال وحينئذ فيكون مقصوده بقوله لا يريده أي لا يريد كونه ووجوده وإلا فهو عنده يحبه ويرضاه فهذا يجعل الإرادة هي المشيئة لأن يخلق وهذا وإن كان اصطلاح طائفة من المنتسبين إلى السنة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فهو خلاف استعمال الكتاب والسنة وحينئذ فيكون النزاع معه لفظيا وأحق الناس بالصواب في المنازعات اللفظية من كان لفظه موافقا للفظ القرآن وقد تبين أن القرآن جعل هذا النوع مرادا فلا حاجة إلى إطلاق القول بأن الله يأمر بما لا يريده ثم تبين أن الإرادة نوعان وأنه يأمر بما يشاؤه فيأمر بما لا يريد أن يخلقه هو ولا يأمر إلا بما يحبه لعباده ويرضاه لهم أن يفعلوه

ولو قال رجل والله لأفعلن ما أوجب الله علي أو ما يحبه الله لي إن شاء الله ولم يفعل لم يحنث باتفاق الفقهاء ولو قال والله لأفعلن ما أوجب الله علي إن كان الله يحبه ويرضاه حنث إن لم يفعله بلا نزاع نعلمه وعلى هذا فقد ظهر بطلان حجة المكذبين بالقدر فإنه إذا قال كل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد إلى السفه قيل له إذا أمر غيره بأمر لم يرد أن يفعله له هل يكون سفيها أم لا ومن المعلوم باتفاق العقلاء أن من أمر غيره بأمر ولم يرد أن يفعل هو ذلك الأمر ولا يعينه عليه لم يكن سفيها بل أوامر الحكماء والعقلاء كلها من هذا الباب والطبيب إذا أمر المريض بشرب الدواء لم يكن عليه أن يعاونه على شربه والمفتي إذا أمر المستفتي بما يجب عليه لم يكن عليه أن يعاونه والمشير إذا أمر المستشير بتجارة أو فلاحة أو نكاح لم يكن عليه أن يفعل هو ذلك ومن كان يحب من غيره أن يفعل أمرا فأمره به والآمر لا يساعده عليه لما في ذلك من المفسدة له لم يكن سفيها فظهر بطلان ما ذكره هذا وأمثاله من القدرية وكذلك من نهى غيره عما يريد أن يفعله هو لم يلزم أن يكون سفيها فإنه قد يكون مفسدة لذلك مصلحة للناهي فالمريض الذي يشرب المسهلات إذا نهى ابنه الصغير عن شربها لم يكن سفيها والحاوي الذي يريد إمساك الحية إذا نهى ابنه عن إمساكها لم يكن سفيها والسابح في البحر إذا نهى العاجز عن السباحة لم يكن سفيها والملك الذي خرج لقتال عدوه إذا نهى نساءه عن الخروج معه لم يكن سفيها ونظائر هذا لا تحصى ولو نهى الناهي غيره عن فعل ما يضره فعله نصحا له إذ لو كان مصلحة الناهي أن يفعله هو به حمد على فعله وحمد على نصحه كما يوجد كثير من الناس ينهون من ينصحونه عن فعل أشياء وقد يطلبون فعلها منهم لمصلحتهم

لكن المثل المطابق لفعل الرب من كل وجه لا يمكن في حق المخلوق فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وقد سئل بعض الشيوخ عن مثل هذه المسائل فأنشد ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا لكن المقصود أنه يمكن في المخلوق أمر الإنسان بما لا يريد أن يعين عليه المأمور ونهيه عما يريد الناهي أن يفعله هو لمصلحته فتبين أن هذا القدري وأمثاله تكلموا بلفظ مجمل فإذا قالوا من أمر بما لا يريد كان سفيها أوهموا الناس أنه أمر بما لا يريد للمأمور أن يفعله والله لم يأمر العباد بما لم يرض لهم أن يفعلوه ولم يحب لهم أن يفعلوه ولم يرد لهم أن يفعلوه بهذا المعنى وإنما أمر بعضهم بما لم يرد هو أن يخلقه لهم بمشيئته ولم يجعلهم فاعلين له ومن المعلوم أن الآمر ليس عليه أن يجعل المأمور فاعلا للمأمور به بل هذا ممتنع عند القدرية وعند غيرهم هو قادر عليه لكن له أن يفعله وله أن لا يفعله فعلى قول من يثبت المشيئة دون الحكمة الغائية يقول هذا كسائر الممكنات

إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله ومن أثبت الحكمة قال له في أن لا يحدث هذا حكمة كما له في سائر ما لم يحدثه وقد يكون في إحداث هذا مفسدة لغير هذا المأمور أعظم من المصلحة الحاصلة له وقد يكون في فعل هذا المأمور تفويت مصلحة أعظم من المصلحة الحاصلة له والحكيم هوالذي يقدم أعلى المصلحتين ويدفع اعظم المفسدتين وليس على العباد أن يعلموا تفصيل حكمة الله تعالى بل يكفيهم العلم العام والإيمان التام ومن جعل الإرادة نوعا واحدا وإن كان قوله مرجوحا فهو خير من قول نفاة القدر الذين يجعلون الإرادة والمشيئة والمحبة شيئا واحدا وزعموا أنه يكون ما لا يشاؤه ويشاء ما لا يكون وذلك لأنه يقول السفه إنما يجوز على من يجوز عليه الأغراض والأغراض مستلزمة للحاجة إلى الغير وللنقص بدونها وذلك على الله ممتنع وهي في حق الله مستلزمة للتسلسل وقيام الحوادث به وهو ممتنع عند هذا الخصم فإذا كانت المعتزلة والشيعة الموافقون لهم يسلمون هذه الأصول انقطعوا وذلك لأنهم إذا قالوا يفعل لغرض قيل لهم نسبة وجود الغرض وعدمه إليه على السواء أو وجود الغرض أولى به فإن قالوا هما على السواء امتنع مع هذا أن يفعل لما وجوده وعدمه بالنسبة إليه سواء وهذا معدود من السفهاء فينا وهذا هو العبث فينا فإن قالوا فعل لنفع العباد قيل الواحد من الناس إنما ينفع غيره لما له في ذلك من المصلحة في الدين أو الدنيا أما التذاذه بالإحسان إليه كما يوجد في النفوس الكريمة التي إنما تلتذ وتبتهج بالإحسان إلى غيرها وهذا مصلحة ومنفعة لها وأما دفع ألم الرقة عن نفسه فإن الواحد إذا رأى جائعا بردان تألم له فيعطيه فيزول الألم عن نفسه وزوال الألم منفعة له ومصلحة دع ما سوى هذا من رجاء المدح والثناء والمكافأة أو الأجر من الله تعالى فتلك مطالب منفصلة ولكن هذان أمران موجودان في نفس الفاعل فمن نفع غيره وكان وجود النفع وعدمه بالنسبة إليه سواء من

كل وجه كان هذا من أسفه السفهاء لو وجد فكيف إذا كان ممتنعا فإنه يمتنع أن يفعل المختار شيئا حتى يترجح عنده فيكون أن يفعله أحب إليه من أن لا يفعله وترجيح الأحب لذة ومنفعة فهؤلاء القدرية الذين يعللون بالغرض هم الذين يذكرون ما يمتنع أن يكون غرضا ولا يكون إلا ممتنعا أو سفها وإن أثبتوا غرضا قائما به لزم أن يكون محلا للحوادث وهم يحيلون ذلك ثم الغرض إن كان لغرض آخر لزم التسلسل وهم يحيلونه في الماضي ولهم في المستقبل قولان وإن لم يكن لغرض آخر جاز أن يحدث لا لغرض فهذه الأصول التي اتفقوا عليها هم والمثبتون للقدر هي حجة لأولئك عليهم.
*

فصل
وفي الجملة من نفي قيام الأمور الاختيارية بذات الرب تعالى لا بد أن يقول أقوالا متناقضة فاسدة ولما كانت الجهمية المجبرة والقدرية المعتزلة قد اشتركوا في أنه لا يقوم بذاته شيء من ذلك ثم تنازعوا بعد ذلك في تعليل أفعاله وأحكامه كان كل واحد من القولين يستلزم ما يبين فساده وتناقضه فمثبتة التعليل تقول من فعل لغير حكمة كان سفيها وهذا إنما يعلم فيمن فعل لغير حكمة تعود إليه وهم يزعمون أن البارىء فعل لا لحكمة تعود إليه فإن كان من فعل لا لحكمة سفيها لزمه إثبات السفه وإن لم يكن سفيها تناقضوا فإن ما أثبتوه من فعله لحكمة لا تعود إليه لا يعقل فضلا عن أن يكون حكيما وهذا نظير قولهم في صفاته وكلامه فإنهم قالوا لا يتكلم إلا بمشيئته وقدرته ويمتنع أن يكون القرآن قديما لما فيه من الأمور المنافية لقدمه وقالوا المتكلم لا يعقل إلا من تكلم بمشيئته وقدرته دون من يكون الكلام لازما لذاته لا يحصل بقدرته ومشيئته فيقال لهم وكذلك لا يعقل متكلم إلا من يقوم به الكلام أما متكلم لا يقوم به الكلام أو مريد لا تقوم به الإرادة أو عالم لا يقوم به العلم فهذا لا يعقل بل هو خلاف المعقول

بل قولهم في الكلام يتضمن أن من قام به الكلام لا يكون متكلما لأن المتكلم هو الذي أحدث في غيره الكلام وهذا خلاف المعقول وكذلك قولهم في رضاه وغضبه ومحبته وإرادته وغير ذلك أنها لا تقوم بذاته وإنما هي أمور منفصلة عنه فجعلوه موصوفا بامور لا تقوم به بل هي منفصلة عنه وهذا خلاف المعقول ثم هو تناقض فإنه يلزمهم أن يوصف بكل ما يحدثه من المخلوقات حتى يوصف بكل كلام خلقه فيكون ذلك كلامه فإذا أنطق ما ينطقه من مخلوقاته كان ذلك كلامه لا كلام من ينطقه وهذا مبسوط في موضعه والمقصود هنا أن كلامهم أنه يفعل لحكمة يستلزم أن يكون وجود الحكمة أرجح عنده من عدمها أو أنها تقوم به وغير ذلك من اللوازم التي لا يعقل من يفعل لحكمة إلا من يتصف بها وإلا فإذا قدر أن نسبة جميع الحوادث إليه سواء وامتنع أن يكون بعضها أرجح عنده من بعض امتنع أن يفعل بعضها لأجل بعض ثم الجهمية المجبرة لما رأت فساد قول هؤلاء القدرية وقد شاركوهم

في ذلك الأصل قالوا يمتنع أن يفعل شيئا لأجل شيء أصلا ويمتنع أن يكون بعض الأشياء أحب إليه من بعض ويمتنع أن يحب شيئا من مخلوقاته دون بعض أو يريد منها شيئا دون شيء بل كل ما حدث فهو مراد له محبوب مرضي سواء كان كفرا أو إيمانا أو حسنات أو سيئات أو نبيا أو شيطانا وكل ما لم يحدث فهو ليس محبوبا له ولا مرضيا له ولا مرادا كما أنه لم يشأه فعندهم ما شاء الله كان وأحبه ورضيه وأراده وما لم يشأه لم يكن ولا يحبه ولا يرضاه ولا يريده وأولئك القدرية يقولون كل ما أمر به فهو يشاؤه ويريده كما أنه يحبه ويرضاه وما لم يأمر به لا يشاؤه ولا يريده كما لا يحبه ولا يرضاه بل يكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون ثم إن الجهمية المجبرة إذا تلى عليهم قوله تعالى والله لا يحب الفساد سورةالبقرة ولا يرضى لعباده الكفر سورةالزمر قالوا معناه لا يحبه ولا يريده ولا يشاؤه ممن لم يوجد منه أو لا يحبه ولا يشاؤه ولا يريده دينا بمعنى أنه لا يشاء أن يثيب صاحبه وأما ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان فعندهم أنه يحبه ويرضاه كما يشاؤه لكن لا يحب أن يثيب صاحبه كما لا يشاء أن يثيبه وعندهم يشاء تنعيم أقوام وتعذيب آخرين لا بسبب ولا لحكمة وليس في بعض

المخلوقات قوى ولا طبائع كان بها الحادث ولا فيها حكمة لأجلها كان الحادث ولا أمر بشيء لمعنى ولا نهى عنه لمعنى ولا اصطفى أحدا من الملائكة والنبيين لمعنى فيه ولا أباح الطيبات وحرم الخبائث لمعنى أوجب كون هذا طيبا وهذا خبيثا ولا أمر بقطع يد السارق لحفظ أموال الناس ولا أمر بعقوبة قطاع الطريق المعتدين لدفع ظلم العباد بعضهم عن بعض ولا أنزل المطر لشرب الحيوان ولإنبات النبات وهكذا يقولون في سائر ما خلقه لكن يقولون إنه إذا وجد مع شيء منفعة أو مضرة فإنه خلق هذا مع هذا لا لأجله ولا به وكذلك وجده المأمور مقارنا لهذا لا به ولا لأجله والاقتران أجرى به العادة من غير حكمة ولا سبب ولهذا لم تكن الأعمال عندهم إلا مجرد علامات محضة وأمارات لأجل ما جرت به العادة من الاقتران لا لحكمة ولا لسبب وفي كل من القولين من التناقض ما لا يكاد يحصى ولكن هذا الإمامي القدري لما أخذ يذكر تناقض أقوال أهل السنة مطلقا بين له أن القدرية كلهم يعجزون عن إقامة الحجة على مقابليهم من المجبرة كما تعجز الرافضة عن إقامة الحجة على مقابليهم من الخوارج والنواصب فضلا عن أن يقيموا الحجة على أهل الاستقامة والاعتدال المتبعين للكتاب والسنة ولهذا نبهنا على بعض ما في أقوالهم من التناقض والفساد الذي لا يكاد ينضبط والأشعري وغيره من متكلمة أهل الإثبات انتدبوا لبيان تناقضهم في أصولهم وأوعبوا في بيان تناقض أقوالهم وحكاية الأشعري مع الجبائي في الإخوة الثلاثة مشهورة فإنهم يوجبون على الله أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه وأما في الدنيا فالبغداديون من المعتزلة يوجبونه أيضا والبصريون لا يوجبونه فقال له إذا خلق الله ثلاثة إخوة فمات أحدهم صغيرا وبلغ الآخران أحدهما آمن والآخر كفر فأدخل المؤمن الجنة ورفع درجته وأدخل الصغير الجنة وجعل منزلته تحته قال له الصغير يا رب ارفعني إلى درجة أخي قال إنك لست مثله إنه آمن وعمل الصالحات

وأنت صغير لم تعمل عمله قال يا رب أنت امتني فلو كنت أبقيتني كنت أعمل مثل عمله فقال عملت مصلحتك لأني علمت أنك لو بلغت لكفرت فلهذا اخترمتك فصاح الثالث من أطباق النار وقال يا رب هلا اخترمتني قبل البلوغ كما اخترمت أخي الصغير فإن هذا كان مصلحة في حقي أيضا فيقال إنه لما أورد عليه هذا انقطع وذلك أنهم يوجبون عليه العدل بين المتماثلين وأن يفعل بكل واحد منهما ما هو أصلح وهنا قد فعل بأحدهما ما هو الأصلح عندهم دون الآخر وليس هذا موضع بسط ذلك وإذا كان الأمر كذلك بطل تشبيههم لله بخلقه وقال لهم هؤلاء نحن وأنتم قد اتفقنا على أن فعل الله لا يقاس على فعل خلقه وإنا وإياكم نثبت فاعلا يفعل شيئا منفصلا عن نفسه بدون شيء حادث في نفسه وهذا غير معقول في الشاهد ونثبت فاعلا لم يزل غير فاعل حتى فعل من غير تجدد شيء وهذا غير معقول في الشاهد وأنتم تثبتون من الغرض ما ثبت فاعلا لم يزل غير فاعل حتى فعل من غير تجدد شيء وهذا غير معقول في الشاهد وأنتم تثبتون من الغرض ما لا يعقل في الشاهد وتدعون بذلك أنكم تنفون عنه السفه وتجعلونه حكيما والذي تذكرونه هو السفه المعقول في الشاهد المخالف للحكمة وإذا كان كذلك فقولكم إن كل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريده ينهي عما يريده إلى السفه تعالى الله عن ذلك فيقال لكم إن كان هذا الفاعل من المخلوقين فلم قلتم إن الخالق كذلك مع ما اتفقنا عليه من الفرق بينهما والمخلوق محتاج إلى

جلب المنفعة ودفع المضرة والله تعالى منزه عن ذلك والعبد مأمور منهي والله منزه عن ذلك فهذه القضية إن أخذتموها كلية يدخل فيها الخالق منعنا الإجماع المحكي عن العقلاء وإن أخذتموها في المخلوق لتقيسوا به الخالق كان هذا قياسا فاسدا فلا يصح معكم هذا القياس لا على أنه قياس شمول ولا على أنه قياس تمثيل وقد أجابهم الأشعري بجواب آخر فقال لا نسلم أن أمر الإنسان بما لا يريده سفه مطلقا بل قد يكون حكمة إذا كان مقصوده امتحان المأمور ليبين عذره عند الناس في عقابه مثل من يكون له عبد يعصيه فيعاقبه فيلام على عقوبته فيعتذر بأن هذا يعصيني فيطلب منه تحقيق ذلك فيأمر أمر امتحان وهو هنا لا يريد أن يفعل المأمور به بل يريد أن يعصيه ليظهر عذره في عقابه وأثبت بهذا أيضا كلام النفس الذي يثبته وأن الطلب القائم بالنفس ليس هو الإرادة ولا مستلزما لها كما أثبت معنى الخبر أنه ليس هوالعلم بإخبار الكاذب فاعتمد على أمر الممتحن وخبر الكاذب لكن جمهور أهل السنة لم يرضوا بهذا الجواب فإن هذا في الحقيقة ليس هو أمرا وإنما هو إظهار أمر وكذلك خبر الكاذب هو قال بلسانه ما ليس في قلبه فخبر الكاذب ليس خبرا عما في نفسه بل هو إظهار الخبر عما في نفسه فصار أمر الممتحن كأمر الهازل الذي لا يعلم المأمور هزله ونظائر ذلك ولهذا إذا عرف المأمور حقيقة أمر الممتحن ليعاقبه وأنه ليس مراده إلا أن يعصيه فإنه يطيعه في هذه الحال والممتحن نوعان نوع قصده أن يعصيه المأمور ليعاقبه مثل هذا المثال ونوع مراده طاعة المأمور وانقياده لأمره لا نفس الفعل المأمور به كأمر الله سبحانه وتعالى للخليل صلى الله عليه وسلم بذبح ابنه وكان المراد طاعة إبراهيم وبذل ذ بح ابنه في محبة الله وأن يكون

طاعة الله ومحبوبه ومراده أحب إليه من الابن فلما حصل هذا المراد فداه الله بالذبح العظيم كما قال تعالى فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم (سورة الصافات). وتصور هذه المعاني نافع جدا في هذا الباب الذي كثر فيه الاضطراب.
*

فصل
قال الإمامي القدري ومنها أنه يلزم عدم الرضا بقضاء الله تعالى والرضا بقضائه وقدره واجب فلو كان الكفر بقضاء الله تعالى وقدره وجب علينا الرضا به لكن لا يجوز الرضا بالكفر.
*والجواب عن هذا من وجوه...
أحدها: جواب كثير من أهل الإثبات أنا لا نسلم بأن الرضا واجب بكل المقضيات ولا دليل على وجوب ذلك وقد تنازع الناس في الرضا بالفقر والمرض والذل ونحوها هل هو مستحب أو واجب على قولين في مذهب أحمد وغيره وأكثر العلماء على أن الرضا بذلك مستحب وليس بواجب لأن الله أثنى على أهل الرضا بقوله رضي الله عنهم ورضوا عنه سورة البينة وإنما أوجب الله الصبر فإنه أمر به في غير آية ولم يأمر بالرضا بالمقدور ولكن أمر بالرضا بالمشروع فالمأمور به يجب الرضا به كما في قوله تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (سورة التوبة).. والقول الثاني إنه واجب لأن ذلك من تمام رضاه بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ولما روي من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلوائي فليتخذ ربا سوائي

لكن هذا لا تقوم به الحجة لأن هذا لا يعرف ثبوته عن الله عز وجل وأما الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا فهو واجب وهذا هو الرضا الذي دل عليه الكتاب والسنة وأما الرضا بكل ما يخلقه الله ويقدره فلم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا قاله أحد من السلف بل قد أخبر الله تعالى أنه لا يرضى بأمور مع أنها مخلوقة كقوله ولا يرضى لعباده الكفر (سورة النساء). وقوله إذ يبيتون ما لا يرضى من القول (سورة الزمر). وقد بسطنا الكلام على هذا في مصنف مفرد في الرضا بالقضاء وكيف تحزب الناس فيه أحزابا حزب زعموا أنهم يرضون بما حرم الله لأنه من القضاء وحزب ينكرون قضاء الله وقدره لئلا يلزمهم الرضا به وكلا الطائفتين بنت ذلك على أن الرضا بكل ما خلقه الله مأمور به وليس الأمر كذلك بل هو سبحانه يكره ويبغض ويمقت كثيرا من الحوادث وقد أمرنا الله أن نكرهها ونبغضها.
الوجه الثاني: أن يقال الرضا يشرع بما يرضي الله به والله قد أخبر أنه لا يحب الفساد (سورة البقرة). ولا يرضى لعباده الكفر (سورة النساء). وقد قال تعالى إذ يبيتون ما لا يرضى من القول سور الزمر وهذا أمر موجود من أقوال العباد وقد أخبر الله أنه لا يرضاه فإذا لم يرضه كيف يأمر العبد بأن يرضاه بل الواجب أن العبد يسخط ما يسخطه الله ويبغض ما يبغضه الله ويرضى بما يرضاه الله قال الله تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (سورة محمد). فذم من اتبع مساخطه وكره مراضيه ولم يذم من كره مساخطه فإذا قال فكيف يكون الله ساخطا مبغضا لما قدره وقضاه قيل نعم كما تقدم أما على طريقة الأكثرين فلأن المقضي شيء كونه وعندهم البغض مغاير للإرادة وأما على طريقة الأقلين فإنهم يقولون

سخطه له وبغضه هو إرادته عقوبة فاعله فقد أراد أن يكون سببا لعقوبة فاعله وأما نحن فمأمورون بأن نكره ما ينهى عنه لكن الجواب على هذا القول يعود إلى الجواب الأول فإن نفس ما أراده الله وأحبه ورضيه عند هؤلاء قد أمر العبد بأن يكرهه ويبغضه يسخطه فهؤلاء يقولون ليس كل مقدور مقضي مأمورا يرضى به.
الوجه الثالث: أن يقال قد تقدم أن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يفعله لما له في ذلك من الحكمة وأن ما يضر الناس من المعاصي والعقوبات يخلقها لما له في ذلك من الحكمة وان ما يضر الناس من المعاصي والعقوبات يخلقها لما له في ذلك من الحكمة والإنسان قد يفعل ما يكرهه كشربه الدواء الكريه لما له فيه من الحكمة التي يحبها كالصحة والعافية فشرب الدواء مكروه من وجه محبوب من وجه فالعبد يوافق ربه فيكره الذنوب ويمقتها ويبغضها لأن الله يبغضها ويمقتها ويرضى بالحكمة التي خلقها الله لأجلها فهي من جهة فعل العبد لها مكروهة مسخوطة ومن جهة خلق الرب لها محبوبة مرضية لأن الله خلقها لما له في ذلك من الحكمة والعبد فعلها وهي ضارة له موجبة له العذاب فنحن ننكرها ونكرهها وننهى عنها كما أمرنا الله بذلك إذ كان هو أيضا سبحانه يسخطها ويبغضها ونعلم أن الله أحدثها لما له في ذلك من الحكمة فنرضى بقضائه وقدره فمتى لحظنا أن الله قضاها وقدرها رضينا عن الله وسلمنا لحكمه وأما من جهة كون العبد يفعلها فلا بد أن نكره ذلك وننهى عنه ونجتهد في دفعه بحسب إمكاننا فإن هذا هو الذي يحبه الله منا والله تعالى إذا أرسل الكافرين على المسلمين فعلينا أن نرضى بقضاء الله في إرسالهم وعلينا أن نجتهد في دفعهم وقتالهم وأحد الأمرين لا ينافي الآخر وهو سبحانه خلق الفأرة والحية والكلب العقور وأمرنا بقتل ذلك فنحن نرضى عن الله إذ خلق ذلك ونعلم أن له في ذلك حكمة ونقتلهم كما أمرنا فإن الله يحب ذلك ويرضاه

وقد أجاب بعضهم بجواب آخر وهو أنا نرضى بالقضاء لا بالمقضي وقد أجاب بعضهم بجواب آخر أنا نرضى بها من جهة كونها خلقا ونسخطها من جهة كونها كسبا وهذا يرجع إلى الجواب الثالث لكن إثبات الكسب إذا لم يجعل العبد فاعلا فيه كلام قد ذكر في غير هذا الموضع فالذين جعلوا العبد كاسبا غير فاعل من أتباع الجهم بن صفوان وحسين النجار وأبي الحسن الأشعري وغيرهم كلامهم متناقض ولهذا لم يمكنهم أن يذكروا في بيان هذا الكسب والفرق بينه وبين الفعل كلاما معقولا بل تارة يقولون هو المقدور بالقدرة الحادثة وتارة يقولون ما قام بمحل القدرة أو بمحل القدرة الحادثة وإذا قيل لهم ما القدرة الحادثة قالوا ما قامت بمحل الكسب ونحو ذلك من العبارات التي تستلزم الدور ثم يقولون معلوم بالاضطرار الفرق بين حركة المختار وحركة المرتعش وهذا كلام صحيح لكنه حجة عليهم لا لهم فإن هذا الفرق يمتنع أن يعود إلى كون أحدهما مرادا دون الآخر إذ يمكن الإنسان أن يريد فعل غيره فرجع الفرق إلى أن للعبد على أحدهما قدرة يحصل بها الفعل دون الآخر والفعل هو الكسب لا يعقل شيئان في المحل أحدهما فعل والآخر كسب.
*

فصل
قال الرافضي ومنها أنه يلزم أن نستعيذ بإبليس من الله تعالى ولا يحسن قوله تعالى فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (سورة النحل).. لأنهم نزهوا إبليس والكافر من المعاصي وأضافوها إلى الله تعالى فيكون الله تعالى على المكلفين شرا من إبليس عليهم تعالى الله عن ذلك.

*فيقال هذا كلام ساقط وذلك من وجوه...
أحدها: إما أن يكون لإبليس فعل وإما أن لا يكون له فعل فإن لم يكن له فعل امتنع أن يستعاذ به فإنه حينئذ لا يعيذ أحدا ولا يفعل شيئا وإن كان له فعل بطل تنزيهه عن المعاصي فعلم أن هذا الإعتراض ساقط على قول مثبتة القدر ونفاته وهو إيراد من غفل عن القولين وكذلك بتقدير أن لا يكون لإبليس فعل فلا يكون منه شر حتى يقال إن غيره شر منه فضلا عن أن يقال إن الله تعالى شر من إبليس فدعوى هذا أن هؤلاء يلزمهم أن يكون الله شرا عليهم من إبليس دعوى باطلة إذ غاية ما يقوله القائل هو الجبر المحض كما يحكى عن الجهم وشيعته وغاية ذلك أن لا يكون لإبليس ولا غيره قدرة ولا مشيئة ولا فعل بل تكون حركته كحركة الهواء وعلى هذا التقدير فلا يكون منه لا خير ولا شر والله تعالى هو الخالق لهذا كله فكيف يقال على هذا التقدير إن بعض مخلوقاته شر منه.
الثاني: أن يقال إنما تحسن الاستعاذة بإبليس لو كان يمكنه أن يعيذهم من الله سواء كان الله خالقا لأفعال العباد أو لم يكن وهؤلاء القدرية كالمصنف وأمثاله هم مع قولهم إن إبليس يفعل ما لا يقدره الله ويفعل بدون مشيئة الله ويكون في ملك الله ما لا يشاؤه وإن الله لا يقدر على أن يحرك إبليس ولا غيره من الاحياء ولا ينقلهم من عمل إلى عمل لا من خير إلى شر ولا من شر إلى خير فهم مسلمون مع هذا القول والفعل والتسليط الذي أثبتوه لإبليس من دون الله أن إبليس لا يقدر أن يجير على الله ولا يعيذ أحدا منه فامتنع على هذا أن يستعاذ به ولو قدر والعياذ بالله ما ألزموه من كون غير إبليس شرا منه على الخلق لكنه مع هذا عاجز عن دفع قضاء الله وقدره فكان المستعيذ به بل بسائر المخلوقين مخذولا كما قال تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا (سورة الإسراء). وقال تعالى قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون

المؤمنون وقال تعالى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون (سورة العنكبوت)..
الوجه الثالث: أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وروي أنه كان يقول هذا في الوتر أيضا فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد استعاذ ببعض صفاته وأفعاله من بعض حتى استعاذ به منه فأي امتناع أن يستعاذ به من بعض مخلوقاته.
الوجه الرابع: أن يقال أهل السنة لا ينكرون أن يكون دعاء العبد لربه واستعاذته به سببا لنيل المطلوب ودفع المرهوب كالأعمال الصالحة التي أمروا بها فهم إذا استعاذوا بالله من الشيطان كان نفس استعاذتهم به سببا لأن يعيذهم من الشيطان وقد يوجد في بعض المخلوقين من الظلمة القادرين من يأمر بضرر غيره ظلما وعدوانا فإذا استجار به مستجير وذل له دفع عنه ذلك الظالم الذي أمره هو بظلمه ولله المثل الأعلى وهو المنزه عن الظلم وهو أرحم الراحمين وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها فكيف يمتنع أن يستعاذ به من شر أسباب الشر التي قضاها بحكمته.
الوجه الخامس: أن يقال هذا الاعتراض باطل على طريقة الطائفتين أما من لا يقول بالحكمة والعلة فإنه يقول إن الله خلق إبليس الضار لعباده وجعل استعاذة العباد به منه طريقا إلى دفع ضرره كما جعل إطفاء النار طريقا إلى دفع حريقها وكما جعل الترياق طريقا إلى دفع ضرر السم وهو سبحانه خلق النافع والضار وأمر العباد أن يستعملوا ما ينفعهم ويدفعوا به ما يضرهم ثم إن أعانهم على فعل ما أمرهم به كان محسنا إليهم وإلا فله أن يفعل ما يشاء ويحكم

ما يريد إذ لا مالك فوقه ولا آمر له ولم يتصرف في ملك غيره ولم يعص أمرا مطاعا وأما على الطريقة الثانية المثبتة للحكمة فإنهم يقولون خلق الله إبليس كما خلق الحيات والعقارب والنار وغير ذلك لما في خلقه ذلك من الحكمة وقد أمرنا أن ندفع الضرر عنا بكل ما نقدر عليه ومن أعظم الأسباب استعاذتنا به منه فهو الحكيم في خلق إبليس وغيره وهو الحكيم في أمرنا بالاستعاذة به منه وهو الحكيم إذ جعلنا نستعيذ به وهو الحكيم في إعاذتنا منه وهو الرحكيم بنا في ذلك كله المحسن إلينا المتفضل علينا إذ هو أرحم بنا من الوالدة بولدها إذ هو الخالق لتلك الرحمة فخالق الرحمة أولى بالرحمة من الرحماء.
الوجه السادس: قوله لأنهم نزهوا إبليس والكافر من المعاصي وأضافوها إلى الله إلى آخره فرية عليهم فإنهم متفقون على أن العاصي هو المتصف بالمعصية المذموم عليها المعاقب عليها والأفعال يتصف بها من قامت به لا من خلقها وإذا كان ما لا يتعلق بالإرادة كالطعوم والألوان يوصف بها محالها لا خالقها في محالها فكيف تكون الأفعال الاختيارية والله تعالى إذا خلق الفواسق كالحية والعقرب والكلب العقور وجعل هذه الفواسق فواسق هل يكون هو سبحانه موصوفا بذلك وإذا خلق الخبائث كالعذرة والدم والخمر وجعل الخبيث خبيثا هل يكون متصفا بذلك وأين إضافة الصفة إلى الموصوف بها التي قامت به من إضافة المخلوق إلى خالقه فمن لم يفهم هذان الفرقان فقد سلب خاصية الإنسان.
الوجه السابع: أن الله تعالى قد أمرنا أن نستعيذ من عذاب جهنم وعذاب القبر وغير ذلك من مخلوقاته التي هي مخلوقاته باتفاق المسلمين فعلم أنه لا يمتنع أن نستعيذ مما خلقه من الشر كما قال تعالى قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق سورة الفلق ولا فرق في ذلك بين إبليس وغيره.

*

فصل
قال الرافضي ومنها أنه لا يبقى وثوق بوعد الله ووعيده لأنهم إذا جوزوا استناد الكذب في العالم إليه جاز أن يكذب في إخباراته كلها فتنتفي فائدة بعثه الأنبياء بل وجاز منه إرسال الكذاب فلا يبقى لنا طريق إلى تمييز الصادق من الأنبياء والكاذب.
*والجواب عن هذا من وجوه...
أحدها: أنه تقدم غير مرة أنه فرق بين ما خلقه صفة لغيره وبين ما اتصف هو به في نفسه وفرق بين إضافة المخلوق إلى خالقه وإضافة الصفة إلى الموصوف بها وهذا الفرق معلوم باتفاق العقلاء فإنه إذا خلق لغيره حركة لم يكن هو المتحرك بها وإذا خلق للرعد صوتا لم يكن هو المتصف بذلك الصوت وإذا خلق الألوان في النباتات والحيوانات والجمادات لم يكن هوالمتصف بتلك الألوان وإذا خلق في غيره علما وقدرة وحياة لم تكن تلك المخلوقات في غيره صفات له وإذا خلق في غيره عمى وصمما وبكما لم يكن هو الموصوف بذلك العمى والبكم والصمم وإذا خلق في غيره خبثا أو فسوقا لم يكن هو المتصف بذلك الخبث والفسوق وإذا خلق في غيره كذبا وكفرا لم يكن هو المتصف بذلك الكذب وبذلك الكفر كما أنه إذا قدر أنه خلق فيه طوافا وسعيا ورمي جمار وصياما وركوعا وسجودا لم يكن هو الطائف الساعي الراكع الساجد الرامي بتلك الحجارة وقوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى (سورة الأنفال). معناه ما أصبت إذ حذفت ولكن الله هو الذي أصاب فالمضاف إليه الحذف باليد والمضاف إلى الله تعالى الإيصال إلى العدو وإصابتهم به وليس المراد بذلك ما يظنه بعض الناس أنه لما خلق الرامي والرمي قالوا كان هو الرامي في الحقيقة فإن ذلك لو كان صحيحا لكونه خالقا لرميه لاطرد ذلك في سائر الأفعال فكان يقول

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17